مجلة الملحدين العرب / العدد الحادي والسبعون / أكتوبر تشرين أول / 2018

Page 1

‫مجلة شهرية بجهود فردية تصدر يف الثاين عرش من كل شهر‬

‫االنفصام العقيل اإلسالمي‬ ‫د‪.‬عبد العزيز القناعي‬

‫كيف نعرف الخطأ من‬ ‫الصواب؟‬

‫بسام البغدادي‬

‫زريعة إبليس (قصة)‬

‫العدد الحادي السبعون من مجلة امللحدين العرب ‪ -‬أكتوبر ‪ /‬ترشين أول لسنة ‪.2018‬‬

‫‪Hades Nostravinci‬‬

‫يف نقد ناقدي الحداثة‬

‫وما بعد العلامنيني والعامل العريب‬

‫تهدف مجلّة امللحدين العرب إىل نرش وتوثيق أفكار امللحدين العرب املتنوعة وبحريّ ٍة كاملة‪ ،‬وهي مجلّ ٌة رقمي ٌة غري ربح ّية‪ ،‬مبني ٌة‬ ‫أي توج ٍه سيايس‪ .‬املعلومات واملواضيع املنشورة يف املجلّة متثل آراء كاتبيها فقط‪ ،‬وهي مسؤول ّيتهم من‬ ‫بجهو ٍد طوعي ٍة ال تتبع َّ‬ ‫الناحية األدب ّية ومن ناحية حقوق النرش وحفظ امللك ّية الفكريّة‪.‬‬


‫كلمة تحرير املجلة‬

‫‪‎‬منذ أن انطلقت مجلة امللحدين العرب بإصدار أول أعدادها يف الثاين عرش من‬ ‫ديسمرب ‪2012‬م ونحن يف فريق تحرير وإنتاج هذه املجلة وجميع العاملني‬ ‫فيها وكتّابها نعمل جاهدين عىل الدوام لتحقيق أمرين مهمني‪ ،‬األول هو‬ ‫مصداقي ٌة وحيادي ٌة عالي ٌة بقدر املستطاع مبا معنا من إمكانيات‪ .‬فقد عرفنا‬ ‫من تجربتنا الحيّة يف شبكة امللحدين العرب أن للحقيقة والنزاهة قو ٌة ووز ٌن‬ ‫وأث ٌر يف عقول وقلوب القراء من األصدقاء بل واألعداء أيضً ا‪ ،‬وأن الكلمة‬ ‫عندما تقال بشكلٍ صحي ٍح تحمل قيمتها ليس عرب العقول بل وعرب السنوات‬ ‫ورمبا العقود أيضً ا‪.‬‬

‫فريق التحرير‬

‫املشارك يف هذا العدد‬

‫رئيس التحرير‬ ‫الغراب الحكيم‬ ‫أعضاء هيئة التحرير وبناء املجلة‬ ‫‪John Silver‬‬ ‫‪Gaia Athiest‬‬ ‫أسامة البني (الوراق)‬ ‫‪Alia’a Damascéne‬‬ ‫غيث جابري‬ ‫‪Abdu Alsafrani‬‬ ‫‪Raghed Rustom‬‬ ‫‪Johnny Adams‬‬ ‫ليث رواندي‬ ‫‪Rama Salih‬‬ ‫‪Sami Jamal‬‬ ‫‪Olga Loutfi‬‬ ‫‪Osama al Abbas‬‬ ‫إيهاب فؤاد‬ ‫‪Yonan Martotte‬‬ ‫‪Liza Paloulian‬‬ ‫‪Saad Taher‬‬

‫األمر الثاين الذي كنا نفهمه ونعمل عليه دو ًما هو تجديد دماء املرشوع من‬ ‫خالل التغيري والتحول والرتحيب مبتطوعني جد ٍد وتوديع متطوعني آخرين‬ ‫كم كبريٍ من مشاعر الصداقة والعرفان‪‎.‬‬ ‫قدامى آثرت الظروف أن يرتكونا مع ٍ‬ ‫رضوري ومه ٌّم عىل عدة‬ ‫مرشوعنا وإن كان صغ ًريا عىل الساحة العاملية إال أنه‬ ‫ٌّ‬ ‫أصعد ٍة وأهمها هو توثيق صوت امللحدين واملفكرين األحرار العرب الذي‬ ‫تتظافر كل القوى واملصالح واأليديولوجيات ملحوه من الوجود‪ ،‬فكم من‬ ‫كاتب أو صاحب ٍ‬ ‫صوت وفكر ٍة أكله النسيان بعد أن قامت املؤسسة‬ ‫مف ّك ٍر أو ٍ‬ ‫السائدة بسحقه وسحق ذكراه إىل األبد‪ .‬كم من ر ٍ‬ ‫جرم‬ ‫افض لحكم السلطان أو ِ‬ ‫األغلبية قُلع لسانه وفُقئت عينيه إلخافة باقي الشعب من رؤية الحقيقة‬ ‫والتعبري بالكلمة وقول ال «يف وجه من قالوا نعم»‪‎.‬‬ ‫ما ترى يقول ذلك املكلوم املنيس إذا ما عرف أنه يُذكر اليوم كمط ّبلٍ للسلطان‬ ‫والشيخ والكنيسة وأنهم يتفاخرون به كأحد أبطالهم وخنجرهم ال يزال‬ ‫ملط ًخا بدمه‪.‬‬ ‫ونعب‬ ‫‪‎‬لهذا السبب ِحفظ ونرش صوت امللحدين مهم‪ .‬ومن األهم أن نتكلم ّ‬ ‫وأل ت ُنىس كلامتنا وأفكارنا‪ ،‬وأن نزرع هذه األفكار يف أرض الشبكة العنكبوتية‬ ‫ّ‬ ‫التي ال تعرف النسيان‪ .‬و إن كنا لن نرى مثار عملنا اليوم (وزهور هذه‬ ‫الشجرة باتت عىل مرمى البرص) فأبناؤنا يف الغد وأبناؤهم من بعدهم هم‬ ‫من سيجنون مثار ما نقوم به يف ٍ‬ ‫غد أفضل‪‎.‬‬ ‫وكام قال األعرايب الكهل الذي ُسئل ملاذا تزرع النخل وأنت لن تعيش لتأكل‬ ‫مثره يف القصة الشعبية‪:‬‬ ‫«زرعوا فأكلنا‪ .‬ونزرع فيأكلون»‬ ‫يسعدين ويرشفني استالم مهام رئاسة تحرير املجلة ويسعدين أن أرحب بكل‬ ‫الزمالء والزميالت الجدد الذين انضموا ألرسة التحرير‪ ،‬وال يسعنا إال أن نشكر‬ ‫تلك األصوات الخرساء واأللسنة املقطوعة واألفكار املقموعة عرب التاريخ‪،‬‬

‫‪2‬‬

‫ونقول لهم إننا نتذكركم وإننا سنكمل الطريق م ًعا‬ ‫نحو مستقبلٍ منري‪.‬‬ ‫الغراب الحكيم‬


‫الفهرس‬ ‫كلمة تحرير املجلة‬

‫‪2‬‬

‫الفهرس‬

‫‪3‬‬

‫االنفصام العقيل اإلسالمي‬ ‫د‪ .‬عبد العزيز القناعي‬

‫‪4‬‬

‫كيف نعرف الخطأ من الصواب؟‬ ‫بسام البغدادي‬

‫‪10‬‬

‫قراءة يف كتاب‪( :‬داعش)‪ :‬حكاية مسخ ‪15‬‬ ‫اإلسالم السيايس من املنبع إىل املصب جـ ‪2‬‬ ‫د‪ .‬جواد بشارة‬ ‫زريعة إبليس (قصة قصرية)‬ ‫‪Hades Nostravinci‬‬

‫‪34‬‬

‫يف نقد ناقدي الحداثة‬ ‫وما بعد العلامنيني والعامل العريب‬ ‫د‪ .‬يارس ضحوي‬

‫‪40‬‬

‫سرية محمد بن آمنة‬ ‫ترجمة عن منشورات شاريل إيبدو‬

‫‪54‬‬

‫كاريكاتور‬

‫‪64‬‬

‫‪3‬‬


‫االنفصام العقيل اإلسالمي‬ ‫د‪.‬عبد العزيز القناعي‬

‫يُعد انفصام الشخصية من أكرث االضطرابات العقلية شيو ًعا‪،‬‬ ‫كام أنه يتضمن أعراض الذهان‪ ،‬وغال ًبا ما يوصف انفصام‬ ‫الشخصية بالتفكك العقيل حيث يؤثر ذلك االضطراب عىل‬ ‫التفكري واملشاعر والسلوك بطريق ٍة تجعل املصاب به يواجه‬ ‫مشكل ًة يف أداء العديد من املهام البرشية املتنوعة‪.‬‬

‫وهو األفكار واملعتقدات والخواطر املوجودة يف الذهن‬ ‫أساس واقعي‪ ،‬ويرص الشخص عليها بيق ٍني ثابت‪.‬‬ ‫وليس لها ٌ‬ ‫أي أنه يقاوم النقد املوجه له وألفكاره ويعتربه كف ًرا بالدين‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫ترصفات متناقض ًة تؤدي بالتايل‬ ‫وكث ًريا ما تنتج هذه الظاهرة‬ ‫إىل واقعٍ غارقٍ بالنفاق والكذب والتربير الالعقالين‪ .‬ومن‬ ‫اعراض هذا االنفصام الذي تتعايش معه غالبية الشعوب‬ ‫العربية واإلسالمية‪:‬‬

‫ومن أمثلة أعراض انفصام الشخصية الهالوس واألوهام‬ ‫الذهانية وعدم ترابط الكالم والسلوك املضطرب‪ ،‬وكذلك‬ ‫فقد اإلرادة وانعدام املشاعر أو تشويهها‪.‬‬ ‫بينام االنفصام العقيل اإلسالمي‪ ،‬موضوع املقال‪ ،‬هو ظاهر ٌة‬ ‫نفسي ٌة تصيب العقول املؤدلجة دين ًيا واملتعصبة أو الغارقة‬ ‫يف ماضيها دون أن متيز السلبيات عن اإليجابيات‪.‬‬

‫* نكران الواقع‪.‬‬ ‫* تسطيح الحضارة‪.‬‬ ‫* االنسحاب االجتامعي‪.‬‬ ‫* الكذب والنفاق‪.‬‬ ‫‪4‬‬


‫االنفصام العقيل اإلسالمي‬ ‫وليك يثبت املصاب بهذا املرض أن معتقداته صحيح ٌة وغري باطلة‪ ،‬فإنه ينكر الواقع متا ًما وال يعزوه إىل تفوق اآلخر املختلف‬ ‫واهتامم اإلنسان بالعلم والفلسفة والفنون‪ ،‬بل يرص ارصا ًرا تا ًما بأن سبب فشل العرب واملسلمني هو ابتعادهم عن اإلسالم‬ ‫وخصوصا فيام‬ ‫وتعاليمه ومبادئه وحدوده الرشعية‪ ،‬وبالتايل يخلق يف وعيه أن الغرب تق ّدم بسبب رسقتهم ملبادئ اإلسالم‬ ‫ً‬ ‫يسمى بالعرص الذهبي للحضارة اإلسالمية‪ ،‬ومل يكلف هذا املريض نفسه بأن يطّلع عىل كتبه الدينية أولً وليس كتب‬ ‫لكل من الفالسفة واملفكرين الذين طالبوا بإعامل العقل واملنطق‬ ‫املسترشقني ليك يطّلع عىل الجرائم واملذابح التي حدثت ٍّ‬ ‫يف سبيل التقدم‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫بجديد يف معرفة بعض‬ ‫وقراءة اإلسالم قراء ًة تاريخي ًة عقالني ًة تلغي القداسة وتعيل من شأن اإلنسان والواقع‪ ،‬ورمبا لن نأيت‬ ‫هذا التاريخ الدموي حني نعرف أن الطربي ُقتل‪ ،‬وأن الحالج املتصوف اإلسالمي املشهور‪ ،‬اتهمه الخليفة املقتدر بالله بالكفر‬ ‫وحكم عليه باملوت‪.‬‬ ‫فضب بالسياط نحو ألف سوط‪ ،‬ثم قطعت‬ ‫ُ‬ ‫يداه ورجاله‪ ،‬ثم ُضبت عنقه‪ ،‬وأُحرقت جثته‬ ‫بالنار ثم ألقي ما بقي من تراب جثته يف نهر‬ ‫دجلة‪ ،‬وأن املعري ُحبس‪ ،‬و ُسفك دم ابن حيان‪،‬‬ ‫ُونفي ابن املنمر‪ ،‬وأُحرقت كتب الغزايل وابن‬ ‫رشد واألصفهاين وات ُّهموا يف إميانهم‪ ،‬و ُكفِّر‬ ‫الفارايب والرازي وابن سينا والكندي والغزايل!‬ ‫وهل يعلم املريض بعقدة االنفصام أن ابن املقفع الذي كان يجمع بني لغة العرب وصنعة الفرس وحكمة اليونانيني‪ ،‬ومؤلف‬ ‫وكتب أخرى كثري ٍة توضح ما ينبغي أن يكون عليه الحاكم إزاء الرعية‪ ،‬وما يجب أن تكون عليه الرعية‬ ‫كتاب كليلة ودمنة ٍ‬ ‫إزاء الحاكم‪ ،‬أغضب الخليفة املنصور يف صدر العرص العبايس األول‪.‬‬ ‫فاتهم ابن املقفع بالكفر‪ ،‬وقُطعت أطرافه وفصلت رأسه‪ ،‬وألقي بباقي جسده يف النار ثم شويت أمامه ليأكل منها قبل أن‬ ‫يلفظ أنفاسه بأبشع أنواع التعذيب‪.‬‬ ‫وهل يعلم من يرى الحضارة اإلسالمية بأنها‬ ‫نجحت بفضل الدين بأن الجعد بن درهم مات‬ ‫مذبو ًحا‪ ،‬وعلّقوا رأس أحمد بن نرص وداروا به‬ ‫يف األزقة‪ ،‬وخنقوا لسان الدين بن الخطيب‬ ‫وحرقوا جثته‪ ،‬وكفّروا ابن الفارض وطاردوه يف‬ ‫كل مكان‪.‬‬ ‫‪5‬‬


‫االنفصام العقيل اإلسالمي‬ ‫مقتول‬ ‫ً‬ ‫ورمبا ال يعلم ذلك املريض باالنفصام أن السهروردي شيخ االسترشاق املتصوف يف عرص صالح الدين األيويب مات‬ ‫بنفس الطريقة التي قُتل بها الحالج من قبل‪.‬‬ ‫عم قالوه عن ابن سينا الطبيب والعامل والفقيه والفيلسوف‪ ،‬وما قاله عنه ابن القيم يف كتابه إغاثة اللهفان‬ ‫وعليه أن يعلم ّ‬ ‫حيث قال‪« :‬إنه إمام امللحدين الكافرين بالله ومالئكته وكتبه ورسله واليوم اآلخر»‪ ،‬وقال عنه الكشمريي يف فيض الباري‪:‬‬ ‫«ابن سيناء امللحد الزنديق القرمطي»‪ ،‬وما قالوه عن أيب بكر الرازي‪ ،‬الطبيب والعامل والفيلسوف‪ .‬قال عنه ابن القيم يف‬ ‫«إغاثة اللهفان»‪« :‬إن الرازي من املجوس»‪ ،‬و«إنه ٌ‬ ‫ضال ُمضلّل»‪ .‬وقالوا عن ابن الهيثم‪« :‬إنه كان من املالحدة الخارجني عن‬ ‫دين اإلسالم‪ ،‬وكان سفي ًها زنديقًا كأمثاله من الفالسفة»‪ ،‬وقالوا عن أيب العالء أحمد بن عبد الله املعري‪« :‬إنه كان من مشاهري‬ ‫الزنادقة‪ ،‬ويف شعره ما يدل عىل زندقت ٍه وانحالله من الدين»‪ ،‬وقالوا عن محمد بن عبد الله بن بطوطة‪« :‬إنه كان مرشكًا‬ ‫ضال»‪.‬‬ ‫كذابًا»‪ ،‬وشتموا الكندي‪ ،‬وقالوا عنه‪« :‬إنه كان زنديقًا ً‬ ‫غيض من ٍ‬ ‫فيض يوضح األىس القهر الذي كان يعيش فيه من يفكر ويعمل من أجل صالح اإلسالم واملسلمني‪ ،‬ويوضح‬ ‫هذا ٌ‬ ‫خصوصا يف قمع الحريات والفلسفة والتفكري‪.‬‬ ‫أيضا قوة وهيمنة املؤسسة الدينية يف التاريخ البرشي عمو ًما واإلسالمي‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ولهذا فإن إنكار الواقع هو السياج األول الذي يتم استخدامه من ِقبل كهنة الدين إلبقاء املسلم بعي ًدا عن التطورات وأسس‬ ‫التقدم ليبقى العقل املسلم أسري املايض والجهل ليتشكل لدينا افرا ٌد يعانون من االنفصام واإلزدواجية‪.‬‬ ‫ومن حالة نكران الواقع ينتج لدى املريض حال ٌة من تفكريٍ وثقافة تسطح الحضارة الحالية‪ ،‬وتطلق عىل من ميارسها ويعمل‬ ‫بها ويكتشف االخرتاعات واإلبداعات مجرد كفا ٍر قد تم تسخريهم لخدمة املسلمني‪.‬‬ ‫فأي ٍ‬ ‫عبث واستحقا ٍر وازدرا ٍء لهذا الجهد البرشي العظيم يف ترقية اإلنسان والعمل عىل شفائه ورفاهه وإطالق طاقاته‬ ‫ٍ‬ ‫مجتمعات إنساني ٍة خالي ٍة من الكراهية والحروب؟؟‪...‬‬ ‫للوصول إىل‬ ‫وملاذا ال يفهم هذا املريض بأن الدعوات التي تستهدف احتقار الكفار وازدراء الحضارة العلمية تهدف يف حقيقتها إىل‬ ‫تكريس الجهل والتخلف‪ ،‬ومصادرة محفزات اإلبداع من املجتمع العريب‪ ،‬وحرمانه من حقوقه اإلنسانية‪ ،‬بحيث يُصبح غري‬ ‫قاد ٍر عىل مواجهة التحديات‪ ،‬ورمبا تدفعه إىل التقهقر والرتاجع نحو العصور املتزمتة املتشددة املتصلبة‪ ،‬باالتجاه الذي يرمي‬ ‫إىل كبح جامح حرية الفكر والعودة بها إىل حظرية الفرتة املظلمة التي خرسنا فيها كل يش ٍء تقري ًبا‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫حاالت عقلي ٍة ونفسي ٍة ضار ٍة باإلنسان‬ ‫ومل يقف مرض االنفصام العقيل اإلسالمي نحو هذا األمر فقط بل تعداه إىل خلق‬ ‫واملجتمع‪.‬‬ ‫فاالنسحاب االجتامعي مرحل ٌة الحق ٌة سلوك ًيا بعد أن ينغلق العقل عىل نفسه‪ ،‬وبعد أن تتشكل جدارات الكراهية والعداء‬ ‫ورفض اآلخر املختلف‪ ،‬فينسحب الفرد املريض اجتامع ًيا من الواقع وينفصل عن مجتمعه‪ ،‬لتتشكل أسوأ مراحل مواجهة‬ ‫‪6‬‬


‫االنفصام العقيل اإلسالمي‬ ‫ات جهادي ٍة أصولي ٍة تتخذ من الجبال واألماكن النائية مقر ٍ‬ ‫الحضارة عرب تشكيل تيار ٍ‬ ‫ات لها لتتامهى مع العرص األول لإلسالم‬ ‫ٍ‬ ‫مخيامت‬ ‫واستعادة عرص الصحابة والرسول ومعيشتهم يف الصحراء‪ ،‬وهذا ما رأيناه من تيارات التكفري والهجرة‪ ،‬وإقامة‬ ‫وخصوصا يف منطقة الخليج العريب لتدريب صغار السن عىل تعاليم الجهاد‬ ‫إسالمي ٍة يف العرص الحايل للتيارات اإلسالمية‬ ‫ً‬ ‫واملوت واالنسحاب من املجتمع عقائديًا وفكريًا‪.‬‬ ‫حرب يجوز فيها قتل املسلمني واستباحة‬ ‫ومل يقترص األمر عند هذا الحد بل تطور إىل كراهية املجتمع وتكفريه واعتباره دار ٍ‬ ‫اعراضهم واموالهم بحكم أنهم قو ٌم ال يطبقون الرشيعة وال يحكمون مبا أنزل الله‪.‬‬ ‫فابتعد املريض عقل ًيا عن نفسه وعن القيام مبهامت الحياة العادية‪ ،‬وترافق معه إحبا ٌط وتوت ٌر وخيبة أملٍ لعدم تطبيق‬ ‫الرشيعة‪ ،‬وانتج ذلك يف مجتمعاتنا إصابة العديد من شعوبنا بحال ٍة من عدم التعاون وعدم الشعور باملسؤولية‪ ،‬وأحيانًا كثري ًة‬ ‫الهروب إىل الجهاد واملوت لوضع نهاي ٍة مأساوي ٍة لحياة اإلنسان بعد أن يفقد قيمة الحياة‪.‬‬ ‫ولعل من أخطر نتائج االنفصام العقيل اإلسالمي‪ ،‬هو ما أصاب املؤسسات الدينية ورجال الدين والفقهاء‪ ،‬فالعديد منهم مل‬ ‫يتوقف عند توريث الجهل والوصاية والكراهية وإدامة الحالة املرضية واالنفصال عن الواقع‪ ،‬بل تعداه إىل الكذب الرصيح‬ ‫والنفاق االجتامعي‪.‬‬ ‫فالكثري من الفقهاء والدعاة اليوم أصبحوا يكذبون‬ ‫ليل ونها ًرا‪ ،‬فتار ًة يدعون الشعوب إىل الجهاد وقتال‬ ‫ً‬ ‫الكفار واستباحة الدماء بينام هم يف قصورهم‬ ‫يسكنون ويركبون أفخم السيارات ويتزوجون‬ ‫مثنى وثالثَ ورباع وال تكون عطلهم الصيفية إال يف‬ ‫ربوع بريطانيا وتركيا والغرب الكافر الذي يدعون‬ ‫عليهم باملوت وبرتمل نسائهم وقتل أوالدهم‪.‬‬ ‫وتار ًة أخرى يدعون إىل محاربة االختالط وقمع‬ ‫املرأة وتحجيبها وفرض القوامة والوصاية عىل‬ ‫حياتها يف مجتمعاتهم‪ ،‬بينام أوالدهم وبناتهم‬ ‫يدرسون يف جامعات الغرب ويختلطون بأوالد‬ ‫وبنات الغرب الكافر!!‬ ‫فهل هناك وقاح ٌة أكرب من هذا الترصف؟ وهل هناك انحطا ٌط أخالقي ودناء ٌة فكري ٌة أسوأ من هذا السلوك والثقافة؟‪.‬‬ ‫إن الغالبية من املسلمني واملصابني مبرض االنفصام اإلسالمي‪ ،‬ال يحتاجون إىل الرقية الرشعية وال إىل الحجامة‪ ،‬وبالتأكيد ليس‬ ‫االستفادة من بول البعري لشفائهم‪.‬‬ ‫‪7‬‬


‫االنفصام العقيل اإلسالمي‬ ‫بل يحتاجون إىل إعادة تأهيلٍ‬ ‫وإخالقي وثقايف؛ يحتاجون إىل إطالق حرياتهم الفكرية ومعالجة إخفاقاتهم النفسية‬ ‫نفيس‬ ‫ٍّ‬ ‫ٍّ‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ومؤسسات مدني ٍة ودساتري حقوقي ٍة‬ ‫حكومات وأنظم ٍة رشيد ٍة‬ ‫مجتمعات مختلط ٍة تحرتم اإلنسان‪ ،‬يحتاجون إىل‬ ‫وإدماجهم يف‬ ‫تؤمن باإلنسانية وتنتهج العلامنية كسبيلٍ إىل تحقيق العدالة والحرية واملساواة‪،‬‬ ‫يحتاجون إىل مناهج تعليمي ٍة تقوم عىل النقد والسؤال والشك والحوار‪ ،‬يحتاجون إىل تكريس قيم الدميقراطية وحقوق‬ ‫اإلنسان واحرتام املرأة وتربية األطفال وفقًا التفاقيات حقوق األطفال‪،‬‬ ‫رش أسوياء وأنهم ميلكون حياتهم وأن املستقبل يخلقه من يعمل وينتج ويفكر وليس من‬ ‫يحتاجون إىل من يُشعرهم بأنهم ب ٌ‬ ‫يتبع التعاليم القدمية وال من يصيل فقط أو يدعو السامء‪.‬‬ ‫فالسامء يف النهاية ال تعطينا سوى األمطار‪.‬‬

‫‪8‬‬


9


‫كيفنعرفالخطأمنالصواب؟‬

‫بسام البغدادي‬

‫مفرتس بافرتاس إنسان؟ هل‬ ‫ماذا لو قام حيوا ٌن‬ ‫ٌ‬ ‫فَعل الحيوان هذا ألن ُه كائ ٌن رشي ٌر أم هي غريزة‬ ‫كائن آخر؟باملقابل‪ ،‬ماذا‬ ‫االفرتاس التي تدفعه لقتل ٍ‬ ‫مثل مبامرسة‬ ‫رجل يف الخمسني من العمر ً‬ ‫لو قام ٌ‬ ‫الجنس مع طفل ٍة عمرها تسعة سنني؟ أال يقوم هو‬ ‫كذلك مبامرسة غريزته الجنسية والتي تطلب من ُه‬ ‫مامرسة الجنس مع كل أنثى يراها؟‬ ‫‪10‬‬


‫كيفنعرف‬ ‫الخطأ من الصواب؟‬ ‫بسام البغدادي‬

‫أين الخطأ والصواب يف األمثلة أعاله؟ هل هناك ُمغالط ٌة يف املقارنة بني غرائز اإلنسان والكائنات األخرى؟ يك نفهم هذا‬ ‫علينا أن نفهم ما الفرق بني الخطأ والصواب؟ وهل نستطيع أن نفهم الخطأ من الصواب دون منظوم ٍة ديني ٍة أو رشائع‬ ‫ساموي ٍة تدلنا عىل ذلك؟‬ ‫املقارنة بني غرائز الحيوانات املتفرسة وغرائز البرش مقارن ٌة غري عادل ٍة لسببني محددين‪.‬‬ ‫أولهام أن اإلنسان ميتلك منظوم ًة اجتامعي ًة وأخالقي ًة مختلف ًة مل يستطع كائ ٌن ثانٍ عىل وجه األرض امتالكها حتى يومنا‬ ‫خلق رفيع‪ ،‬لكن الغالبية العظمى من البرش حتى ذلك الذي‬ ‫هذا‪ .‬وهذا اليعني بأن جميع البرش أصبحوا فجأ ًة ذوي ٍ‬ ‫أخالقي البتة‪.‬‬ ‫فعل شني ٌع وغري‬ ‫يرغب باغتصاب األطفال يدرك متا ًما بأن مامرسة الجنس مع طفل ٍة عمرها تسعة سنني هو ٌ‬ ‫ٍّ‬ ‫ملاذا؟ ألن األذى املرتتب عىل مامرسة الجنس مع طفل ٍة يتخطى املعاناة الجسدية ليحفر آثا ًرا عميق ًة يف الضحية التي‬ ‫هي جز ٌء من سلسل ٍة اجتامعية‪ .‬املجتمع نفس ُه سيعاين رضر هذا االغتصاب وهذا الرضر قد يتجاوز الطفلة والجيل الذي‬ ‫ُولدت فيه هذه الطفلة إىل ما بعدها بكثري‪.‬‬ ‫اليشء الثاين الذي مييزنا عن بقية الحيوانات عىل سطح األرض هو أن الحيوانات المتتلك قدرة التقمص العاطفي‬ ‫وهي قدر ٌة فريد ٌة باإلنسان فقط‪.‬‬ ‫مثل دون أن تتعرض أنت بنفسك‬ ‫شخص آخر تشاهده عىل الشاشة ً‬ ‫حيث تستطيع وأنت يف مكانك أن تفهم ماذا يشعر ٌ‬ ‫رعب وحتى‬ ‫بفلم‬ ‫امي أو ٍ‬ ‫لنفس املوقف الذي يتعرض له‪ .‬قدرة التقمص العاطفي هي ما يجعلنا نستمتع ٍ‬ ‫عاطفي أو در ّ‬ ‫ٍّ‬ ‫مثل‪ .‬لو كانت األسود متتلك قدرة‬ ‫خيا ٍّيل دون أن نكون قد مررنا بنفس هذه التجارب التي مير بها بطل هذا الفلم ً‬ ‫األسود كله‪.‬‬ ‫التقمص العاطفي ألصبح طرح غزا ٍل وأكله يتسبب بعقد ٍة نفسي ٍة ستقيض عىل جنس ُ‬ ‫لكن‪ ،‬لو أفرتضنا وجود الله‪ ،‬فامهي األسس التي عىل أساسها قام الله باختيار الصواب من الخطأ؟‬ ‫وهل اختار الله الخطأ ألن ُه خطأٌ يف نفسه أم الخطأ أصبح خطأً ألن الله اختار أن يكون كذلك؟‬ ‫كام يبدو فإن األمر اليبدو اعتباط ًيا أو من رضب الصدفة‪ ،‬بل هناك أشيا ٌء محدد ٌة تتكرر يف مختلف األديان‪.‬‬

‫‪11‬‬


‫كيفنعرف‬ ‫الخطأ من الصواب؟‬ ‫بسام البغدادي‬

‫ٍ‬ ‫ٌ‬ ‫تشوهات جيني ٍة قد تقيض عىل النوع‬ ‫مثال عىل ذلك زواج األقرباء‪ ،‬فهل كان الله يدرك بأن زواج األقرباء يؤدي إىل‬ ‫دليل عىل وجود الله غفل رجال األديان عنه؟ بالطبع ال‪ .‬إذن‪ ،‬من هو هذا‬ ‫بانقراض نسله؟ وهل هذا يف حد ذات ِه يعترب ً‬ ‫الله الذي نتحدث عنه؟‬ ‫الله هو شخصي ٌة أسطوري ٌة ذات مالمح‬ ‫هالمي ٍة ميتلك وظيف ًة محدد ًة يف األديان‬ ‫قاطب ًة‪ ،‬وهي نقل القيم واألخالق املتوارثة‬ ‫من األجداد إىل األحفاد‪.‬‬ ‫الدليل عىل ذلك نراه يف اختالف صورة الله‬ ‫وجلف‬ ‫ورشس يف اليهودية‪ ،‬يتحدث باأللغاز ويؤمن بالجن والشياطني يف املسيحية‪،‬‬ ‫سادي‬ ‫يف األديان املختلفة‪ ،‬فهو‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫طبيعي إذا كنا نتحدث عن ظاهر ٍة اجتامعي ٍة مثل الله‪ ،‬وعرفنا بأن الفارق بني هذه األديان‬ ‫و ِعدا ٌّيئ يف اإلسالم‪ .‬وهذا يش ٌء‬ ‫ٌّ‬ ‫عام عىل أقل تقدير‪ .‬وهذا بالضبط ما يناقض فكرة األزلية واألبدية التي يصف اإلله‬ ‫الثالثة هو ما يفوق الستامئة ٍ‬ ‫اإلبراهيمي بها نفسه‪ .‬األشياء الرسمدية ال تتغري مبرور الزمن كام أن قوانني الطبيعة التتغري مهام مىض عليها الزمن‪.‬‬ ‫يف الفكر الديني الصواب والخطأ مرتبطان ارتباطًا وثيقًا بالتعاليم الدينية التي أنزلها الله‪ .‬فال الصواب‬ ‫صواب ليش ٍء كامنٍ‬ ‫ٌ‬ ‫فيه وال الخطأ خطأٌ لرض ٍر نات ٍج عنه‪ ،‬بل التعاليم الدينية واألوامر اإللهية هي التي تُقرر ما هو الصواب وما هو الخطأ‪.‬‬ ‫وهذا بدوره أ ّدى لشلل املنظومة األخالقية التفاعلية‬ ‫ٍ‬ ‫أخالقيات تالئم التطور املعريف‬ ‫والتي تقوم عىل َس ّن‬ ‫واالجتامعي يف الحضارة اإلنسانية‪.‬‬ ‫ألسباب‬ ‫لذلك نرى أن أخالقيات املجتمعات املنعزلة‬ ‫ٍ‬ ‫ديني ٍة تقع سنني ضوئي ًة خلف أخالقيات املجتمعات‬ ‫املنفتحة‪ .‬وهذا بدوره يدعونا للسؤال‪ ،‬هل سبب‬ ‫‪12‬‬


‫كيفنعرف‬ ‫الخطأ من الصواب؟‬ ‫بسام البغدادي‬

‫الفقر والبؤس التي تعانية املجتمعات املتدينة هو انعدام األخالق كام ي ّدعي البعض أم سبب ُه األخالق ذاتها التي يتم‬ ‫الرتويج لها يف املجتمعات الدينية؟‬

‫الصواب من منظو ٍر إنسا ٍّين ٍ‬ ‫بحت ميكن تعريفه بأنه الفعل الذي فيه أكرب منفع ٍة ممكن ٍة ألكرب عد ٍد ممكنٍ من البرش‪.‬‬ ‫سهل ألول وهلة‪ ،‬لكن يف الحقيقة األمر أصعب من ذلك بكثري‪ .‬عىل سبيل املثال فإن األسد الذي يأكل غز ًال‬ ‫يبدو األمر ً‬ ‫فهو يقوم بالصواب الوحيد الذي زودت ُه به الطبيعة وهي غريزت ُه التي تدفع ُه للصيد وطرح الضحية ألكلها‪ .‬لكن‪ ،‬نفس‬ ‫الفعل من وجهة نظر الغزال هو جرمي ٌة التُغتفر‪ .‬حيث بفعلت ِه هذ ِه قام األسد بانتهاك حق الغزال يف الحياة‪ .‬وإذا فهِمنا‬ ‫ٍ‬ ‫صمت أبدي‪ ،‬فإن عملية قتل الغزال تعترب‬ ‫بأن الحياة هي فرص ٌة واحد ٌة ال تتكرر وليس هناك أي يش ٍء بعد املوت سوى‬ ‫جرمي ٌة كربى من وجهة نظر الضحية‪.‬‬ ‫هنا تتقاطع املنفعة الشخصية مع الرضر‬ ‫باآلخرين‪ .‬فهل كان افرتاس األسد للغزال صوابًا‬ ‫أم خطأً؟‬ ‫اليشء الذي نكتشف ُه يف املثال أعاله والمفر‬ ‫منه هو أن الصواب والخطأ مرتب ٌط دامئًا وأب ًدا‬ ‫بوجهة نظرنا فقط‪ .‬اإلنسان هو مركز القرار‬ ‫والفاعل واملفعول به يف أي يش ٍء نريد أن نتخذ‬ ‫منه موقف الصواب والخطأ‪.‬‬ ‫الحق لوجودنا‬ ‫حيث اليوجد يش ٌء‬ ‫سابق أو ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫رش إال من خالل عالقته بنا‪.‬‬ ‫البرشي ميكن وصف ُه بأن ُه خ ٌري أو ٌ‬ ‫رشا‪.‬‬ ‫فال موت الديناصورات قبل ‪ 65‬مليون سن ٍة وال سقوط النيازك عىل سطح القمر وال جفاف سطح املريخ كان خ ًريا أو ً‬ ‫خارج عن محيط التأثري بنا ال يعترب خ ًريا‬ ‫الخري والرش مرتب ٌط ارتباطًا جذريًا مبفهومنا وبعالقتنا بالكون من حولنا‪ .‬أي يش ٍء ٌ‬ ‫رشا‪ ،‬بل يعترب مجرد ٍ‬ ‫عريض يف تاريخ الكون‪ .‬ليس أكرث وال أقل‪.‬‬ ‫حدث‬ ‫أو ً‬ ‫ٍّ‬ ‫‪13‬‬


‫اﺷﺘﺮك اﻵن‬ ‫ﻓﻲ ﻗﻨﺎﺗﻨﺎ ﻋﻠﻰ اﻟﻴﻮﺗﻴﻮب‬ ‫‪https://www.youtube.com/c/ahmedzayedchannel‬‬

‫ﻗﺮاﺑﺔ ‪ 10‬ﻣﻠﻴﻮن ﻣﺸﺎﻫﺪة‬ ‫ﻣﺸﺘﺮك‬ ‫أﻟﻒﻣﺸﺎﻫﺪة‬ ‫و‪70‬ﻣﻠﻴﻮن‬ ‫ﻗﺮاﺑﺔ اﻟﻌﴩة‬

‫أﺣﻤﺪ ﺳﻌﺪ زاﻳﺪ‬

‫ﻗﻨﺎة أﺣﻤﺪ ﺳﻌﺪ زاﻳﺪ ﻋﲆ اﻟﻴﻮﺗﻴﻮب ﻫﻲ ﻗﻨﺎة ﻣﻌﻨﻴﺔ ﺑﺎﻟﺘﻨﻮﻳﺮ اﻟﻔﻜﺮي واﻟﺜﻘﺎﰲ وﻫﻲ ﻣﺤﺎوﻟﺔ ﻟﻠﺘﻔﻜ اﳌﻮﺿﻮﻋﻲ اﻟﻌﻘﻼ ﻣ ًﻌﺎ‪.‬‬ ‫وﺗﺠﺪون ﻓﻴﻬﺎ اﻟﻌﺪﻳﺪ ﻣﻦ اﻟﺴﻼﺳﻞ وﻣﻨﻬﺎ‪:‬‬

‫أﻟﻒ ﺑﺎء ﻓﻠﺴﻔﺔ ﻟﺘﺒﺴﻴﻂ اﳌﻌﺮﻓﺔ اﻟﻔﻠﺴﻔﻴﺔ‬

‫ﻟﻠﺘﻮاﺻﻞ ﻣﻌﻨﺎ ﻋﲆ ﺻﻔﺤﺔ اﻟﻘﻨﺎة ﻋﲆ اﻟﻔﻴﺴﺒﻮك‪:‬‬ ‫‪https://www.facebook.com/aszayedtv‬‬

‫ﺗﺎرﻳﺦ اﻟﺤﻀﺎرة اﻟﻌﺮﺑﻴﺔ اﻻﺳﻼﻣﻴﺔ‬

‫ﺳﻠﺴﻠﺔ ﺗﻌﺮﻳﻔﻴﺔ ﺑﺮﻣﻮز ﻓﻜﺮﻳﺔ ﻋﺮﺑﻴﺔ وﻏﺮﺑﻴﺔ‬

‫ﺻﻔﺤﺔ أﺣﻤﺪ ﺳﻌﺪ زاﻳﺪ اﻟﺸﺨﺼﻴﺔ‪:‬‬ ‫‪https://www.facebook.com/ahmedsaadzayed‬‬

‫ﻛﺎﳌﻌﺮي واﻟﺮازي وأرﺳﻄﻮ وﻣﺎرﻛﺲ وراﺳﻞ‬

‫ﺳﻠﺴﻠﺔ ﺑﺘﺤﻠﻴﻞ ﺧﻼﻓﺎت اﻟﺼﺤﺎﺑﺔ وﻗﺘﺎﻟﻬﻢ‬

‫ﺳﻠﺴﺔ ﺗﻄﻮر ﺗﺎرﻳﺦ اﻹﻳﺪﻳﻮﻟﻮﺟﻴﺎت اﻟﺴﻴﺎﺳﻴﺔ واﻟﻔﻠﺴﻔﺎت‬

‫وﻏ ذﻟﻚ ﻛﺜ ﻣﻦ ﻣﺤﺎﴐات وﻣﻘﺎﺑﻼت ﻟﺮﻣﻮز ﻓﻜﺮﻳﺔ ﻓﺎﻟﻘﻨﺎة ﺑﻬﺎ أﻛ ﻣﻦ ‪ 700‬ﻣﺤﺎﴐة‪ ،‬وﻫﻲ ﺟﻬﺪ ﻃﻮﻳﻞ وﻣﺘﻮاﺿﻊ ﻣﻦ اﻟﻌﻤﻞ‬ ‫اﻟﺜﻘﺎﰲ وﻣﺤﺎوﻟﺔ ﻧﴩ اﻟﻮﻋﻲ واﻟﻌﻘﻼﻧﻴﺔ واﻟﻌﻠﻤﻴﺔ ﻗﺪر اﳌﺴﺘﻄﺎع ﻟﻠﻤﺘﺤﺪﺛ ﺑﺎﻟﻌﺮﺑﻴﺔ‪.‬‬ ‫ﻟﺪﻋﻢ اﻟﻘﻨﺎة‪:‬‬

‫‪https://www.patreon.com/ahmedzayed‬‬

‫‪14‬‬

‫‪https://www.paypal.me/ahmedsaadzayed/100‬‬


‫صفحة ثابتة‬ ‫نقدم فيها قراءة‬ ‫ألحد الكتب‬ ‫القيمة‬

‫د‪ .‬جواد بشارة‬ ‫داعش‪ :‬حكاية مسخ‬ ‫الجزء الثاين‬

‫صدر للباحث العراقي املقيم يف باريس‬ ‫كتاب بعنوان (داعش)‪ :‬حكاية مسخ‬ ‫د‪ .‬جواد بشارة ٌ‬ ‫ـ اإلسالم السيايس من املنبع إىل املصب عن دار نرش‬ ‫ميزوبوتاميا يف بغداد ‪ -‬شارع املتنبي‪.‬‬ ‫حيث قدمنا الجزء األول من تقديم الكتاب يف العدد‬ ‫السابق ونكمل مع باقي التقديم يف هذا العدد‬ ‫‪15‬‬

‫جواد بشارة‬


‫داعش‪ :‬حكاية مسخ‬ ‫اإلسالم السيايس من املنبع إىل املصب‬ ‫د‪ .‬جواد بشارة‬

‫فإن ما وصلنا من تاريخ السرية النبوية وحياة محمد‪ ،‬ال سيام املرحلة السابقة لعهد النبوة والسنوات األوىل للدعوة لغاية‬ ‫النبي كان عىل نح ٍو يبعث عىل الشك بصحتها لتعدد الروايات وتناقضها خاص ًة وأن تدوين وكتابة التاريخ‬ ‫لحظة وفاة ّ‬ ‫حصل بعد مرور عدة قرونٍ من وقوع األحداث املرويّة‪.‬‬ ‫وبعد ذلك يدخل الكتاب يف تفاصيل الجذور التاريخية كخلفي ٍة لالنقسام الشيعي السني يف اإلسالم‪ ،‬وتفاقم املواجهات‬ ‫الدموية الشيعية السنية عرب تاريخ هذا الدين‪ .‬إىل تاريخ وقوع الثورة اإلسالمية يف إيران التي أحدثت منعطفًا خط ًريا يف‬ ‫مسار اإلسالم السيايس‪ .‬فلقد نجحت إيران يف التمركز يف العامل العريب باستغاللها للتشيع املنترش يف العامل العريب باعتباره‬ ‫الفرع الثاين لإلسالم والتأثري عىل دبلوماسية العامل العريب بينام تولت السعودية قيادة الفرع السني يف العامل العريب بعد‬ ‫عزل مرص إثر توقيعها التفاقية السالم املرصية اإلرسائيلية يف كامب دافيد سنة ‪.1978‬‬ ‫تصاعدت حدة املواجهات الشيعية ـ السنية وتأججت مر ًة أخرى منذ العام ‪ 1992‬واتسمت بصبغ ٍة عاملي ٍة تعدت حدود‬ ‫العامل العريب‪ .‬ففي سنة ‪ 1992‬هاجم زعيم الحرب األفغاين يف املقاومة األفغانية ضد السوفييت‪ ،‬القائد مسعو ٌد قبيلة‬ ‫الهازارا األفغانية ذات األغلبية الشيعية بنسبة ‪ ،%90‬والتي تعيش يف وسط أفغانستان يف إقليم باميان وميثّل الشيعة يف‬ ‫أفغانستان نسبة ‪ 12‬إىل ‪ %13‬من مجموع السكان األفغان وكانت قبيل ًة مضطهد ًة تاريخ ًيا‪.‬‬ ‫كانت هذه الحادثة قد زادت من حدة التوتر‬ ‫والحقد لدى الشيعة إزاء الس ّنة الذين مل‬ ‫يدينوا هذه الجرمية أو يستنكروها‪.‬‬ ‫لقد وقعت تلك الحوادث يف ٍ‬ ‫ظرف غاي ًة يف‬ ‫الخصوصية والتميز‪ ،‬حيث كانت أفغانستان‬ ‫لحرب أهلي ٍة تدور رحاها‬ ‫آنذاك فريس ًة‬ ‫ٍ‬ ‫منذ أربع سنوات ‪ 1996-1992‬التي أعقبت‬ ‫مغادرة الواليات املتحدة األمريكية ملرسح‬ ‫الحرب األفغانية بعد هزمية السوفييت يف‬ ‫أفغانستان‪،‬‬ ‫حيث انتهت تلك الحرب األهلية بانتصار‬ ‫وهيمنة طالبان عىل الحكم يف أفغانستان‪.‬‬

‫أحمد شاه مسعود‬

‫‪16‬‬


‫داعش‪ :‬حكاية مسخ‬ ‫اإلسالم السيايس من املنبع إىل املصب‬ ‫د‪ .‬جواد بشارة‬

‫اعترب أسامة بن الدن زعيم تنظيم القاعدة تخيل أمريكا‬ ‫وانسحابها مبثابة الخيانة بعد أن قدمت له الدعم واإلسناد‬ ‫والتسليح والتمويل ووسائل الحرب والقتال‪.‬‬ ‫كان بن الدن قد جعل من أفغانستان مخت ًربا ملرشوعه إلحياء‬ ‫الخالفة اإلسالمية‪ ،‬لكنه شاهد حلمه ينهار بسبب اندالع الحرب‬ ‫ٍ‬ ‫حليف وعميلٍ إىل عد ٍّو لدو ٍد للواليات‬ ‫األهلية‪ ،‬فتحول من‬ ‫املتحدة األمريكية‪.‬‬ ‫هناك ثالثة محاور ترتكز حولها املواجهات الشيعية السنية يف‬ ‫العامل والتي من شأنها أن تزعزع استقرار اإلسالم برمته عىل‬ ‫األمد املنظور‪ .‬وهي محاو ُر ديني ٌة وعرقي ٌة (إثنية) واسرتاتيجي ُة‬ ‫وسياسي ٌة بحتة‪.‬‬

‫أسامة بن الدن‬

‫فاملرحلة األوىل لحصول االنشقاق يف الجسم اإلسالمي سنة ‪ 632‬ميالدية بعد وفاة الرسول وحدوث معركة الخالفة التي‬ ‫استمرت لعقو ٍد طويلة‪ ،‬انتهت باختفاء الخالفة يف األمة اإلسالمية سنة ‪1924‬م عىل يد الرتيك أتاتورك‪ ،‬ومل تعد هناك أي‬ ‫سلط ٍة ديني ٍة حقيقي ٍة قادر ٌة عىل إطالق أحكام عقائدي ٍة قطعي ٍة ملزم ٍة من ِقبل جميع املسلمني‪ ،‬حتى وال من ِقبل ٍ‬ ‫ملوك‬ ‫ي ّدعون انتسابهم للبيت النبوي مثل ملك املغرب أو ملك األردن‪.‬‬ ‫من هنا ال ميكن الفصل بني فرعي اإلسالم الرئيسيني عند البحث يف تطور تاريخ الفكر السيايس لإلسالم وتشكيل املدار‬ ‫السيايس للرشق األوسط املعارص‪:‬‬ ‫رسمي للدولة وفرضته بالقوة عىل الغالبية السنية‬ ‫فالعائلة الصفوية الحاكمة يف إيران اختارت املذهب الشيعي كدينٍ‬ ‫ٍ‬ ‫التي كانت سائد ًة يف إيران قبل الحكم الصفوي يف اإلمرباطورية الفارسية يف القرن الخامس عرش امليالدي بهدف التمييز‬ ‫بني الفرس والعرب‪.‬‬ ‫وكان ذلك مبثابة املؤرش للجغرافيا السياسية للمنطقة الحقًا حيث الجيوبولتيك مرتب ٌط ارتباطًا وثيقًا بالدين‪.‬‬ ‫‪17‬‬


‫داعش‪ :‬حكاية مسخ‬ ‫اإلسالم السيايس من املنبع إىل املصب‬ ‫د‪ .‬جواد بشارة‬

‫فالتداخل بني التاريخ الديني والتاريخ السيايس للرشق األوسط هو‬ ‫الذي قاد باحثًا مثل أنطوان صفري‪ Antoine Sfeir ‬إلصدار كتابه باللغة‬ ‫الفرنسية وعنوانه‪ :‬إسال ٌم ضد إسالم الحرب الشيعية السنية التي ال تنته‬ ‫“‪L’Islam contre l’Islam، l’interminable guerre des sunnites et‬‬ ‫‪”des chiites‬‬ ‫والذي يبحث يف جذور التشيع “‪ ”Aux origines du chiisme‬ليك‬ ‫يعترب مؤرش الدين أساسيًا إلجراء قراء ٍة مالمئ ٍة وكامل ٍة للرشق األوسط‬ ‫املعارص وللعامل اإلسالمي تفاديًا للسقوط يف رؤي ٍة غربي ٍة مختزل ٍة ومبتور ٍة‬ ‫أو مقتضب ٍة لألحداث التاريخية والحالية التي تعصف باملنطقة‪ .‬‬

‫أنطوان صفري‬

‫من املتفق عليه اليوم أن االنشقاق الذي حصل يف اإلسالم ليس عقائديًا بل سياس ًيا بالدرجة األوىل ويعود أساسه‬ ‫التاريخي إىل أواخر فرتة حياة الرسول ووفاته حيث نشب رصا ٌع مسترت‪ ،‬يف بداية األمر بني فريقني من الصحابة‪ ،‬األول‬ ‫يضم االرستقراطية واألغنياء والوجوه املعروفة من الوجهاء الذين تجمعوا حول عمر بن الخطاب‪ ،‬والثانية تضم الفقراء‬ ‫يل بن أيب طالب‪ ،‬صهر النبي وابن عمه وربيبه ووارث علمه واملدافع‬ ‫وذوي األصول املتواضعة الذي أحاطوا باإلمام ع ٍّ‬ ‫األول عن اإلسالم يف أحلك الظروف وأخطرها ال سيام معركة الخندق عندما برز للفارس املرشك عمر بن و ٍد العامري‬ ‫ووصف النبي هذه املبارزة بقوله‪« :‬لقد برز اإلسالم كله للرشك كله»‪.‬‬ ‫هاشم والفريق الثاين أرادها أن تبقى يف بيت‬ ‫الفريق األول أراد أن تكون الخالفة خارج بيت النبوة وخارج عشرية بني‬ ‫ٍ‬ ‫أي أتباع وأنصار‬ ‫يل ْ‬ ‫النبوة ويف شخص الوريث الرشعي األنسب من وجهة نظرهم وهو اإلمام عيل‪ ،‬و ُعرفوا باسم شيعة ع ٍّ‬ ‫عيل‪ .‬وبسبب النزاع حول من هو الخليفة الرشعي للنبي انشق اإلسالم إىل شطرين‪ ،‬ومن ثم ازداد الخالف وتعمق وتحول‬ ‫إىل ٍ‬ ‫منصوص عليه‬ ‫ساموي‬ ‫دنيوي أم‬ ‫عقائدي بعد أن صار ميس طبيعة الخليفة ودور الخالفة وهل الخالفة شأ ٌن‬ ‫خالف‬ ‫ٍ‬ ‫ٌ‬ ‫ٌّ‬ ‫ٌّ‬ ‫من الله؟ وانطالقًا من تلك األوضاع ظهر مفهومان لإلسالم بعد موت مؤسس الرسالة سنة ‪:632‬‬ ‫األول مفهوم الجامعة وهم األغلبية واملقصود بهم أهل السنة والثاين مفهوم أهل البيت وهم األقلية واملقصود بهم‬ ‫يل أو اإلمامية‪.‬‬ ‫شيعة ع ٍّ‬ ‫يل ولكن عىل نح ٍّو مسترتٍ وغري معلنٍ بيد‬ ‫دام هذا الفرز خالل فرتة الخلفاء الراشدين األربعة أبو بك ٍر وعم َر وعثام َن وع ٍّ‬ ‫أن االستقطاب كان واض ًحا بني الفريقني‪.‬‬ ‫‪18‬‬


‫داعش‪ :‬حكاية مسخ‬ ‫اإلسالم السيايس من املنبع إىل املصب‬ ‫د‪ .‬جواد بشارة‬

‫تغريت املعادلة عند مقتل الخليفة الثالث عثامن بن عفان‬ ‫إبان أحداث الفتنة الكربى وترسخ االنشقاق الطائفي‬ ‫طالب سنة ‪661‬‬ ‫يل بن أيب‬ ‫ٍ‬ ‫بعد اغتيال الخليفة الرابع ع ٍّ‬ ‫ميالدي والذي كان يقف عىل قمة الهرم الشيعي وا ُعترب‬ ‫مبثابة مفتاح التشيع السيايس والديني والعقائدي الذي‬ ‫طالب وهو‬ ‫يل بن أيب ٍ‬ ‫تم توثيقه يف الكتاب الذي ُعزي لع ٍّ‬ ‫نهج البالغة الذي يجمع خطب وأحاديث ِ‬ ‫وحكم ووصايا‬ ‫اإلمام عيل‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫محمد إزاء موضوع خالفته يشكل لغ ًزا كب ًريا‪ ،‬فلم يكن هناك من ينازعه أو ينافسه عىل السلطة ال‬ ‫مازال ترصف النبي‬ ‫دين ًيا ودنيويًا أو سياس ًيا‪ ،‬وكان يعرف توازنات القوى داخل مجمع الصحابة املحيطني به وامتداداتهم القبلية‪ ،‬فلامذا‬ ‫ٍ‬ ‫مقدس رصي ٍح ينص عىل‬ ‫إلهي‬ ‫مل يحسم املسألة عل ًنا يف حياته ويرصح باسم خليفته؟ وكذلك بسبب غياب ٍّ‬ ‫ديني ٍّ‬ ‫نص ٍّ‬ ‫نصوصا وإشار ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ات‬ ‫شخص بعينه ليخلف الرسول يف مهمته‪ ،‬كام يقول أهل السنة والجامعة بينام يدعي الشيعة أن هناك‬ ‫ً‬ ‫طالب خاص ًة يف خطبة الوداع يف غدير خم التي قال فيها‪« :‬من كنت‬ ‫يل بن أيب ٍ‬ ‫رصيح ًة صدرت من ِقبل النبي بتولية ع ٍ‬ ‫يل مواله‪ ،‬اللهم وايل من واله وعادي من عاداه الخ‪ ،»...‬وهكذا حدث يف سنة ‪ ،632‬وهي سنة وفاة الرسول‬ ‫مواله فهذا ع ٌ‬ ‫ٍ‬ ‫مؤسسات بديل ٍة لقيادته يف حال غيابه‪.‬‬ ‫ترشيعي وقضا ٌيئ لعدم وجود‬ ‫محمد‪ ،‬فرا ٌغ‬ ‫ٌ‬ ‫كانت التجربة اإلسالمية يف طور التوسع والتنامي عند وقوع االنقسام املميت يف جسد األمة‪ .‬كانت بذور وجذور‬ ‫ٍ‬ ‫محمد لكنها مل تكن رصيح ًة وعلني ًة بل خفي ًة لكنها محسوسة‪ .‬كان هناك‬ ‫االنشقاق واالنشطار موجود ًة حتى يف حياة‬ ‫إجام ٌع بني املسلمني فيام يتعلق بساموية الرسالة ومصدرها اإللهي باعتبارها ُمنزل ٌة من السامء‪ ،‬لكن اإلجامع كان مفتق ًدا‬ ‫فيام يتعلق بشخص من سيخلف النبي وصالحياته ورشوط اختياره ومبايعته وحدود سلطته وهل هي سياسي ٌة فقط‬ ‫إلهي أم برشي؟ اعترب قس ٌم من املؤمنني أن الرشعية اإللهية مستمر ٌة من‬ ‫أم ديني ٌة ً‬ ‫أيضا؟ مبع ًنى آخر‪ ،‬هل الخالفة أم ٌر ٌ‬ ‫خالل حقوق ورشعية آل بيت النبوة وعائلة النبي املتمثلة بابنته فاطمة وولديها الحسن والحسني وزوجها ابن عم النبي‬ ‫وربيبه ووارث علمه وتجربته وموضع أرساره‪ ،‬عيل بن أيب طالب‪ ،‬لذلك فمن البديهي واملنطقي أن يكون هو الخليفة‬ ‫ٍ‬ ‫محمد ألنه أقرب الناس له وأول املصدقني واملؤمنني برسالته من الذكور‪ ،‬وأكرث املدافعني عنه بسيفه‬ ‫الرشعي للنبي‬ ‫وجهاده وأفضل العارفني بأرسار الرسالة وعقائدها وترشيعاتها وظاهرها وباطنها‪ ،‬كام يعلن الشيعة‪.‬‬ ‫‪19‬‬


‫داعش‪ :‬حكاية مسخ‬ ‫اإلسالم السيايس من املنبع إىل املصب‬ ‫د‪ .‬جواد بشارة‬

‫يف حني اعترب قس ٌم كب ٌري من املسلمني وهم الغالبية الساحقة‪ ،‬أن الجانب اإللهي من الرسالة قد انتهى مبوت صاحب‬ ‫الرسالة وبات من الرضوري تطبيق التقليد القبيل‪ ،‬أي اختيار من تنطبق عليه األوصاف التي حددها النبي قبل وفاته‬ ‫والتي تتعلق مبكانة وشجاعة وحكمة من يتوىل القيادة‪ ،‬وفقًا للتقاليد والعادات واألعراف القبلية التي كانت سائد ًة قبل‬ ‫يل‬ ‫اإلسالم‪ ،‬وبنا ًء عليه تم اختيار أيب بك ٍر للخالفة وبويع من ِقبل املسلمني‪ ،‬عدا بنو هاشم عشرية النبي وعىل رأسهم ع ٌ‬ ‫ٍ‬ ‫يل بن أيب طالب‪.‬‬ ‫طالب وزوجته فاطمة بنت‬ ‫بن أيب ٍ‬ ‫محمد وعد ٍد من الصحابة املوالني لع ٍّ‬ ‫وهناك روايتان تناقلتهام كتب التاريخ والرتاث اإلسالمي عن حيثيات وتفاصيل اختيار الخليفة‪ ،‬وعام جرى يف سقيفة‬ ‫ٍ‬ ‫تفاصيل كثري ٌة عن مؤامر ٍة أُعدت يف الخفاء قبل وفاة النبي وأثناء‬ ‫ُ‬ ‫مساجالت حادة‪ ،‬األوىل شيعية‪ ،‬وفيها‬ ‫بني ساعدة من‬ ‫احتضاره‪ ،‬لعب فيها عمر بن الخطاب دور البطولة وقام مبا يشبه االنقالب العسكري مبواصفات عرصنا الحديث بغية‬ ‫الحصول عىل السلطة بالقوة املسلحة وباملناورات السياسية‪ ،‬والثانية سني ٌة تطعن بالكثري من املصادر التي استند إليها‬ ‫الشيعة وتخترص ما حدث يف السقيفة وما بعدها بعملية اختيا ٍر طوعي ٍة وسلس ٍة متت باملحاجة واالقناع بني األنصار‬ ‫بقيادة ٍ‬ ‫سعد بن عبادة واملهاجرين بقيادة أيب بك ٍر وعمر وأيب عبيدة بن الجراح نجح فيها املهاجرون بإقناع األنصار‬ ‫بصدقية حججهم فاملت الكفة لصالحهم‪ ،‬وطلب عمر من أيب بك ٍر أن ميد يده ليباعه وتقاطر الحارضون من األنصار‬ ‫بحت يق ّرره املسلمون وحدهم دون الرجوع لكتاب الله ووفق‬ ‫ملبايعته‪ ،‬عىل اعتبار أن مسألة الخالفة شأ ٌن‬ ‫دنيوي ٌ‬ ‫ٌّ‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ظروف مختلف ٍة متا ًما ال‬ ‫حديث ردده املسلمون عن النبي أنه قال‪« :‬أنتم أدرى بشؤون دنياكم» وهو حديثٌ قيل يف‬ ‫عالقة لها مبسألة اختيار الخليفة‪ ،‬وكان اختيار أيب بكر‪ ،‬العتبار ٍ‬ ‫ات ال متت للرشعية بصل ٍة عدا إمامته للصالة باملسلمني‬ ‫ٍ‬ ‫مريضا‪ ،‬وألنه والد عائشة أحب زوجات النبي إىل قلبه‪ ،‬وأقرب أصدقائه وأخلصهم وأكرب الصحابة‬ ‫بدل‬ ‫محمد عندما كان ً‬ ‫طالب آنذاك الثالثينات‪.‬‬ ‫يل بن أيب ٍ‬ ‫س ًنا بعد النبي‪ ،‬بينام مل يتجاوز عمر ع ٍّ‬ ‫وكان أبو بك ٍر قد خرج عىل املسلمني خاط ًبا بعد إعالن‬ ‫ٍ‬ ‫قائل‪« :‬من كان منكم يعبد محم ًدا‬ ‫محمد ً‬ ‫وفاة النبي‬ ‫فإن محم ًدا قد مات‪ ،‬ومن كان منكم يعبد الله فإن‬ ‫الله حي ال ميوت» وتىل عليهم اآلية التي تقول‪:‬‬ ‫َ َ ُ َ َّ ٌ َّ َ ُ ٌ‬ ‫َ​َ‬ ‫َ‬ ‫ُّ ُ‬ ‫ول قَ ْد َخلَ ْ‬ ‫الر ُسل ‪ ٪‬أفإِن‬ ‫﴿وما ممد إِل رس‬ ‫ت مِن قبْلِهِ‬ ‫َ‬ ‫َ َ َ َ ْ َ َٰ‬ ‫َ‬ ‫َّ َ َ ْ ُ َ َ َ ْ ُ ْ َ ٰ ْ َ ُ‬ ‫ع أعقابِك ْم ‪ ٪‬ومن ينقل ِب ع‬ ‫مات أو قتِل انقلبتم‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫ض َّ َ‬ ‫الل شي ًئا ‪َ ٪‬و َس َيجزي ُ‬ ‫الل الشاكِر َ‬ ‫َعقِ َبيْهِ فَلَن يَ ُ َّ‬ ‫ين﴾‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬

‫(آل عمران‪.)144 :‬‬

‫‪20‬‬


‫داعش‪ :‬حكاية مسخ‬ ‫اإلسالم السيايس من املنبع إىل املصب‬ ‫د‪ .‬جواد بشارة‬

‫مل يحكم أبو بك ٍر كخليف ٍة سوى سنتني كانتا مليئتني بحروب الردة وإعادة فرض هيبة وهيمنة وسلطة الدين عىل القبائل‬ ‫والشعوب املرتدة التي امتنعت عن دفع الزكاة والجزية‪.‬‬ ‫هاشم وإبعادهم عن الشأن السيايس وحرصهم يف مهمة اإلرشاد‬ ‫يل وبني‬ ‫ٍ‬ ‫وكان أبو بك ٍر يعمل عىل تهميش اإلمام ع ٍّ‬ ‫بعضا من حقوقهم فصادر أرض فدك من فاطمة التي ورثتها عن أبيها بحجة أنه‬ ‫والوعظ الديني البحت‪ ،‬بل وصادر ً‬ ‫سمع النبي يقول إن األنبياء ال يُو ّرثون‪ ،‬وهو الوحيد من بني الصحابة الذي يدعي أنه سمع هذا الحديث‪ ،‬وأن آل بيته‬ ‫ال تحل عليهم الزكاة‪.‬‬ ‫عهِد أبو بك ٍر قبل وفاته بالخالفة من بعده إىل عمر بن الخطاب بوصي ٍة أخذت شكل األمر القطعي الذي ال يقبل‬ ‫ٍ‬ ‫فتوحات يف شامل أفريقيا‪ ،‬أي الجزائر وتونس واملغرب الحالية‬ ‫االعرتاض أو الطعن وذلك سنة ‪ 634‬ميالدي‪ ،‬وانطلق يف‬ ‫والرشق األوسط‪ ،‬أي مرص والعراق وفلسطني واألردن وسورية ولبنان حال ًيا‪ ،‬وشبه القاره الهندية وبالد فارس أو إيران‬ ‫الحالية‪ ،‬وأسس جيشً ا إسالميًا جرا ًرا وحقق بعض االنتصارات وا ُغتيل سنة ‪644‬م‪.‬‬ ‫طالب وعثام َن بن‬ ‫يل بن أيب ٍ‬ ‫واختار عمر ست ًة من الصحابة لخالفته قبل وفاته عىل أن يختاروا أحدهم وكان من بينهم ع ٌ‬ ‫يل من الخالفة واختيار‬ ‫عفا َن اللذين كانا يتمتعان بأفضل الحظوظ من بني باقي املرشَّ حني‪ ،‬ويف لعب ٍة محبك ٍة تم استبعاد ع ٍ‬ ‫عثامن بن عفان من البيت األموي الذي كان أل ّد أعداء اإلسالم وكان زعيم األمويني أبو سفيان العدو اللدود ملحمد‪،‬‬ ‫ألن عل ًيا رفض أن يحكم بالقرآن والسنة ونهج الشيخني‪ ،‬أي الخليفتني السابقني أبو بك ٍر وعمر‪ ،‬وأرص عىل االجتهاد بنفسه‬ ‫يل بن أيب طالب‪ .‬أحدث عثامن بن عفان تغيري ٍ‬ ‫ات‬ ‫يف اإلدارة‪ ،‬يف حني وافق عثامن عىل هذا الرشط التعجيزي بالنسبة لع ٍّ‬ ‫ٍ‬ ‫لسنوات‬ ‫كثري ًة يف منهجية اإلدارة والحكم فحاىب أبناء عشريته وق ّربهم‪ ،‬ومن بينهم مروان بن الحكم الذي نفاه النبي‬ ‫طويلة‪ ،‬وجعل منه مستشاره األقرب بل وأكرث من ذلك حيث كان مبثابة رئيس الوزراء يف الرتكيبة الهرمية لسلطة الخالفة‪،‬‬ ‫وبيده ختم الخالفة‪.‬‬ ‫رصف بح ّري ٍة ومن دون قيو ٍد برأس‬ ‫ّ‬ ‫وعي معاوية بن أيب سفيان وال ًيا عىل الشام‪ ،‬أي سوريا الحالية وفلسطني ولبنان‪ .‬وت ّ‬ ‫رس وغريه‪ .‬ثم قام بجمع القرآن‬ ‫مال املسلمني أي بخزينة الدولة‪ ،‬وعا َمل معارضيه بقسو ٍة من ّ‬ ‫أجلء الصحابة كعام ٍّر بن يا ٍ‬ ‫واحد واختار صيغ ًة واحد ًة هي صيغة ٍ‬ ‫كتاب ٍ‬ ‫زيد وأحرق باقي الصيغ كصيغة ابن مسعو ٍد وغريه من كتبة القرآن‬ ‫يف ٍ‬ ‫وحافظيه‪ ،‬من باقي الصحابة‪ .‬وبالطبع تجاهل صيغة القرآن التي جمعها وأعدها اإلمام عيل‪ ،‬وهذه قص ٌة طويل ٌة ومعقد ٌة‬ ‫ٍ‬ ‫مجلدات لدراستها وتحليلها‪ .‬وبالطبع كان الهدف من جمع القرآن سياس ًيا أكرث منه دين ًيا‪.‬‬ ‫تحتاج لعدة‬ ‫‪21‬‬


‫داعش‪ :‬حكاية مسخ‬ ‫اإلسالم السيايس من املنبع إىل املصب‬ ‫د‪ .‬جواد بشارة‬

‫لقد تنامت ضده حركة االحتجاج ووصلت اىل حد التمرد املسلح‪ ،‬حيث ط ّوق املتمردون عىل حكمه قرص الخالفة‬ ‫يل بتحريضه عىل قتل عثامن أو التسرت عىل قاتليه‬ ‫واقتحموه وقتلوه بداخله سنة ‪ 656‬ميالدي‪ .‬اتهم األمويون اإلمام ع ٍّ‬ ‫ٍ‬ ‫محمد بن أيب بك ٍر شقيق عائشة زوجة النبي‪ .‬بل إن هذه‬ ‫وعدم الكشف عنهم ومحاكمتهم‪ ،‬ويشاع أن من بني الثوار‬ ‫نعثل فقد كفر» وتقصد به عثامن بن عفان‪ .‬والحال‬ ‫األخرية نفسها كانت تحرض الناس عىل قتل الخليفة وتقول‪« :‬اقتلوا ً‬ ‫أي من معارضيه ممن سبقه من الخلفاء الثالثة‪.‬‬ ‫أن اإلمام عليًا مل يستخدم العنف والقوة قط ضد ٍّ‬ ‫وبعد مقتل عثامن اختار الناس ومعهم كث ٌري من الصحابة اإلمام عل ًيا كخليف ٍة عىل املسلمني وهو الخليفة الراشدي الرابع‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫سنوات وتسعة أشه ٍر ‪ 661-656‬كانت مليئ ًة بالحروب واالضطرابات‬ ‫بعد ُميض ‪ 24‬عا ًما عىل وفاة الرسول‪ .‬وحكم أربع‬ ‫حرب أهلي ٍة بني املسلمني‪.‬‬ ‫التي ميكن وصفها بأنها أول ٍ‬ ‫ومتكلم بلي ًغا‪ ،‬لكنه مل يكن سياس ًيا ناج ًحا‪.‬‬ ‫يل محاربًا شديد البأس‪ ،‬شجا ًعا وكر ًميا وزاه ًدا وتق ًيا وعاملًا فذًا‬ ‫ً‬ ‫كان اإلمام ع ٌّ‬ ‫أسلم يف عمر العارشة ورافق النبي منذ طفولته حتى مامته‪ ،‬وكان يعترب نفسه الخليفة الرشعي واملنطقي للمرشد الذي‬ ‫رباه وعلمه وزوجه ابنته وجعل منه منبع آل بيت النبوة‪ ،‬ومل يكن يرغب بالسلطة من أجل السلطة بل كان يرغب‬ ‫مبواصلة نهج الرسالة املحمدية وتوحيد األمة‪ .‬كان يرى أن مهمته ديني ٌة ألنه ميتلك ناصية العلم املحمدي‪ ،‬وكان النبي‬ ‫محم ٌد يردد أنا مدينة العلم وعيل بابها‪.‬‬ ‫وخالل حكمه كان يحاول تفادي الرصاع املسلح مع خصومه واملعرتضني عىل خالفته‪ ،‬وكان يعترب كافة املسلمني متساوين‬ ‫يل بن‬ ‫يف الحقوق والواجبات وأن االنتامء لإلسالم يأيت فوق أي انتام ٍء آخر للقبيلة أو العشرية أو العائلة‪ ،‬وكانت أولوية ع ٍّ‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫محمد وتوطيد أركان الرسالة اإللهية‪.‬‬ ‫كأساس ال بد منه لنرش دين‬ ‫طالب إيجاد نو ٍع من املواطنة اإلسالمية أو الدينية‬ ‫أيب ٍ‬ ‫كان يهتم بتنظيم شؤون األمة أكرث من اهتاممه وحرصه عىل السلطة‪ ،‬فالدولة ليست غاي ًة بل وسيل ًة لتوحيد املؤمنني‬ ‫ٍ‬ ‫متحمسا ملامرسة السلطة السياسية أو راغ ًبا بتحقيق ٍ‬ ‫ومصالح شخصي ٍة‬ ‫غايات‬ ‫ونشه ومل يكن‬ ‫متحمسا لدين‬ ‫وكان‬ ‫محمد ْ‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫َ‬ ‫من خالل استغالل سلطة الخالفة‪ .‬مل يكن هناك إجام ٌع عىل خالفته لكنه كان يحظى بتأييد ومبايعة الغالبية العظمى من‬ ‫املسلمني يف املدينة‪ .‬تفاقمت التوترات الداخلية يف جسد األمة اإلسالمية وتزايدت الصدامات والتمردات ونقض البيعة يف‬ ‫عهده والطعن برشعية خالفته من قبل عد ٍد من الصحابة تتقدمهم زوجة النبي عائشة بنت أيب بكر‪ ،‬وكانت لديه ثالثة‬ ‫ٍ‬ ‫أهداف رئيسي ٍة وهي فرض السالم عىل حدود الدولة اإلسالمية وهيبتها وتأمني االستقرار السيايس وكشف قتلة عثامن‬ ‫ومحاكمتهم وهذا هو تسلسل أولياته‪.‬‬ ‫‪22‬‬


‫داعش‪ :‬حكاية مسخ‬ ‫اإلسالم السيايس من املنبع إىل املصب‬ ‫د‪ .‬جواد بشارة‬

‫ولقد تبلورت األساسية آيديولوج ًيا لإلسالم السيايس الشيعي‪ ،‬حيث أن أهم ما مييز الفكر الشيعي عقائديًا وسياس ًيا هو‬ ‫مفهوم اإلمامة التي جعلها الشيعة من األصول‪ ،‬وكذلك طبيعة اإلمام الذي اعتربوا أنه منصوص عليه من الله بالنص‬ ‫إمام عىل من سيخلفه‬ ‫وبالتايل فهو معصو ٌم عن الخطأ‪ ،‬أي أضافوا مفهوم العصمة‪ ،‬وإن اإلمامة متوارث ٌة حيث ينص كل ٍ‬ ‫باالسم الرصيح تفاديًا لإلشكال الذي حدث بعد وفاة النبي وادعاء اهل السنة والجامعة أن النبي مل يس ّمي أح ًدا باالسم‬ ‫يل صهره زوج‬ ‫الرصيح وبالنص املكتوب ليك يخلفه‪ ،‬وإن األمر يبقى محصو ًرا بنسل النبي وذريته من فاطمة ابنته وع ٍّ‬ ‫رصا وهذا ما ثبتّه ُمنظّر الشيعة وأشهر أمئتها جعف ٍر الصادق‬ ‫يل ح ً‬ ‫ابنته وابن عمه وربيبه‪ ،‬ويستمر يف نسل الحسني بن ع ٍّ‬ ‫ٍ‬ ‫يل بن أيب طالب‪ ،‬وهو اإلمام السادس من‬ ‫‪ 703-765‬وهو ابن‬ ‫يل بن الحسني السجاد بن الحسني بن ع ٍ‬ ‫محمد الباقر بن ع ٍ‬ ‫األمئة االثنى عرشية الذي قال‪ :‬إن النص ووراثة اإلمام ناج ٌم عن إراد ٍة إلهي ٍة خفي ٍة أو مسترت ٍة ال يعرفها إال األمئة املعنيني‬ ‫أنفسهم‪،‬‬ ‫بينام ال يعني اإلمام يف الفقه السني سوى الشخص الذي يؤم‬ ‫الناس يف صالة الجامعة فهو الذي يقود صالة الجامعة يوم‬ ‫الجمعة‪.‬‬ ‫كام أضاف الشيعة مبدأ التقية‪ ،‬أي إخفاء إميانهم وإظهار ما‬ ‫يخالفه عل ًنا حامي ًة للنفس من القتل واألذى‪ ،‬ولقد مارسوا هذا‬ ‫يل الخليفة الراشدي الرابع‪ ،‬وذلك خوفًا من‬ ‫املبدأ منذ وفاة ع ٍّ‬ ‫بطش معاوية وباقي الخلفاء األمويني املامرس ضد الشيعة‪.‬‬ ‫جوهري من‬ ‫وهناك مبدأ البداء ومفهوم الغيبة وهي جز ٌء‬ ‫ٌّ‬ ‫عقائد الشيعة وغري موجود ٍة عند أهل السنة‪.‬‬ ‫فالبداء يعني أن الله أراد شيئًا وبدا له بعد ذلك شيئًا آخر‪،‬‬ ‫عي ابنه البكر إسامعيل إما ًما‬ ‫فاإلمام السادس جعف ٌر الصادق ّ‬ ‫إلهي عليه كام أخرب أتباعه‪ ،‬إال أن إسامعيل‬ ‫يخلفه حسب ٍّ‬ ‫نص ٍّ‬ ‫تويف قبل أبيه جعف ٍر الصادق‪ ،‬ومن املفروض أن تبقى اإلمامة‬ ‫يف نسل إسامعيل لذلك انشق الشيعة بعد وفاة جعف ٍر الصادق‬ ‫وظهرت الطائفة اإلسامعيلية‪ ،‬نسب ًة إلسامعيل بن جعف ٍر الصادق‬ ‫وأبنائه وأحفاده ونسله‪،‬‬ ‫‪23‬‬


‫داعش‪ :‬حكاية مسخ‬ ‫اإلسالم السيايس من املنبع إىل املصب‬ ‫د‪ .‬جواد بشارة‬

‫بديل إلسامعيل يف شخص موىس الكاظم ‪ ،799-745‬الذي حبسه‬ ‫وذالك احتجا ًجا عىل اختيار جعف ٍر الصادق ‪ً 765-703‬‬ ‫الخليفة العبايس الشهري هارون الرشيد سنني عديد ًة ومن ثم اغتاله بالسم‪ ،‬واعترب الشيعة االثني عرشية موىس الكاظم‬ ‫مبثابة اإلمام املعصوم السابع بينام اعترب اإلسامعيليون إسامعيل املتويف قبل والده هو اإلمام السابع وتوقفوا عنده‬ ‫وس ّموا بالشيعة السبعية‪ ،‬واعترب بعضهم أن إسامعيل هو املهدي املنتظر‪ .‬فبعد استشهاد اإلمام الحسني يف كربالء عىل يد‬ ‫ُ‬ ‫جيش الخليفة األموي يزيد بن معاوية‪ ،‬تعاقب تسعة أمئ ٍة وشكلوا القاعدة اإلميانية والعقائدية للشيعة االثنى عرشية‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫محمد املهدي بن الحسن العسكري الذي اختفى وغاب عن األنظار بأم ٍر‬ ‫وتنتهي سلسلة اإلمامة عند اإلمام الثاين عرش‬ ‫رضا أم غائ ًبا إلدارة شؤون األمة اإلسالمية والعامل‪.‬‬ ‫إلهي سنة ‪ 874‬ميالدية‪ .‬ويعتقد الشيعة برضورة وجود اإلمام‪ ،‬حا ً‬ ‫ٍّ‬ ‫ٌ‬ ‫يل بن الحسني ‪ ،658-713‬فانحاز‬ ‫انشاق‬ ‫ولقد كان هناك‬ ‫طائفي آخر يف نسيج املذهب الشيعي عند وفاة اإلمام السجاد ع ٍّ‬ ‫ٌ‬ ‫بعض الشيعة نحو ابنه ٍ‬ ‫يل الثائر ضد الحكم األموي‪ ،‬الذي اعتربه بعض اتباعه أنه مل يستشهد بل غاب وأنه‬ ‫زيد بن ع ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫محمد الباقر ‪ 676-743‬الذي اختاره السجاد خلفًا له‪ .‬وسمي‬ ‫هو اإلمام املنتظر‪ ،‬بينام التفت األغلبية حول شخص اإلمام‬ ‫اتباع ٍ‬ ‫يل بالزيدية الذين ما يزالون إىل اليوم متواجدين يف اليمن الحايل‪.‬‬ ‫زيد بن ع ٍ‬ ‫يل الرضا ‪ 818-765‬والده موىس الكاظم‬ ‫َ‬ ‫وخلف اإلمام ع ٍ‬ ‫وأعقبه ابنه محم ٌد الجواد ‪ 835-810‬باعتباره اإلمام‬ ‫يل الهادي ‪ 868-827‬باعتباره‬ ‫التاسع ومن بعده ع ٍ‬ ‫اإلمام العارش‪ ،‬وخلفَه يف اإلمامة اإلمام الحادي عرش‬ ‫الحسن العسكري ‪ ،874-846‬الذي يتبعه العلويون‬ ‫من خالل ابن نصريٍ لذلك ُسموا النصريية‪،‬‬ ‫وأخريا اإلمام الثاين عرش محم ٌد املهدي الذي يدور‬ ‫حوله لغ ٌط كب ٌري وغموض‪ ،‬حتى أن البعض أنكر وجوده‬ ‫أصل‪ ،‬يف حني اعتربه الشيعة االثنى عرشية‬ ‫وأنه مل يولد ً‬ ‫اإلمام الغائب الذي سيعود يف آخر الزمان ليمأل األرض‬ ‫ظلم وجو ًرا‪.‬‬ ‫قسطًا وعدلً بعد أن ُملئت ً‬ ‫‪24‬‬


‫داعش‪ :‬حكاية مسخ‬ ‫اإلسالم السيايس من املنبع إىل املصب‬ ‫د‪ .‬جواد بشارة‬

‫يقول الشيعة االثنى عرشية أن اإلمام الثاين عرش املهدي غاب مرتني‪ ،‬الغيبة الصغرى‪ ،‬والغيبة الكربى‪ ،‬وبني الغيبتني كان‬ ‫يتصل بسفرا ٍء له كان عددهم طيلة الغيبة الصغرى أربعة سفراء‪ .‬وبوفاة آخر السفراء غاب غيبته الكربى التي ما تزال‬ ‫مستمر ًة إىل يوم الناس هذا‪ ،‬منذ سنة ‪ 874‬ميالدية‪ .‬وعندما وصل الشيعة إىل السلطة العليا واقاموا أول دول ٍة ديني ٍة‬ ‫شيعي ٍة يف التاريخ الحديث‪ ،‬بعد تجربة القرامطة وتجربة الدولة الفاطمية‪ ،‬نشأت مشكالت الدولة ومتطلباتها والسياسة‬ ‫والترشيعات‪ ...‬إلخ‪ ،‬فقد جاء يف سورة النور اآلية ‪:55‬‬ ‫َْ‬ ‫َ‬ ‫َ ْ ْ َ َُ َ ّ‬ ‫َ َ َْ ْ‬ ‫ْ َ‬ ‫ُ‬ ‫ِن ل َ ُه ْم د َ‬ ‫ك َ َّ‬ ‫ِنك ْم َو َعملُوا َّ‬ ‫ِين َ‬ ‫﴿ َو َع َد َّ ُ‬ ‫خلَ َف َّال َ‬ ‫الل َّال َ‬ ‫الص ِ َ‬ ‫ِين ُه ُم‬ ‫ِين مِن قبل ِ ِهم ولم‬ ‫ات ل َي ْس َتخل ِف َّن ُه ْم ِف ال ْر ِض كما است‬ ‫آم ُنوا م‬ ‫ال ِ‬ ‫ِ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫َ َ َ َ ْ َ َٰ َ َ ُ َٰ َ ُ ُ ْ َ ُ َ‬ ‫ْ َ َ ٰ َ ُ ْ َ َ ُ َ ّ َ َّ ُ ّ َ ْ َ ْ ْ َ ْ ً َ ْ ُ ُ َ َ ُ ْ ُ َ‬ ‫شكون ِب شيْ ًئا ۚ َو َمن كفر بعد ذل ِك فأولئِك هم الفاسِق‬ ‫ون﴾‪،‬‬ ‫الِي ارتض لهم ولبدِلهم مِن بع ِد خوف ِ ِهم أمنا ۚ يعبدون ِن ل ي ِ‬

‫رصيح ال يحتاج لتأويل‪ ،‬أن عىل األنبياء‪ ،‬ومنهم محمد‪ ،‬أن يؤسسوا عىل األرض دول ًة ديني ًة ثيوقراطية يسميها‬ ‫نص‬ ‫وهذا ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫البعض الدولة اإلسالمية‪.‬‬

‫شخص مد ٌين متدين‪ ،‬وليس‬ ‫وميكن أن يكون رئيسها‪ ،‬لدى السنة عىل األقل‪،‬‬ ‫ٌ‬ ‫معصوم كام يشرتط الشيعة خاص ًة يف الصيغة‬ ‫إمام‬ ‫ٍ‬ ‫بالرضورة رجل دينٍ وال ٍ‬ ‫الجديدة املتمثلة بوالية الفقيه‪ ،‬ولكن عليه أن يطبّق الحدود والعقوبات‬ ‫واألحوال الشخصية وتعاليم وقوانني الرشيعة اإلسالمية‪.‬‬ ‫وأشهر ُمنظّر للصيغة السنية هو أبو األعىل املودودي‪ ،‬وللصيغة الشيعية اإلمام‬ ‫الخميني‪ .‬إذن فإن طبيعة الحكومة ديني ٌة ألن القائم عليها يعمل عىل تطبيق‬ ‫الترشيعات الدينية كام وردت يف النصوص املقدسة‪ ،‬أي القرآن والحديث والسنة‬ ‫النبوية حرف ًيا‪.‬‬ ‫طالب يسعى للسلطة حسب التوصية النبوية والحديث‬ ‫اغب وال ٍ‬ ‫ويشرتط املودودي يف شخص الحاكم أن يكون غري ر ٍ‬ ‫النبوي‪ .‬رجل الدين األزهري عيل عبد الرازق عارض هذا الرأي يف كتابه «اإلسالم وأصول الحكم» الذي أثار زوبع ًة من‬ ‫االنتقادات لدى املؤسسة الدينية األزهرية‪ .‬ويعتقد بعض املعتدلني من رجال الدين أن عىل الترشيعات الدينية أن‬ ‫تتوافق مع متطلبات العرص وتكون أكرث ليون ًة وطواعي ًة يك تحوز عىل قبول الناس‪،‬‬ ‫‪25‬‬


‫داعش‪ :‬حكاية مسخ‬ ‫اإلسالم السيايس من املنبع إىل املصب‬ ‫د‪ .‬جواد بشارة‬

‫رص ظروفه وأعرافه االجتامعية التي قد تتوافق وقد تتعارض مع النصوص الترشيعية الجامدة‪ ،‬حتى لو كانت‬ ‫فلكل ع ٍ‬ ‫مقدس ًة أو منزل ًة من السامء‪ .‬فهي أُرسلت حسب ظروف املجتمع يف ذلك الوقت‪ .‬يتفق الشيعة مع أطروحة املودودي‬ ‫يف طبيعة الحكومة يف أن تكون دينية‪ ،‬لكنهم يختلفون معه يف باقي التفاصيل ويشرتطون أن يكون الحاكم إما ًما من‬ ‫نسل الرسول‪ ،‬وهو هنا اإلمام املهدي املنتظر الغائب املختفي منذ ٍ‬ ‫عام تقري ًبا‪ ،‬لكونه معصو ًما عن الخطأ‬ ‫ألف وأربعامئة ٍ‬ ‫واألجدر يف تطبيق رشع الله والعدالة اإللهية عىل األرض‪.‬‬ ‫زعيم وأول ٍ‬ ‫عسكري ومد ٍّين باملعنى‬ ‫قائد‬ ‫من هنا ميكننا القول أن أول‬ ‫حاكم وأول ٍ‬ ‫سيايس يف اإلسالم هو محم ٌد وهو أول ٍ‬ ‫ٍّ‬ ‫ٍّ‬ ‫انقسامات ورص ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫اعات طبقي ٍة‬ ‫الحديث للمصطلح‪ .‬وهو الذي ّأسس أول دولة‪ ،‬أو شبه دول ٍة ناشئ ٍة ظهرت فيها بوادر‬ ‫واجتامعي ٍة بني ٍ‬ ‫محاول‬ ‫ً‬ ‫فئات من األرستقراطية القرشية القدمية السابقة لإلسالم‪ ،‬والتي دخل بعضها للدين الجديد‬ ‫االحتفاظ مبكانته وموقعه االجتامعي ومتيزه الطبقي‪ ،‬ومن هؤالء عثامن بن عفان وآل أيب سفيان أوبني أمية فيام بعد‪،‬‬ ‫وعد ٌد آخر من الصحابة‪ ،‬من جهة‪ ،‬وفئ ٌة من العبيد واملوايل والفقراء املعدمني والطبقة الوسطى التي ألتفت حول الزعيم‪،‬‬ ‫هاشم وفقراء الصحابة كسلامن‬ ‫يل بن أيب طالب وحوله معرش بني‬ ‫ٍ‬ ‫الرمز املثايل يف سلوكه وقسوته عىل نفسه وهو ع ٌ‬ ‫رس واملقداد بن األسود وحذيفة بن اليامن وهم فئة الضعفاء األنقياء الذين‬ ‫الفاريس وأبو ذ ٍر الغفاري وعام ٍر بن يا ٍ‬ ‫يريدون الحفاظ عىل صفاء اإلسالم ونقائه والذين وصفهم الكاتب املاركيس هادي العلوي باللقاحيني‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫وخفي أو غري معلن‪ ،‬ثم بدا واض ًحا يف عهدي أيب بك ٍر‬ ‫فجذور الرصاع بدأت حتى يف حياة‬ ‫محمد ولكن عىل نح ٍو كامنٍ‬ ‫ٍ‬ ‫تام يف فرتيت اإلمرباطورية‬ ‫وعمر بن الخطاب‪ ،‬واستعر يف فرتة الخليفة الثالث األموي عثامن بن عفان ثم ترسخ عىل نحو ٍ‬ ‫طالب يف إعادة القيم اللقاحية الناصعة والنقية التي ميزت صدر‬ ‫يل بن أيب‬ ‫ٍ‬ ‫األموية والعباسية‪ ،‬ومل ينجح العصامي ع ٌ‬ ‫اإلسالم يف حياة مؤسس الدعوة‪ ،‬يف فرتة حكمه القصرية التي كانت مليئ ًة بالحروب والدسائس‪ ،‬والتي انتهت باغتياله‬ ‫عىل يد الخصوم من داخل معسكره وخارجه‪.‬‬ ‫كانت أسس الرصاع الطبقي تعود إىل عهد عمر بن الخطاب ومصدرها األرستقراطية التي نشأت وتعاظمت مع الفتوحات‬ ‫وزيادة املوارد املالية والرثوات يف الدولة اإلسالمية الفتية‪ .‬ومن املحتمل أن تكون الفئة الغنية من الصحابة القوية النافذة‬ ‫هي التي دبرت مكيدة التخلص من عمر واغتياله عىل يد أيب لؤلؤة الفاريس موىل األشعث بن قيس أحد كبار أرستقراطية‬ ‫كِندة‪ ،‬الذي دخل اإلسالم مراءاة ونفاقًا وكان دامئًا يكيد له الكيد خفي ًة‪ ،‬ويتعاون مع بني أمية ومع معاوية وعمرو بن‬ ‫طالب وإنهاء الحقبة الراشدة يف تاريخ الدولة‬ ‫يل بن أيب ٍ‬ ‫العاص للتخلص من عمر‪ ،‬وفيام بعد مع الخوارج للتخلص من ع ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ديني‬ ‫اإلسالمية الفتية‪ .‬فالذي حدث يف الفرتة الراشدية يدل عىل الجوهر الدنيوي للمجتمع اإلسالمي املغلف‬ ‫بغالف ٍ‬ ‫شكيل‪.‬‬ ‫‪26‬‬


‫داعش‪ :‬حكاية مسخ‬ ‫اإلسالم السيايس من املنبع إىل املصب‬ ‫د‪ .‬جواد بشارة‬

‫رشا ونذي ًرا وصاحب‬ ‫كان محم ٌد يف مكة داعي ًة ومب ً‬ ‫بدل من‬ ‫رسال ٍة ديني ٍة يدعو الناس ملعرفة الله وعبادته ً‬ ‫األوثان ومل يكن يفكر بقيادة املجتمع امليك أو يصبو‬ ‫ٍ‬ ‫قريش التي ُعرضت عليه مقابل تخليه عن‬ ‫لزعامة‬ ‫حاكم ٍ‬ ‫وقائد‬ ‫الدعوة‪ ،‬لكنه رسعان ما تغري وتحول إىل ٍ‬ ‫وعسكري يف املدينة‪ ،‬وصار يقود مجتم ًعا بأكمله‬ ‫سيايس‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫يف كافة نواحيه االجتامعية واالقتصادية والعسكرية‬ ‫والسياسية والقضائية والترشيعية وتقولب اإلسالم‬ ‫املديني يف شكل دو ٍل ومجتمعٍ منظّمني عىل نح ٍو مد ٍين‬ ‫يستمد رشعيته من الخلفية الدينية املرتبطة بالوحي‪،‬‬ ‫وبالتايل اتسم املجتمع بكل مظاهر الشقاق والتنافر‬ ‫والرصاع والتنافس السيايس واالجتامعي واالقتصادي‬ ‫وفيها األنصار واألتباع والخصوم واملعارضون واألعداء‬ ‫واملنافقون واملتسللون والجواسيس واملخربون‪ ...‬إلخ‪.‬‬ ‫مطلق حتى لشخص النبي نفسه وال للنصوص الدينية التي كانت عرض ًة للنقاش‬ ‫تقديس‬ ‫مل تكن هناك قداس ٌة أو‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫ٍ‬ ‫محمد يف املسائل الدينية وليس الدنيوية‪ ،‬عرض ًة‬ ‫والتداول واالعرتاض والتفسري والقبول والرفض‪ ،‬فكان الجميع عدا‬ ‫للتخطئة واالنتقاد واملحاسبة عىل الخطأ مبختلف معايريه‪ ،‬وتاريخ اإلسالم ميل ٌء باألمثلة عىل ذلك‪ ،‬الذي ينقل لنا الكثري‬ ‫من الوقائع بشأن سلوك الصحابة تجاه النبي وسلوكهم تجاه بعضهم البعض الذي يصل إىل حد التصفيات الجسدية‬ ‫يل إال أمثل ٌة جلي ٌة عىل ذلك‪ .‬فلم يُقتل عثامن ألنه خالف الدين أو خرج‬ ‫أحيانًا‪ ،‬وما اغتيال عمر ومقتل عثامن واغتيال ع ٍّ‬ ‫ٍ‬ ‫عنه أو ح ّرف فيه بل الرتكابه أخطا ًء وانحر ٍ‬ ‫يل بن أيب‬ ‫افات‬ ‫ومخالفات سياسي ًة وليست ديني ًة ونفس اليشء بالنسبة لع ٍّ‬ ‫رشعي أو خان‬ ‫رجل من الخوارج الذين انشقوا عنه وانسلخوا من معسكره‪ ،‬ليس ألنه خليف ٌة غري‬ ‫طالب الذي اغتاله ٌ‬ ‫ٍ‬ ‫ٍّ‬ ‫بحت ال عالقة للدين‬ ‫سيايس‬ ‫عمل‬ ‫الرسالة الدينية بل ألنه أخطأ يف قراره بقبول التحكيم يف حرب صفني وهو ٌ‬ ‫وعسكري ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫ٌّ‬ ‫به‪.‬‬ ‫فلم يتهمه أح ٌد بالتقصري يف العبادات والفرائض أو بخرو ٍج عىل الرشيعة‪ .‬كان املعيار املرجعي للحكم عىل رشعية وسالمة‬ ‫حاكم يف الظاهر هو تطبيقه أو عدم تطبيقه للمصدر الدستوري للحكم‪ ،‬أي القرآن الذي اكتسب صفة اإللزام تجاه‬ ‫أي ٍ‬ ‫الخلفاء بعد وفاة النبي محمد‪.‬‬ ‫‪27‬‬


‫داعش‪ :‬حكاية مسخ‬ ‫اإلسالم السيايس من املنبع إىل املصب‬ ‫د‪ .‬جواد بشارة‬

‫ٍ‬ ‫محمد‬ ‫طالب كان يسعى ما استطاع لتقويم االنحرافات الدينية وتطبيق الرشيعة كام تلقاها مبارش ًة من‬ ‫يل بن أيب ٍ‬ ‫فع ٌّ‬ ‫وترىب عليها وناضل من أجلها‪ ،‬بَيد أن األكرثية املناهضة واملعارضة له كانت هي األقوى واألكرث دها ًء منذ عهد الخليفة‬ ‫الثالث عثامن بن عفان‪ ،‬التي اختطت منه ًجا دنيويًا ومصلح ًيا خارج إطار وقيود الرشيعة ولو كان ذلك باسمها رسم ًيا‬ ‫وشكل ًيا‪ .‬فكل الخلفاء الذين حكموا الدولة اإلسالمية من معاوية إىل آخر خليف ٍة عثام ٍّين يف بداية القرن العرشين‪ ،‬حكموا‬ ‫دون مراعاة أحكام الكتاب والسنة‪ ،‬وكان حكم معاوية قد سجل بداية االنفصام بني الدولة والرشيعة‪ ،‬وسار االثنان يف‬ ‫اتجاهني ومسارين متعارضني‪ .‬واضطر الخلفاء يف أحيانٍ كثري ٍة لرشاء الصحابة والتابعني وتابعي التابعني الختالق أحاديث‬ ‫موضوع ٍة عىل لسان النبي لتربير سلوكياتهم املخالفة للرشيعة والدين وإلباسها حلة الرشعية والصبغة الدينية‪.‬‬ ‫أسلوب ٍ‬ ‫خاص يف الحكم وكان يكره أن يُش ّبه بكرسى أو هرقل أو بامللوك واألباطرة‪ ،‬وهو األسلوب الذي‬ ‫كان محم ٌد ذي‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ظروف تختلف متا ًما عن ظروف املرحلة املحمدية‪.‬‬ ‫رغب عيل بن أيب طالب إتباعه والسري عىل هداه ومواصلته‪ ،‬ولكن يف‬ ‫ففرتة حكم أيب بك ٍر وعمر وعثامن قلبت املوازين وغريت كل يش ٍء وقلبت القيم األخالقية وأنعشت املصالح الفردية‬ ‫والنزعة الذاتية عىل حساب املجموع ومصالح األمة‪ .‬لذا بات من املستحيل إعادة التجربة املحمدية التي تلبست ثوب‬ ‫الطوباوية‪ ،‬وكانت أنظمة الحكم املتعاقبة منذ معاوية‪ ،‬أقرب للعلامنية الحديثة منها للدولة الدينية (الثيوقراطية)‪.‬‬ ‫بديهي وهو أن‬ ‫وينتقل الكتاب إىل بحث الطبعة السنية لإلسالم السيايس ومفهومه للخالفة ويخرج بأول استنتا ٍج‬ ‫ٍّ‬ ‫القاعدة وداعش وجهان لعمل ٍة واحد ٍة وهام نتيج ًة طبيعي ًة للفكر األصويل السلفي املتشدد واملتعصب للمذهب الحنبيل‬ ‫ٍ‬ ‫ومحمد بن عبد الوهاب مؤسس املذهب الوهايب املعارص‪.‬‬ ‫وتأويالته عىل يد ابن تيمية‬ ‫ويكرس الكتاب عدة فصو ٍل لعرض كيفية نشوء القاعدة وداعش‬ ‫وتطورهام ميدان ًيا‪ ،‬عسكريًا وآيديولوج ًيا‪ ،‬وع ْرض الكثري من التفاصيل‬ ‫واألسامء واألحداث املوثقة والتي تعود كلها لوثيق ٍة مرجعي ٍة مهم ٍة متثلت‬ ‫ٍ‬ ‫اسم مستعا ًرا هو أبا بكر ناجي‪،‬‬ ‫بكتاب «إدارة التوحش»‬ ‫ملؤلف وضع ً‬ ‫يل طبقته املنظامت اإلرهابية اإلسالمية املعارصة‬ ‫الذي أُستخدم كدليلٍ عم ٍ‬ ‫كداعش والقاعدة‪ ،‬ولقد استخدم املؤلف مفردة «التوحش» ويقصد بها‬ ‫حالة الفوىض والضياع التي دبت يف أوصال دول ٍة ما أو منطق ٍة ما عندما‬ ‫تنزاح عنها قبضة السلطة الحاكمة‪،‬‬ ‫‪28‬‬


‫داعش‪ :‬حكاية مسخ‬ ‫اإلسالم السيايس من املنبع إىل املصب‬ ‫د‪ .‬جواد بشارة‬

‫وبالتايل فإن حالة غياب السلطة يقود إىل نو ٍع من الفوىض املتوحشة التي تُغرق السكان‪ ،‬لذلك يجب عىل الجهة‬ ‫اإلسالموية كالقاعدة وداعش‪ ،‬التي ستحل محل السلطة الحاكمة املستقيلة أو املندحرة‪ ،‬أن تبدأ بالتمهيد لقيام الدولة‬ ‫اإلسالمية القائدة لألمة وأن تدير حالة التوحش السائدة يف مجتمع األمة اإلسالمية‪ ،‬إىل أن تستقر األمور وتأخذ طابعها‬ ‫وإيقاعها الطبيعي‪.‬‬ ‫من هنا يتعني عىل املجاهدين اإلسالمويني املقاتلني املسلحني أن يسيطروا بالكامل عىل املجتمعات اإلسالمية وأن يطبقوا‬ ‫فيها رشع الله والقوانني اإلسالمية‪ ،‬أي الرشيعة اإلسالمية بكل حذافريها مع توفري احتياجات الناس الرضورية األولية‬ ‫وطعام وعال ٍج وأمنٍ وبكل الوسائل ولو بقوة السالح والرتهيب‪ ،‬وتخضع هذه العملية للقيادة املركزية العليا‬ ‫من ما ٍء‬ ‫ٍ‬ ‫للحركات الجهادية اإلسالموية البديلة للسلطات القامئة سابقًا وتأمني عملية التواصل والتنسيق وفرض األولويات‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫مقاالت متفرق ٍة ُوضعت كفصو ٍل داخل الكتاب تبدأ ٍ‬ ‫تاريخي للوضع السائد يف العامل اليوم‬ ‫بعرض‬ ‫وهذا الكتاب عبار ًة عن‬ ‫ٍّ‬ ‫منذ انتهاء الحرب العاملية األوىل واتفاقية سايكس بيكو وهيمنة القوى العظمى‪ ،‬ثم يأيت إىل تعريف التوحش وما يقصده‬ ‫املؤلف بهذا املصطلح أو املفهوم وسوابقه التاريخية‪ ،‬ثم ينظر إىل رضورة التحايل للوصول إىل السلطة وبعدها ال بد من‬ ‫عملية التمكني والسيطرة الكلية عىل السلطة من خالل وضع قواعد عام ٍة لتسيري وتطبيق خطة العمل وإنجاز مرحلة‬ ‫شوكة النكاية واإلنهاك وتحديد أهداف إدارة مرحلة التوحش‪.‬‬ ‫ومن ثم اتقان فن اإلدارة ومصادر القرار ومن ميلك مفاتيح السلطة واتخاذ القرارات السياسية والعسكرية واإلدارية‬ ‫األساسية‪ .‬ومعرفة قواعد املجابهة العسكرية من خالل قراءة خارطة القوى العدوة واملناوئة واستخدام أقىص أساليب‬ ‫الشدة والرصامة لتحقيق الشوكة ومعرفة قواعد اللعبة التي ميارسها الخصوم واألعداء تجاه الدولة اإلسالمية والتحرك‬ ‫ملواجهتها من خالل الهجوم وليس الدفاع‪ ،‬واتقان أساليب االستقطاب والتحشيد والتعبئة والتجنيد والجذب وقواعد‬ ‫االلتحاق واتخاذ أقىص تدابري الحيطة والحذر من الناحية األمنية واالستخباراتية والتجسسية واخرتاق صفوف العدو‪،‬‬ ‫وبث الرتبية اإلسالمية السلفية بني األطفال والشباب‪ ،‬ومعالجة مشكلة نقص الكوادر اإلدارية املتخصصة واملخلصة‬ ‫وذات الوالء املطلق للدولة اإلسالمية‪ ،‬ومنع االرتدادات والخروقات والخيانات الفردية والجامعية واالستعداد للتعامل‬ ‫معها بجدي ٍة ورصام ٍة وتأصيل املعنويات والتحمل والصرب يف ساحات املعارك‪ ،‬ألن مرحلة التوحش هي أخطر مرحل ٍة مت ّر‬ ‫بها األمة اإلسالمية اليوم منذ اختفاء الخالفة اإلسالمية الرشعية األوىل يف بدايات القرن العرشين عىل يد أتاتورك‪ ،‬وال بد‬ ‫من تركيز أسس الخالفة اإلسالمية الثانية الجديدة التي تسعى إلعادة أمجاد اإلسالم األول وهيمنته عىل العامل‪ .‬فاإلسالم‬ ‫السيايس متعدد األشكال وواجهاته هي األزهر وتنظيم اإلخوان والقاعدة وداعش ووالية الفقيه‪.‬‬ ‫‪29‬‬


‫داعش‪ :‬حكاية مسخ‬ ‫اإلسالم السيايس من املنبع إىل املصب‬ ‫د‪ .‬جواد بشارة‬

‫فمنذ أن ظهر اإلسالم الحريك السيايس وهو يشكل عقد ًة وتحديًا كب ًريا للغرب والفكر الغريب وسياساته تجاه اإلسالم‬ ‫واملسلمني‪ .‬عندما تأسس تنظيم اإلخوان املسلمني وأعلن أهدافه كان عىل رأسها تطبيق رشيعة اإلسالم عىل املجتمع‬ ‫اإلسالمي وبث الرسالة إىل جميع أنحاء العامل ومواجهة االستعامر الربيطاين يف مرص واالستعامر الغريب يف العامل اإلسالمي‬ ‫برمته‪ ،‬أي إقحام اإلسالم يف السياسة ومامرسة السياسة باسم الدين‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫ومسميات أخرى لإلسالم السيايس الحريك الجهادي الذي لجأ إىل العنف‬ ‫أشكال‬ ‫ً‬ ‫ومن ثم تفرعت من هذا التنظيم‬ ‫واإلرهاب يف نرش آيديولوجيته وتطبيقها وفرضها بقوة السيف‪.‬‬ ‫وكل ذلك كان برعاية وحامية ومتويل العربية السعودية‪ .‬فالحركة الوهابية تسعى‬ ‫ألن تكون هي القائدة واملتزعمة للعامل اإلسالمي‪ ،‬لذلك رسمت اسرتاتيجية طويلة‬ ‫األمد بدأت بتمويلها للمدارس اإلسالمية يف جميع أنحاء العامل ال سيام يف الباكستان‬ ‫ومرص وإندونيسيا وماليزيا بل وحتى يف أمريكا وأوربا وغريها من البلدان‪ ،‬كام ذكر‬ ‫سفري الواليات املتحدة األمريكية ريشارد هولربوك لدى األمم املتحدة‪ ،‬الذي كرس‬ ‫حاجز الصمت والتواطؤ الغريب حيال هذا املوضوع‪ ،‬ثم جاء الباحث االسرتاتيجي‬ ‫الفرنيس بيري كونيسا الذي أكمل تحطيم جدار الصمت لينرش كتابه املعنون «دكتور‬ ‫سعود ومسرت جهاد‪ ،»Dr. Saoud et Mr. Djihad ‬كناي ًة عن االزدواجية يف السياسة‬ ‫السعودية وموقفها من التطرف والجهاد الحريك اإلرهايب‪،‬‬ ‫وقال فيه أنه يدين الغرب وعىل وجه الخصوص السلطات الفرنسية التي مل تتجرأ عىل فتح هذا امللف الحساس والخطري‬ ‫وصارم ومسؤول‪ ،‬ألنه هو الذي‬ ‫جدي‬ ‫ٍ‬ ‫ودراسة النظام الثيوقراطي القبيل القائم يف اململكة العربية السعودية عىل نح ٍو ٍّ‬ ‫عمل عىل تصدير الوهابية وأفكارها السلفية املتشددة والتي تخ ّرج منها الكثري من قادة اإلرهاب اليوم وعىل رأسهم‬ ‫أسامة بن الدن وأتباعه‪ ،‬وهم ال ينكرون أنهم األصل واألساس للتفكري السلفي واألصويل اإلسالمي املتعصب واملكفّر‬ ‫للمدارس الفقهية األخرى غري املدرسة الحنبلية ال سيام املذهب الشيعي‪.‬‬ ‫فالعامل الغريب جعل من السعودية رشيكه التجاري األول يشرتي منها البرتول ويبيع لها السالح والبضائع األخرى عرب‬ ‫ٍ‬ ‫صفقات تقدر مبئات املليارات من الدوالرات عىل مدى عقو ٍد طويلة‪ .‬‬ ‫تنافس‬ ‫أما بخصوص االختالف الظاهر حال ًيا بني داعش والسعودية فهو ليس اختالفًا (آيديولوج ًّيا) بل هو يف الحقيقة‬ ‫ٌ‬ ‫عىل قيادة العامل اإلسالمي السني‪،‬‬ ‫‪30‬‬


‫داعش‪ :‬حكاية مسخ‬ ‫اإلسالم السيايس من املنبع إىل املصب‬ ‫د‪ .‬جواد بشارة‬

‫فالسعودية تريد أن تثبت أنها هي املدافع الحقيقي عن العامل السني وليس دولة الخالفة املزعومة التي أعلنها أبو بك ٍر‬ ‫البغدادي بنفسه‪ ،‬ومير ذلك من خالل تصعيد الخطاب العدايئ تجاه إيران والشيعة للمزايدة مع الدولة اإلسالمية يف‬ ‫العراق والشام داعش‪.‬‬ ‫فالشباب السعودي الجهادي اإلرهايب نشأ وترعرع مع املناهج التعليمية والرتبوية السعودية التي زرعت العقيدة‬ ‫الجهادية املتطرفة يف عقولهم منذ الصغر‪ ،‬وسوف يعود هؤالء املقاتلون اإلرهابيون السعوديون إىل بلدهم ويقومون‬ ‫ديني أكرث راديكالية وتطرفًا‬ ‫بدحر العائلة املالكة املتهمة باالنحراف عن الدين والتحالف مع الكفار الغربيني إلقامة ٍ‬ ‫نظام ٍ‬ ‫من النظام املليك القائم يف اململكة العربية السعودية حال ًيا‪.‬‬ ‫فالغرب ال يعي وال يدرك خطورة التطورات القادمة‬ ‫إذا مل ينترص ويبيد هذا التنظيم اإلرهايب الخطري‪ .‬وال‬ ‫ميكننا أن ننىس خطاب الرئيس األمرييك السابق باراك‬ ‫أوباما‪ ،‬وزعيم العامل الحر كام يقال‪ ،‬يف أيلول‪/‬سبتمرب‬ ‫‪ 2014‬عندما رصح‪:‬‬

‫لن أسمح بجر الواليات‬ ‫املتحدة إىل حرب أخرى‬ ‫يف العراق‬

‫«ال أريد أن أضع العربة قبل الثريان‪ ،‬فنحن ال منتلك‬ ‫بع ُد اسرتاتيجية واضح ًة تجاه الدولة اإلسالمية داعش»‪.‬‬ ‫وكان ذلك يف ٍ‬ ‫وقت متكنت فيه داعش من احتالل مناطق واسع ٍة وشاسع ٍة من األرايض العراقية والسورية‪.‬‬ ‫فداعش تبدو متينة التكوين والرتكيب وموحدة القيادة‪ ،‬لكنها يف حقيقة األمر هجيني ًة وغري متجانس ٍة وليست متامسك ًة‬ ‫كام تبدو ألول وهلة‪.‬‬ ‫فيلتف حول البغدادي أغلب السلفيني ومعظمهم من العراقيني وخاص ًة ضباط صدام حسني السابقني الذين تحولوا‬ ‫للنشاط الجهادي اإلرهايب‪ ،‬ويأيت بعدهم الحلقة السورية من القياديني‪ ،‬وهؤالء هم الذين يحددون التوجهات العامة‬ ‫لداعش‪.‬‬ ‫فهذا التنظيم هو مبثابة آل ٍة جهنمي ٍة خرجت من رحم اإلخوان املسلمني وتطورت لتصبح مس ًخا‪ ‬كفرانكنشتاين يدمر كل‬ ‫ما حوله حتى خالقيه‪.‬‬ ‫‪31‬‬


‫داعش‪ :‬حكاية مسخ‬ ‫اإلسالم السيايس من املنبع إىل املصب‬ ‫د‪ .‬جواد بشارة‬

‫اإلسالم السيايس هو األرضية التي نبتت فوقها جميع اإلفرازات‬ ‫الجهادية التكفريية من نوع القاعدة التي تأسست يف بشاور يف‬ ‫الباكستان سنة ‪ ،1987‬والدول اإلسالمية يف العراق والشام داعش‬ ‫التي تأسست يف العراق بعد سقوط نظام صدام حسني سنة ‪2003‬‬ ‫وكانت إحدى واجهات تنظيم القاعدة اإلرهايب الدويل‪ ،‬إىل جانب‬ ‫جبهة النرصة يف سوريا‪ ،‬ونرشت األيديولوجية السلفية واألصولية‬ ‫اإلسالموية بطبعتها السنية منذ الغزو السوفيتي ألفغانستان‬ ‫بدعم ومتويلٍ وتسلي ٍح من‬ ‫ونشوء جامعات الجهاديني وطالبان‬ ‫ٍ‬ ‫لدن الفكر الوهايب واملخططات االستخباراتية األمريكية والغربية‬ ‫والباكستانية‪.‬‬ ‫بيد أن الخلفية الفكرية واأليديولوجية تعود إىل أبعد من هذا‬ ‫التاريخ‪ ،‬وميكننا القول أنها انبثقت يف بدايات القرن العرشين‬ ‫وعىل وجه التحديد مع تأسيس جامعة اإلخوان املسلمني يف مرص‬ ‫حيث كرب هذا التنظيم وترعرع يف شكل أممي ٍة إسالموي ٍة مخيف ٍة‬ ‫متثلت بالتنظيم الدويل لإلخوان‪ ،‬والذي أفرز بدوره كل ما نراه‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫وتفرعات تنظيمي ٍة إسالموي ٍة مسلح ٍة‬ ‫مسميات‬ ‫ونعرفه اليوم من‬ ‫سني ٍة وشيعي ٍة منترش ٍة يف جميع أنحاء العامل‪.‬‬ ‫ويغوص الكتاب يف فصو ٍل كثري ٍة لكشف حقيقة داعش الظاهرة‬ ‫والخفية‪ ،‬فاإلسالم السيايس هو األرضية التي نبتت فوقها جميع‬ ‫اإلفرازات الجهادية التكفريية العنيفة املتوحشة التي نسجت ما‬ ‫ُعرف باسرتاتيجية األخطبوط وشبكة العنكبوت‪.‬‬ ‫مفصل لخارطة الرصاعات يف عراق ما بعد‬ ‫ٌ‬ ‫عرض‬ ‫وأخ ًريا وليس آخ ًرا ٌ‬ ‫داعش إثر تحرير املوصل من احتالل داعش سنة ‪ 2017‬وبروز‬ ‫نو ٍع آخر من الرصاعات يف هذا البلد الجريح‪.‬‬ ‫‪32‬‬


‫ﻣﺠﻠﺲ اﻟﻤﺴﻠﻤﯿﻦ‬ ‫اﻟﺴﺎﺑﻘﯿﻦ ﻓﯽ ﺑﺮﯾﻄﺎﻧﯿﺎ‬

‫‪Council of Ex-Muslims of Britain‬‬ ‫‪www.ex-muslim.org.uk‬‬

‫ﻧﺤ‬

‫ﻦﻣ‬ ‫ﺴ‬ ‫ﻠ‬ ‫ﻤ‬ ‫ﻮ‬ ‫نﻧ‬

‫ﺒﺬ‬

‫ﻧﺎ دﻳﻨﻨﺎ‬

‫ﺑﱰﻛﻨﺎ اﻹﺳﻼم ﻧﻜﴪ ﻣﺤ ّﺮﻣﺎﺗﻪ‪ ،‬ﻟﻜﻨﻨﺎ ﰲ ذات اﻟﻮﻗﺖ ﻧﻌﻤﻞ ﻋﲆ ﺗﺪﻋﻴﻢ اﻟﻌﻘﻼﻧﻴﺔ واﻟﺤﻘﻮق واﻟﻘﻴﻢ اﻟﻌﺎﳌﻴﺔ‬ ‫واﻟﻌﻠﻧﻧﻴﺔ‪ .‬وﰲ ﻧﺸﺎﻃﻨﺎ ﻧﻄﺎﻟﺐ ﺎﺎ ﻳﲇ‪:‬‬ ‫ﺑﺎﻟﺤﻘﻮق اﻟﻌﺎﳌﻴﺔ واﻟﺘﺴﺎوي ﰲ اﳌﻮاﻃﻨﺔ ﺑ اﻟﺠﻤﻴﻊ‪.‬‬ ‫ﺑﺎﻟﺤﺮﻳﺔ ﰲ ﻧﻘﺪ اﻟﺪﻳﻦ‪.‬‬ ‫ﺑﺎﻟﺤﺮﻳﺔ اﻟﺪﻳﻨﻴﺔ واﻹﻟﺤﺎد‪.‬‬ ‫ﻓﺼﻞ اﻟﺪﻳﻦ ﻋﻦ اﻟﺪوﻟﺔ واﻟﻨﻈﺎﻣ‪ ،،‬اﻟﻘﺎﻧﻮ واﻟﺘﻌﻠﻴﻤﻲ‬ ‫ﺣﻈﺮ اﳌررﺳﺎت واﻟﻌﺎدات واﻟﻘﻮاﻋﺪ اﻟﺪﻳﻨﻴﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﻨﺘﻬﻚ ﺣﻘﻮق اﻟﻨﺎس وﺗﻀﻴﻖ ﻋﲆ ﺣ ّﺮﻳﺎﺗﻬﻢ‪.‬‬ ‫إزاﻟﺔ ﻛﻞ اﻟﻌﺎدات اﻟﺪﻳﻨﻴﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﻀﻄﻬﺪ اﳌﺮأة وﺗﻨﺘﻘﺺ ﻣﻦ ﺣﻘﻮﻗﻬﺎ واﺳﺘﻘﻼﻟﻬﺎ‪ ،‬وﺣﻈﺮ ﻓﺼﻞ اﻟﺠﻨﺴ‪..‬‬ ‫ﺣﻈﺮ اﻟﺘﺪﺧﻞ ﻣﻦ ﻗﺒﻞ أﻳﺔ ﺳﻠﻄﺔ ﻋﺎﺋﻠﻴﺔ أو رﺳﻤﻴﺔ ﰲ اﻟﺤﻴﺎة اﻟﺸﺨﺼﻴﺔ واﻟﻌﺎﻃﻔﻴﺔ واﻟﺠﻨﺴﻴﺔ ﻟﻠﻨﺎس‪.‬‬ ‫ﺣﻳﻳﺔ اﻷﻃﻔﺎل ﻣﻦ اﻟﺘﻼﻋﺐ ﺑﻬﻢ واﻹﺳﺎءة إﻟﻴﻬﻢ ﻣﻦ ﻗﺒﻞ اﻟﺪﻳﻦ واﳌﺆﺳﺴﺎت اﻟﺪﻳﻨﻴﺔ‪.‬‬ ‫ﺣﻈﺮ اﻟﺪﻋﻢ اﻟﺮﺳﻤﻲ ﻟﻠﺪﻳﻦ ﺳﻮاء اﳌﺎدي أو اﳌﻌﻨﻮي‪.‬‬ ‫ﺣﻈﺮ ﺟﻤﻴﻊ أﻧﻮاع اﻟﺘﺨﻮﻳﻒ واﻟﺘﻬﺪﻳﺪ اﻟﺪﻳﻨﻲ‪.‬‬ ‫‪33‬‬


‫زريعة‬ ‫إبـلـيـس‬

34

Hades Nostravinci


‫زريعة إبليس‬ ‫‪Hades Nostravinci‬‬

‫ذات مر ٍة ولدتْ زوجة الحاج خليفة بنتًا‪...‬‬ ‫استلقت عىل ظهرها فاتح ًة رجليها‪ ،‬ورشعت تستنجد‬ ‫بالرسول منادي ًة مبلئ صدرها «يا محمد»‪ ،‬وأفرغت ُجه ًدا‬ ‫هائل يف الدفع وولدت بنتًا‪.‬‬ ‫ً‬ ‫وقد كان ذلك يعني عىل وجه الضبط بالنسبة للحاج خليفة‬ ‫ الذي كان يذرع الغرفة املجاورة ‪ -‬أنه خرس جز ًءا من‬‫أسهمه املنوية يف املضاربة عىل صندوقه الخاص للتقاعد‪...‬‬ ‫فم جدي ًدا دون انتظار مساعد ٍة يف شيخوخته‪.‬‬ ‫وأنه بات عليه أن يُطعم ًّ‬ ‫كانت الصفقة خارس ًة من جميع الوجوه‪...‬‬ ‫وقد بكت زوجة الحاج خليفة وهي متد يدها لتتناول طفلتها من عند القابلة‪ ...‬وأعلنت أن عار البنت ال تغسله غري الدموع‪،‬‬ ‫وبكت الطفلة معلن ًة أنها غري موافق ٍة عىل مزاعم أمها تلك‪.‬‬ ‫وفيام طرق سمعه رصاخ الطفلة الحديثة الوالدة‪...‬‬ ‫وسليم ً‬ ‫معاف»‪...‬‬ ‫راح الحاج خليفة يدعو ربه بكل رجا ٍء وتوسل «اللهم اجعله ذك ًرا مباركًا‬ ‫ً‬ ‫ألن البنت زريعة إبليس‪ ...‬وألن املرء ال يرغب يف أن يُدنَّس بيته بأي يش ٍء يخص إبليس حتى لو كان من صلبه‪.‬‬ ‫وألن أصابع اليد ليست سوا ًء طاملا أن املرء ال يعرف الع ّد سوى عىل أصابعه‪.‬‬ ‫لكن لعبة الدعاء قُتلت يف املهد أيها السادة‪...‬‬ ‫وحملت له القابلة خرب والدة زوجته ٍ‬ ‫لبنت عىل أي حال‪ ،‬معلن ًة يف حذ ٍر متناه «مربوك الخنيتيشة»‪...‬‬ ‫وتحطم قلب الحاج الطيب قطعتني‪...‬‬ ‫ما أفظع بشارات القابالت!!‬ ‫ثم كربت زريعة إبليس‪ ...‬وراحت تعرب السنوات بقفزات شيطانٍ َحسن البنية‪ ...‬واكتشفت بعينيها البسيطتني أن الحزن مثل‬ ‫أسنان املنشار‪ ...‬وأنه بالذات منشا ٌر مع ٌّد ألن يسلّط أسنانه يف جثتها طيلة حياتها املحزنة‪ ...‬وأن والدتها التي تعمل أغلب‬ ‫ساعات اليوم يف البيت مثل بغل بيّاع املاء تع ّدها يف الحقيقة ليك تؤدي نفس الوظيفة «املقدسة» عندما تكرب ويأيت أحدهم‬ ‫لرشائها‪...‬‬ ‫‪35‬‬


‫زريعة إبليس‬ ‫‪Hades Nostravinci‬‬

‫وقد عهدت لها منذ أن بلغت سن الثالثة مهمة كنس البيت وغسل األواين واملساعدة يف عجن عجينة الخبز وإشعال‬ ‫«الكانون»‪ ...‬ثم عندما بلغت الخامسة أضافت والدتها اىل مهامها تحضري القهوة ونصب املائدة للفطور والغداء وتسخني‬ ‫العشاء لوالدها عندما يعود للبيت قبيل الفجر ممتلئًا (بالبوخة) والقيئ‪.‬‬ ‫وكان الحاج خليفة دامئًا يعود للبيت قُبيل الفجر ممتلئًا (بالبوخة) والقيئ‪ ...‬وكان يوقظ كل من يف البيت مطال ًبا بتسخني‬ ‫عشائه وإحضار إبريق الوضوء حتى يتوضأ فور االنتهاء من األكل يك ال تفوته صالة الفجر جامع ًة يف املسجد‪ ...‬وكانت زريعة‬ ‫إبليس تسارع إىل الزحف خارج رسيرها محطمة األقدام فور سامعها صوت الباب الخارجي يُفتح‪ ...‬ثم تضع العشاء عىل النار‬ ‫وتنتظر حتى يسخن ثم تضعه أمام والدها الذي يبلغ الضيق به مداه كلام رأى ابنته ويتذكر أن كلبته أنجبت جرا ًء ذكو ًرا‬ ‫ويقول يف ذات نفسه (يا ريتني‪ ...‬يا ريتني خذيت الكلبة)‪...‬‬ ‫وكانت زريعة إبليس تقف بني يدي والدها حامل ًة إبريق الوضوء يف انتظار أن يُكمل أكله وميتلئ إىل حافته بشكشوكة‬ ‫الق ّديد‪ ...‬ثم ترشع يف سكب املاء عىل يديه حتى يكمل وضوءه ومن مثة يخرج إىل الجامع وهو يرتنح مثل شيطانٍ من الورق‬ ‫املق ّوى‪ ...‬قبل أن يعود من الصالة ليتسلق صدر زوجته مثل قمل ٍة وينال حصته من الحب‪.‬‬ ‫ثم تهمي ندف الثلج‪...‬‬ ‫ويومض قنديل الزيت يف دموع زريعة إبليس‪ ...‬وتهب نفسها للبكاء وراء األبواب املغلقة‪.‬‬ ‫لو كان فرعون حيًا!‬ ‫آه لو كان فرعون ح ًّيا يا أمنا املئناث الولود‪...‬‬ ‫لك ّن فرعون ذبحه الهكسوس عند أقدام هرمه الص ّواين الصلد‪ ...‬فمن يعيننا عىل رمي بناتنا لتامسيح النيل؟ ومن يساعد‬ ‫فقيهنا عىل كتابة األحجبة امللونة لرسقة أموال عجائزنا؟‪ ...‬من!!؟‬ ‫ثم أن زوجة الحاج خليفة مرضت خالل فصل الشتاء‪ ...‬وحملها الحاج إىل الطبيب الذي أخربه أنها مصاب ٌة بالسل والبهاق‬ ‫وهشاشة العظام وقليلٍ من الرسطان‪ ...‬ونصحه بأن يصيل «صالة الحاجة» ويحرق بعض أعواد الصندل يف مرقد (سيدي‬ ‫محرز) ويطعم عرشة مساكني‪ ...‬وقد فعل الحاج خليفة كل ذلك وأحرض لزوجته «ح ّجا ًما» قام بك ّيها يف رأسها وفك لها‬ ‫الرصد وعمل لها (املغايث)‪ ...‬لكن زوجة الحاج خليفة ماتت عىل أي حا ٍل ذات صباح‪ ،‬وقام الحاج بدفنها عند العرص واكرتى‬ ‫درويشً ا ليقرأ الفاتحة ألف مر ٍة عند رأسها قبل أن يعود إىل البيت ويكتشف أنه وحيد‪...‬‬ ‫وأنه مل ميتلك يو ًما الشجاعة الكافية ليك يعرتف لنفسه بالحقيقة‪ ...‬وأنه بنى حياته عىل تجاهل تلك الحقيقة بالذات‪.‬‬ ‫‪36‬‬


‫زريعة إبليس‬ ‫‪Hades Nostravinci‬‬

‫و قد بىك الحاج خليفة ألول مرة‪ ...‬جلس وحي ًدا يف العتمة وذرف دمو ًعا زجاجي ًة وبىك‪...‬‬ ‫ثم تبني شبح ابنته عرب مواشري الضوء املتسللة من الكوة‪...‬‬ ‫(ماما ويني!!؟) قالت له زريعة إبليس بعينيها الواسعتني‪.‬‬ ‫«عودي إىل غرفتك» قال الحاج خليفة البنته من وراء دموعه‪...‬‬ ‫ثم اعرتاه الغضب عندما تذكر فضيحة رؤية ابنته له وهو يبيك‪ ،‬فمسح عينيه ونهض ليجرها من يدها إىل غرفتها غري آب ٍه‬ ‫بنشيجها‪ .‬وأطرق القمر رأسه آلخر مرة‪.‬‬ ‫لو عاد فرعون يا أمنا الولود!‬ ‫وح ّدثك عن العذارى الاليئ تم وهبهن للنيل اتقاء غضبه‪...‬‬ ‫الحرتق قلبك العجوز الذي أكله السأم والصدأ من القهر والرعب‪.‬‬ ‫وتتنهد زريعة إبليس يف الركن من وراء سبعة أبواب‪ ...‬وتعرب املزيد من السنني بقفزات شيطان‪ ...‬وطفقت تنشد العزاء يف‬ ‫الكنس والطبخ ومعالجة تسوس األبواب بالقطران وغسل جوارب الحاج خليفة املليئة بالقيئ وروائح أحرصة املساجد‪ ...‬ثم‬ ‫عندما أرغم املرض الحاج خليفة عىل البقاء فوق رسيره يف البيت‪ ...‬تكفلت زريعة إبليس بفتح دكانه املتواضع لبيع البخور‬ ‫وقناديل الزيت والشموع والسواك والح ّناء وبقية أغراض قراءة البخت والطالع‪.‬‬ ‫وقد تعودت زريعة إبليس عىل أن تستيقظ مع الطيور فتعد الفطور وتكنس البيت وتغسل صحون الليلة املاضية ثم تتفقد‬ ‫للحمم حيث تنتظره لتعيده إىل الرسير‪ ،‬ثم تغري ثيابها وتخرج قاصد ًة دكان الحاج خليفة‬ ‫والدها وتساعده عىل الذهاب ّ‬ ‫لتعمل هناك مثل ثور الساقية وتعود إىل البيت قُبيل الظهر‪ ،‬وتعد الغداء لوالدها ثم تطعمه بيديها بسبب استفحال مرضه‬ ‫ٍ‬ ‫لقامت رسيعة‪ ،‬ومن مثة تعود للدكان وتبقى تعمل‬ ‫الذي أقعده متا ًما وشلّه عن الحركة‪ ...‬ثم تتناول حصتها من الغداء عرب‬ ‫هناك حتى املغرب قبل أن تغلق دكان والدها وتعود للمنزل لتعد العشاء وتسهر عىل توفري احتياجات الحاج خليفة ريثام‬ ‫ينام‪.‬‬ ‫وتنزلق الظالل امللونة عىل جدران السامء‪...‬‬ ‫وتفتح زريعة إبليس عينيها يف الحلم‪ ...‬وترى إىل أحزانها تتوهج مثل ماليني الحباحب عرب كل لحظات حياتها الحافلة باملرارة‬ ‫وتصطخب األمواج يف عينيها الواسعتني وتومض رصخاتها املكبوتة من وراء ظلوع صدرها بأضواء املدن والطرق والنجوم‬ ‫السحب وتربت عىل رأس القمر‬ ‫وقناديل الزيت املتقنة الصنع يف لحظ ٍة حريري ٍة خاطفة‪ ...‬ويصبح يف وسعها أن متد يدها عرب ُ‬ ‫‪37‬‬


‫زريعة إبليس‬ ‫‪Hades Nostravinci‬‬

‫الذي الزال ُمطرقًا‪.‬‬ ‫ثم يدب املوت تحت جلد الحاج خليفة بار ًدا مثل عروقٍ ثلجية‪...‬‬ ‫مات الحاج‪ ...‬مات خليفة الله يف األرض وآكل الشكشوكة بالق ّديد بعد أذان صالة الفجر‪...‬‬ ‫وقد كان ميلك يف حوزته زوج ًة وكلب ًة‪ ،‬فأنجبت زوجته بنتًا وأنجبت كلبته خمسة ذكور‪ ،‬فقال لزوجته مع ًريا‪« :‬يا ريتني ع ّرست‬ ‫بالكلبة»‪.‬‬ ‫مات الرجل الطيب القلب وحمله الرجال عىل أكتافهم إىل (جبانة سيدي يحي)‬ ‫وواروه يف حفر ٍة وأهالوا عىل جثته الرتاب واستقبلته املالئكة بالصفري‪ ...‬لقد أصبح‬ ‫مشكلة السامء اآلن‪...‬‬ ‫رجل غري ًبا معل ًنا أنه ع ّمها وأنه‬ ‫أما هنا عىل األرض فقد كانت زريعة إبليس تستقبل ً‬ ‫يطالب بحصته يف املرياث‪.‬‬ ‫«النصف»‪ ،‬قال العم تحت وطأة الجشع‪.‬‬ ‫«لكنني ال أعرفك» قالت زريعة إبليس تحت وطأة املفاجئة «ومل ِ‬ ‫تأت لزيارتنا طوال‬ ‫فلسا واح ًدا من مريايث»‪.‬‬ ‫العرشين سن ًة املنرصمة‪ ،‬وأنت ال متتلك ً‬ ‫«ال َع َص َب ُة»(‪ )1‬قال العم تحت وطأة الغضب‪،‬‬ ‫«أنا أرث معك مبوجب قاعدة ال َعصبة الفقهية وآخذ النصف من تركة أخي»‪.‬‬ ‫محق وأنه يرث معها‬ ‫وقد أكّد كل الفقهاء الذين زارتهم زريعة إبليس أن عمها ٌ‬ ‫النصف تعصي ًبا‪...‬‬ ‫وأطرق القمر رأسه آلخر مر ٍة ممتلئ الوجه بالعار‪...‬‬ ‫إنه ُحكم «ال َعصبة‪».‬‬ ‫‪« -1‬ال َعصبة «وتس ّمى أيضً ا «التعصيب «‬ ‫وهو أن يأخذ الوارث كل الرتكة إذا مل يوجد وارث ًا غريه أو ما بقي منها إذا ُوجد معه وارث‪.‬‬

‫‪38‬‬


39


‫يف نقد ناقدي الحداثة‬

‫وما بعد العلامنيني والعامل العريب‬

‫د‪ .‬يارس ضحوي‬

‫مل أدخل عامل السياسة واألحزاب إال مؤخ ًرا‪ ،‬كنت قد انتهيت من االمتياز وأعمل‬ ‫طبي ًبا عموم ًّيا يف مستشفى إبراهيم مالك‪ ،‬مل تكن أرسيت مهتم ًة بالسياسة أو األحزاب‪،‬‬ ‫رجل شاع ٌر يتغنى بقصائده القدمية وذكريات صباه‪ ،‬معارضته للوضع السيايس‬ ‫فأيب ٌ‬ ‫بزمن‬ ‫ليست نابع ًة من انتام ٍء حز ٍّيب أو أيديولوجي‪ ،‬بل من مقارنة الوضع الحايل ٍ‬ ‫جميلٍ عاشه‪ ،‬حني كان السودان ح ًّرا كرميًا‪،‬‬ ‫‪40‬‬


‫يف نقد ناقدي الحداثة‬

‫وما بعد العلامنيني والعامل العريب‬ ‫د‪ .‬يارس ضحوي‬

‫أما أمي فامرأ ٌة ط ّيب ٌة وبسيط ٌة لها مكتب ٌة ديني ٌة ضخمة‪ ،‬أكرث من عرشين عا ًما من االغرتاب مل تشرتي فيهام ذه ًبا وال عقا ًرا‪ ،‬مل‬ ‫ت ّدخر يف حياتها إال مكتبتها الدينية‪ ،‬ورغم غزارة معرفتها الدينية إال أنها مل تكن يو ًما متشددةً‪ ،‬إن ف ّوت أحد أبنائها الصالة‬ ‫تدعوا له بالهداية‪ ،‬التدين بالنسبة لها داف ٌع للتفاؤل واألمل‪ ...‬سيهدي الله أبنايئ وبنايت وسيصلح حالنا طاملا أننا نصيل وندعو‪.‬‬ ‫بداية حيايت التي قضيناها يف الغربة وأرسيت التي تنسب أغلب أحداث األرض‬ ‫إىل ملكوت السامء مل يخلق لدي الدافع القتحام مجال السياسة أو أنتمي إىل‬ ‫حزب ما حتى بعد أن بدأت دراستي الجامعية يف السودان‪ ،‬رغم أن السياسة‬ ‫ٍ‬ ‫محظور ٌة يف الجامعة التي درست بها‪ ،‬أعتقد من تجربتي الشخصية أن السودانيني‬ ‫وخصوصا بعد بطش منريي واتجه جز ٌء كب ٌري منهم إىل‬ ‫الذين تركوا السودان‬ ‫ً‬ ‫اململكة السعودية وخصوصا مع ثروتها البرتولية قد عزفوا عن السياسة وكل ما‬ ‫حزب ولكنهم ينتقدون األحزاب بكل استفاض ٍة‬ ‫ميت لها بِصلة‪ ،‬ال ينض ّمون إىل ٍ‬ ‫واحرتافية‪ ،‬ال يشاركون يف التغيري وينتظرون قدومه بفارغ الصرب‪ ،‬معتقالتٌ‬ ‫ديني يف اململكة‪ ،‬وبني هذه املطرقة وذاك‬ ‫وبيوت أشبا ٍح يف السودان وحك ٌم مل ٌ‬ ‫يك ٌ‬ ‫السندان صارت السياسة من أكرب املوبقات واملهلكات‪،‬‬

‫جعفر النمريي‬

‫واألدهى واألمر أن أيب وأمي وجيلهم قد و ّرثوا هذا الرعب من السياسة إىل جيلنا‪ ،‬كربنا وهم يرددون عىل أسامعنا‪:‬‬ ‫ال تقربوا السياسة! السياسة ٌ‬ ‫مجال قذ ٌر ال ينجح فيه إال القذرون! كل من عارضوا النظام دخلوا إما يف املقابر أو يف السجون!‬ ‫إلهي لندخل الجنة‪ ،‬وأن الوضع‬ ‫وكربنا مثلهم ننسب سوء حالنا إىل معاصينا‪ ،‬وثراء الفاسدين وسيطرتهم إىل أنها امتحا ٌن ٌّ‬ ‫املزري يف األرض سببه إرادة السامء‪.‬‬ ‫أبق عىل هذا الحال‪ ،‬دخويل الجامعة والتعرض ملختلف األفكار أثار داخيل أسئل ًة مل أجد إجابتها يف‬ ‫لحسن حظي أنني مل َ‬ ‫مكتبة أمي؛ بدأت يف قراءة الكتب واملقاالت وأقتحم هذا‬ ‫طويل ‪ -‬املس ّمى‬ ‫ً‬ ‫العامل املحظور الذي حذرين والداي منه‬ ‫بالسياسة ‪ ،-‬كام أن دراستي لكلية الطب ساهمت بشكلٍ كبريٍ‬ ‫مسلم وكاف ٍر‬ ‫يف تغيري طريقتي يف التفكري‪ ،‬فاملرض ال يف ّرق بني ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫وال بني طائعٍ ٍ‬ ‫مرضا ال‬ ‫وعاص ال يف‬ ‫تشخيص وال عالج‪ ،‬لتعالج ً‬ ‫يكفي أن تنسبه إىل مشيئ ٍة إلهي ٍة أو ابتال ٍء يثاب عليه بالجنة‪،‬‬ ‫منطقي ميكن تحليله وتشخيصه ومعالجته‪،‬‬ ‫سبب عقال ٍّين‬ ‫بل إىل ٍ‬ ‫ٍّ‬ ‫مسلم وكاف ٍر يف الطب فلامذا نف ّرق بينهام‬ ‫فإذا ك ّنا ال نف ّرق بني ٍ‬ ‫يف السياسة؟ وإذا ك ّنا نستطيع أن نعالج أمراض اإلنسان فلامذا‬ ‫نقف عاجزين أمام أمراض الدولة واملجتمع؟‬ ‫‪41‬‬


‫يف نقد ناقدي الحداثة‬

‫وما بعد العلامنيني والعامل العريب‬ ‫د‪ .‬يارس ضحوي‬

‫ٍ‬ ‫يبش بإقامة الخالفة إىل علام ٍّين ينادي بالدولة الليربالية‪ ،‬مثل حقوق املرأة‬ ‫وقفت يف عدة‬ ‫محطات يف تحويل من ثيوقراطي ّ‬ ‫واألقليات وعالقة الدين بالدولة‪ ،‬وبعد ٍ‬ ‫بحث واضطال ٍع أصبحت علامنيّا وانضممت إىل الحزب الليربايل‪ ،‬كان الخيار وقتها‬ ‫بسيطًا يف الساحة السياسية والثقافية يف السودان‪ ،‬إما أن تكون علامن ّيا تدعم الدولة الوطنية الحديثة وإما أن تكون ثيوقراط ّيا‬ ‫تنادي بعودة الخالفة‪،‬‬ ‫تختلف درجات العلامنية السودانية من علامني ٍة صلب ٍة تقف عىل ٍ‬ ‫فكري مت ٍني إىل علامني ٍة تحاول إيجاد مرشوعيتها‬ ‫أساس ٍّ‬ ‫خطاب متشد ٍد ينادي بإقامة الخالفة عىل ٍ‬ ‫ديني‬ ‫من داخل الدين‪ ،‬وكذلك تختلف درجات الثيوقراطية السودانية من‬ ‫ٍ‬ ‫أساس ٍّ‬ ‫تاريخي ال يجوز الزيغ عنه إىل ثيوقراطية لين ٍة تحاول عقلنة الدولة الدينية وجعلها أكرث قبولً للجانب العقالين‬ ‫واحتذا ٍء مبثا ٍل‬ ‫ٍّ‬ ‫مثل االلتفاف حول حقوق األقليات ومساواتهم مع األغلبية الدينية أمام قانونٍ مد ٍّين ٍ‬ ‫واحد بطر ٍح أن يكون لهم محاكمهم‬ ‫ميل للعلامنية أو الثيوقراطية‪ ،‬إما أن تستشهد بأدل ٍة عقلي ٍة‬ ‫مهتم بالشأن السيايس يجعلك إما أكرث ً‬ ‫وقانونهم‪ ،‬يف النهاية كونك ً‬ ‫بنصوص دينية‪ ،‬وال وجود لخيا ٍر ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ثالث غري الوطن ورابطة املواطنة أو الخالفة ورابطة العقيدة‪.‬‬ ‫أو‬ ‫ولكن بدأت هذه الخارطة يف السودان تتغري مع ظهور ما بعد الحداثيني السودانيني أو من أس ّميهم‪( :‬السلفيني الجدد)؛‬ ‫إن دافعي لكتابة هذا املقال هو مصطلح (ما بعد العلامنية) الذي ظهر يف الساحة الفكرية والحركات الطالبية يف السودان‪،‬‬ ‫شخص ما أنا لست علامنيّا فإن االستنتاج الطبيعي هو أن املاثل أمامك ثيوقراطي يدعم الدولة‬ ‫ففي املايض حني يقول لك ٌ‬ ‫الدينية‪،‬‬ ‫ولكن من هو املا بعد العلامين؟ وما هي ما بعد العلامنية؟ وما هي الدولة التي يطمح لها ما بعد العلامنيني السودانيني؟‬ ‫رشسا لإلسالم‬ ‫اسئل ٌة أجد نفيس مضط ًرا لطرحها ومحاولة اإلجابة عليها‪ ،‬لقد قضيت فرتيت القصرية يف العمل العام‬ ‫ً‬ ‫معارضا ً‬ ‫السيايس والدولة الدينية‪ ،‬ولكن الخطر املحدق اآلن ليس السلفيني التقليديني‪ ،‬بل السلفيني الجدد‪ ،‬الذين اكتشفوا أن‬ ‫االستشهاد (بدريدا وفوكو) أكرث جاذبي ًة من االستشهاد بالبخاري ومسلم‪ ،‬إن انتقاد الدولة الدميقراطية الليربالية الحديثة مل‬ ‫أيضا‪،‬‬ ‫مم بعد الحداثيني ً‬ ‫يعد من الجهة الدينية فقط أو ما قبل الحداثيني فقط‪ ،‬بل ّ‬ ‫وآن األوان لتفنيد دعاوي ما بعد الحداثيني وما بعد العلامنيني‪ ،‬فمصطلح ما بعد العلامنية يف دو ٍل مل تحقق حداثتها ال‬ ‫جاهل أو جبان‪.‬‬ ‫يتداوله إال مخاد ٌع أو ٌ‬ ‫ملناقشة دعاوى ما بعد العلامنيني ال بد أولً أن نرشح ماذا نعني مبا بعد العلامنية وما بعد الحداثة‪ ،‬وهذه مهم ٌة شاق ٌة‬ ‫‪42‬‬


‫يف نقد ناقدي الحداثة‬

‫وما بعد العلامنيني والعامل العريب‬ ‫د‪ .‬يارس ضحوي‬

‫وخصوصا أنني ال زلت أتلمس خطوطايت األول يف الفلسفة ومحاولة فهم هذه املصطلحات املائعة والزئبقية‪ ،‬ولكني‬ ‫وعويص ٌة‬ ‫ً‬ ‫سأبذل جهدي‪.‬‬

‫الحداثة‪:‬‬

‫وقبل أن نتحدث عام بعد الحداثة فال بد أن نتحدث عن الحداثة؛ لن‬ ‫فكل سيعرفها ويصفها حسب‬ ‫تجد تعريفًا ثابتًا أو متفقًا عليه للحداثة ٌّ‬ ‫موقفه منها‪ ،‬ولكن لنقُل إن الحداثة هي منظوم ٌة فكري ٌة ت ُعد السمة‬ ‫الرئيسية للعرص الحديث أو ما بعد العصور الوسطى‪ ،‬هل استمعت‬ ‫إىل محارض ٍة ومتنيت لو أنك من ألقاها من شدة إعجابك بها؟ حدث يل‬ ‫هذا يف مر ٍ‬ ‫ات قالئل آخرها وأنا أستمع إىل األستاذ عبد اإلله بلقزيز يف‬ ‫محارض ٍة عنوانها‪ :‬الحداثة وما بعد الحداثة‪ ،‬تأمالتٌ نقدية‪ .‬املحارضة‬ ‫تق ّدمها أكادميية اململكة املغربية وهي موجود ٌة عىل اليوتيوب‬ ‫وأنصحكم جمي ًعا مبشاهدتها ألنها ترشح مفهوم الحداثة بشكلٍ ٍ‬ ‫بسيط‬ ‫ورائع‪،‬‬

‫عبد اإلله بلقيز‬

‫فالحداثة حسب تعريف عبد اإلله بلقزيز هي منظوم ٌة فكري ٌة قامئ ٌة عىل ِق ٍيم رئيسي ٍة مثل العقالنية‪ ،‬التفكري العلمي‪ ،‬النزعة‬ ‫النقدية‪ ،‬الفردانية‪ ،‬الحرية وغريها‪ ،‬وهذه املنظومة لها تجلياتٌ عىل مر التاريخ مثل الثورة العلمية‪ ،‬الثورة الصناعية‪ ،‬فلسفة‬ ‫األنوار‪ ،‬الدميقراطية والعلامنية وغريها‪،‬‬ ‫والحداثة يف تاريخها الذي يقال أنه من القرن الخامس عرش حتى القرن التاسع عرش ‪ -‬أنا ضد وضع تاريخ نهاي ٍة للحداثة‪،‬‬ ‫فوضع تاريخ نهاي ٍة للحداثة يعني أنها قد استكملت أهدافها وبلغت نهايتها وأننا اآلن نعيش يف العرص ما بعد الحديث!‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫لحظات تاريخي ٍة هامة‬ ‫محطات أو فلنقل سبع‬ ‫وهذه نقط ٌة سأناقشها الحقًا ‪ -‬؛ م ّرت بسبع‬ ‫‪43‬‬


‫يف نقد ناقدي الحداثة‬

‫وما بعد العلامنيني والعامل العريب‬ ‫د‪ .‬يارس ضحوي‬

‫األوىل هي النهضة ونعني بالنهضة نهض ٌة أدبي ٌة وجاملي ٌة أدت إىل طفر ٍة يف األفكار كانت لها متظهراتٌ ثقافي ٌة وفني ٌة وأدبي ٌة‬ ‫ومعامرية‬ ‫الثانية هي اإلصالح الديني وإعادة قراءة وفهم النصوص املقدسة والتحرر من السلطات الدينية وتدشني مفاهيم مثل‬ ‫التسامح والحرية الدينية‪،‬‬ ‫الثالثة هي الثورة الزراعية والصناعية التي أدت إىل االنتقال من اقتصاد الكفاف إىل اقتصاد اإلنتاج والوفرة وتحسني ظروف‬ ‫ٍ‬ ‫وعالقات اجتامعي ٍة جديد ٍة ونظر ٍة‬ ‫قيم ومفاهي َم‬ ‫الحياة وتوفري فرص عمل‪ ،‬كام أن وسائل اإلنتاج الجديدة أدت إىل إنتاج ٍ‬ ‫جديد ٍة إىل العامل مختلف ًة عن النظرة املرتبطة بوسائل اإلنتاج التقليدية‪،‬‬ ‫الرابعة هي الثورة العلمية التي ساهمت يف تطوير االقتصاد األورويب ونرش ثقافة التفكري العلمي والتجريبي‪،‬‬ ‫الخامسة هي فلسفة األنوار يف القرن الثامن عرش التي أدت إىل هيمنة الفكر املدين الذي مل يكن فقط حك ًرا عىل املثقفني‬ ‫والفالسفة بل بدأ ينتقل إىل الثقافة العامة والفن واألدب‪،‬‬ ‫السادسة هي الثورة السياسية والدميقراطية والقومية‪ ،‬وبدأت مع الثورة اإلنجليزية مرو ًرا بالدستور األمرييك حتى وصلنا إىل‬ ‫الثورة الفرنسية‪ ،‬وهذه الثورات والدساتري هي التي أنهت التحالف بني اإلقطاع والكنيسة وأجهزت عىل امللكيات املطلقة‬ ‫ٍ‬ ‫التباسات أعاقت أوروبا عن‬ ‫ودشنت ملفهوم الدولة القومية الحديثة والوحدات القومية‪ ،‬وهذا املفهوم أدى إىل فصل عدة‬ ‫نهضتها وحداثتها مثل الفصل بني الديني والسيايس أو بني الكنيسة والدولة‪ ،‬وميالد العلامنية والدميقراطية‪،‬‬ ‫اللحظة السابعة واألخرية هي ثورة التكنولوجيا منذ بداية القرن العرشين حتى اآلن والتي كان لها أث ٌر بال ٌغ يف تحسني الحياة‬ ‫ٍ‬ ‫شديد متثل التاريخ الرتاكمي‬ ‫ومحاربة األمراض وحتى تغيري مفهومنا للزمان واملكان‪ ،‬هذه املحطات الرئيسية باختصا ٍر‬ ‫للحداثة‪ ،‬وهي التي شكّلت واقع الدول التي حققت حداثتها بشكلٍ كبري؛‬ ‫فال ميكن لهذه الدول أن تصل إىل تقدمها دون ثور ٍ‬ ‫ات علمي ٍة وتقني ٍة‪ ،‬وال ميكن أن تصنع مفاهيم مثل الدولة الحديثة‬ ‫ات سياسي ٍة واجتامعية‪ ،‬وقبل كل ذلك ثور ٍ‬ ‫والدميقراطية والعلامنية وحقوق األقليات وحقوق اإلنسان دون ثور ٍ‬ ‫ات مفاهيمي ٍة‬ ‫وفكري ٍة كان لها أثرها عىل األدب والفن والثقافة والسياسة‪.‬‬ ‫فإذا كانت هذه هي الحداثة فام هي ما بعد الحداثة؟‬ ‫‪44‬‬


‫يف نقد ناقدي الحداثة‬

‫وما بعد العلامنيني والعامل العريب‬ ‫د‪ .‬يارس ضحوي‬

‫ما بعد الحداثة‬

‫إن كان رشح الحداثة صع ًبا أو معق ًدا فإن رشح ما بعد الحداثة أكرث صعوب ًة وتعقي ًدا‪،‬‬ ‫وقد وقع اختياري عىل كتاب «كريستوفر باتلر‪ :‬ما بعد الحداثة مقدم ٌة قصري ٌة ج ًدا»‬ ‫ٍ‬ ‫عم بعد الحداثة‪ ،‬فإن كانت الحداثة قامئ ًة عىل يقينيات مثل أن‬ ‫ألقدم رش ٍح‬ ‫مبسط ّ‬ ‫التاريخ يتقدم إىل األمام وأن املعرفة ستحررنا وأن هناك وحد ًة خفي ًة بني جميع أشكال‬ ‫املعرفة‪ ،‬فإن ما بعد الحداثة هي املوقف املتشكك من الحداثة‪ ،‬ما بعد الحداثة ال‬ ‫ٍ‬ ‫يقينيات جديد ًة أو وجهة نظ ٍر مضاد ٍة لوجهة نظر الحداثة ليك نقارنهام‪ ،‬ما بعد‬ ‫تقدم‬ ‫نبي ذلك ال بد‬ ‫الحداثة هي اليقني يف الشك‪ ،‬هي املوقف املتشكك من كل يشء‪ ،‬وليك ّ‬ ‫أن نبدأ برشح جملة‪ :‬االدعاءات الكربى‪.‬‬ ‫االدعاءات الكربى أو النصوص الرسدية الكربى مثل الفلسفة الكانطية أو الهيجلية أو املاركسية أو غريها من النصوص أو‬ ‫فمثل تزعم هذه الفلسفات أن املعرفة ستحررنا وأن العلم‬ ‫وتبي آثارها‪ً ،‬‬ ‫الفلسفات هي التي تقدم ادعا ًء وترشح أحداث ًا ما ّ‬ ‫مثل؛‬ ‫سينترص وأننا سنصل إىل (اليوتوبيا) املاركسية ً‬ ‫يرى ليوتار وهو أحد منظري ما بعد الحداثة أن هذه االدعاءات قد فقدت مصداقيتها بعد الحرب العاملية الثانية‪ ،‬وع ّرف‬ ‫ٌ‬ ‫متشكك من االدعاءات الكربى‪.‬‬ ‫موقف‬ ‫ما بعد الحداثة بأنها ٌ‬ ‫أستطيع أن أتفهم موقف ما بعد الحداثيني من االدعاءات الكربى‪ ،‬فعد ٌد ال يُذكر من النزاعات التي تحدث يف العامل ميكن‬ ‫أن نجد جذورها يف أيدلوجيات متناقضة‪ ،‬واالدعاءات الكربى تخلق نو ًعا من الرشعية لسلط ٍة أو ملامرس ٍة ثقافية‪ ،‬فاالمتثال‬ ‫ٍ‬ ‫معتقدات قومي ٍة وديني ٍة شمولي ٍة أ ّدى إىل كثريٍ من القمع والعنف‪ ،‬ويف عاملنا الحايل‪ ،‬نج ُد الكثريون عىل استعدا ٍد أن ميوتوا‬ ‫إىل‬ ‫أو يقتلوا يف سبيل رسدي ٍة كربى يؤمنون بها‪ ،‬ولكن شكوك ما بعد الحداثيني مل تقف فقط عن االدعاءات الكربى بل تجاوزتها‬ ‫إىل أبعد من ذلك بكثري‪.‬‬ ‫‪45‬‬


‫يف نقد ناقدي الحداثة‬

‫وما بعد العلامنيني والعامل العريب‬ ‫د‪ .‬يارس ضحوي‬

‫الفلسفة التفكيكية عىل سبيل املثال‪ ،‬فلسف ٌة قامئ ٌة عىل أن الحقيقة يف حد‬ ‫ذاتها نسبي ٌة وأن عالقة اللغة بالواقع عالق ٌة مجهول ٌة ال ميكن االعتامد عليها‪،‬‬ ‫فالنظام اللغوي هو بني ٌة ثقافية؛ فاللغة ليست مرآ ًة للطبيعة‪ ،‬والثقة فيها ثق ٌة‬ ‫لغوي‬ ‫زائف ٌة متمركز ٌة حول العقل‪ ،‬فعندما تستخدم لغ ًة فأنت أسري ٍ‬ ‫لنظام ٍّ‬ ‫قائل‪:‬‬ ‫ومفاهيمي غري قابلٍ للقياس‪ ،‬وهذا ما لخصه دريدا ً‬ ‫ٍ‬

‫جاك دريدا‬

‫«ال يوجد يش ٌء خارج النص باستثناء املزيد من النصوص التي نستخدمها يف‬ ‫محاولة وصف أو تحليل ما تدعي النصوص اإلشارة إليه‪».‬‬ ‫بل يتعدى األمر ذلك إىل نزع سلطة املؤلف عىل النص وإعالن موته‪ ،‬فكاتب النص مل يعد مصدر املعنى واملالك الرأساميل‬ ‫الربجوازي ملعنى النص‪ ،‬وهذا ما وضحه (روالن بارت) يف كتاب‪ :‬الصورة‪-‬املوسيقى‪-‬النص حيث قال‪:‬‬ ‫تعب عن مع ًنى الهو ٍيت واحد (ا ٔي رسالة املؤلف‪/‬اإلله) لكنه فضا ٌء‬ ‫نحن ندرك اآلن ا ٔن النص ليس مجرد سلسل ٍة من الكلامت ّ‬ ‫نص ا ٔصيل — وتتصادم‪ .‬إن األدب يتمكن من‬ ‫متعدد األبعاد؛ حيث متتزج مجموع ٌة متنوع ٌة من الكتابات — ال يوجد بينها ٌ‬ ‫معادل‬ ‫ً‬ ‫نصا) من تحرير ما قد يُطلق عليه نشاطًا‬ ‫خفي إىل النص (وإىل العامل باعتباره ً‬ ‫خالل رفضه تخصيص مع ًنى نها ٍّيئ ٍّ‬ ‫رفضا إلل ٍه واألقنوم املرتبط به‪ ،‬ا ٔال وهو املنطق‪،‬‬ ‫ثوري حقًا مبا ا ٔن رفض تحديد املعنى يعني يف النهاية ً‬ ‫لالهوتية‪ ،‬وهو نشا ٌط ٌ‬ ‫والعلم‪ ،‬والقانون‪.‬‬ ‫اجتامعي نسبي‪،‬‬ ‫نص أد ٍّيب يحظى بقبو ٍل‬ ‫والتاريخ مل يَسلم من نقد ما بعد الحداثيني‪ ،‬فالتاريخ مجرد حكاية‪ٍّ ،‬‬ ‫ٍ‬ ‫(هايدن وايت) يكتب النص التاريخي كنتا ٍج أد ٍيب من كتاب مدارات الخطاب‪:‬‬ ‫ٍ‬ ‫محتويات مختلف ًة بقدر ما هي مكتشف ًة‪ ،‬ولدى صياغتها قواسم مشرتك ًة‬ ‫«إن االدعاءات التاريخية هي رواياتٌ شفهية‪ ،‬تضم‬ ‫مع نظرياتها يف األدب أكرث مام بينها وبني نظرياتها يف العلوم‪».‬‬ ‫ٍ‬ ‫تحليالت يف العالقة بني الخطاب (اللغة) والسلطة‪ ،‬فالخطابات السلطوية مصمم ٌة الستعباد الناس‬ ‫أما (فوكو) فقد ق ّدم‬ ‫والتحكم بهم‪ ،‬فيكتب فوكو يف كتاب االنضباط والعقاب‪ ،‬ميالد السجن‪:‬‬ ‫دعم من تلك اآلليات الطبيعية اليومية املقبولة‪،‬‬ ‫«إن الشكل القضايئ العام الذي مينح حقوقًا متساوية من حيث املبدأ مل َ‬ ‫يلق ً‬ ‫ومن تلك األنظمة السلطوية املصغرة غري املتناسقة وغري العادلة بطبيعتها‪ ،‬التي نطلق عليها أنظمة االنضباط‪ :‬مثل االختبارات‪،‬‬ ‫واملستشفيات‪ ،‬والسجون‪ ،‬والقوانني التنظيمية يف ورش العمل‪ ،‬واملدارس‪ ،‬والجيش‪».‬‬ ‫‪46‬‬


‫يف نقد ناقدي الحداثة‬

‫وما بعد العلامنيني والعامل العريب‬ ‫د‪ .‬يارس ضحوي‬

‫فاللغة واملجازات والدالالت تحمل يف طياتها خطابًا هو وليد سلط ٍة وثقافة‪،‬‬ ‫فمثل يف مقال كتبته عاملة األجناس البرشية إميييل مارتن (البويضة والحيوان‬ ‫ً‬ ‫املنوي) تزعم أن الصورة التي ترسمها التقارير العلمية عن البويضة والحيوان‬ ‫املنوي تلعب دو ًرا يف تعريفنا الثقايف للذكر واألنثى‪ ،‬فالبويضة هي الخجولة‬ ‫والربيئة والحيوان املنوي هو النشط املسيطر الذي يقتحم البويضة ويسيطر‬ ‫عليها‪ ،‬آرا ٌء أفسدتها الثقافة والسياسة؛ بل يعتقد البعض من الباحثني يف املجال‬ ‫أن البويضة هي التي تبتلع الحيوان املنوي وتقبض عليه‪ ،‬هل هذه الخطابات‬ ‫فعل وليدة سلط ٍة وثقاف ٍة ونحن محبوسون فيها دون أن ندري؟!‬ ‫وغريها ً‬

‫ميشيل فوكو‬

‫إميييل مارتن‬

‫ففوكو مؤر ٌخ معا ٍد للتقدمية‪ ،‬يرى يف السلطة أيّا كان شكلها انهزا ًما للمساواة‬ ‫سليم يعترب نظا ًما سلطويًا يستعبد‬ ‫وتسلطًا واستعبادا‪ ،‬حتى االحتكام إىل ٍ‬ ‫منطق ٍ‬ ‫ما يراه هامشيًا باعتباره العقالين؛ ويذكر كريستوفر باتلر يف كتابه املذكور آنفًا‬ ‫إحدى الردود عىل ميشيل فوكو‪ ،‬وهو من تريي إيجلتون يف أوهام ما بعد‬ ‫ألسباب أخالقية‪،‬‬ ‫الحداثة فيقول‪ :‬يعرتض فوكو عىل أنظم ٍة معين ٍة من السلطة ال‬ ‫ٍ‬ ‫بل ألنها ببساط ٍة أنظمة ‪ -‬وفقًا لوجهة نظ ٍر تحرري ٍة غامضة ‪ -‬قمعية يف حد‬ ‫ذاتها‪.‬‬

‫وأما (سيال بن حبيب) يف تحديد مواضع االذات‪ ،‬فقد رضبت قيمة‬ ‫الفردانية يف مقتلٍ حني كتبت‪ :‬حلّت محل الفرد منظوم ٌة من البنى‪،‬‬ ‫والتناقضات‪ ،‬واالختالفات التي ‪ -‬يك تصبح مفهوم ًة ‪ -‬ال يلزم اعتبارها‬ ‫ذاتي ًة حيّ ًة عىل اإلطالق‪ ،‬أنا وأنت لسنا سوى (مواقع) لخطابات السلطة‬ ‫املتنازعة تلك‪ ،‬و(الذات) ليست سوى موض ًعا آخر يف اللغة!‬ ‫(عالمة التعجب من عندي)‪.‬‬

‫سيال بن حبيب‬

‫أستطيع أن أتفهم فلسفة ما بعد الحداثة يف أنها ٌّ‬ ‫ومطلق وتضع كل يش ٍء تحت طائلة النقد حتى أدوات‬ ‫شك يف كل يق ٍني‬ ‫ٍ‬ ‫خطاب سلط ٌة وثقاف ٌة يجب أن تنقد‪،‬‬ ‫خطاب يحدد األنا واآلخر‪ ،‬ووراء كل‬ ‫وأليات النقد ذاتها‪ ،‬فكل رصا ٍع خلفه‬ ‫ٍ‬ ‫ٌ‬ ‫ولكن ما ال أستطيع أن أفهمه هو إىل أين يريد أن يصل املا بعد الحداثيون؟‬ ‫‪47‬‬


‫يف نقد ناقدي الحداثة‬

‫وما بعد العلامنيني والعامل العريب‬ ‫د‪ .‬يارس ضحوي‬

‫سؤال مل أجد له إجاب ًة واضح ًة ال يف فالسفة ما بعد الحداثة العتاة أو ما بعد الحداثيني يف العامل العريب أو يف دولة السودان‬ ‫األفريقية التي مل تحقق حداثتها بعد‪،‬‬ ‫هل يريدون منا أن نهدم الحداثة أم أن نصلحها؟‬ ‫قيم نبني عليها واقعنا ونخطط بها ملستقبلنا؟‬ ‫إن تجاوزنا كل قيم ما بعد الحداثة فأي ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫وسلطات متصارعة‪ ،‬إذا فقدنا الثقة يف اللغة والتاريخ وكل املؤسسات التي‬ ‫خطابات‬ ‫إذا كانت الذات مجرد موقعٍ يف نزا ٍع بني‬ ‫أنجبتها الحداثة دون بديل‪ ،‬ماذا بقي؟ّ!‬ ‫سيايس ملا بعد الحداثة‪ ،‬قد تجد نَ ًصا أو‬ ‫حسب اطالعي البسيط يف موضوع الحداثة وما بعد الحداثة فإنه ال يوجد مرشو ٌع‬ ‫ٌّ‬ ‫فيلام أو لوح ًة أو متثالً يصنف كف ٍّن ينتمي لثقافة ما بعد الحداثة‪ ،‬ولكنك لن تجد مرشو ًعا لدول ٍة جديد ٍة أو دميقراطية‬ ‫ٍ‬ ‫مؤسسات جديدة‪ ،‬ولكن يدعي ما بد الحداثيني أن هناك مرشو ًعا سياس ًيا ينتمي ملا بعد الحداثة‪ ،‬وهو ما بعد‬ ‫جديد ٍة أو‬ ‫العلامنية‪ ،‬فام هي ما بعد العلامنية؟‬

‫ما بعد العلامنية‬

‫يف عاملنا يتم نقد الحداثة من ِقبل تيارين‪ ،‬التيار الديني الذي يحارب العلامنية لصالح الدولة الدينية‪،‬‬ ‫وتيار ال يجرؤ عىل مواجهة اإلسالمويني‪ ،‬ورضخ لوصمهم لكلمة علامنية يف املجتمع‪ ،‬وينادي مبا بعد العلامنية خوفًا من‬ ‫التبعات السلبية لوصف «علامين»‪ ،‬وتجد الفئة األخرية دامئًا تستشهد (بهابرماس) وأن العامل اآلن قد تجاوز العلامنية وأن‬ ‫املستنري الحقيقي هو من ينادي مبا بعد العلامنية‪ ،‬وأن الوقت الحايل هو وقت الحركات واألحزاب املا بعد حداثية‪ ،‬فلرنى‬ ‫ما يقوله هابرماس شخصيًا عن عالقة الدين بالدولة‪ ،‬واالقتباسات التالية منقول ٌة من كتاب‪ :‬جدلية العلمنة العقل والدين‪.‬‬ ‫والكتاب هو ترجم ٌة ملناقش ٍة نُظّمت سنة ‪ 2004‬يف األكادميية الكاثوليكية يف ميونيخ‪ ،‬بني أحد أعمدة العقل يف الغرب وهو‬ ‫الفيلسوف األملاين يورغن هابرماس وأحد أعمد الكاثوليكية األوروبية الكاردينال األملاين (جوزف راتسنغر) وايل أصبح يف ما‬ ‫بعد البابا بينيديكت‪ .‬لقا ٌء بني عمالقني يف الفكر ميثالن العقل والدين‪ ،‬فامذا قاال؟‬ ‫‪48‬‬


‫يف نقد ناقدي الحداثة‬

‫وما بعد العلامنيني والعامل العريب‬ ‫د‪ .‬يارس ضحوي‬

‫يف ورقة هابرماس املعنونة بـ‪ :‬األسس القبل السياسية للدولة الدميقراطية‪،‬‬ ‫يقول يف ختامها‪:‬‬ ‫من الالزم عىل الوعي الديني أن ينجح يف صريور ٍة اندماجي ٍة يف املجتمع‬ ‫الحديث‪.‬‬ ‫((فهم عقائديًا)) يطالب‬ ‫ويعترب كل دينٍ يف األصل ((تصو ًرا عن العامل)) أو‬ ‫ً‬ ‫شكل من أشكال الحياة يف كلّيته‪ .‬لكن عىل‬ ‫بحقه يف السلطة ليك يبني ً‬ ‫ِ‬ ‫الدين أن يستغني عن هذا الحق والحق يف احتكار التأويل وتنظيم الحياة‬ ‫الشامل‪ ،‬نظ ًرا لرشوط علامنية العلم ومحايدة سلطة الدولة والحرية‬ ‫الدينية الشاملة‪.‬‬ ‫وقد انشطرت حياة الجامعة الدينية عن محيطها االجتامعي مع التقسيم‬ ‫الوظيفي لالنساق الجزئية للمجتمع‪ .‬ويختلف دور التابع لجامع ٍة ديني ٍة ما‬ ‫عن دوره كمواطنٍ ما يف املجتمع‪.‬‬ ‫ومبا أن الدولة الليربالية يف حاج ٍة إىل االندماج السيايس للمواطنني‪ ،‬وهو‬ ‫اندماج يتعدى منط ٍ‬ ‫عيش ما فإنه ال يحق لهذا التمييز يف االنتامء أن يؤدي‬ ‫ٌ‬ ‫(باإليتوس) الديني تحريف هذا الحق يف االندماج لصالحه‪.‬‬ ‫يورغن هابرماس‬

‫أكرث من هذا فإنه من الالزم عىل نظام الحق الكوين وأخالق املجتمع املتساوي أن تنض ّم إليتوس الجامعة الدينية‪ ،‬ليك ينطلق‬ ‫خاصا‪:‬‬ ‫الواحد من اآلخر‪ .‬وقد اختار (جون راولز) لهذا نظا ًما ً‬ ‫أسباب دنيوي ٍة محايدة‪ ،‬أن يخد مكانه يف كل أسباب‬ ‫((يجب عىل نظام العدل العاملي‪ ،‬بغض النظر عن كونه تأسس مبساعدة‬ ‫ٍ‬ ‫التأسيس األرثوذكيس))‪.‬‬ ‫وضح بشكلٍ ال لبس فيه أن الدين ال مكان له يف السلطة وتنظيم الحياة بسبب علامنية العلم وحياد الدولة‬ ‫هابرماس الذي ّ‬ ‫والحرية الدينية‪،‬‬ ‫ولو عرف ما ميارس باسم فكره وفلسفته يف العامل العريب ومن ما بعد العلامنيني العرب لرمبا أطلق رصاص ًة عىل أُ ّم رأسه!‬ ‫‪49‬‬


‫يف نقد ناقدي الحداثة‬

‫وما بعد العلامنيني والعامل العريب‬ ‫د‪ .‬يارس ضحوي‬

‫ممثل للدين يف رده عىل هابرماس كممثلٍ للعقل يف ورقته املعنونة بـ‪:‬‬ ‫واملثري للدهشة واملضحك املبيك هو راتسينغر بصفته ً‬ ‫ماذا يو ّحد العامل؟ أسس الحرية املا قبل السياسية لدول ٍة حرة‪.‬‬ ‫من استنتاجاته يف نهاية الورقة كتب واقتبس‪:‬‬ ‫وبنا ًء عىل هذا يستحسن الحديث عن العالقة املتبادلة بني العقل واإلميان‪،‬‬ ‫بني العقل والدين‪ ،‬املطالبني بالتنظيف والتطبيب املتبادل لبعضهام البعض‬ ‫واالعرتاف املتبادل ببعضهام البعض‪.‬‬ ‫وال بد من تطبيق هذه القاعدة األساسية يف ميدان تعدد الثقافات يف وقتنا‬ ‫الحارض‪ .‬ليس هناك ٌ‬ ‫شك يف أن الرشيكني الرئيسيني لهذه العالقة املتبادلة‬ ‫هام اإلميان املسيحي والعقل العلامين الغريب‪.‬‬ ‫ال بد للمرء أن يؤكد عىل هذا دون نزع ٍة مركزي ٍة أوروبية‪ .‬فكالهام يؤثر يف‬ ‫الثقافة العاملية أكرث من أي ثقاف ٍة أخرى‪ .‬لكن هذا ال يعني بأنه يجب عىل‬ ‫املرء أن يضع الثقافات األخرى ككم ّي ٍة غري نافع ٍة جان ًبا‪.‬‬

‫البابا بندكت السادس عرش (غيورغ راتسنغر)‬

‫سيكون هذا اعتزا ٌز غر ٌّيب بالنفس سندفع مثنه غال ًيا وندفع هذا الثمن اآلن‬ ‫عىل أي حال‪ .‬من األهمية مبكانٍ كذلك بالنسبة لهذين العنرصين للثقافة‬ ‫الغربية الذهاب قُد ًما فيام بينهام ويف عالقتهام بالثقافات األخرى يف طريق‬ ‫اإلنصات املتبادل والعالقة املتبادلة‪.‬‬

‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ثقافات أخرى‬ ‫عالقات متعدد ٍة مع‬ ‫ومن األهمية مبكان كذلك توسيع هذه العالقة الثنائية بني الدين والعقل يف الغرب إىل‬ ‫متفتح ٍة عىل هذه العالقة الثنائية بني العقل والدين يف الغرب‪ .‬وبهذا يكون من املمكن أن يقوم نو ٌع من الصريورة التطهريية‬ ‫الكونية‪ ،‬ميكن من خاللها للمعايري والقيم الغربية املعروفة من طرف الجميع أن تستمد قو ًة جديدةً‪ ،‬والوصول عن طريق‬ ‫هذا إىل قو ٍة إنساني ٍة جديد ٍة ميكنها أن تو ّحد العامل‪.‬‬ ‫يتبني فيام سبق أن راتسنغر رغم أنه ممثل للكاثوليكية إال أنه ال ينادي بالسلطة الدينية‪ ،‬يعرتف بالعقل العلامين الغريب‪،‬‬ ‫وينادي بعالق ٍة بني الدين والعقل بصفة أن الدين مينح اإلنسان قيم ًة أنطولوجية‪ ،‬وهذه العالقة ليست متمركز ًة حول‬ ‫املسيحية بل تشمل كل املعتقدات واألديان والثقافات‪.‬‬ ‫(((وقضية الوصاية األخالقية عىل العقل فهذه نقط ٌة مهم ٌة أستفيض فيها يف مقا ٍل آخر)))‪.‬‬ ‫‪50‬‬


‫يف نقد ناقدي الحداثة‬

‫وما بعد العلامنيني والعامل العريب‬ ‫د‪ .‬يارس ضحوي‬

‫خاتــمة‬

‫ال أحد يقول أن الحداثة فوق النقد أو أننا نعيش يف جن ٍة ال عيب فيها‪ ،‬فالحداثة كانت لها سقطاتها الفظيعة مثل الحروب‬ ‫ٍ‬ ‫مضاعفات أو آثا ٍر سلبي ٍة للحداثة ال يعني أب ًدا ألّ نحقق حداثتنا‪،‬‬ ‫العاملية والجرائم التي ارتكبت باسم العلامنية‪ ،‬ولكن وجود‬ ‫ستيفن بنكر‬

‫فالدواء له مضاعفاتٌ ولكن هذا ال يعني ألّ نتعاطى الدواء‪ ،‬وأن نسعى دو ًما‬ ‫لتطوير الدواء وتجنب مضاعفاته‪ ،‬فمعدل حياة البرش ارتفع بشكلٍ كبريٍ مع‬ ‫الثورات العلمية والطبية‪ ،‬وأما بخصوص انتقاد الحداثة بخصوص الحروب العاملية‬ ‫كتاب (لستيفن بنكر) يف جامعة‬ ‫واالخرتاعات املدمرة التي اخرتعها اإلنسان‪ ،‬ففي ٍ‬ ‫هارفرد مفاده أن البرشية اآلن تعيش يف أكرث العصور سال ًما؛‬ ‫فتاريخ البرشية قبل الحداثة به كث ٌري من الفظائع مثل حرب الثالثني عا ًما وحرب‬ ‫املئة عام‪ ،‬إن إحساسنا بانعدام السالم الحايل هو وليد وعينا بويالت الحروب‬ ‫وعي وتطو ٌر أوجدته الحداثة‪.‬‬ ‫وتطور وسائل االتصال واإلعالم‪ٌّ ،‬‬

‫النقد ليس قيم ًة دخيل ًة عىل الحداثة‪ ،‬كانط ق ّدم نق ًدا حا ًدا للعقل‪،‬‬ ‫(جون ستيوارت مل) يف كتابه الحرية قدم نق ًدا حا ًدا للدميقراطية بصفتها تقني ًنا لديكتاتورية األغلبية‪،‬‬ ‫ونقد الحداثة هو لحظ ٌة تاريخي ٌة معرفي ٌة هام ٌة ورضوري ٌة يف الدول التي حققت حداثتها‪،‬‬ ‫ولكن ما معنى نقد الحداثة يف دول ٍة تعيش يف العصور الوسطى حتى اآلن؟!‬ ‫ما الهدف من نقد العلامنية يف دول ٍة ترزح تحت ثقل الحكم الديني؟! ما قيمة نقد الدميقراطية يف دول ٍة تنزف تحت وطأة‬ ‫التحالف الديني العسكري الديكتاتوري؟! ما فائدة نقد العقل يف دول ٍة ال تزال غارق ًة يف الجهل والخرافات وانتظار املعجزات؟!‬ ‫ما فائدة الثقافة واملثقفني إذا كان لسانهم وقلمهم ال عالقة له بالواقع؟!‬ ‫يف محارضة عبد اإلله بلقزيز التي أرشت إليها سابقًا يف هذا املقال شبّه ما بعد الحداثيني العرب بالصلعاء التي تفاخر بشعر‬ ‫‪51‬‬


‫يف نقد ناقدي الحداثة‬

‫وما بعد العلامنيني والعامل العريب‬ ‫د‪ .‬يارس ضحوي‬

‫وصف يف مكانه‪ ،‬فقبل أن ننقد الحداثة ال بد أن نحقق حداثتنا الخاصة‪،‬‬ ‫جارتها‪ ،‬وهو ً‬ ‫فعل ٌ‬ ‫الحداثة ليست فقط حداثة أوروبا‪ ،‬فاليابان والهند وغريهام قد حققتا حداثتهام؛‬ ‫الحداثة حداثات والدميقراطية دميقراطيات والعلامنية علامنيات‪ ،‬فعلامنية إنجلرتا مختلفة‬ ‫متا ًما عن علامنية فرنسا‪ ،‬ودميقراطية املواطنة تختلف عن دميقراطية حقوق األقليات‪،‬‬ ‫فلنحقق ثورتنا الفكرية واملفاهيمية ولنصنع حداثتنا الخاصة‬ ‫الخطاب املعادي للحداثة حال ًيا يف الدول العربية‪ ،‬إما م ّمن يقدسون املايض ويريدون العودة‬ ‫إىل الوراء‪ ،‬أو ممن يحتقرون الحارض وال يقدرون كل التقدم الذي حققته البرشية واإلنسانية حتى اآلن‪.‬‬ ‫نصيحتي لكم‪ :‬دعوكم من هؤالء وهؤالء وقوموا إىل حداثتكم يرحمنا ويرحمكم التاريخ‪.‬‬

‫ٕاﺪﺪاد وﺗﻘﺪﱘ‬

‫ﺣﺎﻣﺪ ﻋﺒﺪ ﺍﻟﺼﻤﺪ‬ ‫‪HAMED.TV‬‬

‫‪52‬‬

‫‪FB.ME/BOXOFISLAM‬‬


http://arabatheistbroadcasting.com/aamagazine https://www.aamagazine.blogspot.com https://www.facebook.com/pages/AAMagazine/498136386890299 https://issuu.com/928738

53


‫ﺳﻴﺮة‬ ‫ﻣﺤﻤﺪ ﺑﻦ آﻣﻨﺔ‬ ‫اﻟﺤﻠﻘﺔ اﻟﻌﺸﺮون‪ :‬اﻟﺰ ِﻧﺎ‬

‫ﺗﺮﺟﻤﺔ ﻋﻦ اﻟﻔﺮﻧﺴﻴﺔ ﻟﻜﺘﺎب‬ ‫‪LA VIE DE MAHOMET‬‬ ‫ﺗﺮﺟﻤﺔ‪ :‬ﺳﺎرة ﺳﺮﻛﺴﻴﺎن‬ ‫ﺗﺪﻗﻴﻖ ﻣﺼﺎدر‪ :‬ﻣﻴﺮا ﺑﻨﺸﻘﺮون‬ ‫ﺗﺪﻗﻴﻖ ﺗﺮﺟﻤﺔ‪ :‬دﻳﻨﺎ ﺑﻮﻋﻼم‬ ‫إﺧﺮاج‪ :‬أﺳﺮة ﺗﺤﺮﻳﺮ ﻣﺠﻠﺔ اﻟﻤﻠﺤﺪﻳﻦ اﻟﻌﺮب‬ ‫‪54‬‬


‫اﻟﺰِﻧﺎ‬

‫ﻛﺎنﻣﺤﻤٌﺪﻣﺘّﻴ ًﻤﺎﺑﺰوﺟﺘﻪاﻟﺠﻤﻴﻠﺔاﻟﺼﻐﻴﺮة‬ ‫ﻋﺎﺋﺸﺔ‪ ،‬ﻟﺪرﺟﺔ أﻧّﻪ ﻛﺎن ﻻ ﻳﺴﺘﻐﻨﻲ‬ ‫ﻋﻨﻬﺎ ﺣﺘﻰ أﺛﻨﺎء ﻏﺰواﺗﻪ‪.‬‬

‫ﻓﻲ اﻟﻌﺎم اﻟﺨﺎﻣﺲ‬ ‫ﻗﺮر أﺧﺬﻫﺎ ﻣﻌﻪ ﻓﻲ ﻏﺰوٍة ﻋﻠﻰ ﻳﻬﻮد‬ ‫ﻟﻠﻬﺠﺮة‪ّ ،‬‬ ‫ﺛﻤﺎﻧﻴﺔ وﺧﻤﺴﻮن‪ ،‬وﻛﺎن ﻋﻤﺮﻫﺎ‬ ‫ﻗﺒﻴﻠﺔ ﺑﻨﻲ اﻟﻤﺼﻄﻠﻖ‪ ،‬ﻛﺎن ﻋﻤﺮه ً‬ ‫ﻋﺎﻣﺎ )‪.(1‬‬ ‫ﺛﻼﺛﺔ ﻋﺸﺮ ً‬

‫ُﻛﻠﻠﺖ اﻟﺤﻤﻠﺔ ﺑﺎﻟﻨﺠﺎح‪ ،‬ﻓﻘﺪ ﺑﺎﻏﺖ ﺟﻴﺶ اﻟﻤﺴﻠﻤﻴﻦ اﻟﻴﻬﻮد ﻋﻠﻰ ﺣﻴﻦ‬ ‫ﻏﺮة‪ ،‬ﻗﺮب ﺑﺌ ٍﺮ ﻛﺎﻧﻮا ﻛﺎﻧﻮ ﻳﺴﻘﻮن ﻣﺎﺷﻴﺘﻬﻢ ﻋﻨﺪه‪.‬‬ ‫ّ‬

‫ﻋﺎداﻟﻤﺴﻠﻤﻮنأدراﺟﻬﻢﻣﻨﺘﺼﺮﻳﻦ‪.‬‬

‫ﻗُﺘﻞ اﻟﺮﺟﺎل ُ‬ ‫وأﺳﺮت اﻟﻨﺴﺎء واﻷﻃﻔﺎل‪.‬‬

‫)‪(2‬‬

‫ﻟﻤﻜﺎن ﺑﻌﻴﺪٍﻋﻦ اﻟﻘﺎﻓﻠﺔ ﻟﺘﻘﻀﻲ ﺣﺎﺟﺘﻬﺎ‪.‬‬ ‫وﻋﻨﺪﻣﺎ ﺗﻮﻗﻔﻮا ﻓﻲ اﻟﻄﺮﻳﻖ ﻟﻼﺳﺘﺮاﺣﺔ‪ ،‬ذﻫﺒﺖ ﻋﺎﺋﺸﺔ ٍ‬

‫‪55‬‬


‫ﻫﻤﺖ ﺑﺎﻟﻌﻮدة‪ ،‬ﻻﺣﻈﺖ أﻧﻬﺎ ﻓﻘﺪت ﻋﻘﺪﻫﺎ‪،‬‬ ‫وﻋﻨﺪﻣﺎ ّ‬ ‫ﻓﺄﺧﺬت ﺗﺒﺤﺚ ﻋﻨﻪ دون أن ﺗﺠﺪه‪.‬‬

‫ﺗﺄﺧﺮت ﻓﻲ اﻟﺒﺤﺚ‪ ،‬ﻓﺤﻤﻞ اﻟﺠﻴﺶ ﻣﺘﺎﻋﻪ وﻏﺎدر اﻟﻤﻜﺎن ﺑﺪوﻧﻬﺎ‪.‬‬

‫ﻣﺘﺄﺧﺮا‬ ‫وﻗﻮي‪ ،‬وﻛﺎن ﻳﺴﻴﺮ‬ ‫ﻛﺎن ﻫﻨﺎك ٌ‬ ‫ﺷﺎب ّ‬ ‫ﺟﻨﺪي ٌ‬ ‫ً‬ ‫ﻋﺎﺋﺸﺔ وﺣﻴﺪ ًة ﻓﻲ‬ ‫ﻋﻦ ﺟﻴﺶ اﻟﻤﺴﻠﻤﻴﻦ‪ ،‬ﻓﻮﺟﺪ‬ ‫ً‬ ‫اﻟﺼﺤﺮاء‪ ،‬وﺣﻤﻠﻬﺎ ﻋﻠﻰ اﻟﺠﻤﻞ وأﺧﺬﻫﺎ إﻟﻰ اﻟﻤﺪﻳﻨﺔ‪.‬‬

‫ﻟﻢ ﻳﻼﺣﻆ زوﺟﻬﺎ ﻏﻴﺎﺑﻬﺎ‪ ،‬إذ ﻛﺎن ﻣﺸﻐﻮ ًﻻ ﺑﺠﻮﻳﺮﻳّﺔ‪،‬‬ ‫وﻫﻲ ﺳﺒﻴ ٌﺔ ﺻﻐﻴﺮٌة ﻣﻦ ﺳﺒﺎﻳﺎ اﻟﻴﻬﻮد ﺑﻌﺪ اﻟﻐﺰوة‪،‬‬ ‫وﻗﺪ ﻗﺮر اﻟﺰواج ﺑﻬﺎ ﺣﻴﻨﺌﺬٍ‪.‬‬

‫ﺑﺄن ﻗﺼﺔ اﻟﻌﻘﺪ اﻟﻀﺎﺋﻊ ﻟﻢ ﺗﻜﻦ‬ ‫ﻓﻮر وﺻﻮﻟﻬﻢ‪ ،‬ﺑﺪأ ﺳﻜﺎن اﻟﻤﺪﻳﻨﺔ ﻳﺘﺤﺪﺛﻮن ّ‬ ‫أﻛﺜﺮ ﻣﻦ ﻣﺒﺮٍر ﻟﺘﻤﻀﻲ اﻟﻠﻴﻠﺔ ﻣﻊ اﻟﺠﻨﺪي اﻟﺸﺎب اﻟﻮﺳﻴﻢ‪ ،‬ﻓﻬﻮ ﺑﺪون ٍ‬ ‫ﺷﻚ أﻛﺜﺮ‬ ‫ﻓﺤﻮﻟﺔ ﻣﻦ زوﺟﻬﺎ اﻟﻌﺠﻮز‪.‬‬

‫‪56‬‬

‫ﻛﻴﻒ ﻳﻤﻜﻦ ّأﻻ ﺗﻨﺘﺒﻪ ﻟﺮﺣﻴﻞ ٍ‬ ‫ﻗﺎﻓﻠﺔ ﻣﻦ‬ ‫أﻛﺜﺮ ﻣﻦ ﺳﺒﻌﻤﺎﺋﺔ رﺟﻞ؟‬


‫ﻣﺤﻤﺪ ﻋﺎﺋﺸﺔ إﻟﻰ ﺑﻴﺖ أﻫﻠﻬﺎ‪ ،‬آﻣ ًﻼ ّأﻻ ﺗﻈﻬﺮ‬ ‫ﻓﺄرﺳﻞ ٌ‬ ‫ﻋﻠﻴﻬﺎ ﻋﻼﻣﺎت اﻟﺤﻤﻞ‪ ،‬وﺑﻘﻴﺖ ﻣﻌﻪ ﺟﻮﻳﺮﻳّﺔ ﻟﺘﻮاﺳﻴﻪ‪.‬‬

‫ﺑﺄن‬ ‫أﻗﻨﻊ ﺑﻌﺾ اﻟﻤﻘﺮﺑﻴﻦ ﻣﻦ ﻣﺤﻤﺪ‪ ،‬وﺑﻴﻨﻬﻢ ﻋﻠﻲ ﺑﻦ أﺑﻲ ﻃﺎﻟﺐ‪ّ ،‬‬ ‫ﻋﻠﻴﻪ أن ّ‬ ‫ﻳﺸﻚ ﻓﻲ ﻋﺎﺋﺸﺔ‪.‬‬

‫أن ﻋﺎﺋﺸﺔ ﻗﺪ ﺣﺎﺿﺖ‪ ،‬ﻧﺰل‬ ‫وﻋﻨﺪﻣﺎ ﻋﻠﻢ ّ‬ ‫ﺑﺂﻳﺔ ﺗﺜﺒﺖ ﺑﺮاءﺗﻬﺎ‪.‬‬ ‫ﺟﺒﺮﻳﻞ ٍ‬

‫إن اﻟﺬﻳﻦ ﺟﺎءوا ﺑﺎﻹﻓﻚ ﻋﺼﺒ ٌﺔ ﻣﻨﻜﻢ‬ ‫ّ‬ ‫ﻟﻜﻢ‪،‬‬ ‫ﻻ ﺗﺤﺴﺒﻮه ﺷﺮًا ﻟﻜﻢ ﺑﻞ ﻫﻮ ﺧﻴﺮ ٌ‬ ‫ﻟﻜﻞ اﻣﺮيٍء ﻣﻨﻬﻢ ﻣﺎ اﻛﺘﺴﺐ ﻣﻦ‬ ‫اﻹﺛﻢ واﻟﺬي ﺗﻮﻟﻰ ﻛﺒﺮه ﻣﻨﻬﻢ‬ ‫ﻋﺬاب ﻋﻈﻴﻢ)‪.(3‬‬ ‫ﻟﻪ ٌ‬

‫وﻓﻲ ﻧﻔﺲ اﻟﺴﻮرة‪ ،‬ﻳﺄﻣﺮ اﷲ ﺑﺠﻠﺪ اﻟﺰاﻧﻲ واﻟﺰاﻧﻴﺔ ﻣﺎﺋﺔ ﺟﻠﺪة‪ ،‬ﻛﻤﺎ ﻳﺄﻣﺮ ﺑﺜﻤﺎﻧﻴﻦ ﺟﻠﺪة ﻋﻘﺎﺑًﺎ ﻟﻤﻦ ﻳﺘﻬﻢ اﻣﺮأ ًة‬ ‫ﻣﺘﺰوﺟﺔ‬ ‫ً‬ ‫ﺑﺎﻟﺰﻧﺎ ﺑﺪون دﻟﻴﻞ )‪.(4‬‬

‫‪57‬‬


‫ﻓﻲ أﺣﺪ اﻷﻳﺎم‪ ،‬ﺟﺎءت اﻣﺮأٌة ﺗُﺪﻋﻰ ﺳﻬﻠﺔ ﺑﻨﺖ ﺳﻬﻴﻞ ﻟﻤﻘﺎﺑﻠﺔ اﻟﺮﺳﻮل‪.‬‬

‫ﻳﺎ رﺳﻮل اﷲ‪ ،‬ﻛﻨﺖ وزوﺟﻲ أﺑﻮ ﺣﺬﻳﻔﺔ‬ ‫ﻗﺪ ﺗﺒﻨﻴﻨﺎ ﺳﺎﻟﻤًﺎ وﻫﻮ ﺻﻐﻴﺮ‬ ‫ورﺑﻴﻨﺎه ﻣﺜﻞ ٍ‬ ‫اﺑﻦ ﻟﻨﺎ‪.‬‬

‫ﻫﻞ ﻳﻤﻜﻦ أن ﻳﺒﻘﻰ ﻣﻌﻨﺎ ﻓﻲ اﻟﺒﻴﺖ؟‬ ‫ﻛﻐﺮﻳﺐ ﻋّﻨﺎ ﻣﻨﺬ‬ ‫ﻓﺄﺑﻮ ﺣﺬﻳﻔﺔ ﻳﻌﺎﻣﻠﻪ ٍ‬ ‫واﺣﺪا‬ ‫ﺗﺤﺮﻳﻢ اﻟﺘﺒﻨﻲ‪ ،‬وﻧﺤﻦ ﻻ ﻧﻤﻠﻚ ّإﻻ ﺑﻴﺘًﺎ ً‬ ‫ﻓﻤﺎاﻟﺤﻞ؟‬

‫أرﺿﻌﻴﻪ‬ ‫ﺧﻤﺲ‬ ‫ﻣﺮات‪.‬‬ ‫ّ‬

‫أﻋﺮف أﻧﻪ ﻛﺒﻴﺮ‪.‬‬ ‫ﻟﻜﻨﻪ‬ ‫ﻛﺒﻴﺮ!‬

‫أﻳﺎم ﻋﺎدت اﻟﻤﺮأة ﻟﺮؤﻳﺘﻪ‪.‬‬ ‫ﺑﻌﺪ ﺑﻀﻌﺔ ٍ‬

‫ﻟﻘﺪ أرﺿﻌﺘﻪ‪ ،‬واﻷﻣﻮر‬ ‫ﺗﺴﻴﺮ ﻋﻠﻰ ﻣﺎ ﻳﺮام ﻣﻊ‬ ‫)‪(5‬‬ ‫أﺑﻲ ﺣﺬﻳﻔﺔ‪.‬‬

‫وﻫﻜﺬا‪ ،‬ﺻﺎر إرﺿﺎع اﻟﻜﺒﻴﺮ ﻳﺮﻓﻊ اﻟﺤﺮج ﻋﻦ‬ ‫أي ﺧﻠﻮٍة ﺑﻴﻦ ٍ‬ ‫رﺟﻞ واﻣﺮأة وﺑﺪون‬ ‫إﺛﺎرةاﻟﻔﺘﻨﺔﺑﻴﻨﻬﻤﺎ‪.‬‬

‫‪58‬‬


‫أﻣﺮت ﻋﺎﺋﺸﺔ ‪-‬اﻟﺘﻲ ﻟﻢ ﺗُﺮزق ﺑﺄي ٍ‬ ‫أﺑﺪا‪-‬‬ ‫ﻃﻔﻞ ً‬ ‫أﺧﻮاﺗﻬﺎ وﺑﻨﺎﺗﻬﻦ أن ﻳُﺮﺿﻌﻦ اﻟﺮﺟﺎل اﻟﺬﻳﻦ‬ ‫ٍ‬ ‫رﺿﻌﺎت ﺑﺪون ﺣﺮج‪،‬‬ ‫ﻳﺪﺧﻠﻮن ﺑﻴﻮﺗﻬﻦ ﺧﻤﺲ‬ ‫ﺑﻴﻨﻤﺎ ﺷﻜّﻜﺖ ﺑﻘﻴﺔ ﻧﺴﺎء اﻟﺮﺳﻮل ﻓﻲ اﻷﻣﺮ‪،‬‬ ‫ورﻓﻀﻦ أن ﻳﺪﺧﻞ ﻋﻠﻴﻬﻦ أي ٍ‬ ‫رﺟﻞ‬ ‫ﺻﻐﻴﺮ ﻓﻲ اﻟﻤﻬﺪ)‪.(6‬‬ ‫ﻟﻢ ﻳﺮﺿﻌﻨﻪ وﻫﻮ ٌ‬

‫‪59‬‬


‫(‪ .)1‬يف اصطحاب عائشة ملحمد يف غزوة املصطلق (املريسيع)‪:‬‬

‫‪ l‬ث ُ َّم غزوة َر ُسول اللَّ ِه ﷺ املريسيع ِف شعبان سنة خمس من مهاجره‪.‬‬ ‫قالوا‪ :‬إن بلمصطلق ِمن خزاعة‪ .‬وهم ِمن حلفاء بني مدلج وكانوا ينزلون َع َل برئ لهم يقال لها املريسيع‪ .‬بينها وبني الفرع نحو ِمن يوم‪ .‬وبني الفرع واملدينة‬ ‫مثانية برد‪ .‬وكان رأسهم وسيدهم الحارث بْن أَ ِب رضار فسار ِف قومه ومن قدر َعلَ ْي ِه ِمن العرب فدعاهم إىل حرب رسول الله ص‪ .‬فأجابوه وتهيأوا للمسري‬ ‫معه إليه‪ .‬فَ َبلَ َغ َذلِ َك َر ُس َ‬ ‫ول اللَّ ِه ﷺ فبعث بريدة بْن الحصيب األسلمي يعلم علم َذلِ َك‪ .‬فأتاهم ولقي الحارث بْن أَ ِب رضار وكلمه ورجع إىل َر ُسول اللَّ ِه‬ ‫اس إليهم فأرسعوا الخروج وقادوا الخيول وهي ثالثون فرسا ِف املهاجرين منها عرشة‪ .‬ويف األنصار عرشون‪.‬‬ ‫ﷺ فأخربه خربهم فندب َر ُسول اللَّ ِه ﷺ ال َّن َ‬ ‫وخرج معه برش كثري ِمن املنافقني مل يخرجوا يف غزاة قط مثلها‪ .‬واستخلف َع َل املدينة زيد بْن حارثة وكان معه فرسان لزاز والظرب وخرج يوم االثنني‬ ‫لليلتني خلتا من شعبان‪ .‬وبلغ الحارث بْن أَ ِب رضار ومن معه مسري َر ُسو ِل اللَّ ِه ﷺ َوأَنَّ ُه قد قتل عينه ال َِّذي كَا َن وجهه ليأتيه بخرب َر ُسول اللَّ ِه ﷺ فيسء‬ ‫بذلك الحارث ومن معه وخافوا خوفا شديدا وتفرق َع ْن ُه ْم ِمن كَا َن معهم ِمن العرب‪ .‬وانتهى َر ُسول اللَّ ِه ﷺ إىل املريسيع وهو املاء فاضطرب َعلَ ْي ِه قبته‪.‬‬ ‫ومعه َعائِشَ ة وأم سلمة‪.‬‬ ‫‪ n‬الطبقات الكربى‪ ،‬أليب عبد الله محمد بن سعد‪ ،‬تحقيق‪ :‬محمد عبد القادر عطا‪ ،‬دار الكتب العلمية – بريوت‪ ،‬الطبعة األوىل ‪ 1990 -‬م‪ ،‬الجزء (‪ ،)2‬الصفحة (‪.)49-48‬‬

‫(‪ .)2‬قتل الرجال وأرس النساء واألطفال‪:‬‬

‫‪ l‬حدثنا ابن حميد قال حدثنا سلمة بن الفضل وعيل بن مجاهد عن محمد بن إسحاق عن عاصم بن عمر بن قتادة وعن عبدالله بن أيب بكر وعن‬ ‫محمد بن يحيى بن حبان قال كل قد حدثني بعض حديث بني املصطلق قالوا بلغ رسول الله ﷺ أن باملصطلق يجتمعون له وقائدهم الحارث بن أيب‬ ‫رضار أبو جويرية بنت الحارث زوج النبي ﷺ فلام سمع بهم رسول الله ﷺ خرج إليهم حتى لقيهم عىل ماء من مياههم يقال له املريسيع من ناحية‬ ‫قديد إىل الساحل فتزاحف الناس واقتتلوا قتاال شديدا فهزم الله بني املصطلق وقتل من قتل منهم ونفل رسول الله ﷺ أبناءهم ونساءهم وأموالهم‬ ‫فأفاءهم الله عليه‪.‬‬ ‫‪ n‬تاريخ الرسل وامللوك‪ ،‬ملحمد بن جرير الطربي‪ ،‬دار الرتاث – بريوت‪ ،‬الطبعة الثانية ‪ 1387 -‬هـ‪ ،‬الجزء (‪ ،)2‬الصفحة (‪.)604‬‬ ‫‪ l‬وأصيب من بني املصطلق يومئذ ناس كثري وقتل عيل بن أيب طالب منه مرجلني مالكا وابنه وأصاب رسول الله ﷺ منهم سبيا كثريا ففشا قسمه يف‬ ‫املسلمني ومنهم جويرية بنت الحارث بن ايب رضار زوج النبي ﷺ‪.‬‬ ‫‪ n‬تاريخ الرسل وامللوك‪ ،‬ملحمد بن جرير الطربي‪ ،‬دار الرتاث – بريوت‪ ،‬الطبعة الثانية ‪ 1387 -‬هـ‪ ،‬الجزء (‪ ،)2‬الصفحة (‪.)609‬‬ ‫‪ l‬فرموا بالنبل ساعة ثم أمر رسول الله ﷺ أصحابه فحملوا حملة َر ُجل واحد‪ .‬فام أفلت منهم إنسان وقتل عرشة منهم وأرس سائرهم وسبى رسول الله‬ ‫ﷺ الرجال والنساء والذرية والنعم والشاء ومل يقتل ِمن املسلمني إالرجل واحد‪.‬‬ ‫‪ n‬الطبقات الكربى‪ ،‬أليب عبد الله محمد بن سعد‪ ،‬تحقيق‪ :‬محمد عبد القادر عطا‪ ،‬دار الكتب العلمية – بريوت‪ ،‬الطبعة األوىل ‪ 1990 -‬م‪ ،‬الجزء (‪،)2‬‬ ‫الصفحة (‪.)49‬‬ ‫‪ l‬وكان السبي مائتي أهل بيت وصارت جويرية بنت الحارث بن أيب رضار ِف سهم ثابت بْن قيس بْن شامس وابن عم لَ ُه فكاتباها‬ ‫َع َل تسع أواقي ذهب فسألت َر ُسول اللَّ ِه ﷺ ِف كتابتها وأداها َع ْن َها وتزوجها‪ .‬وكانت جارية حلوة‪ .‬ويقال‪ :‬جعل صداقها عتق كل‬ ‫أسري ِمن بني املصطلق‪ .‬ويقال‪ :‬جعل صداقها عتق أربعني ِمن قومها‪ .‬وكان السبي منهم م َم ْن َم َّن عليه رسول الله ﷺ بغري فداء‪.‬‬ ‫‪ n‬الطبقات الكربى‪ ،‬أليب عبد الله محمد بن سعد‪ ،‬تحقيق‪ :‬محمد عبد القادر عطا‪ ،‬دار الكتب العلمية – بريوت‪ ،‬الطبعة األوىل ‪ 1990 -‬م‪ ،‬الجزء (‪،)2‬‬ ‫الصفحة (‪.)49‬‬

‫(‪ .)3‬حادثة اإلفك‪:‬‬

‫‪ l‬قالت عائشة كان رسول الله ﷺ إذا أراد سفرا أقرع بني نسائه فأيتهن خرج سهمها خرج بها معه فلام كانت غزوة بني املصطلق أقرع بني نسائه‬ ‫كام كان صنع فخرج سهمي عليهن فخرج يب رسول الله ﷺ قالت وكان النساء إذ ذاك إمنا يأكلن العلق مل يهبجهن اللحم فيثقلن قالت وكنت إذا رحل‬ ‫بعريي جلست يف هودجي ثم يأيت القوم الذين يرحلون هودجي يف بعريي ويحملوين فيأخذون بأسفل الهودج فريفعونه فيضعونه عىل ظهر البعري فيشدونه‬ ‫بخباله ثم يأخذون برأس البعري فينطلقون به قالت فلام فرغ رسول الله ﷺ من سفره ذلك وجه قافال حتى إذا كان قريبا من املدينة نزل منزال فبات فيه‬

‫‪60‬‬


‫بعض الليل ثم أذن يف الناس بالرحيل فلام ارتحل الناس خرجت لبعض حاجتي ويف عنقي عقد يل فيه جزع ظفار فلام فرغت انسل من عنقي وال أدري‬ ‫فلام رجعت إىل الرحل ذهبت ألتمسه يف عنقي فلم أجده وقد أخذ الناس يف الرحيل قالت فرجعت عودي عىل بديئ إىل املكان الذي ذهبت إليه فالتمسته‬ ‫حتى وجدته وجاء خاليف القوم الذين كانوا يرجلون يل البعري وقد فرغوا من رحلته فأخذوا الهودج وهم يظنون أين فيه كام كنت أصنع فاحتملوه فشدوه‬ ‫عىل البعري ومل يشكوا أين فيه ثم أخذوا برأس البعري فانطلقوا به ورجعت إىل العسكر وما فيه داع وال مجيب قد انطلق الناس قالت فتلففت بجلبايب‬ ‫ثم اضطجعت يف مكاين الذي ذهبت إليه وعرفت أن لو قد افتقدوين قد رجعوا إيل قالت فوالله إين ملضطجعة إذ مر يب صفوان بن املعطل السلمي وقد‬ ‫كان تخلف عن العسكر لبعض حاجته فلم يبت مع الناس يف العسكر فلام رأى سوادي أقبل حتى وقف عيل فعرفني وقد كان يراين قبل أن يرضب علينا‬ ‫الحجاب فلام رآين قال إنا لله وإنا إليه راجعون أظعينة رسول الله وأنا متلففة يف ثيايب قال ما خلفك رحمك الله؟‬ ‫قالت فام كلمته ثم قرب البعري فقال اركبي رحمك الله واستأخر عني قالت فركبت وجاء فأخذ برأس البعري فانطلق يب رسيعا يطلب الناس فوالله ما‬ ‫أدركنا الناس وما افتقدت حتى أصبحت ونزل الناس فلام اطأمنوا طلع الرجل يقودين فقال أهل اإلفك يف ما قالوا فارتج العسكر ووالله ما أعلم بيشء من‬ ‫ذلك ثم قدمنا املدينة فلم أمكث أن اشتكيت شكوى شديدة وال يبلغني يشء من ذلك وقد انتهى الحديث إىل رسول الله ﷺ وإىل أبوي وال يذكران يل‬ ‫من ذلك قليال وال كثريا إال أين قد أنكرت من رسول الله ﷺ بعض لطفه يب كنت إذا اشتكيت رحمني ولطف يب فلم يفعل ذلك يف شكواي تلك فأنكرت‬ ‫منه وكان إذا دخل عيل وأمي مترضني قال كيف تيكم ال يزيد عىل ذلك قالت حتى وجدت يف نفيس مام رأيت من جفائه عني فقلت له يا رسول الله‬ ‫لو أذنت يل فانتقلت إىل أمي فمرضتني قال ال عليك قالت فانتقلت إىل أمي وال أعلم بيشء مام كان حتى نقهت من وجعي بعد بضع وعرشين ليلة‪.‬‬ ‫‪ n‬تاريخ الرسل وامللوك‪ ،‬ملحمد بن جرير الطربي‪ ،‬دار الرتاث – بريوت‪ ،‬الطبعة الثانية ‪ 1387 -‬هـ‪ ،‬الجزء (‪ ،)2‬الصفحة (‪.)613-611‬‬ ‫‪ l‬قالت وتثاوره الناس حتى كاد أن يكون بني هذين الحيني من األوس والخزرج رش ونزل رسول الله ﷺ فدخل عيل قالت فدعا عيل بن أيب طالب‬ ‫وأسامة بن زيد فاستشارهام فأما أسامة فأثنى خيال وقاله ثم قال يا رسول الله أهلك وال نعلم عليهن إال خريا وهذا الكذب والباطل وأما عيل فإنه قال‬ ‫يا رسول الله إن النساء لكثري وإنك لقادر عىل أن تستخلف وسل الجارية فإنها تصدقك فدعا رسول الله ﷺ بربرة يسألها قالت فقام إليها عيل فرضبها‬ ‫رضبا شديدا وهو يقول اصدقي رسول الله قالت فتقول والله ما أعلم إال خريا وماكنت أعيب عىل عائشة إال أين كنت أعجن عجيني فآمرها أن تحفظه‬ ‫فتنام عنه فيأيت الداجن فيأكله‪.‬‬ ‫‪ n‬تاريخ الرسل وامللوك‪ ،‬ملحمد بن جرير الطربي‪ ،‬دار الرتاث – بريوت‪ ،‬الطبعة الثانية ‪ 1387 -‬هـ‪ ،‬الجزء (‪ ،)2‬الصفحة (‪.)615‬‬ ‫‪ l‬قالت ثم رسي عن رسول الله ﷺ فجلس وإنه ليتحدر منه مثل الجامن يف يوم شات فجعل ميسح العرق عن جبينه ويقول أبرشي يا عائشة فقد أنزل‬ ‫الله براءتك قالت فقلت بحمد الله وذمكم ثم خرج اىل الناس فخطبهم وتال عليهم ما أنزل الله عز و جل من القرآن يف ثم أمر مبسطح بن أثاثة وحسان‬ ‫بن ثابت وحمنة بنت جحش وكانوا ممن أفصح بالفاحشة فرضبوا حدهم‪.‬‬ ‫‪ n‬تاريخ الرسل وامللوك‪ ،‬ملحمد بن جرير الطربي‪ ،‬دار الرتاث – بريوت‪ ،‬الطبعة الثانية ‪ 1387 -‬هـ‪ ،‬الجزء (‪ ،)2‬الصفحة (‪.)616‬‬ ‫‪ l‬حدثنا ابن حميد قال حدثنا سلمة عن محمد بن إسحاق عن أبيه عن بعض رجال بني النجار أن أبا أيوب خالد بن زيد قالت له امرأته أم أيوب يا أبا‬ ‫أيوب أما تسمع ما يقول الناس يف عائشة قال بىل وذلك الكذب أكنت يا أم أيوب فاعلة ذلك قالت ال والله ما كنت ألفعله قال فعائشة والله خري منك‬ ‫قال فلام نزل القرآن ذكر الله من قال من الفاحشة ما قال من أهل اإلفك إن الذين جاؤوا باإلفك عصبة منكم االية وذلك حسان بن ثابت يف أصحابه‬ ‫الذين قالوا ما قالوا‪.‬‬ ‫‪ n‬تاريخ الرسل وامللوك‪ ،‬ملحمد بن جرير الطربي‪ ،‬دار الرتاث – بريوت‪ ،‬الطبعة الثانية ‪ 1387 -‬هـ‪ ،‬الجزء (‪ ،)2‬الصفحة (‪.)617‬‬

‫(‪ .)4‬نزول آيات تربّئ عائشة‪:‬‬

‫‪ l‬حدثنا أحمد بن عبدة الضبي‪ ،‬قال‪ :‬ثنا أبو عوانة‪ ،‬عن عمر بن أيب َسلَمة‪ ،‬عن أبيه‪ ،‬قال‪ :‬قالت عائشة‪ُ :‬رميت مبا ُرميت به وأنا غافلة‪ ،‬فبلغني بعد ذلك‪،‬‬ ‫قالت‪ :‬فبينام رسول الله ﷺ عندي جالس‪ ،‬إذ أوحي إليه‪ ،‬وكان إذا أوحي إليه أخذه كهيئة السبات‪ ،‬وأنه أُوحي إليه وهو جالس عندي‪ ،‬ثم استوى جالسا‬ ‫الت الْ ُم ْؤ ِم َن ِ‬ ‫ات الْغَا ِف ِ‬ ‫ميسح عن وجهه‪ ،‬وقال‪ :‬يا عائشة أبرشي‪ ،‬قالت‪ :‬فقلت‪ :‬بحمد الله ال بحمدك‪ ،‬فقرأ‪( :‬إِ َّن ال َِّذي َن يَ ْر ُمو َن الْ ُم ْح َص َن ِ‬ ‫ات‪ ...‬حتى بلغ‪ :‬أُولَ ِئ َك‬ ‫ُم َ َّب ُءو َن ِم َّم يَقُولُونَ)‪.‬‬ ‫‪ n‬جامع البيان عن تأويل آي القرآن‪ ،‬ملحمد بن جرير الطربي‪ ،‬دار املعارف‪ .‬الطبعة الثانية ‪ 1387 -‬هـ‪ ،‬الجزء (‪ ،)19‬الصفحة (‪.)138‬‬

‫‪61‬‬


‫(‪ .)5‬إرضاع الكبري‪:‬‬

‫‪ l‬حدثنا عمرو الناقد وابن أيب عمر قاال حدثنا سفيان بن عيينة عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه عن عائشة قالت جاءت سهلة بنت سهيل إىل النبي‬ ‫ﷺ فقالت يا رسول الله إين أرى يف وجه أيب حذيفة من دخول سامل وهو حليفه فقال النبي ﷺ أرضعيه قالت وكيف أرضعه وهو رجل كبري فتبسم‬ ‫رسول الله ﷺ وقال قد علمت أنه رجل كبري زاد عمرو يف حديثه وكان قد شهد بدرا ويف رواية ابن أيب عمر فضحك رسول الله ﷺ‪.‬‬ ‫وحدثنا إسحاق بن إبراهيم الحنظيل‪ ،‬ومحمد بن أيب عمر‪ ،‬جميعا عن الثقفي‪ ،‬قال ابن أيب عمر‪ ،‬حدثنا عبد الوهاب الثقفي‪ ،‬عن أيوب‪ ،‬عن ابن أيب مليكة‪،‬‬ ‫عن القاسم‪ ،‬عن عائشة‪ :‬أن ساملا موىل أيب حذيفة كان مع أيب حذيفة‪ ،‬وأهله يف بيتهم فأتت تعني ابنة سهيل النبي ﷺ‪ ،‬فقالت‪ :‬إن ساملا قد بلغ ما يبلغ‬ ‫الرجال وعقل ما عقلوا‪ ،‬وإنه يدخل علينا وإين أظن أن يف نفس أيب حذيفة من ذلك شيئا‪ ،‬فقال لها النبي ﷺ‪« :‬أرضعيه‪ ،‬تحرمي عليه ويذهب الذي يف‬ ‫نفس أيب حذيفة»‪ ،‬فرجعت‪ ،‬فقالت‪ :‬إين قد أرضعته‪ ،‬فذهب الذي يف نفس أيب حذيفة‪.‬‬ ‫‪ n‬مسلم بن الحجاج أبو الحسن القشريي النيسابوري‪ ،‬املسند الصحيح املخترص بنقل العدل عن العدل إىل رسول الله ﷺ‪ ،‬تحقيق‪ :‬محمد فؤاد عبد‬ ‫الباقي‪ ،‬بريوت‪ :‬دار إحياء الرتاث العريب‪ ،‬حديث رقم‪ ،1453 :‬ج‪ ،2 :‬ص‪.1076 :‬‬

‫(‪ .)6‬عائشة تشيع إرضاع الكبري وباقي نساء محمد يرفضن‪:‬‬

‫‪ l‬وحدثنا محمد بن املثنى حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة عن حميد بن نافع عن زينب بنت أم سلمة قالت قالت أم سلمة لعائشة إنه يدخل‬ ‫عليك الغالم األيفع الذي ما أحب أن يدخل عيل قال فقالت عائشة أما لك يف رسول الله صىل الله عليه وسلم أسوة قالت إن امرأة أيب حذيفة قالت يا‬ ‫رسول الله إن ساملا يدخل عيل وهو رجل ويف نفس أيب حذيفة منه يشء فقال رسول الله صىل الله عليه وسلم أرضعيه حتى يدخل عليك‬ ‫‪ n‬صحيح مسلم‪ ،‬حديث رقم‪ ،1453 :‬ج‪ ،2 :‬ص‪.1077 :‬‬ ‫‪ l‬حدثني عبد امللك بن شعيب بن الليث‪ ،‬حدثني أيب‪ ،‬عن جدي‪ ،‬حدثني عقيل بن خالد‪ ،‬عن ابن شهاب‪ ،‬أنه قال‪ :‬أخربين أبو عبيدة بن عبد الله بن‬ ‫زمعة‪ ،‬أن أمه زينب بنت أيب سلمة‪ ،‬أخربته‪ ،‬أن أمها أم سلمة زوج النبي صىل الله عليه وسلم كانت تقول‪ “ :‬أىب سائر أزواج النبي صىل الله عليه وسلم‬ ‫أن يدخلن عليهن أحدا بتلك الرضاعة‪ ،‬وقلن لعائشة‪ :‬والله ما نرى هذا إال رخصة أرخصها رسول الله صىل الله عليه وسلم لسامل خاصة فام هو بداخل‬ ‫علينا أحد بهذه الرضاعة وال رائينا “ ‪.‬‬ ‫‪ n‬صحيح مسلم‪ ،‬حديث رقم‪ ،1454 :‬ج‪ ،2:‬ص‪.1077 :‬‬

‫‪62‬‬


s www.facebook.com/M-80-II-941772382615672

63


‫يتبادر اىل ذهني مقولة سامي الديب‪ :‬ال ينزل من السامء‬ ‫اال املطر والنيازك وبراز الطيور!‬

‫‪Ammar Husain‬‬

‫ـ‬

‫‪Omar Fassi‬‬

‫خرافات أخرت تقدم البرشية‬

‫)املارد لولو( ‪Ali Hasan‬‬

‫‪The three headed snake‬‬

‫‪Ali Abdel Essahel‬‬

‫سلسلة اقفال ادمغة البرشية‬

‫‪64‬‬


‫مجلة شهرية بجهود فردية تصدر في الثاني عشر من كل شهر‬

Arab Magazine Atheists Magazine a digital publication The ArabThe Atheists is a digitalispublication produced produced by volunteers and committed to promoting by volunteers and committed to promoting the thought and writings of atheistswith of various persuawritingsthe of thought atheists ofandvarious persuasions complete freesions with complete freedom. The Magazine does not adopt dom. The Magazine does not adopt or endorse any form of politiany form of political ideology or affiliation cal ideologyororendorse affiliation Contributors bear responsibility of the content, illustraContributors bear thethe fullfull responsibility of the content, illustrations theyinsofar provideasinsofar as copyright it covers copyright and tions topicsand theytopics provide it covers and issuesand of issues of intellectual property intellectual property Express permission for to publish in the Magazine is provided Express permission for to publish in the Magazine is provided by conby contributors, whether they are members of the Arab Atheists tributors, whether they are members of the Arab Atheists Magazine Magazine Group of other atheists and contributors non-religious contributors Group of other atheists and non-religious Magazine publish material is unethical or that TheThe Magazine doesdoes notnot publish material thatthat is unethical or that inincites racism or bigotry cites racism or bigotry The Editorial Board the reserves right to republish content The Editorial Board reserves right the to republish content originally originally the Magazine’s group, as published on the published Magazine’sonFacebook group, Facebook as publishing there publishing thereconsent implicitly contains consent forMagazine republication implicitly contains for republication in the in the Magazine

:‫موقع املدونة اخلاصة بنا لألرشفة على اإلنترنت‬ www.aamagazine.blogspot.com ‫البريد اإللكتروني‬ el7ad.organisation@gmail.com magazine@arabatheistbroadcasting.org


Turn static files into dynamic content formats.

Create a flipbook
Issuu converts static files into: digital portfolios, online yearbooks, online catalogs, digital photo albums and more. Sign up and create your flipbook.