مجلة الملحدين العرب / العدد السادس والخمسون / أغسطس آب / 2017

Page 1

‫مجلة شهرية بجهود فردية تصدر يف الثاين عرش من كل شهر‬

‫الشتات العريب بني الدين‬ ‫واملعرفة‬ ‫د‪.‬عبد العزيز القناعي‬

‫االستعامر العريب‪ :‬صفحة‬ ‫دامية يف تاريخ مرص جـ‪1‬‬

‫إيهاب القسطاوى‬

‫الربوبية ‪..‬‬ ‫مابني الدين واإللحاد‬

‫العدد السابع والخمسون من مجلة امللحدين العرب للثاين عرش من شهر أغسطس ‪ /‬آب لسنة ‪2017‬‬

‫‪Omar Hussein‬‬

‫ملحد يف بغداد‬

‫رجل عشق الوطن فأغضب السلطان‬

‫تهدف مجلّة امللحدين العرب إىل نرش وتوثيق أفكار امللحدين العرب املتنوعة وبحريّ ٍة كاملة‪ ،‬وهي مجلّ ٌة رقمي ٌة غري ربح ًّية‪،‬‬ ‫أي توج ٍه سيايس‪ .‬املعلومات واملواضيع املنشورة يف املجلّة متثل آراء كاتبيها فقط‪ ،‬وهي مسؤل ّيتهم‬ ‫مبني ٌة بجهو ٍد طوعي ٍة ال تتبع َّ‬ ‫من الناحية األدب ّية ومن ناحية حقوق النرش وحفظ امللك ّية الفكريّة‪.‬‬


‫الفهرس‬ ‫الفهرس‬

‫‪2‬‬

‫كلمة تحرير املجلة‬

‫‪3‬‬

‫الشتات العريب بني الدين واملعرفة‬ ‫د‪ .‬عبد العزيز القناعي‬

‫‪4‬‬

‫االستعامر العريب صفح ٌة دموي ٌة يف تاريخ مرص ‪8‬‬ ‫إيهاب القسطاوى‬ ‫الربوبية بني الدين واإللحاد‬ ‫‪Omar Hussein‬‬

‫‪14‬‬

‫قراءة يف كتاب‪ :‬تعليم املقهورين‬ ‫پاولو فريري بقلم‪ :‬شادي سليمي‬

‫‪20‬‬

‫ملحد بغداد‬ ‫‪Ahmad F. Alabbasi‬‬

‫‪35‬‬

‫تصحيح املفاهيم‪ :‬أنتم تلحدون لتتحرروا ‪49‬‬ ‫من قيود األخالق‬ ‫‪Usama al-Binni‬‬ ‫سرية محمد بن آمنة‬ ‫ترجمة عن منشورات شاريل إيبدو‬

‫‪54‬‬

‫رواية سقوط اإلله‬ ‫‪Noha Selem‬‬

‫‪61‬‬

‫كاريكاتور‬

‫‪71‬‬ ‫‪2‬‬


‫كلمة تحرير املجلة‬

‫كثري ما تأتينا أسئلة من قبيل‪ :‬أيها امللحد ماهي الروحانية بالنسبة‬ ‫إليك؟ هل تشعر بها؟‬ ‫لنبدأ بتعريف الروحانية يف معجم أوكسفورد‪ :‬هي األمور التي تسمو‬ ‫فوق املاديات‪ ،‬وهي متعلقة باملشاعر الداخلية لإلنسان‪.‬‬ ‫وقد جرت العادة أن يتم نسبها لألديان‪ ،‬ولكنها ليست خاصة بها يف‬ ‫الواقع‪ .‬بل إنه حني يتم التعمق يف النصوص الدينية بحرفيتها‪ ،‬فإنها‬ ‫تكون جامدة إقصائية متحجرة ليس فيها مساحة للروحانية أو اإلبداع‪.‬‬ ‫فالروحانية وهي كلمة مجازية نعتمدها هنا وهذا ال يعني اعرتافنا‬ ‫بوجود يشء يسمى الروح‪ ،‬ولكن بإمكاننا اعتبارها كلمة اصطالحية‬ ‫تعرب عن كل ما يحقق الهدوء والسالم والسمو الداخيل لإلنسان‪ ،‬يبتعد‬ ‫به عن املشاعر السلبية كاألحقاد والكراهية والعنرصية أو الرغبة يف‬ ‫القتل أو الرسقة أو اإليذاء‪ ،‬حيث أنها تربط اإلنسان بالجزء الراقي منه‪،‬‬ ‫الخي‪ ،‬وليس الجزء الدينء منه املتصاغر املؤذي له‬ ‫املتعايل‪ ،‬املتعاظم ّ‬ ‫أو لغريه‪.‬‬ ‫فكل شخص منا يبحث عن ما يحقق له هذا السالم والسمو الداخيل‪،‬‬ ‫مثل‪ ،‬حيث يدرب اإلنسان‬ ‫وقد يجده يف الكثري من األمور‪ ،‬كالتأمل ً‬ ‫نفسه عىل الرتكيز يف تنفسه‪ ،‬فيشعر أنه مع الوقت قد انفصل عام‬ ‫يحيط به من املحسوسات‪ ،‬وغاب يف تفاصيل شهيقه وزفريه وتنقية‬ ‫ذهنه‪ ،‬وكأنه يقوم بعملية فورمات وتنظيم لكل مشاعره وطريقة‬ ‫تفكريه‪ ،‬فيشعر بالنقاء والصفو والسالم بداخله‪.‬‬

‫فريق التحرير‬

‫املشارك يف هذا العدد‬

‫رئيس التحرير‬ ‫‪Gaia Athiest‬‬

‫أعضاء هيئة التحرير وبناء املجلة‬ ‫‪John Silver‬‬ ‫الغراب الحكيم‬ ‫‪Alia’a Damascéne‬‬ ‫غيث جابري‬ ‫‪Ali Alnajafi‬‬ ‫أسامة البني (الوراق)‬ ‫‪Abdu Alsafrani‬‬ ‫شادي سليمي‬ ‫‪RoRo Evil-Girl‬‬

‫‪Raghed Rustom‬‬ ‫‪Antoine Tannous‬‬ ‫‪X. AHTOHOB‬‬ ‫‪Johnny Adams‬‬ ‫‪Liza Paloulian‬‬ ‫‪A Koder‬‬ ‫‪Romario Gamal‬‬ ‫‪Teky Mikky‬‬ ‫ليث رواندي‬

‫وقد يجده يف مجرد عيش اللحظة واالنغامس فيام يحيط به من أشكال‬ ‫وألوان وأصوات وروائح زكية كرائحة املطر أو الزهور أو الشجر أو‬ ‫الفاكهة‪ ،‬أو مييش حايف القدمني فوق العشب أو الرمل‪ ،‬أو يشعر بدف ِء‬ ‫الشمس يالمسه مع نسامت الهواء املنعش‪ ،‬حيث يشعر باالمتنان يف‬ ‫اللحظة ألنه حي يتنفس‪ .‬ويستمد القوة والنقاء والتفاؤل واألمل من‬ ‫لحظات صغرية كهذه‪.‬‬ ‫وهكذا فالطيف واسع لكل األلوان وتشعباتها‪ ،‬ليس هناك إل ٌه معني‬ ‫من آمن به فقد وصل للروحانية‪ ،‬وليس هناك دين معني فيه روحانية‬ ‫مميزة عن غريه‪ ،‬بل إن كل إنسان حر فيام يختاره ويريحه‪ ،‬قد يجدها‬ ‫يف تراتيل دينية‪ ،‬أو صالة‪ ،‬أو غناء أو موسيقى‪ ،‬قد يجدها يف لوحة أو‬ ‫رحلة أو رقصة أو قُبلة‪..‬‬ ‫هنا ال فرق إن كان ملحد أو مؤمن‪ ،‬فالكل يحتاجون للسالم والسمو‬

‫‪3‬‬

‫الداخيل‪ ،‬لذلك علينا أن نكون رفقاء مع غرينا وأن‬ ‫ال نس ّخف منهم‪ ،‬ما داموا مساملني ال يؤذون أحد‪.‬‬ ‫فالحياة صعبة كفاية يف الخارج‪ ،‬لنكن متصالحني‬ ‫مع أنفسنا يف الداخل‪.‬‬ ‫‪Gaia Athiest‬‬


‫الشتات العريب بني‬ ‫الدين واملعرفة‬

‫د‪.‬عبد العزيز القناعي‬

‫ٍ‬ ‫ال شك أن لكل أم ٍة تراثٌ‬ ‫وماض وديان ٌة تستند إليها‬ ‫وتعتربها موروث ًا صحي ًحا يساهم يف تطورها وتهذيب‬ ‫أخالقها وتربية أجيالها‪ .‬ولكن ما يغيب عن العرب هو أن‬ ‫التطور والتقدم عملي ٌة ال تتوقف عىل الدين وتعاليمه‪ ،‬أو‬ ‫عىل البناء الفخم والسكن الفاخر واملالبس الغالية والطعام‬ ‫أيضا هي عملي ٌة تطال البنية الذهنية والعقلية‬ ‫الصحي بل ً‬ ‫للفرد‪ .‬فنحن بكل بساط ٍة نعيش يف القرن الحديث ولكن‬ ‫نفكر كام يفكر آباؤنا وأجدادنا وصحابتنا وأنبياؤنا وهم‬ ‫يعالجون قضاياهم ومشاكلهم يف زمانٍ ومكانٍ آخرين‪،‬‬ ‫فحدثَ االنفصام والتناقض التاريخي بني املايض والواقع‪.‬‬

‫الضعف والهوان العريب املستمران منذ عقو ٍد طويل ٍة‬ ‫قضيتان شغلتا العديد من الباحثني واملختصني واملفكرين‬ ‫وأيضا انشغل باالنحطاط العريب الكثري من الفالسفة‬ ‫العرب‪ً .‬‬ ‫تاريخي‬ ‫واملثقفني يف الغرب نظ ًرا ملا يحتله العرب من موقعٍ‬ ‫ٍّ‬ ‫وسيايس يف العرص الحديث تحدي ًدا‪ .‬وتُركِّز‬ ‫واقتصادي‬ ‫ٍّ‬ ‫ٍّ‬ ‫العديد من الدراسات واألبحاث عىل هذا األمر وتر ّجعه‬ ‫إىل العديد من العوامل واملسببات والعوائق‪ ،‬فقد قال عيل‬ ‫عزت بيجوفيتش‪( :‬إن أسباب نهضة أم ٍة ما أو انحطاطها‪،‬‬ ‫تكون دامئًا أسبابًا معقد ًة ومتعددة األبعاد والجوانب)‪.‬‬ ‫فإذا كان العرب قد شهدوا قدميًا نقل ًة نوعي ًة من حياة‬ ‫البادية والقبائل واإلغارات‪ ،‬إىل ٍ‬ ‫قريب من‬ ‫منط شبه مد ٍّين ٍ‬ ‫وخصوصا يف العرصين‬ ‫حياة التطور واالزدهار والقوة‬ ‫ً‬ ‫العبايس واألموي‪ .‬فام هي األسباب الكامنة وراء تطور‬ ‫الشعوب الغربية اليوم؟ وأسباب تراجعنا حال ًيا؟ وما هي‬ ‫الحلول الواقعية للنهوض باألمة العربية واإلسالمية؟‬

‫‪4‬‬

‫فهل ميكن اعتبار اإلسالم كديان ٍة السبب الرئييس لهذا‬ ‫التخلف الذي يقبع به العرب منذ قرون؟ أم أن هناك‬ ‫أسبابًا أخرى؟ فال ميكن منطق ًيا تحميل التعاليم الدينية‬ ‫كل هذا التخلف السيايس واالجتامعي واالقتصادي وإغفال‬ ‫العديد من العوامل املؤسسة كاألنظمة والحكام والجهل‬


‫الشتات العريب بني الدين واملعرفة‬ ‫عوامل‬ ‫َ‬ ‫عامل واح ٌد من‬ ‫والفساد والتعليم ومنط االقتصاد‪ .‬فاإلسالم ٌ‬ ‫أيضا‬ ‫كثري ٍة ال تُحىص‪ .‬فالقرب من اإلسالم ال يعني أنه سيئ‪ ،‬ولكنه ً‬ ‫حل من الحلول للمشكالت واألزمات الحديثة‪.‬‬ ‫ليس ً‬ ‫فعلينا أن نف ّرق بني الدين كعباد ٍة فردي ٍة وبني دور اإلنسان يف خلق‬ ‫الواقع وتغيري املستحيل وبناء املستقبل‪.‬‬ ‫ففي ٍ‬ ‫تعاط ساذ ٍج مع أزماتنا يعزو الكثري من رجال الدين والفقهاء‬ ‫أن السبب الرئييس لرتاجعنا حضاريًا هو يف بُعدنا عن اإلسالم وعدم‬ ‫وأيضا يف معاصينا ومخالفتنا ألوامر الدين واتباعنا‬ ‫تطبيق الرشيعة‪ً ،‬‬ ‫للشهوات واستسالمنا للفنت ما ظهر منها وما بطن إىل آخر تلك‬ ‫األسطوانة التاريخية منذ نشوء اإلسالم وحرصه عىل قولبة العقل‬ ‫املسلم داخله دون أي محاول ٍة للخروج من هذا النمط من التفكري واإلميان‪.‬‬ ‫وبينام تستمر األنظمة يف السامح ملثل تلك األيديولوجية والرىض عنها بل والدفاع عنها ضد من ينتقدها لِام تخلقه‬ ‫من كسلٍ وجمو ٍد وابتعا ٍد عن التفكري العلمي والعقالين يف األسباب الحقيقية التي متس األنظمة مبؤسساتها وأفرادها‬ ‫وهيكلها‪ .‬فإنها وبنفس الوقت تستمر يف تبديد طاقات الشباب ويف استكامل السطو عىل الرثوات ويف خداع الشعوب‬ ‫العربية بقضايا التنمية والحريات وحقوق اإلنسان دون أي تغيريٍ‬ ‫جذري يف عالقات االنتاج املجتمعية أو يف نُظم التعليم‬ ‫ٍّ‬ ‫أو يف نظام الحكم ومتكني الدميقراطية‪ .‬فام زالت مجتمعاتنا يف الدرك األسفل من التطور والتقدم العلمي والتكنولوجي‪،‬‬ ‫وما زالت حدودنا مرس ًحا للرصاعات الطائفية والحروب العاملية ومصالح الدول الكربى‪ ،‬وما زالت الشعوب غارق ًة‬ ‫بالجهل والفقر والوصاية والخوف‪ .‬بل والطامة الكربى تكمن يف نسيان أن الغرب تف ّوق علينا دون أن يتمسك بتعاليمه‬ ‫الدينية أو بالرتدد عىل الكنائس واألديرة واملعابد اليهودية‪.‬‬ ‫تاريخ ًيا‪ ،‬ميكن اعتبار فتوى تحريم الطباعة يف العامل اإلسالمي نقطة بداية انحدار العرب‪ .‬فعندما ا ُخرتِعت الطابعة يف‬ ‫وس ِمح فقط ألصحاب‬ ‫الغرب قام علامء الدولة العثامنية بإصدار فتا ًوى متنع دخول الطابعة إىل دول الخالفة اإلسالمية‪ُ .‬‬ ‫الذمة من اليهود والنصارى باستعاملها‪ ،‬وفقط لطباعة كتبهم‪ ،‬ويجب ألّ تكون باللغة العربية‪.‬‬

‫‪5‬‬


‫الشتات العريب بني الدين واملعرفة‬ ‫وهكذا تعطل العقل املسلم وتوقف عن الرتجمة والقراءة واالستفادة من كل ما يتعلق بالطباعة والكتب والنرش‬ ‫والتوزيع واكتفى ِ‬ ‫كتب تحض‬ ‫بالدين وتفاسريه القدمية بعد أن تم التخلص من كتب الفالسفة واملفكرين باعتبارها ٌ‬ ‫وتدعو إىل الزندقة والكفر واإللحاد‪.‬‬ ‫العرقي أو النسب كام ذكرنا‪ ،‬أم أنه يعتمد عىل‬ ‫فعل أن التقدم التكنولوجي والتطور له عالق ٌة باألديان واالنتامء‬ ‫لكن هل ً‬ ‫ّ‬ ‫رغبة البرش يف املعرفة واالكتشاف واقتحام املجهول؟ فالواقع يقول‪ ،‬بينام أن اإلنسان العريب يعيش مستهلكًا جهود غريه‬ ‫شعوب تنتج وتعمل وتفكر وتقرأ‪.‬‬ ‫والع ًنا للكفار واملرشكني‪ ،‬فإن يف العامل اآلخر هناك‬ ‫ٌ‬ ‫فالتقدم هو تطو ٌر يف العديد من املجاالت العلمية والتعليمية ودراسة األسباب واملسببات والنتائج‪ ،‬مثل نسبة األمية‬ ‫واملتعلمني‪ ،‬قوة املناهج الدراسية‪ ،‬عدد العلامء واملخرتعني‪ .‬ويف الجانب االقتصادي‪ ،‬ماهي قوة اقتصاد الدولة؟ وازدهار‬ ‫الصناعة والزراعة ومنط االستثامر‪ .‬ويف الجانب االجتامعي نتحدث عن حقوق املرأة وانتشار العدل واألمن واالستقرار‪،‬‬ ‫كام وأن متاسك املجتمع ومدى حصول اإلنسان عىل حقوقه وحرياته من أهم قضايا تطور الجانب االجتامعي‪.‬‬ ‫ويف الجانب الصحي‪ ،‬ما هو عدد األطباء املختصني واملراكز الطبية‪ ،‬ونسبة الوالدات والوفيات وطرق العالج والصحة‪ .‬ويف‬ ‫الجانب السيايس ما هو نظام الحكم؟ وهل الدولة دول ٌة علامني ٌة ليربالية أم شمولية‪ .‬وغريها من املعايري التي من خاللها‬ ‫ميكن تصنيف الدول إىل متقدم ٍة أو متخلفة‪.‬‬ ‫فمقولة أن العرب ليسوا متطورين ألنهم غري متمسكني بدينهم‪ ،‬هي مقولة تكذّب التاريخ والواقع‪ .‬فإلقاء نظر ٍة عىل‬ ‫املجازر املُرتكبة باسم النظام الديني السيايس‪ ،‬والنهب واالستعباد تكفي لنعرف مدى الظلم واالستبداد والقهر والتعطيل‬ ‫ٌ‬ ‫احتالل ألرايض الغري‬ ‫الذي حدث للشعوب واملجتمعات‪ .‬نعم كان هناك علام ٌء يف التاريخ اإلسالمي‪ ،‬ولكن كان هناك‬ ‫للرسقة وخطف النساء كجواري وأطفالهن كعبيد‪ ،‬نعم كان هناك علامء‪ ،‬لكن أغلبهم مل يكونوا عربًا من األساس بل تم‬ ‫تكفريهم والحكم عليهم بالردة‪.‬‬ ‫ِيسلَ ْر‪( :‬إن اإلسالم بُني عىل‬ ‫يقول الباحث الفرنيس جاك ر ْ‬ ‫ستة أركانٍ وليس عىل خمس ٍة فقط)‪ ،‬حيث يضيف الجهاد‬ ‫ٍ‬ ‫سادس لإلسالم‪ ،‬بعدما شاهد قوة العمليات اإلرهابية‬ ‫كَ ُركْنٍ‬ ‫واعتامدها عىل مصطلح الجهاد كارتكا ٍز يف العودة إىل الدين‪،‬‬ ‫وإغفال املعرفة والفلسفة والفنون والحريات والدميقراطية‬ ‫كأكرب العوامل يف التقدم والتطور الحضاري واإلنساين‪.‬‬ ‫ومن هذا املنطلق ميكننا الجزم بأن العرب أم ٌة ضعيف ٌة‬ ‫وستظل كذلك طاملا أنها تبتعد عن األخذ بأسباب التقدم‬ ‫ٍ‬ ‫موروثات وثقاف ٍة مل تعد‬ ‫الحقيقية وتكتفي مبا لديها من‬ ‫صالح ًة لالستهالك‪.‬‬ ‫‪6‬‬


‫األخطاءاللغوية يف‬

‫القرآن الكريم‬ ‫د‪ .‬سامي الذيب‬

‫كتاب أخطاء القرآن حيصر أكثر من ألفني ومخسمائة خطأ لغوي يف القرآن ويرتجم‬ ‫النص القرآني لثالث لغات ويقدمه ألول مرة بالرتتيب التارخيي الصحيح‬ ‫متوفر اآلن جمانا على األنرتنت وعلى موقع أمازون‬ ‫‪goo.gl/ei2Jce‬‬ ‫‪7‬‬


‫االستعامر العريب‬ ‫صفح ٌة دموي ٌة يف تاريخ مرص‬ ‫‪-‬الجزء األول‪-‬‬

‫إيهاب القسطاوى‬ ‫غزو العرب ملرص (أو الفتح اإلسالمي ملرص)‬ ‫ٍ‬ ‫واحد أال‬ ‫كلّها مس ّمياتٌ تندرج تحت مس ًّمى‬ ‫جيش عر ٌيب من‬ ‫وهو (الغزو العسكري)‪ ،‬قام به ٌ‬ ‫شبه الجزيرة العربية عام ‪639‬م بقيادة عمرو بن‬ ‫العاص‪ ،‬صا َح َبته عملية نزو ٍح للقبائل العربية‬ ‫إىل مرص واستيطانها بالكامل‪ُ ،‬عقب سقوط‬ ‫مدينة اإلسكندرية يف العام ‪642‬م؛ وقد بدأ‬ ‫قب تاريخية‪،‬‬ ‫رص عىل ثالثة ُح ٍ‬ ‫االحتالل العريب مل َ‬ ‫حقبة ُحكم الخلفاء الراشدين‪ ،‬وحقبة حكم‬ ‫األمويني‪ ،‬وحقبة حكم العباسيني‪ ،‬ليستمر‬ ‫االحتالل العريب ملرص حتى العام ‪877‬م‬ ‫عندما انفصل أحمد بن طولون مبرص‬ ‫وأسس الدولة‬ ‫عن الدولة الع ّباسية‪ّ ،‬‬ ‫الطولونية املستقلة‪.‬‬ ‫‪8‬‬


‫صفح ٌة دموي ٌة يف تاريخ‬ ‫مرص‪ -‬الجزء األول‬

‫إيهاب القسطاوي‬

‫غرقت مرص يف مستنقعٍ من االضطرابات السياسية يف نهاية أيام الحكم البيزنطي‪ ،‬ويف بيزنطة نفسها انتهز الفرس‬ ‫تلك االضطرابات السياس ّية وزحف ملكهم «خرسو برويز» امللقب بـ «كِرسى» إىل األرايض البيزنطية يف آسيا‪ ،‬ويف عام‬ ‫‪613‬م دخل الفُرس إىل دمشق واستولوا عليها‪ ،‬ويف عام ‪614‬م استولوا عىل مدينة القدس واستوىل «خرسو» عىل صليب‬ ‫الصلبوت من القرب املق ّدس من أجل إهدائه لزوجته «شريين» املسيحية املدينة باملذهب اليعقويب‪،‬‬ ‫ويف عام ‪619‬م غزت فرق ٌة فارسي ٌة مرص واستولت عليها‬ ‫وسقطت مرص يف أيدي الفرس عرشة أعوام‪ ،‬وبعد أن‬ ‫رسا «هرقل» بأسطوله أمام سواحل اإلسكندرية عام‬ ‫‪622‬م نجح يف إيقاف زحف الفُرس يف تلك املنطقة‪،‬‬ ‫أسطول يف البحر األسود عىل طرابيزون‪ ،‬ونزل‬ ‫ً‬ ‫وأرسل‬ ‫العسكر البيزنطي وهجموا عىل معسكر الفرس‬ ‫الساسانيني يف جانزاك‪ ،‬فاضطر الفُرس حينذاك‬ ‫لسحب قواتهم من مرص عام ‪627‬م‪ ،‬وواصل هرقل‬ ‫الفاريس هزمي ًة‬ ‫زحفه إىل بالد فارس وليلقي بالجيش‬ ‫ّ‬ ‫ساحق ًة ومتّت استعادة صليب الصلبوت‪ ،‬وإيداعه‬ ‫لرضيح القرب املقدس يف بيت املقدس‪ ،‬وبذلك تعود‬ ‫ٍ‬ ‫جديد إىل السيادة البيزنطية ‪.‬‬ ‫مرص من‬ ‫يف تلك األثناء‪ ،‬أي يف العام ‪620‬م توىل الكرازة املرقسية البطريرك الثامن والثالثون «بنيامني األول»؛ عندما أرسل «هرقل»‬ ‫حاكم مدن ًيا ويف نفس الوقت بطريركًا ملكان ًيا هو «سريوس» أو «قوروس» والذي أُطلِق علية لقب «املقوقس»‪،‬‬ ‫ملرص ً‬ ‫وقبل أن يُرسل هرقل سريوس إىل مرص جرت مشاوراتٌ مع بطريرك القسطنطينية وبطريرك أنطاكيا لتوحيد املذاهب‬ ‫جديد ٍ‬ ‫املسيحية عىل مبدأٍ ٍ‬ ‫واحد يقول إ ّن املسيح واح ٌد و ِفعلُه واح ٌد ومشيئته واحدةٌ‪ ،‬وأُطلِق عىل هذا املبدأ اسم «املشيئة‬ ‫الواحدة» ‪ ،Monotheletism‬لكن هذه الحيلة مل تنطيل عىل املرصيني‪ ،‬فرفض بابا مرص «بنيامني» االعرتاف بسلطة‬ ‫ٍ‬ ‫شديد ليضطّر إىل ترك مدينة اإلسكندرية وال َفرار إىل صحراء اإلسقيط‬ ‫البطريرك امللكاين «سريوس»‪ ،‬مام ع ّرضة الضطها ٍد‬ ‫أعوام‬ ‫«شهات» بوادي النطرون‪ ،‬ليلتقي هناك بعد ٍد محدو ٍد من الرهبان بعد أن قتل الفرس عد ًدا كب ًريا منهم يف العرشة ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫جديد يرتك بنيامني وادي النطرون ويف ّر إىل الصعيد لالحتامء هناك بعد أن طلب من أساقفته أن يتبعوه‪،‬‬ ‫األخرية‪ ،‬ومن‬ ‫وعي هرقل أساقف ًة ملكانيني يف نواحي مرص‪ ،‬واضطهد املرصيني اليعاقبة اضطها ًدا كب ًريا‪ ،‬وقامت يف مرص موج ٌة من‬ ‫ّ‬ ‫التنكيل واإلذالل‪ ،‬وهجم البيزنطيون عىل الكنائس واألديرة ونهبوا األواين املق ّدسة وصادروا األرايض واملمتلكات وجلدوا‬ ‫األقباط وقتلوهم واعتقلوهم وت ّم التنكيل بهم‪ ،‬وقبض سريوس عىل مينا أخو بنيامني وعذّبه حتى املوت‬ ‫‪9‬‬


‫صفح ٌة دموي ٌة يف تاريخ‬ ‫مرص‪ -‬الجزء األول‬

‫إيهاب القسطاوي‬

‫ومع احتقان واشتعال املوقف وازدياد وترية التنكيل باملرصيني َهجم العرب عىل مرص بقيادة عمرو بن العاص‬ ‫واستطاعت جيوشهم غزو بالد الفرس واالستيالء عليها‪ ،‬واالنتصار عىل البيزنطيني واالستيالء عىل الشام ِ‬ ‫ليصلوا إىل مرص‬ ‫بخصائص فريد ٍة متعدد ٍة تُ ِّيزها عن غريها‬ ‫أيضا؛ كانت مرص بطبيعة الحال تتميز‬ ‫املنهوبة لالستيالء عليها من البيزنطيني ً‬ ‫َ‬ ‫من بلدان جنوب ورشق البحر املتوسط‪ ،‬ومن‬ ‫تلك الخصائص كَرثة عدد سكانها‪ ،‬وأراضيها‬ ‫الخصبة التي ت ُنتج الغالل‪ ،‬وموقعها املتوسط‬ ‫واملحمي عن طريق الصحاري‪ ،‬وكان عدد‬ ‫السكّان والغالل تعني لل ُغزاة كَرثة الرضائب‬ ‫والطعام الوفري واملوقع االسرتاتيجي‪ ،‬موق ٌع‬ ‫ومناسب ميكن أن يتحول لقاعد ٍة لتطوير‬ ‫آم ٌن‬ ‫ٌ‬ ‫هجامتهم عىل املناطق املجاورة ملرص‪ ،‬وهذه‬ ‫كانت من أهم األسباب الرئيسية لجذب‬ ‫الطامعني الحتاللها والتصارع عىل ُملكها عرب‬ ‫حقب التاريخ املختلفة ‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫بجيوش أخرى‪-‬‬ ‫استطاع الجيش العريب الغازي والذي قُ ِّدر عدده األصيل ‪-‬قبل تدعيمه‬ ‫محارب أن ينترص عىل البيزنطيني وأن يُخرجهم من مرص عام‬ ‫بحوايل أربعة آالف‬ ‫ٍ‬ ‫نفوس املرصيني مرار ًة وكراهي ًة من البيزنطيني‪،‬‬ ‫‪642‬م‪ ،‬وبطبيعة الحال فقد ملّت‬ ‫ُ‬ ‫الجلد البيزنطي يرتنّح ويقع مدحو ًرا عىل‬ ‫ففرحوا وشعروا بالراحة وهم يشاهدون ّ‬ ‫األرض‪ ،‬فدخل الجيش العريب إىل مرص من رفح واستوىل عىل «الريس» أو «العريش»‬ ‫يف ‪ 12‬ديسمرب ‪639‬م‪ ،‬وزحف إىل «الفرما» التي كانت تُع ّد مبثابة أبعد حصون مرص‬ ‫من ناحية الرشق‪ ،‬وقامت هناك أول معرك ٍة حقيقي ٍة بني العرب والبيزنطيني واستمرت‬ ‫املعارك عىل أشُ ّدها‪ ،‬حتى اقتحم العرب الفرما يف ‪ 13‬يناير ‪640‬م وهدموا أسوارها‪،‬‬ ‫وبذلك غدوا قاب قوسني أو أدىن من الوصول لقلب ِ‬ ‫الدلتا‪ ،‬واستمر الجيش العريب‬ ‫الغازي يف تق ّدمة حتى وصل إىل ِ‬ ‫الدلتا واستوىل عىل قري ٍة تدعى «النوارص» (والتي هي‬ ‫اآلن قرية الجعافرة يف مركز فاقوس يف الرشقية)‪ ،‬ومن هناك دخلوا بلبيس واندلعت‬ ‫ٌ‬ ‫معارك مع قو ٍة بيزنطي ٍة صغري ٍة استمرت حوايل الشهر‪ ،‬وبعد أن انترص العرب توغّلوا‬ ‫إىل مركز البيزنطيني يف مرص «حصن بابليون»‪ ،‬فهو مل يكن مبثابة حصنٍ أو قلعة‪ ،‬لك ّنه‬ ‫كان عبار ًة عن منطق ٍة واسع ٍة ما بني «أون» (عني شمس اآلن) وقرص الشمع‪ ،‬وكان‬ ‫يُطلق عىل تلك املنطقة «مرص»؛ وصل عمرو بن العاص ألول قري ٍة يف بابليون وكانت‬ ‫قري ًة اسمها «دنني» أو «نندونيلس»‪ ،‬ومكانُها حال ًيا جامع (والد عنان) يف باب الحديد‪،‬‬ ‫‪10‬‬


‫صفح ٌة دموي ٌة يف تاريخ‬ ‫مرص‪ -‬الجزء األول‬

‫إيهاب القسطاوي‬

‫قام عمرو بن العاص بتقسيم املحاربني العرب إىل ثالثة فرق‪ ،‬فرق ٌة حارصت دنني والفرقة الثانية زحفت إىل شامل حصن‬ ‫بابليون والثالثة متركزت يف أون (عني شمس)‪.‬‬ ‫فحصنوه وزحفوا إىل حصن‬ ‫بعدما قام العرب مبحارصة دنني استولوا عليها وأصبح يف أيديهم موق ٌع مني ٌع عىل النيل ّ‬ ‫بابليون نفسه مق ّر كبار القادة البيزنطيني وبدأوا يف محارصته يف مايو ‪640‬م‪ ،‬ولكن بعد أن قاموا مبهاجمته أدركوا أنهم‬ ‫غري قادرين عىل اقتحامه‪ ،‬فبعث عمرو بن العاص للخليفة يف املدينة يطلب مد ًدا‪ ،‬ووصل املدد يف ‪ 6‬يونيه ‪640‬م‪ ،‬وكان‬ ‫عبار ًة عن ٍ‬ ‫محارب عر ٍّيب تحت قيادة الزبري بن الع ّوام‬ ‫جيش عدده حسب ما ذكره املؤرخون ما بني ‪ 4.000‬و ‪12.000‬‬ ‫ٍ‬ ‫حاسم لصالح العرب‪ ،‬فقد‬ ‫شكل‬ ‫واملقداد بن عمرو واألسود ومسلمة بن مخلد‪ ،‬وبوصول الجيش بدأت املعارك تأخذ ً‬ ‫ً‬ ‫استخدم عمرو بن العاص املجانيق‪ ،‬وحاول أن يستدرج البيزنطيني لخارج الحصن لك ّن املجانيق وخطة االستدراج مل‬ ‫تُفلح‪ ،‬وبعد حصا ٍر دام سبعة أشه ٍر ح ّط العرب عىل جدار ِ‬ ‫الحصن من ناحية سوق الحامم بقيادة الزبري بن العوام‪،‬‬ ‫وعندما رأى البيزنطيون املحاربني العرب فوق الحصن ُخيِّل لهم أنهم اقتحموه‪ ،‬فهرب معظمهم واقتحم العرب الحصن‬ ‫وفتحوا بوابته‪ ،‬فتدفق املحاربون داخله ووقعت آخر جيوب الحصن يف أيدي العرب يف أغسطس من عام ‪640‬م‪.‬‬ ‫يف تلك األثناء أرسل سريوس أو «املقوقس» إىل عمرو بن العاص يطلب عقد صل ٍح وجاء يف بعض املصادر التاريخية‪:‬‬ ‫(إن املقوقس وقت املفاوضات كان يف الحصن)‪ ،‬ولكن مصادر أخرى قالت إنه كان يتفاوض من جزيرة الروضة‪ ،‬وبعد‬ ‫ٍ‬ ‫مفاوضات عديد ٍة أُبرِمت معاهد ٌة بني الطرفني ُعرِفت باسم «معاهدة بابليون» وذهب بعض املؤرخني إىل أنّه ت ّم إبرام‬ ‫معاهدتني‪ ،‬األوىل مع سريوس والثانية مع قومندان الحصن‪ ،‬ومبوجب تلك املعاهدة فُرِض عىل املرصيني دفع جزي ٍة‬ ‫(رضيبة راس) سنوي ٍة مقدارها دينارين عىل كل رجلٍ‬ ‫مرصي بالغ‪ ،‬وقُ ِّدر تعداد الرجال املرصيني البالغني آنذاك بحوايل‬ ‫ٍ‬ ‫ستة ماليني رجل‪ ،‬وكانت قيمة الجزية املفروضة حوايل ‪ 12‬مليون دينار‪ ،‬وفوق جزي ُة الدينارين ت ّم فرض رضيب ٌة عىل‬ ‫الخل‪ ،‬وكان عىل‬ ‫ُم ّلك األرايض عبار ٌة عن ثالث أرادب قم ٍح وقسطني من الزيت وقسطني من العسل وقسطني من ّ‬ ‫عام جبّ ًة من الصوف أو ثوبًا ِقبطيًّا و ُخفّني وبُرنس أو ِع ّم ًة ورساويل‪ ،‬وقد استنكر‬ ‫لكل عر ٍيب ّ‬ ‫املرصيني أن يُعطوا ّ‬ ‫كل ٍ‬ ‫هرقل من جهته توقيع نائبه سريوس عىل هذه املعاهدة عىل الرغم من كون سريوس اليوناين مندوبه امللكاين الذي مل‬ ‫ميثّل املرصيني والكنيسة املرصية‪.‬‬ ‫بدأ البيزنطيون يف تحصني مدينة اإلسكندرية عاصمة مرص آنذاك ووصلت بواخ ُر محمل ٌة بالسالح والعتاد‪ ،‬وقبل زحف‬ ‫ٍ‬ ‫حمالت استولت عىل قُ ًرى ومدنٍ مرصية مثل عني شمس وتنيس ودمياط‬ ‫عمرو بن العاص إىل مدينة اإلسكندرية أرسل‬ ‫ٍ‬ ‫حمالت عىل الصعيد استولت عىل األشمونني وأخميم وغريها‬ ‫وتونة ودمرية (يف طلخا) ودقهلة وبوصري‪ ،‬كذلك أرسل‬ ‫من املدن‪ ،‬وبدأت املواجهات بعد أن وصل العرب «ترنوط» (قرية الطرفة يف كوم حامدة يف البحرية حال ًيا)‪ ،‬ونشبت‬ ‫معرك ٌة عنيف ٌة انهزم عىل إثرها البيزنطيني وانسحبوا إىل «كربون» (يف كفر الدوار يف البحرية حال ًيا)‪ ،‬لقد كانت كربون‬ ‫مهم بها حص ٌن مني ٌع وكان مبثابة املفتاح لإلسكندرية‪ ،‬وعندما رأى قائد الحصن العرب قادمني استنجد‬ ‫موق ًعا عسكريًا ً‬ ‫‪11‬‬


‫صفح ٌة دموي ٌة يف تاريخ‬ ‫مرص‪ -‬الجزء األول‬

‫إيهاب القسطاوي‬

‫بالحاميات القريبة ونشبت معرك ٌة استمرت ملدة ثالثة عرش يو ًما‪ ،‬انتهت باستيالء العرب عىل ِ‬ ‫ظل‬ ‫الحصن وبعدها ّ‬ ‫عمرو بن العاص يتقدم حتى وصل ألول دفاعات اإلسكندرية‪ ،‬وهي عبار ٌة عن حصونٍ وقالع‪ ،‬فتوقف عمرو هناك ملدة‬ ‫شهرين وانترشت عساكره يف منطق ٍة واسع ٍة من «حلوة» حتى «قرص فارس»‪ ،‬يف تلك األثناء توقف عمرو بن العاص عىل‬ ‫ٍ‬ ‫حمالت عسكري ٍة لالستيالء عىل املدن والقرى يف شامل الدلتا وإقليم الجيزة ثم هاجم‬ ‫مشارف اإلسكندرية‪ ،‬بعد أن أرسل‬ ‫جيش ز ٍ‬ ‫معارك رشسة‪ ،‬وأثناء فرتة الحصار تو ّىف هرقل بعد ما كان متأه ًبا لقيادة ٍ‬ ‫حصون اإلسكندرية بعد سلسلة َ‬ ‫احف إىل‬ ‫اإلسكندرية‪ ،‬وبعد ثالثة شهو ٍر من الحصار واملعارك تم إبرام معاهدة صل ٍح ودخل الجيش العريب اإلسكندرية ‪.‬‬ ‫ولكن بعد أن انسحب البيزنطيون عاودوا الهجوم مر ًة أخرى واستمرت املعارك إىل أن انتهت بهزميتهم‪ ،‬لكن عمرو بن‬ ‫الصلح ينطوي عليه أ ّن اإلسكندرية مل تستسلم لكنها سقطت‬ ‫العاص اعترب أ ّن رجوع البيزنطيني واالنتصار عليهم بعد ُ‬ ‫بالقوة‪ ،‬مام أعطاه الذريعة لنهب املدن‪ ،‬ولكن حينام استأذن عمرو بن العاص الخليفة عمر بن الخطّاب يف نهب‬ ‫اإلسكندرية رفض الخليفة طلبه وطلب منه عقد صل ٍح مع البيزنطيني عىل أساس أن يقوموا بدفع الجزية له‪ ،‬وعليه‬ ‫ٍ‬ ‫تفويض بالصلح وعاد ومعه املوافقة‪ ،‬وطلب من عمرو‬ ‫سافر سريوس إىل القسطنطينية عاصمة بيزنطة من أجل أخذ‬ ‫السكّان الدينية وأن يسمح لليهود بالبقاء باإلسكندرية‪،‬‬ ‫بن العاص املحافظة عىل الكنائس وعدم التدخل يف شؤون ُ‬ ‫وتم االتفاق يف نوفمرب ‪641‬م عىل أن يبقى الجيش العريب خارج اإلسكندرية ملدة أحد عرش شه ًرا حتى يتم خروج آخر‬ ‫ٍ‬ ‫معارك استمرت عامان وأربعة أشهر‪ ،‬واستمر‬ ‫بيزنطي يف ‪ 17‬سبتمرب ‪642‬م‪ ،‬وبذلك سيطر العرب عىل مرص بعد‬ ‫عسكري‬ ‫ٍ‬ ‫ّ‬ ‫الوضع عىل هذا املنوال حتى محاولة البيزنطيني مر ًة أخرى بقيادة مانويل الخىص االستيالء عىل اإلسكندرية عام ‪645‬م‪،‬‬ ‫فنزلوا وهاجموا املدينة ونكّلوا باملرصيني الذين ساعدوا العرب‪ ،‬ويف غضون ذلك قام عثامن بن عفان بعزل عمرو بن‬ ‫وول مكانه عبدالله بن سعد‪ ،‬ولكن بعد هجوم البيزنطيني رجع عمرو بن العاص إىل مرص من‬ ‫العاص عن والية مرص ّ‬ ‫انقض فيها البيزنطيون عىل العرب فتقهقروا‪ ،‬لكنهم ما لبثوا أن‬ ‫أجل محاربتهم‪ ،‬وقامت معرك ٌة عند نقيوس يف البحرية ّ‬ ‫استعادوا توازنهم مر ًة أخرى وطاردوا البيزنطيني‪ ،‬وحصلت معرك ٌة كبري ٌة يف شوارع اإلسكندرية قُتل فيها أعدا ٌد كبري ٌة من‬ ‫الطرفني ثم طاردهم عمرو بن العاص يف الرب والبحر حتى خروجهم من مرص‪.‬‬

‫‪12‬‬


13


‫الربوبية ما بني‬ ‫الدين واإللحاد‬

‫التعريف األيديولوجي ملفهوم الربوبية كفكر ٍة‬ ‫عام ٍة رمبا يكون معروفًا لدى الكثريين‪ ،‬إال أ ّن‬ ‫هذا التعريف ال ميكنه تحديد تفاصيل ومعامل‬ ‫مفهوم الربوبية بالشكل الذي ميكننا اختزالها‬ ‫فيه داخل إطا ٍر معني‪ ،‬مام قد يسبب‬ ‫أحيانًا الكثري من الخلط واللغط ملفهوم‬ ‫الربوبية لدى البعض‪ ،‬فالربوبية تختلف‬ ‫يف ماهيتها عن ثوابت العقائد الدينية‬ ‫أيضا عن‬ ‫بشكلٍ عام‪ ،‬وتختلف ً‬ ‫اإللحاد الذي قد يشوبه يف أحيانٍ‬ ‫كثري ٍة بعض الجمود لدى كثريين‬ ‫من معتنقي الديانات ممن‬ ‫ٌ‬ ‫شكوك يف عقائدهم‬ ‫لديهم‬ ‫أو يف برشية دياناتهم قد‬ ‫يقيض عليها اإللحاد‬ ‫بجموده يف بداية‬ ‫نشأة هذه‬ ‫الشكوك‪،‬‬

‫‪Omar Hussein‬‬ ‫‪14‬‬


‫الربوبية ما بني‬ ‫الدين واإللحاد‬

‫‪Omar Hussein‬‬

‫وتعترب الربوبية حلقة الوصل بني الفكر الديني وبني املوقف اإللحادي والتي تستطيع مبرونتها معالجة بعض التناقضات‬ ‫كل منهام‪ ،‬وإن كان اإللحاد يتم ّيز عن االعتقاد الديني بأنّه ال يزعم امتالكه للحقيقة املطلقة‪،‬‬ ‫واملنقوصات املوجودة يف ٍّ‬ ‫وإن سعى جاه ًدا باألساليب العلمية الستكشاف كل ما يتعلق ببدايات الكون ونشأة الحياة عىل األرض‪ ،‬كام أ ّن اإللحاد‬ ‫ال يجد أي حر ٍج يف االعرتاف بكل ما يثبته العلم حتى ولو أثبت العلم وجود صانعٍ للبرش بشكلٍ ٍ‬ ‫خاص أو للكون عمو ًما‪،‬‬ ‫بعكس ما يعتقده معظم أصحاب الديانات يف نظرتهم الض ّيقة لإللحاد يف أنه يزعم دامئًا امتالكه لكل الحقائق محاربًا‬ ‫بذلك الفطرة اإللهية املزروعة يف اإلنسان منذ نشأته‪ ،‬لذا فاإللحاد هو األقرب للربوبية من املعتقدات الدينية‪ ،‬وإن كان‬ ‫اإللحاد قد يؤخذ عليه متسكه بالنظريات العلمية املجردة وابتعاده عن الفلسفة القدمية التي هي يف األساس أصل كل‬ ‫العلوم والسبب الرئيس يف نشأتها‪ ،‬فالعلم ال يستطيع وحده أن يجيب عن كل التساؤالت التي قد يطرحها العقل البرشي‬ ‫ٍ‬ ‫مسلامت ال تقبل الشك‪ ،‬ولوال‬ ‫الالمحدود‪ ،‬والذي يسبح بخياله دامئًا فوق النظريات والثوابت العلمية حتى وإن كانت‬ ‫هذا الخيال العقيل الفلسفي ملا تقدم العلم قيد أمنل ٍة وملا تع ّدلت النظريات غري الدقيقة التي كانت من الثوابت يف‬ ‫عرصها‪ ،‬لذا فاالعتامد فقط عىل النظريات العلمية دون ربطها بالفلسفة لن يصل بنا إىل أكرث من املادة وماهيتها دون‬ ‫االقرتاب من امليتافيزيقيات التي ال زالت لديها الكثري والكثري لتفاجئنا به‪ ،‬وعىل سبيل املثال فالنظريات العلمية الحديثة‬ ‫التي تصول وتجول بسفنها ومركباتها خارج غالفنا الجوي مل تصل حتى اآلن لكيفية بناء األهرامات الفرعونية منذ ‪4500‬‬ ‫سنة أو حتى لكيفية حساب الفراعنة ملقدار املسافة بني الشمس واألرض املتمثل يف قياس ارتفاع الهرم األكرب‪ ،‬وغريه من‬ ‫الكثري من األمور العديدة الغامضة التي بُني عىل أساسها هذا الرصح الحجري البدايئ‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫فلسفات واسع ٍة وشامل ٍة تحتضن‬ ‫والربوبية يف حد ذاتها هي مجموع ٌة من‬ ‫قالب مع ٌني ميكننا من خالله أن نطلق‬ ‫الكثري من األفكار‪ ،‬لكن ليس لها ٌ‬ ‫عليها مصطلح (املذهب الربويب)‪ ،‬فلكل ربو ٍّيب فكره الخاص وماهية الخالق‬ ‫الذي يستسيغه عقله أو يطمنئ له قلبه‪ّ ،‬إل أنهم يشرتكون يف النهاية‬ ‫باالعتقاد بوجود هذه القوة امليتافيزيقية الخفية املجهولة‪ ،‬وكث ٌري من‬ ‫الفالسفة واملفكرين والعلامء والشخصيات التاريخية اعتنقوا الفكر الربويب‬ ‫عام ورمبا قد يعتقد البعض أنهم كانوا ملحدين نظ ًرا لخروجهم‬ ‫بوج ٍه ٍ‬ ‫بعضا من هذه‬ ‫عن ِملل دياناتهم بعد تفنيدها واثبات برشيتها (وسأذكر ً‬ ‫الشخصيات يف آخر املقال عىل سبيل املثال)‪ ،‬وباعتبار املفهوم الربويب‬ ‫مفهو ًما غري ٍ‬ ‫ثابت يختلف باختالف العقلية املعتنقة لهذا الفكر باختالف‬ ‫الثقافة واإلدراك واإلملام بالفلسفة والعلوم وقراءة التاريخ ويصعب حرص‬ ‫أفكاره يف إطا ٍر ٍ‬ ‫واحد‪ ،‬فسأتحدث بإيجا ٍز عن بعض ال ُحجج التي قد يبني‬ ‫ٍ‬ ‫عليها الربويب أفكاره من عدة جوانب مختلف ٍة بشكلٍ‬ ‫مبسط دون التعمق‬ ‫يف الفلسفات املختلفة واملتعددة للفكر الربويب يف حد ذاتها‪.‬‬ ‫‪15‬‬


‫الربوبيةﰲ ما بني‬ ‫ﺻﻮرﺗني‬ ‫اﳌﻮت ‪..‬‬ ‫الدين واإللحاد‬

‫اﻷﺳﺌﻠﺔ ﻫﻮ‬ ‫ﻫﺬا اﻟﻨﻮع‬ ‫الخلية أن‬ ‫نشأةﺗﺬﻛﺮت‬ ‫واﻹﻧﺠﻴﻞ؟ ﺛﻢ‬ ‫فعدم اﻟﻘﺮآن‬ ‫ﻛﺘﺎﺑﺔ‬ ‫اﻟﻌﺪو‪.‬االعتقاد‬ ‫بالتأكيد إىل‬ ‫ﻣﻦ يؤ ّدي‬ ‫(عشوائ ًيا)‪،‬‬ ‫األوىل‬ ‫االقتناع بنظرية‬ ‫بوجود صانعٍ للبرش رمبا ال ترسي عليه قوانني الزمن‪ ،‬حيث أنه علم ًيا ميكننا‬ ‫الخالقأن‬ ‫اﳌﻤﻜﻦ‬ ‫ﻋﲆ ٌةﻧﺎر‬ ‫ﺗﺄﺛري‬ ‫التحدث ﺗﺮى‬ ‫بالفعلﻧﻔﴘ ﻳﺎ‬ ‫ﺳﺄﻟﺖ‬ ‫وﻫﻞجِدﻣﻦهذا‬ ‫ﺟﻬﻨﻢ إذا ُو‬ ‫أو نهاي ٌة‬ ‫اﻟﺠﺎذﺑﻴﺔ بداي‬ ‫خالق ليس له‬ ‫عن ﻣﺎوجود‬ ‫ﻫﻮ ٍ‬ ‫وأﻏﻠﺐ‬ ‫سبقاﻟﻜﻔﺎر ﻛ ٌرث‬ ‫الذي أن‬ ‫اﳌﻌﺮوف‬ ‫ازدﻳﺎدعىلﻛﺘﻠﺘﻬﺎ؟‬ ‫الزمن أﺳﻮد‬ ‫ﺛﻘﺐ‬ ‫يفﺗﺘﺤﻮل‬ ‫إﱃ ٍ‬ ‫االنفجار الكبري‬ ‫نظريةﻣﻦالعدم‬ ‫ﺑﺴﺒﺐيرسي‬ ‫صفر‪ ،‬فام‬ ‫منطقة‬ ‫ﻋﲆ‬ ‫ﺗﺤﺘﺎج ﺟﻬﻨﻢ‬ ‫ﻫﻨﺎ‪ .‬ﻛﻢ‬ ‫ﺳﻴﻨﺘﻬﻲ ﺑﻬﻢ‬ ‫ﻟﺘﻨﻬﺎر هذا‬ ‫الفائقة) فإ ّن‬ ‫إﻧﺴﺎنٍ(األوتار‬ ‫ﻣﻠﻴﺎرنظرية‬ ‫فبحسب‬ ‫اﳌﻄﺎفجِد‪،‬‬ ‫الخالق إن ُو‬ ‫اﻷرضعىل هذا‬ ‫أيضا‬ ‫يرسي‬ ‫ﺳﻜﺎن ً‬ ‫أﺳﻮد؟‬ ‫وﺗﺘﺤﻮلننتمي ٍ‬ ‫ليس وحي ًدا‪ ،‬بل هناك أكوانًا عديد ًة متصل ًة ببعضها‬ ‫ﻟﺜﻘﺐإليه‬ ‫ﻧﻔﺴﻬﺎ الذي‬ ‫الكون‬ ‫تناغم متداخلٍ كالسيمفونية املوسيقية ولكلٍ منها قوانينه الخاصة‪،‬‬ ‫البعض يف ٍ‬ ‫ﺑﻌﻘﻞٍ‬ ‫ﺧﻠﻘﻨﻲ‬ ‫الزمن ﻟﻜﻦ‬ ‫اﻷﺳﺌﻠﺔنجدﻏريأنﻣﺤﻤﻮد‪،‬‬ ‫ﻫﺬا اﻟﻨﻮع‬ ‫ﺗﺬﻛﺮت أن‬ ‫ﺛﻢ‬ ‫اﳌﻌﻠﻢالكبري‬ ‫االنفجار‬ ‫ﳌﺎذابعد‬ ‫موجو ٌد‬ ‫االنفجارﻣﻦالكبري‬ ‫نظرية‬ ‫وبحسب‬ ‫ﱄ؟‬ ‫ﺧﻠﻘﻪ‬ ‫اﺳﺘﺨﺪام ﻣﺎ‬ ‫اﳌﻌﻠﻮﻣﺎت‪ ،‬ﺛﻢ‬ ‫وليس ﻫﺬه‬ ‫ﻳﻄﺮح‬ ‫الكبري‬ ‫االنفجار‬ ‫ﻋﲆما قبل‬ ‫ﻳﻌﺎﻗﺒﻨﻲ إىل‬ ‫بطبيعته الحالية‬ ‫وﻳﺤﺎﻛﻢالكون‬ ‫اﻷﺳﺌﻠﺔعاد هذا‬ ‫قبله‪ ،‬وإذا‬ ‫داﺧﻞ‬ ‫(البيضةﻓﺮﺻ ٌﺔ ﻻ‬ ‫اﻷﺑﺪ ﻟﻜﻨﻬﺎ‬ ‫مام إﱃ‬ ‫ﺳﺄﺣﱰق‬ ‫ﺻﺤﻴﺢ أﻧﻨﻲ‬ ‫ﻛﻔﻰ‬ ‫أﺳﺌﻠ ًﺔ‪،‬الزمن‪ٌ ،‬‬ ‫أﻛﻮنرحمها‬ ‫ﺗﻌﻮض ُولِأند من‬ ‫الكونية) التي‬ ‫يسمى‬ ‫ويتضح ذلك‬ ‫فسيموت‬ ‫ﻫﻜﺬاالكون ٍ‬ ‫وأرﺻﺪﻫﺎ دون‬ ‫ﺗﻔﺎﻋﻼت‬ ‫حجم من اإللكرتون مباليني‬ ‫أﻣﻮت‪.‬كانت أقل‬ ‫املتسارع‪ ،‬أنوالتي‬ ‫املتمدد‬ ‫هذا‬ ‫ً‬ ‫املرات ورغم ذلك كانت بحسب النظرية بثقل هذا الكون كله (بافرتاض أنها‬ ‫ﻛﺎﻣيفريا‬ ‫وﺟﻮد‬ ‫يكنﻟﻜﻨﻲ‬ ‫وأﺗﻌﺬب‪،‬‬ ‫اﻟﻌﺬابمنوأﻧﺎ أﴏخ‬ ‫وﺑﺪأ‬ ‫ﺟﻬﻨﻢ‬ ‫دﺧﻠﺖ ﻧﺎر‬ ‫وجو ٍد‬ ‫ﻻﺣﻈﺖ أي‬ ‫هناك للزمن‬ ‫األساس)‪ ،‬فلم‬ ‫معدوم‬ ‫حجم غري‬ ‫كانت‬ ‫ذات ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ﻷﻫﻞبلاﻟﺠﻨﺔ‬ ‫قبل وﺗﺒﺜﻪ‬ ‫الكونية)ﻋﺬايب‬ ‫ﺟﻬﻨﻢ ﺗﺼ ّﻮر‬ ‫ﰲتلكأﻋﲆ‬ ‫أنه ُخلِ‬ ‫ﺑﻌﺬايب‪ .‬وبطريق ٍة ما‬ ‫ﻳﺘﻤﺘﻌﻮااالنفجار‬ ‫ﻟيكق بعد‬ ‫انفجارها‪،‬‬ ‫(البيضة‬ ‫غري مفهوم ٍة حتى اآلن فيزيائ ًيا‪ ،‬وبالتايل فلو بدأ هذا الكون يف التقلص بدلً من‬ ‫ﻏﻠﻴﻠﻬﻢ‪،‬‬ ‫ﻳﺸﻔﻮا‬ ‫ﻳﺴﺘﻄﻴﻌﻮن أن‬ ‫النهاية‪،‬اﻟﻌﻠﻤﻴﺔ‬ ‫ﺗﺤﻤﻠﻮايفﻣﻘﺎﻻيت‬ ‫اﳌﺆﻣﻨﻮن اﻟﺬﻳﻦ‬ ‫األوكسجني‬ ‫نجد أن‬ ‫اﻟﻴﻮمرات القدمية‬ ‫وبرصد املج‬ ‫فسينتهي الزمن‬ ‫التمدد‬ ‫ﻣﻦ‬ ‫ﻓﺮﺣني مبﺎ‬ ‫ﻣﺘﻜﺌﻮن‪،‬‬ ‫بعدوﻫﻢ‬ ‫وأﺗﻌﺬب‬ ‫ﻫﺎ‬ ‫مرورﻋﲆ اﻷر ٍ‬ ‫اﳌﻌﻠﻢعلم ًيا‬ ‫أﻋﻄﺎﻫﻢيجيز‬ ‫الكون‪ ،‬مام‬ ‫والدة هذا‬ ‫لحظاتاﺋﻚعىل‬ ‫أﺣﱰقالكون‬ ‫قد أﻧﺎظهر يف‬ ‫احتامل ٍ‬ ‫أزواﺟﻬﻦ‬ ‫ﻳﺸﺎﻫﺪن‬ ‫ﻳﻀﺎﺟﻌﻮن‬ ‫حياواتاﻟﺬﻛﻮر‬ ‫ﻓﺎﻛﻬ ٍﺔ‬ ‫وإﺟﺎص وﻧﺒﻴﺬ‪ٍ ،‬‬ ‫أشكا ٍل أخرى‬ ‫واﻟﻨﺴﺎء عدة‬ ‫اﻟﺤﻮرﻳﺎتتكون لها‬ ‫األرض قد‬ ‫أخرى خارج‬ ‫وجود‬ ‫ﺳﻌﺪاء؟!‬ ‫التياﳌﺰﻳﺪ‪.‬‬ ‫ّﺰﻧﻬﻢغريﻋﲆ‬ ‫وﻳﺤﻔ‬ ‫درب التبانة‪ ،‬ومؤخ ًرا اكتشف العامل الفليك‬ ‫ﻫﻢ مجرة‬ ‫تحتويﻛﻢعليها‬ ‫مختلف ٍة‬ ‫الياباين (ناؤويك يوسيدا) هو وفريقه بجامعة طوكيو مجر ًة غريب ًة أطلق عليها‬ ‫ﺗﻮﻗﻒ‪،‬‬ ‫تحتوياﻷﺑﺪ‪،‬‬ ‫ﻣﺘﻜﺌني إﱃ‬ ‫ﺳﻴﺒﻘﻮن ﻋﲆ اﻷراﺋﻚ‬ ‫دونتتضمنه‬ ‫وﻳﺘﻀﺎﺟﻌﻮنالذي‬ ‫اﻹﺟﺎص األوكسجني‬ ‫ﻳﺄﻛﻠﻮنفقط من‬ ‫عىل ‪‎%‎10‬‬ ‫‪SXDF-NB1006-2‬‬ ‫اسم‬ ‫إليهاﻟﻪنظ ًرا ٌ‬ ‫ننتميوذاك‬ ‫ﴫ ﻫﻨﺎ‬ ‫ﻫﺬا‬ ‫املجرةﻟﻪ ﻗالتي ٌ‬ ‫ﻫﻨﺎك‪.‬عمر هذه املجرة‪ ،‬وانتهى البحث إىل أن‬ ‫ﻣﻨﺰللحداثة‬ ‫هذه املجرة قد ظهرت بعد مرور ‪ 700‬مليون سن ٍة بعد االنفجار الكبري وتفصلنا‬ ‫عمرها ٌر‬ ‫اﻷرض‪ ،‬أﻧﻬﺎ‬ ‫مام ﻋﲆ‬ ‫ضوئية‪،‬ﻋﺼ ًريا‬ ‫مليارﻛﻨﺎسن ٍةﻧﺴﻤﻴﻪ‬ ‫ب‪13.413‬أو ﻣﺎ‬ ‫اﻟﺬي ﻻ ﻳﺴﻜﺮ‬ ‫مساف ٌر ٌة ﻣﻦ‬ ‫ﻳﻮﺟﺪ أﻧﻬﺎ‬ ‫يعني أن‬ ‫اﻟﻨﺒﻴﺬتقدر‬ ‫تقريبي ٌة‬ ‫عنها‬ ‫اﻟﻌﺼري‪.‬‬ ‫ﻣﻦ‬ ‫اوح بني هذين الحدين أي أنها مازالت يف مرحلة الشباب‪،‬‬ ‫الحايل يرت‬ ‫ﻣﻦ ٍةﺟﻨﺎنٍ‬ ‫ﻛﻴﻒ‬ ‫ﻟﻠﻤﻀﺎﺟﻌﺔ إﱃ‬ ‫الربوبيةﻫﻲ‬ ‫عن ﻓﻜﺮة‪ ،‬ﻣﺎ‬ ‫نتحدث ﺑﺎﱄ‬ ‫وعندماﺧﻄﺮت ﰲ‬ ‫ﻓﺠﺄ ٌة‬ ‫اﻷﺑﺪ؟الدينية‬ ‫املعتقدات‬ ‫بعي ًدا عن‬ ‫اﻟﻐﺎﻳﺔمجرد‬ ‫كفكر ٍة‬ ‫ﻫﺬا‬ ‫ﺗﺬﻛﺮت‬ ‫هذا اﻟﻜﻮن؟‬ ‫وﻋﻈﻤﺔ‬ ‫واح ٌدﻋﲆعىلاﻟﻮﺟﻮد‬ ‫اﻟﺠﻮاب‬ ‫اﻟﺠﻨﺎن‬ ‫فسنجدﻫﺬه‬ ‫ﺗﻜﻮن‬ ‫كانأنهناك‬ ‫الخالق‪،‬ﺛﻢفرمبا‬ ‫وحدانية‬ ‫دليل‬ ‫يوجدﻫﻲ ٌ‬ ‫أنه ال‬ ‫ﻗﴣالﻋﲇ‪.‬‬ ‫اﻷﺳﺌﻠﺔ‬ ‫يستطيع هذا الخالق معرفة الغيب أو اإلملام‬ ‫أيضا‬ ‫ﻫﻮورمبا‬ ‫للبرش‬ ‫أكرث‬ ‫اﻟﺬي ً‬ ‫اﻟﻨﻮعمنﻣﻦصانعٍ‬ ‫باملستقبل بالشكل الذي تناولته معظم الديانات‪ ،‬فيحتمل أن تكون مجرد‬ ‫‪16‬‬ ‫‪36‬‬

‫ﻣﺠﻤﻮﻋﺔ ﻋﲆ اﻟﻔﻴﺴﺒﻮك‬


‫الربوبية ما بني‬ ‫الدين واإللحاد‬

‫‪Omar Hussein‬‬

‫كائنات أرقى من البرش متتلك قدر ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ات ال نستطيع إىل اآلن استيعابها‪ ،‬والتقدم العلمي املذهل للبرش والذي يتحرك برسع ٍة‬ ‫كامل من خلي ٍة واحدة‪ ،‬لذا فاألمر ميكن أن يصل إليه بسهول ٍة من هم‬ ‫هائل ٍة رمبا يستطيع فيام بعد أن يخلق إنسانًا ً‬ ‫سحيق إن ُوجِدوا‪ ،‬ومؤخ ًرا استطاع العامل األمرييك (كريج فينرت) إنتاج ما يُس ّمى (الخلية املركبة‬ ‫أرقى من البرش منذ زمنٍ‬ ‫ٍ‬ ‫صناع ًيا) وهي عبار ٌة عن إنتاج حيا ٍة صناعي ٍة للجينات الح ّية الخاصة بنو ٍع من البكترييا ثم أعاد وضعها داخل خلي ٍة حي ٍة‬ ‫لنو ٍع آخر‪ ،‬مام سيؤدي يف املستقبل إىل تخليق العلامء لخاليا ميكروبية حية (من العدم) لتقوم بإنتاج اللقاحات والوقود‬ ‫الحيوي‪ ،‬مام أثار مخاوف اإلدارة األمريكية من هذا األمر ومطالبة الرئيس األمرييك للجنة أخالقيات األبحاث التابعة‬ ‫للبيت األبيض بتقديم تقاري َر مبارش ٍة إليه شخص ًيا عن نتائج دراستها لهذه األبحاث البيولوجية‪ ،‬فهل سيستطيع العلم يف‬ ‫يوم ما تخليق اإلنسان من العدم ؟ رمبا (‪)1‬‬ ‫خالق للبرش ال يعني بالرضورة أ ّن هذا الخالق‬ ‫‪ .‬لذا فاالعتقاد بوجود ٍ‬ ‫هو صانع هذا الكون الالمتناهي‪ ،‬فال يوجد ما مينع (كفرضية) من وجود‬ ‫ٍ‬ ‫كائنات راقي ٍة صنعت البرش من العدم وال عالقة لها بنشأة الكون‪ ،‬كام أننا‬ ‫ال يجب أن نغفل أ ّن األزلية يختص بها الكون وحده دون كوكب األرض‪،‬‬ ‫املكان الوحيد الذي ينبض بالحياة حتى اآلن بحسب ما توصلت له معرفة‬ ‫أيضا فرضية وجود صانعٍ للبرش مع أزلية‬ ‫اإلنسان‪ ،‬وبالتايل رمبا ال تتعارض ً‬ ‫خالق للكون‬ ‫الكون‪ ،‬بل إنّه ال يوجد علميًا ما يتعارض مع احتامل وجود ٍ‬ ‫من العدم مع التأكيد عىل أنه يف حالة الحديث عن فكرة وجود صانعٍ‬ ‫للكون والبرش م ًعا أو صانعٍ للبرش فقط فهو بالتأكيد ليس ما تناولته كل‬ ‫ٍ‬ ‫بديانات‬ ‫الديانات التي ُوجِدت عىل األرض منذ نشأتها سوا ًء كانت ما تسمى‬ ‫ساموي ٍة أو غريها من الديانات الحالية والقدمية واملندثرة‪ ،‬فلو تحدثنا عن‬ ‫دليل واح ٌد‬ ‫فرضية وجود هذا الخالق فينبغي أن نشري إىل أنّه ال يوجد ٌ‬ ‫رش‬ ‫ميكننا االستدالل به عىل أن هذا الخالق قد اتصل بالبرش بشكلٍ مبا ٍ‬ ‫أو غري مبارش‪ ،‬أو عىل اهتامم هذا الخالق بتسيري شؤون البرش وتدخله‬ ‫خالق‬ ‫يف مصائرهم أو االكرتاث بعبادتهم له من عدمها‪ ،‬وبالتايل فافرتاض ٍ‬ ‫للبرش ال يعني بالرضورة أن يكون هذا الخالق إل ًها يُع َبد (وهذه نقط ٌة يف‬ ‫غاية األهمية)‪ ،‬كام أنّه يستحيل بطبيعة الحال إثبات وجود البعث والجنة‬ ‫والنار أو أي مظه ٍر من مظاهر الحياة األخرى بعد املوت التي تحدثت عنها‬ ‫الديانات بشكلٍ مثريٍ للسخرية وبأفكا َر هزلي ٍة مقتبس ٍة من أساطري كانت‬ ‫تتناسب مع عقليات تلك األزمنة القدمية منها والسحيقة‪.‬‬ ‫‪(1). Minimal cell raises stakes in race to harness synthetic life.‬‬

‫‪17‬‬


‫الربوبية ما بني‬ ‫الدين واإللحاد‬

‫‪Omar Hussein‬‬

‫يف النهاية ال ميكن ٍ‬ ‫خالق للكون أو للحياة من عدمها‬ ‫ألحد أن يعتقد بأنّه ميتلك وحده الحقيقة املطلقة يف إقرار وجود ٍ‬ ‫طاملا مل يجزم العلم بذلك بشكلٍ مؤكد‪ ،‬بل ورمبا ال يستطيع العلم الوصول فيام بعد إىل ما يبتغيه العقل البرشي يف هذا‬ ‫الشأن‪ ،‬لكن األكيد يف النهاية أ ّن الربويب وامللحد هام يف الحقيقة ال أدريني بشكلٍ أو بآخر مع اختالف األيديولوجيات‬ ‫وكل منهام يحاول جاه ًدا أن يبحث عن الحقيقة دون قيو ٍد أو مخاوف كالتي زرعتها الديانات يف‬ ‫التي تؤول إىل ذلك‪ٌ ،‬‬ ‫عقول معتنقيها‪ ،‬فح ّولتها من عقو ٍل ال محدود ٍة إىل عقو ٍل مقيد ٍة حبيسة زنازين الكتب املقدسة ال ميكنها الخروج عن‬ ‫النص‪ ،‬إالّ أ ّن نطاق الفكر الربويب قد يكون أوسع وأشمل وأكرث مرون ًة من املوقف اإللحادي‪ ،‬بل ويستطيع أن يشمل‬ ‫تحت غطائه الكثري والكثري من املذاهب غري الدينية بال ٍ‬ ‫كل ما‬ ‫رص ألفكار هذه املذاهب‪ ،‬مع التأكيد عىل أ ّن ّ‬ ‫تقييد أو ح ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫اجتهادات ناتج ٍة عن إدرايك الشخيص يف محاول ٍة مني لتبسيط مفهوم الفكر الربويب بشكلٍ عام‪ ،‬والذي‬ ‫سبق هو مجرد‬ ‫سنحت الفرصة فيام بعد سنتحدث‬ ‫غامضا بعض اليشء‪ ،‬ورمبا إذا‬ ‫رمبا يختلط عىل الكثريين ممن يرون الفكر الربويب ً‬ ‫ْ‬ ‫عن فكرة الربوبية بشكلٍ أعمق من الناحية الفلسفية عند الفالسفة القدماء‪ ،‬التي تناولت مفهوم الخالق من جوانب‬ ‫تأملي ٍة فكري ٍة بحت ًة فيام يُع َرف بالفلسفات األوىل‪.‬‬ ‫ربوبيون‪:‬‬ ‫أرسطو‪ ،‬سقراط‪ ،‬هيباتيا‪ ،‬ديكارت‪ ،‬ألربت أينشتاين‪ ،‬جورج واشنطن‪ ،‬فولتري‪ ،‬جان جاك روسو‪ ،‬بنجامني فرانكلني‪ ،‬هريبريت‪،‬‬ ‫توماس بني‪ ،‬إيثان إلن‪ ،‬توماس جيفرسون‪ ،‬بوب جونسون‪ ،‬جيمس ماديسون‪ ،‬جون أدامز‪ ،‬ماثيو تايندل‪ ،‬مكسيميليان‬ ‫روبيسبري‪ ،‬أنتوين كولينز‪ ،‬شمس الدين التربيزي‪ ،‬ابن سينا‪ ،‬جالل الدين الرومي‪ ،‬الحالج‪ ،‬أبو بكر الرازي‪ ،‬أبو عالء املعري‪،‬‬ ‫جابر بن حيان‪ ،‬ابن املقفع‪ ،‬محي الدين بن عريب‪ ،‬ابن الرواندي‪ ،‬فرج فودة‪ ،‬نرص حامد أبو زيد‪.‬‬ ‫كتب عن الربوبية ‪:‬‬ ‫ٌ‬ ‫(تأمالتٌ ميتافيزيقية يف الفلسفة األوىل) لديكارت‪.‬‬ ‫(عرص العقل) لتوماس بني‪.‬‬ ‫(الربوبية ثور ٌة يف الدين) لبوب جونسون‪.‬‬ ‫(حيايت مع الله) لرميون فونتني‪.‬‬ ‫(يخرجون من الكنيسة) لرميون فونتني‪.‬‬ ‫(السبب فقط أوراكل اإلنسان) إليثان إلن‪.‬‬ ‫(تطور النفس واخرتاع الرش) لهرني جونز‪.‬‬

‫‪18‬‬


19


‫صفحة ثابتة‬ ‫نقدم فيها قراءة‬ ‫ألحد الكتب‬ ‫القيمة‬

‫تعليم املقهورين‬ ‫للكاتب ‪Paulo Freire‬‬

‫طالع القراء االعزاء يف هذا الكتاب الفلسفي الفكري‬ ‫للكاتب الربازييل باولو فريري ذو امليول اليسارية نظرته‬ ‫وتجربته الحياتية مع الحرية ونظرته للمستقبل‪ ،‬وكتابه‬ ‫هذا خاص باملقهورين والواقعني تحت سطوة وجربوت‬ ‫قاهريهم ويناقش خالل كتابه هذه الظاهرة‪ ،‬فيوضح‬ ‫يف مقدمة كتابه موقفه ورأيه يف اليساريني واليمينيني‬ ‫والراديكاليني من موقفهم من املستقبل‪ .‬ويوضح الفروق‬ ‫بني املذهبية والراديكالية وكيفية تعامل كل منهام مع‬ ‫الواقع واملستقبل‪ .‬ويوضح أن حرية اإلنسان من املمكن ان‬ ‫تتحقق ولو باملخاطرة من الوصول إليها‪ .‬وكل هذا الكالم‬ ‫والفكر من الكاتب بهدف الوصول إىل عامل جديد يسوده‬ ‫الحب والسالم والذي يؤمن هو بأن هذا الوضع العاملي‬ ‫ميكن تحقيقه وليس باملستحيل‪ .‬قبل اإلطالع عىل تلخيص‬ ‫الكتاب ال بد من تنويه القراء األعزاء عىل املالحظات التالية‪:‬‬ ‫‪20‬‬

‫شادي سليمي‬


‫تعليم املقهورين‬

‫پاولو فريري‬

‫‪ -1‬مالحظة‪ :‬قد يفقد القراء األعزاء تركيزهم يف أي لحظة أثناء قراءة الكتاب لكثافة محتواه الفكري‪ ،‬واملعلومات‬ ‫الهائلة التي يحتويها واألفكار شبه املعقدة بالنسبة للبعض‪ ،‬ولذلك يجب عىل القارئ الرتكيز جيداً وعدم املرور عن أي‬ ‫صفحة أو فقرة من الكتاب إىل التي تليها إال بعد تأكده من فهم وإستيعاب ما ورد فيها‪.‬‬ ‫‪ -2‬عند قراءة الكتاب يالحظ القراء تكرار كلمة “رجال” أو “الرجال”‪ ،‬وهذا مجرد خطأ عنرصي قائم عىل التفرقة‬ ‫الجنسية من قبل مرتجم الكتاب للغة العربية ليستثني النساء من كل عمل تحرري‪ ،‬واملقصود بالرتجمة الحقيقية‬ ‫للكلمة الالتينية الواردة يف هذا الكتاب الربازييل هي الناس أو البرش‪ ،‬وليست الرجال‪.‬‬ ‫‪ -3‬يشكل الكتاب يف مجمله (وهذا ما عىل القارئ‪/‬ة أن يستنتجه) خطة ووصفة من املمكن تنفيذها واقعياً من أجل‬ ‫تحرير الناس والشعوب من جهات القهر والسيطرة‪ ،‬إبتدا ًء من إدارات املؤسسات الصغرية جداً وإنتهاء بشعوب كاملة‬ ‫تقاوم محتلها أو حتى حاكمها‪.‬‬ ‫يطالع القراء االعزاء يف هذا الكتاب الفلسفي‬ ‫الفكري للكاتب الربازييل باولو فريري ذو امليول‬ ‫اليسارية نظرته وتجربته الحياتية مع الحرية‬ ‫ونظرته للمستقبل‪ ،‬وكتابه هذا خاص باملقهورين‬ ‫والواقعني تحت سطوة وجربوت قاهريهم ويناقش‬ ‫خالل كتابه هذه الظاهرة‪ ،‬فيوضح يف مقدمة كتابه‬ ‫موقفه ورأيه يف اليساريني واليمينيني والراديكاليني‬ ‫من موقفهم من املستقبل‪ .‬ويوضح الفروق بني‬ ‫املذهبية والراديكالية وكيفية تعامل كل منهام مع‬ ‫الواقع واملستقبل‪ .‬ويوضح أن حرية اإلنسان من‬ ‫املمكن ان تتحقق ولو باملخاطرة من الوصول إليها‪.‬‬ ‫وكل هذا الكالم والفكر من الكاتب بهدف الوصول‬ ‫إىل عامل جديد يسوده الحب والسالم والذي يؤمن‬ ‫هو بأن هذا الوضع العاملي ميكن تحقيقه وليس‬ ‫باملستحيل‪.‬‬ ‫‪21‬‬


‫تعليم املقهورين‬

‫پاولو فريري‬

‫ويتحدث الكاتب يف الفصل األول من الكتاب عن قضية اإلنسانية ونقيضها (الالإنسانية) ويصف اإلنسانية كام جاء‬ ‫يف تسمية الكتاب‪ ،‬بالرضورة التي يحتاجها املقهورون والضعفاء من أجل تحقيق وجودهم البرشي املتكامل‪ ،‬بينام‬ ‫الالإنسانية أو الالأنسنة هي التي ميارسها القاهرون عىل املقهورين من أجل اإلستمرار بالسيطرة عليهم‪ ،‬ويدعو املفكر‬ ‫من خالل كالمه إىل تكاتف كل املقهورين واملتعاطفني معهم من أجل تغيري هذا الوضع والخروج من سطوة القاهرين‪.‬‬ ‫ثم يجنح إىل التحذير من مامرسة املقهورين لنفس دور القاهرين يف حال متكنوا من أسباب القوة والسطوة‪ .‬ويرشح لنا‬ ‫كيف القاهر واملقهور كالهام بعيدان عن الحرية‪ ،‬ويوضح كذلك كيف يصبح املقهور قاهرا ً وملاذا يصبح كذلك‪ ،‬ويحث‬ ‫عىل عدم الوقوع يف هذه الظاهرة بل إىل تحمل املسؤولية وإحالل اإلنسان لذاتيته الخاصة بعيدا ً عن التجرب وقهر‬ ‫اآلخرين‪.‬‬ ‫ويصف املفكر باولو فريري هذه الظاهرة بأزمة املقهورين املأساوية‪ ،‬ويلمح يف آخر إحدى الفقرات والفقرة التي تليها‬ ‫يف هذا الجزء من الكتاب إىل أن السبيل إىل تحرير املقهورين يكون بالتعليم‪ ،‬وليس أي تعليم‪.‬‬ ‫يبدو أن كلمة القهر ومشتقاتها سرتد معنا كثريا ً يف هذا التلخيص ألن الكتاب كله يدور حول هذا املوضوع‪.‬‬ ‫ويتحدث الكاتب عن طريقته يف تعريف املقهورين بحالهم‪،‬‬ ‫ويدلهم عىل طريق الحرية التي ال تتسم أبدا ً باملثالية بل يربطها بالواقع ومظاهره‬ ‫وعقباته‪ .‬ويستمر بحديثه عن القهر واملقهورين والقاهرين والتناقض القائم‬ ‫بينهم‪ .‬ثم يتحدث عن النضال املضاد للوضع الراهن من أجل التغيري الذي‬ ‫يرتبط إرتباطاً وثيقاً بجهود اإلنسان وال يأيت بالصدفة‪ .‬وتستمر أفكار‬ ‫فريري يف أن الحرية يجب الوصول إليها من خالل النضال واإلنقالب‬ ‫عىل القهر‪.‬‬ ‫ويتحدث بعد ذلك عن تعامل كال طريف القهر مع الحقيقة‬ ‫املوضوعية فمنهم من يتجاهلها ويترصف بعصبية ألن‬ ‫التغيري يهدد مصالحه‪ ،‬ويدعو الناس لتحديد أهدافهم‬ ‫من أجل تحقيق أي إنجاز إنساين‪ .‬وهذا يتطلب‬ ‫الوعي والبصرية الواعية‪.‬‬ ‫‪22‬‬


‫تعليم املقهورين‬

‫پاولو فريري‬

‫ثم يتطرق الكاتب للموضوع الذي دل عليه عنوان هذا الكتاب‪ ،‬لرضورة تبصري الجامهري‪ ،‬ومبعنى آخر تعليمها‪..‬‬ ‫أي تعليم املقهورين‪ .‬ويبدا ً بعد ذلك يف التفصيل يف هذا املوضوع وذكر مالمحه ومراحله ويرشح مالمح كل مرحلة من‬ ‫مرحلتي تعليم املقهورين‪ ،‬ثم يوضح عالقة مامرسة القوة والعنف بالقهر‪ .‬ويأيت عىل وصف كالً من األعامل التي يقوم‬ ‫بها القاهر واملقهور‪ ،‬ومتى تبدأ وتنتهي العالقة بني القاهر واملقهور‪ .‬ويذكر املفكر أن الحل ليس بعكس الوضع القائم‬ ‫وإمنا بإنهاء ظاهرة العنف والنزعة اإلمتالكية التي تشكل أساس عملية القهر‪ .‬ويتحدث الكاتب يف إحدى الصفحات‬ ‫التالية عن صفات القاهرين الجشعني التي تثري الغضب يف القلوب وتوضح كم بلغوا من مستويات التجرب والطغيان‪.‬‬ ‫وأكرب صفة موجودة بوضوح لديهم هي السادية التي تجردهم من إنسانيتهم وتحولهم إىل مجرد أشياء‪ .‬ويسخر الكاتب‬ ‫من بعض القاهرين الذين ينتقلون إىل صف املقهورين من أجل دعمهم وتحريرهم فعالً ولكنهم يحتفظون بصفات‬ ‫طبقتهم القدمية وال يثقون بأي خطوة يقدم عليها املقهورين وهذا من التناقض الذي يقتيض مخاضاً آخر من أجل‬ ‫التحول إىل طبقة الجامهري‪ .‬ويصف جزءا ً من نفسية املقهورين ومطامحهم يف بعض األوقات لتمثل حياة قاهريهم‬ ‫والترصف مثلهم وكيف يبذلون طاقاتهم وجهودهم يف محاولة الوصول إىل املساواة مع أفراد الطبقة العالية‪.‬‬ ‫ويقرر يف مجرى كالمه بعض الحاالت التي يفكر فيها املقهور ضد نفسه فيحقر من نفسه ويفقد الثقة ويرفع قاهره‬ ‫بتفكريه إىل أعىل املراتب‪ .‬وكل هذا نتيجة إلستبطانه آلراء قاهره املتأصلة بداخله‪ .‬وكل هذا من شأنه أن يقيض عىل‬ ‫الروح النضالية التي تقود إىل الحرية‪ .‬ويشدد الباحث عىل رضورة نزع صورة القاهر من داخله من أجل القدرة عىل‬ ‫اإلستمرار يف النضال الذي يؤدي به يف النهاية إىل نيل حريته التي سلبه إياها القاهر‪.‬‬ ‫ويتحدث املفكر عن مظاهر العمل النضايل وما يتوجب عىل املقهورين فعله وتجنبه‪ ،‬ويشدد مر ًة أخرى عىل رضورة‬ ‫العمل الجامعي املشرتك ووجود الثقة والحوار مع الجامهري يف نفوس املعتنقني لقضايا املقهورين‪ .‬ويث ُبت الكاتب عىل‬ ‫حقيقة وواقع أن املقهورين يجب إرشاكهم يف العملية النضالية ألنهم هم الطرف األسايس يف املعادلة‪ ،‬وال يتوجب‬ ‫مامرسة نفس أسلوب القاهرين معهم يف تحريرهم من واقع حالهم‪ ،‬وكل ذلك يتم بالعمل وليس بالشعارات وبإستخدام‬ ‫الطريقة التعليمية كام يعلم املعلمون التالميذ‪ .‬وبهذا ينتهي الفصل األول من الكتاب وهو التمهيد الذي يقدم للعملية‬ ‫التعليمية التي تعنى بالعملية النضالية التي يخوضها املقهورون‪.‬‬ ‫يبدأ املفكر فصله الثاين من هذاالكتاب بهجوم شديد اللهجة عىل إحدى طرق التعليم بشكل عام‪ ،‬أال وهي طريقة التعليم‬ ‫التلقيني والتي تعتمد عىل الحفظ والتذكر مام تؤدي إىل تعطيل العقل الذي يفقد فرص اإلبداع والتطوير‪ .‬وهذه الطريقة‬ ‫تصاعد الهجوم عليها مؤخرا ً يف بالدنا العربية يف السنوات املاضية القريبة فقط وأصبح املتعلمون يطالبون بطرق أفضل‬ ‫‪23‬‬


‫تعليم املقهورين‬

‫پاولو فريري‬

‫وأكرث فعالية ال تهمل العقل وتعنى‬ ‫بتطويره وتنشيطه‪ .‬ويستمر الباحث‬ ‫يف مهاجمة هذه الطريقة التعليمية‬ ‫وذكر سلبياتها والتنبؤ مبصريها عىل يد‬ ‫الطالب أنفسهم‪ .‬ويصبغ هذه العالقة‬ ‫القامئة بني الطالب واملعلم يف املدرسة‬ ‫أو يف أي مكان تعليمي عىل العالقة‬ ‫بني املقهورين الثائرين والقيادة‬ ‫الثورية التي يتوجب عليها تجنب هذا‬ ‫التناقض الذي يجعل القيادة أو املعلم‬ ‫مودعاً ومنشئاً ومدجناً‪.‬‬ ‫ويرى املفكر فريري أن هذا النوع من التعليم واملعتمد عىل صب املعرفة يف عقل التلميذ عىل أساس أنها املعرفة‬ ‫الحقيقية‪ ،‬يعني تأقلم التلميذ‪ ،‬والتأقلم هو الذي يخدم بدوره القاهرين املسيطرين ألنه يعمل عىل تحييد العقول‬ ‫عن التفكري‪ .‬ويقارن الباحث فيام بعد بني أسلوب الحياة النمطي وأسلوب الحياة املعتمد تجنب تحويلها إىل شكلها‬ ‫امليكانييك اآليل القاتل للخربات واإلبداع‪ .‬وما يربع القاهرون يف فعله من إستخدام كافة األساليب لإلستمرار يف السيطرة‬ ‫عىل غريهم‪ .‬ويتحدث بعد ذلك بإيجاز للوصول إىل نتيجة مفادها أن التعليم يجب أن يتم بالحوار ال بالبيانات واإليداع‬ ‫(واملقصود باإليداع هو إدخال املعلومات إىل عقول املتعلمني عىل أنها هي فقط املعرفة الحقيقية وبال أي شك)‪ ،‬التعليم‬ ‫الذي يعتمد عىل املادة الحوارية بني الطالب واملدرس اللذان يصبح كالهام يف هذه الحالة مدرس وطالب يف نفس‬ ‫الوقت‪ .‬ويبقى الباحث مستمرا ً يف إنتقاد التعليم البنيك وذكر سلبياته ومقارنته مع منهج طرح املشكالت والحوار حولها‬ ‫والذي يخلق نقادا ً ومفكرين ال طلبة مدجنني‪ ،‬فيحدد لهم نقطة البداية التي تكمن يف داخلهم فعالً فالحكمة تقول‬ ‫بنفسك فابدأ‪ ،‬ومن هنا يبدأ اإلصالح‪ .‬ويستمر الكاتب يف التنظري ملنهج طرح املشكالت والقائم عىل التساؤل من أجل‬ ‫تطوير الناس لتحقيق إنسانيتهم‪ ،‬وهذا هو النظام الثوري الذي ال يستطيع القاهرون إستخدامه‪ ،‬ألنهم يستخدمون‬ ‫األنظمة الحاكمة التي ال تسمح بالتساؤل والفضول‪.‬‬ ‫ويالحظ القارئ بعد قراءة كل ما سبق وما ييل ذلك أن تعليم املقهورين ال يقترص أبدا ً عىل التعليم املدريس القائم بني‬ ‫الطالب واملعلم‪ ،‬وإمنا يشمل كل ظاهرة وكل موضوع وكل مجال يشكل عالقة بني إثنني يتبادالن فيه املعرفة من أجل‬ ‫التغيري والوصول إىل واقع أفضل تتحقق فيه الكرامة اإلنسانية‪.‬‬ ‫‪24‬‬


‫تعليم املقهورين‬

‫پاولو فريري‬

‫أما يف الفصل الثالث من هذا الكتاب فيتحدث فيه الكاتب عن التعليم الحواري‪ ،‬والذي باملناسبة تم تناوله (موضوع‬ ‫التعليم الحواري) يف واحدة من مجموعة محارضات يف ملتقى همم الثقايف (يف فلسطني) واملنعقدة حول هذا الكتاب‬ ‫ملناقشته والخروج بأفكار مفيدة من أجل التغيري‪ .‬ويبدأ الكاتب بتعريف الحوار والنقاش وتبادل الكلامت ذات الرؤية‬ ‫الصادقة وذات الفعل‪ ،‬والتي من خاللها يحيى الوجود اإلنساين‪ ،‬وهذا املوضوع هو عكس الصمت الذي ال ميكن للناس‬ ‫العيش فيه‪ ،‬فالحوار هو الوسيلة لبداية التغيري‪ ،‬ولكل إنسان الحق يف الحوار وقول كلمته‪ .‬بل ويشدد الباحث عىل أن‬ ‫الحوار يجب أن يتم تبادله من الجميع وليس من فرد واحد أو جامعة محددة‪ ،‬ذلك أن الحوار عمل إبداعي‪.‬‬ ‫ويتحدث الكاتب عن متطلبات الحوار التي تؤدي إىل عمله بشكله الصحيح وتأديته لوظيفته يف مواجهة املشاكل‪،‬‬ ‫وهذه املتطلبات هي اإلحرتام املتبادل بني املحاورين وإختالف أفكارهم‪ ،‬باإلضافة إىل التواضع ألن عدم التواضع والتكرب‬ ‫يؤدي إىل رفض أفكار اآلخر ونبذها‪ ،‬واإلبقاء عىل األفكار املوجودة مسبقاً لدى الطرف املحاور فقط‪ ،‬وإذا كانت هذه‬ ‫األفكار خاطئة فبالتايل ال ميكن للحوار أن يأخذنا للطريق الصحيح‪ ،‬باإلضافة إىل الثقة املتبادلة التي تهدف إىل تقبل‬ ‫الطرف اآلخر ومحاورته بجدية‪ .‬ثم األمل والذي من خالله نحارب اليأس ونواجه العامل بتحدياته ونسعى لألفضل ومن‬ ‫ثم نحققه‪ ،‬فاليأس واإلنتظار ال يحققان شيئاً‪.‬‬ ‫ويلفت الكاتب نظر القارئ إىل معلومة مهمة والتي تتمثل يف أن الحوار يتطلب التفكري بشكل صحيح ويوضح مالمحه‬ ‫وخصائصه يف كتابه هذا‪ ،‬ويف نفس الوقت فإن الحوار نفسه يولد التفكري الخالق‪ .‬ويستنتج الكاتب بعد كل هذا الكالم‬ ‫أن الحوار التعليمي الذي يقوم بحل املشكالت أفضل من منهج التعليم البنيك القائم عىل إيداع املعلومات املحددة يف‬ ‫عقول الطالب فقط‪ .‬ويعود املفكر من جديد لتحذير القادة الثوريني من الوقوع يف فخ التعليم البنيك خالل نضالهم‬ ‫مع الجامهري للوصول إىل تفهم واقعهم والعامل من حولهم‪ ،‬بل إستخدام الحوار هو الذي يوصلهم إىل مامرسة وجودهم‬ ‫اإلنساين الحق‪ .‬ويبني لنا أن التعليم يجب أن ال يتجاهل مواقف الناس واملتعلمني من العامل‪ ،‬فهو أصالً حواري ومبني‬ ‫عىل تبادل اآلراء‪ ،‬بل ويجب أيضاً أن يقوم الحوار عىل لغة مفهومة للناس وتعتمل بفكرهم‪.‬‬ ‫ثم ينتقل املفكر إىل موضوع األفكار وخاص ًة األفكار املوضوعية‪ ،‬بخصائصها التي تؤدي إىل التغيري املطلوب‪ ،‬وخصوصاً‬ ‫الفكرة املولدة (األفكار الوليدة) والتي ميكن متييزها عن غريها من األفكار من خالل الخربة يف تبادل النقد‪ .‬ويقارن‬ ‫الكاتب بني حياة الحيوان وحياة اإلنسان يف مثال من شأنه توضيح موضوع الفرق بني نظرة الحيوان للعامل (ال ميلك‬ ‫الحيوان نظرة للعامل بل ينساق لغرائزه) وبني نظرة اإلنسان للعامل والتي تجعله يفعمه بطاقاته املبدعة‪.‬‬ ‫‪25‬‬


‫تعليم املقهورين‬

‫پاولو فريري‬

‫وينهي الكاتب مقارنته بني اإلنسان والحيوان وطبيعة عملهام يف الحياة والطبيعة‪ ،‬وينتقل للتصورات املختلفة التي‬ ‫يكونها الناس عن العامل‪ ،‬والتي بإختالفها قد تشكل تناقضات يف كيفية رؤية كل فرد للعامل‪ ،‬والتصورات هي التي تعطي‬ ‫العامل قيمته التصورية وتهدف يف النهاية لتحقيق حرية اإلنسان‪ ،‬ويتم فهم هذا املوضوع بشكل أفضل مبطالعة الصفحة‬ ‫(‪ )76‬وما بعدها من هذا الكتاب‪.‬‬ ‫ويعطي الكاتب بكالمه عن األفكار الوليدة تعريفاً ملفتاً للتخلف والدول النامية‪ ،‬واعترب التخلف هو العقبة األكرب التي‬ ‫تحد من التصورات التي ميكنها تحقيق التقدم لهذه الدول املتخلفة واللحاق بالدول املتمدينة‪ .‬وبهذا ميكننا القول بأن‬ ‫الكاتب يتحدث بشكل عام عن العقبات التي متنع الناس من الخروج مبجتمعهم من واقعه الحايل‪ .‬ثم يصف الكاتب‬ ‫طريقة أو منهج طرح املشكالت وإيجاد التصورات للخروج باملجتمع من واقعه القهري‪ ،‬وتبدأ هذه الطريقة مبا يصفه‬ ‫الباحث ب (وصف املوقف) ومتر العملية بخطوات أخرى كالتجسيد والتجريد والتجزيء والكل والعودة للتجزيء‬ ‫وهكذا‪ .‬وينفر يف نهاية الفكرة من (نظرية الصمت) والتي تعني املوت يف مواجهة التحديات‪ .‬ويكمل الكاتب حديثه عن‬ ‫التصورات التي يكونها الناس عن املجتمع ووضعه الحايل‪ ،‬حيث أن هذه التصورات هي كام قلنا سابقاً التي تساعد يف‬ ‫تغيري الواقع البنيك للمجتمع إىل واقع قائم عىل املعرفة الحقة‪ .‬وبذلك يتكلم عن العالقة التفاعلية بني الناس والتصورات‬ ‫التي يكونوها عن الواقع واملجتمع‪ .‬ويتحدث الكاتب عن من يدرسون التغيري وخصائصهم وماذا يجب عليهم فعله وما‬ ‫يجب تجنبه‪ ،‬وطريقة تفاعلهم مع بعضهم البعض‪.‬‬ ‫يدلل الكاتب فيام بعد عىل أن الوعي بالوضعية اإلنسانية هو السبيل‬ ‫إىل التغيري حيث أنه يكون وعي بالوجود اإلنساين وبالتايل البدء يف‬ ‫نقده من أجل التحسني‪ .‬ويتناول أسلوب طرح املشكالت مبثال يوضح‬ ‫آلية عمله من خالل عمل محاكاة له عىل مجتمع ذو نسبة أمية عالية‪،‬‬ ‫ويوضح فيه ما يجب عىل الدارسني يف هذه الحالة تطبيقه‪ ،‬مام يؤدي‬ ‫بهم إىل املدخل الحقيقي لهذا الواقع لكشفه‪ ،‬وكل هذا يؤدي يف النهاية‬ ‫إىل تكوين التصور الشامل‪ ،‬وهو املطلوب‪ .‬وبعد ذكر عناوين املواضيع‬ ‫التي يجب عىل الباحثني اتباعها يسرتسل فريري لذكر نتائج هذا النهج‪،‬‬ ‫النهج الذي يبدأ بالتناقضات ودراستها‪ ،‬ويؤدي إىل تجاوز اإلمكانات غري‬ ‫املجربة‪ ،‬وبالتايل ومن خالل هذا النهج نتجنب العمل الذي يأيت يف شكل‬ ‫قرارات من فوق‪ .‬كام يذكر الكاتب مواصفات وميزات العمل الذي يقوم‬ ‫به الباحثون عىل املجموعة البرشية املختارة‪.‬‬ ‫‪26‬‬


‫تعليم املقهورين‬

‫پاولو فريري‬

‫ثم يورد الكاتب أفكارا ً ويعطي تلميحات وأفكار أخرى عن الكيفية التي يجب من خاللها التعامل مع املشاركني يف‬ ‫الربنامج التعليمي‪ ،‬والذي يجعل الجامعة ينتقلون من التصورات الفرعية واألساسية إىل التصور الشمويل وبالتايل مزيد‬ ‫من الفاعلية‪ .‬ويستمر بالحديث عن مالمح هذه العملية عندما يتم تطبيقها عىل املجموعة البرشية املذكورة سابقاً‪،‬‬ ‫والتي أيضاً تكشف عن تصورات جديدة مل تكن معروفة مسبقاً‪.‬‬ ‫يشدد الباحث باولو فريري فيام بعد عىل رضورة إستخدام األسلوب الذي يستثري وعي الناس بأوضاعهم ويولد عندهم‬ ‫اإلحساس بتغيريها‪ .‬وينتقل الكاتب إىل مرحلة جديدة من عملية وضع املواضيع التعليمية‪ ،‬حيث تشمل هذه املرحلة‬ ‫عمليات تحليل البيانات واملحتويات املجمعة مسبقاً عىل يد الباحثني‪ ،‬من أجل وضع وتصنيف املوضوعات املشمولة‪،‬‬ ‫ونقدها وتعديلها واإلضافة عليها‪ .‬ويقصد بذلك هنا كيفية التعامل مع املواضيع التعليمية التي يتم وضعها من قبل‬ ‫املتخصصني‪ .‬ويستمر يف تفصيل املرحلة التالية والتي تشمل تحليل املوضوعات من أجل إختيار الطريقة املالمئة لعرضها‬ ‫وتقدميها للمتعلمني‪ ،‬وهي الطريقة التي تتناسب مع املتعلمني وإمكاناتهم التعليمية ومستوياتهم الفكرية‪.‬‬ ‫ويسرتسل الكاتب يف حديث تفصييل (قد يعتربه‬ ‫البعض تفصيل غري الزم ويأيت سابقاً لوقته)‪ ،‬يوضح‬ ‫فيه إرشادات للقيام بإحدى العمليات املتعلقة‬ ‫بإعداد املواضيع التعليمية قيد الدراسة‪ .‬ثم تبدأ‬ ‫مرحلة تقديم ما تم تحضريه من مواضيع وبرامج‬ ‫تعليمية للناس أو للمتعلمني‪ ،‬ولعل أهم ما تقدمه‬ ‫هذه املرحلة هو عكس مدى وعي املتعلمني‬ ‫بواقعهم‪ .‬ويتحدث الكاتب عن محور هذه النوع‬ ‫من العمليات التعليمية أال وهو املناقشة‪ ،‬فمن‬ ‫خالل املناقشة تعرض املشكالت ويتمم تقييمها‬ ‫ومناقشتها حسب أولوية كل منها‪ ،‬لذلك فإن‬ ‫الحوار يف الربامج التعليمية هو األساس الذي ميكن‬ ‫املقهورين من التأثري بصورة إيجابية يف العملية‬ ‫التعليمية‪ ،‬ولعل هذه الطريقة هي املتبعة يف‬ ‫ملتقى همم الثقايف يف فلسطني‪ ،‬والذي جعل هذا‬ ‫الكتاب أول موضوع تتم مناقشته وتقييمه‪.‬‬ ‫‪27‬‬


‫تعليم املقهورين‬

‫پاولو فريري‬

‫يبدأ الفصل الرابع واألهم يف هذا الكتاب‪ ،‬بالحديث والتأكيد عىل اإلستمرار يف ذكر واإلشارة إىل ما تم توضيحه يف‬ ‫الفصول السابقة‪ ،‬ويوضح بعض الرشوط واإلعتبارات الخاصة بالعمل الثوري والقامئني عليه‪ .‬ويشدد فريري كذلك‬ ‫عىل رضورة الحفاظ عىل الصبغة الحقيقية للثورة‪ ،‬أال وهي إرشاك الجميع يف تحديد مالمح ومسار الثورة‪ ،‬كال القادة‬ ‫والثوريني‪ .‬فال ميكن للقيادة تجاهل آراء الثوريني والتخيل عن الصفة الجدلية للحوار‪ ،‬وإال فسيصبحون قاهرين‪ ،‬أو‬ ‫مضللون أرسى لرؤيتهم املذهبية الضيقة‪ .‬فبالتايل يتوجب عىل املقهورين الثائرين عدم الوقوع يف وهم متكنهم من‬ ‫السلطة يف الوقت الذي جردوهم قادتهم منها‪ ،‬ولذلك فإن القادة يتوجب عليهم تجنيب املقهورين الوقوع يف إزدواجية‬ ‫تقع بني اإلنتقام والتحرير‪ .‬ويذكر أهمية الحوار مع الناس للثورة‪ ،‬من أجل إكتساب الرشعية‪ .‬فالحوار سمة من سامت‬ ‫املقهورين الثوريني التي متكنهم من تحقيق وجودهم اإلنساين‪ .‬وال ينبغي عىل البعض تقويض صفة الحوار ألن هذا‬ ‫العمل هو من صفة القاهرين‪ .‬ثم يعود الكاتب ليذكرنا بالتشابه أو حتى بالوحدة بني صوريت القائد واملقهور‪ ،‬والطالب‬ ‫واألستاذ‪ ،‬فكال الصنفني تربطهم عالقة حوارية جدلية‪.‬‬ ‫ويجب عىل القادة كذلك الثقة بالجامهري‬ ‫واملقهورين الثائرين فبدون الثقة بالجامهري‬ ‫لن تتحق أهداف الثورة (أهداف الجامهري) بل‬ ‫ستتحقق أهداف القادة فقط‪ ،‬فالثورة مل تقم من‬ ‫أجل الجامهري لوحدهم أو القادة لوحدهم بل‬ ‫من أجل الطرفني‪ ،‬وكل طرف منهم ميلك الشجاعة‬ ‫من أجل معاملة الطرف اآلخر كرشيك وليس‬ ‫كيشء‪ ،‬كرشيك يتعامل مبشاركته مع العامل‪ .‬بل‬ ‫ويجب أيضاً أن يكون إلحساس املقهورين بالعامل‬ ‫الذي يحيط بهم‪ ،‬كل األثر عىل العمل الثوري‪،‬‬ ‫فإحساسهم بواقعهم وإكتشافهم لحقيقة وضعهم‬ ‫كفيل بتغيري واقعهم‪ .‬وكذلك يجب عليهم أن يقرنوا‬ ‫بني الحركة الثورية والقدرة عىل النقد الواعي الذي‬ ‫ينظم الفكر‪ .‬ويقارن بعد ذلك بني موقفي الصفوة‬ ‫املتسلطة يف حال إرشاك الناس يف التفكري أو يف‬ ‫حال إستقاللها بالتفكري‪ ،‬وتحويل اإلتصال والحوار‬ ‫بني الصفوة واملقهورين إىل مجرد إيداع بيانات‪.‬‬ ‫‪28‬‬


‫تعليم املقهورين‬

‫پاولو فريري‬

‫أما املقارنة التالية فهي بني طريقة تفكري القاهرين (تفكري السادة) التي تهدف إىل السيطرة‪ ،‬وتفكري الثوريني والقادة‬ ‫الثوريني الذي يرتكز محوره يف تحرير الناس وليس يف إحكام السيطرة‪ .‬فالقادة الثوريني إن مل ينحازوا إىل املقهورين فإن‬ ‫ثورتهم لن تكون ثورة حقيقية‪ ،‬وهذا عىل عكس الصفوة املتسلطة التي تتغذى عىل قهر املقهورين‪.‬‬ ‫واملقهورون يتساعدون ويتشاركون يف عملية التحرير ألنها عملية جامعية‪ ،‬القيادة الثورية واملقودين جنباً إىل جنب‪ ،‬فام‬ ‫تقوم به القيادة الثورية هو ما تعجز عن عمله الصفوة املتسلطة‪ ،‬فبالتأكيد لن تكون أعاملها بنية مساعدة املقهورين‬ ‫وتحريرهم‪ .‬فام تقوم به الصفوة املتسلطة وبإستخدام مختلف األدوات‪ ،‬يف نفس الوقت يقوم القادة الثوريني بعمل‬ ‫عكس ذلك بإستخدام نفس األدوات‪ ،‬ويعد العلم والتكنولوجيا إحدى هذه األدوات‪ .‬ويذكر بعض الصفات الالإنسانية‬ ‫التي يتصف بها األفراد الذين يحكمون عىل اآلخرين بالجهل ويصادر حقهم يف إصدار آرائهم‪ ،‬ويحتفظ بهذا الحق‬ ‫لنفسه فقط‪ ،‬فأمثال هذا الفرد ال ميكهنم الحوار مع اآلخرين‪ .‬عىل عكس القائد الثوري الذي يحكم عىل الناس بالجهل‬ ‫ويلزمهم برؤيته الثورية مع أنه كام يقول الكاتب‪ ،‬ميتلك رؤية ثورية تفوق رؤية الجامهري إال أنه من واجب القادة‬ ‫الثوريني تخصيب معرفة الناس وجعلها تزدهر من خالل الحوار‪ .‬ويحافظ الباحث فيام بعد عىل الرشط األسايس للثورة‬ ‫ليك يبقى العمل ثورياً ويحقق حرية الناس بعد تجربتهم املتصلة يف البحث عنها‪ ،‬فالحوار بحسب مفهومه يحافظ عىل‬ ‫مسار الثورة الطبيعي‪ ،‬وهو عامل مهم إلستعادة إنسانية اإلنسان‪ ،‬وبالتايل فإن العملية الثورية تعليمية وتتطلب الثقة‬ ‫بالناس (املقهورين)‪ ،‬ويصل إليها الناس من خالل طريق مفتوحة خالية من العراقيل‪.‬‬ ‫وبعد كل الرشوحات السابقة يستهل الباحث فريري عرضاً لطرق النظريات العمل الثوري الحواري والالحواري ونبدأ‬ ‫أوالً بنظرية العمل الالحواري‪:‬‬ ‫يتطرق باولو ألول عمل الحواري أال وهو الغزو‪ ،‬الغزو القائم عىل اإلستالب وفرض أهداف الغازي بتحويل املغزو إىل‬ ‫مجرد يشء أو جثة هامدة‪ ،‬وهذه نتيجة حتمية للعمل الالحواري وعىل عكس الحوار الذي ميكن اإلنسان من مامرسة‬ ‫كينونته‪ ،‬فالقهر يتطلب رضورة الالحوار من أجل املحافظة عىل نفسه‪ ،‬وبدالً من ذلك يوهم املقهورين بأن لديهم القدرة‬ ‫عىل أن يكونوا كام يريدون إال أن الواقع الفعيل مينع الكثريين من الوصول ألهدافهم ملا هم فيه من تضليل وخداع‪،‬‬ ‫ويوضح الكاتب هذه الفكرة بالتفصيل ضمن الصفحتني (‪ )104( ،)103‬من هذا الكتاب‪.‬‬ ‫ويصف كذلك الكثري من الوسائل التي يستخدمها القاهرون من أجل تدجني تفكري املقهورين وإستمرار إيهامهم‪ .‬وينهي‬ ‫الكاتب حديثه عن الغزو بالتوأمة بني القهر والالحوار‪ ،‬فغزو القلوب والعقول يحقق الالحوار‪ ،‬وبالتايل يساعد الصفوة‬ ‫املتسلطة يف إستمرارها يف السيطرة والقهر‪.‬‬ ‫‪29‬‬


‫تعليم املقهورين‬

‫پاولو فريري‬

‫أما العمل القهري الثاين فهو العمل عىل قاعدة فرق تسد‬ ‫فالقاعدة واضحة وجوهرها اإلبقاء عىل ضعف األغلبية املقهورة‪ ،‬ومتكني األقلية املتسلطة من اإلستمرار يف فرض سيطرتها‬ ‫بسبب الفجوات التي تفصل بني تفكريهم املشرتك‪ .‬ويذكر بعض املجاالت التي يحقق القاهرون من خاللها تعطيل‬ ‫قدرات املقهورين‪ ،‬مثل حجب الناس عن رؤية الواقع بصورته الشاملة يف املجال الثقايف‪ ،‬وتقسيم املجتمع إىل طبقات‬ ‫ومجتمعات محلية تبقي عىل الناس متفرقني حتى ال يدركوا مشاكلهم الكربى‪ .‬بل ويتعدى ذلك إىل املطالبة الدامئة‬ ‫للطبقة القاهرة يف املجتمع إىل إلغاء التمييز الطبقي حتى ال مييزوا أنفسهم كطبقة قاهرة‪ .‬بل وأيضاً تدخلها يف العمل‬ ‫النقايب من خالل تأييد البعض واحتضانهم‪ ،‬ومجازاة بعضهم اآلخر‪ ،‬كل ذلك حسب املصالح‪ ،‬ومبا يساعدها يف الحفاظ‬ ‫عىل وضعيتها‪.‬‬ ‫ويشدد الكاتب عىل رضورة الوحدة من أجل محاربة القهر‪ ،‬فتفرد املقهورين يساعد عىل وقوعهم فريسة لإلستغالل‬ ‫والسيطرة‪ ،‬ولذلك فإن الخالص يكمن يف التوحد والعمل مع اآلخرين‪ .‬ويدلل الباحث عىل أن التاريخ سيكشف مكر‬ ‫القاهرين وكرمهم الزائف يف محاولة منهم إليجاد سالمهم الداخيل‪ ،‬فالتاريخ يرجع األبطال إىل مكانتهم الحقيقية‬ ‫ويرضب مثالً عىل ذلك من أحداث اإلستقالل الربازييل من اإلحتالل الربتغايل‪.‬‬ ‫أما الطريقة الثالثة يف كبت املقهورين‪ ،‬فهي اإلستغالل‪ :‬ال يوضح هنا الباحث ما املقصود بعملية اإلستغالل بشكل‬ ‫واضح للقارئ‪ ،‬مع أنه قد يذكر بعض التلميحات هنا وهناك‪ ،‬ولكنه يبقى غامضاً يف ما تستغله الطبقة القاهرة بالضبط‪،‬‬ ‫وقد يقصد بذلك إستغالل ضعف املقهورين من خالل بعض املواضيع الشائعة‪ .‬ويحدد الباحث فريري طريقة محاربة‬ ‫اإلستغالل عن طريق الوعي الثوري باملشكالت ونقدها‪ .‬ثم يذكر بعد ذلك بعض أساليب اإلستغالل التي تنتهجها الطبقة‬ ‫املتسلطة كالحث عىل نزعة النجاح الفردي ومحاربة الحوار بني الجامهري والقادة الثوريني‪ ،‬ويوضح اإلزدواجية التي قد‬ ‫يقع يف فخها القادة الثوريون‪ .‬ويبني عن طريق مثال كيف تعمل الصفوة الرجعية بأقىس أساليبها ضد األنظمة اليسارية‬ ‫الثورية الواصلة للسلطة‪ .‬وهذا هو ما تعمل عليه الصفوة املتسلطة من أي قائد أو نظام يرفض أن يكون وسيطاً بينها‬ ‫وبني املقهورين (إزدواجياً)‪ .‬أما يف حال قيامه ببعض املرشوعات التي تساهم يف تقسيم الناس‪ ،‬وتحرفهم عن التفكري يف‬ ‫مشكالتهم الحقيقية فتكون سندا ً له حتى بوجود مشكالت مؤقتة بينهام‪.‬‬ ‫أما الخاصية الرابعة التي تخص نظرية العمل الالحواري فتتلخص يف الغزو الثقايف‪ ،‬ومن معناه واضح‪ ،‬ويهدف إىل فرض‬ ‫تصور خاص للعامل عىل جامعة املخضعني من أجل إضاعة أصالتها‪ ،‬ويوضح الكاتب الطريقة التي يتم من خاللها غزو‬ ‫املقهورين والسيطرة عليهم‪ .‬ويطلب من املقهورين نزع أنفسهم بعيدا ً عن القاهرين إلدراك التناقض القائم بينهم‪،‬‬ ‫‪30‬‬


‫تعليم املقهورين‬

‫پاولو فريري‬

‫وهذا هو النضال املطلوب‪ .‬ويوضح الباحث آثار هذا النتاج الطبيعي للمجتمع القهري املنعكسة عىل الواقع األرسي‬ ‫والتعليمي‪ ،‬وما ينتج عنه من تغذية مستمرة لإلحساس القهري‪ .‬وهكذا يشب األطفال ويصبحون رجاالً مطبقني لنفس‬ ‫األساليب السلطوية التي مورست عليهم من آبائهم ويف املدارس‪ ،‬وكلنا منلك صورة واضحة جدا ً عن أوضاع املدارس يف‬ ‫مجتمعاتنا‪ .‬ويعقد فريري بأن هذه الظاهرة هي التي تساهم يف إبتعاد معظم املتخصصني عن األسلوب الحواري‪.‬‬ ‫يفرق الكاتب فيام بعد بني املتخصصني الذين ينتهجون الالحوار كطريقة عمل‪ ،‬واملتخصصني اآلخرين الذين يدركون‬ ‫أسلوبهم القهري ويرتاجعوا ويحاولوا إنهاء إزدواجيتهم‪ ،‬ويصبحوا رفاق ورشكاء يف تحقيق الحرية‪ .‬ويشري الكاتب إىل‬ ‫نقطة هامة يف معرض رشحه عن الغزو الثقايف‪ ،‬أال وهي إدراك املشاركني يف البحث عن الحقيقة أنهم يواجهون موقفاً‬ ‫حقيقياً كمشكلة يجب التعامل معها‪ .‬ثم يذكر مثاالً عىل ذلك يف إحدى مناطق نيويورك‪ ،‬يوضح من خالله بعض مالمح‬ ‫املخاض الذي يتكون بني مد وجزر الثورة والحوار‪ ،‬والقهر والالحوار‪ .‬وال يأيت بعد ذلك بجديد بل يكرر التدليل عىل‬ ‫أهمية الثورة الثقافية كجزء من الثورة اإلنسانية والتي يجب أن تعمم عىل كل الناس وال تقترص عىل التقنيني والعلميني‪.‬‬ ‫ذلك الجزء من الثورة والذي يحول دون عودة الظروف املالمئة إلستعادة الوضع القهري‪ ،‬وميكن من تحقيق إجراءات‬ ‫السلطة القهرية‪ ،‬ويحافظ عىل حامية الثورة ضد اإلتجاهات البريوقراطية‪ ،‬ويضمن مشاركة الشعب والقادة يف السلطة‬ ‫الناقدة‪ .‬وعندما نقرأ الفقرة األخرية من الصفحة (‪ )119‬تخطر عىل بالنا فكرة أن هذا الكتاب وهذا الكالم ينطبق عىل‬ ‫مجتمعاتنا العربية حرصا ً دون غريها‪.‬‬ ‫يصف الكاتب تحرر الناس من العبودية والقهر بالتقدم‪ ،‬ويشرتط لذلك‬ ‫التقدم أن يتم التخلص من الغزو‪ ،‬وترك التبعية للمجتمعات الغازية‪،‬‬ ‫وتحديد مصائرهم بنفسهم‪ ،‬واإلستقالل يف القرارات‪ .‬وينكر الكاتب أن تكون‬ ‫التحديثات البسيطة الحاصلة يف املجتمعات املغزوة‪ ،‬لصالح هذه املجتمعات‬ ‫وإمنا لصالح املجتمعات الغازية فقط‪ .‬وتغطي املجتمعات الغازية اإلستغالل‬ ‫واإلمتالك والغزو بقناع اإلصالحات املجردة التي توهم الناس ببدء عملية‬ ‫اإلصالح‪ .‬ويوضح الكاتب بعض طرق تشكل القيادات الثورية‪ ،‬وكيفية‬ ‫مساعدة املقهورين عىل الخروج من نفوسهم ويعون فيها حقيقة القهر‪.‬‬ ‫ويقارن بني حالتني أولهام اإلمتثال ملجتمع القهر‪ ،‬والثانية التي متثل الوعي‬ ‫بالقهر والبدء بالنضال من أجل تجاوز التناقضات‪ .‬وثم يستمر بذكر نتائج كل‬ ‫حالة وأثرها عىل املقهورين‪ .‬ويستمر كذلك بالتشديد عىل رضورة املشاركة‬ ‫يف التحرر من القهر من كل أطراف الشعب قاد ًة وجامهري‪.‬‬ ‫‪31‬‬


‫تعليم املقهورين‬

‫پاولو فريري‬

‫ويرضب فريري مثاالً واقعياً عىل مقاومة القهر والتحرر منه كام حصل‬ ‫مع فيديل كاسرتو والشعب الكويب‪ ،‬إال أن حصول تناقض بني تفكري‬ ‫القادة الثوريني والشعب قد يؤدي إىل إتخاذ هؤالء القادة بعض أساليب‬ ‫القاهرين وتطبيقها عىل الشعب من أجل فرض وجهات نظرهم وبالتايل‬ ‫فإن إتباع هذه الطريق سيفشلهم يف تحقيق الثورة او سيحرمهم من‬ ‫النجاح الحقيقي‪ ..‬ومثاالً عىل ذلك ما عمله يارس عرفات يف الثورة‬ ‫الفلسطينية ضد اإلحتالل اإلرسائييل‪ .‬واألصل أن من واجب هؤالء القادة‬ ‫إيجاد طرق مناسبة للوصول إىل الناس واملقهورين وتعريفهم بظروف‬ ‫القهر املحيطة بهم‪ .‬ويذكر الكاتب مثالً آخر يوضح الفرق يف التعامل مع‬ ‫كل حسب أهدافه‪.‬‬ ‫املقهورين بني كل من الثوريني والقاهرين ٌ‬ ‫أما العنارص التي تكون نظرية الحوار الثقايف فيمكن إجاملها يف اآليت‪:‬‬ ‫التعاون‪ :‬فتغيري العامل يتطلب مشاركة الجميع‪ ،‬وال يتحدد ذلك بوجود مسيطر وخاضع‪ ،‬وال يعني ذلك أن يقوم القادة‬ ‫الثوريون بإمتالك الناس وتسيريهم‪ ،‬ولكن املطلوب هو التعاون املشرتك‪ .‬بذكر الخصائص والسامت املتعلقة بهذا السبيل‪.‬‬ ‫فالتكاتف هو الذي يساعد عىل كشف حقيقة الواقع‪ ،‬وبالتايل بنبني العمل التحرري عىل الثقة املتبادلة بني القيادة‬ ‫الثورية وجمهور املقهورين‪ .‬ولكن الكاتب يتحدث فيام بعد عن فكرة إختالف الواقع مع رشط تبادل الثقة فينبذها بعض‬ ‫القادة الثوريون‪ ،‬ويبقون عىل إحتامالت الخيانة وتعرضهم إىل النبذ عىل يد املقهورين لخوفهم من القاهر املستبطن‪،‬‬ ‫ولكنه رسعان ما يرد عىل نفسه بتأكيد نفس القادة الثوريني عىل رضورة التالحم مع الناس من أجل إنجاح مشاركتهم يف‬ ‫العملية الثورية‪ ،‬وبهذا يؤكد فريري عىل رضورة الحفاظ عىل اإلتصال (املحقق للتعاون) بني الثائرين وقادتهم‪.‬‬ ‫الوحدة من أجل التغيري‪ :‬كام نفهم من العنوان‪ ،‬فيوضح الباحث آثار الوحدة عىل مصري الثوريني وقادتهم‪ ،‬وكيف‬ ‫تستفيد الصفوة املتسلطة من ضعف الوحدة بني الجامهري‪ ،‬من أجل تطبيق مبدأ فرق تسد الذي تكلمنا عنه سابقاً‪.‬‬ ‫ويتكلم بعد ذلك عن أثر من آثار السيطرة ودورها يف إيهام اإلنسان بواقعه‪ .‬ويتكلم الكاتب عن مالمح التفرقة املامرسة‬ ‫ضد جمهور املقهورين‪ ،‬ومن ثم مالمح كشف الناس لكينونتهم‪ ،‬وتحديد دورهم يف تغيري العامل وواقعهم‪ ،‬أي مرحلة‬ ‫إنتقالهم من القهر إىل مرحلة اإلحساس بقيمتهم الحقيقية كبرش ال كأشياء‪ .‬وبذلك فإن الجامهري مطلوب منها أن تتحد‬ ‫من أجل مقاومة عامل القهر‪ .‬ويف النهاية يوضح الكاتب الفرق بني سلطة القهر يف املدينة وسلطته يف القرية‪.‬‬ ‫‪32‬‬


‫تعليم املقهورين‬

‫پاولو فريري‬

‫التنظيم‪ :‬يقصد بالتنظيم والذي يشكل العنرص الثالث من نظرية العمل الحواري‪ ،‬أن يقوم القادة الثوريون بتعريف‬ ‫الناس عىل العامل‪ ،‬دون أن يفرضوا نظرتهم الخاصة عىل الناس ألن ذلك يصبح من مظاهر القهر‪ .‬ويكمل الباحث بالتدليل‬ ‫عىل أن الحرية يجب حاميتها بالسلطة التي متثل أحد أشكال التنظيم وتكفله‪ ،‬وهذا ال يعني تناقض بني السلطة‬ ‫والحرية‪ ،‬فالسلطة تختلف عن التسلط‪ .‬وعىل القارئ العزيز أن يتمعن يف قراءة هذا الجزء من الكتاب بسبب تعقيده‬ ‫وبعده عن بساطة الرسد‪.‬‬ ‫أما العنرص الرابع واألخري من عملية العمل الحواري الثوري فهو التآلف الثقايف‪،‬‬ ‫والذي يقصد به الطريقة التي يتم من خاللها إستخدام املجال الثقايف يف التنظيم اإلجتامعي‪ .‬مبا يحدد ويخدم أهداف‬ ‫التحرير‪ ،‬فالثورة الثقافية هي جزء قائم بذاته من الثورة الحقيقية‪ .‬ثم يوضح الكاتب سياسة تحديد املواضيع الثقافية‬ ‫والتي تشكل نقطة بدء عملية التآلف الثقايف‪ .‬ويبني آثار ورضورة املشاركة الثقافية (كاملشاركة يف كل املجاالت الثورية‬ ‫األخرى) بني الجمهور والقادة الثوريني يف عملية التطور الثقايف‪ .‬ولتحقيق التآلف الثقايف فإنه ينبغي عىل القادة إدخال‬ ‫نظرة الناس للعامل ضمن حساباتهم‪ ،‬وهكذا يعمل التآلف الثقايف عىل إلغاء التناقضات بني رؤية كل من القادة الثوريني‬ ‫والجامهري الثائرة للعامل‪ .‬ويدلل الكاتب يف نهاية كتابه عىل رضورة تشارك القادة واملقهورين يف تطوير نظريات العمل‬ ‫التحرري‪ ،‬وبهذا يكونون قادرين عىل تغيري العامل‪.‬‬

‫وبهذا ينتهي تلخيص كتاب تعليم املقهورين‪ ،‬لنلقاكم مع تلخيص آخر لكتاب آخر مفيد ومهم يف الطبعات القادمة من‬ ‫املجلة‪ ،‬وشكرا ً للجميع عىل القراءة‪.‬‬ ‫‪33‬‬


http://www.thelandofsands.blogspot.com

34


‫ملحد يف بغداد‬ ‫ٌ‬ ‫قدس الوطن‬ ‫رجل ّ‬ ‫فأغضب السلطان‬

‫‪Ahnad f. Alabbasi‬‬

‫يف الكثري من األحيان عندما نشعر بالضيق واألمل من الضغوط االجتامعية والسياسية التي م ّرت بها‬ ‫طعم‬ ‫منطقتنا العربية‪ ،‬ال يفارقنا حنيننا إىل املايض الذي قد ال يكون ً‬ ‫جميل غال ًبا‪ ،‬إال أنه يحمل يف ثناياه ً‬ ‫رماديًا برباءة الطفولة ونشوة ِ‬ ‫الصبا فتح ِملنا مخيلتنا إىل سن الدراسة االبتدائية‪ ،‬حيث نقف باالصطفاف‬ ‫أنجم زهراء‬ ‫تتوسطه ثالثة ٍ‬ ‫الصباحي رافعني العلم املزدان بلمع ٍة سوداء يف األسفل وحمراء يف األعىل ّ‬ ‫تعب عن انسجام شعوبنا املرصية والعراقية والسورية‪)1(.‬‬ ‫ّ‬

‫(‪ .)1‬النجوم الثالث يف العلم العراقي (‪ )1964-2008‬رمز الشعوب املتآخية (سوريا والعراق ومرص)‪.‬‬

‫‪35‬‬


‫ملحد بغداد‬ ‫عرضا‪ ،‬فتظهر لنا‬ ‫تهب أحيانًا نسم ٌة خفيف ٌة تفردالعلم ً‬ ‫رغم أسوار الشوك التي زرعها طغاة السلطة يف تلك البلدان‪ُّ ،‬‬ ‫(‪)2‬‬ ‫العبارة التي عكرت صفو الحياة يف املنطقة‪ ،‬مكتوب ٌة بخط يد صدام حسني‪..‬‬ ‫ٍ‬ ‫بأصوات لو سمعها غرينا لظن أنها تخرج من صدو ٍر ملئها الرفاه ومل تدخلها‬ ‫رغم ذلك كنا فرحني عندما نردد تحية العلم‬ ‫ذ ّر ُة حزنٍ ألن صيحتنا كانت من األعامق‪ ،‬من أعامقِ شوقنا لهكذا وطن‪:‬‬

‫عش هكذا يف عل ّو أيها العلم‬ ‫فإننا بك بعد الله نعتصم‬ ‫جاءت تحييك هذا اليوم معلنة‬ ‫أفراحها بك فانظر هذه األمم‬ ‫ات مبا شهدت‬ ‫إن العيون قرير ٌ‬ ‫والقلب يفرح واآلمال تبتسم‬ ‫فإن تعش ساملًا عاشت سعادته‬ ‫وإن متُت ماتت اآلمال والهمم‬ ‫هذا الهتاف الذي يعلو فتسمعه‬ ‫جميعه لك فاسلم أيها العلم‬ ‫ٍ‬ ‫ألبيات أصلي ٍة أكرث رصام ًة قال فيها‪:‬‬ ‫تحريف‬ ‫يرى بعض املؤرخني ممن عارص الشاعر إن هذه األبيات هي‬ ‫ٌ‬ ‫عش هكذا يف عل ّو أيها العلم‬

‫فإننا بك ال بالله نعتصم!‬

‫هذه أبيات شاع ٍر ق ّدس الوطن ال الدين‪ ،‬فأغضب سلطان آل عثامن‪ ،‬ومن هذا الشاعر تبدأ قصتنا!‬

‫(‪ .)2‬كُتبت عبارة (الله أكرب) عىل العلم العراقي أول مرة بخط يد صدام حسني‪ ،‬يف الفرتة بني (‪.)2008-1991‬‬ ‫(‪ .)3‬عىل رأي ابن أخيه أمجد الزهاوي‪.‬‬

‫‪36‬‬

‫(‪)3‬‬


‫ملحد بغداد‬ ‫قدس الوطن فأغضب السلطان‬ ‫ملحد يف بغداد‪ :‬رجل ّ‬ ‫ٌ‬ ‫من هو الزهاوي؟‬ ‫جميل صدقي محمد فييض بن املال أحمد بابان‬ ‫الزهاوي‪ُ .‬ولِد يف بغداد عام ‪1863‬م وتويف بها ونشأ‬ ‫كغريه من مفكري ذلك الزمان ميالً لألدب والفلسفة‬ ‫كار ًها لتعليم (املاليل) الذي كان شائ ًعا يف ذلك‬ ‫العرص‪ ،‬درس عىل يد أبيه وعىل يد علامء عرصه‪،‬‬ ‫فقد أبدى منذ شبابة براع ًة ال يستهان بها يف علم‬ ‫العلوم اللغوية واالجتامعية‪ ،‬مام دفع دائرة املعارف‬ ‫العثامنية إىل تعيينه مد ّر ًسا يف املدرسة السليامنية‬ ‫شاب مل يتجاوز الثالثني من‬ ‫ببغداد عام ‪1885‬م‪ ،‬وهو ٌ‬ ‫العمر‪ ،‬ثم ما لبث أن ُع ِّي عض ًوا يف مجلس املعارف‬ ‫عام ‪1887‬م‪ ،‬ثم مدي ًرا ملطبعة الوالية ومح ّر ًرا‬ ‫لجريدة الزوراء عام ‪1890‬م‪ ،‬وبعدها ُعني عض ًوا‬ ‫يف محكمة استئناف بغداد عام ‪1892‬م‪ ،‬وسافر إىل‬ ‫إسطنبول عام ‪1896‬م‪ ،‬فأُعجِب برجالها ومفكريها‪،‬‬ ‫وبعد إعالن العمل بالدستور يف عام ‪1908‬م‪ُ ،‬عني‬ ‫أستاذًا للفلسفة اإلسالمية يف دار الفنون بإسطنبول‬ ‫ثم عاد لبغداد‪ ،‬و ُعني أستاذًا يف مدرسة الحقوق(كلية‬ ‫الحقوق‪ /‬جامعة بغداد حال ًيا)‪ ،‬وعند تأسيس‬ ‫الحكومة العراقية برئاسة عبدالرحمن النقيب ُعني‬ ‫بأم ٍر من امللك فيصل األول عض ًوا يف مجلس األعيان‬ ‫(مجلس الشيوخ العراقي)‪.‬‬ ‫ومن كل هذا يتضح حجم االحرتام الذي كانت تك ّنه‬ ‫له السلطة واملجتمع لِام كان يحمله من فك ٍّر ّنيٍ‬ ‫ومنطق متّ ٍ‬ ‫قد وفصاح ٍة المع ٍة امتزجت كلها لتصنع‬ ‫ٍ‬ ‫ذلك الفيلسوف العمالق!‬ ‫‪37‬‬


‫ملحد بغداد‬ ‫جميل صدقي الزهاوي فيلسو ًفا‪:‬‬ ‫ات وقفز ٍ‬ ‫شهِد عرص الزهاوي (‪ )1936-1863‬تطور ٍ‬ ‫ات هائل ًة عىل املشهد السيايس واالجتامعي وما انعكس عليه يف املشهد‬ ‫الثقايف‪ ،‬ففي ذلك العرص بدأت الحركات الشعبوية وحركات التحرر العريب تصعد كالزبد عىل مياه بح ٍر راكد‪ ،‬ونتيج ًة‬ ‫ٍ‬ ‫فميل العرب كان نحو اإلنجليز‪ ،‬نتيج ًة لتحالف هواشم‬ ‫تحالفات عىل الصعيد اإلقليمي‪ُ ،‬‬ ‫لذلك شهد هذا العرص ظهور‬ ‫وفلسفي كان من شأنه أن يعيد بناء املجتمع العريب‬ ‫حضاري‬ ‫الحجاز معهم ضد العثامنيني‪ ،‬وأ ّدى ذلك التحالف إىل عبو ٍر‬ ‫ٍّ‬ ‫ٍّ‬ ‫نحو تو ّج ٍه أكرث شفافي ًة‪ ،‬فدخلت أحدث االكتشافات العلمية الساحة العربية عىل يد كبار مثقفيها يف ذلك العرص‪ ،‬ومبا‬ ‫أن الساحة العراقية كانت محكوم ًة من املاليل ومراجع التقليد‪ )4(،‬لذا ووجهت هذه األفكار مبقاوم ٍة رشس ٍة وصلت إىل‬ ‫ٍ‬ ‫صدامات دموي ٍة واغتياالت‪.‬‬ ‫كان للزهاوي النصيب األكرب منها التساع آفاقه واطّالعه عىل آخر التطورات عىل الصعيد العاملي‪ ،‬فقد عارص داروين‬ ‫وكان يجاهر بإميانه بنظرية التطور ويخالف آراء املجتمع العريب يف وقته وينعتها بالجهل والتخلف‪ ،‬ونُ ِسبت إليه الزندقة‬ ‫يف أواخر حياته لكرثة تفلسفه يف العلوم‪ ،‬فكان يف ّرغ ما عنده بكتابة املقاالت تارةً‪ِ ،‬‬ ‫وبالشعر تار ًة أخرى فيقول‪:‬‬ ‫لست أَدري َوال الطَبيعة ت َدري‬ ‫َيف حا َز اإلنسان حذقًا َونُطقًا‬ ‫ك َ‬

‫َيف أَب َدت أُ ُّم ال َحيا ِة نتاجا‬ ‫ك َ‬ ‫بعد أن كا َن نطف ًة أَمشاجا‬

‫وكتب فيه طه حسني‪« :‬مل يكن الزهاوي شاعر العربية فحسب‬ ‫وال شاعر العراق بل شاعر مرص وغريها من األقطار‪ ،‬لقد كان شاعر‬ ‫العقل‪ ،‬وكان مع ّري هذا العرص‪ ،‬ولكنه املع ّري الذي اتصل بأوروبا‬ ‫وتسلح بالعلم»‪.‬‬ ‫نظم الكثري يف الشعر التعليمي‪ ،‬ولعلّها كانت وسيل ًة ليخلّد هذا‬ ‫الفيلسوف بها ِفكره لألجيال القادمة‪ ،‬ليقول‪:‬‬ ‫يا بني البرش يف كل ظلم ٍة البد من نور‪،‬‬ ‫ويف كل مجتمعٍ ٍ‬ ‫مريض البد من فيلسوف!‬

‫(‪ .)4‬مرجعية األصفهاين والحكيم‪.‬‬

‫‪38‬‬


‫ملحد بغداد‬ ‫وأظرف ما نظمه قصيدته «سليل القرد»‬ ‫التي نرشتها له «مجلة الرسالة» سنة ‪1936‬م قبل وفاته بقليل‪ ،‬وفيها يقول‪:‬‬

‫عاش يف الغاب القرد ده ًرا طويال‬ ‫ُولد القرد قبل مليون عام‬ ‫أي يشء ألّم بالقرد حتى‬ ‫إنه لوال العقل كان ضعيفًا‬ ‫وعىل رجليه مىش بعد أن سار‬ ‫تخذ الصخر بعد نحت سالحا‬ ‫إنه يف لقائه للضواري‬ ‫إن عقل اإلنسان خري سالح‬ ‫يا له من تطور ح ّول القرد‬ ‫ولقد فارق القبيلة إال‬ ‫ولدته عروسة الغاب من قرد‬ ‫عاش أبناؤه دهو ًرا وما إن‬ ‫بعد فجر اإلنسان كان غدو‬ ‫دول فوق األرض ذات احتشام‬ ‫إنني أخىش للنشوء انقالبا‬ ‫وإذا ما خال من الناس وجه األرض‬ ‫وإذا ما بالعكس عاشوا وج ّدوا‬ ‫وليأيت باسم (السوبرمان) نسل‬ ‫يتقىص كنه الطبيعة حتى‬ ‫رأسا‬ ‫وترى فوق املنكبني له ً‬ ‫وعىل رأسه الكبري ترى شعـ ًرا‬ ‫وإذا ما أبرصت عند اللقاء العيـن‬ ‫وإذا ما تكاثروا حكموا األرض‬ ‫أخضعوا أصناف األشعة حتى‬

‫قبل أن يلقى للرقي سبيال‬ ‫قليل قليال‬ ‫ً‬ ‫رشا فارتقى‬ ‫ب ً‬ ‫هجر الغاب نجله والقبيال‬ ‫وعليه الحياة عبئًا ثقيال‬ ‫عىل أربع زمانًا طويال‬ ‫يتقي الوحش ضاربًا أن يغوال‬ ‫مل يكن خوا ًرا وال إجفيال‬ ‫ُفضل العقول العقوال‬ ‫ولقد ت ّ‬ ‫إلنسان يحسن التخييال‬ ‫أنه ظل َحبله موصوال‬ ‫جميل فكان قد ًرا جميال‬ ‫عرفوا تحرميًا وال تحليال‬ ‫وأرى أن للغدو أصيال‬ ‫غري أين يف خشية أن تدوال‬ ‫فيعود اإلنسان قر ًدا كسوال‬ ‫كان الخلو خط ًبا جليال‬ ‫فسيمحون املوت حتى يزوال‬ ‫هو أرقى منهم وأهدى سبيال‬ ‫ليس يبقى يش ٌء له مجهوال‬ ‫مفتوال‬ ‫وساع ًدا‬ ‫كب ًريا‬ ‫إكليال‬ ‫تخاله‬ ‫أثيثًا‬ ‫قنديال‬ ‫حسبتها‬ ‫منه‬ ‫بعدل جبالها والسهوال‬ ‫(‪)5‬‬ ‫جعلوا منها للسامء رسوال‬

‫(‪ .)5‬مجلة الرسالة ‪ - 1936‬ديوان الزهاوي‪ ،‬بريوت ‪.1961‬‬

‫‪39‬‬


‫ملحد بغداد‬ ‫خصب و ِذهنٍ مطّلعٍ يتخيل جميل صدقي مسرية البرش التطورية وكيف انفصل عن سلفه املشرتك‪ ،‬ثم قام بتشييد‬ ‫بخيا ٍل‬ ‫ٍ‬ ‫الحضارات وإقامة املدن حتى أنهكته الحروب واألمراض فعاد إىل ما كان عليه (قر ًدا كسولً )‪،‬‬ ‫لكنه يتوقع نهاي ًة أكرث (دراماتكية) للجنس البرشي‪ ،‬فهو يؤمن بأن التطور سيصنع من اإلنسان ذلك الكائن القوي‬ ‫شخصا ذا ٍ‬ ‫رأس كبريٍ وشَ ع ٍر قليل‪ ،‬قصري القامه‪،‬‬ ‫(سوبرمان) بفكره املتعطش للمعرفة‪ ،‬ليتنبأ بأن التطور سيصنع منه‬ ‫ً‬ ‫ال يظل عل ٌم إال سلك طريقه وال تظل معضل ٌة إال حلها وما تظل بقع ٌة سامل ٌة من تفحصه وفضوله حتى يخضع الضوء‬ ‫وميتطيه مبا لدية من معرفة‪:‬‬ ‫أخضعوا أصناف األشعة حتى جعلوا منها للسامء رسوال‬ ‫فمن وجهة نظر أي ٍ‬ ‫شخص مطّلعٍ عىل علم املستقبليات س ُيس ّمي الزهاوي بكالرك العرص‪ )6(،‬لِام تنبأ به للمستقبل والذي‬ ‫يتوافق مع ما يراه العلامء اآلن؛ ومن وجهة نظر العامل الفيلسوف يُرى الزهاوي عىل أنه أحد أعمدة التنوير العلمي يف‬ ‫ٍ‬ ‫سنوات‬ ‫بالد العرب‪ ،‬لكون العلوم واالكتشافات األخرية يف عرصه مل تكن واضح ًة يف عرصه‪ .‬داروين نرش نظريته قبل عرش‬ ‫من مولد الزهاوي‪ ،‬وكانت تلقى معارض ًة حتى داخل البيت األورويب فكيف بها داخل الديار اإلسالمية!‬ ‫لذا يقف الزهاوي موقف املجاهد مداف ًعا عن األفكار التي جعلت من عاملنا موجو ًدا‪.‬‬ ‫كانت آراء الزهاوي ت ِ‬ ‫ٍ‬ ‫معارض ومؤيد‪ ،‬ونرى ذلك برأيه مبا عرف بسفور املرأة‪ ،‬حيث طالبها برتك‬ ‫ُحدث ضج ًة ما بني‬ ‫الحجاب والتحرر منه وأرسف يف مطالبته‪ ،‬ومن قصائده يف هذا املجال‪:‬‬ ‫أسفري فالحجاب يا ابنة فهر‬ ‫ٍ‬ ‫ماض‬ ‫كل يش ٍء إىل التجدد‬ ‫صبح‬ ‫أسفري فالسفور للناس‬ ‫ٌ‬ ‫صالح‬ ‫أسفري فالسفور فيه‬ ‫ٌ‬ ‫زعموا أن يف السفور انثال ًما‬ ‫والقصيدة التي منها‪:‬‬

‫هو دا ٌء يف االجتامع وخيم‬ ‫فلامذا يُقر هذا القديم؟‬ ‫ليل بهي ٌم‬ ‫ٌ‬ ‫زاه ٌر والحجاب‬ ‫للفريقني ثم نف ٌع عمي ٌم‬ ‫كذبوا فالسفور طه ٌر سلي ٌم‬ ‫وأسفري فالحياة تبغي انقالبا‬ ‫فقد كــان حارســًا كذابا‬ ‫يف املهاوي وأن فيـه خرابا‬ ‫ليس يلقى مع ّر ًة وارتيـابـا‬

‫مزقي يا ابنـة العراق الحجابا‬ ‫ٍ‬ ‫ريث‬ ‫مزقيـه أو أحرقيـه بال‬ ‫زعموا أن يف السفور سقوطًا‬ ‫كذبـوا فالسفور عنوان طه ٍر‬

‫(‪ .)6‬نسب ًة إىل أرثر يس‪ .‬كالرك‪.‬‬

‫‪40‬‬


‫ملحد بغداد‬ ‫وقصيدته التي تدعوا املرأة ملشاركة الرجل يف العمل وبناء العراق والتي يقول فيها‪:‬‬ ‫يف الغرب حيث كال الجنسني يشتغل‬ ‫كال القرينيــن معتـز بصــــــــــاحبه‬ ‫نقص مبفـــــــــرده‬ ‫وكـل جنس لــه ٌ‬ ‫أما العـراق ففيـه األمــــر مختلـــف‬

‫الرجــل‬ ‫ُ‬ ‫ال يف ْـضل املرأ َة املقدام َة‬ ‫عليه إن نـال منـه العج ُز يتـــــــــكل‬ ‫أما الحيــاة فبــــالجنسيــن تكتمــــل‬ ‫فقــد ألـ ّم بنصف األمـــة الشلــــــــل‬

‫إنه قبل أكرث من مثانني عا ًما أطلق صيحته املدوية بتحرير املرأة‪ ،‬وأنه كان يعتقد إن قيد املرأة يكمن يف الحجاب فلذلك‬ ‫سعى لتحرير املرأة من خالل خلعها لحجابها‪ ،‬وقد عارضه الشاعر املرصي حافظ أبراهيم بآرائه حول السفور من خالل‬ ‫قصيدته‪:‬‬ ‫من يل برتبية النساء فإنها‬ ‫األم مدرسة إذا أعددتها‬ ‫األم روض إن تع ّهده الحيا‬ ‫األم أستاذ األساتذة األىل‬ ‫أنا ال أقول دعوا النساء سواف ًرا‬ ‫يدرجن حيث أردن ال من واز ٍع‬ ‫يفعلن أفعال الرجال لواهيا‬ ‫يف دورهن شؤونهن كثرية‬

‫يف الرشق علة ذلك اإلخفاق‬ ‫أعددت شع ًبا طيب األعراق‬ ‫بالري أورق أميا إيراق‬ ‫شغلت مآثرهم مدى اآلفاق‬ ‫بني الرجال يجلن يف األسواق‬ ‫يحذرن رقبته وال من واق‬ ‫عن واجبات نواعس األحداق‬ ‫كشؤون رب السيف واملزراق‬

‫وفهم‪ ،‬لكن ما الفائدة إذا استُ ِ‬ ‫خدم هذا العلم والفهم يف النفاق‬ ‫علم ً‬ ‫ويرى جميل صدقي الزهاوي أن هناك من يحمل ً‬ ‫أيضا أن هناك من يصون أخالقـــه أمام الناس خوفًا من االنتقاد فقط!‬ ‫واملُامراة!؟ حيث يرى ً‬ ‫عم سبق بهذه األبيات الرائعة‪:‬‬ ‫وعب ّ‬ ‫و أ ّن املُجتمع الخايل من النقد هو مجتم ٌع فاس ٌد أخالق ًيا‪ّ ،‬‬ ‫ِ‬ ‫الوقت ذو نِفاقٍ مرايئ‬ ‫وهو يف‬ ‫ُ‬ ‫خوف أصحابِها من النقـّـــا ِد‬ ‫أهل البالد‬ ‫ع َّم سو ُء األخــــــــالقِ َ‬

‫علم وفَ ْه ًم‬ ‫قد يحو ُز ا ِإلنسا ُن ً‬ ‫ُر َّب أخالقٍ صانَها من فسا ٍد‬ ‫َ‬ ‫هنالك نق ٌد‬ ‫وإِذا مل يك ْن‬ ‫‪41‬‬


‫ملحد بغداد‬ ‫جميل صدقي ومعروف الرصايف‪:‬‬ ‫يف عرصنا هذا تنترش املقاهي يف كل املدن الصغرية‬ ‫منها والكبرية‪ ،‬لتكون مرت ًعا للمتسكعني و(العطّالني)‪،‬‬ ‫أو للشباب املتن ّمرين‪ ،‬إال إنه قبل خمسني عا ًما خلت‬ ‫اقرتن اسم األدب باملقاهي‪ ،‬فقد كانت مرت ًعا لكبار‬ ‫وخصوصا‬ ‫األدباء والشعراء عىل امتداد القطر العريب‪،‬‬ ‫ً‬ ‫مدينة السالم‪ ،‬بغداد‪ ،‬فازدهرت بها مقاهي موجود ٌة‬ ‫ليومنا هذا أشهرها مقهى (الشاهبندر) ومقهى أم كلثوم‬ ‫ومقهى حسن العجمي‪ ،‬لكن وبجه ٍة معزول ٍة منها وسط‬ ‫ٍ‬ ‫أنقاض من اإلهامل ورطوبة مياه الرصف الصحي بفضل‬ ‫ذكرى علوش‪ ،‬يقف ذلك الهيكل الثقايف ليكون شاه ًدا‬ ‫حقب ولّت من صدر عرص التنوير العريب‪ ،‬إنه مقهى‬ ‫عىل ٍ‬ ‫الزهاوي التاريخي‪،‬‬ ‫هذا املبنى الذي اعتاد عاملقة األدب والعلوم يف ذلك‬ ‫الوقت ارتياده ليتساجلوا مبختلف األغراض‪،‬‬ ‫وأديب ن ٌّد يعارضه بالشعر‬ ‫فقد كان لكل شاع ٍر‬ ‫ٍ‬ ‫والفكر‪ ،‬وكان يعارض الزهاوي الشاعر الكبري‬ ‫معروف عبدالغني الرصايف‪،‬‬ ‫فقد دبت عداو ٌة قادح ٌة بينهام يتخللها يش ٌء من‬ ‫اإلعجاب والصحبة والطرفة‪ ،‬وقد دعا كالهام إىل‬ ‫تحرير املرأة ونزع الحجاب‪.‬‬ ‫ولكن كانت املنافسة والعداوة بينهام شديدةً‪،‬‬ ‫حيث قال الرصايف أشياء كثري ًة يف الن ْيل من الزهاوي‪ ،‬ولكن انتهت العداوة بالصلح بينهام قبل وفاتهام يف جلسة صل ٍح‬ ‫نظمها محمود صبحي الدفرتي يف داره يف (الحيدرخانة)‪ ،‬وقد حرض الجلسة عبد العزيز الثعالبي وروفائيل بطي وفؤاد‬ ‫السمعاين والعالمة محمد بهجة األثري واملحامي شاكر آل غصيبة‪.‬‬ ‫‪42‬‬


‫ملحد بغداد‬ ‫ومن الطرائف التي تخللت هذه العداوة أنه جلس الشاعران الزهاوي والرصايف يأكالن ثري ًدا فوقه دجاج ٌة محمرة‪،‬‬ ‫وبعد قليلٍ مالت الدجاجة ناحية الزهاوي‪ ،‬فقال‪ :‬عرف الخري أهله فتقدم‪.‬‬ ‫فقال الرصايف‪ :‬كرث النبش تحته فته ّدم​‪.‬‬

‫جميل صدقي الزهاوي والسلطة‬ ‫نشأ الزهاوي يف أرس ٍة ُمحب ٍة للعلم واألدب‪ ،‬وظل يف كنف والده مفتي بغداد حتى اشتد عوده‪ ،‬فأخذ بالرتفع يف املناصب‬ ‫فصيه مركزه األديب لعضوية مجلس املعارف ببغداد (أيام الحكم العثامين)‪ ،‬ومدير مطبعة الوالية‪ ،‬ومحر ٌر‬ ‫الحكومية ّ‬ ‫للقسم العريب يف جريدة (الزوراء) الرسمية‪ ،‬ثم عض ٌو يف محكمة االستئناف ببغداد‪ ،‬وعينته الدولة العثامنية واعظًا عا ًما‬ ‫يف اليمن وعض ًوا يف الجمعية اإلصالحية حيث مكث هناك تسعة أشه ٍر ثم عاد بعدها إىل األستانة(إسطنبول) فنظم فيها‬ ‫قصائده التي ندد فيها باالستبداد ومصادرة الحريات املرشوعة وفضح األساليب التي يعانيها الشعب والتي تتناىف مع‬ ‫طموحاته‪،‬‬ ‫ومل تكن تلك القصائد املنشورة باسمه الرصيح‪ ،‬بل كان ينرشها يف الجرائد العربية يف مرص بتوقيعٍ مستعار‪ ،‬ونتيج ًة‬ ‫ملواقفه املناهضة للسلطان عبد الحميد أمرت السلطات العثامنية بإخراجه من (األستانة) وإبعاده إىل العراق‪.‬‬ ‫مدرسا للقانون املدين يف مدرسة الحقوق‪ ،‬ومل يلبث‬ ‫وما أن استقر به املقام يف مدينة بغداد حتى تقدم‬ ‫ٍ‬ ‫بطلب ليعمل ً‬ ‫قليل حتى قامت ضج ٌة مفتعل ٌة ضده بسبب مقا ٍل نرشه يف جريدة املؤيد املرصية طالب فيه مبنح املرأة حقوقها‬ ‫ً‬ ‫وانتشالها مام تعانيه من ظلم الرجل لها وتهميشها‪،‬‬ ‫فقد قاد هذه الحملة وايل بغداد (حسني ناظم باشا ‪1910‬م)‪ ،‬وح ّرض علامء بغداد إلصدار الفتاوى ضد الزهاوي‪ ،‬فكان‬ ‫يف مقدمة أولئك العلامء الشيخ سعيد النقشبندي حيث كتب رسالته املوسومة بالسيف البارق يف عنق املارق‪ ،‬وتصدى‬ ‫سمها‪ :‬املرأة يف األحالم والسفور والحجاب‪ ،‬طبعها يف‬ ‫كاتب آخر من مرص هو محمد حمدي النشار فألّف له رسال ًة ّ‬ ‫له ٌ‬ ‫مرص(سنة ‪1911‬م)؛ وقد غادر العراق إثر هذه الحملة إىل مرص ومل يعد إىل بغداد ّإل بعد تغيري الوايل العثامين‪ ،‬حيث‬ ‫عاد إليها أيام الوايل جامل باشا فأعاده الوايل الجديد إىل وظيفته األصلية يف مدرسة الحقوق‪ ،‬وانتُ ِخب نائبًا عن املنتفك‬ ‫(النارصية حال ًيا) يف مجلس املبعوثان‪.‬‬ ‫وعند إعالن الحرب العاملية األوىل واحتالل اإلنجليز لبغداد ‪1917‬م اتّهمته السلطات الربيطانية بأنه يف صف املناهضني‬ ‫لهم‪ ،‬فأرادوا نفيه إىل الهند ولكنه أبرز ورق ًة يثبت فيها أنه يعود لجريدة املكلم املرصية والتي كانت مواكب ًة لإلنجليز‬ ‫ميسوه بأذًى‪ ،‬ويف عهد امللك فيصل األول ُعني عض ًوا يف مجلس األعيان مدة أربع سنوات‪.‬‬ ‫فأفرجوا عنه ومل ّ‬ ‫‪43‬‬


‫ملحد بغداد‬ ‫ومن الطرائف التي تع ّرض لها إبان العهد العثامين‪ ،‬عندما تم تعينه عض ًوا يف الربملان الرتيك عن لواء املنتفك (النارصية)‪،‬‬ ‫فأثناء تداول موضوع غالت األوقاف يف اللجنة املالية التي كان عض ًوا فيها تم طرح التصويت عىل توزيعها عىل األمئة‬ ‫قائل‪« :‬لكن السفن تسري‬ ‫واملسافرين الذي يقرأون صحيح البخاري عىل منت البواخر العثامنية لكنه اعرتض عىل ذلك ً‬ ‫بالبخار ال بالبخاري!» وأضاف‪« :‬فبدل توزيعها عىل من يقرأ البخاري‪ ،‬ابنوا بها املدارس والجامعات التي تُعلِّم الناس‬ ‫ميكانيكا البخار‪».‬‬ ‫سبّب له هذا املوقف َمتاعبًا كبري ًة من العثامنيني حيث انهال عليه أعضاء الربملان بالرضب حتى أسالوا دمه‪ ،‬لكنه هرب‬ ‫(‪)7‬‬ ‫بأعجوبة‪.‬‬

‫جميل صدقي الوحيد‬ ‫رغم االنفتاح الرسيع يف الثقافة العربية إال أنه مل يكن‬ ‫للمفكرين واألدباء الوقت الكايف لغرس جذور التمدن‬ ‫يف الشارع العريب‪ ،‬وذلك يعود إىل الثورة املضادة التي‬ ‫قادها جالوزة آل عثامن عن طريق دعم وترسيخ‬ ‫سلطان املاليل يف املجتمع العريب والرتيك عىل ح ٍّد سواء!‬ ‫ٍ‬ ‫ضعف يف تكوين املفكرين‬ ‫وما انعكس عىل ذلك من‬ ‫والعداء الشديد لهم‪ ،‬وشأن الزهاوي شأنهم‪ ،‬إذ قىض‬ ‫آخر أيامه يداعب ورق ًة بقلم‪ ،‬مواج ًها ألسنة عرصه‬ ‫قائل‪:‬‬ ‫التي ال ترحم ً‬ ‫«كنت يف صباي أُس ّمى (املجنون) لحركايت غري املألوفة‪ ،‬ويف شبايب (الطائش) لنزعتي إىل الطرب‪ ،‬ويف كهولتي (الجريء)‬ ‫ملقاومتي االستبداد‪ ،‬ويف شيخوختي (الزنديق) ملجاهريت بآرايئ الفلسفية‪».‬‬ ‫ليكملها بنرش البحوث الفلسفية واآلراء األدبية يف الصحف السورية واملرصية التي وجد منها مالذًا من سطوة مراجع‬ ‫الدين يف العراق‪ ،‬فنظم يف الوحدة مشب ًها نفسه بالحق الذي يسري وحي ًدا يف أزقة بغداد املهدمة مبقولته الشهرية‪:‬‬ ‫كل غريب للغريب نسيب‬ ‫(‪ .)7‬مذكرات سليامن فييض من رواد النهضة العربية يف العراق‪ ،‬دار الساقي‪.1998 ،‬‬

‫‪44‬‬


‫ملحد بغداد‬ ‫لقد كنت يف درب ببغداد ماش ًيا‬ ‫وقد أوشكت شمس النهار تغيب‬ ‫فصادفت شيخًا قد حنى الدهر ظهره‬ ‫له فوق مسنت الطريق دبيب‬ ‫عليه ثياب رثة غري أنها‬ ‫نظاف فلم تدنس لهن جيوب‬ ‫تدل غضون يف وسيع جبينه‬ ‫عىل أنه بني الشيوخ كئيب‬ ‫يسري الهوينى والجامهري خلفه‬ ‫يسبونه والشيخ ليس يجيب‬ ‫أحالوا عليه بالحىص يرجمونه‬ ‫ويف الرأس منه شجة وندوب‬ ‫له وقفة يقوى بها ثم شهقة‬ ‫تكاد لها نفس الشفيق تذوب‬ ‫فتساءلت من هذا؟ فقال مجاوبًا‬ ‫هو «الحق» جاء اليوم فهو غريب‬ ‫رصا ومسل ًيا‬ ‫فجئت إليه نا ً‬ ‫ودمعي إلشفاقي عليه صبيب‬ ‫وقلت له‪ :‬إنا غريبان ههنا‬ ‫وكل غريب للغريب نسيب‪.‬‬

‫ٍ‬ ‫مهيب‬ ‫فقد عاش غري ًبا حتى تويف يف شباط ‪ 1936‬وشُ ِّيع‬ ‫مبشهد ٍ‬ ‫و ُد ِفن يف مقربة الخيزران ومل يحرض جنازته خاصة أهله‬ ‫فقد قال ابن أخيه‪ ،‬رئيس رابطة علامء العراق الشيخ أمجد‬ ‫الزهاوي‪ :‬إين ألبغض عمي يف الله!‬ ‫‪45‬‬


‫ملحد بغداد‬ ‫إرث الزهاوي‬ ‫أخذ الزهاوي العلوم العقلية والنقلية عىل يد علامء بغداد‬ ‫ونبغ يف مختلف املجاالت العلمية والفلسفية‪ ،‬وكان نبوغه‬ ‫باللغة العربية والشعر العريب طاغ ًيا عىل بقية تحصيالته‬ ‫العلمية‪ ،‬وله مؤلفاتٌ علمي ٌة وأدبي ٌة منها‪:‬‬ ‫دواوين شعره‪.‬‬ ‫الجاذبية وتعليلها‪.‬‬ ‫الظواهر الطبيعية والفلكية‪.‬‬ ‫الخيل وسباتها‪.‬‬ ‫الدفع العام‪.‬‬ ‫الفجر الصادق‪.‬‬ ‫كام أن لديه مجموع ٌة من األشعار الكردية‪ .‬لكن إرث الزهاوي الحقيقي‪ ،‬هو املئات من الناشطني املدنيني واألدباء‬ ‫رص ندر فيه من أنهى الجامعة‪ ،‬فنحن إرثه‬ ‫والتنويرين الذين م ّهد لهم الدرب بوصفه أحد أعمدة التنوير العريب يف ع ٍ‬ ‫الحقيقي!‬

‫‪46‬‬


‫ملحد بغداد‬ ‫رف ونوادر وكلامت مشهورة‬ ‫طُ ٌ‬ ‫ملا بَدا يل أن ق َ‬ ‫َلبك َملّني‬ ‫أقسمت أالّ أو ِر َد اس ُم َك يف فَمي‬ ‫ُ‬

‫مت أن ُه َ‬ ‫ناك ما ال أعل ُم‬ ‫و َعلِ ُ‬ ‫ُنت باس ِم َك أقسم‬ ‫لكنني قَد ك ُ‬

‫‏أقس ْم ُت أين لن أر َاك مجد ًدا‬ ‫َ‬ ‫كنت أعرف أن يل‬ ‫لكنني ما ُ‬

‫وحسمت أمري َ‬ ‫فيك كُر ًها فانحسم‬ ‫ُ‬ ‫عينانِ ال يعنيهام ألفي قسم‬

‫ناسا بالذكا ِء متيزوا‬ ‫رش أُ ً‬ ‫عا ْ‬

‫َ‬ ‫صديقك من ذوي األخالقِ‬ ‫واخ ْرت‬

‫ملوت الفَتى خري له من معيشة‬

‫َقيل َعىل ِ‬ ‫الناس‬ ‫يَكون بها عبئًا ث ً‬

‫بألقاب مفخم ٍة‬ ‫والجا ُه ليس‬ ‫ٍ‬

‫منتهب‬ ‫تُهدى ملنغ ِم ٍس يف ا ِإل ِثم‬ ‫ِ‬

‫لَ ْي َس يَ ْرقَى األَبْ َنا ُء ِف أُ َّم ٍة َما‬

‫لَ ْم تَ ُك ْن قَ ْد ت َ َرق َّْت األُ َّم َهاتُ‬

‫يقولون إن الده ُر يصلح فاس ًدا‬ ‫لناقد ٌميفالحكمتعوزهاالخطى‬

‫فام حيل ٌة اإلنسان إن فسد الده ُر‬ ‫وحرية يف القول يعوزها الجهر‬

‫مزقي يا ابنـة العراق الحجابا‬

‫وأسفري فالحياة تبغي انقالبا‬

‫أبو أحمد‬ ‫القهوة يل‬

‫األسد‬ ‫كمشية‬ ‫مييش‬ ‫صب يا ولد صب يا ولد‬

‫قد‬ ‫قد‬

‫جاءنا‬ ‫حلت‬

‫مصادر أخرى‬ ‫‪ -1‬مستورد من‪ :‬منصة البيانات املفتوحة من املكتبة الوطنية الفرنسية‬ ‫‪ -2‬شعر جميل صدقي الزهاوي‪.‬‬ ‫‪ -3‬أعيان الزمان وجريان النعامن يف مقربة الخيزران ‪-‬وليد األعظمي ‪ -‬مكتبة الرقيم ‪ -‬بغداد ‪2011‬م ‪ -‬صفحة ‪.138‬‬ ‫‪ -4‬البغداديون أخبارهم ومجالسهم ‪ -‬إبراهيم عبد الغني الدرويب ‪ -‬بغداد ‪1958‬م ‪ -‬صفحة ‪.180‬‬ ‫‪ -5‬املوجز يف الشعر العريب‪ ،‬تأليف الشاعر فالح الحجية الكيالين‪.‬‬

‫‪47‬‬


http://arabatheistbroadcasting.com/aamagazine https://www.aamagazine.blogspot.com https://www.facebook.com/pages/AAMagazine/498136386890299 https://issuu.com/928738

48


‫‪Usama al-Binni‬‬

‫أنتم تلحدون لتتحروا‬ ‫من قيود األخالق؟‬

‫لرمبا كانت هذه التهمة من أكرث التهم شيو ًعا من بني ما يطلقه املؤمنون ضد امللحدين‪ ،‬فالدين يف رأيهم هو الضابط‬ ‫األوحد الذي مينع الناس من االنحراف واإلغراق يف الشهوات (كام يس ّميها أهل الدين)‪ .‬فام مدى صحة هذا األمر؟‬ ‫يقوم افرتاض من يقول بهذا الزعم عىل أساسني‪ ،‬أولهام أن املؤمن يرتدع عن فعل الرذائل ويسارع إىل فعل الخريات‬ ‫بسبب دينه‪ ،‬وبسبب دينه فقط‪ ،‬وثانيهام أن هنالك قامئ ًة من األمور التي يعتربها املؤمن من الرذائل واألخرى من‬ ‫خروج عىل األخالق‪.‬‬ ‫الخريات‪ ،‬يكون الخروج عليهام‬ ‫ٌ‬ ‫ٍ‬ ‫ناظم لحياة البرش‪ .‬إن مام ال شك فيه أن األديان عمو ًما جاءت‬ ‫كضابط‬ ‫لنبدأ إذًا بالحديث عن دور الدين‬ ‫أخالقي ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫أخالقي كان له عظيم األثر من الناحية التاريخية‪ ،‬ال سيام يف فرت ٍ‬ ‫ات وأماكن مل يكن معنى القانون‬ ‫مبحتوى‬ ‫فيام جاءت‬ ‫ً‬ ‫ٍّ‬ ‫فيها واض ًحا أو سهل التطبيق‪ .‬لكن قول ذلك يشء‪ ،‬والقول إن الدين هو مصدر األخالق‪ ،‬أو أن الناس إن ترصفوا‬ ‫بشكلٍ‬ ‫أخالقي يكونون يطبقون الدين هي أمو ٌر مختلفة‪ .‬وهنا تحرضنا مقول ٌة للشيخ محمد عبده عندما زار أوروپا‬ ‫ٍّ‬ ‫يف أواخر القرن التاسع عرش إذ قال‪« :‬رأيت يف أوروپا إسال ًما بال مسلمني‪ ،‬ويف بلدنا مسلمني بال إسالم»‪ ،‬من منطلق أن‬ ‫مثة ترادفًا بني األخالق واإلسالم‪ .‬ونرى أم ًرا مشاب ًها لدى املسيحيني الناطقني باإلنجليزية حني يصفون فعل الخري بأنه‬ ‫«فعل مسيحي»‪ ،‬عىل اعتبار أن املسيحية رش ٌط للترصف األخالقي‪ .‬عندما ينشأ املرء يف بيئ ٍة تُعلّم الدين منذ الصغر‬ ‫ٌ‬ ‫وتؤكد عىل دوره يف حياة الناس‪ ،‬فال عجب أن نرى شيوع هذه األفكار‪ ،‬وليس من املستغرب إذًا أن نرى املؤمنني‬ ‫شخصا ال يتحىل باألخالق أو يعرتف بها‪ .‬ولنالحظ أن هذين املثالني ال يقوالن إن الدين يف نظر أهله‬ ‫يعتقدون امللحد ً‬ ‫رصف األخالقي عىل العموم‪ ،‬وإمنا أن دين املتحدث هو الرشط األسايس لذلك‪ ،‬وإال ملا ذُهل محمد‬ ‫رش ٌط‬ ‫ٌ‬ ‫رضوري للت ّ‬ ‫عبده مام رأى‪ ،‬وملا نعت بعض املسيحيني الفعل األخالقي باملسيحي‪.‬‬ ‫تنبني أطروحة املؤمن عاد ًة عىل أساس أن الدين يقول بوجود العقاب والثواب عىل ما يفعله املرء‪ ،‬وأن الله (أو من‬ ‫ينوبه من املالئكة) يراقبون أفعالنا ويحاسبوننا بها أو بنيّاتنا أو بكليهام‪ .‬لذا‪ ،‬فانعدام اإلميان بهذه األمور سيؤدي‬ ‫اض مبطّ ٌن هنا مؤ ّداه أن اإلنسان بال هذه الضوابط هو بطبيعته‬ ‫باملرء إىل ارتكاب أفعا ٍل منافي ٍة لألخالق‪ .‬هنالك افرت ٌ‬ ‫كائ ٌن الأخالقي سيقتنص أي فرص ٍة الرتكاب كل ما ينايف األخالق‪.‬‬ ‫‪49‬‬


‫أيضا يحاسب) سيؤ ّدي إىل تغيريٍ يف‬ ‫لنبدأ ً‬ ‫أول بالتأكيد مع املؤمن عىل فكرة أن وجود ٍ‬ ‫رقيب يرى الترصفات (ورمبا ً‬ ‫أيضا أم ٌر متت دراسته وتأكيده بصور ٍة‬ ‫عم لو كان سيفعله يف غياب هذا الرقيب‪ .‬هذا أم ٌر بديهي‪ ،‬لكنه ً‬ ‫سلوك املرء ّ‬ ‫أكادميي ٍة يف العقود األخرية‪ .‬ضع كامريا للمراقبة يف متجر وبجانبها شاش ٌة تظهر للمتسوق ما تراه الكامريا وسيتولد لدى‬ ‫املتسوق شعو ٌر بأنه مراقب (سواء أكان مراقبًا حقًا أم ال)‪ ،‬وسيدفع ذلك بعض من قد تس ّول له نفسه بالرسقة إىل‬ ‫االمتناع‪ .‬لكننا نعرف متام املعرفة يف ذات الوقت أن هنالك من ال ميتنع‪ ،‬رغم إدراكه لوجود الكامريا‪ .‬هنالك سارقون‬ ‫يخفون وجوههم‪ ،‬وهنالك من ال يخفونها‪ ،‬فام الذي يحصل هنا؟ ملَ ال ميتنع هؤالء رغم معرفتهم أنهم مراقبون‪ ،‬وأن‬ ‫ذلك قد يؤدي إىل اإلمساك بهم وتع ّرضهم للعواقب؟ إن من يُقدم عىل الرسقة يقوم بإجراء موازن ٍة ملا سيكسب وما‬ ‫سيخرس‪ ،‬ويرى املكاسب أكرب من الخسائر‪ ،‬أو أنه سيتمكن من الهروب‪ ،‬وغري ذلك من الحسابات‪ .‬فاملراقبة منعت‬ ‫البعض‪ ،‬لكنها مل متنع الكل‪.‬‬ ‫واآلن لنقارن بني حالتني‪ .‬الحالة األوىل‬ ‫ألب فقري ال ميلك قوت أطفاله يقوم‬ ‫هي ٍ‬ ‫طعام ألجلهم‪ ،‬والثانية لسارقٍ‬ ‫برسقة‬ ‫ٍ‬ ‫محرتف يريد السطو عىل خزنة ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫بنك‬ ‫تحوي قد ًرا كب ًريا من النقود‪ ،‬ولنفرتض‬ ‫وجود مراقب ٍة من نو ٍع ما يف الحالتني‪.‬‬ ‫قد مييل البعض للتعاطف مع الشخص‬ ‫يف الحالة األوىل‪ ،‬بل وقد يذهب إىل‬ ‫حد تسويغها (لكننا هنا سنعلّق الحكم‬ ‫عىل فعله ذاك) باعتبار أنه وجد نفسه‬ ‫رشا صغ ًريا يف سبيل إنجاز خريٍ كبري‪ ،‬يف حني يصعب التعاطف مع الشخص يف الحالة الثانية‪ ،‬حيث‬ ‫ً‬ ‫مرغم‪ ،‬فارتكب ً‬ ‫ٍ‬ ‫يريد أن يغتني بشكلٍ‬ ‫فاحش عىل حساب غريه‪ .‬من ناحية القانون كالهام سارق‪ .‬واآلن لنسأل السؤال التايل من‬ ‫منظور النظرة الدينية لألخالق‪ :‬هل ميكننا الحكم عىل مدى تديّن هؤالء الشخصني؟ هل نستطيع القول إن أحدهام‬ ‫مؤم ٌن أو ملحد؟ طب ًعا ال‪ .‬إن من أبرز نتائج تلك النظرة افرتاض أنه عند إجراء مقارن ٍة بني مجتمعٍ متديّنٍ وآخر غري‬ ‫(مثل) متفشي ٌة يف ذلك الذي يغيب فيه الدين‪ ،‬وشبه معدوم ٍة حيث يزدهر الدين‪ .‬إذًا‬ ‫متديّن سنجد أن الرسقة ً‬ ‫عىل هذا األساس‪ ،‬نتوقع أن تكون الضوابط الداخلية للمؤمنني كافي ٌة ملنعهم من الرسقة‪ ،‬بحيث تنعدم الرسقات يف‬ ‫املجتمعات املتدينة‪ ،‬وتنتفي الحاجة للرشطة والقانون واملحاكم والسجون‪ .‬ولكن هل هذا صحيح؟ أينام ذهبنا عىل‬ ‫وجه البسيطة‪ ،‬يف البلدان اإلسالمية‪ ،‬واملسيحية وامللحدة وغريها سنجد رشطة‪ ،‬ونجد رسقات‪ ،‬ومحاكم وسجون‪ .‬أين‬ ‫فعل الدين ودوره يف الردع؟ كيف ميكن للمؤمن أن يرسق إن كان مؤم ًنا؟ ما فائدة إميانه يف هذه النقطة؟ أم لعله‬ ‫ُ‬ ‫غري مؤمنٍ مبا فيه الكفاية؟‬ ‫‪50‬‬


‫كل هذه األمور تدعو إىل االستنتاج أن اإلميان ليس ضامن ًة لخلق مجتمعٍ أخالقي‪ .‬ولنالحظ هنا أنواع الثواب‬ ‫ترهيب من نار‪ .‬وقد تكون دنيوي ًة مبارشة‪ ،‬كقطع يد‬ ‫كرتغيب بجن ٍة أو‬ ‫والعقاب الديني؛ فهي قد تكون أخروية‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫مثل بسبب ارتكاب املعايص‪ .‬يف هذا السياق‪،‬‬ ‫السارق‪ ،‬وقد تكون دنيوي ًة غري مبارشة‪ ،‬كانعدام التوفيق يف الحياة ً‬ ‫نرى أن العقوبة املبارشة ال تختلف من حيث املبدأ عام قد يوقعه القضاء من عقوب ٍة بعد اعتقال السارق‪ ،‬ووجود‬ ‫هذه العقوبة الدنيوية يتناقض من حيث املبدأ مع وجود الوازع الداخيل كراد ٍع ودليلٍ يقود املرء يف حياته ومييل‬ ‫عليه ترصفاته‪.‬‬ ‫فام الدور الذي لعبه الدين تاريخ ًيا يف هذا السياق إذًا؟ إن عدنا إىل الوراء سنجد أن الدين مل «يخرتع» هذه‬ ‫مثل‪ ،‬أو القانون الروماين)‪ .‬كل ما فعله الدين هو صياغة بعضها عىل‬ ‫القواعد (ولنستذكر هنا قوانني حمورايب ً‬ ‫بعقاب وثواب‪ .‬فمن أين أتت إذًا؟ هي رضوراتٌ تتولد تلقائ ًيا مع اجتامع البرش‪ .‬لننظر‬ ‫شكل أوامر ونوا ٍه ترتبط‬ ‫ٍ‬ ‫إىل الرسقة أو القتل‪ ،‬أو االغتصاب‪ ،‬ما املانع منها؟ هل هي رذائل ألنها تغضب الله؟ ملاذا تغضب الله؟ أم لعلها‬ ‫شخيص سيتلقى عقابًا أخرويًا ويُحرم من الثواب؟ ليست أيًا من هذه املسوغات أخالقًا‪ ،‬هي‬ ‫رذائل ألن فاعلها‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫عالقات مختلق ٍة بني أفعا ٍل برشي ٍة وعواقب إلهي ٍة مزعوم ٍة ال ترتبط بالفعل البرشي نفسه بشكلٍ أصيل‪ .‬فام‬ ‫مجرد‬ ‫أصل خارج إطار الدين؟ طب ًعا هنالك مانع‪ ،‬واملانع كبري‪،‬‬ ‫البديل؟ ما املانع من هذه األفعال؟ بل هل من مانع ً‬ ‫بل هو املانع الحقيقي الذي يقبع وراء الواجهة الدينية الزائفة‪ .‬لنتخيل حال مجتمعٍ ال عواقب فيه عىل الرسقة‪،‬‬ ‫مرفوضا‪ ،‬كيف سيكون حاله؟ أبرز نتائج العيش يف ذلك املجتمع‬ ‫مجتمعٍ ال تعترب فيه الرسقة بأي صور ٍة كانت أم ًرا‬ ‫ً‬ ‫هي غياب الدافع للعمل‪ ،‬فإن كنت سأبذل جهدي يف زراعة حقيل ثم يأيت جاري ويأخذ محصويل دون مقابلٍ مايل‬ ‫فسيكون ه ّمي حراسة املحصول‪ ،‬ومبا أنني قد ال أتلقى مردو ًدا مال ًيا فلن أقوم بزراعة أكرث من حاجتي املبارشة‪ ،‬أي‬ ‫رش‬ ‫فائضا‪ ،‬وغياب الفائض هو ٌ‬ ‫أنني لن أملك ً‬ ‫قصف للمجتمع من أساسه‪ ،‬فاملجتمع البرشي هو يف أساسه تجم ٌع لب ٍ‬ ‫كل منهم بعمل ما‪ ،‬يتخصص فيه ويتقنه‬ ‫يقوم ٌ‬ ‫بحيث يوفّر خدمته للبقية مقابل أن يوفروا له‬ ‫هم باملقابل منتو ًجا آخر‪ .‬أي أن منع الرسقة‬ ‫هو رش ٌط أسايس لخلق هذا النمط من التعايش‬ ‫الذي يتعدى سد الحاجة الفردية املبارشة‪ ،‬منعها‬ ‫أسايس لقيام املجتمع وليس أم ًرا إله ًيا‬ ‫هو رشط‬ ‫ٌ‬ ‫وحي يتنزل إىل رسول‪.‬‬ ‫ال يهتدي إليه البرش دون ٍ‬ ‫لقد رأينا للتو إذًا أن الدين قد يتمكن من رد ٍع‬ ‫جزيئ لكن القول إنه ضابط لألخالق هو مغاال ٌة‬ ‫يشهد بها كل من يدرك أن الصالة ال تنهى عن‬ ‫‪51‬‬


‫الفحشاء واملنكر ورسقة األحذية‪ .‬ال يرتكب جرمي ٌة إال من امتلك داف ًعا قويًا وفرص ًة مواتي ًة الرتكابها‪ ،‬لن يردعه إميان‬ ‫وال غريه‪.‬‬ ‫توجد يف األديان آلي ٌة قد تبدو حميدةً‪ ،‬وهي آلية االستغفار والتكفري عن الذنب‪ ،‬والتي يقوم مبوجبها املؤمن بطلب‬ ‫مثل‪ .‬لكن االستغفار هو‬ ‫الصفح من الله بالدعاء أو بأداء فعلٍ مراسيمي‪ ،‬كإعتاق رقبة عند القتل الخطأ يف اإلسالم ً‬ ‫ٍ‬ ‫محمد قوله‪:‬‬ ‫يف الواقع رخص ٌة الرتكاب الذنوب ثم غسلها‪ ،‬ومنها ما هو مبال ٌغ فيه‪ ،‬مثل ما نقل يف الحديث عن‬ ‫«الصلَ َواتُ الْ َخ ْم ُس َوالْ ُج ْم َع ُة إِ َل الْ ُج ْم َع ِة َو َر َم َضا ُن إِ َل َر َم َضا َن ُم َك ِّف َراتٌ َما بَ ْي َن ُه َّن إِذَا ا ْجتَ َن َب الْ َك َبائِ َر» وغريه الكثري‪.‬‬ ‫َّ‬ ‫فام الذي سيدعو مؤم ًنا ميتلك االستغفار والتكفري عن الذنوب ليخرج من دينه الرتكاب الذنوب إن كان يستطيع‬ ‫التوبة؟‬ ‫هذا يقودنا إىل نقطة الخالف الثانية‬ ‫املتعلقة باألمور التي يعتربها الدين‬ ‫الأخالقية‪ ،‬ويراها من ترك الدين أم ًرا ال‬ ‫عالقة له باألخالق‪ ،‬والواقع أن كلمة أخالقٍ‬ ‫ال تصف األشياء التي يأمر بها الدين والتي‬ ‫ينهى عنها‪ ،‬فمهوم الدين عن هذه األشياء‬ ‫يتقاطع مع األخالق يف بعض الجوانب‬ ‫لكنه ال يكافئه متا ًما‪ ،‬فمفهومه يف اإلسالم‬ ‫مثل‪ ،‬مسألة تحريم‬ ‫يقابل الحرام والحالل‪ً .‬‬ ‫أكل الخنزير‪ ،‬أو رشب الكحول‪ ،‬أو مامرسة‬ ‫الجنس خارج إطار الزواج وغريها من‬ ‫طقوسا إىل كونها عادات وتقاليد موروثة من عصو ٍر ولّت وانتهت‪ .‬تكمن‬ ‫املامرسات التي قد ترتاوح بني كونها‬ ‫ً‬ ‫بدل منه‪ ،‬يقوم بوضع الرسقة والقتل‬ ‫املشكلة يف أن املؤمن بسبب غياب مفهوم األخالق ووجود الحالل والحرام ً‬ ‫يف نفس فئة مامرسة الجنس خارج الزواج أو مامرسة الجنس املثيل‪ ،‬يف حني أنها أمور تختلف جذريًا‪ .‬فخارج إطار‬ ‫مثل توقعان رض ًرا عىل اآلخرين (وعىل‬ ‫الدين يكون املقياس األسايس عدم إيقاع الرضر عىل اآلخرين‪ .‬القتل والرسقة ً‬ ‫الجاين بشكل مبارش من خالل العقوبة وغري مبارش بإرضاره ببيئته املحيطة ومن فيها)‪ .‬أما مامرسة الجنس دون‬ ‫ٍ‬ ‫خيانات زوجية تؤذي طرفًا ما‪ .‬كذلك الحال مع‬ ‫زواج فهو ال يرض أح ًدا إن كان بالرتايض وبني بالغني راشدين‪ ،‬ودون‬ ‫احتساء الكحول‪ ،‬فمجرد أن كرثة الكحول تذهب العقل ال تعني أن احتساءه من حيث املبدأ مرفوض‪ ،‬ويف هذه‬ ‫يتعي عليه التوازن واللجوء إىل عقله وضمريه‬ ‫نرى أمثل ًة عىل املسؤولية التي تقع عىل عاتق اإلنسان بال دين‪ ،‬حيث ّ‬ ‫عند الترصف‪ .‬هذه هي املسؤولية األخالقية التي ال يعرفها املؤمن‪ ،‬والذي يركن إىل إلهه ودينه ليلقناه ما يعرفه‪ ،‬أو‬ ‫ليوجهانه ضد ما يعرف أنه خطأٌ يف كثريٍ من األحيان‪ ،‬ومع ذلك يستمر يف االعتقاد أنه ال يعقل دون دين‪.‬‬ ‫‪52‬‬


www.facebook.com/M-80-II-941772382615672

53


‫ﺳﻴﺮة‬ ‫ﻣﺤﻤﺪ ﺑﻦ آﻣﻨﺔ‬

‫اﻟﺤﻠﻘﺔ اﻟﺴﺎدﺳﺔ‪ :‬ﻣﺤﻤﺪ راﻋﻲ اﻟﻤﺎﺷﻴﺔ‬

‫ﺗﺮﺟﻤﺔ ﻋﻦ اﻟﻔﺮﻧﺴﻴﺔ ﻟﻜﺘﺎب‬ ‫‪LA VIE DE MAHOMET‬‬ ‫ﺳﺎﻫﻢ ﻓﻲ ﺗﺮﺟﻤﺔ ﻫﺬﻩ اﻟﺤﻠﻘﺔ‪:‬‬

‫‪Ayman Pheidias‬‬ ‫اﻟﺸﻴﺦ دﻳﻜﺎرت‬ ‫‪Alia’a Damascéne‬‬ ‫‪54‬‬


‫وﻓﺎة‬ ‫ﻋﺒﺪاﻟﻤﻄﻠﺐ‬

‫ﺟﻤﻊ ﺑﻨﺎﺗﻪ اﻟﺴﺘّﺔ ﻗﺒﻴﻞ ﻣﻮﺗﻪ‬ ‫ﻣﻦ ﺗﺮﻳﺪ أن ﺗﺒﻜﻲ‬ ‫ﻓﻠﺘﻔﻌﻞ اﻵن ﺣﺘﻰ‬ ‫أﻋﺮف ﻣﺎ ﺳﺘﻘﻮﻟﻮن‬ ‫ﻋﻨﻲ ﺑﻌﺪ ﻣﻮﺗﻲ‬

‫ﺗﻮﻓﻲﻋﺒﺪاﻟﻤﻄﻠﺐ‬ ‫ﻋﻦ ﻋﻤ ٍﺮ ﻳﻨﺎﻫﺰ‬ ‫اﻟﺜﻼﺛﺔ وﺗﺴﻌﻴﻦ‬ ‫)‪(1‬‬ ‫ﺳﻨﺔ‪.‬‬

‫أﻟﻘﺖ ّ‬ ‫ﻛﻞ واﺣﺪٍة أﺑﻴﺎﺗ ًﺎ‬ ‫)‪(2‬‬ ‫ﻓﻲ رﺛﺎء واﻟﺪﻫﺎ‪.‬‬

‫أوﺻﻰﻋﺒﺪاﻟﻤﻄﻠﺐاﺑﻨﻪأﺑﻮﻃﺎﻟﺐ‬ ‫)‪(4‬‬ ‫ﺑﺮﻋﺎﻳﺔ ﻣﺤﻤﺪ‬

‫أﻋﻠﻨﺖ ﻣﻜّﺔ اﻟﺤﺪاد وﻟﻢ ﺗﺴﺘﻘﺒﻞ أﻳﺔ ﻗﺎﻓﻠﺔ‬ ‫)‪(3‬‬ ‫ﻟﻤﺪة ﻃﻮﻳﻠﺔ‪.‬‬

‫ﻟﻌﻤﻪ‬ ‫أﻇﻬﺮ اﻟﻄﻔﻞ ﺣﺒ ًﺎ ّ‬ ‫)‪(5‬‬ ‫اﻟﺬي أﺣﺎﻃﻪ ﺑﺎﻟﺮﻋﺎﻳﺔ واﻟﺤﻨﺎن‬

‫‪55‬‬

‫ﻟﻢ ﻳﻤﻠﻚ أﺑﻮﻃﺎﻟﺐ ﺳﻮى‬ ‫ﻧﺎﻗﺔ واﺣﺪ ًة ﻟﺘﺄﻣﻴﻦ ﻋﻴﺶ‬ ‫ً‬ ‫أوﻻده اﻟﻜﺜﺮ‪.‬‬


‫ﺳﻮاء أأﻛﻞ ﻫﺆﻻء اﻷﻃﻔﺎل ﺟﻤﻴﻌ ًﺎ أو‬ ‫ً‬ ‫ﻓﺮادى ﻓﺈﻧﻬﻢ ﻻ ﻳﺸﺒﻌﻮن ‪.‬‬

‫ﻣﺤﻤﺪ ﻣﻌﻬﻢ‪ ،‬داﺋﻤ ًﺎ ﻳﻜﻔﻲ اﻟﻄﻌﺎم وﻳﺰﻳﺪ ‪.‬‬ ‫وﻟﻜﻦ ﺣﻴﻦ ﻳﺄﻛﻞ ً‬

‫ﻛﺎﻧﻮا ﻳﺸﺮﺑﻮن ﺣﺘﻰ اﻟﺘﺨﻤﺔ‪ ،‬ﺣﺘﻰ ﻟﻮ ﻛﺎن‬ ‫)‪(6‬‬ ‫ﻻ ﻳﻜﻔﻲ ّإﻻ ﺷﺨﺼ ًﺎ واﺣﺪًا‬

‫ﻋﻨﺪﻣﺎ ﻟﻢ ﻳﺘﻮﻓﺮ ّإﻻ ﻟﺒﻦ اﻟﻨﺎﻗﺔ‪ ،‬ﻛﺎن ﻋﺒﺪاﻟﻤﻄﻠﺐ‬ ‫ﻳﺤﺮص أن ﻳﻜﻮن ﻣﺤﻤﺪ أول ﻣﻦ ﻳﺸﺮب ﻣﻦ اﻹﻧﺎء‬ ‫ﺛﻢ ﻳﺸﺮب ﺑﻌﺪه اﻟﺒﻘﻴﺔ ‪.‬‬

‫ﻓﻲ اﻟﺼﺒﺎح‪،‬ﻛﺎن ﻳﺴﺘﻴﻘﻆ اﻷﻃﻔﺎل ﻓﻲ ﻓﻮﺿﻰ وﻋﻴﻮﻧﻬﻢ‬ ‫ﻣﺘﻮرﻣﺔ ‪.‬‬

‫ّ‬ ‫إﻻ ﻣﺤﻤﺪ‪ ،‬ﻓﻘﺪ ﻛﺎن ﻳﺴﺘﻴﻘﻆ ﻣﺼﻔﻒ اﻟﺸﻌﺮ‬ ‫)‪(7‬‬ ‫ﻛﺤﻴﻞ اﻟﻌﻴﻨﻴﻦ‪ ،‬وﻓﻲ أﺣﻠﻰ ﺣﻠّﺔ‪.‬‬

‫‪56‬‬


‫اﻟﺮاﻋﻲ‬ ‫ﻣﺤﻤﺪ ﻣﺴﺆوﻟﻴﺔ‬ ‫ﺣﻴﻦ ﺑﻠﻎ ﺳﻦ اﻟﺮﺷﺪ‪ ،‬ﺗﻮﻟﻰ ٌ‬ ‫رﻋﻲ ﺑﻌﻀ ًﺎ ﻣﻦ ﻗﻄﻌﺎن اﻟﻤﺎﺷﻴﺔ ﻋﻠﻰ ﺳﻔﻮح‬ ‫ﺟﺒﺎلﻣﻜّﺔ‬

‫ﻓﻲ أﺣﺪ اﻷﻳﺎم‪ ،‬ﺷﻌﺮ ﻣﺤﻤﺪ ﺑﺎﻟﻤﻠﻞ‪ ،‬ﻓﺘﺮك اﻟﻘﻄﻴﻊ‬ ‫ﻷﺣﺪ اﻟﺮﻋﺎة‪ ،‬واﺗﺠﻪ ﻟﻤﻜّﺔ ﻟﻘﻀﺎء أﻣﺴﻴﺔ ﻫﻨﺎك‪.‬‬

‫ﻧﺎم ﻣﺤﻤﺪ ﻣﻨﻬﻜ ًﺎ ﻣﻦ ﺷﺪة‬ ‫اﻹﺛﺎرة‪ ،‬ﺣﺘﻰ أﻳﻘﻈﺘﻪ أوﻟﻰ‬ ‫أﺷﻌﺔاﻟﺸﻤﺲ‬

‫ﺷﺪﺗﻪ اﻟﻤﻮﺳﻴﻘﻰ اﻟﺘﻲ ﻛﺎﻧﺖ ﺗُﻌﺰف ووﺟﺪ‬ ‫ﺣﻴﻦ وﺻﻮﻟﻪ ّ‬ ‫ﻧﻔﺴﻪ ﻓﻲ ٍ‬ ‫ﺻﺎﺧﺐ ﺑﺄﺻﻮات اﻟﻤﺰاﻣﻴﺮ ﻓﻘﺪ ﻛﺎن‬ ‫ﺑﻴﺖ‬ ‫ٍ‬ ‫ﺣﻔﻞ زﻓﺎف‪.‬‬

‫ﻓﺮﺟﻊراﻛﻀ ًﺎ‬ ‫ﻟﻴﻌﺘﺬر ﻟﻠﻄﻔﻞ اﻟﺬي‬ ‫ﺗﺮك اﻟﻘﻄﻌﺎن ﻣﻌﻪ‪.‬‬

‫ﻟﻜﻦ ﻫﺬا ﻟﻢ ﻳﻤﻨﻌﻪ ﻣﻦ‬ ‫)‪(8‬‬ ‫اﻟﻜﺮة‬ ‫إﻋﺎدة ّ‬

‫ﺗﻤﻴﺰ ﺑﺎﻟﻜﻔﺎءة‪ ،‬ﻓﺒﻔﻀﻞ ﺣﻤﺎﻳﺔ اﻟﻤﻼﺋﻜﺔ‬ ‫رﻏﻢ أﻧﻪ ﻛﺎن ﻃﻔ ًﻼ ﻃﺎﺋﺸﺎً‪ ،‬إﻻ أﻧﻪ ّ‬ ‫ﻣﻬﻤﺔ‪.‬‬ ‫ﻟﻢ ﻳﻔﺸﻞ ﻳﻮﻣ ًﺎ ﻓﻲ أﻳّﺔ ّ‬

‫‪57‬‬


‫ﺧﻠﻊ ﻣﺤﻤﺪ رداءه‪ ،‬واﻧﻀﻢ‬ ‫اﻟﻴﻬﻢ ﻣﺘﺤﻤﺴ ًﺎ‬

‫ﻓﻲ ﻳﻮم ﻣﻦ اﻷﻳﺎم‪ ،‬ﻗﺎم اﻷوﻻد اﻟﺮﻋﺎة ﺑﻨﺰع ﻣﻼﺑﺴﻬﻢ‬ ‫وﺗﻨﺎﻓﺴﻮاﻋﻠﻰﺣﻤﻞاﻟﺤﺠﺎرةﻓﻴﻬﺎﻟﻠﺘﺴﻠﻴﺔ‬

‫ﻏﺮﻳﺒﺔ ﻣﺤﻤﺪًا ﻋﻠﻰ رأﺳﻪ‪.‬‬ ‫ﺿﺮﺑﺖ ﻗﻮٌة‬ ‫ٌ‬

‫وﺑﻴﻨﻤﺎ ﻫﺆﻻء اﻷوﻻد اﻟﻌﺮاﻳﺎ ﻳﺘﺴﺎﺑﻘﻮن ﻓﻲ‬ ‫ﻧﻘﻞاﻷﺣﺠﺎر‪...‬‬

‫أرﺗﺪي‬ ‫)‪(9‬‬ ‫ﻣﻼﺑﺴﻚ!‬ ‫أﺻﺒﺢ ﻣﺤﻤﺪًا راﻋﻲ ﻏﻨﻢ‪ ،‬ﻣﺜﻠﻪ ﻣﺜﻞ ﻋﻴﺴﻰ اﻟﻤﺴﻴﺢ وﻣﻮﺳﻰ ﻣﻦ ﻗﺒﻠﻪ‪ ،‬وﻗﺪ ﻣﻨﺤﺘﻪ‬ ‫)‪(10‬‬ ‫ﻫﺬهاﻟﺘﺠﺮﺑﺔاﻹﺣﺴﺎسﺑﺎﻟﻤﺴﺆوﻟﻴﺔواﻟﺮﻏﺒﺔﻓﻲرﻋﺎﻳﺔاﻟﻀﻌﻔﺎء‪.‬‬

‫‪58‬‬


‫(‪ .)1‬وفاة عبد املطلب‪:‬‬

‫‪« l‬ثم ملا كان سنه ﷺ مثان سنني‪ :‬أي بناء عىل الراجح من األقوال املتكاثرة‪ ،‬ويرجحه ما يأيت‪ :‬تويف عبد املطلب وله من العمر خمس وتسعون سنة‪،‬‬ ‫وقيل مائة وعرشون‪ ،‬وقيل وأربعون‪ :‬أي ولعل ضعف هذا القول اقتىض عدم ذكر ابن الجوزي لعبد املطلب يف املعمرين‪ .‬قال‪ :‬وقيل اثنان ومثانون‪ :‬أي‬ ‫وعليه اقترص الحافظ الدمياطي‪ ،‬قال‪ :‬وقيل مائة وأربعة وأربعون اهـ‪ .‬وقد قيل له ﷺ‪« :‬يا رسول الله أتذكر موت عبد املطلب؟ قال نعم وأنا يومئذ‬ ‫ابن مثان سنني»‪.‬‬ ‫‪ n‬السرية الحلبية ‪ -‬إنسان العيون يف سرية األمني املأمون‪ ،‬لعيل بن إبراهيم بن أحمد الحلبي‪ ،‬دار الكتب العلمية – بريوت‪ ،‬الطبعة الثانية ‪ 1427 -‬هـ‪،‬‬ ‫باب وفاة عبد املطلب وكفالة عمه أيب طالب له ﷺ‪ ،‬الجزء (‪ ،)1‬الصفحة (‪.)164-165‬‬

‫(‪ .)2‬جمع عبداملطلب لبناته ليبكينه قبل موته‪:‬‬

‫‪« l‬عن ابن إسحق أن عبد املطلب ملا حرضته الوفاة وعرف أنه ميت جمع بناته وكن ست نسوة‪ :‬صفية‪ ،‬وهي أم الزبري بن العوام وبرة وعاتكة‪ ،‬وأم‬ ‫يل حتى أسمع ما تقلن ّيف قبل أن أموت‪ ،‬فقالت كل واحدة منهن‬ ‫حكيم البيضاء‪ :‬أي وهي جدة عثامن بن عفان ألمه‪ ،‬وأميمة وأروى‪ ،‬فقال لهن‪ :‬ابكني ع ّ‬ ‫شعرا يف وصفه مذكور يف تلك السرية‪ ،‬وملا سمع جميع ذلك أشار برأسه أن هكذا فابكينني»‪.‬‬ ‫‪ n‬السرية الحلبية ‪ -‬إنسان العيون يف سرية األمني املأمون‪ ،‬لعيل بن إبراهيم بن أحمد الحلبي‪ ،‬دار الكتب العلمية – بريوت‪ ،‬الطبعة الثانية ‪ 1427 -‬هـ‪،‬‬ ‫باب وفاة عبد املطلب وكفالة عمه أيب طالب له ﷺ‪ ،‬الجزء (‪ ،)1‬الصفحة (‪.)166‬‬

‫(‪ .)3‬حداد أهل مكة عىل عبداملطلب‪:‬‬

‫‪« l‬قال ابن هشام رحمه الله‪ :‬مل أر أحدا من أهل العلم بالشعر يعرف هذا الشعر إال أنه‪ :‬أي ابن إسحق ملا رآه عن ابن املسيب كتبه‪ .‬قال بعضهم‪ :‬ومل‬ ‫يبك أحد بعد موته ما بيك عبد املطلب بعد موته‪ ،‬ومل يقم ملوته مبكة سوق أياما كثرية»‪.‬‬ ‫‪ n‬السرية الحلبية ‪ -‬إنسان العيون يف سرية األمني املأمون‪ ،‬لعيل بن إبراهيم بن أحمد الحلبي‪ ،‬دار الكتب العلمية – بريوت‪ ،‬الطبعة الثانية ‪ 1427 -‬هـ‪،‬‬ ‫باب وفاة عبد املطلب وكفالة عمه أيب طالب له ﷺ‪ ،‬الجزء (‪ ،)1‬الصفحة (‪.)166‬‬

‫(‪ .)4‬إيصاء عبداملطلب مبحمد إىل أيب طالب‪:‬‬

‫‪ « l‬وملا حرضته الوفاة أوىص به ﷺ إىل عمه شقيق أبيه أيب طالب‪ :‬أي وكان أبو طالب ممن حرم الخمر عىل نفسه يف الجاهلية كأبيه عبد املطلب‬ ‫كام تقدم‪ ،‬واسمه عىل الصحيح عبد مناف»‪.‬‬ ‫‪ n‬السرية الحلبية ‪ -‬إنسان العيون يف سرية األمني املأمون‪ ،‬لعيل بن إبراهيم بن أحمد الحلبي‪ ،‬دار الكتب العلمية – بريوت‪ ،‬الطبعة الثانية ‪ 1427 -‬هـ‪،‬‬ ‫باب وفاة عبد املطلب وكفالة عمه أيب طالب له ﷺ‪ ،‬الجزء (‪ ،)1‬الصفحة (‪.)165‬‬

‫(‪ .)5‬حب محمد لعمه أيب طالب وحب عمه له‪:‬‬

‫‪« l‬وحني أوىص به جده أليب طالب أحبه حبا شديدا ال يحبه ألحد من ولده‪ ،‬فكان ال ينام إال إىل جنبه‪ ،‬وكان يخصه بأحسن الطعام‪ :‬أي وقيل اقرتع أبو‬ ‫طالب هو والزبري شقيقه فيمن يكفله ﷺ منهام‪ ،‬فخرجت القرعة أليب طالب‪ ،‬وقيل بل هو ﷺ اختار أبا طالب ملا كان يراه من شفقته عليه ومواالته‬ ‫له قبل موت عبد املطلب‪.»...‬‬ ‫‪ n‬السرية الحلبية ‪ -‬إنسان العيون يف سرية األمني املأمون‪ ،‬لعيل بن إبراهيم بن أحمد الحلبي‪ ،‬دار الكتب العلمية – بريوت‪ ،‬الطبعة الثانية ‪ 1427 -‬هـ‪،‬‬ ‫باب وفاة عبد املطلب وكفالة عمه أيب طالب له ﷺ‪ ،‬الجزء (‪ ،)1‬الصفحة (‪.)165‬‬

‫(‪ .)6‬فقر أيب طالب وبركة محمد‪:‬‬

‫‪« l‬وكان أبو طالب مقال من املال‪ ،‬فكان عياله إذا أكلوا جميعا أو فرادى مل يشبعوا‪ ،‬وإذا أكل معهم النبي ﷺ شبعوا‪ ،‬فكان أبو طالب إذا أراد أن يغديهم‬ ‫أو يعشيهم يقول لهم‪ ،‬كام أنتم حتى يأيت ابني‪ ،‬فيأيت رسول الله ﷺ فيأكل معهم‪ ،‬فيفضلون من طعامهم‪ ،‬وإن كان لبنا رشب رسول الله ﷺ أولهم‪،‬‬ ‫ثم تتناول العيال القعب‪ :‬أي القدح الذي من الخشب فيرشبون منه فريوون من عند آخرهم‪ :‬أي جميعهم من القعب الواحد وإن كان أحدهم ليرشب‬ ‫قعبا واحدا‪ .‬فيقول أبو طالب‪ :‬إنك ملبارك»‪.‬‬

‫‪59‬‬


‫‪ n‬السرية الحلبية ‪ -‬إنسان العيون يف سرية األمني املأمون‪ ،‬لعيل بن إبراهيم بن أحمد الحلبي‪ ،‬دار الكتب العلمية – بريوت‪ ،‬الطبعة الثانية ‪ 1427 -‬هـ‪،‬‬ ‫باب وفاة عبد املطلب وكفالة عمه أيب طالب له ﷺ‪ ،‬الجزء (‪ ،)1‬الصفحة (‪.)169‬‬

‫(‪ .)7‬أناقة وجامل محمد مقارنه بنظرائه‪:‬‬

‫‪« l‬وكان الصبيان يصبحون شعثا رمصا بضم الراء وإسكان امليم ثم صاد مهملة ويصبح رسول الله صىل الله عليه وسلم دهينا كحيال»‪.‬‬ ‫‪ n‬السرية الحلبية ‪ -‬إنسان العيون يف سرية األمني املأمون‪ ،‬لعيل بن إبراهيم بن أحمد الحلبي‪ ،‬دار الكتب العلمية – بريوت‪ ،‬الطبعة الثانية ‪ 1427 -‬هـ‪،‬‬ ‫باب وفاة عبد املطلب وكفالة عمه أيب طالب له ﷺ‪ ،‬الجزء (‪ ،)1‬الصفحة (‪.)169‬‬

‫(‪ .)8‬ما حفظ الله به محمد صغره‪:‬‬

‫‪« l‬ومن ذلك ما جاء عن عيل ريض الله عنه قال‪ :‬سمعت رسول الله ﷺ‪ :‬يقول ما هممت بقبيح مام ه ّم به أهل الجاهلية‪ ،‬أي ويفعلونه‪ ،‬إال مرتني‬ ‫من الدهر‪ ،‬كلتاهام عصمني الله عز وجل منهام‪ ،‬أي من فعلهام‪ ،‬قلت لفتى كان معي من قريش بأعىل مكة يف غنم ألهله يرعاها‪ ،‬أي ويف لفظ قلت ليلة‬ ‫لبعض فتيان مكة ونحن يف رعاية غنم أهلها‪ ،‬أبرص يل غنمي حتى أسمر هذه الليلة مبكة كام يسمر الفتيان قال نعم‪ ،‬فخرجت‪ ،‬فلام جئت أدىن دار من‬ ‫دور مكة سمعت غناء وصوت دفوف ومزامري‪ ،‬فقلت‪ :‬ما هذا؟ فقالوا‪ :‬فالن قد تزوج بفالنة‪ ،‬لرجل من قريش تزوج من امرأة من قريش‪ ،‬فلهوت بذلك‬ ‫الصوت حتى غلبتني عيناي فنمت‪ ،‬فام أيقظني إال مس الشمس‪ ،‬أي ويف لفظ فجلست أنظر‪ -‬أي أسمع‪ -‬ورضب الله عىل أذين‪ ،‬فو الله ما أيقظني إال حر‬ ‫الشمس‪ ،‬فرجعت إىل صاحبي‪ ،‬فقال‪ :‬ما فعلت؟ فأخربته‪ ،‬ثم فعلت الليلة األخرى مثل ذلك»‪.‬‬ ‫‪ n‬السرية الحلبية ‪ -‬إنسان العيون يف سرية األمني املأمون‪ ،‬لعيل بن إبراهيم بن أحمد الحلبي‪ ،‬دار الكتب العلمية – بريوت‪ ،‬الطبعة الثانية ‪ 1427 -‬هـ‪،‬‬ ‫باب ما حفظه الله تعاىل به يف صغره ﷺ من أمر الجاهلية‪ ،‬الجزء (‪ ،)1‬الصفحة (‪.)178-179‬‬

‫(‪ .)9‬مراقبة املالئكة لسلوك محمد ومنعه من التعري‪:‬‬

‫‪« l‬فمن ذلك ما ذكر ابن إسحق أن رسول الله ﷺ قال‪ :‬لقد رأيتني‪ .‬أي رأيت نفيس‪ -‬يف غلامن من قريش ننقل الحجارة لبعض ما يلعب به الغلامن‪،‬‬ ‫كلنا قد تع ّرى وأخذ إزاره وجعله عىل رقبته يحمل عليها الحجارة‪ ،‬فإين ألقبل معهم كذلك وأدبر‪ ،‬إذ لكمني الكم‪ :‬أي من املالئكة ما أراها لكمة وجيعة‪،‬‬ ‫يل من بني أصحايب»‪.‬‬ ‫يل‪ ،‬ثم جعلت أحمل الحجارة عىل رقبتي وإزاري ع ّ‬ ‫ويف لفظ لكمني لكمة شديدة‪ ...‬ثم قال ش ّد عليك إزارك‪ ،‬فأخذته فشددته ع ّ‬ ‫‪ n‬السرية الحلبية ‪ -‬إنسان العيون يف سرية األمني املأمون‪ ،‬لعيل بن إبراهيم بن أحمد الحلبي‪ ،‬دار الكتب العلمية – بريوت‪ ،‬الطبعة الثانية ‪ 1427 -‬هـ‪،‬‬ ‫باب ما حفظه الله تعاىل به يف صغره ﷺ من أمر الجاهلية‪ ،‬الجزء (‪ ،)1‬الصفحة (‪.)178‬‬

‫(‪ .)10‬رعية محمد للغنم أكسبته صفات الحلم والرحمة والعدالة‪:‬‬

‫‪« l‬عن أيب هريرة ريض الله تعاىل عنه قال‪ :‬قال رسول الله ﷺ‪ :‬ما بعث الله نبيا إال رعى الغنم‪ ،‬قال له أصحابه‪ :‬وأنت يا رسول الله؟ قال‪ :‬وأنا رعيتها‬ ‫ألهل مكة بالقراريط‪ ...‬ومن حكمة الله عز وجل يف ذلك أن الرجل إذا اسرتعى الغنم التي هي أضعف البهائم سكن قلبه الرأفة واللطف تعطفا‪ ،‬فإذا‬ ‫انتقل من ذلك إىل رعاية الخلق كان قد هذب أوال من الحدة الطبيعية والظلم الغريزي‪ ،‬فيكون يف أعدل األحوال»‪.‬‬ ‫‪ n‬السرية الحلبية ‪ -‬إنسان العيون يف سرية األمني املأمون‪ ،‬لعيل بن إبراهيم بن أحمد الحلبي‪ ،‬دار الكتب العلمية – بريوت‪ ،‬الطبعة الثانية ‪ 1427 -‬هـ‪،‬‬ ‫باب رعيته الغنم‪ ،‬الجزء (‪ ،)1‬الصفحة (‪.)183-184‬‬

‫‪60‬‬


‫رواية‬ ‫سقوط اإلله‬

‫‪Noha Selem‬‬

‫أنهيـت هـذه الروايـة القصيـرة‬ ‫العـام الماضـي‪ ،‬وكنـت قـد‬ ‫نشرتها في صفحتي على‬ ‫الفيسـبوك وبعـض المجموعات‬ ‫المتفاعلـة معها‪.‬‬ ‫ً‬ ‫أحداثـا لـم يسـبق‬ ‫خضـت فيهـا‬ ‫ألحـد مـن العالميـن أن خاضهـا‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫ٌ‬ ‫أحـداث غ ّيـرت تاريـخ البشـرية‬ ‫لألبـد‪.‬‬ ‫أترككـم مـع روايتـي األولـى‬ ‫«سـقوط اإللـه»‬

‫‪61‬‬


‫سقوط اإلله‬ ‫‪Noha Selem‬‬

‫الفصل األول‪« :‬الصدمة»‬ ‫ٍ‬ ‫ضحكات ماجن ٍة يف الغرفة املجاورة …‬ ‫عميق عىل صوت‬ ‫نوم‬ ‫ٍ‬ ‫استيقظت بعد ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫آه‪ ،‬أحس بثقلٍ‬ ‫عيني بصعوبة …‬ ‫شديد يف رأيس‪ ،‬يبدو أنني ِنت كث ًريا البارحة‪...‬تساءلت متثائب ًة وأنا أكاد أفتح ّ‬ ‫ما هذا؟! تساءلت مندهش ًة وعيناي تحدقّان يف السقف يف ذهول‪ ،‬ثم بدأت أهز رأيس وأنظر مر ًة أخرى يف اندهاش!‬ ‫هذا مستحيل‪ ،‬ونزعت الغطاء الحريري عني وأخذت أنظر يف ذهو ٍل لباقي أنحاء الغرفة‪.‬‬ ‫يل من الوقت وأنا نامئة‪ ،‬ومن أحرضين إىل هنا؟‬ ‫ما هذه الغرفة؟ وكم مىض ع ّ‬ ‫تعجب وأنا ال أستطيع فهم أي يش ٍء مام يحدث‪ ،‬ونهضت من رسيري الناعم ببط ٍء وحذر‪ ،‬وأخذت‬ ‫أخذت أتساءل يف‬ ‫ٍ‬ ‫أتجول حافي ًة يف أرجاء الغرفة وأنا أح ّدق باألرض يف ذهول‪.‬‬ ‫نعم إنه ذهب‪ ،‬لست أتخيل ‪...‬‬ ‫بقدمي أرضية الغرفة الباردة‪.‬‬ ‫قلتها وأنا أتحسس‬ ‫ّ‬ ‫هذا غري ممكن‪ ،‬استيقظي يا نهى …‬ ‫كل يش ٍء يف هذه الغرفة من الذهب الخالص‪ ،‬األثاث‬ ‫والسقف واألرضيات والجدران‪ ،‬تتخللها زين ٌة بأحجا ٍر‬ ‫مثيل من قبل …‬ ‫براق ٍة مل أ َر لها ً‬ ‫يل ثرو ٌة من السامء فجأ ًة وأنا ال أدري‪،‬‬ ‫هل هبطت ع ّ‬ ‫أم أنهم اكتشفوا أنني حفيدة أحد السالطني بني ليل ٍة‬ ‫وضحاها؟‬ ‫وجدت نفيس فجأ ًة أمام املرآة التي تتوسط الغرفة‬ ‫وكانت الصاعقة الثانية‪:‬‬ ‫من هذه؟!!‬ ‫هذه ليست أنا!!‬ ‫‪62‬‬


‫سقوط اإلله‬ ‫‪Noha Selem‬‬ ‫صحيح أنها تبدو فتا ًة رائعة الجامل‪ ،‬لكنها‬ ‫من هذه الفتاة التي أنظر إليها يف املرآة‪ ،‬ال مالمحها وال برشتها تشبهني!‬ ‫ٌ‬ ‫ليست أنا‪ ،‬فأنا بالتأكيد أجمل أو هكذا أحسست دامئًا‪.‬‬ ‫أين شعري األسود الجميل‪ ،‬أين برشيت الخمرية التي طاملا حسدتني عليها صديقايت وقريبايت؟ أين مالمحي املرصية‬ ‫عيني حبيبي …؟‬ ‫التي عشقتها يف نظرة ّ‬ ‫َمن هذا التمثال الخايل من الروح الذي أقف أمامه؟!!‬ ‫ٍ‬ ‫بانقباض‬ ‫ثم ترددت إىل مسامعي أصوات الضحكات املاجنة مر ًة أخرى وأحسست‬ ‫ٍ‬ ‫غريب كأنني ُولِدت به منذ زمنٍ‬ ‫بعيد…‬ ‫مشيت بحذ ٍر يف الردهة الطويلة أتتبع مصدر الصوت‪ ،‬وكلام مشيت واقرتبت من مصدر الصوت صار أوضح‪،‬‬ ‫حتى وصلت إىل غرف ٍة بابها موارب‪ ،‬ورائحة الدخان والخمور تنبعث بقو ٍة تزكم األنفاس‪ .‬ففتحت الباب ألتسمر يف‬ ‫مكاين من الصدمة!‬ ‫رجل عاريًا محاطًا بعرش ٍ‬ ‫ات من الفتيات‪ ،‬وأخرياتٌ يرقصن يف‬ ‫يدي عىل وجهي فجأ ًة من الخجل والذهول‪ .‬كان ً‬ ‫وضعت ّ‬ ‫ٍ‬ ‫اندهاش وهو يرى عالمات التعجب عىل وجهي…‬ ‫ميوع ٍة وابتذا ٍل وال يعريهن أح ٌد انتبا ًها‪ .‬ح ّدق ّيف الرجل يف‬ ‫ما بك حبيبتي‪ ،‬ملا تبدين متفاجئ ًة اليوم‪ ،‬تعايل جانبي فأنا أفتقدك منذ عدة أيام…‬ ‫ما هذا‪ ،‬وملاذا يخاطبني هذا الرجل بحبيبتي؟!‬ ‫مل أشعر بنفيس إال وأنا أركض خارج هذا املكان القميء‪...‬‬ ‫مهيب ٍ‬ ‫محاط بهال ٍة‬ ‫باب‬ ‫ٍ‬ ‫ال أعرف كم ركضت وإىل إين أركض‪ ،‬فهذا القرص ال تبدو له نهاية‪ .‬وأخ ًريا وجدت نفيس أمام ٍ‬ ‫كبري ٍة من النور‪ ،‬وأحسست عندها بالخوف‪ .‬هل أفتح هذا الباب؟ وما هذا النور املنبعث من خلفه؟‬ ‫طويل‪ ،‬فام إن اقرتبت من الباب حتى وجدته يفتح وحده‪ .‬تس ّمرت مر ًة أخرى يف ذهول! فعىل‬ ‫مل تستمر تساؤاليت ً‬ ‫ُ‬ ‫مثيل يف جاملها‬ ‫جداول من املاء العذب وترفرف يف سامئها طيو ٌر مل أ َر لها ً‬ ‫تتوسطها‬ ‫مرمى البرص رأيت حدائق وزهو ًرا ّ‬ ‫‪63‬‬


‫سقوط اإلله‬ ‫‪Noha Selem‬‬ ‫وزهوها‪ .‬مشيت ببط ٍء خارج الباب مسحور ًة باملنظر الخالب‪ ،‬واملوسيقى العذبة التي تأرس اللب والروح‪ .‬لكن ما إن‬ ‫قليل عن القرص حتى بدأت تزعجني أصواتٌ مشابه ٌة للتي سمعتها يف الغرفة املجاورة‪ ،‬فالقصور مرتامي ٌة هنا‬ ‫ابتعدت ً‬ ‫وهناك‪ ،‬والهدوء الذي يخ ّيم عىل املكان يساعد يف سامع هذه األصوات‪.‬‬ ‫شمس هنا وال يش ٌء يدل عىل الوقت‪.‬‬ ‫يل وأنا عىل هذه الحالة‪ ،‬فال ٌ‬ ‫ال أعرف كم مشيت وال كم من الوقت قد مىض ع ّ‬ ‫فقط نو ٌر ساط ٌع ال أعرف له مصد ًرا…‬ ‫وكلام مشيت أكرث يتملكني شعو ٌر بالوحشة من هذا املكان‪ ،‬وكأين أعرفه وأمقته منذ األزل‪ .‬روي ًدا روي ًدا بدأت تعود‬ ‫إ ّيل ذاكريت وبدأت أتذكر من أنا وملاذا أنا هنا …‬ ‫آ ٍه‪ ...‬ها أنا أتذكر أن الرجل يف الغرفة املجاورة هو زوجي أبو عبيدة‪ ،‬وهو أحد املجاهدين الذين فجروا أنفسهم يف‬ ‫سوقٍ ميل ٍء بالكفرة والزنادقة‪ .‬وأنا هنا يف الجنة‪ ،‬إنها حقيق ٌة كام حاول املسلمون يائسني أن يقنعونا بها‪.‬‬ ‫لكن كيف‪ ،‬ألست ملحدةً‪ ،‬أمل أنكر وجود الحساب من قبل؟‬ ‫كيف أنا هنا وملاذا أنا هنا …؟‬ ‫هل ستسعفني الذاكرة؟‬

‫الفصل الثاين‪ :‬املوت والبعث‬ ‫واصلت السري بجانب نهر الخمر‪ ،‬وبدأت أتذكر األحداث التي مررت بها‪.‬‬ ‫أنا نهى‪ ،‬األمرية الحاملة التي طاملا هاجمت األديان وانتقدتها بقسو ٍة وأنا هاهنا يف الجنة التي وعد بها الله املتّقني‪.‬‬ ‫إنها‪ ،‬صدقًا‪ ،‬كام قال سبحانه! ونحن اآلن يف العام الرتيليون وخمس مئة مليونٍ حسب مقياس الدنيا‪.‬‬ ‫وقت هنا‪ ،‬لكني عرفت الوقت من ساع ٍة أرضي ٍة أهداين إياها املالك الخاص بتلبية رغبايت عندما‬ ‫ويف الحقيقة ال يوجد ٌ‬ ‫طلبتها منه‪ .‬فهو أهداين إياها خلس ًة بعد أن وقع يف غرامي‪ ،‬فمعرفة الوقت يش ٌء غري مسمو ٍح به هنا‪ ،‬بل إن معرفة‬ ‫أي يش ٍء هو من كربى املح ّرمات يف الجنة …‬ ‫لكن يبدو أنني ال زلت أحتفظ ببعض الجينات الشيطانية بعد كل هذه السنني‪ .‬ولكن كيف أتيت إىل هنا ولست مع‬ ‫أصدقايئ الكفار يف النار؟ إنها رحمة الله سبحانه وتعاىل!‬ ‫‪64‬‬


‫سقوط اإلله‬ ‫‪Noha Selem‬‬ ‫الزلت أتذكر تلك اللحظات وكأنها مرت باألمس‪ ،‬فبعد أن عشت حيا ًة صاخب ًة مليئ ًة باإلثارة والتحديات‪ ،‬جاءتني‬ ‫يل حتى يئست من حيايت‪.‬‬ ‫لحظاتٌ سوداوي ٌة أُصبت فيها باالكتئاب نتيجة بعض املشاكل التي واجهتها وتكالبت ع ّ‬ ‫يومها التقيت بصديقتي املحجبة وتكلمت معي كث ًريا عن عظمة اإلسالم وكيف أنه راح ٌة للنفوس وأنني سأجد فيه‬ ‫السالم الروحي و…‬ ‫لعل كنت مخدر ًة أو يائس ًة‪ ،‬ولرمبا يش ٌء ما تالعب بتفكريي‪.‬‬ ‫ال أعرف كيف أقنعتي لحظتها أن أنطق الشهادتني‪ّ ،‬‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫بخوف عميق‪ ،‬وما هي إال لحظاتٌ حتى وجدت‬ ‫بلحظات وإذا بزلزا ٍل كبريٍ يرضب مدينتنا‪ ،‬وشعرت لحظتها‬ ‫بعدها‬ ‫روحي خارج جسمي‪ ،‬وبدأت أشاهد آالف األرواح األخرى تخرج من أجساد أصحابها هامئ ًة مذعور ًة مرتبك ًة‪ ،‬وحولها‬ ‫أيضا ٌ‬ ‫ألوف مؤلف ٌة من الكائنات النورانية التي تتخبط يف كل اتجاه …‬ ‫ً‬ ‫ورغم رعب املشهد‪ ،‬إال أنني كنت أشعر بسكين ٍة وراح ٍة غريبة‪ .‬هل عقيل الباطن يتجاهل مخاوفه فريسل إىل عقيل‬ ‫إشار ٍ‬ ‫ات مغايرة‪ ،‬أم أن مشاعري وتفكريي اختلفت يف اللحظة التي فارقت فيها روحي جسدي؟‬ ‫لست أدري!‬ ‫أبيض واآلخر أسود‪ ،‬وتذكرت عندها قصة ناك ٍر ونكريٍ‬ ‫ثم فجأ ًة وجدت نفيس محاط ًة مبلكني مبالمح مختلفة‪ ،‬أحدهام ٌ‬ ‫التي طاملا سخرت منها…‬ ‫طويل‪ ،‬فقد قاطعني امللكان‪:‬‬ ‫ومل يطل اندهايش ً‬ ‫نهى‪ ،‬هل تريننا؟‬ ‫أهال ناكر ونكري‪ ،‬رددت مبتسم ًة‪.‬‬ ‫نظر امللكان نحوي بتعجب!‬ ‫كيف ال زلت تدركني ما حولك وملاذا لست مذعورةً؟ ألست ميت ًة اآلن؟‬ ‫ٍ‬ ‫بصوت عا ٍل حتى اهتزت السامء من صوت قهقهتي واختبأ امللكان مذعورين مام حدث‪.‬‬ ‫فضحكت‬ ‫‪65‬‬


‫سقوط اإلله‬ ‫‪Noha Selem‬‬ ‫ما هذا‪ ،‬كيف فعلتي هذا‪ ،‬أننا مل ن َر مثل هذا من قبل رغم أننا يف هذا العمل منذ آالف السنني؟‬ ‫يبدو أنني من يستجوبكام اليوم!‬ ‫قلتها وأنا ال زلت أضحك يف مرح…‬ ‫بتعجب كأنهام مل يفهام شيئًا مام قلت‪ ،‬ثم خ ّيم السكون لبضع دقائق‪ ،‬حتى قررت أن‬ ‫واصل امللكان النظر صويب‬ ‫ٍ‬ ‫أقاطعه متسائل ًة‪:‬‬ ‫حسنا‪ ،‬سأبدأ أنا باألسئلة‪:‬‬ ‫أال تالحظان أنكام أخطأمتا وأن هناك مالكًا مفقو ًدا‪ ،‬املفروض إما أن تكونا ملكني أبيضني أو أسودين‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫اندهاش ومل ينطقا بيشء‪ ،‬لك ّنهام ف ّرا هاربني إىل السامء‪.‬‬ ‫نظر امللكان إىل بعضهام البعض ثم نظرا إ ّيل يف‬ ‫وبعد دخويل الجنة‪ .‬فهمت القصة‪.‬‬ ‫فهذه القصة هي من اختالق اتباع محمد‪ ،‬عندما أرادوا أن يُضيفوا بعض البهارات عىل الديانة املـحمـدية حتى‬ ‫خصوصا‬ ‫يعطونها بُع ًدا حضاريًا يف مواجهة الحضارات املتقدمة التي أغاروا عليها خالل الغزوات الرببرية اإلسالمية‪،‬‬ ‫ً‬ ‫عندما رأوا املقابر واملعابد واألهرامات التي تحرتم وتقدس املوىت يف تلك الحضارات‪ .‬لكن نتيجة ضحالة وسطحية‬ ‫الحضارة البدوية‪ ،‬فقد وقعوا يف عدة أخطا ٍء غبي ٍة ناقضت ما رسدوه سابقًا يف كتابهم املقدس املسمى بالقرآن‪.‬‬ ‫فاإلنسان قد يشاهد مالئك ًة بعد املوت‪ ،‬لكن ال لتختربه يف يش ٍء ُس ِّجلت نتيجته مسبقًا عن طريق مالئكة املراقبة أو‬ ‫لتخربه مبقعده من الجنة والنار‪ ،‬بينام املحاكمة اإللهية مل ت ُعقَد بعد‪ ،‬لكن فقط هي مالئكة املراقبة التي كانت تعيش‬ ‫عىل كتفيه‪ ،‬وقد تحررت بعد وفاته لتعود إىل مكانها يف السامء يف انتظار مهم ٍة أخرى …‬ ‫ٍ‬ ‫ساعات حتى رأيت األرض‬ ‫مختلف كل ًيا عن وقت األرض‪ ،‬فام هي إال بضع‬ ‫ومرت األحداث بعدها رسي ًعا‪ ،‬فالوقت هنا‬ ‫ٌ‬ ‫والسامء تنهار‪ ،‬وبدأت أحداث القيامة التي طاملا توعدتنا بها األديان الساموية‪ .‬لكن ما هذا الغباء الذي مل نفكر به‬ ‫يوم ٍ‬ ‫واحد هنا‪ ،‬أمل يقل الله أن يو ًما عند ربك بخمسني ألفًا مام تع ّدون؟‬ ‫من قبل‪ ،‬فيوم القيامة كله ال يزيد عن ٍ‬ ‫نعم ونحن يف األرض كنا نظنه شيئًا مهولً ‪ ،‬لكننا بعد املوت نخضع ملقاييس السامء‪ ،‬والخمسون ألف سن ٍة ما هي إال‬ ‫ساموي بسيط‪.‬‬ ‫يو ٌم‬ ‫ٌّ‬ ‫‪66‬‬


‫سقوط اإلله‬ ‫‪Noha Selem‬‬ ‫كفيل بأن يجنبه‬ ‫حقيق ًة ال أفهم ملاذا مل يسترش الله بعض امللحدين قبل أن يرسل كتابه امليلء باألخطاء‪ ،‬فقد كان هذا ٌ‬ ‫الكثري من اإلشكاالت واإلحراج الذي عاىن منه أتباعه الحقًا عند مناظرة امللحدين‪.‬‬ ‫وأخ ًريا جاءت لحظة الحقيقة‪ ،‬وحان وقت الحساب!‬

‫الفصل الثالث‪ :‬الحساب ودخول الجنة‬ ‫وبدأنا نقف يف طابو ٍر طويلٍ ال نهاية له‪ ،‬فمليارات البرش يجب أن ت ُع َرض عىل املحاكمة اإللهية يف حرضة الله شخص ًيا‪.‬‬ ‫ساموي واحد‪.‬‬ ‫يوم‬ ‫ويبدو أنه يش ٌء مل يحسب الله حسابه جي ًدا‪ ،‬فهو ال ميكنه االنتهاء من كل هذا العدد يف ٍ‬ ‫ٍّ‬ ‫وأَمام تصاعد احتجاج البرش‪ ،‬اضطر الله أن يستخدم قواه اإللهية يف تعديل إحساس البرش بالوقت مر ًة أخرى‪ ،‬مع‬ ‫نزع الشعور بالتعب وامللل منهم‪ ،‬قام بتعديل طول يوم القيامة ليكون عدة ماليني من السنني األرضية … وبعد طول‬ ‫انتظار‪ ،‬جاء دوري يف املحاكمة اإللهية‪ ،‬وقال يل املالك الحاجب‪ ،‬انتظري هنا‪ ،‬سأستأذن الله ألُدخلك‪.‬‬ ‫قليل من الباب ألتنصت عىل املحادثة…‬ ‫وما أن دخل إىل منطقة العرش‪ ،‬حتى اقرتبت ً‬ ‫سبحانك ريب رب العرش العظيم‪ ،‬إن نهى سليم الشهرية باألمرية الحاملة تنتظر عىل الباب يف انتظار عطف جاللتك‬ ‫مرتعش من الخوف أمام الحرضة اإللهية‪:‬‬ ‫ٌ‬ ‫إلدخالها إىل املحاكمة‪ ،‬قالها املالك الحاجب وصوته‬ ‫من‪ ،‬نهى … ال ال ال‬ ‫ٍ‬ ‫بصوت مذعور‪.‬‬ ‫قالها الله‬ ‫بدل من أن أحاكمها‪.‬‬ ‫طويل وستتعبني وستعقد يل محاكم ًة ً‬ ‫هذه الفتاة لسانها ٌ‬ ‫لقد غششت يف مصريها وعطلت عقلها يف آخر أيامها حتى أُدخلها اإلسالم وأخلص من مجادلتها التي تسبب يل‬ ‫صدا ًعا‪.‬‬ ‫خذ هذه القالدة فهي ستسمح لكم بتجاوز كل نقاط التفتيش‪ ،‬وانطلق بها مبارش ًة إىل الجنة ِ‬ ‫وأدخل اإلنسان الذي‬ ‫تنس أن تتوقف بها عند حوض الشفاعة الذي يقف عليه محم ٌد وناولها رشبة املاء من هناك‪ ،‬فمـحم ٌد‬ ‫يليها‪ ،‬لكن ال َ‬ ‫لن يرىض بوجود عض ٍو يف الجنة مل يرشب من مرشوبه الخاص‪ ،‬حتى تنىس كل ماضيها ونتخلص من صداعها يف الجنة‬ ‫وترىض أن تتزوج بأحد اتباع محمد …‬ ‫‪67‬‬


‫سقوط اإلله‬ ‫‪Noha Selem‬‬ ‫نعيم ورسور …‬ ‫وخرج إ ّيل املالك ً‬ ‫متهلل يبرشين مبا ينتظرين من ٍ‬ ‫وأخذين عىل ٍ‬ ‫بساط سحري‪ ،‬انطلق بنا بأقىص رسع ٍة ساموي ٍة إىل الجنة‪ ،‬لكن يف منتصف الطريق توقف املالك وقال يل‬ ‫إنزيل هنا‪.‬‬ ‫ملاذا؟ تساءلت مستنكرةً‪.‬‬ ‫هذا هو الرصاط املستقيم‪ ،‬يجب أن تعربيه بنفسك‪ ،‬وسأنتظرك أنا يف الجهة املقابلة‪.‬‬ ‫ألقيت نظر ًة خاطف ًة فإذا ٍ‬ ‫بخيط رفيعٍ يفصل بني واديني‪ ،‬املسافة بينها كأنها املسافة بني أول الدنيا وآخرها‪ ،‬وتحتها‬ ‫ٍ‬ ‫رصخات تكاد تنتزع األرواح من أعامقها وتذهب باألفئدة‬ ‫حم ٌم بركاني ٌة شديدة االحمرار‪ ،‬تستعر وتتلظى فتطلق‬ ‫مس وجنون‪.‬‬ ‫فتهذي يف ٍّ‬ ‫رشا يحاولون عبور هذا الجحيم يف ٍ‬ ‫مس أو جنون‪ ،‬ومنهم من‬ ‫يأس وذهول‪ ،‬فمنهم من يرقص كمن أصابه ٌ‬ ‫ورأيت ب ً‬ ‫يرصخ متوج ًعا من أ ٍمل حده املسنون‪ ،‬وأغلبهم يتساقطون بال ٍ‬ ‫منجد وال معني‪ ،‬فتخطفهم ألسنة النريان كأف ًعى أرجواني ٍة‬ ‫نهم ورشاسة‪ ،‬فال يعود لهم أث ٌر بعد عني‪...‬‬ ‫تخطف فريستها يف ٍ‬ ‫ال لن أعرب‪ ،‬مستحيل‪ ،‬هل تظنني مجنون ًة ألعرب هذا الجحيم‪ ،‬أعدين مرة أخرى إىل الله ودعه يقابلني هذه املرة‪ ،‬هذا‬ ‫ليس عدلً وأنا مل أحرض محاكمتي مثل بقية البرش…‬ ‫ٍ‬ ‫ممتعض من رفيض‪.‬‬ ‫بكلامت غري مفهومة‪ ،‬لكني فهمت من تعابري وجهه أنه‬ ‫همهم املالك‬ ‫ٌ‬ ‫أتوسل إليك‪ ،‬اعربي الرصاط وحدك‪ ،‬ستس ّببني يل مشاكل كثري ٍة إن ُعدت بك مر ًة أخرى‪.‬‬ ‫لن يحدث‪ .‬أجبته بإرصار‪.‬‬ ‫سأعرب بجانبك‪ ،‬وإن سقطت سألتقطك ألعيدك إىل الرصاط مر ًة أخرى …‬ ‫أجابني ووجهه ميل ٌء بتعابري التوسل والرجاء‪.‬‬ ‫‪68‬‬


‫سقوط اإلله‬ ‫‪Noha Selem‬‬ ‫أب ًدا‪ ،‬لن يحدث أب ًدا‪.‬‬ ‫أجبته وقد بدت عالمات الغضب عىل وجهي وأنا أكرث إرصا ًرا من ذي قبل‪.‬‬ ‫اتصال بالخط اإللهي املبارش‪.‬‬ ‫وعندما يئس مني‪ ،‬أخرج املالك من جناحه هاتفه الساموي وأجرى ً‬ ‫متسائل‪.‬‬ ‫ً‬ ‫ملاذا تتصل يب عىل خط الطوارئ‪ ،‬ماذا حدث … قال الله‬ ‫جاللتك‪ ،‬إن نهى ترفض عبور الرصاط املستقيم…‬ ‫غبي أم أنك ال تصلح ليش ٍء إطالقًا‪،‬‬ ‫ومل يكمل املسكني جملته‪ ،‬حتى أتاه صوت الله غاض ًبا من خالل الهاتف‪ :‬هل أنت ٌ‬ ‫قلت لك اذهب بها إىل الجنة مبارش ًة ونفّذ ما قلته لك‪ ،‬هي لديها استثنا ٌء من كل اإلجراءات املعتادة‪،‬‬ ‫وأغلق الخط دون أن يعطي للمالك املسكني أي‬ ‫وسلِّم نفسك بعدها إىل كبري املالئكة حتى تنال جزاءك أيها الغبي‪،‬‬ ‫َ‬ ‫فرص ٍة للدفاع عن نفسه‪.‬‬ ‫عميق بالذنب تجاه هذا املسكني وما فعلته به‪ ،‬فارمتيت عليه وأخذته يف حضني وأنا أمسح‬ ‫انتابني عندها شعو ٌر ٌ‬ ‫الدموع عن عينيه‪ ،‬ال عليك‪ ،‬تعال ِ‬ ‫واقض معي الوقت يف الجنة‪ ،‬لن أدعه يسلمك لكبري املالئكة‪.‬‬ ‫خائف مذعو ٌر وقال‪:‬‬ ‫نظر إ ّيل املالك املسكني وهو ٌ‬ ‫ولكني ال أستطيع مخالفة أوامر جاللته‪.‬‬ ‫خائف من مقابلتي‪ ...‬دعك منه وتعال معي‪ .‬معنا القالدة السحرية ولن نحتاجه يف يشء …‬ ‫ال تهتم له‪ ،‬أمل ت َر أنه ٌ‬ ‫حقًا لن تكون هناك مشكلة؟!! قالها املالك وهو يرمقني بنظر ٍة بائسة‪ ،‬نظر ٌة فيها كل معاين الخوف واليأس‪ ،‬والحب‬ ‫والعشق‪ ،‬كمن هوى يف برئٍ‬ ‫سحيق ال يعرف له قرا ًرا‪ ،‬فظن أنه ٌ‬ ‫هالك ال محالة‪ ،‬وأغلق عينيه ينتظر النهاية‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫فإذا ٍ‬ ‫بيد حاني ٍة تظهر كنو ٍر يف بحر الظلامت‪ ،‬فيتثَ َّب ُت بها بكل ما بقي يف روحه من أَملٍ وشوقٍ إىل الحياة‪.‬‬ ‫وانطلقنا م ًعا عىل البساط السحري إىل الجنة‪ ،‬وكانت رحل ًة طويل ًة لكنها ممتعة‪ ،‬أنسيته فيها أين نحن وماذا حدث‪،‬‬ ‫رقصنا وغنينا وتسامرنا كام لو كنا نعرف بعضنا منذ دهر‪ .‬ثم وصلنا إىل أبواب الجنة‪ ،‬ألجدها تفتح أمامي مبارش ًة‬ ‫بدون أي سؤال …‬ ‫‪69‬‬


‫سقوط اإلله‬ ‫‪Noha Selem‬‬ ‫مهم‪.‬‬ ‫وما إن وصلنا إىل القرص الخاص يب‪ ،‬حتى وجدت املالك يتس ّمر يف مكانه‪ .‬يبدو أنني نسيت شيئًا ً‬ ‫هل ميكننا أن نعود إىل مدخل الجنة؟‬ ‫ال‪ ،‬لن أبرح مكاين … َمن املجنون الذي يستطيع أن يغادر هذا املكان؟!!‬ ‫قلتها وأنا مسحور ٌة من روعة املكان‪ ،‬فقد كان شيئًا يفوق الخيال‪ ،‬بل إن الخيال نفسه ليقف عاج ًزا مشدو ًها أمام هذا‬ ‫الخلق‪.‬‬ ‫اإلبداع ّ‬ ‫فعل صدق سبحانه عندما قال‪ :‬ما ال ع ٌني رأت وال أذ ٌن سمعت وال خطر عىل قلب برش …‬ ‫ً‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫محمد ويعود‬ ‫للحظات ليرسق كوب ما ٍء من حوض شفاعة‬ ‫ويبدو أن املالك أدرك خطأه عند هذه اللحظة‪ ،‬فاختفى‬ ‫إ ّيل‪:‬‬ ‫ارشيب هذه … هذه هدية دخولك الجنة …‬ ‫أرضا‪ ،‬ومل أشعر بيش ٍء‬ ‫وألين مل أكن مدرك ًة بع ُد ملا يحدث‪ ،‬فقد رشبت الكوب كله دفع ًة واحد ًة ليسقط بعدها الكوب ً‬ ‫بعد هذا…‪.‬‬

‫يتبع ‪...‬‬ ‫‪70‬‬


‫‪James Joyce‬‬

‫نحن ال نقدس الحجارة يف شعائرنا يا كفار‪ ...‬بل نحن‬ ‫نتقرب بها من الله زلفا‬

‫‪Jamil M. Abdallah‬‬

‫ـ‬

‫«أترى الرأي لغريك وال تراه لنفسك» ‪ -‬من كتاب كليلة ودمنة‬

‫‪Hichem Ben Chaabene‬‬

‫عجبتهم طقوس الحجارة من الوثنية الجاهلية فنقلوها إىل‬ ‫االسالم لكن غريوا فيها شوية ليك ال يكون نقل حريف‪.‬‬ ‫واآلن هل تعرف الحجارة التي بال عقل ؟‬

‫‪71‬‬

‫‪Muhsin Mesan‬‬


‫مجلة شهرية بجهود فردية تصدر في الثاني عشر من كل شهر‬

The Arab Atheists Magazine is a digital publication The Arab AtheistsbyMagazine is aand digital publication produced produced volunteers committed to promoting by volunteers andand committed thought and the thought writings to of promoting atheists of the various persuawritings of complete atheists offreedom. various persuasions withdoes complete freesions with The Magazine not adopt dom. The or Magazine or endorse any form of politiendorsedoes any not formadopt of political ideology or affiliation cal ideology or affiliation Contributors bear the full responsibility of the content, illustraContributors bear the fullprovide responsibility content, illustrations tions and topics they insofarofasthe it covers copyright and and topics they provide insofar as itissues coversofcopyright andproperty issues of intellectual intellectual property Express permission for to publish in the Magazine is provided Express permission for to publish Magazineofisthe provided by conby contributors, whether theyinarethemembers Arab Atheists tributors, are atheists membersand of the Arab Atheists Magazine Magazinewhether Group ofthey other non-religious contributors Group of other atheists and non-religious contributors The Magazine does not publish material that is unethical or that The Magazine does not publish material that is unethical or bigotry that inincites racism or cites racism or bigotry The Editorial Board reserves the right to republish content The Editorial Boardpublished reserves the to republishFacebook content originally originally on right the Magazine’s group, as published onthere the Magazine’s group, asfor publishing there publishing implicitlyFacebook contains consent republication implicitly contains consent for republicationininthe the Magazine Magazine

:‫موقع املدونة اخلاصة بنا لألرشفة على اإلنترنت‬ www.aamagazine.blogspot.com ‫البريد اإللكتروني‬ el7ad.organisation@gmail.com magazine@arabatheistbroadcasting.org


Issuu converts static files into: digital portfolios, online yearbooks, online catalogs, digital photo albums and more. Sign up and create your flipbook.