44 joba web مجلة الجوبة

Page 18

‫لكي يدر�س الطالب العربي باللغة العربية‬ ‫الف�صحى‪ ،‬عليه �أن «يعود» ذهنيا‪ ،‬في كل در�س‪،‬‬ ‫�إلى «الأ�صل»‪ .‬عليه �أن يجمع �شظايا انت�شاره عبر‬ ‫زمان الحا�ضر ومكان الح�ضور‪ ،‬ويعود �إلى زمن‬ ‫كثافته‪� ،‬إذ يتعين عليه �أن يلعب دور ع�ضو في‬ ‫ج�سد الكل‪ .‬ولكن هذا ال يعني �ضرورة التخل�ص‬ ‫من اللغة الف�صحى �أبدا؛ فهي �صاحبة دور كبير‬ ‫في هذه الح�ضارة العربية والإ�سالمية‪ ،‬و�أنها‬ ‫تحتاج فقط �إلى مجهودات جبّارة لكي تم�سك‬ ‫بزمام الحياة المعا�صرة‪ ،‬رغم ما يذهب �إليه‬ ‫(‪)1‬‬ ‫بع�ض الباحثين‪� ،‬أذك��ر منهم زكريا �أوزون‬ ‫الذي هاجم كل �شيء في هذه اللغة‪ ،‬وقد كتبت‬ ‫ردا �أو تعليقا على بع�ض ما جاء ب��ه(‪ .)2‬و�أي�ضا‬ ‫قولنا بابتعاد العامّي عن لغة المقد�س ال يعني‬ ‫اب�ت�ع��اده ع��ن ال��دي��ن! ه��ذا ون�ضيف �أن��ه بحكم‬ ‫عمومية العامي ووفرته‪ ،‬في مقابل خ�صو�صية‬ ‫الف�صيح وندرته‪ ،‬ال يمكن للكائن الف�صيح �إال‬ ‫�أن ين�شغل بمقاومة االن�ق��را���ض ال��ذي يهدده‬ ‫على يد الكائن العامي‪ .‬فلم يعد (وقلما كان)‬ ‫�إن الإن���س��ان العربي الآن ال يتحدث اللغة‬ ‫الف�صيح يقاوم العامي خارج �أ�سوار الطقو�س ال �ع��رب �ي��ة ب���ش�ك��ل م �ب��ا� �ش��ر‪ ،‬ول �ك��ن م��ن خ�لال‬ ‫الدينية وغيرها من المنا�سبات التي يظهر فيها «م�ؤ�س�سة»‪ .‬قد تكون هذه الم�ؤ�س�سة �أكاديمية‪� ،‬أو‬ ‫با�ستحياء ويختفي �أمام المارد العامي‪.‬‬ ‫�إعالمية‪� ،‬أو حكومية‪ ،‬المهم �أنها لم تعد (وقلما‬ ‫�إذاً‪ ،‬ف�إن التحدث بهذه اللغة نوع من العودة كانت) لغة الفرد والمجتمع‪� .‬إنه لمن ال�صعب �أن‬ ‫�إلى �أن��واع من الوحدات‪ ،‬منها الظاهرة للعين �أت�صور يوما يتحدث فيه النا�س باللغة العربية‬ ‫المجردة‪ ،‬ومنها ما يحتاج �إلى تحليل دقيق‪ .‬لكي الف�صحى ف��ي ال �� �ش��وارع وال �م �ن��ازل‪ .‬لأن هذا‬ ‫ي�سهل علينا فهم طبيعة «العودة» التي تن�شدها «ال�ي��وم» ال يمكن �إال �أن يكون �ضيف ًا واف��دا من‬ ‫‪ 34‬اجلوبة ‪� -‬صيف ‪1435‬هـ‬

‫و�إذا كان لنا �أن نتعمق في المو�ضوع قليال‪،‬‬ ‫ف�إن الإح�سا�س الوحدوي لدى الإن�سان العربي‬ ‫لي�س �إح�سا�سا ي��وم�ي��ا‪ ،‬وال مقبوال تف�صيليا‪،‬‬ ‫و�إنما هو �إح�سا�س بالواجب ال��ذي ال وج��ود له‬ ‫�إال في ثقافة الت�أجيل؛ فهو مرتبط بالدين؛ وما‬ ‫االنف�صال‪ ،‬في ال�شعور العربي‪� ،‬إال «خطيئة»‬ ‫تنحدر من �ساللة الخطيئة الأولى‪ ،‬وهي خطيئة‬ ‫�آدم وحواء‪ .‬فال تتوقع من العربي �أن ي�صرح ب�أنه‬ ‫�ضد الوحدة العربية‪ ،‬وال تتوقع من الم�سلم �أن‬ ‫ي�صرح ب�أنه �ضد الوحدة الإ�سالمية‪ ،‬حتى و�إن‬ ‫كانت جميع �أفعاله �ضد هذه الوحدة بالذات‪.‬‬ ‫وعلى غ��رار ذل��ك‪ ،‬يندر �أن تجد عربيا يف�ضل‬ ‫العامية على الف�صحى بالقول‪ ،‬ولكنه ال يملك �إال‬ ‫�أن يكر�س العامية على ح�ساب الف�صحى بالفعل‪،‬‬ ‫تماما كما يعي�ش «ال�شهادة» في الدنيا‪ ،‬وين�شد‬ ‫«الغيب» في الآخرة‪.‬‬

‫م������������������ل������������������ف ال������������������ع������������������دد‬

‫و�آخر عربي �سيتبين للقارئ الفرق؛ فكثيرا ما‬ ‫يعر�ض الأول فكرة معقدة بلغة ب�سيطة‪ ،‬بينما‬ ‫نرى الثاني متعبا في ت�سلق لغة معقدة من �أجل‬ ‫�أن يعر�ض فكرة ب�سيطة‪ ،‬هذه مالحظة عامة‪،‬‬ ‫وطبعا هناك ا�ستثناءات‪ .‬كل هذا له دور فعال‬ ‫في االرتقاء‪� ،‬أو النزول‪ ،‬باللغة من قمة العلم‬ ‫والعالم و�إليهما‪.‬‬

‫اللغة الف�صحى؛ فمن الجدير �أن نجري ا�ستقراء‬ ‫�سريعا لن�شوء ال�ع��ام�ي��ات‪� .‬إن ن�شوء العامية‬ ‫ي��دل على «التفرع»؛ �إذاً‪ ،‬ف ��إن الف�صحى التي‬ ‫خرجت منها العامية تدل على «الت�أ�صل»‪ .‬فال‬ ‫يمكن للتفرّع �إال �أن ينت�شر في ف�ضاء «الحا�ضر‬ ‫والح�ضور»‪ ،‬كج�سر �إلى «الم�ستقبل»‪ .‬وال يمكن‬ ‫للت�أ�صل �إال �أن يت�ضمن (يحافظ) على عملية‬ ‫معكو�سة‪ ،‬فهو «ج�سر �إلى الما�ضي»‪ .‬و�إذا كان‬ ‫الواقع الح�ضاري للأمة العربية ي�سير‪ ،‬بطبيعة‬ ‫الحال‪ ،‬نحو «التفرّع» كغيرهم من الأم��م؛ ف�إن‬ ‫الخبر الم�ؤ�سف عندي �أن حظ اللغة العربية‪ ،‬في‬ ‫�أن ت�صبح لغة عالمية يوما‪� ،‬ضعيف جدا‪ .‬فنحن‬ ‫نرى حتى بع�ض الح�ضارات المتقدمة حاليا لم‬ ‫ت�ستطع اللغة الالتينية مثال �أن تواكبها وت�شهد‬ ‫نموها �إل��ى ه��ذا الحد‪ ،‬و�إذا �أخ��ذن��ا الالتينية‬ ‫ك�م�ث��ال‪ ،‬ن��رى �أن �ه��ا خ��رج��ت منها ع��دة لغات‬ ‫مثل الفرن�سية التي لم ت�صبح عالمية‪ ،‬لكنها‬ ‫اقتربت كثيرا‪� .‬أم��ا الإنجليزية‪ ،‬ف ��إن ظروفها‬ ‫بر�أيي تختلف كليا عن ظ��روف العربية‪ .‬وبلغة‬ ‫دقيقة �أقول‪ :‬لم ت�صل الإنجليزية �إلى الم�ستوى‬ ‫العالمي �إال بعد �أن تغلب فيها الخطاب العلمي‬ ‫على «العمق المثالي»‪ .‬وتغلب فيها العامي على‬ ‫الر�سمي ب�شكل مواز‪ ،‬ولذلك ا�ستطاعت �أن تظل‬ ‫قريبة من الفرد والمجتمع والثقافة اليومية‪� .‬أما‬ ‫لغتنا العربية‪ ،‬فما زالت تحكي نف�سها‪.‬‬

‫الما�ضي‪ ،‬وفي مقولة «الما�ضي» هذه تندرج عدة‬ ‫مفاهيم‪� ،‬أولها «الوحدة العربية»‪ ،‬ثانيها «توحيد‬ ‫اهلل تعالى» وثالثها» توحيد «ال�سلطة الأدبية» من‬ ‫خ�لال ف�صل رقبة الأدي��ب عن ج�سد المجتمع‬ ‫ال��ذي ال يمكن �إال �أن يكون عاميا‪� .‬أم��ا الوحدة‬ ‫العربية‪ ،‬فهي قابلة للتحقيق على الم�ستوى‬ ‫االقت�صادي‪� ،‬أما على الم�ستوى الثقافي‪ ،‬فال بد‬ ‫لنا من التمييز بين «الثقافة العربية الف�صيحة»‬ ‫و»الثقافات العربية العامية»‪� ،‬أي حين نقول‬ ‫«الثقافة العربية» بالمطلق‪ ،‬ال ي�صح كالمنا‬ ‫�إال بالمعنى المجازي‪ ،‬فالواقع يقول �إن هناك‬ ‫«ثقافات عربية» ولي�س ثقافة واحدة‪.‬‬

‫تلتقط مخت�صرات عامة وملخ�صات وخال�صات‬ ‫هذه الثقافات ال �أكثر‪� .‬إذاً‪ ،‬فهي لغة الإجمال‬ ‫ولم تعد لغ ًة للتف�صيل حين تتحدث عن الإن�سان‬ ‫العربي المعا�صر‪.‬‬

‫(ل��و تتبعنا ن��زع��ة ال�ت��وح�ي��د �إل ��ى ح��دوده��ا‬ ‫الق�صوى في �أعماق الما�ضي اللغوي العربي‪،‬‬ ‫�سنجد �أن�ه��ا‪ ،‬على �سبيل المثال‪ ،‬كانت تظهر‬ ‫وا��ض�ح��ة ح�ت��ى ف��ي ُب�ن�ي��ة ال�ك�ل�م��ة‪ ،‬وم��ن جملة‬ ‫ذل��ك الأل �ف��اظ التي «تقع على ال�شيء و�ضده‬ ‫في المعنى»(‪ .)3‬فما هذا �إال توحيد‪ ،‬لي�س بين‬ ‫معنيين فح�سب‪ ،‬ب��ل بين «الأ���ض��داد» �أي�ضا‪،‬‬ ‫وطبعا هناك العديد من الم�ؤلفين تحدثوا عن‬ ‫هذه الم�س�ألة(‪ ،)4‬لكني ال �أ�سوقها الآن من �أجل‬ ‫بيد �أن��ه‪ ،‬بقليل م��ن ال��ت���أم��ل‪ ،‬يظهر لنا �أن‬ ‫تحليل دقيق لبنية اللغة العربية‪ ،‬و�إنما مجرد ال���س��ؤال ال�م�ط��روح‪ ،‬ف��ي م�ستهل ه��ذه ال��ورق��ة‪،‬‬ ‫�إ�شارة �سريعة �إلى ما ي�صب في هذا المو�ضوع)‪ .‬ي�ستمد معناه الكامل من بعده الأفقي فح�سب‪،‬‬ ‫�إن اللغات التي �أ�صبحت عالمية حققت ذلك لكن بالنظر �إل��ى بعده العمودي‪ ،‬ف��إن الن�سخة‬ ‫من خالل االكت�شافات واالختراعات العلمية التي المتوا�ضعة منه يمكن �أن ت�أتي على هذا النحو‪:‬‬ ‫�أ�صبحت جزءا من الفرد والمجتمع والحا�ضر؛ لماذا ال تكون هذه اللغة عربية؟ بمعنى ب�سط‬ ‫�إن �ه��ا ف��ي ك��ل م �ك��ان؛ ف��ي ال �م �ن��ازل وال �� �ش��وارع �سيادتها على مختلف الأقطار العربية‪ ،‬من قاع‬ ‫والم�ؤ�س�سات‪� .‬أما لغتنا العربية‪ ،‬فهي موجودة ال�شارع �إل��ى قمة ال�شاعر كما �أ�شرنا �سابقا‪.‬‬ ‫في القوامي�س والمنابر الإعالمية والمنا�سبات يجيبنا جان جاك رو�سو قائال‪�« :‬إن الأمة بقدر‬ ‫الدينية (و رفوف المكتبة)‪ ،‬فال يمكنها‪� ،‬إذاً‪� ،‬إال ما تقر�أ وتتعلم ت��ذوب لهجاتها‪ ،‬فال تبقى في‬ ‫�أن تكون لغة منا�سبات‪ .‬وهذه الحالة ال ت�ؤهلها الأخير �إال في �شكل رطانة لدى الجمهور الذي‬ ‫لمواكبة النمو االجتماعي‪ ،‬وال حتى تفا�صيل يقر�أ قليال وال يكتب �أ�صال»(‪)5‬؛ وبنا ًء على هذا‬ ‫الثقافة الدقيقة لهذا �أو ذاك المجتمع‪� ،‬إنما الجواب‪ ،‬نفتر�ض �أن العزوف عن القراءة هو‬ ‫اجلوبة ‪� -‬صيف ‪1435‬هـ ‪35‬‬


Issuu converts static files into: digital portfolios, online yearbooks, online catalogs, digital photo albums and more. Sign up and create your flipbook.