عوامل تمزّق المسلمين

Page 1

‫عوامل متزّق املسلمني وإشكاليَّة الوحدة‬

‫العالمة املرجع السيد حممد حسني فضل اهلل‬ ‫‪٨١٢٢/٢٨/٨٢‬‬ ‫‪/‬‬ ‫صفر ‪5342‬هـ ‪52‬‬ ‫يف دراستنا احلالية لواقع املسلمني‪،‬‬ ‫نالحظ أنّ العالقة اليت تشدّ املسلمني‬ ‫إىل بعضهم البعض‪ ،‬ليست باملستوى‬ ‫الذي تتمثّل فيه الرابطة الوثيقة يف‬ ‫وجودهم كأمّة‪ ،‬فال جند أمامنا إال‬ ‫بعضاً من املشاعر العاطفية املغلّفة‬ ‫بضباب كثيف من األفكار املضطربة‬ ‫املتنوّعة‪ ،‬اليت قد نلمحها يف بعض‬ ‫اهلزّات السياسيّة واإلنسانيّة يف حياة بعض الشّعوب اإلسالميَّة‪ ،‬ثمّ ال شيء بعد ذلك‪ ،‬إال‬ ‫‪.‬بعض االحتجاجات الطارئة واالنفعاالت اهلادرة‪ ،‬اليت سرعان ما تتالشى صرخاتها يف اهلواء‬ ‫ويتساءل الباحث‪ ،‬وهو يرصد هذه الظاهرة القلقة يف حياة املسلمني‪ ،‬عن العوامل املؤثرة يف‬ ‫‪.‬ذلك‬ ‫قد يفضّل البعض أن يُرجع ذلك إىل ضعف روح اإلسالم يف نفوس املسلمني‪ ،‬األمر الذي‬ ‫جعلهم يبتعدون عن الشعور العميق باألسس الفكرية والروحية والشعورية اليت توحّدهم‬ ‫وختلق يف داخلهم اإلحساس بعمق الوحدة املصريية اليت تشدّهم إىل الواقع‪ .‬ثمّ يضيف هذا‬ ‫البعض إىل ذلك‪ ،‬أن احلل الوحيد يكون بالعمل على إعادة اإلسالم إىل وعي املسلمني فكراً‬ ‫ط يف عرض‬ ‫وعاطفة وسلوكاً‪ ،‬وإعادة املسلمني إىل اإلسالم‪ .‬وإنَّنا إذ نتوقّف عند هذا اخل ّ‬


‫املشكلة ومعاجلتها‪ ،‬قد نوافق على طبيعة الفكرة‪ ،‬ولكنَّنا ال ننسجم مع الطريقة السهلة‬ ‫املبسّطة ألسلوب الطرح والعالج‪ ،‬إذ إنّ مواجهة املشاكل بهذه الطريقة‪ ،‬تبعدنا عن الدراسة‬ ‫الواعية للجذور العميقة اليت ترتبط بها املشاكل‪ ،‬وتبعدنا ‪ -‬يف الوقت نفسه ‪ -‬عن فهم الواقع‬ ‫‪.‬املوضوعي يف نطاق الظروف الطبيعية احمليطة‬ ‫ولعلّ الكثريين منّا ال يزالون يعاجلون القضايا املعقّدة بهذا اللون من التبسيط والسهولة‪،‬‬ ‫حتى خييّل لآلخرين أنّ البعد عن الشعور العميق بوحدة املسلمني‪ ،‬ال ميثّل مشكلة يف حساب‬ ‫الواقع‪ ،‬وإنَّما ميثّل شبح مشكلة‪ ،‬ما يبعدنا عن الشعور باخلطر‪ ،‬وبالتالي عن التعامل مع‬ ‫‪.‬الواقع من موقع وعي اخلطورة‬ ‫احلواجز اليت تعمّق الفواصل بني املسلمني‬ ‫إنَّنا حناول هنا اإلشارة إىل بعض العوامل واملؤثرات الطبيعية اليت أسهمت يف متزّق املسلمني‪،‬‬ ‫وخلقت يف داخلهم احلواجز النفسية والفكرية اليت تعمّق الفواصل بينهم‪ ،‬ذلك أ ّنَ املسلمني‬ ‫ورثوا من التاريخ الكثري من اخلالفات املذهبية املتمحورة حول عناوين وقضايا عدّة‪ ،‬لعلّ‬ ‫أبرزها ما له صلة بشؤون اخلالفة واإلمامة‪ ،‬وبشؤون الفقه والشريعة‪ ،‬وبقضايا الفلسفة‬ ‫والكالم‪ ،‬وجبوانب احلكم والسياسة العامة‪ .‬وقد كان هلذه اخلالفات التارخيية دور كبري يف‬ ‫إثارة احلقد والبغضاء والعداوة‪ ،‬ويف تفجري احلروب‪ ،‬ويف إهراق الدماء اليريةة الطاهرة‪ .‬وربَّما‬ ‫كان البعض من هؤالء الذين يعيشون هذه اخلالفات‪ ،‬ممّن يدفعه اإلخالص للفكرة اخلطأ‬ ‫إىل القتال باسم القداسة والتديُّن‪ ،‬لغفلته عن طبيعة اخلطأ يف فكرته‪ ،‬وربَّما كان البعض‬ ‫منهم يقاتل باسم املنافع واملغامن‪ ،‬بعيدًا عن أيِّ ارتباط باحلقّ أو باإلسالم‪ ،‬ولكنَّه يستلّهما من‬ ‫أجل مآربه‪ ،‬كما روي عن اإلمام عليّ(ع) وهو يشري إىل املوقف من اخلوارج يف جانب‪ ،‬وإىل‬ ‫ال تقاتلوا اخلوارج بعدي‪ ،‬فليس مَن ْ طلب احلقّ " ‪:‬املوقف من معاوية يف جانب آخر أنَّه قال‬ ‫‪"[5].‬فأخطأه‪ ،‬كَمَن ْ طلب الباطل فأدركه‬ ‫ويف كلتا احلالتني‪ ،‬كانت اخلالفات تتّجه إىل العنف اجلسدي والفكري والكالمي‪ ،‬انطالقاً‬ ‫من املواقف املخلصة للخطأ ظن ًا أنَّه احلقّ‪ ،‬أو من املواقف املشدودة لطأطماع والنزوات‬ ‫‪.‬الشخصية السائرة يف اجتاه الباطل‬


‫وقد أدى الفهم اخلاطئ للحديث النبوي دوره الكبري عندما متّ توظيفه يف إضفاء صيغة‬ ‫القداسة على ما خيتلفون فيه‪ ،‬فقد شعر احلاكمون وأتباعهم والنافذون من الشخصيات‬ ‫الذين يرعون هذا اخلالف‪ ،‬بأنّ قدسية اخلالف تفرض وجود شرعية دينية ملا خيتلفون حوله‬ ‫من أشخاص‪ ،‬وما يفيضون فيه من قضايا‪ ،‬لذا كان ال بُدَّ من وضع األحاديث على لسان‬ ‫حممَّد(ص) يف خمتلف هذه األمور‪ ،‬ما أوجد يف نفوس الساذجني والبسطاء من املسلمني بعداً‬ ‫جديدًا للقضية‪ ،‬جيعل االندفاع يف هذا السبيل‪ -‬الذي يسّروا طريقه ‪ -‬شأناً دينياً مقدَّساً‪،‬‬ ‫وجيعل من التضحية يف هذا االجتاه هدفاً شرعياً عظيماً‪ ،‬وال بُدَّ هلذا كلّه من أن يثري‬ ‫احلماس يف نفوس هؤالء وأولةك‪ ،‬حتى يدفعهم إىل السري يف اخلطوات واملواقف احلادّة اليت‬ ‫‪.‬تغري بالقتل والقتال‬ ‫وسارت احلياة اإلسالمية شوطاً بعيداً يف هذا اجملال‪ ،‬وساعدت على خلق احلواجز وتعميق‬ ‫الفواصل بني املسلمني‪ ،‬باملستوى الذي تبتعد بهم عن الشعور بالوحدة الفكرية والعملية يف‬ ‫اجملاالت العامة‪ .‬وتطوّر األمر إىل أبعد من ذلك‪ ،‬فكانت فتاوى التكفري‪ ،‬اليت يكفّرون بها‬ ‫بعضهم بعض ًا مبختلف التحليالت والتأويالت القريبة والبعيدة‪ ،‬حيث يتحوّل املسلم إىل‬ ‫كافر نتيجة فكرة فرعية‪ ،‬أو فكرة خالفية ال متسّ اجلذور يف العمق‪ .‬ومن هنا‪ ،‬كان من‬ ‫الطبيعي أن تتوتّر املشاعر الدينية يف مثل هذا اجلوّ املشحون‪ ،‬يف االجتاه املضا ّد للعالقات‬ ‫‪.‬الطبيعية اليت جيب أن تشمل املسلمني يف واقعهم االجتماعي والسياسي والنفسي‬ ‫وما زالت هذه األجواء التارخيية تفرض نفسها على الساحة‪ ،‬وترتسّخ بفعل ذلك الرتاث‬ ‫الضخم من الكتب اإلسالمية يف قضايا الكالم والفلسفة والشريعة والتاريخ‪ ،‬ما جعل للقضية‬ ‫عمقاً ثقافي ًا وفكريًا يتوارث املسلمون أفكاره كما يتوارثون مشاعره وأحاسيسه‪ ،‬يف أجواء‬ ‫متنوعة قد تفرض عليهم اللقاء والتعاون‪ ،‬ولكنَّه يبقى يف حدود اجملاملة والتقيّة واملداراة اليت‬ ‫ال تنفتح فيها النفوس على احلقيقة بتجرّد وموضوعية وحيادية‪ ،‬بل يظل للحقيقة املزعومة‬ ‫يف نفوس أصحابها‪ ،‬املعنى اجلامد الذي ال ميكن أن يتحوّل إىل أيّ شيء يثري احلركة يف‬ ‫اجتاه اللقاء‪ ،‬ألنّ القضية املفروضة من خالل ذلك كلّه‪ ،‬هي أنّ الصفة الطارئة حتوّلت إىل‬ ‫‪.‬ما يشبه الصفات الذاتية اليت ال تنفصل عن الشخص مهما اختلفت الظروف واألفكار‬


‫وبهذا‪ ،‬أصبح للمجموعات اليت متثل هذا الفريق أو ذاك مصاحل مستقلّة‪ ،‬ختتلف عن مصاحل‬ ‫الفريق اآلخر‪ ،‬متام ًا كما هي الدول املستقلّة‪ ،‬وربَّما ينتج املوقف لكلّ منهما حتالفات مع‬ ‫‪.‬أعداء اإلسالم لالستعانة بهم على اجلانب اآلخر‬ ‫اليد االستعمارية واهلوس الطائفي‬ ‫ومن هذا كلّه‪ ،‬نشأت الطائفية السياسية اليت حتاول أن تنظر إىل الشخصية الطائفية‬ ‫كإطار حيدِّد لطأفراد صفتهم السياسية‪ ،‬وكان أن دخل االستعمار الكافر مع ك ّل جنود الكفر‬ ‫الفكريني‪ ،‬ليعبث باملسلمني يف حياتهم السياسية واالجتماعية‪ ،‬من خالل اإلحياء هلم‬ ‫باحلماية الطائفية لكلّ فريق منهم‪ ،‬أو بتغليب جانب على آخر‪ ،‬يف حاالت اإلثارة اليت يصنعها‬ ‫بأساليبه الشيطانية اخلفيّة‪ ،‬وذلك بإبراز عناصر اإلثارة والتّفرقة واخلالف يف الساحة‪ ،‬ما‬ ‫ثمّ يتدخّل بينهم ‪...‬يؤدّي إىل التقاتل والتنازع يف اجملاالت الثقافية واالجتماعية والعسكرية‬ ‫بصفة الفريق احلياديّ الذي حيمل لواء الصلح والسلم وإنهاء النزاع ضمن شروط وأوضاع‬ ‫‪.‬جديدة ال ختلو من ثغرات وسلبيات ختدم مصاحله االستعمارية يف العاجل واآلجل‬ ‫ولو درسنا أغلب احلاالت الطائفية السلبية وفتّشنا عن جذورها‪ ،‬لرأينا اليد االستعمارية‬ ‫اخلفيّة ختتفي وراء كثري من أساليب اإلثارة والتفجري اليت يُستغلّ فيها اهلوس الطائفي‪،‬‬ ‫والبدائية السياسية‪ ،‬والتخلّف الفكري‪ ،‬من أجل توليد املزيد من املشاكل واخلالفات اليت‬ ‫تزيد القضية عمقاً‪ ..‬وال تزال اللعبة تفرض نفسها على الساحة‪ ،‬والالعبون يتحرّكون فيها‬ ‫بكلّ حرية‪ ،‬وتبقى أدوات اللعبة املتوفّرة فيها تكفل حلركة اللعب مبصائر اإلسالم واملسلمني‬ ‫كلّ الشروط املوضوعية للنموّ واالزدهار‪ ،‬وتستمر املخطّطات االستعمارية اليت تعمل يف‬ ‫اإلسالم واملسلمني متزيق ًا على مجيع املستويات باسم الطائفية والطائفيني من الزعماء الذين‬ ‫‪.‬يعيشون على حساب اإلسالم ولكن من دون إسالم‬ ‫وكانت العصبيّات والقبليات والعنصرية يف أفكار املسلمني ومشاعرهم‪ ،‬واليت ألغاها اإلسالم‬ ‫من حسابه‪ ،‬تأخذ حجمها الطبيعي يف حياة املسلمني‪ ،‬مبختلف عناصر اإلثارة يف العهود‬ ‫اإلسالمية األوىل‪ ،‬كما هو شأن املشاكل اليت حترّكت يف اجتاهات مضادّة‪ ،‬بني فريق حيتقر‬ ‫املوالي الذين دخلوا اإلسالم‪ ،‬باسم التفوّق العنصري للعرب والعروبة‪ ،‬وفريق حيتقر العرب أو‬ ‫‪.‬حياول التقليل من شأنهم على أساس التفكري الشعوبي‬


‫ويف ظ ّل هذا الصراع‪ ،‬وجدت أحاديث املفاضلة بني العرب واملوالي جماالً رحباً هلا يف النشاطات‬ ‫الفكرية املختلفة‪ ،‬سواء يف النثر أو الشعر أو اخلطابة‪ ،‬وكان ال بُدَّ هلذه النشاطات من أن‬ ‫تستذكر أحاديث العصبيات‪ ،‬مثل التفاخر باآلباء واألجداد والغزوات‪ ،‬والتاريخ املتحرّك يف‬ ‫أجواء الكفر‪ ،‬فومسوا االنتصارات اليت حتققت يف املعارك اإلسالمية بطابع الزهو بالقبلية أو‬ ‫العنصرية‪ ،‬بعيدًا عن الطبيعة اإلسالمية هلذه املعارك واالنتصارات‪ .‬وكان أن حاول ك ّل فريق‬ ‫من هؤالء وأولةك‪ ،‬أن يأخذ لنفسه حجم ًا قومياً داخل احلياة اإلسالمية‪ ،‬من أجل حتقيق‬ ‫وبذلك‪ ،‬بدأت الصراعات القومية تفرض ‪.‬مزيد من االنتصارات على اآلخرين من املسلمني‬ ‫نفسها على حركة التاريخ اإلسالمي يف مسار بعيد عن الروح اإلسالمية املنفتحة الواعية‪.‬‬ ‫وإنَّنا جند يف تاريخ اخلالفة العباسية مناذج كثرية من مالمح هذا الصراع الذي استطاع أن‬ ‫يهز قواعد اخلالفة واخللفاء حتى انتهى بها وبهم إىل الزوال‬ ‫‪َّ .‬‬ ‫القومية" األوروبية‪ :‬عامل متزيق ال توحيد"‬ ‫وجاء العصر احلديث‪ ،‬واألجواء اإلسالمية ال تبتعد عن هذا االجتاه‪ ،‬من خالل بروز العنصر‬ ‫الرتكي الذي كان حياول أن يفرض نفسه على الواقع اإلسالمي كعنصر مميّز يف‬ ‫شخصيته‪ ،‬وذلك من خالل اخلالفة العثمانية اليت كان اخللفاء فيها أتراكاً‪ ،‬وكان‬ ‫مركزها تركيا‪ .‬وقد فرض هذا الواقع نفسه على اجلانب الشعوري لإلنسان املسلم غري‬ ‫الرتكي‪ ،‬وال سيما أنّ القضية مل تتّصل بالناحية النفسية فحسب‪ ،‬بل اتّصلت باجلوانب‬ ‫احلياتية االقتصادية واالجتماعية والسياسية‪ ،‬بفعل ما كان يعانيه املسلمون اآلخرون من‬ ‫اضطهاد وتشريد وختلُّف وجتهيل‪ ،‬األمر الذي خلق أرضية صاحلة لوالدة الشعور القومي أو‬ ‫اإلقليمي‪ ،‬ولكنَّه شعور كان يتميّز بالتململ واخلجل واحلياء واخلوف من التعبري عن نفسه‪،‬‬ ‫من خالل النوازع الدينية اليت تدعوه إىل أن ميارس جهدًا كبرياً يف سبيل ضبط مشاعره‬ ‫وخطواته حفاظ ًا على القوّة اإلسالمية‪ ،‬ما خلق يف داخله نوعاً من الرتدد والقلق واحلَي ْرة‪،‬‬ ‫فكان يتمنّى أن تعمد اخلالفة الرمسية إىل جتاوز أخطائها والقيام باإلصالحات الضرورية‪،‬‬ ‫وكانت هذه التمنّيات تتمثّل يف املطالب اإلصالحية اليت تقدّم إىل املسؤولني‪ ،‬لكنّها مل تقابل‬ ‫‪.‬إال بالرفض والتنكيل والتعذيب واإلعدام‬ ‫اهلوس القومي كمعوّق للوحدة‬


‫ومبا أنّ هذه ‪.‬وكانت الدول األوروبية تراقب ك ّل هذا التململ وتشجّعه لتحوّله إىل ثورة‬ ‫الدول كانت ختاف الروح اإلسالمية‪ ،‬ألنَّها تعرف أنَّ هذه الروح تشكل مانعاً هلا من تنفيذ‬ ‫خمططاتها االستعمارية‪ ،‬ألنَّها متثّل القوّة الروحية اليت تدفع اإلنسان املسلم إىل مواجهة‬ ‫الكفر‪ ،‬أيّ ًا كان نوعه‪ ،‬بك ّل قوّة وإصرار‪ ،‬حتى يف أشدّ احلاالت صعوبة وضراوة‪ ،‬فكان أن أطلقت‬ ‫يف الساحة الفكرية والسياسية ألواناً من الشخصيات املصطنعة اليت سعت إىل ربط اإلنسان‬ ‫املسلم بتارخيه السابق على اإلسالم تارةً‪ ،‬كالفرعونية واآلشورية والفينيقية والساسانية‬ ‫والطورانية وغريها‪ ،‬وتارة أخرى بـ"القومية" ذات العصب العربي والفارسي واهلندي والرتكي‪،‬‬ ‫وغريها من العناصر اليت خيتلف النّاس حوهلا‪ ،‬فتحوّل اإلسالم بفعل هذا املخطّط‬ ‫االستعماري إىل عنصر طارئ على الشخصية‪ ،‬فلم تعد له أصالته يف عمق اإلنسان املسلم ويف‬ ‫تارخيه‪ ،‬حتى إنَّنا أصبحنا نقرأ الكتب واألحباث اليت تتحدّث عن الفتح اإلسالمي يف بعض‬ ‫البلدان اإلسالمية كانتكاسة قومية يف نطاق حاالت القهر والغزو اخلارجي الذي تتعرّض له‬ ‫األمّة‪ ،‬وبدأت القضية تفرض نفسها من خالل استغالل الواقع السيئ الذي يشوّه احلكم‬ ‫ال من صورة احلكم اإلسالمي‪،‬‬ ‫اإلسالمي يف نفوس أتباعه‪ ،‬ليأخذ صورة احلكم الرتكي بد ً‬ ‫وحتوّل املستعمرون يف وعي بعض األمم‪ ،‬ال سيما العرب‪ ،‬إىل منقذين وحمرّرين‪ ،‬على أساس‬ ‫الوعود اليت قطعوها على أنفسهم للعرب بتحريرهم من السلطة العثمانية‪ ،‬ليحقّقوا هلم‬ ‫‪.‬احلكم الواحد يف الدولة العربية الواحدة‬ ‫وقد استغلّ االستعمار الكافر ذلك التفكري الساذج لدى أبناء األمّة‪ ،‬فدخل إىل بالد املسلمني‬ ‫حتت عنوان الفاتح احملرّر‪ ،‬ويف زهو الفاحتني املقبولني يف البداية‪ ،‬إال أنّ املسلمني املخلصني‬ ‫إلسالمهم‪ ،‬وكما تؤكد أخبار تلك الفرتة‪ ،‬وقفوا أمام هذه املخطّطات‪ ،‬وواجهوا االستعمار‬ ‫‪.‬اليريطاني بك ّل قوة‪ ،‬بقيادة علماء املسلمني‪ ،‬كما حيدّثنا التاريخ عن ثورة العشرين يف العراق‬ ‫ويف ظ ّل هذه األجواء‪ ،‬أخذت الدراسات واألحباث الفكرية تفسح يف اجملال للشخصيات‬ ‫املصطنعة كي تفرض نفسها على الذهنية والنفسية املسلمة‪ ،‬وبدأت الكتب التعليمية اليت‬ ‫تقدّم التاريخ إىل الناشةة حتفل بالكثري من اليرامج اليت تتحدّث عن التاريخ القديم وعن‬ ‫الشخصية القومية اإلقليمية‪ .‬أمّا الشخصية اإلسالمية‪ ،‬فلم يرد ذكرها إال يف بعض‬ ‫احلاالت‪ ،‬كنتاج للشخصية القومية‪ ،‬أو كدين ال دخل له بتكوين الشخصية‪ ،‬بل يكتفي بأن‬ ‫مينح اإلنسان املزيد من الروح العبادية اخلاشعة أمام اهلل‪ ،‬دون أن تكون له أيّةُ عالقة باحلياة‬ ‫‪.‬اخلاصّة والعامّة‬


‫العصبية اإلقليمية‬ ‫وما لبثت أن دخلت مفاهيم جديدة‪ ،‬مثل "القومية" و"اإلقليمية"‪ ،‬احلياة العقائدية والسياسية‪،‬‬ ‫فأصبح لكلّ منها إطار عقيدي يرتكز على فلسفة مادية أو روحية‪ .‬وحتوّل هذا اإلطار إىل‬ ‫تنظيم حزبيّ يفرض نفسه على الساحة‪ ،‬وتنوّعت األحزاب الوطنية والقومية يف صيغ‬ ‫متشابهة مرّة ومتباينة أخرى‪ ،‬وعادت العصبيات لتفرض نفسها من خالل هذه الشخصيات‬ ‫اجلديدة‪ ،‬وبدأ احلديث عن اإلخالص لطأرض بعيدًا عن املبدأ والرسالة‪ ،‬وعن التضحية يف‬ ‫سبيل القومية بعيدًا عن اإلسالم‪ .‬وسرعان ما متخضت يف وعي الالعبني على الساحة صورة‬ ‫أدوات اللعبة‪ ،‬فكانت االتّهامات اليت تنطلق وتوجّه إىل هذه الفةة ألنَّها اتصلت بهذا األجنيب‪،‬‬ ‫مع التأكيد على صفة األجنيب مبا حتمله من معان نفسية وفكرية مع أنَّه مسلم‪ ،‬وتُوجّه إىل‬ ‫تلك الفةة ألنَّها تعاونت مع القومية األخرى يف إطار اإلسالم‪ ،‬بعيدًا عن قضايا الوطن‬ ‫مت انفصال املسلمني عن‬ ‫مبفهومه الغربي‪ ،‬أو عن قضايا القومية مبفهومها احملدود‪ ،‬وهكذا‪ّ ،‬‬ ‫الشعور بالشخصية اإلسالمية مبا متثّله من معان وأوضاع وحترّكات وعالقات‪ ،‬وحتوّلوا إىل‬ ‫‪:‬مجاعات متنوعة‪ ،‬كما قال الشاعر احلماسيّ القديم‬ ‫وتفرقوا شيعاً فك ّل قبيلة‬

‫فيها أمري املؤمنني ومنيرُ‬

‫وقد أسهم ذلك يف تضخيم الشخصيات اليت تبحث عن طموح سياسي‪ ،‬من خالل هذه‬ ‫األوضاع املرتبكة ‪ -‬يف نطاق ما تسمح به لعبة األمم ‪ -‬وعادت لنا القضية يف ثوب جديد من‬ ‫ألوان احلكم وأساليبه وشخصياته‪ ،‬بعيدًا عن كلّ كفاءة أو إخالص‪ ،‬إال كفاءة التنفيذ‬ ‫‪.‬الدقيق ملا يريده اآلخرون‪ ،‬كلّ اآلخرين‬ ‫الوحدة اإلسالمية" شعار دون مضمون"‬ ‫يف ظ ّل هذا الواقع املتمزق املهلهل للحياة اليت يعيشها املسلمون يف العامل‪ ،‬نالحظ يف الساحة‬ ‫و"التضامن اإلسالمي" و"الدول اإلسالمية" "تنامي الشعارات اليت تتناول "الوحدة اإلسالمية‬ ‫كمجموعة حتمل وجهاً واحداً إسالمياً‪ ..‬وقد تواكب هذه الشعارات حركة انفعالية قوية‬ ‫تتمثّل باألصوات اليت ترتفع حبماس دفاعًا عن مصاحل املسلمني املهدورة يف هذا اجلزء من‬ ‫العامل أو ذاك‪ ،‬وتتحرّك يف عالقات ومعاهدات ومؤمترات بني احلكّام املسلمني‪ ،‬وتنطلق يف‬ ‫‪.‬قرارات وتوصيات هلا أول وليس هلا آخر‬


‫ولكنَّنا عندما نبحث عن خلفيات ذلك كلّه‪ ،‬سنجد أمامنا الكثري من مصاحل االستعمار هنا‬ ‫وهناك يف صراع الدول الكيرى اليت تريد أن ختتبئ خلف الشعور اإلسالمي العاطفي الذي‬ ‫حيمّل هذه الشعارات الكبرية الكثري من األمنيات‪ ،‬ساعية لكي جتعل منه أداة من أدوات الصراع‬ ‫اليت يُحارب بها املسلمون بعضهم بعضاً‪ .‬ولذا‪ ،‬فإنَّها ال حتاول أن تعطيها أيّ مضمون جدّيّ‬ ‫وأيّة روح حركية‪ ،‬بل جتعلها خالية من كلّ مضمون‪ ،‬فارغة من كلّ روح‪ ،‬ألنّ مهمتها هي‬ ‫مهمة الطبل الذي يرنّ دون أن حيمل يف داخله سوى عنصر اإلثارة والضجيج‪ ..‬ولعلّ السرّ يف‬ ‫ذلك كلّه‪ ،‬هو أنّ الذين يوكل إليهم أمر حتضري الشعارات يف اللجان التحضريية‬ ‫والتنفيذية‪ ،‬هم أوّل من خياف منها على ما ميلكون من امتيازات داخلية وخارجية‪ ..‬ولذا‪،‬‬ ‫فإنَّهم مؤمتنون على االحتفاظ بسرّ املهنة‪ ،‬وعلى توفري الشروط الضرورية للعبة السياسية‬ ‫‪.‬اليت يُراد هلا أن مت ّر بسالم‬ ‫وحنن قد ال نعدم األوضاع اإلسالمية اليت قد تدفع اللعبة إىل أن تتجاوز ما خيطّط هلا من‬ ‫أصول وقواعد وحدود‪ ،‬فتنقلب على الالعبني‪ ،‬من خالل الظروف املوضوعية اليت قد تكون‬ ‫جاهزة للتحرّك‪ ،‬بعيداً عن وعي اآلخرين وخمطّطاتهم وأساليبهم ومتنّياتهم‪ ،‬وذلك كما‬ ‫ينقلب السحر على الساحر يف كثري من احلاالت‪ .‬وقد نالحظ‪ ،‬يف دراستنا هلذا الواقع‪ ،‬وجود‬ ‫كثري من العوامل اجلزئية املتمثّلة ببعض األوضاع الشخصية‪ ،‬اليت تتجسّد يف طموح سياسيّ‬ ‫شخصيّ أو عائليّ يطرح نفسه يف الساحة كأداة من أدوات اللعبة اليت حترّكها القوى الكيرى‬ ‫يف ختطيطها الشيطانيّ‪ ،‬لتفجري العامل اإلسالمي وتقسيمه‪ ،‬وإجهاض طموحاته الكبرية يف‬ ‫‪.‬التكامل والنموّ والتقدّم‬ ‫املخطط الشيطاني يف مواجهة الروح اإلسالمية‬ ‫ونتحسّس أثر هذا التخطيط الشيطانيّ يف بعض العوامل االقتصادية‪ ،‬اليت تتدخّل يف حركة‬ ‫الواقع من أجل أن تأخذ لنفسها حجم ًا كبرياً يف حتريك االقتصاد ملصاحلها االستغاللية‬ ‫واالحتكارية‪ ،‬األمر الذي يدفعها إىل مواجهة الروح اإلسالمية اليت ترفض مثل هذا املسار‪،‬‬ ‫باحلرب املتنوعة األلوان‪ ،‬واألساليب اليت تنسجم مع أجواء الكفر والضالل‪ ،‬يف عملية تنسيق‬ ‫وختطيط‪ ،‬ما يفسح يف اجملال لكثري من القوى لتلعب لعبتها يف متزيق املسلمني‪ ،‬مبا يكفل هلا‬ ‫حتقيق أغراضها وأطماعها يف ثرواتهم‪ ،‬وهذا ما نواجهه يف اللعبة االستعمارية اليت حتاول‬ ‫تفجري البالد اإلسالمية مبختلف الصراعات الشخصية والطائفية واإلقليمية والقومية‪ ،‬من‬


‫أجل استنزاف الطاقات اإلسالمية وحتويلها إىل طاقات تتفجّر ضدّ نفسها‪ .‬وبذلك‪ ،‬تصبح‬ ‫طاقات خائرة متعبة ال متلك ألنفسها نفعاً وال ض ّراً‪ ،‬هذا من جهة‪ .‬ومن جهة أخرى‪ ،‬نواجه‬ ‫اهلجمة الكيرى على الثروات املوجودة يف بالد املسلمني اليت تتصارع الدول الكيرى يف سبيل‬ ‫السيطرة عليها‪ ،‬وهي تعمل على أن يعيش املسلمون أجواء اللعبة‪ ،‬فينقسمون بني فةة تؤيّد‬ ‫هذا املعسكر‪ ،‬لتنفّذ خمطّطاته يف آفاق احلرب والسلم‪ ،‬وفةة تؤيّد املعسكر اآلخر يف اآلفاق اليت‬ ‫‪.‬يتحرّك فيها‪ ..‬وهكذا اندفع املسلمون إىل جماالت جديدة من جماالت التمزّق السياسي‬ ‫وما زالت املخطّطات االستعمارية املغلّفة بالواجهات الثقافية واالجتماعية واالقتصادية‬ ‫والسياسية تلعب لعبتها‪ ،‬من أجل أال يقف املسلمون على أقدامهم كقوّة جديدة تطرح احللول‬ ‫اإلسالمية الفكرية والعملية لإلنسان وللحياة‪ ،‬من أجل إقامة عامل احلقّ والعدالة الذي كان‬ ‫لَقَد ْ َأر ْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ َوأَنزَلْنَا { ‪:‬هدف النبوّات واألنبياء‪ ،‬يف ما عبّر عنه اهلل يف قوله تعاىل‬ ‫‪ ،‬وما زال اجلهاد يف هذا السبيل يتحرّك من ]‪}[5‬مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَا َن لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِس ْطِ‬ ‫‪.‬أجل تركيز القاعدة الصلبة على أساس متني‬ ‫وقد جند أمامنا التمزق االجتماعي الذي حيصل من تغليب فةة اجتماعية على فةة أخرى من‬ ‫ناحية احلقوق والواجبات‪ ،‬أو مبنح امتيازات لبعض الطبقات أو الطوائف على حساب أخرى‪،‬‬ ‫‪.‬من أجل إجياد حالة صراع دائمة تفجّر احلقد يف حياة اجملتمع‬ ‫‪.‬كتاب أحاديث يف قضايا االختالف والوحدة *‬

‫نهج البالغة واملعجم املفهرس أللفاظه‪ ،‬اخلطبة‪ ،15:‬ص‪ ،24:‬دار التعارف للمطبوعات‪[5] ،‬‬ ‫‪.‬ط‪5351: 5‬هـ ‪5991‬م‬ ‫)احلديد‪[5] (52:‬‬


Turn static files into dynamic content formats.

Create a flipbook
Issuu converts static files into: digital portfolios, online yearbooks, online catalogs, digital photo albums and more. Sign up and create your flipbook.