حرية ،كرامة ،مواطنة
العدد
103 2022 / 2 / 28
مجلة شهرية ،سياسية ،ثقافية ،مستقلة
“حنن وحدنا ..القوى العظمى تراقب من بعيد”
2 نصار افتتاحية العدد بقلم أسامة ّ
العدد
103 2022 / 2 / 28
لنتجاوز االختالفات يف تحليالت األحقية يف حرب روسيا البوتينية عىل أوكرانيا ..يبدو متايز السوريني األسايس واضحاً؛ جمهور الثورة ض ّد روسيا ومع أوكرانيا ،وقد كانوا كذلك أثناء الثورة األوكرانية يف 2014والتي كان اسمها “ثورة الحرية والكرامة” أيضاً .فيام يقف جمهور النظام األسدي ض ّد “الغرب النازي” وض ّد “سياسة القطب األوحد”.. يف هذه الضفة ُيرفع العلم األوكراين األزرق واألصفر إىل جانب علم الثورة ،ويف تلك ُترفع صور “أبو عيل بوتني” مع صور “أبو حافظ” حليفه والناجي بفضل مساندة األول الحاسمة ،وال تستبعد أن ترى بجانب مبج ًال فوق الرؤوس! الصورتني بسطاراً عسكرياً ّ االنحياز مع املستضعف خيار بسيط وال يحتاج إلحاطة معرفية وكثري من التفاصيل ،يكفيه فقط ضمري حي .لكن رغم ذلك ،من الصعب أن تحرض املوضوعية يف االصطفاف ،خاصة يف حالتنا؛ فكيف نتكلم عن اإلمربيالية الغربية وتاريخ أمريكا الدموي ،أو نتفهم متلمل الروس من انقالب الغرب عىل اتفاقيات -معلنة وغري معلنة -حول توازن القوى واحرتام األمن القومي والتوازن العاملي ..ومازال دمنا املسفوك ساخناً من
اإلجرام البوتيني؟ وكيف ميكننا كذلك أن نستمع بعد اآلن لتبجح الغرب بحقوق اإلنسان ونرش الدميقراطية؟ ومزاعم “أصدقاء الشعب السوري” الذين دعموا السوريني بـ”األسلحة غري الفتاكة” بالتقطري ،بينام وصلت مضادات الطائرات للجيش األوكراين مبارشة ،وفتح باب تطوع املقاتلني من دول أوربية ملؤازرة الجيش األوكراين ..وخطابات مرحبة بالالجئني األوكرانيني الهاربني من الحرب.. ّ من املؤسف أيضاً أنه خالل إرهاصات الحرب عىل أوكرانيا ،تسمع تربيرات كثرية ألطرافها. تربيرات وذرائع عن كل يشء يتعلق باالقتصاد وخطوط الغاز ،ونظم بنكية ،ومايض السوفييت وخذالن الغربيني وكذبهم ..عن التاريخ، والحساسية الجغرافية ..وعن وعن ..بحيث يبدو األوكرانيون أنفسهم طرفاً جانبياً يف املعادالت.. نتكلم عن 40مليون نسمة ،أوربيني “بيض” “ليسوا سوريون انتخبوا قيادتهم دميقراطياً! يف خطابه املؤثر عشية شنّ الحرب عىل بلده، قال الرئيس األوكراين“ :نحن وحدنا ..القوى العظمى تراقب من بعيد” ،ورغم نسبية هذه الـ”وحدنا” أمام وحدة شعوب منطقتنا املنكوبة، بدا الرئيس األوكراين مثل ضيف السكتش
www.freedomraise.net
افتتاحية
املقاالت املنشورة تعرب عن آراء أصحابها أوالً وال تعرب بالرضورة عن آراء هيئة التحرير املجلة غري ملزمة بنرش كل ما يردها من مواد
شهرية ثقافية ،اجتامعية ،سياسية، تعنى بالشأن السوري املدير اإلداري معتصم أبو الشامات
الغالف سمري خلييل
الكوميدي من مسلسل األطفال الشهري “شارع السمسم” ،الضيف كان عاملاً ،بحث ودرس حتى وصل الخرتاع أطلق عليه اسم “حاميات األرجل” ثم يكتشف أن كل الناس يعرفون الجوارب قبل “اخرتاعه” بسنوات طويلة ..فقبل خذالن األوكرانيني ،األمريكان والغرب تركوا األكراد للريح بعد وعود وأماين ،وكذلك خذلوا األفغان والباكستانيني واملرصيني ..وقامئة طويلة من املرتوكني ملصريهم أمام نذالة الغرب الدميقراطي صاحب رشعة حقوق اإلنسان .ال داعي الستحضار املثال السوري ،أو الهندي األحمر! لو نجح الروس بإخضاع أوكرانيا ستعزز رشيعة الغاب -املوجودة أص ًال -بأن القوي يفرض احرتامه ،وإن افتقر لعدالة املطلب .وحتى لو تجاوزت أوكرانيا املحنة أو لو صمدت حيناً وحققت شيئاً ض ّد الروس ،فستصل رسالة مكررة للشباب يف بالدنا هي استمرار لضخ محفزات التطرف والعنف؛ فال يشء يحمي بلدك وأهلك من بطش الجبارين ،ال الدكتاتورية بأجهزة مخابراتها وعسكرها ،وال الدميقراطية بربملانها وصحافتها الحرة ،وإنسانيتك مسألة نسبية يف حسابات عنرصيني ،يريدون تعليمك التحرض.
تفاعل معنا عرب صفحاتنا عىل اإلنرتنت facebook.com/rising4freedom
نصار رئيس التحرير أسامة ّ
twitter.com/freedomraise
نائب رئيس التحرير ليىل الصفدي
freedomraise@gmail.com
كاريكاتري سمري خلييل /هاين ع ّباس
أمن رقمي ومحاسبة وائل موىس
زمالء مختطفون يف سوريا رزان زيتونة -ناظم حامدي
3
العدد
103 2022 / 2 / 28
عدوى *
* قصيدة من مخطوط ديوان الزميل الشاعر ناظم الحامدي ،املختطف منذ كانون األول/ ديسمرب 2013يف الغوطة الرشقية.
كاريكاتري
من قسوة آالمنا َ منك تعل ْ ّمناك. قل ْ ّدناك. فمن شابه ظامله.. ما ظلم!
عودة إىل لبنان
4 مرزوق الحلبي
العدد
103 2022 / 2 / 28 مقاالت
يف لبنان حكومة وبرملان ورئيس ووزارات ،وألقاب تبدأ من سعادة السفري والوزير والرئيس وتنتهي بـ”سامحة الس ّيد” .يف لبنان مصارف ومؤسسات ورشكات وعامرات ومشاريع ،وسعر للتبادل ،ومعدالت للفائدة.. لكن لبنان ليس دولة وإمنا ما تب ّقى منها .فالدولة يف أحد تجل ّياتها هي حدود وسيادة وقرار وطني ومرشوع وطني .ولبنان سيادات ومشاريع وحدود سائلة .لبنان هو صورة عن الشام والعراق وفلسطني؛ الشعوب فيها محكومة بقوة ،ال رشعية لها سوى كونها قوة ،وتفوق يف قدراتها قدرات الشعوب .ومن هنا دأبها عىل مصادرة طموحات هذه الشعوب وحقوقها وأحالمها. ودأبها عىل قهر الشعوب وتكسري إراداتها وإخضاعها. اإلقرار بهذه الحقيقة يقودنا إىل التباس يف عالقتنا بالدولة ،وبوجودها يف الذهن ّية وعىل األرض .فرغم واقع انهيارها ال نزال نتص ّورها ونراهن عىل إمكانية تصح وتستوي .ورغم معرفتنا ً مثل أن حزب الله أن ّ هو وكيل لقوة أجنب ّية ،ورأس حربة يف مرشوعها ،الذي ال عالقة له بلبنان سوى كون لبنان ضحية له ومط ّية يعتليها حتى يصل ،فإن القوى السياس ّية والشعب يتعاملون مع هذا الحزب الكارثة عىل أنه العب رشعي ورشيك عىل قدم املساواة .يعرفون أنه يقبض عىل روح البلد ويواصلون اللعب معه .يعرفون أنه شارك يف تدمري الحارضة السور ّية ،ويف التطهري العرقي يف الشام، ومع هذا فهم يتوصلون معه إىل تفاهامت واتفاقيات، ويرتكون له معظم أجزاء الكعكة ويكتفون بالفتات. الجميع يعرفون أنه جعل من لبنان مزرعة للحرس ويترصفون عىل أنه ابن رشعي للبنان، الثوريّ اإليراين، ّ ّ ويحل ويربط يف أمر السلم والحرب واالقتصاد واملعابر واملطار ..وما إىل ذلك من مفاصل. ال يأيت األمر من مزاج هذه القوى أو من تخاذل ،بل يأيت من مفهوم اإلخضاع الكامن يف صلب القوة ـ قوة الدولة أو الكتلة املهيمنة .إخضاع املكان والزمان والناس .الدولة قامئة يف أحد تعريفاتها عىل احتكار
الق ّوة واستعاملها لفرض اإلجراءات العقاب ّية واملقاضاة، وتسمية الخارجني عىل القانون ومحاكمتهم .وألن حزب الله هو الدولة الفعلية يف “الدولة االسمية”، وألنه السيادة الفعلية داخل “السيادة الشكلية” لدولة لبنان ،فهو الذي يقوم بعملية اإلخضاع ،لتطال الرشكاء كافة ،والناس كافة ..والدولة أيضاً! واستعاملها استعامالً غائ ًّيا ،وإفراغها من مضمونها الجامع ،وإكسابها املعنى الطائفي يف حقبة ما قبل الحرصيّ الذي يح ّول النظام ّ الحرب األهلية إىل منوذج مثا ّيل قياساً مبا هو حاصل اليوم .مل تكن الدولة (لبنان) يومها قادرة عىل هذا الكم من قهر املواطنني والناس ،وال عىل التنكيل بهم .بل بدت واعدة يف اقتصادها وازدهارها وبريوتها ،وإن مل تكن مستق ّرة. إن دخول القوات السور ّية يف العام 1976إىل بريوت ضمن قرار عريبّ -كان بداية الخراب الذي ال يزاليتدحرج ككرة الثلج .يومها فقد لبنان ما كان له من زمام أمور كمجتمع ّ تشظى وفق خارطة القوى اإلقليمية وتوازناتها .كل فصيل يف الداخل انضوى تحت مركز قوة يف الخارج ،فيام حاول الوجود السوريّ يف لبنان فرض هيمنته بالقمع واإلخضاع كقوة احتالل ،ونظام خاوة وفساد ،ومخابرات تدخل يف خياشيم الناس مبن فيهم النُخب والقيادات .وعندما خرج السوريّ أوكلت امله ّمة للبنانيني باالسم ..أرادوا الدولة باالسم.
ال رهان عىل منظومة دول ّية متصارعة ح ّد الحروب بالوكالة .هذا مع ترجيحي أن هذه املنظومة لن تستق ّر يف املدى املنظور ،بل ستزيد رصاعاتها .والواضح أن هذه املنظومة غري مشغولة بلبنان وشعبه ّإل بقدر ما تتح ّقق فيه مصالحها .وتستطيع هذه املنظومة العيش مع الوضع القائم سنوات طويلة أخرى .من هنا أه ّمية أن يأخذ اللبنانيون األمور إىل أيديهم الستعادة الدولة والوطن وبنائهام من جديد .املقاومة املدنية هو املخرج .مقاومة مدنية ال تكتفي بالتظاهر .هناك حاجة إىل مامنعة مبعنى العصيان املدين .ال أعرف ملاذا يجلس جنبالط وجعجع واملستقبل وغريهم من قوى سياس ّية يف الحكومة .هناك مرحلة توجب قول “ال” مد ّوية للمنظومة .وهي مرحلة تحتاج إىل تعبئة الطائفي صحيحة ،تتجاوز العصب ّيات الطائف ّية والنظام ّ الذي ك ّرسه حزب الله بقوة الحرس الثوريّ اإليراين واملاليل ونفطهم. يبدو هذا الكالم تنظ ًريا يف ضوء حقيقة أن املقتدرين يف لبنان خرجوا منها وبقي فيها غري القادرين عىل الفرار من أنشوطة حزب الله .لكني أحاول أن أجيب عىل سؤال من أين نبدأ؟ هذا عىل فرض أن هناك من ُيريد أن يبدأ لبنانه من جديد .هذا يف ّ ظل منظومة دولية تقبل بكيانات هي ّ أقل من دول ُيديرها وكالء تتواصل معهم لقضاء حاجاتها.
َمن سيكتب تاريخ ّ الدم السوري؟
5
يوسف صادق
العدد
103
واليوم ما يجري يف السويداء هو امتحان جديد لكل يرص النظام عىل روايته القدمية بوصم السوريني ،حيث ّ كل َمن طالب بالكرامة بالعاملة واإلرهاب والطائفية، وهي ٌ فرصة لقوى الثورة مبساندة حراك األهايل السلمي يف السويداءّ ، عل الثورة تستعيد جذوتها يف النفوس. ّ ولعل تسمية جمعة التظاهر “لقاء األهل باألهل” املحتجني واملتظاهرين ،تعيد التاريخ إىل وشعارات ّ ،2011لتُعاد كتابته يف الساحات ويف الحناجر ،بدءاً ثم من الالفتة الكربى “هنا السويداء ..هنا سوريا”ّ ، توجيه التح ّيات للمحافظات السور ّية ،وإعالن التضامن مع الصحفي كنان و ّقاف ومأساة الطفل ف ّوازُ ،متحدين النظام وكاشفني فساده ونهبه للرثوة الوطنية عىل مدار عقود ،منادين بالعدالة والعيش الكريم لكل السوريني. ويبقى السؤالَ :من سينصف التاريخ املايض والحارض؟ وهل ستنترص رصخات الشتات وأفواه الخيام وصدى السجون عىل أصوات الرصاص والسياط طيلة عقود؟!
2022 / 2 / 28
كتابة التاريخ يعني ضمري األمة ،يعني الوفاء لكل إنسان انتمى لهذه األمة بروحه أو بلسانه أو بدمائه.. املسؤولية تقع عىل َمن هو قاد ٌر عىل إيصال صوته للعامل ،وعىل وعي َمن يدّعي االنتامء لفكره وبلده برضورة دور اإلعالم يف إيصال الحقائق وكتابتها. ٌ مسؤولية اضطلع بها ناشطون حقوق ّيون وسياس ّيون وصحف ّيون ،رغم خطورتها وتبعاتها ،فكانوا نذراً ملستقبل وطن أرادوه ،شعارهم الحقيقة أوالً ،وسوريا حرة دميقراطية مدنية؛ فيحق ملثل هؤالء االعتزاز مبا قدّم عىل مدى سنوات ،من مواكبة األحداث بضمري الصحفي ،وقلب الثائر. ّ
مقاالت
قال محمود درويش يف ديوان أحد عرش كوكباً: “للحقيقة وجهان ..والثلج أسود فوق مدينتنا” ،أيُّ الحقيقتني سيحفظها التاريخ؟! سحق وقتل وتهجري شعب منذ عام ،1982أم ّأن املنترص سيقلب الحقائق لتكون تاريخه وتاريخنا؟.. عىل مدار األعوام األربعني يلقن النظام األطفال عرب مناهجهم ،وعرب مطبوعاته ونرشاته الحزبية ،أ ّنه تصدّى وسحق اإلرهابيني يف حامة ،ساعده احتكاره لكل السلطات ،ومنها سلطة اإلعالم وسلطة التعليم، وسط تغايض العامل حيناً ،أو االستامع لرواي ٍة وحيد ٍة آنذاك ،لعدم وجود إعالم حر .واآلن يحق ملَن مازال يعيش تش ّوهات املجزرة أن يسأل :متى ُينصف التاريخ َمن كانوا وقوداً وحرباً أحمر يف كتابته؟ وال تخفى تلك العالقة الجدلية بني اإلعالم وكتابة التاريخ ،فكلام كان اإلعالم م َو ّجهاً من سلطة حزب عقائدي أيديولوجي أو سلطة عسكرية أو دينية ،كان الهدف هو التأثري والتضليل ،حيث تحتكر تلك السلطة الحقيقة التي تريدها لضامن بقائها ،وسيكون التاريخ زوراً وبهتاناً. لهذا فسوريا بحاجة إلعادة كتابة تاريخها منذ احتكار سلطة البعث للدولة عام .1963 ما نحتاجه حقاً يف زمن الرداءة وق ّوة اإلعالم املتوازية مع التط ّور التكنولوجي ،هو الحقيقة اإلعالمية ،أي التأثري باملجتمعات املدنية واملحافل الحقوقية العاملية من جهة ،ومن جهة أخرى أن نعي ّأن الحقيقة وحدها رسخ هذا الوعي يف عمل ثور ٌة كام قال لينني ،وأن ُي ّ املنابر الحرة ،ويف الحوار الوطني الجامع ،عىل أساس االعرتاف باآلخر والعدالة للجميع. قد نجد مربرات كثرية لعدم وصول رصخات األمل من تلك املدينة ،أو من خلف جدران تدمر أو صيدنايا أو غريها ..لكنّ تجارب السوريني منذ عام 2011تشري إىل خفايا ما خلف األكمة؛ فعنجه ّية النظام جعلته غري مبالٍ يف كذبه عىل العامل ،وهو يعلم ّأن ّ كل العامل يعلم ترصيحات بحقائق ما جرى .بل وسيكتب -حسب ٍ لوزارة الرتبية التابعة له -تاريخ تصدّيه من جديد
“للعصابات اإلرهابية واملتآمرين عىل صموده” يف مناهج جديدة يل ّقنها لألجيال القادمة! رصح عىل ماذا يراهن؟ هل انتهت الحرب -كام ّ بيدرسون -وانترص النظام بسحق وقتل وتهجري شعبه؟ معني بذلك ،وسط و َمن سيعرتف بانتصاره؟ أم أ ّنه غري ٍّ توازنات القوى العاملية وهيمنة سلطة الق ّوة واملصلحة عىل القرار العاملي .وإىل متى ستدوم هذه التوازنات؟ نحن بانتظار اتفاق دول القرار العاملي. لكن من جهة أخرى ،هناك إشار ٌة بعثت بها حادثتا الطفلني املغريب ريان ،والسوري فواز قطيفان ،لتس ّلط الضوء عىل مأساة منس ّية يحاول العامل نسيانها لعجزه أمامها. العامل عاج ٌز عن ّ حل مأساة النازحني يف الخيام ،وإنصاف أرواح األطفال؛ بدءاً من تامر الرشع وحمزة الخطيب، وصوالً ألطفال الحولة والغوطة ،ثم نهلة ،وشهد وليس آخرهم فواز ..بينام إيالن فقد حظي بتوثيق عدسات ّ املتحض مستعدٌّ لتقديم اإلعالم يف أوروبا .لكن العامل املساعدات دون النظر بعيون األطفال السوريني! نعم.. يحقّ لألطفال أن يشعروا بالحقد أو الكراهية أو ما تشاء مشاعرهم! حينام ُنصاب بالخيبة من مارسيل خليفة وفريوز عىل سبيل املثال ورموز تر ّبينا عىل إرثهم اإلنساين حينام يديرون ظهورهم لنا ،ونسأل هل سرنيب أطفالنا عىل الحقد والكراهية؟ وليس عىل التسامح والحوار والعدالة! وهل نيس أطفال حامة بعد أربعني حوالً ما عايشوه؟ وهل ينىس األطفال السوريون اآلن ،جحود العامل لهم غداً؟ وهل تكفي برامج التأهيل النفيس ّ والسلت الغذائية والهدايا ،وتعيد لهم جزءاً من التوازن النفيس؟ أو لحظات من ح ّقهم بالعيش الكريم. أ ّما عىل الصعيد السيايس فيحق ملَن عاش أو ورث هذه التغريبة أن يسأل :هل محاكم كوبلنز وغريها ستعيد لهم حياة أحبابهم وتطفئ النريان التي أكلت ذاكرتهم، وتنصف السوريني وتاريخهم ،عىل أهم ّيتها اآلن يف القضية السورية ،وهل يستحق أبناء سوريا هذا املصري وهذا الشتات؟ ..وهل سيبقى هناك ٌ أمل ليو ّرث؟
هنا نأيت لدور أطياف املعارضة السياسية ،ودورها ومنصاتها اإلعالمي ،والتي مل نسمع ّإل عن مؤمتراتها ّ وفنادقها ،وضمري األ ّمة السورية يسألها :هل استطاعت كتابة تاريخ سوريا منذ أيام الثورة؟ وملاذا مل تشغل بال الرأي العام العاملي بقضية فواز قطيفان وغريه ،كام فعل اإلعالم املغريب؟
6
جودت سعيد رؤية قريبة موجزة د .محمد العمار
العدد
103 2022 / 2 / 28 مقاالت
صاحبت الرجل نيفاً وثالثني عاماً يف الحرض والسفر، وجلست معه أسبوعياً بصورة منتظمة قرابة الربع قرن ،أشهد أنه كان ناصحاً لله ورسوله وكتابه وأمته، وعامة خلقه ،وأنه جعل عمره وجهده وكل ما ميلك، وقفاً عىل هذه املهمة املقدسة. كان متواضعاً فيام يلبس عىل أناقة ونظافةً ّ ، مقل فيام يأكل ،ممسكاً عن الكالم ،إال ما تع ّلق بعامل األفكار، فكان ال ميل منه وال يتعب ،صبوراً عىل جليسه مهام أبعد الفهم وأبطأ اإلدراك .كانت جلستنا يف بيت أخته السيدة سعدية ،فكان إذا ما انتهى حديث الفكر صمت ،ورمبا شاركنا بعض األحداث واألخبار ،فإذا قضيت انسحب إىل بيته بدراجته القدمية ،مل يقبل أن أوصله بسياريت ولو مرة واحدة ،عل ًام أن بيته عىل طريقي جيئة وذهاباً. ال أذكر أين سمعته طيلة هذه املدة يذكر إنساناً بسوء، أو يتعقب شيخاً أو رجل علم فيام ذهب إليه مام ال يوافق ما يراه ،ولقد هممت مرة أن أكتب تعقيباً عىل كتاب نرشه أحد األعالم ،فكتبت حوايل األربعني صفحة وعرضتها عليه ،فرجاين أال أكتب ،ثم أردف إن كان ال بد لك من الكتابة ،فلتبحث املوضوع مبعزل عن تعقب الرجل ،ثم أضاف“ :بحسبه أنه قال يف كتابه (كذا وكذا )..وهو بهذا قد دفع املوضوع إىل األمام خطوات، يجب أن نقدر هذا ونحرتمه” ..لقد كان هذا ديدنه بصورة دامئة ،ال يبخس أحداً شيئاً ،يربز اإليجابيات والحسنات ويكرث عليها الثناء ،ويتغاىض عن املساوئ والسلبيات ويتجاهلها كأن مل تكن. وكان عىل املستوى الشخيص ،من أكرث من عرفت اهتامماً بالشعائر واملناسك ،والتزاماً بالعبادات، وبأحكام الرشع ومقاصده ،لكنه كان يتجنب كل طرق اإلكراه فيام يتعلق بالتزام اآلخرين. لجودت ميزتان هام عالمتان فارقتان قل نظريهام يف بيئتنا الثقافية ،مل أنتبه إليهام كقيمة إال عندما صاحبته، األوىل هي الدقة يف املواعيد؛ فلم أر مثله يف دقة
مواعيده وانضباطها ،وكذلك مل أر مثله يف اهتاممه بالقراءة وتعلقه بها ،وكان يف رأس مقروءاته وأول اهتامماته القرآن الكريم. أشهد أنه كان مهموماً باإلنسان والقرآن ،وأنه ّ سخر كل طاقة ميلكها لخدمة هذا املرشوع؛ فقد كان يؤمن أن اإلنسان نواة مرشوع وجودي كبري ،وأن القرآن هو دليل هذا املرشوع ،وأنه يفتح أعيننا ويأخذ بأيدينا للتواصل مع كلامت الله يف الوجود ،عرب آيات اآلفاق واألنفس ،وأن آيات اآلفاق واألنفس هي الدليل عىل الله والربهان عىل توحيده ،وأن الله يف الكون يكلمنا بلغة مبارشة هي لغة الخلق ،وهي لغة ال ُيساء تأويلها، ألن إساءة التأويل هنا ،تقود إىل تعطيل التسخري يف هذا العامل َّ املسخر. هذا بعض الحديث عن عامله الشخيص ،ومل أكرث ألنني عىل يقني أنه ال يروقه مثل هذا الحديث ،وال يرتاح إليه ،فقد كان مهموماً مبا هو فوق املجد الشخيص، وزخرف الحياة الدنيا التي نغرق فيها! أما عن عامله الفكري ،الذي هو عامله الحقيقي ،الذي عاش فيه وعاش له ،يف فكر ميثل الحارض الغائب يف حياتنا؛ فهو غائب باعتبار الثقافة السائدة ،خاصة وملح بحسب املنتسبة أو املنسوبة لإلسالم ،وهو حارض ّ الحالة اإلنسانية الراهنة ،والحاجة املوضوعية له عىل مستوى األمة والعامل. وقد أردت يف حديثي عن املفاهيم املفتاحية لفكر جودت سعيد ،أن ألفت النظر إىل ما يتميز به هذا الفكر من أصالة وراهنية ،وما ينطوي عليه من مالمسة كثيفة لهمومنا املعارصة ،يف الدين والفكر والسياسة واملجتمع. ويف هذا التعريف املوجز لعامله الفكري ،سنتحدث عن منطلقات التأسيس يف هذا الفكر ،الذي سيكون فكر جيل آت ،مثلام عرف الناس ابن خلدون ومنجزه يف التاريخ بعد قرون .وإن كان لألمة أن تقوم بدور الشهادة عىل األمم ،وأنا أؤمن أنه وعد آت ،فسيكون
جهد جودت سعيد املقدمة الكربى لبدء هذا الدور، مثلام كانت مقدمة ابن خلدون تأسيساً لعلم االجتامع البرشي. ومنطلقات التأسيس يف هذا الفكر اإلنساين القرآين بحسب تصوري أربعة: أو ًال -الالعنف إن الالعنف كفكرة ومفهوم ،يشكل قطيعة مع السائد يف الفكر اإلسالمي واإلنساين ،لكنه بحسب جودت ليس بدعاً؛ بل هو امتداد ملسار طويل ّ خطه األنبياء واآلمرون بالقسط من الناس ،بحيث يبدو التاريخ اإلنساين جهاداً دامئاً للخروج من الفساد وسفك الدماء، إىل عرص السالم العاملي ،عرص اإلنسان .وبحسب اللغة القرآنية فإن تاريخ البرش انتقال من لحظة “أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء” إىل لحظة “إين أعلم ما ال تعلمون” ،وهذه العبارة بحسب جودت تحدد أفق التطور واتجاهه يف آيات األنفس (عامل األفكار)، مثلام تحدد آية سورة النحل “والخيل والبغال والحمري لرتكبوها وزينة ويخلق ماالتعلمون” أفق التطور واتجاهه يف آيات اآلفاق (عامل األشياء). والالعنف كام يفهمه جودت من التاريخ والقرآن، مقدمة أولية رضورية لدخول عامل األفكار ،الذي يعترب البوابة الوحيدة لدخول عامل اإلميان وعامل اإلنسان؛ حيث أن الالعنف أول قوانني الفكر ،والفكر هو السبيل األوحد املمكن لإلميان ،وال سبيل للعنف يف عامل اإلميان، وال قيمة له يف عامل اإلنسان ،ومن هنا كان “ال إكراه يف الدين” الذي يعني أن اإلكراه وأدواته عاجزة عن الفعل يف حقل اإلميان ،ونجاعتها مرتبطة بإلغاء إنسانية اإلنسان ،ويف كل مرة نصطحب فيها اإلكراه يف عامل اإلميان واإلنسان ،نفسد املسار ونضيع األهداف ونعيق التقدم ،ألن اإلميان املستلب بوهم القوة ليس إمياناً، واإلنسان املستباح بالقوة هو بقايا كائن إنساين ،فمن غري طالق بائن للعنف ال ميكن دخول عامل اإلنسان، حيث العقل أهم امليزات ،وبه يفرتق اإلنسان عن
7
العدد
103
ثانياً -العقل: إن العقل محدّد أسايس من محددات فكر جودت سعيد ،ورمبا يكون منشأ اهتاممه بالعقل هو اإلرصار الكبري عىل العقل يف القرآن الكريم ،تعزز ذلك آيات اآلفاق واألنفس ،التي مرن جودت نفسه عىل استقرائها بطريقة تدعو لإلعجاب ،ولذلك نرى مفهوم العقل عند جودت سعيد مفهوماً مفارقاً مختلفاً ،مقارنة مبا هو شائع وسائد؛ فالعقل عنده ليس أداة قادرة عىل الكشف
البقية يف صفحة .... 11
2022 / 2 / 28
ممكن ،ما مل يستبعد العنف كفلسفة عمل واسرتاتيجية بناء ،وإن البحث يصبح ممكناً فقط يف حال استبعاد العنف. إن التاريخ اإلنساين امليلء باآلالم والدماء ،دليل عىل تعرث ّ حل املشكلة اإلنسانية عن طريق القوة ،وأنه قد آن األوان لإلنسان العاقل أن يفكر بطريقة للحل تحفظ إنسانيته وتنميها ،وال تتجاهلها أو تلغيها؛ ّ فكل عنف يف تصوره هو ارتداد للمرحلة الحيوانية ،وإن اإلنسان بحسب ما يقول جودت سعيد“ :ينقص من عقله بقدر ما ميارس من عنف ،ويتلوث إميانه بالوثنية والرشك بقدر ما يبقى يف قلبه من حنني للعنف” ،وهو باستبعاده العنف ،يكون قد فتح الطريق لتوظيف الدماغ من خالل قيامه بوظيفة العقل ،وهنا نكون قد دلفنا للمحدد الثاين يف فكر جودت سعيد.
كام يف الفلسفة القدمية ،كام أنه ليس إلها ومصدراً للعلم واملعرفة كام يف فلسفة الحداثة ،وال رساباً يقود إىل العدم والاليقني كام يف فلسفة ما بعد الحداثة ،بل هو وظيفة تتولد عندما يتصل الدماغ اإلنساين بالوجود الخارجي ،متاماً مثلام يولد املاء عندما يتحد الهايدروجني باألوكسجني ،مع فارق أن املاء وجود مادي والعقل بحسب جودت -وجود غري مادي ،وليس له ماهية.فهو ليس جوهراً ،ولذلك لن ميوت كام مات عقل نيتشه عىل يد فوكو وفالسفة ما بعد الحداثة ،إنه مهارة ووظيفة توجد بالقوة عند كل مولود يولد بدماغ سليم، وهذه املهارة والوظيفة قابلة للنمو والزيادة ،مبرور الوقت ،ولذلك فإن التاريخ مكون جوهري من مكونات العقل الفردي والعقل الجمعي ،وهذه الوظيفة ميكن أن ُيعاق منوها ويعرقل اكتسابها ،كام ميكن أن تعزز وتنمى بطرق فائقة ،من خالل أساليب التنشئة التي متارسها البيئاتالثقافيةاملختلفة. ويبلغ اإلنسان من اكتامله وتجليه اإلنساين بقدر ما يكون لديه من معقوالت ،وهذا يتوقف عىل ما لديه من معرفة مبعقوالت اآلخرين من خالل القراءة ،وما عنده من معقوالت من خالل معرفته بالتاريخ واستنطاقه آيات اآلفاق واألنفس .فالنظر العقيل املستقل ،هو
مقاالت
سائر الكائنات ،والعنف ليس من قوانينه وال من أدواته ،بل للعقل قوانينه الخاصة ،التي تجعله عصياً عىل القوة وأدواتها ،واإلكراه ووسائله“ ،ومثلام أن الخشب ال ينقل التيار الكهربايئ ،كذلك فإن العقل ال يعمل من خالل القوة” كام كرر جودت مراراً .فعامل الالعنف هو عامل العقل وعامل اإلنسان ،حيث القطيعة مع (العضل والقوة) الخيارين الوحيدين يف مملكة الحيوان ،تتجسد لحظة القطيعة بني العقل والعضل يف القطيعة بني العنف والالعنف ،وهي لحظة القطيعة واالفرتاق بني اإلنسان وباقي الحيوانات ،كام يبينه علم البيولوجيا ،وهي اللحظة التي تتوافق من وجهة نظرنا دينيا مع لحظة “ونفخت فيه من روحي” (سورة الحجر -اآلية ،)29وعند هذه اللحظة امتلك اإلنسان القدرة عىل التسخري التي رتبت عليه املسؤولية ،وهي ما نعرفه دينياً بلحظة األمانة( .األمانة بحسب جودت سعيد“ :إنا عرضنا األمانة عىل السموات واألرض والجبال فأبني أن يحملنها وأشفقن منها ،وحملها اإلنسان إنه كان ظلوماً جهوالً” (سورة األحزاب -اآلية .))72 فال ميكن دخول عامل اإلميان ،وال عامل اإلنسان من غري استبعاد العنف بصورة نهائية ،وما دام هناك تعويل عىل العنف مهام كان ضئي ًال، فاألوراق قابلة لالختالط ،واملواقف ممكنة االلتباس ،ولذلك فإن جودت سعيد استهل مرشوعه اإلصالحي بكتاب مذهب ابن آدم األول ،فيام يشبه إعالن الرباءة من العنف وأدواته. لقد أراد أن يقول من خالل ذلك املؤلف، ومن خالل توقيت إصداره بالنسبة ملرشوعه الفكري ،إن بحث املشكلة اإلنسانية غري
96
الشباب السوري :جرمية وطن
8 جمال الشوفي
العدد 103
2022 / 2 / 28 مقاالت
باتت األحالم البسيطة العادية واملألوفة يف كل العصور وكل املجتمعات ،باتت رضباً من املستحيل؟ حلم االرتباط بالطرف الذي يحبه ،حلم بناء األرسة، حلم إيجاد عمل يثبت من خالله استقالليته وقدرته عىل أن يصبح مسؤوالً ومييض يف مستقبل يليق به.. كلها باتت مستحيلة! نعم هذا مصري شباب وشابات سوريا ومن بقي منهم يف هذه املحرقة السورية املستمرة بأكرث من طريقة لليوم .فمن محارق الحصار والقتل الجامعي ،التهجري الجامعي ،إىل املفقودين واملغيبني ،وصوالً اليوم لوأد قدراتهم أمام أعينهم ،يف جرمية وطن شاملة. بعد النرص العسكري املزمع عىل الشعب السوري، استباحت العصابات املغذاة بكل أساليب االحتيال والجرمية ،بتكاليف أمنية رسية وعلنية ،عملت بكل صنوف الجرمية يف الظل يف األعوام السابقة ،ولكنها أفصحت عن نفسها مبسميات عدة يف السنتني األخريتني بعد توقف معظم العمليات العسكرية عىل غالبية الجغرافية السورية .أبرز أعاملها الخطف والسطو ،واالتجار باملخدرات ،وجرائم القتل الفردية، وابتزاز الناس يف أموالهم وأرزاقهم بخطف أبنائهم. بتنا نشهد يومياً جي ًال من الشباب منفلتاً من أي قيمة ،ال يردعه يشء عن ارتكاب أي فعل من األفعال املوصوفة بالجرمية املنظمة .وبتنا نشهد اغتيال أقرانهم من الشباب السوري بطرق متعددة ،منها الرسي والغامض ،ومنها ما يكشف عنه علناً ،كام حوادث مقتل مجموعة من الشباب السوري يف محافظة السويداء املتتالية ،وآخرها مقتل الشاب يوسف مثقال نوفل .ويوسف شاب يف مقتبل العمر ،قليل الخربة يف الحياة ،يعتقد أن أحالمه وقدراته أكرب من واقع متلؤه الجرمية والنفوس األمارة بالسوء ،والعقول التي أكلتها املخدرات وكل صنوف الحشيش ،ليقيض عىل يدي عصابة تافهة استسهلت الجرمية والرسقة ،ووجدت الواقع حولها ال رادع فيهُ .ق ِتل يوسف بدم بارد مقابل سيارة والطمع يف مثنها! بني واقع موبوء بكل ما سبق وأحالم جيل عريض من الشباب ،تبدأ قصة جديدة للسوريني ،بل قصص
وروايات ال تنتهي ،ولن تنتهي ما دام الساهرون عىل خراب البلد ودماره هم مسريو دفته السياسية واألمنية واملالية ،ما دام القانون معط ًال إال لخدمة أولئك دون غريهم. يف حادثة اغتيال يوسف تداعت العديد من الفعاليات املجتمعية واألهلية للمطالبة بشنق القاتل ومن معه مبارشة ،كفعل رادع لغريه عن استسهال ارتكاب الجرمية .أمام القرص العديل حرض الكثري من أهايل الضحايا السابقني ،حرض الشباب املهددون اليوم أو غداً بذات الفعل ،حرضت مطالب القصاص العادل، ومل تحرض العدالة وغ ّيب القانون ،وتبخرت األحالم. وال زال مصري القاتل لليوم رهن التحقيق غري املضمون نتائجه .إذ قبل عامني من اليوم ،تم اإلفراج عن أحد مرتكبي الجرائم ذاتها بعفو عام بعد ثالث سنوات من حكمه ،وحينام اعرتضه أحد أخوة القتيل ،كرر جرميته بقتل األخ أيضاً ،ولليوم هو طليق وعىل مرمى من الناس! وكأن العفو الرئايس أتاح له َ قتل نفس أخرى بال رادع أو محاسبة ،فيام ال زال اآلالف من السوريني يقبعون يف املعتقالت، ومثلهم اآلالف مهددون باالعتقال ،ومن كافة األفرع األمنية ،لكتابتهم رأي مخالف ،أو مشاركتهم يف اعتصام أو مظاهرة سلمية ،أو لقولهم الحق يف زمن االنهيار واغتيال وطن عن عمد. ال يكفي أن يحلم الشاب بأن يصبح مهندساً أو طبيباً أو كاتباً ،عليه أن يعمل ليصل .هكذا تفرتض القيم وتعتمد أسس الرتبية ،وهذا ال يعني مطلقاً أن مثة مفاضلة بني الحلم والواقع عىل مبدأ أيهام أفضل :أن أحلم أو أن أعمل! بل كالهام مكمل لبعض يف صيغة اإلنسان .فاإلنسان ليس مجرد أحالم وأماين متاثلها بحدها األعىل امليتافيزيقا ،وال هو آلة للعمل مقيدة الرشوط والحدود والقدرة اإلنتاجية .وما انفصال هاتني املوضوعتني عن بعضهام سوى حالة استالبية؛ سواء
للوهم والخيال واإلحباط أو للعمل املادي الشيئي ،وكال الحالتني متامثلتني كيفياً مع اختالف نتائجهام .وهذا رمبا يكون مدخ ًال عاماً لدراسة حاالت االنفصال عن الواقع التي يعيشها السوريون اليوم ،والتي تنتج كل صنوف االستالب املعاشة ،سواء كانوا الشباب النقي الباحث عن تحقيق ولو الحد اليسري منها ،مثل يوسف الذي أتم خطبته قبل شهر من اغتياله ،ويتابع دراسته
مصدر الصورة من النت
ليكون شخصاً مستق ًال يفخر بذاته ويحقق لوالديه الطيبني الشعور باألمان عنه وعن مستقبله. فيام أولئك مرتكبو الجرمية ومستسهلوها ،ليسوا سوى أدوات ملشغليهم األعىل منهم سلطة ،ومناذج مستلبة لرغبة االغتناء الفجايئ الساحر ،سواء كانت قت ًال أو رسقة أو تجارة مخدرات.. محرك الحدث السوري واحد وإن اختلفت أدواته. الفلتان األمني ،فوىض السالح ،تعطيل القانون ،وتجيريه والدستور معه ملصلحة القلة القليلة من املتنفذين يف حكم البالد ،وقد حولوها ملجرمني وضحايا ،لعصابات وميليشيات! مل يخطئ ابن خلدون يوماً حني ردد قبل سبعة قرون من اليوم“ :عندما تنهار الدول يسود الرعب ويلوذ الناس بالطوائف ..وتظهر العجائب وتعم اإلشاعة.. ويتحول الصديق إىل عدو والعدو إىل صديق ..ويعلو صوت الباطل ..ويخفت صوت الحق ..وتظهر عىل وتشح السطح وجوه مريبة ..وتختفي وجوه مؤنسةّ .. األحالم وميوت األمل ..وتزداد غربة العاقل وتضيع مالمح الوجوه” ،ويا لهول غربتنا ..ويا قهر أحالم شبابنا!
واحد +واحد = أربعة ! ()3-3
9
عبد اهلل شاهين
العدد
103
فبالكاد انتقلنا من العمل الفردي الذي اعتدنا عليه طوال حياتنا إىل التجمع يف فرق صغرية والعمل بشكل جامعي، تجاربنا املتواضعة هذه مل تكن يسرية ومل تنضج بعد ،لكنها بال شك طوق نجاتنا الوحيد يف العاصفة التي قلبت كوننا رأساً عىل عقب منذ ربيع .2011 مثار هذا العمل الجامعي “العضوي” بدأت تظهر يف بعض الفرق واملنظامت األهلية التي نراها اليوم يف املشهد السوري ،فرق مثل فريق ملهم التطوعي وغريها استطاعت القيام مبا عجزت عنه دول بأكملها .الفضل موصول لكل من آمن بهذا الفريق وهذا النوع من العمل دون شك .وما زلنا نشاهد -عىل الجانب اآلخر -فداحة الفشل يف العمل الجامعي امليكانييك حولنا يف كل مكان .من التشكيالت السياسية السورية املعارضة ذات القيمة الصفرية يف أثرها ونتائجها، إىل اآلالف من املنظامت األهلية والرشكات
واألعامل التي يقوم بها آالف “األبو حميدات” املتفردون بشكل مكرر وممل و معدوم األثر. إن العمل الجامعي يصاحبه منو ّأس؛ مبعنى أن اجتامع اثنني ال يصدر عنه فقط نتاج عمل اثنني ،واجتامع خمسة أشخاص ينتج عنه عمل أكرب بكثري مام قد ينتجه شخص واحد يف خمسة حيوات .واحد زائد واحد يساوي أكرث من إثنني1+1+1+1+1 . = .16قدرتنا عىل التشارك يف الهدف والتكامل يف العمل هي السبيل الوحيد لرأب الصدع الذي خلقته هذه الحرب يف واقعنا التعليمي واالجتامعي واالقتصادي والسيايس .علينا أن نراهن عىل أنفسنا وأن نثق بأن “املجازفة” بالوثوق بغرينا ممن يشاركنا حالنا ووجهتنا هي استثامر رابح، وإن خيبت مراجينا يف بعض األحيان .وإىل أن نصل يوماً إىل تجمع مليوين حقيقي يقلب هذا الواقع املؤمل؛ يبقى أملنا “منا وفينا”.
2022 / 2 / 28
من املشاريع اإلسكانية لفريق ملهم التطوعي يف شامل سوريا
مقاالت
قسم عامل االجتامع الفرنيس إمييل دوركهايم البنى االجتامعية إىل ّ ميكانيكية وعضوية .األفراد يف املجتمع امليكانييك -والذي انترش يف مجتمعات ما قبل الثورة الصناعية -لديهم نفس الوظائف واملسؤوليات ،مام يشري إىل تقسيم منخفض للعمل .فالكل يقوم بذات الوظائف؛ الكل يقوم بالزراعة والرعي ،والعجن والخبز، وتعليم أطفالهم وخياطة الثياب .الكل ميكنه نوعاً ما االستغناء عن كل الباقني عن أفراد املجتمع ،لكنه يف ذات الوقت محكوم بقوانني تلزمه بالتامهي الكامل واالنصهار يف مجتمعه .فال ميكن ألجزاء من ذلك أن تعمل بشكل مستقل إذا تم الحفاظ عىل االنسجام والرتابط الكيل .وعىل الفرد يف املجتمع امليكانييك تكرار كافة األعامل التي يقوم بها كل أفراد ذلك املجتمع ،وإال فإنه لن يأكل ولن تستمر حياته. أما الرتابط العضوي فهو قائم عىل التاميز يف الوظائف واملهام بني أفراد املجتمع ،فكل فرد يقوم بعمل مختص نيابة عن باقي أعضاء املجتمع ،وبالتايل هو جزء من بنية مرتاكبة ،ودوره هام يف عمل املجتمع ككل ،فإن توقف عن أداء ذلك الدور أثر ذلك عىل باقي املجتمع .وبالتايل هذا التخصص يف العمل من جهة أدى إىل رضورة العمل الجامعي من جهة أخرى ،متاماً مثل التاميز الذي تقوم به خاليا جسم اإلنسان فتختص كل منها بوظيفة معينة، بعد أن كانت الكائنات البكتريية “امليكانيكية” وحيدة الخلية تقوم بكامل الوظائف يف تلك الخلية املستقلة .يعتمد الفرد يف املجتمع العضوي عىل مجتمعه ،عىل الرغم من كونه مستق ًال، وبالتايل يصبح املجتمع متكام ًال ومتامسكاً ،والعمل يف هذا املجتمع جامعي بالرضورة .بعكس الفرد يف املجتمع امليكانييك، الذي يضطر إىل العمل الفردي املتكرر واملضنى ،وإىل التامهي الكامل واالنصهار يف ذلك املجتمع من أجل البقاء. لقد كان املجتمع السوري مجتمعاً ميكانيكياً بحق ،حتى جاءتنا أمواج الربيع العريب .ظل املجتمع السوري لعقود طويلة مجتمعاً منفرطاً يكاد يخلو من الروابط العملية والتنظيمية بني أفراده. لقد أدخلتنا الثورة السورية يف تجربة اختربت ُبنَانا االجتامعية وانتخبتها .تبني لنا أن أي نواة من العمل املبني عىل التعاون والتكامل هو العمل الذي بوسعه خلق الحلول واملخارج .لقد بدأنا -وللمرة األوىل -من املغامرة يف العمل الجامعي مع بعضنا. ما زال تحولنا هذا إىل العمل االجتامعي يف أطواره املبكرة؛
نساء يف ريف حلب
يعملن يف املبيعات لتحقيق االكتفاء املعيشي
10 حسين الخطيب
العدد
103 2022 / 2 / 28 تقارير
بدأت كثريات من النساء يف مدن وبلدات ريف حلب الشاميل تعملن يف املشاريع الصغرية واملتناهية الصغر ،بغية تحقيق االكتفاء املعييش ألرسهن ومساندة أزواجهن ،يف مرصوف املنزل، رغم منعهن يف وقت سابق يف املناطق الريفية من العمل املهني بشكل نسبي ،ما حتم عىل املرأة غالباً أن تكون ربة منزل ،إىل جانب العمل ضمن املشاريع الزراعية ،واملدارس التعليمية يف حال كانت متعلمة. ومع لجوء العديد من النساء إىل العمل املهني املتنوع ،كالخياطة وصناعة املعجنات والحلويات وبيع املنتجات الغذائية الدوائية وغريها ،وجدت سيدات مكا ًنا لهن يف بيع املنتجات ومستحرضات التجميل واأللبسة ،عىل مواقع التواصل االجتامعي، يف خطو ٍة جديدة تقلل من نشاطها يف أوساط املجتمعات املحلية املحافظة لدرجة ما. تقول السيدة ريم 35عاماً ،املقيمة يف مدينة مارع بريف حلب الشاميل إن أرستها “تعيش يف ضائقة مادية سيئة للغاية ،بسبب انخفاض دخل زوجها اليومي ،البالغ 40لرية تركية ما يعادل الـ 3دوالرات أمريكية ،ما مينعه من توفري كامل احتياجات األرسة املكونة من 7أفراد” األمر الذي دفعها إىل البحث عن عمل يعينها عىل مساعدة زوجها يف ظل أزمتهم املعيشية. وأضافت“ :بحثت كث ًريا عن عمل يوفر يل مصدر دخل آخر يساند زوجي يف مرصوف املنزل ،إال أن ندرة فرص العمل يف املنطقة للجنسني من الرجال والنساء ،والتزامايت املنزلية منعاين من مزاولة أي عمل خارج املنزل ،لكنه عرض ع ّ يل فرصة عمل يف بيع املنتجات عىل تطبيق واتساب من املنزل، ساهمت يف إعانة أرسيت يف محنتها ،وأصبحت أعمل يف بيع املنتجات كمستحرضات التجميل واأللبسة، بعد إنشاء غرفة عىل تطبيق واتساب ،تضم أكرث من 150سيدة”. وعن عملها اليومي أوضحت ريم أنها تعرض
البضائع التي ترسلها الرشكة املتعاونة معها يف تركيا ،عىل غرفتها الخاصة بالزبائن ،وتنتقل الحقاً إىل جمع الطلبيات منهم ،حيث تنقلها إىل الرشكة املوجودة يف األرايض الرتكية لتقوم الحقاً بإرسالها إىل ريف حلب. وتحقق السيدة من عملها يف هذه املهنة مصدر دخل رديف ،من خالل وضع أرباح عىل القطع املباعة ،والتي تختلف نسبة الربح فيها من قطعة ألخرى ،وتحصل عىل نسبتها من املبيعات بعد الحصول عىل البضائع وتسليمها ،وتحصل عىل 100 لرية تركية من كل طلبية ،التي تتكرر يف الشهر من ثالث إىل أربع مرات ،ما يعني أنها تجني 300 لرية تركية بشكل وسطي (ما يعادل نحو 22دوالر أمرييك). ال تختلف قصة السيدة حليمة كوسا 30 ،عاماً، كثرياً عن قصة ريم إال أنها فعلياً كانت أشد قسوة بعد فقدانها لزوجها ومعيل أرستها ،قبل عدة سنوات .تقول السيدة خالل حديثها ملجلة طلعنا عىل الحرية“ :تعلمت عملية التواصل مع رشكات املبيعات من خالل صديقتي ،فهي تعمل يف هذه املهنة منذ عامني تقريباً ،وتبيع األواين املنزلية والهدايا والزينة يف غرفة واتساب خاصة بالزبائن، ألحقق ما أعيل أرسيت به”. وأضافت“ :واجهت العديد من التحديات يف العمل الذي يكون خارج املنزل ،بسبب نظرة املجتمع الذي بدأ يلقي التهم ع ّ يل كوين أرملة ،لذلك فضلت العمل من املنزل كوين مضطرة إليجاد مصدر دخل يعيل أرسيت املكونة من 5أفراد”. وأوضحت السيدة أن عملها يف بيع وتسويق املنتجات يعود عليها مبردود مايل جيد ،يصل إىل 500لرية تركية شهرياً ،كونها اكتسبت خربة مميزة يف البيع ،ما يعينها عىل تحمل نفقات أرستها يف ظل الظروف املعيشية املرتدية التي تعيشها املنطقة”. ويحقق عمل النساء يف املبيعات عائد مايل جيد يوفر لهن دخ ًال ميسوراً ،لكن يف الوقت نفسه يثري
غياب الدور القانوين واملؤسسايت املنظم مخاوف النساء من الوقوع يف عمليات االحتيال ،لذلك ال بد من توعيتهن يف التخطيط ألعاملهن ،إلدارتها والحصول عىل ضامنات تعينهن عىل مزاولة العمل دون الوقوع يف فخ االستغالل. ولعل من أبرز التحديات التي تواجه السيدات يف العمل يف املبيعات عىل وسائل التواصل االجتامعي، غياب الضامنات القانونية التي تحفظ حقها يف حال تعرضت لعملية نصب؛ حيث تعرضت عدة نساء لالحتيال أثناء تحويل املال قبل إرسال البضائع ،مام وضعهن يف مأزق ،يضاف إليه تحديات تتعلق بنوع البضائع التي تختلف بني الصورة املرسلة والواقع، ما يعرضهن ملشاكل مع الزبائن. وقالت الناشطة أسامء املحمود ملجلة طلعنا عىل الحرية“ :املنطقة تفتقر للعديد من الخدمات سوا ًء التسويقية أو القانونية التي تتيح للنساء فرصة مزاولة األعامل بالشكل اآلمن الذي يحفظ لها حقها ،ويقلل تعرضها لعمليات النصب واالحتيال”. وأضافت“ :يقع عىل عاتق مكاتب املرأة الرتكيز عىل دعم طاقات النساء ،وتقديم الرعاية الكاملة لهن يف أكرث املهن املنترشة يف املنطقة ،باإلضافة إىل رضورة وجود عقد تعاون بني الطرفني ،ما يجعل العمل أكرث أمناً عىل الجهتني ،إضافة إىل تكثيف الجهود حتى حصول املرأة عىل دخل ثابت من مرشوعها الصغري ،والذي سيسهم يف حل التعقيدات والتحديات التي تواجهها”. وتواجه النساء يف ريفي حلب ،تحديات منوعة تدفعها إىل مزاولة مهن متعددة يف سبيل تحقيق مصدر دخل رديف يعينها عىل تحمل قسوة الحياة، ولعل من أبزر التحديات التي تعاين منها النساء، غياب املعيل ،وارتفاع متطلبات املعيشة ،وارتفاع األسعار ،وفقدان الدخل الثابت ،ما يدفعهن إىل العمل مندوبات بشكل ميداين أو عرب االنرتنت ،يف سبيل تحقيق االكتفاء.
......
11
....تتمة من صفحة 7
العدد
2022 / 2 / 28
رابعاً -القرآن يحرض القرآن يف العامل الفكري لجودت سعيد، كدعوة دامئة للنظر واالنتظار ،اللذين هام مدخل عامل العقل وبوابة اكتساب العلم ،يحرض القرآن عند جودت سعيد ،مستنداً إىل التاريخ ،متحرراً من اآلباء، منفتحاً عىل املستقبل ،منهجه العلم ،وسبيله العقل، ودليله العاقبة ،أدواته آيات اآلفاق واألنفس ،راسخاً كام التاريخ ،نامياً كام الحياة ،غضاً راهنا كأنه اآلن يتنزل ،مدخله العقل وبوابته العلم ،يقدمه قانون
يحرض القرآن يف فكر جودت سعيد كتاباً للحياة، ينطلق من لحظة يف تاريخ البرش ،ويح ّلق مخلداً عرب الزمن“ ،ال تنقيض عجائبه ،وال يخلق عىل كرثة الرد”، وال تستنفذ خزائن معانيه ،يخاطب البرش بعد مليون عام ،مثلام خاطبهم قبل ألف عام ،ومثلام يخاطبنا اليوم ،وكأنه يحايك ما تكن نفوسنا من آمال وما يخالجها من مشاعر ،مل يستنفده مفرسو املايض ،ولن غاص باملعاين التي يستنفده مفرسو الحارض ،بل هو ّ تالمس عقول وآمال وآالم البرش يف كل جيل حتى يرث الله األرض ومن عليها.
مقاالت
ثالثاً -العلم : يقول جودت سعيد“ :معنى العلم بإيجاز شديد: أن ُ تدخ َل السنة يف العقل ،ومبا أن السنة ال تتبدل وال تتحول ،فكذلك العلم ال يتبدل وال يتحول ،فسنة تكون املاء لها ثبات وعدم تبدل وتح ّول ،وكذلك حني تصري ُسنة تك ّون املاء عل ًام بدخولها يف األذهان، يبقى هذا العلم حام ًال صفة الثبات وعدم التحول والتبدل”. وهذا التعريف عىل بساطته ال تخفى أصالته ،وال تلتبس فرادته ،وهو يخرج بالعلم من استخفاف النصوصيني ،وضبابية فالسفة العلم ،إىل الوضوح الذي يليقبالعلم،ويعطيالقرآنللعلمقيمةعالية.ويضعه الذين أوتوا العلم موضع الشاهد العدل .وينسجم هذا التعريف للعلم مع تاريخ املعرفة اإلنساين، وإنجازات العلم وتاريخه ،الذي يتقدم باطراد ،باتجاه أكرث رسوخاً وضبطاً ووضوحاً ،وال يرتدد جودت أبداً يف توسيع مفهوم العلم املنضبط الدقيق ليشمل العلوم اإلنسانية ،ويعزو ما يشوب أبحاثها من قصور لتخلف أدواتنا املعرفية ،ويرضب لذلك املثل من علوم الحياة فيقول“ :عندما كانت الجوائح تفتك بالناس ويقف العلامء أمامها حيارى ،مل يكن ذلك يعني أبداً أن هذه الجوائح ال تخضع لسنة وقانون ،ولكن ذلك كان يعني -كام أصبح واضحاً اليوم -أننا كنا نجهل السنة والقانون ،فجهلنا بالسنة حينها مل يكن يعطينا الحق بنفي السنة والقانون وإنكارهام”.
103
مستقبل اإلنسان وحقيقته .صحيح أن كل الناس لديهم أدمغة متساوية ،ولكن ليس كل الناس لديهم عقوالً متساوية ،وعندما يتمكن اإلنسان من إقامة عالقة عقلية بالطبيعة والتاريخ ،ويقبض عىل السنة حصل العلم ،وعندها ندخل يف املحدد يكون قد ّ الفكري الثالث لجودت سعيد.
وجودت وإن كان ينطلق يف تقرير السنن األنفسية من إميانه الديني حيث يقول“ :والله تعاىل حني يذكر السنة يف القرآن الكريم ،يذكرها متصلة باملجتمع واألنفس ،ال بالطبيعة واآلفاق ،والناس ال يعرفون السنة إال يف الطبيعة ،وال يعرتفون بها يف األنفس، ويعتربون عامل األنفس خارج الثبات أو خارج السنة، وهذا مناقض ملنهج القرآن ،بل ومناقض ملناهج املسلمني السابقني ،ولقد جاء إىل العامل اإلسالمي قرص معنى العلم عىل اآلفاق من املفهوم الغريب للعلم”، لكن من غري شك فإن آيات اآلفاق تدعم ذلك وتعززه ،وهي سنده يف تقريره هذا التوسيع ملفهوم العلم ،فرتاه يقول“ :وهكذا يف األمور االجتامعية، فاملجتمع الذي يفقد العدل يفقد االستقرار” ثم يستشهد بقول الرسول“ :إمنا أهلك من كان قبلكم أنهم كانوا إذا رسق فيهم الرشيف تركوه ،وإذا رسق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد”. وللعلم بحسب جودت أدلة وبراهني ثالثة هي :التنبؤ والتسخري والعاقبة ،وهو يعطي للعلم من الصدقية واملوثوقية ما يجعله قادراً عىل ّ حل املشكالت ومجابهة املعضالت ،وأن ال ملجأ إال له وال مخرج إال من خالله ،ألن بديل العلم هو الظن ،والظن أسلوب تدينه آيات الكتاب ،وتأباه آيات األنفس..
النسخ ،الذي يحدد اتجاه الخلق ووجهة الحركة يف الوجود ،باتجاه الزيادة واالكتامل “يزيد يف الخلق ما يشاء” (سورة فاطر -اآلية ،)1ويحرض التاريخ اإلنساين من خالل القرآن كصريورة دامئة باتجاه الخري واألبقى ،وتقدم متصل باتجاه عرص اإلنسان؛ العرص الذي يكف فيه اإلنسان عن الفساد وسفك الدماء. ويحرض البرش من خالل القرآن مكرمني “ولقد كرمنا بني آدم” (سورة اإلرساء -اآلية )70عىل صعيد واحد فجميعهم ٌ “برش م ّمن خلق” (سورة املائدة -اآلية )18يحرضون بألوانهم واختالفاتهم ،ال تفرق بينهم النسكّ ، “لكل أ ّمة جعلنا منسكاً هم ناسكوه” (سورة الحج -اآلية ،)67وال متايز بينهم الرشائع ٍّ “لكل جعلنا منكم رشع ًة ومنهاجاً” (سورة املائدة -اآلية ،)48وال تباعد بينهم العقائد “فالله يحكم بينهم يوم القيامة فيام كانوا فيه يختلفون” (سورة البقرة -اآلية .)113 يحرض البرش وميزتهم اختالفهم ،الذي هو دافعهم الستباق الخريات “ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم فيام آتاكم فاستبقوا الخريات” (سورة املائدة -اآلية ،)48يتفاضلون عند الله بالتقوى ،التي ميكن أن نعرفها بأنها السلوك النافع املؤسس عىل العلم واملعرفة.
الكاتب واملكان
12 حسين الضاهر
العدد
102 2022 / 2 / 28
قد تعترب القراءة؛ وقودًا مثال ًيا لدفع عجلة الكتابة، وخزا ًنا معرف ًيا ال ميكن االستمرار من دونه ،وقد توجد مؤثرات ومحفزات كثرية تساهم يف تفريغ الكاتب لشحناته اإلبداعية ،وبالتأكيد تعد البيئة واالحتكاك جز ًءا ال ميكن التغايض عنه هنا؛ فالكاتب ابن بيئته ،ومهام حاول اجتياز الواقع والقفز عليه، بالتحليق يف فضاءات الخيال ،ال بد أن تظهر انعكاسات واقعه املعاش بني مفرداته. وعليه فإن املكان أو البيئة هي إحدى العوامل الرئيسة يف عملية الكتابة ،وقد توازي أهميتها أهمية القراءة .فإن جئنا ً مثل إىل عوامل الرواية أو القصة ،سنجد أن املكان والزمان هام الركيزتان األساسيتان والتي يتمحور حولهام الرسد دامئًا .وكام تفرض القراءة سطوتها عىل النص املكتوب ،يفرض املكان حضو ًرا قد يغري أدوات وحتى لغة الكاتب، وذلك من خالل الشحنات التي ُيكسبها املكان للنفس البرشية. وهنا ً مثل نستطيع االستشهاد بأدب السجون؛ حيث تدور الكتابة فيه ضمن أربعة جدران ،ومهام حاول األديب السجني تجاوز محنته ،ال بد أن تظهر ارتدادات املكان يف سطوره .وحتى إن عربنا هذا الشاهد وتوقفنا عند إنسان “كاتب” حر طليق، سنلمس عىل األقل حضور املكان أو البيئة يف كتاباته.
مقاالت
مدن الشحن: ونستطيع إطالق صفة “مدن الشحن” عىل تلك األماكن التي يكتسب فيها الكاتب احتكا ًكا وتجار ًبا جديدة تن ّمي لديه عاطفة ما أو تجربة جديدة. وقد تحمل هذه املدن أو األماكن صفات؛ إيقاع الحياة الرسيع واملتواصل ،والتي تكتظ بالوجوه واألصوات ،تلك املدن بفنّ عامرتها ومعاملها األثرية، وحتى بأزقتها وشوارعها الخلفية ،بزحامها وهدوء بعض أركانها .كل هذا ،يغ ّذي مخزون الكاتب و ُيعترب مصدراً يستم ّد منه الحيوية ،ويستقي منه الصور واألحداث التي قد تبدو للقارئ يف بعض األحيان خيالية ومستحيلة الحدوث ،لكن من
يتم ّعن جيداً يف تفاصيل الحياة من حوله ،يجد ّأن الحكايات التي تحدث خالل مسرية اليوم قد تكون غرائبية وال منطقية لدرج ٍة ّ تتخطى العقلية اإلبداعية مبسافة كبرية .لكنها يف النهاية حقيقية. ومن ناحية أخرى قد تكون األرياف أو األماكن الهادئة ،هي بيئة جيدة لبعض الكتّاب واملبدعني، الكتساب حالة تراكمية إبداعية ،وهنا يستقي الكاتب شحناته من التأمل والسكينة والطبيعة املحيطة ،وقد ظهرت تأثريات البيئة والطبيعة يف نتاجات إبداعية كثرية ،وعىل سبيل املثال؛ شعراء وأدباء األندلس؛ حيث برزت انعكاسات الطبيعة الجميلة يف نتاجهم األديب ،بأجمل الصور. مدن الحرب والكوارث: وكام تحمل املدن التي تشهد معاناة معينة، كالحروب والكوارث ،طاب ًعا تراكم ًيا ،فكثري من اإلبداع يأيت إثر معاناة أو معها .فتحرك الراكد داخل الكاتب ،وتثري لديه نواح وجدانية ،إنسانية ،أو حتى عنيفة أحيا ًنا. ومن املؤكد بأن الثورة السورية ،ومن بعدها الحرب التي شنها النظام والقوى العسكرية عىل األرض السورية ،هي حافز شهدت بعده الحركة األدبية السورية نقلة نوعية ،فباتت نتاجات هذه الثورة ال تحىص وال تعد ،يف مجاالت الرواية والشعر واملقال وغريها من الفنون األدبية .وقد احتاجت هذه التجارب للظهور مدة أو حالة انتقالية لتستطيع معها تفريغ نتاجها املكتسب من تجربة الحرب. وهنا يربز دور مدن اللجوء ً أيضا ،باإلضافة إىل حالة اللجوء بشكل عام ،كالدروب التي سلكها السوري للوصول إىل النجاة. ويف هذا الشأن ً أيضا ،طفت عىل السطح تجارب عدة ،تناولت موضوعات اللجوء واملدن الجديدة، كامدة لكتاباتهم .ويف حني تعد هذه التجارب “الخروج من الوطن ،حالة اللجوء” مواضيع وجدانية إنسانية ،إال أن تناولها ال بد أن يبدأ من املكان ،إن كان املكان الذي ُترك ،ومكان الوجهة أو الوصول .فاملكان هنا يعترب الركيزة األساس واملحور الرئييس يف العملية الكتابية.
مدن التفريغ: وتأخذ هذه األماكن صفة االستقرار النسبي ،وشبه الدميومة .يكتسب منها الكاتب الشعور ولو جزئ ًيا باالستقرار ،فيقوم بتفريغ شحناته الشعورية ،بعد التامسه حالة االستقرار التي ُيكسبها له املكان. وقد تستثنى من هذه األماكن؛ السجون وحاالت االحتجاز القرسي ،وعىل الرغم من ذلك فهي تعد أماكن شحن وتفريغ يف الوقت ذاته ،يكتسب فيها الكاتب معاناة توقد قريحته ،ومتنحه ً أيضا شعو ًرا باملكان ا ُملحتجز فيه .فيعمل ضمن الحالتني يف آن واحد. وتتصف األماكن التي يستطيع الكاتب اإلنجاز فيها “مدن التفريغ” بحالة من الهدوء ،يقتات الكاتب فيها عىل ما اكتسبه من معارف وقراءات، ومشاهدات ،وحتى حاالت اإلثارة الوجدانية والعاطفية السابقة .ومن الطبيعي أن مخزون كل كاتب سينضب يو ًما طاملا أنه مل يخض غامر تجارب وحاالت جديدة .ورمبا سيعيد تكرار نفسه ،ومبا لديه من مخزون قديم .لذلك ال بد له أن يستلهم تجارب جديدة ،من أماكن جديدة ،واحتكاك مع شخوص وأحداث. ويف املحصلة ،تأيت بيئة املنشأ ،كمكان مؤثر من الدرجة األوىل يف مسرية الكاتب ،تصقل شخصه وتجربته ،وتبلور أسلوبه ،ليأخذ من الذكريات املرتاكمة ،مادة دسمة ينرثها عىل موضوعاته ،فتبقى طافي ًة عىل سطح مرشوعه األديب ،إىل النهاية .ومهام حاول الكاتب إخفاء هذا التأثر الذي اكتسبه من بيئة املنشأ ،باكتساب تراكامت جديدة من أماكن جديدة ،ال بد أن تظهر بيئة املنشأ كهوية شخصية دالة عىل صاحبها. وأخ ًريا ،نستطيع إدراج كل ما ُكتب تحت بند التجارب الشخصية ،ومن املؤكد أنها تختلف من شخص إىل آخر ومن بيئة إىل أخرى .إال أن اليشء الثابت من كل هذا ،هو أن للمكان سطوته عىل العملية الكتابية ،سطوة ال ميكن تجاوزها أو التغايض عنها مهام حاول الكاتب الخروج منها والتعاطي مع مخياله اإلبداعي.
“أصنام” يف بيت “اخلليفة” ! مشاهد مل َ ترو عن ليلة اإلنزال
13
علي الداالتي
العدد
103
أما الناشط ماجد عبد النور فيقول عن ازدواجيات تنظيم داعش“ :يكفروننا ويستبيحون دماءنا ،ويرون يف قتلنا أوىل األولويات ،ثم يختبئون بني خيامنا كالجرذان”! ويف لهجة الساخر املستنكر يكمل كالمه..“ :يف وقت شدة الربد كان يف منزل “الخليفة” عدة مدافئ ،ويف مطبخه ما لذ من الطعام ،رغم أنه يعيش يف منطقة متلؤها املخيامت ،ويبات أهلها وقد أصابهم الربد والجوع ،وكأن الخليفة املزعوم مل يسمع ما روي عن رسول الله صىل الله عليه وسلم: “ليس املؤمن الذي يشبع وجاره جائع إىل جنبه”. مشهد الدماء عىل ألعاب األطفال املتناثرة ،أو تلك األلعاب امللطخة بالدماء ،والتي اخرتقتها الشظايا ،تحمل دالالت كبرية بنظر الصحفي فايز الدغيم؛ فهي “ترمز إليديولوجيا التنظيم، باإلضافة لسياسية التحالف بالقضاء عىل التنظيم؛ فكالهام ال يفرقان يف أعاملهم بني مقاتل أو طفل ،أو مجرد لعبة أطفال كان يحملها طفل للمرة األخرية قبل أن ُيقتل ،أو أن يكرب ويعرف أن والده هو املطلوب األول دولياً”. ورمبا األغرب هم األطفال الذين تجمهروا حول البيت املستهدف ،وبسبب منعهم من دخول البيت مل يشاهدوا األلعاب املرمية باألرض،
والتي رمبا مل يحصلوا عىل مثلها منذ سنوات، ولكنهم وجدوا ألعاباً أخرى ،هي عبارة عن املخلفات الحربية لإلنزال ،وآثار دماره ،وهي “ألعاب” اعتادوا عليها منذ سنوات ،ولكن هذه املرة اختلفت الدولة املصنعة؛ فأولئك األطفال تعودوا عىل املخلفات الحربية الروسية ،وما خلفه اإلنزال األمرييك هي ألعاباً أقل توفراً مام خلفته الحرب الروسية عليهم منذ سنوات. وكانت مروحيات تابعة للتحالف الدويل نفذت إنزاال جوياً يف أطمة شاميل إدلب ،عىل الحدود السورية الرتكية ،بعيد منتصف ليل تحليق الخميس 2شباط /فرباير الحايل ،وسط ٍ ومسيات حربية أمريكية يف مك ّثف لطائرات ّ سامء املنطقة .و ُق ِتل يف العملية التي نفذتها القوات الخاصة األمريكية زعيم تنظيم داعش أبو إبراهيم القريش امللقب بالحاج عبدالله قرداش ،و 13شخصاً ،بينهم أربعة أطفال وثالث نساء ،بحسب بيان الدفاع املدين السوري. وسبق أن سقط عدد من الضحايا املدنيني يف عملياتللتحالفيفشاملغربسوريا،كانآخرها إصابة ستة أشخاص من عائلة واحدة بجروح يف غارة جوية أمريكية استهدفت شخصاً يف تنظيم القاعدة قرب مدينة إدلب نهاية عام .2021
2022 / 2 / 28
البناء الذي استهدفته غارة أمريكية و ُقتل فيه زعيم تنظيم داعش
تقارير
بني أشجار الزيتون يف األرايض الزراعية التي يختلط فيها الشجر والخياموالبيوت،وعىلمقربةمنأكربتجمعللمخيامتيفشامل سوريا ،بناء مؤلف من ثالث طوابق تعود ملكيته ملحمد الشيخ، أحد أهايل بلدة أطمة عىل الحدود السورية الرتكية ،والذي قام العام املايض بتأجري الطابق األول الذي له مدخل منفصل لعائلة، والطابقني الثاين والثالث لعائلة ثانية ليعتاش من اإليجار .معظم هذه األبنية بنيت يف سنوات الحرب إليواء أكرب عدد من النازحني. مل يعلم الشيخ أنه سيخرس منزله بسبب هذا اإليجار؛ فكل ما يعرفه أنه أجر املنزل لسائق سيارة لنقل البضائع، ال عالقة له مبا يجري ،فال خطر منه -أو عليه -قد يصيب املنزل .ولكنه ُص ِدم عندما عرف أن أصوات االنفجارات واالشتباكات جميعها كان مصدرها منزله املؤجر ،وأن العملية تستهدف القضاء عىل “الخليفة” قائد تنظيم داعش! حرض الشيخ مرسعاً يف صباح ليلة العملية ،ليتفقد املبنى واألرضار التي لحقت به .عند وصوله رأى أن البناء قد ُد ِّمر طابقه الثالث (امللحق) بشكل شبه كامل ،ماعد املطبخ؛ كون “القريش” قد فجر نفسه يف ذات الطابق حسب روايات الشهود .أما الطابق الثاين فكانت به آثار تخريب وإطالق نار وأغراض مبعرثة يف كل مكان ،مع آثار دماء عىل األرض والجدران ،وأعرية نارية متناثرة عىل األرض. ُيكن ملن ينظر لألغراض املبعرثة مالحظة كميات كبرية من األطعمة واألدوية ،مع وجود لعب أطفال مبعرثة بني الغرف، بالرغم من أن التنظيم كان قد منع سابقاً يف مناطق سيطرته أي دمى لها وجوه أو أعني أو جسم برشي ،باإلضافة أللعاب األطفال املستوحاة من أشكال الحيوانات! إذ اعترب تلك الدمى أصناماً ،وحيازتها تعني العقوبة ألنها شكل من أشكال الوثنية! وعن تلك املفارقة قال الشيخ حسن الدغيم إن التنظيم لديه تربيرات واهية لهذه األمور؛ كاألسباب األمنية واعتبارات خاصة، وحجج أخرى لخرق القواعد التي وضعها ،رغم أن عنارصه كانوا يكفرون غريهم لفعل ذات األمور ،أو حتى أقل منها. وأكد الدغيم أن داعش تنظيم يحمل أفكاراً اختلطت بها أفكار الغلو ،وحزب البعث ،وهذا قد يكون أحد أسباب املفارقات تلك. ويتابع أن التنظيم جعل من اإلجرام الصفة الثابتة الوحيدة له؛ فعقيدةالتنظيم تستحلالدماءواألموال،والخطفألخذالفدية، كام مارس السلب والنهب ،ومل يتوقف إجرامه عند دمى األطفال..
ّ جدلية اإلنسان واملكان يف رواية ّ األرمنية” “بيت
14 ياسمين نهار
العدد
103 2022 / 2 / 28 ثقافة
نتع ّلق باألماكن ..يفتننا سحرها ..نساهم يف تكوينها ،لكنّها ُسعان ما تر ّد الجميل وتك ّوننا؛ لذلك ال نستغرب وجود بعض مالمحها يف َس َحناتنا ..يف طباعنا ..يف نربات صوتنا.. نتع ّلق باألماكن ..نس ّميها ،وحني نس ّميها نؤنسنها، لتصبح يوماً بعد يوم رشيكة االغرتاب واإلذالل وانجراح ال ّذوات. الكاتب فيصل أبو سعد يف رواية “بيت األرمنية” القصة مل يجعل املكان أرض ّية تقع فيها أحداث ّ فحسب؛ بل هو ُبعدٌ من أبعاد ال ّذات ،ومرآة قصته “نارص”. تعكس مشاعر بطل ّ والجدير باالنتباه ّأن البيوت يف ال ّرواية تجاوزت األصم ،لتصبح كائنات الحيس حدود حضورها ّ ّ إنسان ّية تتم ّيز بالحيو ّية والقدرة عىل التّواصل وإمكان ّية التّأويل. يحاور نارص البيوت ،ميارس تأثريه عليها؛ فرتفع املهم اإلشارة عنها الحجب وتبوح بأرسارها .ومن ّ إىل مكان ورد يف ال ّرواية حمل صفة الخوف واإلكراه وال ّرعب ،وأبرز ّ الضغط والتّعذيب السجن .كم الن ّ ّفيس الذي يتع ّرض له قاطنوه وهو ّ وآهات ورصخات السجن من دماء ٍ عىل جدران ّ نجح نارص يف اكتشافها واإلصغاء إليها حني اعتقل فيقول“ :رموين يف ّ والصقيع وغادروا، الظالم ّ الصمت سوى نفيس، شهران وال رفيق يل يف ّ لذلك رحت أحادثها ،ورحت وإ ّياها نك ّلم حجارة الجدران املتآكلة ،بيدي أقرأ عليها حروف العذاب ال بعيني .وراحت بدورها تخربين ّ بكل ما لديها. كم من ي ٍد خرمشت صمت الحجارة ،كم من دماء سالت عليها ،كم من اآلهات خ ّبأت يف شقوقها، يا إلهي ..وكم من اآلهات أطلقت ..نعم كانت الصرب ،إال تحادثهم ،تتعاطف معهم ،تح ّثهم عىل ّ أ ّنهم ما كانوا ليسمعوها ،أنا أسمعها اآلن ،أسمعها ّ بكل وضوح” ص.129
بعد تلك التّجربة القاسية كان عىل نارص أن يكمل حياته من جديد ،ويتابع دراسته يف كل ّية الفنون الجميلة ،لكنّه يتفاجأ بفصله من الكل ّية ،وأثناء استكامل أوراق التّسجيل يف كل ّية أخرى ميسكون به ويرسلونه إىل معسكر للتدريب أل ّنه متخ ّلف عن الخدمة اإللزام ّية. يتع ّرض نارص ملحاكمة عسكر ّية أثناء خدمته اإللزام ّية أل ّنه دافع عن الجنود وطالب بأبسط حقوقهم .يف تلك األثناء يزوره ابن خاله أسامة وهو ضابط تزوج أخته منرية -ويطلب منه أنيتصنّع الجنون لينج َو من التّهم ا ُمللصقة به. الصحراويّ بعد السجن ّ هكذا يخرج نارص من ّ يتم خاللها عرضه عىل لجنّة طب ّية. تسعة أشهرّ ، هنا يحقّ لنا أن نتساءل :هل عىل اإلنسان أن يتصنّع ُ الخبل أو أن يكون مجنوناً فع ًال يف هذه البالد لينج َو من تبعات مواقفه وآرائه؟! والحقيقة ّأن نارصاً منذ أن عاد إىل مدينته “زارة” السري يف شوارعها، بعد تجربتي سجن أدمن ّ والوقوف عند تفاصيل أمكنتها والتقاطها ،لعلهاّ تبوح مبداخلها ،وتكشف أرسارها. ّ كل البيوت التي أراد نارص أن يحادثها استجابت له ،حاورته ،باستثناء بيت األرمنية؛ استعىص عىل نارص ومل يبح بأرساره ّإل بعد محاوالت حثيثة. “بيت األرمنية” هو عنوان الرواية ،ونقطة االتصال شك ّأن ّ األوىل بني القارئ وال ّرواية ،وال ّ فك رموزه السد“ .بيت األرمنية” من شأنه توضيح دالالت ّ هو بيت فتاة اسمها “ديكرانة” نجت من مذابح األرمن الذين استُه ِدفوا بشكل ممنهج بالقتل واالعتقال والتّعذيب والتّهجري بني عامي 1919- ،1920ومن مل ُيقتَل يف املذابح منهم مات جوعاً السورية. وعطشاً أثناء ترحيلهم إىل ّ الصحراء ّ بعد أن تزوجت “ديكرانة” من “رميون” وقع اختيارها عىل “زارة” لتصبح وطناً بدي ًال عن
الوطن األص ّ تتأصل فيه ه ّويتها ،ومتتد ّبأرضه يل ّ جذورها. بلعبة فن ّية متقنة جعل الكاتب بيت األرمنية يبوح لنارص بأرساره دفعة واحدة ،بعد أن أمسك نارص ّ بكل الخيوط؛ بدءاً من كالم أخته منرية -التي ع ّلمته استنطاق البيوت -عن صور وذكريات غريبة ،وانتهاء مبا أبان له البيت من الحقائق املتوافقة مع رؤاه التي كانت تغ ّذيها أحاديث منرية. والحاصل ّأن “ديكرانة” التي قتلها عسكريّ استأجر القبو يف منزلها ،هي “منرية” أخت نارص يف هذا الجيل .وهنا ّ وظف الكاتب فكرة التّق ّمص يف روايته؛ وتعني انتقال ال ّروح من جسد إىل جسد بعد املوت. والب ّد من اإلشارة هنا إىل ّأن توظيف تجربة التّق ّمص فن ّياً يشري إىل التّجدّد والوالدة الدّامئة، لكنّ الكاتب ح ّملها ُبعداً جديداً هو انتقال مآيس القتل والتّهجري من بالد إىل بالد ومن شعب إىل شعب. بهذا املعنى تكون مأساة األرمنية قناعاً للأمساة السورية ،وما تع ّرض له ّ السوري من الشعب ّ ّ تعذيب واعتقال وإبادة وتهجري.. غري ّأن ما ينبغي ّأل يفوتنا هو الوقوف عند صورة املرأة يف ال ّرواية ،والتي مل تخرج عن صورة املرأة املرتهنة للمجتمع ال ّذكوريّ ،ودليلنا عىل ذلك والدة نارص ،التي عانت من وصاية وجشع اإلخوة ،وحرمان التّعليم؛ ذلك ّأن والدها كام ورد عىل لسان نارص “أخرجها من املدرسة لتحلب البقرة ،منعها من القراءة كيال تفسد كبنات ثم سارع لتزويجها ،ال خشية إمالق وفقر، جيلهاّ ، وال خوفاً عليها أن تبقى مثل أختها الكربى ندبة يف وجهه ،وال طمعاً برثوة أيب وجاهه ،زوجها فقط أل ّنه اكتشف اهتاممها بأمر خطري أطار عقله من
.....
العدد
103 2022 / 2 / 28
ّ املتقطع مل ُيظهر شخص ّية ّمني والجدير باالنتباه ّأن النّسق الز ّ “نارص” ظهوراً متنامياً ومتامسكاً ،وهنا يأيت دور املتلقي ليعيد صياغة ّ الشخص ّية يف وعيه بعد االنتهاء من قراءة ال ّرواية، وهذا يحتاج إىل قارئ قادر عىل اإلمساك بالخيط ال ّرفيع الذي يربط ما بني األحداث ،وإعادة ترتيب الزّمن. الصور املهم اإلشارة يف هذا املجال إىل ّأن تقطيع ّ ومن ّ السد ّية وتركيبها وفق تزامن جديد دليل عىل إفادة الكاتب ّ السينام ّيئ ،والس ّيام حني استخدم تقن ّية من تقنيات الفنّ ّ السد، االسرتجاع الفن ّّي (الخطف خلفاً) التي كرست رتابة ّ وأضاءت ّ الشخص ّية من الدّاخل ،وب ّينت آثار املايض يف تكوين السد ّية وتركيبها). حارضها ،وتقنية املونتاج (تأليف املشاهد ّ ومن ّ اللفت للنّظر ّأن لغة الكاتب امتازت ّ بالشاعر ّية، والس ّيام حني يتع ّلق األمر بوصف املكان ودليلنا عىل ذلك: “زارة؟!! هي نقش الزّمان عىل قميص الحجر ..هي شال من ملقى بإهامل فوق بساط من العشب .هي ضباب سامويّ ً ، ٍ ٌ مكلوخ من شجرة النّار ،ور ّبة حجر ّية هي ،تتمدّد عند غصنٌ سفح أغرب جبل يف الدّنيا ،فم ّرة ّ كل ألف عام ،يلتقي باطن األرض بظاهرها ،ميسح بال ّلظى وجوه الخاليا ،وتغور الكائنات جميعها يف ّ تصحح الطمي ،كأ ّنه مينح الحياة فرصة يك ّ أخطاءها” ص.22 وليس هذا فحسب بل زاوج الكاتب بني الفصحى والعام ّية ليربز تفاوت وعي ّ االجتامعي الشخصيات ،وتن ّوع الخطاب ّ السد ّإل صورة لغو ّية للواقع وما فيه من وال ّثقا ّيف لديها .وهل ّ عالقات إنسان ّية -اجتامع ّية -ثقاف ّية -سياس ّية.. وخالصة القول :عىل ال ّرغم من حضور املكان الجميل ّ والطاغي عىل امتداد ال ّروايةّ ،إل ّأن ال ّرواية رواية اإلنسان وما وأوجاع؛ ذلك ّأن ذكريات وأرسا ٍر اختزن يف تلك األمكنة من ٍ ٍ الفضاء ال ّروا ّيئ أكرث اتساعاً من أن ُيحدّد بالبيوت أو الشوارع الصغر، أو األمكنة أو األثاث ..هو فضاء الذات املقموعة منذ ّ السبب فضاء الهو ّية ا ُملجربة عىل االقتالع من جذورها ،لهذا ّ ا ّتخذت ال ّرواية شكل البناء الدّائريّ الذي يشبه الحلقة فكانت نهاية ال ّرواية النّقطة التي بدأت بها ،فليس عجيباً أن يدور الجميع يف حلقة ُمف َرغة يف بالد ُت َك ُّم فيها األفواه ،و ُتق َمع ّ كل صبوة لالنعتاق. هكذا نرى ّأن رواية “بيت األرمنية” من ال ّروايات التي تؤ ّكد قول هيجل“ :ال ّرواية تص ّور التناقض القائم بني اإلنسان والعامل الذي يعيش فيه ،واغرتابه عنه يف املجتمع الحديث”.
ثقافة
مح ّله ،اكتشف أ ّنها ترسم”! ص .58وليست ابنتها منرية أوفر ّ حظاً من أ ّمها؛ فقد أخرجوها من املدرسة ،وز ّوجوها ابن خالها ّ الضابط ،وهي من كانت تكره العسكر ولباسهم. قسم ال ّرواية إىل كالم مكتوب ّ بخط صغري ،هو عبارة عن ومن املالحظ ّأن الكاتب ّ ذكريات أوردتها شخص ّية “نارص”ّ ، غطى نارص من خاللها حوادث تعود إىل الزّمن املايض القريب واملايض البعيد الذي قد يرجع إىل سنوات ّ الطفولة .أ ّما الكالم املكتوب بخط أكرب يشري إىل أحداث وقعت يف الزّمن الحارض ،وردت عىل لسان يوضح مواقف ّ السارد الذي كان ّ الشخص ّيات “نارص” ،باإلضافة إىل كالم ال ّراوي ّ السد ويفس األحداث ويع ّلق عليها ،وميكن القول ّإن أحادية ال ّراوي هيمنت عىل ّ ّ ّ وصبغته بأسلوب املؤلف. غري ّأن ما ينبغي ّأل يفوتنا هو الحديث عن تعامل الكاتب مع الزّمن وما فيه من ّ املتقطع املتناوب بني زمن الحكاية ّمني مغامرة وتجريب ،حني استخدم النّسق الز ّ ال ّراهن والزّمن املايض؛ وقد استم ّر التّناوب بني الزّمنني إىل نهاية ال ّرواية ،وساهم بدوره يف تقليص املسافة بني مايض ّ الشخص ّية وحارضها.
15