طلعنا عالحرية / العدد 100

Page 1

‫حرية ‪ ،‬كرامة‪ ،‬مواطنة‬

‫العدد‬

‫‪100‬‬ ‫‪2021 / 11 / 20‬‬

‫مجلة شهرية‪ ،‬سياسية‪ ،‬ثقافية‪ ،‬مستقلة‬


‫اغتيال األمل‬ ‫‪2‬‬

‫نصار‬ ‫افتتاحية العدد بقلم أسامة ّ‬

‫العدد‬

‫‪100‬‬ ‫‪2021 / 11 / 20‬‬

‫يف مجموعة دردشة لسوريني يف الشتات‪ ،‬ناشط‬ ‫كان منخرطاً يف الثورة بكل تفاصيلها قبل أن‬ ‫يغادر البلد يسأل جاداً‪“ :‬ما هو الوضع يف شامل‬ ‫سوريا املحرر؟ هل ال زالت هناك فصائل؟ وما‬ ‫هو “الجيش الوطني”؟‬ ‫ليجيبه آخر مثله‪“ :‬ال أعرف أيّ يشء عن الوضع‬ ‫يف الشامل‪ ،‬وال يف الجنوب وال يف الوسط‪ ،‬وال‬ ‫حتى يف قريتنا‪ ..‬آخر ما سمعته عن البلد هو خرب‬ ‫وفاة صباح فخري!”‬ ‫تع ّقب زميلة أخرى يف نفس املجموعة ومن‬ ‫نفس الخلفية‪“ :‬مل أعد أتابع شيئاً من األخبار‪..‬‬ ‫ال املحلية وال العاملية‪ ..‬لكن سمعت عن عودة‬ ‫رفعت أسد إىل سوريا! وأسمع عن مشاكل‬ ‫عنرصية للسوريني يف تركيا وعن يشء اسمه‬ ‫“البطاقة الذكية” يف املناطق التي يسيطر عليها‬ ‫النظام‪ ..‬وغري ذلك‪ ،‬وغري أخبار كورونا التي‬ ‫انحرشت يف كل تفاصيلنا اليومية‪ ،‬ال وقت ‪-‬وال‬ ‫ذهن‪ -‬عندي ألي يشء آخر”‪.‬‬ ‫من مثل هذه العينة‪ ،‬كيف ميكننا تفسري فقدان‬ ‫الكثريين لحامسهم تجاه القضايا العامة؟‬ ‫لو سألنا الناشط العادي أو الناشطة العادية‪،‬‬ ‫ملاذا تغريت طبيعة ارتباطك وتفاعلك مع األخبار‬ ‫واألحداث‪ ،‬ستأيت اإلجابة سي ًال من “وجع الراس”‬ ‫واألخبار السيئة التي يعرفها بالرضورة من يتابع‬ ‫أو اليتابع الصحافة وامليديا‪ ،‬مثل‪:‬‬

‫سيف اإلسالم مع ّمر القذايف يقدّم َ‬ ‫ملف ترشيحه‬ ‫لرئاسة ليبيا‪ ،‬ويظهر مرتدياً نفس بردة أبيه البنية‬ ‫القبيحة‪ ،‬مبا يف ذلك من إمياءات جلية بأن شيئاً مل‬ ‫يتغري بل (لن) يتغري بعد ثوراتكم‪ ،‬وأن برنامجي‬ ‫السيايس هو أن “أعيش يف جلباب أيب”‪ ،‬وهذا ما‬ ‫أريده لليبيا والشعب الليبي!‬ ‫ورغد صدام حسني تبارك للمذكور‪ ،‬وتتمنى عودة‬ ‫األمجاد واأليام الخوايل‪ ،‬وأن يعيد “أخوها الغايل”‬ ‫سيف اإلسالم ليبيا “إىل موقعها الحقيقي”!‬ ‫ويف مرص السيساوية تستمر محاكامت ومتديدات‬ ‫سجن للناشطني املرصيني‪ ،‬وإعادة االعتبار لكل‬ ‫ما يتعلق بحقبة نظام مبارك‪.‬‬ ‫عندنا يف سوريا‪ ،‬ومرة أخرى‪ ،‬ابنة ماهر األسد‬ ‫تفوز باملركز األول والثاين (معاً) يف مسابقة‬ ‫للفروسية‪ ،‬وترتك الجائزة الثالثة والفتات لباقي‬ ‫الخدم‪ ..‬التقليديني أيضاً!‬ ‫رشكة مشغل االتصاالت‪ ،‬بجانب العتيدة سريياتل‬ ‫ُتسمى “إمياتل” و”إميا” هو اسم الدلع التي‬ ‫كانت تدعى به أسامء األخرس أثناء إقامتها يف‬ ‫بريطانيا‪ ،‬قبل أن تعود لسوريا فتصبح “أسامء‬ ‫األسد”‪ ،‬بخالف العرف السوري الذي تحتفظ‬ ‫فيه املرأة باسم عائلتها بعد زواجها وال ُتنسب‬ ‫لزوجها‪.‬‬ ‫وال يبدو أن عودة النظام السوري إىل الجامعة‬ ‫العربية أمراً بعيداً؛ فها هي اإلمارات تقود حملة‬ ‫التطبيع مع النظام‪ ،‬وليست مبفارقة أبداً أنها أيضاً‬ ‫تقود حملة التطبيع مع “إرسائيل”‪ ،‬فقد بات‬ ‫‪www.freedomraise.net‬‬

‫افتتاحية‬

‫املقاالت املنشورة تعرب عن آراء أصحابها أوالً‬ ‫وال تعرب بالرضورة عن آراء هيئة التحرير‬ ‫املجلة غري ملزمة بنرش كل ما يردها من مواد‬

‫شهرية ثقافية‪ ،‬اجتامعية‪ ،‬سياسية‪،‬‬ ‫تعنى بالشأن السوري‬ ‫املدير اإلداري‬ ‫معتصم أبو الشامات‬

‫الغالف‬ ‫سمري خلييل‬

‫واضحاً متاماً كم هي “إرسائيل” رضورية للنظام‬ ‫وللمنطقة‪ ..‬وكم هو بقاء النظام وحلف املامنعة‬ ‫رضوري إلرسائيل‪ ..‬و”املامنعة” األمريكية لحملة‬ ‫التطبيع مع النظام تبدو شكلية متاماً؛ إذ أصبح‬ ‫من السهل التمييز متى يقول األمريكان “ال”‬ ‫حيث ال يقصدون بها إال “نعم”‪.‬‬ ‫وباملجمل ميكن القول إن ما عمل عليه النظام‬ ‫الدويل خالل العقد املنرصم وحتى اآلن ما‬ ‫هو إال قتل األمل وتأبيد اليأس لدى الشعوب‬ ‫املقهورة‪ ،‬وإطفاء أي بصيص من الضوء يف آخر‬ ‫النفق‪ :‬ستبقون كام أنتم‪ ،‬وستبقى األنظمة شك ًال‬ ‫ومضموناً كام هي‪ ،‬حتى بشخوصها إىل أبد‬ ‫اآلبدين‪ .‬واليأس وموت األمل ال يعني يف النهاية‬ ‫الهم العام‪ ،‬واللهاث وراء أي‬ ‫إال العزوف عن ّ‬ ‫إمكانية ميكن أن تتاح للخالص الفردي‪.‬‬ ‫ً‬ ‫ومن أجل مزيد من املوضوعية‪ ،‬رمبا صار لزاما أن‬ ‫نعرتف بهذا أمراً واقعاً؛ فنقول إن الربيع العريب‬ ‫قد فشل‪ ،‬وانهزمت الثورات كلها‪ ،‬رغم تغريات‬ ‫كبرية تحققت يف عقد الربيع العريب‪ ،‬سواء يف‬ ‫دول الثورات أو غريها‪ ،‬وسنختلف أو نتفق عىل‬ ‫تقييم نجاح وفشل الثورات باملجمل‪ ،‬أو عند‬ ‫دراسة كل واحدة عىل حدة‪ ،‬ولكن ما ينبغي‬ ‫الحذر منه هو أن تجرنا هذه “املوضوعية” إىل‬ ‫الركون إلدانة جذرية للجوهر اإلنساين الذي‬ ‫قامت عليه كل انتفاضات الشعوب؛ بأن الكرامة‬ ‫حق لكل إنسان‪ ،‬وأن الحرية حق لكل إنسان‪،‬‬ ‫وأن الناس كلهم سواء‪.‬‬ ‫تفاعل معنا عرب صفحاتنا عىل اإلنرتنت‬ ‫‪facebook.com/rising4freedom‬‬

‫نصار‬ ‫رئيس التحرير أسامة ّ‬

‫‪twitter.com/freedomraise‬‬

‫نائب رئيس التحرير ليىل الصفدي‬

‫‪freedomraise@gmail.com‬‬

‫كاريكاتري‬ ‫سمري خلييل ‪ /‬هاين ع ّباس‬

‫أمن رقمي ومحاسبة‬ ‫وائل موىس‬

‫زمالء مختطفون يف سوريا‬ ‫رزان زيتونة ‪ -‬ناظم حامدي‬


‫‪3‬‬

‫العدد‬

‫‪100‬‬

‫‪2021 / 11 / 20‬‬

‫بوسرت‬


‫مشقة حياة!‬

‫‪4‬‬ ‫جمال الشوفي‬

‫العدد‬

‫‪100‬‬ ‫‪2021 / 11 / 20‬‬ ‫مقاالت‬

‫ليتها كانت مش ّقة حياة وحسب! وليتها كانت‬ ‫مجرد صورة عابرة! أو مشهداً عابراً يف حياتنا‪ .‬كانت‬ ‫عنوان طوفان سوري عام‪.‬‬ ‫مل يكن العنوان موفقاً‪ ،‬ومع هذا حققت الصورة‬ ‫جائزة عاملية الشهر الفائت! “مشقة حياة” عنوان‬ ‫غري موفق لصورة ألب سوري مبتور القدم يحمل‬ ‫طفله الذي ولد بال أطراف بفرح عارم‪ ،‬التقطها‬ ‫املصور الرتيك محمد أصالن يف قرية الريحانية‬ ‫عىل الحدود السورية الرتكية‪ .‬وفد تناقلت وسائل‬ ‫االعالم فوز هذه الصورة بجائزة صورة العام ‪2021‬‬ ‫مبسابقة ‪ SIPA‬الدولية للصور‪ .‬لتشري إىل املعنى‬ ‫اإلنساين والعاطفي املحتوى فيها‪ ،‬مجسدة وبحرفية‬ ‫عواطف األب “منذر النزال” مبتور القدم وهو‬ ‫يبتسم لـ”مصطفى”؛ طفله الذي ولد معاقاً بال‬ ‫أطراف!‬ ‫ّ‬ ‫مل تكن مشقة حياة وحسب‪ .‬بل إحدى أوجهها‬ ‫فقط‪ ،‬وإال افرتضنا أن حياة النزال وابنه ومثلهام‬ ‫ماليني السوريني باتت طبيعية بتهجريهم وتشتتهم‪،‬‬ ‫وكل ما يعانونه بضع مشقات من الحياة الطبيعية؛‬ ‫كتشوه خلقي استثنايئ‪ ،‬أو إعاقة جسدية أو نفسية‬ ‫مألوفة بنسبها الطبيعية يف أي مجتمع!‬ ‫كان األجدر تسميتها “الطوفان والنكبة السورية”‪،‬‬ ‫“الكارثة السورية”! فاألب واحد من اآلالف الذين‬ ‫باتوا معاقني بفعل القصف والدمار الذي استمر‬ ‫ألعوام ومل ينت ِه بعد لليوم‪ ،‬يف أريحا وعفرين‬ ‫ورمبا غريهام‪ ،‬ومجريات األيام القادمة ستفصح‬ ‫عن املزيد! والطفل واحد من مليون طفل سوري‬ ‫بات يتي ًام أو معاقاً أو ُولد مشوهاً‪ ،‬وذلك حسب‬ ‫تقارير األمم املتحدة! ومصطفى هو الطفل الذي‬ ‫ُولد مشوهاً بفعل مضاعفات األدوية التي تناولتها‬ ‫أمه أثناء الحمل نتيجة تعرضها لغاز األعصاب‪،‬‬ ‫حسبام أفادت تقارير طبية‪ .‬وال أحد ميكنه أن‬ ‫يجزم لليوم إن كان التشوه ناتج عن األدوية أم‬ ‫عن غاز األعصاب بذاته‪ .‬وباألساس مل يج ِر مسح‬ ‫ملناطق النزاع السوري‪ ،‬أو دراسات توثق التشوه‬

‫الخلقي أو التغري الجيني املمكن! ففي العراق‬ ‫مث ًال‪ ،‬قامت وزارة الصحة العراقية وبالتعاون مع‬ ‫أكادمييني عراقيني ومنظامت دولية‪ ،‬وخالل حربيها‬ ‫األوىل والثانية‪ ،‬بدراسة التغري الجيني والتشوه‬ ‫الخلقي الناتج عن استخدام أسلحة التحالف الدويل‬ ‫لألسلحة املحرمة وقتها‪ ،‬وأثبتت تضاعفها بنسبة‬ ‫‪!300%‬‬ ‫العامنيات‬ ‫يف مشهد سابق‪ ،‬إحدى الطالبات ُ‬ ‫وكمرشوع تخرج لها‪ ،‬متكنت من تجسيد الواقع‬ ‫السوري بخروج األب وابنه من إطار اللوحة‪.‬‬ ‫واللوحة كانت سورية‪ ،‬والعنوان كان اللجوء بعد‬ ‫طوفان عارم للقتل واملوت‪ .‬واليوم يصور حال‬ ‫السوري الالجئ باملش ّقة!‬ ‫لرمبا أجاد الفنانني الرتيك والعامين بوصف املشهد‬ ‫السوري حسياً وعاطفياً‪ ،‬وتسليط الضوء عىل جزء‬ ‫من معاناتنا العامة‪ ،‬كام أجاد ذلك الرشطي الرتيك‬ ‫الذي التقط صورة “إيالن الكردي” عىل شواطئ‬ ‫الهجرة قبل أعوام! ولكنا مل نجد بعد بتصوير‬ ‫طوفاننا عىل مستوى نقد العمق املتحرك فيه!‬ ‫فرغم ما ُكتب سياسياً وبشكل هائل يف املسألة‬ ‫السورية‪ ،‬لكن إىل اليوم مل يتشكل بعد وبوضوح‬ ‫فني أو أديب أو فكري نقد عميق لتحوالتنا البنيوية‬ ‫العميقة يف املشهد السوري‪ .‬فإن كان جزء هام من‬ ‫كوارثنا هو مش ّقات الحياة بالداخل‪ ،‬وما يتبعها من‬ ‫اختناقات قاتلة يف سبل العيش‪ ،‬ويف الجوار‪ ،‬يف دول‬ ‫اللجوء القريب‪ ،‬نكبة البيوت ومخيامت اللجوء‬ ‫وكوارثها الصحية والخدمية‪ ،‬لكنها إىل اليوم وجه‬ ‫من أوجه الطوفان السوري والذي مل يستق ّر بعد‪.‬‬ ‫كان من املدهش املثري للحرية والغنب لو اكتفى‬ ‫فيكتور هوغو مبشهد لعق النبيذ مع الرتاب يف حي‬ ‫فرنيس فقري عندما وقع برميل نبيذ من عربة وأفرغ‬ ‫محتواه يف األرض‪ ،‬وكانت القصة ستكون مشقة‬ ‫حياة وحسب! وكيف سنعالج حال الفقراء؟ ليأكلوا‬ ‫أو لنطعمهم الكاتو إن مل يجدوا الخبز حسبام‬ ‫اقرتحت ماري أنطوانيت وقتها! لكنه أرادها قصة‬

‫تحوالت عميقة تطال بنى املجتمع الفرنيس كافة‪،‬‬ ‫حياتياً ومادياً وفكرياً وثقافياً وفنياً وأدبياً‪ ،‬فكانت‬ ‫ثورة حياة بعد طوفان موت‪..‬‬ ‫ميزة األوجه املأساوية للحياة أنها متتلئ حساً‬ ‫وعواطف ومشاعر‪ ،‬وهذه وإن كانت تحتاج ملا‬ ‫يقابلها من عواطف نبيلة لكنها ال تكفي! كام ال‬ ‫يكفي تجسيدها بصور وفقط‪ ،‬بل الغوص العميق‬ ‫يف نقد املوروث الديني والعريف السائد‪ ،‬وتفكيك‬ ‫بنى السياسة السلطوية واالستحواذية املدمرة‬ ‫للحياة والبرش‪ ،‬والبحث عن إرشاقات أدبية وفكرية‬ ‫تحاول أن تشقّ طريقها للنور يف رحلة عتمة‬ ‫الطوفان العام! وما يدعو للحرية‪ ،‬أن محاوالت‬ ‫السوريني يف ذلك الزالت‪ ،‬ورغم عنادها لجرف‬ ‫الطوفان العام‪ ،‬الزالت تغرق يف السيايس وحسب‪،‬‬ ‫وقلام تنفذ للعمق باتجاه البحث الدؤوب عن‬ ‫املشرتك العام‪ ،‬وعن اعتبار قضية واحدة لفئة أو‬ ‫طائفة أو ملة هي كل القضايا وما عداها ثانوي‪..‬‬ ‫مهمة السوريني املبدعني اليوم تشكيل الفارق‬ ‫املهم والحيوي يف تكريس منوذجية الطوفان‬ ‫السوري‪ ،‬وعدم االكتفاء بنامذج دماره عىل أهميتها‬ ‫وعظمتها التوثيقة كعمل نبيل‪ ،‬وأيضاً يف النحت‬ ‫الشاق يف الوصول ّ‬ ‫ّ‬ ‫لشط األمان‪ ،‬ال جزره وحسب‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫وشط األمان الهام‪ ،‬والذي سيمثل ح ّداً عىل‬ ‫طوفان املوت والحرب والعنف وتنازع الرشعيات‬ ‫القاتل‪ ،‬هو القدرة عىل التعاقد عىل سريورة حياة‬ ‫مختلفة عن مجريات طوفان املوت هذا ومسبباته‬ ‫ونواتجه‪ .‬التعاقد الحر والرضايئ عىل سيادة القانون‬ ‫يف وطن تسوده الحريات واإلبداع واالستقرار‬ ‫واألمان وقدرة القانون عىل محاسبة الخارجني عن‬ ‫عقده‪ .‬وليس ذلك فقط‪ ،‬بل والقدرة عىل االعرتاف‬ ‫باألخطاء وعالجها‪ ،‬وقد يكون أحدها إجراء مسح‬ ‫عام للتشوهات الخلقية والجينية الحادثة كام‬ ‫التشوهات األخالقية والوطنية‪ ،‬ومحاسبة مجرمي‬ ‫الحرب ومولدي طوفانها‪ ،‬حينها ميكن أن نسميها‬ ‫“لوحة حياة”‪ ،‬وما يتخللها مجرد “مشقة حياة”‪..‬‬


‫ّ‬ ‫تصدع املستقبل‬

‫‪5‬‬

‫عبد اهلل شاهين‬

‫العدد‬

‫‪100‬‬ ‫‪2021 / 11 / 20‬‬ ‫مقاالت‬

‫لطاملا تساءلت يف خاطري عن مآلنا نحن السوريني‬ ‫ما بعد سقوط النظام واستقرار أوضاع البالد‪،‬‬ ‫أَ َنت َ​َص ْو َمل (من نصري عىل خطى الصومال عقب‬ ‫حربها األهلية) أم َنتَأَ ْلمن (نسري عىل ُخطا أملانيا‬ ‫عقب الحرب العاملية الثانية)؟ أنشهد مرحلة إعادة‬ ‫إعامر مزدهرة تنقل الدولة إىل اقتصاد ما بعد العهد‬ ‫الصناعي‪ ،‬أم نجد أنفسنا تحت رحمة املنظامت‬ ‫الدولية دون وجود تنمية حقيقية وأسس إعادة بناء‬ ‫قوية؟ ال ّ‬ ‫شك أن التنبؤ بهذا املآل أمر عويص‪ ،‬كونه‬ ‫مرتبط بعوامل معقدة ومتشابكة‪ ،‬وتجاربنا اليوم‬ ‫ترينا أننا أمام تح ٍد بالغ الصعوبة وال ّ‬ ‫حل يف األفق‪.‬‬ ‫العامل الحاسم يف كل تجارب إعادة اإلعامر‬ ‫(عقب الحروب والكوارث) حول العامل مل يكن‬ ‫وجود خطة “مارشال” اقتصادية‪ ،‬ومل تكن القروض‬ ‫الدولية امليرسة أداة تفعيل أو تثبيط حقيقي‬ ‫لالقتصادات التي يف طور التعايف‪ ،‬لقد كان العامل‬ ‫البرشي عىل الدوام أكرث العوامل التي ميكن من‬ ‫خاللها التنبؤ مبستقبل الدول املتعافية‪ .‬بل أكاد‬ ‫أجزم بأنه هو العامل الحاسم يف هذه املعادلة‪.‬‬ ‫ذلك العامل البرشي مرتبط مبعيارين أساسيني‬ ‫هام‪ :‬استعداد هذا الشعب من الناحية التدريبية‬ ‫والتعليمية والتقنية‪ ،‬واآلخر هو وجود صيغة‬ ‫اجتامعية تربط هذا الشعب بعضه ببعض‪ ،‬وتربط‬ ‫األرض الجغرافية بأرضية اجتامعية مشرتكة بينهم‪.‬‬ ‫إذا ما نظرنا إىل املعيار األول نجدنا أمام واقع‬ ‫مظلم‪ ،‬قامت منظمة ‪ Save the Children‬بدراسة‬ ‫الواقع التعليمي للسوريني يف الشامل السوري‬ ‫عام ‪ .2019‬وجدت هذه الدراسة أن ‪ 2.45‬مليون‬ ‫طفل سوري ‪-‬أو واحداً من كل ثالثة‪ -‬ال يذهبون‬ ‫إىل املدرسة‪ .‬بل والحظوا كذلك انخفاضاً يف عدد‬

‫طالب املدارس التي يديرونها مبقدار الثلث؛ من أكرث‬ ‫من ‪ 11200‬إىل حوايل ‪ 7775‬طالباً‪ .‬تصبح املأساة‬ ‫مضاعفة عندما نعلم أن هؤالء الطالب ‪-‬الذين‬ ‫باتوا خارج دائرة التعليم املدريس‪ -‬مل يذهبوا إىل‬ ‫مهن يدوية أو حرف صناعية‪ ،‬بل إن الكثري منهم‬ ‫يعملون يف تجميع النفايات والخردة أو التسول‬ ‫أو يف املزارع‪ ،‬أو يجلسون يف بيوتهم وخيامهم‪..‬‬ ‫هذا الحال ليس طارئاً وال قصري األمد‪ ،‬نحن‬ ‫اآلن نقارب من دخول العام الحادي عرش منذ‬ ‫انطالق الثورة السورية وبداية هذه التغريبة‪.‬‬ ‫دراسة أخرى من عام ‪ 2017‬وجدت أن هنالك‬ ‫أكرث من مئة ألف طالب سوري جاهز للدراسة‬ ‫الجامعية وليس له مقعد درايس وال منحة‪ .‬هنالك‬ ‫إذاً انقطاع كامل عن التعليم لثلث أطفال سوريا‪،‬‬ ‫وغياب شبه كامل لسبل إكامله ملئات اآلالف‬ ‫منهم‪ ،‬حتى وإن متكنوا من إمتام التعليم املدريس‪.‬‬ ‫أما واقعنا من ناحية املعيار الثاين فال يقل سوداوية‪،‬‬ ‫فأكرث من ‪ 14‬مليون سوري باتوا مهجرين عن‬ ‫ديارهم ما بني نازح والجئ‪ .‬كثري منهم من مر‬ ‫بأكرث من تجربة نزوح خالل األعوام العرشة‬ ‫املنرصمة‪ ،‬ومازال بال مأوى أو مستقر‪ .‬كيف ميكن‬ ‫ألي إنسان أن يبني واقعه أو مستقبله وهو بدون‬ ‫مأوى وال مستقر؟ كيف نطلب أن يصبح الطفل‬ ‫الذي يسكن يف مخيامت مكتظة وقد خرج من‬ ‫التعليم املدريس أن يكون املعجزة القادمة يف العلم‬ ‫أو الفكر؟ حتى وإن فعل طفل منهم بالرغم من‬ ‫كل ظروفه العصيبة فام عىس يفعل اآلخرون؟‬ ‫نحن أمام معضالت كربى تزيد تعقيد الحلول‬ ‫التي علينا اإلتيان بها‪ .‬نحن أمام فجوة زمنية‬ ‫وتعليمية كربى تجعل الصدع الذي نريد مأله‬

‫كبرياً‪ ،‬بل املصيبة أن هذا الصدع ما زال يف طوره‬ ‫التوسعي‪ ،‬ومازالت تنبثق منه تصدعات أخرى‪.‬‬ ‫بالرغم من دخولهام يف حروب كربى طاحنة‬ ‫دمرتهام‪ ،‬إال أن التعليم والصناعة والطبابة والسكن‬ ‫ّ‬ ‫ظل محفوظاً لجزء كبري من مواطني أملانيا واليابان‬ ‫(باستثناء من تم نفيهم إىل املعتقالت واملحارق يف‬ ‫أملانيا)‪ّ ،‬‬ ‫وظل هؤالء السكان يف أرضهم وبيوتهم‪ ،‬بل‬ ‫وظلت العجلة الصناعية والبحوث العلمية والتقنية‬ ‫غزيرة اإلنتاج‪ .‬نحن اليوم أمام حالة انقطاع كامل‬ ‫عن التعلم واإلنتاج والعمل والتطور‪ ،‬فقدنا خالل‬ ‫هذه السنوات العرش الكفاءات البرشية التي كانت‬ ‫لدينا‪ ،‬كام حكمنا عىل غالبية الجيل القادم بالفشل‪،‬‬ ‫ومهام منينا أنفسنا بجامل اإلنجازات الفردية لبعض‬ ‫املغرتبني السورين ‪-‬والتي ترفع الرأس دون أدىن شك‪-‬‬ ‫إال أننا ما زلنا أمام مشهد مروع من الفقر والترشد‬ ‫وضياع املستقبل‪ .‬وال ّ‬ ‫حل يلوح يف األفق لهذه‬ ‫املآيس املرتاكبة والتي تزداد فداحة يوم ُا بعد يوم‪.‬‬ ‫الصومال اليوم ‪-‬والتي جعلنا من اسمها مرادفاً‬ ‫للفشل والتخلف والحروب الطاحنة‪ -‬تنهض من‬ ‫جديد‪ ،‬وتنفض عنها ركام الحرب‪ ،‬بل وأصبحت قبلة‬ ‫للكفاءات العلمية واملهنية السورية والعربية‪ .‬أما‬ ‫أملانيا فهي أكرب اقتصاد أورويب‪ ،‬وبها أكرب جالية سورية‬ ‫يف تلك القارة‪ .‬الثابت الوحيد أنه ال يشء يبقى عىل‬ ‫حاله‪ ،‬ولن يزول صداعنا إىل إذا ما قمنا مبا ميكننا فعله‬ ‫اليوم‪ ،‬وعلينا أن نركز عىل أن يكون كل ما ميكن أن‬ ‫نفعله اليوم ليصري سوريوا ‪ 2031‬بحال أفضل وتكون‬ ‫توقعاتنا ملستقبلنا أكرث إرشاقاً مام هي عليه اليوم‪.‬‬ ‫وبعد ثالثية التشاؤم (ال شفاء لهذه النازفة‪ ،‬األمل‬ ‫مبا تبقى من العمل) يف العددين السابقني) هذه‬ ‫سنستعرض ثالثية الحلول التي علينا أن نعمل بها‪.‬‬


‫ّ‬ ‫تعدد الزوجات ‪ -‬ملاذا فشلت احلداثة‬

‫‪6‬‬ ‫أحمد برهو‬

‫العدد‬

‫‪100‬‬ ‫‪2021 / 11 / 20‬‬ ‫مقاالت‬

‫يعيش الشعب السوري اليوم يف املناطق السورية‬ ‫جميعها‪ ،‬ضائقة اقتصادية واجتامعية كبرية تصل إىل‬ ‫مستوى الكارثة اإلنسان ّية‪ ،‬فيام تزداد الضائقة أكرث عىل‬ ‫مناطق الشامل السوري‪ ،‬التي تتعرض منذ عرش سنني‬ ‫للقصف اليومي من قبل النظام السوري وحلفائه‪،‬‬ ‫إضافة إىل خضوع تلك املنطقة لفصائل مس ّلحة‬ ‫كسلطات أمر واقع‪ ،‬وغياب القوانني املدنية الناظمة‪،‬‬ ‫فيستعني أهايل املنطقة بالثقافة اإلسالمية كبعد‬ ‫قانوين‪ /‬رشعي إلدارة العالقات االجتامعية واملالية‪،‬‬ ‫ومن بينها مسائل الزواج والطالق‪.‬‬ ‫قريباً من الشامل السوري‪ ،‬يف والية ك ّلس الرتكية‪،‬‬ ‫حقوقي ال يسمح بتعدد الزوجات‪ ،‬يخضع‬ ‫مثة نظام‬ ‫ّ‬ ‫له السوري املهاجر كضيف يف األرايض الرتك ّية‪ ،‬وقد‬ ‫يكون هذا السوري من منطقة اعزاز السورية‪ ،‬والتي‬ ‫ال تبعد سوى كيلومرتات قليلة عن ك ّلس‪ .‬اعزاز التي‬ ‫تم قبل مدة وجيزة اإلعالن من إحدى مخيامت‬ ‫ّ‬ ‫النازحني فيها‪ ،‬عن افتتاح مركز لـ (تعدد الزوجات)‪،‬‬ ‫وسط تفاعالت متباينة للشعب السوري‪ ،‬عرب وسائل‬ ‫التواصل االجتامعي‪ .‬تفاوتت التفاعالت بني تأييد‬ ‫للفكرة‪ ،‬وبني رفضها‪.‬‬ ‫أما املؤيد فغالباً ما كان ي ّربر موقفه باالستناد إىل‬ ‫نصوص دينية‪ ،‬أو إىل وجهة نظر (واقع ّية) يف التعاطي‬ ‫مع مسألة كرثة عدد النساء ال ّلوايت فقدن املعيل‪ ،‬يف‬ ‫إشارة إىل شهداء الحرب‪ ،‬قياساً إىل عدد الرجال يف بلد‬ ‫يعاين أهله من ويالت الحرب‪.‬‬ ‫أما املعارضون لفكرة تعدد الزوجات فهم من فئة غري‬ ‫املتدينني غالباً‪ ،‬مستندين يف وجهة نظرهم إىل رضورة‬ ‫احرتام حرية املرأة‪ ،‬املقموعة من قبل الرجل!‬ ‫فيام طرح عدد قليل نسبياً النهج الليربايل يف التفكري؛‬ ‫حيث تناول املسألة من جهة حرية الفرد‪ ،‬ووجوب‬ ‫متكني املرأة من حر ّية خيارها‪.‬‬ ‫وتجدر اإلشارة إىل ّأن ثقافة (تعدد الزوجات) بحد‬ ‫ذاتها ليست أمراً غريباً عن املجتمع السوري كخيار‬

‫متوفر‪ ،‬تجيزه الثقافة الدينية والعرف االجتامعي‪ ،‬لكن‬ ‫طرحه كمرشوع دفع املجتمع السوري للحديث يف‬ ‫ذلك عىل مستويني اثنتني‪:‬‬ ‫‪ - 1‬لغة بسيطة يشوبها ّ‬ ‫متس‬ ‫الشك تجاه قضايا ّ‬ ‫املنظامت والدعم املايل‪ ،‬وحديث عن ذ ّمة القامئني‬ ‫عليها‪.‬‬ ‫‪ - 2‬استياء من محاولة تنميط هوية الثورة السورية‬ ‫لصالح قالب ثقايف بعينه‪ ،‬من حيث تسويق حدث‬ ‫(افتتاح جمعية لتعدد الزوجات) باعتباره فع ًال يعرب‬ ‫عن هوية مقاوم ٍة لثورة حرية‪ ،‬يف حني ال يتفق‬ ‫أصحاب هذا الت ّيار مع مؤيدي تعدد الزوجات‪،‬‬ ‫وتجددت سريورة الخالف بني طرفني‪ ،‬أحدهام يرى أن‬ ‫موقفه نابع من هويته الدين ّية‪ ،‬ومن يعارض موقفه‬ ‫سيتعرض لهويته‪ ،‬ال بل سيعارض هوية الثورة!‬ ‫وطرف ثانٍ سيخلط بني معارضته ملوقف اآلخر‪ ،‬وبني‬ ‫اإلساءة ملعتقد‪ ،‬ضمن إشكال متكرر يبدو أن له أصوله‬ ‫الثقافية‪.‬‬ ‫يف سياق دراسة توتر العالقة بني هوية املجتمعات‬ ‫املحلية وبني هوية اآلخر‪ ،‬سنستعني بفيديو انترش‪،‬‬ ‫قبل فرتة وجيزة من الشامل السوري أيضاً‪ ،‬للشيخ‬ ‫أسامة الرفاعي‪ ،‬يقول فيه‪“ :‬هناك نساء من أبناء‬ ‫ِجلدتنا‪ ،‬يتكلمون بلغتنا‪ ،‬بل هم من أبناء بلدنا‪ ..‬يأتون‬ ‫مجندات من ِقبل األمم املتحدة وغريها‪ ..‬لينرشوا‬ ‫بني فتياتنا ما يسمونه بتحرير املرأة‪ ،‬ما يسمونه‬ ‫بالجندرة‪...‬أن ُت ًكن املرأة من حريتها‪ ،‬يقولون للمرأة‬ ‫أنت مستعبدة من قبل الزوج‪ ،‬األب‪ ،‬خذي حريتك‬ ‫كاملة‪ ،‬هكذا شأن اإلنسان‪ ،”..‬ثم يصف فيقول‪:‬‬ ‫“مجندات من قبل الغرب إلفساد نسائنا‪.”..‬‬ ‫رمبا ميكننا مالحظة النقاط التالية‪:‬‬ ‫توتر العالقة بني الهوية املحلية وبني هوية عاملية‬ ‫(يسميهاالغرب)‪.‬‬ ‫مناقشة مفهوم الحرية من خالل عالقة الرجل واملرأة‪.‬‬ ‫يف مثل هذا السياق يتحدث املفكر اللبناين أمني‬

‫معلوف‪ ،‬يف كتابه الهويات القاتلة‪ ،‬عن توتر الهويات‬ ‫املحلية‪ ،‬بعد انهيار النموذج الشيوعي بحسب رأيه‪،‬‬ ‫تجاه موضوعة العوملة‪ ،‬وأن هذا التوتر يظهر يف صيغة‬ ‫محاولة “إبراز عنرص ‪-‬واحد‪ -‬من هويتهم عىل حساب‬ ‫العنارص األخرى‪ ،‬وهكذا يصبح تأكيد االنتامء الديني‬ ‫واعتباره العنرص األسايس للهوية موقفاً شائعاً‪”..‬‬ ‫ويفرس تنامي الظاهرة الدينية كمحاولة للتأليف بني‬ ‫الحاجة إىل هوية‪ ،‬ومطلب العاملية‪ ،‬يف ظاهرة يسميها‬ ‫املعلوف بـ “قبائل كوكبية”‪.‬‬ ‫لكن ويف مستوى آخر من التوتر الهويايت يحدثنا‬ ‫معلوف عن توتر دولة كفرنسا بعمقها الحضاري‪ ،‬من‬ ‫توجه أمرييك يريد فرض الهو ّية األمريك ّية كنموذج‬ ‫وحيد لهوية عاملية واحدة يف إطار ما يس ّمى بـ‬ ‫“العوملة”‪.‬‬ ‫لذلك سنتناىس آن ّيا مهاجمة الشيخ الرفاعي للنامذج‬ ‫األخرى “الغربية” لرنكز عىل موقفه من الحر ّية ذاتها‪:‬‬ ‫يقول الشيخ‪“ :‬يقولون للمرأة أنت مستعبدة من‬ ‫قبل الزوج‪ ،‬األب‪ ،‬خذي حريتك كاملة‪ ،‬هكذا شأن‬ ‫اإلنسان‪.”..‬‬ ‫فهل ميكننا نفي مقالة الشيخ من حيث وقوعها أو‬ ‫عدم وقوعها بالفعل؟‬ ‫يف كتابه (الوعي الجاميل) مييز د‪ .‬سعد الدين كليب بني‬ ‫وعيني جامليني‪“ :‬كالسييك وحدايث”‪ ،‬بحسب د‪ .‬كليب؛‬ ‫حيث يعتمد الوعي الحدايث منظومة “التجادلية” التي‬ ‫ترى العامل يف “وحدته القامئة عىل التناقض والرصاع”‬ ‫ومن ثم الباعثة عىل “التميز والحرية والحيوية”‪.‬‬ ‫إذاً فأزمة الهوية هي أزمة مركبة عىل أكرث من صعيد؛‬ ‫بداية من تعريف األرسة ضمن النسق الفكري‬ ‫(كالسييك‪ /‬حدايث)‪ ،‬وانتها ًء بعالقة الهويات املحلية‬ ‫بالعوملة‪ ،‬لذلك فأن منطية التجادلية الحداثية الناظمة‬ ‫للعالقات‪ ..‬واألرسية منها‪ ،‬ال تسمح لنا أن نقول للشيخ‪:‬‬ ‫أنت مل تقل الحقيقة‪ّ ،‬‬ ‫ألن جملة الخطاب الثقايف‬ ‫الحدايث يقول ذلك بالفعل‪ ،‬إال ّأن املنطق الحدايث‬


‫‪.....‬‬

‫العدد‬

‫‪100‬‬ ‫‪2021 / 11 / 20‬‬ ‫كاريكاتري‬

‫يراعي صياغة القوانني الناظمة للعالقة الزوجية ضمن‬ ‫األرسة الواحدة‪ ،‬بحيث تدعم تلك القوانني استقاللية‬ ‫كل من طريف الحياة‪ ،‬وتدير السلطات العامة هذه‬ ‫املصالحاملتشابكة‪.‬‬ ‫فيام يشري واقع الحال إىل ّأن الشامل السوري ال‬ ‫يخضع‪ ،‬مع األسف‪ ،‬لسلطة القانون‪ ،‬وال سلطة‬ ‫مركزية تدير مصالح األطراف فيه‪ ،‬فض ًال عن عدم‬ ‫امتالك املنطقة ألدىن مقومات الحياة‪ ،‬وهذا ما يجعل‪،‬‬ ‫ّربا‪ ،‬من عمل املنظامت التي تسعى يف برامجها إىل‬ ‫إقرار منوذج حقوقي عاملي عم ًال قد ال يكون منتجاً‪.‬‬ ‫ويف حني ميكننا معالجة جملة‪“ :‬خذي حريتك كلها”‪،‬‬ ‫بالقول‪ّ :‬إن من الطبيعي أن يحصل كل إنسان عىل‬ ‫حريته كاملة‪ ،‬وهذه ليست منحة تقدمها املنظامت‪،‬‬ ‫بل هو حق طبيعي‪ ،‬بحسب ما جاء يف املبدأ الثالث‬ ‫لحقوق اإلنسان‪ِّ :‬‬ ‫“لكل فرد الحقُّ يف الحياة والح ِّرية‬ ‫ويف األمان عىل شخصه”‪.‬‬ ‫لكن باملقابل فإن منطقة كالشامل السوري‪ ،‬تتعرض‬ ‫يومياً لقصف النظام وحلفائه‪ ،‬وتستنجد منذ عرش‬ ‫سنوات باألمم املتحدة‪ ،‬وبالغرب‪ ،‬إليقاف إماتة‬ ‫الرجال واألطفال والنساء‪ ..‬إن مزاجا لشعب يعيش‬ ‫خيبة عدم استجابة الحضارة ألوىل شعاراتها‪( :‬حرية‬ ‫الحياة)‪ ،‬إضاف ًة إىل عدم شعوره باألمان‪ ،‬هذه األزمات‬ ‫وغريها تجعل من الصعب الحديث مع هذا الشعب‬ ‫عن وجوب توخي دقة مفاهيم تالية كالحرية‪ .‬فض ًال‬ ‫عن الحديث معه يف مستوى أكرث عمقاً كالجندر!‬ ‫لنحاول أن نكون منطقيني أكرث سنعرتف بالفشل‪ ،‬لقد‬ ‫فشلت الحضارة يف (الشامل السوري)‪ّ ،‬‬ ‫وإن الحديث‬ ‫عن (تعدد الزوجات) هو حديث من مستوى الفشل‬ ‫الذي يعاين مأساته الشعب السوري؛ كباراً وصغاراً‪،‬‬ ‫ذكوراً وإناثاً عىل صعيد واحد‪ ،‬إال أن االستثامر يف‬ ‫قضاياه الوجودية لتعميم هو ّية جمع ّية للشعب‬ ‫السوري‪ ،‬أو لثورته‪ ،‬أمر غري أخالقي‪ ،‬بحال من األحول‪.‬‬

‫‪7‬‬


‫‪8‬‬

‫ّ‬ ‫السورية‪ ..‬رسالة إىل دمى العامل‬ ‫أمل‬ ‫يوسف صادق‬

‫العدد‬

‫‪100‬‬ ‫‪2021 / 11 / 20‬‬ ‫مقاالت‬

‫أطفال سوريا يعربون العامل دون حدود‪ ،‬يصلون‬ ‫ّ‬ ‫والترشد والسجن‬ ‫إىل أمهاتهم املحررات من قيود املنفى‬ ‫واأليديولوجيا‪..‬‬ ‫رش أو‬ ‫سبع أو ع ٍ‬ ‫هو حلم ّ‬ ‫شقي‪ ،‬هو رؤى الصدّيق بعد ٍ‬ ‫أكرث من السنوات العجاف‪ ،‬يصنعون من خيام الشتات‬ ‫ات ورقية ويح ّلقون‪ ،‬يرصفون من حطام بيوتهم‬ ‫طائر ٍ‬ ‫ومدارسهم طريقاً إىل املجهول‪ ،‬يستيقظون‪ ..‬أو نستيقظ‬ ‫نحن يف حلم (أمل) الطفلة السورية الدمية!‬ ‫لنغي هذا‬ ‫كم نحتاج إىل الحلم كام نحتاج إىل الجنون‪ّ ،‬‬ ‫العامل البليد‪ ،‬حسب الحلم‪ّ ،‬أن روحاً ما تزال ّ‬ ‫ترف فوق‬ ‫أنظار بني البرش‪ ،‬لتذ ّكرهم بالجرمية‪.‬‬ ‫طيف حمزة الخطيب وتامر الرشعي يرسم الـ (ال)‬ ‫الرافضة إلسكات أصوات الكرامة‪ ،‬صور عمران الخارج‬ ‫من ذهول عامله لذهول عامل يراه خارجاً من أدغال‬ ‫الركام‪ ،‬ورسي ٌر من املوج إليالن ينام هانئاً من تعب‬ ‫الحدود وهي تضيق عىل حلمه‪.‬‬ ‫أ ّما نهلة التي نس َي ْت أن تخلع سوار قي َد ْين قبل أن تنام؛‬ ‫قيد النزوح والحرمان ومفتاحه الذي تناساه العامل يف‬ ‫جيب الطاغية! وقيد أيديولوجيا االضطهاد والنكوص‪،‬‬ ‫والتي ما زالت تق ّيد أصحابها خارج التاريخ والحياة‪،‬‬ ‫قبل أن متنع الشمس من الرقص فوق ّ‬ ‫أكف وضحكات‬ ‫أطفالنا‪.‬‬ ‫أمل السورية الدمية‪ ،‬هي الروح‪ ،‬هي الحقيقة يف‬ ‫روح‪ُ ،‬يق َّيد البرش بسالسل‬ ‫عاملٍ يتحرك كالدمى‪ ،‬بال ٍ‬ ‫من عبودي ٍة جديدة‪ ،‬عبودية املصالح‪ ،‬عبودية العجز‪،‬‬ ‫عبودية الخوف‪ ،‬عبودية الجهل‪ ،‬عبودية األيديولوجيا‬ ‫بكل أشكالها الدينية والطائفية والفئوية‪.‬‬ ‫ٌ‬ ‫حكاية ُتروى‬ ‫هي حكاية لكل طفل وطفلة سورية‪،‬‬ ‫ألطفال العامل قبل أن يناموا‪ ،‬وهم يحلمون‪ ..‬يف أيّ‬ ‫كوكب حدثت هذه األساطري‪ ،‬ويف أيّ زمن؟‬ ‫ٍ‬ ‫عمر أمل تسع سنوات‪ ،‬وعمر حكاياتنا الكثري من‬ ‫الساموات والكثري من التناقضات‪ .‬حملت أمل حلم كل‬ ‫طفل سوري وعربت به حدود مثاين دول‪ ،‬شاركت أطفالها‬ ‫احتفاالتهم‪ ،‬وأوصلت أصوات ‪ 1.8‬مليون إنسانٍ يطالب‬ ‫بتخفيض االنبعاثات ا ُملسببة لالحتباس الحراري!‪ ..‬لكنها‬ ‫مل تطلب يف املؤمتر الدويل حول املناخ‪ ،‬أن يلتفت العامل‬ ‫لالحتباس الحراري للجرمية يف سوريا‪.‬‬ ‫قد ُيقال كفانا االنطالق من االضطهاد‪ ،‬أو كفانا االنغالق‬ ‫عليه‪ ..‬فاالنغالق عىل االضطهاد ال ُيو ّلد ّإل اضطهاداً أش ّد‬ ‫عىل الذات‪ ،‬لكنّ أمل مل تقل ّإن السوريني هم وحدهم‬ ‫الشهداء‪ ،‬وهم وحدهم َمن يعيشون الظلم والقتل‬

‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫لكل‬ ‫والترشد‪ ،‬مبشاركتها‬ ‫قضايا العامل تثبت رسالة‬ ‫املحبة واإلنسانية‪ ،‬رسالة‬ ‫األديان والفلسفات‪ ،‬رسالة‬ ‫املصري املشرتك لشعوب‬ ‫العامل‪ .‬ومشاركتها ٌ‬ ‫دليل ّأن‬ ‫العامل ليس عادالً‪ ،‬وقضية‬ ‫السوريني جزء من هذا‬ ‫االحتباس الحراري الذي‬ ‫ّ‬ ‫املتحض‪،‬‬ ‫يخشاه العامل‬ ‫وجزء من هذا االنغالق عىل الوباء‪ ،‬وقد أعاد العامل إىل‬ ‫انغالقات جديدة‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫العامل يغلق حدوده بوجه اآلالف بل املاليني م ّمن يحلم‬ ‫بالحرية وكرامة العيش‪ ،‬ذاك العامل ذاته من يستثمر‬ ‫ويستغل قضية أولئك‪ ،‬أو يحاول إبعادهم عن أراضيه‬ ‫وشعوبه املقدسة!‪ ..‬تلك هي مفارقات وتناقضات هذا‬ ‫العامل‪ ،‬تجمعها أمل برمزية عبورها‪ ،‬ورمزية هويتها‪،‬‬ ‫ورمزية مشاركتها وفاعليتها‬ ‫ليس هذا التناقض الوحيد الذي مت ّر به أحالم‬ ‫السوريني!‬ ‫قدر أمل أن تعرب بأحالمهم مثل رسب طيو ٍر يهاجر بني‬ ‫شتاءين‪ ،‬بني قرارات مجلس املصالح والتأديب العاملي‪،‬‬ ‫وقراراته الرافضة لحقوق السوريني وأحالمهم بحياة‬ ‫أفضل‪ ،‬وبني ترحيب إنساين ال ميلك الفيتو‪ ،‬ال ميلك سوى‬ ‫أن يقدّم السلل الغذائية دون أن يجرؤ عىل النظر بأعني‬ ‫األطفال‪.‬‬ ‫قالت لهم أمل‪“ :‬يف كل مثاين ساعات ُيقتل أو ُيصاب‬ ‫ٌ‬ ‫طفل سوريّ ‪ ،‬وتسعون باملائة من األطفال بحاجة للدعم‬ ‫النفيس واالقتصادي”‪.‬‬ ‫قالت لهم‪“ :‬يحتاج أكرث من مليوين طفل ملدرسته‬ ‫التي دُمرت أو تح ّولت لثكنة عسكرية‪ ،‬وقالت لهم‪ّ ..‬إن‬ ‫األطفال السوريني ُيولدون باآلالف خارج انتامئهم دون‬ ‫أن يعرتف بهم أحد‪.‬‬ ‫وقالت وقالت‪ ..‬ولكن ّ‬ ‫كل ما قالت حكايات يعتربها‬ ‫ً‬ ‫ساسة العامل خراف ًة أو كراهية لعامل يحكمه الكبار‪.‬‬ ‫أمل الدمية قالت ما مل تقله املعارضات السورية يف‬ ‫الداخل والخارج! حسبها توحيدها لحلم الطفولة‪ ،‬بينام‬ ‫ما يزال الساسة املعارضون يقفون عىل الحدود‪ ،‬وعىل‬ ‫املوائد‪ ،‬ويرفعون أعالماً فوق أحالم من ُي ّثلون‪.‬‬ ‫مل ترفع أمل عل ًام أو تجمع ماالً‪ ،‬مل تتك ّلم بلغة دين أو‬ ‫طائفة‪ ،‬ومل تف ّرق بني حلم طفل وآخر‪ .‬مل ُتسكت أحداً‬

‫رغم رشقها بالحجارة يف بعض الدول‪.‬‬ ‫أمل تحمل رسالة املحبة‪ ،‬واملحبة تتجاوز األحقاد‪،‬‬ ‫تتجاوز الخالفات والعصبيات واأليديولوجيات‪.‬‬ ‫وحلم‬ ‫ف َمن هو الدمية إذاً ّ؟ أمل مبا تحمله من أملٍ‬ ‫ٍ‬ ‫لكل طفل وطفلة؟ أم أولئك الساسة املق ّيدون بحبال‬ ‫مجهولة املصدر‪ ،‬فإن كانوا يعرفون َمن يحركهم‪ ،‬أو‬ ‫يجهلون اللعب يف مرسح العرائس العاملي‪ ،‬فكال‬ ‫األمرين طا ّم ٌة كربى‪.‬‬ ‫املفارقة أ ّنها ليست فكرة سورية‪ ،‬بل فكرة املحبة‬ ‫العاملية‪ ،‬هل ما ينقصنا هو كيفية تحويل خطاباتنا‬ ‫السياسية إىل رسائل محبة؟ هل ما ينقصنا هو قوة‬ ‫الحلم‪ ،‬لتجاوز سياسات املصالح العاملية؟ هل ما ينقصنا‬ ‫هو حلم أو جنون يكرس قيود اإلبداع لدى السوريّ ؟‬ ‫أمل هي رحلة الصعود من العامل السفيل‪ ،‬من الجحيم‪،‬‬ ‫رحلة البحث عن األم السورية‪ ،‬املرأة السورية الثكىل‪،‬‬ ‫ولربا األكرث أملاً يف تاريخ األنثى العاملي‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫أمل الخارجة من أحالم املعتقالت‪ ،‬ومن شوارع‬ ‫املظاهرات‪ ،‬ومن حناجر الساروت وسميح شقري‪...‬‬ ‫تسأل عن بق ّية الروح؟ عن الفكرة الباقية؟‬ ‫أمل الدمية حينام تتجاوز الحدود‪ ،‬تدعونا لتجاوز‬ ‫حدو ٍد وقيو ٍد صنعناها بأيدينا وعقولنا‪ ،‬بترشذم‬ ‫معارضاتنا وسياسيينا‪ ،‬ويف انقسام مصالح العامل الدينء‪.‬‬ ‫تدعونا لكرس قوقعاتنا بأن ال نبقى أرسى الوهم‪ ،‬أرسى‬ ‫اإلعانات واملكرمات‪ ،‬أرسى املحاصصات والتجاذبات‪،‬‬ ‫أرسى السجون والشقاء يف عقولنا‪.‬‬ ‫فهل وصلت رسالتها؟‬ ‫هل قرأت املعارضات رسالتها للربملان األورويب؟ أم ما‬ ‫زالوا ينتظرون عىل أبواب الكرملني والبيت األبيض!‬ ‫حسبها أنها تحمل حلم كل طفل سوري‪ ،‬خارج حدو ٍد‬ ‫مل يكن له يدٌ فيها‪ ،‬حسبها أنها تجوب بخياالتهم لتذ ّكر‬ ‫العامل بجرميته‪.‬‬


‫يف مشال شرقي سوريا‪..‬‬

‫ّ‬ ‫يبحثن عن رزقهم يف مكب‬ ‫سوريات‬ ‫للنفايات بالقرب من حقل نفطي‬

‫‪9‬‬

‫الحسكة ‪ -‬كمال شيخو‬

‫العدد‬

‫‪100‬‬ ‫‪2021 / 11 / 20‬‬

‫بني قوات التحالف الدويل والجيش األمرييك من جهة‪،‬‬ ‫والقوات الروسية من جهة ثانية‪ ،‬ومت ّر دوريات متعددة‬ ‫كل منها ترفع علم بلدها عىل الطريق اإلسفلتي الفاصل‬ ‫مكب النفايات وحقل النفط املجاور‪.‬‬ ‫بني ّ‬ ‫وتشري تقديرات املفوضية السامية لألمم املتحدة لشؤون‬ ‫الالجئني إىل وجود أكرث من ‪ 5‬مليون نازح فروا من منازلهم‬ ‫املكب‪،‬‬ ‫داخل سوريا‪ ،‬من بينهم عفراء التي تعمل يف هذا ّ‬ ‫وكانت ترتدي فستاناً أحمر داكناً وغطاء رأس أسود اللون‪،‬‬ ‫مربوطاً بوشاح‪ ،‬وأعربت عن مشاعرها لتقول‪“ :‬نعم أجني‬ ‫ماالً قلي ًال من هذا العمل املتعب واملرهق‪ ،‬لكن هو أرحم‬ ‫من العيش لحظة واحدة تحت رحمة خيمة”‪ ،‬وارتسمت‬ ‫ابتسامة خجولة عىل وجهها لتضيف‪“ :‬اليوم صار علبة‬ ‫الزيت حقها ‪ 7‬آالف لرية (‪ 2‬دوالر أمرييك) ما يعادل كل‬ ‫املصاري التي أجنيها باليوم من هذا العمل”!‬ ‫والعامالت يف هذا املكب عموماً كانت تكسو مالبسهنّ‬ ‫طبقة سميكة من األوساخ؛ لبحثهنّ املستمر بني أكوام‬ ‫القاممة والتنقيب عن النفايات‪ ،‬يستخدمن قضباناً معدنية‬ ‫مقوسة إلخراج قوارير البالستيك‪ .‬وتزيد عفراء بيشء من‬ ‫الشجاعة والحزم إنها تفضل العمل يف هذا املكان عىل‬ ‫املكوث مبخيم تنتظر سلة غذائية أو مساعدات إنسانية‪:‬‬ ‫“العمل أساس الحياة ورغم كل هذا الوسخ واألمراض‬ ‫والتعب الكبري وقلة املردود‪ ..‬نحمد الله ونشكره عىل كل‬ ‫حال”‪.‬‬ ‫أما منى البالغة من العمر خمس وأربعني عاماً‪ ،‬املنحدرة‬ ‫من مدينة الباب بريف حلب الرشقي‪ ،‬وتسكن منذ‬ ‫نزوحها قبل ‪ 4‬سنوات يف املالكية بالحسكة‪ ،‬اصطحبت‬ ‫طفلتيها هدى ذات ‪ 12‬ربيعاً وأختها األصغر مرام ‪10‬‬ ‫املكب؛ فهذه العائلة تجمع‬ ‫سنوات للعمل معها يف هذا ّ‬ ‫يف نهاية اليوم قرابة ‪ 50‬كيلو غرام من البالستيك الصالح‬

‫للبيع‪ ،‬وما يجنونه ال يتعدى ‪ 20‬ألف لرية (ما يعادل ‪ 6‬دوالر‬ ‫أمرييك) وكانت تلبس بنطاالً طوي ًال وسرتة لحاميتها‪ ،‬وقالت‬ ‫الوالدة ملجلة طلعنا عالحرية‪“ :‬كيلو اللحمة صار حقه ‪20‬‬ ‫ألف والفروج ‪ 5‬أالف لرية‪ ،‬وما نجنيه من هنا نشرتي به أك ًال‬ ‫يكفينا ليوم واحد‪ ،‬أو ندفع فاتورة دواء رضوري”‪.‬‬ ‫وبدا عىل مالمح وجهها الحزن واألىس عندما تتذكر منى‬ ‫سنوات النزوح وما آلت إليه أوضاعها املعيشية واالقتصادية‪،‬‬ ‫انهمرت دموعها لصعوبة الحال قبل متابعة كالمها‪ ،‬ومتالكت‬ ‫نفسها وعربت قائلة‪“ :‬مضت سنوات ونحن هنا نازحني‪،‬‬ ‫فبسبب ضيق الحال وقلة املساعدات بحثت عن عمل دون‬ ‫جدوى‪ ،‬حتى بدأت العمل هنا منذ سنتني مع جارايت”‪.‬‬ ‫ونظراً لتقاعس املنظامت اإلنسانية عن تلبية حاجات‬ ‫النازحني‪ ،‬وتدين األوضاع املعيشية مبراكز اإليواء ومخيامت‬ ‫النزوح‪ ،‬اضطرت منى للعمل كام املئات من النساء اللوايت‬ ‫يعملن وحيدات يف مهن مختلفة‪ ،‬ويواجهن تحديات‬ ‫كبرية يف إعالة أرسهن‪ .‬وتضيف بحرسة ممزوجة بتحدي‪:‬‬ ‫“نعم‪ ،‬أجربتني الظروف عىل العمل مبكب نفايات‪ ،‬لكنني‬ ‫اكتشفت طاقتي ومدى تحمل مسؤوليايت‪ ،‬واليوم عميل‬ ‫يغطي معظم احتياجات أوالدي”‪.‬‬ ‫ووفقاً ملفوضية شؤون الالجئني؛ يصيب انعدام األمن الغذايئ‬ ‫نحو ‪ 79‬إىل ‪ 85‬يف املائة من إجاميل الالجئني والنازحني‬ ‫حول العامل‪ ،‬وسوريا من البلدان األكرث شيوعاً‪ ،‬مام يربز‬ ‫مدى ارتفاع تعرض األرس التي تعولها النساء للخطر؛ حيث‬ ‫تتبع نحو ‪ 90‬يف املائة من العائالت السورية‪ ،‬اسرتاتيجيات‬ ‫وأساليب تأقلم سلبية للبقاء عىل قيد الحياة‪.‬‬ ‫واختتمت منى حديثها لتقول‪“ :‬نفسيتي تغريت عندما‬ ‫تحسن وضعنا املعييش‪ ،‬وشخصيتي أقوى ورصت أشرتي‬ ‫الفواكه والخضار واللحمة والدجاج والبيض‪ ،‬ومل يعد غذائنا‬ ‫يقترص عىل وجبة واحدة أو أكل النواشف”‪.‬‬

‫تقارير‬

‫غري مبالية بالروائح الكريهة واألوساخ املتناثرة واألرضار‬ ‫الصحية‪ ،‬تنبش عفراء بجسد نحيل أكوام القاممة عند‬ ‫أطراف بلدة املالكية أو “ديريك” بحسب تسميتها الكردية‬ ‫التابعة ملحافظة الحسكة‪ ،‬وبأصابع قد برز عظمها من‬ ‫أسفل الجلد بشكل الفت‪ ،‬تتناول بعض علب البالستيك‬ ‫واملعادن من هنا وهناك‪ ،‬لتضعها يف كيس كبري كانت‬ ‫تحمله رغم اتساخه‪ ،‬لتبيعه يف آخر النهار إىل تاجر‪ ،‬لتأمني‬ ‫قوت يومها ودخل عائلتها التي تقطعت بها السبل‪ ،‬جراء‬ ‫نزوحها واستمرار الحرب الدائرة يف بلدها منذ ‪ 10‬سنوات‪.‬‬ ‫مكب للنفايات يقع‬ ‫ترتدد هذه السيدة الخمسينية إىل ّ‬ ‫بريف املالكية بحثاً عن رزقها أو بعض الطعام بني أكوام‬ ‫وأكياس النفايات لتسد جوعها‪ ،‬وعفراء املنحدرة من بلدة‬ ‫الصور بريف دير الزور الرشقي‪ ،‬هربت قبل خمس سنوات‬ ‫من قبضة متطريف تنظيم (داعش) بعد سيطرتهم عىل‬ ‫املنطقة آنذاك‪ ،‬واستقرت يف املالكية‪ .‬وعن عملها تقول يف‬ ‫حديثها ملجلة طلعنا عالحرية‪“ :‬هذه نعمة‪ ،‬إذا رفضناها‬ ‫سنموت جوعاً‪ ،‬رغم كل هذه األوساخ والروائح أستطيع‬ ‫تحملها لتأمني مرصوف بيتي وعائلتي”‪ .‬أثناء حديثها حدقت‬ ‫يف أكياس النفايات السوداء املتناثرة بكل مكان‪ ،‬وبني يديها‬ ‫كيس فارغ لوضع قطع البالستيك‪ ،‬وأضافت قائلة‪“ :‬ظروفنا‬ ‫قاسية‪ ،‬وأسعار املواد والسلع األساسية ارتفعت كثرياً‪ ،‬وأنا‬ ‫أعمل لس ّد نفقات أرسيت‪ ،‬ألن زوجي ال يستطيع العمل‪،‬‬ ‫فقد أصيب بشظية قذيفة هاون عندما هربنا من الصور”‪.‬‬ ‫املكب يتهافت نسوة وفتية وأطفال تجاوز عددهم‬ ‫ويف هذا ّ‬ ‫‪ 40‬شخصاً فور وصول شاحنة محملة بالنفايات‪ ،‬للبحث‬ ‫عن عبوات بالستيكية ومعادن لبيعها‪ ،‬أو ثياب مستعملة‬ ‫الرتدائها‪ ،‬حيث يجدون بعض بقايا طعام يتناولونه أثناء‬ ‫العمل‪ ،‬رغم أرضاره‪ ،‬ولكن يفعلون هذا لس ّد جوعهم‪ .‬وبعد‬ ‫وقوف الشاحنة يرمي عامالن األكياس البالستيكية السوداء‪،‬‬ ‫املكب إىل استكشاف محتوياتها‪،‬‬ ‫ليسارع املوجودون يف‬ ‫ّ‬ ‫ومن حولهم يتصاعد دخان ناتج عن حرق كميات من‬ ‫املكب الضخم‪.‬‬ ‫النفايات يف هذا ّ‬ ‫عىل الجهة املقابلة يختلف املشهد؛ حيث تخرتق هدير‬ ‫آالت تقليدية الستخراج النفط ضجيج املكان‪ ،‬وعىل بعد‬ ‫مئات األمتار يقع إحدى حقول النفط الغنية بالطاقة‬ ‫الواقعة تحت نفوذ اإلدارة الذاتية وجناحها العسكرية‬ ‫“قوات سوريا الدميقراطية”‪ ،‬والتي تحولت لرصاع نفوذ‬


‫‪96‬‬

‫الضيف الثقيل على السوريني‬ ‫نازحو اخليام يف مشال غرب سوريا على موعد مع‬ ‫برد الشتاء‪ ..‬والتحضريات بإمكانيات معدومة‬

‫‪10‬‬ ‫دارين الحسن‪ -‬إدلب‬

‫العدد‬ ‫‪100‬‬

‫‪2021 / 11 / 20‬‬ ‫تقارير‬

‫مع حلول فصل الشتاء يتعاون إبراهيم السايح (‪36‬عاماً) النازح‬ ‫من مدينة كفرنبل مع زوجته وأوالده الثالثة‪ ،‬يف حفر قنوات‬ ‫لترصيف املياه حول خيمتهم‪ ،‬يعمل عىل تثبيتها وتوزيع‬ ‫الحجارة والحىص عىل جوانبها‪ ،‬ملنع مياه األمطار من الترسب‬ ‫إىل داخل الخيمة‪ ،‬حتى ال تتكرر املأساة التي عانوا منها خالل‬ ‫فصل الشتاء املايض‪.‬‬ ‫يتحدث السايح لـ”طلعنا عالحرية”‪“ :‬خالل فرتة الشتاء املايض‬ ‫لطاملا ترسبت مياه األمطار إىل الخيمة‪ ،‬وبللت الفرش واألغطية‬ ‫التي ننام عليها‪ ،‬لذلك أحاول ما أمكن أن أتالىف الكارثة هذا‬ ‫الشتاء”‪.‬‬ ‫معاناة أرسة السايح ال تختلف عن معاناة آالف النازحني الذين‬ ‫يستعدون الستقبال شتاء آخر يف مخيامت إدلب وريفها‪ ،‬وسط‬ ‫مأساة تتكرر كل عام‪ ،‬يف خيام بالية ال تصمد يف وجه الرياح‬ ‫والعواصف‪ ،‬وبرد قارس يهدد أطفالهم باملرض‪ ،‬األمر الذي‬ ‫دفعهم للتجهيز لشتاء يتمنون أن يكون أقل قسوة هذه املرة‪.‬‬ ‫الستينية أم باسم تنشغل بخياطة خيمتها استعداداً لفصل‬ ‫الشتاء الذي بات عىل األبواب؛ فالخيمة هي مأواها الوحيد مع‬ ‫زوجها العاجز‪ ،‬بعد نزوحهام من ريف معرة النعامن الرشقي‪،‬‬ ‫“نزحنا من ريف معرة النعامن الرشقي‪ ،‬وجئنا إىل هذا املخيم‬ ‫أواخر عام ‪ ،2019‬ومنذ ذلك الوقت مل نستطع تبديل الخيمة‬ ‫املصنوعة من القامش‪ ،‬التي رسعان ما تهرتئ بفعل عوامل‬ ‫الطقس‪ ،‬لذلك أعمل عىل خياطتها قبل حلول الشتاء‪ ،‬علها‬ ‫تصمد يف وجه الرياح واألمطار” تقول أم باسم‪.‬‬ ‫أما الطفل سامر العربو (‪ 11‬عاماً) النازح من مدينة معرة‬ ‫النعامن إىل مخيم كليل بريف إدلب الشاميل‪ ،‬فيتوىل مع أخيه‬ ‫األصغر مهمة جمع النايلون والكرتون واملالبس واألحذية‬ ‫املهرتئة من مكبات القاممة‪ ،‬لتقوم والدته بتعبئتها يف أكياس‬ ‫وتخزينها يف خيمة مجاورة‪ ،‬لتكون وقوداً يف مدفأة الشتاء‪،‬‬ ‫وعن ذلك توضح أم سامر‪“ :‬فقدت زوجي بغارة حربية منذ‬ ‫عام ‪ ،2018‬وأصبحت مسؤولة عن خمسة أطفال‪ ،‬لذلك أعمل‬ ‫ضمن الورشات الزراعية‪ ،‬ويساعدين ولدايّ يف تأمني مرصوفنا‬ ‫اليومي من خالل عملهام يف مكبات القاممة‪ ،‬حيث يجمعان‬ ‫النايلون والحديد والخبز اليابس لبيعها واالستفادة من مثنها‪،‬‬ ‫فيام يحرضان إىل الخيمة ما هو قابل لالشتعال‪ ،‬لحرقه يف املدفأة‬ ‫شتاء‪ ،‬لنخفف عن أنفسنا مصاريف الفصل القايس ومعاناته”‪.‬‬ ‫تؤكد أم سامر أن أسعار الحطب واملازوت وغريها من مواد‬

‫التدفئة تفوق قدرتها الرشائية بكثري‪ ،‬مضيفة‪“ :‬همي‬ ‫الوحيد ينحرص يف تأمني لقمة العيش ألطفايل يف ظل‬ ‫الغالء والفقر والنزوح”‪.‬‬

‫حلول قد تكون مفيدة!‬

‫النازح فؤاد العربو (‪ 45‬عاماً) املقيم يف مخيم حربنوش‬ ‫بريف إدلب الشاميل‪ ،‬سارع لبناء غرفة من طني يأوي‬ ‫بها أطفاله األربعة قبل حلول الشتاء‪ ،‬وعن ذلك يقول‪:‬‬ ‫“الخيمة القامشية‪ ،‬ال ترد عنا برد الشتاء‪ ،‬لذلك عملت‬ ‫عىل بناء غرفة طينية بتكلفة بسيطة”‪.‬‬ ‫يقول العربو إنه جمع الحجارة من الجبل القريب من‬ ‫املخيم‪ ،‬وقام بإعداد خلطة الطني املكونة من الرتاب‬ ‫والقش الناعم واملاء‪ ،‬وبعد االنتهاء من البناء‪ ،‬قام‬ ‫بسقف الغرفة الطينية بعوازل قامشية وشوادر نايلون‪.‬‬ ‫ويضيف‪“ :‬دفعتنا الحاجة للعودة إىل الوسائل البدائية‬ ‫التي تتالءم مع إمكاناتنا وأوضاعنا املعيشية املرتدية‪،‬‬ ‫عىس أن ننعم بشتاء دافئ‪ ،‬بعيداً عن الربد واملرض”‪.‬‬

‫أرقام مرعبة!‬

‫يف استبيان أجراه “فريق منسقو االستجابة” يف إدلب‬ ‫بتاريخ ‪ 4‬من شهر ترشين الثاين‪ /‬نوفمرب الحايل‪ ،‬شمل‬ ‫‪ 78521‬نازحاً من كافة الفئات العمرية‪ ،‬ضمن أكرث‬ ‫من ‪ 104‬مخيامت‪ ،‬تبني أن املخاوف األساسية لدى‬ ‫النازحني من حدوث أرضار ضمن املخيامت جراء‬ ‫العواصف املطرية والهوائية خالل فصل الشتاء بلغت‬ ‫نسبة ‪ ،94%‬ومن انقطاع الطرق األساسية املؤدية‬ ‫للمخيامت بنسبة ‪ ،82%‬ومن تأخر وصول املساعدات‬ ‫اإلنسانية إىل املخيامت نتيجة األوضاع الجوية بنسبة‬ ‫‪ ،68%‬بحسب الفريق‪.‬‬ ‫أما أبرز احتياجات النازحني يف املخيامت‪ ،‬فقد تركزت‬ ‫عىل املستلزمات األساسية لفصل الشتاء تحديداً‪،‬‬

‫وخاص ًة فيام يتعلق بتأمني مواد التدفئة‪ ،‬حيث بلغت‬ ‫نسبة من طالبوا بتأمني وقود التدفئة مبختلف أنواعه‬ ‫‪ ،98%‬وتأمني مدافئ جديدة أو استبدال القدمية منها‬ ‫نسبة ‪ ،56%‬واستبدال الخيم التالفة ضمن املخيامت‬ ‫بنسبة ‪ ،48%‬وتأمني عوازل مطرية جديدة للخيم‬ ‫بنسبة ‪ ،85%‬وتسوية وعزل أرايض املخيامت بنسبة‬ ‫‪ ،92%‬ومستلزمات أخرى (ثياب شتوية‪ ،‬وبطانيات‪،)..‬‬ ‫بنسبة ‪.% 84‬‬ ‫وأشار الفريق إىل أن أعداد املخيامت يف مناطق‬ ‫شامل غريب سوريا وصلت إىل ‪ 1,489‬مخي ًام‪ ،‬يقطنها‬ ‫‪ 1,512,764‬نسمة من بينها ‪ 452‬مخي ًام عشوائياً‬ ‫يقطنها ‪ 233,671‬نسمة‪.‬‬

‫احتياجات رضورية وكثرية!‬

‫من جهته محمد العبود (‪ 44‬عاماً) مدير مخيم عشوايئ‬ ‫يف بلدة كفرعروق بريف إدلب الشاميل‪ ،‬يوضح‬ ‫احتياجات النازحني لفصل الشتاء‪“ :‬املعاناة األكرب لدى‬ ‫النازحني تتلخص يف غياب مشاريع توزيع مواد التدفئة‬ ‫يرحلون‬ ‫وتبديل الخيام املهرتئة‪ ،‬لذلك يقضون شتاءهم ّ‬ ‫مياه األمطار ويتتبعون منافذ ترسب املياه إىل داخل‬ ‫الخيمة”‪.‬‬ ‫ويبني أن املعاناة ال تتوقف عند أوضاع الخيام‪ ،‬إذ‬ ‫تتحول الطرقات مع أول هطول لألمطار إىل مستنقعات‬ ‫طينية‪ ،‬يصعب امليش والتنقل عليها‪.‬‬ ‫ويبني أن أبرز ما يحتاجه النازحون ملواجهة فصل‬ ‫الشتاء هو السلل الغذائية ومواد التدفئة وفرش الطرق‬ ‫بالحىص داخل املخيم‪.‬‬ ‫ويضيف‪“ :‬يعد الشتاء فصل الخري والعطاء‪ ،‬أما بالنسبة‬ ‫للنازحني فقد بات ه ًام يضاف إىل همومهم الكثرية‪،‬‬ ‫وعبئاً يثقل كاهلهم”‪.‬‬


‫أخف الضررين واخليار الصعب‬ ‫علي الداالتي ‪ -‬إدلب‬

‫العدد‬

‫قلب األم املقسم عرب الحدود‬

‫“كنت أمتنى أن يكرب أبنايئ لريتاح قلبي من‬ ‫القلق عليهم‪ ،‬ولكن عندما كربوا قسموا قلبي عرب‬ ‫الحدود” كانت أم محمد تهمس بتلك الكلامت‬ ‫وهي تحاول إخفاء دموعها عن كامريا الجوال‬ ‫التي تكلم بها ابنتها التي بقيت يف ريف دمشق‪،‬‬ ‫بينام خرجت األم بقوافل التهجري القرسي من‬ ‫ريف دمشق إىل إدلب‪.‬‬ ‫باكية‪ ،‬حزينة‪ ،‬مقهورة خرجت أم محمد من‬ ‫منزلها بالغوطة الرشقية نحو إدلب‪ ،‬بعد أن تركت‬ ‫أربعني عاماً من الذكريات يف ذاك املنزل‪ ،‬وابنتها‬ ‫الوحيدة التي بقيت هناك مع زوجها وأطفالها‪.‬‬

‫تقارير‬

‫العم أبو معتصم مع الخيارات أفضل مني؛‬ ‫مل تكن حال ّ‬ ‫فعندما رأيته للمرة األوىل وهو يالعب أحد األطفال‬ ‫بجانب خيمته يف مخيم أطمة عىل الحدود السورية‬ ‫الرتكية‪ ،‬قرأت يف وجهه السبعيني من القهر ما يكفي‬ ‫للبكاء الدهر كله‪ ،‬ولكن ابتسامته لنا ودعوتنا لرشب‬ ‫الشاي بجواره شجعتاين لسؤاله عن سبب حزنه وقهره‪،‬‬ ‫لريوي قصته التي بدأت عام ‪ ،2012‬حينام اعتقلت‬ ‫قوات األمن ابنه األصغر “مهند” من السكن الجامعي‬ ‫يف مدينة حلب‪ ،‬حيث كان يقيم‪ ،‬وبعد أن وصله الخرب‬

‫‪100‬‬

‫األبناء وأصعب الخيارات‬

‫قام بالتواصل مع عدد من معارفه لإلفراج عن‬ ‫ابنه الذي مل يكن له أي نشاط سيايس‪ ،‬بعكس‬ ‫أخيه الذي انضم للجيش السوري الحر‪ ،‬ليأتيه‬ ‫بعدها الجواب الصادم أن مهنداً معتقل بدل‬ ‫أخيه معتصم؛ حيث اشرتطت قوات األمن عليه‬ ‫أن يقوم ابنه األكرب معتصم بتسليم نفسه لهم‬ ‫مقابل اإلفراج عن مهند‪ ،‬وإال لن يخرج مهند من‬ ‫السجن!‬ ‫ليعقد هناك أمره أنه لن يسلم ابنه بيده للموت‪،‬‬ ‫وأن ابنه الثاين “له الله”‪ ،‬ولكن حكاية أبو‬ ‫املعتصم مل تتوقف هناك؛ ففي عام ‪ 2015‬قتل‬ ‫ابنه يف معارك بريف حلب بني الجيش السوري‬ ‫الحر وقوات النظام‪ ،‬ليبقى لديه أمل يف خروج‬ ‫ابنه مهند بعد مقتل أخيه‪ ،‬ولكن هذا األمل زال‬ ‫بعد أن رأى صورة جثة ابنه مهند ضمن صور‬ ‫قيرص‪.‬‬

‫كان خيار أم محمد صعباً؛ فإما مرافقة ابنيها يف‬ ‫رحلتهم إلدلب ضمن قوافل التهجري القرسي‪،‬‬ ‫أو البقاء بعيدة عنهم يف مسقط رأسها وبجوار‬ ‫ابنتها‪ .‬بحسب أم محمد مل يكن القرار سه ًال أبداً‬ ‫عليها؛ فقد تتمنى املوت بدل الوقوع يف ذاك‬ ‫االختيار‪ ،‬ولكنها قررت أخرياً مرافقة ولديها‪ ،‬لتلقي‬ ‫نظرة الوداع التي رمبا تكون األخرية عىل منزلها‬ ‫وابنتها‪ ،‬وتركب يف رحلتها إلدلب‪ ،‬التي ستضطر‬ ‫فيها مجدداً لالختيار بني ابنيها اللذين استقر‬ ‫أحدهام يف إدلب‪ ،‬وقرر اآلخر أن يخرج إىل تركيا‪،‬‬ ‫وعليها أن تختار اآلن بني إدلب وتركيا؛ واألصح‬ ‫بني فلذات كبدها الذي قسمته عرب الحدود‪.‬‬ ‫يبدو أن الخيار بني اليسء واألسوأ قد أصبح خيار‬ ‫السوريني الدائم؛ حتى بات عىل أم محمد وأبو‬ ‫املعتصم وعىل ماليني السوريني اختيار “أخف‬ ‫الرضرين” يومياً‪ ،‬وبكافة أمور حياتهم‪ ،‬فغالبية‬ ‫قراراتهم تندرج بني اليسء واألسوأ؛ فالظروف التي‬ ‫يعيشها الشعب السوري بسبب سكوت العامل عن‬ ‫مقتلة امتدت لعقد كامل عىل يد النظام وحلفائه‪،‬‬ ‫أوقعت السوريني يف لعبة الخيارات التي عليهم‬ ‫اختيار أقلها رضرأً‪.‬‬ ‫ورغم كل ذلك فإن أبو املعتصم يرى أن هناك‬ ‫قضايا متجذرة ال تخضع لالختيار‪ ،‬كالتخيل عن‬ ‫الثورة أو التوقف عن امليض يف دروب التحرر‬ ‫والحرية‪ ،‬أو القبول بتعويم نظام األسد‪ ،‬أو السامح‬ ‫بإفالت قتلة الشعب السوري من املحاسبة؛ فتلك‬ ‫القضايا لديه هي “من املسلامت التي ال خيار‬ ‫فيها إال ذاتها عرب امليض فيها حتى النهاية”‪.‬‬

‫‪2021 / 11 / 20‬‬

‫“كان عيل االختيار بني توثيق الغارات الجوية أو‬ ‫مساعدة عائلتي للنجاة من تلك الغارات” ما سبق‬ ‫وجه يل مبناسبة الذكرى السادسة‬ ‫كان جواب عن سؤال ّ‬ ‫وجه يل السؤال‬ ‫للتدخل الرويس املبارش يف سوريا‪ .‬عندما ّ‬ ‫فكرت كثرياً وأنا أعود برشيط ذكريايت‪ ،‬ولكن اخرتت ذاك‬ ‫املوقف كونه يف تلك اللحظة كان عيل أن أتخذ قراراً من‬ ‫أصعب القرارات التي اتخذتها يف حيايت‪ ،‬وسط ضغط‬ ‫هائل‪ ،‬وقصف عنيف‪ ،‬ورصاخ األطفال والنساء خوفاً من‬ ‫الغارة األوىل بعد املئة التي تسقط فوق رؤوسهم‪.‬‬ ‫ففي نهاية عام ‪ 2016‬كانت الحملة عىل وادي بردى‬ ‫تدخل أسبوعها الثاين‪ ،‬كان تركيز الحملة عىل قريتنا‬ ‫“بسيمة” حيث كان يقبع أهيل يف أحد األقبية‪ ،‬ولكن‬ ‫األقبية مل تعد تفي بالغرض‪ ،‬فكان القرار بالخروج‪ .‬كان‬ ‫القبو يفرغ كل ليلة من بعض العوائل التي تحاول‬ ‫النجاة‪ ،‬حتى أتت تلك الليلة حني عدت ألهيل ألجدهم‬ ‫بقوا مع عدة عائالت‪ .‬حينها طلبوا مني إنقاذهم‬ ‫والخروج بهم ملكان أكرث أماناً أو أقل خطراً؛ ففي تلك‬ ‫اللحظات كان النظام يقصف كل قرى املنطقة ولكن‬ ‫بوترية مختلفة‪.‬‬ ‫وقتها كان عيل االختيار بني واجبي اإلنساين بإنقاذ‬ ‫عرشات األطفال والنساء ‪-‬ضمنهم عائلتي‪ -‬وإخراجهم‬ ‫من القرية‪ ،‬أو إبقائهم يف القبو‪ ،‬والذهاب لواجبي‬ ‫كناشط إعالمي بنقل الحدث وتوثيقه‪ .‬كان علينا اتخاذ‬ ‫القرار وسط سيمفونية من أصوات هدير الطائرات‬ ‫وانفجار القنابل‪.‬‬ ‫قطع تفكريي باتخاذ القرار صوت برميل متفجر وقع‬ ‫عىل البناء املجاور للقبو القابعة فيه عائلتي‪ ،‬يومها‬ ‫كانت القصة باختصار هي اختيار أقل الرضرين؛ إما‬ ‫إنقاذ عائلتي وعدم التوثيق‪ ،‬أو االستمرار بالتوثيق‬ ‫ورمبا تكون عائلتي هم ضحايا املجزرة املقبلة التي ع ّ‬ ‫يل‬ ‫توثيقها!‬

‫‪11‬‬


‫فجوة األجور‬ ‫تضاعف معاناة املرأة يف إدلب‬

‫‪12‬‬ ‫هاديا منصور‬

‫العدد‬

‫‪100‬‬ ‫‪2021 / 11 / 20‬‬ ‫تقارير‬

‫تواجه النساء يف إدلب وشامل غرب سوريا غبناً وعدم مساواة يف‬ ‫األجور مع الرجال‪ ،‬وفق منظومة متييزية واسعة ضد حقوقهن‬ ‫االقتصادية‪ ،‬عىل الرغم من تساوي قيمة العمل ذاتها واملجاالت‬ ‫ذاتها‪ ،‬ما يبخس املرأة حقوقها ويسهم يف التقليل من أهمية عملها‬ ‫ونجاحاتها‪.‬‬ ‫“ال أعلم ما الذي يجعل أجور العامل الذكور تزداد عن أجورنا يف كل‬ ‫مرة” تتساءل فرح البشري (‪ 34‬عاماً) والتي تعمل يف موسم قطاف‬ ‫الزيتون املوسمي هذا العام‪ ،‬مع عرشات العامل والعامالت اآلخرين‪.‬‬ ‫وتضيف أنهن يخرجن للعمل يف ساعات الصباح األوىل‪ ،‬ويتقاسمن‬ ‫العمل يف الحقل ويجهدن إلتقان املهام املوكلة إليهن كعامالت‪،‬‬ ‫ليعدن أدراجهن مساء بعد يوم شاق من العمل‪ ،‬ليواجهن يف نهاية‬ ‫املطاف متييزاً يف األجور من قبل أرباب العمل‪ ،‬لتحصل النساء عىل‬ ‫مبلغ ‪ 50‬لرية تركية والرجال عىل ‪ 70‬لرية تركية‪.‬‬ ‫تنتقد فرح ما تواجهه املرأة من ظلم ومتييز متعمد‪ ،‬موضحة‪“ :‬هذا‬ ‫التمييز ليس وليد املرحلة‪ ،‬وإمنا من عرشات السنني‪ ،‬ومل أجد تفسرياً‬ ‫لذلك رغم بحثي مطوالً عن األسباب‪ ،‬ألجد أن اعتبار املرأة دامئاً يف‬ ‫املرتبة الدونية يف مجتمع ذكوري هو العامل األبرز يف هذه القضية”‪.‬‬ ‫وكانت أن أثبتت املرأة السورية قوة وكفاح ونضاالً وتأقل ًام مع‬ ‫ظروفها الصعبة التي واجهتها وما تزال تواجهها خالل السنوات‬ ‫املاضية‪ ،‬وما القته من نزوح وفقر وقصف ورعب وفقدان‪ ،‬ومع كل‬ ‫ذلك استطاعت أن تثبت ذاتها وتنخرط يف أعامل ومجاالت عمل‬ ‫جديدة‪ ،‬بغية إعالة أرستها أو مساعدة زوجها يف تحمل األعباء‬ ‫الكبرية‪.‬‬ ‫ً‬ ‫لكن عملها دامئا يصطدم بتحديات مجتمعية تحول دون تكافؤ‬ ‫الفرص والتحرر من التمييز والعنف والتحرش واملساواة يف األجر عن‬ ‫عمل ذي قيمة متساوية‪.‬‬ ‫مساواة يف قطاعات معينة‪ ..‬ولكن!‬ ‫بعض املحظوظات من النساء املوظفات يف منظامت املجتمع املدين‪،‬‬ ‫كام يصفهن البعض‪ ،‬يجدن رواتب جيدة ومتساوية مع املوظفني‬ ‫الذكور يف كثري من األحيان‪ ،‬وهنّ يشكلن نسبة قليلة من النساء‪ ،‬يف‬ ‫حني تجد الغالبية العظمى ظل ًام يف توزيع األجور حني يتعلق األمر‬ ‫بالعمل يف القطاعات الخاصة باألفراد‪.‬‬ ‫تعمل حسناء الطبال (‪ 28‬عاماً) يف مركز كبري لبيع األلبسة الجاهزة‬ ‫يف مدينة إدلب مع عدد من املوظفات واملوظفني‪ ،‬مقابل أجر يقدر‬ ‫ب ‪ 50‬دوالر أمرييك شهرياً‪.‬‬ ‫تقول حسناء‪“ :‬كأن قلة األجر وعدم تناسبه مطلقاً مع الغالء الحاصل‬ ‫والجهد الذي نبذله نحن النساء هنا مل يكن كافياً لنعاين أيضاً الظلم‬ ‫الواضح بتوزيع األجور من خالل منح الرجال رواتب أعىل”‪.‬‬

‫تخرج حسناء منذ الصباح إىل عملها يف مركز بيع‬ ‫األلبسة لتعود مساء‪ ،‬وتبدأ بأعامل املنزل والعناية‬ ‫بأبنائها الثالثة الذين تركتهم طيلة اليوم عند‬ ‫جارتها‪ ،‬لعدم وجود دور حضانة أو مكان آخر‬ ‫آمن ميكن أن تضع به املرأة العاملة أوالدها‪ ،‬فإما‬ ‫أن تضعهم عند جريانها أو أمها أو إحدى قريباتها‪.‬‬ ‫ال يوجد تقدير للجهود‬ ‫ورغم كل ما تواجهه املرأة من صعوبات يف‬ ‫عملها‪ ،‬إال أنها ال تجد من يقدر هذا العمل أو‬ ‫مينحها حقوقها بالشكل الذي ال تشعر معه بالغنب‬ ‫والظلم املجحف بحقها‪.‬‬ ‫صربية السكري (‪ 33‬عاماً) والتي تعمل يف ورشة‬ ‫لكبس التني املجفف مع أخريات‪ ،‬هي وزميالتها‬ ‫ال يحصلن عىل أجور جيدة‪ ،‬عكس الرجال الذين‬ ‫يتقاضون دامئاً أجوراً أعىل “عىل عينك يا تاجر”‬ ‫تقول صربية‪.‬‬ ‫وتضيف‪“ :‬النساء جداً مستاءات ملا يحصل ولكن‬ ‫ال يستطعن املطالبة بأجور أعىل أو الرفض‪،‬‬ ‫كونهن مجربات عىل العمل باألجر الذي يحدده‬ ‫صاحب العمل‪ ،‬وإال فجوابه الروتيني املعروف قد‬ ‫حفظه الجميع “من ال يعجبه العمل أو األجر‬ ‫ليس مجرباً عىل البقاء””‪.‬‬ ‫الظروف القاسية التي تواجه النساء وخاصة‬ ‫املعيالت منهن‪ ،‬تجعلهن يرضني بأي أجر وإن كان‬ ‫قلي ًال وغري مناسب‪ ،‬ألنه يبقى “أفضل من ال شئ‬ ‫يف ظل الفقر وانعدام الفرص” وفق ما عربت عنه‬ ‫صربية‪.‬‬ ‫الباحثة االجتامعية جامنة الكليب (‪ 35‬عاماً)‬ ‫تقول‪“ :‬عىل الرغم من تأييد املساواة بني الرجال‬ ‫والنساء الذي تدعمه منظامت املجتمع املدين من‬

‫خالل مشاريعها التي تهدف إىل التوعية والتمكني‪،‬‬ ‫إال أن تطبيقها يف املامرسة العملية كان صعباً‬ ‫للغاية”‪.‬‬ ‫وترجع الباحثة الكليب األسباب إىل “عالقة القوة‬ ‫التاريخية والهيكلية غري املتكافئة بني الرجال‬ ‫والنساء‪ ،‬الفقر والحرمان من الوصول إىل املوارد‬ ‫والفرص التي ما زالت تحد من قدرات النساء‬ ‫والفتيات”‪.‬‬ ‫وتنوه إىل أن أجر املرأة يقل عن الرجل ال ليشء إال‬ ‫الختالف الجنس‪ ،‬والتقديرات الحديثة تشري إىل أن‬ ‫املرأة تحصل عىل ‪ 77‬سنتا مقابل كل دوالر (‪100‬‬ ‫سنت) يحصل عليه الرجل‪.‬‬ ‫وترى جامنة أن األمر يتطلب جهوداً مكثفة من‬ ‫املجتمع العاملي بأرسه لتعزيز املساواة يف األجر‬ ‫مقابل العمل ذي القيمة املتساوية وزيادة فرص‬ ‫التمكني االقتصادي للنساء‪ ،‬موضحة أن أوىل‬ ‫الخطوات للتصدي لفجوة األجور بني الجنسني‬ ‫هي القانون وتفعيل دوره‪.‬‬ ‫وكشف تقرير حديث صادر عن منظمة العمل‬ ‫الدولية أن تقليص الفجوة بني الجنسني يف العمل‬ ‫مل يشهد أي تحسن يذكر منذ أكرث من ‪ 20‬عاماً‪،‬‬ ‫لكن عىل الرغم من ذلك أ ّكد التقرير عىل أن‬ ‫الطريق واضح نحو إحراز تقدم ملموس يستدعي‬ ‫تحقيق قفزة نوعية وليس مجرد خطوات‬ ‫تدريجية مرتددة‪.‬‬ ‫وقالت مانويال تومي مديرة قسم ظروف العمل‬ ‫واملساواة يف منظمة العمل الدولية‪“ :‬نحن بحاجة‬ ‫لتحقيق قفزة نوعية نحو تحقيق املساواة بني‬ ‫الجنسني من أجل مستقبل عمل أفضل للجميع‬ ‫يحدد الخطوات القادمة”‪.‬‬


‫حنمي بعضنا‬

‫محلة لنبذ العنف األسري يف الرقة‬

‫‪13‬‬

‫الرقة – عبد اهلل الخلف‬

‫العدد‬

‫‪100‬‬

‫إىل أكواب ودفاتر عليها عبارات ورسائل مناهضة للعنف‪.‬‬

‫وتتابع “قمنا برسم جدارية تحث عىل االحرتام‬ ‫واألب ّوة يف حي مفرق الجزرة‪ ،‬أيضاً زرنا منظامت‬ ‫مجتمع مدين لتشارك يف الحملة‪ ،‬ومؤسسات تتبع‬ ‫لإلدارة الذاتية‪ ،‬وحالياً انتهت الحملة‪ ،‬ونتمنى أن نكون‬ ‫قد تركنا أثراً‪ ،‬وبالطبع ستكون هناك مبادرات مشابهة‬ ‫خالل الفرتة املقبلة”‪.‬‬ ‫ووصولها لحد الجرائم التي نسمع عنها بني الحني واآلخر”‪ .‬ويلفت عيىس الهنداوي قائد فريق الحشد واملنارصة‬ ‫الحملة استهدفت اثنني من أكرب أحياء مدينة الرقة يف منظمة بيت املواطنة إىل أن أفكار الحملة تم نرشها باإلضافة ملشاريع ومبادرات مجتمعية توعوية‪.‬‬

‫‪2021 / 11 / 20‬‬

‫يف الكثافة السكانية‪ ،‬وهام حي رميلة ومفرق الجزرة‪،‬‬ ‫وتضمنت عدة أنشطة؛ أولها جلسة تعريفية بالحملة‬ ‫لوسائل اإلعالم والسكان املحليني‪ ،‬وبعدها انطلقت‬ ‫باقي األنشطة التي تتحدث عنها يرسى األحمد لـ‬ ‫طلعناعالحرية‪.‬‬ ‫“الجلسات الحوارية كانت أساس الحملة‪ ،‬عقدنا‬ ‫عدة جلسات عىل مدار شهرين‪ ،‬استهدفنا ‪ 150‬شخصاً‬ ‫معظمهم رجال يف الحيني املذكورين‪ ،‬كانت النقاشات‬ ‫حامية يف بعض األحيان‪ ،‬يف البداية معظم األهايل مل‬ ‫يتقبلوا الفكرة‪ ،‬رمبا اعتقدوا أن املنظمة إغاثية واألفضل‬ ‫هو تقديم مساعدات لهم كونهم يعيشون يف مناطق‬ ‫فقرية‪ ،‬ولكن بعد أن رشحنا لهم عن أهداف الحملة‬ ‫والقيم التي نحاول إحيائها‪ ،‬الغالبية تقبلوا األمر‪ ،‬وكان‬ ‫الحوار بنّا ًء وممتعاً‪ ،‬وحتى إن بعض الذين أساؤوا لنا‬ ‫يف البداية شاركوا معنا يف نهاية الحملة كمتطوعني”‪.‬‬ ‫وتضيف يرسى بأنه بجانب الجلسات الحوارية تم‬ ‫توزيع منشورات ورقية عىل األهايل يف الشوارع تتضمن‬ ‫قيم الحملة‪ ،‬بلغ عددها أربعة آالف منشور‪ ،‬باإلضافة‬

‫من خالل خطب الجمعة‪ ،‬وذلك بعد زيارة مؤسسة‬ ‫الشؤون الدينية يف الرقة والتنسيق معها بخصوص ذلك‪.‬‬ ‫“زرنا مفتي الرقة وتم االتفاق عىل تعميم خطبة‬ ‫الجمعة حول موضوع الحملة ونرش رسائلها عرب خطباء‬ ‫املساجد‪ ،‬وصلوات الجمعة مكان تجمع ملعظم الرجال‬ ‫الذين هم الفئة األوىل املستهدفة يف حملتنا‪ ،‬وبذلك‬ ‫وصلت الرسالة التي نحملها لنسبة كبرية من األهايل”‪.‬‬ ‫وشاركت يف الحملة ‪ 6‬منظامت مجتمع مدين محلية‬ ‫يف الرقة إىل جانب منظمة بيت املواطنة‪ ،‬باإلضافة‬ ‫ملؤسسات تابعة لإلدارة الذاتية‪ ،‬و‪ 25‬متطوعاًومتطوعة‪.‬‬ ‫من جهتها تروي مرح الخلف “‪ 26‬سنة” وهي‬ ‫إحدى الفتيات اللوايت حرضن الجلسات الحوارية‪،‬‬ ‫كيف أثرت الحملة عليها هي شخصياً‪“ ،‬الحملة كانت‬ ‫إيجابية وتركت صدى جيداً يف الحي الذي أسكن فيه‪،‬‬ ‫أنا أصبحت أحاول االبتعاد عن العصبية والرصاخ يف‬ ‫املنزل والتعاطي مع األمور واملشاكل بهدوء من أجل‬ ‫حلها بالتفاهم مع أفراد العائلة‪ ،‬وأمتنى أن تكون هناك‬ ‫املزيد من هذه الجلسات يف الفرتة القادمة”‪.‬‬ ‫وبحسب دراسة اجتامعية نرشها مركز “حرمون”‬ ‫للدراسات‪ ،‬فإن الحرب يف سوريا أدت لظهور وتفاقم‬ ‫العديد من املشكالت االجتامعية‪ ،‬أبرزها تفكك بنية‬ ‫األرسة وتصدع القيم االجتامعية‪ ،‬واستفحال حاالت‬ ‫القتل والطالق يف العائالت السورية‪.‬‬ ‫وتنشط يف مدينة الرقة العرشات من منظامت املجتمع‬ ‫املدين املحلية‪ ،‬التي ولدت بعد طرد تنظيم داعش عام‬ ‫‪ ، 2017‬وتقدم تلك املنظامت خدمات إغاثية وتنموية‪،‬‬

‫تقارير‬

‫بعد أن حرض أبو سليامن (‪ 36‬سنة) إحدى الجلسات‬ ‫الحوارية التي أقامتها منظمة بيت املواطنة‪ ،‬يف حي‬ ‫مفرق الجزرة مبدينة الرقة حول التفكك األرسي‪ ،‬قرر‬ ‫الذهاب ملنزل أهل زوجته ومصالحتها بعد شهر من‬ ‫الخالف بينهام‪.‬‬ ‫يقول أبو سليامن إن األفكار والقيم التي سمعها‬ ‫وتحاور بشأنها مع نشطاء املنظمة خالل الجلسة‪،‬‬ ‫جعلته يفكر ملياً يف عالقته مع رشيكة حياته‪“ ،‬الجلسة‬ ‫أتت يف وقت كنت أنا شخصياً محتاج إليها‪ ،‬كنت أريد‬ ‫من يقول يل هذا الكالم ويشجعني عىل إعادة املياه‬ ‫ملجاريها مع زوجتي”‪.‬‬ ‫ويبني أن البيئة املحيطة به كانت تشعره عىل الدوام‬ ‫بأنه سيكون شخصاً ضعيفاً ومهزوماً إذا ذهب ملصالحة‬ ‫زوجته‪ ،‬ولكن عقب املناقشات يف الجلسة‪ ،‬شعر بأنه‬ ‫استيقظ من غيبوبته عىل وصفه‪“ ،‬ف ّكرت كيف أن‬ ‫املفاهيم التي كانت معبأة يف رأيس محض هراء‪ ،‬واملهم‬ ‫هو أن تكون عالقتي بزوجتي يسودها الحب والتفاهم‬ ‫واالحرتام من أجل مستقبل أفضل لنا وألطفالنا”‪.‬‬ ‫الجلسات الحوارية التي حرضها أبو سليامن هي‬ ‫إحدى أنشطة حملة “نحمي بعضنا”‪ ،‬والتي أطلقها‬ ‫مركز املرأة يف منظمة بيت املواطنة بأواخر شهر آب‬ ‫املايض‪ ،‬واستمرت حتى نهاية ترشين األول الفائت‪.‬‬ ‫تهدف الحملة بحسب القامئني عليها لـ “تعزيز‬ ‫قيم األب ّوة واالحرتام والالعنف يف األرسة‪ ،‬ونبذ التفكك‬ ‫األرسي والعنف الذي تفاقم خالل األعوام املاضية‪،‬‬ ‫نتيجة الظروف العصيبة التي عايشها السكان بعد‬ ‫سنوات من الحرب الطاحنة” حسب تعبري يرسى‬ ‫ٍ‬ ‫األحمد منسقة مركز املرأة يف بيت املواطنة‪.‬‬ ‫تشري يرسى إىل أن الحملة موجهة للعائالت‪ ،‬ولكن‬ ‫بشكل أسايس للرجال‪ ،‬ملحاولة توعيتهم بخصوص قيم‬ ‫األب ّوة واالحرتام والالعنف التي تراجعت يف املجتمع‬ ‫وفق رؤيتها‪“ ،‬أطلقنا هذه الحملة بعد أن شاهدنا‬ ‫التدهور الكبري يف العالقات األرسية يف املجتمع‪ ،‬نتيجة‬ ‫الفقر والنزوح الذي بات يعيشه الكثريون‪ ،‬أو انتشار‬ ‫املخدرات التي أدت بدورها لتفاقم املشاكل العائلية‪،‬‬


‫إجيارات املنازل يف ريف حلب تفوق‬ ‫املعقول‪ ..‬والدوالر حيكم‬

‫‪14‬‬ ‫حسين الخطيب‬

‫العدد‬

‫‪100‬‬ ‫‪2021 / 11 / 20‬‬ ‫تقارير‬

‫مل يتوقع محمد املنصور َ‬ ‫ترك املنزل الذي تعب يف بنائه‬ ‫خالل سنوات متواصلة من عمره‪ ،‬حيث كان يضع حجراً‬ ‫فوق آخر بكد يديه‪ ،‬فاملنزل الذي قىض عدة سنوات‬ ‫عىل بنائه بات فارغاً معرضاً للرسقة والنهب من قبل‬ ‫قوات نظام األسد‪ ،‬لكن القدر دفعه إىل تركه وحيداً باحثاً‬ ‫عن منازل لإليجار يف مدن وبلدات ريف حلب الشاميل‪.‬‬ ‫يقيم املنصور يف مدينة اعزاز يف ريف حلب الشاميل‪،‬‬ ‫حيث انتقل مؤخراً إىل هذا املنزل الذي بات يشكل مكا ًنا‬ ‫آمناً له وأرسته‪ ،‬بعدما نزح خالل الربع األول من عام‬ ‫‪ 2020‬من مدينة معرة النعامن بريف إدلب الجنويب‪،‬‬ ‫نحو املخيامت العشوائية‪ ،‬عقب سيطرة نظام األسد‬ ‫وميليشياته عىل عدة مدن يف ريف إدلب الجنويب‪.‬‬ ‫قال املنصور خالل حديثه ملجلة “طلعنا عىل الحرية”‪:‬‬ ‫“نزحنا إىل املخيامت مرغمني‪ ،‬حيث تجتمع عرشات األرس‬ ‫من أقاريب‪ ،‬لكن األوضاع مل تعد تحتمل‪ ،‬ألن النزوح طال وال‬ ‫عودة قريبة إىل ديارنا مجدداً‪ ،‬كنت أعتقد بداية تهجريي‬ ‫أنها مجرد أيام والعودة إىل الديار قريبة‪ ،‬لكن عىل ما يبدو‬ ‫ال عودة إىل املكان الذي أحب‪ُّ ،‬‬ ‫وبت يف وضع صعب”‪.‬‬ ‫وأضاف‪ ،‬خالل وصفه ملنزله‪“ :‬ذلك املكان اآلمن املفعم‬ ‫بالحيويةحيثاألوالدوالجريانواألقارب‪،‬الذييشكلونترابطاً‬ ‫اجتامعياً متميزاً‪ ،‬أصبح من املايض‪ ،‬أما اآلن نحن منترشون‬ ‫يف مساحة جغرافية مع بيئة اجتامعية متنوعة من الناس”‪.‬‬ ‫يبدو أن السوريني مل يتوقعوا َ‬ ‫ترك منازلهم التي قضوا‬ ‫سنوات أمامها لبنائها أن ترتك فارغة‪ ،‬ويلجؤون إىل‬ ‫استئجار املنازل‪ ،‬برصف النظر عن طبيعة خدماتها‪ .‬لكن‬ ‫مام زاد معاناتهم ارتفاع أسعار اإليجار إىل مستويات‬ ‫ضخمة‪ ،‬يف حني هم ميلكون عقارات متنوعة من محال‬ ‫تجارية ومنازل وأراض زراعية ال يستطيعون العودة إليها‪.‬‬ ‫مع استمرار فرتة النزوح التي طال أمدها‪ ،‬وفقدان النازحني‬ ‫واملهجرين أملهم يف العودة إىل ديارهم ومناطقهم التي‬ ‫هجروا منها‪ ،‬باتوا اليوم يبحثون عن منازل لإليجار‪ ،‬وذلك‬ ‫لاللتفاف عىل األوضاع السيئة التي تعيشها املخيامت خالل‬ ‫فصل الشتاء‪ .‬ما ساهم يف ارتفاع أسعار اإليجارات بشكل‬ ‫ُ‬ ‫بخدمات‬ ‫غري مسبوق‪ ،‬لدرج ٍة أصبح‬ ‫الحصول عىل منزلٍ‬ ‫ٍ‬ ‫متوسط ٍة‪ ،‬وسع ٍر متوازنٍ‪ ،‬كالباحث عن إبرة يف كومة قش‪،‬‬ ‫ألن معظم األسعار تكون مرهونة بالدوالر الذي بات يحكم‬ ‫بني األهايل‪ ،‬بعد انهيار اللرية السورية‪ ،‬وانخفاض قيمة‬ ‫اللرية الرتكية‪ ،‬التي بدأ تداولها مؤخراً عوضاً عن األوىل‪.‬‬ ‫يقول “حاتم الحسن” وهو رجل نازح يقيم يف بلدة‬

‫صوران شامل حلب‪ ،‬خالل حديث ملجلة “طلعنا‬ ‫عىل الحرية”‪“ :‬أخرياً وجدت منزل متوسط‬ ‫الخدمات لكن سعره مرتفع يصل إىل ‪ 75‬دوالر‬ ‫أمرييك شهرياً‪ ،‬وعىل الرغم من ذلك استأجرته‬ ‫ألنني مضطر‪ ،‬وال ميكنني البقاء يف املخيم‪ ،‬السيام‬ ‫أننا بتنا أمام شتاء طويل يعاين منه قاطنو الخيام”‪.‬‬ ‫وأضاف‪“ :‬بحثت يف مختلف األماكن ومكاتب‬ ‫العقارات عن منزل بسعر مقبول لكن األسعار عاد ًة‬ ‫ما تكون غري مناسبة للدخل املعييش؛ إذ يرتاوح‬ ‫إيجار املنزل بني ‪ 75‬والـ ‪ 150‬دوالر أمرييك‪ ،‬بعضهم‬ ‫يطلب اإليجار ملدة ستة أشهر‪ ،‬وبعضهم ملدة سنة‬ ‫كامل‪ ،‬وهذا ما يعيق إقامتنا يف منازل لفرتة طويلة”‪.‬‬ ‫وأشار الحسن إىل أنه يتقاىض مبلغاَ شهرياً‬ ‫من خالل عمله يف مستودع للمواد الغذائية‬ ‫يصل إىل ‪ 100‬دوالر أمرييك‪ ،‬لكن الحاجة‬ ‫إىل املنزل دفعته لالستدانة من صديق له‬ ‫للحصول عىل منزل يقي أبناءه من برد الشتاء”‪.‬‬ ‫ومع تدفق النازحني واملهجرين من مختلف‬ ‫املحافظات السورية إىل ريف حلب الشاميل‪ ،‬ازداد‬ ‫الطلب عىل املساكن‪ ،‬وبدأ بعض املقيمني يقتطع من‬ ‫املستودعات املخصصة لوضع الحبوب غرف ًة وحامم‪،‬‬ ‫وبعد ترميمها بشكل بدايئ‪ ،‬يعلن يف ذلك عن منزل‬ ‫مخصص لإليجار‪ ،‬يف حني ال يختلف هذا املنزل‬ ‫الذي ال يرى الشمس عن القرب‪ ،‬وعىل الرغم من‬ ‫ذلك‪ ،‬دفعت الحاجة الكثريين لإلقامة بتلك املنازل‪.‬‬ ‫يقول “محمود شهايب” وهو صاحب مكتب عقاري‪:‬‬ ‫“يبلغ إيجار املستودع ‪ 35‬دوالر أمرييك شهرياً‪ ،‬ما‬ ‫يعادل ‪ 350‬لرية تركية‪ ،‬أما املنازل العربية القدمية‬

‫التي تركها أصحابها ولجؤوا إىل تركيا فإن أسعارها‬ ‫تفوق الـ ‪ 100‬دوالر أمرييك‪ ،‬بينام الشقق السكنية‬ ‫التي يتم إيجارها ملدة ال تقل عن ستة أشهر‬ ‫فتصل تكلفة إيجار الشهر إىل ‪ 150‬دوالر أمرييك”‪.‬‬ ‫وأضاف‪“ :‬تتنوع اإليجارات بحسب جودة املنزل‬ ‫وموقعه والخدمات املتوفرة فيه‪ ،‬ومبجملها فإنها ال‬ ‫تشكل أي أهمية لدى النازحني الذين يبحثون عن‬ ‫مأوى لهم قد يعينهم عىل تحمل قسوة الحياة”‪.‬‬ ‫دفع ارتفاع اإليجارات األرس إىل استئجار املنزل‬ ‫من قبل أرستني بطريقة تشاركية‪ ،‬سوا ًء كانوا‬ ‫شقيقني أو صديقني‪ ،‬لكن مع ازدياد تلك الحاالت‬ ‫تحول األمر إىل طريقة استغالل مشبوهة‪ ،‬يقوم‬ ‫فيها أصحاب العقار برفع سعر املنزل بحسب‬ ‫عدد األشخاص املقيمني فيه‪ ،‬مام دفع العديد من‬ ‫النازحني إىل ترك املنازل واللجوء إىل القرى املحيطة‬ ‫باملدن للحصول عىل منازل متتاز بأجور منخفضة‪.‬‬ ‫ويعاين سكان ريف حلب الشاميل‪ ،‬سوا ًء املقيمني أو‬ ‫النازحني واملهجرين إىل املنطقة‪ ،‬من ضيق معييش‬ ‫صعب للغاية‪ ،‬األمر الذي دفع هؤالء الستثامر‬ ‫املساحات املتوفرة يف منازلهم وتحويلها إىل منزل‬ ‫يعرضه لإليجار‪ ،‬يف محاول ٍة منه للحصول عىل‬ ‫دخل آخر يعينه عىل تحمل مصاريف املعيشة‪.‬‬ ‫يأيت هذا كله‪ ،‬يف ظل انخفاض األجور اليومية التي‬ ‫ترتاوح بني ‪ 20‬و‪ 30‬لرية تركية‪ ،‬وانتشار البطالة بني‬ ‫الشباب‪ ،‬وندرة فرص العمل‪ ،‬مع ارتفاع كبري بأعداد‬ ‫السكان يف منطقة جغرافية محدودة تفتقر ألدىن‬ ‫مقومات الحياة‪ ،‬مع استمرار انهيار اللرية الرتكية أمام‬ ‫الدوالر األمرييك‪ ،‬مام انعكس سلباً عىل حياة الناس‪.‬‬


‫ً‬ ‫مبكرا‬ ‫موسم قطاف الزيتون يف إدلب بدأ‬ ‫يف ظل تراجع احملصول وغياب طقوسه‬ ‫شمس الدين مطعون‬

‫العدد‬

‫‪100‬‬ ‫‪2021 / 11 / 20‬‬

‫بها جيداً خالل الفرتة املاضية بسبب صعوبات‬ ‫الوصول إىل املحاصيل الواقعة تحت خط النار‪.‬‬ ‫ويقول أبو صادق‪“ :‬إن حبات الزيتون صغرية‬ ‫جداً‪ ،‬كام أنها مل تدر كميات الزيت املعتادة‪،‬‬ ‫فكل ‪ 100‬كيلو زيتون مل تنتج سوى حوايل ‪ 16‬إىل‬ ‫‪ 25‬كيلو زيت فقط”‪ .‬بينام تكون النسبة بالعادة‬ ‫‪ % 25‬أو أكرث‪.‬‬ ‫يف املقابل‪ ،‬فقد ارتفعت أسعار زيت الزيتون‬ ‫يف ظل ضعف اإلنتاج‪ ،‬حيث مل يتجاوز سعر تنكة‬ ‫زيت الزيتون (سعة ‪ 16‬ليرتاً) يف العام املايض ‪32‬‬ ‫دوالراً‪ ،‬و‪ 22‬دوالراً يف العام الذي سبقه‪ ،‬أما يف‬ ‫بداية هذا املوسم فقد وصل سعر التنكة إىل ‪43‬‬ ‫دوالراً‪ ،‬وهو قابل لالرتفاع‪.‬‬ ‫كام أسهمت عوامل عدة يف تراجع محصول‬ ‫الزيتون وتدين كمية اإلنتاج يف محافظة إدلب‪،‬‬ ‫حيث “يقدر انخفاض موسم الزيتون مقارنة‬ ‫مع املواسم املاضية بنسبة ‪ ”30%‬وفق املهندس‬ ‫الزراعي يحيى التناري‪.‬‬ ‫ويوضح التناري لـ”طلعنا عالحرية” بأن سبب‬ ‫الرتاجع يعود “النخفاض معدل األمطار‪ ،‬مقابل‬ ‫ارتفاع درجة الحرارة أثناء منو أزهار الزيتون‪ ،‬ما‬ ‫أدى النخفاض نسبة عقد الثامر عىل األشجار”‪.‬‬ ‫ووفق املهندس التناري فإن نسبة األرباح التي‬ ‫من املتوقع أن يجنيها املزارع لهذا العام قليلة‬ ‫بسبب انخفاض اإلنتاج‪ ،‬و”تقدر بحوايل ‪50%‬‬ ‫إىل ‪ 60%‬من إجاميل اإلنتاج”‪ ،‬كام تصل “نسبة‬

‫التكلفة ‪ 40%‬إىل ‪ 50%‬من إجاميل اإلنتاج”‪.‬‬ ‫كام تأثر عامل جني الزيتون برتاجع محصوله؛‬ ‫يقول أبو وائل وهو أحد العاملني بقطاف‬ ‫الزيتون‪“ :‬كنت معتاداً عىل العمل بجني الزيتون‬ ‫عىل األقل ملدة شهرين وأحياناً أكرث‪ ،‬مام يؤمن يل‬ ‫دخ ًال جيداً ميكنني توفريه لرشاء مونة البيت من‬ ‫الزيتون عىل األقل”‪ .‬إال أن قلة اإلنتاج خفضت‬ ‫مدة العمل املتوقعة‪ ،‬حيث كان موسم قطاف‬ ‫زيتون يؤ ّمن فرص عمل جيدة لعرشات عامل‬ ‫املياومة الذين يعملون بجني مثار الزيتون‪،‬‬ ‫وترتاوح أجور (يوم ّية) العامل لهذا العام بني ‪20‬‬ ‫للـ ‪ 30‬لرية تركية‪ ،‬أي أقل من ‪ 4‬دوالرات‪.‬‬ ‫و يوضح أبو وائل أن عدد األيام التي سيعملها‬ ‫بهذا املوسم لن تتجاوز ‪ 30‬يوماً‪ ،‬وذلك بسبب‬ ‫قلة حمولة األشجار‪“ ،‬هاملوسم ماحدا مرتاح ال‬ ‫العامل وال الفالح” قال أبو وائل‪.‬‬ ‫تعترب محافظة إدلب‪ ،‬السيام مناطق جرس‬ ‫الشغور وسلقني وحارم وجبل الزاوية األوىل يف‬ ‫سوريا من حيث املساحات املزروعة بأشجار‬ ‫الزيتون‪ ،‬ويعد موسم الزيتون أحد أهم مصادر‬ ‫الدخل بالنسبة ألهايل املحافظة‪.‬‬ ‫ووفق إحصائيات محلية فإن عدد أشجار‬ ‫الزيتون مبحافظة إدلب انخفض من ‪ 14‬مليون‬ ‫شجرة مثمرة يف عموم املحافظة إىل ‪ 8.5‬مليون‬ ‫شجرة فقط‪ ،‬بعد تقدم قوات النظام ومليشياته‬ ‫إىل املحافظة‪ ،‬وسيطرتها عىل مناطق واسعة‪.‬‬

‫تقارير‬

‫افتقد موسم قطاف الزيتون مبحافظة إدلب لهذا العام‬ ‫طقوسه الخاصة؛ حيث غابت الجلسات الطويلة بني‬ ‫األشجار ودندنة األغاين الشعبية؛ فقد انطلق املوسم قبل‬ ‫أن تكمل مثار الزيتون نضوجها‪ .‬وكان من املتعارف عليه‬ ‫أن ينتظر املزارعني إىل أن يسقى املحصول مباء املطر مرتني‬ ‫عىل األقل؛ فكلام تأخر بدء القطاف ض ِمن املزارع إنتاجاً‬ ‫أفضل‪.‬‬ ‫ً‬ ‫إال أن عرشات األهايل اضطروا للبدء بجني الثامر باكرا دون‬ ‫أن تستكمل حبات الزيتون نضوجها بشكل جيد‪ ،‬ال سيام‬ ‫مناطق ريف إدلب الجنويب التي تقع عىل بالقرب من‬ ‫خطوط التامس مع قوات النظام وتتعرض لقصف متكرر‪.‬‬ ‫يقول حمزة وهو من أهايل جبل الزاوية قبل أن ينزح‬ ‫مؤخراً إىل مخيامت الشامل املحرر لـ”طلعنا عالحرية”‪:‬‬ ‫“إن العمل يف جني محصول الزيتون لهذا العام كان رسيع‬ ‫جداً‪ ،‬اضطررنا لبدء القطاف مع نضوج أوىل الثامر”‪.‬‬ ‫ويضيف حمزة‪“ :‬تقع حقولنا عىل خطوط التامس مع‬ ‫قوات النظام‪ ،‬لذلك قررنا أن نجنيها باكراً‪ ،‬خوفاً من عودة‬ ‫القصف واملعارك التي ستحرمنا من املحصول بأكمله”‪.‬‬ ‫كام اضطر عرشات املزارعني ملواجهة املوت أثناء جني‬ ‫حبات الزيتون‪ ،‬حيث عملوا تحت هدير طريان االستطالع‬ ‫وأصوات القذائف املدفعية التي تستهدف تجمعاتهم‬ ‫مبناطق عدة بريف إدلب‪.‬‬ ‫يف حني يخىش بعض املزارعني من أن تنهب مثار أشجارهم‬ ‫من قبل املقاتلني الذين يضيقون يف بعض األحيان عىل‬ ‫األهايل يف الوصول إىل أراضيهم القريبة من الجبهات‪.‬‬ ‫ويقول أبو هيثم من أهايل ريف إدلب الجنويب إنه يعاين‬ ‫األمرين للوصول إىل أرضه القريبة من خطوط التامس مع‬ ‫قوات النظام‪“ :‬كل مرة حجة شكل‪ ..‬مرة أمنيات‪ ،‬ومرة لح‬ ‫تصري معركة وممنوع تفوت” أوضح أبو هيثم وهو يصف‬ ‫ردود عنارص الحواجز التابعة لفصائل املعارضة املنترشة‬ ‫عىل طريق الوصول إىل أرضه‪ .‬وأضاف أنه اغتنم أول فرصة‬ ‫للوصول إىل شجرات الزيتون التي ميلكها وقام بقطاف‬ ‫كامل املحصول‪“ ،‬كان يجب أن أنتظر حتى ينضج متاماً‪،‬‬ ‫ولكن بعض املحصول خ ٌري من عدمه” قال أبو هيثم‪.‬‬ ‫“تحت الزيتونة قعدة وركوين” يقول الحاج أبو صادق‬ ‫وامض”‪.‬‬ ‫اجن محصولك برسعة ِ‬ ‫ويردف‪“ :‬أما اآلن‪ِ :‬‬ ‫يوضح أبو صادق أن قطاف الزيتون بوقت مبكر أدى‬ ‫لرتاجع كميات املحصول بشكل كبري‪ ،‬إضاف ًة النخفاض‬ ‫كميات الزيت الناتج عن حبات الزيتون التي مل تتم العناية‬

‫‪15‬‬


‫‪16‬‬

‫يف احل ِّل َّ ْ‬ ‫والتحال‪..‬‬ ‫ِ‬ ‫عهد زرزور‬

‫العدد‬

‫‪100‬‬ ‫‪2021 / 11 / 20‬‬

‫من يدري كيف بدأ األمر؟! ينتابنا القلق‪ ،‬وتأرسنا‬ ‫فكرة الرحيل والتخيل حيثام تع ّودنا الوجوه األليفة‪،‬‬ ‫كائنات وحيدة‬ ‫التع ّود املحبب صار من ّفراً‪ ،‬وانتهينا‬ ‫ٍ‬ ‫تبحث عن وجوه صفراء غريبة ال تشبهها‪ ،‬أو أنها‬ ‫تشبه جذورها املفتتة‪.‬‬ ‫يف البالد البعيدة‪ ،‬ال يبحث السوري عن السوريني‬ ‫بل يبحث عن نقصانهم! عن شوارع ال يلقى بها‬ ‫وجهاً يعرفه‪ ،‬كأنه يبتعد ُبعدَين؛ بعداً عن املكان‬ ‫وبعداً عن أهل املكان‪ ،‬فيتم بهذا رحيله املكتمل‪.‬‬ ‫يف يوم شتوي عزمت الرحيل واجتاحني الهرب مام‬ ‫تعودت‪ ،‬عىل عكس طبعي األليم يف أن أنغرس؛‬ ‫فطاملا متنيت أن أكون شجرة يف حياة موازية‪ ،‬لكن‬ ‫رحاالً‪،‬‬ ‫زلزال البالد هزين مع ترابها وجعل مني كائناً ّ‬ ‫ال تستقر يل أرض وال حال‪ .‬مل أتخيل يوماً أن أع ّد‬ ‫وأسجل مشاعر الحب واللطف‬ ‫املدن التي زرتها‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫والقسوة عىل دفاتر كثرية يف ملحوظات عابرة‪ ،‬ومل‬ ‫يخطر عىل البال أن ألقى أصحاباً يف بالد السائحني‬

‫واألسفار‪.‬‬ ‫كان الرحيل مفتاح نجاة واصطبار‪ .‬يف اللجوء إىل‬ ‫ُ‬ ‫انقسمت إىل ذكريات أماكن؛ يف مدينة أترك‬ ‫البعد‬ ‫ً‬ ‫فنجان قهوة مل يكتمل‪ ،‬ويف أخرى أثرا عىل وسادة‪،‬‬ ‫ويف ثالثة شباكاً مفتوحاً عىل الغيب‪ ..‬أحمل صوراً يف‬ ‫حاسويب وصوراً عىل ظهري ملحطات االنتظار‪ .‬أنجو‬ ‫من ع ّلة الهو ّية واللغات املتكاثرة يف رأيس‪ ،‬كلامت‬ ‫ترتاكم ألستحرض لساناً غري لساين يعرب يب من املأزق‪.‬‬ ‫يوم ما إىل ذاكريت‬ ‫ّ‬ ‫وأصب نفيس أين أعود‪ ،‬أعود يف ٍ‬ ‫القدمية عند شجرة الزيتون‪.‬‬ ‫الرحيل أيضاً حفلة مؤجلة للحزن الجميل‪ ،‬أدفع‬ ‫بقد َم ّي حيثام وصلت يك تتعب وتنىس شكل البيت‪،‬‬ ‫وتنىس تلك النسمة اللعينة التي دخلت القلب حني‬ ‫نزلت شارع الوادي وما خرجت منه‪ ،‬وحني وقع‬ ‫قطاري اللعبة عىل كراج الجريان‪ ،‬ومل أسرتده يوماً!‬ ‫جسدي ينقذين من مآالت البقاء والحلول باألشياء‪،‬‬ ‫مت ّر اآلن أيامي بلطف‪ ،‬لكن ال ُألقي باالً كبرياً كالذي‬

‫كنت ألقيه قبل الرحيل الكبري‪.‬‬ ‫نجني الرحيل من املوت ومن يد الجالد فحسب‪،‬‬ ‫مل ُي ِ‬ ‫بل من نفيس املتشبثة باألشياء والناس‪ ،‬ولو عادت‬ ‫يب األيام لرمبا اخرتت رحي ًال أقدم وأقىس‪ ،‬أو رحي ًال ال‬ ‫يحمل التفاتة أو وجهاً أولغة!‬ ‫أنظر من بعيد ألستشعر حقيقة النجاة واملسافة‬ ‫بيني وبني األرض والناس‪ .‬يف خفة هائلة أتحرر من‬ ‫ني وأي ٍد وسجالت وتقارير مروية عن تحركايت‬ ‫أع ٍ‬ ‫أفق‬ ‫وأفكاري وتطبيقي االجتامعي لألعراف‪ ،‬عن ٍ‬ ‫وسقف يحني العنق‪ .‬كأين برحييل أدفع‬ ‫مسدود‬ ‫ٍ‬ ‫السقف ألستقيم‪.‬‬ ‫ومع هذا مل يعفني الرحيل من القلب الساخن‪،‬‬ ‫التلصص عىل األخبار والكارثة‪ ،‬وال من عقل‬ ‫ومن ّ‬ ‫يدور يف قرص الشمس يبحث عن نجمة يستهدي‬ ‫بها إىل البالد‪ .‬يبدو أن قدر االبنة مكتوب عىل‬ ‫لوح ال يذوب‪ ،‬ستحنّ طاملا ُوجد الحنني‪ ..‬يف الحل‬ ‫والرتحال!‬

‫ثقافة‬


‫ّ‬ ‫البدوي‬ ‫مشاهد يتلوها‬ ‫حسني الضاهر‬ ‫‪17‬‬

‫بشرى البشوات‬

‫العدد‬

‫‪100‬‬ ‫‪2021 / 10 / 20‬‬

‫يف مجموعتك “مياه صالحة للقتل”‪ ،‬تأيت عىل ذكر‬ ‫اسمك وعمرك أكرث من مرة‪ ،‬ما داللة ذلك؟‬ ‫كنت أحاول تعريف الناس يب‪ ،‬وأنني ما زلت عىل قيد‬ ‫الحياة؛ نجوت بعد حرب ونزوحني‪.‬‬ ‫كان إهداء مجموعتك األوىل “مياه صالحة للقتل”‪،‬‬ ‫موجهاً للمرأة يف حياتك (األمّ‪ ،‬الزوجة‪ ،‬البنت) يف‬ ‫مجموعتك الثانية “مشاهد يتلوها البدوي” تهدي‬ ‫نصوصك إىل الدنيا‪ .‬ما هي الدنيا التي ينتمي إليها‬ ‫حسني؟‬ ‫هي األنثى ً‬ ‫أيضا؛ األنثى التي تغزل أهدايب بأصابع‬ ‫وردية‪.‬‬ ‫يف مجموعتك الثانية “مشاهد يتلوها البدوي” تكثيفها‬ ‫العايل‪ ،‬اللقطات القريبة جداً‪ ،‬بقعة الضوء التي تحمل‬ ‫العادي إىل منصة عرض كاملة‪ ،‬هل هذا مقصود؟‬ ‫رمبا يرى البعض أن مجموعة “مشاهد يتلوها البدوي”‬ ‫هي ظل للمجموعة األوىل “مياه صالحة للقتل”‪ ،‬لكنني‬ ‫أرى أن كل ما كتبته‪ ،‬يعد محاوالت للتجريب‪ .‬إىل اآلن‬ ‫مل أجد مساري الخاص الذي سأسري فيه‪ ،‬ومن املؤكد أن‬ ‫أجده‪ .‬لذا سأبقى أجرب‪.‬‬ ‫هل للشعر وظيفة‪ ،‬وإن وجدت فام هي؟‬ ‫أعتقد أن وظيفة الشعر تتغري بحسب املراحل التي مير‬ ‫بها كاتبه‪ ،‬ففي مرحلة ما كان بالنسبة يل حاجة‪ ،‬ويف‬ ‫مراحل أخرى متنفساً‪ ،‬واآلن قد ُأعرفه عىل أنه رفاهية‪.‬‬ ‫حصلت عىل جائزة املعري للفنون األدبية ‪2018‬‬ ‫وجائزة رابطة الكتاب السوريني ‪.2021‬‬ ‫ماذا تضيف الجوائز إىل رصيد الشاعر؟‬ ‫يحتاج الكاتب بني الحني واآلخر لحافز مادي ومعنوي‬ ‫يك يستمر يف مرشوعه‪ ،‬وأرى أن الجوائز هي السبيل‬ ‫األمثل للحصول عىل هذا الحافز‪.‬‬ ‫أخريا يستعري حسني الضاهر لسان صديقه أحمد‬ ‫بغدادي ليقول‪ :‬لحسني الضاهر البدوي” “ال متت إال‬ ‫بوقتك”!‬

‫لقاءات‬

‫خرج حسني الضاهر من مدينة متتد بتاريخها آلالف‬ ‫السنني‪ ،‬عاصمة العواصم كام ّ‬ ‫سمها هارون الرشيد‪،‬‬ ‫مدينة البحرتي‪ ،‬وعمر أبو ريشة‪.‬‬ ‫خرج حسني من منبج‪.‬‬ ‫يقول حسني عن ذلك‪“ :‬يف سنوات نشأيت األوىل‪ ،‬تنقلت‬ ‫بني عدة محافظات سورية بحكم الدراسة والعمل‪،‬‬ ‫ثم إىل بريوت التي أدين لها بالكثري‪ ،‬بريوت احتضنتني‬ ‫وصقلت شخصيتي‪ ،‬ال أرى بأنني أنتمي إىل مكان بعينه‪،‬‬ ‫ومل أجد تعريفاًخاصاً ملدينتي أو للوطن‪ ..‬وقد تكون‬ ‫منبج ساهمت يف تكوين البدوي الذي يعيش داخيل‪،‬‬ ‫فيظهر أحيا ًنا ليشعرين بالحنني‪ ،‬ويختفي كثرياً”‪.‬‬ ‫“صباح الخري‬ ‫زلت عىل قيد اللجوء مثيل؟‬ ‫أما ِ‬ ‫إ ًذا‬ ‫لو تحملني معي رفات بعض املدن‬ ‫فقد تعبت‬ ‫خذي دمشق املكتظة بالطعنات‬ ‫خبئي “بردى” يف حاملة صدرك‬ ‫وأخرجيه كلام داهمك الصحو‬ ‫فلتأخذي بريوت شجرة التفاح‬ ‫التي أنزلتنا إىل أرض الخطايا أول مرة‬ ‫خذي منبج‬ ‫أرض املاء واملحل‬ ‫الفتاة الساذجة التي تذهب دا ًمئا برفقة األوغاد‬ ‫خذي كل البالد‬ ‫واتريك يل براعم هذه املدن السعيدة”‪.‬‬ ‫ذاً فهو اللجوء “والبالد التي ال ناقة لك فيها وال أمل”‬ ‫عن أيّ البالد تتحدث؟‬ ‫جميع محاواليت يف التآلف مع هذه البالد (تركيا) باءت‬ ‫بالفشل‪ ،‬كام فشلت مرا ًرا بالفرار منها‪ .‬لذلك وصلت‬ ‫إىل حالة من الالمباالة اتجاهها‪ ،‬وأظن أنها هي ً‬ ‫أيضا ال‬ ‫تبايل بوجودي‪.‬‬ ‫“هذي البالد ال ناقة يل فيها وال أمل‬ ‫فلتكن دافئة‬ ‫فلتكن باردة مع إرشاقة ربيع‬ ‫فلتكن منترصة‬ ‫فليصعد رجالها إىل املريخ‬ ‫ولتسقط نساؤها من الجنة كفاكهة ناضجة‬ ‫هي أمور ال تعنيني‬ ‫أنا الذي سقطت هنا‬ ‫كتفاحة نخرتها ديدان الحرب”‬

‫يف مجموعتك الشعرية األوىل “مياه صالحة للقتل”‬ ‫تقول‪“ :‬أنا حسني الضاهر األكرث حز ًنا يف ح ّينا‪ ،‬والوجع‬ ‫الوحيد ألهيل” ملاذا درب األحزان هذا؟‬ ‫ال أحد يتمنى الحزن لنفسه‪ ،‬ومل أخرت لنفيس هذا‬ ‫الدرب‪ .‬لكن إن حللنا هذا الشعور ‪-‬الحزن‪ -‬بشكل‬ ‫منطقي‪ ،‬سنجد أنه شعور أصيل متجذر يف أنفسنا‪،‬‬ ‫عىل عكس الفرح؛ الذي يأيت عىل شكل نوبات شبقية‬ ‫متفاوتة التأثري وقصرية‪ .‬صحوت يف يوم ما ألجد نفيس‬ ‫ً‬ ‫محاطا مبفردات غريبة (حرب‪ ،‬موت‪ ،‬رصاص‪ ،‬قارب‬ ‫مطاطي‪ ،‬سلك شائك‪ ..‬إلخ) هذا ما أجربين عىل سلوك‬ ‫مخرجا منه‪.‬‬ ‫درب األحزان‪ ،‬وإىل اآلن مل أجد‬ ‫ً‬ ‫“يف الكوابيس‪ :‬أنا الالهث أمام كالب املقابر‬ ‫يف طريق اللجوء‪ :‬أنا الزبد العالق عىل فم الغريق‬ ‫يف الصور العتيقة‪ :‬أنا التاريخ املنيس اللتقاطها‬ ‫يف ضبوط الرشطة‪ :‬أنا الفاعل املتواري تحت أكوام الغبار‬ ‫يف العتمة‪ :‬أنا كذبة الضوء يف آخر النفق‬ ‫يف الخرب العاجل‪ :‬أنا الجثة املجهولة الهوية‬ ‫أهز رأيس مواف ًقا عىل تحليلكم لطريقة مويت‬ ‫وأشارككم دفني بكل كياسة“‬ ‫من بني املفردات الجديدة أيضاً مفردة الثورة‬ ‫السورية‪ ،‬بعد عرش سنوات ماذا أضافت الثورة إىل‬ ‫اللغة التي تكتب بها؟‬ ‫األدب مرآة الواقع‪ ،‬والكاتب مهام حلق يف فضاءات‬ ‫الخيال يبقى ابن بيئته‪ ،‬ويف املحصلة ستظهر انعكاسات‬ ‫الواقع يف كتاباته‪ .‬الثورة السورية كرست حدود اللغة‬ ‫التي كان من املمكن أن أتقيد بها لو مل تحصل‪.‬‬ ‫ما الذي أخذك إىل الشعر‪ ،‬وملاذا قصيدة النرث؟‬ ‫كانت البداية يف منبج‪ .‬عام ‪ 2008‬عىل ما أذكر‪ .‬حني‬ ‫تربع أحد األقارب بنرش محاولة يل‪ ،‬يف منتدى إلكرتوين‪،‬‬ ‫وقد القت ً‬ ‫تفاعل جيدًا‪ ،‬وألنني كنت أعيش شبه استقرار‬ ‫حينذاك مل أكمل‪ .‬يف وقت الحق أتبعتها مبحاوالت أخرى‬ ‫ثم توقفت‪ .‬وعندما وصلت تركيا‪ ،‬مل أجد أحدًا أتحدث‬ ‫إليه‪ ،‬كنت وحيدًا بكل ما للكلمة من معنى‪ .‬فبدأت‬ ‫الكتابة يك ال أجن‪ .‬وهكذا إىل أن وجدت نفيس هنا‬ ‫مبحض الصدفة‪ .‬يف البدء مل أعرف أن ما أكتبه يسمى‬ ‫“قصيدة نرث”‪ .‬الح ًقا علمت الفوارق واإلشكاالت الدائرة‬ ‫حولها‪ ،‬لكن األمر ليس ً‬ ‫مهم بالنسبة إيل‪.‬‬ ‫أما أنا فقد جئت إىل الشعر متأخ ًرا‬ ‫بعد أن تفتقت أشجار املصيبة يف حقلنا‬ ‫زه ًرا يستحق النواح‬ ‫فنحت‪.‬‬


‫وجوه احلضور يف “مرايا الغياب”‬ ‫عند فرج بريقدار‬

‫‪18‬‬ ‫ياسمين نهار‬

‫العدد‬

‫‪100‬‬ ‫‪2021 / 11 / 20‬‬ ‫ثقافة‬

‫الصاع الحا ّد والعاصف بني متناقضات‬ ‫يشكل ّ‬ ‫الوجود ُبعداً حافزاً و ُمله ًام لكثري من املبدعني‪،‬‬ ‫كالصاع بني الحياة واملوت‪ ،‬وبني الخري ّ‬ ‫والش‪ ،‬وبني‬ ‫ّ‬ ‫الحر ّية والقيد‪..‬‬ ‫الصاعات وخرب‬ ‫الشاعر فرج بريقدار عاش هذه ّ‬ ‫تفاصيلها اليوم ّية أكرث من أربعة عرش عاماً يف‬ ‫السنوات أن‬ ‫السورية‪ ،‬حاول خالل هذه ّ‬ ‫السجون ّ‬ ‫ّ‬ ‫يجد لغة شعر ّية تعادل تلك التّجارب القاسية‪،‬‬ ‫وتستوعب آالمه ورؤاه وتط ّلعاته إىل التّغيري‪.‬‬ ‫“مرايا الغياب “ هو عنوان إحدى مجموعاته‬ ‫ّ‬ ‫الشعر ّية‪ ،‬كتبها وهو يف سجن صيدنايا بني عامي‬ ‫السجن‬ ‫‪1997‬ـ ‪ 2000‬موضوعها األبرز‬ ‫ّ‬ ‫واألهم ّ‬ ‫بالسجن‬ ‫الس ّ‬ ‫السجني ّ‬ ‫يايس؛ حيث رصد شعر ّياً عالقة ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫السجناء إىل الحر ّية من‬ ‫ع‬ ‫ل‬ ‫وتط‬ ‫جهة‪،‬‬ ‫من‬ ‫جان‬ ‫والس‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫جهة ثانية‪ ،‬فال عجب أن تتك ّرر كلمة الحر ّية ثالث‬ ‫عرشة م ّرة يف هذه املجموعة‪.‬‬ ‫ُبعد التم ّرد وال ّرفض يف حياته وشعره‪ :‬مل تكن‬ ‫الحر ّية عند شاعرنا مطلباّ سياس ّياً فقط؛ بل هي‬ ‫تجسد يف حياته وشعره‪ ،‬وكام‬ ‫مطلب وجوديّ‬ ‫ٌ‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫للسلطة القمعية‬ ‫ا‬ ‫ري‬ ‫أس‬ ‫يكون‬ ‫أن‬ ‫بريقدار‬ ‫رفض‬ ‫ّ‬ ‫أو ملؤسساتها ال ّثقاف ّية التي ته ّمش حاالت التّم ّرد‬ ‫والخروج عن املألوف‪ ،‬رفض أيضاً ُطرق التّعبري‬ ‫التّقليد ّية والهو ّية اإلبداع ّية ال ّثابتة‪ ،‬لذا نراه يف‬ ‫حنني دائم إىل هو ّية إبداع ّية جديدة؛ ّ‬ ‫ألن اإلبداع‬ ‫حركة دامئة وكشف مستم ّر‪:‬‬ ‫ّ‬ ‫“كل يوم‬ ‫أقف أمامي‬ ‫أتأ ّملني بأناة‬ ‫ثم أنكرين‬ ‫ّ‬ ‫وأواصل الحنني‬ ‫إىل غريي‬ ‫ّ‬ ‫لعل أجدين فيه”‪.‬‬ ‫ّإن قصيدة فرج تثري األسئلة ا ُملقلقة‪ ،‬تدعو‬ ‫املطمئنني إىل ّ‬ ‫الش ّك‪ ،‬وميكننا القول إ ّنها متم ّردة‬ ‫مثله؛ متم ّردة عىل سلف ّية الكتابة ّ‬ ‫الشعر ّية؛ حني‬ ‫الخاصة‪ ،‬ومتم ّردة‬ ‫متنع املبدع من خلق تجربته‬ ‫ّ‬

‫وترص عىل‬ ‫عىل الواقع أل ّنها ترفض التّك ّيف معه‪ّ ،‬‬ ‫كشف مظامله وعيوبه‪ ،‬ومتم ّردة عىل قارئها أل ّنها‬ ‫ته ّز يقينه‪:‬‬ ‫“ما من دليل‬ ‫وال يقني‬ ‫فالقصيدة خارجة ع ّ‬ ‫يل‬ ‫وخارجة عليكم‬ ‫ٌ‬ ‫وخارجة‬ ‫حتّى عىل نفسها”‪.‬‬ ‫الصوف ّية يف‬ ‫الصوف ّية يف شعره‪ :‬التجربة ّ‬ ‫النّزعة ّ‬ ‫ترسخ معتقداً دين ّياً أو تدعو إليه؛‬ ‫شعر فرج ال ّ‬ ‫ّإنا هي صوف ّية فن ّية أغنت تجربته ّ‬ ‫الشعر ّية‬ ‫الشاعر ّ‬ ‫ومنحتها أبعاداً ّ‬ ‫خلقة؛ فض ّال عن ّأن ّ‬ ‫وظف‬ ‫هذه التّجربة الغن ّية يف رؤية جديدة أخرجتها من‬ ‫ّيني إىل ُبعد إنسا ّين حا ّر أثبت قدرتها‬ ‫ُبعدها الد ّ‬ ‫عىل الحياة والت ّ​ّجدد إبداع ّياً‪ .‬لنئ ح ّررت التّجربة‬ ‫الصوف ّية اإلنسان من القيود‪ ،‬بدءاً من القيود التي‬ ‫ّ‬ ‫تعيق حركة الجسد‪ ،‬فقد ساعده تع ّمقه يف تلك‬ ‫التّجربة عىل اكتشاف أعامقه ونزوعها إىل الحر ّية؛‬ ‫وليس هذا فحسب‪ ،‬فقد ساعده ّ‬ ‫الشعر عىل فضح‬ ‫يايس‪:‬‬ ‫الس ّ‬ ‫السجن ّ‬ ‫ما يجري داخل ّ‬ ‫“صَ ُ‬ ‫فوت‬ ‫ُ‬ ‫أوشكت عىل املاء‬ ‫حتّى‬ ‫وأوشك املاء عىل الومض‬ ‫ُ‬ ‫والومض عىل ال ّرؤيا‬ ‫وال ّرؤيا عىل الكشف‬ ‫والكشف عىل الغموض‬ ‫والغموض عىل ّ‬ ‫الشعر‬ ‫ّ‬ ‫والشعر عىل الصمت‬ ‫الس‬ ‫والصمت عىل ّ ّ‬ ‫والس عىل الفضيحة‬ ‫ّ​ّ‬ ‫شكراً يا معلمي‬ ‫أعرف ّأن ّ‬ ‫الطريق‬ ‫صار طوي ًال ورايئ‬ ‫غري أنني سأعود‬ ‫إىل حنان ترايب القديم‬

‫ولو مشياً‬ ‫عىل قلبي”‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫يف هذا الن ّ​ّص صفا الشاعر ال ّرايئ حتّى أوشك أن‬ ‫يصري ش ّفافاً كاملاء‪ ،‬وما ال ّرؤيا عنده ّإل وسيلة‬ ‫لفضح مساوئ العامل‪ ،‬وقد ّ‬ ‫تجل هدفه األسمى يف‬ ‫السابق يف العودة إىل النّقاء األ ّول‬ ‫ّ‬ ‫نصه ال ّرؤيويّ ّ‬ ‫والحر ّية والبدء حيث ال قيود وال أسوار‪ ،‬رغم‬ ‫معرفته بوعورة ّ‬ ‫الطريق‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫الصو ّيف واضحاً حني يقول‪:‬‬ ‫ويتجل البعد ّ‬ ‫“يا دينكم!!‬ ‫كيف أراين‬ ‫وأنا دامئاً معي؟‬ ‫ُ‬ ‫ابتعدت عني‬ ‫وإذا‬ ‫فكيف أعرفني؟‬ ‫ال تقولوا يل‪:‬‬ ‫املرآة‪.‬‬ ‫فليس للمرايا‬ ‫حتى هذه التي أكتبها‬ ‫ّإل أن تعدّدين‬ ‫أو تجعلني واحداً‬ ‫وأنا لست كذلك‬ ‫بل ّإن‪..‬‬ ‫لست عىل حال أبداً‬ ‫ُ‬ ‫أبداً‬ ‫ُ‬ ‫لست عىل حال”‪.‬‬ ‫الشاعر ّأن ّ‬ ‫يرى ّ‬ ‫لكل مبدع ُبعداً آخر؛ يحرض يف‬ ‫أعامقه حضور ا ّتحاد ووحدة‪ ،‬وحني ّ‬ ‫يتجل هذا‬ ‫البعد عىل صورة شعر؛ ال يريد منه ّ‬ ‫الشاعر أن‬ ‫يعكس ظاهر نفسه ‪-‬وإن تعدّدت أشكاله‪ -‬بل‬ ‫يعب عن خفايا نفسه غري املستق ّرة‬ ‫يريد منه أن ّ‬ ‫عىل حال‪.‬‬ ‫صور حضور املرأة يف شعره‪ :‬امرأة فرج بريقدار‬ ‫هي املرأة الحبيبة‪ /‬املرأة الجسد‪ ،‬ويبدو يل ّأن‬ ‫السجن ‪-‬ولو يف‬ ‫استحضار املرأة‪ /‬الجسد داخل ّ‬ ‫فضاء ال ّذاكرة‪ -‬هو تش ّوف لحياة طبيع ّية وعالقة‬ ‫تكامل ّية بني املرأة وال ّرجل؛ ّ‬ ‫كل طرف فيها يحتاج‬


‫‪.....‬‬

‫العدد‬

‫‪100‬‬

‫هكذا رسم لنا فرج بريقدار مراياه ممزوجة‬ ‫بروحه‪ ،‬بعذاباته‪ ،‬بتناقضاته الحادّة‪ ،‬وما زال يف‬ ‫جعبته الكثري من األلوان املمزوجة بالدّم وال ّرماد‬ ‫والحكايا عن أولئك الذين ينحرون أحالم ّ‬ ‫الشعوب‬ ‫بال ندم‪.‬‬ ‫“مرايا الغياب” املجموعة ّ‬ ‫الشعر ّية التي ه ّربها‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫الشاعر من سجن صيدنايا مكتوبة عىل أوراق‬ ‫السجائر ُترتجم إىل الفرنسية واإلنكليزية واألملان ّية‬ ‫ّ‬ ‫والسلوفينية واإليطالية‪ ،‬وتصبح مرشوعاً غنائياً‬ ‫بلغات عدّة‪.‬‬ ‫هي مرايا تفضح معاناة املعتقلني أثناء تغريبتهم‬ ‫السورية ّإل أ ّنها يف عمقها مرايا‬ ‫السجون ّ‬ ‫يف ّ‬ ‫وضاءين متداخلني هام‪ :‬فضاء ّ‬ ‫فضاءين ّ‬ ‫الشعر‪،‬‬ ‫وفضاء الحر ّية‪.‬‬

‫‪2021 / 11 / 20‬‬

‫الجسد) فاملرأة عنده الحبيبة ا ُمللهمة تسري به إىل‬ ‫تيه املعنى؛ ليك يبقى يف بحثه املحموم عن دروب‬ ‫جديدة يف اإلبداع ك ّلام ظنّ أ ّنه اهتدى ووصل‬ ‫اكتشف دروباً أكرث جامالً وأكرث إغوا ًء‪:‬‬ ‫“ ّمثة مكان‬ ‫اسمه الالمكان‬ ‫أخذتني إليه‬ ‫تلك املرأة ّ‬ ‫الشاهقة‬ ‫وقالت يل‪:‬‬ ‫يليق بك التيه”‪.‬‬ ‫السجن‪ :‬للسجن ٌ‬ ‫ظالل‬ ‫مرايا الغياب والحضور يف ّ‬ ‫ٌ‬ ‫قامتة تجثم عىل ال ّروح‪ ،‬وشاعرنا رآه موتاً أو شيئاً‬ ‫“السجن هو الغياب األبعد واألعمق‬ ‫يشبه املوت‪ّ :‬‬ ‫واألقىص يف الحياة‪ ،‬وما من غياب أش ّد منه وأكرث‬ ‫فداحة سوى املوت‪ .‬من هنا انرسبت تسمية‬ ‫“مرايا الغياب” كعنوان لهذه املجموعة‪ .‬ويبدو‬ ‫يل ّأن ملرايا الغياب وجهاً آخر هو وجه الحضور‪:‬‬ ‫حضور ّ‬ ‫الشاعر وحضور القصيدة‪ ،‬وك ّلام تع ّمق‬ ‫ُ‬ ‫الساكن املفجع ازداد إرصار ّ‬ ‫الشاعر‬ ‫ُبعد الغياب ّ‬ ‫عىل استحضار القصيدة التي ُتع ّد وجهاً من وجوه‬ ‫الحياة واندفاعها الحا ّر‪.‬‬ ‫الشاعر ّ‬ ‫هكذا واجه ّ‬ ‫كل أشكال التعذيب والقمع‬ ‫بأكرث األشياء حميم ّية وح ّيو ّية وحر ّية؛ واجهها‬ ‫جميعاً ّ‬ ‫بالشعر‪.‬‬ ‫السجن ميت ّد يائساً امتداد الصحراء‪،‬‬ ‫والزّمن يف ّ‬ ‫يتشابه تشابه كثبانها‪ ،‬غري ّأن ّ‬ ‫الشاعر يحاول أن‬

‫يثني عضد هذا الزّمن ليبقى هو وقصيدته عىل‬ ‫َ‬ ‫قيد الحضور‪ ،‬عىل قيد الحياة‪:‬‬ ‫“األزمنة متضاربة‬ ‫واألمكنة أيضاً‬ ‫الصلوات‬ ‫وحتّى ّ‬ ‫غري ّأن القصيدة وقلبي‬ ‫يد ّقان‬ ‫ويد ّقان‬ ‫ياااااااا‪..‬‬ ‫ألبوابكم املغلقة!!”‪.‬‬ ‫وحني يستب ّد الوقت الكئيب قد تنفصم الذات‬ ‫عن نفسها أل ّنها تعجز أحياناً عن ملء هذا الفراغ‬ ‫ال ّرهيب املاثل يف املكان‪ ،‬فال يراه ّ‬ ‫الشاعر ّإل شك ًال‬ ‫من أشكال الغياب‪:‬‬ ‫“زمنٌ بال مواعيد‬ ‫ٌ‬ ‫ومكان‬ ‫بال جهات‪.‬‬ ‫أ ّيتها املرأة‬ ‫الجارحة كربق‬ ‫ال ّراعفة كأغنية‬ ‫اذهبي‬ ‫فام من يشء‬ ‫حارض هنا‬ ‫غري الغياب”‪.‬‬

‫ثقافة‬

‫اآلخر ويك ّمله‪ ،‬وهو فعل تح ّد لألفكار املتز ّمتة‬ ‫وموقفها من املرأة‪ ،‬وهو فعل تح ّرر من ّ‬ ‫كل‬ ‫القيود التي متنع املبدعني من التّعبري عن املرأة‪،‬‬ ‫وعن العالقة بينها وبني ال ّرجل فن ّياً‪ ،‬باإلضافة إىل‬ ‫كون ذلك الفعل انعتاقاً من أرس مكان ينزف‬ ‫تفاصيل مؤملة مؤ ّرقة‪.‬‬ ‫وها هي ذاكرته تغافل محاوالت النسيان وتهرب‬ ‫إىل امرأة ما‪:‬‬ ‫“يف منتصف النسيان‬ ‫وربا يف آخره‬ ‫ّ‬ ‫هربَت ذاكريت إليها‬ ‫تلك التي مل تقل يف البداية‬ ‫غ َري سام ٍء مهجورة‬ ‫وبنفسجتني غامضتني‬ ‫وصحراء تنزف رساباً‬ ‫ولكنّها‬ ‫صمتاً إثر صمت‬ ‫وشهيقاً إثر شهيق‬ ‫وزفرياً إثر زفري‬ ‫قالت جسدي‬ ‫وأرد َف ْت ُل ّج ًة متالطمة األصداء‬ ‫تنشجُ ومتطر‬ ‫وتصيحُ من قيعانها‪:‬‬ ‫تعال”‪.‬‬ ‫الحب وشعر الجسد‬ ‫وتجدر اإلشارة إىل ّأن شعر ّ‬ ‫عند شاعرنا ٌ‬ ‫دليل عىل تأكيد شاعرنا فاعلية األنا‬ ‫وحضورها يف مكان ال خصوبة فيه وال حياة وهو‬ ‫السجن‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫يقول واصفا الحديث بني جسدين‪:‬‬ ‫ُ‬ ‫“لست أعمى القلب‬ ‫فام من حوار‬ ‫تيضء برو ُق ُه‬ ‫وتنهم ُر أمطا ُر ُه‬ ‫كام بني جسدين”‪.‬‬ ‫ّإن صور ّ‬ ‫تعب عن ظالل‬ ‫الشاعر يف هذا الن ّ​ّص ّ‬ ‫الخفي؛ وما إضاءة الربوق‬ ‫نفسه والشعوره‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫وانهامر األمطار إل تأكيد الخصوبة التي ُيحرم‬ ‫السجني منها فأراد ّ‬ ‫الشاعر تحقيقها ولو يف الخيال‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫ومع ذلك مل يحرص بريقدار املرأة ببعد واحد ( ُبعد‬

‫‪19‬‬



Issuu converts static files into: digital portfolios, online yearbooks, online catalogs, digital photo albums and more. Sign up and create your flipbook.