مجلة الملحدين العرب / العدد الخامس بعد المائة / أغسطس آب / 2021

Page 1

‫مجلة شهرية بجهود فردية تصدر يف الثاين عرش من كل شهر‬

‫طالبان‪ :‬حني يتحول الوحش‬ ‫إىل حاممة سالم‬

‫د‪.‬عبد العزيز القناعي‬

‫نبوة املرأة يف اإلسالم‬

‫مهند أحمد الرشعة‬

‫انعكاسات الردع الديني‬ ‫عىل السلوك‬

‫العدد الخامس بعد املئة من مجلة امللحدين العرب لشهر أغسطس ‪ /‬آب ‪2021‬‬

‫‪Боуху Юсеф‬‬

‫نبي املحبة والفن‪:‬‬ ‫ماين وديانته املانوية‬ ‫سامل الدليمي‬

‫تهدف مجلّة امللحدين العرب إىل نرش وتوثيق أفكار امللحدين العرب املتنوعة وبحريّ ٍة كاملة‪ ،‬وهي مجلّ ٌة رقمي ٌة غري ربح ًّية‪ ،‬مبني ٌة‬ ‫أي توج ٍه سيايس‪ .‬املعلومات واملواضيع املنشورة يف املجلّة متثل آراء كاتبيها فقط‪ ،‬وهي مسؤل ّيتهم من‬ ‫بجهو ٍد طوعي ٍة ال تتبع َّ‬ ‫الناحية األدب ّية ومن ناحية حقوق النرش وحفظ امللك ّية الفكريّة‪.‬‬


‫فريق التحرير‬ ‫املشارك يف هذا العدد‬ ‫ليث رواندي‬

‫‪Yonan Martotte‬‬

‫إيهاب محمد‬

‫‪John Silver‬‬

‫عضو فخري دائم‬

‫‪Johnny Adams‬‬

‫‪Abdu Alsafrani‬‬

‫‪Raghed Rustom‬‬ ‫القسم اإلبداعي والفني‬

‫تحرير‬

‫‪Alia’a Damascéne‬‬ ‫تحرير ومقابالت‬

‫غيث جابري‬

‫موارد ومقابالت‬

‫رئاسة التحرير‬ ‫الغراب الحكيم أسامة البني (الوراق)‬

‫كلمة تحرير املجلة‬ ‫ٍ‬ ‫غالبًا ما ت ُطرح نظريات املؤامرة الكونية كتفسريٍ‬ ‫وحيد عندما يحاول‬ ‫املؤمنون تفسري وجود امللحدين‪ ،‬وكيف ال! ف ِمن غري املعقول لدى املؤمن‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫قناعات أخرى أو أن يكون ‪ -‬معاذ الله‪ -‬قد أخطأ‬ ‫مختلف أو‬ ‫رأي‬ ‫وجود ٍّ‬ ‫بخياراته أو خانته حكمته الفياضة باعتبار أن دينه هو ليس فقط الدين‬ ‫الصحيح بل وأنه قم ٌة يف الرقي األخالقي واإلنساين‪.‬‬

‫ما يدفع امللحد غالبًا لنقد األديان والسخرية من املقدسات هو شعوره‬ ‫باإلهانة من ِقبل الخرافات وأزالمها واملنتفعني منها عندما يرى ضحاياها‬ ‫الغافلني ويرى مقدار األذى الذي يحدق بهم‪ .‬أخالقيات امللحد هنا هي‬ ‫التي تدفعه ليقول شيئًا بدل أن ينتظر سقوط الضحايا متفر ًجا أو شامتًا‪.‬‬ ‫مركب ٍ‬ ‫واحد وإذا ما غرق فإننا‬ ‫ألنه يدرك أنّنا يف النهاية جميعنا عىل‬ ‫ٍ‬ ‫جمي ًعا سنغرق وأن ضحايا األديان يف النهاية هم إخو ٌة وأخواتٌ لنا‪.‬‬

‫وطب ًعا طاملا أُخذت هذه االدعاءات بالصحة والكامل والرقي كمسل ٍ‬ ‫ّامت‬ ‫مبدئي ٍة تُصبح هي املقياس الذي يق ّيم به املؤمن كل يشء‪ ،‬وبالتايل أي‬ ‫يش ٍء ال يقع يف صندوق املقياس يصبح إما أكاذيب أو مؤامرات‪ ،‬ومن‬ ‫بني هذه وجود تلك الكائنات الغريبة التي طاملا أ ّرق وجودها املؤمنني‬ ‫وألهمهم الكثري من نظريات املؤامرة الكونية التي يحاول بها امللحدون‬ ‫ألسباب ما‬ ‫األرشار إيقاع الشباب املؤمن الصالح يف الزلل واإلثم والخطايا‬ ‫ٍ‬ ‫تزال عصي ًة عىل مخيلة املؤمنني‪.‬‬

‫عميق بالحب‬ ‫ما يدفع امللحد للتعبري ونقد األديان ومواجهتها هو شعو ٌر ٌ‬ ‫والخوف عىل أهله وأصدقائه وعمله يف محاربة الخرافات واملقدسات‬ ‫ميثّل تضحي ًة يف سبيلهم‪ ،‬بل أنني ال أرى أي تضحي ٍة أنبل وأرقى وأكرث‬ ‫غافل قتله‪.‬‬ ‫جاهل أو ً‬ ‫إيثا ًرا من مخاطرة أحدهم بحياته إلنقاذ من يحاول ً‬ ‫عندما يصيبكم اليأس والتعب تذكّروا هذا وتذكّروا أنكم ت ِقفون عىل‬ ‫الجانب الصحيح من التاريخ وأن أي ٍ‬ ‫جهد أو أث ٍر تضعونه اليوم سيثمر‬ ‫ظلم أو يشعل شمعة معرفة‪.‬‬ ‫غ ًدا ابتسام ًة أو حري ًة أو يرفع ً‬

‫طاملا كان امللحدون ال يط ّبلون مع الطبالني وال يز ّمرون مع الزمارين فإذن‬ ‫هم بال ٍ‬ ‫شك من األرشار الذين يستوجبون الحذر والشك والقلق‪.‬‬

‫فبالنهاية وبعد مرور الزمن‪ ،‬وبعد موت املطبلني واملشعوذين واملستبدين‬ ‫لن يصح إال الصحيح ولن يبقى منهم إال ذكرى ت ُسبب تقطّب الحاجبني‬ ‫وتُنقل كعظ ٍة ٍ‬ ‫ودرس حتى ال يقع آخرون يف تلك الحفرة‪.‬‬

‫يف واقع األمر محدودية مخيلة املؤمن وعدم قدرته عىل الخروج من‬ ‫صندوق معتقداته تجعله عاج ًزا عن رؤية وفهم أن امللحدين تركوا‬ ‫ألسباب أخالقي ٍة أولً وألن لديهم تقدي ًرا واحرتا ًما عميقني ملفهوم‬ ‫أديانهم‬ ‫ٍ‬ ‫الحقيقة ثانيًا‪.‬‬

‫الغراب الحكيم‬

‫أخالقي وأ ّن‬ ‫إذ أن امللحد يرى يف وقوع أي إنسانٍ ضحية أكاذيب أم ٌر ال‬ ‫ٌّ‬ ‫مقبول أخالق ًيا مهام تغري‬ ‫ً‬ ‫نش األكاذيب وخداع الناس مل ولن يكون أم ًرا‬ ‫ْ‬ ‫محتوى األساطري والخرافات ومهام كان أثرها النفيس والصحي عىل‬ ‫املؤمنني بها‪.‬‬

‫‪2‬‬


‫الفهرس‬ ‫كلمة تحرير املجلة‬

‫‪2‬‬

‫الفهرس‬

‫‪3‬‬

‫طالبان‪ :‬حني يتحول الوحش إىل حاممة سالم‬ ‫د‪ .‬عبد العزيز القناعي‬

‫‪5‬‬

‫نبوة املرأة يف اإلسالم‬ ‫مهند أحمد الرشعة‬

‫‪10‬‬

‫حراس اإلميان جـ‪ :3‬نهاية الخرافة املحمدية‬ ‫بنور نبيل‬

‫‪17‬‬

‫نبي املح ّبة والفن‪ :‬ماين وديانته املانوية‬ ‫الجزء األول‬ ‫سامل الدليمي‬

‫‪27‬‬

‫األدب املنحول جـ‪:3‬‬ ‫املسكوت عنه يف العهدين القديم والجديد‬ ‫د‪ .‬سمرياميس العامري‬

‫‪42‬‬

‫انعكاسات الردع الديني عىل السلوك‬

‫‪50‬‬

‫املسيحية واملحروسة الجزء ‪9‬‬ ‫محمد شومان‬

‫‪58‬‬

‫كاريكاتور‬

‫‪67‬‬

‫‪Боуху Юсеф‬‬

‫‪3‬‬


http://arabatheistbroadcasting.com/aamagazine https://www.aamagazine.blogspot.com https://www.facebook.com/pages/AAMagazine/498136386890299 https://issuu.com/928738

4


‫طالبان‪ :‬حني يتحول‬ ‫الوحش إىل حاممة سالم‬

‫د‪.‬عبد العزيز القناعي‬

‫لقد قيل الكثري من التحاليل والتغريدات واملقاالت التي‬ ‫تحلّل وتفكر وتستشف وتتنبأ‪ ،‬وبعضها يخربط‪ ،‬حول‬ ‫جدوى وقيمة‪ ،‬أو هزمية وانكسار الواليات املتحدة يف‬ ‫أفغانستان‪ .‬ولكن كام أسلفت‪ ،‬فغالبية هذه التحليالت ال‬ ‫ٍ‬ ‫متنيات أو ر ًؤى قارص ٍة أو اسرتاتيجية أجندات‪،‬‬ ‫تخرج عن‬ ‫خصوصا إذا علمنا أن من يحيط أفغانستان‪ ،‬هم إيران‬ ‫ً‬ ‫من الغرب‪ ،‬والصني من الرشق‪ ،‬وباكستان (حاضنة‬ ‫طالبان الرسية) من الجنوب‪ ،‬وطاجيكستان وأوزبكستان‬ ‫وتركامنستان من الشامل‪ ،‬وهذا لعمري ف ٌخ كبري‪ ،‬وأزماتٌ‬ ‫قادمة‪ ،‬وتهديداتٌ كبري ٌة لدو ٍل يتم التخطيط إلزعاجها‪،‬‬ ‫ورصاع القوى والنفوذ وإسقاط الخصوم‪ ،‬وتغيرياتٌ‬ ‫ملصادر الطاقة ومرور النفط ورسم الشكل الجديد‬ ‫للخريطة الدولية‪.‬‬

‫فعل أن يتحول الوحش إىل حاممة سالم‪،‬‬ ‫هل باإلمكان ً‬ ‫وننتهي منه بامل ّرة ولألبد؟ أم أن الوحش الذي نواجهه‬ ‫هو وحش «الهايدرا»‪ ،‬تلك األفعى العمالقة ذات الرؤوس‬ ‫املتعددة التي واجهها البطل األسطوري هرقل‪ ،‬والذي كلام‬ ‫رأس جديد؟!‬ ‫قطع لها ً‬ ‫رأسا نبت لها ٌ‬ ‫أيضا‪ ،‬أن نتخيل أن الواليات املتحدة‬ ‫وهل باإلمكان ً‬ ‫األمريكية‪ ،‬سلّمت ميليشيا طالبان اإلرهابية طبق‬ ‫أفغانستان لوحدهم‪ ،‬حتى يتحكموا مبصري أكرث من ‪37‬‬ ‫مليون إنسانٍ ملجرد أن الواليات املتحدة األمريكية قررت‬ ‫االنسحاب من أفغانستان‪ ،‬بعد أكرث من عرشين عا ًما‬ ‫عىل تواجدهم العسكري‪ ،‬ورصفُت العديد من املليارات‬ ‫الدوالرية واألنفس البرشية‪ ،‬والتحديات العاملية؟ أم أن‬ ‫دوائر االستخبارات الغربية واإلرسائيلية واألوروبية هي‬ ‫وحدها من تعلم الحقيقة وخفايا األمور يف املستقبل‪ ،‬بينام‬ ‫حكام العرب واملسلمني وشعوبهم مثل األطرش بالزفة‪.‬‬

‫فامذا نفهم من هذا االنسحاب؟ وكيف تم؟ وملاذا؟ ومن‬ ‫هي ميليشيا طالبان؟ وكيف وصلوا إىل السلطة بهذه‬ ‫‪5‬‬


‫طالبان‪ :‬حني يتحول الوحش إىل حاممة سالم‬ ‫سالم سوف تحكم‬ ‫الرسعة برعاي ٍة أمريكية‪ ،‬وقبو ٍل‬ ‫ضمني غر ٍيب عىل تواجدهم؟ بل وحتى تصويرهم وكأنهم حاممة ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫محية‪ ،‬وتساؤالتٌ مربكة‪ ،‬ووقائع ال مفر لنا إال مبواجهتها واالستعداد‬ ‫بالدميقراطية والعدالة واملساواة؟ ال شك أنها أسئل ٌة ّ‬ ‫ملا بعدها وإال ألصابنا العته والبالدة والخراب‪.‬‬ ‫وحتى نفهم االنسحاب‪ ،‬علينا أن نقرأ طالبان‪ .‬طالبان هي‬ ‫حرك ٌة قومي ٌة إسالمي ٌة سياسي ٌة سنية‪ ،‬وتعنى كلمة طالبان‬ ‫مبعنى «طلبة»‪ .‬وقد تأسست عىل يد املال محمد عمر‪،‬‬ ‫قليل الظهور والتصوير‪ ،‬يف سبتمرب ‪ ،1994‬وتوىف يف ‪ 29‬يوليو‬ ‫‪ .2015‬وقد انترش فكر الحركة بعد نهاية التدخل السوفييتي‬ ‫يف أفغانستان عام ‪ ،1978‬وأصبح واض ًحا للعيان ومؤث ًرا بعد‬ ‫انتهاء الحرب األهلية يف أفغانستان يف العام ‪.1996‬‬ ‫كان من أهم أهداف طالبان‪ ،‬هو الحلم األسطوري لجميع تيارات اإلسالم السيايس (السنية والشيعية)‪ ،‬وهو إعادة منهج‬ ‫وفرض الجزية عىل الكفار وأهل الكتاب‪ .‬وقد فعلت طالبان ومارست يف‬ ‫الخالفة اإلسالمية وتطبيق الحدود وغزو البلدان ُ‬ ‫سبيل ذلك العديد من الفظائع الوحشية والقتل املمنهج والتعذيب الدائم باسم تطبيق الرشيعة اإلسالمية‪ ،‬حتى دخلت‬ ‫كابل يف ‪ 27‬سبتمرب ‪ 1996‬وأنشأت إمارة أفغانستان اإلسالمية‪ ،‬حتى سقوطها بعد التدخل العسكري األمرييك ألفغانستان‬ ‫يف أكتوبر‪ 2001‬عىل خلفية اتهام طالبان بتدريب اإلرهابيني وحامية أسامة بن الدن‪.‬‬ ‫إذن مل تكن طالبان‪ ،‬سوى مفرخ ٍة جديد ٍة من تيارات اإلسالم السيايس‪ ،‬ومل يكن جنودها سوى أفرا ٍد مؤدلجني عىل القتل‬ ‫والتعذيب وتطبيق الحدود‪ ،‬ومل تكن أطامعها تتجاوز إقامة الشكل التقليدي للخالفة اإلسالمية‪ ،‬مع بقاء كل أشكال‬ ‫بأي مقدا ٍر من التنمية والتحرض‬ ‫الجهل والتخلف والعنف والفساد بال حلول‪ .‬فال يأبه من يحمل عقلية الخالفة اإلسالمية ّ‬ ‫واإلنسانية والعلم والفن والحياة‪ .‬فالغالبية منهم مستع ٌد للموت والتفخيخ وقتل األبرياء من أجل ضامن الدخول الرسيع‬ ‫إىل الجنة‪ .‬مل تكن طالبان سوى حلم الشباب العريب البائس يف عودة زمن الصحابة واألنبياء‪ ،‬يف التخلص من تجليات‬ ‫االستبداد العريب يف العائلة واملدرسة واملسجد والحكم‪ ،‬يف تعزيز املواطنة والعدالة واملساواة والحريات‪.‬‬ ‫لكن الحقيقة الصادمة‪ ،‬بأن طالبان مل تكن‬ ‫عبثي من الفوىض الدينية‬ ‫سوى امتدا ٍد‬ ‫ٍ‬ ‫التاريخية‪ ،‬وفشل دعوات اإلصالح الديني‪،‬‬ ‫وغياب مشاريع الحداثة والعلامنية والرفاه‬ ‫االقتصادي للمواطن العريب‪ .‬يف الحقيقة‪ ،‬مل‬ ‫تكن طالبان سوى حجر دومينو تم استغالله‬ ‫بجدار ٍة يف تهديد الدول‪ ،‬ويف فرض الرشوط‪،‬‬ ‫ويف تفجري األبرياء‪ ،‬ويف التخطيط بعيد‬ ‫املدى ملواجهة املد الصيني وإزعاج روسيا‪.‬‬ ‫‪6‬‬


‫طالبان‪ :‬حني يتحول الوحش إىل حاممة سالم‬ ‫يف الحقيقة‪ ،‬مل تكن طالبان سوى خيال مآته يتم استخدامه كل مرة‪ ،‬بأشكا ٍل مختلف ٍة وبأدوا ٍر متعدد ٍة متى ما اقتضت‬ ‫الحاجة ملن يحرك املشهد السيايس يف آسيا‪ ،‬وهو قاب ٌع يف الغرب أو يف الرشق‪.‬‬ ‫مبقدار ما كان انسحاب الواليات‬ ‫املتحدة األمريكية من أفغانستان‬ ‫محيا نو ًعا ما‪ ،‬بقدر ما كانت قدرة‬ ‫ًّ‬ ‫طالبان عىل احتالل أفغانستان‬ ‫ٍ‬ ‫جيش‬ ‫أيضا‪ ،‬رغم وجود‬ ‫غامض ًة ً‬ ‫أفغا ٍين كبري‪ ،‬بل وتم تدريبه بعناي ٍة‬ ‫مع تواجد أسلح ٍة حديث ٍة أمريكية‪،‬‬ ‫إال أن وصول ميليشيا طالبان إىل‬ ‫العاصمة كان بفرت ٍة وجيزة‪ ،‬تدل عىل‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫وتفاهامت‬ ‫مخططات سابق ٍة‬ ‫وجود‬ ‫قد جرت وانتهت‪ .‬مام يدعونا إىل إطالق حزم ٍة كبري ٍة من التساؤالت املستحقة‪ :‬هل كانت الواليات املتحدة األمريكية لها‬ ‫ٍ‬ ‫أيضا تقارير تتحدث عن مصادر طاقة‪ ،‬وعن‬ ‫غايات أخرى يف أفغانستان‪ ،‬غري قتل ابن الدن وتصفية اإلرهابيني؟ هناك ً‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫جديد ملواجهة دو ٍل أصبحت تؤرق التواجد األمرييك‪ .‬كام يقال أن رحيل القوات األمريكية‪ ،‬ما هو إال‬ ‫تحالف‬ ‫تشكيل‬ ‫ٌ‬ ‫مسبق بينها وبني ميليشيا طالبان لحامية املصالح األمريكية‪ .‬كام أن العديد من التحليالت تشري إىل ضلوع دو ٍل‬ ‫اتفاق‬ ‫ٌ‬ ‫كعصا إرهابي ٍة داخل بعض الدول الخليجية‪.‬‬ ‫خليجي ٍة يف دعم ميليشيا طالبان الستخدامهم ً‬ ‫لكن ما هو األغرب حقيق ًة‪ ،‬هو ترصيحات بعض الدول األوروبية‪ ،‬وعىل لسان زعامئها بالنية الصادقة للتفاهم مع‬ ‫رصح‪« :‬سنعمل مع طالبان إذا لزم األمر إليجاد حلٍ ملشاكل‬ ‫طالبان‪ .‬فها هو رئيس الوزراء الربيطاين بوريس جونسون ي ّ‬ ‫تخيل عزيزي القارئ‪ ،‬وحتى‬ ‫أفغانستان‪ ،‬وأضاف بأنه يجب ال ُحكم عليهم من خالل أفعالهم وليس أقوالهم»‪ .‬هكذا‪ْ ،‬‬ ‫ٍ‬ ‫محادثات معها»‪.‬‬ ‫أصدمك أكرث‪ ،‬اقرأ ما تقوله السيدة مريكل ونقلته الجزيرة‪« :‬طالبان تحكم أفغانستان‪ ،‬وعلينا إجراء‬ ‫هنا‪ ،‬ال يرصح زعامء الغرب وأوروبا مبثل هذه الترصيحات املتشابهة‪ ،‬وخصوصا حول ميليشيا إرهابية‪ ،‬اكتوى بنارها‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫وموافقات مسبق ٍة مع الواليات املتحدة األمريكية‪ ،‬بل وأكاد أجزم‪ ،‬بأن‬ ‫مبحادثات‬ ‫ومفخخاتها شعوبهم ومجتمعاتهم‪ ،‬إال‬ ‫ٍ‬ ‫ألهداف مل يُعلن عنها حتى‬ ‫ودول غربي ًة كثري ًة بصدد االعرتاف بطالبان‪ ،‬والتعامل السيايس والدبلومايس معها‪،‬‬ ‫أوروبا ً‬ ‫اللحظة‪ ،‬ومل تظهر إىل العلن حتى اليوم‪.‬‬ ‫لقد أثار انسحاب القوات األمريكية من أفغانستان الدهشة عىل الجميع‪ ،‬وعىل النخب السياسية والفكرية‪ ،‬فإذا عرفنا أن‬ ‫ِخطط الواليات املتحدة األمريكية‪ ،‬منذ فرتة حكم ترامب‪ ،‬كانت التلويح بخروج القوات األمريكية من املناطق الخطرة‪،‬‬ ‫فخروجهم هذا‪ ،‬وقبل العراق‪ ،‬إمنا يعطى دالل ًة عىل انتهاء املهمة القتالية يف أفغانستان‪ ،‬وعىل نهاية عرص الحروب الربية‬ ‫والعسكرية‪ ،‬وعىل أن الواليات املتحدة األمريكية تسعى إىل ترميم الداخل أكرث من مساعدة أهل الخارج‪.‬‬ ‫‪7‬‬


‫طالبان‪ :‬حني يتحول الوحش إىل حاممة سالم‬ ‫اتهام للواليات املتحدة األمريكية‪ ،‬وخداعها للشعوب املستضعفة بجلب الدميقراطية‬ ‫بينام أثارت النخب الفكرية أكرث من ٍ‬ ‫والحريات إليهم‪ .‬كام أثار بعضهم مدى هشاشة جيش الواليات املتحدة األمريكية وقدرة ميليشيا جبلي ٍة غري مسلح ٍة‬ ‫وال مدرب ٍة جي ًدا‪ ،‬عىل هزمية الجيش األول يف العامل‪ .‬وأرى هنا‪ ،‬بصفة املطّلع‪ ،‬بأن الكثري من األحداث غري معلنة‪ ،‬وأن‬ ‫العديد من القراءات غري متاحة‪ ،‬وأن انسحاب الواليات املتحدة األمريكية من أفغانستان‪ ،‬ال ميكن فهمه إال من زاويتني‬ ‫ال ثالث لهام‪:‬‬ ‫ٍ‬ ‫معطيات قومي ٍة وأمنية‪ ،‬ورغب ٍة داخلي ٍة يتحمل مسؤوليتها رئيس الواليات املتحدة‬ ‫سيايس بنا ًء عىل‬ ‫رسمي‬ ‫انسحاب‬ ‫إما‬‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫األمريكية‪.‬‬ ‫أو هناك صفق ٌة رسي ٌة ال نعلم عنها شيئًا إال ما خرج إىل وسائل اإلعالم‪.‬‬‫وملن يتساءل يف النهاية‪ ،‬وماذا عن‬ ‫حقوق اإلنسان والحريات والدميقراطية‬ ‫واملرأة‪ ،‬التي صدعت بها رؤوسنا الثقافة‬ ‫األمريكية والحداثة الغربية والحضارة‬ ‫اإلنسانية؟ هنا أقول ملن يتساءل عن مثل‬ ‫شعب يف‬ ‫تلك األقاويل‪ ،‬بأن الشعب‪ ،‬أي‬ ‫ٍ‬ ‫العامل‪ ،‬إذا استكان لفرت ٍة طويل ٍة لحكم‬ ‫االستبداد والتخلف والوصاية‪ ،‬ورغب يف‬ ‫القمع وتساهل مع الفساد وريض بالجهل‪،‬‬ ‫فليست هناك قو ٌة عىل وجه األرض ميكن‬ ‫أن تساعده أو تزيل عنه شبح االستبداد‪.‬‬ ‫فال أمريكا وال إرسائيل وال أوروبا‪ ،‬مبقدورهم مساعدة العرب واملسلمني‪ ،‬إذا مل يرغب هؤالء أولً مبساعدة أنفسهم‪،‬‬ ‫والثورة عىل ثقافتهم وقيودهم‪ ،‬والتخلص من جور الحكام وسلطة رجال الدين‪.‬‬ ‫يف النهاية‪ ،‬الطالبانية حال ٌة إسالمي ٌة إرهابي ٌة ال تختلف عن مثيالتها يف مختلف املذاهب واألديان‪ .‬هي تتواجد يف عقو ٍل‬ ‫متزمت ٍة متوحشة‪ ،‬وتتغلغل يف هياكل الدول بفضل الدعم السخي من ِقبل تجار الدين والفقهاء‪ ،‬ومن ِقبل الحكومات‬ ‫التي تجد يف التطرف فرص ًة عظيم ًة لتشتيت انتباه الجامهري عن قضايا الدميقراطية والحريات‪.‬‬ ‫تظل طالبان حال ًة ديني ًة نفسي ًة يتعلق بها العقل العريب املسلم‪ ،‬ألنها امتدا ٌد لتاريخه ومعتقداته وأحالمه‪ .‬فعندما‬ ‫رجعت طالبان إىل السلطة‪ ،‬مل نتفاجأ بأن هناك العديد والكثري ممن ر ّحب وهلل لهم ولحكمهم‪ ،‬ممن رأى بصيص األمل‬ ‫يف هؤالء القوم الذين مل يتوانوا برجم املرأة وقطع األيادي وتفجري األبرياء‪ .‬فأي مستقبلٍ تحمله لنا طالبان يف القريب؟‬ ‫ومن فتحت الواليات املتحدة األمريكية الباب له ليكتوي بنريان إرهاب طالبان؟‬

‫‪8‬‬


https://www.facebook.com/groups/arbathnetgroup

9


‫نبوة املرأة يف اإلسالم‬

‫مهند أحمد الرشعة‬

‫مقدمة‪:‬‬ ‫تشكل املرأة نصف املجتمع‪ ،‬ومبا أنها‬ ‫أنجبت وربت فهي املجتمع كله‪ .‬كال ٌم‬ ‫عادي نردده‪ ،‬ولكن ال زلنا نصاب‬ ‫باالستغراب إذا ما وجدنا امرأ ًة يف مرك ٍز‬ ‫عا ٍل خاص ًة يف منطقتنا‪ ،‬حيث النظام‬ ‫البطريريك ‪ -‬األبوي ال زال موجو ًدا‬ ‫ومترشبًا عندنا‪.‬‬

‫‪10‬‬


‫نبوة املرأة يف اإلسالم‬ ‫مهند أحمد الرشعة‬

‫اكم جراء الفتح العريب كام يسمى‪ ،‬وهنا ال تخلو النظرة من صح ٍة‪ ،‬إذا ما راجعنا‬ ‫املشكلة أن البعض يجعل ذلك تر ً‬ ‫الخطاب النمطي املكرس عن العرب يف جاهليتهم‪ ،‬وعن اإلسالم الذي كرس خطابه رجاالت املدارس االجرتارية‪ ،‬واستمرت‬ ‫حكومات املنطقة ومعارضتها اإلسالمية عىل تكريسه‪ ،‬خالل سباق املزايدة املحاكاتية عىل من ميثل اإلسالم أكرث بينهم‪.‬‬ ‫ميكن ألي ٍ‬ ‫شخص دراسة تاريخ العرب يف الجاهلية ليجد مكانة‬ ‫رشا بني‬ ‫املرأة مكان ًة مرموقة‪ ،‬فالوأد الذي صوره اإلسالم كان منت ً‬ ‫الطبقات املنحطة من املجتمع العريب الجاهيل‪ ،‬أما موضوع‬ ‫رشا الزواج بالرضا‪ ،‬وكانت موافقة املرأة رشطًا‬ ‫الزواج فقد كان منت ً‬ ‫رضوريًا عىل الزواج‪ ،‬البعض يطرح زواج الرهط واالستبضاع للحط‬ ‫مرفوضا إذا‬ ‫من قيمة الزواج يف عرص الجاهلية‪ ،‬إال أن ذلك يبدو‬ ‫ً‬ ‫ما تفهمنا األنفة والغطرسة العربية الجاهلية لدرجة أنهم كانوا‬ ‫شكل من أشكال الدعارة املوجودة‪ .‬فاالستبضاع ميكن‬ ‫يستحقرون هذا الفعل‪ ،‬وعىل ما يبدو أن االستبضاع والرهط هو ٌ‬ ‫تصنيفه تحت إطار القوادة‪ .‬أما الرهط فنجد أمثل ًة عنه يف صاحبات الرايات يف الطائف‪ ،‬أي أن هذه األمور ال متت‬ ‫بالزواج بيشء‪ .‬ولكن تم تكريس نظر ٍة استحقاري ٍة لتاريخ العرب الجاهيل مام أدى إىل تبخيس الكثري من القيم‪ ،‬لرفع‬ ‫فعل ما يقوم به رجال الدين‪ ،‬فعندما يقومون ببناء منظوم ٍة أخالقي ٍة جديد ٍة فإنهم يستخدمون‬ ‫القيم اإلسالمية‪ ،‬وهذا ً‬ ‫وسائل ال أخالقية يف تكريسها‪.‬‬ ‫ال ميكن أن نبخس املرأة حقها يف املجتمع العريب الجاهيل عىل‬ ‫الرغم من كون الذكر فيه هو أساس اإلنتاج االقتصادي‪ ،‬فحتى بعد‬ ‫قدوم اإلسالم نجد ابنة أم قرفة واسمها أم زمل سلمى بنت مالك بن‬ ‫حذيفة بن بدر‪ ،‬تقود قبائل غطفان وأسد وهوازن وطيء‪ ،‬وتحارب‬ ‫خالد بن الوليد [الطربي ج‪314 /2‬ص]‪ ،‬عدة قبائل تقودهم امرأ ٌة‬ ‫شجاعة‪ ،‬تحارب خالد بن الوليد‪ ،‬ومل تهرب من القتال عندما اجتمع‬ ‫املسلمون حول جملها وعقروه وقتلوها! ولك أن تتخيل كيف لقبائل‬ ‫متيم وتغلب أن تتبع سجاح التي ادعت النبوة كام يروى‪ ،‬وبالرغم من تبخيس قيمتها يف الروايات اإلسالمية إال أننا نجد‬ ‫رواي ًة بالغة الخطورة حيث توصف بأنها «كانت راسخ ًة يف النرصانية‪ ،‬قد علمت من علم نصارى تغلب» مام يشري إىل‬ ‫أن النساء مل يسلم العرب يف توليتهن عليهم بل وكان لهن عل ٌم أيضا‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫محمد أقصد‪،‬‬ ‫لقد ادعت سجاح النبوة‪ ،‬ونفى املسلمون نبوتها‪ ،‬ولكن هل نفيت نبوة النساء بشكلٍ مطلق؟‪ ،‬ليس بعد‬ ‫ٍ‬ ‫محمد أيضا؟ الجواب هو ال‪.‬‬ ‫بل أقصد تم نفي نبوة النساء يف املايض‪ ،‬ما قبل‬ ‫‪11‬‬


‫نبوة املرأة يف اإلسالم‬ ‫مهند أحمد الرشعة‬

‫القائلون بنبوة النساء‪:‬‬

‫نصا بالغ األهمية حول ظهور‬ ‫لقد كان هناك من يقولون بنبوة النساء‪ ،‬وعىل رأسهم ابن حزم الظاهري الذي يعطينا ً‬ ‫فصل ال نعلمه حدث التنازع فيه إال عندنا بقرطبة‪ ،‬يف زماننا‪ ،‬فإن طائف ًة ذهبت إىل‬ ‫القول ببطالن نبوة النساء‪« :‬هذا ٌ‬ ‫إبطال كون النبوة يف النساء جملة‪ ،‬وب ّدعت من قال ذلك» [ابن حزم ج‪/3‬ص‪ .]186‬علينا هنا الوقوف عند هذا النص‬ ‫ملا له من داللة‪ ،‬إذ يظهر استغراب ابن حزم من ظهور فك ٍر يبطل نبوة النساء‪ ،‬هذا يشري إىل أن ذلك مل يكن موجو ًدا يف‬ ‫السابق‪ ،‬وأن فكرة بطالن نبوة النساء مل تظهر إال يف زمن ابن حزم يف القرن الخامس الهجري‪ ،‬وتحدي ًدا يف قرطبة! هل كان‬ ‫القول السائد قبل ذلك ويف مختلف أرجاء العامل اإلسالمي آنذاك هو القول بنبوة النساء؟ ال نجد الكثري من النصوص حول‬ ‫ذلك‪ ،‬إال أنه تتم اإلشارة يف الغالب إىل ثالثة‪ :‬وهم ابن حزم الظاهري‪ ،‬وأبو الحسن األشعري‪ ،‬والقرطبي صاحب التفسري‪.‬‬ ‫أما أبو الحسن األشعري (‪260-240‬هـ)‪ ،‬فإن قوله بذلك يعد إشار ًة خطرية‪ ،‬فقد رزق األشعري بالكثري من األتباع من‬ ‫علامء أهل السنة من الشافعية واملالكية والحنفية والحنابلة‪ ،‬وال ميكن التجاوز عن هذه النقطة الهامة إذا ما علمنا بأن‬ ‫علم الكالم لدى أهل السنة قد وضعه األشعري بعد انشقاقه عن‬ ‫املعتزلة؛ يقول القشريي عنه‪« :‬أن أبا الحسن األشعري كان إما ًما‬ ‫من أمئة أصحاب الحديث‪ ،‬ومذهبه مذهب أصحاب الحديث‪،‬‬ ‫تكلم يف أصول الديانات عىل طريقة أهل السنة» [ أحمد أمني‬ ‫ج ‪ /4‬ص‪ .]71-72‬كام أن األشعري نفسه قال‪« :‬قولنا الذي نقول‬ ‫به‪ ،‬وديانتنا التي ندين بها‪ ،‬التمسك بكتاب الله‪ ،‬وسنة نبيه‪ ،‬وما‬ ‫روي عن الصحابة والتابعني‪ ،‬وأمئة الحديث‪ ،‬ومبا عليه أحمد‬ ‫بن حنبل‪ .‬ونحن بأقواله قائلون‪ ،‬وملن خالف قوله مجانبون»‬ ‫[أحمد أمني ج‪ /2‬ص ‪.]52‬‬ ‫أما القرطبي فقد أىت بعد ابن حزم الظاهري‪ ،‬إال أنه من أهل السنة عىل مذهب مالك‪ ،‬وقد قال بنبوة مريم‪« :‬واختلف‬ ‫الناس يف نبوة مريم‪ ،‬فقيل‪ :‬كانت نبي ًة بهذا اإلرسال واملحاورة للملك‪ .‬وقيل‪ :‬مل تكن نبي ًة وإمنا كلمها مثال البرش‪ ،‬ورؤيتها‬ ‫للملك كام رؤي جربيل يف صفة دحية حني سؤاله عن اإلميان واإلسالم‪ .‬واألول أظهر» [القرطبي ج‪ /11‬ص‪ .]18‬ويف موضعٍ‬ ‫آخر يقول وعليه األكرث [ج‪ /4‬ص‪ .]80‬وسنتحدث عن كيفية إثبات رأيه الحقا‪.‬‬ ‫سيايس يف األندلس‪،‬‬ ‫أما ابن حزم الظاهري (ت ‪456‬هـ)‪ ،‬فهو إمام أهل الظاهر الذين يأخذون بظاهر النص‪ ،‬وكان له دو ٌر‬ ‫ٌ‬ ‫كام كان كتابه الفصل محوريًا يف الفكر اإلسالمي حيث أظهر فيه معتقدات امللل والنحل األخرى ورد عليها‪ ،‬ولردوده‬ ‫أهميتها إىل اليوم عند املسلمني‪ ،‬خاصة من اطلع عىل علم الكالم منهم‪.‬‬ ‫‪12‬‬


‫نبوة املرأة يف اإلسالم‬ ‫مهند أحمد الرشعة‬

‫علينا أن نستخلص نتيج ًة هام ًة هي أنه علينا وضع القول ببطالن نبوة النساء خالل ما قبل القرن الخامس الهجري خاص ًة‬ ‫لدى أهل السنة يف موضع شك‪ ،‬ليس علينا التسليم بأول رواي ٍة وال ثاين رواية‪ ،‬بل نوازي بني النصوص ومحتواها‪ ،‬ثم نقوم‬ ‫بجمع املعلومة‪ ،‬لقد وجدنا أن أهم ثالثة الذين عرفناهم ممن قالوا بذلك القول‪ ،‬هم من املنظرين ملذهب أهل السنة‪،‬‬ ‫وهم من أهل النقل ال العقل‪ .‬هذا ما يجعلنا نأخذ زاوي ًة أخرى للنظر منها‪.‬‬

‫الفرق بني النبوة والرسالة واإللهام‪:‬‬

‫النبوة والرسالة‪ ،‬فالقائلون ببطالن نبوة النساء يستندون عىل حج ٍة واحد ٍة كام يقول ابن حزم‬ ‫مييز ابن حزم الظاهري بني‬ ‫َ َ ٓ َ ْ َ ْ َ َ ْ َ َ َّ َ ً ُّ ٓ َ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫وهي من القرآن يف قوله‪﴿ :‬وما أرسلنا قبلك إِل رِجال ن ِ‬ ‫وح إِل ِهم ۖ﴾ (النحل‪ ،)43:‬إال أن ابن حزم يخربهم بأن املقصود‬ ‫هنا هو الرسالة‪ ،‬أما النبوة فهي أدىن من الرسالة‪ ،‬ويعتمد عىل اللغة يف توضيح ذلك؛ إذ أن النبوة مأخوذ ٌة من اإلنباء‬ ‫نبي بال شك‪ ،‬وليس‬ ‫يكون‪ ،‬أو‬ ‫وهو اإلعالم‪ ،‬فمن أعلمه الله عز وجل مبا يكون قبل أن‬ ‫أوحى إليه منبئًا له بأم ٍر ما فهو ٌ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ُّ‬ ‫ْ‬ ‫هذا من باب اإللهام الذي هو طبيع ٌة لقول الله تعاىل ‪َ ﴿ :‬وأو ٰ‬ ‫ح َربك إِل ٱنلَّح ِل﴾‪[ .‬ابن حزم‪ /‬ج‪3-‬ص‪.]186‬‬ ‫حامل‬ ‫نجد ابن حزم هنا مييز بني الرسالة والتي تختص بالرجال‪ ،‬فالرسالة أن يرسل الله رسولً إىل قوم‪ ،‬مبعنى أن يكون ً‬ ‫رسال ًة لتأسيس دينٍ جديد‪ ،‬أما اإللهام فهو كالغريزة الطبيعية التي أوجدها الله يف الحيوانات‪ ،‬أما الوحي فهو التواصل‬ ‫صوت داخيل مبارش‪ ،‬أو من خالل ٍ‬ ‫مع الله‪ ،‬سواء بشكل ٍ‬ ‫ملك أي بشكلٍ غري مبارش‪ .‬كام أن وحي النبوة ليس برؤيا ال‬ ‫يدري أصدقت أم كذبت – حسب رأيه – بل الوحي الذي هو النبوة قص ٌد من الله تعاىل إىل إعالم من يوحي إليه مبا‬ ‫علم رضوريًا حقيق ًة خارج ًة عن الوجوه املذكورة – أي اإللهام والرؤيا – حيث‬ ‫يعلمه به‪ ،‬ويكون عند املوحى به إليه ً‬ ‫يتم إدراكها بالعقل والحواس‪ ،‬وال يكون هناك ٌ‬ ‫مجال للشك يف‬ ‫عقل عند ابن حزم بأمر‬ ‫شئٍ منه‪ .‬فإلقاء أم موىس البنها يف اليم ً‬ ‫وحي‪ ،‬ألن األم واثق ٌة بنبوة الله‪ ،‬وإال لكان إلقاؤها لولدها غاي ًة‬ ‫يف الفسق‪.‬‬

‫أوجه االستدالل‪:‬‬

‫‪ -1‬اللغة كام وضحنا سابقًا‪.‬‬ ‫القرآن‪ :‬فنبوة مريم من خالل محاورتها للملك الذي َأرسل‬ ‫‪-2‬‬ ‫َ َ ْ ّ ُ ُ‬ ‫َ َ ْ َ ْ َ َ ْ َ ُ َ َ َ َ َ َّ َ َ َ َ َ‬ ‫ًّ‬ ‫َ‬ ‫ً‬ ‫شا سوِيا ُ‪ ١٧‬قالت َإ ِ ِن أعَوذ‬ ‫إليها ﴿فأرسلنا إِل ُها روحنا فتمث َل َلها ب َ‬

‫َّ َ‬ ‫َ َ‬ ‫َ‬ ‫الر ْ َ‬ ‫ّ‬ ‫ك ِل َه َ‬ ‫ب َّ‬ ‫ك‬ ‫حن مِنك إِن ك‬ ‫بل ِ‬ ‫نت ت ِق ًّيا ‪ ١٨‬قال إِن َما أنا َر ُسول َرب ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫َْ َ ْ‬ ‫ُ‬ ‫َ ُ َ َ ْ َ ُ َّ َّ‬ ‫َ‬ ‫ً‬ ‫اللَ‬ ‫ًّ‬ ‫َ‬ ‫ت المالئِكة يا مريم إِن‬ ‫غالما زك ِيا﴾ (مريم‪ )19-17 :‬و﴿ِإَوذ قال ِ‬ ‫ْ َ َ َ َ َّ َ َ ْ َ َ َ َ َ ْ َ َ‬ ‫َ‬ ‫اصطفاكِ وطهركِ واصطفاكِ ع ن ِساء العال ِمني﴾ (آل عمران‪)42 :‬‬

‫‪13‬‬


‫نبوة املرأة يف اإلسالم‬ ‫مهند أحمد الرشعة‬

‫َ ْ َ​َُ​ُ َ َ ٌ َ َ َ‬ ‫كتْ‬ ‫ح‬ ‫ونبوة سارة من خالل املحاورة يف قوله‪﴿ :‬وامرأته َقائِمة فض ِ‬ ‫َ َ ْ َ َ‬ ‫ْ َ َ‬ ‫َ َ َّ ْ َ َ‬ ‫وب ‪ ٧١‬قَال ْ‬ ‫اق َي ْع ُق َ‬ ‫ت يَا َويْلَ َت أَأَ ِلُ‬ ‫اق َ‬ ‫ح‬ ‫س‬ ‫إ‬ ‫اء‬ ‫ر‬ ‫و‬ ‫ِن‬ ‫م‬ ‫و‬ ‫ح‬ ‫س‬ ‫إ‬ ‫ب‬ ‫ا‬ ‫اه‬ ‫شن‬ ‫ف َب‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ً‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫جبنيَ‬ ‫يب ‪ ٧٢‬قَالُوا ْ أ َت ْع َ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫ٌ‬ ‫َ‬ ‫ش ٌء َعج ٌ‬ ‫َ‬ ‫َوأنا عجوز وهذا بعل شيخا إِن هذا ل ْ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ْ َ ْ َّ َ ْ َ ُ ِ َّ َ َ َ َ ُ ُ َ َ ْ ُ ْ َ ْ َ ْ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫مِن أم ِر اللِ رحت اللِ وبركته عليكم أهل الي ِت﴾ (هود‪)73-71 :‬‬

‫خطاب داخيل يف نفسها‪ ،‬ويعتربه ابن حزم‬ ‫ونبوة أم موىس من خالل‬ ‫ٍ‬ ‫تعليم من الله تعاىل ملن يُعلمه دون وساطة معلِم‪ .‬وذلك يف قوله‬ ‫ً‬ ‫«وأوحينا إىل أمك ما يوحى» وغري ذلك من اآليات التي تشري لوحيه‬ ‫لها بأن تقوم بإلقاء موىس يف اليم‪ ،‬ووعده بأن يرد موىس إليها‪.‬‬ ‫‪ -3‬الحديث النبوي‪« :‬كمل من الرجال كثري‪ ،‬ومل يكمل من النساء إال‬ ‫مريم بنت عمران‪ ،‬وآسية بنت مزاحم امرأة فرعون» ويعلق ابن حزم‬ ‫عىل ذلك بأن املقصود هو أنه فضلت مريم وزوجة فرعون عىل باقي‬ ‫النبيات‪.‬‬ ‫َ‬ ‫ُ ُ ُ‬ ‫وسف أ ُّي َها‬ ‫‪ -4‬القياس‪ :‬وصف يوسف بالقرآن بالصديق يف قوله‪﴿ :‬ي‬ ‫ّ‬ ‫ٱلص ّد ُ‬ ‫ونبي ورسول‪ ،‬وقد وصف مريم‬ ‫‪ )46‬فهو‬ ‫(يوسف‪:‬‬ ‫﴾‬ ‫ِيق‬ ‫ِ‬ ‫ٌ‬ ‫صديق ٌ‬ ‫ُ‬ ‫أم املسيح يف قوله‪َ ﴿ :‬وأ ُّم ُهۥ ِص ّد َِيق ٌة ۖ﴾ (املائدة‪ )75 :‬فكونها صديق ًة ال مينع أن تكون نبية‪ ،‬ويف ذلك يردون عىل من قالوا‬ ‫أنها مل تكن نبي ًة بل صديقة‪.‬‬ ‫وتجدر اإلشارة إىل أن القرطبي مل يقل إال بنبوة مريم‪ ،‬مستن ًدا عىل القرآن يف ذلك مام ذكرنا من اآليات‪ ،‬ومستن ًدا عىل‬ ‫الحديث السابق‪ ،‬ومل يقل بنبوة أم موىس بل اعتربه إلهاما‪ ،‬ويرى القرطبي يف مريم أنها أفضل نساء العاملني‪ ،‬بل ويفضلها‬ ‫عىل خديجة وفاطمة وحواء‪.‬‬ ‫أما ابن حزم فقد قال بنبوة كل من أوحي لها‪،‬‬ ‫فعنده حواء وسارة وهاجر ومريم وآسية وأم موىس‬ ‫نبيات‪ .‬وينقل ابن حجر يف فتح الباري أن األشعري‬ ‫قد قال أنه يف النساء عدة نبيات‪ ،‬فعنده كل من‬ ‫نهي من الله فهو نبي‪ .‬ومام تجدر‬ ‫جاءه أم ٌر أو ٌ‬ ‫اإلشارة إليه أن الطربي يورد يف تاريخه امرأ ًة نبي ًة‬ ‫בֹור ‪‎‬ה أنقذت قومها من‬ ‫يف بني ارسائيل ديبورا ְד ָ‬ ‫ملك الكنعانيني ياڤني ִיָבין‪[ ‎‬الطربي ج‪/1‬ص‪.]268‬‬ ‫‪14‬‬


‫نبوة املرأة يف اإلسالم‬ ‫مهند أحمد الرشعة‬

‫الخامتة‪:‬‬

‫ميكننا القول بأن هنالك رأيًا ضم رشيح ًة واسع ًة قالت بنبوة‬ ‫النساء‪ ،‬إال أن املجتمع اإلسالمي مجتم ٌع بطريريك – أبوي‪ ،‬يقوم‬ ‫عىل متجيد الذكر ورفع منزلته‪ ،‬لقد كان الرجل يف هذا املجتمع‬ ‫قوة العمل األوىل‪ ،‬أي أنه محور االقتصاد‪ ،‬ومحور الحكومة‬ ‫فالوالية متعلقة بالرجل وال تصح إال للرجل «لَ ْن يُ ْفلِ َح قَ ْو ٌم َولَّ ْوا‬ ‫أَ ْم َر ُه ْم ا ْم َرأَةً»‪ .‬كام أن الرجل هو وسيلة الحرب يف هذا املجتمع‪،‬‬ ‫وبهذا تتكامل النواحي الثالث الرئيسية يف املجتمع اإلسالمي‬ ‫يف العصور الوسطى‪ ،‬ويكون الرجل محورها‪ ،‬ويف ظل السيادة‬ ‫الذكورية عىل املؤسسة الدينية‪ ،‬وكون األب «رب األرسة»‪ ،‬كام أن‬ ‫الرجل من خالل املامرسة الجنسية فوق واملرأة تحت‪ ،‬متكن هذه الظروف من تقبل القول ببطالن نبوة النساء‪ ،‬ويتم‬ ‫ّ َ ُ َ َّ ُ َ َ َ ّ‬ ‫الن ِ َساءِ﴾ (النساء‪ )34 :‬و«املرأة ناقصة عقلٍ ودين»‬ ‫الرجال قوامون ع‬ ‫امليل إليه أكرث‪ ،‬و ال ميكننا التغايض عن نصوص ﴿ ِ‬ ‫ال ميكن التغايض عن الطبيعة االجتامعية التي رأت يف املرأة وسيل ًة للتكاثر والتسلية يف تلك الفرتة‪ ،‬كل هذه النواحي‬ ‫متكن القول ببطالن نبوة النساء‪.‬‬ ‫ولكن وعىل كل األحوال‪ ،‬فإن شخصيات سارة وهاجر وحواء وزوجة فرعون هي شخصياتٌ ال وجود لها من الناحية‬ ‫عقل‬ ‫التاريخية‪ ،‬وهذا ما اتفق عليه أيضا علامء األركيولوجيا التوراتية باتجاهيه الراديكايل واملحافظ‪ ،‬أما مريم فال ميكن ً‬ ‫ٍ‬ ‫كائنات خارقة تخرتق‬ ‫فعقل مجرد وجود‬ ‫أن تلد دون رجل‪ ،‬وحتى موضوع النبوة نفسه يقع ضمن دائرة الالمعقول‪ً ،‬‬ ‫قوانني الكون أم ٌر يتناىف مع أبسط قواعد العقل وقوانني الكون‪.‬‬

‫أهم املصادر واملراجع املذكورة يف النص‪:‬‬

‫‪ -1‬الطربي‪ ،‬محمد بن جرير‪ ،‬تاريخ األمم وامللوك‪ ،‬املكتبة التوفيقية‪ ،‬القاهرة‪.‬‬ ‫‪ -2‬ابن حزم الظاهري‪ ،‬عيل بن أحمد‪ ،‬الفصل يف امللل واألهواء والنحل‪ ،‬بريوت‪.1996،‬‬ ‫‪ -3‬القرطبي‪ ،‬محمد بن أحمد األنصاري‪ ،‬الجامع ألحكام القرآن‪ ،‬بريوت‪.1995 ،‬‬ ‫‪ -4‬ابن حجر العسقالين‪ ،‬أحمد بن عيل‪ ،‬فتح الباري يف رشح صحيح البخاري‪ ،‬نسخة الكرتونية‪.‬‬ ‫‪ -5‬د‪ .‬أحمد أمني‪ ،‬ظهر االسالم‪ ،‬بريوت‪.1969 ،‬‬

‫‪2017/4/18‬‬ ‫‪15‬‬


‫اﺷﺘﺮك اﻵن‬ ‫ﻓﻲ ﻗﻨﺎﺗﻨﺎ ﻋﻠﻰ اﻟﻴﻮﺗﻴﻮب‬ ‫‪https://www.youtube.com/c/ahmedzayedchannel‬‬

‫ﻗﺮاﺑﺔ ‪ 24‬ﻣﻠﻴﻮن ﻣﺸﺎﻫﺪة‬ ‫ﻣﺸﺘﺮك‬ ‫أﻟﻒ‬ ‫ﻣﺸﺎﻫﺪة‬ ‫و‪125‬ﻣﻠﻴﻮن‬ ‫ﻗﺮاﺑﺔ اﻟﻌﴩة‬

‫أﺣﻤﺪ ﺳﻌﺪ زاﻳﺪ‬ ‫ﻗﻨﺎة أﺣﻤﺪ ﺳﻌﺪ زاﻳﺪ ﻋﲆ اﻟﻴﻮﺗﻴﻮب ﻫﻲ ﻗﻨﺎة ﻣﻌﻨﻴﺔ ﺑﺎﻟﺘﻨﻮﻳﺮ اﻟﻔﻜﺮي واﻟﺜﻘﺎﰲ وﻫﻲ ﻣﺤﺎوﻟﺔ ﻟﻠﺘﻔﻜ اﳌﻮﺿﻮﻋﻲ اﻟﻌﻘﻼ ﻣ ًﻌﺎ‪.‬‬ ‫وﺗﺠﺪون ﻓﻴﻬﺎ اﻟﻌﺪﻳﺪ ﻣﻦ اﻟﺴﻼﺳﻞ وﻣﻨﻬﺎ‪:‬‬

‫أﻟﻒ ﺑﺎء ﻓﻠﺴﻔﺔ ﻟﺘﺒﺴﻴﻂ اﳌﻌﺮﻓﺔ اﻟﻔﻠﺴﻔﻴﺔ‬

‫ﻟﻠﺘﻮاﺻﻞ ﻣﻌﻨﺎ ﻋﲆ ﺻﻔﺤﺔ اﻟﻘﻨﺎة ﻋﲆ اﻟﻔﻴﺴﺒﻮك‪:‬‬ ‫‪https://www.facebook.com/aszayedtv‬‬

‫ﺳﻠﺴﻠﺔ ﺗﻌﺮﻳﻔﻴﺔ ﺑﺮﻣﻮز ﻓﻜﺮﻳﺔ ﻋﺮﺑﻴﺔ وﻏﺮﺑﻴﺔ‬

‫ﺻﻔﺤﺔ أﺣﻤﺪ ﺳﻌﺪ زاﻳﺪ اﻟﺸﺨﺼﻴﺔ‪:‬‬ ‫‪https://www.facebook.com/ahmedsaadzayed‬‬

‫ﺗﺎرﻳﺦ اﻟﺤﻀﺎرة اﻟﻌﺮﺑﻴﺔ اﻻﺳﻼﻣﻴﺔ‬ ‫ﻛﺎﳌﻌﺮي واﻟﺮازي وأرﺳﻄﻮ وﻣﺎرﻛﺲ وراﺳﻞ‬ ‫ﺳﻠﺴﻠﺔ ﺑﺘﺤﻠﻴﻞ ﺧﻼﻓﺎت اﻟﺼﺤﺎﺑﺔ وﻗﺘﺎﻟﻬﻢ‬

‫ﺳﻠﺴﺔ ﺗﻄﻮر ﺗﺎرﻳﺦ اﻹﻳﺪﻳﻮﻟﻮﺟﻴﺎت اﻟﺴﻴﺎﺳﻴﺔ واﻟﻔﻠﺴﻔﺎت‬

‫وﻏ ذﻟﻚ ﻛﺜ ﻣﻦ ﻣﺤﺎﴐات وﻣﻘﺎﺑﻼت ﻟﺮﻣﻮز ﻓﻜﺮﻳﺔ ﻓﺎﻟﻘﻨﺎة ﺑﻬﺎ أﻛ ﻣﻦ ‪ 700‬ﻣﺤﺎﴐة‪ ،‬وﻫﻲ ﺟﻬﺪ ﻃﻮﻳﻞ وﻣﺘﻮاﺿﻊ ﻣﻦ اﻟﻌﻤﻞ‬ ‫اﻟﺜﻘﺎﰲ وﻣﺤﺎوﻟﺔ ﻧﴩ اﻟﻮﻋﻲ واﻟﻌﻘﻼﻧﻴﺔ واﻟﻌﻠﻤﻴﺔ ﻗﺪر اﳌﺴﺘﻄﺎع ﻟﻠﻤﺘﺤﺪﺛ ﺑﺎﻟﻌﺮﺑﻴﺔ‪.‬‬ ‫ﻟﺪﻋﻢ اﻟﻘﻨﺎة‪:‬‬

‫‪https://www.patreon.com/ahmedzayed‬‬

‫‪16‬‬

‫‪https://www.paypal.me/ahmedsaadzayed/100‬‬


‫حراس اإلميان جـ ‪3‬‬ ‫نهاية الخرافة املحمدية‬

‫بنور نبيل‬ ‫بني األسفار القانونية والخرافة‬ ‫يل دراسة لب العقيدة اليهودية ومعرفة‬ ‫كان من الواجب ع ّ‬ ‫املعتقد الذي ينتمي إليه شعب الله املختار‪ .‬ومع أن دراسة‬ ‫الكتاب املقدس اليهودي‪ ،‬التناخ תנ״ך‪ ،‬كانت أم ًرا شاقًا ج ًدا‬ ‫كتاب يحتوي عىل ٍ‬ ‫قصص رائع ٍة وتسلسلٍ‬ ‫تاريخي‬ ‫ومر ِهقًا‪ ،‬إال أنه ٌ‬ ‫ٍّ‬ ‫مذهلٍ بذكر أسامء امللوك والشخصيات وانتامئهم القبيل والعائيل‬ ‫ومع أ ّن املؤرخني مل يجدوا أي دليلٍ عىل وجودهم الفعيل إال ما‬ ‫وجدوه يف ٍ‬ ‫مرصي قديم‪ ،‬ويُعترب شيئًا هي ًنا ال يقاس عليه‪ ،‬حيث‬ ‫معبد‬ ‫ٍ‬ ‫(‪)1‬‬ ‫ُوجد اسم امللك داوود محفو ًرا داخل الغرف الفرعونية العتيقة‪.‬‬ ‫متخصص يف املرصيات قال أنه‬ ‫اإلشارة هنا إىل نقش اكتشف عام ‪ 1993‬ذكره األستاذ كنث كيتشن ‪ ،Kenneth Kitchen‬وهو‬ ‫ٌ‬ ‫نقل عن لوس آنجلس تاميز‪Early Text Appears to Refer to King David ،‬‬ ‫وجد يف معبد أمون يف الكرنك ذكر امللك داود‪ً .‬‬ ‫املنشور بتاريخ ‪[ .1999/1/9‬تحرير املجلة]‪.‬‬

‫‪17‬‬


‫ح ّراس اإلميان جـ ‪3‬‬ ‫نهاية الخرافة املح ّمدية‬ ‫بنور نبيل‬

‫ما شد علامء التاريخ واألثريني هو العدد الهائل من املخطوطات اليهودية‪ ،‬فهم يكتبون كل يش ٍء وال ي َدعون أي ٍ‬ ‫حدث‬ ‫تاريخي دون تدوينٍ ‪ ،‬وهم حريصون عىل تدوين تاريخهم حتى ال يضيع‪ ،‬واالحتفاظ به ليشهد لهم وألحفادهم من‬ ‫ٍ‬ ‫بعدهم ‪ -‬لكن مبقابل كتاب التوراة املستمد من الوصايا العرش ملوىس والذي يعني القانون أو الهلخاه ֲהלָ כָ ה‪ ،‎‬واملشتقة‬ ‫من الطريق وتقابل باملعنى اإلسالمي الرشيعة‪.‬‬

‫ﺗﺮﻛﻴﺐ ﺻﻔﺤﺔ ﻣﻦ اﻟﺘﻠﻤﻮد ַּתלְ מ ּו ד‬ ‫اﳌﺸﻨﺎه ִמ ְׁשנָ ה )ﻓﻠﺴﻄ ﺣﻮاﱄ ‪ 220‬م(‬ ‫اﻟﺠﻴرراه גמרא )ﺑﺎﺑﻞ‪ ،‬ﺣﻮاﱄ ‪ 500‬ق‪.‬م(‬ ‫ﺗﻌﻠﻴﻘﺎت راﳾ רש"י )ﺷﻠﻮﻣﻮ ﻳﺘﺴﺤﺎﻗﻲ( )‪1105-1040‬م(‬ ‫ﺗﻌﻠﻴﻘﺎت اﳌﻀﻴﻔ )ﻓﺮﻧﺴﺎ وأﳌﺎ ﻣﻦ اﻟﻘﺮﻧ‪ 122‬و‪13‬م(‬ ‫ﺗﻌﻠﻴﻘﺎت ﻧِﺴﻴﻢ ﺑﻦ ﻳﻌﻘﻮب )ﺗﻮﻧﺲ ﻗﺮن ‪11‬م(‬ ‫ﻣﻼﺣﻈﺎت ﻋﻘﻴﺒﺎ إﺟﺮ )ﭘﺮوﺳﻴﺎ ‪1837-1761‬م(‬ ‫ﺗﻌﻠﻴﻘﺎت ﻣﺠﻬﻮل‬ ‫ﻣﻔﺘﺎح اﻗﺘﺒﺎﺳﺎت اﻟﻨﺺ اﳌﻘﺪس‬ ‫إﺣﺎﻻت إﱃ ﻧﺼﻮص ﻗﻮاﻧ ﻳﻬﻮدي ﻣﻦ اﻟﻌﺼﻮر اﻟﻮﺳﻄﻰ‬ ‫إﺣﺎﻻت إﱃ ﻓﻘﺮات أﺧﺮى ﰲ اﻟﺘﻠﻤﻮد‬ ‫ﺗﺼﺤﻴﺤﺎت ﻧﺼﻴﺔ ﻣﻦ ﻣﺴﻮدات ﻳﻮﺋﻴﻞ ﺳﻛﻛﻴﺲ )ﭘﻮﻟﻨﺪا‬ ‫‪1640-1561‬م(‬

‫كتب أخرى هي مبثابة تفسري للهلخاه أو الرشيعة لكن ليست من األسفار القانونية وال هي من الكتب‬ ‫هناك باملقابل ٌ‬ ‫وكتب أخرى‬ ‫كتب للقراءة وتخص الرتاث اليهودي وفيها آراء أصحابها ٌ‬ ‫املقدسة وال صلة لها بتات ًا بناموس موىس فهي فقط ٌ‬ ‫قصصا خيالي ًة يستمتع بها املجتمع اليهودي وتروى من جيلٍ آلخر كرت ٍ‬ ‫فلكلوري‪ ،‬ومن بني‬ ‫حضاري ثقا ٍيف‬ ‫اث‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ُدونت وتحيك ً‬ ‫تلك الكتب نجد التلمود الذي ميثل تفس ًريا للهلخاه‪ .‬وعندما يكون موضوع التفسري قانونًا يسمى ِم ْدراش هلخاه ִמ ְד ָרׁש‪‎‬‬ ‫(הגָ ָדה)‪ ،‎‬فهي إما تجدها تفرس معتق ًدا يهوديًا‬ ‫ֲהלָ כָ ה‪ ،‎‬أما عندما يكون قص ًة فهو يسمى أَ َج َداه (أو َه َج َداه) ַאגָ ָדה ַ‬ ‫قصصا من رضب الخيال واإلبداع‪ ،‬وإذا سألتني ملا نتحدث عن هذه الكتب الهامشية والتي ال صلة لها‬ ‫سائ ًدا أو تروي ً‬ ‫كل ما ذُكر يف هذه الكتب الفنية واألسطورية كلها متواج ٌد يف‬ ‫بالعقيدة اليهودية؟ فهنا لب املوضوع وبيت القصيد‪ ،‬فإن ّ‬ ‫القرآن الكريم كالم الله املن ّزل واملن ّزه عن كل قو ٍل‪.‬‬ ‫‪18‬‬


‫ح ّراس اإلميان جـ ‪3‬‬ ‫نهاية الخرافة املح ّمدية‬ ‫بنور نبيل‬

‫محفل كب ٌري لخرافات اليهود ابتدا ًء من قصة إبراهيم‬ ‫ٌ‬ ‫نعم سيدي القرآن‬ ‫ورصاعه مع أبيه وكرسه للتامثيل التي كان يعبدها أبوه وقومه‪ ،‬وهذه‬ ‫كلها خزعبالتٌ من الرتاث اليهودي الذي ال ميت بأي صل ٍة إىل أسفاره‬ ‫القانونية‪ ،‬بالعكس أمتنى قراءة التوراة وستجد فيها القصة كامل ًة عن‬ ‫(وغي القرآن اسمه إىل آزر)‪ ،‬ناهيك عن قصص‬ ‫تارح ֶת ַרח‪ ‎‬أيب إبراهيم ّ‬ ‫وخرافات سليامن التي تجدها بحذافريها يف كتاب املدراش وأبو كريفة‪،‬‬ ‫وكانت تلك القصص املنسوجة للملك سليامن ‪-‬وقد أصبح نب ًيا عند‬ ‫املسلمني وهذا أم ٌر عجيب‪ ،‬نظ ًرا للعرص الذهبي الذي شهده اليهود يف عرصه‪ ،‬فقد كان هو وأبوه داوود امللك بطلني‬ ‫يتغنى ويفتخر بهام املجتمع اليهودي ملا عاشوه من رخا ٍء وطيب ٍ‬ ‫عيش يف زمانهام‪ ،‬فتجده يكلّم الهدهد من جه ٍة ويكلم‬ ‫النمل ويتحكم يف الجن تار ًة ويطري ببساط الريح(‪ )2‬ويغزو ماملك العامل وميلك العامل بني يديه الرشيفتني‪.‬‬ ‫ثم نتساءل ملاذا اليهود ال يدخلون يف دين الله أفوا ًجا؟ بالتأكيد ال يعلمون أن قرآنك ميل ٌء بخرافاتهم فكيف يكون ذلك؟‬ ‫وهم أدرى بدينهم وأيضا دينك‪ ،‬ألنهم هم من نسجوا خرافات القرآن وأظن هذا ما دفع بنبي الله ذي الرحمة الواسعة‬ ‫إىل تقتيلهم جمي ًعا من يهود بني النضري وبني قريظة وغريهم خوفًا من كشف كل هذه القصص الخرافية البائسة‪ ،‬ومل‬ ‫ِ‬ ‫كتب أخرى وجمع من كل ديان ٍة قص ًة‬ ‫يكتف نبي اإلسالم برسقة هذه النصوص وتحميلها وجه القداسة‪ ،‬بل أخذ من ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫متحيص أو ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ضالالت‪.‬‬ ‫وجمع‬ ‫ورواي ًة وعمد إىل وضعها يف كتابه‪ ،‬القرآن‪ ،‬دون‬ ‫فحص ملا يرويه‪ ،‬فقد كان كحاطب ليلٍ ّ‬ ‫ٍ‬ ‫بديانات أخرى مثل الزرادشتية والهرطقات املسيحية وتأثر باألبيونية والغنوصية وسنعود‬ ‫ويا ليته توقف هنا ال بل أُعجِب‬ ‫إليها الحقًا‪ ،‬فهل يُعقل أن يتأثر اليهود بحضارة بابل ويجمع الدين اليهودي أساطريه من حضارة‬ ‫علم بأن إبراهيم من أبناء كلدان البابليني وتُرسم هذه يف التناخ اليهودي وت ُقدس‬ ‫بالد الرافدين ً‬ ‫إىل هذه الدرجة؟ وهل يُعقل أن يأخذ محم ٌد ترشيعه من خرافات اليهود وبعض أساطري سومر‬ ‫وتصبح ترشي ًعا ربان ًيا يُقتدى به؟ ولو أعدتم طرح هده األسئلة مئات املرات وقلّبتموها ذات‬ ‫اليمني وذات الشامل فلن تجدوا سوى رسابًا ملعرفة ما يجب معرفته عن األديان اإلبراهيمية‪-‬‬ ‫وهذا أم ٌر البد منه – فيجب دراسة األسفار القانونية من التوراة واإلنجيل وفك رموزه التاريخية‬ ‫ومتابعة األحداث التي مر بها ومعرفة الطوائف واملعتقدات التي أسفر عنها هذا الذين اليهودي‬ ‫ومختلف التيارات العقائدية التي سادت املنطقة أو األرض املقدسة بالتعبري اليهودي‪.‬‬ ‫لنسافر م ًعا أعزايئ القراء عرب الزمن وإىل نهاية القرن الخامس وبداية القرن السادس امليالدي حيث بدأت اللخبطات‬ ‫الدينية وانتشار الطوائف واملذاهب العقائدية‪.‬‬ ‫ً َ‬

‫َ‬

‫َ‬

‫َ‬

‫َْ‬

‫َّ‬

‫ْ‬

‫ُ‬

‫ّ َ‬

‫ُ‬ ‫َّ‬ ‫شء َعٰلِم َ‬ ‫يح َعصِ َفة تْرى بأ ْمره ِۦٓ إل ٱل ْر ِض ٱلت َب ٰ َرك َنا ف َ‬ ‫ٱلر َ‬ ‫َ ُ َْ َ ّ‬ ‫ني} (األنبياء‪:‬‬ ‫ِيها ۚ َوكنا بِك ِل ْ ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫‪ -2‬البساط املقصود هو ما فهمه مفرسون من أمثال ابن كثري والبغوي آلية {ول ِسليمٰن ِ‬ ‫‪[ .)81‬تحرير املجلة]‪.‬‬

‫‪19‬‬


‫ح ّراس اإلميان جـ ‪3‬‬ ‫نهاية الخرافة املح ّمدية‬ ‫بنور نبيل‬

‫غُلبت الروم‬

‫مبني عىل املصادر‬ ‫نقدي‬ ‫تركيب‬ ‫يذكر كتاب «اإلسالم املبكر‪ :‬إعادة‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫املعارصة ‪Early Islam: A Critical Reconstructed Based on‬‬ ‫‪ Contemporary Sources‬وهو من تحرير كارل هاينتز أوهليج‬ ‫‪ ،Karl-Heinz Ohlig‬والذي أعتربه من بني الكتب الرائعة التي تروي أهم األحداث‬ ‫يف القرن السادس امليالدي وخاص ًة عن املعارك التي نشبت بني الفرس والبيزنطيني‬ ‫من سنة ‪602‬م إىل ‪628‬م ومحاولة استجالب كرسى الثاين إىل العمل كعميلٍ لدى‬ ‫السلطات البيزنطية بعد ما أُقيل من حكم الفرس من طرف زعامء املجوس‪ ،‬وظ ًنا‬ ‫من اإلمرباطور البيزنطي ماوريكيوس ‪( Mauricius‬موريس) أن أتباع كرسى من‬ ‫أهل فارس سيتبعونه ويتم متكينه بعد ذلك من االستيطان عىل البالد الفارسية‪ ،‬إال‬ ‫أن األمور مل تج ِر حسب ما يشتهي نظ ًرا ألن البالط املليك الروماين مل يستعطف‬ ‫خطط موريس مام جعلهم ينقلبون عليه‪ ،‬فبانتامئهم املسيحي األصويل كانت رغبتهم هي القضاء نهائيًا عىل الفرس ال‬ ‫أي منهم وبالخصوص كرسى الذي يعتربه املسيحيون من أهل الكفر بل وقالو أنه هو عدو املسيح (املسيح‬ ‫بالتواطؤ مع ٍ‬ ‫الدجال) بأم عينه – وحصل متر ٌد أطاح مبوريس واغتيل عام ‪602‬م‪ ،‬وهنا استغل كرسى ضعف القيادة الفارسية وعاد‬ ‫إىل السياسة وثأر لنفسه ثم هاجم بيزنطة بذريعة ثأره ملوريس واحتل جز ًءا كب ًريا من األرايض البيزنطية‪ .‬كان فوقاس‬ ‫‪ Phocas‬قد قاد التمرد عىل موريس فاستوىل عىل حكم بيزنطة‪.‬‬ ‫والقصة مل تنت ِه عند هذا األمر‪ ،‬وهنا نربط األحداث‪ ،‬وإليكم أعزايئ ما وقع وستفهمون ما أريد اإلشارة له‪ ،‬فلم تدم فرحة‬ ‫طويل ألن الحاكم الجديد لبيزنطة بعد فوقاس كان مسيح ًيا متطرفًا غليظًا وكان يعترب الفرس أعداء املسيح ويجب‬ ‫الفرس ً‬ ‫إزالتهم من عىل وجه األرض (هكذا يصنع الدين التطرف عندما تقوى شوكته)‪ .‬كان ذلك الحاكم هو هرقل ‪Heraclius‬‬ ‫أيضا لق ًبا ملك ًيا يونان ًيا‬ ‫الذي سمى نفسه «شاهنشاه» بعد النرص عىل الفرس‪ ،‬وهو لقب فاريس يعني ملك امللوك‪ ،‬واتخذ ً‬ ‫هو «بسيليوس» ‪ .Basileus‬كان هذا الحاكم الجديد لبيزنطة شديد النباهة وعمد إىل توحيد الفرقتني املسيحيتني‬ ‫(‪)3‬‬ ‫املتمثلتني بالفرقة الخلقدونية‬ ‫األرثوذكسية الرشقية من‬ ‫جهة‪ ،‬وفرقة املونوفيزية غري‬ ‫الخلقدونية القائلة بواحدية‬ ‫طبيعة اإلله‪ .‬وقد كان السرتجاعه‬ ‫للصليب األصيل من الفرس أث ٌر‬ ‫كب ٌري عىل املسيحيني‪.‬‬ ‫‪ -3‬املسيحية التي تؤمن بالقانون الذي تم إقراره يف املجمع املسكوين الرابع يف خلقدون عام ‪451‬م والقائل بألوهية وإنسانية يسوع الكاملة‪[ .‬تحرير املجلة]‬

‫‪20‬‬


‫ح ّراس اإلميان جـ ‪3‬‬ ‫نهاية الخرافة املح ّمدية‬ ‫بنور نبيل‬

‫لكن اليشء العجيب يف األمر أنه قبل انتصار البيزنطيني عىل الفرس نقل مؤر ٌخ ومساع ٌد لهرقل اسمه ثيوفيالكتوس‬ ‫منجم مجهو ٍل جاء فيها أن «قبيلة بابل ستحكم‬ ‫سيموكاتيس ‪ Theophylaktos Simokates‬أن كرسى نقل نبوء ًة عن ٍ‬ ‫الفرس ويخضعونهم» من الواضح أن‬ ‫بيزنطة عىل مدى ثالثة أحوا ٍل أو ثالث أحوال‪ .‬ويف الحول الخامس سيهزم الروما ُن َ‬ ‫مؤلف النبوءة كان متأث ًرا ج ًدا بالقصص التوراتية خاص ًة منها قصة يوسف والبقرات السبع السامن العجاف وما جرى‬ ‫يف السبي األول من العهد اليهودي – وأنه تنبأ بانتصار الروم عىل الفرس يف غضون أحوا ٍل خمس ٍة أو خمس فرتات‬ ‫‪ ،hebdomads‬وال ندري ما األحوال أو الفرتات التي كان يقصد بها‪ ،‬لكن أظنه كان أول من تنبأ بغلب الروم يف أدىن‬ ‫األرض‪ ،‬ويبدو أن أصداء هذه النبوءة وجدت طريقها إىل القرآن‪.‬‬ ‫حرب مستمر ٍة‪ ،‬باألخص‬ ‫ويف عهد هرمز الرابع ملك الفرس (‪590-579‬م) كانت اإلمرباطورية الفارسية (الساسانية) يف حالة ٍ‬ ‫مع اإلمرباطورية البيزنطية‪ .‬وكان الفرس يف مأزق‪ ،‬فالرتك والعرب والخزر قد غزوا اإلمرباطورية واستولوا عىل أجزاء‬ ‫منها‪ ،‬فاختار هرمز قائ ًدا اسمه بهرام چوبني ليقود الحرب ضد‬ ‫الرتك‪ .‬ومتكن هذا األخري بالفعل من هزميتهم ونهب مملكتهم‪،‬‬ ‫لكنه احتفظ مبعظم الغنيمة له ولجنوده‪ ،‬مام أغضب هرمز‬ ‫فأرسل برسو ٍل يحمل رسال ًة غاضب ًة إىل بهرام‪ .‬فقتل جنو ُد بهرام‬ ‫الرسول وأقسموا بالوالء لبهرام وقرروا قتل هرمز وتنصيب‬ ‫بهرام ملكًا مكانه‪ .‬وبدل أن يحصل هرمز عىل دعم جنوده‬ ‫نصبوا ابنه كرسى ملكًا‪.‬‬ ‫وحاشيته‪ ،‬انقلبوا ضده وقتلوه ثم ّ‬ ‫ويف األثناء زحف بهرام نحو العاصمة واستنجد كرسى مبوريس‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫تنازالت مستقبلي ٍة‪ ،‬وق ّدم‬ ‫فوافق موريس عىل مساعدته لقاء‬ ‫جيش أرمني بقيادة موشيغ ماميكونيان‬ ‫له جيشً ا انضم له ٌ‬ ‫الثاين‪ .‬عندها بعث بهرام برسالتني إىل موشيغ مذك ًرا إياه‬ ‫بالظلم الذي أوقعته الساللة الساسانية عىل أرمينيا وأن الفرس‬ ‫والرومان سيتعاونون للقضاء عليه‪ .‬ولكن موشيغ مل يستجب‬ ‫لبهرام فأتبع بهرام برسال ٍة ثاني ٍة معز َز ًة لألوىل لكنها احتوت‬ ‫تهدي ًدا‪:‬‬ ‫أشعر باألسف ألجلك ألنني غ ًدا صبا ًحا سأريك فيل ًة مصفّح ًة‬ ‫تحمل جيشً ا من املحاربني الذي سيمطرون عليك أسهم ٍ‬ ‫حديد‬ ‫ٍ‬ ‫حديد مقوى‪ ...‬إلخ‬ ‫ترميها أيديهم‪ ،‬ورماح‬ ‫‪21‬‬

‫معركة بني كرسى وبهرام چوبني بحسب الشاهنامه‬


‫ح ّراس اإلميان جـ ‪3‬‬ ‫نهاية الخرافة املح ّمدية‬ ‫بنور نبيل‬

‫مل يسكت موشيغ فرد برسالة‪ ،‬جاء فيها‪:‬‬ ‫ٌ‬ ‫مختال‪ ،‬ال متلك‬ ‫شخص‬ ‫إن امللك لله‪ ،‬يعطيه ملن يشاء‪ .‬ولكن عليك أن تشعر باألسف عىل نفسك‪ ،‬ال علينا‪ .‬أنا أعرف أنك ٌ‬ ‫ثق ًة بالله وإمنا بالشجاعة وبقوة فيلتك العديدة‪ .‬لكنني أخربك‪ ،‬وبإذن الله أن مالئك ًة حارس ًة ستأيت صباح الغد لتقاتلك‬ ‫غيوم من السامء‪ .‬ستأيت من األعايل تقصف وتربق مبحاربني سامويني عىل أحصن ٍة‬ ‫وستنهال عليك وعىل فيلتك كأعنف ٍ‬ ‫بيضاء برما ٍح ثقيلة‪ ..‬إلخ‬ ‫منيز يف هذا الكالم ما يشابه محتوى سورة الفيل يف القرآن‪،‬‬ ‫ومل تكن هذه القصة من الحقيقة يف يش ٍء بل هي رسال ٌة‬ ‫مسيحي إىل ٍ‬ ‫فاريس ال أكرث وال أقل من ذلك‪ ،‬وكان‬ ‫من‬ ‫ٍ‬ ‫قائد ٍ‬ ‫النرص حليف موشيغ املسيحي‪ ،‬وتم قتل الكثري من الفيلة‬ ‫(‪)4‬‬ ‫مبا حملوا‪ ،‬وفر جيش بهرام‪.‬‬ ‫ذكرنا أن هرقل أعاد الصليب الذي يفرتض أن املسيح‬ ‫ُصلب عليه‪ ،‬والذي ُسق منهم فأعيد إىل الكنيسة الرشقية‬ ‫يف قسطنطينية باعتباره أيقون ًة مسيحي ًة مقدس ًة‪ .‬العجيب‬ ‫يف األمر أن كل املقدسات يف الديانات اإلبراهيمية مل تسلم‬ ‫من الرسقة‪ ،‬صليب املسيح والهيكل املدمر وتابوت العهد‬ ‫اليهودي والحجر األسود الذي رسقه القرامطة بعد هدمهم‬ ‫للكعبة‪ ،‬وال أدري ملا الله األعظم مل يتدخل يف كل تلك األزمنة‪ ،‬رمبا كان يو ّجه منظاره الساموي إىل مجر ٍة أخرى‪ .‬يحرضين‬ ‫غضب اليهود يف الحرب العاملية الثانية ملّا خاب ظنهم بربهم يف حادثة الهولوكست‪ ،‬فقد كانوا ينتظرون ثأر الله لهم بعد‬ ‫ما فعل بهم زعيم النازية أدولف هتلر السفاح ما فعل ولكن يهوه مل يتحرك إلنقاذهم كام تحرك يف زمن موىس وفلق‬ ‫فربا كالعادة لحكم ٍة ال يعلمها إال الله!‬ ‫ألجلهم البحر‪ ،‬وال ندري ّ‬ ‫وهنا ندرك أن محاولة دراسة التاريخ من خالل الكتب الساموية ما هي إال سذاج ٌة فكري ٌة ال ترقى إىل املنهج العلمي‬ ‫ٍ‬ ‫تحريات دقيق ًة وربطًا لألحداث ودراس ًة معمق ًة لأليديولوجيات والقوى الفعالة آنذاك من طوائف‬ ‫الذي يتطلب‬ ‫ٍ‬ ‫وأسباب اجتامعي ٍة وسياسي ٍة من جه ٍة أخرى خاص ًة وأن علم التاريخ اآلن مل يعد يعتمد عىل املنقول‬ ‫ومعتقدات من جه ٍة‬ ‫ٍ‬ ‫من الشعوب املنترصة كام جرت العادة‪ ،‬ألن التاريخ دامئًا يكتبه املنترصون دون اإلصغاء إىل الشعوب املنهزمة‪ ،‬وهذا ما‬ ‫يحاول تصحيحه املؤرخون املعارصون وبالتقيد إىل الصحائف القدمية وعلم اآلثار واملخلفات التاريخية – ولإلشارة أنه تم‬ ‫عاملي لعلم الديانات وهو مرج ٌع جد ٍ‬ ‫يف العقد األخري من هذا القرن إنشاء ٍ‬ ‫جيد ملن أراد أن يبحث ويكتشف أصل‬ ‫معهد ٍّ‬ ‫‪ -4‬سيبيوس‪ ،‬التاريخ األرمني‪ ،‬الجزء األول ‪ .3‬وسيبيوس‪ ،‬تاريخ هرقل‪[ .22-21 :‬تحرير املجلة]‬

‫‪22‬‬


‫ح ّراس اإلميان جـ ‪3‬‬ ‫نهاية الخرافة املح ّمدية‬ ‫بنور نبيل‬

‫ٍ‬ ‫لخبطات وعشوائي ٍة ال حد لها من التناقضات‬ ‫الديانات ونشأتها‪ ،‬فدراسة التاريخ من خالل الكتب املقدسة يوقعك يف‬ ‫وعدم الرتتيب والتسلسل التاريخي خاص ًة وأن كل دينٍ يحتكر الله وينسبه لهويته حتى أصبح عند املسلمني أن الله‬ ‫وكل يعظّم دينه‪ .‬سنحاول أن نتكلم عن الغنوصية وكيف‬ ‫عر ٌّيب وآدم تكلم بالعربية يف الجنة – كام قال أبو العالء املعري‪ٌ -‬‬ ‫أبواب عىل معنى التوحيد والوجدان الباطني وماهي الحلقة املفقودة بني‬ ‫ساهمت هذه األيدولوجية الدينية يف فتح ٍ‬ ‫الديانات السابقة املتعددة اآللهة وتح ّولها إىل ال ٍه واحد‪.‬‬

‫الغنوصية والتوحيد‬

‫أول ما يجب اإلشارة إليه هو تعريف الغنوصية أو‬ ‫كامل ومحد ًدا‬ ‫املذهب الغنويص ولو أنه ال يوجد تعريفًا ً‬ ‫إال أننا سنحاول إعطاء امليزة املجملة عن هذا املذهب‬ ‫اإلمياين – هو يُعرف باإلميان الباطني‪ ،‬أي أن الله يتجىل‬ ‫إحساس‬ ‫داخل جسم اإلنسان يف كيانه منذ والدته‪ .‬هو‬ ‫ٌ‬ ‫روحي ٍ‬ ‫بالوجودية بشكلٍ‬ ‫محض‪ .‬التوجه الغنويص هو‬ ‫ٍ‬ ‫من أقوى معامل اإلميانيات املتواجدة منذ عبادة اآللهة‬ ‫املتعددة ولعل البعض يجعلها متوافق ًة مع ظهور‬ ‫الوحدانية وهو خطأٌ شائ ٌع‪ ،‬بل هي أقدم بكثري‪ ،‬ومع‬ ‫مرور الزمن أصبح اإلله املتمثل يف الحجر والظواهر‬ ‫الطبيعية من عبادة القمر والشمس وغريها‪ ،‬وال ميكن‬ ‫التقرب إليه إال إذا كان الفرد مبواجهة هذا اإلله مع‬ ‫ٍ‬ ‫طقوس وقرابني لرتىض عليه اآللهة وتُحقق له‬ ‫وآداب معين ٍة من الواجب احرتامها وتتبّع أدىن ما فيها من‬ ‫مراسيم خاص ٍة‬ ‫ٍ‬ ‫األمن واألمان والعيش الرغيد‪ ،‬إىل أن جاء الفكر الغنويص الذي ذهب أبعد من ذلك وحرر طريقة العبادة وأصبحت‬ ‫باطني ًة ترافقها أحاسيس الخشوع والدعوات الرسية أو مبا يعرف بالصالة‪ ،‬فهذه تعني الصلة بني العبد وربه يف ج ٍّو‬ ‫وكل ي ّدعي أن إلهه هو الحق‪ ،‬فاختلفت املجتمعات‬ ‫كل يعبد إلهه يف باطنه ويدعوه تحت أسام ٍء مختلف ٍة‪ٌ ،‬‬ ‫فردي‪ٌ ،‬‬ ‫تعبدي ٍّ‬ ‫ٍّ‬ ‫عىل تسمية هذه القوة الجبارة الخالقة املتواجدة يف ذواتنا الباطنية والتي تجهش بها عواطفنا الغريزية‪.‬‬ ‫شيئًا فشئ ًيا أصبح مفهوم اإلله يتوافق مع غريزة اإلنسان وسلوكه االجتامعي أو مبع ًنى أوضح أراد املؤمن أن يطابق‬ ‫صفات الله مع إنسانيته ف ُج ّل العامل حتى اآلن يسري حسب ما متليه عليه أخالقه اإلنسانية وبدون دراس ٍة لدينه يعترب أن‬ ‫األمر الحسن هو موجو ٌد يف كتابه الساموي ال محال وهذا بصف ٍة تلقائي ٍة ال شعوري ٍة‪ ،‬بينام جميع الكتب الساموية تنص‬ ‫يف الغالب عىل عكس ذلك وعىل رأسها كتب اإلسالم مبا فيها من تعاليم يهودي ٍة وحدو ٍد ال إنساني ٍة مثل الرجم وقطع‬ ‫ٍ‬ ‫إبداعات إسالمي ٍة تسودها الرحمة والشفقة عىل من ب ّدل دينه‪ ،‬أو بيع العباد يف أسواق النخاسة‬ ‫اليد والجلد والقتل إىل‬ ‫وغريها من الرشائع املحمدية الحميدة‪ .‬أصبحت الغنوصية قط ًبا دين ًيا وأصبح الرب املعبود يف متناول كل إنسانٍ ‪ ،‬يدعوه‬ ‫‪23‬‬


‫ح ّراس اإلميان جـ ‪3‬‬ ‫نهاية الخرافة املح ّمدية‬ ‫بنور نبيل‬

‫متى شاء ومتى كانت الحاجة إليه‪ ،‬ومن الواجب طب ًعا وجود‬ ‫ٍ‬ ‫أناس لهم معرفة بالسامء للتوجه إليها ومشاورتها فيام يجب‬ ‫عليهم فعله من كذا أو كذا‪ ،‬هؤالء هم الحراس األوائل أو ما‬ ‫يُسمون بـ«بأويل العلم»‪ ،‬وهذا هو مبدأ الغنوصية القصوى‪،‬‬ ‫فالغنوصيون لهم املعرفة الكلية مباهية الله وبلغوا سقف‬ ‫املعرفة‪ ،‬فال يجوز القيام بأي يش ٍء يخالف رأيهم ويُغضب الله‬ ‫حتى ال تتبوأ مقعدك من النار‪ ،‬ثم بتطور السنني أصبح هذا‬ ‫شكل معي ًنا وفقًا ملا يراه العابد إنسان ًيا ومتامش ًيا‬ ‫املعبود يتخذ ً‬ ‫مع أمانيه وتطلعاته‪ ،‬فإنه يريد إل ًها يحميه ويقف بجانبه‬ ‫ويعينه عىل مصاعب الدنيا وأهوال الطبيعة‪ ،‬يريد ربًّا يستشريه‬ ‫ويقيض أموره الدنيوية‪ ،‬ويف املقابل فإن اإلنسان بغريزته يريد‬ ‫مرعوب من املوت والفناء‪ -‬ومن‬ ‫البقاء والدميومة واألزلية‪ ،‬فهو‬ ‫ٌ‬ ‫ذا الذي يستطيع قهر املوت وإعطاء حيا ٍة أخرى بعد املنية‬ ‫سوى هذا الكائن الجبار ذي القوة املتني‪ -‬نعم يريد حيا ًة يرتاح‬ ‫فيها من هموم الدنيا وكربها ويحيا بحيا ٍة أزلي ٍة بالقرب من هذا‬ ‫وصل ألجله وأشعل النار‬ ‫الرب الذي طاملا ق ّدم بني يديه قرابني ّ‬ ‫املقدسة وألقى فيها البخور ليشم الرب الرائحة الطيبة‪.‬‬ ‫وإذا تقيدنا بالكتب الساموية نجد أن أول من دعى بالوحدانية هو إبراهيم‬ ‫– لكن ماذا نقول عن أهايل املرشق األقىص من الهند والصني واليابان الدين‬ ‫كانوا يعبدون إل ًها واح ًدا من قبل إبراهيم؟ فقد كان سكان الرشق األقىص‬ ‫يؤمنون مبا يُعرف بوحدة الوجود‪ ،‬أي أن كل هذا الكون له مصد ٌر واح ٌد وقو ٌة‬ ‫خالق ٌة واحد ٌة فكيف يكون التوحيد بدون هذا الفكر الغنويص القديم؟‬ ‫يقول الدكتور خزعل املاجدي وهو من املؤرخني املعارصين ومن األقليات‬ ‫الذين يبحثون يف علم األديان من أمثال الدكتور فراس السواح الذي أغنى‬ ‫مكتبتنا بالكثري من الكتب الق ّيمة – يقول الدكتور وباحث اآلثار خزعل‬ ‫شخص‬ ‫املاجدي أن أسفار التوراة مل ت ُكتب من طرف موىس النبي‪ ،‬بل كتبها ٌ‬ ‫آخر‪ ،‬وسنعود للحديث عن كل هذا يف املوضوع املقبل‪.‬‬ ‫خزعل املاجدي‬

‫‪24‬‬


‫ح ّراس اإلميان جـ ‪3‬‬ ‫نهاية الخرافة املح ّمدية‬ ‫بنور نبيل‬

‫وقالت اليهود عزير ابن الله‬

‫ولو أن هذا االسم الذي أطلقه القرآن عىل ُعزير غري صحي ٍح نو ًعا ما إال أن اسمه الحقيقي حسب التناخ هو ِع ْزرا‬ ‫ֶעזְ ָרא‪ ،‎‬أقول هذا مبا أن القرآن نسبه إىل اليهود ولحد الساعة مل أجد أي طائف ٍة من اليهود ادعت أنه ابن الله ويقال أنهم‬ ‫اليهود الذين ُمسخوا إىل قرد ٍة وخنازير‪ ،‬وهذا أم ٌر مل يُذكر حتى يف خرافاتهم وال يف اإلرسائيليات وال وجود لهذه القصة‬ ‫حتى يف أساطري السومريني‪ .‬هنا نطرح السؤال‪ :‬ملاذا تف ّرد القرآن لوحده بذكرها؟ رمبا لحقده عىل اليهود وكرهه لهم أو‬ ‫مبا أن املسيحيني نسبوا لعيىس البنوة لله كذلك فعل اليهود بحسب التعبري القرآين أو بكل بساط ٍة لحكم ٍة ال يعلمها إال‬ ‫وأيضا ما سبقوه من الباحثني‬ ‫قلم ت ُفك كل املسائل‪ ،‬لكن حسب املؤرخ العراقي خزعل املاجدي ً‬ ‫الله‪ ،‬وهكذا دامئًا بجرة ٍ‬ ‫يرجع تاريخ ذكر عزرا إىل ما قبل موىس عىل أساس أنه هو من كتب أسفار التوراة وليس موىس وقصة األلواح – وكان‬ ‫أيضا عند الكلدان العراقيني قام امللك كورش بوضعه قائ ًدا لليهود العائدين من السبي‪ ،‬وكانت‬ ‫عزرا هذا كات ًبا ومن ّج ًم ً‬ ‫أيضا تعجبت منه‬ ‫أول األسفار التي كتبها هي سفر االشرتاع (التثنية) يف كتبه وليس سفر التكوين – نعم هذا االكتشاف ً‬ ‫(‪)6‬‬ ‫أيضا ومل يكن الدكتور املاجدي أول من أقر به‪ ،‬إذ يوجد مؤرخون عديدون نسبوا لعزرا كتابة التوراة‪.‬‬ ‫أنا ً‬

‫(‪)5‬‬

‫وتاريخ التوراة ال يزال إىل يومنا هذا محل البحث عند كافة علامء اآلثار واملؤرخني عكس القرآن فإن الجهلة عوض ما‬ ‫َّ َ ْ َ ْ ّ ْ‬ ‫َّ َ‬ ‫يحاولون دراسته دراس ًة معمق ًة ونقدي ًة وتاريخي ًة بالوسائل العلمية فهم يكتفون فقط بـ ﴿إِنا ن ُن ن َّزلَا اذلِك َر ِإَونا ُل‬ ‫َ​َ ُ َ‬ ‫لاف ِظ‬ ‫ون﴾ (الحجر‪ ،)9 :‬لهذا فإن الخوض يف مجرد الكالم عن الدين اإلسالمي أو القرآن هو كف ٌر‬ ‫وتجديف وال‬ ‫وجهل‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫أُنكر أنني شخص ًيا كنت من هؤالء الهبل الذين ال يحرتمون مثل هذه النقاشات وأعتربها نو ًعا من الخروج عن الطريق‬ ‫السوي‪ ،‬رغم ذلك فإن العقل يشكك يف كل األمور ويصل بك للعيش يف وسط هؤالء األوباش وتكتُم كل رغب ٍة يف الحديث‬ ‫عم بداخلك مثيل وتع ّظ عىل لسانك وتكبت أفكارك بداخلك‪ .‬أسئل ٌة عديد ٌة تُطرح عن أصل التناخ واملختصني يف ميدان‬ ‫ّ‬ ‫رسا خوفًا من زوال‬ ‫الفيلولوجيا ومل يتوصلوا إىل الدليل القاطع يف شأن التوراة وإن وصلوا سوف يبقى ما توصلوا إليه ً‬ ‫كل الديانات برمتها وهذا أكي ٌد‪ ،‬وإذا سقطت أوىل الديانات اإلبراهيمية فستتبعها األخريات مثل قرص الورق‪ ،‬وال أظن‬ ‫ويسجن أصحاب الفكر الحر ويُضطهد‬ ‫أن اإلميان بالخرافة سيدوم ً‬ ‫طويل‪ ،‬لكن الطريق ال زال شاقًا وستُزهق األرواح ُ‬ ‫املفكرين والعلامء مادام الدين معششً ا يف عقول الناس وحراس صخرة الدين ال يزالون يقتنصون أدىن خطأٍ أو ٍ‬ ‫حرف‬ ‫لرب ما‬ ‫أصل ً‬ ‫تتفوه به عن الدين أو حتى مجرد التفكري بذلك‪ .‬هل للدين ٌ‬ ‫فعل؟ هل إنسان ما قبل التاريخ كان يتوسل ٍ‬ ‫لينقذه من محنته ومن أخطار الطبيعة القاسية؟ ومتى شعر اإلنسان بحاجته للدين؟‬ ‫تأويالتٌ عديد ٌة يف املوضوع لكننا سنحاول تقريب الصورة وتبسيط األمور واملفاهيم‪.‬‬ ‫‪ -5‬عزرا هو كاتب وكاهن ت ُنسب إليه أسفار مثل سفر عزرا ونحميا يف التناخ إضافة إىل أسفار أپوكريفية‪ ،‬عالوة عىل دوره يف صياغة عد ٍد من املؤسسات اليهودية كمجمع‬ ‫ٍ‬ ‫شخصيات مختلف ٍة باسمٍ مشابه هو إِلِ َعازار ֶאלְ ָעזָ ר‪ ،‬أشهرها‬ ‫السنهدرين‪ ،‬ولعل اسمه كان اختصا ًرا السم عزرياهو עזריהו‪ ،‎‬والذي يعني «عون يهوه»‪ .‬توجد يف الكتاب املقدس ‪9‬‬ ‫ابن هارون‪ ،‬لذا فاالسم بصوره املختلفة شائ ٌع جدًا يف الرتاث اليهودي‪ .‬إحدى الشخصيات التي لرمبا تكون قد أدت بكاتب القرآن إىل توهم تأليه ٍ‬ ‫شخص بهذا االسم هي شخصية‬ ‫إلعازار الذي أحياه يسوع من املوت‪ .‬فهذه الشخصية هي ليهودي يرتبط بأسطورة يسوع الذي هو نفسه قام من املوت بحسب املسيحية الحقًا والذي يرى فيه املسيحيون ابن‬ ‫الله‪[ .‬تحرير املجلة]‪.‬‬ ‫‪6- Fried, Lisbeth S., Ezra and the Law in History and Tradition, The University of South Carolina Press, 2014.‬‬

‫‪25‬‬


26


‫نبي املح ّبة والفن‪:‬‬ ‫ماين وديانته املانوية‬ ‫الجزء األول‬

‫هي محاول ٌة متواضع ٌة مني للتعريف برسول املح ّبة «ماين» وديانته (املانوية)‬ ‫‪ Manichaeism‬التوفيقية‪ ،‬تلك الديانة التي وصلت أصقاع العامل الرشقي‬ ‫والغريب ونافست املسيحية واإلسالم‪ ،‬وإذا ما قورنت بهاتني الديانتني سنجدها‬ ‫املتف ّردة يف عدم استخدامها السيف أو اإلكراه‪ ،‬ال يف الدفاع عن نفسها وال‬ ‫يف التبشري كام فعلت الديانتان األخريان‪ ،‬فبالسيف فرضت الدولة الرومانية‬ ‫املسيحية عىل كامل اإلمرباطورية‪ ،‬أما الغزوات والفتوحات اإلسالمية فغن ّي ٌة عن‬ ‫التعريف‪.‬‬ ‫‪27‬‬

‫سامل الدليمي‬


‫نبي املح ّبة والفن‪:‬‬ ‫ماين وديانته املانوية جـ‪1‬‬ ‫سامل الدليمي‬

‫لقد أُتلِفَت كتب وأدبيات تلك الديانة‪ ،‬و ُم ِّزقَت أجساد أتباعها بسيوف املسيحية واإلسالم وال زالت املانوية حتى عرصنا‬ ‫الحايل ت ُحا َرب من قبل ُدعاة وأتباع تلك الديانتني ُمستغلني كسل القارئ يف البحث عن الحقيقة يف جثّة القتيل كام‬ ‫تفعل التحقيقات الجنائية‪ ،‬وبالرغم من كل ذلك فإ َّن اآلثار التي ُع ِث عليها من األهمية بحيث كُ ِتبَت فيها مؤلّفاتٌ كثرية‪.‬‬ ‫عىل كل حا ٍل‪ ،‬سأخترص ما أمكنني ذلك‪..‬‬ ‫رجل مبفرده ِمن أن‬ ‫يف كل التاريخ البرشي مل يتمكن ٌ‬ ‫يُنشئ ديان ًة ويَضع أركانَها وتعاليمها ويُنظّم بنفسه‬ ‫ويوضح بالرسوم ِ‬ ‫بيد ِه سوى‬ ‫صفوف ُرهبانها ويُد ِّون‬ ‫ِّ‬ ‫النبي الذي حاول أن يحتوي كلام سبقه‬ ‫(ماين)‪ ..‬هذا ّ‬ ‫ٍ‬ ‫ديانات ويو ّحدها جمي ًعا عىل املح ّبة والسالم ونبذ‬ ‫من‬ ‫التكفري تحت عقيد ٍة توفيقي ٍة ميكن وصفها بأنها مو ِّحد ًة‬ ‫إلل ٍه ٍ‬ ‫واحد‪ ،‬لتنضوي تحت عباءة ديانته التي أتت لتُك ّمل‬ ‫رساالت السابقني (بوذا وزرادشت وموىس واملسيح)‪،‬‬ ‫فيكون هو خاتم األنبياء (أي مصادقًا عليهم) ووريثهم‬ ‫الرشعي‪.‬‬

‫إعدام ماين ‪ -‬بحسب الشاهنامه ‪ -‬القرن ‪ 14‬ميالدي‬

‫بسط ٍة خالي ٍة من الطالسم يفهمها الجميع‪ ،‬أسامه (إنجيل ماين)‪ ،‬و َع َمد إىل رسم‬ ‫د َّون ماين تعاليمه‬ ‫ٍ‬ ‫بكتاب مق َّد ٍس‪ ،‬وبلغ ٍة ُم َّ‬ ‫ُفس بعده تفس ًريا مغاي ًرا‪.‬‬ ‫اللوحات يف كتبه لتوضيح بعض املفاهيم التي قد ت ّ‬ ‫وللتع ّرف عىل هذا النبي املتف ّرد الصفات وعىل ديانته التوحيدية التوفيقية سأحاول تبويب محتوى املقال يف عدة نقاط‪:‬‬ ‫ َمن هو ماين‪ - ،‬العقيدة املانوية‪ - ،‬العبادات والصوم‪ - ،‬من أقوال ماين ‪ -‬كتب املانوية املقدسة‪ - ،‬الفن املانوي‪ - ،‬انتشار‬‫املانوية‪ - ،‬نقد املانوية للديانات وادعاؤها أنَّها املسيحية ال َحقَّة وتأثريها يف الديانات األخرى‪ - ،‬األعالم الذين اعتنقوا‬ ‫املانوية‪ - ،‬االضطهاد الذي واجهته ونهايتها‪.‬‬

‫َمن هو ماين (‪ 276–216‬م)‬

‫هو ماين ابن «فاتك» أو «پاتیگ» وأ ّمه «مريم» وترد عند بعضهم باسم «نرميان» وكانت والدته تنتمي إىل عائل ٍة پارثي ٍة‬ ‫ذات أصلٍ نبيل‪ُ .‬ولِد ماين وعاش ومات يف وادي الرافدين‪ ،‬فقد ُولِ َد يف قرية اسمها ماردينو يف شامل بابل قرب نهر كوثا‬ ‫يف ‪ 14‬نيسان عام ‪216‬م‪ ،‬وكانت عائلته تسكن يف دست ميسان (مدينة العامرة الحالية)‪.‬‬ ‫يقول ماين عن ِ‬ ‫نفسه‪:‬‬ ‫«إن ٌ‬ ‫رسول شكو ٌر بُ ِعث ُْت ِمن أرض بابل»‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫سمة بـ«الكسائية» أو الخسائیة‬ ‫وقد اختلف ال ُرواة يف ديانة والديه عىل أنها إحدى املذاهب املسيحية‪-‬اليهودية امل ُ ّ‬ ‫‪ Elcesaites‬والقريبة يف بعض طقوسها من الصابئة املندائية‪ ،‬الذي يُسميها العرب (دين امل ُ ْغتَ ِسلة) بسبب تقديسهم‬ ‫‪28‬‬


‫نبي املح ّبة والفن‪:‬‬ ‫ماين وديانته املانوية جـ‪1‬‬ ‫سامل الدليمي‬

‫زج بني روحانيات ال ِعرفانية (الغنوصية) واملسيحية الشامية مع رموز عبادة‬ ‫لعملية التط ّهر باملاء‪ .‬وهو الدين الذي َم َ‬ ‫الكواكب البابلية‪ .‬وترتبط الصابئة املندائية باسم النبي يحيى أو (يوحنا املعمدان)‪.‬‬ ‫كانت ديانات اليهودية‪ ،‬والصابئة‬ ‫املندائية‪ ،‬واملسيحية تنشط يف بابل‬ ‫باإلضافة إىل الزرادشتية‪ ،‬ديانة‬ ‫إمرباطورية بالد فارس املهيمنة آنذاك‬ ‫عىل وادي الرافدين‪ .‬نشأ ماين يف تلك‬ ‫البيئة‪ ،‬التي صاحبتها بعض الحركات‬ ‫كالغنوصية والباطنية إىل جانب املدارس‬ ‫الفكرية الفلسفية اإلغريقية‪.‬‬ ‫يتجل له ويُحادثه‪ ،‬رآه أول ما رآه (أو ظَ َّن أن ُه رآه)‪ ،‬عىل صفحة املاء‪،‬‬ ‫يحيك «ماين» أن كيانًا ما (يعتقده سامويًا) كان ّ‬ ‫فهو يُس ّميه يف كتبه «ت َوأَمي»‪ِ ،‬‬ ‫حقيقي‪ ،‬هذا الرفيق الذي سيلجأ له‬ ‫رفيق‬ ‫«صنوي»‪ ،‬ويتح ّدث عنه وكأنه يتح َّدث عن ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ُليشده طريقه دامئًا فيهتدي ب ُهداه‪.‬‬ ‫التجل‪ ،‬ففكّر أن يرسمه عىل الجدار كَوِجه اإلله «ميرثا»‬ ‫يف اللقاء األول (وكان يف الثانية عرش من العمر)‪ ،‬أفزعه ذلك ّ‬ ‫فسمع من فم «توأمه» الرد الذي كان يريده‪:‬‬ ‫«ارسم ما َحال لك يا «ماين»‪ ،‬فــ «الذي» أرسلني ال منا ِف َس له‪ ،‬وكل جامد يعكس جامله «هو»»‬ ‫ويف عامه الرابع والعرشين (أي حوايل ‪240‬م) بدأ نرش دعوته‪.‬‬

‫گندی‌شاپور‬

‫لقد عاش ماين ُمق َّربًا من البالط الفاريس يف مدينة طَ ْي َسفون‬ ‫(طاق كرسى)‪ .‬وكادت ديانته أن تكون الديانة الرئيسية‬ ‫يف زمن اإلمرباطور الساساين شاپور األول الذي فكّر أن‬ ‫يجعلها الديانة الرسمية لإلمرباطورية لوال خشيته من كُ ّهان‬ ‫الزرادشتية املجوس‪ ،‬فقد كان كيدهم ملاين قامئًا حتى متكّن‬ ‫الكاهن األعظم «كادير املجويس» من تأليب « ُهرمز األول»‬ ‫ابن وخليفة شاپور فأُعدم وهو يف الستني من عمره‪.‬‬ ‫مات ماين مصلوبًا عىل أحد أبواب مدينة بيت أَلْعابات‬ ‫«گندی‌شاپور» يف األهواز (عربستان الحالية) بأمر هذا‬ ‫اإلمرباطور الساساين‪.‬‬ ‫‪29‬‬


‫نبي املح ّبة والفن‪:‬‬ ‫ماين وديانته املانوية جـ‪1‬‬ ‫سامل الدليمي‬

‫من أقوال ماين‪:‬‬

‫*«إين أُج ِّل جميع املق َّدسات‪ ،‬وتلك هي جرميتي بالتأكيد يف عيون‬ ‫الجميع‪ ،‬فاملسيحيون ال يَسمعون ما أقول ِمن خريٍ عن النارصي‪،‬‬ ‫يل عدم الكالم بالسو ِء عن اليهود وزرادشت‪ ،...‬وال‬ ‫ويأخذون ع َّ‬ ‫يسمعني املَجوس حني أُ َم ِّجد نب َّيهم‪ ،‬ويُريدون أن يَسمعوين أَل َعن‬ ‫املسيح وبوذا؛ ذلك أنهم عندما يَجمعون القطيع فإنهم ال يجمعونه‬ ‫عىل الحب‪ ،‬بل عىل ِ‬ ‫الحقد‪ ،‬ويجدون أنفسهم ُمتضامنني فقط يف‬ ‫مواجهة اآلخرين»‪.‬‬ ‫* ُس ِئل ماين عن الوثنيني و َع َبدة الشمس فقال‪:‬‬ ‫فليست‬ ‫«أتعتقد بأن يَشعر َملِك بال َح َسد إذا أنت قَ َّبل َْت حاشية ثوبه؟ َ‬ ‫يش عىل رداء الرب ملك النور‪ ،‬بَ ْي َد أنَّه من خالل هذا‬ ‫الشمس سوى َو ٍ‬ ‫الويش املتألّق يستطيع الناس أن يتأ ّملوا نوره بشكلٍ أفضل»‪.‬‬ ‫* وعندما سئل عن الذين ال يعرتفون بأي إل ٍه قال‪:‬‬ ‫الص َور التي ت ُ َق َّدم إليه هو أقرب أحيانًا‬ ‫«إن َمن يرفض رؤية الرب يف ُ‬ ‫من غريه إىل صورة الرب الحقيقية»‪.‬‬ ‫* وحني كان ماين مربوطًا عىل صليبه حرض زراف عازف ملك امللوك‬ ‫قائل‪:‬‬ ‫شاپور – وكان من املفتونني مباين‪ -‬ليعزف له‪ ،‬فخاطبه ماين ً‬ ‫غم ِعلوي‪ ،‬وقد أنْسانا إيّاه َسديم ال َخلْق‪ ،‬غري أن‬ ‫«ا ْعلَم يا زراف أنه يف فجر ال َك ْون كانت جميع املخلوقات ت َس َبح يف نَ ٍ‬ ‫عو ًدا ُم َد ْو َزنًا مع روح الف ّنان قادر عىل بعث تلك النغامت األصيلة»‪.‬‬

‫العقيدة املانوية‪:‬‬

‫املانوية عقيدة ث َ َنوية تقول بوجود اإلله‪ ،‬قطبها األول إله النور(املتعايل) والثاين هو عامل (الظلامت)‪ ..‬هذا هو محور‬ ‫نظام ماين الديني‪ ،‬فالرب الذي يسميه ماين «العظيم األول» هو مصدر الخري املُطلَق‪ ،‬أما الرش فمصدره الظلامت‪.‬‬ ‫(كل القدرة)‪ .‬حيث ترى أن الرش (عامل الظلامت) ال‬ ‫وهي هنا خالفًا للديانات اإلبراهيمية الثالث‪ ،‬تنفي أن يكون الرب ّ ُّ‬ ‫يقل مكان ًة وأهمي ًة عن الخري (عامل النور – العظيم األول)‬ ‫فكالهام عىل درج ٍة واحد ٍة من القدرة‪ ،‬كتوأمني ُوجِدا م ًعا‬ ‫ليتصارعا إىل األبد‪ ،‬وبهذا فقد َج َّنبت املانوية نفسها املشكلة‬ ‫التي واجهت الديانات اإلبراهيمية وهي‪:‬‬ ‫كيف يكون الله خ ًريا ُمطلقًا ويصنع الرش!؟‬ ‫‪30‬‬


‫نبي املح ّبة والفن‪:‬‬ ‫ماين وديانته املانوية جـ‪1‬‬ ‫سامل الدليمي‬

‫أيضا بكتابات الغنويص اآلشوري برديسان ܒܪܕܝܨܢ‏ (‪222-154‬م) املعروف باللغة العربية باسم ابن ديسان‬ ‫تأثر ماين ً‬ ‫أيضا‪ ،‬وقدم تفس ًريا مزدو ًجا للعامل من حيث النور والظالم‪،‬‬ ‫أو ابن ديصان‪ ،‬وقد سبق والدة ماين وكتب باللغة الرسيانية ً‬ ‫جنبًا إىل جنب مع عنارص من املسيحية‪.‬‬ ‫وتنظر املانوية إىل اإلنسانية والعامل والوجود عىل أنها كلها نتيج ٌة ثانوي ٌة للمعركة بني عامل النور (العظيم األول)‪ ،‬وعامل‬ ‫حامل بداخله عنرصي (النور والظالم) م ًعا‪.‬‬ ‫الظلامت (الشيطان)‪ .‬وأ َّن اإلنسان يقع تحت تأثري هذا الرصاع ً‬ ‫كام ادعت املانوية أنها تقدم النسخة الكاملة من التعاليم التي أفسدها وأساء تفسريها األتباع السابقون آلدم‪ ،‬وزرادشت‬ ‫وبوذا ويسوع‪.‬‬ ‫وعند دراسة الرتاث املانوي نجد ُه تراث ًا بابل ًيا مخلوطًا برت ٍ‬ ‫غنويص‪ ،‬إضافة لعنارص بوذي ٍة جاءت بتأثري رحلة‬ ‫مسيحي‬ ‫اث‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ماين للهند‪.‬‬ ‫تأث َّر ماين إىل َح ٍد ما مبِرثا والديانة الزرادشتية‪ .‬وتلك‬ ‫الخلطة من املصادر املانوية تعطينا فكر ًة جيد ًة‬ ‫عن ذلك العرص املس ّمى بــ«العرص التوفيقي»‪،‬‬ ‫دأب مستم ٍر يف أهم مناطق الغنوصية‬ ‫لوجود ٍ‬ ‫(وادي الرافدين واإلسكندرية) ملحاولة التوفيق بني‬ ‫العقائد الدينية املوجودة آنذاك‪ ،‬وذلك بجمعها‬ ‫مع بعضها لتكوين عقيد ٍة جديد ٍة أكرث شمولية‪.‬‬ ‫حيث ظهر ماين ونشأ يف هذا الجو الذي يقص‬ ‫ويقطع ويركب ل ُين ِتج تو ّج ًها جدي ًدا‪ ،‬فحاول بدوره‬ ‫جمع خالصات أديان عرصه ل ُيظهِرها بشكلٍ‬ ‫توفيقي جديد فكانت املانويّة‪.‬‬ ‫ٌّ‬

‫األسطورة املانوية‪:‬‬

‫متجس ًدا‬ ‫ترشح تلك األسطورة عقيدة املثنوية القائلة بأن الوجود بدأ بأصلني (عالَ َمني) هام عامل النور أو الروح يف الشامل‬ ‫ِّ‬ ‫واملتجسد فيام‬ ‫فيام يُع َرف بــ(العظيم األول)‪ ..‬وعامل الظَالم أو املادة وهي غري مستقرة غري منتظمة واملوجود يف الجنوب‬ ‫ّ‬ ‫يُع َرف بأمري الظَالم والذي كان يحاول دو ًما اخرتاق عالَم النور فنتج ‪-‬عند تصادمهام‪ -‬الوجود والحياة‪.‬‬ ‫الش يف حياتهم‪ ،‬بينام‬ ‫وبقيت محاوالت أمري الظالم مستمر ًة لحبس املزيد من النور داخل أجساد البرش فيزداد بذلك َّ‬ ‫نرى (العظيم األول) النوراين يسعى دو ًما لتحرير النور الذي بداخل البرش‪ ،‬لذلك يرسل لهم َمن يُرشدهم من ال ُر ُسل‬ ‫‪31‬‬


‫نبي املح ّبة والفن‪:‬‬ ‫ماين وديانته املانوية جـ‪1‬‬ ‫سامل الدليمي‬

‫أرسل قبل ماين (بوذا وزرادشت وموىس واملسيح)‪ .‬ويتم تخليص البرش عن طريق مبدأ الغنوص (ال ِعرفان)‪.‬‬ ‫واألنبياء كام َ‬ ‫ثم تأيت املرحلة الثالثة وهي مرحلة الفصل بني العاملني من ٍ‬ ‫جديد‪ ،‬وبالتحديد فصل أتباع عامل النور عن أتباع عامل الظالم‪.‬‬ ‫ف َمن يتحرر من أتباع عامل النور سيلتحق إىل األبد بالعظيم األول بينام يبقى أتباع عامل الظالم يف تناسخ حياتهم مر ًة تلو‬ ‫األخرى (تناسخ األرواح) حتى يتحرروا ويلتحقوا بعامل النور‪.‬‬ ‫فصلتُها يف مقا ٍل آخر‪ ،‬ويبدو أن ماين نقلها عنهم يف حملته‬ ‫وهنا نرى تشابها كب ًريا مع التناسخ يف البوذية والهندوسية التي ّ‬ ‫التبشريية بديانته يف الهند‪.‬‬

‫‪32‬‬


‫نبي املح ّبة والفن‪:‬‬ ‫ماين وديانته املانوية جـ‪1‬‬ ‫سامل الدليمي‬

‫ينقسم املجتمع املانوي لطبقتني‪ ،‬طبقة رجال الدين وطبقة عامة الشعب‪ ،‬ويُف َرض عىل رجال الدين االمتناع التام عن‬ ‫الجسد بد ًءا من تحريم الجنس والزواج مرو ًرا بتحريم أكل اللحوم وصنع الطعام وحتى جمع الثامر‪ ،‬واألهم‬ ‫شهوات َ‬ ‫حي وحتى ضد الطبيعة‪ ،‬كحرث األرض أو قطع األشجار أو‬ ‫من هذا أنه يُح َّرم عليهم كل أشكال العنف ضد أي كائنٍ ٍ‬ ‫طعام كزكا ٍة من عامة الشعب‪ .‬وهذا النظام يشبه إىل ٍ‬ ‫حد كبريٍ نظام‬ ‫الحشائش‪ ،‬وعليهم االكتفاء مبا يُق َّدم لهم من ٍ‬ ‫الرهبنة البوذية‪.‬‬ ‫اعتدال‬ ‫ً‬ ‫أما طبقة عامة الشعب فيُصطَلَح يف املانوية عىل تسميتهم بــ(املُستَ ِمعني) وهؤالء يحق لهم العيش بشكلٍ أكرث‬ ‫فيتزوجون ويجمعون الثامر ويصنعون أصناف الطعام‪ ،‬وت ُ َعد مساهمة (املُستَ ِمعني) يف إطعام رجال الدين كتكفريٍ لهم‬ ‫عن خطاياهم التي يستغفر رجال الدين لهم عنها‪.‬‬ ‫وبهدف تقليل الرش فإن املانوية ال ت ُشجع عىل زيادة التكاثر‪ ،‬فبقلة عدد البرش سيقل الظالم الذي يسكن أجسامهم‪.‬‬ ‫أما عن فكر املانوية فيام يخص املوت فهو نفس فكرة الغنوص ّية‪ ،‬فكانوا يعتقدون بالتق ّمص‪ ،‬حيث تبقى الروح النورانية‬ ‫لإلنسان عالق ًة يف عامل املادة الرشير‪ ،‬حتى يستنري صاحبها‪ ،‬فحينها يتحرر وال يعود للحياة‪ ،‬بل ينتقل إىل األب مصدر كل‬ ‫األنوار (العظيم األول)‪.‬‬

‫نشأة الكون‪:‬‬

‫إن ما وصلنا من الكتابات املانوية األصلية كانت من خالل نقّادها ومف ّندي آرائها‪،‬‬ ‫فهناك مصدران من الكتب املانوية التي رمبا تكون هي األقرب إىل الكتابات املانوية‬ ‫املتاحة وبلغاتها األصلية وهي االقتباس الرسياين اآلرامي للنسطوري املسيحي‬ ‫تيودور بار كوناي ܬܐܕܘܪܘܣ ܒܪ ܟܘܢܝ‪ ،‬يف كتابه بالرسيانية «كتاب لعنة‬ ‫دي سكوليون»‪ ،‬واملصدر اآلخر هو ما كتبه البريوين وابن النديم عنها‪ .‬ومن هذه‬ ‫ٍ‬ ‫وصف كاملٍ تقريبًا للرؤية املانوية‪.‬‬ ‫املصادر وغريها‪ ،‬من املمكن استنباط‬ ‫مفصل للرصاع بني العامل الروحي للنور والعامل املادي للظالم‪.‬‬ ‫ً‬ ‫ق ّد َمت املانوية وصفًا‬ ‫ٍ‬ ‫ساموات‬ ‫فكائنات كل من عامل الظالم وعامل النور لها أسامءها‪ .‬نشأت عرش‬ ‫ٍ‬ ‫مختلف من الكائنات املادية الرشيرة من‬ ‫ومثانية كواكب‪ ،‬كلها تتكون من مزي ٍج‬ ‫عامل الظالم والنور املُبتَلَع‪ .‬ثم تم إنشاء الشمس والقمر والنجوم من الضوء املُستَعاد من عامل الظالم‪.‬‬ ‫ووفقًا لألسطورة املانوية‪ ،‬فإ َّن عالَم الظالم (الكائنات الرشيرة) يستمر يف ابتالع أكرب قد ٍر ممكنٍ من الضوء ليحبسه‬ ‫بداخله‪ .‬فأنتج ذلك آدم وحواء‪.‬‬ ‫‪33‬‬


‫نبي املح ّبة والفن‪:‬‬ ‫ماين وديانته املانوية جـ‪1‬‬ ‫سامل الدليمي‬

‫وأرسل (العظيم األول) ما ينري بصرية آدم ويُ ّبي له املصدر الحقيقي للنور‪ ،‬لكن آدم يقع يف رشك جسده املادي‪ .‬حيث‬ ‫قام آدم وحواء يف النهاية بالتزاوج وإنتاج املزيد من البرش‪ُ ،‬محارصين بذلك النور يف أجساد البرش عرب تاريخ البرشية‪.‬‬ ‫فكان ظهور النبي ماين هو محاول ٌة أخرى من قبل عامل النور (العظيم األول) ليكشف للبرشية املصدر الحقيقي للنور‬ ‫الروحي املسجون داخل أجسادهم املادية سع ًيا لتحريرهم‪.‬‬ ‫إن الرتاث العظيم الذي تركته املانويّة ُيثّل نزعة من نزعات اإلنسانية يف حقب ٍة ما يستحق ِمنا الدراسة واالهتامم أسو ًة‬ ‫ببقية الديانات‪ ،‬فام هو فضل ديان ٍة عىل أخرى سوى مبا س ّجلته من قمع الديانات األخرى وبسط نفوذها وفرض تعاليمها‬ ‫عىل عامة الناس!!‬ ‫واآلن سنتناول ماين ومعراجه للسامء‪ ،‬والعبادات‪ ،‬والكتب املانوية‪ ،‬وسيتبعه جزء يكون خامتة للموضوع‪.‬‬

‫ماين ومعراج السامء‬

‫دائم بالسامء‪ ،‬فام يُسميه ِ‬ ‫(صنوي ‪-‬أو‬ ‫يرى ماين أنه عىل تواصلٍ ٍ‬ ‫يتجل له و‬ ‫وحي من الرب (العظيم األول) الذي ّ‬ ‫توأمي) هو ٌ‬ ‫رصف إزاء أمور دينه‬ ‫يرشده ويسأله ماين بدوره ويتلقى الجواب بالت ّ‬ ‫والعراقيل التي تواجهه‪.‬‬ ‫فلم يكن ماين إذن بعي ًدا عن السامء‪ ،‬فهناك روايات تحيك عروجه‬ ‫للسامء كزرادشت الذي سبقه إليها‪ ،‬والنبي محمد الذي تبع خطاه‪.‬‬ ‫يروي املؤرخ الفاريس «مريخند» حكاية توضح كيف أنجز ماين عمله‬ ‫املوضح بالرسوم‪ ...‬تقول الحكاية أن ماين‬ ‫يف كتابه «ارژنگ‪ »‎‬العظيم َّ‬ ‫يوم‬ ‫كان يسافر يف تلك األيام إىل مناطق الرشق باستمرار‪ ،‬ووصل يف ٍ‬ ‫من األيام إىل جبلٍ فيه كهف‪ ،‬وبعدها جمع أتباعه وتكلَّم بهذه‬ ‫العبارات‪:‬‬

‫رواية حدائق النور ألمني معلوف تدور أحداثها حول حياة ماين‬

‫عام‪ ،‬وسأعود من السامء إىل األرض عند انتهاء‬ ‫«سوف أحمل نفيس إىل السامء وسيدوم مكويث يف القصور الساموية ملدة ٍ‬ ‫عام بجوار الكهف وهو يحمل لو ًحا مليئًا بالرسوم‬ ‫الشهر الثاين عرش‪ ،‬وسأجلب لكم البشائر من الرب»‪ ،‬ثم عاد بعد ٍ‬ ‫الرائعة و ُم َزيَّ ًنا بأشكا ٍل متعدد ٍة؛ وقال كل من رأى هذا اللوح‪:‬‬ ‫«رأت الدنيا آالفًا من الصور أكرب من هذه‪ ،‬لكن مل تظهر مثل هذه اللوحة بيننا حتى اآلن»‪ .‬قالوا هذا ووقفوا مندهشني‬ ‫بال حراك أمام اللوح‪ ،‬فقال لهم ماين‪:‬‬ ‫«أحرضت هذا اللوح من السامء معي حتى يكون مبثابة معجزيت النبوية»‪.‬‬ ‫‪34‬‬


‫نبي املح ّبة والفن‪:‬‬ ‫ماين وديانته املانوية جـ‪1‬‬ ‫سامل الدليمي‬

‫العبادات املانوية‪:‬‬

‫الصالة‬ ‫من الواضح من خالل املصادر املانوية‪ ،‬أن املانويني كانوا يحفظون الصلوات اليومية‪ ،‬وهي أرب ٌع لعامة املانويني (املستمعني)‬ ‫ٍ‬ ‫صلوات لرجال الدين (املختارين)‪ .‬وتختلف املصادر حول الوقت املحدد للصالة‪ .‬حيث يذكر ابن النديم يف كتابه‬ ‫وسبعة‬ ‫الفهرست‪ ،‬صالة الفجر‪ ،‬وبعد الظهر‪ ،‬وبعد غروب الشمس وعند حلول الظالم‪ .‬ويذكر البريوين أن «املختارين» يصلون‬ ‫إضاف ًة للسابقات صال ًة يف منتصف العرص‪ ،‬وأخرى بعد نصف ساع ٍة من حلول الظالم وثالث ًة عند منتصف الليل‪ .‬ورمبا تم‬ ‫تعديل حساب ابن النديم للصالة اليومية ليتزامن مع الصلوات العامة للمسلمني‪ ،‬يف حني أن تقرير البريوين قد يعكس‬ ‫تقلي ًدا أقدم مل يتأثر باإلسالم‪ .‬ويبقى رسد ابن النديم للصالة اليومية هو املصدر التفصييل الوحيد املتاح‪ ،‬وكان من الواضح‬ ‫ٍ‬ ‫نصوص مرصي ٍة من القرن الرابع‪.‬‬ ‫أن النص العريب الذي ق ّدمه ابن النديم يتوافق مع أوصاف‬ ‫يسبق الصالة املانوية الوضوء باملاء‪ ،‬وإذا مل يكن املاء متا ًحا‪ ،‬فبواسط ٍة أخرى تشبه التيمم يف اإلسالم الذي قد يكون ورثها‬ ‫بدوره عن املانوية‪.‬‬ ‫أما تفاصيلها فتتكون الصالة من السجود عىل األرض والقيام مرة أخرى يف كل صالة اثنتي عرشة مرة‪ .‬أما ِقبلة املانوية‬ ‫ليل‪ ،‬عندها‬ ‫فخالل النهار‪ ،‬يتجه املانويون نحو الشمس وأثناء الليل يتجهون نحو القمر‪ .‬إذا كان القمر غري مر ٍيئ ً‬ ‫يستديرون نحو الشامل‪.‬‬ ‫ومل تكن األجرام الساموية موضو ًعا للعبادة بحد ذاتها‪ ،‬ولكنهم يشبهونها بــ«سفنٍ » تحمل جزيئات الضوء من العامل إىل‬ ‫(العظيم األول)‪ ،‬الذي ال ميكن رؤيته‪ ،‬ألنه موجود فيام وراء الزمان واملكان‪.‬‬ ‫وتفيد بعض املصادر التاريخية ككتاب «العالقات العربية الساسانية خالل القرنني‬ ‫الخامس والسادس للميالد» لكاتبه «سامل أحمد محل» بتشاب ٍه يف الفرائض وطرق‬ ‫تأدية بعض العبادات بني املانوية والدين اإلسالمي‪ ،‬ففي املانوية كانت فريض ٌة‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫قيام وركو ٍع وسجو ٍد‪ ،‬وهي‬ ‫مواقيت معلوم ٍة‪،‬‬ ‫تؤ َّدى يف‬ ‫وبحركات جسدي ٍة مع ّين ٍة من ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫صلوات يف اليوم‪ ،‬األوىل عند الزوال‪ ،‬والثانية عند العرص‪ ،‬فصالة املغرب عقب‬ ‫أربع‬ ‫غروب الشمس‪ ،‬ثم بعد ذلك صالة العشاء‪ ،‬وهذا يُر َّجح فكرة تأث ّر النبي محمد‬ ‫بسلامن الفاريس (الذي كان يدين باملانوية)‪.‬‬ ‫أما الباحث فراس السواح‪ ،‬فيقول يف كتابه «موسوعة تاريخ األديان»‪:‬‬ ‫«تُثري التشابهات الكثرية بني الديانتني التساؤالت وتدفع إىل الحرية حول كيفية تطابق الفرائض وتأديتها بني دينني‬ ‫أحدهام سبق اآلخر بأكرث من أربعة قرون‪ ،‬وكانت أفكاره تنترش بلغة فارس املحلية»‪.‬‬ ‫‪35‬‬


‫نبي املح ّبة والفن‪:‬‬ ‫ماين وديانته املانوية جـ‪1‬‬ ‫سامل الدليمي‬

‫أما كتابات الق ّديس أوغسطينوس‪( ،‬والذي كان مانويًا) فتقول بأداء عرش‬ ‫صلوات‪ ،‬أولها خصص لـ(العظيم األول)‪ ،‬وما يليها فلآللهة األقل واألرواح‬ ‫واملالئكة وأخ ًريا تجاه املختارين‪ ،‬من أجل التحرر من الوالدة الجديدة واألمل‬ ‫وتحقيق السالم يف عامل النور‪.‬‬ ‫والطقوس املانويّة تشبه إىل ٍ‬ ‫حد كبريٍ طقوس العبادات املسيحية‪ ،‬بل تكاد‬ ‫تكون ُمستنسخ ًة عنها فهي بنفس الرتتيب الكهنويت املسيحي‪ ،‬عىل سبيل‬ ‫املثال‪ :‬يف الق ّداس املانوي تتم تالوة فصو ٍل من حياة وتعذيب النبي ماين‪،‬‬ ‫كذلك تتم تالوة األناشيد والرتاتيل الدينية‪ .‬إضاف ًة لوجود طقس التعميد‬ ‫واالغتسال وكذلك طقس العشاء املق َّدس‪.‬‬ ‫الصيام‬ ‫الصيام املانوي هو يوم األحد من كل أسبو ٍع إضاف ًة لصوم شه ٍر من كل سن ٍة ينتهي ٍ‬ ‫بعيد يُسمى «البي َمه» الذي يُحتَفَل‬ ‫فيه بذكرى صلب ماين‪ ،‬حيث تعني كلمة «بيمه» املنصة‪.‬‬ ‫الزكاة‬ ‫الزكاة موجودة يف املانوية ويُل َزم بها رجال الدين (املختارون) بشكلٍ مخصص‪ .‬أما‬ ‫إطعام العامة من املانويني (املستمعني) لرجال الدين (املختارين) فتُ َعد زكا ًة لهم‬ ‫يُجزيهم عليها (املختارون) باالستغفار والصالة لرفع ذنوبهم‪.‬‬

‫املقدسة‪:‬‬ ‫الكتب املانوية ّ‬

‫يتبق منها سوى‬ ‫كتب ماين إما سبعة أو مثانية ٍ‬ ‫كتب تحتوي عىل تعاليم الدين‪ .‬مل َ‬ ‫ٍ‬ ‫وترجامت من النسخ األصلية‪.‬‬ ‫شظايا متناثر ٍة‬

‫وعىل الرغم من حفظ أسامء تلك الكتب الرسيانية ّإل أنه مل يتم الحفاظ عىل‬ ‫الكتب الرسيانية األصلية‪ ،‬بل هناك فقط شظايا واقتباساتٌ منها‪ .‬فمن الكتابات‬ ‫اآلرامية الرسيانية األصلية ملاين هو ما احتفظ به املؤلف املسيحي النسطوري‬ ‫«تيودور بار كوناي» من القرن الثامن‪ ،‬حيث يُظهر االقتباس الطويل أنه مل يكن‬ ‫هناك تأثري للمصطلحات اإليرانية أو الزرادشتية‪ .‬فمصطلحات اآللهة املانوية يف‬ ‫الكتابات الرسيانية األصلية كانت مكتوب ًة باللغة اآلرامية‪.‬‬ ‫‪36‬‬

‫مخطوطة مانوية من حوايل العام ‪400‬م‬ ‫من مرص موجودة يف مجموعة تشيسرت بيتي‬


‫نبي املح ّبة والفن‪:‬‬ ‫ماين وديانته املانوية جـ‪1‬‬ ‫سامل الدليمي‬

‫ٍ‬ ‫اقتباسات‪ ،‬باللغة الالتينية‪ ،‬من رسالة ماين األساسية يف بعض أعامله املعادية للامنوية‪.‬‬ ‫ويقدم الق ّديس أوغسطينوس‬ ‫إضاف ًة ملا تم اكتشافه يف مرص يف أوائل القرن العرشين (سفر مزامري مانوي ٍة قبطية)‪ ،‬وحرره تشارلز ألبريي ‪Charles‬‬ ‫‪ .Allberry‬ونرشه من املخطوطات املانوية يف مجموعة تشيسرت بيتي ‪ Chester Beatty Collection‬ويف أكادميية برلني‬ ‫ٍ‬ ‫ملخطوطات مانوي ٍة اكتُشفت يف الصني وتركستان‪.‬‬ ‫عام ‪ ،1938‬إضاف ًة‬ ‫معلو ٌم أن جميع الديانات ترتكز عىل مثاين مك ِّونات ميكن تقسيمها إىل قسمني‪:‬‬ ‫‪ -1‬مكوناتٌ رئيسي ٌة أوىل وعددها أربعة وهي (املعتقدات‪ ،‬واألساطري‪ ،‬والطقوس‪ ،‬واألخرويات)‪.‬‬ ‫‪ -2‬املكونات األربعة الثانوية وهي (األخالق والرشائع‪ِ ،‬‬ ‫والس َي املق َّدسة‪ ،‬والطوائف والجامعات‪ ،‬ثم الباطنيات)‪.‬‬ ‫ولدى تطبيق تلك املكونات عىل الديانة املانوية نجد أنَّها تنطبق وتتوافق معها حرفيًا‪.‬‬ ‫نصوصا أثري ًة تعود‬ ‫يف املكونات الرئيسية األوىل يف الديانة املانوية سنبدأ بكتب املعتقدات والالهوت فيها‪ ،‬وهنا نرى أن‬ ‫ً‬ ‫لعرص املانوية (القرن الثاين امليالدي) ُو ِج َدت كقطعٍ أثري ٍة من كتابات ماين الذي كان يكتب ٍ‬ ‫امي جميلٍ أ ّخاذ يف‬ ‫بخط آر ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫رسومات رسمها هو بنفسه‪ ،‬وهي اليوم‬ ‫رسا ًما لذا كانت كتبه (مبا فيها املق ّدسة) تحتوي عىل‬ ‫جامليته‪ً ،‬‬ ‫فضل عن كونه ّ‬ ‫من أجمل صفحات الرتاث الالهويت والديني بتاريخ األديان لتف ّردها بهذا األمر عن بقية األديان‪.‬‬ ‫إنجيل هو «اإلنجيل العظيم» أو «اإلنجيل الحي» أو «إنجيل ماين» ܐܘܢܓܠܝܘܢ والذي ق َّ​َسمه يف ‪22‬‬ ‫‪ -1‬كتب ماين ً‬ ‫ِسفر حسب الحروف األبجدية اآلرامية الرشقية‪ ،‬وهو اليوم مفقو ٌد باستثناء قطع ٍة صغري ٍه منه ُع ِث عليها يف طرفان يف‬ ‫بعضا منه يف مصنفه «الفهرست»‪.‬‬ ‫الصني‪ ،‬متت بواسطتها إعادة تشكيل أول أسفاره‪ ،‬الذي اقتبس ابن النديم ً‬ ‫‪-2‬كتاب «كنز األحياء» أو «كنز الحياة» ويُس ّمى باللغة اآلرامية‬ ‫(كَنزاه ّيا) أو (گنجینه زندگان) بالفارسية‪ ،‬وتلك الكتب املقدسة‬ ‫األربعة هي كتب العقائد‪ .‬ويُعتقد أن أصل االسم يأيت من أحد أمثال‬ ‫يسوع عن الكنز املخفي يف حقل «أَيْ ًضا يُشْ ِب ُه َملَكُوتُ الس َ​َّم َو ِ‬ ‫ات كَ ْن ًزا‬ ‫فى ِف َحقْل‪َ ،‬و َج َد ُه إِنْ َسا ٌن فَأَ ْخفَا ُه‪َ .‬و ِم ْن فَ َر ِح ِه َم َض َوبَا َع ك َُّل َما‬ ‫ُم ْخ ً‬ ‫كَا َن لَ ُه َواشْ َ َتى ذلِ َك الْ َحق َْل» (متّى ‪ )44 :13‬متبو ًعا مبثل اللؤلوة‪:‬‬ ‫«أَيْ ًضا يُشْ ِب ُه َملَكُوتُ الس َ​َّم َو ِ‬ ‫ات إِنْ َسانًا ت َا ِج ًرا يَطْل ُ​ُب آللِ َئ َح َس َن ًة‪ ،‬فَلَمَّ‬ ‫َو َج َد لُ ْؤلُ َؤ ًة َو ِ‬ ‫اح َد ًة كَ ِث َري َة الثَّ َمنِ ‪َ ،‬م َض َوبَا َع ك َُّل َما كَا َن لَ ُه َواشْ َ َتا َها‪».‬‬ ‫(متّى ‪.)46-45 :13‬‬ ‫كتاب ثالثٌ اسمه «آر َد ْه ِنك» أو «ارژنگ‪ »‎‬أي «كتاب‬ ‫‪ -3‬وهناك ٌ‬ ‫الصورة»‪ ،‬وهو كتاب صو ٍر لرسوم ماين حول اإلنجيل الحي ومشابهة‬ ‫‪37‬‬

‫لوحة مانوية تظهر يسوع كيد الله اليمنى‬


‫نبي املح ّبة والفن‪:‬‬ ‫ماين وديانته املانوية جـ‪1‬‬ ‫سامل الدليمي‬

‫ملا ورد يف الكتب املندائية التي أتت بعد هذا الكتاب‪ ،‬وهي تُ ثِّل بعض‬ ‫وخصوصا يف ديوان «أباثر املندايئ»‬ ‫األشكال الهندسية للناس وللمالئكة‪،‬‬ ‫ً‬ ‫(وهو مخطوطة صعود النفس والحساب والعقاب عند الصابئة املندائية)‪.‬‬ ‫مقدس لدى املانويني هو عبار ٌة عن محاول ٍة للجمع بني‬ ‫كتاب‬ ‫مثة ً‬ ‫أيضا ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫األناجيل املسيحية األربعة مع «إنجيل دياطرسون» ‪ Diatessaron‬أو‬ ‫بالرسيانية ܐܘܢܓܠܝܘܢ ܕܡܚܠܛܐ الذي جمعه الق ّديس تاتيان املُس ّمى‬ ‫أيضا (ططيانوس اآلشوري‪ ،‬أو تاتيان األديابيني) كمحاول ٍة منه لجمع‬ ‫ً‬ ‫ٍ‬ ‫كلامت للمسيح غري‬ ‫األناجيل األربعة بإنجيلٍ مو َّح ٍد ُمضيفًا له بضع‬ ‫موجود ٍة يف األناجيل األربعة‪ ،‬كان قد أخذها من كتب أپوكريفية (أي غري‬ ‫رسمي ٍة ال تعرتف بها الكنيسة) وأضاف لألناجيل األربعة أناجيل أپوكريفي ًة‬ ‫رسياني ًة أخرى‪ .‬كإنجيل فيليب الغنويص وكتاب طفولة الرب‪.‬‬ ‫ومحاولة جمع كل هذا والتوفيق بينها مبا تحمل من اختالفات أنتجت لنا‬ ‫إنجيل جدي ًدا‪ ،‬وهو ليس جم ًعا باملعنى الحريف للكلمة أمنا كان بإعادة الصياغة للمحتوى‪.‬‬ ‫ً‬ ‫أما كتب الالهوت لدى املانوية فعددها خمسة‪:‬‬ ‫‪ -1‬كتاب ِ‬ ‫«سفر األرسار» ويتألف من ‪ 18‬باب‪،‬‬ ‫ومكتوب بالفارسية‬ ‫‪ -2‬كتاب «الشابورقان» (شاپورگان‪ ،)‎‬ومعنى اسمه «كتاب شاپور» وهو يهتم بتفاصيل اآلخرة‪،‬‬ ‫ٌ‬ ‫ٍ‬ ‫اقتباسات منه‪.‬‬ ‫الوسيطة وتم اكتشافه يف طرفان‪ .‬قام البريوين بتقديم‬ ‫‪ -3‬كتاب «املبادئ للسامعني»‪،‬‬ ‫‪ -4‬كتاب «وهب الحياة»‪،‬‬ ‫‪ -5‬كتاب «أطروحة العنرصين»‪.‬‬ ‫نأيت اآلن للقسم الثاين ملكونات الدين وهي األساطري‪ ،‬فاملانوية كغريها من الديانات ت ُشكّل األساطري أحد مكوناتها املهمة‪.‬‬ ‫ويُ َعد كتاب‪ِ :‬‬ ‫«سفر الجبابرة» أهم كتب أساطري املانوية الذي تح َّدث عن الج ّبار «عوج» الذي ُولِد بعد الطوفان وصارع‬ ‫الت ّني َنني سام ونارميان‪ ،‬وكذلك عن أسطورة سقوط املالئكة‪ ،‬وهذه األسطورة تنسبها الديانة الصابئية املندائية لها‪ ،‬وقد‬ ‫ُج ِم َعت قطع هذا الكتاب يف الصني يف منطقة طُرفان‪ .‬وهو غري الكتاب اليهودي املسمى ِ‬ ‫«سفر الجبابرة» أو العاملقة‬ ‫التي ُع ِث عليها يف البحر امل ّيت‪ .‬وتحدث ماين يف كتاب ِ‬ ‫«سفر الجبابرة» عام رآه األنبياء يف صعودهم إىل السامء‪ ،‬كملك‬ ‫يجلس عىل عرشه يف أعىل الساموات‪ .‬يف الوصف املانوي‪ ،‬يصبح هذا الكائن‪« ،‬ملك الرشف العظيم»‪ ،‬إل ًها يحرس مدخل‬ ‫عامل النور‪ ،‬الذي يقع يف السابع من عرشة ساموات‪.‬‬ ‫‪38‬‬


‫نبي املح ّبة والفن‪:‬‬ ‫ماين وديانته املانوية جـ‪1‬‬ ‫سامل الدليمي‬

‫وهنا تجب اإلشارة إىل (التقسيم البوذي للعوامل العرش) وحارس مدخل عامل النور الجالس يف السامء السابعة‪.‬‬ ‫أما كتب الطقوس املانوية فأهمها‪:‬‬ ‫كتاب «مزامري ماين» وهذا الكتاب ُع ِث عليه يف مرص‪ ،‬ونرشه جيمس روبنسون مبجلدين عام ‪ ،1988‬ومزامري املجلد األول‬ ‫هي‪{ :‬مزامري فيجل‪ ،‬ومزامري يوم األحد‪ ،‬ومزامري الفصح‪ ،‬ومزامري للنفس‪ ،‬ومزامري متن ّوعة أخرى}‪.‬‬ ‫أما مزامري املجلّد الثاين فهي‪:‬‬ ‫{مزامري لنجايليلن‪ ،‬ومزامري سرياقليدس‪ ،‬ومزامري تومو‪ ،‬واملزامري الضالّة وهام مزموران}‪ .‬وتلك املزامري مكتوب ٌة بلغ ٍة آرامي ٍة‬ ‫تضليل‪.‬‬ ‫ً‬ ‫رشقي ٍة جميل ٍة ج ًدا وليست باللغة الفارسية كام يُشاع‬ ‫أيضا وهو‬ ‫كتاب آخر للطقوس هو كتاب «بارالم ويهوشافاط» ويُد َرج ضمن أدب املواعظ وقد أكتُ ِشف يف الصني ً‬ ‫هناك ٌ‬ ‫يصف حياة بوذا‪ ،‬وهذا الكتاب كتبه تالميذ ماين من أصو ٍل بوذية‪.‬‬ ‫وهناك كتاب آخر هو كتاب «أدب االعرتاف»‬ ‫كل تلك الكتب كُ ِتبَت باآلرامية الرشقية باستثناء‬ ‫كتاب «الشَ َمرقان» الذي كُ ِتب بالفارسية وقد كتبه‬ ‫ماين يف البالط الفاريس عندما كان تحت رقابة الك ّهان‬ ‫رسل الله ُمب ّي ًنا نزول‬ ‫املجوس‪ ،‬وقد ذكر فيه ماين ُ‬ ‫الوحي من السامء إىل األرض بتجسيدات مختلفة‪.‬‬ ‫وذكر بوذا وزرادشت ويسوع عىل أنهام َسل ٌَف ملاين‪.‬‬

‫تصوير مسيحي ليهوشافاط‬

‫أما كتب املكونات الثانوية للديانة املانوية فهي‪:‬‬ ‫كتاب األخالق والرشائع‪ ،‬وكتاب الرباگامتيا وأسمه مأخوذ من اللغة اإلغريقية ‪ πραγματεία‬وهو الربامج األخالقية‬ ‫العملية وما يجب فعله متضم ًنا عدة وصايا وقواعد الدخول يف هذا الدين‪ ،‬فهو أشبه ما يكون بكتاب فقه أو الرشيعة‬ ‫املانوية‪ .‬وبنفس كتاب الرشائع هذا نجد الرسالتان القبطيتان والتي كتبها تالميذ ماين يف مرص‪.‬‬ ‫أما املك ِّون الثاين من تلك املكونات الثانوية فهو كتاب ِ‬ ‫كتاب‬ ‫(الس َي والرتاجم) ثم كتاب «الكيفااليا» ‪ Κεφαλαια‬وهو ٌ‬ ‫فصل بعنوان «الرجل الذي يسأل ملاذا»‪ .‬ويتضمن سري ًة‬ ‫كب ٌري يبلغ ‪ 520‬صفحة تتضمن تعاليم ماين وصليب النور‪ ،‬ثم ً‬ ‫سجل لعقائد ماين ورشوحاته وإلهاماته‪ ،‬وغال ًبا ما جرى تقدميه متح ِّدث ًا مع‬ ‫كامل ًة عن حياة ماين‪ ،‬وتعتربه املانوية بأنه ٌ‬ ‫أتباعه ُمجي ًبا عن أس ِئلتهِم‪.‬‬ ‫ثم نأيت إىل كتاب «الكنيسة والجامعة» وهو مام جاء بعد وفاة ماين حيث كتبه أقرب حواريه كَـ(ما َرأ ّم َو‪ ،‬وأَداي‪ ،‬وتوماس‪،‬‬ ‫وأنَيوس‪ ،‬وسيس‪ ،‬وآخرون)‪.‬‬ ‫‪39‬‬


‫نبي املح ّبة والفن‪:‬‬ ‫ماين وديانته املانوية جـ‪1‬‬ ‫سامل الدليمي‬

‫نصوصا قبطي ًة ورق ًعا طُرفاني ًة تتحدث عنهم (نسب ًة ملكان العثور عليها يف «طُرفان» يف الصني)‪ .‬ونالحظ أن‬ ‫وتتضمن‬ ‫ً‬ ‫العثور عىل تلك اآلثار املانوية يكاد ينحرص بني الصني ومرص وليس يف موطنها بالد الرافدين وإيران‪ ،‬والسبب يف ذلك‬ ‫القمع الذي مارسته اإلمرباطورية الفارسية يف مناطق نفوذها ضد املانويّة‪.‬‬ ‫ومن املالحظ أن ما ُوجِد من آثار املانوية يف مرص كان مدفونًا يف ِجرار‪.‬‬ ‫وقد اكتُ ِشفَت يف الصني عند مطلع القرن العرشين نصوص يف ِ‬ ‫الحكمة ومثاين قطعٍ من السوترا «تعاليم العاِمل العريق»‬ ‫وسوترا «الطقوس واالستغراق يف الثالوث»‪ ،‬وسوترا «دعونا نَحمد»‪ ،‬وسوترا «العودة إىل الطبيعة الخاصة بك»‪.‬‬ ‫أما القسم األخري فهو كتب «الباطنيات» والتي تعالج ذهاب النفس يف عامل الظالم‪ ،‬ومن أهم تلك الباطنيات هي ما‬ ‫تُس ّمى بــ«مزامري توما»‪.‬‬ ‫يُتبع يف العدد القادم‪...‬‬

‫خاتم من الكوارتز يُعتقد أنه يعود ملاين‬ ‫رمبا كان يستعمل لختم الوثائق واملراسالت‬

‫‪40‬‬


41


‫األدب املنحول جـ‪3‬‬ ‫‪ )2‬منحوالت العهد الجديد‪:‬‬ ‫تشري دراسة منحوالت العهد‬ ‫القديم‪ ،‬التي رأينا أن جز ًءا كب ًريا‬ ‫منها يجد أصوله يف املدرسة‬ ‫األسينية‪ ،‬إىل أن حرك ًة أدبي ًة‬ ‫أرضا خصب ًة‬ ‫كانت قد شكلت ً‬ ‫خالل قرنني من الزمن‬ ‫ٍ‬ ‫اتجاهات‬ ‫تقري ًبا لوالدة‬ ‫فكري ٍة وديني ٍة جديد ٍة‬ ‫يف املنطقة‪.‬‬

‫د‪ .‬سمرياميس العامري‬ ‫‪42‬‬


‫األدب املنحول جـ‪3‬‬ ‫د‪ .‬سمرياميس العامري‬

‫لكن أح ًدا مل يكن يعرف إىل أي م ًدى سيمكن لهذه األفكار أن ترتحل‪ ،‬وما هي‬ ‫االتجاهات الجديدة التي سوف تتالقح معها أو تؤثر فيها‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫إرهاصات لتيارين فكريني سادا املرحلة‬ ‫لكن ال شك أننا بتنا نلمح من خاللها‬ ‫الجديدة‪ ،‬خالل القرون التالية للميالد‪ ،‬وهام التيار الفكري املتشدد املرتكز‬ ‫عىل الرشيعة بالدرجة األوىل‪ ،‬متمثالً مبا يعرف بالنرصانية‪ ،‬والتيار الفكري‬ ‫امللقح بالعرفان الرساين‪ ،‬واملنفتح عىل البحث عن ٍ‬ ‫خالص إنسا ٍّين يعيد الصلة‬ ‫مع اإلله عىل ٍ‬ ‫أسس جديدة‪.‬‬ ‫ويف هذا اإلطار استمرت كتابة النصوص التي حملت اتجاهات الفكر الجديد‪،‬‬ ‫مستمد ًة يف جز ٍء منها الدفق األسايس لألدب الرؤيوي واألسيني‪ .‬ومع ما قبلت‬ ‫فصل جدي ٌد من األدب املنحول‪،‬‬ ‫به الكنيسة من هذه النصوص وما رفضته‪ ،‬بدأ ٌ‬ ‫ُعرف مبنحوالت العهد الجديد‪.‬‬

‫إنجيل يهوذا‬

‫ليك نستطيع الولوج إىل دراسة منحوالت العهد الجديد‪ ،‬ال بد لنا من تحديد اإلطار التاريخي الذي جرت خالله عمليات‬ ‫فصل الكتب بني «مقدس ٍة» و«منحولة»‪ ،‬وهو إطا ٌر يرتبط ارتباطًا وثيقًا بتاريخ أسفار العهد القديم نفسها‪ ،‬املنحولة‬ ‫وغري املنحولة‪.‬‬

‫‪ )3‬الكتابات املنحولة وقراء ٌة أخرى للعهد الجديد‪:‬‬ ‫متثل الكتابات املعروفة بـ«املنحوالت املسيحية» اليوم مجموع ًة كبري ًة ج ًدا من النصوص املتشابكة واملتصلة‪.‬‬ ‫ولهذا من الصعب يف كثريٍ من املواضع تحديدها بسبب تعديالتها أو تنويعاتها عرب العصور واملناطق وحتى الكتاب‬ ‫والكنائس يف بعض الحاالت‪ .‬كذلك من الصعب ج ًدا تصنيفها من خالل نوعها األديب بسبب عدم متيزها يف خصوصي ٍة‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫خطوط عام ٍة تساعد يف تحديد تسلسلٍ زمني وإطا ٍر‬ ‫حاالت أو مقاطع قليلة‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬ميكن متييز‬ ‫أدبي ٍة محددة‪ ،‬إال يف‬ ‫تاريخي لتطور هذه الكتابات وانتقاالتها وترجامتها‪ .‬وملا كانت هذه الكتابات املنحولة تندرج يف اإلطار نفسه إىل ٍ‬ ‫حد‬ ‫ٍّ‬ ‫كبريٍ مع نوع الكتابات املقدسة‪ ،‬أو غري املنحولة بالنسبة للمراجع الرسمية‪ ،‬فإنها تطرح املسائل الجدلية نفسها املتعلقة‬ ‫بالتأريخ أو النوع األديب أو األصالة الفكرية‪ ...‬إلخ‪.‬‬ ‫‪43‬‬


‫األدب املنحول جـ‪3‬‬ ‫د‪ .‬سمرياميس العامري‬

‫وليك ندرك مدى تعقيد هذا املجال املتعلق بهذه الوثائق اآلتية عرب عصو ٍر مختلفة‪ ،‬نشري إىل أن الوثيقة نفسها ميكن أن‬ ‫تكون آتي ًة من فرت ٍ‬ ‫ات مختلف ٍة ومكتوب ٍة يف عدة لغات‪ .‬ومن هنا يكون من الصعوبة مبكانٍ أحيانًا معرفة النسخة األصلية‬ ‫والنسخ املنقولة أو املرتجمة‪ .‬هذا إضاف ًة إىل أن كل وثيق ٍة متثل ضمن اللغة الواحدة التي وصلتنا بها‪ ،‬تاري ًخا وثقاف ًة ال‬ ‫بد من إعادة اكتشافهام وتشكيلهام وفهم أبعاد تأثريهام يف هذه الوثيقة‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫نصوص مل يأخذ بها التصنيف الرسمي‬ ‫مييل معظم املؤرخني إىل تصنيف‬ ‫للكتب املقدسة ضمن هذه الفئة من الكتب املنحولة‪ ،‬مثل سفر برنابا(‪.)1‬‬ ‫كذلك تُصنف ضمن هذه الفئة الكتابات التي مل يأخذ بها آباء الكنيسة‬ ‫(‪)2‬‬ ‫بسبب سمتها التي تشري إىل أنها منحولة‪ ،‬مثل راعي هرماس‬ ‫‪ .Pastor Hermae‬وهكذا فإن السمة العامة واألساسية للكتابات املنحولة‬ ‫املسيحية هي أنها كانت مرفوض ًة ولهذا ظلت مخبأ ًة ومتناقل ًة يف الرس‪.‬‬ ‫غري أن هذه السمة نفسها تختلف بدرجاتها من الكتابات التي ظلت‬ ‫منسي ًة ومخبأ ًة لفرت ٍة طويلة‪ ،‬إىل تلك التي انترشت عرب قرونٍ طويل ٍة يف‬ ‫مناطق كثرية‪ .‬ويشري ذلك بالنسبة إىل الباحثني إىل رضورة متابعة تاريخ‬ ‫كتاب أو ِسف ٍر عىل حدة‪ ،‬وتأ ّمل تاريخه ودراسة ومقارنة ترجامته‬ ‫كل ٍ‬ ‫ونسخه‪ ،‬من أجل متييز األسباب املختلفة التي أدت إىل انتهائه يف سلة‬ ‫الكتابات املنحولة‪.‬‬

‫راعي هرماس‬

‫كتاب ُصنف حول حياة يسوع‪ ،‬يفرتض أن كاتبه برنابا الذي هو وفق هذا اإلنجيل أحد رسل املسيح االثني عرش‪ .‬هناك مخطوطان فقط لهذا اإلنجيل‪،‬‬ ‫‪ -1‬مشهو ٌر بإنجيل برنابا وهو ٌ‬ ‫مكتوب باإليطالية واآلخر باإلسبانية‪ .‬حجم إنجيل برنابا يعادل حجم األناجيل القانونية األربعة مجتمعني‬ ‫أحدهام‬ ‫امليالدي‪،‬‬ ‫عرش‬ ‫والسابع‬ ‫عرش‬ ‫السادس‬ ‫يرجع تاريخهام إىل القرنني‬ ‫ٌ‬ ‫تقريبًا‪ .‬معظم نص هذا اإلنجيل يتناول فرتة كهنوت يسوع‪ ،‬ومعظم أحداثه تتجانس مع األناجيل القانونية‪ّ ،‬إل أنه يتفق يف بعض األمور األساسية مع التفسري اإلسالمي ألصل‬ ‫عمل ملفقًا وسف ًرا منحولً كُتب يف ٍ‬ ‫وقت متأخر‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬يعتقد بعض األكادمييني‬ ‫املسيحية مخالفًا تفسريات العهد الجديد للمسيحية‪ .‬يعترب هذا اإلنجيل من ِقبل الكنيسة الرسمية‪ً ،‬‬ ‫أنه رمبا احتوى عىل بقايا عملٍ غري قانو ٍين قديمٍ من املحتمل غنوص ًيا أو إبيون ًيا أو من اإلنجيل الرباعي نُقحت لتتوافق أكرث مع العقيدة اإلسالمية‪ ،‬وتنفي أولوهية يسوع‪ ،‬وتدّعي‬ ‫تبشريه برسو ٍل اسمه أحمد‪.‬‬ ‫‪Pons, L (1998). El texto morisco del Evangelio de San Bernabé. Universidad de Granada.‬‬ ‫‪Wiegers, G.A. (April–June 1995). “Muhammad as the Messiah: A comparison of the polemical works of Juan Alonso with the Gospel of Barnabas”.‬‬ ‫‪Biblitheca Orientalis. LII (3/4): 274.‬‬ ‫مهم وقبله بعض آباء الكنيسة القدماء كجز ٍء من الكتاب املقدس‪ .‬وكانت له أهمي ٌة كبري ٌة يف القرنني الثاين‬ ‫‪ -2‬راعي هرملس سف ٌر‬ ‫مسيحي من القرن الثاين‪ ،‬اعتربه عدة مسيحيني كتابًا ً‬ ‫ٌ‬ ‫ٍ‬ ‫والثالث ‪.‬استشهد به إرينايوس وترتليان كسف ٍر مقدس وكان من ضمن العهد الجديد يف املخطوطة السينائية و ُوضع بني سفر أعامل الرسل وسفر أعامل بولس يف قامئة مخطوطة‬ ‫كالرومونتانوس‪ ،‬لكن اعتربه بعض املسيحيني القدماء أبوكريفا‪ .‬يتألف الكتاب من خمس رؤًى واثني عرش أم ًرا وعرشة أمثال‪ .‬ويعتمد عىل التشابيه ويهتم خاص ًة بالكنيسة فيدعو‬ ‫للتوبة من املعصية التي أرضت بالكنيسة‪.‬‬ ‫كُتب السفر يف اليونانية يف روما وت ُرجم لالتينية‪ .‬وبقي بشكلٍ كاملٍ بالالتينية فقط‪ ،‬بينام فُقد الخمس األخري تقري ًبا من اليونانية‪.‬‬ ‫‪The Pastor of Hermas was one of the most popular books, if not the most popular book, in the Christian Church during the second,‬‬ ‫‪third and fourth centuries.” (F. Crombie, translator of Schaff, op. cit.).‬‬

‫‪44‬‬


‫األدب املنحول جـ‪3‬‬ ‫د‪ .‬سمرياميس العامري‬

‫‪ )4‬متازج العهدين القديم والجديد واملنحوالت‪:‬‬ ‫يقر بولس الرسول(‪ )3‬بأهمية الوحي يف العهد القديم‪ ،‬ويف ذلك إشار ٌة إىل قوة الفكرة التي كانت سائد ًة يف ذلك العرص‬ ‫للكتابات امللهمة أو املوحى بها‪ .‬ويؤكد املؤرخ يوسيفوس بأن عدد الكتب التي يعتربها اليهود أنفسهم «إلهي ًة» (أي‬ ‫من مصد ٍر إلهي) هي ‪22‬سف ًرا‪ ،‬يف حني أن باقي الكتب التي أضيفت إىل العهد القديم بعد النبي األخري‪ ،‬مالخي‪ ،‬ليس‬ ‫مصدرها سوى اإلنسان نفسه‪ .‬ويف الحقيقة‪ ،‬فإن أسفار العهد القديم التي يبلغ عددها فعل ًيا ‪ 22‬أو ‪ 24‬سف ًرا‪ ،‬يف حني أن‬ ‫ٍ‬ ‫طبعات معين ٍة حتى يصل إىل ‪ 46‬سف ًرا‪ .‬وهذه األسفار‬ ‫عددها يصل إىل ‪ 39‬بسبب توزيع بعض النصوص ال أكرث‪ ،‬يزداد يف‬ ‫املضافة فوق أل‪ 39 -‬هي التي أدت يف البداية إىل طرح مفهوم الكتب «املنحولة» يف إطار الكتاب املقدس‪ .‬ولفظة‬ ‫املنحولة تشري إىل الكتب التي اعتربها اليهود أنفسهم غري «ذات مصد ٍر إلهي» يف حني ال تزال موجود ًة يف بعض طبعات‬ ‫«الكتب املقدسة» التي تضم العهدين القديم والجديد‪ .‬غري أن ليس هناك ما يجمع هذه الكتب اإلضافية مع أسفار‬ ‫العهد القديم‪ ،‬ال موضو ًعا وال شكالً أو أسلوبًا‪ ،‬وال حتى من خالل بلد املنشأ (فلسطني ومرص)‪ ،‬أو اللغة التي كتبت بها‬ ‫(العربية‪ ،‬اآلرامية‪ ،‬اليونانية)‪.‬‬ ‫كانت اللغة اليونانية يف القرن الثالث قبل امليالد هي اللغة األكرث انتشا ًرا يف رشقي‬ ‫املتوسط‪.‬‬ ‫وقد طلب بطلميوس الفيالدلفي ‪ Ptolemaios Philadelphos‬أن ترتجم له‬ ‫الكتابات الدينية اليهودية ليضيفها إىل مكتبته الكبرية(‪.)4‬‬ ‫وهكذا ظهر ما يُعرف بالرتجمة «السبعينية»‪ ،‬وهي الرتجمة اليونانية للكتابات‬ ‫اليهودية «املوحاة»‪ ،‬والتي أضيفت إليها أخبا ٌر دنيوي ُة متعددة‪.‬‬ ‫إن العهد الجديد املكتوب باليونانية يستند غال ًبا إىل العهد القديم‪ ،‬ويذكر شواهده‬ ‫من الرتجمة اليونانية السبعينية‪ ،‬إمنا ال يشري أب ًدا إىل «املنحوالت» التي ال يستشهد‬ ‫أي من كتاب األناجيل امللهمني‪ .‬وهذه النقطة هي أحد األسباب‬ ‫بها يسوع وال ٌ‬ ‫التي أدت فيام بعد‪ ،‬كام سرنى‪ ،‬إىل ٍ‬ ‫خالف يف الكنيسة حول اعتامد أو عدم اعتامد‬ ‫هذه الكتب ضمن أسفار العهد القديم يف الكتاب املقدس‪.‬‬

‫بطليموس الفيالدلفي يتفقد لفافة يف مكتبة‬ ‫اإلسكندرية‪ ،‬بريشة كموتشيني‬

‫‪ -3‬الرسالة إىل أهل رومية‪ ،‬اإلصحاحان ‪ 2‬و‪.3‬‬ ‫‪4- Nina L. Collins, The Library in Alexandria and the Bible in Greek (Supplements to Vetus Testamentum, vol. LXXXII), Brill Academic Publishers,‬‬ ‫‪2000, p. 110-114.‬‬

‫‪45‬‬


‫األدب املنحول جـ‪3‬‬ ‫د‪ .‬سمرياميس العامري‬

‫ويف القرن الرابع للميالد‪ ،‬أصبحت اللغة السائدة هي الالتينية‪ .‬وكُلف جريوم‬ ‫‪( Jérome‬هريونيموس)‪ ،‬الذي كان سكرت ًريا للبابا‪ ،‬برتجمة الكتاب املقدس إىل لغة‬ ‫فريجيل ‪ Virgile‬أي الالتينية‪ .‬وبعد أن ترجم جريوم العهد الجديد‪ ،‬حاول ترجمة‬ ‫وفضل‬ ‫العهد القديم اعتام ًدا عىل النسخة السبعينية‪ .‬لكنه رسعان ما تخىل عن ذلك َّ‬ ‫تعميق معرفته باللغة العربية ليك يعطينا يف النهاية الرتجمة الشهرية املعروفة‬ ‫بـ«الالتينية املحكية ‪ »Vulgat‬التي ض َّمت تحدي ًدا املنحوالت‪ ،‬أي الكتب اإلضافية‬ ‫التي مل يكن اليهود يضمنونها كتابهم‪ .‬وقد اعتُرب رأي جريوم رأيًا أساس ًيا حول‬ ‫موضوع املنحوالت هذه التي اعتُربت أساسي ٌة ضمن أسفار الكتاب املقدس‪ .‬وقد‬ ‫اعرتف هو نفسه بأنه إن كان قد ترجم هذه «الحكايات» فذلك نزولً عند قناعات‬ ‫بأسلوب يؤدي يف النهاية إىل «إنهاء» هذه الكتب‪.‬‬ ‫الشعب‪ ،‬لكنه ترجمها‬ ‫ٍ‬ ‫(‪)5‬‬

‫جريوم بريشة بالنشار‬

‫ككتب‬ ‫غري أن أوغسطينوس(‪، )6‬هو الذي جعل مجمعي هيبونيا ‪ Hippone‬وقرطاج يقبالن بهذه املنحوالت‪ ،‬إمنا فقط‬ ‫ٍ‬ ‫للقراءة واالستشهاد ال أكرث‪ .‬واستمر وجود هذه األسفار اإلضافية يف الكتاب املقدس عرب القرون‪ ،‬مع وجود األساقفة‬ ‫واآلباء الذين كانوا يؤكدون بأنها ليست كت ًبا من وحي الله‪.‬‬ ‫‪ -5‬جريوم (‪( )Jerome‬إيرونيموس) (دملاسيا ‪ 420 –347‬بيت لحم (بالالتينية‪ )Eusebius Sophronius Hieronymus:‬و(باليونانية‪ )Ευσέβιος Σωφρόνιος Ιερώνυμος:‬يُحتَفَل‬ ‫بذكراه يف التقويم الغريب يوم ‪ 30‬أيلول (سبتمرب)‪ .‬جريوم من بالد دملاسيا يف القسم املتاخم للبحر األدرياتييك التي تُعرف اآلن باسم يوغسالفيا‪ ،‬وكلفه البابا بإنجاز ترجم ٍة لألناجيل‬ ‫بدأب إلنجاز ترجمته‪ .‬كانت هناك ترجامتٌ التيني ٌة‬ ‫من اليونانية والعربية إىل الالتينية‪ ،‬فحرض إىل بيت لحم بـرفقة أربع نسا ٍء نذرن أنفسهن لخدمة الكنيسة‪ ،‬وأخذ جريوم يعمل ٍ‬ ‫كثري ٌة قام بها العديد من الناس لنص التناخ ولهذا دعا البابا داماسوس أسقف روما (‪ 383‬م) إىل تفويض سكرتريه جريوم إلعداد ترجم ٍة التيني ٍة رسمي ٍة يعتمد عليها‪ .‬فقام القديس‬ ‫جريوم برتجمة العهد القديم عن العربية مبارش ًة والعهد الجديد عن اليونانية مبارش ًة ودُعيت ترجمته هذه بالفولجاتا أى العامة والتي صارت الرتجمة املعتمدة للكنيسة الكاثوليكية‬ ‫عىل مدى عرشة قرون‪ .‬ويرى العلامء الالهوتيني واإلنجيليني أن لهذه الرتجمة الالتينية أهمي ًة خاص ًة يف تحقيق نص العهد الجديد ألنها ترجع ملنتصف القرن الثاىن امليالدي كام أنها‬ ‫ٍ‬ ‫سنوات طويل ًة من عمره يف املغاور واألقبية تحت كنيسة‬ ‫تقدّم لنا صور ًة مبكر ًة للنص اليوناين الذي ت ُرجمت عنه‪ ،‬خاص ًة وأنها كانت أكرث حرفي ًة وهذا يزيد أهميته‪ .‬أمىض جريوم‬ ‫املهد معتكفًا عىل كتبه‪ ،‬ليقدم أول ترجم ٍة شامل ٍة للكتاب املقدس مبنهجي ٍة واضحة‪ ،‬وال زال مسيحيو العامل يعتمدون عىل ترجمته‪ .‬وهذا يغطي صور ًة عن حجم تأثري العمل الذي‬ ‫أنجزه‪.‬‬ ‫‪SISMEL – Edizioni del Galluzzo.‬‬ ‫وثني وأ ٍّم مسيحي ٍة لقّنته أوىل تعاليم املسيحية‪.‬‬ ‫‪ُ -6‬ولد القدّيس أوغسطني (أوغسطينوس) يف ‪ 13‬نوفمرب سنة ‪ 354‬م بطاجسطا (‪ ، )Thagaste‬سوق أهراس بالجزائر اليوم‪ ،‬من ٍ‬ ‫أب ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ّ‬ ‫(الشك) حني انتقل إىل ميالنو مد ّر ًسا‬ ‫سنوات قبل أن يغادر أفريقيا إىل روما ويستق ّر بها‪ .‬تأث ّر باملذهب الريبي‬ ‫خالط أتباع املانويّة وحرض حلقاتهم بقرطاجة مد ًة ناهزت سبع‬ ‫للخطابة ولك ّنه رسعان ما انرصف عنه إىل األفالطون ّية املحدثة واعتنق املسيح ّية سنة ‪386‬م ليعود مجدّدا إىل أفريقيا راه ًبا ث ّم أسقفًا مبدينة إيبونا (ع ّنابة اليوم) سنة ‪396‬م‪ُ .‬ويع ّد‬ ‫القدّيس أوغسطني رائدًا للفلسفة املسيح ّية يف العرص الكنيس الذي امت ّد من القرن الثاين حتّى القرن السادس امليالديّني‪ .‬إذ امت ّد أثر فكره إىل معظم الهوت ّيي العرص الوسيط مثل‬ ‫القدّيس توما األكويني وأنسلم‪ .‬وانطلقت عمليّة البحث عن سبل التوفيق بني اإلميان والعقل أو الفلسفة والالهوت‪ .‬وهذا ما مكّن من انفتاح املسيحيّة عل الفكر اليوناين يف طابعه‬ ‫األفالطوين‪ .‬وكانت ثقافة القديس أوغسطني جامع ًة بني إتقان رضوب البالغة وتعقّب أثر السلف‪ .‬وقد آمن بأ ّن طلب الحكمة ينطلق من اإلميان فو ّحد بذلك بني اإلميان الديني‬ ‫رش‪ .‬وكذلك كتابه «مدينة‬ ‫واليقني العقيل يف تحصيل املعرفة‪ .‬من أبرز مؤلّفاته‪« :‬االعرتافات» وقد كتبه سنة ‪400‬م وحاول من خالله تحليل سريته الروحيّة والفكريّة وتناول معضلة ال ّ‬ ‫املتأصل يف املدينة األرض ّية يقود إىل‬ ‫حب الذات ّ‬ ‫الله» الذي ألّفه إثر نهب روما سنة ‪410‬م ودرس فيه تاريخها مح ّم ًل مسؤول ّية االنحطاط وتدمري املدينة إىل فساد الحاكم‪ .‬ورأى أ ّن ّ‬ ‫لكل األخالق‪.‬‬ ‫حب الخري هو املبدأ الرئييس واألسايس ّ‬ ‫حب الله‪ .‬واعترب أ ّن ّ‬ ‫انتهاك حرمة اإلله وأ ّن بلوغ املدينة السامويّة يستوجب احتقار الذات وتعميق ّ‬ ‫‪Meslin, M. Augustin (Saint) 354-430. In Encyclopédia Universalis.‬‬

‫‪46‬‬


‫األدب املنحول جـ‪3‬‬ ‫د‪ .‬سمرياميس العامري‬

‫يف القرن السادس عرش‪ ،‬أدى عرص النهضة من جه ٍة واإلصالح الديني من جه ٍة أخرى إىل تغيري اآلراء والتأثري عىل الفكر‬ ‫الديني‪ .‬وهكذا استبعد لوتر(‪ Luther )9‬يف عام ‪ 1534‬يف طبعته للعهد الجديد الكتب املنحولة من العهد القديم من‬ ‫موضعها التقليدي فيه وجمعها يف نهاية الكتاب تحت عنوان‪« :‬املنحوالت‪ ،‬الكتب التي ال يجب اعتبارها مساوي ًة‬ ‫للكتابات املقدسة‪ ،‬إمنا املفيدة للقراءة»‪.‬‬ ‫ويف عام ‪ 1546‬عقد مجمع ترانت ‪ ،Trente‬وأق ّرت فيه‬ ‫السلطات الكهنوتية املجتمعة حرصي ًة النسخة «الالتينية»‬ ‫كنسخ ٍة رسمي ٍة للكنيسة الرومانية‪ .‬وكان هذا القرار يف جز ٍء‬ ‫منه موج ًها ضد اإلصالحيني يف املجمع‪ .‬وقد استبعد هذا‬ ‫املجمع بعض الكتب املنحولة مثل كتايب عزرا الثالث والرابع‪،‬‬ ‫بينام حفظ لبعضها اآلخر إلها ًما إلهيًا فأصبحت تُعرف بالكتب‬ ‫القانونية «الثانية» أو امللحقة‪.‬‬ ‫عقد مجمع ترنت بني عامي ‪ 1545‬و‪ 1563‬يف ترنت (أو ترينتو‪ ،‬يف شامل إيطاليا)‪ ،‬وكان املجمع املسكوين التاسع عرش‬ ‫للكنيسة الكاثوليكية‪ .‬كان انعقاده مدفو ًعا باإلصالح الربوتستانتي‪ ،‬الذي ُوصف بأنه تجسي ٌد لإلصالح املضاد‪ .‬أصدر‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫وتوضيحات رئيس ًة لعقيدة الكنيسة‬ ‫بيانات‬ ‫أيضا‬ ‫إدانات ملا اعتُرب‬ ‫املجمع‬ ‫هرطقات ارتكبها أنصار الربوتستانتية‪ ،‬وأصدر ً‬ ‫وتعاليمها‪ ،‬مبا يف ذلك الكتاب املقدس‪ ،‬وقانون الكتاب املقدس‪ ،‬والتقليد املقدس‪ ،‬والخطيئة األصلية‪ ،‬والتربير‪ ،‬والخالص‪،‬‬ ‫‪ -7‬مارتن لوتر (‪ 10‬نوفمرب ‪ 18 - 1483‬فرباير ‪ )1546‬راهب أملاين‪ ،‬وقسيس‪ ،‬وأستاذ لالهوت‪ ،‬و ُمطلق عرص اإلصالح يف أوروبا‪ ،‬بعد اعرتاضه عىل صكوك الغفران‪ .‬نرش يف عام ‪1517‬‬ ‫رسالته الشهرية املؤلفة من ٍ‬ ‫خمس وتسعني نقط ًة تتعلق أغلبها بالهوت التحرير وسلطة البابا يف الحل من «العقاب الزمني للخطيئة»؛ رفضه الرتاجع عن نقاطه الخمس والتسعني‬ ‫بنا ًء عىل طلب البابا ليون العارش عام ‪ 1520‬وطلب اإلمرباطورية الرومانية املقدسة ممثل ًة باإلمرباطور شارل الخامس أدى به للنفي والحرم الكنيس وإدانته مع كتاباته بوصفها‬ ‫مهرطق ًة كنسيًا وخارج ًة عن القوانني املرعيّة يف اإلمرباطوريّة‪ .‬أبرز مقومات فكر لوثر الالهويت هي أ ّن الحصول عىل الخالص أو غفران الخطايا هو هديّة ٌمجانيّ ٌة ونعمة الله من‬ ‫مخلصا‪ ،‬وبالتايل ليس من رشوط نيل الغفران القيام بأي عملٍ‬ ‫تكفريي أو صالح؛ وثانيًا رفض «السلطة التعليمية» يف الكنيسة الكاثوليكية والتي تنيط‬ ‫خالل اإلميان بيسوع املسيح‬ ‫ٍ‬ ‫ً‬ ‫بالبابا القول الفصل فيام يتعلق بتفسري الكتاب املقدس معت ًربا أ ّن لكل امرئٍ الحق يف التفسري؛ وثالثًا أ ّن الكتاب هو املصدر الوحيد للمعرفة املختصة بأمور اإلميان؛ وعارض راب ًعا‬ ‫وخامسا سمح للقسس بالزواج‪ .‬ورغم أن جميع الربوتستانت أو اإلنجيليني يف العامل ميكن‬ ‫سلطة الكهنوت الخاص باعتبار أن جميع املسيحيني يتمتعون بدرجة الكهنوت املقدسة‪،‬‬ ‫ً‬ ‫ردهم إىل أفكار لوثر‪ ،‬إال أن املتحلقني حول تراثه يطلق عليهم اسم الكنيسة اللوثرية‪ .‬قدّم لوتر أيضً ا ترجم ًة خاص ًة به للكتاب املقدس بِلغته املحل ّية بدلً من اللغة الالتين ّية التي‬ ‫كانت اللغة الوحيدة التي سمحت الكنيسة الرومانية باستخدامها لقراءة الكتاب املقدس‪ ،‬ما أث ّر بشكلٍ كبريٍ عىل الكنيسة وعىل الثقافة األملانيّة عمو ًما‪ ،‬حيث ع ّزز اإلصدار من قياس‬ ‫مفردات اللغة األملانيّة وطورت بذلك أيضً ا مبادئ الرتجمة‪ ،‬وأث ّرت ترجمته الحقًا عىل ترجمة امللك جيمس باللغة اإلنكليزية للكتاب املقدس؛ كام ألّف لوثر عددًا كب ًريا من الرتاتيل‬ ‫الدين ّية التي أث ّرت يف تطور فن الرتنيم يف الكنائس‪ .‬يف السنوات األخرية من حياته‪ ،‬تزام ًنا مع مرضه وتدهور حالته الصح ّية‪ ،‬كتب لوثر ضد اليهود وطالب بالتضييق عىل حرياتهم‬ ‫وحرق كنسهم ومنازلهم‪ ،‬ما دفع إىل رشقه مبعاداة الساميّة‪.‬‬ ‫‪1. Plass, Ewald M. “Monasticism,” in What Luther Says: An Anthology. St. Louis: Concordia Publishing House, 1959, 2:964.‬‬ ‫‪2. Ewald M. Plass, What Luther Says, 3 vols., (St. Louis: CPH, 1959), 88, no. 269; M. Reu, Luther and the Scriptures, Columbus, Ohio: Wartburg‬‬ ‫‪Press, 1944), 23.‬‬ ‫‪3. Luther, Martin. Concerning the Ministry (1523), tr. Conrad Bergendoff, in Bergendoff, Conrad (ed.) Luther’s Works. Philadelphia: Fortress Press,‬‬ ‫‪1958, 40:18 ff.‬‬ ‫‪4. Bainton, Roland. Here I Stand: a Life of Martin Luther. New York: Penguin, 1995, p. 223.‬‬

‫‪47‬‬


‫األدب املنحول جـ‪3‬‬ ‫د‪ .‬سمرياميس العامري‬

‫ٍ‬ ‫خمس وعرشين جلس ًة يف الفرتة من ‪13‬‬ ‫واألرسار املقدسة‪ ،‬والقداس اإللهي‪ ،‬وتبجيل القديسني‪ .‬اجتمع املجمع مدة‬ ‫ديسمرب ‪ 1545‬إىل ‪ 4‬ديسمرب ‪ .1563‬أرشف البابا بولس الثالث ‪-‬الذي دعا إىل املجمع‪ -‬عىل الجلسات الثامين األوىل‬ ‫(‪ ،)1545-1547‬بينام أرشف البابا يوليوس الثالث عىل الدورات ‪ 12‬حتى ‪ ،)1551-52( 13‬وأرشف البابا بيوس الرابع عىل‬ ‫الدورات ‪ 17‬حتى ‪.)1562-1563( 25‬‬ ‫أيضا فيام يتعلق بطقوس الكنيسة ومامرساتها‪ .‬يف‬ ‫كانت تبعات املجمع هام ًة ً‬ ‫املداوالت‪ ،‬جعل املجمع النسخة الالتينية لإلنجيل مثالً رسم ًيا لقانون الكتاب‬ ‫املقدس وكلف بإنشاء نسخة قياسية‪ ،‬عىل الرغم من أن هذا مل يتحقق حتى‬ ‫عام ‪ .1590‬يف عام ‪ ،1565‬أي بعد سن ٍة من انتهاء أعامل املجمع‪ ،‬أصدر بيوس‬ ‫الرابع قانون اإلميان املسيحي ترايدنتيني (نسبة إىل ترايدنتوم‪ ،‬وهو االسم‬ ‫الالتيني لرتنت)‪ .‬ثم أصدر خليفته بيوس الخامس التعليم املسيحي الروماين‪،‬‬ ‫ومراجعات لصلوات الساعات واملسيال‪ ،‬يف أعوام ‪ 1568 ،1566‬و‪ 1570‬عىل‬ ‫التوايل‪ .‬أدى هذا بدوره إىل تدوين قداس ترايدنتيني‪ ،‬الذي بقي الشكل األسايس‬ ‫للقداس يف الكنيسة خالل األربعمئة سنة التالية‪ .‬مر أكرث من ثالمثئة عام حتى‬ ‫(‪)8‬‬ ‫انعقد املجمع املسكوين التايل‪ ،‬أول مجمعٍ للفاتيكان‪ ،‬يف عام ‪.1869‬‬ ‫ارتكزت كافة الرتجامت الكاثوليكية حتى القرن العرشين عىل النسخة الالتينية األمر الذي يفرس وجود ‪ 46‬سف ًرا يف العهد‬ ‫القديم من هذه الرتجامت‪ ،‬أما الرتجمة املسكونية للكتاب املقدس التي أُنجزت بالتعاون بني الكاثوليك والربوتستانت‬ ‫واألورثوذكس‪ ،‬فقد أحلت الكتب «القانونية الثانية» يف نهاية العهد القديم مع مقدم ٍة ملفت ٍة جاء فيها‪:‬‬ ‫ككتب قانوني ٍة بالنسبة للكاثوليكيني‪ ،‬والربوتستانت ال‬ ‫اليهود ال يعتربون هذه األسفار موحاةً‪ ،‬ومجمع ترانت يثبتها‬ ‫ٍ‬ ‫حاسم بشأنها بعد‪.‬‬ ‫ككتب موحا ٍة من الله‪ ،‬واألوروثوذكس مل يأخذوا قرا ًرا‬ ‫يقبلون بها‬ ‫ٍ‬ ‫ً‬ ‫جانب سيطر عىل الفكر املسيحي بشكلٍ ٍ‬ ‫خاص طيلة ألفي سنة‪،‬‬ ‫يشري هذا العرض الرسيع إىل ٍ‬ ‫جانب من قصة املنحوالت‪ٌ ،‬‬ ‫لكن تسمية «املنحوالت» هذه‪ ،‬أو حتى «الكتب القانونية الثانية»‪ ،‬تتعلق بجز ٍء ٍ‬ ‫بسيط من مسألة املنحوالت التي يتضح‬ ‫لنا اليوم أنها أوسع بكثريٍ من مجموعة األسفار التي تثري الجدل بني طوائف املسيحية الحديثة!‬

‫‪8- Hans Kühner Papstgeschichte, Fischer, Frankfurt 1960, 118‬‬ ‫‪Trent, Council of” in Cross, F. L. (ed.) The Oxford Dictionary of the Christian Church, Oxford University Press, 2005‬‬ ‫‪Trent, Council of” in Cross, F. L. (ed.) The Oxford Dictionary of the Christian Church, Oxford University Press, 2005‬‬

‫‪48‬‬


‫ﺍﻟﻤﺰﺩﺭﻱ‬ ‫اﻟﺜﻤﻦ اﻟﺬي دﻓﻌﺘﻪ ﻟﱰ اﻹﺳﻼم‬

‫وﻟﻴﺪ اﻟﺤﺴﻴﻨﻲ‬

‫اﻟﻜﺘــﺎب وﺛﻴﻘــﺔ ﻣﻬﻤــﺔ ﻳــﺮوي ﻓﻴﻬــﺎ وﻟﻴــﺪ اﻟﺤﺴــﻴﻨﻲ ﻗﺼــﺔ اﳌﻌﺎﻧــﺎة اﻟﺘــﻲ ﻣــﺮ ﺑﻬــﺎ ﻣــﻦ‬ ‫ﺟـﺮاء ﺗﺮﻛــﻪ ﻟﻺﺳــﻼم وﺟﻬــﺮه ﺑﺬﻟــﻚ‪ ،‬ﺑــﺪ ًءا ﻣــﻦ ﺗﺴــﺎؤﻻت ـــﺮ ﺑﻬــﺎ ﻛﻠﻨــﺎ إﱃ ﻧﻘــﺪه اﻟﺴــﺎﺧﺮ‬ ‫ﻟﻠﺪﻳــﻦ‪ ،‬ﻓﺴــﺠﻨﻪ وﺗﻌﺮﺿــﻪ ﻟﻠﺘﻌﺬﻳــﺐ واﻧﺘﻬــﺎء ﺑﻠﺠﻮﺋــﻪ إﱃ ﻓﺮﻧﺴــﺎ ﺣﻴــﺚ ﻻ زال ﻳﻌﻤــﻞ‬ ‫ﺑــﺪأب ﰲ ﻣﴩوﻋــﻪ اﻟﻔﻜــﺮي‪ .‬ﻇﻬــﺮ ﻛﺘﺎﺑــﻪ »اﳌــﺰدري« ﺑﺎﻟﻔﺮﻧﺴــﻴﺔ ﺗﺤــﺖ ﻋﻨــﻮان‬ ‫‪ Blasphémateur‬وﻣﺆﺧ ًﺮا ﺖﺖ ﺗﺮﺟﻤﺘﻪ إﱃ اﻹﻧﺠﻠﻴﺰﻳﺔ ﺑﻌﻨﻮان ‪ ،Blasphemer‬وﻫﻮ ﻣﱰﺟ ٌﻢ‬ ‫أﻳﻀﺎ إﱃ اﻟﭙﻮﻟﻨﺪﻳﺔ واﻟﺪﺎﺎرﻛﻴﺔ‪ .‬اﻟﻨﺴﺨﺔ اﻹﻧﺠﻠﻴﺰﻳﺔ ﻣﻮﺟﻮدة ﻋﲆ ﻣﺘﺠﺮ أﻣﺎزون ‪Amazon.com‬‬ ‫ً‬

‫‪49‬‬


‫انعكاسات الردع الديني عىل السلوك‬

‫‪Боуху Юсеф‬‬

‫ِمن املعروف منذ عصور البرشية املبكرة‬ ‫استخدام التعاليم الدينية كأدا ٍة لردع‬ ‫اإلنسان عن القيام بالجرائم وضامن‬ ‫استقرار املجتمع‪ .‬لكن هذا الرادع أصبح‬ ‫شيئًا زائ ًدا والبرشية يف غ ًنى عنه اآلن‪،‬‬ ‫حيث أن الثورة الفكرية والعلمية قد‬ ‫فهم أعمق لألخالق‬ ‫وهبت اإلنسان ً‬ ‫ومصدرها الطبيعي‪ ،‬فتم َسن القوانني‬ ‫الوضعية العلامنية التي تُعترب أكرث‬ ‫شمول للفئات البرشية‬ ‫ً‬ ‫عرصي ًة وأكرث‬ ‫املختلفة‪ ،‬وقابل ًة للمناقشة والنقد‬ ‫والتغيري مع كل طفر ٍة يف الحاجيات‬ ‫البرشية وأخالقياتها املتغرية‪.‬‬ ‫‪50‬‬


‫انعكاسات الردع الديني‬ ‫عىل السلوك‬ ‫‪Боуху Юсеф‬‬

‫وأما فكرة فرض التعاليم الدينية لكبح الجموح الحيوانية لدى اإلنسان‪ ،‬فلم تعد بحاجتها سوى املجتمعات الغارقة يف‬ ‫الجهل والبدائية والتخلف‪ ،‬حيث أكرث الشعوب التي تربط بني األخالق والدين هي الشعوب التي تحكمها سلطاتٌ ديني ٌة‬ ‫لم واستقرا ًرا اجتامع ًّيا‬ ‫وتعاين أزم ًة علمي ًة ومعرفي ًة متنعها من تحقيق الفهم الشامل لألخالقيات املعارصة التي توفر ِس ً‬ ‫أفضل من التعاليم الدينية البالية‪.‬‬ ‫لذلك فأي مجتمعٍ تجده يربط بني اإللحاد واالنحالل األخالقي‬ ‫ويربط بني إعطاء الحرية للمرأة والدعارة والعهر‪ ،‬فاعلم أنه‬ ‫مجتم ٌع جاهل‪ ،‬وعاد ًة ما تحدث فيه الجرائم واالنتهاكات‬ ‫أكرث من املجتمعات األخرى التي متنح اإلنسان حرية االعتقاد‬ ‫والتعبري وتحمي األقليات وتعطيها كامل حقوقها‪.‬‬ ‫وبالتزامن مع التطور األخالقي الذي عرفته البرشية يف العرص‬ ‫الحديث‪ ،‬صارت التعاليم الدينية تلعب عكس الدور الذي تم‬ ‫س ُّنها ألجله‪ .‬حيث صارت ت ُحثُّ عىل ارتكاب الجرائم واالنتهاكات‬ ‫والكراهية وتثري الفوىض يف املجتمعات التي تتبناها‪.‬‬ ‫ديني ليك نلتزم باألخالق؟»‬ ‫مام يثري سؤال «هل حقًّا نحن يف حاج ٍة إىل راد ٍع ٍّ‬ ‫يقول املثل الشهري‪« :‬كل ممنو ٍع مرغوب»‪.‬‬ ‫وهذا املثال يتجىل بوضو ٍح أثناء املقارنة بني سلوك امللحدين الذين يستمدون أخالقهم من الضمري األخالقي الطبيعي الذي‬ ‫يتسم بالعشوائية‪ ،‬واملؤمنني الذين يستمدون أخالقهم من التعاليم الدينية التي تتميز باللجوء إىل التهديد والتخويف‬ ‫بالعقاب الدنيوي واألخروي الخرايف لضامن االلتزام بها‪.‬‬ ‫فبدل من أن يقوم بكبح‬ ‫حيث ب ّي َن ْت العديد من األبحاث والدراسات العلمية انعكاسات الرتهيب الديني عىل السلوك‪ً ،‬‬ ‫السلوك السلبي‪ ،‬يزيد الرغبة يف ارتكابه‪.‬‬ ‫لكل من هذه‬ ‫ومبا أن أكرث ما تركّز التعاليم الدينية عىل تحرميه هي جرائم كالقتل والرسقة والدعارة‪ ،‬فسنتط ّرق ٍّ‬ ‫املمنوعات عىل حد ٍة ونرى هل تؤدي هذه التعاليم إىل تجنبها أم إىل االنكباب عليها بشكلٍ مضاعف‪:‬‬ ‫‪51‬‬


‫انعكاسات الردع الديني‬ ‫عىل السلوك‬ ‫‪Боуху Юсеф‬‬

‫ً‬ ‫أول ‪ -‬جرائم القتل‬

‫من املعروف أن األديان كلها تحتوي عىل تعاليم متنع من ارتكاب جرمية القتل‪ ،‬بعضها متنع القتل بصف ٍة مطلق ٍة‪ ،‬والبعض‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ألشخاص معيّنني‪ ،‬كاملرتدين وأصحاب األديان األخرى‪ .‬لكن هذا املنع الديني‬ ‫ظروف معين ٍة أو‬ ‫األخر يحدد القتل تحت‬ ‫مل تكن له أية فائد ٍة حقيقي ٍة يف تاريخ الحضارة‬ ‫البرشية‪ ،‬بل كانت األديان هي أكرث العوامل التي‬ ‫تسببت باإلبادات الجامعية والحروب عىل مر‬ ‫(‪)3 ،2 ،1‬‬ ‫التاريخ‪.‬‬ ‫ولدراسة تأثري التعاليم الدينية عىل منع جرائم‬ ‫ٍ‬ ‫ببحث كبريٍ يف علم‬ ‫القتل‪ ،‬قامت جامعة شيكاغو‬ ‫االجتامع وعلم الجرمية لفهم تأثري التدين عىل‬ ‫الجرمية‪ ،‬فكانت النتيجة سلبي ًة‪ ،‬حيث تم اكتشاف‬ ‫سلبي‬ ‫أن تأثري الدين عىل نِسب الجرمية تأث ٌري‬ ‫ٌّ‬ ‫وال يساهم يف خفض نِسب الجرمية‪ ،‬بل يف بعض‬ ‫األحيان تحدث الكثري من جرائم القتل بسبب‬ ‫(‪)4‬‬ ‫دوافع دينية‪.‬‬

‫مدينة أيتام األرمن (غيومري)‪ :‬احتوت من فقدوا أهلهم كنتيجة لإلبادة التي ارتكبها‬ ‫العثامنيون بحق األرمن‬

‫ونرشت مجلة علم الجرمية النظرية ‪ Theoretical Criminology‬دراس ًة أجريت عىل العديد من مجرمي الشوارع يف‬ ‫ٍ‬ ‫قناعات ديني ٍة قوية‪ .‬وليس ذلك فحسب‪ ،‬حيث تم‬ ‫الواليات املتحدة األمريكية‪ ،‬والحظت أن هؤالء املجرمني هم ذوو‬ ‫استجواب ‪ 48‬من أبرز زعامء العصابات وعندما تم سؤالهم عن سبب مخاطرتهم بارتكاب الجرائم دون الخوف من‬ ‫املوت أو السجن‪ ،‬أجابوا بأنهم ال يهتمون بالحياة الدنيا وأن الحياة الحقيقية هي التي بعد املوت ولذلك يسارعون‬ ‫(‪)5‬‬ ‫بارتكاب الجرائم بدون الخوف من اإلعدام أو السجن‪.‬‬

‫‪1- Schliesser, C. From “a Theology of Genocide” to a “Theology of Reconciliation”? On the Role of Christian Churches in the Nexus of Religion and‬‬ ‫‪Genocide in Rwanda. Religions 2018, 9, 34. https://doi.org/10.3390/rel9020034‬‬ ‫‪2- Bergen D.L. (2008) “Religion and Genocide: A Historiographical Survey”. In: Stone D. (eds) The Historiography of Genocide. Palgrave Macmillan,‬‬ ‫‪London. https://doi.org/10.1057/9780230297784_8‬‬ ‫‪3- David J. B. Trim, The Reformation and Wars of Religion, Liberty Magazine, May/June 2010, www.libertymagazine.org.‬‬ ‫‪4- Heaton, P. “Does Religion Really Reduce Crime?” The Journal of Law and Economics, Volume 49, Number 1. https://doi.org/10.1086/501087‬‬ ‫‪5- Topalli V, Brezina T, Bernhardt M. With God on my side: The paradoxical relationship between religious belief and criminality among hardcore‬‬ ‫‪street offenders. Theoretical Criminology. 2013;17(1):49-69. doi:10.1177/1362480612463114‬‬

‫‪52‬‬


‫انعكاسات الردع الديني‬ ‫عىل السلوك‬ ‫‪Боуху Юсеф‬‬

‫ثان ًيا ‪ -‬جرائم الرسقة‬

‫تفتخر األديان بكونها من أول األنظمة التي سنت‬ ‫قوانني متنع من الرسقة‪ ،‬وبعضها قد س َّن تعاليم‬ ‫شديدة البشاعة كقطع يد السارق يف اإلسالم‪.‬‬ ‫ولكن هل ساهمت أي من تلك التعاليم البالية‬ ‫عىل كبح اللصوص عن ارتكاب جرائم الرسقة‬ ‫وباألخص لدى املتدينني؟‬ ‫لندع علم النفس يجيب‪:‬‬ ‫يقول الربوفيسور ستاننت سيمناو ‪ Stanton E. Samenow‬صاحب دكتوراه يف العقل اإلجرامي للمجرمني يف دراس ٍة‬ ‫ٍ‬ ‫كشخص متدين»‪:‬‬ ‫بعنوان «املجرم‬ ‫«يرصح العديد من الرجال والنساء الذين ميارسون السلوك اإلجرامي مدى الحياة بأنهم مخلصون لدينٍ ما‪ ،‬وقد يحرضون‬ ‫الكنيسة أو املسجد أو الكنيس اليهودي‪ ،‬ويقرأون الكتابات الدينية‪ ،‬ويقتبسون من النصوص املقدسة‪ ،‬ويأخذون الدروس‪،‬‬ ‫ويقضون األعياد‪ ،‬ويرسل البعض أطفالهم إىل املدارس الدينية‪ ،‬ويزين الكثريون أجسادهم مبجوهر ٍ‬ ‫ات ذات طبيع ٍة دينية»‪.‬‬ ‫(‪)6‬‬ ‫فعال إليقاف الجرائم مبختلف أنواعها‪.‬‬ ‫حل ً‬ ‫ويؤكد عىل أن التعاليم الدينية ليست ًّ‬ ‫وأفضل األمثلة عىل فشل هذه التعاليم يف العامل‬ ‫اإلسالمي هو تزايد جرائم الرسقة فيه بأعدا ٍد مهول ٍة‬ ‫ويف جميع الدول العربية‪ .‬بل إن أكرب الرسقات يف‬ ‫التاريخ قد حدثت يف العامل اإلسالمي‪ .‬فمن منا ال‬ ‫يذكر رسقة ‪ 920‬مليون دوالر من البنك املركزي‬ ‫العراقي والتي نُسبت الحقًا للرئيس العراقي‬ ‫األسبق صدام حسني وذلك قبيل الغزو األمرييك‪،‬‬ ‫والتي حطمت الرقم القيايس كأكرب عملية رسق ٍة‬ ‫ٍ‬ ‫لبنك يف التاريخ؟(‪ )7‬باإلضافة إىل رسقة مبلغ ‪210‬‬ ‫مليون دوالر من البنك الربيطاين يف لبنان سنة‬ ‫(‪)8‬‬ ‫‪ ،1976‬وغريهام الكثري‪.‬‬ ‫‪6- Samenow S, The Criminal as a “Religious” Person Prayer at ten, robbery at noon, Psychology Today, April 18, 2016.‬‬ ‫‪7- Greatest robbery of a bank, Dar es Salaam Investment Bank in Baghdad, Iraq, www.guinnessworldrecords.com, 11 JULY 2007.‬‬ ‫‪ -8‬أكرب رسقات البنوك يف التاريخ‪ :‬أغلبها يف العامل العريب‪ ،‬العريب الجديد ‪ www.alaraby.co.uk، 12‬مايو ‪.2017‬‬

‫‪53‬‬


‫انعكاسات الردع الديني‬ ‫عىل السلوك‬ ‫‪Боуху Юсеф‬‬

‫ثالثًا ‪ -‬جرائم الجنس‬

‫إن كان هنالك يش ٌء تف ّننت األديان يف سن قوانني تق ّيده ومتنعه متا ًما يف بعض األحيان فهو الجنس‪ ،‬وخاص ًة خارج إطار‬ ‫الزواج‪ .‬وحسب رؤي ٍة أنرثوبولوجية‪ ،‬يرجع السبب وراء ذلك إىل تزامن نشأة األديان األوىل مع نشأة نظام األرسة‪ ،‬ولذلك‬ ‫رشعت هذه األخرية مجموع ًة من الرشائع ملنع أي صل ٍة جنسي ٍة بعي ًدا عن طريف الزوجية لحامية هذه األرسة من التفكك‪.‬‬ ‫ّ‬

‫ومع تطور الحضارة البرشية تطورت هذه الرشائع‬ ‫حسب املناطق‪ ،‬حيث ظهرت رشائع وحشي ٌة مثل‬ ‫ٍ‬ ‫كعقوبات ضد كل من ينتهك هذه‬ ‫ال َجلد والرجم‬ ‫الرشائع‪ ،‬وباألخص يف األديان اإلبراهيمية‪ .‬لكن‬ ‫مثل هذه القوانني الهمجية مل تَعد تليق باإلنسان‬ ‫الحديث وتتعارض متا ًما مع الفهم العرصي‬ ‫للعالقات الجنسية‪ .‬بل صار هذا التخويف الديني‬ ‫مهم يف زيادة الجرائم الجنسية‬ ‫من الجنس ً‬ ‫عامل ًّ‬ ‫خصوصا يف الدول‬ ‫وتعزيز الرغبة يف القيام بها‪،‬‬ ‫ً‬ ‫املتدينة‪.‬‬ ‫وألجل توضيح هذه النقطة سنعرض أمثل ًة لهذا التأثري يف الدول التي تتب ّنى أكرب دي َن ْي يف العامل اليوم وهام املسيحية‬ ‫واإلسالم‪ ،‬وسنبدأ بالعامل املسيحي‪:‬‬ ‫لقد صدرت العديد من اإلحصائيات بخصوص نِسب الدعارة يف الدول‬ ‫الدينية املسيحية‪ ،‬وكمثا ٍل عىل ذلك دراس ٌة أمريكي ٌة رصدت أعىل نسب‬ ‫جرائم االغتصاب والدعارة وحمل املراهقات والطالق يف الواليات‬ ‫املحافظة األكرث تديُّ ًنا يف الواليات املتحدة األمريكية واملعروفة باسم‬ ‫«حزام الكتاب املقدس» جنوب أمريكا‪ .‬حيث تقول الدراسة‪:‬‬ ‫ٌ‬ ‫أيضا أعىل‬ ‫«إنه ألم ٌر‬ ‫مضحك نو ًعا ما أن نفس املسيحيني اإلنجيليني الذين يتفوقون باستمرار يف “القيم العائلية” لديهم ً‬ ‫معدل طالقٍ مقارن ًة بأي مجموع ٍة يف البالد‪ .‬وأعىل بكثري من امللحدين أو أي مجموع ٍة ديني ٍة أخرى‪ .‬ويحتوي حزام‬ ‫أيضا عىل أعىل معد ٍل لحمل املراهقات ومعد ٍل لعدوى األمراض املنقولة باالتصال الجنيس أعىل بكثريٍ‬ ‫الكتاب املقدس ً‬ ‫من املتوسط عىل املستوى الوطني‪ .‬ومعدالت القتل؟ حس ًنا‪ ،‬دعنا نقول فقط أن رعاة البقر حاميل املسدسات هؤالء‬ ‫يسجلون أرقا ًما قياسي ًة مثري ًة لإلعجاب لجرائم القتل»‪.‬‬ ‫‪54‬‬


‫انعكاسات الردع الديني‬ ‫عىل السلوك‬ ‫‪Боуху Юсеф‬‬

‫وهنا تتضح املفارقة املضحكة بني التحريم وزيادة االنكباب عىل املح َّرم(‪.)9‬‬ ‫أما بخصوص العامل اإلسالمي‪ ،‬فهو ال يقل سو ًءا عن نظريه املسيحي يف هذه الظاهرة‪ .‬حيث يف اإلسالم ليس مامرسة‬ ‫الجنس خارج الزواج فقط هي املحرمة (طب ًعا تحت حدو ٍد معينة‪ ،‬فاإلسالم يجيز امتالك ملكات مي ٍني وجوا ٍر وال يحدد‬ ‫(‪)12 ، 11 ،10‬‬ ‫الجنس يف الزواج)‪ ،‬بل حتى التفكري يف الجنس واالستمناء يعتربان يف العرف اإلسالمي فسوقًا وإمثًا‪.‬‬ ‫ولكن هل يساعد هذا التحريم املشدد يف كبح األفكار الجنسية أم أنه يزيد من تراكمها؟‬ ‫يف الحقيقة ال حاجة لالستشهاد بدر ٍ‬ ‫اسات علمي ٍة إلثبات األثر العكيس‬ ‫للتحريم اإلسالمي ملختلف املتع والعالقات الجنسية عىل العامل‬ ‫اإلسالمي الذي يحتل املراتب األوىل عامل ًّيا يف نسب التحرش الجنيس‪،‬‬ ‫وذلك نتيج ًة للكبت الذي يتم تربية املسلم‪ -‬منذ نعومة أظفاره‪ -‬عليه‪،‬‬ ‫وكذلك غياب الثقافة الجنسية يف الدول اإلسالمية‪.‬‬ ‫ولكن توجد بالفعل دراساتٌ علمي ٌة أشارت إىل التأثري السلبي ملحاوالت‬ ‫كبت األفكار الجنسية وكونها تزيد معاناة الكبت الجنيس لدى الشباب‬ ‫(‪)13‬‬ ‫املتدينني ويف بعض األحيان تؤ ّدي إىل ُع ٍ‬ ‫قد نفسية‪.‬‬ ‫وهناك دراس ٌة تم نرشها يف مجلة أبحاث الجنس ‪ Journal of sex research‬أفادت بخطورة قمع األفكار الجنسية لدى‬ ‫مسح شمل ‪ 661‬مراهقًا أن املراهقني املتدينني أفادوا بانشغا ٍل أكرب باألفكار واألوهام الجنسية غري‬ ‫املراهقني‪ .‬وأظهر ٌ‬ ‫(‪)14‬‬ ‫املرغوب فيها أكرث من املراهقني امللحدين‪.‬‬ ‫ولكن قد يقفز مسل ٌم ليقول «بأن السبب وراء تلك األفكار الجنسية هو النساء املتربجات والكاسيات العاريات‪ ،‬ولو أن‬ ‫النساء التز ْم َن بالحجاب ملا تح ّرش بهن أح ٌد وملا أث َ ْرن رغبة ٍ‬ ‫أحد يف التحرش بهن»‪.‬‬ ‫ولكن ما يجهله هذا املغ ّيب املسكني أنه حتى املحجبات مل يسل ْمن من جرائم التحرش الجنيس بهن يف جميع الدول‬ ‫‪ -9‬موقع مراكز السيطرة عىل األمراض والوقاية منها يف أمريكا ‪:Centers for Disease Control and Prevention‬‬ ‫‪Morbidity and Mortality Weekly Report (MMWR), June 26, 1998 / 47(24);497-504.‬‬ ‫‪ -10‬سؤال مسجل عىل اليوتيوب بعنوان «هل يحاسب العبد عىل التخيالت الجنسية ؟» عىل قناة الشيخ وليد راشد السعيدان‪.‬‬ ‫‪ -11‬موقع إسالم ويب عىل اإلنرتنت‪ .‬الفتوى رقم ‪« ،7170‬حكم العادة الرسية»‪.‬‬ ‫‪ -12‬موقع إسالم ويب عىل اإلنرتنت‪ .‬الفتوى رقم ‪« ،78095‬حكم تخيل مامرسة الجنس من العزب واملتزوج»‪.‬‬ ‫‪13- Efrati Y. God, I Can’t Stop Thinking About Sex! The Rebound Effect in Unsuccessful Suppression of Sexual Thoughts Among Religious Adoles‬‬‫‪cents. J Sex Res. 2019 Feb;56(2):146-155. doi: 10.1080/00224499.2018.1461796.‬‬ ‫‪ -14‬نفس املرجع السابق‬

‫‪55‬‬


‫انعكاسات الردع الديني‬ ‫عىل السلوك‬ ‫‪Боуху Юсеф‬‬

‫بينت كون الحجاب اإلسالمي قد ساهم يف ارتفاع نِسب‬ ‫اإلسالمية‪ ،‬حيث أنه يف مقال ٍة أصدرت ْها صحيفة ‪ْ ،The Guardian‬‬ ‫التحرش الجنيس بالفتيات يف إيران وهي دول ٌة إسالمي ٌة فيها لبس الحجاب إجباري‪:‬‬ ‫«تقول ‘‘سحر’’‪ ،‬وهي امرأ ٌة غري إيراني ٍة تبلغ من العمر ‪ 26‬عا ًما درست يف طهران ملدة عام‪’’ :‬نشأتُ يف ٍ‬ ‫إسالمي آخر‬ ‫بلد‬ ‫ٍّ‬ ‫حيث الحجاب ليس إلزام ًّيا‪ ،‬ودامئًا ما كان يقال يل‪‘‘ :‬الحجاب موجو ٌد لحامية املرأة من رغبة الرجال‪ ،‬ألن أجسادنا عور ٌة‬ ‫زلت أتعرض للمضايقات يف‬ ‫امي‪ ،‬وما ُ‬ ‫قد تنرش الفتنة فيام بينهم‘‘‪ .‬ولكن بعد ذلك ُ‬ ‫أتيت إىل إيران‪ ،‬حيث الحجاب إلز ٌّ‬ ‫(‪)15‬‬ ‫ويس ُّبونني‪ .‬إنني أشعر بأنني عاري ٌة وبال قيمة’’»‪.‬‬ ‫الشوارع‪ ،‬فالرجال يحدقون يب بشكلٍ عدواين‪ ،‬ويتحدثون معي‪ُ ،‬‬ ‫ٍ‬ ‫جديد ليقول بأن هؤالء شيع ٌة وال ميثلوننا نحن كأهل سنة‪.‬‬ ‫وقد يقفز املسلم من‬ ‫والرد عليه بسيط‪ .‬فنحن هنا ال نناقش مسألة صحة األديان من خطئها‪ ،‬فاألديان يف النهاية كلها مهازل وخرافاتٌ ال‬ ‫سني برضورة لبس الحجاب‬ ‫صحة فيها‪ ،‬بل نناقش قضية عالقة الحجاب بالتحرش الجنيس‪ .‬وكام تعتقد أنت‬ ‫ٍ‬ ‫كمسلم ٍّ‬ ‫للمرأة‪ ،‬فاملسلم الشيعي كذلك يعتقد بنفس اليشء‪ ،‬وكالكام تريان بأنه وسيل ٌة ممتاز ٌة للحد من التحرش‪ .‬ولذلك إذا تم‬ ‫خرق هذه القاعدة سوا ٌء يف دول ٍة سني ٍة أو شيعية‪ ،‬فهذا ُيثلكام م ًعا ويُسقط ادعاءكام م ًعا‪ .‬ولكن ليك يرتاح بالك عزيزي‬ ‫أيضا‪ ،‬حيث تقول‬ ‫السني‪ ،‬يصف التقرير التايل حاالت التحرش الجنيس بالفتيات املحجبات يف السعودية‪ ،‬البلد السني ً‬ ‫«هيومن رايتس ووتش»‪ :‬إن النساء يف السعودية ينرشن شهادات التحرش الجنيس عىل تويرت تحت أسام ٍء مستعار ٍة خوفًا‬ ‫(‪)16‬‬ ‫من القانون الديني السعودي املجحف الذي يعاقب املتح ِّرش واملتح َّرش بها م ًعا‪.‬‬ ‫ٌ‬ ‫معروف يف علم النفس تحت مسمى «تأثري سرتايساند» ‪ The Streisand Effect‬لكن هذا التأثري‬ ‫وختا ًما‪ ،‬فإن هذا التأثري‬ ‫يزداد يف الحاالت التي يكون فيها املنع من القيام بيش ٍء ما‬ ‫تحت خلفي ٍة ديني ٍة أو تحت مراقب ٍة مشددة‪.‬‬ ‫ﺗﺄﺛ ﺳﱰاﻳﺴﺎﻧﺪ‬ ‫وهو تأث ٌري إن دل عىل يش ٍء فإمنا يدل عىل كون التعاليم الدينية‬ ‫ﻛﻞ ﻣﻤﻨﻮع ﻣﺮﻏﻮب‬ ‫التي تفرض نفسها بواسطة التهديد والوعيد ال فائدة ت ُر َجى‬ ‫ﻳﺎ ﺳﺎﺗﺮ! ﻣﺎذا‬ ‫ﻻ أﻋﺮف‪ ،‬ﻟﻜﻨﻨﻲ‬ ‫ﻳﻮﺟﺪ ﺧﻠﻒ‬ ‫ﺳﺄﻋﺮف!‬ ‫منها للحد من السلوك اإلجرامي‪ ،‬وإمنا األخالق الحقيقية‬ ‫اﻟﺴﻮر؟!‬ ‫واألعامل الصالحة هي تلك التي تنبع من الضمري األخالقي‬ ‫الحي والتي ال تحتاج ال إىل عىص التهديد وال إىل جزرة الرتغيب‬ ‫للقيام بها‪ .‬فاملؤمن الذي ميتنع عن القتل والرسقة واالغتصاب‬ ‫ألن هنالك كامريا مراقب ٍة ساموي ٍة تراقبه‪ ،‬ال يختلف عن الكلب‬ ‫الذي ميتنع عن رسقة الطعام ألن صاحبه يراقبه‪.‬‬ ‫‪15- How the hijab has made sexual harassment worse in Iran, TheGuardian.com, 15 Sep 2015.‬‬ ‫‪16- Saudi women are publicly calling out their sexual harassers online, The New Arab, english.alaraby.co.uk, 15 April, 2020.‬‬

‫‪56‬‬


‫األخطاءاللغوية يف‬

‫ال���� ال��ي�‬ ‫د‪ .‬سامي الذيب‬

‫كتاب أخطاء القرآن حيصر أكثر من ألفني ومخسمائة خطأ لغوي يف القرآن ويرتجم‬ ‫النص القرآني لثالث لغات ويقدمه ألول مرة بالرتتيب التارخيي الصحيح‬ ‫ً‬ ‫متوفر اآلن على موقع أمازون وجمانا على الرابط التايل‬ ‫‪goo.gl/emoQDp‬‬ ‫‪57‬‬


‫املسيحية واملحروسة‬ ‫الجزء ‪9‬‬ ‫كاهن أو عا ٍمل أن يُنكر أ ّن‬ ‫أي‬ ‫ٍ‬ ‫ال يستطيع ّ‬ ‫ال ِقوى اإلعجازية املنسوبة للمسيح ولرسله‬ ‫كانت هي السبب األقوى واألهم النتشار‬ ‫املسيحية قدميًا وحديثًا‪ ،‬فأوىل معجزات‬ ‫املسيح كانت هي الوالدة العذرية‪،‬‬ ‫وبعدها قام املسيح بآالف املعجزات‬ ‫يف الكتب غري املق ّدسة من ِقبل‬ ‫ات‬ ‫الكنيسة وبالتايل فهي معجز ٌ‬ ‫ٍ‬ ‫غري‬ ‫معرتف بها‪ ،‬مثل صنعِ‬ ‫عصافري من ط ٍني ونفخ الروح‬ ‫فيها‬

‫محمد شومان‬ ‫‪58‬‬


‫املسيحية واملحروسة‬ ‫الجزء التاسع‬ ‫محمد شومان‬

‫ومثل معجزة التكلم يف املهد‪ ،‬وإن كانت املعجزات اإلنجيلية تبدأ من معجزة‬ ‫تحويل املاء إىل خم ٍر يف فرح قانا الجليل‪ ،‬وكانت أ ّول محط ٍة إعجازي ٍة رسمي ٍة‬ ‫يف مسرية يسوع اإلنجييل عندما ذهب ليتع ّمد عىل يد يوحنا املعمدان‪،‬‬ ‫ومفهوم التعميد هذا كان اخرتا ًعا جدي ًدا من النبي يوحنا‪ ،‬فقبله كان‬ ‫اليهودي املؤمن يذهب إىل الهيكل ويعرتف للكاهن بخطاياه الذي يضع‬ ‫يده بدوره عىل رأس حيوانٍ ما لتنتقل الخطيئة من عىل رأس الخاطئ‬ ‫إىل رأس الحيوان املسكني‪ ،‬وطب ًعا كان الكهنة يذبحون هذا الحيوان حتى‬ ‫متوت الخطيئة معه ويتح ّملون بجسار ٍة يُحسدون عليها أكل لحم الحيوان‬ ‫الخاطئ هذا‪ ،‬أ ّما يوحنا املسكني فقد كان يرفض الذبائح ألنه مل يكن من‬ ‫هواة اللحوم وكان يكتفي باعرتاف املذنب بذنبه وندمه عليه‪ ،‬ثم يقوم‬ ‫بتغطيس رأسه يف املاء‪ ،‬كنو ٍع من أنواع التطهري الرمزي للخطايا البرشية‪.‬‬ ‫الرب يسوع شخص ًيا إىل النبي يوحنا املعمدان ليتع ّمد عىل يديه‪ ،‬ونعلم طب ًعا أ ّن يسوع الرب ال ميكن أن‬ ‫وعندما جاء ّ‬ ‫يخطئ حتى يتع ّمد ليتطهر من خطيئته‪ ،‬ولكنه تواضع اآللهة الذي ال نستطيع نحن البرش الفانني أن نفهمه أو حتى‬ ‫نتفهمه ‪-‬وهنا يف هذه البقعة املباركة حدثت أوىل معجزات الرب يسوع أال وهى معجزة الحاممة ‪-‬نالحظ أن هناك‬ ‫أيضا عالمة موافقة‬ ‫عالق ًة وثيق ًة بني العهدين املق ّدسني وبني الحاممة‪ ،‬فهي كانت بُرشة خريٍ لنو ٍح وركّاب سفينته‪ ،‬وكانت ً‬ ‫اإلله عىل زواج أ ّم يسوع من الق ّديس يعقوب‪ ،‬وها هو أخ ًريا الروح القدس شخصيًا يتنكر يف هيئة حامم ٍة مبارك ٍة ويظهر‬ ‫وح الل ِه نَاز ًِل‬ ‫يف لحظ ٍة إنجيلي ٍة حاسمة‪« :‬فَلَمَّ ا ْعتَ َم َد يَ ُسو ُع َص ِع َد لِلْ َوق ِْت ِم َن ال َْم ِء‪َ ،‬وإِذَا الس َ​َّم َواتُ ق َِد انْ َفتَ َح ْت لَ ُه‪ ،‬فَ َرأَى ُر َ‬ ‫الس َم َو ِ‬ ‫س ْرتُ » (متّى ‪.)17-16 :3‬‬ ‫ِيب ال َِّذي ِب ِه ُ ِ‬ ‫ِمث َْل َح َم َم ٍة َوآتِ ًيا َعلَ ْي ِه‪َ ،‬و َص ْوتٌ ِم َن َّ‬ ‫ات قَائِ ًل‪ :‬هذَا ُه َو ابْني الْ َحب ُ‬ ‫النص املق ّدس شغل املهتمني بالشأن اإلنجييل آلالف السنني وحتى اليوم‪،‬‬ ‫هذا ّ‬ ‫رجل مباركًا‪ ،‬وعند التعميد هبط عليه ابن الله من‬ ‫فمنهم من يقول أ ّن يسوع كان ً‬ ‫أيضا‪ ،‬بكيفي ٍة‬ ‫كامل وإل ًها ً‬ ‫السامء عىل هيئة حامم ٍة ليتّحد به ويصري إنسانًا ً‬ ‫كامل ً‬ ‫فوق طاقة العقل البرشي أن يفهمها‪ ،‬ومنهم من يقول أ ّن اإلله قد ولد إلها‪ ،‬وكان‬ ‫التعميد هو فقط محطة البداية للرسالة الساموية‪ ،‬ومنهم من تطرف وأفتى بأ ّن‬ ‫أساسا بل كان موجو ًدا منذ البدء مع اإلله األب‪ ،‬وأ ّن األب ليس‬ ‫اإلله االبن مل يولد ً‬ ‫ٍ‬ ‫رشيك لالبن يف التواجد األزيل‪ ،‬عىل كلٍ ‪ ،‬هذه‬ ‫أبًا ألنه أكرب من االبن‪ ،‬بل هو مجرد‬ ‫ٍ‬ ‫خزعبالت نتحدى أن يكون البابا نفسه ميتلك القدرة عىل فهمها أو رشحها‬ ‫مجرد‬ ‫أو حتى هضمها‪ ،‬وأخ ًريا انترص رأى الكنيسة القائل بأ ّن اإلله كان منذ األزل إل ًها‪،‬‬ ‫وأ ّن الذي تع ّمد مل يكن يسوع اإلنسان بل هو اإلله نفسه وهو ما سنسري عىل‬ ‫‪59‬‬


‫املسيحية واملحروسة‬ ‫الجزء التاسع‬ ‫محمد شومان‬

‫لسبب سوى أننا نعتمد الرأي الكنيس الرسمي الذي يعتمده املسيحي الورع الذي يؤمن بكل‬ ‫هديه يف دراستنا هذه‪ ،‬ال‬ ‫ٍ‬ ‫ما يقوله له البابا املق ّدس‪ ،‬املهم أن اإلله االبن مبجرد خروجه من املاء هبط عليه روح الله قاد ًما من السامء عىل هيئة‬ ‫ٍ‬ ‫بصوت عال ‪-‬ولكن مل يسمعه أحد‪ -‬أ ّن يسوع هذا هو ابني الذي‬ ‫حامم ٍة مباركة‪ ،‬ويف نفس الوقت نادى إله الساموات‬ ‫أصاب قلبي بالفرح‪ ،‬وال ندري هل جاء رسور اإلله األب من كون ابنه الوحيد قد ذهب ليعتمد ويتطهر من خطاياه‬ ‫عىل يد النبي يوحنا‪ ،‬أو أ ّن فرحته قد جاءت ألن ابنه قد ق ّرر االستحامم مبحض إرادته يف مياه نهر األردن‪ ،‬ويجوز أخ ًريا‬ ‫أن يكون فرح اإلله األب بسبب بدء يسوع ابنه للمسرية اإلنجيلية الطاهرة‪ ،‬املهم أ ّن لحظة العامد هذه كانت لحظ ًة‬ ‫مبارك ًة تج ّمع فيها اآللهة الثالثة‪ ،‬اإلله االبن يف املاء يعتمد‪ ،‬واإلله األب يرصخ يف السامء من فرط سعادته‪ ،‬واإلله الروح‬ ‫القدس يقف بني السامء واألرض يتوسط اإللهني اآلخرين‪ ،‬يا لها من لحظ ٍة مبارك ٍة قلّام تتكرر يف التاريخ الكوين‪ ،‬أن‬ ‫ٍ‬ ‫يجتمع اآللهة الثالثة يف لحظ ٍة واحد ٍة يف مكانٍ‬ ‫واحد وتحت سام ٍء واحدة‪ ،‬ولن نخدش حياء هذه اللحظة املباركة بأي‬ ‫تعليق من جانبنا‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫وبعد أن اعتمد يسوع ذهب إىل الصحراء ليك يج ّربه إبليس‪ ،‬وال ندري نحن‬ ‫السبب يف ذلك ولكن هكذا يقول الكتاب املقدس‪ ،‬واستعدا ًدا لتلك التجربة‬ ‫يصوم يسوع أربعني يو ًما وليل ًة متواصل ًة ‪-‬طب ًعا فهو إله‪ -‬ولكنه جاع أخ ًريا‬ ‫حق فهو برشي‪ ،‬وهنا سنحت الفرصة إلبليس اللعني‪ ،‬فطلب من‬ ‫ومعه ٌ‬ ‫الرب أن يسجد له يف مقابل أن يعطيه كل ماملك الدنيا‪ ،‬وال ندري نحن‬ ‫الرب السجود له‪ ،‬وال ندري كيف يسمح‬ ‫كيف يتجرأ إبليس ويطلب من ّ‬ ‫الرب ملخلوقٍ من مخلوقاته أن يج ّربه‪ ،‬وال ندري أخ ًريا كيف ميكن للَع ٍني‬ ‫ّ‬ ‫الرب يسوع‬ ‫أن ميلك كل ماملك األرض ليك يعطيها ليسوع الرب‪ ،‬ولكن ّ‬ ‫يتمسك مببادئه حتى وهو يكاد‬ ‫يرفض هذا العرض املغرى بإبا ٍء وشَ مم‪ ،‬فهو ّ‬ ‫ميوت من الجوع‪ ،‬فاألرباب كام نعلم جمي ًعا تتميز عن البرش الفانني بأ ّن‬ ‫لها مبادئًا تسري عىل هديها‪ ،‬ومن أوىل هذه املبادئ عىل ما نعتقد هي ّأل‬ ‫تسجد اآللهة للمخلوقات‪ ،‬بل املفرتض ألّ يخطر عىل بال مخلوقٍ أن يطلب‬ ‫من خالقه السجود له‪ ،‬ولكنه الغرور اإلبلييس يا عزيزي املؤمن‪.‬‬ ‫وهكذا ينترص اإلله االبن عىل الشيطان الرجيم يف هذه املوقعة املصريية‪ ،‬لنحمد نحن اإلله عىل صموده أمام اإلغراءات‬ ‫الشيطانية‪ ،‬فتخيل شفاك الله لو أ ّن اإلله قد سجد للشيطان وأتاح له الفرصة لينترص عليه مر ًة أخرى ‪-‬املرة األوىل كانت‬ ‫مع آدم‪ -‬فكيف كانت ستصبح الدنيا لو وافق اإلله تحت ضغط جوع بطنه عىل السجود إلبليس؟ وهكذا انترص اإلله‬ ‫االبن عىل الشيطان الرجيم وانتقم لهزمية اإلله األب أمام الشيطان يف موقعة آدم املأساوية‪ ،‬ومن ث ّم ينجح اإلله االبن‬ ‫ظل الديانة املسيحية املبجلة‪ ،‬ولسوء حظنا‬ ‫رشا عىل مكانة اآللهة الجديدة يف ّ‬ ‫فيام فشل فيه اإلله األب‪ ،‬وهو ما يُع ّد مؤ ً‬ ‫‪60‬‬


‫املسيحية واملحروسة‬ ‫الجزء التاسع‬ ‫محمد شومان‬

‫أيضا يف الختام‪ ،‬إنها والله‬ ‫أنّنا مل نحرض هذه القمة الصحراوية لرنى اإلله واقفًا أمام الشيطان ن ًدا بند‪ ،‬بل وينترص عليه ً‬ ‫أيضا من أي معجز ٍة ميثيولوجي ٍة‬ ‫شق موىس للبحر‪ ،‬وأعظم ً‬ ‫معجز ٌة أعظم من معجزة نوم يونس يف أحشاء الحوت‪ ،‬أو ّ‬ ‫أخرى‪ ،‬وما عليك إالّ اإلميان بوقوعها حتى تثق يف ربّك يسوع املنترص عىل الشيطان وتبدأ يف قراءة اإلنجيل املقدس‬ ‫بحسن ني ٍة مسبقة‪.‬‬ ‫وبعد أن هبطت الحاممة عىل يسوع واجتاز‬ ‫مؤهل‬ ‫ً‬ ‫االختبار الشيطاين بنجا ٍح باه ٍر بات اآلن‬ ‫للدعوة للرسالة الجديدة‪ ،‬ومل تكن هذه الرسالة يف‬ ‫الحقيقة جديد ًة ساعتها‪ ،‬بل كانت مجرد امتدا ٍد‬ ‫لرسالة يوحنا املعمدان الذي كان ينادي‪« :‬ت ُوبُوا‪،‬‬ ‫السام َو ِ‬ ‫ات» (متّى ‪.)3-2 :3‬‬ ‫ألَنَّ ُه ق َِد اق َ َْت َب َملَكُوتُ َّ‬ ‫وجاء يسوع لريدد نفس كالم يوحنا حرفيًا‪« :‬ت ُوبُوا‪،‬‬ ‫السام َو ِ‬ ‫ات» (متّى ‪ ،)17 :4‬أي‬ ‫ألَنَّ ُه ق َِد اق َ َْت َب َملَكُوتُ َّ‬ ‫أ ّن يوحنا ويسوع كانا يناديان باقرتاب يوم القيامة‪،‬‬ ‫وبينام يهيئ يوحنا أتباعه للقاء هذا اليوم الرهيب‬ ‫بالصيام والصالة والتقشف‪ ،‬إذا باملسيح يهيئ أتباعه برفض الصالة والصيام اكتفا ًء بعمل املعجزات‪ ،‬وهذا هو الفرق‪،‬‬ ‫فاملعمدان كان صاحب مبادئٍ يسري عليها‪ ،‬فلم يعرف املهادنة وال السكوت عن الحق‪ ،‬وال حتى قُ ِّدر له أن يتمتع بطيبات‬ ‫الحياة‪ ،‬فلم يتناول الخمر مطلقًا‪ ،‬ومل يأكل عىل موائد العشّ ارين والخطاة‪ ،‬كام مل يكن يرحب بالزانيات يف معيته‪ ،‬لذا فقد‬ ‫كان قطع الرقبة هو املصري الطبيعي له‪ ،‬أ ّما يسوع فكان يحب األكل ويرشب الخمر‪ ،‬ويحرض الوالئم يف بيوت العشارين‪،‬‬ ‫ويصادق الزانيات وفتيات الليل‪ ،‬معل ًّل ذلك بأنّه مبعوثٌ للملوثني واملرىض‪ ،‬أ ّما األصحاء واألتقياء فلهم الله أو رمبا يوحنا‪،‬‬ ‫املهم أ ّن يسوع تسلّم الراية من يوحنا‪ ،‬وبدأ يف إجراء معجز ٍ‬ ‫أصل‬ ‫ات مل يستطع يوح ّنا نفسه أن يقوم بها‪ ،‬أو رمبا مل يحاول ً‬ ‫أن يجذب الناس ّإل عن طريق القدوة الحسنة‪.‬‬ ‫رب الكون‪ -‬متفرد ٌة‬ ‫رب الكون أو عىل األقل ابن ّ‬ ‫وهنا يحق لنا أن نتساءل‪ :‬هل املعجزات املنسوبة إىل يسوع ‪-‬باعتباره ّ‬ ‫مل يستطع أح ٌد غريه أن يقوم بها قبله وال بعده؟ الجواب هو النفي فاملعجزات العظيمة هي سم ٌة مميز ٌة للعقلية‬ ‫الدينية واألسطورية عىل السواء‪ ،‬كام أ ّن املعجزات التي قام بها اآلخرون سوا ٌء أكانوا أنبياء للدين أو حتّى آله ًة يف الفكر‬ ‫الرب نفسه‪ ،‬فأعظم معجزات يسوع هي إحياء املوىت‪ ،‬ولكن هذه املعجزة قدمي ٌة‬ ‫األسطوري تع ُّد أعظم من معجزات ّ‬ ‫ْس هذَا الْ َول َِد إِ َل َج ْو ِف ِه ف َ​َس ِم َع ال َّر ُّب لِ َص ْو ِت إِيلِ َّيا‪ ،‬فَ َر َج َع ْت‬ ‫قام بها من قبله النبي إيليا‪َ :‬وق َ​َال‪« :‬يَا َر ُّب إِلهِي‪ ،‬لِ َ ْتج ْع نَف ُ‬ ‫اش» (سفر امللوك األول ‪ ،)22-21 :17‬والحكاية أ ّن إيليا النبي كان قد نزل ضيفًا عند أرمل ٍة فقرية‬ ‫ْس الْ َول َِد إِ َل َج ْو ِف ِه فَ َع َ‬ ‫نَف ُ‬ ‫وال ندري كيف مل يكن الشيطان ثالثهام‪ -‬ويشاء يهوه أن مييت ابن هذه األرملة‪ ،‬ولكن إيليا النبي املب ّجل ال يقبل هذا‬‫‪61‬‬


‫املسيحية واملحروسة‬ ‫الجزء التاسع‬ ‫محمد شومان‬

‫ص َخ إِ َل ال َّر ِّب َوق َ​َال‪« :‬أَيُّ َها ال َّر ُّب إِلهِي‪ ،‬أَأَيْ ًضا إِ َل األَ ْر َملَ ِة الَّ ِتي‬ ‫الترصف األهوج من اإلله العجوز الخرف‪ ،‬فيع ّنفه ً‬ ‫قائل « َو َ َ‬ ‫الرب بالخجل من ترصفه األهوج هذا‬ ‫أحس ّ‬ ‫أَنَا نَاز ٌِل ِع ْن َد َها قَ ْد أَ َسأْتَ ِب ِإ َمات َ ِت َك ابْ َن َها» (سفر امللوك األول ‪ ،)20 :17‬وهكذا ّ‬ ‫يف حق ابن األرملة التي استضافت رجل الله يف بيتها يف وقت املجاعة‪ ،‬فأعاد إليه الحياة‪ ،‬ليصبح إيليا هو صاحب بدعة‬ ‫إحياء املوىت لكونه أول من اخرتعها يف التاريخ الديني الرسمي‪.‬‬ ‫أيضا أحيا املوىت‪َ « :‬و َد َخ َل‬ ‫وإليشع النبي األقرع الشهري ً‬ ‫سي ِر ِه‪،‬‬ ‫ِالصب ِّ​ِي َم ْي ٌت َو ُم ْضطَج ٌع َع َل َ ِ‬ ‫أَلِيشَ ُع الْ َب ْي َت َوإِذَا ب َّ‬ ‫اب َع َل نَف َْس ْيه َِم كِلَ ْيه َِم‪َ ،‬و َص َّل‬ ‫ف َد َخ َل َوأَ ْغل َ​َق الْ َب َ‬ ‫الصب ُِّي َس ْب َع َم َّر ٍ‬ ‫الصب ُِّي‬ ‫ات‪ ،‬ث ُ َّم فَتَ َح َّ‬ ‫إِ َل الرب فَ َعط َ​َس َّ‬ ‫وأصل الحكاية أ ّن‬ ‫َعيْ َنيْ ِه» (سفر امللوك الثاين ‪ُ ،)32 :4‬‬ ‫سيدنا إليشع األقرع املُب ّجل كان ينزل ضيفًا عند امرأ ٍة‬ ‫وزوجها‪ ،‬وعندما علمت أنّه من رجال الله أقامت له‬ ‫حجر ًة خاص ًة به يف بيتها كان ينام فيها وقتام يحلو له‪،‬‬ ‫يوم استدعاها إىل حجرته ليسألها عن أمني ٍة تريد‬ ‫وذات ٍ‬ ‫تحقيقها‪ ،‬فتم ّنت عليه أن ت َحبَل بطفلٍ لكونها كانت‬ ‫عقيم‪ ،‬فأحبلها النبي األقرع املبجل بكيفي ٍة مل تذكرها لنا‬ ‫ً‬ ‫التوراة املق ّدسة‪ ،‬والتفاصيل ال تهمنا‪ ،‬املهم أنها حبلت بطفلٍ يف شيخوخة زوجها‪ ،‬ولك ّن الطفل مات بعد عدة سنوات‪،‬‬ ‫فام كان من نبينا األقرع إالّ أن مت ّدد فوق الصبي وق ّبله يف شفتيه فقام الولد من موته وهو يف ق ّمة الص ّحة والعافية بعد‬ ‫أن عطس سبع عطسات! وهكذا أثبت لنا النبي األقرع أنّه قاد ٌر عىل‬ ‫إحياء املوىت مثلام هو قاد ٌر عىل إماتة األطفال كام رأينا من قبل عندما‬ ‫نادوا عليه وقالوا له يا أقرع‪.‬‬ ‫وهناك أضخم معجزة إحيا ٍء يف كافة األديان‪ ،‬وهي معجزة إحياء‬ ‫حزقيال النبي آلالف األموات بعد موتهم بسنني طويل ٍة وتح ّو ِل عظامهم‬ ‫يوم ذهب نبيّنا املبجل إىل وادي العظام اليابسة‬ ‫إىل رماد‪ ،‬ففي ذات ٍ‬ ‫الرب‬ ‫حيث ُجثث األموات قد تي ّبست من طول الزمن‪ ،‬وعندما سأله ّ‬ ‫هل ميكن لهذه العظام أن تحيا ثاني ًة تشكّك النبي الفاضل يف إمكانية‬ ‫الرب أن يأمر العظام بأن‬ ‫حدوث ذلك‪ ،‬أو عىل األقل قال ال أعلم‪ ،‬فأمره ّ‬ ‫وح‪ ،‬فَ َح ُيوا َوقَا ُموا‬ ‫تقوم من موتها‪« :‬فَتَ َن َّبأْتُ ك َ​َم أَ َم َرين‪ ،‬فَ َد َخ َل ِفيه ِ​ِم ال ُّر ُ‬ ‫َع َل أَق َدا ِم ِه ْم َجيْ ٌش َعظي ٌم ِج ًّدا ِج ًّدا» (حزقيال ‪.)10 :37‬‬ ‫‪62‬‬


‫املسيحية واملحروسة‬ ‫الجزء التاسع‬ ‫محمد شومان‬

‫صحيح أنّنا مل نعرف‬ ‫عظيم» من املوت‪،‬‬ ‫وها هو النبي العظيم حزقيال الذي تنبأ بخراب مرص من قبل يُحيي «جيشً ا‬ ‫ً‬ ‫ٌ‬ ‫ماذا فعل هذا الجيش العظيم‪ ،‬أو كيف رجع ميارس حياته يف الدنيا ثاني ًة‪ ،‬وال حتّى عرفنا متى مات للمرة الثانية‪ ،‬ولكن‬ ‫الرب‬ ‫الرب شخص ًيا‪ّ ،‬‬ ‫فكل املوىت الذين أحياهم ّ‬ ‫املهم أنّه قام بإحيائهم جمي ًعا‪ ،‬وهي معجز ٌة مل يستطع القيام بها يسوع ّ‬ ‫يسوع ِع ّدة أفراد‪ ،‬بينام استطاع النبي حزقيال أن يُحيي ع ّدة ٍ‬ ‫آالف من البرش بعد أن ماتوا وشبعوا موت ًا‪.‬‬ ‫هل نكتفي بهذا؟ كال فهناك ما هو أروع‪ ،‬فعظام النبي‬ ‫يم كَانُوا‬ ‫األقرع إليشع امليت أحيت املوىت ً‬ ‫أيضا‪َ « :‬و ِف َ‬ ‫يَ ْد ِف ُنو َن َر ُج ًل إِذَا ِب ِه ْم قَ ْد َرأَ ْوا الْ ُغ َزاةَ‪ ،‬فَطَ َر ُحوا ال َّر ُج َل‬ ‫ِف ق ْ َِب أَلِيشَ َع‪ ،‬فَل َّ​َم نَ َز َل ال َّر ُج ُل َو َم َّس ِعظَا َم أَلِيشَ َع‬ ‫اش َوقَا َم َع َل ِر ْجلَ ْي ِه» (سفر امللوك الثاين ‪،)21 :13‬‬ ‫َع َ‬ ‫والحكاية أنّه يف أيام امللك يوآش‪ ،‬ملك إرسائيل‪ ،‬الذي‬ ‫عارص آخر أيام النبي إليشع‪ ،‬كانت هناك ُ‬ ‫معارك بينه‬ ‫رجل من بني إرسائيل‬ ‫يوم مات ٌ‬ ‫وبني املوآبيني‪ ،‬وذات ٍ‬ ‫وذهب أهله بكل خشو ٍع ليدفنوه‪ ،‬وإذا بهم يفاجؤون‬ ‫ٍ‬ ‫بجيش من الغزاة‪ ،‬فام كان منهم إالّ أن ألقوا بامليت‬ ‫املسكني من فوق ظهورهم وفروا هاربني‪ ،‬ويشاء يهوه الج ّبار أن تكون حركة النذالة هذه سب ًبا يف إحياء الرجل الذي وقع‬ ‫مست جثة هذا امليت عظام إليشع امليّت حتّى ارت ّدت إليها الحياة‬ ‫بالصدفة يف قرب النبي األقرع الشهري إليشع‪ ،‬وما أن ّ‬ ‫ثاني ًة وقام يجري كالحصان‪ ،‬وهو ما يضع يسوع يف مأزقٍ إذ مل يقل أح ٌد من قبل أ ّن عظام يسوع امليت قد أحيت أح ًدا‬ ‫من قبل‪.‬‬ ‫الرب يسوع يف إحياء املوىت ت ُع ّد معجز ٍ‬ ‫ات من الدرجة الثانية إذا قيست مبعجزات أنبياء العهد القديم‪،‬‬ ‫إذًا فمعجزات ّ‬ ‫والطريف يف املوضوع أ ّن كهنة املسيحية ال يستطيعون إنكار معجزات العهد القديم‪ ،‬ألنّهم يسريون عىل نفس املنوال‪،‬‬ ‫ومن هنا فنحن نتحداهم أن يكون ربّهم قد قام مبعجزات صبيانه الذين أرسلهم من قبل‪ ،‬فاملعلم عىل ح ّد علمنا‬ ‫أعظم من الصبي‪ ،‬واإلله ال يُقارن بالرسول‪ ،‬فام بال الرسل يقومون مبعجز ٍ‬ ‫ات تفوق‬ ‫الرب نفسه؟‬ ‫معجزات ّ‬ ‫الرب يسوع أنّه صعد حيًّا إىل السامء أمام أعني‬ ‫ثاين املعجزات الرهيبة التي قام بها ّ‬ ‫الس َم ِء» (لوقا ‪ ،)51 :24‬ولكن‬ ‫تالميذه‪َ « :‬و ِف َ‬ ‫يم ُه َو يُ َبا ِركُ ُه ُم‪ ،‬انْ َف َر َد َع ْن ُه ْم َوأُ ْص ِع َد إِ َل َّ‬ ‫حتّى هذا الصعود الخارق مل يكن جدي ًدا عىل العقلية الدينية‪ ،‬فقد سبقه إليه‬ ‫«أخنوخ» النبي‪َ « :‬و َسا َر أَ ْخ ُنو ُخ َم َع الل ِه‪َ ،‬ولَ ْم يُو َج ْد ألَ َّن الل َه أَ َخ َذ ُه» (التكوين ‪،)24 :5‬‬ ‫‪63‬‬


‫املسيحية واملحروسة‬ ‫الجزء التاسع‬ ‫محمد شومان‬

‫ويحيك لنا سفر التكوين املق ّدس أ ّن السيد أخنوخ ملّا تخطّى مرحلة الطفولة وبلغ من العمر‪« :‬ث َالثُ َمئ ٍة َو َخ ْم ًسا َو ِستّ ْ َي‬ ‫الرب‬ ‫َس َن ٍة» (التكوين ‪ ،)23 :5‬يف هذه السن الحرجة والتي تُعترب فرتة املراهقة بالنسبة ألعامر ذلك الزمان السعيد‪ ،‬ق ّرر ّ‬ ‫الرب ليتمتّع بشبابه هناك بدلً من‬ ‫أن يرفع أخنوخ إليه‬ ‫ٍ‬ ‫لسبب ال يعلمه إالّ هو سبحانه‪ ،‬وهكذا صعد أخنوخ إىل سامء ّ‬ ‫الحياة عىل األرض امللعونة‪ ،‬ليصبح هو أ ّول من يرفعه الله إليه يف السامء ح ًّيا‪.‬‬ ‫أيضا من قبل‪ ،‬فقد‬ ‫وهذا الصعود قام به إيليا النبي ً‬ ‫صعد يف مركب ٍة ناري ٍة فاخر ٍة إىل السامء‪ ،‬وشهد له‬ ‫يم ُه َم‬ ‫بهذه املعجزة نبينا األقرع املبجل إليشع‪َ « :‬و ِف َ‬ ‫يَ ِس َريانِ َويَتَ َكل ََّمنِ إِذَا َم ْركَ َب ٌة ِم ْن نَا ٍر َو َخ ْي ٌل ِم ْن نَا ٍر‬ ‫ف َ​َصل َْت بَيْ َن ُه َم‪ ،‬ف َ​َص ِع َد إِيلِيَّا ِف الْ َع ِاص َف ِة إِ َل الس َ​َّم ِء‪،‬‬ ‫صخُ‪ :‬يَا أَ ِب‪ ،‬يَا أَ ِب» (سفر‬ ‫َوكَا َن أَلِيشَ ُع يَ َرى َو ُه َو يَ ْ ُ‬ ‫امللوك الثاين ‪ ،)12-11 :2‬وها هو إيليا النبي األشهر‬ ‫يف الفكر اليهودي املسيحي يصعد إىل السامء ح ًّيا‬ ‫بطريق ٍة مرسحي ٍة فاخرة‪ ،‬فهو يركب يف عرب ٍة مصنوع ٍة‬ ‫من نا ٍر وتجرها كذلك ٌ‬ ‫خصيصا من نا ٍر لهذه املناسبة السعيدة‪ .‬نعلم طب ًعا أ ّن النار ال تحرق املؤمن‪ ،‬وهذا‬ ‫خيول ُصنعت‬ ‫ً‬ ‫مسبق عىل أي كاف ٍر قد يتساءل كيف يجلس إيليا عىل مركب ٍة ناري ٍة بدون أن يتعرض للحرق‪ ،‬إذًا فالصعود ح ًيا إىل‬ ‫ر ٌّد‬ ‫ٌ‬ ‫السامء مل يكن ابتكا ًرا مسيح ًيا رصفًا‪ ،‬بل كان مجرد ٍ‬ ‫تقليد أع ًمى ملعجزات أنبياء اليهود من قبله‪ ،‬واآللهة كام نظ ُّن تبتدع‬ ‫وال تُقلّد‪.‬‬ ‫وحتى ال نغمط املسيح حقّه نُورد معجز ًة له مل يفعلها أح ٌد من‬ ‫قبله‪ ،‬أال وهي معجزة امليش عىل املاء‪َ « :‬و ِف الْ َهزِيعِ ال َّرابعِ ِم َن‬ ‫ص ُه التَّالَ ِمي ُذ‬ ‫اللَّ ْيلِ َم َض إِلَ ْي ِه ْم يَ ُسو ُع َم ِاش ًيا َع َل الْ َب ْحرِ‪ ،‬فَلَمَّ أَبْ َ َ‬ ‫َم ِاش ًيا َع َل الْ َب ْح ِر ْاضطَ َربُوا قَائِلِ َني‪ :‬إِنَّ ُه َخ َي ٌال‪َ .‬و ِم َن الْ َخ ْو ِف‬ ‫مركب‬ ‫ص ُخوا» (متّى ‪ ،)26-25 :14‬بينام كان تالميذ يسوع يف‬ ‫ٍ‬ ‫َ​َ‬ ‫الرب يسوع املسيح قاد ًما‬ ‫يف عرض البحر إذا بهم فجأ ًة يرون ّ‬ ‫ٍ‬ ‫مواصالت تنقله‬ ‫لزيارتهم عند الفجر‪ ،‬ويبدو أنّه مل يجد وسيلة‬ ‫لتالميذه فاضطّر سعي ًدا إىل أن يركب األمواج‪ ،‬وهو ما أصاب‬ ‫حق طب ًعا أن يرصخوا من الخوف‪ ،‬فلم‬ ‫التالميذ بالرعب ومعهم ٌ‬ ‫تعتد عيوننا البرشية عىل أفعال اآللهة هذه‪ ،‬قد ير ّد ملح ٌد بأ ّن‬ ‫معجزة شق موىس للبحر أعظم من معجزة ميش يسوع عىل‬ ‫‪64‬‬


‫املسيحية واملحروسة‬ ‫الجزء التاسع‬ ‫محمد شومان‬

‫كل حال‪ ،‬إذ نزايد‬ ‫املاء‪ ،‬ولكن يبقى يسوع املسيح الوحيد الذي مىش عىل املاء دون أن يبتل صندله‪ ،‬وهذا اجتها ٌد م ّنا عىل ّ‬ ‫عىل الكهنة باقرتاح أ ّن يسوع مل يبتل صندله وهو مييش عىل املاء‪ ،‬ولكن حتى االنفراد بهذه املعجزة ال يُعطي للكهنة‬ ‫امل ّربر ألن يدعوا أ ّن يسوع هو الله‪.‬‬ ‫أيضا معجز ٌة لطيف ٌة أخرى‪ ،‬فذات مسا ٍء كان يسوع يخطب يف الجامهري املحتشدة أمامه التي نست الوقت إىل‬ ‫وهناك ً‬ ‫حل عليها املساء وهي يف الصحراء التي ال يوجد بها مطع ٌم لألكل وال حتى (سوبر ماركت)‪ ،‬وعندما ن ّبه التالميذ‬ ‫أن ّ‬ ‫قائل‪« :‬أَ ْعطُو ُه ْم أَنْتُ ْم لِ َيأْكُلُوا فَقَالُوا لَ ُه‪ :‬لَ ْي َس ِع ْن َدنَا‬ ‫الرب بأن يرصف الجموع حتى تأكل يف بيوتها‪ ،‬رفض الرب ً‬ ‫يسوع ّ‬ ‫ه ُه َنا إِالَّ َخ ْم َس ُة أَ ْر ِغ َف ٍة َو َس َم َكتَانِ ‪ ،‬فَق َ​َال‪ :‬ائْتُوين‬ ‫ِب َها إِ َل ُه َنا‪ ،‬فَأَ َم َر الْ ُج ُمو َع أَ ْن يَتَّ ِكئُوا َع َل‬ ‫الس َم َكتَ ْيِ‪،‬‬ ‫الْ ُعشْ ِب‪ .‬ث ُ َّم أَ َخ َذ األَ ْر ِغ َف َة الْ َخ ْم َس َة َو َّ‬ ‫َس َوأَ ْعطَى‬ ‫َو َرفَ َع نَظَ َر ُه نَ ْح َو َّ‬ ‫الس َم ِء َوبَا َر َك َوك َّ َ‬ ‫األَ ْر ِغ َف َة لِلتَّالَ ِم ِيذ‪َ ،‬والتَّالَ ِمي ُذ لِلْ ُج ُموعِ‪ ،‬فَأَك َ​َل‬ ‫س‬ ‫الْ َج ِمي ُع َوشَ ِب ُعوا‪ .‬ث ُ َّم َرفَ ُعوا َما ف َ​َض َل ِم َن الْ ِك َ ِ‬ ‫ش َة قُ َّف ًة َم ْملُوءةً‪َ ،‬واآلكِلُو َن كَانُوا نَ ْح َو‬ ‫اث ْ َنتَ ْي َع ْ َ‬ ‫َخ ْم َس ِة آال َِف َر ُجل‪َ ،‬ما َع َدا ال ِّن َسا َء َواألَ ْوالَ َد»‬ ‫(متّى ‪.)21-16 :14‬‬ ‫تخيل عافاك الله لو أ ّن عندنا وزي ًرا للتموين ميتلك قوة يسوع يف تكثري الطعام‪ ،‬ساعتها ك ّنا سنعيش يف بُلهنية‪ ،‬ولن‬ ‫نستورد القمح من الغرب الفاجر الكافر‪ ،‬ولكن ستواجهنا مشكلة فائض األكل‪ ،‬فخمسة أرغف ٍة وسمكتان كان الناتج‬ ‫منهم «اثنتي عرشة ق ّف ًة» مملوء ًة ببقايا الطعام‪ ،‬ترى كم ق ّف ٌة سنحتاجها إلزالة ناتج أكل أكرث من مائة مليون مرصي؟‬ ‫كل ستزدهر صناعة «القفف» يف مرصنا املحروسة‪ ،‬ولكن حتى هذه املعجزة العظيمة ال يراها ضعاف اإلميان مرب ًرا‬ ‫عىل ٍّ‬ ‫مم يُسفّه‬ ‫ظل يأكل هو وشعبه البالغ عدة ماليني ملدة أربعني سن ًة ً‬ ‫لتأليه يسوع‪ ،‬فموىس ّ‬ ‫أكل طاز ًجا من السامء مبارشةً‪ّ ،‬‬ ‫قصة كهنة املسيحية عن تكثري يسوع للسمكتني‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫فموىس كان يأتيه األكل من العدم‪ ،‬وخلق األكل‬ ‫معجز ٌة أعظم من تكثريه‪ ،‬وهكذا نجد أ ّن الكهنة‬ ‫أي معجز ٍة جديد ٍة ليسوع املسكني ألن‬ ‫مل يرتكوا ّ‬ ‫يبتكرها‪ ،‬فالعقلية الكهنوتية القدمية مل ترتك ألي‬ ‫نبي أو حتى إل ٍه الفرصة إلبداع معجز ٍة مل يسبقه‬ ‫ٍّ‬ ‫إليها أحد‪.‬‬ ‫‪65‬‬


s www.facebook.com/M-80-II-941772382615672

66


‫‪Rami Alli‬‬

‫كائن يعيش هذا النمط؟ ال بد انه يائس‬ ‫ونوبات غضبه كثرية‪ ،‬اآلن فهمت سبب كل‬ ‫هذه املآيس والكوارث‪ ،‬وفهمت ايضاً ان الله‬ ‫ال يساوي يشء بال البرش‪.‬‬ ‫‪Фахад Ал-Хасан‬‬

‫يف نقطة غايبة عن ذهني‬ ‫إذا كانت الشمس تطلع تسجد بالليل‬ ‫وهو ينزل من عرشه بالليل‪ ...‬الشمس ملني‬ ‫بتسجد للكرايس مثال؟‬

‫‪67‬‬


‫مجلة شهرية بجهود فردية تصدر في الثاني عشر من كل شهر‬

The Arab AtheistsisMagazine a digital publication Arab Atheists Magazine a digital ispublication produced produced by volunteers and committed to promoting entirely by volunteers committed to freedom of thought, inf thought and writings of atheists of various persuaormativetheand enlightening articles regardless of ethnicity sionsorwith complete with freedom. The Magazine not adopt gender persuasion autonomy, completedoes independenc endorse anyfree form of political ideology or affiliation e and mostorimportantly from geopolitical censorship. Contributors bear the responsibility the form content, illustraThe Magazine does notfull adopt or endorseofany of political tions and topics theyContributors provide insofar it covers and ideology or affiliation. will as assume full copyright responsibility issues intellectual property for the content, illustrations and topics theyofprovide pertaining to infringement of copyright and issues of intellectual property. Express permission for to publish in the Magazine is provided contributors, whether they members the Arab Atheists Theby expressed permission to are publish in ofthe Magazine is Magazine Group of other atheists and non-religious contributors provided by contributors, whether they are members of the Arab Atheists Magazine Editorial or other atheists and non-religious contributors. The Magazine does not publish material that is unethical or that racism bigotry The Magazine does not publish unethicalincites material thatoramongst other things perpetuate incitement to racism or bigotry. The Editorial Board reserves the right to republish content originally published theright Magazine’s Facebook group, as The Editorial Board reservesonthe to republish content origipublishing there contains consent republication nally shared on ourimplicitly magazine’s Facebook page for publishing there in the Magazine gives implicit consent to republish to the Magazine.

:‫موقع املدونة اخلاصة بنا لألرشفة على اإلنترنت‬ www.aamagazine.blogspot.com ‫البريد اإللكتروني‬ el7ad.organisation@gmail.com magazine@arabatheistbroadcasting.org


Issuu converts static files into: digital portfolios, online yearbooks, online catalogs, digital photo albums and more. Sign up and create your flipbook.