طلعنا عالحرية / العدد 103

Page 1

‫حرية ‪ ،‬كرامة‪ ،‬مواطنة‬

‫العدد‬

‫‪103‬‬ ‫‪2022 / 2 / 28‬‬

‫مجلة شهرية‪ ،‬سياسية‪ ،‬ثقافية‪ ،‬مستقلة‬


‫“حنن وحدنا‪ ..‬القوى العظمى تراقب من بعيد”‬

‫‪2‬‬ ‫نصار‬ ‫افتتاحية العدد بقلم أسامة ّ‬

‫العدد‬

‫‪103‬‬ ‫‪2022 / 2 / 28‬‬

‫لنتجاوز االختالفات يف تحليالت األحقية يف حرب‬ ‫روسيا البوتينية عىل أوكرانيا‪ ..‬يبدو متايز السوريني‬ ‫األسايس واضحاً؛ جمهور الثورة ض ّد روسيا ومع‬ ‫أوكرانيا‪ ،‬وقد كانوا كذلك أثناء الثورة األوكرانية يف‬ ‫‪ 2014‬والتي كان اسمها “ثورة الحرية والكرامة”‬ ‫أيضاً‪ .‬فيام يقف جمهور النظام األسدي ض ّد‬ ‫“الغرب النازي” وض ّد “سياسة القطب األوحد”‪..‬‬ ‫يف هذه الضفة ُيرفع العلم األوكراين األزرق‬ ‫واألصفر إىل جانب علم الثورة‪ ،‬ويف تلك‬ ‫ُترفع صور “أبو عيل بوتني” مع صور “أبو‬ ‫حافظ” حليفه والناجي بفضل مساندة‬ ‫األول الحاسمة‪ ،‬وال تستبعد أن ترى بجانب‬ ‫مبج ًال فوق الرؤوس!‬ ‫الصورتني بسطاراً عسكرياً ّ‬ ‫االنحياز مع املستضعف خيار بسيط وال يحتاج‬ ‫إلحاطة معرفية وكثري من التفاصيل‪ ،‬يكفيه فقط‬ ‫ضمري حي‪ .‬لكن رغم ذلك‪ ،‬من الصعب أن تحرض‬ ‫املوضوعية يف االصطفاف‪ ،‬خاصة يف حالتنا؛ فكيف‬ ‫نتكلم عن اإلمربيالية الغربية وتاريخ أمريكا‬ ‫الدموي‪ ،‬أو نتفهم متلمل الروس من انقالب‬ ‫الغرب عىل اتفاقيات ‪-‬معلنة وغري معلنة‪ -‬حول‬ ‫توازن القوى واحرتام األمن القومي والتوازن‬ ‫العاملي‪ ..‬ومازال دمنا املسفوك ساخناً من‬

‫اإلجرام البوتيني؟ وكيف ميكننا كذلك أن نستمع‬ ‫بعد اآلن لتبجح الغرب بحقوق اإلنسان ونرش‬ ‫الدميقراطية؟ ومزاعم “أصدقاء الشعب السوري”‬ ‫الذين دعموا السوريني بـ”األسلحة غري الفتاكة”‬ ‫بالتقطري‪ ،‬بينام وصلت مضادات الطائرات للجيش‬ ‫األوكراين مبارشة‪ ،‬وفتح باب تطوع املقاتلني من‬ ‫دول أوربية ملؤازرة الجيش األوكراين‪ ..‬وخطابات‬ ‫مرحبة بالالجئني األوكرانيني الهاربني من الحرب‪..‬‬ ‫ّ‬ ‫من املؤسف أيضاً أنه خالل إرهاصات الحرب‬ ‫عىل أوكرانيا‪ ،‬تسمع تربيرات كثرية ألطرافها‪.‬‬ ‫تربيرات وذرائع عن كل يشء يتعلق باالقتصاد‬ ‫وخطوط الغاز‪ ،‬ونظم بنكية‪ ،‬ومايض السوفييت‬ ‫وخذالن الغربيني وكذبهم‪ ..‬عن التاريخ‪،‬‬ ‫والحساسية الجغرافية‪ ..‬وعن وعن‪ ..‬بحيث يبدو‬ ‫األوكرانيون أنفسهم طرفاً جانبياً يف املعادالت‪..‬‬ ‫نتكلم عن ‪ 40‬مليون نسمة‪ ،‬أوربيني “بيض”‬ ‫“ليسوا سوريون انتخبوا قيادتهم دميقراطياً!‬ ‫يف خطابه املؤثر عشية شنّ الحرب عىل بلده‪،‬‬ ‫قال الرئيس األوكراين‪“ :‬نحن وحدنا‪ ..‬القوى‬ ‫العظمى تراقب من بعيد”‪ ،‬ورغم نسبية هذه‬ ‫الـ”وحدنا” أمام وحدة شعوب منطقتنا املنكوبة‪،‬‬ ‫بدا الرئيس األوكراين مثل ضيف السكتش‬

‫‪www.freedomraise.net‬‬

‫افتتاحية‬

‫املقاالت املنشورة تعرب عن آراء أصحابها أوالً‬ ‫وال تعرب بالرضورة عن آراء هيئة التحرير‬ ‫املجلة غري ملزمة بنرش كل ما يردها من مواد‬

‫شهرية ثقافية‪ ،‬اجتامعية‪ ،‬سياسية‪،‬‬ ‫تعنى بالشأن السوري‬ ‫املدير اإلداري‬ ‫معتصم أبو الشامات‬

‫الغالف‬ ‫سمري خلييل‬

‫الكوميدي من مسلسل األطفال الشهري “شارع‬ ‫السمسم”‪ ،‬الضيف كان عاملاً‪ ،‬بحث ودرس حتى‬ ‫وصل الخرتاع أطلق عليه اسم “حاميات األرجل”‬ ‫ثم يكتشف أن كل الناس يعرفون الجوارب‬ ‫قبل “اخرتاعه” بسنوات طويلة‪ ..‬فقبل خذالن‬ ‫األوكرانيني‪ ،‬األمريكان والغرب تركوا األكراد‬ ‫للريح بعد وعود وأماين‪ ،‬وكذلك خذلوا األفغان‬ ‫والباكستانيني واملرصيني‪ ..‬وقامئة طويلة من‬ ‫املرتوكني ملصريهم أمام نذالة الغرب الدميقراطي‬ ‫صاحب رشعة حقوق اإلنسان‪ .‬ال داعي‬ ‫الستحضار املثال السوري‪ ،‬أو الهندي األحمر!‬ ‫لو نجح الروس بإخضاع أوكرانيا ستعزز رشيعة‬ ‫الغاب ‪-‬املوجودة أص ًال‪ -‬بأن القوي يفرض‬ ‫احرتامه‪ ،‬وإن افتقر لعدالة املطلب‪ .‬وحتى لو‬ ‫تجاوزت أوكرانيا املحنة أو لو صمدت حيناً‬ ‫وحققت شيئاً ض ّد الروس‪ ،‬فستصل رسالة مكررة‬ ‫للشباب يف بالدنا هي استمرار لضخ محفزات‬ ‫التطرف والعنف؛ فال يشء يحمي بلدك وأهلك‬ ‫من بطش الجبارين‪ ،‬ال الدكتاتورية بأجهزة‬ ‫مخابراتها وعسكرها‪ ،‬وال الدميقراطية بربملانها‬ ‫وصحافتها الحرة‪ ،‬وإنسانيتك مسألة نسبية يف‬ ‫حسابات عنرصيني‪ ،‬يريدون تعليمك التحرض‪.‬‬

‫تفاعل معنا عرب صفحاتنا عىل اإلنرتنت‬ ‫‪facebook.com/rising4freedom‬‬

‫نصار‬ ‫رئيس التحرير أسامة ّ‬

‫‪twitter.com/freedomraise‬‬

‫نائب رئيس التحرير ليىل الصفدي‬

‫‪freedomraise@gmail.com‬‬

‫كاريكاتري‬ ‫سمري خلييل ‪ /‬هاين ع ّباس‬

‫أمن رقمي ومحاسبة‬ ‫وائل موىس‬

‫زمالء مختطفون يف سوريا‬ ‫رزان زيتونة ‪ -‬ناظم حامدي‬


‫‪3‬‬

‫العدد‬

‫‪103‬‬ ‫‪2022 / 2 / 28‬‬

‫عدوى *‬

‫* قصيدة من مخطوط ديوان الزميل الشاعر‬ ‫ناظم الحامدي‪ ،‬املختطف منذ كانون األول‪/‬‬ ‫ديسمرب ‪ 2013‬يف الغوطة الرشقية‪.‬‬

‫كاريكاتري‬

‫من قسوة آالمنا َ‬ ‫منك‬ ‫تعل ْ‬ ‫ّمناك‪.‬‬ ‫قل ْ‬ ‫ّدناك‪.‬‬ ‫فمن شابه ظامله‪..‬‬ ‫ما ظلم!‬


‫عودة إىل لبنان‬

‫‪4‬‬ ‫مرزوق الحلبي‬

‫العدد‬

‫‪103‬‬ ‫‪2022 / 2 / 28‬‬ ‫مقاالت‬

‫يف لبنان حكومة وبرملان ورئيس ووزارات‪ ،‬وألقاب تبدأ‬ ‫من سعادة السفري والوزير والرئيس وتنتهي بـ”سامحة‬ ‫الس ّيد”‪ .‬يف لبنان مصارف ومؤسسات ورشكات‬ ‫وعامرات ومشاريع‪ ،‬وسعر للتبادل‪ ،‬ومعدالت للفائدة‪..‬‬ ‫لكن لبنان ليس دولة وإمنا ما تب ّقى منها‪ .‬فالدولة يف‬ ‫أحد تجل ّياتها هي حدود وسيادة وقرار وطني ومرشوع‬ ‫وطني‪ .‬ولبنان سيادات ومشاريع وحدود سائلة‪ .‬لبنان‬ ‫هو صورة عن الشام والعراق وفلسطني؛ الشعوب فيها‬ ‫محكومة بقوة‪ ،‬ال رشعية لها سوى كونها قوة‪ ،‬وتفوق‬ ‫يف قدراتها قدرات الشعوب‪ .‬ومن هنا دأبها عىل‬ ‫مصادرة طموحات هذه الشعوب وحقوقها وأحالمها‪.‬‬ ‫ودأبها عىل قهر الشعوب وتكسري إراداتها وإخضاعها‪.‬‬ ‫اإلقرار بهذه الحقيقة يقودنا إىل التباس يف عالقتنا‬ ‫بالدولة‪ ،‬وبوجودها يف الذهن ّية وعىل األرض‪ .‬فرغم‬ ‫واقع انهيارها ال نزال نتص ّورها ونراهن عىل إمكانية‬ ‫تصح وتستوي‪ .‬ورغم معرفتنا ً‬ ‫مثل أن حزب الله‬ ‫أن ّ‬ ‫هو وكيل لقوة أجنب ّية‪ ،‬ورأس حربة يف مرشوعها‪ ،‬الذي‬ ‫ال عالقة له بلبنان سوى كون لبنان ضحية له ومط ّية‬ ‫يعتليها حتى يصل‪ ،‬فإن القوى السياس ّية والشعب‬ ‫يتعاملون مع هذا الحزب الكارثة عىل أنه العب رشعي‬ ‫ورشيك عىل قدم املساواة‪ .‬يعرفون أنه يقبض عىل‬ ‫روح البلد ويواصلون اللعب معه‪ .‬يعرفون أنه شارك يف‬ ‫تدمري الحارضة السور ّية‪ ،‬ويف التطهري العرقي يف الشام‪،‬‬ ‫ومع هذا فهم يتوصلون معه إىل تفاهامت واتفاقيات‪،‬‬ ‫ويرتكون له معظم أجزاء الكعكة ويكتفون بالفتات‪.‬‬ ‫الجميع يعرفون أنه جعل من لبنان مزرعة للحرس‬ ‫ويترصفون عىل أنه ابن رشعي للبنان‪،‬‬ ‫الثوريّ اإليراين‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ويحل ويربط يف أمر السلم والحرب واالقتصاد واملعابر‬ ‫واملطار‪ ..‬وما إىل ذلك من مفاصل‪.‬‬ ‫ال يأيت األمر من مزاج هذه القوى أو من تخاذل‪ ،‬بل‬ ‫يأيت من مفهوم اإلخضاع الكامن يف صلب القوة ـ‬ ‫قوة الدولة أو الكتلة املهيمنة‪ .‬إخضاع املكان والزمان‬ ‫والناس‪ .‬الدولة قامئة يف أحد تعريفاتها عىل احتكار‬

‫الق ّوة واستعاملها لفرض اإلجراءات العقاب ّية واملقاضاة‪،‬‬ ‫وتسمية الخارجني عىل القانون ومحاكمتهم‪ .‬وألن‬ ‫حزب الله هو الدولة الفعلية يف “الدولة االسمية”‪،‬‬ ‫وألنه السيادة الفعلية داخل “السيادة الشكلية” لدولة‬ ‫لبنان‪ ،‬فهو الذي يقوم بعملية اإلخضاع‪ ،‬لتطال الرشكاء‬ ‫كافة‪ ،‬والناس كافة‪ ..‬والدولة أيضاً! واستعاملها استعامالً‬ ‫غائ ًّيا‪ ،‬وإفراغها من مضمونها الجامع‪ ،‬وإكسابها املعنى‬ ‫الطائفي يف حقبة ما قبل‬ ‫الحرصيّ الذي يح ّول النظام‬ ‫ّ‬ ‫الحرب األهلية إىل منوذج مثا ّيل قياساً مبا هو حاصل‬ ‫اليوم‪ .‬مل تكن الدولة (لبنان) يومها قادرة عىل هذا الكم‬ ‫من قهر املواطنني والناس‪ ،‬وال عىل التنكيل بهم‪ .‬بل‬ ‫بدت واعدة يف اقتصادها وازدهارها وبريوتها‪ ،‬وإن مل‬ ‫تكن مستق ّرة‪.‬‬ ‫إن دخول القوات السور ّية يف العام ‪ 1976‬إىل بريوت‬ ‫ضمن قرار عريبّ‪ -‬كان بداية الخراب الذي ال يزال‬‫يتدحرج ككرة الثلج‪ .‬يومها فقد لبنان ما كان له من‬ ‫زمام أمور كمجتمع ّ‬ ‫تشظى وفق خارطة القوى اإلقليمية‬ ‫وتوازناتها‪ .‬كل فصيل يف الداخل انضوى تحت مركز قوة‬ ‫يف الخارج‪ ،‬فيام حاول الوجود السوريّ يف لبنان فرض‬ ‫هيمنته بالقمع واإلخضاع كقوة احتالل‪ ،‬ونظام خاوة‬ ‫وفساد‪ ،‬ومخابرات تدخل يف خياشيم الناس مبن فيهم‬ ‫النُخب والقيادات‪ .‬وعندما خرج السوريّ أوكلت امله ّمة‬ ‫للبنانيني باالسم‪ ..‬أرادوا الدولة باالسم‪.‬‬

‫ال رهان عىل منظومة دول ّية متصارعة ح ّد الحروب‬ ‫بالوكالة‪ .‬هذا مع ترجيحي أن هذه املنظومة لن تستق ّر‬ ‫يف املدى املنظور‪ ،‬بل ستزيد رصاعاتها‪ .‬والواضح أن‬ ‫هذه املنظومة غري مشغولة بلبنان وشعبه ّإل بقدر‬ ‫ما تتح ّقق فيه مصالحها‪ .‬وتستطيع هذه املنظومة‬ ‫العيش مع الوضع القائم سنوات طويلة أخرى‪ .‬من هنا‬ ‫أه ّمية أن يأخذ اللبنانيون األمور إىل أيديهم الستعادة‬ ‫الدولة والوطن وبنائهام من جديد‪ .‬املقاومة املدنية‬ ‫هو املخرج‪ .‬مقاومة مدنية ال تكتفي بالتظاهر‪ .‬هناك‬ ‫حاجة إىل مامنعة مبعنى العصيان املدين‪ .‬ال أعرف‬ ‫ملاذا يجلس جنبالط وجعجع واملستقبل وغريهم من‬ ‫قوى سياس ّية يف الحكومة‪ .‬هناك مرحلة توجب قول‬ ‫“ال” مد ّوية للمنظومة‪ .‬وهي مرحلة تحتاج إىل تعبئة‬ ‫الطائفي‬ ‫صحيحة‪ ،‬تتجاوز العصب ّيات الطائف ّية والنظام‬ ‫ّ‬ ‫الذي ك ّرسه حزب الله بقوة الحرس الثوريّ اإليراين‬ ‫واملاليل ونفطهم‪.‬‬ ‫يبدو هذا الكالم تنظ ًريا يف ضوء حقيقة أن املقتدرين يف‬ ‫لبنان خرجوا منها وبقي فيها غري القادرين عىل الفرار‬ ‫من أنشوطة حزب الله‪ .‬لكني أحاول أن أجيب عىل‬ ‫سؤال من أين نبدأ؟ هذا عىل فرض أن هناك من ُيريد‬ ‫أن يبدأ لبنانه من جديد‪ .‬هذا يف ّ‬ ‫ظل منظومة دولية‬ ‫تقبل بكيانات هي ّ‬ ‫أقل من دول ُيديرها وكالء تتواصل‬ ‫معهم لقضاء حاجاتها‪.‬‬


‫َمن سيكتب تاريخ ّ‬ ‫الدم السوري؟‬

‫‪5‬‬

‫يوسف صادق‬

‫العدد‬

‫‪103‬‬

‫واليوم ما يجري يف السويداء هو امتحان جديد لكل‬ ‫يرص النظام عىل روايته القدمية بوصم‬ ‫السوريني‪ ،‬حيث ّ‬ ‫كل َمن طالب بالكرامة بالعاملة واإلرهاب والطائفية‪،‬‬ ‫وهي ٌ‬ ‫فرصة لقوى الثورة مبساندة حراك األهايل السلمي‬ ‫يف السويداء‪ّ ،‬‬ ‫عل الثورة تستعيد جذوتها يف النفوس‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫ولعل تسمية جمعة التظاهر “لقاء األهل باألهل”‬ ‫املحتجني واملتظاهرين‪ ،‬تعيد التاريخ إىل‬ ‫وشعارات‬ ‫ّ‬ ‫‪ ،2011‬لتُعاد كتابته يف الساحات ويف الحناجر‪ ،‬بدءاً‬ ‫ثم‬ ‫من الالفتة الكربى “هنا السويداء‪ ..‬هنا سوريا”‪ّ ،‬‬ ‫توجيه التح ّيات للمحافظات السور ّية‪ ،‬وإعالن التضامن‬ ‫مع الصحفي كنان و ّقاف ومأساة الطفل ف ّواز‪ُ ،‬متحدين‬ ‫النظام وكاشفني فساده ونهبه للرثوة الوطنية عىل مدار‬ ‫عقود‪ ،‬منادين بالعدالة والعيش الكريم لكل السوريني‪.‬‬ ‫ويبقى السؤال‪َ :‬من سينصف التاريخ املايض والحارض؟‬ ‫وهل ستنترص رصخات الشتات وأفواه الخيام وصدى‬ ‫السجون عىل أصوات الرصاص والسياط طيلة عقود؟!‬

‫‪2022 / 2 / 28‬‬

‫كتابة التاريخ يعني ضمري األمة‪ ،‬يعني الوفاء لكل‬ ‫إنسان انتمى لهذه األمة بروحه أو بلسانه أو بدمائه‪..‬‬ ‫املسؤولية تقع عىل َمن هو قاد ٌر عىل إيصال صوته‬ ‫للعامل‪ ،‬وعىل وعي َمن يدّعي االنتامء لفكره وبلده‬ ‫برضورة دور اإلعالم يف إيصال الحقائق وكتابتها‪.‬‬ ‫ٌ‬ ‫مسؤولية اضطلع بها ناشطون حقوق ّيون وسياس ّيون‬ ‫وصحف ّيون‪ ،‬رغم خطورتها وتبعاتها‪ ،‬فكانوا نذراً‬ ‫ملستقبل وطن أرادوه‪ ،‬شعارهم الحقيقة أوالً‪ ،‬وسوريا‬ ‫حرة دميقراطية مدنية؛ فيحق ملثل هؤالء االعتزاز مبا‬ ‫قدّم عىل مدى سنوات‪ ،‬من مواكبة األحداث بضمري‬ ‫الصحفي‪ ،‬وقلب الثائر‪.‬‬ ‫ّ‬

‫مقاالت‬

‫قال محمود درويش يف ديوان أحد عرش كوكباً‪:‬‬ ‫“للحقيقة وجهان‪ ..‬والثلج أسود فوق مدينتنا”‪ ،‬أيُّ‬ ‫الحقيقتني سيحفظها التاريخ؟! سحق وقتل وتهجري‬ ‫شعب منذ عام ‪ ،1982‬أم ّأن املنترص سيقلب الحقائق‬ ‫لتكون تاريخه وتاريخنا؟‪..‬‬ ‫عىل مدار األعوام األربعني يلقن النظام األطفال عرب‬ ‫مناهجهم‪ ،‬وعرب مطبوعاته ونرشاته الحزبية‪ ،‬أ ّنه‬ ‫تصدّى وسحق اإلرهابيني يف حامة‪ ،‬ساعده احتكاره‬ ‫لكل السلطات‪ ،‬ومنها سلطة اإلعالم وسلطة التعليم‪،‬‬ ‫وسط تغايض العامل حيناً‪ ،‬أو االستامع لرواي ٍة وحيد ٍة‬ ‫آنذاك‪ ،‬لعدم وجود إعالم حر‪ .‬واآلن يحق ملَن مازال‬ ‫يعيش تش ّوهات املجزرة أن يسأل‪ :‬متى ُينصف التاريخ‬ ‫َمن كانوا وقوداً وحرباً أحمر يف كتابته؟‬ ‫وال تخفى تلك العالقة الجدلية بني اإلعالم وكتابة‬ ‫التاريخ‪ ،‬فكلام كان اإلعالم م َو ّجهاً من سلطة حزب‬ ‫عقائدي أيديولوجي أو سلطة عسكرية أو دينية‪ ،‬كان‬ ‫الهدف هو التأثري والتضليل‪ ،‬حيث تحتكر تلك السلطة‬ ‫الحقيقة التي تريدها لضامن بقائها‪ ،‬وسيكون التاريخ‬ ‫زوراً وبهتاناً‪.‬‬ ‫لهذا فسوريا بحاجة إلعادة كتابة تاريخها منذ احتكار‬ ‫سلطة البعث للدولة عام ‪.1963‬‬ ‫ما نحتاجه حقاً يف زمن الرداءة وق ّوة اإلعالم املتوازية‬ ‫مع التط ّور التكنولوجي‪ ،‬هو الحقيقة اإلعالمية‪ ،‬أي‬ ‫التأثري باملجتمعات املدنية واملحافل الحقوقية العاملية‬ ‫من جهة‪ ،‬ومن جهة أخرى أن نعي ّأن الحقيقة وحدها‬ ‫رسخ هذا الوعي يف عمل‬ ‫ثور ٌة كام قال لينني‪ ،‬وأن ُي ّ‬ ‫املنابر الحرة‪ ،‬ويف الحوار الوطني الجامع‪ ،‬عىل أساس‬ ‫االعرتاف باآلخر والعدالة للجميع‪.‬‬ ‫قد نجد مربرات كثرية لعدم وصول رصخات األمل من‬ ‫تلك املدينة‪ ،‬أو من خلف جدران تدمر أو صيدنايا أو‬ ‫غريها‪ ..‬لكنّ تجارب السوريني منذ عام ‪ 2011‬تشري إىل‬ ‫خفايا ما خلف األكمة؛ فعنجه ّية النظام جعلته غري‬ ‫مبالٍ يف كذبه عىل العامل‪ ،‬وهو يعلم ّأن ّ‬ ‫كل العامل يعلم‬ ‫ترصيحات‬ ‫بحقائق ما جرى‪ .‬بل وسيكتب ‪-‬حسب‬ ‫ٍ‬ ‫لوزارة الرتبية التابعة له‪ -‬تاريخ تصدّيه من جديد‬

‫“للعصابات اإلرهابية واملتآمرين عىل صموده” يف‬ ‫مناهج جديدة يل ّقنها لألجيال القادمة!‬ ‫رصح‬ ‫عىل ماذا يراهن؟ هل انتهت الحرب ‪-‬كام ّ‬ ‫بيدرسون‪ -‬وانترص النظام بسحق وقتل وتهجري شعبه؟‬ ‫معني بذلك‪ ،‬وسط‬ ‫و َمن سيعرتف بانتصاره؟ أم أ ّنه غري ٍّ‬ ‫توازنات القوى العاملية وهيمنة سلطة الق ّوة واملصلحة‬ ‫عىل القرار العاملي‪ .‬وإىل متى ستدوم هذه التوازنات؟‬ ‫نحن بانتظار اتفاق دول القرار العاملي‪.‬‬ ‫لكن من جهة أخرى‪ ،‬هناك إشار ٌة بعثت بها حادثتا‬ ‫الطفلني املغريب ريان‪ ،‬والسوري فواز قطيفان‪ ،‬لتس ّلط‬ ‫الضوء عىل مأساة منس ّية يحاول العامل نسيانها لعجزه‬ ‫أمامها‪.‬‬ ‫العامل عاج ٌز عن ّ‬ ‫حل مأساة النازحني يف الخيام‪ ،‬وإنصاف‬ ‫أرواح األطفال؛ بدءاً من تامر الرشع وحمزة الخطيب‪،‬‬ ‫وصوالً ألطفال الحولة والغوطة‪ ،‬ثم نهلة‪ ،‬وشهد وليس‬ ‫آخرهم فواز‪ ..‬بينام إيالن فقد حظي بتوثيق عدسات‬ ‫ّ‬ ‫املتحض مستعدٌّ لتقديم‬ ‫اإلعالم يف أوروبا‪ .‬لكن العامل‬ ‫املساعدات دون النظر بعيون األطفال السوريني! نعم‪..‬‬ ‫يحقّ لألطفال أن يشعروا بالحقد أو الكراهية أو ما‬ ‫تشاء مشاعرهم!‬ ‫حينام ُنصاب بالخيبة من مارسيل خليفة وفريوز عىل‬ ‫سبيل املثال ورموز تر ّبينا عىل إرثهم اإلنساين حينام‬ ‫يديرون ظهورهم لنا‪ ،‬ونسأل هل سرنيب أطفالنا‬ ‫عىل الحقد والكراهية؟ وليس عىل التسامح والحوار‬ ‫والعدالة! وهل نيس أطفال حامة بعد أربعني حوالً ما‬ ‫عايشوه؟ وهل ينىس األطفال السوريون اآلن‪ ،‬جحود‬ ‫العامل لهم غداً؟ وهل تكفي برامج التأهيل النفيس‬ ‫ّ‬ ‫والسلت الغذائية والهدايا‪ ،‬وتعيد لهم جزءاً من‬ ‫التوازن النفيس؟ أو لحظات من ح ّقهم بالعيش الكريم‪.‬‬ ‫أ ّما عىل الصعيد السيايس فيحق ملَن عاش أو ورث هذه‬ ‫التغريبة أن يسأل‪ :‬هل محاكم كوبلنز وغريها ستعيد‬ ‫لهم حياة أحبابهم وتطفئ النريان التي أكلت ذاكرتهم‪،‬‬ ‫وتنصف السوريني وتاريخهم‪ ،‬عىل أهم ّيتها اآلن يف‬ ‫القضية السورية‪ ،‬وهل يستحق أبناء سوريا هذا املصري‬ ‫وهذا الشتات؟‪ ..‬وهل سيبقى هناك ٌ‬ ‫أمل ليو ّرث؟‬

‫هنا نأيت لدور أطياف املعارضة السياسية‪ ،‬ودورها‬ ‫ومنصاتها‬ ‫اإلعالمي‪ ،‬والتي مل نسمع ّإل عن مؤمتراتها ّ‬ ‫وفنادقها‪ ،‬وضمري األ ّمة السورية يسألها‪ :‬هل‬ ‫استطاعت كتابة تاريخ سوريا منذ أيام الثورة؟‬ ‫وملاذا مل تشغل بال الرأي العام العاملي بقضية‬ ‫فواز قطيفان وغريه‪ ،‬كام فعل اإلعالم املغريب؟‬


‫‪6‬‬

‫جودت سعيد رؤية قريبة موجزة‬ ‫د‪ .‬محمد العمار‬

‫العدد‬

‫‪103‬‬ ‫‪2022 / 2 / 28‬‬ ‫مقاالت‬

‫صاحبت الرجل نيفاً وثالثني عاماً يف الحرض والسفر‪،‬‬ ‫وجلست معه أسبوعياً بصورة منتظمة قرابة الربع‬ ‫قرن‪ ،‬أشهد أنه كان ناصحاً لله ورسوله وكتابه وأمته‪،‬‬ ‫وعامة خلقه‪ ،‬وأنه جعل عمره وجهده وكل ما ميلك‪،‬‬ ‫وقفاً عىل هذه املهمة املقدسة‪.‬‬ ‫كان متواضعاً فيام يلبس عىل أناقة ونظافة‪ً ّ ،‬‬ ‫مقل فيام‬ ‫يأكل‪ ،‬ممسكاً عن الكالم‪ ،‬إال ما تع ّلق بعامل األفكار‪،‬‬ ‫فكان ال ميل منه وال يتعب‪ ،‬صبوراً عىل جليسه مهام‬ ‫أبعد الفهم وأبطأ اإلدراك‪ .‬كانت جلستنا يف بيت أخته‬ ‫السيدة سعدية‪ ،‬فكان إذا ما انتهى حديث الفكر‬ ‫صمت‪ ،‬ورمبا شاركنا بعض األحداث واألخبار‪ ،‬فإذا‬ ‫قضيت انسحب إىل بيته بدراجته القدمية‪ ،‬مل يقبل‬ ‫أن أوصله بسياريت ولو مرة واحدة‪ ،‬عل ًام أن بيته عىل‬ ‫طريقي جيئة وذهاباً‪.‬‬ ‫ال أذكر أين سمعته طيلة هذه املدة يذكر إنساناً بسوء‪،‬‬ ‫أو يتعقب شيخاً أو رجل علم فيام ذهب إليه مام ال‬ ‫يوافق ما يراه‪ ،‬ولقد هممت مرة أن أكتب تعقيباً عىل‬ ‫كتاب نرشه أحد األعالم‪ ،‬فكتبت حوايل األربعني صفحة‬ ‫وعرضتها عليه‪ ،‬فرجاين أال أكتب‪ ،‬ثم أردف إن كان ال‬ ‫بد لك من الكتابة‪ ،‬فلتبحث املوضوع مبعزل عن تعقب‬ ‫الرجل‪ ،‬ثم أضاف‪“ :‬بحسبه أنه قال يف كتابه (كذا‬ ‫وكذا‪ )..‬وهو بهذا قد دفع املوضوع إىل األمام خطوات‪،‬‬ ‫يجب أن نقدر هذا ونحرتمه”‪ ..‬لقد كان هذا ديدنه‬ ‫بصورة دامئة‪ ،‬ال يبخس أحداً شيئاً‪ ،‬يربز اإليجابيات‬ ‫والحسنات ويكرث عليها الثناء‪ ،‬ويتغاىض عن املساوئ‬ ‫والسلبيات ويتجاهلها كأن مل تكن‪.‬‬ ‫وكان عىل املستوى الشخيص‪ ،‬من أكرث من عرفت‬ ‫اهتامماً بالشعائر واملناسك‪ ،‬والتزاماً بالعبادات‪،‬‬ ‫وبأحكام الرشع ومقاصده‪ ،‬لكنه كان يتجنب كل طرق‬ ‫اإلكراه فيام يتعلق بالتزام اآلخرين‪.‬‬ ‫لجودت ميزتان هام عالمتان فارقتان قل نظريهام يف‬ ‫بيئتنا الثقافية‪ ،‬مل أنتبه إليهام كقيمة إال عندما صاحبته‪،‬‬ ‫األوىل هي الدقة يف املواعيد؛ فلم أر مثله يف دقة‬

‫مواعيده وانضباطها‪ ،‬وكذلك مل أر مثله يف اهتاممه‬ ‫بالقراءة وتعلقه بها‪ ،‬وكان يف رأس مقروءاته وأول‬ ‫اهتامماته القرآن الكريم‪.‬‬ ‫أشهد أنه كان مهموماً باإلنسان والقرآن‪ ،‬وأنه ّ‬ ‫سخر‬ ‫كل طاقة ميلكها لخدمة هذا املرشوع؛ فقد كان يؤمن‬ ‫أن اإلنسان نواة مرشوع وجودي كبري‪ ،‬وأن القرآن هو‬ ‫دليل هذا املرشوع‪ ،‬وأنه يفتح أعيننا ويأخذ بأيدينا‬ ‫للتواصل مع كلامت الله يف الوجود‪ ،‬عرب آيات اآلفاق‬ ‫واألنفس‪ ،‬وأن آيات اآلفاق واألنفس هي الدليل عىل‬ ‫الله والربهان عىل توحيده‪ ،‬وأن الله يف الكون يكلمنا‬ ‫بلغة مبارشة هي لغة الخلق‪ ،‬وهي لغة ال ُيساء تأويلها‪،‬‬ ‫ألن إساءة التأويل هنا‪ ،‬تقود إىل تعطيل التسخري يف‬ ‫هذا العامل َّ‬ ‫املسخر‪.‬‬ ‫هذا بعض الحديث عن عامله الشخيص‪ ،‬ومل أكرث ألنني‬ ‫عىل يقني أنه ال يروقه مثل هذا الحديث‪ ،‬وال يرتاح‬ ‫إليه‪ ،‬فقد كان مهموماً مبا هو فوق املجد الشخيص‪،‬‬ ‫وزخرف الحياة الدنيا التي نغرق فيها!‬ ‫أما عن عامله الفكري‪ ،‬الذي هو عامله الحقيقي‪ ،‬الذي‬ ‫عاش فيه وعاش له‪ ،‬يف فكر ميثل الحارض الغائب يف‬ ‫حياتنا؛ فهو غائب باعتبار الثقافة السائدة‪ ،‬خاصة‬ ‫وملح بحسب‬ ‫املنتسبة أو املنسوبة لإلسالم‪ ،‬وهو حارض ّ‬ ‫الحالة اإلنسانية الراهنة‪ ،‬والحاجة املوضوعية له عىل‬ ‫مستوى األمة والعامل‪.‬‬ ‫وقد أردت يف حديثي عن املفاهيم املفتاحية لفكر‬ ‫جودت سعيد‪ ،‬أن ألفت النظر إىل ما يتميز به هذا‬ ‫الفكر من أصالة وراهنية‪ ،‬وما ينطوي عليه من مالمسة‬ ‫كثيفة لهمومنا املعارصة‪ ،‬يف الدين والفكر والسياسة‬ ‫واملجتمع‪.‬‬ ‫ويف هذا التعريف املوجز لعامله الفكري‪ ،‬سنتحدث‬ ‫عن منطلقات التأسيس يف هذا الفكر‪ ،‬الذي سيكون‬ ‫فكر جيل آت‪ ،‬مثلام عرف الناس ابن خلدون ومنجزه‬ ‫يف التاريخ بعد قرون‪ .‬وإن كان لألمة أن تقوم بدور‬ ‫الشهادة عىل األمم‪ ،‬وأنا أؤمن أنه وعد آت‪ ،‬فسيكون‬

‫جهد جودت سعيد املقدمة الكربى لبدء هذا الدور‪،‬‬ ‫مثلام كانت مقدمة ابن خلدون تأسيساً لعلم االجتامع‬ ‫البرشي‪.‬‬ ‫ومنطلقات التأسيس يف هذا الفكر اإلنساين القرآين‬ ‫بحسب تصوري أربعة‪:‬‬ ‫أو ًال ‪ -‬الالعنف‬ ‫إن الالعنف كفكرة ومفهوم‪ ،‬يشكل قطيعة مع السائد‬ ‫يف الفكر اإلسالمي واإلنساين‪ ،‬لكنه بحسب جودت‬ ‫ليس بدعاً؛ بل هو امتداد ملسار طويل ّ‬ ‫خطه األنبياء‬ ‫واآلمرون بالقسط من الناس‪ ،‬بحيث يبدو التاريخ‬ ‫اإلنساين جهاداً دامئاً للخروج من الفساد وسفك الدماء‪،‬‬ ‫إىل عرص السالم العاملي‪ ،‬عرص اإلنسان‪ .‬وبحسب اللغة‬ ‫القرآنية فإن تاريخ البرش انتقال من لحظة “أتجعل فيها‬ ‫من يفسد فيها ويسفك الدماء” إىل لحظة “إين أعلم‬ ‫ما ال تعلمون”‪ ،‬وهذه العبارة بحسب جودت تحدد‬ ‫أفق التطور واتجاهه يف آيات األنفس (عامل األفكار)‪،‬‬ ‫مثلام تحدد آية سورة النحل “والخيل والبغال والحمري‬ ‫لرتكبوها وزينة ويخلق ماالتعلمون” أفق التطور‬ ‫واتجاهه يف آيات اآلفاق (عامل األشياء)‪.‬‬ ‫والالعنف كام يفهمه جودت من التاريخ والقرآن‪،‬‬ ‫مقدمة أولية رضورية لدخول عامل األفكار‪ ،‬الذي يعترب‬ ‫البوابة الوحيدة لدخول عامل اإلميان وعامل اإلنسان؛‬ ‫حيث أن الالعنف أول قوانني الفكر‪ ،‬والفكر هو السبيل‬ ‫األوحد املمكن لإلميان‪ ،‬وال سبيل للعنف يف عامل اإلميان‪،‬‬ ‫وال قيمة له يف عامل اإلنسان‪ ،‬ومن هنا كان “ال إكراه‬ ‫يف الدين” الذي يعني أن اإلكراه وأدواته عاجزة عن‬ ‫الفعل يف حقل اإلميان‪ ،‬ونجاعتها مرتبطة بإلغاء إنسانية‬ ‫اإلنسان‪ ،‬ويف كل مرة نصطحب فيها اإلكراه يف عامل‬ ‫اإلميان واإلنسان‪ ،‬نفسد املسار ونضيع األهداف ونعيق‬ ‫التقدم‪ ،‬ألن اإلميان املستلب بوهم القوة ليس إمياناً‪،‬‬ ‫واإلنسان املستباح بالقوة هو بقايا كائن إنساين‪ ،‬فمن‬ ‫غري طالق بائن للعنف ال ميكن دخول عامل اإلنسان‪،‬‬ ‫حيث العقل أهم امليزات‪ ،‬وبه يفرتق اإلنسان عن‬


‫‪7‬‬

‫العدد‬

‫‪103‬‬

‫ثانياً ‪ -‬العقل‪:‬‬ ‫إن العقل محدّد أسايس من محددات فكر جودت‬ ‫سعيد‪ ،‬ورمبا يكون منشأ اهتاممه بالعقل هو اإلرصار‬ ‫الكبري عىل العقل يف القرآن الكريم‪ ،‬تعزز ذلك آيات‬ ‫اآلفاق واألنفس‪ ،‬التي مرن جودت نفسه عىل استقرائها‬ ‫بطريقة تدعو لإلعجاب‪ ،‬ولذلك نرى مفهوم العقل عند‬ ‫جودت سعيد مفهوماً مفارقاً مختلفاً‪ ،‬مقارنة مبا هو‬ ‫شائع وسائد؛ فالعقل عنده ليس أداة قادرة عىل الكشف‬

‫البقية يف صفحة ‪.... 11‬‬

‫‪2022 / 2 / 28‬‬

‫ممكن‪ ،‬ما مل يستبعد العنف كفلسفة عمل واسرتاتيجية‬ ‫بناء‪ ،‬وإن البحث يصبح ممكناً فقط يف حال استبعاد‬ ‫العنف‪.‬‬ ‫إن التاريخ اإلنساين امليلء باآلالم والدماء‪ ،‬دليل عىل‬ ‫تعرث ّ‬ ‫حل املشكلة اإلنسانية عن طريق القوة‪ ،‬وأنه‬ ‫قد آن األوان لإلنسان العاقل أن يفكر بطريقة للحل‬ ‫تحفظ إنسانيته وتنميها‪ ،‬وال تتجاهلها أو تلغيها؛ ّ‬ ‫فكل‬ ‫عنف يف تصوره هو ارتداد للمرحلة الحيوانية‪ ،‬وإن‬ ‫اإلنسان بحسب ما يقول جودت سعيد‪“ :‬ينقص من‬ ‫عقله بقدر ما ميارس من عنف‪ ،‬ويتلوث إميانه بالوثنية‬ ‫والرشك بقدر ما يبقى يف قلبه من حنني للعنف”‪ ،‬وهو‬ ‫باستبعاده العنف‪ ،‬يكون قد فتح الطريق لتوظيف‬ ‫الدماغ من خالل قيامه بوظيفة العقل‪ ،‬وهنا نكون قد‬ ‫دلفنا للمحدد الثاين يف فكر جودت سعيد‪.‬‬

‫كام يف الفلسفة القدمية‪ ،‬كام أنه ليس إلها ومصدراً‬ ‫للعلم واملعرفة كام يف فلسفة الحداثة‪ ،‬وال رساباً يقود‬ ‫إىل العدم والاليقني كام يف فلسفة ما بعد الحداثة‪ ،‬بل‬ ‫هو وظيفة تتولد عندما يتصل الدماغ اإلنساين بالوجود‬ ‫الخارجي‪ ،‬متاماً مثلام يولد املاء عندما يتحد الهايدروجني‬ ‫باألوكسجني‪ ،‬مع فارق أن املاء وجود مادي والعقل‬ ‫بحسب جودت‪ -‬وجود غري مادي‪ ،‬وليس له ماهية‪.‬‬‫فهو ليس جوهراً‪ ،‬ولذلك لن ميوت كام مات عقل‬ ‫نيتشه عىل يد فوكو وفالسفة ما بعد الحداثة‪ ،‬إنه مهارة‬ ‫ووظيفة توجد بالقوة عند كل مولود يولد بدماغ سليم‪،‬‬ ‫وهذه املهارة والوظيفة قابلة للنمو والزيادة‪ ،‬مبرور‬ ‫الوقت‪ ،‬ولذلك فإن التاريخ مكون جوهري من مكونات‬ ‫العقل الفردي والعقل الجمعي‪ ،‬وهذه الوظيفة ميكن أن‬ ‫ُيعاق منوها ويعرقل اكتسابها‪ ،‬كام ميكن أن تعزز وتنمى‬ ‫بطرق فائقة‪ ،‬من خالل أساليب التنشئة التي متارسها‬ ‫البيئاتالثقافيةاملختلفة‪.‬‬ ‫ويبلغ اإلنسان من اكتامله وتجليه اإلنساين بقدر ما‬ ‫يكون لديه من معقوالت‪ ،‬وهذا يتوقف عىل ما لديه من‬ ‫معرفة مبعقوالت اآلخرين من خالل القراءة‪ ،‬وما عنده‬ ‫من معقوالت من خالل معرفته بالتاريخ واستنطاقه‬ ‫آيات اآلفاق واألنفس‪ .‬فالنظر العقيل املستقل‪ ،‬هو‬

‫مقاالت‬

‫سائر الكائنات‪ ،‬والعنف ليس من قوانينه وال‬ ‫من أدواته‪ ،‬بل للعقل قوانينه الخاصة‪ ،‬التي‬ ‫تجعله عصياً عىل القوة وأدواتها‪ ،‬واإلكراه‬ ‫ووسائله‪“ ،‬ومثلام أن الخشب ال ينقل التيار‬ ‫الكهربايئ‪ ،‬كذلك فإن العقل ال يعمل من خالل‬ ‫القوة” كام كرر جودت مراراً‪ .‬فعامل الالعنف‬ ‫هو عامل العقل وعامل اإلنسان‪ ،‬حيث القطيعة‬ ‫مع (العضل والقوة) الخيارين الوحيدين‬ ‫يف مملكة الحيوان‪ ،‬تتجسد لحظة القطيعة‬ ‫بني العقل والعضل يف القطيعة بني العنف‬ ‫والالعنف‪ ،‬وهي لحظة القطيعة واالفرتاق‬ ‫بني اإلنسان وباقي الحيوانات‪ ،‬كام يبينه علم‬ ‫البيولوجيا‪ ،‬وهي اللحظة التي تتوافق من‬ ‫وجهة نظرنا دينيا مع لحظة “ونفخت فيه من‬ ‫روحي” (سورة الحجر‪ -‬اآلية ‪ ،)29‬وعند هذه‬ ‫اللحظة امتلك اإلنسان القدرة عىل التسخري‬ ‫التي رتبت عليه املسؤولية‪ ،‬وهي ما نعرفه‬ ‫دينياً بلحظة األمانة‪( .‬األمانة بحسب جودت‬ ‫سعيد‪“ :‬إنا عرضنا األمانة عىل السموات‬ ‫واألرض والجبال فأبني أن يحملنها وأشفقن‬ ‫منها‪ ،‬وحملها اإلنسان إنه كان ظلوماً جهوالً”‬ ‫(سورة األحزاب‪ -‬اآلية ‪.))72‬‬ ‫فال ميكن دخول عامل اإلميان‪ ،‬وال عامل اإلنسان‬ ‫من غري استبعاد العنف بصورة نهائية‪ ،‬وما دام‬ ‫هناك تعويل عىل العنف مهام كان ضئي ًال‪،‬‬ ‫فاألوراق قابلة لالختالط‪ ،‬واملواقف ممكنة‬ ‫االلتباس‪ ،‬ولذلك فإن جودت سعيد استهل‬ ‫مرشوعه اإلصالحي بكتاب مذهب ابن آدم‬ ‫األول‪ ،‬فيام يشبه إعالن الرباءة من العنف‬ ‫وأدواته‪.‬‬ ‫لقد أراد أن يقول من خالل ذلك املؤلف‪،‬‬ ‫ومن خالل توقيت إصداره بالنسبة ملرشوعه‬ ‫الفكري‪ ،‬إن بحث املشكلة اإلنسانية غري‬


‫‪96‬‬

‫الشباب السوري‪ :‬جرمية وطن‬

‫‪8‬‬ ‫جمال الشوفي‬

‫العدد‬ ‫‪103‬‬

‫‪2022 / 2 / 28‬‬ ‫مقاالت‬

‫باتت األحالم البسيطة العادية واملألوفة يف كل العصور‬ ‫وكل املجتمعات‪ ،‬باتت رضباً من املستحيل؟‬ ‫حلم االرتباط بالطرف الذي يحبه‪ ،‬حلم بناء األرسة‪،‬‬ ‫حلم إيجاد عمل يثبت من خالله استقالليته وقدرته‬ ‫عىل أن يصبح مسؤوالً ومييض يف مستقبل يليق به‪..‬‬ ‫كلها باتت مستحيلة!‬ ‫نعم هذا مصري شباب وشابات سوريا ومن بقي منهم‬ ‫يف هذه املحرقة السورية املستمرة بأكرث من طريقة‬ ‫لليوم‪ .‬فمن محارق الحصار والقتل الجامعي‪ ،‬التهجري‬ ‫الجامعي‪ ،‬إىل املفقودين واملغيبني‪ ،‬وصوالً اليوم لوأد‬ ‫قدراتهم أمام أعينهم‪ ،‬يف جرمية وطن شاملة‪.‬‬ ‫بعد النرص العسكري املزمع عىل الشعب السوري‪،‬‬ ‫استباحت العصابات املغذاة بكل أساليب االحتيال‬ ‫والجرمية‪ ،‬بتكاليف أمنية رسية وعلنية‪ ،‬عملت بكل‬ ‫صنوف الجرمية يف الظل يف األعوام السابقة‪ ،‬ولكنها‬ ‫أفصحت عن نفسها مبسميات عدة يف السنتني‬ ‫األخريتني بعد توقف معظم العمليات العسكرية‬ ‫عىل غالبية الجغرافية السورية‪ .‬أبرز أعاملها الخطف‬ ‫والسطو‪ ،‬واالتجار باملخدرات‪ ،‬وجرائم القتل الفردية‪،‬‬ ‫وابتزاز الناس يف أموالهم وأرزاقهم بخطف أبنائهم‪.‬‬ ‫بتنا نشهد يومياً جي ًال من الشباب منفلتاً من أي‬ ‫قيمة‪ ،‬ال يردعه يشء عن ارتكاب أي فعل من األفعال‬ ‫املوصوفة بالجرمية املنظمة‪ .‬وبتنا نشهد اغتيال أقرانهم‬ ‫من الشباب السوري بطرق متعددة‪ ،‬منها الرسي‬ ‫والغامض‪ ،‬ومنها ما يكشف عنه علناً‪ ،‬كام حوادث‬ ‫مقتل مجموعة من الشباب السوري يف محافظة‬ ‫السويداء املتتالية‪ ،‬وآخرها مقتل الشاب يوسف مثقال‬ ‫نوفل‪ .‬ويوسف شاب يف مقتبل العمر‪ ،‬قليل الخربة يف‬ ‫الحياة‪ ،‬يعتقد أن أحالمه وقدراته أكرب من واقع متلؤه‬ ‫الجرمية والنفوس األمارة بالسوء‪ ،‬والعقول التي أكلتها‬ ‫املخدرات وكل صنوف الحشيش‪ ،‬ليقيض عىل يدي‬ ‫عصابة تافهة استسهلت الجرمية والرسقة‪ ،‬ووجدت‬ ‫الواقع حولها ال رادع فيه‪ُ .‬ق ِتل يوسف بدم بارد مقابل‬ ‫سيارة والطمع يف مثنها!‬ ‫بني واقع موبوء بكل ما سبق وأحالم جيل عريض‬ ‫من الشباب‪ ،‬تبدأ قصة جديدة للسوريني‪ ،‬بل قصص‬

‫وروايات ال تنتهي‪ ،‬ولن تنتهي ما دام الساهرون عىل‬ ‫خراب البلد ودماره هم مسريو دفته السياسية واألمنية‬ ‫واملالية‪ ،‬ما دام القانون معط ًال إال لخدمة أولئك دون‬ ‫غريهم‪.‬‬ ‫يف حادثة اغتيال يوسف تداعت العديد من الفعاليات‬ ‫املجتمعية واألهلية للمطالبة بشنق القاتل ومن معه‬ ‫مبارشة‪ ،‬كفعل رادع لغريه عن استسهال ارتكاب‬ ‫الجرمية‪ .‬أمام القرص العديل‬ ‫حرض الكثري من أهايل‬ ‫الضحايا السابقني‪ ،‬حرض‬ ‫الشباب املهددون اليوم أو‬ ‫غداً بذات الفعل‪ ،‬حرضت‬ ‫مطالب القصاص العادل‪،‬‬ ‫ومل تحرض العدالة وغ ّيب‬ ‫القانون‪ ،‬وتبخرت األحالم‪.‬‬ ‫وال زال مصري القاتل لليوم‬ ‫رهن التحقيق غري املضمون نتائجه‪ .‬إذ قبل عامني من‬ ‫اليوم‪ ،‬تم اإلفراج عن أحد مرتكبي الجرائم ذاتها بعفو‬ ‫عام بعد ثالث سنوات من حكمه‪ ،‬وحينام اعرتضه‬ ‫أحد أخوة القتيل‪ ،‬كرر جرميته بقتل األخ أيضاً‪ ،‬ولليوم‬ ‫هو طليق وعىل مرمى من الناس! وكأن العفو الرئايس‬ ‫أتاح له َ‬ ‫قتل نفس أخرى بال رادع أو محاسبة‪ ،‬فيام‬ ‫ال زال اآلالف من السوريني يقبعون يف املعتقالت‪،‬‬ ‫ومثلهم اآلالف مهددون باالعتقال‪ ،‬ومن كافة األفرع‬ ‫األمنية‪ ،‬لكتابتهم رأي مخالف‪ ،‬أو مشاركتهم يف اعتصام‬ ‫أو مظاهرة سلمية‪ ،‬أو لقولهم الحق يف زمن االنهيار‬ ‫واغتيال وطن عن عمد‪.‬‬ ‫ال يكفي أن يحلم الشاب بأن يصبح مهندساً أو طبيباً‬ ‫أو كاتباً‪ ،‬عليه أن يعمل ليصل‪ .‬هكذا تفرتض القيم‬ ‫وتعتمد أسس الرتبية‪ ،‬وهذا ال يعني مطلقاً أن مثة‬ ‫مفاضلة بني الحلم والواقع عىل مبدأ أيهام أفضل‪ :‬أن‬ ‫أحلم أو أن أعمل! بل كالهام مكمل لبعض يف صيغة‬ ‫اإلنسان‪ .‬فاإلنسان ليس مجرد أحالم وأماين متاثلها‬ ‫بحدها األعىل امليتافيزيقا‪ ،‬وال هو آلة للعمل مقيدة‬ ‫الرشوط والحدود والقدرة اإلنتاجية‪ .‬وما انفصال هاتني‬ ‫املوضوعتني عن بعضهام سوى حالة استالبية؛ سواء‬

‫للوهم والخيال واإلحباط أو للعمل املادي الشيئي‪ ،‬وكال‬ ‫الحالتني متامثلتني كيفياً مع اختالف نتائجهام‪ .‬وهذا‬ ‫رمبا يكون مدخ ًال عاماً لدراسة حاالت االنفصال عن‬ ‫الواقع التي يعيشها السوريون اليوم‪ ،‬والتي تنتج كل‬ ‫صنوف االستالب املعاشة‪ ،‬سواء كانوا الشباب النقي‬ ‫الباحث عن تحقيق ولو الحد اليسري منها‪ ،‬مثل يوسف‬ ‫الذي أتم خطبته قبل شهر من اغتياله‪ ،‬ويتابع دراسته‬

‫مصدر الصورة من النت‬

‫ليكون شخصاً مستق ًال يفخر بذاته ويحقق لوالديه‬ ‫الطيبني الشعور باألمان عنه وعن مستقبله‪.‬‬ ‫فيام أولئك مرتكبو الجرمية ومستسهلوها‪ ،‬ليسوا سوى‬ ‫أدوات ملشغليهم األعىل منهم سلطة‪ ،‬ومناذج مستلبة‬ ‫لرغبة االغتناء الفجايئ الساحر‪ ،‬سواء كانت قت ًال أو رسقة‬ ‫أو تجارة مخدرات‪..‬‬ ‫محرك الحدث السوري واحد وإن اختلفت أدواته‪.‬‬ ‫الفلتان األمني‪ ،‬فوىض السالح‪ ،‬تعطيل القانون‪ ،‬وتجيريه‬ ‫والدستور معه ملصلحة القلة القليلة من املتنفذين يف‬ ‫حكم البالد‪ ،‬وقد حولوها ملجرمني وضحايا‪ ،‬لعصابات‬ ‫وميليشيات!‬ ‫مل يخطئ ابن خلدون يوماً حني ردد قبل سبعة قرون‬ ‫من اليوم‪“ :‬عندما تنهار الدول يسود الرعب ويلوذ‬ ‫الناس بالطوائف‪ ..‬وتظهر العجائب وتعم اإلشاعة‪..‬‬ ‫ويتحول الصديق إىل عدو والعدو إىل صديق‪ ..‬ويعلو‬ ‫صوت الباطل‪ ..‬ويخفت صوت الحق‪ ..‬وتظهر عىل‬ ‫وتشح‬ ‫السطح وجوه مريبة‪ ..‬وتختفي وجوه مؤنسة‪ّ ..‬‬ ‫األحالم وميوت األمل‪ ..‬وتزداد غربة العاقل وتضيع‬ ‫مالمح الوجوه”‪ ،‬ويا لهول غربتنا‪ ..‬ويا قهر أحالم شبابنا!‬


‫واحد ‪ +‬واحد = أربعة ! (‪)3-3‬‬

‫‪9‬‬

‫عبد اهلل شاهين‬

‫العدد‬

‫‪103‬‬

‫فبالكاد انتقلنا من العمل الفردي الذي‬ ‫اعتدنا عليه طوال حياتنا إىل التجمع يف‬ ‫فرق صغرية والعمل بشكل جامعي‪،‬‬ ‫تجاربنا املتواضعة هذه مل تكن يسرية ومل‬ ‫تنضج بعد‪ ،‬لكنها بال شك طوق نجاتنا‬ ‫الوحيد يف العاصفة التي قلبت كوننا رأساً‬ ‫عىل عقب منذ ربيع ‪.2011‬‬ ‫مثار هذا العمل الجامعي “العضوي”‬ ‫بدأت تظهر يف بعض الفرق واملنظامت‬ ‫األهلية التي نراها اليوم يف املشهد‬ ‫السوري‪ ،‬فرق مثل فريق ملهم التطوعي‬ ‫وغريها استطاعت القيام مبا عجزت عنه‬ ‫دول بأكملها‪ .‬الفضل موصول لكل من‬ ‫آمن بهذا الفريق وهذا النوع من العمل‬ ‫دون شك‪ .‬وما زلنا نشاهد ‪-‬عىل الجانب‬ ‫اآلخر‪ -‬فداحة الفشل يف العمل الجامعي‬ ‫امليكانييك حولنا يف كل مكان‪ .‬من‬ ‫التشكيالت السياسية السورية املعارضة‬ ‫ذات القيمة الصفرية يف أثرها ونتائجها‪،‬‬ ‫إىل اآلالف من املنظامت األهلية والرشكات‬

‫واألعامل التي يقوم بها آالف “األبو‬ ‫حميدات” املتفردون بشكل مكرر وممل‬ ‫و معدوم األثر‪.‬‬ ‫إن العمل الجامعي يصاحبه منو ّأس؛‬ ‫مبعنى أن اجتامع اثنني ال يصدر عنه فقط‬ ‫نتاج عمل اثنني‪ ،‬واجتامع خمسة أشخاص‬ ‫ينتج عنه عمل أكرب بكثري مام قد ينتجه‬ ‫شخص واحد يف خمسة حيوات‪ .‬واحد زائد‬ ‫واحد يساوي أكرث من إثنني‪1+1+1+1+1 .‬‬ ‫= ‪ .16‬قدرتنا عىل التشارك يف الهدف‬ ‫والتكامل يف العمل هي السبيل الوحيد‬ ‫لرأب الصدع الذي خلقته هذه الحرب يف‬ ‫واقعنا التعليمي واالجتامعي واالقتصادي‬ ‫والسيايس‪ .‬علينا أن نراهن عىل أنفسنا وأن‬ ‫نثق بأن “املجازفة” بالوثوق بغرينا ممن‬ ‫يشاركنا حالنا ووجهتنا هي استثامر رابح‪،‬‬ ‫وإن خيبت مراجينا يف بعض األحيان‪ .‬وإىل‬ ‫أن نصل يوماً إىل تجمع مليوين حقيقي‬ ‫يقلب هذا الواقع املؤمل؛ يبقى أملنا “منا‬ ‫وفينا”‪.‬‬

‫‪2022 / 2 / 28‬‬

‫من املشاريع اإلسكانية لفريق ملهم التطوعي يف شامل سوريا‬

‫مقاالت‬

‫قسم عامل االجتامع الفرنيس إمييل دوركهايم البنى االجتامعية إىل‬ ‫ّ‬ ‫ميكانيكية وعضوية‪ .‬األفراد يف املجتمع امليكانييك ‪-‬والذي انترش‬ ‫يف مجتمعات ما قبل الثورة الصناعية‪ -‬لديهم نفس الوظائف‬ ‫واملسؤوليات‪ ،‬مام يشري إىل تقسيم منخفض للعمل‪ .‬فالكل يقوم‬ ‫بذات الوظائف؛ الكل يقوم بالزراعة والرعي‪ ،‬والعجن والخبز‪،‬‬ ‫وتعليم أطفالهم وخياطة الثياب‪ .‬الكل ميكنه نوعاً ما االستغناء‬ ‫عن كل الباقني عن أفراد املجتمع‪ ،‬لكنه يف ذات الوقت محكوم‬ ‫بقوانني تلزمه بالتامهي الكامل واالنصهار يف مجتمعه‪ .‬فال ميكن‬ ‫ألجزاء من ذلك أن تعمل بشكل مستقل إذا تم الحفاظ عىل‬ ‫االنسجام والرتابط الكيل‪ .‬وعىل الفرد يف املجتمع امليكانييك‬ ‫تكرار كافة األعامل التي يقوم بها كل أفراد ذلك املجتمع‪ ،‬وإال‬ ‫فإنه لن يأكل ولن تستمر حياته‪.‬‬ ‫أما الرتابط العضوي فهو قائم عىل التاميز يف الوظائف واملهام‬ ‫بني أفراد املجتمع‪ ،‬فكل فرد يقوم بعمل مختص نيابة عن باقي‬ ‫أعضاء املجتمع‪ ،‬وبالتايل هو جزء من بنية مرتاكبة‪ ،‬ودوره هام يف‬ ‫عمل املجتمع ككل‪ ،‬فإن توقف عن أداء ذلك الدور أثر ذلك عىل‬ ‫باقي املجتمع‪ .‬وبالتايل هذا التخصص يف العمل من جهة أدى إىل‬ ‫رضورة العمل الجامعي من جهة أخرى‪ ،‬متاماً مثل التاميز الذي‬ ‫تقوم به خاليا جسم اإلنسان فتختص كل منها بوظيفة معينة‪،‬‬ ‫بعد أن كانت الكائنات البكتريية “امليكانيكية” وحيدة الخلية‬ ‫تقوم بكامل الوظائف يف تلك الخلية املستقلة‪ .‬يعتمد الفرد يف‬ ‫املجتمع العضوي عىل مجتمعه‪ ،‬عىل الرغم من كونه مستق ًال‪،‬‬ ‫وبالتايل يصبح املجتمع متكام ًال ومتامسكاً‪ ،‬والعمل يف هذا‬ ‫املجتمع جامعي بالرضورة‪ .‬بعكس الفرد يف املجتمع امليكانييك‪،‬‬ ‫الذي يضطر إىل العمل الفردي املتكرر واملضنى‪ ،‬وإىل التامهي‬ ‫الكامل واالنصهار يف ذلك املجتمع من أجل البقاء‪.‬‬ ‫لقد كان املجتمع السوري مجتمعاً ميكانيكياً بحق‪ ،‬حتى جاءتنا‬ ‫أمواج الربيع العريب‪ .‬ظل املجتمع السوري لعقود طويلة مجتمعاً‬ ‫منفرطاً يكاد يخلو من الروابط العملية والتنظيمية بني أفراده‪.‬‬ ‫لقد أدخلتنا الثورة السورية يف تجربة اختربت ُبنَانا االجتامعية‬ ‫وانتخبتها‪ .‬تبني لنا أن أي نواة من العمل املبني عىل التعاون‬ ‫والتكامل هو العمل الذي بوسعه خلق الحلول واملخارج‪ .‬لقد‬ ‫بدأنا ‪-‬وللمرة األوىل‪ -‬من املغامرة يف العمل الجامعي مع بعضنا‪.‬‬ ‫ما زال تحولنا هذا إىل العمل االجتامعي يف أطواره املبكرة؛‬


‫نساء يف ريف حلب‬

‫يعملن يف املبيعات لتحقيق االكتفاء املعيشي‬

‫‪10‬‬ ‫حسين الخطيب‬

‫العدد‬

‫‪103‬‬ ‫‪2022 / 2 / 28‬‬ ‫تقارير‬

‫بدأت كثريات من النساء يف مدن وبلدات ريف‬ ‫حلب الشاميل تعملن يف املشاريع الصغرية‬ ‫واملتناهية الصغر‪ ،‬بغية تحقيق االكتفاء املعييش‬ ‫ألرسهن ومساندة أزواجهن‪ ،‬يف مرصوف املنزل‪،‬‬ ‫رغم منعهن يف وقت سابق يف املناطق الريفية من‬ ‫العمل املهني بشكل نسبي‪ ،‬ما حتم عىل املرأة‬ ‫غالباً أن تكون ربة منزل‪ ،‬إىل جانب العمل ضمن‬ ‫املشاريع الزراعية‪ ،‬واملدارس التعليمية يف حال‬ ‫كانت متعلمة‪.‬‬ ‫ومع لجوء العديد من النساء إىل العمل املهني‬ ‫املتنوع‪ ،‬كالخياطة وصناعة املعجنات والحلويات‬ ‫وبيع املنتجات الغذائية الدوائية وغريها‪ ،‬وجدت‬ ‫سيدات مكا ًنا لهن يف بيع املنتجات ومستحرضات‬ ‫التجميل واأللبسة‪ ،‬عىل مواقع التواصل االجتامعي‪،‬‬ ‫يف خطو ٍة جديدة تقلل من نشاطها يف أوساط‬ ‫املجتمعات املحلية املحافظة لدرجة ما‪.‬‬ ‫تقول السيدة ريم ‪ 35‬عاماً‪ ،‬املقيمة يف مدينة مارع‬ ‫بريف حلب الشاميل إن أرستها “تعيش يف ضائقة‬ ‫مادية سيئة للغاية‪ ،‬بسبب انخفاض دخل زوجها‬ ‫اليومي‪ ،‬البالغ ‪ 40‬لرية تركية ما يعادل الـ ‪ 3‬دوالرات‬ ‫أمريكية‪ ،‬ما مينعه من توفري كامل احتياجات األرسة‬ ‫املكونة من ‪ 7‬أفراد” األمر الذي دفعها إىل البحث‬ ‫عن عمل يعينها عىل مساعدة زوجها يف ظل أزمتهم‬ ‫املعيشية‪.‬‬ ‫وأضافت‪“ :‬بحثت كث ًريا عن عمل يوفر يل مصدر‬ ‫دخل آخر يساند زوجي يف مرصوف املنزل‪ ،‬إال أن‬ ‫ندرة فرص العمل يف املنطقة للجنسني من الرجال‬ ‫والنساء‪ ،‬والتزامايت املنزلية منعاين من مزاولة أي‬ ‫عمل خارج املنزل‪ ،‬لكنه عرض ع ّ‬ ‫يل فرصة عمل‬ ‫يف بيع املنتجات عىل تطبيق واتساب من املنزل‪،‬‬ ‫ساهمت يف إعانة أرسيت يف محنتها‪ ،‬وأصبحت أعمل‬ ‫يف بيع املنتجات كمستحرضات التجميل واأللبسة‪،‬‬ ‫بعد إنشاء غرفة عىل تطبيق واتساب‪ ،‬تضم أكرث‬ ‫من ‪ 150‬سيدة”‪.‬‬ ‫وعن عملها اليومي أوضحت ريم أنها تعرض‬

‫البضائع التي ترسلها الرشكة املتعاونة معها يف‬ ‫تركيا‪ ،‬عىل غرفتها الخاصة بالزبائن‪ ،‬وتنتقل الحقاً‬ ‫إىل جمع الطلبيات منهم‪ ،‬حيث تنقلها إىل الرشكة‬ ‫املوجودة يف األرايض الرتكية لتقوم الحقاً بإرسالها‬ ‫إىل ريف حلب‪.‬‬ ‫وتحقق السيدة من عملها يف هذه املهنة مصدر‬ ‫دخل رديف‪ ،‬من خالل وضع أرباح عىل القطع‬ ‫املباعة‪ ،‬والتي تختلف نسبة الربح فيها من قطعة‬ ‫ألخرى‪ ،‬وتحصل عىل نسبتها من املبيعات بعد‬ ‫الحصول عىل البضائع وتسليمها‪ ،‬وتحصل عىل ‪100‬‬ ‫لرية تركية من كل طلبية‪ ،‬التي تتكرر يف الشهر‬ ‫من ثالث إىل أربع مرات‪ ،‬ما يعني أنها تجني ‪300‬‬ ‫لرية تركية بشكل وسطي (ما يعادل نحو ‪ 22‬دوالر‬ ‫أمرييك)‪.‬‬ ‫ال تختلف قصة السيدة حليمة كوسا‪ 30 ،‬عاماً‪،‬‬ ‫كثرياً عن قصة ريم إال أنها فعلياً كانت أشد قسوة‬ ‫بعد فقدانها لزوجها ومعيل أرستها‪ ،‬قبل عدة‬ ‫سنوات‪ .‬تقول السيدة خالل حديثها ملجلة طلعنا‬ ‫عىل الحرية‪“ :‬تعلمت عملية التواصل مع رشكات‬ ‫املبيعات من خالل صديقتي‪ ،‬فهي تعمل يف هذه‬ ‫املهنة منذ عامني تقريباً‪ ،‬وتبيع األواين املنزلية‬ ‫والهدايا والزينة يف غرفة واتساب خاصة بالزبائن‪،‬‬ ‫ألحقق ما أعيل أرسيت به”‪.‬‬ ‫وأضافت‪“ :‬واجهت العديد من التحديات يف العمل‬ ‫الذي يكون خارج املنزل‪ ،‬بسبب نظرة املجتمع‬ ‫الذي بدأ يلقي التهم ع ّ‬ ‫يل كوين أرملة‪ ،‬لذلك فضلت‬ ‫العمل من املنزل كوين مضطرة إليجاد مصدر دخل‬ ‫يعيل أرسيت املكونة من ‪ 5‬أفراد”‪.‬‬ ‫وأوضحت السيدة أن عملها يف بيع وتسويق‬ ‫املنتجات يعود عليها مبردود مايل جيد‪ ،‬يصل إىل‬ ‫‪ 500‬لرية تركية شهرياً‪ ،‬كونها اكتسبت خربة مميزة‬ ‫يف البيع‪ ،‬ما يعينها عىل تحمل نفقات أرستها يف ظل‬ ‫الظروف املعيشية املرتدية التي تعيشها املنطقة”‪.‬‬ ‫ويحقق عمل النساء يف املبيعات عائد مايل جيد‬ ‫يوفر لهن دخ ًال ميسوراً‪ ،‬لكن يف الوقت نفسه يثري‬

‫غياب الدور القانوين واملؤسسايت املنظم مخاوف‬ ‫النساء من الوقوع يف عمليات االحتيال‪ ،‬لذلك ال‬ ‫بد من توعيتهن يف التخطيط ألعاملهن‪ ،‬إلدارتها‬ ‫والحصول عىل ضامنات تعينهن عىل مزاولة العمل‬ ‫دون الوقوع يف فخ االستغالل‪.‬‬ ‫ولعل من أبرز التحديات التي تواجه السيدات يف‬ ‫العمل يف املبيعات عىل وسائل التواصل االجتامعي‪،‬‬ ‫غياب الضامنات القانونية التي تحفظ حقها يف حال‬ ‫تعرضت لعملية نصب؛ حيث تعرضت عدة نساء‬ ‫لالحتيال أثناء تحويل املال قبل إرسال البضائع‪ ،‬مام‬ ‫وضعهن يف مأزق‪ ،‬يضاف إليه تحديات تتعلق بنوع‬ ‫البضائع التي تختلف بني الصورة املرسلة والواقع‪،‬‬ ‫ما يعرضهن ملشاكل مع الزبائن‪.‬‬ ‫وقالت الناشطة أسامء املحمود ملجلة طلعنا عىل‬ ‫الحرية‪“ :‬املنطقة تفتقر للعديد من الخدمات سوا ًء‬ ‫التسويقية أو القانونية التي تتيح للنساء فرصة‬ ‫مزاولة األعامل بالشكل اآلمن الذي يحفظ لها‬ ‫حقها‪ ،‬ويقلل تعرضها لعمليات النصب واالحتيال”‪.‬‬ ‫وأضافت‪“ :‬يقع عىل عاتق مكاتب املرأة الرتكيز‬ ‫عىل دعم طاقات النساء‪ ،‬وتقديم الرعاية الكاملة‬ ‫لهن يف أكرث املهن املنترشة يف املنطقة‪ ،‬باإلضافة إىل‬ ‫رضورة وجود عقد تعاون بني الطرفني‪ ،‬ما يجعل‬ ‫العمل أكرث أمناً عىل الجهتني‪ ،‬إضافة إىل تكثيف‬ ‫الجهود حتى حصول املرأة عىل دخل ثابت من‬ ‫مرشوعها الصغري‪ ،‬والذي سيسهم يف حل التعقيدات‬ ‫والتحديات التي تواجهها”‪.‬‬ ‫وتواجه النساء يف ريفي حلب‪ ،‬تحديات منوعة‬ ‫تدفعها إىل مزاولة مهن متعددة يف سبيل تحقيق‬ ‫مصدر دخل رديف يعينها عىل تحمل قسوة الحياة‪،‬‬ ‫ولعل من أبزر التحديات التي تعاين منها النساء‪،‬‬ ‫غياب املعيل‪ ،‬وارتفاع متطلبات املعيشة‪ ،‬وارتفاع‬ ‫األسعار‪ ،‬وفقدان الدخل الثابت‪ ،‬ما يدفعهن إىل‬ ‫العمل مندوبات بشكل ميداين أو عرب االنرتنت‪ ،‬يف‬ ‫سبيل تحقيق االكتفاء‪.‬‬


‫‪......‬‬

‫‪11‬‬

‫‪ ....‬تتمة من صفحة ‪7‬‬

‫العدد‬

‫‪2022 / 2 / 28‬‬

‫رابعاً ‪ -‬القرآن‬ ‫يحرض القرآن يف العامل الفكري لجودت سعيد‪،‬‬ ‫كدعوة دامئة للنظر واالنتظار‪ ،‬اللذين هام مدخل‬ ‫عامل العقل وبوابة اكتساب العلم‪ ،‬يحرض القرآن عند‬ ‫جودت سعيد‪ ،‬مستنداً إىل التاريخ‪ ،‬متحرراً من اآلباء‪،‬‬ ‫منفتحاً عىل املستقبل‪ ،‬منهجه العلم‪ ،‬وسبيله العقل‪،‬‬ ‫ودليله العاقبة‪ ،‬أدواته آيات اآلفاق واألنفس‪ ،‬راسخاً‬ ‫كام التاريخ‪ ،‬نامياً كام الحياة‪ ،‬غضاً راهنا كأنه اآلن‬ ‫يتنزل‪ ،‬مدخله العقل وبوابته العلم‪ ،‬يقدمه قانون‬

‫يحرض القرآن يف فكر جودت سعيد كتاباً للحياة‪،‬‬ ‫ينطلق من لحظة يف تاريخ البرش‪ ،‬ويح ّلق مخلداً عرب‬ ‫الزمن‪“ ،‬ال تنقيض عجائبه‪ ،‬وال يخلق عىل كرثة الرد”‪،‬‬ ‫وال تستنفذ خزائن معانيه‪ ،‬يخاطب البرش بعد مليون‬ ‫عام‪ ،‬مثلام خاطبهم قبل ألف عام‪ ،‬ومثلام يخاطبنا‬ ‫اليوم‪ ،‬وكأنه يحايك ما تكن نفوسنا من آمال وما‬ ‫يخالجها من مشاعر‪ ،‬مل يستنفده مفرسو املايض‪ ،‬ولن‬ ‫غاص باملعاين التي‬ ‫يستنفده مفرسو الحارض‪ ،‬بل هو ّ‬ ‫تالمس عقول وآمال وآالم البرش يف كل جيل حتى‬ ‫يرث الله األرض ومن عليها‪.‬‬

‫مقاالت‬

‫ثالثاً ‪ -‬العلم ‪:‬‬ ‫يقول جودت سعيد‪“ :‬معنى العلم بإيجاز شديد‪:‬‬ ‫أن ُ‬ ‫تدخ َل السنة يف العقل‪ ،‬ومبا أن السنة ال تتبدل‬ ‫وال تتحول‪ ،‬فكذلك العلم ال يتبدل وال يتحول‪ ،‬فسنة‬ ‫تكون املاء لها ثبات وعدم تبدل وتح ّول‪ ،‬وكذلك‬ ‫حني تصري ُسنة تك ّون املاء عل ًام بدخولها يف األذهان‪،‬‬ ‫يبقى هذا العلم حام ًال صفة الثبات وعدم التحول‬ ‫والتبدل”‪.‬‬ ‫وهذا التعريف عىل بساطته ال تخفى أصالته‪ ،‬وال‬ ‫تلتبس فرادته‪ ،‬وهو يخرج بالعلم من استخفاف‬ ‫النصوصيني‪ ،‬وضبابية فالسفة العلم‪ ،‬إىل الوضوح الذي‬ ‫يليقبالعلم‪،‬ويعطيالقرآنللعلمقيمةعالية‪.‬ويضعه‬ ‫الذين أوتوا العلم موضع الشاهد العدل‪ .‬وينسجم‬ ‫هذا التعريف للعلم مع تاريخ املعرفة اإلنساين‪،‬‬ ‫وإنجازات العلم وتاريخه‪ ،‬الذي يتقدم باطراد‪ ،‬باتجاه‬ ‫أكرث رسوخاً وضبطاً ووضوحاً‪ ،‬وال يرتدد جودت أبداً يف‬ ‫توسيع مفهوم العلم املنضبط الدقيق ليشمل العلوم‬ ‫اإلنسانية‪ ،‬ويعزو ما يشوب أبحاثها من قصور لتخلف‬ ‫أدواتنا املعرفية‪ ،‬ويرضب لذلك املثل من علوم الحياة‬ ‫فيقول‪“ :‬عندما كانت الجوائح تفتك بالناس ويقف‬ ‫العلامء أمامها حيارى‪ ،‬مل يكن ذلك يعني أبداً أن‬ ‫هذه الجوائح ال تخضع لسنة وقانون‪ ،‬ولكن ذلك كان‬ ‫يعني ‪-‬كام أصبح واضحاً اليوم‪ -‬أننا كنا نجهل السنة‬ ‫والقانون‪ ،‬فجهلنا بالسنة حينها مل يكن يعطينا الحق‬ ‫بنفي السنة والقانون وإنكارهام”‪.‬‬

‫‪103‬‬

‫مستقبل اإلنسان وحقيقته‪ .‬صحيح أن كل الناس‬ ‫لديهم أدمغة متساوية‪ ،‬ولكن ليس كل الناس لديهم‬ ‫عقوالً متساوية‪ ،‬وعندما يتمكن اإلنسان من إقامة‬ ‫عالقة عقلية بالطبيعة والتاريخ‪ ،‬ويقبض عىل السنة‬ ‫حصل العلم‪ ،‬وعندها ندخل يف املحدد‬ ‫يكون قد ّ‬ ‫الفكري الثالث لجودت سعيد‪.‬‬

‫وجودت وإن كان ينطلق يف تقرير السنن األنفسية‬ ‫من إميانه الديني حيث يقول‪“ :‬والله تعاىل حني يذكر‬ ‫السنة يف القرآن الكريم‪ ،‬يذكرها متصلة باملجتمع‬ ‫واألنفس‪ ،‬ال بالطبيعة واآلفاق‪ ،‬والناس ال يعرفون‬ ‫السنة إال يف الطبيعة‪ ،‬وال يعرتفون بها يف األنفس‪،‬‬ ‫ويعتربون عامل األنفس خارج الثبات أو خارج السنة‪،‬‬ ‫وهذا مناقض ملنهج القرآن‪ ،‬بل ومناقض ملناهج‬ ‫املسلمني السابقني‪ ،‬ولقد جاء إىل العامل اإلسالمي قرص‬ ‫معنى العلم عىل اآلفاق من املفهوم الغريب للعلم”‪،‬‬ ‫لكن من غري شك فإن آيات اآلفاق تدعم ذلك‬ ‫وتعززه‪ ،‬وهي سنده يف تقريره هذا التوسيع ملفهوم‬ ‫العلم‪ ،‬فرتاه يقول‪“ :‬وهكذا يف األمور االجتامعية‪،‬‬ ‫فاملجتمع الذي يفقد العدل يفقد االستقرار” ثم‬ ‫يستشهد بقول الرسول‪“ :‬إمنا أهلك من كان قبلكم‬ ‫أنهم كانوا إذا رسق فيهم الرشيف تركوه‪ ،‬وإذا رسق‬ ‫فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد”‪.‬‬ ‫وللعلم بحسب جودت أدلة وبراهني ثالثة هي‪ :‬التنبؤ‬ ‫والتسخري والعاقبة‪ ،‬وهو يعطي للعلم من الصدقية‬ ‫واملوثوقية ما يجعله قادراً عىل ّ‬ ‫حل املشكالت‬ ‫ومجابهة املعضالت‪ ،‬وأن ال ملجأ إال له وال مخرج إال‬ ‫من خالله‪ ،‬ألن بديل العلم هو الظن‪ ،‬والظن أسلوب‬ ‫تدينه آيات الكتاب‪ ،‬وتأباه آيات األنفس‪..‬‬

‫النسخ‪ ،‬الذي يحدد اتجاه الخلق ووجهة الحركة يف‬ ‫الوجود‪ ،‬باتجاه الزيادة واالكتامل “يزيد يف الخلق‬ ‫ما يشاء” (سورة فاطر‪ -‬اآلية ‪ ،)1‬ويحرض التاريخ‬ ‫اإلنساين من خالل القرآن كصريورة دامئة باتجاه الخري‬ ‫واألبقى‪ ،‬وتقدم متصل باتجاه عرص اإلنسان؛ العرص‬ ‫الذي يكف فيه اإلنسان عن الفساد وسفك الدماء‪.‬‬ ‫ويحرض البرش من خالل القرآن مكرمني “ولقد كرمنا‬ ‫بني آدم” (سورة اإلرساء‪ -‬اآلية ‪ )70‬عىل صعيد واحد‬ ‫فجميعهم ٌ‬ ‫“برش م ّمن خلق” (سورة املائدة‪ -‬اآلية‬ ‫‪ )18‬يحرضون بألوانهم واختالفاتهم‪ ،‬ال تفرق بينهم‬ ‫النسك‪ّ ،‬‬ ‫“لكل أ ّمة جعلنا منسكاً هم ناسكوه” (سورة‬ ‫الحج‪ -‬اآلية ‪ ،)67‬وال متايز بينهم الرشائع ٍّ‬ ‫“لكل جعلنا‬ ‫منكم رشع ًة ومنهاجاً” (سورة املائدة‪ -‬اآلية ‪ ،)48‬وال‬ ‫تباعد بينهم العقائد “فالله يحكم بينهم يوم القيامة‬ ‫فيام كانوا فيه يختلفون” (سورة البقرة‪ -‬اآلية ‪.)113‬‬ ‫يحرض البرش وميزتهم اختالفهم‪ ،‬الذي هو دافعهم‬ ‫الستباق الخريات “ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة‬ ‫ولكن ليبلوكم فيام آتاكم فاستبقوا الخريات” (سورة‬ ‫املائدة‪ -‬اآلية ‪ ،)48‬يتفاضلون عند الله بالتقوى‪ ،‬التي‬ ‫ميكن أن نعرفها بأنها السلوك النافع املؤسس عىل‬ ‫العلم واملعرفة‪.‬‬


‫الكاتب واملكان‬

‫‪12‬‬ ‫حسين الضاهر‬

‫العدد‬

‫‪102‬‬ ‫‪2022 / 2 / 28‬‬

‫قد تعترب القراءة؛ وقودًا مثال ًيا لدفع عجلة الكتابة‪،‬‬ ‫وخزا ًنا معرف ًيا ال ميكن االستمرار من دونه‪ ،‬وقد‬ ‫توجد مؤثرات ومحفزات كثرية تساهم يف تفريغ‬ ‫الكاتب لشحناته اإلبداعية‪ ،‬وبالتأكيد تعد البيئة‬ ‫واالحتكاك جز ًءا ال ميكن التغايض عنه هنا؛ فالكاتب‬ ‫ابن بيئته‪ ،‬ومهام حاول اجتياز الواقع والقفز عليه‪،‬‬ ‫بالتحليق يف فضاءات الخيال‪ ،‬ال بد أن تظهر‬ ‫انعكاسات واقعه املعاش بني مفرداته‪.‬‬ ‫وعليه فإن املكان أو البيئة هي إحدى العوامل‬ ‫الرئيسة يف عملية الكتابة‪ ،‬وقد توازي أهميتها‬ ‫أهمية القراءة‪ .‬فإن جئنا ً‬ ‫مثل إىل عوامل الرواية أو‬ ‫القصة‪ ،‬سنجد أن املكان والزمان هام الركيزتان‬ ‫األساسيتان والتي يتمحور حولهام الرسد دامئًا‪ .‬وكام‬ ‫تفرض القراءة سطوتها عىل النص املكتوب‪ ،‬يفرض‬ ‫املكان حضو ًرا قد يغري أدوات وحتى لغة الكاتب‪،‬‬ ‫وذلك من خالل الشحنات التي ُيكسبها املكان‬ ‫للنفس البرشية‪.‬‬ ‫وهنا ً‬ ‫مثل نستطيع االستشهاد بأدب السجون؛‬ ‫حيث تدور الكتابة فيه ضمن أربعة جدران‪ ،‬ومهام‬ ‫حاول األديب السجني تجاوز محنته‪ ،‬ال بد أن تظهر‬ ‫ارتدادات املكان يف سطوره‪ .‬وحتى إن عربنا هذا‬ ‫الشاهد وتوقفنا عند إنسان “كاتب” حر طليق‪،‬‬ ‫سنلمس عىل األقل حضور املكان أو البيئة يف‬ ‫كتاباته‪.‬‬

‫مقاالت‬

‫مدن الشحن‪:‬‬ ‫ونستطيع إطالق صفة “مدن الشحن” عىل تلك‬ ‫األماكن التي يكتسب فيها الكاتب احتكا ًكا وتجار ًبا‬ ‫جديدة تن ّمي لديه عاطفة ما أو تجربة جديدة‪.‬‬ ‫وقد تحمل هذه املدن أو األماكن صفات؛ إيقاع‬ ‫الحياة الرسيع واملتواصل‪ ،‬والتي تكتظ بالوجوه‬ ‫واألصوات‪ ،‬تلك املدن بفنّ عامرتها ومعاملها األثرية‪،‬‬ ‫وحتى بأزقتها وشوارعها الخلفية‪ ،‬بزحامها وهدوء‬ ‫بعض أركانها‪ .‬كل هذا‪ ،‬يغ ّذي مخزون الكاتب‬ ‫و ُيعترب مصدراً يستم ّد منه الحيوية‪ ،‬ويستقي منه‬ ‫الصور واألحداث التي قد تبدو للقارئ يف بعض‬ ‫األحيان خيالية ومستحيلة الحدوث‪ ،‬لكن من‬

‫يتم ّعن جيداً يف تفاصيل الحياة من حوله‪ ،‬يجد‬ ‫ّأن الحكايات التي تحدث خالل مسرية اليوم قد‬ ‫تكون غرائبية وال منطقية لدرج ٍة ّ‬ ‫تتخطى العقلية‬ ‫اإلبداعية مبسافة كبرية‪ .‬لكنها يف النهاية حقيقية‪.‬‬ ‫ومن ناحية أخرى قد تكون األرياف أو األماكن‬ ‫الهادئة‪ ،‬هي بيئة جيدة لبعض الكتّاب واملبدعني‪،‬‬ ‫الكتساب حالة تراكمية إبداعية‪ ،‬وهنا يستقي‬ ‫الكاتب شحناته من التأمل والسكينة والطبيعة‬ ‫املحيطة‪ ،‬وقد ظهرت تأثريات البيئة والطبيعة يف‬ ‫نتاجات إبداعية كثرية‪ ،‬وعىل سبيل املثال؛ شعراء‬ ‫وأدباء األندلس؛ حيث برزت انعكاسات الطبيعة‬ ‫الجميلة يف نتاجهم األديب‪ ،‬بأجمل الصور‪.‬‬ ‫مدن الحرب والكوارث‪:‬‬ ‫وكام تحمل املدن التي تشهد معاناة معينة‪،‬‬ ‫كالحروب والكوارث‪ ،‬طاب ًعا تراكم ًيا‪ ،‬فكثري من‬ ‫اإلبداع يأيت إثر معاناة أو معها‪ .‬فتحرك الراكد داخل‬ ‫الكاتب‪ ،‬وتثري لديه نواح وجدانية‪ ،‬إنسانية‪ ،‬أو حتى‬ ‫عنيفة أحيا ًنا‪.‬‬ ‫ومن املؤكد بأن الثورة السورية‪ ،‬ومن بعدها الحرب‬ ‫التي شنها النظام والقوى العسكرية عىل األرض‬ ‫السورية‪ ،‬هي حافز شهدت بعده الحركة األدبية‬ ‫السورية نقلة نوعية‪ ،‬فباتت نتاجات هذه الثورة ال‬ ‫تحىص وال تعد‪ ،‬يف مجاالت الرواية والشعر واملقال‬ ‫وغريها من الفنون األدبية‪ .‬وقد احتاجت هذه‬ ‫التجارب للظهور مدة أو حالة انتقالية لتستطيع‬ ‫معها تفريغ نتاجها املكتسب من تجربة الحرب‪.‬‬ ‫وهنا يربز دور مدن اللجوء ً‬ ‫أيضا‪ ،‬باإلضافة إىل حالة‬ ‫اللجوء بشكل عام‪ ،‬كالدروب التي سلكها السوري‬ ‫للوصول إىل النجاة‪.‬‬ ‫ويف هذا الشأن ً‬ ‫أيضا‪ ،‬طفت عىل السطح تجارب‬ ‫عدة‪ ،‬تناولت موضوعات اللجوء واملدن الجديدة‪،‬‬ ‫كامدة لكتاباتهم‪ .‬ويف حني تعد هذه التجارب‬ ‫“الخروج من الوطن‪ ،‬حالة اللجوء” مواضيع‬ ‫وجدانية إنسانية‪ ،‬إال أن تناولها ال بد أن يبدأ من‬ ‫املكان‪ ،‬إن كان املكان الذي ُترك‪ ،‬ومكان الوجهة أو‬ ‫الوصول‪ .‬فاملكان هنا يعترب الركيزة األساس واملحور‬ ‫الرئييس يف العملية الكتابية‪.‬‬

‫مدن التفريغ‪:‬‬ ‫وتأخذ هذه األماكن صفة االستقرار النسبي‪ ،‬وشبه‬ ‫الدميومة‪ .‬يكتسب منها الكاتب الشعور ولو جزئ ًيا‬ ‫باالستقرار‪ ،‬فيقوم بتفريغ شحناته الشعورية‪ ،‬بعد‬ ‫التامسه حالة االستقرار التي ُيكسبها له املكان‪.‬‬ ‫وقد تستثنى من هذه األماكن؛ السجون وحاالت‬ ‫االحتجاز القرسي‪ ،‬وعىل الرغم من ذلك فهي تعد‬ ‫أماكن شحن وتفريغ يف الوقت ذاته‪ ،‬يكتسب فيها‬ ‫الكاتب معاناة توقد قريحته‪ ،‬ومتنحه ً‬ ‫أيضا شعو ًرا‬ ‫باملكان ا ُملحتجز فيه‪ .‬فيعمل ضمن الحالتني يف آن‬ ‫واحد‪.‬‬ ‫وتتصف األماكن التي يستطيع الكاتب اإلنجاز‬ ‫فيها “مدن التفريغ” بحالة من الهدوء‪ ،‬يقتات‬ ‫الكاتب فيها عىل ما اكتسبه من معارف وقراءات‪،‬‬ ‫ومشاهدات‪ ،‬وحتى حاالت اإلثارة الوجدانية‬ ‫والعاطفية السابقة‪ .‬ومن الطبيعي أن مخزون كل‬ ‫كاتب سينضب يو ًما طاملا أنه مل يخض غامر تجارب‬ ‫وحاالت جديدة‪ .‬ورمبا سيعيد تكرار نفسه‪ ،‬ومبا‬ ‫لديه من مخزون قديم‪ .‬لذلك ال بد له أن يستلهم‬ ‫تجارب جديدة‪ ،‬من أماكن جديدة‪ ،‬واحتكاك مع‬ ‫شخوص وأحداث‪.‬‬ ‫ويف املحصلة‪ ،‬تأيت بيئة املنشأ‪ ،‬كمكان مؤثر من‬ ‫الدرجة األوىل يف مسرية الكاتب‪ ،‬تصقل شخصه‬ ‫وتجربته‪ ،‬وتبلور أسلوبه‪ ،‬ليأخذ من الذكريات‬ ‫املرتاكمة‪ ،‬مادة دسمة ينرثها عىل موضوعاته‪ ،‬فتبقى‬ ‫طافي ًة عىل سطح مرشوعه األديب‪ ،‬إىل النهاية‪ .‬ومهام‬ ‫حاول الكاتب إخفاء هذا التأثر الذي اكتسبه من‬ ‫بيئة املنشأ‪ ،‬باكتساب تراكامت جديدة من أماكن‬ ‫جديدة‪ ،‬ال بد أن تظهر بيئة املنشأ كهوية شخصية‬ ‫دالة عىل صاحبها‪.‬‬ ‫وأخ ًريا‪ ،‬نستطيع إدراج كل ما ُكتب تحت بند‬ ‫التجارب الشخصية‪ ،‬ومن املؤكد أنها تختلف من‬ ‫شخص إىل آخر ومن بيئة إىل أخرى‪ .‬إال أن اليشء‬ ‫الثابت من كل هذا‪ ،‬هو أن للمكان سطوته عىل‬ ‫العملية الكتابية‪ ،‬سطوة ال ميكن تجاوزها أو‬ ‫التغايض عنها مهام حاول الكاتب الخروج منها‬ ‫والتعاطي مع مخياله اإلبداعي‪.‬‬


‫“أصنام” يف بيت “اخلليفة” !‬ ‫مشاهد مل َ‬ ‫ترو عن ليلة اإلنزال‬

‫‪13‬‬

‫علي الداالتي‬

‫العدد‬

‫‪103‬‬

‫أما الناشط ماجد عبد النور فيقول عن‬ ‫ازدواجيات تنظيم داعش‪“ :‬يكفروننا‬ ‫ويستبيحون دماءنا‪ ،‬ويرون يف قتلنا أوىل‬ ‫األولويات‪ ،‬ثم يختبئون بني خيامنا كالجرذان”!‬ ‫ويف لهجة الساخر املستنكر يكمل كالمه‪..“ :‬يف‬ ‫وقت شدة الربد كان يف منزل “الخليفة” عدة‬ ‫مدافئ‪ ،‬ويف مطبخه ما لذ من الطعام‪ ،‬رغم أنه‬ ‫يعيش يف منطقة متلؤها املخيامت‪ ،‬ويبات أهلها‬ ‫وقد أصابهم الربد والجوع‪ ،‬وكأن الخليفة املزعوم مل‬ ‫يسمع ما روي عن رسول الله صىل الله عليه وسلم‪:‬‬ ‫“ليس املؤمن الذي يشبع وجاره جائع إىل جنبه”‪.‬‬ ‫مشهد الدماء عىل ألعاب األطفال املتناثرة‪ ،‬أو‬ ‫تلك األلعاب امللطخة بالدماء‪ ،‬والتي اخرتقتها‬ ‫الشظايا‪ ،‬تحمل دالالت كبرية بنظر الصحفي‬ ‫فايز الدغيم؛ فهي “ترمز إليديولوجيا التنظيم‪،‬‬ ‫باإلضافة لسياسية التحالف بالقضاء عىل التنظيم؛‬ ‫فكالهام ال يفرقان يف أعاملهم بني مقاتل‬ ‫أو طفل‪ ،‬أو مجرد لعبة أطفال كان يحملها‬ ‫طفل للمرة األخرية قبل أن ُيقتل‪ ،‬أو أن يكرب‬ ‫ويعرف أن والده هو املطلوب األول دولياً”‪.‬‬ ‫ورمبا األغرب هم األطفال الذين تجمهروا حول‬ ‫البيت املستهدف‪ ،‬وبسبب منعهم من دخول‬ ‫البيت مل يشاهدوا األلعاب املرمية باألرض‪،‬‬

‫والتي رمبا مل يحصلوا عىل مثلها منذ سنوات‪،‬‬ ‫ولكنهم وجدوا ألعاباً أخرى‪ ،‬هي عبارة عن‬ ‫املخلفات الحربية لإلنزال‪ ،‬وآثار دماره‪ ،‬وهي‬ ‫“ألعاب” اعتادوا عليها منذ سنوات‪ ،‬ولكن هذه‬ ‫املرة اختلفت الدولة املصنعة؛ فأولئك األطفال‬ ‫تعودوا عىل املخلفات الحربية الروسية‪ ،‬وما‬ ‫خلفه اإلنزال األمرييك هي ألعاباً أقل توفراً مام‬ ‫خلفته الحرب الروسية عليهم منذ سنوات‪.‬‬ ‫وكانت مروحيات تابعة للتحالف الدويل‬ ‫نفذت إنزاال جوياً يف أطمة شاميل إدلب‪ ،‬عىل‬ ‫الحدود السورية الرتكية‪ ،‬بعيد منتصف ليل‬ ‫تحليق‬ ‫الخميس ‪ 2‬شباط‪ /‬فرباير الحايل‪ ،‬وسط‬ ‫ٍ‬ ‫ومسيات حربية أمريكية يف‬ ‫مك ّثف لطائرات‬ ‫ّ‬ ‫سامء املنطقة‪ .‬و ُق ِتل يف العملية التي نفذتها‬ ‫القوات الخاصة األمريكية زعيم تنظيم داعش‬ ‫أبو إبراهيم القريش امللقب بالحاج عبدالله‬ ‫قرداش‪ ،‬و‪ 13‬شخصاً‪ ،‬بينهم أربعة أطفال وثالث‬ ‫نساء‪ ،‬بحسب بيان الدفاع املدين السوري‪.‬‬ ‫وسبق أن سقط عدد من الضحايا املدنيني يف‬ ‫عملياتللتحالفيفشاملغربسوريا‪،‬كانآخرها‬ ‫إصابة ستة أشخاص من عائلة واحدة بجروح يف‬ ‫غارة جوية أمريكية استهدفت شخصاً يف تنظيم‬ ‫القاعدة قرب مدينة إدلب نهاية عام ‪.2021‬‬

‫‪2022 / 2 / 28‬‬

‫البناء الذي استهدفته غارة أمريكية و ُقتل فيه زعيم تنظيم داعش‬

‫تقارير‬

‫بني أشجار الزيتون يف األرايض الزراعية التي يختلط فيها الشجر‬ ‫والخياموالبيوت‪،‬وعىلمقربةمنأكربتجمعللمخيامتيفشامل‬ ‫سوريا‪ ،‬بناء مؤلف من ثالث طوابق تعود ملكيته ملحمد الشيخ‪،‬‬ ‫أحد أهايل بلدة أطمة عىل الحدود السورية الرتكية‪ ،‬والذي قام‬ ‫العام املايض بتأجري الطابق األول الذي له مدخل منفصل لعائلة‪،‬‬ ‫والطابقني الثاين والثالث لعائلة ثانية ليعتاش من اإليجار‪ .‬معظم‬ ‫هذه األبنية بنيت يف سنوات الحرب إليواء أكرب عدد من النازحني‪.‬‬ ‫مل يعلم الشيخ أنه سيخرس منزله بسبب هذا اإليجار؛‬ ‫فكل ما يعرفه أنه أجر املنزل لسائق سيارة لنقل البضائع‪،‬‬ ‫ال عالقة له مبا يجري‪ ،‬فال خطر منه ‪-‬أو عليه‪ -‬قد يصيب‬ ‫املنزل‪ .‬ولكنه ُص ِدم عندما عرف أن أصوات االنفجارات‬ ‫واالشتباكات جميعها كان مصدرها منزله املؤجر‪ ،‬وأن‬ ‫العملية تستهدف القضاء عىل “الخليفة” قائد تنظيم داعش!‬ ‫حرض الشيخ مرسعاً يف صباح ليلة العملية‪ ،‬ليتفقد املبنى‬ ‫واألرضار التي لحقت به‪ .‬عند وصوله رأى أن البناء قد ُد ِّمر‬ ‫طابقه الثالث (امللحق) بشكل شبه كامل‪ ،‬ماعد املطبخ؛‬ ‫كون “القريش” قد فجر نفسه يف ذات الطابق حسب‬ ‫روايات الشهود‪ .‬أما الطابق الثاين فكانت به آثار تخريب‬ ‫وإطالق نار وأغراض مبعرثة يف كل مكان‪ ،‬مع آثار دماء‬ ‫عىل األرض والجدران‪ ،‬وأعرية نارية متناثرة عىل األرض‪.‬‬ ‫ُيكن ملن ينظر لألغراض املبعرثة مالحظة كميات كبرية من‬ ‫األطعمة واألدوية‪ ،‬مع وجود لعب أطفال مبعرثة بني الغرف‪،‬‬ ‫بالرغم من أن التنظيم كان قد منع سابقاً يف مناطق سيطرته‬ ‫أي دمى لها وجوه أو أعني أو جسم برشي‪ ،‬باإلضافة أللعاب‬ ‫األطفال املستوحاة من أشكال الحيوانات! إذ اعترب تلك الدمى‬ ‫أصناماً‪ ،‬وحيازتها تعني العقوبة ألنها شكل من أشكال الوثنية!‬ ‫وعن تلك املفارقة قال الشيخ حسن الدغيم إن التنظيم لديه‬ ‫تربيرات واهية لهذه األمور؛ كاألسباب األمنية واعتبارات خاصة‪،‬‬ ‫وحجج أخرى لخرق القواعد التي وضعها‪ ،‬رغم أن عنارصه‬ ‫كانوا يكفرون غريهم لفعل ذات األمور‪ ،‬أو حتى أقل منها‪.‬‬ ‫وأكد الدغيم أن داعش تنظيم يحمل أفكاراً اختلطت بها أفكار‬ ‫الغلو‪ ،‬وحزب البعث‪ ،‬وهذا قد يكون أحد أسباب املفارقات تلك‪.‬‬ ‫ويتابع أن التنظيم جعل من اإلجرام الصفة الثابتة الوحيدة له؛‬ ‫فعقيدةالتنظيم تستحلالدماءواألموال‪،‬والخطفألخذالفدية‪،‬‬ ‫كام مارس السلب والنهب‪ ،‬ومل يتوقف إجرامه عند دمى األطفال‪..‬‬


‫ّ‬ ‫جدلية اإلنسان واملكان يف رواية‬ ‫ّ‬ ‫األرمنية”‬ ‫“بيت‬

‫‪14‬‬ ‫ياسمين نهار‬

‫العدد‬

‫‪103‬‬ ‫‪2022 / 2 / 28‬‬ ‫ثقافة‬

‫نتع ّلق باألماكن‪ ..‬يفتننا سحرها‪ ..‬نساهم يف‬ ‫تكوينها‪ ،‬لكنّها ُسعان ما تر ّد الجميل وتك ّوننا؛‬ ‫لذلك ال نستغرب وجود بعض مالمحها يف‬ ‫َس َحناتنا‪ ..‬يف طباعنا‪ ..‬يف نربات صوتنا‪..‬‬ ‫نتع ّلق باألماكن‪ ..‬نس ّميها‪ ،‬وحني نس ّميها نؤنسنها‪،‬‬ ‫لتصبح يوماً بعد يوم رشيكة االغرتاب واإلذالل‬ ‫وانجراح ال ّذوات‪.‬‬ ‫الكاتب فيصل أبو سعد يف رواية “بيت األرمنية”‬ ‫القصة‬ ‫مل يجعل املكان أرض ّية تقع فيها أحداث ّ‬ ‫فحسب؛ بل هو ُبعدٌ من أبعاد ال ّذات‪ ،‬ومرآة‬ ‫قصته “نارص”‪.‬‬ ‫تعكس مشاعر بطل ّ‬ ‫والجدير باالنتباه ّأن البيوت يف ال ّرواية تجاوزت‬ ‫األصم‪ ،‬لتصبح كائنات‬ ‫الحيس‬ ‫حدود حضورها‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫إنسان ّية تتم ّيز بالحيو ّية والقدرة عىل التّواصل‬ ‫وإمكان ّية التّأويل‪.‬‬ ‫يحاور نارص البيوت‪ ،‬ميارس تأثريه عليها؛ فرتفع‬ ‫املهم اإلشارة‬ ‫عنها الحجب وتبوح بأرسارها‪ .‬ومن ّ‬ ‫إىل مكان ورد يف ال ّرواية حمل صفة الخوف‬ ‫واإلكراه وال ّرعب‪ ،‬وأبرز ّ‬ ‫الضغط والتّعذيب‬ ‫السجن‪ .‬كم‬ ‫الن ّ‬ ‫ّفيس الذي يتع ّرض له قاطنوه وهو ّ‬ ‫وآهات ورصخات‬ ‫السجن من دماء‬ ‫ٍ‬ ‫عىل جدران ّ‬ ‫نجح نارص يف اكتشافها واإلصغاء إليها حني اعتقل‬ ‫فيقول‪“ :‬رموين يف ّ‬ ‫والصقيع وغادروا‪،‬‬ ‫الظالم ّ‬ ‫الصمت سوى نفيس‪،‬‬ ‫شهران وال رفيق يل يف ّ‬ ‫لذلك رحت أحادثها‪ ،‬ورحت وإ ّياها نك ّلم حجارة‬ ‫الجدران املتآكلة‪ ،‬بيدي أقرأ عليها حروف العذاب‬ ‫ال بعيني‪ .‬وراحت بدورها تخربين ّ‬ ‫بكل ما لديها‪.‬‬ ‫كم من ي ٍد خرمشت صمت الحجارة‪ ،‬كم من دماء‬ ‫سالت عليها‪ ،‬كم من اآلهات خ ّبأت يف شقوقها‪،‬‬ ‫يا إلهي‪ ..‬وكم من اآلهات أطلقت‪ ..‬نعم كانت‬ ‫الصرب‪ ،‬إال‬ ‫تحادثهم‪ ،‬تتعاطف معهم‪ ،‬تح ّثهم عىل ّ‬ ‫أ ّنهم ما كانوا ليسمعوها‪ ،‬أنا أسمعها اآلن‪ ،‬أسمعها‬ ‫ّ‬ ‫بكل وضوح” ص‪.129‬‬

‫بعد تلك التّجربة القاسية كان عىل نارص أن يكمل‬ ‫حياته من جديد‪ ،‬ويتابع دراسته يف كل ّية الفنون‬ ‫الجميلة‪ ،‬لكنّه يتفاجأ بفصله من الكل ّية‪ ،‬وأثناء‬ ‫استكامل أوراق التّسجيل يف كل ّية أخرى ميسكون‬ ‫به ويرسلونه إىل معسكر للتدريب أل ّنه متخ ّلف‬ ‫عن الخدمة اإللزام ّية‪.‬‬ ‫يتع ّرض نارص ملحاكمة عسكر ّية أثناء خدمته‬ ‫اإللزام ّية أل ّنه دافع عن الجنود وطالب بأبسط‬ ‫حقوقهم‪ .‬يف تلك األثناء يزوره ابن خاله أسامة‬ ‫وهو ضابط تزوج أخته منرية‪ -‬ويطلب منه أن‬‫يتصنّع الجنون لينج َو من التّهم ا ُمللصقة به‪.‬‬ ‫الصحراويّ بعد‬ ‫السجن ّ‬ ‫هكذا يخرج نارص من ّ‬ ‫يتم خاللها عرضه عىل لجنّة طب ّية‪.‬‬ ‫تسعة أشهر‪ّ ،‬‬ ‫هنا يحقّ لنا أن نتساءل‪ :‬هل عىل اإلنسان أن‬ ‫يتصنّع ُ‬ ‫الخبل أو أن يكون مجنوناً فع ًال يف هذه‬ ‫البالد لينج َو من تبعات مواقفه وآرائه؟!‬ ‫والحقيقة ّأن نارصاً منذ أن عاد إىل مدينته “زارة”‬ ‫السري يف شوارعها‪،‬‬ ‫بعد تجربتي سجن أدمن ّ‬ ‫والوقوف عند تفاصيل أمكنتها والتقاطها‪ ،‬لعلهاّ‬ ‫تبوح مبداخلها‪ ،‬وتكشف أرسارها‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫كل البيوت التي أراد نارص أن يحادثها استجابت‬ ‫له‪ ،‬حاورته‪ ،‬باستثناء بيت األرمنية؛ استعىص عىل‬ ‫نارص ومل يبح بأرساره ّإل بعد محاوالت حثيثة‪.‬‬ ‫“بيت األرمنية” هو عنوان الرواية‪ ،‬ونقطة االتصال‬ ‫شك ّأن ّ‬ ‫األوىل بني القارئ وال ّرواية‪ ،‬وال ّ‬ ‫فك رموزه‬ ‫السد‪“ .‬بيت األرمنية”‬ ‫من شأنه توضيح دالالت ّ‬ ‫هو بيت فتاة اسمها “ديكرانة” نجت من مذابح‬ ‫األرمن الذين استُه ِدفوا بشكل ممنهج بالقتل‬ ‫واالعتقال والتّعذيب والتّهجري بني عامي ‪1919-‬‬ ‫‪ ،1920‬ومن مل ُيقتَل يف املذابح منهم مات جوعاً‬ ‫السورية‪.‬‬ ‫وعطشاً أثناء ترحيلهم إىل ّ‬ ‫الصحراء ّ‬ ‫بعد أن تزوجت “ديكرانة” من “رميون” وقع‬ ‫اختيارها عىل “زارة” لتصبح وطناً بدي ًال عن‬

‫الوطن األص ّ‬ ‫تتأصل فيه ه ّويتها‪ ،‬ومتتد ّبأرضه‬ ‫يل ّ‬ ‫جذورها‪.‬‬ ‫بلعبة فن ّية متقنة جعل الكاتب بيت األرمنية‬ ‫يبوح لنارص بأرساره دفعة واحدة‪ ،‬بعد أن‬ ‫أمسك نارص ّ‬ ‫بكل الخيوط؛ بدءاً من كالم أخته‬ ‫منرية ‪-‬التي ع ّلمته استنطاق البيوت‪ -‬عن صور‬ ‫وذكريات غريبة‪ ،‬وانتهاء مبا أبان له البيت من‬ ‫الحقائق املتوافقة مع رؤاه التي كانت تغ ّذيها‬ ‫أحاديث منرية‪.‬‬ ‫والحاصل ّأن “ديكرانة” التي قتلها عسكريّ‬ ‫استأجر القبو يف منزلها‪ ،‬هي “منرية” أخت نارص‬ ‫يف هذا الجيل‪ .‬وهنا ّ‬ ‫وظف الكاتب فكرة التّق ّمص‬ ‫يف روايته؛ وتعني انتقال ال ّروح من جسد إىل‬ ‫جسد بعد املوت‪.‬‬ ‫والب ّد من اإلشارة هنا إىل ّأن توظيف تجربة‬ ‫التّق ّمص فن ّياً يشري إىل التّجدّد والوالدة الدّامئة‪،‬‬ ‫لكنّ الكاتب ح ّملها ُبعداً جديداً هو انتقال مآيس‬ ‫القتل والتّهجري من بالد إىل بالد ومن شعب إىل‬ ‫شعب‪.‬‬ ‫بهذا املعنى تكون مأساة األرمنية قناعاً للأمساة‬ ‫السورية‪ ،‬وما تع ّرض له ّ‬ ‫السوري من‬ ‫الشعب ّ‬ ‫ّ‬ ‫تعذيب واعتقال وإبادة وتهجري‪..‬‬ ‫غري ّأن ما ينبغي ّأل يفوتنا هو الوقوف عند‬ ‫صورة املرأة يف ال ّرواية‪ ،‬والتي مل تخرج عن صورة‬ ‫املرأة املرتهنة للمجتمع ال ّذكوريّ ‪ ،‬ودليلنا عىل‬ ‫ذلك والدة نارص‪ ،‬التي عانت من وصاية وجشع‬ ‫اإلخوة‪ ،‬وحرمان التّعليم؛ ذلك ّأن والدها كام ورد‬ ‫عىل لسان نارص “أخرجها من املدرسة لتحلب‬ ‫البقرة‪ ،‬منعها من القراءة كيال تفسد كبنات‬ ‫ثم سارع لتزويجها‪ ،‬ال خشية إمالق وفقر‪،‬‬ ‫جيلها‪ّ ،‬‬ ‫وال خوفاً عليها أن تبقى مثل أختها الكربى ندبة‬ ‫يف وجهه‪ ،‬وال طمعاً برثوة أيب وجاهه‪ ،‬زوجها فقط‬ ‫أل ّنه اكتشف اهتاممها بأمر خطري أطار عقله من‬


‫‪.....‬‬

‫العدد‬

‫‪103‬‬ ‫‪2022 / 2 / 28‬‬

‫ّ‬ ‫املتقطع مل ُيظهر شخص ّية‬ ‫ّمني‬ ‫والجدير باالنتباه ّأن النّسق الز ّ‬ ‫“نارص” ظهوراً متنامياً ومتامسكاً‪ ،‬وهنا يأيت دور املتلقي ليعيد‬ ‫صياغة ّ‬ ‫الشخص ّية يف وعيه بعد االنتهاء من قراءة ال ّرواية‪،‬‬ ‫وهذا يحتاج إىل قارئ قادر عىل اإلمساك بالخيط ال ّرفيع الذي‬ ‫يربط ما بني األحداث‪ ،‬وإعادة ترتيب الزّمن‪.‬‬ ‫الصور‬ ‫املهم اإلشارة يف هذا املجال إىل ّأن تقطيع ّ‬ ‫ومن ّ‬ ‫السد ّية وتركيبها وفق تزامن جديد دليل عىل إفادة الكاتب‬ ‫ّ‬ ‫السينام ّيئ‪ ،‬والس ّيام حني استخدم تقن ّية‬ ‫من تقنيات الفنّ ّ‬ ‫السد‪،‬‬ ‫االسرتجاع الفن ّ​ّي (الخطف خلفاً) التي كرست رتابة ّ‬ ‫وأضاءت ّ‬ ‫الشخص ّية من الدّاخل‪ ،‬وب ّينت آثار املايض يف تكوين‬ ‫السد ّية وتركيبها)‪.‬‬ ‫حارضها‪ ،‬وتقنية املونتاج (تأليف املشاهد ّ‬ ‫ومن ّ‬ ‫اللفت للنّظر ّأن لغة الكاتب امتازت ّ‬ ‫بالشاعر ّية‪،‬‬ ‫والس ّيام حني يتع ّلق األمر بوصف املكان ودليلنا عىل ذلك‪:‬‬ ‫“زارة؟!! هي نقش الزّمان عىل قميص الحجر‪ ..‬هي شال من‬ ‫ملقى بإهامل فوق بساط من العشب‪ .‬هي‬ ‫ضباب سامويّ ‪ً ،‬‬ ‫ٍ‬ ‫ٌ‬ ‫مكلوخ من شجرة النّار‪ ،‬ور ّبة حجر ّية هي‪ ،‬تتمدّد عند‬ ‫غصنٌ‬ ‫سفح أغرب جبل يف الدّنيا‪ ،‬فم ّرة ّ‬ ‫كل ألف عام‪ ،‬يلتقي باطن‬ ‫األرض بظاهرها‪ ،‬ميسح بال ّلظى وجوه الخاليا‪ ،‬وتغور الكائنات‬ ‫جميعها يف ّ‬ ‫تصحح‬ ‫الطمي‪ ،‬كأ ّنه مينح الحياة فرصة يك ّ‬ ‫أخطاءها” ص‪.22‬‬ ‫وليس هذا فحسب بل زاوج الكاتب بني الفصحى والعام ّية‬ ‫ليربز تفاوت وعي ّ‬ ‫االجتامعي‬ ‫الشخصيات‪ ،‬وتن ّوع الخطاب‬ ‫ّ‬ ‫السد ّإل صورة لغو ّية للواقع وما فيه من‬ ‫وال ّثقا ّيف لديها‪ .‬وهل ّ‬ ‫عالقات إنسان ّية‪ -‬اجتامع ّية‪ -‬ثقاف ّية‪ -‬سياس ّية‪..‬‬ ‫وخالصة القول‪ :‬عىل ال ّرغم من حضور املكان الجميل‬ ‫ّ‬ ‫والطاغي عىل امتداد ال ّرواية‪ّ ،‬إل ّأن ال ّرواية رواية اإلنسان وما‬ ‫وأوجاع؛ ذلك ّأن‬ ‫ذكريات وأرسا ٍر‬ ‫اختزن يف تلك األمكنة من‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫الفضاء ال ّروا ّيئ أكرث اتساعاً من أن ُيحدّد بالبيوت أو الشوارع‬ ‫الصغر‪،‬‬ ‫أو األمكنة أو األثاث‪ ..‬هو فضاء الذات املقموعة منذ ّ‬ ‫السبب‬ ‫فضاء الهو ّية ا ُملجربة عىل االقتالع من جذورها‪ ،‬لهذا ّ‬ ‫ا ّتخذت ال ّرواية شكل البناء الدّائريّ الذي يشبه الحلقة‬ ‫فكانت نهاية ال ّرواية النّقطة التي بدأت بها‪ ،‬فليس عجيباً أن‬ ‫يدور الجميع يف حلقة ُمف َرغة يف بالد ُت َك ُّم فيها األفواه‪ ،‬و ُتق َمع‬ ‫ّ‬ ‫كل صبوة لالنعتاق‪.‬‬ ‫هكذا نرى ّأن رواية “بيت األرمنية” من ال ّروايات التي تؤ ّكد‬ ‫قول هيجل‪“ :‬ال ّرواية تص ّور التناقض القائم بني اإلنسان‬ ‫والعامل الذي يعيش فيه‪ ،‬واغرتابه عنه يف املجتمع الحديث”‪.‬‬

‫ثقافة‬

‫مح ّله‪ ،‬اكتشف أ ّنها ترسم”! ص‪ .58‬وليست ابنتها منرية أوفر ّ‬ ‫حظاً من أ ّمها؛ فقد‬ ‫أخرجوها من املدرسة‪ ،‬وز ّوجوها ابن خالها ّ‬ ‫الضابط‪ ،‬وهي من كانت تكره العسكر‬ ‫ولباسهم‪.‬‬ ‫قسم ال ّرواية إىل كالم مكتوب ّ‬ ‫بخط صغري‪ ،‬هو عبارة عن‬ ‫ومن املالحظ ّأن الكاتب ّ‬ ‫ذكريات أوردتها شخص ّية “نارص”‪ّ ،‬‬ ‫غطى نارص من خاللها حوادث تعود إىل الزّمن‬ ‫املايض القريب واملايض البعيد الذي قد يرجع إىل سنوات ّ‬ ‫الطفولة‪ .‬أ ّما الكالم‬ ‫املكتوب بخط أكرب يشري إىل أحداث وقعت يف الزّمن الحارض‪ ،‬وردت عىل لسان‬ ‫يوضح مواقف ّ‬ ‫السارد الذي كان ّ‬ ‫الشخص ّيات‬ ‫“نارص”‪ ،‬باإلضافة إىل كالم ال ّراوي ّ‬ ‫السد‬ ‫ويفس األحداث ويع ّلق عليها‪ ،‬وميكن القول ّإن أحادية ال ّراوي هيمنت عىل ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫وصبغته بأسلوب املؤلف‪.‬‬ ‫غري ّأن ما ينبغي ّأل يفوتنا هو الحديث عن تعامل الكاتب مع الزّمن وما فيه من‬ ‫ّ‬ ‫املتقطع املتناوب بني زمن الحكاية‬ ‫ّمني‬ ‫مغامرة وتجريب‪ ،‬حني استخدم النّسق الز ّ‬ ‫ال ّراهن والزّمن املايض؛ وقد استم ّر التّناوب بني الزّمنني إىل نهاية ال ّرواية‪ ،‬وساهم‬ ‫بدوره يف تقليص املسافة بني مايض ّ‬ ‫الشخص ّية وحارضها‪.‬‬

‫‪15‬‬



Turn static files into dynamic content formats.

Create a flipbook
Issuu converts static files into: digital portfolios, online yearbooks, online catalogs, digital photo albums and more. Sign up and create your flipbook.