لكي يدر�س الطالب العربي باللغة العربية الف�صحى ،عليه �أن «يعود» ذهنيا ،في كل در�س، �إلى «الأ�صل» .عليه �أن يجمع �شظايا انت�شاره عبر زمان الحا�ضر ومكان الح�ضور ،ويعود �إلى زمن كثافته� ،إذ يتعين عليه �أن يلعب دور ع�ضو في ج�سد الكل .ولكن هذا ال يعني �ضرورة التخل�ص من اللغة الف�صحى �أبدا؛ فهي �صاحبة دور كبير في هذه الح�ضارة العربية والإ�سالمية ،و�أنها تحتاج فقط �إلى مجهودات جبّارة لكي تم�سك بزمام الحياة المعا�صرة ،رغم ما يذهب �إليه ()1 بع�ض الباحثين� ،أذك��ر منهم زكريا �أوزون الذي هاجم كل �شيء في هذه اللغة ،وقد كتبت ردا �أو تعليقا على بع�ض ما جاء ب��ه( .)2و�أي�ضا قولنا بابتعاد العامّي عن لغة المقد�س ال يعني اب�ت�ع��اده ع��ن ال��دي��ن! ه��ذا ون�ضيف �أن��ه بحكم عمومية العامي ووفرته ،في مقابل خ�صو�صية الف�صيح وندرته ،ال يمكن للكائن الف�صيح �إال �أن ين�شغل بمقاومة االن�ق��را���ض ال��ذي يهدده على يد الكائن العامي .فلم يعد (وقلما كان) �إن الإن���س��ان العربي الآن ال يتحدث اللغة الف�صيح يقاوم العامي خارج �أ�سوار الطقو�س ال �ع��رب �ي��ة ب���ش�ك��ل م �ب��ا� �ش��ر ،ول �ك��ن م��ن خ�لال الدينية وغيرها من المنا�سبات التي يظهر فيها «م�ؤ�س�سة» .قد تكون هذه الم�ؤ�س�سة �أكاديمية� ،أو با�ستحياء ويختفي �أمام المارد العامي. �إعالمية� ،أو حكومية ،المهم �أنها لم تعد (وقلما �إذاً ،ف�إن التحدث بهذه اللغة نوع من العودة كانت) لغة الفرد والمجتمع� .إنه لمن ال�صعب �أن �إلى �أن��واع من الوحدات ،منها الظاهرة للعين �أت�صور يوما يتحدث فيه النا�س باللغة العربية المجردة ،ومنها ما يحتاج �إلى تحليل دقيق .لكي الف�صحى ف��ي ال �� �ش��وارع وال �م �ن��ازل .لأن هذا ي�سهل علينا فهم طبيعة «العودة» التي تن�شدها «ال�ي��وم» ال يمكن �إال �أن يكون �ضيف ًا واف��دا من 34اجلوبة � -صيف 1435هـ
و�إذا كان لنا �أن نتعمق في المو�ضوع قليال، ف�إن الإح�سا�س الوحدوي لدى الإن�سان العربي لي�س �إح�سا�سا ي��وم�ي��ا ،وال مقبوال تف�صيليا، و�إنما هو �إح�سا�س بالواجب ال��ذي ال وج��ود له �إال في ثقافة الت�أجيل؛ فهو مرتبط بالدين؛ وما االنف�صال ،في ال�شعور العربي� ،إال «خطيئة» تنحدر من �ساللة الخطيئة الأولى ،وهي خطيئة �آدم وحواء .فال تتوقع من العربي �أن ي�صرح ب�أنه �ضد الوحدة العربية ،وال تتوقع من الم�سلم �أن ي�صرح ب�أنه �ضد الوحدة الإ�سالمية ،حتى و�إن كانت جميع �أفعاله �ضد هذه الوحدة بالذات. وعلى غ��رار ذل��ك ،يندر �أن تجد عربيا يف�ضل العامية على الف�صحى بالقول ،ولكنه ال يملك �إال �أن يكر�س العامية على ح�ساب الف�صحى بالفعل، تماما كما يعي�ش «ال�شهادة» في الدنيا ،وين�شد «الغيب» في الآخرة.
م������������������ل������������������ف ال������������������ع������������������دد
و�آخر عربي �سيتبين للقارئ الفرق؛ فكثيرا ما يعر�ض الأول فكرة معقدة بلغة ب�سيطة ،بينما نرى الثاني متعبا في ت�سلق لغة معقدة من �أجل �أن يعر�ض فكرة ب�سيطة ،هذه مالحظة عامة، وطبعا هناك ا�ستثناءات .كل هذا له دور فعال في االرتقاء� ،أو النزول ،باللغة من قمة العلم والعالم و�إليهما.
اللغة الف�صحى؛ فمن الجدير �أن نجري ا�ستقراء �سريعا لن�شوء ال�ع��ام�ي��ات� .إن ن�شوء العامية ي��دل على «التفرع»؛ �إذاً ،ف ��إن الف�صحى التي خرجت منها العامية تدل على «الت�أ�صل» .فال يمكن للتفرّع �إال �أن ينت�شر في ف�ضاء «الحا�ضر والح�ضور» ،كج�سر �إلى «الم�ستقبل» .وال يمكن للت�أ�صل �إال �أن يت�ضمن (يحافظ) على عملية معكو�سة ،فهو «ج�سر �إلى الما�ضي» .و�إذا كان الواقع الح�ضاري للأمة العربية ي�سير ،بطبيعة الحال ،نحو «التفرّع» كغيرهم من الأم��م؛ ف�إن الخبر الم�ؤ�سف عندي �أن حظ اللغة العربية ،في �أن ت�صبح لغة عالمية يوما� ،ضعيف جدا .فنحن نرى حتى بع�ض الح�ضارات المتقدمة حاليا لم ت�ستطع اللغة الالتينية مثال �أن تواكبها وت�شهد نموها �إل��ى ه��ذا الحد ،و�إذا �أخ��ذن��ا الالتينية ك�م�ث��ال ،ن��رى �أن �ه��ا خ��رج��ت منها ع��دة لغات مثل الفرن�سية التي لم ت�صبح عالمية ،لكنها اقتربت كثيرا� .أم��ا الإنجليزية ،ف ��إن ظروفها بر�أيي تختلف كليا عن ظ��روف العربية .وبلغة دقيقة �أقول :لم ت�صل الإنجليزية �إلى الم�ستوى العالمي �إال بعد �أن تغلب فيها الخطاب العلمي على «العمق المثالي» .وتغلب فيها العامي على الر�سمي ب�شكل مواز ،ولذلك ا�ستطاعت �أن تظل قريبة من الفرد والمجتمع والثقافة اليومية� .أما لغتنا العربية ،فما زالت تحكي نف�سها.
الما�ضي ،وفي مقولة «الما�ضي» هذه تندرج عدة مفاهيم� ،أولها «الوحدة العربية» ،ثانيها «توحيد اهلل تعالى» وثالثها» توحيد «ال�سلطة الأدبية» من خ�لال ف�صل رقبة الأدي��ب عن ج�سد المجتمع ال��ذي ال يمكن �إال �أن يكون عاميا� .أم��ا الوحدة العربية ،فهي قابلة للتحقيق على الم�ستوى االقت�صادي� ،أما على الم�ستوى الثقافي ،فال بد لنا من التمييز بين «الثقافة العربية الف�صيحة» و»الثقافات العربية العامية»� ،أي حين نقول «الثقافة العربية» بالمطلق ،ال ي�صح كالمنا �إال بالمعنى المجازي ،فالواقع يقول �إن هناك «ثقافات عربية» ولي�س ثقافة واحدة.
تلتقط مخت�صرات عامة وملخ�صات وخال�صات هذه الثقافات ال �أكثر� .إذاً ،فهي لغة الإجمال ولم تعد لغ ًة للتف�صيل حين تتحدث عن الإن�سان العربي المعا�صر.
(ل��و تتبعنا ن��زع��ة ال�ت��وح�ي��د �إل ��ى ح��دوده��ا الق�صوى في �أعماق الما�ضي اللغوي العربي، �سنجد �أن�ه��ا ،على �سبيل المثال ،كانت تظهر وا��ض�ح��ة ح�ت��ى ف��ي ُب�ن�ي��ة ال�ك�ل�م��ة ،وم��ن جملة ذل��ك الأل �ف��اظ التي «تقع على ال�شيء و�ضده في المعنى»( .)3فما هذا �إال توحيد ،لي�س بين معنيين فح�سب ،ب��ل بين «الأ���ض��داد» �أي�ضا، وطبعا هناك العديد من الم�ؤلفين تحدثوا عن هذه الم�س�ألة( ،)4لكني ال �أ�سوقها الآن من �أجل بيد �أن��ه ،بقليل م��ن ال��ت���أم��ل ،يظهر لنا �أن تحليل دقيق لبنية اللغة العربية ،و�إنما مجرد ال���س��ؤال ال�م�ط��روح ،ف��ي م�ستهل ه��ذه ال��ورق��ة، �إ�شارة �سريعة �إلى ما ي�صب في هذا المو�ضوع) .ي�ستمد معناه الكامل من بعده الأفقي فح�سب، �إن اللغات التي �أ�صبحت عالمية حققت ذلك لكن بالنظر �إل��ى بعده العمودي ،ف��إن الن�سخة من خالل االكت�شافات واالختراعات العلمية التي المتوا�ضعة منه يمكن �أن ت�أتي على هذا النحو: �أ�صبحت جزءا من الفرد والمجتمع والحا�ضر؛ لماذا ال تكون هذه اللغة عربية؟ بمعنى ب�سط �إن �ه��ا ف��ي ك��ل م �ك��ان؛ ف��ي ال �م �ن��ازل وال �� �ش��وارع �سيادتها على مختلف الأقطار العربية ،من قاع والم�ؤ�س�سات� .أما لغتنا العربية ،فهي موجودة ال�شارع �إل��ى قمة ال�شاعر كما �أ�شرنا �سابقا. في القوامي�س والمنابر الإعالمية والمنا�سبات يجيبنا جان جاك رو�سو قائال�« :إن الأمة بقدر الدينية (و رفوف المكتبة) ،فال يمكنها� ،إذاً� ،إال ما تقر�أ وتتعلم ت��ذوب لهجاتها ،فال تبقى في �أن تكون لغة منا�سبات .وهذه الحالة ال ت�ؤهلها الأخير �إال في �شكل رطانة لدى الجمهور الذي لمواكبة النمو االجتماعي ،وال حتى تفا�صيل يقر�أ قليال وال يكتب �أ�صال»()5؛ وبنا ًء على هذا الثقافة الدقيقة لهذا �أو ذاك المجتمع� ،إنما الجواب ،نفتر�ض �أن العزوف عن القراءة هو اجلوبة � -صيف 1435هـ 35