assuu 489 490 مجلة الفيصل

Page 1

‫العددان ‪ 490 - 489‬شوال ‪ -‬ذو القعدة ‪1438‬هـ يوليو ‪ -‬أغسطس ‪2017‬م‬

‫الصحافة الورقية في زمن متغير‬

‫موت غير معلن‬

‫الصراع الطائفي في إسرائيل‬ ‫علي فخرو‪ :‬البترول فرصة‬

‫الكاتبات اإليرانيات‬

‫قراءة ثقافية لمفهوم‬

‫تاريخية أضاعها الخليجيون‬

‫والعيش في جحيم مفتوح‬

‫الترفيه في السعودية‬

‫‪www.alfaisalmag.com‬‬


‫‪www.kfcris.com‬‬

‫اﻟﺒﺤﻮث واﻟﺪراﺳﺎت‬

‫اﻟﻤﺤﺎﺿﺮات واﻟﻨﺪوات‬

‫‪kfcris@kfcris.com‬‬

‫‪@kfcris_sa‬‬

‫اﻟﻤﻜﺘﺒﺔ‬

‫اﻟﻤﺘﺎﺣﻒ‬

‫‪kfcris_sa‬‬

‫‪KFCRISKSA‬‬

‫اﻟﺘﺪرﻳﺐ‬

‫‪KFCRIS‬‬

‫اﻟﻜﺘﺐ واﻹﺻﺪارات‬

‫ص ب‪ ٥١٠٤٩ :‬اﻟﺮﻳﺎض ‪ ١١٥٤٣‬اﳌﻤﻠﻜﺔ اﻟﻌﺮﺑﻴﺔ اﻟﺴﻌﻮدﻳﺔ ﻫﺎﺗﻒ‪ ٠٠٩٦٦ ١١ ٤٦٥٢٢٥٥ :‬ﻓﺎﻛﺲ‪٠٠٩٦٦ ١١ ٤٦٥٩٩٩٣ :‬‬ ‫‪Fax: 00966 11 4659993‬‬

‫‪Tel: 00966 11 4652255‬‬

‫‪P.O. Box 51049 Riyadh 11543 Kingdom of Saudi Arabia‬‬

‫اﻟﺸﺆون اﻟﺜﻘﺎﻓﻴﺔ‬


‫«‬ ‫ﺗﺠﻮل ﻓﻲ ﻣﻮﻗﻊ »‬ ‫ﻣﻘﺎﻻت ﻟﻨﺨﺒﺔ ﻣﻦ أﻫﻢ اﻟﻜﺘﺎب‬ ‫ﻣﻠﻔﺎت وﺗﺤﻘﻴﻘﺎت وﻗﻀﺎﻳﺎ ﻋﻦ اﻟﺮاﻫﻦ اﻟﺜﻘﺎﻓﻲ واﻟﺴﻴﺎﺳﻲ‬ ‫ﻣﻊ إﻃﻼﻟﺔ ﻋﻠﻰ اﻹﺑﺪاع ﻓﻲ ﻣﺨﺘﻠﻒ اﻟﻔﻨﻮن‬

‫‪@alfaisalmag‬‬ ‫‪alfaisalmag‬‬ ‫‪alfaisalmag‬‬ ‫ﻣﺠﻠﺔ اﻟﻔﻴﺼﻞ‬

‫‪alfaisalmag.com‬‬

‫‪editorial@alfaisalmag.com‬‬

‫‪+966 11 4647851 :¢ùcÉa +966 11 4653027 :∞JÉg ájOƒ©°ùdG á«Hô©dG áµ∏ªŸG 11411 ¢VÉjôdG 3 Ü ¢U‬‬


‫يصدرها‬

‫أسسها عام ‪1397‬هـ‪1977/‬م‬

‫األمير خالد الفيصل‬

‫العددان‬

‫‪490-489‬‬

‫الملف‬

‫كتاب الفيصل ‪17‬‬

‫مستقبل الصحافة الورقية ‪49 18‬‬ ‫محمد الحيزان‬ ‫لتبقى المهنة‪ ..‬تخلصوا من عقلية الورق!‬ ‫عثمان العمير‬ ‫الصحافة الورقية صناعة انتهت‬

‫‪2‬‬

‫بزون‬ ‫أحمد ّ‬ ‫أزمة الصحافة الورقية في لبنان‬ ‫صبحي موسى‬ ‫الصحافة المصرية تواجه «األزمة»‬ ‫بالبحث عن «خلطة» تناسب القراء‬ ‫عدنان فرزات‬ ‫تتحسر على أموال اإلعالنات‪..‬‬ ‫الخليجية‬ ‫الصحافة‬ ‫ّ‬ ‫هدى الغفق ‪ -‬فواز السيحاني‬ ‫الصحافة السعودية‪ :‬من يديرون الصحف كانوا‬ ‫يضعون األموال في جيوبهم‬ ‫جعفر العقيلي‬ ‫حل األزمة يكمن في التكيف مع المستجدات‬ ‫ميلود بن عمار‬ ‫صحافةالمغرب العربي‪..‬‬ ‫نهايات مأساوية‪ ..‬وأفق مسدود‬ ‫لطف الصراري‬ ‫اليمن‪ ..‬عشرات الصحف توقفت‬ ‫تعبر عن وجهة نظر كتَّابها‪ ،‬وال تم ِّثل رأي مجلة الفيصل‪.‬‬ ‫اآلراء المنشورة ّ‬ ‫تكفل المجلة حرية التعليق على موضوعاتها المنشورة شريطة االلتزام بالموضوعية‪.‬‬ ‫تحتفظ المجلة بحقوق ملكيتها للمواد المنشورة فيها‪ ،‬ويتطلب إعادة نشر أي مادة‬ ‫ورقيا الحصول على موافقة المجلة مع اإلشارة إلى المصدر‪.‬‬ ‫إلكترونيا أو‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ترسل المواد إلى بريد المجلة اإللكتروني‪editorial@alfaisalmag.com :‬‬

‫العددان ‪ 490 - 489‬شوال ‪ -‬ذو القعدة ‪1438‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬أغسطس ‪2017‬م‬

‫ردمد‬ ‫‪٠٢٥٨ - ١١٤٠‬‬ ‫رقم اإليداع‬ ‫مكتبة الملك فهد الوطنية ‪14/0542‬‬


‫الناشر‬

‫رئيس مجلس اإلدارة‬

‫األمير تركي الفيصل‬

‫رئيس التحرير‬

‫الثقافية‬

‫دار‬

‫‪editorinchief@alfaisalmag.com‬‬

‫فضاءات‬

‫دراسات‬

‫بيت في الصحراء‪ ..‬بح ًثا عن نقطة األصل‬

‫العربية‬ ‫منعطفات الرواية‬ ‫ّ‬ ‫(يمنى العيد)‬

‫‪58‬‬

‫ي ِّ‬ ‫ُحدد العنوان لمنعطفات الرواية العربيّة‪ ،‬موضوع البحث‪،‬‬ ‫زم ًنا تاريخيًّا يقع بين العاميْن ‪ ١٩٦٧‬و‪٢٠٠٣‬م‪ ،‬أي بيْن هزيمتيْن هما‬ ‫هزيمة الجيش المصري أو ما ُع ِرف بالنكسة‪ ،‬وهزيمة الجيش‬ ‫العراقي أو احتالل العراق‪ ،‬ما يعني أنَّ العنوان يُضمر اإلشارة إلى‬ ‫أثر يتركه الواقع التاريخي في‬ ‫عالق ٍة بين األدب والتاريخ‪ ،‬أو إلى ٍ‬ ‫األدب الذي هو هنا الرواية‪.‬‬

‫‪154‬‬

‫(عالء خالد)‬

‫بدأت تتشكل رحلة عالقتي بواحة سيوة عام ‪1992‬م‪ ،‬عندما لجأت‬ ‫إليها فارًّا من موت أبي ومن مشكالتي النفسية التي أورثتني إياها‬ ‫عالقات المدينة وزحامها الذي يختزل الموت وآثاره‪ ،‬ويضيِّعه في‬ ‫ثنايا العادة والتكرار‪ .‬المدينة التي تختزل أي مسافة‪ ،‬وتضعك‬ ‫في عراك مع حافة جسمك‪ ،‬ومن دون أي براح إضافي‪ ،‬تنتقل‬ ‫فيه أنت وحياتك ومشكالتك وموتك الشخصي إلى مكان جديد‪.‬‬

‫مقال‬

‫تحقيقات‬

‫االستشراق الجديد‪ ..‬جنون هوياتي أم تكريس‬

‫إيمانويل ماكرون‪..‬رئيس لزمن سياسي‬ ‫جديد‬

‫ماجد الحجيالن‬

‫(أحمد المديني)‬

‫‪54‬‬

‫هل كان الرئيس هوالند‪ ،‬وهو يدعو الشاب ماكرون‪ ،‬ليلتحق‬ ‫به أمي ًنا عامًّا مساعدً ا في قصر اإلليزيه‪ ،‬قبل عامين فقط‪،‬‬ ‫وليعينه بعد عام في فرصة اهتزاز وتمرد لجناح من االشتراكيين‬ ‫ليحل محل وزير االقتصاد المتمرد مونتبورغ؛ هل كان هوالند‬ ‫عندئذ يحسب لحظة واحدة أن هذا الشاب الخجول‪ ،‬المتكتم‪،‬‬ ‫إنما المسلح بتكوين جامعي صلب‪ ،‬ويمتلك أسلوب عيش‬ ‫خصوصي‪ ،‬ويعرف كيف يحرق المراكب دون دخان‪ ،‬هو نفسه‬ ‫من سيودعه في نهاية مدته الرئاسية بمدخل قصر الرئيس‪.‬‬

‫‪106‬‬

‫لكراهية العرب؟ (الفيصل خاص)‬

‫كشف الغزو األميركي للعراق عام ‪2001‬م عن الدور البارز الذي‬ ‫لعبه االستشراق الجديد في تشكيل مخيلة الغرب نحو المنطقة‬ ‫العربية‪ ،‬فعبر عدد من مراكز األبحاث وأقسام الجامعات‬ ‫ووسائل اإلعالم صدَّق العالم أن العراق مقبل على إبادة البشرية‪.‬‬ ‫يومها وقف وزير الخارجية األميركي كولن باول يستعرض أمام‬ ‫مجلس األمن علبة صفيح قديمة بوصفها دليلاً على مدى تطور‬ ‫البرنامج النووي العراقي‪ ،‬مطالبًا بتشكيل تحالف دولي النتزاع‬ ‫قوى الشر من مكمنها‪.‬‬

‫‪3‬‬


‫بورتريه‬

‫سينما‬

‫شياطين الثورة الرقميةالكائن اإلنساني المتفرد؟‬

‫‪170‬‬

‫(فجر يعقوب)‬

‫من المؤكد أن عباقرة الفن السابع الكبار يتحسرون على األيام‬ ‫التي مضت حين كانت الكاميرا الثقيلة وحدها سيدة المشهد‪،‬‬ ‫وسيدة الفكرة والصورة والمحتوى‪ .‬اليوم ال يبدو أن االحتالل‬ ‫الرقمي للسينما قد صنع المعجزات بخصوص اللغة السينمائية‬ ‫التي طورها هؤالء الكبار من وراء كراسيهم‪ ،‬وصنعوا أمجاد‬ ‫النجوم والنجمات من خاللها‪.‬‬

‫كتب‬

‫‪134‬‬

‫وداعا غويتيسولو‪ ..‬ضمير إسبانيا وصوت العرب‬ ‫ً‬ ‫في أوربا (أحمد عبداللطيف)‬

‫‪78‬‬

‫َ‬ ‫العالم واحدً ا‬ ‫في يونيو الماضي‪ ،‬في مدينة مراكش‪ ،‬ودّع‬ ‫ً‬ ‫من أكثر ُ‬ ‫تورطا في الشأن السياسي‪ ،‬ومن أكثر األصوات‬ ‫الك ّتاب‬ ‫ً‬ ‫دفاعا عن الثقافة‬ ‫انتقادًا للسلطة اإلسبانية اليمينية وأكثرها‬

‫العربية اإلسالمية وقضايا المهاجرين‪ :‬خوان غويتيسولو‪ ،‬الذي‬

‫يعده بعض النقاد أهم كاتب إسباني في القرن العشرين‪.‬‬

‫‪141‬‬

‫مقاالت‬

‫‪76‬‬

‫‪4‬‬

‫إبراهيم عبدالمجيد‬ ‫جناية «الميديا» على األدب‬

‫‪90‬‬

‫عبدالله البريدي‬ ‫نحو مقاربة ثقافية تنموية‬ ‫للترفيه في السعودية‬

‫‪104‬‬

‫آمال قرامي‬ ‫كرنفال داعشي‬

‫‪160‬‬

‫محمد سبيال‬ ‫العرب والتقدم‬

‫‪168‬‬

‫شكري المبخوت‬ ‫توفيق ب ّكار‪ ..‬القارئ العاشق‬ ‫العربي‬ ‫لعيون األدب‬ ‫ّ‬

‫‪184‬‬

‫سعد البازعي‬ ‫ترف الحرية‬

‫العددان ‪ 490 - 489‬شوال ‪ -‬ذو القعدة ‪1438‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬أغسطس ‪2017‬م‬

‫‪80‬‬


‫نصوص‬

‫‪57‬‬

‫عبدالعزيز خوجة‬ ‫ــن‬ ‫َس ُّ‬ ‫هواك وما ت ُ‬

‫‪63‬‬

‫ماريان مور‬ ‫الشعر‬

‫‪93‬‬

‫محمد الشلفي‬ ‫مفكرة الحرب‬

‫‪142‬‬

‫أشجان هندي‬ ‫طرد بريدي‬

‫‪162‬‬

‫عمر شبانة‬ ‫قصائد ابن الورد‬

‫‪182‬‬

‫مدير التحرير‬

‫مسفر الغامدي‬ ‫مرآة ال تريني وجهي‬

‫أحمد زين‬ ‫اإلخراج‬

‫ينال إسحق‬ ‫التنفيذ‬

‫في هذا العدد‬ ‫شعرا في نظم أبي تمام (فضل العماري)‪...........‬‬ ‫الكتابة‬ ‫ً‬ ‫الشعر والثورة في شعر حسن طلب (يسري عبدالله)‪......‬‬ ‫تركي السديري‪ ..‬رمز صحافي لم يعش في منطقة الوسط (هيا المنيع)‪..........‬‬

‫الثقافية في إسرائيل؟‪..................‬‬ ‫ما الذي يشغل النخب‬ ‫ّ‬ ‫مواجهة بين الشرقيين والغربيين في تل أبيب‪(..‬عودة بشارات)‪...............‬‬ ‫ترجمة إسرائيل األدب العربي‪( ..‬كرم سعيد)‪..................................................‬‬

‫الكاتبات اإليرانيات في جحيم مفتوح ( متعب القرني)‪.....‬‬ ‫المنفيون (روبرتو بوالنيو)‪.....................................................‬‬ ‫ريمكو كمبرت‪( ..‬صالح حسن)‪..................................................‬‬ ‫عبد القادر عبداللي‪( ..‬سامر اسماعيل)‪...............................‬‬ ‫«اآلخر» لم يعد أجنب ًّيا‪( ..‬يوسف بزي)‪..................................‬‬ ‫أحتاج عينًا ثالثةً ألرى الغيب‪( ..‬منذر مطري)‪.......................‬‬ ‫الجديد في مقامات الهمذاني (بالل األرفة لي)‪.............‬‬ ‫التحول في مفهوم الفرجة (عبدالرحيم اإلدريسي)‪.......‬‬ ‫أحمد الجنايني( الفيصل خاص)‪..............................................‬‬

‫‪64‬‬ ‫‪68‬‬ ‫‪74‬‬ ‫‪80‬‬ ‫‪81‬‬ ‫‪86‬‬ ‫‪112‬‬ ‫‪120‬‬ ‫‪124‬‬ ‫‪128‬‬ ‫‪146‬‬ ‫‪150‬‬ ‫‪164‬‬ ‫‪174‬‬ ‫‪178‬‬

‫لفراد‪ 250 ،‬اً‬ ‫ريال �سعود ًّيا للم�ؤ�س�سات‪� ،‬أو ما‬ ‫االشتراك السنوي‪ 100 :‬ريال �سعودي ل أ‬ ‫يعادلهما بالدوالر الأمـريكي خارج اململكة العربية ال�سعودية‪.‬‬ ‫السعر اإلفرادي‪ :‬ال�سعــودي ــة ‪ 10‬رياالت‪ ،‬الإمارات ‪ 10‬دراهم‪ ،‬قطر ‪ 10‬رياالت‪ ،‬البحرين‬ ‫دينار واحد‪ ،‬الأردن ديناران ‪ ،‬م�صر ‪ 10‬جنيهات‪ ،‬املغرب ‪ 10‬دراهم‪ ،‬لبنان ‪ 5000‬لرية‪.‬‬ ‫الموزعون‪ :‬م�صر‪ ،‬م�ؤ�س�سة توزيع الأهرام‪ ،‬القاهرة �شارع اجلالء‪ ،‬هاتف‪ ،27703195 :‬فاك�س‪:‬‬ ‫‪ ،27704293‬قطـر‪ ،‬دار ال�شرق للطباعة والن�شر والتوزيع‪� ،‬ص‪.‬ب ‪ ،3488‬هاتف ‪،44557810‬‬ ‫فاك�س‪ ،44557819 :‬الأردن‪� ،‬شركة وكالة التوزيع الأردنية‪� ،‬ص‪.‬ب ‪ ،3371‬هاتف‪،65358855 :‬‬ ‫فاك�س‪ ،65337733 :‬البحرين‪ ،‬م�ؤ�س�سة الهالل لتوزيع ال�صحف‪� ،‬ص‪ .‬ب ‪ ،80050‬هاتف‪:‬‬ ‫‪ ،17480800‬فاك�س‪ ،17480818 :‬الإمارات العربية املتحدة‪� ،‬أبو ظبي املتحدة للطباعة والن�شر‬ ‫والتوزيع ‪� ،‬ص‪.‬ب ‪ ،39955‬هاتف‪ ،25010967 :‬املغرب‪ ،‬ال�شركة ال�شريفية لتوزيع ال�صحف‪،‬‬ ‫�ص‪.‬ب ‪ ،13683‬هاتف‪ ،2400223 :‬فاك�س‪ ،2246249 :‬لبنان‪ ،‬بريوت‪� ،‬شركة �شرق الأو�سط‬ ‫لتوزيع املطبوعات‪� ،‬ص ‪.‬ب ‪ ،11-6400‬هاتف‪ ،009611697310 :‬فاك�س‪009611697320 :‬‬ ‫التوزيع داخل المملكة‬

‫ال�شركة الوطنية املوحدة للتوزيع‬ ‫هاتف‪ )011( 4871414 :‬فاك�س‪)011( 4871460 :‬‬

‫رياض دفدوف‬ ‫مبارك علي‬ ‫الموقع اإللكتروني‬

‫معتز عبدالماجد‬ ‫التدقيق والمراجعة اللغوية‬

‫عبدالله الدوسري‬ ‫محمد نصير سيد‬ ‫االشتراكات والتوزيع‬

‫جعفر عبدالرحمن‬ ‫‪ -)+966(11٤٦٥٢٢٥٥‬تحويلة‪6640 :‬‬ ‫‪subscriptions@alfaisalmag.com‬‬

‫مراسالت التحرير‬ ‫‪editorial@alfaisalmag.com‬‬ ‫مراسالت اإلدارة‬ ‫ص‪.‬ب (‪ )3‬الرياض ‪11411‬‬ ‫المملكة العربية السعودية‬ ‫هاتف المجلة ‪)+966( 11٤٦٥3027:‬‬ ‫فاكس‪)+966( 11٤٦٤٧٨٥١ :‬‬ ‫‪contact@alfaisalmag.com‬‬ ‫اإلعالنات‬ ‫هاتف‪)+966( 11٤٦٤٧٨٥١ :‬‬ ‫‪advertising@alfaisalmag.com‬‬

‫‪5‬‬


‫المركز‬

‫دكتوراه فخرية للفيصل من جامعة غوميليوف أوراسيا‬ ‫منح المجلس األكاديمي لجامعة غوميليوف أوراسيا‬

‫الوطنية في كازاخستان األمير تركي الفيصل رئيس مجلس‬

‫إدارة مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات اإلسالمية‬ ‫الدكتوراه الفخرية تقديرًا لمساهماته الفكرية ودوره في توطيد‬ ‫أواصر التعاون البحثي واألكاديمي بين مركز الملك فيصل‬ ‫للبحوث والدراسات اإلسالمية وعدد من المراكز والهيئات‬

‫الدولية المختلفة‪ ،‬وكذلك لمشاركاته وإسهاماته في كثير من‬

‫المؤتمرات والندوات واللقاءات العالمية التي تناقش وتشجع‬

‫على السالم والتعاون والحوار وتبادل المعرفة‪.‬‬

‫وكان األمير تركي الفيصل قد ألقى أواخر مايو الماضي‬

‫محاضرة في جامعة «غوميليوف» بكازاخستان‪ ،‬قال فيها‪:‬‬ ‫«يُسعدني أن أُلقي محاضرتي اليوم في هذا البلد العزيز‪ ،‬بالد ما وراء النهر كما سمّ اها المسلمون األوائل؛ تلك المنطقة التي‬

‫َّ‬ ‫المؤلفات المهمّ ة‪ ،‬التي تحتفي بها مكتبتنا‬ ‫بكثير من‬ ‫أخرجت لنا كثيرًا من العلماء الذين أَ ْثروا الثقافة اإلسالمية والعربية‬ ‫ٍ‬ ‫ّ‬ ‫ولعل أحد‬ ‫العربية حتى يومنا هذا»‪ ،‬مشد ًدا على قوة العالقات العربية الكازاخية‪ ،‬سواء في التاريخ القديم أم الحديث‪،‬‬ ‫األمثلة الواضحة على ذلك أن اللغة الكازاخية ّ‬ ‫ظلت ُتكتب باألحرف العربية حتى بدايات القرن الماضي‪ .‬وذكر األمير تركي أنه‬

‫‪6‬‬

‫ال يمكن أن نذكر كازاخستان من دون أن نذكر القائد المسلم الكبير ركن الدين بيبرس الذي تعود أصوله إلى هذا البلد الكبير‬ ‫كازاخستان‪ ،‬ذلك القائد الذي أبلى بالءً حس ًنا في معركة عين جالوت سنة ‪658‬هـ‪1260 /‬م‪ ،‬وهي المعركة الفاصلة في التاريخ‬

‫اإلسالمي‪ ،‬التي ألحقت أول هزيمة قاسية بجيش المغول‪ ،‬وأوقفت زحفهم على بالد اإلسالم‪.‬‬

‫وفد من االتحاد األوربي يزور المركز‬

‫استقبل األمين العام للمركز الدكتور سعود السرحان‬

‫أواصر التعاون مع مختلف المؤسسات والمنظمات المحلية‬

‫األوربي‪ ،‬وهي اللجنة المعنية بالسياسة األمنية المشتركة‬ ‫ً‬ ‫تعريفا بالمركز‬ ‫لدول االتحاد األوربي‪ .‬وقدم األمين العام‬

‫وأشار رئيس وفد لجنة السياسة واألمن في االتحاد‬

‫األوربي آالن بوغوجا إلى رغبة االتحاد في استمرار بناء العالقات‬

‫في دراسة األفكار وتحليلها التي تسهم في تحسين السياسات‬

‫في دول الخليج العربي‪ ،‬إضافة إلى تعزيز فرص التعاون في‬

‫في مايو الماضي وفدً ا من لجنة السياسة واألمن لالتحاد‬

‫وأنشطته وبرامجه‪ ،‬وإصداراته البحثية المتنوعة‪ ،‬مبر ًزا دوره‬

‫ومواجهة التحديات لدى ُ‬ ‫صناع القرار‪ ،‬وكذلك اهتمامه بتوثيق‬ ‫العددان ‪ 490 - 489‬شوال ‪ -‬ذو القعدة ‪1438‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬أغسطس ‪2017‬م‬

‫واإلقليمية والدولية‪.‬‬

‫وتوثيقها واالطالع على تجارب المؤسسات الحكومية واألهلية‬ ‫مجال البحوث والدراسات‪.‬‬


‫أمير الرياض يفتتح متحف الفيصل‬ ‫للفن العربي اإلسالمي‬

‫افتتح األمير فيصل بن بندر أمير منطقة الرياض‪ ،‬متحف الفيصل للفن العربي اإلسالمي بالرياض في األول من يونيو‬

‫الماضي‪ ،‬بحضور األمير تركي الفيصل‪ ،‬رئيس مجلس إدارة مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات اإلسالمية‪ ،‬وشهد‬

‫االفتتاح األمير سلطان بن سلمان‪ ،‬رئيس الهيئة العامة للسياحة والتراث الوطني‪ ،‬واألمير بندر بن سعود بن خالد‪ ،‬األمين‬

‫العام لمؤسسة الملك فيصل الخيرية‪ ،‬وعدد من أصحاب السمو األمراء‪ ،‬ونخبة من المتخصصين واألكاديميين والسفراء‬ ‫والدبلوماسيين والمهتمين بالفن العربي واإلسالمي‪.‬‬

‫ً‬ ‫وأيضا االستقصاء‬ ‫العلمي‪،‬‬ ‫ولمناسبة االفتتاح قال األمير فيصل‪« :‬هذا المتحف يؤكد على دور مركز الملك فيصل للبحوث‬ ‫ّ‬

‫في كثير من أمور التاريخ اإلسالمي‪ ،‬والمركز مؤسسة عريقة ولها دور بارز في مجاالت العلم والمعرفة والثقافة والتراث‪،‬‬ ‫وأرجو له التوفيق الدائم‪ ،‬وأن نسعد بهذه الجهود التي تفيد الباحثين وكل من يحاول البحث عن أي أمر من خالل هذه‬ ‫المؤسسة التي وصلت إلى مستوى عالمي»‪ ،‬معربًا عن سعادته بوجود مؤسسة الملك فيصل في الرياض قائلاً ‪« :‬هذه‬ ‫ً‬ ‫إشعاعا لإلنسان‬ ‫المؤسسة بقيادة األمير خالد الفيصل تأخذ طريقها المستمر في دعم الثقافة بكل جد واجتهاد؛ ألنها تعطي‬

‫في هذه المنطقة‪ ،‬عن علم ومعرفة وإدراك وإتقان‪ ،‬فهي مؤسسة عريقة تقوم بهذا الدور‪ ،‬أتمنى لها التوفيق في ظل األعمال‬

‫التي تنتهجها الدولة‪ ،‬وفقها الله في مجال الثقافة والتراث والعلم والمعرفة‪ ،‬وسيدي خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان‬ ‫بن عبدالعزيز أَولى هذه األمور عناية كبيرة وجعلها من أولوياته التي يحرص عليها ويوجه فيها»‪.‬‬ ‫من جهته‪ ،‬أوضح األمير تركي الفيصل أن خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز «هو راعي مؤسسة الملك‬

‫فيصل وراعي نشاطاتها‪ ،‬وهو بنفسه من افتتح كثي ًرا من المعارض في هذا المكان عندما كان أمي ًرا لمنطقة الرياض‪ ،‬وهذا‬

‫المساء نشرف بوجود أخي األمير فيصل بن بندر أمير منطقة الرياض‪ ،‬ونحن دائمً ا في رعايته في منطقة الرياض‪ ،‬ووجوده هنا‬ ‫ليس فقط دليلاً على اهتمامه الشخصي‪ ،‬ولكن توجه وتأييد الدولة المباركة لكافة المجاالت الثقافية والتراثية»‪.‬‬

‫ويُقدّ م «متحف الفيصل للفنّ العربي اإلسالمي» التابع للمركز نماذج من المجموعة الفنية التي يقتنيها المركز من‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫نادرة من الفنّ العربي اإلسالمي‪ ،‬وتضمّ القاعة األخرى مجموعة المصاحف‬ ‫تراثية‬ ‫خالل قاعتين‪ :‬تضم القاعة األولى قطعً ا‬

‫المخطوطة والمطبوعة الفريدة التي يقتنيها المركز (مصاحف األمصار)‪ ،‬وتشتهر هذه المصاحف بتنوّعها من حيث بلد المنشأ‬ ‫ّ‬ ‫الخط والزخارف فيها‪.‬‬ ‫كثير منها‪ ،‬و ِقدَ م تاريخها‪ ،‬وإتقان‬ ‫والحجم‪ ،‬وندرة ونفاسة‬ ‫ٍ‬

‫‪7‬‬


‫المركز‬

‫حوار سعودي ياباني باتجاه المستقبل‬

‫عقد المركز في مايو الماضي حلقة نقاش بعنوان‪ :‬حوار سعودي ياباني إستراتيجي في معهد الفيصل‪ ،‬أدارها األمين‬

‫العام للمركز بحضور عدد من األكاديميين والمتخصصين من السعودية واليابان‪ .‬وركز النقاش على عدد من الموضوعات‪،‬‬ ‫بما في ذلك تاريخ العالقة بين البلدين الذي يمتد ألكثر من ‪ 60‬عامً ا‪ ،‬ومستقبل هذه العالقة‪ .‬كما ناقش الطرفان التحديات‬ ‫المشتركة التي تواجه البلدين‪ ،‬وما إذا كان تصدير النفط إلى منطقة شرق آسيا سيخلق دورًا سياسيًّا أكبر لليابان في منطقة‬

‫‪8‬‬

‫الخليج العربي‪ ،‬كما كان موضوع تمكين المرأة والتعاون الثقافي جزءً ا من الحوار؛ إذ تحدَّث المشاركون عن تصورات‬

‫النساء السعوديات واليابانيات وأفكارهما في العقود الماضية‪ ،‬وكيف تغيرت وتطورت‪.‬‬

‫مشاركة في معرض الكتاب بالجامعة اإلسالمية‬

‫شارك المركز في معرض الكتاب والمعلومات الرابع والثالثين‬

‫وكشاف سعود الفيصل‪ ،‬والعربية اللغة الشريفة‪ ،‬وأخالق النبي‬

‫المركز من كتب وبحوث ودراسات ودوريات‪ ،‬وبعض المخطوطات‬

‫التراثية والثقافية والدراسات الفكرية‪ .‬واشتمل جناح المركز على‬

‫بالجامعة اإلسالمية في المدينة المنورة‪ ،‬من خالل عرض إصدارات‬

‫والكتب التي توثق مسيرة الملك فيصل رحمه الله‪ .‬ويبلغ عدد‬

‫إصدارات المركز نحو ‪ 350‬إصدارًا‪ ،‬كما شملت إصدارات المركز ما‬ ‫ً‬ ‫عنوانا من اإلصدارات الجديدة‪ ،‬ومنها‪ :‬كشاف الفيصل‪،‬‬ ‫يقارب ‪120‬‬ ‫العددان ‪ 490 - 489‬شوال ‪ -‬ذو القعدة ‪1438‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬أغسطس ‪2017‬م‬

‫صلى الله عليه وسلم‪ ،‬والتراث الثقافي‪ ،‬وعدد آخر من الكتب‬

‫اإلصدار الجديد من «خزانة التراث»‪ ،‬وهي قاعدة بيانات تضم أكثر‬ ‫من ‪ 150‬ألف عنوان في مختلف العلوم‪ ،‬كما تضم أكثر من ‪ 750‬ألف‬

‫نسخة خطية‪.‬‬


‫كاريكاتير‬


‫فعاليات‬

‫عشرات الباحثين الدوليين شاركوا في فعالياته‬

‫منتدى الرياض لمحاربة اإلرهاب‪:‬‬ ‫التطرف آفة عالمية‪...‬‬ ‫واألديان جميعها عانت من جماعات العنف‬

‫‪10‬‬

‫تركي الفيصل‬

‫سعود السرحان‬

‫هدى الحليسي‬

‫آشتون كارتر‬

‫فرانكو فراتيني‬

‫مارتن غولوف‬

‫جون جينكنز‬

‫ريتشارد باريت‬

‫عبدالله بن خالد آل سعود‬

‫ويليام ماكانت‬

‫غرايم وود‬

‫بيتر نيومان‬

‫شيراز ماهر‬

‫جورج سالمة‬

‫سمية فطاني‬

‫جوزيف ميفسود‬

‫كاثرين باور‬

‫مايكل هورلي‬

‫خالد بن خليفة آل خليفة‬

‫راجان بصرة‬

‫نديم قطيش‬

‫إليزابيث كيندال‬

‫لورينزو فيدينو‬

‫جاك كارفيلّي‬

‫ناصر بن محيا المطيري‬

‫رضوان السيد‬

‫فيصل أبوالحسن‬

‫الرياض‬

‫التي شهدتها الرياض تزام ًنا مع الزيارة التاريخية للرئيس‬ ‫األميركي دونالد ترمب إلى السعودية‪.‬‬

‫شدد منتدى الرياض لمكافحة التطرف ومحاربة‬

‫وفي االفتتاح قال الدكتور سعود السرحان األمين العام للمركز‬

‫اإلرهاب من أجل تحقيق األمن والسالم في العالم‪ .‬وأكد‬

‫يواجه العالم منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية‪ ،‬مؤكدًا أن خطر‬

‫اإلرهاب على أهمية الدور الذي تقوم به السعودية في محاربة‬ ‫المنتدى الذي عقده مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات‬ ‫اإلسالمية في ‪ 21‬مايو الماضي‪ ،‬برعاية التحالف اإلسالمي‬

‫العسكري لمحاربة اإلرهاب‪ ،‬أن التطرف واإلرهاب ال يمكن ربطه‬ ‫بدين أو منطقة معينة‪ .‬والمنتدى الذي استمر يومً ا واحدً ا وعقد‬

‫في فندق إنتركونتيننتال بالرياض وشارك فيه عدد كبير من‬ ‫الباحثين والمهتمين بمحاربة التطرف من جنسيات مختلفة‪،‬‬ ‫جاء في إطار الفعاليات السياسية والعالمية الرفيعة المستوى‬ ‫العددان ‪ 490 - 489‬شوال ‪ -‬ذو القعدة ‪1438‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬أغسطس ‪2017‬م‬

‫في كلمة ترحيبية بالمشاركين‪ :‬إن التطرف واإلرهاب هما أكبر تهديد‬ ‫اإلرهاب «يتجاوز حدود المنطقة ويشكل خط ًرا على دول العالم‬

‫كافة»‪ .‬وأوضح السرحان أن السعودية دعت إلى هذا المؤتمر لتبادل‬ ‫النقاشات والمعارف‪ ،‬ولتأكيد التزامها المستمر باألمن والسالم‬ ‫العالميين‪ ،‬وليكون المؤتمر منب ًرا عالميًّا لمكافحة اإلرهاب‪ ،‬الف ًتا‬ ‫إلى أنه «كان لزامًا على الرياض التصدي لظاهرة اإلرهاب‪ ،‬نظ ًرا‬ ‫ً‬ ‫وانطالقا من واجبها الديني واألخالقي‪ ،‬وبنا ًء على‬ ‫لثقلها السياسي‬ ‫معاناتها‪ ،‬في العقود الماضية‪ ،‬من اإلرهاب»‪.‬‬


‫طبيعة التطرف وأنواعه‬

‫وناقش المنتدى عددًا من أهم القضايا الملحّ ة في مجال‬

‫األمن واالستقرار الدوليين مثل‪ :‬طبيعة التطرف وأنواعه وتأثيره‪،‬‬ ‫والتصور المستقبلي لإلرهاب‪ ،‬ودور وسائل التواصل االجتماعي‬

‫وتأثيرها في التطرف وسبل مواجهة اإلرهاب والتطرف العنيف على‬

‫المستوى اإلقليمي‪ .‬وفي الجلسة األولى وعنوانها‪« :‬داعش النسخة‬ ‫الثانية ومستقبل اإلرهاب»‪ ،‬أكد المشاركون على أن تنظيم داعش‬

‫اإلرهابي إلى زوال وتبدد‪ ،‬وأشادوا بالمقاربة الفكرية واإلعالمية‬ ‫واالجتماعية والعسكرية المتكاملة التي تعتمدها السعودية‪ ،‬عا ِّدين‬

‫إياها نموذجً ا يجب على العالم االقتداء به‪ .‬وأشار المتحدثون إلى‬ ‫أن القضاء على تنظيم داعش اإلرهابي ال يكون فقط عبر العمليات‬ ‫العسكرية‪ ،‬بل يجب أن يتضمن جميع الجوانب الفكرية واإلعالمية‬

‫واالجتماعية‪ ،‬وتجفيف منابع تمويل اإلرهاب‪ ،‬وأن مسببات اإلرهاب‬ ‫والتطرف ليست دينية فقط‪ ،‬بل قد تكون ً‬ ‫أيضا نتيجة مسببات‬ ‫آشتون كارتر وزير الدفاع األميركي السابق متحدثًا في المنتدى‬

‫شخصية واجتماعية وسياسية يجب التعامل معها عبر تهيئة‬

‫األرضية المالئمة على المستويين االجتماعي والسياسي‪ ،‬وبخاصة‬

‫من جانبه‪ ،‬أكد األمير تركي الفيصل رئيس مجلس إدارة‬

‫أن تنظيم داعش اإلرهابي يستغل سخط الشباب على األوضاع‬

‫كثي ًرا من أشكال اإلرهاب منذ الخمسينيات؛ إذ واجهت إرهابًا‬ ‫ً‬ ‫الحقا إلى إرهاب برداء ديني‬ ‫يرتدي اللباس الوطني‪ ،‬تحوَّل‬

‫مراسل شؤون الشرق األوسط في صحيفة الغارديان البريطانية‪ ،‬أن‬ ‫الحروب والنزاعات األهلية هي ً‬ ‫أيضا واحدة من مسببات اإلرهاب‬

‫المركز أن السعودية تكافح اإلرهاب منذ نشأتها‪ ،‬وأنها واجهت‬

‫أوجد منظمات مثل القاعدة والجماعات التكفيرية األخرى‬

‫التي تسبب جميعها في إراقة الدماء وهتك األعراض‪ .‬وقال‬

‫القائمة‪ .‬وأوضح المتحدثون في الجلسة التي أدارها مارتن غولوف‪،‬‬

‫والتطرف‪ ،‬إضافة إلى حقيقة أن اإلرهاب ال ينبع فقط من الدول‬

‫اإلسالمية‪ ،‬بل من الدول غير اإلسالمية؛ لذلك يجب على دول‬ ‫العالم أجمع توحيد آليات التعامل والرؤى المشتركة وتبادل‬

‫الفيصل‪« :‬بسبب ذلك تجمعت لدى السعودية خبرات ومعارف‬ ‫متراكمة في محاربة اإلرهاب َّ‬ ‫مكنتها من تج ُّنبه في الداخل»‪،‬‬

‫المعلومات االستخبارية للتغلب على آفة اإلرهاب‪.‬‬

‫اإلرهاب‪ ،‬وقدرته على إنجاز هذه المهمة الصعبة‪ .‬وأضاف‪:‬‬

‫للمعهد الدولي للدراسات اإلستراتيجيّة ‪ -‬الشرق األوسط‪،‬‬

‫موضحً ا أن ثقته كبيرة في التحالف اإلسالمي العسكري لمحاربة‬ ‫«ظهرت الجماعات العنيفة في كل األديان‪ ،‬في المسيحية‬

‫وفي اليهودية‪ ،‬وتسببت في قتل األبرياء‪ ،‬واإلسالم بريء من‬ ‫العنف والتطرف»‪ .‬في حين قال آشتون كارتر مدير مركز بيلفر‬ ‫في جامعة هارفرد وزير الدفاع األميركي الخامس والعشرون‪ :‬إن‬

‫السعودية تقوم بدور محوري ومهم في قيادة التحالف ومحاربة‬ ‫ً‬ ‫مضيفا أن أهمية التحالف تكمن في قدراته‬ ‫اإلرهاب والتطرف‪،‬‬

‫على الرد على ادعاءات المتشددين «الذين يستخدمون الدين‬

‫لتغذية أفكارهم المتطرفة ونشرها‪ ،‬وهذا ال يمكن أن تقوم به‬

‫إال دولة إسالمية والرد عليهم يجب أن يكون من مسلمين»‪.‬‬ ‫من جهته‪ ،‬قال وزير الخارجية اإليطالي السابق فرانكو فراتيني‪:‬‬ ‫إن التحالف اإلسالمي العسكري ضد التطرف بقيادة السعودية‬

‫«خطوة كبيرة في االتجاه الصحيح»‪ ،‬مؤكدً ا أنه ال يوجد أي‬

‫صلة بين اإلرهاب والتطرف والدين‪ ،‬وأن الحروب التي تخوضها‬

‫الجماعات اإلرهابية هي من أجل السلطة والمال وفتح طرق‬ ‫التهريب حتى لو كانت تخاض باسم الدين‪.‬‬

‫وشدد المشاركون وهم السير جون جينكنز المدير التنفيذي‬

‫البحرين‪ ،‬وريتشارد باريت‪ ،‬كبير المستشارين في مجموعة‬ ‫سوفان والرئيس السابق لفريق العمليات الدولية لمكافحة‬ ‫اإلرهاب ‪ ،MI6‬والقائد السابق لفريق األمم المتحدة لمتابعة‬

‫تنظيم القاعدة وحركة طالبان ورصدهما‪ ،‬والدكتور عبدالله بن‬

‫خالد آل سعود‪ ،‬أستاذ مساعد في جامعة نايف العربية للعلوم‬

‫األمنية ‪ -‬بالرياض‪ ،‬والدكتور ويليام ماكانت‪ ،‬مدير عالقات‬

‫الواليات المتحدة مع العالم اإلسالمي في معهد بروكينغز‪،‬‬ ‫واشنطن دي سي‪ ،‬الواليات المتحدة األميركية‪ ،‬شددوا على أن‬ ‫محاربة اإلرهاب يجب ألاَّ تقتصر فقط على الجماعات اإلرهابية‬

‫السنية‪ ،‬بل ً‬ ‫أيضا الجماعات اإلرهابية الشيعية التي تروِّع اآلمنين‪،‬‬

‫وتنشر روح الطائفية والكراهية‪ .‬واستعرض هؤالء تاريخ نشأة‬

‫تنظيم داعش اإلرهابي وجذوره في العراق وسوريا‪ ،‬وما يبثه‬ ‫من أفكار سامّة ومتطرفة في عقول الشباب‪ ،‬والهزائم النكراء‬ ‫التي يتكبدها التنظيم في الوقت الراهن‪ ،‬وفقدانه للسيطرة على‬

‫معظم األراضي التي كانت بحوزته‪.‬‬

‫‪11‬‬


‫فعاليات‬

‫التطرف عبر اإلنترنت‬

‫واستعرضت الجلسة الثانية وعنوانها‪« :‬من التطرف‬

‫في الجلسة‪ ،‬دعاية إعالمية كبرى‪ ،‬فأشرطة الفيديو التي يقوم‬

‫على شبكة اإلنترنت والعوامل الواقعية التي تقف خلف تجنيد‬

‫كأنهم أصحاب قضية يقاتلون من أجلها‪ ،‬إال أن دور شبكة‬

‫اإللكتروني إلى اإلرهاب الواقعي»‪ ،‬الدعاية اإلرهابية المتطرفة‬ ‫اإلرهابيين والتطرف‪ .‬وقال الدكتور بيتر نيومان‪ ،‬المبعوث‬ ‫الخاص لمنظمة األمن والتعاون في أوربا‪ :‬يتحول عدد من‬

‫الناس في أوربا إلى التطرف على اإلنترنت‪ ،‬فهي إحدى وسائل‬ ‫الدعاية التي تستخدمها المنظمات اإلرهابية إال أن عمليات تجنيد‬ ‫اإلرهابيين تحدث على أرض الواقع عبر أشخاص كبروا معهم‬

‫وعرفوهم معظم سنوات حياتهم‪ ،‬فعلى سبيل المثال معظم‬

‫اإلرهابيين المتطرفين من النرويج ال يأتون فقط من المدينة‬ ‫نفسها‪ ،‬بل يسكنون الشارع نفسه حيث ترعرعوا معً ا‪ ،‬وقصدوا‬ ‫المدرسة نفسها‪ .‬وإلى جانب الدكتور نيومان شارك في الجلسة‪،‬‬

‫التي أدارها فيصل أبو الحسن‪ ،‬الباحث السياسي في مركز الملك‬

‫فيصل للبحوث والدراسات اإلسالمية‪ ،‬الدكتور شيراز ماهر‪ ،‬نائب‬ ‫مدير المركز الدولي لدراسات التطرف‪ ،‬قسم دراسات الحرب‬

‫في كلية كينغز لندن‪ ،‬وجورج سالمة‪ ،‬رئيس السياسة العامة‬ ‫والعالقات الحكومية لشركة تويتر في منطقة الشرق األوسط‬ ‫وشمال إفريقيا‪ ،‬وسميّة فطاني‪ ،‬باحثة في مركز الملك فيصل‬

‫‪12‬‬

‫فقد أتاحت شبكة اإلنترنت لتنظيم داعش اإلرهابي‪ ،‬كما جاء‬

‫للبحوث والدراسات اإلسالمية‪.‬‬

‫وركزت الجلسة على ضرورة استعراض‪ ،‬ليس فقط جهود‬ ‫محاربة التطرف وتجنيد اإلرهابيين على شبكة اإلنترنت‪ ،‬بل ً‬ ‫أيضا‬

‫العوامل الواقعية التي ِّ‬ ‫تمكن اإلرهابيين من تجنيد أتباعهم‪،‬‬

‫العددان ‪ 490 - 489‬شوال ‪ -‬ذو القعدة ‪1438‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬أغسطس ‪2017‬م‬

‫التنظيم ببثها تتميز بالجودة العالية وتظهر إرهابيي التنظيم‬ ‫اإلنترنت يتغير حاليًّا‪ ،‬ففي عام ‪2014‬م جرت معظم عمليات‬ ‫التجنيد على موقعي فيسبوك وتويتر‪ ،‬كما أن اإلرهابيين تحولوا‬

‫حاليًّا إلى الجانب المظلم من الشبكة العنكبوتية عبر استخدام‬

‫خدمات الرسائل الخاصة مثل تيليغرام وفايبر وواتس آب‪،‬‬ ‫نظ ًرا ألن تلك المنصات أكثر خصوصية وتخلق عالقة حميمية‬ ‫مع الشباب صغار السن‪ .‬من جانبه قال جورج سالمة‪« :‬أعلنت‬

‫تويتر مؤخ ًرا أنها أغلقت أكثر من ‪ 600‬ألف حساب إرهابي كانت‬

‫تنشط على منصتنا للتواصل االجتماعي‪ ،‬وأنها تعمل مع الجهات‬ ‫الحكومية وغير الحكومية على تعزيز مستوى الشفافية فيما‬ ‫يتعلق بتلك الحسابات‪ ،‬إال أنه ال يوجد تقنية يمكنها بشكل كامل‬

‫حل هذه المشكلة»‪ .‬وذكرت سميّة فطاني‪« :‬أن تنظيم داعش‬

‫اإلرهابي قام بتطوير محتوى دعائي يستهدف النساء بشكل‬

‫إستراتيجي‪ ،‬سواء على شبكة اإلنترنت أو على أرض الواقع‪ ،‬من‬ ‫خالل منحهن شعورًا باالنتماء‪ ،‬وبخاصة الالتي يشعرن بأنهن‬ ‫منبوذات في مجتمعاتهن‪ ،‬حيث تمنحهن عمليات التجنيد‬

‫المباشر شعورًا بالواجب وااللتزام»‪.‬‬

‫وناقش المتحدثون في الجلسة الثالثة للمنتدى وعنوانها‪:‬‬

‫«روابط االتصال بين الجريمة واإلرهاب» االرتباط العضوي الدائم‬ ‫بين الجريمة واإلرهاب‪ ،‬مشيرين إلى أن تجارة المخدرات واالتجار‬


‫بالبشر وسرقة اآلثار وتهريبها وبيعها‪ ،‬وغسيل األموال إلى جانب‬

‫الرئيسة فيما يخص تنظيم القاعدة في اليمن «تتمثل في تقبل‬

‫تمويل اإلرهاب حاليًّا‪ .‬وأكدوا أن أكثر من ‪ %60‬من اإلرهابيين أدينوا‬

‫من التغريدات التي جرى تحليلها في اليمن كانت حول عمل‬

‫الضرائب التي يفرضها اإلرهابيون على السكان‪ ،‬تعد أكبر مصادر‬

‫في قضايا جنائية أو أخالقية‪ ،‬وأن السجون توفر بيئة خصبة‬

‫لتجنيد اإلرهابيين‪ .‬وقال الشيخ الدكتور خالد آل خليفة نائب‬ ‫رئيس مجلس األمناء والمدير التنفيذي لمركز عيسى الثقافي في‬

‫البحرين‪ :‬إن الفكر المتطرف يخلق اإلرهاب‪ ،‬وإنه يجب محاربة‬ ‫التطرف لمنع تنامي اإلرهاب بين الشباب وتطور أفكاره‪ .‬وأشار‬

‫راجان بصرة‪ ،‬وهو باحث في المركز الدولي لدراسات التطرف في‬ ‫كلية كينغز لندن‪ ،‬إلى أن دراسة حول الجهاد واإلرهاب أظهرت‬

‫أن أهم األسباب التي تعزز االنضمام للمنظمات اإلرهابية من‬

‫جانب الشباب «هي البحث عن الخالص؛ إذ يريد كثير منهم‬ ‫التكفير عن أخطائه من دون تغيير سلوكه‪ ،‬كما أن االنضمام‬

‫للجماعات اإلرهابية يبرر الجريمة حيث إن عقيدتهم وفكرهم‬

‫يجيزان قتل «الكفار» وسرقتهم ونهبهم‪ ،‬محذرًا من خطورة‬ ‫تكتيكات اإلرهابيين الجديدة في أوربا مثل الدهس بالسيارات؛‬ ‫إذ إن كلفتها المادية قليلة للغاية‪ .‬وذكرت كاثرين باور‪ ،‬كبيرة‬

‫المستشارين في معهد واشنطن لسياسة الشرق األدنى‪ ،‬أن‬ ‫مراقبة مصادر تمويل اإلرهاب يقلل العمليات اإلرهابية بجانب‬ ‫تبادل المعلومات االستخبارية بين الدول‪ ،‬وطالبت بضرورة أن‬

‫يعلم كل شخص في العالم مدى خطورة اإلرهاب‪ .‬وأشار مايكل‬ ‫ً‬ ‫سابقا‪ ،‬أن‬ ‫هورلي وهو ضابط بالمخابرات المركزية األميركية‬ ‫الجانب المالي مهم في تنفيذ العمليات اإلرهابية‪ ،‬وأن كثي ًرا منها‬ ‫لن ينجح من دون تمويل ودعم مالي‪.‬‬ ‫النزاع اليمني‬

‫الناس لهم وعدم مواجهتهم؛ إذ تظهر أبحاثي أن أكثر من ‪%56‬‬ ‫تنظيم القاعدة في مشروعات تنمية مجتمعية وإحداث تغيير‬

‫إيجابي في اليمن»‪.‬‬

‫وأوضحت الجلسة أن هذا التكتيك يحظى بدعم مجتمعي‬

‫ليس فقط في اليمن‪ ،‬بل في العديد من المناطق غير الخاضعة‬ ‫لسيطرة الحكومة في بعض الدول‪ ،‬وأنه من دون وجود حكومات‬

‫ملتزمة وقوية ومشاركة الهيئات غير الحكومية في تعزيز قدرات‬

‫المجتمع‪ ،‬فسيجد اإلرهابيون دومً ا موطئ قدم في منطقتي‬ ‫الشرق األوسط وشمال إفريقيا‪ .‬إلى جانب الدكتورة إليزابيث‬

‫كيندال‪ ،‬شارك في هذه الجلسة الدكتور لورينزو فيدينو‪ ،‬مدير‬

‫برنامج دراسات التط ّرف في مركز األمن اإللكتروني والقومي في‬ ‫ّ‬ ‫جامعة جورج واشنطن األميركية‪ ،‬والدكتور جاك‬ ‫كارفيلي‪،‬‬

‫كبير المستشارين لمؤسسة الشراكة العالميّة للموارد‪ ،‬والمدير‬

‫السابق لسياسات عدم انتشار األسلحة النووية (روسيا والشرق‬ ‫األوسط) في فريق مجلس األمن القومي األميركي في البيت‬ ‫األبيض تحت إدارة الرئيس كلينتون‪ ،‬والدكتور يحيى أبو مقايد‪،‬‬

‫الممثل الخاص لمركز محمد بن نايف للمناصحة والرعاية‪ .‬وفي‬ ‫الكلمة الختامية للمنتدى قال الدكتور رضوان السيد أستاذ‬

‫الدراسات اإلسالمية في الجامعة اللبنانية‪ :‬إن التحالف اإلسالمي‬ ‫ُ‬ ‫نجز‬ ‫العسكري لمحاربة اإلرهاب بقيادة السعودية‪ ،‬يعد أهم ما أ ِ‬ ‫على صعيد محاربة اإلرهاب في السنوات األخيرة‪ ،‬وبخاصة في‬ ‫إطار عدم قدرة أي دولة على مواجهة اإلرهاب بمفردها عسكريًّا أو‬

‫أمنيًّا أو مخابراتيًّا‪ ،‬ومن ثم يكون هذا التحالف ضروريًّا جدًّا‪ ،‬بل‬

‫إنه ضرورة وجود‪ ،‬متوقعً ا أن يكون للتحالف اإلسالمي العسكري‬

‫وشهد المنتدى تنظيم جلسة نقاشية رابعة مفتوحة‬ ‫بعنوان‪« :‬مواجهة اإلرهاب‪ :‬الصورة اإلقليمية»‪ ،‬سُ ِّلط الضوء‬

‫والبعيد‪ ،‬في المجاالت الفكرية واالجتماعية واإلعالمية وتجفيف‬

‫وناقشت الجلسة التي أدارها نديم قطيش‪ ،‬صحافي ومقدّم‬

‫تجدر اإلشارة إلى أن «التحالف اإلسالمي العسكري لمحاربة‬

‫فيها على سبل مجابهة الفكر اإلرهابي المتطرف في المنطقة‪.‬‬

‫برنامج «‪ ،»DNA‬بشكل مفصل النزاع اليمني كمثال للوضع‬ ‫اإلقليمي الحالي‪ ،‬مشيرين إلى أن التركيز بشكل كبير على تنظيم‬

‫داعش اإلرهابي جعل كثي ًرا من الناس ينسى مخاطر تنظيم‬ ‫القاعدة الذي يستغل الوضع الحالي في اليمن إلعادة التموضع‪،‬‬

‫وبناء قدراته في المناطق غير الخاضعة للسيطرة الحكومية‬ ‫على امتداد المنطقة‪ ،‬مؤكدين أن اليمن تمثل بيئة خصبة تمكن‬ ‫تنظيم القاعدة من تعزيز قدراته‪ .‬وفي ظل الهزائم العسكرية‬

‫ُني بها‪ ،‬تحول تنظيم القاعدة حاليًّا إلى تبني تكتيك جديد‬ ‫التي م َ‬

‫يتمثل في حل المشكالت الشعبية وتقديم يد العون للمجتمع‪،‬‬ ‫كغطاء ألنشطته اإلرهابية‪ .‬في حين قالت الدكتورة إليزابيث‬

‫كيندال‪ ،‬كبيرة الباحثين في جامعة أوكسفورد‪ :‬إن المشكلة‬

‫لمحاربة اإلرهاب «نتائج إيجابية ملموسة على المديين المتوسط‬

‫منابع تمويل اإلرهاب والعسكرية»‪.‬‬

‫اإلرهاب» الذي رعى المنتدى‪ ،‬كان أعلن عن تشكيله في (‪15‬‬

‫ديسمبر ‪2015‬م) من األمير محمد بن سلمان‪ ،‬ولي ولي العهد‬

‫النائب الثاني لرئيس مجلس الوزراء وزير الدفاع السعودي‪ ،‬هو‬ ‫أول تحالف دولي يقوده العالم اإلسالمي‪ ،‬ويضم تحت لوائه ‪41‬‬ ‫دولة‪ ،‬ويهدف إلى تنسيق الجهود السياسية والفكرية واإلعالمية‬ ‫واالقتصادية والعسكرية في الدول اإلسالمية وتوحيدها؛‬

‫لمحاربة جميع أشكال اإلرهاب والتطرف‪ ،‬والتكامل مع جهود‬ ‫دولية أخرى في مجال حفظ األمن والسلم الدوليين‪ .‬ويعمل‬

‫التحالف على بناء قاعدة معلومات حول برامج محاربة اإلرهاب‬ ‫وأفضل الممارسات التي تتبناها الدول األعضاء والمنظمات‬

‫الدولية‪.‬‬

‫‪13‬‬


‫فعاليات‬

‫«الفيصل‪ ..‬شاهد وشهيد»‬ ‫يدشن أولى محطاته الخارجية‬ ‫في أستانة‬

‫‪14‬‬ ‫شهد معرض «الفيصل‪ ..‬شاهد وشهيد» الذي أقيم في‬

‫رئيس مجلس إدارة المركز‪ ،‬وعدد من المسؤولين واألكاديميين‬

‫والغربية الموجودة في كازاخستان؛ إذ يتيح المعرض العودة‬

‫تجمع فخامة الرئيس الكازاخي نور سلطان نزارباييف وملوك‬

‫التي كانت بداية تنفيذ اإلصالحات في جميع المجاالت في حياة‬

‫للمستقبل وللتطور‪ ،‬وأكد أن دولة كازاخستان وشعبها بإذن الله‬

‫المتحف الوطني بمدينة أستانة عاصمة جمهورية كازاخستان‪،‬‬ ‫إقبالاً كبي ًرا من الشعب الكازاخي والجاليات العربية واإلسالمية‬

‫إلى تاريخ المملكة في حقبة حكم الملك فيصل (‪1975-1964‬م)‪،‬‬ ‫المجتمع السعودي‪ ،‬وهو ما دفع المسؤولين في كازاخستان إلى‬

‫المطالبة بتمديد مدة إقامة المعرض الذي افتتح في ‪ 18‬مايو‪.‬‬

‫والمثقفين‪ .‬وقدم األمير تركي الفيصل‪ ،‬الشكر لدولة كازاخستان‬ ‫وحكومتها على استضافة المعرض‪ ،‬مث ِّم ًنا العالقة األخوية التي‬ ‫المملكة العربية السعودية ورؤيتهم المشتركة نحو تطلعهم‬

‫سيكون لهم مستقبل باهر‪.‬‬

‫وقال الفيصل‪« :‬إن بداية انطالق معرض «الفيصل‪ ..‬شاهد‬

‫وكانت سكرتيرة دولة كازاخستان السيدة غولشارا‬

‫وشهيد» خارج المملكة من أستانة هذه المدينة الجميلة‪ ،‬بمنزلة‬

‫في حضور األمير تركي الفيصل‪ ،‬برعاية وحضور وزير الثقافة‬ ‫والرياضة في كازاخستان أريستانبيك محمدي أولي‪ُ .‬‬ ‫وق ِّدم خالل‬

‫فقط على المستوى الدبلوماسي أو التجاري إنما للروابط التاريخية‬

‫والثقافية التي تجمع الشعبين‪ ،‬فمنذ أن انبثق نور اإلسالم اجتمع‬

‫إلى اللغة الكازاخية والروسية‪ .‬وحضر االفتتاح القائم بأعمال‬

‫إنسانية‪ ،‬ولدينا الكثير بين البلدين من أواصر الصداقة والمحبة‬

‫أبديكاليكوفا افتتحت معرض «الفيصل‪ ..‬شاهد وشهيد»‪،‬‬

‫مراسم االفتتاح كتاب «الفيصل‪ ..‬شاهد وشهيد» الذي ُترجم‬

‫سفارة خادم الحرمين الشريفين في أستانة عبدالرحمن النجار‪،‬‬ ‫واألمير عمرو بن محمد الفيصل‪ ،‬واألمير فيصل بن سعود بن‬ ‫عبدالمحسن األمين المساعد بمركز الملك فيصل للبحوث‬

‫والدراسات اإلسالمية‪ ،‬واألمير سعود بن تركي الفيصل مستشار‬ ‫العددان ‪ 490 - 489‬شوال ‪ -‬ذو القعدة ‪1438‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬أغسطس ‪2017‬م‬

‫تقدير لما يجمع بين الشعب الكازاخي والشعب السعودي ليس‬

‫الدم العربي بالدم الكازاخي في وحدة ليست فقط دينية إنما وحدة‬

‫تفوق األزمان‪ .‬كما أننا ال ننسى أن فخامة الرئيس نور سلطان‬ ‫نزارباييف زار المملكة ثالث مرات في مدة وجيزة لتوطيد العالقات‬

‫بين البلدين‪ ،‬وهذه عالقة صداقة ومحبة لن ننساها لفخامته»‪.‬‬ ‫فيما أعربت سكرتيرة الدولة في جمهورية كازاخستان غولشارا‬


‫أبديكاليكوفا في كلمتها أثناء افتتاح المعرض‪ ،‬عن ترحيبها‬

‫بالمعرض الذي يعد أول معرض عربي يقام في دولة كازاخستان‬ ‫والشعب السعودي في عاصمة بالدها (أستانة)‪ ،‬متمنية أن تزيد‬ ‫الزيارات والعالقات المتعددة األطراف بين شعبي البلدين بفضل‬

‫العالقات الودية والطيبة بين فخامة رئيس جمهورية كازاخستان‬ ‫نورسلطان نزارباييف وخادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن‬

‫عبدالعزيز آل سعود‪ ،‬وأكدت أن هذه المناسبات تسهم في تعزيز‬ ‫العالقات الودية بين شعب جمهورية كازاخستان وشعب المملكة‬ ‫اللذين يربطهما الدين والتاريخ المشترك والكلمات المشتركة في‬

‫اللغة‪.‬‬

‫تعاون أكاديمي‬ ‫سعودي كازاخي‬

‫َّ‬ ‫وقع مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات‬

‫اإلسالمية‪ ،‬مذكرة تفاهم مع جامعة «ل‪ .‬ن‪ .‬غوميليوف‬

‫األوراسيوية الوطنية» بكازاخستان‪ ،‬لتعزيز التعاون‬ ‫األكاديمي والبحثي في مجال الثقافة والتراث وزيادة‬

‫فاعلية التبادل العلمي‪ .‬وأبرم االتفاقية األمير تركي‬

‫الفيصل ويرالن صيديكوف رئيس جامعة ل‪ .‬ن‪ .‬غوميليوف‬

‫وقالت سكرتيرة دولة كازاخستان‪« :‬كل دولة لها شخصيات‬

‫األوراسيوية الوطنية‪ ،‬في مقر الجامعة بالعاصمة أستانة‪،‬‬

‫بالدها‪ ،‬وجاللة الملك فيصل بن عبدالعزيز آل سعود (رحمه الله)‬

‫معرض «الفيصل‪ ..‬شاهد وشهيد»‪.‬‬ ‫كما وقع المركز ً‬ ‫أيضا اتفاقية تعاون ثقافي وعلمي‬ ‫ّ‬ ‫مع مكتبة الرئيس األول لجمهورية كازاخستان‪ ،‬وقع‬

‫بلده‪ ،‬وتطوير المجتمع السعودي في المجاالت المختلفة‪ ،‬ونقدر‬

‫والسيد محمود قاسم بيكوف مدير مكتب رئيس جمهورية‬ ‫ّ‬ ‫وتغطي االتفاقية مجال‬ ‫كازاخستان ورئيس المكتبة‪.‬‬

‫عظيمة تركت آثارًا سياسية واقتصادية وروحية مميزة في تاريخ‬

‫قائد بارز للمملكة العربية السعودية الصديقة‪ ،‬تميزت حقبة‬ ‫حكمه بحكمة بالغة‪ ،‬ونعلم أن جاللته ترك أث ًرا كبي ًرا في إنجاز‬

‫اإلصالحات السياسية واالقتصادية‪ ،‬ورفع مستوى المعيشة في‬

‫انضمام المملكة إلى صفوف الدول العظمى في العالم بفضل‬

‫جهود الملك فيصل‪.‬‬

‫ضمن زيارة وفد من المركز لكازاخستان على هامش افتتاح‬

‫عليها األمير تركي الفيصل رئيس مجلس إدارة المركز‪،‬‬

‫وعبر وزير الثقافة والرياضة في جمهورية كازاخستان السيد‬

‫البحث العلمي‪ ،‬وتبادل الرأي‪ ،‬وتقديم التحليالت الالزمة‬ ‫َّ‬ ‫تطلب األمر ذلك‪،‬‬ ‫لمشروعات النشر لدى الطرفين إذا‬

‫لجمهورية كازاخستان هذا المعرض عن حياة الملك فيصل‬

‫ثقافية أو اجتماعية أو سياسية‪ .‬وعلى هامش التوقيع‪،‬‬

‫أريستانبيك محمدي أولي‪ ،‬عن تقديره الحتضان المتحف الوطني‬ ‫وخدماته وأعماله الصالحة من أجل تطوير بالده‪.‬‬

‫أما عبدالرحمن حسين النجار الوزير المفوض والقائم‬

‫باألعمال باإلنابة في سفارة المملكة لدى جمهورية كازاخستان‪،‬‬ ‫فأكد أن معرض «الفيصل‪ ..‬شاهد وشهيد» حقق أصداء واسعة‬

‫في كازاخستان‪ ،‬عادًّا إياه وغيره من المعارض تجسيدً ا لرؤية‬ ‫المملكة ‪ 2030‬في األنشطة والفعاليات كافة‪ ،‬وأوضح أن المعرض‬ ‫يوفر الفرصة للشعب الكازاخي في االطالع والتعرف إلى جميع‬

‫جوانب سيرة الفيصل رحمه الله‪.‬‬

‫وإمكانية تنفيذ مشروعات بحثية مشتركة ُتعنى بجوانب‬ ‫أهدى المركز مكتبة الرئيس األول لجمهورية كازاخستان‬

‫جهاز الفيصل للتعقيم والحفاظ على التراث المخطوط‪،‬‬ ‫وهو جهاز آمن يقوم بتعقيم المخطوطات والوثائق والكتب‬ ‫المطبوعة النادرة‪ ،‬عن طريق التبريد الجاف للقضاء‬ ‫على جميع الحشرات والفطريات الموجودة في الوثائق‬

‫والمخطوطات والكتب من دون الحاجة إلى استخدام أيّ‬ ‫مواد كيمياوية أو غازات سامة‪.‬‬

‫إشادات أكاديمية كازاخية بالمعرض‬ ‫ثمن إيرالن سيديكوف رئيس جامعة أوراسيا الوطنية في كازاخستان‪ ،‬ما يحتويه المعرض من تراث ومواد شخصية ومقتنيات‬

‫ً‬ ‫مؤكدا أن الفيصل لعب دورًا مهمًّ ا في تطوير المملكة‪ ،‬ونفذ عد ًدا من اإلصالحات السياسية‬ ‫خاصة ذات قيمة كبيرة للملك فيصل‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫واالقتصادية الناجحة التي أثرت في جميع المجاالت في المجتمع‪ ،‬كما لعب دورًا بارزا في حل قضايا الدول العربية‪ ،‬ولفت إلى‬ ‫أنه يثق في أن المعرض سيعزز العالقات الودية بين البلدين في المجاالت السياسية واالقتصادية والروحية‪.‬‬

‫ورأت الدكتورة سمال توليوبايفا األستاذة بقسم الدراسات الشرقية في جامعة أوراسيا الوطنية‪ ،‬أن المعرض حدث مميز‬

‫في تاريخ العالقات الكازاخية السعودية في مجال الثقافة والعلم والتعليم‪ ،‬مبينة أنه أعطى الجمهور الكازاخي فرصة فريدة من‬

‫نوعها لالطالع على حياة الملك فيصل وإنجازاته الذي بذل أقصى جهوده للذود عن حياض دينه وأمته‪ ،‬ولفتت إلى أن ما يربط‬ ‫الشعبين والبلدين تاريخ ودين مشترك وعادات وتقاليد متشابهة‪.‬‬

‫‪15‬‬


‫مقال‬

‫ماجد الحجيالن‬ ‫رئيس التحرير‬

‫عن «التاريخ الفكري لليبرالية»‬

‫‪16‬‬

‫قبل سنوات وفي أقصى جنوب البرتغال قابلت‬ ‫زوجين من السويد يقضيان إجازتهما بعيدً ا عن‬ ‫صقيع الشمال األوربي‪ ،‬تحدثنا طويلاً ‪ ،‬ولمست‬ ‫ً‬ ‫تعاطفا هائلاً مع القضية الفلسطينية‪ ،‬وما‬ ‫منهما‬ ‫لفتني أكثر هو تأكيدهما غير مرة أنهما أميَل إلى‬ ‫اليسار وليسا ليبراليين‪ ،‬وهكذا في كل موقف‬ ‫يعلنانه من أي أمر تأكيد على أنهما ضد الليبرالية‪..‬‬ ‫رغم أن الحديث عن الليبرالية لم يكن موضوعنا‬ ‫من قريب أو بعيد‪ ،‬وقبل أيام دفع المرشح‬ ‫الجمهوري عن والية مونتانا األميركية غريغ‬ ‫جيانفورتي صحافيًّا من الغارديان‪ ،‬وأسقطه ً‬ ‫أرضا‪،‬‬ ‫ً‬ ‫واصفا إياه «بممثل اإلعالم الليبرالي»‪..‬‬ ‫وزجره‬ ‫ُ‬ ‫وردهما لتناول الصورة‬ ‫أ‬ ‫عفويان‬ ‫مشهدان‬ ‫هذان‬ ‫ِ‬ ‫الذهنية لليبرالية في الغرب‪ ،‬وكيف أن كل تيار‬ ‫يميني أو يساري يراها بطريقته الخاصة‪ ،‬وهكذا‬ ‫كل فلسفة سياسية تخضع لتأويالت من خارجها‬ ‫ومن داخلها قد ال تتطابق بالضرورة مع نظريتها‬ ‫األولى‪ ،‬فحرص السويدي ْي ِن على نفي الليبرالية عن‬ ‫مبادئهما المتعاطفة مع حق الشعب الفلسطيني‬ ‫ال يدعمه واقع أن البرلمانات األوربية التي اعترفت‬ ‫بدولة فلسطين والحركات الجامعية واألكاديمية‬ ‫التي ُتقاطِ ع إسرائيل هي في معظمها محاضن‬ ‫ليبرالية‪ ،‬على أن هذا ال ينفي دور اليسار األوربي‬ ‫المتحمس لحقوق الشعوب والمهاجرين لكن هذا‬ ‫موضوع آخر‪ .‬أما وصف المرشح اليميني للصحافي‬ ‫ّ‬ ‫محق؛ فاإلعالم الليبرالي في‬ ‫بالليبرالي فلعله‬ ‫الواليات المتحدة األميركية يشكل اليوم جبهة ضد‬ ‫ترمب وضد اليمين خلفه‪.‬‬ ‫ويدور عربيًّا جدال واسع النطاق بين أنصار‬ ‫الليبرالية وخصومهم من التيارات األخرى‬ ‫اإلسالمية منها بوجه خاص‪ -‬تستعمل فيه كل‬‫العددان ‪ 490 - 489‬شوال ‪ -‬ذو القعدة ‪1438‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬أغسطس ‪2017‬م‬

‫األسلحة البالغية الممكنة‪ ،‬وما يعنيني هنا منها هو‬ ‫سالح المفاهيم وانصراف بعض أطراف المعارك من‬ ‫التيارات كلها للتصدي لتاريخ الليبرالية ومفهومها‬ ‫وتعريفها‪ ،‬ويتحول كثير من هذا الخالف الفكري‪ ،‬وفي‬ ‫الساحة السعودية منه أعاجيب كثيرة؛ إلى مبارزة تجد‬ ‫ً‬ ‫ومعارضا‪ ،‬فيما تؤكد‬ ‫فيها سالح الطرفين مثلومً ا‪ ،‬مؤيدً ا‬ ‫تجارب الدول أن ُّ‬ ‫تمثل المذاهب السياسية على األرض‬ ‫أهم كثي ًرا من فلسفة النظرية وتاريخها‪ ،‬فال يذهب الظن‬ ‫أن ميركل وماكرون وماي في اجتماعات االتحاد األوربي‬ ‫ينشغلون بتعريف الليبرالية وفروقاته بين جون لوك‬ ‫وجان جاك روسو‪ ،‬غير أنهم جميعً ا منهمكون بالتزام‬ ‫نتائج هذه الفلسفة وتطبيقها تأكيدً ا لحق الفرد في‬ ‫الملكية والحرية‪.‬‬ ‫المذاهب الكبرى كالليبرالية تكوّنت على مدى قرون‬ ‫من الزمن‪ٌّ ،‬‬ ‫كل يضع فيها من روحه شي ًئا‪ ،‬فال يضر إن‬ ‫اختلفت تعريفاتها طالما كان الهدف األسمى منها وهو‬ ‫ً‬ ‫متحققا‪ ،‬فإن قلت‪ :‬هي فلسفة الحرية‪،‬‬ ‫تحرير الفرد‬ ‫أو هي حق الفرد في الملكية‪ ،‬أو هي الفصل بين‬ ‫السلطات‪ ،‬أو هي المساواة؛ فأنت في االتجاه الصحيح‪.‬‬ ‫وهكذا الفلسفات الكبرى لكل مفكر في العصور األوربية‬ ‫فيها ضربة إزميل وزاوية نظر‪ .‬وأن يحتدم السجال‬ ‫حول مفهوم الليبرالية في مجتمعات لم تخلقها ولم‬ ‫تستنبتها وال تتوافر فيها مقوماتها؛ هو أمر مخالف‬ ‫للطبيعة وللعقل‪ ،‬إن معارك الليبراليين في المجتمعات‬ ‫الغربية اليوم تجاوزت األنظمة االقتصادية واالجتماعية‬ ‫وحقوق األقليات ومشاركة المرأة في المواقع السياسية‬ ‫رأسا على‬ ‫والعسكرية؛ إلى قلب مؤسسة الزواج ً‬ ‫عقب‪ ،‬وحق اإلجهاض‪ ،‬وفتح الباب أمام المهاجرين‬ ‫وحقوقهم‪ ،‬وبمقارنتها مع مادة الجدل الليبرالي في‬ ‫عالمنا تتضح المفارقة‪.‬‬ ‫والحال أن معظم المذاهب الفكرية والفلسفات‬


‫السياسية التي نشأت في أوربا وتطورت خالل قرون‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫وألف فيها مفكرون وفالسفة من القرن الثالث عشر‬ ‫إلى منتصف القرن العشرين؛ هي أفكار انبعثت‬ ‫وتكوّنت لخدمة مجتمعات محلية‪ ،‬فمشكالتها كانت‬ ‫أوربية وعالجها كان أوربيًّا‪ .‬كارل ماركس كان يسعى‬ ‫لالنتصار لطبقة العمال‪ ،‬وتوماس هوبز كان يحارب‬ ‫سيطرة الكنيسة والالهوت‪ .‬وهي قضايا لم تكن من‬ ‫أولويات الشعوب غير األوربية‪ ،‬وكان أن انتصر بعض‬ ‫هذه النظريات وصار عالميًّا‪ ،‬ومنها الليبرالية‪ ،‬وصارت‬ ‫تطبيقاتها صالحة لالستيراد إذا ما جرى توطينها‪ ،‬فمثلاً‬ ‫شيوعية الصين غيرها في كوريا الشمالية غيرها في‬ ‫كوبا‪ ،‬حتى الليبرالية الغربية ّ‬ ‫وطنت النظرية بما يناسبها‬ ‫وطعّ متها بما سمَّ ته اشتراكية ديمقراطية‪ ،‬فأنظمة‬ ‫الحكومات األوربية في المجال الصحي والتعليمي‬ ‫اشتراكية ال عالقة لها بالليبرالية والسوق الحرة‪،‬‬ ‫على أنها تتيح انسجامً ا مع ليبراليتها حرية األفراد في‬ ‫االستثمار في هذين القطاعين‪ ،‬وتبقى الواليات المتحدة‬ ‫وحدها ليبرالية جدًّ ا أو نيو ليبرالية في هذين القطاعين؛‬ ‫بسبب حساسية مؤسساتها التشريعية من أي ملمح‬ ‫شيوعي مرعب‪.‬‬ ‫ويعد كتاب أستاذ الفلسفة السياسية الفرنسي بيير‬ ‫مانيه (التاريخ الفكري لليبرالية) من الكتب التأسيسية‬ ‫في تاريخ هذه النظرية‪ ،‬وقد نقله إلى العربية الدكتور‬ ‫هاشم صالح‪ ،‬ويصدر عن مركز الملك فيصل للبحوث‬ ‫والدراسات اإلسالمية‪ ،‬والكتاب يمثل إطاللة موجزة‬ ‫على التاريخ األوربي عبر سياحة فكرية في عقول ثمانية‬ ‫فالسفة أوربيين ينسب إليهم مانيه تأسيس الفكرة‬ ‫الليبرالية‪ ،‬وهو يرى أن مبعثها األول كان في أطروحات‬ ‫مكيافيلي في كتابه (األمير) في القرن السادس عشر‪،‬‬ ‫ويختتمها بعالِم االجتماع الفرنسي توكفيل المتوفى‬ ‫في منتصف القرن التاسع عشر‪ ،‬أي أنها دورة فكرية‬ ‫استغرقت ثالثة قرون‪ ،‬وإن كان يعود بالقارئ ً‬ ‫أيضا إلى‬ ‫أرسطو والمدينة الرومانية القديمة‪ .‬لقد كان هاجس‬ ‫مانيه العودة إلى أيام سيطرة الكنيسة المطلقة وصولاً‬ ‫إلى نشوء الحركة المضادة لتدخل الكنيسة األخروية في‬ ‫شؤون الدنيا وانبعاث أول المبادئ العلمانية‪.‬‬ ‫ِّ‬ ‫المؤلف فضلاً عن عباراته الموجزة وأفكاره‬ ‫ومما يميز‬ ‫المكثفة وميله إلى التكرار لشرح القضايا المعقدة؛ أنه‬ ‫ً‬ ‫موقفا حياديًّا ونقديًّا في أحيان كثيرة‪ ،‬فتوصيفه‬ ‫يأخذ‬ ‫للمجتمع الذي تحكمه الليبرالية شديد الدقة‪ ،‬هو يرى‬ ‫عالقة األفراد داخل المجتمع الليبرالي أشبه ما تكون‬ ‫بالكونفدرالية‪ ،‬وذلك عكس ما تشاهده في مجتمع له‬ ‫رأي واحد شديد التجانس في األنظمة الشمولية‪ ،‬سواء‬

‫تكونت على مدى‬ ‫المذاهب الكبرى كالليبرالية ّ‬ ‫كل يضع فيها من روحه شي ًئا‪،‬‬ ‫قرون من الزمن‪ٌّ ،‬‬ ‫فال يضر إن اختلفت تعريفاتها طالما كان الهدف‬ ‫األسمى منها وهو تحرير الفرد متحققً ا‪ ،‬فإن‬ ‫قلت‪ :‬هي فلسفة الحرية‪ ،‬أو هي حق الفرد في‬ ‫الملكية‪ ،‬أو هي الفصل بين السلطات‪ ،‬أو هي‬ ‫المساواة؛ فأنت في االتجاه الصحيح‬

‫ً‬ ‫طوعا أم كرهً ا‪.‬‬ ‫كان ذلك‬ ‫ويلحظ مانيه األصول اإلنجيلية في قيم الحرية‬ ‫والمساواة داخل الليبرالية رغم حربها األولى على‬ ‫المسيحية‪ ،‬جازمً ا بأن الليبرالية لن تصبح ماضيًا؛ ألنها‬ ‫قابلة للتعديل والتجديد‪ ،‬وألنها تحمل بذور نقدها‬ ‫ونقضها في داخلها‪ ،‬فكل ما تجزم به الليبرالية قابل‬ ‫للشك؛ ألن النظرية األولى هي آراء بشرية خاصة‪،‬‬ ‫واألساس فيها عدم يقينية اآلراء‪ ،‬وهو ما يجعلها‬ ‫مستعدة دائمً ا لنقض نفسها إذا دعت الحاجة‪.‬‬ ‫الفت كيف أن الليبرالية وهي أساس الحضارة‬ ‫الغربية المحسودة اليوم من قوانين ومساواة وحريات‬ ‫وفصل بين السلطات؛ إنما هي صناعة نقادها وخصومها‬ ‫قبل بُناتها وفالسفتها‪ .‬وعلى حد توصيف مانيه نفسه‬ ‫فإن جان جاك روسو هو أحد خصوم الليبرالية وأكبر‬ ‫آن واحد‪ ،‬وهو ما يجعلها تبدو اليوم خيارًا‬ ‫فالسفتها في ٍ‬ ‫َّ‬ ‫مفضلاً إلدارة الدول‪ ،‬فالنظام العالمي المعاصر ينبني‬

‫على هذه السلطات الثالث التي اخترعتها الليبرالية‬ ‫ّ‬ ‫ونظمت العالقة بينها‪ ،‬ثم وضعت حكم القانون ونظام‬ ‫االنتخابات ليحرك الدولة بدينامية مستمرة‪.‬‬ ‫والالفت أكثر أن الدول التي كانت تعادي المعسكر‬ ‫الليبرالي الغربي طبَّقت هذه المبادئ صوريًّا وأفرغتها من‬ ‫مضمونها‪ :‬سلطات ثالث ال قيمة حقيقية لها‪ ،‬وانتخابات‬ ‫معروفة النتائج ال تسهم إال في ترسيخ الواقع‪ ،‬وقانون‬ ‫يبقى في مكانه المالئم من المكتبة‪.‬‬ ‫هذا ما قدمته الليبرالية للعالم بوصفها خالصة‬ ‫ما توصلت له الحضارة الغربية اليوم‪ ،‬وعلى بقية‬ ‫المجتمعات أن تقدم حلولها‪ ،‬وأن تنتج ما يليق بها من‬ ‫أنظمة‪ .‬وهناك في منطقتنا أفكار يمكن البناء عليها‪،‬‬ ‫وتأمل عواقبها‪ :‬والية الفقيه‪ ،‬البعث وحدة حرية‬ ‫اشتراكية‪ ،‬وطبعً ا كل ما ورد في النظرية العالمية الثالثة‬ ‫والكتاب األخضر‪.‬‬

‫‪17‬‬


‫الملف‬

‫الصحافة الورقية في زمن متغير‬

‫موت غير معلن‬

‫تنشغل أروقة الصحافة منذ سنوات بنقاشات معلنة وأخرى خفية‪ ،‬يدور معظمها حول مستقبل‬

‫المؤسسات الصحافية كبيرها وصغيرها‪ ،‬ومع انبالج فجر الهواتف الذكية واإلعالم االجتماعي ووقوع‬ ‫أولى الضحايا الصحافية بدأت القصص في المكاتب المغلقة تتحول إلى مقاالت وتقارير‪ ،‬ثم صارت‬

‫نداءات واستغاثات‪ ،‬أعقبها إغالق مؤسسات صحافية أبوابها‪ ،‬ثم توقف مطابع صحافية عريقة عن‬ ‫الهدير‪ ،‬حيث لم تعد رائحة الحبر ُت َشمّ ‪ ،‬وال أحد ينتظر مانشيت صفح ٍة أولى‪ ،‬أو يفكر بعمود في األخيرة‪.‬‬ ‫هكذا فجأة انتهت الحوارات الخجولة حول المستقبل المهني وتحولت التنبؤات الشعرية في الغد‬

‫‪18‬‬

‫المجهول ومغامرات الصحافيين في الميادين؛ إلى حقيقة مُ رة‪...‬‬

‫الصحيفة لم يعد لديها معلن وال قراء‪ ..‬والمموّل والداعم رحل إلى وسائل أخرى‪ ،‬وقرار‬

‫ثوان عبر هاتف محمول‪.‬‬ ‫االستغناء عن الصحافي والصحيفة لم تستغرق كتابته سوى ٍ‬

‫العددان ‪ 490 - 489‬شوال ‪ -‬ذو القعدة ‪1438‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬أغسطس ‪2017‬م‬


‫ً‬ ‫ً‬ ‫وصحفا عربية‪ .‬ارتبكت ألول وهلة‪ .‬ارتدت ز ًّيا‬ ‫صحفا دولية‬ ‫هذه حقيقة دهمت‬ ‫جديدا‪ّ .‬‬ ‫ً‬ ‫تعثرت‪.‬صدرت إلكترونية‪ .‬عادت ورقية وإلكترونية‪ .‬راهنت على الموقع‪.‬‬ ‫ورقيًّا‬

‫ثم غابت إلى األبد‪.‬‬

‫واليومَ للقارئ الذي كانت الصحف تخطب و ّده أن يختار أو يحتار‪ .‬أن يؤكد أو ينفي‪،‬‬

‫له أن يقول‪ :‬إنه يحب صحيفته اليومية مع فنجان الصباح كما تعوّد‪ ،‬وله أن يقول‪ :‬إن‬

‫صحيفته أو صحفه وأخباره العاجلة في جيبه‪ ،‬له أن يشارك الصحافيين األمل بعمر‬ ‫مديد‪ ،‬وله ً‬ ‫أيضا أن يكبّر على الصحافة ً‬ ‫أربعا‪.‬‬ ‫ولك أيها القارئ أن تختار معسكرك بين الورقيين أو اإللكترونيين‪ ،‬أن تتفاءل‬

‫بتجربة الواشنطن بوست األميركية التي جددت نفسها‪ ،‬وما زالت تهدد الرؤساء منذ‬ ‫ووترغيت‪ /‬نيكسون حتى روسيا‪ /‬ترمب‪ ،‬أو تلتفت إلى صحيفة السفير اللبنانية ووداعها‬

‫المرير بعد أكثر من أربعة عقود صاخبة‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫سيتكشف عن حقيقة الموت المؤجل؟‪ ‬أم هو «قصة‬ ‫أهو احتضار بطيء سرعان ما‬

‫موت معلن» كما يختار صحافي من روايات ماركيز‪ ،‬أم أن الصحافة تبدو آفلة لكن‬

‫بانتظار تجددها وانبعاثها بشكل جديد‪ ،‬أم هي «عقلية الورق» التي يجب القفز فوقها‬ ‫إلى عصر الشاشات الصغيرة؟‬

‫هذا ما تضعه «الفيصل» بين أيدي قرائها في ملف هذا العدد‪ ،‬وبأقالم الصحافيين‬

‫العرب أنفسهم‪ ..‬ستطالع في هذا الملف آراء متنوعة‪ ،‬وكثيرًا ما ستجد بعضها ينقض‬ ‫ً‬ ‫بعضا‪ ،‬هذا هو واقع الصحافة العربية اليوم‪ ،‬إنه مفترق طرق‪ ،‬بين عهد السيادة‬

‫والمانشيتات والزوايا واألعمدة وتحريك الشارع‪ ،‬وواقع البوست المؤثر والتغريدة‬ ‫ً‬ ‫تدقيقا وال حبرًا وال مطبعة‪.‬‬ ‫الصاخبة والخبر العاجل الذي ال يحتاج صياغة وال‬

‫‪19‬‬


‫الملف‬

‫لتبقى المهنة‪..‬‬ ‫تخلصوا من عقلية الورق!‬ ‫محمد الحيزان‬

‫‪20‬‬

‫مستشار وباحث في اإلعالم واالتصال‬

‫التغيرات والتطورات التي شهدتها السنوات العشر األخيرة في تقنيات االتصال‬ ‫واستخدامات أفراد المجتمعات لها‪ ،‬وكذلك مؤشرات اإلقبال على الصحف الورقية‪ ،‬إضافة‬ ‫إلى ردود أفعال القائمين عليها؛ تشير بما ال يدع مجالاً للشك إلى أن هناك حالة انحسار كبير‬ ‫في عدد قراء الصحافة الورقية لصالح البدائل اإللكترونية‪ ،‬والشواهد كثيرة؛ فبعض الصحف‬ ‫الورقية اختصر الطريق مباشرة فتوقف‪ ،‬وهذا استسالم يعني عدم الرغبة في االستمرار‪ ،‬أو‬ ‫ضعف القدرة لسبب أو آلخر على المواكبة‪ ،‬وقد يكون التوقف نتيجة للصدمة وحجم االرتباك‪.‬‬ ‫وال بد من القول بأن االنحسار طبيعي وواقعي‪ ،‬فوسائل اإلعالم اليوم هي غير وسائله باألمس‪،‬‬ ‫وأكد ذلك أن الجمهور تفاعل إيجا ًبا مع وسائل ذات خواص جاذبة أبرزها دخول هذا الجمهور‬ ‫ً‬ ‫شريكا مع الوسائل ليس في إبداء الرأي فقط؛ بل في صناعة مواد التحرير وأشكاله‪ ،‬وذلك من‬ ‫خالل متغير «التفاعلية» التي شكلت قيمة مضافة لهذا النوع الجديد من الوسائل‪.‬‬

‫العددان ‪ 490 - 489‬شوال ‪ -‬ذو القعدة ‪1438‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬أغسطس ‪2017‬م‬


‫نقطة مهمة ال بد من التنبيه عليها‪ ،‬أن ردة فعل بعض الصحف‬

‫الورقية كانت عنيفة‪ ،‬يف حني أن بعض رواد الوسائل الجديدة كانوا‬

‫إقصائيني‪ ،‬وهو ما أدى إىل االعتقاد بأن هناك نوعني من الصحافة‪:‬‬ ‫تقليدي وإلكرتوين‪ ،‬وهذا أمر مؤقت وكان يمكن ألاّ يوجد لو كانت‬ ‫هناك مبادرة من الصحف الرائدة التي هي األصل لفهم التغريات‬ ‫والتعامل معها بواقعية ومهنية‪ ،‬فالحماس ملهنة الصحافة يجب ألاّ‬ ‫يختزل يف التعصب للشكل الذي تقدم به‪ ،‬فالذين أخذوا بالتصنيف‬

‫تسببوا ولألسف يف تساقط كثري من مقومات صناعة الصحافة‪،‬‬ ‫وبخاصة املقومات البشرية التي ُزجّ بها يف هذا التعصب فخسرت هي‬

‫األخرى ً‬ ‫فرصا قيمة‪ ،‬وكان عىل الجميع عدم التعامل مع الصحافة‬ ‫بشكل حدّي يصنفها عرب منظور تقني شكيل؛ من خالل نموذجني‬

‫ال يمكن أن يتداخال‪ :‬أحدهما صحافة تقليدية ورقية‪ ،‬واآلخر صحافة‬ ‫جديدة رقمية‪ ،‬يف حني أن األمر بكل بساطة كان ينبغي أن ينظر له‬

‫عىل أننا حيال شكل وعاء جديد يجب أن يُتعامَل معه بما يقتضيه‬ ‫هذا الوعاء دون تراشق غري محسوب َّ‬ ‫كلف الصحافة اليشء الكثري‪،‬‬ ‫واستدعى يف كثري من أقطار عاملنا العربي البدء من الصفر من خالل‬

‫أفراد تنقصهم الخربة‪ ،‬وبالتايل فهو فهم لم ي نْ َ‬ ‫ُب عىل تراكمات املايض‬

‫كما هو الحال مع صحافة الدول الغربية‪.‬‬ ‫صحافة الفضاء الجديد‬

‫يمكن تقسيم حالة الصحف الغربية مع الفضاء الجديد إىل‬

‫قسمني‪ :‬قسم يمثل الصحف التي بادرت بإيقاف النسخة الورقية‪،‬‬

‫وحاول تعويض ذلك بالحضور إلكرتونيًّا بطريقة تشبه النسخة‬

‫يجب أن ننظر إلى نجاحات الماضي في‬ ‫عالم الصحافة الورقية على أنها جزء‬ ‫من تراث جميل‪ ،‬وعلى الصحافة العربية‬ ‫أن تدخل بقوة في مرحلة صناعة الشكل‬ ‫الجديد لإلعالم‬ ‫ويحسب لها أنها جادة يف صناعة الشكل الجديد للصحافة؛ إذ يلحظ‬

‫الورقية‪ ،‬وهو ما لم يحقق له الحضور بالقوة التي كان يتمتع بها عىل‬ ‫الورق‪ ،‬وهذا التصرف جزء من ردة الفعل التي أشرت لها ً‬ ‫آنفا‪ ،‬وجراء‬

‫هي عليه حال معظم الصحف العربية)‪ ،‬إنما أصبحت جزءًا مهمًّا من‬

‫مع هذا الفضاء الجديد‪ ،‬وذلك كصحيفة كريستيان ساينس مونيتور‬

‫اإللكرتونية الحقة‪ ،‬وهو يف رأيي لم يتبلور بعد‪ ،‬واملتابع للصحافة‬

‫االرتباك الذي أصابها؛ ألن الطريق لم تكن واضحة يف كيفية التعامل‬

‫التي ظهرت عىل النت بشكل متواضع‪ ،‬واكتفت بإصدار نسخة ورقية‬

‫مرة يف األسبوع‪ ،‬وكذلك مجلة نيوزويك‪ ،‬ولقناعة الصحيفة واملجلة‬ ‫التامة بأن تاريخهما وعراقتهما يف الصحافة يوجبان عليهما أن تبقيا‬ ‫حاضرتني يف َ‬ ‫عالم اإلعالم‪ ،‬رجعتا للساحة اإلعالمية مرة أخرى‪ ،‬فقد‬

‫مهني‬ ‫أعلنت الصحيفة يف الثامن من شهر مايو ‪2017‬م عودتها بشكل‬ ‫ّ‬ ‫إلكرتوين‪ ،‬أي بعد تسع سنوات من توقفها‪ ،‬كما أن النيوزويك قررت‬ ‫ّ‬ ‫العودة ورقيًّا وإلكرتونيًّا بعد أشهر من توقفها مع تغيريات يف أسلوب‬ ‫التحرير وسياسة التسويق‪ ،‬وهذا مؤشر عىل أن الوسائل الجديدة ال‬

‫يمكن أن تكون بديلة عن الوسائل العريقة‪ ،‬أو عىل األقل ال يمكن أن‬ ‫تبدأ من الصفر‪ ،‬وأن املسألة ليست قضية شكل‪ ،‬إنما محتوى‪.‬‬

‫يف خطواتها أنها يف نسختها اإللكرتونية لم تكن مماثلة للورقية (كما‬ ‫التطوير الذي ال يزال يعمل عىل الوصول إىل الشكل النهايئ للصحافة‬

‫اإللكرتونية الغربية يلحظ التغيريات املتالحقة التي تهدف إىل شكل‬

‫جديد لم يصل بعد‪.‬‬

‫املواطن الصحفي‬

‫أما عن مهنة املراسل الصحفي وسؤال «الفيصل» عن مستقبلها‬

‫يف ظل ما يطرح عن صحافة املواطن وصحافة الهاتف الذيك؛ فهو‬ ‫جزء من التغيري الذي يمليه الشكل الجديد للصحافة‪ ،‬وينبغي لنا ألاّ‬

‫ننظر إليه عىل أنه إلغاء ملهنة املراسل الصحايف‪ ،‬لكنه تطوير له يلبِّي‬ ‫قيمة تنافسية يف الصحافة يدركها املهنيون واملتخصصون وهي السبق‬ ‫الصحفي‪ ،‬وهي عىل الرغم من أهميتها‪ ،‬فإنها محفوفة باملخاطر إذا‬

‫القسم الثاين من الصحف هو الذي دخل عالم الفضاء الجديد‬

‫لم يشرف عىل التعامل معها أصحاب الصنعة‪ ،‬إذ قد تكون لها آثار‬

‫مدركة تمامًا لخصائص‬ ‫ويو إس إي توداي وغريها‪ ،‬لكن بعقلية ِ‬ ‫ّ‬ ‫ووفرت لذلك السبل كافة التي تؤكد هذا‪،‬‬ ‫الفضاء اإللكرتوين‪،‬‬

‫ما‪ ،‬فإنه ليس صحافيًّا مهنيًّا مدر ًكا تمامًا ملهنة الصحافة‪ ،‬إنما هو‬

‫مع الحفاظ عىل نسخته الورقية كنيويورك تايمز‪ ،‬وواشنطن بوست‬

‫عكسية يف حال فقدان املصداقية‪ ،‬ومع التقدير ملا يمكن أن يقوم به‬ ‫ً‬ ‫أحيانا يف تغطية حدث‬ ‫ما يعرف بـ«املواطن الصحفي» الذي يستعان به‬

‫‪21‬‬


‫الملف‬

‫حالة مؤقتة صادف وجودها يف مكان الحدث‪ ،‬واستعني به‬ ‫ً‬ ‫مطلقا‬ ‫وفق شروط مهنية محددة‪ .‬ونحن ال نقلل من أهميته‬ ‫فهو شاهد مهمّ عىل الحدث بأسلوب أكرث شمولية‪ ،‬لكن ال‬ ‫يمكن أن يُعوَّل عىل الشخص نفسه الذي ّ‬ ‫وثق الحدث دائمًا‬ ‫يف أحداث أخرى‪.‬‬

‫‪22‬‬

‫عقلية الورق‬

‫إن الصحافة العربية‪ ،‬بما يف ذلك صحافتنا املحلية‪ ،‬بقيت‬

‫‪-‬وال تزال يف كثري من الحاالت‪ -‬تحتفظ بأخبار اليوم يف جعبتها‬

‫لتنشر يف الغد؛ ألنها ال تريد أن تحرق مادة ترى أنها سلعة‬ ‫قيمة للمعلن الذي بدأ يتضاءل يف صحف الورق‪ ،‬فالجمهور ‪-‬يف‬ ‫اعتقاد التقليديني‪ -‬لن يُق ِبل عىل الصحيفة يف حال عدم وجود‬ ‫مادة متكاملة َ‬ ‫وث ِريَّة حافزة إىل اقتنائها‪ ،‬وهذه املادة املقصودة‬

‫بإمكانك الحصول على اشتراك في‬ ‫صحيفة وول ستريت جورنال مدة ثالثة‬ ‫أشهر مقابل دوالر واحد فقط‪ .‬قد يبدو‬ ‫زهيدا ج ًّدا‪ ،‬لكنه ربما يحقق‬ ‫هذا المبلغ‬ ‫ً‬ ‫كبيرا؛ لسبب بسيط هو أن العالم‬ ‫دخ‬ ‫ً‬ ‫لاً‬ ‫متاحا لها‬ ‫أجمع أصبح‬ ‫ً‬ ‫وبكل وضوح يمكن القول بأن عليك إذا أردت أن تتعرف عىل أيّ سبب‬ ‫لرتاجع يف صحيفة ما أن ُتف ِّتش عن «عقلية الورق»‪ ،‬ويجب أن ننظر‬ ‫ٍ‬ ‫إىل نجاحات املايض يف عالم الصحافة الورقية عىل أنها جزء من تراث‬

‫جميل‪ ،‬وعىل الصحافة العربية أن تدخل بقوة يف مرحلة صناعة‬ ‫الشكل الجديد لإلعالم‪ ،‬ال أن تنتظر من يبتكر لها أسلوبًا تسري عليه‪،‬‬

‫قد تنطبق عىل صحافة الرأي واملواد الثقافية‪ ،‬لكن األمر ليس‬

‫حتى إن وجدت بعض األساليب الناجحة‪ ،‬فإن نجاحها مع الصحف‬ ‫ً‬ ‫مضمونا كما هو الحال مع مبتكريها؛ ذلك أن‬ ‫العربية ليس بالضرورة‬

‫سريعة الذبول؛ لذا أصبح ال بد من نشرها بشكل فوريّ ‪.‬‬

‫نجاحات كبرية لبعض الصحف العاملية العريقة يف اإلعالم الجديد‪،‬‬ ‫لكن لن تستطيع الصحف العربية مجاراتها ألن ثمن النجاح ِّ‬ ‫مكلف‬

‫كذلك مع املادة الخربية التي لم تعد تلك السلعة القيمة التي‬ ‫تستحق الحفظ للنشر يف الغد كما تعتقد بعض الصحف لكونها‬ ‫هذا األسلوب ال يوجد يف الصحف العريقة عامليًّا‪ ،‬وال حتى‬

‫يف املجالت الشهرية؛ التي واكبت العصر‪ ،‬وتحولت إىل أشبه‬ ‫ما يكون بوكاالت أنباء‪ ،‬واملتابع لحساباتها عىل تويرت يدرك‬

‫ذلك جيدًا؛ إذ إنها تنشر موا َّد متالحقة عىل مدار الساعة‪،‬‬

‫ثقافة الجمهور وإمكانات الصحف تختلف من ثقافة ألخرى‪ ،‬هناك‬

‫ً‬ ‫أحيانا تتعلق باملواقع اإلدارية)‪.‬‬ ‫ويتطلب تنازالت مالية (ومعنوية‬ ‫ولألسف العربية واملحلية ال تحبذ هذا األمر أو ال تستطيع‪ .‬فعندما‬

‫أحست بعض الصحف التقليدية بالخطر الذي يهدّدها‪ ،‬قامت‬ ‫ّ‬

‫وبمعدل دقائق محدودة لكل مادة‪ .‬وهو ما قادها إىل العمل‬

‫وبشكل معلن باستجداء تدخل الجهات املعنية واملؤسسات وطلب‬

‫يمكن االستفادة منه يف حال وجد املنتج الصحفي القيم‪،‬‬

‫ذاتها‪ ،‬واألهم من ذلك لتناقض هذا األسلوب مع مبادئ أساسية يف‬

‫عىل محاوالت مبتكرة ال تزال قائمة‪ ،‬حقق بعضها نجاحً ا‬ ‫وشبه الحصري‪.‬‬

‫ال بد أن تتخىل الصحافة الورقية والقائمون عليها عن‬

‫التفكري فيما يمكن أن نطلق عليه «عقلية الورق»‪ ،‬حتى تبقى‬ ‫كمهنة وليس كشكل‪ ،‬وعليها أن تفكر بـ«عقلية إلكرتونية»‪،‬‬

‫العون‪ .‬هذا ال يحدث يف الغرب لسبب بسيط يكمن يف أنها تعتمد عىل‬

‫عالم الصحف‪ ،‬أبرزها مبدأ تجنب تعارض املصالح‪.‬‬

‫أخريًا ال بد من القول بأن الهاجس الذي ينبغي أن تشرتك فيه‬

‫الجهات املعنية بصناعة اإلعالم يف ظل التغريات املربكة؛ هو اإلبقاء‬ ‫عىل مهنة الصحافة التي قد تذوب يف عالم الحرية والتشتت‪.‬‬

‫العددان ‪ 490 - 489‬شوال ‪ -‬ذو القعدة ‪1438‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬أغسطس ‪2017‬م‬


‫الدخل والعامل االقتصادي‬ ‫ال أحد ينكر أن االقتصاد هو عصب النجاح‪ ،‬لكن أكرر يف هذه املرحلة أن عىل الصحف ألاّ تفكر بـ«عقلية الورق»‪،‬‬

‫واملأزق الحقيقي يكمن يف صعوبة التخيل عن ثقافة األمس‪ ،‬الصحف املحلية عىل سبيل املثال اعتادت عىل أن تبيع الصفحة‬ ‫اإلعالنية بمعدل يراوح بني ‪ 70-60‬ألف ريال‪ ،‬وشكلت اإلعالنات يف وقت ما املصدر الرئيس لها‪ ،‬واإلعالن الرقمي مع اإلعالم‬

‫ً‬ ‫خصوصا يف ظل وجود قنوات إعالنية منافسة‪ .‬التفكري‬ ‫الجديد يف الصحف املحلية يصعب أن يصل إىل ذلك السعر‪،‬‬

‫املنطقي بما عليه بيئة اإلعالم الجديد يتطلب الشجاعة يف اتخاذ القرار والقبول بالقليل يف سبيل الحصول عىل الكثري‪.‬‬

‫وهو ما أقدمت عليه الصحف العاملية العريقة‪ ،‬فعىل سبيل املثال بإمكانك الحصول عىل اشرتاك يف صحيفة وول سرتيت‬ ‫زهيدا ًّ‬ ‫ً‬ ‫جدا بقيمة االشرتاكات الورقية يف السابق‪ ،‬لكنه‬ ‫جورنال مدة ثالثة أشهر مقابل دوالر واحد فقط‪ .‬قد يبدو هذا املبلغ‬ ‫ربما يحقق دخلاً كبريًا؛ لسبب بسيط هو أن العالم أجمع أصبح متاحً ا لها‪ ،‬وأصبح بإمكانها مضاعفة املشرتكني عىل نحو‬

‫يحقق أرباحً ا مضاعفة‪.‬‬

‫نعم هناك تجارب دولية يشار لها بالبنان عملت وال تزال عىل تطوير حضورها‬

‫الرقمي‪ ،‬لعل من أبرزها صحيفتي نيويورك تايمز التي استطاعت أن تحقق من‬ ‫اشرتاكات ُ‬ ‫القراء دخلاً كبريًا عوَّضها عن خسائر الدخل اإلعالين الذي كانت تحققه‬

‫أيام طفرة النشر الورقي‪ ،‬ومثل ذلك مجلة التايم األمريكية التي وصل عدد مشرتكيها‬ ‫‪ 22‬مليون مشرتك‪ ،‬ومن التجارب الفريدة كذلك صحيفة واشنطن بوست التي‬

‫اشرتاها مالك ومؤسس موقع أمازون السيد جيف بيزوس بصفته الشخصية‪.‬‬ ‫ً‬ ‫بعضا ظن أنه غامر بشراء صفقة خاسرة‪ ،‬فإن الخطوات‬ ‫وعىل الرغم من أن‬

‫‪23‬‬

‫التطويرية والتغيريات التي وعد بها يف الصحيفة ً‬ ‫وفقا لطبيعة التقلبات املرتبطة‬

‫بالشبكة العنكبوتية‪ ،‬بدأت تؤيت ثمارها‪ ،‬وربما لم يكن ليتحقق لها ذلك لو لم‬ ‫يكن هو املشرتي؛ إذ إنه ذو خلفية عميقة عن طبيعة عصر الفضاء الجديد‪ ،‬وبدأ‬

‫جيف بيزوس‬

‫يتعامل مع الصحيفة من منطلق الحاجة ‪-‬كما قال هو‪ -‬إىل االبتكار واالختبار للتحقق من تأقلم الصحيفة يف ثوبها الجديد‬ ‫مع سلوكيات جمهور النت‪ ،‬مع تأكيده صراحة عىل احتفاظ الـبوست بقيمها التي أكد عىل أنها لن تتغري‪ ،‬وهو الجانب‬

‫ً‬ ‫جيدا قطاع اإلعالم واستمر‬ ‫الذي أكد أنه ال ينوي التدخل يف العمل اليومي للصحيفة التي تدار بفريق إداري ممتاز يعرف‬ ‫يف عمله‪ .‬وكانت املفاجأة أن ُتحقق الصحيفة بعد أكرث من عامني نجاحً ا لم يكن متوقعً ا‪ ،‬وجمعت بني النمو والربح؛‬

‫لسبب بسيط هو أنها زاوجت بني أسلوب أمازون التجاري والبوست اإلعالمي‪ ،‬وترتب عىل ذلك تطوير اقتضته طبيعة‬

‫عصر اإلنرتنت‪ ،‬أبرزها التعريف بخدمة ما يسمى بـ«موبايل فيديو» التي يقدم عربها الخرب يف ‪ 15‬ثانية‪ ،‬و«رابد رسبونس»‬ ‫ً‬ ‫تحقيقا‬ ‫أو االستجابة السريعة التي تتضمن‬

‫ً‬ ‫معمقا خالل يوم وليس خالل أشهر أو‬ ‫ً‬ ‫سابقا‪ ،‬وكذلك‬ ‫أسابيع كما كان معمولاً به‬ ‫خدمة «خرب عاجل»‪.‬‬

‫أما عىل املستوى العربي‪ ،‬فلألسف ال‬

‫ّ‬ ‫يعتد‬ ‫توجد –حسب معرفتي‪ -‬تجارب قوية‬

‫بها‪ ،‬وإن كان أبرزها إقدام صحيفة النهار‬ ‫اللبنانية مؤخرًا عىل تشفري نسختها الورقية‬

‫وإتاحتها فقط للمشرتكني‪ ،‬وال يزال الوقت‬ ‫مبكرًا للحكم عىل ما إذا كان مضمونها‬ ‫قادرًا عىل فرض نفسه كما يجب‪.‬‬

‫قسيمة اشتراكات إلكترونية لصحيفة النهار اللبنانية‬


‫الملف‬

‫الصحافة‬ ‫الورقية‬ ‫صناعة انتهت‬ ‫‪24‬‬

‫عثمان العمير‬

‫ناشر صحيفة إيالف اإللكترونية‬

‫ال أعتقد أن على مسؤولي الصحافة‬

‫الورقية فعل شيء‪ ،‬األمر لم يعد بأيديهم حتى‬ ‫يفعلوا‪ .‬هذه صناعة انتهت مثلما تنتهي كل‬ ‫الصناعات التي عشناها منذ اختراع المطبعة‬ ‫ً‬ ‫خالفا سياسيًّا أو‬ ‫حتى اآلن‪ .‬القضية ليست‬

‫ً‬ ‫تشجيعا لفنان أو‬ ‫فكريًّا أو عقائد ًّيا أو حتى‬ ‫ً‬ ‫اصطفافا مع قبيلة أو بلد‪ .‬هذه قضية‬ ‫لكرة أو‬

‫حول وسيلة كانت تستخدم بشكل كبير‪ ،‬ثم‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫محلها‪ .‬ما على‬ ‫لتحل‬ ‫جاءت وسيلة أخرى‬ ‫القائمين على هذه الصحافة سوى االتجاه‬ ‫إلى المستقبل‪.‬‬

‫العددان ‪ 490 - 489‬شوال ‪ -‬ذو القعدة ‪1438‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬أغسطس ‪2017‬م‬


‫أتذكر أنني كنت التقيت طبيبًا يف نيويورك‪ ،‬قال يل حينها‬

‫وهو يتحدث بفخر عن ابنه الذي يعمل صحافيًّا يف نيويورك‬

‫تايمز‪ :‬إن اإلعالم الحديث هو املستقبل‪ ،‬أجبته عىل عجل‪:‬‬ ‫إنه إعالم الحاضر اآلن‪ ،‬شغلنا الشاغل هو‪ :‬كيف هي أحالم‬

‫إعالم الغد؟ ضحك الطبيب‪ ،‬وقال‪ :‬هات قلبك أفحصه ليقول‬

‫لك كم يومً ا ستعيش لرتى العالم الجديد غري هذا الذي تراه‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫تذكرت ذلك وهو يمارس الطريقة التقليدية‬ ‫اململة يف قياس‬ ‫الضغط والسكري والقلب‪.‬‬ ‫لاً‬ ‫قبل مدة كتبت تغريدة نق عن حكمة صينية تقول‪ :‬إذا‬ ‫أردت أن تسأل عن املستقبل فاذهب إىل طفل يف الخامسة‪،‬‬

‫ووجِّ ه له هذا السؤال‪ .‬والحق أن املستقبل ال يصنعه إال من‬

‫سيصبح جزءً ا منه وإال كيف نفسر أن كل األعمال الخارجة‬ ‫عن السؤال والجواب واالستفهام وعالمات التعجب قام بها‬

‫شباب ّ‬ ‫غض زاخر بالحياة؟ وكيف يمكن أن ننوب عن أمم تتابع‬

‫شبكات التواصل االجتماعي التي سيصبح عددها عام ‪2018‬م‬ ‫أكرث من مليارين ونصف املليار؟ لم تفعل الصحافة الورقية‬ ‫شي ًئا خاط ًئا لتؤول األمور إىل ما آلت إليه‪ ،‬فهي فقط تعاملت‬

‫مع عوائد الزمن؛ لذا فإنه من املستحيل اآلن أن تعيد الكرة‬ ‫من جديد سوى من خالل استخدام الوسائل التكنولوجية التي‬

‫أصبحت ضرورة‪ ،‬وأصبح القارئ املستفيد هو الذي يتحكم يف‬ ‫القبول من عدمه‪ .‬اآلن ال تستطيع أن تطور صحيفة وتجعلها‬

‫كما كانت قبل خمسة عشر عامً ا‪ .‬معظم ما نراه اآلن هو أن‬ ‫الصحف تتجه إىل وسائل االتصال االجتماعي وإىل تطوير‬

‫نفسها بشكل جذري‪ ،‬كما نرى يف واشنطن بوست التي ألغت‬ ‫طبعتها الورقية لكنها ناجحة يف استخدامها لوسائل التواصل‬

‫االجتماعي‪ ،‬وكذلك عدد من الصحف يف العالم اتجهت إىل هذا‬

‫االتجاه‪ .‬وأعتقد أنه يف املستقبل سيبدأ اإلعالن نفسه بالعودة‬ ‫إىل الصحف من خالل اهتمامها بوسائل االتصال االجتماعي‪.‬‬

‫يصدق ما قلته عن الصحف السعودية‬ ‫على صحف دول الخليج‪ ،‬وهي أن هناك‬ ‫كثرة في أسماء الصحف والصحافيين‪،‬‬ ‫لكنها تحتاج إلى الكيفية والنوعية‪،‬‬ ‫لدينا أكثر من عشر صحف يومية لقراء ال‬ ‫يتجاوز عددهم مئتي ألف‪ ،‬في حين تجد‬ ‫أن القراء في بريطانيا بالماليين وتجد‬ ‫صحفهم اليومية الوطنية قليلة ج ًّدا‬ ‫الصحف العربية متشابهة بصرف النظر عن قدراتها‬

‫املادية‪ ،‬والتشابه موجود يف رئيس تحريرها ويف مراقبها ويف‬ ‫السياسة التي توجهها كما تريد‪ .‬ويصدق ما قلته عن الصحف‬

‫السعودية عىل صحف دول الخليج‪ ،‬وهي أن هناك كرثة‬

‫أتصور أن ليس هناك اختالف كبري بالنسبة ملا يحدث يف‬

‫يف أسماء الصحف والصحافيني‪ ،‬لكنها تحتاج إىل الكيفية‬

‫اختالف يف موضوع اإلمكانات املادية‪ ،‬فصحف الخليج تتمتع‬

‫عددهم مئتي ألف‪ ،‬يف حني تجد أن القراء يف بريطانيا باملاليني‪،‬‬

‫الصحافة العربية أو الخليجية والسعودية‪ ،‬بالطبع هناك‬ ‫بإمكانات مادية‪ ،‬ولكنها كثرية جدًّ ا أكرث من الالزم‪ ،‬فيجب‬

‫اختصارها بشكل كبري‪ .‬وعندما تذهب إىل الصحف العربية تجد‬ ‫اليشء نفسه‪ ،‬هناك صحف تصدر بال هدف‪ ،‬ومن دون قارئ؛‬

‫ألنها إما مملوكة لشخص يقول‪ :‬إن عنده جريدة أو مملوكة‬ ‫لبعض األجهزة التي تريد أن تعرب عن نفسها‪ ،‬ولكنها يف الوقت‬

‫نفسه ليست قادرة عىل تقديم محتوى جيد‪.‬‬

‫والنوعية‪ ،‬لدينا أكرث من عشر صحف يومية لقراء ال يتجاوز‬

‫وتجد صحفهم اليومية الوطنية قليلة جدًّ ا قياسً ا بعدد الصحف‬ ‫املوجودة سواء يف العالم العربي أو يف الخليج والسعودية‪.‬‬

‫املعضلة الكربى أن معظم الصحف الخليجية والسعودية‪،‬‬

‫ومعظم املشاريع اإلعالمية ال تقوم عىل قواعد اقتصادية‪ ،‬أو‬ ‫عىل استطالع حقيقي للقراء‪ .‬إنها تصدر بقرار‪ ،‬ولذلك فإن هذا‬

‫القرار قد ال يستطيع أن يصل إىل السوق‪.‬‬

‫‪25‬‬


‫الملف‬

‫أزمة الصحافة‬ ‫الورقية في لبنان‪..‬‬ ‫قصة موت لم يعلن عنه بعد‬ ‫‪26‬‬

‫العددان ‪ 490 - 489‬شوال ‪ -‬ذو القعدة ‪1438‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬أغسطس ‪2017‬م‬


‫بزون‬ ‫أحمد ّ‬

‫رئيس القسم الثقافي في جريدة «السفير» سابقً ا‬

‫السؤال الذي ال بد من أن نستبق به الكالم عن أزمة الصحافة في لبنان هو‪ :‬هل هذه األزمة تؤدي إلى‬

‫انهيار الصحافة وموتها أم انهيار الصحافة الورقية فقط‪ ،‬حتى ال تختلط علينا األمور‪ ،‬في عصر تنهض فيه‬ ‫وسائط إعالم جديدة بدأت تسود على أكثر ما عداها من وسائط؟‬

‫هذا السؤال ال يتردد في لبنان وحده إنما يسود العالم كله؛ إذ بدأ التحول االنقالبي يطيح بكثير من‬

‫أساليب الحياة التقليدية‪ ،‬وقد بات علينا أن نتعامل بحذر حيال الموقف‪ ،‬فال نقف ضد تطور الحياة ونحن‬ ‫نتصدى لمفاعيل أزمة الصحافة التقليدية‪ ،‬فموت أسلوب في سبيل والدة أسلوب جديد ليس ً‬ ‫موتا‪ ،‬ففي‬ ‫مطلع مقدمته لكتاب صاحب جريدة النهار غسان تويني‪« ،‬أسرار المهنة وأسرار أخرى»‪ ،‬كتب الشاعر اللبناني‬

‫الراحل أنسي الحاج الذي كان وقت صدور الكتاب (عام ‪1995‬م) رئيس تحرير الجريدة‪« :‬ما من غياب إال لحضور‬

‫آخر‪ ،‬واالنهيار قيامة‪ ،‬ال موت هنا‪ ،‬في هذا العالم‪ ،‬مع أنه مرصع بالموت‪ ،‬ال موت وال صمت‪ ،‬بل حياة‬ ‫تتفجر من كل شيء»‪ .‬هذا الكالم جاء في معرض تفاؤل أنسي الحاج بالمستقبل الصحافي‪ ،‬وسط كل ما كان‬ ‫يراه من مشكالت في الصحافة اللبنانية‪ ،‬وما استنتجه من الحوار الطويل الذي أجراه مع صاحب «النهار»‬

‫حول أسرار المهنة؛ حتى إن تويني نفسه الذي خاض غمار الصحافة في «النهار» منذ عام ‪1948‬م‪ ،‬حين رأس‬ ‫تحرير الجريدة بعد والده جبران تويني (أسسها عام ‪1933‬م) كان متفائلاً بما كان يجري في العالم من تغيرات‪.‬‬ ‫مظاهر األزمة‬ ‫إذا كانت «النهار» صامدة حتى اآلن مع كل الرتاجعات التي أملتّ‬

‫بها‪ ،‬فإن إقفال جريدة «السفري» هو الذي اختصر األزمة يف لبنان‪،‬‬

‫ولم يبدأها‪ ،‬ومنه انطلق الكالم الواسع عن بدء سلسلة االنهيارات‬ ‫املتوقعة للصحافة الورقية يف لبنان‪ ،‬فالصراخ كان يتصاعد أكرث من‬

‫صحف أخرى‪ ،‬عندما وصل تأخر دفع مرتبات العاملني يف وسائل‬ ‫إعالم الرئيس الحريري (تلفزيون املستقبل‪ ،‬وإذاعة الشرق‪ ،‬وجريدة‬

‫املستقبل) إىل عشرين شه ًرا‪ ،‬ويف جريدة النهار إىل خمسة عشر شه ًرا‪،‬‬

‫وشهدت السنوات العشر املاضية سلسلة إجراءات تسريح عدد من‬ ‫املوظفني من الصحف‪ .‬لم تنقطع مرتبات العاملني يف «السفري»‬ ‫وهذا أمر إيجابي‪ ،‬لكن التوتر كان سائدًا يف االجتماعات‪ ،‬والخوف‬ ‫من التوقف يف أي شهر كان ماثلاً أمام الجميع‪ .‬وكانت «السفري»‬ ‫و«النهار» وصحف أخرى قد جمدت الزيادات اإلدارية الدورية قبل‬

‫‪ 15‬سنة‪ ،‬وأوقفت الشهرين الثالث عشر والرابع عشر‪ ،‬واتخذت‬

‫إجراءات تقشفية مختلفة‪ ،‬عىل أساس تخيري املوظفني بني هذه‬

‫اإلجراءات واإلفالس‪ .‬إن ما حصل لـ«السفري» كان يمكن أن يحصل يف‬ ‫صحف أخرى‪ ،‬لوال أن هذه الصحف اتخذت إجراءات وقائية تحميها‬

‫إىل مدد ال تطول كثريًا‪ ،‬وقد اعتمدت مبدأ مالقاة األزمة يف منتصف‬

‫الطريق‪ ،‬فاختصرت عدد العاملني‪ ،‬عىل حساب مستوى التحرير‬ ‫ومستوى العمل الصحايف‪ ،‬علمًا بأن كل هذه اإلجراءات الوقائية لن‬

‫تقيها من االنهيار؛ ذلك أن االنهيار بات أم ًرا بديهيًّا‪ ،‬وسوف يدور عىل‬ ‫الجميع‪ ،‬ما دامت الصحف مشاريع تجارية خاصة غري حكومية‪ ،‬وإن‬ ‫كان بعضها ذا أبعاد حزبية‪.‬‬

‫‪27‬‬


‫الملف‬

‫الصحف التي توقفت ذات عام كانت تعاين مشكالت مشابهة‬ ‫ونحن نتحدث عن هذه الظروف القاسية التي تعيشها‬

‫الصحافة اللبنانية نتذكر‪ ،‬لو رجعنا بالتاريخ إىل الوراء‪،‬‬ ‫أنها كانت مثلاً حس ًنا للصحافة العربية‪ ،‬وأن بريوت كانت‬ ‫ذات يوم عاصمة الصحافة العربية مثلما كانت عاصمة‬ ‫الثقافة العربية وعاصمة الحريات‪ ،‬وصحيح أن الصحافة‬

‫اللبنانية الحديثة التي تأسست يف القرن العشرين قد‬

‫استفادت كثريًا من الصحافة املصرية قبل أن يلجمها نظام‬

‫عبدالناصر‪ ،‬فإن الصحافة املصرية نفسها التي انطلقت‬ ‫مع «األهرام» عام ‪1874‬م كانت تأسست‬

‫للتي عانتها «السفري» وتعانيها صحف اليوم‪ ،‬مع اختالف‬

‫التفاصيل وطبيعة العصر‪ ،‬وقد وصل عدد الصحف اليومية‬ ‫حاليًّا إىل ُع ْش ِر الـ‪ ،110‬كما صرح نقيب الصحافة الجديد يف لبنان‬ ‫عوين الكعيك‪.‬‬

‫أسباب األزمة‬

‫يمكن أن نلخص أسباب أزمة الصحافة يف لبنان بما يأيت‪:‬‬

‫أولاً ‪ -‬أزمتنا جزء من األزمة التي تصيب الصحافة الورقية‬

‫يف العالم‪ ،‬وتحوُّل عدد كبري منها إىل إلكرتونية‪ ،‬يف ظل ثورة‬

‫تكنولوجيا املعلومات واالتصاالت الجديدة‪ ،‬ولنا‬

‫يف ذلك أمثلة كثرية‪ ،‬نذكر منها «النيوزويك»‬

‫عىل يد اللبنانيني سليم تقال وأخيه بشارة‬

‫األمريكية الشهرية‪ ،‬و«كريستيان ساينس‬

‫اللذين أسسا مطبعة ودار «األهرام» يف‬

‫مونيتور»‪ ،‬أعرق صحيفة أمريكية وقد‬ ‫استمرت بالصدور ً‬ ‫قرنا كاملاً ‪ ،‬ثم «اإلندبندنت»‬

‫اإلسكندرية قبل نقلها إىل القاهرة‪ ،‬لتصري‬

‫أهم جريدة مصرية‪ .‬ولعل عز انتشار‬

‫امتيازات الصحافة اللبنانية كان بني عامني‬ ‫‪1950‬م (حيث صدر ‪ 50‬امتيا ًزا) وعام ‪1955‬م‬

‫(‪ 45‬امتيا ًزا)‪ .‬وإذا علمنا أن عدد امتيازات‬

‫الصحف اللبنانية قد وصل إىل ‪ 110‬امتيازات‪ ،‬نفهم أن الخط‬

‫‪28‬‬

‫البياين النهيار الصحافة بدأ منذ زمن طويل‪ ،‬فكثري من‬

‫مرت على الصحف اللبنانية مراحل‬ ‫ذهبية‪ ،‬أو مناسبات‪ ،‬وصل فيها إصدار‬ ‫جريدة «النهار» إلى ‪ 125‬ألف نسخة‪،‬‬ ‫في حين وصل إصدار «السفير» إلى ‪50‬‬ ‫ألف نسخة‪ ،‬لتبدو األزمة في قمتها‬ ‫عندما وصلت مبيعات كل من «النهار»‬ ‫انتشارا في لبنان‪،‬‬ ‫و«السفير»‪ ،‬األكثر‬ ‫ً‬ ‫إلى قرابة خمسة آالف نسخة يوم ًّيا‬

‫الربيطانية وصحيفة «ذي لندن بيرب» املسائية‬

‫غسان تويني‬

‫املجانية‪ ،‬بعد إقفال نحو مئة صحيفة محلية‬ ‫يف بريطانيا‪ .‬وهكذا يمكن ذكر كثري من الصحف‬

‫األوربية وسواها من دول العالم‪ ،‬التي أسقطها التنافس مع‬

‫اإلعالم اإللكرتوين‪ ،‬وبات متعذرًا عليها االستمرار يف ظل األزمات‬

‫االقتصادية‪ ،‬وكذلك يف ظل تنافس التلفزيون واإلذاعة أولاً ‪ ،‬ثم‬

‫وسائط التواصل االجتماعي وأثر اإلنرتنت وصيغة اإلعالم الجديدة‬ ‫التي تركز عىل املعلومات أكرث من اإلعالم بمعناه األشمل‪ .‬لم تكن‬

‫تبعات األزمة العاملية التي نتحدث عنها ترمي بثقلها عىل الصحافة‬ ‫اللبنانية وحدها يف منطقتنا‪ ،‬إنما شهدت الصحافة العربية‬

‫كثريًا من األزمات‪ ،‬وسادت حال الرعب العديد من العاملني يف‬

‫ً‬ ‫خصوصا العاملني يف الصحف غري املدعومة من‬ ‫الصحافة الورقية‪،‬‬

‫الحكومات‪ ،‬بل إن بعض الصحف التي تقف خلفها سلطات بدأت‬ ‫تعاين مشكالت تهدد استمرارها‪ ،‬وقد اتخذت صحف خليجية عدة‬ ‫إجراءات وقائية؛ لتفادي السقوط املبكر‪ ،‬فلم َت َ‬ ‫سلم الصحيفتان‬ ‫الكربيان «الحياة» و«الشرق األوسط» من االهتزاز‪ ،‬وإن‬ ‫كانت «الحياة» محسوبة بامتيازها عىل‬ ‫لبنان‪ ،‬وبمضمونها وقدراتها املالية‬

‫عىل السعودية‪ .‬وقد باتت صحف‬

‫كثرية مصرية وكويتية ومغاربية‬

‫تشعر بهذا االهتزاز‪ ،‬ويكفي أن نعرف‬

‫أن مجموع توزيع الجرائد اليومية‬

‫املصرية انخفض إىل ‪ 400‬ألف نسخة‬ ‫فقط (كان مليونني و‪ 400‬ألف عام‬ ‫‪2009‬م) وهذا تراجع ينذر بالشؤم‬

‫ألنصار استمرار الصحافة الورقية‪.‬‬ ‫العددان ‪ 490 - 489‬شوال ‪ -‬ذو القعدة ‪1438‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬أغسطس ‪2017‬م‬


‫أنسي الحاج‬

‫عوني الكعكي‬

‫ثانيًا‪ -‬تراجع املال السيايس الذي انقطع مع انهيار نظام صدام‬

‫نائلة تويني‬

‫طالل سلمان‬

‫رسميًّا‪ ،‬وقد تركز الدعم الرسمي يف لبنان عىل «الجريدة الرسمية»‬

‫حسني ونظام القذايف‪ ،‬وكذلك توقف تدفق املال الخليجي ألسباب‬

‫وهي مقتصرة عىل اإلعالنات الرسمية‪ ،‬ووكالتي األنباء «الوطنية»‬

‫بعد حدوث ضعف يف األداء والتأثري شهدته الصحف‪ ،‬كذلك بعد‬

‫خامسا‪ -‬تراجع مستوى التحرير‪ ،‬مع تزايد الضغوط‬ ‫ً‬ ‫ليّ‬ ‫االقتصادية‪ ،‬واضطرار الصحيفة للتخ عن كوادر مهمة بسبب‬

‫عدة؛ منها شعور الداعم السيايس بعدم الجدوى من دعمه‪،‬‬ ‫تطوير وسائل اإلعالم الخليجية التي باتت تؤدي الغرض نفسه‬

‫ً‬ ‫خصوصا بعد استقطاب الطاقات‬ ‫الذي تؤديه الصحافة اللبنانية‪،‬‬ ‫الصحفية اللبنانية التي هجر بعضها بسبب الحرب وبعضها اآلخر‬

‫طلبًا ألجور أعىل‪.‬‬ ‫ً‬ ‫ثالثا‪ -‬تراجع املبيعات‪ ،‬فقد مرت عىل الصحف اللبنانية مراحل‬

‫و«املركزية»‪.‬‬

‫مرتباتهم العالية‪ ،‬وتوظيف شباب وشابات جدد بمرتبات أقل‪ .‬وال‬

‫نغايل إذا قلنا‪ :‬إن بعض الذين توقفوا عن شراء الصحف إنما فعلوا‬ ‫ذلك ألن مضمونها لم يعد يقنعهم‪ ،‬ولم يعد يمثل تطلعاتهم‪،‬‬

‫ً‬ ‫خصوصا يف مرحلة تزايد الحساسيات الطائفية واملذهبية‪ ،‬ولم‬

‫ذهبية‪ ،‬أو مناسبات‪ ،‬وصل فيها إصدار جريدة «النهار» إىل ‪ 125‬ألف‬

‫تستطع الصحف‪ ،‬التي حاول بعضها كثريًا استقطاب قراء األجيال‬

‫األزمة يف قمتها عندما وصلت مبيعات كل من «النهار» و«السفري»‪،‬‬

‫سادسً ا‪ -‬عدم تحول الصحف اللبنانية إىل مؤسسات تدار بشكل‬

‫نسخة‪ ،‬يف حني وصل إصدار «السفري» إىل ‪ 50‬ألف نسخة‪ ،‬لتبدو‬

‫األكرث انتشارًا يف لبنان‪ ،‬إىل قرابة خمسة آالف نسخة يوميًّا‪ ،‬إذا لم‬

‫تقل عن ذلك يف املراحل األخرية الحتضار «السفري»‪ ،‬وقد بات عدد‬ ‫النسخ املطبوعة من الصحيفة يف لبنان س ًّرا من األسرار العميقة ً‬ ‫خوفا‬ ‫من انكشاف نقاط الضعف‪ .‬ومع هذا الرتاجع يف املبيعات تصبح كلفة‬

‫النسخة أضعاف أضعاف سعرها يف السوق‪ ،‬وقد وصلت يف جريدة‬

‫«السفري»‪ ،‬عىل حد علمي‪ ،‬إىل أكرث من خمسة أضعاف‪ ،‬وقد بات‬ ‫من املستحيل االستمرار من دون دعم إعالين أو سيايس‪.‬‬

‫رابعً ا‪ -‬تراجع اإلعالنات سنة بعد سنة جعل األزمة يف ازدياد‬

‫ً‬ ‫خصوصا يف الصحف التي ال تعتمد عىل مال سيايس‬ ‫تدريجي‪،‬‬ ‫أو دعم حكومي‪ ،‬وكل الصحف اللبنانية املعروفة غري مدعومة‬

‫الشابة‪ ،‬الوصول إىل الهدف‪.‬‬

‫ذايت؛ إذ تخضع الصحف ألمزجة شخصية‪ ،‬ثم يأيت التوريث ليفقد‬ ‫الصحيفة البوصلة التي وضعها املؤسس‪ ،‬فيأيت جيل أقل حماسة‬ ‫من سابقه‪ ،‬وهذا ما حدث بوضوح عندما مرت جريدة «النهار»‬

‫بمراحل مختلفة متأثرة بمصلحة الوريث‪ ،‬فمن جربان تويني الجد‬ ‫إىل غسان‪ ،‬ثم ابنه جربان‪ ،‬وصولاً إىل ابنة األخري نائلة التي يف زمنها‬

‫تشهد الجريدة آخر انهياراتها‪ ،‬وال شك يف أن تدخالت أبناء طالل‬ ‫سلمان عجلت من إقفال «السفري»؛ ألنهم هدفوا إىل حفظ ما توافر‬ ‫لهم من أرباح يف زمن مىض‪ ،‬ألن االستمرار أكرث يقضم بعضها‪ ،‬وقد‬

‫صرح سلمان بما يؤكد هذا املعنى عندما رأى أنه ال يريد أن يحرم‬

‫أبناءه من اإلرث‪.‬‬

‫ماذا بعد؟‬

‫ً‬ ‫موظفا يف الشارع‪ ،‬فإن نقيب املحررين اللبنانيني‪ ،‬إلياس عون‪ ،‬دعا‬ ‫إذا كان إقفال جريدة «السفري» قد رمى قرابة ‪150‬‬ ‫الدولة إىل إيجاد حلول إلنقاذ قطاع يوفر دخلاً لقرابة ‪ 10‬آالف شخص‪ ،‬يمكن أن تمارس بحقهم أساليب «تطفيش»‪ ،‬ال‬ ‫سيما من خالل تأخري دفع الرواتب‪ ،‬لكن كل صيحات استدراك استفحال األزمة باءت بالفشل حتى اآلن‪.‬‬

‫كلنا أسف عىل التاريخ املجيد للصحافة اللبنانية الرائدة عىل املستوى العربي‪ ،‬وأسف أكرب عىل تلك التي أقفلت‬

‫الستارة عىل تجربتها بشكل كامل‪ ،‬وتلك التي تقف عىل شفري الهاوية‪ ،‬أو لم تعلن عن موتها بعد (تحويرًا لعنوان رواية‬

‫ماركيز «قصة موت معلن»)‪ .‬وال يسعنا إال أن نأمل يف استمرار حضور الصحف اللبنانية الجادة‪ ،‬بما تتميز به من حريات‬

‫وخربة عالية‪ ،‬من خالل تحولها إىل الوسائط اإلعالمية الرقمية الجديدة‪ ،‬األقل كلفة واألكرث انتشارًا‪ ..‬وتأثريًا‪.‬‬

‫‪29‬‬


‫الملف‬

‫تغلبت عليها برامج «التوك شو» والميديا الجديدة‬

‫الصحافة المصرية تواجه «األزمة»‬ ‫بالبحث عن «خلطة» تناسب القراء‬ ‫صبحي موسى‬

‫‪30‬‬

‫القاهرة‬

‫لم يكن يحلو لكثير من الناس أن يتحرك إال والجريدة مطوية تحت إبطه‪ ،‬كأنه يحمل‬ ‫رسالة من الوالي إلى أبنائه المنتظرين عودته في البيت‪ .‬لم تكن الجريدة مجرد حصول على خبر‪،‬‬ ‫لكنها كانت انتماء‪ ،‬وكل حزب بما لديه سعيد‪ ،‬وال يصدق الخبر إال إذا كتب في جريدته المفضلة‪،‬‬ ‫وكانت أشهر اللقطات التي أبرزتها السينما للمخبر في أثناء عمله وهو جالس خلف الجريدة يتابع‬ ‫تحركات المجرم‪ ،‬في حين كان فلم «بياعة الجرائد» من أشهر كالسيكيات السينما المصرية‪،‬‬ ‫وفيه غنت ماجدة الصباحي ليوسف شعبان أغنيتها الشهيرة «أهرام‪ ،‬أخبار‪ ،‬جمهورية»‪.‬‬

‫العددان ‪ 490 - 489‬شوال ‪ -‬ذو القعدة ‪1438‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬أغسطس ‪2017‬م‬


‫كانت الصحف الورقية هي القوت اليومي للمواطن‪ ،‬وال‬

‫يمكن تصور رجل ينتمي للطبقة الوسطى ال يجلس عىل املقهى‬

‫مطالعً ا جريدته املفضلة‪ .‬وكان نجيب محفوظ قبل االعتداء عليه‬

‫من متطرف ديني عام ‪1994‬م يذهب إىل مقهى «عيل بابا» يف ميدان‬

‫التحرير يف تمام السابعة صباحً ا ليتناول فنجانه من النب ويطالع‬ ‫جرائد الصباح‪.‬‬

‫لكن هذا كله أصبح شي ًئا من املايض‪ ،‬فمع مطلع األلفية‬

‫الجديدة تراجع دور الصحافة الورقية‪ ،‬ولم تعد مصدرًا لتقديم‬ ‫الخرب إىل القارئ‪ ،‬فقد سبقتها إليه القنوات الفضائية‪ ،‬واملواقع‬

‫اإللكرتونية عىل النت‪ ،‬ومواقع التواصل االجتماعي التي أصبحت‬

‫بمنزلة نبض الشارع والحياة‪ ،‬هكذا حرمت الصحافة الورقية من‬ ‫ماليني الجنيهات التي كانت تتدفق عليها من اإلعالنات‪ ،‬وتوقف‬

‫قطاع كبري من القراء عن التعامل معها‪ ،‬وهو قطاع الشباب أو من‬ ‫هم دون األربعني‪ ،‬هؤالء الذين لم يدمنوا ملمس الورق ورائحة‬ ‫الحرب ومطالعة الجريدة الصباحية‪ ،‬هؤالء الذين نشؤوا يف عصر‬ ‫الستااليت والشبكة العنكبوتية والسمارت فون‪ ،‬فصرنا نسمع عن‬

‫توقف جرائد عريقة كالسفري اللبنانية‪ ،‬والبديل املصرية‪ ،‬ونسمع‬

‫عن توقف إصدارات يف مؤسسات أكرب وأكرث عراقة مثل األهرام‬ ‫واألخبار املصريتني‪ ،‬فما مستقبل الصحف الورقية؟ وهل هناك‬ ‫حلول لبقائها يف املنافسة؟ أم أننا قد نستيقظ يومًا لنجد العالم‬

‫وقد أصبح بغري جريدة الصباح وفنجان النب اللذين طاملا تغنى بهما‬ ‫شعراء وكتاب ينتمون إىل بلدان ومدن عربية؟‬

‫عدد من رؤساء تحرير الصحف املصرية ومسؤويل اإلعالم لم‬

‫يقطع يف الحديث حول نهاية قريبة محتملة للصحافة الورقية‪.‬‬ ‫وأدىل هؤالء لـ«الفيصل» بشهادات مختلفة حول واقع الصحافة‬ ‫يف مصر ويف الوطن العربي‪ً ،‬‬ ‫وفقا لعدد من املعطيات‪ ،‬ومع ذلك‬ ‫فإنهم أكدوا عىل أزمة كأداء تم ّر بها الصحافة العربية‪:‬‬

‫فهمي عنبة‪:‬‬ ‫الصحافة الورقية مريضة لكن لن تموت‬

‫توزيع الجرائد الورقية في مصر متدن ج ًّدا‪،‬‬ ‫وبعض الجرائد أغلق‪ ،‬كالتحرير والبديل‬ ‫وغيرهما‪ ،‬لكن الجرائد القومية لن تغلق‪،‬‬ ‫والجرائد الخاصة تبحث عن بدائل جديدة‬ ‫عىل الخرب لكن عىل ما وراء الخرب‪ ،‬والنزول إىل الشارع حيث العمل‬ ‫امليداين‪ ،‬وإبراز الرأي أو ما يعرف بصحافة الرأي‪ ،‬وتقديم خدمات‬ ‫جديدة للقراء‪.‬‬

‫تبقى الصحافة الورقية األرشيف القومي للشعوب‪ ،‬يف حني‬

‫املواقع اإللكرتونية أو وسائل التواصل االجتماعي نجد جانبًا منها‬

‫يقوم عىل اإلشاعة أكرث من الحقيقة‪ ،‬وفكرة إثارة القراء وجذبهم‪،‬‬ ‫ثم العودة بعد دقائق ّ‬ ‫لبث أخبار جديدة‪ ،‬من دون التأكد من صحة‬

‫بال شك تواجه الصحافة الورقية تحديات يف العالم كله بعد‬

‫الخرب أو حقيقته‪ ،‬ومن ثم فالصحافة الرصينة سواء قومية أو‬

‫البيوت‪ ،‬فقد أصبحت املعلومات متاحة للجميع‪ ،‬والخرب يرد إليهم‬

‫سرعان ما ستعود بقوة حني يكتشف القارئ أن املواقع اإللكرتونية ال‬

‫انتشار وسائل التواصل االجتماعي‪ ،‬ووصول النت إىل معظم‬ ‫يف وقته وربما آن حدوثه‪ .‬لكن الصحافة الورقية تمرض وال تموت‪،‬‬

‫ولو تذكرنا ظهور الراديو‪ ،‬وما تردد وقيل وقتها عن موت الصحافة‬

‫الورقية‪ ،‬وتكرار هذا األمر مع ظهور التليفزيون ثم الفيديو‪ ،‬نتأكد أن‬

‫الصحافة الورقية تمرض‪ ،‬أو تمر بأوقات ضعف مع ظهور أي تقنية‬

‫أو وسيلة إعالمية جديدة‪ ،‬لكنها ال تموت‪ ،‬وإن كان مرضها هذه‬ ‫املرة قد يستغرق مدة أطول‪ ،‬أو أكرث قوة وشدة من أوقات مرضها‬ ‫مع ظهور الراديو والتليفزيون والفيديو‪ .‬لكننا نراهن عىل أن متعة‬

‫القراءة ال يساويها متعة‪ ،‬ومن ثم فعىل الصحافة أن تركز ليس‬

‫حزبية أو خاصة‪ ،‬ستجد نفسها خارج الصندوق يف وقت ما‪ ،‬لكنها‬

‫تقدم له سوى هوس املتابعة الدائم‪ ،‬وعدم تقديم معرفة حقيقية‬ ‫يف يشء‪ .‬علينا أن نعرتف أن خريطة اإلعالنات تذهب يف الدرجة‬ ‫األوىل اآلن لربامج «التوك شو» التي تستحوذ عىل ثالثة أرباع املتاح‬ ‫من اإلعالنات‪ ،‬يأيت بعدها املواقع اإللكرتونية وهي متعددة وكثرية‪،‬‬

‫ثم إعالنات الشوارع التي أصبحت تغطي كل مكان‪ ،‬ثم الصحافة‬ ‫الورقية‪ ،‬ويمكننا الرهان يف الحقبة املقبلة عىل أفكار مثل الصحافة‬ ‫اإلقليمية أو املحلية أو ما يعرف بصحافة الكومباوند أو األحياء‬

‫املجاورة‪ ،‬هذا النوع يمكنه االعتماد عىل إعالنات بسيطة وبأثمان‬

‫‪31‬‬


‫الملف‬

‫النوع يف ظننا سيتحكم يف مستقبل الصحافة الورقية‪ ،‬وهو نوع‬

‫زهيدة لكنها تغطي تكاليفه وتكفل له االستمرار‪ .‬وهناك نوع‬

‫لألمراء واألثرياء‪ ،‬ويف مصر أو غريها جرائد خاصة أو قومية‪،‬‬

‫القائم عىل اإلعالنات فقط‪ ،‬إضافة إىل أننا يف «الجمهورية»‬

‫واإلعالنات والثمن‪.‬‬

‫للعمال‪ ،‬ولدينا صفحات الفن واملسرح‪ ،‬ونقوم عىل العمل‬

‫نوع جديد من التوزيع الورقي‪ ،‬عرب إقامة شركات توزيع جديدة‬

‫من الجرائد الخدمية حقق انتشارًا وتوزيعً ا عاليًا كالوسيط‬

‫قدمنا تجديدًا يف أبوابنا‪ ،‬فلدينا باب خاص باملعاشات‪ ،‬وباب‬ ‫امليداين بالدرجة األساسية حيث الجمهور وتحليل الخرب‪.‬‬

‫رئيس تحرير جريدة الجمهورية‬

‫محمد السيد صالح‪:‬‬ ‫البحث عن دخل إضافي‬

‫الجرائد الخاصة إما أن تغلق أو أن تبحث عن عمل معادلة يف الورق‬ ‫ثمة حلول أخرى عىل هامش هذه املعادلة‪ ،‬وهي اللجوء إىل‬

‫بديلة عن شركات التوزيع الحكومية التي تسيطر عىل السوق‪،‬‬ ‫والتفكري يف صحافة الكومباوند أو املحيط السكني الصغري‪ ،‬هذه‬

‫التجربة ليست موجودة لدينا‪ ،‬لكنها يف أمريكا والغرب ويمكن‬ ‫التفكري يف إصدارها هنا‪ .‬من املعروف أن الصحافة نوعان‪ :‬صحافة‬ ‫خاصة يمتلكها أمراء أو رجال أعمال‪ ،‬وهذه تبحث عن مصادر‬

‫توزيع الجرائد الورقية يف مصر ُم َت َدنٍّ جدًّا‪ ،‬وبعض‬

‫أخرى للدخل وإقامة معادلة فيما يخص اإلنفاق والعائد من التوزيع‬

‫القومية لن تغلق‪ ،‬والجرائد الخاصة كاملصري اليوم تبحث‬

‫النوع الثاين هو الجرائد القومية التي لو رفعت الدولة يدها عنها‬ ‫نوعا ً‬ ‫فإنها ستغلق‪ ،‬لكنّ ثمة ً‬ ‫ثالثا ظهر يف السوق مموَّل من جهات‬

‫الجرائد أغلق‪ ،‬كالتحرير والبديل وغريهما‪ ،‬لكن الجرائد‬ ‫عن بدائل جديدة‪ ،‬فهي تسعى لعمل معادلة يف السعر‬ ‫والورق والبحث عن دخل إضايف من خالل املوقع‪ ،‬واستغالل‬

‫إعالنات عىل النت والبحث عن مصادر للورق أرخص من‬ ‫املتاح‪ .‬وهناك نوع ثالث من الجرائد‪ ،‬ال هو جرائد قومية‬

‫‪32‬‬

‫ليس موجودًا ال يف الشرق وال يف الغرب‪ ،‬فالخليج به جرائد مملوكة‬

‫مملوكة للدولة‪ ،‬وال جرائد خاصة مملوكة لرجال أعمال‪،‬‬

‫لكنها جرائد مموَّلة من جهات سيادية أو غري سيادية‪ ،‬هذا‬

‫عدد العاملين في أخبار اليوم يزيد‬ ‫على ‪ 6‬آالف‪ ،‬ويعمل في األهرام نحو‬

‫‪ 12‬ألفً ا‪ ،‬ومن ثم فإن الصحافة الورقية‬ ‫تمثل صناعة كبيرة في مصر‪ ،‬وال يمكن‬ ‫التفكير في إغالقها‬

‫واإلعالنات‪ ،‬وبعضها أمام الضغوط االقتصادية أو السياسية يغلق‪،‬‬

‫بعينها‪ ،‬ال يعنيه التوزيع وال غريه‪ ،‬وال تشغله الضغوط السياسية‬ ‫وال االقتصادية‪ .‬هذا النوع نعتقد أن مستقبل الصحافة سيكون‬

‫لصالحة‪ ،‬ألن تمويله قويّ ‪ ،‬وأهدافه أن يكون موجودًا بغض النظر‬ ‫عن الضغوط السياسية التي قد تكون لصالح بعض وضد بعض‪،‬‬

‫أو الضغوط االقتصادية التي يعانيها الجميع اآلن‪ ،‬بما فيها الجرائد‬

‫القومية التي اضطرت إىل تخفيض بعض إصداراتها‪.‬‬

‫ما زال القارئ التقليدي الذي لم يرتبط بالسوشيال ميديا‬ ‫ً‬ ‫مرتبطا باإلصدارات الورقية من الجرائد‪ ،‬هذه التي‬ ‫ومواقع النت‬ ‫يذهب إليها نحو ‪ %80‬من اإلعالنات‪ .‬بعض الجرائد قامت بإنشاء‬

‫مواقع إلكرتونية أنفقت عليها الكثري؛ يك يعود الربيق إىل الجريدة‬ ‫الورقية نفسها‪ ،‬وتستطيع املنافسة يف سوق اإلعالنات‪.‬‬

‫العددان ‪ 490 - 489‬شوال ‪ -‬ذو القعدة ‪1438‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬أغسطس ‪2017‬م‬

‫رئيس تحرير املصري اليوم‪.‬‬


‫فهمي عنبة‬

‫محمد السيد صالح‬

‫عماد الدين حسين‬

‫تبقى الصحافة الورقية األرشيف القومي‬

‫سامي حامد‬

‫مجدي شندي‬

‫يف اﻻستمرارية عليها اﻻبتعاد بقدر اإلمكان من العنصر الخربي‪،‬‬

‫فاملواطن يحصل عىل الخرب يف الحال سواء عىل املوبايل أو‬

‫للشعوب‪ ،‬في حين المواقع اإللكترونية أو‬

‫شاشات التلفاز وأجهزة الحاسب اآليل‪ .‬عليها الرتكيز عىل ما‬

‫يقوم على اإلشاعة أكثر من الحقيقة‪،‬‬

‫كانت سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية‪ .‬وهناك ٍّ‬ ‫تحد آخر يواجه‬

‫جانبا منها‬ ‫وسائل التواصل االجتماعي نجد‬ ‫ً‬

‫بعد الخرب واﻻهتمام بالرأي والتقارير والتحليالت والقضايا سواء‬

‫وفكرة إثارة القُ راء وجذبهم‬

‫الصحافة الورقية هو ارتفاع أسعار مستلزمات اإلنتاج من ورق‬ ‫وأحبار وزنكات‪ ،‬وهو ما يستلزم يف كثري من األحيان خفض‬ ‫ً‬ ‫صحفا أو مجالت‪.‬‬ ‫الكمية املطبوعة سواء كانت‬

‫عماد الدين حسين‪:‬‬

‫رئيس تحرير جريدة املساء املصرية‪.‬‬

‫الحاجة إلى تحرير جديد و ُكتاب جدد‬

‫هناك تحديات حقيقية تواجه الصحافة الورقية‪ ،‬السبب‬

‫األساس هو منافسة وسائل االتصال وارتفاع أسعار الورق‬

‫واسترياده‪ ،‬وتعويم الجنيه‪ ،‬وارتفاع سعر الدوالر‪ ،‬إضافة إىل‬ ‫غياب أي تصور حقيقي للتطوير‪ .‬والنتيجة أن عددًا من الصحف‬

‫التي كانت توزع يف السبعينيات بأعداد هائلة اختفت‪.‬‬

‫مجدي شندي‪:‬‬ ‫وداعا للتوزيع «المليوني»‬ ‫ً‬

‫اقتصاديات الصحافة الورقية تضررت كثريًا؛ ألن هذه الصحافة‬

‫فقدت وظيفتها وهي اإلخبار‪ ،‬فقد أصبحت لدينا بدائل أكرث سرعة‬

‫توجد أزمة حقيقية يف املحتوى‪ ،‬وبخاصة مع ظهور‬

‫يف نقل الخرب وتقديمه للمتلقي‪ ،‬كما أن أنماط القراءة وعاداتها‬

‫املستقبل أن تطور من أدائها وفكرتها وطرائق تواصلها ومحتواها‪،‬‬

‫مستقبل الصحافة الورقية‪ ،‬وبخاصة من قطاعات الشباب؛ ألنه‬

‫الفضائيات واملواقع اإللكرتونية‪ ،‬والصحف التي لن تستطيع يف‬ ‫لن يكون لها فائدة‪ .‬فال بد من وجود حلول‪ ،‬والحلول الجوهرية‬

‫تكمن يف تقديم محتوى مختلف‪ ،‬فلم يعد مهمًّ ا أن تهتمّ بالخرب‬ ‫اليومي‪ ،‬فال بد من تقديم محتوى مختلف يشتمل عىل حوارات‬

‫اختلفت من القراءة الورقية إىل القراء عىل اللوح الضويئ‪ ،‬هذا هدَّد‬ ‫ال أحد منهم يُقبل عىل شراء الصحف الورقية‪ ،‬فأغلبهم يعتمد‬

‫عىل املواقع اإللكرتونية ووسائل التواصل االجتماعي‪ ،‬وهو ما‬ ‫جعل انتظار خروج الصحف الورقية من املطابع‪ ،‬والسري مسافات‬ ‫لشرائها من بائعي الجرائد‪ ،‬عملاً من املايض‪ ،‬نظ ًرا لوجود بدائل‬

‫وقصص وأمور ليست متاحة للـ«توك شو» عىل الفضائيات‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫والكتاب‬ ‫وهذا بدوره يحتاج إىل نوعية جديدة من املح ِّررين‬

‫قوية تبث الخرب يف آن حدوثه‪.‬‬

‫ومعارف جديدة‪.‬‬

‫وحدها‪ ،‬فهو متعلق بالثورة التكنولوجية التي أنتجت الفضائيات‬

‫ِّ‬ ‫واملفكرين‪ ،‬كما يحتاج إىل تدريب وإعادة تأهيل واكتساب لغات‬ ‫رئيس تحرير الشروق‬

‫سامي حامد‪:‬‬ ‫ارتفاع أسعار مستلزمات اإلنتاج‬

‫الصحافة الورقية تواجه يف الوقت الحايل الكثري من‬

‫التحديات‪ ،‬وبالتأكيد تأثرت سلبًا بعد انتشار املواقع اإلخبارية‬

‫اإللكرتونية لكنها لم تمت ولن تموت‪ ،‬فالصحافة الورقية لها‬ ‫مذاق خاص ونكهة مختلفة عما تبثه املواقع اإللكرتونية من‬

‫أخبار وموضوعات‪ .‬الصحافة الورقية يف اختبار حقيقي اليوم؛‬ ‫فإما أن تكون أو ﻻ تكون‪ ،‬وأرى أن الصحافة الورقية ليك تنجح‬

‫ًّ‬ ‫خاصا بمصر‬ ‫تضررت الصحافة الورقية‪ ،‬وهو أمر ليس‬

‫واملواقع اإللكرتونية‪ ،‬وأصبح التوزيع املليوين للصحف الورقية‬ ‫جزءً ا من املايض؛ ألن ُق َّراء الصحف فيما فوق األربعني وحدهم‬

‫هم الذين اعتادوا عىل ملمس الورق ورائحة الحرب‪ ،‬كل األجيال‬ ‫الجديدة اآلن لم َتع َت ْد عىل ذلك‪ ،‬وليس لديها أدىن ارتباط نفيس‬ ‫مع الجريدة الورقية‪ ،‬وهذا ترك آثاره عىل الصحف الورقية يف‬

‫العالم كله‪ .‬صحف عريقة يف أوربا والواليات املتحدة تحوَّلت إىل‬ ‫الواقع االفرتايض‪ ،‬أما يف مصر فربما يتأخر ذلك التحول قليلاً ‪ ،‬وقد‬ ‫تأيت مجالت متخصصة يف تفسري وتحليل األحداث‪ ،‬ما يمكنها من‬

‫التعايش مع الواقع الجديد‪ ،‬يك نشهد دورًا جديدًا لإلعالم الورقي‪.‬‬

‫رئيس تحرير املشهد‬

‫‪33‬‬


‫الملف‬ ‫محمد عبدالحافظ‪ :‬األزمة تكمن في المضمون ال في الصناعة‬ ‫اليابان أعظم بلد يف التكنولوجيا‪ ،‬ورغم ذلك بها ثالث‬

‫جرائد توزع صباحً ا ومسا ًء مليون نسخة‪ ،‬وهم لديهم أكرب‬

‫توزيع ملجموعات الكومكس التي توزع بني الشباب والفتيان‪،‬‬ ‫واستثمارات الشركات األوربية املصنعة للمطابع زادت بنسبة‬ ‫‪ ،%50‬يف مقدمتها شركة مان روالن األملانية املتخصصة يف‬

‫تصنيع ماكينات الطباعة‪ .‬نحن إذن أمام أرقام تقول‪ :‬إن هذه‬ ‫الصناعة ستبقى‪ ،‬وإن العيب ليس يف الصناعة لكن يف ُّ‬ ‫الصناع‬ ‫العرب‪ ،‬فنحن بوصفنا صنا ًعا لم نعد نعرف الخلطة املناسبة‬ ‫ألذواق ُق َّرائنا‪ ،‬وهو ما يجعلهم يتجهون إىل الفضائيات ومواقع‬ ‫النت‪ ،‬لكن الصحافة الورقية ستبقى إذا طوَّر الصحافيون‬

‫أنفسهم‪ ،‬وأنا من مدرسة أن الصحافة الورقية لن تموت‪.‬‬

‫ولنا أن نتذكر أنه حني ظهر الفيديو خرجت أغنية تقول‪:‬‬

‫داي‪ ،‬وأؤكد أن املشكلة ليست يف الصناعة بقدر ما هي يف مضمون‬

‫طوَّر نفسه‪ ،‬وأصبحت لدينا العديد من القنوات والربامج‬

‫ويف الصحافة ال بد من ثالثة أسس للنجاح هي‪ :‬الدقة‪ ،‬واملصداقية‪،‬‬

‫«الفيديو نجم الراديو»‪ ،‬لكن هل مات الراديو؟ بالطبع ال‪ .‬فقط‬ ‫الجديدة التي تتناسب مع إيقاع العصر‪ ،‬ومن ثم‪ ،‬فالعيب‬

‫‪34‬‬

‫دائم مع مجلس تحرير جريدة اآلي ومجلس تحرير جريدة فري‬

‫ليس يف الصناعة‪ ،‬لكن يف املضمون الذي تق ِّدمه الصناعة‪.‬‬

‫فاإلندبندنت من أعرق الجرائد الربيطانية‪ ،‬كانت تسمى ماكينة‬ ‫الخسائر‪ ،‬لكن صاحبها مدمن للصحافة الورقية‪ ،‬فرفض أن‬

‫الصناعة‪ ،‬فهؤالء يعملون عىل أفكار جديدة ومادة قابلة للقراءة‪،‬‬

‫واالستقالل وليس الحياد‪ ،‬فال يوجد حياد‪ ،‬فحني تصدر جريدة‬ ‫رياضية ال يمكنك أن تقول‪ :‬إنك ستكون محايدًا‪ ،‬فهذا يعني الخسارة‬

‫من قبل أن تبدأ‪ ،‬لكن عليك أن تعلن عن انحيازك وجمهورك وتوضح‬

‫رسالتك‪ .‬وال يمكنك أن تحصل عىل إعالنات من شركة ساعات أو‬

‫يتحول إىل الصحافة اإللكرتونية‪ ،‬وأصدر جريدة سمّاها «اآلي»‬ ‫ً‬ ‫مجانا عىل ركاب‬ ‫وهو أول حرف من اسم اإلندبندنت‪ ،‬ووزعه‬

‫لن يشرتي هذا املنتج‪ ،‬ومن ثم فاملعلن سيبحث عن مجلة للمرأة‬

‫اإلعالنات‪ .‬يف أمريكا جريدة مجانية تدعى «فري داي»‬

‫عدد العاملني يف أخبار اليوم يزيدون عىل ‪ 6‬آالف‪ ،‬ما بني‬ ‫صحافيني وإداريني وعمال مطابع‪ ،‬ويعمل يف األهرام نحو ‪ً 12‬‬ ‫ألفا‪،‬‬

‫من اإلعالنات فقط‪ .‬وأنا‬

‫وال يمكن التفكري يف إغالقها‪ ،‬لكن التفكري دائمًا يف التطوير‪ ،‬والبحث‬

‫القطارات وهم ذاهبون يف الصباح إىل أعمالهم‪ ،‬هذه الجريدة‬ ‫و َّزعت سبع مئة وخمسني ألف نسخة‪ ،‬وغطت تكاليفها من‬

‫توزع توزيعً ا غري عادي‪ ،‬وتغطي تكاليفها‬

‫أتواصل بشكل‬

‫مجوهرات ثمينة وتنتج جريدة حوادث؛ ألن جمهورك من الفقراء‬

‫تستهدف سيدات املجتمع‪.‬‬

‫وهكذا‪ ،‬ومن ثم فإن الصحافة الورقية تمثل صناعة كبرية يف مصر‪،‬‬

‫عن أفكار جديدة‪ ،‬ومهنية أرقى وأكرب‪ ،‬أما من يتحدثون عن اإلغالق‬ ‫واالنهيار فهم أصحاب مصالح خاصة‪ ،‬هؤالء الذين ال يريدون خربًا‬ ‫حقيقيًّا‪ ،‬وال مقاالت يمكنها أن تبني الذهن وتوسع مداركه‪ ،‬هؤالء‬

‫الذين يسعون للتسطيح يف الربامج الكالمية‪ ،‬أو ملء فضاء النت‬ ‫بالصورة وأي تعليق عليها‪ ،‬هؤالء يسطحون الفكر‪ ،‬ويسعون‬ ‫للسيطرة عىل سوق اإلعالنات ليس أكرث‪.‬‬

‫وأنا لديّ موقع إلكرتوين مثلهم‪ ،‬لكنني ال أستخدمه من أجل‬

‫ما يسعون إليه‪ ،‬بقدر ما أستخدمه للرتويج لجريديت الورقية‪ ،‬فأنشر‬ ‫ً‬ ‫مقتطفا من الخرب أو املقال كإعالن عنه‪ ،‬ومن يريد استكمال قراءته‬ ‫فليشرت العدد الورقي‪.‬‬ ‫ِ‬

‫رئيس تحرير مجلة آخر ساعة‬

‫وعضو مجلس إدارة أخبار اليوم‬ ‫العددان ‪ 490 - 489‬شوال ‪ -‬ذو القعدة ‪1438‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬أغسطس ‪2017‬م‬


‫مكرم محمد أحمد‪ :‬خطة للنهوض بالصحافة‬ ‫حتى اآلن ال يوجد لدينا املواطن الذي يستطيع أن يستخدم‬

‫وكاف‪،‬‬ ‫الحاسوب يف البحث عن املعلومة والخرب بشكل واضح‬ ‫ٍ‬ ‫لدينا حواسيب إلكرتونية عىل كل مكتب‪ ،‬لكن حتى اآلن ما زال‬

‫املوظفون واملواطنون يستخدمونها يف التسلية‪ ،‬وهو ما يجعل‬ ‫القول بأن الصحافة الورقية يف خطر أم ًرا مستبعدً ا قليلاً ‪،‬‬

‫ونحن مهمتنا الراهنة بعد تويل املجلس األعىل لإلعالم يف مصر‬ ‫النهوض بمختلف وسائل اإلعالم‪ ،‬ويف مقدمتها الصحافة‬

‫الورقية‪ ،‬ونحن لم نقل بأن الجريدة التي لن تتمكن من تغطية‬ ‫تكاليفها ستتوقف‪ ،‬ولكننا قلنا‪ :‬إن الجريدة التي تصدر يف ‪24‬‬ ‫صفحة وال تجد من اإلعالنات ما يغطي تكاليف كل هذا العدد‬

‫من الصفحات‪ ،‬يجب أن تعيد النظر يف سياستها التحريرية من‬ ‫ً‬ ‫بعضا من هذه الصفحات بما يقرب الفجوة‬ ‫جانب‪ ،‬وتخفض‬

‫النقيض سندعمها بقدر ما نستطيع من رؤى وأفكار حتى تقدم‬

‫النهوض بالصحافة واإلعالم يف مصر‪ ،‬فهذه الخطة تستلزم‬

‫التحرير ويف التعامل مع اإلعالنات‪ ،‬وعدد الصفحات املطلوبة‪.‬‬

‫بني التكاليف واألرباح‪ .‬لكننا حتى اآلن لم نضع خطتنا لكيفية‬

‫عددًا من االجتماعات بني أعضاء املجلس وأعضاء هيئتي‬ ‫الصحافة واإلعالم‪ ،‬وأن نستمع إىل مختلف وجهات النظر‪،‬‬

‫ومناقشة املقرتحات املقدمة من الجميع‪ ،‬والعمل عىل النظر‬

‫يف مختلف التفاصيل‪ ،‬حتى نصل إىل تصور متكامل يمكننا بناءً‬

‫عليه اعتماده كخطة للعمل يف املرحلة القادمة‪.‬‬

‫لكن ليس لدينا أي توجه مضاد للصحافة الورقية‪ ،‬بل عىل‬

‫الحل املناسب‪ ،‬ونتمكن من ضبط كثري من العشوائية‪ ،‬يف‬ ‫وال بد أن نصل يف املجلس إىل توافق قوي حول هذه الخطة بما‬ ‫يكفي لضمان نجاحها‪ .‬ونحن لدينا لجنة يف املجلس الستشعار‬

‫املستقبل وما به من مواجهات؛ يك نتعامل معها وفق آليات‬ ‫وأفكار علمية‪ ،‬وخطط مدروسة وقائمة عىل إحصائيات‬ ‫ومعلومات حقيقية‪.‬‬

‫رئيس املجلس األعىل لإلعالم‬

‫‪35‬‬


‫الملف‬

‫الصحافة الخليجية‬ ‫تتحسر على أموال اإلعالنات‪..‬‬ ‫ّ‬ ‫وتفتش عن بدائل‬ ‫عدنان فرزات‬

‫‪36‬‬

‫الكويت‬

‫حتى سنوات قليلة مضت‪ ،‬كان المشهد كاآلتي‪ :‬تستيقظ العائلة لتجد الصحيفة الورقية سبقت‬ ‫استيقاظها إلى الصندوق المخصص لتوزيع الصحف‪ ،‬غالبًا ما تكون الحظوة لألب الذي يشرع في‬ ‫قراءة الصحيفة على فنجان قهوة‪ ،‬وقد تتخاطف بقية العائلة الصفحات األخرى ٌّ‬ ‫كل حسب اهتمامه‪،‬‬ ‫أو ربما تذهب إلى مكتبك فتجد مجموعة من الصحف الورقية مكدسة بعضها فوق بعض‪ .‬منذ ربع‬ ‫قرن تقريبًا‪ ،‬بدأ المشهد يتغير‪ ،‬تحولت كل هذه «األوراق» إلى أرقام «ديجيتال»‪ ،‬لتصبح جاهزة‬ ‫بضغطة زر على شاشة الحاسوب‪ ،‬ثم أصبحت أصغر من ذلك بحجم كف اليد على هاتفك المحمول‪.‬‬ ‫حين كانت الصحف الورقية في أوج مجدها‪ ،‬كان هناك مصطلح يتداوله أصحاب الصحف ويحسبون‬ ‫له ألف حساب‪ ،‬هو «سوق السعودية»‪ ،‬حيث كان هذا السوق هو المستهلك األكبر للصحف الورقية‪،‬‬ ‫وكانت الصحف تحرص على دخوله‪ ،‬وبعض الصحف كانت تلغي موضوعات أو صفحات كاملة؛ ألنها‬ ‫ً‬ ‫حرصا منها على الوصول إلى هذا السوق‪.‬‬ ‫ال تتوافق مع القيم المجتمعية السعودية‬

‫العددان ‪ 490 - 489‬شوال ‪ -‬ذو القعدة ‪1438‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬أغسطس ‪2017‬م‬


‫ً‬ ‫أيضا كان القارئ يف كل مكان من الخليج يبذل العناء للذهاب‬

‫إىل املكتبة أو منافذ بيع الصحف واملجالت‪ ،‬ليجد معظم الصحف‬ ‫الخليجية والعربية وغريها متاحة عىل الرفوف‪ .‬اليوم غابت هذه‬ ‫املظاهر‪ ،‬فهل أثر هذا الغياب يف اقتصاديات هذه الصحف؟ وهل أدى‬

‫غيابها إىل خلل ما يف كمية النسخ املطبوعة ويف اإلعالن والتوزيع؟‬ ‫وماذا عن «التنني» اإللكرتوين الذي يم ّد جسده طويلاً‬ ‫ملتهمًا معظم‬ ‫ِ‬ ‫املظاهر التقليدية املصنوعة من ورق؟‬ ‫يف دولة الكويت مثلاً ‪ ،‬كان هناك خمس صحف تتسيّد الساحة‬

‫اإلعالمية‪ ،‬لكن قبل سنوات قليلة‪ ،‬أصبحت إجراءات ترخيص‬

‫الصحف الورقية أسهل من ذي قبل‪ ،‬فسارع كثري من األشخاص إىل‬ ‫إصدار صحف جديدة‪ ،‬ثم ما لبثت هذه الصحف الجديدة معظمها‬ ‫أن أسدلت الستارة عىل صدورها منذ السنة األوىل‪ ،‬ولم تستطع أن‬

‫تنافس أو أن تأخذ الحيز الذي تشغله الصحف الخمس‪.‬‬

‫بكل األحوال ال يمكن التفرد بالرأي يف هذا الجانب‪ ،‬فهو موضوع‬

‫شاسع‪ ،‬وقد يتعلق األمر باألجيال‪ ،‬واألمزجة‪ ،‬فهناك الكثري من‬

‫األجيال ال تزال متمسكة بالصحف الورقية‪ ،‬كما أن بعضها ما زال‬ ‫يفضل اإلمساك بالورق ألنه يحقق له متعة أكرث بالقراءة‪ ،‬تمامًا‬

‫كالفرق بني الكتاب الورقي ونظريه اإللكرتوين‪.‬‬

‫ماضي الخميس‬

‫حمزة عليان‬

‫لم تعد الصحف الورقية في الخليج‬ ‫بذلك الزخم السابق؛ إذ حدث تقليص‬ ‫في عدد الصفحات وتصغير الحجم بهدف‬ ‫تقليل المصروفات‪ ،‬إضافة إلى التأثر‬ ‫المادي وتراجع نسب التوزيع الورقي‬ ‫من الناحية املادية‪ ،‬واضح أن الصحافة الورقية تأثرت جدًّا‬

‫وتراجعت مبيعاتها‪ ،‬واإلعالن أصبح يتجه إىل «الديجيتال ماركت» ألن‬

‫اإلعالن ينجذب لقوة التأثري وسهولة ووفرة االنتشار‪ ،‬كما أن التأثري‬

‫ومن املعروف أن الصحافة الخليجية من أكرث الصحف العربية‬

‫يختلف اليوم‪ ،‬فأصبح اإلعالم اإللكرتوين األشد تأثريًا من الورقي‬

‫النتشارها الواسع‪ ،‬إال أن هذا الرثاء ال يسعه االستمرار‪ ،‬ومن ثم‬

‫اإللكرتونية‪ ،‬كما أصبح إنشاء مؤسسة إلكرتونية أقل تكلفة من الورقي‪.‬‬

‫سؤال الصحافة الورقية وتحديات البقاء الذي تطرحه «الفيصل»‬ ‫ً‬ ‫يمس ً‬ ‫أيضا الصحافة يف الخليج وأوضاعها وما آلت إليه‪:‬‬ ‫عنوانا مللفها ّ‬

‫األمني العام للملتقى اإلعالمي العربي‬

‫ثراء؛ بسبب اإلعالن الذي كانت تستقطبه هذه الصحف بكثافة نظ ًرا‬

‫فبعض الصحف ودَّعته بما يليق به من حسرة‪ ،‬لتفتش عن بدائل‪.‬‬

‫ماضي الخميس‪:‬‬ ‫ستبقى الصحافة إنما بتأثير أقل‬

‫أو التقليدي‪ ،‬وهو ما جعل الصحف الورقية تنفق عىل مواقعها‬ ‫رئيس تحرير صحيفة الكويتية السابق‬

‫حمزة عليان‪ :‬صحافة تحتاج تمويال‬

‫يف العشرينيات والثالثينيات من القرن التاسع عشر امليالدي‬

‫خرجت صحف مطبوعة إىل النور بفضل مؤسسيها‪ ،‬الذين كان لديهم‬

‫الصحافة الورقية لن تنتهي‪ ،‬سيبقى لها قراؤها وستبقى‬

‫رؤية يف نشر التنوير بما يخدم شعوب املنطقة وتطلعاتها نحو التحرر‬

‫وعندما أقول صحافة فأعني هنا الورقية واإللكرتونية‪ ،‬فهذه املهنة‬

‫املسرية وسعوا إىل نشر املعرفة بواسطة الصحافة‪ ،‬بالرغم من الكلفة‬

‫املؤسسات الصحفية موجودة‪ ،‬وهي تتطور كأي عنصر يف الدنيا‪،‬‬ ‫ستبقى ونحن اليوم أمام نموذجني‪ :‬اإلعالم الذي عرفناه يف الصحف‬

‫الورقية والتلفاز‪ ،‬ثم تطور بسبب التكنولوجيا إىل إعالم إلكرتوين‪ ،‬ثم‬ ‫هناك نموذج وسائل التواصل االجتماعي الذي ظهر كصناعة أخرى لها‬

‫حضورها بشكل أو بآخر‪ ،‬ولكن يف النهاية فمواقع التواصل االجتماعي‬ ‫ُنش هذه املواقع طبيبًا أو‬ ‫ال يمكن أن نطلق عليها إعالمًا‪ ،‬فقد يكون م ئِ‬ ‫ً‬ ‫موظفا يف مجال آخر‪ ،‬فكيف نطلق عليه لقب إعالمي؟ وإال‬ ‫مهندسً ا أو‬

‫أصبحت مهنة اإلعالم مهنة مشاعة‪ .‬لذلك يف رأيي الصحافة الورقية‬ ‫ستبقى ولكن سيقل تأثريها وسيقل عددها ً‬ ‫أيضا‪ ،‬أو أن تتطور بتطور‬

‫الصناعة اإلعالمية‪ ،‬وكذلك فالصحافة اإللكرتونية ستزدهر‪ ،‬ومهنة‬ ‫الصحافة لن تتأثر بوجود ما يسمى «املواطن الصحايف» ألن املواطن‬ ‫اليوم أصبح هو الصحايف‪.‬‬

‫واالستقالل والتنمية‪ ،‬ومن ثم وجدت فئة مثقفة ومفكرون قادوا‬ ‫املالية التي تحملوها بمساعدة اآلخرين‪ .‬اليوم نتحدث عن صحافة‬

‫تحتاج إىل تمويل لسد احتياجاتها‪ ،‬ولم تعد قائمة فقط عىل التنوير‬ ‫وخدمة رسالتها اإلعالمية‪ ،‬وإن وجد من كان يف هذا املسار تظل تلك‬

‫املؤسسات تطلب دعمًا ماليًّا مستم ًّرا حتى إن لم تتعرض إىل خسائر‬

‫مادية‪ .‬املهم‪ ،‬أن التمويل غالبًا ما يأيت من اإلعالن كمورد أساس أو‬ ‫من جهات أخرى‪ ،‬وهذا أمر شائك لكنه بسيط بالشرح‪ .‬فإما أن يكون‬ ‫التمويل سياسيًّا عىل مستوى دول أو تمويلاً حزبيًّا تدعمه دول‪ ،‬وإن‬

‫حدث ذلك فال خوف عىل هذه املؤسسة أو تلك من اإلقفال واملنافسة‬ ‫إذا استطاعت أن تسوِّق نفسها باملادة التي تحتويها‪.‬‬

‫يف السابق لم يكن هناك من ينافس الصحف اليومية يف التوزيع‬ ‫والوصول إىل القارئ‪ ،‬سوى من يطبع أولاً وينزل إىل السوق عن طريق‬

‫‪37‬‬


‫الملف‬ ‫الباعة أو املشرتكني‪ ،‬أما اليوم فاألدوات التي كانت تستخدم‬ ‫يف إنتاج الصحيفة وتحريرها وتوزيعها انقلبت رأسً ا عىل عقب‪.‬‬

‫قبل سنوات كان اإلعالن محصورًا يف وسائل اإلعالم‬

‫املطبوعة مثل‪ :‬الصحف واملجالت والتلفزيونات يف الغالب‪ ،‬أما‬ ‫اآلن فقد جاء من يأخذ من حصتها وأعني بها مواقع التواصل‬ ‫االجتماعي‪ ،‬فواحدة ممن تمتلك موقع بالسوشيال ميديا لديها‬

‫‪ FOLLOWERS‬ما يتجاوز الـ ‪ 100‬ألف متابع أي أكرث من توزيع‬ ‫صحيفة يومية مرتني‪ ،‬يعني باتت تنافس الصحيفة يف عقر دارها‪،‬‬

‫وهذا ما نعيشه ونتعامل معه؛ ألن صاحب اإلعالن همه أن يصل‬ ‫إىل أكرب شريحة من الجمهور‪ ،‬وهو ما سوف يجنيه ويحققه‬

‫بالتأكيد‪ ،‬وأقرب مثال واقعي هو حمالت مرشحي مجلس األمة‬

‫يف الكويت واإلنفاق املايل عىل الدعاية؛ إذ لم يعد إنفاقهم باملعدل‬

‫نفسه عىل خدمات الطباعة واإلعالن يف الصحافة املكتوبة‪ ،‬نتيجة‬

‫لوجود مواقع التواصل االجتماعي التي يلجؤون إليها حيث‬ ‫يقومون بإنشاء قنوات خاصة لهم عىل اليوتيوب واإلنستغرام‬

‫عىل سبيل املثال بهدف الرتويج‪ ،‬وهذه معلومة لـ«الفيصل» إذ‬ ‫قدرت بعض املصادر ذات الصلة بأن قيمة األموال التي تضخ خالل‬

‫‪38‬‬

‫املوسم االنتخابي تراوح ما بني ‪ 50‬إىل ‪ 100‬مليون دينار كويتي‪ ،‬فكم‬

‫يا ترى نسبة اإلعالن يف الصحف ويف غريها من اإلعالم الجديد؟‬

‫سكرتري تحرير ومدير مركز املعلومات والدراسات يف‬ ‫صحيفة «القبس» الكويتية‬

‫إبراهيم المليفي‪:‬‬ ‫السوق اإلعالني أهم من سرعة الخبر‬

‫أهم ما يجب النظر إليه هو موضوع السوق اإلعالين‬

‫وليس سرعة الخرب‪ ،‬فمعظم الصحف اليوم أصبحت تنحو‬

‫إبراهيم المليفي‬

‫خلفان الزيدي‬

‫املشكلة يف بروز منافس مثل مواقع التواصل االجتماعي والصحف‬

‫اإللكرتونية أم يف جودة ما تقدمه الصحف الورقية نفسها؟ فهل‬ ‫انتهت الصحافة الورقية يف الغرب مثلاً ؟ أظن أنها موجودة وما‬ ‫يكتب فيها أقوى من الذي يكتب عندنا‪ ،‬لذلك فهي صامدة‪.‬‬

‫مدير تحرير مجلة العربي الكويتية‬

‫خلفان الزيدي‪:‬‬ ‫الورقية أكثر احترافية من اإللكترونية‬

‫لم يعد يخفى عىل أحد انتشار الصحف اإللكرتونية وهيمنتها‬

‫عىل األخبار‪ ،‬وسرعتها يف الوصول إىل الحدث ونقلها إياه بتطوراته‬ ‫وعىل نطاق واسع‪ .‬يف الوقت الذي تسجل فيه بعض الصحف‬

‫تراجعً ا يف املبيعات وخسائر يف عائداتها إىل حد توقف صحف‬

‫وتقليص صفحات صحف أخرى‪ ،‬كل ذلك واضح للعيان ومعايش‬

‫يف الكثري من البلدان‪ .‬لكن هل ترى كل ذلك سيدفع الصحف‬ ‫الورقية إىل االختفاء؟ هل ستخلو‪ ،‬مثلاً ‪ ،‬أرفف املكتبات ومواقع‬

‫اإلعالن وليس سرعة الخبر هو الذي‬ ‫بإمكانه إنقاذ الصحف الورقية اليوم من‬ ‫حافة «التقليدية» واالنهيار‬

‫للمقاالت التحليلية؛ ألن الخرب األسرع‬ ‫تقتنصه الصحف اإللكرتونية‪ ،‬فاإلعالن‬

‫هو الذي بإمكانه إنقاذ الصحف الورقية‬ ‫اليوم من حافة «التقليدية» واالنهيار‪.‬‬

‫وسائل التواصل االجتماعي بدأت‬

‫تسحب البساط اإلعالين والخربي‬ ‫من الصحف الورقية‪ ،‬بل إن بعض‬

‫مشاهري التواصل االجتماعي أصبحوا‬ ‫األبرز إعالنيًّا؛ ألن السوق اإلعالين‬ ‫أوجد لنفسه عالقات واسعة يف مواقع‬ ‫التواصل االجتماعي‪ .‬ولكن علينا أن‬

‫نسأل أنفسنا‪ :‬ما مستوى الجودة‬

‫الذي تقدمه الصحافة الورقية؟ وهل‬ ‫العددان ‪ 490 - 489‬شوال ‪ -‬ذو القعدة ‪1438‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬أغسطس ‪2017‬م‬


‫بيع الصحف منها؟ أشك يف األمر‪ ،‬ويحدوين‬

‫بدأت قبل سنوات‪ ،‬وأتصور أن جريدة األيام يف‬

‫بوصفها أكرث مصداقية يف نقل األخبار‪ ،‬وأكرث‬

‫بصورة متواضعة‪ ،‬ثم تبعتها بقية الصحف‬

‫البحرين هي أول جريدة دخلت السباق‪ ،‬لكن‬

‫تفاؤل باستمرار الصحف الورقية والرجوع إليها‬

‫البحرينية مثل أخبار الخليج والبالد والوطن‬

‫احرتافية من الصحف اإللكرتونية‪.‬‬

‫والوسط‪ .‬بطبيعة الحال اليوم الصحافة الورقية يف‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ملحوظا يف‬ ‫انخفاضا‬ ‫مختلف دول العالم تسجل‬

‫فما زال الكثريون ال يعتدون باألخبار ما لم‬

‫يجدونها مربزة عىل صفحات الجريدة الورقية‪،‬‬

‫وما لم يجد التحليل واملقال واالستطالع املصور‪،‬‬

‫وما لم يشعر بملمس الورق‪ ،‬ويصافح الحرب‬

‫أسامة الماجد‬

‫عدد نسخ البيع‪ ،‬وهو ما دفع الكثري من الصحف‬

‫إىل تقليل النسخ املطبوعة‪ ،‬وهذا يعود إىل قوة‬

‫بأصابعه‪ .‬فهؤالء ال يجدون متعة يف تقليب األخبار ومقاالت الرأي‬

‫الصحيفة اإللكرتونية‪ ،‬وانتشارها بشكل أسرع؛ إذ أصبح الفرد‬

‫صفحات الجريدة‪ ،‬ويطالعوا خربًا هنا ورأيًا هناك‪ ،‬ثم يضعوا‬

‫تعد الصحيفة الورقية تشكل وجبة يومية دسمة مثل السابق‪.‬‬

‫عىل شاشة هواتفهم أو األلواح اإللكرتونية‪ ،‬فهم يريدون أن يقلبوا‬

‫الصحيفة جانبهم‪ ،‬ويستعيدوها متى شاؤوا‪.‬‬

‫يتصفح عشرات الصحف من خالل هاتفه النقال ويف أي مكان‪ .‬فلم‬ ‫يف تصوري‪ ،‬بوصفي أحد املشتغلني يف الصحافة‪ ،‬أن الصحافة‬

‫الصحافة الورقية باقية رغم عرثاتها املادية‪ ..‬حالها يف ذلك‬

‫الورقية ستختفي تدريجيًّا مع مرور الوقت‪ ،‬وربما قبل عام‬

‫إعالمي من سلطنة عمان مهتم بالصحافة اإللكرتونية‬

‫وسيضطر الصحايف والكاتب أن يعيش يف هذا العالم الجديد من‬

‫حال اإلذاعة والتلفزيون مع السينما واملسرح‪.‬‬

‫أسامة الماجد‪:‬‬

‫‪2030‬م؛ إذ ستكتفي املؤسسات الصحفية بعدد قليل من املوظفني‪،‬‬ ‫بيته‪ ،‬وسيهجر القلم إىل األبد‪ .‬هناك بكل تأكيد من يرى ضرورة‬

‫استمرار الصحف الورقية بوصفها مرجعً ا ال غنى عنه مثلها مثل‬

‫المد التكنولوجي سيقضي على الكالسيكي‬

‫الكتاب‪ ،‬لكن الوضع بشكل عام يقول عكس ذلك‪ .‬فم ّد التكنولوجيا‬

‫يطولها ما يطول بقية الصحف يف أي مكان‪ .‬الصحافة اإللكرتونية‬

‫إعالمي بحريني‬

‫الصحافة يف البحرين جزء من القرية العاملية‪ ،‬وال بد أن‬

‫سيقيض عىل كل يشء كالسييك!‬

‫صالح غريب‪ :‬خطة لمواجهة التغير‬ ‫الصحف الورقية سوف تظل مدة طويلة صامدة من املتغري اإللكرتوين الذي نشهده‬

‫اليوم‪ ،‬وهذا الصمود نابع من تلك العالقة التي تشكلت بني القارئ والصحف‪ ،‬فما زالت‬ ‫الغالبية تعتمد أسلوب القراءة من الصحف الورقية أكرث من غريها من األشكال سواء عرب‬ ‫الجوال أو اآليباد أو الحاسوب؛ ألنه ال يستمتع بالقراءة سوى عرب هذه الوسيلة‪ ،‬حتى إن‬

‫توافرت الوسائل األخرى فال تزال قوية وثابتة‪ ،‬وإن تأثر سوق اإلعالن بوجود هذه التقنية‬

‫الحديثة لكنها ثابتة وقوية‪ .‬ال شك أن هناك تأثريًا حدث من خالل وجود صحف إلكرتونية‬

‫جذبت جمهور الورقي لها‪ ،‬لكن نسبة استخدام الحاسوب يف متابعة األخبار يف الوطن‬

‫صالح غريب‬

‫العربي قليلة‪ ،‬وغالبية املستخدمني من جيل الشباب املراهق الذي يبحث عن مواقع معينة ليست لها عالقة بالصحف‪ ،‬وإن تغري‬ ‫الوضع اآلن يف ظل دخول مرحلة جديدة‪.‬‬ ‫َ‬ ‫بالطبع حدث تغري ولم تعد الصحف الورقية يف الخليج بذلك الزخم السابق‪ ،‬ومن ثم نلحظ أنه حدث تقليص يف عدد الصفحات‬

‫وتصغري الحجم بهدف تقليل املصروفات‪ ،‬إضافة إىل التأثر املادي‪ ،‬وتراجع نسب التوزيع الورقي‪ ،‬وذلك بسبب ظهور الصحف‬ ‫واملواقع والبوابات اإللكرتونية‪ .‬يف نظري سوف تستمر الصحافة الورقية صامدة إىل مدة طويلة قبل أن تتحول إىل إلكرتونية‪ ،‬أو‬ ‫يتوقف إصدارها الورقي؛ ألن املواطن العربي ما زال مقبلاً عىل ذلك‪ ،‬والحضور الجماهريي ملعارض الكتاب خري مثال عىل ذلك‪.‬‬

‫وهنا عىل الصحف الورقية أن تجد لها خطة بديلة ملواجهة هذا التغري واالهتمام مثل هذه املواقع‪ ،‬عىل سبيل املثال معرفة فكر‬ ‫ً‬ ‫بعيدا من األسلوب التقليدي‪ ،‬فلم يعد القارئ يف السبعينيات هو ذاته اليوم‪ ،‬فإن البحث عن أفكار متطورة تواكب اهتمام‬ ‫القارئ‬

‫الشباب هو التحدي ملواجهة املستقبل‪.‬‬

‫إعالمي ورئيس القسم الثقايف يف صحيفة الشرق القطرية‬

‫‪39‬‬


‫الملف‬

‫الصحافة السعودية‪:‬‬ ‫من يديرون الصحف كانوا يضعون األموال‬ ‫في جيوبهم وهو ما جعل المستقبل مخيفً ا‬ ‫هدى الدغفق ‪ -‬فواز السيحاني‬

‫الجميع ليس متفائلاً على اإلطالق‪ُ :‬كتاب‪ ،‬ورؤساء تحرير‪ ،‬ومحررون‪ ،‬وأعضاء مجلس‬ ‫إدارة‪ .‬غالبيتهم ُتكرر الجملة اآلتية‪ :‬المستقبل مظلم ًّ‬ ‫تأت بعد‪ .‬ليس‬ ‫جدا‪ ،‬واآلثار األكثر إيالمً ا لم ِ‬

‫ً‬ ‫غرابة هو أن تلك‬ ‫غريبًا أن تكون الصحف الورقية محليًّا وعالميًّا على حافة الفناء‪ ،‬لكن األكثر‬ ‫ً‬ ‫أحيانا إلى نصف مليار ريال سعودي‬ ‫األرباح الكبيرة التي كانت تجنيها بعض الصحف‪ ،‬وقد تصل‬

‫‪40‬‬

‫في العام لصحيفة واحدة‪ ،‬أصبحت هذه األرباح مثل اللبن المسكوب الذي لم يستفد منه؛‬ ‫لقد كان من األجدر لهذه الصحف الثرية أن ُتخضع بعض تلك األموال الضخمة لالستثمار؛ كي‬

‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫عوضا عن مواجهة مصير مأساوي مثل الذي تواجهه‬ ‫وأمانا‪،‬‬ ‫اطمئنانا‬ ‫تبني مستقبلاً صحفيًّا أكثر‬ ‫اليوم‪ ،‬لكن ما الذي منع الصحف الثرية من االستثمار؟‬

‫العددان ‪ 490 - 489‬شوال ‪ -‬ذو القعدة ‪1438‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬أغسطس ‪2017‬م‬


‫املحلل االقتصادي وابن أحد أكرب رؤساء التحرير يف اململكة‬ ‫مازن السديري‪ ،‬ليس متفائلاً أمام واقع الصحف ومستقبلها محليًّا‪،‬‬ ‫وأكد يف حديث لـ«الــفيصل» عىل أنه ال أحد يمكنه إنكار أن الصحف‬

‫ملايل؛ «إال أن ما يميز بعضها‬ ‫الورقية حاليًّا يف أزمة عىل املستوى ا ّ‬ ‫مثل «الرياض» مثلاً ‪ ،‬هو توافر السيولة املادية لديها التي تستطيع أن‬ ‫تستخدمها يف أي وقت‪ ،‬وهذا غري متاح لكثري من الصحف الورقية»‪،‬‬

‫مشريًا إىل أن األزمة التي تعانيها الصحف يف الوقت الراهن ليست‬ ‫فقط أزمة غياب املُعلِن‪« ،‬إنما أزمة عىل مستوى تنويع مصادر الدخل‬ ‫لتلك املؤسسة الصحفية‪ ،‬وإن كان هذا التنويع عىل مستوى مصادر‬ ‫الدخل كان حاض ًرا يف بعض املؤسسات الصحفية إال أنه ً‬ ‫أيضا لم يجد‬ ‫نفعً ا كما حدث مع صحيفة «اليوم»‪ ،‬لقد كان أعضاء مجلس إدارتها‬

‫هم يف األساس من رجال األعمال وأصحاب تفكري استثماري؛ ففي‬ ‫املايض القريب كان هناك حقائب اقتصادية استثمارية لها خارج إطار‬

‫اإلعالن‪ ،‬إال أنها حاليًّا تعاين ما تعانيه الصحف املتبقية لكن بألم أقل»‪.‬‬ ‫أيضا إىل أن بعض الصحف ّ‬ ‫السديري االبن لفت ً‬ ‫«فكرت يف‬ ‫االستثمار عىل مستوى شراء مطابع جديدة مثلما فعلت مثلاً‬

‫«صحيفة الجزيرة» إال أن هذا االستثمار يعد هدرًا ماليًّا‪ ،‬ويعرب عن‬

‫غياب عقلية تقرأ مستقبل اإلعالم الورقي بشكل حقيقي!»‪ .‬ويقول‪:‬‬ ‫إن هناك بعض الصحف حاليًّا تحتاج إىل اإلنقاذ املبكر؛ نظ ًرا لقرب‬

‫هاشم الجحدلي‪ُ :‬كتاب المجامالت‬ ‫المبالَغ فيها‬ ‫وكثرة المكاتب والمكافآت ُ‬ ‫مبان هائلة‪ ،‬أسهم في‬ ‫لل ُكتاب وتشييد‬ ‫ٍ‬

‫تفاقم المشكلة‬

‫مازن السديري‬

‫عبدالله الكعيد‬

‫موتها كصحيفة «الوطن» تليها «الشرق»‪ ،‬مؤكدًا أن الصحف «تحتاج‬ ‫فعلاً إىل عقلية استثمارية مختلفة؛ وأن ما يعنيه ليس االستثمار‬

‫عىل مواقع التواصل االجتماعي أو الحسابات التويرتية‪ ،‬إنما استثمار‬ ‫مختلف بمعنى إبداعي وحقيقي يخلق أُ ً‬ ‫فقا جديدًا»‪.‬‬ ‫تفكري ذو أفق قصري‬

‫من جهته‪ ،‬يقول الكاتب الصحايف عبدالله الكعيد الذي كان يكتب‬

‫يف صحيفة الرياض‪ ،‬وخرج منها غاضبًا بعد سلسلة من التغريدات‬

‫كتبها عىل حسابه الخاص‪ :‬إن اإلشكالية الحقيقية تكمن يف مجالس‬ ‫إدارات هذه الصحف‪« ،‬إنها لم تكن تفكر أصلاً عىل املدى البعيد؛ بل إن‬

‫الجميع كان تفكريه ذا أفق قصري ولم يتجاوز كيفية تسويق الصحيفة‬ ‫عىل مستوى اإلعالنات لدى املعلن»‪ .‬ويضيف الك ــعيد لـ«الفيصل» أن‬ ‫مجالس اإلدارة «لم تكن تأبه بمصري الصحف التي تقوم بإدارتها‪،‬‬

‫لقد كان من األجدى استثمار األموال من االحتياطيات التي تمتلكها‬ ‫ً‬ ‫عوضا عن أن يكون‬ ‫هذه الصحف واملوضوعة للتطوير ولألزمات‪،‬‬

‫بعض من هذه الصحف ليس لديه اآلن أرباح وال استثمار»‪ ،‬موضحً ا‬ ‫أن غالبية أعضاء مجالس إدارات تلك الصحف‪ّ ،‬‬ ‫جل ما يستطيعون‬

‫قينان الغامدي‪ :‬تواضع المضمون وراء انصراف القراء‬ ‫أفضل ما يمكن أن تفعله الصحافة الورقية يف هذه الظروف أن تعزز مواقعها اإللكرتونية‪،‬‬

‫وتسلك يف ذلك سبيل الصحافة العاملية النابهة التي تنمو بصورة سريعة إلكرتونيًّا يف مقابل‬

‫استمرار هبوط توزيعها الورقي‪ .‬هذا جانب والجانب اآلخر هو ضرورة االعتناء باملضمون؛ إذ‬ ‫هو البطل بغض النظر عن وسيلة اإلعالم سواء كانت ورقية أو إلكرتونية‪.‬‬

‫تستطيع الورقية أن تواكب الحدث محليًّا وعامليًّا من خالل موقعها اإللكرتوين‪ ،‬وتركز‬

‫عىل الرأي والتحقيقات االستقصائية وما وراء األحداث يف نسختها الورقية‪ ،‬حتى إذا حان‬ ‫موعد إيقاف الورق تنتقل الصحيفة بكاملها إىل وسيلة النشر اإللكرتوين‪ ،‬وهي بكامل قوتها‬ ‫ولياقتها وحضورها‪.‬‬

‫قينان الغامدي‬

‫الصحافة الورقية أضاعت حتى اآلن زم ًنا طويلاً من دون عناية بمواقعها اإللكرتونية‪ ،‬وال ننس تواضع املضمون الذي دفع‬ ‫ً‬ ‫مضمونا وأسرع توصيلاً ‪ .‬وال أظن أن هناك اختالفات جوهرية كبرية بني‬ ‫القارئ إىل اإلشاحة عنها والتحول إىل وسائل أقوى‬

‫الصحف العربية والخليجية والسعودية‪ ،‬فهي يف املستوى نفسه تقريبًا من حيث الرتابة وعدم االلتفات للقفزات التي تحدث‬ ‫من حولها يف مجاالت وسائل التواصل والصحف اإللكرتونية‪.‬‬

‫صحايف وكاتب سعودي‬

‫‪41‬‬


‫الملف‬ ‫فعله هو انتظار األرباح «إليداعها يف حساباتهم الخاصة‪ ،‬ومن‬ ‫ثم يذهبون إىل بيوتهم آمنني مطمئنني‪ .‬مجلس اإلدارة ورئيس‬

‫مجلس اإلدارة املنتخب من الجمعية العمومية؛ من النادر أن‬ ‫يكون رجلاً اقتصاديًّا إنما هو مجرد إداري يدير مؤسسة فقط‬

‫كغريه من املديرين يف القطاعات الحكومية املختلفة! ال يوجد‬ ‫هناك أحد يفكر يف االستثمار يف املعرفة اإلعالمية رغم أهميتها‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ناس متخصصني يفهمون كيف يستثمرون‬ ‫وهي بحاج ٍة إىل أ ٍ‬ ‫ويطوّرون تلك الصحف؛ يك ال تواجه أزمة مخيفة كما يحدث‬ ‫اليوم‪ .‬كان رئيس التحرير يف السابق هو من يدير املؤسسة وهو‬ ‫يف الغالب يفتقر لعقلية صناعة املال!!»‪.‬‬ ‫حلول ال إنسانية‬

‫يكونوا يستثمرون األرباح السابقة‪ ،‬وهذا هو الذي دمّر الصحف‪.‬‬

‫إنهم يأخذون األموال ويضعونها يف جيبوهم‪ ،‬وهو ما جعل مستقبل‬ ‫ً‬ ‫مخيفا وخط ًرا‪ ،‬وما سيرتتب عىل ذلك يحتاج إىل حديث‬ ‫الصحف‬ ‫طويل‪ ،‬وتفنيد واستقراء يصعب اختصاره»‪.‬‬

‫يف حني أوضح نائب رئيس تحرير صحيفة عكاظ هاشم الجحديل‬ ‫أن املشكلة التي تحدث اآلن يف الصحف «ليست من املُلاَّ ك وحدهم‪.‬‬

‫رئيس التحرير السابق عبدالوهاب الفايز كان تعليقه‬

‫يجب أن نعرف أن العقلية التجارية نفسها ما كانت عقلية استثمارية‬

‫لـ«الفيصل»‪« :‬من يديرون املؤسسات الصحفية الورقية لم‬

‫وتوزيع مكافآت ُ‬ ‫للكتاب مبالغ فيها‪ ،‬إىل جانب استكتاب ُكتاب‬ ‫َ‬ ‫مبان هائلة كأن الصحف وزارات أو‬ ‫مجامل ًة‪ ،‬إضافة إىل تشييد‬ ‫ٍ‬

‫مقتضبًا عىل ما يحدث من أزمة للصحافة الورقية؛ إذ قال‬

‫عبدالوهاب الفايز‪ :‬من يديرون‬

‫‪42‬‬

‫عبدالوهاب الفايز‬

‫هاشم الجحدلي‬

‫المؤسسات الصحفية الورقية لم‬ ‫يكونوا يستثمرون األرباح السابقة‬ ‫دمر الصحف‬ ‫وهذا هو الذي ّ‬

‫حقيقية‪ ،‬ومن ثم كان رئيس التحرير يريد مزيدًا من املكاتب ملحرريه‪،‬‬

‫إمرباطوريات‪ ،‬كل ذلك أسهم يف تفاقم املشكلة؛ من ناحية زيادة‬ ‫املصاريف؛ ففي عكاظ مثلاً كانت أرباح إحدى السنوات نحو ‪ 500‬مليون‬ ‫ريال‪ُ ،‬‬ ‫وخصم نحو ‪ 400‬مليون ريال مصاريف عىل املنشآت التي قامت‬ ‫ببنائها واملكاتب التي أسستها»‪.‬‬

‫وأشار إىل أن القائمني عىل الصحافة الورقية «كانوا يضعون‬

‫محمد التونسي‪ :‬ليست الحال سيئة إلى هذا الحد‬ ‫ثمة فرص‪ ،‬وليست فرصة واحدة‪ ،‬لتحافظ الصحافة الورقية عىل عالقتها بالقارئ‬

‫واملعلن معً ا‪ .‬املحتوى سيد املوقف‪ ،‬به تنهض الوسيلة أو تقع‪ ،‬ليست الحال سيئة إىل هذا‬ ‫الحد بالنسبة للصحف الورقية‪ ،‬فاملعلن ال يزال يثق بها‪ ،‬والقارئ يبحث عنها‪ .‬الفارق اآلن‬

‫هو هامش املنافسة الذي خلقته وسائل التواصل واملنصات اإللكرتونية التي تتفوق بالسبق‬

‫الخربي‪ ،‬لكن األشكال الصحفية األخرى ال تزال حية وقادرة عىل إيجاد مكان لدى القارئ‪.‬‬ ‫وإن كان من فكرة غري املحتوى لتجويد املنتج‪ ،‬فهي بال شك الحافزات البصرية يف اإلخراج‪،‬‬ ‫والصورة‪ ،‬واإلنفوغرافيكس‪ ،‬إىل جانب ربط الورق باملنتجات اإللكرتونية األخرى للوسيلة‪.‬‬ ‫‪‎‬لم تنت ِه الصحافة الورقية بعد لنتحدث عنها بصيغة الراحلة‪ ،‬وإن كانت بعض‬

‫محمد التونسي‬

‫الصحف تمادت يف اعتقادها بعدم وجود منافس‪ ،‬وهو ما أثر يف أرقام التوزيع‪ ،‬لكنها حتى اللحظة ال تزال العبًا أساسً ا يف‬ ‫اإلعالم‪‎ .‬القارئ الواعي موجود يف كل بقعة من العالم‪ ،‬وهو ما تراهن عليه الوسيلة اإلعالمية‪ ،‬تتشابه الوسائل ويتقاطع‬ ‫بعضها مع بعض‪ ،‬لكنها تختلف ً‬ ‫وفقا لشكل املحتوى جغرافيًّا‪ .‬النسخة الورقية من الصحف صارت متاحة للقارئ يف أقايص‬ ‫األرض‪ ،‬وهو ما يحفز عىل البحث عن فرص يف أسواق مختلفة‪ .‬تبقى الصحافة السعودية املساحة األوسع نظرًا للتنوع‬

‫املجتمعي والجغرايف قياسً ا بنظرياتها يف الخليج‪ ،‬التي بذاتها أكرث استقرارًا من الصحافة العربية التي تخضع للمزاج السيايس‪،‬‬ ‫يف حني يشرتك جميعها يف إشكالية التمويل‪ ،‬وإيجاد منافذ جديدة لالستثمار والربح‪.‬‬

‫رئيس تحرير صحيفة الرؤية اإلماراتية‬

‫العددان ‪ 490 - 489‬شوال ‪ -‬ذو القعدة ‪1438‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬أغسطس ‪2017‬م‬


‫يف تفكريهم أن خصمهم الوحيد واألوحد هو الصحف‬ ‫اإللكرتونية؛ لذلك أخذوا بجهد وتكاليف قليلة استقطاب‬

‫عقليات تقنية إلنشاء مواقع متطورة؛ يك يدخلوا يف‬ ‫منافسة مع املواقع اإللكرتونية‪ ،‬والذي حدث هو عكس‬

‫خالد الفرم‪ :‬الصحافة السعودية‬ ‫سقطت في فخ الفردية في اإلدارة‬

‫ذلك تمامًا»‪ ،‬مؤكدًا أن الصحف اإللكرتونية «هي نفسها‬

‫أول ال بد من اإلشارة إىل أن‬

‫التواصل االجتماعي وليس من بدائل الصحف الورقية مثل‬

‫إعالمية هو معدل التوزيع‪ ،‬وال‬

‫الجحديل لـ«الفيصل»‪ :‬إن خصم الصحافة الورقية اآلن «هو‬

‫والتقني أثرت بشكل كبري يف توزيع‬

‫يجب أن تواجه املشكلة‪ ،‬وأن تعيد تكييف املصاريف‪ ،‬وأن‬ ‫تكون الحلول املقدمة حلولاً م ّتزنة وواقعية وليست حلولاً‬

‫توزيعها إىل أكرث من ‪ ٪٥٠‬كما‬

‫أصبحت يف املأزق نفسه؛ ألن الضربة أتت من مواقع‬

‫املقياس الرئيس يف تقييم أي وسيلة‬

‫املواقع اإللكرتونية املتخصصة يف الجانب اإلعالمي»‪ .‬ويقول‬

‫شك أن متغريات املشهد اإلعالمي‬

‫خصم متج ِّدد ومتغريٌ‪ ،‬والصحف الورقية بكوادرها القيادية‬

‫الصحف السعودية التي تراجع‬ ‫فقدت أكرث من ‪ ٪٦٠‬من مداخيلها‬

‫خالد الفرم‬

‫ال إنسانية‪ ،‬مثل فصل املحررين الذين أتت بهم الصحيفة‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫مالية مغرية وهم يف السابق كانوا يف‬ ‫عروضا‬ ‫وقدمت لهم‬

‫يحقق وظائفه الرئيسة‪ ،‬نحو توفري املعلومات وربط املجتمع بعضه‬

‫وذكر أن إعادة تكييف املصاريف والروافد األخرى يمثل‬

‫يف انتشار الشائعات والقلق االجتماعي وحالة عدم اليقني‪ ،‬ومغادرة‬

‫وظائف أخرى»‪.‬‬

‫اإلعالنية‪ ،‬واألهم من ذلك هو حاجة املجتمع إىل نظام إعالمي فاعل‪،‬‬ ‫ببعض وتعزيز الثقة‪ ،‬فنقص املعلومات يف النظام اإلعالمي يسهم‬

‫أحد الحلول املهمة‪ ،‬علمًا بأن اإلعالن ال يزال وسيزال قائمًا‪،‬‬

‫الجمهور نحو اإلعالم البديل بعيدً ا من اإلعالم الوطني‪ .‬الصحافة‬

‫الحل اآلن وفق رأي نائب رئيس تحرير صحيفة عكاظ‪،‬‬ ‫يجب أن يكون حلاًّ بالشراكة‪ ،‬بمعنى أن يكون اإلعالن‬

‫شبكات التواصل االجتماعي‪ ،‬بل بسبب هشاشة البنى الصحفية‪،‬‬

‫وهو ركيزة أساسية من ركائز التجارة‪.‬‬

‫الحكومي حاض ًرا ومدعومًا‪ ،‬وأن تكون هناك مطابع تقام‬ ‫بالشراكة ً‬ ‫عوضا عن أن تقوم كل صحيفة بإنشاء مطبعتها‬

‫الخاصة التي تكلف الكثري من األموال‪.‬‬

‫الورقية تواجه تحديات عدة‪ ،‬ليست بسبب سطوة التقنية وهيمنة‬

‫وتغري اقتصاديات اإلعالم‪ ،‬وضعف إدارة املؤسسات اإلعالمية‪،‬‬ ‫وبخاصة مع غياب الصحافة االستقصائية‪ ،‬وهيمنة األداء التقليدي يف‬

‫السياسات التحريرية للصحف الورقية التي تنتظرها تحديات اإلفالس‬ ‫وشبح اإلغالق خالل سنوات معدودة‪ .‬والتوجهات الحديثة يف صناعة‬

‫الصحافة املعاصرة هي الرتكيز عىل الصحافة االستقصائية‪ ،‬والتحول‬ ‫نحو التخصص باملعنى الجغرايف واملوضوعي‪ ،‬وكذلك االستثمار يف‬ ‫اإلعالم الجديد من خالل دمج املنصات وغرف األخبار‪.‬‬

‫الصحافة السعودية أضاعت عىل نفسها فرصة تأسيس صناعة‬

‫صحافية وإعالمية راسخة‪ ،‬فسقطت يف فخ الجمود والفردية يف‬ ‫إدارة املؤسسات الصحفية‪ ،‬وهو ما أحدث تشوهات حادة يف أداء‬

‫املؤسسات الصحفية التي انعكست سلبًا عىل الصحفيني الذين هم‬

‫العنصر الرئيس يف العملية اإلعالمية‪ ،‬وكذلك انعكست عىل األداء‬ ‫واملنتج الصحفي‪.‬‬

‫هناك تشابه بني الصحف السعودية والخليجية والعربية يف‬

‫التحديات‪ ،‬واختالف يف املعالجات‪ ،‬فالكثري من املؤسسات الصحفية‬ ‫ً‬ ‫وصحفا‬ ‫الخليجية أو العربية مؤسسات إعالمية شاملة‪ ،‬تمتلك قنوات‬

‫وإذاعات ومواقع إلكرتونية ومطبوعات متعددة‪ ،‬ومن ثم فهي َّ‬ ‫سلة‬ ‫ً‬ ‫هامشا كبريًا من الحركة‬ ‫من االستثمارات اإلعالمية‪ ،‬وهو ما يتيح لها‬ ‫باملعنى اإلعالمي واالقتصادي‪ ،‬بعكس الصحف السعودية أحادية‬ ‫االستثمار واملنتج‪.‬‬

‫أكاديمي وإعالمي سعودي‬

‫‪43‬‬


‫الملف‬

‫حل األزمة يكمن في‬ ‫التكيف مع المستجدات‬ ‫جعفر العقيلي‬

‫سكرتير التحرير في «الرأي» األردنية‬

‫ّ‬ ‫المحك‪ ،‬ولو لم يكن األمر بهذه الخطورة لما‬ ‫بال شك‪ ،‬مستقبل الصحافة الورقية على‬ ‫خصصت «الفيصل» ًّ‬ ‫ملفا لمناقشته‪ .‬وإذا كان هناك من نظرة تشاؤمية تجاه المستقبل الذي‬ ‫الشرس‬ ‫ينتظر الصحافة الورقية‪ ،‬فلهذه النظرة مشروعيتها في ظل اشتداد ُعود المنا ِفس‬ ‫ِ‬

‫المتمثل في النشر اإللكتروني‪ .‬وربما لو أن نسبة مستخدمي اإلنترنت في المنطقة العربية أعلى‬

‫‪44‬‬

‫مما هي عليه‪ ،‬لكانت الصحافة الورقية التي أنتمي إليها وأنحاز لها وجدانيًّا‪ ،‬في مرحلة اإلنعاش‬

‫أو لكانت تلفظ أنفاسها األخيرة‪.‬‬

‫العددان ‪ 490 - 489‬شوال ‪ -‬ذو القعدة ‪1438‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬أغسطس ‪2017‬م‬


‫وعىل الرغم من ذلك‪ ،‬ربما استعجلت شركة‬ ‫«مايكروسوفت» قليلاً حني أعلنت منذ سنوات أن العالم‬

‫سيشهد طباعة آخر صحيفة ورقية يف عام ‪2018‬م‪ .‬فمن‬ ‫الواضح أن األمر يحتاج إىل مدة أطول‪ ،‬حتى يف الدول‬ ‫ً‬ ‫ُ‬ ‫عزوفا متزايدً ا عن‬ ‫االستطالعات فيها‬ ‫املتقدمة التي تؤكد‬ ‫الصحافة الورقية واملطبوعة واتجاهً ا أكرث نحو الصحافة‬ ‫اإللكرتونية لتلقي الخرب واملعلومة‪ .‬فما بالك باملنطقة العربية‬

‫ٌ‬ ‫مساحات واسعة فيها انتشا َر األمّ ية التقنية (وإنْ‬ ‫التي تعاين‬

‫يكمن أحد المخارج ألزمة الصحافة الورقية‬ ‫في األردن‪ ،‬في أن تعمل الحكومة على‬ ‫إعفاء مدخالت اإلنتاج (الورق والحبر‬ ‫ومعدات الطباعة) من الضرائب‪ ،‬وزيادة‬ ‫عدد االشتراكات الحكومية ورفع حصة‬ ‫هذه الصحف من اإلعالنات‬ ‫الشرف الصحفي‪ ،‬وعدم اللجوء إىل االبتزاز والتشهري‬

‫سب متفاوتة)‪ ،‬وضعف البنية االتصالية التحتية فيها‪.‬‬ ‫بِ ِن َ‬ ‫أما ما َت ّ‬ ‫وقعه الخبري اإلعالمي «فيليب ماير» يف عام ‪2004‬م‬

‫والتجريح وإطالق اإلشاعة واإلساءة إىل كرامات األسر‬ ‫ّ‬ ‫والكف عن املمارسات التي تيسء ملصداقية اإلعالم‪.‬‬ ‫واألفراد‪،‬‬

‫ً‬ ‫ً‬ ‫واقعية من استطالع «مايكروسوفت»‬ ‫منطقية أو‬ ‫أنه أكرث‬

‫التخطيط‪ّ ،‬‬ ‫وقلة املردود املتأيت من اإلعالن مقارنة بالصحف‬

‫ّ‬ ‫لتحل محلها‬ ‫من اختفاء جميع املطبوعات خالل ثالثني عامً ا‬ ‫مصادر األخبار اإللكرتونية‪ ،‬فيبدو ُّ‬ ‫ّ‬ ‫محله‪ ،‬رغم‬ ‫توقعً ا يف غري‬

‫ومن نافل القول‪ :‬إن معظم الصحف اإللكرتونية‬ ‫تعاين هي ً‬ ‫أيضا صعوبات مالية تتعلق بالتمويل‪ ،‬وغياب‬

‫السابق الذكر‪ .‬لكن هل علينا أن نلقي بالالئمة عىل الصحافة‬

‫الورقية‪ ،‬فما زال املعلِن يشعر بعدم الثقة بالصحافة‬

‫ال‪ .‬فهناك أزمة مالية ضربت صناعة الصحافة يف العالم‪،‬‬ ‫فأُغلقت صحف‪ ،‬وتحولت أخرى إىل الصيغة اإللكرتونية‪...‬‬

‫الشرائح التي يستهدفها‪ .‬كما أن الصحافة اإللكرتونية تلجأ‬

‫سبب هذا املصري الذي ينتظرها؟ من املؤكد‪:‬‬ ‫الورقية بوصفها‬ ‫َ‬

‫وهناك صحف آثرت أن تصمد قليلاً ولو بكثري من التضحيات‪.‬‬

‫اإللكرتونية‪ ،‬وال ينظر لها بجدّ ية كافية لتكون نافذته عىل‬ ‫كثريًا إىل االستنساخ من الصحف الورقية ووكاالت األنباء‪،‬‬

‫ويحدث هذا يف ظل غياب الرقابة واملحاسبة يف الغالب‪ .‬وقد‬

‫ومن ذلك‪ :‬إعادة الهيكلة‪ ،‬واالستغناء عن موظفني‪ ،‬وإغالق‬

‫فوسعت نقابة الصحفيني‬ ‫جرى االنتباه إىل هذه املسألة‪،‬‬ ‫ّ‬

‫وتخفيض مستوى الجودة يف الطباعة‪ ...‬إلخ‪ .‬ومن الواضح‬

‫الذي جرى منتصف عام ‪2014‬م‪ ،‬ومن التعديالت املهمة عىل‬

‫مكاتب‪ ،‬وإنهاء عقود مراسلني‪ ،‬وتقليص عدد الصفحات‪،‬‬

‫األردنيني مظلة العضوية فيها يف التعديل األخري عىل قانونها‬

‫أن هذا املسار الحلزوين الذي تشهده الصحافة الورقية ليس‬ ‫َّ‬ ‫مرشح إىل املزيد من التدهور‪.‬‬ ‫مؤق ًتا‪ ،‬وأنه‬

‫القانون واملرتبطة بالصحف اإللكرتونية‪ ،‬يُشرتَط أن تنطبق‬ ‫ُ‬ ‫نفسها املطلوب توافرها يف‬ ‫الشروط‬ ‫عىل رئيس التحرير‬ ‫ُ‬

‫ املتصفح استخدام أكرث من حاسة يف الوقت نفسه‬‫(املشاهدة‪ ،‬والقراءة‪ ،‬واالستماع ً‬ ‫أيضا)‪ .‬وإذا كانت الصحافة‬

‫وإذا لم تتكيّف الصحافة الورقية مع املستجدات‪،‬‬

‫فستزداد أزمتها‪ ،‬وربما تواجه ما يمكن دعوته «الداروينية‬

‫طريقة صياغة الخرب وشكله وأسلوب تحريره‪ ،‬اعتمادًا عىل‬

‫البقاء‪ ،‬وهو ما يعني يف النهاية أن البقاء لألقوى‪ .‬ويكمن‬

‫ويف املقابل‪ ،‬فإن الصحافة اإللكرتونية تتيح للقارئ‬

‫رئيس تحرير املطبوعة الورقية‪.‬‬

‫اإللكرتونية أسهمت عامليًّا يف إحداث ما يشبه االنقالب يف‬

‫اإلعالمية»‪ ،‬أي أن يُطبَّق قانون «داروين» عليها؛ صراع‬

‫التكثيف واالختزال‪ ،‬فإن هذه السمة تبدو غري متحققة يف‬ ‫عدد كبري من الصحف اإللكرتونية العربية‪ ،‬فجُ ّل ما تنشره‬

‫أحد املخارج ألزمة الصحافة الورقية يف األردن‪ ،‬بأن تعمل‬ ‫الحكومة عىل إعفاء مدخالت اإلنتاج (الورق والحرب‬

‫إىل املناقبية املهنية واألخالقية‪ ،‬وهو ما دعا نقابة الصحفيني‬

‫الضرائب‪ ،‬إضافة إىل زيادة عدد االشرتاكات الحكومية‬

‫املواقع اإلخبارية ال يلتزم بتقاليد العمل الصحايف‪ ،‬ويفتقر‬

‫ومعدات الطباعة) من الضرائب‪ ،‬أو عىل األقل تخفيض‬

‫األردنيني –عىل سبيل املثال‪ -‬إىل إصدار بيان أواخر عام ‪2014‬م‬ ‫َ‬ ‫وسائل اإلعالم إىل‪ ‬ممارسة عملها يف إطار مواثيق‬ ‫دعت فيه‬

‫بالصحف الورقية‪ ،‬ورفع حصة هذه الصحف من اإلعالنات‪،‬‬ ‫وتعزيز استقاللية املؤسسات الصحفية إداريًّا وتحريريًّا‪.‬‬

‫‪45‬‬


‫الملف‬

‫صحافة دول‬ ‫المغرب العربي‪..‬‬ ‫نهايات مأساوية‪ ..‬وأفق مسدود‬ ‫ميلود بن عمار‬

‫‪46‬‬

‫صحافي جزائري‬

‫قبل أسابيع‪ ،‬خاض صحفيو جريدة «صوت األحرار» الجزائرية موجة من االحتجاجات؛‬ ‫بسبب عدم ّ‬ ‫تلقيهم أجورهم لعدة أشهر‪ .‬هذه األزمة‪ ،‬دفعت هؤالء إلى االعتصام أمام مقر حزب‬ ‫جبهة التحرير الوطني‪ ،‬وهو من أقوى األحزاب السياسية الجزائرية؛ لمطالبة رئيسه بالتدخل‬ ‫إلنقاذ هذه الصحيفة الناطقة بلسان الحزب من األوضاع المالية الصعبة التي أصبحت ُتنذر‬ ‫تأسست سنة ‪1998‬م‪.‬‬ ‫بإغالق هذه الصحيفة التي ّ‬

‫العددان ‪ 490 - 489‬شوال ‪ -‬ذو القعدة ‪1438‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬أغسطس ‪2017‬م‬


‫ويف الحقيقة‪ ،‬ال ُت ّ‬ ‫شكل وضعية هذه الصحيفة نشا ًزا‪ ،‬بعدما‬ ‫ٌ‬ ‫صحف كثرية منذ بوادر األزمة االقتصادية التي تعيشها‬ ‫أفلست‬

‫الجزائر‪ ،‬والبقية الباقية من الصحف األخرى تنئُّ تحت وطأة‬ ‫جملة من الظروف التي قد ُتعجّ ل بنهاية العهد الذهبي للصحافة‬

‫الورقية الجزائرية‪ .‬وتتشابه أوضاع الصحافة الورقية يف الجزائر‬ ‫مع جارتها الشرقية (تونس)‪ ،‬وجارتها الغربية (املغرب)‪ ،‬مثلما‬

‫ما عجل بانحسار دور الصحافة الورقية‬ ‫في الجزائر االنتشار العددي (‪ 160‬عنوا ًنا‬ ‫يصدر يوم ًّيا) وعدم التطور من ناحية‬ ‫المهنية واالحترافية وصناعة المضمون‬

‫تتشابه األعراض التي أدّت إىل هذه النهاية‬

‫يُسمّى عندنا «الصحافة الجوارية»‪ ،‬أي تلك‬ ‫التي تهتمُّ بنقل انشغاالت املواطن‪ُ ،‬‬ ‫وتعنى‬

‫املأساوية التي تعيشها الصحف الورقية يف‬

‫بلدان املغرب العربي الثالث‪ ،‬وهي األعراض‬

‫بشؤونه الحياتية املباشرة»‪ .‬ومن األمور‬

‫التي عجّ لت بالدفع باتجاه هذا األفق املسدود‪.‬‬

‫األخرى التي عجّ لت بانحسار دور الصحافة‬

‫ويبدو أنّ هذا املشهد‪ ،‬ما هو يف حقيقة األمر‬ ‫سوى رجع صدى ملا ُتعانيه الصحافة عرب‬

‫الورقية يف الجزائر‪ ،‬بحسب نذير بولقرون‪،‬‬

‫االنتشار العددي إىل درجة «التعويم» (‪160‬‬ ‫ً‬ ‫عنوانا يصدر يوميًّا) إضافة إىل كثري من‬

‫العالم بعد ظهور تقنية اإلنرتنت التي غيرّ ت‬

‫الكثري من املفاهيم‪ ،‬ليس يف قطاع اإلعالم‬ ‫وحسب‪ّ ،‬إنما يف مجاالت الحياة كافة‪.‬‬ ‫ولهذا حاولت مجلة «الفيصل» أن تستطلع‬

‫الدوريات األسبوعية والشهرية‪ ،‬لك ّنها يف‬

‫نذير بولقرون‬

‫وجود هذه التخمة العددية‪« ،‬لم تتطوّر من‬ ‫ناحية املهنية واالحرتافية وصناعة املضمون‬

‫أحوال الصحافة الورقية يف بلدان املغرب العربي الثالث‪ :‬الجزائر‪،‬‬

‫(املحتوى)‪ ،‬كما كان من املفرتض أن تتحوّل الصحف الجزائرية‬ ‫الكربى إىل مؤسسات‪ ،‬وهذا ما لم يحدث‪ّ ،‬‬ ‫بكل أسف‪ ،‬وبقي‬

‫السؤال الذي يج ُّر حتما إىل الحديث عن األسباب التي تقف وراء‬

‫الصحف»‪.‬‬

‫وتونس‪ ،‬واملغرب‪ ،‬متسائلة عن حقيقة األخبار التي نطالعها يوميًّا‬

‫بخصوص أفول عناوين صحفية كثرية عجزت عن املقاومة‪ ،‬وهو‬ ‫ذلك‪ ،‬مع تقديم محاولة فهم جذور هذه األزمة من أفواه بعض‬ ‫رجاالت مهنة املتاعب يف الجزائر وتونس واملغرب‪.‬‬

‫االنتشار العددي للصحف ّ‬ ‫عجل بانحسار دورها‬

‫يرى نذير بولقرون‪ ،‬مدير تحرير يومية «صوت األحرار»‪ ،‬أنّ‬

‫الصحافة الورقية (املكتوبة)‪ ،‬مه ّددة بخطر‪ ،‬ليس فقط االنكماش‪،‬‬ ‫«ولكن الزوال ً‬ ‫أيضا‪ ،‬وهذا األمر نتيجة لعوامل‬

‫الجانب التجاري هو الذي يفرض سلطته عىل أصحاب هذه‬

‫‪47‬‬

‫ُّ‬ ‫بالتجدد والبحث عن التمويل‬ ‫مطالب‬

‫من جانب آخر‪ ،‬يُؤكد العربي ونوغي‪ ،‬املدير العام لجريدة‬ ‫«املساء» الحكومية‪ ،‬أنّ ثورة التكنولوجيات الحديثة ّأثرت يف‬ ‫أوضاع الصحافة املكتوبة يف العالم‪ ،‬وليس الجزائر وحسب؛‬

‫بسبب كونها غري مكلفة‪ ،‬فـ«يكفي أن تحمل بني يديك حاسوبًا‬ ‫ً‬ ‫مرتبطا باإلنرتنت ليكون أمامك العالم ّ‬ ‫كله»‪،‬‬

‫كثرية أهمُّها‪ :‬انتشار الفضائيات وظهور‬ ‫تكنولوجيات االتصال الحديثة التي ُت ّ‬ ‫مكن‬

‫مدير «املساء»‪ ،‬صار عملية مكلفة‪« ،‬وتحتاج‬

‫ّ‬ ‫مدعمً ا بالصوت والصورة‪ ،‬وهذا ما يجعل‬

‫وعشرات املوظفني من صحفيني وإداريني‬

‫يف حني إصدار صحيفة ورقية‪ ،‬مثلما يؤكد‬

‫إىل طباعة‪ ،‬وشبكات توزيع‪ ،‬وإدارة فعّ الة‪،‬‬

‫متابع األحداث من الوصول إىل الخرب يف حينه‬

‫الصحافة املكتوبة تعاين انحسار املقروئية‪،‬‬

‫وتقنيني‪ ،‬وغري ذلك‪ ،‬لتصل إىل القارئ يف‬

‫حتى يف الديمقراطيات العريقة‪ ،‬حيث صارت‬

‫الوقت املناسب»‪ .‬وعىل هذا األساس‪ ،‬يرى‬ ‫مدير «املساء»‪ ،‬أنّ الصحافة الورقية يف‬

‫الصحافة الورقية تعاين أزمات مالية بسبب‬ ‫ضعف اإلشهار‪ .‬وقد عجّ ل ذلك بمحاولة كثري‬

‫من الصحف أن تتكيّف مع األوضاع الجديدة‬

‫من خالل مسارعتها إىل إنشاء طبعات إلكرتونية»‪.‬‬

‫الجزائر «فقدت‪ ،‬وهي تفقد يوميًّا‪ ،‬املزيد من‬

‫قرائها لصالح اإلعالم اإللكرتوين والتلفزيوين‬ ‫وشبكات التواصل االجتماعي؛ إذ إنّ تلك الوسائط ّ‬ ‫توفر املعلومة‬

‫العربي ونوغي‬

‫وإلعطاء الصحف الورقية يف الجزائر جرعة من ُ‬ ‫األكسجني‬

‫ّ‬ ‫وبأقل التكاليف‪ ،‬ومهما بعُ د مكان الشخص‬ ‫يف الوقت املناسب‪،‬‬

‫الرتكيز عىل صحافة الرأي‪ ،‬وثانيهما االهتمام بشكل أساس بما‬

‫مجاالت حركة الصحافة الورقية‪ ،‬تلك الصحف التي يُطلق عليها‬

‫ُتمدّد بعض اليشء يف دورة حياتها‪ ،‬يؤكد مدير «صوت األحرار»‬ ‫ّأنه «من املمكن أن نطيل يف عمر الصحافة بأمرين اثنني‪ :‬أولهما‬

‫الذي يطلبها»‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫وال يستثني العربي ونوغي من هذه القاعدة‪ ،‬التي تقلص‬


‫الملف‬

‫‪48‬‬

‫يف الجزائر صفة «الصحافة العمومية»‪ ،‬أي التابعة للدولة؛‬ ‫ّ‬ ‫ألنها تخضع كغريها من املؤسسات ملنطق السوق‪ ،‬عىل‬ ‫اعتبار ّأنها مؤسّ سات ذات طابع اقتصادي وتجاري؛ فهي‬ ‫تعتمد بشكل أساس عىل مداخيلها من اإلشهار‪ ،‬وال تتم ّتع‬ ‫بأيّ دعم حكومي‪ ،‬وهو ما يجعلها عرضة لالندثار واالختفاء‬

‫تحت طائلة اإلفالس كغريها من الصحف األخرى‪ .‬ويُطالب‬

‫مدير يومية «املساء» هذه الصحف بضرورة «التجدُّد وإيجاد‬ ‫بدائل تمويلية إذا أرادت االستمرار والبقاء»‪ ،‬ويضيف‬ ‫قائلاً ‪« :‬نحن الصحيفة األوىل يف صحف القطاع العام‬ ‫سحبًا ومبيعات‪ ،‬لك ّننا األضعف يف الحصول عىل اإلشهار‬

‫ُ‬ ‫رفعت راية النضال منذ تنصيبي قبل سنة‬ ‫العمومي؛ لذلك‬

‫عىل رأس هذه املؤسّ سة للمطالبة بوضع ميكانيزمات وآليات‬ ‫دقيقة يف توزيع اإلشهار الذي تستفيد منه ّ‬ ‫كل الصحف‬

‫عشرات الصحف اليومية واألسبوعية‪،‬‬ ‫التي ظهرت في تونس بعد ثورة‬ ‫‪ 14‬يناير ‪2001‬م‪ ،‬مستفيدة من إلغاء‬ ‫تراخيص اإلصدار السابقة التي‬ ‫اضطرت‬ ‫اعتمدها النظام السابق‪ ،‬قد‬ ‫ّ‬ ‫ُّ‬ ‫والتوقف نهائ ًّيا عن‬ ‫إلى غلق أبوابها‬ ‫أدى بأصحابها إلى‬ ‫الصدور‪ ،‬وهو ما ّ‬ ‫تسجيل خسائر مالية كبرى‬

‫الجزائرية‪ ،‬سواء كانت عمومية أو خاصة‪ ،‬وهذا باالعتماد عىل‬ ‫مقاييس السحب واملبيعات والتوزيع»‪.‬‬

‫الصحافة الورقية تسري إىل زوال‬

‫يعتقد نجم الدين العكاري‪ ،‬رئيس تحرير صحيفة «األنوار»‬ ‫األسبوعية‪ ،‬أنّ أوضاع الصحافة الورقية يف تونس ُتشبه أوضاع‬

‫مثيالتها يف أغلب بلدان العالم؛ إذ تبدو ّ‬ ‫كأنها تسري إىل زوال‪،‬‬

‫لكن بخطوات بطيئة‪ ،‬متأثرة بانتشار اإلنرتنت والهواتف الذكية‬

‫التي ق ّدمت خدمة كبرية للصحافة اإللكرتونية واملواقع اإلخبارية‪،‬‬ ‫واإلذاعات والقنوات التلفزيونية ً‬ ‫أيضا‪ ،‬وكذلك مواقع التواصل‬ ‫االجتماعي وصحافة املواطن‪ .‬وللتدليل عىل أزمة الصحافة الورقية‬ ‫يف تونس‪ ،‬راه ًنا‪ ،‬يؤكد نجم الدين العكاري‪ ،‬عىل أنّ عشرات‬

‫الصحف اليومية واألسبوعية‪ ،‬التي ظهرت بعد ثورة ‪ 14‬يناير‬

‫‪2001‬م‪ ،‬مستفيدة من إلغاء تراخيص اإلصدار السابقة التي اعتمدها‬ ‫ُّ‬ ‫والتوقف نهائيًّا عن‬ ‫النظام السابق‪ ،‬قد اضط ّرت إىل غلق أبوابها‬ ‫الصدور‪ ،‬وهو ما أدّى بأصحابها إىل تسجيل خسائر مالية كربى‪.‬‬

‫ويرى العكاري أنّ أسباب إفالس هذه الصحف تعود أساسً ا‬

‫إىل ضعف مقروئية الصحف‪ ،‬وضيق سوق اإلشهار نتيجة‬

‫األزمة االقتصادية‪ ،‬واتجاه املستثمرين إىل الضغط عىل نفقاتهم‬ ‫بالتقليص يف ميزانية اإلشهار وتخصيص الجزء األكرب منها إىل‬ ‫اإلذاعات والتلفازات‪.‬‬

‫وللتدليل مرة أخرى عىل أنّ الصحافة الورقية يف تراجع‪،‬‬

‫يشمل حجم السحب والتوزيع وحجم التأثري يف الرأي العام‪،‬‬

‫العددان ‪ 490 - 489‬شوال ‪ -‬ذو القعدة ‪1438‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬أغسطس ‪2017‬م‬


‫فإنه يُلحظ أنّ الصحافة الحزبية اختفت تمامً ا‬

‫عائدات اإلشهار‪ ،‬وعائدات البيع‪ ،‬وهو‬

‫أو تكاد؛ إذ إنّ البالد تضم نحو ‪ 210‬أحزاب‪،‬‬

‫ما دفع بالحكومة‪ ،‬تحت ضغط نقابتي‬

‫هي «الفجر» تصدر بانتظام‪ ،‬وهي تابعة‬

‫إىل تقديم مساعدات للمؤسسات بقصد‬

‫اإلعالميني ومديري املؤسسات اإلعالمية‪،‬‬

‫وال توجد فيها إال صحيفة أسبوعية واحدة‬

‫اإلبقاء عليها‪ ،‬ومنها دفع مساهمتها يف‬

‫لحركة النهضة اإلسالمية‪ ،‬يف حني تعتمد‬

‫صناديق الضمان االجتماعي‪ ،‬وخاصة‬

‫بقية األحزاب‪ ،‬ذات الحضور القويّ يف املشهد‬

‫أنّ عائداتها تراجعت بنسبة ثالثني باملئة‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫ويتأسف العكاري يف نهاية تشريحه ألوضاع‬

‫السيايس‪ ،‬عىل مواقع إخبارية تابعة لها‬

‫أو مموّلة جزئيًّا منها وصفحات الفيسبوك‬

‫للدعاية‬

‫ألنشطتها‬

‫والرتويج‬

‫ألفكارها‪.‬‬

‫وللتدليل للمرة الثالثة عىل ضعف مقروئية‬

‫نجم الدين العكاري‬

‫الصحف الورقية التونسية خالل السنوات األخرية يف بلد تعداد‬ ‫سكانه ‪ 11‬مليون نسمة‪ ،‬ي ّ‬ ‫ُعلق رئيس تحرير صحيفة «األنوار»‪ ،‬بأنّ‬ ‫الصحيفة األوىل انتشارًا‪ ،‬وهي جريدة «الشروق» اليومية‪ ،‬ال يزيد‬

‫سحبها عن ‪ 80‬ألف نسخة‪ ،‬يف حني أنّ سحب يوميات وأسبوعيات‬ ‫ً‬ ‫أحيانا‪.‬‬ ‫أخرى‪ ،‬ال يتعدّى عشرين ألف نسخة‪ ،‬وال يصل إليها‬ ‫وقد تكون األزمة االقتصادية وتراجع القدرة الشرائية‬

‫واإلنفاقية للتونسيني وراء تراجع املبيعات؛ إذ إنّ سعر الصحيفة‬

‫يراوح بني ‪ 700‬و ‪ 800‬مليم‪ ،‬أي تقريبًا ثلث دوالر‪ ،‬وهو ما يعادل‬ ‫سعر ثالثة أرغفة خبز‪ .‬إضافة إىل معاناة الصحف الورقية تراجعَ‬

‫الصحافة الورقية التونسية بقوله‪« :‬لم يتم‬

‫إىل اآلن البدء يف تنفيذ هذا القانون الذي‬

‫صادق عليه الربملان‪ ،‬كما لم يتم إىل اآلن‪ ،‬االتفاق عىل كيفية‬

‫توزيع اإلشهار العمومي عىل الصحف»‪.‬‬

‫مخططا لدعم‬ ‫الحكومة المغربية وضعت‬ ‫ً‬ ‫قطاع الصحافة‪ ،‬لك ّنه يبقى‪ ،‬بحسب‬ ‫ٍ‬ ‫كاف‪ ،‬وهذا ما يجعل‬ ‫صحافيين غير‬ ‫الصحف أمام خيارات محدودة لضمان‬ ‫البقاء واالستمرارية‬

‫‪49‬‬

‫الصحيفة في المغرب تحولت وسيلة تقليدية‬ ‫يرى حكيم بلمداحي‪ ،‬مدير تحرير جريدة «األحداث املغربية»‪ ،‬التي ُتص ّنف من‬

‫أوائل الصحف املستقلة يف املغرب‪ ،‬وقادها يف بدايتها نخبة من الصحافيني‪ ،‬كما‬

‫املبني عىل قيم الحداثة والديمقراطية‪ ،‬بأنّ «الصحافة‬ ‫حافظت عىل خطها التحريري‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫الورقية املغربية تعيش مرحلة صعبة؛ إذ قلت املبيعات بشكل كبري ًّ‬ ‫جدا‪ .‬هذا األمر‪،‬‬

‫ّأثر بشكل كبري يف الصحافة‪ ،‬التي هي أصلاً قيد التشكل‪ .‬ومعظم الصحف الورقية‬ ‫باملغرب اليوم تعيش ضائقة مالية‪ ،‬تؤثر يف العاملني ويف جودة اإلنتاج»‪ .‬وما زاد‬

‫الطني بلة‪ ،‬بالنسبة ألوضاع الصحف الورقية املغربية‪ ،‬مثلما يُشري إىل ذلك حكيم‬

‫ري التقنيات الجديدة يف مجال التواصل الذي يعد من األمور التي ال‬ ‫بلمداحي‪« ،‬تأث ُ‬

‫يجب إغفالها؛ إذ كان لهذه التقنيات فعل الزلزال عىل الصحافة الورقية‪ .‬هذا أم ٌر‬

‫حكيم بلمداحي‬

‫واضح؛ ألنّ معظم القراء املفرتضني يستعملون الهاتف النقال ملتابعة األخبار‪ .‬يف املغرب اليوم‪ ،‬يوجد نحو ‪ 18‬مليون مغربي‬

‫يستعملون اإلنرتنت‪ .‬ومعظم القرّاء املفرتضني يستعملون الهاتف املحمول‪ .‬بمعنى أنّ سلوك القراءة واملتابعة تغيرّ تماشيًا‬ ‫مع الجديد يف عالم التواصل‪ .‬وهكذا أصبحت الجريدة وسيلة تقليدية تستعمل من جانب فئة قليلة ًّ‬ ‫جدا من الناس…»‪.‬‬

‫ٍّ‬ ‫تدن ملموس‪ .‬وأفضل جريدة ال‬ ‫ويُتابع مدير تحرير جريدة «األحداث املغربية» بأنّ ‬«قراءة الجرائد يف املغرب يف‬ ‫تتجاوز سقف ‪ 50‬ألف نسخة يف السحب‪ ،‬أمّ ا املبيعات فال تتجاوز ‪ً 30‬‬ ‫ألفا»‪ .‬وأمام هذه األوضاع الصعبة التي تم ُّر بها‬ ‫ً‬ ‫مخططا لدعم قطاع الصحافة‪ ،‬لك ّنه‬ ‫الصحافة الورقية املغربية‪ ،‬يؤكد حكيم بلمداحي‪ ،‬بأنّ الحكومة املغربية وضعت‬ ‫كاف‪« ،‬وهذا ما يجعل هذه الصحف أمام خيارات محدودة لضمان البقاء واالستمرارية؛ إذ يبقى‬ ‫يبقى‪ ،‬بحسب رأيه‪ ،‬غري ٍ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫اعتمادها من أجل تحقيق التوازنات املالية عىل اإلشهار وبعض الدعم الذي تتلقاه‪ ،‬وهما يف كل األحوال‪ ،‬ال يسمحان‬

‫ّ‬ ‫املهددة باالندثار»‪.‬‬ ‫بظروف عمل جيّدة بالنسبة لهذه الصحف‬


‫الملف‬

‫اليمن‪..‬‬ ‫عشرات الصحف توقفت‬ ‫والصحافيون تشتتوا بين المعتقالت‬ ‫والهجرة واالصطفاف الحربي‬ ‫لطف الصراري‬

‫‪50‬‬

‫صحافي يمني‬

‫يمر الحديث عن الصحافة الورقية في اليمن‪ ،‬بسياقات إجبارية تتعلق بأمرين‪ :‬صورتها التي‬ ‫ّ‬ ‫التخلق منذ النصف األخير لعقد التسعينيات‪ ،‬وما صارت إليه في المشهد المأساوي‬ ‫كانت في طور‬ ‫الراهن‪ .‬مسار منحشر بين زمنين؛ زمن تجسده صورة غير مكتملة التظهير‪ ،‬وزمن يجسده مشهد‬ ‫انهيار مستمر للمناخ المالئم للعمل الصحفي‪ .‬هكذا باتت الصحافة الورقية مثيرة لحنين قرائها على‬ ‫ّ‬ ‫قلتهم في هذا البلد‪ .‬ذلك أن ما كان متاحً ا لهم من إصدارات صحفية يمارسون من خاللها متعة‬ ‫القراءة المتنوعة‪ ،‬تالشى نهائيًّا‪ .‬حنين لزمن كانت فيه الصحافة بدأت لتوها التنفس برئتي األلفية‬ ‫طقسا يوميًّا يحرصون على أدائه قبل الذهاب إلى العمل‪،‬‬ ‫الثالثة‪ ،‬وكان المرور على أكشاك الصحف‬ ‫ً‬ ‫أو حين عودتهم‪ ،‬متأبطين جريدة تحتوي ما يثير اهتمامهم ونقاشهم في جلسات المقيل‪.‬‬

‫العددان ‪ 490 - 489‬شوال ‪ -‬ذو القعدة ‪1438‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬أغسطس ‪2017‬م‬


‫ً‬ ‫وفقا للمعايري الصحفية دوليًّا‪ ،‬وعدد الصحف التي‬

‫يف زمن الصورة غري مكتملة التظهري‪ ،‬عملت الصحف‬

‫تخطت املئة صحيفة يف عموم اليمن‪ ،‬لم يكن زمن الصورة غري‬ ‫املكتملة‪ ،‬زم ًنا ذهبيًّا لصحافة مزدهرة مهنيًّا‪ .‬رغم ذلك‪ ،‬قليل‬

‫بحيث تواكب االستفادة منه تجاريًّا‪ .‬لكنها استفادة لم تتقدم‬

‫كذلك‪ ،‬عرب تفعيل حق الحصول عىل املعلومة وكسر نمطية‬

‫األخبار العاجلة‪ ،‬وفتح نافذة صغرية لإلعالنات‪ .‬غري أن مواردها‬

‫من الصحف األهلية التي ظهرت بعد عام ‪2005‬م‪ ،‬حاولت جعله‬

‫اإلعالم الحكومي والحزبي‪ ،‬ورفع نسبة أجور الصحفيني إىل‬ ‫حد ما‪ ،‬وانتهاج خط تحريري مغاير وغري متحيز‪ .‬غري أن رئتي‬

‫األلفية الثالثة التي ساعدت الصحافة الورقية عىل التنفس‬

‫الورقية عىل تقليص الهوة التنافسية مع اإلعالم اإللكرتوين‪،‬‬ ‫أبعد من استيعاب أرشيف املادة املنشورة ورقيًّا‪ ،‬ومقتطفات‬

‫األساسية ظلت معتمدة عىل اإلعالن الورقي‪ ،‬واملبيعات املعتمدة‬ ‫بدورها عىل قلة من القراء اعتادوا املرور عىل املكتبات واألكشاك‬ ‫صباحً ا‪ ،‬أو من يصادفون بائعً ا متجولاً لشراء صحيفة‪ .‬أما‬

‫بشكل أفضل‪ ،‬وإحراز تقدم نسبي يف مستوى املهنية والتوزيع‬ ‫والعمل املؤسيس إجمالاً ‪ ،‬ساعدت ً‬ ‫أيضا يف تصاعد حظوة‬

‫للصحف‪ .‬ورغم أن هذا االنفتاح عىل الفضاء اإللكرتوين خلق‬

‫تقض تمامً ا عىل جاذبية الورق‪.‬‬ ‫ازدهرت الشاشة‪ ،‬لكنها لم‬ ‫ِ‬

‫بحال‪ ،‬إضافة إىل كونها ال تسدّ االحتياج املعييش‪.‬‬

‫اإلعالم اإللكرتوين‪ .‬وشأن جميع وسائل اإلعالم يف العالم‪،‬‬

‫االشرتاكات السنوية‪ ،‬فلم تكن تذكر ضمن املوارد األساسية‬ ‫فرص عمل محدودة للصحافيني‪ ،‬فإنها فرص لم تكن مستقرة‬

‫‪51‬‬


‫الملف‬

‫أحد أسباب انهيار الصحافة الورقية‪ .‬وهو سبب متفرع ‪-‬حسب‬

‫انهيار مفاجئ‬

‫عائش‪ -‬عن سبب رئيس تمثل يف «الكلفة املالية الكبرية التي‬ ‫كان عىل الصحافة تحملها بفعل الحصار وارتفاع أسعار الوقود‬

‫كان عام ‪2011‬م نقطة تحول للصحافة الورقية‬

‫والورق بصورة خيالية»‪ .‬إضافة إىل ذلك‪ ،‬فقد «تسببت الحرب‬

‫األزمة االقتصادية التي رافقت االضطراب السيايس إبان‬

‫التقطيع ألوصال البالد متعذرًا‪ ،‬ما تسبب يف محدودية الطباعة‬

‫يف اليمن؛ فبعد أن توقفت معظم الصحف بسبب‬

‫احتجاجات «الربيع العربي»‪ ،‬ما‬

‫بإغالق مدن وعزل مناطق‪ ،‬وأصبح انتقال الصحف وسط هذا‬ ‫بحيث لم تعد العائدات كافية لإليفاء‬ ‫بكلفة النفقات»‪ .‬وال يغفل عائش سببًا‬

‫لبثت أن عاودت الصدور مع بداية‬

‫رئيسا آخر تمثل يف األوضاع السياسية‬ ‫ً‬

‫مرحلة االنتقال السيايس‪ ،‬الذي‬

‫واألمنية‪ ،‬التي أفرزت انقسامً ا حادًّا‬

‫حظي بدعم دويل واسع‪ .‬عدد‬

‫لدرجة أن «كل صحيفة لم يعد بإمكانها‬ ‫ّ‬ ‫مستقل» ذلك أن «تصنيف‬ ‫العمل بشكل‬

‫من الصحف األسبوعية تحول إىل‬

‫يومي‪ ،‬إضافة إىل صدور صحف‬ ‫ّ‬

‫الصحف عىل هذا املعسكر أو ذاك يف ظل‬

‫يومية جديدة‪ ،‬وصحف أخرى غري‬

‫هذه األوضاع‪ ،‬هو مقدمة ألذى قد يلحق‬

‫منتظمة الصدور أفرزتها ساحات‬ ‫ً‬ ‫انتعاشا مفاج ًئا‬ ‫االعتصام‪ .‬كان ذلك‬

‫يشبه اإلفاقة الحيوية ملريض عىل‬

‫وشك التعايف أو لفظ أنفاسه‬

‫االنقسام يف العمل الصحفي‪ ،‬يرى‬

‫األخرية‪ .‬تكوّن مشهد االنهيار املفاجئ للصحافة بالتزامن‬

‫عائش أن من يصدر صحيفة من صنعاء «ال يستطيع أن يقدم‬

‫جماعة الحويث عىل العاصمة صنعاء يف سبتمرب ‪2014‬م‪،‬‬

‫بدأت بعض الصحف باالحتجاب‪ ،‬وتعرض بعضها‬

‫والحال نفسها لدى من يصدر من عدن أو من تعز‪ ،‬فهو ال‬ ‫يستطيع أن يقدم عملاً إعالميًّا خارج ما تريده الجماعات‬

‫عىل خصوم الحوثيني‪ ،‬ثم تضاعفت املأساة حني اندلعت‬

‫صحيفته «حديث املدينة» بشكل منتظم قبل عام ‪2011‬م‪ ،‬ثم‬

‫مع انزالق التوتر السيايس نحو الحرب‪ .‬ومنذ سيطرة‬

‫‪52‬‬

‫نائف حسان‬

‫الصحيفة والعاملني فيها»‪.‬‬ ‫اسرتسالاً يف وصف تأثري حدة‬

‫لإلغالق‪ ،‬وبخاصة الصحف الحزبية واألهلية املحسوبة‬

‫الحرب الشاملة يف مارس ‪2015‬م‪ ،‬إذ تكاثرت العراقيل أمام‬

‫استمرار صدور الصحف‪ ،‬األهلية عىل وجه الخصوص‪.‬‬ ‫عشرات من هذه الصحف‪ ،‬يومية‬

‫صحافة حرة بعيدً ا من خطاب «التعبئة» لدى الطرف الحاكم‪...‬‬

‫املتعددة املسيطرة هناك»‪ .‬يف تعز‪ ،‬كان فكري قاسم يصدر‬ ‫عاد إلصدارها بصورة متقطعة عدة مرات حتى عادت تصدر‬

‫بانتظام يف موعدها األسبوعي‪ .‬لكنها توقفت نهائيًّا ضمن‬ ‫التوقف الجماعي للصحف‪ .‬يقول فكري‪،‬‬ ‫الذي اكتفى بالتنويه بأن استمراره يف‬

‫وأسبوعية‪ ،‬توقفت‪ ،‬يف حني تشتت‬

‫إصدار صحيفته «كان صعبًا جدًّ ا ألسباب‬

‫الصحافيون بني البطالة واملعتقالت‬

‫كثرية»‪« :‬من لحظة اندالع الحرب‪ ،‬قررت‬

‫والهجرة‪ ،‬واالصطفاف الحربي‪.‬‬

‫يختصر نائف حسان ‪ -‬رئيس‬

‫االبتعاد عن أجوائها وأكتب عن السالم‬

‫املشهد املأساوي الراهن للصحافة‬

‫الكراهية وتتعافى البالد‪ .‬لقد مضيت يف‬

‫الذي يحتاجه اليمنيون؛ ليك يتعافوا من‬

‫تحرير صحيفة «الشارع» اليومية‪،‬‬

‫خطتي هذه إىل اليوم ككاتب صحفي»‪.‬‬ ‫ً‬ ‫أيضا‪ ،‬توقفت‬ ‫ويف مدينة تعز‬

‫يف اليمن‪ ،‬بوصفه «مخاطرة كبرية‬

‫وأم ًرا غري مجدي»‪ .‬فالصحف‬

‫املستمرة يف الصدور يف صنعاء‪،‬‬ ‫«تمثل وجهة نظر سياسية‪ -‬حزب‬

‫محمد عائش‬

‫الصحيفة الحكومية «الجمهورية» عن‬ ‫اإلصدار ورقيًّا بصورة نهائية‪ .‬ويقول‬

‫املؤتمر وجماعة الحويث»‪ .‬ويضيف حسان‪« :‬الحرب‬

‫زكريا الكمايل‪ ،‬الذي عمل مدي ًرا لقسم األخبار فيها قبل أن‬

‫العمل الصحفي‪ ،‬وال بديل آخر لدينا إال انتظار توقفها»‪.‬‬

‫نفسها‪« :‬لم نكن نتوقع أن يأيت يوم تتوقف فيه الصحافة‬

‫أجربتنا عىل التوقف عن الصدور‪ ،‬والتوقف عن ممارسة‬

‫من زاوية أخرى‪ ،‬يرى محمد عائش‪ -‬رئيس تحرير‬

‫صحيفة «األوىل» اليومية‪ ،‬أن «انهيار سوق املبيعات» كان‬

‫يتوىل رئاسة تحرير صحيفة «ماتش» الصادرة عن املؤسسة‬

‫الحكومية التي كانت تستمر حتى يف األعياد‪ .‬منذ عميل يف‬ ‫مؤسسة الجمهورية يف عام ‪2005‬م لم أعرف التوقف عن‬

‫العددان ‪ 490 - 489‬شوال ‪ -‬ذو القعدة ‪1438‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬أغسطس ‪2017‬م‬


‫فكري قاسم‬

‫العمل سوى لثالثة أيام خالل إجازة عيدي الفطر واألضحى‪،‬‬

‫أما حاليًّا‪ ،‬فنعتمد عىل خدمة «ماتش موبايل» إلرسال أخبار‬

‫املباريات ونتائجها فقط»‪.‬‬

‫لم يقتصر مشهد االنهيار املفاجئ للصحافة يف اليمن عىل‬

‫إغالق الصحف أو اضطرارها للتوقف عن اإلصدار؛ فمئات‬

‫الصحافيني الذين كانوا يعملون يف الصحف الورقية أو مواقعها‬ ‫عىل اإلنرتنت‪ ،‬أو يف مواقع إلكرتونية أخرى‪ ،‬وجدوا أنفسهم يف‬ ‫مواجهة بطالة مفتوحة ومزاج عام يف أقىص درجات التوتر‪ .‬ال‬ ‫يتحدث معظم الصحافيني عن البدائل املعيشية التي اضطروا‬

‫لألخذ بها من أجل البقاء‪ ،‬غري أن الصحايف ريان الشيباين‬ ‫يختزل يف السطور التالية‪ ،‬ثقل الركام املتهاوي عىل الصحافيني‬

‫إثر فقدان أعمالهم‪« :‬تأثرت معيشتي بشكل مطلق‪ ،‬وبخاصة‬

‫زكريا الكمالي‬

‫ريان الشيباني‬

‫منذ سيطرة جماعة الحوثي على العاصمة‬ ‫صنعاء‪ ،‬بدأت بعض الصحف باالحتجاب‪،‬‬ ‫وتعرض بعضها لإلغالق‪ ،‬وبخاصة الصحف‬ ‫الحزبية واألهلية المحسوبة على خصوم‬ ‫الحوثيين‪ ،‬ثم تضاعفت المأساة حين اندلعت‬ ‫الحرب الشاملة‪ ،‬فتكاثرت العراقيل أمام‬ ‫استمرار صدور الصحف‪ ،‬وبخاصة األهلية‬ ‫آمال متفاوتة باالنبعاث‬

‫رغم أن األوضاع الراهنة تلقي بظالل شديدة القتامة عىل‬

‫توقعات عودة الصحافة الورقية يف اليمن عىل املدى القريب‪ ،‬فإن‬ ‫كثريًا من الصحافيني لم يفقدوا األمل بالعودة‪ ،‬حتى مع فارق‬

‫ثان‬ ‫أنني كنت أعتمد بشكل شبه كامل عىل عميل كمدير تحرير ٍ‬ ‫لصحيفة «األوىل» التي توقفت بفعل أزمة املشتقات النفطية‪،‬‬

‫سقف التوقعات‪ .‬يؤكد نائف حسان أن استئناف اإلصدار بالنسبة‬

‫يف منظمة حقوقية‪ ،‬بمبادرة شخصية من بعض األصدقاء»‪.‬‬

‫بمستوى «االستقاللية واملهنية واملصداقية»‪ ،‬الذي كان ملتزمًا به قبل‬ ‫التوقف‪ ،‬يؤكد ً‬ ‫أيضا عىل ضرورة «تحسني الجودة»‪ ،‬ويرى أن عودة‬

‫والجو العام الذي شحنته الحرب»‪ .‬ويتابع ريان بمرارة‪« :‬فقدت‬ ‫مصدر رزقي‪ ،‬وأصبحت عاطلاً ألكرث من عام‪ .‬ثمّ انتقلت للعمل‬

‫لصحيفته‪ ،‬مرهون بزوال أسباب التوقف‪ .‬ويف حني يؤكد تمسكه‬

‫الصحافة الورقية وتعافيها مجددًا‪« ،‬يعتمد عىل الصحافيني‬

‫وطريقة ممارستهم ملهنتهم»‪ .‬يف السياق ذاته‪ ،‬يتوقع محمد‬ ‫عائش‪ ،‬بدرجة تفاؤل عالية «أن تعود الصحافة املطبوعة إىل‬ ‫حالها من الحيوية واالزدهار وربما أفضل»‪ .‬يف حني يربط‬ ‫فكري قاسم توقعه ملستوى انتشار أي مطبوعة مستقبلاً ‪،‬‬ ‫بقربها من ضحايا الحرب‪ .‬وبنظرة مالمسة لواقع ما كانت‬

‫عليه الصحافة اليمنية وما صارت إليه‪ ،‬يشري زكريا الكمايل‬ ‫إىل عاملني أساسني يرجحان أن َت ْل َقى الصحافة الورقية‬

‫صعوبات كبرية يف استئناف عملها؛ هما املبيعات واإلعالنات‪.‬‬ ‫فاملبيعات التي لم تكن مزدهرة باملستوى املطلوب يف املايض‪،‬‬ ‫لن تنتعش بسهولة مستقبلاً ‪ ،‬ولن يعود اإلعالن التجاري‬ ‫مثلما كان يف الظروف الطبيعية ً‬ ‫أيضا‪ ،‬وذلك «بسبب هجرة‬

‫رؤوس األموال وتضرر البيوت التجارية»‪.‬‬

‫‪53‬‬


‫مقال‬

‫إيمانويل ماكرون‪..‬‬ ‫رئيس لزمن سياسي جديد‬ ‫يسار متطرف‪ ،‬حاول كل منهما تقديم بديل للمتداولين‪ ،‬ولم‬ ‫ينجح فيه قط‪ ،‬إلى هذه االنتخابات الرئاسية التي عاشتها فرنسا‬ ‫رئيسا للجمهورية لم يكن ً‬ ‫بتاتا في وارد‬ ‫في عامنا هذا‪ ،‬وأنجبت‬ ‫ً‬

‫ً‬ ‫مطلقا لدى المكونات السياسية المعروفة‪،‬‬ ‫أي تكهن أو حساب‬

‫أحمد المديني‬

‫روائي وكاتب مغربي‬

‫الشعبية الراسخة‪ ،‬على امتداد ما يربو على نصف قرن‪ .‬‬

‫لن نبالغ إن قلنا‪ :‬إن فرنسا تعرف مع انتخاب رئيس‬

‫هل كان الرئيس فرانسوا هوالند‪ ،‬وهو يدعو الشاب ماكرون‪،‬‬ ‫وهما في حفل عشاء ببيت صديق مشترك‪ ،‬ليلتحق به أمي ًنا‬

‫شارل ديغول في نهاية يونيو من سنة ‪1958‬م بعد االستفتاء‬

‫عام في فرصة اهتزاز وتمرد لجناح من االشتراكيين ليحل محل‬

‫الجمهورية الجديد إيمانويل ماكرون أهم ثالث حدث مر حتى اآلن‬

‫في تاريخ ما يسمى «الجمهورية الخامسة» التي دشنها الجنرال‬ ‫الذي أوصله إلى الحكم وخول له سلطات واسعة‪ ،‬جعلته يقود‬

‫‪54‬‬

‫بأيديولوجياتها ومراكز نفوذها وتجذرها التاريخي وتمثيلياتها‬

‫البالد باسم اليمين الجمهوري‪ .‬الحدث الثاني هو وصول فرانسوا‬

‫ميتران إلى قصر اإلليزيه في مايو ‪1981‬م‪ ،‬في محاولته االنتخابية‬ ‫ً‬ ‫تحديدا‪،‬‬ ‫الثانية باسم اليسار الفرنسي‪ ،‬والحزب االشتراكي‬ ‫ليسقط هيمنة اليمين ويزيح خصمه الرئيس فاليري جيسكار‬ ‫رئيسا في سباعيتي حكم متواصلتين انتهت في‬ ‫ديستان‪ ،‬ويبقى‬ ‫ً‬

‫مايو ‪1995‬م‪ ،‬ليسترجع اليمين من جديد قصر اإلليزيه في شخص‬ ‫الرئيس جاك شيراك‪ .‬وتستمر دورة الرئاسة بعد ذلك منتقلة‬

‫إلى ساركوزي‪ ،‬اليميني دائمً ا‪ ،‬ينتزعها منه فرانسوا هوالند باسم‬

‫الحزب االشتراكي‪.‬‬

‫ً‬ ‫مساعدا في قصر اإلليزيه‪ ،‬قبل عامين فقط‪ ،‬وليعينه بعد‬ ‫عامًّ ا‬

‫وزير االقتصاد المتمرد مونتبورغ؛ هل كان هوالند عندئذ يحسب‬

‫لحظة واحدة أن هذا الشاب الخجول‪ ،‬المتكتم‪ ،‬إنما المسلح‬ ‫بتكوين جامعي صلب‪ ،‬ويمتلك أسلوب عيش خصوصي‪ ،‬ويعرف‬

‫كيف يحرق المراكب دون دخان‪ ،‬هو نفسه من سيودعه في‬

‫نهاية مدته الرئاسية بمدخل قصر الرئيس‪ ،‬هو يغادر إلى الشارع‬ ‫العام‪ ،‬والنزيل الجديد‪ ،‬ماكرون‪ ،‬يدلف بدلاً منه إلى عرين‬

‫الحكم‪ ،‬ال‪ ،‬ليس هذا وحسب‪ ،‬بل إنه يدخل إلى قصر اإلليزيه‬

‫فوق حطام القوتين السياسيتين التقليديتين للبالد‪ ،‬اللتين انهارتا‬ ‫معً ا‪ ،‬وخسرتا في وجه مجموعة سياسية ُغفل وحديثة التأسيس‬

‫تسمى حركة «إلى األمام» أخطر رهان سياسي‪ ،‬وهي التي لم َتر‬

‫الحدث الثالث في تاريخ الجمهورية الخامسة في فرنسا‪ ،‬لن‬

‫النور إال في يوليو من العام الماضي‪ ،‬ويحصل مؤسِّ ُسها وفريقه‬

‫‪1958‬م بين القوتين السياسيتين الكبريين في المجتمع الفرنسي‪،‬‬

‫من أصوات الناخبين في الدورة االنتخابية الثانية حول الرئاسة‪،‬‬

‫يمس بطبيعة الحال مبدأ ونمط تداول السلطة المعتاد منذ سنة‬ ‫ممثلتين بما سيصطلح عليه اليمين الديغولي‪ ،‬كتلة متجانسة من‬ ‫عدة أطراف‪ ،‬واليسار قوة مكونة من قوتين أساسيتين ببرنامجين‬

‫مختلفين‪ ،‬الحزب االشتراكي‪ ،‬والحزب الشيوعي‪ ،‬اللذين تحالفا‬ ‫سنة ‪1981‬م حول برنامج واحد للحكم‪ .‬يتمثل الحدث الثالث‬ ‫بقوة وإثارة غير مسبوقة ًّ‬ ‫حقا‪ ،‬في وضع حد لما كان يبدو لدى‬ ‫أهل السياسة‪ ،‬والرأي العام في فرنسا بمنزلة تحصيل حاصل‪،‬‬ ‫نعني حصر تداول السلطة بين هاتين القوتين وحدهما‪ ،‬ودوام‬ ‫احتكارهما لمنصب رئاسة الجمهورية‪ ،‬ومنه األغلبية البرلمانية‬

‫التي منها تتشكل الحكومة التنفيذية الموالية غالبًا للرئاسة‪.‬‬

‫نعم‪ ،‬لقد وُجد دائمً ا يمين ووسط‪ ،‬وتبلور يمين متطرف‪ ،‬وكذلك‬ ‫العددان ‪ 490 - 489‬شوال ‪ -‬ذو القعدة ‪1438‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬أغسطس ‪2017‬م‬

‫الصغير على أكثر من عشرين مليون صوت ناخب‪ ،‬ونسبة ‪%66‬‬

‫مقابل ‪ %33‬ونيف لحزب اليمين المتطرف بزعامة ماري لوبين‬ ‫الذي كان شبحه يهدد ًّ‬ ‫حقا بالفوز‪.‬‬ ‫الطريق الملكي‬

‫يحتاج األمر إلى عرض معطيات كثيرة لفهم ما جرى‪ .‬لنختزل‬ ‫قائلين‪ :‬إن هذه الفئة القليلة التي غلبت فئة كثيرة ًّ‬ ‫جدا عبرت في‬ ‫الزمن المنفلت لخسارة مشاريع القوى السياسية الكبرى‪ ،‬وعجزها‬

‫عن تقديم حلول ناجعة في ميادين االقتصاد والتعليم والشغل‪،‬‬ ‫ولتخبطها بين اختيارات ليبرالية واشتراكية هجينة وتلفيقية‪،‬‬ ‫وخصوصا ألن ُ‬ ‫ً‬ ‫الفرقة دبَّت في أوصالها التنظيمية‪ ،‬ففقدت‬


‫إيمانويل ماكرون‪ ..‬رئيس لزمن سياسي جديد‬

‫البوصلة‪ ،‬وفتحت هشاشتها الطريق «الملكي» لماكرون؛ كي‬

‫وهو تقليد لدى كبار الخريجين‪ ،‬ليختطفه بنك روتشيلد الشهير‪،‬‬

‫وهذا ما يحتاج إلى وقفة خاصة‪ ،‬برنامج عمل سياسي اقتصادي‪،‬‬

‫ضخمة‪ ،‬فلمع نجمه في الوسط المصرفي ومجتمع ما يسمى‬

‫يعبر ويدخل اليوم إلى قصر اإلليزيه دخول الفاتحين‪ .‬في جعبته‪،‬‬

‫جريء وصادم‪ ،‬ليبرالي في جوهره‪ ،‬واشتراكي واجتماعي‬ ‫وديمقراطي في خططه ومنهجه اإلصالحي‪ .‬وضعته نخبة خلفية‬

‫من اقتصاديين وأرباب عمل ومقاوالت كبرى‪ ،‬و«أوليغارشية»‬ ‫جديدة مضادة ألخرى سابقة عليها‪ ،‬تريد العمل على رأب الصدع‬ ‫بين رأس المال والفئات االجتماعية المتضررة‪ ،‬واستمالة الطبقة‬

‫الوسطى‪ ،‬واستيعاب مطامح جيل جديد لم يعد يجد في اليمين‬ ‫ً‬ ‫مكانا وال تعبيرًا عن آماله وثقافته الجديدة‬ ‫واليسار التقليديين‬ ‫العولمية‪ .‬هذا الجيل الذي انجذب إلى فتوة ماكرون‪ ،‬وامتالكه‬

‫لشجاعة المبادرة وخلخلة البناء التقليدي «اإلستبلشمان» هو‬

‫الرصيد الشعبي األكبر الذي يراهن على ربح المستقبل‪ ،‬وعلى‬

‫البقاء في االتحاد األوربي‪ ،‬والحفاظ على عملة موحدة (األورو)‪،‬‬

‫وجعل فرنسا تسترجع مكانتها في سياق العولمة‪.‬‬ ‫ً‬ ‫خالفا لما ذكره بعض بتسرع وعدم فهم‪ ،‬فإن الرئيس‬

‫الفرنسي الجديد لم يأت من عدم‪ ،‬بل هو من ساللة سابقيه‪ ،‬ومر‬ ‫بسلك التدريس والتكوين الذي عبر منه الرؤساء السابقون جميعً ا‬

‫تقريبًا‪ ،‬ال بأس من اإلشارة إلى بعض العناصر والمعلومات التي‬

‫تفيد في معرفة الشخص والشخصية والمسار وتبلور المشروع‬

‫الذي هو قيد التكوين‪ ،‬أي لم يكتسب بعد هوية واضحة‪ ،‬وله‬ ‫اتصال وامتدادات في شعاب شتى من المجتمع ومكوناته‬

‫االجتماعية واالقتصادية والعرقية والثقافية والدينية‪ ،‬وال شك‬

‫ً‬ ‫وخصوصا‬ ‫شارقة‪،‬‬ ‫في أن المسلمين وذوي األصول العربية‪ ،‬مَ ِ‬ ‫مغاربيين‪ ،‬في قلبها‪ .‬وهو في التاسعة والثالثين يستطيع‬

‫إيمانويل ماكرون أن يفتخر بأنه حصل على الثانوية العامة في‬ ‫ليسيه لوي لو غران بباريس‪ ،‬الذي يعد من أهم مشاتل إعداد‬

‫النخبة الفرنسية بأقسامه التحضيرية التي تهيئ لولوج‬

‫المدارس العليا‪ ،‬وليس الجامعة المفتوحة للجميع‪،‬‬ ‫عبر مباريات صارمة‪ ،‬ومنها االلتحاق بأقسام التكوين‬ ‫التي تقود إلى قيادة المصالح اإلستراتيجية للدولة‪.‬‬

‫هكذا التحق من الليسيه بمعهد العلوم السياسية‬

‫الباريسي‪ ،‬الرفيع‪ ،‬وبعده بالمدرسة الوطنية‬

‫لإلدارة‪ ،‬شأن أسالفه جيسكار وشيراك وهوالند‪،‬‬ ‫وبعد التخرج رأسً ا إلى وزارة المالية مف ِّت ًشا للضرائب‪،‬‬

‫ويصبح من كبار أطره في مدة وجيزة حقق له مكاسب مالية‬

‫بصيادي الكفاءات‪ ،‬وقد أشرنا للمصادفة التي حملته إلى العمل‬

‫بجانب الرئيس السابق هوالند‪ ،‬وكانت أول خطوة له في طريق‬ ‫الحكم‪ .‬هي إذن أرضية صلبة نشأ فوق أديمها هذا الشاب الذي‬ ‫بعد أن أثبت كفاءته‪ ،‬وجد من يشحنه بطاقة جديدة ولمشروع‬

‫لم يكن في الحسبان‪.‬‬

‫نعم‪ ،‬هو سليل المدرسة القديمة‪ ،‬وفي الوقت نفسه ابن‬ ‫َّ‬ ‫ً‬ ‫طريقا يالئم مواهبه واستعداداته‪ .‬فنيًّا‪ ،‬هو‬ ‫واختط له‬ ‫جيله‪،‬‬ ‫عازف بيانو‪ ،‬وهاوي مسرح‪ ،‬وقارئ دؤوب‪ ،‬بل مؤلف‪ ،‬وكم‬

‫مرة أفصح أن قرة عينه في كتابة الرواية‪ .‬ليس غريبًا‬ ‫والحال هذه أن يختاره الفيلسوف‬ ‫الهرمونيطيقي الفرنسي بول ريكور‬ ‫ً‬ ‫مساعدا له في تنظيم‬ ‫ليتخذه‬

‫أرشيفه وإعداد محاضراته‪،‬‬ ‫أمضى سنة بجواره‪ ،‬وال شك‬ ‫أنه َّ‬ ‫تعلم الكثير من هذا األستاذ‬ ‫الذي ترك فرنسا وأصبح من‬

‫أعالم الجامعات األميركية‪،‬‬

‫‪55‬‬


‫مقال‬

‫خالل الثمانينيات والتسعينيات‪ .‬هكذا تظهر صورة أخرى‬ ‫للرئيس الجديد‪ ،‬بسيما المثقف والفنان‪ ،‬والشغوف بتحديث‬ ‫بالده وتوثيق ُعراها بروابط التقدم والنمو العالمي‪ .‬هذه القيمة‬ ‫المُ ضافة تربطه بفرانسوا ميتران‪ ،‬الرئيس المثقف بحق‪ ،‬الذي لم‬

‫يكن يفوته أسبوع من دون أن يطرق مكتبات الحي الالتيني وهو‬

‫رئيس‪ ،‬يمشي إليها بقدميه ويقتني كتبه شأن أي قارئ عادي‪.‬‬ ‫إلحاح على العلمانية‬

‫هي ثقافة قانونية‪ ،‬وسياسية‪ ،‬وإدارية‪ ،‬واقتصادية‪،‬‬

‫وأدبية‪ ،‬وفلسفية‪ ،‬وفنية‪ ،‬تكاد إذن‪ ،‬تصبح موسوعية‪ ،‬على‬

‫غرار المثقفين الفرنسيين الكالسيكيين‪ ،‬يمتلكها هذا الرئيس‬

‫الـشاب‪ ،‬ولنقل‪ :‬إنها من نسغ ليبرالي‪ ،‬متعدد ومتفتح ومستنير‪.‬‬

‫وهو ما يجعله في خطبه وتصريحاته وأوراقه الصحفية‪ ،‬ال يمل‬ ‫ّ‬ ‫وعدها النهج‬ ‫وال يكل من اإللحاح على الالئكية (العلمانية)‪،‬‬ ‫الفكري والحياتي والثقافي األنسب لفرنسا‪ ،‬والضامن لتعايش‬

‫واحترام مكوناتها العرقية والدينية والفكرية المختلفة‪ .‬وخالل‬

‫حملته االنتخابية تعرض لتشنيع وتهجم من اليمين المتطرف‬

‫وخصوم غيره‪ ،‬بدعوى أنه يُمالئ الطوائف الدينية‪ ،‬ومنهم‬

‫المسلمون خاصة‪ ،‬وربط هذا االتهام بشبهة اإلرهاب‪ ،‬الوصمة‬

‫‪56‬‬

‫التي أضحت لصيقة اليوم‪ ،‬من أسف‪ ،‬باإلسالم والمسلمين في‬

‫الغرب‪ .‬كان ماكرون قد تعرض ألول هجوم عاصف من القوى‬ ‫اليمينية حين ندد بالحقبة االستعمارية الفرنسية للجزائر‪ ،‬وأقر‬

‫بضرورة االعتراف بضراوة هذا االستعمار‪ ،‬واعتذار فرنسا عنه‪،‬‬ ‫ً‬ ‫خالفا كبيرًا داخل الدولة الرسمية وبين األحزاب‬ ‫وهو ما يمثل‬

‫ماكرون‪ ،‬عازف بيانو‪ ،‬وهاوي مسرح‪،‬‬ ‫وقارئ دؤوب‪ ،‬بل مؤلف‪ ،‬وكم مرة‬ ‫أفصح أن قرة عينه في كتابة الرواية‪.‬‬ ‫غريبا والحال هذه أن يختاره‬ ‫ليس‬ ‫ً‬ ‫الفيلسوف الهرمونيطيقي الفرنسي‬ ‫مساعدا له في‬ ‫بول ريكور ليتخذه‬ ‫ً‬ ‫تنظيم أرشيفه وإعداد محاضراته‬ ‫المشهد الفرنسي مفتوح على احتماالت كثيرة‬

‫اآلن‪ ،‬ينبغي لنا أن ننتظر نتائج االنتخابات التشريعية في‬

‫يونيو المقبل‪ ،‬التي ستسفر عن والدة البرلمان الجديد وبأغلبية‬ ‫غير السابقة حتمً ا‪ ،‬ال أحد قادر أن يتكهن من سيحصل عليها‪.‬‬ ‫هل سيتمكن ماكرون‪ ،‬الذي نقل حركته إلى مستوى حزب سماه‬

‫«الجمهورية إلى األمام»‪ ،‬وبها سيخوض هذه االنتخابات بتحالف‬

‫مع حزب الوسط لزعيمه بايرو‪ ،‬وعلى جناح من اليمين الديغولي‬ ‫ممثلاً في عمدة بوردو آالن جوبي‪ ،‬وفئات ممثلة للمجتمع‬ ‫المدني غير مسيَّسة على اإلطالق‪ ،‬ويأمل التوافر على أغلبية تتيح‬ ‫له تطبيق برنامجه الرئاسي‪ ،‬أم هو اليمين الديغولي‪ ،‬الممثل‬

‫في حزب «الجمهوريون» الذي خسر مرشحه فيون في الدورة‬ ‫األولى للرئاسيات‪ ،‬ويبدو الرئيس السابق ساركوزي من يقوده‬

‫خفية؛ الحزب الذي يدفع بالسيناتور فرانسوا باروان رأس حربة‬ ‫في حملته لالنتخابات التشريعية‪ ،‬ويعول على حصد أغلبية‬ ‫البرلمان‪ ،‬وبذا يستطيع تشكيل الحكومة وفرض برنامجه على‬

‫ّ‬ ‫مجتمعة‪ .‬يعد تبني علمانية الدولة‪ ،‬الذي ينهض على الفصل بين‬

‫رئيس الجمهورية‪ ،‬وهو رهان صعب يريد من ورائه الديغوليون‬

‫منذ سنة ‪1905‬م وبناء عليه يُتعامَ ل مع جميع األديان‪ ،‬هو منطق‬

‫فرنسا إلى الوراء‪ ،‬أو إلى مربع ما قبل ماكرون‪.‬‬

‫هذه واألديان‪ ،‬والمسألة الدينية عمومً ا‪ ،‬حسب القانون الذي أقر‬ ‫ماكرون وحركة إلى األمام‪ ،‬والمسلمون مشمولون به‪ ،‬وحقوقهم‬ ‫ً‬ ‫خالفا لمناهضة اليمين المتطرف‬ ‫الدينية وشعائرهم مرعية وفقه‪،‬‬

‫التقليديون المتشددون أن ينتقموا لخسارتهم‪ ،‬ويعيدوا ساعة‬ ‫هكذا‪ ،‬يتبدى المشهد السياسي في فرنسا مفتوحً ا على‬

‫احتماالت شتى لهندسة شكله وتركيب فسيفسائه‪ .‬غير أن ما‬

‫وعنصريته‪ ،‬أو نفاق اليمين التقليدي الذي كثيرًا ما يمنع عمداء‬

‫ال يقبل الجدال‪ ،‬وال يحتمل أي مناورة‪ ،‬هو أن فرنسا انتقلت‬

‫موجة اإلرهاب التي ضربت فرنسا تسببت لدى االشتراكيين‬

‫يمين‪ /‬يسار‪ ،‬وانبثقت فيه قوى ليبرالية وسطية‪ ،‬ويسارية شعبية‬

‫مدنه على المسلمين توفير مسجد وأماكن عبادة الئقة‪ .‬بل إن‬ ‫أنفسهم في خلط األوراق من هذه الناحية‪ ،‬ليصبحوا بدورهم‬ ‫وباسم مكافحة اإلرهاب مناوئين‪ .‬عند ماكرون فإن الالئكية هي‬

‫صمام األمان ومقياس التعامل مع الدين وأهله‪ .‬‬

‫إلى عهد حكم جديد‪ ،‬تفككت فيه الثنائية التقليدية‪ ،‬أو الزوج‪:‬‬

‫وشعبوية‪ ،‬زيادة على تنامي قوة اليمين المتطرف‪ .‬مشهد سيعرف‬ ‫مزيد تفكك وإعادة بناء المجتمع السياسي بتشكيل تنظيمات‬

‫مستجدة قادمة من قلب التنظيمات القديمة‪ ،‬وإن بأطروحات‬

‫ويبقى ملف الهجرة والمهاجرين خاضعً ا لمقاييس اقتصادية‬

‫وبرامج تحاول أن تتالءم مع الواقع الراهن‪ ،‬الداخلي واألوربي‪،‬‬

‫طابع وطني أو شوفيني‪ ،‬متعصب‪ ،‬كما هو الشأن مع اليمين‬

‫على الوحدة‪ ،‬ودعم البناء األوربي والعملة األوربية األورو‪،‬‬

‫محضة‪ ،‬ولسوق العمل‪ ،‬من دون وجود أي توجيه سابق ذي‬ ‫المتطرف الذي يدعو إلى إغالق الحدود‪ ،‬والتضييق على الحقوق‬

‫المدنية لألجانب وحرمانهم مكتسبات عديدة بشكل عنصري‬ ‫سافر‪ ،‬باسم حق الفرنسيين أولاً ‪.‬‬ ‫العددان ‪ 490 - 489‬شوال ‪ -‬ذو القعدة ‪1438‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬أغسطس ‪2017‬م‬

‫والعولمي‪ ،‬ومن المهم أنها ‪-‬أغلبها‪ -‬تلتقي حول ضرورة الحفاظ‬ ‫والمنافسة على الصعيد العالمي‪ ،‬وعلى مستوى المبادئ إنعاش‬

‫قيم الجمهورية وتحصينها‪ :‬الحرية والعدالة والمساواة‪ .‬وهذا ما‬

‫التزم به بقوة الرئيس إيمانويل ماكرون‪.‬‬


‫إيمانويل ماكرون‪ ..‬رئيس لزمن سياسي جديد‬ ‫نصوص‬

‫هواك‬ ‫ـن‬ ‫سـ ُّ‬ ‫وما َت ُ‬ ‫عبدالعزيز محيي الدين خوجة‬

‫شاعر سعودي‬

‫أح� � � � � ّب � � � � ـ� � � � � َ‬ ‫أك � � �ـ � � �ـ � � � ُّ�ن‬ ‫�ك‪ ،‬ه� � � � ��ل ُت � � � ـ� � � � َ�ت � � � ـ� � � � ْرج � � � ـِ� � � � ُ�م م� � � � ��ا ِ‬

‫وه� � � � � � ��ل ي � � �ش � � �ف � � ��ي وص � � � � ـ� � � � � ُ‬ ‫�ال� � � � ��ك م � � � ـ� � � ��ا ُ‬ ‫أظ � � �ـ � � �ـ � � �ـ � � � ُّ�ن‬

‫إذا م � � � ��ا ِغ� � � �ب� � � �ـ � � � َ‬ ‫�ت ُي� � �ش� � �ـ � � ِ�ع � � ـ� � �ـ � � ُ�ل� � �ن � ��ي َح � � ِن � �ي � �ن � �ـ � �ـ � ��ي‬

‫َ‬ ‫وأح � � � �س � � � ـ� � � � ـ� � � � ُ‬ ‫�ب ِم � � � � � ��ن ح � �ن � �ي � �ـ � �ـ � �ن � ��ي ق� � � � ��د أُ َج � � � � ـ� � � � � ُّ�ن‬

‫�وم � � � � � ��ا ق � � � � ��د أظ � � � � � � ��ن ك� � � ـ� � � �س� � � ـ� � � �ـ � � � ُ‬ ‫وي � � � � � � ً‬ ‫�رت ق� � �ي � � ـ� � ��دي‬ ‫وح� � � �ـ � � � �ي� � � ��ن أراك أن � � � ـ� � � �س� � � �ـ � � ��ى ب� � � � � ��ل أحِ � � �ـ � � � ـ� � � �ـ � � � ُّ�ن‬ ‫وح � � � � � �ت � � � � � ��ى ح � � � �ـ � � � �ي � � � ��ن ت� � � �ه� � � �ج� � � �ـ � � � ـ� � � ��رن � � � ـ� � � ��ي م� � � �ل� � � � ًّي � � ��ا‬ ‫أت� � � � � � � �ـ � � � � � � � ُ‬ ‫ْ‬ ‫أض � � �ـ � � �ـ � � �ـ � � �ـ � � �ـ � � �ـ � � � ُّ�ن‬ ‫ألن أراك وال‬ ‫�وق‬ ‫ِ‬

‫ي � � �ق� � �ـ � � �ل � � � ُب � � �ن� � ��ي ال� � � � � �ن � � � � ��وى ش � � � �ـ � � � � ً‬ ‫�رق � � � ��ا وغ � � �ـ � � ـ� � � ـ� � ��رب� � � ـً� � ��ا‬

‫وأُجْ � � � � � � � � �ـ � � � � � � � � �رَحُ م� � � � � � � ْ�ن ج � � �ـ � � �ف � � �ـ � � �ـ � � � َ‬ ‫�اك وال أَئِ � � � � �ـ � � � � � ُّ�ن‬ ‫وأن � � � � � � � � � � َ‬ ‫�ت ال� � � � � � � َ�ك� � � � � � � ُ‬ ‫�ون ف � � � � ��ي ع � � �ي � � �ن � � ��ي ب� � �ه � � ـ� � �ـ � �ـ � � ـ� � �ـ � � ً‬ ‫�اء‬

‫وق� � � �ل� � � �ب� � � ��ي ف � � � � ��ي رح� � � � �ـ � � � ��ابِ� � � � �ـ � � � � َ‬ ‫�ك ُم� � � ْ�ط � � ـ� � � َ�م � � ـ� � �ئ � � ـ� � �ـ � � ـ� � � ُّ�ن‬ ‫ُخ� � � ـ� � � � ِل� � � �ق � � � ُ‬ ‫�ت م � � � ��ع ال� � � � �ه � � � ��وى وال � � � � �ح � � � � � ُّ‬ ‫�ب ِدي � � �ن � � ��ي‬

‫وأرض � � � � � � � � � � ��ى م� � � � � ��ن ه � � � � � � ـ� � � � � � � َ‬ ‫�واك ب � � � �م� � � ��ا َت � � � ُ‬ ‫�س � � � ـ� � � �ـ � � � ُّ�ن‬

‫‪57‬‬


‫دراسات‬

‫‪58‬‬

‫منعطفات‬ ‫العربية‪..‬‬ ‫الرواية‬ ‫ّ‬ ‫منذ النكسة‬ ‫حتى احتالل العراق‬ ‫العددان ‪ 490 - 489‬شوال ‪ -‬ذو القعدة ‪1438‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬أغسطس ‪2017‬م‬


‫يمنى العيد‬

‫ناقدة لبنانية‬

‫ُي ِّ‬ ‫حدد العنوان لمنعطفات الرواية العربيّة‪ ،‬موضوع البحث‪ ،‬زم ًنا تاريخيًّا يقع بين العاميْن‬

‫‪ ١٩٦٧‬و‪٢٠٠٣‬م‪ ،‬أي بيْن هزيمتيْن هما هزيمة الجيش المصري أو ما ُع ِرف بالنكسة‪ ،‬وهزيمة الجيش‬ ‫عالقة بين األدب والتاريخ‪ ،‬أو‬ ‫العراقي أو احتالل العراق‪ ،‬ما يعني أنَّ العنوان ُيضمر اإلشارة إلى‬ ‫ٍ‬ ‫ُ‬ ‫كنت هنا‪ ،‬لست معنيّة بدراسة‬ ‫أثر يتركه الواقع التاريخي في األدب الذي هو هنا الرواية‪ .‬ولئن‬ ‫إلى ٍ‬ ‫التاريخ‪ّ ،‬‬ ‫فإني ِّ‬ ‫أحدد سؤال الموضوع‪ ،‬على النحو اآلتي‪:‬‬

‫ُّ‬ ‫تشكلها بنية روائي ًّة فنيّة؟‬ ‫ما األثر المرجعي الذي ُتحيل إليه الرواية العربيّة (لدى القراءة) على‬

‫ِّ‬ ‫متفجريْن‬ ‫أو بصيغة أخرى‪ :‬كيف نرى روائيّة الرواية العربيّة بين النكسة واالحتالل‪ ،‬أي بين حدثيْن‬

‫وكارثيين‪ ،‬أصابا بلديْن عربيّين كان للرواية العربيّة فيهما نتاجٌ ملحوظ‪ ،‬وترك هذان الحدثان أثرهما‬ ‫في الكتابة الروائيّة العربيّة بشكل عام؟‬

‫ّ‬ ‫خاص‪ ،‬هم‬ ‫بشكل‬ ‫لقد كان الروائيّون العرب‪ ،‬المبدعون‬ ‫ٍ‬

‫أوّل مَ نْ أدرك أنَّ التقاليد الروائيّة السابقة (أو تقاليد الرواية‬ ‫ً‬ ‫قادرة على التعبير عن هذا الواقع‬ ‫الواقعيّة البسيطة) لم تعد‬ ‫التاريخي الجديد‪ .‬هكذا طرح صنع الله إبراهيم سؤاله‪« :‬كيف‬

‫أع ِّب ُر عن الواقع‪ ،‬كيف أكتب»‪ ،‬مفصحً ا عن هاجسه في إيجاد‬

‫الشكل المالئم‪ ،‬لكن‪ ،‬على أساس أنْ تكون لحظة الكتابة‪،‬‬ ‫«تفسر وتب ِّرر وتسمح بفهم الواقع وإمكانيّة‬ ‫وكما يضيف‬ ‫ِّ‬ ‫تغييره في الوقت نفسه»(‪ .)١‬وهكذا قال عبدالرحمن منيف‪ :‬إنَّ‬

‫مسعاه هو أن يكتب رواية لها «مالمحنا‬ ‫ّ‬ ‫الخاصة»‪ .‬أي‪ :‬رواية تقول‪ ،‬فنيًّا‪،‬‬ ‫ونكهتنا‬ ‫ٌ‬ ‫حكايتنا بما هي حكاية لها تاريخيًّا وعلى‬

‫بتجريبيّته ألنْ تبقى‪ ،‬هذه التجريبيّة‪ ،‬مفتوحة على التنوّع‬

‫والتعدّ د واالختالف‪ ،‬فإنَّ المسعى الثاني مال بواقعيّته‬

‫الحداثيّة إلى ترسيخ تقاليد فنيّة للسرد الروائي العربي ترتبط‬

‫بخصوصيّة التاريخ وحكايات الواقع المعيش‪.‬‬

‫المسعى التجريبي ‪ -‬التحديثي‬ ‫َّ‬ ‫لعل من الالفت أنْ يكون نجيب محفوظ الذي أرسى‬

‫قواعد الرواية الواقعيّة العربيّة هو من أوائل‪ ،‬إنْ لم يكن‬ ‫أو َّل من كسر هذه القواعد في روايته‬

‫«ميرامار» التي صدرت في عام النكسة‬ ‫(‪)٣‬‬

‫نفسه‪ ،‬أي في عام ‪١٩٦٧‬م‪ ،‬وكان ما‬

‫أرض الواقع خصوصيّتها(‪ .)٢‬وما قاله صنع‬

‫حكت عنه هذه الرواية بمنزلة استباق‬

‫الله إبراهيم وعبدالرحمن منيف‪ ،‬وسعَ يَا‬

‫يشير إلى الفساد الذي أدَّى إلى النكسة‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫تشكل‬ ‫ويمكن القول‪ :‬إنَّ رواية «ميرامار»‬

‫إلى تحقيقه فيما كانا يكتبانه من أعمال‬

‫ُّ‬ ‫التشكل الروائي‬ ‫نموذجً ا رائدً ا لبنية‬

‫روائيّة‪ ،‬هو ما سعى إليه معظم الروائيّين‬ ‫العرب في تلك الحقبة الزمنيّة‪.‬‬

‫العربي الساعي إلى اختالفه وتميّزه‬ ‫حداثيًّا على أساس مِ نْ تعامله مع واقع‬

‫ويمكننا‪ ،‬في هذا الصدد‪ ،‬تمييز‬

‫مسعييْن بارزيْن النعطافة الرواية العربية‪:‬‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫بداية‪ ،‬ولدى‬ ‫تمثل‪،‬‬ ‫مسعى أول‬

‫بعض‪ ،‬فيما ُعرف بالتجريب الذي عنى‬

‫نجيب محفوظ‬

‫الثورة الناصريّة والمأزق الذي آل إليه‬ ‫ّ‬ ‫ولعل أول‬ ‫هذا الواقع ُقبيْل الهزيمة‪.‬‬ ‫ما يلفتنا في رواية «ميرامار»‪ ،‬وباعتبار‬

‫تجاوز تقاليد السرد الروائي السابقة‪ ،‬الواقعيّة‪ ،‬التي ميّزها‬

‫ّ‬ ‫بنية الشكل‪ ،‬هو‬ ‫التخلي عن قواعد الرواية الواقعيّة التي انبنت‬

‫القرن العشرين‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫ثان تمثل‪ ،‬لدى بعض آخر‪ ،‬في االنتقال بالواقعيّة‬ ‫مسعى ٍ‬

‫من القرن العشرين‪ ،‬وقد وُصفت هذه القواعد بالتقليديّة‪،‬‬ ‫ً‬ ‫وأحيانا‪ ،‬بالكالسيكيّة‪.‬‬ ‫ووُصفت واقعيّتها بالواقعيّة البسيطة‪،‬‬

‫ورسَّ خها نجيب محفوظ في ثالثيّته أواخر النصف األول من‬

‫من بساطتها إلى حداثتها‪ .‬لكن‪ ،‬لئن كان المسعى األول نزع‬

‫عليها الرواية العربيّة في بداياتها حتى نهاية النصف األول‬

‫وقد ّ‬ ‫ّ‬ ‫وبخاصة فيما يتصل‬ ‫تمثلت هذه القواعد التقليديّة‪،‬‬

‫‪59‬‬


‫دراسات‬

‫بالسياق الخيْطي الم ّتسق وفق مقتضيات‬ ‫بزمن السرد‪،‬‬ ‫ّ‬

‫داخلي‪ .‬إنَّ الدراما‬ ‫ذاتي‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫وإنَّ المقتول هو قاتل نفسه‪ ،‬والفاعل ّ‬

‫تجريبيًّا‪ ،‬إلى حداثتها‪ ،‬أي إلى ما يخوّل لها التعبير عمّ ا آل‬

‫دراما العالقة بين الثورة برموزها المتعدّ دة‪ ،‬والشعب برمزه‬

‫العُ قدة وحبكتها والحل‪ /‬النهاية‪ .‬ففي «ميرامار»‪ ،‬الساعية‪،‬‬

‫الساردون‬ ‫إليه واقعُ الثورة‪ ،‬قبيْل النكسة‪ ،‬يتعدّ د الرواة‬ ‫ِ‬ ‫ّ‬ ‫السرد‪ ،‬بدل الحكاية‬ ‫للحكاية‪،‬‬ ‫ويتقطع زمن َّ‬ ‫الواحدة ثالث حكايات ُتروى من وجهات‬ ‫ّ‬ ‫تخص مقتل سرحان البحيري‬ ‫نظر مختلفة‪،‬‬

‫وكيل حسابات شركة اإلسكندريّة للغزل‪.‬‬ ‫ثالث حكايات للحكاية الواحدة‪ ،‬يتناوب‬

‫الواحد زهرة‪ .‬يمكن القول‪ :‬إنّ التحديث الذي سعى إليه نجيب‬ ‫محفوظ في هذه الرواية ّ‬ ‫بشكل أساسي‬ ‫تمثل‬ ‫ٍ‬ ‫في تعدّ د الرواة‪ ،‬وفي الحكاية المرويّة على‬ ‫ّ‬ ‫الخطي‪ ،‬وفي الراوي‬ ‫قاعدة كسر الزمن‬

‫الشاهد‪ .‬إن هذا المسعى التحديثي خوَّل له‬ ‫فعل َتعدَّ َد‬ ‫فاعل إلى‬ ‫نقل سبب النكسة من‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫فاعلوه‪ ،‬وهو بتعدُّ د فاعليه يحيل إلى األخالق‬

‫عليها ثالثة رواة شباب هم من أركان الثورة‬ ‫ِّ‬ ‫وحل‬ ‫الناصريّة‪ ،‬وذلك ال لمعرفة القاتل‬

‫(سرقة سرحان البحيري المصنع‪ ،‬وطموحات‬

‫السرد في رواية الواقعيّة البسيطة‪ ،‬أو‬

‫قبل مصادرة أراضيه) أكثر ممّ ا يحيل إلى‬

‫ُعقدة الرواية وصولاً بها إلى نهايتها‪ ،‬شأن‬

‫الكالسيكيّة‪ /‬التقليديّة‪ ،‬بل لمعرفة المقتول‪،‬‬ ‫سرحان البحيري‪ ،‬وما يعنيه بشخصيّته‬

‫وبسلوكه وبفكره‪ .‬أي بصفته‪ ،‬ال الفرديّة‪ ،‬بل‬

‫بصفته رم ًزا من رموز الثورة الناصريّة‪ ،‬ويختزن أكثر من داللة‪.‬‬ ‫يؤدّي انعطاف رواية «ميرامار» الحداثي أكثر من وظيفة‬

‫‪60‬‬

‫التي يعيشها المقيمون في بنسيون ميرامار هي‪ ،‬في الرواية‪،‬‬

‫دالليّة‪:‬‬ ‫ّ‬ ‫‫‪ ‬-‬تعدّ د وجهات النظر للحدث الواحد على قاعدة تعدّ د‬

‫الرواة والمنظور المختلف‪.‬‬

‫ِّ‬ ‫المؤلف الضمني الذي ي ّتخذ صفة الراوي‬ ‫‪ -‬اإليهام بحياديّة‬

‫الشاهد‪ .‬بدل أنْ يقف خلف البطل شأنه في الرواية الواقعيّة‬

‫البسيطة‪ ،‬أو الكالسيكيّة التقليديّة‪ ،‬رواية الصوت الواحد‪.‬‬

‫‫‪ ‬-‬التعريف برموز الثورة الثالثة‪ ،‬رواة الحكاية‪ ،‬بصفتهم‬ ‫مسؤولين وقيّمين على مؤسّ سات الدولة‪ ،‬وم ّتهمين مفترضين‬ ‫بقتل زميلهم‪ ،‬سرحان البحيري‪ ،‬أحد نزالء بنسيون ميرامار‬

‫المقيمين فيه‪.‬‬

‫حسني عالم اإلقطاعي وحنينه إلى زمن ما‬

‫السيّاسة‪ ،‬أو إلى السلطة ورأسها‪ .‬كأنّ الرواية‬ ‫ٌ‬ ‫استشراف للنكسة التي رفض بعدها‬ ‫بذلك‬

‫الشعب المصري ّ‬ ‫تخلي عبدالناصر عن رئاسة‬ ‫ُ‬ ‫ٌ‬ ‫نهاية لروايةٍ ال خاتمة لها‪،‬‬ ‫مصر‪ .‬وكأنَّ هذا االستشراف هو‬ ‫ٌ‬ ‫مرهون بوعي الناس‬ ‫احتمال‬ ‫نهاية مفتوحة على أكثر مِ ن‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬

‫وبقدراتهم على التغيير‪ .‬يتنوّع التجريب‪ ،‬وهو في تنوُّعه‬ ‫بحث عنْ‬ ‫أساليب وتقنيّات جديدة تكتسب‬ ‫كان يبدو بمنزلة‬ ‫َ‬ ‫ٍ‬ ‫ُ‬ ‫الرواية القدرة الفنيّة على رواية حكاية الـ«نحن»؛ ذلك‬ ‫بها‬

‫أنَّ الرواية العربيّة‪ ،‬كما أرى‪ ،‬فنٌّ جديد في أدبنا وثقافتنا‪،‬‬ ‫يبدو معه الواقع االجتماعي التاريخي الذي لم يتشكل في‬

‫فس َر نشأة الرواية الغربيّة‬ ‫طبقات بمنزلة الحوض البديل لما َّ‬ ‫ٍ‬

‫(الثورة الصناعيّة‪ ،‬تكوّن طبقة برجوازيّة‪ ،‬وثقافة تتعدّ د وتتنوّع‬ ‫ُ‬ ‫حقولها المعرفيّة)‪ ،‬فالتجربة الروائيّة العربيّة تعيش مراحلها‬

‫ّ‬ ‫الخاصة وهويّتها الفنيّة‬ ‫األولى ساعية إلى اكتساب مالمحها‬ ‫الحديثة‪ ،‬من دون االنزالق إلى تقليد‬

‫السرد الدّاللي الذي‬ ‫‪ -‬توسيع مجال ّ‬

‫حداثة الغرب‪.‬‬

‫ِّ‬ ‫أقدم‬ ‫وباعتبار التنوّع التجريبي‬

‫يكشف عن خيانة رموز الثورة وانتصارهم‬

‫المثاليْن اآلتيين‪:‬‬

‫المزيَّف لها‪.‬‬

‫‪ -‬الكشف عن مأزق نظام العالقات‬

‫رواية السؤال (‪١٩٧٩‬م)‪:‬‬

‫االجتماعية في زمن الثورة الناصريّة‪،‬‬

‫في هذه الرواية‬

‫وصياغة المعادلة بين الفاعل وفعله‪ ،‬أو‬

‫(‪)٤‬‬

‫بين السبب والنتيجة‪ .‬كأنَّ سؤال الرواية‬ ‫سؤال آخر سابق‬ ‫ليس إلاّ جوابًا عن‬ ‫ٍ‬ ‫ومطروح عن فشل الثورة‪ .‬والرواية نسيج‬

‫إلنتاج معرف ٍة تكشف عن الوجه الحقيقي‬ ‫ّ‬ ‫يستغلون مؤسّ سات‬ ‫لرموز الثورة الذين‬

‫الدولة التي يديرون شؤونها لتحقيق أحالمهم الخاصة… وهي‬

‫بذلك تو ّد أن تقول‪ :‬إنَّ أصحاب الثورة يقضون على ثورتهم‪،‬‬ ‫العددان ‪ 490 - 489‬شوال ‪ -‬ذو القعدة ‪1438‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬أغسطس ‪2017‬م‬

‫يتوسّ ل غالب‬

‫هلسا شخصيّة ترميزيّة هي شخصيّة‬ ‫الس ّفاح المع َّرف بفعله الذي هو‬ ‫ّ‬

‫غالب هلسا‬

‫القتل‪ .‬القتل هو هويّته‪ ،‬والجثث‪ّ :‬‬ ‫جثة‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫وجثة‬ ‫وجثة الفتاة منى‪،‬‬ ‫عبدالعليم‪،‬‬ ‫صديق مصطفى‪ّ ،‬‬ ‫وجثة الفتاة التي تعمل‬

‫في شركة الطيران العربيّة… هي الشاهد على هذه الهويّة‪.‬‬

‫الس ّفاح‪ ،‬في الرواية‪ ،‬إلى كابوس يداهم مصطفى في‬ ‫يتحوّل ّ‬


‫العربية‪ . .‬منذ النكسة حتى احتالل العراق‬ ‫منعطفات الرواية‬ ‫ّ‬

‫مناماته‪ ،‬وتتحوّل المنامات إلى أحالم يقظة ُتشعر مصطفى‬ ‫ِّ‬ ‫المتمثل في سلطة‬ ‫بعجزه عن التح ّرر من سلطة الرمز األبوي‬

‫السياسة الحاكمة‪ .‬لكن قيام السرد‬ ‫التاريخ الماضويّة وسلطة ّ‬ ‫على هذا المستوى الترميزي المتخيّل يعجز عن االستمرار‬ ‫بسرده على هذا المستوى‪ ،‬أي يعجز عن إبداع مستوى متخيّل‬

‫كابوسي بديل للعالم المرجعي‪ .‬فالسرد‪ ،‬كما نلحظ‪ ،‬يبقى‬

‫ً‬ ‫حريصا على العودة إلى عالم الواقع المرجعي‪ ،‬أو على تذكيرنا‬ ‫ّ‬ ‫السفاح على مستوى البنية الفنيّة‬ ‫به‪ ،‬وهذا يضعف وظيفة ّ‬ ‫ككل‪ ،‬ويجعلها تبدو اعتراضيّة محدودة الوظيفة‪ ،‬أو طارئة‪،‬‬ ‫الس ّفاح‪،‬‬ ‫ثانويّة ح ّتى ال نقول مستعارة؛ ذلك أنها‪ ،‬أي وظيفة ّ‬

‫ال تغيِّر من طابع السرد‪ ،‬أو من واقعيّته‪ ،‬فيما هي توحي لنا‬ ‫ّ‬ ‫بأنها بصدد االختالف عنه‪ ،‬أي عن طابعه‪ ،‬بهدف تغييره‪.‬‬ ‫كذلك يتوسَّ ل غالب هلسا أحالم اليقظة ليعبِّر‪ ،‬في‬

‫روايته «ثالثة وجوه لبغداد» (‪١٩٨٤‬م)‪ ،‬عن ال معقوليّة ما يجري‬ ‫في بغداد في ّ‬ ‫ظل سلطة صدّ ام حسيْن؛ وهذا يضفي على‬ ‫السرد طابعً ا فانتازيًّا‪ .‬لكنَّ هذه الفانتازيا‬ ‫َّ‬ ‫يتجذر به َ‬ ‫َّ‬ ‫عالم الرواية‬ ‫تبقى مج َّرد طابع ال‬

‫لم يكن التجريب هدفً ا بذاته بل مسعى‬ ‫ٍ‬ ‫لرواية تقول‪ ،‬وعلى مستواها الف ّني‬ ‫الخاصة‬ ‫المميز‪ ،‬حكايتها‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫الرواية العربيّة في النصف األوّل من القرن العشرين‪ .‬سوف‬ ‫لاً‬ ‫ِّ‬ ‫أقدمُ مثا آخر على هذا التجريب السردي الروائي‪ ،‬التجريب‬

‫الذي توسَّ ل إدراج النصوص المقتبسة‪ ،‬أو المدوَّنات‪ ،‬في‬

‫المتن الروائي‪ ،‬وقام بتحويل المدوَّنة إلى لعبةٍ مسرحيّة‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ألتوقف‪ ،‬بعد ذلك‪ ،‬عند رواية الحرب اللبنانيّة التي عبَّر بعضها‬ ‫عن انعطاف ٍة حداثيّة الفتة كما سأوضح‪.‬‬ ‫رواية شرف ( ‪١٩٩7‬م)‪.‬‬

‫يقسم صنع الله إبراهيم الخطاب الروائي‬ ‫في هذه الرواية‪ّ ،‬‬

‫الخطاب‬ ‫إلى ثالثة أقسام ‪ :‬في القسم األول تعتمد الرواية‬ ‫َ‬ ‫(‪)٥‬‬

‫السردي المحدّ د‪ ،‬روائيًّا‪ ،‬بقواعد‬

‫جنسه األدبي‪( ،‬التقليدي)‪ ،‬فتحكي‬

‫َّ‬ ‫كعالم ال معقول‪ .‬هكذا‬ ‫ليستقل بمتخيَّله‬ ‫ٍ‬

‫حكاية دخول أشرف عبدالعزبز سليمان‬ ‫ُ‬ ‫الرواية‬ ‫السجن‪ .‬‫في القسم الثاني ‬تترك‬

‫لتأويل يعود‬ ‫تبقى ذاكرة القراءة مدعوَّة‬ ‫ٍ‬ ‫بها إلى المرجع التاريخي وال تحملها‪ ،‬هذه‬ ‫ُ‬ ‫موضوع اكتشافها‪.‬‬ ‫عالم هو‬ ‫الفانتازيا‪ ،‬إلى‬ ‫ٍ‬

‫ألوراق الدكتور رمزي بطرس نصيف‪.‬‬

‫سعى إلى توليده التجريب في هاتيْن‬ ‫الس ّفاح‬ ‫الروايتيْن‪ ،‬بتوسُّ ل شخصيّة‬ ‫ّ‬

‫هذه األوراق‪[ ،‬أو الخطاب‪ /‬المدوَّنة‪،‬‬

‫هذا الخطاب السردي وقواعد جنسه‬

‫ومع هذا يمكن القول‪ :‬إنَّ االلتباس الذي‬

‫هذه األوراق هي قصاصات صحف‬ ‫ِّ‬ ‫بخط اليد‪ .‬تحكي‬ ‫ومجلاّ ت ومدوَّنات‬

‫وأحالم اليقظة الكابوسيّة‪ ،‬من شأنه أن‬ ‫يؤدّي وظيفة التأويل المفتوح على تعدُّ د‬

‫القراءة واختالفها بدل الوضوح الداللي‬

‫الذي وسم الرواية التقليديّة‪ ،‬وركز الداللة في العُ قدة والنهاية‪.‬‬ ‫إضافة إلى أنَّ التح ّرر من الحبكة والعقدة‪ ،‬من شأنه ً‬ ‫أيضا أنْ‬

‫صنع الله إبراهيم‬

‫وبضمير األنا‪ /‬الراوي] تجربة صاحبها‬ ‫ّ‬ ‫وتنقله‪ ،‬بحكم‬ ‫الدكتور رمزي بطرس‪،‬‬

‫وظيفته في شركة‪ ،‬بين عدّ ة بلدان من‬ ‫بلدان العالم الثالث‪ .‬يدوّن الدكتور رمزي بطرس ما ّ‬ ‫يطلع عليه‬ ‫صفقات‬ ‫من أسرار الشركات‪ ،‬وما تعقده هذه الشركات من‬ ‫ٍ‬

‫يتيح لهذا السرد التجريبي إمكانيّة التنويع على إقامة معماره‬

‫تجني من ورائها أرباحً ا طائلة‪ ،‬إضافة إلى الخطاب‪ /‬المدوَّنة‪،‬‬

‫يبدو التجريب عند غالب هلسا‪ ،‬المطرود من وطنه (األردن)‬

‫مسرح الدمى‪ ،‬الذي يديره الدكتور رمزي بعد أن حوَّل مدوَّنته‬

‫الروائي الفني وفق ما تقتضيه زمنيّة القول وشرطه التاريخي‪.‬‬

‫والمطارَد في أكثر من بلد عربي لجأ إليه‪ ،‬يبدو هذا التجريب‬ ‫قادر على قول المعنى العميق‬ ‫بمنزلة بحث عن كيفيّة سرد ف ّني‬ ‫ٍ‬ ‫ّ‬ ‫لهذا الواقع التاريخي الذي غدا كابوسيًّا في ظل سلطة حاكمة‬

‫تتوسّ ل الرواية‪ ،‬في هذا القسم الثاني‪ ،‬العرض المسرحي‪ ،‬أو‬ ‫إلى حوار مسرحي‪ .‬يجري هذا العرض المسرحي في فناء عنبر‬ ‫ويقدمه السجناء الذين ّ‬ ‫ِّ‬ ‫يتولون لعبة تحريك الدمى‪،‬‬ ‫السجن‪،‬‬

‫وتقديم العرض بأصواتهم الحواريّة التي ّ‬ ‫تقلد أصوات أصحاب‬

‫تقمع وتسجن األدباء الذين يكتبون وينتقدون ويعبِّرون بحُ ريّة‬ ‫عن رؤاهم ومواقفهم‪ّ .‬إنه همُّ القول وكيفيّته‪ .‬قول الحكاية‪،‬‬

‫القبور‪ .‬تقول‪« :‬نحن (أربعين) ألف قتيل سقطنا في حروب ‪،٤٨‬‬ ‫و‪ ،٥٦‬و‪ ،67‬و‪ ( »73‬ص‪ .)٣٤٠ -٣٣٩‬كما ّ‬ ‫تقلد أصوات األسرى‬

‫بحُ ريّة وكرامة‪ ،‬وتسعى‪ ،‬في اآلن نفسه‪ ،‬لكي يكون لها روايتها‬ ‫التي وإن كانت تستفيد من تجارب الغرب الروائيّة‪ ،‬إلاّ َّأنها تو ُّد‬

‫أن يمطروهم بالرصاص (ص‪ .)٣٤٠‬وكذلك أصوات المعوّقين‬

‫مجتمعات تعاني الحرمان وعيش حياتها‬ ‫حكايتنا‪ ،‬نحنُ أناس‬ ‫ٍ‬

‫أنْ تتح ّرر من التقليد والمحاكاة للرواية الغربيّة‪ ،‬أي ممّ ا وَسَ مَ‬

‫الذين أجبرهم جنود االحتالل على حفر قبورهم بأيديهم قبل‬ ‫الذين يسألون «مِ نْ أجل أي شيء كانت تضحياتنا» (ص‪.)٣٤٣‬‬ ‫في القسم الثالث تعود الرواية إلى الخطاب السردي‬ الذي‬

‫‪61‬‬


‫دراسات‬

‫توسّ لته في القسم األول‪،‬‫ لتخبرنا بأنَّ الدكتور رمزي أعلن‬

‫ُضع في التأديب‬ بسبب العرض‬ ‫إضرابه عن الطعام بعد أنْ و ِ‬

‫المسرحي الذي قدَّ مه‪.‬‬ ‫ً‬ ‫ِّ‬ ‫ُ‬ ‫تشكل أوراق رمزي بطرس خطابًا مختلفا ال يَمْ ت ِثل لقواعد‬ ‫السرد الروائي المعتمدة في القسميْن األول والثالث من‬ ‫الرواية‪َّ .‬إنه‪ ،‬إذا صحَّ التعبير‪ ،‬الخطاب‪ /‬المدوَّنة الذي يخترق‬

‫راو‬ ‫الخطاب السردي وينقله مِ نْ سر ٍد مِ نَ الذاكرة يقدّ مه ٍ‬ ‫بضمير الغائب إلى قراءة المكتوب (المدوَّنة) بضمير الـ«أنا»‪.‬‬ ‫يؤدّي الخطاب‪ /‬المدوَّنة‪ ،‬أو هذا ّ‬ ‫ً‬ ‫وظيفة دالليّة‬ ‫اللعب الف ّني‪،‬‬ ‫تدعم قول الحكاية؛ إذ تربط مدلوالت حكاية عالم السجن‪،‬‬

‫الداخلي‪ ،‬الذي اقتيد إليه أشرف‪ ،‬بعالم أوسع‪ ،‬خارجي‪،‬‬ ‫تتوافر له أوراق الدكتور رمزي بطرس‪ ،‬نزيل السجن ً‬ ‫أيضا‪.‬‬ ‫ُت ِّ‬ ‫شكل عملية التوثيق التي ت ّتسم بها المدوَّنة‪،‬‬

‫بارزين النعطافة‬ ‫مسعيين‬ ‫يمكننا تمييز‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫الرواية العربية‪ :‬األول تم ّثل فيما‬ ‫ُعرف بالتجريب الذي عنى تجاوز تقاليد‬ ‫السرد الروائي السابقة‪ ،‬والثاني‬ ‫بالواقعية من‬ ‫يتم ّثل في االنتقال‬ ‫ّ‬ ‫بساطتها إلى حداثتها‬ ‫السرديّة التي منها الفنُّ الروائي‪ .‬إن لفنيّة السرد الروائي في‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫تخصه وتميّزه بصفته‬ ‫تشكله عالمً ا روائيًّا وقواعد وتقنيّات‬ ‫الروائيّة‪ ،‬وتختلف عن فنيّة تشكل عالم المقامات مثلاً ‪ ،‬أو‬ ‫عن فنيّة بنية الحكايات الشعبيّة‪ ،‬من دون‬ ‫أنْ يعني ذلك قطيعة بيْن فنِّ الرواية وهذه‬

‫وتتمثل في تقديم معلومات وأسماء أشخاص‬

‫‪62‬‬

‫وشركات وتواريخ وأحداث وحروب وأرقام…‬ ‫مرجعً ا ال يحتمل ّ‬ ‫الشك الذي يحتمله السرد‬ ‫بصفته متخ َّيلاً مرويًّا مِ نَ الذاكرة‪ .‬كذلك‬

‫إفادة الرواية منها‪ .‬هكذا‪ ،‬فإنَّ الرواية‪،‬‬ ‫وبصفتها ف ًّنا وليدً ا‪ ،‬كانت وال تزال (وربما‬

‫هو حوا ٌر مُ مَ س َرح يحيل‪ً ،‬‬ ‫أيضا‪ ،‬إلى خطاب‬

‫عليها؛ كي تبدع قولها (أو خطابها) الروائي‪،‬‬ ‫ِّ‬ ‫تشكل‪ ،‬على مستواها الف ّني‪ ،‬تيّارًا‬ ‫ومن َثمَّ‬

‫الفنون السرديّة األخرى‪ ،‬أو عدم إمكانيّة‬

‫ِّ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫بدواله ومدلوالته‪،‬‬ ‫العرض المسرحي‪،‬‬ ‫يتشكل‬ ‫َ‬ ‫كخطاب ف ّني مختلف داخل الخطاب الروائي‪.‬‬ ‫ٍ‬

‫ما زالت حتى اليوم) تراكم تجربتها وتنوِّع‬

‫الخطاب‪/‬‬ ‫داخلي له‪ .‬يتشارك‬ ‫كمرجع‬ ‫المدوَّنات‬ ‫ُ‬ ‫ٍّ‬ ‫ٍ‬ ‫ُ‬ ‫والعرض المسرحي‬ ‫المدوَّنة بصفته التوثيقية‪،‬‬

‫يميّزها بانتمائها المجتمعي وهويّتها الثقافيّة‪.‬‬ ‫ً‬ ‫هدفا بذاته بل‬ ‫بهذا المعنى لم يكن التجريب‬

‫مسعى لرواي ٍة تقول‪ ،‬وعلى مستواها الف ّني‬

‫بصفته الحواريّة‪ ،‬أي الصوتيّة‪ /‬السمعيّة‪،‬‬

‫وباعتماده المدوّنة مرجعً ا له‪ ،‬في تدمير‬

‫المتخيَّل الروائي السردي (الواقعي التقليدي) وفي إعادة‬ ‫إنتاجه‪ .‬لكن إعادة اإلنتاج هذه ليست مجرد لعب فني مجاني‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫موظف لدعم الحكاية وتأكيد مصداقيّتها‪.‬‬ ‫بل هي لعب فني‬

‫هكذا ال تفارق رواية شرف‪ ،‬ببنائها التجريبي هذا‪ ،‬قواعد‬

‫الرواية الواقعيّة البسيطة وحسب‪ ،‬بل تخلخل عالقة التوافق‬

‫المألوف بين القارئ والرواية التي اعتاد أن يقرأ‪ .‬كما تخ ّرب‬ ‫إمكانيّة التواطؤ بينهما‪ .‬وبذلك تبدو رواية شرف َّ‬ ‫كأنها تضع‬ ‫القارئ في مساحة التغريب‪ ،‬وتطرح سؤالها على مفهوم النوع‬ ‫ً‬ ‫سابقا‪ ،‬لجهة‬ ‫األدبي الروائي المتماسك بقواعده المعتمدة‬

‫ُ‬ ‫رواية شرف سؤالها‬ ‫استمرار صالحيّته لحكاية حكايتنا‪ .‬تطرح‬

‫على الرواية‪ ،‬ونطرح نحن سؤالنا عليها‪ :‬هل قدّ مت هذه‬ ‫التجربة الروائيّة مثالاً حداثيًّا للرواية العربيّة‪ ،‬أم أنها كانت‬

‫مج َّرد تجربة فرديّة لم تثبت‪ ،‬حتى اليوم‪ ،‬قابليّتها الحتذاء‬ ‫عامّ ؟ جوابًا نقول بأنّ الرواية فنٌّ وليد في األدب العربي‪ ،‬ال‬ ‫تقاليد لها سابقة‪ ،‬أو موروثة في التراث العربي األدبي؛ ّ‬ ‫ألنه‬

‫ٌ‬ ‫تراث سرديٌّ ‪ ،‬وكان بإمكان الرواية العربيّة أنْ‬ ‫لئن كان للعرب‬ ‫تفيد منه‪ ،‬فإنَّ علينا‪ ،‬كباحثين ّ‬ ‫ونقاد‪ ،‬أنْ نميّز بين الفنون‬ ‫العددان ‪ 490 - 489‬شوال ‪ -‬ذو القعدة ‪1438‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬أغسطس ‪2017‬م‬

‫ّ‬ ‫الخاصة‪ .‬وبهذا المعنى‬ ‫المميّز‪ ،‬حكايتها‬

‫ً‬ ‫أيضا‪ ،‬يمكننا الكالم عن التجريب الروائي اللبناني الذي دعت‬ ‫ُ‬ ‫حرب مدمّ رة طرحت سؤالها على فنيّة الرواية التي‬ ‫حكاية‬ ‫إليه‬ ‫ٍ‬ ‫يكتبها اللبنانيّون بشكل خاص‪ ،‬وعلى الرواية العربيّة بشكل‬ ‫عام‪ .‬فقد كان ُّ‬ ‫كل ذلك يحدث في ذلك الزمن الواحد‪ ،‬أي ما‬ ‫بيْن النكسة واحتالل العراق‪ ،‬وفي َ‬ ‫عال ٍم يشترك في المعاناة‬

‫واألحالم ولغة التعبير وثقافة هذه اللغة وأدبها وتاريخها‪.‬‬

‫هوامش‪:‬‬

‫‪ )1‬انظر مجلة مواقف‪ ،‬عدد ‪ ،٦٩‬خريف عام ‪١٩٩٢‬م‪ ،‬ص (‪.)٢٣ -21‬‬ ‫‪‬)2‬المرجع السابق‪ ،‬ص‪.٦٨‬‬ ‫‫‪‬)‬٣‬انظر‪ :‬يمنى العيد‪ ،‬الرواية العربية المتخيل وبنيته الفنية‪ ،‬دار‬ ‫الفارابي‪ ،‬بيروت‪٢٠١١ ،‬م‪ ،‬ص‪.٥٣‬‬ ‫‫‪‬ )4‬للتوسع انظر‪ :‬يمنى العيد‪ ،‬في معرفة النص‪ ،‬الطبعة الرابعة‪،‬‬ ‫دار اآلداب‪ ،‬بيروت ‪١٩٩٩‬م‪ ،‬ص‪.١٩١‬‬ ‫‪‬)5‬للتوسع انظر‪ :‬يمنى العيد‪ ،‬فن الرواية العربية بين خصوصية‬ ‫الحكاية وتميز الخطاب‪ ،‬دار اآلداب‪ ،‬بيروت‪١٩٩٨ ،‬م‪ ،‬ص‪.١٩٣‬‬


‫العربية‪ . .‬منذ النكسة حتى احتالل العراق‬ ‫منعطفات الرواية‬ ‫ّ‬ ‫نصوص‬

‫ِّ‬ ‫الش ْع ُر‬ ‫ماريان مور‬

‫شاعرة أميركية‬

‫ترجمة‪ :‬محمد حلمي ال ِّريشة‬

‫أَ َنا‪ ،‬أَي ً‬ ‫ْضا‪ ،‬أَ ْن ُف ُر مِ ْن ُه‪ُ :‬ه َن َ‬ ‫اك أَ ْشيَاءُ مُ ِهمَّ ٌة َورَاءَ‬ ‫ُك ِّل َ‬ ‫الغ ِّ‬ ‫هذا َ‬ ‫ش‪.‬‬

‫أَ ْقر َُؤ ُه‪ ،‬وَل ِكنْ ‪ ،‬مَ َع ا ْز ِدرَاءٍ مِ َثال ٍِّي َل ُه‪ ،‬وَمَ ر ًَّة‬ ‫أَ ْك َت ِش ُ‬ ‫ف فِيهِ‬ ‫ص َ‬ ‫بَعْ َد ُك ِّل َش ْيءٍ ‪ ،‬مَ َك ًانا لِألَ َ‬ ‫الةِ ‪.‬‬ ‫َ‬ ‫األ ْيدِ ي َّال ِتي يُمْ ِك ُنهَ ا أَنْ َت ْن َق ِب َ‬ ‫ض‪ ،‬و ُ‬ ‫َالع ُيونُ‬ ‫َّال ِتي يُمْ ِك ُنهَ ا أَنْ َت َّت ِس َع‪ ،‬و َّ‬ ‫َالشعْ ُر َّالذِ ي يُمْ ِك ُن ُه أَنْ‬

‫َي ْر َت ِف َع‬ ‫ْس َ‬ ‫ضرُوريٌّ ‪َ ،‬فإنَّ هذِ ِه َ‬ ‫ألنَّ‬ ‫األ ْشيَاءَ مُ ِهمَّ ٌة‪َ ،‬لي َ‬ ‫إِ َذا َ ِ‬ ‫ِ‬ ‫العال ِِّي يُمْ ِكنُ أَنْ ُي َ‬ ‫ْت َ‬ ‫َت ْف ِسي َر َّ‬ ‫وض َع َع َل ْيهَ ا‪،‬‬ ‫الصو ِ‬

‫بب أَ َّنهَ ا‬ ‫وَل ِكنْ بِ َس ِ‬ ‫ص ِبحُ َث َان ِويًّا ِج ًّدا بِحَ ي ُ‬ ‫مُ ِف َ‬ ‫يد ٌة‪ .‬حِ ينَ ُي ْ‬ ‫صي ُر مُ ْبهَ مً ا‪،‬‬ ‫ْث َي ِ‬ ‫َو ُربَّمَ ا َي ُق ُ‬ ‫ول َّ‬ ‫الش ْيءَ َن ْف َس ُه َل َنا جَ مِ ً‬ ‫يعا‪َ ،‬وإِ َّن َنا‬ ‫لاَ ُنعْ جَ ُ‬ ‫ب بِمَ ا‬

‫َّ‬ ‫الخف ُ‬ ‫اش‬ ‫لاَ يُمْ ِك ُن َنا أَنْ َن ْفهَ مَ ‪:‬‬ ‫ْ‬ ‫ب‪ ،‬أَ ْو ِفي َسعْ ِيهِ إِ َلى َش ْيءٍ‬ ‫َي ُكونُ رَأ ًسا َع َلى َع ِق ٍ‬

‫ِليَأْ ُك َل‪ ،‬و ْ‬ ‫َاندِ َف ُ‬ ‫اع ال ِفي َ​َلةِ ‪ ،‬وَالحِ َ‬ ‫صانُ الوَحْ ِش ُّي َيأْ ُخ ُذ‬ ‫َل َّف ًة‪ ،‬و ِّ‬ ‫َالذ ْئ ُ‬ ‫ب‬ ‫َّالذِ ي لاَ َيك ُّ‬ ‫ِل َتحْ َ‬ ‫ت‬ ‫ْ‬ ‫ِير ُيوخِ ُز ِج ْل َد ُه مِ ْث َل‬ ‫َشجَ َر ٍة‪ ،‬وَال َّنا ِق ُد َعدِ يمُ ال َّتأث ِ‬

‫حِ َ‬ ‫ان‬ ‫ص ٍ‬ ‫وث‪َ ،‬ومِ ْروَحَ ُة‬ ‫َي ْش ُع ُر بِ َب ْر ُغ ٍ‬

‫َاإلحْ َ‬ ‫صائ ُِّي‪-‬‬ ‫(ال ِب ْ‬ ‫يسب ِ‬ ‫ُول)‪ ،‬و ِ‬

‫شاعر ومترجم فلسطيني‬

‫ْس َقا ِدرًا‬ ‫َلي َ‬ ‫َ‬ ‫يز َب ْينَ «الو َ​َثائ ِ​ِق ِّ‬ ‫ار َّيةِ‬ ‫التجَ ِ‬ ‫َعلى ال َّتمْ ِي ِ‬ ‫َسيَّةِ »؛ ُك ُّل هذِ ِه َّ‬ ‫و ُ‬ ‫َاه ِر مُ ِهمَّ ٌة‪.‬‬ ‫الظو ِ‬ ‫ب المَ ْدر ِ‬ ‫َالك ُت ِ‬ ‫الوَاحِ ُد َي ِج ُ‬ ‫ب أَنْ يَعْ مَ َل َتمْ ِيي ًزا‬

‫ُّ‬ ‫َمع ذل َ‬ ‫و َ‬ ‫ور مَ َع ِن ْ‬ ‫ف‬ ‫ص ِ‬ ‫ِك‪ :‬حِ ينَ َت ْنجَ ُّر َنحْ َو الظهُ ِ‬ ‫ُّ‬ ‫الش َعرَاءِ ‪،‬‬

‫َف ِإنَّ ال َّن ِتيجَ َة َلي ْ‬ ‫ْست ِشعْ رًا‪،‬‬ ‫ِلش َعرَاءِ َب ْي َننا أَنْ َي ُك ُ‬ ‫َوالَ يُمْ ِكنُ حَ َّتى ل ُّ‬ ‫ونوا‬ ‫«حِ َر ِفيِّي‬

‫َ‬ ‫َال»‪َ -‬فو َْق‬ ‫الخي ِ‬ ‫اهةِ ‪َ ،‬ويُمْ ِك ُنهُ مْ أَنْ َي ُك ُ‬ ‫الو َ​َقاحَ ةِ وَال َّت َف َ‬ ‫اض ِرينَ‬ ‫ونوا حَ ِ‬ ‫ائق و َْهمِ ي ٌَّة مَ َع َ‬ ‫يش‪« ،‬حَ َد ُ‬ ‫ض َفاد َِع حَ ِقي ِقيَّةٍ‬ ‫لِل َّت ْف ِت ِ‬ ‫ِفيهَ ا»‪،‬‬

‫َو َي ِج ُ‬ ‫ب َع َل ْي َنا‬ ‫َ‬ ‫أَنْ َنأْ ُخ َذ بِهذِ ِه‪ِ .‬في هذِ ِه األ ْث َناءِ ‪ ،‬إِ َذا ُك ْن َ‬ ‫ب مِ نْ‬ ‫ت َت ْط ُل ُ‬ ‫َناحِ يَةٍ ‪،‬‬ ‫الخامَّ ل ِّ‬ ‫المَ ا َّد َة َ‬ ‫ِلشعْ ِر ِفي ُك ِّل َق ْس َو ِتهَ ا‪،‬‬ ‫وَمَ ا ُه َو مِ نْ َناحِ يَةٍ أُ ْخرَى‬ ‫َ‬ ‫ت مُ ْه َتمٌّ بِ ِّ‬ ‫ص ٌ‬ ‫يل‪َ ،‬فأَ ْن َ‬ ‫الشعْ ِر‪.‬‬ ‫أ ِ‬

‫‪63‬‬


‫دراسات‬

‫الكتابة شع ًرا‬ ‫في نظم أبي تمام‬ ‫عمار العماري‬ ‫فضل بن ّ‬

‫‪64‬‬

‫باحث وأكاديمي سعودي‬

‫الغربي‪ ،‬فطه حسين‪ ،‬رأى فيه‪،‬‬ ‫برز موقف جديد ينحو بدراسة شعر أبي تمام نحو النقد‬ ‫ّ‬ ‫في قراءة عابرة‪ ،‬ما رأى بول فاليري في ماالرميه‪ ،‬وتبعه شوقي ضيف‪ ،‬فقال‪« :‬إن هناك شبهً ا بين‬ ‫غموضه ومعانيه العويصة‪ ،‬وغموض الرمزيين المتفرِّع عن البرناسيين الذين يعنون بالموسيقا‬ ‫والجمال المادي»‪ .‬وجاء أدونيس‪ ،‬بموقف الحداثة القائل‪« :‬إن أبا تمام انطلق من أولية اللغة‬ ‫الشعرية‪...‬أي خلق العالم باللغة‪...‬شعره يصدر عن «ضمير صنع‪ .‬ليصل إلى أن الشعر «هو التطابق‬ ‫أو زواج الكلمة البكر بالعالم البكر» وهي مفاهيم مشتقة من ماالرميه وبودلير وفاليري»‪ .‬وربط كمال‬ ‫أبو ديب بين شعر أبي تمام والشعر اإلنجليزي الميتافيزيقي في القرن‬ ‫السابع عشر الميالدي‪ .‬ومن الغريب أن هذا الشعر الميتافيزيقي شعر‬ ‫الروحانيات والفلسفة‪ ،‬كما عند ‪ -J. Donne‬و‪G. Herbert A.‬‬ ‫‪ Marvell‬و‪ Vaughan H .‬وهو خالف شعر القرن السابع‬ ‫عشر الشكسبيري‪ -‬ال يتفق مع قوله الذي ّ‬ ‫خلط فيه‪،‬‬ ‫فجاء مشو ًَّها‪ ،‬صورة أخرى من قراءة أدونيس‪:‬‬ ‫«الحداثة في شعر أبي تمام»‪.‬‬

‫العددان ‪ 490 - 489‬شوال ‪ -‬ذو القعدة ‪1438‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬أغسطس ‪2017‬م‬


‫شعرا في نظم أبي تمام‬ ‫الكتابة‬ ‫ً‬

‫وورد في دراسة إيليا حاوي ألبي تمام اسما ماالرميه‪ ،‬ورامبو‪.‬‬

‫واألشد غرابة أن يقول عنه في موضع آخر‪« :‬الحقيقة‪...‬أن طبيعة‬ ‫شعره كانت تناقض التجربة الرمزية؛ ألنه من أصحاب االتجاه العقلي‬

‫ومن الذين يتفكرون على التجربة بقدر ما يعانونها‪ ،‬وربما كان يتفكر‬ ‫بها أكثر مما يعانيها»‪ .‬ولكنه كذلك ال يستبعده من البرناسيين‪.‬‬ ‫والعجب كل العجب أن عمَل حسين الواد ‪-‬وإن كان أثر عبدالقادر‬

‫عملي‬ ‫الرباعي وكمال أبو ديب فيه واضحً ا‪ ،‬وإن لم يذكر هنا‪ -‬تطبيق‬ ‫ّ‬ ‫لما فهمه من انتهاج أدونيس نهج الرمزيين‪ ،‬ولم يذكر أدونيس أيًّا من‬

‫أدونيس‬

‫كمال أبو ديب‬

‫فارق هو أسبقية الرؤية عند أدونيس وجمودها عند الواد‪.‬‬ ‫أولئك‪ ،‬مع ٍ‬

‫تعبيرية أخرجها االنفعال ّ‬ ‫وولدها الخيال»‪ ،‬و«اندماج الذات في‬

‫ألبي تمام منزلة في الشعر القديم شبيهة بمنزلة ماالرميه في الشعر‬

‫وكذلك‪« :‬كان أبو تمام في دراميته شبيهًا بـ(هاردي) وعلينا أن نلحظ‬ ‫الفرق بين المدرستين‪ :‬المدرسة الرمزية ومدرسة ٍّ‬ ‫كل من شكسبير‬

‫يتفق الواد اآلن مع أدونيس‪ ،‬حتى إنه يشير إليه وال يذكره في قوله‪:‬‬ ‫«وقد تأثر ك ّتاب الحداثة في البالد العربية بهذا المسلك حتى جعلوا‬ ‫الفرنسي لما لمسوه بين شعريهما من وجوه التشابه والتقارب»‪.‬‬

‫الموضوع»‪ ،‬و«في قصائده المدحية‪ ...‬تشعر أنك فوق اللذة األرضية‪...‬‬ ‫كان يمتلك دائمًا انفعالاً قويًّا‪...‬إنه زحزح اللغة عن مواضعها»‪.‬‬

‫ولهذا قال‪« :‬تأسر الناظر في شعر أبي تمام‪ ،‬من ناحية اختياراته‬

‫وهاردي‪ ،‬التي يحاول كل فريق أن ينسب أبا تمام إلى إحداها‪ .‬وإذ‬ ‫أصبحت الجادَّة سالكة لشعر أبي تمام‪َ ،‬‬ ‫وآل إلى تلك النتيجة‪ ،‬فإن‬

‫كبي ًرا‪ ،‬فالتمسها في الموروث الشعري‪ ،‬واستخلصها من مخبوء كالم‬

‫الوراء‪ ،‬وكان علينا أن نتقدّم خطوات في دراسة أبي تمام‪ ،‬فكان هنالك‬

‫اللغوية‪ ،‬أول ما تأسره منه‪ ،‬تلك اللغة األساسية المنتقاة التي تكاد‬

‫تنطق بلسان حال العالم‪ .‬وهي لغة أنفق الشاعر في انتقائها مجهودًا‬ ‫العرب‪ ،‬فأحدث بها المفاجأة التي تبعث على االندهاش‪ ،‬وتستفز‬ ‫الحس‪ ،‬وترجع بالمرء إلى التأمل في عالقة األسماء بالمسميات‬

‫في النظام اللغوي‪ .‬ثم إن هذه االختيارات تجرجر معها قضايا لغوية‬ ‫ّ‬ ‫محل خالف لم يُحسم‪ .»...‬والمهم أن الواد‪ ،‬الذي لم يقدّم‬ ‫كانت‬

‫جديدًا‪ ،‬عاد‪ ،‬واعترف بتحصيل أدونيس‪ ،‬بل نقض هذا التطبيق‬

‫عمومًا‪ ،‬واضطرب‪ ،‬فتورّط‪ ،‬حين قال‪« :‬استعمل أبو تمام إلى جانب‬

‫هذه االختيارات التي تعتمد‪ ،‬عادة‪ ،‬في التمييز بين الكالم الفني‬

‫َّ‬ ‫فقص وسر َد‬ ‫والكالم العادي‪ ،‬اللغة التي يكثر جريانها في المحاورة‬ ‫َّ‬ ‫ً‬ ‫ألفاظا من كالم «العامة‬ ‫وعلق شعره باليومي والتافه والراهن وأورد‬

‫وتعابيرهم»‪ .‬بينما يقيم دراسته على إيجاد ّ‬ ‫حل الختيارات أبي تمام‬

‫اللغوية‪ ،‬على أساس أن لغته لغة ليست مكتسبة أو مصطنعة‪.‬‬ ‫الشعر الفرنسي وأبو تمام‬

‫بل ابتدأ بالقول‪« :‬استعمل‪ ...‬الكالم الغريب الوحشي والساذج‬ ‫ّ‬ ‫الغث السخيف المبتذل الذي ّ‬ ‫ويترفع عنه ُّ‬ ‫الشداة‬ ‫ُغربون‬ ‫يتنكبه الم ِ‬

‫المبتدئون ويتج ّنبه ِّ‬ ‫فهم الواد الشع َر‬ ‫الصغار من المتشاعرين»‪ِ .‬‬ ‫عل ــى أنه «فعل شعري»‪ ،‬ولم يستقم له الربط بين «الواقع والحلم‬ ‫وواع‪ ،‬فلو‬ ‫والخيال»‪ ،‬فها هو يقول‪« :‬الفعل الشعري‪...‬فعل إرادي ٍ‬

‫لم يكن كذلك لكان هذيان المجانين وكالم الحمقى شع ًرا»‪ .‬وسنرى‬ ‫أن هذا نقيض رأي الرباعي‪ .‬وحيث ينحدر الشعر إلى اإلرادة والوعي‪،‬‬ ‫وال توضع قيمة للعاطفة في هذه العمل‪ ،‬فإن المقارنة بين الشعر‬

‫الفرنسي الرمزي وشعر أبي تمام ال واقع لها‪ .‬وإنما أخضع الواد شعر‬

‫أبي تمام له على ما بينهما من بون شاسع‪ .‬وال عجب أن تتأسّ س دراسة‬ ‫الرباعي على «اإللهام الفطري»‪ ،‬و«القصيدة عند أبي تمام‪ ...‬شعرية‬

‫بعض أصحاب النقد الحديث رأى أنه لم يعد بع ُد مجال للعودة إلى‬ ‫طريقان‪ :‬الطريق األول هو الطريق البنيوي‪ ،‬على ما تمّ على يد يسرية‬ ‫المصري‪ ،‬ثم الطريق الذي يجمع بين البنيوية والتأويل‪.‬‬

‫وقد أقام سعيد السريحي دراسة عن شعر أبي تمام‪ ،‬على منهج‬

‫«جدلية األضداد»‪ .‬وواضح من تحليالته أننا خرجنا من التحليل إلى‬ ‫ً‬ ‫صادقا‪« :‬إن الشعر عنده تجربة‬ ‫التأويل‪ ،‬وليت ما قاله السريحي‬

‫مع اللغة تتفجر فيه أعماق طاقاتها‪ ،‬وتترامى فيها الكلمات إلى‬ ‫َّ‬ ‫مؤخ ًرا ذكر للرمزية والميتافيزيقية‪ .‬وقد‬ ‫آفاق قصوى»‪ ..‬ورأينا منه‬ ‫ّ‬ ‫فيتمثل انعتاق السريحي‬ ‫أشاد الواد بالسريحي‪ ،‬فقال‪« :‬أما عمليًّا‬

‫من الحِ رباويّة في اتجاه الباحث إلى فهم األبيات الشعرية في عالقة‬

‫مكوّناتها بعضها ببعض مع السعي إلى فهم اختيار الشاعر لها دون‬

‫سواها في اللفظ أو التركيب أو في العالقات التي تنسجها داخليًّا‬ ‫ّ‬ ‫وتدل بها خارجيًّا»‪ .‬وليس هناك خالف يذكر بين السريحي والواد‬ ‫وستيتكيفيتش‪ ،‬إال إيغال األخيرة في «البنية الطقوسية»‪.‬‬ ‫التصنيع وتشويه الشعر‬

‫ً‬ ‫مجتزأة‪،‬‬ ‫لقد شوّه التصنيع شعر أبي تمام‪ ،‬ولم يبق له إال الصور‬ ‫واأللفاظ َّ‬ ‫موق ً‬ ‫عة‪ ،‬إذ لم يكن يهمّه إال ذلك الحشد‪ .‬كان أبو تمام واعيًا‬

‫كل الوعي بالعملية الشعرية‪ ،‬حاض ًرا كل الحضور في أثناء الصياغة‬

‫الشعرية‪ ،‬فكانت هذه مفارقة حادّة بين الشعر والصناعة‪ .‬وحتى‬ ‫يكون شع ًرا ال بد أن يتناغم مع سواه في جو انسجامي مشحون‬

‫بالعاطف والتنامي‪ ،‬وأن يأتي متفج ًرا من أعماق نفسه‪ .‬ولم تكن‬ ‫ّ‬ ‫الخفاقة‪ ،‬بل كانت صياغات خياله‬ ‫معاني أبي تمام جزءًا من روحه‬ ‫المدرك‪ ،‬من تفكيره‪ .‬وهنا يتبيّن البون الشاسع بين الشعر الحلم‬ ‫ِ‬ ‫ّ‬ ‫التوقف كلية عن دراسة شعر أبي‬ ‫والصناعة الشعرية‪ .‬وهنا‪ ،‬علينا‬

‫‪65‬‬


‫دراسات‬

‫تمام دراسة فنية أو إبداعية‪ ،‬وإن جاز لنا أن نقرأه أسلوبيًّا (لغة‬

‫وتراكيب) على أنه طريقة كتابية‪ ،‬وليس شع ًرا‪ .‬ومن ثم‪ ،‬نتفق مع‬ ‫عبدالله التطاوي حين ساح مع نقد أبي تمام‪ ،‬مائلاً إلى تقديمه‪،‬‬

‫ولكنه انتهى إلى القول‪« :‬التقت فيه العلوم‪ ،‬وتبلورت المصطلحات‬ ‫ممّا أثقل كاهل العملية الفنية كموقف إبداعي التقى فيه الوجدان‬

‫بالعقل‪ ،‬والفكر بالشعور‪ ،‬والفن بالمنطق وبغيره من العلوم»‪ .‬وإن‬ ‫خالف هذا بعد زمن‪ ،‬فقال‪« :‬حالة العقل واالضطراب التي يعيشها‬ ‫الشاعر لحظة اإلبداع ليستجمع طاقته وليصوغ ف ّنه‪ ،‬ومع محاولة‬

‫االضطراب ‪ -‬هذه‪ -‬تتسع دائرة االنفعاالت األصيلة التي تحوّل المادة‬ ‫الواقعية إلى مادة فنية‪ ،‬وتحيل الحقائق إلى رموز»‪.‬‬

‫وماذا يبقى ألبي تمام‪ ،‬إن وافقنا على مقولة عبده بدوي‪:‬‬

‫«الثابت أن موسيقا أبي تمام كانت ريّانة‪ ،‬ومسترسلة حين يطلق‬ ‫ّ‬ ‫نحس بنوع من‬ ‫يتحكم فيها العقل‬ ‫العنان ولكن حين‬ ‫ّ‬ ‫لوجدانه ِ‬

‫الخفوت والرتوب الموسيقي»‪ .‬فكيف يكون هذا شاع ًرا؟‬ ‫ّ‬ ‫ولم يأت أبو تمام من فراغ‪ ،‬بل جاء من ثقافة أدبية‪ ،‬شكل أبو‬ ‫تمام قمتها‪ ،‬أي‪ :‬استخدام البديع‪ ،‬وهكذا‪َّ ،‬‬ ‫سلم الجميع بأن هذا هو‬

‫نوع الشعر الذي يفرض نفسه‪ .‬وبالتأكيد‪ ،‬فإن هذا النوع من الشعر‬ ‫ّ‬ ‫كان ًّ‬ ‫المتعلمين‪ ،‬ولم يكن يستهوي الشريحة‬ ‫خاصا بالطبقة العليا من‬ ‫الواسعة من الق ّراء‪ ،‬حتى إنه كان مفصولاً‬

‫‪66‬‬

‫سعيد السريحي‬

‫حسين الواد‬

‫ليست الميتافيزيقية إال مغالطة وجهالة‪،‬‬ ‫فشعر أبي تمام أبعد ما يكون عنها‪ ..‬وإن‬ ‫وضع شعره في مكانه المالئم له من صناعة‬ ‫البالغة العربية هو الوضع المناسب له ج ًّدا‬ ‫وصفا ً‬ ‫ً‬ ‫الئقا‬ ‫بما يفعل‪ ،‬وأن الطبع فيه ضعيف الحظ» حتى وصفه‬

‫به‪ ،‬وهو «الكالسيكي الجديد»‪ .‬ولقد كان إخفاق دعاة الميتافيزيقية‬

‫الرمزية وكذلك الشكسبيرية‪ -‬الهاردية اللتين قامت عليهما البنيوية‬ ‫من كونهما لم يقدّما نماذج عملية من الرمزية نفسها للقياس‬ ‫والمقارنة؛ ألن ذلك غير ممكن‪ ،‬وإنما عرضوا‬

‫كلية عن الشعب‪ .‬كان أبو تمام فاتر العاطفة‪،‬‬

‫انطباعية وذاتية‪ ،‬فتحجّ رت البنيوية‪ .‬ليست‬

‫«هو غاية اإلبداع الفني»‪ .‬يقول بدوي‪« :‬إنه‬ ‫شاعر «ص ّناع»‪ .‬ولقد قال العشماوي‪« :‬كان‬

‫تمام أبعد ما يكون عنها‪.‬‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫أبياتا منتقاة؛ ألن‬ ‫وليست الرمزية‬

‫جامد اإلحساس‪ .‬ويرى سيد األهل أن هذا‪:‬‬

‫الميتافيزيقية إال مغالطة وجهالة‪ ،‬فشعر أبي‬

‫معظم محاوالته ضربًا من العناية بالشكل‬ ‫ً‬ ‫وإسرافا في التأنق والتزويق والزخرف»‪..‬‬

‫«الشعرية عند ماالرميه هي شعرية األحاسيس‬

‫الباطنية واالنفعاالت المتأجّ جة ال شعرية‬

‫ليست الشاعرية في الشعر «المحدَث» مسألة‬

‫إلهام وأحالم‪ ،‬وإنما مسألة وعي وصناعة‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫يتحقق في ذلك الشعر من‬ ‫وعلى مقدار ما‬ ‫غنائية وتأثير يكون استقبال ذلك الشعر‪،‬‬

‫بحيث لم يعد هناك أدنى معيار لما قاله أبو العتاهية‪ ،‬أو ابن دريد‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫أو ابن المعتز‪ ،‬أو غيرهم من العلماء والفقهاء‪ُ ،‬‬ ‫والنقاد‪،‬‬ ‫والك ّتاب‪،‬‬ ‫والفالسفة‪ ،‬وهلمَّ ج ًّرا‪ .‬وكان ّ‬ ‫النقاد األوائل قد وضعوا معيارًا فصلوا‬ ‫َّ‬ ‫و«المولدون» و«المحدَثون»‪.‬‬ ‫به بين الشفوي والكتابي‪« :‬اإلسالميون»‬

‫القوالب اللغوية الجاهزة»‪ .‬وإن وضع شعر أبي‬ ‫تمام في مكانه المالئم له من صناعة البالغة‬

‫ماالرميه‬

‫العربية هو الوضع المناسب له جدًّا‪ .‬ولذا‪،‬‬

‫فإنه ال يسع المرء إال أن يدهش أشد الدهشة‬ ‫لهذا التحكم في تحويل الفنّ الكتابي إلى صناعة شعرية؛ وليته كان ف ًّنا‬

‫ً‬ ‫خالصا!! ومن ثمّ ‪ ،‬فإن أبا تمام باستعماله لغة ال يستخدمها‪،‬‬ ‫شعريًّا‬

‫وال تجاري عصره‪ ،‬حتى في اللغة الفصحى المكتوبة في ذلك العصر‪،‬‬

‫يقع خارج العصر والزمان والطبيعة‪ ،‬فهي إذن لغة ‪-‬لغته األم‪ -‬ال‬

‫والعجب أن يمجّ د نجيب البهبيتي هؤالء‪ ،‬فيما نرى خالفه عنده‪،‬‬ ‫فيقول‪« :‬أما ما كتبه القدماء‪ ،‬فأحكام مر َّكزة صادقة‪ ،‬تقوم على علم‬

‫الفصحى سليقة هو الذي ج ّر إلى كل تلك المغالطات‪ .‬أننتهي حسبما‬

‫يَغلون‪ ،‬وال يف ّرطون‪ ،‬وليس فيما كتبوه شيء من التخليط الذي هو‬

‫ألنه تمادى في اإلغراب والتخييل‪ ،‬وإنما ألنه كان يستخدم اللغة بوعي‬

‫صحيح‪ ،‬وإلمام سليم بدقائق فنّ أبي تمام ومذهبه‪ ،‬وهم في ذلك ال‬ ‫الطابع البيّن لبعض الكتابات الحديثة‪.»...‬‬

‫وكان أولئك الدارسون قد ضربوا ُعرض الحائط بنقد محمد‬

‫مندور الذي لم يجد في شعر أبي تمام‪ ،‬كي يكون تجديديًّا إال‬

‫«استعارة الهياكل»؛ ألنه أدب جزئيات «صادر عن صنعة ووعي‬ ‫العددان ‪ 490 - 489‬شوال ‪ -‬ذو القعدة ‪1438‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬أغسطس ‪2017‬م‬

‫تصلح للدراسة على النحو السابق‪ .‬والظن بأن أبا تمام كان يتكلم‬

‫يرى بسيوني عبدالفتاح بسيوني إلى أن موقفنا من شعر أبي تمام ليس‬ ‫تا ّم‪ ،‬وهنا تكون المفارقة‪ ،‬وليس ألن الشعر عنده «نتاج عبقرية؟ وهل‬ ‫نقبل رأي كامل حسن البصير القائل‪« :‬كثير هو دون ّ‬ ‫شك شعر أبي تمام‬ ‫الذي ال ّ‬ ‫يغذي في هذا العصر عقلاً وال عاطفة والذي إن دُرس فإنما‬ ‫يُدرس لغاية تاريخية»‪.‬‬


‫شعرا في نظم أبي تمام‬ ‫الكتابة‬ ‫ً‬

‫‪67‬‬


‫دراسات‬

‫جدل الشعر والثورة‬ ‫في شعر حسن طلب‬

‫‪68‬‬

‫العددان ‪ 490 - 489‬شوال ‪ -‬ذو القعدة ‪1438‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬أغسطس ‪2017‬م‬


‫يسري عبدالله‬

‫ناقد مصري‬

‫يعتمد ديوان «إنجيل الثورة وقرآنها ‪ -‬إصحاح الثورة» (المجلس األعلى للثقافة) للشاعر المصري‬ ‫حسن طلب‪ ،‬على جدل السياسي والجمالي‪ ،‬وعبر جدلهما الخالق تتشكل البنى المركزية للديوان‪،‬‬ ‫وتتحقق سمات خطابه الثوري‪ ،‬حيث يعتمد الديوان في بنيته على ثيمتين مركزيتين هما‪ :‬الحب‪،‬‬ ‫والحرية‪ ،‬يتصالن اتصالاً‬ ‫ً‬ ‫وثيقا بجوهر الشعر والثورة في اآلن نفسه‪ ،‬ويعبران عن المنحيين األساسيين‬ ‫داخل القصائد‪( :‬المنحى الرومانتيكي‪ ،‬والمنحى الواقعي) كما تبدو اإلحالة إلى وقائع حقيقية‪ ،‬وأحداث‬ ‫زمانية ومكانية محددة‪« :‬جمعة الغضب ‪ -‬جمعة الرحيل ‪2011‬م»‪ ،‬من أهم اآلليات الجمالية التي يعتمدها‬ ‫ّ‬ ‫دوال مركزية في النص ومنحها أبعا ًدا جديدة تتجاوز أفقها‬ ‫الشاعر في نصه‪ ،‬فضلاً عن االعتماد على‬ ‫المادي لتصل إلى فضاءات نفسية وإنسانية‪ ،‬على نحو ما يصنع الشاعر مع مفردته األثيرة في الديوان‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫الدال للصيغ األسلوبية ذات الطابع اإلنشائي‪،‬‬ ‫مسكونا بالتوظيف‬ ‫«الميدان»‪ ،‬في ديوان شعري بدا‬ ‫تارة‪ ،‬واألسطورة ً‬ ‫المقدس ً‬ ‫َّ‬ ‫تارة‬ ‫وتتماس مع‬ ‫والواقعي‪،‬‬ ‫والصور البالغية التي تجدل ما بين المتخيَّل‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫مستخدمة ذلك جميعه في التعبير الفني والداللي عن الثورة‪ ،‬وتسعى هذه الدراسة إلى استجالء‬ ‫أخرى‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫جماليات النص الشعري التي وظفها الشاعر في التعبير عن موضوعه المركزي هنا «الثورة»‪.‬‬ ‫للديوان فواتح وخواتيم‪ ،‬حيث يستهله الشاعر «باسم‬

‫الحب والحرية»‪ ،‬وينهيه بعزمه على وصال المحبوبة في قصيدته‬

‫«سآتيك»‪ ،‬وما بينهما جملة من النصوص الشعرية التي تطرح حالة‬ ‫ً‬ ‫أحيانا أسماء لوقائع زمانية فارقة‪ ،‬على نحو‬ ‫ثورية بامتياز‪ ،‬فتتخذ‬

‫ما نرى في العناوين التالية‪« :‬يرحب الميدان»‪ ،‬و«جمعة الغضب»‪،‬‬ ‫و«جمعة الرحيل»‪ ،‬أو تتخذ نزو ًعا ساخ ًرا على نحو ما نرى في‪« :‬قلة‬

‫مندسّ ة»‪ ،‬و«حكماء األمة»‪ ،‬أو تنحو عناوين القصائد صوب إقرار‬

‫حالة ما‪ ،‬على نحو ما نرى في‪« :‬ترفرف الرايات»‪ ،‬و«يزداد العدد»‪،‬‬

‫و«يختلف الهتاف»‪ ،‬و«تمرض الثورة»‪ ،‬أو تنحو صوب الفانتازيا‬ ‫مثلما نرى في قصيدتي‪« :‬على أجنحة الفراشة» و«تظهر إيزيس»‪ ،‬أو‬ ‫تحيل إلى تلك الثقة في المستقبل‪« :‬غدًا سنرى»‪ ،‬أو إجمالاً لمشهد‬

‫عام‪« :‬تلك هي القصة»‪ ،‬وفي كل تتحرك نصوص الديوان بوصفها‬ ‫تعبي ًرا جماليًّا عن الثورة المصرية في لحظاتها المختلفة‪ ،‬وتحوالتها‬

‫المتعددة في مرحلة مفصلية من عمرها‪ ،‬يحددها الشاعر حين يضع‬

‫بين يدي ديوانه ذلك الزمن المرجع‪ ،‬ويحدده بقوله‪« :‬كتبت قصائد‬

‫(إصحاح الثورة) في المدة ما بين يناير ‪2011‬م إلى يناير ‪2012‬م»‪ ،‬ويعد‬ ‫ّ‬ ‫محل الدراسة من جهة‪،‬‬ ‫التحديد الزمني هنا حاكمًا لقراءة النصوص‬ ‫ً‬ ‫وكاشفا عن سياقاتها السياسية الثقافية من جهة ثانية‪.‬‬

‫يتشكل الديوان من ثالث وثالثين قصيدة شعرية‪ ،‬تتفاوت فيما‬

‫بينها في الطول والقصر تبعً ا للحالة الشعورية التي يريد الشاعر أن‬ ‫يبثها إلى متلقيه‪ ،‬حيث تبدو القصائد الساعية صوب تشكيل عالم‬

‫يمزج بين الثوري والرومانتيكي طويلة نسبيًّا على نحو ما نرى في‬

‫القصيدة األخيرة في الديوان «سآتيك»‪ ،‬كما تبدو القصائد التي ترصد‬

‫‪69‬‬


‫دراسات‬

‫مشهدًا بعينه من مشاهد الثورة أو ً‬ ‫حدثا محددًا من حوادثها الفارقة‬ ‫قصيرة نسبيًّا على نحو ما نرى في قصيدتي‪« :‬جمعة الغضب»‪،‬‬

‫و«جمعة الرحيل»‪ .‬يبرز في الديوان جدل الشعر والثورة‪ ،‬حيث‬ ‫ً‬ ‫تأريخا للحظات مختلفة مرت بها‬ ‫يعد الديوان بقصائده جميعها‬ ‫ً‬ ‫عطفا على مشاهد حياتية مرت بها الجموع التي‬ ‫الثورة المصرية‪ ،‬أو‬ ‫وتكريسا لعالقة الذات الشاعرة‬ ‫تحضر هنا بوصفها مجلى للعالم‪،‬‬ ‫ً‬

‫بالسياق السياسي الثقافي المحيط‪ .‬يتجادل السياسي والجمالي‬

‫وباسم الحُ ّب‪ :‬كي ال يُح َرمَ الشاع ُر مِن غاد ِتهِ‪َ /‬ف ُترى مَن َغي ُر ُه‬ ‫باسمِي‪/‬‬ ‫ِ‬ ‫لاَّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫قيس لِليلى‪ /‬وابنُ زيدونَ لو د ِتهِ»‪.‬‬ ‫يُنش ُد ُكم‪ /‬أروع مما قال ُه ٌ‬ ‫التاريخ المباشر للحدث‬

‫ويلجأ الشاعر في تثوير خطابه الشعري إلى االتكاء على التأريخ‬

‫المباشر للحدث‪ ،‬والنصية على زمان حدوثه‪ ،‬مثل قوله‪« :‬كانَ ثالثا ُء‬

‫في «باسم الحب والحرية»‪ ،‬ويحضر الميدان منذ المفتتح‪ ،‬ويبدو‬ ‫االستهالل الشعري اب ًنا لصيغة حكائية‪ ،‬يتبناها الشاعر في نصه‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫«منذ أَنْ‬ ‫الحرية اليومَ ‪ /‬بِ ِزيّ امرأ ٍة ريان ِة القدّ‪/‬‬ ‫أشرقت‬ ‫حيث يقول‪:‬‬ ‫ِ‬

‫َ‬ ‫فقصدنا‬ ‫األول‪ /..‬ميعاد الصحوهْ‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬ ‫ُت ُ‬ ‫الحب‪/..‬‬ ‫إلهات‬ ‫وطيوف‬ ‫حالفنا‪/‬‬ ‫ّ‬ ‫ِ‬

‫الحُ ّب لصياد ِتهِ!»‪ .‬ويعمق الشاعر بنيته الحكائية عبر توظيفه لفعل‬

‫في الديوان‪ ،‬في محاولة فنية لرصد الواقع السياسي بتجلياته‬

‫ً‬ ‫ً‬ ‫َ‬ ‫ومياد ِتهِ!‪ /‬أصبحَ الميدانُ‬ ‫ألوانا‪ /‬وغ ّنى طائ ُر‬ ‫وضاع العط ُر‬ ‫بستانا‪/‬‬

‫القول «قالت»‪ ،‬في إشارة منه إلى «الحرية» التي تتماهى في القصيدة‬ ‫ْ‬ ‫باب بي ِتي أصبحَ الميدانَ »‪ ،‬بعد أن‬ ‫مع الميدان‪ ،‬فيقول‪:‬‬ ‫«قالت‪ُ / :‬‬ ‫ّ‬ ‫قدمت إليه كعروس بكر‪ ،‬في استعمال دال لالستعارة المكنية في‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫الثوار‪ /‬نثرا‬ ‫ألقت على‬ ‫البكر‪ /..‬مِن سَ ّل ِتها‬ ‫كالعروس‬ ‫«فتهادت‬ ‫النص‪:‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬

‫النار»‪.‬‬ ‫مِن‬ ‫زهور ِ‬ ‫ِ‬

‫وتتواتر الصيغ اإلنشائية في القصيدة‪ ،‬مثل‪« :‬فأجيبوه‪ /‬اهتفوا‪/‬‬

‫وانسوا‪ /‬فاهتفوا باسمي»‪ ،‬وبما يفضي إلى مزيد من الحث لجمهرة‬

‫‪70‬‬

‫ميراث الشعر والحب والتضحية ً‬ ‫أيضا التي يمكن تلمُّسها في نصوص‬ ‫ُ‬ ‫«فاهتفوا‬ ‫وحكايات العاشقين‪ :‬قيس وليلى‪ ،‬وابن زيدون و َولاَّ دة‪:‬‬

‫المتلقين‪ ،‬الذين يسعى الشاعر ألن يقفوا على حافة الفعل‪ ،‬مثلما‬ ‫وقف المشاركون في الثورة في قلب الميدان‪ .‬ويبدو المزج دالاًّ ما‬ ‫بين ثيمتي الحب والحرية في النص‪ ،‬وبخاصة في المقطع األخير‬

‫الذي يستعير فيه الشاعر جزءًا من إرثه الشعري القديم‪ ،‬حين‬ ‫يستحضر في متنه الشعري كلاًّ من قيس ليلى‪ ،‬وابن زيدون‪ ،‬وبما‬ ‫يعني ً‬ ‫أيضا انفتاح النص على جملة من الدالالت التي يستدعيها‬

‫الخامس والعشرينَ ‪ِ /‬منَ‬ ‫الشهر‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫كأنّ‬ ‫الميدانَ‬ ‫الرحمان‬ ‫مالئكة‬ ‫‪/..‬‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫بوميض النخوهْ!»‪ .‬وتتواتر الدوال الزمانية‬ ‫فتفيض عواطفنا‪/‬‬ ‫صادفنا‪/‬‬ ‫ُت‬ ‫ِ‬

‫المختلفة‪ ،‬على نحو ما نرى في االستهالل الشعري لقصيدة «كان‬ ‫غلب القه ُر‪/‬‬ ‫كذلك»‪ ،‬التي يستهلها الشاعر قائلاً ‪« :‬أمسي َنا‪ / :‬ق ْد‬ ‫َ‬ ‫ً‬ ‫أحيانا إلى معارضة‬ ‫وأصبحنا‪ :‬قد ن ِف َد الصب ُر!»‪ .‬كما يلجأ الشاعر‬

‫الموروث‪ ،‬ومحاولة صوغ وعي جديد يتسق والفعل الثوري ذاته‪ ،‬بما‬

‫يحويه من وعي وجسارة حقيقيين‪ ،‬فالعبارة الشهيرة‪« :‬دع المُلك‬ ‫للمالِك» يعارضها الشاعر في نصه‪ ،‬بقوله‪« :‬لن َند َ​َع المُلك»‪ ،‬ثم‬ ‫يحوّر العبارة ذاتها‪ ،‬ويصوغها على نحو مختلف‪ ،‬واصلاً لمعنى عميق‬

‫يعتمد ديوان »إنجيل الثورة«على جدل‬ ‫السياسي والجمالي‪ ،‬وعبر جدلهما‬ ‫الخالق تتشكل البنى المركزية للديوان‪،‬‬ ‫وتتحقق سمات خطابه الثوري‬

‫مشاهدات حية من مكان الفعل الشعري‬ ‫تحضر «شهد» في قصيدة «جمعة الرحيل» من زاوية مختلفة عن تلك التي وجدناها في «جمعة الغضب»‪ ،‬حيث يختفي‬

‫الظل الرومانتيكي نسبيًّا‪ ،‬وتبدأ القصيدة بدعوة مباشرة من الذات الشاعرة لشخصيتها المتخيلة «شهد» كي تشهد جمعة‬ ‫ً‬ ‫رؤية من الداخل‪ ،‬فالشاعر‬ ‫الرحيل‪ ،‬وتصبح الدعوة مشفوعة بوعي الذي اقترب فرأى‪ ،‬ومن َثم تبدو الرؤية الشعرية في النص‬

‫يقدم لنا مشاهداته الحية‪ ،‬وينقل لنا ما يدور في مكان الفعل الشعري «الميدان»‪ ،‬وتحضر «شهد» ً‬ ‫أيضا في القصيدة األخيرة‬ ‫من الديوان‪ ،‬التي تحتل حي ًزا كميًّا من المتن الشعري للديوان أكبر من القصائد األخرى‪ ،‬حيث تقع في ست عشرة صفحة‪،‬‬

‫وتصبح فيها «شهد» مرويًّا له في القصيدة‪ ،‬حيث تتوجه الذات الشاعرة بخطابها إليها‪ ،‬ومن خلفها جمهرة المتلقين على‬ ‫ً‬ ‫رصدا فنيًّا مجملاً لمشاهد من الثورة المصرية ذاتها‪ ،‬فضلاً عن إشارات ذكية ذات طابع استشرافي‬ ‫تنويعاتهم‪ ،‬وتبدو القصيدة‬ ‫«سآتيك‪ /‬إال إذا ما سماسرة ِّ‬ ‫ين‪ /‬خانوا اليمينَ ‪ /‬فهاجوا وماجوا علينا‪ /‬على المؤمنات بحتمية‬ ‫للمصاعب التي ستواجهها‪:‬‬ ‫ِ‬ ‫الد ِ‬

‫بالسيوف‪ /..‬أتوا بالعصي‪ /..‬وعاجوا على المتحف الفرعوني‪ ..‬في طرف ميداننا‪ /‬ثم أهووا على‬ ‫الدولة المدنيةِ ‪ /‬والمؤمنينَ !‪ /‬أتوا‬ ‫ِ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫األوائل»‪.‬‬ ‫القرون‪ /‬وبادت كنور‬ ‫بالمعاول!‪ /‬فضاع تراث‬ ‫ما رأوا من تماثيلِهِ ‪/‬‬ ‫ِ‬ ‫«سآتيك»‪ ،‬إشارة إلى وعد مسكون بالثقة قطعته الذات‬ ‫وتبدو داللة المستقبل التي يحملها حرف السين في الفعل‬ ‫ِ‬

‫الشاعرة على نفسها‪ ،‬مفاده أنه مهما كانت التحديات‪ ،‬ومهما حال حائل‪ ،‬فإنها لن تتأخر عن الذهاب إلى «شهد» ووصالها‪،‬‬

‫العددان ‪ 490 - 489‬شوال ‪ -‬ذو القعدة ‪1438‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬أغسطس ‪2017‬م‬


‫جدل الشعر والثورة في شعر حسن طلب‬

‫ً‬ ‫موظفا الجناس التام في جملته الشعرية‪:‬‬ ‫وجديد في اآلن نفسه‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫«لن َ‬ ‫داللة «المالِك» في النص‬ ‫ندع المُلك وال المالِك»‪ ،‬حيث ُتغايِر‬

‫الشعري هنا داللتها في الوجدان الجمعي‪ ،‬ويصير المالك هنا بمعنى‬ ‫الحاكم‪ ،‬ومن َثم لن يترك المصريون ال المُلك أي الحُ كم‪ ،‬وال المالِك‬

‫أي الحاكم‪ ،‬وبخاصة مع انفتاح النص على أفق تأويلي شفيف‪:‬‬ ‫«كذلك كانَ األم ُر‪ ..‬فقل َنا‪ :‬ال‪ /...‬لن َ‬ ‫َ‬ ‫ندع الم َ‬ ‫َ‬ ‫المالك! كانَ األم ُر‬ ‫ُلك وال‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫فتوهجت الجَ ذوة»‪.‬‬ ‫كذلك‪ /..‬أشعلنا ثورت َنا‪ /‬ثم هتف َنا‪/‬‬ ‫ِ‬

‫ويحضر الشعار السياسي بقوة في الديوان‪ ،‬ويعد أحد اآلليات‬

‫التي اعتمدها الشاعر في التعبير الجمالي عن الثورة‪ ،‬ويمكن أن نرى‬ ‫ُ‬ ‫«العدالة‬ ‫ذلك في مقاطع عديدة من النص‪ ،‬من أبرزها‪ ،‬قول الشاعر‪:‬‬

‫ُ‬ ‫وباسم كرام ِة المصريّ ‪ /‬كانَ‬ ‫اإلنسان – أيًّا كانَ ‪ -‬غاي ُتنا‪/‬‬ ‫حرية‬ ‫دي ُن َنا‪/‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬ ‫هتاف َنا‪ /‬وضمي ُرنا القائدْ!»‪ .‬في «إصحاح الثورة» نرى‬ ‫تماهيًا بين الميدان والمجموع‪ ،‬فيقدم الشاعر‬

‫الميدان بوصفه مثل ثواره ينشد الحرية‪،‬‬ ‫ً‬ ‫موظفا الصورة‬ ‫ويطلب العدل والكرامة‪،‬‬ ‫ً‬ ‫توظيفا دالاًّ ‪ ،‬فيقول‪:‬‬ ‫التشبيهية البالغية‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫أحس ما‬ ‫ه‬ ‫كأن‬ ‫نا!‪/‬‬ ‫مثل‬ ‫«كأن ُه كانَ يعا ِني‬ ‫ّ‬

‫ُنحِ ّسهُ‪ /‬أو وج َد الذي نجدْ»‪ .‬ويصبح‬

‫«الميدان» بمنزلة الدال المركزي في‬

‫تحويل العالم االفتراضي المتخيل الساكن خلف شاشات الكمبيوتر‬

‫إلى عالم واقعي بامتياز‪ ،‬وهذا ما نجده وفق شاهد نصي من الديوان‬ ‫ذلك الميدانُ ‪ /‬كنا ال ُ‬ ‫ذاته‪« :‬فنحنُ لوال َ‬ ‫الجهاز وح َدهُ‪/‬‬ ‫نزال نلت ِقي‪ /‬عب َر‬ ‫ِ‬ ‫ْ‬ ‫ُّ‬ ‫نحتل حي َز الفضاءِ االفتراضي‪ /‬ورا َء الشاشة»‪.‬‬

‫وتتحقق آليات تثوير الخطاب الشعري هنا عبر اإلحالة إلى أحداث‬

‫حقيقية في الواقع المعيش‪ ،‬ثم صوغها جماليًّا‪ ،‬على نحو ما رأينا‬ ‫في قصيدة‪« :‬ضابط يثور»‪ ،‬التي يشير فيها إلى التحية العسكرية التي‬

‫قدمها أحد قادة المجلس العسكري للشهداء (المقصود هنا اللواء‬

‫محسن الفنجري الذي قدم التحية العسكرية للشهداء في مشهد‬

‫مهيب أذاعته القنوات المصرية والعالمية المختلفة)‪ ،‬في إشارة بالغة‬ ‫الداللة تحيل إلى التالحم الحقيقي بين الشعب المصري وجيشه‬ ‫ْ‬ ‫الباسل‪« :‬إذ أدّى لروح ِالشهدا ِء َ‬ ‫بالتحية»‪ .‬ويتحقق تثوير‬ ‫أروع األداءِ‪/‬‬

‫الخطاب الشعري أيضا عبر لجوء الشاعر إلى التنويع في األساليب‬ ‫اللغوية المستخدمة‪ ،‬وما بين توظيف الصيغ الخبرية التي‬ ‫تفيد حالاً من اإلقرار واليقين بانتصار الثورة‪ ،‬والصيغ‬ ‫اإلنشائية التي تتواتر في النصوص جميعها؛ ألنها‬

‫ترصد لحظات مرتبكة ومتحولة ومسكونة بالهواجس‬ ‫واألماني والغايات الكبرى‪ ،‬ومن َثم سنجد حضورًا دالاًّ‬

‫الديوان‪ ،‬ليس فقط لتواتر حضوره في‬

‫المتن الشعري للقصائد المختلفة‪ ،‬وإنما‬

‫ألسلوب النداء في مقاطع عديدة‪،‬‬ ‫من أبرزها االستهالل‬

‫لمدلوالته الثرية التي يحملها ويحيل‬

‫إليها من مقوالت كبرى تتصل‬ ‫اتصالاً‬ ‫ً‬ ‫وثيقا بمعاني الحرية‬ ‫وإنسانية اإلنسان‪ ،‬وإمكانية‬

‫حسن طلب‬

‫أساسا للنص الشعري‬ ‫فتتجادل الثيمتان المركزيتان في الديوان من جديد‪« :‬الحرية والحب»‪ ،‬وتشكالن عبر جدلهما الخالق‬ ‫ً‬ ‫الثائر الذي يحمله الديوان‪ ،‬ويرفده الشاعر بعناصر واقعية وأخرى رومانتيكية‪ ،‬واألهم أنه يظل خطابا منفتحا على أسئلة‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫الدورة؟‪/‬‬ ‫الثورة؟‪ /‬هل تصمد كي تكتمل‬ ‫الشعر والثورة معا‪ ،‬خاصة مع تقاطع التسجيلي والتخييلي في متنه‪« :‬هل تنجح‬

‫ٌ‬ ‫«شهد»؟‪ /‬أم تأتي ً‬ ‫ُ‬ ‫أسئلة تترى‪ ..‬وما أكثرها!‪ /‬كيف استطاع العاشق الثوريُّ ‪ /‬أن يجمع بين العشق والثورةِ!»‪.‬‬ ‫غدا؟‪/‬‬ ‫واليوم ستأتي‬

‫يستخدم الشاعر آلية التناص في أكثر من موضع داخل الديوان‪ ،‬فتارة يستخدم التناص األسطوري مثلما يفعل في قصيدته‬ ‫«وتظهر إيزيس»‪ ،‬والتي يستعيد فيها األسطورة الفرعونية القديمة‪ ،‬بكل ما تحمله من حموالت معرفية وداللية‪ ،‬وتارة يوظف‬ ‫الشاعر التناص القرآني‪ ،‬ليصبح في مواضع عديدة أحد أهم آليات التعبير الجمالي عن الثورة في الديوان‪ ،‬حيث يبدأ ديوانه بما‬

‫الميدان‪ /..‬حيث يذهب الزبد!»‪.‬‬ ‫أسماه «فاتحة»‪ ،‬ويقول في موضع آخر‪« :‬ما ينفع الناس – كما قيل لكم‪ / -‬يمكث في‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫اس فيَمك ُ‬ ‫ويتناص الشاعر في المقطع السابق مع اآلية القرآنية الكريمة‪َ ﴿ :‬فأمَّ ا ال َّزب َُد َفي َ‬ ‫َذه ُ‬ ‫ث‬ ‫ب جُ فاءً ‪ ،‬وَأمَّ ا مَ ا يَنف ُع ال َّن َ‬ ‫َ‬ ‫رض﴾ (سورة الرعد‪ ،‬اآلية ‪ ،)17‬ولكنه يجعل من «الميدان» أداة معيارية للحكم على ما ينفع الناس‪ ،‬وعلى الزبد في اآلن‬ ‫ِفي األ ِ‬ ‫نفسه‪ ،‬وكأن الميدان خط فاصل بين عالمين‪ :‬أحدهما نافع‪ ،‬واآلخر ال قيمة له‪ .‬وبعد‪ ..‬يعتمد الخطاب الشعري في «إنجيل‬

‫الثورة وقرآنها‪ /‬إصحاح الثورة» على جدل التسجيلي والتخييلي‪ ،‬فعبر تقاطع الوقائع واألحداث الحقيقية المختلفة وتداخلها‬ ‫مع مساحات الحلم والفنتازيا تتحقق شعرية النص‪ ،‬وتبرز اإلحالة إلى الراهن المعيش بأبعاده الزمانية والمكانية الدالة على‬ ‫الثورة‪ ،‬ثم محاولة صنع عالم تخييلي أساسه الصورة الشعرية وجوهره في آن‪.‬‬

‫‪71‬‬


‫دراسات‬

‫الشعري الذي يفتتح به الشاعر قصيدته «يزداد العدد»‪ ،‬حيث يبدو‬ ‫طريقا للخالص‪« :‬يا َ‬ ‫ً‬ ‫أهل َنا‪ /‬ال تتركونا وحد َ​َنا‪ /‬ال‬ ‫اللجوء إلى المجموع‬

‫بد مِن أنْ نحتشدْ‪ /‬لو اجتمعنا كلنا‪ /‬فلن يردنا أحدْ‪ /‬ال تتركونا نكتب‬

‫التاريخ وحدنا‪ /‬فأنتم المداد والمددْ‪ /‬يا أهلنا‪ /‬ال ب َّد مِن أن نتحدْ»‪.‬‬ ‫ويكشف النداء في المقطع السابق عن رغبة في االحتماء بالمجموع‪،‬‬ ‫من جهة‪ ،‬ووعي بالدور الفاعل للمثقف صوب ناسه من جهة ثانية‪،‬‬

‫كما نرى حضورًا للجناس الناقص بين «المداد والمدد»‪ ،‬وتسهم‬ ‫الصورة الشعرية هنا في تعميق الرؤية الكلية التي يحملها المقطع‪،‬‬

‫وتلعب الصورة التشبيهية «فأنتم المداد والمدد»‪ ،‬دورًا مركزيًّا في‬ ‫ً‬ ‫وعونا‬ ‫هذا السياق؛ إذ تجعل من دعم المجموع حب ًرا يُك َتب به النصر‪،‬‬ ‫في الشدائد جميعها‪.‬‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ومثلما يبدأ الشاعر قصيدته «ويزداد العدد» بالنداء‪« :‬يا أهلنا»‪،‬‬ ‫أيضا‪ ،‬في توظيف ّ‬ ‫فإنه يُنهيها به ً‬ ‫دال آللية البناء الدائريّ ‪ ،‬حيث يبدأ‬

‫النص من نقطة ما‪ ،‬ثم يعود إليها في المُخ َت َتم‪ ،‬فيصبح النداء‬

‫في النهاية بمنزلة الشحنة الشعورية واالنفعالية التي يريد الشاعر‬ ‫أن يبثها في متلقيه‪ ،‬دافعً ا إياه إلى مزيد من المقاومة‪ ،‬وبخاصة‬

‫حين يكسر أفق التوقع لدى قارئه في ختام القصيدة‪ ،‬قائلاً ‪« :‬يا‬ ‫ٌ‬ ‫إضافة!‪ /‬يحدث‬ ‫أهلنا‪ /‬ال تحزنوا مِن أجلنا‪ /‬كل شهيد قد فقدناهُ‪/ :‬‬

‫‪72‬‬

‫ً‬ ‫َ‬ ‫أحيانا‪ /‬فيزداد العددْ»‪ .‬ويصبح‬ ‫ينقص المعدود‬ ‫في ملحمة‪ /‬أن‬ ‫ً‬ ‫هذا التنويع األسلوبي سمة من أهم سمات الديوان‪ ،‬وأداة‬

‫من أدوات التعبير الجمالي عن الثورة داخله‪ ،‬وإن‬ ‫ً‬ ‫مهيمنة على النص‪ ،‬ومشكلة‬ ‫ظلت الصيغ اإلنشائية‬ ‫ما يعرف بالمستوى المسيطر داخل الديوان‪ ،‬حيث‬ ‫ً‬ ‫نرى ً‬ ‫توظيفا لصيغة التعجب الثانية‪ ،‬وأعني بها‬ ‫أيضا‬ ‫َ‬ ‫صيغة «أجمِل بِـ» التي ال تستخدم كثي ًرا في الحياة‬ ‫والكتابة‪ ،‬وتغاير في بنيتها صيغة «ما أَ َ‬ ‫جمل»‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫مستهل قصيدته‬ ‫التعجبي في‬ ‫ويوظف الشاعر السياق‬ ‫ّ‬

‫ً‬ ‫مقترنا بامتداح الميدان‪ ،‬القادر على‬ ‫«مدينة فاضلة»‪،‬‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫عجب‬ ‫«أ‬ ‫فيقول‪:‬‬ ‫الديوان‪،‬‬ ‫طيلة‬ ‫واألسئلة‬ ‫إثارة الدهشة‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫بذلك الكيانْ !‪ /‬أح ِبب بكائن وليدٍ ‪ّ /‬‬ ‫جل أن يسمى‪/‬‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫انصهرت‪ /‬جبلة اإلنسان‬ ‫عجب بتلك الكتلة العظمى‪ /‬صارت بحيث‬ ‫أ ِ‬ ‫والمكان‪ /‬ما أعجبنا ونحن في الميدانْ !»‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫االنتصار للقيم الفلسفية الكبرى‬

‫ثمة شخصية متخيَّلة «شهد»‪ ،‬يستدعيها الشاعر في متن‬

‫تبدو الرؤية الشعرية في النص رؤية من‬ ‫الداخل‪ ،‬فالشاعر يقدم لنا مشاهداته‬ ‫الحية‪ ،‬وينقل لنا ما يدور في مكان‬ ‫الفعل الشعري الميدان‬ ‫جديدة على متن الجدل الخالق بين الحب والحرية‪ ،‬وهما الثيمتان‬ ‫المركزيتان في الديوان‪ ،‬واللتان تمتزجان في معظم قصائده‪ .‬وعبر‬ ‫تقديم الشاعر لشخصيته المركزية في الديوان «شهد» تتكشف لنا‬

‫جملة من الدالالت المهمة‪ ،‬ففي «جمعة الغضب» يبدو الشاعر‬ ‫ً‬ ‫خائفا على محبوبته التي يقدمها بوصفها شخصية متماهية مع‬ ‫المجموع الصامت الذي خشي عليه الشاعر من أن ينخدع بخطبة‬

‫جوفاء‪ ،‬أو دمعة زائفة‪ ،‬ويحضر النداء بوصفه خيارًا أسلوبيًّا يوظفه‬

‫َ‬ ‫صاحبة الوج ِه‬ ‫الكاتب دالليًّا وجماليًّا على نحو مائز‪« :‬يا شهدُ‪ /..‬يا‬

‫الغضب‪ /‬فإن بكى الطاغية‬ ‫والروح النزيهْ‪ /‬اليوم جمعة‬ ‫الصبوح الح ِّر‪/‬‬ ‫ْ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫السبب‪ /‬دمعان ال تصدقيهما‪ :‬فال‬ ‫اآلنَ ‪ /..‬فال تصدقيهْ‪ /‬وف ّتشي عن‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫المنسكب‪ /‬قد يرتدي‬ ‫سال‪ /..‬وال دمع الطغاة‬ ‫التماسيح‪ /‬إذا‬ ‫دمع‬ ‫ْ‬ ‫ِ‬ ‫المأزوم‪/‬‬ ‫البطل‬ ‫قناع‬ ‫خلف‬ ‫يختفي‪/‬‬ ‫قد‬ ‫ْ‪/‬‬ ‫ه‬ ‫الفقي‬ ‫عباءة‬ ‫‪/‬‬ ‫الطاغية‬ ‫اليومَ‬ ‫ِ‬

‫ينسحب!»‪.‬‬ ‫كي ال‬ ‫ْ‬

‫وفي «مجنون شهد» تحضر «شهد» من‬

‫جديد‪ ،‬لكن على نحو مغاير‪ ،‬حيث باتت حاضرة‬

‫في مشهد الثورة بطريقة أو بأخرى‪ ،‬فالذات‬ ‫الشاعرة تستفسر عن سر ُّ‬ ‫تأخرها‪ ،‬وكأنها قد‬ ‫استجابت لنداء الشاعر في «جمعة الغضب»‬

‫حين ناداها طالبًا منها المجيء‪ ،‬وبما يعني أن‬ ‫ثمة تماسَّ ات رؤيوية ما بين نصوص الديوان‬

‫الميدان‪/..‬‬ ‫المختلفة‪« :‬لم أ َر «شهد» أمس في‬ ‫ِ‬

‫واليوم مضى بي النهار كلهُ‪ /‬لم أرها!‪ /‬فما الذي‬ ‫ترى عن الثورة‪ /‬قد أخرها؟‪ /‬في ساحة الميدان‬

‫كانوا يهتفونَ ‪( /‬يسقط النظامُ )‪ /‬لكن هتافي كانَ ‪:‬‬ ‫ٌ‬ ‫ُ‬ ‫رفيق‪ /‬كان‬ ‫الفراق!)‪ /‬والرفاق يضحكونَ !‪ /‬لو‬ ‫(يسقط‬

‫ٌ‬ ‫مغلق‪ /‬وذلك‬ ‫كلما هتفت باسمها‪ /‬أخبرها!‪ /‬فالهاتف المحمول‬ ‫ًّ‬ ‫الميدان ٌ‬ ‫ضيق‪ /‬أما الجماهير فما أغفرها!»‪ .‬إنه عاشق مختلف حقا‪،‬‬ ‫يبحث عن محبوبته‪ ،‬ويعاني أثر الفراق‪ ،‬فلم يعد ينهل من حبها‬ ‫المتجدد‪ ،‬الذي أحاله إلى مجنون جديد يضاف إلى جملة العشاق‬

‫ديوانه‪ ،‬فتحضر على نحو بارز في القصائد المركزية التالية‪« :‬جمعة‬

‫تماس بالغ الداللة مع الوجدان‬ ‫في تاريخ ثقافتنا العربية‪ ،‬وفي‬ ‫ّ‬

‫«شهد» بوصفها الحبيبة تارة‪ ،‬وشريكة النضال تارة أخرى‪ ،‬والشاهدة‬

‫اآلن يقف أمام «مجنون شهد»‪ ،‬الذي يرفع راية الثورة بيد‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫الدال‬ ‫بينما يمسك باليد األخرى عشقه‪ ،‬بما يعني أن التواشج‬

‫الغضب‪ /‬مجنون شهد‪ /‬جمعة الرحيل‪ /‬سآتيك»‪ ،‬ويقدم الشاعر‬

‫الغائبة تارة ثالثة‪ ،‬والدافعة صوب االنتصار للقيم الفلسفية الكبرى‪:‬‬ ‫الحق‪ /‬الخير‪ /‬الجمال تارة رابعة‪ ،‬وفي ٍّ‬ ‫كل تقترن شهد بالثورة‪،‬‬

‫وتعد وجهًا من وجوهها األصيلة والنبيلة في اآلن نفسه‪ ،‬وتنويعة‬ ‫العددان ‪ 490 - 489‬شوال ‪ -‬ذو القعدة ‪1438‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬أغسطس ‪2017‬م‬

‫الشعبي‪ ،‬الذي عرف «مجنون ليلى» على سبيل المثال‪ ،‬وها هو‬

‫بين ثيمتي الحرية والحب يعد األساس الذي اعتمدت عليه‬ ‫الرؤية الكلية للديوان‪.‬‬


‫جدل الشعر والثورة في شعر حسن طلب‬

73

alfaisalmag

alfaisalmag

www.alfaisalmag.com

@alfaisalmag


‫شخصيات‬

‫تركي السديري‪..‬‬ ‫رمز صحافي لم يعش في منطقة الوسط‬ ‫هيا عبدالعزيز المنيع‬

‫أكاديمية وكاتبة سعودية‬

‫حين يرحل رجل بحجم تاريخ وعطاء تركي السديري فال بد أن يكون حجم الفقد كبيرًا‪ ...‬فهذا الرجل‬

‫يمكن القول‪ :‬إنه من أهم مؤسسي الصحافة السعودية الحديثة‪ ...‬الحديث عن تاريخ تركي السديري الصحفي‬ ‫واإلداري واإلنساني تتسع مساحته باتساع وتميز عطائه في هذه المجاالت‪ ...‬سأتوقف بين زوايا مختلفة لن‬

‫أتوقف كما يتوقع القارئ عند مفترق القسم النسائي بجريدة الرياض‪ ،‬وهو‪ :‬أي القسم الصحافي النسائي‬ ‫يمثل نقلة نوعية في تاريخ اإلعالم النسائي السعودي؛ حيث ُت ِّوجت هذه النقلة بخطوة الحقة وهي تفرغ عمل‬ ‫الصحفيات‪ ،‬وهو ما يعني معه الخروج من دائرة الهواية للمهنية وااللتزام‪ ،‬أي العمل المؤسسي‪.‬‬ ‫خالل عشرين عامً ا من العمل اليومي معه تلمس في هذا‬

‫نقاط القوة في منافسيه‪ ،‬وبخاصة المميزين منهم‪ ،‬كان يتحدث‬

‫عملي برئاسة القسم النسائي بجريدة الرياض عندما أردت‬

‫تميز عالية في المرحوم محمد أبا حسين حتى عندما ترك‬

‫الرجل عشق غير طبيعي للرياض الجريدة والمدينة‪ .‬في بدايات‬

‫‪74‬‬

‫االستغناء عن صحافية عربية لم تشكل إضافة للقسم النسائي‬ ‫وافق على الفور‪ ،‬موجهًا أول نصيحة‪« :‬اتخذي القرار وفق‬

‫معطيات ال تصنع أي خصومة مع شركاء العمل»‪.‬‬

‫ومما لفت انتباهي وأثار اهتمامي في شخصيته أنه يرى‬

‫بإعجاب عن عثمان العمير وعبدالرحمن الراشد ويرى مساحة‬

‫الجريدة وذهب للصحيفة المنافسة (الجزيرة) كان يرى فيه مهنيًّا‬ ‫ممي ًزا لم ينتقده ولم يقم بتعداد سلبياته في لحظة غضب‪ ...‬لم‬ ‫أسمعه يومً ا يقلل من هؤالء‪ ،‬بل يتكلم عنهم بإعجاب واحترام‪.‬‬

‫تقديره وحماسه للمواهب الشابة‪ ،‬وتبنيها بقوة وجدية‪،‬‬

‫عراب الصحافة النسائية‬

‫يعد الراحل عراب الصحافة النسائية بشكل خاص‪ ،‬فهو من وضع للمرأة الصحافية إطارها المؤسسي في قانون وزارة العمل؛‬ ‫وظيفي مقرر للمرأة السعودية العاملة في مجال الصحافة ّ‬ ‫فمكنها إعالميًّا وإداريًّا وتقنيًّا قبل إتاحة المجال‬ ‫إذ لم يكن هناك بند‬ ‫ّ‬

‫أمام الجامعيات السعوديات لدراسة اإلعالم في الجامعات السعودية‪ .‬سعى الراحل منذ أكثر من ‪ 37‬عامً ا إلى أن تكون المرأة‬ ‫عنصرًا أساسيًّا يتكامل به العمل الصحافي‪ ،‬فبعد سبعة أعوام من رئاسته تحرير صحيفة الرياض‪ ،‬افتتح القسم النسائي في‬ ‫الجريدة عام ‪1980‬م‪ ،‬الذي ُع َّد أول قسم تحرير على صعيد الصحافة السعودية ضم أكبر تجمع صحافي نسائي سعودي آنذاك‪.‬‬ ‫القفزة التي ستظل تدين بها الصحافيات السعوديات لعرابها‪ ،‬بدأت باستحداث منصب أول مديرة تحرير نسائي غير متفرغة‬

‫في صحيفة سعودية يكتب اسمها ومنصبها على ترويسة الجريدة إلى جانب مديري التحرير‪ ،‬وهي الدكتورة خيرية السقاف وهو‬

‫قرار حظي باهتمام كبير وتهنئة شخصية من األميرين الراحل نايف بن عبدالعزيز وزير الداخلية حينذاك‪ ،‬وسلمان بن عبدالعزيز‬ ‫أمير الرياض آنذاك ً‬ ‫أيضا‪ ،‬وتناولت خبر ذلك القرار التاريخي كبرى وكاالت األنباء العالمية والعربية وصحافتها‪.‬‬ ‫من ناحية‪ ،‬لعل لقب «ملك الصحافة» الشهير الذي أطلقه عليه الملك عبدالله بن عبدالعزيز رحمه الله‪ ،‬في إحدى لقاءاته‬

‫التاريخية األثيرة مع اإلعالميين السعوديين‪ ،‬دليل قاطع على ذلك التفرد وتلك المهنية التي تمتع بها الراحل تركي السديري‬ ‫أحد أشهر الصحافيين السعوديين والخليجيين الذين ستبقى لهم بصماتهم المؤثرة ألجيال صحافية سعودية مقبلة‪ .‬لم يكن‬ ‫ً‬ ‫وناقدا في المعنى الواسع والعميق‬ ‫مجرد صحافي أو رئيس تحرير عبر الحياة الصحافية إنما يمكن القول‪ :‬إنه كان كاتبًا ومفكرًا‬

‫العددان ‪ 490 - 489‬شوال ‪ -‬ذو القعدة ‪1438‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬أغسطس ‪2017‬م‬


‫ً‬ ‫ً‬ ‫ومتنوعا يتيح لهم االستزادة من التعليم‬ ‫مطلقا‬ ‫وتقديمه لهم دعمً ا‬

‫اإلعالم الصحافي أقوى داعم لتحريك ملف المرأة في ذلك الوقت‬

‫والتأهيل في جوانب كثيرة‪ ،‬كم من صحافية من منسوبات القسم‬

‫تقريبًا (عام ‪ ٢٠٠٠‬ميالدية)‪.‬‬

‫الزمالء مع إعطاء العاملين دورات في اللغة اإلنجليزية‪ ،‬بل إن‬ ‫َ‬ ‫يخش في‬ ‫بعض الشباب اب ُتعث على حساب الجريدة‪ ....‬تركي لم‬

‫لكنه في الوقت نفسه ال يجد صعوبة في‬ ‫تصحيح الموقف عمليًّا من دون‬

‫واعتبر دعمه للشباب والفتيات ممارسة واعية للوطنية بتوطين‬

‫المصاعب الصحية في السنوات‬

‫جريدة الرياض بأعلى نسبة بين الصحف السعودية‪.‬‬

‫عليه عالمات الضعف‪،‬‬

‫النسائي حصلت على شهادة عليا وهي على رأس العمل‪ ،‬وكذلك‬

‫منافسا كبي ًرا أو شابًّا طموحً ا‪ ،‬وتلك درجة عالية من الثقة‪.‬‬ ‫يوم ما‬ ‫ً‬

‫مهنة الصحافة بكفاءات مؤهلة ومدربة‪ ،‬وقد تحقق ذلك في‬ ‫إداريًّا‪ ،‬ميزته الصرامة والجدية‪ ،‬ال تجده في منطقة الوسط‬

‫فهو حا ّد في مواقفه وقراراته‪ ،‬ورغم ذلك فأنت أمام إنسان ال‬ ‫يبخل على ضعيف أو أن يف ِّرج ُكربة‪ ،....‬ورأيت ذلك غير مرة مع‬

‫السديري ال توجد في قاموسه كلمة آسف‪،‬‬

‫أي كلمة اعتذار‪ .‬عانى الكثير من‬

‫األخيرة‪ ،‬لكن لم تظهر‬ ‫كان نموذجً ا للصبر‬

‫والتحدي واإلصرار‪.‬‬

‫بعض منسوبات القسم النسائي‪ ،‬وكذلك مع الزمالء‪ ...‬استفاد‬ ‫من وجاهته االجتماعية لمساعدة هذا أو هذه‪ .‬‬

‫الرياض الصحيفة‪ ،‬ماذا تعني لتركي السديري؟ في جدل‬

‫معتاد معه قال‪« :‬أنا أتابع الجريدة على مدار الساعة وال بد‬ ‫أن أتلقفها مع ساعات الصباح الباكرة كما يتابع األب ابنته في‬

‫أول يوم من زواجها باللهفة نفسها والحب والقلق‪ ...‬لم يكن أبو‬ ‫عبدالله رئيس تحرير ينظر إلى ساعته وهو في العمل‪ ،‬بل كانت‬ ‫تحركه عاطفة قوية تجاه الرياض الصحيفة والوطن‪ .‬عندما قدمت‬

‫استقالتي في المرة األولى قال لي ‪« :‬إن كان عملك في الرياض‬

‫ألسباب مؤقتة فأنت حرة في قرارك‪ ،‬أما إن كان قناعة بأهمية‬ ‫اإلعالم في خدمة الوطن عمومًا‪ ،‬ونسائه على وجه الخصوص‪،‬‬

‫فانسي االستقالة وأكملي المسير»‪ .‬حينها عدت إلى قناعتي أن‬

‫ً‬ ‫وقارئا ممتا ًزا واسع االطالع‪ .‬كان لقراءاته الواسعة أثر في تشكيل وعيه وأسلوبه صحافيًّا وثقافيًّا وفكريًّا فانعكست ثقافته‬ ‫للنقد‪،‬‬

‫األدبية على كتاباته الصحافية التي تفوقت على كثير من مقاالت الكتاب الرياضيين وغيرهم في ذلك الوقت‪ .‬فلفت بقلمه الرشيق‬ ‫ورأيه المعتدل انتباه الملك سلمان بن عبدالعزيز‪ ،‬يوم كان أميرًا للرياض‪ ،‬غير أن الراحل مع اعتزازه بذلك القرب ووفائه له؛‬ ‫فلم يطمح ألن يصبح مسؤولاً حكوميًّا أو وزيرًا أو سفيرًا‪ ،‬بل سعى إلى أن يكون صحافيًّا حتى غيّبه الموت ورحل وهو «ملك‬

‫الصحافة السعودية»‪.‬‬

‫في عام ‪1972‬م كان ميالد عموده الصحافي «لقاء» في العدد ‪ ،2300‬وكان العمود األطول عمرًا في تاريخ الصحافة السعودية؛‬

‫إذ استمر نحو‪ 43 ‬عامً ا‪ ،‬ومنذ ذلك الحين أصبح «لقاء» البوابة التي تنفتح على التحوالت التي حدثت في السعودية واالنكسارات‬ ‫ّ‬ ‫وعد السديري‬ ‫والنجاحات العربية والعالمية حتى يومها األخير‪ ،‬ووصف «لقاء» بالوثيقة التاريخية على المستوى السياسي‪،‬‬

‫ً‬ ‫شاهدا على العصر‪ .‬فشرعت صحف من لندن‪ ،‬واأليام من البحرين‪ ،‬وغيرها في نشر «لقاء» متزامنة مع نشرها في جريدة الرياض‪.‬‬ ‫وكانت للسديري نظرته البعيدة وخبرته التي تنبأت بمرحلة ّ‬ ‫تفشي التيار الصحوي‪ ،‬فهو قال في إحدى المناسبات‪« :‬لم توجد لديّ‬

‫قناعة في التفاهم معهم أو بالرد عليهم‪ ،‬ال نحبهم وال هم يحبون صحيفتنا‪ ،‬مشينا بالجريدة وحاربوها ومع ذلك لم ينجحوا في‬ ‫شيء»‪ .‬السديري الذي حذر من ذلك الغول دعا إلى صده بكل الجهد والعزيمة؛ ألن المعركة معه معركة حياة أو موت‪.‬‬

‫قبيل وفاته سأل أحد الصحافيين‪ :‬ماذا بقي من الصحافي تركي السديري بعد أكثر من ‪ ٥٠‬عامً ا من الكتابة والصحافة والتفاعل‬ ‫ً‬ ‫بسيطا ومع ِّبرًا‪« :‬كما بدأ‪ّ ،‬‬ ‫تبقى منه القارئ والمتابع لألحداث؛ لكن الفرق في أن تركي الشاب‬ ‫اليومي مع الناس؟ وجاء جوابه‬

‫كانت تنقصه الخبرة والدراية‪ ،‬أما تركي المسنّ فكأنه على معرفة إلى أين ستتجه األحداث»!‬

‫‪75‬‬


‫مقال‬

‫إبراهيم عبدالمجيد‬ ‫روائي وكاتب مصري‬

‫جناية «الميديا» على األدب‬ ‫لماذا ًّ‬ ‫حقا تصدر روايات بأعداد هائلة في العالم‬

‫العربي؟ هذا سؤال يشغل الكثيرين‪ ،‬وأقرب اإلجابات‬

‫عنه هي أن الجوائز العربية كانت سببًا في اإلقبال على‬

‫كتابة الرواية‪ .‬في هذا جانب قليل من الحقيقة‪ ،‬رغم أن‬

‫التحول إلى فن الرواية من الشعراء والنقاد والصحفيين‬ ‫ً‬ ‫ملحوظا بشدة‪ .‬لكن‬ ‫والسياسيين وغيرهم صار أم ًرا‬ ‫ليست الجوائز هي ما وراء هذا‪ .‬وراءه القارئ ً‬ ‫أيضا‪.‬‬

‫‪76‬‬

‫فقارئ الرواية اآلن هو األول بين القراء‪ .‬ومن ثم هو‬ ‫األكثر وبدرجات تفاوت كبيرة جدًّ ا من ُقراء الشعر مثلاً‬

‫النوع من الروايات كان غائبًا عن القراء‪ ،‬كما كان هذا النوع‬ ‫من الروايات غائبًا ً‬ ‫أيضا‪ .‬وبالنسبة لكاتب مثلي ليست هناك‬

‫مشكلة في هذا النوع من الروايات فهو موجود ويتصدر‬

‫المبيعات في العالم كله‪ .‬أذكر دائمً ا أن أغاثا كريستي الكاتبة‬ ‫البريطانية وزعت من رواياتها البوليسية في حياتها مليار‬

‫نسخة‪ .‬وهو رقم لم يصل إليه أي كاتب إنجليزي شهير‬ ‫عبر تاريخه حيًّا ومي ًتا مثل جيمس جويس أو ديفيد هربرت‬ ‫لورانس أو غيرهما‪ .‬وبالطبع وال كاتب فرنسي وال كاتب من‬

‫أي دولة من دول العالم‪ .‬أقصد كاتب رواية بمعناها األدبي‬

‫أو ُقراء القصة القصيرة‪ .‬تعرف ذلك بسهولة جدًّ ا حين‬

‫الحقيقي بعيدً ا من تشويق الرواية البوليسية وروايات البوب‪.‬‬

‫القصصية‪ ،‬ففي الغالب يعتذر لك البائع عن عدم‬

‫يعدّ هذا النوع من الروايات هو األدب الحقيقي ويروِّج له‬

‫تسأل باعة الكتب عن دواوين الشعراء والمجموعات‬

‫وجودها‪ .‬ويعاني الناشرون توزيع هذين الجنسين من‬

‫األدب إال للمشاهير من الشعراء والكتاب‪.‬‬

‫وإذا حدث وتطوع بائع كتب بعرض دواوين شعر‬

‫تكون المشكلة من اإلعالم المرئي والمسموع حين‬

‫ويحتفي بأصحابه فما دام لهم قراء كثر فهم أدباء كبار‪،‬‬ ‫وال يُشار إلى أن هذا النوع من الرواية هو للتسلية طوال‬

‫المعني بتقديم‬ ‫تاريخه‪ ،‬وال يتداخل مع األدب الحقيقي‬ ‫ّ‬

‫جديدة فبالكاد لمدة أسبوع‪ ،‬ثم يخفيها من المكتبة؛‬ ‫ً‬ ‫مكانا يريده لكتاب أكثر مبيعً ا‪ .‬وتكون الفرصة‬ ‫إذ تشغل‬

‫الوجود اإلنساني‪ .‬وهكذا يظهر على الناحية األخرى من‬

‫للكتب لكنها ال تصل أبدً ا لفرصة الرواية‪ .‬قيل منذ وقت‬

‫أو التقليل من شأن هذا النوع من األدب‪ ،‬بينما حكمة الزمن‬

‫العربي فقط‪ ،‬بل يشمل كل العالم‪ .‬فاإلنسان مع‬

‫األدب الحقيقي الذي أشرت إليه‪ .‬هذه إحدى جنايات الميديا‬

‫لهذين الجنسين األدبيين أكبر في المعارض العربية‬

‫بعيد‪ :‬إن هذا زمن الرواية‪ .‬واألمر ال يقتصر على العالم‬

‫التطور الرهيب للتقنيات الصناعية صار يبحث عن عالم‬ ‫ً‬ ‫وأيضا مع بشاعة التحوالت السياسية‬ ‫مواز من الخيال‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫ذهب إلى هذا العالم الموازي‪.‬‬

‫نوع روائي يتصدر المبيعات‬

‫في عالمنا العربي تعددت أنواع الروايات‪ ،‬فظهرت‬

‫روايات أسميها روايات البوب آرت‪ .‬أي روايات شعبية‬ ‫عادة ما تكون بوليسية أو خيالاً علميًّا أو مغامرات‬ ‫متخيلة في عالم الجاسوسية‪ .‬ظهر قارئ كبير لهذا‬

‫العددان ‪ 490 - 489‬شوال ‪ -‬ذو القعدة ‪1438‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬أغسطس ‪2017‬م‬

‫شكل جديد وقضايا إنسانية عابرة للزمان والمكان‪ .‬قضايا‬ ‫ُ‬ ‫الكتاب الحقيقيين وبخاصة الشباب من يضيّع وقته في سب‬ ‫أن ذلك كله للتسلية وسيمضي ولن يمكث في األرض إال‬

‫الحقيقية‪ .‬إنها ال تقسم الدعاية بين كل األنواع‪ ،‬بل تركز‬

‫أكثر على التسلية طمعً ا في جمهور أكثر من المشاهدين‪ ،‬ثم‬

‫تصف هذا النوع من الكتابة بأنه األدب الحقيقي‪.‬‬

‫لذلك أرى أنا عكس ما يراه الكثيرون أن الجوائز للرواية‬

‫محلية أو عربية هي فرصة أكثر إللقاء الضوء على األدب‬

‫الحقيقي رغم ما تثيره بعض الجوائز من لغط ال يستمر‬ ‫طويلاً ‪ .‬الجناية األخرى للميديا هي المواقع والصفحات األدبية‬ ‫التي ينشئها الكثير من الشباب‪ .‬كثيرون منهم في مصر مثلاً‬

‫ً‬ ‫أحيانا التعليق‪ .‬ولقد تفرغت بعض الوقت ألتابع‬ ‫يطلبون مني‬


‫بعضها فوجدت أكثر أصحابها يكتبون دون معرفة سابقة‬

‫بطبيعة الجنس األدبي‪ ،‬رواية أو قصة أو شع ًرا وال تاريخه‪.‬‬

‫يكتفون بالحكاية‪ .‬وال يفرقون حتى بين الحكاية كمادة‬

‫للتشويق وبين المقال فكثير من الحكايات تنتهي برأي أو‬ ‫عظة‪.‬‬

‫ولقد سألت بعضهم يومً ا هل قرأ كتابًا في فن القصة‬

‫فكانت اإلجابة وما أهمية ذلك وأنا أعرف الكتابة‪ .‬بل هناك‬ ‫كاتبة أو كاتب شاب ال أذكر بالضبط تفاخره أنه يكتب وال‬ ‫يقرأ‪ .‬لو كان عجو ًزا كنت غفرت له فقد يعزف الكبار عن‬

‫القراءة لكثرة ما قرؤوا‪ .‬لألسف هذه الصفحات والمدونات‬

‫أكثرها على هذا النحو الساذج ولألسف هناك قراء ومعجبون‬

‫باآلالف لها‪.‬‬ ‫األمر يعكس ِّ‬ ‫تدنيًا بال شك في مستوى التلقي‪ .‬لكنه أيضاً‬ ‫يعكس استسهالاً ‪ .‬فما الذي يجبر ً‬ ‫قارئا على أن يبحث عن‬ ‫معنى أعمق لما يقرأ؟ ولألسف هناك من النقاد من أشاع في‬ ‫حياتنا األدبية مصطلحات ال أعرف لها معنى وال قيمة مثل‪:‬‬ ‫القصة الومضة أو القصة القصيدة وهكذا‪ .‬فتقرأ مثلاً من‬

‫ً‬ ‫مسرعا ممنيًا نفسي بلقائها ووصلت‬ ‫يقول‪« :‬خرجت من بيتي‬

‫تأت»‬ ‫إلى المقهى‪ ،‬فجلست أنتظرها لكن خاب أملي ولم ِ‬

‫انتهت القصة الومضة كما يقولون والحقيقة أنها خبر ال يعني‬ ‫أحدً ا‪ .‬وجدت حبيبتك أو لم تجدها هذا أمر يهمكما وال يهمنا‬ ‫أيضا غالبًا يمشون وراء نوع من ُ‬ ‫نحن! وبعض النقاد ً‬ ‫الكتاب‬

‫يعد‬ ‫مشكلة اإلعالم المرئي والمسموع أنه‬ ‫ّ‬ ‫هذا النوع من الروايات هو األدب الحقيقي‬ ‫ويروج له ويحتفي بأصحابه فما دام لهم‬ ‫قراء كثر فهم أدباء كبار وال ُيشار إلى أن هذا‬ ‫النوع من الرواية هو للتسلية‬

‫يخترع هذا الكالم فيحدثك عن القصة الشعرية بينما تاريخ‬

‫القصة منذ ثالثينيات القرن الماضي كان تاريخ التخلص من‬

‫شعرية اللغة مجسمً ا في المحسنات البديعية وغيرها‪.‬‬ ‫كتابة سهلة بال معنى‬

‫شعرية القصة تأتي من بنائها وتكوينها ولغات‬

‫شخصياتها وزمنها ومكانها‪ ،‬وليست من لغة مجنحة‬

‫بالمحسنات والتشبيهات‪ ..‬إلخ‪ .‬لألسف تجد مؤتم ًرا يحاول‬

‫أن يدشن ذلك‪ .‬ال أقف عند هذه األشياء وأعرف أن الزمن‬

‫سيمحوها وحده لكنها بال شك تترك وراءها كتابة سهلة ال‬

‫معنى لها‪ .‬وتنتشر هذه الكتابة على صفحات الميديا‪ ،‬وتخلق‬ ‫ً‬ ‫قارئا مرتاحً ا ال يريد أكثر من التسلية وهو يزداد كل يوم‪،‬‬ ‫وأنا عكس الجميع ال أرى أن هذا القارئ سينتقل كما يقولون‬

‫البداية‪ ،‬وكثي ًرا جدًّ ا ما ألتقي شبابًا في الخامسة عشرة‬

‫والسادسة عشرة وأقل من ذلك في معرض الكتاب بالقاهرة‬ ‫يقرؤون لكتاب كبار مصريين وعرب؛ ُكتاب حقيقيين‪ .‬شيء‬

‫آخر تفعله الميديا وهي نقل بعض سطور الحِ َكم واألمثال في‬ ‫الرواية بوصفها تخص الكاتب بينما هي في األغلب األعم من‬

‫حوار شخصيات الرواية وال عالقة للكاتب بها‪ ،‬فالكاتب ليس‬ ‫كل شخصيات الرواية وال أيًّا منها إال على استحياء‪.‬‬

‫الرواية فن غير السيرة وهذا موضوع آخر! ووصل األمر‬

‫ببعض المواقع اإللكترونية أن تنشر أشعارًا لشعراء كبار‬

‫مثل‪ :‬صالح جاهين‪ ،‬ومحمود درويش‪ ،‬والسياب وغيرهم‪،‬‬

‫والشعر ركيك تافه ال يمكن أن يقوله أيٌّ منهم‪ .‬ال أعرف لماذا‬

‫إلى األدب الحقيقي فاإلنسان ابن العادة أو ما تعود عليه‪،‬‬ ‫ً‬ ‫غارقا فيه حتى يتوقف عن القراءة‪.‬‬ ‫وسيظل‬

‫هؤالء الشعراء‪ .‬إنها مواقع يأخذ بعضها من بعض‪ .‬هذه‬

‫جدًّ ا لألدب الرفيع‪ .‬الذين يحبون األدب الرفيع يقرؤونه منذ‬

‫األشعار غير الحقيقية لهؤالء العظماء‪.‬‬

‫ال ينتقل من هذا النوع من القراءة إال نسبة ضئيلة‬

‫تفعل المواقع ذلك بينما يمكنها بسهولة العثور على دواوين‬ ‫جناية أخرى للميديا؛ ألنه مع الزمن سيظهر من يحفظ هذه‬

‫‪77‬‬


‫بورتريه‬

‫وداعا غويتيسولو‪..‬‬ ‫ً‬

‫ضمير إسبانيا وصوت العرب في أوربا‬ ‫أحمد عبداللطيف‬

‫روائي ومترجم مصري يقيم في مدريد‬

‫في الرابع من يونيو الماضي‪ ،‬في الساعة الثالثة عصرًا وفي مدينة مراكش المغربية‪ ،‬و ّدع‬ ‫َ‬ ‫ً‬ ‫واحدا من أكثر ُ‬ ‫ً‬ ‫تورطا في الشأن السياسي‪ ،‬ومن أكثر األصوات انتقا ًدا للسلطة اإلسبانية‬ ‫الك ّتاب‬ ‫العالم‬ ‫ً‬ ‫دفاعا عن الثقافة العربية اإلسالمية وقضايا المهاجرين‪ :‬خوان غويتيسولو‪ ،‬الذي‬ ‫اليمينية وأكثرها‬ ‫يعده بعض النقاد أهم كاتب إسباني في القرن العشرين‪ ،‬ويراه بعض آخر أهم المجددين في‬ ‫السردية اإلسبانية منذ سيرفانتس‪ ،‬بحسب ما ذكرت جريدة «الباييس» اإلسبانية الواسعة االنتشار‪.‬‬ ‫ولد خوان غويتيسولو في برشلونة عام ‪1931‬م‪ ،‬وعاش في‬

‫إن «ابن الفارض» سبق في حداثيته الشعرية الحداثة الشعرية‬

‫‪1939‬م‪ ،‬وماتت أمه بسببها جراء قذيفة من قوات الجنرال فرانكو‪.‬‬

‫التي استحضر فيها ابن عربي‪ ،‬في لعبة سردية مزج فيها التصوف‬

‫طفولته أجواء الحرب األهلية اإلسبانية التي امتدت من ‪1936‬م إلى‬

‫‪78‬‬

‫يقول غويتيسولو‪« :‬لذلك ال أحب الحروب‪ ،‬وأدافع عن سالم اإلنسان‬

‫في أي أرض»‪ .‬ومبك ًرا جدًّا سيبدأ الطفل خوان في كتابة انطباعاته‬

‫وتأمالته‪ ،‬وفي الرابعة والعشرين سيقرر الرحيل من إسبانيا إلى‬ ‫فرنسا؛ إذ لم يكن في وسعه تحمّل الرقابة الفرانكوية وتكميم أفواه‬ ‫المثقفين ومطاردتهم‪ ،‬وفي باريس يبدأ مرحلة جديدة من حياته‪،‬‬

‫مرحلة نال فيها حريته وبدأ في انتقاد األوضاع في بالده‪ ،‬وطالب‬ ‫في مقاالت نشرت في جرائد فرنسية بحُ رية الفكر والتعبير والعودة‬

‫للديمقراطية األوربية‪.‬‬

‫غويتيسولو والثقافة العربية‬

‫األوربية‪ ،‬وسيؤثر التصوف العربي في أعماله وبخاصة «األربعينية»‬ ‫اإلسالمي بالتصوف المسيحي‪.‬‬

‫هذا االنتماء للثقافة العربية اإلسالمية لن يتوقف عند األثر‬

‫في الكتابة؛ إذ سيرتحل غويتيسولو عبر التاريخ ليعيد قراءة التاريخ‬ ‫اإلسباني ومن داخله التاريخ األندلسي‪ ،‬ويتبنى ويدعم وجهة نظر‬ ‫تنتصر للثقافة اإلسالمية وأهميتها في انتقال إسبانيا من الجهل‬

‫إلى العلم‪ ،‬في مواجهة أصوات يمينية تسعى لمحو الذاكرة بإخفاء‬

‫كل ما هو عربي بإسبانيا‪ .‬وفي االحتفال بذكرى مرور ‪ 500‬سنة على‬ ‫«استرداد غرناطة»‪ ،‬سيوجه غويتيسولو سهامه صوب السلطة‬ ‫التي تحتفي بتنصير المسلمين وتطبيق محاكم التفتيش عليهم‬

‫ثم تهجيرهم‪ ،‬وهي اللقطة التي لم يلتقطها أحد حينها‪ .‬وإذا كان‬

‫في باريس‪ ،‬يلتقي خوان غويتيسولو «سارتر» و«ألبير كامو»‪،‬‬ ‫كما سيلتقي ُكتاب أميركا الالتينية المنفيين مثل‪ :‬فارغاس يوسا‪،‬‬

‫المستعرب اإلسباني أميركو كاسترو أحد مؤسسي مدرسة الدفاع‬ ‫ِ‬ ‫عن التاريخ العربي األندلسي‪ ،‬فالمؤكد أن غويتيسولو كان أنجب‬

‫الثورة الكوبية ومآالتها‪ ،‬كما يقول يوسا الذي كان صديقه في هذه‬

‫وهو ما دفع في طريق إعادة قراءة دور العرب والثقافة اإلسالمية في‬

‫وخوليو كورتاثر‪ ،‬وكابريرا إنفانتي‪ ،‬وستشغله السياسة‪ ،‬وبخاصة‬ ‫الحقبة‪ ،‬وسيعيشان معً ا أجواء الثورة وخيبة األمل‪ .‬لكن اهتمامات‬

‫غويتيسولو ستسير في اتجاه آخر؛ صوب العالم العربي‪ .‬أول ما‬ ‫يلفت انتباهه لعالمنا هو قضية تحرير الجزائر‪ ،‬التي سيسافر إليها‬ ‫في مهمة صحفية‪ ،‬ثم سينضم ُ‬ ‫للك ّتاب الذين يطالبون بتحريرها‪ .‬هذا‬

‫االهتمام بجنوب المتوسط‪ ،‬بحسب غويتيسولو في حوار له‪ ،‬سيفتح‬ ‫له الباب على ثقافة شديدة الثراء لم يكن قد انتبه إليها من قبل‪.‬‬

‫في بداية ثالثينياته‪ ،‬سيُفتح أمامه باب مسحور سيترك أثره الكبير‬ ‫في كتابته وفي تفكيره؛ إذ سيؤسس غويتيسولو افتراضية تقول‪:‬‬ ‫العددان ‪ 490 - 489‬شوال ‪ -‬ذو القعدة ‪1438‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬أغسطس ‪2017‬م‬

‫تالميذه‪ ،‬بل إنه لشهرته وقوة حجته غدا أكثر تأثي ًرا من أستاذه‪،‬‬

‫الثقافة اإلسبانية واألخذ بيدها لدخول عصر األنوار‪.‬‬

‫إضافة إلى قيمته اإلنسانية والعلمية‪ ،‬احتل غويتيسولو‪ ،‬الذي‬ ‫أثار رفضه لجائزة القذافي جدلاً واسعً ا في المشهد الثقافي العربي‪،‬‬ ‫مكانة بارزة بوصفه روائيًّا من الطراز األول‪ ،‬يقول غويتيسولو في‬

‫حوار له أجرته جريدة «البانغوارديا» اإلسبانية‪« :‬كتبت كتبي األولى‬ ‫بوصفي مواط ًنا ال كاتبًا»‪ ،‬وهو ما يعني أنه انتصر في البداية للواقعية‬ ‫االجتماعية التي تميل لتوثيق األحداث القاسية التي عاشتها بالدها‪،‬‬

‫كان ذلك في إنتاجه الذي صدر في الخمسينيات‪ .‬غير أنه وبداية‬


‫من رواية «ألعاب يدوية» تغيرت قناعاته الفنية وتصوراته عن فن‬

‫بجانب شعور كل منا باليتم لفقد األم مبك ًرا وأمام أعيننا‪ .‬لكن الفارق‬

‫ومن هنا بدأ طريقه بوصفه كاتبًا كبي ًرا وطليعيًّا‪ ،‬وخطا خطوات‬

‫األول‪ ،‬وأول من يكتب عن كتبي‪ .‬كان مايسترو‪ ،‬كان كاتبًا كبي ًرا‪.‬‬

‫الرواية‪ ،‬وهو ما دفعه للبحث عن «التجديد» واإلضافة لهذا الفن‪،‬‬

‫الجوهري بيننا أنه كان كريمًا دائمًا معي‪ .‬كان يحب أن يكون قارئي‬

‫راسخة نحو تأسيس سردية إسبانية تتجنب الوقوع في فخ الواقعية‬

‫كانت حياته في المدينة جديرة بالتعرف إليها؛ إذ كان الجميع‬

‫السؤال الفلسفي بالسؤال الوجودي بالعوالم الصوفية‪ ،‬أهَّ لته للفوز‬

‫«أمات» أنه قام مرة بدور الوسيط بين غويتيسولو ومجمع اللغة‬

‫والمباشرة‪ .‬هذه الروايات ذات الطابع التجريبي‪ ،‬التي امتزج فيها‬

‫يحبه ويقدر أعماله‪ .‬كان سعيدًا هناك‪ ،‬يمكن أن أؤكد ذلك»‪ .‬يحكي‬

‫بجائزة سيرفانتس لآلداب عام ‪2014‬م‪ ،‬وهي نوبل اآلداب اإلسبانية‪.‬‬

‫اإلسباني؛ إذ أراد المجمع ضم خوان له‪ .‬إجابة خوان كانت قاطعة‪:‬‬

‫للسلطة‪ ،‬لكن السلطة نفسها شعرت بالعار حين لم تمنح كاتبها‬

‫العرض بالرفض‪.‬‬

‫لقد تأخرت عليه الجائزة الكبرى كثي ًرا نظ ًرا لمواقفه المعادية‬ ‫األكبر جائزتها الكبرى‪ .‬خطبة غويتيسولو عند تسلمه الجائزة تشير‬

‫إلى استغرابه من الفوز بها‪ ،‬لكنها تركزت أكثر على الحياة في مراكش‬

‫وعلى عائلته المراكشية التي قرر أن يمنحها ثمن الجائزة‪ .‬ولعل بقاء‬ ‫خوان في مراكش منذ عام ‪1997‬م دليل إضافي على حبه وشغفه‬

‫بالعالم العربي‪.‬‬

‫خبر رحيل الكاتب اإلسباني في مراكش أثار موجة من الحزن‬

‫والحداد في العالم اإلسباني‪ ،‬وكتب عن وقع هذا الخبر كثير من‬ ‫ُ‬ ‫الك ّتاب الذين ارتبطوا بعالقة صداقة مع غويتيسولو‪ ،‬كما كانوا من‬

‫محبي كتابته‪ .‬كتب البيروني ماريو فرغاس يوسا‪ ،‬الفائز بجائزة نوبل‪،‬‬ ‫مقالاً بعنوان «على طريقة سارتر»‪ ،‬قال فيه‪« :‬تعرفت إلى خوان في‬

‫سنواتي بباريس‪ ،‬واقتسمت معه القلق السياسي‪ ،‬وبخاصة ما يتعلق‬ ‫بالثورة الكوبية‪ .‬هذه الثورة التي أثارت حماستنا‪ ،‬وأعتقد أنها أصابتنا‬

‫بخيبة األمل في الوقت نفسه‪ .‬أتذكر كثي ًرا صعوبة المعركة التي‬

‫خضناها خالل ما سمي بـ ــ«حالة بادييا» التي دافعنا فيها عن وجهات‬

‫نظر متشابهة»‪ .‬وأضاف‪« :‬منذ رحل إلى المغرب لم ألتقه كثي ًرا‪ ،‬لكن‬ ‫لقاءاتنا كانت شديدة الدفء رغم تباعدها»‪.‬‬

‫فيما كتب الكاتب الشهير أندريس سانتشيث روباينا أن‬

‫«غويتيسولو استطاع بوصفه روائيًّا تجنب الروافد األدبية اإلسبانية‬ ‫ً‬ ‫طريقا شقه بنفسه»‪ .‬ويرى روباينا أن غويتيسولو‬ ‫في عصره‪ ،‬واتبع‬

‫«كان ناقدًا ملتزمًا‪ ،‬وهي صفة تالزم قليلاً من الكتاب»‪ .‬وأشار الكاتب‬

‫إلى إعادة إحياء غويتيسولو للكتاب الكالسيكيين وإعادة قراءة‬ ‫التاريخ‪ ،‬وختم بأننا «مدينون لخوان غويتيسولو سواء لسرديته‬ ‫الفريدة أو شهادته ذات الطابع االلتزامي األخالقي»‪.‬‬

‫المستعربة اإلسبانية‬ ‫وفي مقال لها بجريدة «الباييس» كتبت‬ ‫ِ‬

‫الشهيرة لوث غوميث‪ ،‬األكاديمية والمترجمة التي فازت بجائزة‬

‫الدولة عن ترجمتها لمحمود درويش‪« :‬في الوقت الذي بات‬ ‫فيه اإلسالم متهمًا والعالم العربي مرمى للشبهات‪ ،‬جاء خوان‬ ‫غويتيسولو ليعارض هذا التيار»‪ .‬وترى غوميث أن هذه المعارضة‬

‫جاءت عبر طريقين‪ :‬األول دفاعه عن الثقافة اإلسالمية‪ ،‬وثانيًا إقامته‬ ‫في بلد عربي‪ ،‬وهو المغرب‪ .‬وكتب الروائي الشهير نوريا أمات‪:‬‬

‫«جمعنى بـخوان غويتيسولو‪ ،‬إضافة إلى التمرد على أي وضع‬ ‫حب األدب‪ ،‬وحب الحرية والمساواة‪،‬‬ ‫سلطوي‪،‬‬ ‫ُّ‬

‫ال‪ .‬وفي مرة أخرى أرادت مدينة برشلونة أن تمنحه جائزتها‪ ،‬فقابل‬

‫جثمان خارج الوطن‬

‫على الرغم من خالفات غويتيسولو مع السلطة اإلسبانية‬

‫وانتقاده الدائم لها‪ ،‬فإن الملك أعرب عن حزنه الشديد لفقد إسبانيا‬ ‫واحدًا من أكبر ُك ّتابها‪ ،‬وسادت حالة من الحداد في البلد وفي جميع‬

‫الدوائر الثقافية‪ .‬المفاجأة أن غويتيسولو لن يعود إلى بلده مي ًتا‪،‬‬ ‫كما تركها حيًّا؛ إذ ترك وصية مضمونها أن يدفن في مدينة العرائش‬ ‫المغربية‪ .‬وسواء دفن في برشلونة‪ ،‬أرض مولده‪ ،‬أو في المغرب‪،‬‬ ‫األرض التي اختار الحياة فيها والموت فيها‪ ،‬سيبقى غويتيسولو دائمًا‬

‫ُعارض لكل شرور العالم‪.‬‬ ‫في ذاكرة التاريخ كضمير لإلنسانية وم ِ‬

‫‪79‬‬


‫قضايا‬

‫ما الذي يشغل النخب‬ ‫الثقافية في إسرائيل؟‬ ‫ّ‬

‫ّ‬ ‫قل ٌة من الباحثين العرب حاولت معرفة األفكار واأليديولوجيات والصراعات التي تعصف بإسرائيل من‬ ‫ً‬ ‫يمينا ويسارًا في الدولة العبرية‪ ،‬والمحاوالت التي‬ ‫الداخل‪ ،‬خارج ما نعرفه من سياسة وأحزاب‪ ،‬وما يسمى‬

‫يمكن رصدها في هذا المجال قليلة ومحدودة االنتشار‪ .‬فقد ساد في الصحافة العربية متخصصو التحليل‬ ‫السياسي للمفاوضات‪ ،‬وسياسيُّو السالم والممانعة‪ ،‬فيما يكاد يغيب عن المشهد أولئك العارفون بإسرائيل‬

‫من الداخل‪ ،‬الذين كشفوا لنا أن هذا الكيان ليس جبهة صماء صامدة ومتماسكة‪.‬‬

‫في هذه القضية التي تنشرها «الفيصل» يستعرض كاتبان متخصصان صراع النخب داخل المجتمع‬

‫اإلسرائيلي وأبرز القضايا الفكرية المطروحة هناك؛ من حرب العبرية على العربية‪ ،‬ومن رفض الوجود العربي‬

‫الفلسطيني في الداخل ثقافيًّا وديموغرافيًّا‪ ،‬إضافة إلى المواجهة الطائفية بين الطغمة األشكنازية واليهود‬

‫الشرقيين‪ ،‬ثم إيجاز بالعمل اإلسرائيلي الدائب على ترجمة األعمال األدبية العربية إلى اللغة العبرية‪.‬‬

‫‪80‬‬

‫العددان ‪ 490 - 489‬شوال ‪ -‬ذو القعدة ‪1438‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬أغسطس ‪2017‬م‬


‫الثقافية في إسرائيل؟‬ ‫ما الذي يشغل النخب‬ ‫ّ‬

‫مواجهة طائفية بين الشرقيين‬ ‫والغربيين في تل أبيب‪..‬‬ ‫وصراع حول «العربية» والموسيقا‬ ‫عودة بشارات‬

‫روائي وكاتب فلسطيني‬

‫يحاول أساف غوالني‪ ،‬مؤسس دار نشر مينرفا التي ُتعنى بنشر كتب تهتم بالثقافة الشرق أوسطية‪،‬‬

‫تقصي أسباب وجود عدد قليل من اليهود القادرين على استخدام اللغة العربية‪ .‬ويعرض في مقاله توجهات‬ ‫عدة تميز حمالت تسويق تعليم اللغة العربية‪ .‬يمكن اختصار هذه التوجهات في أن تعلم اللغة العربية هو‬ ‫أمر سهل؛ ألن اللغتين العبرية والعربية متشابهتان‪ ،‬وأنه ما دامت اللغة العامية س ُتس َت َ‬ ‫خدم فال حاجة‬ ‫ُّ‬ ‫لتعلم قواعد اللغة العربية‪ ،‬فقط معرفة االصطالحات واألمثال يساعد على إجادة العربية‪ .‬من خالل المقال‬

‫من الممكن التحسس أن هنالك استهتارًا باللغة العربية‪ ،‬من حيث االمتناع عن بذل الجهود لدراستها كما هي‬

‫الحال في اللغة اإلنجليزية‪ .‬وفي كثير من األحيان يُتعامَ ل معها كأنها تجسيد لنزعة االنجذاب نحو الشرق‪،‬‬ ‫كما هو األمر لدى الحديث عن البهارات والمالبس وأدوات الزينة الشرقية وغير ذلك‪.‬‬ ‫محمود درويش وإيال غوالن‬

‫الجدير بالذكر أن املواجهة عىل أساس طائفي بني الشرقيني‬

‫يف املقابل هنالك عودة صاخبة يف إسرائيل إىل املوسيقا الشرقية‪.‬‬

‫والغربيني يف إسرائيل تطفو عىل السطح مرارًا؛ لتثري صخبًا يف البالد‬

‫أحد أيقونات الغناء اإلسرائييل الغربي‪ ،‬وإيال غوالن نجم املوسيقا‬

‫بسطوة الثقافة الغربية‪ ،‬من أدب وفن وموسيقا وشعر‪ .‬ويف تلك‬

‫قبل أشهر عدة جرت مواجهة إعالمية حادة بني أفيف غيفن وهو‬

‫الشرقية‪ .‬املهم يف األمر أنه بالرغم من املواجهة الحادة والبذيئة فقد‬ ‫التقى الخصمان يف نقطة مشرتكة واحدة بينهما وهي العداء للعرب‪.‬‬ ‫األول غيفن‪ ،‬وهو ممثل الثقافة الغربية أراد الحط من غوالن فقال‪:‬‬

‫إن غوالن ومحمود درويش هما اليشء نفسه وما يفرق بينهما هو‬ ‫الختان‪ .‬ومن جهته قال غوالن‪ :‬إن نظرية غيفن هي النائبة حنني زعبي‬

‫من القائمة املشرتكة‪ ،‬وما يميز أحدهما من اآلخر هو الفرق بني أسنان‬

‫ترافقه عودة إىل الجذور‪ ،‬وإىل السنوات األوىل للدولة التي اتسمت‬ ‫السنوات اعتقد الشرقيون أن ثقافتهم تتسم بالدونية‪ ،‬وأن الثقافة‬ ‫الغربية هي الثقافة املطلوب تب ِّنيها‪ ،‬ويف املقابل التنكر لرتاثهم؛ ألنه‬

‫ال يتالءم مع مميزات الدولة الحديثة‪ .‬منذ عدة سنوات هنالك نهضة‬

‫واسعة ضد هذه الهيمنة الثقافية الغربية‪ ،‬وهنالك عودة للجذور‬

‫بتعلم اللغة العربية‪ ،‬واستعادة مكانة الفولكلور الشرقي‪.‬‬

‫يف الحقبة املاضية‪ ،‬ويف املجال نفسه‪ ،‬جرت مواجهة حادة‬

‫مع أحد أقطاب اليسار يف إسرائيل‪ ،‬الصحفي والسيايس العريق‬

‫غيفن األمامية‪ .‬األمر املهم يف هذا السجال غري الدبلومايس بينهما أن‬ ‫غوالن سخر من نظريه أفيف غيفن قائلاً له‪« :‬أنت إنسان محبط‪ ،‬ومن‬

‫أوري أفنريي‪ ،‬الذي انتقد تماثل الجمهور الشرقي مع الجندي ذي‬

‫أن فناين املوسيقا الشرقية وأنا عىل رأسهم‪ ،‬يستطيعون أن يملؤوا‬

‫يشكل خط ًرا عىل أحد‪ .‬عنوان املقال أشار إىل املادة املتفجرة الكامنة‪:‬‬

‫السهل معرفة السبب‪ .‬وأنا لو كنت مكانك سأتصرف باملثل‪ ،‬إذا رأيت‬ ‫املدرج الروماين (يف قيسارية)‪ ،‬وقاعة نوكيا وإستاد بلومفيلد (يف‬

‫القدس) وغريها‪ ،‬بينما تقوم أنت بجمع الناس من البيوت من أجل‬ ‫مشاهدتك يف أمكنة الواحد منها أصغر من صالون بيتي»‪.‬‬

‫األصول الشرقية‪ ،‬اليؤور أزاريا‪ ،‬الذي أجهز عىل فلسطيني جريح لم‬ ‫«كيف ومتى نشأ الشرخ بني اليهود الشرقيني واألشكناز؟» يتحدث‬ ‫أوري أفنريي عن عائلة هذا الجندي ومؤيديه الذين أنشدوا النشيد‬

‫القومي يف قاعة املحكمة معبرِّ ين عن رفضهم محاكمته وتماثلهم‬

‫التام مع فعلته يف قتل العربي الجريح‪ ،‬فيقول‪ :‬إن هذا الحدث‬

‫‪81‬‬


‫قضايا‬

‫كان بمنزلة «مظاهرة ضد املحكمة العسكرية‪ ،‬ضد القيادة العليا‬

‫القادمني اليهود من روسيا»‪ ،‬وهنا يوجّ ه ديمرتي شومسيك انتقادًا‬

‫«إعالن االستقالل لشعب إسرائيل مغاير‪ .‬لقد أشار هذا الحدث‬

‫إلغاء اإلنسانية عن اآلخر‪ ،‬أي العربي‪ ،‬وهو ما يميّز مساحات واسعة‬

‫للجيش وضد الديمقراطية اإلسرائيلية بمجملها» ويميض أفنريي‬ ‫قائلاً ‪ ،‬بأن هنالك دالالت كربى لهذا الحدث‪ ،‬فقد كان ذلك بمنزلة‬ ‫إىل تفكك املجتمع اإلسرائييل لشعبني‪ ...‬املشرتك بني الشعبني آخذ‬

‫يف التضاؤل‪ ،‬موقفهما من الدولة مختلف تمامًا‪ ،‬بالنسبة ألسسها‬ ‫األخالقية وأليديولوجيتها وملبناها»‪ ،‬ويواصل‪« :‬حتى اآلن اعتقدنا أنه‬

‫عىل األقل توجد مؤسسة واحدة نقدسها جميعً ا‪ ،‬مؤسسة تقف فوق‬

‫من الخطاب اليهودي الشرقي اإلسرائييل»‪.‬‬ ‫نفي الهوية القومية‬

‫من ناحية أخرى‪ ،‬تحمل الباحثة مرياف ألوش ليفرون‪ ،‬وهي‬ ‫ً‬ ‫موقفا مغاي ًرا‪ ،‬فهي تهاجم‬ ‫من أصول شرقية ‪-‬جزائرية وتونسية‪-‬‬

‫كل النقاشات وفوق كل االختالفات وهي الجيش‪ .‬هذا األمر لم يعد‬ ‫قائمًا‪ ،‬إن قضية أزاريا ِّ‬ ‫تعلمنا أن الرابط األخري الذي جمع بني أجزاء‬

‫املوقف العلماين ‪-‬الليربايل لليسار األشكنازي الذي ينفي‪ ،‬من خالل‬

‫املهم أن أفنريي‪ ،‬يف مقاله هذا الذي أثار عاصفة من النقاش‬

‫ما ساهم‪ ،‬حسب تقديرها‪ ،‬يف تعزيز التوجهات اليمينة لدى الجمهور‬

‫املعسكران؟ وما املسبِّب لهذا االنقسام؟ ال مكان لاللتفاف عىل‬

‫الشرقيني والغربيني‪ ،‬إىل الحديث عن تغيري النخب يف البالد‪ .‬فمع‬ ‫توطد حكم اليمني يف إسرائيل املستمر‪ ،‬بتقطع ملُدَد قصرية‪ ،‬منذ‬

‫املجتمع اإلسرائييل قد انكسر»‪.‬‬

‫يف إسرائيل‪ ،‬حتى كان هنالك من دمغه بالعنصرية واالستعالء‪،‬‬ ‫لم يرتدد يف تسمية املُسمَّيات بأسمائها من وجهة نظره‪« :‬من هذان‬ ‫الحقيقة‪ :‬إنه العامل اإلثني‪ .‬يحاول الجميع الهروب من الحقيقة‪.‬‬ ‫جبال من التعابري املجمَّلة ُكتبت ل ُتخفيها‪ ،‬لكن الحقيقة أن هنالك‬

‫‪82‬‬

‫الذ ًعا للمثقفني اليهود الشرقيني‪ ،‬ذوي املواقف الليربالية‪ ،‬إذ عليهم‬ ‫ً‬ ‫اعرتافا كاملاً بهذا األمر‪ ،‬وعليهم أن يشجبوا بقوة مظاهر‬ ‫أن «يعرتفوا‬

‫استعالئه‪ ،‬الهوية القومية الدينية للجمهور اليهودي الشرقي‪ ،‬وهو‬ ‫اليهودي الشرقي‪ .‬لكن األمور تأخذ أبعادًا أوسع من املساجلة بني‬

‫عام ‪1977‬م حتى اليوم‪ ،‬تجري منذ سنوات تغيريات جوهرية يف‬

‫الخطاب الفكري السائد يف إسرائيل‪ .‬يقول مدير برنامج القيادة‬ ‫السياسية االشرتاكية يف مؤسسة «موالد»‪ ،‬رامي ليفني‪ :‬إن إسرائيل‬

‫شعبني‪ ،‬أحدهما يُدعى األشكناز (واملصدر هو االسم العربي القديم‬ ‫الذي أُطلق عىل أملانيا)‪ ،‬الذي يجمع اإلسرائيليني من أصول أمريكية‬

‫خالل سنوات وجودها‪ ،‬جعلت من «األونفرسالية» األوربية نهجها‬

‫ويف هذا اإلطار‪ ،‬تعميق الكراهية للعرب بني الجماهري اليهودية‬

‫فقد أصغى الجميع إىل نشرات األخبار من اإلذاعة نفسها (الرسمية‬

‫غري مباشرة لتشويه صورة العرب من املؤسسة الصهيونية األشكنازية‬

‫املحاكم‪ ،‬عبرّ وا عن ثقتهم بقائد أركان الجيش‪ ،‬وخرجوا فيما بعد‬

‫وأوربية»‪ .‬والشعب الثاين يُدعى الشرقيني‪.‬‬

‫الشرقية يف إسرائيل‪ .‬يقول املؤرخ الدكتور ديمرتي شومسيك‪« :‬كنتيجة‬ ‫املسيطرة يف املايض‪ ،‬فإن مظاهر كراهية العرب أصبحت مع الزمن من‬

‫األصوات املسيطرة يف صفوف الشرقيني يف إسرائيل الحالية‪ ،‬ويمكن‬

‫أن تضاهي اليوم‪ ،‬يف حجمها يف وسائل اإلعالم‪ ،‬الظاهرة نفسها لدى‬

‫العددان ‪ 490 - 489‬شوال ‪ -‬ذو القعدة ‪1438‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬أغسطس ‪2017‬م‬

‫الرسمي‪ .‬وبالرغم من الشروخ واالنقسامات يف املجتمع اإلسرائييل‪،‬‬ ‫أو إذاعة الجيش)‪ ،‬تعلموا يف الجامعات نفسها‪ ،‬اعرتفوا بسلطة‬

‫ملشاهدة العروض املسرحية يف املسرح نفسه‪.‬‬

‫وفيما بعد يستعرض رامي ليفني الهجوم الذي ش َّنه اليمني‬

‫املتطرف عىل هذا النهج الرسمي الجامع‪ .‬ففي الثمانينيات‪ ،‬يقول‪:‬‬


‫الثقافية في إسرائيل؟‬ ‫ما الذي يشغل النخب‬ ‫ّ‬

‫قام املستوطنون بإنشاء إذاعة خاصة‬ ‫بهم؟ وفيما بعد يف دورته الثانية‬

‫لرئاسة الحكومة عمل بنيامني نتنياهو‬ ‫عىل توطيد فكرة «تبديل النخب»‪.‬‬ ‫وبالتعاون مع مدير مكتبه آنذاك‬ ‫أفيغدور ليربمان‪ ،‬الذي يشغل اليوم‬ ‫منصب وزير دفاع إسرائيل‪ ،‬عمل عىل‬

‫استيعاب شخصيات من «جماعتنا»‬

‫محمود درويش‬

‫ودفعهم للمراكز املهمة يف الدولة‪ .‬ويف الوقت نفسه فقد أثار نتنياهو‬

‫األجواء بالحديث عن «الهيمنة اليسارية» يف مراكز القرار يف إسرائيل‪.‬‬ ‫وحسب ليفني فإن نتنياهو يحتقر «ما يع ّده قنا ًعا ً‬ ‫زائفا من الحيادية‬ ‫واملهنية؛ ألن العمل بموجب ذلك‪ ،‬حسب اعتقاده‪ ،‬يمنح خصومه‬ ‫السياسيني ً‬ ‫تفوقا غري نزيه عليه» ويواصل ليفني‪« :‬فقط يف عام ‪2016‬م‪،‬‬

‫نضجت الظروف للمرحلة املكشوفة واملعلنة للثورة‪ ،‬بحيث ُيغيرَّ‬

‫اتجاه املؤسسات الفكرية املميزة للمجتمع اإلسرائييل نحو األسلوب‬

‫األمرييك»‪ .‬ويضيف ليفني‪« :‬اليوم ال حيادية بعد‪ ،‬ال مهنية بعد‪ ،‬وال‬ ‫نزاهة بعد‪( .‬املذيعون) روين دانيال‪ ،‬ويونيت ليفي‪ ،‬وإيهود يعاري‪،‬‬ ‫ونائب قائد األركان‪ ،‬واألساتذة يف لجنة التعليم العايل‪ ،‬وعدد من‬

‫موظفي وزارة الخارجية‪ ،‬واملمثلون يف مسرح الكامري ومسرح‬ ‫البيما‪ -‬كل هؤالء الذين رافقونا طوال حياتنا‪ -‬كلهم جزء من معسكر‬

‫اليسار»‪ .‬ويخلص ليفني إىل أن هدف نتنياهو هو القضاء عىل القاسم‬ ‫املشرتك الثقايف القائم عىل أسس التقاليد التنويرية التي نشأت يف‬ ‫البالد‪ .‬يمكن مالحظة الهوة الفكرية اآلخذة يف التعاظم يف إسرائيل‪،‬‬

‫ليس فقط بني اليمني واليسار التقليديني‪ ،‬بل بني اليمني الكالسييك‪،‬‬

‫واليمني الجديد الذي يريد صبغ كل األجواء بألوانه املتطرفة‪.‬‬ ‫العربي الشفاف‬

‫إيال غوالن‬

‫أوري أفنيري‬

‫وسائل اإلعالم اإلسرائيلية ال تقوم‬ ‫بتغطية ما يجري على الساحة بين‬ ‫المواطنين العرب‪ ،‬كأنهم هواء أو‬ ‫مخلوقات شفافة ال يمكن مالحظتها‬ ‫هي اللغة الرسمية الوحيدة (وبذلك أرادوا إلغاء القانون الذي ينص‬ ‫عىل أن العربية والعربية هما لغتا البالد الرسميتان)‪ .‬يمكن الجزم‬ ‫بأن أحرف الهجاء العربية لن تنقص ً‬ ‫حرفا بسبب هذا الهجوم الحاقد‬

‫عىل العربية‪ ،‬لغة املواطنني العرب الذين يشكلون أكرث من ‪ %20‬من‬

‫سكان الدولة‪ .‬الخاسرون هم اليهود الذين سيواصلون العيش يف‬ ‫املنطقة يف ظالم دامس من دون معرفة لغتها التي تعكس تاريخها‬

‫وتراثها وحضارتها‪.‬‬

‫يقول الكاتب واملؤرخ اإلسرائييل مريون بنفنستي‪ ،‬يف كتابه «حلم‬

‫اليهودي اإلسرائييل األبيض»‪ :‬إن الرثاء املوجود يف األسماء التي أطلقها‬ ‫العرب عىل األماكن «مذهلة بجمالها‪ ،‬يف تفاعلها مع جمال الطبيعة‪،‬‬

‫يف دقة التشخيص واختيار التشبيهات‪ ..‬بدون احتفاظ العرب باألسماء‬

‫العربية‪ -‬اآلرامية القديمة‪ -‬لم يكن باستطاعة الصهيونيني تقيص أثر‬ ‫وبأس يضيف بنفنستي‪« :‬لكنهم كافؤوا العرب‬ ‫الخارطة العربية»‬ ‫ىً‬

‫يقرتن اسم الشرق األوسط باسم ال يقل أصالة‪ :‬املشرق العربي‪.‬‬

‫بمحو كل األسماء العربية من الخارطة»‪ .‬إن تغييب تاريخ الفلسطيني‬

‫عليه التأقلم مع هذا املشرق العربي وإال سيبقى‪ ،‬مهما طال الزمن‪،‬‬

‫يف إسرائيل‪ .‬إضافة إىل مصادرة غالبية أرايض الفلسطينيني يف‬

‫يسرائيل كاتس‪ ،‬أعلن الحرب عىل األسماء األصلية للبلدات العربية‪،‬‬

‫جديدة لهم‪ ،‬وغيابهم عن مشاريع التطوير وتوزيع املوارد أسوة بباقي‬

‫والقادم إىل هذه املنطقة‪ ،‬غازيًا أو جانحً ا للسلم‪ ،‬محبًّا أو حاقدًا‪،‬‬

‫نبتة غريبة عن مناخه وتضاريسه وأهله‪ .‬وزير املواصالت اإلسرائييل‪،‬‬ ‫وعمل عىل تحويلها إىل أسماء عربية‪ .‬أكرث من ذلك‪ ،‬فقد أراد من‬

‫اللغة العربية أن ترسم االسم العربي بحروفها‪ .‬يافة الناصرة‬ ‫الواقعة بجانب الناصرة يف الجليل ستصبح كما هي الحال يف العربية‬ ‫« َي ِف َّيع»‪ ،‬وبالضبط بهذا الشكل ُكتبت عىل الالفتة يف مدخل البلدة‪،‬‬

‫ويف اليوم التايل محا عابر سبيل هذه الكلمة غريبة التزاوج‪ .‬مدينة عكا‬ ‫يريدون أن ُتك َتب بالعربية «عكو»‪ ،‬وأن ُتك َتب القدس «يروشاليم»‪.‬‬

‫هو الطبقة الفوقية لتغييب الواقع املادي الذي يعيشه الفلسطينيون‬

‫إسرائيل‪ ،‬وتقليص مساحة وجودهم‪ ،‬وعدم إتاحة بناء بلدات‬ ‫السكان‪ ،‬فالفلسطيني اإلسرائييل غائب تقريبًا عن أهم الساحات وهي‬

‫ساحة اإلعالم‪ .‬هنالك ثالث قنوات تلفزيونية مركزية يف إسرائيل‪:‬‬

‫القناة األوىل والثانية والعاشرة‪ .‬يف القنوات الثالث ال يوجد مراسلون‬ ‫عرب‪ ،‬ال يوجد‪ ‬تقريبًا مذيعون عرب‪ ،‬ال يوجد مق ِّدمو برامج عرب‪ ،‬ال‬

‫يوجد ضيوف عرب يف الربامج التلفزيونية املختلفة‪ .‬واألهم من ذلك أن‬

‫وسائل اإلعالم ال تقوم بتغطية ما يجري عىل الساحة بني املواطنني‬

‫ومن الفنانة اللبنانية فريوز مطلوب من اآلن فصاعدًا أن تغيرِّ مطلع‬

‫العرب كأنهم هواء أو مخلوقات شفافة ال يمكن مالحظتها‪ .‬وحينما‬

‫من األحزاب اليمينية املتطرفة إىل سن قانون يقيض بأن اللغة العربية‬

‫الطلب منهم باستعالء استنكاره‪.‬‬

‫أغنيتها «القدس لنا» إىل «يروشاليم لنا»‪ .‬فيما بعد بادر أعضاء برملان‬

‫يُستضاف عرب فإما لزجرهم بسبب عمل إرهابي قام به فلسطيني‪ ،‬أو‬

‫‪83‬‬


‫قضايا‬

‫يف حني أنه‪ ،‬ومن أجل مصادرة أرايض العرب‪ ،‬سُ نَّ قانون‬ ‫خاص ُعرف فيما بعد باسم قانون «الحاضر غائب»‪ ،‬يعني أن العربي‬

‫حاضر بجسده وغائب عن حقه بامتالك أمالكه التي صودرت منه‪.‬‬ ‫هذا القانون يطبق يف باقي املجاالت األخرى بتلقائية‪ ،‬فالعربي حاضر‬

‫الجسد وغائب الحقوق‪ .‬وهكذا فالغريب الذي يشاهد الربامج‬ ‫التلفزيونية واإلذاعية املختلفة سيعتقد أنه موجود يف دولة ال يوجد‬

‫فيها عرب‪ .‬اليوم‪ ،‬ردًّا عىل هذه الحالة العبثية‪ ،‬يجري حراك جدي من‬

‫مؤسسات مدنية يهودية ‪ -‬عربية من أجل تعزيز الحضور العربي يف‬

‫وسائل اإلعالم املختلفة‪ ،‬ويف السنة األخرية شهدنا ارتفا ًعا يف مشاركة‬

‫العرب‪ ،‬يف موضوعات عامة وليس يف تلك التي تخص العرب فقط‪.‬‬

‫العرب يف الدول العربية دورًا بار ًزا يف حجب املعلومات عن الجمهور‬ ‫اليهودي؛ بسبب املوقف السلبي من التواصل الثقايف مع أوساط‬ ‫سالمية إسرائيلية‪ .‬فمثلاً ترجمة الروايات العربية للغة العربية قليلة‬ ‫جدًّا‪ .‬وهنالك من املهتمني اليهود‪ ،‬ونسبتهم ال بأس بها بني املثقفني‪،‬‬ ‫الذين يعملون عىل تعريف القارئ اليهودي باألدب العربي يواجهون‬ ‫صعوبات يف الرتجمة‪ ،‬يف األغلب بسبب رفض الك ّتاب أو الناشرين‬ ‫يف العالم العربي عمومًا التعامل مع دور نشر إسرائيلية‪ .‬يف حني‬

‫الجهات الرسمية واالقتصادية حتى األمنية يف العديد من الدول‬

‫العربية تقيم صالت مع نظرياتها يف الجانب اإلسرائييل‪ ،‬فإن األبواب‬

‫هذا التطور عىل محدوديته بالغ األهمية‪ ،‬من حيث تغيري الصورة‬

‫النمطية عن العرب؛ ألن الفلسطيني اإلنسان الذي يمارس حياته‬

‫الشخصية بجوانبها كافة‪ ،‬يعمل ويتعلم ويلعب ويتألم‪ ،‬غائب عن‬ ‫املشهد اإلعالمي اإلسرائييل وغائب عن الثقافة اإلسرائيلية‪ .‬الفلسطيني‬

‫الذي يشاهده اإلسرائيليون هو «املخرب»‪« ،‬القاتل» و«كاره اليهود»‪.‬‬ ‫نموذج اإلنسان الفلسطيني هو ذلك ا َّ‬ ‫مللثم الذي يحمل حج ًرا أو سكي ًنا‬ ‫أو بندقية للقضاء عىل إسرائيل‪.‬‬

‫‪84‬‬

‫املثقف اليهودي والعرب‬

‫األهم من ذلك أن املثقف اليهودي ال يستمد معلوماته من العرب‬ ‫ً‬ ‫أوساطا ليربالية بني‬ ‫مما يكتبه العرب عن أنفسهم‪ .‬ومع أن هنالك‬

‫املتخصصني يف الشؤون العربية يف اإلعالم اإلسرائييل‪ ،‬فإن كثريين‬ ‫منهم يحمل الصورة النمطية عن العالم العربي ويحاول تعزيزها‪.‬‬

‫وال بد هنا من التنويه بأن املواطن اليهودي العادي ال يمكنه أن يقرأ‬ ‫ما يكتبه العرب؛ ألنه ال يعرف اللغة العربية‪ .‬فاللغة العربية تدرس‬

‫بشكل محدود وهي غري متداولة بسبب هيمنة اللغة العربية عىل‬

‫جميع مجاالت الحياة‪ .‬ويف هذا الصدد تجدر اإلشارة إىل أن للمثقفني‬

‫الربيع العربي يشعل حركة احتجاج ضخمة في تل أبيب‬ ‫ال يمكننا في هذا اإلطار إال التطرق لما ُسمي في حينه الربيع العربي‪ .‬كان االفتراض السائد أن اعتماد الديمقراطية لدى‬

‫الشعوب العربية سيجلب الحركات األصولية إلى سدة الحكم‪ ،‬مع كل ما يعني ذلك من خطر على إسرائيل وعلى وجودها‪ .‬وفي‬ ‫المقابل فإن األنظمة الدكتاتورية في العالم العربي هي الضمان لمنع استيالء األصوليين على الحكم‪ .‬بداية الربيع العربي ّ‬ ‫بشرت‬

‫بعهد جديد‪ ،‬بأن العرب‪ ،‬على عكس التوقعات‪ ،‬ينهضون نحو ديمقراطية حقيقية في مركزها احترام كرامة اإلنسان‪ .‬في تل أبيب‬ ‫مثلاً نهضت حركة احتجاج ضخمة في صيف عام ‪2011‬م متماهية مع التحركات الشعبية في ميدان التحرير في مصر‪ .‬لكن منحى‬

‫التطور‪ ،‬من حيث صعود داعش وعودة األنظمة العسكرية إلى السلطة أحدث ردة فعل مناقضة‪ ،‬من حيث فقدان الثقة بقدرة‬ ‫العالم العربي على تذويب الديمقراطية بمفهومها العميق الذي يجيز التعددية‪ ،‬لكن في الوقت نفسه يعتمد مرجعية قيادية‬

‫واحدة هي مؤسسات الدولة‪ .‬أحداث السنوات األخيرة في العالم هي مادة إعالمية خصبة لليمين اإلسرائيلي في رفضه االنسحاب‬

‫وتحقيق تسوية مع الفلسطينيين‪ ،‬بحجة أنه ال يمكن الثقة بالعالم العربي والدليل هو الحروب األهلية الطاحنة‪.‬‬

‫«خمس دقائق من كفار سابا» هو اصطالح إسرائيلي شائع‪ ،‬أتى للداللة على البعد الجغرافي القصير بين قلقيلية الواقعة‬

‫العددان ‪ 490 - 489‬شوال ‪ -‬ذو القعدة ‪1438‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬أغسطس ‪2017‬م‬


‫الثقافية في إسرائيل؟‬ ‫ما الذي يشغل النخب‬ ‫ّ‬

‫موصدة يف املجال الفكري الثقايف‪ ،‬وكل من يحاول اخرتاق هذا الجدار‬

‫يوصم بالخيانة‪ .‬وهكذا‪ ،‬فإن للتوجهات املنغلقة وغري املفهومة ملثقفني‬ ‫ودور نشر يف العالم العربي دورًا ً‬ ‫أيضا يف إبقاء صورة العربي أسرية‬ ‫أجواء الصراع والتشويه من األوساط املتطرفة يف إسرائيل‪.‬‬ ‫مجرد غرض ساكن‬

‫مشغول بالتفاصيل الصغرية التي يثريها اإلسرائيليون حول الرتتيبات‬ ‫األمنية التي يتوجب اتخاذها‪ ،‬من حيث نقاط مراقبة‪ ،‬ونصب منصات‬

‫إنذار‪ ،‬والسيطرة عىل مرتفعات جبلية داخل املناطق الفلسطينية‪،‬‬

‫ومنع وصول قوات األمن الفلسطيني إىل الحدود الشرقية من الدولة‬ ‫العتيدة‪ ،‬ومئات البنود األخرى‪ .‬ويف خضمّ هذا املعمعان فأمن‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫واحدة من متخذي القرارات‪.‬‬ ‫التفاتة‬ ‫الفلسطيني غائب كأنه ال يساوي‬

‫اليوم هنالك مثل بالغ الوضوح حول تغييب العرب عن‬

‫هذا النهج‪ ،‬نهج الحوار اإلسرائييل الداخيل كأن اآلخر غري‬

‫ال حول له وال قوة‪ ،‬وهو موضوع حل الدولة الواحدة‪ ،‬وبخاصة‬

‫إخفاق قمة كامب ديفيد يف عام ‪2000‬م بني القيادات اإلسرائيلية‬

‫النقاشات املطروحة عىل بساط البحث‪ ،‬وعدّهم مجرد غرض ساكن‬ ‫بعد تصريح الرئيس األمرييك دونالد ترمب يف املؤتمر الصحفي الذي‬

‫موجود‪ ،‬عميق الجذور يف تاريخ الصراع العربي اإلسرائييل‪ .‬يف أعقاب‬ ‫والفلسطينية واألمريكية‪« ،‬ق ّرر» اإلسرائيليون أنهم قدموا األفضل‬

‫لياسر عرفات وكان عليه أن يقبل هذه املقرتحات «السخيّة»‪ .‬وبسبب‬

‫عقده مع رئيس الحكومة اإلسرائيلية بنيامني نتنياهو إبّان زيارة األخري‬ ‫واشنطن مؤخ ًرا‪ ،‬حيث قال‪ :‬إنه مستع ّد لحل الدولة ً‬ ‫أيضا إذا ما أراد‬

‫رفض عرفات هذا العرض نزعوا عنه الشرعية وادَّعوا أنه «ال يوجد‬

‫بني أناس جديني‪ ،‬وقسم منهم معروف بمواقفه املتعاطفة مع‬

‫هذا يقول‪ :‬إن االقرتاحات اإلسرائيلية سخية جدًّا ويجب ضبطها‪،‬‬

‫الطرفان ذلك‪ .‬حول هذا املوضوع يجري اآلن نقاش يقظ يف إسرائيل‬ ‫الشعب الفلسطيني‪ ،‬ويجري ذلك من دون أخذ رأي الفلسطينيني‬

‫أنفسهم يف موضوع يخص مصريهم‪ .‬وهنالك مثقفون يهود يتساءلون‬

‫باستغراب واستهجان؛ كيف من املمكن إجراء هذا الحوار الساخن من‬ ‫دون استطالع رأي أصحاب الشأن؟ هذا التوجه الذي يضع مصلحة‬ ‫إسرائيل يف املركز‪ُ ،‬‬ ‫وتتجاهَ ل املصلحة الفلسطينية هو نهج قديم ُّات ِبع‬ ‫لاً‬ ‫َ‬ ‫يف كل سجال إسرائييل فلسطيني‪ .‬يف قضية األمن مث تجد أن العالم‬

‫يمكن مالحظة الهوة الفكرية اآلخذة‬ ‫في التعاظم في إسرائيل‪ ،‬ليس فقط‬ ‫بين اليمين واليسار التقليديين‪ ،‬بل بين‬ ‫اليمين الكالسيكي واليمين الجديد الذي‬ ‫يريد صبغ كل األجواء بألوانه المتطرفة‬

‫شريك فلسطيني»‪ .‬العبثية يف األمر أن الصراع كان إسرائيليًّا داخليًّا؛‬

‫وذلك يقول‪ :‬إنها معقولة‪ ،‬أما أن يكون لعرفات رأي آخر فهذا يزجّ ه‬ ‫يف خانة التطرف والعداء لليهود‪ .‬حتى يف قضية االنسحاب من املناطق‬

‫املحتلة‪ ،‬فموقف الداعني لالنسحاب ليس نابعً ا من اعتبارات العدل‬ ‫والقانون الدويل‪ ،‬بل هو نابع من اعتبارات املصلحة اإلسرائيلية‪ ،‬بأن‬ ‫ضم املناطق الفلسطينية‪ ،‬سي ّ‬ ‫ُخل بالتوازن الديمغرايف يف إسرائيل‪،‬‬

‫حيث سيصبح العرب نحو ‪ %50‬من السكان‪ .‬ع ُّد العرب خط ًرا‬

‫ديمغرافيًّا هو موقف عنصري‪ ،‬والسؤال هو‪ :‬هل موقفهم سيكون‬ ‫مغاي ًرا لو لم ّ‬ ‫يشكل ضم املناطق الفلسطينية تهديدًا ديمغرافيًّا حسب‬

‫تسميتهم ؟ املثري يف األمر هو وجود أوساط معدودة عىل اليسار تتبنى‬ ‫هذا املوقف‪ .‬وعندما ي َ‬ ‫ُناقش هذا األمر معهم يقولون‪ :‬إنهم يعرفون أن‬ ‫وصف العرب بالخطر الديمغرايف هو أمر غري أخالقي‪ ،‬لكنهم يقولون‪:‬‬ ‫إنها الطريقة الوحيدة التي من املمكن إقناع الجمهور اليهودي بضرورة‬

‫االنسحاب من الضفة‪.‬‬

‫اآلن تحت نفوذ السلطة الوطنية الفلسطينية والمدينة اإلسرائيلية كفار سابا‪ .‬فعلاً ‪ ،‬المسافة قصيرة بين المدينتين‪ ،‬لكنّ المسافة‬ ‫السياسية واالجتماعية واالقتصادية والنفسية بينهما تقدر بسنوات ضوئية‪ .‬وهذه هي الحال اآلن ً‬ ‫أيضا داخل إسرائيل‪ ،‬بين‬ ‫المواطنين العرب واليهود‪ .‬إنهم يعيشون معً ا على قطعة األرض نفسها‪ ،‬لكن كال المجتمعين منغلق على نفسه؛ ألن السياسة‬ ‫العامة تعمل على الفصل وتضييق مساحات االلتقاء بين الشعبين‪ ،‬ومن َثمَّ خلق حالة من االغتراب بينهما‪ .‬تنشط اليوم حركات‬ ‫يهودية عربية من أجل توطيد ما يدعونه «المجتمع المشترك» الذي يهدف إلى إيجاد نقاط التقاء مشتركة بين أبناء الشعبين‪،‬‬ ‫وخوض نضاالت حياتية مشتركة ضد التمييز‪ ،‬ومعالجة قضايا حياتية مشتركة تواجه الشعبين‪ .‬ومع ذلك فسياسة التمييز‬

‫الحكومية ضد العرب تعمل‪ ،‬من دون إعالن ذلك‪ ،‬على ضرب هذا التوجه الذي يقوده تقدميون من كال الشعبين؛ ألن العربي‬ ‫في نهاية المطاف يشعر أنه حتى في هذا اإلطار الصاخب بالنوايا الطيبة يوجد هنالك خلل ما‪ ،‬فهؤالء الذين يريدون ًّ‬ ‫حقا َّ‬ ‫مد يدِ‬

‫التعاون يعيشون في بحبوحة من حيث مساحات األراضي وجودة الحياة‪ ،‬بينما هم‪ ،‬العرب‪ ،‬يعيشون في ظروف سكنية بالغة‬

‫الصعوبة‪ .‬فقط عندما تستطيع القوى المتنفذة في إسرائيل أن تجد الطريق لمصالحة مبنية على العدل بين المجتمعين العربي‬ ‫اليهودي في إسرائيل نفسها‪ ،‬سيكون بإمكانها أن تطرح حلاًّ للصراع الدموي المستمر منذ عشرات السنين‪ ،‬فمن ال يجد لغة‬ ‫مشتركة مع المواطنين العرب الذين يعيشون في الدولة التي يقودها‪ ،‬كيف سيقيم عالقات سالم مع جيرانه العرب؟‬

‫‪85‬‬


‫قضايا‬

‫ترجمة إسرائيل األدب‬ ‫العربي‪..‬‬ ‫الدوافع والمسارات والمآالت!‬ ‫كرم سعيد‬

‫باحث بمركز األهرام للدراسات السياسية واإلستراتيجية‬

‫بدأت إسرائيل منذ ستينيات القرن الماضي االهتمام بشكل ممنهج بترجمة األدب العربي‪،‬‬

‫وبخاصة الرواية التي يعتقد قطاع واسع من علماء االجتماع أنها باتت البديل األوثق لتشريح‬

‫المجتمعات‪ ،‬ومرآة عاكسة لتطورها‪ .‬واألرجح أن اإلبداع الفكري والثقافي والفني ألي مجتمع من‬

‫‪86‬‬

‫المجتمعات يمثل أحد أهم مالمح الهوية في هذا المجتمع‪ ،‬فشخصية المجتمعات تتكون عبر‬ ‫مراحل التاريخ بما مر بها من أحداث‪ ،‬وبما تصدره من ردود أفعال تجاهها من خالل ما يبدعه عقلها‬

‫الجمعي من إبداعات في ميادين الحياة واألنشطة اإلنسانية المختلفة‪.‬‬

‫العددان ‪ 490 - 489‬شوال ‪ -‬ذو القعدة ‪1438‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬أغسطس ‪2017‬م‬


‫المثقفة في إسرائيل؟‬ ‫الثقافية‬ ‫ماذا يشغل النخب‬ ‫ما الذي‬ ‫ّ‬

‫إذا سلمنا أن الصراع العربي اإلسرائييل هو من نوع‬

‫الصراعات االجتماعية املعقدة‪ ،‬فإن البعد الثقايف يمثل‬ ‫جوهر هذا الصراع والجانب األكرث أهمية‪ .‬ولذا أَوْىل‬ ‫ًّ‬ ‫خاصا‪،‬‬ ‫اإلسرائيليون قضايا الفكر والرتاث العربي اهتمامً ا‬

‫ال سيما بعد تفوقها العسكري واألمني‪ .‬وسَ عَ ْ‬ ‫ت إسرائيل‬ ‫طوال األعوام التي خلت إىل استقطاب ُكتاب عرب بهدف‬ ‫ترجمة أعمالهم إىل اللغة العربية عرب دور نشر إسرائيلية‪،‬‬

‫وهو ما أثار أزمة بني املثقفني العرب حيث يعتربها بعض‬ ‫شكلاً من أشكال التطبيع‪ .‬وتزامنت حركة الرتجمة إىل‬

‫العربية مع ظهور الحركة الصهيونية يف نهاية القرن التاسع‬ ‫عشر حيث ظهرت مجلة هشيلواح وأفردت صفحات كثرية‬ ‫أللف ليلة وليلة ومجلة هحداش التي تتضمن مقاالت‬

‫ودراسات مستشرقني وباحثني من الجامعة العربية‬

‫وغريها‪ .‬وفى منتصف الثالثينيات من القرن العشرين‬ ‫بدأ التنفيذ الفعيل لرتجمة األعمال العربية الكربى مثل‪:‬‬ ‫(إعداد سجل ضخم للشعر العربي القديم) عام ‪1935‬م‪.‬‬

‫واألرجح أن حركة ترجمة األعمال العربية من نرث وشعر إىل‬

‫اللغة العربية حركة نشطة ومستمرة وال يوجد أديب عربي له‬ ‫شأن لم ترتجم العديد من أعماله إىل العربية فضلاً عن دراسات‬

‫وأطروحات علمية عن أدباء عرب‪.‬‬

‫واألمر لم يتوقف عند الرتجمة فقط‪ ،‬بل تهتم األكاديميات‬

‫واملؤسسات البحثية اإلسرائيلية بدراسة املجتمع العربي‪ ،‬وهناك‬

‫موسم الهجرة إلى الشمال‬

‫األرواح المتمردة‬

‫ال ينطلق االهتمام اإلسرائيلي بالفكر‬ ‫العربي بمختلف عصوره من رؤية علمية‬ ‫صرفة‪ ،‬إنما من رؤية تستهدف التعرف‬ ‫على المجتمعات العربية التي تتعامل‬ ‫معها على أنها مجتمعات معادية‬ ‫السجالت املعرفية التي يمكن االستناد إليها يف استقاء املعلومات‬

‫من حصل عىل رسائل جامعية يف موضوعات أدبية وفكرية‬ ‫وغريها‪ ،‬واس ُتفيد منهم يف تنسيق األنشطة يف األرايض املحتلة‪.‬‬ ‫رجمت عشرات األعمال العربية إىل العربية‬ ‫عىل صعيد متصل ُت ِ‬

‫يف أحيان كثرية رصدها عرب سائر املصادر املعرفية املباشرة من‬

‫عشيقتي السرية»‪ ،‬لألديب عالء حليحل‪ ،‬و«عمارة يعقوبيان»‬

‫السيد ياسني اهتمام املؤسسات البحثية اإلسرائيلية برتجمة‬

‫أبرزها كتاب‪« :‬قصص األنبياء»‪ ،‬وكذلك كتاب «كارال بروين‬

‫للكاتب عالء األسواين‪ ،‬التي أثارت الكثري من الجدل يف الشارع‬ ‫الثقايف‪ ،‬ورواية «عزازيل» ليوسف زيدان عام ‪2009‬م‪ .‬ومن‬ ‫رجمت رواية «موسم الهجرة إىل الشمال»‬ ‫الروايات العربية ُت ِ‬

‫عن التكوينات التحتية يف مجتمع من املجتمعات والتي يصعب‬ ‫كتابات سياسية واجتماعية وفلسفية»‪ .‬ويفسر املفكر الراحل‬ ‫األدب العربي بمختلف عصوره بأن «أي أدب يرصد العمليات‬

‫االجتماعية التي تصاحب التغري االجتماعي وتلقى األضواء عليها‬ ‫وعىل مساراتها املتعددة وبصورة أكرث برو ًزا ووضوحً ا وحيوية‬

‫للسوداين الطيب صالح‪ ،‬و«األرواح املتمردة» للبناين جربان‬

‫من كثري من البحوث العلمية‪ .‬من هنا االهتمام برتجمة وتحليل‬

‫الشمس» للقاص اللبناين الكبري إلياس خوري‪ ،‬ورواية «بنات‬

‫االجتماعي يف املجتمع وآثاره»‪.‬‬

‫خليل جربان‪ ،‬و«حكاية زهرة» للبنانية حنان الشيخ‪ ،‬و«باب‬ ‫الرياض» للكاتبة السعودية رجاء الصانع‪.‬‬ ‫ترجمة الفكر العربي ملاذا؟‬

‫مضمون األعمال األدبية حتى يضعوا أيديهم عىل مفاتيح التغري‬ ‫يف املقابل ثمة عوامل أخرى وفرت بيئة دافعة لالهتمام‬

‫اإلسرائييل باألعمال األدبية عند العرب؛ أهمها‪:‬‬ ‫أولاً ‪ -‬وقوع الكيان اإلسرائييل وسط تجمع إقليمي عربي‪،‬‬

‫لقد كانت ترجمة الفكر العربي بمختلف أجناسه وعصوره‬

‫وما يتصل بهذا من تباينات يف الهوية وتعارضات عميقة يف بنيتي‬

‫يف التعرف عىل املجتمعات العربية‪ ،‬وهو ما يؤكده الدكتور‬

‫ثانيًا‪ -‬التعرف عىل مكامن القوة والضعف يف الطرف‬

‫أحد املجاالت املهمة والوسائل الحيوية التي يمكن أن تساعد‬ ‫إبراهيم البحراوي يف كتابه‪« :‬األدب الصهيوين بني حربي يونيو‬ ‫‪ 67‬وأكتوبر ‪ »73‬بقوله‪« :‬إن األدب يمثل واحدً ا من أهم وأوثق‬

‫الكيان واملنطقة العربية‪.‬‬

‫العربي؛ إلدماج هذا الجانب يف أسس اإلسرتاتيجية اإلسرائيلية‬

‫العليا إزاء العرب‪ ،‬ويف كيفية إدارة الصراع‪.‬‬

‫‪87‬‬


‫قضايا‬

‫ً‬ ‫ثالثا‪ -‬التداخالت الرتاثية والتاريخية بني الحضارة العربية‬

‫والنتاجات الثقافية ليهود الدول العربية يف النسيج الثقايف‬ ‫العربي واإلسالمي العام‪.‬‬

‫ويحاول اإلسرائيليون اختزال دوافع هذا االهتمام‪،‬‬ ‫فيسوِّقون تربي ًرا ألسباب دعائية فمثلاً يعرب أوريال هايد (أحد‬

‫أساتذة الدراسات الشرقية يف الجامعأوة العربية بالقدس) يف‬ ‫دراسة له عام ‪1961‬م عن دافعني لالهتمام اإلسرائييل بالفكر‬ ‫والشؤون العربية هما‪ :‬املتطلبات املستقبلية واستيعاب اليهود‬

‫الشرقيني‪ .‬يقول هايد حول الدافع األول‪« :‬مهما يكن توجهنا‬

‫األدبي وعالقاتنا السياسية مع جرياننا‪ ،‬فإنه ليس هناك من‬ ‫ينكر أن مستقبلنا القومي مرتبط بمستقبل الشرق األوسط‪،‬‬

‫وإىل حد ما بمستقبل دول آسيا وإفريقيا األكرث بعدً ا‪ ،‬وهذه‬

‫الحقيقة ينبغي أن تضفي عىل اهتمامنا بالشرق األوسط أهمية‬ ‫خاصة وحيوية ووعيًا يزيد عما لدى الباحثني الغربيني»‪.‬‬ ‫وبالنسبة للدافع الثاين يذكر هايد‪« :‬أن استيعاب العدد الكبري‬

‫من املهاجرين من دول الشرق إىل فلسطني يتطلب فهمً ا واسعً ا‬ ‫للظروف السائدة يف بلدانهم األصلية‪ ،‬ودراسة تقاليدهم‬ ‫الخاصة‪ ،‬وفى الوقت نفسه مساعدة مهمة للمعرفة العلمية‬ ‫وللفهم املتبادل بني الطوائف»‪.‬‬

‫‪88‬‬

‫يف هذا السياق العام فإن االهتمام اإلسرائييل باآلداب‬

‫والفنون العربية يظل متمحورًا حول تطلع اإلسرائيليني إىل‬ ‫جعل أبحاثهم يف الفكر العربي بمنزلة مصدر إلحدى القوى التي‬

‫يتطلعون المتالكها‪ :‬لتوظيفها من ناحية عىل صعيد تحقيق‬ ‫التوافق الداخيل يف الكيان الصهيوين‪ ،‬وإذابة التناقضات اإلثنية‬ ‫والفوارق بني شرائح املستوطنني اليهود‪ ،‬ولتوظيفها من ناحية‬

‫ثانية يف النطاق الخاص بكيفية التعامل مع املنطقة العربية‪،‬‬ ‫وكيفية إدارة الصراع وتخطيط شؤون املستقبل وذلك بمعزل‬

‫عاموس عوز‬

‫ديفيد غروسمان‬

‫التيارات األدبية فإن معلوماته عن اإلنسان العربي وعن عامله‬

‫ستكون مشوهة ومرتكزة عىل املعلومات الصحفية اليومية غري‬ ‫العميقة‪ ،‬ويتعلم القارئ اإلسرائييل عن طريق متابعة األعمال‬

‫األدبية العربية يف مجال الرواية واملسرح والشعر كثريًا من‬

‫املفاهيم النفسية لإلنسان يف القاهرة ويف دمشق ويف بريوت‬ ‫وبغداد‪ ،‬وحتى يف الريف املصري واللبناين والسوري‪ ،‬ويتعرف‬

‫بهذه الوسيلة عىل مشاكل ومتاعب األديب العربي واإلنسان‬

‫العادي يف نفس الوقت‪ .‬غري أن الواقع اإلسرائييل يعكس‬ ‫خالف ذلك‪ ،‬فعىل سبيل املثال توتر الداخل اإلسرائييل عشية‬

‫قرار اتخذه يوىس ساريد زعيم حزب مرييتس عندما كان وزي ًرا‬

‫للتعليم‪ ،‬يسمح بتدريس األعمال األدبية الخاصة بالشاعر‬ ‫الفلسطيني محمود درويش‪.‬‬

‫معاهد ومراكز متخصصة‬

‫يف سياق االهتمام اإلسرائييل بدراسة وترجمة أنشطة‬

‫الحركة األدبية والثقافية يف العالم العربي‪ ،‬سعت إىل إنشاء‬ ‫املؤسسات واملراكز البحثية التي تهتم برتجمة ودراسة الفكر‬

‫العربي‪ ،‬ويف محاولة لدفع أبحاث‬

‫عن الدعوات املزيفة التي تتحدث عن الرغبة يف االندماج يف‬

‫املنطقة‪ ،‬وإقامة سالم مع العرب‪.‬‬ ‫دعاوى مزيفة‬

‫ال ينطلق االهتمام اإلسرائييل بالفكر العربي‬

‫بمختلف عصوره من رؤية علمية صرفة‪ ،‬إنما من‬

‫رؤية تستهدف التعرف عىل املجتمعات العربية التي‬ ‫تتعامل معها عىل أنها مجتمعات معادية‪ .‬وإذا كانت‬

‫إسرائيل تروِّج إىل أن اهتمامها بمتابعة وترجمة الفكر‬ ‫األدبي العربي‪ ،‬يأيت يف سياق التكامل والتواصل‬

‫الثقايف املشرتك مع بيئتها اإلقليمية‪ ،‬إذ يقول الباحث‬

‫اإلسرائييل الدكتور ساسون سوميخ‪ :‬إن مطالعة‬

‫الفكر العربي الحديث ضرورة حياتية لكل مثقف‬

‫إسرائييل ولكل قارئ نبيه؛ إذ إنه دون ّ‬ ‫اطالعه عىل‬ ‫العددان ‪ 490 - 489‬شوال ‪ -‬ذو القعدة ‪1438‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬أغسطس ‪2017‬م‬

‫عمارة يعقوبيان‬

‫عزازيل‬


‫الثقافية في إسرائيل؟‬ ‫ما الذي يشغل النخب‬ ‫ّ‬

‫االستشراق إىل تحقيق األغراض املحددة لها‪ .‬وتعد أقسام‬

‫اللغة العربية واألدب العربي من أهم أقسام كليات ومعاهد‬

‫الدراسات اإلنسانية يف إسرائيل‪ .‬ومن أبرز الجهات‪ :‬معهد‬ ‫الدراسات الشرقية‪ ،‬عندما أنشئت مدرسة الدراسات الشرقية‬

‫مع املعاهد األوىل يف الجامعة العربية عام ‪1962‬م كانت الدراسات‬

‫العربية أهم مادة فيها‪ ،‬وخالل السنوات األوىل تحولت املدرسة‬ ‫إىل معهد ِّ‬ ‫يعلم اللغة العربية القديمة والحضارة اإلسالمية‪،‬‬

‫وكذلك التاريخ القديم للبلدان اإلسالمية‪ ،‬والتاريخ العربي يف‬

‫القرون الوسطى‪.‬‬

‫الجمعية الشرقية‪ :‬مع تزايد االهتمام بالدراسات العربية‬ ‫بعد قيام دولة إسرائيل‪ ،‬أُسِّ ست الجمعية الشرقية وهي‬

‫تعنى كما ذكر الربوفيسور جربيل باير (أستاذ تاريخ الشعوب‬

‫اإلسالمية بالجامعة العربية) بتنمية معرفة اللغة العربية‪.‬‬ ‫وتعنى الجمعية بالتطورات السياسية واالقتصادية واالجتماعية‬

‫والثقافية للبالد العربية‪ ،‬ونشر مقاالت يف األدب والنقد األدبي‪.‬‬

‫مؤسسة أبحاث الشرق األوسط‪ :‬استحدثت رئاسة الجامعة‬

‫العربية هذه املؤسسة يف منتصف السبعينيات‪ ،‬والتحق بها‬

‫باحثون وأكاديميون من املعاهد واألقسام التابعة للجامعة‪.‬‬ ‫وتنشر املؤسسة سلسلة من الكتب‪ ،‬إضافة إىل تقارير ونشرات‬

‫دورية باللغة العربية‪.‬‬

‫جامعة تل أبيب‪ :‬تضم جامعة تل أبيب عدة مؤسسات‬

‫بحثية تعنى بالشؤون العربية؛ أبرزها معهد شيلواح للدراسات‬

‫الشرق أوسطية واإلفريقية‪ .‬ويظل من الثابت أن تعدد املراكز‬

‫واملؤسسات البحثية التي تعنى بقضايا الفكر العربي بمختلف‬ ‫تشعباته وارتباطاته إنما يعكس مقدار األهمية التي ُتولِيها‬ ‫إسرائيل إىل معرفة املجتمعات العربية؛ إليجاد عالقات ارتباط‬

‫بني الواقع وبني الصور الذهنية التي يسعون إىل ترسيخها كما‬ ‫يعكس هذا التعدد من ناحية أخرى رغبة إسرائيلية يف امتالك‬ ‫املزيد من عناصر القوة الثقافية إىل جانب القوة العسكرية‬

‫واالقتصادية يف الصراع‪.‬‬

‫حماية الخصوصية الفكرية‬

‫بالنظر إىل غياب املوضوعية اإلسرائيلية يف تناول األعمال‬

‫األدبية واإلنتاج الثقايف العربي‪ ،‬يبقى مهمًّ ا التفكري جديًّا يف‬ ‫حماية خصوصية أعمالنا الفكرية‪ .‬والدعوة لحماية الحقوق‬

‫بنات الرياض‬

‫تُرجمت عشرات األعمال العربية إلى‬ ‫العبرية أبرزها كتاب‪« :‬قصص األنبياء»‪،‬‬ ‫و«عمارة يعقوبيان» للكاتب عالء‬ ‫األسواني‪ ،‬و«موسم الهجرة إلى‬ ‫الشمال» للسوداني الطيب صالح‪،‬‬ ‫و«األرواح المتمردة» لجبران‪ ،‬و«حكاية‬ ‫زهرة» للبنانية حنان الشيخ‪ ،‬ورواية «بنات‬ ‫الرياض» للكاتبة السعودية رجاء الصانع‬ ‫الواردة فيها‪ ،‬وبخاصة أن النزعة الصهيونية تبدو واضحة عند‬

‫تناول األعمال الفكرية العربية والعناصر البشرية العربية‪.‬‬ ‫الدفاع عن حقوق ُ‬ ‫الكتاب العرب واملصريني عن طريق‬

‫ً‬ ‫خصوصا أن بعض املؤلفني اإلسرائيليني الذين‬ ‫املنظمات العاملية‪،‬‬ ‫ُترجمت أعمالهم للعربية يفعلون ذلك‪ ،‬ومنهم‪( ،‬ساميخ يزهار‬ ‫‪ -‬عاموس كينان ‪-‬عاموس عوز‪ -‬يعل ديان ‪-‬يسرائيل شاحاك‪-‬‬

‫ديفيد غروسمان) وغريهم‪.‬‬

‫الفكرية العربية ضد مخاطر الرتجمة العربية املزيفة يف أكرثها‬ ‫تعكس يف هذا اإلطار مدلولاً يعني أن هذه الحقوق أصبحت‬

‫بالتعاون بني كل املثقفني العرب املتخصصني؛ إذ ليس من‬

‫مواجهتها‪ ،‬وسرعة االتفاق حول طرق تحقيق الحماية والردع‪،‬‬

‫تتعلق بلغتنا العربية وما تشتمل عليه بينما تقتصر معرفتنا‬

‫يف موقف يمثل درجة متقدمة من خطورة التعدي ال بد من‬ ‫ومن ذلك‪ :‬جمع الرتاجم والدراسات املنقولة من العربية إىل‬

‫العربية ودراستها دراسة علمية‪ ،‬والرد عىل الكثري من املغالطات‬

‫خلق مؤسسات عربية لرتجمة األعمال العربية واليهودية‬

‫املعقول أن يعرف أصحاب اللغة العربية كل صغرية وكبرية‬ ‫عىل املرتجمات من لغات أخرى غري العربية ويف القليل نجد‬

‫مرتجمات مباشرة عن العربية‪.‬‬

‫‪89‬‬


‫مقال‬

‫عبدالله البريدي‬ ‫كاتب وأكاديمي سعودي‬

‫نحو مقاربة ثقافية تنموية‬ ‫للترفيه في السعودية‬ ‫مفهوم الترفيه يشير ‪-‬في إطاره العلمي العام‪ -‬إلى‬

‫األنشطة التي من شأنها التسلية عن الناس في أوقات‬

‫فراغهم؛ وفق إطارهم الثقافي‪ ،‬وأمزجتهم الخاصة‪ .‬قد يكون‬ ‫من المناسب أن نركب مقاربتنا الثقافية التنموية للترفيه في‬

‫المجتمع السعودي على هذا المفهوم‪ ،‬عبر عمليتي التحليل‬ ‫والتعليق على الكلمات المفتاحية الواردة في هذا المفهوم‪،‬‬ ‫وليكن ذلك في ثالثة محاور كبيرة‪.‬‬

‫‪90‬‬

‫ّ‬ ‫رفه عن نفسك بقدر إنتاجك!‬

‫وردت في المفهوم عبارة «في أوقات فراغهم»‪ ،‬فماذا‬ ‫عساها تعني؟ ماذا عن أولئك العاطلين أصلاً الذين ال يعملون‬

‫وال ينتجون‪ ،‬وكل أوقاتهم فراغ في فراغ‪ ،‬هل هم بحاجة‬ ‫إلى ترفيه؟ أم أنهم يحتاجون بالدرجة األولى إلى العمل‬

‫واإلنتاج؟ هذه المسألة تجرنا إلى التأكيد على أن الترفيه هو‬

‫معوضا عنه‪ ،‬وال ِّ‬ ‫ً‬ ‫مسليًا عن فقده أو‬ ‫نشاط مكمل لإلنتاج‪ ،‬ال‬ ‫ً‬ ‫ضعفه‪ .‬الترفيه ليس هدفا بحد ذاته‪ ،‬بل هو مجرد وسيلة‪.‬‬

‫الترفيه ليس هو الطعام‪ ،‬بل الملح الذي يزينه‪ .‬لقد تشكل‬

‫لإلنسان المعاصر ليكون مندغمًا مع الترفيه وصادرًا عنه‪ :‬أنا ّ‬ ‫أترفه‪،‬‬

‫إذن أنا موجود‪ .‬وهذا ما يجعلنا نرى ترفيهًا تافهًا لمترفهين تافهين‪،‬‬ ‫ال ينتجون شي ًئا وال يقدمون إسهامًا لمجتمعاتهم‪.‬‬ ‫وتأسيسا على ما سبق‪ ،‬أضع بعض النقاط التي أرى أن على‬ ‫ً‬

‫الهيئة العامة للترفيه التفكير حيالها‪:‬‬ ‫أولاً ‪ :‬إعادة النظر في االفتراضات األساسية التي تشكل الخطاطة‬

‫العامة للترفيه‪ ،‬بحيث يكون المكون التنموي ركيزة تخطيطية‪،‬‬

‫إن في الغايات‪ ،‬أو في المراحل‪ ،‬أو في المشاريع‪ ،‬أو في‬ ‫الميزانيات‪.‬‬

‫ثانيًا‪ :‬الحاجة إلى الترفيه تزداد كلما نجحنا فعليًّا في توظيف‬

‫الشباب والشابات وجعلهم منتجين‪ ،‬وزودناهم بمهارات‬ ‫العمل في المستقبل‪.‬‬

‫ً‬ ‫ثالثا‪ :‬إيجاد تشريعات وآليات مشجعة على تبني الترفيه من قبل‬ ‫الشركات والمنظمات‪ ،‬لترسيخ فكرة االرتباط بين الترفيه‬ ‫واإلنتاج‪.‬‬

‫ً‬ ‫رابعا‪ :‬إدخال خبراء محليين في مجال الربط بين مسائل الترفيه‬

‫واألبعاد التنموية والمجتمعية‪ ،‬وهذا يعين على إيجاد هندسة‬

‫وعي مجتمعي يقود إلى عدم القناعة بإنفاق األموال الطائلة‬

‫مجتمعية ذكية لبرامج الترفيه‪.‬‬

‫أو الوفاء باالحتياجات األساسية للناس‪ .‬يخطئ كل من‬

‫وتسويقها في البرامج اإلعالمية والتوعوية‪.‬‬

‫على مشاريع ترفيهية على حساب تشغيل الطاقات الشابة‬

‫يعاند هذه الحقائق أو يتجاهلها‪ ،‬وسيكون للترفية ‪-‬حينها‪-‬‬ ‫حموالت سلبية كبيرة في المخيلة الشعبية‪ ،‬وهذه خسارة‬

‫فادحة يسعنا تجنبها‪ .‬ويتأكد خطورة ما قلناه‪ ،‬بالنظر إلى‬

‫تنامي تطبيق فكر الليبرالية الجديدة في المسار االقتصادي‬

‫ً‬ ‫خامسا‪ :‬تذويب أفكار «الترفيه التنموي» في المناهج والمقررات‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫رفه عن نفسك َو ْفق ثقافتك!‬

‫لو جسدنا المعنى الوارد في هذا العنوان الفرعي‪ ،‬لقلنا‪:‬‬

‫الترفيه صورة بروازها الثقافة‪ .‬ال يستطيع الترفيه االنفالت من قبضة‬

‫المجتمعي في بيئاتنا العربية‪ .‬إن الليبرالية الجديدة ال تؤمن‬

‫الثقافة؛ ال من حيث التشكيل األولي األصلي‪ ،‬وال من جهة التطور‬

‫العوائد واألرباح‪ ،‬ولو كان على حساب إشغال الناس‬

‫ّ‬ ‫مشكل حاكم‪ .‬هذه المسألة نجدها في كل مجتمع‪ ،‬وهي طبيعية‬

‫بفكرة ربط الترفيه بالعمل واإلنتاج‪ ،‬بقدر ما تهتم بتحصيل‬

‫وإضعاف تفكيرهم وإنتاجهم‪ ،‬وحقنهم بالتفاهة والسذاجة‬

‫(للمزيد يمكن القراءة حول مفهوم ‪ .)Tittytainment‬لقد‬ ‫أفلحت هذه الليبرالية في إعادة تشكيل المكون الوجودي‬

‫العددان ‪ 490 - 489‬شوال ‪ -‬ذو القعدة ‪1438‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬أغسطس ‪2017‬م‬

‫المرحلي المتتابع‪ ،‬وال من زاوية ما يقبل وما يرفض منه‪ .‬إنها إطار‬ ‫جدًّا‪ ،‬غير أنها تمثل معضلة في المجتمع السعودي على وجه‬

‫التحديد؛ لماذا؟ ألن الثقافة مأزومة! نعم‪ ،‬هي مأزومة من جراء‬

‫أسباب عديدة ذات طبيعة تراكمية معقدة‪ .‬ومن أهمها السبب الذي‬


‫يعود إلى اشتباك «الثقافي المتنوع» بـ«الديني المنمط» في مسائل‬

‫الترفيه وبرامجه ومساراته‪ .‬الديني المنمط (الفكر السلفي) يصدر‬ ‫«فتاوى جماعية حازمة» لمسائل مختلف حولها دينيًّا وفقهيًّا‪،‬‬

‫كمسائل المسرح والموسيقا والغناء‪ ،‬ويجعلها في مرتبة عالية‬ ‫ً‬ ‫احتقانا شديدًا‬ ‫ُوجد‬ ‫في «هرم التدين السعودي»‪ ،‬األمر الذي ي ِ‬ ‫لدى الفئات المحافظة إزاء البرامج التي تتضمن شي ًئا من هذا‪،‬‬

‫ويدفعهم إلى ممارسات احتجاجية فوضوية‪ .‬الحقيقة عندي أن‬

‫الجميع يتحمل قدرًا من المسؤولية حيال ترسخ الذهنية الدينية‬ ‫المنمطة‪ ،‬وعليهم جميعً ا (السياسي والمجتمعي) أن يعترفوا‬

‫بجسارة وشجاعة‪ ،‬وأن يتقبلوا دفع التكاليف والقيام باالستحقاقات‬

‫الواجبة‪ ،‬من خالل برامح إصالحية ذكية ممرحلة‪.‬‬

‫بدون هذا االعتراف وهات ِه البرامج‪ ،‬لن يتطور المشهد الترفيهي‬

‫السعودي‪ ،‬ولن يكون قادرًا على االنعتاق من اإلسار الديني الممانع‪.‬‬ ‫وللتدليل على ذلك‪ ،‬أعود إلى خزانة الحكايا المجتمعية؛ ألستدعي‬ ‫قصة واقعية ظريفة حصلت في المعهد العلمي الديني في مدينة‬

‫بريدة قبل ما يقارب ‪ 50‬سنة (في حدود عام ‪1391‬هـ‪1971 /‬م)‪ .‬هذي‬

‫الخزانة تقول‪ :‬قامت ثلة من طلبة المعهد (ممن كانوا روادًا لمكتبة‬

‫حين ننظر إلى ردود األفعال المجتمعية‬ ‫لفئات محافظة عريضة حيال بعض برامج‬ ‫الترفيه في اآلونة األخيرة‪ ،‬ندرك أن‬ ‫النهج الممانع في الخطاب الديني‬ ‫التقليدي ال يزال هو سيد المشهد‬ ‫على ٍّ‬ ‫كل‪ ،‬سأطرح جملة من األفكار التي ربما تعين في حل‬

‫جزء من هذه اإلشكالية من زاوية أو أخرى‪ .‬ويمكن لهيئة الترفيه مع‬ ‫الجهات المعنية النظر في كيفية تطبيق هذه األفكار‪:‬‬ ‫أولاً ‪ :‬تعزيز فكرة «دولة القانون» في المجتمع السعودي‪ .‬قد يقال‪:‬‬ ‫ما د ْ‬ ‫َخل القانون في هذه المسألة التي قلنا عنها‪ :‬إنها ذات‬

‫طبيعة دينية مجتمعية؟ باختصار‪ ،‬أقول بأن كثي ًرا من مسائل‬ ‫الترفيه مختلف حولها دينيًّا‪ ،‬ولهذا فإن الحاكم على ذلك‬

‫والضابط له ليس هو الرأي الفقهي لفئة مجتمعية معينة‪ ،‬إنما‬

‫الثقافة العامة ببريدة‪ ،‬وهذه لها قصة ثقافية يجب أن تروى) بإعداد‬

‫هو «القانون»‪ ،‬فما دام القانون ال يعارض إقامة برامج ترفيهية‬

‫الناس‪ ،‬ومنها حثهم على الكذب والغيبة والنميمة‪ .‬اقترح أحدهم‬ ‫تسميتها بـ«برلمان إبليس»‪ُ .‬نفذت المسرحية على حين غفلة من‬

‫بمعارضة إقامتها باحتجاجاته الفعلية‪ ،‬أما طرح اآلراء فقضية‬

‫مسرحية تدور حول األدوار الشريرة التي يلعبها الشيطان في حياة‬

‫شيوخ المعهد‪ ،‬الذين علموا بها بعد ذلك‪ ،‬وهو ما استدعى إصدار‬ ‫ً‬ ‫أحيانا إلى‬ ‫عقوبات تأديبية صارمة للطلبة المشاركين‪ ،‬وقد وصلت‬ ‫َن ْف ِيهم إلى معاهد علمية خارج المدينة ُ(نفي بعضهم إلى المعهد‬

‫المناظر في الرياض)‪ .‬وحين ننظر إلى ردود األفعال المجتمعية‬ ‫لفئات محافظة عريضة حيال بعض برامج الترفيه في اآلونة‬

‫األخيرة‪ ،‬ندرك أن النهج الممانع في الخطاب الديني التقليدي ال‬

‫يزال هو سيد المشهد‪ ،‬ولم تفلح السنوات الطوال في زحزحته نحو‬ ‫المرونة الفقهية الممارَسة في بقية الدول العربية واإلسالمية‪،‬‬

‫وهي المرونة التي تنتج تنو ًعا في الفتاوى واالجتهادات والتطبيقات‪.‬‬ ‫هناك إخفاق كبير في تشجيع الفئات المحافظة على إعادة الترتيب‬

‫للمسائل الجزئية في المنظومة الدينية وهرم التدين السعودي‪.‬‬

‫معالجة هذه المسألة في إطارها التفصيلي تخرج عن نطاق هذه‬

‫المقالة المختصرة؛ لذا سوف نعاود التركيز على مسائل الترفيه‪.‬‬ ‫ال أحسب أن الترفيه في السعودية سينجح في تخطي هذه‬ ‫العقبة َ‬ ‫الكأْداء دون تغيير في طريقة التعاطي معها‪ ،‬من زاوية‬

‫التشخيص والتحليل والتخطيط والتنفيذ‪ ،‬وعلى رأس ذلك االعتراف‬ ‫آنفا‪ ،‬على أنني لست متفائلاً‬ ‫أومأت إليه ً‬ ‫ُ‬ ‫الجماعي الجسور الذي‬ ‫بحدوثه قريبًا؛ لضعف المؤشرات الدالة عليه‪ ،‬ومنها عدم تبلور‬

‫القناعة الكافية بفك االشتباك بين السياسي والديني‪ ،‬على نحو‬

‫يقذف بنا خارج أسوار السلفية المقيدة‪.‬‬

‫معينة نظ ًرا لصدوره عن رأي فقهي معين‪ ،‬فإنه ال يُسمح ألحد‬ ‫حرية تعبير‪ ،‬ويجب أن تكون مكفولة للجميع‪.‬‬

‫ثانيًا‪:‬صدور بيان من المؤسسات والشخصيات الدينية الرسمية وغير‬ ‫الرسمية تعزز هذه القضايا واألفكار‪ ،‬وتحذر من السلوكيات‬ ‫ً‬ ‫قانونا‪.‬‬ ‫االحتجاجية على برامج الترفيه المصرح بها‬

‫ً‬ ‫ثالثا‪ :‬ترسيخ هذه األفكار في المناهج والمقررات والبرامج اإلعالمية‬ ‫والتوعوية‪ ،‬بما يتناسب مع الشرائح المستهدفة‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫رفه عن نفسك َو ْفق مزاجك!‬

‫لكل مجتمع محلي مزاجه الخاص‪ .‬هذا المزاج يُنتج طرائق‬

‫وأساليب محببة وأخرى غير محببة في مختلف جوانب الحياة‪،‬‬

‫ومن ذلك ما يتعلق بالترفيه‪ .‬ومن هنا‪ ،‬فإن من الواجب على هيئة‬

‫الترفيه التعرف على «المزاج الوطني الخاص» للسعوديين بشكل‬

‫عام‪ ،‬بجانب «المزاج المحلي الخاص» في كل منطقة‪ .‬المزاج العام‬

‫الوطني هو مزاج محافظ‪ ،‬ولهذا فإنه من المهم مراعاة ذلك في‬

‫البرامج الترفيهية؛ بما في ذلك الموسيقا والمسرح والسينما؛ إذ إن‬ ‫المناسب للمجتمع السعودي هو الفن المحافظ‪ ،‬وهو الفن الذي‬ ‫أراه أصيلاً وراقيًا في الوقت ذاته‪ .‬الفن الهابط أو الرخيص أو الماجن‬

‫في كل تمظهراته ‪ -‬ال يصلح للمجتمع السعودي‪ ،‬وإن كان ثمة‬‫طلب عليه من جانب بعض ممن ال يشكلون ً‬ ‫نسقا عامًّا‪ .‬ليس هذا‬

‫فحسب‪ ،‬بل تتعين اإلشارة إلى أنه من الطبيعي أن تشمل البرامج‬

‫الترفيهية ما يناسب الفئات المحافظة دينيًّا في جميع المسارات‪ ،‬ال‬

‫‪91‬‬


‫مقال‬

‫سيما أنها تشكل نسبة كبيرة في المجتمع‪ .‬للوفاء بمتطلبات‬

‫واالستشاري واللوجستي الالزم‪.‬‬

‫على تشغيل مكائن اإلبداع الفني المحلي‪ ،‬الذي يتكئ على‬

‫لألمزجة واألذواق‪ ،‬والتعريف بالمبدعين في هذا المجال‪.‬‬

‫المزاج الخاص الوطني والمحلي‪ ،‬فإنه من الضروري العمل‬ ‫األبعاد المجتمعية والدينية والجغرافية‪ .‬سيحقق هذا األمر‬

‫‪92‬‬

‫ميزة تنافسية للفن السعودي األصيل الذي ال يجده أحد إال‬ ‫في هذا البلد‪ ،‬وهو المعبر عن روح البلد وعمقها الثقافي‬

‫الحضاري‪ .‬وفي ضوء ذلك‪ ،‬ال أرى أنه من المناسب ‪-‬على‬

‫سبيل التمثيل‪ -‬التوسع في استجالب فرق استعراضية دولية‪،‬‬ ‫ً‬ ‫عروضا ترفيهية؛ قد ال تكون قادرة على خلق الدهشة‬ ‫لتقدم‬

‫وال على إنبات االبتسامة لدى المجتمع‪ .‬صحيح أن كل شيء‬

‫ً‬ ‫ثالثا‪ :‬تنظيم مسابقات من شأنها تعزيز التنوع والتلبية المناسبة‬ ‫ً‬ ‫رابعا‪ :‬سعي هيئة الترفيه ألن تنأى ببرامجها وطروحاتها عن‬ ‫التصريحات اإلعالمية غير المدروسة‪ ،‬ومن المهم ً‬ ‫أيضا‬

‫النأي عن معالجات بعض الكتاب السعوديين المنتمين لما‬

‫يسمى بـ«التيار الليبرالي»؛ إذ إنهم يصوِّرون القضية على أنها‬

‫انتصار على خصومهم من السلفيين والصحويين‪ ،‬وهذا يزيد‬

‫األوضاع اشتعالاً ‪ .‬باختصار‪ :‬قوموا بعملكم بهدوء‪ ،‬واطلبوا من‬ ‫أولئك الكتاب ّ‬ ‫الكف عن التهويل والمبالغة في خلق المعارك‬

‫قد تمت عولمته‪ ،‬ومن ذلك الترفيه والنكت‪ ،‬لكنه صحيح ً‬ ‫أيضا‬

‫الوهمية مع األطراف األخرى‪ .‬قولوا للطرفين‪ :‬لسنا بحاجة‬

‫القدر من «الضحك الجواني»‪ ،‬في داللة على رسوخ البعد‬

‫في إعادة التفكير بالترفيه من منظور ثقافي تنموي‪ ،‬يتأسس‬

‫أن ما يضحك هذا الشعب قد ال يضحك الشعب اآلخر بذات‬

‫ِّ‬ ‫سيمكن‬ ‫المحلي في الترفيه والنكتة‪ .‬النهج المتعقل المتوازن‬

‫إلى صداعكم وتناحركم‪ .‬آمل أن تسهم هاته المقاربة األولية‬

‫على الحقائق الصلبة‪ .‬ويمكن لهيئة الترفيه أن تجعل مبادرة‬

‫الهيئة من جعل برامج الترفيه مالئمة ألمزجة الناس ومشبعة‬

‫مجلة «الفيصل» في استكتابي حول هذا الموضوع نواة إلقامة‬

‫لهذا انعكاسات إيجابية على تقويم أداء الهيئة وإنجازاتها‪.‬‬

‫االجتماعية واإلنسانية والشرعية؛ لطرح أبحاثهم حول المسائل‬

‫ألذواقهم‪ ،‬وملبية لتطلعاتهم الوجدانية والنفسية‪ ،‬وسيكون‬

‫وهنا أضع بعض األفكار العامة أمام هيئة الترفيه‪ ،‬فلربما‬

‫تكون مفيدة في الجوانب التخطيطية والتنفيذية‪ ،‬ومنها‪:‬‬ ‫أولاً ‪ :‬الحرص على تنويع البرامج الترفيهية المنفذة من جانب‬ ‫هيئة الترفيه‪ ،‬ومن ذلك مراعاة احتياجات المناطق‬

‫المختلفة والفئات المحافظة‪ ،‬والسعي لسدها بشكل‬ ‫كاف‪ ،‬وبقوالب متوازنة‪.‬‬ ‫ٍ‬

‫ثانيًا‪ :‬التشجيع على تأسيس معاهد فنية متنوعة‪ ،‬من أجل‬ ‫صقل المواهب المحلية المبدعة في مجاالت الفن‬

‫والمسرح والعروض ونحوها‪ ،‬مع تقديم الدعم المالي‬ ‫العددان ‪ 490 - 489‬شوال ‪ -‬ذو القعدة ‪1438‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬أغسطس ‪2017‬م‬

‫ندوات علمية متتابعة‪ ،‬يُد َعى إليها متخصصون في العلوم‬

‫واإلشكاليات المحيطة بقضية الترفيه‪ ،‬وما أكثرها‪ ،‬وما أعقدها‪،‬‬ ‫وما أحوجها لما أسميه بـ«الصدق الممنهج»‪ .‬هذا الصدق هو‬

‫المعبر عن روح المثقف الحقيقي‪ ،‬الذي يؤمن بأن الصدق وحده‬

‫هو ما يجعل مشاكل وطنه جزءًا من الماضي ال المستقبل‪.‬‬ ‫وأخي ًرا وبكل صراحة‪ ،‬أقول‪ :‬المسألة معقدة وتتطلب‬

‫معالجات علمية وفكرية معمقة؛ لتفكيك االشتباكات المعقدة‬

‫بين األنساق واألفكار والتيارات‪ ،‬بين ذهنية الماضي وذهنية الحاضر‬ ‫والمستقبل‪ .‬ال أحسب أن هيئة الترفيه ستفلح في تخطي العقبات‬ ‫والتحديات الكبار دون نهج علمي متعقل متوازن‪.‬‬


‫نصوص‬

‫مفكرة الحرب‬ ‫محمد الشلفي‬

‫شاعر يمني‬

‫خلسة يدلفون إلى المدينة‪ ‬‬

‫مرت الريح‪..‬‬

‫لرؤوس مفخخة بوصايا الموت‬

‫بما يكفي ألن نمضي بجراح غائرة‬

‫يجوبونها بأقدام مشققة‪ ‬‬

‫غير أننا انكسرنا‬

‫وأكتاف تتباهى بصورة القائد على البنادق‪...‬‬

‫سنوات قادمة‪.‬‬

‫ومفجوعين‪ ‬‬

‫أيها الوطن المقهور‬

‫البنادق التي ستحصد قتلى‪ ‬‬ ‫ومقهورين‪ ‬‬ ‫ونازحين‬

‫ومنافي كثيرة في الصدور!‬

‫***‬

‫أيتها الشوارع التي شهدت حبي‬

‫أشبعت نهمها االنتكاسات‬ ‫اسمعها نصيحة مني‪:‬‬ ‫ُخذ من سعادتك َ‬ ‫أل َلمِ ك‬

‫أمسك ل َِغدِك‬ ‫مِ ن ِ‬ ‫مِ ن يومِ ك َ‬ ‫مسك‬ ‫أل ِ‬

‫من لحظتك لك‪...‬‬

‫تجتاحك الميليشيا بأقدامها الغالظ‬

‫سيطول انتظارك لغفوة أخرى‪...‬‬ ‫ما أَ ِع ُدك به‬

‫كنت أتحدث في الحب‬

‫أنك ستكون‪..‬‬

‫كنت أحمل وردة‬

‫ويحملون رصاصة‬

‫ويتحدثون في الموت‬ ‫كنت أالحق النجوم‪ ‬‬

‫ويطاردون الجثث والخصوم‬

‫كنت أوزع عشقي على الكائنات‬

‫ويوزعون الكراهية على األرصفة‬

‫ال يحبون العصافير‬

‫يحبون دوي المدافع أكثر‪.‬‬

‫ستعلمين أيتها الشوارع الحزينة‬

‫أن صوت الحياة أعلى من دوي المدافع‪.‬‬ ‫***‬

‫أنها ستأتي في نهاية المطاف‬

‫وسيبقى أثر الطعنة ال يفارقك‪.‬‬

‫‪93‬‬


‫حوار‬

‫مفكر بحريني أكد أنه في غياب األسس الحديثة لبناء‬ ‫الدولة العربية يتوجه الفرد العربي إلى قبيلته أو مذهبه‬

‫علي فخرو‪:‬‬

‫البترول فرصة تاريخية كبيرة‬ ‫أضاعها الخليجيون‬ ‫حاوره في المنامة‪ :‬علي القميش‬ ‫أوضح المفكر العربي علي فخرو أن بناء الدولة العربية على أسس‬

‫حديثة لم يتم حتى اآلن؛ ما دفع باإلنسان العربي إلى التوجه إلى القبيلة أو‬ ‫المذهب‪ .‬ويلفت إلى أن األفكار القوميّة والليبراليّة تراجعت‪ ،‬ما أوجد ً‬ ‫نوعا‬

‫‪94‬‬

‫من الفراغ في الحياة السياسية العربية‪ ،‬ليأتي اإلسالم السياسي ويحتله‪.‬‬ ‫وقال فخرو في حوار لـ«الفيصل»‪ :‬إن الصراع الطائفي في المنطقة اآلن له‬ ‫تأثيراته البالغة في تفكير الشباب‪ ،‬الذين ال يفكرون في العدالة االجتماعية‬

‫أو في حرية اإلنسان‪ ،‬أو في المواطنة أو الدساتير أو القوانين‪ ،‬إنما في‬ ‫قضية الشيعة والسنة‪ .‬وذكر أن العرب ليس لديهم عقد اجتماعي ُّ‬ ‫ينص‬ ‫وينظم العالقة بين المواطنين بالتساوي‪ ،‬مشيرًا إلى أن أكبر إهانة‬ ‫توجه للشعب العربي هو القول بأنه ألعوبة في أيادي كل من‬ ‫َ‬ ‫حدث‪ ‬في الربيع العربي هو زخم تاريخي‬ ‫هب ودب‪ ،‬وأن ما‬ ‫حقيقي‪ .‬وأكد أن دول الخليج‬

‫أضاعت فرصة تاريخية كبرى‬ ‫تتمثل في البترول‪ ،‬مشد ًدا‬

‫على اتحاد دول الخليج ومعهم‬

‫العراق واليمن إذا ما أرادت‬ ‫عالقة أخوية وندية مع إيران‪.‬‬

‫العددان ‪ 490 - 489‬شوال ‪ -‬ذو القعدة ‪1438‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬أغسطس ‪2017‬م‬


‫● ربما تكون من بين ‪ ‬أكثر المراقبين‪ ‬لما يحدث في‬

‫ً‬ ‫تحديدا من بزوغ ظواهر مثل‪« :‬التوحش»‪،‬‬ ‫الشرق األوسط‬

‫و«التطرف» وتفلت «الكراهيات»‪ ،‬مفردات بزغت في السنوات‬ ‫القليلة الماضية في منطقة الشرق األوسط‪ ،‬ومن خاللها‬

‫عاشت المنطقة سلسلة من الصراعات القاتلة قادتها تنظيمات‬

‫كــ«داعش» أو ما يسمى «بالدولة اإلسالمية»‪ ،‬و«النصرة»؛ كيف‬ ‫تقرأ تلك الظاهرة؟ وما الذي جعلها تتسع بهذا الشكل الخطر‬ ‫في منطقتنا؟ ‪ ‬‬ ‫■ باعتقادي‪ ‬تلك هي‪ ‬أخطر ظاهرة تواجه األرض العربية‬ ‫واإلسالمية في هذا القرن‪ ،‬وال أعتقد أنها قد واجهت إمكانية‬ ‫تدمير كما هي اآلن‪ ،‬ليس تدمي ًرا وحسب‪ ،‬إنما ً‬ ‫أيضا وضعها‬

‫الصراع الطائفي في المنطقة اآلن‬ ‫له تأثيراته البالغة في تفكير الشباب‪،‬‬ ‫فهم ال يفكرون في العدالة االجتماعية‬ ‫أو في حرية اإلنسان‪ ،‬إنما هم‬ ‫مشغولون بقضية الشيعة والسنة‬ ‫‪ ‬إذن من الناحية السياسية إنهم يكوِّنون فعلاً كتلة حرجة‬

‫وخطرة جدًّا‪ ،‬اإلشكالية اآلن أن هؤالء إن هُ زموا في الموصل وفي‬ ‫الرقة وأُخرجوا من العراق أو ما عاد لهم وجود على األرض‪ ،‬فإن‬ ‫علينا الوقوف أمام ظاهرة الذئاب الفردية التي ستنتقل بعد ذلك‬

‫أمام العالم موضع الخطر الدائم‪ .‬حين تراقب ردود الفعل‬

‫لتكوين جماعات صغيرة ال تلتزم بقيادة واحدة‪ ،‬بل بقيادات‬

‫يستعمل ورقة اإلسالميين ويشير إلى اإلسالميين المتطرفين‬

‫توجيهات داعش لشبابها وعناصرها‪ ،‬ومن الممكن أن ينطبق هذا‬ ‫أيضا على اآلخرين‪ ،‬بضرورة أن يهيئوا أنفسهم لحلق ِّ‬ ‫ً‬ ‫اللحى وارتداء‬

‫المتعددة لوصول ترامب لمنصب الرئاسة‪ ،‬وقراراته العجيبة‪،‬‬ ‫ً‬ ‫وتوحشا ودائمً ا‬ ‫أوربا وترددها‪ ،‬اليمين األوربي الذي يزداد قوة‬

‫العنيفين اإلرهابيين؛ فالتأثيرات هائلة وإذا استمرت لمدة طويلة‬ ‫في اعتقادي أنها ستكوّن أخطارًا رهيبة على هذه المنطقة كلها‪،‬‬ ‫لهذا السبب أصبحت اإلشكالية اآلن معقدة كثي ًرا‪ ،‬ويمكننا النظر‬

‫إليها على مستويين؛ المستوى السياسي‪ ،‬والمستوى الثقافي‪.‬‬

‫وأشكال مختلفة‪ ،‬وفي هذه الظاهرة ال بد من االلتفات إلى‬

‫اللباس الغربي‪ ،‬واستخدام العطور المشبَّعة بالكحول؛ كي ال‬

‫ً‬ ‫ً‬ ‫إطالقا‪ ،‬فيسهل ترتيب أمورهم وانقضاضهم‬ ‫عرضة للشك‬ ‫يكونوا‬

‫بين الحين واآلخر‪ ،‬يفجرون هنا ويقتلون هناك‪ ،‬هذي الظاهرة‬

‫األخيرة هي أخطر ما في الموضوع؛ ألنها ال تنتهي‪ ،‬تستطيع أن‬ ‫تستمر ألمدٍ بعيد‪ .‬وهناك دائمًا مجموعات من الشباب الذين‬

‫في الواقع السياسي نحن أمام ظاهرة تتقلب وتتغير حسب‬ ‫ً‬ ‫أفغانا يحاربون ضد االتحاد السوفييتي‬ ‫الظروف‪ ،‬بدأت بكونهم‬

‫يسهل اللعب بعقولهم وخديعتهم ليُجَ ُّروا لمثل هذه المصيدة‪.‬‬

‫تلك المشاعر والحركات الشبابية بخبث شديد من قبل ‪...CIA‬‬

‫الغرب عندهم مشاكل‪ ،‬وهؤالء الشباب يريدون أن يحرروا هذه‬

‫الملحد من أجل الديمقراطية الغربية العظيمة‪ ،‬استعملت‬

‫والقصة معروفة‪ ،‬لكن االنتهازية األميركية ال يمكنها التوقف عند‬ ‫حد‪ .‬سقط االتحاد السوفييتي؛ هل تتوقف هناك؟ بالطبع ال‪،‬‬

‫فهي تريد استعمالهم بكل األنواع‪ ،‬جاءت فرصة العراق؛ احتالل‬ ‫العراق والمقاومة وسمح بصورة مؤكدة لهذه الحركة أن تنتقل‬ ‫من أفغانستان إلى العراق‪ ،‬وهناك القصة ً‬ ‫أيضا معروفة‪ ،‬كيف‬

‫أراض كثيرة‪،‬‬ ‫تطورت إلى أن وصلت إلى مرحلة االستيالء على‬ ‫ٍ‬ ‫ثلث العراق تقريبًا‪ ،‬حتى تعقدت األمور وتداخلت معها بعض‬ ‫الدول األوربية‪ .‬وال شك أن لالستخبارات اإلنجليزية دورها ً‬ ‫أيضا‪،‬‬

‫السؤال اآلن‪ :‬هل األسباب فقط سياسية مختزلة في أن‬

‫األرض من ال ِّربْقة‪ ،‬هذا الكالم غير صحيح؛ ال هؤالء معنيون‬ ‫بإخراج االستعمار‪ ،‬وال معنيون ً‬ ‫أيضا بإسقاط الصهيوني في‬ ‫فلسطين‪ .‬فلننظر اآلن إلى الجانب الثقافي؛ فهذه الظاهرة ال يمكن‬

‫أن تجتث فقط ما له تأثير بالجانب األمني أو السياسي أو وجود‬ ‫تحالفات بأشكال مختلفة‪ ،‬هؤالء من المؤكد أنهم يستندون إلى‬

‫خلفية ثقافية إسالمية‪ ،‬وهي خلفية لها تاريخ طويل جدًّا‪ ،‬ومع‬ ‫األسف الشديد‪ ،‬إنها ظاهرة قراءة فقهية وقرآنية خاطئة‪ ،‬وبالتالي‬

‫ال ب ّد لنا اآلن أن نسأل‪ :‬هل نحن قادرون على أن ندخل في حركة‬ ‫إصالحية للمجال الديني؟ أنا ال أقول حركة إصالحية للقرآن أو‬

‫حتى أصبحت بعد ذلك لعبة في يد بعض الدول العربية‪ ،‬بعض‬ ‫دول الخليج من المؤكد ً‬ ‫أيضا أنها دخلت في اللعبة من أجل أن‬

‫للوحي الذي نزل لكنها حركة إصالحية تتوجه إلى ثالثة أشياء‪:‬‬

‫هؤالء في ليبيا ومن قبلهم استعملوا في اليمن وهلم ج ًّرا‪ ،‬واآلن‬

‫األحاديث ضد اإلسالم واإلسرائيليات وغيرها‪ ،‬وهذه يجب أن‬

‫تستعمل هؤالء‪ ،‬واس ُتعمِ ل هؤالء في سوريا‪ ،‬واآلن يُستعمَل‬

‫من الممكن أن تتمدد إلى أماكن أخرى كلما أرادوا أن يتدخلوا‬ ‫أو يسقطوا نظامً ا معي ًنا يستعملون األسلوب نفسه‪ ،‬إذن اآلن‬

‫الشيء األول هو علوم الحديث‪ ،‬وهي علوم اندست فيها ألوف‬ ‫تواجَ ه‪ .‬ال نستطيع القول‪ :‬إننا ال نعرف ما الصحيح وما الخطأ‪،‬‬

‫الخطأ هو كل ما يعارض ما جاء في القرآن الكريم‪ ،‬وما يعارض‬

‫هؤالء أصبحوا جزءً ا من ظاهرة عالمية بالغة التعقيد؛ فيها‬

‫المقاصد الكبرى لإلسالم‪ ،‬والخطأ هو كل ما يمس شخصية‬

‫تلعب أدوارًا من أجل أن تبيع السالح‪ ،‬يطلبون السالح وبعض‬

‫الغيب‪ ،‬ما يتكلم عن أمور من الواضح جدًّا أنها أدخلت‪ ‬الصراعات‬

‫استخبارات‪ ،‬وفيها حكومات‪ ،‬وفيها أموال هائلة‪ ،‬وفيها شركات‬ ‫الدول تدفع الثمن‪.‬‬

‫الرسول صلى الله عليه وسلم‪ ،‬وما يتكلم عن الغيب وهو ال يعرف‬ ‫السياسية السابقة‪ :‬الشيعة والسنة واإلباضية‪ ،‬هذا كله وأكثر‪.‬‬

‫‪95‬‬


‫حوار‬

‫الشيء الثاني ما يتعلق بعلوم الفقه؛ الذين اجتهدوا في‬

‫■ هناك ضمور في الثقافة السياسية؛ يعني في حقبة‬

‫حنيفة بشر‪ ،‬والشافعي بشر‪ ،‬وغيرهم جزاهم الله خي ًرا ألنهم‬ ‫اجتهدوا من أجل أن يوجدوا حلولاً ألوضاع مختلفة عن أيام‬

‫الفكر الحديث السياسي المتعلق بالدولة وبالقومية وبالوطنية‬ ‫وبالدساتير‪ ،‬بدأ ينتعش شي ًئا فشي ًئا‪ ،‬السقوط المذهل للمشروع‬

‫ّ‬ ‫كل المدارس الفقهية كانوا بش ًرا‪ :‬جعفر الصادق بشر‪ ،‬وأبو‬

‫الرسول صلى الله عليه وسلم‪ ،‬وهذا شيء صحيح لكنهم كانوا‬

‫يستعملون علوم عصرهم‪ ،‬وأفكار عصرهم‪ ،‬وظروف عصرهم‪.‬‬ ‫الظروف اآلن كلها تغيرت‪ ،‬ال يمكن القول بأنّ ما قاله الشافعي‬

‫أو جعفر الصادق يجب أن يؤخذ به اليوم‪ ،‬الذي يجب أن يؤخذ‬

‫به هو وجوب إيجاد حركة إصالحية تقرأ الفقه من جديد‪ ،‬وتقرأ‬ ‫ً‬ ‫ارتباطا ً‬ ‫وثيقا بين هذا المجال‬ ‫علوم األحاديث من جديد‪ ،‬وتضع‬ ‫الديني اإلسالمي وبين علوم العصر‪ ،‬هناك تحوالت كبرى في‬

‫اللسانيات وفي األنثروبولوجي‪ ،‬وفي قراءة التاريخ‪ ،‬وفي طرق‬ ‫النقل‪ ،‬وفي قراءة الكلمة وإلى آخره‪ ،‬ونحن ندرك ذلك كله‪،‬‬

‫وال نستطيع أن نتجاهل وتقول‪ :‬ال‪ ،‬ما قاله السلف هو الشيء‬ ‫ٍّ‬ ‫تحد‪ ،‬إيجاد‬ ‫الصحيح‪ ،‬هذه القضية في اعتقادي هي أكبر‬

‫أنفسهم‬ ‫حركة إصالحية للمجال الديني؛ كي ال يجد الشباب‬ ‫َ‬ ‫دس في عقولهم ادعاءات منسوبة إلى المقدَّ س‬ ‫متخبطين ُت ُّ‬ ‫فيأخذون بها ويعملون بها‪ ،‬تلك قضايا معقدة تحتاج في‬ ‫تفكيكها لساعات طوال‪ .‬‬

‫‪96‬‬

‫سقوط المشروعين‪ :‬الناصري والبعثي‬

‫الخمسينيات من القرن الماضي‪ ،‬أو حتى األربعينيات ظهر‬

‫القومي وتوحيد األمة العربية وغيره‪ ،‬ولنكن أكثر وضوحً ا؛‬ ‫مشروع الرئيس الراحل جمال عبدالناصر في مصر‪ ،‬ومشروع‬ ‫حزب البعث الذي نشأ في سوريا وفي العراق‪ ،‬الجميع فشل‬

‫ألسباب كثيرة ال يمكن الخوض فيها‪ .‬ال الرئيس عبدالناصر‬ ‫استطاع أن يحقق تلك النظرة؛ قضية الوحدة والحرية‬

‫واالشتراكيّة‪ ،‬وال حزب البعث استطاع أن يحقق ذلك‪ ،‬وضيّع‬

‫االثنان مناسبات كثيرة جدًّا بسقوط المشروع القومي‪ .‬حزب‬

‫البعث ارتكب حماقات ال أول لها وال آخر ويجب أن يق ّر بذلك‪،‬‬ ‫يكفي أن نذكر مثلاً واحدًا لفشل حزب البعث‪ ،‬أولاً عندما وقف‬ ‫مع انفصال سوريا عن مصر ارتكب جريمة كبرى بحق‪ ،‬وعندما‬ ‫كان يحكم سوريا والعراق كان يستطيع أن يوحّ د سوريا والعراق‬

‫في دولة قوية‪ ،‬أقوى دولة عربية‪ ،‬وأغنى دولة عربية‪ ،‬وأقدر‬ ‫دولة عربية‪ ،‬وأكثرها نموًّا في الزراعة وفي الصناعة وفي العلم‪،‬‬

‫إنما لم يفعل ذلك!‬

‫مع األسف فإنّ الشعارات التي رفعت لم تطبّق‪ ،‬ولم يؤخذ‬

‫بها‪ ،‬ودخل حزب البعث في المغامرات العسكريّة واألمنيّة‪ ،‬إذن‬ ‫ذلك السقوط السياسي رافقه مباشرة سقوط ثقافي سياسي‪،‬‬

‫● كالمك يتقاطع مع الرؤية التي تذهب إلى أن حركات‬

‫تراجعت األفكار القوميّة‪ ،‬وتراجعت األفكار الليبراليّة‪ ،‬ووجد نوع‬ ‫من الفراغ في الحياة السياسية العربية‪ ،‬هذا الفراغ ّ‬ ‫احتله اإلسالم‬

‫المنطقة سواء كانت دينية أو ثقافية‪ ،‬ترى هل يعاني خطابنا‬

‫االشتراكي بعد سقوط االتحاد السوفييتي‪ ،‬وإذا هناك فراغ هائل‬

‫التطرف في منطقة الشرق األوسط ودوائر التوحش ما هي إال‬ ‫صناعة استخباراتية‪ ،‬ولكن هناك ً‬ ‫أيضا استثمار لدوائر الجهل في‬

‫السياسي‪ ،‬تم ركن الفكر القومي‪ ،‬والفكر الليبرالي‪ ،‬وكذلك الفكر‬

‫العربي بشكل عام والديني بشكل خاص ضمورًا‬

‫في الساحة السياسية والثقافية العربية مألها اإلسالم السياسي‪،‬‬

‫خطِ رًا في مكوّناته الثقافية الحقيقية‪ ،‬‬ ‫َ‬ ‫أشرت في حديثك‬ ‫بحيث أصبحنا كما‬ ‫أننا بحاجة إلى إعادة صياغة المك ِّون‬ ‫الثقافي والعمل على ترميمه؟‬

‫الذي مع األسف له إشكالياته؛ منها إشكالية عدم قدرته على‬

‫أن يقرأ قراءة حديثة لمنطوق الوحي من جهة‪ ،‬وقراءة حديثة‬

‫للتراث الفقهي والتراث الحديثي من جهة أخرى‪ ،‬والنتيجة رأيناها‬ ‫عندما استلم اإلخوان المسلمون الحكم في مصر‪ ،‬كيف تخبطوا‬ ‫وأضاعوا فرصة العمر‪ ...‬ال ب ّد من النظر اآلن إلى العمل السياسي‬

‫اإلسالمي في تونس الذي تعلم درسً ا وما زال يحاول‪ ،‬وبالفعل‬ ‫ما زالت لدى حزب النهضة في تونس محاوالت لتطوير الفكر‬

‫السياسي اإلسالمي‪ ،‬بحيث يتعايش أكثر مع العصر الحديث‪،‬‬ ‫لكنه تطوير محدود وتونس بلد صغير ال يمكن أن يؤثر كثي ًرا‪ ،‬كان‬

‫المؤمل على الحركة اإلسالمية السياسية في مصر أن تقود ذلك‪.‬‬

‫● هل هناك فراغ ثقافي؟‬ ‫■ هناك نوع من المأساة الثقافية الحقيقية في داخل األرض‬

‫بتفكير ذاتي‪ ،‬فكر حزب البعث‬ ‫العربية‪ ،‬لماذا؟ ما أردناه نحن كان‬ ‫ٍ‬

‫كان تفكي ًرا ذاتيًّا عربيًّا‪ ،‬والرئيس جمال عبدالناصر حركته كانت‬

‫العددان ‪ 490 - 489‬شوال ‪ -‬ذو القعدة ‪1438‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬أغسطس ‪2017‬م‬


‫علي فخرو‪ :‬البترول فرصة تاريخية كبيرة أضاعها الخليجيون‬

‫ذاتي‪ ،‬واإلسالم السياسي كان من المفترض ً‬ ‫أيضا أن يكون‬ ‫بتفكير ٍّ‬ ‫ٍ‬

‫ذاتيًّا‪ ،‬إنما اآلن دخلت علينا ثقافات أخرى لها تأثيراتها البالغة؛‬ ‫ثقافة العولمة هي ثقافة جديدة ُتشدّد كثي ًرا على الفرديّة إلى‬

‫ح ّد أنها تمحو المجتمع في حياة اإلنسان‪ ،‬وتمحو العائلة في‬ ‫حياة اإلنسان‪ ،‬تشدد على االستهالك النهم الدائم‪ ،‬تشدد على‬

‫الجانب االقتصادي البحت في حياة اإلنسان‪ ،‬بل الجانب المالي‬

‫البحت‪ ،‬وقد أوجدت اآلن وضعً ا ثقافيًّا اقتصاديًّا وسياسيًّا بالغ‬ ‫ّ‬ ‫محل انتقاد شديد في الوقت الحاضر‪ .‬كل هذه‬ ‫التعقيد‪ ،‬وهو‬ ‫األمور طبعً ا لها تأثيراتها البالغة على شباب األمة العربية‪ ،‬فهم‬ ‫اآلن في حالة ضياع وتيه في فوضى هذا الفكر العولمي الذي ال‬

‫يستطيع أن يحل إشكالياتك المحليّة‪ ،‬هو يخدم مصالح واضحة‬ ‫المعالم للدول الرأسمالية الكبيرة الغنية‬

‫جه للشعب العربي هو‬ ‫أكبر إهانة تُو َّ‬ ‫القول بأنه ألعوبة في أيادي كل من‬ ‫َ‬ ‫حدث‪ ‬في الربيع العربي‬ ‫هب ودب‪ ،‬ما‬ ‫هو زخم تاريخي حقيقي‬ ‫انتخاب حكومة ظلمتني‪ ،‬الحزب الذي ّ‬ ‫يمثلها في البرلمان‬ ‫ال أنتخبه‪ ،‬حينئذٍ ال حاجة ألن يستعمل العنف أو يتوجه إلى‬ ‫أيّة جهة لتحميه‪ ،‬هو قادر بصوته أن يُحدث ً‬ ‫فرقا كبي ًرا جدًّ ا‪،‬‬

‫لكننا لألسف ال نمتلك مثل هذه الوسائل والطرق التي يتوجه‬

‫لها اإلنسان فيضطر ألن يلجأ إلى العنف‪ ،‬إذن القضية هي أن‬ ‫بناء الدولة العربية على أسس حديثة لم‬

‫والشركات الكبيرة‪ ،‬أما أنت بوصفك فردًا فال‪.‬‬ ‫اليوم يشهد الغرب ً‬ ‫أيضا حركة تم ّرد بالنسبة‬

‫يتم حتى اآلن‪ ،‬وما لم يتم ذلك‪ ‬فاإلنسان‬

‫العربي سيذهب ويتوجه إلى قبيلته أو‬

‫للفكر العولمي‪ ،‬وهناك نقطة ال بد من‬

‫مذهبه أو إلى عرقه‪.‬‬

‫الدخول فيها؛ الصراع الطائفي في المنطقة‬

‫إرث استبدادي‬

‫اآلن له تأثيراته البالغة في تفكير الشباب‬

‫● ما الذي يمنع قيام الدولة العادلة؟‬

‫فهم ال يفكرون في العدالة االجتماعية أو في‬ ‫حرية اإلنسان‪ ،‬وال في المواطنة أو الدساتير‬

‫أو القوانين؛ ألنهم ببساطة مشغولون جدًّا‬ ‫بقضية الشيعة والسنة‪.‬‬

‫جمال عبدالناصر‬

‫من خالل مسار التاريخ تجد أن النخب‬ ‫الحاكمة في المناطق العربية ُتبقي على‬

‫تلك النتوءات التي تضع طائفة ما في‬

‫مقابل طائفة أخرى‪ ،‬وهل أنت مع من يذهب إلى أن السلطات‬

‫● في هذا السياق الخطاب الطائفي الذي استشرى في‬

‫تعمل على استثمار تلك النتوءات لصالحها؟ وهل هي فكرة‬ ‫صحيحة أصلاً للحكم هو أنني متى ما زرعت تلك الفرقة سيدوم‬

‫الدولة تحميهم من خالل القوانين والدساتير والتوزيع العادل‬

‫بعد سقوط الفترة الراشدية التي هي محاولة ألخذ رأي الناس في‬

‫منطقتنا وتحركت مفاعيله بالشكل المزعج والكارثي عائد‬ ‫بالدرجة األولى لغياب الدولة العربية العادلة؟‬ ‫■ تمامً ا‪ ...‬الذين يسكنون في دولة ما إذا هم شعروا بأن‬

‫للثروة والمساواة وتكافؤ الفرص‪ ،‬لن يحتاجوا إلى ارتباطاتهم‬ ‫الفرعية لتحميهم؛ ألن الدولة تحميهم‪.‬‬

‫عمر الحكم لدي؟‬ ‫■ أولاً أنت تسأل لماذا‪ ،‬ألننا نمتلك ً‬ ‫إرثا تاريخيًّا استبداديًّا‪،‬‬

‫بشكل محدود‪ ،‬حتى‬ ‫الحاكم الذي سيعين‪ ،‬حتى لو كان ذلك‬ ‫ٍ‬ ‫جاء الحكم األموي وظهر (الملك) والم ُْلك‪ ،‬استمر هذا معنا منذ‬ ‫ذلك‪ ‬الوقت‪ ،‬إنه ما يسميه محمد عابد الجابري عقلية َ‬ ‫الغ َلبة؛‬

‫● وهنا‪ ،‬أي في غياب الدولة‪ ،‬يرتد الفرد إلى الجماعة‪...‬‬ ‫■ تمامً ا‪ ...‬عندما يشعر بأن الدولة ال تحميه فليس هناك‬

‫لعسكر وقد تكون ألجانب من الخارج‪ .‬األرض العربية حكمت من‬

‫ال يستطيع أن يدافع عن نفسه‪ ،‬يلجأ إلى انتماءاته الفرعية‪:‬‬ ‫ً‬ ‫أيضا أديان‬ ‫االنتماء القبلي‪ ،‬والمذهبي‪ ،‬والديني‪ ،‬فهناك‬

‫يمكنك تغييره إلى نظام وأن الدولة هي ملكك أنت؟ ليست رعية‬

‫لكن الحياة الحزبية في األرض العربية تكاد تلفظ أنفاسها‪ ،‬ما‬

‫كان ال بأس بها في زمانها‪ ،‬لكنها ما عادت صالحة‪ ،‬مع ذلك‬

‫مواطنة متساوية‪ ،‬وال تكافؤ فرص‪ ،‬فإلى أين يتوجه؟ هو وحده‬

‫أخرى‪ ،‬وقد يكون االنتماء الحزبي؛ ألن الحزب ً‬ ‫أيضا يحميني‪،‬‬

‫عادت موجودة‪ .‬إذن اإلنسان يتوجه أكثر ما يتوجه إلى القبيلة‬ ‫أو المذهب الطائفي من أجل أن يحميه‪ ،‬أعطني في أي مكان في‬

‫األرض العربية أعطني قوانين عادلة‪ ،‬وأعطني نظامً ا ديمقراطيًّا‬ ‫معقولاً يشعر فيه اإلنسان بأن هناك أملاً في أن أمتنع من‬

‫الذي يغلب هو الذي يحكم‪ ،‬اآلن الغلبة قد تكون لقبيلة أو‬

‫قبل األتراك لمئات السنين إذن كان حكم الغلبة‪ ،‬من يستطيع‬ ‫ومن لديه القوة هو من يحكم‪ ،‬حس ًنا‪ ،‬لديك هذا اإلرث كيف‬ ‫وراعيًا‪ ،‬أنت مواطن وفكرة الرعية هي نفسها فكرة قديمة ربما‬

‫نجدها باقية مترسخة حتى اليوم‪ ،‬هذا ما يتعلق بتاريخك‪ .‬إذن‬

‫تاريخك يؤدي إلى االستبداد‪ ،‬انقساماتك التي تحدثنا عنها تؤدي‬ ‫إلى االستبداد‪ ،‬ثم أنت بالفعل مستهدف من الخارج وليس في‬

‫ذلك ذرّة شك‪ ،‬يكفي أن نذكر سايكس بيكو‪ ،‬التي قسمت البالد‬

‫‪97‬‬


‫حوار‬

‫العربية وجزأتها ووزعتها بخطوط‪ .‬جلس مستر سايكس ومستر‬

‫بيكو وتقاسموا األرض‪ ،‬كانت البالد العربية بالدًا واحدة واليوم‬ ‫الوجود الصهيوني داخل البالد العربية يقول بالحرف الواحد بأننا‬

‫مقسمة‪ ،‬وال يقف‬ ‫ال يمكن أن نعيش إال إذا ظلت البالد العربية‬ ‫ّ‬ ‫المقسم‪ ،‬حتى العراق يجب أن‬ ‫األمر عند التقسيم‪ ،‬بل تقسيم‬ ‫ّ‬

‫يصبح ثالث دول‪ ،‬وسوريا خمس دول‪ ،‬ومصر وغيرها‪ ،‬لن يسلم‬ ‫أحدٌ من هذا األمر في ّ‬ ‫ظل هذه الظروف‪ .‬اإلرث التاريخي والوضع‬

‫الداخلي نفسه المبني على الغلبة ال على الشرعية الديمقراطية‪،‬‬ ‫أن أنتخبك يعني أنّ بيني وبينك عقدً ا اجتماعيًّا‪ ،‬نحن في األرض‬

‫العربية ليس لدينا عقد اجتماعي ُّ‬ ‫ينص على أنّ (أنا وأنت) سنعيش‬

‫في هذه الدولة مستندين ألسس محددة‪ ،‬هناك دستور وقوانين‬ ‫وكذا وكذا‪ ،‬هناك انتخابات وتعددية‪ ،‬نحن نفتقر ّ‬ ‫لكل ذلك‪ ،‬إذن‬

‫كل تلك األمور هي التي أدت إلى أن الدولة العربية تصبح دولة‬ ‫ضعيفة وفاسدة في داخلها‪ ،‬مع األسف‪.‬‬

‫● في هذا السياق‪ ،‬سياق ُّ‬ ‫تدخل الخارج في شأن المنطقة‪،‬‬

‫ماذا عن الثورات العربية‪ ،‬الربيع العربي‪ ،‬هناك من يرى أنها‬

‫تأتي في سياق صراع السيطرة‪ ،‬وأنها نتاج تلك المقدمات التي‬ ‫صاغتها فكرة الفوضى الخالقة وفكرة صناعة جغرافيا مغايرة‬

‫‪98‬‬

‫للمنطقة‪ ،‬سأذكر في سنة ‪2005‬م حين تحدثت كونداليزا رايس‬

‫عن الشرق األوسط الجديد‪ ،‬وعندما فشل في أعوام قريبة‬ ‫(‪2012‬م)‪ً ،‬‬ ‫أيضا مدير االستخبارات الفرنسية‪ ،‬قال في مؤتمر‬ ‫لاً‬ ‫بواشنطن‪ :‬إن دو عربية مثل العراق وسوريا لن تستعيد‬ ‫حدودها السابقة ً‬ ‫أبدا؛ هل الربيع العربي في حقيقته هو‬ ‫نتاج مطالب أبناء المجتمعات العربية بشكل خالص‪ ،‬أم هو‬

‫صنيعة؛ كي يصلوا إلى ما تحدثت عنه من تقسيمات؟‬ ‫■ أعتقد أنّ أكبر إهانة توجه للشعب العربي هو القول بأنه‬

‫َ‬ ‫حدث‪ ‬هو زخم تاريخي‬ ‫ألعوبة في أيادي كل من هب ودب‪ ،‬ما‬

‫حقيقي في المجتمعات العربية التي ملت االستبداد والفساد‬ ‫والظلم‪ّ ،‬‬ ‫ملت التوزيع المزعج للثروة المعنوية والمادية وال‬ ‫شك في ذلك أبدً ا‪ ،‬لنأخذ مصر مثلاً ‪ ،‬المصريون ملوا من حكم‬ ‫كان فاسدً ا واستبداديًّا‪ ،‬تونس ً‬ ‫ِس على ذلك‪ ،‬لكن‬ ‫أيضا‪ ،‬وق ْ‬ ‫أبهرت العالم‪،‬‬ ‫مع األسف الشديد‪ ،‬فتلك الثورات الرائعة التي‬ ‫ِ‬

‫ما زالت لدى حزب النهضة في تونس‬ ‫محاوالت لتطوير الفكر السياسي‬ ‫اإلسالمي‪ ،‬بحيث يتعايش أكثر مع‬ ‫العصر الحديث‪ ،‬لكنه تطوير محدود‪،‬‬ ‫كثيرا‬ ‫فتونس بلد صغير ال يمكن أن يؤثر‬ ‫ً‬ ‫على المستوى العربي‬ ‫العددان ‪ 490 - 489‬شوال ‪ -‬ذو القعدة ‪1438‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬أغسطس ‪2017‬م‬

‫وأعتبرها ً‬ ‫نوعا من الثورات التي لم يمارسها أحد قبل العرب‪،‬‬

‫اعتماد وسائل التواصل والزخم واإلصرار اليومي إلى أن يسقط‬

‫النظام‪ ،‬مثلما حدث في تونس وفي مصر‪ ،‬أسقط جهدها ثالثة‬ ‫أشياء؛ الشيء األول هو قلة خبرة من قاموا بهذه الثورات من‬

‫الشباب‪ ،‬فلم تكنْ لديهم الخبرة الكافية في الحياة السياسية‪،‬‬ ‫والدليل على ذلك في مصر وغير مصر أنّ الشباب بعد سقوط‬

‫النظام لم يسعوا ألنْ يتضافروا‪ ،‬ويكونوا أحزابًا وحركات‬ ‫جديدة‪ ،‬بل انقسموا وتوجهوا يمي ًنا وشمالاً ‪ ،‬هذه إذن قلة‬ ‫الخبرة‪ .‬الشيء الثاني ال شك أبدً ا في أنّ الخارج قد خاف مما‬ ‫يجري‪ ،‬القول‪ ‬بأنه كان يرحب باألمر هذا غير صحيح‪ ،‬كان هناك‬

‫خوف من أن تد ّمر تلك الثورات كل المصالح الموجودة للخارج‬

‫في الداخل‪ ،‬وبالتالي ترك تدخالته هنا‪ ،‬نوع التدخل يختلف‬ ‫ألنه يعتمد على هذه البالد وتلك‪ ،‬هذه الجماعة والجماعة‬ ‫األخرى‪ .‬والجانب الثالث هو أن هناك ثورات مضادة؛ بمعنى‬ ‫أنك اليوم تمتلك قوة كبيرة جدًّا كانت مترسخة‪ ،‬عندها قدرات‬ ‫مالية وقدرات اقتصادية‪ ،‬وقدرات عسكرية وأمنية استطاعت أن‬

‫تسترجع أنفاسها بعد الصدمة الجديدة في أول سنة‪ ،‬وتلملم‬ ‫نفسها‪ ،‬وتعود وتهجم مرة أخرى والنتيجة كما ترى‪...‬‬

‫لكنّ السؤال‪ :‬هل انتهت؟ أنا في اعتقادي أن ما بدأ في‬

‫سنة ‪2011‬م سيستمر في االنفجار بين الحين واآلخر إلى أن‬

‫يصل إلى مرحلة معينة من االستقرار عبر عشرات السنين في‬ ‫المستقبل‪ ،‬الذين يعتقدون أن المجتمع العربي مات وانتهى‬ ‫أمره‪ ،‬ووصل إلى مرحلة‪ ،‬ولن يعود مرة أخرى هم مخطئون‬


‫علي فخرو‪ :‬البترول فرصة تاريخية كبيرة أضاعها الخليجيون‬

‫ج ًّدا‪ ،‬تاريخ المجتمعات العربية تاريخ مليء بالحركات الثورية‪،‬‬

‫مليء بالمحاوالت سواء على مستوى االستقالل الوطني من‬

‫قبل‪ ،‬أو بالنسبة للثورات على أشكال من الخالفات‪ .‬الخلفاء‪،‬‬ ‫أمراء المؤمنين هنا وهناك‪ ،‬والشعب العربي من أكثر الشعوب‬ ‫التي ضحّ ت بماليين من البشر في ثورات مختلفة‪ ،‬يكفينا مثلاً‬ ‫الجزائر التي دفعت أكثر من مليون شخص ثم ًنا لحريّتها‪ ،‬إذن‬ ‫هذا الشعب ليس من الشعوب غير المستعدة لتقديم نفسها‬

‫من أجل االستقالل‪ ‬ومن أجل الحريّة ومن أجل المبادئ التي‬ ‫يؤمن بها‪ ،‬إنما نحن اآلن مثل كل الثورات تصعد وتنزل‪ ،‬ثم تبدأ‬

‫في الصعود من جديد‪ ،‬وال أشعر بالخوف من أن لها عودة في‬

‫المستقبل‪ ،‬النقطة المهمة أنّ الدول الكبيرة هي القادرة على ج ّر‬ ‫القاطرة العربية‪ ،‬دول صغيرة ليس لها حول وال قوة‪ ،‬اليوم مثلاً‬ ‫بالرغم من النجاح الكبير الذي حققته تونس مقارنة باآلخرين‬

‫لكنها بوزنها الصغير جغرافيًّا وسياسيًّا لم تكن فاعلة في التغيير‬ ‫َ‬ ‫حدث في مصر‪ ،‬لكان الوضع‬ ‫العام‪ ،‬تصور لو أن هذا النجاح قد‬ ‫ً‬ ‫مختلفا تمامًا بسبب ثقل البلد‪ ،‬فأنا أعتقد بأن‬ ‫العربي اليوم‬

‫من شك في ّأنه ال يريد لهذه األمة أن تتوحد‪ ،‬يخاف من توحدها‪،‬‬ ‫ً‬ ‫وسابقا كنا نقول‪ :‬إن اإلنجليز‬ ‫ويريد أن يبقيها ممزقة‪ ،‬اآلن‬

‫والفرنسيين أساسً ا ال يريدون لهذه البالد أن تتوحد‪ ،‬اليوم دخل‬

‫عنصر ثالث بالغ الخطورة وهو العنصر الصهيوني‪ ،‬ولك أن تقرأ‬

‫الكثير من كتاباتهم وأقوالهم التي تشير إلى استعدادهم التام‬ ‫إلى نسف وتدمير أي عنصر قد يستشعرون منه خط ًرا ما ولو في‬

‫يفسر لنا ذلك كيف دمروا إمكانية‬ ‫المستقبل البعيد جدًّا‪ ،‬وقد ّ‬ ‫ً‬ ‫سابقا بمجرد بدء التفكير فيها‪ ،‬ودمروا‬ ‫القدرات الذرية في العراق‬

‫اتحاد مصر وسوريا وساعدتهم دول عربية في تدمير ذلك‪،‬‬ ‫ومنعوا أي نوع من االتحاد الجدّي‪ ،‬ويدخلون دائمً ا في قضايا‬ ‫إذا ما ّ‬ ‫تعلق األمر بذلك‪ ،‬إذن على المستوى الخارجي ال توجد‬

‫ذرة من الشك‪ ،‬لكن السؤال الذي يجب أن أطرحه؛ أنا شخصيًّا‬ ‫ال يهمني ما يريده الخارج‪ ،‬أو ما يفعله وليس في يدي أن أغيره‬ ‫أو أحركه‪ ،‬ما في يدي هو الداخل‪ ،‬هل نحن اآلن نبني حركة أو‬ ‫ً‬ ‫متماسكا متناغمً ا بعضه‬ ‫تيارًا على مستوى األرض العربية كلها‬

‫مع بعض‪ ،‬يفكر ضمن إستراتيجية في حدها األدنى على األقل؟‬

‫القول استهزاءً بأن الربيع انقلب إلى خريف هذا كالم فارغ‪ ،‬هذا‬

‫إستراتيجية مشتركة من أجل أن يقف ضد الخارج وتدخالته‪ ،‬من‬

‫وبالتالي يعاني‪ ،‬إنما هو ربيع وسيأتي وقته‪.‬‬

‫من الديمقراطية ومزيد من العدالة‪.‬‬

‫الربيع نفسه هو الربيع‪ ،‬ولكن تعتريه عواصف وشح‪ ‬في المطر‬

‫ً‬ ‫مدفوعا‬ ‫● هناك ما يشي بأن اآلخر الغربي دائمً ا ما يكون‬

‫ألن يقسم العالم لمصالحه؟‬ ‫■ ليس هناك ذرة من الشك في أن الخارج يلعب دورًا‪ ،‬وما‬

‫أجل أن يقف ضد االستبداد الداخلي‪ ،‬من أجل أن يدفع نحو مزيد‬ ‫هذا ما ال يحدث لألسف‪ ،‬واللوم هنا علينا نحن الشعوب‬ ‫تمكنت من ّ‬ ‫العربية‪ ،‬فأنت ال تستطيع أن تمنع الخارج إال إذا ّ‬ ‫حل‬

‫ً‬ ‫أنماطا ال حصر لها وال‬ ‫مشكلة ضعف الداخل‪ ،‬طالما أن لديك‬ ‫ع ّد من الضعف الداخلي‪ ،‬على سبيل المثال فلننظر إلى الصراع‬

‫‪99‬‬


‫حوار‬

‫الطائفي‪ ،‬الطائفيون هم الذين يذهبون إلى الخارج ويستعينون‬ ‫به‪ ،‬وهذا معروف فهناك حركات شيعية وسنية وليبرالية ً‬ ‫أيضا‬ ‫كلها تستعين بالخارج‪ ،‬حتى أولئك الذين ينضمون لجماعاتهم‬

‫على أسس عرقية مثل األمازيغ واألكراد وغيرهما‪ ،‬كلهم‬ ‫يتوجهون إلى االستعانة بالخارج‪ ،‬لماذا؟ ألنك أنت ضعيف‪،‬‬

‫وبالتالي هم يتوجهون للخارج ويستفيدون من ذلك‪ ،‬فالقضية‬ ‫األساسية هي أنك إن لم َت ِسر ضمن حركة ما يسمى بالكتلة‬

‫االقتصاد الخليجي‪ ،‬فعندما تبني مصالح اقتصادية تقل المخاطر‬

‫وتعود إليها‪ ،‬يعني جمال عبدالناصر حاول أن يبني تلك الكتلة‬

‫ألف مرة ألن له مصالح‪ ،‬نحن أمام وضع مع األسف مرة أخرى لم‬

‫التاريخية‪ ‬إذا لم يكنْ هناك كتلة تاريخية حقيقية تنطلق منها‬

‫التاريخية‪ ،‬حزب البعث حاول أن يبني تلك الكتلة التاريخية‬

‫لكنهم لم يعرفوا كيف يبنونها‪ ،‬وبالتالي كيف تستمر‪ ،‬ما يجب‬ ‫االلتفات إليه اآلن في األرض العربية هو‪ :‬هل نستطيع أن نبني‬

‫كتلة تاريخية تخرجنا من هذا الجحيم الذي نعيشه أم ال؟ هذه‬ ‫قضية ال أنا وال أنت نستطيع أن نجيب عليها‪ ،‬مَنْ سيجيب عليها‬

‫هم من فجروا تلك الثورات منذ خمس سنوات‪ ،‬ثم غلبوا على‬ ‫أمرهم‪ ،‬هل يستطيعون العودة من جديد لتفجير ثورات جديدة‬ ‫وحركات جديدة؟‬

‫‪100‬‬

‫من المفترض أن تتحد دول الخليج؛ إذا‬ ‫كانت تريد أن تكون عالقتها أخوية لكن‬ ‫ندية مع إيران‬ ‫ّ‬

‫إيران والخليج‬

‫َ‬ ‫تحدثت فيه عن خطر إسرائيل‪ ...‬اآلن‬ ‫● في سياق سابق‬

‫في منطقة الخليج العربي هناك إيران في قبالة دول الخليج‬ ‫والمنطقة‪ ،‬ومن خاللها برزت عناوين كثيرة مثل‪ :‬صراع السيطرة‬ ‫على مفاصل حيوية في المنطقة كمضيق هرمز‪ ،‬والحرب من‬

‫أجل استعادة الشرعية في اليمن‪ ،‬كيف تقرأ ما يحدث اآلن؟‬ ‫وهل بإمكان الصراع أن ينتج شي ًئا إيجابيًّا في مستقبل المنطقة؟‬ ‫■ أولاً أنا أعتقد أن مشكلتنا في الخليج هي أننا ال نضع‬ ‫إستراتيجيات طويلة المدى بالنسبة إلى موضوعات مثل‪ :‬عالقة‬

‫السياسية‪ ،‬فتفكر إيران ألف مرة ألن لها مصالح‪ ،‬والخليج يفكر‬ ‫نبن حوارًا مع‬ ‫نعرف كيف نتص ّرف إزاءه‪ ،‬ما أريد قوله هو أننا لم ِ‬ ‫إيران‪ ،‬ولم ُندخلها في الحياة االقتصادية‪ ،‬وليست لدينا محاولة‬

‫لحل اإلشكالية الفقهية التي تقسمنا‪ ،‬وإيران تقف بفهمها البليد‬ ‫للقضية اإلسالمية‪ ،‬ونحن كذلك ال نوفر جهدً ا في بالدة الفهم‪.‬‬

‫لنكن صريحين مع أنفسنا‪ ،‬ماذا يعني إن كان الحق ألبي بكر‬

‫أم لعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما؟ وقد كانت القضية في‬

‫حينها‪ ،‬وذلك ال يعني أن أبقى مجت ًّرا لهذه القضية بعد ‪ 1500‬سنة‪،‬‬ ‫لكننا بكل أسف ما زلنا على اجترارنا لها‪ ،‬لماذا نسمح للتاريخ بأن‬

‫يحكم الحاضر؟ األمة البليدة وحدها هي التي تفعل ذلك‪ ،‬علينا أن‬ ‫ّ‬ ‫ونتعلم منه ال أن نتركه يحكم حاضرنا‪ ،‬وهذا ما‬ ‫نستفيد من التاريخ‬

‫يجري اآلن في إيران وفي أوطاننا‪ ،‬نحتاج إلى عقالء يخرجون األمّة‬ ‫من هذه الدوامة ّ‬ ‫بكل بالدتها وتخبطها‪ ،‬ال ب ّد لنا من الوصول إلى‬ ‫حالة ننظر فيها إلى ذكرى مأساة الحسين بوصفها بطوليّة وليست‬ ‫بكائية‪ ،‬هذا الرجل الذي وقف من أجل مبادئه رجلاً ومات رجلاً ‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫كتبت‬ ‫دون أن نختزل القصة في شربة ماء وحالة عطش‪ .‬سبق أن‬

‫كثي ًرا في التاريخ وكيف صار يحكمنا‪ ،‬نحن يجب أن نخرج من هذه‬ ‫الدائرة‪ُ ،‬‬ ‫ونخرج القرآن من قبضة التاريخ‪ ،‬وننأى عن تفسير اآليات‬ ‫بمزاجيّة ومذهبيّة‪ ،‬دون أن نصنف مقاصد الله بحسب ما يخدم‬

‫أهواءنا‪ ،‬وكأننا نريد أن نمسك رقبة القرآن بالتاريخ‪ ،‬ال ب ّد لنا من‬

‫الدول العربية في الخليج بإيران‪ ،‬والفكر اإلستراتيجي يقول ما‬ ‫َ‬ ‫يلي‪ :‬إيران هي نصف الخليج؛ ّ‬ ‫الخليج‪ ،‬اقتصادًا ال‬ ‫ضعفا‬ ‫سك ًانا‬ ‫ِ‬ ‫تقل عن دول الخليج‪ ،‬لديها البترول‪ ،‬بل أكثر فلديها إلى جانب‬

‫تطهير التاريخ‪ ،‬تطهير الذاكرة الجمعيّة المملوءة باألمراض وهذه‬ ‫ّ‬ ‫والحكام‪ ،‬ال سيّما‬ ‫مسؤوليتنا كلنا‪ ،‬مسؤولية المفكرين والفقهاء‬

‫الجغرافي‪ ،‬في الطرف اآلخر هناك واقع تاريخي‪ ،‬قضية اإلسالم‬

‫هي التي تكتب التاريخ‪.‬‬

‫البترول الزراعة والصناعة وعندها كل شيء‪ ،‬هذا هو الواقع‬

‫وعالقة إيران باإلسالم‪ ،‬هي دولة إسالمية بغض النظر عن قصة‬ ‫المذهب‪ ،‬فهذه ليست قضية كبرى‪ .‬أرى أنه كان من المفترض‬

‫من دول الخليج أن تتحد؛ إذا كانت تريد أن تكون عالقتها أخوية‬ ‫لكن نديّة مع إيران‪ .‬وكثي ًرا ما كتبت وقلت‪ :‬إنه ليس فقط اتحاد‬

‫الدول الست بل معهم العراق واليمن‪ ،‬عند ذاك أنت تبني دولة‬ ‫ً‬ ‫وكيانا مساويًا إليران‪ ،‬ليس من أجل أن تضاد إيران‬ ‫مساوية‬

‫وتضعفها‪ ،‬إنما من أجل أن تقول إليران نحن متساوون‪ ،‬نحن‬ ‫أخوَان متساويان‪ ،‬فال تعتدوا علينا وال نعتدي عليكم‪ ،‬هذا‬ ‫جانب والجانب اآلخر في اعتقادي كان يجب أن تدمج إيران في‬ ‫العددان ‪ 490 - 489‬شوال ‪ -‬ذو القعدة ‪1438‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬أغسطس ‪2017‬م‬

‫فقهاء السالطين ومن كتبوا التاريخ تزوي ًرا‪ ،‬بالنهاية ولألسف القوّة‬ ‫الثقافة العربية عامرة بمحاوالت الكثير من المفكرين‬

‫العرب الذين كتبوا أشياء كثيرة جدًّا عن تغيير هذه الثقافة‬ ‫وعن تطهيرها‪ ،‬اإلشكالية ليست هنا‪ ،‬بل في أن كلها محاوالت‬

‫فرديّة‪ ،‬والمحاوالت الفردية ال تصل إلى نتيجة‪ ،‬نعود بحديثنا‬ ‫إلى اإلصالح الديني؛ مثلاً عندما بدأ محمد عبده بمحاولة‬

‫اإلصالح آنذاك بدأ يتكون تيار لكنه مع األسف لم يتمأسس‪،‬‬ ‫أناس‬ ‫محمد عبده في جهة‪ ،‬واألفغاني في جهة‪ ،‬ويأتي بعدهم‬ ‫ٌ‬

‫آخرون وهكذا‪ ،‬المذهب الشيعي اليوم يشهد محاوالت حقيقية‬ ‫في إيران بالذات‪ ،‬وفي لبنان ً‬ ‫أيضا نجد محاوالت حقيقية إلجراء‬


‫علي فخرو‪ :‬البترول فرصة تاريخية كبيرة أضاعها الخليجيون‬

‫إصالح في المذهب الشيعي نفسه‪ ،‬وكلنا يعرف أن قصة والية‬ ‫الفقيه مختلف عليها‪ ،‬والتاريخ الفقهي مختلف عليه‪ ،‬كما في‬

‫فيها جوانب سلوكية متخلفة ما زالت حتى اآلن سلوكيات قبلية‬ ‫بدائية‪ ،‬مثلاً ‪ :‬ما زال هناك تخوّف من استعمال اليد‪ ،‬العربي‬

‫المدارس السنية تمامً ا إنما دائمً ا على مستوى الفرد‪ ،‬وهذا ال‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫نحظ‬ ‫لتخلق تيارًا‪ ،‬وهذا ما لم‬ ‫يكفي‪ ‬أنت تحتاج إلى مؤسسات‬

‫يأنف من االشتغال بيده‪ ،‬انظر ً‬ ‫أيضا إلى جانب الكرم المبالغ فيه‪،‬‬ ‫والمظهرية‪ ،‬أَ ُض ُّر بعائلتي وبوضعي ألبدو بمظهر الكريم وهذا‬

‫الثورة فما قاله فولتير وما قاله مونتسكيو وغيرهما انتهى في‬

‫أعضائها ال ينظرون لمن انتخبهم‪ ،‬بل من يستطيع إعطاءهم‬

‫به مع األسف‪ ،‬لو عدنا إلى الغرب لوجدنا تقاطع الفكر مع‬

‫ثورة‪ ،‬الثورة الفرنسيّة التي اعتمدت على ذلك الفكر لتبني نفسها‬ ‫وبعدها مؤسسات ودساتير وبرلمان‪ ،‬نحن لم نتبنَّ فك ًرا ونبني‬

‫عليه الثورة‪ ،‬وهنا االختالف‪.‬‬

‫● تحدثت عن فشل كثير من الخطابات‪ ،‬ومنها الخطاب‬

‫الديني والخطاب اليساري وغيرهما‪ ،‬التي بشكل أو بآخر‬ ‫أسهمت في فشل الخطاب العربي الجامع‪ ،‬لكن أال ترى أن‬ ‫الخطاب القومي ً‬ ‫أيضا كان من بينهم‪ ،‬وربما كان أكثر الخطابات‬ ‫فشلاً في‪ ‬أطروحاته الحالمة؟‪ ‬‬ ‫■ ‪ ‬منذ ما يقارب ‪ 30‬سنة كانت هناك صيغة للحوار القومي‬

‫اإلسالمي عبر المؤتمر الذي حمل اسم الفريقين؛ الحوار‬

‫القومي اإلسالمي‪ ،‬الذي كان محاولة للتقارب والوقوف على‬ ‫نقاط االختالف والخالف وحقيقة الصراع القائم خالل حقبة‬

‫غير حقيقي‪ .‬األمر ذاته في البرلمانات‪ ،‬فهي غير فاعلة‪ ،‬معظم‬ ‫االمتيازات‪ .‬ال يقتصر األمر فقط على النفط‪ ،‬تلك االمتيازات كانت‬

‫في برلمان سوريا وفي برلمان مصر‪ ،‬من يعطيك االمتيازات هي‬ ‫الدولة‪ ،‬التي تمسك بالمجتمع من رقبته‪ ،‬بل أكثر من ذلك هي‬

‫ما أعبّر عنه بأن الدولة العربية الحديثة ابتلعت مجتمعاتها في‬ ‫جوفها‪ ،‬أصبحت المجتمعات في جوف الدولة بدلاً من أن تكون‬

‫هي وسلطة الدولة‪.‬‬

‫هي ليست حديثة‪ ،‬حديثة بمعنى االستقالل‪ ،‬الحداثة نحن لم‬

‫نصل إليها بعد‪ ،‬ومشكلة الحداثة هي مشكلة أخرى‪ ،‬فحين تتحدث‬ ‫مع من يدعون إلى الحداثة ويريدونها‪ ،‬تج ْد أنّ الحداثة بالنسبة لهم‬

‫هي الحداثة الغربية‪ ،‬في حين أنها حداثة للغرب‪ ،‬أنت يجب أن‬ ‫تبني حداثتك‪ ،‬انظر مثلاً إلى الصين أو اليابان فهم يبنون حداثتهم‪،‬‬ ‫لديهم أشياء مختلفة عن الغرب‪ ،‬هذا ال ينطبق علينا مع األسف‬

‫بالسلفي الذي يعتقد أن الحداثة هي‬ ‫الشديد‪ ،‬فقد ابتلينا بشيئين‪ّ ،‬‬

‫الخمسينيات والستينيات‪ ،‬تبيّن أنّ ‪ %80‬من ال ِفكرين القومي‬ ‫واإلسالمي هي أفكار واحدة ال خالف عليها‪ ،‬بقيت ‪ %20‬التي علينا‬

‫أن يغربونا بالقضاء على ذاتنا‪ ،‬على إبداعنا‪ ،‬يدفعون بنا لبناء ما ال‬

‫ذلك على السطح بعد أن حكم اإلسالم السياسي بعض البالد‬

‫فاإلسالم هو جزء ال يتجزأ من ثقافتنا وال يمكن القفز فوقه ألن‬

‫أن نطرحها على طاولة الحوار وما يمكن أن نفعله تجاهها‪ ،‬طفح‬ ‫العربية‪ ،‬وأقولها بصراحة‪ :‬إن االنتهازية تبدت‪ ،‬فبعض الذين‬

‫كانوا في المؤتمر القومي اإلسالمي وأكدوا على ضرورة التفاهم‪،‬‬ ‫تغير فكرهم تمامً ا بعد ُّ‬ ‫تسلم الحكم في مصر‪.‬‬ ‫● هل هي أزمة ثقة؟‬ ‫ُ‬ ‫■ أزمة ثقة وأزمة استعجال‪ .‬لنكنْ واقعيين‪ ،‬الثقافة العربية‬

‫ما فعله اآلباء واألجداد‪ ،‬السلف الصالح‪ ،‬وبأولئك الذين يريدون‬ ‫يصلح لنا‪ ،‬المطلوب هو حداثة عربية‪ ،‬تأخذ من الثقافة اإلسالمية‪،‬‬

‫الماليين من العرب يؤمنون بذلك‪ ،‬علينا أن نأخذ أفضل ما في‬ ‫الدين اإلسالمي‪ ،‬خذ مثلاً فكرة العدالة؛ الدين اإلسالمي يسمي‬ ‫نفسه دين الحق والقسط والميزان هو قائم على ذلك‪ ،‬خذ بهذه‬ ‫الفكرة وأدخلها بقوة وبشدة في ثقافتك السياسية‪ .‬فهذا هو إرثنا‬

‫الحقيقي‪ ،‬وليس استنادًا إلى ما قاله هوبز وفالن‪ ،‬لدينا األسس‬

‫‪101‬‬


‫حوار‬

‫الحقيقية في قلب الدين اإلسالمي‪ ،‬أنت هنا ال تنسب نفسك إلى‬ ‫َ‬ ‫وأنت‬ ‫المتدينين‪ ،‬لكنّ دينك يعرض عليك فك ًرا مستني ًرا مفهومًا‬

‫ترفضه وتستعين بالفيلسوف الفالني‪ ،‬ال يعني ذلك أال نستعين‬

‫بهم‪ ،‬لكن لديّ ما يوازيه أو يفوقه فلمَ ال أعتمده أساسً ا‪ ،‬ويكون‬

‫سواه مجرد عامل مساعد‪.‬‬

‫● فكرة أن الغربي كافر معضلة أنتجها خطاب ديني بائس‪...‬‬ ‫■ فعلاً ‪ ...‬فالقضية معقدة كثي ًرا‪ ،‬والوضع العربي كلما‬

‫أمعن اإلنسان فيه كلما أدرك أن الترقيعات لن تحل إشكاالته‪،‬‬

‫األمر يحتاج إلى‪ ‬أكثر من ترقيع‪.‬‬ ‫● لبناء الدولة؟‬

‫■ نعم لبناء الدولة‪ ،‬وهذه قضية كبرى‪ ،‬األقليات التي تحكم‬ ‫لن تستطيع أن تفعل شي ًئا حتى لو أرادت‪ ،‬أتاتورك في تركيا أراد‬

‫َ‬ ‫لديك مجتمع‪ ،‬المجتمع نفسه‬ ‫هو وجماعته لكنّ هذا ال يكفي‪،‬‬ ‫يجب أن يتغير‪ ،‬المجتمع التركي بدأ ينظر إلى نفسه ويقول‬

‫لديّ إرث إسالمي ال أستطيع التخلي عنه‪ ،‬لك ّني ً‬ ‫أيضا أريد اإلرث‬

‫الحداثي الجديد‪ ،‬وأريد أن أمزجَ بينهما‪ ،‬لن تكون العملية سهلة‬ ‫فتطهير الماضي يأتي أولاً عن طريق منجزات الفكر الحديث‬

‫ومناهج الفكر الحديث‪ ،‬المنهجية في تطهير الماضي وفي قراءة‬

‫التاريخ وفي قراءة الدين‪ ،‬القضية معقدة جدًّا‪ ،‬لذلك عليك أن‬ ‫تقرأ المحاوالت اإلصالحية‪ ،‬نحن مثلاً في مركز دراسات الوحدة‬

‫العربية أوجدنا المشروع النهضوي القائم على ست نقاط‪ ،‬حتى‬ ‫اآلن وبالرغم من غناه لكنه لم يبنَ على أسس فلسفية معرفية‬

‫بالغة العمق‪ ،‬فيه نوع من التمنيات‪ ،‬ينقصه التحليل القوي‬

‫الفلسفي الفكري العميق‪ ،‬وهذا أم ٌر يحتاج إلى مفكرين ال أدري‬ ‫إن َ‬ ‫كنت على علم بهذا المشروع النهضوي المطروح‪ ،‬لكنه ربما‬

‫أفضل ما توصلنا إليه‪ ،‬هو محاولة لتحسين الفكر القومي‪.‬‬

‫● هل النخب الحاكمة على استعداد بأن تلقي نظرة‪...‬؟‬ ‫■ ال أبدًا‪ ،‬ال تلقي نظرة فقصة الفجوة بين الحكم وبين الفكر‬

‫في األرض العربية كبيرة جدًّا‪.‬‬

‫الحاجة إلى فكر سياسي جديد في الخليج‬ ‫‪102‬‬

‫● بعد نحو ‪ 8‬عقود على ظهور النفط في منطقة الخليج‪ ،‬وعقب تحوالت حادة شهدتها المنطقة نفسها‪ ،‬هل يمكن‬ ‫أن نتساءل اليوم عن انعكاس النفط على الخليج ثقافيًّا واجتماعيًّا‪ ،‬لماذا بقي حضوره في األدب خجولاً ‪ ،‬هل أفاد‬ ‫الخليجيون من النفط في تشييد مدن ومؤسسات ثقافية مؤثرة في الوعي والوجدان والمجتمع وليس مجرد تشييد‬ ‫ً‬ ‫تحديدا‪ ،‬من‬ ‫مبان‪ ،‬ما الذي جعل النفط ينحصر فقط في بعده االقتصادي‪ ،‬هل لذلك عالقة بالموقف العربي‪ ،‬اليساري‬ ‫ٍ‬

‫النفط والبترودوالر‪ ،‬رغم أنه ثروة طبيعية ال عالقة لها باأليديولوجيا‪ ،‬كما يرى بعض الخليجيين؟‬

‫■ الخليج أضاع وما زال يضيع فرصة تاريخية كبرى وهي فرصة البترول‪ ،‬فهو ال يستعمل البترول لبناء اقتصاد إنتاجي‬

‫نبن تنمية‬ ‫معرفي حقيقي‪ ،‬بالغ القدرة على االستمرار في المستقبل‪ ،‬بنينا نعم‪ ،‬بنينا البنايات وأنشأنا المدارس‪ ،‬لكننا لم ِ‬

‫شاملة مستمرة على المدى البعيد‪ ،‬لذلك إن انتهى البترول في يوم ما فهذه المنطقة ستعاني كثيرًا‪ .‬كثيرًا ما أشبه ذلك‬ ‫ّ‬ ‫فانصب الناس عليها‪ ،‬بنيت فيها البيوت وصار فيها‬ ‫بما حدث في الغرب األميركي‪ ،‬فبعض المناطق اك ُتشف فيها الذهب‬ ‫بهجة الحياة‪ ،‬وشرب وأكل وإلى آخره من األمور الحياتية‪ ،‬لكن ما إنْ انتهى ونضب حتى اختفت وأصبحت اآلن مدن ينعق‬

‫فيها الغراب واألشباح‪ .‬أنت مهيأ لذلك في الخليج إذا لم تفتح عينيك بأسرع ما يمكن‪ ،‬اآلن بعد أن بدأت أسعار البترول في‬

‫مصدر آخر‪ ،‬وهذا ليس باألمر الهيّن‪ ،‬دول تعتمد في ‪ %90‬من ميزانيتها على‬ ‫االنخفاض بدؤوا يفكرون في ضرورة البحث عن‬ ‫ٍ‬ ‫البترول‪ ،‬وهذا يعني أنها إن نضبت فلن يكون بين يديك ما يفي مقدار رواتب الموظفين والعمّ ال‪ ،‬وال ّ‬ ‫شك بأن دخل البترول‬

‫اآلن ما عاد كافيًا ألبسط األمور‪ ،‬هذا جانب‪ ،‬الجانب اآلخر؛ ما الذي يؤخر وحدة الخليج؟‪ ‬كلها دويالت صغيرة تتحدث عن‬

‫التهديد األمني‪ ،‬ما الذي يمنع قيام وحدة فيدرالية؟ لسنا نطالب باندماج تام‪ ،‬استغرقنا ‪ 30‬سنة لتوحيد التعريفة الجمركية‪،‬‬ ‫واحدا فقط‪ ،‬م ّر عشر سنوات ونحن نتحدث عن توحيد العملة النقدية‪ ،‬وما زال األمر ّ‬ ‫ً‬ ‫معل ًقا‪،‬‬ ‫في حين هو أمر ال يستغرق عامً ا‬ ‫ال ّ‬ ‫بد لنا من التفكير الجاد في أن كلاًّ منا مجرد جزء وما سيبقى بالنهاية هو محيطك العربي ومحيطك اإلسالمي‪ ،‬في حين‬

‫وبكل أسف ما يجري اآلن هو أن كل دولة في الخليج ترتبط بأخرى أجنبية لتحميها‪ ،‬الشيء اآلخر هو أن الحكم كان قبليًّا‪،‬‬ ‫ويجب أن تنقله اآلن من النظام القبلي إلى النظام الديمقراطي‪ ،‬أنت ّ‬ ‫تعلم الناس في المدارس والجامعات وتخرجهم‪ ،‬ثم‬ ‫ً‬ ‫إطالقا‪ ،‬نحن بحاجة ً‬ ‫أيضا إلى فكر سياسي جديد داخل الخليج‪ ،‬يرى أن هناك شراكة‬ ‫تتعامل معهم كرعية‪ ،‬هذا غير منطقي‬

‫حقيقية بين الحكم وبين المجتمع‪ ،‬ليس هناك من يطالب بزوال الحكم‪ ،‬لكن الجميع يطالب بإصالح الحكم‪.‬‬

‫العددان ‪ 490 - 489‬شوال ‪ -‬ذو القعدة ‪1438‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬أغسطس ‪2017‬م‬


‫علي فخرو‪ :‬البترول فرصة تاريخية كبيرة أضاعها الخليجيون‬

‫ﻣﺘﻮاﻓﺮة ﻓﻲ ﻣﺠﻠﺪ واﺣﺪ‬ ‫ﻟﻌﺎم‬

‫‪2016‬م‬ ‫‪103‬‬

‫ أﻛﺜﺮ ﻣﻦ ‪ 700‬ﻣﺎدة ﺛﻘﺎﻓﻴﺔ‪.‬‬‫ ﻣﻘﺎﻻت وﺣﻮارات ﻣﻊ ﻛﺒﺎر اﻷدﺑﺎء واﻟﻤﺜﻘﻔﻴﻦ اﻟﺴﻌﻮدﻳﻴﻦ واﻟﻌﺮب‪.‬‬‫ إﺿـﺎﻓـﺔ إﻟـﻰ ﻣـﻮاد وﻗـﺮاءات ﻓـﻲ اﻟـﻔـﻨﻮن‪ ،‬وﺗﺮﺟﻤﺎت ﻣﻦ اﻟﺜﻘﺎﻓﺎت اﻟﻌﺎﻟﻤﻴﺔ‪.‬‬‫ ﻣﻊ ﺧﻤﺴﺔ إﺻﺪارات ﻟ ـ )‬‫‪@alfaisalmag‬‬

‫( ﻟﻌﺎم ‪2016‬م‪ ،‬ﻓﻲ ﻋﻠﺒﺔ ورﻗﻴﺔ‪.‬‬ ‫‪alfaisalmag‬‬

‫‪alfaisalmag.com‬‬

‫‪(+966 11) 4647851 :¢ùcÉa ,(+966 11) 4653027 :∞JÉ¡H ∫É°üJ’G áYƒªéª`dG ≈∏Y ∫ƒ`°üë∏d‬‬


‫مقال‬

‫آمال قرامي‬ ‫أكاديمية وباحثة تونسية‬

‫كرنفال داعشي‬ ‫تداولت وسائل اإلعالم العربية والغربية منذ ‪2016‬م‪،‬‬

‫خبر فرار أعداد كبيرة من مقاتلي «تنظيم داعش» من‬

‫المعركة‪ ،‬وهو أمر يتعارض مع «السردية» التي سعى‬

‫التنظيم إلى الترويج لها منذ سنوات‪ .‬فقد صوّرت‬

‫سنوات‪ ،‬بل كان همّ هم األكبر النجاة حتى إن اقتضى األمر‬ ‫ِّ‬ ‫تغيير الهيئة والظهور في هيئة النسوان‪ .‬وبعد أن أرسى منظرو‬

‫«تنظيم داعش» قواعد العيش في دولة الخالفة فحدّ دوا‬

‫«األدبيات الجهادية» الرجال التابعين لـ«تنظيم داعش»‬ ‫على ّأنهم األقدر على الفتك بـ«الطواغيت» واألكثر رغبة في‬

‫أشكال حضور النساء في الفضاء الخارجي‪ ،‬ومعامالتهن مع‬ ‫الرجال‪ ،‬وتشدّ دوا مع ّ‬ ‫كل من خالفت األوامر ها هي فئة من‬

‫بسير الصحابة والتابعين والغزاة والمناضلين بدءً ا بعمر‬ ‫بن الخطاب وصولاً إلى عمر المختار‪ .‬ولم ّ‬ ‫تتوقف صناعة‬

‫السالمة تقتضي إتقان األدوار النسائية‪ .‬وال حرج في ذلك ما‬

‫طلب الشهادة‪ .‬وأشاد علماؤهم باقتداء الشبّان المقاتلين‬

‫‪104‬‬

‫لم يكترث الفارّون من المعارك بما قالوه أو فعلوه طيلة‬

‫األبطال وتشكيل المتخيّل «الجهادي» عند هذا الح ّد إذ‬ ‫ّ‬ ‫تكفل الجهاز اإلعالمي للتنظيم بصناعة األفالم الوثائقية‬ ‫واألناشيد «الجهادية» التي ُت َخ ِّلد ذِكر األسود‪ ،‬وترسم‬

‫مالمح الرجولة «المتوحّ شة والمُرعبة» صاحبة اإلرادة التي‬

‫ال تعرف القهر والعزيمة الجبارة الكبرى تلك التي «تم ّزق‬ ‫الطاغوت والكفر» وال تهاب الموت‪.‬‬

‫ولكنّ األخبار والفيديوهات المتداولة بشأن «الدواعش‬

‫الفارّين» أقامت الدليل على زيف الخطاب الذي روّج له‬

‫التنظيم وتهافته‪ .‬فالذين عبّروا عن «شوقهم إلى الجهاد»‬

‫ّ‬ ‫التنكر في أزياء نسائية مب ّررها في ذلك أنّ‬ ‫الفارّين ُتقبل على‬ ‫أَضمنَ طريق ٍة إلنقاذ الحياة هي في التزيِّي بزيّ النسوان‪ ،‬وأنّ‬ ‫دامت الغاية تب ّرر الوسيلة‪.‬‬ ‫تعدد هيئات النساء‬

‫غير أنّ الالفت لالنتباه في «كرنفال الهروب» نوع أقنعة‬ ‫ّ‬ ‫التنكر «التي اختارها عدد من الرجال الذين وعدوا ّ‬ ‫بأنهم‬

‫«سيبقون ثابتين» وردّدوا طويلاً‬ ‫«حب الموت بالع ّز مرام»‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫فباالطالع على عدد من الصور والفيديوهات ننتبه إلى أنّ‬

‫الفارّين قد أق ّروا بتعدّ د هيئات النساء‪ ،‬وميلهم إلى تنويع‬

‫أزيائهم بالرغم من حرص رجال الخالفة الشديد على فرض‬

‫ورغبتهم في «المنيّة»‪ ،‬وبكوا وَجْ دًا وتاقوا إلى يوم‬ ‫يالقون فيه حور العين سرعان ما ّ‬ ‫ولوا أعقابهم‪ ،‬وفروّا‬ ‫من المواجهة مُتجاهلين ّ‬ ‫كل الموروث الذي تجمّع حول‬

‫الملوَّن‪ ،‬وذاك يبرز في الزي الباكستاني‪ ،‬وهذا يلبس المالبس‬

‫ّ‬ ‫المترتبة عن‬ ‫وسلوكهم‪ ....‬بل ّإنهم لم يكترثوا بالنتائج‬ ‫ّ‬ ‫ولعل أش ّد عقوبة يواجهها‬ ‫الفرار قانونيًّا واجتماعيًّا ورمزيًّا‪.‬‬

‫مكتنزة فيستعين بما ّ‬ ‫وفرته السلع الصينية من بضائع تفي‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫بالغرض‪ .‬والجدير بالذكر أنّ‬ ‫يتوقف عند التدقيق‬ ‫التنكر لم‬

‫تضمّنت كتب الغزوات والحروب أخبارًا تصف أشكال‬ ‫ّ‬ ‫وممثلي الرجولة‬ ‫استهزاء النساء بأشباه الرجال والجبناء‬

‫الذين أدَّبوا النساء على التشبّه بالمشركات والتغريبيات‪.‬‬

‫(فيديو هروب الدواعش بمالبس النساء في الموصل‪ ،‬بتاريخ‬

‫الفارّين وتصوّر أساليب التعيير التي تعتمدها النساء لتأديب‬

‫وبودرة الخدين وتغيير أشكال الحواجب‪ ...‬ضاعت معالم‬

‫الفروسية وأحكام الجهاد وصفات الجنود وأخالقهم‬

‫المنهزمون تلك التي ّ‬ ‫تسلطها النسوان على الرجال‪ .‬فقد‬

‫ّ‬ ‫الهشة‪ ،‬وحوت كتب األدب قصائد الهجاء التي ُتدين‬

‫من تج ّرد عن صفات الرجولة وارتمى في أحضان األنوثة‪.‬‬

‫العددان ‪ 490 - 489‬شوال ‪ -‬ذو القعدة ‪1438‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬أغسطس ‪2017‬م‬

‫الهيئة المنمّ طة واللون األسود الموحّ د على جميع النساء‪.‬‬ ‫منهزم ِّ‬ ‫النقاب والعباءة‪ ،‬وذاك يُؤثِر الثوب‬ ‫يفضل‬ ‫فهذا‬ ‫َ‬ ‫ِ‬

‫الداخلية فيضع الصدرية‪ ،‬واآلخر يريد أن تكون له عجيزة‬

‫في اختيار األزياء بل عثرنا على رجال يتقنون التب ّرج وهم‬

‫‪ 22‬أكتوبر ‪2016‬م)‪ .‬وبين المالبس «الخليعة» وأحمر الشفاه‬

‫الرجولة «الكاملة»‪.‬‬


‫فتتمثل في ّ‬ ‫ّ‬ ‫تنكر أحد الفارّين‬ ‫أمّ ا أطرف قصص الفرار‬ ‫في هيئة عروس ّ‬ ‫تزف في ثوبها األبيض‪ ،‬وتسدل الستار‬

‫على وجهها ّ‬ ‫تعف ًفا وحياءً ‪ ،‬وتحمل باقة الورد (فيديو لحظة‬

‫القبض على أحد الدواعش وهو متنكر بزي عروس‪ ،‬بتاريخ ‪14‬‬

‫يونيو ‪2016‬م)‪ ،‬وكأنّ بالفا ّر يشير إلى ما ترسّ خ من تمثالت في‬ ‫ِّ‬ ‫المتنكر لم تكتمل إذ سرعان‬ ‫المتخيّل الجمعي‪ .‬ولكنّ فرحة‬ ‫ما «وقع» في يد الجيش العراقي‪ ،‬فاس ُتقبل بالسخرية‬ ‫ّ‬ ‫ِّسا بتهمة‬ ‫والفكاهة والتندّ ر‬ ‫والتهكم بعد القبض عليه متلب ً‬ ‫التشبّه بالنسوان‪ ،‬هذا فضلاً عن التهم الرئيسية كالذبح‬ ‫والتحريق‪ ...‬وهكذا ّ‬ ‫تولى الجنود العراقيون وغيرهم من‬

‫المشاهدين تأديب من ضحّ وا بمبادئ الذكورة المهيمنة في‬ ‫سبيل حفظ ّ‬ ‫حق الحياة (نعثر على تعليقات كثيرة في هذا‬ ‫الصدد في فيديو ب ّ‬ ‫ُث بتاريخ ‪ 25‬مايو ‪2016‬م)‪.‬‬

‫ولمّ ا كانت حفالت الكرنفال في الساحات العامة قائمة‬

‫على طقوس وشعائر هزلية‪ ،‬فقد رضخ الفارّون لقوانين‬

‫الجنود فحُ لق الشعر الطويل أمام أعين المارّين بطريقة عنيفة‬ ‫ُتذ ِّكر بتضحيات سابقة‪ .‬فقد ّ‬ ‫تخلص أغلب رجال «التنظيم»‬ ‫من الشوارب واللحى التي طالما اعتنوا بها تهذيبًا وتخضيبًا‪،‬‬

‫وكذا فعل بعضهم بالشعر الذي كثي ًرا ما تباهى به «أبطال‬

‫الخالفة»‪ .‬وإذا اعتبرنا أنّ الكرنفال هو فعل تح ّرر من القيود‬ ‫ّ‬ ‫التشفي من الذي‬ ‫وانبعاث مخبر بوالدة جديدة‪ ،‬فإنّ طقوس‬ ‫خان مقتضيات الرجولة تهدف إلى إهانته وإذالله‪ .‬وما دام‬ ‫التصوّر الكرنفالي يجيز استعمال الكالم البذيء وقاموس‬ ‫الفحش فال مشاحة من توجيه الكالم النابي إلى الفارّين‬

‫وتأنيث أسمائهم (من داعشي إلى داعوشة) ومناداتهم بأسماء‬ ‫ً‬ ‫إمعانا في إذاللهم‪ .‬وليس أشدّ على الرجل‬ ‫تطلق على النساء‬ ‫الذي أبدى كرهً ا للنساء واحتقارًا لألنوثة من أن يتموقع بعد‬ ‫إلقاء القبض عليه في مكانة المرأة التي تنسب لها الثقافة‬

‫مجموعة من الصفات السلبية كالجبن والضعف‪ ...‬وتعكس‬ ‫ّ‬ ‫المتنكرين مدى انتشاء‬ ‫األغاني التي انتشرت بشأن هؤالء‬

‫القوم باالستهزاء والسخرية الالذعة من أشباه الرجال‪.‬‬

‫فهؤالء «أسود الخرافة الداعشية جبناء يهربون من الشهادة‬ ‫بمالبس نسائية» وعندما يمسك الجنود بهم ّ‬ ‫فإنهم يكونون‬

‫في «مالبس نعجة تركض وراءها الطليان»‪( ،‬فيديو الدواعش‪:‬‬ ‫أغنية «العب بيها يا بوجحيشة»‪ ،‬بتاريخ ‪ 25‬يونيو ‪2016‬م)‪.‬‬ ‫ولئن ادّعى المنتمون إلى تنظيم داعش ّأنهم يعملون‬

‫بالكتاب والس ّنة ويطبقون الشريعة بصرامة‪ّ ،‬‬ ‫وأنهم خير‬ ‫ّ‬ ‫ممثلين لإلسالم والرجولة الكاملة‪ ،‬فإنّ تصرفاتهم زمن‬ ‫ّ‬ ‫التحقق من الخطر الداهم تكشف النقاب عن أشكال‬

‫كرها‬ ‫أشد على الرجل الذي أبدى‬ ‫ليس‬ ‫ً‬ ‫ّ‬

‫واحتقارا لألنوثة من أن يتموقع‬ ‫للنساء‬ ‫ً‬ ‫بعد إلقاء القبض عليه في مكانة المرأة‬ ‫التي تنسب لها الثقافة مجموعة من‬ ‫الصفات السلبية كالجبن والضعف‬

‫التص ّرف في المرجعيّة وفق السياق‪ .‬فقد أدّب فقهاء‬

‫التنظيم من تشبَّه بالنساء مستندين في ذلك إلى حديث‬

‫رواه ابن عباس ‪-‬رضي الله عنهما‪ -‬قال‪ :‬لعن رسول الله‬

‫صلى الله عليه وسلم المتشبهين من الرجال بالنساء‪،‬‬

‫والمتشبهات من النساء بالرجال‪( .‬صحيح‪ ‬البخاري)‪ .‬ثمّ إنّ‬

‫المسؤولين عن الحسبة عاقبوا ّ‬ ‫كل من حلق لحيته وشاربه‬

‫ولم ّ‬ ‫يقصر مالبسه‪ ،‬ولك ّنهم اليوم يتجاهلون حكم النهي أو‬ ‫ّ‬ ‫وكل الحجج التي قدّ موها‪.‬‬ ‫التحريم‬ ‫هيمنة التمثالت االجتماعية‬

‫تنمّ «حفالت» تأديب الرجل ‪ -‬المقاتل الذي تقمَّ ص‬

‫شخصية المرأة عن هيمنة التمثالت االجتماعية الخاصة‬

‫باألنوثة ‪ -‬الذكورة واستمرار المجتمعات المحافظة والتقليدية‬

‫في تبخيس األنوثة في مقابل إشادتها بالرجولة المهيمنة‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫وليس العنف اللفظي والمادي‬ ‫المسلط على المتنكرين في‬ ‫زيّ النسوان إلاَّ عالمة دالة على أنّ المجتمع ال يرحم من‬

‫تعدّ ى الحدود الجندرية (المتعارف عليها بين الجنسين)‪ ،‬فال‬

‫يمكن بأي حال من األحوال أن يضحّ ي الرجل بشرف الذكورة‬ ‫ّ‬ ‫بالتخلي عن امتيازات الرجولة‪ .‬إنّ‬ ‫وتعاليها‪ ،‬وأن يقبل‬

‫الموت أهون بكثير من التماهي مع النسوان‪ :‬ناقصات العقل‬ ‫والدين‪ ،‬وحبائل الشيطان وصاحبات الكيد‪.‬‬

‫وبالرغم من إيمان المجتمع الذكوري بهذه التصوّرات‬

‫فإنّ للحظة الحاسمة قوانينها‪ .‬فعندما يمتلك الرعب‬

‫قلب المقاتل يرتدّ إلى حضن أمّ ه‪ ،‬فيتماهى مع األنوثة زيًّا‬ ‫ومشاعر‪ ،‬وهي مشاعر تتجاوز الحدود الجندرية الصارمة‬

‫التي تمنع الرجل من إبداء الخوف والخور واالنكسار وتقيّده‬ ‫تجب ما‬ ‫بمجموعة من القيود واألدوار‪ ...‬إنّ لحظة االنكسار‬ ‫ّ‬ ‫سبق‪ ...‬تقفز على المعايير والقيم والنظام‪ ،‬وتؤ ّكد بما ال‬ ‫يدع مجالاً‬ ‫ّ‬ ‫للشك على أنّ الرجولة رجوالت وهي مسار من‬

‫االختبارات ولها صوالت وجوالت‪.‬‬

‫‪105‬‬


‫تحقيقات‬

‫االستشراق الجديد‪..‬‬ ‫جنون هوياتي أم تكريس لكراهية العرب؟‬ ‫خاص‬

‫‪106‬‬

‫كشف الغزو األميركي للعراق عام ‪2001‬م عن الدور البارز الذي لعبه‬ ‫االستشراق الجديد في تشكيل مخيلة الغرب نحو المنطقة العربية‪ ،‬فعبر عدد من‬ ‫مراكز األبحاث وأقسام الجامعات ووسائل اإلعالم َّ‬ ‫صدق العالم أن العراق مقبل‬ ‫على إبادة البشرية‪ .‬يومها وقف وزير الخارجية األميركي كولن باول يستعرض‬ ‫أمام مجلس األمن علبة صفيح قديمة بوصفها دليلاً على مدى تطور البرنامج‬ ‫النووي العراقي‪ ،‬مطالبًا بتشكيل تحالف دولي النتزاع قوى الشر من مكمنها‪ .‬هكذا‬ ‫صنعت أفكار برنارد لويس وصمويل هنتنغتون وجيوش من صحفيين وباحثين‬ ‫عاملين في مضمار ما يعرف باالستشراق الجديد رأ ًيا عامًّ ا بار َ‬ ‫َك احتالل العراق‪،‬‬ ‫فضلاً عن إلقاء آالف األطنان من المتفجرات على رؤوس أطفاله وشيوخه‪.‬‬

‫العددان ‪ 490 - 489‬شوال ‪ -‬ذو القعدة ‪1438‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬أغسطس ‪2017‬م‬


‫االستشراق الجديد‪ ..‬جنون هوياتي أم تكريس لكراهية العرب؟‬

‫سهَّلت القنوات الفضائية والشبكة العنكبوتية ومواقع‬

‫التواصل االجتماعي وأدوات االتصال الحديثة للمستشرقين‬ ‫الجدد عملهم في إنتاج مزيد من التصورات الخاطئة‬ ‫عن اإلسالم ومنطقة العالم العربي‪ ،‬بدءً ا من أن انعدام‬

‫الديمقراطية في الشرق هو الذي أدى إلى خروج اإلسالميين‬

‫من بلدانهم لتهديد المجتمعات الغربية‪ ،‬مرورًا بأن الحل‬ ‫يكمن في إحالل الديمقراطية األميركية ووصول اإلسالم‬

‫محمد عمري‪:‬‬ ‫صعود اليمين المتطرف والخطاب‬ ‫المعادي للهجرة‪ ،‬دليل على قوة الفكر‬ ‫االستشراقي الجديد وفعله في صنع‬ ‫الرأي العام والقرار‬

‫ْ‬ ‫أطلت برأسها‬ ‫سعيد؟ ما غايات هذا االستشراق وأهدافه التي‬

‫ظهر في الخطاب الذي أوصل دونالد ترمب للرئاسة‪ .‬وإلى‬

‫السياسي إلى سدة الحكم؛ كي ال تتكرر مأساة تفجير بُرجَ ِي‬ ‫التجارة العالمي من جديد‪ ..‬هذه األفكار روَّجت إلعادة تقسيم‬

‫المنطقة العربية على أسس طائفية وعرقية‪ ،‬وعجَّ لت بخلق‬ ‫جماعات تؤكد وجهة نظر الغرب في اإلسالم‪.‬‬

‫لكن السؤال‪ :‬ما مالمح االستشراق الجديد؟ ما الذي‬ ‫ِّ‬ ‫المفكر الراحل إدوارد‬ ‫يختلف به عن االستشراق الذي فنده‬

‫مع احتالل العراق في مطلع األلفية الثالثة؟ أسئلة تطرحها‬

‫حد مهم دعم مصير الثورات العربية فكرة االستثناء العربي‬

‫يقول الباحث العراقي فاضل الربيعي في كتابه «ما بعد‬

‫كان يحملها قبل ‪2011‬م‪ .‬ولذلك تواصلت الدعوات إلى الحلول‬ ‫األمنية والتدخل العسكري ومساندة «الحكام األقوياء» بدلاً‬

‫صياغة وعي الجمهور العام وآرائه ومواقفه‪ ،‬كما كشف عن‬

‫في الغرب فلعل صعود اليمين المتطرف والخطاب المعادي‬

‫«الفيصل» على عدد من الباحثين والكتاب‪.‬‬

‫االستشراق»‪ :‬إن غزو العراق كشف عن الدور المتنامي لمراكز‬

‫البحوث والجامعات ووسائل اإلعالم الغربية واألميركية في‬ ‫الدور المذهل الذي لعبه االستشراق الجديد في تكريس‬ ‫صورة نمطية ال سابق لها‪ ،‬وهي جميعها‪ ،‬كما يذكر الربيعي‪،‬‬

‫عناصر أساسية ساهمت في شيطنة مجتمعات بأكملها‪،‬‬

‫من بينها العراق الذي كان قبل غزوه طوال سنوات الحصار‬ ‫ً‬ ‫موضوعا أثي ًرا لدى جيل جديد من المستشرقين‪.‬‬ ‫الجائر‬ ‫ً‬ ‫موضوعا دراسيًّا‬ ‫ويرى الربيعي أن على العرب الذين أصبحوا‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫دقيقا لذلك الكم الهائل‬ ‫تعريفا‬ ‫لالستشراق الجديد أن يقدموا‬

‫وعدم قدرة المنطقة على استيعاب الديمقراطية لدى من‬

‫من تدعيم الديمقراطية والمراهنة على القوى المعارضة‪ .‬أما‬ ‫للهجرة‪ ،‬وبخاصة في البلدان اإلسالمية‪ ،‬دليل على قوة الفكر‬

‫االستشراقي الجديد وفعله في صنع الرأي العام والقرار‪.‬‬

‫أكاديمي تونسي أستاذ األدب المقارن بجامعة أكسفورد‪.‬‬

‫عبد الله الوهيبي‪ :‬من االستشراق إلى التسطيح‬

‫«االستشراق الجديد» ‪-‬وهو مصطلح ال يخلو من غموض؛‬

‫من الكتب والمقاالت والدراسات التي اهتمت بالعالم العربي‬

‫لقلة تداوله ولضبابية حدوده‪ -‬تحوَّل تدريجيًّا لحالة سيول ٍة وتذ ٍّر‬ ‫ت‪ .‬ففي الحقبة االستشراقية التي امتدت قرابة القرنين‬ ‫وتف ُّت ٍ‬

‫القديم الكالسيكي من مواد شبيهة مماثلة‪.‬‬

‫المشرق يتمحور في اإلنتاج في اللغويات والرحالت‪ ،‬ثم تطور‬

‫السياسي والثقافي‪ ،‬ورؤية طبيعة صلتها بما أنتجه االستشراق‬

‫محمد عمري‪ :‬لماذا يكرهوننا؟‬

‫حتى أواخر القرن المنصرم كان اإلنتاج المعرفي الغربي تجاه‬

‫لدراسات أنثروبولوجية وسسيولوجية واقتصاد سياسي وغيرها‬

‫من المنهجيات‪ ،‬وكان ذلك في العموم يصدر عن األكاديميات‬

‫ال أعتقد أن االستشراق الجديد موحّ د أو أنه استطاع إنتاج‬

‫الغربية بالدرجة األولى‪ ،‬ومن المراكز العلمية والبحثية‬

‫الجديد بمعنى الخبرة األكاديمية في خدمة القرار السياسي‬

‫لشبكات االتصال الحديثة ابتداء من ذيوع القنوات‪ ،‬ثم اإلنترنت‪،‬‬

‫المصالح في منطقة متقلبة‪ .‬كما تواصل التركيز على ما‬

‫جديدة تسطيحية وكليشيهات ساذجة يصرح بها «خبير» في‬ ‫ّ‬ ‫«معلق» يعمل في مركز راند أو ما شابه‪،‬‬ ‫الجماعات اإلسالمية أو‬

‫معرفة جديدة حول المنطقة بعد ‪2011‬م‪ .‬وإذا أخذنا االستشراق‬

‫الغربي‪ ،‬فأغلب المجهود اتجه نحو كيفية المحافظة على‬

‫يسمى بالحرب على اإلرهاب ومحاولة إيجاد مواقع للتأثير في‬ ‫واقع متقلب‪ ،‬كسوريا مثلاً ‪ .‬وتدعمت فكرة البحث في سؤال‪:‬‬

‫«لماذا يكرهوننا؟»‪ ،‬وبخاصة في الواليات المتحدة‪ ،‬باإلجابة‬ ‫عنها بعودة الشعبوية وتقديم المصلحة القومية أولاً ‪ ،‬كما‬

‫السياسية والمستقلة في مرحلة تالية‪ ،‬ثم مع االنتشار الهائل‬

‫ثم الشبكات االجتماعية‪ ،‬تحولت المعرفة االستشراقية ألنواع‬

‫كما صار من السهل مشاركة العربي والمسلم في إنتاج هذه‬

‫المعرفة‪ ،‬لظروف كثرة الباحثين من أصول عربية في الغرب‬ ‫عمومً ا‪ ،‬ولظروف تزايد الهجرة و… إلخ‪ .‬فالتحول األحدث في‬

‫‪107‬‬


‫تحقيقات‬

‫عبدالله الوهيبي‪:‬‬ ‫االستشراق الجديد مصطلح ال يخلو من‬ ‫غموض؛ لقلة تداوله ولضبابية حدوده‬ ‫المعرفة المنتجة عن الشرق العربي هي هذه السمة التسطيحية‬

‫والتفتيتية‪ ،‬فلم تعد األبحاث الجادة أو األطروحات العميقة هي‬ ‫المؤثرة أو لها األولوية في تكوين الصور والمواقف العمومية عن‬

‫حوادث المشرق وتداعيات األحداث في المنطقة العربية‪ ،‬بل‬ ‫الخبير‪ /‬المعلق‪ /‬الصحفي الذي يقدم معرفة لالستهالك العاجل‪.‬‬

‫باحث سعودي أصدر كتاب‬

‫«حول االستشراق الجديد ‪ -‬مقدمات أولية»‬

‫‪108‬‬

‫‪ ‬فخري صالح‪ :‬استشراق ذو أغراض وغايات أيديولوجية فاقعة‬ ‫إذا نظرنا إلى ما قدمه االستشراق خالل القرنين الثامن عشر والتاسع عشر‪ ،‬والنصف األول من القرن العشرين‪ ،‬في‬

‫دراسة تاريخ الشرق ولغاته وتراثه‪ ،‬فسنجد أن من الصعب تجاوز هذا الميراث الهائل من المعرفة االستشراقية حول‬

‫العالمين العربي واإلسالمي‪ .‬وبغض النظر عن نقد االستشراق الذي مارسه مفكرون مثل أنور عبدالملك‪ ،‬وإدوارد سعيد‪،‬‬ ‫وطالل أسد‪ ،‬وضياء الدين ساردار وآخرين غيرهم‪ ،‬فإن االستشراق الكالسيكي قام بدور عظيم في دراسة الشعوب الشرقية‬ ‫وميراثها‪ .‬أما ما سميته في كتابي األخير «االستشراق الجديد»‪ ،‬أو باألحرى «االستشراق الراهن»‪ ،‬ممثلاً في كتب برنارد لويس‬ ‫الدعويَّة األخيرة‪ ،‬وتنظيرات صمويل هنتنغتون‪ ،‬وسياحة الكاتب الترينيدادي األصل‪ ،‬والبريطاني الجنسية والثقافة‪ :‬في‪ .‬إس‪.‬‬

‫نايبول في العالم اإلسالمي‪ ،‬فهو يتسم بالسطحية‪ ،‬وتغلب عليه الصور النمطية‪ ،‬والتحليالت المستمدة من مصادر ثانوية‪.‬‬ ‫إنه «استشراق» ذو أغراض وغايات أيديولوجية فاقعة ومفضوحة‪ .‬فإذا كان االستشراق الكالسيكي واقعً ا في شرك‬

‫العالقة المعقدة بين المعرفة والخطاب والسلطة فإنه سعى‪ ،‬في أعمال المستشرقين الكبار مثل المجري إغناتس‬

‫غولدتسيهر أو األلماني كارل بروكلمان‪ ،‬إلى دراسة الميراث اإلسالمي العظيم‪ ،‬وقراءة هذا الميراث في تاريخيته‪ .‬أما النسل‬ ‫الجديد من المستشرقين الجدد لوزارة الخارجية األميركية‪ ،‬وللسي آي إيه‪ ،‬ومراكز صنع القرار في أميركا والغرب‪ ،‬فوجدوا‬ ‫لتوفير معرفة نظرية يمكن من خاللها اتخاذ قرارات التدخل وشن الحروب على مناطق ذات أهمية حيوية بالنسبة للواليات‬

‫المتحدة‪ .‬ال شك أن بعض االستشراق القديم كان في خدمة اإلمبراطورية‪ ،‬لكنه لم يكن كذلك في معظمه‪ ،‬أما ما كتبه‬ ‫برنارد لويس وتالمذته‪ ،‬األقل منه ً‬ ‫شأنا ومعرفة دون أي شك‪ ،‬منذ ثمانينيات القرن الماضي‪ ،‬فال قيمة معرفية له‪ ،‬بل هو‬

‫دعاية تشبه الدعاية الغربية ضد االتحاد السوفييتي أيام الحرب الباردة‪ .‬إنها مجرد مواد إعالمية دعوية هدفها اصطناع‬ ‫عدو جديد للغرب وأميركا لغايات إستراتيجية‪ ،‬وكذلك هوياتيَّة في مواجهة اآلخر‪ :‬المسلم‪ ،‬الذي يعتقد هؤالء أنه يهدد‬

‫هوية الغرب المسيحي –العلماني– الديمقراطي‪ .‬يمكننا أن نرى اآلن هذا الجنون القومي –الهوياتي– المعادي لألجانب‬ ‫(وهم في األغلب‪ :‬المسلمون) الذي يجتاح أميركا وأوربا‪ ،‬لنفهم إلى أي حد أساء هؤالء المستشرقون الجدد إلى أميركا‬

‫والغرب قبل أن يسيؤوا إلى العرب والمسلمين‪ .‬إننا مُ ق ِبلون على كارثة بعد أن أصبحت كراهية اإلسالم سياسة يعتنقها‬

‫العددان ‪ 490 - 489‬شوال ‪ -‬ذو القعدة ‪1438‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬أغسطس ‪2017‬م‬


‫االستشراق الجديد‪ ..‬جنون هوياتي أم تكريس لكراهية العرب؟‬

‫عمار علي حسن‪ :‬االستغراب في مواجهة االستشراق‬

‫االستشراق هو المؤسسة المشتركة للتعامل مع الشرق‪،‬‬

‫بإصدار تقارير حوله‪ ،‬وإجازة اآلراء فيه وإقرارها‪ ،‬ووصفه‪،‬‬ ‫وتدريسه‪ ،‬واالستقرار فيه‪ ،‬وحكمه‪ ،‬وهو أسلوب غربي‬

‫للسيطرة على الشرق‪ ،‬واستبنائه‪ ،‬وامتالك السيادة عليه‪...‬‬ ‫ْ‬ ‫استطاعت به الحضارة الغربية أن تتدبر الشرق ‪-‬‬ ‫وهو إنشاء‬

‫بل حتى تنتجه‪ ،‬سياسيًّا واجتماعيًّا وعسكريًّا وعقائديًّا وعلميًّا‬

‫وتخيليًّا‪ ،‬حتى أصبح صعبًا على أي إنسان أن يكتب عن‬ ‫الشرق‪ ،‬أو يفكر فيه‪ ،‬أو يمارس فعلاً‬ ‫ً‬ ‫متعلقا به‪ ،‬من دون أن‬ ‫يأخذ بعين االعتبار الحدود المعوقة التي فرضها االستشراق‬ ‫على الفكر والفعل‪ ،‬وال يعني هذا أن االستشراق‪ ،‬بمفرده‪،‬‬

‫يقرر ويحتم ما يمكن أن يقال عن الشرق‪ ،‬بل إنه يشكل شبكة‬ ‫المصالح الكلية التي يستحضر تأثيرها بصورة ال مفر منها في‬

‫كل مناسبة‪ ،‬يكون فيها الشرق موضعً ا للنقاش‪.‬‬

‫عمار علي حسن‪:‬‬ ‫صعبا على أي إنسان أن يكتب عن‬ ‫أصبح‬ ‫ً‬ ‫الشرق أو التفكير فيه‪ ،‬من دون أن يأخذ‬ ‫بعين االعتبار الحدود المعوقة التي‬ ‫فرضها االستشراق على الفكر والفعل‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫متدفقا مثل الذي أنتجه االستشراق‪ ،‬وهي‬ ‫عريضا‬ ‫تنتج تيارًا‬ ‫ليست سوى جهود فردية متناثرة‪ ،‬تضرب يمي ًنا ويسارًا‪ ،‬بال‬

‫أما «االستغراب» فهو دعوة حالمة متفائلة لدراسة‬

‫هدف محدد‪ ،‬وال خطة ناظمة‪ .‬لكنها في كل األحوال ال تقوم‬

‫المتالك آليات فاعلة للتعامل معها‪ .‬لكن هذه الدعوة لم‬

‫اإلسالمي‪ ،‬مثل ما كتبه سيد قطب ومحمد قطب‪ ،‬بل تنطوي‬

‫الغرب‪ ،‬وتفكيك ثقافته وتوجهاته‪ ،‬وفهمها وهضمها‪،‬‬

‫على تشويه الغرب‪ ،‬اللهم إال في بعض كتابات أتباع التيار‬

‫الرئيس األميركي الجديد دونالد ترمب ومساعدوه في البيت األبيض‪.‬‬ ‫وال شك أن ذلك ينسحب على أوربا التي ستعاني كثيرًا بسبب السياسة‬

‫األميركية الجديدة التي تتجه بسرعة صاروخية إلى التقوقع حول‬ ‫هويتها البيضاء البروتستانتية الديانة‪ ،‬اإلنجليزية الثقافة‪ ،‬وهو ما َّ‬ ‫نظر‬ ‫له صمويل هنتنغتون في آخر كتبه «من نحن؟» (‪2004‬م)‪ ،‬وهو الذي نبه‬ ‫من ُ‬ ‫قبل إلى خطر المسلمين‪ ،‬ثم أضاف في كتابه األخير المهاجرين‬

‫من أميركا الالتينية الذين رأى أنهم يهددون هوية أميركا في بدايات‬ ‫القرن الحادي والعشرين‪ .‬هذه الرؤى النظرية‪ ،‬إذا اع ُت ِنقت‪ ،‬قد تقود‬ ‫إلى حروب أهلية ومواجهات كونية‪ ،‬وربما حروب عالمية‪ .‬وها نحن‬

‫نرى دونالد ترمب يوقع مراسيم سياسية بإقامة جدار بين المكسيك‬ ‫والواليات المتحدة‪ ،‬ويمنع دخول المسلمين إلى أميركا؛ ألنهم في‬

‫نظره إرهابيون‪ .‬ومع أنني ال أومن أن األفكار وحدها يمكن أن تقود إلى‬

‫صناعة السياسات‪ ،‬فثمة عوامل اقتصادية وسياسية وجيو‪-‬إستراتيجية‬ ‫وثقافية‪ ،‬فإن أفكار لويس وهنتنغتون والمحافظين الجدد‪ ،‬إضافة إلى‬

‫صحفيين وكتاب رأي وباحثين في بيوت الخبرة األميركية‪ ،‬قد صنعت‬ ‫رأيًا عامًّ ا في األوساط اليمينية المتطرفة كانت نتيجته انتخاب رئيس‬

‫أميركي شعبوي‪ ،‬جاهل‪ ،‬معا ٍد للثقافة‪ ،‬معا ٍد للتجربة الديمقراطية‬

‫األميركية‪ ،‬كاره لألجانب‪ ،‬محتقر للنساء‪ ،‬قد يج ُّر العالم إلى كارثة‪،‬‬ ‫وربما مواجهة نووية‪.‬‬

‫ناقد ومترجم فلسطيني مؤلف كتاب «كراهية اإلسالم‪..‬‬ ‫كيف يصور االستشراق الجديد العرب والمسلمين»‬

‫‪109‬‬


‫تحقيقات‬

‫في أغلبها على اإلعجاب به‪ ،‬ومحاولة تمثله‪ ،‬واالقتداء بما‬ ‫أنجزه في المعارف التطبيقية واإلنسانية والفنون‪ ،‬وفي‬ ‫العمران البشري‪ ،‬ال سيما في مجال الديمقراطية وحقوق‬ ‫اإلنسان‪ .‬ويحتاج حوار الحضارات إلى تصحيح الصور النمطية‬

‫المغلوطة‪ ،‬وإال ظل مجرد ترف نخبوي‪ ،‬ورتوش مزيفة‪،‬‬ ‫وخطابات عالقات عامة‪ ،‬تظهر وقت األزمات‪ُ ،‬‬ ‫وتس َتخدم‬

‫مطية ألحوال السياسة وتقلباتها‪.‬‬

‫باحث مصري في علم االجتماع السياسي‪.‬‬

‫عبدالكريم المقداد‪ :‬في مقعد الجواسيس‬

‫ال أرى في االستشراق الجديد إال نسخة أحط وأبشع‬

‫من االستشراق القديم‪ ،‬الذي ك ّرس للشرق صورة نمطية ال‬ ‫تعكس سوى الجهل والهمجية وعبادة الشهوات‪ .‬لطالما نظر‬

‫إلينا المستشرقون بنظرة المتعالي‪ ،‬ووضعونا في خانة األدنى‪.‬‬

‫ولست أجافي الحقيقة إذ أقول‪ :‬إن أغلبهم لم يبرح موقع‬ ‫الجاسوس في رصده للشرق‪ ،‬وتركيزه على مسارب الضعف‬

‫التي تمكن الغرب من التسلل منها لالستحواذ على مواردنا‬ ‫وإرادتنا وقرارنا بصور خادعة زخرفها بمنمنمات فنية تحرف‬ ‫النظر عن خبث تلك الصور‪ .‬لم تفلح كل المحاوالت العربية‬

‫‪110‬‬

‫واإلسالمية من خالل التواصل والتعايش مع الغرب بعد‬

‫ذلك في تغيير تلك الصورة‪ ،‬التي التصقت في وعي وال وعي‬ ‫ّ‬ ‫ويلف‬ ‫الغرب‪ ،‬وصارت مُ َس َّلمة ال ُتدحَ ض‪ .‬كان الغرب يوارب‬

‫عبدالكريم المقداد‪:‬‬ ‫ال أرى في االستشراق الجديد إال نسخة‬ ‫أحط وأبشع من االستشراق القديم‬ ‫كرس للشرق صورة نمطية ال‬ ‫الذي ّ‬ ‫تعكس سوى الجهل والهمجية‬ ‫بصور وأوصاف للمسلمين والعرب أهون عناوينها الهمجية‬ ‫والجمال وال ّر ّق! حاول المستشرقون بعد‬ ‫والتوحش والبداوة‬ ‫ِ‬

‫بغاللة جديدة‪ ،‬فكان االستشراق‬ ‫ذلك تغليف هذه النظرة ِ‬

‫الجديد‪ ،‬وظهر صموئيل هنتنغتون وبرنارد لويس وأضرابهما‪.‬‬

‫تمت «مكيجة» الوسيلة فقط‪ ،‬أما الهدف فلم يتغير‪:‬‬

‫االستحواذ على الشرق وثرواته وعدم تمكينه من أمره‬

‫وقراراته‪ ،‬وإغراق مواطنيه في دوامة الركض خلف رغيف‬ ‫الخبز‪ ،‬والحرص على جعل الحرية والعدالة والكرامة مجرد‬ ‫كماليات ال يستطيع اقترافها حتى في األحالم‪.‬‬

‫تماهى‬

‫ويدور لعدم الجهر عل ًنا بمفاهيمه عن الشرق‪ ،‬لكن ما أن تلقى‬

‫المستشرقون مع القادة فخلقوا (القاعدة)‪ ،‬وابتكروا بعدها‬

‫له في عام ‪١٩٧٣‬م حتى جهر بما كان يداري‪ ،‬فاكتظ إعالمه‬

‫المسلمين بتقسيمهم إلى معتدلين ومتطرفين‪ ،‬وبدأ اللعب‬

‫صدمة الملك فيصل بن عبدالعزيز في وقفه تصدير النفط‬

‫فزاعة اإلرهاب‪ ،‬ثم شرعوا بشيطنة اإلسالم‪ ،‬وراحوا يؤدلجون‬ ‫على أوتار المذهبية واإلثنية‪ ،‬وسهلوا‬ ‫رئيسا في‬ ‫إليران أن تلعب دورًا‬ ‫ً‬

‫المسرحية‪ ،‬فغرق شرقنا العتيد‬ ‫بالدماء‪ .‬فهل نرجو من هذا الغرب‬

‫الذي بنى أيديولوجياته على أفكار‬ ‫المستشرقين الجدد األخطبوطية أن‬ ‫يسمح بنجاح الربيع العربي‪ ،‬فنملك‬

‫أمرنا وموقفنا ونصبح أحرارًا؟ التجارب‬ ‫ماثلة أمامنا‪ ،‬وما زالت تتفاعل في‬ ‫مصر والعراق وتونس واليمن وسوريا‬

‫وليبيا‪ ،‬وما زال نهر الدم يتدفق بغزارة‬

‫منذ سنوات‪ ،‬أما الغرب‪ ،‬الذي يثور إذا‬ ‫ما عثر كلب في أحد أزقته‪ ،‬فيواصل‬ ‫َ‬ ‫االستمتاع بمشاهدة مسلسل اإلبادة‬

‫في الشرق‪.‬‬

‫العددان ‪ 490 - 489‬شوال ‪ -‬ذو القعدة ‪1438‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬أغسطس ‪2017‬م‬

‫ناقد وباحث سوري‪.‬‬


‫االستشراق الجديد‪ ..‬جنون هوياتي أم تكريس لكراهية العرب؟‬

‫‪111‬‬

‫ﻗﻨﺎة‬

‫‪www.youtube.com/user/KFCRIS‬‬


‫ثقافات‬

‫خذلتهن الثورة اإلسالمية واليسار تخلى عنهن‬

‫الكاتبات اإليرانيات‬

‫ِ‬ ‫يعشن في جحيم مفتوح‬

‫اعتقاالت وتعذيب وتهجير‪ ..‬في كل األزمنة‬

‫‪112‬‬

‫العددان ‪ 490 - 489‬شوال ‪ -‬ذو القعدة ‪1438‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬أغسطس ‪2017‬م‬


‫متعب القرني‬

‫مترجم وأكاديمي سعودي‬

‫ّ‬ ‫يتسلى بنشر تغريداته عبر تويتر‪ ،‬باغته‬ ‫حين كان الرئيس اإليراني حسن روحاني (‪1948‬م‪)-‬‬ ‫مؤسس تويتر جاك دورسي بسؤال على غير المتوقع‪« :‬هل يا سعادة الرئيس يستطيع الشعب‬ ‫اإليراني قراءة تغريداتك اآلن؟»‪ ،‬في إشارة مُ لجمة إلى الحظر الذي فرضته الحكومة اإليرانية على‬ ‫وسائل التواصل االجتماعي منذ عام ‪2009‬م‪ .‬كان هذا الرد كفيلاً ألن يفتح علبة من القضايا الساخنة‬ ‫التي ال تزال عالقة في كهوف الغيب عن مأساة النشر والتعبير بإيران‪ ،‬ذلك البلد الذي استحال‬ ‫بعد الثورة اإلسالمية إلى شبكة من االعتقاالت واالغتياالت‪ ،‬كانت سببًا في تهجير األدمغة المفكرة‬ ‫ودفعها لحالة دياسبورا مريرة ونوستالجيا تائهة بين خيارات المهاجر واألوطان‪.‬‬ ‫كان لهذا التنكيل بالشخصيات الناقدة تداعياته السلبية‬

‫على مالمح من هذا النضال النسوي‪ ،‬وقصص اضطهادها‬

‫وأضعف النهضة العلمية من مواصلة تطلعاتها‪ ،‬حتى صارت‬

‫آذار نفيسي على حلقاتها السرية في قراءة رواية «لوليتا»‪،‬‬

‫على البالد‪ ،‬إذ تسبب في إخالء الجامعات اإليرانية من علمائها‬

‫إيران تستجدي تلك الشخصيات للعودة والمشاركة في التنمية‬ ‫والنهوض‪ .‬يذكر الكاتب أوس الشمّ سان بأنه على هامش مؤتمر‬ ‫علمي بجامعة طهران‪ ،‬سأل أحد الصحفيين أستاذ الصيدلة‬

‫بجامعة ألبرتا الكندية البروفيسور الكندي (اإليراني األصل)‬ ‫فخر الدين جمالي (‪1950‬م‪ )-‬عن الوقت المناسب لمغادرة‬ ‫ً‬ ‫واقفا‬ ‫كندا والعودة إلى إيران‪ ،‬فكانت إجابته‪« :‬عندما أبول‬

‫في حمام جامعة طهران!» مشيرًا إلى محنة زميله الذي‬ ‫ً‬ ‫واقفا‪ ،‬وذلك في السنوات‬ ‫اعتقل من الجامعة بحجة البول‬ ‫األولى من انتصار الثورة‪ .‬كانت الجامعة حينها تتربص بذلك‬

‫األستاذ وتحاول انتهاز الفرص لإلطاحة به‪ ،‬فأسرّوا إلى جماعة‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫مطالبة بفصله‬ ‫واقفا‪ ،‬فرُفعت العرائض‬ ‫الباسيج بأنه يبول‬

‫لكونه يسيء لألمة اإليرانية ومبادئ الثورة اإلسالمية‪ .‬استدعته‬ ‫مجلسا تأديبيًّا فطالبته‬ ‫الجامعة وأقامت‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫المغلظ بعدم البول واقفا‪ ،‬فحلف‬ ‫بالحلف‬ ‫ً‬ ‫مؤكدا أن الثورة كسرت كل‬ ‫أمام لجنة حزبية‬ ‫المباول الواقفة في الحمامات لتطهير مظاهر‬

‫حكم الشاه الدكتاتوري‪ .‬فقامت اللجنة بعد‬ ‫ذلك بالتشكيك في حلفه‪ ،‬فلم يكد ينجو‬

‫من التهمة حتى أدلى ثالثة شهود عدول‬ ‫بشهادتهم مؤكدين أنهم الحقوا األستاذ أثناء‬

‫خلوته ولم يسمعوا شخشخة بوله‪ ،‬ما يؤكد‬ ‫ً‬ ‫واقفا‪.‬‬ ‫عدم بوله‬

‫وحصارها‪ ،‬بالعرض الروائي االستعراضي‪ ،‬بدءً ا بمطاردات‬ ‫واعتقاالت الروائية بارسيبور على البروشورات والطابعات‪،‬‬ ‫وصولاً إلى تهديدات الكاتبة المسيحية نيمار نيمات وزواجها‬ ‫اإلكراهي من السجّ ان‪ ،‬وانتهاءً بضحايا جُ دد ال تزال إلى اليوم‬ ‫تقضي فتراتها في السجون بال ُتهم!‬ ‫آذار نفيسي‪ ..‬قراءة لوليتا في طهران‬

‫لم يعش الروائي الروسي فالديمير نابوكوف (‪1977-1899‬م)‬ ‫طويلاً كي يسمع بأن روايته «لوليتا‪ »1955 ،‬قد حُ ظرت في إيران‬ ‫بعد الثورة اإلسالمية‪ ،‬وال ليسمع بالمعاناة القاسية التي القتها‬

‫الطالبات اإليرانيات في سبيل قراءتها‪ ،‬وال ليرى اسم روايته وهو‬

‫يتمحور كعنوان في مذكرات أستاذة األدب اإلنجليزي بجامعة‬ ‫جونز هوبكنز األميركية آذار نفيسي (‪1948‬م) حيث أوردت قصة‬

‫حلقاتها في مذكراتها الواقعية «قراءة لوليتا في طهران‪»2003 ،‬‬ ‫بأسلوب مدهش تركها على قائمة أفضل‬ ‫ٍ‬ ‫مبيعات النيويورك تايمز لسنتين متتابعتين‪،‬‬ ‫حتى ُترجمت لما يجاوز الثالثين لغة‪« .‬إن‬ ‫أحداث ومعطيات هذه القصة حقيقية إلى‬

‫أقصى مدى تستطيع أن تحمله ذاكرتي من‬ ‫ُ‬ ‫بذلت قصارى جهدي لئال أسيء‬ ‫صدق‪ ،‬بيد ّأني‬

‫ألحد من أصدقائي وطلبتي‪ ،‬فرُحْ ُ‬ ‫ت ِّ‬ ‫أعمدهم‬ ‫بأسماء جديدة وأقنعهم بأقنعة عديدة؛ كي‬

‫تكون أسرارهم في أمان»‪.‬‬

‫لم يكن هذا التهجير و َْق ًفا على الرجال‪،‬‬

‫تستعيد نفيسي ذاكرتها حين عودتها إلى‬

‫دفعتها للهجرة وترك البالد‪ .‬هنا نسلط الضوء‬

‫بين سهول أميركا وجبال سويسرا‪ .‬تعود‬

‫فقد القت المرأة اإليرانية مضايقات واعتقاالت‬

‫طهران بعد ‪ 17‬عامً ا من العيش الحر المتقطع‬

‫‪113‬‬


‫ثقافات‬

‫لتجد والدها المثقف سجي ًنا بتهمة المعارضة بعد أن كان‬ ‫العمدة لمدينة طهران‪ ،‬فتتزوج برجل ُسوقي ال يقرأ وال يقيم‬ ‫ً‬ ‫وزنا للقراءة‪« ،‬كان ال يشبهنا‪ ،‬لم يكن يُعير أي اهتمام للكتب‪،‬‬

‫وكان يقول‪ :‬مشكلتك أنت وأهلك أنكم تعيشون في الكتب أكثر‬ ‫مما تعيشون في الواقع!»‪ .‬تضطر نفيسي بعد عام أن تسافر‬ ‫ِر َ‬ ‫فقة زوجها ألوكالهوما حيث درست األدب اإلنجليزي فزادت‬

‫مرارة اضطهادات زوجها عليها حتى أعلنت انفصالها وطالقها‬ ‫منه بعد سماعها خبر اإلفراج عن والدها‪.‬‬

‫عادت نفيسي بعد إنهاء دراستها إلى جامعة طهران‪،‬‬ ‫حيث كانت موئلاً لألنشطة السياسية الساخنة‪ .‬هنالك بدأت‬

‫تعد الخطة الدراسية لمواد األدب‪ ،‬ف ُتطعّ مها بعدة روايات‬

‫مثيرة‪ ،‬من أهمها رواية «غاتسبي العظيم» للروائي األميركي‬ ‫فرنسيس سكوت فيتزجيرالد (‪1940-1896‬م)‪ ،‬التي أثارت جدلاً‬ ‫في القسم وبين الطالب‪ .‬تذكر نفيسي أن هذه الرواية وغيرها‬ ‫كان كثيرًا ما يخترق فصولها شظايا من أخبار االعتقاالت‬ ‫واإلعدامات التي ّ‬ ‫تنفذها الدولة ضد النشطاء‪ ،‬على رأس ذلك‬ ‫خبر إعدام الطالب البريء عميد غريب بعد أن حُ كم عليه‬

‫بالسجن ثالث سنوات بتهمة التغربن وإبداء النزعات اليسارية‬

‫‪114‬‬

‫المضادة لتوجهات الدولة‪ ،‬فلم يكمل السنتين في سجنه حتى‬ ‫أُعلن خبر إعدامه عام ‪1983‬م في ظروف غامضة‪ .‬ظلت نفيسي‬

‫في جامعة طهران مناضلة ضد توجهات الدولة االستبدادية‬ ‫في فرض الحجاب اإلجباري على النساء‪ ،‬وشاركت في عدة‬ ‫مظاهرات ضد تشريعاتها الجديدة؛ كتخفيض سن الزواج من‬

‫آذار نفيسي‬

‫استحالت إيران بعد الثورة إلى شبكة من‬ ‫سببا في‬ ‫االعتقاالت واالغتياالت‪ ،‬كانت‬ ‫ً‬ ‫تهجير األدمغة المفكرة ودفعها لحالة‬ ‫دياسبورا مريرة ونوستالجيا تائهة بين‬ ‫خيارات المهاجر واألوطان‬ ‫حينما يكون أقصى اهتمام لمسؤولي الجامعة مُ َ‬ ‫نصبًّا على‬

‫‪ 18‬عامً ا إلى ‪ 9‬أعوام‪ ،‬أو تشريع قانون الرجم بصفته عقوبة‬ ‫للزنى‪ ،‬حتى ُطردت مع بعض زميالتها من الجامعة‪.‬‬

‫قد تطيش من تحت اإليشارب‪ ،‬وليس على كفاءتنا في أداء‬

‫سويسرا»‪ ،‬فإذا ما أسرعت طالبة لتلحق بالدرس‪ ،‬عاقبوها‬

‫في خريف ‪1995‬م‪ ،‬نالت نفيسي أخيرًا حريتها باستقالتها‪،‬‬ ‫فقامت بتكوين فصل دراسي خاص ي َ‬ ‫ُعقد كل خميس‪ ،‬التقت‬

‫انتقلت نفيسي للتدريس بجامعة العالمة الطباطبائي‪،‬‬ ‫حيث ُتردد مقولة الحرس الثوري المتذمرة «إيران استحالت‬

‫على الهرولة؛ وإذا ضحكت عاقبوها على الضحك في الممرات‪،‬‬ ‫وإذا ما ُ‬ ‫ضبطت وهي تتحدث مع الجنس اآلخر عاقبوها بتهمة‬ ‫االختالط‪« .‬ذات يوم‪ ،‬اقتحمت طالبتي ساناز قاعة الدرس قبل‬

‫ْ‬ ‫تأخرت ألن حارسات البوابة‬ ‫نهاية المحاضرة بقليل وهي تبكي‪،‬‬ ‫عثرنَ على أحمر الخدود في حقيبتها عند التفتيش‪ ،‬وكنَّ قد‬ ‫حاولنَ إعادتها إلى البيت مع خطاب توبيخ!»‪.‬‬

‫كانت مهمة الجامعة التضييق على كل األساتذة ممن‬

‫يبدي نزعات تقدمية‪ ،‬بحجة وقوفها ضد مبادئ الثورة‪« .‬كانوا‬ ‫يراقبونني ويزيدون من مضايقتي ويقيدون حركتي بشتى‬

‫علي وعلى زوّاري‪ ،‬أو بتحديد نشاطاتي‪،‬‬ ‫الوسائل‪ :‬بالتجسس‬ ‫َّ‬ ‫أو بالمماطلة لسنوات في منحي استحقاقي بالتثبيت كأستاذة‪.‬‬

‫وحين قدمت استقالتي عمدوا إلى إغاظتي بادعاء التمسك‬ ‫بي ورفض االستقالة‪ ...‬كيف لنا أن نقوم بالتدريس كما يجب‬ ‫العددان ‪ 490 - 489‬شوال ‪ -‬ذو القعدة ‪1438‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬أغسطس ‪2017‬م‬

‫لون شفاهنا‪ ،‬وعلى القابلية التدميرية لخصلة شعر يتيمة‬

‫واجباتنا العلمية؟!»‬

‫طالب أبدى‬ ‫فيه سبعً ا من طالباتها النجيبات باإلضافة إلى‬ ‫ٍ‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ُ‬ ‫«انتقيت طالباتي ولم أمعن النظر في‬ ‫ورغبة لالنضمام‪.‬‬ ‫مثابرة‬

‫خلفياتهن األيديولوجية والدينية‪ ...‬كثي ٌر من طالباتي كنَّ أكثر‬

‫مثابرة ومواظبة في الحضور من طالباتي النظاميات الالئي‬ ‫متنفسا للحرية‪ ،‬كان‬ ‫يحضرن ألجل الشهادة»‪ .‬كان هذا الفصل‬ ‫ً‬ ‫ًّ‬ ‫«صفا يمنحني الحرية التي حُ رمت من ممارستها في الفصول‬

‫ُ‬ ‫قمت بتدريسها في الجمهورية»‪.‬‬ ‫الدراسية التي‬

‫ورغم ذلك‪ ،‬كان الوصول إلى الكتب من أشق المهمات‪،‬‬ ‫ال سيما وقد أُغلقت معظم المكتبات التي تبيع الكتب األجنبية‬ ‫بعد الثورة‪ ،‬وكان االعتماد على مخزون كتب بعض األصدقاء‬ ‫هو الحل الوافر‪« .‬أما كتاب لوليتا فقد كان العثور عليه صعبًا‬

‫ًّ‬ ‫ً‬ ‫خصوصا الطبعة المزدانة بالهوامش‪ ،‬التي كانت ترغب‬ ‫جدا‪،‬‬

‫فيها بناتي‪ .‬وقد صورنا الرواية كاملة بصفحاتها الثالث مئة لكل‬


‫الكاتبات اإليرانيات‪ِ ..‬‬ ‫يعشن في جحيم مفتوح‬

‫مسيرة نسائية بطهران ضد فرض الحجاب اإلجباري‪ ،‬في اليوم العالمي للمرأة‪ 8 ،‬مارس ‪1979‬م‬

‫من لم تستطع إيجاد تلك الطبعة‪ .‬إن ما يبعث على اليأس في‬

‫ً‬ ‫أبدا‪ ،‬ألنني لم أجد فتى أحالمي إال في الكتب»‪ .‬كان هذا الفصل‬

‫عجوز قذر فحسب‪ ،‬وإنما أن يصادر شخص حياة شخص آخر‪.‬‬

‫رقيب أعمى‪،‬‬ ‫عيني‬ ‫ّس‬ ‫ْ‬ ‫عند الطالبات «محاولة للهرب من تفر ِ‬ ‫ٍ‬

‫قصة لوليتا ليس اغتصاب فتاة في ربيعها الثاني عشر على يد‬

‫فهي رواية متفائلة من حيث إنها دفاع عن الجمال والحياة‪ ،‬بكل‬

‫المتع اليومية الطبيعية التي حرمت منها لوليتا وحرمت منها‬ ‫طالبتي ياسي؛ ك َّنا جميعً ا مثل لوليتا نحاول أن ننأى بأنفسنا‬ ‫بحثا عن جيوب صغيرة للحرية‪ ،‬ومثل لوليتا ً‬ ‫أيضا لم نكن ندخر‬ ‫ً‬ ‫جهدا للتمايل طربًا بتمردنا! كنا نظهر شي ًئا من خصالت شعرنا‬ ‫من تحت اإليشارب‪ ،‬أو ندس قليلاً من اللون في ذلك التشابه‬

‫عند السلطة أشبه ما يكون بالخلية السرية الخطرة‪ ،‬بينما كان‬

‫ولو لسويعات يتيمات كل أسبوع»‪ .‬ظلت هذه الحلقة تنعقد‬

‫أسبوعيًّا لعامين متواصلين حتى تبرمت نفيسي من مراقبات‬ ‫ّ‬ ‫توعداتها لها باالعتقال بتهمة خرق القانون‪،‬‬ ‫السلطة ومن‬

‫فأعلنت هجرتها األبدية من إيران عام ‪1997‬م‪.‬‬

‫شهرنوش بارسيبور‪ُ ..‬ق ٌ‬ ‫بالت على السيف‬

‫ّ‬ ‫مدت االستخبارات اإليرانية يدها الطولى لتصادر‬

‫الممل القائم في مظهرها أو نطيل أظافرنا أو‬ ‫نستمع لموسيقا ممنوعة‪ ،‬أو ُنحب!»‬

‫الطابعات والمطبوعات‪ ،‬وفرض العقوبات الشديدة على كل‬

‫رواية لوليتا وغاياتها وجمالياتها‬

‫في قصة ابنة أحد المحامين‬

‫ظلت هذه الحلقة الدراسية عن‬

‫تتم في أجواء سرية للغاية‪،‬‬

‫مع تحفظات وتحرّزات من أن‬ ‫ُتكشف أسرار األطراف المنضمين‬ ‫إليها فيخضعن جميعً ا للعقوبة‬

‫بالسجن أو اإلعدام‪ .‬ولم تكن‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫دراسية فحسب‪ ،‬بل‬ ‫حلقة‬

‫مجلسا علميًّا يجمع البروفيسورة‬ ‫ً‬

‫وطالباتها المعجبات‪ ،‬يتبادلن‬

‫من أخفاها أو امتلكها‪ .‬يتجلى ذلك‬ ‫الشيرازيين‪ ،‬الروائية اإليرانية‬

‫شهرنوش بارسيبور (‪1946‬م‪-‬‬ ‫ً‬ ‫قسطا وافرًا من‬ ‫) التي نالت‬

‫االعتقاالت في مرحلتي ما قبل‬

‫الثورة وما بعدها‪ .‬ففي عام‬

‫‪1974‬م‪ّ ،‬‬ ‫قدمت الشابة بارسيبور‬ ‫(‪ 28‬عامً ا) استقالتها‬

‫فيه قضايا الحب واألدب‪ ،‬والحلم‬

‫واألمل‪ ،‬وطرائق الهروب من تلك‬

‫المعيشة الخانقة‪« .‬أتذكر إحدى‬

‫طالباتي وهي تقول‪ :‬لن أتزوج ً‬ ‫أبدا‬

‫شهرنوش بارسيبور‬

‫‪115‬‬


‫ثقافات‬

‫ً‬ ‫معلنة إيقاف برنامجها‬ ‫من العمل في التلفزيون اإليراني‪،‬‬

‫ذات المعتقل الذي ُعذبت فيه المصورة زهرة كاظمي (‪-1948‬‬

‫واإلعدامات الالمسؤولة التي قادها الشاه محمد رضا بهلوي‬

‫ُسجنت بارسيبور شهرين بعهد الشاه بتهمة االستقالة‪،‬‬ ‫لكنها لم تتوقع ً‬ ‫أبدا أن َت ُزجَّ بها الثورة اإلسالمية مع شعاراتها‬

‫اإلسبوعي «النساء البدويات» احتجاجً ا على التعذيب الشنيع‬

‫(‪1980 -1919‬م) ضد الشعراء النشطاء على يد منظمة السافاك‬

‫التحريرية في السجن برفقة والدتها وأخيها لنحو خمس‬

‫(منظمة االستخبارات واألمن الوطنية)‪ .‬وعلى هذا االحتجاج‪،‬‬ ‫أُودِ عت السجن بال تهمة‪ .‬أُفرج عن بارسيبور بعد شهرين‬

‫سنوات كاملة‪ ،‬فقط بسبب بروشورات وُجدت بالخطأ في‬

‫تعليمية متجددة؛ إذ كانت تدرس السوسيولوجيا بجامعة‬

‫«كان هناك عدد من السجناء ال يستطيعون المشي‪ ،‬كانت‬

‫كاملين لتتزوج من رجل عامّ ي أضفى على حياتها ضغوطات‬ ‫طهران بسريّة مع عدد قليل من الطالبات آنذاك‪.‬‬

‫تخرجت بارسيبور من الجامعة‪ ،‬فأعلنت تخفيف هذا‬ ‫ً‬ ‫متجهة‬ ‫التوتر األسري والسياسي بإعالن انفصالها عن زوجها‬ ‫إلكمال دراساتها العليا بجامعة السوربون بفرنسا‪ ،‬حيث‬

‫درست الفلسفة الصينية في الفترة من عام ‪1976‬م إلى عام‬ ‫ُ‬ ‫«سافرت إلى فرنسا‪ ،‬فأرهقتني االلتزامات المادية‬ ‫‪1980‬م‪.‬‬

‫ُ‬ ‫فاضطررت إلرساله إلى أبيه‬ ‫وحاصرتني الوحدة أنا وطفلي‪،‬‬ ‫ً‬ ‫ٍّ‬ ‫ُ‬ ‫اقتصادي‬ ‫عجز‬ ‫ظللت أقاوم وحيدة في‬ ‫ليكمل دراسته بإيران…‬ ‫ٍ‬ ‫ُ‬ ‫وجدت‬ ‫كلي حتى عام ‪1980‬م‪ .‬فمع مخاض الفوضى الثورية‪،‬‬ ‫ٍّ‬ ‫ُ‬ ‫فقررت العودة وما‬ ‫نفسي غير قادرة على الصمود واالستمرار‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫كنت أعلم ما يخفيه الوطن لي من مأساة»‪.‬‬

‫‪116‬‬

‫‪2003‬م) حتى ماتت متأثرة بجراحها عام ‪2003‬م‪.‬‬

‫خزانة سيارتهم‪ .‬كان السجن يكتظ بالنساء من كل جانب‬ ‫أقدامهم متورمة بحجم البرتقال‪ ،‬وكان من الصعب عليهم‬

‫استخدام حمامات القرفصاء الصينية»‪ .‬في السجن «تمت‬

‫إعدامات كثيرة‪ ،‬‏أعداد كبيرة من الناس تم إعدامهم‪ ،‬ربما‬ ‫ستة أو سبعة آالف شخص‪ ،‬فضلاً عن اإلعدامات التي‬

‫حدثت عام ‪١٩٨٨‬م‪ ،‬كانت هذه السنون بحق مرعبة بما فيها‬ ‫من تعذيبات وتحقيقات‪ .‬كدمات سوداء وزرقاء متفرقة على‬

‫أجساد السجناء‪ ،‬حتى أصبحت السجينة تضطر ألن توقف‬

‫عذاباتها بإقامة عالقات حميمة مع السجان‪ .‬ال أزال أتذكر‬

‫صديقتي اليسارية ذات البشرة الزيتونية شهين التي اعتقلت‬ ‫ْ‬ ‫تنبأت بإعدامها الوشيك؛ إذ بدأ المحقق‬ ‫ألجل طابعة! كانت قد‬

‫يتلمس نهديها في ليلة ما قبل اإلعدام‪ .‬كان من المعروف أن‬

‫السجّ انين يتزوجون قسرًا بالسجينات في لياليهن األخيرة حتى‬

‫عادت بارسيبور مع انفجار الحرب بين إيران والعراق (‪-1980‬‬ ‫ً‬ ‫مباشرة في السجن على غير المتوقع‪ ،‬إذ‬ ‫‪1988‬م)‪ ،‬لتجد نفسها‬

‫ال يُدفنَّ أبكارًا‪ .‬يقولون بأن الفتاة إذا ُقبرت بِكرًا فإنها تفتن شابًّا‬

‫بسجن إفين سيئ السمعة الذي شيَّده الشاه عام ‪1972‬م‪ ،‬وهو‬

‫في اليوم التالي!»‪.‬‬

‫قامت الثورة اإلسالمية بتصفية األحزاب سريعً ا وتكويم األعداد‬

‫العددان ‪ 490 - 489‬شوال ‪ -‬ذو القعدة ‪1438‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬أغسطس ‪2017‬م‬

‫ْ‬ ‫توقعت شهين ذلك المصير‪ ،‬فتم إعدامها‬ ‫وتغريه إلى قبرها‪.‬‬


‫الكاتبات اإليرانيات‪ِ ..‬‬ ‫يعشن في جحيم مفتوح‬

‫ً‬ ‫متأثرة بمجموعة الروائي األميركي إرنست هيمنغوي‬

‫(‪1961 -1899‬م) «رجال بال نساء‪1927 ،‬م»‪ ،‬خرجت بارسيبور من‬ ‫المعتقل لتكتب مجموعتها القصصية «نساء بال رجال» التي‬

‫احتفظت بتفاصيلها إلى حين نشرها عام ‪1990‬م قبل أن تتحول‬ ‫إلى فلم للمخرجة اإليرانية شيرين نيشات (‪1957‬م‪ .)-‬تهاجم‬

‫بارسيبور في مجموعتها تداعيات النظام المؤسساتي للدولة‬ ‫الذكورية‪ ،‬وتحكي آالم المرأة اإليرانية وما رافقها من اضطهاد‬ ‫جنسي عبر التاريخ ألجل رقعة بكارة‪« .‬كانت والدتي تخبرني‬

‫علو‬ ‫بأن البكارة ستارة‪ ،‬فلتحذر الفتاة‪ ،‬ربما إن قفزت من‬ ‫ٍّ‬ ‫تم ّزق بكارتها‪ .‬إنها ستارة سهلة التمزق!»‪ .‬أحدث هذا الكتاب‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫إعالمية‪ ،‬ما تسبب في حظره من التداول بإيران‪ ،‬وإيداع‬ ‫ضجة‬

‫بارسيبور مجد ًدا في السجن بتهمة الخوض في موضوعات‬ ‫ثالث مرات‪ُّ ،‬‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫كلها بال ُتهمة وال جريمة‪،‬‬ ‫جنت‬ ‫حساسة‪« .‬لقد ُس‬

‫فيما عدا الثالثة؛ كانت بتهمة مُ َّ‬ ‫لفقة لم يطل سكوت المحكمة‬

‫مارينا نيمات‬

‫حتى اعترفت بزيفها»‪.‬‬ ‫ً‬ ‫مزيدا من الضربات والمالحقات‬ ‫أُفرج عن بارسيبور لتتلقى‬

‫) المولودة في طهران التي بسطت معالم تجربتها المريرة في‬

‫إلعالن هجرتها األبدية من إيران‪ .‬ظلت بارسيبور في شتات‬ ‫ّ‬ ‫حطت رحالها‬ ‫المنفى بين أميركا وإنجلترا وألمانيا‪ ،‬حتى‬

‫ً‬ ‫صدى إعالميًّا واسعً ا‪« .‬أغلب المسيحيات هاجرنَ إلى إيران‬

‫هنالك سطرت تفاصيل معاناتها في السجون في مذكراتها‬

‫بروسيا‪ .‬وبعد الثورة الشيوعية عام ‪1917‬م‪ ،‬اضطروا للهجرة‬

‫حثيث لتوريطها في قضايا جديدة‪ ،‬ما دفعها أخيرًا‬ ‫سعي‬ ‫مع‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬

‫بكاليفورنيا حيث نالت زمالة الكتاب العالمية بجامعة براون‪.‬‬

‫األخيرة «تقبيل السيف‪ :‬مذكرات السجن‪ »2013 ،‬وحكت فيها‬ ‫ً‬ ‫واصفة تداعيات غربتها على حياتها‬ ‫أحوال السجناء بدقة‪،‬‬ ‫وما رافقها من تردي صحي وعجز اقتصادي واضطهاد نفسي‪.‬‬

‫«خالل سنين السجن لم آخذ مالحظات‪ ،‬ربما نسيت بعض‬

‫أسماء المساجين المظلومين‪ ،‬فقد كان‬ ‫المحقق يقوم بتقطيع كل ما أكتب‪ ،‬ولكني‬ ‫ً‬ ‫ُ‬ ‫دقيقة بقدر ما تسعفني الذاكرة في تبيان‬ ‫كنت‬ ‫تلك األهوال»‪.‬‬

‫مارينا نيمات‪ ..‬سجينة طهران‬

‫مذكراتها «سجينة طهران‪ »2006 :‬و«ما بعد طهران‪ :‬استعادة‬ ‫الحياة‪ »2013 ،‬حيث ُترجم األول لما يفوق ‪ 13‬لغة بعد أن نال‬ ‫بسبب اقترا ِنهنَّ بأزواجهنَّ اإليرانيين الذين كانوا يعملون‬

‫إليران لكونهم معارضين للشيوعية وليسوا بروسيين‪ ،‬فف َّر‬

‫معهم ّ‬ ‫جداتي المسيحيات المعارضات للشيوعية»‪.‬‬

‫كان من نصيب الطالبة نيمات (‪ 17‬عامً ا) أن اع ُتقلت‬ ‫في الخامس عشر من يناير لعام ‪1982‬م‪ ،‬وأُودِ عت سجن‬ ‫إفين مع زميالتها لسنتين كاملتين بعد‬ ‫أن عارضت إدخال قضايا السياسة في‬

‫حصص الرياضيات‪ ،‬وقادت على إثر ذلك‬ ‫إضرابًا واحتجاجً ا جماعيًّا؛ كما شاركت‬

‫في مظاهرات ضد السياسات القمعية التي‬ ‫َ‬ ‫عدة‬ ‫أطلقتها الحكومة الثورية‪ ،‬وكتبت‬

‫لم يكن الهجوم الثوري يستهدف المسلمات‬

‫مقاالت مناهضة للثورة في مجلة المدرسة‪.‬‬ ‫ٍ‬

‫من أمثال الكاتبة الروسية مارينا نيمات (‪1965‬م‪-‬‬

‫ُ‬ ‫فقلت‪ :‬لم أفعل‪ .‬كانوا قد سمعوا‬ ‫شيوعية‬ ‫باإلضراب الذي ُ‬ ‫بدأت ُه ضد المدرسة‪ ،‬وكانوا‬

‫فحسب‪ ،‬بل تعدى طوقه ليخنق المسيحيات‬

‫لم تتوقف سلسلة الترويع في‬ ‫السجون اإليرانية ضد النساء‬ ‫بعد العقود األولى من الثورة‬ ‫اإلسالمية‪ ،‬بل استمرت في عقد حلقاتها‬ ‫الشائكة في القرن الحادي والعشرين‬

‫ُ‬ ‫كنت أعمل مع مجموعات‬ ‫«سألوني ما إذا‬

‫يرون من االستحالة لفردٍ بال عالقات مع‬ ‫ّ‬ ‫ينظم‬ ‫أحزاب سياسية غير قانونية أن‬

‫إضرابًا! أخبرتهم بأنني لم ّ‬ ‫أنظم شي ًئا‪ ،‬وهي‬

‫ُ‬ ‫سألت مدرسة الرياضيات أن تدرّس الرياضيات‬ ‫الحقيقة‪ .‬فقط‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫وخرجت‬ ‫فخرجت‬ ‫بدلاً من السياسة‪ ،‬فطردتني من الفصل؛‬

‫زميالتي خلفي‪ ،‬فرفض الجميع العودة للمدرسة‪ .‬لم يكن‬

‫‪117‬‬


‫ثقافات‬

‫يصدق ذلك؛ ْ‬ ‫إذ ّ‬ ‫ّ‬ ‫يدعي ورود معلومات بأن لي عالقة‬ ‫المحقق‬ ‫بمجموعات شيوعية»‪.‬‬

‫حُ كم على نيمات باإلعدام بتهمة الشيوعية‪ ،‬فالقت‬

‫في السجن صنوف األذى والعذاب‪« .‬كانت هناك صيحات‬ ‫مشبعة باأللم تمأل المكان‪ .‬أصوات ثقيلة وعميقة ويائسة‬

‫تخترق جلدي‪ ،‬وتنتشر بكل خلية في جسدي‪ ،‬وكأنَّ لوحً ا‬

‫ْ‬ ‫قبلت نيمات‬ ‫عند األسرة الحاكمة إذ كان على عالقة مقربة بهم‪.‬‬ ‫العرض فدخلت اإلسالم َكر ًْها‪ ،‬فتم استبدال حكمها باإلعدام‬ ‫بالسجن المؤبد‪ .‬تزوجت نيمات من موسوي وعاشت معه كل‬

‫معالم الزواج في السجن‪ ،‬وكان يهددها بأذ ّيةِ أسرتها وحبيبها‬ ‫إن هي خالفت أوامره‪ ،‬حتى تم اغتياله من األحزاب المعارضة‬ ‫ً‬ ‫مرمية عند عتبات منزله‪« .‬لقد استطاعت الثورة‬ ‫ووُجدت جث ُته‬

‫بشخص يجرني‬ ‫من الرصاص يجثم على صدري‪ ...‬فجأة وإذا‬ ‫ٍ‬ ‫لخطوات‪ ،‬ثم يلقيني‬ ‫بالحبل الذي ُعقد على يديَّ ‪ ،‬ويجرني‬ ‫ٍ‬ ‫ُ‬ ‫ٌ‬ ‫رجل في‬ ‫عصابة عيني‪ ،‬ثم يج ُّر عصابتي‬ ‫على األرض فتسقط‬

‫مواجهات بينية‪ ،‬فال هم الذين يستطيعون الخروج جميعً ا على‬ ‫ٍ‬

‫ما هو أشد وأقوى»‪ ،‬ثم وضع الحديد على يدي… إنَّ السجناء‬

‫في أحضان الغازي األميركي المزعوم!»‬ ‫ُ‬ ‫أسرة علي موسوي بكل جهودها لإلفراج عن‬ ‫سعت‬

‫األربعينيات في غرفة خالية من كل شيء فيما عدا سرير‬ ‫خشبي ووسادة حديدة‪ ،‬قائلاً ‪« :‬الحبل ال يكفي‪ ،‬سنستخدم‬ ‫السياسيين يتعرضون دائمً ا لصنوف منوعة من العذاب‪ ،‬يكفي‬

‫اإلسالمية أن تمزق اإليرانيين جميعهم بشعاراتها وتضعهم في‬

‫النظام الشمولي الخميني‪ ،‬وال هم الذين يستطيعون العيش‬

‫زوجة ابنهم ‪ -‬نيمات ‪ -‬بعد اغتياله حتى نجحت‪ ،‬فخرجت‬

‫من سماعها أن تصيبك بالغثيان‪ .‬ذات ليلة استيقظنا جميعً ا‬

‫نيمات أخيرًا لتتزوج من حبيبها المسيحي أندريه نيمات‪،‬‬

‫كل رصاصة كانت تعني حياة ضائعة‪ ،‬نفس حبيب وعزيز‬

‫مدت االستخبارات اإليرانية يدها الطولى‬ ‫ّ‬

‫قبور بال شواهد وال شهود»‪.‬‬ ‫في‬ ‫ٍ‬

‫العقوبات الشديدة على كل من أخفاها‬

‫ُ‬ ‫فنهضت مع الفتيات وحدقنا من النوافذ‪.‬‬ ‫على صوت إطالق نار‬

‫تتمزق بينما تنتظره أسرته وتتأمل عودته‪ .‬سوف يُدفن القتلى‬

‫‪118‬‬

‫ً‬ ‫عارضا عليها اإلسالم والزواج‪ ،‬لِقاءَ التوسط لها‬ ‫فرقة إطالق النار‬

‫وعندما كانت نيمات تستعد كغيرها لإلعدام‪ ،‬وقع سجّ انها‬ ‫ّ‬ ‫فتدخل سريعً ا إلنقاذها من‬ ‫ومحققها علي موسوي في غرامها‪،‬‬

‫لتصادر الطابعات والمطبوعات‪ ،‬وفرض‬

‫أو امتلكها‬

‫جدد‬ ‫هودفار وآرايي‪ ..‬ضحايا ُ‬ ‫لم تتوقف هذه السلسلة من الترويع في السجون اإليرانية ضد النساء بعد العقود األولى من الثورة اإلسالمية‪ ،‬بل‬ ‫استمرت في عقد حلقاتها الشائكة في القرن الحادي والعشرين‪ ،‬متمثلاً ذلك في اعتقال البروفيسورة الكندية (اإليرانية األصل)‬

‫بجامعة مونتريال هوما هودفار (‪1951‬م‪ )-‬عام ‪2016‬م‪ .‬أُودعت هودفار سجن إفين ألربعة أشهر بتهمة االشتغال بالحركة النسوية‬ ‫ُ‬ ‫«قررت كأنثروبولوجية أن أكون بطلة‪ ،‬وأن‬ ‫واالنخراط في القضايا األمنية‪ ،‬حتى أفرج عنها بعد أن طلبت كندا وساطة ُعمانية‪.‬‬

‫ً‬ ‫ً‬ ‫ُ‬ ‫فكتبت عنه»‪ .‬قامت هودفار بتحليل‬ ‫مشروعا اختارني‬ ‫مشروعا اخترته بل‬ ‫لعمل أنثربولوجي‪ ،‬لم يكن‬ ‫أحوّل السجن إلى ميدان‬ ‫ٍ‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ْ‬ ‫فقدمت دراسة رصينة عن طرائق تهديداتهم واختياراتهم لكلماتهم‪ ،‬حتى «طريقة‬ ‫‪ 30‬حوارًا تحقيقيًّا أخضعها لها المحققون‪،‬‬

‫استخدامهم لموسيقا جنازة زوجي التي وجدوها بهاتفي منذ عام ‪2014‬م؛ كانوا يقومون بتشغيلها مرارًا وتكرارًا في زنزانتي بُغية‬ ‫نقل من زنزانتها الصغيرة إلى زنزانة أكبر‪ِ ،‬ر َ‬ ‫كسري روحيًّا»‪ .‬خرجت هودفار في ذات العام بعد أربعة شهر وقبل أن ُت َ‬ ‫فقة الكاتبة‬ ‫البريطانية (اإليرانية األصل) نازنین زاغري رتکلیف (‪1978‬م‪ )-‬التي اعتقلت مع طفلتها في إبريل في ذات العام‪ ،‬وال تزال إلى اليوم‬

‫في بدايات تنفيذ حكمها بالسجن لخمس سنوات‪.‬‬

‫كما تواجه الكاتبة غولورخ إبراهيمي آرايي (‪1980‬م‪ )-‬هذه األيام حُ كمً ا بالسجن لخمس سنوات على خلفية كتابتها قصة‬ ‫قصيرة (لم ُتنشر بعد) تناقش قضية «الرجم حتى الموت» وذلك بتهمة انتهاك المقدسات والتأليب على النظام الحاكم؛ وقد‬ ‫ُع ِثر على قصتها في شقة زوجها الناشط أراش صديقي (‪1986‬م‪ )-‬الذي يمضي حكمً ا بالسجن لـ ‪ 19‬عامً ا‪ ،‬وقد تسبب الحرس‬

‫الثوري في وفاة والدته بأزمة قلبية بعد مداهم ٍة شديد ٍة لمنزلهم‪« .‬أصبح منزلنا كالجحيم‪ ،‬يخبرني والدي دومً ا بأنني ُ‬ ‫كنت سببًا‬

‫في قتل أمي وأنه ال يريدني مجددًا في المنزل‪ ،‬أنا أفضل أن أعود إلى السجن! تذكر زوجته آرايي بأنها كتبت قصتها القصيرة‬ ‫لبعث التساؤالت عن هذه العقوبة البشعة‪ ،‬ورفع معاناة السجينة فاريبا كاريغي التي حُ كم عليها بـ«الرجم حتى الموت» بتهمة‬

‫العددان ‪ 490 - 489‬شوال ‪ -‬ذو القعدة ‪1438‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬أغسطس ‪2017‬م‬


‫الكاتبات اإليرانيات‪ِ ..‬‬ ‫يعشن في جحيم مفتوح‬

‫ثم لتعلن هجرتها النهائية من إيران عام ‪1991‬م إلى كندا مع‬

‫إيراني‪ ،‬كمحاضرة في جامعة تورونتو الكندية ومقدمة لدروس‬

‫وكأنما التاريخ يصر على تخريج دفعات من المهاجرين من نير‬

‫عن تلك التي أتذكرها في إيران‪ ،‬إنها ذات ظالل داكنة من الزرقة‬

‫زوجها الجديد وطفليها الصغيرين‪ .‬هاجرت نيمات فرارًا من‬ ‫ً‬ ‫أسوة بفرار جداتها من روسيا الشيوعية‪،‬‬ ‫إيران الخمينية‬ ‫األيديولوجيات‪ .‬ظلت نيمات ‪ 22‬سنة بكندا‪ ،‬حيث مهجر ‪ 70‬ألف‬

‫خاصة في فن كتابة المذكرات‪« .‬هناك مثل فارسي قديم يقول‪:‬‬ ‫ُ‬ ‫تختلف‬ ‫السماء بذات اللون حيثما تكون‪ ،‬ولكن السماء الكندية‬ ‫وتبدو بال حدود؛ كأنما تتحدى اآلفاق»‪.‬‬

‫أحد االحتجاجات النسائية بطهران‪ ،‬أكتوبر ‪2007‬م‬

‫التورط في عالقة جنسية مع قاتل زوجها‪،‬‬ ‫وال تزال تقضي فترة سجنها منذ عام ‪2013‬م‪.‬‬

‫ربما القت المرأة اإليرانية في سبيل‬

‫خياراتها الخاصة شدائد متوقعة من األحزاب‬

‫اإلسالمية المتطرفة‪ ،‬غير أن هذه الشدائد‬ ‫ُ‬ ‫وجدت ُه من خذالن‬ ‫ال ترقى لمستوى ما‬ ‫الحركات اليسارية‪ ،‬الحليف األول للحركات‬ ‫النسوية في عهد الشاه‪ .‬تذكر الباحثة‬

‫والناشطة اإليرانية بارڤين بيدر (‪2005 -1949‬م)‬

‫هوما هودفار‬

‫غولورخ إبراهيمي آرايي‬

‫في كتابها‪« :‬نساء في عصر الحداثة‪ »1995 ،‬أنه ورغم كسب التيارات اليسارية لعدد من النساء في عهد الشاه باسم تحرير‬ ‫َّ‬ ‫المرأة‪ ،‬فقد قلبوا لهنَّ ظه َر المِ جَ نِّ‬ ‫وتخلوْا عنهن متخذين الثورة الخمينية بدلاً ‪ ،‬بل كانوا يرون النساء المناضالت ضحايا‬

‫للتقليد الغربي ومطايا لتحقيق المؤامرة اإلمبريالية ضد إيران‪.‬‬

‫كان اليساريون جزءً ا أساسيًّا من المجتمع البطريركي اإليراني‪ ،‬بل تأ ّزم الحال حين أصبحت المرأة اليسارية نفسها في‬

‫مواجه ٍة شرس ٍة مع قريناتها‪ ،‬متجليًا ذلك في عضوة حزب توده الشيوعي الناشطة مريم فيروز (‪2008 -1914‬م) التي ما فتأت‬ ‫تخلع المدائح على الخميني وتصفه بأنه أعظم مناصر لحقوق المرأة في التاريخ‪ .‬لم يطل إعجاب فيروز حتى وقع زوجها نور‬

‫الدين كيانوري (‪1999 -1915‬م) ضحية للخميني‪ ،‬ف ُزجَّ به في السجن بتهمة التجسس لصالح السوفييت حتى مات في محبسه‪،‬‬ ‫ثم أُمر بإعدام غالب أعضاء حزب توده‪ ،‬وأخضعت مريم نفسها وهي ذات السبعين عامً ا تحت السجن القسري ببيتها وتحت‬ ‫الرقابة السياسية حتى وفاتها عام ‪2008‬م‪.‬‬

‫‪119‬‬


‫ثقافات‬

‫المنفيون‬ ‫روبرتو بوالنيو‬

‫كاتب وشاعر تشيلي‬

‫الزماي‬ ‫ترجمة‪ :‬عبدالله‬ ‫ّ‬

‫قاص ومترجم سعودي‬

‫كونك منفيًّا ال يعني أن تختفي ولكنك تتقلص‪ ،‬فتصبح أصغر فأصغر ببطء أو بسرعة حتى تصل‬

‫إلى طولك الحقيقي‪ ،‬الطول الحقيقي للذات‪ ،‬كانت سويفت –سيدة المنفيين– تعلم ذلك ً‬ ‫جيدا‪ ،‬وبالنسبة‬

‫لها كان «المنفى» هو الكلمة السرية للرحلة‪ ،‬هذا التعبير الذي سيرفضه العديد من المنفيين الذين‬ ‫ُيشحَ نون بقدر من المعاناة يتجاوز أسباب الرحيل‪ .‬يحمل األدب كله المنفى بداخله‪ ،‬سواء كان الكاتب قد‬ ‫جمع أغراضه ورحل في سن العشرين أو لم يغادر موطنه قط‪.‬‬ ‫ربما كان أول المنفيين على اإلطالق هما آدم وحواء‪ ،‬هذا أمر ال‬

‫مدريد‪ ،‬وبعد عشرين عامًا قام بنشر «ال أروكانا» ‪-‬أفضل قصيدة‬

‫منفيين؟ هل من الممكن أن كل واحد منا يجوب األرض غريبًا؟ إن‬

‫القدماء واإلسبان بالتعاطف الواضح مع الهنود الحمر‪ ،‬هل كان‬

‫جدال فيه‪ ،‬كما أنه يثير بعض األسئلة‪ :‬هل يمكن أن نكون جميعً ا‬

‫‪120‬‬

‫مفهوم «األراضي الغريبة» (مثلها في ذلك مثل «أرض الوطن») لديه‬

‫بعض الثغرات‪ ،‬التي تطرح أسئلة جديدة‪ :‬هل «األراضي الغريبة»‬

‫هي واقع جغرافي موضوعي أم أنها تصور عقلي في تغير مستمر؟‬ ‫دعونا نتذكر «ألونسو دي إرثييا»‪( .‬شاعر وجندي إسباني اشتهر‬ ‫بقصيدته الملحمية «ال أروكانا») بعد رحالت قليلة عبر أوربا‪ ،‬يسافر‬ ‫إرثييا‪ ،‬وهو جندي وسيد نبيل‪ ،‬إلى تشيلي ويحارب الهنود الحمر‬

‫القدماء تحت راية «ألديريتي» (جيرونيمو دي ألديريتي وهو قائد‬ ‫إسباني عيِّن حاكمًا لتشيلي‪ ،‬لكنه توفي عام ‪1556‬م قبل أن يتولى‬

‫منصبه)‪ .‬وفي عام ‪1561‬م قبل أن يبلغ سن الثالثين‪ ،‬عاد واستقر في‬

‫العددان ‪ 490 - 489‬شوال ‪ -‬ذو القعدة ‪1438‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬أغسطس ‪2017‬م‬

‫ملحمية في عصره‪ ،‬التي قام فيها بربط الصدام بين الهنود الحمر‬ ‫«إرثييا» في المنفى خالل فترة الشتات األميركي عبر أراضي تشيلي‬

‫وبيرو؟ أم أنه شعر بالنفي عندما عاد إلى المحكمة؟ وهل كانت‬ ‫ملحمة «ال أروكانا» ثمرة ذلك الداء السوداوي لوعيه الشغوف‬ ‫بالمملكة الضائعة؟ وإذا كانت هذه هي الحال‪ ،‬وهو ما ال أستطيع‬ ‫أن أقطع به على وجه اليقين‪ ،‬ما الذي فقده «إرثييا» في عام‬

‫‪1589‬م‪ ،‬قبل خمس سنوات فقط من وفاته‪ ،‬بخالف الشباب؟ ومع‬

‫شبابه‪ ،‬الرحلة الشاقة‪ ،‬التجربة اإلنسانية التي خاضها من خالل‬ ‫التعرض لعناصر قارة هائلة وغير معروفة‪ ،‬وجوالت طويلة على‬

‫ظهور الخيل‪ ،‬ومناوشات مع الهنود والمعارك ضد «وتارو» (أحد‬


‫المنفيون‬

‫قادة المقاومة ضد الغزو واالستعمار اإلسباني‪ .‬قتل عام ‪1557‬م)‬

‫المهاجر والبدوي والمسافر والسائر نائمًا كلهم موجودون‪ ،‬بعكس‬

‫وتارو) التي الحت في األفق الواسع مع مرور الوقت وتحدثت إليه‪،‬‬

‫األدب‪ ،‬وكل قارئ يصبح منفيًّا ببساطة عن طريق فتح كتاب‪ .‬لقد‬

‫و«كوبوليكان» ( قائد عسكري تحولت له قيادة المقاومة بعد مقتل‬ ‫إلى «إرثييا»‪ ،‬الشاعر الوحيد والناجي الوحيد من أمر ما‪ ،‬حينما‬ ‫ُت َ‬ ‫وضع على الورق‪ ،‬سوف تصبح قصيدة‪ ،‬لكنها في ذاكرة الشاعر‬

‫القديم هي مجرد حياة أو عدة حيوات‪ ،‬تصل إلى الشيء ذاته‪ .‬وما‬

‫الذي تركه الدهر إلرثييا قبل أن يكتب «ال أروكانا» ويموت؟ ترك‬

‫المنفى؛ ألن كل كاتب يصبح منفيًّا ببساطة عن طريق الخوض في‬

‫ذهب كل الكتاب التشيليين تقريبًا في مرحلة ما من حياتهم إلى‬ ‫المنفى‪ُ ،‬‬ ‫ً‬ ‫متبوعا بإصرار من قبل شبح‬ ‫وضبط العديد منهم ممن ظل‬ ‫تشيلي وإعادتهم إلى الحظيرة‪ ،‬بينما تمكن آخرون من زعزعة الشبح‬

‫واالختباء‪ ،‬في حين غيَّر آخرون أسماءهم وطرقهم‪ ،‬ونسيتهم‬

‫تشيلي لحسن الحظ‪.‬‬

‫«إرثييا» بشيء ما يمتلكه جميع الشعراء – حتى إن كان في الشكل‬ ‫ً‬ ‫تطرفا وغرابة‪ ،‬لقد ترك له الشجاعة‪ ،‬الشجاعة ال تساوي‬ ‫األكثر‬

‫حينما كنت في الخامسة عشرة‪ ،‬في عام ‪1968‬م‪ ،‬غادرت‬

‫لكنها تمنع الشعراء من إلقاء أنفسهم من أعلى الجرف أو االنتحار‬

‫سيتي» مثل الحدود‪ ،‬تلك األرض غير الموجودة والواسعة حيث‬

‫المتواضع من الكتابة‪.‬‬

‫ذلك لم ُيمْحَ ظل وطني األم قط‪ ،‬وفي أعماق قلبي الغبي استمر‬

‫شي ًئا في سن الشيخوخة‪ ،‬مثلما كانت تساوي في سن الشباب‪،‬‬

‫برصاصة في الرأس‪ ،‬وفي وجود صفحة بيضاء‪ ،‬تخدم الغرض‬

‫مناف مدى الحياة‬ ‫ٍ‬

‫المنفى هو الشجاعة‪ .‬المنفى الحقيقي هو المقياس الحقيقي‬

‫تشيلي إلى المكسيك‪ ،‬بالنسبة لي في ذلك الوقت‪ ،‬كانت «مكسيكو‬ ‫الحرية واالستحالة هي العملة الشائعة‪ .‬على الرغم من كل‬ ‫اليقين أن قدري كان يقبع هناك‪ .‬عدت إلى تشيلي حينما كنت في‬

‫كاف من الحظ السيئ حيث‬ ‫العشرين للمشاركة في الثورة‪ ،‬بقدر ٍ‬

‫لكل كاتب‪ .‬عند هذه النقطة أود أن أقول على األقل عندما يتعلق‬ ‫األمر باألدب‪ ،‬فأنا ال أومن بالمنفى‪ ،‬إن المنفى هو مسألة أذواق‬

‫والشخصيات‪ ،‬إعجاب وعدم إعجاب‪ ،‬بالنسبة لبعض الكتاب‬ ‫المنفى يعني مغادرة منزل العائلة‪ ،‬وبالنسبة آلخرين هو مغادرة‬

‫‪121‬‬

‫البلد أو المدينة التي نشأ بها‪ ،‬وبالنسبة آلخرين يعد المنفى بصورة‬ ‫ً‬ ‫مناف تستمر مدى الحياة‪،‬‬ ‫تعمقا هو النمو والنضج‪ ،‬ثمة‬ ‫أكثر‬ ‫ٍ‬ ‫بينما تستمر غيرها لنهاية األسبوع فقط‪« ،‬بارتبلي» (هو أحد أبطال‬

‫«هيرمان ميلفيل» في قصته الشهيرة «بارتلبي النساخ») الذي لم‬ ‫يكن يفضل الترحال كان مثالاً للمنفى المطلق‪ ،‬كما لو كان كائ ًنا‬ ‫فضائيًّا على وجه األرض‪ ،‬أما «ميلفيل» الذي كان دائم التنقل‬ ‫والترحال‪ ،‬لم يختبر يومًا أو لم يتأثر سلبًا ببرودة كلمة المنفى‪،‬‬

‫أما فيليب ديك (روائي وكاتب أميركي‪ ،‬توفي عام ‪1982‬م) فقد عرف‬

‫أكثر من أي شخص آخر كيفية التعرف على اضطرابات المنفى‪،‬‬ ‫وكان «وليام بوروزو»( كاتب وروائي أميركي اشتهر بروايات تتحدث‬ ‫عن المخدرات والشذوذ الجنسي‪ ،‬توفي عام ‪1997‬م) تجسيدًا لكل‬

‫واحدة من تلك االضطرابات‪.‬‬

‫ربما كنا جميعً ا‪ ،‬كتابًا وقرا ًء على حد سواء‪ ،‬نعيش في‬

‫المنفى‪ ،‬أو على األقل في نوع معين من المنفى‪ ،‬حينما تركنا‬

‫الطفولة وراءنا‪ ،‬األمر الذي من شأنه أن يؤدي إلى استنتاج مفاده‬

‫أنه ال يوجد شخص منفي أو فئة منفية ال سيما فيما يتعلق باألدب‪،‬‬

‫كل كاتب يصبح منف ًّيا ببساطة عن طريق‬ ‫الخوض في األدب‪ ،‬وكل قارئ يصبح‬ ‫منف ًّيا ببساطة عن طريق فتح كتاب‬

‫روبرتو بوالنيو‬


‫ثقافات‬

‫جاء االنقالب بعد وصولي إلى «سانتياغو»‬

‫بأيام قليلة واستولى الجيش على السلطة‪،‬‬ ‫ً‬ ‫وأحيانا أفكر‬ ‫كانت رحلتي إلى تشيلي طويلة‪،‬‬ ‫لو أنني قضيت وق ًتا أطول في «هندوراس»‬ ‫على سبيل المثال‪ ،‬أو انتظرت قليلاً قبل‬ ‫أن اإلبحار من «بنما»‪ ،‬ربما كان االنقالب‬

‫ليحدث قبل وصولي إلى تشيلي والختلف‬

‫مصيري تمامًا‪.‬‬

‫على أية حال‪ ،‬وبالرغم من المصائب‬

‫الجماعية ومصيبتي الشخصية الصغيرة‪،‬‬ ‫أتذكر األيام بعد االنقالب كأيام كاملة‪،‬‬

‫مكتظة بالطاقة‪ ،‬مفعمة باإلثارة الجنسية‪ ،‬األيام والليالي التي‬ ‫يمكن أن يحدث بها أي شيء‪ ،‬ليس ثمة طريقة كنت أرغب أن‬ ‫يقضي ابني عامه العشرين بها‪ ،‬لكن ينبغي ً‬ ‫أيضا أن أعترف أنه‬

‫كان عا ًما ال ينسى‪ ،‬تجربة الحب والسخرية السوداء والصداقة‬

‫والسجن والتهديد بالقتل كانت مكثفة فيما ال يزيد على خمسة‬ ‫أشهر غير متناهية‪ ،‬كنت أعيش فيها حالة من الدهشة واإللحاح‪،‬‬

‫كتبت خالل ذلك الوقت قصيدة واحدة‪ ،‬لم تكن بنفس القدر من‬ ‫السوء مقارنة بالقصائد األخرى التي كتبتها في ذلك الوقت‪ ،‬وكلها‬

‫‪122‬‬

‫كانت سيئة بشكل موجع‪ ،‬عندما انقضت تلك األشهر الخمسة‬ ‫كنت قد غادرت تشيلي مرة أخرى ولم أعد إليها منذ ذلك الحين‪.‬‬

‫كان ذلك بداية منفاي‪ ،‬أو ما يعرف عادة كمنفى‪ ،‬على الرغم‬

‫من أنني لم أكن أراه على هذا النحو في الحقيقة‪ .‬يعني المنفى‬ ‫ً‬ ‫أحيانا ببساطة أن يخبرني التشيليون أنني أتحدث مثل اإلسبان‪،‬‬

‫توماس مان‬

‫جيمس جويس‬

‫المنفى خيار أدبي‬

‫والمنفى في معظم الحاالت قرار طوعي‪ ،‬لم يجبر أحد‬

‫توماس مان على الذهاب للمنفى‪ ،‬كما لم يجبر أحد جيمس‬

‫جويس على الذهاب للمنفى‪ ،‬وبالعودة إلى أيام جويس‪ ،‬ربما‬

‫لم يكن األيرلندي ليهتم بالبقاء في دبلن أو الرحيل‪ ،‬أو أن يصبح‬ ‫كاه ًنا أو يقتل نفسه‪ ،‬المنفى –في أفضل الحاالت‪ -‬خيار أدبي‪،‬‬ ‫على غرار خيار الكتابة‪ ،‬ال أحد يجبرك على الكتابة‪ ،‬يدخل الكاتب‬

‫المتاهة ً‬ ‫طوعا –ألسباب كثيرة بالطبع ألنه ال يريد أن يموت‪ ،‬أو ألنه‬

‫يريد أن يكون محبوبًا‪ ...‬إلخ‪ -‬لكنه ال يجبر على ذلك‪ ،‬في نهاية‬

‫المطاف فهو ليس مرغمًا سوى بقدر ما كان السياسي مرغمًا على‬ ‫الخوض في السياسة‪ ،‬أو كان المحامي مرغمًا على دخول كلية‬ ‫الحقوق‪ ،‬مع ميزة عظيمة للكاتب عن المحامي أو السياسي حيث‬

‫إن كليهما خارج بلدهما األصلي يميالن إلى التعثر مثل سمكة‬

‫وأن يخبرني المكسيكيون أنني أتحدث مثل التشيليين‪ ،‬ويخبرني‬

‫خارج الماء‪ ،‬على األقل لفترة من الوقت‪ ،‬في حين يبدو أن الكاتب‬

‫المصائر التي اختيرت من قبل أولئك الذين ذهبوا إلى المنفى غالبًا‬

‫أخرى‪ ،‬ماذا يفعل السياسي في السجن؟ ماذا يفعل المحامي في‬

‫اإلسبان أنني أتحدث مثل األرجنتينيين‪ ،‬إنها مسألة لهجات‪ .‬إن‬ ‫غريبة‪ ،‬بعد االنقالب التشيلي في عام ‪1973‬م‪ ،‬أتذكر أن عددًا‬ ‫قليلاً من الالجئين السياسيين شقوا طريقهم إلى سفارات بلغاريا‬

‫أو رومانيا على سبيل المثال‪ ،‬في حين كانت فرنسا وإيطاليا هي‬

‫الدول المفضلة من قبل الكثيرين‪ ،‬وبالرغم من ذلك كما أذكر‪،‬‬ ‫فقد ذهب علية القوم إلى المكسيك والسويد ً‬ ‫أيضا‪ ،‬وهما دولتان‬ ‫مختلفتان تمامًا بحيث إنهما ربما استقرا في الالوعي الجماعي‬

‫التشيلي كاثنين من مظاهر الرغبة المتناقضة‪ ،‬على الرغم من‬ ‫أن الكفة في ذلك الوقت كانت تميل نحو الجانب المكسيكي‪،‬‬

‫وبدأ العديد ممن ذهبوا إلى المنفى في السويد العودة إلى‬ ‫المكسيك‪ ،‬فقد ظل غيرهم الكثير في ستوكهولم أو غوتنبورغ‪،‬‬ ‫وكنت أصادفهم حين كنت أقيم في إسبانيا كل صيف في اإلجازة‪،‬‬ ‫وكان التحدث باإلسبانية مذهلاً على األقل بالنسبة لي؛ ألنها كانت‬

‫اإلسبانية التي كنا نتحدث بها في تشيلي عام ‪1973‬م‪ ،‬وال يتحدث‬ ‫بها الناس اآلن في أي مكان سوى السويد‪.‬‬

‫العددان ‪ 490 - 489‬شوال ‪ -‬ذو القعدة ‪1438‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬أغسطس ‪2017‬م‬

‫خارج وطنه تنمو له أجنحة‪ ،‬ينطبق الشيء نفسه على مواقف‬


‫المنفيون‬

‫المستشفى؟ أي شيء إال العمل‪ ،‬وفي المقابل ماذا يفعل الكاتب‬ ‫ً‬ ‫أحيانا يعمل أكثر‬ ‫في المستشفى أو في السجن؟ إنه يعمل‪ ،‬بل‬ ‫من المعتاد‪ ،‬وناهيك عن ذكر الشعراء في ذلك الموقف‪ ،‬وبطبيعة‬ ‫الحال ربما يرتفع زعم بأن المكتبات في السجن ليست جيدة‪ ،‬وفي‬

‫المستشفى ال وجود لها غالبًا‪ ،‬وربما يدفع في معظم الحاالت بأن‬ ‫المنفى يعني َف ْق َد الكاتب لكتبه من بين خسائر مادية أخرى‪ ،‬حتى‬ ‫في بعض الحاالت فقدان أوراقه ومسوداته ومشاريعه ورسائله‬

‫التي لم تكتمل‪ ،‬وما المشكلة في ذلك‪ ،‬فأن تفقد المسودات‬ ‫أفضل من أن تفقد حياتك‪ ،‬على أية حال‪ ،‬فإن الفكرة تكمن في أن‬

‫الكاتب يعمل أينما كان‪ ،‬حتى حينما يكون نائمًا‪ ،‬وهو ما ال ينطبق‬

‫على المهن األخرى‪ ،‬يمكن أن يقال‪ :‬إن الممثل يعمل باستمرار‪،‬‬ ‫واع للكتابة‪ ،‬في حين‬ ‫لكنه ليس بقدر الكاتب‪ ،‬فالكاتب يكتب وهو ٍ‬

‫يكتفي الممثل بالنحيب‪ ،‬تحت تهديد السجن‪ ،‬رجال الشرطة دائمًا‬ ‫هم رجال شرطة‪ ،‬لكن ذلك ليس متشابهًا ً‬ ‫أيضا؛ ألنه «أن تكون»‬

‫شيء و«أن تعمل» شيء مختلف تمامًا‪ ،‬والكاتب يكون ويعمل في‬ ‫أي موقف‪ ،‬أما الشرطي فإنه يكون فقط‪ ،‬وينطبق الشيء نفسه‬

‫على القاتل المحترف والجندي والمصرفي والعاهرة‪ ،‬ربما يقترب‬ ‫أي منهم في ممارسة مهنته من ممارسة األدب‪.‬‬

‫يعني المنفى أحيا ًنا ببساطة أن يخبرني‬ ‫التشيليون أنني أتحدث مثل اإلسبان‪ ،‬وأن‬ ‫يخبرني المكسيكيون أنني أتحدث مثل‬ ‫التشيليين‪ ،‬ويخبرني اإلسبان أنني أتحدث‬ ‫مثل األرجنتينيين‪ ،‬إنها مسألة لهجات‬ ‫أحد ساكني جبال سايان‬

‫اصطدم اليوم بدرعي‬ ‫فألقيته ً‬ ‫أرضا خلف شجيرة وركضت‬ ‫حينما حمي الوطيس‬

‫بدت الحياة بطريقة ما أكثر قيمة‬ ‫لقد كان ً‬ ‫درعا جميل‬

‫عرفت أين يمكنني شراء درع آخر‬ ‫مثله ً‬ ‫تماما‪ ،‬بنفس االستدارة‬

‫وقد كتب الباحث الكالسيكي كارلوس غارسيا غوال عن‬

‫أرخيلوخس‪ :‬إنه اضطر إلى مغادرة الجزيرة التي ولد فيها ليكسب‬ ‫ُقوته بحربته‪ ،‬كجندي مرتزق‪ ،‬عرف أن الحرب ما هي إال عمل‬

‫الشاعر اليوناني أرخيلوخس من القرن السابع قبل الميالد‪،‬‬

‫روتيني مجهد‪ ،‬ليس بوصفها مجالاً لألعمال البطولية‪ ،‬حظي‬

‫نتصور أن حياته انقضت في التجول في مدن اليونان‪ .‬وفي أحد‬

‫فيها كيف هرب من ساحة المعركة بعد أن ألقى درعه بعيدًا‪ ،‬لقد‬ ‫كان انفتاحه على االعتراف بمثل هذا العمل المشين الف ًتا للنظر‪ ،‬في‬

‫هو خير مثال على هذه الظاهرة‪ ،‬حيث ولد في جزيرة «باروس»‪،‬‬ ‫وكان ً‬ ‫وفقا لألسطورة من المرتزقة ومات في القتال‪ ،‬ويمكننا أن‬ ‫المقاطع التي كتبها‪ ،‬ال يتردد «أرخيلوخس» في االعتراف بأنه في‬

‫خضم المعركة‪ ،‬وربما في مناوشة‪ ،‬أسقط ذراعه وذهب يجري‪،‬‬ ‫التي كانت بالنسبة لإلغريق عمو ًما دون شك أكبر وصمة عار‪،‬‬ ‫ناهيك عن الجندي الذي يكسب ُقوته اليومي من شجاعته في‬ ‫القتال‪ ،‬ويقول أرخيلوخس‪:‬‬

‫بشهرة لنزعته التشاؤمية التي ظهرت في أسطر قليلة من النثر حكى‬

‫تكتيكات الهوبليت (مقاتلون في اليونان القديمة في القرن الخامس‬

‫قبل الميالد)‪ ،‬الدرع هو السالح الذي يحمي خاصرة الجندي‪ ،‬إنه‬ ‫رمز الشجاعة‪ ،‬شيء ال يمكن أن يفقد‪« ،‬إما أن تعود بالدرع أو‬ ‫تهلك دونه» هذا ما كان يقال في سبارتا‪ ،‬جل ما كان يهتم به الشاعر‬

‫الواقعي هو إنقاذ حياته‪ ،‬لم يكن يهتم بالمجد أو ميثاق الشرف‪.‬‬

‫ساحة أرماس‪ ،‬الساحة الرئيسية في سانتياغو‪ ،‬عاصمة شيلي‬

‫‪123‬‬


‫ثقافات‬

‫من الشعر الهولندي المعاصر‬

‫ريمكو كمبرت‪..‬‬

‫وضع المجتمع في صلب قصائده‬ ‫تقديم وترجمة‪ :‬صالح حسن ‪ -‬شاعر ومترجم عراقي‬

‫ريمكو كمبرت (‪1929‬م) أحد الشعراء المؤسسين‬ ‫في الشعر الهولندي الحديث‪ ،‬والده يان كمبرت شاعر‬ ‫ً‬ ‫خصوصا قصيدته‬ ‫وكاتب‪ ،‬اشتهر منذ أول ظهور له‬ ‫الذائعة الصيت «أغنية القتلى الثمانية عشر»‪ .‬اعتقلته‬ ‫القوات النازية في أثناء الحرب العالمية الثانية‪ ،‬ومات‬ ‫في معتقالتها وهو في سن األربعين‪ .‬والدة ريمكو‬ ‫كمبرت « يوكيه بروديلت» هي ً‬ ‫أيضا من المشاهير‪ ،‬فقد‬ ‫كانت ممثلة مسرحية‪ ،‬ولعبت أدوارًا كثيرة على مسارح‬ ‫هولندا‪ .‬انفصل والداه وهو في سن الثالثة‪ ،‬فذهب‬ ‫ليعيش في بيت جده‪ ،‬وفي سنة ‪1943‬م عاد ليعيش‬ ‫مع أمه في مدينة أمستردام‪ .‬في سن السادسة عشرة‬ ‫ترك الدراسة مؤق ًتا‪ ،‬وقرر أن يصبح كاتبًا مثل والده‪،‬‬ ‫وفي عام ‪1952‬م تزوج من صديقته فريدي روتخرز حيث‬ ‫َّ‬ ‫ودب الخالف بينهما ما‬ ‫عاشا في باريس مدة قصيرة‪،‬‬ ‫جعل فريدي تعود إلى هولندا لتعيش مع الشاعر خيرت‬ ‫كاونار وهو صديق كمبرت الحميم‪ .‬بعدها تزوج أكثر من‬ ‫مرة‪ ،‬لكن كل زيجاته فشلت؛ وهذا دفعه إلى الكتابة‬ ‫ً‬ ‫ورواية‪.‬‬ ‫عن هذه العالقات شعرًا‬

‫‪124‬‬

‫العددان ‪ 490 - 489‬شوال ‪ -‬ذو القعدة ‪1438‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬أغسطس ‪2017‬م‬


‫شكل ريمكو كمبرت مع مجايليه لوشبير وكاونار وسيمون‬

‫فنكناوخ وبعض الشعراء اآلخرين من جيل الخمسينيات‬ ‫تيارًا تجريبيًّا‪ ،‬ونشروا تجاربهم في نهاية األربعينيات عبر‬

‫مجلتي «براك» و«بلورب» كأصوات جديدة ذات اللغة‬

‫حضورا‬ ‫يحضر الموت في قصائد كمبرت‬ ‫ً‬ ‫طاغيا كما تحضر الحياة بكل صخبها‬ ‫ً‬ ‫وجمالها‬ ‫إذا كنت سأموت‬

‫الحية والتعابير المُ وحِ ية‪ .‬أراد هؤالء الشعراء أن يكون‬ ‫الشعر حيويًّا واضحً ا وف ًّنا ب َّر ً‬ ‫اقا يعبِّر عن الحياة‪ ،‬فعزفوا عن‬

‫آمل أن تكوني بقربي‬

‫إلى تحرير اللغة نحوًا وأسلوبًا ومزجها بالحواس‪ ،‬ووضع‬

‫إلي‬ ‫ِ‬ ‫وأنت تنظرين َّ‬

‫الشعر التقليدي الذي كان سائدً ا في تلك المرحلة‪ ،‬وسعوا‬ ‫المجتمع في صلب قصائدهم‪ ،‬على أن تكون التجربة الذاتية‬

‫عمودها الفقري‪ .‬ظل ريمكو كمبرت مُ خل ً‬ ‫ِصا لتجربة الشعراء‬ ‫الخمسينيين منذ ديوانه األول الذي صدر في عام ‪1951‬م حتى‬ ‫هذه اللحظة‪ ،‬وفي هذه المختارات سيجد القارئ أن طريقته‬ ‫في تناول موضوعات قصائده لم تتغير كثي ًرا‪ ،‬بل إنه في‬

‫قصائده األخيرة تحوَّل إلى الكتابة اليومية التي تتناول الواقع‬

‫كما هو‪ ،‬لكن بطريقة تصويرية ولغة صافية كالماء الزالل‪.‬‬ ‫وألنه ملتصق بالواقع فإن موضوعاته تتناول الموت والحياة‬ ‫والطبيعة واألسرة‪ ،‬وغالبًا ما تمتزج هذه الموضوعات بعضها‬

‫مع بعض إلى درجة ال يمكننا التفريق بينها تمامً ا‪.‬‬

‫يكتب كمبرت عن الحب ً‬ ‫أيضا‪ ،‬وعن الفقد من خالل‬

‫تجاربه الكثيرة التي عاشها في أكثر من مكان وزمان في باريس‬

‫وانتفيربن البلجيكية‪ ،‬وبعض المدن األلمانية الصغيرة التي‬

‫عاش فيها مدة قصيرة‪ .‬كما أنه يكتب عن الحرب والحرية وال‬ ‫يفوته أن يعبر عن كل هذه األفكار بلغة واقعية شفافة تكاد‬ ‫تالمس الواقع المعيش أو تكاد تتطابق معه لكن بصيغة فنية‬ ‫ً‬ ‫أحيانا بقلب هذا الواقع من خالل اإلشارة‬ ‫تصويرية‪ ،‬تقوم‬

‫إلى أحداث لم يتناولها الشعراء اآلخرون في قصائدهم وهي‬ ‫ً‬ ‫صالحة شعريًّا‪.‬‬ ‫األشياء المهملة التي لم تعد‬ ‫طغيان الموت‬

‫يحضر الموت في قصائد كمبرت حضورًا طاغيًا كما‬

‫تحضر الحياة بكل صخبها وجمالها‪ ،‬وتحضر الطبيعة ً‬ ‫أيضا‬ ‫بنفس القدر‪ .‬يتجسد الموت بفقدان األحبَّة واألصدقاء في‬

‫نصوص كمبرت كحدث ال بد منه وكقدر واقع على الجميع‪،‬‬

‫مراث طنانة عبر لغة سلسة‬ ‫لكنه يمر بهدوء وبدون بكاء أو‬ ‫ٍ‬ ‫ً‬ ‫تجعل من هذا الموت المرعب حدثا كغيره من األحداث‬ ‫اليومية كما في هذه القصيدة التي كتبها لزوجته ديبورا‪:‬‬

‫أنظر إليك‬

‫وأستطيع أن ألمس يدك‪.‬‬

‫عندها سأموت بهدوء‬

‫علي أحد‪..‬‬ ‫ولن يحزن َّ‬ ‫ً‬ ‫محظوظا‪.‬‬ ‫سأكون‬

‫غالبًا ما تتجسد الحياة في الطبيعة‪ ،‬وفي شعر ريمكو كمبرت‬

‫تمتزج الطبيعة بالحياة‪ ،‬أو تصبح صورة أخرى لها عبر أنسنة‬ ‫األشياء والجماد والماء‪ ،‬حتى الصخور السوداء تجد حضورها‪،‬‬

‫الحي‪:‬‬ ‫ويتم ّنى لها أن تكون صخورًا زرقاء من خالل الماء‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫مياها تالطم الصخور‬ ‫ال أريد‬

‫ً‬ ‫مياها تمضي إلى الصخور‬ ‫بل‬

‫الصخرة السوداء الجافة‬ ‫تصبح زرقاء‪،‬‬

‫صخرة ماء‪.‬‬

‫يعكس شعر ريمكو كمبرت حياة المجتمع الهولندي منذ‬

‫خمسينيات القرن الماضي إلى يومنا هذا من خالل تلقائيته‬

‫وتداعياته ولغته الغنائية الصافية‪ ،‬ليس في شعره فقط‪،‬‬ ‫لكن من خالل روايته وقصصه ً‬ ‫أيضا‪ .‬أصدر الشاعر كمبرت‬ ‫أكثر من ستين كتابًا في الشعر والرواية والقصة‪ُ ،‬‬ ‫رجمت‬ ‫وت ِ‬ ‫ُ‬ ‫نصوصه إلى اإلنجليزية والفرنسية واأللمانية واإلسبانية‪،‬‬ ‫ً‬ ‫كثيرة في هولندا وبلجيكا على مجمل أعماله‪.‬‬ ‫وحاز جوائ َز‬ ‫ال يضاهى‬

‫في الصباح الباكر‬

‫سار شعراء كثيرون‬

‫عبر أمعاء المدينة المنهكة‬

‫‪125‬‬


‫ثقافات‬

‫بعيون حمقاء ومالبس مثل رايات مبللة‬

‫كفندق كبير‬

‫نساء مثل كنائس القرى‬

‫ومياه تشبه النبيذ‪..‬‬

‫ثملين بنظاراتهم‪،‬‬

‫‪126‬‬

‫فندق (ترمناوس) بنوافذ مفتوحة‬

‫ال يتعبن من الوقوف قرب رجال‬

‫في كل غرفة حيوان‬

‫سائقو الدراجات الهوائية يتساءلون‬

‫على األرصفة واألسفلت‬

‫إلى أين؟‬

‫دموعها الصباحية والضباب المتالشي‬

‫شرطة نحاسيين‪،‬‬

‫وعازف الهارمونيكا‬

‫ودرس منهجي عن الناس والرجال‪.‬‬ ‫بكت المدينة‪،‬‬

‫على الميناء حيث الحزم الزرقاء‬

‫من الدخان والدم‬

‫بعيون مثل أوراق الذهب‬

‫جعل الفضاء يتوهج بالناس‪.‬‬

‫كانت الشمس ِّ‬ ‫تلون المشهد‪.‬‬

‫من الضجيج والمحبة‬

‫وفم مفتوح رائع كالخريف‬

‫السير في الصباح الباكر‬

‫ساعات الشوارع قذفت األمراض‬

‫عبر المدينة‪،‬‬

‫الهواء طوى الخضرة فوق أيديهم‬

‫تحت أجنحة الشعر المظلمة‬

‫ومنازل (هاملين)* وزعت‬

‫يتحدثون حديث الريش‬

‫حدق بهم الفضاء‪.‬‬ ‫على سمعهم‬

‫الشارع كشف عظام أقدامهم‬

‫أطفالها في الطريق‬ ‫في الصباح الباكر‬

‫سار شعراء كثيرون‬

‫أضالعهم غنت إلى أقصى ما تستطيع‬

‫أجسادهم التي من أرائك وأحجار‬

‫العددان ‪ 490 - 489‬شوال ‪ -‬ذو القعدة ‪1438‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬أغسطس ‪2017‬م‬

‫قبل أن تصحو الطيور والعجالت‬ ‫الشعراء الذين يعيشون مرة واحدة‬

‫ال يضاهون إلى األبد‪:‬‬ ‫ويطيرون بالزغب‬

‫يعيشون ويحاربون‬

‫بالكلمات التي تمنح األنفاس‪.‬‬ ‫* مدينة ألمانية‪.‬‬


‫ريمكو كمبرت‪ ..‬وضع المجتمع في صلب قصائده‬

‫كنائس *‬

‫«في كل مكان»‬

‫ال تريد له أن يحلم بمعركة‬

‫مجزرة‪.‬‬

‫الكنائس ما زالت موجودة‬

‫ال يريدون ذلك؟ وأنا؟‬

‫ً‬ ‫دائما امرأة أو اثنتين‬ ‫يجد المرء‬

‫أكتب ورق الورد‬

‫أو من أجل جحيمهن الشخصي‬

‫ساخط مثل إغفاءة اللوز‬

‫باردة ً‬ ‫أيضا هي الكنائس‬

‫مثل رائحة ال تزول‬

‫ما زالت تبنى‬

‫تصليان من أجل األحفاد‬

‫صمت في الكنائس‬ ‫ً‬ ‫صمتا من رياح الطبيعة‪.‬‬ ‫أكثر‬ ‫صامتة وباردة‬

‫يقول الناس‪ :‬إنها هادئة‪.‬‬

‫في ساعات اللقاء يمكن أن تغني‪.‬‬ ‫الكنائس في المدن والقرى‬ ‫مشتتة في البالد‬

‫أنا شاعر أكتب ورق الورد‪.‬‬ ‫ببطء يد مليئة بالغضب‪،‬‬

‫ولكنني ال أبصق‪.‬‬ ‫ً‬ ‫معلقا حولك‬ ‫سوف أبقى‬ ‫أبني من ورق الورد‬ ‫ً‬ ‫سجنا‬

‫وأخط كلماتي حوله كاألحجار‪.‬‬

‫أفكاري جرائم قتل‪.‬‬ ‫سوف أُنهي حياتي في قصيدة‬

‫مثل محطات تعبئة الوقود‬

‫وأترك سمائي فوق ساحة‬

‫أي شخص يمكنه‬

‫يتمدد الجنرال في سريره‬

‫وفي كل مكان‬

‫أن يلمع زجاج سيارته‬

‫صغيرة للحب‪.‬‬

‫بينما جنوده يرزحون‪،‬‬

‫ويمألها بالوقود ثم يدفع الثمن‬

‫هذه األمنية لي‬

‫ليطالع الجريدة‪.‬‬

‫يتخلل عقله وقلبه‬ ‫ويجعله خاملاً‬

‫ويمضي إلى داخل السيارة‬

‫حلم مثل غاز سام‬

‫* أصبحت الكنائس في أوربا فارغة مثل محطات تعبئة‬

‫حلم كالكراهية‬

‫إلكترونيًّا‪.‬‬

‫أكتب ورق الورد‬

‫الوقود الجديدة التي ال تحتاج إلى عمال ألنها تعمل‬

‫موقف‬

‫حلم ناعم‪.‬‬

‫في الليل‪ ..‬نعم‬

‫أصنع اإليمان‪..‬‬

‫ينام الجنرال في فراشه متقلبًا‪.‬‬

‫ّ‬ ‫وأصم‪،‬‬ ‫أنا أعمى وأحمق‬ ‫والجنرال ً‬ ‫أيضا‪..‬‬

‫أرض الحكايات حيث (ليغسطور)*‬

‫حارسه ّ‬ ‫يئن بينما‬

‫والوحل الثقيل تحت قدميك‪.‬‬

‫نوما ً‬ ‫ً‬ ‫قلقا‪.‬‬

‫البعوض والصراصير والضفادع‪،‬‬

‫* نبات قوي الرائحة‬

‫حصان يصهل في إسطبل بعيد‬ ‫في أرض غير موجودة‪،‬‬

‫ما زال يبعث رائحته‬

‫الطنين يقلق نوم الجنرال‬

‫ألن جنوده يموتون‪،‬‬ ‫هو ينام‬

‫‪127‬‬


‫تقارير‬

‫عبدالقادر عبداللي‪..‬‬ ‫ترجمان األلسنة يغيب في روايته األخيرة‬ ‫سامر إسماعيل‬

‫صحافي سوري‬

‫ال يعرف أورهان باموق كيف سيتدبر أمره بعد اآلن‪ ،‬فقد غاب الكاتب ال المترجم‪ ،‬ربما اختلط األمر‬

‫على األديب التركي‪ ،‬ربما راوده السؤال‪ :‬من فينا الكاتب ومن فينا المترجم‪ ،‬أنا أم عبدالقادر عبداللي؟‬

‫سؤال ال نبالغ إن كرّسناه في هذا التقرير‪ ،‬ملتفتين إلى إرث صاحب «اسمي أحمر» وقد دخلنا سوق‬ ‫النقاشين التركي‪ ،‬حاملين معنا لغو األلسن وعجمتها‪ ،‬فليس اللسان هنا شي ًئا أمام براعة تقليبه وتقمص‬

‫حركاته وأحرفه اللثوية‪ ،‬ليست الشفاه وال مخارج الحروف وال نبرات الكالم وتصاعده وهذيانه‪ ،‬بل هي‬

‫الترجمة بكل أبعادها الثقافية واالجتماعية والسياسية التي نقلها المترجم السوري الراحل من التركية إلى‬ ‫العربية‪ ،‬ناقلاً معها أقصى خلجات أدبائها وأشد حاالتها المفارقة‪ ،‬متمثلة في ترجمة السخرية‪.‬‬

‫‪128‬‬

‫مهلاً ‪ ..‬وهل نستطيع ترجمة السخرية؟ أجل لقد فعلها‬

‫عبدالقادر عبد اللي‪ ،‬الذي انطفأ مؤخ ًرا عن ستين عامً ا قضى‬ ‫جُ َّلها في الترجمة‪ ،‬ال تنطحً ا وال تطاولاً على أدب عزيز نيسين‪ ،‬بل‬ ‫من باب معرفته بالشيء‪ ،‬وغوصه العميق في الشيفرا الثقافية‬

‫التركية التي كان خبرها عن قرب أثناء دراسته فنون المسرح‬ ‫والمشهد في «جامعة المعمار سنان» في إسطنبول‪ .‬من هناك‬

‫اقترب ابن مدينة إدلب (شمال غرب سوريا) من المعيش التركي‪،‬‬ ‫مقتحمً ا أسواقه وجلسات مثقفيه وشوارعهم‪ ،‬مطلاًّ على الثراء‬

‫الحياتي للشعب التركي‪ ،‬وناهلاً من معين حِ َرفهم وتقاليدهم‬

‫وطرفهم اليومية‪ ،‬ليتبلور هذا الوعي ال باللغة وحسب‪ ،‬بل‬ ‫بالكالم كمادة تصوغ الفكر والمنطوق‪ ،‬وتوازن بين الفصيح‬ ‫والشعبي‪ ،‬بين المكتوب والمحكي‪.‬‬

‫هكذا فعلها (عبد اللي) هو الترجمان الصميم الذي ما فتئ‬

‫يصيغ خيمياء اللغة على ميزان ذهب‪ ،‬مص ِّدرًا أدب األناضول إلى‬ ‫ً‬ ‫كاشفا الحجاب عن روايات وقصص (نيسين)‬ ‫المكتبة العربية‪،‬‬

‫أورهان باموق‬

‫ناظم حكمت‬

‫تأليف هذه النصوص للقارئ العربي‪ ،‬ال خيانتها بل توضيبها من‬

‫داخلها للنفاذ إلى ظرف زمان ومكان األدب التركي‪ ،‬إن كان قصة‬ ‫أو رواية أو قصيدة‪.‬‬

‫صنعات أدبية وفنية‬

‫هذه الحرفة التي أتقنها (عبد اللي) كما يعرف الجميع لم تكن‬

‫ويشار كمال‪ ،‬وخلدون طانر‪ ،‬وإليف شافاق‪ ،‬وذلك بعد أن ترجم‬

‫الوحيدة في رصيده؛ بل جمع المترجم الراحل بين صنعات أدبية‬ ‫ً‬ ‫مستنبطا‬ ‫وفنية عديدة‪ ،‬فعمل بصمت على لوحته التشكيلية‪،‬‬

‫حكمت‪ .‬تراجم حملت تلك التوازنات النصية المعقدة والمركبة‬

‫التي نستطيع أن نرى تقاطعاتها مع عبقريته في الترجمة‪،‬‬

‫العديد من أشعار تلك البالد‪ ،‬كان رأسها األعمال الكاملة لناظم‬ ‫بسالسة ولين‪ ،‬وجرأة فنية الفتة في إيجاد حلول لغوية وتراكيب‬

‫ماهرة‪ ،‬سبك (عبدالقادر) عبرها جواهر األدب التركي‪ ،‬منافحً ا عن‬

‫روح ساخرة ومريرة في البنية النصية التي قدمها‪ ،‬مجاهِ ًرا مع كل‬

‫ترجمة يخترعها باللغة عن معين فياض ودفق ال نهائي في إعادة‬ ‫العددان ‪ 490 - 489‬شوال ‪ -‬ذو القعدة ‪1438‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬أغسطس ‪2017‬م‬

‫ً‬ ‫مرادفا ألجواء أعماله التشكيلية‬ ‫زيت وزيتون مسقط رأسه ليكون‬ ‫وإدراكه الرهيف أن توزيع عناصر اللوحة وتوازنات بؤرها اللونية‪،‬‬ ‫وتوليف مناخاتها بين الرطوبة واليبوسة‪ ،‬ال يقل ً‬ ‫شأنا عن مادته‬

‫األصلية في فن الترجمة الذي خبر دهاليزه‪ ،‬مستوحيًا ذلك من‬ ‫تمارينه اليومية في الكتابة للصحافة‪ ،‬مط ِّورًا بذلك ً‬ ‫نمطا جديدً ا‬


‫موسوعي يختفي‬

‫بهذا يكون عبدالقادر عبد اللي واحدً ا من هؤالء الموسوعيين‬

‫الكبار الذين اختفوا في عصور التخصص‪ ،‬عصر ثقافة التخصص‬

‫تلك التي ك ّرست األميّة الثقافية‪ ،‬وجعلت من ثقافة العمق ً‬ ‫قفصا‬ ‫ً‬ ‫مطلقا لم يكن هذا الكاتب والمترجم والفنان‬ ‫للمعارف الجزئية‪،‬‬ ‫والصحفي لينضم إليها‪ ،‬غير قانع بمعارف التكنوقراط الجديدة‪،‬‬

‫عزيز نيسين‬

‫إليف شافاق‬

‫من المترجمين دائمي السعي نحو رشاقة الجملة والتنويع عليها‬

‫والخروج بها من سجنها اللغوي األم ‪-‬إن صح التعبير‪ -‬إلى لغته‬

‫العربية‪ .‬لقد أبعد هذا الرجل مخاوف عديدة تكتنف الكثير من‬ ‫مترجمي العربية‪ ،‬متك ًئا في ذلك على األديب الذي في داخله‪،‬‬ ‫فلم يكن تقنيًّا ينقل حذافير العبارات ميكانيكيًّا‪ ،‬بل شدد على‬

‫روح النص‪ ،‬مسترشدً ا بسيمياء عالية الجودة‪ ،‬ليشتغل على‬

‫بل مثاب ًرا على الدوام على أبحاثه اللغوية العميقة‪ ،‬مط ِّورًا معارف‬

‫اجتماعية من خالل معمله اللغوي والتشكيلي الذي أفل باك ًرا‬ ‫قبر بعيد من بالده في مدينة أضنة التركية‪.‬‬ ‫ليغيب في ٍ‬ ‫يبقى أن نقول ما وصل إليه عبد اللي كان ً‬ ‫غيضا من فيض‬ ‫أنشطته السياسية‪ ،‬وعمله الدائب على تحقيق مطالب التحرر‬

‫والكرامة والعدالة االجتماعية‪ ،‬وتشهد لذلك مقاالته الجريئة‬ ‫ونزعته الدفينة ببالد أكثر عدلاً ومساواة‪ ،‬فالمترجم الذي أمضى‬ ‫سحابة عمره خلف أوراقه ونصوصه‪ ،‬لم يكن يدعي أدوارًا لنفسه‪،‬‬ ‫بل كان عمله الف ًتا في ترجمة نتاج العديد من األدباء األتراك‪،‬‬

‫طزاجة غير معهودة في تنميق تراجمه وتخفيف غلظتها عبر‬ ‫االستعانة بعلوم اإلشارة والداللة‪ ،‬لكن بعفوية نادرة ّ‬ ‫واطالع‬ ‫واسع على مرادفات الجمل والتراكيب‪ ،‬وصولاً إلى الوقت الذي‬

‫اليسار‪ ،‬مع ميله عقائديًّا لهذا األخير‪ ،‬فال تحزب لتيار محافظ‬

‫قد ال نسوق مديحً ا هنا إن قلنا‪ :‬إن (عبدالقادر) كان بحق‬

‫النص بري ًئا من كل هذه اإلحاالت واإلنشاءات العقائدية‪ ،‬وهذا‬ ‫برأيي ما جعل منه مترجمً ا مستقلاًّ ‪ ،‬ولعله‬

‫أصبح فيه هذا المترجم األديب (شيخ المترجمين) من التركية إلى‬ ‫العربية‪ ،‬محتلاًّ المرتبة األولى عند أدباء أتراك كبار‪ ،‬آثروا أن يكون‬ ‫(عبد اللي) سفيرهم المخلص إلى لغة الضاد‪.‬‬

‫سفي ًرا فوق العادة لألدب التركي في العالم العربي‪ ،‬ومرشدً ا‬ ‫نزيهًا لرواياته‪ ،‬فالثقة التي حازها الراحل الكبير جعلت منه رجلاً‬

‫ومن المشارب السياسية كافة‪ .‬من أقصى اليمين إلى أقصى‬ ‫وليبرالي أو شيوعي‪ ،‬وال إهمال ألدب الهامش التركي‪ ،‬بل كان‬ ‫المتن لدى عبد اللي هو النص‪ ،‬بغض النظر عن اتجاهات ك ّتابه‪.‬‬

‫يستحق بذلك مناصفة باموق على‬ ‫ً‬ ‫عريضا‬ ‫نوبل‪ ،‬ويفتح الباب‬

‫بحجم مؤسسة‪ ،‬ال سيما مكانته التي انتزعها لدى األكاديميين‬

‫على حقوقه المهدورة‬

‫تجربة (عبد اللي) والتمحيص في مختبرها اللغوي الهائل‪ ،‬الذي‬ ‫استطاع تنقية هذا َ‬ ‫الك َدر بين ثقافتين‪َ ،‬ل َطالما كانتا على طرفي‬

‫السياسية والثقافية‬

‫األتراك في بحوثهم الجامعية التي تعمل اليوم على دراسة‬

‫نقيض بفعل النزعات القومية والتاريخ االستعماري الطويل‬ ‫منذ االحتالل العثماني للبالد العربية‪ ،‬فالجهود التي بذلها هذا‬

‫الرجل الموهوب لم تتوقف على لغة المنقول عنه‪ ،‬بل دراية‬

‫لدى األوساط التركية‬ ‫التي لم تصنع ما‬

‫يليق بوداع رجل من‬ ‫هذا الطراز الرفيع‪.‬‬

‫ً‬ ‫منصاعا إلى جذور األسماء‬ ‫عميقة حصلها الراحل في لغته األم‪،‬‬ ‫واألفعال‪ ،‬ومهندسً ا لكنايات واستعارات وتوريات حاذقة‪ ،‬أعاد‬

‫ً‬ ‫خالصا إلى اشتغاالت عدة‬ ‫عبدالقادر إحياءها في النص المترجم‪،‬‬ ‫نقلته فيما بعد إلى ترجمة أعمال سينمائية ودرامية (أبرزها وادي‬ ‫الذئاب) إلى محطات البث العربية‪.‬‬

‫سفيرا فوق‬ ‫كان عبدالقادر عبد اللي بحق‬ ‫ً‬ ‫العادة لألدب التركي في العالم العربي‬ ‫نزيها لرواياته‪ ،‬فالثقة التي حازها‬ ‫ومرشدا‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫الراحل الكبير جعلت منه رجال بحجم مؤسسة‬ ‫عبدالقادر عبداللي‬

‫‪129‬‬


‫إصدارات‬

‫الكتاب‪ :‬األسس الثقافية للتحليل النفسي السياسي‬ ‫المؤلف‪ :‬بول روزان‬ ‫المترجم‪ :‬سارة اللحيدان‪ ،‬ويوسف الصمعان‬ ‫الناشر‪ :‬جداول‬

‫يشرح المؤلف بول روزان أبرز مؤرخي حركة التحليل النفسي الصلة بين السياسة وعلم‬ ‫ِّ‬ ‫المنظرين السياسيين؛ أمثال ميكافيللي وروسو وبيرك وتوكوفيل قبل‬ ‫النفس في عمل‬

‫الفرويدية أو بعدها مثل إيزايا برلين‪ .‬ويخص حنة آرندت التي رفضت أفكار التحليل النفسي‬ ‫بفصل منفرد‪.‬‬

‫الكتاب‪ :‬إشكالية السلطة والدين في العالم العربي‬ ‫المؤلف‪ :‬قاسم حسين صالح‬ ‫الناشر‪ :‬دار العرب للنشر والتوزيع‬

‫ال تزال إشكالية السلطة والدين تثير جدلاً واسعً ا في العالم العربي‪ ،‬يتحدد هذا في‬

‫الكتابات القديمة والحديثة؛ من نقد الدين إلى نقد النص‪ ،‬إلى نقد العقل‪ ،‬إلى نقد المشروعات‬ ‫األصولية والعقائد االصطفائية‪ ..‬وسواها من أفكار وطروحات شائكة‪ ،‬لكن المؤلف اختار أن‬

‫يقدم مقاربة جديدة عن «إشكالية السلطة والدين» تستند إلى (تحليل سيكوبولتك)‪ ،‬يحاول‬

‫‪130‬‬

‫من خالله تفسير العالقة بين السياسي والديني عبر «تساؤالت محرجة»‪.‬‬ ‫الكتاب‪ :‬مبادرة الحزام والطريق‬ ‫المؤلف‪ :‬وانغ ييواي‬ ‫الناشر‪ :‬الدار العربية للعلوم‬

‫ً‬ ‫موثوقا لمبادرة الحزام والطريق المعروفة بطريق الحرير من‬ ‫يقدم هذا الكتاب تفسي ًرا‬

‫جانب البروفيسور وانغ ييواي‪ ،‬وهو خبير متميز في القضايا الدولية‪ .‬وهو يشير إلى أن طريق‬ ‫الحرير يجسد المنطق الكامن النفتاح الصين على جميع األصعدة ويمثل تحول الصين‬

‫مشاركة في العولمة إلى صانعة لها‪.‬‬ ‫األساس من كونها‬ ‫ِ‬

‫الكتاب‪ - 1900 :‬مونولوج عازف البيانو في المحيط‬ ‫ِساندرو باريكُّو‬ ‫المؤلف‪ :‬أل َّ‬

‫المترجم‪ :‬معاوية عبدالمجيد‬

‫الناشر‪ :‬منشورات المتوسط‬

‫قصة الكتاب كما رواها صديق‪ ،‬عازف ترومبيت‪ ،‬على شكل مونولوج‪ ،‬عن داني‬

‫بوودمان‪ ،‬عازف البيانو على متن عابرة المحيطات فيرجينيان‪ ،‬تلك الباخرة التي كانت تتنقل‬

‫بين أميركا وأوربا محملة بأصحاب المليارات وبالمهاجرين في الوقت نفسه‪ .‬وعلى متنها‬ ‫كل مساء‪ ،‬عازف بيانو استثنائي‪ ،‬صاحب تقنيات هائلة في العزف‪ ،‬يعزف هناك‪ ،‬لألغنياء‬

‫وللفقراء‪ .‬يقولون‪ :‬إن قصته مجنونة جدًّ ا‪ ،‬وإنه وُلد على متن الباخرة‪ ،‬وإنه لم يطأ األرض‬ ‫أبدً ا‪ ،‬وال أحد يعرف لماذا!‬

‫العددان ‪ 490 - 489‬شوال ‪ -‬ذو القعدة ‪1438‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬أغسطس ‪2017‬م‬


‫الكتاب‪ :‬ذكريات‪ ...‬سيرة لم تكتمل‬ ‫المؤلف‪ :‬قسطنطين زريق‬ ‫الناشر‪ :‬مركز دراسات الوحدة العربية‬

‫كتب قسطنطين زريق هذه الذكريات في األيام األخيرة من حياته‪ .‬ولم تمهله األيام‬

‫ليتمّ ها كما كان ينوي؛ لذلك اقتصرت ذكرياته على أيام طفولته وشبابه‪ ،‬ولم يحدثنا‪ ،‬كما‬ ‫أشار‪ ،‬عن مواقفه وآرائه‪ ،‬وكيف تبلورت عندما نضجت وعالجت القضايا الكبرى لألمة‬

‫العربية‪ ،‬ولم يحدثنا عن نضاله من أجل تنشئة جيل عربي ملتزم‪ ،‬وتربية عربية رصينة‪،‬‬ ‫وواعية وفاضلة؛ لذلك فإن هذه الذكريات‪ ،‬التي تنشر ألول مرة‪ ،‬هي ذات شأن مميّز‪،‬‬ ‫فهي تلقي الضوء على مسيرة أحد أبرز المفكرين العرب في القرن العشرين‪ ،‬وأثر التجارب‬

‫ني بها في هذه المسيرة‪.‬‬ ‫المريرة والهزائم والنكبات التي مُ َ‬

‫الكتاب‪ :‬اإلرهاب كما نشرحه ألوالدنا‬ ‫المؤلف‪ :‬الطاهر بن جلون‬ ‫الناشر‪ :‬الساقي‬

‫يحاول الطاهر بن جلون‪ ،‬في حوار عميق وحقيقي مع ابنته‪ ،‬أن يجيب عن أسئلة كثيرة‬

‫تتبادر إلى ذهننا عند حدوث أي عمل إرهابي‪ .‬ويستعرض تاريخ كلمة «إرهاب» منذ األحداث‬ ‫األكثر دموية في الثورة الفرنسية وصولاً إلى ما يشهده الوضع الحالي من انفالت األصولية‬

‫اإلسالمية من عقالها‪.‬‬

‫وأمام قلق ابنته التي تطالبه ببريق أمل بسيط‪ ،‬يؤ ّكد ابن جلون أن الرهان هو على‬

‫التربية‪ ،‬على أمل المساهمة في نشأة جيل من الشباب متح ِّرر من األوهام التي تجعله‬ ‫يصدّ ق أي شيء‪.‬‬

‫الكتاب‪ :‬سجالت المحكمة الشرعية «الحقبة العثمانية» المنهج والمصطلح‬ ‫المؤلف‪ :‬خالد زيادة‬ ‫الناشر‪ :‬المركز العربي لألبحاث‬

‫يجمع الباحث خالد زيادة أعمالاً أعدَّ ها أثناء اشتغاله على وثائق محكمة طرابلس‬

‫الشرعية‪ ،‬التي يبتدئ تاريخها في عام ‪1077‬هـ‪1666 /‬م‪ .‬وانطلق في بحثه المستفيض من أن‬ ‫ّ‬ ‫تحتل موقعً ا ممي ًزا بين مجموعات الوثائق التي يمكن أن يستند‬ ‫وثائق المحاكم الشرعية‬

‫إليها المشتغلون بالتاريخ في الحقبة العثمانية‪ ،‬مثل‪ :‬الوثائق القنصلية والتجارية والكنسية‬ ‫وغيرها‪ ،‬مع تميز وثائق المحاكم الشرعية باتساع موضوعاتها لتشمل جميع جوانب الحياة‬

‫االجتماعية واالقتصادية‪ ،‬إضافة إلى حفظها ما كان يرد من عاصمة الدولة العثمانية من‬ ‫فرمانات ومراسالت‪.‬‬

‫‪131‬‬


‫كتب‬

‫المشترك والمختلف‬ ‫بين الديانات الثالث‬ ‫القاهرة‬

‫‪132‬‬

‫ال تكاد الديانات السماوية الثالث يختلف‬ ‫بعضها عن بعض في األطر األساسية لجميع‬ ‫المؤمنين بها‪ ،‬فجميعها تعامل مع أتباعه‬ ‫بالمنهج نفسه؛ أنهم خير األمم‪ ،‬وأنها خير‬ ‫الرساالت‪ ،‬وهو ما منحهم ً‬ ‫نوعا من التميز عن‬ ‫التابعين ألي من هذه الرساالت األخرى‪ ،‬لكنه‬ ‫ً‬ ‫أيضا وضعهم على طريق التصادم الحتمي مع‬ ‫اآلخرين‪ ،‬كما جعلهم يبدون للمتابع من الخارج‬ ‫كما لو أن بعضهم َّ‬ ‫تأثر ببعض في حركات اإلحياء‬ ‫والعودة إلى األصول‪ ،‬وفي مقدمتها الحركات‬ ‫السياسية التي قامت على مبادئ دينية‪.‬‬ ‫هذا ما انتهى إليه الباحثان هدى الفيتوري وعبدالرحمن‬

‫فرحات يف كتابهما املهم «التأثري اليهودي عىل الحركات‬

‫اإلسالمية ‪ -‬اإلخوان املسلمون والسلفية الجهادية نموذجان»‬ ‫ً‬ ‫حديثا عن دار أروقة للنشر بالقاهرة‪.‬‬ ‫الصادر‬ ‫يف هذا الكتاب استعرض الباحثان تاريخ الحركات‬

‫اإلسالمية السياسية‪ ،‬مؤكدين أن التاريخ اإلسالمي ميلء‬

‫بالعديد من الحركات السياسية التي قامت عىل أسس دينية‪،‬‬ ‫يف مقدمتها حركات القرامطة والشيعة والخوارج يف العصور‬

‫الوسطى‪ ،‬ويف العصور الحديثة ظهرت الوهابية يف الجزيرة‬ ‫العربية‪ ،‬والسنوسية يف شمال إفريقيا‪ ،‬واملهدية يف السودان‪،‬‬ ‫والدهلوية يف الهند‪ ،‬لكن هذه الحركات لم تكن األساس الذي‬

‫قام عليه كتاب الفيتوري وفرحات‪ ،‬فقد كان التعانق بني‬ ‫جماعة اإلخوان املسلمني والسلفية الجهادية أساس ظهور‬

‫جماعات الخروج املتوالية يف العصر الحديث‪ ،‬بداية من الجهاد‬ ‫والتكفري والهجرة وصولاً إىل القاعدة وداعش وجيش النصرة‪،‬‬ ‫فقد كانت أفكار حسن البنا وسيد قطب الركيزة التي انطلقت‬ ‫العددان ‪ 490 - 489‬شوال ‪ -‬ذو القعدة ‪1438‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬أغسطس ‪2017‬م‬

‫منها هذه الجماعات التكفريية يف سبعينيات القرن املايض‪ ،‬وما‬

‫زالت تؤيت أكلها حتى اآلن يف الجسد العربي الذي تحلل من‬ ‫كرثة الخروق فيه‪.‬‬

‫الجماعات األكرث تشد ًدا‬

‫قسم الباحثان كتابيهما ثالثة فصول‪ :‬درسا يف الفصل‬

‫األول ما سمياه مفاهيم الدراسة؛ إذ توقفا أمام مصطلحات‬

‫«الدين» و«األصولية» و«السلفية» و«اإلصالح»‪ ،‬مقارنني بينها‬

‫من املنظورين العربي والغربي‪ ،‬ففي الوقت الذي تعارف فيه‬ ‫الغرب أن كلمة أصولية تعود إىل املتمسكني بالتفسري الحريف‬

‫للكتاب املقدس‪ ،‬سواء لدى الربوتستانت أو الكاثوليك‪ ،‬وهو‬ ‫املفهوم الذي تحول إىل مذهب باسم األصولية املسيحية يف‬

‫بداية القرن العشرين‪ ،‬وأخذ عىل عاتقه معاداة املجتمعات‬

‫العلمانية‪ ،‬فإن املنظور العربي ال يكاد يوجد يف معاجمه اللغوية‬ ‫مقابل واضح لكلمة أصولية‪ ،‬وكل ما هنالك هو كلمة «أصل»‪،‬‬ ‫وقد اختلف العلماء يف تفسري املصطلح؛ إذ ربط بعضهم داللته‬


‫بالبنية الثقافية التي تستخدمه كما فعلت رابعة جلبي‪ ،‬لكنهم‬ ‫يف العموم ربطوه بالفضاء الديني وقصروه عىل الجماعات‬ ‫األكرث تشددًا‪.‬‬

‫يف الفصل الثالث سعى املؤلفان إىل إيجاد تماسات بني‬

‫الديانات الثالث وأتباعها فيما يخص العمل السيايس القائم‬ ‫عىل أساس ديني‪ ،‬وكانت الصهيونية اليهودية أبرز هذه‬

‫أما مصطلح السلف فقد قصروه عىل القرون الثالثة األوىل‬

‫الحركات‪ ،‬فقد نشأت يف البدء كحركة علمانية تسعى إىل‬

‫عرفها محمد عبده بأنها (فهم الدين عىل طريقة سلف األمة‬

‫بأن الشتات سيستمر إىل أن يظهر املسيح اليهودي ويطهر‬

‫من عمر الحضارة اإلسالمية‪ ،‬ومنه جاء مصطلح السلفية التي‬

‫قبل ظهور الخالف‪ ،‬والرجوع يف كسب معارفه إىل منابعها‬

‫األوىل)‪ ،‬ومن ثم فكل ما يعود إىل هذه القرون هو من قبيل‬

‫السلف‪ ،‬لكن هذا املصطلح لم تظهر بوادره إال يف القرن الرابع‬

‫الهجري؛ إذ ظهر من يغلبون ظاهر النص عىل التأويل والقياس‬

‫والرأي‪ ،‬وكان أولهم اإلمام أحمد بن حنبل الذي يُعَ د حجر‬

‫األساس فيما عرف بالسلفية النصوصية‪ ،‬تلك التي تطورت مع‬

‫ابن تيمية إىل السلفية العقالنية‪ ،‬ثم جاءت السلفية النجدية‬ ‫عىل يد محمد بن عبدالوهاب‪ ،‬التي رفضت البدع والخرافات‬

‫التي طرأت عىل اإلسالم‪ ،‬لكن بداوة البيئة الحاضنة لها خلقت‬

‫ً‬ ‫نوعا من الحذر الشديد من املدنية ومفرداتها‪.‬‬

‫يف الفصل الثاين رصد الباحثان تطور فكر اإلسالم السيايس‬

‫وجماعاته‪ ،‬بداية من جمال الدين األفغاين الذي سعى إىل إنجاز‬ ‫عمل سيايس عرب اإلصالح الديني‪ ،‬وقد تأثر به مفكرون كرث يف‬

‫مقدمتهم تلميذه محمد عبده الذي جمع بني عباءة األزهر من‬

‫جانب وعباءة الفكر األوربي الذي عايشه مع أستاذه األفغاين‪،‬‬ ‫فقدّ م رؤية خرج منها من أراد التقدم عىل أساس الشك‬

‫إقامة وطن لليهود‪ ،‬وهو األمر الذي يناقض املعتقد اليهودي‬ ‫األرض ويقيم العدل ويحكم ألف عام قبل أن تأيت القيامة‪،‬‬

‫لكن أقطاب الصهيونية وقادتها استطاعوا ترويض معارضيهم‬ ‫من الحاخامات واملفكرين اليهود املرتبطني بما جاء يف التوراة‬

‫والتلمود‪ ،‬وساعدت الهولوكوست الصهاينة يف التفوق عىل‬

‫خصومهم الذين أضعفتهم املحرقة‪ ،‬فتحول املعارضون إىل‬ ‫موالني متشددين‪ ،‬ثم إىل حركات متشددة داخل اإلطار‬

‫الصهيوين‪ ،‬هكذا قامت الدولة الصهيونية‪ ،‬وهكذا تحول‬ ‫الجدل بني العلمانيني والدينيني إىل إقامة دولة تمزج ما بني‬

‫العلمانية والدين املتشدد يف إطار واحد‪.‬‬ ‫ً‬ ‫بعيدا من األصولية‬ ‫الغرب ليس‬

‫لم يكن الغرب ببعيد من الفكرة السلفية واألصولية‪ ،‬فقد‬

‫نشأت الربوتستانتية عىل أساس العودة إىل النص اإلنجييل‬

‫فقط‪ ،‬وال حاجة إىل تفسريات وتأويالت البابوات والكهنة‪،‬‬ ‫وانتصر الربوتستانت نظ ًرا لرغبة األمراء وامللوك يف تقليص‬

‫سلطات الكنيسة الكاثوليكية‪ ،‬لكن الربوتستانت الثوريني‬

‫تحولت رؤاهم فيما بعد إىل تكلس حريف يف شرح النصوص‬

‫والتنوير الغربي؛ أمثال طه حسني وعيل عبدالرازق وعباس‬ ‫محمود العقاد وغريهم‪ ،‬كما خرج ً‬ ‫أيضا املتشددون الذين رأوا‬

‫والتعامل معها‪ ،‬وسرعان ما ظهرت جماعات أصولية تدعو إىل‬

‫رضا الذي فنت به حسن البنا‪ ،‬فظهرت عىل يديه جماعة اإلخوان‬

‫يف الديانات الثالث هو اإليمان بأنهم خري أمة‪ ،‬وأن فكرتهم هي‬

‫يف منهج السلف طريقهم القويم‪ ،‬يف مقدمتهم الشيخ رشيد‬

‫املسلمني يف ظل سقوط الخالفة يف تركيا‪ ،‬فغازل البنا امللك‬

‫فؤاد ومن بعده ابنه فاروق األول بأن يكون خليفة املسلمني‪،‬‬

‫لكن ثورة يوليو التي قامت عىل أكتاف الشيوعيني واإلسالميني‬ ‫معً ا سرعان ما انقلبت عىل الجميع‪ ،‬فدخل اإلخوان السجون‬

‫التمسك الحريف بالنص‪ ،‬وكان الطرح املشرتك لدى املتشددين‬

‫الفكرة الجامعة املانعة‪ ،‬وأنهم نهاية التاريخ أو الديانات‪ ،‬وأن‬

‫ما سيأيت هو املهدي أو املسيح الذي سينتصر عىل الظلم ويقيم‬ ‫العدل‪ ،‬وأن النص ليس بحاجة إىل تأويل أو قياس‪.‬‬

‫هكذا تشابهت اليهودية مع املسيحية مع اإلسالم يف‬

‫وكتب سيد قطب كتابة «معالم يف الطريق» الذي استقاه من‬

‫البنيات األساسية املنتجة للمتشددين الراغبني يف إحياء أصول‬

‫بأفكاره الكثريون‪ ،‬فظهرت يف مصر جماعات الجهاد والتكفري‬

‫القوية‪ ،‬وهكذا كان الضعف والقلق وعدم الشعور بالرضا عما‬

‫أفكار أبي األعىل املودودي يف باكستان‪ ،‬هذا الكتاب الذي آمن‬

‫الدين‪ ،‬والعودة إىل السلف الصالح‪ ،‬إلقامة دولة العدل‬ ‫آلت إليه حال الديانة وأتباعها هو الدافع نحو ظهور التشدد‪،‬‬

‫والهجرة والجماعة اإلسالمية والفنية العسكرية وغريها من‬ ‫ّ‬ ‫املسلح عىل‬ ‫الجماعات التي رأت يف السبعينيات ضرورة الخروج‬

‫والرغبة يف بعث السلف الصالح من مرقدهم عرب تمثل أقوالهم‬

‫ثم وصول اإلخوان إىل الحكم يف مصر عقب ثورة ‪ 25‬يناير‪،‬‬

‫بأن ثمة تأثريًا واضحً ا من اليهودية واملسيحية يف حركات‬

‫املجتمع‪ ،‬وانتهى األمر بظهور جماعة القاعدة يف الثمانينيات‪،‬‬ ‫لكنهم سرعان ما فقدوه ألخطاء عديدة يف التجربة وعدم‬ ‫التماس مع أرض الواقع‪.‬‬ ‫ّ‬

‫وأفعالهم وطرائق تعاملهم مع الحياة‪ ،‬لكن ذلك كله ال يقول‬

‫اإلسالم السيايس‪ ،‬وإن كان ثمة تشابه يف املقدمات والنتائج‬

‫التي ظهرت مع أتباع كل ديانة‪.‬‬

‫‪133‬‬


‫كتب‬

‫أيضا من األمة»‪..‬‬ ‫«نحن ً‬ ‫المؤس َسة لفوبيا اإلسالم‬ ‫رصد عميق لآلليات‬ ‫ِّ‬ ‫نزهة صادق‬

‫‪134‬‬

‫باحثة مغربية‬

‫يحلل الكاتب المصري الفرنسي محمد مروان ظاهرة‬ ‫اإلسالموفوبيا من عمق واقع تمكن من الغوص في حيثياته بشكل‬ ‫عملي وجلي‪ .‬فعندما قرر مروان نشر كتابه «نحن ً‬ ‫أيضا من األمة؛‬ ‫لماذا يتوجب مناهضة اإلسالموفوبيا؟» (الصادر عن «منشورات‬ ‫الديكوفيرت» باريس ‪2017‬م) كان على علم عميق بالتغيرات الجلية‬ ‫التي عرفها المجتمع الفرنسي‪ ،‬ولم يقتصر الفحص الدقيق‬ ‫على مستوى الساحة اإلعالمية والسياسية للظاهرة‪ ،‬بل حاول‬ ‫تفكيك اآلليات المؤسِّ سة لفوبيا اإلسالم‪ ،‬واإلجابة عن السؤال‬ ‫العميق؛ لماذا يجب محاربة اإلسالموفوبيا؟ ويتميز كتاب «نحن‬ ‫ً‬ ‫أيضا من األمة‪ :‬لماذا يتوجب مناهضة اإلسالموفوبيا؟» بقدرته‬ ‫على رسم معالم مؤسِّ سة لدور ومصلحة المسلمين في محاربة‬ ‫العنصرية واإلسالموفوبيا؛ للخروج من الفخ الذي يحيط‬ ‫بالمجتمع الفرنسي برمته‪ ،‬كما يمكن القارئ من تعرف وضعية‬ ‫فوبيا اإلسالم ومستوياته في النسق الفرنسي عن قرب‪ ،‬وذلك‬ ‫من خالل خمسة فصول أساسية مع عناوين فرعية‪.‬‬ ‫سافر الكاتب محمد مروان في الفصل األول من الكتاب‬

‫المؤسسة الكاثوليكية لم يكن إال إليمانها بقدرة مبادئ الجمهورية‬

‫تشكل نموذجً ا للتعددية وللتنوع؛ فمن طفل ولد في باريس من‬

‫وقبل أن يسبر مروان في الفصل الثاني وعنوانه‪« :‬صراع الجمعية‬

‫والموسوم بـ« ليس تمامًا مثل اآلخرين» بالقارئ بين ثنايا قصته التي‬

‫والدين مهاجرين أب مصري وأم جزائرية‪ ،‬إلى إطار وشخصية مهمة‬ ‫في المجتمع الفرنسي‪ ،‬تمكن مروان من سرد قصته المتميزة التي‬ ‫توجت بالنجاح إليمانه بالدور المعرفي‪ .‬في كل محطة يرصدها‪،‬‬

‫أكد مروان أن اختيارات أمه المستقلة لوضع الحجاب‪ ،‬أو تدين أبيه‪،‬‬ ‫ما هي إال اختيارات شخصية ال تدعو إلى تحويل فرنسا إلى أرض‬ ‫اإلسالم‪ ،‬بل هي قناعات تتفاعل مع السياق الفرنسي من منطلق‬

‫مبادئ الجمهورية التي تؤمن باالختالف وبحُ ِّريَّة االعتقاد والدين‪،‬‬ ‫ولعل ِذ ْكر الكاتب لتعلمه في المدرسة العمومية الكاثوليكية أبلغ‬

‫دليل على ذلك‪ ،‬فعندما قررت أم مروان‪ ،‬التي لها صالحية كبيرة‬ ‫وحرية في اتخاذ قرارات البيت‪ ،‬بحجابها أو بغيره‪ ،‬تسجيل ابنها في‬ ‫العددان ‪ 490 - 489‬شوال ‪ -‬ذو القعدة ‪1438‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬أغسطس ‪2017‬م‬

‫على ترسيخ قيم التعايش‪.‬‬

‫الفرنسية لمناهضة اإلسالموفوبيا» أغوار الدور الرئيس الذي تلعبه‬ ‫الجمعية‪ ،‬طرح في البداية أرضية مفاهيمية لمفهوم اإلسالموفوبيا‪،‬‬ ‫مشي ًرا إلى األعمال التي سبقته ومنها‪ ،‬أعمال الكاتبين عبدالعالي‬

‫حاجات ومروان محمد‪ ،‬وهو سوسيولوجي يحمل اسم الكاتب نفسه‪.‬‬ ‫كما أشار في هذا الفصل إلى أن الكاتبين عالجا ظاهرة‬

‫اإلسالموفوبيا (الخوف من اإلسالم) من منظور سياسي وثقافي‬

‫معرفي وسوسيولوجي غير مسبوق‪ ،‬كما نسخا المفاهيم‬

‫المغلوطة لإلسالموفوبيا‪ ،‬وبخاصة مفهوم الكاتبة كارولين‬

‫فوريست وباسكال بروكنر اللذين قاال‪ :‬إن أصل مفهوم‬ ‫اإلسالموفوبيا يعود إلى عام ‪1970‬م‪ ،‬وهو باألساس خلق لمنع‬


‫أي انتقاد لإلسالم‪ .‬في حديثه عن «الجمعية الفرنسية لمناهضة‬ ‫اإلسالموفوبيا» التي يرأسها‪ ،‬لم يقتصر مروان على رصد فلسفة‬

‫الجمعية والضرورة التاريخية التي فرضتها‪ ،‬بل أكد على دورها‬

‫األساس في المجتمع الفرنسي الذي على الرغم من أنه ينبني‬ ‫على قوانين تحترم حقوق اإلنسان‪ ،‬فإن ما يعيشه المسلمون من‬

‫عنصرية‪ ،‬ال تتم معالجته باألهمية نفسها المحددة لخطورته؛‬ ‫وهو ما يستدعي التدخل القانوني والحقوقي للجمعية لمتابعة‬

‫شكاوى المحكمة التي تتوزع بين العنف اللفظي والجسدي‪.‬‬ ‫اليسار والمسلمون‬

‫تتجلى أهمية مناهضة اإلسالموفوبيا‬ ‫في نزع القناع عن الثمن الذي تدفعه‬ ‫فئات المسلمين اجتماع ًّيا وسياس ًّيا‬ ‫وإعالم ًّيا؛ إذ ال يمكن حصرها في عالقات‬ ‫شخصية بين األفراد‬ ‫وعلى الرغم من ثقة اليسار في المسلمين فإن محمد مروان‬

‫يقول‪« :‬لم تكن تعيش تنظيمات اليسار في غالب األحيان نفس‬ ‫التوترات التي يمر منها المجتمع الفرنسي فقط‪ ،‬بل تفاعلت معها‬

‫في الفصل الثالث الموسوم بـ«تعليمات حول تفكيك‬

‫من خالل ردود أفعال حماسية‪ ،‬ويعد نموذج رئيس المجلس‬

‫ًّ‬ ‫خاصا في السياق الفرنسي‪ ،‬وأكد من خالل العودة للتاريخ الذي‬

‫تاريخيًّا معب ًرا عن هذا التفاعل‪ ،‬ففي ‪ 24‬ديسمبر عام ‪1980‬م أمر بول‬ ‫ً‬ ‫مخصصا لـ‪ 320‬عاملاً ماليًّا‪ .‬ويتضح في هذا الفصل‪،‬‬ ‫بهدم مبنى كان‬

‫األيديولوجيات المعادية لإلسالم»‪ ،‬استطاع الكاتب توضيح كيف‬ ‫ً‬ ‫تاريخا‬ ‫أن األوضاع تغيرت لألسوأ‪ ،‬على الرغم من أن لإلسالموفوبيا‬ ‫بصم عالقة المسلمين بالسياسات الفرنسية‬

‫البلدي (فيتري‪ -‬سور‪ -‬سين) االشتراكي بول ميرسيسا نموذجً ا‬

‫أن الكاتب تمكن من خالل هذه األحداث أن‬

‫أنه «ال يمكننا أن نكون متطرفين بما أننا‬

‫يوضح للقارئ أن تطور العنصرية وتصاعدها‬

‫يساريون»‪ .‬وقد عبر عن هذه العالقة بكون‬

‫ضد المهاجرين والمسلمين ليست نتاجً ا‬

‫العديد من مسلمي فرنسا‪ ،‬وبخاصة الفئة التي‬

‫إلعادة إحياء اليمين المتطرف كحزب ذي‬

‫تحيا في المناطق المهمَّشة‪ ،‬التي تشكل فئة‬

‫أغلبية في فرنسا‪ ،‬بل يعود إلى حقائق سابقة‬

‫األسد من مجموع مسلمي فرنسا‪ ،‬يتعاطف‬

‫الوجود على مستوى الخطابات وتفعيلها‬ ‫ً‬ ‫أيضا‪ ،‬وأن ما يعيشه المسلمون اليوم ما‬

‫مع اليسار نظ ًرا للتاريخ الذي جمع بين اليسار‬ ‫والمسلمين‪ ،‬الذي يتجلى في التأطير اإلداري أو‬

‫االجتماعي لمنظمات المجتمع المدني اليسارية‬ ‫للمسلمين‪ .‬وأضاف مروان أنه من أجل أسباب‬

‫هو إال استمرارية لتاريخ اليسار‪ ،‬وما يعتري‬ ‫محمد مروان‬

‫خطابه من توترات حول موضوع اإلسالم‬

‫والمسلمين والهجرة‪.‬‬

‫سوسيولوجية محضة عاش مسلمو فرنسا تحت وصاية اليسار‪،‬‬

‫تتجلى أهمية مناهضة اإلسالموفوبيا في نزع القناع عن الثمن‬

‫عام ‪1980‬م‪ ،‬نظ ًرا ألن هذا األخير منحهم شرعية في فرنسا ودافع عن‬

‫يمكن حصرها في عالقات شخصية بين األفراد‪ ،‬األمر الذي خصص‬

‫ورحب عدد كبير منهم بتولي الرئيس الفرنسي فرنسوا ميتيران الرئاسة‬

‫الذي تدفعه فئات المسلمين اجتماعيًّا‪ ،‬وسياسيًّا‪ ،‬وإعالميًّا؛ إذ ال‬

‫وجودهم‪ ،‬وتميز بنشره لخطاب يؤمن باالختالف ويعترف بالجالية‬

‫له الكاتب محمد مروان الفصلين الرابع والخامس من الكتاب‬

‫التي كانت معبر تواصل بامتياز في تلك الحقبة‪ ،‬من إلقاء خطابات‬

‫هابي‬ ‫المسلمين‪ ،‬ومراجعة خطابات الدولة التي تثبت الفكر ال ُّر ّ‬ ‫ضد اإلسالم من خالل الخطابات السياسية‪ ،‬وعلى سبيل المثال ال‬ ‫الحصر نجد خطاب مانويل فالز الذي َع ّد محاربة الحجاب «نضالاً‬

‫العربية‪ ،‬حيث إن ميتيران تمكن من خالل التلفزة الفرنسية‪ ،‬الوسيلة‬

‫بالغية متميزة أبهرت المتلقي المسلم‪ ،‬ويعد الخطاب الذي ألقاه‬

‫في ندوة في جامعة السوربون من أهم رسائله‪ ،‬حيث قال‪« :‬نحن‬

‫الفرنسيون وأجدادنا المتجذرون من جبال الغال ما هم إال مزيج‬ ‫من القليل من الرومان‪ ،‬واأللمان‪ ،‬واليهود‪ ،‬واإليطاليين واإلسبان‪،‬‬

‫والبولنديين‪ ،‬حتى العرب»‪ ،‬وبذلك أكد الرئيس الفرنسي أن فرنسا‬

‫داعيًا الدولة الفرنسية للتدخل للحد من االضطهاد الذي يطول‬

‫حقيقيًّا للجمهورية»‪.‬‬

‫ما يميز كتاب «نحن ً‬ ‫أيضا من األمة‪ ،‬لماذا يجب مناهضة‬

‫اإلسالموفويبا؟» أنه ال يعد اعتذارًا‪ ،‬وال هجاء وال حتى تصفية‬

‫تتميز بكونها بلد التعددية الثقافية بامتياز؛ إذ إن الثقافة الفرنسية‬ ‫ما هي إال خليط‪ ،‬كما شكلت جملته الشهيرة هذه نموذجً ا متمي ًزا‬

‫برواية‪ ،‬وال مقال‪ ،‬هو مجرد محاولة للغوص في واقع فائِر‪ ،‬ال‬

‫الكاتب أن التاريخ القوي بين اليسار والمسلمين‪ ،‬يتجلى في إيمان‬

‫الكافية للتعبير على كل األصوات التي تسكنه‪ ،‬وال يتحدث إلى‬

‫لمحاربة التعصب ومواجهة أفكاره التي تتبنى الحقد والكراهية‪ .‬وبيّن‬ ‫األحزاب اليسارية بقدرة المسلمين على المشاركة السياسية الفعالة‬

‫التي تتميز بالموضوعية وباالستجابة الذاتية‪.‬‬

‫حسابات‪ ،‬وهو ليس دعوة للعنف‪ ،‬وال للسالم‪ ،‬كما أنه ليس‬ ‫يتحدث فيه المتحدث باسم المسلمين‪ ،‬كونه ال يتوافر على القدرة‬ ‫المسلمين؛ ألن ما يقوله يهم المجتمع الفرنسي كافة‪ ،‬كما جاء‬

‫على لسان محمد مروان‪.‬‬

‫‪135‬‬


‫كتب‬

‫التقنية السردية والصوت غير‬ ‫الطبيعي في «موت صغير»‬ ‫مبارك الخالدي‬

‫ناقد سعودي‬

‫في البدء ال بد من التنويه بأنني ال أنظر إلى محيي الدين‬

‫ابن عربي في «موت صغير» للروائي محمد حسن علوان‪ ،‬الفائز‬ ‫بجائزة الرواية العربية «البوكر» إلاّ كشخصيةٍ مُ َت َخيَّلةٍ ُت َ‬ ‫ول ُد وتحيا‬ ‫َ‬ ‫عالقة لها بابن عربي الكائن الصوفي‬ ‫عالم تخييلي‪ ،‬ال‬ ‫وتموت في‬ ‫ٍ‬ ‫الحقيقي التاريخي‪ .‬من هذه الفكرة المبدئية تنطلق محاولتي تحليل‬ ‫التقنية السردية في الرواية‪ ،‬بدءً ا بتفحص السلوك السردي البن‬

‫وض ِعه في‬ ‫عربي كأنا‪ /‬ذات ساردة‪ ،‬لغايةِ التعرف على شخصيته ومَ ِ‬ ‫تصنيفات النظرية السردية للرواة‪ ،‬ثم النظر إلى طبيعة العالقة بينه‬

‫‪136‬‬

‫كذات ساردة وكأنا‪ /‬ذات مسرودة في عالم التجربة التخييلي في‬

‫الرواية‪ -‬وتقصي تأثير تلك العالقة في تمثيله وتشكيل صورته‪.‬‬ ‫في أثناء سرده قصة حياته‪ ،‬ال يظهر ابن عربي قط وهو يواجه‪،‬‬

‫ولو للحظة خاطفة‪ ،‬أية موجة من الشك واهتزاز الثقة في تذكره‬ ‫لألحداث التي يرويها من قبل والدته إلى ما بعد مماته؛ وال يتوقف‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫ليحك رأسه كيما يستحث محتوى ذاكرته على االنثيال‪ ،‬أو يقف‬ ‫ثانية‬

‫ً‬ ‫مرتبكا ومتلعثمًا بسبب ضبابية أو عتمة َغ َشت رك ًنا من ذاكرته‪،‬‬

‫ً‬ ‫متفقا‬ ‫بضمير المتكلم في التخييل السردي الواقعي التقليدي‪ ،‬فجاء‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫وعمقا مع مُح ِّددات ومواضعات السرد‬ ‫ومتسقا في معرفته حجمًا‬ ‫الواقعي؛ إذ ينحصر سرده في حدود ما يتهيأ له معرفته عبر تجربته‬

‫وحفرت فجوة في تتابع األحداث‪ ،‬ليواجه بالتالي ضرورة التفكير في‬

‫الشخصية‪ ،‬وما يقع في مدار إدراكه‪ ،‬أو ما تسنح له فرصة معرفته‬

‫ما قبل تلك العتمة أو الضبابية بما بعدها‪ .‬ال شيء من هذا القبيل‬ ‫ً‬ ‫ُ‬ ‫ذاكرة ذات قوة غير عادية‪،‬‬ ‫يحمل في رأسه‬ ‫يحدث‪ ،‬فابن عربي سار ٌد‬

‫وزيادة في اإليضاح أضيف أن ابن عربي ال يشبه‪ ،‬مثلاً ‪ ،‬ديفيد‬ ‫كوبرفيلد في رواية تشارلز ديكنز «ديفيد كوبرفيلد»‪ ،‬الذي يعزو َّ‬ ‫كل‬

‫تجسير تلك الفجوة بشيء من الظن‪ ،‬أو التخمين‪ ،‬أو االحتمال ليربط‬

‫حتى كأنما األحداث التي يرويها كانت قد َنحَ َت ْت َن ْف َسها في ذاكرته‬ ‫نح ًتا ال يطوله االنمحاء والتآكل مع تقادم الزمن به‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫ذاكرة ابن عربي قوتها ونشاطها‪ ،‬على نحو خاص‪ ،‬في‬ ‫تكشف‬

‫عن طريق آخرين‪.‬‬

‫ما تحويه حكايته إلى دقة مالحظته كطفل وإلى قوة ذاكرته‪ .‬ي َ‬ ‫ُستش ُّف‬

‫من خالل تنويه ديفيد كوبرفيلد حرص ديكنز على تعزيز البعد‬

‫المحاكاتي الواقعي لحكاية ديفيد ولضمان استمرار التزام القارئ‬

‫التقديمات المشهدية للحوارات بين الشخصيات التي يبسطها أمام‬

‫بعقد «إيقاف عدم التصديق»‪ .‬وعلى الرغم من احتمال خروج ابن‬

‫بضمير المتكلم‪ .‬ابن عربي سار ٌد بضمير المتكلم َبيْد أنه يختلف عن‬

‫من خذالن ذاكرته مثل السارد فيها حين يروي تاريخ ميالد «بطلها»‪:‬‬

‫أعين القارئ‪ ،‬كأنه سارد كلي المعرفة يخفي وجهه بقناع السارد‬

‫نظرائه بصفات وامتيازات السارد كلي المعرفة؛ لهذا السبب يختلف‬ ‫على سبيل المثال عن نظيره هاني محفوظ ‪-‬الشخصية الساردة‪-‬‬

‫الذي جاوره في رواية محمد عبد النبي «في غرفة العنكبوت» على‬

‫قائمتي البوكر العربية الطويلة والقصيرة‪ .‬هاني محفوظ سارد بضمير‬ ‫المتكلم ابتكره عبد النبي بمهارة إبداعية عالية على نموذج السارد‬ ‫العددان ‪ 490 - 489‬شوال ‪ -‬ذو القعدة ‪1438‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬أغسطس ‪2017‬م‬

‫عربي من «المعطف» لنيكوالي غوغول‪ ،‬فإنه غير مسكون بالخشية‬

‫«وهذا ما حصل‪ :‬ولد أكاكي أكاكيفيتش في ليلة ‪ 22‬مارس‪ ،‬إن لم‬

‫تخني ذاكرتي» (ت‪ .‬الخزاعي‪ .)11 ،‬إن ابن عربي سارد غير عاديّ ‪،‬‬

‫وصوت من األصوات السردية «الشاذة» والمتجاوزة للنمطين‬ ‫التقليديين (السارد بضمير الغائب‪ ،‬والسارد بضمير المتكلم)؛ تلك‬ ‫ً‬ ‫«أصواتا غير‬ ‫األصوات التي يسميها برايان ريتشاردسون اصطالحً ا‬


‫طبيعية» في كتابه «أصوات غير طبيعية» (‪2006‬م)‪ .‬في هذا الكتاب‪،‬‬ ‫يتناول ريتشاردسون تنظي ًرا وتحليل ما ُيم َِّث ُل من زاوي ِة رؤي ِت ِه إحدى‬

‫الخصائص األكثر أهمية للسرد الحداثي المتأخر والطليعي وما بعد‬ ‫الحداثي‪ :‬خاصية خلق األصوات السردية‪ ،‬وتشظيها‪ ،‬ثم تركيبها (أو‬ ‫تكوينها) من جديد‪ .‬بتعبير آخر‪ ،‬يُع َنى ريتشاردسون في «أصوات غير‬ ‫طبيعية» بتقصي تحوالت السارد‪ ،‬وتحوالت أدواره ووظائفه‪.‬‬ ‫ابن عربي السارد في «موت صغير» ُم َر َّك ٌب من السارد بضمير‬

‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ومعرفة‬ ‫ولسانه‪،‬‬ ‫الغائب والسارد بضمير المتكلم؛ له وج ُه األخير‬ ‫عيان لها‪ ،‬كما ال يوجد‬ ‫أحداث ال يكون شاه َد‬ ‫األول‪ ،‬وامتيا ُز سر ِد‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫في المتن الحكائي أدنى ما يوحي بأن أخبارها وصلت إليه عن طريق‬

‫آخرين‪ .‬بهويته المزدوجة غير الطبيعية هذه‪ ،‬يلتقي ابن عربي مع‬ ‫ما سميتها الساردة المر ّكبة في رواية بدرية البشر «غراميات شارع‬

‫األعشى»‪ ،‬التي تسرد بضمير المتكلم في خمسة من فصول الرواية‪،‬‬

‫وتنفذ إلى أعماق الشخصيات ووعيها‪ ،‬كما ينفذ السارد العليم‪،‬‬ ‫ل ُتحَ ِّد َث عمّا يَعْ َتم ُ‬ ‫ِل في داخلها‪ .‬إنها صوت سردي غير طبيعي‪ ،‬هي‬ ‫األخرى‪ ،‬في ضوء تنظير ريتشاردسون؛ وربما هي كابن عربي‪ ،‬ممن‬

‫خرجوا من «معطف» غوغول‪.‬‬

‫وتمثل العالقة بين ابن عربي ساردًا ومسرودًا موضعً ا تتجلى‬

‫فيه سمة أخرى من سماته كصوت غير طبيعي؛ إذ يظهر في بعض‬

‫المواقف السردية كسارد «غير ثقة» أو «غير جدير بالثقة»‪ ،‬وهو‬

‫ما يستدعي الحذر وعدم االنخداع في بعض ما يقول‪ .‬ومنشأ هذه‬

‫الخاصية حالة التماهي واالتفاق شبه المطلق بين الذات الساردة‬ ‫والذات المسرودة‪ .‬إن حالة التماهي هذه‪َ ،‬تحُ ُ‬ ‫ول‪ ،‬إال في مواقف‬ ‫قليلة‪ ،‬دون تشكل مسافة بين الذاتين تتيح للذات الساردة تأم َُّل‬ ‫نظيرتها في عالم الرواية‪ ،‬وتقويمها‪ ،‬والحكم على تصرفاتها‪ .‬إن‬

‫انعدام هذه المسافة النقدية‪ ،‬إذا صح التعبير‪ ،‬واقترانها بحالة‬

‫التناغم ورضا الخارج عن الداخل أ َّديَا إلى ظهور مفارقات وتناقضات‬

‫ً‬ ‫مضاعفا لما وجد فيه ذريعة للسفر من إشبيلية إلى مراكش‬ ‫بزينب‬ ‫بمفرده‪ ،‬مرغمًا زوجته‪ ،‬رغم رغبتها في السفر معه‪ ،‬على البقاء من‬

‫أجل االعتناء بفاطمة بنت المثنى‪ .‬ال يكتفي السارد بمكة سببًا للجفوة‬ ‫بين مريم وابن عربي‪ ،‬بل يتهم مريم بسحب حبها «مريم تسترد حبها‬ ‫وترحل بعيدًا»‪ ،‬ويوسّ ع دائرة اإلسقاط لتشمل القدر «هكذا شاء الله»‪.‬‬

‫ال مناص من دور المشيئة اإللهية في الحدث‪ ،‬لكن السارد نفسه هو‬ ‫ُخرجُ مريم من الخطاب السردي ليضعها وراء ظهره‪ .‬فبعد حديثه‬ ‫من ي ِ‬

‫عن الوداع الخالي من القبالت‪ ،‬وغياب ناقة مريم وراء خط األفق‪،‬‬

‫يقفز السارد إلى المستقبل ليروي أنها ماتت بعد ست عشرة سنة‬ ‫في بجاية‪« :‬استأنفت الناقة سيرها بعد قليل وغابت في األفق‪ .‬ولم‬ ‫أ َر مريم بعد ذلك إال في المنام‪ .‬عادت إلى بجاية وأقامت مع أهلها‬ ‫ست عشرة سنة ثم ماتت وجاءني من يعزيني بها بعد أشهر طويلة»‪.‬‬ ‫َ‬ ‫مستقبل الخطاب السردي من‬ ‫بهذا االستباق‪ ،‬ي ُْفرغ السارد‬

‫مريم ومن موتها باستدعاء خروجها من الحياة إلى حاضر السرد‬ ‫ليتزامنَ ويتجاو َر في الخطاب مع خروجها من حياته كذات مسرودة‪.‬‬

‫بكلمات أخرى‪ ،‬تتعرض مريم للكنس إلى خارج الخطاب ليخلو وجه‬ ‫ُ‬ ‫األفق مريم‪ ،‬وي ُْخرجُ ها‬ ‫السارد لنظام بنت زاهر والحديث عنها‪ .‬يغيّب‬

‫السارد عبر االستباق من الخطاب في لحظات‪ .‬ال يستمر السارد إلى أن‬

‫يصل في سرده إلى موتها في موقعه في التسلل الزمني‪/‬الكرونولوجي‬

‫لألحداث‪ ،‬بل ينتزعه من سياقه ويجره إلى الحاضر ليروي عنه في‬ ‫سطور قليلة‪ ،‬لتصبح مريم بعد ذلك نسيًا منسيًّا إال ً‬ ‫طيفا في الحلم‪:‬‬ ‫«ولم أ َر مريم بعد ذلك إلاّ في المنام»‪.‬‬

‫قبل زواجهما‪ ،‬كان السارد يهيئ القارئ لحياة غنية أدبيًّا وعلميًّا‬

‫بين فردين متوائمين بوصفه مريم على لسان فاطمة بنت المثنى‬ ‫بأنها «أديبة خلوقة عالمة أريبة‪ً ،‬‬ ‫وأيضا جميلة»‪ .‬بيد أن الحياة الغنية‬ ‫ً‬ ‫إطالقا‪ .‬فما‬ ‫المثرية أدبيًّا وعلميًّا للطرفين على السواء لم تتحقق‬ ‫يتحقق بالفعل هو غياب مريم األديبة والعالمة األريبة‪ ،‬وحضور‬

‫بين تلفظات الذات الساردة وتصرفات وابن عربي وأفعاله في‬

‫مريم‪ ،‬المرأة الجميلة والمهملة التي تسافر لمسافة طويلة بصحبة‬

‫بعض ما يحدث في الداخل‪ .‬في هذا السياق أرى أن قصة زواج ابن‬

‫بموت ابنتها في الطريق؛ أو تحضر جسدًا يتغنى زوجها بجماله‪:‬‬

‫الداخل‪ ،‬إضافة إلى لجوء ابن عربي في الخارج إلى تبرير وتمويه‬ ‫عربي من مريم بنت عبدون وانهيار زواجهما مثال مهمّ ومناسب‬

‫للبرهنة على تأثير العالقة بين الخارج والداخل في السلوك السردي‬ ‫لألنا الساردة‪ ،‬وبالتالي في تشكل صورة ابن عربي كذات مسرودة‪.‬‬ ‫الخروج من الخطاب السردي‬

‫بعد قرار مريم بنت عبدون الرجوع إلى بجاية (المغرب) من مكة‪،‬‬ ‫يُعلق السارد أن الحب أو بعضه ال ينمو في أي بالد‪ ،‬محملاً بالتالي‬

‫مكة المسؤولية عن افتراقهما «وهكذا أرادت لنا مكة»‪ ،‬من دون أن‬ ‫ً‬ ‫لحظة ليتساءل‪ ،‬مثلاً ‪ ،‬عن دور موت ابنتها في فتور‬ ‫يفكر في التوقف‬

‫العالقة بينهما‪ ،‬وعن دور عوامل أخرى مثل إدراك مريم أنها أقل‬

‫أهمية في حياة زوجها من أوتاده‪ ،‬زوجها الذي كان ابتهاجه بحملها‬

‫ابنتها وعبد سابق وآخر جديد إلى زوجها البعيد في مكة‪ ،‬وتفجع‬

‫«أحببت مريم‪ .‬ذقنها الحاد وعيناها الوثابتان وجسدها المائل‬ ‫لالمتالء‪ّ ،‬‬ ‫وكفاها السمينتان اللتان كانت تخجل منهما»‪« ،‬ما أجمل‬

‫جسد مريم وما أنعمه وأصفاه‪...‬جسمها ريّان بسمنة خفيفة»‪ .‬وبعد‬ ‫ْال ِتمام شملهما في مكة‪ ،‬وفي أول خلوة بينهما بعد انتهاء العزاء‬ ‫بموت زينب‪ ،‬يكون جسم مريم ً‬ ‫هدفا لعيونه المتفحصة‪« :‬خلوت‬

‫بها أخي ًرا فإذا بها تغيرت علي‪ .‬زادت شحومها وكأنها لم تسافر‬

‫ولم تثكل»‪ .‬والكالم عن مريم خاتمة الكالم في هذه المقاربة التي‬ ‫ربما أصابت بعض النجاح في تحليل التقنية السردية في «موت‬

‫صغير» واستكشاف طبيعة ابن عربي ساردًا‪ ،‬وتبيان خصائص أسلوبه‬

‫السردي‪ ،‬وتأثير عالقته بالذات المسرودة في تشكيل صورة األخير‪،‬‬ ‫وتحديد المالمح الفنية لسرده‪.‬‬

‫‪137‬‬


‫كتب‬

‫«بذلة الغوص والفراشة»‬ ‫جون دومينيك بوبي‪..‬‬ ‫متخيلة‬ ‫ذاكرة منكوبة ترتحل في جغرافيات‬ ‫ّ‬ ‫هيثم حسين‬

‫سوري مقيم في بريطانيا‬ ‫وروائي‬ ‫كاتب‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬

‫ّ‬ ‫يركز الفرنسي جون دومينيك بوبي في روايته «بذلة‬

‫الغوص والفراشة» على قوّة اإلرادة الكامنة لدى اإلنسان‪ ،‬ودورها‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫غارقا فيها في رحلة حياته‪،‬‬ ‫تخطي المآسي التي يجد نفسه‬ ‫في‬ ‫ّ‬ ‫والمستجدات مهما‬ ‫وضرورة البحث عن سبل للتأقلم مع الوقائع‬

‫‪138‬‬

‫كانت قاسية أو مضنية‪ ،‬وذلك في مسعى لعقد نوع من المصالح‬

‫ّ‬ ‫ً‬ ‫التندب‬ ‫بعيدا من‬ ‫مع الذات والعالم‪ ،‬وتقبّل األمور كما هي‬ ‫ّ‬ ‫يستهل دومينيك روايته (منشورات‬ ‫والتحسر والتباكي والرثاء‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫مسكيلياني‪ ،‬تونس‪ ،‬ترجمة شوقي برنوصي‪2017 ،‬م) بتظهيره‬

‫مشاعره وأحاسيسه بوجع يداهمه‪ ،‬ورأسه مثل السندان‪،‬‬ ‫وجسمه كما لو أن بذلة غوص تقيده بالكامل‪ .‬ينظر إلى غرفته‬ ‫حين يدخلها ضوء النهار‪ ،‬يتمعن في صور أحبائه‪ ،‬وما يحيط به‬

‫من ملصقات تشير إلى أحداث وتواريخ لها صدى في ذاكرته‪.‬‬ ‫يقول دومينيك الذي كان رئيس تحرير مجلة نسائية في‬ ‫باريس‪ :‬إنه لم يحتج للتفكير طويلاً ليعرف أين هو‪ ،‬ويتذ ّكر‬

‫أنّ حياته قد انقلبت رأسً ا على عقب قبل شهور حين تع ّرض‬

‫يطير في الفضاء أو عبر الزمن‪ ،‬أن يرتحل إلى أرض النار أو فناء‬

‫قصر الملك ميداس‪ .‬يمكن أن يزور المرأة التي يحب‪ ،‬ينزلق‬ ‫إلى السرير بجانبها ويداعب وجهها وهي نائمة‪ .‬بإمكانه بناء‬

‫لحادث سيارة‪ ،‬وقبل ذلك لم يكن قد سمع بجذع الدماغ‪،‬‬

‫قصور في إسبانيا‪ ،‬واالستيالء على الصوف الذهبي‪ ،‬واكتشاف‬

‫الداخلي‪ ،‬حين وضعتها أزمة قلبية حادة خارج‬ ‫اإلنسان‬ ‫ّ‬

‫يقول‪ :‬إن عليه أن يؤلف داخل رأسه الصفحات األولى‬ ‫لرحلته المتخيلة الكتابية الخالية من الحركة؛ كي يكون جاه ًزا‬

‫وحينها اكتشف ما يصفها بالقطعة المحورية لحاسوب‬

‫الخدمة‪ .‬أصيب الكاتب بمتالزمة المنحبس‪ ،‬التي تكون عبارة‬ ‫عن حالة يكون فيها المريض برغم وعيه التام مشلولاً من‬ ‫كل عضالت جسمه ما عدا عضلة العينين‪ .‬يشعر أنه بمرور‬ ‫ً‬ ‫ضيقا‪ ،‬ويمكن للروح أن‬ ‫الشهور أصبحت بذلة الغوص أقل‬

‫ّ‬ ‫تتسكع مثل فراشة‪ .‬يقول‪ :‬إن هنالك الكثير ليفعله‪ .‬يمكن أن‬ ‫العددان ‪ 490 - 489‬شوال ‪ -‬ذو القعدة ‪1438‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬أغسطس ‪2017‬م‬

‫أطالنطس‪ ،‬وتحقيق أحالم الطفل ومنامات الكهل‪.‬‬

‫عندما يأتي مبعوث ناشره ليأخذها عن طريق اإلمالء‪ .‬يذكر أنه‬

‫يعجن كل جملة عشر مرات‪ ،‬يحذف ويضيف‪ ،‬يحفظ نصه‬ ‫عن ظهر قلب فقرة بعد أخرى‪ .‬يحكي عن عزلته ووحشته‪،‬‬

‫وصدمته حين تمّ حمله على كرسي نقال‪ ،‬واكتشافه عدم‬


‫السابقة‪ ،‬ينطلق في عالم األحالم التي يبقي نفسه من خاللها‬

‫قدرته على الحركة والكالم‪ ،‬وأن ال أحد رسم له صورة تامة‬ ‫لحالته‪ ،‬ومن خالل األقاويل الملتقطة نحت لنفسه يقي ًنا‬

‫على صلة باآلمال التي يعقدها عليها لتسعفه في محنته‬

‫روحه الجامحة هيأت ألف مشروع أدبي وحياتي‪ .‬يلفت إلى أن‬

‫دي مونت كريستو» أللكسندر دوما‪ ،‬وكانت تلك الشخصية‬

‫بأنه لن يلبث أن يعود سريعً ا للحركة والكالم‪ ،‬ويؤكد أن‬ ‫صدمته تلك شفته من أوهامه بالتماثل القريب للشفاء‪ .‬صارت‬

‫األمور أكثر وضوحً ا‪ .‬كف عن بناء المشاريع الوهمية‪ ،‬واستطاع‬

‫أن يحرر األصدقاء من صمتهم‪ ،‬وكانوا قد بنوا من حوله سدًّ ا‬

‫عاطفيًّا منذ وقوع الحادث‪.‬‬ ‫اختراع أبجدية‬

‫يخترع بوبي أبجديته الخاصة به‪ ،‬يسرد أنه حين يبقى‬

‫وحيدً ا ويجن الليل‪ ،‬وال يبقى من أثر للحياة سوى النقطة‬

‫الصغيرة الحمراء المنبعثة من التلفزيون المغلق‪ ،‬وهي إشارة‬ ‫ً‬ ‫عشقا‬ ‫على سريان الكهرباء فيه‪ ،‬يمتلئ‬

‫المريرة‪ .‬يتماهى مع شخصية الجد نوارتييه في رواية «الكونت‬ ‫الحالة الوحيدة التي ظهرت في األدب تعاني متالزمة المنحبس‪.‬‬

‫ويجد أنه ما إن تخلص وعيه من العتمة الحالكة التي ألقى به‬

‫الحادث فيها‪ ،‬حتى راح يفكر بالجد نوارتييه‪ ،‬ومن ثمّ بدأ في‬ ‫إعادة قراءة الرواية مرة أخرى في خياله‪ ،‬ليجد نفسه في قلب‬ ‫ً‬ ‫اعتباطا‪ ،‬بل كان‬ ‫الكتاب‪ ،‬ويذكر أنه لم يعد قراءة تلك الرواية‬ ‫لديه مشروع‪ ،‬يصفه بمحطم للتماثيل‪ ،‬يتمثل في إعادة كتابة‬

‫الرواية بطريقة معاصرة‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫يعيد رسم صورة مدينة باريس في خياله‪ ،‬كأنه يعيد‬ ‫اكتشافها من جديد وهو على سرير المرض‪ ،‬يقول ّإنه يبتعد‬ ‫ببطء‪ ،‬لكن بثقة‪ ،‬مثل بحّ ار يتابع من‬

‫عرض البحر اختفاء الساحل الذي انطلق‬

‫لحروف أبجديته‪ .‬حروف صامتة وصائتة‬

‫يحس بماضيه يتالشى‪ ،‬ال تزال حياته‬ ‫منه‪،‬‬ ‫ّ‬

‫تتراقص ألجله بإيقاعات مميزة‪ .‬أبجديته‬ ‫ّ‬ ‫ليتمكن من التواصل مع‬ ‫الخاصة كانت‬

‫القديمة موقدة في داخله‪ ،‬ولكنها بصدد‬ ‫التحول شي ًئا فشي ًئا إلى رماد للذكرى‪.‬‬

‫الخارجي‪ ،‬يصف األسلوب بأنه كان‬ ‫العالم‬ ‫ّ‬ ‫بدائيًّا جدًّ ا‪ ،‬لك ّنه كان مجديًا وفعّ الاً ‪ .‬إذ ُتنثرَ‬

‫ويعترف بأسى ّأنه منذ أن استوطن بذلة‬ ‫غوصه‪ ،‬قام برحلتين خاطفتين إلى‬ ‫باريس‪ ،‬ويصف نظرته المختلفة ّ‬ ‫كل م ّرة‬

‫الحروف عليه بالترتيب إلى أن يستوقف‬ ‫محدّ ثه برمشة عين واحدة للكلمة التي‬

‫يوجب تسجيلها –عينه اليسرى هي‬ ‫ّ‬ ‫التحكم به من‬ ‫العضو الوحيد الذي يمكنه‬

‫وكيف ّأنها بدت كما هي‪ ،‬لك ّنه هو الذي‬

‫جسمه– ثم يُك َّرر األمر نفسه لتحصيل األحرف التالية‪ .‬وبعد‬

‫تغيّر وأصبح خارجها‪ .‬يشعر بالفراشات‬ ‫ّ‬ ‫تحلق من حوله‪ ،‬يشعر بأنّ روحه فراشة ّ‬ ‫تتنقل من زهرة إلى‬

‫النظرية تتمثل في طريقة االستعمال والدليل التفسيري‪ .‬يشير‬ ‫ّ‬ ‫الشاقة‪ ،‬إذ‬ ‫إلى الصعوبات التي كانت تكتنف عملية التدوين‬

‫قدر ما يبقيه على قيد األمل‪ ،‬يتحدّ ى الصمم الذي يجتاح أذنه‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫المتبقية لديه على السمع‪ ،‬يقول‪:‬‬ ‫ويقوّي تلك الطاقة البسيطة‬

‫جهد يتحصلون على كلمة‪ ،‬ثم مقاطع جمل واضحة‪ .‬كانت‬

‫كان يرتبك بعض في حين يحسن آخرون اإلدراك‪ ،‬ولم يكونوا‬

‫جميعً ا متساوين أمام شيفرته الخاصة‪ ،‬طريقته بترجمة‬

‫ً‬ ‫أشخاصا كان‬ ‫أفكاره‪ .‬يسوح في جغرافيا متخيلة‪ ،‬يلتقي‬

‫يعرفهم‪ ،‬يحاورهم في خياالته‪ ،‬يتنقل من مكان آلخر بروحه‬ ‫المتماهية مع فراشة حرة في حركتها وحريتها‪ ،‬يرى انعكاس‬

‫صورته في المرايا‪ ،‬يكتئب وينتكب ثمّ يواسي نفسه‪ ،‬يتعامل‬ ‫ً‬ ‫أحيانا مع شكله الجديد وحالته البائسة بنوع من السخرية‪،‬‬

‫يقول‪ :‬إنه شعَ َر بغبطة غريبة مثيرة للتعجّ ب‪ ،‬لم يكن منفيًّا‬ ‫ومشلولاً وأبكم ونصف أصمّ ومحرومً ا من الملذات كافة‪،‬‬ ‫ومختص ًرا في كيان قنديل بحر فحسب‪ ،‬بل كان عالوة على‬ ‫ذلك كله بشعً ا‪.‬‬ ‫يصف ذاكرته بالمنكوبة‪ ،‬يستعيد كثي ًرا من المشاهد‬

‫والتفاصيل والذكريات‪ ،‬يحاول إحياءها بخياله ومواساة نفسه‬

‫من خاللها‪ ،‬أو إبقاء نفسه على صلة بعالمه الماضي وحياته‬

‫جون دومينيك بوبي‬

‫أخرى‪ ،‬يكون الماضي بالنسبة إليه حقل زهور رحب ينهل منه‬

‫ً‬ ‫أحيانا في المشفى‪،‬‬ ‫إنه بعيدً ا من الجلبة التي كانت تحيط به‬

‫وفي الصمت الذي استعاد كان يمكنه االستماع إلى الفراشات‬

‫الطائرة عبر رأسه‪ .‬كان األمر يتطلب منه كثي ًرا من االنتباه‬

‫والتأمّ ل؛ ألنّ خفقات أجنحتها تكاد ال تدرك‪ ،‬وأنه كان يكفي‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ليغطيها‪ّ ،‬‬ ‫تحسن‬ ‫وأنه ألمر مذهل ّأنه رغم عدم‬ ‫تنفس قويّ‬ ‫ّ‬

‫سمعه كان يسمعها أفضل وأفضل‪.‬‬

‫سينمائي‬ ‫يختم دومينيك روايته؛ التي تحوّلت إلى فلم‬ ‫ّ‬ ‫من إخراج جوليان شنايبل‪ ،‬بتوصيفه حالته وهو يشرد في‬

‫تأمّ ل مناظر متخيّلة مستعادة ويغرق في التفكير‪ ،‬يتساءل‪:‬‬ ‫«هل هناك في هذا الفضاء مفاتيح ألفتح بذلة غوصي؟ ّ‬ ‫خط‬ ‫ّ‬ ‫محطة وصول؟ عملة قوية بما يكفي ألشتري‬ ‫مترو دون‬ ‫ح ّريتي من جديد؟ يجب أن أبحث في مكان آخر‪ .‬سأذهب‬ ‫ً‬ ‫إيذانا بانتهاء رحلته الحياتيّة وتح ّرر روحه‬ ‫إليه»‪ .‬ويكون ذلك‬ ‫من قيود جسده‪.‬‬

‫‪139‬‬


‫كتب‬

‫مقهى صغير ألرامل ماركس‪..‬‬

‫محنة الشعر‪ ..‬أم محنة‬ ‫األيديولوجيا؟‬ ‫محمود قرني‬

‫‪140‬‬

‫شاعر وكاتب مصري‬

‫بقدر ما أنتجت الرمزية من التباسات‪،‬‬ ‫َ‬ ‫خفض‬ ‫فإنها أنتجت في المقابل نظامً ا للعالمات‬ ‫من سطوع الواقعية وغباء المحاربين باسمها‪.‬‬ ‫وفي الديوان الضخم (‪ 464‬صفحة) «مقهى صغير‬ ‫ألرامل ماركس» للشاعر أشرف يوسف الصادر‬ ‫بالتعاون بين داري العين وشرقيات‪ ،‬يبدو أمر‬ ‫ً‬ ‫تعقيدا مما تصوره ماالرميه صاحب‬ ‫الرمزية أكثر‬ ‫أبرز بياناتها‪ .‬فيوسف الذي استفاد تقريبًا من‬ ‫المذاهب الشعرية كافة في ديوانه يبدو على وعي‬ ‫تام بمرجعية تلك الهلوسات التي سارت شعرية‬ ‫الديوان تحت وطأتها‪ ،‬فتشكلت على هيئة زمن‬ ‫دائري قوامه اللغة الهشة والمناخات الغرائبية‪،‬‬ ‫لكن هذا الزمن الدائري الذي يبدأ منه األلم وال‬ ‫ينتهي ال يسعى لعالج مرضاه‪ ،‬بل يستقصي‬ ‫طاقات لوعتهم وبقايا ظاللهم التي تركوها في‬ ‫أماكن غارقة في عتمتها السحرية‪.‬‬ ‫وتبدو رسالة الشاعر هنا بين أعلى التعبيرات الكاشفة للكثير من زيف‬

‫الديوان اسمه‪ ،‬تجوهر حول صورة مفارقة عندما ربطه الشاعر بأنه‬

‫كواحد من عشرات الحقائق العارية‪ .‬وقد شكلت شعرية الديوان أكبر‬

‫كامل من الحروب العقائدية‪ ،‬ومع ذلك لم تتجاوز تعبيرات تلك‬

‫لحظته‪ .‬فالعصر الذي بدا متصالحً ا مع قضاياه الكلية بدا في الديوان‬ ‫افتضاح ممكن للمأزق اإلنساني عبر تلك التمثيالت التي استغرقها‬

‫ضمير المؤنث الذي غلب على معظم قصائد الديوان‪ .‬وربما كانت‬ ‫درجات السخرية المتفاوتة من األيديولوجيا واحدة من أبرز تلك‬ ‫التعبيرات‪ .‬فالمقهى الصغير ذو المالمح االعتيادية‪ ،‬الذي حمل‬ ‫العددان ‪ 490 - 489‬شوال ‪ -‬ذو القعدة ‪1438‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬أغسطس ‪2017‬م‬

‫مقهى «ألرامل ماركس» على ما تحمله التسمية من انتهاك لعصر‬ ‫الحروب كونها أحد تمثيالت انهيار اليقين‪ .‬المقهى هنا لم يعد مالئمًا‬

‫لالعتراف بالحب ص‪ ،382‬كما أنه يمثل «ذلك الركن المعتم» الذي‬ ‫يبدو الذهاب إليه قدرًا مقدورًا ص ‪ ،232‬وفي موضع أكثر جال ًء يقول‬

‫أشرف يوسف‪« :‬كيف أقتل اشتياقي الحار‪ /‬لصوته في مقهى صغير‬


‫يدعى أرامل ماركس‪ /‬ولست مهتمة على اإلطالق بهذا الماركس وال‬ ‫بأرامله» وسيتبدى ذلك ً‬ ‫أيضا في قصيدته «امرأة يهودية» التي يتعامل‬

‫فيها بخفة مماثلة مع ليون تروتسكي ص ‪.199‬‬ ‫مضامين أكثر سوداوية‬

‫لذلك ليس غريبًا أن يكون المفتتح الفاتن للديوان نعيًا لـ«مؤلف‬ ‫َ‬ ‫«تعال يا مؤلف الكتب‪/‬‬ ‫الكتب» الذي يخاطبه الشاعر ممتل ًئا باالزدراء‪:‬‬

‫أيها الرجل المغرور‪ /‬سآخذك معي في صياعة منتصف الليل‪/‬‬

‫وسأسليك بتلك الخواطر التي يقال‪ :‬إنها حياتي»‪ .‬إن انعدام الثقة‬ ‫في مؤلف الكتب هنا تجد معادالتها في مشاهد عدة تعكسها معرفية‬

‫تناثرت في أرجاء الديوان بين أسماء تمثل نو ًعا من الغوث بالنسبة‬

‫للشاعر مثل بول شاؤول‪ ،‬ومحمود درويش‪ ،‬وإدوارد سعيد‪ ،‬جان‬

‫دمو‪ ،‬وغيرهم‪ ،‬هذا من ناحية‪ .‬ومن ناحية أخرى بدت مضامين‬

‫الشاعر أشرف يوسف‬

‫السرد الشعري أكثر سوداوية من أن تحتويها لغة‪ ،‬فتحولت تلك‬ ‫َ‬ ‫للعالم المعيش ولتعبيراته‬ ‫االستغاثات إلى نوع من الرفض المطرد‬

‫القدسية بالمعنى الصوفي‪ .‬في الوقت نفسه بدت األجزاء التي‬

‫بشكل ظاهر في تلك التناصات المستخفة غالبًا‪ ،‬بنصوص تاريخية‬

‫األول من الديوان وبعض القصائد األخرى مثل‪« :‬قري‪ ،‬حلم بداخل‬

‫الثقافية التي تبدت في رفض الكثير من مقوالته‪ ،‬وتبرز تلك التجليات‬ ‫مثل التوراة واإلنجيل وبعض المأثورات المنقولة عن فقهاء و ُو َّعاظ‬ ‫و ُكتاب وعوامّ ‪ ،‬وسنرى ذلك في المفارقة التي يرصدها الشاعر ص ‪290‬‬ ‫عندما يقول‪ :‬ال زال لديّ رأس يفكر ‪ /‬وقلب لشاعرة من بالد فارس‬

‫كأنه خريطة ‪ /‬ويؤمن على طريقته أن لويز فيديليو عاهرة ‪ /‬بخمسة‬ ‫فرنكات ولديها طريق واحدة لكسب المال ‪ /‬باإلكثار من الحديث عن‬

‫األخالق في الفن»‪.‬‬

‫خلصت إلى الشعرية المحضة أكثر من فاتنة‪ ،‬يتبدى ذلك في القسم‬ ‫فلم‪ ،‬النشيد الـأول والنشيد الثاني»‪.‬‬ ‫رمزية النص الجديد‬

‫وال شك أن الشعرية الطافرة‪ ،‬الغنية والمكتنزة في ديوان‬

‫«مقهى صغير ألرامل ماركس» في تجاوزاتها وقفزاتها خارج األسوار‬

‫الواطئة التي ارتضتها لنفسها قصيدة النثر تبدو تعبي ًرا عن قيمتين‬

‫تتراوح شعرية ديوان أشرف يوسف بين السردية المحضة في‬

‫رئيستي ِْن لدى الشاعر أشرف يوسف‪ .‬األولى‪ :‬إدراكه أن رمزية النص‬

‫واألبنية ال سيما في «أتون وردة ألنثاه االفتراضية»‪ ،‬و«وجوه يناير»‬ ‫وقصائد أخرى‪ ،‬فبدت جزءًا فاعلاً في متواليته الشعرية‪ ،‬كذلك‬

‫االستفادة من معظم القيم التاريخية على امتداد التراث اإلنساني‪،‬‬ ‫من هنا بدا الديوان مستفيدًا من غالبية المذاهب الشعرية دون أن‬

‫الديوان ال سيما في النشيد الثاني وفي قصيدته أساطير التي يقول‬

‫ثانيًا‪ :‬تبدو قناعات أشرف يوسف بوظيفة الفن مرتبطة بشكل‬

‫قصائد ليست قليلة حتى بدا بعضها كأعمال قصصية رفيعة السرد‬

‫تبدت تلك المراوحات في الغنائية التي غلفت أجزاء ليست قليلة من‬

‫في مطلعها‪« :‬يا جبلنا العظيم أنا إيزيس العاشقة‪ ،‬جئت ألمسح‬ ‫رأسي في ترابك وأشفي» ثم في قصيدة الفتى حيث التناص التوراتي‬

‫«يا ابنة جبل األطياب‪ ،‬ياحبيبتي‪ ،‬يا جميلة وزنجية‪ ..‬كوني تقية»‪،‬‬

‫وكذلك أنسنة التشيؤ في قصيدته «كتالوج لغسالة كهربائية»‪ ،‬ثم‬

‫االجتراءات اللغوية الفريدة في قصائد عدة أبرزها في قصيدة «نبية‬ ‫الليل» ص ‪ ،178‬وهي تمثل واحدة من مراتب التماهي في مدارج‬

‫شكلت شعرية الديوان أكبر افتضاح ممكن‬ ‫للمأزق اإلنساني عبر تلك التمثيالت التي‬ ‫استغرقها ضمير المؤنث الذي غلب على‬ ‫معظم القصائد‬

‫الجديد ال تعني تحويل الكائنات الشعرية إلى أوثان‪ ،‬بل تعني‬

‫يعني ذلك فقدانه للرؤية‪.‬‬

‫ما بوظيفته االجتماعية رغم المناخات اإلنسانية المضطربة التي‬ ‫َّ‬ ‫تتخل تلك الشعرية عن‬ ‫تعكسها حركة السرد الشعري؛ لذلك لم‬

‫قارئها‪ ،‬أعني أنها لم تمتهن حواسّ ه‪ ،‬من هنا بدا وعي الشاعر متجاو ًزا‬

‫للكثير من التصورات المجانية التي أشاعها شعراء يؤمنون بمذهب‬

‫الفن للفن‪ .‬وبقي القول‪ :‬إن تلك المجانية التي بدت عليها استطرادات‬ ‫التخييل وكثافات الصور الشعرية في القصائد التي مالت إلى النثرية‬ ‫ً‬ ‫إخالصا للرمزية في صيغتيها الغربية والشرقية‪ ،‬ولعل‬ ‫المحضة أكثر‬ ‫نموذجها البارز لدينا يمثله نص الشاعر اللبناني وديع سعادة لكنها‬

‫شعرية‪ ،‬على أية حال‪ ،‬لم تكن ناجزة لخصائص مؤثرة في مسارات‬ ‫قصيدة النثر الرتباطها بحالة تطهرية أقرب إلى الالهوتية التي عرفتها‬

‫لغة النثر الفرانكفوني في القرن الثامن عشر‪ ،‬وربما لذلك تجوهرت‬ ‫شعرية هذا الديوان المهمّ في مواقع بعيدة من تلك القصائد‪.‬‬

‫‪141‬‬


‫نصوص‬

‫طرد بريدي إلى أقرب‬ ‫مكتب أعياد‬ ‫أشجان هندي‬

‫شاعرة سعودية‬

‫مرارة!‬

‫أغمس أصابعي‬ ‫علي أن‬ ‫َ‬ ‫كم مرَّة ّ‬ ‫النسيان؛‬ ‫ريق‬ ‫في مرار ِة ِ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫الزمن؟!‬ ‫ألقلب صفحة‬ ‫ِ‬ ‫علي أن أغمسها‬ ‫وكم مرة ّ‬ ‫جوف الجرأةِ؛‬ ‫في مرار ِة‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫الطاولة‬ ‫ألقلب‬ ‫رأس الذكريات؟!‬ ‫على ِ‬

‫‪142‬‬

‫ضربة شمس‬

‫ُ‬ ‫الحارقة‪..‬‬ ‫الشمس‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫المرور؛‬ ‫تتوقف عند إشار ِة‬ ‫ال‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬ ‫والحياة باردة!‬

‫ُ‬ ‫الصاخبة‪..‬‬ ‫والمشاع ُر‬ ‫َ‬ ‫ٍّ‬ ‫ُ‬ ‫جليدي؛‬ ‫خوف‬ ‫خلف‬ ‫تختبئ‬ ‫ٍ‬ ‫شمس‬ ‫هربًا من ضربةِ‬ ‫ٍ‬ ‫عاريةٍ من الصحّ ة!‬

‫لندن ‪2014‬م‬

‫لندن فبراير ‪2014‬م‬

‫اسم على غير ُم ّ‬ ‫سمى‬

‫ُ‬ ‫صانع األقنعة‬

‫أسمي ُت َ‬ ‫ك الحلوَ‪،‬‬ ‫ونقع ُت َ‬ ‫ك في الشهدِ مرارًا؛‬ ‫تغيَّر اسمُ َ‬ ‫ك‪،‬‬

‫وطعمُ مرارت َ‬ ‫ِك‬

‫لمّ ا يزل يجرحُ حلقي!‬ ‫لندن أغسطس ‪2016‬م‬

‫ّ‬ ‫بريدي‬ ‫َط ْر ٌد‬

‫ُ‬ ‫سر ُ‬ ‫الزينة في زين ِتها‪،‬‬ ‫ف‬ ‫حين ُت ِ‬ ‫ُ‬ ‫وتصبغ األشجا ُر وجهَ ها‬ ‫األبيض‪،‬‬ ‫بالثلج‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬

‫وشفاههَ ا بحُ مر ِة َ‬ ‫َ‬ ‫الكرَز؛‬ ‫أُ ّ‬ ‫غل ُ‬ ‫بحرير ورديّ ‪،‬‬ ‫ف قلبي‬ ‫ٍ‬ ‫وأُ ُ‬ ‫رسل ُه‬ ‫دونَ‬ ‫طابع بريديّ‬ ‫ٍ‬

‫مكتب أعياد‪.‬‬ ‫أقرب‬ ‫إلى‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫جدة ‪ 1‬مايو ‪2011‬م‬ ‫العددان ‪ 490 - 489‬شوال ‪ -‬ذو القعدة ‪1438‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬أغسطس ‪2017‬م‬

‫تأملت طويلاً‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫صانع األقنعةِ ؛‬ ‫وجوهنا البر َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ّاقة الملوّنة‬ ‫يصنع‬ ‫وهو‬ ‫لاً‬ ‫ُ‬ ‫تأملت ُه طوي ‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫تساءلت كثيرًا‪:‬‬ ‫و‬

‫لو َ‬ ‫ُ‬ ‫صانع األقنعةِ ؛‬ ‫مات‬ ‫ُ‬ ‫سنعرف بعضنا البعض؟!‬ ‫كيف‬ ‫مارس ‪2017‬م‬

‫ُخصوصيّة‬

‫باب الحجرة األبويّةِ‬ ‫عند ِ‬ ‫النقوش الباليةِ ‪،‬‬ ‫ذات‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫والجدران العاليةِ ‪،‬‬ ‫ِ‬

‫والساعةِ المُ ّ‬ ‫ذهبةِ التي‬

‫تسي ُر عقاربُها برتابة أبديّة‬

‫عكس الوقت؛‬ ‫َ‬ ‫ف ّت ْ‬ ‫شت في جيوب الصمت؛‬ ‫عن اللحظةِ التي‬


‫تحوّل فيها المفتاحُ‬ ‫ٍّ‬ ‫فوالذي‬ ‫قفل‬ ‫إلى ٍ‬

‫بنكهةِ الخصوصيّة!‬ ‫لندن ‪2014‬م‬

‫جينات‬

‫ُ‬ ‫القصيدة التي ُتغطي وجهَ ها‪،‬‬ ‫ويتصب ُ‬ ‫ّب َعر َُقها‬

‫خجل‬

‫ُ‬ ‫القصيدة التي‬ ‫ُتغ ّي ُر َ‬ ‫لونها‪،‬‬ ‫ومِ شي َتها‪:‬‬

‫تحسبًا‬ ‫ُّ‬ ‫ُ‬ ‫القصيدة التي‬ ‫أنفاسها‪،‬‬ ‫َتعُ ُّد‬ ‫َ‬

‫ّ‬ ‫وتتلف ُ‬ ‫ت‬ ‫ً‬ ‫خوفا؛‬

‫ال يَضمُّ ها ديوان‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫توارث جيناتها ذاكرة!‬ ‫وال َت‬

‫لندن أغسطس ‪2016‬م‬

‫س ـ ـ ـ ـ ـ ٌّر على الجمر!‬ ‫ِ‬

‫فلمّ ا تدانى الغيمُ دندنَ وارتقى‪ّ ،‬‬ ‫البرق من راحةِ َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫الق ْط ِر‬ ‫فسال‬ ‫تجلى؛‬ ‫ٌ‬ ‫وإني ُ‬ ‫َ‬ ‫عليلة؛ فقال‪ّ :‬‬ ‫مثل َ‬ ‫ُ‬ ‫ذلك لو يدري‬ ‫فقلت‪:‬‬ ‫ومال على نحري؛‬ ‫الضلوع منازلاً ‪ ،‬وأَ َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫سكنَ‬ ‫آهات المُ ح ّبينَ في صدري‪.‬‬ ‫العشق الختا َر‬ ‫بي‬ ‫ِ‬ ‫َ‬

‫ُ‬ ‫فقلت له‪ :‬عشقي‪ ،‬ورُوحي‪ ،‬وسيدي‪ ،‬وقيدي الذي يسري بأوجاعهِ أسري‪،‬‬

‫وسرّي‪ ،‬وبوحُ الور ِد إن جاء باكيًا؛ يُخب ُّئ لونَ‬ ‫البوح في ريشةِ ِّ‬ ‫الس ِر‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫والضحى‪ ،‬أنايَ ‪َّ ،‬‬ ‫ُّ‬ ‫وأناتي‪ ،‬وذاتي‪ ،‬وال غيري‪:‬‬ ‫الشمس‪ ،‬والعصرُ‪،‬‬ ‫وفجري‪ ،‬ونو ُر‬ ‫ِ‬

‫الساكنات ُّ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫العطر‬ ‫الغريقة في‬ ‫الصباحات‬ ‫فدتك‬ ‫تلط ًفا‪،‬‬ ‫فدتك الليالي‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫عشق َ‬ ‫ك المخبوءَ في ِّ‬ ‫َف َد ْ‬ ‫هر‬ ‫خد زهر ٍة‬ ‫ت‬ ‫حقول الهوى الغافي على لوعةِ ال َّز ِ‬ ‫فدي ُت َ‬ ‫ُ‬ ‫صبر‬ ‫للصبر من‬ ‫اآلهات‬ ‫أبقت‬ ‫ك‪ :‬ما أبقى النوى غير دمعةٍ ‪ ،‬وما‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫خلف الضوءِ خب ُ‬ ‫دونك ذا جمري‪.‬‬ ‫دنياك‬ ‫ّأت نارنا؛ فإن أظلمت‬ ‫لنرحل‪:‬‬ ‫جدة ‪2015‬م‬

‫‪143‬‬


‫مخطوطات‬

‫‪144‬‬

‫مخطوط‪ :‬نزهة المشتاق في اختراق اآلفاق‪ ،‬أو‪ :‬روض الفرج ونزهة المهج‪.‬‬ ‫المؤلف الجغرافي المغربي‪ :‬محمد بن محمد اإلدريسي الشريف (ت ‪ 560‬هـ)‪.‬‬

‫العددان ‪ 490 - 489‬شوال ‪ -‬ذو القعدة ‪1438‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬أغسطس ‪2017‬م‬


‫‪145‬‬

‫نسخة من القرن الثالث عشر الهجري‪ .‬اشتملت على خرائط مصوّرة وملوّنة بألوان ّ‬ ‫عدة‪.‬‬

‫من مقتنيات مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات اإلسالمية‪.‬‬


‫فضاءات‬

‫«اآلخر» لم يعد أجنب ًّيا‪..‬‬

‫مجرد مرايا متعددة‬ ‫لـ«أنا» مركَّبة‬ ‫‪146‬‬

‫العددان ‪ 490 - 489‬شوال ‪ -‬ذو القعدة ‪1438‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬أغسطس ‪2017‬م‬


‫يوسف بزي ‪ -‬شاعر وكاتب لبناني‬

‫في يوم ربيعي من عام ‪2007‬م‪ ،‬كنا مجموعة‬

‫من ك ّتاب وصحافيين في روما‪ ،‬نجلس على طاولة‬

‫رصيف لمطعم يهودي إيطالي‪ ،‬متكئين على منزل من‬ ‫القرون الوسطى تقول دكنته وانطوائيته تلك العتمة‬

‫التي عاشتها أوربا مع الخوف والجوائح والحروب‪ .‬لكنها‬

‫اآلن تبدو كديكور سينمائي رومانسي‪ .‬وأمامنا على بعد‬

‫مترين ينتصب معبد روماني بجبروت عتيق وحجري‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫يطل مشهد الفاتيكان الكاثوليكي‪ .‬نحن‬ ‫ومن ورائه‬ ‫الزبائن‪« ،‬مسلمون» و«مسيحيون»‪ ،‬عرب وأوربيون‪،‬‬ ‫على طاولة مطعم لعائلة يهودية‪ ،‬يديره مهاجر مصري‪،‬‬

‫مسلم‪ ،‬يتحدث اإليطالية والعربية‪ .‬الفتاة الجزائرية‬

‫ال تجيد سوى الفرنسية (وال كلمة بالعربية)‪ .‬الشابة‬ ‫اإليطالية تتحدث العربية بطالقة وباللهجة المصرية‪،‬‬ ‫اللبنانيان يفضالن التحدث باإلنجليزية‪ .‬الصحافية‬ ‫الفرنسية تختار التحدث باإليطالية‪ .‬والطاولة «حوارات»‬

‫وترجمات متبادلة‪ .‬اليابانيون‪ ،‬بالقرب منا‪ ،‬اإلسبان‬ ‫ً‬ ‫أيضا‪ ،‬األميركيون ُك ُثر‪ ،‬جنسيات العالم تقريبًا في مئة‬

‫متر مربع‪ ،‬حيث مهرجان اللغات ‪ -‬الثقافات‪ ،‬من وراء‬ ‫األطلسي إلى قلب آسيا‪ ،‬هنا في هذه المدينة‬ ‫المتوسطية‪ .‬في ال ُّزقاق الضيق‬ ‫ذي اإلنارة الشاحبة كما‬ ‫لو أنه مضاء بالشموع‪.‬‬ ‫ونحن ال نفعل شي ًئا سوى‬ ‫تداول هذه «العجينة» من‬ ‫اللغات الخائنة لهوياتها‪.‬‬

‫حنان الشيخ‬

‫هيام يارد‬

‫في خريف عام ‪2016‬م‪ ،‬كنا مجموعة من أربعة ك َّتاب هولنديين‬ ‫(منهم كاتب من أصل ليبيري)‪ ،‬ولبنانيين ُك ُثر (بينهم كاتبة فرانكفونية)‬

‫وكاتب بولندي متخصص بالشؤون التركية‪ ،‬وكاتبة هندية‪ .‬على المائدة‬ ‫أربع لغات‪ :‬العربية‪ ،‬والفرنسية‪ ،‬والهولندية‪ ،‬إضافة إلى اإلنجليزية‬ ‫كلغة وسيطة‪ ،‬ركيكة في األغلب‪ً .‬‬ ‫أيضا‪ ،‬ثمة ثالث لغات‪ :‬البولندية‬

‫(والتركية) والهندية يحتفظ بها أصحابها‪ .‬بين اللبنانيين الكاتب فادي‬

‫الطفيلي وزوجته الفنانة التشكيلية منيرة الصلح اللذان يعيشان في‬

‫أمستردام ويُت ِقنان اللغة الهولندية‪ .‬الكاتبة الهولندية ديوك بوبينغا‬ ‫تدريسا وترجمة‪ .‬يحدث أني عشت في‬ ‫متخصصة باألدب العربي‪،‬‬ ‫ً‬

‫ليبيريا وعملت في الكويت‪ ،‬والكاتب الليبيري فامبا شريف الذي عاش‬ ‫في ليبيريا والكويت ً‬ ‫أيضا يقول لي‪« :‬هذه المرة‪ ،‬اذهب أنت إلى هولندا‬ ‫ودعني أنا في بيروت‪ ،‬هكذا نكمل الدائرة»‪ .‬كان ترمب‪ ،‬المرشح‬ ‫للرئاسة األميركية حينها هو نجم السهرة‪ .‬القلق من الوجهة التي‬

‫ستسلكها أوربا بعد أزمة المهاجرين والبريكست البريطاني يسيطر على‬

‫األحاديث‪ .‬الكاتب الهولندي الشاب مارتين كنول يفاجئني بالسؤال عن‬ ‫حركة «بيروت مدينتي»؛ كيف له أن يعرف بتفصيل محلي لالنتخابات‬

‫البلدية في العاصمة اللبنانية؟ مآالت «الربيع العربي» والكوارث التي‬ ‫َّ‬ ‫حلت بالشرق األوسط تختلط بالكالم عن رحلتي إلى «غوا» في أثناء‬

‫حديثي مع الكاتبة الهندية أوشا كونيغا راماسوامي‪ .‬كنا نجلس على‬

‫شرفة مطعم هو باألساس منزل لبناني قديم بهندسة هجينة محلية‬ ‫وإيطالية وعناصر من العمارة الكولونيالية الفرنسية‪ ،‬نطل على خرائب‬

‫بيوت حجرية باقية من زمن الحرب‪ ،‬وعلى برج سكني حديث يشبه‬ ‫تلك النابتة في دبي أو هونغ كونغ‪« .‬هوياتنا» مسيحية (كاثوليكية‪،‬‬

‫بروتستانتية)‪ ،‬وإسالمية (سنية‪ ،‬وشيعية‪ ،‬ودرزية)‪ ،‬وهندوسية‪..‬‬

‫ومعظمنا على ما أظن علمانيُّو النزعة والقيم‪.‬‬ ‫وعود ليبرالية‬

‫بهذا المعنى‪ ،‬كانت الطاولة نموذجً ا صغي ًرا عما حققته‬

‫الوعود الليبرالية في العقدين الماضيين‪ :‬عولمة في القيم واألفكار‬

‫والمعلومات والحساسية األخالقية‪ ،‬وهي اليوم مهددة بارتدادات‬ ‫عنصرية وشوفينية وأنواع من رهاب األجنبي والمختلف‪ .‬المجموعة‬ ‫نفسها كانت في صباح اليوم ذاته قد تالقت ألول مرة‪ ،‬داخل قاعة في‬

‫‪147‬‬


‫فضاءات‬

‫الجامعة األميركية ببيروت التي يعود تأسيسها إلى أكثر من ‪ 150‬سنة‪.‬‬ ‫والمدهش أن اللقاء كان فرصة ليس للتعرف إلى هؤالء الك ّتاب األجانب‬ ‫َ‬ ‫وحسب‪ ،‬بل ً‬ ‫الكاتبة اللبنانية حنان الشيخ التي‬ ‫أيضا كي ألتقي ألول مرة‬

‫عمليًّا‪ ،‬خالل العشرين سنة الماضية‪ ،‬ورغم األحداث االستثنائية‬

‫ألتق به منذ عشرين عامًا‪ .‬ربما هذا هو األمر‪ :‬نحن ال نتعرف‬ ‫الذي لم ِ‬ ‫إلى اآلخرين بل إلى أنفسنا عبر اآلخرين‪ .‬هم ً‬ ‫أيضا يفعلون ذلك‪ .‬سرعان‬

‫بسرعة أكبر من القدرة على االستيعاب‪ .‬وبعيدًا من السياحة عبر‬

‫عجينة لغاتنا‪ ،‬كما فعلت على نحو مبهج الكاتبة اللبنانية الفرانكفونية‬

‫القول‪ :‬إن منسوب الجهل باإلسالم وبالعرب بات أقل في الغرب‪،‬‬

‫تعيش في لندن‪ ،‬والكاتب اللبناني عيسى مخلوف المقيم في باريس‪،‬‬

‫ما تجاهلنا خدمة الترجمة الفورية‪ ،‬طالما أننا عفويًّا رحنا نتداول‬ ‫هيام يارد‪ ،‬وراحت عباراتها تتقافز بين عربية ركيكة وفرنسية راقية‬

‫وإنجليزية متقنة‪ .‬كذا كانت الكاتبة الهولندية ديوك بين عبارات عربية‬ ‫بلهجة مصرية وإنجليزية صافية‪.‬‬

‫واستشراء «نقد الحداثة» في الغرب (ما بعد الحداثة)‪.‬‬

‫(‪ 9‬سبتمبر ‪2001‬م‪ ،‬غزو العراق‪ ،‬واإلرهاب العالمي‪ ،‬واألزمة االقتصادية‪..‬‬ ‫إلخ)‪ ،‬أجد أن السفر واإلنترنت خلقا َ‬ ‫ً‬ ‫وأحيانا‬ ‫عالمًا شديد التواصل‪،‬‬ ‫التكنولوجيا أو عبر المطارات‪ ،‬وبسبب الوقائع الثقيلة الوطأة‪ ،‬يمكن‬ ‫ومن جهة أخرى أصبح الغرب أكثر قربًا من العرب والمسلمين‪ ،‬ليس‬ ‫فقط بسبب جاليات المهاجرين‪ ،‬بل ً‬ ‫أيضا بسبب التعليم وحركة‬ ‫الترجمة وسهولة التنقل والتلفزيونات الفضائية واإلنترنت‪ ،‬وأدوات‬

‫أتينا للقاء تحت عنوان «طرق الحوار»‪ ،‬وكل منا لديه ما أسميه‬

‫التواصل الفوري‪ ،‬والتعامل التجاري الواسع النطاق والمعاشرة‬

‫كأن نتلفظ بكلمات «االنفتاح» و«التسامح» و«التنوع» بوصفها عناوين‬

‫الذين باتوا اليوم وبسبب هذا الفزع تحديدًا «جهاديين» انتحاريين‪.‬‬

‫«أوراق اعتماد» كتلك التي يقدمها السفراء‪ ،‬أفكار جاهزة بنوايا جيدة‪،‬‬ ‫للصواب السياسي والثقافي واألخالقي الذي يتوجب علينا التقيد به‪.‬‬ ‫وهذا صحيح وحقيقي تقريبًا في عالم الك ّتاب حول العالم‪ ،‬فالمثقفون‬ ‫اليمينيون واليساريون والليبراليون وما بين بين‪ ،‬بات لديهم «مرجعية»‬

‫ما بعد األيديولوجيات‪ ،‬إنسانوية إذا صح التعبير‪ .‬وعلى هذا النحو‪،‬‬ ‫كنا في اللقاء الصباحي نردد كل هذا الذي نؤمن به‪ ،‬أي ّ‬ ‫ترفعنا على‬

‫‪148‬‬

‫الطريق‪ ،‬هناك عند تقاطع بروز نخبة ليبرالية عربية بعد عام ‪2000‬م‪،‬‬

‫القوميات والفوارق الدينية والعرقية والثقافية‪ ،‬نحتفل باختالفاتنا‬

‫بوصفها التنوع اإلنساني ومصدرًا للغنى الثقافي‪.‬‬

‫خالل ثالثين عامًا من تمرسي في العمل الصحافي واألدبي‪ ،‬غالبًا‬

‫ما كان يتسم أي لقاء أوربي – عربي (شرق أوسطي تحديدًا) باستنفار‬ ‫سجالي‪ ،‬يضمر شعور التفوق‬ ‫ّ‬ ‫من جهة وشعور الدونية من‬

‫جهة أخرى‪ ،‬ويستحضر الماضي‬

‫االستعماري عند العرب‪ ،‬والخطاب‬

‫االعتذاري عند األوربي (أو التبرؤ‬ ‫من التاريخ اإلمبريالي)‪ ،‬عدا طبعً ا‬

‫منسوب الجهل باآلخر واألفكار‬

‫شبه اليومية‪ ،‬إلى حد انتفاء المسافة على نحو أصاب الفزع أولئك‬ ‫ويمكنني االدعاء أن أيديولوجيا اإلرهاب اإلسالمي ولدت من شعور‬ ‫حقيقي بأن الحدود انتفت مع الغرب‪ ،‬بالضبط كما حركات اليمين‬ ‫المتطرف في أوربا نهضت من شعور حقيقي بأن الحدود مع الشرق‬

‫انتفت‪ .‬ثمة حرص عند متطرفي جانبي الحدود على إرث الكراهية‬

‫ً‬ ‫حرصا‬ ‫والعداء المتناسل ربما منذ الحروب الصليبية‪ .‬هو ما أسميه‬ ‫على «البقاء في التاريخ»‪ ،‬إعادة تدوير للماضي‪.‬‬ ‫األدب طريق إلى الحوار‬

‫أعود إلى ذاك الصباح في منتصف نوفمبر ‪2016‬م‪ ،‬في حضن‬

‫يتسم أي لقاء أوربي – عربي باستنفار‬ ‫سجالي‪ ،‬يضمر شعور التفوق من‬ ‫جهة وشعور الدونية من جهة أخرى‪،‬‬ ‫ويستحضر الماضي االستعماري عند‬ ‫العرب‪ ،‬والخطاب االعتذاري عند األوربي‬

‫النمطية ووطأة «مركزية الغرب»‬

‫ومسألة الصراع العربي – اإلسرائيلي‪ ..‬إلخ‪ .‬وكان أكثر ما يغيظ المثقفين‬ ‫العرب هو أنهم مطلعون على أبرز نتاجات الغرب األدبية والفكرية‬

‫والفنية‪ ،‬في حين –إذا استثنينا المستشرقين والمستعربين– ال دراية‬ ‫للكاتب األوربي عمومًا بما ينتجه العالم العربي أدبًا وف ًّنا وفك ًرا‪ .‬ويضاف‬

‫إلى ذلك‪ ،‬التفاوت االقتصادي واختالف نمط العيش والسلوك والمظهر‬ ‫والتقاليد واألعراف االجتماعية‪ .‬كان هذا النوع من اللقاءات المغلفة‬

‫بالدماثة تتسم بالنفور والتكاذب أو الجفاء أو الحذر الدبلوماسي‪ .‬أظن‬ ‫أن ذلك تضاءَل إلى حد كبير‪ ،‬بزخم من حركتين كبيرتين حدثتا تحت‬

‫جناح «العولمة»‪ :‬حركة الفكر ما بعد الكولونيالية في الغرب‪ ،‬وحركة‬

‫الفكر ما بعد القومية في العالم العربي‪ .‬التقت الحركتان في منتصف‬ ‫العددان ‪ 490 - 489‬شوال ‪ -‬ذو القعدة ‪1438‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬أغسطس ‪2017‬م‬

‫الجامعة األميركية ببيروت‪ .‬كل‬ ‫منا يقدم نفسه ويتكلم عن أفضل‬ ‫سبيل لـ«الحوار»‪ ،‬أي تجسير‬ ‫العالقة مع «اآلخر»‪ .‬وبإيمان ثابت‪،‬‬

‫الجميع تقريبًا يرى في األدب‪،‬‬ ‫ً‬ ‫طريقا رحبًا‬ ‫والقراءة‪ ،‬والفن‪..‬‬

‫وواضحً ا لهذا الـ«حوار»‪ .‬شخصيًّا‪،‬‬

‫أنتبه إلى أن اآلخر هو مجرد ذريعة‬

‫كي يحاور واحدنا نفسه‪ ،‬يكتشف ذاته أكثر‪« .‬اآلخر» موجود طبعً ا‪،‬‬ ‫لكنه بات أقل َ‬ ‫آخروية بكثير مما كانه في الماضي‪ .‬أقصد أن اآلخر فق َد‬ ‫ً‬ ‫خصوصا في األدب‪ .‬ذاكرتي األدبية‬ ‫اختالفه‪ ،‬فما من أحد أجنبي تمامًا‪،‬‬ ‫قائمة على قراءات معظم روايات أميركا الالتينية‪ .‬ما من رواية أميركية‬ ‫بارزة إال وكلنا قرأناها (كل شعراء الواليات المتحدة منذ وولت ويتمان‬

‫الروائي‬ ‫لهم حضورهم في القصيدة العربية الحديثة!)‪ .‬ويليام فوكنر هو‬ ‫ّ‬ ‫المفضل عندي‪ .‬األدب الياباني ليس غريبًا ويمكننا أن نعدد ‪ 15‬روائيًّا‬ ‫يابانيًّا نعرفهم مترجمين إلى أكثر من عشرين لغة على األقل‪ .‬نشأنا‬

‫على قراءة نتاج األدب الفرنسي‪ ،‬واأللماني‪ ،‬والتشيكي‪ ،‬والروسي‪،‬‬

‫واإلسباني‪ ،‬بل حتى العالمات البارزة في األدب الهندي واإلفريقي‬


‫«اآلخر» لم يعد أجنب ًّيا‪ ..‬مجرد مرايا متعددة لـ«أنا» مركَّبة‬

‫والصيني‪ ..‬إلخ‪ .‬أقرأ في هذه‬

‫األيام رواية «فتيان الزنك» للكاتبة‬

‫البيالروسية سفيتالنا أليكسيفيتش‪.‬‬

‫ربما يجوز التحسر على الماضي‬

‫حين كان ثمة «غريب» و«إكزوتيكي»‬

‫و«أجنبي» ينبغي اكتشافه والتمتع‬

‫بسحر الغرابة والتعجب والدهشة‪.‬‬ ‫كل هذا خسرناه‪ .‬العالم بات ً‬ ‫أليفا‬

‫عيسى مخلوف‬

‫إلى درجة محبطة‪ .‬ما من جغرافيا‬ ‫َ‬ ‫مجهولة بعد اليوم‪ ،‬وعلى األرجح ما من «محلية» صافية‪ .‬حين َق َرأ ِت‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫نصوصها‪ ،‬تلقفنا على الفور وعلى‬ ‫الروائية الهندية أوشا راماسوامي‬

‫نحو اعتيادي حيلتها األدبية وأسلوبيتها ومصدر تخييلها ومسعاها في‬ ‫استثمار اإلرث الديني واألسطوري في مواجهة الوقائع اليومية ومغزاها‬ ‫الدرامي‪ .‬لم يكن «أجنبيًّا» نص مارتين كنول الكئيب‪ ،‬السينمائي النزعة‪،‬‬ ‫ومنحاه الوجودي الغارق بأرق الوحدة والجوع العاطفي والفردانية‬

‫المعاصرة‪ .‬شعرنا بألفة فائقة مع نص ويتولد جابلوسكي وهواجسه‬ ‫السياسية وسخريته الالذعة‪ ،‬طالما أننا كأدباء من الشرق األوسط ال‬

‫نفعل سوى التفكير بالسياسة والسخرية ومقارعة الفساد واليأس‪.‬‬

‫فامبا شريف‪ ،‬قرأ مقاطع من روايته‪ ،‬المكتوبة بأسلوب يتقاطع فيه‬ ‫الذاتي مع التاريخي‪ ،‬ونستوعب تمامًا تلك «المعلومات» التي يضمرها‬

‫السرد ووجهة الحكاية‪ .‬نعرف تمامًا أن مأزق الهوية هو الحافز والعصب‬

‫في كتابته‪ ..‬تمامًا كما في كتاباتنا‪ .‬هكذا نحن جميعً ا‪ ،‬أصبحنا أوالد‬ ‫«تقاليد» أدبية معولمة‪ً .‬إذا‪ ،‬ما من «آخر» لكن مجرد مرايا متعددة‬ ‫لـ«أنا» مر َّكبة‪ ،‬باتت معتادة حتى على مستوى اللغة‪ .‬منذ اليوم األول‪،‬‬

‫لزم األمر ساعة‪ ،‬ودردشات جانبية في استراحة القهوة‪ ،‬أو في أثناء‬ ‫الغداء‪ ،‬مستأنفين السجال «الرسمي» الذي دار في الجلسات‪ ،‬ال‬ ‫لكي نستعرض مهاراتنا الفكرية أو النقدية‪ ،‬لكن كي ِّ‬ ‫نوطد لحظات‬

‫التواطؤ الشخصي ونحوِّلها إلى صداقة‪ .‬هذا ما حدث لي مثلاً مع مارتين‬ ‫كنول‪ ،‬حينها رحنا باستمرار ننتحي جانبًا بالحديث‪ ،‬أو نختار الجلوس‬ ‫متجاورين‪ .‬أو أن ننقسم في المساء إلى مجموعتين‪ :‬مدخنين وغير‬

‫مدخنين‪ .‬وتصير هذه الصفة «حزبًا اجتماعيًّا»‪ .‬أو عندما ننتهي من يوم‬

‫حافل بالجلسات والنقاشات والقراءات‪ ،‬وننقسم في سهرنا بين هواة‬

‫«الكارايوكي» والنافرين منه‪.‬‬ ‫عامل استيقاظ‬

‫أذكر أن إيمان حميدان‪ ،‬رئيسة جمعية القلم الثقافية في لبنان‪،‬‬ ‫حين راحت تشرح لي مشروع استضافة ُ‬ ‫الك َّتاب األجانب في بيروت ضمن‬

‫برنامج «طرق الحوار»‪ ،‬لم أكن مقتنعً ا كفاية بالجدوى الثقافية منه‪.‬‬ ‫لكن‪ ،‬حدث في اليوم الثالث للنشاط‪ ،‬حين ذهبنا جميعنا إلى مدينة‬ ‫َّ‬ ‫وتحلق حولنا في منتدى المدينة جمعٌ غفير من الجمهور‪ ،‬من‬ ‫صور‪،‬‬ ‫بينهم طبيب هندي وزوجته‪ ،‬وصاروا يناقشون الكاتبة الهندية والكاتب‬

‫أوشار اماسوامي‬

‫فامبا شريف‬

‫ربما يجوز التحسر على الماضي حين كان‬ ‫ثمة «غريب» و«إكزوتيكي» و«أجنبي»‬ ‫ينبغي اكتشافه والتمتع بسحر الغرابة‬ ‫والتعجب والدهشة‪ .‬كل هذا خسرناه‪.‬‬ ‫العالم بات أليفً ا إلى درجة محبطة‬ ‫الهولندي‪ ،‬عبر الترجمة الفورية‪ ،‬انتبهت إلى «المعنى» من حضور‬

‫«الضيوف األجانب»‪ .‬إنهم عامل استيقاظ‪ .‬ما أن يأتوا حتى نجتمع‬

‫ونبدأ بالعمل الجماعي‪ ،‬ونتواطأ على اإلصغاء وعلى تقديم أفضل ما‬ ‫عندنا ونشحذ همتنا‪ ،‬ونبرز ما نظنه فضائلنا‪ .‬بوجودهم تس َّنى لي ألول‬

‫مرة أن أصغي للشعراء اللبنانيين‪ :‬فوزي يمّين‪ ،‬ومحمد ناصر الدين‪،‬‬

‫وللكاتبات اللبنانيات‪ :‬سحر مندور‪ ،‬وحنان الشيخ‪ ،‬وزينة الخليل‪،‬‬ ‫وهيام يارد‪ .‬مرة أخرى‪« :‬األجنبي» ذريعة للتعرف إلى «الذات»‪ .‬األفضل‬ ‫من ألفة الك ّتاب فيما بينهم‪ ،‬هي األلفة الفورية بين الجمهور ُ‬ ‫والك َّتاب‬

‫ً‬ ‫خصوصا في المدن خارج العاصمة‪ :‬طرابلس‪ ،‬وبعلبك‪،‬‬ ‫الضيوف‪،‬‬

‫وصور‪ ،‬وبعقلين‪ ..‬ثم هناك في المدارس مع الطالب‪ .‬ربما التعليم‬ ‫المتعدد اللغات في لبنان (الفرنسية واإلنجليزية والعربية) سهل األمر‬

‫كثي ًرا‪ ،‬لكن ما نسمِّيه ‪« Pop culture‬الثقافة الشعبية» (السينما‪،‬‬

‫والتلفزيون‪ ،‬والموضة‪ ،‬الموسيقا‪ )..‬ال تخلو من معرفة أدبية غير‬ ‫ً‬ ‫وأحيانا الخيال وطرائق‬ ‫مباشرة‪ ،‬تسهم في توحيد الذائقة والمرجعية‪،‬‬

‫التعبير وقاموس المجاز‪ .‬تجربة األسبوع من المعاشرة والقراءة‬ ‫ومشاركة الطعام والسجائر وتداول األفكار‪ ..‬منحت ُ‬ ‫الك َّتاب الضيوف‬ ‫معرفة حسية ومباشرة من تنويعات األدب اللبناني‪ ،‬من الحياة‬

‫اللبنانية‪ .‬اكتسبوا دراية سياسية بالتعايش الصعب والمنازعات الخفية‬ ‫بين الجماعات والطوائف هنا‪ ،‬وهو ما قد يستثمرونه ً‬ ‫أيضا في بلدانهم‬ ‫بمواجهة األسئلة الملحَّ ة اليوم في أوربا إزاء مسألة الهجرة والتنوع‬ ‫الديني والتعصب العرقي أو القومي‪.‬‬

‫بالنسبة لي‪ ،‬كان مشهد روما عام ‪2007‬م‪ ،‬الذي ذكرته في‬

‫البداية‪ ،‬يتوِّج إنجازات الزمن المبتدئ منذ انهيار جدار برلين‪ .‬ومشهد‬ ‫ِّ‬ ‫يشكل فِعل مقاومة ضد «تسونامي» االنعزالية‬ ‫بيروت ‪2016‬م‪،‬‬

‫المتفاقمة في كل مكان‪.‬‬

‫‪149‬‬


‫فضاءات‬

‫عن مستقبل قصيدة النثر العربية‪..‬‬

‫ً‬ ‫ثالثة‬ ‫أحتاج عينًا‬ ‫ألرى الغيب‬ ‫منذر مصري ‪ -‬شاعر سوري‬

‫‪150‬‬

‫لم أسأل يومً ا‪ ،‬بالرغم من أنني أحد شعرائها‪ ،‬الذين‬ ‫قضوا جل حياتهم يكتبونها‪ ،‬ويدافعون عنها‪ ،‬ويبشرون بها‪« :‬ما‬ ‫مستقبل قصيدة النثر العربية؟» إلاّ وأبديت بعض التردد‪ ،‬لدرجة‬ ‫أبدو بها كأني غير راغب باإلجابة‪ .‬ولكن‪ ،‬مرة‪ ،‬وأنا أحاول التهرب‬ ‫كعادتي‪ ،‬بحجة أني لست الشخص المناسب لتقديم الجواب‬ ‫الشافي على هذا السؤال‪ ،‬واجهني صديقي الشاعر عباس بيضون‬ ‫بسؤال آخر‪ ،‬من النوع الذي يحار المرء مهما بلغت حجته كيف‬ ‫يرد عليه‪« :‬لماذا ال؟»‪ًّ .‬‬ ‫حقا‪ ،‬لماذا ال؟! وها أنذا أفعل‪ .‬ولكن ذلك‬ ‫لن يحول دون ذكري األسباب التي كانت تدفعني للتردد‪ ،‬وهي‬ ‫مثلها مثل كل شيء نبرر به ما نفعله وما ال نفعله‪ ،‬تنقسم إلى‪،‬‬ ‫أسباب خاصة‪ ،‬داخلة بي‪ ،‬وأسباب أخرى خارجة عني‪ ،‬عامة‪،‬‬ ‫داخلة في الموضوع نفسه‪:‬‬

‫العددان ‪ 490 - 489‬شوال ‪ -‬ذو القعدة ‪1438‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬أغسطس ‪2017‬م‬


‫الفرح ليس مهنتي‪ ..‬والنقد كذلك‪ :‬أولاً ‪ ،‬مشي ًرا إلى ظاهرة‪،‬‬

‫أن عامة المشتغلين في نقد الشعر عندنا‪ ،‬هم الشعراء أنفسهم‪.‬‬ ‫عملاً بالقول الجاري‪« :‬أهل مكة أدرى بشعابها»‪ ،‬فذلك يستدعي‬

‫أول ما يستدعي السؤال‪ :‬ما إذا كان الشعراء حياديين عند الحكم‬ ‫على أنفسهم أو على نتاج أقرانهم؟ أو ما إذا كانوا مؤهلين؟ أو هل‬

‫يمتلكون الحق؟! وال أظن التذكير بمكانة ص‪ .‬ت‪ .‬كولريدج كناقد‪ ،‬أو‬ ‫شارل بودلير‪ ،‬أو بول فاليري أو ت‪ .‬س‪ .‬إليوت‪ ،‬أو أرشيبالد ماكليش‬

‫صاحب كتاب «الشعر والتجربة»‪ ،‬وغيرهم من الشعراء الذين ُعرفوا‬

‫بكتاباتهم التنظيرية والنقدية عن الشعر والشعراء‪ ،‬يصلح كإجابة‬ ‫داحضة لهذه التساؤالت‪ .‬ذلك أنهم‪ ،‬كانوا أقرب إلى المنظرين‬ ‫لمدارس ومناهج ورؤى شعرية جديدة‪ ،‬منهم إلى نقاد مختصين‪.‬‬ ‫كما أنهم أقرب ألن يشكلوا ظاهرة الفتة وليس قاعدة عامة‪.‬‬

‫عامة المشتغلين في نقد الشعر عندنا‪ ،‬هم‬ ‫الشعراء أنفسهم‪ ،‬وذلك يستدعي السؤال‬ ‫ما إذا كان الشعراء حياديين عند الحكم على‬ ‫أنفسهم أو على نتاج أقرانهم؟ أو ما إذا‬ ‫كانوا مؤهلين؟ أو هل يمتلكون الحق؟!‬ ‫استثنائي‪ ،‬خرافي‪ ،‬يملك المقدرة على معرفة الغيب‪ ..‬ما أستطيع‬

‫االدعاء أني أعرفه‪ ،‬هو ما مضى‪ ،‬ما عبَر من أمامي وتنبَّهت له‪ ،‬فقد‬ ‫كنت أردد قولاً ‪ ،‬ال أذكر من قاله‪« :‬ال أكتب إلاَّ عمّا رأيت وسمعت»‪.‬‬ ‫وهو قول أصلح للقصاصين والرواة منه للشعراء‪.‬‬ ‫ً‬ ‫ثالثا‪ -‬يحتاج البحث في مستقبل قصيدة النثر العربية‪ ،‬متابعة‬

‫ً‬ ‫وحديثا‪ ،‬من‬ ‫وفي المقابل لم أجد عند الشعراء العرب‪ ،‬قديمًا‬

‫حثيثة‪ ،‬ومن ثم معرفة واسعة‪ ،‬لألنسال الجديدة التي تدخل مضمار‬ ‫قصيدة النثر في البالد العربية وخارجها‪ ،‬األمر الذي ُشفيت منه وما‬

‫والعديد من كتبه حول الشعرية والحداثة وغير ذلك‪ ،‬لم يقم بأي‬

‫يعنيني إن لم أقل كل ما يعنيني‪ ،‬أما عن حرصي على االطالع على‬

‫أعطى شعر اآلخرين ما يكفي من الوقت والجهد‪ ،‬للحد المطلوب من‬

‫الناقد‪ .‬فأدونيس رغم الحجم الكبير لدراسته في «الثابت والمتحول»‬ ‫دراسة نقدية لشاعر‪ ،‬إال بعض المقدمات لعدد من المختارات‬

‫الشعرية‪ ،‬كمختاراته من قصائد يوسف الخال إصدار دار مجلة شعر‬ ‫‪1962‬م‪ .‬فجوهر عمل أدونيس حول الشعر تنظيري استشرافي أكثر‬

‫منه نقدي‪ .‬وكذلك‪ ،‬بطريقة ما‪ ،‬الدكتور كمال أبو ديب‪ .‬وعشرات‬

‫الشعراء العرب الذين إذا كان لهم مساهمات نقدية نظرية أم‬ ‫تطبيقية‪ ،‬فهي ال تزيد عن كونها اجتهادات جاءت لتمأل الفراغ النقدي‬

‫الذي يشكو منه الجميع‪ .‬أما بالنسبة لي‪ ،‬أنا الذي يحاول اآلن معرفة‬

‫المآل الذي ستمضي إليه قصيدة النثر في المستقبل‪ ،‬فيومًا لم‬ ‫أَ َت َن َّطع ألكون دارسً ا لحركة شعرية ما‪ ،‬أو لجيل شعري محدد! ويومًا‬

‫عاد شغلي الشاغل منذ زمن‪ ،‬فما أقوم بفعله اليوم هو أكثر ما‬ ‫ما يكتبه اآلخرون؛ األسماء التي أتابع تجاربها ألهميتها المؤكدة‪،‬‬

‫واألسماء التي يتناهى لي بعض التصفيق لها وهي تدلف الساحة‪،‬‬ ‫الشعراء الجدد الذين يتواصلون معي‪ ،‬فلم يكن يومًا بدافع المقارنة‬

‫والحكم‪ .‬وقد يستغرب المرء كيف له أن يجد مف ًّرا من إجراء‬

‫المقارنات والتوصل إلى‪ ،‬إن لم يكن إلى أحكام‪ ،‬فليكن إلى آراء‪،‬‬

‫إال أنني في الحقيقة أفعل هذا لمنفعتي الشخصية‪ ،‬وبوجوه عدة‪،‬‬ ‫أهمها‪ ،‬أني أغذي به ذلك المزاج الذي أحتاجه لالستمرار والمتابعة‪.‬‬ ‫مفرد بصيغة الجمع‪ ..‬وجمع بصيغة المفرد‬

‫لم أعمل على جمع مقدمات‪ ،‬أو معطيات‪ ،‬أستطيع أن أستنتج‬

‫أول‪ -‬ليس فقط ألني شفيت من حمّى قراءة كل شيء‪ ،‬بل ألنه‬

‫فلطالما آمنت ببراءة الجميع‪ ،‬وصدقت بما يسوقونه من مبررات‬

‫صحيحة عن واقع قصيدة النثر العربية‪ .‬وهذا ما يمكن له أن يجعل‬

‫بواسطتها خالصة ما‪ .‬وكنت دائمًا أفتقد القدرة على إصدار أحكام‪،‬‬ ‫وأدلة غياب‪ .‬أما عن كوني‪ ،‬مثلي مثل الكثيرين‪ ،‬قد كتبت عددًا من‬ ‫المراجعات النقدية لمجموعات ولتجارب شعرية كنت أعرفها عن‬ ‫قرب‪ ،‬بطريقة أو بأخرى‪ ،‬فهذا شيء‪ ،‬والقدرة على تقديم خالصات‬

‫أو تعميمات‪ ،‬شيء آخر‪.‬‬

‫أصلاً ال يتوافر بين يدي ما يكفي أللقي نظرة متفحصة ولتكوين فكرة‬

‫من الكتابة في هذا الموضوع‪ ،‬إن لم يكن قفزة في الظالم‪ ،‬فهو وقوع‬ ‫في السياج الشائكة الكثيرة التي تقيمها الكتابة باللغة العربية التي‬

‫ينطق بها ما يقارب ثالث مئة مليون إنسان‪ ،‬ولكن بنسبة أمية عالية‪،‬‬ ‫ونسبة قراءة متدنية لدرجة كارثية‪ ،‬يتوزعون على عشرين بلدًا‪ ،‬يتصل‬

‫ثانيًا‪ -‬كنت أهزأ‪ ،‬من بين األشياء الكثيرة التي كنت أهزأ منها‪،‬‬

‫بعضها ببعض على شكل سلسلة ذات حلقات مغلقة‪ .‬فما يكتب في‬

‫اليمامة أو كاهنة معبد دلفي‪ ،‬ومن أنهم يتمتعون بقدرة سحرية على‬

‫بلدًا متاخمًا له كسوريا‪ ،‬وأغلب ما يكتب في سوريا ال يُع َرف إال في‬

‫من أن للشعر ملكة التنبؤ بالمستقبل‪ ،‬كتشبه الشعراء بزرقاء‬ ‫رؤية ما سيأتي في الغد‪ ،‬وأشياء أخرى من هذا القبيل‪ .‬فيومًا لم أقرأ‬ ‫شاع ًرا عربيًّا أو غير عربي بلغ به الخبل ألن يقول‪« :‬سوف يحدث كذا‪،‬‬ ‫وتنبهوا من كذا‪ ،‬في المكان كذا‪ ،‬والزمان كذا»‪ .‬ذلك أني ال أصدق‬ ‫ً‬ ‫إنسانا عاقلاً ‪ ،‬شاع ًرا كان أم غير شاعر‪ ،‬يمكنه أن يدعي بأنه كائن‬ ‫أن‬

‫األردن ال يتخطى األردن‪ ،‬فال كتب وال مجالت وال صحف أردنية تدخل‬ ‫سوريا‪ .‬حتى في داخل سوريا‪ ،‬البلد الذي اتصف باالستقرار لعقود‬

‫سنين طويلة‪ ،‬ذي التطور االجتماعي والتقاليد الثقافية الفاعلة‪،‬‬

‫نجد أن شعراء مدينة حلب‪ ،‬حتى أصحاب المجموعات الشعرية‬ ‫ً‬ ‫وأيضا في العاصمة دمشق‬ ‫منهم‪ ،‬مجهولون في الالذقية وحمص‬

‫‪151‬‬


‫فضاءات‬

‫شارل بودلير‬

‫عباس بيضون‬

‫يصب فيها كل شيء‪ ،‬إال إذا حدث وانتقل أحدهم‬ ‫حيث يفترض أن‬ ‫ّ‬

‫بل ً‬ ‫أيضا الروايات والقصص القصيرة حتى الكتب المترجمة‪ ،‬أما ما‬

‫على نحو شخصي‪ ،‬وبخاصة بعد أن تعففت دور النشر المهمة عن‬

‫يصلنا من مجالت ودوريات ثقافية‪ ،‬ال أدري إن كانت توزع في أنحاء‬

‫على حسابهم عددًا ليس كبي ًرا من النسخ‪ ،‬تضاءل في العقدين‬

‫فإنك سرعان ما سوف تنساه‪ ،‬وذلك لكثرة األسماء‪ ،‬الداخلة الخارجة‬

‫طباعة كتب الشعر إال لألسماء المستطيرة! وصار الشعراء يطبعون‬

‫األخيرين من ألفي نسخة إلى ألف‪ ،‬ثم إلى خمس مئة‪ ،‬ثم إلى ال‬ ‫أكثر من مئتي نسخة!! يوزعها الشاعر على أصدقائه وأقاربه وعلى‬ ‫ً‬ ‫وأحيانا على الشعراء الذين يستطيع الوصول إليهم‬ ‫شعراء مدينته‪،‬‬

‫الوطن العربي كافة أم ال‪ ،‬فإنك حتى إن قرأت قصائد لشاعر ما‪،‬‬

‫في ساحة الشعر‪ .‬وهذا ما حدث لي عندما كتبت عن الشاعر العراقي‬ ‫الراحل رعد عبدالقادر‪ ،‬فقد ظننت أن قصيدته التي قمت بدراستها‬

‫في ر ِّدي على ما كتبه سعدي يوسف عنها أول عمل أقرؤه له‪ ،‬مع أن‬

‫ً‬ ‫أحيانا للسفر بنفسه‪،‬‬ ‫في مدن أخرى ضمن بلده؛ األمر الذي يضطره‬

‫عددًا من قصائده كان منشورًا منذ مدة ليس بعيدة‪ ،‬على الصفحة‬

‫بلد عربي مجاور‪ ،‬فكيف إلى بلد عربي يأتي في السلسلة على بعد‬

‫ثانيًا‪ -‬هناك اآلن‪ ،‬ال بد من االستدراك‪ ،‬مصادر أخرى متاحة‬

‫وغالبًا ما يكون من المتعذر عليه أن يقوم بذلك إليصالها إلى شعراء‬ ‫خمس حلقات!!‬

‫‪152‬‬

‫عالء خالد‬

‫سعدي يوسف‬

‫قاسم حداد‬

‫المقابلة لقصائد لي في مجلة نزوى العمانية‪.‬‬

‫لالطالع والمتابعة‪ ،‬إذا كان لدى المرء الرغبة والوقت وجهاز كمبيوتر‬

‫وأحسب أنه قد حدث للعديد من الشعراء أن اجتمعوا في‬

‫موصول بشبكة اإلنترنت‪ .‬مواقع ثقافية مثل موقع «جهة الشعر»‬

‫وهم لم يسمعوا بمجرد أسمائهم‪ ،‬ثم إن كانوا قد سمعوا بهم‬

‫بإشراف‪ ،‬ال أدري بماذا أصفه‪ ،‬الشاعر والروائي والناشر العراقي‬

‫مهرجان ما مع شعراء عرب آخرين من جيلهم أو من جيل سبقهم‪،‬‬ ‫سما ًعا‪ ،‬فهم ليسوا على أي اطالع على نتاجهم‪ .‬فأول مرة سمعت‬ ‫باسم عالء خالد مثلاً كان عند لقائنا في مهرجان كافاال في اليونان‬ ‫عام ‪2002‬م‪ ،‬أما جرجس شكري‪ ،‬المصري اآلخر فقد عرفته فقط في‬ ‫مهرجان جرش عام ‪2004‬م‪ .‬وال أخجل إن قلت في ذلك المهرجان‬

‫عرفت ألول مرة أن رئيس اتحاد الكتاب في المغرب هو الشاعر‬ ‫حسن نجمي‪ ،‬ولم أستطع أن أحدد ما إذا كنت قد سمعت باسمه‬

‫في السابق أم ال‪ ..‬في سوريا ال تستطيع أن تحصل على المجموعات‬ ‫الشعرية المهمة التي تميزت بها دار الجديد البيروتية‪ ،‬في الثمانينيات‬ ‫والتسعينيات‪ ،‬فكيف لك أن تحصل على أعمال لشعراء تونسيين أو‬

‫جزائريين أو يمنيين‪ ،‬يومًا لم تقع عيناي ال في المكتبات السورية‬

‫وال اللبنانية على كتاب سوداني أو تونسي أو ليبي‪ ،‬والسؤال هو‪ :‬أال‬

‫يطبعون كتبًا في السودان وتونس وليبيا والجزائر والصومال واليمن‬

‫وقطر والبحرين على اإلطالق؟! وهذا ال يقتصر على الشعر وحده‪،‬‬

‫العددان ‪ 490 - 489‬شوال ‪ -‬ذو القعدة ‪1438‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬أغسطس ‪2017‬م‬

‫الذي يشرف عليه الشاعر البحريني قاسم حداد‪ ،‬وموقع «كيكا»‬

‫صموئيل شمعون‪ ،‬وموقع عراقي آخر هو «اإلمبراطور» يشرف عليه‬ ‫شاعر عراقي آخر هو أسعد الجبوري وهناك ً‬ ‫أيضا عدة مواقع سورية‬ ‫جديدة مثل‪« :‬الجدار» و «ألف» و«أبابيل» و«أوكسجين» هذه كلها‬

‫يغلب فيها النتاج الشعري‪ ،‬إال أن موقعً ا كـ«قصيدة النثر المصرية»‬

‫الذي يشرف عليه الشاعر المصري عماد فؤاد يسمح على نحو‬ ‫استثنائي باالطالع الوافي على حال هذه القصيدة في بلد عربي كبير‬ ‫تأخر فيه ظهورها نسبيًّا عن لبنان والعراق وسوريا‪ ،‬حيث يتضمن‬ ‫ًّ‬ ‫ملفا عن كل من سبعة وستين شاع ًرا وشاعرة من األجيال الثالثة‬

‫الماضية للقرن المنصرم‪ .‬كما أنه يتوافر على صفحات «الفيسبوك»‬ ‫عشرات المواقع الفردية لشعراء من كافة البلدان العربية‪.‬‬ ‫ً‬ ‫ثالثا‪ -‬ما يربك هنا هو‪ ،‬ليس الكثرة والتنوع فحسب‪ ،‬بل أيضاً‬

‫مستوى النتاج‪ ،‬التراكم الكمي الذي يبدو كأنه استطاع الهروب من‬ ‫ً‬ ‫الحقا‬ ‫حتمية أن التغير الكمي يؤدي إلى تغيير نوعي‪ ،‬وكأن ما يأتي‬


‫عن مستقبل قصيدة النثر العربية‪..‬‬

‫ً‬ ‫سابقا‪ ،‬أو كأن‬ ‫ال يقوم على محو ما أتى‬ ‫َّ‬ ‫كل شيء يبدأ بنفسه على نحو ما‪ ،‬ذلك‬

‫رافقتهم حركة نقدية الفتة بالمقارنة مع‬

‫قصيدة النثر‪ ،‬ال يعرفون توفيق الصايغ‬

‫في أفضل األحوال سوى بمتابعات‬

‫تطرقت للرواد على نحو أساسي‪ ،‬فقد‬ ‫من جاء بعدهم‪ ،‬أولئك الذين لم يحظوا‬

‫أني التقيت شعراء شبابًا كثيرين يكتبون‬

‫لمجموعاتهم الشعرية في الصحف‬

‫وال شوقي أبي شقرا وال عصام محفوظ‬ ‫وال حتى أنسي الحاج‪ ،‬أما في سوريا‬ ‫فسليمان عواد األب الروحي لـمحمد‬

‫محمد الماغوط‬

‫شوقي أبوشقرا‬

‫والدوريات التي تصدر هنا وهناك‪ ،‬تجمع‬ ‫ً‬ ‫أحيانا في كتاب‪ ،‬وغالبًا ما تهمل‪ .‬ولكن‬

‫ماغوط شبه نكرة‪ ،‬وإذا كان عواد شاع ًرا ظهر في الخمسينيات‪،‬‬

‫منذ فترة وجيزة‪ ،‬نتيجة لهذا النقص وهذه الحاجة بدأت تظهر بعض‬

‫مثل نوري الجراح الذي أصدر أعماله الشعرية بمجلدين سميكين‬

‫اتفق على تسميته أنطولوجيات شعرية صدرت كلها بلغات أجنبية‪.‬‬

‫فماذا يقال عن شاعر سوري آخر هو بدوره شبه مجهول في بلده‪،‬‬ ‫منذ ثماني سنوات؟ رغم ما يعرف عني من حرص على رؤية األشياء‬

‫من الزاوية الجيدة‪ ،‬وتصديقي بأن الرسامين والشعراء والموسيقيين‬ ‫يشتهرون بفضل عد ٍد من أحسن أعمالهم وليس بأعمالهم كلها‪،‬‬

‫ورفضي لفكرة القراءة بهدف إصدار األحكام والبحث عن أدلة‪ ،‬وذلك‬ ‫لحرصي بالمقابل على االستمتاع بهذا الفن الذي وصم حياتي‪،‬‬ ‫ً‬ ‫غارقا بشعور معاكس تمامًا‪ ،‬أقرب للشعور بهدر الوقت‬ ‫أجدني‬

‫وإضاعة الجهد واألحاسيس‪ ،‬منه للمتعة والفائدة‪ ،‬وصولاً إلى‬ ‫الشعور باإلحباط والخيبة‪.‬‬

‫المحاوالت لرصد حركة الشعر العربي الحديث‪ ،‬ومن الغرابة أن ما‬

‫ماضي األيام التي لن تأتي‬

‫ً‬ ‫انطالقا مما ذكرت‪ ،‬يمكن أن يرسل المرء نظره إلى مستقبل‬

‫قصيدة النثر في اتجاهين مختلفين‪ ،‬األول‪ :‬هل سيكون لقصيدة النثر‬ ‫مستقبل؟ والثاني‪ :‬ماذا ستكون عليه قصيدة النثر في المستقبل؟‬ ‫كيف ستكتب؟ وبأية أشكال ستوجد؟ وأحسب أن البحث في كال‬ ‫األمرين على تكاملهما الصوري‪ ،‬يشبه ًّ‬ ‫حقا الرجم بالغيب‪ ،‬وبخاصة‬ ‫في بالد كبالدنا‪ ،‬ال أحد‪ ،‬حتى المنجمون‪ ،‬يستطيع أن يخمن‬

‫أسماء كثيرة‪ ،‬ومجموعات شعرية كثيرة كثيرة‪ ،‬وقصائد‬

‫مستقبلها‪ ،‬التي لم تجد في بحثها عن نقطة انطالق إال أن تعود‬

‫ذلك التراكم الذي ال يحتاجه أحد‪ ،‬وقليلها يستحق أن يتوقف المرء‬ ‫عنده‪ ،‬ويعيد قراءته محاولاً أن يبقيه في ذاكرته‪ .‬ولكن‪ ،‬ولكن‪ ،‬يأتيني‬

‫العربية هو مستقبل الشعر العربي‪ ،‬أو جزء من مستقبل الشعر‬

‫كثيرة كثيرة كثيرة‪ ،‬نستطيع قراءتها هنا وهناك‪ ،‬ال تصنع سوى‬

‫القهقرى لما وراء نقطة الصفر‪ .‬وإذا اعتبرت أن مستقبل قصيدة النثر‬

‫العربي‪ ،‬فكثي ًرا ما قرأت‪ ،‬أن مستقبل هذا الشعر‪ ،‬يتوقف أساسً ا‬

‫صوت‪ ،‬وسؤال‪« :‬أليس هذه هي الحال دائمًا‪ ،‬أليس دائمًا هناك تلك‬

‫على مستقبل اإلنسان العربي نفسه‪ ،‬الناطق باللغة العربية‪ .‬ثم يأتي‬

‫ً‬ ‫رابعا‪ -‬أحسب أن أي محاولة تبصرية لمعرفة مستقبل حركة‬

‫بأنه ما دام هناك عرب سيكون هناك لغة عربية‪ ،‬وما دامت هناك‬

‫القلة التي يُعوَّل عليها بأن تقوم بصناعة الفرق؟!»‪.‬‬

‫أدبية ما‪ ،‬تحتاج إضافة الجتهاد صاحبها‪ ،‬وقدراته‪ ،‬أن يتوافر لديه‬ ‫بعض المراجع والدراسات التي سبق وقدمت تصورًا‪ ،‬صغي ًرا أو‬

‫ذلك االستنتاج‪ ،‬الذي ال تعيبه عموميته بالقدر الذي تعيبه شاعريته‪،‬‬ ‫لغة عربية فسيكون هناك شعر عربي؟! ولكن ما نع ّده اليوم شع ًرا‬ ‫ونفكر فيما يمكن أن يكون مستقبله‪ ،‬قد يختلف لدرجة يصير بها ف ًّنا‬

‫كبي ًرا لموضوع البحث‪ .‬وهنا مرة أخرى‪ ،‬تعترضنا إعاقة قاسية‬

‫من جنس آخر‪ ،‬باختالف كبير في الطرائق واألدوات كما في األغراض‬

‫بحركة نقدية حقيقية‪ ،‬نظرية وتطبيقية‪ .‬مع اعترافي بأنه يساورني‬

‫الشعر وتزداد هامشيته‪ ،‬حتى ينقرض‪ .‬عندها يمد رأسه ذلك السؤال‬

‫في بدن الحركة الشعرية العربية الحديثة‪ ،‬وهي عدم مواكبتها‬ ‫قدر كبير من الشك ما إذا كان الشعر العربي اليوم يدين‪ ،‬سلبًا أم‬ ‫إيجابًا‪ ،‬لهذا الغياب النقدي‪ ،‬حيث أكتفي بترجمة بعض المراجع‬ ‫والمنطلقات النظرية التي مهَّدت لقصيدة النثر عالميًّا‪ ،‬مع محاولة‬

‫بسيطة وساذجة لتأصيلها‪ ،‬بوصف النص القرآني والسرديات العربية‬ ‫بأنواعها‪ ،‬جذورًا لها‪ .‬أما تطبيقيًّا فلم يزد األمر عن عدة كتب نقدية‬

‫يحتاج البحث في مستقبل قصيدة النثر‬ ‫العربية‪ ،‬متابعة حثيثة‪ ،‬ومن ثم معرفة‬ ‫واسعة‪ ،‬لألنسال الجديدة التي تدخل مضمار‬ ‫قصيدة النثر في البالد العربية وخارجها‬

‫والمآرب‪ ،‬ال بل قد يأتي يوم ليس بهذا البعد كما يبدو‪ ،‬تزداد به عزلة‬ ‫الصفيق‪« :‬ومن قال‪ :‬إن البشر‪ ،‬ال يستطيعون الحياة بدون الشعر؟»‪.‬‬

‫ففي العالم اليوم‪ ،‬يولد ويحيا ويموت الماليين من البشر‪ ،‬عربًا وغير‬ ‫عرب‪ ،‬محرومين أم ّ‬ ‫مرفهين‪ ،‬متخلفين أم متحضرين‪ ،‬أكلة كافيار‬

‫أم نابشي حاويات قمامة‪ ،‬دون أدنى اعتبار لوجود الفن التشكيلي أو‬ ‫المسرح أو‪ ...‬الشعر‪ .‬وبخاصة بعد أن دفع باألخير أصحابه الشعراء‪،‬‬

‫لسبب أو بدون سبب‪ ،‬ليصير إلى هذه النصوص المربكة التي يتعذر‬ ‫فهمها وتقديرها إال من قبل أهل الكار أنفسهم‪ ،‬أي أولئك الذين‬

‫بدوافع جيدة أو سيئة هم األقل مصلحة في هذه العملية‪.‬‬

‫‪153‬‬


‫فضاءات‬

‫بيت في الصحراء‪..‬‬ ‫بح ًثا عن نقطة األصل‬ ‫كتابة‪ :‬عالء خالد‬

‫شاعر وكاتب مصري‬

‫فوتوغرافيا‪ :‬سلوى رشاد‬

‫فوتوغرافية مصرية‬

‫بدأت تتشكل رحلة عالقتي بواحة سيوة عام ‪1992‬م‪ ،‬عندما لجأت إليها فارًّا من موت أبي‬

‫ومن مشكالتي النفسية التي أورثتني إياها عالقات المدينة وزحامها الذي يختزل الموت وآثاره‪،‬‬ ‫ويضيِّعه داخل ثنايا العادة والتكرار والملل والسأم‪ .‬المدينة التي تختزل أي مسافة‪ ،‬وتضعك في‬ ‫عراك مع حافة جسمك‪ ،‬ومن دون أي براح إضافي‪ ،‬تنتقل فيه أنت وحياتك ومشكالتك وموتك‬ ‫الشخصي إلى مكان جديد‪ .‬كانت صحراء سيوة في مخيلتي هي المكان الذي ال مكان بعده‪،‬‬

‫وسأجد فيه نفسي‪ ،‬كونه يقع في أبعد نقطة من مدينة اإلسكندرية‪ ،‬على الحافة من كوني‬

‫‪154‬‬

‫الخاص‪ ،‬والوصول إليه يعني أن أج ّر معي حياتي ولو لعدة أيام باتجاه هذه الحافة‪ .‬كما كنا‬ ‫نتخيل صغارًا‪ ،‬حافة الكرة األرضية‪ ،‬التي بعدها يمكن أن ننزلق‪ ،‬أو نبدأ من جديد‪.‬‬

‫العددان ‪ 490 - 489‬شوال ‪ -‬ذو القعدة ‪1438‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬أغسطس ‪2017‬م‬


‫ثم دخلت في كتابي «خطوط الضعف» محاولاً تلمس‬

‫العالقة بين الصحراء‪ ،‬أو الواحة‪ ،‬بوصفها ملتقى خطوط‬ ‫الضعف بين عدة كتل صخرية‪ ،‬وسيرتي الذاتية‪ ،‬التي كنت‬ ‫أراها تمثيلاً جيدً ا لهذا التعريف؛ ملتقى خطوط الضعف لعدة‬

‫كتل صخرية تمثل ترسبات السلطة األبوية في تاريخنا‪ .‬في‬ ‫تلك الزيارة‪ ،‬والكتاب‪ ،‬ركزت على فكرة «الزوال» التي تحوط‬ ‫هذا المجتمع الصحراوي؛ بسبب التحوالت المدينية وطرق‬

‫التحديث الخاطئة‪ ،‬نتيجة للطريق األسفلتي الذي ربطها‬ ‫بالمدينة‪ ،‬وأفقدها عزلتها التي حافظت على جوهرها آالف‬

‫السنين‪ .‬وإن هذا التحديث الخاطئ‪ ،‬سوف يقضى على الواحة‪،‬‬

‫وليس الصحراء‪ ،‬أو على األقل سوف يؤثر في استمرارها‪،‬‬ ‫واستمرار أشكال الحياة فيها‪.‬‬

‫َتقادم‪ ،‬ثابتة في‬ ‫َقدم وال ت‬ ‫َ‬ ‫الصحراء ال ت ُ‬ ‫الزمن‪ ،‬ال يظهر عليها العجز‪ ،‬المكان‬ ‫أيضا بال‬ ‫الذي ننسى فيه أعمارنا ألنها ً‬ ‫عمر‪ ،‬كوالدة ُأولى ونهائية‪ ،‬نقطة األصل‬ ‫األرضية التي جئنا منها‪ ،‬تضع بيننا وبين‬ ‫مرور العمر ستارة من الرمال‪ ،‬لتحجبه‬ ‫الطعام‪ ،‬وهذا خلق مفارقات كثيرة‪ .‬نصبح أصدقاء بقوة قانون‬ ‫الحياة واإلنبات‪ ،‬وليس بالفعل‪ .‬هذا الحق المكتسب‪ ،‬لهم ولنا‪،‬‬

‫جاء بقانون سابق علينا فرضته الصحراء‪ ،‬قانون الالملكية‪ ،‬حتى‬

‫خالل زياراتي التي تكررت‪ ،‬قل شعوري بالزوال‪ ،‬وتعرفنا‬

‫في الوقت‪ ،‬الذي يخضع للمصادفة والسمر والثرثرة والغناء‬ ‫والنميمة وقليل من أعمال الفالحة‪ .‬هناك؛ ُّ‬ ‫كل ما تملك ليس‬

‫غرف ال مرئية للحشيش‪ .‬لم نر بعضنا جيدً ا‪ ،‬لكن استمع كل‬

‫ً‬ ‫دقيقا وربما‬ ‫من الصعب أن تجد س ًّرا ألحد أهالي الواحة‪،‬‬

‫هناك إلى أصدقاء بعدد شعر رأسنا‪ ،‬تحدثنا أغلب الوقت في‬

‫الظالم‪ ،‬أكثر من النهارات‪ ،‬فوق رمال الصحراء الساخنة‪ ،‬وسط‬ ‫منا لصوت اآلخر بقوة‪ ،‬على أجهزة كشف الكذب القلبية‪ ،‬وكوَّن‬

‫كل منا لآلخر مالمح من هذه الذبذبات‪ .‬كل من نقابله من أهل‬ ‫ً‬ ‫صديقا لنا‪ ،‬وله حق علينا‪ ،‬ولنا حق عليه‪ ،‬كما‬ ‫الواحة يصبح‬ ‫تملي أعرافهم‪ .‬كل من نقابله ولو مرة واحدة يصبح‬ ‫علي لو جئت مرة أخرى أن‬ ‫من الواجب َّ‬

‫أسأل عنه وربما أشاركه‬

‫لك‪ :‬ال الوقت وال المال وال الضحك وال األسرار‪.‬‬

‫جارحً ا؛ ال يعرفه الجميع‪ ،‬ويتداولونه في جلساتهم بكل أريحية‪،‬‬

‫‪155‬‬


‫فضاءات‬

‫وال يعني هذا عالقة بالنميمة أو رغبة في تجريح صاحبهم‪ ،‬ولكن‬ ‫تخطى «السر» حاج ًزا ما إنسانيًّا‪ .‬أصبحت وظيفته أن يعري وال‬

‫‪156‬‬

‫عار في حكاياتهم به العديد من‬ ‫يكشف فقط‪ .‬كأن جسد الواحة ٍ‬

‫الجروح التي ستظل تنزف من دون توقف أو اندمال‪ .‬كل شيء‬ ‫مشاع حتى األسرار‪.‬‬

‫المكان الذي ال نعود مُ ميزين فيه طبقيًّا وجنسيًّا‪ .‬تشعرك‬ ‫ِك لها ألنها ليست ً‬ ‫ً‬ ‫الصحراء بأنك مال ٌ‬ ‫وأيضا تشعرك‬ ‫ملكا ألحد‪،‬‬

‫كأن جسد الواحة عارٍ في حكاياتهم‪ ،‬به‬ ‫العديد من الجروح التي ستظل تنزف‬ ‫من دون توقف أو اندمال‪ .‬كل شيء‬ ‫مشاع حتى األسرار‬ ‫الصحراوي الذي يحجب أي إضاءات زائدة‪ ،‬لكنه في الوقت‬

‫بأنها تملك كل شيء وأنت ال تملك شي ًئا‪ .‬تتبادل معك كل صيغ‬

‫نبن هذا البيت حتى‬ ‫نفسه ال يحجب أضواء الحياة األساسية‪ .‬لم ِ‬

‫قومي أو عنصري‪ .‬يقول ويلفرد ثيسجر‪ ،‬وهو أحد المتخصصين‬

‫يربطنا أكثر بالمكان‪ .‬بيت الرمال الذي يوجد فقط في الخيال‪،‬‬

‫الملكية والسلب والوهب‪ .‬وألنها بال حدود تذوِّب تمامً ا أي حس‬

‫في الصحراء العربية‪ ،‬وأول من قام برحلة في صحراء الربع‬ ‫الخالي القاسية عام ‪1945‬م‪ ،‬ولمدة خمس سنوات‪ ،‬قال عندما‬ ‫عاش وسط البدو هناك‪« :‬لم أشعر بالدونية إال وأنا وسط البدو»‪.‬‬ ‫جئتها منذ خمسة وعشرين عامً ا ً‬ ‫بحثا عن هوية‪ ،‬أو باألدق‬

‫ً‬ ‫نسيانا لها‪ْ ،‬‬ ‫وأنستني واستوعبت غضبي ومنحتني بي ًتا ثانيًا من‬

‫اآلن‪ ،‬منذ فكرنا فيه عام ‪2000‬م‪ .‬لكن هذا البيت المؤجل أصبح‬ ‫ويكبر داخله دون أن ينهار‪.‬‬

‫أعرف تمامً ا أن هذا البيت‪ ،‬لو بنيناه‪ ،‬لن يكون ً‬ ‫ملكا لنا‬

‫وحدنا أنا وسلوى‪ .‬سيشاركنا فيه كل السيويين من األصدقاء‪.‬‬ ‫نحن طارئون على حياتهم وصحرائهم‪ ،‬وسيقتسمون معنا أي‬ ‫شبر باعوه من صحرائهم؛ ألنهم تحملوا‪ ،‬هم وأجدادهم‪،‬‬

‫صعوبة العيش في الصحراء وعلى حوافها‪ .‬هذا هو القانون‬

‫رمال‪ ،‬ألجأ إليه كلما زادت الحياة من وطأتها‪ .‬ذهبت وعدت منها‬ ‫مرارًا‪ .‬واشترينا هناك‪ ،‬أنا وسلوى زوجتي‪ً ،‬‬ ‫أرضا وسط الصحراء‬

‫العادل للحياة‪ .‬يعرفون وربما يضحكون في أكمامهم‪ ،‬عندما‬

‫من نباتات وأشجار الصحراء والمدينة والعالم‪ .‬كان هذا البيت‬

‫في النهاية لهم وألوالدهم‪ ،‬أو على األقل سيقتسمونها مع‬ ‫أصحابها بوصفهم أحد الورثة األصليين؛ ألنهم األطول َ‬ ‫نف ًسا‬

‫بالقرب من تالل الرمال‪ ،‬ونوينا بناء بيت سيوي بداخلها‪ ،‬مع‬ ‫ً‬ ‫خليطا‬ ‫حفر عين للمياه‪ ،‬ويحوطهما مساحة خضراء‪ ،‬تخيلناها‬

‫بمنزلة البيت الصحراوي لتصفية النفس من متاعب رحلة‬ ‫الحياة بأكملها‪ .‬دائمً ا ما نحلم بأن نقضي فيه سنوات مختلفة‬ ‫عن سنوات المدينة وضوضائها وأضوائها‪ ،‬والدهون العالقة‬

‫بعزالتها‪ .‬الصمت هناك يبتلع أي ضوضاء داخلية‪ .‬الغشاء‬ ‫العددان ‪ 490 - 489‬شوال ‪ -‬ذو القعدة ‪1438‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬أغسطس ‪2017‬م‬

‫يرون كل هذه األراضي واألمالك والفيالت المبيعة ستعود‬

‫في صراع الحياة واالستمرار‪ ،‬والخاسرون من البداية‪ ،‬الذين‬

‫تعرضوا لضغوط شديدة طوال حياتهم عوَّدتهم على أن يربضوا‬ ‫ويقرفصوا في انتظار لحظة االنطالق للقبض على الغنيمة‪ ،‬مهما‬

‫زاد زمن القرفصة واالنتظار‪.‬‬


‫بيت في الصحراء‪ ..‬بحثًا عن نقطة األصل‬

‫في زيارتي األخيرة لسيوة‪ ،‬منذ شهر تقريبًا‪ ،‬بدأت تتكون‬

‫ُ‬ ‫كنت أحمل‬ ‫نظرة جديدة غير تلك التي كونتها عن الواحة‪ .‬ربما‬ ‫معي في حقيبة السفر في الماضي أسطورة «نهاية العالم»‪،‬‬

‫التي سيطرت على نظرتي تجاه الحياة ونفسي‪.‬‬

‫خالفت الواحة توقعاتنا‪ ،‬ربما تغيرت أشياء كثيرة داخل‬ ‫لقد‬ ‫ِ‬

‫من اقترب منها‪ ،‬فهو يقدم على مغامرة تستخدم هذه األفعال‬ ‫الخاصة‪ :‬يرتاد‪ ،‬يقتحم‪ ،‬يغزو‪ ،‬يعبر‪ .‬كون الصحراء ً‬ ‫كونا منيعً ا‬ ‫مكتفيًا بذاته‪ .‬وال يمكن أن تعيش عمرك غازيًا‪ ،‬أو مقتحمً ا‪ ،‬أو‬

‫مرتادًا‪ ،‬أو عاب ًرا‪ .‬إما أن تصبح أحد أبنائها‪ ،‬وهو اختيار صعب‬ ‫للغاية‪ ،‬أو ترحل كما يرحل الغزاة والمستعمرون‪.‬‬

‫نطاق الحياة اليومية‪ ،‬ولكن ال يزال هناك فالحون يقضون النهار‬

‫عندما سافرت إلى سيوة للمرة األولى عام ‪1992‬م كنت أبحث‬

‫عربة الكاروصة التي يجرها حمار‪ .‬ما زال هناك أطفال يلعبون‬

‫تحول لحزن شفاف ليس له مركز محدد‪ ،‬يمكن أن يذوب وال‬

‫كله في األرض‪ ،‬ويعودون مع مغرب الشمس إلى بيوتهم فوق‬ ‫في عتمة الحواري المتربة وال يحلمون إال بالذهاب مع آبائهم‬ ‫للحقول والعودة معهم مع المغارب فوق «الكاروصة» التي تهتز‬

‫باستمرار‪ ،‬وتتحول لمرجيحة ألحالمهم الطفولية‪ .‬ومجرد عدو‬

‫بعضهم وراء بعض‪ ،‬وإثارة التراب‪ ،‬ومالمسة أقدامهم الحافية؛‬ ‫أحد مصادر سعادتهم‪ .‬ولم ينعزلوا بعد في غرف أمام شاشات‬ ‫مضيئة أو ألعاب رقمية‪.‬‬

‫ما زالت في هذه المدن القديمة عناصر استقرار وبقاء‬ ‫ً‬ ‫أحيانا على عناصر التحول والتغيير والمسخ‪.‬‬ ‫تعادل أو تتفوق‬ ‫هناك شيء قديم وجوهري في المكان هو الذي يحافظ على‬

‫ذكريات وآثار الناس‪ ،‬شبيه بالعنصر المشعّ في االنشطار النووي‬

‫الذي يقضي عمره كله في نشاط‪ ،‬وربما لن يدرك لحظة هموده‪،‬‬ ‫ربما الصحراء نفسها هي هذا الشيء القديم والجوهري‪.‬‬

‫الصحراء فضاء الذي ال يقبل التحول‪ ،‬لتم ُّنعه وصعوبة‬

‫السكن فيه‪ .‬إنه لإلقامة المؤقتة العابرة‪ ،‬مهما طال زمنها‪ .‬كل‬

‫عن عراء يهزم حزني المديني والمكرر‪ .‬لم أفقد الحزن هناك لكنه‬

‫يكون به سواك‪ .‬كل ما كنت أهرب منه‪ :‬الحزن‪ ،‬الموت‪ ،‬الملل‪،‬‬

‫الزهق‪ ،‬تضخم ذاتي‪ ،‬الفقد؛ وجدته هناك‪ ،‬لكن مصحوبًا‬ ‫بسعادة إضافية بعد أن ُص ِّفي من شوائب المدينة‪ ،‬بعد أن‬ ‫عاد ألصله الكوني مجردًا وذائبًا في فضاء ال تصنيفات طبقية‬ ‫أو عمرية أو اجتماعية له‪ .‬من دون ملوثات المدينة وأفكارها‬ ‫المنصبة على الصراع والخناق والتنافر والتزاحم والصعود‬

‫الطبقي‪ .‬عاد الحزن هناك مثل الرمح المسنون حادًّا وواضحً ا‬ ‫وصريحً ا ومؤلمً ا ً‬ ‫أيضا‪.‬‬

‫الصحراء ال َتقدُ م وال َتتقادَم‪ ،‬ثابتة في الزمن‪ ،‬ال يظهر‬ ‫عليها العجز‪ ،‬المكان الذي ننسى فيه أعمارنا ألنها ً‬ ‫أيضا بال‬ ‫عمر‪ ،‬كوالدة أُولى ونهائية‪ ،‬نقطة األصل األرضية التي جئنا‬

‫منها‪ ،‬تضع بيننا وبين مرور العمر ستارة من الرمال‪ ،‬لتحجبه‪.‬‬ ‫ُحسب بحركة الكثبان‪ ،‬بنمو الهضاب والسهول‪،‬‬ ‫العمر داخلها ي َ‬

‫بتآكل الجبال‪ ،‬بلمعان عظام الحيوانات التي نفقت بها كأنها‬

‫‪157‬‬


‫فضاءات‬

‫عظام بالستيكية‪ ،‬بتحول الصخور إلى صخور ملساء يمكن‬

‫‪158‬‬

‫أن تغني‪ ،‬بدوران الريح‪ ،‬باالنتقال من نقطة إلى أخرى داخل‬ ‫هذا الكيان غير المحدود‪ ،‬بصورة البحر المعكوسة بداخلها‪،‬‬ ‫بالغرق والتيه وسط بحر الرمال‪ .‬الكيان الذي يمتد عمره قبل‬ ‫ميالد اإلنسان‪ ،‬لذا هو يسبق في ذاكرتنا نقطة األصل حيث‬

‫وُلدنا‪ ،‬إنه الستارة الرملية التي تقف خلف نقطة األصل مثل‬

‫شالل من الرمال‪ .‬الموت بدون جثة أو شاهد‪ ،‬هذا االتساع‬

‫الالنهائي هو الشاهد‪ .‬البصر يسقط من التعب قبل أن ينتهي‬ ‫األفق‪ ،‬قبل أن تكون النهاية‪.‬‬

‫من دون ملوثات المدينة وأفكارها‬ ‫المنصبة على الصراع والخناق والتنافر‬ ‫والتزاحم والصعود الطبقي‪ .‬عاد‬ ‫الحزن هناك مثل الرمح المسنون حا ًّدا‬ ‫أيضا‬ ‫وصريحا‬ ‫وواضحا‬ ‫ومؤلما ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫سوى نفسها‪ ،‬وال تمتلئ بأحد‪ ،‬إال نفسها‪ .‬صاحبة العصمة‪،‬‬

‫وال سابق لصورتك بها؛ لذا تشعر بنفس اندهاشك األول في‬

‫يقدم مايكل أشر‪ ،‬الرحَّ الة اإلنجليزي‪ ،‬وأحد أهم مرتادي‬

‫كل مرة تزورها‪ ،‬كأنك غريب عنها‪ ،‬وال رفقة مشتركة بينكما‪.‬‬ ‫ِّ‬ ‫تضخم وال‬ ‫تزورها كل مرة بروح الغريب‪ .‬ليست مرآة ألحد‪ ،‬ال‬ ‫ّ‬ ‫ِّ‬ ‫تشف صورتك‪ ،‬تتجاوزها إلى ما يقبع وراء المرآة‪.‬‬ ‫تصغر‪ ،‬لكنها‬

‫والسودان ومصر؛ يقدم الكتاب بأبيات للشاعر األميركي ت‪ .‬س‪.‬‬ ‫إليوت‪ :‬أبدً ا لن نكف عن التجوال ً‬ ‫بحثا عن أماكن أخرى‪ /‬وليكن‬

‫المتضخمة‪ ،‬ويسحبها كذبيحة داخل هذا الصمت بكل ثقله‬

‫الصحراء العربية واإلفريقية في القرن العشرين في كتابه‬

‫«الرحلة المستحيلة» الذي يروي فيه رحلته الطويلة مع زوجته‬

‫عبر الصحراء بالجمال من موريتانيا مرورًا بمالي والنيجر وتشاد‬

‫ال تعكس سوى الصمت بداخلك الذي يخفي بدوره تلك الذات‬

‫وإزاحاته الممكنة وقدسيته‪.‬‬

‫آخر ما نستكشفه‪ /‬هي تلك النقطة التي بدأنا منها‪ /‬عندها فقط‬

‫أصبحت سيوة‪ ،‬والمدن المشابهة‪ ،‬خط رجعة لنا‪ ،‬نحن‬

‫بالفعل غاية أي رحلة أن نستكشف نقطة األصل‪ ،‬التي‬

‫للمالجئ الجماعية وقت الحروب‪ .‬هؤالء المتمسكون بجمرة‬

‫وتظل هذه النقطة عالقة بنا وتتحرك معنا في انتظار أن نعود‬

‫كشافات اإلضاءة وسط ظالم صاالت السينما‪ .‬سيكونون قادتنا‬

‫سنتعرف على هذا المكان‪ /‬كأننا نراه ألول مرة‪.‬‬

‫عادة ما نغادرها بعد والدتنا ونضجنا لنبحث عن أماكن أخرى‪،‬‬

‫إليها ونكتشفها‪ .‬ال شك أن الصحراء أحد نقاط األصل بجانب‬

‫الموطن‪ ،‬والبيت‪ ،‬والقبر‪ ،‬ورحم األم‪.‬‬ ‫ً‬ ‫الصحراء بطبيعتها غير مجاملة ألنها ال تعكس شيئا‪،‬‬ ‫العددان ‪ 490 - 489‬شوال ‪ -‬ذو القعدة ‪1438‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬أغسطس ‪2017‬م‬

‫أبناء المدن‪ ،‬لنوع من الحياة التي سنلجأ إليها يومً ا ما كما نلجأ‬ ‫هذه الحياة‪ ،‬هم قادتنا في المستقبل‪ .‬هم الذين سيحملون لنا‬ ‫من دون ادعاء ومن دون أي رغبة في القيادة‪ ،‬إنها اضطرارات‬ ‫نهايات العالم‪ ،‬أو بمعنى آخر‪ :‬بداياته‪.‬‬

‫اإلسكندرية ‪ 17‬مايو ‪2017‬م‬


‫بيت في الصحراء‪ ..‬بحثًا عن نقطة األصل‬

‫‪159‬‬


‫مقال‬

‫محمد سبيال‬ ‫مفكر مغربي‬

‫العرب والتقدم‬ ‫مفهوم التقدم هو مفهوم حديث‪ ،‬فهو يقوم على نظرة‬

‫مقارنة ضمنية بين درجات تطور المجتمعات على خط تاريخي‬

‫واحد هو الخط (االفتراضي) للتطور العالمي الذي يتضمن‬

‫ويفترض تفاوتات على الخط العام‪ ،‬وتفاوتات قطاعية ً‬ ‫أيضا‪.‬‬

‫مجاالت التطور التي يفترضها هذا المفهوم هي التطور التاريخي‬ ‫عبر مفاصل أصغر هي التطور االقتصادي‪ ،‬والتطور االجتماعي‪،‬‬

‫والتطور السياسي‪ ،‬والتطور التقني‪.‬‬

‫يمكن أن نرى كل هذه المفاصل إما من المنظور الكمي أو‬

‫‪160‬‬

‫كثيرة‪ ،‬أهمها وحدة اللغة وهيمنة معتقد ديني يأخذ تلوينات مختلفة‪،‬‬ ‫وثقافة مشتركة ذات جذور تاريخية متجذرة‪.‬‬ ‫دينامية الصراع‬

‫تاريخ العرب الحديث هو تاريخ تحكمه دينامية قوية هي دينامية‬

‫التحديث أو على الوجه األصح دينامية الصراع بين التقليد والتحديث‪،‬‬

‫وذلك منذ أن هبَّت أول رياح التحديث على المنطقة العربية منذ أواسط‬

‫القرن التاسع عشر‪ ،‬وعلى وجه التحديد منذ غزو نابليون لمصر‪ .‬فالقانون‬

‫األساسي الذي يحكم تاريخ العرب الحديث هو بندول النهوض والسقوط‪،‬‬

‫من المنظور الكيفي‪ .‬فالتطور أو التقدم الكمي هو حساب درجة‬ ‫التطور االقتصادي مثلاً من خالل عوامل أو مفاعيل كالناتج‬

‫والمراوحة بين هذين الحدين‪ :‬إرادة النهوض وعوامل السقوط‪.‬‬

‫واإلنتاج والتصدير‪ ،‬ومؤشر النمو االقتصادي‪ .‬كما يمكن أن تقاس‬

‫أن العرب صنعوا فترة من التاريخ العالمي‪ ،‬وبلغوا ذروة التاريخ بين‬

‫الخام الوطني‪ ،‬ومنسوب كل فرد سنويًّا‪ ،‬ومستوى االستهالك‬

‫درجة التطور أو التقدم التقني من خالل مستوى التصنيع إنتاجً ا‬ ‫واستهال ًكا ونسبة توزيع واستعمال اآلالت على المستوى الوطني‪.‬‬ ‫بل إن القياسات الكمية للتطور بدأت تطول المجاالت كافة‪،‬‬

‫فالتقدم السياسي يقاس اليوم بدرجة االندراج في السيرورة‬ ‫الديمقراطية التي بدورها تقاس بمعيار الحريات والحقوق‬

‫السياسية‪ ،‬واألحزاب السياسية‪ ،‬والنقابات المهنية‪ ،‬والمؤسسات‬

‫تعود إرادة النهوض عند العرب إلى إرث تاريخي قوي يتمثل في‬

‫القرنين التاسع والثالث عشر عبر علومهم وآدابهم وتمددهم الجغرافي‪.‬‬ ‫لكن التاريخ م ٌّد وجزر‪ .‬وظل هذا الحلم التاريخي يراود حسهم ووعيهم‬ ‫رغم كل االنكسارات والخيبات‪ .‬يتمثل االمتحان التاريخي العسير الذي‬

‫تعرض له العرب في العصر الحديث في سيرورة الحداثة التي انطلقت‬ ‫من أوربا وانتشرت عالميًّا خلسة وقوة‪ ،‬وأصبحت تمثل ً‬ ‫شرطا أساسيًّا‬ ‫للوجود في العالم ولالنتماء إلى العصر‪ .‬ورغم ما للعوامل الخارجية‬

‫المتمثلة في االستعمار واإلمبريالية وإرادة الهيمنة الغربية‪ ،‬فإن المآالت‬

‫التمثيلية السياسية المحلية والوطنية‪ ...‬حتى التقدم الثقافي على‬ ‫الرغم من سمته الكيفية األساسية فقد أصبح قابلاً للقياس من‬

‫السلبية يمكن أن تفسر بدينامية وأهمية الكوابح الداخلية التي يتحايل‬

‫للكتب والمجالت والصحف‪ ،‬وقد أضيف إليه اليوم االطالع على‬

‫ماكر من حيث إنه يمارس ويؤسِّ س للتضليل الذاتي بإسقاط ما هو‬

‫خالل حرية الصحافة ومستوى القراءة واإلنتاج والتوزيع الثقافي‬ ‫المصادر الثقافية في الشبكة العنكبوتية‪ ،‬إلى غير ذلك من‬ ‫المؤشرات‪.‬‬

‫من المؤكد إذن أن عالقة العرب بالتقدم يمكن أن تخضع‬

‫الوعي العربي على نفيها أو تذويبها وإنكارها؛ ألن الوعي التاريخي وعي‬ ‫داخلي على ما هو خارجي‪ ،‬أو ما هو رُوحي على ما هو عقلي‪ ،‬وما هو‬

‫ذاتي على ما هو موضوعي أو تاريخي في مراوَحة حادة بين االستهداء‬

‫والتيه‪ .‬اكتشف العرب العصر الحديث تدريجيًّا عبر مسلسل اكتشافات‬

‫كانت كلها صدمات خادشة وجارحة للشعور بالذات أو بما سمِّي‬

‫لتقديرات كمية كما يمكن أن تخضع لرؤية كيفية‪ ،‬تتطلب النظرة‬ ‫األولى تجميعً ا للمؤشرات الكمية ُ‬ ‫الق ْطرية والقطاعية إال أنها تظل‬

‫بالنرجسية وبالجروح النرجسية المؤلمة‪.‬‬

‫ومن خالل االعتماد على رؤية دينامية تاريخية شاملة ال تخلو‬

‫والتاريخية الكبرى هي صدمة غزو نابليون لمصر (‪1801 -1799‬م) وصدمة‬

‫في حاجة إلى رؤية شمولية على مستوى من التعميم والتجديد‪،‬‬

‫من افتراضات وتقديرات كيفية‪ .‬يشكل العرب اليوم كتلة بشرية‬ ‫يجمعها تاريخ يلحمها تجمع مكاني وروابط تاريخية ومعنوية‬

‫العددان ‪ 490 - 489‬شوال ‪ -‬ذو القعدة ‪1438‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬أغسطس ‪2017‬م‬

‫مر اكتشاف الحداثة عبر صدمات متالحقة معالمها الحديثة‬

‫االستعمار ابتدا ًء من ‪1820‬م‪ ،‬وصدمة سقوط الخالفة ‪1928‬م‪ ،‬وصدمة‬ ‫احتالل فلسطين ‪1948‬م‪ ،‬والهجوم الثالثي ‪1956‬م‪ ،‬والهزيمة ‪1967‬م‪،‬‬


‫واحتالل العراق ‪2003‬م‪ ...‬وهي كلها صدمات ذات وجهين‪ :‬العنف‬

‫والتحديث‪ ،‬صدمات مزدوجة أو مركبة‪ ،‬سطحها حداثي وتاريخها‪،‬‬

‫وعمقها فكري وثقافي‪.‬‬

‫ردود الفعل المختلفة التي واجهت هذه الصدمات هي أشكال‬

‫متباينة من الوعي المراوح بين الوعي المغلوط أو المماوه والوعي‬

‫التاريخي الحاد والجارح‪ ،‬وكذلك ردود أفعال من إرادة النهوض لدرجة‬

‫تسمح بالقول بأن تاريخ العرب الحديث هو تاريخ النهوض والسقوط‬

‫المستمر‪ .‬وهو القانون نفسه الذي يحكم أشكال حركية الوعي العربي‬

‫المراوح بين االرتداد واالنفتاح‪ ،‬بين النكوص واالستجماع؛ ولعل الوعي‬ ‫التاريخي العربي الحديث هو وعي ظل يراوح بين استلهام األصولية‬

‫من المؤكد أن العرب يتقدمون وإن كان‬ ‫هذا التقدم‪ ،‬بناءً على المؤشرات الكونية‪،‬‬ ‫تقدما سلحفات ًّيا على وجه العموم‪ ،‬وبسرعة‬ ‫ً‬ ‫مختلفة داخل البلد الواحد‪ ،‬وغير متكافئ بين‬ ‫المكونة للمجموعة العربية‬ ‫الدول (‪)22‬‬ ‫ِّ‬

‫اإلسالمية‪ ،‬أو استنشاق بعض هواءات الحداثة كما تمثل ذلك النزعة‬

‫وحقوق اإلنسان‪ ،‬وحرية المعتقد) إلى المؤشرات االجتماعية‪ ،‬ونسب‬

‫للوعي العربي ظل بمنزلة حركية جيبية تراوح بين النزعة اإلسالمية‬

‫اإلنسان (النساء‪ ،‬واألطفال‪ ،‬والعمال‪ ،‬وذوي االحتياجات الخاصة)‬

‫القومية في صيغتها الليبرالية واالشتراكية‪ ،‬بل إن المنحنى التاريخي‬ ‫(أوائل القرن التاسع عشر في مصر والجزيرة) والنزعة القومية‪/‬‬

‫االشتراكية (ابتداء من أربعينيات القرن العشرين إلى سبعينياته) ثم‬ ‫العودة القوية للتيارات اإلسالمية بعد هزيمة ‪1967‬م وبداية الثورة‬

‫اإلسالمية اإليرانية (‪1979‬م)‪ ،‬أي في مراوحة مستمرة بين وعي تقليدي‬ ‫ووعي تحديثي تتخلله مزاوجات وتطعيمات‪ ،‬تسويات وتطرفات ذات‬

‫اليمين أو ذات الشمال‪.‬‬

‫ورغم أن التضخم التدريجي لتيارات التطرف والعنف التي‬

‫استمر تدرجها في سُ َّلم تب ِّني العنف الداخلي والخارجي بوصفه في‬

‫الفقر‪ ،‬وعتبة الفقر‪ ،‬وتوزيع الثروة الوطنية‪ ،‬واألمل في الحياة‪ ،‬وحقوق‬

‫والبطالة‪ ،‬والسجون‪ ،‬واإلجرام‪ ،‬والتمدرس‪ ،‬والخصوبة‪ .‬فقد أصبحت‬

‫المؤسسات الدولية هي الساهرة ضمنيًّا على عملية التحديث التي‬ ‫اتخذت بالتدريج طابعً ا كونيًّا‪.‬‬

‫من المؤكد أن العرب يتقدمون‪ ،‬وإن كان هذا التقدم بناء على‬

‫المؤشرات الكونية‪ ،‬تقدمًا سلحفاتيًّا على وجه العموم‪ ،‬وبسرعة‬

‫مختلفة داخل البلد الواحد‪ ،‬وغير متكافئ بين الدول (‪ )22‬المكوّنة‬

‫للمجموعة العربية‪ .‬إذا كانت مشكالت التقدم ومشكالت التحديث‬

‫أو وتائره (وهما متداخلتان في المؤشرات الكونية) متفاوتة داخليًّا‪،‬‬

‫نظرها السبيل األمثل لتحقيق األهداف التي تبلورت في الوعي العربي‬

‫فهي أيضا متفاوتة َبيْنيًّا‪ .‬فعلى العموم إذا ما ميَّزنا بين مستويات ثالث‬

‫الثقافية والسياسية للوعي العربي استعادة التحكم في هذا التوجه‬

‫وتيرة متسارعة قياسً ا إلى غيرها‪ ،‬في حين نلحظ أن التقدم التنظيمي في‬

‫والقبول باالختالف والتعدد على المستويات كافة‪ ،‬واستيعاب تغيرات‬ ‫العالم فهمًا وتعاملاً ‪ ،‬وذلك في اتجاه التصالح مع تحوالت العصور‬

‫بط ًئا؛ ألنه يصطدم بمقاومات ثقافية ومؤسسية عضوية أو أهلية‪.‬‬

‫اإلسالمي‪ ،‬وتحوَّل ذلك إلى مشكل عالمي‪ ،‬فإن بإمكان القيادات‬

‫المتطرف بإعادة تدوير الدفة الثقافية للنواة األصلية نحو االنفتاح‬

‫الحديثة والقبول ببعض سياقاتها ودالالتها ومنظوراتها‪ .‬تدخل كل هذه‬

‫المخاضات ضمن ما يمكن تسميته مخاضات الحداثة والتحديث التي‬

‫هي دينامية أو ديناميات تفرض نفسها بشكل موضوعي بع ّد العالم كله‬

‫قد ركب قطار الحداثة منذ انتشار آلية التحديث عالميًّا التي بدأت مع‬ ‫مرحلة االستعمار‪ ،‬واتخذت بعد ذلك أشكالاً أكثر شبكية‪.‬‬ ‫رعاية مخاضات التحديث‬

‫لقد عهد إلى المؤسسات الدولية المختلفة السياسية والتقنية‬

‫للتحديث أو التقدم‪ ،‬فإننا نلحظ أن سرعة التحديث التقني هي ذات‬

‫وجهيه التقني (المعمار وتنظيم المدن والطرق‪ )...‬والتنظيمي (السياسي‪:‬‬ ‫الدسترة والتمثيلية السياسية والمأسسة والديمقراطية) يسير ً‬ ‫بخطا أكثر‬ ‫أما على المستوى الثالث (المستوى الثقافي) فوتائر التقدم تتباطأ‬

‫أكثر؛ إذ «تسير» بسرعة سلحفاتية في أحسن األحوال ألن المستوى‬ ‫الثقافي الكوني هو األكثر تشعبًا وتمثلاً للبنية الثقافية والفكرية للحداثة‪،‬‬ ‫ومن حيث إن التحديث الكوني هو تعريف للمقولة المركزية للحداثة‬

‫والمتمثلة في فصل الديني عن الدنيوي‪ ،‬والروحي عن المادي‪ ،‬والمقدس‬ ‫عن التاريخ‪ ،‬أو ما يصطلح عليه بالتمييز الواضح بين السياسة والدين‬

‫مؤسسيًّا وفكريًّا‪ .‬هذا إضافة إلى شحنات الحرية واألنسنة التي تحملها‬

‫والثقافية الوصية برعاية مخاضات التحديث على المستوى العالمي‬

‫الشرعة الكونية لحقوق اإلنسان فيما تتضمنه من حقوق (فئوية ونوعية)‬ ‫َ‬ ‫والمعتقد)‪.‬‬ ‫أهمها (حقوق اإلنسان) والحريات (لعل من أبرزها حرية الرأي‬

‫كافة ابتداء من المؤشرات الثقافية (نِسَ ب األمية واإلنتاج واالستهالك‬

‫ألنه يدخل في احتكاك حاد مع المكونات الميتافيزيقية للبنية الثقافية‬

‫وتقليص الحصة االجتماعية في اإلنفاق العام‪ ،‬والناتج الوطني الخام‪)...‬‬ ‫والمؤشرات السياسية (نسب المشاركة‪ ،‬والتمثيلية‪ ،‬وفصل السُّ َلط‪،‬‬

‫الجوهري‪ ،‬ويفترض تحويل النواة الثقافية من نواة جامدة وحيدة‬

‫بمتابعة ومراقبة سيرورات ومؤشرات النمو على مستويات التطور‬

‫الثقافي) إلى المؤشرات االقتصادية (نسب النمو‪ ،‬والموازنة المالية‪،‬‬

‫فعلى هذا المستوى يبدو بندول التقدم العربي أكثر بط ًئا وترددًا؛‬

‫التقليدية‪ ،‬ويفرض ممارسة نوع من العقل التأويلي على العقل‬ ‫المعنى إلى سلسلة تأويالت وتكيفات وقوى تاريخية دافعة‪.‬‬

‫‪161‬‬


‫نصوص‬

‫قصائد ابن الورد‬ ‫عمر شبانة‬

‫شاعر أردني‬

‫٭‬

‫أمشي ورا َء اسْ مي‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫الكتابة والغناءَ‪،‬‬ ‫أعلمُ ه‬ ‫وخلف ُه أمشي‪ّ ،‬‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫الحياة‬ ‫يعلمني‬

‫٭‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫الدرب نحو اسْ مي‪،‬‬ ‫عرفت‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫تحملني إليهِ‪،‬‬ ‫عرفت‪ :‬الرّيحُ‬

‫ُ‬ ‫عرفت أشال َء المُ غ ّني في َدمي‪،‬‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫سوف أجمعُ ها‪،‬‬ ‫وعرفت ّأني‬

‫‪162‬‬

‫َ‬ ‫ألكتب ِسيرتي األولى‪،‬‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫وأجمع مِن شظاياها‪..‬‬ ‫َ‬ ‫اسمي‬ ‫حروف‬ ‫ْ‬

‫٭‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫الدرب نح َو اسْ مي‪،‬‬ ‫عرفت‬ ‫ُ‬ ‫ومشيت‪،‬‬ ‫قرأْ ُت ُدرو َب ُه‬ ‫ُ‬ ‫القلب مِصبــاحي‬ ‫كان‬ ‫ُّ‬ ‫ُ‬ ‫رأيت دمً ا على الطرُقات‪،‬‬

‫ً‬ ‫ظِ ّلي كان مَ‬ ‫شنوقا على الحِ يطان‪،..‬‬

‫كان اسْ مي‬ ‫ً‬ ‫ْ‬ ‫بعثرتها الريحُ ‪،‬‬ ‫بار‬ ‫حُ روفا مِن ُغ ٍ‬ ‫في مُ ُدن ّ‬ ‫فيح‪،‬‬ ‫الص ِ‬ ‫يام‪،‬‬ ‫وفي الخِ ِ‬ ‫ُ‬ ‫طارات الغروب‪،‬‬ ‫وفي ِق‬ ‫ِ‬ ‫تاءات بال نار‪،‬‬ ‫وفي ِش‬ ‫ٍ‬

‫٭‬ ‫ُ‬ ‫أريد اسْ مً ا يُخ ّب ُئني‪،‬‬ ‫ِشتائيًّا ثقيلاً َكي ي ِّ‬ ‫ُدف َئني‪،‬‬ ‫ْ‬

‫ويَحميني مِن ال ّنيران ّ‬ ‫والط ْ‬ ‫لقات‬ ‫ِ‬ ‫ً‬ ‫ُ‬ ‫أريد اسْ مً ا ربِيعيًّا خفيفا‪،‬‬ ‫اللوز‪،‬‬ ‫مِن ُزهور‬ ‫ِ‬ ‫خيل‪ ..‬الحُ ّْر‬ ‫واسْ مً ا لل ّن ِ‬

‫٭‬ ‫َ‬ ‫وك َتب ُ‬ ‫ّبيع‬ ‫ْت أسْ ما َء الر ِ‬ ‫ْت أسْ ما َء َ‬ ‫ك َتب ُ‬ ‫ريف‪،‬‬ ‫الخ ِ‬ ‫ْت أسْ مائي ْ‬ ‫ك َتب ُ‬ ‫وأشالئي‪،‬‬

‫ْ‬ ‫ألع ِرف مَ نْ أكونُ أنــا‪،‬‬ ‫ْت‪ ،‬وما َعر َْف ُ‬ ‫َك َتب ُ‬ ‫ت‪،..‬‬

‫َك َتب ُ‬ ‫ْت أيّامي ُفصول‬ ‫ّ‬ ‫َّ‬ ‫باح‪/‬‬ ‫وللظهي َرةِ‪ /‬والمَ ســاءِ‬ ‫للص ِ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫اعات‪ /‬واأليّامَ‬ ‫ألع ِرف ّ‬ ‫الس ِ‬ ‫أهذي‪ /‬أو َ‬ ‫ْ‬ ‫أغ ّني ‪/‬‬

‫َك ْي أرانـ ْـي‬ ‫أو سأك ُت ُ‬ ‫ب أيَّ حُ ْل ٍم‬ ‫ب ُ‬ ‫ُالت واألحالمَ‬ ‫أ ْك ُت ُ‬ ‫القب ِ‬ ‫ب َ‬ ‫ْ‬ ‫أك ُت ُ‬ ‫واق‬ ‫ك المَ ْخمو َر‬ ‫ليل ِ‬ ‫باألش ِ‬ ‫ُكوني َك ْي أكونَ ‪ ،‬نكونَ‬ ‫عاش ٌق ل َ‬ ‫ِلكونْ‬ ‫ّإني ِ‬

‫وشمس دونما مأوى‪..‬‬ ‫ٍ‬

‫العددان ‪ 490 - 489‬شوال ‪ -‬ذو القعدة ‪1438‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬أغسطس ‪2017‬م‬

‫٭‬

‫طويلاً ‪..‬‬

‫ُ‬ ‫حفرت على اسْ ٍم يُالئمني‪،‬‬ ‫وعمي ًـقا حفـ ُ‬ ‫ـرت ألرسُ مَ ـ ُه‪،‬‬

‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫رسمت‪،‬‬ ‫حفرت‪،‬‬ ‫عام‬ ‫ألف ٍ‬ ‫بت العواصمَ ح ّتى اه َت ُ‬ ‫وجُ ُ‬ ‫ديت‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫وتهت‪،‬‬ ‫ابتعدت‪،‬‬ ‫وأيقنت ّأني‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫لب»‬ ‫وأدركت «بالق ِ‬

‫ّأني أنا اسْ مي‬

‫٭‬ ‫في الدرب جَ ّدي‪ /‬جَ ّدتي‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫وكأنما الـطوفانُ‬ ‫البيوت‪،‬‬ ‫يقتلع‬

‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫كأنما الحيتانُ‬ ‫الآللئ والشواطئ‬ ‫تبتلع‬ ‫في الدرب كان أبي وأمّ ي‪،‬‬

‫كانت الغربانُ‬ ‫ُ‬ ‫تنعب في الخرائب‪،‬‬ ‫كانت األوطانُ تمشي في ّاتجاه‬

‫المَ وت‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫قواميس‬ ‫تأخذنا إلى أسماءِ مَ ن صاغوا‬ ‫َ‬

‫ال ِبال ِد من األساطير‪،‬‬ ‫ْ‬ ‫الطريق إلى الفراغ‪ّ ،‬‬ ‫كأننا‬ ‫استفقنا في‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫أعداؤنا‪ ،‬نمشي إلينا‪،‬‬ ‫ثمّ ُعدنا‪ ،‬عادت الروحُ العليّة‪ ،‬من‬ ‫سَ ماوات َ‬ ‫جحيم األرض‪،‬‬ ‫الخواء إلى‬ ‫ِ‬

‫ُعدنا‪ ،‬كي ُن َ‬ ‫عيد إلى الطبيع ِة ما تشا ُء‬ ‫من العُ ذوبة َّ‬ ‫والغناءِ ‪ّ ،‬‬ ‫وظلت‬ ‫والطهارة ِ‬ ‫ْ‬ ‫دارت بِمَ ن سَ بَقوا‪،‬‬ ‫الدنيا تدو ُر بنا كما‬

‫ُ‬ ‫فدرنا في الهَبا ْء‬


‫٭‬ ‫إلي‪،‬‬ ‫مِن أينَ جا َء اسْ مي ّ‬

‫بال‪،‬‬ ‫أنا المُ شرّد في البَراري‬ ‫ِ‬ ‫والج ِ‬ ‫ولمْ َ‬ ‫راب‪،‬‬ ‫أع ِّمر في ال ِبالد ِسوى َخ ٍ‬

‫األرض أيُّ ِعمــار ٍة آوي إليها‬ ‫ليس لي في‬ ‫ِ‬ ‫عندما َتجتاحني ريح ّ‬ ‫الشمال‪،‬‬ ‫عام ُدونما اسْ م‬ ‫أنا الذي‪ ،‬من ْأل ِ‬ ‫ف ٍ‬ ‫ّ‬ ‫علي قلبي‪،‬‬ ‫يدل ّ‬

‫ُّ‬ ‫ُوح أسَ مّ يها‪ ..‬بِالديْ‬ ‫أو يدل دمي على ر ٍ‬

‫٭‬ ‫ِمنْ أينَ يأتي اسْ مي‬ ‫إذا لمْ َت ْزرَعي ِه في ثِيابِك‪،‬‬

‫َو ْر َد ًة في َص ْد ِر ِك َّ‬ ‫الشجَ ريِّ ‪،‬‬ ‫ـك ي َْد ُف ُق‪،‬‬ ‫الع ْط ُر ِمنْ َن ْه َريـ ِ‬ ‫واسْ مي ِ‬ ‫ْك‪،‬‬ ‫قول ي َ​َدي ِ‬ ‫و َْه َو حَ ْق ٌل ِمنْ حُ ِ‬

‫َظ َّل َلني ُق ً‬ ‫ك ِّ‬ ‫السحْ ريِّ ‪،‬‬ ‫رونا بِاسْ مِ ِ‬ ‫أبيض مُ َتو ِّ‬ ‫َس ٍط‬ ‫ْض‬ ‫ٍ‬ ‫ي َْغمُ رُني بِحَ و ٍ‬ ‫َكحَ دِ َ‬ ‫ِلع ْش ِق‪،‬‬ ‫يق ٍة ِسرّي ٍة ل ِ‬ ‫ْك‬ ‫واسْ مي َنجْ مَ ٌة ِمنْ َضوْءِ َع ْي َني ِ‬ ‫ين‪،‬‬ ‫المُ بار َ​َك َت ِ‬

‫ك سَ وف ْ‬ ‫أصعَ ُد سُ َّلمَ األسْ ماءِ ‪،‬‬ ‫باسْ مِ ِ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ك سَ وف ْ‬ ‫أه ِبط بِئ َر أسْ مائي‬ ‫باسْ مِ ِ‬ ‫وأنه ُ‬ ‫ْ‬ ‫َل‪،‬‬

‫وف ْ‬ ‫ِك سَ َ‬ ‫أقطِ ُ‬ ‫ف َو ْر َد أسْ مائي‪..‬‬ ‫ِمن حُ قول ِ‬ ‫راب َ‬ ‫ْ‬ ‫وأنحَ ـ ُ‬ ‫ب أسْ مـا َء الرَّبي ْـع‬ ‫الق ْـل ِ‬ ‫ـت ِمنْ ُت ِ‬ ‫واسْ مي الذي‪،‬‬ ‫ين «حَ ّتا»* رُوحُ ُه‪،‬‬ ‫ِمنْ طِ ِ‬

‫ئرها أمْ طا ُر ُه وسَ نابِ ُل ْه‬ ‫ِمنْ بِ ِ‬ ‫َ‬ ‫يا ِتينَ أسْ مائي ويا َزيْتونها ال َبرِّيّ ‪،‬‬ ‫ُي ْز ِه ُر في َدمي ال ُّنوّارُ‪،‬‬ ‫السماءِ بَالبِ ُل ْه‬ ‫ُت ْز ِه ُر في َّ‬

‫واسْ مي الذي من ور ِد قلبي‬ ‫جاءني في الحُ ْل ِم‪،‬‬ ‫أعطاني حِ كاياتي وأسمائي‪:‬‬ ‫يتون‪،‬‬ ‫ين وال َّز ِ‬ ‫بال ُد ال ّت ِ‬ ‫واسْ مي مِن بال ِد الناي‪،‬‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫وغابات‪ ،‬مُ‬ ‫حيطات‪،‬‬ ‫ْأنها ٌر‬

‫الم‪،‬‬ ‫واسْ مي سأ ْك ُت ُب ُه ِمنَ األحْ ِ‬ ‫بي‪،‬‬ ‫ين‬ ‫ِ‬ ‫كالغابات في َق ْل ْ‬ ‫ِمنْ َع ْي َن ِ‬ ‫و ِمنْ َع َس ٍـل وجُ ٍّ‬ ‫ـوري و‪ ..‬شــامْ‬ ‫ناؤك في ّ‬ ‫الصباحْ‬ ‫واسْ مي ِغ ِ‬

‫والسْ مي ُ‬ ‫ألف فلاّ ٍح و َب ّناءٍ ‪،‬‬ ‫الس ُل ْه‬ ‫وفي َق ْلبي ُتشا ُد سَ ِ‬

‫أنا مَ نْ رأى في ّ‬ ‫ام َض ْو َء ِدمَ ْش ِقها‬ ‫الش ِ‬ ‫ّام‬ ‫أنا مَ نْ يرى فيها َندى األي ِ‬

‫واسْ مي ال َّزمانُ ‪ُ ،‬‬ ‫كان‪،‬‬ ‫أخو المَ ِ‬ ‫وسيقا‪ ،‬و َز ْع َت ْر‬ ‫و ُبرْجُ أضواءٍ ومُ ِ‬

‫إليك‬ ‫يا شامُ عا َد ِ‬

‫واسْ مي َعلى جَ ب ٍَل َصباحً ا‪،‬‬

‫في المَ ساءِ يكونُ في الواديْ ‪،‬‬ ‫و َب ْي َنهما أنا سَ ه ٌ‬ ‫ْل‪ ،‬وحَ ّنونٌ ‪ ،‬و َبي َْد ْر‬ ‫واسْ مي أنا َبحْ ٌر‬ ‫ومِينائي مُ ٌ‬ ‫حيط هائجٌ ‪،‬‬

‫وسأرس ُـل األمـواجَ ‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َبيع ْك‬ ‫أمواجي‪ ،‬لتهبط في ر ِ‬

‫و َْهجُ الياسَ مينُ ّ‬ ‫الشامي‬ ‫هلاّ َتعــو ُد ل ِ​ِع ْطـ ِـرها‪ ..‬أ ّيــامي؟‬

‫في ّ‬ ‫ُ‬ ‫أشرب َقهْوتي‬ ‫الصالحيّة ُع ْد ُت‬ ‫األحالم‬ ‫في باب ُتوما َز ْهر َُة‬ ‫ِ‬ ‫طيني‬ ‫الفلس‬ ‫وأنا‬ ‫ْ‬ ‫ُّ‬ ‫َ‬ ‫ـام دمـ ْـي‬ ‫ِمنْ شـ ٍ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫و ِدمَ ْشــق قلب ـ ْـي‬ ‫رأيت ّ‬ ‫وأنا ُ‬ ‫الشامَ َت ْصعَ ُد‬

‫َبيع للحَ ْ‬ ‫واسْ مي ر ٌ‬ ‫دائق‬ ‫واسْ مي حُ ٌ‬ ‫قول لل َّز ْ‬ ‫نابق‬

‫والرّياحُ تطي ُر مِن أعطا ِفها ُقبَل‬

‫س أسْ مائي‬ ‫َف ْل َتحْ َفظي يا َشمْ ُ‬ ‫احْ َفظي يا أر ُ‬ ‫ْض‬

‫واسْ مي بال ُد ّ‬ ‫الشامْ‬

‫قامَ ِت َي الجَ َ‬ ‫ميل َة‬ ‫واحْ َفظيني يا سَ ما ُء‬ ‫الق ْ‬ ‫بِ ُك ِّل أيّامي َ‬ ‫ليلة‬ ‫واسْ مي أنا‪..‬‬

‫ما اسْ مي إذا جُ نَّ ال َّنهارُ؟‬

‫وما اسْ مُ مُ وسيقايَ في ُ‬ ‫القب َِل‪..‬‬ ‫األغاني؟‬ ‫ْ‬

‫كأنَّ‬ ‫َّ‬ ‫الرب َي ْرسمُ وَجْ هَها‬

‫ِمنْ أينَ أبدأ يا بالديْ ؟‬

‫‪163‬‬


‫تراث‬

‫مقامات‬ ‫بديع الزمان الهمذاني‪:‬‬ ‫نص ال ينضب‬ ‫اكتشافات جديدة‪ّ ،‬‬ ‫‪164‬‬

‫العددان ‪ 490 - 489‬شوال ‪ -‬ذو القعدة ‪1438‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬أغسطس ‪2017‬م‬


‫بالل األرفه لي‬

‫باحث لبناني‬

‫ّ‬ ‫ً‬ ‫موضوعا‬ ‫شكلت مقامات بديع الزمان الهمذاني (ت ‪398‬هـ‪1008 /‬م)‬

‫شغل بال عدد كبير من المؤلفين العرب والمستشرقين في حقل الدراسات‬ ‫العربية‪ .‬والهمذاني هو مبدع هذا الفن الذي ترك أثرًا كبيرًا في األدب العربي‬ ‫والعالمي عامة على مدى أكثر من ألف سنة‪ ،‬ولذا فإن مقاماته تكتسب أهمية‬

‫العالمي‪ .‬لكن منذ صدور طبعة محمد عبده لمقامات الهمذاني‬ ‫خاصة في التراث‬ ‫ّ‬

‫سنة ‪1889‬م‪ ،‬لم تطرح الدراسات عن المقامات أسئلة عن التاريخ النصي لهذا‬ ‫العمل؛ فقد ساد االعتقاد أن محمد عبده ّ‬ ‫عدل النص في مواضع قليلة ليتوافق‬

‫مع العرف األخالقي السائد في عصره‪ ،‬وفيما عدا ذلك رسخ في أذهان الدارسين‬ ‫أن النص المطبوع ّ‬ ‫يمثل ما قاله الهمذاني‪ ،‬وبذلك أضحى نص محمد عبده‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫بكل سلبياته وأخطائه‪ ،‬في الغالب‪ ،‬المرجع المعتمد عند الحديث عن مقامات‬ ‫ً‬ ‫نظرة ّ‬ ‫الهمذاني‪ .‬لكنّ‬ ‫متأنية في عشرات المخطوطات التي وصلتنا تشير إلى أنّ‬

‫نص المقامات قد قام برحلة مذهلة قبل أن يصلنا ّ‬ ‫ّ‬ ‫شكلت معالمه وغيّرته‪.‬‬ ‫تمثل عند ّ‬ ‫غالب الظن أن مقامات الهمذاني لم تكن ّ‬ ‫مؤلفها‬ ‫عملاً أدبيًّا متكاملاً ‪ ،‬على األقل في المرحلة األولى من تأليفها؛‬ ‫فالشاعر مثلاً يبدأ بنظم القصائد ومن ثم يجمعها في ديوان حين‬ ‫ّ‬ ‫كاف منها‪ ،‬ويمكن للشاعر أن يضيف قصائد‬ ‫يتشكل لديه عدد ٍ‬ ‫إلى ديوانه المجموع في مرحلة الحقة‪ .‬وغالبًا ما يجمع الديوانَ‬

‫أحدُ المق ّربين من الشاعر أو رُواته في حياته أو بعد وفاته‪ .‬هذا‬ ‫ّ‬ ‫األمر يصحّ ً‬ ‫ولعله األقرب إلى‬ ‫أيضا في دواوين الرسائل والخطب‪،‬‬

‫ّ‬ ‫الصواب ً‬ ‫يتعلق بمقامات الهمذاني وجمعها‪ ،‬فنحن ال‬ ‫أيضا فيما‬

‫نعرف على وجه التحديد كم مقامة كتب الهمذاني أو ترك لنا‪،‬‬

‫وال نعرف ما إذا كان هو صاحب جميع المقامات المنسوبة له‪.‬‬ ‫ً‬ ‫مخطوطا لمجموع‬ ‫ويمكن بالعودة إلى أكثر من أربعين‬ ‫مقامات الهمذاني‪ ،‬تقسيم مخطوطات المجموع إلى ثالث‬

‫مجموعات‪:‬‬ ‫ّ‬ ‫تجانسا‪ ،‬تتألف‬ ‫المجموعة األولى‪ :‬وهي أكثر المجموعات‬ ‫ً‬ ‫من المخطوطات الخمسة األقدم‪ ،‬وهي‪ :‬فاتح ‪ ،4097‬ومدرسة‬

‫اللغات الشرقية واإلفريقية ‪ ،47280‬ويال ‪ -‬سالسبري ‪ ،63‬وآيا‬

‫صوفيا ‪ ،4283‬وباريس ‪.3923‬‬ ‫ً‬ ‫المجموعة الثانية‪ :‬مكوّنة من ‪ 20‬مخطوطا تعود إلى ما‬ ‫بين القرن الحادي عشر الهجري (السابع عشر الميالدي) إلى‬

‫القرن الثالث عشر الهجري (التاسع عشر الميالدي)‪ .‬تعتمد هذه‬ ‫المخطوطات ترتيب مخطوط فاتح ‪ ،1097‬وتتضمن عددًا آخر من‬ ‫المقامات والمُ َلح‪ ،‬من بينها الهمذانية والشريفية والخاتمية‪.‬‬ ‫ً‬ ‫مخطوطا تعود إلى ما بين‬ ‫المجموعة الثالثة‪ :‬تتضمن ‪15‬‬

‫القرن العاشر الهجري (القرن السادس عشر الميالدي) والقرن‬

‫الثالث عشر الهجري (التاسع عشر الميالدي)‪ .‬ترتيب المقامات‬ ‫في هذه المجموعة هو الترتيب الذي نجده في طبعة محمد‬ ‫ً‬ ‫إضافة إلى المقامات الموجودة في مخطوط‬ ‫عبده‪ ،‬وتتضمن‪،‬‬

‫فاتح‪ ،‬المقامات التالية‪ :‬المغزلية‪ ،‬والناجمية‪ ،‬والخلفية‪،‬‬ ‫والنيسابورية‪ ،‬والعلمية‪ ،‬والشعرية‪ ،‬والملوكية‪ ،‬والصفرية‪،‬‬

‫والسارية‪ ،‬والتميمية‪ ،‬والخمرية‪.‬‬

‫مواد لم تتضمنها طبعة محمد عبده‪:‬‬ ‫المقامة الشامية‬

‫هذه المقامة مثبتة في بعض طبعات المقامات‪ ،‬وال‬ ‫ي ّ‬ ‫ُشك بصحة نسبتها إلى الهمذاني‪ .‬صحيح أن محمد عبده لم‬ ‫لاّ‬ ‫دواع أخالقية بحتة؛ إذ‬ ‫يضمنها طبعته‪ ،‬إ أن ذلك مردّه إلى‬ ‫ٍ‬ ‫إنه يقول في مقدّ مة طبعته (مقامات بديع الزمان الهمذاني‪،‬‬

‫تحقيق محمد عبده‪ ،‬ص‪« :)2‬وههنا ما ينبغي التنبيه عليه وهو‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫افتنانا في‬ ‫المؤلف من مقامات البديع ‪-‬رحمه الله‪-‬‬ ‫أن في هذا‬ ‫أنواع من الكالم كثيرة‪ ،‬ربّما كان منها ما يستحي األديب من‬

‫ّ‬ ‫بالسذج أن‬ ‫قراءته‪ .‬ويخجل مثلي من شرح عبارته‪ .‬وال يحمل‬

‫يستشعروا معناه‪ .‬أو تنساق أذهانهم إلى مغزاه‪ .‬وأعوذ بالله‬ ‫أن أرمي صاحب المقامات بالئمة تنقص من قدره‪ .‬أو أعيبه‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫يحط من أمره‪ .‬ولكنْ‬ ‫ولكل خيال مجال‪.‬‬ ‫زمان مقال‪.‬‬ ‫لكل‬ ‫بما‬ ‫ٍ‬

‫وهذا عذرنا في ترك المقامة الشامية‪ .‬وإغفال بعض جمل من‬

‫المقامة الرصافية‪ .‬وكلمات من مقامة أخرى مع التنبيه على‬ ‫ذلك في مواضعه‪ .‬واإلشارة إلى السبب في مواقعه»‪ .‬ي ّتخذ‬ ‫قاض في بالد‬ ‫الراوية عيسى بن هشام في هذه المقامة دو َر‬ ‫ٍ‬

‫‪165‬‬


‫تراث‬

‫الشام يختصم إليه رجل هو اإلسكندري وامرأتان‪ ،‬األولى تدّ عي‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫طالقا ونفقة‪ .‬يستمع القاضي إلى ادّعاء‬ ‫صداقا‪ ،‬والثانية تلتمس‬

‫الرجل في ته ّربه من صداق األولى‪ ،‬ثم يسمع ردّها‪ ،‬ثم دفاع‬ ‫الرجل الذي يتبيّن كذبه‪ .‬بعدئذٍ تطلب المرأة الثانية اإلمساك‬

‫بالمعروف أو التسريح بإحسان‪ ،‬فيحكم القاضي للمرأة بنفقة‬ ‫قدرها «مئة» في الشهر‪ .‬إلاّ أن اإلسكندري يجد أن هذا فوق‬ ‫الطاقة‪ ،‬فيهدّ ده القاضي بإبرام الطالق‪ .‬يعود اإلسكندري بعد‬

‫شهرين ليلتمس تخفيف النفقة فينذره القاضي بإبرام الطالق‬ ‫مجدّ دًا‪ ،‬عند ذلك ينشد اإلسكندري ً‬ ‫أبياتا في هجائه‪.‬‬ ‫المقامة الطبّية‬

‫موضوع هذه المقامة‪ ،‬الموجودة حص ًرا في مخطوط‬

‫الطب والصيدلة‪ .‬يقص راوي‬ ‫يال‪ -‬سالسبري ‪ ،63‬هو‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫مغامرة لطبيب في مدينة‬ ‫المقامات المعتاد عيسى بن هشام‬ ‫الدونق مع رفقة من مدينة األهواز‪ .‬بعد تعداد بارع ومسجّ ع‬ ‫لألمراض النادرة والعقاقير التي تشفيها‪ ،‬يستطيع الطبيب‪،‬‬

‫بمساعدة ابنه‪ ،‬أن يخدع هذه الرفقة ويحصل منهم رزقه‪.‬‬

‫وكما هي العادة في مقامات الهمذاني األخرى‪ ،‬يكشف‬

‫‪166‬‬

‫الراوي قناع أبي الفتح اإلسكندري في نهاية المقامة‪ .‬وقد‬ ‫ُ‬ ‫ناقشت وموريس بومرانتز في مقالة ُنشرت في مجلة أرابكا‬

‫بكل سلبياته‬ ‫أضحى نص محمد عبده‪،‬‬ ‫ّ‬

‫وأخطائه‪ ،‬في الغالب‪ ،‬المرجع المعتمد‬ ‫عند الحديث عن مقامات الهمذاني‪.‬‬ ‫لكن نظرةً متأ ّنية في عشرات‬ ‫ّ‬ ‫أن‬ ‫المخطوطات التي وصلتنا تشير إلى ّ‬ ‫نص المقامات قد قام برحلة مذهلة‬ ‫ّ‬

‫وغيرته‬ ‫قبل أن يصلنا ش ّكلت معالمه‬ ‫ّ‬ ‫صحّ َة نسبة هذه المقامة إلى الهمذاني اعتمادًا على األسلوب‬ ‫والشكل‪ ،‬مؤ ّكدَ ين أن وجودها ضمن هذا المجموع القديم‬ ‫يجعلها أكثر موثوقية من ُخمس المقامات المنشورة في‬

‫طبعة محمد عبده‪.‬‬

‫المقامة الهمذانية‬

‫وصلتنا هذه المقامة والمقامتان التاليتان في أكثر من‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫نشرتها وموريس بومرانتز في‬ ‫مخطوطا‬ ‫أحد عشر‬ ‫مجلة‬

‫الدراسات العبّاسيّة‪ .‬ومضمون المقامة الهمذانية أن عيسى‬

‫ابن هشام يصل إلى مدينة همذان الخاضعة لزعامة شخص‬ ‫يدعوه الشريف الحسني‪ .‬يلتحق عيسى‬ ‫ً‬ ‫شخصا‬ ‫بمجلس الحسني ويلتقي‬

‫«ينتمي البن المش ّرف الكاتب»‪ ،‬وآخر‬

‫«بالدسكرة قد عا َو َد الدَّ ْعوة األولى‬ ‫ْ‬ ‫وان َتمى لبغداذ»‪ .‬يبدأ‬ ‫[العبّاسية]‬ ‫هذا الرجل بإنشاد شعر يحنّ فيه‬

‫إلى الزمن الماضي‪ ،‬ذاك ًرا الشيب‬

‫والشباب‪ ،‬وبعد ذلك ينتقل إلى تعداد‬

‫المناطق البغدادية والمناطق القريبة‬

‫منها‪ .‬يخلص الشاعر بعدها إلى مدح‬ ‫الشريف الحسني بالجود والعطاء‬ ‫واإلحسان‪ ،‬وهي صفات ّ‬ ‫تمكن الشاعر‬

‫ّ‬ ‫التغلب على «ريب الزمان»‪ .‬وفي‬ ‫من‬

‫البيتين األخيرين يشير الرجل إلى سفره‬ ‫واختباره بخل الناس وَجودهم قبل أن‬

‫ينصرف إلى حضرة الشريف‪ .‬وفي ختام‬ ‫المقامة يتع ّرف الشاعر إلى هوية الراوي‬ ‫عيسى بن هشام‪ ،‬فينشد بي ًتا في الغزل‬ ‫ينمّ عن هذا التع ّرف ويتداركه ببيت آخر‬

‫المقامة الطبّية في مخطوط يال‪-‬سالسبري‪ ،‬ورقة ‪29‬أ‪30-‬ب‬

‫العددان ‪ 490 - 489‬شوال ‪ -‬ذو القعدة ‪1438‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬أغسطس ‪2017‬م‬

‫ببيت‬ ‫يستره‪ ،‬فير ّد عيسى بن هشام‬ ‫ٍ‬ ‫يعدُ الشاع َر بكتمان س ّره‪.‬‬ ‫ِ‬


‫نص ال ينضب‬ ‫مقامات بديع الزمان الهمذاني‪ ..‬اكتشافات جديدة‪ّ ،‬‬

‫المقامة الشريفية في مخطوط مجلس ّ‬ ‫ملي ‪ ،2/5764‬ورقة ‪124‬ب‪125-‬أ‬

‫المقامة الشريفية‬

‫راوية هذه المقامة هو ابن عيسى بن هشام‪ ،‬واسمه‬

‫محمد‪ .‬يروي محمد أنه شهد أبا الفتح اإلسكندري يكتب‬ ‫ً‬ ‫نيابة عن طاهر بن محمد اإلسكندري‪ ،‬وأن‬ ‫للشريف الحسني‬

‫فحوى ما كتبه رغبته في العودة إلى حضرة الشريف ومدحه‬ ‫بعد أن اضط ّرته صروف الدهر إلى ترك تلك الحضرة‪ .‬ينتقل‬ ‫كاتب المقامة بعد ذلك إلى وصف ما لقيه في بُعده من شقاء‬

‫وقلق وسهاد وبخل الباخلين‪ ،‬ليمدح الشريف مجدّ دًا في‬ ‫الختام‪.‬‬

‫المقامة الخاتمية‬

‫يروي عيسى بن هشام في هذه المقامة قصة خالف حول‬

‫«زوجَ ْي خاتم» بينه وبين أبي سعد القائجاني‪ ،‬وكان أبو سعيد‬ ‫قد قايض أحد الزوجين بـ«توزيع» ناله من األستاذ أبي علي‬

‫الحسن بن أحمد‪ ،‬ولكنه ندم بعد أن عرف قيمة الخاتمين‪.‬‬ ‫عند ذلك يتحدّ ى القائجاني الراويَ في لعبة شطرنج يكون‬ ‫ّ‬ ‫يغش في‬ ‫الخاتمان فيها من نصيب الرابح‪ ،‬فإذا بالقائجاني‬

‫المقامة الخاتمية في مخطوط مدرسة اللغات الشرقية واإلفريقية ‪ ،47280‬ورقة ‪122‬ب‪123-‬أ‬

‫اللعب م ّرتين‪ .‬وكان القائجاني أقرع ال يتجاسر أحدٌ على ذكر‬

‫الرأس أو القرع في حضوره‪ ،‬فإذا بالراوي ينظم شع ًرا ينذر فيه‬

‫القائجاني ويذكر رأسه ألنه رفض تسليم الخاتمين اآلخرين‪.‬‬ ‫وتستمر المكاتبة والخالف وذكر َ‬ ‫الق َرع إلى أن يجتمع االثنان‬ ‫إلى مائدة أبي الحسن بن أحمد‪ .‬إلاّ أن الراوي يمتنع عن الطعام‬

‫أبياتا يهجوه مع ّر ً‬ ‫ً‬ ‫ضا برأسه‬ ‫بسبب حضور القائجاني‪ ،‬وينشد‬

‫األقرع‪ .‬ولما استغرب أبو الحسن هذا الفعل على المائدة‪،‬‬ ‫قص عليه عيسى بن هشام ما حدث‪ .‬في إثر ذلك تناول أبو‬

‫الحسن الخاتمين من القائجاني وأعطاهما لعيسى وسأله أن‬ ‫ّ‬ ‫يتوقف عن الهجاء‪ .‬وتنتهي المقامة بأبيات من الشعر ألحد‬

‫الك ّتاب يمدح فيها عيسى بن هشام لهجائه القاسي للقائجاني‪.‬‬ ‫غير أن القائجاني شكا هذا األمر إلى األستاذ أبي الحسن‪ ،‬فر ّد‬ ‫عيسى بشعر يذ ّكر فيه القائجاني بأنه كان قد ّ‬ ‫حذره من مغبّة‬ ‫فعله‪.‬‬

‫خاتمة‬

‫أسّ س الهمذاني في مقاماته لفنٍّ ترك أث ًرا كبي ًرا في األدب‬

‫العربي والعالمي‪ ،‬غير أن نص الهمذاني نص مفتوح لكثير‬ ‫ّ‬ ‫تتعلق بتأويله فحسب‪ ،‬بل ً‬ ‫من األسئلة التي ال‬ ‫أيضا بجمعه‬ ‫وتكوينه وتاريخه وتداوله‪ .‬ويبدو أن مجموع مقامات الهمذاني‬ ‫ّ‬ ‫َّ‬ ‫المؤلف‪،‬‬ ‫تشكل على صورة كتاب في مرحلة الحقة من حياة‬

‫وذلك بتأثير من مجموع مقامات الحريري الذي تضمن‬ ‫خمسين مقامة‪ .‬ولما كان ثمة مجموع ّ‬ ‫مبكر لمقامات الهمذاني‬ ‫نساخ مقامات‬ ‫قيد التداول يتضمن أربعين مقامة‪ ،‬فالظاهر أن ّ‬

‫الهمذاني وجامعيها أضافوا مقامات إلى هذا المجموع ليصل‬

‫المجموع إلى خمسين‪ .‬وال يعنينا في هذا المقام صحة نسبة‬

‫هذه القطع األدبية إلى الهمذاني بقدر ما يعنينا أن إضافتها إلى‬

‫مخطوطة فاتح ‪ 4097‬وهي المخطوطة األقدم لمجموع مقامات الهمذاني‬

‫مجموع مقامات الهمذاني دليل على أنها همذانية الطابع‪ ،‬وأن‬ ‫ّ‬ ‫التشكل ح ّتى القرن السادس‬ ‫مجموع مقاماته كان ال يزال قيد‬

‫الهجري (الثاني عشر الميالدي) على أقل تقدير‪.‬‬

‫‪167‬‬


‫مقال‬

‫شكري المبخوت‬ ‫أكاديمي وروائي تونسي‬

‫توفيق ب ّكار‪..‬‬ ‫العربي‬ ‫القارئ العاشق لعيون األدب‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫والمثقف التونسي‬ ‫الجامعي والناقد‬ ‫مثل رحيل‬ ‫ّ‬ ‫توفيق ّ‬ ‫بكار (‪2007 - 1927‬م )‪ ،‬خسارة كبرى لرمز من‬

‫أهمّ رموز الثقافة التونسيّة وخسارة أكبر للجامعة‬ ‫التي غادرها منذ ما يناهز العقود الثالثة‪ ،‬لك ّنه ّ‬ ‫ظل من‬ ‫فرسان العلم فيها بنصوصه ّ‬ ‫واتجاهه في النقد‪ ،‬وأثره‬

‫في تدريس األدب فيها‪ .‬وليس من باب الصدفة أن‬ ‫ّ‬ ‫والمثقفين واألدباء‬ ‫تشيّعه نخبة متنوّعة من الجامعيّين‬

‫‪168‬‬

‫والسياسي‬ ‫المدني‬ ‫والف ّنانين والفاعلين في المجتمعين‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫التونسي من جميع األطياف األيديولوجيّة يتقدّ مهم‬ ‫ّ‬

‫رئيس الحكومة ووزيرا التعليم العالي والثقافة‪ ،‬إضافة‬

‫إلى عدد من رؤساء الجامعات‪ .‬ولهذا اإلجماع على‬ ‫شخص توفيق ّ‬ ‫بكار بوصفه رم ًزا أسباب كثيرة نكتفي منها‬ ‫األدبي‪.‬‬ ‫بإسهامه في تجديد الدرس‬ ‫ّ‬ ‫ينتمي توفيق ّ‬ ‫بكار إلى النخبة التي ساهمت في‬

‫تأسيس الجامعة التونسيّة وتطوير الثقافة الوطنيّة‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫متحصلاً على‬ ‫فما إن أتمّ دراسته الجامعيّة بالسوربون‬

‫التبريز في اللغة العربيّة وآدابها أواخر الخمسينيات من‬ ‫القرن الماضي ح ّتى عاد إلى تونس للتدريس بجامعتها‪.‬‬

‫وفي هذا السياق نفهم جوانب كثيرة من مآثره‪ .‬فقد‬ ‫ً‬ ‫توثيقا له‪ ،‬وإبرا ًزا لألصوات القويّة‬ ‫التونسي‬ ‫اهتمّ باألدب‬ ‫ّ‬ ‫العربي‪ .‬فكان يدرّس‬ ‫فيه‪ ،‬وتنزيلاً له منزلته من األدب‬ ‫ّ‬

‫إلى طلبته نصوص محمود المسعدي وعلي الدوعاجي‬

‫ّ‬ ‫يستحق التدريس‪ ،‬بل‬ ‫التونسي في جامعة لم تكن ترى فيه ما‬ ‫تكمن أساسً ا في أن أصبح توفيق ّ‬ ‫بكار يُع َرف بمناهج الدراسات‬ ‫األدبيّة‪ .‬فقد أنشأ وحدة للتدريس تعتمد على تكوين طلبة‬

‫شعبة العربيّة في المناهج النقديّة الحديثة‪ .‬ويقصد بها آنذاك‬

‫ما أفرزه النقد الجديد في فرنسا‪ ،‬متأث ًرا بالشكالنيّين الروس‬ ‫أساسً ا‪ ،‬من نظريّات وما صاغه من مفاهيم في ّاتجاهات‬ ‫ّ‬ ‫والنصانيّة (بارت)‬ ‫سمِّ يت الشعريّة والبنيويّة (تودوروف)‬

‫والبنيويّة التوليديّة (غولدمان)‪ .‬وإذا علمنا أنّ هذه التيّارات‬

‫النقديّة كانت تخوض آنذاك في الجامعات الفرنسيّة معركة‬

‫ضدّ التصوّرات النقديّة الكالسيكيّة أدركنا حجم المغامرة‬ ‫الشجاعة التي أقدم عليها توفيق ّ‬ ‫بكار بنقلها إلى الجامعة‬

‫التونسيّة الفتيّة‪ .‬ولوال تكوينه المتين في اللسانين والثقافتين‬

‫العربيّة القديمة والفرنسيّة واالحترام الذي كان يحظى به‬

‫من زمالئه لما أمكنه أن ينجح في مغامرة استنبات النقد‬

‫الحديث في الجامعة التونسيّة‪ .‬لقد كان من القالئل الذين‬ ‫استطاعوا إقناع زمالئه بأهمّ يّة أن يكون ّ‬ ‫التونسي‬ ‫حظ الطالب‬ ‫ّ‬ ‫مماثلاً‬ ‫ّ‬ ‫الفرنسي في االطالع على تيّارات نقديّة‬ ‫لحظ الطالب‬ ‫ّ‬

‫معاصرة لم تستق ّر بعد االستقرار الذي يقنع أساتذة درسوا‬ ‫عن المستشرقين علمً ا كان يقدّ م بمناهج كالسيكيّة‪.‬‬

‫الجامعة مختب ًرا للقراءة‬ ‫لم تكن دروس توفيق ّ‬ ‫بكار بالنسبة إلى طلبته إمالء بليدً ا‪،‬‬

‫المدني‬ ‫ومحمّ د العريبي والشابّي وحسن نصر وعز الدين‬ ‫ّ‬ ‫وغيرهم على قدم المساواة مع نصوص كبار الك ّتاب‬

‫وال محاضرات منقولة من الكتب يستشهد فيها بمن يعتقد‬ ‫ّأنهم أئمّ ة النقد‪ .‬بل يشهد طلبته الذين اختلفوا إلى تلك‬

‫الذاكرة الثقافيّة التونسيّة من خالل األدب ضمن مشروع‬

‫يقنع إلاّ‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫العقلي‪ .‬ولكنّ هذه‬ ‫منطلقا ومادّة لالستدالل‬ ‫بالنص‬ ‫ّ‬ ‫الدروس كانت ً‬ ‫أيضا فرصة للتم ّتع بفصاحة نادرة فاتنة ُعرف‬

‫العرب من أمثال‪ :‬نجيب محفوظ والطيب صالح وإميل‬ ‫حبيبي‪ .‬وفي هذا كان ّ‬ ‫بكار يساهم مع أبناء جيله في بناء‬ ‫أكبر هو بلورة الذاتيّة التونسيّة مع دولة االستقالل‪.‬‬

‫بيد أنّ إضافته األساسيّة ال تكمن في االهتمام باألدب‬

‫العددان ‪ 490 - 489‬شوال ‪ -‬ذو القعدة ‪1438‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬أغسطس ‪2017‬م‬

‫الدروس ّأنها كانت دروسً ا في المنهج‪« :‬كيف ّ‬ ‫نحلل ًّ‬ ‫نصا؟»‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫األدبي شع ًرا ونث ًرا على نحو مدقق ال‬ ‫تعلمهم مراس الكالم‬ ‫ّ‬

‫بها هذا األستاذ الهادئ الرصين ذو الصوت الخافت الذي‬


‫يتجوّل بين المقاعد ّ‬ ‫مفك ًرا ينحت قوله نح ًتا‪ ،‬فتخرج الجُ مَ ل‬ ‫من فمه ّ‬ ‫موقعة سلِسلة تأخذ األلباب‪ّ .‬إنه بعض من سحر‬ ‫توفيق ّ‬ ‫بكار الذي تجد أثره حتى في الفصول التي جمعها‬

‫في كتب بداية من السنوات األلفين‪ .‬لقد كانت قاعة الدرس‬ ‫عند ّ‬ ‫بكار مخب ًرا يشتغل فيه مع طلبته على نصوص كثيرة‬

‫ّ‬ ‫المقفع‪ ،‬والجاحظ‪،‬‬ ‫من عيون األدب العربي القديم (ابن‬ ‫والهمذاني‪ ،‬واألصفهاني‪ّ ،‬‬ ‫وبشار‪ ،‬وعنترة‪ ،‬وأبو نواس‪ ...‬إلخ)‬ ‫والحديث (المسعدي‪ ،‬والشابّي‪ ،‬والدوعاجي‪ ،‬ومحفوظ‪،‬‬ ‫والطيب صالح‪ ،‬ودرويش‪ ...‬إلخ)‪ .‬فالتالزم بين التدريس‬ ‫والبحث عنده كالتالزم بين التنظير‪ّ ،‬‬ ‫اط ً‬ ‫العا على دقيق‬

‫المقاربات وجليل المفاهيم‪ ،‬والتطبيق‪ ،‬تحليلاً لخصائص‬

‫المباني ومميّزات المعاني‪ ،‬هما عمدة هذه التوجّ ه االختباريّ‬

‫توفيق بكار‬

‫الذي كان يلحّ عليه توفيق ّ‬ ‫بكار غير مؤمن بإطالقيّة المنهج ما‬ ‫ّ‬ ‫وييسر‬ ‫النص وخفايا المعنى فيه‪،‬‬ ‫لم يساعد على اإلصغاء إلى‬ ‫ّ‬ ‫الكشف عن أدبيّته‪ .‬إنّ هذا المختبر النقديّ هو فضاء القراءة‬ ‫الجمالي الذي‬ ‫بالحس‬ ‫العلمي‬ ‫المعرفي‬ ‫التي يتفاعل فيها‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫النص ً‬ ‫ّ‬ ‫بحثا عن فرادته بين النصوص‪.‬‬ ‫يمكن من تتبّع دقائق‬ ‫منهج ّ‬ ‫بكار في القراءة‬

‫ليس من المبالغة في شيء إذا قلنا‪ :‬إنّ ّ‬ ‫لبكار منهجه‬ ‫النص‪ .‬فهو ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫يسلم‪ ،‬بادئ ذي بدء‪ ،‬بأنّ‬ ‫الخاص في ممارسة‬

‫ّ‬ ‫النص بعالماته وشكله ومبناه أساس التحليل‪ .‬لك ّنه ال يقيّد‬ ‫نفسه بمدرسة في النقد أو منهج دون غيره‪ ،‬وإن ك ّنا نجد في‬ ‫أعطاف كتاباته ّ‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫اط ً‬ ‫يتملكون‬ ‫دقيقا عليها‪ .‬فهو من الذين‬ ‫العا‬ ‫المنهج ويطوّعون المفاهيم ّ‬ ‫لفك شفرات النصوص وإعادة‬ ‫لاّ‬ ‫ً‬ ‫تركيبها حتى يخرجوها مخرجً ا طريفا ال يعرف س ّره إ الف ّنان‬

‫ّ‬ ‫النص بين يديه‬ ‫المتذوّق لجيّد النصوص مثله‪ .‬إذ يستحيل‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫النص وقد قرأه الواحد م ّنا دون شرح بكار له‪.‬‬ ‫شي ًئا آخر غير‬ ‫يكفي دليلاً على ما نزعم أن تقرأ المسعدي أو الطيب صالح‬

‫أو إميل حبيبي من دون مقدّ مة من ّ‬ ‫ّ‬ ‫األدبي عنده‬ ‫فالنص‬ ‫بكار‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫لاً‬ ‫يصبح فضاء للترحال في المعاني ومجا للتفاعل بين ذات‬ ‫ّ‬ ‫للنص الذي يصيب قارئه‬ ‫المبدع وذات الناقد الف ّنان العاشق‬ ‫بعدوى هذا العشق‪ .‬ومَ نْ خبر نصوص ّ‬ ‫بكار يجده يعتمد‬

‫فلسفي‬ ‫على ما يسمّ يه الجدليّات التي اقتبسها من تصوّر‬ ‫ّ‬ ‫يعدّ‬ ‫ّ‬ ‫النص‪ ،‬شأنه شأن الظواهر جميعً ا‪ ،‬مؤسّ ًسا على‬

‫صراع النقيضين‪ .‬وهما‪ ،‬عند التثبّت‪ ،‬قطبان دالليّان يشدّ ان‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ويمثالن عمودًا لتناسق مكوّناته الشكليّة والدالليّة‬ ‫النص‬

‫توفيق بكار من الذين يتملّكون المنهج‬ ‫لفك شفرات‬ ‫ويطوعون المفاهيم‬ ‫ّ‬ ‫ِّ‬ ‫النصوص وإعادة تركيبها حتى يخرجوها‬ ‫سره إ الف ّنان‬ ‫مخرجا طريفً ا ال يعرف‬ ‫ً‬ ‫ّ لاّ‬ ‫لجيد النصوص مثله‬ ‫ق‬ ‫المتذو‬ ‫ِّ‬ ‫ّ‬ ‫المنهج في النظر تحاليل ّ‬ ‫بكار من الرتابة التي نلمسها في‬ ‫كثير من المقاربات التي تعتمد منوالاً واحدً ا ال يفضي‪ ،‬في‬

‫األغلب األعمّ ‪ ،‬إلاّ إلى التشابه والتكرار‪ .‬ولك ّننا نجد فيما كتبه‬ ‫ّ‬ ‫بكار سعيًا واضحً ا إلى وضع اليد على الخصائص المفردة‬ ‫للنصوص وما به تتميّز عمّ ا يندرج في جنسها سواء أكان‬

‫نادرة أم مقامة أم خب ًرا أم رواية أم قصيدة‪ .‬فنحن دائمً ا‬ ‫أمام ناقد يرهف السمع إلى النصوص‪ّ ،‬‬ ‫يتأنى في تتبّع ّ‬ ‫أدق‬

‫تفاصيلها ومكوّناتها‪ ،‬ال يرضى بردّها إلى أشباهها‪ ،‬بل يعمل‬ ‫على تبيّن وقعها المختلف ونغمتها ّ‬ ‫الفذة‪.‬‬ ‫لقد كان ّ‬ ‫ِّ‬ ‫مجددًا كما تشهد على ذلك كتبه‬ ‫بكار‬

‫التي جمعها في «قصصيّات عربيّة» و«شعريّات عربيّة»‬ ‫و«مقدّ مات»‪ .‬وكان مح ِّر ً‬ ‫ضا لنخبة من طلبته على التجديد‬

‫منذ بداية السبعينيات قبل أن تنتشر البنيويّة في العالم‬ ‫العربي‪ ،‬ومنهم حسين الواد وسالم ونيس‪ ،‬لك ّنه كان في‬ ‫ّ‬

‫ومستوياته مع ًنى ومغ ًنى أو خب ًرا وخطابًا‪ .‬لذلك كثي ًرا ما‬ ‫يختار في عناوين النصوص التي ّ‬ ‫يحللها عبارات ّ‬ ‫تمثل جوهر‬

‫أسلوب مقاربته وطريقته في تخريج المباني والدالالت أمّ ة‬ ‫برأسها جمع إلى روح العالم الخبير بالنظريّات روح الف ّنان‬ ‫ّ‬ ‫المثقف واسع االطالع والمعرفة بالنصوص األدبيّة‪.‬‬ ‫وروح‬

‫واألقوال»‪ ،‬أو «األدب والذهب» وغيرها كثير‪ .‬وقد أخرج هذا‬

‫ويفتن‪.‬‬

‫التحليل من قبيل «جدليّة الحكمة والسلطان»‪ ،‬أو «المال‬

‫ً‬ ‫عاشقا لألدب يحلل فرائده وعيونه فيتف ّنن‬ ‫لقد كان‬

‫‪169‬‬


‫سينما‬

‫شياطين‬ ‫الثورة الرقمية‪..‬‬

‫ماذا فعلوا بسينما‬ ‫الكائن اإلنساني المتفرد؟‬ ‫فجر يعقوب‬

‫سينمائي وروائي فلسطيني‬

‫من المؤكد أن عباقرة الفن السابع الكبار يتحسرون على األيام التي‬

‫مضت حين كانت الكاميرا الثقيلة وحدها سيدة المشهد‪ ،‬وسيدة الفكرة والصورة‬

‫‪170‬‬

‫والمحتوى‪ .‬اليوم ال يبدو أن االحتالل الرقمي للسينما قد صنع المعجزات بخصوص‬ ‫اللغة السينمائية التي طورها هؤالء الكبار من وراء كراسيهم‪ ،‬وصنعوا أمجاد‬ ‫النجوم والنجمات من خاللها‪ .‬ليس سهلاً التسليم بهزيمة من أي نوع هنا‪ .‬لكن‬ ‫السينما تتغير باسم «األثر المزيف» للصورة التي يشتغل عليها شياطين الثورة‬

‫الرقمية من دون أن يضطر أحد لمعرفة أسمائهم‪ ،‬وهذا قد ينطبق على صناع أفالم‬ ‫من مثل «ماتريكس» حين يقوم البطل (كيانو ريفز) بإعادة إنتاج نفسه متجاو ًزا‬

‫فكرة الموت نفسها‪ .‬ويسود اعتقاد قوي أنه بعد فترة من الزمن قد ال نرغب حتى‬ ‫بمعرفة أي من هؤالء الشياطين يقف وراء هذه «الملحمة البصرية» أو تلك‪.‬‬

‫العددان ‪ 490 - 489‬شوال ‪ -‬ذو القعدة ‪1438‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬أغسطس ‪2017‬م‬


‫جل ما سنعرفه‪ ،‬أو تعرفه األجيال الالحقة سيكون بمستوى‬

‫بوابة الفن الفسيحة حين تفقد السينما أهم مميزات اللغة التي‬

‫البصرية الفانتازية‪ ،‬وهذا هو أخطر ما في االنقالب الذي شهدته‬

‫دون أن تفقد النضارة واألبعاد النفسية والفنية لكل ما هو جديد‬

‫الحلول الرقمية التي ال يدركها عقل حساس إال من خالل اللعبة‬ ‫السينما في العقود األخيرة‪ ،‬حين انحرف بها سدنة مختلفون‬

‫في أمزجتهم ورُؤاهم عن الطريق الذي شيده الكبار‪ ،‬وحرصوا‬

‫دومًا على مالقاة المشاهدين في منتصف الطريق‪ :‬لغة خاصة‬

‫سبق وانتمت إليها نظريات مجيدة لعبت دورًا كبي ًرا بتطويرها من‬

‫ومؤهل ألن يلعب دورًا كبي ًرا في مجرى هذا الفن الكبير‪.‬‬ ‫مآالت رقمية ال حدود لها‬

‫ال تستنفد البعد الذهني للصورة التي تراكم في عقولهم ما يجب‬

‫إن المنظومات الفنية الحديثة التي انتهت إلى مآالت رقمية‬

‫المالحم البصرية الحديثة التي استفادت من االنقالب التقني‬

‫بخصوص إعادة إنتاج المهارات التي تشكلت منها مسيرة اإلنسان‬

‫بأخطر عملية إعدام في تاريخ الفن السابع لما سبق وراكمه‬ ‫ِّ‬ ‫منظرو هذا الفن عبر أكثر من قرن‪ .‬كل الكتابات التي تح َّرت نوع‬

‫فرانسيس فورد كوبوال حين أطلق أول فلم موسيقي إلكتروني‬ ‫عام ‪1984‬م متنب ًئا بحلول الفلم الرقمي مكان الفلم الذي نعرفه‪.‬‬

‫قوله واستنطاقه على الدوام‪.‬‬

‫الرقمي تغفل هذا البعد‪ .‬أفالم مثل (آفاتار – سيد الخواتم) تقوم‬

‫هذه الرؤية وق َّدمت مساهمات جليلة في إعادة إنتاج الطريق‬

‫التي تعبر منها حلقات متماسكة نظريًّا وإبداعيًّا صارت في مرمى‬ ‫خطر‪ ،‬متقلب‪ ،‬يؤسس لما هو أبعد من انقالب في نوع التقبل‬ ‫والتلقي الذي ُت َشيَّد منه المحاكاة الرقمية ألبطال وبطالت بال‬

‫ال حدود لها تمثل أكبر انتصار للعقل اإلنساني حتى اللحظة‬ ‫نفسه‪ .‬ربما أدرك هذا المآل بحس إبداعي ملهم المخرج األميركي‬

‫بعد ذلك سوف يطلق جورج لوكاس أول فلم روائي طويل مصور‬

‫بكاميرات رقمية بعنوان‪« :‬حرب النجوم» ‪2002‬م‪.‬‬

‫هذا الوضوح والتجلي الرقمي الذي يعد بمنزلة انتصار ساحق‬

‫لجملة مفاهيم دافع عنها العلم المعاصر يغفل رغم انتصاراته‬

‫مالمح‪ ،‬وأبعاد نفسية وعاطفية كانت حتى عهد قريب أساس‬

‫غير المحدودة إمكان تعلم الحفاظ على مهارات النوع من التالشي‬ ‫وراء نظريات علمية حديثة تقلل ً‬ ‫أيضا من فرادة وتميز كل صاحب‬

‫ناصرها ودافع عنها مخرجون كبار‪ ،‬كانوا يدركون في نفس الوقت‬

‫قناة خاصة بهذا الفن السابع مثل منظومة الصوت ‪ -‬الدولبي‪،‬‬

‫اللغة السينمائية والمعاشرة النظرية الفذة لمآالت ال يمكن الحكم‬

‫عليها إال من خالل األبعاد النفسية والرمزية للصورة التي طالما‬ ‫نوع المراهنة النظرية التي يستخلصون منها الدروس والعبر‪ .‬قد‬ ‫ال تكتفي هذا المقدمة بتوضيح األبعاد التاريخية واالجتماعية‬ ‫التي دفعت بهذا التطور التقني غير المسبوق إلى حشر اللغة‬

‫السينمائية في مربعات رقمية ال نهايات أمامها‪ ،‬وال نهايات لها‪،‬‬

‫وكل ما تفعله‪ ،‬هو أنها تقدم منحنيات جديدة أمام هذه اللغة ال‬ ‫يعود ممك ًنا معها التكهن بالمآالت التي تقود المشاهد إلى كل ما‬ ‫هو معاد لها‪.‬‬

‫إن إبداء القلق بخصوص الوضع الصحي للسينما إن جاز‬

‫التعبير ال يعود كافيًا‪ ،‬فمحاكاة األلعاب الفيديوية تنتصر تدريجيًّا‪،‬‬ ‫وليس أدل على ذلك من فلم ‪-‬على سبيل المثال ً‬ ‫أيضا‪( -‬إنذار‬ ‫ِّ‬ ‫بورن النهائي) ‪2007‬م؛ إذ ال يبدو أنه بمستطاع أحد من «المنظرين‬

‫الجدد» الذين ال نعرف أسماءهم في الواقع‪ ،‬شأنهم شأن شياطين‬ ‫الثورة الرقمية الذين قادوا هذا االنقالب من وراء الشاشات‪،‬‬

‫االدعاء بأن نظرية واحدة سوف تجمع كل ما يقدم رقميًّا من‬

‫بعض أسلوبيات هذا الفن هي شأن‬ ‫أيضا‪ ،‬وليست شأ ًنا جمال ًّيا كما‬ ‫أخالقي ً‬ ‫قد يتخيل بعض‪ ،‬وعليه فإن االنتصار‬ ‫للسينما التي نعرفها‪ ،‬هو احتفاء‬ ‫بالكائن اإلنساني المتفرد‬

‫مشروع إبداعي على حدة حتى تبدو الطرق الصناعية في إنتاج كل‬ ‫واألبعاد الثنائية والثالثية في الصورة‪ ،‬وتقنيات حفر الغرافيكس‪،‬‬

‫والنثر الرقمي الذي يهز شعرية السينما في مهدها‪ ،‬يخلق في‬ ‫الواقع أبعادًا خطرة على صعيد إنتاج الصورة السينمائية التي‬

‫يجب أن تتجمع في نقطة واضحة طبيعية على الشاشة‪ ،‬حتى‬

‫‪171‬‬


‫سينما‬

‫يمكن القول بثقة‪ :‬إن هذه األقنية الصاخبة المتفجرة تصبح خط ًرا‬

‫يعبر إدغار موران‪ ،‬فإنها عملت ً‬ ‫أيضا على بعث هذا الحس في‬

‫تصبح هي مصدر إنتاجها‪ ،‬ومصدر إنتاج القلق اإلنساني أن ما‬

‫النقطة – البؤرة الحقيقية للصورة‪ ،‬حين ينكمش النجوم على‬

‫حقيقيًّا على نوع النظرية التي يجب أن ترافق هذا التطور حين‬ ‫يحدث على هذه الشاشة يتعدى نوع الفن السابع الذي ع ّرفه الكبار‬

‫في أعمالهم ونظرياتهم‪ ،‬وهذا قد يبرر في جانب صعود السينما‬

‫الوثائقية على الصعيد العالمي على حساب السينما الروائية التي‬ ‫تحفل باإلبهار والتقلبات الفيزيائية في نوع الرؤية ومستواها‬

‫وبياناتها المعهودة؛ ذلك أن السينما هنا بمفهومها الشائع تصبح‬

‫السينما التي يصنعها الجميع‪ ،‬والتي سيعرفها الجميع‪ ،‬فألن‬ ‫االنقالب الرقمي قد صنع هذه االنعطافة على صعيد السينما‬

‫الروائية التي يموت معها منظومة النجوم في نفس الوقت كما‬

‫التجريب الوثائقي مع بشر عاديين يريدون أن يروا أنفسهم في‬ ‫أنفسهم عبر تقنيات رقمية ال تكف عن نفث اإلبهار إلى ما بعد‬

‫اللياقات العقلية اإلنسانية‪.‬‬

‫ما تفعله السينما الرقمية‪ ،‬مع تسجيل أكبر اعتراف بأنها‬

‫تقود المشاهد إلى مثل ما بعد اللياقات العقلية اإلنسانية قد‬ ‫تصبح في الوقت نفسه طاردة لمعظم ما قيل من نظريات في‬

‫هذا المضمار‪ ،‬وبالتالي تصبح عرضة لخطر االنزالق في تسميات‬

‫وتوصيفات قد تكون خط ًرا على الفن السابع نفسه حين ال‬

‫يمكنه التماهي فيها‪ ،‬إنما الدوران المغلق حول «خوارزميات‬

‫‪172‬‬

‫فلم سيد الخواتم‬

‫الفن السابع إلى مجاهل غامضة‬ ‫ليس ببعيد أن تعلن السينما الوثائقية –مثلاً – عن فتوحات خاصة بها في مواجهة هذا االنفالت الرقمي الذي يقود الفن‬

‫السابع إلى مجاهل غامضة‪ ،‬ليس من باب أن المرء بطبعه عدو ما يجهل؛ ذلك أن ما يحدث في مسيرة الكائن البشري غير‬ ‫مسبوق‪ ،‬وال يمكن التكهن به‪ ،‬وقد يترك وراءه ً‬ ‫نوعا من األسئلة األخالقية الملتبسة؛ ألن بعض أسلوبيات هذا الفن التي‬ ‫أيضا‪ ،‬وليست ً‬ ‫نعرفها هي شأن أخالقي ً‬ ‫شأنا جماليًّا بح ًتا كما قد يتخيل بعض‪ ،‬وعليه فإن االنتصار للسينما التي نعرفها‪ ،‬بما‬ ‫تحمله من احتفاء بالجمال والبساطة التي ال تعرف هذا البذخ الرقمي هي احتفاء بالكائن اإلنساني المتفرد الذي يترك وراءه‬ ‫ً‬ ‫عنوانا واسمً ا المعين في فضاء اإلبداع‪ ،‬وما تعوزه السينما في هذا الظرف هو االنفتاح على مرتكزات هذا الفن ومدارسه‪،‬‬

‫وليس التنكر له‪.‬‬

‫فمن المؤكد أن المالحم البصرية الرقمية التي يجري إنتاجها من وراء الحواسيب‪ ،‬وتطرح أسئلة رقمية ليس هناك إجابات‬

‫عليها؛ ألنها تفتقد كل ما من شأنه إعادة إنتاجه في قوالب لغوية تسمح بتأكيد األبعاد التي نشأت عليها الصورة السينمائية‬ ‫ً‬ ‫أحيانا ألسباب تجارية في معظم األحيان‪ ،‬وشجعت‬ ‫بما تحمله من ابتكارات أسلوبية قللت من «التخابث» البصري الذي ينشأ‬

‫العددان ‪ 490 - 489‬شوال ‪ -‬ذو القعدة ‪1438‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬أغسطس ‪2017‬م‬


‫شياطين الثورة الرقمية‪ ..‬ماذا فعلوا بسينما الكائن اإلنساني المتفرد؟‬

‫معقدة» دفع لها شياطين يقبعون في الظل حتى تصل بهذا‬

‫الكالم ليس قولاً ناش ًئا في معاداة مفهوم التطور‪ ،‬ولكنه مجرد‬

‫منه أن نظريات الفن السابع الشائعة التي عرفناها من خالل‬ ‫أسماء كبيرة المعة سوف تتنازل عن كرسيها ً‬ ‫أيضا لحساب‬

‫اللذين ميزا الفن السابع عبر العقود الماضية‪ ،‬فكل ابتعاد من‬ ‫البعد الذهني للصورة‪ ،‬أو تفريغ لمحتواه تحت أي اسم أو فعل‬

‫هذا الفن التي ال يعود يتدخل بها اإلنسان نفسه‪ ،‬كما كان يفعل‬

‫الذي تكونت منه السينما‪.‬‬

‫الفن إلى هذا المستوى المعقد من التطور‪ .‬هذا يعني في جانب‬

‫«تنظيرات» جديدة غير معهودة ترتبط بها تقنيًّا وتعزل جماليات‬ ‫في الصعيد ذاته حين كان ينتصر للغة السينمائية وجمالياتها‬

‫تحسب من تطور غير محسوب ينفي عن اإلبداع تميزه وفرادته‬

‫تقني يقود نحو تكسير هذا الفن ومعاداة طقس المشاهدة األثير‬

‫التي تخص كل مبدع على حدة‪.‬‬ ‫المبدع يخسر موقعه‬

‫يكاد المبدع هنا يخسر موقعه في كل «ملحمة» بصرية‬

‫مبهرة‪ .‬هذا قول خطير بطبيعة الحال ينال من مكانة هذا الفن‪،‬‬ ‫وربما ينال من مراكمات جمالية امتدت على أكثر من قرن‪ ،‬ويكاد‬ ‫يلغي المسافات بين تلك النظريات التي اعتدنا عليها في تصحيح‬

‫نوع الرؤية وطرق التعود في تقبل الصورة السينمائية بأسلوبيات‬ ‫مختلفة دفعت بأساطين السينما إلى التفرد وتخصيص مساحات‬ ‫ملهمة لكل فلم جديد‪ ،‬فيما يبدو أن تناسخ الصور هنا يفعل فعله‬

‫في استغباء المشاهدين‪ ،‬وربما في استعدائهم على المراكمة‬ ‫البصرية التي حدثت في الماضي وصنعت مُشاهِ دً ا متم ِّي ًزا يعرف‬ ‫أين يكمن الطقس السينمائي‪ ،‬وما حدود الغفلة التي تنتابه‬

‫حين يغادر الصالة بال ضجيج وصخب غير طبيعيين‪ .‬تبدو الحالة‬ ‫ً‬ ‫أيضا مريعة حين تتقلص اإلمكانات النظرية في مواجهة هذا‬ ‫االنقالب الرقمي‪ :‬كيف يمكن اإلمساك بالبعد الذهني للصورة‪،‬‬

‫وكيف يمكن التوقف عن مزاحمة البعد الجمالي بألوان وخلفيات‬ ‫غرافيكية ال تحتمل قول شيء في تعريفها‪ ،‬وهي تغير ً‬ ‫أيضا من‬ ‫طريقة الكتابة السينمائية التي تنحو باتجاه أفعال مستمدة من‬

‫هذا االنقالب غير المسبوق في تعريف األشياء بأسمائها‪ ،‬وهذا‬

‫فلم حرب النجوم‬

‫السينما تتغير باسم «األثر المزيف»‬ ‫للصورة التي يشتغل عليها شياطين‬ ‫الثورة الرقمية من دون أن يضطر أحد‬ ‫لمعرفة أسمائهم‬

‫عليه الثورة اإلعالمية الرقمية في مختلف الصعد‪ ،‬وهي ال شك تدفع إلى والدة مفاهيم جديدة سيتربى عليها إنسان القرن الـ‪21‬‬

‫وقد تدفع إلى حدوث انقالب مضاد‪ ،‬وهذا متوقع كما أسلفنا على صعيد نمو السينما الوثائقية وتفتحها التي تعيد تعريف هذا‬

‫اإلنسان في مجاهل هذا القرن الرقمي‪ ،‬وهذا ما سيحتاجه مخرجو الموجات ما بعد الجديدة التي قد تتبلور كرد فعل على‬ ‫االنقالب الرقمي الذي قاد الفن السابع نحو مالحم بصرية غير مكتملة وإن بدا أنها وصلت في نوع من التطرف غير المسبوق إلى‬

‫قول كل ما يمكن أن يقال حتى لو لم يرد الكائن البشري قوله في سياق فلم أو مشهد مما يتاح صنعه في مثل هذه المالحم‪.‬‬

‫كل ما قيل ً‬ ‫آنفا‪ ،‬هو محاولة في توصيف هذه الواحة البصرية غير النهائية‪ ،‬التي يقف اإلنسان أمامها حائ ًرا وقد انزلقت بها‬

‫األشباح المرئية إلى أعماق ال يمكن التكهن بقرارها‪ ،‬أو هي من غير أعماق وال يمكن معرفة حقيقة المشاعر التي تنبثق منها؛‬ ‫إذ تبدو من غير مشاعر وتستغرق بقول كل ما ال يمكن أن نريد قوله‪ ،‬ولذا فإن محاوالت توصيف هذه المالحم البصرية يمكن‬ ‫ً‬ ‫أن تأخذ منحى أخالقيًّا ً‬ ‫الحقا عنها في كتابات قد ال نعرف من يقف وراءها‪ ،‬وقد ال يمكن‬ ‫أيضا‪ ،‬وهنا تكمن أهمية ما سيقال‬ ‫الجزم بنوع الصورة التي يبحث عنها هؤالء‪ ،‬وقد أطلقوا العنان لمخيالت تبدو من دون حدود‪ ،‬ولكن مع شيء من التركيز في‬ ‫تلك النقطة الوحيدة الواضحة التي ينبثق منها الفلم السينمائي سيمكن القول‪ :‬إن هذه المخيالت أسيرة واقع رقمي معقد ال‬

‫يمكن التكهن بمعرفته‪ ،‬أو التنظير الجمالي للدوافع التي ينطلق منها في محاكاة هذا الفن العظيم‪.‬‬

‫‪173‬‬


‫مسرح‬

‫مداخل نظرية إلى السردية المابعد الدرامية‬

‫التحول في مفهوم الفرجة‬ ‫وقصدية القطع مع صيغ الحكي التقليدية‬ ‫عبدالرحيم اإلدريسي‬

‫‪174‬‬

‫باحث مغربي‬

‫تتأسس العالقة بين السرد والمسرح على مسافة تحمي دومً ا تحولها؛ ذلك أن هذه‬ ‫ُّ‬ ‫وتبدلِها‪ ،‬بغية‬ ‫العالقة ملتبسة بحكم سيرورة التحققات المسرحية‪ ،‬وبحكم تجدد القراءة‬ ‫ضمان حيوية السرد في العروض المسرحية‪ .‬فمن دون هذه الحيوية‪ ،‬يصبح المنعطف‬ ‫السردي في المسرح المعاصر‪ ،‬بما يفتحه من أفق متحول ومستمر‪ ،‬منذورًا الستسهال‬ ‫تداخل األنواع أو تجاور اإلمكانات الدرامية وغير الدرامية المفتوحة‪.‬‬

‫جان المبير وايل ‪ -‬موت ٓادم‬

‫العددان ‪ 490 - 489‬شوال ‪ -‬ذو القعدة ‪1438‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬أغسطس ‪2017‬م‬


‫وإن هذا االستسهال ال يمكن دفعه إال بمداخل نظرية‪،‬‬

‫أهمها‪:‬‬

‫أول‪ -‬يعد الدرامي أصل بناء الحكي ‪ .Le recit‬والحكي‬

‫ال يشير إلى الخطاب‪ ،‬بل إلى المؤ َّدى السردي‪ ،‬بخالف‬

‫السرد الذي يضطلع بتعيين محفل األداء والتلفظ ويدل‬ ‫على فعل السرد الذي له طبيعة تداولية تستند إلى تحققات‬ ‫نصية وغير نصية مفتوحة‪ ،‬وتجعل الحكي المسرحي‬

‫غير اللغة مثل األداء المسرحي‬ ‫يتحقق بوسائل أخرى‬ ‫ِ‬ ‫والصورة والوثيقة‪ .‬ويبدو من الصعب في الفرجات‬

‫ُ‬ ‫عرض فعل من دون أن نحكي شي ًئا‪ ،‬وال يُهم أن‬ ‫المعاصرة‬ ‫ً‬ ‫يكون األثر السردي حكاية مبنية أو مجر َد مُ َس َّودة حكاية‪.‬‬

‫في كل تجربة درامية أو ما بعد درامية نكتشف بداية محكي‬ ‫أو إمكانية حكاية يُقدم المتفرج على إكمالهما أو تخيلهما‪.‬‬

‫إننا دائمً ا نحكي شي ًئا‪.‬‬

‫ً‬ ‫خاصية‬ ‫ثانيًا‪ -‬نفترض نظريًّا السر َد ‪Narration‬‬

‫غير حكائية (الشعر‬ ‫قد ترد في نصوص تخييلية مختلفة‬ ‫ِ‬ ‫غير تخييلية (اإلشهار‪ ،‬والتاريخ‪،‬‬ ‫والمسرح والسينما)‪ ،‬أو‬ ‫ِ‬ ‫والوثيقة‪ ،‬ومحضر حول واقعة أو اعتراف‪ ،‬وقصاصات‬ ‫ِصحافية وتحقيقات…)‪ .‬وال يمكن بموجب هذا الحد ّ‬ ‫عدُ‬ ‫السرد عنص ًرا حاسمً ا في تحديد هوية النوع المسرحي‪،‬‬

‫إنما يمكن أن يتساوى مع مكونات أخرى في هذا التحديد‪،‬‬ ‫ويرسمَ طريقة تجريبية ملموسة في التمثيل‪ ،‬تتسع فيه‬ ‫دوائر التخييل والالتخييل وتتنوع أشكالها‪.‬‬ ‫ً‬ ‫ثالثا‪ -‬إن فعالية السرد في مسرح ما بعد الدراما تتحقق‬

‫من أعمال وجدي معوض‬

‫في كل تجربة درامية أو ما بعد درامية‬ ‫نكتشف بداية محكي أو إمكانية حكاية‬ ‫ُيقدم المتفرج على إكمالهما أو‬ ‫دائما نحكي شي ًئا‬ ‫تخيلهما‪ ،‬إننا‬ ‫ً‬ ‫في العرض من حرية ومن إمكان االستهداء إلى الذاكرة‬

‫ً‬ ‫وسيلة أساسً ا لها‪ .‬وتكتسب هذه‬ ‫في خبرة تتخذ من التخييل‬

‫واالشتباه بين الواقع والتخييل‪.‬‬

‫وثقافي ال تتسع للحكايات الكبرى واألنساق المغلقة‪ .‬وهذا‬

‫االحتفاء بانهيار المعنى‬

‫وإدراك معرفي‬ ‫الخبرة صبغة تمثيل ‪Représentation‬‬ ‫ٍ‬

‫عروض الفرجات‬ ‫وفي هذا السياق اتخذت مصاحبة‬ ‫ِ‬ ‫البديلة منحيين‪:‬‬

‫أمر بالغ الداللة في الفنون األدائية‪ ،‬فالتمثيل السردي في‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫إحالة على عوالم‬ ‫خلقا لوهم المركزية أو‬ ‫المسرح ليس‬ ‫يمكن أن ُتنكرها «الحقائق الخاصة»‪ ،‬بل هو تخييل يقوم على‬

‫‪(Anne Monfort. Après le postdramatique:‬‬

‫(صيغتا الواقع والتخييل) ما يؤدي إلى خلق طبقات تخييلية‬

‫‪théâtre néo-dramatique. Mondes en narration‬‬

‫ووضعه بين صيغتين‬ ‫االنتقاء والفصل وعزل عالم مصغر‬ ‫ِ‬ ‫فرجوية تحكمها «مرجعيات مفتوحة»‪ ،‬هي المرجعيات‬ ‫التي تستند إليها دراماتورجيا المتفرج وتسقط التخييل على‬

‫الواقع‪ .‬لذلك‪ ،‬فإن األداء‪ ،‬من هذه الزاوية‪ ،‬وهو يسعى‬

‫للتخلص من أسبقية المعايير الدرامية‪ ،‬ال يشكو من «انكفاء‬ ‫الفعل» وال يحرص على مركزيته‪ ،‬فهو في كل مكان‪ ،‬لكنه‬

‫(األداء) يحتاج إلى «محكيات جزئية» يحولها إلى عالم‬

‫مكتف بذاته ومنشغل بسؤال الكتابة وما يشترطه‬ ‫فرجوي‬ ‫ٍ‬

‫‪narration et fiction entre écriture de plateau et‬‬ ‫)‪N.3 | 2009.‬‬

‫يقوم المنحى األول على رصد تصور هذه الفرجات‬

‫تتبعها في المنجز‬ ‫للسرد كلغة وإمكانية قبل تحقق‬ ‫ِ‬ ‫المسرحي‪ ،‬أفضى هذا التتبع إلى استنتاج أساسه أن‬

‫المسرح المابعد الدرامي يستند إلى السرد في تركيب‬ ‫انشطاري ّ‬ ‫دال على قصدٍ في عدم االنشغال بتأمين الوشائج‬ ‫بين مِ فصل السرد ومفاصل أخرى‪ ،‬بقدر ما هو حريص‬

‫‪175‬‬


‫مسرح‬

‫من أعمال وجدي معوض‬

‫على استنبات التدمير الذاتي واالحتفاءِ بانهيار المعنى‬

‫‪176‬‬

‫واألشكال المعهودة‪ ،‬بقطعها وإعادة بنائها بالمجاورة‪،‬‬

‫وتمكين السرد من عرض التخييلي والالتخييلي‪ .‬أما المنحى‬ ‫ِ‬

‫فعل السرد في الفرجات البديلة من‬ ‫الثاني فيتغيا تأمل‬ ‫ِ‬ ‫خارج سياقه النوعي (السرديات اللغوية) بما يتيح تحليل‬

‫لخصائص الفرجات البديلة التي ال تتحقق بين الكتابة‬ ‫صور‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬ ‫والعرض‪ ،‬إنما تنبني سيرورتها المشهدية عبر الفرجة وفي‬ ‫أثنائها‪ .‬هذان المنحيان يقودان إلى صلب األسئلة المربكة‪،‬‬ ‫من قبيل‪ :‬لماذا المسرح المابعد الدرامي مثلاً انعطف إلى‬

‫االنحياز إلى إِشكال‪ ،‬سواء من منظور مشروعه الدراماتورجي‬

‫كفعل فرجوي أو من منظور التلقي المسرحي‪.‬‬ ‫منذ عشر سنوات َت َّ‬ ‫شكل في الفرجات األوربية توجهان‬

‫يمكن أن يوصفا كتحقق للمسرح المابعد الدرامي‪:‬‬

‫األول‪ :‬الكتابة ال ُّركحية «‪ » Lécriture de plateau ‬كما يحددها‬

‫‪Bruno Tackels (Tackels, Bruno (2001) : Fragments‬‬ ‫‪.)d’un théâtre amoureux.Les Solitaires intempestifs‬‬

‫التي حوَّلت مفهوم الكتابة السردية إلى مركز المشروع الدراماتورجي‬ ‫بمكوناته البصرية والكوريغرافية‪ ،‬فتؤ َّدى الكتابة ُالسردية من خالل‬

‫إن الفرجة المابعد الدرامية أكدت قصدية القطع مع‬

‫مجموع الوسائط المكونة للفرجة‪ ،‬ويتحكم في هذه الكتابة وضعٌ‬ ‫ِ‬ ‫خاص على مستوى التلقي‪ ،‬مثلاً في السرد البصري يُصبح من الالزم‬

‫محكيات التراجيديا القديمة أو الحكي الداخلي في عمل‬

‫الصورة من خطها البصري كلغة إلى الحقل الذهني؛ الستيعاب‬

‫السرد‪ ،‬على الرغم من حضوره في المسرح الدرامي؟‬

‫كل صيغ الحكي التي تشير إلى األشكال الدرامية التقليدية‪،‬‬ ‫ومفهوم السرد هنا غي ُر أشكال الحكي التي تصنعها مثلاً‬

‫درامي‪ ،‬بل سرد ينظر إليه من جهة حصيلته األدائية‪ ،‬حيث‬ ‫إن الفرجة انحازت إلى سردية فرجوية َتحوَّل معها هذا‬

‫العددان ‪ 490 - 489‬شوال ‪ -‬ذو القعدة ‪1438‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬أغسطس ‪2017‬م‬

‫ُ‬ ‫إخراجُ الصور من مستواها البصري إلى سياقها الفني المسرحي‪،‬‬ ‫وال يمكن لهذه الخطوة أن تتحقق إال بوجود ٍّ‬ ‫متلق قادر على تحويل‬ ‫ممكنات ظهور المعنى لدى المشاهد‪ ،‬فنكون في هذا المستوى‬ ‫أمام فرجة تتحول العين معها من اإلبصار إلى النظر‪.‬‬


‫التحول في مفهوم الفرجة‪ ..‬وقصدية القطع مع صيغ الحكي التقليدية‬

‫الثاني‪ :‬مفهوم مسرح الدراما الجديدة «‪Théâtre néo-‬‬

‫‪ »dramatique‬وهو تمسرح يقوم فيه نص الشخصيات‬

‫والتخييل على أساس عمل مشهدي ‪Travail scénique‬‬ ‫ُ‬ ‫النص وحُ ِّطمت الشخصيات‪ ،‬وصار التخييل‬ ‫حتى لو ُقوِّض‬ ‫ّ‬ ‫محل سؤال‪ ،‬وبخاصة أمام تدفق الموضوع الوثائقي وانتفاءِ‬ ‫التخييلي من السردي (مجدي معوض)‪ ،‬مثلما نرى في‬

‫الكاتب ‪ -‬المخرج ‪ -‬الممثل ذاتُه ليس‬ ‫سوى نسخة‪ ،‬أما األصل فموجود في‬ ‫مكان آخر‪ ،‬هو الشخصية‪ ،‬الصوت الخفي‬ ‫ الظاهر الذي يكتب أو يؤدي حكايات‬‫الممثلين بطريقته الخاصة‬

‫محكيات القول الصحافي‪ .‬في ضوء هذا التصور ترى «آن‬ ‫مونفور ‪ »Anne Monfort‬في مقارنتها بين مفهومي الكتابة‬

‫الركحية ومسرح الدراما الجديدة‪ ،‬أنهما معً ا يتجهان إلى‬

‫يخص حجم «الحقيقة»‪ ،‬بل يدل على صيغة في تصورها‪.‬‬

‫إعادة النظر في المقوالت الكالسيكية للمحاكاة والحكي بما‬

‫إن الوهم هو ما يأتي من الواقع‪ ،‬أما الحقيقة فموجودة‬

‫بالمقابل‪ ،‬داخل التمثيل المسرحي المعاصر بضمان التحول‬

‫لذلك‪ ،‬فالمؤدي ال يفكر في «سيرته»‪ ،‬كصورة طبق‬ ‫ً‬ ‫صوغا سرديًّا من صنع «ذاكرته»‪ ،‬ال من صنع‬ ‫األصل‪ ،‬بل يريد‬

‫أنهما يتأرجحان بين االفتراضية والواقعية‪ ،‬فيتكفل الحكي‪،‬‬ ‫من خالل مستجدات األحداث‪ ،‬ويصبح الجمهور أمام عالم‬

‫مستمر الدوران السردي الذي به يصل المتلقي إلى تشكيل‬ ‫صورته التخييلية الخاصة‪.‬‬ ‫الوهم الواقعي‬

‫بين مكونات العرض المتعددة والمفتوحة‪.‬‬

‫الوقائع فقط‪ .‬وذاك ما تدعو إليه الفرجة وتقوم بالتمثيل له‬ ‫من خالل كل محكياتها؛ فالكاتب ‪ -‬المخرج ‪ -‬الممثل ُ‬ ‫ذاته‬

‫ليس سوى نسخة‪ ،‬أما األصل فموجود في مكان آخر‪ ،‬هو‬ ‫الشخصية‪ ،‬الصوت الخفي ‪ -‬الظاهر الذي يكتب أو يؤدي‬

‫أشكال كثيرة للكتابة الركحية مثلما في الرقص‬ ‫لكن في‬ ‫ِ‬

‫حكايات الممثلين بطريقته الخاصة‪ .‬لكن هذا األمر ال يعني‬ ‫تقابلاً بين «واقع» و«خيال»‪ ،‬بل نحن أمام تأرجح بين «أنا»‬

‫مفهوم التخييل الذاتي من الكاتب إلى الممثل‪ ،‬أو أن يؤدي‬ ‫ُ‬ ‫الممثل فيه محكياتِه الذاتية باسمه كسارد‪ ،‬فيتقلب دوره‬

‫والتمثيل الالحق الذي سيُحول الوقائعَ‬ ‫االشتباه التخييلي‬ ‫ِ‬ ‫الحياتية إلى محكيات مسرحية‪ ،‬توهم بالقطعية‪ ،‬وهي‪ ،‬تبعً ا‬ ‫ٌ‬ ‫مدرجة ضمن «ميثاق واقعي» يضمنه اسم المؤ ِّدي‪،‬‬ ‫لذلك‪،‬‬

‫المعاصر أو الفرجة يصبح التخييل الذاتي أو الجماعي‬ ‫إبدالاً سرديًّا‪ ،‬كأن يضع الكاتب َ‬ ‫ذاته في المشهد حين يمر‬

‫ً‬ ‫ً‬ ‫فجوة كامنة في‬ ‫محدثا بذلك كس ًرا ‪-‬‬ ‫بين التمثيل واألداء‪،‬‬

‫العرض بين التخييل والالتخييل‪ ،‬هذه الوضعية عكست‬ ‫لدى «ليمان» سؤالاً‬ ‫مؤسسا للمسرح المابعد الدرامي‬ ‫ً‬ ‫تتحين فيه من خالل هذا الكسر الكامن‪ ،‬صو ُر التعايش أو‬

‫التجاور بين مستويات التخييل والالتخييل‪Lehmann. .‬‬ ‫ِ‬ ‫‪ ) )P.205‬وهذا هو مصدر «الوهم الواقعي»؛ ألن العرض‬ ‫يحكي «الواقع» من خالل التخييل‪ ،‬وال يمكنه أن يستند إلى‬

‫التخييل إال من خالل إسقاط الواقعي المرئي والمحسوس‬ ‫وبعض إحاالتهما هنا وهناك‪.‬‬ ‫عبر اسم الكاتب أو الممثل‬ ‫ِ‬ ‫فال يمكن لمحكيات «واقعية» أن توجَ د إال من خالل‬ ‫ممكنات التخييل ذاتِه لإليهام بحدث درامي‪ .‬وهذا الوضع ال‬

‫اليقين الواقعي في حكايات الممثلين من جهة‪ ،‬وبين «أنا»‬

‫من حيث ّ‬ ‫ُ‬ ‫توقعُ‬ ‫وتقطعات صور من حياته‬ ‫دوره في الكتابة‬ ‫ِ‬

‫حكي واقعي‪ ،‬هو في األصل جزء من انسيابية‬ ‫داخل حاالت‬ ‫ِ‬

‫إيقاع مألوف‪ ،‬لكن التحويل المابعد الدرامي يقطع تحبيك‬ ‫هذا اإليقاع ويوقف سريانه بما أنه نسيج بنائي تقليدي رابط‪.‬‬

‫إن اإليحاء بواقعية الحكاية هو الذي يسوغ تخييلية السرد‬

‫التي يواجه األداءُ المسرحي تعذرها تحت ضغط نفور مسرح‬ ‫َ‬ ‫مكون ِي «الحدث» و«الحكاية» ‪fable‬‬ ‫ما بعد الدراما من‬ ‫واستنا ِده إلى سردية «موقف» أو حالة‪ .‬وذاك هو مصدر‬ ‫ُ‬ ‫وقيمة‬ ‫«الصنعة» السردية في هذه الممارسة المسرحية‬ ‫المضاف فيها ً‬ ‫أيضا‪.‬‬

‫‪177‬‬


‫تشكيل‬

‫ذكر أن أعمال كبار الرسامين المصريين مهددة بالخطر‬

‫أحمد الجنايني‪:‬‬ ‫مهمتنا أال يتحول أتيليه القاهرة‬ ‫إلى مركز ثقافي إسرائيلي‬ ‫القاهرة‬

‫‪178‬‬

‫ال تكاد تشعر به‪ ،‬لكن أثره موجود في كل مكان‪ ،‬تراه في مقدمة صفوف الفنانين التشكيليين‪،‬‬ ‫حيث يشغل منصب رئيس مجلس إدار أتيليه القاهرة للفنانين واألدباء‪ ،‬هذا المكان الذي أسسه‬ ‫المصور المصري الكبير محمد ناجي عام ‪1953‬م‪ ،‬ليصبح منارة ثقافية تدافع عن التشكيل واألدب‬ ‫ً‬ ‫معا‪ ،‬إنه الفنان المصري أحمد الجنايني (‪1954‬م) الذي تتلمذ على يد الفنان المصري الكبير حامد‬ ‫عويس عام ‪1979 - 1978‬م‪ ،‬وبعدها درس الفن في ألمانيا في المدة ‪1981 : 1980‬م‪ ،‬وكتب الشعر‬ ‫والرواية‪ ،‬وصمَّ م أغلفة العديد من سالسل الكتب‪ ،‬وأنشأ دار نشر‪ ،‬ورأس تحرير مجلة «الخيال»‬ ‫المعنيَّة بالفنون البصرية‪ ،‬وهو القائل‪ :‬إن تاريخ‬ ‫مصر التشكيلي في خطر‪« .‬الفيصل» حاورته‬ ‫حول تجربته إضافة إلى قضايا أخرى‪.‬‬ ‫مارسْ َت الفن التشكيلي والشعر والكتابة الروائية؛ فما رؤيتك‬

‫األساسية للفن؟‬

‫ُ‬ ‫كنت واضحً ا منذ البداية مع نفسي في أنه ال يوجد غرف مغلقة‬

‫للصنوف اإلبداعية‪ ،‬لكن كل اإلبداعات تشكيلية أو موسيقية أو‬ ‫شعرية أو مسرحية‪ ...،‬جميعها يشتبك معً ا‪ ،‬كان هذا عمود أستند‬ ‫إليه في رؤيتي لمشروعي اإلبداعي‪ ،‬كما أن مثلث اإلبداع ال بد أن‬

‫يكون موهبة ‪ -‬خبرة ‪ -‬ثقافة‪ ،‬وأنه ال يمكن حذف أو إلغاء أي من‬ ‫العناصر الثالثة‪ ،‬وال يمكن أن يقدَّم عمل إبداعي بضلعين من دون‬ ‫الثالث‪.‬‬

‫ال تنتمي اللوحة لديك إلى سياق مدرسة فنية بعينها‪ ،‬وربما‬

‫تكون مزيجً ا من مدارس مختلفة‪ ،‬فما المؤثرات التي تدفعك‬ ‫لذلك؟‬

‫العددان ‪ 490 - 489‬شوال ‪ -‬ذو القعدة ‪1438‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬أغسطس ‪2017‬م‬

‫من أعمال الجنايني‬


‫أحمد الجنايني‪ ..‬مهمتنا أال يتحول أتيليه القاهرة إلى مركز ثقافي إسرائيلي‬

‫ممارسة العمل اإلبداعي تشكيليًّا تعتمد على ماهية اللغة‬

‫استفدت منه كثي ًرا في المراحل األولى من تكويني‪ ،‬فإذا أضفنا‬

‫البطل‪ ،‬وماهية لغة التشكيل هي اللون ‪ -‬الخط ‪ -‬الكتلة ‪ -‬الفراغ ‪-‬‬

‫ذلك إلى حكايات القرية وألعاب األوالد والبنات الشعبية التي كنا‬

‫بصريًّا‪ ،‬رغم إمكانية اشتباكه مع الموسيقا أو الشعر‪ .‬وبالنسبة لي‬ ‫ِ‬ ‫فإنني أعتمد الجسد اإلنساني‪ ،‬أو بمعنى أدق‪ ،‬اإلنسانَ بطلاً للغتي‬

‫ذاكرتي البصرية‪.‬‬

‫المساحة‪ .‬أي جميع العناصر المرئية بصريًّا‪ ،‬لذا سيكون البطل دائمًا‬

‫لونا أو ًّ‬ ‫التشكيلية‪ ،‬أحمله بكل المضامين التشكيلية سواء أكانت ً‬ ‫خطا‬ ‫مسافة أو ً‬ ‫ً‬ ‫كتلة أو ً‬ ‫فراغا‪ ،‬لكن الهم اإلنساني يكون حاف ًزا لطاقتي‬ ‫أو‬ ‫التشكيلية‪ ،‬وأنا ممن يؤمنون بموسيقا اللون‪ ،‬وبالتالي فإن لغة اللون‬

‫عندي تعتمد كلية على فهمي الواعي للعالقات اللونية سواء أكانت‬

‫التضاد أو الهارموني أو غيرهما‪ ،‬المهم عندي أن أرى الموسيقا من‬ ‫خالل اللون‪ ،‬وهذا يمنح العمل جاذبية للتلقي‪ ،‬ويأخذ المشاهد‬ ‫إلى أبعاد أخرى ترتبط جميعها رغم مضامينها المختلفة بجماليات‬ ‫المشهد‪ ،‬ولكي أحقق هذا كان ال بد لي أن أمارس التشكيل بعيدًا من‬

‫نمارسها بحب وفرح رغم ظلمة الشوارع التي لم تكن تعتمد إال على‬ ‫المصابيح النفطية في ذلك الوقت‪ ،‬كل هذا َّ‬ ‫شكل جزءًا كبي ًرا من‬

‫َ‬ ‫مارست فن تصميم األغلفة لعدد من سالسل الكتب‪ ،‬فإلى‬

‫أي مدى أسهم الكمبيوتر وما أتاحه من خيال جديد وبرامج عديدة‬ ‫في تشكيلك اللوحة وعالمها؟‬

‫ال تربطني أي عالقة بما نسميه فن الكمبيوتر أو العمل الفني‬

‫من خالل الكمبيوتر‪ ،‬أنا أمارس الفن التشكيلي بأطراف أصابعي‬ ‫معتمدًا اللون بمختلف خاماته‪ ،‬سواء أكانت زيتية أو أكريلِك أو ً‬ ‫ألوانا‬

‫مائية‪ ،‬وأنا من الفنانين الذين ال يؤمنون بتحضير اللوحة من خالل‬ ‫رسم إسكتشات ثم بعد ذلك نقل اإلسكتش ليكون لوحة‪ ،‬أنا أومن‬

‫صناديق المدارس التشكيلية الجاهزة‪ ،‬فأنا أومن بحرية التعبير وحرية‬ ‫استخدام الفنان للغته الخاصة؛ إذ ليس من الضروري أن يكون ً‬ ‫واقفا‬

‫منذ بداياتي بأن الشخصية األولى هي اللوحة؛ لذلك تكون عالقتي‬

‫من هنا كانت تجاربي مزجً ا بين مدارس تشكيلية مختلفة‪ ،‬فالتجريد‬

‫ضربة الفرشة األولى في اللوحة هي بمنزلة الطلقة األولى التي تفتح‬

‫داخل صندوق مدرسة معينة‪ ،‬ويغلق على نفسه هذا الصندوق‪،‬‬

‫امتزج بسوريالية اللون‪ ،‬والتعبيرية امتزجت بدراما التجريد‪ ،‬وهكذا‪.‬‬ ‫كيف تشكلت الذاكرة البصرية لدى أحمد الجنايني؟‬

‫أنا ابن قرية تنام في حضن النيل‪ ،‬حيث فرع دمياط؛ لذا فمنذ‬

‫طفولتي كنت أشكل الطمي وأتعامل مع مفردات النهر ومفردات‬

‫الطبيعة بوصفها المخزون الوجداني والثقافي والبصري‪ ،‬ورغمًا عني‬

‫مباشرة مع سطح اللوحة‪ ،‬من دون االتكاء على عمل إسكتشات‪،‬‬ ‫لي سردابًا ال أعرف ما الذي يسكنه‪ ،‬لكنني أعرف تمامًا أنني ال بد أن‬

‫أعبُر من هذا السرداب‪ ،‬هذه هي عالقتي الحقيقية بالعمل التشكيلي‪.‬‬ ‫كيف ترى واقع الحركة التشكيلية في‬

‫مصر اآلن؟‬

‫الحركة التشكيلية يشوبها‬

‫مارست ذلك من دون أن أفهم ذلك بوعي‪ ،‬ابن القرية الذي رسم‬

‫الكثير من العالقات التي غيَّبت‬

‫التربية الفنية في المرحلة اإلعدادية مع الطبيعة‪ ،‬حيث كان يطلب‬

‫وأقصد بها عالقة وزارات التربية‬

‫بالطبشور على جدران المنزل وأبواب الغرف‪ ،‬وتعامل في «حصة»‬ ‫منا مدرس الرسم على السبورة أمام الزمالء‪ ،‬وهذا ما شجعني على‬

‫ممارسة التشكيل‪.‬‬

‫هناك جانب آخر مهم وهو مكتبة أخي األكبر التي كانت تضم‬

‫كتبًا مهمة منها كتاب التشريح للفنانين ‪-‬مؤلفه يوجن وولف‪ -‬الذي‬

‫بدأ الصراع في أتيليه القاهرة حين تواطأ‬ ‫مجلس إدارة األتيليه األسبق عام ‪2008‬م‬ ‫مع من يمتلكون عقار أتيليه القاهرة‪،‬‬ ‫وهم ورثة ليندا كوهينكا اليهودية‪،‬‬ ‫المقر على أن‬ ‫وذلك بعدم دفعهم إيجار‬ ‫ّ‬ ‫َصدر‬ ‫ويست َ‬ ‫يقاضي الورثة مجلس اإلدارة ُ‬ ‫قرار من المحكمة بطرد جمعية األتيليه‪،‬‬ ‫وتسليم العقار للورثة‬

‫المفهوم‬

‫الحقيقي‬

‫لإلبداع‪،‬‬

‫والتعليم والثقافة واإلعالم‬ ‫بمفهوم التشكيل والثقافة‬

‫البصرية وأهميتهما‪ ،‬لقد‬ ‫اختلطت هذه المفاهيم عند‬

‫القنوات الثالث‪ ،‬فغابت‬

‫المفاهيم‬

‫الحقيقية‬

‫‪179‬‬


‫تشكيل‬

‫ليس من الضروري أن يكون الفنان واقفً ا‬ ‫داخل صندوق مدرسة معينة‪ ،‬ويغلق‬ ‫على نفسه هذا الصندوق‪ ،‬من هنا‬ ‫مزجا بين مدارس تشكيلية‬ ‫كانت تجاربي‬ ‫ً‬ ‫مختلفة‪ ،‬فالتجريد امتزج بسوريالية‬ ‫اللون‪ ،‬والتعبيرية امتزجت بدراما التجريد‬ ‫فنية كبيرة من رواد الفن في مصر منهم‪ :‬محمود سعيد‪ ،‬وسيف‬

‫وانلي‪ ،‬والجزار‪ ،‬وحامد ندا وغيرهم‪ ،‬يفقد الفن التشكيلي في مصر‬

‫مصداقيته وجالله‪ ،‬وهذه مشكلة كبيرة طرحت وفاحت رائحتها في‬ ‫معرض السورياليين الذي أقيم في قصر الفنون بدار األوبرا بالتعاون‬

‫بين وزارة الثقافة وجهات خاصة أتت بكم هائل من اللوحات المزيفة‪،‬‬ ‫وحشرتها داخل المعرض فقط لتأخذ مشروعيتها في المزادات التي‬

‫يقوم بها هذا اللوبي‪.‬‬

‫‪180‬‬

‫من أعمال الجنايني‬

‫بوصفك رئيس أتيليه القاهرة‪ ،‬ما حقيقة الصراع الدائر على‬

‫في المراحل التعليمية‪ ،‬وهمشت في الثقافة‪ ،‬وتكاد تكون ألغيت‬

‫بدأ الصراع في أتيليه القاهرة حين تواطأ مجلس إدارة األتيليه‬

‫يعد باإلمكان القبض على مفاهيم جمالية تقدم على أرضية حقيقية‬

‫ليندا كوهينكا اليهودية‪ ،‬وذلك بعدم دفعهم إيجار المق ّر مدة أربع‬ ‫أو خمس سنوات‪ ،‬على أن يقاضي الورثة مجلس اإلدارة ويُس َتص َدر‬

‫التشكيلي‪ ،‬وبالتالي فالفنان التشكيلي الحقيقي ال يستطيع في‬ ‫المجتمع المصري بل العربي ككل أن يمارس حياته بصفته ً‬ ‫فنانا‪،‬‬

‫بقرار من وزارة التضامن االجتماعي‪ ،‬ثم فصلهم من األتيليه بقرار‬

‫في اإلعالم‪ ،‬وبالتالي فهذه الجزر المنعزلة والمنوط بها رفع مستوى‬ ‫الثقافة البصرية ال تقدم شي ًئا حقيقيًّا لتنمية الثقافة البصرية‪ ،‬ولم‬

‫للمواطن العادي‪ ،‬ومن ثم انفصل المجتمع بكليته عما يسمى الفن‬

‫ممارسة الفن لن تكون داعمة له لممارسة حياته بشكل طبيعي‪ ،‬من‬ ‫ناحية أخرى‪ ،‬وهي األهم‪ ،‬إنه لكي ُتق ِّدم عملاً إبداعيًّا من خالل كونك‬ ‫ً‬ ‫فنانا ال بد أن تمتلك رؤية لهذا العمل‪ ،‬وهذا ما نفتقده في كثير من‬

‫األحوال‪ ،‬نحن في حاجة ماسّ ة إلى الثقافة اإلبداعية سواء أكانت‬ ‫إبدا ًعا أو ممارسة‪.‬‬

‫المق ّر منذ سنوات؟‬

‫األسبق عام ‪2008‬م مع من يمتلكون عقار أتيليه القاهرة‪ ،‬وهم ورثة‬

‫قرار من المحكمة بطرد جمعية األتيليه‪ ،‬وتسليم العقار للورثة‪ ،‬كان‬ ‫هذا أساس المشكلة‪ ،‬وأُوقِفت هذه اإلجراءات و ُعزل هذا المجلس‬ ‫من الجمعية العمومية‪ ،‬لكن بعد خمس سنوات تغيرت الخريطة‪،‬‬ ‫وفوجئ مجلس اإلدارة الحالي بخطابات َت ِر ُد إليه من مدير التضامن‬ ‫االجتماعي ُتطالِب المجلس بإعادة األعضاء المفصولين بوصفهم لم‬ ‫يفصلوا‪ ،‬وبدا المشهد مأساويًّا حين َت َّ‬ ‫كشفت خيوط التعاون بين إدارة‬

‫التضامن وعناصر من المجلس المفصول‪ ،‬لنكتشف أن كل ما تسعى‬ ‫َّ‬ ‫يتمكن‬ ‫له وزارة التضامن هو إعادة الوضع إلى ما كان عليه‪ ،‬بحيث‬

‫َ‬ ‫قلت في مقال‪ :‬إن تاريخ التشكيل المصري في خطر؛ فكيف‬

‫المجلس المعزول من تسليم المق ّر إلى الورثة‪ ،‬وهذا ما وقفنا ضده‪،‬‬

‫التاريخ المصري يضع مصر رغمًا عن أي شيء في مقدمة‬ ‫ً‬ ‫تاريخا إبداعيًّا حقيقيًّا‪ ،‬لكن ما يحدث اآلن ربما‬ ‫الدول التي تمتلك‬

‫حكم القضاء‪ ،‬وال يهمّنا إال أن نحافظ على كيان أتيليه القاهرة من‬

‫ذلك؟‬

‫يؤثر بشكل كبير في هذا التاريخ‪ ،‬حيث إن هناك «لوبي» ‪-‬وأعني بها‬ ‫معناها الحقيقي‪ -‬يعمل ضد الفن بتب ِّنيه أعمالاً ال قيمة لها؛ كي تكون‬ ‫ً‬ ‫رهانا على تشويه وتشويش اإلبداع‪ .‬ويتواصل‬ ‫في سوق المزادات‬ ‫مع ذلك الترويج لألعمال الفنية المزيفة التي شاع التسويق لها‪،‬‬

‫مما أفقد المتاحف الفنية الكثير من هيبتها‪ ،‬فأعمال مزيفة لرموز‬ ‫العددان ‪ 490 - 489‬شوال ‪ -‬ذو القعدة ‪1438‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬أغسطس ‪2017‬م‬

‫وقاضينا وزيرة التضامن ومحافظ القاهرة السابق‪ ،‬ونحن في انتظار‬

‫أيدي العابثين الذين يسعون لتحويله إلى مركز ثقافي إسرائيلي‪ ،‬أو‬ ‫على أقل تقدير إطفاء شعلته الثقافية التي أسسها المصوِّر المصري‬ ‫الكبير محمد ناجي في مارس ‪1953‬م‪ ،‬وال يؤسفني في نضالنا هذا إال‬

‫تخاذل الكثير من المثقفين عن الدفاع عن هذا الصرح وتاريخه‪ ،‬وعلى‬ ‫رأسهم وزير الثقافة الذي لم يح ِّرك ساك ًنا رغم أنني وضعت الملف‬ ‫كاملاً على مكتبه‪ ،‬لكنه آثر الصمت البليغ‪.‬‬


‫أحمد الجنايني‪ ..‬مهمتنا أال يتحول أتيليه القاهرة إلى مركز ثقافي إسرائيلي‬

‫‪181‬‬


‫نصوص‬

‫مرآة ال تريني وجهي‬ ‫مسفر الغامدي‬

‫شاعر سعودي‬

‫مقهى‬

‫ٌ‬ ‫سريع‪...‬‬ ‫الوقت‬ ‫الوقت بطيءٌ ‪...‬‬

‫ً‬ ‫سريعا‪...‬‬ ‫ليس بطي ًئا وال‬

‫‪182‬‬

‫و‪...‬‬ ‫غمامة عقيمة تظلل رؤوسنا دون أن نعيرها‬ ‫ً‬ ‫انتباها‬

‫نحن نتدحرج فيه كصخرة‪ ،‬أو نتدفق كسيل‬

‫يمضي الليل‬

‫جارف‪.‬‬

‫تأتي اللحظة الحاسمة لصياغة البيان الختامي‬

‫الوقت هو اآلن‪ ،‬ما نحن عليه في هذه اللحظة‬

‫للجلسة‬

‫فقط‪...‬‬

‫المتحدث الرسمي يتلو البيان بنبرة دبلوماسية‬

‫ليس هناك من وقت خارج اللحظة التي‬

‫تصالحية هادئة‪:‬‬

‫نعيشها‪...‬‬ ‫يمضي الليل‬

‫تتخلله أصوات أخرى‪:‬‬

‫ِّ‬ ‫معلق رياضي يمزق آذاننا بسكينه الحادة‬

‫الوقت ليس بطي ًئا‬

‫ً‬ ‫سريعا‬ ‫الوقت ليس‬ ‫الوقت بطيء وسريع في نفس الوقت‪.‬‬ ‫حسين‬

‫طلقات مدوية لحبات الدومينو على طاولة‬

‫أشعر بالذنب‬

‫مجاورة‬ ‫طلبات الزبائن التي ال تنقطع‬

‫كلما أحسست أنني أتفق معك في رأي ما‬ ‫ليس ألن ما تقوله خطأٌ‬

‫صراخ العاملين الذي ال يتوقف‬

‫ٌ‬ ‫صواب‬ ‫وما أقوله‬ ‫ولكن ألنني اخترت منذ البداية أن تكون نقيضي‬

‫و‪...‬‬ ‫شتائمنا‪ ،‬لعناتنا‪ ،‬تبرمنا‪ ،‬ضحكاتنا‪ ،‬بكاؤنا‪،‬‬ ‫أحالمنا‪ ،‬أغانينا‪ ،‬استغاثاتنا‪ ،‬احتجاجنا‪...‬‬ ‫العددان ‪ 490 - 489‬شوال ‪ -‬ذو القعدة ‪1438‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬أغسطس ‪2017‬م‬

‫المرآة التي ال تريني وجهي اآلن‬

‫بل الوجه الذي ضيع ُته منذ زمن بعيد!‬


‫ضياء‬

‫كمن يريد أن يقفز إلى المستقبل مباشرة‬ ‫سألني‪:‬‬ ‫متى سأتعلم القيادة؟‬ ‫أجبته من خلف المقود‪:‬‬ ‫عندما تصبح السيارة جزءً ا منك‬ ‫قدمَ ك التي تمشي عليها‬ ‫َ‬ ‫يدك التي تمسك بها‬

‫ُّ‬ ‫التفت إليه في حبور‬ ‫ألرى الدهشة في عينيه‬ ‫ً‬ ‫ومرتبكا‬ ‫لكنه بدا حائرًا‬

‫أظنه كان يخفي عبارة من نوع‪:‬‬ ‫أنت غبي ًّ‬ ‫جدا يا أبي‪...‬‬

‫لماذا ِّ‬ ‫ّ‬ ‫الحد؟!‬ ‫تعقد األمور إلى هذا‬

‫عي َنك التي ترى بها‬

‫َ‬ ‫لسانك الذي تنطق به‪...‬‬

‫‪183‬‬


‫مقال‬

‫سعد البازعي‬ ‫ناقد سعودي‬

‫ترف الحرية‬ ‫استوقفتني عبارة للمفكر الفرنسي جان بودريار وردت‬

‫في كتابه «كرب القوة»‪ .‬العبارة ستفاجئ البعض وتحزن‬ ‫ً‬ ‫وترفا لم‬ ‫البعض اآلخر‪ .‬هي عبارة تتضمن شكوى لم نألفها‬

‫القدرة على تغيير شيء‪ ،‬مع أنها استفادت من االستعمار‬

‫والنهب الذي مارسته حكوماتها‪ ،‬وإن لم يشر بودريار إلى ذلك‪.‬‬ ‫حروب التحرر‬

‫يمر بنا‪ :‬ترف الحرية‪ .‬هكذا سيراه من يبحث عن فتات من تلك‬ ‫المحلوم بها أبدً ا‪ ،‬الحرية‪ ،‬تمامً ا كما هو شعور الجماهير‬

‫وعالم االجتماع الفرنسي حين قال‪« :‬كل حروب التحرر‬

‫تحت نافذة القصر اإلمبراطوري التي يقال‪ :‬إن ماري أنطوانيت‬ ‫َّ‬ ‫ً‬ ‫كعكا‪ ،‬أو‬ ‫أطلت منها لتقول عبارتها الشهيرة‪ :‬لِمَ ال يأكلون‬

‫من السيطرة لم تزد على أن مهدت الطريق للهيمنة‪ ،‬أي‬

‫قبل إيراد العبارة من الضروري معرفة السياق‪ .‬جاءت‬

‫شيء بات مح َّررًا»‪ .‬التبادل العام هو اقتصاد السوق حيث‬

‫كما قالت‪ .‬فماذا قال بودريار؟‬ ‫العبارة ضمن مناقشة بودريار‬

‫‪184‬‬

‫ذلك كله يقف وراء النتيجة التي توصل إليها المفكر‬

‫عهد التبادل العام – التي ال مجال للثورة عليها؛ ألن كل‬ ‫تبادل السلع واألفكار وغيرها‪،‬‬

‫لما وصفه باالنتقال في تاريخ‬

‫العالم الغربي من مرحلة السيطرة‬ ‫(‪ )domination‬إلى مرحلة‬

‫الهيمنة (‪ ،)hegemony‬األولى‬

‫هي مرحلة العبودية أو السيطرة‬

‫المباشرة التي سادت في الماضي‪،‬‬ ‫والثانية هي مرحلة الخضوع غير‬

‫المحسوس والمشاركة في عملية‬ ‫اإلخضاع نفسها‪ .‬وهذه الثانية‬

‫هي المرحلة الحالية التي يسيطر‬ ‫فيها اقتصاد السوق والعولمة أو‬

‫السوق التي تعولمت ولم يعد‬

‫الواقعون تحت السيطرة أو‬ ‫الهيمنة ليسوا محصورين في‬ ‫أهل العالم غير الغربي‪ ،‬الذين‬ ‫استُعمروا و ُنهبوا طوال قرون‪ ،‬إنما‬

‫ممك ًنا السيطرة عليها‪ ،‬بل‬

‫التي باتت هي‪ ،‬حسب بودريار‬ ‫تسيطر على الناس‪ .‬في تلك‬

‫السوق لم يعد مجال لثورة ألنه‬ ‫لم يعد هناك متسلط واضح‬

‫أيضا الشعوب الغربية نفسها‬ ‫هم ً‬

‫يمكن الثورة عليه‪.‬‬

‫سياسية واقتصادية واجتماعية‬

‫لشعوب كثيرة حول العالم‬

‫أيضا بقوى‬ ‫التي ظلت محكومة ً‬ ‫الطبقي‬ ‫وبأوضاع من التفاوت‬ ‫ّ‬

‫عملية التبادل التجاري الطاغي‬

‫لكن هذا لن يبدو مقنعً ا‬

‫تعرف المتسلطين‪ ،‬شعوب ما‬

‫زالت في مرحلة تسبق تلك التي‬ ‫رأى بودريار أن العالم وصل‬

‫على كل شيء‪ .‬ثم يشير إلى أن مرحلة العبودية أدّت في ذروتها‬

‫إليها‪ ،‬مرحلة يهيمن فيها فرد مستبدّ أو عسكر‪ ،‬أو أقلية‬

‫لكنها اتسمت بأفكار واضحة وقادة مرئيين‪ ،‬أما الثانية فال‬

‫ألولئك سيبدو كالم بودريار ً‬ ‫ترفا ال معنى له‪ .‬ثمة أولويات‬

‫إلى حركة تحرر سواء أكان سياسيًّا أم جنسيًّا أم غير ذلك‪،‬‬

‫تسمح‪ ،‬كما يقول‪ ،‬بالثورة عليها‪ ،‬وقبل إيضاح السبب وراء‬

‫أو مجموعة من المتزمتين أو المؤدلجين أو أو‪ .‬بالنسبة‬

‫تسبق العولمة‪ .‬غير أن المشكلة لن تقف عند ذلك الحد‪.‬‬

‫ذلك يلزم القول بأن الواقعين سواء تحت السيطرة أو الهيمنة‬

‫ستبدو المشكلة مضاعفة حين تكتشف تلك الشعوب أن‬

‫غير الغربي‪ ،‬شعوب آسيا وإفريقيا‪ ...‬إلخ‪ ،‬الذين اس ُتعمروا‬ ‫ُ‬ ‫ونهبوا طوال قرون‪ ،‬ليسوا أولئك فقط‪ ،‬إنما هم ً‬ ‫أيضا الشعوب‬

‫من خالل اقتصاد السوق وهيمنة االستهالك قوة طاغية‬ ‫ً‬ ‫أيضا‪ .‬صحيح أن بودريار لم يلتفت إلى تلك السلطة‬

‫ليسوا محصورين‪ ،‬كما قد يظن ألول وهلة‪ ،‬في أهل العالم‬

‫الغربية نفسها التي ظلت محكومة ً‬ ‫أيضا بقوى سياسية‬

‫واقتصادية واجتماعية‪ ،‬وبأوضاع من التفاوت الطبقي وعدم‬

‫ما يقوله المفكر الفرنسي ال يخلو من صحة‪ ،‬أن العولمة‬

‫المضاعفة لكن ذلك ليس متوقعً ا منه‪ ،‬فااللتفات هنا هو‬ ‫ِّ‬ ‫مفكري العالم غير الغربي فِعله‪.‬‬ ‫ما يجب على‬

‫العددان ‪ 490 - 489‬شوال ‪ -‬ذو القعدة ‪1438‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬أغسطس ‪2017‬م‬


‫ُﻏﺼﺛّﻡ ‪#‬ﻄﺎﺗﺷ_ﺍﻝﻑﻐﺧﻀ ﻝﻂﻑﻆ ﺍﻝﺳﺭﺏﻎ ﺍ�ﺠﻘﻄﻎ ﻇﻡﺍﺫﺝ‬ ‫ﻄﻆ ﺍﻝﻡﺔﻡﻌﺲﺋ ﺍﻝﻑﻈﻐﺋ ﺍﻝﺎﻎ ﻏﺼﺎﻈﻐﻋﺍ ﺍﻝﻡﺭﺾﺞ ﻄﻆ ﺥﻘﻝ ﺻﺍﺲﺎﻐﻆ‬

‫أوﻗﺎت اﻟﺰﻳﺎرة‬ ‫ﻣﻦ ﺍﻷﺣﺪ ﺇﳳ ﺍﻟﺨﻤﻴﺲ‪:‬‬

‫*‬ ‫* اﻟﻘﺎﻋﺔ اﻟﺜﺎﻧﻴﺔ‪ :‬ﻣﺠﻤﻮﻋﺔ ﻣﺼﺎﺣﻒ ﻣﺨﻄﻮﻃﺔ وﻣﻄﺒﻮﻋﺔ ﻓﺮﻳﺪة‪.‬‬ ‫اﻟﻘﺎﻋﺔ ا وﻟﻰ‪ :‬ﻗﻄﻊ ﺗﺮاﺛﻴﺔ ﻧﺎدرة ﻣﻦ اﻟﻔﻦ اﻟﻌﺮﺑﻲ ا ﺳﻼﻣﻲ‪.‬‬

‫ﻣﻦ ‪ 9‬ﺻﺒﺎﺣﺎ ﺇﳳ ‪ 3‬ﻋﺼﺮﺍ – ﻭﻣﻦ ‪ 5‬ﻣﺴﺎﺀ ﺇﳳ ‪ 9‬ﻣﺴﺎﺀ‬

‫ﻳﻮﻡ ﺍﻟﺴﺒﺖ ‪ :‬ﻣﻦ ‪ 5‬ﻣﺴﺎﺀ ﺇﳳ ‪ 9‬ﻣﺴﺎﺀ‬ ‫ﻳﺴﺘﻤﺮ ﺍﳴﻌﺮﺽ ﺣﺘﻰ ﻧﻬﺎﻳﺔ ﺷﻬﺮ ﺫﻱ ﺍﻟﺤﺠﺔ ‪1438‬ﻫـ‪ ،‬ﺍﳴﻮﺍﻓﻖ ‪ 20‬ﺳﺒﺘﻤﺮﺒ ‪2017‬ﻡ‬

‫ﺃﻛﺜﺮ ﻣﻦ ‪ 200‬ﻗﻄﻌﺔ ﺗﺮﺍﺛﻴﺔ ﻧﺎﺩﺭﺓ ﻭﻣﺼﺎﺣﻒ ﺗﺎﺭﻳﺨﻴﺔ ﻓﺮﻳﺪﺓ ﻣﺨﻄﻮﻃﺔ ﻭﻣﻄﺒﻮﻋﺔ‬ ‫)ﻣﺼﺎﺣﻒ ﺍﻷﻣﺼﺎﺭ( ﻣﻦ ﺍﻟﻘﺮﻥ ﺍﻟﺜﺎﻧﻲ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﻘﺮﻥ ﺍﻟﺮﺍﺑﻊ ﻋﺸﺮ ﺍﻟﻬﺠﺮﻱ‬

‫ﺹ‪.‬ﺏ ‪ 51049‬ﺍﻟﺮﻳﺎﺽ ‪ 11543‬ﺍﻟﻤﻤﻠﻜﺔ ﺍﻟﻌﺮﺑﻴﺔ ﺍﻟﺴﻌﻮﺩﻳﺔ‬ ‫ﻫﺎﺗﻒ‪ (+966 11) 4652255 :‬ﺗﺤﻮﻳﻠﺔ‪ - 6759 :‬ﻓﺎﻛﺲ‪(+966 11) 4659993 :‬‬ ‫ﺑﺮﻳﺪ ﺇﻟﻜﺘﺮﻭﻧﻲ‪publish@kfcris.com :‬‬

‫‪KFCRIS_SA‬‬

‫‪kfcris_sa‬‬

‫‪KFCRISKSA‬‬

‫‪@kfcris_sa‬‬

‫‪www.kfcris.com‬‬


King Faisal Foundation

(+ 96611)4656524 :¢ù``cÉa (+96611)4652255 :∞JÉ``g á`` ` ` ` jOƒ`©` `°ù`dG á`` ` ` «Hô`` ©` dG á`` ` ` ` µ` ∏ª`ŸG 11411 :¢VÉ`` `jô``dG 352 :Ü .¢U

P.O.Box 352 Riyadh 11411 Kingdom of Saudi Arabia Tel: (+966 11) 4652255 Fax: (+966 11) 4656524

www.kff.com


Issuu converts static files into: digital portfolios, online yearbooks, online catalogs, digital photo albums and more. Sign up and create your flipbook.