مجلة طلعنا عالحرية / العدد 102

Page 1

‫حرية ‪ ،‬كرامة‪ ،‬مواطنة‬

‫العدد‬

‫‪102‬‬ ‫‪2022 / 1 / 20‬‬

‫مجلة شهرية‪ ،‬سياسية‪ ،‬ثقافية‪ ،‬مستقلة‬


‫حماكمة رسالن‪ ..‬العجز عن الفرح!‬ ‫افتتاحية العدد بقلم هيثم احلموي‬

‫‪2‬‬

‫العدد‬

‫‪102‬‬ ‫‪2022 / 1 / 20‬‬

‫رصت عىل قناعة بأنه صار من املستحيل أن أفرح ألي‬ ‫حدث كبرياً أو صغرياً متعلق بسوريا منذ منتصف عام‬ ‫‪ ،2011‬وحتى لو سمعت بسقوط األسد أو مرصعه‬ ‫اآلن فلسوف أجد يف نفيس مئة سبب مينعني من‬ ‫الفرح بذلك الخرب‪ ،‬فض ًال عن أن استبرش به خرياً!‬ ‫ليس السبب يف ذلك أنني إنسان (نكدي) وال‬ ‫أعرف كيف أرى النصف املآلن كام يقولون‪ ،‬بل‬ ‫ألن معظم األحداث التي مرت علينا كان طعم‬ ‫تناقضاتها مريراً جداً ال يبتلعه عاقل إال مرغ ًام‪.‬‬ ‫ماذا كان شعوري عندما كانت بعض املناطق تتحرر‬ ‫(أو تسقط كام يحب كل شخص أن يسميها) عىل‪/‬‬ ‫أو يف أيدي جبهة النرصة يف الشامل أو جيش اإلسالم‬ ‫يف ريف دمشق؟ هل أفرح لخروجها من أيدي‬ ‫عصابة األسد؟ أم أحزن لسقوطها يف أيدي عصابات‬ ‫جديدة ستامرس التسلط عىل املجتمع من جديد؟‬ ‫ماذا كان شعوري عندما سمعت بتفجري خلية األزمة؟‬ ‫هل أفرح مبقتل هؤالء املجرمني‪ ،‬أم أنتظر بربود‬ ‫ألعرف ما وراء األكمة‪ ،‬ومن قتل من يف ذلك التفجري؟‬ ‫ماذا كان شعوري عندما سمعت بدخول القوات‬ ‫الرتكية ملنطقة الشامل السوري؟ هل أفرح ألن‬ ‫دخولهم سيخفف القصف األسدي والرويس عىل تلك‬ ‫املناطق‪ ،‬بل ورمبا خروجها نهائياً غري مأسوف عليها‬ ‫من سيادة النظام السوري التي مل تجلب عليها إال‬ ‫املوت والدمار‪ ،‬أم أحزن ملعرفتي أن دخول األتراك‬ ‫هدفه الرئيس متزيق الكيان الكردي‪ ،‬وما س ُيبنى‬

‫عىل ذلك من ظلم يطال الكرد يف تلك املنطقة؟ مل أكرتث من قبل لحال املجرم صدام حسني ألنه مل‬ ‫هل أفرح عندما أسمع باالستقرار النسبي يف يعتذر‪ .‬لكن هل أستطيع أن أفرح؟ هذا هو السؤال‬ ‫أماكن السيادة الكردية؟ أم أحزن ألن هذا الصعب! فيالسخرية القدر‪ ،‬عندما يكون أول من‬ ‫االستقرار كان أيضاً عىل حساب بعض حقوق يحاكم من ضباط املخابرات السورية ضابطاً منشقاً!‬ ‫العرب يف تلك املنطقة؟ ناهيك عن الوجود ويف الوقت الذي يحاكم فيه هذا الضابط‪ ،‬تفكر دول‬ ‫األمرييك واألوريب الذي لن يوفر مورداً إال ابتزه‪ .‬العامل مبا فيها أمريكا يف كيفية إعادة تأهيل األسد‪،‬‬ ‫األنىك من كل ذلك أن بعض األحداث املؤملة يف أو عىل األقل كيف ميكنها أال تكرتث لبقائه عرشين‬ ‫الثورة السورية كانت تعطيني شعوراً إيجابياً سنة أخرى عىل رقاب السوريني‪ .‬هل حقاً أستطيع أن‬ ‫غريباً‪ ..‬هل أنكر أنني شعرت بنوع من التفاؤل أفرح لحكم يطال ضابطاً مجرماً‪ ،‬فيام يتم يف الوقت‬ ‫عندما علمت باستخدام النظام السوري للسالح نفسه التغايض عن هروب رفعت األسد إىل سوريا بعد‬ ‫الكياموي ض ّد أهلنا يف الغوطة! ألميل الغبي بأن أن عاش حياته يف أوروبا متنع ًام بأموال السوريني!‬ ‫يقود ذلك إىل ردع دويل عسكري للنظام السوري؟ وحتى لو حاولت قلي ًال إسكات آالم هذه التناقضات‪،‬‬ ‫بل ماذا كان شعوري عندما سمعت بتسليم شهادات والشعور بنوع من الهناء لنيل مجرم عقابه املستحق‪،‬‬ ‫الوفاة لكثري من املعتقلني؟ هل حزنت عىل استشهادهم تأيت تعليقات السوريني عىل هذه األحداث لتبخر‬ ‫وفراقهم يف هذه الحياة الدنيا‪ ،‬أم ارتحت لعلمي أنهم آخر أحالمي بهذا الهناء‪ .‬فكمية اإلشادة بهذا‬ ‫مل يعيشوا كل تلك السنوات تحت التعذيب الوحيش الحكم أشعرتني بأنه قد تم اإلفراج بعده ولو‬ ‫املستمر‪ ،‬وأنهم لن يعيشوا سنوات مديدة أخرى عن معتقل واحد‪ ،‬وأن دول العامل قررت إيقاف‬ ‫دون أي أمل يف تحريرهم قريباً من أيدي جالديهم‪ .‬هذه املجزرة املستمرة ألكرث من عقد‪ ،‬وأننا قد‬ ‫ال أعرف إن كنت قد استطعت بذكر هذه األمثلة بتنا قاب قوسني أو أدىن من فتح قرص املهاجرين‪.‬‬ ‫توضيح عجزي عن السعادة لسامع أي خرب عن باملقابل فإن الذين أعطوا األمر حجمه الحقيقي برأيي مل‬ ‫باألصح‪ :‬ملاذا أشعر بشعور “التنميل” يسلموا من شخصنة القضية‪ ،‬واستثامرها فرصة للتهجم‬ ‫سوريا! بل‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫الذي عندما يصيب رجلك يرتكك محتارا‪ ،‬هل تثني عىل بعض منافسيهم‪ ،‬الذين قاموا حسب زعمهم‬ ‫قدمك أم متدها‪ ،‬هل تفركها أم ترتكها دون ملس؟! (وقد يكون صحيحاً) بأخطاء كارثية خالل املحاكمة‪.‬‬ ‫كنت أحس دوماً أن كل األخبار ملغومة‪ ،‬وأنه من قالتها العرب قدمياً‪ :‬رش البلية ما يضحك‪ ،‬وكم مر‬ ‫االستحالة أن يأيت أمر جيد علينا نحن السوريني‪ .‬علينا من املضحكات املبكيات يف السنوات العرش‬ ‫مل أحزن أبداً ملحاكمة أنور رسالن وال لتلقيه حك ًام األخرية‪ .‬لكن أي بلية أرش من بلية تربك اإلحساس‪،‬‬ ‫بالسجن املؤبد‪ ،‬ألنه بنظري مل يعتذر‪ ،‬ومن ال يعتذر وتحبس الدموع يف املحاجر‪ ،‬وتح ّذر البسامت‬ ‫ال يستحق املغفرة‪ ،‬لذلك مل أكرتث أبداً لحاله‪ ،‬كام من أن ترتسم عىل وجوه قد تعبت من الخذالن‪.‬‬ ‫‪www.freedomraise.net‬‬

‫افتتاحية‬

‫املقاالت املنشورة تعرب عن آراء أصحابها أوالً‬ ‫وال تعرب بالرضورة عن آراء هيئة التحرير‬ ‫املجلة غري ملزمة بنرش كل ما يردها من مواد‬

‫شهرية ثقافية‪ ،‬اجتامعية‪ ،‬سياسية‪،‬‬ ‫تعنى بالشأن السوري‬ ‫املدير اإلداري‬ ‫معتصم أبو الشامات‬

‫الغالف‬ ‫سمري خلييل‬

‫تفاعل معنا عرب صفحاتنا عىل اإلنرتنت‬ ‫‪facebook.com/rising4freedom‬‬

‫نصار‬ ‫رئيس التحرير أسامة ّ‬

‫‪twitter.com/freedomraise‬‬

‫نائب رئيس التحرير ليىل الصفدي‬

‫‪freedomraise@gmail.com‬‬

‫كاريكاتري‬ ‫سمري خلييل ‪ /‬هاين ع ّباس‬

‫أمن رقمي ومحاسبة‬ ‫وائل موىس‬

‫زمالء مختطفون يف سوريا‬ ‫رزان زيتونة ‪ -‬ناظم حامدي‬


‫‪3‬‬

‫العدد‬

‫‪102‬‬

‫‪2022 / 1 / 20‬‬

‫كاريكاتري‬


‫‪4‬‬

‫بني الدولة يف اللغة والدولة يف اجلغرافيا‬ ‫مرزوق الحلبي‬

‫العدد‬

‫‪102‬‬ ‫‪2022 / 1 / 20‬‬ ‫مقاالت‬

‫الدول املتن ّفذة بحاجة إىل مدى كبري من االستقرار يف‬ ‫مناطق وإقليم مصالحها الحيو ّية كام تفهمها‪ ،‬ومثله‬ ‫من الفوىض يك تستتب لها األمور‪ .‬والنُخب املتن ّفذة‬ ‫يف داخل الدول تحتاج إىل هذه املروحة من الحاالت‬ ‫بني استقرار وفوىض يك تفرض سؤددها وتتح ّقق لها‬ ‫مصالحها‪ .‬إذ مل يكن ك ّلها فمعظمها‪ ،‬وإن مل يكن‬ ‫ُمعظمها فجزء منها‪.‬‬ ‫هذه هي عمل ًّيا ق ّوة الدفع التي ترسم األوضاع داخل‬ ‫الدول وبينها‪ :‬اإلرادة السياس ّية والعسكر ّية التي تضمن‬ ‫املصالح وحميها‪ .‬أ ّما مفهوم الدولة بوصفها سلطة قانون‬ ‫وعقدًا اجتامع ًّيا‪ ،‬فهي ّ‬ ‫أقل أه ّمية للقوى املتن ّفذة‪ ،‬وإن‬ ‫كانت يف منتهى األه ّمية بالنسبة للمواطن الفرد‪.‬‬ ‫هذا ما ُيكننا أن نخلص إليه من رصد للتح ّوالت يف‬ ‫مفهوم الدولة‪ ،‬وتلك التي تشهدها العالقات الدولية‬ ‫اآلن ويف املايض‪ .‬ك ّلام ابتعدنا عن “نواة الدولة”‬ ‫و”فكرتها” األوىل يف العرص الحديث ‪-‬وكان ما ُيشبهها‬ ‫يف العصور األقدم‪ -‬كام صاغها هوبس وروسو ولوك‬ ‫اجتامعي‪ -‬وكام أكمل بناؤها الدميقراطيون‬ ‫كعقد‬‫ّ‬ ‫والليرباليون كحالة قانونية ومواطنة وحقوق وحر ّيات‪،‬‬ ‫سنكتشف أنها فقدت وهجها‪ ،‬أو مل تعد هامة بقدر ما‬ ‫تخدم مصالح عابرة للحدود لقوى متن ّفذة ‪-‬اقتصادية‬ ‫يهم‬ ‫باألساس‪ -‬ترى يف الدولة أداة لتحقيق مصالحها‪ ،‬وال ّ‬ ‫إذ مل تكن كذلك بالنسبة ملواطنيها وسكانها‪.‬‬ ‫مبعنى أن سوريا ً‬ ‫حرصا‪ُ ،‬يكن أن تنتهي كدولة‬ ‫مثل ال ً‬ ‫مواطنني‪ ،‬وتبقى عىل أنها جغرافيا من املوارد الطبيع ّية‪.‬‬ ‫وكذلك الكونغو أو ليبيا أو الصومال أو غريها من مواقع‬ ‫يف شبه جزيرة القرم والقوقاز وأرخبيل املحيط الهادي‪.‬‬ ‫إن مل نتح ّرر من فهمنا التقليدي املحافظ للدولة‪ ،‬ومن‬ ‫ّ‬ ‫فسنظل نحيك‬ ‫تص ّوراتنا الرومانسية لها ولدالالتها‪،‬‬ ‫ونكتب عن الدول بوصفها أوطاناً ما نحكيه ونكتبه منذ‬ ‫التح ّرر من االستعامر أواسط القرن العرشين‪ .‬أو أننا‬ ‫ّ‬ ‫سنظل عىلأمانيناوأوهامناالتيبنتهابالدموالتضحيات‬ ‫الجسام‪ ،‬حركات التح ّرر القومي بشأن الدولة ووظائفها‬ ‫بالنسبة لألصالنيني والفئات ا ُملستضعفة وامله ّمشة‪.‬‬

‫“ستنتشلكم الدولة من القاع” قالوا للناس‪“ .‬وستصري‬ ‫الدولة وطنًا‪ ،‬والوطن حضنًا دافئًا بعد أن سلبه‬ ‫االستعامر وسلب موارده منكم”! منذ ذلك الحني م ّرت‬ ‫فوق فلسطني والشام والعراق ووادي النيل أرساب ال‬ ‫تغيت الدول عىل األرض‬ ‫تنتهي من الطيور املهاجرة‪ّ .‬‬ ‫ألف م ّرة‪ ،‬وإن ظ ّلت ُتسمى ً‬ ‫دول يف اللغة‪ ،‬وتع ّد راياتها‬ ‫يف أعىل بناية األمم املتّحدة يف نيويورك!‬ ‫تعمل ّ‬ ‫كل القوى السياس ّية املعارضة واملوالية يف كل‬ ‫مكان‪ ،‬مبا فيه املكان العريبّ‪ ،‬بوحي من فرضيات‬ ‫سوسيولوجيا الدولة اإلقليمية‪ /‬القومية‪ .‬متارس السياسة‬ ‫و ُتنتج عقائد وموديالت ضمن هذه الحدود وتك ّرس‬ ‫الخطاب ذاته بشأن مفهوم الدولة الكالسييك كأن شيئا‬ ‫مل يحصل‪ ،‬ال يف الفكرة وال يف مامرساتها واحتامالتها‬ ‫ووظائفها‪ .‬علينا أن نعرتف أن الدولة صارت أبعد‪ ،‬إذا‬ ‫صح التعبري‪ .‬صارت أكرث استعصا ًء‪ ،‬وهذه امل ّرة بسبب‬ ‫ّ‬ ‫انقضاض قوى العوملة عىل املناطق السياس ّية الضعيفة‬ ‫لكن الغن ّية باملوارد الطبيع ّية واملصالح (خطوط مالحة‬ ‫ومواقع اسرتاتيجية لضامن نقل النفط ً‬ ‫مثل)‪.‬‬ ‫وقد تصري النُخب الوطن ّية هي وسيلة قوى العوملة‬ ‫للسيطرة ووضع يدها عىل دول وبالد كاملة‪ ،‬أو جزء‬ ‫منها‪ .‬أ ّما تنادي بعض القوى اإلقليمية أحيا ًنا إلعادة‬ ‫إعامر ‪-‬سوريا والعراق وليبيا وأفغانستان مث ًال‪ -‬هي‬ ‫منوذج لنهج رأسامل عاملي ينقض عىل األزمات‬ ‫ويستثمرها مثلام يستثمر مواقع االستقرار‪ .‬وهناك‬ ‫(مسجلة باسم‬ ‫نظر ّية متكاملة يف العلوم السياس ّية‬ ‫ّ‬

‫تتقص خطوات الرأسامل‬ ‫األمريكية ناعومي كالين) ّ‬ ‫العاملي الستثامر مواقع األزمات‪ ،‬مبا فيها تلك الكوارث‬ ‫التي تنجم عن كوارث طبيع ّية‪.‬‬ ‫عىل السوريني ‪-‬أو غريهم‪ّ -‬أل يواصلون انتظار الدولة‬ ‫الفرنيس‪ .‬عليهم‬ ‫التي مل تتح ّقق لهم رغم الجالء‬ ‫ّ‬ ‫التفكري ببناء اجتامعهم من الرشط الذي وصلوا إليه‬ ‫عىل أساس الذي متنوه من ُنظم ومضامني ودساتري‬ ‫وحر ّيات وحقوق‪ .‬صحيح أن للدولة دورها األساس يف‬ ‫بناء االجتامع‪ ،‬لكن يف غيابها ‪-‬وحيث استطاع الناس أن‬ ‫يفعلوا‪ -‬عىل القوى الفاعلة أن ُت ّ‬ ‫نظم االجتامع‪ ،‬وتقوم‬ ‫بأوده ريثام يكرب ويكتسب مناعة‪.‬‬ ‫يبدو يل أن الناس يف ّ‬ ‫كل العامل راهنوا عىل الدولة‬ ‫ووظائفها‪ ،‬و ُمعظمهم خابوا‪ ،‬ال س ّيام أولئك الذين‬ ‫خرجوا من نفق االستعامر بتضحيات جسام‪ .‬وقد آن‬ ‫األوان ُلياهنوا عىل أنفسهم‪ ،‬ليس كحركة ضد الدولة‪،‬‬ ‫لكن كمرحلة مؤ ّقتة يحققون فيها اجتامعهم‪ ،‬وبعض‬ ‫حياتهم إىل أن يكتمل اقتدارهم‪ .‬أن ّ‬ ‫ينظموا أنفسهم‬ ‫وحياتهم عىل كل مرافقها‪ ،‬وأن يؤسسوا ما لزم من نظام‬ ‫عالقات وقواعد إدارة يف أصغر ضيعة وأكرب حارضة‪ ،‬يك‬ ‫يكونوا وإن غابت الدولة‪.‬‬ ‫سيكون عليهم ‪-‬إذا ما حاولوا‪ -‬أن يلعبوا مع العامل‬ ‫وقواه‪ ،‬أن يحاوروه ويصارعوه‪ ،‬فهو ليس عاملًا محايدًا‬ ‫البتّة‪ .‬مبعنى أن عىل اإلنسان الفاعل‪ ،‬والقوى الفاعلة‪،‬‬ ‫أن تتع ّود أنها فاعلة‪ ،‬ليس عىل مستوى وطن ومجتمع‪،‬‬ ‫بل عىل مستوى إقليم وعامل‪.‬‬


‫حماكمة كوبلنز بني اإلنصاف والعدالة‬

‫‪5‬‬

‫جمال الشوفي‬

‫العدد‬ ‫مقاالت‬

‫الدعوى القضائية بادر بها فريق من الحقوقيني‬ ‫السوريني‪ ،‬ويف مقدمتهم املحامي أنور البني املشهور‬ ‫له بعمقه الوطني ودفاعه الطويل عن حرية الرأي‬ ‫واملعتقلني السوريني‪ ،‬واملعتقل ألكرث من مرة يف السجون‬ ‫السورية بسبب مواقفه تلك‪ ،‬والذي قدم إفاداته وأدلته‬ ‫بأن الضابط أنور رسالن‪ ،‬محط الدعوى القضائية‪ ،‬كان‬ ‫قد أرشف عىل اعتقاله وتعذيبه سابقاً‪ ،‬كام قدمت األدلة‬ ‫والرباهني مبا يصل لـ ‪ 27‬ادعاء وشهادة يف مواضيع‬ ‫التهم املوجهة ضد رسالن‪ ،‬جعلت املحكمة بعد طول‬ ‫جلساتها تحكم بالسجن املؤبد عليه‪ ،‬والذي أىت يف نص‬ ‫قرارها إدانة واضحة لجهاز األمن السوري الذي ينتمي‬ ‫إليه رسالن‪ ،‬بهجومه الكمي عىل املتظاهرين السلمني‬ ‫السوريني‪ ،‬والكيفي من حيث منعهم من حق التظاهر‬ ‫واالحتجاج السلمي بإطالق النار عليهم واحتجازهم‬ ‫دون مذكرات قضائية‪ ،‬ما أدى إىل تعذيبهم‪ ،‬وقتل‬ ‫الكثري منهم يف أقبية املخابرات‪ .‬وكون رسالن عضواً‬ ‫يف هذا الجهاز‪ ،‬وميارس عمله الوظيفي فيه‪ ،‬ومع أنه‬

‫‪102‬‬

‫واإلكراه الجنيس‪ ،‬أثناء مامرسة عمله كضابط سوري يف الفرع‬ ‫‪ 251‬التابع لألمن العام السوري خالل الفرتة من نيسان‬ ‫‪ 2011‬اىل أن قرر ترك عمله أواسط العام ‪ 2012‬وتوجهه‬ ‫بعدها بطريقة رسية لألردن ثم إىل أملانيا ليقيم فيها الجئاً‪.‬‬

‫بأيدي السوريني أنفسهم‪.‬‬ ‫بالعودة لكوبلنز‪ ،‬ميكن القول بجدية إنها أنصفت‬ ‫شخصياً بال شك أهايل املعتقلني واملعتقالت وضحاياهم‬ ‫يف تلك الفرتة التي كان فيها رسالن ضابطاً ومسؤوالً‪،‬‬ ‫لكن املحاكمة بذاتها ال ترتقي لبوابة العدالة‪ ،‬والتي مل‬ ‫يتحقق منها سوى الجانب الشخيص يف اإلنصاف‪ ،‬بينام‬ ‫الجانب العمومي املتعلق باملجتمع لليوم مل يتقدم‬ ‫خطوة بعد‪ ،‬وهذا ما يجب أن يناقشه السوريون‬ ‫اليوم وكل يوم‪ :‬كيف ميكن أن تتحقق العدالة يف‬ ‫بعد مجتمعي‪ ،‬ما مل تتحقق الدولة وسيادة القانون؟‬ ‫تلك التي أتاحت ألملانيا محاكمة رسالن‪ ،‬بينام لليوم‬ ‫الزالت سوريا بكل سورييها رهينة االستبداد وتقاسم‬ ‫النفوذ العاملي والسطوة العسكرية وقوة األمر الواقع؟‬ ‫والسؤال األهم كيف ميكن أن نخطو باتجاه العدالة‬ ‫الفعلية ما دام أصحاب املظامل أنفسهم يظلمون‬ ‫بعضهم البعض‪ ،‬ويرصون عىل تسييس كل قضاياهم‬ ‫بطريقة استقطابية متنافرة بني أسلمة وعلمنة‪ ،‬بينام‬ ‫تقتيض العدالة وسيادة القانون الهوية الوطنية أوالً قبل‬ ‫انقساماتها األيديولوجية تلك‪ ،‬والتي ترص عىل تهشيم‬ ‫اإلرصار الحقوقي عىل اإلنصاف من جهة‪ ،‬وتهشيم حتى‬ ‫املواقف الجريئة ملن قرر ترك النظام‪.‬‬ ‫حققت كوبلنز اإلنصاف لعدد من السوريني يف أملانيا‪،‬‬ ‫وليت السوريني ينصفون بعضهم حني يحققون العدالة‬ ‫واإلنصاف بآن لبعضهم! لرمبا ُا ّتهم باملثالية بهذا‬ ‫املوقف‪ ،‬لكني متيقن ما مل نتجاوز حدودنا الشخصية‬ ‫يف اإلنصاف الذايت وحسب‪ ،‬ونعرتف بأخطائنا الفردية‬ ‫السابقة والالحقة‪ ،‬ونتقبل مسؤوليتنا عنها قضائياً‬ ‫وأخالقياً‪ ،‬فإننا لن نخطو خطوة واحدة يف إقامة العدل‬ ‫وسواده بني الناس بدي ًال عن السياسة والتحزب والتسلط‬ ‫التي ال زالت تضيع مفهوم العدالة من جذره وتخلطه‬ ‫بني األهواء واأليديولوجيات‪ ،‬ولسان حال األعرايب يكرر‬ ‫من شدة ضحالتنا السياسية هذه‪ :‬مل أمت ولكني رأيت‬ ‫املوت مراراً‪..‬‬

‫‪2022 / 1 / 20‬‬

‫يقتيض القانون تحقيق العدالة محققاً جوهرها يف‬ ‫اإلنصاف الشخيص للمجني عليه‪ ،‬وتعميم العدل بني‬ ‫الناس مجتمعياً‪ .‬العدالة ال متاثل اإلنصاف؛ فالعدل‬ ‫يحتوي اإلنصاف كإحدى أجزائه ومكوناته‪ ،‬وال تكتمل‬ ‫بتحقيقه منفرداً‪ .‬فاإلنصاف يتمثل ببعده الشخيص‬ ‫والفردي‪ ،‬بينام تقيم العدالة مفهومها العام بالحق‬ ‫املجتمعي‪ ،‬وانعكاساته اإليجابية عىل املجتمع برمته‪.‬‬ ‫وحينها يقال العدل سيد بني الناس‪.‬‬ ‫مل يعد ما هو مستغرب يف املسائل السورية بعمومها‪،‬‬ ‫حيث باتت كل قضية فيها محط خالف مد ٍو‪ ،‬رسيعاً ما‬ ‫ينتقل لبعد سيايس أكرث حمولة من القضية نفسها‪ ،‬ال‬ ‫وبل يحرفها عن مسارها‪.‬‬ ‫وقضية محاكمة كوبلنز املشهورة باسم املحكمة األملانية‬ ‫التي أتاحت لها القوانني األملانية الخاصة بإمكانية‬ ‫إقامة الدعوى القضائية بحق ضابط سوري قدمت فيه‬ ‫مذكرات االدعاء والشهود بارتكابه جرائم ض ّد اإلنسانية‪،‬‬ ‫تسببت يف إحداث حاالت موت وتعذيب وحرمان من‬ ‫الحرية بدون وجه قضايئ‪ ،‬والقيام بجرم االغتصاب‬

‫“مل يقم بتنفيذ الجرائم بنفسه بصورة شخصية‪ ،‬إال أن‬ ‫هذه الجرائم يجب أن تتم نسبتها إليه بناء عىل ما كان‬ ‫لديه من سلطة التقرير وإصدار األوامر” (مقتبسة من‬ ‫ترجمة نص قرار املحكمة)‪.‬‬ ‫ما إن صدر القرار حتى طفى عىل السطح السيايس‬ ‫موقفان سوريان متنازعان بحدة‪ :‬األول بأن الضابط‬ ‫كان ُمجرباً عىل ما كان يقوم به أثناء عمله‪ ،‬وقد أعلن‬ ‫انشقاقه ما إن أتيح له هذا‪ ،‬وليت هذا املوقف توقف‬ ‫هنا‪ ،‬لتمت مناقشة قضية رسالن بني العدالة واإلنصاف!‬ ‫لكن تناولت املواقف املحامي البني بأنه طائفي النتامئه‬ ‫سني باألساس‪ ،‬ويا لسخف‬ ‫املسيحي! وأن الضابط ّ‬ ‫ما وصلنا إليه من درك يف التقسيم والترشذم؛ فالبني‬ ‫أثبت طوال تاريخه أنه رجل وطني‪ ،‬وأنه يدافع عن‬ ‫السوري كسوري قبل أي انتامء له‪ .‬ويف الجهة املقابلة‪،‬‬ ‫الضابط ذاته مل يكن بإمكانه إال أن ينفذ األوامر‪ ،‬وإال‬ ‫متت تصفيته بتهمة التفكري باالنشقاق‪ ،‬والتعاطف مع‬ ‫املتظاهرين‪ ،‬وفعلياً حني أتيحت له الفرصة ترك شغله‪،‬‬ ‫واختار اللجوء‪ ،‬ومع هذا فإنه غري بريء مام فعله سابقاً‪.‬‬ ‫يف املوقف اآلخر برز التيار العلامين مدافعاً عن البني‬ ‫وموجهاً سهام نقده للتيار اإلسالمي مرة أخرى ويحم ّله‬ ‫كل مآيس السوري يف فشل ثورتهم وتحويلها إىل مقتلة‬ ‫كربى‪ ،‬ودور هذا الضابط وأمثاله يف الجرائم املرتكبة‬ ‫بحق السوريني‪ .‬ويا ملأساتنا التي مل تنت ِه من الفرضيات‬ ‫لليوم!‬ ‫وتعاد الكرة من جديد‪ ،‬يعاد طفو االنقسام الحاد‬ ‫بني تياري األسلمة والعلمنة‪ ،‬وتتصاعد لغة التخوين‬ ‫املتبادلة بني الطرفني‪ ،‬وكأن انتصار أحدهام سينقذ‬ ‫باقي املعتقلني وسيحرر سوريا من بني براثن األجهزة‬ ‫األمنية وسلطة االستبداد القامئة فيها‪ .‬ولرمبا كان‬ ‫املعيق يف انتصار الثورة هم العلامنيون الرومانسيون!‬ ‫يردد اإلسالميون‪ .‬فيام تكر سبحة العلمنة أن األسلمة‬ ‫واإلسالميون من خطفوا راية الثورة وساهموا يف سحقها‪،‬‬ ‫وكأن الثورة كانت ستنترص بالشعارات واملظاهرات‬ ‫السلمية‪ ،‬املوقف الذي حسمته السلطة مبكراً باتخاذها‬ ‫الحل العسكري األمني يف التعامل مع املتظاهرين‬ ‫واالحتجاجات السلمية‪ ،‬وكل األدلة لليوم تشري لهذا‪،‬‬ ‫خاصة بعد تفجري خلية األزمة السورية‪ ،‬ورضب مبادرة‬ ‫الجامعة العربية منتصف العام ‪ ،2012‬وتدويل املسألة‬ ‫السورية لتصبح موضع رصاع دموي دويل كبري‪ ،‬ولألسف‬


‫‪6‬‬

‫سوريا ‪ ..2022‬املنزل ذو املدخل الواطئ‬ ‫يوسف صادق‬

‫العدد‬

‫‪102‬‬ ‫‪2022 / 1 / 20‬‬ ‫مقاالت‬

‫يف قصة “املنزل ذو املدخل الواطئ” إلبراهيم صموئيل‪،‬‬ ‫يطرح صموئيل تلك العالئقية مع املكان وامتداداتها يف‬ ‫االجتامع والنفس‪ ،‬املكان كينونة تفصح عن نفسها‪ ،‬عن‬ ‫وجودها الذي نحياه‪.‬‬ ‫لسان حال الشباب والسور ّيني يقول‪ :‬هذا ما جناه أيب‬ ‫ع ّ‬ ‫يل!‪ ..‬كلام حاولنا أن نتعايش مع هذا املكان‪ ،‬يصطدم‬ ‫الرأس مبدخله الواطئ كلام دخلنا أو خرجنا‪ ،‬ليكون‬ ‫الوجع حافزاً لسؤالني‪ :‬كيف ندخل إىل سوريا الجديدة؟‬ ‫وهل نستطيع إخراجها من أنفسنا؟ ما الذي جعل‬ ‫املكان الذي ارتأيناه للعيش املشرتك مدخله واطئاً؟‬ ‫حتى بات املكان مصدر األمل‪ ،‬كلام أردنا االمتداد فيه؛‬ ‫يف بيتنا سوريا‪.‬‬ ‫كان البيت سوريا مكاناً للتعايش‪ ،‬دون اصطدام الرأس‬ ‫مبا يحمله من دالالت أيديولوجية‪.‬‬ ‫لكن االصطدام بدأ مع النظام البعثي األمني‪ ،‬حيث‬ ‫نصب نفسه وص ّياً عىل الدولة والشعب‪ ،‬ليتصادم‬ ‫ّ‬ ‫ساكنوا البيت حينام ك ّرس الطاغية فيهم كل أشكال‬ ‫التفرقة والتقوقع اإلثني والطائفي‪ ،‬وبات الوالء لصاحب‬ ‫املسبي سوريا!‬ ‫املنزل هو الوالء للبيت‬ ‫ّ‬ ‫السؤال اآلن كيف نعيد لبيتنا سوريا ذاك التعايش‬ ‫السلمي الحضاريّ ‪ ،‬يف بيئة مدن ّية تصون حقوق جميع‬ ‫َمن يف البيت؟ ومن يفرض رشوط هذا التعايش؟ هل‬ ‫فيوسع مدخله‬ ‫هو الشعب املالك الحقيقي لهذا البيت‪ّ ،‬‬ ‫الواطئ‪ ..‬أم هم مستثمرو الحرب يف غرفه ‪-‬بعدما‬ ‫ل ّونوها بأعالمهم ومصالحهم‪ -‬هم من يفرض رشوط‬ ‫هذا التعايش؟‬ ‫األهم هو كيف منحو آثار الخيبة والهزمية واآلالم‬ ‫و ّ‬ ‫النفيس‬ ‫لهذا املدخل الواطئ‪ ،‬بعد كل ذلك الدمار‬ ‫ّ‬ ‫املجتمعي‪ ،‬عدا عن دمار بنى الدولة االقتصادية‪.‬‬ ‫و‬ ‫ّ‬ ‫املهجرين‬ ‫يجيب البعض بإعادة اإلعامر وعودة‬ ‫ّ‬ ‫واستعادة الحقوق‪ ..‬لكن من يفرض هذه الرشوط‪،‬‬ ‫بعدما خرج شأن البيت من يد أصحابه؟ ومن “يتلو‬ ‫معاهدة الصلح” عىل حد قول درويش؟‬ ‫كان الطوفان أعىل من ذاكرة الشباب‪ ..‬سمعوا أو قرؤوا‬ ‫حرب ما‪ ،‬ومل يكونوا قد عرفوا من الغربة سوى‬ ‫عن ٍ‬

‫ُبعدها املكاين‪ ،‬وقد ظنّوا ّأن نوحاً عاد‪ ،‬وحينام امت ّد‬ ‫املوج مبا يحمله من رصاع‪ ،‬صارت البالد جزراً‪..‬‬ ‫أدرك الشباب ّأن ما سمعوه عن الثوب القشيب من‬ ‫املحيط إىل الخليج‪ ،‬واملط ّرز حسب ما ادّعى سياس ّيونا‬ ‫وكتبنا بجواهر التاريخ املجيد‪ ،‬وما ُل ّقنوا عنه حتى‬ ‫التخمة‪ ،‬مل يكن سوى جسداً ومكاناً أتعبته حكايات‬ ‫عنرتة يف مناهجهم الدراسية‪.‬‬ ‫وتغي‬ ‫كلام أبحروا اصطدم الرأس باملدخل الواطئ‪ّ ،‬‬ ‫مجرى الرياح وما تحمله من مصالح شتّى‪ .‬ن ّكسوا‬ ‫أعالماً ورفعوا أخرى‪ ،‬وابتعدوا عن شواطئ أرادوا أو‬ ‫بنوح كانت الخشية من‬ ‫حلموا بها يوماً‪ ،‬كلام فكروا ٍ‬ ‫اصطدام الرأس باملدخل الواطئ‪.‬‬ ‫هنا أدركوا ّأن للغربة أبعاداً أخرى‪ ،‬فاملكان بات كينونةً‬ ‫عرجاء‪ ،‬وسوريا باتت ال بداية لها وال نهاية؛ فالضياع‬ ‫ميأل الكينونة‪.‬‬ ‫البعض استطاعوا الوصول بقواربهم إىل جز ٍر أخرى‪،‬‬ ‫فأدركوا تشابههم مع اآلخر واختالفهم معه‪ ،‬رافعني‬ ‫ايات‪ ،‬مدركني ّأن الغربة الجديدة تعدل‬ ‫الورود واملاء ر ٍ‬ ‫شقي بالصورة الشوهاء داخلهم‬ ‫بينهم‪ ،‬فارتضوا بعقل ّ‬ ‫وخارجهم‪ .‬وتصالحوا معها مع املكان بوصفه ذواتهم مبا‬ ‫ورثوا ومبا كسبوا ومبا هم قادرون عىل فعله‪ ،‬و(دار ّيا)‬ ‫شاهدة عىل ذلك‪.‬‬ ‫لجة‬ ‫لكن البعض غادر حلمه أو غادره الحلم يف ّ‬ ‫األمواج والرياح‪ ،‬مل يكملوا دراستهم‪ ،‬ومل يبحروا‪ .‬منهم‬ ‫يتحسس‬ ‫َمن ارتىض بجزيرة تأويه‪ ،‬ورفع رايتها وهو ّ‬ ‫رأسه من االصطدام باملدخل الواطئ‪ ،‬ووجدوا مربرات‬ ‫طاملا ُل ّقنوا بها؛ فالسري بجانب الحائط أسلم! فارتفعت‬ ‫الجدران بينهم وبني اآلخر‪ ،‬وبني أنفسهم‪ ،‬ليملؤوا‬ ‫ذواتهم بالطحالب‪ ،‬مردّدين أهازيج األيديولوجيات‬ ‫العفنة‪ ،‬محاولني إثبات ّأن جزرهم هي عواملهم‪ ،‬وما‬ ‫زالوا يرفضون سامع نداءات املياه‪ ،‬اعتادوا أن يحنوا‬ ‫رؤوسهم دامئاً‪ .‬فهم ُأرساء املدخل الواطئ‪.‬‬ ‫أ ّما َمن سارت قواربهم بدون هدىً ‪ ،‬فتقاذفتهم األمواج‬ ‫توجهات ومصالح‪،‬‬ ‫والرياح حسب ما تحمله من ّ‬ ‫فوجدوا بالعبور كينون ًة مهام ك ّلف األمر‪ ،‬فج ّذفوا‬

‫حتى بأياديهم‪ ،‬وارتضوا أيّ راي ٍة ترفعها مراكبهم‪ ،‬إىل‬ ‫أن اكتشفوا أنهم كانوا وما زالوا ينقلون مسافرين‬ ‫بال أسامء‪ ،‬تجمعهم صفات “شايلوك” وإن اختلفت‬ ‫أزياؤهم بني العسكرية أو الدينية أو الحزبية أو‬ ‫الفئوية‪ ،‬حينها أدركوا غربة أخرى‪ ،‬أدركوا ضياع اإلنسان‬ ‫فيهم‪ ،‬أدركوا أنهم باتوا مج ّرد أشياء أو أدوات‪ ،‬يف امتداد‬ ‫املكان فينا ّ‬ ‫بكل تش ّوهاته‪ ،‬أدركوا ّأن الغربة ُمر ّكبة ال‬ ‫تنفصل بني السياسية واالجتامعية والنفسية ّإل جدل ّياً‪،‬‬ ‫فاملكان مصاب بفصام األزمنة منذ أيام عنرتة‪ ،‬وحتى‬ ‫أيام رصاع الديكة كام قال نزار‪.‬‬ ‫منهم من حملوا املكان ولحقوا بجربان ورفاقه‪ ،‬فكانوا‬ ‫وما زالوا ك ٌرث حاملني آالم اصطدام الرأس باملدخل‬ ‫الواطئ‪ ،‬مثل ٍّ‬ ‫وشم ال ُيحى من الذاكرة والوجدان‪،‬‬ ‫يك أو ٍ‬ ‫حملوا حلمهم ووطنهم يف حقيبة‪ ،‬وافرتشوا بها جدران‬ ‫بوطن قد يتح ّقق‪ ،‬قد يشبه ما‬ ‫غربتهم الجديدة‪ .‬حاملني ٍ‬ ‫خرجوا منه‪ ،‬لن يستطيعوا إخراج سوريا من أنفسهم‪..‬‬ ‫لكن أيُّ سوريا يريدون؟‬ ‫وهنا غربة أخرى؛ بني الذات وتح ّققها يف مكانٍ آخر‬ ‫قد ال يشبهها‪ ،‬وقد يشبهها بصوت النوارس املشرتك يف‬ ‫كل الشواطئ‪ ،‬فينسون كل يش ٍء من الكينونة األوىل ّإل‬ ‫آالمها وآثار الحرائق التي س ّببتها‪.‬‬

‫أ ّما َمن جاهد ويجاهد للعودة إىل الشاطئ‪ ،‬فام زال يصارع‬ ‫مبجاديف يحاولون التع ّرف عليها‪ ،‬يحاولون أن تكون‬ ‫امتداداً ألياديهم‪ ،‬ال تتحكم بها سلطة األمواج والرياح‪ ..‬وكم‬ ‫لأليديولوجية من سلطات! ما زلنا نحاول وعيها‪ ،‬بعضها‬ ‫يعود لسلطة الغزو يف الصحراء‪ ،‬وآخرها يعود لسلطة الغزو‬ ‫يف الفضاء‪ ،‬واألزرق يعمي العيون وينذر بالضياع‪ ،‬بل ينذر‬ ‫بالوهم‪ ،‬وإعادة تدوير سلطات االستبداد فينا وفيام نفرش‬ ‫به كل مكان‪ .‬فنكون أرساء الوهم الجديد‪.‬‬

‫طوىب ملَن ما زال يرى ما خلف األكمة‪ ،‬ومي ّيز نداء‬ ‫البحار للمجهول من نداء الرساب‪ ،‬ووعى ّأن غربته هي‬ ‫وجهٌ آخر لهو ّيته‪ ،‬وتحقيقاً لفردان ّيته‪.‬‬ ‫عل نوحاً‬ ‫لتبقى األسئلة مفتوح ًة عىل تجارب الشباب‪ّ ،‬‬ ‫ُيولد يف ّ‬ ‫كل مركب‪..‬‬ ‫طوىب للشباب‪ ..‬طوىب لبيتنا‪ :‬سوريا‪.‬‬


‫آمال التغيري يف واقع السوريني‬ ‫حمرك التغيري القادم (‪)3-2‬‬

‫‪7‬‬

‫عبد اهلل شاهين‬

‫العدد‬

‫‪102‬‬ ‫‪2022 / 1 / 20‬‬

‫ * �‪Shain, Yossi, and Aharon Barth. 2003. “Dias‬‬ ‫‪poras and International Relations Theory.” In‬‬‫‪ternational Organization 57 (3): 449–479. doi:‬‬ ‫‪10.1017/S002081830357305‬‬ ‫** من قصيدة املتنبي الشهرية التي مطلعها‪“ :‬عىل قدر‬ ‫أهل العزم تأيت العزائم”‪.‬‬

‫مقاالت‬

‫لعل الكلفة املادية للحرب السورية ‪-‬والتي‬ ‫قاربت عىل نصف تريليون دوالر أمرييك منذ‬ ‫ثورة ‪ 2011-‬هي الجانب األقل فداحة من‬ ‫خسارة سوريا‪ ،‬إذا ما قورنت بالخسارة البرشية‬ ‫التي وصلت إىل فقدان أكرث من ‪ 606‬ألف سوري‬ ‫أرواحهم [‪ ]2‬و‪ 13,5‬مليون الجئ ونازح‪ ،‬منهم‬ ‫‪ 6,5‬مليون سوري خارج األرايض السورية‪ .‬وكام‬ ‫أنه مل يتم إضفاء الطابع اإلقليمي عىل الثورة‬ ‫السورية فحسب‪ ،‬بل تم أيضاً تدويلها إىل حد‬ ‫كبري‪ ،‬فكذلك الحال يف انتشار الالجئني السوريني‬ ‫املهجرين عىل كافة قارات املعمورة‪ .‬وبالرغم‬ ‫من أن التغريبة السورية أصابت وتصيب بشكل‬ ‫أسايس سوريي الداخل‪ ،‬إال أن األدلة املتوفرة تشري‬ ‫إىل أن النزاعات الداخلية يف أي دولة ‪-‬ويف القضية‬ ‫السورية تحديداً‪ -‬أثرت وتؤثر بشكل مبارش عىل‬ ‫حياة ورفاهية املغرتبني عىل الرغم من كونهم‬ ‫بعيدين عن منطقة الرصاع‪ .‬هذا الواقع يجعل‬ ‫من الرضوري رصد الدور الحاسم الذي سوف‬ ‫تلعبه مجموعات الشتات السوري‪ ،‬ال فيام يتعلق‬ ‫بالرصاعات الداخلية فحسب‪ ،‬بل مبستقبل سوريا‬ ‫ما بعد الحرب‪.‬‬ ‫العالقة بني أنشطة الشتات يف دول الرصاع‬ ‫وديناميكيات ذلك الرصاع يف أوطانهم هي بعد‬ ‫يتم تجاهله إىل حد كبري يف البحث وتحليل‬ ‫السياسات‪ ،‬عىل الرغم من أهميته الحاسمة‪ .‬عادة‬ ‫ما ُيذكر الشتات فقط يف مالحظات عابرة كعوامل‬ ‫سلبية يف هذه العملية‪ ،‬كونها ال تعدو ضحايا‬ ‫لهذه الحرب أو مساندي ضحاياها االقتصاديني‪،‬‬ ‫دون مزيد من النقاش‪ .‬ومع ذلك فإن األنشطة‬ ‫البعيدة املدى التي يقوم بها املغرتبون لها آثار‬ ‫حاسمة عىل ديناميكيات الرصاع يف أوطانهم‬ ‫وعىل مستقبله يف مرحلة ما بعد انتهاء الرصاع‬ ‫املسلح‪ .‬إن مجموعات الشتات هي إحدى القوى‬

‫العاملية املعارصة التي تشكل االتجاهات واملآالت‬ ‫يف القرن الحادي والعرشين‪.‬‬ ‫لرمبا كنتم مثيل ممن أصبح أقل حامسة ألخبار‬ ‫اإلنجازات السورية يف دول املهجر‪ ،‬بني متفوقني‬ ‫يف الدراسة‪ ،‬ونجوم صغريي األعامر ساطعني‬ ‫يف مجاالت األبحاث والعلوم والفنون والطبخ‬ ‫وغريها‪ .‬جزء كبري من هذه اإلنجازات فردي والزم‬ ‫األثر إىل صاحبها‪ ،‬ال تأثري مبارشاً له عىل باقي‬ ‫املجتمع السوري‪ .‬لكن عدداً ال يستهان به من‬ ‫هذه اإلنجازات ‪-‬وإن ّأطرناه بشكل فردي‪ -‬إمنا‬ ‫هو جزء من نجاح هذا الفرد السوري يف التعاون‬ ‫والعمل مع فريق متنوع‪ ،‬وأدى هذا التعاون إىل‬ ‫إنجاز ننسبه نحن لهذا الفرد‪.‬‬ ‫بنظري فإن إنجازات هذا الفرد تكمن يف أمكنة‬ ‫أخرى؛ إحداها وصول هذا الفرد إىل درجة علمية‬ ‫أو احرتافية كافية لتجعله يدخل يف هذه التجارب‬ ‫الرائدة‪ ،‬من أنظمة الطاقة البديلة إىل الحوسبة‬ ‫والذكاء الصنعي والفنون واآلداب والسياسة‪ .‬لقد‬ ‫اكتسب السوريون مهارات ودرجات علمية مل‬ ‫يكن باإلمكان تحصيلها لوال انفجار هذه التغريبة‬ ‫املأساوية‪ ،‬ويالسخرية القدر! إال أنه يبقى أحد‬ ‫شواهد قدرة عدد كبري من شباب هذا املجتمع‬ ‫عىل النمو والتأقلم وكسب الريادة عىل مستوى‬ ‫العامل‪.‬‬ ‫أما ثانيها فهي كونه قد اكتسب خربة مثينة‬ ‫جداً يف أسس العمل الجامعي تجعل من تكرار‬ ‫هذا العمل الجامعي يف املستقبل أكرث قابلية‬ ‫للنجاح‪ .‬هذه الخربات تفوق غريها يف أهميتها‬ ‫بالنسبة إىل مستقبلنا نحن السوريني‪ .‬إن تطور‬ ‫عملنا الجامعي بشكل عام ‪-‬وإن ظل متواضعاً‪-‬‬ ‫ملحوظ‪ .‬إن تحولنا من نظام رشكات ومنظامت‬ ‫“أبو حميد” وأقربائه ‪-‬الشكليي الوجود بكل‬ ‫حال‪ -‬إىل مجموعات صغرية من األفراد يتشاركون‬

‫القرار واملسؤولية هو أمر إيجايب‪ ،‬وما زالت‬ ‫أمامنا أشواط طويلة نقطعها يف هذا املضامر‪،‬‬ ‫حتى نجد أنفسنا يف يوم من األيام قادرين عىل‬ ‫بناء تجمعات برشية منظمة وموحدة‪ ،‬قادرة‬ ‫عىل اتخاذ خطوات ميكنها بالفعل تغيري مسار‬ ‫األحداث‪.‬‬ ‫علينا أن نطور طاقة برشية بديلة ملجتمعنا الذي‬ ‫يخوض اليوم تجربة تغيري دموية‪ ،‬قد ال نعرف‬ ‫إىل أين تقودنا‪ .‬لكن هذه الطاقة البرشية البديلة‬ ‫حتمية األثر يف حالنا املستقبيل‪.‬‬ ‫نهاية أختم بجملة استوقفتني وأنا أبحث يف هذا‬ ‫املوضوع‪ ،‬وأردت إيصالها إىل القراء األعزاء‪“ .‬ال‬ ‫تقترص التحديات التي تواجه سيادة الدولة ‪-‬عىل‬ ‫الصعيدين املحيل والدويل‪ -‬عىل الجهات الفاعلة‬ ‫الخارجية‪ ،‬مثل الدول الكربى واملنظامت الدولية‪.‬‬ ‫إنها تشمل ً‬ ‫أيضا الشتات الذي هو “خارج الدولة”‬ ‫ولكن “داخل الشعب””*‪ .‬هذا اإلدراك يجعل من‬ ‫الرضوري أن نقوم بالتخطيط االسرتاتيجي ألنشطة‬ ‫الشتات ‪-‬عىل املدى البعيد‪ -‬يف صياغة الخيارات‬ ‫السياسية التي سوف تقودنا إىل األمن واالستقرار‬ ‫السيايس والحكم الرشيد يف سوريا ما بعد األسد‪.‬‬ ‫هنالك الكثري من الحروب والكوارث اإلنسانية‬ ‫التي مل تكن مآالتها إىل اليوم باعثة عىل التفاؤل‪،‬‬ ‫إال أن هذا ال يفرض علينا أي أشكال من حتمية‬ ‫الفشل‪ .‬عىل مجتمع الشتات حمل ثقيل شاء أم‬ ‫أىب‪ .‬ولكن “تصغر يف عني العظيم العظائم”**‪.‬‬


‫‪96‬‬

‫‪8‬‬

‫حترك أمريكي لكسر اجلمود‬ ‫السياسي بني األحزاب الكردية بسوريا‬ ‫القامشلي‪ :‬كمال شيخو‬

‫العدد‬ ‫‪102‬‬

‫‪2022 / 1 / 20‬‬ ‫تقارير‬

‫عقد نائب املبعوث األمرييك الخاص لسوريا ماثيو‬ ‫بريل اجتامعات مع قادة األحزاب الكردية وحثها‬ ‫عىل العودة إىل طاولة الحوار وحل القضايا الخالفية‬ ‫العالقة بني طريف الحركة السياسية‪ ،‬والتقى بريل‬ ‫خالل زيارته ملدينة القامشيل السورية يف ‪ 9‬كانون‬ ‫الثاين‪ /‬يناير الحايل قادة (املجلس الوطني الكردي)‬ ‫املعارض و(أحزاب الوحدة الوطنية الكردية)‪ ،‬وأكد‬ ‫خالل حديثه أن قوات الجيش األمرييك والتحالف‬ ‫الدويل ستستمر يف مهامها القتالية رشقي الفرات ملنع‬ ‫عودة تنظيم “داعش” واستمرار مكافحة اإلرهاب‪،‬‬ ‫ولدعم الحل السيايس وفق القرارات الدولية الخاصة‬ ‫بحل األزمة السورية‪ ،‬وتطبيق القرار ‪ 2254‬والحفاظ‬ ‫عىل الهدن اإلنسانية‪ ،‬وايصال املساعدات للسوريني‬ ‫ومنع التصعيد‪ ،‬والتزام واشنطن برعاية املفاوضات‬ ‫الداخلية بني أحزاب الحركة السياسية الكردية‪.‬‬ ‫وطرح السفري األمرييك خالل اجتامعاته حزمة أفكار‬ ‫وتصورات الخارجية األمريكية إلعادة اللقاءات‬ ‫املبارشة من جهة‪ ،‬والعمل عىل تذليل العقبات‬ ‫إلعادة إحياء املباحثات الكردية بني طريف الحركة من‬ ‫جهة ثانية‪ ،‬بهدف ترتيب األوراق وتقريب وجهات‬ ‫النظر املختلفة‪ ،‬والعودة إىل الحوارات املتوقفة‬ ‫منذ عام و‪ 10‬أشهر‪ ،‬إلكامل الرؤية الكردية‪ ،‬وإعالن‬ ‫اتفاق سيايس شامل وتوحيد الصف الكردي الداخيل‪،‬‬ ‫وتشكيل إدارة مدنية متثل جميع مكونات املنطقة‬ ‫وكافة األحزاب السياسية‪ ،‬وتحميها قوة عسكرية‬ ‫وأمنية مشرتكة‪.‬‬ ‫وناقشت األحزاب الكردية يف اجتامعها ثالث سالل‬ ‫رئيسية خالل محادثات استمرت قرابة نصف سنة‬ ‫بني نيسان‪/‬أبريل وترشين الثاين‪ /‬أكتوبر ‪ ،2020‬حيث‬ ‫اتفقت وقتذاك عىل سلة املرجعية السياسية بتقاسم‬ ‫املقاعد مناصفة بني قطبي الحركة الكردية‪ ،‬وترك‬

‫ثلث كهامش لباقي األحزاب واملستقلني‪ ،‬يف وقت‬ ‫اتفقت يف سلة املشاركة انضامم (املجلس الكردي)‬ ‫يف مؤسسات اإلدارة الذاتية وشغل مقاعد أحزاب‬ ‫(الوحدة الكردية) بقيادة حزب االتحاد الدميقراطي‬ ‫السوري‪ ،‬مناصف ًة‪ ،‬واقتصارها عىل املناطق الكردية‪،‬‬ ‫واالنضامم اىل هياكل حكم اإلدارة إىل حني تنظيم‬ ‫انتخابات عامة بعد عام من توقيع االتفاق‪.‬‬ ‫أما السلة الثالثة فكانت بند الحامية والدفاع‪،‬‬ ‫والتي واجهت صعوبات ومشاحنات كثرية‪ ،‬وبقيت‬ ‫األطراف متمسكة مبواقفها عىل مدار أشهر اللقاءات‪،‬‬ ‫وأبرز الخالفات متحورت حول عودة واندماج قوات‬ ‫“البيشمركة” الكردية‪ ،‬وهي تعد الجناح العسكرية‬ ‫للمجلس الكردي‪ ،‬لكنها تنترش منذ تأسيسها أوائل‬ ‫‪ 2012‬يف إقليم كردستان العراق املجاور‪ ،‬وقد‬ ‫تشكلت آنذاك من منشقني أكراد عن صفوف‬ ‫جيش النظام السوري‪ ،‬وبينهم شبان رفضوا االلتحاق‬ ‫بالخدمة اإللزامية‪ ،‬وآخرون متطوعون من أبناء‬ ‫املناطق الكردية املوجودون هناك‪ .‬ويقدر عدد هذه‬ ‫القوات نحو ‪ 15‬ألفاً‪ ،‬موزعني عىل ‪ 7‬آالف يحملون‬

‫السالح ضمن األلوية والفرق العسكرية التابعة‬ ‫لوزارة الحربية والدفاع بإقليم كردستان‪ ،‬إىل جانب‬ ‫متطوعني يبلغ قوامهم حوايل ‪ 8‬آالف تدربوا عىل‬ ‫فنون القتال وحملوا السالح أثناء هجامت مسلحي‬ ‫تنظيم “داعش” شاميل العراق‪.‬‬ ‫وبحسب مصادر كردية مطلعة أن هذه اإلشكالية‬ ‫بالغة التعقيد والحساسية نظراً آللية عودة هذه‬ ‫القوات ودمجها يف غرفة عمليات مشرتكة‪ ،‬حيث‬ ‫تسيطر عىل املناطق ذات الغالبية الكردية “وحدات‬ ‫حامية الشعب” الكردية العامد العسكري لقوات‬ ‫سوريا الدميقراطية (قسد) التي تسيطر عىل معظم‬ ‫مساحة رشقي الفرات‪ ،‬وتتلقى الدعم من تحالف‬ ‫دويل تقوده واشنطن وتنترش عىل طول الحدود مع‬ ‫تركيا‪.‬‬ ‫وتشرتط قوات “البيشمركة” اتفاقاً دولياً بني الدول‬ ‫الفاعلة املنترشة رشقي الفرات قبل عودتها لداخل‬ ‫سوريا‪ ،‬وهذه القوات رفضت املشاركة يف عمليتي‬

‫البقية يف صفحة ‪.... 12‬‬


‫املواقع األثرية مبدينة الرقة‬

‫ٌ‬ ‫ً‬ ‫تدرجييا بعد سنوات احلرب‬ ‫تاريخ تضمحل مالحمه‬ ‫الرقة‪ :‬عبد اهلل الخلف‬

‫العدد‬

‫‪102‬‬ ‫البقية يف صفحة ‪.... 12‬‬

‫‪2022 / 1 / 20‬‬

‫يف اآلثار‪.‬‬ ‫ويشري العزو إىل أن مساعي ترميم آثار الرقة بطيئة‬ ‫للغاية وغري كافية‪ ،‬وأكرب شاهد عىل ذلك متحف‬ ‫املدينة‪ ،‬الذي كان يفرتض أن يعاد افتتاحه قبل أكرث‬ ‫من سنتني‪ ،‬ولكن إىل اآلن ما يزال مهجوراً‪ ،‬ويقول‬ ‫العزو‪“ :‬كنت أمني املتحف لغاية اندالع الحرب‬ ‫وسيطرة “داعش” التي ّ‬ ‫حطمت قس ًام من القطع‬ ‫األثرية‪ ،‬ونهبت قس ًام آخر‪ ،‬وش ّوهت اللوحات‬ ‫الفسيفسائية األثرية يف املتحف‪ ،‬ولكن بعد املعركة‬ ‫أين تلك اآلثار؟ مل تعد موجودة‪ ..‬معظمها ُسقت‬ ‫أو ُخ ّربت!”‪.‬‬ ‫أما باب بغداد‪ ،‬ويقع بالجهة الرشقية للمدينة‪،‬‬ ‫والذي بني عىل زمن الخليفة املنصور عام ‪772‬‬ ‫ميالدي‪ ،‬ويف جواره يقع سور الرافقة املحيط‬ ‫باملدينة القدمية‪ ،‬ويبلغ طوله قرابة ‪ 5‬كيلو مرتاً‪ ،‬إىل‬ ‫جانب الجامع العتيق وسط املدينة‪ ،‬وهو مسجد‬ ‫أثري بني بالتزامن مع بناء سور الرافقة وباب‬ ‫بغداد‪ ،‬وتبلغ أبعاده ‪ 100‬مرت طوالً و‪ 98‬مرتاً عرضاً‪،‬‬ ‫ومل يتبق منه سوى السور الخارجي وواجهة الحرم‬ ‫واملئذنة املبنية يف عهد الدولة الزنكية‪.‬‬

‫وخالل سنوات الحرب تحولت ساحة الجامع‬ ‫العتيق ملقربة جامعية أيضاً‪ ،‬ويقول عزت املوح‬ ‫مدير منظمة “رؤية” املختصة باملواقع األثرية يف‬ ‫الرقة ملجلة طلعنا عالحرية إن الدعم لجهود إحياء‬ ‫اآلثار خجولة للغاية‪“ ،‬لألسف ال يوجد اهتامم من‬ ‫الربامج املختصة بتمويل املنظامت لرتميم اآلثار يف‬ ‫الرقة‪ ،‬ولكن حالياً هناك تواصل بيننا وبني منظمة‬ ‫فرنسية من أجل إطالق مرشوع لرتميم عدة مواقع‬ ‫أثرية”‪ ،‬مضيفاً بأن تلك املناقشات مستمرة‪“ :‬نأمل‬ ‫أن نحصل نحن أو غرينا عىل دعم لرتميم اآلثار‬ ‫وإنقاذها يف محافظة الرقة قبل أن يسوء وضعها‬ ‫أكرث”‪.‬‬ ‫وتقول نوال (‪ 45‬سنة) التي تعمل مدرسة وتقيم يف‬ ‫الشارع الذي يقع فيه املتحف‪ ،‬وقد عادت ملنزلها‬ ‫قبل ‪ 3‬أعوام‪“ :‬قبل ‪ 2011‬كانت صاالت املتحف‬ ‫تعرض لوحات فسيفسائية ومتاثيل وآثارا تاريخية‪،‬‬ ‫إضافة إىل لوحات خزفية ومخطوطات قدمية‪ ،‬كان‬

‫تقارير‬

‫بعد أن كان سوراً كبرياً يحيط بـ مصيف هارون‬ ‫الرشيد “الرقة” قبل اثني عرش قرناً أيام الدولة‬ ‫العباسية‪ ،‬أصبحت اليوم أجزاء منه مكباً للنفايات‪،‬‬ ‫وتدمرت بعض من جدرانه نتيجة القصف خالل‬ ‫معارك طرد تنظيم “داعش” نهاية عام ‪ .2017‬ويوماً‬ ‫بعد آخر تغريت مالمح سور الرافقة األثري مبدينة‬ ‫الرقة‪ ،‬واتشحت بعض جدرانه بالسواد بسبب حرق‬ ‫أسالك النحاس من قبل بائعي الخردة‪ .‬وبالقرب‬ ‫ٌ‬ ‫وكومة من الخردة‬ ‫منه ُو ِضعت سيارات محرتقة‬ ‫وافتتحت محال ميكانيك ومغاسل للسيارات!‬ ‫وقد تعرض سور الرافقة الذي يحيط باملدينة القدمية‬ ‫ألرضار بليغة؛ حيث عمد عنارص تنظيم “داعش”‬ ‫إىل فتح ثالث فوهات لربط األحياء القدمية مبركز‬ ‫الرقة‪ ،‬األمر الذي خلف أرضاراً جسيمة يف جسم‬ ‫السور القديم‪ .‬ويعترب هذا السور من أهم اآلثار‬ ‫التي بقيت منذ حقبة العرص العبايس‪ ،‬وبقي شاهداً‬ ‫عىل أصالة الرقة وعراقتها‪.‬‬ ‫يقول محمد اليوسف أحد سكان املنطقة التي يقع‬ ‫فيها السور رشقي الرقة‪ ،‬إنه ُصدم عندما عاد للبالد‬ ‫قبل سنة وشاهد ما حدث مللعب طفولته‪“ :‬كان‬ ‫السور أجمل ما يف الرقة‪ ،‬أما اليوم أصبح املشهد‬ ‫موحشاً ومؤملاً‪ ،‬أكوام من النفايات والخردة تحيط‬ ‫به‪ ،‬وحتى جدرانه أصبحت دفرتاً للمراهقني يكتبون‬ ‫عليها”‪.‬‬ ‫الحالة السيئة التي وصل إليها سور الرافقة األثري‬ ‫ال تختلف كثرياً عن باقي املواقع األثرية يف الرقة‪،‬‬ ‫مثل الجامع العتيق وقرص العذارى وقلعة جعرب‬ ‫وقلعة الرصافة وغريها‪ ..‬التي أهملت منذ بدء‬ ‫الحرب السورية قبل ‪ 11‬عاماً‪ ،‬ورغم وجود مبادرات‬ ‫لتنظيف املواقع األثرية وترميم أجزاء منها من قبل‬ ‫سلطات اإلدارة الذاتية وبعض منظامت املجتمع‬ ‫املدين‪ ،‬إال أنها “غري كافية وال ترقى ملستوى األرضار‬ ‫الهائلة يف السور” وفق ما قال محمد العزو الباحث‬

‫‪9‬‬


‫العملية التعليمية يف مدارس إدلب يف غياب الدعم‬ ‫بني احلاجة جلهود املتطوعني ونقص اخلربات‬

‫‪10‬‬ ‫شمس الدين مطعون‬

‫العدد‬

‫‪102‬‬ ‫‪2022 / 1 / 20‬‬ ‫تقارير‬

‫يف باحة إحدى مدارس ريف إدلب ينتظر املدرسون‬ ‫املتطوعون استالم املنحة الشهرية التي باتوا‬ ‫يتقاضونها مؤخراً من قبل إحدى اللجان الخريية‪،‬‬ ‫والتي تبلغ ‪ 1000‬لرية تركية أي ما يعادل حوايل ‪70‬‬ ‫دوالر أمرييك‪.‬‬ ‫يقول عبد الله وهو طالب جامعي يعمل كمدرس‬ ‫متطوع ملادة اللغة العربية للصف الخامس‪ ،‬إن‬ ‫إدارة املدرسة قررت خصم ‪ 100‬لرية من منحة كل‬ ‫معلم لتأمني بعض مستلزمات املدرسة من أقالم‬ ‫وأوراق امتحانية‪ .‬ويوضح أنه رغم أن املعلمني‬ ‫يعملون كمتطوعني‪ ،‬إال أنهم مضطرين للدفع من‬ ‫هذه املنحة‪ ،‬عل ًام أنها غري دامئة‪ ،‬وممكن أن تنقطع‬ ‫بأي وقت‪.‬‬ ‫تفتقر املدرسة ملقومات الدعم‪ ،‬وتضم حوايل ‪350‬‬ ‫طالباً من الحلقة الثانية (من الصف الخامس‬ ‫إىل التاسع)‪ ،‬و‪ 16‬مدرساً وإدارياً يعملون بشكل‬ ‫تطوعي‪ ،‬بينام تقوم إحدى الجمعيات الخريية‬ ‫بالبلدة عىل جمع التربعات لتأمني منح رمزية‬ ‫للقامئني عىل تعليم أبنائهم‪ .‬كام يدفع الطالب مع‬ ‫بداية كل عام دوالرين تقريباً لتأمني مثن طباعة‬ ‫أوراق االمتحان‪.‬‬ ‫يعي املدرسون املتطوعون عن طريق مديرية‬ ‫ّ‬ ‫الرتبية يف إدلب‪ ،‬عرب تكليفهم بعدد معني من‬ ‫الحصص‪ ،‬واختيار املادة التي سيقومون بإعطائها‪.‬‬ ‫يقول محمد طالب كلية الرتبية ومدرس ملادة‬ ‫اللغة االنكليزية لطالب الصف الثامن بإحدى‬ ‫مدارس بلدة رسمني‪ ،‬إنه التحق باملدرسة بعد أن‬ ‫وصله طلب من املدير‪ ،‬يوضح حاجة املدرسة‬ ‫ملدرس إنكليزي‪ ،‬وأنه قادر عىل تدريس املنهاج‪.‬‬ ‫ويضيف أنه احتاج لبعض املوافقات الشكلية من‬ ‫مقر مديرية الرتبية يف إدلب‪ ،‬ويوضح‪“ :‬مل أصطحب‬ ‫شهاديت الثانوية معي‪ ،‬كام أنني مل أظهر أي وثيقة‬ ‫تثبت قدريت عىل التدريس‪ ،‬وسار الطلب بشكل‬ ‫طبيعي‪ ،‬وبدأت التدريس يف اليوم التايل”‪.‬‬ ‫اضطر محمد للتدريس باملدرسة لشهرين متتاليني‬ ‫دون الحصول عىل أي أجور‪ ،‬وحصل يف الشهر‬

‫الثالث عىل منحة ‪ 500‬لرية‬ ‫تركية فقط‪.‬‬ ‫يف حال أصبحت املدرسة‬ ‫مدعومة من قبل أحد املنظامت‬ ‫سيتم التخيل عنه‪ ،‬واستبدال‬ ‫خريج متخصص به‪ ،‬يقول محمد‪:‬‬ ‫“إىل أن يتم دعم املدرسة‪،‬‬ ‫سأبقى يف التدريس لتأمني بعض‬ ‫مصاريف الجامعة”‪.‬‬ ‫ميتلك مدرس اللغة العربية أبو دياب (‪48‬‬ ‫عاماً) مح ًال لبيع األلبسة املستعملة‪ ،‬ويعمل فيه‬ ‫بعد انتهاء دوامه باملدرسة ويف أيام العطل‪ .‬يقول‬ ‫أبو دياب‪ 1000“ :‬لرية تركية‪ ،‬هي كل ما أتقاضاه‬ ‫عن تدريس ‪ 30‬حصة أسبوعياً”‪ .‬ويوضح أن لديه‬ ‫رقم ذاتية مسج ًال لدى مديرية الرتبية كأصيل (أي‬ ‫َ‬ ‫يتقاض أجراً ثابتاً‪ ،‬منذ بداية‬ ‫معلم مثبت)‪ ،‬إال أنه مل‬ ‫عام ‪ ،2020‬وذلك بعد انقطاع الدعم عن املد ّرسني‬ ‫يف محافظة إدلب‪ ،‬نتيجة إيقاف دعم االتحاد‬ ‫األورويب‪ ،‬واقتصاره عىل مدارس الحلقة األوىل‪.‬‬ ‫يضطر أبو دياب ملتابعة مهنته بعد عرشة أعوام‬ ‫عىل اشتغاله مبهنة التدريس‪ ،‬بأجور متدنية وبسلة‬ ‫إغاثية توزع أحياناً عن طريق مديرية الرتبية‪،‬‬ ‫خشي ًة من أن يتم فصله يف حال توقف عن الدوام‬ ‫ملدة شهر واحد‪.‬‬ ‫من جهته يوضح محمد عتيق معاون مدير الرتبية‬ ‫يف محافظة إدلب لطلعنا عالحرية أن عدد املعلمني‬ ‫املتطوعني باملدارس التابعة للمديرية يرتاوح بني‬ ‫‪ 5500‬و‪ 6000‬مدرس‪ ،‬وقد تعاقدت معهم املديرية‬ ‫بصفة مدرس متطوع‪ ،‬ويف حال كان املدرس املتقدم‬ ‫خريجاً‪ ،‬يتم تثبيته كمدرس أصيل‪ ،‬ولكن دون أجور‪.‬‬ ‫ويضيف عتيق أن رشوط قبول املتطوع هي نفسها‬ ‫رشوط قبول املكلف أو الوكيل‪.‬‬

‫وتقدم املديرية منحة سنوية ملرة واحدة للمعلمني‬ ‫املتطوعني من صندوق التطوع التابع للمديرية‪ ،‬والذي‬ ‫ُتجمع فيه تربعات خريية‪ ،‬كام تساهم بعض املنظامت‬

‫أو الجمعيات مبساعدات خجولة‪ ،‬يف حال وجدت‪.‬‬

‫وبحسب العتيق فإن مدارس الحلقة الثانية‬ ‫تعاين من انقطاع كامل للدعم باستثناء بعض‬ ‫املدراس املدعومة من منظامت محلية‪ ،‬بينام تدعم‬ ‫منظمة مناهل مدارس الحلقة األوىل بأجور معلمني‬ ‫ترتاوح بني ‪ 150‬إىل ‪ 170‬دوالر أمرييك شهرياً‪.‬‬

‫تك ّلف مديرية الرتبية موجهني مختصني ملراقبة‬ ‫سري العملية التعليمية يف املدارس التابعة لها‪ ،‬والتي‬ ‫يبلغ عددها ‪ 1200‬مدرسة تقريباً‪ .‬ويقترص عمل‬ ‫املوجهني عىل املراقبة وتسجيل التقارير‪ ،‬والتي غالباً‬ ‫ال تحدث تغريات جذرية‪ ،‬حتى وإن كان هناك‬ ‫خلل يف طرق التدريس والتعامل مع الطالب‪ ،‬حيث‬ ‫تفتقر املدارس لعرشات املعلمني‪ ،‬ورغم حاجة‬ ‫املدارس امللحة للمدرسني هي ال تستطيع أن تقدم‬ ‫له أي مقومات تشجعه عىل متابعة التعليم‪.‬‬ ‫يروي مدير إحدى املدارس عىل أطراف مدينة‬ ‫إدلب لطلعنا عالحرية مفض ًال عدم ذكر اسمه‪،‬‬ ‫أن بعض الطالب يف مدرسته‪ ،‬اشتكوا من أن أحد‬ ‫املدرسني يتكلم بألفاظ نابية بحقهم‪ ،‬وأحياناً كان‬ ‫يعتدي عليهم بالرضب‪ .‬ويتابع املدير إنه قام‬ ‫بتسجيل صوت املدرس ليتأكد من شكوى الطالب‪،‬‬ ‫وقد تحقق من األمر وعرض التسجيل الصويت‬ ‫عىل املوجه املوكل من الرتبية ملراقبة سري العملية‬ ‫التعليمية‪ .‬لكن اإلجراء الذي اتخذ بحق املدرس‬ ‫والذي يعمل كمتطوع‪ -‬هو أن قامت الرتبية بنقله‬‫ملدرسة أخرى‪ ،‬تعاين من نقص بعدد املدرسني!‬


‫‪11‬‬

‫العدد‬

‫‪102‬‬

‫‪2022 / 1 / 20‬‬

‫كاريكاتري‬


‫‪12‬‬

‫‪.....‬‬ ‫حترك أمريكي لكسر اجلمود السياسي‬ ‫بني األحزاب الكردية بسوريا‬

‫‪ ....‬تتمة من صفحة ‪8‬‬ ‫العدد‬

‫‪102‬‬ ‫‪2022 / 1 / 20‬‬ ‫تقارير‬

‫“غصن الزيتون” الرتكية آذار‪ /‬مارس ‪ 2018‬و”نبع السالم” يف‬ ‫ترشين األول‪ /‬أكتوبر ‪ 2019‬وهي ليست جزءاً من االئتالف‬ ‫املعارض أو “الجيش الوطني” التابع للحكومة املؤقتة‪ ،‬والذي‬ ‫يخوض حروباً مدمرة يف املناطق الكردية‪.‬‬ ‫وتبقى عودة هذه القوات مرهونة بتوافر ثالثة رشوط رئيسية؛‬ ‫أولها التوصل إىل اتفاق كردي‪ -‬كردي شامل‪ ،‬يتضمن ملف‬ ‫الدفاع والحامية‪ ،‬عىل أن تكون رشيكاً حقيقياً برعاية أمريكية‪،‬‬ ‫أما ثانيها فهو وجود مظلة دولية بإرشاف أممي وموافقة كل‬ ‫من موسكو وواشنطن‪ ،‬وثالثها رشط عدم دخول جيوش دول‬ ‫إقليمية‪ ،‬سيام الفاعلة يف الحرب السورية مثل تركيا وإيران‪،‬‬ ‫داخل املناطق التي ستنترش فيها‪.‬‬ ‫يذكر أن األحزاب الكرية أعلنت صيف ‪ 2020‬التوصل إىل‬ ‫“خريطة طريق سياسية” برعاية الخارجية األمريكية تضمنت‬ ‫مرحلتها األوىل تشكيل مرجع ّية سياس ّية من إطارين‪“ :‬حركة‬ ‫املجتمع الدميقراطي‪ ،‬وحزب االتحاد الدميقراطي السوري‬ ‫من جهة؛ وأحزاب املجلس الكردي املعارض من جهة أخرى‪،‬‬ ‫وأحزاب خارج هذه األطر عىل أن تكون نسبة كل طرف‬ ‫‪ ،40%‬و‪ 20%‬لباقي األحزاب والشخصيات املستقلة‪ ،‬ليصار‬ ‫إىل تشكيل لجنة مشرتكة لوضع آليات انضامم أحزاب املجلس‬ ‫الوطني إىل مؤسسات وهياكل اإلدارة الذاتية يف املرحلة‬ ‫الثانية‪ ،‬وإعادة صياغة العقد االجتامعي ووثائق اإلدارة مبا‬ ‫ينسجم مع التطورات واألحداث وتحقيق رشاكة فعلية لهذه‬ ‫الجهات بالهيئات التابعة لإلدارة‪ ،‬وتوحيدها سياسياً وإدارياً‪،‬‬ ‫والعمل من أجل توثيق متثيل مختلف املكونات األخرى‪،‬‬ ‫وتأسيس لجنة مشرتكة من املرجعية لدمج القوات العسكرية‬ ‫يف مرحلتها الثالثة‪ ،‬ورفض وجود أكرث من ق ّوة عسكر ّية يف‬ ‫املناطق الكردية‪.‬‬ ‫غري أن هذه الخريطة مل تبرص النور بانتظار عودة الفرقاء‬ ‫السياسيني من األحزاب الكردية لطاولة الحوار‪ ،‬وإكامل‬ ‫ترتيبات وحدة الصف‪ ،‬وتشكيل وفد كردي للمشاركة يف‬ ‫املحافل الدولية الخاصة بسوريا‪.‬‬

‫املواقع األثرية مبدينة الرقة‬ ‫ٌ‬ ‫ً‬ ‫تدرجييا بعد سنوات احلرب‬ ‫تاريخ تضمحل مالحمه‬

‫‪ .....‬تتمة من صفحة ‪9‬‬ ‫مكاناً يضم بني أجنحته تاريخ الرقة”‪ ،‬أما اليوم فناء‬ ‫املتحف بات شبه فارغ والقطع األثرية املوجودة‬ ‫ال تساوي تلك التي كانت معروضة فيه قبل اندالع‬ ‫الحرب‪.‬‬ ‫ويقع متحف الرقة يف مركز مدينة الرقة وتبلغ‬ ‫مساحته نحو ‪ 811‬مرتاً مربعاً‪ ،‬وهو عبارة عن‬ ‫بناء من طابقني وحديقة خلفية صغرية‪ .‬وقد كان‬ ‫يتألف الطابق األريض للمتحف من بهو للدخول‬ ‫وأربع صاالت للعرض وغرفة إدارية‪ ،‬فيام كان‬ ‫يتألف الطابق األول من ‪ 6‬صاالت للعرض وغرفة‬ ‫إدارية‪ ،‬باإلضافة إىل صالة استقبال مركزية‪.‬‬ ‫من ناحيته يقول زرادشت عيسو مدير مكتب‬ ‫اآلثار يف اإلدارة الذاتية إن ترميم املناطق األثرية‬ ‫بحاجة لخربات كبرية‪ ،‬وكوادر برشية وميزانيات‬ ‫مالية هائلة‪ ،‬وهذا ليس متوفراً لدى اإلدارة‪ ،‬كونها‬ ‫ما تزال إدارة ناشئة محلية عىل حد قوله‪ ،‬ليزيد‪:‬‬ ‫“كل اهتامم اإلدارة منصب عىل املشاريع الخدمية‬ ‫واملعيشية والصحية والتعليمية‪ ،‬ونحن أعددنا‬ ‫دراسة من أجل القيام بصيانة إسعافية للمواقع‬ ‫األثرية املهددة باالنهيار”‪ ،‬كاشفاً يف حديثه ملجلة‬ ‫طلعنا عالحرية أنهم ال ميتلكون القدرة مبفردهم‬ ‫عىل ترميم جميع تلك املواقع‪“ :‬سابقاً كانت‬ ‫الحكومة السورية تلجأ للبعثات األجنبية يف أعامل‬ ‫الرتميم بشكل دوري سنوياً‪ ،‬وهذا غري متاح حالياً‬ ‫بالنسبة لنا‪ ،‬نأمل أن يتم تقديم دعم من دول‬ ‫التحالف الدويل وإرسال بعثات أجنبية ملساعدتنا”‪.‬‬ ‫وبحسب املديرية العامة لآلثار واملتاحف يف‬ ‫حكومة النظام السوري فإن قرابة مليون قطعة‬ ‫أثرية يف سوريا ُسقت‪ ،‬كام تعرضت نحو ‪710‬‬ ‫مواقع أثرية ألرضار تراوحت بني رضر جزيئ أو‬ ‫اندثار وتهدم كامل‪.‬‬


‫مشاف يف إدلب‬ ‫توقف الدعم عن عدة‬ ‫ٍ‬ ‫يز يد معاناة املرضى والعاملني يف اجملال الصحي‬

‫‪13‬‬

‫علي الداالتي‬

‫العدد‬

‫‪102‬‬ ‫‪2022 / 1 / 20‬‬

‫كارثياً؛ فاألهايل يف هذه املنطقة أكرث من ‪80%‬‬ ‫منهم تحت خط الفقر‪ ،‬بالتايل هم غري قادرين‬ ‫عىل مراجعة املشايف الخاصة أو حتى املشايف‬ ‫الخريية التي تكون عادة ذات أجور رمزية”‪.‬‬ ‫وعىل وقع تحذيرات الجهات الطبية من مخاطر‬ ‫انقطاع الدعم وتبعات ذلك عىل حياة سكان‬ ‫شامل غرب سوريا‪ ،‬انطلقت حملة منارصة عىل‬ ‫مواقع التواصل االجتامعي بعنوان “ادعموا‬ ‫مشايف الشامل” بهدف لفت نظر العامل إىل‬ ‫املأساة التي ستنتج عن إيقاف الدعم عن املشايف‪،‬‬ ‫وبحسب ما قال الناشط فايز الدغيم ملجلة‬ ‫طلعنا عالحرية‪ ،‬وهو أحد املشاركني بالحملة إن‬ ‫عرشات الناشطني السوريني املدنيني والعاملني‬ ‫يف الشأنني اإلنساين والطبي يف شامل سوريا‬ ‫وحول العامل ساهموا بإطالق هذه الحملة من‬ ‫أجل املشايف يف الشامل السوري‪ ،‬وذلك “بعد‬ ‫توقف الدعم املقدم لعرشات املشايف بشكل‬ ‫مشاف أخرى يف كل‬ ‫تام‪ ،‬وتخفيض الدعم عن‬ ‫ٍ‬ ‫من حلب وإدلب” كام أكد الدغيم أنه “يف حال‬ ‫استمرار توقف الدعم عن املشايف فنحن أمام‬ ‫كارثة صحية وإنسانية رهيبة‪ ،‬ستهدد حياة حوايل‬ ‫أربع ماليني مدين يعيشون يف شامل غرب سوريا”‪.‬‬

‫كام شملت الحملة وقفات من الكوادر الطبية‬ ‫والناشطني‪ ،‬تدعو إلعادة الدعم‪ ،‬كام قام الرسام‬ ‫عزيز األسمر برسم لوحة غرافيتي لنفس الغرض‪.‬‬ ‫وسبق أن أصدرت “لجنة اإلنقاذ الدويل” (‪)IRC‬‬ ‫تقري ًرا يكشف التأثري الواسع واملد ّمر لعقد من‬ ‫الهجامت املمنهجة عىل املرافق الصحية وعىل‬ ‫املدنيني يف سوريا‪ ،‬وأوضح التقرير التأثري املدمر‬ ‫الذي أحدثه تدمري نظام الرعاية الصحية يف البالد‪،‬‬ ‫عىل قدرته لالستجابة لوباء كورونا املستجد‪.‬‬ ‫وبحسب تقرير اللجنة‪ ،‬فقد غادر حوايل ‪ 70‬يف املئة‬ ‫من العاملني يف القطاع الصحي البالد‪ ،‬فيام باتت‬ ‫النسبة اآلن طبيب واحد لكل ‪ 10‬آالف سوري‪.‬‬ ‫وينص القانون الدويل اإلنساين عىل حامية املرافق‬ ‫الصحية والعاملني الصحيني‪ ،‬وعىل الرغم من ذلك‪،‬‬ ‫وثقتمنظمة“أطباءمنأجلحقوقاإلنسان”‪595‬‬ ‫هجو ًما عىل مرافق صحية يف سوريا منذ عام ‪.2011‬‬ ‫ونتيجة ذلك‪ ،‬ال تعمل أكرث من نصف املستشفيات‬ ‫السورية بشكل كامل بسبب الهجامت‪ ،‬وصار‬ ‫حالها يرىث له‪ ،‬مع عدم استعدادها لتغطي‬ ‫حاجة البالد وتقديم الرعاية الصحية لـ ‪12‬‬ ‫مليون سوري‪ ،‬والتعامل مع آثار كورونا‪ ،‬الذي‬ ‫أصاب بالشلل أقوى أنظمة الصحة يف العامل‪.‬‬

‫تقارير‬

‫تقف أم محمد بالقرب من املخيم الذي تعيش فيه يف‬ ‫ريف إدلب‪ ،‬بانتظار سيارة توصلها ملدينة حارم لرتاجع‬ ‫مشفى املدينة يف زيارة قد تكون األخرية‪ ،‬بعد توقف‬ ‫الدعم عن املشفى التي تتعالج به‪ ،‬مام ينذر بإغالقه‪.‬‬ ‫أم محمد التي تعاين من أمل الغربة والنزوح‪ ،‬والفقر‪ ،‬وكذلك‬ ‫املرض‪ ،‬يضاف اليوم لجعبة آالمها فقدان العالج‪ .‬تقول أم محمد‬ ‫ملجلة طلعنا عالحرية‪“ :‬مع بدء الكالم عن إغالق املشفى الذي‬ ‫يعالجني أفقد آخر بصيص ضوء يل بالعالج؛ كون ال قدرة يل عىل‬ ‫الذهابللمشايفالبعيدةأولزيارةطبيبخاصأومشفىمأجور‪.‬‬ ‫وبحسب بيان صدر يوم ‪ 12‬من كانون الثاين عن فريق‬ ‫“منسقو استجابة سوريا” إن ‪ 18‬منشأة طبية تقدم‬ ‫خدماتها ألكرث من مليون ونصف مليون من سكان‬ ‫شامل غريب سوريا انقطع عنها الدعم‪ ،‬يف أزمة جديدة‬ ‫تضاف إىل العديد من األزمات التي تعاين منها املنطقة‪.‬‬ ‫كام حذر الفريق من توقف الدعم عن املنشآت الطبية‪ ،‬وخاصة‬ ‫مع ازدياد الضغوط عىل املنشآت األخرى‪ ،‬وعدم قدرتها عىل‬ ‫تقديم الخدمات لجميع السكان يف املنطقة‪ ،‬خاصة مع احتاملية‬ ‫موجة جديدة من فريوس كورونا املستجد قد تشهدها املنطقة‪.‬‬ ‫مشفى حريتان الخريي للنسائية واألطفال هو من املشايف التي‬ ‫توقف الدعم عنها‪ .‬وبحسب مدير املشفى الدكتور أديب عبد‬ ‫الرحمن أن سبب توقف الدعم عن مشفى حريتان هو قلة‬ ‫التمويل من قبل املانحني للمنظامت اإلنسانية املحلية‪ .‬ويتابع‬ ‫الدكتور عبد الرحمن‪“ :‬رغم توقف الدعم عنهم‪ ،‬فقد قرر كادر‬ ‫املشفى استمرار العمل ضمن إمكانيات محدودة‪ ،‬حتى انتهاء‬ ‫املخزون من املحروقات الالزمة ملولدات الطاقة الكهربائية‬ ‫والتدفئة‪ ،‬واملستهلكات الطبية” ويستدرك‪“ :‬ولكن نحن‬ ‫مضطرونإليقافالعملباملشفىبعدانتهاءمقوماتسريالعمل‬ ‫من كلف تشغيلية ومحروقات و أوكسجني ومستهلكات طبية”‪.‬‬ ‫الدكتور سامل عبدان مدير صحة إدلب قال ملجلة عالحرية إنه‬ ‫“خالل الربع األخري من العام املايض توقف الدعم اإلنساين‬ ‫املقدم من املانحني الدوليني عن ‪ 13‬مستشفى يف محافظة‬ ‫إدلب‪ ،‬كانت تستقبل ‪ 50‬ألف حالة مرضية شهرياً‪ ،‬تستفيد‬ ‫من الخدمات الطبية التي تقدمها تلك املشايف”‪ ،‬وأضاف إن‬ ‫“املشايف تعمل حالياً بشكل تطوعي بدون أجر‪ ،‬ولكن بالحد‬ ‫األدىن بانتظار عودة الدعم‪ ،‬للعودة للعمل بالطاقة القصوى”‪.‬‬ ‫وأكد د‪ .‬عبدان بأن أثر توقف الدعم عن املشايف “سيكون‬


‫‪14‬‬

‫ً‬ ‫بديال عن املدارس!‬ ‫اخليام التعليمية‪..‬‬ ‫ومالذ أطفال نازحني من اجلهل‬ ‫دارين الحسن ‪ -‬إدلب‬

‫العدد‬

‫‪102‬‬ ‫‪2022 / 1 / 20‬‬

‫يف طريق وعر متعرج‪ ،‬ورغم الربد والطني واألحوال‬ ‫الجوية السيئة‪ ،‬مييش الطفل سليم الحجي (‪10‬‬ ‫سنوات) النازح من ريف إدلب الجنويب‪ ،‬كل صباح إىل‬ ‫مخيم آخر برفقة أخته ريم التي تصغره بعامني‪ ،‬لتلقي‬ ‫دروسهام يف الخيمة التعليمية‪ ،‬ويؤكد الطفل أن املخيم‬ ‫الذي يقطن به يخلو من أي مركز تعليمي‪ ،‬األمر الذي‬ ‫يفرض عليه وعىل بقية أطفال املخيم معاناة مضاعفة‪.‬‬ ‫يقول سليم‪“ :‬نزحنا من منازلنا ومدارسنا منذ أكرث من‬ ‫سنتني‪ ،‬وال زلنا نرص عىل متابعة تعليمنا‪ ،‬لكننا نقطع‬ ‫مسافات طويلة‪ ،‬ونضطر للخروج باكراً من املخيم‬ ‫حتى ال نتأخر عن دوامنا املدريس يف املخيم املجاور”‪.‬‬ ‫فرضت الحاجة إىل التعليم يف مخيامت الشامل‬ ‫السوري‪ ،‬ظهور ما يعرف بـ”الخيام التعليمية”‪ ،‬التي‬ ‫أصبحت مالذاً وحيداً ألطفال املخيامت‪ ،‬عىل الرغم‬ ‫مام تعانيه الكوادر التعليمية فيها من صعوبات‬ ‫كبرية يف تأمني الرواتب الشهرية‪ ،‬والتجهيزات‬ ‫اللوجستية وغريها من احتياجات العملية التعليمية‪.‬‬

‫تقارير‬

‫معلمون دون رواتب‬ ‫يعمل العديد من املعلمني بشكل تطوعي‬ ‫بسبب غياب الدعم عن معظم الخيام التعليمية‪،‬‬ ‫ومنهم من يضطر لرتك املهنة‪ ،‬فيام يفضل آخرون‬ ‫العمل مبهن إضافية لتأمني احتياجات أرسهم‪.‬‬ ‫مروان الرحال (‪ 36‬عاماً) معلم نازح من مدينة رساقب‬ ‫إىل مخيم يف بلدة كليل بريف إدلب الشاميل‪ ،‬يعلم‬ ‫األطفال يف املخيم منذ سنتني دون أن يحصل عىل أي‬ ‫راتب لقاء عمله‪ ،‬وعن معاناته يقول لطلعنا عالحرية‪:‬‬ ‫“بعد نزوحي من مدينة رساقب إىل هذا املخيم‪،‬‬ ‫بدأت بتعليم األطفال لس ّد النّقص يف الكادر التعليمي‪،‬‬ ‫فعىل ال ّرغم من ضيق العيش نحرص عىل تعويض‬ ‫أطفال املخيم عن بعض ما فقدوه يف مأساة النزوح‪،‬‬ ‫ونحاول التكيف مع مآيس الحرب‪ ،‬وتاليف النقص‬ ‫يف مقومات العملية التعليمية بإمكانيات بسيطة”‪.‬‬ ‫ويشري الرحال إىل أنه ال يتقيد باملنهاج يف تعليم‬ ‫األطفال‪ ،‬ولكنه يركز عىل املواد األساسية؛ وهي‬ ‫القراءة والكتابة والحساب‪ ،‬ويؤمن مثن أقالم‬ ‫السبورة والقرطاسية من تربعات أهايل املخيم‪.‬‬ ‫ويؤكد الرحال أن عمله تطوعي حتى اآلن‪ ،‬دون‬ ‫أن يحصل عىل أي راتب أو منحة مالية‪ ،‬رغم أنه‬

‫معيل ألرسة مكونة من ستة أفراد‪ ،‬ما اضطره للعمل‬ ‫يف بيع مستلزمات الهواتف الجوالة يف خيمته‬ ‫لتحصيل لقمة العيش يف ظل الغالء والنزوح‪.‬‬ ‫االزدحام وغياب التجهيزات‬ ‫يعاين املعلمون والتالميذ يف الخيام التعليمية من‬

‫خان السبل إىل مخيم كليل‪ ،‬ترك الدراسة والتوجه‬ ‫للعمل يف مهنة تصليح الدراجات النارية‪ ،‬وعن سبب‬ ‫ذلك يوضح‪“ :‬ال أستطيع الدراسة يف ظل االزدحام‬ ‫والضجيج‪ ،‬وسوء الوضع التعليمي داخل املخيم‪ ،‬لذلك‬ ‫فضلت العمل ملساعدة والدي يف تأمني احتياجاتنا”‪.‬‬

‫االزدحام والضجيج‪ ،‬إىل‬ ‫جانب النقص الكبري‬ ‫يف الكتب واملقاعد‬ ‫والقرطاسية والوسائل‬ ‫التعليمية‪.‬‬ ‫املعلم وليد الحسن (‪41‬‬ ‫عاماً) نازح من معرة‬ ‫النعامن إىل مخيم يف بلدة‬ ‫كفرعروق شامل إدلب‪،‬‬ ‫يعلم هو وثالثة معلمني‬ ‫آخرين أطفال املخيم‪ ،‬ويضطر لصنع الوسائل التعليمية‬ ‫بنفسه‪ ،‬ويقيض بعد عودته إىل املنزل وقتاً طوي ًال يف‬ ‫إعدادها‪.‬‬ ‫“يصعب إيصال األفكار واملعلومات لطالب الحلقة‬ ‫األوىل دون وسائل مساعدة من عبارات ورسومات‬ ‫وصور‪ ،‬لذلك أقوم بإعدادها بنفيس يف املنزل” يقول وليد‪.‬‬ ‫ويضيف‪“ :‬الخيمة رغم صغرها‪ ،‬تضم أكرث من‬ ‫‪ 40‬طف ًال‪ ،‬وكلهم يجلسون عىل األرض لعدم توفر‬ ‫املقاعد‪ ،‬ومنهم من يظل واقفاً‪ ،‬كام يعانون من الربد‬ ‫وعدم توفر وسائل التدفئة‪ ،‬ما يدفعهم للتوقف عن‬ ‫ارتياد الخيمة التدريسية يف األيام املاطرة والباردة”‪.‬‬ ‫الطفلة لني العمر (‪ 12‬عاماً) نزحت مع أرستها‬ ‫من بلدة كفرنبل‪ ،‬تبني أن الخيمة القامشية ال‬ ‫ترد األصوات القادمة من الخارج‪ ،‬واآلليات املارة‬ ‫بجانب الخيمة‪ ،‬ما يعيق استيعاب الدروس بشكل‬ ‫جيد‪ ،‬موضحة‪“ :‬نأمل أن تصمد هذه الخيام يف‬ ‫وجه الحر والربد‪ ،‬وأن نتمكن من تخطي املصاعب‬ ‫لنستمر بالدراسة حتى نحقق أهدافنا يف الحياة”‪.‬‬ ‫أطفال تخ ّلوا عن التعليم‬ ‫الكثري من األطفال تركوا مقاعد الدراسة‬ ‫بعد النزوح‪ ،‬وتوجهوا نحو أسواق العمل‪،‬‬ ‫ملساعدة أرسهم يف تأمني مصاريف املعيشة‪.‬‬ ‫ماجد الرسميني (‪ 11‬عاماً) فضل بعد نزوحه من بلدة‬

‫احتياجاتغائبة‬ ‫ً‬ ‫املوجه الرتبوي محمد املصطفى (‪ 45‬عاما) من مدينة‬ ‫إدلب‪ ،‬يعترب أن التعليم حقّ لكل طفل مهام كانت‬ ‫الظروف‪ ،‬وأولوية حتى يف ظل الحرب‪ ،‬مطالباً املنظامت‬ ‫واملؤسساتالتعليميةبدعمالتعليميفمخيامتالنزوح‬ ‫إلعادة الطالب إىل مقاعد الدراسة التي حرموا منها‪.‬‬ ‫يتحدث لطلعنا عالحرية عن احتياجات العملية‬ ‫التعليمية يف املخيامت‪“ :‬تعاين الخيام املدرسية‬ ‫من غياب الدعم املادي وقلة عدد املعلمني ونقص‬ ‫الخربات والكفاءات العلمية‪ .‬وتحتاج املخيامت لتأمني‬ ‫جميع مستلزمات العملية التعليمية؛ بدءاً من إنشاء‬ ‫مدارس بدل الخيام القامشية‪ ،‬وتأمني الرواتب الشهرية‬ ‫للمدرسني‪ ،‬والقرطاسية والحقائب للطالب واملعلمني‪،‬‬ ‫إىل جانب احتياجات الشتاء من وقود ومدافئ”‪.‬‬ ‫ويشار أن نسبة انقطاع األطفال عن التعليم يف‬ ‫مخيامت النزوح بإدلب بلغت ‪ 59%‬بحسب آخر‬ ‫إحصائية لفريق “منسقو استجابة سوريا” بتاريخ ‪4‬‬ ‫ترشين الثاين‪ /‬نوفمرب من العام املايض‪ ،‬فيام تبلغ نسبة‬ ‫العجز يف قطاع التعليم ‪ 61%‬ضمن مخيامت النزوح‪.‬‬ ‫وال يزال األطفال يدفعون الثمن األكرب للحرب التي‬ ‫حرمتهم من أبسط حقوقهم‪ ،‬يف ظل اإلجهاد الكبري‬ ‫الذي يعاين منه قطاع التعليم ونقص التمويل‪ ،‬والعجز‬ ‫عن تقديم تعليم مناسب ومستدام آلالف األطفال‪.‬‬


‫ً‬ ‫سعيا لتحسني أوضاعهم‪..‬‬ ‫معلمو إدلب يتجهون ملهن بديلة‬

‫‪15‬‬

‫هاديا المنصور‬

‫العدد‬

‫مغادرة الصف‬

‫أما عن املعلمة صفاء الزعرور (‪ 28‬عاماً) فهي مل‬ ‫ترتدد مبغادرة سلك التعليم وااللتحاق بوظيفة أخرى‬ ‫يف إحدى منظامت املجتمع املدين‪ ،‬لتعمل كمسؤولة‬ ‫مراقبة وتقييم؛ حيث الرواتب املغرية والدوام األسهل‬ ‫واألقل عنا ًء عىل حد وصفها‪.‬‬ ‫تقول صفاء‪“ :‬يجب أن نكون واقعيني‪ ،‬فنحن يف النهاية‬ ‫برش وبحاحة لتغطية نفقاتنا ومصاريفنا لنتمكن من‬ ‫أداء مهامنا دون مشاكل‪ ،‬ال شك أن مهنة التعليم‬

‫تقارير‬

‫ومل يسلم الطالب من نقص دعم املعلمني‪ ،‬حيث اتجه عدد‬ ‫من األهايل لرصف أبنائهم عن املدارس‪ ،‬بحجة عدم وجود‬ ‫تعليم حقيقي‪ ،‬وبعضهم اآلخر ممن ميتلكون إمكانيات‬ ‫جيدة اتجه للتعليم الخاص‪.‬‬ ‫ً‬ ‫الطالب فؤاد الحج عيل (‪ 12‬عاما) اتجه للعاملة يف إحدى‬ ‫ورش امليكانيك بعد ترسبه من املدرسة‪ ،‬فهذا “أفضل من‬ ‫املدارس هاأليام” عىل حد تعبريه‪.‬‬ ‫ويرشح فؤاد أنه كثرياً ماكان يذهب إىل املدرسة ليعود خايل‬ ‫الوفاض‪ ،‬بعد تغيب املدرسني بشكل متكرر‪ ،‬فيقيض وقته‬ ‫باللعب مع زمالئه يف باحة املدرسة‪ ،‬ثم ينطلق كل منهم‬ ‫إىل شأنه‪ ،‬ولذا وجد يف العاملة مستقب ًال أفضل‪ ،‬فهو عىل‬ ‫األقل يؤمن له مرصوفه الشخيص‪ ،‬ويكسبه مهنة يواجه بها‬ ‫صعوبة الحياة‪.‬‬

‫‪102‬‬

‫تأثري عىل الطالب!‬

‫متمسكون بالتعليم‪ ..‬مع مهنة أخرى‬

‫من جهتها مل تشأ املعلمة حليمة السكري (‪ 40‬عاماً)‬ ‫أن تنهي رحلتها يف التدريس‪ ،‬رغم توقف الدعم يف‬ ‫كثري من األحيان‪ ،‬وتقول‪“ :‬التعليم مهنة مقدسة‬ ‫وعلينا جميعاً أن نتحمل العبء للنهوض به ما‬ ‫أمكن”‪.‬‬ ‫مشرية إىل الوضع املادي السيئ للمعلمني‪“ :‬الذين‬ ‫باتوا غري قادرين عىل تأمني متطلبات عوائلهم‪،‬‬ ‫ويعملون بشكل تطوعي‪ ،‬ومع ذلك فهم يقاومون‬ ‫تلك التحديات ما أمكن” كام توضح‪.‬‬ ‫تعتمد املعلمة حليمة عىل مهنة أخرى غري التدريس‪،‬‬ ‫وهي بيع األلبسة املستعملة (البالة) يف منزلها بعد‬ ‫انتهائها من دوامها يف املدرسة‪ ،‬وذلك بغية تأمني‬ ‫مرصوف عائلتها املؤلفة من زوجها املريض بالقلب‬ ‫وأبنائها الخمسة‪.‬‬

‫هي مهنة إنسانية ونبيلة‪ ،‬ولكن املثالية ال تجدي مع‬ ‫الظروف املأساوية التي يعيشها السواد األعظم من‬ ‫الناس‪ ،‬يف ظل الفقر والنزوح والغالء”‪.‬‬ ‫وكان معلمو إدلب نظموا وقفة احتجاجية أمام مبنى‬ ‫مديرية الرتبية يف إدلب العام املنرصم‪ ،‬تنديداً بانقطاع‬ ‫رواتبهم‪ .‬ورغم استمرار احتجاجاتهم ملدة شهرين‬ ‫متواصلني إال أنهم مل يجنوا سوى وعوداً بتحسني‬ ‫أوضاعهم‪ ،‬مع بقاء الواقع املرتدي عىل حاله‪.‬‬ ‫من جهته أكد األستاذ محمود الباشا‪ ،‬مدير دائرة‬ ‫التعليم األسايس يف مديرية الرتبية يف إدلب‪ ،‬أن نقص‬ ‫الدعم يؤثر عىل جودة التعليم ومل يصل إىل املستوى‬ ‫املطلوب‪ ،‬مضيفاً‪“ :‬يبلغ عدد املدرسني يف املنطقة ‪20‬‬ ‫ألفاً‪ ،‬بينهم ‪ 5500‬مدرس يعملون بشكل تطوعي‪،‬‬ ‫وهناك أكرث من ‪ 60‬منظمة تدعم التعليم يف محافظة‬ ‫إدلب‪ ،‬وهو ما يؤدي لتفاوت يف أجور املعلمني”‪.‬‬ ‫ويف محاولة إلنقاذ التعليم ومساعدة املدرسني يف‬ ‫تأمني رواتب الئقة‪ ،‬أطلق ناشطون يف إدلب حملة‬ ‫عىل مواقع التواصل االجتامعي تحت عنوان”ادعموا‬ ‫تعليم إدلب” للمطالبة بتحسني التعليم يف شامل‬ ‫غرب سوريا‪ ،‬وشدد القامئون عىل الحملة عىل أن‬ ‫التعليم يشكل املفتاح من أجل تحسني ظروف‬ ‫األطفال‪ ،‬ويقيض عىل ظواهر العاملة والزواج املبكر‬ ‫والتجنيد‪ ،‬ويسهم مبحو األمية‪ ،‬وإنشاء جيل متعلم‬ ‫واع ومثقف قادر عىل النهوض ببلده ومجتمعه‪.‬‬

‫‪2022 / 1 / 20‬‬

‫مل يتوقع املعلم سامر اإلبراهيم (‪ 30‬عاماً) أن يتخىل عن‬ ‫مهنته يف التدريس ويتجه للعمل يف معمل لكبس البلوك‬ ‫يوماً ما‪ ،‬غري أن صعوبة الحياة وضيق األحوال املعيشية‬ ‫املصحوبة بقلة دعم املعلمني‪ ،‬وتوقف رواتبهم يف كثري من‬ ‫األحيان دفعته مرغ ًام إىل ذلك‪.‬‬ ‫“شو جربك عىل املر غري األمر” هكذا عرب املعلم سامر عن‬ ‫استيائه من واقع التعليم يف إدلب‪ ،‬والذي أجرب معظم‬ ‫املعلمني عىل التدريس بشكل تطوعي ودون أجر يف كثري‬ ‫من األحيان‪ /‬ما دفعهم للبحث عن مهن بديلة شاقة‬ ‫وخطرة‪.‬‬ ‫بينام يتصبب العرق من جبينه بعد أن بدأ بإعداد الخلطة‬ ‫األساسية لصنع البلوك‪ ،‬يقول‪“ :‬رواتب املعلمني قليلة وهي‬ ‫ال تتعدى ما يعادل ‪ 120‬دوالراً أمريكياً يف أحسن حاالتها‪،‬‬ ‫هذا إن توفرت‪ ،‬يف حني أن الغالء الحاصل‪ ،‬وخاصة مع‬ ‫تدهور اللرية الرتكية أمام الدوالر األمرييك‪ ،‬جعلت رواتب‬ ‫املعلمني ال تؤمن نصف احتياجات عوائلهم الشهرية”‪.‬‬ ‫ويتابع‪“ :‬حني يدخل املعلم صفه إلعطاء الدرس وهو يفكر‬ ‫بكيفية تأمني رغيف الخبز لعائلته‪ ،‬وكيف سيويف ديونه‬ ‫املرتاكمة‪ ،‬ليس كمن عىل يقني بأنه سيحصل عىل أجر الئق‬ ‫يف نهاية الشهر‪ ،‬وهو ما يؤثر عىل أدائه وعطائه‪ ،‬ما ينعكس‬ ‫عىل مستوى التعليم بشكل مؤكد”‪.‬‬ ‫واتجه عدد كبري من معلمي إدلب ملهن متعددة كالبناء‬ ‫والحدادة والنجارة والتجارة وغريها‪ ،‬لتأمني احتياجاتهم‬ ‫التي مل تكن رواتبهم يف السلك التعليمي لتؤمنها لهم‪.‬‬


‫رسائل على هيئة هلاث‬ ‫(خطوتان إىل اخللف)‬

‫‪16‬‬

‫لوحة للفنان التشكييل ديالور عمر‬

‫حسين الضاهر‬

‫العدد‬

‫‪102‬‬ ‫‪2022 / 1 / 20‬‬

‫راودتني فكرة كتابة هذه الرسائل‪ ،‬أو لنقل بشكل أدق‪:‬‬ ‫هاجمتني؛ فعالقتي مع الكتابة مؤخراً باتت تشبه التائه‬ ‫يف غابة مظلمة‪ ،‬يف حني ترتبص ب ِه أنياب املفردات‪.‬‬ ‫هللويا!!‬ ‫أرأيتم؟ أستطيع التفوه بعبارات كالتي يطلقها املثقفون‬ ‫وهم معلقون من ربطات عنقهم عىل املنصات‪.‬‬ ‫تعالوا ألخربكم الحقيقة‪ ،‬بالطبع إن كنتم ترغبون بذلك‪،‬‬ ‫وإن مل ترغبوا فبإمكانكم اآلن منذ هذه اللحظة إمتام‬ ‫الال يشء الذي تفعلونه بعيداً عني‪ ،‬أو رمبا ستذهبون‬ ‫إىل املطبخ بخطى متثاقلة لتعدوا وجبة خفيفة أو ثقيلة‬ ‫أو رمبا ستكرسون عنق زجاجة نبيذ ألنكم ببساطة ال‬ ‫متتلكون مفتاحها‪ .‬من يدري؟‬ ‫لكن إن أكملتم القراءة‪ ،‬سأقول لكم‪ :‬إنني بحاجة‬ ‫للكتابة فقط ألسدد فواتري حيايت املرتاكمة منذ العصور‬ ‫الغابرة‪ ،‬وأيضاً ليك أسدد لكمة يف صدغ هذا الفراغ‬ ‫املتوحش‪ ،‬ألشرتي مفتاح زجاجات‪ ،‬ألحصل عىل ثياب‬ ‫جديدة وعىل أكرب عدد من التفاعالت يف وسائل التواصل‬

‫الساعة الثالثة فجراً‬

‫مقاالت‬

‫ها أنا أجوب الرشفة كملدوغ‪ ،‬أدخن سيجارة أخرية‪،‬‬ ‫كتابوت يف عرص الخلود‪ ،‬واملدينة‬ ‫فعلبة سجائري فرغت‬ ‫ٍ‬ ‫برفق‪ ،‬ترضعهم‬ ‫يف الخارج نامئة كعادتها تحتضن أبنائها ٍ‬ ‫السكينة كلام طرق باب نعاسهم كابوس طارئ‪ ،‬بينام‬ ‫عيني‪ .‬أعلم أنكم ستتوقفون عند‬ ‫تنرث رماد األرق يف ّ‬ ‫الجملة األخرية وترصخون مبأل أفواهكم‪ :‬تباً ما هذه‬ ‫السخافة!!‬ ‫نعم‪ ،‬لكنني ال أملك اآلن إال هذه الصورة املستهلكة‪.‬‬ ‫سامحوين‪ ..‬ولنكمل‪.‬‬ ‫فكرة التدخني عىل الرشفة مل تكن من ابتداع عقيل‪ ،‬وال‬ ‫تقليداً لسكان العامل األول الذين يؤثرون رئات أطفالهم‬ ‫وأزواجهم عىل رئاتهم املتفحمة؛ بل هي فكرة صديقتي‬ ‫التي ارتأت يف هذا الفعل تقلي ًال من عدد السجائر التي‬ ‫بت أنفث دخانها كقطار كهل‪ .‬فهي تعلم مدى كسيل‪،‬‬ ‫كام تعلم أين لن أكمل ما تبقى من أيام عمري مصلوباً‬ ‫عىل الرشفة كتمثال إلله املدخنني‪ .‬هكذا أتشارك مع‬ ‫من أحب املطبات التي تعرتض القطار الكهل‪ ،‬ودامئاً‬ ‫يجدون يل طرقاً سالكة ألتخذها‪ ،‬ومنها كتابة مثل هذه‬ ‫الرسائل‪.‬‬

‫عزيزيت السيدة (‪)....‬‬

‫مضت شهور عىل أول حديث دار بيننا‪ ،‬وللعلم‪،‬‬ ‫أذكرها لحظة‪ ،‬لحظة‪ ،‬بكل ما فيها من عبثية واتزان‪،‬‬

‫بكل البهجة التي داهمت روحي املتنصلة من جوقة‬ ‫الببغاوات الهامئة يف الخارج‪ ،‬وبكل الطعنات التي‬ ‫انتظرنا التفات أحدنا إىل جهة رشوق العامل لنغدر به‬ ‫ببضع كلامت‪.‬‬ ‫بصوتك الخزيف‪ :‬تعال اقرتب أريد‬ ‫قلت‬ ‫أذكر جيداً حني ِ‬ ‫ِ‬ ‫كنت ماهرة يف اإليقاع‬ ‫أن أهمس يف أذنك كلمة واحدة‪ِ .‬‬ ‫بعصفور مبلل ومطرود خارج الرسب‪ ،‬أو رمبا هذا هو‬ ‫املصري الذي ينتظر كل من يؤمن للحظة بعدالة الحياة‬ ‫يف توزيع مقادير الحب‪.‬‬ ‫مبجيئك‪ ،‬بينام كنت أطرق‬ ‫األرض‬ ‫أذكر حني احتفلت‬ ‫ِ‬ ‫اسمك عىل قالدة‬ ‫أبواب املدن بحثاً عن أحد يجيد كتابة‬ ‫ِ‬ ‫ً‬ ‫اسمك الذي يبدأ دامئا بهمزة تف ّر‬ ‫أو عىل قالب حلوى‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬ ‫حاولت إمساكها‪.‬‬ ‫كلام‬ ‫أذكر طعم الدم يف فمي‪ ،‬ولسعات الدمع عىل جلدي‪،‬‬ ‫وال أذكر طعم قالب الحلوى؛ فقد أهديته لكل طفلٍ‬ ‫سمع عن الحب ومل يتذوقه‪.‬‬ ‫يا امرأة من زئبق!‬ ‫ال يحب؛ من ميتلك الوقت النتقاء املفردات عندما‬ ‫يحادث نصف قلبه‪.‬‬ ‫ال يحب؛ من يستطيع التفريق بني املنطق والوهم‪.‬‬ ‫ال أدري‪ ،‬هل أطلق عىل تلك الشهور اسم ابتسامة أم‬ ‫سكني؟ قد تكون كال التسميتني صالحتني‪ ،‬فهكذا هو‬ ‫الحب؛ يستفيق عىل هيئة قبلة رطبة‪ ،‬ويغفو كرصاصة‬ ‫يابس ٍة يف منتصف القلب‪.‬‬ ‫مل أكن أرغب بلمسة ٍيد تحيل قلبي طائرا ً ممسوساً بداء‬ ‫البهجة‪.‬‬ ‫مل أرغب أن تقطعي الكون مشياً عىل ِ‬ ‫قلبك‪ ،‬وال عىل‬ ‫ِ‬ ‫قدميك الصغريتني؛ يك تقدمي لهذا املحارص بني خريفني‬ ‫ِ‬ ‫رائحتك عىل طبقٍ من ربيع‪.‬‬ ‫مل أحلم بحب يتحدث عنه الشعراء يف قصائدهم‪،‬‬ ‫واملجانني يف نوبات رصعهم‪ ،‬والعامل يف أوقات‬ ‫اسرتاحتهم‪ ،‬واملشاهدون يف لحظات الفاصل اإلعالين‪.‬‬ ‫ال‪ ،‬مل أنتظر رسالة صباحية تطرق قرنيتي الهرمة‪ ،‬وال‬ ‫ِ‬ ‫برفقتك «يف حته بعيدة»‪.‬‬ ‫فنجان قهوة‬ ‫أتدرين؟‬ ‫مل أعد أقوى عىل نصب الفخاخ لإليقاع بعصافري‬ ‫املسافة‪ ،‬سأدعها متوت ببطء كام يف أيامها العادية‪،‬‬ ‫بينام سأجلس كعاديت خالياً من كل يشء أقّرش القصائد‬ ‫وألقمها للامرة؛ كلمة‪ ،‬كلمة‪.‬‬ ‫خلف هذا الجدار ِ‬ ‫أنت وأرض تدور حول نفسها وحول‬

‫الشمس‪ ،‬أتالحظني معي؟ حتى أرضنا العظيمة تحتاج‬ ‫ِ‬ ‫تتبعتك‬ ‫شيئاً تلهث حوله؛ لذا ال تشعري بالسخط كلام‬ ‫ٍ‬ ‫كقط جائع‪.‬‬ ‫لدي اآلن متسع لكتابة كثري من هذا الهراء‪ ،‬وللموت‬ ‫مثل شاعر أخرق؛ كأن أتجرع رشيط حبوب االكتئاب‬ ‫املركون أعىل الخزانة دفع ًة واحدة‪ ،‬بعد أن أكتب رسالة‬ ‫خرقاء أريث فيها جثتي‪ ،‬وأشتم عبثية الحياة وأتذ ّمر‪،‬‬ ‫لكنني لن أفعلها اليوم فام زال يف قلبي مساحة عشبية‬ ‫للعبة الحب‪.‬‬ ‫البارحة أيضاً‪ ،‬حني أرسلت ِ‬ ‫إليك جزءا ً من هذه الكلامت؛‬ ‫مل أنتظر ِ‬ ‫منك أن تسفحي رقبة السوء الذي وجد متسعاً‬ ‫له بيننا‪ ،‬ألنني علمت ِ‬ ‫ِ‬ ‫أتلفت قوارب العودة‪،‬‬ ‫أنك‬ ‫ِ‬ ‫وأحرقت كل ما ميت إ ّيل بصلة‪.‬‬ ‫أي‬ ‫برصاحة؛ ما عاد األمر مهامً‪ ،‬فاأليام كفيلة برتميم ّ‬ ‫كيان متصدع‪.‬‬ ‫ولن أكابر اآلن بالقول إنني عاكف عىل إصالح ما‬ ‫ِ‬ ‫غيابك‪ ،‬فقد أسلمت نفيس للحزن بكامل أهليتي‬ ‫خلفه‬ ‫وجنوين‪ ،‬وأظن أن هذا الفعل سيضمر هو اآلخر مع‬ ‫مرور األيام‪ ،‬أو رمبا سيتبدد بفعل رضبة مباغتة تغري‬ ‫مجرى حيايت البائسة‪.‬‬ ‫ها أنا أستمر يف الكتابة ومبر ِ‬ ‫اقبتك‪ ،‬أراقب الصور التي‬ ‫ِ‬ ‫حولك أشجار‬ ‫تحاولني الظهور فيها مبتسم ًة دامئاً‪ ،‬ومن‬ ‫تعدو يف مكانها‪ ،‬وفراشات متارس أدوارها الثانوية عىل‬ ‫أفضل ما يرام‪ ،‬وزهور تكاد تخرج عن النص من فرط‬ ‫نضارتها‪.‬‬ ‫قد يكون املشهد سعيدا ً يف رأي العابرين‪ ،‬أنا الوحيد‬ ‫الذي يلتقط ِ‬ ‫حزنك من جميع املشاهد‪.‬‬ ‫هامش‪ :‬ال تفكري فيام كتبت‪ ،‬فقط حاويل أن تحرشي‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫سيعضك‬ ‫قلبك اآلن يف إحدى الزوايا؛ من املؤكد أنه‬ ‫وستتأملني‪.‬‬


‫االستثمار يف جروح البشر‬ ‫‪17‬‬

‫بشرى البشوات‬

‫الجامل واالبتكار يف عرص االتصاالت‬

‫“الجامل نوع من أنواع العبقرية‪ ،‬بل هو أرقى من‬ ‫العبقر ّية‪ ،‬إنه ال يحتاج إىل تفسري‪ ،‬فهو من بني الحقائق‬ ‫العظيمة يف هذا العامل‪ ،‬إنه مثل رشوق الشمس‪ ،‬أو‬ ‫انعكاس َصدفة فض ّية نسيها القمر عىل صفحة املياه‬ ‫املظلمة” (أوسكار وايلد يف روايته “صورة دوريان‬ ‫جراي“)‪.‬‬ ‫يأيت الجامل بشق ّيه الطبيعي واملعاد تصنيعه‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫التدخل البرشي يف ابتكار أصناف وتصميامت‪ ،‬مل يكن‬ ‫البرشي يتخ ّيل بأنها ستكون عامل جذب يف يوم ما‪،‬‬

‫الفسيحة التي مازلنا نواصل السقوط فيها‪ ،‬لنؤمن يف آخر‬

‫املطاف برضورة التحرير‪ ،‬تحرير البرشية من نفسها‪.‬‬

‫العدد‬

‫ولدى سؤالنا الشاعرة واملرتجمة نور نرصة‪ ،‬ع ّلقت‪:‬‬ ‫“من املؤكد أن رواج فكرة املقاهي التي تجسد واقع‬ ‫الحرب السورية يف الصني أمر جارح بالنسبة لنا‬ ‫كسوريني؛ أوالً كوننا تأملنا وتأذينا من هذه الحرب من‬ ‫جهة‪ ،‬وكوننا اعتدنا أن تكون سوريا حارضة كام كانت‬ ‫عىل مر التاريخ بكامل أناقتها الحضارية والتاريخية‪،‬‬ ‫لهذا فإن هذه املقاهي أشبه بتكريس بشاعة وقباحة‬ ‫وجه الحرب الذي نعمل عىل مسحه أو ترميمه قدر‬ ‫اإلمكان‪ ،‬عىل األقل عىل الصعيد الثقايف والبرصي‪ .‬من‬ ‫جانب آخر‪ ،‬إذا ما أردنا أن ننظر إىل هذه الظاهرة من‬ ‫نطاق أوسع ونحاول أن نحلل سبب نجاحها يف املجتمع‬ ‫الصيني‪ ،‬سنجد أن السبب ليس يف غرابة الفكرة‪ ،‬بل‬ ‫يف تراجع القيم اإلنسانية عموماً وتعامل الفرد بطريقة‬ ‫افرتاضية لكل ما يدور حوله‪ ،‬بل وابتعاده عن القيام‬ ‫بدور إيجايب حتى من الناحية الفكرية واألخالقية فيام‬ ‫يخص قضايا الحروب”‪.‬‬

‫هذا ما يقذف بنا إىل قلب السؤال عن النهاية‪ ،‬كيف‬ ‫نزلت البرشية إىل هذا الدرك‪ ،‬وكيف يتحول الجرح‬ ‫البرشي مادة دعائية يف الفضاء السيرباين‪.‬‬ ‫يجب تجذير اإلشكالية وتصعيد السؤال؛ فاملوضوع‬ ‫وإن اتصل بالسوريني‪ ،‬لكنه بنكهة الفضيحة البرشية‬ ‫يف مستويات جاملية وأخالقية وقيمية وإنسانية‪،‬‬ ‫تحول الهامش الرتاجيدي السوري إىل منت كوين بأبعاد‬ ‫تراجيدية‪.‬‬ ‫ترتفع أصوات كثرية يف الجانب اآلخر تقول بأن السوريني‬ ‫أنفسهم أكرث من استثمر واستفاد من مآالت الوضع‬ ‫السوري‪ ،‬وبأن السوريني أنفسهم تكسبوا من ذلك‪،‬‬ ‫وابتعدت قضيتهم كثرياً عن منحاها اإلنساين وأخذت‬ ‫بعداً آخر‪ ،‬مت ّثل بالرتبح والتكسب من جراء ما ّ‬ ‫حل‬ ‫ببالدهم (كتّاب‪ ،‬مخرجون ‪ ،‬صحفيون‪ ،‬شعراء‪ ،‬تجار‪.)..‬‬ ‫الكل حاول أن ميد يده حتى بربكة الدم واقتطع لنفسه‬ ‫قطعة!‬ ‫تضيف خلود حدق‪“ :‬ال يحق ألحد أن يتخذ املأساة‬ ‫السورية أداة للتسويق لفنه‪ ،‬سواء كان سورياً أم غري‬ ‫سوري‪ ،‬ألن الفنان الحقيقي هو من يحمل رسالة فنية‬ ‫مقدسة‪ ،‬ويحاول لفت النظر ﻷي حالة و‪ /‬أو مأساة‬ ‫وتصويرها بأسلوبه‪ ،‬ولفت نظر العامل إليها من خالل‬ ‫فنه‪ ،‬واألهم هو تأريخها‪ ،‬ألن الفن هو عنرص أسايس‬ ‫يف تأريخ الحقب الزمنية‪ ،‬بدليل أننا عرفنا الكثري عن‬ ‫حضارات كثرية اندثرت عن طريق ما خلفته تلك‬ ‫الحضارات من رسومات ومنحوتات وعامرة”‪.‬‬ ‫هذه املقاربة ال تتفجع عىل الحطام السوري‪ ،‬بل تريد‬ ‫اإلشارة إىل املنحنى التصاعدي للحطام اإلنساين‪ ،‬ومل‬ ‫تفقد األمل بالبرشية التي عليها أن تشكر الهاوية‬

‫مقاالت‬

‫نسأل الصحفية السورية خلود حدق عن هذا الخرب‪،‬‬ ‫وتجيب‪“ :‬تفاعلت مع الخرب بسخرية‪ ،‬فهو املضحك‬ ‫املبيك أن يصبح الدمار طرازاً سورياً بعدما اشتهرت‬ ‫سوريا بالطراز املعامري الفريد عىل مدى التاريخ‪،‬‬ ‫ومتيزت بأنواع عديدة من الديكور‪ ،‬وأهمها الدمشقي‬ ‫بكل تفاصيله من ديكور وأثاث‪..‬‬ ‫أ ّما أن العامل مل يعد يرى من سوريا سوى الدمار ليتخذه‬ ‫طرازاً‪ ،‬فهذا مجحف كثرياً يف حق سوريا وسخرية من‬ ‫مأساتها”‪.‬‬

‫تكريس البشاعة‬

‫االستثامر يف جروح البرش‬

‫‪102‬‬

‫انتقاء مجحف‬

‫بالطبع ليس كل الصينيني يرون يف الحطام السوري‬ ‫ديكوراً للزينة‪ ،‬ومنهم الكثريين الذين يخجلون من‬ ‫ذلك‪ ،‬ويذكرون بالحطام الزلزايل (ستشوان) الصينية‪،‬‬ ‫وأسلوب تشنغتشو لحطام الفيضانات‪ ،‬ورمبا يوجد‬ ‫يف العامل الكثريون ممن قد يرغبون مبقاربة الحطام‬ ‫السوري عىل أنه ديكور للزينة‪ ،‬باملناسبة مثة يف ميدان‬ ‫الجامليات مايعرف مبفهوم “الرائع” ال مبعنى الجميل‬ ‫والحسن واملدهش‪ ،‬بل مبعنى املفزع واملروع واملريع‪،‬‬ ‫رمبا أسلوب الحطام يحيل بصورة مبارشة إىل مفهوم‬ ‫الرائع باملعنى الذي سبق ذكره‪ ،‬ولكن ليس حني يرتبط‬ ‫هذا املريع الجاميل بجرح شعب‪.‬‬

‫‪2022 / 1 / 20‬‬

‫“مقا ٍه صينية “عىل الطراز السوري” تحقق شعبية‬ ‫يف الصني”؛ ويقصد بالطراز السوري البيوت املدمرة‪،‬‬ ‫الخرسانات واألسمنت‪ ،‬وظهور واضح وصارخ للون‬ ‫الرمادي؛ الذي يعني بأن مثة قصف م ّر من هنا‪.‬‬ ‫ال يبدو مستغرباً‪ ،‬وإن كان مؤملاً‪ ،‬أن تجد من البرش‬ ‫من انقاد بشهوة الربح إىل أن يستثمر‪ ،‬ليس فقط‬ ‫يف الحطام السوري املتعلق مبا ّ‬ ‫حل بالبنية التحتية‬ ‫والسكنية‪ ،‬ال بل البرشي جملة وتفصي ًال يف مستوى ما‬ ‫يتصل حتى بأعز مواطن الروح والوجدان‪.‬‬ ‫ليس القصد هنا حمية وطنية فقط تريد أن تتفجع‬ ‫عىل ما ّ‬ ‫حل بالوطن السوري‪ ،‬بل هي حمية إنسانية‬ ‫تريد أن تتساءل عن املصري األخالقي واإلنساين والق ّيمي‬ ‫للبرشية عىل هذا الكوكب‪ ،‬تريد أن تشاغب‪ ،‬بل وتتمرد‬ ‫عىل هذه البرشية التي مل تعد تخجل من عبوديتها‪.‬‬ ‫حضارتها الكئيبة التي مل تعد تنتج سوى التشويق‬ ‫واإلثارة واللذة‪ ،‬بوصف أن هذه جميعاً ما سوى وجوه‬ ‫أخرى لألمل والسأم والرتابة؛ فليس مثة لذة دون أن‬ ‫يقابلها أمل‪ ،‬وليس مثة إثارة بال سأم‪ ،‬كام ال تشويق بال‬ ‫ملل‪.‬‬ ‫وما كل ذلك يف املآل سوى وجوه لهذا العقل الحزين‬ ‫واألناة الشقية‪ ،‬بوصف أن هذين األخريين أكرب ثقبني يف‬ ‫الكون اإلنساين‪ ،‬حني لفظنا كئيبني ومشوهني وحزينني‪،‬‬ ‫بل متوحشني ومجرمني‪ ،‬سفاحني وتجار حروب‪ ،‬لنا من‬ ‫إرادة الهيمنة ما يكفي لدمار العامل‪ ،‬وقد فعلنا ذلك حقاً‬ ‫بنسبة كبرية‪ ،‬ومازال يف جعبتنا ما يكفي لسحقه نهائياً‬ ‫ولعدة مرات‪ ،‬كل هذا ومل تخجل البرشية مام هي عليه‪،‬‬ ‫فهل سيخجل بعض املستثمرين يف الصني أن يستثمروا‬ ‫يف “منط الحطام السوري”!‬

‫الرائع!‬

‫وتتصدر يف عرص االتصاالت محركات البحث‪ ،‬للتأكد بأن‬ ‫ما كان حطاماً يوماً ما‪ ،‬تح ّول يف مكان ما يف أقىص الكرة‬ ‫األرض ّية إىل حالة فنية مبتكرة وغريبة‪ ،‬تحقق شعب ّية‬ ‫متزايدة وتخربنا بأن الخيال الحر وحده‪ ،‬قادر عىل خلق‬ ‫أعامل إبداعية جديدة‪ ،‬بعيداً عن التقليد الذي يعتمد‬ ‫عىل محاكاة األشياء القدمية واملعروفة‪.‬‬ ‫الخيال الحر يصنع إبداعًا حسب الفيلسوف “كانط”‪.‬‬ ‫االبتكار ولكن ضمن قواعد الفن والجامل‪.‬‬


‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫حديث يف الفن واحلرية‬

‫‪18‬‬ ‫ياسمين نهار‬

‫العدد‬

‫‪102‬‬ ‫‪2022 / 1 / 20‬‬ ‫ثقافة‬

‫حني رأيت صورة عازف الكامن “ديجو فرازو‬ ‫تركواتو” أيقنت كيف تختزل صورة ألف معنى‪.‬‬ ‫وأ ّول سؤال تبادر إىل ذهني هو‪ :‬ملاذا مل تجد غبطة‬ ‫عيني هذا ّ‬ ‫الطفل‬ ‫العزف واإليقاع مستق ّراً لها يف ّ‬ ‫قصة “ديجو” أدركت‬ ‫الربيء؟ حني بحثت عن ّ‬ ‫أ ّنه ينتمي إىل بيئة تنام عىل الجوع‪ ،‬وتنترش‬ ‫فيها الجرمية انتشار النّار يف الهشيم‪ ،‬وليس هذا‬ ‫حص ٌة وافر ٌة من‬ ‫فحسب فقد كانت لـ “ديجو” ّ‬ ‫أمراض تناسلت يف بيئته الفقرية املتخ ّلفة‪ .‬وقد‬ ‫الصورة له عندما كان يعزف مقطوعة‬ ‫التقطت ّ‬ ‫مح ّببة ملع ّلمه ّ‬ ‫املتوف “إيفاندرو دي سيلفا جاو”‪،‬‬ ‫الصورة يبيك مع ّلمه الذي أنقذه‬ ‫ونرى “ديجو” يف ّ‬ ‫من بيئة العنف‪ ،‬وع ّلمه العزف عىل الكامن‪.‬‬ ‫الصورة نشعر ّأن هطل الدّموع‬ ‫إذ نتأ ّمل هذه ّ‬ ‫الحب‬ ‫قد تجاوز حدود إطارها‪ ،‬ويبدو يل ّأن‬ ‫ّ‬ ‫واملوسيقا نقال حياته من ح ّيز العنف والجرمية‬ ‫إىل فضاء الفنّ واإلنسان ّية‪.‬‬ ‫غي حياة ّ‬ ‫الطفل‪ ،‬واملوسيقا أعطته‬ ‫نعم‪ ،‬الفنّ ّ‬ ‫السحايا الذي‬ ‫أم ًال ملواجهة اللوكيميا والتهاب ّ‬ ‫عاىن منه منذ الصغر؛ وما هذه النّقلة النّوع ّية ّإل‬ ‫نتيجة لجهود مع ّلمه املعطاء أمام د ّوامة الحرب‬ ‫واالستبداد والفوىض‪.‬‬ ‫يف بالدنا يحقّ لنا أن نتساءل‪ :‬هل ميكن أن يتنازل‬ ‫الفنّ عن دوره يف حمل رشارة التّغيري؟ هل يذهب‬ ‫إرث املبدعني ورسائلهم املح ّرضة عىل الجامل‬ ‫والتّجدّد والحياة الح ّرة أدراج ال ّرياح‪ ،‬كام يعلن‬ ‫املتشامئون الذين أعلنوا نهاية الحارض‪ ،‬وسدّوا ّ‬ ‫كل‬ ‫بصيص أمل قد يأيت من املستقبل؟‬ ‫ّربا يرتاجع دور الفنّ لتكون الغلبة يف مرحلة‬ ‫للسالح والفوىض‪ ،‬لكن ال ميكن إيقاف الخيال‬ ‫ما ّ‬ ‫املبدع أو تقييده؛ ّ‬ ‫ألن الخيال حركة يصعب‬ ‫ضبطها‪ .‬ذلك ّأن اإلنسان منذ القدم واجه أخطار‬

‫ّ‬ ‫الطبيعة بالفنون‪ ،‬وحني رقص وعزف ورسم عىل‬ ‫يعب عن ق ّوته أمام‬ ‫جدران الكهوف كان يحاول أن ّ‬ ‫جربوت ّ‬ ‫الطبيعة‪ ،‬فكان الفنّ وسيلته لالنتصار عىل‬ ‫مخاوفه وتحدّي املجهول‪.‬‬ ‫الحقيقي ال يص ّور الواقع كام‬ ‫والحقيقة ّأن الفنّ‬ ‫ّ‬ ‫توسع حدوده‪،‬‬ ‫هو‪ ،‬بل يقدّم صوراً جديدة للعامل ّ‬ ‫وتعكس غنى تجربة املبدع وتعدّد منابعها‪.‬‬ ‫الفني‪ ،‬يضيف‬ ‫املتل ّقي أيضاً يتواصل مع العمل‬ ‫ّ‬ ‫إليه خربته وحصيلته ال ّثقاف ّية‪ .‬هكذا ينتج املبدع‬ ‫عاملاً جديداً‪ّ .‬‬ ‫وكل متلقّ يعيد إنتاجه من جديد‪.‬‬ ‫حجب‬ ‫ويف ضوء ذلك يحقّ لنا أن نتساءل‪ :‬ملاذا ُي َ‬ ‫املغية يف بالدنا؟ ملاذا‬ ‫دور الفنّ ورسالته املح ّرضة ّ‬ ‫ُتحارص املواهب ّ‬ ‫الخلقة ومتنع من الخروج إىل‬ ‫النور؟‬ ‫ّ‬ ‫السؤالني ميكننا أن نتوقف عند‬ ‫لإلجابة عن هذين ّ‬ ‫االجتامعي أو‬ ‫السيايس أو‬ ‫لبي للرقيب‬ ‫ّ‬ ‫الدّور ّ‬ ‫ّ‬ ‫الس ّ‬ ‫الديني‪ ..‬إلخ‪ ..‬حني يفرض القيود املع ّوقة لإلبداع‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫واألسايس لتط ّور‬ ‫ذلك أن الح ّر ّية تع ّد الشط األ ّول‬ ‫ّ‬ ‫الفنون؛ فالحر ّية مت ّكن املبدع من التّجديد وطرح‬ ‫اململ‪ .‬ويف ّ‬ ‫أسئلة جديدة تبعده عن التّنميط ّ‬ ‫ظل‬ ‫انعدام الحر ّيات يرتاجع اإلبداع ويهيمن التّوظيف‬ ‫السيايس األيديولوجي عىل الفنون‪ .‬وغري خاف‬ ‫ّ‬ ‫علينا ما تسببه األيديولوجيا من تضييق عىل‬ ‫اليومي‬ ‫الفنون‪ ،‬حني تحرصها يف إطار الحدث‬ ‫ّ‬ ‫الزّائل‪ ،‬بينام األدب والفنّ العظيامن يهدفان إىل‬ ‫دخول الكوين واملدار اإلنساين العا ّم؛ واالرتقاء‬ ‫ّ‬ ‫مصاف الكو ّين الباهر؛ أل ّنهام‬ ‫باليومي ووضعه يف‬ ‫ّ‬ ‫يعتربان إرثاً إنسانياً يبحثان عن معنى الوجود‬ ‫ويثريان األسئلة املقلقة‪ .‬ومن نتائج انعدام الح ّر ّية‬ ‫أيضاً سيطرة املاضو ّية عىل الفنون الكتاب ّية والس ّيام‬ ‫الشعر‪ .‬واملاضو ّية تعني االرتباط بنموذج جام ّيل‬ ‫قائم يف الرتاث يفرض إيقاعاً جامع ّياً واحداً‪ ،‬وهذا‬

‫اإليقاع املشرتك يعيق بروز فرادات اإلبداع؛ ألن‬ ‫مه ّمة الكاتب تقترص عىل محاكاة منوذج ثابت‬ ‫دون محاولة االنطالق خارج حدوده‪.‬‬ ‫الشعر وفق هذا املنظور أكرث الفنون تأ ّثراً‬ ‫ّإن ّ‬ ‫باملاضو ّية‪ّ ،‬‬ ‫ألن إبداع اليد عرب العصور أكرث حر ّية‬ ‫من إبداع اللسان وفق رأي الن ّقاد‪ .‬وال يكون ّ‬ ‫الحل‬ ‫ّإل بإطالق الحر ّيات‪ ،‬والس ّيام حر ّية الذات املبدعة‬ ‫يف التّفكري والتّعبري والتجريب الدّائم‪.‬‬ ‫وليس عجباً أن يرتاجع الفنّ ‪ ،‬وتخفت رسالته‬ ‫العظيمة حني نرى ما تعانيه الفنون مبختلف‬ ‫أنواعها من هشاشة يف مضامينها‪ ،‬وعدم كفاية‬ ‫أدواتها يف عدد غري قليل من نتاجاتها‪ .‬هذه‬ ‫املعاناة تضع املبدعني والنّقاد أمام مسؤول ّية‬ ‫ّ‬ ‫مصاف الفنون العامل ّية‪.‬‬ ‫النهوض بها لتصبح يف‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫الشك فيه ّأن الفنّ ينحدر حني يعامل‬ ‫ومم‬ ‫كسلعة تراعي متط ّلبات السوق وقانون العرض‬ ‫والطلب‪ .‬ودليلنا عىل ذلك مشهد الدراما العرب ّية‬ ‫الغارقة يف تفاصيل الجسد وحاجاته‪ ،‬وإثارة شه ّية‬ ‫املشاهد نحو حياة استهالك ّية ال تتجاوز ترف‬ ‫املسكن وامللبس‪ ،‬مع سطح ّية ّ‬ ‫الطرح‪ ،‬فال تتعدّى‬ ‫هذه الدراما العرض السافر لحياة مبتذلة‪ ،‬ليس‬ ‫لها من أعامق اإلنسان نصيب‪ ،‬ولو كان ضئي ًال‪ .‬فام‬ ‫ّ‬ ‫أقل األعامل القادرة عىل تناول مشكالت اإلنسان‬ ‫املعارص تناوالً عميقاً؛ بدءاً من مشكالته املعيش ّية‬ ‫وانتها ًء مبشكالته الوجود ّية‪.‬‬ ‫وقد يكون من املفيد اإلشارة إىل واقع ال ّرواية‬ ‫العرب ّية وما تعانيه من استهانة بالكلمة‬ ‫واستخفاف بكفاية أدواتها‪ .‬ومن ّ‬ ‫اللفت للنّظر‬ ‫التّشجيع الكبري الذي تلقاه ال ّرواية عىل حساب‬ ‫املؤسسات‬ ‫بق ّية األجناس التّعبري ّية من قبل‬ ‫ّ‬ ‫ال ّثقاف ّية يف بعض الدّول‪ ،‬باإلضافة إىل تخصيص‬ ‫الجوائز املجزية لكتّابها‪ّ ،‬‬ ‫توجه عدد‬ ‫مم أدّى إىل ّ‬


‫‪.....‬‬

‫‪19‬‬

‫العدد‬

‫‪102‬‬ ‫‪2022 / 1 / 20‬‬ ‫ثقافة‬

‫كبري من ّ‬ ‫القصة إىل ال ّرواية لتصبح ال ّرواية‬ ‫الشعراء وكتّاب ّ‬ ‫“ديوان العرب الجديد”‪.‬‬ ‫أمام هذا اإلنتاج ال ّروا ّيئ الضخم علينا أن نعرتف بق ّلة‬ ‫النّتاجات القادرة عىل ارتياد آفاق رسد ّية جديدة‪ ،‬وتقديم‬ ‫تجربة أغنى وأعمق من التّجارب التي عشناها‪ ،‬أو التي‬ ‫ميكن أن نعيشها‪ .‬وال يعني ما تقدّم التّقليل من أهم ّية‬ ‫ال ّرواية وعواملها ال ّرحبة التي ميكن أن تتسع لتستوعب‬ ‫جميع األجناس التّعبري ّية؛ ما نريده أن يستم ّر نهر اإلبداع‬ ‫العظيم يف التّدفق‪ّ ،‬‬ ‫وأل تنضب روافده‪ ،‬التي تش ّكل ال ّرواية‬ ‫رافده القادر عىل مواكبة روح الحياة واندفاعها واحتدامها‪،‬‬ ‫األهم؛ ّ‬ ‫وميكن أن نجيز ألنفسنا ع ّد ّ‬ ‫ألن تراجع‬ ‫الشعر رافده ّ‬ ‫ّ‬ ‫الشعر يعني تخ ّليه عن دوره يف تفجري إمكانات ال ّلغة‬ ‫وطاقتها ّ‬ ‫الخلقة‪.‬‬ ‫وبالنتيجة ّ‬ ‫السابقة تشكل حواجز تعيق تقدّم‬ ‫كل املع ّوقات ّ‬ ‫عب اإلنسان من خاللها عن أحاسيسه ومشاعره‬ ‫الفنون التي ّ‬ ‫وما يؤ ّرقه من أسئلة‪ .‬وحني يضطلع الفنّ مبسؤول ّيته الكربى‬ ‫دون عوائق يستطيع أن يحدث األثر املرج ّو‪.‬‬ ‫وال ب ّد من أن نذكر هنا األثر الكبري للفنّ يف حياة عازف‬ ‫الكامن‪ ،‬ذلك ّأن املوسيقا أنقذته من مستنقع العنف‬ ‫والجرمية الذي يغرق فيه أقرانه ّ‬ ‫كل يوم؛ بعبارة أخرى‬ ‫الفنّ يف حالة “ديجو” بنى وعياً مختلفاً‪ ،‬وخلق إنساناً‬ ‫جديداً‪ّ .‬ربا يكون “ديجو” أوفر ّ‬ ‫حظاً من أبناء جلدته‪،‬‬ ‫ألن ّ‬ ‫ّ‬ ‫الصدفة ه ّيأت له من ينقذه من بيئته‬ ‫الظروف أو ّ‬ ‫املتخ ّلفة؛ ليصبح رمزاً من رموز مكافحة الجرمية واملرض‪.‬‬ ‫بهذا الفهم نستطيع القول‪ّ :‬إن العنف املضا ّد ‪-‬مهام بلغت‬ ‫ّ‬ ‫يجتث جذور‬ ‫ق ّوته وتعدّدت أشكاله‪ -‬ال يستطيع أن‬ ‫العنف والتّطرف والجرمية يف أيّ مجتمع؛ ّ‬ ‫الحل يكون‬ ‫املؤسسات‪ ،‬وتأمني فرص‬ ‫بإطالق الحر ّيات‪ ،‬وتفعيل دور ّ‬ ‫العمل لجميع املواطنني‪ ،‬باإلضافة إىل رفع سو ّية التّعليم‬ ‫ليكون قادراً عىل بناء جيل مختلف‪ .‬حينها ال نقيض عىل‬ ‫العنف والجرمية فحسب‪ ،‬بل نشهد تفتّح املواهب ّ‬ ‫الخلقة‬ ‫التي توقظ اإلنسان الجميل الكامن يف أعامق ّ‬ ‫كل منّا‪.‬‬



Issuu converts static files into: digital portfolios, online yearbooks, online catalogs, digital photo albums and more. Sign up and create your flipbook.