ديجالون

Page 1


‫ديجالون‬



‫املختار اجلدال‬

‫ديجالون‬ ‫رواية‬


‫ديجالون‬ ‫تأليف‪ :‬المختار الجدال‬ ‫© جميع الحقوق محفوظة‬ ‫مجلة‬ ‫أسبوعية سياسية شاملة‬ ‫طبع في يونيو ‪2015‬‬ ‫مطابع األهرام‬ ‫جمهورية مصر العربية‬ ‫المدير الفني وتصميم الغالف‪ :‬سامح الكاشف‬ ‫اإلخراج الفني والتنفيذ‪ :‬أحمد نجدي‬


‫وترويحا‬ ‫تلقيحا للعقول‪،‬‬ ‫إن في المحادثة‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫وتنقيحا لألدب‪.‬‬ ‫وتسريحا للهم‪،‬‬ ‫للقلوب‪،‬‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫أبوحيان التوحيدي‬

‫(اإلمتاع والمؤانسة)‬



‫مقدمة‬ ‫تدور أغلب أحداث هذه الرواية في خيال الكاتب ويستوحي بعض‬ ‫من فصولها من سيرة أسرة ليبية تأثرت بأفكار جماعة من المسلمين‬ ‫سموا أنفسهم جماعة التكفير والهجرة‪ ..‬وهم جماعة إسالمية مغالية‬ ‫ّ‬ ‫نهجت نهج الخوارج في التكفير بالمعصية‪ ،‬وهم يكفرون كل من‬ ‫ارتكب كبيرة وأصر عليها ولم يتب منها‪ ،‬وكذلك يك ّفرون الحكام‬ ‫الذين ال يحكمون بما أنزل الله بإطالق ودون تفصيل‪ ،‬ويك ّفرون‬ ‫المحكومين ألنهم رضوا بحكمهم وأتبعوهم‪ ،‬ويك ّفرون العلماء‬ ‫ألنهم لم يك ّفروا الحكام والمحكومين‪ ،‬ويك ّفرون من عرضوا فكرهم‬ ‫عليه ولم يقبله أو قبله ولم ينضم إليهم ومن أنضم إليهم ثم تركهم‬ ‫فهو مرتدّ مستباح الدم‪.‬‬ ‫عما قد يتوافق من األحداث مع قصص حقيقية‬ ‫ويعتذر الكاتب ّ‬ ‫ربما وقعت أو يعتقد البعض أنها تتطابق مع الرواية‪.‬‬

‫المؤلف‬

‫طرابلس‪ .31‬أكتوبر‪2010 .‬م‬ ‫‪7‬‬



‫(‪)1‬‬ ‫كنت في طريقي إلى بنغازي أستعجل الخطى لاللتحاق برحلة‬

‫طيران البراق التي ستغادر السادسة مسا ًء من مطار طرابلس‪ ،‬فالوقت‬ ‫لم يعد يحتمل التأخير أكثر من ذلك‪ .‬دخلت المطار من باب الخروج‬

‫للرحالت الدولية‪ ،‬قابلتني الساعة‪ ،‬كانت تشير إلى الخامسة تما ًما‬

‫عندما لفتت نظري امرأة في العقد الرابع من العمر‪ .‬كانت تدفع بعربة‬

‫حقائب مملوءة تميل منها حتى ال تكاد تسيطر عليها‪ ،‬وتمسك بها‬ ‫فتاة صغيرة عرفت فيما بعد أنها ابنتها‪.‬‬

‫استلمت منها العربة وقلت لها‪ :‬ممكن أساعدك‪ ،‬وسألتها‪ :‬أين‬

‫تقصدين‪ ،‬فردت بسرعة وهي على عجل مثلي‪ :‬خطوط بنغازي‪،‬‬

‫دفعت العربة حتى الخطوط الداخلية ووقف في الطابور‪ .‬لم يكن‬ ‫ً‬ ‫طويل فقد وصلنا في الوقت المناسب إلنهاء إجراءات الرحلة‪.‬‬ ‫استلمت بطاقات الصعود حيث منحنا الموظف البطاقات الثالثة‬

‫في مقاعد متجاورة‪ ،‬وسلمت الحقائب لموظف شركة البراق الذي‬ ‫‪9‬‬


‫قام بدوره بوضع أرقام عليها‪ ،‬وطلب منا االلتحاق بالركاب في القاعة‬ ‫العلوية للرحالت الداخلية‪.‬‬

‫كثيرا على‬ ‫توجهنا إلى األعلى وجلسنا في االنتظار‪ ،‬شكرتني ً‬

‫مساعدتها وسألتني‪:‬‬

‫ـ أنت من بنغازي؟‬ ‫ـ أجبتها بالنفي‪ :‬ال‪.‬‬ ‫استطردت في التعريف بنفسي‪ ،‬وأنني من المنطقة الغربية من‬

‫مدينة تدعى العجيالت‪ ،‬وأقيم في بنغازي منذ فترة‪.‬‬

‫في هذه األثناء انطلق صوت مذيعة المطار تنادي على رقم رحلتنا‬

‫للصعود إلى الطائرة‪ ،‬فوقفنا في طابور آخر طويل هذه المرة للمباشرة‬ ‫في إجراءات التفتيش‪.‬‬

‫بعد التفتيش جلسنا في قاعة انتظار أخرى تأهبنًا لالنطالق نحو‬

‫الطائرة وهنا قالت لي مرافقتي‪..‬‬

‫ـ لقد عشت في مثل هذه القاعة ستين يو ًما في مطار كوااللمبور‬ ‫في ماليزيا عام ‪1997‬م عندما كنت أنوى الهجرة إلى كندا‪.‬‬

‫نظرت إليها باستغراب! فهزت رأسها ونظرت إلي بعمق وقالت‪:‬‬ ‫ـ نعم ستين يوما لم نستطيع فيها مغادرة المطار أو العودة إلى أبعد‬ ‫من بوابة التفتيش‪.‬‬

‫‪10‬‬


‫ـ هذا الموضوع من الممكن أن يتحول إلى رواية لكي يطلع‬ ‫القراء على المعاناة التي يتعرض لها المسافرون الليبيون في‬

‫مطارات العالم‪.‬‬

‫كنت أعتقد إن السبب كان انتمائها إلى هذا الوطن فقط‪ ،‬وما كنت‬

‫أعتقد أبدً ا إن وراء تلك المرأة معاناة قاسية تعرضت لها بسبب األفكار‬

‫التي كان يعتنقها زوجها‪.‬‬

‫جلست في المقعد‬ ‫وأخيرا وصلنا الطائرة وجلسنا في مقاعدنا‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ً‬

‫المحاذي للشباك وجلت بنظري من خالله إلى ساحة المطار التي‬

‫كانت تربض فيها العديد من الطائرات‪ ،‬لم أحاول أن أباشر حدي ًثا‬ ‫مع المرأة ولكنها بادرت تسألني‪:‬‬

‫ـ أنت وين بتقضي شهر رمضان؟‬ ‫ـ كل سنة وأنت طيبة‪ ..‬في بنغازي إنشاء لله‪.‬‬ ‫ـ إنشاء الله‪ ..‬مبروك عليك‪.‬‬ ‫وبدأت الحديث عن قصتها وكيف قضت شهر رمضان في أحد‬

‫السجون بماليزيا‪ .‬نظرت إليها مستغر ًبا! وسألتها‪:‬‬ ‫ـ القصة فيها منع من السفر وسجن؟‬

‫ـ نعم‪ ..‬سفر وترحال وعذاب وخوف ورعب وهروب وجوع‬ ‫ودموع‪.‬‬

‫‪11‬‬


‫وأخذت تسرد قصتها مع الزمن وأحداثها وكنت أنصت باهتمام‪،‬‬ ‫وعندما وصلت الطائرة إلى مطار بنغازي ساعدتها في استالم حقائبها‬ ‫وو ّدعتها على أمل أن نلتقي في أوقات أخرى‪.‬‬ ‫تعددت لقاءاتنا بعد ذلك خالل شهر رمضان من ذلك العام‪.‬‬

‫‪12‬‬


‫(‪)2‬‬ ‫ال أدري ما إذا كان زوجي يعلم إلى أين نحن راحلون‪ ،‬أم إنه مثلي‪،‬‬ ‫يقودونه مثل ما يقودني وابنتي التي جاءت إلى هذه الدنيا قبل ثالثة أشهر‪.‬‬

‫أذكر إنه قبل الرحلة إلى الجزائر حاول عديد المرات‪ ،‬خاصة عندما‬ ‫َ‬ ‫الحصول على التأشيرة إلى الواليات المتحدة األمريكية‬ ‫سافرنا إلى تركيا‪،‬‬ ‫أو إحدى الدول األوربية‪ ،‬ولكني وهنا أروي لكم قصتي بصدق‪ ،‬لم أكن‬ ‫دائما على أن يسافر خارج البالد؟‪.‬‬ ‫أعلم إلى أين؟ أو لماذا كان يصر ً‬

‫كان على صلة بمجموعة من األصدقاء‪ ،‬بعضهم رافقنا في الرحلة‬ ‫وبعضهم انظم إلينا فيما بعد في المغرب‪ ،‬كانوا بين خمسة وعشرين‬ ‫وثالثين‪ ،‬وأغلبهم من الشباب‪.‬‬ ‫الشيخ خليفة ـ الذي كان أكبرهم سنًا ـ وزوجته السيدة الشيخة‬ ‫يبدو أنهما كانا مسئولين عن المجموعة‪ ،‬فكان هو من يصدر األوامر‬ ‫للتحرك من مكان إلى آخر‪ ،‬وهو الذي كان يعطي الدروس والمواعظ‪.‬‬

‫لم يكن لهم هدف معين في رحلتهم سوى الهجرة إلى مكان‬ ‫‪13‬‬


‫بعيد عن المجتمع الذي انتموا إليه وولدوا فيه وك ّفروه في أغلب‬ ‫األحيان‪ ،‬كانوا يبحثون عن مكان يعتقدون إنهم يقومون من خالله‬ ‫بالمحافظة على الدين واالبتعاد عن متع الحياة‪ .‬لكنهم جمي ًعا كانا‬ ‫ال يعرفون ماذا يفعلون؟ أو إلى أي مكان يتجهون؟ ولم يكونوا منتمين‬ ‫كبيرا‪ ،‬ولم يجتمعوا أبدً ا‬ ‫ألفكار بعينها‪ ،‬بل كانوا يعيشون فرا ًغا فكر ًيا ً‬ ‫على رأي واحد حتى في أغلب تفاسيرهم للحديث الشريف أثناء‬ ‫كثيرا ما تنتهي بنزاع ومشادات كالمية‪ ،‬وكان الشيخ‬ ‫لقاءاتهم‪ ،‬والتي ً‬ ‫خليفة وزوجته كذلك‪ ،‬إذ يبدو أن تأثير إقامتهم السابقة في أفغانستان‬ ‫والسودان وتجربتهم في الهجرة لم تمنحهم الثقة في النفس وإظهار‬ ‫بعض التف ّقه في الدين‪،‬وفقد حضرت عديد المناقشات التي كانت‬ ‫تجمعهم بالدار البيضاء‪.‬‬ ‫تدور بينهم‪ ،‬خاصة في أثناء ّ‬ ‫أحد الشباب الذين سكنوا معنا في المغرب سألته يو ًما‪:‬‬

‫ـ لماذا تركت األهل والبيت والوطن؟‬

‫قال لي‪..‬‬

‫ـ «كنت طال ًبا في الثانوية العامة‪ ،‬وأفتتح مسجد جديد بحينا‪ .‬كانت‬ ‫فرحتنا كبيرة بالمسجد‪ ،‬حضرت االفتتاح ودعانا الشيخ الخطيب‬ ‫إلى تعمير المسجد والصالة فيه‪ .‬لم تكن لدينا خلفية ثقافية عن أي‬ ‫من الحركات الدينية التي عرفناها فيما بعد‪ ..‬لم نجد من ينصحنا‪،‬‬ ‫ق ّلدنا الشيخ في تقصير البنطلون‪ ،‬ولم ينبت الشعر في وجهي بعد‪.‬‬

‫لم أكن مقتن ًعا بتقصير البنطلون‪ ،‬ولكن الشيخ قال لنا‪ ..‬إن السروال‬ ‫‪14‬‬


‫ً‬ ‫طويل وتدخل به إلى الحمام يغطس في المياه المتسخة‬ ‫عندما يكون‬ ‫وغرر بنا شيخ الجامع المكلف‬ ‫بأرضية الحمام‪ ،‬صدقناه‪ ..‬كنّا‬ ‫صغارا ّ‬ ‫ً‬ ‫من قبل الدولة‪.‬‬

‫بعد االمتحانات جاءت سيارة بها أربع أشخاص واقتادوا والدي‪،‬‬ ‫لم أكن موجود ولم أعرف لماذا اقتادوه؟ وعندما عرفت إن إيقافه‬ ‫كان بسببي ذهبت إليهم وس ّلمت نفسي و ُأطلق سراحه‪ ..‬وبعد شهر‬ ‫من التحقيق ُأطلق سراحي‪ ..‬ولكني لم أترك الصالة في المسجد‪.‬‬

‫بعضا من الشباب الجيران‬ ‫مضت ستة أشهر تقري ًبا ثم سمعت أن ً‬ ‫على من جديد فسافرت إلى‬ ‫قبض عليهم‪ ،‬عندها خفت أن يقبض ّ‬ ‫تونس ولم أعد حتى اآلن‪ ..‬وأنا اآلن ال أعرف لماذا أنا هارب؟‬ ‫وممن أنا هارب؟»‪.‬‬ ‫مثله كثيرون خرجوا من بالدهم وال يعرفون لماذا خرجوا؟ وممن‬ ‫هم يهربون؟‪.‬‬ ‫أحدهم يدعى خالد سرد لي قصته ً‬ ‫قائل‪:‬‬

‫ـ «كنت في الشهادة الثانوية عندما التحقت بحركة التجمع‬ ‫اإلسالمي‪ ،‬كنا نلتقي في بيت أحد األصدقاء لتع ّلم القرآن وتلقى‬ ‫دروس في الشريعة اإلسالمية‪ ،‬ال يعرف أحد من عائلتي بهذا‬ ‫األمر‪ ،‬وبعد أن أنهيت امتحانات الشهادة الثانوية وصلتني أخبار‬ ‫بأن بعض الجماعة تم القبض عليهم‪.‬‬ ‫شخص ًيا لم يستدعني أحد‪ ،‬ولم أشعر أن هناك من يراقبني‪ ،‬ولكني‬ ‫‪15‬‬


‫كنت أستعد لمغادرة البالد في أي لحظة‪ ،‬فقد وفرت مبلغ خمسمائة‬ ‫دوالر وهي كانت في اعتقادي كافية حتى أستقر في مكان آخر‪.‬‬ ‫ظهرا‪ ،‬كنت في البحر‪،‬‬ ‫ذات يوم عدت للبيت عند الثانية عشرة ً‬ ‫فقالت والدتي‪:‬‬ ‫ـ هناك من سأل عنك‪.‬‬

‫ـ من؟‬

‫ـ ال أعرف‪.‬‬

‫جهزت حقيبتي وودعت والدتي بنظرات وغادرت إلى محطة‬ ‫سيارات األجرة‪ ،‬يبدو أن والدتي كانت تريد مغادرتي لم تكلمني‬ ‫ولم تعارض‪ .‬كانت نظراتها توافق على كل كلمة قلتها لها‪.‬‬ ‫أول سيارة متوجهة إلى طبرق ركبتها ومنها إلى الحدود المصرية‬ ‫التي دخلتها عند الثامنة مسا ًء ذلك اليوم الذي الزلت أذكره جيدً ا‬ ‫وأذكر كل الوجوه التي تتفحصني‪.‬‬ ‫في اليوم التالي قبض على أخي ونقل إلى طرابلس‪.‬‬

‫بعد ثالثة أيام كنت وحيدً ا في اإلسكندرية والتقيت أحد األصدقاء‬ ‫ورفيقي في المجموعة الذي أقترح المغادرة إلى سوريا عن طريق‬ ‫األردن وكان ذلك‪.‬‬

‫شهر فقط ألننا ال نملك‬ ‫في سوريا سكنا في شقة استأجرناها ً‬ ‫سوى إيجار ذلك الشهر‪ ،‬ثم بحثنا عن عمل وتحصلت على عمل‬ ‫‪16‬‬


‫بأحد محالت أشرطة الفيديو حتى حضر أخي الثاني‪ ،‬وقمت بتزوير‬ ‫جواز سفره واستبدلت الصورة ثم غادرت إلى لندن ضمن ركاب‬ ‫الترنزيت لكي أغادر إلى مكان آخر‪.‬‬

‫عند نزول الركاب في مطار هيثرو دخلت الحمام‪ ،‬ومزقت جواز‬ ‫السفر الذي أحمله ووضعته في المرحاض‪ ،‬وذهبت القطع مع المياه‬ ‫في مجاري لندن‪ ،‬ومع مغادرة الركاب لم تجد السلطات االنجليزية‬ ‫جواز سفر لدي‪ .‬وعندما سألني الشرطي أين وضعت الجواز؟ بعد‬ ‫أن قام بتفتيشي ً‬ ‫تفتيشا دقي ًقا‪ ،‬قلت له في التواليت‪ ،‬وعندما رافقته إلى‬ ‫هناك وجد آثار الحبر الزالت عالقة بالمرحاض‪.‬‬ ‫هز رأسه وحولني للتحقيق لطلب اللجوء اإلنساني‪ ..‬ال أعرف‬ ‫ّ‬ ‫لماذا غادرت‪.‬‬

‫أحدهم يدعى عبدالله حكايته تختلف‪ ..‬قال لي أنه كان أحد‬ ‫الجنود في الجيش الليبي‪ ،‬وخالل المواجهة مع مصر عام ‪1977‬م‬ ‫تم تكليف جنود الكتيبة كفصائل حماية لبعض كتائب الصواريخ‬ ‫وبعض األهداف الحيوية بمدينة طبرق‪ ،‬وقد كنت ضمن المجموعة‬ ‫التي شاركت في حماية كتيبة الصواريخ سام‪ 6‬التي كانت حديثة‬ ‫التشكيل‪ ،‬واحتلت موقعها بميناء الحريقة النفطي جنوب مدينة طبرق‪.‬‬ ‫كانت كتيبة الصواريخ تقوم بحراسة خزانات النفط بميناء الحريقة‬ ‫النفطي‪ ،‬وكانت مجموعة الحراسة تتكون من مجموعة من الجنود‪.‬‬ ‫كنت من بينهم حيث قسمنا إلى مجموعات تتناوب الحراسة الليلية‬ ‫فقط‪ ،‬أما في أثناء النهار فيقوم جنود من الكتيبة نفسها بعملية الحراسة‪.‬‬ ‫‪17‬‬


‫كنا نقيم في ثالث خيم كبيرة بنيت على أرض جبلية ّ‬ ‫تطل على‬ ‫الوادي بالقرب من مصبه في البحر القريب من موقعنا حيث كان‬ ‫بعض الزمالء يذهبون إلى ساحل البحر للسباحة‪.‬‬

‫عندما قصفت قاعدة جمال عبدالناصر (العدم ساب ًقا) كنت‬ ‫ظهرا مرت فوقنا طائرتان‬ ‫حاضرا‪ ،‬ففي تمام الساعة الثانية عشرة ً‬ ‫ً‬ ‫تحمل العلم الليبي‪ ،‬تحركت الصواريخ ثم توقفت‪ ،‬وبعد عشر دقائق‬ ‫ومرت فوقنا ثانية وهي تطير باتجاه البحر‪ ،‬وخرج‬ ‫عادت الطائرتان ّ‬ ‫علينا المالزم آمر الكتيبة فوجدنا نلوح لها بأيدينا‪ ،‬فقال لنا‪ :‬هذي‬ ‫طائرات مصرية وقصفت القاعدة‪.‬‬

‫لم يكن بإمكاننا فعل شيء‪ ،‬ومثل اليوم األول عندما بدأت‬ ‫المواجهة كنا نجلس في مواقعنا وننتظر‪ ..‬نستمع إلى أصوات سيارات‬ ‫اإلسعاف وهي تتجه إلى طبرق حاملة الجرحى‪ ،‬وبعد توقف المواجهة‬ ‫بعضا من أفراد‬ ‫بأسبوع عدنا إلى مقر الكتيبة بمعسكر الجالء فوجدنا ً‬ ‫الكتيبة بالمقر‪ ،‬وهم يقومون بأعمال الحراسة الليلية على مبان خاوية‪،‬‬ ‫وعندما طلبنا إجازة للعودة إلى أهلنا لالطمئنان عليهم لم يوافق‬ ‫الضابط المكلف‪.‬‬

‫في الصباح الباكر اتفقنا على السفر إلى طرابلس بدون أذن‪،‬‬ ‫وخرجنا من الباب الخلفي للمعسكر مصحوبين ببنادقنا والذخيرة‬ ‫المسلمة إلينا في موقع كتيبة الصواريخ‪ ،‬وقفنا على الطريق الساحلي‬ ‫حتى توقفت سيارات أجرة أخذتنا إلى بنغازي‪.‬‬ ‫كانت البالد فوضى‪ ،‬مررنا بالعديد من بوابات األمن لم يستوقفنا‬ ‫‪18‬‬


‫أحد‪ ،‬ولم يسألني أحد‪ ،‬فبمجرد أن يشاهدوا الزى العسكري والبنادق‬ ‫يفتحون لنا الطريق حتى وصلنا مطار بنينا‪.‬‬

‫في المطار حجزنا تذاكر للسفر وتوجهنا لمكتب التسفير العسكري‬ ‫الذي قام بإنهاء اإلجراءات المتبعة لتسفيرنا‪ ،‬وصعدنا الطائرة‪ ،‬وعند‬ ‫بوابتها طلب مني المضيف تسليمه المخازن وما يوجد عندي من‬ ‫ذخيرة‪ ،‬عدّ ها وسلمني ورقة وتسلمتها عند نزولنا في مطار طرابلس‪.‬‬

‫بعد قضاء أسبوع مع األهل عدت إلى طبرق‪ ،‬ومن حسن حظي‬ ‫رقما آخر غير رقمي في خانة الغياب‪،‬‬ ‫أن آمر الفصيل كان ّ‬ ‫يدون ً‬ ‫وعندما بحثوا عن رقمي لم يجدوا أني تغيبت أي يوم‪ ،‬بينما عوقب‬ ‫باقي الزمالء الذين تغيبوا معي ورافقوني في رحلتي تلك‪.‬‬ ‫ولكن عندما وشى بي أحد العرفاء الذي كان يسهر في غرفتنا‬ ‫ويعرف أنني كنت متغي ًبا عن العمل عوقبت بثالثة أيام حبس ألول‬ ‫مرة في حياتي العسكرية‪.‬‬

‫تجربة الحبس لثالثة أيام كانت بحق تجربة مريرة‪ .‬بالرغم من قصر‬ ‫المدة غير أنها كانت قاسية بحق وجرس تنبيه قررت بعده عدم الغياب‬ ‫نهائ ًيا‪ ،‬وقد خرجت في اليوم التالي عند المساء بعد أن قضيت ذلك‬ ‫اليوم في مهمة تنظيفات بمكتب تحريات الشرطة العسكرية بطبرق‬ ‫زميلي المسجونين اللذين رافقاني إلى تلك‬ ‫والذين أجبروني رفقة‬ ‫ّ‬ ‫المهمة على غسيل مالبسهم الداخلية وجواربهم النتنة‪.‬‬ ‫عقدت العزم على مغادرة البالد‪ ،‬وها أنا أعيش خارجها هار ًبا‬ ‫‪19‬‬


‫من الجيش وال أستطيع العودة‪ ،‬ولكن ال تسألني كيف وصلت هنا؟‬ ‫فلو عرف أحد من النظام من الذي ساعدني لقتله‪.‬‬

‫أسأل نفسي أحيانًا لماذا ارتديت الخمار؟ ال أجد إجابة‪ ..‬ولكن‬ ‫أعود بالذاكرة إلى عام ‪1986‬م عندما ارتديت الخمار ألول مرة بعد‬ ‫الزواج‪ ،‬وأصبحت أرى الناس بوضوح من خلف الخمار ويروني‬ ‫وكثيرا ما أرى نظراتهم تتبعني من الخلف بعد أن‬ ‫وضوحا‪..‬‬ ‫أكثر‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫أمر بهم‪ ،‬قد يغضون طرف العين حينما أقابلهم ولكن ما أن يختفي‬ ‫وجهي حتى يلتفتون‪.‬‬

‫لم يفرض زوجي حكاية الخمار هذه‪ ،‬بل ارتديته بمحض إرادتي‪..‬‬ ‫ً‬ ‫نزول عند رغبتي وانسجا ًما مع ما أصبحت أحمله من أفكار تدعو‬ ‫إلى تكفير المجتمع الذي أعيش فيه‪ ،‬لقد أصبحت أعيش مع أفكار‬ ‫جرني إليها؟ أو كيف وصلت إلى إتباعها‪.‬‬ ‫ال أفهم اآلن ما الذي ّ‬ ‫ارتديت الخمار في أول رمضان‪ ،‬كنت أبتغي التميز فقط‪ ،‬التميز‬ ‫عن المجتمع الذي أصبحت أكره أن أستمر في الحياة وسطه‪ ،‬فقد‬ ‫كنت أراه يخرج عن تشريع الله وعن تطبيق حدود الله‪.‬‬

‫كنت أنهيت قراءة كتاب يتحدث عن الخمار‪ ،‬والدتي كانت ترفض‬ ‫أساسا أن أرتدي حتى الحجاب داخل البيت‪ ،‬وعندما نخرج ترى والدتي‬ ‫ً‬ ‫بأنه ال بأس من وضع شيء على الرأس‪ ،‬ولكني لم أسمع كالم والدتي‬ ‫طب ًعا تحت تأثير األفكار التي أصبحت أتجرعها‪ ..‬جرعة‪ ..‬جرعة‪.‬‬ ‫والدتي كانت تميل إلى االعتقاد في المشايخ وأولياء الله‬ ‫‪20‬‬


‫كثيرا ما تصطحبنا إلى ضريح سيدي يونس‪،‬‬ ‫الصالحين‪ ،‬فكانت ً‬ ‫كنت أتركها وأطوف بالضريح‪ ،‬وأطلب إليه أن يزوجني ً‬ ‫رجل أسمر‬

‫دائما في شارعنا‪.‬‬ ‫كنت أراه يقف ً‬

‫حدث ذات يوم وأنا أتحدث مع والدتي أن صرخت في وجهها‪:‬‬

‫ـ أنت وأبي حطب جهنم‪ ،‬فوجودكم حرام‪ ،‬وحياتكم حرام‪،‬‬ ‫كالمكم حرام‪ ،‬وضحككم حرام‪ ،‬وكل حركاتكم حرام في‬ ‫حرام‪ ،‬أنتم ك ّفار‪.‬‬

‫وعندما وجدتني والدتي أصلي ذات يوم قالت لي‪:‬‬

‫ـ حتى أنا التي زرت بيت الله وحجيت ال أفعل مثلك‪ ..‬وتساءلت‪:‬‬ ‫ـ أي دين هذا الذي تتبعينه يا بنتي؟‪.‬‬

‫ربما تأثرت باألفكار التي يحملها زوجي دون أن أدري بالرغم من‬ ‫كثيرا في بيت الزوجية‪ ،‬فعندما تزوجته كان يعمل في‬ ‫أنني لم أعش معه ً‬ ‫طرابلس بإحدى الشركات‪ ،‬وكان عمله يقتضي سفره خمسة وعشرون‬ ‫يو ًما‪ ،‬ويعود ليبقى بالبيت خمسة أيام كان يقضيها مع رفاقه وأذهب‬ ‫لزيارة أهلي يو ًما واحدً ا في كل شهر‪.‬‬

‫قال لي زوجي ذات يوم إن عقد زواجنا كان ً‬ ‫باطل‪ ،‬لم أسأله‬ ‫كافرا وهو‬ ‫لماذا؟ ألنني كنت مثله أعتقد ذلك‪ ،‬كنت أرى المجتمع ً‬ ‫يزور أو يحلف باألولياء‪ ،‬وأراه كذلك عندما يزور القبور‪ ،‬ولكن في‬ ‫بعض األحيان لم تكن األفكار تبدو واضحة عندي‪ ..‬أنا لم أملك‬ ‫زمام أمري‪ ،‬كنت تابعة أنظر إلى ما يفعلون ألفعل مثلهم‪.‬‬ ‫‪21‬‬


‫أردت أن أكون أكثر إلما ًما‪ ،‬قرأت لسيد قطب وهو في السجن‪،‬‬ ‫وقرأت لزينب الغزالي «أيام من حياتي»‪ ،‬وقرأت «كتاب التوحيد»‬ ‫دائما لهذه الكتب‪.‬‬ ‫لمحمد عبدالوهاب‪ ،‬ولكنني لم أرتح ً‬ ‫وجدت نفسي أتبع زوجي في رحلته إلى تركيا وأنا أرتدي الحجاب‪،‬‬ ‫ثم في رحلته إلى الجزائر والمغرب‪ ،‬بالرغم من أنني نزعت الخمار‬ ‫عند وصولنا المغرب ولم يعلق على ذلك أو يسألني لماذا؟‬

‫لقد نزعت الخمار عندما سئمته‪ .‬لم يكن بوسعي تحمل لصلصات‬ ‫العيون المستمرة‪ ،‬ولم أحتمل حرس البوابات وهم يطلبون مني نزعه‬ ‫فكثيرا ما أتعرض للسؤال‪ :‬أنت‬ ‫للتأكد من شخصيتي وتعليقاتهم‪..‬‬ ‫ً‬ ‫ال تشبهين الصورة‪ ،‬أو إن الصورة ال تشبهك‪.‬‬ ‫كثيرا ما ق ّيد حركتي‬ ‫المهم أني تخلصت من الخمار الذي كان ً‬ ‫وجعلني عرضة للنقد واالستهزاء‪ ،‬وعرفت أن الخمار والنقاب يقع‬ ‫في القلب وليس مجرد قطعة قماش تغطي وجهي‪.‬‬

‫أمي كانت ترتدي الجرد بلون واحد أو الملون‪ ،‬وكانت تظهر من‬ ‫وجهها عين واحدة تستدل من خاللها على الطريق‪ ،‬ولم تتعرض يو ًما‬ ‫لالنتقاد‪ ،‬ألن نسائنا كلهن كن يرتدين الجرد الذي كان من متطلبات‬ ‫ً‬ ‫دخيل عليه‪.‬‬ ‫تراثنا وليس‬

‫‪22‬‬


‫(‪)3‬‬ ‫صباحا‪،‬‬ ‫توجهنا إلى طرابلس بالطائرة كانت الرحلة أقلعت السابعة‬ ‫ً‬

‫كنت متوترة وخائفة‪ ،‬لم أركب الطائرة ألول مرة‪ ،‬ولكني كان جسمي‬ ‫يرتعش‪ ،‬وصلناها قبل الظهيرة كنت أنا وزوجي وابنتي ترافقنا امرأة‬

‫تدعى الشيخة خديجة وزوجها الشيخ خليفة وربيبها محمود وأطفالها‬

‫صالح ومحمد وزهرالدين وابنتها فاطمة وكان معنا بنفس المجموعة‬

‫محمود إدريس ورمضان وسليم‪.‬‬

‫ذهبنا إلى منزل في طرابلس ال أعرف أين يقع أو من يكون صاحبه‬

‫إال إن الشيخ خليفة مرافقنا كان على عالقة بصاحبه وهو من ضمن‬

‫الجماعة‪ ،‬وأذكر إن صاحبة البيت كانت مسافرة فقمت أنا بأعداد وجبة‬ ‫الغذاء وبعد قليل من االستراحة أحضروا لنا سيارة أجرة‪.‬‬

‫صعدنا سيارة األجرة وعبرنا الحدود الليبية التونسية ً‬ ‫ليل وفي‬

‫الصباح توقفنا‪ ،‬أذكر في قابس بالقرب من مسجد‪ ،‬صلينا الصبح‬

‫وتناولنا القهوة واستقلينا السيارة‪.‬‬

‫‪23‬‬


‫وصلنا تونس العاصمة في مساء ذلك اليوم وتوجهنا إلى عائلة‬ ‫يعرفها الشيخ خليفة أو إنه يعرف ابنها الذي كان رفيقه عندما كانوا‬ ‫ونظرا ألن الشقة‬ ‫في أفغانستان وأجرنا منهم شقة بالدور العلوي‬ ‫ً‬ ‫ال تتسع لكل المجموعة والشقة كانت قيد اإلنجاز فقد أشارت‬ ‫علينا صاحبة البيت بالسكن معها في غرفة كبيرة سكنتها مع رفيقتنا‬ ‫الشيخة واألوالد وسكن زوجي والشيخ خليفة وباقي المجموعة‬ ‫بالشقة المؤجرة‪.‬‬ ‫وأذكر هنا إن األسرة التي أقمنا معها طيلة الفترة في تونس كانت‬ ‫كريمة والسيدة صاحبة البيت ودودة إلى درجة كبيرة ولقينا منها اهتمام‬ ‫فكثيرا ما وفرت لنا بعض االحتياجات وكان زوجي قد أعطاها‬ ‫كبير‬ ‫ً‬ ‫مع اإليجار مبلغ من المال‪.‬‬

‫قضينا أسبوع في تونس العاصمة وفي نهاية األسبوع توجهنا إلى‬ ‫المطار لنستقل طائرة ال أعرف إلى أين تتجه بنا ولكن الطائرة هبطت‬ ‫في مطار الجزائر العاصمة ونزلنا في صالة الركاب الترانزيت‪ ،‬وبعد‬ ‫حوالي ثالثة ساعات صعدنا إلى طائرة أخرى‪ ،‬أقل مستوى من‬ ‫سابقتها‪ ،‬كانت الكراسي متحركة وغير ثابتة وبعضها نزع من مكانه‪،‬‬ ‫سألت الشيخة خديجة ترى إلى أين نحن ذاهبون؟؟‬ ‫أجابتني‪ :‬إذا هبطنا في المطار القادم على مهبط معد ال أعرف‪.‬‬ ‫أما إذا كان المهبط تراب فسأقول لكي أين نحن‪ ..‬استمعت بهدؤ‬ ‫ولم أعلق‪..‬‬

‫بعد حوالي أربع ساعات من الطيران حطت بناء الطائرة في مهبط‬ ‫‪24‬‬


‫واضحا من خالل أثار األتربة التي خلفها احتكاك‬ ‫من تراب يبدو ذلك‬ ‫ً‬

‫العجالت باألرضية‪ ..‬نظرت إلي الشيخة‪ ..‬فقالت نحن في مالي‪..‬‬

‫عرفت فيما بعد إننا هبطنا في مالي وعرفت إن الشيخة على دراية‬

‫بتحركات المجموعة نزلنا من الطائرة وتوجهنا إلى فندق جيد بتنا‬ ‫ً‬ ‫طويل في الفندق حيث سرعان‬ ‫فيه باقي ليلتنا وفي الصباح لم نبقى‬

‫ما صعدنا إلى قارب عبر بنا نهر يقود القارب رجالن أسودان بواسطة‬ ‫خشبتين كانا يغرسانها في قاع النهر‪.‬‬

‫أصابني الفزع والخوف فالنهر كان ملي بالتماسيح التي كانت‬ ‫تسبح بمحاذاة القارب وتتبعنا من الخلف كنت ً‬ ‫فعل خائفة وارتعش‬

‫وأضع ابنتي في حضني كان محمود يراقبني بصمت ويسرق النظر‬

‫نحوي أحسست إن نظراته واهتمامه يمنحني نوع من اآلمان‪.‬‬

‫عبرنا النهر وفي الضفة األخرى سكنا فندق أخر أقل مستوى‬

‫من السابق وأقمنا فيه لمدة ثالثة أيام كان الرجال خالل تلك األيام‬

‫يغادرون الفندق في الصباح ويعودون في المساء ال أعرف أين‬ ‫يذهبون؟ وال ماذا كانوا يعدون؟‪.‬‬

‫وفي اليوم الرابع نهضنا في الصباح واستقلينا سيارة هي عبارة عن‬

‫حافلة صغير كان لونها أحمر وكان يرافقنا في الحافلة باإلضافة للسائق‬

‫شخصان آخران أسمران‪ ،‬وانطلقت بناء ببطء شديد على طريق ترابي‬ ‫تقري ًبا بسرعة ثالثين كيلو متر في الساعة وبعد مسافة قصير توقفت‬ ‫الحافلة وأصيبت بعطل‪.‬‬

‫‪25‬‬


‫حاول السائق إصالح العطل ولكن محاوالته ذهبت أدراج الرياح‬ ‫عندها قررت المجموعة دفع الحافلة عبر الطريق‪ ..‬جلست أنا وابنتي‬ ‫والمرأة وأطفالها في الحافلة ونزل الرجال يدفعون الحافلة وأستمر‬ ‫ذلك لمدة خمسة أيام كاملة لم أغادر خاللها السيارة‪..‬‬ ‫خمسة أيام أجلس على كرسي الحافلة لم أغادره أبدً ا وكنت أضع‬ ‫كثيرا‬ ‫أبنتي في حضني ويجلس بقربي أحد أبناء الشيخة والذي كان ً‬ ‫يتسري‬ ‫ما يتبول ال إيراد ًيا‪ ،‬ففي كثير من األحيان أحس بسائل ساخن ّ‬ ‫إلي‪ ،‬ولكني صبرت ولم أحاول أن أنبه والدته لذلك‪.‬‬

‫كانت تنفث من السيارة رائحة كريهة تجمعت من النفط واألحذية‬ ‫كثيرا ما أحاول‬ ‫والبول والعرق وحرارة الجو وضيق المكان‪ ،‬وكنت ً‬ ‫االقتراب من النافذة كي أحصل على قدر من الهواء الساخن الذي‬ ‫لفحته حرارة الشمس‪.‬‬

‫مررنا في الطريق بعديد المستنقعات والبرك ورأيت الناس يشربون‬ ‫منها وهي آسنة وغير صالحة للشرب‪ ،‬وأصيب زهرالدين بالمالريا‬ ‫عندما شرب من أحدى هذه المستنقعات ولم يشفى منها إال عندما‬ ‫وصلنا إلى الجزائر‪.‬‬

‫على الطريق كنا قد مررنا على تجمعات سكانية بدائية وفقيرة‪..‬‬ ‫عراة إال من منديل يلف حول الخصر‪ ،‬وأثارني ما رأيته عندما مررنا‬ ‫بإحدى القرى منظر طفلة صغير في الخامسة من عمرها‪ ،‬وهي تحتضن‬ ‫طفل صغير ٍ‬ ‫ً‬ ‫عار تماما من المالبس‪ ،‬لم يمر على والدته إال ساعات‬ ‫قليلة بدليل حبل السرة ا ًلذي الزال عال ًقا على بطن المولود‪ .‬لقد كان‬ ‫منظرا يثير الشفقة‪.‬‬ ‫ً‬ ‫‪26‬‬


‫في اليوم الخامس وبينما كان الرجال يدفعون السيارة في طريق‬ ‫وعر وضيق تدحرجت إلى جانب الوادي وخرجنا منها بأعجوبة‪،‬‬ ‫حملنا أمتعتنا وسرنا بعض الوقت على أقدامنا‪ ،‬حتى وصلنا إلى‬ ‫مبنى مهجور وسط قرية صغيرة شوارعها من تراب وبيوتها مبنية من‬ ‫الطين وبعضها مبني بالقش‪.‬‬

‫دخلنا البيت ال توجد له أبواب ونوافذ‪ ،‬سكنا البيت ثالثة أيام لم‬ ‫أرى فيها النوم‪ .‬كنت أحضن ابنتي طول الوقت واحمل شمعة تضئ‬ ‫لي ظلمة البيت المهجور‪ .‬كانت الحشرات والسحالي تجري على‬ ‫الجدران‪ .‬أحسست بالخوف وسط الظلمة والبرد الشديد‪ ،‬وضعت‬ ‫ابنتي في حقيبة معدة للنوم وسط الثلوج كان زوجي قد أحضرها‬ ‫قبل والدتها‪.‬‬

‫مكثنا في البيت المهجور ثالثة أيام لم نخرج منه فالحرارة في‬ ‫الخارج مرتفعة في النهار وال نعرف إلى أين نذهب‪ ،‬أصبنا كلنا‬ ‫بإسهال شديد نتيجة تعرضنا لضربة الشمس وعدم توفر وجبات‬ ‫صحية‪ ،‬باإلضافة إلى شربنا للمياه الملوثة‪ .‬لقد تناولنا طيلة األيام‬ ‫خبزا لونه أصفر تنفث منه روائح بكتيريا العجين‪ ،‬وعندما‬ ‫السابقة ً‬ ‫حصلنا على بطيخة تناولنها بشراهة‪ ،‬ولكن كانت فرحتي كبيرة عندما‬ ‫وجدنا بعض المانجو‪ ،‬غير أني عجزت عن أكلها أمام الرجال من‬ ‫كثيرا ما يضايقني‪ ،‬ولعدم توفر سكين أو‬ ‫تحت الخمار الذي كان ً‬ ‫ملعقة أحسست بأني امرأة صابرة ً‬ ‫فعل‪.‬‬

‫عثر الرجال الذين خرجوا منذ الصباح في هذا اليوم الحار والشمس‬ ‫تلفح أجسادهم‪ ،‬عثروا على سيارة شاحنة كبيرة وصحراوية وهي‬ ‫‪27‬‬


‫متوجهة إلى تامرست في جنوب الجزائر‪ ،‬صعدنا جميعنًا إلى الصندوق‬ ‫الخلفي بعد أن وضعوا ستارة بين الرجال والنساء‪ ،‬رافقتنا في رحلة‬ ‫الشاحنة امرأة سمراء ورجلين يحملون سيو ًفا‪ .‬كانت المرأة السمراء‬ ‫تجلس فوق الصناديق نصف عارية‪ ،‬ولم تأبه لنظرات الرجال‪ .‬إنها‬ ‫ستذهب قط ًعا إلى الجحيم‪ ،‬هذا ما كانت تردده الشيخة على مسامعي‪،‬‬ ‫فقلت في نفسي يومها‪ :‬أن تكون نصف عارية في هذا القيض أفضل‬ ‫من أن ترتدي هذا الخمار األسود الذي ُي ِ‬ ‫لهب درجة حرارة الجسم‪.‬‬

‫جلس الرجال في الجانب اآلخر وهم يضعون وجوههم إلى‬ ‫الخلف‪ ،‬كي ال يروا المرأة نصف العارية التي تجلس في األعلى لكي‬ ‫تحصل على قدر كاف من الهواء‪ ،‬هي قالت لهم ذلك عندما قالوا لها‬ ‫ال تجلسي هكذا سوف تسقطين من فوق الصناديق‪.‬‬

‫صعودنا إلى الشاحنة كان في غاية الصعوبة‪ ،‬فالشاحنة كانت‬ ‫عالية‪ ،‬ولم أستطيع أنا وال المرأة واألطفال الصعود‪ ،‬فوضعت بعض‬ ‫الحجارة فوق بعضها وأضافوا إليها برميل صعدنا فوقه إلى الشاحنة‪.‬‬ ‫قبل أن تنطلق الشاحنة ذبح الرجال خرو ًفا أشتروه من أحد الرعاة‪،‬‬ ‫وألول مرة منذ مغادرتنا تونس أكلنا اللحم المشوي‪ ،‬وحصلنا على‬ ‫وجبة من المكرونة واللحم‪ ..‬ولكن مع االرتفاع الشديد في درجة‬ ‫الحرارة لم نستطيع األكل‪ ،‬وعلقوا باقي اللحم في الشاحنة‪.‬‬

‫كانت الشاحنة الصحراوية محملة بصناديق وحديد‪ ،‬وكان المكان‬ ‫الذي حجز لنا مكان ضي ًقا‪ .‬جلسنا فيه محشورين‪ ،‬أنا وابنتي والشيخة‬ ‫وأوالدها‪ ،‬وجلس الرجال في الجزء المخصص لهم خلف الستارة‪.‬‬ ‫‪28‬‬


‫سارت الشاحنة في طريق صحراوي في جو مرتفع الحرارة أثناء‬ ‫النهار‪ ،‬وفي الليل تنخفض درجة الحرارة إلى ما تحت الصفر‪.‬‬

‫كانت الشاحنة ً‬ ‫دائما إال عندما‬ ‫قليل ما تتوقف‪ ،‬فقد كانت تسير ً‬ ‫تتوقف بعض الوقت لنتناول بعض الطعام‪ ،‬حيث يقوم الرجال بطهي‬ ‫األرز أو المكرونة مستخدمين اللحم الذي أصبح مقد ًدا‪ ،‬واستمر‬ ‫مسيرنا وسط الصحراء عشرة أيام كاملة‪ ،‬وعندما استنفذت كمية اللحم‬ ‫أصبحنا نأكل الخبز اليابس ونشرب المياه الساخنة الرديئة الطعم‪.‬‬ ‫قلت لزهرالدين‪ :‬آه لو أجد تفاحة أو موزه‪ ،‬رد ذك الطفل الصغير‬ ‫الذي لم يتجاوز الخامسة من عمره (يتهايلك توصل غاليك)‪ .‬كان‬ ‫كلما يراني أبكي يقول‪ :‬حرام تبكي يا خالتي عيونك سماح‪.‬‬

‫‪29‬‬



‫(‪)4‬‬ ‫حاولت عدة مرات أن أتذكر‪ ،‬كيف عبرنا هذه الصحراء التي ليس‬

‫لها نهاية‪ ،‬فبعد أن تجاوزنا مدينة تمبكتو الشهيرة‪ ،‬وفي محاولة الستعادة‬ ‫شريط المناظر الطبيعة الكئيبة المحاذية لنهر النيجر ونحن بالقرب من‬

‫العاصمة المالية باماكو‪ ،‬غير إن ذلك الشريط ابتلعته تلك األيام العشرون‬ ‫في الصحراء‪ .‬حتى إني أرى منظر الماء ونحن نعبره بين التماسيح النهمة‬ ‫ألجسادنا أشبه بالمعجزة‪ .‬لقد ساورني خوف كبير آنذاك‪.‬‬

‫الصحراء تشكل تحد ًيا ال يمكن االطمئنان إلى إمكانية تخطيه‬

‫تكرس في اإلنسان هاجس الخوف والرهبة‬ ‫أو تجاوزه‪ .‬فالصحراء ّ‬

‫كلما مضى في التوغل فيها‪ ،‬خاصة عندما يستوطنه إحساس بالوحدة‬

‫حتى لو كان مع عدد من الناس‪ ،‬فال أهمية لذلك ما دام لهؤالء الناس‬ ‫حدود يحيطها البصر وقدرة يقيمها العقل‪.‬‬

‫للصحراء أجواء ال يمكن فهمها إال من خالل المعايشة المستديمة‪،‬‬

‫كثيرون فقدوا حياتهم عندما اعتقدوا إن لديهم الخبرة الكافية في‬ ‫‪31‬‬


‫صحراء ال تحتفظ بخطوط مستقيمة ودالالت ثابتة وتفرقات معروفة‬ ‫للطرق التي تتداخل فيها اآلثار بين األقدام البشرية وأرجل اإلبل‬ ‫والخيل والحيوانات والسيارات‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫كثيرا ما غطت‬ ‫أعرف إن األجهزة لم تجد في كثير من األحيان‪ً ،‬‬ ‫هذه الرمال ً‬ ‫ارتال من السيارات المزودة بأحدث األجهزة ومعدات‬ ‫االتصال باألقمار الصناعية‪.‬‬ ‫في بعض األحيان تنبعث فينا الحياة‪ ،‬خاصة عندما تتضح معالم واحة‬ ‫ما وتظهر بيوت مختلف طراز بنائها‪ ،‬مثل الخيام أو البيوت المبنية من‬ ‫القش على شكل نصف دائرة‪ ،‬وهي قليلة االرتفاع ويسكنها الفقراء عادة‪.‬‬

‫الحياة في الصحراء واضحة المعالم محددة التكوين‪ ،‬فليس هناك أكثر‬ ‫من خمسة أو ستة مجاالت تكون الحياة‪ .‬االجتماع بعد العشاء وانجاز‬ ‫أعمال الرعي‪ ،‬وإدارة شؤون البيت من قبل المرأة‪ ،‬والسقي والنزول إلى‬ ‫مدن قريبة للتسوق‪ ،‬وهذه العملية تتم في الشهر مرة أو مرتين ومن قبل‬ ‫أفراد متخصصين يمتازون بمعرفة جيدة بأبناء المدن القريبة التي يتسوقون‬ ‫منها‪ .‬مع أن بعضهم يفضل التسوق من «تمبكتو» برغم إنها بعيدة‪.‬‬ ‫إن عالم الصحراء الكبرى‪ ،‬الممتدة من الساحل الغربي من نهر‬ ‫مرورا بليبيا وتشاد والنيجر والجزائر والمغرب وموريتانيا ومالي‬ ‫النيل ً‬ ‫والسنغال‪ ..‬هذا العالم المجزأ يعيش سكانه حياة معقدة‪ ،‬غير إنها في‬ ‫نفس الوقت بسيطة‪ ،‬ليست هناك صعوبة في توفير احتياجاته‪ ،‬ألنها‬ ‫ً‬ ‫مبكرا‪ ..‬قبل شروق‬ ‫مبكرا‪ ،‬وينتهي‬ ‫أصل بسيطة‪ ،‬فالليل هنا يبدأ‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫الشمس يبدأ ضجيج حركة الحيوانات‪ ،‬مواش وحمير وخيل وإبل‪.‬‬ ‫‪32‬‬


‫(‪)5‬‬ ‫وصلنا بعد عشرة أيام من المسير في صندوق الشاحنة إلى تامرست‬ ‫في األراضي الجزائرية‪ ،‬بتنا ليلتنا في فندق سياحي وسط العشب‪،‬‬ ‫الفندق مبني بسعف النخيل ويحتوي على فرش ردي ومتسخ‪ ،‬وهو‬ ‫عبارة عن قطع طويلة من األسفنج‪ ،‬وفي اليوم التالي ذهبنا إلى محطة‬ ‫القطارات في تامرست‪ ،‬وانتظرنا وصول القطار يو ًما ً‬ ‫كامل جالسين‬ ‫على األرض‪ .‬في المساء ركبنا القطار إلى الجزائر العاصمة‪ ،‬و أحببت‬ ‫أن أستريح في أحدى الغرف‪ ،‬ولكن قالت الشيخة‪ :‬عيب رجال‪،‬‬ ‫ال تنامي أمامهم‪ ..‬والمفارقة العجيبة هي إن السيدة الشيخة اختارت‬ ‫وأطفالها أحسن الغرف ونامت حتى وصل القطار‪ ،‬ولكنى نمت‬ ‫وابنتي في غرفة كان يرافقنا فيها كثير من الرجال‪.‬‬

‫متواضع أنا وزوجي وابنتي‬ ‫وصلنا الجزائر العاصمة‪ ،‬سكنا فند ًقا‬ ‫ً‬ ‫في غرفة‪ ،‬والشيخة وزوجها وأبنائها في غرفة‪ ،‬وباقي الرجال في غرفة‬ ‫أخرى‪ ..‬مكثنا في الفندق يومين فقط‪ ،‬وفي اليوم الثالث ذهب زوجي‬ ‫والرجال إلى المسجد فتعرفوا على رجل اسمه محمد ولد سيد الناس‪،‬‬ ‫‪33‬‬


‫وكان يرافقه شخص آخر‪ ،‬وعندما عرفوا بقصتنا وأننا مهاجرين في‬ ‫سبيل الله دعانا إلى بيته وبقينا به خمسة عشرة يوم‪.‬‬

‫عندما انتقلنا إلى البيت الجديد سكنا وسط كرم ال حدود له من‬ ‫قبل سيدة البيت التي تدعى زهرة‪ ،‬والبيت عبارة عن غرفتين مفتوحتين‬ ‫متصلتان‪ ،‬تفصلها ستارة‪ .‬سكنت أنا والشيخة واألوالد في غرفة‪،‬‬ ‫وسكن زوجي والرجال في الغرفة المقابلة‪.‬‬

‫انتقلنا إلى بنسيون بمنطقة باب الواد بالعاصمة الجزائر‪ ،‬وسكنت‬ ‫في غرفة أول الدرج‪ ،‬وسكنت الشيخة في الغرفة المجاورة‪ ،‬وذات‬ ‫شخصا جزائر ًيا غري ًبا يضايقني وينظر إلي باستغراب‪،‬‬ ‫يوم شعرت بأن‬ ‫ً‬ ‫أحسست بالخوف‪ ،‬فجريت مسرعة إلى غرفة الشيخة وأخبرتها بذلك‪،‬‬ ‫عندها قامت الشيخة بالنظر من خالل ثقب المفتاح في باب الغرفة‪،‬‬ ‫والمثير إنها وجدت ذلك الشخص ينظر من خالل تلك الفتحة‪،‬‬ ‫فصرخت بصوت عالي‪ ،‬وصرخت أنا معها بصوت عالي‪ ،‬وأخذت‬ ‫أصرخ‪ ،‬فحضر زوجي والشيخ خليفة وعمال الفندق‪ ،‬وهنا قالوا لها‬ ‫ما بك‪ ،‬فأشارت إلي وقالت هي من تصرخ‪ ،‬استغربت ما فعلته الشيخة‬ ‫نحوي‪ ،‬ونظر الجميع نحوي باستغراب‪.‬‬ ‫في باب الواد تعرفت على مجموعة من الشقيقات‪ ،‬كن ثال ًثا‪.‬‬ ‫إحداهن كانت خطيبة محمد ولد سيد الناس‪ ،‬ربطتني صداقة متينة‬ ‫كثيرا ما أذهب إلى بيتهم لغرض‬ ‫مع ليندا‪ ،‬وهي أصغرهن‪ ،‬كنت ً‬ ‫االستحمام واستبدال مالبسي‪ ،‬فالبنسيون كان بحمام مشترك‪ ،‬وهذا‬ ‫كان ال يعجب الشيخة‪.‬‬ ‫‪34‬‬


‫في البنسيون كان طعامنا عبارة عن خبز وجبن فقط‪ ،‬ونتناول في‬ ‫جاهزا هو عبارة عن دجاجة محمرة‪ ،‬وفي كل يوم‬ ‫بعض األحيان طعا ًما‬ ‫ً‬ ‫جمعة كان أصدقاؤنا الجزائريون يحضرون لنا وجبة من الكسكسى‬ ‫خصيصا لنا‪.‬‬ ‫أو أي طعام آخر يعدونه‬ ‫ً‬

‫‪35‬‬



‫(‪)6‬‬ ‫الشيخة خديجة‪..‬لم أر في حياتي امرأة مثلها حقدً ا وحسدً ا وكراهية‬

‫للبشر‪ ،‬وهي تدّ عي الطيبة ريا ًء‪ .‬كانت امرأة مؤذية في تعاملها معي‪.‬‬

‫أذكر عندما زارتني أول مرة في بيتي ببنغازي قالت لي ستكونين رفيقة‬ ‫الدرب‪ ،‬لم أفهم يومها ماذا تعني؟ ولم أكن أعلم ما هو الدرب الذي‬

‫سيجمعنا‪ ،‬حتى عندما سافرنا م ًعا من بنغازي إلى طرابلس ثم إلى‬

‫تونس كنت أتوقع إنهم جميعا رفاق طريق وكفى‪ ،‬وسنفترق عندما‬

‫نصل إلى المكان المقصود‪.‬‬

‫دائما يناديها «ديجالون»‪ ،‬ولم أعرف‬ ‫خديجة‪ ،‬التي كان زوجها ً‬

‫معناها حتى اآلن‪ ..‬كانت لهم تجربة الهجرة إلى أفغانستان قبل رحلتنا‬ ‫هذه‪ ،‬وعاشت هناك فترة طويلة ثم عادت إلى ليبيا بعد إن استقرت‬

‫أربع سنوات في سويسرا‪ ،‬ورافقت زوجها أثناء هجرته إلى السودان‪.‬‬ ‫كانت تطلق ابتسامة السخرية مني في كل مناسبة أو حتى بدون‬

‫مناسبة‪ ،‬تجرحني بقولها وفعلها‪ ،‬وعندما طلبت منها ذات يوم أن تسدد‬ ‫‪37‬‬


‫باقي قيمة بعض األدوية التي كنت اشتريتها من الصيدلية المالصقة‬ ‫للفندق في الجزائر‪ ..‬قالت لي يومها وبصوتها القوي‪« ..‬ايوا يا ستي‬

‫قولي أنا نصرف عليكم من فلوسي»‪.‬‬

‫لم أكن أعرف أبدً ا إن زوجي هو من جمع هذه األموال التي تصرفها‬

‫تصرف في كل ما أملك من ذهب‪ ،‬وهو ما قدمته‬ ‫كل المجموعة بعد أن ّ‬ ‫له أنا شخص ًيا‪ ..‬عندما سمعت هذه الكلمات أصابني الغثيان‪ ..‬إ ًذا‬ ‫هذه األموال هي من مالي أنا‪ ..‬من ذهبي الخاص‪ ،‬ولكني الحظت‬

‫يتسوق ويحضر لنا كل احتياجاتنا‪.‬‬ ‫دائما ّ‬ ‫إنه هو من كان ً‬

‫كبيرا من المال ولكن صدمتني حقيقة‬ ‫أعرف إن زوجي جمع مبل ًغا ً‬

‫الصرف على اآلخرين الذين يرافقوننا في هذه الرحلة‪ ،‬والتي الزلت‬

‫ال أعرف إلى أين تقودنا وبدأ يساورني الشك في نوايا رفاق الرحلة‪.‬‬ ‫أيضا‬ ‫وكان الشيخ خليفة زوج ديجالون وقائد المجموعة واقع هو ً‬

‫تحت تأثير سيطرتها القوية‪ .‬يستمع إليها وإلى شكواها المستمرة مني‬ ‫كثيرا ما يتعرض لي باألهانة ويشكو زوجي ً‬ ‫نقل‬ ‫دون سبب‪ ،‬وكان ً‬

‫عنها‪.‬‬

‫كنت صغيرة السن‪ .‬كان عمري ال يتجاوز تسع عشرة سنة‪ .‬كنت‬

‫أحب أن أعيش حياتي كما أنا طفلة‪ ،‬وكثيرا ما كنت أقوم ببعض‬ ‫األعمال التي أحببتها وأنا صغيرة في بيت أسرتي‪ ،‬فقد أحببت أن‬

‫أقوم بالسير على الساللم محدثة صوتًا عال ًيا من حذائي وأستمتع‬ ‫بهذا الصوت‪ .‬لكن ذلك ال يروق للشيخة خديجة وزوجها‪.‬‬ ‫‪38‬‬


‫كثيرا ما يلقيها‬ ‫ذات يوم ونحن نستمع لحلقة الدرس التي كان ً‬ ‫الشيخ خليفة في تفسير القرآن الكريم‪ ،‬وأثناء الحلقة تغيرت نبرة‬ ‫صوت الشيخ وقال‪ :‬هناك بعض النساء تجري على الساللم مثل‬ ‫األطفال محدثة صوتًا ال يليق بالمرأة المسلمة المهاجرة التي تحافظ‬ ‫على الدين‪ ..‬وهنا ابتسمت زوجته ابتسامة صفراء لعينة‪.‬‬

‫الشيخة قبل أن تهاجر إلى أفغانستان كانت قد أنجبت ً‬ ‫طفل اسمه‬ ‫زهرالدين وطفلة اسمها فاطمة‪ ،‬وعندما هاجرت تركتهم لجدتهم‪،‬‬ ‫والدة والدهم‪ ،‬فتربوا عندها ولم يعودوا يعرفوا عن أمهم شي ًئا‪.‬‬ ‫زهرالدين عمره خمس سنوات وفاطمة تصغره بسنة‪ ،‬وعندما رافقونا‬ ‫في رحلتنا إلى الجزائر ثم المغرب كان الطفالن ال يميالن لوالدتهما‬ ‫كثيرا‪ ،‬فهما ال يعرفانها بالقدر الكافي‪ ،‬بينما كان لديها طفالن أنجبتهما‬ ‫ً‬ ‫في أفغانستان‪ ،‬أحدهم يدعى صالح والثاني محمد‪ ،‬وهي تميل لهما‬ ‫أكثر وتهمل اآلخرين‪.‬‬

‫‪39‬‬



‫(‪)7‬‬ ‫في شهر يونيو ‪1989‬م وصلنا الدار البيضاء عبر القطار الذي‬

‫استبدلناه في وجدة‪ ،‬كان يرافقنا باإلضافة إلى الشيخ خليفة وعائلته‪،‬‬

‫محمود إدريس الذي كان قد عاد من ليبيا ولحق بناء في الجزائر‪.‬‬ ‫ونظرا‬ ‫سكنّا فند ًقا ال أذكر اسمه‪ ،‬ولكنه يقع في شارع درب عمر‪،‬‬ ‫ً‬

‫الرتفاع سعر اإلقامة انتقلنا لإلقامة في فندق أرخص‪ ،‬واستمرت‬ ‫إقامتنا لمدة شهر تقري ًبا‪.‬‬

‫اتصلنا بالشيخ مصطفى الشرقي الذي كنا نحمل توصية له من‬

‫أحد األشخاص الذي التقيناهم بالجزائر لالهتمام بناء‪ ،‬واستقبلنا‬

‫الرجل بحفاوة بالغة‪ ،‬والشيخ مصطفى كان مقرئ قرآن قدير وشيخ‬ ‫ومتزوجا بزوجتين‪ ،‬ومعرو ًفا‬ ‫دين من طراز رفيع‪ .‬كان كفيف البصر‬ ‫ً‬

‫أيضا اتصلنا باألخ محمد‬ ‫في كل المملكة الغربية بمعارضته للسلطة‪ً ،‬‬ ‫المر‪ ،‬وهو من رجال األعمال المغاربة‪ ،‬وكان ً‬ ‫وشهما‬ ‫كريما‬ ‫رجل‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫كثيرا فيما بعد‪.‬‬ ‫ومضيا ًفا‪ ،‬وساعدنا ً‬

‫‪41‬‬


‫بواسطة هذان الرجالن انتقلنا للسكن في شقة بحي الصدري‪،‬‬ ‫كانت تتكون من ثالث غرف‪ ،‬سكنت وزوجي غرفة‪ ،‬والشيخة‬ ‫وزوجها الغرفة الثانية‪ ،‬أما الثالثة فسكن فيها محمد إدريس‪ .‬وما لبث‬ ‫أن التحق بناء آخرون ومنهم شخص يدعى فوزي‪ ،‬وهو ضابط ليبي‬ ‫سابق وصل إلى المغرب بعد أن عبر الحدود الجزائرية المغربية عن‬ ‫طريق البر‪ .‬وأذكر أنه عندما وصلنا كان يرتدي مالبس داخلية فقط‪،‬‬ ‫ويضع فوق جسمه غطاء‪ ،‬وحالته كانت يرثى لها‪ ،‬والتحق بناء عبدالله‬ ‫وأيضا خالد أبوقيلة‪ ،‬وكان مصا ًبا بالصرع‪،‬‬ ‫بعد أن تزوج من سالمة‪ً ،‬‬ ‫وأحمد أبوعجيلة وزوجته كريمة‪.‬‬ ‫نقسم السكن بين الرجال والنساء‪ ،‬فسكنّا‬ ‫عندما كثر العدد أصبحنا ّ‬ ‫نحن النساء غرف ًة‪ ،‬والرجال غرف ًة‪ ،‬والغرفة الثالثة استعملت للمبيت‬ ‫العائلي بحيث يتناوب على سكنها عائلة في كل ليلة‪ ،‬عدا أنا وزوجي‬ ‫لم نسكنها‪ ،‬ألن زوجي كان كثير السفر والمبيت خارج البيت بسبب‬ ‫كثيرا‪.‬‬ ‫اشتغاله بالتجارة بين المغرب والجزائر وكان يغيب ً‬

‫وغسالة ألفراد المجموعة الذين‬ ‫تحولت في هذا البيت إلى ط ّباخة ّ‬ ‫ال يخرجون من البيت‪ ،‬فكنت أطبخ وأغسل المالبس والصحون‪ ،‬فالشيخة‬ ‫ال تعمل هذه األعمال‪ ،‬وسالمة ال تعرف الطبخ‪ ،‬وكريمة انتقلت إلى شقة‬ ‫أخرى وسكنت لوحدها مع زوجها ألنه ال يريدها أن تخدم اآلخرين‪.‬‬ ‫قلت للشيخة خديجة يو ًما‪ :‬لماذا ال تساعديني في طهي وجبة‬ ‫الغذاء؟ فالمجموعة كثيرة وتحتاج إلينا جمي ًعا لكي نقوم بالطهي‬ ‫وتنظيف األواني وغسيل المالبس‪.‬‬ ‫‪42‬‬


‫فر ّدت أنا ال ألوث يدي ومالبسي بالطهي والصابون وغسيل‬ ‫األواني‪ ..‬استغربت منها ذلك وقررت أنا نفسي أن أتوقف عن مثل‬ ‫هذه األعمال‪ ..‬وأخبرت زوجي بما حدث‪ ،‬ولكنها هي أيضا أخبرت‬ ‫فتقرر عقد جلسة لمناقشة الموضوع‪ ،‬وتحدثت‬ ‫زوجها الشيخ خليفة‪ّ ،‬‬ ‫الشيخة وكانت تكذب في سرد ما حدث‪ ،‬والغريب في األمر تصديقها‬ ‫من قبل زوجي وزوجها‪ ..‬وقال لي زوجها‪ :‬لو قيل لي إن أمك تكذب‬ ‫لصدقت‪ ..‬أم أن يقولوا لي الشيخة تكذب فلن أصدق‪ .‬عندما وصل‬ ‫األمر به إلى هذا الحد لم أعد أشكو‪.‬‬

‫عندما كثر العدد تضايق أصحاب الشقة وتخوفوا ألنهم كانوا‬ ‫أيضا‪ ،‬فطلبوا منا أخالئها بعد خمسة أشهر‪ ،‬فانتقلنا إلى‬ ‫متدينين هم ً‬ ‫بيت يقع في حي األلفة‪ ،‬وفي هذا البيت كثرت المشاكل بيننا نحن‬ ‫دائما إما بسبب الطبخ والغسيل أو األوالد‪،‬‬ ‫النسوة‪ ،‬والمشاكل كانت ً‬ ‫وكذلك بعض المشاكل نتيجة الغيبة والنميمة‪.‬‬ ‫كثيرا ما تشكوني لزوجي والشيخ خليفة‪ ،‬وكانوا‬ ‫لقد كانت الشيخة ً‬ ‫جارحا ويبينون لي محاسن‬ ‫دائما يحضروني أمامها ويسمعوني كال ًما‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫تلك السيدة التي لم أر فيها أي حسنة تذكر‪ ،‬سوى ما تفعله في حقي‬ ‫من إساءات‪ ..‬إن كان ذلك حسن ًة في نظرهم‪.‬‬

‫غادرنا محمد إدريس عائدً ا إلى ليبيا بعد أن سئم الحياة في‬ ‫المغرب‪ ،‬وتأكد من إنه أصبح غير مطارد في ليبيا‪ ،‬ففي اعتقادنا‬ ‫دائما إننا لم نفعل شي ًئا ضد النظام‪ ..‬وعندما أقلعت الطائرة التي‬ ‫ً‬ ‫استقلها محمد إدريس وصلتنا في المساء رسالة من بنغازي تحذرنا‬ ‫‪43‬‬


‫من العودة ألنهم يبحثون عنا‪ ،‬وتم تصنيفنا على أننا زنادقة وخطر‬ ‫على المجتمع‪ ،‬وأستقبل محمد إدريس في المطار وأودع السجن‬ ‫ولم نلتق به بعد ذلك‪ ،‬وال أعلم عنه شي ًئا‪.‬‬

‫الرسالة التي وصلتنا وتحذرنا من التفكير في العودة إلى ليبيا زادت‬ ‫من مشاكلنا النفسية وتخوفنا من إننا أصبحنا مطاردين ً‬ ‫فعل‪ ،‬قبل أن‬ ‫تصلنا رسالة التحذير والتي ال أعرف مرسلها‪ ،‬إذ لم توقع باسم شخص‬ ‫بعينه بل كانت مجهولة المرسل‪ ،‬ومع ذلك أصيب أفراد المجموعة‬ ‫بالرعب والفزع وتألمنا لما انتهى إليه محمد إدريس‪.‬‬

‫أشار أحد األخوان على زوجي بأن يرحل بي إلى مكان آخر ويترك‬ ‫هذا البيت‪ ،‬وهنا انتقلت للسكن في فندق من جديد برفقة كريمة‬ ‫وزوجها عبدالله‪ ،‬أما باقي المجموعة فتم تدبير تذاكر سفر لهم للسفر‬ ‫عن طريق قبرص وكانت خطتهم النزول في قبرص‪ ،‬وطلب اللجوء‪.‬‬ ‫وفي مطار الرنكا حاولوا مغادرة الطائرة ولكن الشرطة القبرصية‬ ‫رفضت نزولهم وتم تسفيرهم إلى بنغازي مباشرة‪.‬‬ ‫تم القبض عليهم جمي ًعا وهم الشيخ خليفة وزوجته الشيخة‬ ‫(ديجالون) وأبنائهم وأحمد أبوعجيلة وزوجته سالمة‪ ،‬وال أذكر من‬ ‫كان معهم‪ ،‬وصلتنا األخبار من خالل مصطفى قرجي‪ ..‬عند القبض‬ ‫عليهم تأثرنا جدً ا لما أصابهم خاصة الشيخة بالرغم مما لحقني منها‬ ‫من أذى وبالرغم من العالقة السيئة التي ربطتنا‪.‬‬ ‫لقد كان الشيخ خليفة والمجموعة متأكدين من نجاح خطتهم‬ ‫التي وضعوها بترك الطائرة في مطار الرنكا وطلب اللجؤ السياسي‬ ‫‪44‬‬


‫أو اإلنساني‪ ،‬ولكن السلطات القبرصية لم تمكنهم من ذلك‪ ،‬أو أن‬ ‫هناك من أوشى بهم للسلطات الليبية التي تدخلت لتغيير وجهتهم‪،‬‬ ‫غامضا لدينا حتى اآلن‪.‬‬ ‫فاألمر ال يزال‬ ‫ً‬

‫بقدر ما تألمت لموضوع القبض على الجماعة في قبرص غير أن‬ ‫فرحتي بالقبض على الشيخة كتمته في صدري ولم أستطيع البوح‬ ‫وكثيرا ما كنت أدعوا الله أن نفترق‬ ‫به ألحد‪ ،‬فالشيخة كانت تؤذيني‬ ‫ً‬ ‫ويخلصني منها‪.‬‬

‫عدنا للسكن بالشقة في حي األلفة مع سالمة وزوجها عبدالله‪..‬‬ ‫سالمة هذه كانت امرأة طيبة جدً ا وهادية وحقيقة عشت معها أيا ًما لم‬ ‫كثيرا ما كانت الشرطة المغربية‬ ‫تحدث بيننا أي مشاكل‪ ،‬في هذه الشقة ً‬ ‫تأتي إلينا في أوقات مختلفة وكانوا يطمنوننا بأنه لن يلحقنا األذى‬ ‫ولن يتم تسليمنا إلى ليبيا فنحن في بلد األمان‪.‬‬

‫ثم سرعان ما انتقلنا للسكن بشقة في حي السالم‪ ،‬و بدأ يتسلل‬ ‫إلينا بعض األشخاص من جديد‪ ،‬وأحضروا معهم بعض المال‪..‬‬ ‫كثيرا ما يحضر رجال الشرطة‪ ،‬وعندما تحضر‬ ‫وفي حي السالم كان ً‬ ‫الشرطة يقفز الرجال من النوافذ ويصيبني الخوف والفزع والرعب‪،‬‬ ‫وما أن تذهب الشرطة حتى يعود الجميع إلى أماكنهم‪.‬‬

‫كانت الوجبات التي نتناولها في المغرب عبارة عن عدس وفول‬ ‫نادرا ما نحصل على وجبه بها لحم‪ ،‬فظروفنا المادية كانت‬ ‫وأرز‪ ،‬وكنا ً‬ ‫صعبة‪ ..‬وأصبحنا نقتصد في الصرف‪ ..‬والمجموعة كانت كبيرة لذلك‬ ‫حدثت مشاكل بسبب عدد الرجال بين زوجي وعبدالله الذي أنجبت‬ ‫‪45‬‬


‫زوجته طفلة‪ ،‬فانتقلت للسكن بالشقة العلوية مع مجموعة الرجال‬ ‫وبقت سالمة وزوجها في الشقة السفلية‪.‬‬

‫أنجبت ابنتي الثانية في بداية سنة ‪1990‬م وغادرنا جميع أفراد‬ ‫المجموعة‪ ،‬فمنهم من سافر إلى مصر ومنهم من عاد إلى ليبيا‪ ..‬المهم‬ ‫بقيت وزوجي فقط‪ ،‬وهنا بدأ الخوف يدب في أوصالي‪ ،‬وأصبحت‬ ‫كبيرا‪.‬‬ ‫ال أستطيع النوم فسفر المجموعة ترك لدينا فرا ًغا ً‬

‫دائما وخاصة عندما أخلو بنفسي أفكر في شخصية الشيخة‬ ‫كنت ً‬ ‫خديجة وكنت أعتقد بأنها ستعطي عنا المعلومات كاملة للسلطات في‬ ‫سبيل مصلحتها ومصلحة زوجها وأبنائها وعشت في خوف ورعب‪.‬‬

‫‪46‬‬


‫( ‪)8‬‬ ‫ال أعلم كيف وجدت نفسي فجاءه برفقة زوجي وبناتي وعبدالله‬ ‫وزوجته في البرتغال‪ ،‬فقد سافرنا في طائرة حطت بناء في لشبونة‪ ،‬وكنا‬ ‫ننوي طلب اللجؤ السياسي هناك غير إن األمن البرتغالي لم يوافق‬ ‫على دخولنا فحجزنا في المطار‪ ،‬وضعت وبناتي وكريمة في غرفة‬ ‫كبيرة وطويلة جدً ا‪ ،‬وحجز زوجي وعبدالله مع عدد كبير من الرجال‪،‬‬ ‫وبعد خمسة أيام تمت إعادتنا إلى المغرب‪ ،‬وعند نزولنا في مطار‬ ‫الدار البيضاء سلمت جوازاتنا إلى رجال الشرطة‪ ..‬أصابني خوف‬ ‫شديد‪ .‬لقد كانت تربض طائرة ليبية ستقلع بعد ساعة‪ ،‬كنت أعتقد بأن‬ ‫الشرطة ستضعنا على الطائرة المسافرة إلى طرابلس‪ ،‬غير إن الشرطة‬ ‫أعادت لنا جوازاتنا‪ ،‬ولكنهم أعلمونا بالبحث عن حل لمشكلتنا‪.‬‬ ‫عدنا إلى السكن بالفنادق هذه المرة‪ .‬سكنا فند ًقا بوسط الدار‬ ‫البيضاء يطلق عليه لوزان ومكثنا به ثالثة أيام ثم انتقلنا للسكن في‬ ‫شقة بوسط البلد‪ ،‬كنا قد حملنا أمتعتنا وحقائبنا وانتقلنا إلى الشقة‪،‬‬ ‫وال أذكر اآلن الشيء الذي نسيناه بالفندق حتى جعل زوجي يعود‬ ‫‪47‬‬


‫إلحضاره‪ ،‬وعندما كان يهم بمغادرة الفندق التقى بأخي الذي كان‬ ‫يبحث عنا ووصل لتوه للسكن بنفس الفندق كانت صدفة غريبة‪.‬‬

‫أيضا هي التي جعلت أهلي يعرفون أنني في المغرب‪،‬‬ ‫الصدفة ً‬ ‫فبعد مضي سنتين ال يعرفون عنا شي ًئا‪ ،‬ولم تصلهم أخبارنا‪ ،‬أرسلت‬ ‫برسالة لم أذكر فيها مكاننا ولكني كنت قد التقطت صورة البنتي وهي‬ ‫ترتدي حذاء (كاويش) له شكل مميز‪ ،‬وأرسلت الصورة إلى أهلي في‬ ‫بنغازي‪ ..‬شبيه الحذاء كان يرتديه أحد أطفال جيراننا‪ ،‬وعندما سألوا‬ ‫والده عن المكان الذي أحضر منه الحذاء عرفوا إنه من المغرب‬ ‫فسافر أخي للبحث عنا‪.‬‬

‫كان بالنسبة لي شيء رائع أن ألتقي بأحد أفراد أسرتي بعد هذا‬ ‫العناء والسفر الطويل والغربة‪ ،‬خاصة وأنني لم أعلم بوصول أخي‬ ‫بطريقة سلسة وسهلة‪ ،‬فقد سمعت كريمة‪ ،‬وهي تقول لزوجها سوف‬ ‫متوجس ًة‪ ،‬وحدثتني‬ ‫تموت عندما تعلم‪ ،‬لقد شعرت بالخوف‪ ،‬كنت‬ ‫ّ‬ ‫نفسي على إن شي ًئا ما سيحدث‪ ،‬ربما ستسلمنا السلطات المغربية‪،‬‬ ‫أو أن أحدً ا ما من أهلي أصابه مكروه في بنغازي‪.‬‬

‫دخلت المطبخ وقفلت الباب أنتظر ما سيحدث عندما أعلم‪،‬‬ ‫وقفت خلف الباب متكئة‪ ،‬وعندما بدأ زوجي بدفع الباب من الخارج‬ ‫كنت أدفعه من الداخل‪ ،‬ولكن عندما فتح الباب وجدت أخي يقف‬ ‫صراخا بصوت ٍ‬ ‫ً‬ ‫عال وأصابتني الدهشة‬ ‫أمامي‪ ،‬لقد مألت البيت‬ ‫والفرح في آن واحد‪ .‬لم أستطيع أن أخفي فرحتي باللقاء‪.‬‬

‫تعرض أهلي لكثير من المتاعب بحجة‬ ‫عندما غادرت بنغازي ّ‬ ‫‪48‬‬


‫تعرض‬ ‫انتمائي لجماعة التكفير والهجرة‪ ،‬وكان شقيقي أكثر من ّ‬ ‫لذلك‪ ،‬فقد كان يملك شاحنة يعمل بها في نقل البضائع من الميناء‪..‬‬ ‫تصوروا كانوا ال يشحنون البضائع على سيارته بحجة إن شقيقته‪،‬‬ ‫والمقصودة طبعا أنا‪« ..‬زنديقة»‪ .‬حتى إن أهلي عندما كنت أتصل‬ ‫بهم كانوا ال يردون على الهاتف‪ ،‬وأصبح االتصال بهم يجلب عليهم‬ ‫وكثيرا ما تعرضوا لالستدعاء والتحقيق‪.‬‬ ‫الكثير من المشاكل‪،‬‬ ‫ً‬

‫غادرنا شقيقي الخميس‪ ،‬ولكنه عاد الخميس التالي وبرفقته‬ ‫أيضا‪ ،‬كنا قد‬ ‫والدتي‪ .‬شيء رائع آخر هذا الشهر أن أرى والدتي ً‬ ‫استبدلنا الشقة بشقة أكبر منها خالل األسبوع الذي غادرنا فيه شقيقي‬ ‫وعندما عرفت إن والدتي ستزورنا‪.‬‬

‫كانت الشقة مفروشة في شارع الجيش الملكي في الدور الخامس‬ ‫ووصلت والدتي وشقيقي ووصل قريب عبدالله رفيقنا‪ ،‬وخالل‬ ‫األيام التي كانت والدتي معنا تتلمسني وتتأكد من أنني الزلت على‬ ‫قيد الحياة لقد كنت بالنسبة لها قد انتهيت‪.‬‬

‫كانت والدتي تستيقظ ليال لتتأملني وأنا نائمة‪ ،‬وعندما أشعر‬ ‫بها وأسالها تقول إنها ال زالت ال تصدق بعد‪ ،‬وتشعر إن ما يحدث‬ ‫مجرد حلم‪.‬‬

‫غادرتنا والدتي بعد أسبوع فقررنا ترك الشقة المفروشة واالنتقال‬ ‫فكثيرا ما نسمع دقات على‬ ‫إلى مكان آخر‪ .‬لقد كانت الشقة شبه ًة‪،‬‬ ‫ً‬ ‫الباب من قبل كثير من العاهرات وبنات الليل‪ ،‬فأصابني الخوف‬ ‫والفزع‪ ،‬لذا انتقلنا إلى فندق البرنس موالي عبدالله‪ ،‬وسكناه لمدة‬ ‫‪49‬‬


‫ثالثة أشهر‪ ،‬وزارني في هذا الفندق شقيقي األكبر‪ ،‬وعند زيارته‬ ‫تلك أعطاني مئتي دوالر‪ ..‬لقد كنت بحاجة ألي مبلغ أساعد به‬ ‫نفسي وبناتي‪.‬‬

‫في هذا الفندق كنا نشتري الوجبات الجاهزة‪ ،‬وال نستطيع طهو‬ ‫صغيرا وأدوات طهي‪ ،‬ولكن‬ ‫الطعام‪ ،‬بالرغم من أننا اشترينا موقدً ا‬ ‫ً‬ ‫كانت أمورنا تتدبر بطريقة غريبة‪ ،‬وأعجز اآلن عن معرفة كيف كانت‬ ‫تسير أمورنا المالية‪.‬‬

‫قرر مختار وزوجته السفر إلى مصر وانتقلنا لإلقامة بفندق آخر‪،‬‬ ‫وتعرفنا على عائلة بن جلول الذين عاملونا باحترام شديد وبتميز‬ ‫وساعدونا كثير‪.‬‬

‫مختار شاب أصله من الزاوية التقيته في الدار البيضاء يحكي‬ ‫قصته‪ ..‬قال كنت طال ًبا في السنة الثانية ثانوي عندما استدرجني وبعض‬ ‫شرطي كان يلتقي بناء ألخذ بعض الدروس في الدين‪ ..‬وذات‬ ‫الشباب‬ ‫ّ‬ ‫يوم سمعنا أن الشرطي سرق بندقية وتم القبض عليه‪ ..‬أصابني الخوف‬ ‫مما يحدث‪ ،‬التقيت أنا واثنان من الرفاق أن نهرب إلى تونس‪ .‬تد ّبر كل‬ ‫منّا مبل ًغا من المال‪ ،‬واشترينا بالمبلغ دوالرات‪ ،‬وغادرنا إلى تونس‬ ‫وعندما وصلنا ذهبنا الستبدال العملة فوجدنا أنها كانت مزورة‪ ،‬فعدنا‬ ‫إلى الزاوية وذهبنا إلى تاجر العملة واسترجعنا المبلغ‪.‬‬ ‫لم نعد إلى بيوتنا وذهبنا إلى محطة سيارات األجرة في جامع‬ ‫أبورقيبة‪ ،‬ومن هناك توجهنا إلى بنغازي ومنها إلى مصر‪ ،‬وعندما‬ ‫وصلنا إلى اإلسكندرية قبضت علينا السلطات المصرية وسلمتنا إلى‬ ‫‪50‬‬


‫المخابرات الليبية في طبرق وأودعنا السجن هناك‪ ،‬وبت ليلة واحدة‬ ‫وفي الليلة الثانية قفزت من السور وذهبت إلى البيضاء‪.‬‬

‫بقيت في البيضاء عند أحد األصدقاء‪ ،‬ثم رجعت إلى طرابلس‬ ‫وبقيت في الهضبة عند صديق آخر‪ ،‬ثم فتحت ً‬ ‫محل لبيع الفواكه‬ ‫والخضروات على ناصية الشارع لمدة سنة‪ ،‬وعندما جمعت مبل ًغا‬ ‫تزوجت وغادرت إلى تونس ثم إلى المغرب‪.‬‬ ‫من المال ّ‬

‫ً‬ ‫طويل في هذا الفندق فسرعان ما سكنا شقة بحي‬ ‫لم تستمر إقامتنا‬ ‫الزرقطوني‪ .‬زارنا في هذه الشقة شقيق زوجي الذي التقى بشخص‬ ‫كثيرا‪،‬‬ ‫يدعى منصور إسماعيل‪ .‬كان على معرفة به وتعلق به زوجي ً‬ ‫ً‬ ‫وفعل‬ ‫فأشار على زوجي بإرسال بضائع إلى ليبيا والعمل بالتجارة‬ ‫أرسل زوجي بضائع هي عبارة عن أوني شاي وأدوات زينة‪ ،‬ولكن‬ ‫كانت نتيجة هذه التجربة خسارة فادحة مني بها زوجي‪ ،‬إذ لم يستطيع‬ ‫حتى استرداد رأسمال البضائع فقد حصل منها على مبلغ بسيط فقط‪.‬‬ ‫بقينا فترة من الوقت حتى أشار علينا بعض األصدقاء المغاربة‬ ‫بمحاولة الهجرة إلى هولندا وطلب اللجؤ السياسي هناك بالتنسيق‬ ‫مع محا ٍم مقيم بهولندا‪ ،‬وقمنا بشراء تذاكر السفر وقررنا الرحيل عن‬ ‫المغرب‪.‬‬

‫‪51‬‬



‫(‪)9‬‬ ‫كنا قبل سنتين وعند وصولنا إلى المغرب قد قدمنا طلب اللجوء‬ ‫إلى منظمة اليونيسيف‪ ،‬وهي منظمة للطفولة تتبع األمم المتحدة‪،‬‬ ‫كثيرا مكتبهم بالدار البيضاء ولكن دون جدوى‪،‬‬ ‫غير إننا راجعنا ً‬ ‫وعند تجولنا لشراء بعض الحاجيات لحملها معنا إلى هولندا مررنا‬ ‫بالمكتب بطريق الصدفة‪ ،‬فقال زوجي لنعرج على المكتب ربما‬ ‫نجد أخبار جديدة‪ ،‬وعند دخولنا المكتب استقبلتنا المرأة المسئولة‬ ‫دائما بشي‬ ‫عن المكتب بابتسامة عريضة وهي التي كانت تستقبلنا ً‬ ‫كثيرا؟‪ .‬كنا‬ ‫من الوجوم وبادرت بالسؤل‪ :‬أين أنتم؟ لقد بحثنا عنكم ً‬ ‫كثيري التن ّقل وتغيير محل اإلقامة وعجزوا عن الوصول إلينا وإبالغنا‪.‬‬

‫قالت لنا تلك المرأة‪ ،‬والتي أعتقد إن اسمها كان مريم جلول‪ :‬لقد‬ ‫تمت الموافقة بمنحكم حق اللجوء لكم فقط من بين كل الذين تقدموا‬ ‫عبر مكتبنا‪ ..‬وهنا غمرتنا الفرحة المذهلة‪ ،‬وأردفت في الحديث‪،‬‬ ‫أيضا على تخصص مرتب شهري بقيمة ألف وخمسمائة‬ ‫وقد وافقوا ً‬ ‫درهم مغربي‪.‬‬ ‫‪53‬‬


‫وأخيرا نستطيع أن نعيش بحرية بعد كل‬ ‫كانت فرحتنا ال تقدر‪،‬‬ ‫ً‬ ‫أخيرا نستطيع أن نتنفس هوا ًء نق ًيا ونخرج‬ ‫هذه السنين من الخوف‪ً ،‬‬ ‫إلى الهواء الطلق متى أحببنا وبال قيود‪.‬‬ ‫في الحقيقة لم تكن هناك قيود على تحركاتنا خالل إقامتنا في المغرب‪،‬‬ ‫ولكن سيطرت علينا قيود داخلية هي الخوف من كل ما هو غريب‪ ،‬فقد‬ ‫كنا نتحرك بحذر شديد وننتقل من سكن إلى سكن زيادة في الطمأنينة‪.‬‬

‫شرحت لنا الموظفة كيف يمكننا أن نستكمل باقي اإلجراءات‬ ‫وإن هذا الحق في اللجوء يتوقف على موافقة إحدى دول العالم‬ ‫على استقبالكم كالجئين سياسيين‪ ،‬وهذا سوف يأخذ بعض الوقت‪.‬‬ ‫لم أستطيع الصبر على شكر السيدة مريم جلول المديرة المسؤلة‬ ‫عن مكتب اليونيسيف التابع لألمم المتحدة‪ ،‬وذهبت مسرعة إلى محل‬ ‫لبيع أدوات الزينة واشتريت لها زجاجة عطر ثمينة قدمتها لها كهدية‬ ‫وشكر على المجهود الذي قامت به لحصولنا على هذه الموافقة‪.‬‬ ‫عدنا يومها إلى البيت وألغينا الرحلة التي كنا نزمع القيام بها إلى‬ ‫هولندا‪ ،‬فماذا نريد بهولندا ونحن حصلنا على موافقة حق اللجوء‬ ‫ومن منظمة عالمية معترف بها في جميع أنحاء العالم‪ ،‬وزيادة على‬ ‫ذلك ُخ ّصص لنا مرتب شهري‪.‬‬

‫انتقلنا للسكن في شقة بحي بيسجور‪ ،‬وهنا زارنا أهل زوجي ألول‬ ‫مرة منذ مغادرتنا بنغازي وعادت والدتي لتزورني عندما أنجبت ولدي‬ ‫األول في هذا البيت‪.‬‬ ‫‪54‬‬


‫كثيرا‬ ‫وفتح بيتنا من جديد الستقبال أفراد المجموعة الذين ً‬ ‫ما ترددوا على بيتنا‪ ،‬وأقام معنا في نفس البيت عبدالرحيم‪ ،‬وعاد‬ ‫مختار‪ ،‬كما عاد عبدالله وزوجته وسكن في شقتنا بعد أن سجن‬ ‫بمصر لمدة أربع أشهر‪.‬‬ ‫روى لنا عبدالله كيف قبض عليهم األمن المصري الذي اقتحم‬ ‫شقتهم ونقلهم إلى السجن‪ ،‬ومظاهر التعذيب في السجون المصرية‪،‬‬ ‫والتي كانت واضحة على جسد عبدالله‪.‬‬

‫بعد خمس أشهر من اإلقامة بشقة بيسجور عجزنا عن دفع‬ ‫ونظرا لظروف زوجي‪ ،‬وكثرة‬ ‫اإليجارات‪ ،‬كانت إيجاراتها مرتفعة‬ ‫ً‬ ‫المترددين على البيت والمجموعة التي تسكن معنا لم نستطع اإليفاء‬ ‫باإليجارات في الوقت المناسب‪ ،‬لذا قررنا استبدال الشقة بأخرى‬ ‫أرخص وانتقل معنا للسكن بها ناجي وعبدالرحيم وال أدري أين‬ ‫انتقل عبدالله وزوجته ومختار‪.‬‬ ‫استقرينا في السكن بهذه الشقة‪ ،‬وهي قريبة من حي بيسجور‬ ‫لمدة ثالث سنوات‪ ،‬عرفنا االستقرار والراحة وبدأ زوجي يعمل‬ ‫بالمقاوالت مع عائلة بن جلول وانتظم أطفالي في مدارس خاصة‪.‬‬

‫كانت هذه الفترة الوحيدة التي شعرت فيها باألمان ولم أعد أشعر‬ ‫بالخوف من رؤية ليبي يسير وسط شوارع الدار البيضاء‪ ،‬وأصبحت‬ ‫وكثيرا ما كان يقصدنا‬ ‫حياتنا مستقرة وتحسنت أوضاعنا المادية‪،‬‬ ‫ً‬ ‫بعض األخوان من ليبيا لإلقامة فترات قصيرة في بيتنا‪ ،‬وكنا نستقبل‬ ‫الجميع دون استثناء‪.‬‬ ‫‪55‬‬


‫زوارنا في تلك الفترة كان ً‬ ‫رجل يدعى علي‪ ،‬زارنا بسيارته‬ ‫أحد ّ‬ ‫ومكث عندنا فترة يتنقل مع زوجي‪ ،‬ويوم أن انتوى مغادرتنا طلب‬ ‫مقابلتي للسالم‪ ،‬وقال إن رؤية هذه السيدة عندي بالدنيا ولكنه لم يرني‬ ‫مع ذلك‪.‬‬

‫كبيرا من‬ ‫غادرنا وكان زوجي قد وضع تحت كرسي السيارة مبل ًغا ً‬ ‫المال ونسيه ولم يذكره‪ ،‬حتى وصل األخ علي إلى البوابة الفاصلة‬ ‫بين الجزائر والمغرب‪ ،‬ويطلق عليها جوز بغال‪ ،‬أوقفته الشرطة‬ ‫المغربية وعند تفتيشه وجدت المبلغ فصادرته وصادرت السيارة‬ ‫واتهم الرجل بالتهريب‪.‬‬

‫ذهب زوجي إلى السلطات المغربية وأخبرهم بأن مبلغ المال‬ ‫يخصه‪ ،‬ولكن دون جدوى فقد صودر المبلغ وصودرت سيارة‬ ‫الرجل‪.‬‬ ‫بعد هذه الفترة الطويلة من االستقرار انتقلنا للسكن في حي جميلة‬ ‫‪ 7‬في شقة أكبر من سابقتها‪ ،‬كنت على وشك أن أنجب فاخترنا أن‬ ‫ننتقل إلى شقة أوسع حيث سنستقبل األهل من ليبيا‪.‬‬

‫وأنجبت ابنتي الثالثة وزارنا أهل زوجي من جديد ثم دخلت‬ ‫المستشفى وأجريت لي عملية جراحية على الزائدة الدودية‪ ،‬وعادت‬ ‫والدتي لتزورني للمرة الثالثة‪ ،‬وكانت هذه المرة ترافقها شقيقتي‬ ‫الكبرى وألول مرة‪.‬‬ ‫كثيرا بالغربة فقد أصبحت أرى أهلي تبا ًعا‪ ،‬وامتأل‬ ‫لم أعد أشعر ً‬ ‫‪56‬‬


‫بيتي بثالث بنات وولد‪ ،‬وزائرونا من ليبيا‪ .‬كنت أصاب بالتذمر عندما‬ ‫ال يشاركنا أحد في السكن حتى أننا أصبحنا نبحث عمن يسكن معنا‪.‬‬ ‫في أحد األيام أتصل بناء شخص ليخبرنا عن وجود أحد الليبيين‬ ‫ويدعى أحمد وعائلته بمدينة طنجة‪ ،‬وهم ال يملكون أجرة البيت‬ ‫الذي يسكنونه‪ ،‬فأرسل له زوجي مبل ًغا من المال سدّ د به اإليجارات‬ ‫المتراكمة وترك البيت وحضر لإلقامة في بيتنا‪.‬‬

‫‪57‬‬



‫( ‪) 10‬‬ ‫كثيرا‪ ،‬بل لم يكن يتر ّدد في ما يفعله‪ ،‬وهو‬ ‫زوجي كان ال يتكلم ً‬ ‫يتفحصه أو يتأكد منه‪ ،‬وهذا االستعجال‬ ‫يقدم على فعل الشيء قبل أن ّ‬ ‫كثيرا على حياتنا‪.‬‬ ‫بقدر ما هو حسنة فيه فإن ذلك قد أ ّثر ً‬

‫كريم ومضياف‬ ‫كان إنسانًا طي ًبا ومثق ًفا‪ ،‬وهو بدوي بطبيعته‪..‬‬ ‫ٌ‬ ‫ال يهمه أن يصرف كل ما بحوزته دون أن يفكر كيف يعيش بعد ذلك‪.‬‬ ‫كان يفتح بيته لكل من يطرق بابه ويجعل كل وقته في خدمة ضيوفه‬ ‫ال يفارقهم أبدً ا حتى أثناء النوم كان ينام مع الضيف الذي يشاركنا‬ ‫بيتنا‪ ،‬وبعض الضيوف استمرت إقامتهم معنا ألشهر‪.‬‬ ‫كان لطي ًفا مع أهله وجيرانه محبو ًبا منهم جمي ًعا إال من جارتهم‬ ‫وهي من حركة اللجان الثورية والتي يعتقد زوجي بأنها المرأة التي‬ ‫كانت سب ًبا في شقائه‪.‬‬

‫التقى زوجي تلك المرأة في الحج عام ‪1985‬م وكان برفقة والدته‬ ‫وبعض النسوة من أقربائه وجيرانه‪ ،‬وكان يخدمهم جمي ًعا دون استثناء‬ ‫‪59‬‬


‫فيوفر لهم حاجيتهم ويعمل على توفير الراحة لهم‪ ..‬ينقلهم ويطوف‬ ‫بهم ويسأل عنهم‪ ،‬يحضر لهم الطعام والماء حتى إن النسوة أصبحن‬ ‫يسألن عنه كلما تغيب أو ذهب لقضاء عمل ما مع أحد أصدقائه‪.‬‬

‫كل ذلك وجارتهم عضو الحركة تراقب ما يقوم به زوجي أثناء‬ ‫مفصل عنه إلى الجهات‬ ‫موسم الحج وعند عودتها قامت بكتابة تقرير ّ‬ ‫المختصة‪ .‬استدعى زوجي على أثر ذلك للتحقيق وأودع السجن لمدة‬ ‫شهرين أفرج عنه فيما بعد‪.‬‬

‫في السنة التالية كان زوجي يزمع السفر إلى العمرة وعند ذهابه‬ ‫إلى المطار قبض عليه وأودع التوقيف وتم تكليفه بالسفر إلى سوريا‬ ‫لنقل رسالة إلى أحد الليبيين المهاجرين هناك والمطلوبين من قبل‬ ‫األمن‪ ،‬وغ ّير زوجي وجهته وسافر إلى دمشق ليحمل تلك الرسالة‬ ‫ولكنه عاد ولم يسلم الرسالة ألنه لم يلتق بالمرسلة إليه‪.‬‬

‫بدأ زوجي يشعر بالخوف حينئذ وأصبح يبحث عن طريق للهجرة‬ ‫إلى خارج البالد‪ ،‬فحاول ً‬ ‫أول الهجرة من خالل تركيا التي سافرنا‬ ‫إليها ومكثنا فيها شهرين ونصف دون جدوى‪.‬‬

‫‪60‬‬


‫( ‪) 11‬‬ ‫مع بداية عام ‪1996‬م بدأت الشرطة المغربية تضايقنا من جديد‪،‬‬ ‫وال أعرف سب ًبا لذلك‪ ،‬فنحن نقيم في المغرب بناء على توصية من‬ ‫منظمة اليونيسيف وهي تسلم لنا رات ًبا شهر ًيا‪.‬‬

‫كانت الشرطة تتبعنا أينما ذهبنا وتستدعينا للتحقيق‪ ،‬وطلبوا منا‬ ‫رسم ًيا مغادرة المغرب‪ ،‬توجهنا إلى السيدة مريم جلول مدير مكتب‬ ‫اليونيسيف في الدار البيضاء فر ّدت علينا بأنها ال تستطيع فعل شيء‬ ‫مع السلطات المغربية‪ ،‬فالمنظمة التي تتبعها منظمة إنسانية وال تملك‬ ‫أن تجبر أي من الحكومات على قبولنا‪ ،‬ووعدتنا بمحاولة االتصال‬ ‫وإيجاد حل مناسب‪.‬‬

‫بدأ األمر يضيق بنا‪ ،‬والشرطة المغربية تض ّيق الخناق علينا‪ ،‬ويبدو‬ ‫أن هناك شيء ما يحدث على الساحة السياسية بين البلدين هو الذي‬ ‫حرك أمرنا‪ ،‬ووجهوا لنا اإلنذار النهائي بالمغادرة أو تسليمنا للسلطات‬ ‫الليبية‪ ،‬وازداد شعور الخوف ولم نجد أي حل نلجأ إليه سوى محاولة‬ ‫شراء جواز سفر مزور‪.‬‬ ‫‪61‬‬


‫كانت جوازات السفر التي بحوزتنا ليبية وانتهت صالحيتها‬ ‫وال تحتوي على أسماء األوالد المرافقين‪ ،‬فقمنا بتزوير إضافتهم‬ ‫لجوازي‪ ،‬غير إن الجواز منتهي الصالحية فأضفنا له صالحية‬ ‫مزورة‪ ،‬وعند مغادرتنا المغرب وضعنا فيه مبلغ من المال فسمحوا‬ ‫لنا بالمغادرة دون التأكد من صالحية الجواز من عدمه‪.‬‬ ‫أشار علينا أحد األصدقاء بأن هناك شخص ليبي يدعى أبو المهاجر‬ ‫يقوم بتزوير جوازات السفر ويمكنه أن يزور لنا جواز سفر سعودي‬ ‫بملغ ألفي دوالر‪.‬‬

‫وافقنا على ذلك ولكم أن تعرفوا كم عانينا من الخوف والفزع‪،‬‬ ‫فليس أمامنا إال هذه المحاولة‪ ،‬ولكن اشترطنا على من قام بتزوير‬ ‫الجواز بأننا سندفع له بعد أن نصل إلى الدولة التي نعيش فيها بأمان‪.‬‬

‫أزداد تضييق الخناق من قبل الشرطة المغربية فكانت تزورنا يوم ًيا‬ ‫تقري ًبا ثم أمرونا بالحضور إلى مركز الشرطة مرة كل أسبوعين لغرض‬ ‫خصيصا للتردد على مركز الشرطة‪.‬‬ ‫التوقيع في سجل أعد لنا‬ ‫ً‬

‫سئمنا األعمال االستفزازية التي كان يقوم بها رجال الشرطة‬ ‫الذين كانوا يحضرون إلينا دور ًيا ويطلبون منا المغادرة فقررنا مغادرة‬ ‫المغرب ولكن هذه المرة إلى سوريا‪.‬‬

‫وبعد مغادرتنا بأسبوع تقري ًبا وصل إلى بيتنا في المغرب والد‬ ‫زوجي يطرق على الباب مبعو ًثا من الحكومة الليبية ليطلب منا العودة‪،‬‬ ‫وعندما سمعنا بذلك ازداد الشعور بالخوف من المجهول وعرفنا إن‬ ‫الدولة الزالت ً‬ ‫فعل تبحث عنا وتالحقنا‪.‬‬ ‫‪62‬‬


‫( ‪) 12‬‬ ‫وصلنا مطار دمشق فوجدنا ترحي ًبا منقطع النظير‪ ،‬ولم ينتبه‬

‫األمن السوري لإلضافة المزورة لألبناء‪ ،‬وكان شخص ليبي يدعى‬

‫أبوعبدالله‪ ،‬وهو اسم حركي‪ ،‬ينتظرنا في المطار‪ ،‬ونقلنا على الفور‬ ‫لشقة بحي السيدة زينب‪ ،‬وكان ح ًّيا شعب ًيا يكثر به أتباع المذهب‬

‫الشيعي‪ ،‬ولكن لم استوعب الخوف والرعب الذي سيطر على‬

‫مشاعري منذ وطئت أقدامي مطار دمشق‪.‬‬

‫استمرت إقامتنا في دمشق ست أشهر لم يتعرض لنا أحد إال في‬

‫مناسبتين فقط‪ ..‬عندما حضر األمن السوري وطرق باب الشقة التي‬ ‫نسكنها وسألنا عن وضع إقامتنا ولكننا أجبناهم بأننا في رحلة سياحية‬

‫وسوف نغادر قري ًبا‪.‬‬

‫أقام معنا في الشقة أحد الليبيين من مدينة طرابلس‪ ،‬ويدعى‬ ‫عبدالرحمن‪ .‬كان ً‬ ‫رجل طي ًبا ومتدينًا وذا أخالق حميدة‪ ،‬ولما لم نسترح في‬

‫سوريا وساورنا شعور بالخوف قررنا السفر باستعمال الجواز السعودي‪.‬‬ ‫‪63‬‬


‫حجزنا تذاكر سفر مستخدمين لندن ترانزيت وعندما نصل إلى‬ ‫لندن نغادر الطائرة ونطلب حق اللجوء السياسي‪ ،‬وإذا ما فشلنا فسوف‬ ‫نواصل رحلتنا إلى الدار البيضاء المحطة األخرى‪ ،‬وهناك نتحجج‬ ‫بزيارة بعض األصدقاء والذين تم التنسيق معهم على استقبالنا‪.‬‬

‫كان يرافقنا عبدالرحمن إلى المطار لتوديعنا‪ ،‬وعندما بدأنا في‬ ‫إنها اإلجراءات شك األمن السوري في تزوير الجواز فأوقفنا وبدأ‬ ‫معنا التحقيق‪ ،‬وعاد عبدالرحمن ليخبر الجماعة بأنه قد قبض علينا‪.‬‬

‫ً‬ ‫طويل فقد وجدنا ضاب ًطا سور ًيا قال‬ ‫لم يستمر التحقيق معنا‬ ‫لزوجي بصوت ٍ‬ ‫عال‪:‬‬ ‫ـ هذا الجواز مزور قل أنت من أي بلد؟ وزاد صوته ارتفا ًعا‪ :‬تكلم‬ ‫أنت من وين؟ تك ّلم؟‬

‫وعندما هم زوجي باالعتراف بأنه ليبي‪ ..‬قال الضابط بصوت‬ ‫خفيض‪ :‬قل إنك عراقي‪ ..‬قل إنك عراقي‪ .‬وقذف بالجواز السعودي‬ ‫المزور نحوه وقال له‪ :‬أخرج‪ ..‬أخرج‪.‬‬ ‫خرجنا من المطار وعدنا مسرعين إلى المكان الذي كنا نسكنه‬ ‫بحي السيدة زينب فوجدنا عبدالرحمن قد وصل قبلنا بقليل وهو‬ ‫يقف في الشارع ويخبر اآلخرين بأنه ُقبض علينا ولما رآنا ننزل من‬ ‫السيارة أخذ يصرخ ويسجد إلى األرض‪.‬‬

‫طب ًعا الموضوع هكذا ال يمكن تصديقه أبدً ا‪ ..‬تقع بين يدي رجال‬ ‫األمن وبحوزتك جواز سعودي مزور ويطلق سراحك بهذه السهولة‪..‬‬ ‫‪64‬‬


‫هذا أمر ال يمكن أن يخطر على بال عبدالرحمن وال بال أحد غيره‪،‬‬

‫غير إن تلك الفترة كان العراقيون فيها يجوبون العالم هرو ًبا من نظام‬

‫الحكم عندهم‪ ،‬وكانت الدول العربية خاصة سوريا متعاطفة معهم‬ ‫ويساعدونهم‪ ،‬ومن الممكن أن يكون الضابط السوري قد عرفنا إننا‬

‫من ليبيا وإن حالتنا شبيهة بما يتعرض له المواطن العراقي‪ ،‬فهاله‬ ‫حالنا وافتعل حكاية «أنت عراقي» ليطلق سراحنا‪.‬‬

‫أحرارا بحي السيدة زينب بدمشق‪ ،‬وجاء شهر‬ ‫المهم أننا عدنا‬ ‫ً‬

‫رمضان الذي قضيناه هناك برفقة أبوعبدالله وزوجته التي تدعى أمال‪،‬‬

‫ومن المفارقات إننا لم نزرهم في بيتهم أبدً ا‪ ،‬فكانوا هم يحضرون‬ ‫إلينا‪ ،‬والسبب هو إن أبوعبدالله ال يريد أن يعرف أحد بيته خو ًفا من‬

‫اإلبالغ عنه‪.‬‬

‫انتقلنا إلى شقة أخرى بنفس الحي وبدأ البوليس السوري يزورنا‬

‫ويستفسر منا عن إجراءاتنا وإلى متى سوف تستمر إقامتنا‪ ،‬وكنا نجيبه‬ ‫بأننا سنسافر قري ًبا‪.‬‬

‫التقينا في دمشق بمجموعة من الليبيين قضينا شهر رمضان‬

‫أناسا طيبين ومحترمين‪ ،‬ومنهم مصطفى وعمر‬ ‫برفقتهم‪ ،‬وكانوا ً‬ ‫التجمع‪.‬‬ ‫وصالح وهم من مجموعة‬ ‫ّ‬

‫بعد انقضاء شهر رمضان قررنا السفر إلى كندا عن طريق ماليزيا‬

‫باستخدام جواز السفر السعودي ألن المواطن السعودي غير مطالب‬

‫بتأشيرة دخول إلى كندا‪.‬‬

‫‪65‬‬


‫سافرنا إلى عمان ومن هناك إلى كوااللمبور في ماليزيا‪ .‬وصلناها‬ ‫الثالثاء وكان في استقبالنا صديق يدعى أحمد نقلنا إلى بيته‪ ،‬ولما كانت‬ ‫زوجته نزيلة المستشفى في حالة والدة فقد كان البيت يتسعنا جمي ًعا‪،‬‬ ‫وقمت بزيارتها في المستشفى‪.‬‬

‫صباحا توجهنا‬ ‫بقينا في كوااللمبور األربعاء والخميس‪ ،‬والجمعة‬ ‫ً‬ ‫إلى المطار لمغادرته إلى كندا‪.‬‬

‫‪66‬‬


‫( ‪) 13‬‬ ‫بتنا ليلتنا األخيرة في كوااللمبور ننتظر ومغادرتها وتراودنا أحالم‬

‫بأن تنتهي مأساتنا في هذا العالم الواسع الذي أصبح يضيق بنا ويحشرنا‬

‫في زواياه المظلمة‪ ..‬نعيش ونحن نفترش حقائب سفرنا ونتكئ على‬ ‫وسائد محشوة بكذبة الحرية وحقوق اإلنسان‪.‬‬

‫أشرقت شمس صباح الجمعة‪ ،‬وموعد رحلتنا إلى كندا عند‬

‫جاهزا إلتمام إجراءات المغادرة‪،‬‬ ‫الظهيرة‪ ،‬وكل شيء أصبح عندنا‬ ‫ً‬ ‫وال يفصلنا عن الحرية التي ننشدها إال بوابة الخروج وساعات قليلة‬

‫من الطيران نستريح بعدها من عناء الترحال والخوف من مجهول‬ ‫خ ّيل لنا إنه يالحقنا أينما نزلنا‪.‬‬

‫نهرب من مجهول يسيطر على عقولنا وال نراه‪ ،‬يقيدنا بأفكار بعيده‬

‫عن الواقع‪ ،‬وأتأمل أطفالي من حولي وهم يلعبون وأحدث نفسي‬ ‫ما ذنبهم في كل ذلك يرحلون معنا من مجهول إلى مجهول يطوفون‬ ‫األرض يبحثون عن سقف يمنحهم األمن والطمأنينة واالستقرار‪.‬‬ ‫‪67‬‬


‫وقفت أتفحص وجه ضابط الجوازات الماليزي وهو يراجع‬ ‫جواز سفر العائلة‪ ،‬هذا الذي رأيته في الحلم‪ ..‬هو بالتأكيد‪ ..‬صورته‬ ‫طبعت في مخيلتي‪ ،‬واسترجعت حلم تلك الليلة‪ ،‬الطريق الطويل‪..‬‬ ‫والشيخة ديجالون تحاول القبض علينا‪ ..‬وسط الغابة‪ ..‬ومحاولتنا‬ ‫ركوب الدراجة التي تهشمت أمام ذلك الرجل‪.‬‬

‫قلت لزوجي‪ :‬إنه هو‪ ..‬نفس الوجه الذي رأيته في الحلم‪..‬‬ ‫يا سبحان الله‪.‬‬ ‫نظر نحوي باستغراب‪ :‬ماذا تقولين يا امرأة اصمتي‪ ..‬وابتعدي عن‬ ‫هذا التفكير‪ ..‬أتصدقين أحالم وتكذبين الحقيقة‪ ..‬ها نحن نقترب‬ ‫من بوابة الخروج لمغادرة ماليزيا‪.‬‬

‫عدت أسترجع الحلم المرعب‪ ..‬قال زوجي‪ :‬أمسكي األطفال‬ ‫واهتمي بهم‪ .‬أعرف إنه يحاول أن يطمئن نفسه ويطمئنني‪.‬‬ ‫ختم لنا ضابط الجوازات‪ ..‬وغادرنا بوابة دخول المطار متوجهين‬ ‫إلى بوابة الصعود إلى الطائرة‪ ،‬وبين هذه وتلك مسافة ليست بالقصيرة‪،‬‬ ‫وكنت أكثرت من النظر إلى الضابط والتفت إلى الخلف للتأكد من‬ ‫إنه ال يلحقنا‪ ،‬إال إن زوجي كان يدفعني نحو بوابة الخروج‪.‬‬

‫فحصا‬ ‫كانت تجلس في البوابة سيدة تتفحص جوازات السفر‬ ‫ً‬ ‫نهائ ًيا‪ ،‬فأمسكت بالجواز‪ ..‬وعند التفاتة مني رأيت الضابط يتجه‬ ‫نحونا مسر ًعا الخطى‪ ،‬وعلى الفور قالت له تلك السيدة‪ ..‬أليس هذا‬ ‫الجواز شبيه بنفس جواز أول أمس؟‪ ،‬أخذ الجواز ليتفحصه من جديد‬ ‫‪68‬‬


‫باستخدام عدسة خاصة هذه المرة‪ ،‬وطلب تذاكر السفر وبطاقات‬ ‫مزور وال يمكنكم المغادرة بهذا‪.‬‬ ‫الصعود‪ ،‬وقال إن الجواز ّ‬

‫كثيرا لقد أصبحنا شبه ًة‪ ،‬زوجي وأنا‬ ‫لم أحتمل ما يحدث صرخت ً‬

‫واألوالد‪ ،‬نحن لم نفعل شي ًئا‪ ،‬لم نقتل‪ ..‬لم نرتكب جريمة‪ ..‬نحن‬

‫خرجنا نبحث عن الحياة‪.‬‬

‫كنا ننوي التوجه إلى كندا ونطلب اللجوء هناك‪ ،‬ولكن تأتي الرياح‬

‫مزورا‪ ،‬وكذلك جواز السيد الذي‬ ‫بما ال تشتهي السفن‪ ،‬فالجواز كان‬ ‫ً‬ ‫تم إيقافه قبل ذلك بيومين والذي قيل لنا إنه غادر المطار‪ ،‬ولكن عرفنا‬

‫فيما بعد إنه قد أكتشف أمره وهو يقبع في سجن المطار‪.‬‬

‫وبما أن جواز السفر كان سعود ًيا منحنا القوة لنتمسك بحقنا‬

‫كسعوديين‪ ،‬وعندما قيل لنا أنكم لستم سعوديين طلبنا حضور السفير‬

‫السعودي للخروج من هذا المأزق‪ ،‬وفي المساء حضر السفير يرافقه‬ ‫رجل آخر‪ ،‬واختلوا بزوجي موجهين إليه ً‬ ‫سيل من األسئلة وطلبوا‬ ‫منه االعتراف بتزوير الجواز‪ ،‬ولما كان لهم ذلك تركونا لمصيرنا‬

‫المجهول‪ ،‬وقمنا بعدة محاوالت إلقناع سلطات المطار لكن‬

‫محاوالتنا إلثبات ذلك باءت بالفشل‪.‬‬

‫كنا نحتفظ برسالة تمنحنا حق اللجوء السياسي من منظمة‬

‫اليونيسيف ـ مكتب المغرب‪ ،‬أبرزنا هذه الرسالة‪ ،‬وهي الوثيقة الوحيدة‬

‫المتبقية لتثبت شخصياتنا بعد أن سحب منا الجواز السعودي‪ ،‬ولكن‬

‫هذه الورقة لم تجد نف ًعا اللهم إال لفت االنتباه إلى إن وراءنا قصة‪.‬‬ ‫‪69‬‬


‫ال أستطيع وصف تلك المعاناة وص ًفا دقي ًقا ألن ما حدث يبدو‬ ‫لي كحلم وواقع‪ ،‬ولكم أن تتصوروا العائلة وهي تعيش في صالة‬ ‫االنتظار في أحد المطارات الدولية ليل ونهار‪ ،‬ويمر بنا المسافرون‬ ‫ذها ًبا وإيابا‪ ،‬فقد رأيت عديد الوجوه وهي تغادر ثم تعود‪.‬‬ ‫غادرت المطار عائلة أردنية إلى أستراليا لتضع الزوجة حملها‪،‬‬ ‫شهرا ً‬ ‫كامل أو يزيد ثم عادت فوجدونا الزلنا في صالة االنتظار‬ ‫وغابت ً‬ ‫ننتظر ما يتقرر بشأننا‪ ،‬ولما كان منظرنا يثير الشفقة فقد وضع ذلك‬ ‫سرورا‬ ‫األردني مبل ًغا من المال في جيب ابنتي األمر الذي بعث فينا‬ ‫ً‬ ‫ال يقدر‪ ،‬فقد كنا بحاجة ماسة للمال بعد أن نفذ كل ما بحوزتنا‪.‬‬ ‫في المطار كنا نقضي كل الوقت على الكراسي وال نستطيع أن‬ ‫جلوسا أو نتمدد على‬ ‫نبرح أماكننا نستعمل كراسي القاعة للنوم‬ ‫ً‬ ‫األرض أحيانا في أوقات متأخرة وعندما ال يكون هناك مغادرون‪.‬‬ ‫في اليوم الرابع من إقامتنا في المطار التقينا الكابتن جميل‪ ،‬عراقي‬ ‫الجنسية ويعمل قبطانًا على الخطوط الماليزية وهو الذي قدم لنا‬ ‫خدمات جليلة طيلة وجودنا في األراضي الماليزية سواء في المطار‬ ‫أو بعد نقلنا إلى السجن‪.‬‬

‫وجدت إن جسدي قد سيطر عليه التعب من كثرة الجلوس على‬ ‫الكراسي‪ ،‬وكانت توجد أمام مسجد المطار مجموعة من الكراسي‬ ‫متصلة دون حواجز فيما بينها رغبت أن أمدّ د جسدي ً‬ ‫قليل‪ ،‬فوقف‬ ‫ونظرا ألنني مرهقة ومتعبة‬ ‫الرجل يسألني عن شبشب الحمام ليتوضأ‪ً ،‬‬ ‫فقد أجبته بعصبية مفرطة وغير الئقة‪ ،‬جلس الرجل وكان يسرق النظر‬ ‫‪70‬‬


‫نحوي ويتأملني بعناية‪ ،‬وكنت كلما حاولت أن أبتعد عنه بنظري‬ ‫تالحقني نظراته‪ ،‬كنت أعرف إن الشبشب قد دخل به زوجي إلى‬ ‫الحمام ولكن إجابتي كانت فظة‪ ،‬وعندما التقي الرجل بزوجي في‬ ‫المسجد حكى له عن قصتنا وما حدث لنا‪.‬‬

‫يبدو إن العناية اإللهية هي من أرسلت لنا جميل ليخفف عنا‬ ‫متاعبنا‪ ،‬وأصبحنا بالكاد يمر يوم وال نرى فيه الكابتن جميل‪ ،‬يمر‬ ‫وكثيرا ما يتدخل لدى سلطات‬ ‫علينا ويوفر لنا احتياجاتنا ويسأل عنا‪،‬‬ ‫ً‬ ‫المطار لمساعدتنا‪.‬‬

‫لقد وفر لنا الكابتن جميل كل احتياجاتنا‪ ،‬كان يحضر لنا األكل‬ ‫ويحمل مالبسنا لغسلها وكيها‪ ،‬وعندما يسافر إلى خارج ماليزيا يك ّلف‬ ‫صهره بتوفير كل ما يلزمنا‪ .‬كان نعم اإلنسان الصادق الودود يحضن‬ ‫جوا من الرعاية‬ ‫أطفالي ويالعبهم يحضر لهم الحلوى‪ ،‬لقد وفر لنا ً‬ ‫التي كنا بحاجة إليها‪.‬‬ ‫قال لي ذات يوم عندما اعتذرت منه من باب اللياقة‪« :‬أنا ال يوجد‬ ‫عندي أطفال لقد حرمت منهم فأرسل الله لي هؤالء ليكونوا أبنائي»‪،‬‬ ‫كثيرا لموقف هذا الرجل‪.‬‬ ‫لقد أشعرني بالخجل لرده هذا وبكيت ً‬

‫حدثتني زوجته يو ًما بأنه قال لها‪« :‬لقد رأيت في وجه المرأة صورة‬ ‫والدتي‪ ..‬هناك شيء ما جذبني ألقف كي أتأمل وجه تلك المرأة»‪.‬‬

‫بعد مضي قرابة شهر حاولنا فيه االتصال بعدة شخصيات للتدخل‬ ‫بعضها رفض حتى االستماع إلينا والبعض حاول مساعدتنا‪ ،‬وقد‬ ‫‪71‬‬


‫منحنا الشيخ يوسف القرضاوي المفكر العربي اإلسالمي الكبير‬ ‫مغادرا لمطار‬ ‫خمس دقائق من وقته الثمين لالستماع إلى قصتنا‪ .‬كان‬ ‫ً‬ ‫كوااللمبور فالتقاه زوجي وجلس معه ولكنه غادرنا دون أن يع ّلق‪،‬‬ ‫كثيرا الجهد التي قامت به السيدة المسئولة عن حقوق اإلنسان‬ ‫وأذكر ً‬ ‫في ماليزيا وهي نرويجية قامت بزيارتنا في المطار وتذليل بعض‬ ‫المشاكل‪.‬‬

‫‪72‬‬


‫( ‪) 14‬‬ ‫أثمرت الجهود عندما تقرر ترحيلنا إلى إيطاليا كانت فرحتنا عارمة‪.‬‬

‫أخيرا سنغادر هذا السجن‪ ،‬وغادرنا كوااللمبور وكنا نأمل في وضع‬ ‫ً‬

‫حل لمأساتنا وعند وصولنا إلى روما تم إعادتنا على نفس الطائرة‬ ‫فلم تسمح لنا السلطات اإليطالية بدخول روما وخيرونا بين العودة‬

‫من حيث أتينا‪ ،‬أو تسليمنا إلى السلطات الليبية أو المغربية واخترنا‬

‫العودة إلى ماليزيا‪.‬‬

‫ما يثير التساؤل من خالل معاملتنا من قبل السلطات االيطالية‬

‫ما أفادنا به المحقق في مطار روما عندما قال لنا إن إيطاليا هي ليبيا‬

‫وليبيا هي إيطاليا ال فرق بينهما‪ ،‬فأنتم عندما تدخلون األراضي‬

‫اإليطالية كأنكم دخلتم ليبيا‪.‬‬

‫عدنا إلى كوااللمبور وتم إيقافنا بالمطار وبدأت المعاناة من جديد‪،‬‬

‫وضعنا هذه المرة في قبو المطار في غرفة تقابل مكتب الشرطة‪،‬‬

‫ال نستطيع الخروج من الغرفة نفترش األرض‪ ،‬ونأكل ما يقدم لنا من‬ ‫‪73‬‬


‫سلطات المطار أو ما كان يحضره لنا صديقنا جميل مهر ًبا من قبل‬ ‫نادرا‪.‬‬ ‫عمال النظافة حيث لم يعد يسمح له باالتصال بنا إال ً‬

‫لقد أصبحنا مثيري للشفقة لكل من أطلع أو عرف بقصتنا‪ ،‬حتى‬ ‫الضابط الماليزي رحمان الذي منعنا من مغادرة المطار عندما كان‬ ‫يشاهدنا يبكي لحالنا‪ ،‬وقدم لنا بعض العاملين بالمطار وجبات ضيافة‬ ‫رأفة بنا‪.‬‬

‫داخل سجن المطار كنا نقضي الوقت في األحالم فكنت وزوجي‬ ‫أرسم رسومات هندسية لمباني بيتنا في المستقبل وبعد خروجنا من‬ ‫كثيرا ما أخاصمه وأختلف معه ويصل بيننا الخالف‬ ‫السجن‪ ،‬وكنت ً‬ ‫حدّ القطيعة لعدة أيام‪ ،‬واألسباب كانت شكل الفيال أو عدد الغرف‪،‬‬ ‫ومن سيسكن الغرفة العلوية‪ ،‬ومن سيرافقنا والدي ووالدتي أم والده‬ ‫ووالدته‪ ،‬اتجاه الباب‪ ،‬شكل الباب‪ ،‬وأشياء كثيرة كانت محل نقاش‪.‬‬ ‫تم إبالغنا بأنه سيتم نقلنا إلى خارج المطار لإلقامة بشقة مؤقتًا حتى‬ ‫يتم السماح لنا بمغادرة ماليزيا‪ .‬سررنا جدً ا لما تقرر لتنتهي مأساتنا‬ ‫ونستطيع أن نعيش بحرية حتى وإن كانت صغيرة كما قيل لنا تتكون‬ ‫من غرفة ومطبخ وحمام‪.‬‬

‫‪74‬‬


‫( ‪) 15‬‬ ‫تم نقلنا إلى خارج المطار‪ ،‬كنا خالل الطريق إلى الشقة التي‬ ‫ُوعدنا بها نأكل ونلهو‪ ،‬قلت لزوجي وأطفالي‪ :‬سوف نحتفل‪،‬‬ ‫وسأقيم لكم مأدبة من األكل لن تنسوها في حياتكم‪ ،‬وذهب بناء‬ ‫الخيال بعيدً ا ونحن نرسم أحال ًما تكسرت فجأة عند بوابة سجن‬ ‫«كوال كامب»‪.‬‬ ‫يبعد السجن عن كوااللمبور مسافة مائة كيلومتر تقري ًبا‪ ،‬وهو‬ ‫محصن بسياج من األسالك الشائكة وسط غابة كثيفة من األشجار‪،‬‬ ‫ويتكون من مجموعة من العنابر الخشبية بدورين‪ ،‬ويفصل بين سجن‬ ‫الرجال والنساء سياج معدني تعلوه أسالك شائكة‪.‬‬ ‫يتكون سجن الرجال من عدد أربع عنابر‪ ،‬والعنبر الخامس خصص‬ ‫كثيرا ما نشاهد الثعابين‬ ‫للنساء‪ ،‬وبما أن السجن وسط غابة فقد كنًا ً‬ ‫والعقارب والحشرات‪.‬‬

‫وضعت وبناتي الثالثة في سجن النساء‪ ،‬أما زوجي وابني فوضعوا‬ ‫ُ‬ ‫‪75‬‬


‫في العنبر المقابل لنا بسجن الرجال وعندما عرفت إننا وضعنا في‬ ‫ً‬ ‫صراخا‪.‬‬ ‫السجن مألت المكان‬

‫تحلقت حولي السجينات وجلست وبناتي وسطهن أبكي وتصرخ‬ ‫البنات والسجينات يبدو أنهن يتألمن لحالنا وينظرن لبعضهن البعض‬ ‫ويقولن كال ًما لم أفهمه‪.‬‬

‫كثيرا من البشر‬ ‫بدأت من هنا أكبر معاناة عرفتها في حياتي‪ ،‬بل إن ً‬ ‫الذين وضعوا في السجون بتهم إجرامية لم يروا ما حل بناء في هذا‬ ‫السجن‪ ..‬كانت مأساة حقيقية استمرت ستة أشهر كاملة‪.‬‬

‫عنبر النساء كان يتكون من دورين‪ .‬نزلنا نحن في الدور العلوي‬ ‫مع النزيالت من النساء الالتي وصل عددهن إلى ثمانمائة في الدور‬ ‫الثاني وتسعمائة وخمسين في الدور األرضي ومن جنسيات مختلفة‬ ‫ودخلن السجن بجرائم مختلفة‪.‬‬

‫كان السجن عبارة عن تجمع للموقوفين في ماليزيا من غير‬ ‫الماليزيين‪ ،‬أي من جنسيات أخرى‪ ،‬وجرائمهم تختلف بين التهريب‬ ‫والدعارة والسرقة‪ ،‬ومثل حالتنا محاولة عبور ماليزيا إلى أي دولة‬ ‫لطلب اللجوء‪.‬‬ ‫توجد عائلة إيرانية الزوج وزوجته وطفل وطفلة‪ ،‬كما يوجد عراقي‬ ‫أيضا الهروب عبر ماليزيا‪ ،‬كانت األسرة‬ ‫بسجن الرجال حاول هو ً‬ ‫تنصرت وتركت اإلسالم من أجل الموافقة على لجوئها‬ ‫اإليرانية قد ّ‬ ‫إلى أحدى الدول األوربية‪.‬‬ ‫‪76‬‬


‫وكانت المرأة اإليرانية تمارس التجارة داخل السجن فهي تبيع‬ ‫الخبز الذي يعطى لها وال يعطى لغيرها من السجينات‪ ،‬وتتفق مع‬ ‫شرطة السجن الذين يوردون لها البضائع وتعرضها على فراشها‬ ‫بأسعار باهظة‪.‬‬

‫كما توجد عائالت بأكملها من كمبوديا وفيتنام والصين‬ ‫وبنغالديش‪ ،‬وهذه العائالت يسمحون لها بلقاء بعضهم البعض‬ ‫بعد كل شهرين أو ثالثة‪ ،‬وكم كان المنظر حزينًا عندما تلتقي هذه‬ ‫العائالت والتي تعيش في مكان واحد يفصله سياج‪.‬‬

‫ننام على أرضية من الخشب مليئة بالحشرات التي تنفث منها‬ ‫رائحة كريهة دون فرش أو غطاء‪ ،‬وتستيقظ السجينات على صوت‬ ‫السجان في الصباح عندما تسمع صوته وهو يصيح (باريس) وهذه‬ ‫تجمع في الساحة المقابلة للعنبر‪ ،‬وتقدم لنا وجبات‬ ‫الكلمة تعني ّ‬ ‫هي عبارة عن كوب من الشاي وقطعتان من البسكويت عند السابعة‬ ‫صباحا بعد أن يتم إجراء التمام اليومي للسجينات بصفهن خارج‬ ‫ً‬ ‫العنبر قبل عودتهن إليه‪ ،‬وعند الظهيرة يصطففن من جديد لوجبة‬ ‫الغذاء التي كانت تتكون من صحن من األرز الذي تجري فوقه‬ ‫الحشرات وقطعة سردين برائحة كريهة‪ ،‬وكان يقدم لهن كوب من‬ ‫الماء الساخن كل يوم‪ ،‬وفي العشاء تقدم لهن نفس وجبة الغذاء‪ .‬وأثناء‬ ‫توزيع وجبة الغذاء أو العشاء تصطف السجينات في صف طويل‬ ‫وكل منهن تحمل إنا ًء ستتناول فيه وجبتها‪ ،‬وأحيانًا تنتظر إحداهن‬ ‫وكثيرا‬ ‫األخرى حتى تنتهي من تناول وجبتها‪ ،‬ثم تأخذ منها صحنها‪،‬‬ ‫ً‬ ‫‪77‬‬


‫ما تحدث مشادات وضرب بين السجينات متى تأخرت إحداهن في‬ ‫تناول وجبتها فتتدخل الشرطة لحل النزاعات‪.‬‬

‫وتستبق السجينات فيما بينهن في الوقوف ً‬ ‫أول في الطابور تحت‬ ‫أشعة الشمس المحرقة‪ ،‬وفي درجة حرارة عالية ودرجة رطوبة‬ ‫ال تحتمل‪ ،‬وأحيانا يتدافعن بشدة فيسقط بعضهن‪.‬‬

‫وبعد أن تتناول السجينات طعام الغذاء أو العشاء يأتي دور طابور‬ ‫غسيل الصحون واألواني وطابور المياه‪ ،‬فتحمل كل منهن زجاجة من‬ ‫البالستيك المتسخة لتمألها من الصنبور‪ ،‬وعندما تنقطع المياه تقوم‬ ‫سلطات السجن بإحضار براميل وتقوم إحدى السجانات بتوزيع المياه‬ ‫بحيث تحصل كل سجينة على لتر واحد من الماء‪ ..‬ترى كيف تغسل‬ ‫وتشرب وتدخل الحمام بلتر واحدة؟ ولمدة أربع وعشرين ساعة‪.‬‬

‫لم أتناول أي وجبة غذاء داخل السجن‪ ،‬ولم أقف في الطابور‬ ‫لغرض حضور التمام منذ دخلت‪ .‬فقد كان الكابتن جميل يزورنا في‬ ‫كل جمعة ويحضر لنا بعض المأكوالت التي كنا نتناولها خالل أسبوع‪.‬‬

‫شكت السجينات من معاملتنا في إدخال األكل لنا‪ ،‬فمنعنا من‬ ‫استالم ما يحضره جميل‪ ،‬فأعلنا إضرا ًبا عن الطعام‪ ،‬وتدخلت الشرطة‬ ‫إلرغامنا على األكل‪ ،‬ولكن صمدنا لمدة عشرة أيام كنت خاللها أقوم‬ ‫سرا وذلك بخلط البسكويت بالحليب حتى سمح لنا‬ ‫بتغذية بناتي ً‬ ‫باستالم ما يحضره لنا صديقنا جميل‪.‬‬

‫أما إذا ما سافر الكابتن جميل فقد كان يرسل لنا صهره جالل ليحضر‬ ‫لنا احتياجاتنا ومبل ًغا من المال إلجراء االتصاالت يوم ًيا مرتين بمنزل‬ ‫‪78‬‬


‫جميل‪ ،‬وكان االتصال يتم من داخل السجن بسرية تامة وباستغالل‬ ‫من قبل أحد السجانين الذي كان يمنحنا هاتفه النقال مقابل مبلغ من‬ ‫مظلما ومغطى في أحدى زوايا السجن لنجري‬ ‫المال‪ ،‬ويختار لنا مكانًا‬ ‫ً‬ ‫مكالمتنا اليومية لمنزل جميل حتى يطمئن إننا الزلنا أحياء‪.‬‬ ‫ال توجد في السجن حمامات بحوائط‪ ،‬بل كانت مفتوحة على‬ ‫بعضها وبدون سقف حتى تكون تحت نظر رجال الشرطة‪ .‬كنت‬ ‫أستعمل الحمام ً‬ ‫ليل وكنت أطلب من زوجي أن يقف على شرفة‬ ‫العنبر المقابل لحراستي‪ ،‬كان ذلك يمنحني بعض االطمئنان ألحتمي‬ ‫من لصلصات عيون رجال الشرطة‪ ،‬أما الباب فتقف بناتي الثالثة‬ ‫يمسكون به‪ ،‬وعند االستحمام كنت أستحم بمالبسي كاملة‪ ،‬ثم أقف‬ ‫وكثيرا ما كانت تنقطع‬ ‫في الشمس ألجفف مالبسي وهي فوق جسمي‪،‬‬ ‫ً‬ ‫المياه ولعدة أيام فتخرج من الحمامات روائح كريهة‪.‬‬

‫كثيرا ما أتحدث مع زوجي من خلف السياج‪ ،‬وفي مرات عدة‬ ‫كنت ً‬ ‫قمت بفتح السياج المعدني بواسطة آلة قص األظافر‪ ،‬وكان يسمح‬ ‫وجها لوجه من خلف حائط قصير كل شهرين‪ ،‬غير إن‬ ‫لنا بااللتقاء ً‬ ‫أبني الصغير كان يتجول بين عنبر الرجال وعنبر النساء‪.‬‬

‫في أحد األيام كنت أتحدث مع زوجي عبر ثقب صغير في السياج‬ ‫الفاصل بين سجن الرجال والنساء وإذا بأحد الشرطة يمسك بيدي‬ ‫فنفضته نفضه قوية وقلت له باإلشارة سوف أقطع يدك في المرة‬ ‫القادمة‪ ،‬وفي هذه األثناء جرت بيننا حشرة صغير دهستها برجلي‬ ‫وقلت له وسوف تصبح هكذا‪ ،‬فهم رجل الشرطة إشارتي وابتعد عني‪.‬‬

‫كانت أحاديثي مع زوجي تدور حول خروجنا وما نحن فيه من معاناة‪،‬‬ ‫‪79‬‬


‫كثيرا ما يرفع معنوياتي وبعض األحيان أجده بمعنويات ضعيفة‬ ‫فكان ً‬ ‫فأشد من أزره وأبعث فيه األمل بقرب يوم الفرج والخروج من السجن‪.‬‬

‫وأحيانًا كنت أحكي معه عن األكل أقول له عندما نخرج من هنا‬ ‫سوف أعد لك وجبات لم تتذوقها من قبل وأعدد له تلك األكالت‬ ‫التي سأقوم بإعدادها‪ .‬كنت أقول له سوف أعد لك العصبان والبراك‬ ‫والشربة وكثير من األكالت الليبية األخرى‪ ،‬كان زوجي يستمع‬ ‫باهتمام ويرد‪ :‬أنت تحلمي‪.‬‬

‫على ذكر األكالت التي يعدها السجن للسجناء لم أر تنو ًعا في‬ ‫الوجبات‪ ،‬لم أر غير األرز‪ ،‬وتحتفظ السجينات باألرز في عنبر النوم‪،‬‬ ‫وكثيرا ما كانت تنام السحالي في تلك الصحون‪ ،‬وعندما ترغب‬ ‫ً‬ ‫السجينات في األكل ما عليها إال أن تزيح السحلية بكل احترام‪ ،‬وكنت‬ ‫أتسأل دو ًما لماذا؟ وأتعجب!! حتى عرفت إن في ديانة الفيتناميين‬ ‫يعتقدون إن اإلنسان عندما يموت تنتقل روحه إلى السحلية‪ ،‬لذا‬ ‫تجدهم يحترمونها جدً ا‪.‬‬

‫في أثناء السجن تورمت رجلي نتيجة لسعة حشرة وأصبح لونها‬ ‫يقرر طبيب السجن نقلي إلى‬ ‫أسود حتى عجزت عن الحركة‪ ،‬لم ّ‬ ‫المستشفي‪ ،‬فقد رفض ذلك حتى عندما تحدث معه صديقنا جميل‬ ‫الذي صعق عندما شاهد رجلي وانهمر بالبكاء‪.‬‬

‫في أثناء مرضي كانت بعض السجينات وخاصة الصينيات تعتني‬ ‫بأطفالي فكانت تنظفهم وتغير مالبسهم وتهتم بهم‪ ،‬فالسجينات‬ ‫الصينيات ودودات ويحملن أخالق حميدة‪.‬‬ ‫‪80‬‬


‫وعندما نجحت محاوالتي لنقلي للمستشفي نقلت إليه مكبلة‬ ‫باألصفاد وبقيت طيلة وجودي به مقيدة بالسالسل ولم يفلح األطباء‬ ‫في معالجة المرض‪ ،‬مكثت في المستشفي تحت الحراسة وكانت‬ ‫دائما مربوطة بالنافذة‪ ،‬وعدت إلى السجن كما ذهبت‪ ،‬وقد‬ ‫يدي ً‬ ‫شفيت رجلي فيما بعد‪.‬‬ ‫اعترت ابنتي الصغيرة حرارة مرتفعة فذهبت مسرعة إلى مكتب‬ ‫رجال الشرطة‪ ،‬وعندما دلفت إلى المكتب وجدت السجان منهمكًا‬ ‫في مداعبة امرأة أسبانية وفي وضع غير الئق‪ ،‬وباإلشارة أخبرته‬ ‫بأن ابنتي تعاني من ارتفاع شديد في الحرارة‪ ،‬فأشار بيده بمعنى‬ ‫ونقلت وابنتي إلى المستشفى وهناك‬ ‫بعدين‪ ،‬فصرخت في وجهه‬ ‫ُ‬ ‫ربطوني بالحديد إلى النافذة وقمت برعايتها بيد واحدة طيلة بقائها‬ ‫في المستشفى‪.‬‬ ‫كثيرا ما أشاهد أشياء فاضحة بين السجينات ورجال الشرطة‪،‬‬ ‫كنت ً‬ ‫وهذا األمر ضايقني جدً ا خاصة وإن بناتي صغيرات وهن يرافقنني‬ ‫دائما أتحاشى أن يرين مثل هذه األشياء‪.‬‬ ‫دائما وكنت ً‬ ‫ً‬

‫قائد السجن ـ الكومندار ـ ورجال الشرطة كانت معاملتهم لنا‬ ‫قاسية أول األمر‪ ،‬ولكن بعد مرور فترة من الوقت يبدو إنهم فهموا‬ ‫قصتنا فأبدوا تعاط ًفا معنا غير إنهم ال يستطيعون فعل شيء لمساعدتنا‪،‬‬ ‫وكانت لغة الحوار معهم باإلشارات‪ ،‬ثم أصبحت ابنتي الكبرى تتكلم‬ ‫اللغة الماليزية فكانت تقوم بعملية الترجمة فيما بعد‪.‬‬ ‫شرطة السجن قاسية في معاملتها مع اآلخرين‪ ،‬وقد رأيت بأم‬ ‫‪81‬‬


‫عيني عملية قتل أحد السجناء الكمبوديين بضرب رأسه بأخمص‬ ‫بنادق الشرطة عند محاولته الهرب عبر أنبوب المجاري المؤدي‬ ‫إلى الغابة المحيطة بالسجن‪ ،‬فقد دخل في األنبوب الضيق وفي آخره‬ ‫خرج رأس السجين الكمبودي ولم يستطيع أخراج باقي جسده‪ ،‬ولما‬ ‫علم رجال الشرطة انهالوا عليه ضر ًبا حتى تكسر رأسه وفارق الحياة‬ ‫ثم دفن بمقبرة السجن‪.‬‬ ‫ذات يوم تمرد المساجين من الرجال وهاجموا بوابة الخروج‬ ‫وقفز بعضهم من السياج ووقفنا نشاهد عملية مواجهتهم بإطالق‬ ‫عيارات نارية‪ ،‬وقطع التيار الكهربائي عن السجن األمر الذي بعث‬ ‫فينا الخوف والفزع وبقينا في الفناء حتى الصباح‪.‬‬

‫لقد كانت تجربة السجن تجربة قاسية لم أذق طعم النوم ً‬ ‫ليل فقد‬ ‫كنت أسهر مستيقظة حتى الصباح أراقب بناتي‪ ،‬وفي النهار كنت‬ ‫أحصل على قدر من النوم شرط أن يقف زوجي في شرفة المبنى‬ ‫المقابل يراقبني أثناء النوم وإذا شاهد أحد رجال الشرطة يدخل‬ ‫العنبر كان يطلق صفارة اإلنذار وكنت أرد عليه بالوقوف في النافذة‬ ‫أو ألوح له بقطعة قماش من خاللها‪.‬‬

‫كبيرا من النساء السحاقيات‪ ،‬وعند الليل‬ ‫كان السجن يحتوي عد ًدا ً‬ ‫يمارسن هذه العادة بشكل علني وأمام مرأى من رجال الشرطة وبقية‬ ‫السجينات‪ ،‬كنت أحمل بناتي خارج العنبر أجلس بهن حتى ينمن ثم‬ ‫دائما على أن ال يرين مثل هذه المشاهد الغريبة‪،‬‬ ‫أدخلهن‪ ،‬وكنت أصر ً‬ ‫كثيرا‬ ‫وفي بعض األحيان يمارسن عادتهن تلك عند الظهيرة‪ ،‬وكنت ً‬ ‫‪82‬‬


‫ما أنبه رجال الشرطة لمثل هذا الفعل ألننا مسلمون وال يمكن لبناتي‬ ‫أن يشاهدن هذا‪ ،‬فتتدخل الشرطة وتضرب الفاعالت‪.‬‬ ‫وتنتشر بين السجينات الكمبوديات والفيتناميات عادة غريبة فهن‬ ‫يجلسن على سلم الدرج مشكلين سلسلة بشرية يبحثن عن القمل‬ ‫ً‬ ‫كل في شعر األخرى وكن يقرضن القمل بأسنانهن وعندما ال تجد‬

‫أحداهن قمل في شعر التي أمامها تضع هذه القمل الذي حصلت‬ ‫عليه من شعر التي أمامها في كفها لتقوم الجالسة خلفها بلعقه بلسانها‬ ‫ومقزز ولكنه في نظرهم وجبة شهية‪.‬‬ ‫منظر غريب ّ‬

‫أحيانًا تجد نفسك أمام عادات وتقاليد وأفعال غريبة خاصة وأنت‬ ‫تقيم مع بعض من حثالة تلك الشعوب‪ ،‬فقد وضعني القدر في السجن‬ ‫الذي تجمعت فيه نساء من عدد كبير من دول العالم‪ ،‬قد يكون جمعني‬ ‫بهم السجن ولكن ما الذي جمعهم هم مع بعضهم لقد اجتمعوا‬ ‫على طريق الرذيلة‪ ،‬أغلب السجينات ال يأبهن لما يفعلن‪ ،‬فقد تربوا‬ ‫فكثيرا ما كنت‬ ‫وعاشوا في بيوت الدعارة‪ ،‬وهذا األمر ال يروق لي‬ ‫ً‬ ‫أصطدم ببعضهن‪.‬‬

‫علي مجموعة من النساء الفلبين ّيات‪ ،‬كان عددهن‬ ‫ذات يوم تهجم ّ‬ ‫سبعة أو ثمانية تقري ًبا واشتبكن معي ال لشيء وإنما للمعاملة التي‬ ‫أصبحت أعامل بها من قبل بعض الشرطيات بعد أن قمنا باإلضراب‬ ‫عن الطعام‪ ،‬واستمر الصراع ولكن الشرطة فكت االشتباك بيننا عندما‬ ‫علمت‪ ،‬وأطلقت صفارات اإلنذار‪ ،‬وسمع زوجي صراخي فقفز من‬ ‫العنبر المقابل ولكن الشرطة أمسكت به وأعادته إلى عنبر الرجال‪.‬‬ ‫‪83‬‬


‫دخلت السجن امرأة مجنونة أو إنها أرادت أن تكون كذلك حتى‬ ‫تحصل على إذن لنقلها إلى مكان آخر كونها تعاني الجنون‪ ،‬كانت‬ ‫تلك المرأة تعض النساء الالئي من حوله‪ ،‬وذات يوم أمسكت بابنتي‬ ‫وحاولت قذفها من الدور الثاني وهدّ دت رجال الشرطة بقذفها غير‬ ‫أصبت بهستيريا عندما تم إنقاذ ابنتي‪.‬‬ ‫أن أحد رجال الشرطة أمسكها‪..‬‬ ‫ُ‬

‫أشخاصا من السفارة‬ ‫ذات يوم أبلغنا من قبل شرطة السجن بأن‬ ‫ً‬ ‫الليبية في ماليزيا يرغبون في مقابلتنا‪ ،‬رفضنا وزوجي مقابلتهم أو‬ ‫االستماع لما أرادوا قوله‪ ،‬وعلمنا أن جالل صهر الكابتن جميل كان‬ ‫قد التقى مجموعة من الطالب الليبيين الدارسين في ماليزيا وأخبرهم‬ ‫عن قصتنا فقاموا بإبالغ السفارة الليبية‪.‬‬

‫ً‬ ‫أسمال‬ ‫لقد أصبحت أجسادنا نحيلة ومتسخة‪ ،‬وأصبحت مالبسنا‬ ‫باليه تدعوا إلى الشفقة‪ ،‬سرقت مالبسنا فلم نعد نجد مالبس نرتديها‪،‬‬ ‫وذات يوم خرجت إلى فناء السجن والسير قلي ُ‬ ‫ال وسط بعض األحجار‬ ‫المتناثرة ولم أكن أعرف إنني أسير وسط مقبرة ثم جلست على إحداها‬ ‫وعندما أردت القيام لم أستطيع وترهلت قدماي وأصابتني ارتعاشه‪.‬‬ ‫كانت إحدى النساء تراقبني فأسرعت وأمسكت بي قبل أن أسقط‬ ‫على األرض ورشوني بالماء حتى أستفيق‪ ،‬أعتقد أنني أصبت باألنيميا‬ ‫نتيجة الضعف وعدم األكل‪ ،‬غير إن نساء السجن يعتقدن إنني جلست‬ ‫على قبر أحد ضحايا السجن الذي دفن هناك منذ وقت قريب‪.‬‬

‫‪84‬‬


‫( ‪) 16‬‬ ‫خالل وجودنا رهن االعتقال في ماليزيا جرت عدة محاوالت‬

‫وأخيرا ّتوجت بموافقة‬ ‫من جهات دولية إنسانية إلطالق سراحنا‪،‬‬ ‫ً‬

‫المملكة المتحدة التي منحتنا حق اللجوء السياسي إليها‪.‬‬

‫عندما أبلغتني بشرى زوجة جميل بخبر الموافقة على ترحيلنا‬

‫أخذت أجري داخل العنبر وأصرخ من شدة الفرح‪ ،‬وسمع زوجي‬ ‫صراخي‪ ،‬أصابه الفزع وأخذ يصرخ في الجهة المقابلة ماذا بك‪..‬‬

‫ماذا بك؟ وصرخت بأعلى صوتي لقد وافقوا على ترحيلنا‪ ..‬كنت‬

‫أضحك وأبكي في آن واحد‪ ،‬لم يصدق زوجي أول األمر‪ ،‬وظن أني‬

‫مصابة بالجنون أو أن أحدى بناتي أصابها مكروه‪.‬‬

‫بعد إعالمنا بالترحيل مكثنا بالسجن شهرين آخرين حتى إننا نسينا‬

‫األمر‪ ،‬واعتبرنا الموضوع مجرد مزحة ومللنا االنتظار‪ ،‬قبل أن تبلغني‬

‫ريشال وهي ضابط بوليس من أصل هندوسي باإلفراج عنا كانت‬ ‫ابنتي الصغرى ـ عمرها عام ونصف ـ ترتدي حذاء إحدى السجينات‬ ‫‪85‬‬


‫وتحمل حقيبة وتشير بيدها وكأنها تودع السجينات‪ ،‬حضرت ريشال‬ ‫وقالت باإلشارة‪ :‬أنت ستخرجين اليوم‪ ،‬رددت عليها بال مباالة‬ ‫وكثيرا ما كانت الشرطيات تمزحن مع‬ ‫وكأني سئمت هذه اإلشارات‪،‬‬ ‫ً‬ ‫السجينات وتعطيهن ً‬ ‫أمل الخروج من هذا السجن‪ ،‬ولكن أمسكتني‬ ‫ريشال بقوة وقالت بلغة خليط بين اإلشارة واالنجليزية والماليزية‬ ‫الركيكة‪« ..‬أنت يو قو باك»‪.‬‬

‫لقد صدقتها هذه المرة‪ ،‬كانت معاملتها معنا رائعة فهي مؤدبة‬ ‫وكثيرا ما تقدم لنا خدمات خاصة‪ ،‬لذا قلت في نفسي ربما‬ ‫وودودة‬ ‫ً‬ ‫تكون صادقة لقد رأيت الصدق في عينيها‪ ،‬ورأيت زوجي يجري‬ ‫نحوي يحمل حقائبه ويصرخ سنخرج من السجن‪ ،‬فنزلت مسرعة‬ ‫واحتضنت زوجي كان يبكي وبكيت من الفرحة‪.‬‬

‫تجمعت حولنا السجينات مثل أول يوم دخلنا فيه السجن‪ ،‬ولكن‬ ‫هذه المرة كانت االبتسامة الظاهرة والفرحة من أجلنا‪ ،‬قد تكون لغاتنا‬ ‫مختلفة وأجناسنا مختلفة ولكن جمعتنا لغة االبتسامة والفرح‪ ،‬كان‬ ‫الجميع يحضنني ويحضن بناتي‪ ،‬حتى من كان بيني وبينه سوء فهم‬ ‫نتيجة اللغة أو عدم التوصل إلى ما أقصد‪.‬‬

‫طلبوا مني عنواني وأرقام هواتفي‪ ،‬ولكني كنت ال أعلم إلى أين‬ ‫ستكون محطتي القادمة في بريطانيا وال يوجد عندي عنوان ثابت‪،‬‬ ‫ولكني أخذت أرقامهم وعناوينهم واحتفظت بها لفترة من الوقت‬ ‫ثم ضاعت مني جميعها‪.‬‬ ‫لقد أخذتني الفرحة بالحياة والحرية مما جعلني أنسى االتصال‬ ‫‪86‬‬


‫بأولئك الناس الطيبين والذين تعرفت عليهم وعشت معهم فترة من‬ ‫حاجزا دون ذلك‪.‬‬ ‫الوقت‪ .‬غير إن اللغة في اعتقادي هي التي وقفت‬ ‫ً‬ ‫وجها لوجه تعطينا حرية أن نعبر عن طريق االبتسامة‬ ‫فربما لقاءاتنا ً‬ ‫أو اإلشارة أو الحركات األخرى والتي تجعلنا نفهم بعضنا البعض‪.‬‬

‫جمعت بقايا مالبسنا كانت تبدو أشالء مالبس متهرئة ممزقة‬ ‫تجف وهي‬ ‫كثيرا ما أقف حتى‬ ‫ّ‬ ‫تغير لونها من حرارة الشمس‪ ،‬فكنت ً‬ ‫نادرا‪ ،‬وكنت حين أجمع‬ ‫فوق جسدي إذ لم يتسنى لي استبدالها إال ً‬ ‫مالبسي أقذف باألكل وعلب الحليب والشامبو للسجينات‪ ،‬وقادونا‬ ‫إلى مكان آخر داخل السجن هو عبارة عن غرفة كبيرة بقينا فيها حتى‬ ‫حضرت سيارة نقلتنا إلى شقة وسط العاصمة كوااللمبور‪.‬‬

‫كانت الشقة عبارة عن محطة انتظار للترحيل النهائي تحت حراسة‬ ‫مشددة جمعنا فيها نحن الذين سيتم ترحيلنا‪ ،‬وفي اليوم التالي ّ‬ ‫فك‬ ‫أسرنا نقلنا إلى المطار مباشرة‪ ،‬وفي نفس الصالة التي منعنا من‬ ‫عبورها قبل تسعة أشهر‪ ،‬والتي عشنا بين جدرانها شهرين عبرنا إلى‬ ‫بوابة الخروج النهائي من ماليزيا‪ ،‬هذه التي يحكى عنها بأنها جنة‬ ‫الله على األرض والتي لم أر منها إال المطار والسجن والطريق إليه‪.‬‬

‫وجدنا الكابتن جميل في انتظارنا هذا الرجل الذي سأبقى أكن‬ ‫له كل االحترام والتقدير والمحبة‪ ،‬الرجل الذي يندر وجوده في هذا‬ ‫ودس في يدي مبلغ‬ ‫الزمن‪ ،‬تقدّ م منا جميل وودعنا عند بوابة الخروج ّ‬ ‫خمسمائة دوالر والدموع في عينيه‪ ،‬وعانق زوجي وق ّبل أطفالي واحدا‬ ‫واحدً ا وبدأت الرحلة إلى لندن‪.‬‬ ‫‪87‬‬


‫صعدنا الطائرة بأشكال غريبة هيئتنا مالبسنا أجسادنا تبدو وكأننا‬ ‫خرجنا للتو من القبور‪ ،‬ينظر إلينا الركاب بعضهم يشفق لحالنا والبعض‬ ‫اآلخر ال يأبه لنا‪ ،‬صورتنا تعبر عن مأساتنا التي عشناها في ماليزيا طيلة‬ ‫تسعة أشهر كاملة‪ ..‬لم نسمع شي ًئا عن العالم الخارجي‪ ،‬ولم تصلنا‬ ‫أي أخبار ونحن في السجن‪ ،‬مشدوهين نرى العالم الذي عدنا إليه‬ ‫سرا بأننا كنا خائفين من المجهول‬ ‫بحالتنا الرثة والهزيلة‪ ،‬وال أخفيكم ً‬ ‫الذي ربما يالحقنا في محطتنا القادمة‪.‬‬

‫‪88‬‬


‫( ‪) 17‬‬ ‫وصلنا لندن وكنا نتوقع أن نجد أحدً ا في استقبالنا‪ ،‬فقد وعدتنا‬ ‫شقيقة زوجي المقيمة بمانشسستر بأنها ستكون في استقبالنا‪ ،‬وكذلك‬ ‫مقيما بلندن‪ ،‬غير أننا لم نجد أ ًيا ممن بنينا عليهم‬ ‫ابن عم زوجي كان ً‬ ‫أحالمنا في انتظارنا‪ ،‬ووقفنا في قاعة المطار ننتظر‪.‬‬

‫السلطات البريطانية استقبلتنا وخيرتنا بين أن تنقلونا أو أن ننتظر‬ ‫من سيأتي إلينا‪ ،‬وكانت إجابتنا بأن شقيقة زوجي سوف تحضر بعد‬ ‫قليل‪ ،‬ولم تأت ولم يأت زوجها‪ ،‬ولكنه اتصل بابن عم له في لندن‬ ‫وهو من حضر بعد مضي وقت طويل‪.‬‬

‫ذهبنا إلى بيتهم وكان الوقت متأخر فنمنا بمالبسنا بعد أن تناولنا‬ ‫بعض الطعام‪ ،‬وفي صباح اليوم التالي نقلنا مضيفنا إلى المحطة التي‬ ‫تنطلق منها السيارات إلى مانشسستر‪ ،‬ووصلنا متأخرين على انطالق‬ ‫صباحا وجلسنا في المحطة ننتظر الحافلة التالية‪.‬‬ ‫حافلة الثامنة‬ ‫ً‬

‫بين الثامنة والعاشرة موعد انطالق الحافلة كنت أفكر إلى أين‬ ‫‪89‬‬


‫نحن ذاهبون؟ نجري خلف من؟‪ ..‬نذهب إلى شقيقة زوجي التي‬ ‫لم تكلف نفسها عنا استقبالنا بعد هذا الزمن الطويل الذي لم ترانا‬ ‫فيه‪ ،‬وبعد فترة السجن التي قضيناها في كوااللمبور‪ ،‬لقد كنت أنتظر‬

‫أن يستقبلونا بالزهور والموسيقى ولكن هذه الالمباالة جعلتني أعيد‬

‫حساباتي فيما بعد‪.‬‬

‫ركبنا حافلة العاشرة ووصلت إلى مانشسستر في موعدها كان‬

‫زوجي يقول لي إن شقيقته سوف تكون في المحطة هي وزوجها‪،‬‬

‫ولكن عندما نزلنا كانت المفاجأة الثانية إننا لم نجدهم في استقبالنا‬

‫بالرغم من علمهم بموعد الوصول‪ ،‬واتصلنا بهم وحضروا بعد وقت‬

‫طويل‪ ،‬همست لي نفسي حينها بأننا ضيوف غير مرغوب فيهم‪.‬‬

‫ضيوف غير مرغوب فينا لثالثة أيام كاملة في بيت شقيقة زوجي‪..‬‬

‫كانت تلك المدة ال تختلف كثيرا عن حياتنا في كوااللمبور‪ ،‬كنا نرتدي‬

‫نفس المالبس وهيئتنا الرثة ال زالت على حالها‪.‬‬

‫انتقلنا إلى بيتنا الخاص الذي وفرته لنا السلطات االنجليزية مع‬

‫كل اإلمكانيات‪ ،‬وخضعنا لفحص طبي شامل ومنحنا حق اللجوء‬

‫السياسي‪ ،‬وانتظم أطفالي في المدارس وأصبحت حياتنا أكثر سهولة‪.‬‬ ‫ولكن بالرغم من حياة الحرية واإلقامة الجيدة إال أنني ال زلت‬

‫أشعر بالخوف والرعب‪ .‬كنت أنام بالقرب من النافذة وعندما أستيقظ‬

‫أثناء الليل كنت أمدّ يدي لكي أتحسس البرد للتأكد من برودة الجو‬ ‫وأنني في مكان غير سجن سمنيه كامب‪.‬‬ ‫‪90‬‬


‫ذات يوم بعد استقرارنا طرق بابنا رجل ال نعرفه وعندما فتحنا‬ ‫الباب قال لنا‪ :‬أنا «أبو المهاجر»‪ ..‬وعندي عليكم دين قدره ألفي‬ ‫دينار مقابل تزوير جواز السفر السعودي‪ .‬سخرنا منه وطردناه من‬ ‫أمام البيت بعد أن هددناه بإبالغ رجال الشرطة‪.‬‬

‫بمرور األيام استطعنا التأقلم مع البيئة والمحيط الجديد‪ ،‬وتعلم‬ ‫بعض المصطلحات التي نستطيع بها حل المشاكل التي قد نقع فيها‪،‬‬ ‫وبدأ زوجي يعمل وتوفرت لنا مبالغ مالية مما جعلنا نستطيع استقبال‬ ‫أصدقائنا المغاربة الذين جاءوا لزيارتنا‪.‬‬ ‫أصبحت الحياة سهلة وحلوة‪ ،‬وال ينقصها إال رؤية األهل في‬ ‫الوطن العزيز‪ ،‬وأجلس أفكر ما الذي جعلني أعيش هذه المرارة‬ ‫في الحياة؟‬ ‫ما الذي أوصلني إلى هنا؟‬

‫أسترجع شريط الذكريات منذ خرجت من بنغازي التي الزلت‬ ‫اهتز وارتعش عندما أسمع اسمها‪ ،‬لقد كان وقع سماع هذه الكلمة‬ ‫دائما عندما أسمعه‪.‬‬ ‫عظيما‪ ،‬وتسقط دموعي ً‬ ‫ً‬

‫بعد مضي سنوات على إقامتنا في مانشسستر قررنا أن نخرج لزيارة‬ ‫المغرب ولقاء األصدقاء الذين عشنا معهم طيلة سنوات عندما كنا‬ ‫نقيم بالدار البيضاء‪ .‬سافرت أنا واألوالد ثم لحق بناء زوجي في األيام‬ ‫الخمسة األخيرة من الزيارة‪.‬‬ ‫في المغرب تملكتني الغيرة على زوجي ألول مرة وال أعرف سب ًبا‬ ‫‪91‬‬


‫لذلك‪ .‬ما لفت انتباهي أمر عادي‪ ،‬فقد اتصلت به وسألته عن مكان‬ ‫وجوده‪ ،‬وعندما ذهبت إلى المكان لم أجده‪ ،‬وتكررت هذه الحالة‬ ‫معي فشعرت بأن زوجي ليس طبيع ًيا وأن في األمر شي ًئا ما‪.‬‬

‫انتابني شعور ما بأن زوجي على عالقة عاطفية في بدايتها‪ ،‬وتأكد‬ ‫هذا الظن عندما عدنا إلى مانشسستر‪ ،‬وأصبحت عندما أرد على الهاتف‬ ‫تقفل السماعة‪ ،‬واكتشفت أن زوجي على عالقة مع امرأة مغربية تبلغ‬ ‫من العمر ثمانية عشرة سنة وكان قد تعرف عليها أثناء زيارتنا للمغرب‪.‬‬

‫أراد زوجي أن يضعني أمام األمر الواقع‪ .‬عندما جلست معه للحوار‬ ‫في الموضوع‪ ،‬قال لي بأنه تزوجها‪ ،‬وطلبت منه الطالق ألضعه في‬ ‫أمر واقع آخر‪ ،‬أصررت على طلب الطالق‪ ،‬ولكنه رفض وأعتذر أمام‬ ‫عدد من األصدقاء الذين تدخلوا لحل المشكلة‪.‬‬

‫الجرح ال يندمل بسرعة‪ ..‬انعدمت ثقتي بزوجي‪ ،‬وأصبحت‬ ‫المشاكل تستفحل يو ًما عن يوم‪ .‬أنا أضعه في موضع شك‪ ،‬وهو‬ ‫يحاول أن يريني وجهه اآلخر‪ ،‬ولكن حياتنا في اعتقادي أصبحت‬ ‫كذ ًبا وخدا ًعا‪.‬‬

‫مع مرور الوقت أصبح أوالدي وبناتي يكبرون فركزت اهتمامي‬ ‫على تعليمهم ولم يعد وقتي يدعوني لمتابعته ومراقبته فقد تركته‬ ‫لحاله‪ ،‬حاولت أن أثنيه ولكن دون جدوى‪ ،‬فقد زرنا مصر بعد أن‬ ‫حدثت المشكلة والتقى بأهله هناك‪.‬‬

‫‪92‬‬


‫( ‪) 18‬‬ ‫كان الحنين يشدني إلى الوطن‪ .‬عندما استلقى للنوم أو للراحة‬

‫أجد الوطن أمامي‪ ،‬واسأل نفسي لماذا كل هذه الغربة الطويلة؟‬ ‫من أجل من؟‬ ‫ولماذا؟‬

‫عندما ألتفت ألوالدي أشعر بأنهم في حاجة إلى وطنهم‪ .‬فلماذا‬

‫أحرمهم من العودة إليه؟‪.‬‬

‫اتصلت بالسفارة الليبية بلندن في منتصف سنة ‪ 2007‬وطلبتم‬

‫منهم إصدار جوازات سفر للعودة إلى الوطن‪ ،‬ردت على الهاتف‬ ‫امرأة كلمتني بلكنة سودانية‪ ،‬كان ردها جل ًفا ومتصل ًفا قالت لي‪:‬‬

‫تغيبين كل هذا الوقت وتطلبين العودة إلى ليبيا اآلن واستخراج‬

‫جوازات في أسبوع!‪.‬‬

‫ال أخفيكم أنني خفت وانزعجت من رد األخت السودانية‪ ،‬قلت‬ ‫‪93‬‬


‫بيني وبين نفسي‪ :‬وهل عجزت ليبيا إلى هذا الحد حتى تكلمني‬ ‫سودانية باسم ليبيا وتنهرني وتجرحني؟ فكرت للحظة وبقدر ما كان‬ ‫الجرح عمي ًقا بقدر ما كان التصميم على العودة أكبر وأعمق‪.‬‬

‫قلت لها أحب أن أتحدث مع أي شخص يكون ليب ًيا‪ ،‬فتحدثت‬ ‫مع سيد يدعي محمد األسطى ويشهد الله إن هذا الرجل هو من كان‬ ‫وراء عودتي إلى وطني فهو من ذ ّلل لي كل الصعاب حتى العودة‪.‬‬ ‫اتصلت بعد فترة فقالوا بأنني ممنوعة من العودة إلى ليبيا‪ ،‬ولكني‬ ‫أصررت على دخول الوطن وأصبحت المسألة مسألة تحدٍّ ‪ .‬طلبت‬ ‫شخصا‬ ‫مقابلة السفير الليبي‪ ،‬وتوجهت إلى السفارة وهناك قابلت‬ ‫ً‬ ‫إلى بعض األسئلة‪.‬‬ ‫آخر يدعى عادل أبوراس وجه ّ‬

‫عرفت إنه تحقيق مبدئي‪ ..‬أخبرتهم بأن األمر اآلن تغير‪ ،‬وأن من‬ ‫تبحثون عنهم أصبحوا في خبر كان‪ ،‬فهم متشردون في شوارع مدن‬ ‫العالم يشربون الخمر في الحانات والخمارات‪ ،‬ويعودون آخر الليل‬ ‫فكرا‪ ..‬هذا إذا كان لديهم‬ ‫يتأبطون بنات الليل‪ ،‬فلم يعودوا يحملون ً‬ ‫في األصل فكر يخيف‪.‬‬

‫هم اآلن في فراغ مميت فألحقوا بهم وأنقذوهم من براثن الجريمة‬ ‫والمرض والقهر الذي يعيشونه وهم أغلبهم نادمون‪.‬‬

‫إلي باهتمام‬ ‫كان لكلماتي وقع مؤثر على الرجل الذي أنصت ّ‬ ‫شديد‪ ،‬ثم نظر نحوي بعمق‪ ،‬وقال لي‪ :‬إنشاء الله خير‪.‬‬ ‫بعد يومين فقط اتصل زوجي فاخبروه بالرفض‪ ،‬بكيت بشدة‬ ‫‪94‬‬


‫وصرخت‪ ،‬ولكن بعد عشرة دقائق فقط اتصل بي موظف السفارة‬

‫ليعلمني بالموافقة على دخولي ليبيا‪ ،‬لقد كان في األمر خطأ ما‪،‬‬ ‫وطلب مني إحضار األوراق‪.‬‬

‫ذهبت في اليوم التالي إلى السفارة وكان استقبالهم رائ ًعا‬

‫واالبتسامة تعلو وجوههم‪ ،‬ويبدوا أنهم عرفوا ما كان من السودانية‬

‫أو خطأ الموظف في إبالغنا بعدم الموافقة‪ ،‬فرحت جدً ا بما وجدته‬

‫من أعضاء المكتب خاصة القنصل العام (مها عثمان)‪ .‬كانت امرأة‬ ‫رائعة بمعنى الكلمة‪ .‬كان حديثها معي رائ ًعا‪ ،‬وتكلمت معي بطريقة‬

‫لبقة وطمأنتني بأنني سوف أعود إلى الوطن قري ًبا‪.‬‬

‫عندما تحدثت مع األخت السودانية قلت لها‪ :‬أقسم بالله العظيم‬

‫بأنني سأعود للوطن يوم ‪ 8 /16‬لقد حددت هذا التاريخ‪ .‬ولما سألوني‬

‫لماذا هذا الموعد؟ أجبتهم بأنه تاريخ عيد ميالدي‪ ،‬وأحب أن أكون‬ ‫في ليبيا خالل هذا التاريخ‪.‬‬

‫ساعدني الجميع في إصدار جوازات سفر جديدة لي والبنتي‬

‫الكبرى أما باقي األطفال فاتفقت مع السفارة إنه بإمكانهم زيارة‬ ‫الوطن بجوازاتهم اإلنجليزية‪ ،‬وسلموني الجوازات وطلبوا من أن‬

‫أزغرد فقلت لهم سوف أزغرد في بنغازي‪.‬‬

‫أعادوا لي المبالغ التي دفعتها كرسوم‪ ،‬وقالوا هذه هدية من‬

‫السفارة‪ .‬كنت في القنصلية الليبية أصعد مع السلم جر ًيا وأعود جر ًيا‪.‬‬

‫كنت أصرخ وأبكي وأضحك في آن واحد‪ .‬كانت الفرحة تغمرني‪.‬‬ ‫‪95‬‬


‫نظرات الدهشة لموظفي القنصلية كانت تالحقني‪ ،‬أقول لهم‬

‫أنتم ال تعرفون ما حدث لي وال تعرفون قيمة أن تغترب عن وطنك‬ ‫عشرين عا ًما‪ ..‬ال تعرفون قيمة أن يسمح لك بالعودة إلى بنغازي‪.‬‬

‫خرجت أحمل الفرحة بين ضلوعي وأحمل جوازات السفر الليبية‬

‫في يدي وأحمل ذكرى طيبة من معاملة أعضاء القنصلية الليبية في‬

‫لندن‪ ،‬وفي محطة القطار في طريقي إلى مانشسستر أصبت بالهذيان‬

‫كنت أحكي مع المارة‪ ،‬ومع الباعة المتجولين‪ ،‬مع كل من يقابلني‪..‬‬

‫سأعود إلى ليبيا‪ ..‬سأعود إلى ليبيا‪ ..‬وأبكي وأصرخ‪ ،‬كانوا يعتقدون‬

‫أنني مجنونة‪ ،‬وكانوا يضحكون مني‪.‬‬

‫كنت أبكي بكاء فرح‪ ،‬ولكن في داخلي كنت خائفة مرتعبة‪ ،‬أقول‬

‫لنفسي بأنني سأدخل ليبيا ولن أخرج منها‪ ،‬كانت الفرحة والخوف‬ ‫عندي متالزمان‪ ،‬وإنه ال فرق بين الفرح والخوف‪.‬‬

‫كنت أخاف من أوالدي أن يصطدموا بثقافة غير الثقافة التي‬

‫أفكارا وثقافة‬ ‫جبلوا عليها في المجتمع اإلنجليزي ألنهم يحملون‬ ‫ً‬

‫غير األفكار التي يحملها المجتمع الليبي‪ ،‬هل يا ترى سوف يرى‬

‫أبنائي بنغازي؟‪.‬‬

‫جالت كل هذه األفكار بخاطري طيلة الفترة التي سبقت عودتي‬

‫إلى أرض الوطن‪ ،‬الرحلة عبر الصحراء‪ ،‬المغرب‪ ،‬والرفاق‪ ،‬الشيخ‬

‫خليفة والشيخة (ديجالون) وسوريا‪ ،‬وسجن (كواال كامب) لم أعرف‬

‫طعم النوم كنت أرى أحالم مزعجة‪ ،‬وال أخفي عليكم عشت متوترة‪.‬‬ ‫‪96‬‬


‫حجزت تذاكر العودة وتجهزت للسفر‪ ،‬صعدت الطائرة كنت‬

‫أرتعش‪ ،‬لم أتمالك نفسي‪ ،‬وطالت الرحلة لم أكن أتوقعها بعيده كل‬ ‫هذه المسافة‪.‬‬

‫حطت الطائرة في طرابلس‪ ..‬إذن أنا في طرابلس بعد عشرين‬

‫عا ًما‪ ..‬أنهيت إجراءات الدخول بسرعة‪ ،‬لم يسألني أحد‪ ،‬لم يوقفني‬ ‫أحد‪ ..‬أنا في طرابلس‪ ،‬أبكي وأضحك وأحضن كل من ألتقي به‪،‬‬

‫أحضن ضابط الجمارك‪ ،‬وضابط الجوازات‪ ،‬وأحضن هواء بالدي‬

‫التي غادرتها بال معنى‪ ..‬بال هدف‪.‬‬

‫وجدت أهلي في مطار طرابلس في استقبالي‪ ،‬والرحلة إلى بنغازي‬

‫في اليوم التالي ذهبنا إلى الفندق في وسط العاصمة‪ ،‬لم أنم ليلتي تلك‬ ‫كنت طيلة الليل أقف في شرفة الغرفة حتى الصباح‪ ..‬كان والدي ينام‬

‫في الغرفة المجاورة‪.‬‬

‫في الصباح توجهنا إلى بنغازي‪ ،‬وبعد ساعة كانت األطول في‬

‫حياتي حطت بنا الطائرة‪ ..‬أبكي وأضحك‪ ..‬أصرخ وأزغرد‪ ..‬وعلى‬ ‫أرض المطار سجدت سجدة الشكر لله الذي يسر أمري وأعادني‬

‫إلى وطني‪.‬‬

‫استقبلتنا بنغازي بأهلها وشوارعها وأزقتها‪ ،‬لم نذق طعم النوم‪،‬‬

‫ليالي طويلة يزورنا الجيران واألصدقاء‪ ،‬كنت أفكر بما سيحدث‬

‫ألطفالي‪ ،‬ولكني فوجئت بأنهم يرفضون الخروج من ليبيا والعودة‬ ‫إلى إنجلترا‪.‬‬

‫‪97‬‬


‫بين بيت والدي وبيت أهل زوجي عشت أيامي األولى بعد عودتي‪،‬‬ ‫ومع مرور الوقت بدأت أشعر بقلق من العبء الذي وضعت فيه‬ ‫أهلي‪ ..‬فالمصروفات زادت عليهم وأصبحت أراهم يتضايقون حتى‬ ‫وإن لم يصرحوا لي بذلك‪.‬‬ ‫صباحا إلنجاز بعض األعمال‬ ‫ولكن كنت أخرج من البيت‬ ‫ً‬ ‫اإلدارية‪ ..‬تسجيل األوالد غير المسجلين بكتيب العائلة‪ ،‬وبعض‬ ‫اإلجراءات اإلدارية األخرى‪.‬‬

‫تقدمت بملف للحصول على بيت بمدينتي التي أحببتها‪ ..‬ولكن‬ ‫لم تجرى األمور مثل ما كنت أتوقع‪ ،‬فقد تكسرت األحالم التي بنيتها‬ ‫في مكاتب البيروقراطية وإجراءاتها الطويلة والمعقدة‪.‬‬

‫وبعد صراع طويل مع اإلجراءات قررنا العودة إلى بيتنا في الغربة‪..‬‬ ‫بيتنا في المهجر بعد أن عجزنا عن إيجاد مأوى في الوطن وبعد أن‬ ‫ذهبت الوعود أدراج الرياح‪.‬‬ ‫عدنا إلى مانشسستر وسارت حياتنا طبيعة حتى ّقرر زوجي العودة‬ ‫إلى بنغازي عن طريق مصر‪ ،‬ورافقته في الرحلة بنتان من بناتنا‪ ،‬وبقيت‬ ‫أنا في مانشسستر‪.‬‬

‫‪98‬‬


‫التكفير والهجرة‬ ‫نشأت جماعة التكفير والهجرة داخل السجون المصرية بعد‬ ‫اعتقاالت ‪1965‬م في بادئ األمر‪ ،‬وبعد إطالق سراح أفرادها تبلورت‬ ‫أفكارها على يد شخص يدعى (شكري مصطفى)‪ ،‬وهو المؤسس‬ ‫الثاني لها‪ ..‬أما المؤسس األول فهو (علي إسماعيل) الذي رجع إلى‬ ‫رشده وأعلن براءته من األفكار التي كان ينادي بها‪ ..‬وأكثر أتباعها‬ ‫في صعيد مصر‪ ،‬وبين طلبة الجامعات الخاصة‪ ،‬وهم ينتهجون مبدأ‬ ‫السمع والطاعة‪ ،‬الذي مارسته معظم الجماعات اإلسالمية بطرق‬ ‫متفاوتة بينها وبين بعضها‪ ،‬وبصفة عامة يمكن القول أن مبدأ السمع‬ ‫و الطاعة من األسس الفكرية التي قامت عليها معظم الحركات‬ ‫اإلسالمية‪ ،‬ولكنه ينشط جدً ا ويتمدّ د عند جماعات التكفير و يقل‬ ‫كلما اتجهنا إلى الجماعات السلفية‪.‬‬ ‫تعتبر جماعات التكفير أن والية أمير الجماعة هي والية شرعية‬ ‫أخذتها من النصوص الشرعية التي تفيد وجوب وجود أمير لكل‬ ‫زمان‪ ،‬وأنه البد من وجود البيعة في عنق كل مسلم وإال مات ميتة‬ ‫‪99‬‬


‫جاهلية‪ ،‬كما ذكرت األحاديث النبوية‪ ،‬ونحن ال نقر ذلك ألن هذه‬ ‫األحاديث النبوية تعلقت بالنظام السياسي للدولة اإلسالمية الذي‬ ‫يرتكز على وجود الخالفة اإلسالمية وتكون فيه البيعة للخليفة‪ ،‬أي أن‬ ‫جماعة المسلمين والتي ورد ذكرها في حديث حذيفة يقصد بها عامة‬ ‫المسلمين وعليهم إمام أو خليفة كما ذكرت األحاديث النبوية‪ ،‬وهذا‬ ‫التفسير ليس تفسيري الشخصي بل هي آراء معظم فقهاء المسلمين‪.‬‬

‫هذا الرأي تجاهلته جماعات إسالمية كبيرة واعتبرت اإلخوان‬ ‫نفسها جماعة المسلمين وليس جماعة من المسلمين‪ ،‬وهذا هو الخط‬ ‫المشترك األول بين جماعة المسلمين (التكفير والهجرة) واإلخوان‬ ‫المسلمين‪ ،‬أما الخط المشترك الثاني فهو مبدأ السمع و الطاعة‪.‬‬

‫كان من العجيب أن يحدث االنشقاق الكبير داخل جماعة التكفير‬ ‫والهجرة بنفس الطريقة التي افترقت عليها أولى مجموعات الخوارج‬ ‫كما يذكر األشعري في كتابه (مقاالت اإلسالميين)‪.‬‬

‫فقد تولى أمر الجماعة بعد إعدام شكري مصطفى محمد األمين‬ ‫عبد الفتاح وكنيته (أبو الغوث)‪ .‬في هذه اآلونة كان محمود فهمي‬ ‫أمير الجماعة الحالي مازال طال ًبا في كلية الفنون التطبيقية ـ وحدث‬ ‫أن تقدم شاب لخطبة ابنة واحد من أفراد الجماعة‪ ،‬واستشار أحد‬ ‫أفراد الجماعة وهو وحيد عثمان وأفتاه أنه يجوز أن يزوج ابنته بدون‬ ‫رأي األمير ألن هذا من الشؤون التي ال يشترط أن يستشار فيها األمير‬ ‫وعلم األمير بالفتوى وكانت القاصمة‪ ،‬وأصر وحيد على رأيه واعتبرها‬ ‫خروجا على الطاعة وأنه البد من موافقة األمير على الزواج لكي‬ ‫األمير‬ ‫ً‬ ‫‪100‬‬


‫صحيحا ألنها ابنة واحد من الجماعة‪ ،‬وتم تزويج الفتاة بدون‬ ‫يكون‬ ‫ً‬ ‫موافقة األمير أبي الغوث فأعلن كفر وحيد ووالد الفتاة وخروجهم‬ ‫من الجماعة‪ ،‬وكانت الطامة الكبرى داخل الجماعة حيث انحاز عدد‬ ‫من الجماعة إلى فكر وحيد عثمان ورأوا أنه ال يجب استئذان األمير‬ ‫في شئون الدنيا الخاصة مثل الزواج وغيره‪ ،‬وأعلن من جانب وحيد‬ ‫عثمان أنه أمير جماعة المسلمين الجديد وأن الجماعة األخرى ال تنفذ‬ ‫أحكام الدين الصحيح وبايعه بعض أفراد الجماعة‪ ،‬أما الخط األصلي‬ ‫للجماعة والذي كان امتدا ًدا لشكري ً‬ ‫ممثل في أبي الغوث فقال إنهم‬ ‫كفار‪ ،‬وسميت الجماعة الجديدة باسم (جماعة وحيد الخائن)‪.‬‬ ‫ظل هناك صراع داخلي بسبب الجدل الذي احتدم حول ما إذا‬ ‫كانت جماعة (وحيد الخائن) كفار أم ال؟ وذلك ألن وحيد لم يخالف‬ ‫آراء شكري وال كتبه وظلت الجماعة على نفس األفكار والمفاهيم‬ ‫القديمة‪ ،‬واستمرت جماعة وحيد «الخائن» في الدعوة والعمل‬ ‫انتشارا من خط أبي الغوث‪ ،‬وزاد‬ ‫لجماعة المسلمين بشكل أكثر‬ ‫ً‬ ‫من أماكن انتشار الجماعة وتوسع في الهجرة الداخلية للجماعة‪،‬‬ ‫وكانت المجموعة التي تم القبض عليها في مطلع ‪ 2002‬تنتمي إلى‬ ‫مجموعة وحيد عثمان‪ ،‬ولكن ذلك ال يعني أن المجموعة األخرى‬ ‫صحيحا‪ .‬فقد باشرت الدعوة والهجرة الداخلية‬ ‫قد انتهت فهذا ليس‬ ‫ً‬ ‫ولكنها زادت في الهجرة الخارجية وخاصة إلى الجزيرة العربية‬ ‫سواء إلى السعودية أو إلى اليمن‪ ،‬كما كان ينصح شكري بالهجرة‬ ‫إلى اليمن لألحاديث الواردة في فضل اليمن‪ ،‬بل وبدأت الهجرة إلى‬ ‫‪101‬‬


‫بعض الدول األوربية‪ ،‬ولعل هذا مما قد يثير عجب البعض‪ ،‬فلماذا‬ ‫يهاجرون إلى بالد الكفر؟ ولكن القاعدة التي استندوا عليها هي أن‬ ‫أي بلد تتشابه مع ظروف الحبشة من األمان والحاكم العادل يجوز‬ ‫الهجرة إليها‪ ،‬حتى أن محمد األمين عبدالفتاح نفسه سافر واستقر‬ ‫في السعودية وساعد كثير من أفراد الجماعة على الهجرة سواء إلى‬ ‫السعودية مثله أو إلى بعض البلدان األوربية‪.‬‬ ‫هذه باختصار هي قصة االنشقاق التي حدثت داخل جماعة التكفير‬ ‫علما‬ ‫القراء يحيطون ً‬ ‫والهجرة‪ ،‬أحببت أن أسردها باختصار ألجعل ّ‬ ‫بخلفية أحداث «ديجالون»‪.‬‬

‫‪102‬‬


‫صدر في هذه السلسلة‬ ‫‪ 1‬ـ (قراءات في السلم والحرب)‪ ،‬عبدالمنعم المحجوب‪.‬‬ ‫‪ 2‬ـ (حبر المنفى)‪ ،‬عمر الكدي‪.‬‬

‫‪ 3‬ـ (خاليا نائمة)‪ ،‬محمود البوسيفي‪.‬‬ ‫‪ 4‬ـ (أوراق تاريخية)‪ ،‬مختار الجدال‪.‬‬

‫‪ 5‬ـ (ما وراء الحجاب)‪ ،‬فتحي بن عيسى‪.‬‬ ‫‪ 6‬ـ (منفى)‪ ،‬ديوان شعر ـ عمر الكدي‪.‬‬

‫‪ 7‬ـ (مفهوم القوة في السياسة الدولية)‪ ،‬خالد الحراري‬

‫جو ْك)‪ ،‬قصائد محكية بلهجة ليبية‪ ،‬سالم العالم‪.‬‬ ‫‪ 8‬ـ ( َعلى ّ‬ ‫‪ 9‬ـ (موسوعة الجهل النسبي)‪ ،‬مقاالت‪ ،‬الصدِّ يق بودوارة‪.‬‬

‫‪ 10‬ـ (راهنية التأويل (‪-)2‬سؤال الكيان)‪ ،‬عبد المنعم المحجوب‪.‬‬ ‫‪ 11‬ـ (الدولة البيزنطية في ضوء إصداراتها القانونية)‪ ،‬خيرية فرج َحفالِش‪.‬‬ ‫‪ 12‬ـ (من الذاكرة)‪ ،‬حسين نصيب المالكي‪.‬‬

‫‪ 13‬ـ (اليد الواحدة)‪ ،‬عبدالباسط أبوبكر محمد‪.‬‬ ‫‪ 14‬ـ (أصحاب المغيب)‪ ،‬سالم الهنداوي‪.‬‬

‫‪ 15‬ـ (داعشلوجيا)‪ ،‬عبدالواحد حركات أبوبكر‪.‬‬

‫‪ 16‬ـ (ديوان‪ :‬صالح الشنطة)‪ ،‬جمع وتحقيق‪ /‬د‪ .‬عمر غيث قرميل‪.‬‬

‫‪ 17‬ـ (زغاريد ودموع ‪ ..‬من حياة النجوع)‪ ،‬فرج عبد الحميد المسماري‪.‬‬ ‫‪ 18‬ـ (تفاحة البرلمان)‪ ،‬عبد الرحمن سالمة‪.‬‬ ‫‪ 19‬ـ (سطوة الكالب)‪ ،‬عوض الشاعري‪.‬‬



Issuu converts static files into: digital portfolios, online yearbooks, online catalogs, digital photo albums and more. Sign up and create your flipbook.