issuu478:477 مجلة الفيصل

Page 1

‫العددان ‪ 478 - 477‬شوال ‪ -‬ذو القعدة ‪1437‬هـ يوليو ‪ -‬أغسطس ‪2016‬م‬

‫عن الفنون في السعودية‪:‬‬

‫الحياة بال موسيقا‬

‫هشام جعيط‪ :‬االستشراق‬ ‫انتهى على يدي‬

‫السعودية وإيران ‪..‬‬ ‫هل هناك أمل؟‬

‫روالن بارت‬ ‫لماذا أخفى حزنه؟‬

‫هل غادرت القاهرة‬ ‫موقعها الثقافي؟‬

‫الكاتبة الخليجية‬ ‫تواجه مجتمعها‬

‫‪www.alfaisalmag.com‬‬


k É`ã``jó``M Qó`°U

    

 www. research.kfcris.org research@kfcris.com


«

» ‫ﺗﺠﻮل ﻓﻲ ﻣﻮﻗﻊ‬

‫ﻣﻘﺎﻻت ﻟﻨﺨﺒﺔ ﻣﻦ أﻫﻢ اﻟﻜﺘﺎب‬ ‫ﻣﻠﻔﺎت وﺗﺤﻘﻴﻘﺎت وﻗﻀﺎﻳﺎ ﻋﻦ اﻟﺮاﻫﻦ اﻟﺜﻘﺎﻓﻲ واﻟﺴﻴﺎﺳﻲ‬ ‫ﻣﻊ إﻃﻼﻟﺔ ﻋﻠﻰ اﻹﺑﺪاع ﻓﻲ ﻣﺨﺘﻠﻒ اﻟﻔﻨﻮن‬

alfaisalmag @alfaisalmag www.alfaisalmag.com editorial@alfaisalmag.com




‫اﻟﻌﺪدان ‪ ٤٧٨ - ٤٧٧‬ﺷﻮال ‪ -‬ذو اﻟﻘﻌﺪة ‪١٤٣٧‬ﻫـ ﻳﻮﻟﻴﻮ ‪ -‬أﻏﺴﻄﺲ ‪٢٠١٦‬م‬

‫أسسها عام ‪1397‬هـ‪1977/‬م‬

‫ﻋﻦ اﻟﻔﻨﻮن ﻓﻲ اﻟﺴﻌﻮدﻳﺔ‪:‬‬

‫اﻟﺤﻴﺎة ﺑﻼ ﻣﻮﺳﻴﻘﺎ‬

‫األمير خالد الفيصل‬ ‫يصدرها‬

‫اﻟﺴﻌﻮدﻳﺔ وإﻳﺮان ‪..‬‬

‫روﻻن ﺑﺎرت‬ ‫ﻟﻤﺎذا أﺧﻔﻰ ﺣﺰﻧﻪ؟‬

‫ﻫﻞ ﻏﺎدرت اﻟﻘﺎﻫﺮة‬ ‫ﻣﻮﻗﻌﻬﺎ اﻟﺜﻘﺎﻓﻲ؟‬

‫اﻟﻜﺎﺗﺒﺔ اﻟﺨﻠﻴﺠﻴﺔ‬ ‫ﺗﻮاﺟﻪ ﻣﺠﺘﻤﻌﻬﺎ‬

‫ﻫﻞ ﻫﻨﺎك أﻣﻞ؟‬

‫رئيس مجلس اإلدارة‬

‫ﻫﺸﺎم ﺟﻌﻴﻂ‪ :‬اﻻﺳﺘﺸﺮاق‬ ‫اﻧﺘﻬﻰ ﻋﻠﻰ ﻳﺪي‬

‫األمير تركي الفيصل‬

‫‪www.alfaisalmag.com‬‬

‫العددان ‪ - 478-477‬السنة الحادية واألربعون‬

‫الناشر‬

‫الثقافية‬

‫دار‬

‫‪2‬‬

‫في هذا العدد‬ ‫هل غادرت القاهرة موقعها في الثقافة العربية؟‬

‫‪60‬‬

‫تنازع الروائي والتاريخي في روايتين إلسماعيل فهد‬

‫‪68‬‬

‫حوار هشام جعيط‬

‫‪82‬‬

‫الكاتبة الخليجية‪ ..‬أحالم بال حدود‬

‫‪98‬‬

‫السعودية و إيران ‪..‬هل هناك أمل؟‬

‫‪104‬‬

‫عبدالله الشبل‪ ..‬اإلداري واإلنسان‬

‫‪120‬‬

‫مطاع صفدي قامة فكرية عالمية خسرناها‬

‫‪122‬‬

‫المشهد الثقافي المغربي بائس في المغرب‪...‬‬

‫‪128‬‬

‫رئيس التحرير‬

‫ماجد الحجيالن‬ ‫‪editorinchief@alfaisalmag.com‬‬ ‫تعبر عن وجهة نظر‬ ‫ اآلراء المنشورة ّ‬‫كتَّابها‪ ،‬وال تم ِّثل رأي مجلة الفيصل‪.‬‬ ‫ تكفل المجلة حرية التعليق على‬‫موضوعاتها المنشورة شريطة االلتزام‬

‫تاريخ األدب الكردي‬

‫‪134‬‬

‫روالن بارت‪ ..‬المفكر الذي أخفى حزنه‬

‫‪138‬‬

‫سيرة هشام ناظر وتركي الدخيل ومرآة الغريبة‬

‫‪142‬‬

‫نور الدين فارح‪ :‬قائد الحركة النسوية في الصومال‬

‫‪150‬‬

‫بالموضوعية‪.‬‬ ‫ تحتفظ المجلة بحقوق ملكيتها للمواد‬‫المنشورة فيها‪ ،‬ويتطلب إعادة نشر أي‬ ‫ورقيا الحصول على‬ ‫إلكترونيا أو‬ ‫مادة‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫موافقة المجلة مع اإلشارة إلى المصدر‪.‬‬ ‫ ترسل المواد إلى بريد المجلة‬‫اإللكتروني‪:‬‬

‫‪editorial@alfaisalmag.com‬‬

‫مقاالت‬

‫ لالطالع على سياسة النشر يرجى زيارة‬‫الموقع اإللكتروني‬

‫‪www.alfaisalmag.com‬‬ ‫ردمد‬ ‫‪٨٥٢٠ - ٠٤١١‬‬ ‫رقم اإليداع‬ ‫مكتبة الملك فهد الوطنية ‪41/2450‬‬ ‫العددان ‪ 478 - 477‬شوال ‪ -‬ذو القعدة ‪1437‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬أغسطس ‪2016‬م‬

‫رشيد بوطيب‬

‫‪64‬‬

‫محمد الحرز‬

‫‪80‬‬

‫عبدالعزيز ساكن‬

‫‪112‬‬

‫عبدالسالم عبدالعالي‬

‫‪154‬‬

‫حازم األمين‬

‫‪164‬‬

‫جمال خاشقجي‬

‫‪184‬‬


‫شخصيات‬

‫قضايا‬

‫‪94‬‬

‫اتحاد األدباء اليمنيين‬

‫عاما‬ ‫عاش اثنين وثمانين‬ ‫ً‬ ‫مألى بعصامية نادرة‬ ‫نقلته من دائرة مغلقة‬ ‫إلى مدار مفتوح‪ ،‬فلم‬ ‫يرض بانغالق مثلما لم‬ ‫َ‬ ‫وظل‬ ‫اندالق‪،‬‬ ‫إلى‬ ‫ينقد‬ ‫ْ‬ ‫َّ‬ ‫اإلنسان في داخله‬ ‫ُ‬ ‫متحكما في ظاهره‪..‬‬ ‫ً‬

‫‪114‬‬

‫عبدالله العثيمين‪ :‬محددات الشخص ومكونات النص‬

‫من ربيع الوحدة إلى شتاء‬ ‫االنقسام!‬

‫دراسات‬

‫فنون‬

‫‪72‬‬

‫‪178‬‬

‫نصوص‬

‫اإلرهاب في أفق النقاش‬

‫أفالم مارك فورستر‪:‬‬

‫الفلسفي‪..‬‬

‫دع رؤيتك ترشدك‬

‫عبدالرحيم الخصار‬

‫‪58‬‬

‫زين العابدين الضبيبي‬

‫‪78‬‬

‫جميلة عمايرة‬

‫‪111‬‬

‫حسن دعبل‬

‫‪124‬‬

‫عبدالوهاب أبو زيد‬

‫‪127‬‬

‫سعود اليوسف‬

‫‪149‬‬

‫عارف حمزة‬

‫‪163‬‬

‫ملف العدد‬

‫الحياة بال موسيقا‬ ‫شارك في ملف هذا العدد‪:‬‬ ‫ الشريف حاتم بن عارف العوني‬‫ علي فقندش‬‫ أحمد الواصل‬‫ خليل المويل‬‫ محمد العثيم‬‫ عبدالله الدحيالن‬‫ عبدالله التعزي‬‫ نداء أبو علي‬‫ يحيى مفرح زريقان‬‫‪ -‬سلطان البازعي‬

‫‪10‬‬

‫‪ -‬عبدالله بن بخيت‬

‫‪3‬‬


‫المركز‬

‫«الفيصل‪ ..‬شاهد وشهيد» يستأنف جوالته‬

‫‪4‬‬

‫استأنف معرض «الفيصل‪ ..‬شاهد‬

‫وشهيد» جوالته في مختلف أنحاء المملكة‪،‬‬ ‫وكانت محطته الجديدة في نادي األمانة بحي‬

‫الخالدية في العاصمة المقدسة مكة المكرمة‪،‬‬ ‫وافتتحها مستشار خادم الحرمين الشريفين‬

‫أمير منطقة مكة المكرمة األمير خالد‬ ‫الفيصل‪ ،‬بحضور رئيس مجلس إدارة مركز‬ ‫الملك فيصل للبحوث والدراسات اإلسالمية‬

‫األمير تركي الفيصل وعدد من المسؤولين‪.‬‬ ‫ويرصد المعرض بالصوت والصورة مسيرة‬ ‫الملك فيصل رحمه الله‪ ،‬ويضمّ أهم مقتنياته‬

‫الخاصة‪ ،‬وأبرز مراحل حياته‪ .‬وأقيمت هذه‬

‫المحطة‪ ،‬التي استمرت إلى التاسع عشر‬ ‫من شهر رمضان المبارك‪ ،‬تزام ًنا مع بداية‬ ‫اإلجازة الصيفية‪ .‬وسبق للمعرض أن طاف‬

‫منذ افتتاحه في العاصمة الرياض في جمادى‬ ‫األولى سنة ‪1429‬هـ ـ مايو ‪2008‬م اًّ‬ ‫كل من‪ :‬منطقة‬

‫عسير‪ ،‬ومدينة جدة‪ ،‬وفعاليات المهرجان‬ ‫الوطني للتراث والثقافة الرابع والعشرين‬ ‫(الجنادرية) بالرياض‪ ،‬والمدينة المنورة‪،‬‬ ‫ومنطقة القصيم‪ ،‬والمنطقة الشرقية‪.‬‬

‫العددان ‪ 478 - 477‬شوال ‪ -‬ذو القعدة ‪1437‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬أغسطس ‪2016‬م‬


‫مسارات ودراسات وقراءات‬ ‫واصلت إدارة البحوث بالمركز إصدار دورياتها‬ ‫ً‬ ‫حديثا‬ ‫(مسارات‪ ،‬ودراسات‪ ،‬وقراءات)؛ فصدر عنها‬

‫عدد مسارات رقم (‪ )23‬بعنوان‪« :‬فهم صعود حزب الله‬

‫اللبناني‪ ..‬صراع المنطقة األمنية في جنوب لبنان‪-1985 :‬‬ ‫‪2000‬م»‪ ،‬ويتناول دور حزب الله اللبناني في استمرار بشار‬

‫األسد في السلطة في سوريا‪ ،‬والتكيّف الداخلي للحزب‬ ‫في التحوّل من حركة حرب عصابات خمينية واسعة‬

‫في مراحله األولى إلى دولة داخل الدولة في لبنان‪ .‬كما‬ ‫صدر عدد مسارات رقم (‪ )24‬بعنوان‪« :‬خالف في القمة‪:‬‬

‫أربعة عقود من الوئام والصراع والمصالحة بين هاشمي‬ ‫رفسنجاني وعلي خامنئي»‪ .‬ويرصد ّ‬ ‫تأثر المشهد اإليراني‬

‫على مدى السنوات الثالثين الماضية بالسباق المستمر‬

‫عقب الثورات العربية‪ ،‬وما تشهده المنطقة من تطورات‬

‫إقليمية على خلفية أزماتها االقتصادية المزمنة‪.‬‬

‫كما صدر عدد قراءات رقم (‪ )3‬بعنوان «أصل‬

‫وتصارع األيديولوجيات بين القائد األعلى آية الله علي‬

‫مصطلح الهويتشو وتطوّره‪ :‬كيف جاء مُ سمَّ ى المواطنين‬ ‫ّ‬ ‫لمؤلفه الباحث الصيني الدكتور‬ ‫الصينيين المسلمين؟»‬

‫بعنوان‪« :‬المغرب العربي بين استحقاقات التحوّل‬

‫في الصين المعاصرة‪ ،‬التي ظهرت في منطقة تشيو‬

‫خامنئي والرئيس األسبق أكبر هاشمي رفسنجاني‪.‬‬

‫وأصدرت اإلدارة كذلك عدد دراسات رقم (‪)10‬‬

‫وان لي‪ ،‬ويع ّرف العدد بجماعة الهوي هوي العرقية‬

‫الديمقراطي ومواجهة اإلرهاب‪ :‬حصيلة ‪ 2015‬وآفاق‬

‫(المناطق الغربية الموجودة على الجانب اآلخر من‬

‫‪2016‬م» للدكتور محمد السبيطلي الباحث الرئيس في‬ ‫وحدة دراسات المغرب العربي بالمركز‪ ،‬الذي يرصد‬

‫اآلفاق اإلستراتيجية لدول منطقة المغرب العربي في‬ ‫مخاض سياسي واجتماعي داخلي‬ ‫ضوء ما يحدث من‬ ‫ٍ‬

‫إقليم شينجيانغ الحالي) منذ أواسط القرن السابع عشر‬ ‫الميالدي‪ ،‬وهم من المهاجرين األوائل من المناطق ذات‬

‫األغلبية المسلمة في آسيا الوسطى الذين استقروا داخل‬ ‫األراضي الصينية‪.‬‬

‫«ددن عاصمة مملكتي دادان ولحيان» جديد الذييب‬ ‫ً‬ ‫حديثا عن المركز كتاب «ددن عاصمة مملكتي دادان ولحيان»‬ ‫صدر‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫لمؤلفه الدكتور سليمان بن عبدالرحمن الذييب وآخرين‪ .‬ويمثل الكتاب‬ ‫التقرير األوّلي للموسم العاشر (عام ‪2013‬م) ألعمال التنقيب التي يقوم‬ ‫بها طالب قسم اآلثار في كلية السياحة واآلثار بجامعة الملك سعود‬

‫في موقع دادان (الخريبة) بشمال المملكة العربية السعودية بإشراف‬ ‫ّ‬ ‫محل‬ ‫المؤلف نفسه‪ .‬ويستعرض الكتاب التسلسل الطبقي للمنطقة‬ ‫التنقيب‪ ،‬والمراحل المعمارية التي م ّرت بها‪ ،‬والعناصر المعمارية‬ ‫التي ُعثر عليها؛ من ُغرف‪ ،‬ووحدات مبهمة‪ ،‬وساحات‪ ،‬ومعثورات‪.‬‬ ‫ً‬ ‫رئيسا في وحدة الدراسات السعودية‬ ‫باحثا‬ ‫ويعمل مؤلف الكتاب‬ ‫ً‬ ‫بإدارة البحوث التابعة للمركز‪.‬‬

‫‪5‬‬


‫المركز‬

‫أساليب عصرية لتطوير متاحف المركز‬

‫يعتزم مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات اإلسالمية بدء خطة تطويرية جديدة لمتاحفه تناسب أحدث األساليب‬ ‫العصرية في عرض المقتنيات والمجموعات المتحفية‪ .‬وتشمل الخطة إعادة تأهيل قاعة المخطوطات‪ ،‬التي تضمّ كنو ًزا‬

‫ً‬ ‫ً‬ ‫مهمة من نوادر المخطوطات والوثائق على مستوى العالم‪ .‬كما تشمل الخطة تطوير متحف التراث اإلسالمي‪ ،‬الذي‬ ‫تراثية‬

‫‪6‬‬

‫يهدف إلى اإلسهام في التعريف بالجوانب المشرقة للحضارة اإلسالمية‪ ،‬ويضم نماذج من الفن اإلسالمي تبلغ أكثر من‬ ‫مئتي قطعة ّ‬ ‫تغطي المدة من القرن الثاني إلى القرن الرابع عشر الهجري‪.‬‬

‫مبنى لمعهد الفيصل ُمجهز بأحدث التقنيات‬

‫انتهى مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات اإلسالمية من بناء مقر جديد لمعهد الفيصل لتنمية الموارد البشرية‪،‬‬

‫مُ جهز بالتجهيزات والخدمات كافة‪ ،‬بما في ذلك قاعات تدريبية تتسع ألكثر من ‪ 300‬متدرب‪ ،‬ومعامل لغة وتقنيات‬ ‫متطورة‪ ،‬استعدادًا لتدشين مرحلة تطويرية جديدة في المعهد الذي تجاوز ‪ 15‬عامً ا من العمل المتخصص لخدمة شرائح‬

‫عديدة من المجتمع‪.‬‬

‫وتشمل الخطة التطويرية الجديدة للمعهد المقرر البدء بتطبيقها قريبًا العديد من البرامج التدريبية في مجاالت‪:‬‬

‫اإلدارة والسالمة‪ ،‬والقانون‪ ،‬واإلعالم‪ ،‬والتنمية البشرية‪ ،‬الموجهة للموظفين والشباب على السواء‪ ،‬وتعزيز العديد من‬ ‫اتفاقيات الشراكة مع بيوت خبرة محلية وعالمية‪ ،‬إضافة إلى عنايته باللغة العربية التي تعد من أهم التوجهات الجديدة‬ ‫للمعهد من خالل سلسلة من المستويات التعليمية‪ ،‬سواء للناطقين بها؛ لالستزادة والتعمق في ّ‬ ‫تعلمها أم الناطقين بغير‬

‫العربية من المقيمين في المملكة‪.‬‬

‫كما يواصل المركز تقديمه برامج متخصصة؛ لخدمة موظفي مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات اإلسالمية لرفع‬

‫قدراتهم وتمكينهم من امتالك أحدث المهارات في مجاالت عملهم‪ ،‬بما ينسجم مع أهداف المركز ورسالته للعالمين‬ ‫العربي واإلسالمي‪.‬‬

‫العددان ‪ 478 - 477‬شوال ‪ -‬ذو القعدة ‪1437‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬أغسطس ‪2016‬م‬


‫‪7‬‬

‫كاريكاتير‬


‫فعاليات‬

‫ستيفن هيرتوغ‪:‬‬ ‫ارتباك السوق النفطي ينذر‬ ‫بصعوبات ستواجهها منطقة الخليج‬ ‫فواز السيحاني‬

‫‪8‬‬

‫أكد الباحث االقتصادي والسياسي في جامعة أكسفورد الدكتور ستيفن هيرتوغ أن‬ ‫النفط في الخليج هو القصة الجميلة بالنسبة للمواطن في السعودية والخليج‪ ،‬من‬ ‫خالل توافر مجموعة من الخدمات‪ :‬الصحية والتعليمية وغيرهما‪ ،‬إضافة إلى ارتفاع‬ ‫مستوى دخل الفرد وانخفاض مستوى البطالة‪ .‬جاء ذلك في ندو ٍة نظمها مركز الملك‬ ‫حضور‬ ‫فيصل للبحوث والدراسات اإلسالمية في مايو الماضي‪ ،‬وأدارها يزيد الراشد وسط‬ ‫ٍ‬ ‫من المهتمين والمهتمات باألطروحات االقتصادية والسياسية التي يقدمها المحاضر‪.‬‬ ‫في بداية الندوة قام الدكتور هيرتوغ بسرد مجموعة من‬

‫وأشار هيرتوغ إلى أن االستقرار السياسي في الخليج أسهم‬

‫نقطة زمنية معينة‪ ،‬أي منذ عام ‪ 1979‬حتى عام ‪2010‬م؛ ليخلص‬

‫«من ناحية توافر السيولة المالية‪ ،‬وتمتعه برأس مال جيد‪،‬‬ ‫ً‬ ‫مستعرضا بعض التقارير الدولية التي‬ ‫ومستوى ربحي مقنع»‪،‬‬

‫اإلحصائيات الرقمية والمعلوماتية التي تبين ارتفاع نسبة مستوى‬ ‫ً‬ ‫انطالقا من‬ ‫التعليم والجوانب الخدمية األخرى في السعودية‬ ‫من خالل قياس المتوسط اإلحصائي إلى تسجيل نسبة تتجاوز‬

‫بشكل فاعل في تكوين النمو في القطاع البنكي السعودي‪،‬‬

‫قامت بتصنيف القطاع المصرفي السعودي كرابع أفضل وأقوى‬ ‫ً‬ ‫ووفقا ً‬ ‫أيضا لتصنيف وكالة فيتش‬ ‫نظام مصرفي في العالم‪،‬‬

‫‪ %150‬وهي التي في السابق كانت بالكاد تصل إلى ‪ ،%40‬مشي ًرا‬ ‫ً‬ ‫أيضا إلى أن نسبة الوفيات نتيجة سوء التغذية أو عدم توفير‬

‫العالمية للتصنيف االئتماني في أعوام قريبة‪« .‬وكان لهذه‬

‫استيراد األدوية واألدوات الصحية بكميات هائلة وبمبالغ ضخمة‬ ‫من الخارج يعد دليلاً على تقدم المملكة في الشرق األوسط في‬

‫سواء بالنسبة لإلقراض أو االقتراض‪ ،‬دور مهم في بقاء القطاع‬ ‫المصرفي السعودي معزولاً نسب ًّيا عن تقلبات األسواق المالية‬

‫الخدمات الصحية وصلت إلى ‪ %0‬في مستوياتها الرقمية‪ ،‬كما أن‬

‫الجانب الطبي‪.‬‬

‫العوامل وغيرها‪ ،‬مثل محدودية انكشاف القطاع على الخارج‬

‫العالمية في السنوات األخيرة»‪.‬‬

‫الدكتور ستيفن هيرتوغ أكد خالل الندوة أهمية مقولة‬

‫وأوضح أن اإلحصائيات تشير إلى أن النظام المصرفي في‬

‫ثورة هناك فقر»‪ .‬وأوضح أن ذلك يعكس الوعي السياسي‬

‫الخليج العربي وعلى المستوى الدولي‪ .‬فعلى الصعيد الدولي‬

‫الراحل الملك فيصل إلى حاكم دبي حين قال‪« :‬خلف كل‬

‫لدى المملكة خاصة‪ ،‬وحكام الخليج عامة‪ .‬وع ّد هذا االرتفاع‬

‫الخدماتي في الجوانب المتنوعة التي تقوم على خدمة المواطن‬ ‫الخليجي وتوفير حياة ذات رفاهية عالية‪« ،‬قائمً ا على ركيزتين‬

‫أساسيتين إحداهما‪ :‬وجود كميات نفطية هائلة‪ ،‬ومشاركة‬ ‫حقيقية في اإلنفاق الحكومي من الشعب»‪.‬‬

‫العددان ‪ 478 - 477‬شوال ‪ -‬ذو القعدة ‪1437‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬أغسطس ‪2016‬م‬

‫المملكة «يعدّ من أفضل األنظمة المصرفية أداءً في منطقة‬

‫يحقق النظام المصرفي نسبًا مرتفعة من العائد على األصول‬ ‫والعائد على حقوق الملكية‪ ،‬تزيد على مثيالتها في الدول‬

‫العربية واآلسيوية والدول المتقدمة إضافة إلى أن القطاع‬ ‫المصرفي السعودي يعد األكبر حجمً ا من ناحية إجمالي‬

‫القروض وإجمالي الودائع»‪.‬‬


‫وتطرق هيرتوغ إلى الصعوبات التي ستواجهها منطقة الخليج‬ ‫مستقبلاً في ظل ارتباك السوق النفطي‪ ،‬وتسابق الدول المجاورة‬

‫لتقديم نصائح فعالة وأكثر شمولية مما هو مطروح اآلن»؛ إذ‬

‫من خالل الرؤية التي جرى إعالنها قبل مدة وجيزة تحت شعار‬

‫للكثافة السكانية التي تشهدها منطقة الخليج حاليًا والمملكة‬

‫والمستوردة نحو البحث عن بديل للطاقة‪ ،‬الف ًتا إلى أن هذا يتضح‬

‫«‪ »2030‬مشددًا على ضرورة تجاوز تلك الصعوبات المستقبلية‬ ‫«التي قد تع ّد مخيفة فعلاً ‪ ،‬عبر التركيز على محاور عدة تشكل‬ ‫بعدً ا مهمًّا في صناعة حلول واقعية وملموسة»‪ ،‬وذكر من هذه‬

‫المحاور‪ :‬العمل بين القطاع العام والخاص والتنسيق بينهما؛‬ ‫«إذ يعد ذلك مساهمً ا أساسيًّا وحقيقيًّا لخفض معدل األزمات‬

‫إلى جانب استقطاب جهات استشارية معتمدة وعالمية‬ ‫إن المتطلبات المستقبلية‪ ،‬كما يرى‪ ،‬ستكون في ازدياد «نظ ًرا‬

‫تحديدً ا‪ ،‬إضافة إلى أن تلك الكثافة السكانية تتركز في فئة عمرية‬

‫معينة وهي فئة الشباب الباحثين عن العمل»‪.‬‬

‫وأوضح الدكتور ستيفن هيرتوغ أن سوق العمل غير‬ ‫ً‬ ‫عروضا مغرية وتحفيزية لجذب‬ ‫الحكومي حتى اآلن «لم يقدم‬ ‫األيدي العاملة الوطنية‪ ،‬فالقيمة المالية التي تقدم شهريًّا لتلك‬

‫المتعلقة بسوق العمل والقوة الشرائية مستقبلاً ‪ ،‬والحفاظ‬ ‫ً‬ ‫منخفضا نسبيًّا مقارنة بالدول‬ ‫على مستوى البطالة الذي يعد‬

‫وال تتجاوز الخمسة آالف‪ ،‬مع األخذ في االعتبار عدم شفافية‬

‫مجال الشراكة بين القطاعين العام والخاص كمفهوم وممارسة‬

‫بالمرتبات»‪ .‬وهذا يشير‪ ،‬كما يقول هيرتوغ‪ ،‬إلى أن الضغط على‬

‫المحيطة‪ .‬إضافة إلى استمرار النشاط االقتصادي‪ ،‬فالتطور في‬ ‫هو نتاج لإلدارة العامة الحديثة التي ظهرت أواخر القرن العشرين‬

‫والضغوطات التي فرضتها العولمة»‪.‬‬

‫وقال هيرتوغ‪ :‬إن هذه الشراكة «تلعب دورًا كبي ًرا في تطوير‬

‫البنية التحتية للقطاع العام‪ ،‬واالستفادة من الخبرات المتنوعة‪.‬‬

‫النفط هو القصة الجميلة بالنسبة‬ ‫للمواطن في السعودية والخليج‪،‬‬ ‫من خالل توافر مجموعة من الخدمات‬

‫األيدي الوطنية في متوسطها ال تقل عن ثالثة آالف ريال شهريًّا‪،‬‬ ‫الجهات الخاصة في عرض األرقام الحقيقية حتى اآلن فيما يتعلق‬ ‫الجانب الحكومي ما زال قائمً ا «ما سيخلق أزمة مستقبلية في‬ ‫رفاهية المواطن وعدم قدرته على االستفادة من الخدمات‬

‫البنكية أو التأمينية المهمة»‪.‬‬

‫يذكر أن ستيفن هيرتوغ يعد من أهم الباحثين األكاديميين‬

‫المتخصصين في منطقة الخليج وشمال إفريقيا ‪ ،‬وتتجاوز‬ ‫خبرته البحثية عشرين عامً ا‪ ،‬نشر خاللها كثي ًرا من البحوث‬

‫واسعة االنتشار فيما يتعلق بالشرق األوسط وتحركاته‬

‫االقتصادية‪ ،‬إضافة إلى اهتمامه بسوق العمل الخليجي ودور‬ ‫البيروقراطية في الحد منه‪.‬‬

‫‪9‬‬


‫ملف العدد‬

‫عن الفنون في السعودية‪:‬‬

‫الحياة بال موسيقا‬ ‫إنه تاريخ طويل غير مدوّن للفنون في المملكة العربية السعودية؛ من الدراما والمسرح إلى التشكيل‬

‫والفلكلور‪ ،‬لكن الفنون الموسيقية والغنائية وحدها مرت بأطوار الفتة‪ ،‬فقد تأسس لها في الستينيات‬

‫‪10‬‬

‫الميالدية ما يشبه المؤسسات الرسمية عبر فرق اإلذاعة والتلفزيون‪ ،‬وجمعيات الثقافة والفنون في وقت‬ ‫ً‬ ‫ملحوظا لما يقرب من ثالثة عقود‪ ،‬ثم غابت الرعاية‪ ،‬وتفرّق الفنانون‪،‬‬ ‫الحق‪ ،‬وشهدت حركة فنية وتطورًا‬

‫وتفككت الفرق الفنية‪.‬‬

‫والواقع أن ما مرت به الموسيقا ينسحب على مجمل ما مرت به قطاعات الثقافة؛ بسبب غياب جهة‬

‫واحدة راعية للكتاب والمنتج الثقافي واإلبداعي‪ ،‬واعتماد رعاية الثقافة وتمويلها على مبادرات مختلفة‬ ‫بين عدد من الجهات العامة والخاصة‪ ،‬مراحل كثيرة مرت‪ ..‬وصولاً إلى إعادة هيكلة القطاعات الثقافية في‬

‫المملكة التي ما زالت مستمرة حتى يومنا هذا‪.‬‬

‫وقد استبشر الموسيقيون والفنانون أخيرًا برؤية السعودية ‪2030‬م التي أعلنت ضمن برامجها الطموحة‬

‫عن إنشاء مجمع ملكي للفنون‪ ،‬كما باشرت وزارة الثقافة واإلعالم إعادة تأسيس فرقة موسيقية وطنية‪،‬‬ ‫يكون مقرها القناة الثقافية السعودية‪ ،‬وفي أثناء إعداد هذا الملف عن الموسيقا في المملكة ما زالت‬

‫األخبار تتوالى عن التفاتة جدية إلى الفنون والموسيقا التي جرى تناسيها مدة من الزمن‪ ،‬وكان لجوء‬ ‫الفنانين والموسيقيين إلى القطاع الخاص‪ ،‬أو المبادرات الفردية‪ ،‬أو الهجرة الفنية إلى دول الجوار؛ عاملاً‬

‫مهمًّ ا في تأكيد إصرار الفنون على الحضور في المشهد الثقافي رغم كل العقبات‪.‬‬

‫«الفيصل» تخصص ملف هذا العدد الستعادة الحديث عن الموسيقا في المملكة وجدلها من زوايا‬ ‫متعددة‪ ،‬وسيجد القارئ المشاركين في هذا الملف متعددي المشارب والتوجهات؛ تدوي ًنا لتاريخ‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫تطلعا لمستقبلها‪..‬‬ ‫وصفا لحاضرها‪ ،‬أو‬ ‫الموسيقا‪ ،‬أو‬

‫العددان ‪ 478 - 477‬شوال ‪ -‬ذو القعدة ‪1437‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬أغسطس ‪2016‬م‬


11


‫منزلة االختالف الفقهي في الموسيقا‬ ‫بين االعتبار وعدم االعتبار‬

‫فقهاء يبيحون الموسيقا‬ ‫ويضربون بالعود!‬ ‫‪12‬‬

‫العددان ‪ 478 - 477‬شوال ‪ -‬ذو القعدة ‪1437‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬أغسطس ‪2016‬م‬


‫ُ‬ ‫آالت المعازف (الموسيقية) منذ العصور‬ ‫الجدل الفقهي‬ ‫لقد صاحب‬ ‫ِ‬ ‫ً‬ ‫خالفا معهو ًدا مشهورًا‪ ،‬وما زال مستمرًّا حتى اليوم‪ .‬على‬ ‫األولى‪ ،‬فصار‬ ‫ٌ‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫أحيانا أخرى‪.‬‬ ‫أحيانا‪ ،‬في أزمان وأعراف‪ ،‬ويلين‬ ‫يحتد‬ ‫جدل‬ ‫أنه‬ ‫فما هي حقيقة هذا الجدل؟ وكيف يمكن أن نفسره؟ وهل دوافعه‬ ‫ً‬ ‫وحديثا؟ أم انتابها‬ ‫وأسبابه واضحة عند المختلفين في الموسيقا قديمً ا‬

‫الشريف حاتم بن عارف العوني‬ ‫أستاذ الدراسات العليا بجامعة أم القرى‬

‫من التشنج والتقليد ما جعلها خفيّة متوارية؟ وإلى أي ٍّ‬ ‫حد يمكن أن‬ ‫يكون هذا الجدل مقبولاً وظاهرة علمية ثقافية مقبولة؟ أو ال يكون كذلك؟ ال شك أن تناول ذلك من جميع‬ ‫جوانبه أم ٌر مستحيل في مقال مختصر؛ لذلك سأكتفي بإشارات فقط‪ :‬وأبدأ بالتنبيه إلى عدم ظهور مفسدة‬ ‫للموسيقا؛ إذ من المعلوم عند العلماء أن األصل في جميع أحكام الشريعة –غير تلك التي علتها التعبد–‬

‫أنها إنما جاءت لتحقيق المصالح وتكثيرها أو لدرء المفاسد وتقليلها‪ ،‬فهي أحكام معللة‪ ،‬مفهومة السبب‪.‬‬ ‫فتحريم الخمر كان ألجل تغييبه للعقل‪ ،‬وتحريم الربا جاء لكونه ظلمً ا ودرءً ا لمفاسده االقتصادية‪ ،‬وتحريم‬ ‫الزنا جاء لحفظ العرض وبناء األسر والنسل‪ ،‬وهكذا جميع األحكام المتعلقة ببيان عالقة العبد بالمخلوقات‬

‫وموقفه منها‪ :‬أنها أحكامٌ مصلحية‪ .‬وهنا يجب أن نسأل أنفسنا‪ :‬لماذا كانت الموسيقا حرامً ا؟‬

‫‪13‬‬

‫ملف العدد‬


‫ال يمكن أن يدعي أحد أن مفسدة الموسيقا مفسدة‬

‫ً‬ ‫وحديثا‪ -‬من اجتمع في‬ ‫(رحمه الله)‪ ،‬وكبار العلماء قديمً ا‬

‫في الموسيقا الحزينة أو الحماسية أو الهادئة أو التي تشبه‬

‫الخالصة‪ :‬أن دعوى ظهور مفسدة الموسيقا يجب‬

‫ظاهرة كالخمر والربا والزنا ونحوها؛ إذ أي مفسدة ظاهرة‬

‫تناغم صوت البالبل وخرير الماء؟!‬

‫لن يستطيع أحدٌ أن يزعم ظهور مفسدة الموسيقا إال‬

‫بمصادرات على المطلوب‪ ،‬فيذكر أمورًا غيبية‪ ،‬إنما بناها‬ ‫على اعتقاده التحريم!‬

‫اإلقرار بانتفائها‪ ،‬ويحق لمن كان قد رجّ حَ التحريمَ أن يظن‬ ‫مفسدة ال ُتعلم (غيبية تعبدية)‪ ،‬وإنما ّ‬ ‫ً‬ ‫لها‬ ‫دله التحريمُ‬

‫الذي يرجحه هو على وجودها‪ ،‬ال غير‪.‬‬

‫فإن اتفقنا على أن مفسدة الموسيقا خفية غير ظاهرة‪،‬‬

‫كأن يقول المحرمون‪ :‬إنه ينبت النفاق في القلب (على‬

‫وأن وجود هذه المفسدة المدّ عاة ال تصح إال على اجتهاد‬

‫سيقول لهم المبيحون‪ :‬هذا أمر غيبي غير مفهوم السبب‪،‬‬

‫حكم الموسيقا ال مبرر له وال معنى‪ ،‬وأنه يحق لمبيح‬

‫ما جاء عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه)‪ ،‬وعندها‬

‫فإن صح معنى هذه العبارة فهي محمولة على الغناء‬

‫الماجن الذي ال يبيحه أحد‪ ،‬ال على مجرد الموسيقا أو‬

‫الغناء غير الماجن‪.‬‬

‫من يرجح حرمة الموسيقا‪ :‬يتضح أن التشنج في نقاش‬ ‫الموسيقا أن يمنع من وجود مفسدة للموسيقا‪ ،‬وال يكون‬ ‫ً‬ ‫مخالفا ألمر ال تصح مخالفته‪.‬‬ ‫بذلك مكاب ًرا وال‬

‫وخفاء هذه المفسدة –على التسليم بوجودها– يفيد‬

‫وكأن يقولوا ما قاله ابن قيم الجوزية (ت‪751‬هـ) في‬

‫في تحرير درجة حرمة الموسيقا عند من حرمها‪ ،‬أي‪ :‬هل‬

‫قلب عبدٍ ليس يجتمعان‬ ‫في ِ‬

‫من ينظر في حدة النقاش المعاصر حول الموسيقا‪ :‬أنها‬ ‫عند المح ِّرمين من أكبر الكبائر؛ فهل هي ًّ‬ ‫حقا كذلك؟‬

‫دعوى باطلة ال دليل عليها‪ ،‬ويردها الواقع أقوى ردّ‪ ،‬فكم‬

‫الكبائر وجدها كلها مما تتضح مفسدتها أعظم وضوح‪ ،‬بل‬

‫نونيته‪:‬‬

‫ب الكتاب وحب ألحان الغنا‬ ‫حُ ُّ‬

‫وعندها سيقول المبيحون‪ :‬هذا قول بهذا اإلطالق‬

‫‪14‬‬

‫قلبه حب القرآن الكريم كأعظم الحب وحب الغناء!‬

‫رأينا من كبار ق ّراء القرآن ‪-‬كالشيخ عبدالباسط عبد الصمد‬

‫بتطبيق الضوابط القطعية يكون‬ ‫معتبرا‪،‬‬ ‫االختالف في الموسيقا اختالفً ا‬ ‫ً‬ ‫سائغا ال‬ ‫ويكون القول بإباحتها قو‬ ‫ً‬ ‫لاً‬ ‫يجوز إنكاره وال التشنيع عليه‪ ،‬بل يجب‬ ‫احترام وجاهته‬

‫هي عنده من كبائر الذنوب أم من صغائرها؟ إذ ال يكاد يشك‬

‫إذ من استعرض كبائر الذنوب المتفق على كونها من‬

‫كل الكبائر مفسدته عظيمة غاية العظم؛ كالقتل والسرقة‬

‫وعقوق الوالدين وشهادة الزور والفرار يوم الزحف ونحوها‬

‫يأت النص‬ ‫من الكبائر؛ حتى إن هذه الذنوب الكبائر لو لم ِ‬ ‫بتحريمها ّ‬ ‫لدلت الفطرة السوية على وجوب منعها وتعظيم‬ ‫خطرها‪.‬‬

‫ال مفسدة في الموسيقا‬

‫فإن أتينا إلى الموسيقا وجدناها بخالف تلك الكبائر‬

‫تمامً ا‪ ،‬فهي ال تظهر لها أي مفسدة‪ :‬ال كبيرة وال صغيرة؛ إال‬

‫دعاوى اإلجماع المنقوضة في زعم التحريم‬ ‫سوف يستغرب المتعجلون قليلو الفقه من هذا التنزيل للخالف في الموسيقا‪ ،‬بسبب التشنج الذي صاحب الجدل‬

‫الفقهي فيها‪ ،‬وبسبب دعاوى اإلجماع المنقوضة وغير الصحيحة في زعم التحريم‪ ،‬وبسبب ضعف التدقيق في أدلة التحريم‬

‫عند من حرم‪ :‬هل كانت داللة ظنية أم قطعية؟ وبسبب عدم النظر في أدلة المبيحين وردودهم على أدلة المح ِّرمين‪.‬‬ ‫ولما أن كان هذا المقال مقالاً مختص ًرا فسأكتفي هنا باإلشارة إلى بعض ما يدل على سواغ االختالف في الموسيقا عند‬

‫جمع من العلماء‪ ،‬أو إلى التعاطي الراقي لدى المح ّرمين مع من اجتهد فأباحها‪ ،‬وأنهم لم يُسقطوا المبيحين‪ ،‬وال حطوا من‬ ‫ديانتهم وال من علمهم‪.‬‬

‫فهذا اإلمام الذهبي (ت‪748‬هـ)‪ ،‬يذكر العالم الفقيه إبراهيم بن سعد بن إبراهيم بن عبدالرحمن بن عوف الزهري (‪185‬هـ)‪،‬‬ ‫سماع المالهي‪ ،‬وال َي ِـجدُ دليلاً ناهِ ً‬ ‫َ‬ ‫ضا على‬ ‫وكان ممن يبيح الموسيقا‪ ،‬فيقول‪« :‬من أئمة العلم‪ ،‬وثقات المدنيين‪ .‬كان ُيـجَ ِّو ُز‬ ‫التحريم؛ فأدّاه اجتهادُه إلى ال ُّرخصة‪ ،‬فكان ماذا؟!!»‪.‬‬

‫العددان ‪ 478 - 477‬شوال ‪ -‬ذو القعدة ‪1437‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬أغسطس ‪2016‬م‬


‫المفسدة التي هي محل النزاع بين المحرمين والمبيحين؛‬

‫ً‬ ‫ثالثا‬ ‫عليه الضياء المقدسي (ت‪643‬هـ) في تذييله عليه‪،‬‬

‫العلم بها بظاهر أمرها‪.‬‬

‫عندهما‪ .‬وكذلك الحال مع ابن جرير الطبري (الذي حصر‬

‫ألنها مفسدة مبنية على القول بالتحريم فقط‪ ،‬ال على‬

‫فقط‪ ،‬ولم تكن الموسيقا والغناء من بين هذه الكبائر‬

‫وقد استعرضت عامة كالم العلماء وكتبهم في الكبائر‪،‬‬

‫الكبائر في تسع كبائر فقط)‪ ،‬ثم أبي طالب المكي الذي‬

‫(ت‪301‬هـ) صاحب أول كتاب مصنف في الكبائر يصل إلينا‪،‬‬

‫الدين»‪ ،‬والذهبي في كتابه الشهير «الكبائر»؛ وكلهم لم‬

‫منذ جيل الصحابة رضوان الله عليهم‪ ،‬إلى البرديجي‬

‫فقد بلغ عدد الكبائر عنده ثالث عشرة كبيرة فقط‪ ،‬وزاد‬

‫حصرها في «قوت القلوب»‪ ،‬والغزالي في «إحياء علوم‬

‫يعدّ وا الموسيقا من الكبائر‪.‬‬

‫ولم يذكر الموسيقا ضمن الكبائر كل من الرافعي‬

‫والنووي وابن ال ِّرفعة‪ .‬بل إن اإلمام الغزالي (ت‪505‬هـ)‬

‫إن أتينا إلى الموسيقا وجدناها بخالف‬

‫في «إحياء علوم الدين» –وهو ممن أباح النشيد الديني‬

‫مفسدة‪ ،‬ال كبيرة وال صغيرة‬

‫على أن المالهي (الموسيقا) من الصغائر‪ ،‬حيث ذكرها مع‬

‫تماما‪ ،‬فهي ال تظهر لها أي‬ ‫الكبائر‬ ‫ً‬

‫(السماع)‪ ،‬ولكنه رجح تحريم الموسيقا– يحكي اإلجماع‬ ‫غيرها من الذنوب‪ ،‬ثم قال‪« :‬ولم يذهب أحد إلى أن هذه‬

‫‪15‬‬

‫الماجشون أبو سلمة الفقيه الثقة المدني (ت‪185‬ﻫ)‪ ،‬يوثقه اإلمام يحيى بن معين‪،‬‬ ‫وهذا يوسف بن يعقوب بن أبي سلمة‬ ‫ِ‬

‫مع قوله عنه‪« :‬ال بأس به‪ ،‬كنا نأتيه فيحدثنا في بيت‪ ،‬وجواريه في بيت آخر له يضربن بمعزفة»‪ .‬ويقول مصعب الزبيري‪:‬‬ ‫«وكان الماجشون أول مَ ن علم الغناء مِ ن أهل المروءة بالمدينة»‪.‬‬

‫ويقول الحافظ الخليلي (ت‪446‬ﻫـ) عنه‪« :‬ثقة‪ُ ...‬عمِّ َر حتى سمع منه يحيى بن معين‪ ...‬هو وإخوته ي ِّ‬ ‫ُرخصون في السماع‪...‬‬

‫(ثم أورد كالم ابن معين السابق‪ ،‬وقال‪ ):‬وابن عمّ ه يُعرفون بذلك‪ ،‬وهم في الحديث ثقات‪ ،‬مخ َّرجون في الصحاح»‪.‬‬

‫الماجشون (ت‪164‬ﻫ)‪ ،‬وهو اإلمام الثقة الفقيه صاحب‬ ‫ثم أورد الخليلي ترجمة عبدالعزيز بن عبدالله بن أبي سلمة‬ ‫ِ‬

‫الناس‬ ‫التصانيف‪ ،‬ومن كبار فقهاء المدينة‪ ،‬ومن أقران اإلمام مالك في العلم والسن‪ ،‬حتى كان يُصاح في المدينة‪« :‬ال يُفتي‬ ‫َ‬ ‫ٌ‬ ‫مالك وعبدُ العزيز بن أبي سلمة»‪ ،‬فقال الخليلي عنه‪« :‬مفتي المدينة‪ ،‬روى عنه األئمة‪ ،‬مخرجٌ في الصحيحين‪ ،‬يرى‬ ‫إال‬

‫ِّ‬ ‫ويرخ ُ‬ ‫ص في العُ ود»‪.‬‬ ‫التسميع‪،‬‬ ‫ٌ‬ ‫فهذه أمثلة فيها توثيق األئمة وثناؤهم وإجاللهم لهؤالء األئمة‪ ،‬مع اعتقادهم فيهم أنهم كانوا يبيحون الغناء وآالت‬ ‫المعازف ويسمعونها‪ ،‬بل من هؤالء الفقهاء من كان يضرب بالعود بنفسه!‬

‫ملف العدد‬


‫األمور من الكبائر»‪.‬‬ ‫ولم ُتعدّ الموسيقا من الكبائر؛ إال عند بعض‬

‫المتأخرين‪ ،‬وأول من أدرجها في الكبائر –بحسب ما‬

‫وهكذا يالحظ القارئ تزايد النفور تاريخيًّا من الموسيقا‬

‫مع امتداد الزمن ومع تناقص العلم! وال شك أن عدم ظهور‬

‫مفسدة للموسيقا مما يرجح بقوة أنها ليست من الكبائر‪.‬‬

‫وقفت عليه‪ -‬هو أبو زكريا بن النحاس (ت‪814‬هـ)‪ ،‬في كتابه‬ ‫«تنبيه الغافلين»‪ ،‬دون أن يذكر دليلاً على عدّ الموسيقا‬

‫درجة االختالف فيها‪ :‬هل هو خالف معتبر؟ أم غير معتبر؟‬

‫غيرها‪ ،‬وكأنه فيها مجرد ناقل لقول ال يقره‪ .‬كما أن ابن‬

‫أهم األمور؛ ألن االختالف المعتبر يمنع من اإللزام بأحد‬

‫في الكبائر‪ ،‬وإنما حكاه عن العراقيين‪ ،‬بخالف عادته في‬ ‫النحاس أحد المتوسعين في إحصاء الكبائر‪ ،‬فقد بلغت‬ ‫عنده (‪ )171‬كبيرة‪.‬‬

‫ثم في القرن العاشر الهجري فما بعده ذكر غير واحد‬ ‫من العلماء الموسيقا ضمن الكبائر‪ :‬كابن ُنجيم الحنفي‬

‫(ت‪970‬هـ)‪ ،‬وقبله ابن حجر المكي الهيثمي (ت‪947‬هـ)‪ ،‬فقد‬

‫ذكر المعازف في الكبائر في كتابه «الزواجر عن اقتراف‬ ‫ً‬ ‫مرفوضا‪،‬‬ ‫الكبائر»‪ ،‬وهو من المتوسعين في الكبائر توسعً ا‬

‫كما أن عدم ظهور مفسدة للموسيقا مما يعين على معرفة‬ ‫وتحديد منزلة االختالف هل هو معتبر أم ال‪ :‬من‬

‫ترجيح على من‬ ‫القولين‪ ،‬وال ُيـجيز اإلنكا َر من صاحب‬ ‫ٍ‬ ‫ٌ‬ ‫خالف معتبر‬ ‫يخالفه‪ .‬فلو تبيّن أن االختالف في الموسيقا‬

‫لم َيـجُ ْز للمح ِّرمين اإلنكا ُر على المبيحين‪ ،‬ولم َيـجُ ْز لهم‬

‫إلزامُ مخال ِفهم بعدم السماع‪ .‬وتصبح حينئذٍ المسألة‬ ‫ً‬ ‫راجعة إلى تدين الشخص ورقابته الذاتية على نفسه‪ :‬فإن‬

‫قاده االجتهاد أو االتباع والتقليد المنضبط إلى التحريم‪:‬‬ ‫التزم بذلك في نفسه‪ ،‬وال يحق له إلزام المخالفين له في‬

‫حيث بلغت عنده (‪ )466‬كبيرة! حتى كادت أن تكون عامة‬ ‫ٌ‬ ‫خالف كبي ٌر منه لما جاء في‬ ‫المعاصي عنده كبائر!! وهذا‬

‫ً‬ ‫اتباعا وتقليدً ا لمن أباحها من العلماء‪.‬‬

‫سبق‪.‬‬

‫الكالم فيها في كتابي «اختالف المفتين»‪ ،‬وبتطبيق تلك‬

‫النصوص‪ ،‬ولما عليه عامة العلماء ممن عدّ الكبائر‪ ،‬كما‬

‫‪16‬‬

‫ذلك من المبيحين‪ ،‬ما داموا قد أباحوا الموسيقا اجتهادًا أو‬ ‫وضوابط تمييز االختالف المعتبر من غيره قد ّ‬ ‫فصلت‬ ‫الضوابط القطعية يكون االختالف في‬ ‫ً‬ ‫اختالفا معتب ًرا‪ ،‬ويكون‬ ‫الموسيقا‬ ‫القول بإباحتها قولاً‬ ‫ً‬ ‫سائغا ال يجوز‬ ‫إنكاره وال التشنيع عليه‪ ،‬بل يجب‬

‫احترام وجاهته؛ كما أن القول‬ ‫ٌ‬ ‫قول سائغ معتبر مثله‪.‬‬ ‫بالتحريم‬

‫واقع االختالف في حكم‬ ‫الموسيقا لدى عامة‬ ‫المعاصرين انحرف عن‬ ‫مساره الصحيح‪ ،‬وصار‬ ‫التعصب والتشنج والتخوين‬ ‫في الدين والتجهيل في‬ ‫العلم هو سمة عامة‬ ‫المح ِّرمين تجاه المبيحين!‬ ‫وهذا خلل كبير‪ ،‬ال يقبله‬ ‫العلم‪ ،‬وال يقره الدين‬

‫العددان ‪ 478 - 477‬شوال ‪ -‬ذو القعدة ‪1437‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬أغسطس ‪2016‬م‬


‫ماذا قال األئمة عن إسحاق الموصلي؟‬ ‫‪َ ....‬‬ ‫وسعُ فقهاء المدينة المنورة في الموسيقا في‬ ‫وت ُّ‬

‫جيل أتباع التابعين ثابت عنهم‪ ،‬وممن نسبه إليهم يحيى‬

‫بن سعيد القطان ‪-‬وهو من أئمة أتباع التابعين (ت‪198‬هـ)‪،‬‬ ‫ونسبه اإلمام أحمد إلى فقهائهم ً‬ ‫أيضا‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫وفي هذا السياق ً‬ ‫األئمة عن‬ ‫أيضا‪ :‬انظر ماذا قال‬ ‫أحد الـمُ َغـ ِّنـين الموسيقيّين المشاهير‪ ،‬وهو إسحاق بن‬

‫إبراهيم بن ميمون الموصلي (ت‪235‬هـ)‪ .‬فمع أن صنعته‬

‫كانت هي الغناء‪ ،‬حتى كان أشه َر المغنين ببغداد؛ إال‬ ‫أن العلماء قد ّ‬ ‫ُّ‬ ‫وتحفظِ ه‬ ‫وثقوه؛ لتديّنه وقيامه بالفرائض‬

‫من الفواحش! ولذلك قال عنه إمام الحنابلة ‪-‬في زمنه‪-‬‬ ‫ً‬ ‫إبراهيم الحربي (ت‪285‬هـ)‪« :‬كان ً‬ ‫صدوقا عالمً ا‪ ،‬وما‬ ‫ثقة‬

‫سمعت منه شي ًئا‪َ ،‬‬ ‫ول َو ِدد ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫سمعت منه‪ ،‬وما كان‬ ‫ْت أني‬ ‫ُ‬ ‫أردته»‪.‬‬ ‫يفوتني منه شيءٌ لو‬ ‫الخطيب البغدادي (ت‪463‬هـ) ترجمة إسحاق‬ ‫وبدأ‬ ‫ُ‬

‫الموصلي بقوله‪« :‬كتب الحديث عن سفيان بن عيينة‪،‬‬ ‫وهُ َشيم بن بشير‪ ،‬وأبي معاوية الضرير‪ ،‬وطبقتهم‪ .‬وأخذ‬ ‫األدب عن أبي سعيد األصمعي وأبي عبيدة ونحوهما‪،‬‬ ‫وبرع في علم الغناء‪ ،‬وغلب عليه‪ ،‬ف ُنسب إليه‪ .‬وكان‬ ‫حسنَ المعرفة‪ ،‬حُ ْل َو النادرة‪ ،‬مليحَ المحاضرة‪ ،‬جيد‬

‫َّ‬ ‫معظمً ا عند الخلفاء‪ .‬وهو‬ ‫الشعر‪ ،‬مذكورًا بالسخاء‪،‬‬

‫صاحب كتاب األغاني»‪.‬‬

‫ثم أورد الخطيب توثيق إبراهيم الحربي له!‬

‫الشيخ المغامسي‪:‬‬ ‫علما ألجمه الله‬ ‫من كتم ً‬ ‫لجاما من نار يوم القيامة‬ ‫ً‬ ‫أكد إمام وخطيب مسجد قباء في المدينة‬

‫المنورة الشيخ صالح المغامسي‪ ،‬أن ما قاله‬ ‫فيما يخص الموسيقا هو ما يدين به لله «في‬

‫مقام ُسئلت فيه»‪ ،‬موضحً ا أنه ال يتوقع «أن يقبل‬ ‫الناس جميعً ا ذلك تسليمً ا؛ ألنه من المستحيل‪،‬‬

‫لكن ما يحضني على ذلك أمانة الكلمة والعلم»‪.‬‬

‫وقال الشيخ المغامسي لـ«الفيصل»‪« :‬ال‬

‫هذا هو موقف العلماء مع أشهر مغني بغداد‪،‬‬

‫أستطيع أنا أو غيري من المتأصلين شرعيًّا‬

‫بعيدً ا؟! فهذا اإلمام ابن حزم (ت‪456‬هـ)‪ ،‬ومحمد بن طاهر‬

‫سبحانه وتعالى‪ ،‬فكيف بما ليس فيه داللة‬

‫نذهب‬ ‫بل أشهر مغني المشرق اإلسالمي في زمنه! ولمَ‬ ‫ُ‬

‫المقدسي (ت‪507‬هـ)‪ ،‬وغيرهما من العلماء ممن أباحوا‬

‫الموسيقا‪ ،‬هل نجد من جرحهم بهذا االجتهاد؟! أو منع‬ ‫الصالة خلفهم بسببه؟!‬

‫وبهذا يتضح أن واقع االختالف في حكم الموسيقا‬

‫لدى عامة المعاصرين قد انحرف عن مساره الصحيح‪،‬‬ ‫وصار التعصب والتشنج والتخوين في الدين والتجهيل‬

‫في العلم هو سمة عامة المح ِّرمين تجاه المبيحين! وهذا‬ ‫خلل كبير‪ ،‬ال يقبله العلم‪ ،‬وال يقره الدين‪ .‬وفي مثل هذا‬

‫الوسط غير الصحي يضعف التحرير العلمي؛ ألنه يخاف‬ ‫الخروج عن الصوت السائد‪ ،‬ويتردد صاحب االجتهاد‬ ‫المختلف في إعالن اجتهاده ومناقشة المخالفين‪ .‬فعلينا‬

‫أن نسعى إلى معالجة هذا الواقع‪ ،‬إن أردنا أن نسمع‬ ‫في الموسيقا وغيرها رأيًا شرعيًّا م ّت ً‬ ‫زنا؛ ألنه يعرف آداب‬

‫االختالف ودرجاته‪ ،‬ويحترم االجتهاد المعتبر‪ ،‬وال يبغي‬ ‫على المخالِف‪.‬‬

‫‪17‬‬

‫أن نحلل أو نحرم إال ما حرمه الله أو ما حلله‬

‫صريحة كالموسيقا؟»‪ .‬وأضاف أنه حين قال ما‬ ‫قاله بخصوص الموسيقا‪ ،‬لم يكن مُ لزمً ا «ولم‬

‫أكن أبحث عمن يجادلني أو يناقشني؛ ألني لن‬

‫ألتفت إلى ذلك؛ فهو ليس ما أسعى إليه أو‬ ‫أرغب به‪ ،‬وإنما من باب حديث خاتم األنبياء‬

‫والمرسلين صلى الله عليه وسلم‪« :‬من كتم علمً ا‬ ‫ألجمه الله لجامً ا من نار يوم القيامة»‪.‬‬

‫يذكر أن الشيخ المغامسي أكد في برنامج‬

‫تلفزيوني أواخر مايو الماضي أنه ال يوجد إجماع‬

‫على تفسير «لهو الحديث» بأنه الموسيقا‪،‬‬ ‫مشد ًدا على أن األمة في حاجة إلى خطاب‬

‫تجديدي‪ ،‬وأن أمانة الدين تملي عليه أن يتكلم‪،‬‬ ‫األمر الذي أثار جدلاً بين معارضين ومؤيدين‪.‬‬

‫ملف العدد‬


‫الموسيقا والغناء‬ ‫في الحجاز‬ ‫علي فقندش‬ ‫ناقد فني‬

‫ً‬ ‫وتحديدا في الحجاز (مكة‬ ‫المعروف تاريخيًّا أن اإلبداع الموسيقي والغنائي في الجزيرة العربية‪،‬‬

‫المكرمة والمدينة المنورة) له جانب اجتماعي وإنساني مهم في التركيبة السكانية للمنطقة التي شهدت‬ ‫إبداعا ثقافيًّا وفن ًّيا على مر العصور‪ ،‬ومن هذا اإلبداع الشعر الغزلي األقرب للغناء‪ ...‬وفي كتابه «الشعر‬

‫‪18‬‬

‫والغناء في المدينة ومكة لعصر بني أمية» يقول الدكتور شوقي ضيف‪ :‬من يقرأ في الشعر العربي‪،‬‬

‫وينظر في نصوصه ونماذجه الكثيرة يجد صورتين متقابلتين منذ العصر الجاهلي؛ صورة تقليدية تعتمد‬ ‫أغان خالصة تعتمد على العزف والضرب على اآلالت الموسيقية»‪.‬‬ ‫على رسوم وتقاليد كثيرة‪ ،‬وصورة‬ ‫ٍ‬

‫العددان ‪ 478 - 477‬شوال ‪ -‬ذو القعدة ‪1437‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬أغسطس ‪2016‬م‬


‫من هنا تتضح لنا أهمية األغنية والموسيقا لدى أهل مكة‬

‫المكرمة والمدينة المنورة والحجاز بشكل عام؛ األمر الذي‬

‫سهّل مهام تطور هذا الجانب‪ ،‬ونقل صور فن وثقافة كل عربي‬ ‫في هذه المنطقة؛ مما أوجد أسماء عديدة في عالم اإلنشاد‬ ‫والغناء في المنطقة‪ ،‬وكلنا يعرف كيف اس ُتقبل رسول الله‬ ‫صلى الله عليه وسلم عند وصوله يثرب بالنشيد واألهزوجة‬ ‫الشهيرة والمنغمة‪ ،‬وهي األغنية التي قيل‪ :‬إن لبنات النجار‬

‫في المدينة المنورة المحبات للفن والغناء دورًا كبي ًرا في‬ ‫ذلك‪ ،‬وهذا ما سجّ له وأورده كرم البستاني في كتابه «النساء‬

‫العربيات»؛ إذ قال‪ :‬إن بنات النجار كن في مقدمة أهل يثرب‬ ‫المرحبين بالمصطفى عليه الصالة والسالم‪ً .‬‬ ‫أيضا هناك عامل‬

‫عمر كدرس حلقة وسيطة بين أجيال الموسيقا‬

‫سنحاول سرد كثير من هذه األلوان‪ ،‬لكن من خالل الحديث‬

‫عن أبرز أساتذتها‪ ،‬وأبرز من قدمها واشتهر بها‪ ،‬أو ساهم في‬ ‫شهرتها وانتشارها‪ ،‬وتحويلها إلى قاعدة تنطلق منها أفكار كثير‬

‫من الملحنين الذين وجدوا أمامهم في تراثنا الغنائي ما يمكن‬ ‫أن يكون عملاً فنيًّا ذا جذور‪ ،‬وليس نب ًتا شيطانيًّا سيما إذا ما‬

‫علمنا أن مدينة جدة وفنانيها كانوا أكثر من استفاد من التراث‬ ‫الغني في مكة المكرمة والمدينة المنورة؛ إذ مورست‬ ‫الفني‬ ‫ّ‬ ‫هذه الفنون إلى جانب تراث جدة الموسيقي والغنائي الفعلي‬

‫إلى جانب تلك الفنون المكية المدنية‪ ،‬وربما كان الموسيقار‬ ‫الراحل عمر كدرس عالمة ودليلاً على ذلك ألسباب عدة؛ أهمها‬ ‫أن عمر كدرس كان الحلقة الوسيطة بين أجيال األغنية السابقة‬

‫مهم آخر‪ ،‬وهو التأثير الكبير الذي يحدثه النشيد في الناس في‬ ‫َ‬ ‫العشق‬ ‫هذه المنطقة في كل مناحي الحياة؛ إذ استثمر هذا‬

‫الذين حفظ منهم ونقل عنهم‪ ،‬وبين األغنية الحديثة التي يعدّ‬

‫لبضائعهم‪ ،‬ولعل في قصة الخمار الشهيرة بالمدينة المنورة‬ ‫التي أوردها ً‬ ‫أيضا كرم البستاني خير دليل على تأثير الغناء في‬

‫وبصورة شخصية أنه لحّ ن لبعضهم ألحانهم‪ ،‬وكانوا بالفعل‬ ‫أهلاً لهذه المبادرات منه‪ ،‬فأصبحوا فنانين كبارًا في مجال‬

‫كثي ٌر من التجار باستخدام الشعراء والمنشدين للترويج‬

‫المجتمع‪.‬‬

‫فالمتتبع لخطا الفن واألغنية تحديدً ا يعي أو يخلص‬

‫إلى أن الثراء والترف قد ساهما في انتشار الغناء في المدينة‬

‫المنورة أيام األمويين عندما ظهر ابن سريج ومعبد كأبرز‬

‫مغنيين آنذاك‪.‬‬

‫ع ّرابها وصانع مجد كثير من الملحنين والمطربين الذين أعرف‬

‫التلحين وغيره‪ .‬كذلك ألنه نبش تراث الموسيقا في المدن‬

‫الثالث‪ :‬المدينة المنورة التي ولد وعاش طفولته فيها‪ ،‬ونهل من‬ ‫علمها وتراثها‪ ،‬ثم مكة المكرمة التي عاش فيها طويلاً ‪ ،‬ثم جدة‬

‫التي كانت مستق ًّرا له طوال نصف القرن األخير من حياته‪ .‬وفي‬

‫محاوالت رصد للتعرف على أهم أسماء نجوم الغناء وحَ فظة‬

‫‪19‬‬

‫عمر كدرس‬

‫ملف العدد‬


‫التراث الغنائي في مكة المكرمة والمدينة المنورة في القرن‬

‫ومحمود حلواني‪ ،‬الذي حفظ وقدم كثي ًرا من ألوان أو أغنيات‬

‫مثل‪ :‬سراج عمر‪ ،‬وجميل محمود‪ ،‬وأبي األسرة الفنية الغنائية‬

‫أصحاب المبادرات األولى في نشر األغنية السعودية‪ ،‬وكان من‬

‫الماضي‪ ،‬التقيت بكثير من نجوم فنون التراث وكبار الملحنين‬ ‫في المنطقة؛ إبراهيم خفاجي‪ ،‬وبعدد من حفظة التراث‬

‫الغنائي بالمنطقة ومردديه مثل‪ :‬حامد عبد ربه‪ ،‬وبكر مدني‬

‫رحمه الله‪ -‬وحسن إسكندراني‪ ،‬والفنان الشعبي الكبير علي‬‫شيخ‪ ،‬وعلي صائغ ‪-‬رحمهما الله‪ -‬ودرويش صيرفي‪ ،‬والفنان‬ ‫مصطفى إسكندراني الذي بدأت معه‪ .‬ففي محاولة لجرد أهم‬

‫أسماء الجيلين األول والثاني من فناني التراث الذين عاصرناهم‬ ‫ً‬ ‫افتراضا من ساهم في إثراء الساحة الغنائية بدءً ا من‬ ‫ونعدهم‬

‫أوائل الفنانين الذين هاجروا إلى البحرين؛ من أجل نشر أغنية‬

‫الحجاز‪ ،‬وأول من سجّ ل أسطوانات غنائية سعودية صالح لبني‪،‬‬

‫ومحمد الريس عازف الكمان الشهير الذي صنع بدايات طالل‬ ‫مداح في الحفالت تحديدً ا‪ ،‬وعبدالستار حضرة علي‪ ،‬وفؤاد‬ ‫بنتن‪ ،‬وفؤاد زكريا‪ ،‬وسعود زبيدي‪ ،‬وعثمان تنكل‪ ،‬وأسعد‬

‫خوندنة‪ ،‬وعبدالرحمن خوندنة‪ ،‬وأبو حصة‪ ،‬ومحمد باموسى‪،‬‬ ‫وعبدالله مرشدي‪ ،‬الذي كان يرأس فرع جمعية الثقافة والفنون‬

‫عام ‪1350‬هـ‪ ،‬وأنقل هنا عن الفنان مصطفى إسكندراني ما قاله‬

‫بالطائف‪ ،‬والراحل محمد علي سندي الناقل والحافظ األمين‬

‫رحل منهم‪ ،‬وكانوا بالنسبة لي األمل في تحقيق ما أصبو إليه‬

‫ورضا حسن نحاس‪ ،‬والملحن محمد النشار‪ ،‬وعمر باعشن‪،‬‬

‫لي‪ :‬عاصرت كثي ًرا من هؤالء الفنانين الكبار أو لحقت بآخر من‬ ‫في إثراء ذاكرتي الفنية‪ ،‬ومواصلة حفظ تراثنا الذي كان عرضة‬

‫لالندثار‪ ،‬ومن هؤالء حسن جاوة‪ ،‬وصالح حلواني‪ ،‬وسعيد‬

‫أبو خشبة‪ ،‬وعثمان خميس‪ ،‬وعثمان كردوس‪ ،‬وحسن لبني‪،‬‬

‫والسيد عبدالرحمن المؤذن الذي عرف بلقب «األبلتين»‪ ،‬وأحمد‬ ‫مراد‪ ،‬وخليل رمل (جد المغني الذي احتجب بعد نجاحات جيدة‬

‫في ساحة الغناء حسن يوسف رمل)‪ ،‬ومحمود مؤمنة‪ ،‬وعلي‬

‫‪20‬‬

‫التراث في الحجاز والجزيرة العربية‪ ،‬كعواد من أبرز وأهم‬

‫شيخ‪ ،‬وعرفة صالح‪ ،‬الذي سيتحدث عنه فيما يأتي الموسيقار‬

‫الكبير سراج عمر الذي ارتبط به كثي ًرا‪ ،‬ونهل من موسيقاه‬ ‫وغنائه وأساليبه كثي ًرا‪ ،‬وأحمد عبدالفتاح‪ ،‬وعبدالقادر شولق‪،‬‬

‫ودرويش جبل‪ ،‬ومحمد علي أخضر‪ ،‬ومحمد علي بوسطجي‪،‬‬

‫لتراث الغناء الحجازي‪ ،‬وعبدالعزيز أبو سالمة‪ ،‬وأحمد شيخ‪،‬‬ ‫وعلي باعشن الذي عرف باسم رياض علي‪ ،‬وسبق له أن رأس‬ ‫فرقة موسيقا اإلذاعة والتلفزيون‪ ،‬وإبراهيم المطلق‪ ،‬وخليل‬ ‫كتوري‪ ،‬ومعتوق يحيى‪ ،‬ومسفر القثامي‪ ،‬وإبراهيم الشرقي‪،‬‬ ‫ومحمد سيامك‪ ،‬وعبدالستار بخاري‪ ،‬وخالد زهدي‪.‬‬

‫مقام الحجاز نشأ في مكة المكرمة‪ ،‬وخرج‬ ‫منها إلى العالم كله‪ ،‬يستخدمه العرب‬ ‫والغربيون؛ حيث تستخدمه العرب كمقام كامل‪،‬‬ ‫ويستخدمه الغربيون كجنس من مقام الحجاز‬

‫مقام الحجاز نشأ في مكة وخرج منها إلى العالم‬ ‫ً‬ ‫تحديدا كانت للثقافة جوانبها المهمة في كل ما يرتبط بالحياة اليومية والموسيقا واإلنشاد‪ ،‬التي‬ ‫في مكة المكرمة‬ ‫هي حب أهل الحجاز األول وعشقهم حتى كان لهم «مقام الحجاز» األساسي في مقامات الموسيقا الذي ُتبنى عليه كثير‬

‫ً‬ ‫ألحانا عظيمة من هذا المقام كان السنباطي‪ ،‬وزكريا أحمد‪ ،‬والقصبجي وغيرهم‪ .‬كذلك‬ ‫من غنائياتهم‪ .‬وأجمل من قدم‬ ‫استخدمه محمد الموجي في مقطع « شوف القسوة بتعمل إيه » في أغنية «اسأل روحك» ألم كلثوم‪ ،‬كذلك فناننا الجميل‬ ‫جميل محمود في أغنية «خايف منك من حبك» لعبادي الجوهر في بداية طريقه مع الغناء‪ ،‬وطالل مداح ‪-‬رحمه الله‪ -‬في‬

‫«انتظاري طال يا حلو التثني» و«ما دام معايا القمر» و«يقولوا لي قنع منك»‪.‬‬

‫إلي الفنان الكبير جميل محمود الذي قال‪ :‬إن مقام الحجاز نشأ في‬ ‫وللفائدة األكبر حول مقام الحجاز وأصوله تحدث ّ‬

‫مكة المكرمة‪ ،‬وخرج منها إلى العالم كله‪ ،‬يستخدمه العرب والغربيون؛ حيث تستخدمه العرب كمقام كامل‪ ،‬ويستخدمه‬

‫الغربيون كجنس من مقام الحجاز‪ ،‬والجنس المقصود به هنا جزء من المقام؛ ألن معظم المقامات ثالثة أجناس‪ ،‬يتزاوج‬

‫بعضها مع بعض؛ لينتج المقام الموسيقي الكامل بنوتاته السبع‪ ،‬وقد استعمله الفنانون العرب في كل البقاع‪ ،‬وصوروا‬ ‫وسمي بأسماء أخرى مختلفة لكنها بالنسبة للنوتة الموسيقية تعود إلى مقام الحجاز‪ ،‬ودليل ذلك‬ ‫المقام في غير موقته‪ُ ،‬‬

‫أن المقامات العربية الموجودة والمستخدمة في العالم العربي يزيد عددها على ‪ 3000‬مقام‪ ،‬وهي لم تستخدم كلها‪ ،‬لكن‬ ‫حينما أعيدت إلى أصولها أصبحت ‪ 99‬مقامً ا فقط؛ المستخدم منها أقل من نصف هذا العدد لصعوبة عزفها؛ ألن أبعاد‬

‫العددان ‪ 478 - 477‬شوال ‪ -‬ذو القعدة ‪1437‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬أغسطس ‪2016‬م‬


‫مطربات في ذاكرة الغناء الحجازي‬

‫شهدت بدايات القرن العشرين في منطقة الحجاز عشرات‬

‫المطربات الالئي أثرين الذائقة الفنية وحفرن في ذاكرة الغناء‬ ‫الحجازي وذاكرة الناس‪ ،‬وإذا استعرضنا أبرز األسماء التي‬ ‫عرفت في القرن الماضي في مجال الغناء والموسيقا التراثية‬

‫لمنطقة الحجاز‪ ،‬وتحديدً ا في مكة المكرمة والمدينة المنورة‬

‫والطائف‪ ،‬وهنا نلفت النظر إلى أن فن اإلنشاد لم يكن حك ًرا‬

‫على الرجل‪ ،‬فهناك اتصال تاريخي بين ما أنشدته بنات‬ ‫النجار في المدينة المنورة عند استقبال يثرب الشهير للحبيب‬

‫المصطفى عليه أفضل الصلوات والتسليم‪ ،‬والتواصل الذي‬ ‫طارق عبدالحكيم‬

‫تشهده األجيال في إنشاد المرأة تحديدً ا الذي كان مزده ًرا‬

‫بشكل كبير في هذه المنطقة في القرن الماضي‪.‬‬

‫وربما يعرف القارئ إبداع نساء شعبيات أثرين عواطفنا‬

‫وعواطف من قبلنا من أجيال‪ ،‬مثل‪ :‬توحة‪ ،‬والراحلة صالحة‬

‫حمدية‪ ،‬وبنات شافية‪ ،‬وغيرهن‪ ،‬وإبتسام لطفي‪ ،‬وكان‬

‫من هؤالء الفنانات عازفات آلالت موسيقية‪ ،‬مثل‪ :‬فاطمة‪،‬‬

‫وعائشة زايدية –رحمهما الله‪ -‬اللتان عرفتا بالعزف على‬

‫مختلف اآلالت الموسيقية مثل العود والكمان‪ ،‬ونجد أن أبرز‬ ‫مغنيات مكة المكرمة في القرن الماضي صفية لبانة‪ ،‬وكرامة‬

‫صالح سلطان‪ ،‬وأمينة عدنية‪ ،‬وصالحة حمدية‪ ،‬وفاطمة‬ ‫حمدية‪ ،‬وزينب هندية‪ ،‬وزينب روشانة‪ ،‬وفاطمة عتيبية‪،‬‬

‫‪21‬‬

‫وحجية المكاوية‪ ،‬وغربية المكاوية‪ ،‬وخميسة المكاوية‪،‬‬ ‫جميل محمود‬

‫وخديجة نوارة‪ ،‬وخديجة عبدالله حماد‪ ،‬وفاطمة إبراهيم‬

‫المقامات على اآلالت يميل إلى النقص والزيادة المعروفة بـ«البيمول» و«الدييز» بكل درجاتهما‪ ،‬ونزيد عليها في العالم‬

‫العربي استخدام ربع التون‪ .‬وقد اعتمد كل الملحنين في العالم العربي التلحين في مقام «الحجاز»؛ لثرائه وشجنه وفرحه‬ ‫وحزنه واإلحساس العميق‪.‬‬

‫أما فن إيقاع الدانة فهو إيقاع مكي يستخدم مع أي مقام موسيقي حسب رغبة الملحن وتذوقه‪ ،‬ويعود تاريخه‬

‫إلى ما قبل ‪ 870‬عامً ا وينسب هذه اإليقاع إلى يمن البيتي‪ ،‬المعروف بأبي جعفر يمن البيتي‪ ،‬وهو من سكان حارة الباب‬ ‫بمكة المكرمة؛ لذلك ُسمي «الفن اليماني» بمكة المكرمة نسبة إلى يمن البيتي‪ ،‬وإيقاعاته تختلف بين «الدانة» الثقيلة‬

‫المعروفة‪ ،‬وإيقاع الكف‪ ،‬وإيقاع الرودمان‪ ،‬واإليقاع الصنعاني‪ ،‬وهذه هي اإليقاعات القديمة المنسوبة إلى يمن البيتي‪.‬‬ ‫والدانات ألوان عديدة‪ ،‬يعتمد معظمها على القصائد المقفاة الموزونة‪ ،‬مثل‪« :‬قف بالطواف»‪ ،‬و«على شاطئ الوادي‬

‫نظرت حمامة»‪ ،‬و«أهيم بروحي على الرابية» التي قدمها الموسيقار العميد طارق عبدالحكيم‪ ،‬وأغنية «ترفق عزولي»‪،‬‬

‫كما أن معظم القصائد المغناة في الدانات القديمة هي القصائد العربية التي كتبت من المغرب إلى المشرق‪ ،‬ومن شمال‬ ‫الخريطة العربية واإلسالمية‪ ،‬إضافة إلى حضور الدانة بوضوح في لحن التراث الذي قدمه محمد علي سندي «أراك عصي‬

‫الدمع» ألبي فراس الحمداني وأحمد شوقي أمير الشعراء قدمت له «خدعوها بقولهم حسناء»‪.‬‬ ‫ً‬ ‫ومعظم نصوص الدانات من الشعر اليمني والحجازي الفصيح‪ ،‬ومن المعلقات المعروفة أيضا؛ ألن الفن ال وطن له‬ ‫في مفهوم الفنانين القدامى‪ ،‬وفي مفهومنا نحن ً‬ ‫أيضا‪ .‬أما بالنسبة للفنون الموسيقية في مكة المكرمة فهي كثيرة‪ ،‬فمنها‪:‬‬ ‫«المزمار»‪ ،‬و«الطنبور» وكالهما إفريقي اإليقاع ما عدا الغناء واأللحان فهما حجازيان محض‪.‬‬

‫ملف العدد‬


‫الفنانة توحة‬

‫بشيت وهذه كانت أشهرهن وأكثرهن مقدرة حتى إن المغنية‬ ‫توحة كانت قد قالت لي في حديث قديم معها‪ :‬إنها كانت‬

‫أستاذتها في الغناء‪ ،‬بل كانت في طفولتها مغرمة بها‪ ،‬وكان‬

‫لفاطمة بشيت اسم شهرة ُعرفت به في كل أصقاع الحجاز‬ ‫وهو «كاكا» أو الخالة «كاكا»‪ ،‬وزهرة بنت سمر الدين‪ ،‬وعطية‬

‫‪22‬‬

‫عبدالله الحضرمي‪ ،‬وفاطمة عمارة‪ ،‬وزينب دنقاشية‪ ،‬وحليمة‬ ‫بنت سرور‪ ،‬ومعتوقة بنت سعدالله‪ ،‬ومنسية بنت عبدالله‪،‬‬

‫وصفا عيادة‪ ،‬وعائشة حوطية‪ ،‬وفاطمة حوطية‪ .‬ونالحظ من‬ ‫تكرار األسماء أن موضوع العوائل واألسرة الفنية كان موجودًا‬

‫بوضوح‪ ،‬فتأثر الفن بال شك في أبناء األسرة الواحدة‪ ،‬وفاطمة‬

‫إبتسام لطفي‬

‫كزبرية‪ ،‬وكل هؤالء من مغنيات مكة المكرمة الراحالت‬

‫انطلقن للعربية‪ ،‬وكانت سببًا مباش ًرا بما تمتلكه من إمكانيات‬

‫وفاطمة نجيدية وهن من مطربات جدة الراحالت‪ ،‬وتوحة‬

‫بصورة بسيطة إلى تسجيل الحضور في عالم األغنية التراثية‬

‫المحلي‪ ،‬أطال الله في عمرها‪ ،‬وحضرت عهد األسطوانات‬

‫نجوم الغناء العربي مثل‪ :‬أم كلثوم‪ ،‬وأحمد رامي الذي‬ ‫غ ّنت من كلماته‪ ،‬وحلمي أمين الذي لحّ ن لها وهو ملحن‬

‫رحمهن الله جميعً ا‪ ،‬وشوق الجداوية‪ ،‬وقمر الطاهرية‪،‬‬

‫مطربتنا الشعبية الكبيرة التي أثرت عالم الغناء النسائي‬ ‫البالستيكية‪ ،‬وسجلت العديد من األعمال الغنائية لإلذاعات‬ ‫المختلفة‪ ،‬واسمها الحقيقي فتحية حسن يحيى‪.‬‬

‫إبتسام لطفي تلتقي كبار نجوم الغناء العربي‬

‫هناك ً‬ ‫أيضا نعمة دنياري‪ ،‬وليلى حسين‪ ،‬وإبتسام لطفي‬

‫وهي بطبيعة الحال من أهم المطربات السعوديات الالتي‬

‫شهدت بدايات القرن العشرين في‬ ‫منطقة الحجاز عشرات المطربات الالئي‬ ‫أثرين الذائقة الفنية‪ ،‬وحفرن في ذاكرة‬ ‫الغناء الحجازي وذاكرة الناس‬

‫العددان ‪ 478 - 477‬شوال ‪ -‬ذو القعدة ‪1437‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬أغسطس ‪2016‬م‬

‫لعصرنة الغناء النسائي‪ ،‬والخروج من ثوب التراث المقدم‬

‫المطورة واألغنية الحديثة‪ .‬كما أن إبتسام لطفي التقت كبار‬

‫أغنية «عنابي» الشهيرة بصوت كارم محمود‪ ،‬وسيكون لنا‬

‫معها وقفة مطولة عن دورها المؤثر والعظيم في تطوير‬ ‫األغنية النسوية السعودية قبل احتجابها‪ ،‬وهو نفس الدور‬

‫الذي قامت بإكماله سارة (إبتسام قزاز) التي انطلقت في‬ ‫منتصف السبعينيات من القاهرة مع محمد شفيق‪ ،‬وسراج‬

‫عمر‪ ،‬وسامي إحسان وغيرهم من الملحنين‪ ،‬وقدمت أغنية‬ ‫سعودية غاية في الروعة‪ ،‬وهي صوت من أعذب وأجمل‬

‫األصوات لوال احتجابها عن الغناء بعد أن ملكت قلوب محبي‬

‫الغناء في المملكة‪ .‬ويمكن أن نذكر نجوى سلم (سمر)‪ ،‬وهي‬ ‫مطربة عذبة الصوت‪ ،‬جاءت من اليمن صغيرة في بداية‬

‫السبعينيات الميالدية‪ ،‬وتعلمت الغناء واستفيد من صوتها‬


‫الجميل تحت إشراف مصطفى إسكندراني‪ ،‬وعلي عبدالكريم‬ ‫سيد غناء التراث من جيله‪.‬‬

‫أما أشهر مطربات الطائف فهن‪ :‬عطيفة الطائفية‪ ،‬ومريم‬

‫الطائفية ‪-‬رحمهما الله‪ -‬ولطيفة مغربي‪ .‬ومن مطربات المدينة‬ ‫المنورة كانت صفية شتيوي‪ .‬من أشهر مطربات «ليلة الغمرة»‬

‫في األعراس في الحجاز كانت هناك أسماء كبيرة‪ ،‬وارتبطت‬

‫بتأريخ الغناء في أعراس الحجاز منهن‪ :‬فاطمة خصيفية‪،‬‬

‫وسلطانة‪ ،‬ومستورة القريشية‪ ،‬ومنسية‪ ،‬وفاطمة بنت أبو‬ ‫حالوة‪ ،‬وعايضة النفيعية‪.‬‬

‫فوزي محسون وعبدالله محمد ومحمد علي سندي‬

‫حراس التراث‬

‫حفلت أوساط الغناء الرجالي في منطقة الحجاز بكثير‬

‫من األسماء التي ازدهر عطاؤها في القرن الماضي‪ ،‬وكان‬ ‫بعضهم أمي ًنا على العمل الفني الفلكلوري‪ ،‬وظل يحفظ هذا‬ ‫ً‬ ‫متوارثا بأمانة (أي يقدم هذه األلوان كما هي) من هؤالء‬ ‫اإلبداع‬

‫فناننا الراحل الكبير محمد علي سندي‪ ،‬األمين األول على‬

‫فوزي محسون‬

‫عطاء التراث الغنائي الحجازي‪ ،‬والراحل محمد باجودة حافظ‬ ‫على التراث الغنائي الشهير‪ .‬وهناك من ابتكر وابتدع كثي ًرا‬ ‫من األلحان المبنية على التراث إلى جانب اإلبداع الشخصي‪،‬‬

‫‪23‬‬

‫ومن هؤالء كان فناننا الكبير فوزي محسون وعبدالله محمد‪،‬‬ ‫ومحمود حلواني ‪-‬رحمه الله‪ -‬والفنان عبدالله مرشدي‪،‬‬

‫وكذلك فؤاد بنتن ‪-‬رحمهم الله جميعً ا‪ -‬ومصطفى إسكندراني‬ ‫ً‬ ‫أيضا الفنان الشعبي محمد أحمد‬ ‫وغيرهم‪ .‬ولعلي أذكر‬

‫باجودة أحد أبرز مطربي ومؤدي األغنية الحجازية؛ ولد‬

‫بمكة المكرمة سنة ‪1335‬هـ ‪1915 -‬م‪ ،‬أطلق عليه الفنان محمد‬

‫علي سندي لقب قائد قافلة التراث الغنائي؛ الهتمامه بنقل‬ ‫التراث‪ ،‬وإلمامه بالمقامات‪ ،‬وعذوبة صوته‪ .‬بدأ حياته الفنية‬

‫سنة ‪1354‬هـ بممارسة العزف على العود‪ ،‬ثم جمعته الهواية‬

‫محمد علي سندي‬

‫مع مجموعة اهتمت بالتراث الغنائي؛ منهم‪ :‬عرفة صالح‪،‬‬

‫ومحمد الريس‪ ،‬وصالح لبني‪ ،‬ومحمد علي سندي‪ ،‬وعمر‬ ‫باعشن‪ ،‬وعلي باعشن‪ .‬قدمت له اإلذاعة العديد من األغنيات‬ ‫الشعبية‪ .‬وفي عام ‪1967‬م سجل له التلفزيون مجموعة كبيرة‬

‫من هذه األغنيات منها‪« :‬بالله تحل العقد المبهمة»‪ ،‬و«نسيم‬ ‫الصبا هب علينا»‪ ،‬و«فارج الهم»‪ ،‬وكانت هذه أول مجموعة‬ ‫غنائية شعبية يقدمها التلفزيون السعودي عند تأسيسه؛ إذ‬

‫حرص على عقد جلسة أسبوعية للطرب ومراجعة وترديد‬

‫الفنون الشعبية‪ ،‬وكثي ًرا ما كان يحضرها فنانون كبار منهم‪:‬‬

‫طارق عبدالحكيم‪ ،‬وعبدالله محمد‪ ،‬وفوزي محسون‪ ،‬وعمر‬

‫كدرس‪ ،‬ومحمد عبده‪ ،‬وكثير من الفنانين الشباب مثل‪:‬‬ ‫محمد أمان وغيره‪ ،‬وذلك لحفظ الفن الشعبي السعودي‪.‬‬

‫عبدالله محمد‬

‫ملف العدد‬


‫مسيرة الغناء السعودي‪..‬‬ ‫تجارب ومراحل في إستراتيجية‬ ‫الذاكرة المستمرة‬ ‫أحمد الواصل‬ ‫أكاديمي وناقد سعودي‬

‫إن التراث الثقافي غير المادي –أي المعنوي‪ -‬من ضمن ما يشمل فنون األداء والقول والحركة‪،‬‬

‫‪24‬‬

‫وفن الغناء يعد من الفنون الجماعية الحاوية لفن األداء؛ أي‪ :‬صوت الحنجرة واآللة‪ ،‬والقول‪:‬‬ ‫أي النص الشعري‪ ،‬والحركة‪ :‬أي اإليقاع واللعب أو الرقص المصاحب‪.‬‬

‫واستطاعت هذه الفنون األدائية المختلفة أن تخلق قالب «األغنية» الذي عبر عن القرن العشرين‬ ‫ً‬ ‫أرشيفا أعاد قراءة التراث وأضاف عناصر جديدة‪،‬‬ ‫لكل المجتمعات في الكرة األرضية‪ ،‬وشكلت‬ ‫وانقطع عن كل هذا إلى المجهول‪ ،‬ولكل مجتمع مزايا إما أن تجعله يقرأ المستقبل بمواهبه‬

‫ومؤسساته‪ ،‬وإما أن تنتهي كل التجربة الثقافية إلى التبدد‪.‬‬

‫العددان ‪ 478 - 477‬شوال ‪ -‬ذو القعدة ‪1437‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬أغسطس ‪2016‬م‬


‫فإذا ما لحظنا من الناحية الجغرافية شبه الجزيرة العربية‬

‫وتنوعها البيئي‪ ،‬وفي المملكة العربية السعودية حيث تشكل‬

‫مساحتها الكبيرة قوة في التنوع من حيث توزيع األقاليم وتنوع‬

‫ثقافاتها في تفاصيلها رغم اشتراكها في بعض تلك الفنون دون‬ ‫أن يغفل آثار الجوار سواء ألقاليم مشتركة الثقافة داخل شبه‬

‫الجزيرة العربية أو من خارجها في القارتين اآلسيوية واإلفريقية‪:‬‬ ‫أولاً ‪ -‬اإلقليم الغربي أو الحجازي‪ :‬مكة‪ ،‬والمدينة‪ ،‬والطائف‪،‬‬ ‫وينبع‪.‬‬

‫ثانيًا‪ -‬اإلقليم األوسط أو النجدي‪ :‬الرياض‪ ،‬وسدير‪ ،‬والقصيم‪.‬‬ ‫ً‬ ‫ثالثا‪ -‬اإلقليم الجنوبي‪ :‬عسير‪ ،‬ونجران‪ ،‬وجازان‪.‬‬ ‫رابعً ا‪ -‬اإلقليم الشرقي‪ :‬األحساء‪ ،‬والقطيف‪.‬‬

‫خامسا‪ -‬اإلقليم الشمالي‪ :‬حائل‪ ،‬وتبوك‪ ،‬والجوف‪.‬‬ ‫ً‬

‫الفنون الشعبية في الجزيرة العربية‬

‫وما بين تناقل فنون األداء الموروثة عبر الذاكرة الشفوية‬

‫بمختلف أنماطها وطرائق أدائها ورقصاتها المصاحبة إن لزم‪،‬‬

‫وبين نشأة األغنية بعناصرها األساسية‪ ،‬ومن ثم نشأة صور‬ ‫الملحن المستقل عن المغني‪ ،‬وأساليب األداء‪ ،‬واتجاهات‬

‫التلحين‪ ،‬ومدارس الغناء المختلفة؛ ما يبني تاريخ فن الغناء في‬ ‫أي بلد عربي منذ القرن العشرين‪ .‬أقول‪ :‬وما بينها يمكن مطالعة‬

‫تجمد بعض فنون األداء والقول والحركة حين سجلت بوصفها‬ ‫ً‬ ‫نصوصا من الشعر المغنى‪ ،‬وال يمكن عزلها عن تقاليد تلزمها‬ ‫وطقوس تصاحبها في أدائها‪ ،‬ومن ثم التفاعل معها‪ .‬ويمكن‬ ‫التذكير بموسوعتين –على سبيل المجاز‪ -‬حفظتا في منطقتين‬ ‫هما أدعى إلى الشعور باكتساح قالب «األغنية» الذي قطع بشكل‬

‫إذا كانت تشترك بعض األقاليم في بعض الفنون سواء داخل‬

‫نهائي مع أنماط فنون األداء والقول والحركة‪ ،‬وهما اللتان مهدتا‬

‫والكويت والبحرين وقطر كذلك فن النهمة والشعر الزهيري بين‬

‫(‪1994‬م) الذي أشرنا إليه في المقدمة بوصفه يقدم مداخل لفنون‬

‫المملكة أو خارجها مثل‪ :‬فن السامري والشعر النبطي بين نجد‬ ‫األحساء والكويت والبحرين وقطر‪ ،‬فإن فن الكسرة يتبع مدينة‬

‫ينبع‪ ،‬والمجرور إلى الطائف‪ ،‬والزامل إلى نجران غير أن المجس‬ ‫مشترك بين مكة المكرمة والمدينة المنورة‪.‬‬

‫ألن يصدر كتاب «الفنون الشعبية في المملكة العربية السعودية»‬ ‫من التراث غير المادي في أقاليم المملكة‪.‬‬ ‫تقاليد وطقوس‬

‫وإذا كان فن المزمار حبشيًّا وافدًا إلى الحجاز‪ ،‬فإن فن‬

‫وما بين النماذج الفائتة انتقلت فنون األداء والقول والحركة‬

‫إلى نجران‪ ،‬والصهبة والدور وافدان من مصر إلى مكة المكرمة‪،‬‬

‫السامري‪ ،‬نحو قالب األغنية الذي لم يكن في األغنية السعودية‪،‬‬ ‫ً‬ ‫مترسخا في مراكز الغناء العربي خالل القرن العشرين‪.‬‬ ‫بل كان‬

‫الطنبورة فنٌّ صومالي وافد إلى األحساء مثلما فن المرافع وافد‬ ‫كذلك فن الدان وافد من اليمن إلى الحجاز‪ .‬غير أن هذه الفنون‬

‫الناشئة في كل إقليم متطورة عبر الزمن‪ ،‬كذلك الوافدة اتخذت‬ ‫صور األداء والتواتر مندمجة في مكان معيشتها؛ ما يجعلها جزءً ا‬

‫من العناصر الثقافية والمكونات الحضارية‪.‬‬

‫من أنماطها ذات التقاليد والطقوس‪ ،‬مثل فن المجرور أو فن‬

‫‪25‬‬

‫وفي القرن الحادي والعشرين دخلت المجتمعات حالة‬

‫جديدة من تطور فن الغناء؛ إذ أتاحت وسائل نقل األغنية وأجهزة‬ ‫تسجيلها صناعة أغنية لعصرها ال يمكن التنبؤ بمستقبلها‪ ،‬ولعلنا‬

‫نجمل تاريخ الغناء السعودي خالل قرن كامل عبر مراحل تلخص‬ ‫هذه التجربة الكبيرة‪:‬‬

‫ملف العدد‬


‫المرحلة األولى‪ -‬الرحلة الفنية والتسجيالت األولى‬

‫يحفظ التاريخ تسجيالت غنائية عام ‪1909‬م عن طريق موظفي‬

‫القنصلية الهولندية في جدة‪ ،‬سجلوا نماذج من األذان وتلبيات‬ ‫الحجاج من إندونيسيا‪ ،‬وأصوات مقرئين من زنجبار واليمن‪ ،‬وهي‬ ‫تسجيالت الهولندي سنوك هوروخورنيه‪ ،‬ويذكر الباحث محمود‬

‫صباغ حكاية هذه التسجيالت في مدونته‪« :‬كان سنوك هوروخرونيه‬ ‫مسؤولاً رفيعً ا في الدبلوماسية الهولندية عبر البحار في مواقع‬ ‫نفوذها في جزائر جاوى وجزر الهند الشرقية‪ .‬كانت مهمته تنحصر‬

‫في رصد واستشراف اتجاهات الفكر لدى السكان الجاويين المحليين‪،‬‬

‫وكان ذلك باعث رحلته األولى إلى مكة عام ‪1885‬م‪ .‬لكن نزعات‬

‫المعرفة واالستطالع نمت لديه‪ ..‬فاستغل درايته وقدراته اللوجستية‬

‫الشريف العبدلي‬

‫في رفد حقلي اللسانيات والموسيقا اإلثنيّة وفلكلور الشعوب بمواد‬ ‫رائدة عن مكة‪ .‬وفي سبيل تنفيذ مشروعه أرسل سنوك الفونوغراف‬

‫الخاص به إلى الحجاز عام ‪1906‬م عبر ترتيب يشرف عليه السيّد محمد‬

‫سعيد تاج الدين أحد أقطاب نقل حجاج جنوب شرق آسيا بالسفن‬ ‫البخارية‪ ،‬مع القنصلية الهولندية في جدة وعبر مندوبه وشقيقه في‬ ‫الحجاز السيّد جمال الدين آل تاج الدين‪.‬‬

‫سُ جل على تلك األسطوانات قدر هائل من كل ما يمكن أن يخطر‬

‫على البال مما يخص الموروث الحجازي بين عامي ‪ 1906‬و‪1909‬م‪ :‬سور‬

‫‪26‬‬

‫انتقلت فنون األداء والقول والحركة من‬ ‫أنماطها ذات التقاليد والطقوس‪ ،‬نحو‬ ‫قالب األغنية الذي لم يكن في األغنية‬ ‫مترسخا في مراكز‬ ‫السعودية‪ ،‬بل كان‬ ‫ً‬ ‫الغناء العربي خالل القرن العشرين‬

‫قصار من القرآن الكريم‪ ،‬وأذان الحرم المكي‪ ،‬وابتهاالت دينية‪،‬‬ ‫وموشحات مديح نبوي وتزهيد‪ ،‬وغناء محكي‪ ،‬ودانات مكيّة مُغ ّناة‬

‫ومجسات سجلها الشريف هاشم العبدلي‬ ‫عمل بين دانات‬ ‫ّ‬

‫على األصول والفروع‪ ،‬وتسجيل لغناء جماعي في الحارات الشعبية‬

‫بمجس من شعر الملك عبدالله األول بن الحسين (انظر ملحق‪:‬‬

‫على آلة العود‪ ،‬وألوان من المجرور والحدري والفرعي‪ ،‬ومجسات‬ ‫كمقاطع من الصهباء المكيّة ويماني الكف‪ ،‬وغناء نسائي‪ ،‬وشعر‬

‫بدوي‪ ،‬وغناء لنساء بيشة‪ ،‬ومقاطع من احتفاالت الزواج‪ ،‬ومقاطع‬

‫ترصد األهازيج المغناة في االحتفاليات العامة مثل‪ :‬افتتاح محطة‬ ‫معان الحجازية ضمن سكة حديد الحجاز عام ‪1907‬م‪.‬‬

‫لكن في سجالت شركة ميشيان األلمانية حفظ أكثر من‬

‫(ت‪1926.‬م) –على وجه التقريب‪ -‬في العهد الهاشمي‪ ،‬فقد تغنى‬

‫الشعر المغنى)‪ ،‬وحفظت تسجيالت أخرى في الخمسينيات‬ ‫لمغنية تحمل اسمً ا مستعارًا «كوكب الحجاز» تدعى ليلى حسين‪.‬‬ ‫ويعد من سجّ ل لهم هذه الفترة طبقة من رواة الغناء‬

‫الحجازي التقليدي تشكل جيلين من أبرزهم‪ :‬سعيد أبو خشبة‬

‫وحسن جاوة –من عائلة باجنيد‪ -‬وعبدالرحمن مؤذن شهير‬ ‫باألبالتين –من عائلة دحالن‪ -‬وحسن لبني حتى من ورث ذلك‬

‫الجيل محمود حلواني ومحمد علي سندي‪ .‬وقد ارتحل بعض‬

‫منهم إلى إسطنبول لدراسة الموسيقا مثل أحمد شيخ (اللهبي‪،‬‬ ‫ً‬ ‫سابقا‪ .‬بينما‬ ‫‪ ،2009‬ص‪ )24 :‬وذاع صيته في الشام كما تحدثنا‬ ‫ارتحل بعضهم إلى مصر لتسجيل أعمالهم‪.‬‬

‫إذا كان الشريف العبدلي ارتحل إلى مصر ليسجل أعماله‪،‬‬

‫فإن مجموعة من فناني األحساء والرياض ذهبت إلى البحرين‬

‫والكويت لتسجيل أعمالها منذ منتصف الخمسينيات حتى‬ ‫ظهرت شركات األسطوانات نهاية الخمسينيات‪ ،‬فتمكنت من‬ ‫توفير أجهزة تسجيل وإنشاء أستوديوهات في الرياض واألحساء‬

‫لشركات مثل‪ :‬األسود فون‪ ،‬ونجدي فون والتلفون‪.‬‬

‫وقد حفظت لنا هذه الشركات أسماء مغنين منها‪ :‬شادي‬

‫سالمة العبدالله‬ ‫العددان ‪ 478 - 477‬شوال ‪ -‬ذو القعدة ‪1437‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬أغسطس ‪2016‬م‬

‫القصيم (صالح الدوسري)‪ ،‬وشادي الرياض (سعد اليحيا)‪،‬‬


‫وفرج الطالل‪ ،‬وفتى حائل (سالم الحويل)‪ ،‬ووحيد الجزيرة (فهد‬ ‫ابن سعيد)‪ ،‬ومن األحساء عبدالرحمن الهبة‪ ،‬وعايد عبدالله‪،‬‬

‫وعبدالله العماني‪ ،‬وفرج المبروك‪ ،‬ومن الحجاز عبدالعزيز‬

‫شحاته‪ ،‬ومحمود حلواني‪ ،‬ومحسن شلبي‪ ،‬ومن الجنوب علي‬ ‫عبدالله فقيه (بشير‪ ،2009 ،‬ص‪.)67‬‬

‫وقد نشأت في تلك الحقبة إذاعات أهلية لعل أشهرها‬

‫«إذاعة طامي» في الرياض لصاحبها عبدالله الطامي (‪-1921‬‬

‫‪2000‬م)‪ ،‬وإذاعة في الدمام لعبدالله الشعالن‪ ،‬وعلى الرغم من‬ ‫أن إذاعة جدة قد أسّ ست عام ‪1949‬م إال أن «إذاعة طامي» ّ‬ ‫تمكنت‬

‫من نقل األخبار السياسية واالجتماعية‪ ،‬وبث األغنيات‪ ،‬وبخاصة‬ ‫تسجيالت األسطوانات رغم منعها من البث في اإلذاعة الرسمية‬

‫قبل افتتاح إذاعة الرياض (‪1964‬م)‪.‬‬

‫المرحلة الثانية‪ -‬انطالق الفنانين واإلذاعة الرسمية‬

‫يشير المؤرخ‪ ،‬محمد علي مغربي‪ ،‬في كتابه «مالمح من‬

‫الحياة االجتماعية في الحجاز في القرن الرابع عشر الهجري»‬

‫(‪1982‬م) إلى مسألة اجتماعية تختص بتحول في تقاليد تصاحب‬

‫فنون األداء والقول والحركة‪« :‬كان هناك من يمارس ذلك النوع‬ ‫من الترويح ولكن في السر وبعيدً ا عن العيون واآلذان في أقبية‬

‫البيوت‪ ،‬أو في األماكن المكتومة التي ال تظهر فيها أصوات آالت‬ ‫الطرب‪ ،‬أو في الخالء بعيدً ا عن العمران»‪.‬‬

‫برغم أن جهاز الغرامافون (أو صندوق الغناء) أتيح نهاية‬ ‫األربعينيات تهريبًا إال أنه لم يسمح به رسم ًّيا حتى عام ‪1961‬م‪.‬‬

‫ولعلنا نعد إنشاء وزارة الدفاع السعودية لمدرسة موسيقات‬ ‫ً‬ ‫حدثا بار ًزا حين عاد من‬ ‫الجيش العربي السعودي عام ‪1953‬م‬

‫دراسته في القاهرة وترأسها طارق عبدالحكيم‪ ،‬وحددت أهدافها‪:‬‬ ‫أولاً ‪ -‬تقديم التحية العسكرية (السالم الملكي السعودي)‪ .‬ثانيًا‪-‬‬ ‫الترفيه عن الضباط وصف الضباط والجنود‪.‬‬

‫طالل مداح‬

‫نشأت «إذاعة طامي» في الرياض‪،‬‬ ‫وإذاعة في الدمام لعبدالله الشعالن‪،‬‬ ‫وعلى الرغم من أن إذاعة جدة قد‬ ‫أسست عام ‪1949‬م إال أن «إذاعة طامي»‬ ‫ّ‬ ‫تم ّكنت من نقل األخبار السياسية‬

‫‪27‬‬

‫واالجتماعية وبث األغنيات‪ ،‬وبخاصة‬ ‫تسجيالت األسطوانات بالرغم من منعها‬ ‫من البث في اإلذاعة الرسمية‬ ‫ّ‬ ‫وكلف‬ ‫قيدت أنشطتها في المناسبات الوطنية واألعياد‪،‬‬

‫وزير اإلعالم عبدالله بالخير عبد الحكيم أن يكوِّن فرقة اإلذاعة‬ ‫عام ‪1961‬م لتكون نواة لعمل أستوديوهات اإلذاعة ودعم األغنية‬ ‫الناشئة آنذاك‪ .‬خالل هذه الحقبة سوف تعرف أصوات كثيرة‬

‫بعضها ألول مرة يظهر مثل غازي علي وطالل مداح وجميل‬

‫محمود‪ ،‬وبعضها انتقل إليها من مرحلة الغناء في السهرات‬ ‫واألعراس‪ ،‬مثل‪ :‬محمود حلواني‪ ،‬ومحمد علي سندي‪ ،‬وعبدالله‬

‫محمد‪ ،‬وفوزي محسون‪ .‬كما أنه وضع مؤلفات تعليمية تخص‬

‫الموسيقا العسكرية‪ ،‬مثل‪« :‬دليل العازفين الموسيقيين‬ ‫ً‬ ‫وحديثا»‪.‬‬ ‫العسكريين»‪ ،‬و«تاريخ الموسيقا العسكرية قديمً ا‬ ‫المرحلة الثالثة‪ -‬انتشار األغنية السعودية‬

‫ونورد شهادة لعبدالرحمن اللهبي (عازف كمان هاو) أدرجها‬

‫ضمن مذكراته «رجال الطرب الحجازي» (‪2009‬م)‪ ،‬فيقول عن‬ ‫الفنان طالل مداح أحد رموز هذه المرحلة‪:‬‬ ‫سعيد أبو خشبة‬

‫«وخرج صاحبي في عام ‪1380‬هـ (‪1960‬م) في حفلة من‬

‫ملف العدد‬


‫الحفالت التي تقام للملك سعود‪ ،‬وغنى‬

‫تطوير األغنية السعودية‪ ،‬ووضعها على قدم‬

‫على تلحينها عبدالله محمد والريس‪ ،‬وقد‬

‫قوية في القاهرة وبيروت والكويت من خالل‬

‫أولى أغانيه (وردك يا زارع الورد) وقد عمل‬ ‫صاحبه الريس محمد على الكمان‪ ،‬وحامد‬

‫فقيه على اإليقاع‪ ،‬وكانت ليلة انطالقه‬ ‫وشهرته»‪.‬‬

‫المساواة والغناء العربي آنذاك في منافسة‬

‫نقالت مهمة في تجربته «وردك يا زارع الورد»‬ ‫(‪1960‬م)‪ ،‬ثم بداية األغنية الطاللية «عطني‬

‫المحبة» (‪1968‬م)‪ ،‬ثم حقبة الرومانسية‬

‫وقد شهدت هذه المرحلة تكريس‬

‫الجديدة أغاني مسلسل «األصيل» (‪1973‬م)‪،‬‬

‫واألسطوانات حين أسّ س طالل مداح‬

‫وتعزيزها بأعمال شهيرة بين عامي ‪– 1976‬‬

‫انطالقة األغنية الجديدة من بعد المسرح‬ ‫ولطفي زيني والشاعر المنتظر شركة «رياض‬

‫فون» مطلع الستينيات‪ ،‬واستطاع مداح أن يقدم تجربة الفتة في‬

‫مشاكل تواجه التراث الموسيقي وتاريخ‬ ‫األغنية؛ أولاً ‪ -‬إهمال التوثيق واألرشفة‬ ‫ثانيا‪ -‬انعدام التربية والتثقيف‬ ‫والصيانة‪.‬‬ ‫ً‬ ‫الموسيقي للداخل والخارج‬

‫‪28‬‬

‫وهي حقبة تعاونه مع الملحن سراج عمر‪،‬‬ ‫محمد عبده ‪1978‬م «مقادير‪ ،‬وأغراب‪ ،‬والموعد الثاني‪،‬‬

‫وال تقول ال تقول» كما أسهم في هذه االنعطافة شعراء طوروا‬

‫شكل الكتابة الشعرية الغنائية مثل‪ :‬إبراهيم خفاجي‪ ،‬وبدر بن‬ ‫عبدالمحسن ومحمد العبدالله الفيصل‪.‬‬

‫شهدت هذه الحقبة انطالقة محمد عبده‪ ،‬وسعد إبراهيم‪،‬‬

‫وعودة سعيد‪ ،‬وقدم دعم طالل مداح من خالل شركته أسماء‬

‫كثيرة مثل‪ :‬عبادي الجوهر‪ ،‬وإبتسام لطفي‪ ،‬وعتاب‪ ،‬وحيدر‬

‫فكري‪ ،‬وسالمة‪ ،‬ويسرى البدوية‪ ،‬وهدى مداح؛ إذ كان حضور‬ ‫المرأة في تأليف األغاني والغناء والعزف الف ًتا بشكل متواز مع‬

‫إستراتيجية الذاكرة المستمرة‬ ‫يجب التنبه إلى ما يواجه اإلنتاج الثقافي من مخاطر‬

‫التلف والفقد‪ ،‬وتقديم مقترحات تتيح له عمرًا أطول لتكوين‬

‫ذاكرة األجيال المستقبلية‪.‬‬

‫ويمكن أن نضع هذا السؤال‪ :‬ما هي المشاكل التي تواجه‬

‫التراث الموسيقي (أو الفنون الشعبية) وتاريخ األغنية؟‬ ‫أولاً ‪ -‬إهمال التوثيق واألرشفة والصيانة‪ .‬ثانيًا‪ -‬انعدام‬

‫والفنون‪ ،‬وتشغيل لجان متعددة لحصر وتوثيق الفنون‪،‬‬

‫وتطوير برامج تعليمية وتثقيفية‪ ،‬وتوفير صاالت عروض‪،‬‬ ‫وبناء أستوديوهات تسجيل‪ ،‬وتأسيس فرق لكل إقليم‬ ‫بحسب الفنون ومناسباتها‪.‬‬

‫ويمكن حصر نقاط محددة للدعم األساسي على النحو‬ ‫اآلتي‪ :‬أولاً ‪ -‬مركز دراسات لفنون األداء‪ :‬الغناء والرقصات‬

‫التربية والتثقيف الموسيقي للداخل والخارج‪ً .‬‬ ‫ثالثا‪ -‬انعدام‬

‫والنصوص واأللبسة‪ .‬ثانيًا‪ -‬إنشاء بيوت ألداء الفنون الشعبية‬ ‫في كل منطقة‪ً .‬‬ ‫ثالثا‪ -‬تأسيس متاحف لحفظ األسطوانات‬

‫المستمرة» حيث تتمثل في دعم مشترك بين أكثر من جهة‬

‫خامسا‪ -‬تشجيع تأليف الكتب المتخصصة‬ ‫وتفعيلها إلكترونيًّا‪.‬‬ ‫ً‬

‫حفظ حقوق المؤلف عبر وسائل التداول التجاري‪.‬‬

‫إذن ال بد من وضع ما أطلق عليه «إستراتيجية الذاكرة‬

‫واآلالت الموسيقية‪ .‬رابعً ا‪ -‬وضع موسوعة شاملة للفنون‬

‫وقطاع‪ ،‬وهي مهمة وطنية واجبة تتصل بمهمة حضارية‬

‫سادسا‪ -‬إتاحة‬ ‫في الفنون والسير الذاتية لمبدعي الفنون‪.‬‬ ‫ً‬

‫إنسانية شاملة؛ إذ يتوجب وفق المسؤولية االجتماعية التنبه‬ ‫إلى الحفاظ على «التراث الوطني» –والفنون األدائية فرع منه‪-‬‬

‫بوصفه همًّ ا مجتمعيًّا يقوم على جهود الطبقات والفئات قبل‬

‫المؤسسات والمنظمات وما في حكمهما‪:‬‬ ‫الدعم األساسي‬

‫يمكن أن تدعم الفنون بإنشاء مؤسسات أو مراكز‬

‫دراسات أو تأسيس أقسام بحثية في جمعيات الثقافة‬

‫العددان ‪ 478 - 477‬شوال ‪ -‬ذو القعدة ‪1437‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬أغسطس ‪2016‬م‬

‫تسجيالت اإلذاعة والتلفزيون للباحثين والدارسين والمؤرخين‬ ‫إلكترونيًّا‪ .‬سابعً ا‪ ،‬إصدار سلسلة ثابتة‪ :‬كتب وأسطوانات‪.‬‬

‫وهي ممكنة حين تجدول حسب اإلمكانيات والخطط‬

‫ذات التدرج الزمني‪ ،‬مع استثمار خبرات القطاعات المختلفة‬

‫تحت مظلة «المسؤولية االجتماعية» التي تتضامن مع ذات‬

‫االختصاص‪ .‬إن مشروع التحول الوطني لهو قادر على احتواء‬ ‫االحتياجات األساسية إلنشاء ودعم الذاكرة المستمرة‪ ،‬وهذا‬

‫هو األمل؛ لنعمل جهدنا ليتحقق‪.‬‬


‫الرجل سواء عند ذوي المرجعية البدوية أو‬

‫حيث إثبات الجدارة بمعايير تشابه صعوبات‬

‫الحضرية‪.‬‬

‫مطلع القرن العشرين‪ ،‬وال تغفل التطور الفني‬

‫المرحلة الرابعة‪ -‬عولمة الغناء العربي‬

‫وأساليبه بموازاة التطور التقني وسرعة ابتكاراته‬

‫بدأت بوادر هذه المرحلة في النصف الثاني‬

‫وتنوعها في الحجم والوظيفة والخدمة‪.‬‬

‫من التسعينيات (نهاية القرن العشرين)؛ إذ‬

‫وعلى الرغم من أن أزمة الملحن دائمة‬

‫دخلت صناعة الكاسيت مرحلة النهاية بظهور‬

‫في نقصانه مثل الشعراء المجددين غير أن‬

‫الشبكة اإللكترونية‪ ،‬وخدمة تحميل وتداول‬

‫الحناجر‪ ،‬مع شركات اإلنتاج‪ ،‬تأخذها رغبة‬

‫األعمال الفنية رقميًّا بوصفها مادة إعالمية‬

‫عتاب‬

‫بالرغم من ظهور صناعة األسطوانة الرقمية إال‬

‫أنها لم تستطع أن تصمد‪.‬‬

‫المنافسة في التفرد بأعمال ولو بمستويات‬ ‫متفاوتة دفعت إلى ضخ كمية من األلحان‬

‫التي كانت تعبأ في أشرطة الكاسيت ما بين أربع أغنيات وعشر‬

‫غير أن الفضائيات شكلت فرصة كبيرة لتحقيق االنتشار ألي‬

‫أغنيات‪ ،‬ثم انتقلت مع األسطوانات الرقمية نحو خمس عشرة‬

‫تكريس األسماء الجديدة وإعادة تلميع األسماء المخضرمة‪ .‬وقد‬

‫منفردة‪ ،‬وال تسلم من هدر الحقوق في النقل والتداول‪ .‬ولكن‬

‫أخرى أن يكسر سلطة جهاز التحكم عن بعد وسلطة نظام برامج‬

‫والكاسيت‪ ،‬واألسطوانة الرقمية) ووسائط النقل التقني (الجوال‪،‬‬

‫مغنٍّ أو مغنية‪ .‬وأسهم تصوير األغنيات أو نقل بث الحفالت في‬

‫استطاع موقع اليوتيوب وما يماثله أو يعتمد على خدمته من مواقع‬

‫الفضائيات وعناء االنتظار والتوقع مكرسً ا طواعية مارد المصباح‬ ‫السحري‪ ،‬فأمسى حقيقة المصباح اإللكتروني‪ .‬ظهرت في هذه‬

‫الحقبة أسماء جديدة مثل‪ :‬راشد الماجد‪ ،‬وراشد الفارس‪ ،‬ووعد‪،‬‬ ‫وجواد العلي‪ ،‬وعباس إبراهيم‪ ،‬وأسيل العمران‪ .‬ودعمت حناجر‬

‫عربية في هذه المرحلة وبرز منهن أنغام وذكرى وأصالة ويارا ومنى‬ ‫أمرشة‪.‬‬

‫وتكشف هذه الحقبة عن تحول في مسار التجربة الفنية من‬

‫أغنية‪ ،‬ومن ثم خضعت لمنطق الوضع المتغير بإصدار أغنية‬ ‫تطور صناعة وسائل التداول (األسطوانات البالستيكية والنايلون‪،‬‬ ‫الالب توب‪ ،‬اآلي بود‪ ،‬اآلي باد‪ ،‬اآلي تونز) ومواقع التداول المتنوعة‬

‫مثل‪( :‬اليوتيوب‪ ،‬والساوند كالود) دفع بعملية تسهيل الحصول‬ ‫على العمل الفني في أي لحظة‪ ،‬ونقله وحفظه مع خطورة هدر‬ ‫ً‬ ‫وموزعا ومنتجً ا) في العالم‬ ‫حقوق المؤلف (شاع ًرا‪ ،‬وملح ًنا‪ ،‬ومغنيًا‬

‫العربي؛ وهو ما يسهم في تفاقم مشاكل ينبغي مواجهتها بالتعاون‬ ‫مع مختلف المعنيين بشكل جدي‪.‬‬

‫عبادي الجوهر‬

‫راشد الماجد‬

‫‪29‬‬

‫رابح صقر‬

‫عبدالمجيد عبدالله‬

‫ملف العدد‬


‫الحاجة إلى ثقافة‬ ‫موسيقية فكرية فلسفية‬ ‫جاء في الحديث «إن الله جميل يحب الجمال»‪ .‬لقد دعا الله سبحانه‬ ‫وتعالى اإلنسان إلى التدبر فيما يحيط به من بديع الخلق وجميل الصنع‪.‬‬

‫ذلك أن مُ نشئ هذا اإلبداع والجمال وهذا الصنع والنظم هو الله عز وجل‪.‬‬

‫خليل المويل‬ ‫باحث في علم الصوت والموسيقا‬

‫إن التعاليم السماوية تتالءم مع الخصائص الجسدية والروحية لإلنسان‪،‬‬ ‫ً‬ ‫وإن حب الجمال –بشهادة علماء النفس‪ّ -‬‬ ‫واحدا من األبعاد الروحية‬ ‫يعد‬ ‫المودعة في اإلنسان‪ ،‬والله هو الذي أودع في وجودنا حب الجمال‬

‫لنستدل به عليه‪.‬‬

‫‪30‬‬

‫العددان ‪ 478 - 477‬شوال ‪ -‬ذو القعدة ‪1437‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬أغسطس ‪2016‬م‬


‫إن الموسيقا واإلنشاد «الغناء» كالهما أبرز وأكمل‬

‫مصاديق الجمال ومظاهره؛ إذ تجد تأثيرهما العميق في‬ ‫كل إنسان أيًّا كان انتماؤه أو عقيدته‪ ،‬وأيًّا كان سنه وثقافته‬

‫وجنسه‪ ،‬وبشكل ال يمكن إنكاره أو توصيفه‪.‬‬

‫واإلسالم يحث على تالوة القرآن الكريم بصوت حسن‪،‬‬

‫كما ورد في األحاديث‪.‬‬

‫على الرغم من ذلك‪ ،‬فإن السالطين في العصور الماضية‬

‫من الدولة اإلسالمية‪ ،‬قد عمدوا إلى توظيف الغناء والموسيقا‬ ‫في مجالس اللهو؛ إذ كانوا ينفقون أموالاً طائلة على‬

‫الموسيقيين والمطربين‪ ،‬وهذا ما يذكره الكثير من المؤرخين‬

‫ً‬ ‫وخصوصا أبا الفرج األصفهاني في كتابه «األغاني»‬ ‫في كتبهم‪.‬‬

‫ًّ‬ ‫خاصا بموضوع الغناء والعازفين والشعر‬ ‫الذي يعدّ كتابًا‬

‫واألدب‪.‬‬

‫وفي عصرنا الراهن يتم التعاطي مع مقولة الموسيقا‬

‫والغناء بمختلف األشكال واألهداف‪ .‬وهذه األنواع المختلفة‬ ‫ً‬ ‫أحيانا إلى تخدير روح اإلنسان وجميع جوارحه‪ ،‬وتعمل‬ ‫تؤدي‬ ‫على توظيفها واستخدامها في األهواء والشهوات‪.‬‬

‫من هنا‪ ،‬ومن هذا االختالف جاءت ردود فعل في تحريم‬

‫الموسيقا والغناء‪ ،‬واختالف رجال الدين حول هذا الموضوع‬ ‫الحساس‪ .‬فمنهم من رأى أن الموسيقا أداة كسائر األدوات‬

‫األخرى كالحاسب اآللي‪ ،‬والراديو‪ ،‬والتلفاز‪ ،‬أو شبكة‬

‫اإلنترنت‪ ،‬لها أبعاد أخرى مختلفة ومتعددة‪ .‬فيمكن توظيفها‬ ‫ّ‬ ‫والمضلة‪ ،‬وتسفيه األحالم وإهدار‬ ‫في إطار األهداف الهدامة‬

‫غالف المجلد السابع عشر من نسخة أبي الفرج األصفهاني في كتاب األغاني‪،‬‬ ‫كتب في الموصل سنة ‪610‬هـ ‪1219 /‬م‪ ,‬محفوظ في إسطنبول‪.‬‬

‫وتمسك أفالطون بالرأي القائل‪ :‬إن الموسيقا ينبغي أن‬

‫تكون وسيلة من وسائل دعم الفضيلة واألخالق‪ ،‬وكان يرى أن‬

‫الموسيقا أرفع من الفنون األخرى على أساس أن تأثير اإليقاع‬ ‫واللحن في الروح الباطنة لإلنسان وفي حياته االنفعالية أقوى‬

‫طاقة الشباب الفاعلة في المجتمع‪ .‬كما يمكن االستفادة منها‬

‫من تأثير العمارة أو النحت‪ ،‬وهكذا فإن الطفل الذي يستمع‬

‫وخلق الحوافز والدوافع الروحية والعاطفية في المسار‬

‫يشعر عادات وقدرات مرهفة تتيح له تمييز الخير من الشر‪.‬‬

‫في بلوغ األهداف السامية من قبيل ترويج العلم والفكر‪،‬‬ ‫الصحيح‪.‬‬

‫الموسيقا واألخالق‬

‫إلى المقامات الموسيقية المناسبة تنمو لديه من دون أن‬ ‫وقد اتفق أرسطو مع أستاذه أفالطون في هذا الرأي‪،‬‬

‫وذهب إلى أن مفعول الموسيقا في إثارة االنفعاالت النفسية‬

‫كما يتفق مع هذا الرأي الفالسفة القدماء؛ إذ كان‬

‫يماثل الدواء في شفاء الجسد‪ ،‬ومن ثم أثار أرسطو أفكارًا‬

‫تستخدم من أجل تحقيق األخالق الصالحة‪ ،‬وأكد التأثيرات‬

‫قدرة التعبير التي تنطوي في األنغام واإليقاعات وتحدث‬

‫الفيلسوف اليوناني أفالطون يرى أن الموسيقا ينبغي أن‬

‫األخالقية للموسيقا‪ ،‬ودعا إلى استبعاد بعض المقامات‬ ‫مثل‪ »lonian« :‬و«‪ »Lydian‬من الدولة؛ ألن فيهما ميوعة‬

‫تبعث على االنحالل في األخالق‪ .‬أما المقامان ‪»»Dorian‬‬ ‫و«‪ »Phrygian‬اللذان يتميزان بروح عسكرية فمن الواجب‬

‫الحث على استخدامهما‪ .‬فهو يرى أن للمقامات اليونانية‬ ‫صفات أخالقية‪.‬‬

‫‪31‬‬

‫انشغل بها فالسفة الجمال المحدثون‪ ،‬حينما تساءل عن‬

‫هدوءً ا واستقرارًا عجيبين في النفس‪.‬‬

‫ً‬ ‫ارتباطا‬ ‫من هنا نعتقد أن الصوت والموسيقا يرتبطان‬

‫قويًّا بأخالق الفرد؛ ألنهما يؤثران في تصرفاته وفي أعصابه‪،‬‬

‫فاإلنسان مكون عصبي‪ ،‬يتأثر بما يسمع وبما يرى‪ .‬قال روبرت‬

‫شومان‪« :‬إذا أردت أن تعرف أخالق الشعوب استمع إلى‬ ‫موسيقاها»‪.‬‬

‫ملف العدد‬


‫من هنا أعتقد أن علينا النظر إلى ما ننتج من موسيقا في‬

‫إن مشكلتنا الحقيقية تكمن في عدم وجود ثقافة موسيقية‬

‫لشعوبنا‪ .‬فمنطقتنا عريقة بفنونها وفكرها وموروثها النغمي‬

‫تليق به‪ ،‬ونقدمه إلى العالم‪ .‬لذلك نحتاج إلى دورات تثقيفية بهذا‬

‫بالدنا‪ ،‬وعلينا أن نهتم بنوعية األعمال الموسيقية التي نقدمها‬ ‫الذي يعكس ثقافة المجتمع عبر العصور‪.‬‬ ‫ليس لدينا موسيقيون مثقفون‬

‫لدينا كم هائل من المهتمين في المجال الموسيقي‪،‬‬

‫ولدينا كم هائل من المهتمين بتعلم العزف على اآلالت‬

‫الموسيقية‪ ،‬ولكن هل يوجد مثقفون موسيقيون؟ هل يوجد‬ ‫من هو مهتم بالفكر والفلسفة من وراء الموسيقا؟!‬

‫العلم وهذا الفن الجميل؛ كي نرفع من المستوى الفني لإلنتاج‬ ‫الموسيقي‪ .‬وذلك باستقطاب العلماء والمفكرين المختصين؛‬

‫كي يقودوا مسيرة االرتقاء بهذا الفن إلى مستويات عليا‪.‬‬

‫قال لي أحد الموسيقيين العراقيين‪ ،‬أستاذ موسيقي في‬

‫النمسا‪« :‬نحن العرب متخلفون ‪ ٦٠٠‬عام عما وصل إليه العالم‬

‫في مجال علم الموسيقا»‪.‬‬

‫فهل باإلمكان تقليل هذه الفجوة التاريخية‪.‬‬

‫معرفتنا بالموسيقا سطحية جدًّ ا نستخدمها للترفيه‬

‫لو تحدثت من خالل تجربتي الموسيقية كمنشد ديني‬

‫بشك»؛ ما أدى إلى هذا اإلنتاج الركيك في األعمال‬

‫موسيقيين كبار من وطننا العربي‪ ،‬وكباحث يدرس للطالب‪،‬‬

‫والتسلية‪ ،‬ونعدّ الموسيقا لالستراحات وأغاني «الهشك‬ ‫الموسيقية واإلنشادية والغنائية والفنية بشكل عام في شتى‬ ‫مجاالت الفنون‪.‬‬

‫مشكلتنا الحقيقية تكمن في عدم‬ ‫وجود ثقافة موسيقية فكرية فلسفية‬

‫‪32‬‬

‫فكرية فلسفية علمية‪ ،‬تؤهلنا لتقديم موروثنا المحلي بطريقة‬

‫علمية‪ ،‬تؤهلنا لتقديم موروثنا المحلي‬ ‫بطريقة تليق به‪ ،‬ونقدمه إلى العالم‬

‫العددان ‪ 478 - 477‬شوال ‪ -‬ذو القعدة ‪1437‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬أغسطس ‪2016‬م‬

‫عشق علم المقامات الموسيقية؛ إذ تعلمتها على أيدي‬ ‫فسأقول‪ :‬إن الكثير من هؤالء الطالب الذين أدرس لهم جاء‬ ‫ليتعلم وهو جازم أن الموسيقا ليست علمً ا إنما فقط للتسلية‪،‬‬

‫وأنها حرام سيتوب منها بعد ترك نزوته هذه‪ .‬ولكن عندما‬

‫يجلس معي بعض هؤالء‪ ،‬وندخل في نقاش تتغير أفكاره‬ ‫تدريجيًّا‪ ،‬ألنه أصبح يرى الزاوية األخرى من هذا العلم الجميل‪.‬‬

‫وما حدث أن بعضهم ترك االعتقاد بأنها فقط للهو والمجون‪،‬‬

‫وبدأ يتعلم الموسيقا على أصولها العلمية الصحيحة‪ ،‬ثم‬ ‫أصبح «منشدً ا» ينشد األلحان الوجدانية والتأملية التي تقربنا‬ ‫إلى خالق هذا الكون الرائع‪.‬‬


‫‪33‬‬

‫ملف العدد‬


‫نهضة موسيقية‬ ‫في الستينيات‬ ‫الموسيقا منذ القدم شيء أصيل في الجزيرة العربية وفي ثقافتها‪ ،‬وقبل أن نتحدث‬

‫عن الموسيقا في المملكة يجب أن نعرف أن الموسيقا هي ميزة تجمع كل الشعوب‪،‬‬ ‫ومن يريد أن ينفي الموسيقا من حياة الشعب السعودي هو كمن ينفي حاجة أساسية‬

‫في غريزة اإلنسان والمجتمع الطبيعية‪.‬‬

‫لقد نشأنا على الموسيقا في طفولتنا‪ ،‬بل إن الحجاز والخليج كانا يحتضنان الموسيقا‬

‫من العهد العباسي‪ ،‬وما زلنا نسمع هذه اإليقاعات حتى اليوم مثل السامري‪ .‬لم تكن‬

‫الموسيقا مرهونة في المملكة بعهد الستينيات من القرن الميالدي المنصرم فقط‬ ‫عندما ظهرت األسطوانة‪ ،‬إنما كانت قبل ذلك بقرون متأصلة في تاريخ الجزيرة العربية‪.‬‬

‫‪34‬‬

‫محمد العثيم‬ ‫كاتب مسرحي‬

‫العددان ‪ 478 - 477‬شوال ‪ -‬ذو القعدة ‪1437‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬أغسطس ‪2016‬م‬


‫كانت‬

‫الموسيقا‬

‫في‬

‫المملكة‬

‫خالل‬

‫ً‬ ‫خصوصا‬ ‫الستينيات تحظى ببيئة حاضنة لها‪،‬‬

‫في مكة والرياض‪ ،‬وهي ما كانت تعرف بأسواق‬ ‫األسطوانة‪ ،‬وكان هناك من يقتني هذا التسجيل‬

‫الغنائي‪ ،‬ويتخذ منه مهنة أساسية له في ذلك‬

‫الوقت‪ ،‬وعلى سبيل المثال تسجيالت «سالمة‬ ‫القديمة» وكانت تتداول وكان المجتمع آنذاك‬ ‫ً‬ ‫مثقفا موسيقيًّا‪ ،‬فلقد كان أغلب الناس يعرفون‬ ‫ً‬ ‫إبداعا‬ ‫النغم‪ ،‬ويعرفون اإليقاع‪ ،‬ويبدعون في ذلك‬

‫كبي ًرا‪ ،‬ولم يكن هناك أي حالة إنكار أو محاربة‬ ‫للموسيقا بل كانت أشبه بالظاهرة المعروفة لدى‬

‫الجميع في المجتمع‪ ،‬ومن كان ال يريد الموسيقا‬ ‫كل ما عليه ألاّ يستمع لها من دون أن يؤذي أحدً ا‪.‬‬ ‫أما اآلن فأنت تريد الموسيقا واآلخر ال يريد‬

‫الموسيقا بسبب أيديولوجية فكرية معينة‪،‬‬ ‫ويفرض اآلخر عليك ألاّ تستمع بدلاً من أن يترك‬ ‫ذلك الخيار لك‪.‬‬

‫في حقبة الستينيات كانت صور كل من يغني‬

‫تكسو األسطوانات المباعة وواجهات المحالت‪.‬‬

‫حجاب بن نحيت‬

‫وعندما ظهر مسرح التلفزيون أتى للرياض شباب‬

‫الحجاز الذين يمتهنون الغناء مثل‪ :‬طالل مداح‪،‬‬

‫ومحمد عبده‪ ،‬وحجاب بن نحيت‪ ،‬وطارق عبدالحكيم‪،‬‬

‫وآخرون‪ .‬وكانوا يتغنون على مسارح الرياض العامة‪ ،‬ولم‬

‫يكن هناك أي مشكلة‪ ،‬ولم تكن هناك أية صعوبة في إعالنها‪.‬‬ ‫الصحوة تمسك بزمام األمور‬

‫لكن في حقبة الثمانينيات أخذت الصحوة زمام األمور‪،‬‬

‫ليبدأ رفض الموسيقا ينمو في داخل المشهد االجتماعي‬

‫حتى إننا ما زلنا نعانيه حتى اآلن؛ بسبب تلك األفكار التي‬ ‫ّ‬ ‫تمت للمنطق وال لحس اإلنسان ورغبته في‬ ‫تم تسريبها وال‬

‫الجمال‪.‬‬

‫لقد أنشأت تلك األفكار اعتقادًا لدى جيل بأكمله ‪-‬بعد أن‬

‫كانت األجيال السابقة متصالحة معها‪ -‬بأن الموسيقا حرام‬

‫وبشكل قطعي ال يقبل الجدال‪ ،‬من دون معرفة أن هناك‬ ‫ً‬ ‫خالفا‪ ،‬ومع ذلك فأولئك الذين روّجوا لرفض الموسيقا وهم‬ ‫الصحوة‪ ،‬استخدموا الموسيقا ومقاماتها كوسيلة لترويج‬

‫أفكارهم مثل‪ :‬األناشيد القائمة في حقيقتها على المقامات‬ ‫الموسيقية‪.‬‬

‫لألسف لم يعرف العالم ثقافتنا؛ ألننا ظلمنا أهم جزء‬

‫فيها وهو الموسيقا تحت اسم الخصوصية الثقافية‪ ،‬وكأن‬ ‫خصوصيتنا الثقافية تتعارض مع الموسيقا التي هي في‬ ‫حقيقتها مطلب بشري للجميع‪ .‬لدينا تاريخ موسيقي تم‬ ‫تهميشه مثل «فرقة التلفزيون»‪ ،‬وعلى ما أعتقد أن مكتبة‬

‫كانت الموسيقا خالل الستينيات تحظى‬

‫الملك عبدالعزيز بالرياض ما زالت تحتفظ ببعض أعمالها‪،‬‬

‫بأسواق األسطوانة‪ ،‬وكان هناك من‬

‫التاريخية المهمة‪ .‬باختصار الموسيقا في المملكة قديمً ا‬

‫ببيئة حاضنة لها‪ ،‬وهي ما كانت تعرف‬ ‫يقتني هذا التسجيل الغنائي ويتخذ‬ ‫منه مهنة أساسية له‬

‫‪35‬‬

‫وببعض األسطوانات القديمة‪ ،‬كتدوين لتلك المرحلة‬ ‫كانت حاضرة بقوة أمام الجميع على مستوى أسواقها‬

‫ومسارحها ومن يمتهنون الغناء‪ .‬لقد كان عهد الستينيات‬ ‫هو عهد الموسيقا‪.‬‬

‫ملف العدد‬


‫المواقف المتشددة من‬ ‫الموسيقا فجرت حالاً من التناقض‬ ‫تحريم من ناحية وانتشار مذهل‬ ‫لألغنية من ناحية أخرى‬ ‫في أغسطس عام ‪2000‬م استيقظت الساحة الغنائية والموسيقية في الوطن‬ ‫العربي على فقد هرم فني مخضرم هو الفنان طالل مداح‪ ،‬وذلك أثناء تأديته‬

‫وصلة غنائية على مسرح المفتاحة في أبها جنوب السعودية‪ .‬محبو الفنان‬ ‫وضعوا سرادقات العزاء وتهافتوا عليها من أجل المواساة‪ ،‬فطالل كان أ ًبا‬

‫روحيًّا لهم ومعلمً ا ألجيال متالحقة في هذا المجال‪ .‬وأطلق المعزون دعوة‬

‫‪36‬‬

‫عبدالله الدحيالن‬ ‫الدمام‬

‫إلى تحويل اسم المسرح الذي شهد وفاته إلى «مسرح الفنان طالل مداح»‬

‫ً‬ ‫تخليدا لذكراه‪ ،‬فيما تضاءلت طموحات اآلخرين بالدعوة إلى تسمية أحد‬

‫الشوارع الرئيسية باسمه‪ .‬وبعد مرور ‪ 16‬عامً ا من رحيله‪ ،‬لم يتحقق شيء‬ ‫من هاتين األمنيتين‪.‬‬

‫في الضفة األخرى من المجتمع‪ ،‬تحولت وفاة مغنٍّ وهو‬

‫يحضن عوده على مسرح‪ ،‬إلى فرصة مناسبة إلصدار عشرات‬

‫المحاضرات والخطب الوعظية‪ ،‬التي جعلت من تلك الوفاة‬

‫«سوء خاتمة»؛ إذ تنظر تلك المجموعات إلى الفن والغناء‬ ‫على أنهما ضمن الممارسات المحرمة‪ ،‬ومن يمارسهما‬

‫مرتكب ألثم يعاقب عليه‪ .‬وشهدت تلك الحقبة تجديد‬ ‫الدعوة إلى تحريم الغناء‪ ،‬عبر إعادة نشر فتاوى التحريم‬ ‫من عدد من الشرعيين‪ ،‬بل والذهاب إلى أبعد من ذلك وهو‬

‫السعي إلى إيقاف إقامة المهرجانات الغنائية في السعودية‪.‬‬

‫عندما تكون تهمتك «موسيقا»‬

‫في أحد أزقة مخطط ثمانية‪ ،‬وهو أحد األحياء القديمة‬

‫في مدينة الدمام على ساحل الخليج العربي‪ ،‬يتحدث‬ ‫عبدالرحمن عن والده «حمد أبو راس» الذي رحل عن‬

‫ً‬ ‫شخصا‬ ‫الحياة قبل تسع سنوات‪ ،‬ولم يكن ذائع الصيت أو‬ ‫الف ًتا لألنظار‪ ،‬ولكن ما تعرض له في نهاية عام ‪1997‬م جعله‬

‫محط أنظار سكان الحي الذي سرعان ما هجره إلى مقر‬ ‫سكني آخر؛ إذ وقعت حادثة مؤلمة عندما كان االبن يبلغ‬ ‫من العمر سبع سنوات‪.‬‬

‫ويرى مراقبون أن المثال في األعلى يختصر المشهد‬

‫فبعد صالة العشاء ذات يوم وجدت األسرة األب ملقى‬

‫للفنون وتسعى إلى استعادة أمجاد حقبة ما قبل نهاية‬

‫مبرح من أشخاص يجهل هويتهم‪ ،‬والذين حرصوا على أن‬

‫الفني بمجمله في السعودية‪ .‬فهناك فئة متعطشة‬

‫السبعينيات الميالدية من القرن الماضي‪ ،‬ولكن دائمً ا ما‬

‫يجدون أنفسهم يالحقون سرابًا ووعدً ا ال تجد من يوفيه‪.‬‬ ‫وهناك مجموعات متشددة أُعطيت المجال على مصراعيه‬ ‫فوجدت نفسها حارسة للتشريع‪.‬‬

‫العددان ‪ 478 - 477‬شوال ‪ -‬ذو القعدة ‪1437‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬أغسطس ‪2016‬م‬

‫على باب بيتهم وهو مضمخ بدمائه بعد أن تعرض لضرب‬

‫يؤكدوا له أن الداعي لـ«تأديبه» بهذه الطريقة رأي أدلى به‬ ‫في عدد من المجالس‪ ،‬كان مختصر رأيه أن األغاني حالل‬

‫ً‬ ‫شرعا وليست محرمة‪ ،‬وأن من يحرم الغناء جاهل وليس‬ ‫لديه أي علم أو فقه‪ .‬يروي االبن عن أبيه أنه قال له بعد‬


‫‪37‬‬

‫تحولت وفاة طالل مداح وهو يحضن‬ ‫عوده على مسرح المفتاحة‪ ،‬إلى فرصة‬ ‫إلصدار عشرات المحاضرات والخطب‬ ‫الوعظية‪ ،‬التي جعلت من تلك الوفاة‬ ‫«سوء خاتمة»‬

‫أشهرهم على المستوى المحلي كان الشيخ عادل الكلباني‪،‬‬

‫الذي كان إمامً ا للمسجد الحرام؛ إذ ذكر في حوار صحافي‬

‫معه أنه ال يوجد دليل في القرآن أو السنة النبوية يقضي‬ ‫بتحريم الغناء‪ ،‬معل ًنا أن الغناء حالل جملة وتفصيلاً‬ ‫وبأي صوت كان حتى بالمعازف‪ .‬ويأتي من بعده من ناحية‬ ‫تبني هذا الرأي وإحداث دوي بين أوساط الشرعيين قبل‬ ‫غيرهم‪ ،‬الرئيس السابق لفرع هيئة األمر بالمعروف والنهي‬ ‫عن المنكر بمنطقة مكة المكرمة الشيخ أحمد بن قاسم‬

‫مضي سنوات‪ :‬إنه تجادل مع أحدهم واحتدّ النقاش في‬

‫الغامدي‪ ،‬الذي ذكر أنها مسألة خالفية‪ ،‬وأن القائلين‬

‫كانت تنبئ بوجود نية إليقاع األذى به‪ ،‬ولكن لم يتوقع أن‬

‫وجاء تحت عنوان «من يشرب الخمر ويسميها بغير‬

‫أحد المجالس حول حرمة الغناء‪ ،‬وكانوا يرمقونه بنظرات‬

‫يصل بهم األمر إلى أن يعتدوا عليه‪.‬‬

‫بالتحريم اعتمدوا على حديث ورد في صحيح البخاري‪،‬‬ ‫اسمها»‪ ،‬وأن الرواية الواردة بذلك الحديث لم يؤيدها أحد‬

‫من الثقات‪ .‬كما أن راوي الحديث انفرد به‪ ،‬وجميع روايات‬

‫من وحي هذه القصة ننتقل إلى ميدان مفتين‬ ‫أباحوا الغناء في سنوات قريبة‪ ،‬وكيف أنهم ً‬ ‫أيضا قوبلوا‬

‫الحديث المذكور مطعون بها‪ ،‬بحسب تصريح إعالمي له‪.‬‬

‫مجالستهم‪ ،‬إضافة إلى التهديد بالتعرض لهم جسديًّا‪.‬‬

‫المنهج السلفي في شق العصا في هذه المسألة التي ظلت‬

‫بهجوم حا ّد وصل إلى مرحلة التشهير بهم والتنفير من‬

‫ويكاد يكون هذان الشيخان من أشهر الشخصيات ذات‬

‫ملف العدد‬


‫ً‬ ‫ممنوعا نبش تفاصيله‪ ،‬حتى ال‬ ‫ردحً ا من الزمن تابوهً ا‬

‫يتعرض هذا الشخص لإلقصاء‪ ،‬وهذا ما جرى مع الكلباني‬ ‫والغامدي؛ إذ تعرضا لهجوم تم استثمار كافة المنصات‬

‫المتاحة فيه‪ ،‬من فتاوى ومنابر المساجد وشبكات التواصل‬ ‫ً‬ ‫وأيضا‬ ‫االجتماعي‪ ،‬وتم القدح في شخصهما وأعراضهما‪،‬‬ ‫الدعوة إلى محاكمتهما وزجهما في السجون‪.‬‬

‫الباحث االجتماعي التونسي مصطفى بو غدير يرى‬

‫المشهد سوداويًّا؛ إذ يرى بو غدير أن «تكثيف األطروحات‬ ‫التي تحرم الغناء والموسيقا‪ ،‬وكافة الفنون الجميلة‪،‬‬ ‫ً‬ ‫وأيضا وضع إطار قانوني لهذا التحريم من خالل منح‬

‫صالحيات لجهة ما لمنع الناس‪ ،‬ال شك أن لذلك آثارًا‬

‫فيما يترك موضوع الغناء والحجاب‪ ،‬وغيرهما‪ ،‬الختيار‬

‫الشخص المُ كلف ما يناسبه»‪.‬‬

‫استهالك مرتفع رغم «القيود»‬

‫أمام الصورة في األعلى‪ ،‬نجد صورة مختلفة ومليئة‬

‫بالتناقضات؛ إذ إن األرقام تشير إلى أن السعوديين من‬ ‫ً‬ ‫استهالكا للفنون‪ ،‬وهذا ما يتجلى في‬ ‫أكثر الشعوب العربية‬

‫أرقام المبيعات والمشاهدات العالية لألغاني والمقطوعات‬ ‫الموسيقية‪ .‬كما يلحظ المتابع ضخامة المشاركة من‬ ‫السعوديين في مسابقات الهواة في البرامج الكبرى‪ ،‬والتي‬

‫سلبية ليست فقط من ناحية الممارسات الفردية‪ ،‬ولكن‬ ‫ً‬ ‫أيضا من جهة خلق مناخ خانق تنعدم فيه الجماليات‪،‬‬

‫يفسر الباحث محمد القحطاني هذه المسألة بأنها‬

‫رطبة؛ وهي سالح ضمن أسلحة المجتمعات لتخفيف من‬

‫مشي ًرا إلى أن «المهتمين بمجال الغناء والموسيقا‬

‫بينما دور اآلداب والفنون هو تهذيب النفوس وجعلها‬

‫النزعة نحو العنف ومشاهد الدماء»‪.‬‬

‫وعن النقاش الديني حول حرمة الغناء والموسيقا‬

‫من عدمها‪ ،‬يذكر أن «هذا مؤشر على رغبة في دفع‬ ‫المجتمع إلى االنشغال بمساحة فردية‪ ،‬بدلاً من‬

‫‪38‬‬

‫المواطن العربي وبخاصة في ظل التحديات الحالية‪،‬‬

‫االنشغال بمشاريع تنموية كبرى‪ ،‬وهذا الواجب على‬

‫للمفارقة تعود ملكيتها إلى رجال أعمال سعوديين‪.‬‬

‫«التناقض في مطاردة الممنوع بأدوات المانع نفسه»‪،‬‬

‫مصطفى بو غدير‪ :‬الموسيقا سالح‬ ‫ضمن أسلحة المجتمعات للتخفيف من‬ ‫النزعة نحو العنف‬

‫موسيقيون يواجهون من القبو‬ ‫لفروع جمعيات الثقافة والفنون المنتشرة على مستوى المملكة قصص وحكايات مع الموسيقا‪ ،‬ففي الوقت الذي‬

‫يفترض بها أن تكون جهة رسمية مرخصة لممارسة هذا النشاط‪ ،‬عبر تقديم الحفالت والدورات‪ ،‬نجد أن دورها انحصر‬ ‫حتى اختفى من فروع ولم يعد له وجود‪ ،‬فيما ال تزال فروع أخرى صامدة رغم الرياح العاتية التي تواجهها‪.‬‬

‫في قاعة الملحن الراحل صالح الشهري في فرع الجمعية في مدينة الدمام‪ ،‬صادفت زيارتنا وجود مجموعة من‬

‫درسا من أحد األساتذة من أجل إتقان أحد المقامات‪ .‬ووسط اندماج‬ ‫الهواة المهتمين بالعزف على العود وهم يتلقون ً‬

‫العازفين اصطحب مشرف لجنة الموسيقا سلمان جهام شابًّا لالستماع إلى صوته‪ ،‬وقدم له في نهاية تلك الجلسة‬

‫نصائح وطلب منه االنضمام إلى الفرقة‪ ،‬تمهيدً ا لتقديمه في حفل الموهوبين الذي تقيمه اللجنة كل سنة‪.‬‬

‫أوضح جهام في بداية حديثنا ضرورة التفريق بين الحركة الغنائية والحركة الموسيقية في المجتمع السعودي؛ إذ‬

‫رفض أن تكون هناك حركة موسيقية «نظ ًرا لغياب المؤلفين في مجال الموسيقا وبشكل خاص في مجال غير مرتبط‬

‫بالغناء‪ ،‬وعلى النقيض هناك حراك غنائي نظ ًرا لالهتمام المفرط بتلحين القصائد الشعرية وغنائها»‪ .‬وذكر جهام‬

‫أن «فروع الجمعية مرت عليها حاالت ركود تمهيدً ا للموت‪ ،‬وكان ذلك بدءً ا من عام ‪1988‬م‪ ،‬الذي شهد صدور قرار‬

‫بإيقاف أقسام الموسيقا في فروع الجمعية‪ ،‬بينما كان الطموح يتجه في حينه إلى تشكيل فرقة موسيقية وإعالن طفرة‬ ‫بهذا المجال»‪ .‬ويشير إلى أن هذا القرار جعل تلك األقسام تمارس الموسيقا من القبو‪« ،‬وهذا األمر جعل من النشاط‬ ‫الموسيقي بال فائدة تذكر؛ إذ كانت كافة األقسام في فروع الجمعية تقدم حفالت ومناسبات جماهيرية‪ ،‬فيما باتت‬

‫بقايا قسم الموسيقا تقتات على هامش فعاليات اللجان األخرى كرديف في تقديم وصالتها»‪.‬‬

‫العددان ‪ 478 - 477‬شوال ‪ -‬ذو القعدة ‪1437‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬أغسطس ‪2016‬م‬


‫يواجهون تحريمً ا محليًّا عبر مؤسسات وظيفتها الحد من‬

‫هذا التوجه‪ ،‬وحصره في تصور سيئ سيؤثر في النشء في‬

‫تربيتهم ونظرتهم للحياة‪ ،‬وهذا ما يجعلهم منعزلين عن‬ ‫ً‬ ‫مضيفا «وهذا يوجد حالة‬ ‫مجتمعهم في الغرف المغلقة»‪،‬‬ ‫نظامي يتيح الصالحية لمنع وتحريم‬ ‫انفصام بين وضع‬ ‫ّ‬ ‫الغناء‪ ،‬وفي المقابل يجد المشاهد نفسه أمام واقع‬ ‫تزدهر فيه األغاني السعودية وتنتشر الموسيقا بين أيدي‬

‫الجمهور»‪.‬‬

‫ويذكر القحطاني أن مشكلة المنع في السعودية‬

‫«ستبقى عصية على األذهان‪ ،‬فيما األصل في مثل هذه‬ ‫الحاالت أن يكون هناك فضاء مفتوح يعبر به الكل عما‬ ‫يؤمن به‪ ،‬وعلى المتلقي أن يحدد ما يريده ويجد نفسه‬ ‫فيه‪ ،‬بدلاً من اإلجبار على تحويل الفنون السمعية إلى‬

‫جريمة»‪ ،‬داعيًا في الوقت نفسه إلى «عدم إتاحة المجال‬

‫منها ومن أخطارها عبر المنشورات والتسجيالت والخطب‬

‫ومجاف للحقيقة؛ إذ كيف‬ ‫والمحاضرات‪ .‬وهذا بُعد قاصر‬ ‫ٍ‬

‫تكون الفنون السمعية بهذا السوء وهي تستخدم محليًّا‬ ‫في النشيد الوطني وفي الفعاليات والمناسبات الوطنية‪،‬‬

‫وتقدم أمام كبار الشخصيات والمسؤولين»‪.‬‬

‫محمد القحطاني‪ :‬ما يحدث من موقف‬ ‫تجاه الموسيقا‪ ،‬يوجد حالة انفصام‬ ‫بين وضع يتيح الصالحية لتحريم الغناء‪،‬‬ ‫وفي المقابل يجد المشاهد نفسه‬ ‫أمام واقع تنتشر فيه الموسيقا في‬ ‫أوساط الجمهور‬

‫أمام أي طرف كي يفرض وجهة نظره‬

‫عبر تشريعات نظامية على شريحة‬

‫واسعة أخرى»‪ .‬وذكر أن تداول‬ ‫الموسيقا يتم كما لو أنها «بضاعة‬

‫ممنوعة تعادل في بعض الحاالت‬ ‫المخدرات؛ وذلك في حالة التوعية‬

‫‪39‬‬

‫وبحسب جهام ظل الوضع على‬

‫ما هو عليه حتى عام ‪2010‬م «إذ تسنى‬

‫لنا الخروج من القبو‪ ،‬أو المشاركة‬ ‫بجوار فعاليات اللجان األخرى‪ ،‬إلى‬ ‫تقديم أنفسنا على مسرح الجمعية‬

‫في أول أمسية تم تقديمها وكانت‬ ‫في الذكرى العاشرة لرحيل الفنان‬

‫طالل مداح‪ ،‬وتم في حينها تقديم‬ ‫وصالت غنائية وتسجيلية للراحل‪،‬‬ ‫وسط حضور جماهيري غفير أذهل‬ ‫ً‬ ‫مضيفا «ولن أنسى في‬ ‫الجميع»‪،‬‬

‫سلمان جهام‬

‫تلك األمسية حضور رجل كبير من مسافة بعيدة مش ًيا على األقدام‪ ،‬وكيف هطلت دموعه وهو يستمع ألغاني طالل‬ ‫القديمة‪ ،‬وقد كانت هذه الصورة هي األبرز عن الحفل في صفحات الجرائد في حينها»‪ .‬ومنذ ذلك التاريخ ولجنة‬ ‫الموسيقا تقدم الدورات واألمسيات الغنائية‪ ،‬على الرغم من هجمات المحتسبين المتفرقة التي تسعى إلى إفساد‬

‫بعض تلك الفعاليات‪ ،‬إال أن مساعيهم تقابل بالهزيمة في غالب تلك الغزوات‪.‬‬

‫ملف العدد‬


‫جمعية الثقافة والفنون بجدة‬ ‫تحلم بالعودة إلى العصر الذهبي‬ ‫موسيق ًّيا وفن ًّيا‬ ‫مثلت المدة التي اشتغلت خاللها في الجمعية العربية السعودية‬ ‫علي‬ ‫للثقافة والفنون بجدة تجربة مختلفة‪ ،‬بها كثير من األمور الجديدة ّ‬ ‫شخصيًّا‪ .‬بعضها يحمل الفرح وبعضها اآلخر به بعض األلم‪ ،‬لكن في‬ ‫المجمل كانت تجربة جميلة‪ ،‬تعرفت خاللها إلى كثير من الشخصيات‬

‫الفنية واإلنسانية الرائعة‪.‬‬

‫‪40‬‬

‫عبدالله التعزي‬ ‫روائي ومدير الجمعية سابقً ا‬

‫خالل الثالث سنوات والنصف التي عملت فيها في الجمعية‪ ،‬وإن كانت‬

‫في الحقيقة سنتين فقط‪ ،‬فقد اضطرتني ظروفي الخاصة إلى السفر خارج‬ ‫المملكة واإلشراف على إدارة الجمعية عن بعد إلى أن تقدمت باستقالتي‬

‫في نهاية عام ‪٢٠١٤‬م من إدارة الفرع بناء على رغبة اإلدارة العامة‪ ،‬وحاجة‬

‫الجمعية للوجود المستمر لإلدارة‪.‬‬

‫هنا سأقوم بعرض سريع لبعض األنشطة التي نظمت خالل‬

‫لجنة الفنون‪ ،‬والتنسيق مع جميع الفرق الشعبية‪ .‬وقد كان‬

‫كونها أنشطة مميزة‪ ،‬مارست تأثي ًرا قويًّا في الساحة الثقافية‪،‬‬ ‫ً‬ ‫مشرفا‬ ‫مثل‪ :‬أنشطة اللجنة الثقافية التي كان خالد الكديسي‬

‫وجعله أكثر تأثي ًرا وعدل بما يتناسب وتراث جدة والمنطقة‬

‫إدارتي‪ ،‬مع العلم أن هناك أنشطة لم تذكر هنا على الرغم من‬

‫عليها‪ ،‬ومنها أمسيات قصصية وشعرية‪ ،‬إضافة إلى استضافة‬

‫أسماء مهمة في المشهد األدبي مثل‪ :‬الشاعر عبدالله الصيخان‪،‬‬ ‫والقاص على حسون وآخرين‪ ،‬ومن االحتفاليات التي نظمت في‬

‫الجمعية احتفالية موقع سين اإللكتروني الشعرية مرتين على‬ ‫التوالي‪ ،‬واستقطبت مجموعة من الشعراء الشباب من داخل‬ ‫المملكة وخارجها‪ ،‬وكانت مميزة بكل المقاييس‪.‬‬ ‫فن الصهبة يقاوم االندثار‬

‫بعد االنتهاء من عمل بعض الترتيبات اإلدارية كان الرمز‬

‫الشعبي محمد سليم الشخص المهم والمحور الكبير في عمل‬ ‫العددان ‪ 478 - 477‬شوال ‪ -‬ذو القعدة ‪1437‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬أغسطس ‪2016‬م‬

‫دور اللجنة غير مفعل‪ ،‬لكن بجهود سليم تم تفعيل الدور‪،‬‬ ‫الحجازية بصورة عامة‪ .‬كان تصريح الفرق الشعبية يحتاج إلى‬

‫بعض األمور اإلدارية بالتنسيق مع محافظ جدة األمير مشعل‬

‫بن ماجد بن عبدالعزيز‪ ،‬من خالل وكيل المحافظ محمد‬ ‫ً‬ ‫متعاونا ولديه الرغبة في مدّ يد العون؛‬ ‫الوافي الذي كان‬ ‫لتكون الجمعية في اإلطار النظامي حتى تقدم مدينة جدة‬

‫وفنونها بالصورة المناسبة‪ ،‬إضافة إلى المحافظة على الفن‬

‫الشعبي من التشويه غير المقصود من بعض الفرق‪.‬‬

‫وقد نظمت الجمعية أمسية لفن الصهبة الشعبي‬

‫الحجازي في المنطقة التاريخية بالبلد وسط جدة‪ ،‬تقاطر‬ ‫إليها كل رجاالت هذا الفن األصيل‪ ،‬الذي يعد شبه مندثر‪،‬‬

‫وتم توثيقه‪ .‬وقد كان حضور الجمهور كبي ًرا؛ إذ إنها المرة‬


‫‪41‬‬

‫من حفالت نادي الطرب‬

‫األولى منذ مدة طويلة تقام أمسية في الهواء الطلق‪ .‬وقد كان‬

‫أمسيات وفاء لعبدالله محمد وفوزي محسون وسندي‬

‫أكبر األثر في إنجاح األمسية وإخراجها بالصورة الممتعة التي‬

‫كان الطموح أن يكون جزء من نشاط الجمعية تدريبيًّا؛‬

‫لمجهود عبدالله أبكر في التنسيق مع أهل هذا الفن وأساطينه‬

‫قدمت بها‪ .‬ومن األسماء المهمة التي أسهمت في العمل‬ ‫بلجنة الفنون خالل تلك المدة‪ :‬محمد سليم‪ ،‬وعبدالله أبكر‪،‬‬

‫وعمدة حارة الشام مالك باعيسى‪ ،‬وكثير من رجاالت حارات‬ ‫جدة المشهورين بنشاطهم الشعبي على مدى عقود سابقة‬ ‫من الزمن‪.‬‬

‫أمسية لفن الصهبة الشعبي الحجازي‬ ‫جمهورا‬ ‫في المنطقة التاريخية شهدت‬ ‫ً‬ ‫كبيرا؛ إذ إنها المرة األولى منذ مدة‬ ‫ً‬ ‫طويلة تقام أمسية في الهواء الطلق‬

‫وكدرس‬

‫عال لدى‬ ‫ليكون المستقبل هو األمل في إنتاج حس جمالي ٍ‬ ‫المهتمين بالفن‪ ،‬سواء كان موسيقا أم ً‬ ‫ً‬ ‫فنونا تشكيلية‬ ‫عزفا أم‬ ‫ً‬ ‫فنونا شعبية‪.‬‬ ‫أم تصوي ًرا أم‬

‫بدأت أمسيات الوفاء في المق ّر القديم بحي المنار بجوار‬

‫مطابع جريدة عكاظ‪ ،‬وقبل االنتقال إلى المقر الجديد في‬ ‫الكورنيش‪ .‬فقد كانت هناك ميزانية مرصودة لعمل دورة‬

‫موسيقية قصيرة‪ ،‬وكان حسين األهدل وهو رئيس فرقة‬ ‫اإلذاعة والتلفزيون قد نسق لقيام هذه الدورة‪ ،‬لكن لظروف‬

‫خارجة عن إرادته لم يتم التنسيق في الوقت المناسب‪.‬‬ ‫واق ُترح أن تقام بميزانية الدورة نفسها أمسية فنية أطلق‬

‫عليها حسين األهدل «أمسية وفاء للفنان عبدالله محمد»‪.‬‬

‫ملف العدد‬


‫وبهذا انطلقت أمسيات الوفاء للعديد من الفنانين الرموز في‬ ‫المسيرة الفنية السعودية‪ .‬فقدمت أمسيات وفاء للفنان فوزي‬ ‫محسون‪ ،‬ومحمد علي سندي‪ ،‬وعمر كدرس رحمهم الله‪،‬‬

‫كما قدمت أمسية وفاء للمونولوغست حسن دردير المشهور‬ ‫ً‬ ‫اعترافا بدوره‬ ‫باسم «مشقاص»‪ ،‬وقدمت له الهدايا التذكارية‬

‫الريادي في الحركة الفنية في المملكة‪.‬‬

‫لجنة الموسيقا يرأسها سامي إحسان وسراج عمر‬

‫في تلك المدة كانت اللجنة الموسيقية في حاجة إلى‬

‫العودة إلى نشاطها الرائع الذي كان في بداياته‪ .‬وقد ترأس‬ ‫اللجنة الموسيقية رموز الفن في المملكة؛ منهم‪ :‬الفنان‬

‫سامي إحسان وسراج عمر‪ ،‬وجرى من خالل الجمعية تقديم‬

‫أصوات مهمة للساحة الفنية‪ ،‬فالفنان عبدالمجيد عبدالله أحد‬

‫اكتشافات الموسيقار سامي إحسان من خالل جمعية الثقافة‬ ‫ً‬ ‫وأيضا الفنانون محمد عمر وعلي عبدالكريم‬ ‫والفنون بجدة‪،‬‬ ‫وكثير من الموسيقيين الذين كانت الجمعية بالنسبة لهم‬

‫نقطة انطالق‪ ،‬مثل أهم عازف قانون في المملكة‪ ،‬إن لم‬

‫يكن في العالم العربي‪ ،‬الفنان مدني عبادي‪ ،‬وعازف الكمان‬

‫الدكتور محمد أمين قاري‪ ،‬وآخرين‪.‬‬

‫‪42‬‬

‫التشكيلي أحمد فلمبان يعزف في جمعية جدة‬

‫تأدية واجب العزاء‪ .‬لم يكن الجو مناسبًا للحديث في كل شيء‬

‫لكن افترقنا على أن نتقابل في وقت آخر للتحدث والتشاور‪.‬‬ ‫وقد كانت مفاجأة لي اهتمام الفنان سامي إحسان ومتابعته‬ ‫أمور الجمعية؛ إذ لم يستغرق التعارف وق ًتا‪ ،‬فهو يعرف كل‬

‫التفاصيل عن الجمعية وتغيراتها ونشاطاتها‪ .‬ثم كان اللقاء‬

‫الثاني في منزله وبحضور سهيل طاشكندي مسؤول العالقات‬ ‫العامة واإلعالم بالجمعية بجدة الذي ّ‬ ‫رتب اللقاء‪ .‬وطاشكندي‬

‫يتمتع بذائقة موسيقية جميلة‪ ،‬وعالقاته في الساحة الفنية‬

‫والموسيقية جيدة‪ .‬وكانت نتيجة اللقاء عودة الفنان سامي‬

‫لقاء سامي إحسان‬

‫خدمتني الصدف بأن ألتقي رئيس اللجنة الموسيقية في‬ ‫ً‬ ‫سابقا الفنان سامي إحسان‪ ،‬كان ذلك في مقر العزاء‬ ‫الجمعية‬

‫بوفاة الفنان طارق عبدالحكيم‪ ،‬حينها تحدثنا باقتضاب بعد‬

‫نظمنا أمسيات وفاء لعبدالله محمد‪،‬‬ ‫وفوزي محسون‪ ،‬ومحمد علي سندي‪،‬‬ ‫وعقدنا شراكة مع القنصلية األميركية‬ ‫لتقديم حفالت مشتركة‬

‫وفاة سامي إحسان تبدد آمالاً كبيرة‬ ‫وافق سامي إحسان على العودة إلى الجمعية لكن بشرط واحد‪ .‬قبل أن أعرف شرطه اعتراني خوف كبير‪ ،‬إال أنه‬

‫سرعان ما تالشى‪ ،‬وتحول إلى تقدير هائل؛ إذ كان شرطه عدم أخذ أي مقابل مادي‪ ،‬مثل راتب أو مكافأة مالية مقطوعة من‬ ‫الجمعية‪ ،‬عندها شعرت بفرح كبير‪ ،‬وبالطبع باتفاقنا‪ ،‬ووعد الفنان سامي إحسان بأن يقوم بزيارة مقر الجمعية الجديد‪.‬‬

‫وبالفعل بعد أسبوعين قام الفنان سامي إحسان بزيارة سريعة للمقر‪ ،‬وشاهد اإلمكانيات المتوافرة في ذلك الوقت‪ .‬وتم‬ ‫االتفاق على أن يتم الترتيب مع حسين األهدل من جانب الفنان سامي إحسان‪.‬‬ ‫ومن ضمن النقاط التي ناقشناها مع الفنان سامي إحسان‪:‬‬ ‫• مكان لجنة الموسيقا‪.‬‬

‫• اآلالت الموسيقية وأماكنها‪.‬‬

‫• اختبارات األداء للموسيقيين الراغبين في التعلم‪.‬‬ ‫• تحديد مواعيد التعلم والتدريب‪.‬‬

‫• وضع نظام واضح للبروفات المشتركة مع فرقة اإلذاعة والتلفزيون‪.‬‬

‫إضافة إلى نقاط أخرى‪ ،‬مثل‪ :‬استضافة الفنانين المشهورين‪ ،‬والتنسيق مع التلفزيون والفضائيات‪.‬‬

‫العددان ‪ 478 - 477‬شوال ‪ -‬ذو القعدة ‪1437‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬أغسطس ‪2016‬م‬


‫إحسان إلى قسم الموسيقا بجمعية الثقافة والفنون بجدة مرة‬ ‫أخرى‪ ،‬بعد أن طلبته وألححت في طلبي عليه من أجل العودة‪.‬‬ ‫في البداية كنت قد أدركت اإلحباط العام لدى الساحة‬

‫إلي شعورًا سلبيًّا‬ ‫الفنية من خالل بعض األشخاص الذين نقلوا ّ‬

‫نحو الجمعية‪ ،‬وما تستطيع أن تقدمه للفنانين‪ .‬وقد كنت‬ ‫شبه متأكد أن هذا الشعور نفسه لدى الفنان سامي إحسان‪،‬‬

‫إال أنني في الوقت نفسه‪ ،‬كنت قد لمست التقدير الكبير للدور‬ ‫الذي لعبته الجمعية ألعوام طويلة في مرحلة الثمانينيات‬

‫وبداية التسعينيات‪ ،‬وكان تقدي ًرا وشعورًا بالفخر يكتسي كل‬

‫الذين اشتغلوا في الجمعية تلك الحقبة الفنية الذهبية‪ ،‬كما‬ ‫يسمونها في أوقات احتدام الحديث‪ .‬عندما كنت أنظر إلى‬

‫الفنان سامي إحسان كنت ألمس بعض هذا التقدير‪ ،‬وإن كان‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫الحقا‪.‬‬ ‫مغلفا باإلحباط من دور الجمعية المفقود‬

‫‪43‬‬

‫من حفالت نادي الطرب في جدة‬

‫ومع شديد األسف ُتوفي الفنان سامي إحسان بعد زيارته لفرع الجمعية بأسبوع‪ .‬كانت وفاته صدمة شديدة لم أكن‬ ‫ً‬ ‫جدا‪ ،‬ولم ُ‬ ‫أتوقعها‪ ،‬فقد كانت صحته جيدة ًّ‬ ‫سائقا‬ ‫تبد عليه أي عالمات المرض‪ ،‬فقد جاء إلى مقر الجمعية في الكورنيش‬

‫ً‬ ‫صحة وطموحً ا وف ًّنا‪ .‬وبوفاته أسدل الستار‬ ‫سيارته بنفسه‪ ،‬وليس معه أحد من أبنائه‪ .‬وجال في مقر الجمعية وهو ممتلئ‬ ‫على كثير من الطموحات الموسيقية‪ ،‬التي كانت من الممكن أن تختصر كثيرًا من الزمن في المسيرة الفنية في مدينة جدة‪،‬‬ ‫إن لم يكن في المملكة كلها‪.‬‬

‫تم االتفاق مع نادي الطرب بقيادة الفنان فيصل العمري‪ ،‬وإدارة أحمد كابلي‪ ،‬على أن تقدم أنشطة النادي على مسرح‬

‫الجمعية‪ .‬وقدم النادي العديد من الحفالت الغنائية والموسيقية المميزة التي حركت الراكد في الساحة الموسيقية؛ إذ‬

‫استقطبت المواهب والمهتمين بالفن وكثيرًا من المستمعين‪ .‬وقد تسابقت القنوات الفضائية إلى عمل اللقاءات المباشرة‬

‫مع الشباب في نادي الطرب‪ ،‬ودعمتهم‪ ،‬ومنحتهم الفرصة لشرح فكرة نادي الطرب وأهدافه الفنية الجميلة‪.‬‬

‫كما اشترك فرع الجمعية مع القنصلية األميركية بجدة في تقديم حفالت موسيقية مشتركة بين فرق أميركية‬

‫وموسيقيين سعوديين أنتجت بعض المقاطع المشتركة والمميزة‪ ،‬مما هو موجود على اليوتيوب في اإلنترنت‪ ،‬يتداولها‬ ‫المتذوقون من وقت آلخر‪ .‬ومن األسماء المهمة التي أسهمت في العمل بلجنة الموسيقا في الجمعية‪ ،‬خالل تلك المدة‪،‬‬

‫الفنانون حسين األهدل‪ ،‬ومحمد خوتاني‪ ،‬وأحمد فلمبان‪ ،‬وسهيل طاشكندي (المسؤول اإلعالمي للجمعية بجدة)‬ ‫وإشراف الفنان غازي علي‪ ،‬والفنان طالل باغر وآخرين‪.‬‬

‫ملف العدد‬


‫موسيقيون شبان يجربون‬ ‫إيقاعات شرقية وغربية‬ ‫نداء أبو علي‬ ‫كاتبة سعودية‬

‫ما بين غياب مؤسساتي ورفض مجتمعي‪ ،‬يسقط الموسيقيون السعوديون في هوّة االستنكار أو عدم التقدير؛ ما‬

‫يفضي إلى إحباطات مستمرة‪ ،‬ومحاوالت مستميتة تتطلب حفرًا باألظافر في محاولة إليجاد أي طريق نحو النجاح‪،‬‬ ‫من دون وجود مالمح تصلح إلعطاء أي قبس من األمل بأن هناك مستقبلاً‬ ‫ً‬ ‫وتشجيعا للفن والموسيقا‪ .‬إنه بمثابة عزف‬

‫في الظالم‪ ،‬أشبه بمن يصيح بأعلى صوته في فناء يرفض من بداخله اإلنصات إلى أي صوت‪.‬‬

‫‪44‬‬

‫في كتاب المفكر والكاتب العراقي علي الشوك‪« :‬أسرار الموسيقا»‪ ،‬يقتبس مقولة جون بارو‪« :‬لقد وجدت حضارات‬

‫بال رياضيات‪ ،‬حضارات بال رسم‪ ،‬حضارات حرمت من العجلة أو الكتابة‪ ،‬لكن لم توجد حضارة بال موسيقا»‪ .‬وقد وجد‬ ‫علي الشوك أن الموسيقا ليست نتاج الطبيعة‪ ،‬بل هي من اجتراح اإلنسان‪.‬‬

‫العددان ‪ 478 - 477‬شوال ‪ -‬ذو القعدة ‪1437‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬أغسطس ‪2016‬م‬


‫على الرغم من الضعف المؤسساتي في احتضان المواهب‬

‫الموسيقية أو تعليم الموسيقا عبر المعاهد‪ ،‬يظهر قبس من‬

‫االهتمام‪ ،‬عبر جمعيات الثقافة والفنون‪ ،‬كتنظيم الجمعية‬ ‫في الرياض برامج تدريبية ودورات عن المقامات الموسيقية‬ ‫ألول مرة في عام ‪2012‬م‪ ،‬وذلك بعد خمس وعشرين سنة من‬ ‫حظر للموسيقا في الجمعية‪ ،‬يتم تعليم العزف على آلة العود‬

‫والكمان‪ ،‬بهدف دعم المواهب الموسيقية‪.‬‬

‫بروفيسور أميركية توثق غناء الحجاز‬

‫الضعف المؤسساتي يمتد ليصل إلى االفتقار في توثيق‬

‫ورصد الموسيقا وإبراز الموسيقيين‪ ،‬بدءً ا بالتراث والموسيقا‬ ‫الشعبية بشكل أكاديمي دقيق‪ ،‬وانتهاء بالحقبة الحالية التي‬ ‫تكتنفها العشوائية؛ ما يضيع محاوالت تتبع ودراسة التطور‬

‫الموسيقي‪ .‬في عام ‪2012‬م‪ ،‬قامت البروفيسور ليزا أركوفيتش‬ ‫المختصة بالتراث والموسيقا في جامعة بوسطن بزيارة‬

‫لجمعية الثقافة والفنون بجدة لحضور فعالياتها‪ ،‬ومن ثم‬ ‫قامت بتوثيق للفلكلور الغنائي الحجازي؛ لوضعه في متحف‬ ‫للتراث العالمي في الواليات المتحدة األميركية الذي يحوي‬

‫أغلب التراث اإلنساني الدولي‪.‬‬

‫وإذا كان محترفو الموسيقا في اآلونة األخيرة ماهرين في‬

‫‪45‬‬

‫مواكبة العصر‪ ،‬سواء عبر استقاء تقنيات الموسيقا العالمية‬

‫أو عبر استخدام أفضل الطرائق اإللكترونية للوصول إلى أكبر‬ ‫عدد من المتابعين‪ ،‬إال أن ذلك ال ينفي حدوث تراجع وتدهور‬

‫الذائقة للموسيقا‪ ،‬وغياب تلك المرحلة التي كان فيها استخدام‬

‫األغاني بالصور الشعرية الرفيعة المستوى‪ .‬أصبحت الموسيقا‬

‫تبحث عن استقطاب جماهيري كبير عبر وسائل التواصل‬ ‫االجتماعي‪ ،‬وهو ما ّ‬ ‫يمكن أي شخص‪ ،‬وإن لم يكن يمتلك‬ ‫ً‬ ‫إبداعا موسيقيًّا فعليًّا‪ -‬ألن يصدح بالغناء لآلخرين‪ ،‬ويجد من‬ ‫يسمعه‪ ،‬بدءً ا من الفضاء اإللكتروني أو اقتصارًا عليه‪.‬‬

‫لقد ظهرت محاوالت فردية لسد الفجوة المؤسساتية؛‬

‫كإنشاء موقع إلكتروني لرابطة الموسيقيين السعوديين؛‬

‫يبزغ محترفون للموسيقا العصرية بدؤوا‬ ‫بتطويرها واحترافها بقالب مختلف؛‬ ‫كتجربة المنتج والموزع الموسيقي‬

‫لمناقشة‬

‫المقامات‬

‫الشرقية‬

‫والغربية‬

‫والساللم‬

‫الموسيقية‪ ،‬لضمّ الموسيقيين في السعودية والتثقيف‬

‫الموسيقي‪ ،‬إال أن الموقع لم يستمر من دون توضيح‬

‫األسباب باستثناء وجود خلل فني في قاعدة البيانات؛‬

‫األمر الذي أدى بالجيل الجديد من محترفي الموسيقا‬ ‫إلى الدراسة على حسابهم الخاص خارج الوطن‪ ،‬وهذا‬ ‫امتداد لما قام به الموسيقيون في السابق‪ ،‬أو الغوص في‬

‫عوالم اإلنترنت‪ ،‬وتلقي الدروس عبر برامج كاليوتيوب‪،‬‬ ‫أو التواصل مع اآلخرين وبث الموسيقا إلكترون ًّيا‪ .‬أصبح‬

‫ومنسق األغاني السعودي عمر باسعد‬

‫الغناء والعزف عبارة عن اجتهادات فردية‪ ،‬يبرز من‬

‫ليعد أول منتج سعودي وعربي يرشح‬

‫إنكار تام للموسيقا‪ ،‬أو غياب للذائقة الموسيقية‪ .‬أما‬

‫الذي تم ترشيحه لجائزة «إم تي في»‬ ‫لهذه الجائزة‬

‫خاللها عدد من المحترفين في وسط يتفاوت ما بين‬

‫الطراز الموسيقي فشديد التباين وإن كان هناك ميل نحو‬ ‫الموسيقا الغربية ودمجها بالموسيقا المحلية‪.‬‬

‫ملف العدد‬


‫فرق موسيقية تدعو إلى السالم‬

‫في عام ‪2008‬م شهدنا تجربة فريدة لفرقة أطلقت على‬

‫نفسها اسم «الفارابي» أسوة بالفيلسوف أبي نصر الفارابي‬

‫الذي تضمنت رؤاه اعتقادًا بأن اإلنسان استحدث الموسيقا‬ ‫ً‬ ‫تحقيقا وإيفاء لفطرته التي تدعوه للتعبير عن أحواله وأن‬ ‫ينشد راحته‪ .‬فرقة الفارابي التي نبعت من مدينة جدة جاءت‬

‫نتيجة تجربة موسيقية ما بين مثنى عنبر وضياء عزوني‪،‬‬ ‫لتستخدم الموسيقا التجريبية مع اقتباس لألمثال والقصائد‬ ‫العربية القديمة ألبي نواس والمتنبي؛ لتمزج ما بين الموسيقا‬

‫الشرقية والغربية‪ .‬غناء هذه الفرقة بالفصحى يجعلك تستمع‬ ‫ألبيات من قصائد ألبي نواس مثلاً ‪ ،‬فال تتعجب من مثل‪:‬‬

‫«سأعطيك الرضا‪ ،‬وأموت غمًّ ا ‪ /‬وأسكت ال أغمّ ك بالعتاب»‪.‬‬

‫في الوقت الذي تتناغم فيه الكلمات مع موسيقا تحوي‬

‫مزيجً ا غرائبيًّا من أوتار العود الكهربائي والغيتار الكالسيكي‬

‫والبيانو‪ ،‬وذلك داللة على التأثر بالتجربة الغربية التي جاءت‬ ‫نتيجة دراسة مثنى في نيو أورلينز وضياء في ليفربول‪ .‬يظهر‬ ‫ذلك التأثر بالتغريب في نماذج سعودية عديدة كقصي خضر‪،‬‬

‫وهو مغنٍّ سعودي مختص بالراب والهيب هوب‪ ،‬ابتدأ طريقه‬

‫‪46‬‬

‫الغنائي حين سافر الستكمال دراسته في الواليات المتحدة‬ ‫األميركية‪ ،‬وتمكن بدءً ا من هناك واستكمالاً في مدينة جدة‬

‫من افتتاح أستوديو‪ ،‬وإنشاء فرقة موسيقية‪ ،‬وإصدار ألبوم‬ ‫موسيقي‪ ،‬فيما يهدف في أغانيه التي تميل للراب إلى نشر‬

‫السالم‪.‬‬

‫ومن التجارب الفريدة تجربة الشاب عالء وردي‪ ،‬وهو‬

‫من أصول إيرانية‪ ،‬ترعرع ودرس في السعودية‪ ،‬ثم انتقل‬

‫للدراسة الجامعية إلى األردن ليتعلم التأليف والموسيقا‪ .‬وقد‬ ‫حاز شعبية في العالمين العربي والتركي‪ ،‬وفي السعودية‬ ‫على وجه الخصوص؛ الحترافه فن «األكابيال» الذي يستعيض‬

‫فيه عن اآلالت الموسيقية بالصوت‪ ،‬كما غرق في العالم‬ ‫اإللكتروني؛ لينشر الموسيقا التي قام بتأليفها وعزفها‪.‬‬

‫العاصمة في أكتوبر ‪2015‬م‪ .‬هذه الفرقة تجسد الغرق في بيئة‬ ‫ال تقدر مجال الموسيقا؛ إذ تط َّرق قائد الفرقة علي الشيحة‬

‫في تصاريح عدة لوسائل اإلعالم إلى صعوبة التمرس في‬

‫من جهة أخرى‪ ،‬يبزغ محترفون للموسيقا العصرية‬

‫مجال الموسيقا في ظل عدم وجود عدد كبير من الفعاليات‬

‫والموزع الموسيقي ومنسق األغاني السعودي عمر باسعد‬

‫على أزمة غياب المعاهد الموسيقية‪ ،‬واضطرارهم لتعلم‬

‫بدؤوا بتطويرها واحترافها بقالب مختلف؛ كتجربة المنتج‬ ‫الذي بدأ العزف على الغيتار منذ سن الثانية عشرة‪ ،‬وأكمل‬ ‫دراسته حتى حاز شهادة البكالوريوس في الهندسة الصوتية‪،‬‬

‫وهو يمزج ما بين الموسيقا العربية والغربية الحديثة بطراز‬ ‫«التكنو»‪ ،‬وتم ترشيحه لجائزة «إم تي في» ليعد أول منتج‬

‫سعودي وعربي يرشح لهذه الجائزة‪.‬‬

‫معان إنسانية‬ ‫فيما ظهرت فرق هواة تسعى لترويج‬ ‫ٍ‬ ‫كالسالم عبر الموسيقا‪ ،‬كفرقة «نغمة السالم» أو «بيس تون‬ ‫باند»‪ ،‬وقد شاركت في مهرجان الفرق المسرحية في الرياض‬ ‫العددان ‪ 478 - 477‬شوال ‪ -‬ذو القعدة ‪1437‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬أغسطس ‪2016‬م‬

‫والمهرجانات الثقافية المرتبطة بالموسيقا‪ .‬وشددت الفرقة‬

‫دروس الموسيقا من خالل اإلنترنت واليوتيوب‪.‬‬

‫هناك أصوات بدأت تصدح بالغناء في الفضاء الخارجي‬

‫لتصل إلى النجومية عالميًّا‪ ،‬إال أن المحاوالت تعد فردية‬ ‫ً‬ ‫وأحيانا عشوائية؛ لذلك هي في حاجة إلى تقنين كبير‪ ،‬ودعم‬ ‫مؤسساتي وتعليمي الحتضانها؛ ليتمكن المجتمع من التفريق‬ ‫ما بين الجيد والرديء من الموسيقا‪ ،‬وزيادة الوعي وإدراك‬ ‫فحوى الموسيقا المعبرة‪ ،‬والكلمات العميقة التي تعبر عن‬

‫الهوية المحلية‪.‬‬


‫‪47‬‬

‫ملف العدد‬


‫الموسيقا السعودية‬ ‫تعود إلى «الحياة»‬ ‫يحيى مفرح زريقان‬ ‫ناقد فني‬

‫الحياة الفنية في المملكة العربية السعودية كانت موجودة قبل العهد السعودي الزاهر‪،‬‬

‫ً‬ ‫وتحديدا في الطائف وجدة ومكة والمدينة؛ إذ كانت‬ ‫وبخاصة في اإلقليم الغربي من البالد‪،‬‬

‫‪48‬‬

‫تتوافر مالمح حقيقية للنشاط الفني بكامل خصائصه‪ .‬واستمرت الحياة الفنية بعد ذلك بعد‬ ‫قيام الملك عبدالعزيز آل سعود ‪-‬رحمه الله‪ -‬بإعالن دولته التي أمضى يناضل فيها ‪ 27‬عامً ا‬ ‫من أجل تكوينها‪ .‬وإن كانت بصورة أقل مما كانت عليه من قبل‪.‬‬

‫وفي عام ‪1931‬م أعلن اسم المملكة العربية السعودية‬

‫على كامل التراب الوطني‪ ،‬وبدأت رحلة العمل لبناء دولة‬

‫حديثة من مؤسسات مدنية وقطاعات رسمية وأهلية‪ ،‬وهنا‬ ‫ضعفت الحياة الفنية العتبارات عدة؛ اقتصادية وسياسية‬

‫واجتماعية‪ ،‬حتى أعلن تأسيس اإلذاعة السعودية عام‬

‫‪1948‬م في جبل هندي بمكة المكرمة‪ ،‬وهنا بدأت الحياة‬ ‫الفنية تستعيد شي ًئا من وهجها بعد أن تم تقديم بعض‬ ‫األناشيد وإعداد نصوصها وألحانها في صور فنية بسيطة‪،‬‬

‫النهضة الفنية السعودية‬

‫انطلقت النهضة الفنية السعودية بكامل أطيافها في‬

‫مطلع الستينيات الميالدية بصورة رسمية‪ .‬وتعد أبرز المحطات‬

‫التي مرت بها الحياة الفنية السعودية هي تأسيس فرقة‬ ‫موسيقا الجيش السعودي التي التحق منسوبوها باإلذاعة‬ ‫والتلفزيون فيما بعد‪ ،‬واستكملت الفرقة لتصبح أوركسترا‬

‫بعد التعاقد مع عدد من الموسيقيين العرب من سوريا ولبنان‬ ‫ومصر آنذاك‪ ،‬لتنطلق هذه الفرقة إلى العمل بمسرح اإلذاعة‬

‫ومع انتقال اإلذاعة إلى جدة بدأت مالمح العمل اإلعالمي‬ ‫تنضج وتتضح شي ًئا فشي ًئا؛ إذ أنتجت اإلذاعة مسرح اإلذاعة‬

‫األغاني السعودية مع الفنانين في أستوديو ومسرح اإلذاعة‪،‬‬

‫الحديثة‪.‬‬

‫سائر أرجاء المملكة‪ ،‬وبرزت الفرق الموسيقية‪ ،‬والفنانون‪،‬‬

‫الغنائي وهو اللبنة األولى في والدة الموسيقا السعودية‬

‫أما في الرياض فلم يكن هناك حضور للموسيقا وإن‬

‫وإعداد وتأليف الفواصل الموسيقية‪ ،‬وتترات البرامج‪ ،‬وتنفيذ‬ ‫ثم أعقب ذلك انطالق عربة النشاط الغنائي والموسيقي إلى‬ ‫وازدهر األمر بحضور ومشاركة العديد من الفنانين العرب مع‬

‫كانت الفنون الشعبية التي تقدم في المناسبات الرسمية‬ ‫والخاصة هي األوفر ًّ‬ ‫حظا باالهتمام والذيوع واالنتشار‪ ،‬وإن‬

‫البث التلفزيوني‪.‬‬

‫في زيارات متقطعة حتى تم تأسيس إذاعة الرياض عام‬

‫الموسيقي والغنائي شحّ الموارد االقتصادية لتوفير متطلبات‬

‫ُ‬ ‫يخل األمر من قدوم بعض الفنانين من الخليج العربي‬ ‫لم‬ ‫‪1964‬م‪ ،‬فبدأت الحياة الفنية تنمو في الرياض وتزدهر‪.‬‬

‫العددان ‪ 478 - 477‬شوال ‪ -‬ذو القعدة ‪1437‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬أغسطس ‪2016‬م‬

‫نظرائهم السعوديين في تقديم أعمال مشتركة بعد انطالق‬ ‫ومن أبرز التحديات التي واجهت انطالق النشاط‬

‫القيام باألنشطة المجدولة‪ ،‬والنظرة االجتماعية السلبية‬


‫تجاه النشاط الموسيقي والغنائي‪ ،‬وعدم توافر المعاهد‬

‫الموسيقية التي يلتحق بها الهواة وذوو الميول‪.‬‬

‫وقد أولت الحكومة السعودية اهتمامً ا مبك ًرا بهذا الملمح‬ ‫الحضاري منذ بداية التأسيس‪ ،‬وس ّنت النظم والتشريعات له‬ ‫ليواكب حاجة البالد والشعب إلى إنتاج المحتوى المطلوب؛‬ ‫لتشكيل ثقافة ووعي وذوق أبناء الشعب‪ ،‬بيد أن ثقافة‬ ‫المجتمع كانت منقسمة‪ ،‬وإن لم تكن بارزة النزعة السلبية‬

‫آنذاك في بدايات النشاط الغنائي والموسيقي في ظل تقديم‬

‫وإنتاج مسرح التلفزيون واإلذاعة والبرامج المشابهة له‪،‬‬ ‫وتنظيم المحافل الفنية في األندية وفي مصيف البالد األول‬

‫الطائف الذي كان يعد مهد النشاط الفني السعودي‪ .‬وفي‬

‫وقت من األوقات كانت الطائف أشبه بهوليوود السعودية؛‬ ‫إذ كانت تتبارى أحياء وحارات الطائف في إقامة الحفالت‬ ‫الغنائية حتى نهاية السبعينيات عندما قام جهيمان العتيبي‬

‫بحركته المعروفة في بيت الله الحرام‪ ،‬وبعد القضاء على‬

‫أبرز المحطات التي مرت بها‬ ‫الحياة الفنية السعودية تأسيس‬ ‫فرقة موسيقا الجيش السعودي‬ ‫التي التحق منسوبوها باإلذاعة‬ ‫والتلفزيون فيما بعد‪ ،‬واستكملت‬ ‫الفرقة لتصبح أوركسترا بعد التعاقد‬ ‫مع عدد من الموسيقيين العرب من‬ ‫سوريا ولبنان ومصر آنذاك‬

‫حركته التمردية وإعدامه انطفأت شعلة الحياة الفنية لدينا‬

‫المتمثلة في الغناء والمسرح والسينما‪.‬‬ ‫حركة فنية مشلولة‬

‫شلت الحركة الفنية السعودية بالكامل وبخاصة‬

‫الموسيقا‪ ،‬بعد أن كانت توجد في جدة أربع فرق موسيقية‪،‬‬ ‫ومثلها في الرياض‪ ،‬وواحدة في األحساء‪ ،‬وأخرى في الدمام‪.‬‬

‫‪49‬‬

‫وأذكر أن فرقة اإلذاعة والتلفزيون بالرياض تم إيقافها ونقل‬ ‫بعض موظفيها إلى جدة‪ ،‬وبعضهم تم تحويله إلى وظائف‬

‫إدارية‪ ،‬وبعضهم تم االستغناء عن خدماته‪ .‬ومن المؤسف‬ ‫اليوم أنه ال توجد فرقة موسيقية في البالد تقوم بممارسة‬ ‫عملها مثل أي قطاع آخر في الحياة يؤدي رسالته؛ ما دفع‬ ‫فنانينا إلى أن هاجروا بأعمالهم لتنفيذها في الخارج‪.‬‬

‫ومن المخرجات لهذا األمر المغيب عن حياتنا بفعل‬

‫فاعل أن النهضة والتنمية طالتا جوانب الحياة في البالد‪،‬‬

‫وبلغتا مرحلة متقدمة جدًّ ا من االزدهار إال قطاع الفنون؛‬ ‫األمر الذي أفضى ألن يلتحق الشباب بالتنظيمات اإلرهابية‬

‫التي احتضنتهم‪ ،‬ووظفتهم لتنفيذ أجنداتها بكل أسف‪.‬‬

‫وعلى الرغم مما تم اإلشارة إليه فإن األمير الراحل‬

‫فيصل بن فهد –رحمه الله‪ -‬كان يعمل على بناء نهضة‬

‫فنية‪ ،‬تعكس مقدرات البالد والثروات الضخمة التي‬ ‫تختزنها من فلكلور وموروث شعبي وموهوبين قادرين على‬

‫إنتاج الموسيقا الحديثة‪ ،‬وهذا الطموح هو ما نجم عنه‬ ‫رؤية المملكة العربية السعودية ‪2030‬م في إطالق األكاديمية‬

‫الملكية للفنون وإعادة العمل بالفرقة الموسيقية باإلذاعة‬ ‫والتلفزيون بالرياض مؤخ ًرا‪.‬‬

‫ملف العدد‬


‫الموسيقا عنصر رئيس في أنشطة‬ ‫الجمعية إلى أن جاءت «الصحوة»‬

‫سلطان البازعي‬ ‫رئيس مجلس إدارة الجمعية العربية‬ ‫السعودية للثقافة والفنون‬

‫‪50‬‬ ‫الجمعية‬

‫العربية‬

‫السعودية‬

‫للثقافة‬

‫ّ‬ ‫بعد الموسيقا‬ ‫والفنون ملتزمة منذ إنشائها‬ ‫أحد الفنون الرئيسة التي تتعامل معها تطويرًا‬

‫ً‬ ‫وتشجيعا وتدريبًا‪ ،‬بل إن مجلس اإلدارة األول‬

‫للجمعية الذي رأسه األمير بدر بن عبدالمحسن‬ ‫ّ‬ ‫يضم في عضويته الموسيقار الراحل طارق‬ ‫كان‬

‫عبدالحكيم رحمه الله‪ ،‬كما أن الموسيقار‬

‫الكبير سراج عمر كان من األعضاء المؤسسين‬ ‫للجمعية وهو ما زال على صلة وثيقة بها‪ .‬وأزيد‬

‫أن كثيرًا من القامات الفنية الكبرى في مسيرة‬ ‫الموسيقا السعودية مرت على الجمعية في‬ ‫مرحلة ما‪ ،‬ومنهم الفنانون طالل مداح رحمه‬

‫الله‪ ،‬ومحمد عبده‪ ،‬وسالمة العبدالله وسعد‬

‫إبراهيم رحمهما الله‪ ،‬إلى الجيل الذي تالهم‬

‫مثل‪ :‬عبدالمجيد عبدالله وعلى عبدالكريم‬ ‫وغيرهما‪.‬‬

‫العددان ‪ 478 - 477‬شوال ‪ -‬ذو القعدة ‪1437‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬أغسطس ‪2016‬م‬


‫رئيسا في أنشطة الجمعية‬ ‫بقيت الموسيقا عنص ًرا‬ ‫ً‬

‫حتى حدث التراجع فيما يعرف بمرحلة «الصحوة»‬ ‫حيث خبا هذا النشاط مؤق ًتا‪ ،‬إال أنه عاد بقوة في عدد‬ ‫كبير من فروع الجمعية التي عادت لتقيم الدورات‬

‫الموسيقية المختلفة من التدريب على العزف على‬ ‫اآلالت إلى التعليم على قراءة وكتابة النوتة وتدريس‬

‫المقامات‪ ،‬إضافة إلى إقامة األمسيات الموسيقية‬

‫ألعضاء الجمعية‪.‬‬

‫حمالت متشددة لم تحقق مرادها‬

‫وصحيح أن الجمعية واجهت عددًا من الحمالت‬

‫المتشددة في محاولة إللغاء النشاط الموسيقي في‬

‫الجمعية إال أن هذه الحمالت لم تحقق مرادها حينما‬

‫الموسيقي‬ ‫عاد النشاط‬ ‫ّ‬ ‫بقوة في عدد كبير من‬ ‫فروع الجمعية مثل إقامة‬ ‫الدورات المختلفة من‬ ‫التدريب على العزف إلى‬ ‫تعليم قراءة وكتابة النوتة‬ ‫وتدريس المقامات‪ ،‬إضافة‬ ‫إلى إقامة األمسيات‬ ‫الموسيقية ألعضاء الجمعية‬

‫المضي فيما نؤمن بأنه الطريق‬ ‫واجهناها باإلصرار على‬ ‫ّ‬ ‫الصحيح‪ ،‬وأن القول بتحريم الموسيقا ال يثبت أمام‬ ‫ً‬ ‫وحديثا‪ ،‬وأن هذا‬ ‫آراء كثير من علماء اإلسالم قديمً ا‬

‫التحريم لدى رأي فقهي وحيد ال يوجد ما يوجب‬

‫‪51‬‬

‫فرضه على جميع المسلمين؛ لذا استمرت الدورات‬ ‫بل إن ً‬ ‫فرقا موسيقية تشكلت في فروع الجمعية في‬ ‫كل من الرياض وجدة والدمام واألحساء وغيرها‪.‬‬

‫والجمعية التي أعلنت عن خطتها للسنوات‬

‫المقبلة وجاءت متوافقة مع ما حملته رؤية‬ ‫المملكة عام ‪2030‬م ستمضي قدمً ا في التوسع األفقي‬

‫والعمودي في تعليم الموسيقا بهدف رئيس هو نشر‬

‫ثقافة تذوق الفنون الجميلة‪ ،‬إضافة إلى إمكانية‬ ‫نبوغ بعض المواهب التي تستفيد مما تقدمه‬ ‫الدورات الموسيقية‪ ،‬وال يحد من هذا الطموح عدم‬

‫وجود مقرات مالئمة تعمل الجمعية من خاللها‪،‬‬

‫إذ إننا سنعتمد نظام الفعاليات المشتركة التي تتيح‬ ‫إمكانية االستفادة مما تزخر به البالد من مرافق‬ ‫غير مستغلة بشكل كامل‪ .‬كما أننا نجزم بأن الرؤية‬

‫عام ‪2030‬م بما حملته من وعود ستحقق الكثير‬

‫من طموحاتنا في توفير الدعم المالي والمعنوي‬ ‫لنشر الثقافة والفنون في المملكة لتصل إلى كل‬ ‫المستفيدين المحتملين‪.‬‬

‫ملف العدد‬


‫مطرب وموسيقي قال إنه بصدد تشكيل‬ ‫أقسام الفرقة الوطنية والبحث عن كوادر‬

‫حسن آل خيرات‪ :‬الموسيقا‬ ‫والفنون عنوان الشعوب‬ ‫الرياض‬

‫‪52‬‬

‫العددان ‪ 478 - 477‬شوال ‪ -‬ذو القعدة ‪1437‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬أغسطس ‪2016‬م‬


‫تفاعل وزير الثقافة واإلعالم الدكتور عادل الطريفي مع مقترح َّ‬ ‫تقدم به الفنان حسن آل خيرات‬ ‫حول ضرورة وجود فرقة موسيقية‪ ،‬وأصدر قرارًا بتأسيس فرقة وطنية للموسيقا مقرها القناة‬

‫الثقافية السعودية‪.‬‬

‫الفنان حسن آل خيرات تحدث لـ«الفيصل» عن الدوافع وراء مقترحه‪ ،‬فقال‪« :‬وطن بال موسيقا ال‬

‫صوت لشعبه‪ .‬ووطننا من أكبر األوطان‪ ،‬يتمتع بموروث موسيقي هائل ومتنوع إال أنه ال توجد في‬ ‫أي من مدنه فرقة موسيقية تحفظ له هذا التراث والموروث»‪ .‬وأضاف آل خيرات قائلاً ‪« :‬أطالب بهذا‬ ‫المقترح منذ مشاركاتي األولى في األيام الثقافية السعودية‪ ،‬لِما كنت أالحظه من أخطاء تحصل‬ ‫من بعض العازفين‪ ،‬في مقابل ما كنت أراه لدى فرق موسيقية لبلدان أخرى‪ ،‬من عازفين مهرة‪ .‬وما‬

‫ً‬ ‫مؤكدا حاجة الوطن‬ ‫حدث أنني وقبل ثالثة أشهر عزمت على أن أوصل صوتي لوزير الثقافة واإلعالم‬ ‫إلى فرقة موسيقية وطنية عربية‪ ،‬واألهم أن يكون كوادرها سعوديين‪ ،‬فالوطن مليء بالكوادر‬

‫الموسيقية‪ .‬وجدت صعوبات في البداية‪ ،‬ولكن بفضل إصراري تمكنت من القول‪ :‬الموسيقا‬ ‫والفنون عنوان الشعوب ونحن السعوديون منذ ثالثين عامً ا ليس لنا وطن في الموسيقا»‪.‬‬

‫لم يستبعد آل خيرات أن يكون ضمن أعضاء الفرقة‬

‫الوطنية في المستقبل عازفات سعوديات‪ ،‬كما هو‬ ‫حاصل في الفرق الموسيقية الوطنية لدى بعض البلدان‬

‫الخليجية‪« ،‬الله ميز المرأة بإحساس أدق وأرق ولكن في‬

‫البداية يكون تأسيس الفرقة من الشباب السعودي‪ ،‬وفي‬ ‫ً‬ ‫شريكا أساسيًّا في‬ ‫المستقبل ستكون العازفة السعودية‬

‫الفرقة الوطنية»‪.‬‬

‫وذكر أنه سيتم اإلفادة من معلمي موسيقا من مصر‬

‫ومن تونس حسب الدروس الموسيقية المقررة‪ ،‬إال أنه‬ ‫«لن يقف على المسرح غير السعوديين الذين تعلموا‬

‫‪53‬‬

‫وتدربوا على أيدي الموسيقيين العرب»‪.‬‬

‫ويتوقع آل خيرات أن تحظى الفرقة بدعم سخي‪،‬‬

‫مركز لتدريب الموسيقا يؤول إلى االندثار‬ ‫ً‬ ‫سابقا أسلوب حياة‪ ،‬حاضرة في تفاصيلنا اليومية‪ ،‬كان من يريد أن يستمع لها يجد مراكزها‬ ‫كانت الموسيقا‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫الواضحة وأسواقها المعروفة‪ .‬لم يكن التشدد مختفيًا سابقا بل ازدادت وتيرته الحقا‪ .‬ونحن لألسف استجبنا لذلك‬ ‫بعد أن عطلنا عقولنا‪ ،‬وجعلنا اآلخرين يملكون حق توجيهها‪.‬‬ ‫لقد أنشأت في زمن سابق مرك ًزا تدريبيًّا للموسيقا في فرقة اإلذاعة والتلفزيون باجتهاد شخصي فقط‪ .‬وقمت‬

‫بتدريب كثير من الراغبين في تعلم الموسيقا‪ ،‬كمحاولة شخصية لصناعة هوية موسيقية مستقلة‪ ،‬تحترم‬

‫خصوصيتنا الثقافية وتعبر عن هويتنا الوطنية‪ .‬وكان ذلك سببًا في جعل موظفين في مركز الدعوة واإلفتاء يقومون‬ ‫ً‬ ‫شرعا‪ ،‬وكيف لي أن أعمل‬ ‫بزيارتي ومناقشتي في أمر مركز التدريب والموسيقا‪ ،‬قائلين بأن ذلك ال يجوز ومحرم‬

‫في هذه المهنة وأنا ابن لعائلة معروفة وقبيلة مشهورة‪ ،‬فذكرت لهم الحجج والفتاوى الدينية التي صدرت في‬ ‫متحمسا في‬ ‫هذا الخصوص وكذلك االختالفات الفقهية‪ ،‬فما كان منهم إال أن صمتوا ومضوا راضين بما قلته‪ .‬كنت‬ ‫ً‬

‫أثناء عملي في الفرقة التابعة لوزارة الثقافة واإلعالم إبان تلك الحقبة‪ ،‬لكن بعد أن قمت بترك العمل تم تهميش‬ ‫يعتن به أحد‪ ،‬فآل بسبب اإلهمال إلى االندثار‪ ،‬فأصبح مجرد أطالل لذكرى تبعث الحزن والشجن معً ا‪.‬‬ ‫المركز ولم‬ ‫ِ‬

‫عبدالمحسن داود الخلف‬

‫ً‬ ‫سابقا‬ ‫المدير العام إلذاعة الرياض‬

‫ملف العدد‬


‫في ضوء رؤية السعودية ‪2030‬م التي تدفعهم كما يقول‬

‫برنامج «الزمن الجميل»‪ ،‬عندما كانت فرقة التلفزيون‬

‫‪2030‬م نطمح إلى إنشاء أوبرا سعودية‪ .‬لكن اآلن أنا بصدد‬

‫هو المطرب أبو بكر سالم بلفقيه؛ إذ سجل أغاني مصورة‬

‫إلى أن يكون طموحهم كبي ًرا‪« ،‬فمع الرؤية الجديدة‬

‫تشكيل الفرقة الوطنية وأقسامها وتقديم خطة إليجاد‬

‫كوادر وطنية موسيقية‪ ،‬وعمل برنامج تعليمي بجدول‬ ‫زمني معين يتم خالله تجهيز العازفين وإعداد شباب‬

‫طموح وابتعاثه إلى معاهد موسيقية عربية للتخصص‬ ‫والدراسة‪ ،‬حسب االتفاقيات المبرمة بين وزارة الثقافة‬

‫واإلعالم وبعض الدول العربية»‪.‬‬

‫ولفت إلى أن الفرقة ستكون منب ًرا لرعاية واحتضان‬

‫المواهب الشابة السعودية والعربية كذلك‪ ،‬كما كانت‬ ‫ً‬ ‫سابقا «لقد‬ ‫تقوم بذلك الدور فرقة التلفزيون السعودي‬ ‫عايشت ذلك حين كنت مع الفرقة في التلفزيون ضمن‬

‫وطننا من أكبر األوطان‪ ،‬يتمتع بموروث‬ ‫موسيقي هائل ومتنوع إال أنه ال توجد‬ ‫في أي من مدنه فرقة موسيقية‬

‫‪54‬‬

‫تحفظ له هذا التراث والموروث‬

‫قائمة‪ ،‬فكان أكثر فنان سجل آنذاك وتفاعل مع الفرقة‬ ‫تفوق ما سجله المطربون السعوديون آنذاك‪.‬‬

‫وكذلك مطربون من الخليج واألقطار العربية‬

‫األخرى‪ ،‬فلقد كانت الفرقة السعودية التابعة للتلفزيون‬ ‫تسافر وتحيي كثي ًرا من الحفالت الموسيقية الكبرى في‬ ‫كثير من الدول العربية آنذاك‪ ،‬لكن فيما بعد تشتتت‬

‫تلك الفرقة وتشرذم أعضاؤها‪ ،‬فمن العازفين من‬ ‫ً‬ ‫محبطا مثل‪ :‬طارق عبدالحكيم‪ ،‬وعازف الكمان‬ ‫تقاعد‬ ‫سمير مبروك‪ ،‬وعازف القانون عتيق الحمدان الذين‬

‫كانوا من خريجي مصر من الدفعة األولى‪ ،‬ومنهم من‬ ‫كانوا عربًا بعضهم لم يزل باقيًا حتى اآلن مثل‪ :‬عازف‬ ‫القانون التونسي الهادي العبيدي‪ ،‬وبعضهم عاد إلى‬

‫بلده مثل‪ :‬الحفناوي من مصر‪ ،‬وعبدالرحمن الدلي من‬ ‫ً‬ ‫سابقا‪ ،‬وكذلك اآلن يقدم‬ ‫تونس‪ .‬ومع ذلك سيظل وطننا‬

‫الجمال والموسيقا عبر مهارات أبنائه من الموسيقيين‬ ‫السعوديين المبدعين»‪.‬‬

‫فضاء واعد نحو مستقبل موسيقي‬ ‫رحب عدد من الفنانين بقرار وزير الثقافة واإلعالم بإنشاء فرقة وطنية للموسيقا‪ ،‬فوصف الموسيقي عماد زراع‬ ‫القرار بـ«البشرى»‪ ،‬وقال‪ :‬إننا كموسيقيين نتطلع إلى أشياء كثيرة في المملكة‪ ،‬متسائلاً ‪« :‬هل هذا القرار سيسمح‬

‫عال‪ ،‬أم أن الفرقة الوطنية ستقوم فقط بالمشاركة في‬ ‫بإنشاء معاهد وأكاديميات أو معاهد موسيقية على مستوى ٍ‬

‫الفعاليات الثقافية المتنوعة‪ ،‬سواء في داخل الوطن أو خارجه»‪ .‬وأشار إلى أن هناك الكثير من التفاصيل لم يتناولها‬

‫القرار؛ «ألنها هي ما ستوضح آلية عمل الفرقة الموسيقية»‪.‬‬

‫وأكد زراع وجود الكثير من المواهب الموسيقية «تمتلك مقدرة ال يمكن تهميشها على المستوى السماعي‪،‬‬ ‫فكيف لتلك المواهب سواء في الرياض أو جدة أو المنطقة الشرقية أن تمضي من دون أن تجد لها حض ًنا مؤسساتيًّا‬

‫يقوم باحتوائها»‪.‬‬

‫ً‬ ‫الموسيقي في‬ ‫«صوتا جديدً ا وفضاء واعدً ا نحو المستقبل‬ ‫على حين قال الفنان فيصل العمري‪ :‬إن القرار يمثل‬ ‫ّ‬

‫المملكة»‪ ،‬مشي ًرا إلى أنه كان يتألم شخصيًّا بسبب أن غالبية الجهود كانت تتم بشكل فردي‪« ،‬وال تندرج تحت بعد‬

‫موسيقي يظل حاض ًرا في ثقافة المملكة‪ .‬يجب أن نؤمن بأن الموسيقا‬ ‫مؤسساتي يملك القدرة على صياغة مشهد‬ ‫ّ‬ ‫هي الوجه األسمى للثقافة‪ ،‬ومن دونها تصبح الثقافة ناقصة ومبتورة‪ .‬ولقد كنا نحن معشر الموسيقيين ننتظر هذا‬

‫القرار بفارغ الصبر»‪ .‬وذكر أنه تم تنظيم خمس حفالت موسيقية في مسرح الثقافة والفنون في المنطقة الشرقية‪،‬‬ ‫ً‬ ‫مدهشا‪ ،‬فكيف سيكون الحال حينما يكون هناك عمل منظم يمثل المملكة في محافل‬ ‫«والقت صدى جميلاً وحضورًا‬ ‫العالم العربي كافة»‪.‬‬

‫العددان ‪ 478 - 477‬شوال ‪ -‬ذو القعدة ‪1437‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬أغسطس ‪2016‬م‬


‫مجمع ملكي للفنون‬ ‫جاءت مبادرة وزارة الثقافة واإلعالم بإنشاء المجمع الملكي للفنون‪ ،‬بحسب الوزير الدكتور عادل الطريفي؛‬

‫من أجل تعزيز الثقافة والفن في المملكة العربية السعودية‪ ،‬واالهتمام بمتطلبات األجيال من المثقفين والفنانين‬ ‫السعوديين‪ ،‬وإيجاد مؤسسات قادرة على رعايتهم‪ ،‬ويستطيعون من خاللها عرض فنونهم وتوثيقها سواء كانت‬ ‫ً‬ ‫فنونا حديثة أو من أنواع الفلكلور الشعبي لمختلف مناطق المملكة‪.‬‬ ‫وأوضح الوزير‪ ،‬في مؤتمر صحافي عقد في يونيو الماضي لعرض مبادرات برنامج التحول الوطني‪ ،‬أن فكرة‬

‫المجمع هي فكرة معمول بها في بلدان عديدة‪ ،‬وأحد أبرز أهدافه هو المحافظة على الثقافة الوطنية‪ ،‬وتعزيزها‪،‬‬ ‫ً‬ ‫وأيضا يكون المجمع مجالاً إلعطاء األجيال الشابة صورة عن السعودية وتاريخها ووحدتها والعناصر الرئيسة التي‬

‫جمعت هذا الكيان منذ أسسه الملك عبدالعزيز رحمه الله إلى عهد خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن‬

‫عبدالعزيز‪ .‬وأكد وزير الثقافة واإلعالم أن المجمع سينقل ثقافة المملكة إلى العالم الخارجي‪ ،‬مستشهدً ا بنماذج‬

‫من الفنون التشكيلية في المملكة التي بدأت منذ أكثر من ‪ 40‬عامً ا‪ ،‬موضحً ا أن بعض الفنانين السعوديين بدؤوا‬ ‫يعرضون أعمالهم الفنية في متاحف ومعارض دولية‪ ،‬بينما ال يتوافر حتى اآلن مجمع فني داخل المملكة لعرض‬

‫هذه الفنون‪.‬‬

‫وقال الطريفي‪ :‬على المستوى الفني والمسرحي‬

‫يوجد في المملكة عدد من الممثلين‬ ‫السعوديين في مجال الكوميديا وفي‬

‫مجال الدراما أصبحوا اليوم وجوهً ا‬

‫‪55‬‬

‫تلفزيونية في العالم العربي‪ ،‬ولكن‬

‫ً‬ ‫خصوصا‬ ‫هذه الكفاءات والطاقات‪،‬‬ ‫الطاقات الشابة ال تجد المنصات‬

‫التي تمكنها من رعاية مواهبها‬ ‫ودعمها‪ ،‬ولذلك فمن عناصر‬

‫المجمع الملكي للفنون إنشاء‬ ‫مؤسسة غير ربحية؛ لتكون‬

‫قادرة على تمويل المجمع‬ ‫ً‬ ‫مضيفا أن‬ ‫لسنوات مقبلة‪،‬‬ ‫المجمع سيكون له مجلس‬

‫أمناء ومجلس إدارة‪.‬‬

‫ملف العدد‬


‫أحزان تطل من خرائب‬ ‫األغنيات القديمة‬ ‫قبل سنوات قليلة كنت في زيارة لمدينة فانكوفر الكندية؛ مدينة جميلة‬

‫وخالبة‪ ،‬وتحبها من أول نظرة‪ .‬ذات مساء قبل انهيار الشمس بالكامل‪،‬‬ ‫جلست في مقهى يطل من بعيد على البحر‪ .‬ضفاف المحيط الهادئ الكندية‬ ‫تبعد من الرياض نحو عشرين ألف كم‪ .‬ال يمكن أن أتخيل أن تجتاحني‬

‫ذكريات يفاعتي في الرياض قبل أربعين عامً ا في مكان كهذا‪.‬‬

‫ولكنه عالمنا الجديد الذي أصبح صغيرًا‪ .‬في لحظة خاطفة أحسست أني‬ ‫ً‬ ‫صوتا سعود ًّيا بلهجة سعودية هجرتها األجيال الجديدة‪ ،‬فظننتها من‬ ‫أسمع‬

‫إنتاج خيالي المكدود‪ .‬تركتها تتنامى وتتوسع في وجداني إلى أن أصبحت‬ ‫عبدالله بن بخيت‬

‫‪56‬‬

‫كاتب سعودي‬

‫ُّ‬ ‫التفت فشاهدت عائلة سعودية يتوسطها رجل مسن ال يقل عمره‬ ‫حقيقة‪.‬‬ ‫عن ثمانين سنة‪ .‬تأملت في وجهه بنظرات مسروقة‪ ،‬فتبيّن لي أن هذا الرجل‬

‫كان له حضور في األيام الخوالي! تركت البحر وأمواجه وجمال الفتيات‬ ‫الالتي يمضين قدمً ا أمامي‪ ،‬وتركت أشياء أخرى تحيط بي‪ ،‬وغادرت الحاضر‬

‫ال ألوي على شيء‪ .‬هرعت أبحث في األيام القديمة؛ من يكون هذا الرجل‪.‬‬

‫فتحت ملفات لم تفتح منذ زمن بعيد‪ ,‬عالها غبار النسيان‪ .‬وأخيرًا شاهدته‬

‫شا ًّبا في أمكنة ال يمكن أن يهجرها وجداني‪.‬‬ ‫ربما في واحدة من الحفالت الغنائية الكثيرة التي كانت تقام‬

‫تريدها‪ ،‬أو الحقيقة التي يأخذك إليها خيالك‪ .‬كالهما شيء رائع‬

‫له عالقة بالطرب؛ لكن أين أجده؛ في الرياض؟ في جدة؟ في‬

‫تبوح به من أطياف‪ .‬هل شاهدته في حفلة غنائية في الرياض‪ ،‬في‬

‫في النوادي الرياضية السعودية والزواجات الباذخة‪ .‬هذا الرجل‬ ‫الطائف؟ في كل مكان كنا نذهب إليه كان ثمة حفالت ومطربون‬ ‫وموسيقيون؛ طارق عبدالحكيم‪ ،‬طالل مداح‪ ،‬عبدالله محمد‬

‫غازي‪ ،‬علي سعد إبراهيم‪ ،‬أبو سعود الحمادي‪ ،‬حيدر فكري‪،‬‬ ‫معظم هؤالء شاهدتهم على الطبيعة؛ على مسارح بسيطة‪.‬‬ ‫هذا الرجل ال بد أنه واحد من أجوائهم‪ .‬مستحيل أن يكون أحد‬ ‫المطربين الكبار‪ ,‬ربما من الخط الثاني؛ ضابط إيقاع‪ ،‬أو عازف‬ ‫كمان‪ ،‬أو من الشباب الذين يحبون الرقص الشعبي‪ .‬صرت أتأمل‬

‫فيه؛ ما الذي يمكن أن يكون عليه في شبابه؛ نحيل الجسد‪،‬‬ ‫طويل القامة‪ ،‬أسمر اللون يعاني قصر النظر‪ ،‬ومن المؤكد أن‬

‫العصا المسندة إلى جانبه تعينه على السير‪ .‬موصفات رجل‬

‫مسن‪ ،‬لكن األطراف األخيرة للحياة تأخذك إلى الحقيقة التي‬ ‫العددان ‪ 478 - 477‬شوال ‪ -‬ذو القعدة ‪1437‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬أغسطس ‪2016‬م‬

‫في صراع مخيلتي الراهن‪ .‬صرت ألتفت إليه وأنتزع من مالمحه ما‬ ‫الطائف‪ ،‬أم في جدة؟ كثرة الحفالت الغنائية التي كانت تقام في‬ ‫ذلك الزمن وتنوعها تشتت الوعي‪ .‬شاهدت الفنانين السعوديين‬

‫الكبار يتغنون على خشبات المسارح السعودية‪ .‬شاهدت طالل‬ ‫مداح مرتين في الطائف وجدة‪ ،‬وعبدالله محمد أكثر من مرة في‬ ‫الطائف‪ ،‬وطارق عبدالحكيم في نادي الهالل‪ .‬أما سعد إبراهيم‬

‫فقد شاهدته كثي ًرا‪ .‬المرة األخيرة كانت في إحدى مناسبات نادي‬ ‫النصر‪ .‬ربما كانت حفلة النصر تلك هي آخر الحفالت الغنائية التي‬ ‫حضرتها في حياتي قبل أن تغلق بوابات الجمال في المملكة‪،‬‬

‫ويتم إخراس الفن‪ .‬اخترت أن أفتش فيها عن حضور هذا الرجل‪.‬‬ ‫ً‬ ‫سطوعا في‬ ‫لم يكن بين يدي خيارات كثيرة‪ .‬تلك كانت األكثر‬

‫ذاكرتي‪ .‬جمعت مالمح الرجل‪ ،‬وأزلت منها ما استطعت من عبث‬


‫‪57‬‬

‫الشيخوخة‪ ،‬فبدا لي شابًّا من شباب األزمنة القديمة‪ ،‬لكنه لم‬

‫بورصة الغناء السعودي أيام ازدهاره‪ .‬كل من يريد أن يستمع‬

‫يختلف عن مئات الشباب الذين يغنون ويصفقون ويزعقون في‬

‫إلى أحدث األغاني السعودية الواردة من أستوديوهات بيروت‬

‫الخزان بالرياض تتجاوبه نغمات اآلالت الموسيقية‪ ،‬وإيقاعات‬

‫الناس من صالة الجمعة بين حراج قاسم‪ ،‬وسوق الزل‪ ،‬وسوق‬

‫كل مرة يخرشنا الفنان بالعود‪ ،‬أو بموال حجازي‪ .‬ما زال شارع‬ ‫الطبول والمراويس‪ .‬استعرضت الفرقة الموسيقية‪ .‬وجوههم‬

‫مألوفة‪ .‬شاهدتهم مع كل أغنية وحفلة يقيمها التلفزيون‬ ‫السعودي‪ .‬تسمى فرقة التلفزيون‪ ،‬تتنقل مع الحفالت الشعبية‬

‫التي تقام في الزواجات أو النوادي الرياضية‪ .‬ال يمكن أن يكون‬ ‫واحدً ا منهم‪ .‬ال يخطئهم أحد عاش في تلك الحقبة‪ ،‬ولكنه ربما‬ ‫كان من ضابطي اإليقاع الشعبيين‪ .‬تلك كانت اآللة الموسيقية‬ ‫األسهل والمتاحة التي ورثت طيران السامري‪ .‬هذا أقرب ما تأخذك‬

‫إليه الظنون عندما تريد أن تنسبه إلى أهل الفن‪.‬‬

‫فرصة ضئيلة تبقت في ذاكرتي‪ .‬ربما كان من الشباب الذين‬

‫يعملون في سوق األسطوانات أمام مسجد الجامع بالرياض؛‬

‫وأثينا يذهب إلى تلك السوق‪ ،‬وبخاصة يوم الجمعة بعد أن ينتثر‬ ‫األسطوانات‪ .‬ربما كان هذا الرجل يعمل في تلك السوق‪ .‬العاملون‬

‫في تلك السوق على قدر من الشهرة‪ .‬رعاة الفن ومنتجوه‪.‬‬

‫ال يمكن أن أسأله‪ .‬رجل مسن يحيط به عدد من أحفاده‪.‬‬

‫تركت األمر على ما هو عليه‪ .‬قد أخرج من سؤالي بمرارة وألم‬

‫ماض جميل تم تقويضه بمنهجية هدّ امة لن يشهد‬ ‫ورثاء على‬ ‫ٍ‬

‫مثلها تاريخ الفن اإلنساني‪ .‬ربما تحول كما فعل كثير غيره‪.‬‬ ‫أصبح من الرجال والنساء الذين نزع الفن من قلوبهم‪ .‬هاجس‬

‫ليس غريبًا‪ .‬يكفي أن رياح الصحوة الهوجاء نقلت الفنان‬

‫الشعبي الكبير فهد بن سعيد من فنان عظيم إلى بوّاب على‬ ‫مدارس البنات‪.‬‬

‫ملف العدد‬


‫نصوص‬

‫عودة آدم‬ ‫أنا آدم‬

‫أول ُ‬ ‫رج ٍل على هذه األرض‬

‫كان بمكنتي أن أبقى هناك‬

‫لكن يدي طالت شرك التفاح‬

‫ُ‬ ‫ليست ً‬ ‫نزلت‬ ‫ريحا تلك التي عصفت باألشجار حين‬ ‫إنها أنفاسي‬

‫أنفاس رجل ّ‬ ‫ُ‬ ‫الندم قدميه‪.‬‬ ‫شل‬ ‫هذه المياه أُ َ‬ ‫ريد لها أن تم ّر في األراضي األخرى‬

‫‪58‬‬

‫هذه المناديل لم تكن لتجفف شجن أحد‬

‫عبدالرحيم الخصار‬ ‫شاعر مغربي‬

‫فلم تسعفني ذراعاي‪.‬‬

‫لم أضع ً‬ ‫يدا في كهف‬ ‫وال ً‬ ‫قدما في غدير‬

‫لم أراوح ظل هذه الصخرة‬

‫ُ‬ ‫عيني إلى الشمس‬ ‫رفعت‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫فعرفت أن تعاق َ‬ ‫ب الليل والنهار‬

‫الم َحن‬ ‫هو س ُّر ِ‬

‫القرون ً‬ ‫ُ‬ ‫تباعا‬ ‫ستم ُّر‬ ‫ُ‬ ‫سيحرث أحفادي هذه األرض‬

‫ُ‬ ‫ظننت أنها غصن في جسدي‬ ‫أما يدي التي‬ ‫ً‬ ‫غصنا في جسد آخر‪.‬‬ ‫فقد صارت‬

‫َ‬ ‫نهاية كل صيف‬ ‫وسيجنون‬ ‫غاللاً من َّ‬ ‫الت َعب‪.‬‬

‫ال زالت رائحة التراب في أنفي‬

‫ُ‬ ‫لجذع شجرة‬ ‫أسندت منكبي‬ ‫ِ‬ ‫ُ ُ‬ ‫وجلست أصغي للريح‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫السيدة التي سبقتني إلى األرض؟‬ ‫تقول هذه‬ ‫ماذا‬

‫* * *‬

‫الحسرة أهرشها ما بين الساعد والكتف‬

‫أما عيناي فيسيل منهما حنيني إلى المالئكة‪.‬‬

‫* * *‬ ‫كان الغبار كثيفاً‬

‫فلم أتبين موطئ أفكاري‬

‫َّ‬ ‫تتلم ُ‬ ‫ّ‬ ‫س لها‬ ‫يضج بالكلمات التي طفقت حواسي‬ ‫رأسي‬

‫المعنى‬ ‫ُ‬ ‫َّ‬ ‫وما من شي ٍء على األرض ألش ِّب َه به هذا التي َ​َهان‬ ‫ٌ‬ ‫صديق أو نديم بعد‬ ‫لم يكن لي‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫التراب والحجر‬ ‫صادقت‬ ‫جربت أن ّ‬ ‫ُ‬ ‫طائر أو أجدف مثل سمكة‬ ‫أحلق مثل‬ ‫ٍ‬

‫العددان ‪ 478 - 477‬شوال ‪ -‬ذو القعدة ‪1437‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬أغسطس ‪2016‬م‬

‫* * *‬

‫ُ‬ ‫سمعت نحيب اآلخرين‬ ‫في نحيبها‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫أصوات كثيرة بداخلي‪:‬‬ ‫وتعالت‬ ‫بيت بال سرير‬ ‫بكاء‬ ‫طفل بال ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ّ‬ ‫ندم كهل َّ‬ ‫الحظ‬ ‫تخلى عنه‬ ‫ٍ‬ ‫ُ‬ ‫ٌ‬ ‫َ‬ ‫عبد يسوطه عبد آخر‬ ‫صراخ ٍ‬

‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫تصد‬ ‫تتوسل ليد‬ ‫يد‬ ‫أنين ٍ‬

‫جناح أثقلته التعاسة‬ ‫خفق‬ ‫ٍ‬

‫شفتين حائرتين‬ ‫ناي بين‬ ‫ِ‬ ‫نواح ٍ‬

‫رجل مخذول‬ ‫خرير الما ِء يم ّر في قلب‬ ‫ٍ‬


‫ُ‬ ‫أعرف السبب‪.‬‬ ‫عويل نسا ٍء وأنا ال‬

‫ُ‬ ‫أغمضت عيني‬

‫فمرقت الريح بنحيبها‬

‫كل تنهيد ٍة تركناها على قارعة الطريق‪.‬‬ ‫َ‬ ‫ً‬ ‫ُ‬ ‫سريعا‬ ‫الحياة‬ ‫الزمن هذه‬ ‫سيطوي‬

‫ومن غصن في الشجرة‬ ‫ٌ‬ ‫ْ‬ ‫دمعة كبيرة على األرض‪.‬‬ ‫سقطت‬

‫ويضعها في صندوق‪.‬‬ ‫أَ َّ‬ ‫َ‬ ‫تعق ُ‬ ‫األحالم في منامي‬ ‫ب‬ ‫وت َّ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫الكوابيس‪.‬‬ ‫تعقبني‬

‫قلت للطائر الذي ّ‬ ‫مقربة ّ‬ ‫ُ‬ ‫مني‪:‬‬ ‫حط على‬ ‫ٍ‬

‫َ‬ ‫عزلة ديناصور‬ ‫ُعزلتي ُتشبه‬

‫* * *‬

‫ُ‬ ‫تبتسم في النهار‬ ‫«إن الشفا َه التي‬

‫ّ‬ ‫تتحسر في الليل‬ ‫ُ‬ ‫ً‬ ‫موجا حين تالمس اليد األخرى‬ ‫إن اليد التي تغدو‬ ‫ّ‬ ‫تتخشب حين تغيب‬

‫إن الدمعة التي أسالها الفرح‬

‫هي الدمعة التي سيسيلها الحداد»‪.‬‬ ‫* * *‬

‫قال الطائر‪:‬‬ ‫«هل ّ‬ ‫تغني لي‬

‫أم ّ‬ ‫تغني لوحدتك؟»‬

‫* * *‬

‫هذه األرض‬

‫ربما كانت عقا ًبا‬

‫حرب لم أَ ُخ ْ‬ ‫ضها‬ ‫ربما كانت غنيمة‬ ‫ٍ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫غادر مكانها ً‬ ‫يوما ما‬ ‫هذه األرض ستشيخ‬ ‫وست ِ‬

‫ُ‬ ‫الزمن مثلما تم ّر األشياء الصغيرة مع الريح‬ ‫سيم ّر‬ ‫النهاية ُبر ً‬ ‫َ‬ ‫ْهة قبل السقوط‬ ‫وسنلمح‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫عين الحدأة‪.‬‬ ‫األرنب التائه‬ ‫مثلما تلمح‬

‫* * *‬

‫ٌ‬ ‫يد ما سوف تعلق في غصن شجرة‬ ‫ّ‬ ‫ٌ‬ ‫تتعثر في جسر الخشب‬ ‫قدم صغيرة سوف‬

‫ُ‬ ‫ٌ‬ ‫عين أخرى‬ ‫دمعها في‬ ‫عين ما سيسيل‬ ‫ٍ‬ ‫غير أن ّ‬ ‫كل شي ٍء سيمضي‬ ‫ُ ّ َْ‬ ‫سيجرف النه ُر الهادر كل نأمة‬ ‫ّ‬ ‫كل خطو ٍة خطوناها باتجاه بعضنا‬

‫* * *‬

‫كالنا يمشي على طرفين‬ ‫غير أن رأسه أَ ُ‬ ‫قرب إلى الغيمة‬ ‫يج ّر َ‬ ‫واد إلى واد‬ ‫ذيله من ٍ‬

‫ً‬ ‫جانحا إلى الهضاب التي ُتخفي الشمس‬ ‫ّ‬ ‫يدب بمفرده‬ ‫يجثو قليلاً ثم‬

‫إلي بعطف‬ ‫يم ّر أمامي ناظ ًرا ّ‬ ‫َ‬ ‫كما لو ّ‬ ‫ٌ‬ ‫غصن سقط من شجرة‪.‬‬ ‫أني‬ ‫* * *‬

‫ٌ‬ ‫ُ‬ ‫شبه جسدي‬ ‫ومشيت في األدغال حتى بدا لي‬ ‫جسد ُي ِ‬

‫وتفج ْ‬ ‫ْ‬ ‫ّ‬ ‫رت ينابيع‬ ‫سقطت ثما ٌر‬ ‫ثم‬ ‫ْ‬ ‫وخفقت طيو ٌر فوق رأسينا‬

‫فأخفينا الخجل بالريش وأوراق الشجر‪.‬‬

‫‪59‬‬


‫تقارير‬

‫هل غادرت القاهرة موقعها‬ ‫المركزي في الثقافة العربية؟‬ ‫صبحي موسى‬ ‫القاهرة‬

‫‪60‬‬

‫لعبت القاهرة دورًا محور ًّيا في النهضة العربية منذ بدايات القرن التاسع عشر حتى‬ ‫منتصف القرن العشرين‪ ،‬فكانت الحاضرة التي استوعبت طاقات الكثير من المبدعين‬ ‫العرب‪ ،‬فهاجر إليها المعنيون بالمسرح والصحافة والفنون واآلداب‪ ،‬كما هاجر‬ ‫المؤرخون والمفكرون والسياسيون والمناضلون‪ ،‬لكن األمر تغير مع النصف الثاني من‬ ‫القرن العشرين‪ ،‬فقد انتشرت الثورات العربية‪ ،‬وظهر العديد من المراكز الثقافية األخرى‬ ‫بداية من الشام والعراق وبلدان الخليج حتى بلدان المغرب العربي‪ ،‬وتحوّلت القاهرة‬ ‫من مركز الجذب األول إلى مركز تقليدي يحتفظ بعبق الماضي‪ ،‬لكنه ال يمتلك القدرة‬ ‫على منافسة المراكز الجديدة‪ ،‬فما الذي حدث؟ عدد من الكتاب المصريين والعرب‬ ‫يجيبون عن هذا السؤال في تقرير لـ«الفيصل»‪:‬‬

‫العددان ‪ 478 - 477‬شوال ‪ -‬ذو القعدة ‪1437‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬أغسطس ‪2016‬م‬


‫يقول أستاذ األدب العربي بجامعة القاهرة الدكتور‬

‫عبداملنعم تليمة‪ :‬إنه أصبح معلومً ا ألي راصد يف الثقافة‬

‫العربية الراهنة أن العقود األخرية‪« ،‬شهدت تراجعً ا خطريًا‬

‫للوجود املصري يف املجتمعات العربية‪ ،‬بينما األجيال الثالثة يف‬

‫النهضة املصرية الحديثة (هي جيل رفاعة الطهطاوي‪ ،‬وجيل‬ ‫أحمد لطفي السيد‪ ،‬وجيل طه حسني) قد ربونا عىل أيديهم‬

‫وكتبهم عىل أن العروبة ثقافة‪ ،‬ومن هنا لم يكن هؤالء الرواد‬ ‫يتشددون يف فكرة العروبة باملعنى القومي الفني السيايس‬ ‫املعروف»‪.‬‬

‫عبدالمنعم تليمة‬

‫ناظم ناصر القرشي‬

‫يف الثقافة العربية والعاملية يف كل أوان بدور نشرها العديدة‬

‫وأضاف تليمة‪« :‬أما ما بعد جييل أنا فإن السياسات‬

‫ومكتباتها العامرة‪ ،‬وبمؤسساتها الثقافية وبصحفها ومجالتها‬

‫قد عزلت مصر عن هذا األفق العظيم الذي نعمل عىل إحيائه‬

‫الرصينة واإلبداع والخلق واالبتكار» ‪.‬‬ ‫وأضاف القريش قائلاً ‪« :‬كناقد عراقي قدمت يل القاهرة‬

‫الحكومية املصرية وما أثمرته من مجالس ومؤسسات ثقافية‬ ‫تمامً ا‪ ،‬وقد حققنا يف هذا األفق خطوات منذ ثورة يناير املجيدة‪،‬‬

‫األدبية وأدبائها ومثقفيها‪ ،‬كانت وال زالت منارًا للثقافة العربية‬

‫وال صحة اآلن ملا يقال عن أن ثمة إرادات أخرى من دول عربية‬

‫الكثري فقد طبعت دار «كتاب» وعىل نفقتها كتابي «العني‬ ‫ً‬ ‫وأيضا‬ ‫الثالثة» وهو مقاالت يف الشعر العربي املعاصر‪،‬‬

‫محمد عيل إىل يومنا هذا فيما عدا العقود الثالث أو األربع‬

‫بالخصوص مجلة «أدب ونقد» ومجلة «شعر» املصرية التي‬ ‫ستنشر يل ًّ‬ ‫ملفا عن التجارب الشعرية الجديدة يف العراق‪ ،‬كما‬

‫شقيقة للحلول محل مصر‪ ،‬فهذا غري صحيح وال يرغب فيه‬

‫أحد‪ ،‬وال يملك أحد أن يماري يف ذلك‪ ،‬فمصر الحديثة منذ‬

‫األخرية‪ ،‬كانت وما زالت الحاضنة األوىل للثقافة واملثقفني‬

‫واملبدعني العرب جميعً ا»‪.‬‬

‫الشاعر والناقد العراقي ناظم ناصر القريش يرى أن مصر‬ ‫ليست أم الدنيا فحسب‪« ،‬إنما ً‬ ‫أيضا أم الثقافة ‪ ...‬أثرت وتؤثر‬

‫نشرت يل مجالت مصرية العديد من مقااليت النقدية‪ .‬وأذكر‬

‫كتبت عن العديد من الشعراء املصريني‪ ،‬سواء من جيل الرواد‬

‫أو أجيال تالية عليه»‪.‬‬

‫التغري يف دور مصر القيادي‬

‫من جانبه قال وزير الثقافة األسبق الدكتور جابر عصفور‪:‬‬

‫«إن املجلس األعىل للثقافة أسهم إسهامً ا كبريًا يف عودة املثقفني‬

‫العرب إىل مصر‪ ،‬ولم يكن هناك مؤتمر يقام إال ويحضره كبار‬ ‫املثقفني العرب‪ ،‬سواء يف الشعر أو الرواية أو القصة‬

‫القصرية أو غري ذلك‪ ،‬وهكذا ظلت الصلة بني النقاد‬ ‫واملثقفني العرب حميمية ومستمرة‪ ،‬والفرتة التي‬

‫حدث بها ارتباك يف هذه العالقة هي التي أعقبت‬ ‫انتهاء حكم مبارك‪ ،‬فضلاً عن أن البلدان العربية‬

‫‪61‬‬


‫تقارير‬

‫صارت لديها مؤتمراتها التي تستضيف فيها املصريني‪ ،‬سواء يف‬

‫دبي أو الكويت أو املغرب أو تونس أو غريها‪ ،‬واآلن قد عادت‬ ‫األمور إىل االستقرار يف مصر»‪.‬‬

‫ويلفت عصفور إىل أن الدور القيادي ملصر قد تغري‪،‬‬

‫«فقديمً ا كان ثمة دول مركزية وأخرى دول أطراف‪ ،‬لكن‬ ‫الصورة اختلفت اآلن‪ ،‬فهناك تعددية واضحة‪ ،‬بمعنى أن‬ ‫الحضور الثقايف لعاصمة كبريوت أصبح مساويًا للحضور‬

‫الثقايف لعاصمة كالقاهرة‪ ،‬والرواية التي لم تكن تكتبها سوى‬ ‫املراكز الثقافية التقليدية صارت تكتبها كل املراكز‪ ،‬حتى إن‬ ‫السعودية التي طاملا كنا نصفها بأنها ذات ثقافة محافظة بها‬ ‫اآلن العديد من الكاتبات املعروفات‪ ،‬وال نستطيع أن ننكر أن‬

‫حركة الثقافة العربية والتواصل بني املثقفني مستمرة عىل‬

‫الرغم من وجود متغريات أخرى يف التعددية التي ساوت بني‬ ‫املركز واألطراف»‪.‬‬

‫جابر عصفور‬

‫أحمد قران الزهراني‬

‫أسباب وراء تراجع القاهرة‬

‫أوضح الشاعر الدكتور أحمد قران الزهراين‪ ،‬الذي عاش‬

‫يف القاهرة أعوامً ا الستكمال دراسة الدكتوراه‪ ،‬أن للقاهرة‬

‫حضورها الثقايف والفني الذي ال يشبهه حضور يف الوطن‬ ‫العربي‪« ،‬فهي حفية بزائريها واملقيمني فيها؛ إذ قدمت‬

‫للثقافة الفن العربي وأسماء خالدة ما زال تأثريها إىل وقتنا‬

‫الحاضر»‪ .‬وقال‪« :‬أتحدث هنا عن القاهرة التي كانت مفتوحة‬

‫أحمد قران‪ :‬القاهرة لم تعد تهتم‬ ‫بالمثقفين العرب بالشكل الذي‬ ‫يجعلها تسترد مكانتها‬

‫‪62‬‬

‫لكل األطياف الثقافية العربية من دون تمييز أو انحياز‪ ،‬ولعلنا‬

‫نتذكر القامات الفنية والثقافية التي انطلقت من القاهرة‪،‬‬ ‫هجرة من بلدانها‪ ،‬ولعلني أذكر هنا من مثقفي السعودية‬

‫عبدالله القصيمي وحمزة شحاتة‪ ،‬وهما قامتان ثقافيتان‬

‫مصر لم تعد ِقبلة الكتاب‬ ‫أكد القاص سعيد الكفراوي أن مصر «لم تعد ِقبلة الكتاب الكبار اآلن يف ظل ما تالقيه‬

‫من منافسة سياسية واقتصادية وإعالمية كربى‪ ،‬مدعومة برأسمالية ال قبل لها بها يف‬ ‫الوقت الراهن»‪ .‬وقال‪« :‬إن القاهرة وارتباطها بالكتاب العرب أمر متغري ً‬ ‫وفقا للمتغريات‬ ‫السياسية‪ ،‬فالقاهرة الليربالية بكل زخمها وأرستقراطيتها وانفتاحها عىل العالم الحر‬

‫بعد مشروع محمد عيل لم تكن ساحة الزدهار الثقافة العربية فقط ولكن كان ازدهارها‬

‫سعيد الكفراوي‬

‫يشارك يف تكوين الوعي العاملي‪ ،‬عرب مشروع الخديو إسماعيل‪ ،‬بانفتاحها عىل التجديد والحداثة‪ .‬كانت القاهرة يف حقبة‬ ‫ً‬ ‫مالذا لكل املثقفني املضطهدين والباحثني عن الحرية»‪.‬‬ ‫إسماعيل حتى منتصف األربعينيات من القرن العشرين‬ ‫ويشري الكفراوي إىل أنه بقيام ثورة يوليو «استبدل الزعيم نفسه باألمة‪ ،‬واستثمر كل بقايا الحقبة الليربالية يف املسرح‬

‫والفكر يف التأسيس لسلطة ثورة يوليو حتى جاءت هزيمة ‪1967‬م‪ ،‬وكانت منطقة الشام قد أصبحت مرك ًزا للثقافة العربية‬

‫إىل جانب العراق كمركز ثقايف‪ ،‬وكان كالهما يساعد بحضوره الفاعل القاهرة يف دورها الثقايف يف حقبة الستينيات‪ ...‬لكن‬ ‫بعد النكسة‪ ،‬وسيادة زمن املصادرات‪ ،‬ومالحقة الكتاب‪ ،‬وظهور ما ُعرف بالطيور املهاجرة يف زمن السادات؛ رحل الك ّتاب‬

‫العرب واملصريون إىل بالد النفط‪ ،‬لتظهر مراكز ثقافية متباينة ومتعددة‪ ،‬فهناك املغرب كمركز ثقايف إىل جانب القاهرة‬

‫كمركز تقليدي ورئييس‪ ،‬وإىل جانب مركز قوي قادر عىل منح الجوائز وتنظيم الرحالت‪ ،‬وهو مركز الخليج بحكم ما يمتلك‬ ‫من فائض قيمة مالية‪ ،‬يف حني انحصرت مراكز تقليدية قديمة كالعراق ودمشق؛ بسبب الفوىض العارمة يف السياسة‬ ‫اإلقليمية‪ ،‬لتختفي شي ًئا فشي ًئا األسئلة الكربى من املشاريع الثقافية الكربى يف العالم العربي‪ ،‬وتتوقف عند حدود أنشطة‬

‫مظهرية؛ كافتتاح معرض‪ ،‬أو إقامة ندوة‪ ،‬أو اللهاث خلف جائزة»‪.‬‬

‫العددان ‪ 478 - 477‬شوال ‪ -‬ذو القعدة ‪1437‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬أغسطس ‪2016‬م‬


‫هل غادرت القاهرة موقعها المركزي في الثقافة العربية؟‬

‫كبريتان لجآ إىل القاهرة وأقاما فيها وأنتجا أهم أعمالهما‬ ‫الثقافية‪ ،‬وكثري من فناين ومثقفي الوطن العربي»‪.‬‬

‫ويذكر الزهراين أن القاهرة بعد أن كانت حميمية مع‬

‫زوارها‪ ،‬تحتفي بهم‪ ،‬وتقدمهم للجمهور‪ ،‬وتقيم لهم‬ ‫األمسيات والدراسات‪« ،‬تراجعت عن هذا الدور‪ .‬بعد أن كانت‬

‫عاصمة الثقافة والفن العربي أصبحت مثلها مثل أي مدينة‬

‫عربية أخرى؛ إذ تخلت عن دورها‪ ،‬وتراجعت عن تأثريها»‪.‬‬

‫وعدّ د أحمد قران أسبابًا وراء هذا الرتاجع‪ ،‬من أهمها‪ :‬االنفتاح‬ ‫الثقايف واإلعالمي الذي وجده الفنان واملثقف‪ ،‬وأصبح يستغني‬ ‫عن الوصاية من خالل استقالليته‪ .‬والسبب األهم أن القاهرة‬ ‫فقدت بريقها الثقايف‪ ،‬أو باألحرى لم تعد تهتم باملثقفني‬

‫العرب بالشكل الذي يجعلها تسرت ّد مكانتها‪ ،‬هي تستضيف‬ ‫مثقفني وتقيم ندوات وأمسيات لكن هذه الفعاليات مثلها‬

‫مثل الفعاليات الثقافية يف أي مدينة عربية هامشية‪ ،‬ربما‬ ‫التغريات السياسية‪ ،‬وبالتايل التغريات الثقافية يف املؤسسة‬

‫الثقافية كان لها دور سلبي عىل الثقافة املصرية‪ ،‬وبالتايل عىل‬ ‫مكانة القاهرة الثقافية»‪.‬‬

‫دور يف حركة البعث‬

‫وأكد الناقد الدكتور صالح فضل أن القاهرة «لعبت كما‬

‫هو معروف دورًا أساسيًّا يف حركة البعث واإلحياء العربية‪،‬‬

‫وقادت تيارات النهضة العلمية والفكرية واألدبية‪ ،‬حيث‬

‫احتضنت كل املواهب واإلمكانات العربية املتفردة»‪.‬‬

‫وقال صالح فضل‪ :‬إن ذلك «ال يربر عىل اإلطالق ادعاء‬

‫البعض اآلن أنها تنازلت عن هذا الدور؛ ألن هذه األدوار ال‬

‫تحتكر‪ ،‬وال تصاب بالعقم‪ ،‬بل تتعدد وتتوالد وتنتشر لتصنع‬ ‫ً‬ ‫آفاقا جديدة للنمو الحضاري‪ .‬والقاهرة من أكرث العواصم‬

‫استعدادًا للعب هذا الدور الحضاري‪ ...‬وقد تكون هناك‬

‫عواصم أغنى من القاهرة لكن ثراءها ال يصنع لها ثقل القاهرة‬ ‫وبهاءها‪ ،‬ومن ثم فدور القاهرة الثقايف والحضاري ما زال‬ ‫قائمً ا‪ ،‬ويتشكل يف كل مرحلة بأشكال مختلفة»‪.‬‬

‫ورفض الشاعر املصري شعبان يوسف القول بأن القاهرة‬

‫لم تعد منطقة جذب ثقايف للك ّتاب واملبدعني واملثقفني العرب‪،‬‬

‫هاني الصلوي‪ :‬الحديث عن دور‬ ‫مركزي وآخر غير مركزي تغير عما‬ ‫كانت عليه مناقشة هذه األبعاد فيما‬ ‫يتعلق بالثقافة‬

‫صالح فضل‬

‫شعبان يوسف‬

‫وقال‪« :‬إنه بحكم وجوده يف مجال العمل الثقايف منذ سنوات‬

‫طويلة يعلم تمامً ا مدى التقدير الذي يك ّنه البعض لألنشطة‬

‫الثقافية يف مصر‪ ،‬وبخاصة فعاليات معرض القاهرة الدويل‬

‫للكتاب‪ ...‬وال يم ّر أسبوع من دون أن تكون هناك فعالية لكاتب‬ ‫أو مبدع عربي‪ ،‬وبخاصة أن دور نشر مثل دار العني أو دار‬ ‫مرييت أو دار شرقيات ال تخلو قوائم النشر فيها من ك ّتاب‬

‫ومبدعني عرب من كافة البلدان‪ ...‬تقدي ًرا للثقل الثقايف الذي‬

‫تشغله وما زالت تشغله مصر يف العالم العربي‪ ،‬وهذا بحكم‬ ‫التاريخ الطويل والعميق للحركة الثقافية‪ ،‬وكذلك التعدد‬

‫الهائل ملراكز اإلنتاج والتنشيط الثقافيني يف مصر»‪.‬‬ ‫ويقول الشاعر والناقد‬

‫‪63‬‬

‫اليمني هاين الصلوي (صاحب‬ ‫دار أروقة للنشر بالقاهرة)‪:‬‬

‫«بال شك ما زال للقـاهرة دور‬ ‫فعال من كل النواحي‪ ،‬وقد‬ ‫عادت إليها بعض املركزية ‪-‬‬

‫بشدة ‪ -‬بعد الربيع العربي‬ ‫وبعد‬

‫اشتعال‬

‫الحروب‬

‫هاني الصلوي‬

‫يف األماكن التي مثلت مع‬

‫القاهرة مراكـز إشعاع ثقايف وتنويري‪ .‬وهي تمارس دورًا ثقافيًّا‬

‫يختلف عما تمارسه عواصم ومراكـز أخرى من حيث كونها‬

‫مدينة غري جامدة أو إستاتيكية‪ ،‬كما أنها متسعة وضاجة‬ ‫ومضيافة‪ ،‬وقبل ذلك قابلة ملختلف الفئات والشرائح؛ ما‬

‫يضيف أهمية عىل ما تقدمه‪ ،‬ولذلك ما زال الناس يتجهون‬ ‫نحوها‪ ،‬ويقصدون تنوعها واختالفها»‪.‬‬

‫ونبه الصلوي إىل كون الحديث عن دور مركزي وآخر‬

‫غري مركزي «تغري عما كانت عليه مناقشة هذه األبعاد‬

‫فيما يتعلق بالثقافة‪ ،‬تحديدً ا مع هجرة الجميع إىل‬ ‫ً‬ ‫أيضا ميزات‬ ‫الفضاء الرقمي والشبيك‪ .‬وربما قدّ م هذا‬

‫كثرية للتعريف بما خفي عن القاهرة ذات األفق الجميل‬

‫والفعاليات الالنهائية» ‪.‬‬


‫مقال‬

‫العقل السياسي‬ ‫األلماني‬ ‫بين «الثقافة الرائدة»‬ ‫و«الوطنية الدستورية»‬ ‫تعيش النخبة السياسية األلمانية اليوم على وقع الصدمة التي‬

‫رشيد بوطيب‬ ‫كاتب مغربي يقيم في ألمانيا‬

‫خلفتها نتائج الحزب اليميني المتطرف «البديل من أجل ألمانيا» في‬ ‫االنتخابات المحلية‪ .‬ويبدو واضحً ا أن األحزاب التقليدية في حيرة من‬

‫أمرها‪ ،‬أمام الشعبية الكبيرة التي بدأ يحظى بها هذا الحزب‪ ،‬ليس فقط‬ ‫في شرق البالد‪ ،‬بل في غربها ً‬ ‫أيضا‪.‬‬ ‫لقد أعلن حزب «البديل من أجل ألمانيا» في برنامجه عداءه‬

‫الواضح لالتحاد األوربي‪ ،‬وطالب باستعادة الدولة القومية لسلطاتها‬

‫السياسية واالقتصادية من بروكسل‪ .‬وتساوق هجومه على المشروع‬

‫‪64‬‬

‫األوربي‪ ،‬مع هجومه على المهاجرين من أصول مسلمة‪ ،‬ومطالبته‬ ‫بإغالق الكتاتيب القرآنية ومراقبة المساجد‪ ،‬ووقف استقدام اليد‬ ‫العاملة من الخارج‪.‬‬

‫أكد الفيلسوف األلماني هابرماس أن االنفتاح على المهاجرين‬

‫وثقافتهم‪ ،‬يشجع ويعبد الطريق إلى انفتاح أكبر للشعوب األوربية‬

‫بعضها على بعض‪ ،‬وخلق ثقافة أوربية متعددة ومنفتحة‪ .‬كما أوضح‬

‫أعلن حزب «البديل من أجل‬ ‫ألمانيا» عداءه الواضح‬ ‫لالتحاد األوربي‪ .‬وتساوق‬ ‫هجومه على المشروع‬ ‫األوربي‪ ،‬مع هجومه على‬ ‫المهاجرين من أصول‬ ‫مسلمة‪ ،‬ومطالبته بإغالق‬

‫في محاضرته الشهيرة «أوربا ومهاجروها» التي ألقاها عام ‪2005‬م‪« :‬إنه‬ ‫من غير الممكن تشكل هوية أوربية مشتركة‪ ،‬إال عبر انفتاح أكبر داخل‬

‫دول االتحاد وثقافاتها الوطنية على مواطنيها الذين ينتمون إلى أصول‬ ‫ً‬ ‫طريقا باتجاه واحد‪ ،‬وإذا ما‬ ‫إثنية ودينية مختلفة‪ .‬إن االندماج ليس‬

‫نجح‪ ،‬فإنه سيتسبب في رجة حيوية للثقافات الوطنية القوية‪ ،‬لتصبح‬ ‫أكثر انفتاحً ا وأكثر حساسية‪ ،‬وأكثر قدرة على االستيعاب نحو الداخل‬ ‫والخارج في اآلن نفسه»‪.‬‬

‫رفض قيم المجتمع الليبرالي‬

‫الكتاتيب القرآنية ومراقبة‬ ‫المساجد‪ ،‬ووقف استقدام‬ ‫اليد العاملة من الخارج‬

‫لكن يبدو أن أحزاب اليمين المتطرف‪ ،‬وليس في ألمانيا فقط‪،‬‬

‫اختارت الطريق المعاكس‪ .‬فهي تتخذ مواقف عدائية ضد المهاجرين‬

‫وضد الفكرة األوربية في آن‪ .‬ويشتمّ من برنامجها رفض لقيم المجتمع‬

‫الليبرالي‪ ،‬بل وتعلن صراحة إعالءها للقومي ولفكرة ضيقة للهوية على‬ ‫حساب المجتمع متعدد الثقافات‪ .‬إن حزب «البديل من أجل ألمانيا»‬ ‫يعلن في برنامجه الحزبي انتصاره لفكرة «الثقافة األلمانية الرائدة»‬ ‫العددان ‪ 478 - 477‬شوال ‪ -‬ذو القعدة ‪1437‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬أغسطس ‪2016‬م‬


‫أولاً ‪ -‬ضرورة الدخول في حوار نقدي مع الماضي وأخطائه‬

‫‪ Leitkultur‬ضد ما يسميه «أيديولوجية المجتمع متعدد‬ ‫الثقافات»‪ ،‬مغفلاً أن التعدد الثقافي مكون من مكونات كل‬

‫(القدرة على النقد الذاتي التاريخي)‪.‬‬

‫يعلن رفضه لما يسميه باستيراد التيارات الثقافية‪ ،‬أي يرفض‬

‫الديمقراطية‪.‬‬

‫مجتمع‪ ،‬ال يمكن القفز عليه وال تجاهله‪ .‬كما أن برنامج الحزب‬ ‫التأثيرات الثقافية الخارجية‪ ،‬وهو ما يفضح فكرته العنصرية‬

‫عن الثقافة‪ ،‬وعن الوحدة الثقافية المزعومة أللمانيا‪،‬‬

‫التي يؤكد التاريخ الثقافي األلماني نفسه أنها مجرد شطح‬ ‫أيديولوجي‪.‬‬

‫وثانيًا‪ -‬االستعداد للدفاع عن القيم الليبرالية ‪-‬‬ ‫وصف ستيرنبرغر في محاضرة له ألقاها في األربعينيات‬

‫المواطن «كذات مفكرة ومسؤولة داخل جماعة سياسية»‪.‬‬ ‫وهذه الجماعة السياسية يتوجب أن نفهمها برأيه كمجتمع‬ ‫مدني يتكون من مواطنين أحرار ومتساوين‪ .‬إنه نموذج لم‬

‫لكن هذه اليعقوبية الثقافية تفضح نفسها أكثر حين‬

‫يتحقق من قبل في رأي ستيرنبرغر في التاريخ األلماني‪ .‬وفي‬

‫وأن تزايد أعداد القادمين إلى ألمانيا من بلدان مسلمة يشكل‬

‫إدارة مصير مجتمعاتنا وفي تشكيل دولتنا؛ ازددنا مدنية‪.‬‬

‫حديثها عن اإلسالم‪ ،‬معتبرة أن اإلسالم ال مكان له في ألمانيا‪،‬‬ ‫خط ًرا على الهوية األلمانية‪ .‬بل إن برنامج الحزب يدافع عن‬ ‫ً‬ ‫مشروعا لإلسالم‪.‬‬ ‫«اإلسالموفوبيا» باعتبارها نقدً ا‬

‫هذا المنعطف باتجاه اليمين‪ ،‬وباتجاه أفكار ومعتقدات‪،‬‬

‫رأيه كلما تقدمنا في مشروع المواطنة‪ ،‬أي كلما شاركنا في‬ ‫إن أهم نقطة فيما كتبه ستيرنبرغر‪ ،‬كما يرى عالم السياسة‬

‫األلمانية يان فيرنر مولر‪ ،‬تكمن في تحريره لمفهوم المواطن‬ ‫من حمولته السلبية التي نجدها عند منتقديه مثل ماركس‬

‫ماض‬ ‫اعتقدت النخبة الفكرية في ألمانيا أنها أضحت جزءً ا من‬ ‫ٍ‬ ‫مظلم‪ ،‬طواه التاريخ‪ ،‬وتجاوزه العقل السياسي األلماني مع‬

‫المواطن كما يرى ليست بالضرورة سيئة أو تقوم على النفاق‬

‫نوربرت المرت يلح مرارًا على ضرورة دعم ثقافة ألمانية رائدة‪،‬‬

‫بإمكاننا أن نكون مواطنين من دون أن نعتقد أننا محاربون‪،‬‬

‫انهزام النازية‪ ،‬ليس وليد اليوم‪ .‬فهذا رئيس البرلمان األلماني‬

‫تكون بمثابة النموذج الذي يحتذى بالنسبة لألقليات‪ ،‬مؤكدً ا‬ ‫أن الوطنية الدستورية وحدها ال تكفي لالندماج‪ .‬وهو الشخص‬

‫نفسه الذي أعلن غير مرة اعتراضه على انضمام تركيا إلى‬

‫االتحاد األوربي‪ ،‬باعتبار أنها دولة إسالمية‪ ،‬أو دولة لم تعرف‬ ‫تقليد التنوير‪ ،‬وكلها ادعاءات واهية‪ ،‬فدول شرق أوربا التي‬ ‫انضمت إلى االتحاد‪ ،‬ال تتوافر على تقاليد ديمقراطية راسخة‪،‬‬

‫ولم تعش تنوي ًرا‪ ،‬وهو ما يبدو اليوم على األقل في أمرين‪:‬‬ ‫أولاً ‪ -‬مسيحيتها التي ما زالت يطبعها الطابع القومي‪،‬‬

‫المُ عادي للسامية ولإلسالم‪.‬‬

‫وثانيًا‪ -‬سطوة األفكار اليمينية عليها‪ ،‬وخضوعها اليوم‪،‬‬

‫كما الحال في بولندا وهنغاريا ألحزاب شعبوية‪ ،‬معادية‬

‫ألوربا‪.‬‬

‫مبادئ ديمقراطية بطابع كوني‬

‫ونيتشه‪ ،‬ليضعه في قلب الفكرة السياسية‪ .‬إن شخصية‬ ‫كما تقول الماركسية‪ .‬وفي اآلن نفسه يتساءل إذا ما كان‬

‫دون فكرة البطولة؟ في مقال آخر سيفرق ستيرنبرغر بين‬ ‫مفهوم «البلد» ‪ Heimat‬ومفهوم «الوطن» ‪Vaterland‬‬

‫مؤكدً ا أن مفهوم الوطن يرتبط دائمً ا بمسؤولية سياسية‪،‬‬ ‫ويتطلب مواطنين راشدين‪ .‬إنه مفهوم ال يتحقق إال في‬

‫الدستور‪ .‬فهو ال عالقة له بكل تلك الخطابات التي تتحدث‬

‫عن األصل والهوية وروح الشعب‪ .‬وحبنا لهذا الوطن ال يتحقق‬ ‫عاطفيًّا بل يمر عبر حريتنا ومشاركتنا في دستوره الواقعي‪ .‬إن‬

‫المواطن ليس جنديًّا‪ ،‬تتحقق مسؤوليته كطاعة‪ ،‬والجمهورية‬ ‫ً‬ ‫جيشا‪ ،‬يطلب من جنوده الطاعة واالستعداد‬ ‫برأيه ليست‬ ‫للتضحية‪.‬‬

‫سيتبنى الفيلسوف األلماني يورغن هابرماس في أواسط‬

‫عقد الثمانينيات مفهوم الوطنية الدستورية الذي نحته عالم‬

‫السياسة دولف ستيرنبرغر‪ ،‬ويمنحه بعدً ا كونيًّا ونبرة نقدية‬ ‫ذاتية‪ .‬لقد بدأ أولاً بإعادة النظر إلى الموقف الذي عبرت عنه‬

‫إن تيار «الثقافة الرائدة» داخل ألمانيا‪ ،‬يقف على النقيض‬

‫مدرسة فرانكفورت النقدية بالدستور والقانون حين شككت‬

‫قيمة هوية جمعية على الهوية الفردية‪ ،‬فإن تيار «الوطنية‬

‫نظرية تواصلية‪ ،‬عبرها سينتقل بالمدرسة النقدية إلى فهم‬

‫من تيار «الوطنية الدستورية»‪ .‬فإذا كان التيار األول يعلي من‬

‫الدستورية» جاء كرد فعل على األخطاء والجرائم التي ارتكبت‬

‫باسم الوطنية األلمانية‪ .‬وبالنسبة لهذا التيار فإن الدستور ال‬ ‫يعبر عن أمة‪ ،‬ولكن عن مبادئ ديمقراطية تتمتع بطابع كوني‪.‬‬ ‫إن الوطنية الدستورية في مفهوم كل من عالم السياسة‬

‫األلماني‪ ،‬دولف ستيرنبرغر والفيلسوف يورغن هابرماس تقوم‬

‫على مطلبين أساسيين‪:‬‬

‫فيهما واعتبرتهما أدوات بورجوازية‪ ،‬لكن هابرماس سيطور‬ ‫ً‬ ‫وخصوصا خالل‬ ‫جديد لدولة الحق والقانون وللديمقراطية‪،‬‬

‫النقاش الذي دار في الثمانينيات حول الهوية السياسية‬ ‫أللمانيا االتحادية (‪ )Historikerstreit‬وهنا‪ ،‬وضد تلك‬ ‫المحاوالت التي كانت تدعو إلى دعم وعي قومي ألماني‪ ،‬من‬ ‫أجل دعم ارتباطها بالغرب‪ ،‬رأى هابرماس أن طريق االرتباط‬

‫الوحيد بالغرب يمر عبر وطنية دستورية‪ ،‬وعبر االرتباط‬

‫‪65‬‬


‫مقال‬

‫بالقيم الدستورية الكونية‪ ،‬تلك القيم التي برأيه لم تعرفها‬

‫ً‬ ‫ضمانا لوحدة المجتمع‪،‬‬ ‫تقدم الوطنية الدستورية إذن‬

‫لهابرماس‪ ،‬فإنه لم يبق أللمانيا‪ ،‬بسبب ماضيها المظلم‪،‬‬

‫التقليدية‪ .‬وهي بذلك تختلف عن القومية الليبرالية‪ ،‬وعن‬

‫ألمانيا وثقافتها إال بعد وعبر آوشفيتز (المحرقة)‪ .‬فبالنسبة‬

‫سوى االرتباط بمبادئ سياسية كونية‪ ،‬وعبر تلك المبادئ‬ ‫يتوجب عليها الدخول في حوار نقدي مع تقاليدها القومية‬ ‫وممارسة النقد الذاتي‪ .‬إن الهوية ما بعد التقليدية‪ ،‬كما‬

‫يسميها هابرماس‪ ،‬تفقد طابعها الجوهراني؛ ألنها تتحقق في‬

‫سياق الفضاء العام فقط‪ ،‬كوطنية دستورية‪.‬‬ ‫حوار نقدي مع الماضي‬

‫لقد ربط هابرماس دائمً ا بين الوطنية الدستورية وبين‬

‫ضرورة الدخول في حوار نقدي مع الماضي ومع التقاليد‬

‫األلمانية‪ .‬أما واجب المواطنين فال يتمثل فقط في الوفاء‬ ‫ً‬ ‫أيضا في الممارسات التواصلية‬ ‫بمبادئ الدستور‪ ،‬ولكن‬

‫التي تبحث عن تحقيق تفاهم حول التأويل الصحيح لتلك‬ ‫المبادئ‪ .‬فالوطنية الدستورية هي صيرورة وممارسة‪ ،‬وعلى‬ ‫المواطنين أال يهتموا فقط بالدستور‪ ،‬ولكن أن ينخرطوا ً‬ ‫أيضا‬ ‫في النقاشات التي يعرفها الفضاء العام‪ .‬إن مفهوم الوطنية‬

‫الدستورية يدعم‪ ،‬في رأي عالم السياسة األلماني يان فيرنر‬

‫‪66‬‬

‫مولر‪ ،‬تعايش الثقافات المختلفة داخل المجتمع الواحد‪.‬‬ ‫بل يظهر أنه الضمان العقالني للحفاظ على التعدد الثقافي‬

‫والوقوف ضد سيطرة ثقافة األغلبية‪ .‬فكل ثقافة ال تحترم تلك‬ ‫القيم الكونية‪ ،‬تهدد العيش المشترك‪.‬‬

‫متجنبة المخاطر التي قد تنتج عن الوطنية في نسختها‬ ‫التصورات التقليدية التي تقدمها المدرسة الجمهورية‪.‬‬

‫فالوطنية الدستورية تعتبر مصدر الثقة السياسية السائدة‬ ‫بين المواطنين‪ ،‬وتساهم في استقرار المجتمع‪ .‬كما أنها تدعو‬ ‫المواطنين لالتحاد ضد األخطار التي تهدد مبادئ الدستور‪،‬‬

‫كما تحثهم على العمل على تحسين أداء مؤسساتهم أو‬ ‫انتقادها‪ .‬وألنه ال يمكن أن يحدث توافق بين مبادئ الدستور‬

‫وواقع الدستور؛ ألن الواقع غالبًا ما يكون أصغر من المبادئ‪،‬‬

‫فإن الوطنية الدستورية تتميز بخاصيتين أساسيتين‪:‬‬ ‫أولاً ‪ -‬إنها تحقق االستقرار‪.‬‬

‫ثانيًا‪ :‬إنها تشحذ العقل النقدي للمواطن‪ ،‬بل قد تذهب‬

‫بالنقد إلى مستوى التمرد المدني‪.‬‬

‫بالنسبة لهابرماس‪ ،‬فإنه لم يبق‬ ‫أللمانيا‪ ،‬بسبب ماضيها المظلم‪ ،‬سوى‬ ‫االرتباط بمبادئ سياسية كونية‪ ،‬وعبر‬ ‫تلك المبادئ يتوجب عليها الدخول‬ ‫في حوار نقدي مع تقاليدها القومية‬ ‫وممارسة النقد الذاتي‬

‫اعتزاز قومي ال يقبل المساءلة‬ ‫ما ال يمكن تصوره لدى الوطنيين الدستوريين‪ ،‬كما يكتب يان فيرنر مولر‪ ،‬هو ذلك االعتزاز القومي الذي ال يقبل‬

‫المساءلة‪ ،‬أو تلك السردية القومية المغلقة‪ ،‬التي ال تتحدث إال عن االنتصارات والبطوالت‪ ،‬وهو أمر ممكن لدى‬ ‫القوميين الليبراليين‪ .‬إن هابرماس يتحدث عن تضامن بين غرباء‪ ،‬يتأسس على القانون‪ .‬وعالوة على ذلك‪ ،‬من الخطأ‬

‫اعتبار الوطنية الدستورية ً‬ ‫نوعا من العالقة العمودية بين المواطنين والدولة‪ ،‬بل هي ال تتحقق إال في العالقة بين‬ ‫المواطنين أنفسهم‪ ،‬بين مواطنين أحرار ومتساوين‪.‬‬

‫تملك الوطنية الدستورية أهمية كبيرة في سياق النقاش الدائر حول االندماج‪ ،‬سواء تعلق األمر باندماج المهاجرين‬ ‫في مجتمعهم الجديد‪ ،‬أو باندماج الدول في إطار أكبر كاالتحاد األوربي مثلاً ‪ .‬ففيما يتعلق باندماج المهاجرين‪ ،‬فإن‬

‫الوطنية الدستورية ترفض فرض ثقافة األغلبية المجتمعية عليهم‪ .‬وبدلاً من ذلك تدعو األقلية واألغلبية إلى االتفاق‬

‫على مبادئ عامة للعيش المشترك داخل الدولة الواحدة التي ال يتوجب القفز فوقها سواء باسم الثقافة أو الدين‪ .‬أما‬ ‫ً‬ ‫ضيقا عن الثقافة القومية‪ ،‬يقوم في نهاية المطاف على أحادية ثقافية‪ .‬إنه يقوم‬ ‫القومية الليبرالية فإنها تعتمد مفهومً ا‬

‫على مبدأ االنتماء ‪-‬انتماء غير محايد إلى ثقافة معينة‪ -‬وليس على المسؤولية تجاه الدستور‪ ،‬وهو ما تعبر عنه بوضوح‬ ‫قضية منع الحجاب في بعض البلدان األوربية‪ ،‬وما تطمح لفرضه على المجتمع أحزاب يمينية ويمينية متطرفة‪ ،‬كما‬ ‫هي الحال مع حزب «البديل من أجل ألمانيا»‪.‬‬

‫العددان ‪ 478 - 477‬شوال ‪ -‬ذو القعدة ‪1437‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬أغسطس ‪2016‬م‬


67

@alfaisalmag


‫دراسات‬

‫جا‬ ‫«العنقاء والخل الوفي» و«الظهور الثاني البن لعبون» نموذ ً‬

‫تنازع الروائي والتاريخي‬ ‫في روايتين إلسماعيل فهد‬

‫الحسن بنمونة‬

‫‪68‬‬

‫ناقد مغربي‬

‫«يكتب علم التاريخ تاريخ المجتمعات ال تاريخ‬ ‫اإلنسان»‪.‬‬

‫ميالن كونديرا‬

‫في مخيلة القارئ العربي تصور مجانب للصواب‬

‫عن السرد في الخليج العربي‪ ،‬والراجح أنه ال يريد‬

‫االعتراف بوجود سرد في هذه البيئة‪ .‬هذا التصور‬ ‫راجع إما إلى فكرة مسبقة عن البيئة األدبية‪ ،‬ولهذا‬ ‫ال نستطيع أن نقنعه بتوافر إمكانات سردية عند‬

‫كثير من الكتاب من أمثال‪ :‬ليلى العثمان‪ ،‬وسعود‬ ‫السنعوسي الذي نال جائزة البوكر للرواية العربية‪،‬‬

‫وفهد الدويري‪ ،‬وفرحان راشد فرحان‪ ،‬وفاطمة‬ ‫ً‬ ‫طبعا‬ ‫يوسف العلي‪ ،‬وطالب الرفاعي‪ ،...‬ومنهم‬

‫الروائي الكويتي إسماعيل فهد إسماعيل‪ ،‬وإما راجع‬ ‫إلى أن المجتمع يتوجس خيفة من المجال الروائي‪،‬‬

‫بحكم أن الجزيرة العربية لم ينبغ فيها إال الشعر‪،‬‬

‫فقد كان منذ زمن بعيد هو ديوان العرب‪.‬‬ ‫العددان ‪ 478 - 477‬شوال ‪ -‬ذو القعدة ‪1437‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬أغسطس ‪2016‬م‬


‫ً‬ ‫انطالقا من مبدأ تحكم التطور والتغير في الواقع‪ ،‬فال شك‬

‫بفكرة أن يكون اإلنسان منسيًّا بال هوية وال وطن‪ ،‬إشكالية‬

‫المعاصرة؛ هي المرتبطة بتجربة الروائي إسماعيل فهد‬ ‫إسماعيل‪ .‬صحيح أن الراهن األدبي العربي لم يعد يعير بالاً‬

‫رغبة السؤال والتنقيب‪ ،‬فال يهم إن كان هذا السؤال فلسفيًّا‬ ‫يحيلنا إلى المفهوم المتفق عليه للهوية التي تجعلنا منتمين‬

‫في سبيل تأسيس كتابة جادة أصيلة متجذرة في واقعنا‪ ،‬ولكن‬

‫التي تجمع ال منتميًا بوطن ليس له‪ ،‬ولكنه يسعى إلى بعثه‬

‫أن هذا يجعلنا نفتخر بتجربة رائعة شهدتها الثقافة الكويتية‬

‫لكتابنا الشيوخ الذين خبروا أسرار الكتابة‪ ،‬وأجهدوا أنفسهم‬ ‫هذا ال يعني أنهم منسيون‪ .‬إن التجارب الخالدة في الكتابة ال‬

‫يمكن تجاوزها‪ ،‬وال يمكن إقصاؤها‪.‬‬

‫الكاتب من مواليد ‪1940‬م‪ّ ،‬‬ ‫مثل األب الروحي للرواية الكويتية‬

‫الحديثة (فهو من كتاب ستينيات القرن الماضي)‪ .‬صحيح أن‬

‫كتابًا كويتيين سبقوه من أمثال فهد الدويري وفرحان راشد‬

‫ينبغي لنا مساءلتها‪ .‬الكاتب كان يسائل المجتمع‪ ،‬ويثير فيه‬

‫لهذه األرض أو لتلك‪ ،‬أو كان أنثروبولوجيا يريد تفكيك العالقة‬ ‫وتجديده باالنتماء إليه‪ .‬الفكرة عينها ال تزال حاضرة في رواية‬ ‫أخرى هي «الشمس في برج الحوت»‪ ،‬وفيها نعاين الغزو‬

‫العراقي للكويت سنة ‪1990‬م‪ ،‬وهذه الرواية جزء من سباعية‬

‫جعلت الكاتب يحظى بمكانة خاصة في السرد العربي إلى جانب‬ ‫خماسية الروائي عبدالرحمن منيف‪ ،‬وثالثية نجيب محفوظ‪.‬‬

‫فرحان‪ ،‬ولكن التأسيس يربطه الدارسون بهذا االسم‪ .‬له من‬

‫البناء الفني لرواية «في حضرة العنقاء والخل الوفي» يقوم‬

‫«البقعة الداكنة» (‪1965‬م)‪ ،‬و«كانت السماء زرقاء» (‪1970‬م)‪،‬‬

‫من سنة ‪2010‬م‪ ،‬سنة الكتابة‪ ،‬ولكنها تعود بنا إلى ستينيات القرن‬

‫األعمال الروائية والقصصية ما يربو على العشرين‪ ،‬نذكر منها‪:‬‬

‫و«الشمس في برج الحوت» (‪1996‬م)‪ ،‬و«طيور التاجي» (‪2014‬م)‪.‬‬ ‫ولم يسجن الكاتب نفسه في فن واحد‪ ،‬بل كان كائ ًنا لمتعدد؛‬

‫على تقنية سرد األحداث المتداخلة والمتشابكة‪ ،‬فهي تنطلق‬

‫الماضي وثمانينياته‪ ،‬وتسعينياته‪ .‬وهذه المراحل التاريخية‬

‫للرواية والقصة القصيرة والمسرح والدراسة والمقالة‪ .‬وقد توج‬

‫في اآلونة األخيرة بجائزة سلطان العويس اإلماراتية تقدي ًرا لما‬

‫خلفه من إنتاجات‪ ،‬عملت على تطوير هذا الفن في الكويت‪،‬‬ ‫وفي العالم العربي‪.‬‬

‫تنوع في الموضوعات واألفكار‬

‫إن المتتبع لجوالته التجريبية في الكتابة الروائية واجد‬

‫ً‬ ‫تنوعا في الموضوعات واألفكار واألحداث؛ يتناول التوافق‬

‫ً‬ ‫انطالقا من‬ ‫النفسي للمواطن الكويتي مع مستجدات العصر‬

‫التحول الذي أحدثه النفط في البنيات االجتماعية واالقتصادية‪،‬‬ ‫كما أنه ينفتح على التشكالت االجتماعية المحلية‪ ،‬وهو يعالج‬

‫موضوع فئة البدون التي خلقت إشكالية في هرمية المجتمع‬ ‫الكويتي خاصة‪ ،‬والمجتمع الخليجي عامة‪ .‬في روايته «في‬ ‫حضرة العنقاء والخل الوفي»‪ ،‬يتحدث عن إسهام هؤالء في‬

‫المقاومة ضد غزو جيش صدام البلد واستشهاد عدد منهم‪،‬‬ ‫ومشاركتهم في البناء والتشييد من خالل بطل ال اسم له‪،‬‬ ‫ولعل الكاتب وهو يسميه بالمنسي ابن أبيه كان يريد إثارتنا‬

‫أرخ روائ ًّيا لمرحلة‬ ‫إسماعيل فهد ّ‬ ‫كولونيالية‪ ،‬تمثلت في االنتداب‬ ‫وأرخ‬ ‫البريطاني والتدخل األميركي‪ّ ،‬‬ ‫كذلك لمرحلة مظلمة سادت أواخر‬ ‫القرن التاسع عشر‬

‫‪69‬‬


‫دراسات‬

‫ترتبط بأحداث غيرت مجرى التاريخ العالمي‪،‬‬

‫الرواية كلها بوح وانطباعات وخواطر‬

‫الذي انبثق مع الغزو العراقي للكويت‪ .‬وهذه‬

‫عن وطن يمثل االنتماء العرقي والثقافي‪.‬‬

‫آخرها هو مفهوم النظام العالمي الجديد‬

‫وتفتيت للمشاعر تجاه الذات والهوية‪ ،‬والبحث‬

‫األحداث نتعرفها من خالل الرسائل التي‬

‫هذا البوح لم يصدر عن شخصية عادية‪ ،‬بل‬

‫يوجهها الراوي والشخصية البنته زينب‪ .‬نقرأ‬

‫صدر عن شخصية استطاعت أن تبذل جهودًا‬

‫في ص‪« :9‬يا زينب‪ ،‬منذ عام ‪ ،1996‬كنت وقتها‬

‫في خامستك‪ ،‬وأنا أجاهدني للكتابة إليك»‪،‬‬ ‫وفي عدد من الصفحات نعثر على االسم‬

‫شهادة الماجستير‪ ،‬والمساهمة في المقاومة‪.‬‬

‫اللغز الذي ساهم في تلغيم الحدث‪ ،‬كما هو الشأن في ص‪:13‬‬

‫هذا المنحى الذي اتخذه الكاتب في نقل‬ ‫ً‬ ‫اعتباطا‪ ،‬فالراجح أنه تأثر‬ ‫األحداث من خالل الرسائل لم يأت‬

‫في ص‪« :94‬البعض محكومون بالبقاء على الهامش»‪ .‬ينفتح‬

‫في المتخيل الغربي‪ ،‬ولعل تأثره بالكاتب اإلنجليزي صمويل‬

‫«صباح الخير يا ابن أبيه»‪ ،‬أو نعاين الشعور بالمهانة والتهميش‬

‫البوح على واقع الدم والغدر والحرب والغزو كما هو الشأن في‬ ‫ص‪« :190‬قبل الساعة التاسعة ليلاً أقفرت الشوارع من المارة‬

‫عدا دوريات العسكر العراقي بما يكرس اإلحساس بواقعية‬ ‫حدث الغزو»‪ .‬هذه بعض االقتباسات التي تسعى إلى وضع‬

‫الحدث في المسار التاريخي للكويت‪ ،‬ولألمة العربية جراء ما‬ ‫تكالب عليها من أحداث جسام‪ .‬والواضح أن الكاتب كان يدين‬ ‫طرفين في الوقت عينه؛ يدين نظرة المجتمع المجحفة تجاه‬ ‫البدون‪ ،‬ويدين الغزو الذي استباح حرمة وطن آخر‪ .‬وكأنه كان‬

‫‪70‬‬

‫لتنخرط في النشاط المسرحي والحصول على‬

‫يثير األسئلة واإلشكاالت؛ ليخز لحمنا حتى نشعر بما يحدث‪،‬‬

‫على أساس أنه سيؤثر في التماسك االجتماعي عامة‪.‬‬

‫طالب الرفاعي‬

‫بسرود ضاربة في المتخيل العربي القديم والحديث‪ ،‬وضاربة‬ ‫ريتشاردسون (‪1761 - 1689‬م) واضح للغاية‪ .‬يتوضح التأثر كذلك‬ ‫بتولستوي الذي انشغل بموضوعات الحرب والحب‪ ،‬وحب‬

‫الوطن‪ ،‬والفضيلة والبعث‪.‬‬ ‫غزل في بيئة متزمتة‬

‫تتنوع الموضوعات عند الكاتب‪ ،‬فنراه ملتف ًتا إلى التاريخ‬

‫في روايته الجديدة «في الظهور الثاني البن لعبون» التي نشرت‬

‫سنة ‪2015‬م‪ ،‬واالسم في الواقع هو لشاعر شهير في دول الخليج‬

‫ولد بالسعودية‪ ،‬ثم رحل إلى الكويت‪ ،‬فاستقر فيها إلى أن‬

‫مات بالطاعون‪ .‬الرواية استحضار لتاريخ شعري حقق حضورًا‬ ‫الف ًتا في فترة زمنية غابرة في الكويت‪ ،‬وخلف أث ًرا لن يمحى‬

‫الكاتب يدين نظرة المجتمع المجحفة‬

‫في الذاكرة الجماعية‪ ،‬فكان تعامل الروائي مع الشاعر باعتباره‬ ‫ً‬ ‫ملعونا من لدن المتزمتين أواخر القرن التاسع عشر‪.‬‬ ‫شاع ًرا‬

‫استباح حرمة وطن آخر‬

‫خاصة؛ كيف تعامل شاعر غزل مع بيئة متزمتة تريد النيل منه؟‬

‫تجاه البدون‪ ،‬ويدين الغزو الذي‬

‫الرواية تحاول مقابلة الدنيا باآلخرة في بعديهما الفلسفيين‬

‫المنسي يستمد رمزيته من النسيان والعدم‬ ‫الناظر إلى الحمولة الرمزية واألسطورية للشخصيتين في الروايتين؛ «حضرة العنقاء والخل الوفي»‪ ،‬و«الظهور‬ ‫الثاني البن لعبون»‪ ،‬يقف على أن لداللة المنسي ابن أبيه ب ً‬ ‫ُعدا أنثروبولوجيا يستمد رمزيته من النسيان والعدم‪،‬‬

‫والهامش والنبذ‪ ،‬وهذه الدالالت ال تبرح كذلك شخصية الشاعر الذي جابه التقليد بالحب فكان مصيره النبذ‪ ،‬ولعل‬ ‫الكاتب وهو يؤشر على فكرة الظهور الثاني (وقد يعقبه ظهور ثالث ورابع‪ ...‬إلخ) كان ً‬ ‫بارعا في اإلثارة والوخز واستنهاض‬ ‫الهمم‪ .‬أفال تكون الكتابة وخ ًزا وكأنها إبر؟‬

‫البحث عن الهوية هو ما يطبع التشابه بين الشخصيتين؛ البحث الذي يذكرنا ببحث جوزيف ك في رواية كافكا‬

‫«المحاكمة» عن الحقيقة‪ .‬وألنها تظل دائمً ا متوارية خلف الغموض واأللغاز‪ ،‬فقد عاينا في نهاية رواية «في حضرة‬ ‫العنقاء والخل الوفي» ما يشي بأن شخصية المنسي لم تفلح في أن تغير وجهة نظر اآلخر (قد يكون مجتمعً ا أو سلطة‬

‫ما)‪ .‬نرى البطل يتطلع إلى السماء «حدست وجود غيوم بيضاء في السماء‪ ،‬رفعت عيني‪ ،‬ال أثر للغيوم بالمرة» ص‪.386‬‬

‫الغيوم هنا بالمعنى األسطوري ال تنفصل عن مفهوم الخصب والحياة واألمل والبعث‪ .‬أما بحث الشاعر عن مشروعية‬ ‫ً‬ ‫إنسانا حرًّا‪.‬‬ ‫قاس ال يرحم‪ ،‬فهو بحث اإلنسان عن حقيقة أن يكون‬ ‫الكلمة في مجتمع ٍ‬

‫العددان ‪ 478 - 477‬شوال ‪ -‬ذو القعدة ‪1437‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬أغسطس ‪2016‬م‬


‫تنازع الروائي والتاريخي في روايتين إلسماعيل فهد‬

‫هل يستطيع الشعر أن يكسر شوكة الجمود والتخلف الفكري؟‬

‫الشعر هنا ليس عيبًا وال حرامً ا‪ ،‬فالحرام في تصور اآلخر أن‬

‫يتكئ على خرق العادات‪ ،‬وهو لم يأت بجديد إذا كنا نعلم أن‬ ‫شعر الغزل غرض قديم‪ ،‬فلم يراد له أن يصمت؟ لعل الكاتب‬ ‫يطمح إلى البحث في أسباب هذا التغير ال في الحلول‪ ،‬فهذه‬

‫رهن بالقرارات السياسية العليا‪.‬‬

‫يقول الكاتب‪ :‬إنه أراد كتابة سيناريو عن مكان عريق في‬

‫الكويت هو المشفى األميركاني الذي بني بداية القرن العشرين‪،‬‬

‫ليلى العثمان‬

‫فاطمة يوسف العلي‬

‫ولما انكب على قراءة تاريخ شاعر نظم الشعر النبطي هو حمد‬

‫بن محمد بن لعبون وجد نفسه بين كماشتين؛ كماشة المكان‬ ‫وهو جزء من تاريخ الكويت‪ ،‬وكماشة شاعر ّ‬ ‫مثل ظاهرة أدبية‬ ‫أواخر القرن التاسع عشر أثارت حفيظة المتشددين‪ .‬فرواية‬ ‫«الظهور الثاني البن لعبون» أراد بها الكاتب اإلشارة إلى أن‬

‫التطرف الديني‪ ،‬والتعصب للرأي‪ ،‬واإلرهاب ليس وليد هذا‬ ‫العصر‪ ،‬بل هو وليد عصور خلت‪ .‬يلتقي الشعر والمكان‬

‫والتاريخ في الرواية لنعاين اآلالم اإلنسانية‪ ،‬والمشاعر الدفينة‬

‫الموهوبة‪ ،‬وقيمة الكلمة التي تستطيع أن توحد بين الفرقاء‪.‬‬ ‫رواية عن شاعر منبوذ ألنه ينظم قصائد الغزل‪ ،‬وهو الغرض‬

‫الشعري الذي عرفه العرب منذ العصر الجاهلي‪ ،‬يتحدث فيها‬ ‫عن النساء والحب‪ .‬فهل كان الكاتب يسرد لنا تاريخ محاكمة‬

‫للحب؟ هذا الحب الذي يبني المجتمعات‪ ،‬ويحقق السلم‬

‫واألمان واألمل‪.‬‬

‫الكاتب قارئ نهم ألنماط سردية‬ ‫متنوعة من جهة‪ ،‬ونصوص و ُكتاب من‬ ‫ثقافات مختلفة من جهة أخرى‬ ‫المنبوذ‪ .‬فهل كان الكاتب ساذجً ا وهو يعود إلى هذه الحقبة‬

‫التاريخية؟ الجواب هو أن الكاتب أرّخ روائيًّا لمرحلة كولونيالية‪،‬‬ ‫تمثلت في االنتداب البريطاني والتدخل األميركي من خالل بناء‬

‫المستشفى‪ ،‬يكون في ظاهره دعمً ا ومساندة‪ ،‬ولكن في خفائه‬ ‫يكون احتاللاً ‪ ،‬وأرّخ كذلك لمرحلة مظلمة سادت أواخر القرن‬ ‫التاسع عشر‪ ،‬بتكفير الشاعر وتهديد حياته‪ ،‬وهو ما جعل كثي ًرا‬

‫من الدارسين يقرون بوجود عالقة بين ما حدث في تلك الفترة‪،‬‬ ‫وما يحدث اليوم في عالمنا العربي من تناسل فتاوى التكفير‬

‫الرواية ال تخلو من التشويق على الطريقة البوليسية؛‬

‫واإلرهاب والقتل باسم الدين‪ .‬وال ننسى أن هذه الظاهرة ليست‬

‫حدث في رواية الكاتب األلماني زوسكيند «العطر‪ .‬سيرة قاتل»‪.‬‬ ‫صحيح أن الكاتب يصرح قائلاً ما معناه‪ :‬إنه بال آباء في الرواية‪،‬‬

‫أو اتهموا بالزندقة‪ ،‬أو أجبروا على الرحيل‪.‬‬ ‫نلمح ً‬ ‫أيضا تشابهًا بين بطل الروائي الروسي غوغول في‬

‫إذ نقف على الجثث المنتمية لبنات الهوى‪ ،‬وهذا يذكرنا بما‬

‫ولكن على اعتبار أن ال كتابة من دون مرجعيات ثقافية قد تكون‬ ‫مرتبطة بالثقافة المحلية أو العالمية‪ ،‬وهو ما يسمى بالتناص‪،‬‬ ‫فإنه يحق لنا البحث في التعالقات النصية‪ .‬ولهذا نرى أن الكاتب‬

‫إسماعيل فهد إسماعيل يكتب تاريخ اإلنسان الكويتي ال تاريخ‬

‫مجتمعه بتعبير ميالن كونديرا‪ .‬نستطيع أن نلمح هذا في‬ ‫توظيف شخصيات تعود بنا إلى بداية القرن العشرين؛ منها‪:‬‬ ‫جان دارك البريطاني وجوان األميركية التي تنتمي إلى الثقافة‬

‫الغربية‪ ،‬أو توظيف شخصيات محلية تحيط بعالم الشاعر‬

‫«الظهور الثاني البن لعبون» أراد بها‬ ‫الكاتب اإلشارة إلى أن التطرف الديني‪،‬‬ ‫والتعصب للرأي‪ ،‬واإلرهاب ليس وليد‬ ‫هذا العصر‬

‫غريبة عن مجتمعنا العربي‪ ،‬فكثير من الشعراء القدامى قتلوا‪،‬‬

‫روايته «المعطف» أكاكي أكاكيفيتش وشخصية المنسي‪.‬‬ ‫يتشابهان في العيش في الهامش‪ ،‬واإلقصاء والنسيان وفي‬

‫الحلم؛ أحدهما يحلم بمعطف يليق بوظيفته‪ ،‬واآلخر يحلم‬ ‫ببطاقة هوية‪ .‬على األقل من جهة كون أن ما حدث للمنسي‬

‫يخدم هذا التصور‪ .‬هناك روايات غربية تناولت فكرة إسهام‬

‫مهمشي المجتمع في الدفاع عن الوطن؛ من بلدان مستعمرة‬ ‫كما هو الشأن في الحرب العالمية الثانية‪ ،‬في فرنسا التي‬ ‫استنجدت بمستعمراتها‪ .‬وقد استطاع الكتاب الفرنسيون‬ ‫ً‬ ‫أحداثا‬ ‫لويس أراغون وأندري مارلو وسارتر أن يسردوا لنا‬ ‫عن التضحية والبطولة والكرامة والوطنية‪ .‬بل إن هناك من‬

‫ارتأى أن ثمة تأثي ًرا أحدثه كامو في أدب كاتبنا‪ ،‬وهذا يعني‬

‫أنه قارئ نهم ألنماط سردية متنوعة من جهة‪ ،‬وأنه يحاور‬ ‫ً‬ ‫نصوصا و ُكتابًا من ثقافات مختلفة من جهة أخرى‪ ،‬فالكتابة‬ ‫في جوهرها سلسلة من الكالم يتلفظ به اإلنسان في أزمنة‬ ‫وأمكنة مختلفة‪.‬‬

‫‪71‬‬


‫دراسات‬

‫اإلرهاب في أفق النقاش الفلسفي‪..‬‬

‫هل نستطيع تبرير الممارسة‬ ‫اإلرهابية أخالق ًّيا؟‬ ‫رقية الكمالي‬ ‫كاتبة ومترجمة‬

‫قبل الهجمات اإلرهابية في ‪ 11‬أيلول من عام ‪2001‬م‪ ،‬في الواليات المتحدة‪ ،‬لم يكن موضوع‬

‫اإلرهاب يرتسم في أفق النقاش الفلسفي‪ .‬عدد الدراسات الفلسفية في اللغة اإلنجليزية التي‬

‫‪72‬‬

‫تتحدث عن اإلرهاب قليل‪ ،‬إضافة إلى مجموعة من األوراق المتخصصة‪.‬‬ ‫وكانت المقاالت حول هذا الموضوع في المجالت الفلسفية قليلة‬ ‫ً‬ ‫أيضا ومتباعدة‪ ،‬ولم يدخل أي منها الموسوعات الفلسفية الرئيسية‪.‬‬

‫لكن األمر اختلف بعد هجمات ‪ 11‬سبتمبر وما أعقبها‪ ،‬حيث أصبح‬

‫موضوع اإلرهاب على جدول األعمال الفلسفية‪ :‬وهو اآلن موضوع‬

‫العديد من الكتب والمقاالت الصحافية فضلاً عن أعداد المجالت الخاصة‪،‬‬ ‫والمؤتمرات‪ .‬في حين تدرس العلوم االجتماعية األسباب واألنواع‬ ‫الرئيسية‪ ،‬واآلثار المترتبة على اإلرهاب‪ ،‬وتعقب التاريخ‪ ،‬ومحاولة‬ ‫شرح طريقة اإلرهاب المتطورة مع مرور الوقت‪ ،‬مع تركيز‬ ‫الفلسفة على مسألتين أساسيتين‪ :‬األولى مفاهيمية؛ ما‬ ‫هو اإلرهاب؟ والثانية أخالقية؛ أي هل نستطيع‬ ‫تبرير اإلرهاب أخالقيًّا؟‬

‫العددان ‪ 478 - 477‬شوال ‪ -‬ذو القعدة ‪1437‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬أغسطس ‪2016‬م‬


‫إن تاريخ اإلرهاب قد يوازي تاريخ العنف السياسي‪.‬‬ ‫ً‬ ‫حديثا نسبيًّا حيث بدأ‬ ‫ومع ذلك‪ ،‬يعد مصطلح «اإلرهاب»‬

‫استخدامه في نهاية القرن الثامن عشر‪ .‬وعالوة على ذلك‪،‬‬ ‫غالبًا ما تستخدم الكلمة في الخطاب السياسي المعاصر‬ ‫كمصطلح جدلي يحمل عب ًئا عاطفيًّا قويًّا‪ .‬عندما دخلت‬ ‫أول مرة في الخطاب الغربي العام‪ ،‬كانت كلمة «اإلرهاب»‬

‫تعني فترة إرهاب اليعاقبة أو اليعقوبيين «نسبة إلى دير‬

‫القديس يعقوب»‪ ،‬الذي فرض على فرنسا من خريف عام‬

‫‪1793‬م إلى صيف عام ‪1794‬م‪ .‬كان هدف اليعاقبة هو إعادة‬

‫تشكيل المجتمع والطبيعة البشرية‪ .‬وكان ذلك يتحقق من‬ ‫خالل تدمير النظام القديم‪ ،‬وقمع أعداء الحكومة الثورية‪،‬‬

‫وغرس وتطبيق الفضيلة المدنية من وجهة نظرهم‪ .‬كان الدور‬ ‫المحوري والنفوذ الواسع الذي منح للمحاكم الثورية لتحقيق‬

‫هذه األهداف‪ ،‬مقيدً ا بعدد قليل جدًّ ا من القواعد واإلجراءات‪.‬‬ ‫كانت عقوبة اإلرهابيين المعتادة هي الموت‪ ،‬وكانت‬ ‫المحاكمات واإلعدامات تعني ضرب اإلرهاب وإلقاء الرعب‬

‫في قلوب جميع الذين يفتقرون إلى الفضيلة المدنية‪ .‬اعتقد‬

‫اليعاقبة أنها وسيلة ضرورية لتعزيز النظام الجديد‪ .‬وقدمت‬ ‫هذه الضرورة األساس المنطقي والتبرير األخالقي لسيادة‬ ‫اإلرهاب وسطوته‪ ،‬الذي انبثق من «الفضيلة»‪ .‬وكان نقاد‬

‫تجاوزات وفظائع الثورة الفرنسية يحذرون من سلطة اإلرهاب‬ ‫منذ البداية‪ .‬كان هذا اإلرهاب الذي ترافق مع انتهاك متطرف‬ ‫للسلطة‪ ،‬وارتبط بمفهوم االستبداد والطغيان كما حكم على‬

‫ً‬ ‫موضوعا متكررًا في الفلسفة السياسية‪.‬‬ ‫أساس الخوف‪،‬‬ ‫أساليب مختلفة من الصراع‬

‫الفعل»‪ ،‬كما كانت في معظمها اغتياالت لملوك أو مسؤولين‬ ‫ً‬ ‫وخالفا إلرهاب اليعاقبة‪ ،‬الذي‬ ‫حكوميين رفيعي المستوى‪.‬‬ ‫كان بطريقة عشوائية تقريبًا‪ ،‬كان هذا النوع من اإلرهاب يعمل‬ ‫إلى حد كبير بطريقة تمييزية للغاية‪.‬‬

‫وكان هذا ينطبق بشكل خاص على المنظمات الثورية‬

‫الروسية مثل إرادة الشعب أو الحزب االشتراكي الثوري‬ ‫(‪)SR‬؛ التي رأت أن اغتيال أي مسؤول حكومي مب َّرر أخالقيًّا‪،‬‬

‫كما أن اغتياله‪ ،‬من وجهة نظرها‪ ،‬كان من شأنه أن يصنع‬ ‫ً‬ ‫فارقا ويسهم إسهامً ا مهمًّ ا في النضال‪ .‬ابتعد عنفهم من‬

‫في النصف الثاني من القرن التاسع عشر‪ ،‬كان هناك‬

‫األشخاص اآلخرين‪ ،‬الذين ال عالقة لهم أو لم يشاركوا في‬

‫مختلفة من الصراع السياسي‪ ،‬استبد بعض الفوضويين‬

‫والقتل العشوائي للمواطنين العاديين كان ينفذه الفوضويون‬

‫تحول في كل معنى وصفي وتقييمي لهذا المصطلح‪ .‬بأساليب‬

‫الحكم القمعي بما فيه الكفاية‪ .‬كما أن بعض هذه االغتياالت‬

‫والمنظمات الثورية األخرى‪ ،‬وبعد ذلك بعض الجماعات‬ ‫القومية ً‬ ‫أيضا‪ ،‬بالعنف السياسي‪ .‬لقد توصلوا إلى استنتاج‬

‫الدعاية التي كانت استثناء وليست القاعدة‪ .‬وعلى الرغم من‬

‫األفعال المتطرفة التي سترعب قلب النظام االجتماعي‬

‫األفعال مشروعة أخالقيًّا‪ ،‬سواء كان العقاب يفترض عدم‬

‫مضمونه أن الكلمات لم تكن كافية‪ ،‬وأنهم يحتاجون إلى‬ ‫والسياسي الجائر‪ ،‬وتولد الخوف واليأس بين مؤيديه؛‬

‫كي يصبحوا قوة مؤثرة تؤدي في نهاية المطاف إلى‬ ‫التغيير السياسي واالجتماعي‪ .‬لقد سميت هذه األفعال‬ ‫بـ«بروباغندا فعلية» أو «الدعاية عن طريق‬

‫الفرنسيون واإلسبانيون في سنوات (‪1890 - 1880‬م) من قبيل‬ ‫ذلك‪ ،‬ادعى الجناة وبعض المتعاطفين مع قضيتهم أن تلك‬ ‫براءة أي عضو من أعضاء الطبقة الحاكمة أم وسيلة ضرورية‬ ‫لإلطاحة بالنظام الظالم‪ً .‬‬ ‫وفقا للغتهم‪ ،‬فإن مصطلح‬

‫‪73‬‬


‫دراسات‬

‫«اإلرهاب» يتضمن عدم اللوم أو استهجان العنف‪ .‬بينما نجد‬

‫يعتقد تالمذة الدكتاتورية وحكم الحزب الواحد أن اإلرهاب‬

‫في العصر الحاضر‪ ،‬نرى مثل هذا السلوك واضحً ا لدى قادة‬

‫يتحسسون من الكلمة‪ ،‬ويصورون أنفسهم كمدافعين عن‬ ‫الدولة ضد أعدائها في الداخل‪ ،‬فضلاً عن الخارج‪.‬‬

‫إدانة قوية لهذه الممارسة عندما تستخدم من اآلخرين ضدهم‪.‬‬ ‫تنظيم الدولة اإلسالمية في الشام والعراق وأنصارهم‪ .‬أو‬ ‫حتى لدى الدول التي تمارس العنف ضد معارضيها وتستنكره‬ ‫عندما تطبقه دول أخرى ال سيما إذا كانت دولاً غير صديقة‪.‬‬

‫الشمولية؛ إذ لجأت إليه بعض الدول الديمقراطية ضد‬

‫الروسية والحرب األهلية‪ .‬وفي روسيا‪ ،‬كانت الحكومة التي‬

‫عندما قصف سالح الجو الملكي البريطاني «‪ ،»RAF‬وسالح‬

‫وظف مصطلح اإلرهاب من كال الجانبين في الثورة‬

‫شكلها البالشفة المنتصرون‪ ،‬استبدادية‪ ،‬كما الحكم النازي‬

‫في ألمانيا؛ كالهما سعى إلى فرض السيطرة السياسية التامة‬ ‫على المجتمع‪ .‬مثل هذا الهدف األصولي ال يمكن أن تتبعه إال‬

‫طريقة أصولية مماثلة في الصراع؛ أي اإلرهاب الموجه من‬ ‫شرطة سياسية قوية في مجتمع مف ّتت ومنعزل‪ .‬وكان نجاحه‬ ‫يرجع إلى حد كبير إلى األسلوب التعسفي وعدم القدرة على‬ ‫التنبؤ باختيار الضحايا‪ .‬في كال البلدين‪ ،‬قمع النظام أولاً‬

‫المعارضة‪ ،‬وعندما لم تكن هناك معارضة تتحدث عل ًنا‪ ،‬كانت‬ ‫الشرطة السياسية ُتلقي القبض على معارضين «محتملين»‬ ‫الضطهادهم‪ .‬في االتحاد السوفييتي‪ ،‬أطلق العنان على‬

‫‪74‬‬

‫هو طريقتهم للحكم‪ ،‬هؤالء الممثلون عن األنظمة الشمولية‪،‬‬

‫الضحايا الذين اختيروا عشوائيًّا‪ .‬هذا اإلرهاب الشمولي‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫المنظرة‬ ‫وثباتا للدولة‪ ،‬كما قالت‬ ‫تطرفا‬ ‫هو النوع األكثر‬

‫السياسية األلمانية‪ ،‬حنة آرنت‪« :‬اإلرهاب هو جوهر الهيمنة‬

‫االستبدادية»‪ ،‬ومعسكر االعتقال هو‪« :‬المؤسسة المركزية‬ ‫الحقيقية للسلطة التنظيمية الدكتاتورية الشمولية»‪ .‬في حين‬

‫العددان ‪ 478 - 477‬شوال ‪ -‬ذو القعدة ‪1437‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬أغسطس ‪2016‬م‬

‫ومع ذلك‪ ،‬فإن إرهاب الدولة ليس حك ًرا على األنظمة‬

‫المدنيين األعداء كوسيلة من وسائل الحرب‪ ،‬ال سيما‬ ‫الجو األميركي «‪ ،»USAAF‬المدن األلمانية واليابانية في‬ ‫الحرب العالمية الثانية‪ .‬أولئك الذين صمموا وأشرفوا على‬

‫هذه الحمالت لم يصفوها أبدً ا بـ«القصف اإلرهابي»‪ ،‬ولكنه‬

‫كان الوصف الوحيد الذي غالبًا ما يشار إليه فيما بينهم في‬

‫االتصاالت الداخلية‪.‬‬

‫يمكن للمرء أن يكون إرهاب ًّيا ومناضلاً‬ ‫من أجل الحرية في آن واحد‪ ،‬فاإلرهاب‬ ‫حكرا على أعداء الحرية أو‬ ‫ليس‬ ‫ً‬ ‫أيضا أن يشغل‬ ‫المتمردين‪ .‬يمكن للمرء ً‬ ‫منصبا حكوم ًّيا رفيع المستوى‪ ،‬أو‬ ‫ً‬ ‫مسؤولاً‬ ‫عسكريا ويخطط أو يقوم‬ ‫ًّ‬ ‫بتنفيذ عملية إرهابية‬


‫اإلرهاب في أفق النقاش الفلسفي‬

‫إرهاب حركات التحرر الوطني‬

‫بعد ذروة اإلرهاب الشمولي خالل المدة (‪1940 -1930‬م)‪،‬‬

‫استمر اإلرهاب الداخلي للدكتاتوريات العسكرية في أجزاء‬ ‫ً‬ ‫كثيرة من العالم‪ ،‬وإن كان ذلك بطريقة أقل ً‬ ‫ونفوذا‪.‬‬ ‫ثباتا‬

‫في النصف الثاني من القرن العشرين وأوائل القرن الحادي‬

‫قبل الهجمات اإلرهابية في ‪ 11‬أيلول‬ ‫من عام ‪2001‬م‪ ،‬في الواليات المتحدة‪،‬‬ ‫لم يكن موضوع اإلرهاب يرتسم في‬ ‫أفق النقاش الفلسفي‬

‫والعشرين‪ ،‬تصدّ ر المشهدَ‬ ‫السياسي نوع من اإلرهاب‬ ‫َّ‬ ‫استخدمته المنظمات المتمردة؛ إذ لجأت إليه العديد من‬

‫وازدرائيًّا للغاية‪ ،‬في حين كان المتمردون يصورون اإلرهاب‬

‫الوسيلة الرئيسية للنضال‪ ،‬أو كتكتيك إلتمام حرب العصابات‪،‬‬

‫وسعوا إلى تغيير نظرة الناس إليهم؛ لكي يعاملوا كجنود‬

‫حركات التحرر الوطني من الحكم االستعماري‪ ،‬إما بوصفه‬ ‫وكذلك فعل بعض الحركات االنفصالية‪ .‬كما لجأت إليه‬ ‫التنظيمات المبنية على األيديولوجيات المتطرفة‪ ،‬بوصفه‬

‫وسيلة لمحاولة تدمير ما عدّ وه نظامً ا اقتصاديًّا واجتماعيًّا‬

‫وسياسيًّا جائ ًرا‪ ،‬وظالمً ا‪ .‬وعلى وجه العموم‪ ،‬اتصف هذا‬

‫في أعمالهم كما لو أنه جهاد أو نضال من أجل التحرر‪،‬‬ ‫أبطال‪ ،‬وليس كإرهابيين أو مجرمين‪ .‬وهم غالبًا ما يصفون‬

‫أعداءهم المتمثلين في حكومات الغرب‪ ،‬أو النظام االجتماعي‬

‫والسياسي واالقتصادي لبلدانهم بـ«اإلرهابيين الحقيقيين»‪.‬‬ ‫بالنسبة لهم‪ ،‬اإلرهاب ال يعني كيفية القيام به‪ ،‬وإنما ما هو‬

‫النوع من اإلرهاب‪ ،‬بعدم تمييزه أو اختياره لهدف معين‪ ،‬فهو‬

‫الهدف النهائي للقيام بذلك‪ .‬فإذا كان الهدف النهائي هو تحرير‬

‫(أو غير السياسية)‪ ،‬أو طبقتهم االجتماعية‪ ،‬وأسلوب حياتهم؛‬

‫أن العنف الذي يهدف إلى الحفاظ على القمع أو الظلم‪ ،‬يعد‬

‫يهاجم الرجال والنساء مهما كانت وجهات نظرهم السياسية‬

‫الصغار والكبار‪ ،‬البالغين واألطفال‪.‬‬

‫البلد أو العدالة‪ ،‬فإن استخدام العنف ال يُعَ دّ إرهابًا‪ ،‬في حين‬

‫إرهابًا‪ .‬من ناحية أخرى‪ ،‬تميل الحكومات إلى طالء جميع‬

‫إنه يطلق النار على الناس‪ ،‬أو يفجّ رهم عن طريق زرع‬

‫أعمال العنف التي ينفذها غير الموالين لها بفرشاة «اإلرهاب»‪.‬‬

‫والمطارات وأماكن العبادة الدينية‪ ،‬في الحافالت أو الطائرات‪،‬‬

‫عادة أن اإلرهاب يتمثل بأفعال التنظيمات الالحكومية‪ ،‬وأن‬

‫القنابل في مباني المكاتب واألسواق والمقاهي ودُور السينما‬

‫أو في األماكن العامة األخرى المعرضة للخطر‪ .‬كما يأخذهم‬ ‫رهينة‪ ،‬من خالل اختطاف الطائرات وغيرها من الطرائق‬

‫األخرى‪ .‬ومن ثم اكتسب مصطلح «اإلرهاب» معنى تحقيريًّا‬

‫ويفترض المتحدثون باسم الحكومة ووسائل اإلعالم الموالية‬ ‫الدولة ال يمكن أبدً ا أن تكون مذنبة أو تمارس اإلرهاب (على‬

‫الرغم من رعاية بعض الدول لتنظيمات إرهابية حين تقتضي‬ ‫المصلحة التعاون معها)‪.‬‬

‫‪75‬‬


‫دراسات‬

‫تعريف اإلرهاب‬

‫حاولت األمم المتحدة اقتراح تعريف لـ«اإلرهاب» يكون‬ ‫مقبولاً لدى جميع الدول وجزءً ا ال يتجزأ من القانون الدولي‪،‬‬

‫وقد تم إحباط جميع هذه المحاوالت الختالف معنى أو تعريف‬ ‫اإلرهاب‪ .‬ففي حين ترفض الدول اإلسالمية القبول بأي تعريف‬ ‫يصف حركات التحرر الوطني في الشرق األوسط وكشمير‪،‬‬

‫على سبيل المثال‪ ،‬باإلرهابية‪ ،‬نجد أن الدول الغربية ال تسمح‬

‫بتصوير أجهزة الدولة كمؤسسات إرهابية‪.‬‬

‫لقد تحول المعنى التقييمي لـ«اإلرهاب» إلى معنى وصفي‪،‬‬

‫فعلى مدى أكثر من قرنين من الزمان‪ ،‬أشار االستخدام العادي‬

‫له إلى سمتين‪ :‬العنف والترهيب أو التخويف‪ .‬عادة ما يفهم‬

‫اإلرهاب على أنه نوع من العنف‪ .‬لكن هذا العنف ليس أعمى‬ ‫أو ساديًّا‪ ،‬بل يهدف بدلاً من ذلك إلى التهديد أو التخويف‪،‬‬

‫إضافة إلى تحقيق أهداف سياسية‪ ،‬أو اجتماعية‪ ،‬أو دينية‪ ،‬أو‬ ‫على نطاق أوسع‪ ،‬يهدف إلى اإلكراه‪ .‬في أول دراسة فلسفية‬

‫باللغة اإلنجليزية‪ ،‬أوضح أستاذ الفلسفة ‪ Per Bauhn‬معنى‬ ‫اإلرهاب السياسي‪ ،‬من وجهة نظره‪ ،‬قائلاً ‪« :‬هو أداء أعمال‬ ‫العنف‪ ،‬الموجهة ضد شخص أو أكثر‪ ،‬بقصد تخويف شخص‬

‫‪76‬‬

‫أو أكثر‪ ،‬وبالتالي تحقيق هدف أو أكثر من األهداف السياسية‬ ‫ً‬ ‫تخطيطا متعمدً ا يستهدف غير‬ ‫للوكيل»‪ .‬في حين يراه البعض‬ ‫المقاتلين‪( ،‬وممتلكات غير المقاتلين‪ ،‬عندما تتعلق إلى حد‬

‫العددان ‪ 478 - 477‬شوال ‪ -‬ذو القعدة ‪1437‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬أغسطس ‪2016‬م‬

‫كبير بالحياة واألمن)‪ ،‬مع ممارسة العنف القاتل أو الشديد…‬ ‫الذي من المفترض أن يؤدي إلى نتائج سياسية من خالل خلق‬

‫الخوف‪ .‬في حين قدم أستاذ الفلسفة ‪،Igor Primoratz‬‬ ‫ً‬ ‫تعريفا آخر‪ ،‬بقوله‪« :‬اإلرهاب هو االستخدام المتعمد للعنف‪،‬‬ ‫أو التهديد باستخدامه ضد األبرياء‪ ،‬بهدف تخويف بعض‬ ‫األشخاص اآلخرين في سياق إجراءات معينة التي لوالها َلما‬

‫ارتكب أي عمل إجرامي»‪.‬‬ ‫اًّ‬ ‫هذه التعريفات وضعت جانبًا كل من السؤال عن هوية‬ ‫الفاعل ومسألة ما هي األهداف النهائية أو الغائية من تنفيذ‬

‫العمل اإلرهابي‪ ،‬وركزت فقط على ماهية الفعل والهدف‬ ‫المباشر منه‪ .‬يمكن للمرء أن يكون إرهابيًّا ومناضلاً من أجل‬

‫آن واحد‪ ،‬فاإلرهاب ليس حك ًرا على أعداء الحرية‬ ‫الحرية في ٍ‬ ‫أو المتمردين‪ .‬يمكن للمرء ً‬ ‫أيضا أن يشغل منصبًا حكوميًّا‬ ‫رفيع المستوى أو يكون مسؤولاً عسكريًّا‪ ،‬ويخطط أو يقوم‬

‫بتنفيذ عملية إرهابية‪.‬‬

‫اعتمد المؤرخون وعلماء االجتماع‬ ‫التعريف الشامل لإلرهاب‪ ،‬بينما فضل‬ ‫الفالسفة تعريفً ا ضيقً ا يركز على‬ ‫الجانب األخالقي لإلرهاب‬


‫اإلرهاب في أفق النقاش الفلسفي‬

‫هل يمكن تبرير اإلرهاب أخالق ًّيا؟‬ ‫ال توجد إجابة واحدة عن هذا السؤال؛ ألنه ال يوجد تصور واحد لماهية اإلرهاب‪ .‬يمكن للمرء أن يبرر بعض أفعال‬

‫أو حمالت العنف بطريقتين‪ :‬قد يجادل بأن الضحايا من غير المقاتلين أي المواطنين العاديين‪ ،‬ومن ثم ال ذنب لهم‬ ‫ومن الجرم محاربتهم‪.‬‬

‫أو يتنازل عن براءة الضحايا ويبرر الهجمات ضدهم‪ ،‬إما من طريق نتائجها التي قد تؤدي إلى موازنة األوضاع لصالح‬

‫بالده‪ ،‬أو من طريق بعض االعتبارات اإللزامية‪ .‬في أعقاب هجمات ‪ 11‬أيلول ‪2001‬م‪ ،‬قال أسامة بن الدن‪ ،‬خالل لقاء‬

‫صحافي أجري معه في عام ‪2005‬م‪« :‬يجب أن يتذكر الشعب األميركي أنه يدفع ضرائب لحكومته‪ ،‬وأنه صوت الختيار‬

‫رئيسه‪ .‬كما أن حكومته تصنع أسلحة وترسلها لدولة االحتالل «إسرائيل»؛ من أجل قتل الفلسطينيين المسلمين‪.‬‬ ‫وبالنظر إلى أن الكونغرس األميركي هو لجنة تمثيل الشعب‪ ،‬فإن الواقع يقول بأنه وافق على اإلجراءات التي اتخذتها‬ ‫الحكومة األميركية‪ ،‬ومن ثم فإن أميركا بأسرها مسؤولة عن الفظائع التي ترتكب ضد المسلمين»‪ً .‬‬ ‫وفقا لمنطق أسامة‪،‬‬ ‫فإن الشعب األميركي ساهم في ارتكاب جرائم ضد المسلمين‪ ،‬وبالتالي يستحق القتل! هذا فهم متعذر وغير معقول‬

‫للمسؤولية والتبعية؛ ألنه يدعي أن جميع األميركيين أهل للقتل أو التشويه؛ البعض بسبب وضع وتنفيذ سياسات‬

‫أميركا الخارجية‪ ،‬والبعض اآلخر بسبب المشاركة في العملية السياسية‪ ،‬أو دفع الضرائب‪ .‬حتى إذا ما سلمنا ‪-‬على‬ ‫سبيل الجدل‪ -‬بإدانة ابن الدن ورؤيته المتزمتة لتلك السياسات‪ ،‬فإننا ال نستطيع تبرير استخدام العنف القاتل‪ ،‬والربط‬

‫بين مسؤولية الحكومة والشعب‪ .‬يجب أن يكون هناك حصانة للمدنيين أو المواطنين العاديين؛ لمنع وقوع «كارثة‬

‫أخالقية» والحد من القتل والدمار في النزاعات المسلحة بين الدول‪.‬‬ ‫هل يجب أن نعتمد على تعريف شامل وواسع أو ضيق‬

‫لفهم اإلرهاب؟ يشمل التعريف الواسع تاريخ «اإلرهاب» من‬

‫حقبة اليعاقبة في فرنسا إلى وقتنا الحاضر‪ ،‬وهو يتفق أكثر‬ ‫مع االستخدام العادي الحالي‪ .‬وهناك تعريف ضيق يحيد‬

‫عن االستخدام العادي عن طريق تقييد العنف اإلرهابي بذلك‬ ‫الموجه إلى غير المقاتلين أو األشخاص األبرياء‪ ،‬وبالتالي‬

‫فإنه يستبعد إرهاب «الدعاية الفعلية» في القرن التاسع عشر‬ ‫والعنف السياسي الذي مارسه الثوار الروس‪.‬‬

‫اإلرهاب ترتبط بأخالقيات الحرب وأحد المبادئ األساسية‬ ‫لنظرية الحرب العادلة‪ ،‬التي تعنى بحصانة غير المقاتلين‬

‫ووجوب حمايتهم والدفاع عنهم‪.‬‬

‫قطع الصلة بين اإلرهاب والعنف‬

‫يسعى البعض إلى قطع الصلة بين اإلرهاب والعنف؛ لذا‬

‫يعرف الفيلسوف ‪ Carl Wellman‬اإلرهاب بأنه «استخدام أو‬

‫محاولة استخدام اإلرهاب كوسيلة من وسائل اإلكراه»‪ .‬وكثي ًرا‬ ‫ما يرتبط اإلرهاب بالعنف؛ ألن العنف يعد وسيلة فعالة جدًّ ا‬

‫لذا اعتمد المؤرخون وعلماء االجتماع التعريف الشامل‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ضيقا يركز على الجانب‬ ‫تعريفا‬ ‫لإلرهاب‪ ،‬بينما فضل الفالسفة‬

‫للتخويف‪ ،‬ومن ثم فإن «العنف ليس من الضروري أن يهدف‬

‫عالم من االختالف بالنسبة للبعض‪ ،‬بين زرع قنبلة في مبنى‬

‫غير عنيفة»‪ .‬قد يكون هناك العديد من األفعال التي تعد‬

‫األخالقي لإلرهاب‪ .‬من الناحية األخالقية‪ ،‬بالتأكيد هناك‬ ‫حكومي لقتل عدد من المسؤولين الذين ينتمون إلى حكومة‬

‫ظالمة وقمعية‪ ،‬وزرع قنبلة في مقهى لقتل مجموعة عشوائية‬ ‫من المواطنين العاديين‪ ،‬بمن فيهم األطفال‪ .‬يثير كال الفعلين‬

‫قضايا أخالقية خطيرة‪ ،‬وهذه القضايا ليست متطابقة‪ ،‬لكنهما‬

‫يندرجان معً ا تحت نفس العنوان «اإلرهاب»‪.‬‬

‫إلى الترهيب‪ .‬في الواقع‪ ،‬معظم األعمال اإلرهابية هي أعمال‬

‫عمومً ا إرهابية‪ ،‬وال تنطوي على العنف الفعلي‪ ،‬لكن هذا ال‬

‫يكفي لدعم مفهوم «اإلرهاب غير العنيف»‪ ،‬الذي يبدو غريبًا‪،‬‬ ‫على سبيل المثال‪« ،‬إرهاب الفصول الدراسية»‪ :‬حين يهدد‬ ‫أستاذ طالبه بالرسوب وعدم تجاوز االختبارات في حال عدم‬ ‫إنجاز البحوث أو الواجبات في الموعد المحدد؛ مما يسبب‬

‫تركز التعريفات المحددة على سمات اإلرهاب التي تسبب‬

‫الذعر في الصف‪ ،‬وبالتالي نشر السلوك اإلرهابي‪ .‬يقدم لنا‬

‫المقاتلين (أو‪ ،‬بدلاً من ذلك‪ ،‬ضد األبرياء)‪ً .‬‬ ‫ثالثا‪ :‬التخويف أو‬

‫اإلرهاب هو «تكتيك سياسي‪ ،‬ينطوي على تخويف متعمّ د‬

‫لمعظمنا االشمئزاز األخالقي العميق حين رؤية مشاهد تعرض‬ ‫الناس لإلرهاب‪ ،‬على سبيل المثال‪ :‬أولاً ‪ :‬العنف‪ .‬ثانيًا‪ :‬ضد غير‬ ‫اإلكراه‪ .‬عند تسليط الضوء على السمة رقم (‪ ،)2‬فإن مسألة‬

‫أستاذ الفلسفة السياسية واالجتماعية ‪Robert E. Goodin‬‬ ‫ً‬ ‫أيضا رواية مماثلة‪ ،‬مؤكدً ا الدور السياسي لإلرهاب‪ ،‬قائلاً ‪:‬‬ ‫للناس؛ لتحقيق مكاسب سياسية»‪.‬‬

‫‪77‬‬


‫نصوص‬

‫أشجان لو‬ ‫زين العابدين الضبيبي‬ ‫شاعر يمني‬

‫الحب‬ ‫لو كتبنا عن‬ ‫ِّ‬ ‫منْ‬ ‫خوف‬ ‫دون‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬

‫بشعريةٍ وعزفنا نشيدَ‬ ‫السالم‬ ‫ِ‬ ‫الحب‬ ‫سينتص ُر‬ ‫ُّ‬

‫القاتالن‪...‬‬ ‫لنْ يلتقي‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬ ‫الطريق قصائدُ نا‬ ‫ستشغلهمْ يف‬ ‫ِ‬

‫* * *‬

‫* * *‬

‫ْ‬ ‫الصخور العيونُ‬ ‫النبجست يف‬ ‫ِ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫ورف ْ‬ ‫رموش السواقي‬ ‫ت‬

‫الدروب‬ ‫وتتوِّهُ همْ يف‬ ‫ِ‬ ‫مرايا املجاز‪.‬‬

‫‪78‬‬

‫إىل أنْ يُرى مطلعُ‬ ‫الشمس‬ ‫ِ‬ ‫الكلمات‬ ‫من جهةِ‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬ ‫بالصمت يف خدر ِه‬ ‫الليل‬ ‫وينتح َر‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫واألرض‬ ‫السماوات‬ ‫ويعمَّ‬ ‫ِ‬

‫بصدق يُعري‬ ‫لو كتبنا‬ ‫ٍ‬ ‫ُّ‬ ‫َ‬ ‫أضلوا الطريقَ‬ ‫الحداة الذينَ‬ ‫ُ‬ ‫ً‬ ‫َ‬ ‫منصوبة‬ ‫مشانق‬ ‫الحروف‬ ‫ستغدو‬ ‫ضمري الوجو ِد‬ ‫يف‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬ ‫تالحقهم يف األزقةِ‬

‫الفراش ويف ِّ‬ ‫َ‬ ‫حي‬ ‫فوق‬ ‫كل ٍّ‬ ‫ِ‬ ‫يموتونَ من بطشها يف الحيا ِة‬

‫وبعدَ‬ ‫املمات‬ ‫ِ‬ ‫وتحرجُ هم َ‬ ‫ُ‬ ‫قبل أنْ يسقطوا يف الجحيمْ ‪.‬‬

‫* * *‬

‫لو كتبنا عن األدعياءِ‬ ‫ومن يكتبونَ كالمً ا‬

‫يتوِّه سكانَ هذا الفضاءِ‬ ‫للشارع العامِّ‬ ‫ستخرجُ‬ ‫ِ‬ ‫ُّ‬ ‫عاريات‬ ‫كل قصائدِ نا‬ ‫ٍ‬

‫ُت ُ‬ ‫الرتاب عىل وهمِ هم‬ ‫هيل‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫لتلدغهم‬ ‫قبل أن تتمادى‬

‫االنتظار أفاعي الضج ْر‪.‬‬ ‫يف مدى‬ ‫ِ‬

‫* * *‬

‫لو كتبنا عن الضوءِ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫الظالم‬ ‫ناطحات‬ ‫النحطمت‬ ‫ِ‬ ‫امللكوت‬ ‫عىل صخر ِة‬ ‫ِ‬

‫العددان ‪ 478 - 477‬شوال ‪ -‬ذو القعدة ‪1437‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬أغسطس ‪2016‬م‬

‫زه ُو البهاء‪.‬‬

‫لو كتبنا عن املاءِ‬

‫بـغنج ي ُ‬ ‫ُميل شجونَ‬ ‫الخرير‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬ ‫ُ‬ ‫وأخرجت األرض أشواقها‬

‫واشرأب ْ‬ ‫الجبال‬ ‫ّت بوجدِ‬ ‫ِ‬ ‫ً‬ ‫فواحة بالوعو ِد‬ ‫البنفسج‬ ‫زهو ُر‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫وقبَّلت الغيمُ كف الشج ْر‪.‬‬

‫* * *‬

‫البحر يومً ا‬ ‫لو كتبنا عن‬ ‫ِ‬ ‫لاً‬ ‫ً‬ ‫أىت‬ ‫عاشقا حام للطبيعةِ‬

‫ما يف خزائِنه‬ ‫ِّ‬ ‫التأمل‬ ‫ليدافعَ عن حقه يف‬ ‫ِ‬ ‫عن ِّ‬ ‫الحنني‬ ‫أمواجه يف‬ ‫حق‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫وغادرَه امللحُ مبتسمً ا‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫بالثالث‬ ‫أوجاعه‬ ‫ولطل َق‬ ‫ِ‬ ‫وأصبحَ يف حانةِ األبديةِ‬ ‫ً‬ ‫قارورة من نبيذ‪.‬‬ ‫* * *‬

‫لو كتبنا لهاجرت العنيُ َّ‬ ‫عش األىس‬ ‫ِّ‬ ‫وأتاها ليعتذ َر الدمعُ عن كل تاريخه‬ ‫وعفا الكونُ عن حز ِنه‬

‫واستجار بصدر حبيبته‬

‫صقيع شتاءاته‬ ‫من‬ ‫ِ‬

‫واسرتاح املحبُّون عن ِّ‬ ‫للنجوم‬ ‫عدهم‬ ‫ِ‬


‫رسم صور ِة أحبابِهم‬ ‫وهبّوا إىل‬ ‫ِ‬ ‫باملوارب من سكر الضحكات‬ ‫ِ‬

‫جنبات الوجوه‪.‬‬ ‫عىل‬ ‫ِ‬ ‫* * *‬

‫لو كتبنا سنميض بكم‬

‫القواميس‬ ‫خيال‬ ‫للخفي الذي لم ي َِر ْد يف‬ ‫ِ‬ ‫ِّ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫النواميس‬ ‫أو حملته صدو ُر‬ ‫ِ‬ ‫حتى َ‬ ‫نريق عىل ما طواه غبا ُر الخرافةِ‬ ‫عطش يف مدائن لهف ِتكم‬ ‫من‬ ‫ٍ‬ ‫َ‬ ‫ألف‬ ‫كأس مقدسةٍ‬ ‫ٍ‬

‫من خبايا الوجود‪.‬‬

‫* * *‬ ‫ْ‬ ‫لو كتبنا سنلقي بصخر ِة «سيزيف»‬ ‫الغيب يك يسرتيحَ قليل‬ ‫كاهل‬ ‫عن‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ويك تشربوا من‬ ‫جرار الحقيقةِ‬ ‫ِ‬

‫ما تشتهونَ وتشبعَ أرواحُ كم‬ ‫ثمار اليقني‪.‬‬ ‫من ِ‬

‫* * *‬

‫لو كتبنا نجونا بنا وبكم‬ ‫أيها الطيبونَ‬

‫عميق الرؤى‬ ‫ولكننا عالقون بوا ٍد‬ ‫ِ‬ ‫متعبونَ ومتهمونَ‬ ‫بإيقاعكم‬ ‫ِ‬ ‫يف‬ ‫شباك الغوايةِ‬ ‫ِ‬ ‫يف يدِ نا وشمُ ٍّ‬ ‫قديم‬ ‫نص‬ ‫ٍ‬

‫ومن خلفنا‬

‫ُ‬ ‫لعنات الذينَ يقولونَ يف س ِّرهم‬

‫لو فعلنا كذا وكذا‬

‫لو فعلنا وال يفعلون‪.‬‬

‫‪79‬‬


‫مقال‬

‫النقد الثقافي وتحليل الثقافة‬ ‫المفكر البريطاني ريموند وليامز أحد المؤسسين للدراسات الثقافية البريطانية هو واآلخر ريتشارد هوغارت يحددان ‪-‬في إطار‬

‫مدونة هذه الدراسات‪ -‬مفهوم الثقافة في ثالثة مستويات (راجع كتاب «غبش المرايا» إعداد وترجمة خالدة حامد‪،‬منشورات‬

‫المتوسط ‪2016‬م)؛ إذ ال يمكن للباحث أن يغفل عن هذا التحديد إذا ما أراد أن يمتلك أدنى معرفة بالتأثيرات الثقافية على مجمل‬ ‫الحياة االجتماعية للبشر‪.‬‬

‫أولى المستويات ما يسميها الثقافة المعيشة‪ ،‬وهي المرتبطة بفئة من الناس الذين يعيشون في زمان ومكان محددين؛ إذ‬

‫يصعب استرجاع حياة تلك الثقافة المعيشة عند هؤالء الناس بكامل تفاصيلها اليومية‪ .‬أما ثانيها فيطلق عليه الثقافة المدونة‪،‬‬

‫وتعني كل تلك اآلثار المدونة في كتب متنوعة االختصاصات‪ ،‬أو معالم روحية‪ ،‬أو فنية‪ ،‬أو طقوسية يومية‪،‬أي بما يشكل في‬

‫مجمله ثقافة عصر من العصور‪ ،‬آخرها ما يسميه ثقافة التراث االنتقائي‪ ،‬وهو يعني القناة التي تصبح صلة الوصل بين ماضي‬ ‫الناس وحاضرهم‪،‬وهو بالضرورة انتقائي‪.‬‬

‫استحالة اإلمساك باللحظة المعيشة‬

‫ويشرح ريموند وليامز عمل هذه المستويات‪ ،‬ومدى ارتباطها على مستوى التأثير وشكل العالقات‪ .‬باختصار تمتنع الثقافة‬

‫المعيشة أن تكون مكشوفة وقابلة للدراسة في العصور الالحقة؛ لكون اإلمساك باللحظة المعيشة لكل فرد‪ ،‬ومن ثم توثيق‬

‫‪80‬‬

‫أقوالها وأفعالها في مجرى الحياة اليومية هو من رابع المستحيالت‪،‬حتى لو فكرنا في أننا اآلن في عصر تقني سمعي بصري‪،‬‬ ‫نوعا من االنتقاء ً‬ ‫يستطيع توثيق كل لحظة في حياتنا‪ .‬ما البديل إذن؟ الثقافة المدونة هي البديل هنا‪،‬وتكون ً‬ ‫أيضا‪ ،‬لكنه انتقاء‬ ‫ال يخضع بالضرورة لسلطة مهيمنة‪ ،‬كما يفترض المستوى الثالث من التحديد‪،‬بل المدونات الثقافية للمجتمعات والشعوب‬ ‫ترتبط بجملة من األسباب في شأن عالقتها بالمجتمع‪،‬فهي أولاً تمثل المنجز «الرفيع» لثقافة المجتمع؛ من فكر‪ ،‬وفن‪ ،‬ولغة‪،‬‬

‫وأدب‪ ،‬وهي ثانيًا تمثل الفلكلور الشعبي القصصي المتوارث عبر مخيلة شعبية طقوسية‪ ،‬تنهض عليها شخصية الفرد داخل‬ ‫المجتمع‪،‬وهي ً‬ ‫ثالثا تمثل له إحدى القيم الكبرى التي يتصور من خاللها نفسه وعالقته باآلخرين والعالم‪.‬‬

‫كل هذه األسباب من طبيعة اجتماعية تاريخية اقتصادية ال ترتبط بأسباب هيمنة القوة والسلطة على الثقافة –وإن كان‬

‫هناك احتماالت ضعيفة حسب إمكانية القوة– بقدر ارتباطها بالمجتمع نفسه في عالقته الطبيعية بثقافته أي ما اصطلح‬

‫عليه «الطبيعة والثقافة» من دون األثر الذي تتركه السلطة على هذه العالقة‪ .‬صحيح أن هذا المنظور للثقافة ال ينفي هذا‬ ‫األثر كليًّا‪ .‬لكنه يضع في الحسبان ً‬ ‫أيضا هامش الحرية التي تتركه الحياة (وأقصد الحياة هنا كل ما تحمله الكلمة من داللة‬

‫تتعلق بالظروف االجتماعية واالقتصادية والسياسية والفكرية التي ال تستطيع القوى المهيمنة القبض عليها وتغيير مساراتها‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫وضيقا‪.‬‬ ‫سعة‬ ‫لمصلحتها)‪،‬وبالتالي وفرة المنجز الثقافي والمعرفي للشعوب والمجتمعات ترتبط بهذا الهامش‬ ‫المالحظ هنا إذا كانت كل حقبة من العصور تشكل ثالثة أجيال على األقل‪ ،‬وكانت هناك في نفس الوقت الوفرة في المنجز‬

‫الثقافي‪ ،‬فهل يمكن متابعة كل ما أنجزه الجيل األول بالنسبة للجيل الثاني؟ يشكك ريموند وليامز في مثل هذه المتابعة‪،‬‬

‫ويستعرض عدة أمثلة‪ ،‬لكني سأكتفي بمثالين من عندي؛ األول معاصر‪ ،‬والثاني من التاريخ‪ .‬هل يمكن لنا أن نتصور أن كل ما‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫قصصا أو مسرحً ا في العقد األول من القرن العشرين في العالم العربي قد تم قراءته‪ ،‬ناهيك عن‬ ‫إبداعا شع ًرا أو‬ ‫تم إنجازه‬ ‫لاً‬ ‫ً‬ ‫تدوينه أو من طرف المعاصرين لهم‪،‬والحقا من الذين عاشوا بعدهم في العقود الالحقة؟ هذا ما ال يمكن التأكيد عليه؛ حيث‬

‫االنتقاء والتلخيص يصبحان ضرورة في فهم السمات العامة لإلبداع في تلك الحقبة‪،‬وعلى هذا يمكن قياس بقية المنجزات في‬ ‫ثقافة المجتمع‪.‬‬

‫لذلك نرى ريموند وليامز يعالج هذه الثغرة باستخدام مصطلح البنية الشعورية‪ ،‬ورغم النقد الذي طال المصطلح من‬

‫أطراف عدة؛ أهمهم بالطبع المفكر تيري إيغلتون‪،‬الذي يرى الفكرة تجمع بين «لفظتين متناقضين حيث تنطوي على ما يفيد بأن‬

‫آن»‪( .‬موقع صوت اآلخر‪،‬قراءة في كتاب‪ :‬فكرة الثقافة للمفكر تيري إيغلتون‪،‬قراءة سعدون‬ ‫الثقافة محددة وغير ملموسة في ٍ‬ ‫العددان ‪ 478 - 477‬شوال ‪ -‬ذو القعدة ‪1437‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬أغسطس ‪2016‬م‬


‫هيل)‪ ،‬إال أن أهمية الفكرة تكمن من وجهة نظري في هذا التناقض‬ ‫تحديدً ا‪ .‬فإذا كانت الثقافة من بعض وجوهها عند وليامز هي طريقة‬

‫حياة بأكملها فهي إذن نظام مترابط من العوامل ذات المرجعيات‬ ‫المختلفة؛ منها ما هو شعوري نفسي‪،‬وما هو عالمات جسدية‪،‬وما‬ ‫هو لساني لغوي‪،‬وما هو تربوي سلوكي‪،‬وبناء عليه ينتج عن مثل هذا‬

‫الترابط شعور ال وعي يؤثر في االتصال االجتماعي والقيم والتصورات‪،‬‬ ‫ويكتسب الفرد من خاللها االستعداد التام لالنتماء‪.‬‬

‫المشكلة هنا كيف يمكن القياس؟ عن طريق التجربة المعيشة‪-‬‬

‫كما يؤكد وليامز‪ -‬التي نعيشها اآلن‪،‬ودائمً ا ما يكون ثمة توافقات‬ ‫في الحياة البشرية بين سيرة حياة حقبة سابقة‪ ،‬وبين حياة حقبة‬

‫الحقة عليها‪.‬‬

‫أما المثال اآلخر فيتعلق بالموسوعي‪ ،‬وكاتب السيرة ابن النديم‬

‫الذي بدأ تأليف كتابه «الفهرست» سنة ‪377‬هـ؛ حيث حاول فيه أن‬

‫يرصد ويتابع كل ما كتب في عصره من جميع أصناف العلوم؛ إذ‬

‫محمد الحرز‬

‫أحصى أكثر من عشرة آالف كتاب ومؤلف‪ ،‬لكن أغلب هذه الكتب ال‬

‫ناقد سعودي‬

‫أثر له‪،‬وبعض المؤلفين ال ذكر له حتى عند بعض معاصريه كمحمد‬ ‫الخوارزمي مثلاً في كتابه « مفتاح العلوم»‪.‬‬ ‫فك االرتباط بين الهيمنة والثقافة‬

‫‪81‬‬

‫حين نصل إلى المستوى الثالث للثقافة يكون االنتقاء للتراث‬

‫ضرورة أكثر ما تتطلبها السلطة المهيمنة على المؤسسات الثقافية‬

‫ومجمل القوى داخل المجتمع‪ ،‬بما يخدم وجهة نظرها حول التراث‬ ‫نفسه‪ ،‬بحيث يتم توجيهه حسب قيم السلطة ومصالحها‪ .‬عند هذه‬

‫النقطة يمكن اإلشارة إلى أن نظرية النقد الثقافي كان الهدف من‬ ‫اشتغاالت نقادها هو فك االرتباط بين الهيمنة من جهة والثقافة من‬

‫جهة أخرى اعتمادًا على رؤية ثقافة المجتمع من خارج دوائر السيطرة‬

‫األكاديمية والتعليمية والتقاليد المنهجية المتبعة‪ .‬وكون أغلب‬ ‫نقادها جاؤوا من اليسار الجديد للماركسية‪ ،‬فإن الفاعلية النقدية كما‬ ‫يرى أبرز نقادها البريطاني ستيوارت هيل هي أن تكون على قدر من‬

‫االرتباط الوثيق بحياة الناس وقضاياهم التي تؤثر في مصيرهم‪،‬بحيث‬ ‫ال تكون هذه الفاعلية في الدوائر النظرية فقط‪،‬وإال مارست النظرية‬ ‫النقدية ما حاولت أن تحاربه وتخرج عليه‪،‬هي سيرورة من النقد ال‬

‫يجب أن تنغلق على نفسها‪،‬نقد يتحرك حسب ما تترسخ مظاهر‬ ‫الهيمنة والتهميش للناس الذين ال صوت لهم وال تمثيل‪.‬‬

‫خالصة ما نريد أن نقوله في هذه المقالة هو أن أغلب الذين‬

‫اشتغلوا من المفكرين العرب على منجزات النظرية النقدية‪،‬وحاولوا‬ ‫ً‬ ‫انطالقا منها غيّبوا تمامً ا مفهوم جدلية‬ ‫أن يحللوا ثقافة مجتمعاتهم‬ ‫الهيمنة والسلطة والثقافة‪،‬بل أحال بعضهم مفهوم السلطة على‬ ‫النسق فقط‪،‬وهذه إحدى «الهروبات» المعرفية للمثقف العربي من‬

‫مواجهة استحقاقاته ضد السلطة‪.‬‬

‫أغلب الذين اشتغلوا من‬ ‫المفكرين العرب على‬ ‫منجزات النظرية النقدية‪،‬‬ ‫وحاولوا أن يحللوا ثقافة‬ ‫مجتمعاتهم انطالقً ا منها‬ ‫تماما مفهوم‬ ‫غ ّيبوا‬ ‫ً‬ ‫جدلية الهيمنة والسلطة‬ ‫والثقافة‪ ،‬بل أحال بعضهم‬ ‫مفهوم السلطة على‬ ‫النسق فقط‪ ،‬وهذه إحدى‬ ‫«الهروبات» المعرفية‬ ‫للمثقف العربي من‬ ‫مواجهة استحقاقاته ضد‬ ‫السلطة‬


‫حوار‬

‫‪82‬‬

‫العددان ‪ 478 - 477‬شوال ‪ -‬ذو القعدة ‪1437‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬أغسطس ‪2016‬م‬


‫قال‪ :‬إن التونسيين لم يقرؤوا له وإن ثالثيته‬ ‫حول السيرة المحمدية تفوقت على االستشراق‬

‫هشام جعيط‪:‬‬ ‫الفكر يلزمه فترات من الدعة والعالم‬ ‫اليوم في تغير واضطراب‬ ‫حاورته في تونس‬ ‫حياة السايب‬

‫يعد الدكتور هشام جعيط من بين المفكرين والمؤرخين المعاصرين األوائل في‬ ‫تونس والوطن العربي‪ ،‬الذين اهتموا بتاريخ اإلسالم المبكر والكالسيكي‪ ،‬وبقضايا‬ ‫الحداثة والهوية التي تفرض نفسها على الفكر العربي الحديث والمعاصر‪ .‬ألف جعيط‬ ‫مجموعة مهمة من الكتب حول نشأة اإلسالم‪ ،‬والمدينة في اإلسالم‪ ،‬والصراعات‬ ‫التي عاشها المسلمون بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم‪ .‬وبرز المؤرخ والمفكر‬ ‫ً‬ ‫خصوصا بكتابته التاريخية الدقيقة العلمية والنقدية التي اعتمد فيها‬ ‫هشام جعيط‬ ‫على مناهج العلوم اإلنسانية وال سيما علم التاريخ؛ ما مكنه من التفوق على غالبية‬ ‫المستشرقين‪ ،‬كما يقول هو نفسه‪ ،‬وعلى قراءاتهم السردية لتاريخ اإلسالم‪ ،‬فهو‬ ‫صحح الصورة التي نشروها حوله‪.‬‬ ‫القت كتابات هشام جعيط التاريخية والفكرية في السبعينيات والثمانينيات من‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫تحديدا كتبه‬ ‫اهتماما كبيرًا في فرنسا وفي تونس وفي المشرق العربي‪،‬‬ ‫القرن الماضي‬ ‫اآلتية‪« :‬الشخصية اإلسالمية والمصير العربي»‪ ،‬و«أزمة الثقافة اإلسالمية»‪ ،‬و«أوروبا‬ ‫واإلسالم»‪ .‬ومن آخر مؤلفاته ثالثيته حول السيرة النبوية التي اهتم فيها بالوحي‬ ‫والنبوة والدعوة إلى اإلسالم في مكة‪ ،‬والهجرة إلى المدينة‪ ،‬وانتصار اإلسالم‪.‬‬

‫‪83‬‬


‫حوار‬

‫درس هشام جعيط مادة التاريخ في الجامعة التونسية‪،‬‬

‫وتوّج مسيرته العلمية بترؤسه للمجمع التونسي للعلوم‬ ‫واآلداب والفنون «بيت الحكمة» مدة أربعة أعوام‪.‬‬

‫دراسات معمقة ونقد وإبراز لعناصر قد تكون انفلتت عن‬ ‫الكاتب‪ ،‬ورجوت أن تنشر هذه المحاضرات الجيدة؛ ألنها‬

‫في بيته في ضاحية المرسى (المدينة الساحلية الهادئة‬

‫متعمقة جدًّ ا‪ ،‬وألنها كذلك من إنتاج تونسيين‪ ،‬فقد كتب عني‬

‫العاصمة) يعتكف المؤرخ والمفكر‪ ،‬ويعيش وحدة اختيارية‬

‫المغاربة‪ ،‬وأدين لهم كثي ًرا في التعريف بجهودي البحثية‬ ‫وبكتبي ومقاالتي‪ ،‬لكن في تونس لم ُتقرأ كتبي‪ ،‬وإن ُقرئت‬

‫والجميلة‪ ،‬وتعد من الضواحي الشمالية المعروفة لتونس‬ ‫بعد انتهاء مهامه على رأس بيت الحكمة‪ ،‬وبعد رحيل زوجته‬ ‫ورفيقة دربه‪ ،‬وهي وحدة تقطعها من حين إلى آخر زيارات‬

‫بعض األصدقاء والمريدين وأفراد العائلة‪ ،‬وبخاصة ممن‬ ‫يستجيبون لرغبة المفكر في إعفائه من الحديث عن تفاصيل‬

‫الحياة السياسية في البالد التي يصر أنها تزعجه أكثر مما تثير‬

‫انتباهه‪.‬‬

‫في هذا البيت وتحديدً ا في مكتبه الذي تعبق فيه رائحة‬

‫الكتب المنتشرة في كل زاوية من زواياه‪ ،‬التقت «الفيصل»‬ ‫الدكتور هشام جعيط‪ ،‬فكان هذا الحوار‪.‬‬

‫ـــــ‬

‫احتفلت مؤخرًا في تونس ومعك عدد مهم من‬

‫تالمذتك والمهتمين بتجربتك‪ ،‬بعيد ميالدك الثمانين‬

‫ً‬ ‫عاما كرستها في البحوث‬ ‫وبمرور ما يزيد عن خمسين‬

‫‪84‬‬

‫استمعت في هذا الملتقى الذي خصص لتكريمي إلى‬

‫والكتابة في التاريخ وفي مجاالت معرفية وفكرية عدة‪ .‬وكان‬ ‫االحتفال في ملتقى مهم نظم بمبادرة من مركز الدراسات‬

‫واألبحاث حول السياسات العربية بتونس‪ ،‬وتداول باحثون‬

‫ومختصون في علم التاريخ واألديان وكذلك فالسفة على‬ ‫تقديم قراءات عملية ونقدية لمجمل آثارك التاريخية‬ ‫والفكرية‪ ،‬والحظنا أنك أعربت عن رغبتك في نشر هذه‬ ‫ّ‬ ‫تعد‬ ‫األبحاث وتمنيت أن يبادر المنظمون إلى نشرها‪ .‬هل‬

‫فكر هشام جعيط بعد المؤلفات العديدة والتحاليل والنقد‬ ‫والحفريات في أعمالك لم يصل بالقدر الكافي إلى الجمهور‬

‫في تونس وربما حتى خارج تونس؟‬

‫إلى اآلن الفرنسيون كثي ًرا‪ ،‬وكتب عني باحثون عرب‪ ،‬وبخاصة‬

‫فإنها لم تفهم‪...‬‬

‫ـــــ‬

‫لماذا تص ّر على أنه لم ُيقرأ لك في تونس وأن‬

‫التونسيين إن قرؤوا لك فإنهم لم يفهموك‪ ،‬مع أننا الحظنا‬ ‫في الملتقى التكريمي عد ًدا من الباحثين أظهروا دراية‬ ‫ً‬ ‫وإلماما كبيرين بتجربتك الواسعة؟‬

‫في الفترة الثانية بعد الشباب وبعد أن كتبت كتبًا فكرية‪،‬‬

‫كتبت كتبًا تاريخية علمية كانت تالقي دائمً ا االهتمام في‬

‫فرنسا‪ .‬والحقيقة لم يدرسوا كتبي ولم يحللوا األفكار الواردة‬ ‫بها في فرنسا فحسب‪ ،‬وإنما لقيت اهتمامً ا في لبنان وفي‬ ‫بلدان الشرق عمومً ا‪ .‬فهي تترجم دائمً ا للعربية إن كتبت‬ ‫بالفرنسية‪ ،‬وتترجم للفرنسية إن كتبت بالعربية‪.‬‬

‫أما فيما يتعلق باالهتمام في تونس بما كتبت فإني أعتقد‬

‫أن الصدى الذي حظيت به بعض الكتب إنما هو ناتج عن‬

‫التأثير الفرنسي‪ ،‬وبما أننا بعد االستقالل بقينا مستعمرين‬ ‫ذهنيًّا‪ ،‬فنحن نهتم بطريقة آلية بما يكتب في فرنسا‪ ،‬وبما أن‬ ‫كتبي األولى قد القت صدى في فرنسا واهتمت بها الصحافة‬

‫الفرنسية‪ ،‬فإنها لقيت صدى في تونس كذلك‪ .‬ورأيي أنها لم‬ ‫ُتقرأ ًّ‬ ‫حقا‪ ،‬ولم يكن لها صدى حقيقيًّا‪ ،‬بمعنى لم يقع تحليل‬

‫هذه األفكار‪ ،‬ولم تقع االستفادة منها‪.‬‬

‫وإذ لم يحصل اهتمام في تونس بالكتب الثالثة التي نشرتها‬

‫حول السيرة المحمدية‪ ،‬أو حتى بالنصوص التي نشرتها من‬ ‫قبل‪ ،‬فألن الذي كان طاغيًا بعد تأسيس الجامعة التونسية‬

‫هو المسار الجامعي الوظيفي‪ ،‬حتى المختصون في‬ ‫التاريخ الروماني‪ ،‬فإنهم يركزون على ما يقع في حدود‬ ‫إفريقية أي في تونس‪ .‬وكل الباحثين التونسيين كانوا‬ ‫مهتمين بالدولة الوطنية حديثة النشأة تحت التأثير‬ ‫البورقيبي‪ ،‬وفي الواقع عندما دخلت الجامعة التي‬ ‫عدت إليها عام ‪1976‬م لم يكن يوجد أي مؤرخ أو‬ ‫أي فيلسوف يهتم بالتاريخ اإلسالمي العام أو‬ ‫بالفلسفة اإلسالمية‪.‬‬

‫وشخصيًّا لم أر مفكرين إال لما انتقلت‬

‫إلى المشرق‪ .‬وحتى في الملتقيات التي‬

‫دُعيت إليها وشاركت فيها في بلدان المشرق‬ ‫العددان ‪ 478 - 477‬شوال ‪ -‬ذو القعدة ‪1437‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬أغسطس ‪2016‬م‬


‫هشام جعيط‪ :‬الفكر يلزمه فترات من الدعة‬

‫قلما كان هناك من المشاركين مفكرون من بين التونسيين‪.‬‬ ‫لكن ال بد من اإلشارة إلى أن هناك مفكرين جيدين تأثرت بهم‬

‫من المغرب اإلسالمي‪ ،‬وأذكر بالخصوص عبدالله العروي‬

‫ومحمد أركون‪..‬‬

‫أما فيما يتعلق بتالميذي فإني أؤكد أني كنت األول الذي‬

‫كون تالميذ‪ ،‬وكتب كتبًا في تاريخ اإلسالم‪ .‬وطبيعي أن يتكون‬

‫جيل جديد في تونس من الباحثين في مادة التاريخ اإلسالمي‬ ‫علي‪ ،‬وهم اليوم يكتبون ويحللون وينقدون وهذا‬ ‫ممن تتلمذوا ّ‬ ‫جيد جدًّ ا‪...‬‬

‫ـــــ‬

‫عبدالله العروي‬

‫محمد أركون‬

‫هذا القبيل‪ ،‬فألفت كتابين في هذا المجال وهما‪« :‬الشخصية‬

‫َ‬ ‫ًّ‬ ‫مهتما بالفلسفة في البداية‪ ،‬لكنك اخترت في‬ ‫كنت‬

‫العربية اإلسالمية والمصير العربي» و«أوروبا واإلسالم» ثم‬

‫فكيف حدثت هذه السيرورة؟‬ ‫فعلاً كنت ميالاً في شبابي لدراسة الفلسفة‪ .‬لكن شاءت‬

‫رجعت بالطبع إلى التدريس في الجامعة‪ .‬بطبيعة الحال‬

‫النهاية التاريخ‪ .‬وتخصصت في التاريخ اإلسالمي القديم‪،‬‬

‫الظروف فيما بعد أن اهتممت كثي ًرا بالعلوم اإلنسانية‪ ،‬ومن‬

‫العلوم اإلنسانية اتجهت إلى التاريخ‪ ،‬وبعد فترة طويلة من‬

‫دراساتي وأبحاثي التاريخية رجع لي اهتمامي بالفلسفة‪،‬‬ ‫لكن بصفة خاصة فأنا مغرم بقراءة الكتابات الفلسفية‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫أتخل عن رغبتي في‬ ‫ورغم تخصصي في علم التاريخ فإنني لم‬

‫المطالعة في عدة مجاالت‪ ،‬فقرأت كثي ًرا عن اإلثنولوجيا وعن‬

‫علم التحليل النفسي‪ ،‬وكانت لي مطالعات أخرى في تاريخ‬ ‫األديان مثلاً ‪ ،‬واستفدت من فترة التدريس بالجامعة الزيتونية‬ ‫في تنمية مطالعاتي بحكم أنه كان لي ما يكفي من الوقت‬

‫إلشباع نهمي من المطالعة‪.‬‬

‫غير أنني أشير إلى أنني وفي أول ما كتبت لم أكتب كتبًا‬

‫تاريخية وإنما كتبًا فكرية فيها عنصر فلسفي‪ ،‬وقبل أن أكتب‬ ‫ُ‬ ‫كتبت في موضوعات‬ ‫أطروحتي التاريخية الدقيقة العلمية‪،‬‬

‫تهمّ حال العالم العربي واإلسالمي‪ ،‬وفلسفة الدين‪ ،‬وأمور من‬

‫كثيرا‪ ،‬وكتب عني‬ ‫كتب عني الفرنسيون‬ ‫ً‬ ‫باحثون عرب‪ ،‬وبخاصة المغاربة‪ ،‬وأدين‬ ‫كثيرا في التعريف بجهودي‬ ‫لهم‬ ‫ً‬ ‫البحثية‪ ،‬لكن في تونس لم تُقرأ كتبي‪،‬‬ ‫وإن ُقرئت فإنها لم تفهم‬ ‫اإليمان بالهوية ورسوخها في التاريخ‬ ‫العميق ال يمكن أن يحصل بدون أن‬ ‫ندخل بجدية فيما أسميته بالتحديث‬ ‫والسيرورة العربية نحو المستقبل‬

‫هاجرت في فترة معينة إلى فرنسا وعندما رجعت إلى تونس‬

‫اختصاصي هو التاريخ‪ ،‬والتاريخ اإلسالمي بالخصوص‪ ،‬وألفت‬

‫ما ال يقل عن ستة كتب عن التاريخ اإلسالمي األوّلي وهي كتابة‬ ‫ّ‬ ‫المسلمات الدينية‪،‬‬ ‫دقيقة وعلمية‪ ،‬راجعت فيها العديد من‬ ‫ّ‬ ‫وسلطت فيها نظرة نقدية على العديد من المصادر التي‬ ‫اهتمت بتاريخ اإلسالم‪.‬‬

‫البدايات واألفكار الكبرى‬

‫ـــــ‬

‫شغلت الدكتور هشام جعيط في البداية األفكار‬

‫الكبرى التي كانت منتشرة في فترة التحوالت التي شهدتها‬ ‫المجتمعات العربية واإلسالمية في أواسط القرن الماضي‪،‬‬ ‫وشدت القومية العربية اهتمامك قبل أن تحسم في‬

‫الموضوع فكيف كان ذلك؟‬

‫أردت االهتمام في البداية بفكرة القومية العربية التي‬

‫كانت سائدة لدى المثقفين العرب حتى في النظم السياسية‪،‬‬

‫وخرجت بفكرتين‪:‬‬ ‫أولاً أن القومية العربية كانت تبتعد ‪-‬حتى نشأة الوطنيات‬ ‫وتأسيس األوطان‪ -‬من وجهة نظر النخبة المثقفة أو السياسية‪،‬‬ ‫بقوة عن اإلسالم في حين كنت أعدّ الدين مترسّ ًخا في تلك‬ ‫الفترة لدى الشعوب‪ ،‬وال يمكن تخيل نجاح مشروع وطني‬

‫بدون مساندة الشعب؛ لذلك اعتبرت أن العروبة واإلسالم‬ ‫ً‬ ‫خالفا للفكر الماركسي الذي كان طاغيًا لدى النخبة‬ ‫يندمجان‬ ‫العربية المثقفة‪ ،‬ولكنني لم أكن ماركسيًّا‪...‬‬

‫ثانيًا اعتبرت باك ًرا أن اإليمان بالهوية ورسوخها في التاريخ‬

‫العميق ال يمكن أن يحصل بدون أن ندخل بجدية فيما أسميته‬

‫بالتحديث والسيرورة العربية نحو المستقبل‪ .‬فأنا أومن بأهمية‬ ‫تحقيق التوازن بين الهوية الجماعية والدخول في التاريخ‬ ‫المعاصر‪ .‬وقد حاولت أن أجد ًّ‬ ‫خطا فكريًّا في هذا المجال‪ ،‬ثم‬ ‫تابعت في فرنسا الكتابة‪ ،‬فأصدرت كتاب «أوروبا واإلسالم»‬

‫‪85‬‬


‫حوار‬

‫وقارنت فيه بين الحضارتين في الماضي باألساس‪ ،‬ومكنني‬

‫أعتقد أن المستشرقين في الفترة التي كتبت فيها لم يكونوا‬

‫ًّ‬ ‫خاصا بالحضارة اإلسالمية‪ ،‬وقدمت دراسات‬ ‫فأوليت اهتمامً ا‬

‫العربية أو الفارسية‪ ،‬وليس لهم تكوين تاريخي نقدي حقيقي‪.‬‬

‫اهتمامي بالتاريخ من مواصلة أطروحتي وتوسيع أفق الكتابة‪.‬‬ ‫حول المدينة في اإلسالم‪ ،‬فاهتممت بالخصوص بمدن الكوفة‬

‫وبغداد والبصرة‪ ،‬مع العلم أن دراستي للمدينة في اإلسالم‬ ‫لم تكن من وجهة نظر ضيقة؛ ألنها تدخل في حضارة كبيرة‪،‬‬ ‫ودرستها تمامً ا مثلما يدرس اآلخرون مثلاً تاريخ اليونان‪ ...‬إلخ‪.‬‬

‫ـــــ‬

‫أعلنت مرارًا أنك تفوقت على المستشرقين‪ ،‬بل‬

‫أعلنت أن عهد االستشراق قد انتهى بعد صدور ثالثيتك‬

‫حول السيرة المحمدية؛ كيف ذلك؟‬

‫لم يعد هناك مستشرقون من ذوي األهمية في الغرب‪،‬‬

‫فأغلبهم قد مات‪ ،‬ولم يأت جيل جديد‪ ،‬وهؤالء كانوا‬

‫أساس الدين اإلسالمي‬ ‫ينزعجون من أن يدرس عربي مسلم‬ ‫َ‬ ‫والحضارة اإلسالمية‪ ،‬ويهتم بتورخة اإلسالم‪.‬‬

‫متمكنين من علم التاريخ‪ ،‬وكان مسارهم يقوم على تعلم‬ ‫كانت كتاباتهم سردية‪ ،‬وتطغى عليها أحكام مسبقة‪ ،‬واعتبارات‬

‫خارج الحقل العلمي‪ ،‬وهي مسكونة بفرض تفوق الغرب على‬

‫الشرق اإلسالمي‪ .‬وأنا كمب ّرز في التاريخ كان لي اطالع على‬

‫التاريخ‪ ،‬وعلى المنهجية التاريخية‪ ،‬وشخصيًّا انتقدت البعض‬

‫منهم‪ ،‬ويمكن القول من خالل ثالثيتي حول السيرة المحمدية‪:‬‬ ‫إن االستشراق انتهى على يد أحد الشرقيين المسلمين‪.‬‬

‫ـــــ‬

‫هناك مفارقة عجيبة في عالقة المفكر هشام‬

‫جعيط بالساحة الثقافية الفرنسية والتونسية‪ ،‬فقد وجدت‬ ‫ً‬ ‫واسعا في فرنسا‪ ،‬ثم في تونس‪ ،‬لكن‬ ‫كتاباتك األولى صدى‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫متوقعا فإن ثالثية السيرة المحمدية وعلى‬ ‫خالفا لما كان‬

‫الرغم من اتباعك في كتابتها لمنهج عملي دقيق ونقدي‪،‬‬

‫وإصرارك على أنها من أفضل الكتب التاريخية التي اهتمت‬ ‫بالسيرة النبوية‪ ،‬فإنها لم تحظ باالهتمام المتوقع في‬ ‫فرنسا بالذات؟‬

‫لم تجد الكتب األخيرة التي تخص حياة الرسول صلى‬

‫الله عليه وسلم (ثالثة أجزاء) صدى كبي ًرا على الرغم من أن‬

‫‪86‬‬

‫فيها ‪-‬حسب اعتقادي‪ -‬تجديدً ا كبي ًرا‪ .‬فقد اعتمدت على عدد‬ ‫مهم من المصادر إضافة إلى سيرة ابن إسحاق؛ ألنه أول من‬

‫كتب في السيرة النبوية‪ ،‬وقبله كانت األحاديث تنقل شفويًّا‪،‬‬ ‫وسلطت على كل المصادر نظرة نقدية‪ ،‬والغاية من ذلك تقديم‬ ‫دراسة تكون قريبة من الحقيقة التاريخية‪ .‬وقد اهتم كتاب‬ ‫«حياة محمد» بأجزائه الثالثة بأهم المحطات الحاسمة؛‬ ‫من بينها الوحي والدعوة والحروب والتحالفات والتنظيم‬ ‫السياسي والحياة االجتماعية في المدينة‪ ...‬إلخ‪.‬‬

‫أبي كان «زيتون ًّيا» وعمي أول ُمف ٍ‬ ‫ت للديار التونسية‬ ‫ينحدر الدكتور هشام جعيط من أسرة تونسية عريقة‪ ،‬فوالده وجده من خريجي جامع الزيتونة ومن علماء الدين‬

‫ومن الفقهاء‪ ،‬فهل ساهمت هذه النشأة األسرية في توسيع دائرة اهتمامه؛ لينشغل بالجو العربي العام‪ ،‬ولم يقتصر على‬ ‫المسائل الوطنية الصرفة؟ يجيب الدكتور جعيط قائلاً ‪ :‬فعالً كان والدي زيتونيًّا لكن كانت له ثقافة حديثة‪ ،‬وكان مغرمً ا‬ ‫في شبابه بما يجري في الشرق‪ ،‬وكانت تصله عدة مجالت من مصر ومن لبنان ومن الشرق عمومً ا‪ ،‬وكنت أطالعها معه‪،‬‬ ‫ونتناقش في العديد من الموضوعات التي تهم الشأن العربي واإلسالمي‪.‬‬

‫كان جدي كذلك من خريجي جامع الزيتونة وكان أديبًا‪ ،‬ولكنه دخل في الوظيفة العمومية‪ ،‬وقد شجعاني على‬

‫الدراسة بالمدرسة الصادقية‪( ،‬المدرسة التي أحدثت في نطاق اإلصالحات التي أدخلت على التعليم في تونس‪ ،‬وتتميز‬ ‫المدرسة الصادقية بتقديمها علومً ا عصرية‪ ،‬وقد تخرّج منها عدد كبير من أدباء البالد ومثقفيها)‪.‬‬

‫العددان ‪ 478 - 477‬شوال ‪ -‬ذو القعدة ‪1437‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬أغسطس ‪2016‬م‬


‫هشام جعيط‪ :‬الفكر يلزمه فترات من الدعة‬

‫وقد قمت بترجمته إلى اإلنجليزية؛ ألني أردت أن‬

‫يتعرف عليه المسلمون المثقفون والعلماء في آسيا والهند‬

‫والباكستان‪ ،‬الذين ال يقرؤون بالفرنسية وال العربية بل‬ ‫يقرؤون باللغة اإلنجليزية‪ .‬لم تجد هذه الثالثية صدى في‬

‫فرنسا؛ ألنني أعتقد أن المستشرقين المهتمين بالتاريخ‬

‫اإلسالمي القديم والكالسيكي ماتوا ولم يتجددوا‪ .‬والمهتمون‬ ‫اليوم بالعالم اإلسالمي في أوربا وحتى في أميركا إنما يهتمون‬

‫بما هو معاصر من حركات إسالمية‪ ،‬ويركزون على اإلسالم‬ ‫السياسي‪ ،‬وليس على اإلسالم الحضاري والديني‪.‬‬

‫ـــــ‬

‫لكن الكتب التي تهتم بشخصية الرسول الكريم‬

‫وبحياته وبالسيرة ما زالت تصدر بكثافة في أوربا‪ ،‬وبخاصة‬

‫ًّ‬ ‫مهما؟‬ ‫في فرنسا‪ ،‬وتجد رواجً ا‬

‫إنها الكتب الشعبية المكتوبة للقراء الشعبيين‪ ،‬أما‬

‫كتابي فهو مبني على التاريخ الدقيق العلمي والنقدي‪ .‬من‬ ‫جهة أخرى ال بد من اإلقرار بأن العلوم اإلنسانية في فرنسا‬ ‫مثلاً سقطت اآلن؛ ألن كبار الباحثين االجتماعيين وكبار‬

‫المؤرخين وكبار األنثربولوجيين ذهبوا ولم يتجددوا‪ ،‬وغلبت‬

‫على الساحة الثقافية الميديا‪ .‬ال أنكر دور التلفزيون لكن‬ ‫الحوارات بما فيها التي شاركت فيها مع غيري حول النبي‬

‫الكريم والقرآن والمسيح ليست سيئة لكنها تبقى موجهة‬

‫لوسط واسع من المثقفين‪.‬‬

‫العلوم اإلنسانية في فرنسا سقطت؛‬ ‫ألن كبار الباحثين االجتماعيين وكبار‬ ‫المؤرخين واألنثربولوجيين ذهبوا‪،‬‬ ‫وغلبت على الساحة الثقافية الميديا‬

‫ـــــ‬

‫إن دراسة تاريخ اإلسالم المبكر أو اإلسالم التأسيسي‬

‫هي في نظر نقادك إنما هي محاولة لفهم مغلقات الحاضر‪،‬‬ ‫وبحث عن حلول للمشاكل اآلنية‪ .‬هل يمكن فعلاً أن نبحث‬

‫عن حلول لمشاكل الحاضر عبر دراسة الماضي؟‬

‫المشاكل اآلنية درستها بالخصوص في كتبي الفكرية‬

‫األولى أو كتابي األخير‪ ،‬وكذلك في كتاب «أزمة الثقافة‬ ‫اإلسالمية»‪ .‬فيما يخص التاريخ الدقيق أردت فيه محاكاة‬

‫المستشرقين القدامى وتحسين الرؤية لهذه الحضارة؛ ألني ال‬ ‫أعدهم قاموا بعمل جيد لترويج الصورة القريبة من الحقيقة‬

‫التاريخية والبعيدة من التأثيرات السياسية واأليديولوجية إال‬ ‫البعض‪.‬‬

‫لكن من ناحية ثانية فإن كتاباتي ال تتوقف عند الفكرية‬

‫والعلمية من الموضوعات‪ ،‬ففي حقبة الثمانينيات دخلت‬

‫في الجو الثقافي العربي‪ .‬كنت من التونسيين القلة الذين‬

‫يشاركون في الملتقيات التي تنتظم في الشرق أو في العاصمة‬ ‫ً‬ ‫أحيانا‪ ،‬وهي تنتظم عادة بمبادرة‬ ‫المغربية الرباط وفي تونس‬ ‫من مراكز ووحدات البحث العربية‪ .‬شاركت في ملتقيات حول‬

‫الواقع العربي‪ ،‬وكنت أشارك مع النخبة العربية‪ ،‬وكانت لي‬ ‫عالقات وطيدة مع المثقفين العرب الذين يهتمون بالواقع‬

‫األيديولوجي الثقافي السياسي‪ .‬وكنت كثي ًرا ما أكتب في كتب‬

‫وفي مجالت عربية وفرنسية‪ ،‬وحتى في أميركا‪ ،‬حول هذا‬ ‫الواقع الحديث‪.‬‬

‫أعتقد أن العالم اإلسالمي كله في مخاض‪ ،‬وهذا المخاض‬

‫في الحقيقة ابتدأ بعد الحرب العالمية الثانية عندما قامت‬ ‫تغييرات متعددة في النظم الحاكمة في الشرق وفي بالد‬

‫المغرب‪ ،‬ونشأت حركات استقاللية‪ ،‬وطرأت تغييرات‪،‬‬ ‫وكثرت التساؤالت حول المستقبل‪ ،‬ثم وقعت تطورات وجاءت‬

‫الحركات العروبيّة‪ ،‬ثم اإلسالمية‪ ،‬ثم حصلت حروب متعددة‬

‫فت‬ ‫وكانت لي عالقة وطيدة بعدد من مشايخ البالد من آل جعيط على غرار عمي الشيخ عز الدين جعيط (كان أول مُ ٍ‬

‫للبالد التونسية بعد االستقالل) الذي تخرج من جامعة الزيتونة‪ ،‬ودرّس بها سنوات طويلة‪ .‬لكن آل جعيط فقدوا بعد‬

‫االستقالل مكانتهم االجتماعية المرموقة بعد التغييرات االجتماعية والسياسية التي شهدتها تونس‪.‬‬

‫فمن الناحية السوسيولوجية حدث تغيير كبير في المجتمع التونسي‪ ،‬وصار كل شيء يدور حول الدولة الجديدة‪،‬‬

‫وقام الرئيس الحبيب بورقيبة بعد االستقالل بغلق جامعة الزيتونة‪ ،‬وحصل أن ابتعدت عن العائلة‪ .‬كان همّ أبي أن أدخل‬ ‫في النظام الجديد‪ ،‬ولم أكن أوافقه على هذا؛ ألن لي مهجة البحث كما علمتني العائلة ذلك منذ الصغر‪ .‬وبدا لي عندما‬

‫طلبت مني أسرتي‪ ،‬التي انحدرت اجتماعيًّا‪ ،‬ولم تعد لها نفس المكانة المرموقة في المجتمع التونسي الجديد‪ ،‬أن أنصهر‬

‫علي‪ .‬لكني آمنت بالبحث الفكري والعلمي‪ ،‬وكانت مهجتي ‪-‬كما‬ ‫في التجربة التونسية وليدة االستقالل وكأنها قد انقلبت ّ‬ ‫قلت‪ -‬البحث والمعرفة‪ ،‬واتبعت هذا السبيل طوال حياتي‪ ،‬ولم أهتم بأمور السياسة‪ .‬أما بالنسبة لتأثير العائلة فقد تواصل‬

‫حتى بلوغي سن الـ ‪ ،25‬ثم سافرت إلى فرنسا‪ ،‬واتبعت طريقي الخاص‪.‬‬

‫‪87‬‬


‫حوار‬

‫في الشرق‪ ،‬من بينها حرب لبنان التي دامت ‪ 15‬سنة‪ ،‬واندلعت‬ ‫حروب أخرى في أفغانستان مثلاً ‪ ،‬وجاءت الثورة اإلسالمية‬

‫اإليرانية‪ ،‬واهتممت بهذه المشاكل‪ .‬وأعتقد أننا ال نعيش‬ ‫ً‬ ‫مخاضا فحسب في المنطقة‪ ،‬وإنما أحدث كل هذا زلزالاً ‪.‬‬ ‫وكما عرفت أوربا فيما بين عامي ‪ 1914‬و‪1945‬م حربين‬

‫عالميتين مدمرتين‪ ،‬انتقل العنف إلى الشرق األوسط وإلى‬

‫المغرب‪ ،‬ولكن الشرق األوسط ليس العربي فقط‪ ،‬فإيران‬ ‫اإلسالمية تتدخل في الشؤون العربية‪ ،‬وأفغانستان في حالة‬ ‫اضطراب منذ أكثر من ثالثين عامً ا‪ ،‬وأتت أمور جديدة لم تكن‬

‫في الحسبان على غرار الصراع بين الشيعة والسنة‪ ،‬وهو صراع‬ ‫دام في كثير من األحيان‪ .‬سننتظر ماذا سينتج عن هذا الزلزال؛‬ ‫ٍ‬

‫ألنه سيأتي يوم وتتوقف الحروب كما توقفت من قبل في أوربا‬ ‫وغيرها‪ ،‬وسنرى ما يمكن أن ينتج من كل هذه االضطرابات‪...‬‬ ‫حروب المسلمين ضد الغرب‬

‫ـــــ‬

‫ترفض كل المقوالت التي تعد التنظيمات العنيفة‬

‫والمسلحة الناشطة في المنطقة العربية واإلسالمية اليوم‪،‬‬

‫هي حركات دخيلة وصنيعة فاعلين غرباء على المنطقة؛‬ ‫ماذا تستند في تأكيدك ذلك؟‬

‫‪88‬‬

‫أعتقد أن الصراع في المنطقة العربية واإلسالمية اليوم‬

‫هو صراع سياسي وصراع حضاري يلتحف بغطاء الدين‪ ،‬وهو‬

‫صراع حضاري بمعنى أن العالم اإلسالمي يريد التخلص من‬

‫اإلصالحية فيما يخص اإلسالم وموضوع اإلسالم وعالقته‬

‫بالحداثة ابتدأت منذ القرن التاسع عشر‪ ،‬وكانت الحركات‬ ‫ً‬ ‫أحيانا‪ ،‬مثلما نجد ذلك عند اإلخوان‬ ‫فكرية وسياسية‬ ‫المسلمين‪ ،‬ولكنها لم تكن حركات عنفيّة‪ ،‬وإنما حركات‬

‫هيمنة الغرب‪.‬‬ ‫صحيح أن الحروب هي فيما بين المسلمين‪ ،‬ولكنها أيضاً‬

‫كأن العرب والمسلمين عدوا تأخرهم ال يمكن أن يُحَ ل‬

‫في شؤون العرب والمسلمين‪ ،‬سواء دبلوماسيًّا أو اقتصاديًّا‬

‫أخرى‪ ،‬لكن األمور تطورت أكثر فأكثر‪ ،‬فلم تعد المسألة‬

‫حروب ضد الغرب‪ ،‬والواقع أن الغرب إلى اآلن تدخل كثي ًرا‬ ‫أو حتى عسكريًّا‪ .‬وكأن العالم اإلسالمي يريد التخلص من‬

‫هذه الهيمنة ‪-‬وفي بعض األحيان ومثلما يمارسه تنظيم‬ ‫الدولة المعروف بـ«داعش»‪ -‬بعنف كبير؛ ألن الحركات‬

‫أيديولوجية مرتكزة على اإلسالم‪.‬‬

‫إال من طريق العودة إلى اإلسالم‪ ،‬وليس من طريق تغييرات‬ ‫أيديولوجية وإنما أصبحت مسألة حربية‪ .‬دخلت كذلك مشكلة‬

‫الديمقراطية على غرار ما حدث في تونس وانتشر بسرعة فائقة‬ ‫في كل العالم العربي تقريبًا‪ ،‬والتقى بأرضية إسالمية أخرى‪،‬‬

‫فارتبكت األمور وازدادت تعقيدً ا‪.‬‬

‫غير أنه ال بد من التسليم بأن العالم أصبح موحدً ا‪،‬‬

‫وكل ما يجري في نقطة محددة له صدى في العالم أجمع‪،‬‬ ‫وهذا ما يسمونه بالعولمة‪ ،‬وهي ليست فقط عولمة مالية‬ ‫وتكنولوجية‪ ،‬وإنما عولمة باأليديولوجيات وبسريان األخبار‬ ‫بسرعة فائقة‪ ،‬ثم إن العالم كله اليوم في تغيّر وفي اضطراب‪.‬‬

‫ـــــ‬

‫أال ترى أن أميركا الالتينية التي عرفت مثلنا‬

‫دكتاتوريات وأزاحت هذه الدكتاتوريات هي مضطربة اآلن‪،‬‬

‫فالبرازيل التي كان يعول عليها في أن تكون قوة صاعدة‪،‬‬ ‫هي في حالة اضطراب‪ ،‬وكأن الديمقراطية التي تأسست في‬

‫هذا البلد بعد الدكتاتورية لم تترسخ؟‬ ‫العددان ‪ 478 - 477‬شوال ‪ -‬ذو القعدة ‪1437‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬أغسطس ‪2016‬م‬


‫هشام جعيط‪ :‬الفكر يلزمه فترات من الدعة‬

‫إن أميركا الالتينية تشبه العالم اإلسالمي‪ ،‬فعندما نرى‬ ‫حالة المكسيك التي دخلت شي ًئا ما في الديمقراطية‪ ،‬إال أنها‬ ‫اليوم في اضطراب كبير‪ ،‬وفينزويال كذلك في اضطراب‪ .‬نزداد‬ ‫اعتقادًا بأن العالم كله يتحرك‪ ،‬وأن شي ًئا ما بصدد إعادة‬

‫أو هي في تفكك‪ .‬وهناك عدد كبير من الغربيين أنفسهم‬ ‫اتجهوا نحو الجهاد‪.‬‬

‫أما بالنسبة للشباب المسلم فنجد المشكلة نفسها‪ ،‬أي‬

‫غياب الهدف الروحي مع زيادة أنهم في بلدانهم لديهم مشاكل‬

‫ّ‬ ‫المؤشرات على‬ ‫التشكل في المجتمع اإلنساني‪ .‬ومن بين‬

‫اقتصادية ومشاكل تشغيل‪ ،‬وفي البلدان الغربية حيث يوجد‬

‫إمبريالية منذ تغلبهم في الحرب العالمية الثانية وسقوط‬

‫صباح مساء وليس لهم موقع في هذا المجتمع‪ ،‬والغريب أن‬

‫هذا الحراك الذي يشهده العالم أن األميركيين الذين ازدادوا‬ ‫االتحاد السوفييتي يواجهون اليوم مجددًا منافسة روسية‪،‬‬ ‫ولحسن الحظ اآلن أن روسيا الحالية استرجعت بعض قواها‬

‫على النطاق العالمي الجيوسياسي‪ .‬فقد عاش العالم فترة‬ ‫كانت فيها السيطرة األميركية قوية جدًّ ا‪ ،‬وكانوا وحدهم‬

‫تقريبًا في الساحة العالمية؛ ألن الصين كانت مهتمة بالتنمية‬ ‫االقتصادية‪ ،‬ولم تظهر اهتمامً ا بالسياسة الخارجية‪ .‬ولكن أين‬

‫نحن إزاء هذا المشهد العالمي الذي يتأكد يوميًّا أن ال دور لنا‬ ‫فيه أمام الالعبين األجانب من روس وأميركان وغيرهما‪.‬‬

‫ً‬ ‫هدفا في الحياة‬ ‫العالم الحديث ال يعطي الشباب‬

‫ـــــ‬

‫أال تعتقد أن هذا التدخل األجنبي يزيد في دفع‬

‫الشباب العربي والمسلم نحو حلول طوباوية على غرار‬

‫االنضمام لتنظيمات عنيفة وإرهابية مثل تنظيم «داعش»‬ ‫مثلاً ؟‬ ‫لكن الشباب الذي انضم إلى «داعش» ليس فقط‬

‫من المسلمين‪ ،‬وإن كان في أغلبيته يتكون من العرب‬

‫والمسلمين‪ ،‬فهناك أوربيون من أصل أوربي دخلوا في‬ ‫المعمعة مع داعش‪ .‬هذا يعني أن العالم الحديث ال يعطي‬ ‫ً‬ ‫هدفا في الحياة‪.‬‬ ‫الشباب‬ ‫مثالي يبحث‬ ‫هناك فراغ بالنسبة للشباب‪ ،‬والشباب دائمً ا‬ ‫ّ‬

‫عن مَ ثل أعلى‪ ،‬لكن هذا النمط المجتمعي ال يوفر المُ ثل‬ ‫العليا‪ ،‬والشباب في البلدان الغربية يعيشون في مجتمعات‬

‫استهالكية ليس لديها أي هدف روحي‪ ،‬وتفككت العائلة هناك‬

‫اندفاع الشباب المسلم إلى «داعش»‬ ‫سببه غياب الهدف الروحي ومشاكل‬ ‫البطالة‬ ‫إذا ما أردنا أن ندخل في حراك العالم‬ ‫الحديث‪ ،‬علينا أن نفهم أن الحداثة‬ ‫مرتكزة على العلوم الطبيعية‬ ‫المرتبطة بدورها بالعلوم التكنولوجية‬

‫مسلمون على غرار فرنسا بالخصوص يهان الشباب المسلم‬ ‫نسبة من الشباب المغاربي بالخصوص ما زالوا يتصورون أن‬

‫الجنة في أوربا‪ ،‬ويلقون بأنفسهم في البحر على أمل الوصول‬ ‫إلى الضفة األخرى ولو كلفهم ذلك دفع حياتهم ثم ًنا لهذا‬ ‫الحلم الطوباوي‪.‬‬

‫من ناحية أخرى يريد الشباب التضحية وهذا منذ القدم‪،‬‬

‫إنما طريقة «داعش» ليست كغيرها من التنظيمات على غرار‬ ‫القاعدة وجماعة اإلخوان‪ ،‬فهي عنيفة جدًّ ا‪ ،‬ورجوعها إلى‬ ‫اإلسالم هو رجوع بدائي‪ ،‬لعلهم يريدون تحدي القيم الغربية‬

‫سواء الديمقراطية أو حقوق اإلنسان‪ ،‬والرجوع إلى حاالت‬ ‫حتى في اإلسالم القديم لم تكن موجودة بكثرة‪ ،‬مثل العبودية‬

‫للنساء‪ ،‬وكأنهم يريدون أن يكوّنوا إسالمً ا متشددًا جدًّ ا مثل‬ ‫الخوارج القدامى‪ ،‬وهذا يستجلب الشباب من دون أن ننسى‬

‫تدخل عنصر السياسة وحب التسلط‪.‬‬

‫ـــــ‬

‫‪89‬‬

‫ً‬ ‫ّ‬ ‫اعترافا حتى من بعض القادة األميركيين‬ ‫ولكن هناك‬

‫أنفسهم على غرار وزيرة الخارجية السابقة هيالري كلينتون‬ ‫التي ذكرت في كتابها األخير أن «داعش» ُ‬ ‫صنع أميركي‬ ‫بحت؟‬ ‫أولاً أنا إنسان ضد أن‬ ‫يتدخل الغربيون في شؤون‬ ‫المسلمين‪ .‬أما عن سؤال‪:‬‬

‫من صنع «داعش»؟ فإني‬

‫أعتقد أن حرب العراق التي‬

‫قام بها الرئيس األميركي‬

‫جورج بوش االبن كانت كارثة‬ ‫حقيقية‪ .‬فبعد سقوط بغداد‬

‫جورج بوش االبن‬

‫واحتالل العراق‪ ،‬وضعوا على الحكم الشيعة فقط‪ ،‬وهمّ شوا‬

‫أهل السنة‪ ،‬وقسموا السكان‪ .‬وهناك عدد كبير من الضباط‬ ‫من البعثيين القدامى لم يهضموا هذا االحتالل‪ ،‬وصاروا من‬

‫القيادات العسكرية في هذه التنظيمات‪ ،‬ودخلوا في النطاق‬ ‫اإلسالمي بعد أن كانوا الئكيين‪ ،‬وانضموا لتنظيمات يعدونها‬ ‫أنجع‪ .‬فالقومية العربية اليوم سقطت وعوّضها الجهاد‬

‫اإلسالمي‪ ،‬لكن ال بد من اإلشارة إلى أن اإلسالميين ليس‬ ‫كلهم من أهل الجهاد؛ اإلخوان المسلمون في مصر مثلاً لم‬


‫حوار‬

‫يكونوا من أهل الجهاد بل كانوا متسيّسين أكثر‪ ،‬واإلسالميون‬

‫لن ننخرط في حراك العالم إال بثقافة متميزة ال تكون نتيجة‬

‫جاءت هذه الحركات القوية بتسلسل‪ ،‬فبعد تنظيم القاعدة‬

‫والحداثة عندي مرتبطة بالهوية‪ ،‬والهوية ما زالت تقوم بدورها‬

‫في تونس كذلك لم يكونوا جهاديين بل كانوا معتدلين‪ .‬إنما‬ ‫نشأ تنظيم «داعش» ودخلت السياسة والتنافس والعداء‬

‫الكبير بين دول المنطقة‪ ،‬وتحديدً ا بين السعودية وإيران في‬

‫الميزان‪ ،‬فتكوّن هذا المشهد المتوتر‪.‬‬

‫العرب والمسلمون ساهما في بناء الحداثة‬

‫ـــــ‬

‫اإلستراتيجي في مقاومة الهيمنة اإلمبريالية التي أخذت شكل‬ ‫الهيمنة االقتصادية‪ ،‬وما دعوتي للغرب بالكف عن التدخل في‬

‫شؤون العرب والمسلمين إال انطالق من اعتقادي في ضرورة‬ ‫التمسك بخصوصياتنا‪ ،‬وبالعناصر األساسية التي انبنت عليها‬ ‫هويتنا وحضارتنا‪ .‬لكن الهوية ال ينبغي أن تبقى دائمً ا ً‬ ‫نبشا في‬

‫ً‬ ‫نقدا إلى المفكر هشام‬ ‫يوجه بعض الباحثين‬

‫التاريخ وال انغماسً ا في التراث وتمترسً ا وراء الدين واللغة‪.‬‬

‫لتاريخ الدين اإلسالمي‪ .‬ونرى في هذا الحديث معك أنك‬

‫والمستقبل‪ ،‬واحتكاك الهويات الفردية‪ ،‬وانفتاحها على‬ ‫األخالقيات التي تق ّرب بين البشر وتبني القيم‪ ،‬التي تفتح ً‬ ‫آفاقا‬

‫جعيط؛ إليمانه بقيم الحداثة الغربية‪ ،‬وقراءته النقدية‬ ‫حاسم في توصيفك للغرب‪ ،‬وتطالبه بالتوقف عن التدخل‬

‫في شؤوننا‪ .‬كيف يمكن إذن أن نستفيد من قيم الحداثة‪،‬‬ ‫ً‬ ‫وتحديدا من الحرية والديمقراطية‪ ،‬من دون أن نخشى‬ ‫االنحرافات عن الذات وعن الهوية وعن األصل؟‬

‫إنها ال تقوم كذلك على الذاكرة فحسب‪ ،‬بل تعني بناء الذات‬

‫أمام اإلنسان‪ ،‬وتعطي لحياته معنى‪ ،‬وتجعل منها قيمة عالية‪.‬‬

‫ـــــ‬

‫أليست الديمقراطية هي أساس الحداثة‪ ،‬إذن لماذا‬

‫_ إن الحداثة هي ابنة الغرب‪ ،‬وقد نشأت مع النهضة التي‬

‫تعطلت عجلة التقدم في البلدان التي عاشت مؤخرًا ثورات‪،‬‬

‫وجهود التحديث المتواصل‪ ،‬ونحن كعرب ومسلمين ساهمنا‬

‫الديمقراطية‪ ،‬وأصبحت معظم بلدان ما يسمى بـ«الربيع‬

‫شهدها الغرب‪ ،‬ولكنها نتيجة تراكمات وتفاعل الحضارات‬ ‫في بناء الحداثة التي أعتقد أنها انطلقت من األندلس مع‬

‫‪90‬‬

‫مبادرات فردية فحسب‪ ،‬وإنما تتحول إلى ثقافة جمعية‪.‬‬

‫الثورة العلمية‪ .‬اليوم نحن في حالة تأخر وتقهقر ما في ذلك‬

‫شك‪ ،‬وسنظل مرتبطين بالغرب‪ ،‬وسنبقى تبعً ا له‪ ،‬وسيواصل‬

‫التدخل في شؤوننا ما دمنا نكتفي باستهالك الثقافة الغربية‬ ‫ً‬ ‫استهالكا جيدً ا‪.‬‬ ‫وفي أحسن الحاالت نستهلكها‬

‫العالم كله يتحرك اليوم لكن ما زال هناك تردد في المنطقة‬

‫العربية حول تبني قيم المدنية‪ ،‬وحول أهمية المشروع الثقافي‬

‫الذي يقوم على السمو واإلبداع‪ ،‬وعلى الخلق وعلى التميز‪...‬‬

‫ونتج منها تغيير في األنظمة الدكتاتورية‪ ،‬وبناء تجربة في‬ ‫العربي» ساحة حرب‪ ،‬وكثرت بها بؤر التوتر؟‬

‫العالم كله يتحرك اليوم لكن ما زال‬ ‫هناك تردد في المنطقة العربية حول‬ ‫تبني قيم المدنية‪ ،‬وحول أهمية‬ ‫المشروع الثقافي الذي يقوم على‬ ‫السمو واإلبداع‬

‫نحن ضعفاء ولم نفهم أن التكنولوجيا أساس النهوض‬ ‫يشدد المفكر هشام جعيط في كتاباته على أن الحداثة ليست مرتبطة بالمظهر الخارجي كاللباس‪ ...‬إلخ‪ ،‬إنما هي‬

‫مرتبطة بأسباب أخرى مثل التمكن االقتصادي‪ ،‬وبما أن العرب بعيدون عن تحقيق هذه األسباب‪ ،‬إذن كيف يمكن الخروج‬

‫من المأزق؟ يرد الدكتور هشام جعيط على هذا السؤال بقوله‪« :‬إننا إذا ما أردنا أن ندخل في حراك العالم الحديث من‬ ‫الصين إلى اليابان إلى العالم أجمع‪ ،‬علينا أن نفهم أن الحداثة مرتكزة على العلوم الطبيعية المرتبطة بدورها بالعلوم‬

‫التكنولوجية‪ ،‬التي هي مبنية على أسس اقتصادية وعلى المؤسسة االقتصادية‪ .‬كيف هو الوضع عندنا؟ من هذه الناحية‬ ‫نحن ضعفاء ًّ‬ ‫جدا‪ ،‬ولم نفهم أن التكنولوجيا أساسية في النهوض بمجتمعاتنا‪ ،‬وهي ال تصلح إال إذا تكونت في إطار نسيج‬

‫مؤسساتي تكون فيه الكلمة ألبناء البلد‪ ،‬لكننا من هذه الناحية كذلك ما زلنا تبعً ا للغرب‪.‬‬

‫فإسرائيل التي تعد عدونا األول في المنطقة لها صناعات حربية ثقيلة وتصنع الدبابات والمدرعات‪ ،‬أما في البلدان‬

‫العربية فال صناعة وال تكنولوجيا‪ ،‬وحتى البترول الموجود في األراضي العربية نعول في تحويله على مهندسين وتقنيين‬

‫من الخارج‪ .‬وإذا ما عدنا إلى النموذج التونسي فإننا نطالب منذ سنوات بعودة المستثمرين األجانب لحل المشاكل‬

‫العددان ‪ 478 - 477‬شوال ‪ -‬ذو القعدة ‪1437‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬أغسطس ‪2016‬م‬


‫هشام جعيط‪ :‬الفكر يلزمه فترات من الدعة‬

‫ال بد من اإلقرار بأننا اليوم في تونس أحسن حالاً بكثير مما‬

‫المسألة ال تهم الغرب ككل‪ ،‬فالمجتمع األميركي مجتمع‬

‫ليس االنتخابات‪ .‬األساسات هي القيم التي تستقيم عليها‬ ‫الديمقراطية‪ .‬والقيم األساسية هي أولاً الحريات إذا أحس ّنا‬

‫التي أسقطت دينها القديم وعوّضته بالالئكيّة المتشددة‪ ،‬لكن‬

‫الدين لم يغب في بريطانيا وفي ألمانيا وبولونيا وغيرها‪.‬‬

‫ما ندخل في نوع من الهمجية في استعمال الحريات‪ ،‬في حين‬

‫ألمانيا وفي بريطانيا وغيرهما خارجة عن الدين لكن ليس‬

‫كنا عليه في حكم الرئيس ابن علي‪ ،‬لكن أساس الديمقراطية‬

‫استعمالها‪ ،‬ونحن بلدان لم تحسن استعمال الحريات‪ ،‬وعادة‬ ‫أنه ال بد من نوع ما من االنضباط؛ لكسب هذه الحريات‪ .‬وثانيًا‬

‫احترام قيمة الحياة اإلنسانية‪ .‬ما معنى القتل في نهاية األمر؟‬

‫إنه عدم احترام للنفس البشرية‪ ،‬وهذه هي القيم األساسية‪،‬‬ ‫وهذه هي أسس الديمقراطية‪ ،‬فكل إنسان فرد له حقوقه‪،‬‬

‫ولكن في الحقيقة هذه األسس موجودة في التراث الديني‪،‬‬ ‫ولسنا في حاجة للبحث عنها عند اآلخرين‪ ،‬فالدين اإلسالمي‬

‫يحرم التعذيب والظلم والقتل من دون حق‪ .‬القتل ممنوع في‬ ‫القرآن‪ ،‬والشتم كذلك‪ ،‬والعنف ممنوع ً‬ ‫أيضا في القرآن إال من‬ ‫ُظلم‪ ،‬والعدوان ممنوع‪ ،‬ولكن الطبيعة البشرية هي‬ ‫طبيعة حيوانية ً‬ ‫أيضا‪.‬‬

‫ال جدوى من حركة معادية لألديان‬

‫ـــــ‬

‫عندما كان الغرب في سيرورته‬

‫نحو الحداثة كانت هناك فكرة أساسية‬

‫تتمثل في مناهضة الدين أو تحييده‬ ‫عن السياسة واالقتصاد‪ ،‬ولكن الدين‬

‫عاد بقوة في العقود األخيرة‪ ،‬فهل‬ ‫ّ‬ ‫تعد من راهن على زوال المسألة‬ ‫الدينية وبخاصة في البلدان‬

‫الالئكية قد أخطأ التقدير؟‬

‫متدين‪ ،‬وإنما تهمّ عددًا من البلدان األوربية وبخاصة فرنسا‬

‫صحيح أن السيرورة االقتصادية والسياسية للدولة في‬

‫هناك في هذه البلدان الئكية متشددة‪ ،‬وهناك قسم كبير‬ ‫من المجتمعات األوربية متدين‪ ،‬أما فيما يخصنا كعرب‬ ‫ومسلمين‪ ،‬فإننا قبل أن ندخل في الحداثة (دخلنا في الحداثة‬

‫في الخمسينيات من القرن الماضي) كنا مستعمرين‪ ،‬وكان‬ ‫الدين يسيطر على البلدان اإلسالمية كلها تقريبًا‪ ،‬وفي جميع‬ ‫أشكال حياتها‪ .‬ثم ماذا نعني بإلغاء الدين؟ هل هو فصل‬ ‫الدين عن السياسة أم فصله عن االقتصاد؟ واإلجابة على ذلك‬

‫أن هذا الفصل هو اليوم أمر واقع تقريبًا حتى في بلداننا‪.‬‬

‫ومثلما أرى أنه ال داعي لفكرة بعث ميثاق لحقوق اإلنسان‬ ‫المسلم‪ ،‬وكانت قد بادرت بها بعض‬

‫الدول اإلسالمية؛ ألني أعتقد أن‬ ‫ً‬ ‫مختلفا‪ ،‬وأن‬ ‫المسلم ليس كائ ًنا‬

‫مواثيق األمم المتحدة عامة تسري‬

‫على الناس جميعهم‪ ،‬فإني ال أرى‬

‫كذلك ضرورة أو أهمية لظهور مثل هذا‬

‫التيار الداعي إللغاء عنصر الدين؛ ألن‬

‫الدين موجود ومتغلغل داخل غالبية‬

‫الفئات االجتماعية‪ ،‬أما الفصل بين الدين‬

‫والسياسة‪ ،‬وبين الدين واالقتصاد فهو كما‬

‫سبق وذكرت قد أصبح أم ًرا واقعً ا‪.‬‬

‫االقتصادية التي تفاقمت بعد الثورة‪ ،‬والحال أنه كان من الممكن أن نعول على الحس الوطني للتونسيين الذين لديهم‬ ‫األموال لالستثمار في البالد‪ ،‬ال أن ننتظر باستمرار إعانة من صندوق النقد الدولي وإنفاقها في صرف الرواتب‪ ...‬إلخ‪ .‬هنا‬

‫ينبغي للدولة أن تتدخل‪ ،‬وال أقول العودة إلى االشتراكية‪ ،‬وإنما ال بد من حضور للدولة التي ينبغي أن تبني المصانع‬ ‫والمعامل حتى باالشتراك مع الخواص؛ لتوفير الشغل وتخفيف حدة التوترات االجتماعية‪.‬‬

‫وعمومً ا هناك تقصير كبير في فهم األمور‪ ،‬ولعلني أشير في هذا السياق إلى أنه حينما قامت الثورة في روسيا في‬

‫عام ‪1917‬م وتم تأسيس االتحاد السوفييتي؛ أول شيء تم التفكير فيه هو تكوين مصانع وصناعة ثقيلة؛ ألنه ليس هناك‬

‫استقاللية للبالد من دون استقاللية على المستوى االقتصادي‪ ،‬وحتى على المستوى الحربي‪ .‬وإن كانت تونس ً‬ ‫بلدا صغيرًا‬ ‫مثلاً فإن مصر التي قامت بها ثورة بلد كبير‪ .‬لقد أزاحوا اإلخوان المسلمين ووضعوا نظامً ا قويًّا ولكن ماذا بعد؟ حتما ال بد‬ ‫من اإلسراع في تكوين صناعة ثقيلة في مختلف المجاالت‪ ،‬بما في ذلك المجال الحربي‪ .‬واألمر ال ينسحب على مصر أو على‬ ‫تونس وحدهما وإنما على كامل المنطقة العربية واإلسالمية‪ ،‬إذ ما زلنا ونحن في منطقة تعيش حروبًا وصراعات كبيرة‬ ‫تابعين لآلخر‪ ،‬أي للغرب في كل شيء‪.‬‬

‫‪91‬‬


‫حوار‬

‫بقي أن هناك قسمً ا أو فئة من الشباب أو من المثقفين‬

‫يريدون وهم يحاولون تطبيق كل العناصر الدينية‪ ،‬أن يكون‬

‫المجموعة‪ .‬أين نحن من هذه «النبوءة» أو هذه البشرى‬ ‫والعالم العربي يعيش اليوم حرو ًبا دموية‪ ،‬وتعصف به‬

‫لهم نوع من الحرية‪ ،‬وهذا في اعتقادي يدخل في باب حرية‬ ‫المعتقد فعلاً ‪ ،‬ولكل شعب عاداته وتقاليده المرتبطة بالدين‪،‬‬

‫الصراعات من كل جانب؟‬

‫المسائل تدخل في باب الحرية وترسخها‪.‬‬

‫والقول بأن هناك مؤشرات توحي بمزيد من التقسيمات داخل‬

‫وليس هناك أي ضرورة للقيام بحركة ضد الدين ما دامت هذه‬ ‫وعمومً ا فإن مشكلة الدين ليست مطروحة في تونس‬

‫فقط‪ ،‬وإنما في العالم اإلسالمي‪ ،‬وفي هذه الفترة الحالية‬ ‫حصل نوع من العودة بقوة إلى الدين‪ ،‬فالنظام اإليراني مثلاً‬ ‫جاء بأيديولوجيا جديدة تشبه بالضبط ما كان عليه االتحاد‬ ‫السوفييتي زمن ستالين‪ ،‬فالشيوعية هي دين حديث يربط‬

‫المجتمع كله بأيديولوجيا دينية‪ .‬عمومً ا المسلمون لم يجدوا‬ ‫ً‬ ‫نوعا من األيديولوجيا على غرار الماركسية تربط بين المجتمع‬

‫_ ال يمكن الجزم بما سيحدث في المستقبل القريب‪،‬‬

‫األراضي العربية‪ ،‬لن يحدث إال في فرضية واحدة‪ ،‬وهي‬ ‫نجاح تنظيم «داعش» في توحيد سوريا والعراق مع العلم أن‬

‫فرضية «غلبة» داعش ليست مستبعدة‪ ،‬حتى روسيا التي هي‬ ‫في الظاهر تحارب تنظيم «داعش» في سوريا إنما هي تتدخل‬

‫أساسً ا لمساندة نظام الرئيس السوري بشار األسد‪.‬‬ ‫وفعلاً هناك أزمة كبيرة في المنطقة العربية واإلسالمية‪،‬‬

‫لكن وراء األزمات عادة يأتي وضع جديد‪ ،‬بقي أن العنصر‬

‫بقوة‪ ،‬وتبتعد من الئكية الشاه وجماعته‪ ،‬التي كانت خاضعة‬

‫اإليجابي في العملية أنه من قبل ومنذ خمسين سنة تقريبًا‬ ‫كانت العروبة شي ًئا واإلسالم كان شي ًئا آخر‪ ،‬وداخل العروبة‬

‫كتبت في خاتمة كتابك «أزمة الثقافة اإلسالمية»‬

‫هناك انقسامات‪ .‬واليوم هناك رقعة في العالم هي الشرق‬

‫تمامً ا للغرب‪.‬‬

‫ـــــ‬

‫ً‬ ‫حتما‬ ‫(صادر عن دار النشر الفرنسية فايار سنة ‪2004‬م) أنه‬ ‫سيأتي يوم ويتحقق فيه مطمح المسلمين في نشر ثقافة‬

‫‪92‬‬

‫الشعوب‪ ،‬واإليمان بقيمة حياة اإلنسان كفرد وداخل‬

‫ً‬ ‫طعما للحياة‪ ،‬وأشرت إلى أن الدولة‬ ‫السمو التي تمنح‬

‫ليست سوى محرك للتنمية المادية والمعنوية‪ ،‬وأن‬ ‫المجتمع المدني سيقوم بدوره المطلوب منه‪ ،‬وأن التغيير‬ ‫في العالم العربي واإلسالمي يتطلب عدة شروط‪ ،‬وهي‬

‫الديمقراطية والسلم بالداخل والخارج‪ ،‬والتضامن بين‬

‫الحداثة عندي مرتبطة بالهوية‪،‬‬ ‫والهوية ما زالت تقوم بدورها‬ ‫اإلستراتيجي في مقاومة الهيمنة‬ ‫اإلمبريالية‬ ‫أوربا في طريقها نحو التفكك؛‬ ‫فهي لم تبن دولة فيدرالية إنما‬ ‫ًّ‬ ‫هشا‬ ‫اتحادا‬ ‫بنت‬ ‫ً‬ ‫لقد تراجع دور المثقف العربي‪،‬‬ ‫واحتلت مكانه أطراف لها قدرة كبيرة‬ ‫على التأثير في الجموع على غرار‬ ‫القيادات السياسية والحزبية‪ ،‬وحتى‬ ‫وسائل اإلعالم الجماهيرية‬ ‫العددان ‪ 478 - 477‬شوال ‪ -‬ذو القعدة ‪1437‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬أغسطس ‪2016‬م‬

‫كانت هناك نظريات الوطنية على غرار نظرية بورقيبة‪ ،‬وكانت‬

‫األوسط وشمال إفريقيا‪ ،‬وحتى بعض بلدان آسيا الوسطى‬ ‫ً‬ ‫سابقا والعالم اإلسالمي الذي خرج‬ ‫التابعة لالتحاد السوفييتي‬ ‫من االستعمار يريد تأكيد ذاته في مسار التاريخ بالصيغة التي‬ ‫يراها‪ ،‬وتوجد داخل هذا الصراع وحدة إسالمية‪ ،‬والعرب لم‬

‫يعودوا وحدهم في الصراع‪ ،‬هناك اليوم أفغانستان وإيران‬

‫وإندونيسيا والباكستان‪ ،‬على حدودها على األقل‪ .‬ثم ال ننسى‬ ‫أن هذه الرقعة لها تاريخ كبير جدًّ ا‪ ،‬وهي التي كوّنت الحضارة‬

‫وهي مهدها األصلي‪.‬‬

‫االنحدار األوربي‬

‫ـــــ‬

‫تصر على أن أوربا في حالة انحدار وفرنسا التي‬

‫َ‬ ‫عشت فيها حوالي عشرين سنة ونشرت فيها كتبك‪،‬‬

‫تراجعت كثيرًا وأصبحت تابعة ألميركا‪ ،‬والعالم بأكمله‬ ‫مضطرب‪ ،‬كيف يبدو لك مستقبل العالم ككل؟‬

‫_ بالنسبة ألوربا فقد عرفت أوجها في القرن التاسع‬

‫عشر وفي النصف األول من القرن العشرين‪ ،‬لكن في التاريخ‬

‫اإلنساني ‪-‬وقد عشنا التجربة في العالم اإلسالمي في القرون‬

‫األربعة األولى بعد التأسيس‪ -‬يتكون فكر وفن كبيران‪ ،‬ثم‬ ‫تتوقف الحركة‪ .‬ومن عالمات هذا االنحدار في أوربا ليس‬ ‫فقط التبعية السياسية والضعف الثقافي الفادح والتراجع‬ ‫ً‬ ‫أيضا سيطرة‬ ‫على مستوى العلوم اإلنسانية‪ ...‬إلخ‪ ،‬إنما‬ ‫المشاعر السلبية على المجتمعات‪ ،‬وبخاصة المجتمع‬

‫الفرنسي‪ ،‬وعلى رأسها مشاعر الكراهية ورفض اآلخر‬ ‫واإلسالموفوبيا التي ما فتئت تزداد حدتها‪ ،‬ليس فقط بسبب‬


‫هشام جعيط‪ :‬الفكر يلزمه فترات من الدعة‬

‫هشام جعيط خالل حفل تكريمه في تونس‬

‫العمليات اإلرهابية؛ ألنه إن سقط بضع عشرات من الضحايا‬

‫في بناء مستقبل األمة العربية واإلسالمية‪ ،‬فهل يعني ذلك‬

‫ضحية في العراق‪ .‬لكن مشاعر الكراهية ال تقتصر فقط على‬

‫خلدون آخر وابن رشد هذا العصر وغيرهم في المنطقة؟‬ ‫لقد تراجع فعلاً دور المثقف العربي واحتلت مكانه أطراف‬

‫في باريس وبروكسل‪ ،‬فإنه يسقط يوميًّا ما ال يقل عن ‪50‬‬ ‫المسلمين الذين نقول عنهم عادة إنهم يرفضون االندماج‬ ‫في المجتمعات الغربية‪ ،‬إنما هناك عنصرية واضحة ضد‬

‫اليهود في فرنسا‪ ،‬والسؤال‪ :‬أليس اليهود متفرنسين كفاية‪،‬‬ ‫فلماذا هذه العنصرية ضدهم إذن؟ وينبغي أن يكون المرء‬

‫قد عاش داخل المجتمع الفرنسي سنين طويلة مثلي‪ ،‬ال أن‬

‫يكون مجرد زائر‪ ،‬حتى يعرف حقيقة هذا المجتمع‪ .‬وواضح‬ ‫جدًّ ا أن أوربا في طريقها نحو التفكك‪ ،‬فهي لم تبن دولة‬ ‫فيدرالية وإنما بنت اتحادًا ًّ‬ ‫هشا‪.‬‬ ‫وعمومً ا لقد تغيرت األمور كثي ًرا على مستوى العالم‪ ،‬ولم‬

‫تعد فكرة انتقال العلوم والفنون إلى أمكنة أخرى صحيحة؛‬ ‫ألن العالم الرقمي سيغلب الكتاب‪ ،‬والصورة ستغلب النص‬

‫المكتوب‪ ،‬والعالم مرتبط بقوة بشبكات اإلنترنت‪،‬‬ ‫ً‬ ‫مرتبطا بقوة عن طريق‬ ‫والمجتمع العالمي أصبح‬ ‫شبكات الميديا‪ .‬ولإلشارة فقط فقد قرأت ضمن‬

‫مطالعاتي وفي دراسة علمية جدية أن شركتي‬ ‫«أبل» و«غوغل» ستصيران المسيطرتين على‬

‫العالم في المستقبل‪ ،‬وهذا ممكن جدًّ ا‪.‬‬

‫ـــــ‬

‫ترى أن السؤال حول دور‬

‫المثقف اليوم في المجتمع سؤال‬ ‫تقليدي‪ ،‬ألن دوره تراجع‪ ،‬لكن‬

‫المنطقة العربية شهدت من قبل‬

‫ميالد شخصيات مثقفة كان لها تأثيرها‬

‫أن علينا أن نقفل باب األمل في ظهور ابن عربي جديد وابن‬

‫لها قدرة كبيرة على التأثير في الجموع على غرار القيادات‬

‫السياسية والحزبية‪ ،‬وحتى وسائل اإلعالم الجماهيرية‪ .‬جاءت‬ ‫من قبل فترة ازدهر فيها العلم والمعرفة‪ ،‬وظهر مثقفون في‬

‫حجم األسماء المذكورة وغيرها‪ ،‬وحتى الشخصيات الفكرية‬

‫واإلصالحية التي برزت في الفترة المعاصرة‪ ،‬وبخاصة في‬ ‫المغرب اإلسالمي هي من الشخصيات التي تشبعت بالثقافة‬ ‫الغربية‪ ،‬لكن الثقافة العربية واإلسالمية كانت ً‬ ‫أيضا راسخة‬ ‫لديها‪ ،‬إال أن الفكر يلزمه فترات من الدعة‪ ،‬ونحن اليوم في‬

‫حالة صراع‪ .‬ننتظر أن تهدأ األمور ألنه ال بد أن يأتي يوم وتنتهي‬

‫فيه هذه الحروب‪ ،‬فأنا أصر على أنها ليست أبدية‪.‬‬

‫بقي أني أعتقد أن هناك أشياء‬

‫إيجابية تحدث اليوم في الساحة‬

‫اإلعالمية العربية‪ ،‬والذي جلب‬

‫اهتمامي أن اللغة العربية الحديثة‬

‫تقدمت تقدمً ا باه ًرا‪ ،‬ويمكن لها‬

‫أن تكون قادرة على التعبير عن‬

‫كل شيء‪ .‬وشخصيًّا تابعت مؤخ ًرا‬

‫حوارات على قناة البي بي سي عربي‬

‫وعلى قناة فرنسا ‪ 24‬تقال بلغة عربية‬

‫جيدة جدًّ ا‪ ،‬واستمعت إلى تحليالت‬ ‫سياسية مهمة ً‬ ‫أيضا بلغة عربية سليمة‬

‫جدًّ ا وقيّمة‪.‬‬

‫‪93‬‬


‫قضايا‬

‫بعد أربعة عقود ونصف‪...‬‬

‫اتحاد األدباء والكتاب اليمنيين‬ ‫من ربيع الوحدة إلى شتاء االنقسام!‬ ‫انتكاسة المشروع القومي العربي بعد حزيران ‪1967‬م خلق متغيرين‬ ‫رئيسيين في اليمن التي ظلت قبل هذا الموعد‪ ،‬وعلى مدى أعوام‬

‫خمسة‪ ،‬جغرافية ملتهبة لتصفية حسابات مؤجلة‪ ،‬بين مشروعين‬ ‫متناحرين‪ ،‬عكسا حالة االستقطاب الحاد في ذروة الحرب الباردة‪.‬‬

‫محمد عبدالوهاب الشيباني‬ ‫شاعر وكاتب يمني‬

‫‪94‬‬

‫ففي شمال البالد‪ ،‬وصل التيار المحافظ إلى الحكم‪ ،‬مطلع نوفمبر‬

‫‪1967‬م‪ ،‬عبر انقالب ناعم في ظاهره‪ ،‬خشن في مآالته‪ ،‬وفي جنوبها‬

‫استطاع تيار اليسار فرض نفسه كسلطة قوية منذ لحظة االستقالل‬ ‫عن بريطانيا في نهاية الشهر ذاته‪ ،‬وفي طريقه الشاق هذا‪ ،‬تخلص من‬

‫كل منافسيه‪ .‬تعارُض النظامين السياسيين عكس نفسه على عالقات‬ ‫الشطرين‪ ،‬التي شهدت توترات مستديمة‪ ،‬أفضت إلى حربين بينهما‬

‫في سنوات السبعينيات (‪1979 – 1972‬م)‪.‬‬

‫في وضع مثل هذا‪ ،‬أراد بعض مثقفي البالد وأدبائها شمالاً وجنو ًبا‪،‬‬ ‫التعبير عن رفضهم لهذا االنقسام‪ ،‬بوجود حكومتين في بالد واحدة‪،‬‬ ‫(كما عبرت بياناتهم الباكرة) فشكلوا لجنة تأسيسية في أكتوبر ‪1970‬م‪،‬‬ ‫من اتجاهات ثقافية وجغرافية وسياسية متعددة‪ ،‬لإلعداد لتشكيل‬

‫كيان نقابي موحد‪ ،‬يعبر عن مشروعهم الوطني الرافض للتشطير‪.‬‬

‫العددان ‪ 478 - 477‬شوال ‪ -‬ذو القعدة ‪1437‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬أغسطس ‪2016‬م‬


‫اتحاد األدباء والكتاب اليمنيين‪ ..‬من ربيع الوحدة إلى شتاء االنقسام!‬

‫عبدالفتاح إسماعيل‬

‫أحمد دماج‬

‫المولود الحلم‬

‫عبدالله البردوني‬

‫عمر الجاوي‬

‫أن أهم أهداف التأسيس هو «نشر اإلنتاج األدبي والفني ألعضاء‬

‫هذه اللجنة تولت االتصال والتواصل بسبعين أديب‪/‬ة وكاتب‪/‬ة‬

‫االتحاد وتشجيعهم بتقديم كافة التسهيالت الممكنة»‪ ،‬فلم تتع َّد‬

‫شرق الجنوب)؛ لتشكيل هذا الكيان الحلم‪ ،‬الذي أبصر النور (بعد‬

‫من مسيرته أصابع اليدين‪ ،‬حتى وهي تمثل في بعض حاالتها‬ ‫أعمالاً ريادية بمقاييس الحداثة وقتها‪ ،‬مثل رواية «يموتون‬

‫يمني‪/‬ة‪ ،‬من صعدة (في أقصى الشمال) إلى المهرة (في أقصى‬ ‫مخاض عسير) في مدينة عدن‪ ،‬التي احتضنت مؤتمرهم األول في‬

‫فبراير ‪1974‬م‪ ،‬لكن قبلها بأعوام ثالثة وتحديدًا في ‪ 15‬إبريل ‪1971‬م‪،‬‬

‫على سبيل المثال‪ ،‬إصدارات االتحاد في األعوام العشرة األولى‬

‫غرباء» لمحمد عبدالولي‪ ،‬ومجموعة «غريب على الطريق»‬

‫أعادوا إصدار مجلة «الحكمة» باسم االتحاد‪ ،‬بعد أكثر من ثالثة‬

‫للشاعر محمد أنعم غالب‪ ،‬لكن في المقابل كان يُنظر للصدور‬ ‫المنتظم لمجلة الحكمة‪ ،‬بوصفه فعلاً ثقافيًّا متكاملاً ‪ ،‬لما كانت‬

‫على مدى سنوات السبعينيات‪ ،‬بين المؤتمر األول والمؤتمر‬

‫بما فيها السجاالت والنقاشات الحادة حول موضوع الوحدة‬ ‫ً‬ ‫عنوانا‪« :‬الوحدة‬ ‫اليمنية‪ ،‬التي صدرت هي األخرى في كتاب حمل‬

‫أجيالنا المعاصرة»‪ ،‬الذي ظل صامدًا حتى المؤتمر الخامس‬

‫مايو ‪1971‬م‪« ،‬وحكمة اليوم ستغطي النقص في مجال األدب‬

‫عقود‪ ،‬من إصدارها األول في صنعاء في ديسمبر ‪1938‬م‪ .‬ورأس‬

‫تحرير إصدارها الجديد ولقرابة عشرين عامًا‪ ،‬األديب عمر الجاوي‪.‬‬

‫الثاني الذي انعقد في صنعاء في نوفمبر ‪1980‬م‪ ،‬تبلور الشعار‬

‫الرئيس لالتحاد «تحقيق الوحدة اليمنية في الصدارة من مهام‬ ‫لالتحاد الذي انعقد في عام الوحدة ‪1990‬م؛ إذ بدأت التحوالت‬

‫العميقة في بنيته وخطابه وحضوره في الحياة العامة‪ .‬لكن قبل‬ ‫ذلك ال بد من الوقوف على متعينات عديدة‪ ،‬جعلت من هذه‬

‫المؤسسة «أيقونة» للعمل الوحدوي والنضال السياسي السلمي‪،‬‬ ‫ينظر إلى تاريخها بتبجيل وتوقير‪.‬‬

‫العمل الوطني بطابعه السياسي‬

‫تمثله من منبر غير مكبل‪ ،‬استوعب الكثير من نتاجات األدباء‪،‬‬

‫تأسيسا لما جاء في افتتاحية العدد الثاني في منتصف‬ ‫اليمنية»‪،‬‬ ‫ً‬

‫والفنون والتاريخ‪ ...‬ألنها يجب أن تضطلع بهذا الدور»‪ ،‬وقد‬ ‫مثلت افتتاحيات المجلة على مدى عقدين مادة مهمة لدارسي‬

‫تمظهرات خطاب االتحاد‪ ،‬ومواقفه من القضايا السياسية‬ ‫والوطنية‪ ،‬شمالاً وجنوبًا‪.‬‬ ‫التسعينيات وتبدالت الخطاب والحضور‬

‫حين وصل االتحاديون إلى مؤتمرهم الخامس الذي انعقد‬

‫طيلة عقدين كاملين‪ ،‬غلب على نشاط االتحاد‪ ،‬وحضوره‬

‫في عدن عام الوحدة (أكتوبر ‪1990‬م)‪ ،‬كان ال بد أن يصوغوا شعارًا‬

‫ً‬ ‫خصوصا فيما يتعلق بأوضاع المعتقلين والمطاردين‪،‬‬ ‫وحقوقي‪،‬‬

‫تزدهر الثقافة»‪ .‬لكن هل كانوا يدركون أن هذا المؤتمر سيكون‬

‫في الحياة العامة‪ ،‬العمل الوطني بطابعه السياسي بغالف نقابي‬

‫من أعضائه وغير أعضائه‪ ،‬ولم يكن المشروع الثقافي بخصوصيته‬ ‫األدبية والفكرية‪ ،‬يمثل التحدي الواضح في حضوره آنذاك‪ ،‬رغم‬

‫كان الشاعر والكاتب والمؤرخ والروائي‬ ‫والمنظر السياسي‪ ،‬الذين ال تجمعهم‬ ‫االنتماءات السياسية الواحدة‪ ،‬يجمع‬ ‫بينهم االتحاد ومشروعه الوطني‬

‫جديدًا يواكب المرحلة‪ ،‬فاختاروا شعارًا‪« :‬بالديموقراطية والوحدة‬

‫المدشن الفعلي للتحول في تركيبة االتحاد‪ ،‬وخطابه وحضوره‬

‫في المشهد العاصف الجديد الذي وسم البالد‪ ،‬والمنطقة والعالم‬ ‫بجملة من التبدالت؛ مثل‪ :‬سقوط اليقينيات الكبرى‪ ،‬وتسيد‬

‫القطبية الواحدة‪ ،‬ورواج مقوالت نهاية التاريخ واأليديولوجيا‪.‬‬ ‫فأُولى هذه التحوالت كانت إزاحة الرموز التاريخية في االتحاد‬

‫من المواقع القيادية‪ ،‬على نحو إزاحة الجاوي من األمانة العامة‬

‫ورئاسة تحرير الحكمة‪ ،‬وإزاحة أحمد دماج من رئاسة االتحاد‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫وتولي الشاعر (سلطان الصريمي) موقع األمين العام‪ ،‬واألديب‬ ‫(محمد الربادي) موقع الرئيس‪.‬‬

‫‪95‬‬


‫قضايا‬

‫يمض عام واحد‪ ،‬إال وكانت االنقسامات‬ ‫ولم ِ‬

‫مغاير في إطار األحزاب والجمعيات‪ ،‬قاطعين جذر‬

‫العامة استقالتها‪ ،‬وأعيد تشكيلها مرة أخرى‬

‫وحضوره في الشأن العام يبهت‪ ،‬وعنايته بقضايا‬

‫قد بدأت تبرز‪ ،‬وأفضت إلى تقديم األمانة‬

‫المودة به‪ ،‬لهذا بدأت نبرة خطاب االتحاد تذوي‪،‬‬

‫من شخصيات الصف الثاني في قيادة االتحاد‪،‬‬

‫أعضائه تتالشى‪.‬‬

‫التي بعد عناء أوصلت االتحاد إلى المؤتمر العام‬

‫وفي المؤتمر السابع‪ ،‬الذي انعقد في صنعاء‬ ‫(مارس ‪1997‬م)‪ُ ،‬كرس الوضع ذاته ببقاء موقع‬

‫السادس‪ ،‬الذي انعقد في صنعاء في نوفمبر‬

‫‪1993‬م (عشية حرب صيف ‪1994‬م)‪.‬‬

‫وبعد أقل من عام على عقد المؤتمر‪ ،‬الذي‬

‫رئاسة االتحاد وأمانته العامة من دون تغيير‪ ،‬مع‬

‫محمد حسين هيثم‬

‫انعقد تحت شعار جديد‪« :‬حرية اإلبداع تأصيل للديموقراطية‬

‫والتحديث»‪ ،‬وتولى فيه رئاسة االتحاد الشاعر والبرلماني المعروف‬ ‫(يوسف الشحاري)‪ ،‬وشغل موقع األمين العام الشاعر (إسماعيل‬

‫الوريث)‪ ،‬كان االتحاد قد فقد العديد من مق ّراته في مدينة عدن‪،‬‬ ‫بفعل تداعيات الحرب‪ ،‬وتم ربطه ماليًّا بوزارة الشؤون االجتماعية‪،‬‬ ‫مثله مثل مؤسسات الرعاية االجتماعية‪ ،‬يتحصل منها على فتات‬

‫المال‪ ،‬الذي لم يكن يكفي لنفقات تشغيل واحد من مقراته‪،‬‬ ‫وبوضوح ستتجلى معاناة االتحاد الذي صار ال يستطيع إصدار‬

‫مجلته‪ ،‬وال الوفاء بالتزاماته تجاه األعضاء وحقوقهم‪ ،‬حتى أولئك‬ ‫السياسيون الذين كبروا تحت مظلته‪ ،‬بدؤوا يبحثون عن حضور‬

‫‪96‬‬

‫عودة بعض رموزه إلى مواقع قيادية فيه‪ ،‬مثل‬

‫عودة رئيسه السابق أحمد دماج إلى موقع نائب األمين العام‪،‬‬ ‫وعودة األمين السابق سلطان الصريمي إلى األمانة المالية‪،‬‬

‫عندما بدأ السياسيون الذين كبروا تحت‬ ‫مظلة االتحاد‪ ،‬يبحثون عن حضور مغاير‬ ‫في إطار األحزاب والجمعيات قاطعين‬ ‫جذر المودة به‪ ،‬أخذت نبرة خطاب االتحاد‬ ‫تذوي‪ ،‬وحضوره في الشأن العام يبهت‪،‬‬ ‫وعنايته بقضايا أعضائه تتالشى‬

‫تنازعات النقابي والسياسي والثقافي‬

‫كراع للعمل‬ ‫تنافسات الحكام في الشطرين لعبت دورًا مسهلاً لوالدة االتحاد؛ للرغبة من كليهما في التعبير عن نفسه‬ ‫ٍ‬

‫الثقافي الموحد‪ ،‬والهروب من وصمة التشطير واالنعزال‪ ،‬وما ينبغي إضافته إلى ذلك هو الظرف التاريخي‪ ،‬الذي جاد بعقلية‬ ‫الحاكم المثقف في الحالتين‪.‬‬

‫رئيسا للجمهورية حينها‪ ،‬وفي الجنوب وجدت نخبة من‬ ‫ففي الشمال كان الشاعر واألديب القاضي عبدالرحمن اإلرياني‬ ‫ً‬

‫المثقفين اليساريين في هرم السلطة‪ ،‬وعلى رأسهم الشاعر والمثقف (عبدالفتاح إسماعيل) الرجل األقوى والمؤثر في السلطة‪.‬‬ ‫ً‬ ‫شرطا حيويًّا مهمًّ ا الستمرار‬ ‫اإلذابة الواضحة للتناقضات المناطقية واأليديولوجية والسياسية لمنتسبي االتحاد خلقت‬ ‫االتحاد قويًّا ومستقلاًّ في قراراته‪ ،‬وحاضرًا في المعترك الوطني‪ ،‬الذي عزز ذلك وجود شخصيات من الطراز الرفيع في قيادته‪،‬‬

‫وعلى رأسهم مبصر اليمن وحكيمها الشاعر (عبدالله البردوني)‪ ،‬الذي كان أول رئيس لالتحاد‪ ،‬وإلى جانبه ثلة من المثقفين‬

‫السياسيين والكتاب‪ ،‬الذين سعوا بمواقفهم وكتاباتهم‪ ،‬إلى بلورة خطاب تنويري‪ ،‬مهموم بوطن يحاول النهوض من ركام‬ ‫التخلف والعنف‪ ،‬على أساس المواطنة‪ ،‬وحرية التنقل والقول في الجغرافية الواحدة‪.‬‬

‫وفي الوقت الذي كان نظاما الشطرين يزيحان خصومهما باالعتقال والتغييب والمطاردة‪ ،‬كان يجلس في اجتماعات‬

‫االتحاد المثقف (الليبرالي) إلى جوار المثقف (الديني)؛ ليتدارسا أوضاع البالد وأحوال مثقفيها‪ ،‬ومتابعة قضاياهم وشؤونهم؛‬

‫لهذا كان الشاعر والكاتب والمؤرخ والروائي والمنظر السياسي‪ ،‬الذين ال تجمعهم االنتماءات السياسية الواحدة‪ ،‬يجمع بينهم‬ ‫االتحاد ومشروعه الوطني‪.‬‬ ‫لاً‬ ‫وألن النظامين‪ ،‬شما وجنوبًا‪ ،‬كانا يجرمان العمل السياسي كل بطريقته‪ ،‬األول يحرّمها تحريمً ا بائ ًنا على قاعدة مقولة‬

‫«الحزبية تبدأ بالتأثر وتنتهي بالعمالة»‪ ،‬والثاني بحصره ممارسة العمل في إطار التنظيم السياسي الموحد أو الحزب القائد‪،‬‬ ‫فقد كان اتحاد األدباء والكتاب‪ ،‬أشبه بالمالذ اآلمن للمطاردين والمشردين‪ ،‬الذين يعانون عسف األجهزة‪ ،‬التي كانت تراهم‬

‫في الشمال معارضين يساريين مدعومين من نظام الجنوب‪ ،‬في الوقت الذي ترى أجهزة الجنوب في الصوت المرتفع الناقد‪،‬‬ ‫ً‬ ‫تشويشا على التجربة االشتراكية الرائدة في المنطقة‪.‬‬ ‫الذي يطلقه االتحاد حيال التجاوزات؛‬

‫العددان ‪ 478 - 477‬شوال ‪ -‬ذو القعدة ‪1437‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬أغسطس ‪2016‬م‬


‫اتحاد األدباء والكتاب اليمنيين‪ ..‬من ربيع الوحدة إلى شتاء االنقسام!‬

‫وشهدت هذه الفترة نقل مقر مجلة الحكمة إلى‬

‫ً‬ ‫عنوانا تقريبًا‪ ،‬ووصل إلى ذروته‬ ‫مئة وعشرين‬

‫هيثم؛ إذ بدأت بالتعافي ومعاودة الصدور‪،‬‬ ‫تزام ًنا مع دورة عجالت اإلصدارات من جديد‪،‬‬

‫ساعد على ذلك هو االستقرار المالي‪ ،‬وتعدد‬

‫صنعاء؛ ليرأس تحريرها الشاعر محمد حسين‬

‫مع عام (صنعاء عاصمة للثقافة ‪2004‬م)‪ ،‬والذي‬ ‫موارد االتحاد‪ ،‬وقبل هذا وذاك وجود أمين عام‬

‫حيث شهدت هذه الفترة صدور قرابة عشرة‬ ‫عناوين ُ‬ ‫لكتاب شبان من الشعراء و ُكتاب القصة‪.‬‬

‫لكن مع ذلك استمرت متالزمة الغياب لصورة‬

‫االتحاد المكرسة في أذهان العامة‪ ،‬تحفر في كل‬ ‫مدونة باحثة عن دور لالتحاد‪ ،‬من دون فائدة‪.‬‬

‫األلفية ومشروع الكتاب وتهافت الساسة‬

‫في المؤتمر العام الثامن‪ ،‬الذي انعقد مرة أخرى في صنعاء في‬

‫إبريل ‪2001‬م‪ ،‬صعد إلى قيادته مجموعة من األعضاء الشبان (شعراء‬ ‫وقصاصون)‪ ،‬وسُ جل فيه حضور الفت للمرأة ألول مرة في القيادة‬ ‫الفوقية لالتحاد بوجود أديبتين في عضوية األمانة العامة ألول مرة‬

‫في تاريخ االتحاد‪ ،‬وتولى األمانة العامة فيه الشاعر (محمد حسين‬

‫هيثم)‪ ،‬وعاد (أحمد قاسم دماج) إلى موقع الرئاسة‪ .‬في هذا المؤتمر‬ ‫صوّت المؤتمرون على تعديالت على النظام األساسي لالتحاد‪،‬‬ ‫باستحداث أمانة جديدة للحقوق والحريات‪ ،‬واشتراطات العضوية‬

‫وعالقة الفروع بالمركز‪ ،‬وتعيين هيئة مستشارين‪ ،‬كمحاولة لمواكبة‬ ‫التغيرات التي أحاطت به‪ .‬في هذا المؤتمر سيسجل أول اختراق‬

‫لتقاليد االتحاد العتيقة‪ ،‬بالمساومة على اقتسام المواقع القيادية‬ ‫بين منتسبي الحزب الحاكم (الشعبي العام) وبقية المحسوبين على‬

‫األطراف السياسية والمستقلين‪ ،‬من دون انتخابات مباشرة فعلية‪،‬‬

‫وأراد الحاكم من ذلك إتمام تدجين آخر القالع المستعصية‪ ،‬وهو‬ ‫ما سيتمه بعد أربع سنوات‪ ،‬في المؤتمر التاسع‪ ،‬المنعقد في‬ ‫مارس ‪2005‬م‪ ،‬حين استخدم المال السياسي وبشكل فاضح‪ ،‬لفرض‬

‫المحسوبين عليه في قيادة االتحاد‪ ،‬وإقصاء كل المناوئين من‬

‫الشخصيات النقابية‪ ،‬بطريقة خشنة تمامًا؛ ما جعل عضو المجلس‬ ‫ً‬ ‫الحقا‪« :‬االتحاد انهار مشروعه‬ ‫التنفيذي بشرى المقطري تقول‬

‫الوطني منذ ‪2005‬م‪ ،‬وصعود قيادات في األمانة ال عالقة لها باألدب‪،‬‬

‫ولكن بسبب فرض المؤتمر الشعبي ألسماء بعينها‪.»..‬‬

‫في هذا المؤتمر‪ ،‬وألول مرة ستصعد سيدة إلى موقع األمين‬

‫العام (الشاعرة هدى أبالن)‪ ،‬وتولى الناقد واألكاديمي (عبدالله‬ ‫البار) رئاسة االتحاد‪ ،‬وهو ذات األمر الذي سيتكرر في المؤتمر‬

‫العاشر‪ ،‬الذي انعقد في مدينة عدن في مايو ‪2010‬م‪ ،‬وبذات‬

‫الطرائق تقريبًا‪.‬‬

‫مهجوس بمثل هذا الموضوع‪ ،‬وأعني هنا الراحل‬

‫محمد هيثم‪ ،‬لكن هذا المشروع سيتراجع بعد‬ ‫المؤتمر التاسع بشكل ملحوظ حتى توقف‬

‫في عام ‪2008‬م‪ ،‬ليحل محله مشروع الرعاية‬ ‫ً‬ ‫ملحوظا‪ ،‬في دعم األعضاء في‬ ‫االجتماعية‪ ،‬الذي شهد تحس ًنا‬

‫بشرى المقطري‬

‫مجاالت الرعاية الصحية‪ ،‬ودعم الطباعة واإلعانات‪ ،‬على حساب‬ ‫الموقف الوطني‪ ،‬والموقف من الحريات‪ ،‬التي بدأت تسجل‬

‫تراجعات مخيفة على مستوى البالد كلها‪.‬‬ ‫شتاء االتحاد وربيع االنقسام‬

‫في المؤتمر العام العاشر بدأت تنعكس حالة (الالتوازن)‬

‫التي تمر بها البالد على اصطفافات األدباء‪ ،‬فبرزت وبشكل واضح‬ ‫االنقسامات على أساس مناطقي (شمالي ‪ -‬جنوبي)‪ ،‬وانعكست‬

‫بشكل مباشر على تركيبة المجلس التنفيذي لالتحاد‪ ،‬وعلى‬

‫انتخابات األمانة العامة‪ ,‬التي تأجل انتخابها لشهرين كاملين‪ ،‬في‬ ‫سابقة هي األولى في تاريخ االتحاد‪ ،‬بسبب هذا االنقسام‪.‬‬

‫وبعد أشهر ستة من المؤتمر‪ ،‬دخلت البالد في ربيعها الشعبي‬ ‫إلسقاط النظام‪ ،‬فلم يُسمَع صوت لالتحاد‪ ،‬وسُ مع‪ ،‬بدلاً عن ذلك‪،‬‬

‫صوت انفرادي لبعض أعضائه الذين عرفوا بـ«أدباء مع التغيير»‪،‬‬ ‫كساند للثورة الشبابية الشعبية السلمية (ثورة فبراير) ومنذ ذلك‬ ‫الحين واالتحاد يعيش حالة موات حقيقي‪ ،‬فأنشطته متوقفة‪،‬‬

‫ومقراته مغلقة‪ ،‬وموظفوه بال إعاشات‪ ،‬ولم يستطع عقد مؤتمره‬ ‫االستثنائي لتحديد مستقبله وهويته الكلية‪ ،‬بعد أن بدأت تبرز إلى‬

‫السطح دعوات إلنشاء اتحاد أدباء الجنوب‪ ،‬واتحاد أدباء وكتاب‬

‫حضرموت‪ ،‬ويعزز من هذا التوجه اآلن‪ ،‬االنقسام الحاد الذي‬ ‫تشهده البالد‪ ،‬وحالة الفوضى واالحتراب التي تلفها شب ًرا شب ًرا‪.‬‬

‫أما السؤال الذي يكبر عند أعضاء االتحاد يقول‪ :‬بعد كل هذا‬

‫التوعك المميت‪ ،‬بأي صورة يمكن أن يظهر بها اتحادهم‪ ،‬بعد أن‬

‫تضع الحرب أوزارها؟!‬

‫استفاد الكاتب في تناوله للموضوع من‪:‬‬

‫اتحاد األدباء والكتاب اليمنيين عشر سنوات من النضال‪ .‬ط(‪)1‬‬

‫‪1981‬م‪ .‬افتتاحيات الحكمة ‪ /‬مختارات ‪1989 – 1971‬م‪ .‬إصدارات اتحاد األدباء‬

‫والكتاب اليمنيين ط(‪ .1989 .)1‬الوحدة اليمنية مختارات من كتابات مجلة‬

‫وما يمكن قوله عن هذه المرحلة أو ما سنعرفه بـ«سنوات‬ ‫األلفية» بروز مشروع اإلصدار الذي أُطلق في منتصف عام ‪2002‬م‬

‫إلى الهوية المهنية ‪ -‬محمد عبدالوهاب الشيباني صحيفة الثقافية ‪/‬‬

‫سالسل من اإلصدارات‪ ،‬استوعبت على مدى عامين ونصف‬

‫المقطري ‪ -‬موقع شهارة اإللكتروني ‪.2012/5/9 -‬‬

‫تحت شعار «كتاب في كل أسبوع»‪ ،‬وغطى هذا المشروع سبع‬

‫الحكمة ‪ -‬اتحاد األدباء والكتاب اليمنيين ط(‪1988 )1‬م‪ .‬من الخطاب العام‬ ‫تعز‪ -‬العدد ‪2006 / 323‬م‪ .‬نكسة اتحاد األدباء والكتاب اليمنيين‪ - ...‬بشرى‬

‫‪97‬‬


‫قضايا‬

‫الكاتبة الخليجية وتحديات الكتابة‬

‫أحالم بال حدود تكبحها‬ ‫مواضعات المجتمع‬ ‫هدى الدغفق‬ ‫الرياض‬

‫اإلشكاليات االجتماعية التي تواجهها الكاتبة الخليجية‪ ،‬كثيرًا ما يتردد أنها أكثر وأعقد من‬

‫تلك اإلشكاليات التي يواجهها المثقف الخليجي‪ ،‬إذ إن الفضاء حول هذا المثقف ومن أمامه‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫نموذجا حضار ًّيا‬ ‫الفعال‪ ،‬ما يجعل منه‪ ،‬في تصور البعض‪،‬‬ ‫مفتوح ومهيأ لالندماج والحضور‬

‫حاضرًا في التفاعل واإلسهام في التنمية‪ .‬وعلى الضد منه تواجه المرأة الخليجية‪ ،‬كاتبة وأديبة‬

‫‪98‬‬

‫ومثقفة وأكاديمية‪ ،‬كثيرًا من التحديات التي‪ ،‬بحسب عدد من المهتمين‪ ،‬تعزلها عن المناخين‬ ‫العام والثقافي بشكل أو بآخر‪ ،‬األمر الذي يعوق‪ ،‬في رأيهم‪ ،‬جهودها وفاعليتها في الفضاء‬

‫العام بشكل ملحوظ ليساعد على تكوين وترسيخ دورها الثقافي بوصفها منتجة لفكر حر‪ ،‬في‬ ‫دفع وتقويم حركة التنمية وتنشيط المعرفة وترسيخ األدب‪.‬‬

‫هذه التداخالت والتعقيدات هل تعمل على تضييق خطا الكاتبة الخليجية‪ ،‬وتصيبها‬ ‫ّ‬ ‫يشل حركة األجيال الجديدة المتقدمة من‬ ‫باإلحباطات‪ ،‬التي قد تذهب في تأثيرها إلى حد‬

‫الفتيات الالتي يراهن على خبرات ثقافية متنوعة‪ ،‬تحفزها فضاءات عائلية منفتحة على األفق؟‬ ‫ً‬ ‫انفتاحا ال يزال مشدو ًدا إلى‬ ‫أحالم الكاتبة بال حدود‪ ،‬إال أن الواقع المتوتر حتى في أكثر المدن‬

‫مواضعات اجتماعية‪.‬‬

‫«الفيصل» ناقشت هذه القضية‪ ،‬قضية‬

‫الكاتبة الخليجية والتحديات التي تواجهها‪ ،‬مع‬

‫مبدعات وأكاديميات وأديبات من عدد من دول‬ ‫الخليج‪.‬‬

‫العددان ‪ 478 - 477‬شوال ‪ -‬ذو القعدة ‪1437‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬أغسطس ‪2016‬م‬


‫الكاتبة الخليجية وتحديات الكتابة‬

‫لطيفة قاري‪ :‬امرأة مجنونة من ترغب في تكريس حياتها لإلبداع في واقع كهذا؟‬ ‫ال يمكن الجمع بين الصعوبات التي تواجه المبدعة في‬

‫مما يضطرها لتكوين شبكة من العالقات العامة في غياب أي‬

‫خاصة‪ ،‬وعلى الرغم من كل ما يقال عن توجهات الدولة لدعم‬

‫كبش الفداء لكل الجهات المؤيدة والمستنكرة من المتأسلمين‬

‫السعودية وبقية دول الخليج؛ المبدعة في المملكة حالة‬

‫المرأة فإن الموافقة والمباركة والدعم الحقيقي ال يمنح لها إال من‬ ‫جهة ال تملك الدولة أي سلطة عليها‪ ،‬ولي األمر الحاكم بأمره في‬

‫مصيرها ومصير إبداعها‪.‬‬

‫خامسا‪ -‬أن تكون‬ ‫مؤسسة ترفع عن كاهل المبدعة هذا الهم‪.‬‬ ‫ً‬

‫والليبراليين والصحويين‪ ،‬ومن بنات جنسها اللواتي يقفن مع أو‬ ‫ضد‪ .‬سادسً ا‪ -‬كيف تعيش حياة طبيعية‪ ،‬تتزوج وتنجب وتبدع‪،‬‬ ‫ونظرة واحدة ألي مناسبة تجعلك ترى رجالاً بال نسائهم ونساء‬

‫قد تنفي حال بعض المثقفات والمبدعات هذه الحقيقة‪،‬‬ ‫ولكن الحقيقة أنهن من الفئة المحظوظة التي ّ‬ ‫سخر الله لهن‬

‫بال رجالهن إال في القليل النادر‪ ،‬بل في معظم األحيان يكون ثمن‬ ‫ً‬ ‫شرطا للزواج‪ .‬أما‬ ‫تمتعها باألمومة التضحية بإبداعها حيث يكون‬

‫لتبدع‪ ،‬منحها اإلذن لترفق اسمه باسمها‪ ،‬منحها جواز السفر‪،‬‬

‫كانت في البدء‪.‬؟‬

‫رجالهن‪ ،‬سواء أكان أبًا أو ً‬ ‫أخا أو زوجً ا منحها الضوء األخضر‬ ‫منحها حتى فرصة المشاركة في مهرجان أو مؤتمر أو معرض‪ ،‬لو‬

‫قال كلمة الفصل وصرخ بال‪ ،‬فمن ذا الذي يمنعه‪ ،‬ال القضاء وال‬

‫المحكمة وال حتى ‪...‬؛ ألن مصيرها إليه أو إلى دور اإليواء‪.‬‬ ‫نتحدث بعدها عن بقية الصعوبات التي تتعلق أيضاً‬

‫بالرجل؛ إذ بمجرد أن تخطو خارج عتبة البيت وتحلق ستواجه‬ ‫عالم الرجال في الصحف‪ ،‬واألندية‪ ،‬ودور النشر‪ ،‬وجمعيات‬ ‫الفنون‪ ،‬وعليها أن تناضل على جميع الجبهات‪ .‬ثانيًا‪ -‬لتثبت‬ ‫ألهلها أهليتها بالثقة الممنوحة لها‪ً .‬‬ ‫ثالثا‪ -‬لتثبت للمجتمع أنها‬ ‫مبدعة ًّ‬ ‫حقا‪ .‬رابعً ا‪ -‬لتنشر وتطبع وتدير أعمالها وتسوق إنتاجها؛‬

‫أولاً ‪ ،‬فكيف تحافظ على وهج إبداعها لتظل متقدة‪ ،‬لتبقى كما‬

‫وأخي ًرا من ترغب في أن تكرس حياتها إلبداعها في واقع‬ ‫هكذا‪ ،‬هي امرأة مجنونة ًّ‬ ‫حقا‪.‬‬ ‫شاعرة سعودية‬

‫لطيفة قاري‪ :‬ال يمكن الجمع بين‬ ‫الصعوبات التي تواجه المبدعة في‬ ‫السعودية وبقية دول الخليج‪ .‬المبدعة‬ ‫في المملكة حالة خاصة‬

‫‪99‬‬

‫عائشة الدرمكي‪ :‬مقارنات وتمركز حول الذات‬ ‫تبوأت المرأة المشتغلة في المجال الثقافي في الخليج مكانة مرموقة سواء في منطقة‬

‫الخليج العربي أو العالم العربي وغير العربي‪ ،‬ولهذا فإننا عندما نتحدث عن التحديات التي تواجه‬ ‫هذه المرأة‪ ،‬فإننا نتحدث عن مدى قدرة المرأة في الخليج على اإلبداع واللحاق بالركب الثقافي‪،‬‬

‫وعلى الرغم من أنني ال أحبذ التحدث عن المرأة بشكل خاص وفصلها عن نسيج المجتمع العام‬ ‫فإنني هنا أقول‪ :‬إن أكبر التحديات التي تواجهها المرأة المبدعة في الخليج هي مقارنتها بالرجل‬

‫عائشة الدرمكي‬

‫المبدع من ناحية‪ ،‬وبالمرأة في العالم العربي من ناحية أخرى‪ ،‬وهي مقارنات تخلقها المرأة نفسها أو محيطها بحيث‬ ‫تجعلها في جهة مقابلة‪ ،‬ولهذا فإن تلك المقارنات قد تؤدي إلى إشكاليات عدة على مستوى النص‪ ،‬ومستوى الشخصية‪،‬‬

‫والحافز لالستمرار‪ .‬إن المرأة المبدعة في المجال الثقافي في الخليج العربي تتميز بمميزات وسمات خاصة مستمدة من‬ ‫محيطها االجتماعي والثقافي والفكري الذي تأسست عليه‪ ،‬ولهذا فإن المقارنات تشكل من وجهة نظري الخاصة تحديًا‬

‫أساسيًّا أمامها‪ ،‬وهو ٍّ‬ ‫تحد ال تستطيع الفكاك من ربقته إال إذا نظرت إلى ذاتها بوصفها مستقلة فكريًّا‪ ،‬فهي ال تكتب سوى‬

‫نصها‪ ،‬وال تعبر سوى عن ذاتها‪ ،‬وعن مجتمعها‪ ،‬وفكرها الثقافي العام بتداعياته المتعددة‪.‬‬

‫وعليه فإن التحدي اآلخر الذي تواجهه في هذا الصدد هو التمركز حول ذاتها؛ حيث نجد أنها تنشغل بالكتابة عن‬

‫قضاياها الشخصية (وأقصد هنا قضايا المرأة تحديدً ا)؛ ما يجعلها غير مواكبة لقضايا األمة التي ينشغل بها اآلخر (الرجل‬

‫المبدع) وهذا فيه الكثير من الظلم للمرأة المبدعة‪ ،‬فعندما نقول‪ :‬إنها يجب أن تعبر عن ذاتها فإن هذا ال يعني أنها تكتب‬ ‫عن نفسها‪ ،‬بل يعني أن تعبر عن رأيها وتصورها للقضايا التي تشغل العالم من حولها بحيث تكون لها رؤية شخصية لتلك‬ ‫القضايا‪ ،‬سواء أكانت قضايا اجتماعية أو اقتصادية أو سياسية أو غير ذلك‪.‬‬

‫ناقدة وأكاديمية عمانية‬


‫قضايا‬

‫إيمان أسيري‪ :‬هيمنة ذكورية‬ ‫في واقع المرأة العربية ليست هناك خصوصية بين مجتمع‬

‫المجتمعات الخليجية الحديثة‬

‫تحمل النظرة ذاتها إلى المرأة‪ ،‬بحكم العقلية العربية‪ ،‬التي من‬

‫الدونية للمرأة‪ ،‬على الرغم من‬

‫وآخر‪ ،‬تبقى المرأة هي واقع مشترك في هذه المجتمعات‪،‬‬

‫خصائصها الهيمنة الذكورية‪ ،‬التي ال تفسح المجال لضوء آخر‬

‫يشاركها‪ ،‬كما أن هذه المجتمعات المحافظة‪ ،‬كثيرة الحجر‬ ‫على ما يخدش سكونها‪ ،‬ويكسر جمودها‪ ،‬وهو ما يبدو جل ًّيا‬ ‫في السياق التاريخي لهذه المجتمعات‪ .‬المقدمة تختصر التحدي‬

‫األكثر قسوة أمام المرأة وهي السلطة الذكورية المطلقة‪ ،‬هذه‬

‫السلطة المهيمنة على معظم مناحي الحياة في عالمنا العربي‪،‬‬ ‫بدءً ا باألسرة‪ ،‬وانتهاءً بس ّدة الحكم في هذه البلدان‪ .‬اآلنية‬

‫الخزفية تمتص الماء‪ ،‬إن أغلقت‪ ،‬بينما األواني الزجاجية يأسن‬ ‫ً‬ ‫عطفا على تشبيه العرب بأن النساء قوارير‪ ،‬هذه‬ ‫الماء فيها‪،‬‬

‫القوارير لو ظلت مفتوحة لتجدد الماء فيها‪ ،‬بحكم المصدر‪ ،‬في‬

‫الطفرة الحداثية التي طالت العمارة‬

‫والتجارة بفعل النفط‪ ،‬فإنها لم‬ ‫تطل العقول‪ ،‬السطحية الحداثية‬

‫إيمان أسيري‬

‫أصابت السكن والمالبس والتعليم في أرقى الجامعات للداللة‬ ‫على المقام االجتماعي «برستيج» لكنها لم تهتم بخلخلة‬ ‫المفاهيم القديمة‪ ،‬أو الوقوف على علاّ ت العقول اآلسنة‪،‬‬

‫ضي في بناء تنمية بشرية حقيقية لهذه المجتمعات الفتية‪.‬‬ ‫للمُ ّ‬ ‫المرأة تابع ال حول له وال قوة في هذه المجتمعات‪،‬‬

‫وكونها تابعً ا‪ ،‬حاولت وال تزال تعمل وفق هذه المنهجية‬

‫المتاحة لها‪ ،‬سواءٌ في العمل أو الحياة الخاصة‪ ،‬إال أن‬

‫المبدعة هي التي تشذ في جزئية عن هذه القاعدة‪ ،‬الجزئية‬

‫آسن‪ ،‬وهو ما يجعل التحدي أصعب‬ ‫حالة المرأة العربية المصدر ِ‬ ‫وأش ّد وطأة مما نظن‪ً .‬‬ ‫إذا نحن أمام مجتمعات تحكمها مرجعيات‬

‫المتعلقة بالمجال اإلبداعي (الفني واألدبي)‪ ،‬تجد المبدعة‬

‫مواصلة النسل واإلمتاع‪ .‬التحدي األكبر يكمن في تغيير هذه‬

‫سيل الروائيات والشاعرات والفنانات دليل غضب أنثوي‪،‬‬

‫ثقافية اجتماعية‪ ،‬تع ّد المرأة كائ ًنا ً‬ ‫طارئا في حياة الرجل‪ ،‬مهمته‬

‫‪100‬‬

‫تعاني ثقل هذا الموروث‪ ،‬ونظرته‬

‫العقلية‪ ،‬وتوجيهها بشكل منطقي الحترام الكائن اآلخر‪ ،‬على‬ ‫اختالف نوعه وجنسه ولونه ودينه‪ ،‬عندما تصل المجتمعات إلى‬

‫هذه الدرجة من السمو األخالقي‪ ،‬عندها بإمكاننا الحديث عن‬

‫الخليجية أجرأ من غيرها في التعبير القاسي عما تعيشه‪،‬‬ ‫يمهد النفجار قادم في القيم والمفاهيم المتوارثة‪ ،‬على الرغم‬

‫من الحصار الذكوري العفوي كسلوك مكتسب عبر األجيال‪.‬‬

‫شاعرة بحرينية‬

‫تحدّيات مختلفة خاصة باإلبداع والمبدعين‪.‬‬

‫فوزية البكر‪ :‬انفصال المرأة عن الرجل‬ ‫أعتقد أن قضية العزل موجودة؛ ألن المرأة منفصلة عن‬

‫الرجل‪ ،‬فهي ليست موجودة في المكان العام وال في الحياة‬

‫العامة‪ ،‬لذلك ال تستطيع أن تنضج‪ ،‬وال أن تعيش التفاصيل‬ ‫الطبيعية للحياة العامة بالطريقة ذاتها التي يعيشها الرجل‪،‬‬

‫ولذلك فإن كثي ًرا من التفاصيل اليومية تغيب عنها‪ ،‬وال تستطيع‬

‫ألنها محدودة بالحكم االجتماعي‬

‫وتوقعات اآلخرين ووضعها وواقعها‬

‫وموقعها كزوجة أو كمطلقة ‪ ...‬إلخ‪.‬‬

‫وبالتالي فإن عالقاتها كلها‬

‫محدودة‪ ،‬وهذه أمور من شأنها أن‬

‫فوزية البكر‬

‫الكتابة عنها‪ .‬ونتيجة لهذا العزل فهي ال تستطيع التفاعل مع‬

‫تحرمها كثي ًرا من فرص التدريب والتعلم والمناقشات ومعرفة‬

‫ً‬ ‫مطلقا إال أنه لم يزل قائ ًما‪ ،‬فالرجال يستطيعون الجلوس بعضهم‬

‫المناخ والفضاء العام يع ّد أحد أهم وأكثر التحديات التي تواجهها‬

‫والتفاعل وعقد الصداقات مع الموجودين في المؤسسات الثقافية‬

‫التعلم والمعرفة وتلقي الخبرات‪ .‬كما أن المرأة محاطة بالشبكة‬

‫كاف‪ ،‬ربما لم يعد ذلك العزل‬ ‫الجهات الثقافية الرسمية بشكل ٍ‬ ‫مع بعض بعد العشاء وليس لديهم قيود في الدخول والخروج‬

‫المختلفة‪ ،‬في حين أن الكاتبة ال تستطيع فعل ذلك بالمطلق؛‬

‫ومتابعة آخر اإلصدارات والكتب‪ ،‬وهي تحاول لكن العزل عن‬ ‫المرأة المثقفة كاتبة أو أكاديمية؛ ألنها تؤثر في كل فرصها في‬

‫العائلية واألسرية بمعنى أنها ال بد أن توازن بين احتياجات األسرة‬ ‫واحتياجات األطفال‪ ،‬ورغبة الزوج وموافقته من عدمها‪ ،‬وذلك‬

‫فوزية البكر‪ :‬العزل عن الفضاء العام يعد‬

‫كله ما يحدد قدرة المرأة على التحرك واالنطالق في الفضاء العام‬

‫المرأة المثقفة كاتبة أو أكاديمية‬

‫متفرقة تتسبب في إعاقة المرأة ثقافيًّا‪.‬‬

‫أحد أهم وأكثر التحديات التي تواجهها‬

‫العددان ‪ 478 - 477‬شوال ‪ -‬ذو القعدة ‪1437‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬أغسطس ‪2016‬م‬

‫وسفرها من عدمه‪ ،‬وكل هذه الموانع التقليدية مجتمعة أو‬ ‫أكاديمية سعودية‬


‫الكاتبة الخليجية وتحديات الكتابة‬

‫سعاد العنزي‪:‬‬ ‫عمدا‬ ‫تعرضت لمحاوالت إسقاط اسمي من الذاكرة‬ ‫ً‬ ‫موضوع المرأة في الثقافة العربية من الموضوعات‬

‫وال تحظى بمقابل مادي‪ ،‬وال‬

‫في النص اإلبداعي أو النص الموازي‪ ،‬ولكن على الرغم من‬

‫والمجلة‪ ،‬ويعد النشر هو أكبر‬

‫المطروقة كثي ًرا في اآلونة األخيرة في الكتابة العربية‪ ،‬سواء‬ ‫ذلك االهتمام فإن المرأة ال تزال تواجه الكثير من العراقيل‬ ‫في شق طريقها في الحياة العملية والعلمية‪ .‬والمرأة الكاتبة‬

‫الخليجية تواجه تحديات مضاعفة تفوق أي امرأة أخرى؛‬ ‫بسبب قوة االرتباط بالثقافة األبوية التقليدية والقبلية في‬

‫الخليج العربي‪ ،‬واالنفتاح الشكلي على الحضارة الغربية‬ ‫والشرقية األكثر انفتاحً ا‪ ،‬مع النظر إلى حداثة ممارسة‬

‫المرأة في الخليج العربي لحقوقها المكتسبة مؤخ ًرا بعين‬ ‫االعتبار‪.‬‬

‫من التحديات الثقافية التي تواجهها كما كررت في‬

‫أكثر من حوار‪ ،‬هو التهميش الذي تتعرض له من الصحف‬ ‫والمجالت الثقافية والعلمية ومحرريها‪ ،‬فال تستطيع أن‬

‫تنشر نصوصها بسهولة؛ بسبب عدم قدرتها على التواصل‬

‫بشكل مباشر مع المحررين الثقافيين‪ ،‬وبالمقابل عدم‬

‫تعامل المحررين بموضوعية مع المواد‪ ،‬فالمواد المقدمة‬

‫بتقدير من مسؤولي الصحيفة‬ ‫تقدير لها‪ .‬ليس هذا وحسب‪ ،‬بل‬

‫سعاد العنزي‬

‫هناك ٍّ‬ ‫تحد مهم جدًّ ا ال بد من التطرق له‪ ،‬وهو عدم قدرتها‬

‫على تطوير ذاتها معرفيًّا؛ بسبب ثقافة التكرار واالجترار‬

‫في الوطن العربي‪ ،‬فلو التفتنا إلى خطاب المثقف العربي‬ ‫منذ عشرة أعوام‪ ،‬وخطابه اليوم؛ ما الذي تغير فيه؟ ال‬ ‫ً‬ ‫ملحوظا حقيقة‪ ،‬ال أدري هنا هل نلوم الكاتبة‬ ‫أرى تقدمً ا‬

‫العربية أم نلوم الثقافة العربية التي ال تخجل من أن تعيد‬

‫نفسها باستمرار؟!‬ ‫ً‬ ‫وال ننسى أيضا أن المرأة تكتب من أجل المرأة‬

‫الخليجية المشغولة جدًّ ا في تسليع ذاتها كثي ًرا لآلخرين‪،‬‬ ‫مستفيدة من كل المظاهر االستهالكية المتاحة بوفرة في‬

‫المجتمعات المترفة‪.‬‬

‫إذا افترضنا نجاح الكاتبة الخليجية في تخطي سياج‬

‫الثقافة العصية إال على نماذج نادرة‪ ،‬هل سيسمح المجتمع‬

‫من مجموعتهم األدبية والثقافية هي ذات الحظوة الكبرى‬ ‫في النشر‪ .‬التهميش ً‬ ‫أيضا مرتبط بتهميش بقية المثقفين‬

‫عورة ال يسمح لها بالظهور في المجال الثقافي‪ ،‬سواء في‬

‫معالم حضورها بالتشكيك بقدرتها اإلبداعية‪ ،‬أو حتى‬

‫أشياء تحرج أفراد الجماعة التي تنتمي لها‪ ،‬ويشكل عامل‬

‫لها‪ ،‬وعدم االعتراف بوجودها‪ ،‬وفي أحيان كثيرة طمس‬ ‫إمكانية استمراريتها‪.‬‬

‫الذي يرى أن جسد المرأة ووجهها وصوتها وفكرها واسمها‬

‫الكتابة أو في البرامج الحوارية‪ ،‬ففكرها وصوتها وشكلها‬ ‫ضغط كبير عليها‪ .‬فغالبًا تكون عالقة المرأة الكاتبة مع‬

‫ومن خالل التجربة العملية أنا مررت بكثير من‬

‫المجتمعات األكثر تعصبًا متوترة وقلقة وغير مستقرة‪،‬‬

‫عمدً ا ال سهوًا؛ بسبب أمراض الذات اإلبداعية المتضخمة‬ ‫عند بعض المثقفين والمثقفات‪ .‬وشاهدت ً‬ ‫أيضا البعض‬

‫وهو فعل يتطلب حرية اجتماعية على األقل‪ ،‬بشكل جدي‬ ‫ومستمر وغير متقطع؟!‬

‫الكتابة كفعل ثقافي لم تحظ بالتشجيع المادي والمعنوي‬

‫مجموعة من المحظورات التي ال تستطيع التطرق لها‪.‬‬

‫التجارب التي جرت فيها محاولة إسقاط اسمي من الذاكرة‬

‫وهو ينكر ويقلل من إبداعية النساء الكاتبات‪ .‬كما أن‬ ‫المناسبين‪ ،‬فمن الوارد جدًّ ا أن تكتب كاتبة مدة من الزمن‬

‫سعاد العنزي‪ :‬المرأة الكاتبة في‬ ‫الخليج تكتب وتضع في ذهنها‬ ‫مجموعة من المحظورات التي ال‬ ‫تستطيع التطرق لها‬

‫وبالتالي يحق لنا أن نتساءل كيف يتحقق فعل الكتابة‪،‬‬

‫المرأة الكاتبة في الخليج تكتب وتضع في ذهنها‬

‫كما هو معروف‪ ،‬الثالوث العربي المحرم‪ :‬الدين والجنس‬ ‫والسياسة‪ ،‬فإن المرأة تضيف له عددًا من الشخصيات التي‬ ‫تمارس ً‬ ‫عنفا رمزيًّا عليها‪ ،‬وال تستطيع أن تفكر إال من خالل‬ ‫حضورها‪ .‬طبعً ا نحن هنا نتحدث عن امرأة منتمية للجماعة‬ ‫وليست ضد الجماعة‪.‬‬

‫ناقدة وأكاديمية كويتية‬

‫‪101‬‬


‫قضايا‬

‫سالمة الموشي‪ :‬تتقدم في المشهد الفكري على استحياء‬ ‫اإلبداع في شكل ما في الخليج والعالم العربي يمر بالكثير‬

‫من التحديات واألزمات‪ ،‬ويكاد يكون كإبداع متميز فرديًّا في‬ ‫أوقات كثيرة من مراحله‪ ،‬فكيف يكون األمر حين يتعلق بالمبدعة‬

‫الخليجية وهي التي تالزمها وصمة األنوثة أينما مضت‪ ،‬دائ ًما هناك‬

‫خدمة الفكرة والقوة التي يفرضها الحراك الكلي في المجتمع‬ ‫خليج ًّيا كان أو عربيًّا‪.‬‬

‫هناك ً‬ ‫أيضا التحدي الذي يظهر بوضوح كبير وهو أن المرأة‬

‫المبدعة تكاد تكون بشكل ملحوظ مغيبة عن قضيتها الفكرية‪،‬‬

‫ما يحدث تحت السطح فبينما يكون هناك الكثير من االحتفاء بما‬ ‫ُتحدثه المرأة المبدعة من نتاج أدبي أو فكري‪ ،‬فإن معاناة ما‬

‫وتتقدم في المشهد الفكري على استحياء أو كطرف مشارك وليس‬

‫وقبل أن نبحث عن حلول لكل التحديات أو بعضها الذي يواجه‬ ‫ً‬ ‫عميقا في الحراك األدبي الذي‬ ‫المبدعة فإنه ال بد من الغوص‬

‫تبعً ا للنوع‪ ،‬بمعنى أن يكون الرجل أولاً والمرأة ثانيًا‪ ،‬وهذا‬

‫تكتنف حضورها وتحركها ضمن السياق العام في الحياة األدبية‪.‬‬

‫تتحرك منه وخالله كل مبدعة خليجية‪.‬‬

‫ما زال هناك‪ ،‬على سبيل المثال‪ ،‬الخالف القائم والخلط‬ ‫سائي أو األدب النسوي‬ ‫الكبير بين سياقات ومعاني األدب ال ِّن‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫مرادفا‬ ‫ونتاجه بحيث لم يعترف به كأدب فكري حقيقي‪ ،‬وأصبح‬

‫للحقوقية والمساواة‪ ،‬وهذا األمر أحد أبرز اإلشكاليات‪ ،‬بينما هو‬ ‫في الحقيقة ليس مجرد صراع ضد ال ّنظام الذكوريّ بقدر ما هو‬ ‫تعبير عن كينونة المرأة من خالل اإلبداع‪ ،‬وبهذا ُغيب النموذج‬

‫‪102‬‬

‫المتلقي‪ ،‬والمبدع‪ ،‬واإلبداع‪ ،‬بحيث يعمل هذا الثالوث على‬

‫كطرف أساسي في الحراك الفكري بشكله العام‪ ،‬متجاهلة أن‬ ‫األدب هو نتاج إنساني وليس قابلاً للتجنيس أو التراتبية النوعية‬

‫غير صحيح واإليمان به كواقع هو مساهمة في إقصاء المثقفة‬ ‫والمبدعة‪ ،‬وعليها أن تؤمن أولاً بأن األدب والفكر ال يجنسان وال‬

‫يقيمان بالنوع بقدر ما يقيمان بالمعنى والمضمون والقدرة على‬ ‫الحضور والفاعلية‪.‬‬

‫ّاتساع الدائرة التي تتحرك من خاللها المبدعة أو ضيقها ترجع‬

‫أسبابه إلى معطيات كثيرة‪ ،‬أحدها المرأة ذاتها بوجودها في كل‬ ‫مرة في الصف األخير‪ ،‬أو المقعد الثاني في المشهد الكبير لإلبداع‬

‫بينما تشكيل وعي نسوي وقيامه من التعثرات والتحديات التي‬

‫النسائي إلى‬ ‫الذي يمكن االقتداء به للخروج من مرحلة األدب‬ ‫ّ‬ ‫المرحلة األكثر نضجً ا فكر ّيًا وهي مرحلة النسوية‪.‬‬ ‫لاً‬ ‫أن تخوض المرأة المبدعة التجربة النقدية مث واألدبية‪،‬‬

‫تنتجه المرأة وتؤمن به‪ ،‬من خالل اإليمان الكامل بأنها مبدعة‬

‫التحديات التي تحدث في عمق السياق الذهني لكافة األطراف‪:‬‬

‫النزعة الخاصة إلى البعد اإلنساني؛ لتتجاوز تحديات التهميش‬

‫هذا يعني أنها ستكون قبالة الكثير من التحديات غير المعلنة‪،‬‬

‫سالمة الموشي‪ :‬اتّساع الدائرة التي‬ ‫تتحرك من خاللها المبدعة أو ضيقها ترجع‬

‫تطاله لن يكون من الخارج بل من الداخل؛ من داخل الفكر الذي‬ ‫ً‬ ‫إبداعا‪ ،‬وتعمل على إبداعها بعمق‪ ،‬والخروج بنصوصها من‬ ‫وتنتج‬

‫واإلقصاء أو النوع‪ ،‬عليها أن تكون امرأة متفردة تخلق المكانة وال‬

‫تبحث عنها‪ ،‬أن تظهر ككيان حر ال أن تتماهى في الصورة المميعة‬ ‫لوجودها‪ ،‬وأن ترى بوضوح أين يكمن الخلل‪.‬‬

‫أسبابه إلى معطيات كثيرة‬

‫ناقدة وروائية سعودية‬

‫سوسن دهنيم‪ :‬مجرد «حرمة»‬ ‫أعراف وتقاليد وتابوهات‪ ،‬ال بد أن تصطدم بك حتى حين تديرين لها‬ ‫أنك أمام‬ ‫ٍ‬ ‫أن تكوني كاتبة من الخليج العربي فذلك يعني ِ‬

‫ظهرك ما دمت واثقة أنك تسيرين باتجاه النور‪ .‬المجتمعات تختلف باختالف شخوصها وعاداتها وتقاليدها‪ ،‬تختلف ثقافاتها ونظرتها‬

‫للمرأة وكل ما يتعلق بها وما ينتج منها وعنها ولها‪ ،‬وما مجتمعنا الخليجي إال واحد من هذه المجتمعات التي ربما تتفق في بعض‬ ‫األمور بالرغم من اتساع مساحتها نسبيًّا وتعدد أسماء دولها‪ ،‬وهي ً‬ ‫أيضا تختلف في أمور أخرى باختالف المنطقة والبالد‪ .‬المرأة في‬

‫بعض قبائل وعوائل دول الخليج مجرد «حرمة» يجب أال تذهب إلى ما هو أبعد من ذلك‪ ،‬وهذا انعكاس لرؤية المجتمع لها في تلك‬ ‫الدول‪ ،‬فبثته في عقول أبنائها وبناتها من خالل التربية العقيمة التي تنتج نساء ضعيفات ورجالاً يحاولون إقصاءها وتهميشها بكل‬ ‫الطرائق‪ ،‬ونتاج لوسائل اإلعالم التي ما زالت ترى المرأة «ناقصة عقل ودين»‪ ،‬وتراها «مخلوقة من ضلع أعوج» ال يمكن أن يستقيم‬

‫عوجها يومًا‪ ،‬ونتاج ما يزرعه بعض رجال الدين في عقول مريديهم حين يعتلون المنابر والحلقات الدينية‪.‬‬

‫الكاتبة أو المبدعة أيًّا كان مجالها الذي اختارته تصطدم في مجتمعنا بكثير من األمور‪ ،‬من بينها عدم ثقة المجتمع بها وبما‬ ‫تقدمه‪ ،‬ومحاولة إقصائها وإحباطها‪ ،‬فضلاً عن نظرة المجتمع الدونية لكل من تعبر عن مشاعرها‪ ،‬وتحاول التحليق بعيدً ا من‬

‫العددان ‪ 478 - 477‬شوال ‪ -‬ذو القعدة ‪1437‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬أغسطس ‪2016‬م‬


‫الكاتبة الخليجية وتحديات الكتابة‬

‫منى حبراس السليمية‪ :‬الكاتبة والنظرة الكالسيكية‬ ‫يجمل بي أولاً أن أفترض أن النظرة إلى ظروف المرأة‬

‫الكاتبة وتحدياتها باتت نظرة كالسيكية‪ ،‬تقترح على الدوام أن‬ ‫تكون التحديات هي نفسها في كل زمان ومكان‪ ،‬بيد أني ال أرى‬

‫األمر كذلك على اإلطالق‪ ،‬فمن وجهة نظري على األقل –وفي‬

‫عمان تحديدً ا– تتساوى التحديات وتتشابه عند المرأة والرجل‬

‫على حد سواء‪ ،‬فال مجال للحديث عن حرية الكتابة (على سبيل‬

‫المثال) لدى الرجل من دون المرأة‪ ،‬فما من قيد يحول بين‬ ‫المرأة واإلبداع أو يشكل تحديًا ساف ًرا لها بنحو خاص‪ ،‬وإن كانت‬

‫وأداء الواجبات االجتماعية؛ ألن‬

‫الكتابة في وطننا العربي لم تبلغ‬ ‫ً‬ ‫بعدُ‬ ‫شأنا مقدَّ رًا يمنح أصحابه ما‬ ‫يعفيهم من كسب قوت الحياة؛‬ ‫ليتفرغوا لمشروع أبقى وأخلد‪.‬‬

‫هل من قبيل الصدفة أن‬

‫منى حبراس السليمية‬

‫أكتب عن تحديات الكاتبة بعد أن عشت ثالث محطات لها صلة‬

‫بالموضوع؟ أوالها ندوة «المشهد الروائي في عمان» التي اتفق‬

‫ثمة تحديات خاصة‪ ،‬فبحكم طبيعتها التي تفرض عليها أدوارًا‬

‫الحاضرون فيها من روائيين عمانيين ونقاد على أن وقت الكاتب‬

‫إلى جانب وظيفتها ‪-‬إن كانت موظفة‪ -‬فالمرأة تخوض واجبات‬

‫ثم قراءتي لكتاب إليف شافاق «حليب أسود» وهي تسرد تجربتها‬

‫ال تفرضها على الرجل بدرجة متساوية‪ ،‬وهي واجبات األمومة‬

‫تف ّرق دمه بين وظيفته ومسؤولياته األسرية وواجباته االجتماعية‪،‬‬ ‫مع األمومة‪ ،‬وانقسامها النفسي بين أمومتها وكتابتها‪ ،‬وأخي ًرا‬

‫ال يخوضها الرجل بالدرجة نفسها‪ ،‬وعليها أن تحقق توازنها في‬ ‫مهمات عدة يسقط ّ‬ ‫جلها عن الرجل‪ ،‬ورغم ذلك فهي (الكاتبة)‬

‫ُ‬ ‫حصلت على تفرغ مدة عام إلنجاز بحث أكاديمي‪ ،‬وأعرف‬ ‫كوني‬

‫تتنازل عنه بطبيعة الحال‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫في اعتقادي ما من ٍّ‬ ‫تحد أشق على الكاتب‪ ،‬أيًّا كان جنسه‪،‬‬

‫التي كانت تقضيها يوميًّا في الكتابة من دون أن يقطع عليها‬

‫أنها أنانية بطبعها‪ ،‬وال ترضى بفضلة الوقت المتبقي بعد‬ ‫انصراف ّ‬ ‫جله في كسب العيش‪ ،‬وتلبية المسؤوليات األسرية‪،‬‬

‫فكذلك األطفال أنانيون بفطرتهم‪ ،‬وكالهما ال يقبل بك مجزأً‪،‬‬ ‫فإما أن تمنحهما ُك َّلك وإال أخفقت إخفاقك الذريع‪.‬‬

‫ُتطالب بما يطالب به المبدع عمومً ا‪ ،‬وهو ما تحرص على أال‬

‫من عدم قدرته على إيجاد وقته الخاص‪ ،‬فالكتابة فعل انقطاع‬ ‫وانعزال‪ ،‬وإن لم يكن انعزالاً بالمعنى الفيزيائي للكلمة‪ ،‬كما‬

‫منى حبراس السليمية‪ :‬في اعتقادي ما‬ ‫أيا كان جنسه‪،‬‬ ‫من تح ٍّد أشق على الكاتب‪ًّ ،‬‬ ‫من عدم قدرته على إيجاد وقته الخاص‪،‬‬ ‫فالكتابة فعل انقطاع وانعزال‬

‫ما يعنيه امتالك الوقت لمشروع الكتابة واالنقطاع له‪ .‬إيزابيل‬ ‫الليندي (مثلاً ) ما كانت لتكون ما هي عليه لوال الساعات الطوال‬

‫أحد عزلتها‪ ،‬وغيرها آخرون وآخرون‪ ،‬ولكن على المرأة تقع‬ ‫التضحيات‪ ،‬فهي أُم غالبًا‪ ،‬ولما كانت الكتابة أنانية بطبعها‪،‬‬

‫ٍّ‬ ‫تحد بذاتها‪ٍّ :‬‬ ‫ولكن تبقى الكتابة فعل ٍّ‬ ‫وتحد‬ ‫تحد للظروف‪،‬‬

‫ٍّ‬ ‫وتحد للمشكالت‪ ،‬ومن كانت هذه طبيعته فال بد أن‬ ‫للزمن‪،‬‬

‫يتحقق واقعً ا‪ .‬مهما استحكمت الظروف وتناسلت التحديات‪،‬‬ ‫فليست الكتابة وحدها شكلاً للصمود‪ ،‬ولكن اإليمان بها ً‬ ‫أيضا‬

‫كذات ليست في الختام إال ذات الكاتب نفسه‪.‬‬

‫باحثة عمانية‬

‫الشرنقات التي تطوقها والجدران التي تأسرها كي ُتسمِ ع صوتها للفضاء المفتوح ُ‬ ‫وتري العالم فنها؛‬

‫تصطدم بناقد ال يلتفت لما تكتبه أو تقدمه إال بوصفه صادرًا عن «أنثى»‪ ،‬وبمجتمع يُح ّرم صوتها ووجهها‬

‫وضحكتها ووجودها مع أقرانها في بعض األحيان‪.‬‬

‫ً‬ ‫مختلفا بعض الشيء‪ ،‬وأكثر انفتاحً ا واهتمامً ا بالمرأة‪،‬‬ ‫ربما يكون المجتمع البحريني الذي أنتمي إليه‬

‫ولكنه ال يزال يمارس بعض هذه الممارسات‪ ،‬بوصفه مجتمعً ا شرقيًّا عربيًّا خليجيًّا ال يمكنه أن يتقبل‬

‫كل ما يصدر من المرأة وعنها في بعض المناطق وعند بعض العوائل‪ .‬على سبيل المثال لم أستطع في‬

‫سوسن دهنيم‬

‫طفولتي ومراهقتي إخراج ما أكتبه للنور‪ ،‬وبقي مدة طويلة حبيس أدراجي ودفاتري‪ ،‬إلى أن استطعت في‬

‫ُوجه ذلك برفض أسرتي بحجة‬ ‫المرحلة الثانوية نشر بعض النصوص باسمي الكامل‪ ،‬ليس تحديًا وإنما فخ ًرا بما أكتب‪ ،‬وبالطبع و ِ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫علي أن أعاني كثي ًرا؛ كي أستطيع الذهاب ألسَ ر‬ ‫أن هذه الكتابة تشغلني عن دراستي‪ ،‬وحين‬ ‫أردت االنخراط في المجتمع الثقافي كان ّ‬ ‫األدباء والكتاب ذات البيئة المختلطة رجالاً ونساء‪ ،‬من دينيين وليبراليين‪.‬‬ ‫شاعرة بحرينية‬

‫‪103‬‬


‫قضايا‬

‫السعودية‬ ‫و إيران‬ ‫هل هناك أمل؟‬ ‫‪104‬‬

‫برزت في األشهر األخيرة دعوات أميركية وأوربية للحوار بين السعودية وإيران تحت عنوان‪ :‬تقاسم‬

‫النفوذ ومراعاة المصالح‪ ،‬ووفق تعبير الرئيس األميركي باراك أوباما فإن هذا الحوار يجب أن يفضي إلى‬

‫تعايش أو «سالم بارد»‪ ..‬والمتأمل في أوضاع المنطقة العربية يجد أن صراعات سياسية مختلفة تمزقها‬

‫في الشرق والغرب‪ ،‬ولم يعد دور إيران خافيًا أو مواربًا في األزمات العربية دعمً ا لميليشيات في لبنان‬ ‫واليمن‪ ،‬وتدخلاً عسكريًّا مباش ًرا في العراق وسوريا‪ ،‬وتبرز السعودية في المقابل بوصفها قطبًا عربيًّا‬ ‫صامدً ا أمام محاوالت تمدّ د النفوذ اإليراني الطامع في التوسّ ع‪..‬‬

‫على ضوء هذه الدعوات والخلفيات تستشرف «الفيصل» مستقبل العالقات السعودية اإليرانية‬

‫وتطرح على باحثين مختصين سؤال الحوار وإمكانيته‪.‬‬

‫العددان ‪ 478 - 477‬شوال ‪ -‬ذو القعدة ‪1437‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬أغسطس ‪2016‬م‬


‫العالقات السعودية اإليرانية‬ ‫الحاجة إلی حوار واضح وشفاف‬ ‫لوضع آلية إلدارة الخالفات‬ ‫اتسمت العالقة اإليرانية السعودية بحال من التذبذب‬

‫منذ قيام الجمهورية اإلسالمية عام ‪1979‬م حتى اآلن‪ .‬وقد‬ ‫مرت هذه العالقة بمراحل متعددة تبعً ا للظروف والتطورات‬

‫التي مرت بها المنطقة‪ .‬وقد ساهمت الجهود الشخصية التي‬

‫بذلها القادة في كال البلدين في تحسين مؤقت للعالقات‬ ‫الثنائية في عهد الرئيسين السابقين أكبر هاشمي رفسنجاني‬

‫«‪1997 - 1989‬م» ومحمد خاتمي « ‪2005 - 1997‬م» لكن الخالفات‬

‫والمشاكل ظلت مخيمة علی العالقات الثنائية بين البلدين‪،‬‬

‫محمد صالح صدقيان‬ ‫مدير المركز العربي للدراسات اإليرانية‬

‫ولم ينجح البلدان في إيجاد طريقة إلدارة الخالفات علی أقل‬ ‫تقدير ناهيك عن حلها‪.‬‬

‫وبعيدً ا من التفاصيل والجزئيات التي شابت هذه‬

‫بعد انهيار الحرب الباردة‪ ،‬شعرت األنظمة السياسية في‬

‫العالقة‪ ،‬والتقاطعات التي شهدها البلدان في شكل خاص‪،‬‬

‫هذه المنطقة بضرورة المشاركة في صياغة النظام األمني‬

‫شأن القضايا كافة في المنطقة‪ ،‬بات واضحً ا وقوف طهران‬

‫تطورات األوضاع ومستقبلها‪.‬‬

‫والمنطقة في شكل عام‪ ،‬نتيجة السياسات المطروحة في‬ ‫والرياض علی طرفي نقيض في شأن كل قضية رئيسية تقريبًا‬

‫في الشرق األوسط‪.‬‬

‫يصب في مصالحها ونظرتها إلى‬ ‫والسياسي بالشكل الذي‬ ‫ّ‬

‫تعاريف خاصة لألمن الوطني‬

‫لقد كان النتهاء الحرب الباردة بين القطبين الكبيرين‬

‫من الطبيعي جدًّ ا أن تمتلك دول المنطقة تعاريف خاصة‬

‫األثر البالغ في أوضاع المنطقة والتطورات التي تشهدها في‬

‫صياغة هذه التعاريف استنادًا إلى المرحلة الجديدة والدور‬

‫الواليات المتحدة األميركية واالتحاد السوفييتي السابق‪،‬‬ ‫المرحلة الراهنة‪.‬‬

‫ألمنها الوطني واألمن اإلقليمي؛ إذ بدت الحاجة إلی إعادة‬ ‫الذي يمكن أن تلعبه من أجل المشاركة في صياغة األمن‬

‫عاشت هذه المنطقة خالل العقود الماضية حتی عام‬ ‫‪1990‬م حالاً من التوازن األمني والسياسي‪ ،‬فرضتها قوانين‬

‫وما تشهده المنطقة حاليًا هو في حقيقة األمر تقاطع هذه‬

‫إرهاصات الفراغ األمني مهدا للعديد من النزاعات والتطورات‬

‫غياب النظام األمني اإلقليمي‪ ،‬الذي سقط بسقوط الحرب‬

‫الحرب الباردة‪ .‬لكن انهيار تلك المرحلة‪ ،‬ودخول المنطقة في‬ ‫كان أولها غزو العراق لدولة الكويت في ‪ 2‬آب (أغسطس)‬ ‫‪1990‬م الذي ساهم في تصدع النظام الرسمي العربي الذي‬

‫سقط باحتالل العراق من القوات األميركية عام ‪2003‬م‪ ،‬حيث‬ ‫افتقدت المنطقة ‪-‬إضافة إلی النظام األمني‪ -‬نظامً ا سياسيًّا‬

‫موحدً ا يحفظ مصالح دول المنطقة‪.‬‬

‫وفي ظل الفراغ األمني والسياسي الذي عاشته المنطقة‬

‫اإلقليمي الذي يستطيع حماية المصالح والنظم السياسية‪.‬‬ ‫المصالح والتعاريف الخاصة بنظم األمن اإلقليمي‪ ،‬في ظل‬

‫الباردة مطلع تسعينيات القرن الماضي‪.‬‬

‫وال نبالغ إذا قلنا‪ :‬إن منطقة الشرق األوسط حاليًا تشهد‬

‫مرحلة تشبه إلی حد بعيد مرحلة بداية القرن الماضي‪،‬‬

‫وما نتج عنها من اتفاقيات كاتفاقية سايكس بيكو الموقعة‬ ‫عام ‪1916‬م‪ .‬وفي ظل الواقع الحالي فإن المنطقة تشهد‬

‫ً‬ ‫صراعا واضحً ا بين المشاريع المطروحة في المنطقة‪ ،‬وهي‪:‬‬

‫‪105‬‬


‫قضايا‬

‫المشروع التركي‪ ،‬والمشروع اإليراني‪ ،‬والمشروع اإلسرائيلي‪،‬‬ ‫إضافة إلی المشروع العربي الذي بدأ بالتبلور بقيادة المملكة‬

‫العربية السعودية في عهد الملك سلمان بن عبدالعزيز‪.‬‬ ‫وإذا ما اس ُتثني المشروعان التركي واإلسرائيلي‪ ،‬فإن‬ ‫المشروعين اإليراني والعربي بقيادة المملكة العربية‬

‫السعودية يصيران المشروعين اللذين يستطيعان بلورة‬

‫صورة المنطقة للمرحلة المقبلة؛ ألن المشروع التركي‬

‫يمكن له أن ينسجم مع المشروع الذي تتبناه المملكة‬ ‫العربية السعودية‪ ،‬على حين أن المشروع اإلسرائيلي‬ ‫هو المشروع الوحيد الذي يريد الهيمنة علی هذه‬

‫المنطقة‪ ،‬ويهمه إثارة النعرات القومية والطائفية؛‬

‫ألنها تساهم في نهاية المطاف في تقسيم المقسم‬ ‫وتجزئة المجزأ‪.‬‬

‫وال نجافي الحقيقة إذا ما قلنا‪ :‬إن الجمهورية‬

‫اإلسالمية اإليرانية والمملكة العربية السعودية قوتان‬ ‫جيوسياسيتان كبيرتان متنافستان علی السلطة والنفوذ‬ ‫في منطقة الشرق األوسط‪ ،‬إضافة إلی أنهما تتبنيان أشكالاً‬ ‫مختلفة كليًّا من النظم السياسية واالجتماعية‪ ،‬وتقدمان‬

‫‪106‬‬

‫رؤيتين متباينتين لنظام شرق أوسطي‪.‬‬

‫هل من الممكن إعادة ترتيب رقعة الشطرنج الجيوسياسية في‬ ‫المنطقة بما يحقق األهداف اإلستراتيجية لكل دول المنطقة‬

‫ونظمها السياسية بما في ذلك السعودية وإيران؟‬ ‫خياران ال ثالث لهما‬

‫وإذا ما صحت مثل هذه القاعدة فنحن أمام اختالفات‬ ‫ً‬ ‫انطالقا من‬ ‫وتباينات واضحة حيال جميع القضايا المطروحة‬

‫والجمهورية اإلسالمية اإليرانية والجمهورية التركية خيارين ال‬

‫المرجح أن يظل البلدان متنافسين دائمً ا‪ .‬لكن السؤال هو‪:‬‬

‫الباب مفتوحً ا أمام جميع االحتماالت في ظل غياب حال إدارة‬

‫األمد بالوكالة‪ ،‬أو ماذا لو كان في وسع الدولتين –علی غرار‬

‫والتوصل إلی أنصاف الحلول؛ من أجل صياغة نظم أمنية‬

‫يساعد على تهدئة التوترات الطائفية في كل أنحاء المنطقة‪،‬‬

‫دول المنطقة علی أساس «رابح رابح» وتستفيد منها كل دول‬

‫إن أمام دول المنطقة وتحديدً ا المملكة العربية السعودية‬

‫التعريف الذي يضعه البلدان ألمنهما القومي والوطني‪ ،‬ومن‬

‫ثالث لهما؛ إما إبقاء المواجهة مفتوحة‪ ،‬وهذا يعني إبقاء‬

‫ماذا لو كان ينبغي أن تتجلی المنافسة بينهما في صراع طويل‬

‫المصالح والصراع‪ ،‬أو التفكير بآلية إليجاد حال من التقارب‬

‫فرنسا وألمانيا في أوربا– أن تتفقا علی أسلوب عمل سلمي قد‬

‫وسياسية‪ ،‬تشارك فيها إيران والسعودية وتركيا ومعها جميع‬

‫لكنه ال يصل إلی مرحلة الصداقة الحقيقية‪ .‬وبعبارة أخری‪:‬‬

‫المنطقة وشعوبها؛ لوضع حد لكل التقاطعات السياسية‬

‫واألمنية التي تشهدها المنطقة‪.‬‬

‫إن الحتمية الجغرافية والتاريخية لهذه المنطقة تضغط‬

‫وتحديدا‬ ‫أمام دول المنطقة‬ ‫ً‬ ‫السعودية وإيران وتركيا خياران‬ ‫ال ثالث لهما؛ إما إبقاء المواجهة‬

‫علی إيران والسعودية من أجل العيش المشترك‪ .‬ال تستطيع‬

‫إيران أن تزيح السعودية عن خارطة اإلقليم‪ ،‬كما أن السعودية‬ ‫لن تتمكن من إلغاء إيران من هذه الخارطة‪ .‬وبالتالي ليس‬

‫أمام البلدين إال االعتراف باآلخر‪ ،‬اآلخر المختلف سياسيًّا‬

‫مفتوحة‪ ،‬وهذا يعني إبقاء الباب‬

‫ومذهبيًّا واجتماعيًّا وثقافيًّا من أجل منطقة يسودها األمن‬

‫في ظل غياب حال إدارة المصالح‬

‫إن البلدين في حاجة إلی حوار واضح وشفاف وإستراتيجي‬

‫مفتوحا أمام جميع االحتماالت‬ ‫ً‬ ‫والصراع‪ ،‬أو التفكير بآلية إليجاد‬ ‫حال من التقارب‬

‫العددان ‪ 478 - 477‬شوال ‪ -‬ذو القعدة ‪1437‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬أغسطس ‪2016‬م‬

‫واالستقرار‪.‬‬

‫يناقش كل القضايا المختلف عليها؛ من أجل التوصل إلی‬

‫آلية تستطيع إدارة الخالفات بينهما إذا لم تنجح في إزالة هذه‬ ‫الخالفات‪.‬‬


‫مستقبل العالقات‬ ‫السعودية اإليرانية‬ ‫منذ انتصار الثورة اإليرانية وتكوين النظام الثيوقراطي‬

‫الذي يتمحور حول والية الفقيه وأيديولوجياته وأدبياته‪،‬‬ ‫والعالقات بني إيران والعالم بشكل عام وإيران واململكة العربية‬

‫السعودية عىل وجه الخصوص تتأرجح بني شد وجذب‪،‬‬

‫بني توتر يف العالقات وانفراجات وقتية ما تلبث أن تعود إىل‬ ‫سابق عهدها‪ .‬مع انتصار الثورة رحبت دول املنطقة وعىل‬

‫محمد بن صقر السلمي‬

‫رأسها السعودية بالنظام الجديد يف إيران ال سيما أنه يرفع‬

‫شعار الوحدة اإلسالمية‪ ،‬والتعاطي البناء مع دول الجوار‪،‬‬

‫والتقارب املذهبي‪ ،‬وتجاوز الخالفات‪ ،‬إال أن هذه الشعارات‬ ‫الجميلة والرباقة ما لبثت أن تبددت قبل أن تستوعبها العقول‬

‫رئيس مركز الخليج العربي للدراسات اإليرانية‬

‫دول املنطقة‪ .‬كذلك ال ينبغي تجاهل أنه خالل حقبة ما يسمى‬

‫واألفئدة‪ .‬ولقد شهدت املنطقة حرب الثماين سنوات بني العراق‬ ‫وإيران‪ ،‬وقد انعكست هذه الحرب ً‬ ‫أيضا عىل طبيعة العالقات‬

‫إسقاط النظامني السياسيني الحاكمني يف أفغانستان والعراق‪،‬‬

‫من الجانب اإليراين جزءً ا من الخطاب اإلعالمي والسيايس‬

‫القانونية بذلك صراحة؛ إذ قال‪« :‬لوال إيران ملا سقطت كابول‬

‫بني ضفتي الخليج العربي‪ ،‬وأصبح استدعاء التاريخ وبخاصة‬ ‫واأليديولوجي املتكرر طيلة العقود الثالثة املاضية‪.‬‬

‫باإلصالحات يف إيران تعاونت طهران مع القوى الغربية؛ عىل‬ ‫وقد اعرتف محمد أبطحي نائب الرئيس اإليراين للشؤون‬

‫وبغداد»‪.‬‬

‫جاءت حكومة اإلصالحات بهندسة رفسنجاين وقيادة‬

‫ولنتجاوز مرحلة رئاسة محمود أحمدي نجاد بكل ما فيها‬

‫لحاجة البالد ملثل هذه الحكومة بعد سنوات من االنكفاء عىل‬

‫الرئيس الحايل حسن روحاين‪ .‬لقد ركز روحاين خالل حملته‬

‫خاتمي وإشراف كامل من املرشد األعىل عيل خامنئي وذلك‬ ‫الداخل‪ ،‬وتوتر العالقات مع دول املنطقة‪ ،‬ووصول االقتصاد‬ ‫اإليراين إىل مرحلة حرجة ال تتحمل املزيد من العزلة السياسية‬ ‫واالقتصادية‪ .‬استبشرت املنطقة خريًا بهذا االنفتاح وربما‬

‫من توتر يف عالقات إيران مع املنطقة والعالم‪ ،‬ونصل إىل مرحلة‬ ‫االنتخابية عىل تحسني عالقات إيران مع دول العالم واملنطقة‬ ‫واململكة العربية السعودية تحديدً ا‪ ،‬وقد كرر ذلك بعد وصوله‬ ‫إىل مقعد الرئاسة إال أن شي ًئا من هذا لم يتحقق؛ ربما ألسباب‬

‫تفاءلت بشكل مفرط يف والدة إيران جديدة‪ ،‬إال أن ذلك التفاؤل‬ ‫لم يستمر طويلاً ‪ .‬لن نسهب كثريًا يف استعراض أبرز مالمح هذه‬

‫اآلخر مرتبط بالتطورات السياسية التي تشهدها املنطقة منذ‬

‫استغل ‪-‬وال أقول‪ :‬استثمر‪ -‬حسن النوايا لدول املنطقة‪،‬‬

‫أحمدي نجاد‪ ،‬بل ازدادت األوضاع سوءً ا‪ ،‬وارتفعت وترية‬

‫املرحلة ولكن من األهمية بمكان االعرتاف بأن النظام اإليراين‬ ‫ورغبتها يف الخروج من الخالفات مع الدول؛ لريوج ملزاعم تغري‬ ‫التوجهات السياسية للنخبة الحاكمة يف طهران‪ ،‬ورغبتها يف‬

‫فتح صفحة جديدة مع دول املنطقة‪ ،‬وتجاوز خالفات املايض‪،‬‬

‫والتطلع إىل مستقبل أفضل للمنطقة وللعالقات الثنائية بني‬ ‫إيران ودول الجوار العربي‪.‬‬ ‫ً‬ ‫لذا شهدت األعوام (‪2005 :1999‬م) تحس ًنا ملحوظا يف‬

‫كثرية‪ ،‬بعضها متعلق بالوضع الداخيل اإليراين‪ ،‬وبعضها‬

‫عام ‪2011‬م‪ .‬إال أن الوضع لم يبق عىل ما هو عليه خالل حقبة‬

‫التدخالت اإليرانية يف املنطقة‪ ،‬كما أن الثالث سنوات املاضية‬

‫شهدت تدخالت عسكرية إيرانية مباشرة يف الداخل العربي‬

‫عرب إرسال املقاتلني من الحرس الثوري وامليليشيات الشيعية‬

‫املستوردة من العراق ولبنان وباكستان وأفغانستان‪ ،‬والدفع‬ ‫بهم يف الحرب السورية بهدف ترجيح كفة نظام بشار األسد يف‬

‫املعركة القائمة‪ ،‬ومع ذلك كله أخفقت طهران عىل مستويني‬

‫العالقات‪ ،‬وبخاصة بني طهران والعواصم العربية إال أن‬

‫رئيسيني‪ :‬أولهما عسكري وهو مساعدة نظام بشار عىل إحكام‬

‫وشراء الوالءات‪ ،‬وبالتايل كونت لها خاليا نائمة ونشطة يف‬

‫ودبلومايس يتمثل يف انكشاف األهداف اإليرانية أمام الحكومات‬

‫إيران وظفت هذه السنوات لزرع املراكز الثقافية‪ ،‬والتجنيد‪،‬‬

‫قبضته‪ ،‬وبسط سيطرته‪ ،‬وإخماد الثورة‪ ،‬وثانيهما سيايس‬

‫‪107‬‬


‫قضايا‬

‫والشعوب العربية؛ األمر الذي قاد إىل عزلة سياسية إيرانية لم‬ ‫تشهد إيران لها مثيلاً يف تاريخها الحديث؛ إذ قام العديد من‬

‫الدول العربية واإلسالمية؛ إما بقطع عالقاتها مع طهران‪ ،‬أو‬ ‫تخفيض التمثيل الدبلومايس معها‪.‬‬

‫وتتصدى لتلك املشاريع الثالثة‪ ،‬التي تسعى إىل ابتالع املنطقة‬

‫العربية وإن كان بدرجات متفاوتة ومتباينة‪.‬‬

‫هذا السرد املختصر لطبيعة العالقة بني إيران ودول املنطقة‬

‫ويف الحالة اإليرانية تحديدً ا‪ ،‬تسعى طهران إىل بسط‬

‫يف فهم مراحل هذه العالقات‪ ،‬واألهم من ذلك أنه يساعد‬

‫البديلة املرتبطة بها؛ مثل‪ :‬ميليشيات حزب الله‪ ،‬والحويث‪،‬‬

‫ومن بينها السعودية منذ انتصار الثورة عام ‪1979‬م يسهم كثريًا‬

‫القارئ عىل استشراف مستقبل العالقات بني العرب وبخاصة‬ ‫السعودية وإيران‪ .‬ال شك أن الخالفات السعودية اإليرانية يف‬

‫أوجها حاليًا‪ ،‬وأن املؤشر ال يزال تصاعديًّا‪ ،‬فهناك ملفات ثنائية‬

‫هيمنتها عىل املنطقة العربية عرب أذرعها‪ ،‬أو ما يسمى بالقوى‬

‫وامليليشيات املنتشرة يف العراق وسوريا‪ ،‬وجماعات الشغب يف‬ ‫البحرين وشرق السعودية‪ .‬إن مثل هذه التدخالت الصريحة يف‬ ‫ً‬ ‫نفوذا أو تمثل نموذجً ا مغريًا‬ ‫الشؤون الداخلية للدول ليست‬

‫معقدة‪ ،‬وهناك ملفات إقليمية أكرث تعقيدً ا‪ .‬لكن ال بد أن‬

‫لشعوب تلك الدول‪ ،‬وبالتايل ال يمكن القول بقبول مثل هذه‬

‫وبعيدً ا من أي مفاجآت إيجابية أو سلبية يف طبيعة العالقة‬

‫الكربى يف املنطقة‪ .‬املؤكد أن من يروج لسياسة تقاسم النفوذ يف‬

‫ندرك أنه ال مستحيل يف عالم السياسة وخطوات الدبلوماسية‪.‬‬

‫التدخالت أو أنها تأيت يف إطار التنافس السيايس بني القوى‬

‫بني البلدين‪ ،‬فإن املتابع لتصريحات الطرفني يصل إىل نتيجة‬ ‫ً‬ ‫فقدانا للثقة بني الجانبني‪ ،‬وأن ذلك يتسع‬ ‫مضمونها أن هناك‬

‫التقاسم هو الدول العربية دون غريها‪ ،‬فماذا عن تقاسم النفوذ‬

‫ويف مناسبات كثرية‪« :‬نريد من إيران أن تتحول من األقوال إىل‬

‫لها؟‬

‫يومً ا بعد آخر‪ .‬لقد كرر املسؤولون السعوديون جملة واحدة‬

‫األفعال»‪ .‬بعبارة أخرى‪ ،‬تريد الرياض من طهران أن تتصرف‬ ‫كدولة وليس ثورة طائفية يسعى الساسة هناك إىل تصديرها‬

‫‪108‬‬

‫العربية عسكريًّا واقتصاديًّا وسياسيًّا إىل صياغة مشروع عربي‬ ‫ّ‬ ‫تلتف حوله األمة العربية ملواجهة التحديات الجيوسياسية‪،‬‬

‫إىل دول املنطقة‪ ،‬تريد من طهران أن توقف دعمها لإلرهاب‬ ‫يف الداخل الخليجي والعربي‪ ،‬تريد من طهران أن تتوقف عن‬ ‫التدخل يف الشؤون الداخلية لدول املنطقة‪ ،‬وتتوقف عن زرع‬ ‫الخاليا التجسسية وتهريب األسلحة والعزف عىل الوتر الطائفي‪.‬‬ ‫ً‬ ‫نفوذا‬ ‫أما طهران فما زالت تنكر كل ذلك‪ ،‬وتزعم أن هناك‬

‫وليس تدخلاً إيرانيًّا يف تلك الدول‪ ،‬وشتان بني هذا وذاك‪،‬‬ ‫وهذا يعني أن النخبة الحاكمة يف طهران لم تدرك جدية‬

‫املوقف السعودي وال حقيقة حزم الرياض يف املرحلة الحالية‪.‬‬ ‫ً‬ ‫أحيانا للعاصفة‪ ،‬لكنّ‬ ‫تحاول طهران أن تنعّ م لغتها وتنحني‬

‫السعوديني أصبحوا يفهمون إيران أكرث من أي وقت مىض‪ ،‬ومن‬

‫هنا عىل طهران املتميزة يف اللعب عىل رقعة الشطرنج أن تعيد‬ ‫حسابات خطواتها وإسرتاتيجية تحريك أحجارها عىل خريطة‬ ‫املنطقة؛ ألن التمادي يف تجاهل الواقع قد يكلف النظام اإليراين‬

‫الكثري عىل عدة أصعدة‪.‬‬

‫شتان بني الهيمنة والنفوذ‬

‫املنطقة بني إيران والسعودية يتجاهل حقيقة كون ميدان هذا‬ ‫مع إيران يف دول أخرى ترى طهران أنها بمنزلة الباحة الخلفية‬ ‫إن التنافس السيايس وبسط النفوذ يكونان ناجحني من‬

‫خالل النماذج التنموية واالقتصادية والسياسية‪ ،‬وليس من‬

‫خالل العزف عىل النزعات الطائفية واملذهبية‪ ،‬والعمل عىل‬ ‫زعزعة أمن الدول واستقرارها‪ .‬ينبغي تذكر أن العالقة بني‬

‫إيران والسعودية خالل الحقبة البهلوية كانت تتسم بالتنافس‬ ‫السيايس يف بعض مراحلها‪ ،‬ولكن ظل ذلك التنافس يف نطاقه‬

‫السيايس بعيدً ا من إقحام الدين أو املذهب‪ ،‬أو ما يسمى‬ ‫ً‬ ‫أيضا باإلسالم السيايس إال أن األمر شهد تحولاً كبريًا بعد‬ ‫ثورة ‪1979‬م؛ إذ استخدمت طهران تلك األساليب غري املباشرة‬ ‫يف تنافسها أو صراعها مع دول املنطقة العربية والسعودية‬ ‫تحديدً ا‪ .‬حاليًا نجد أن طهران تروّج من جانب لتحسني‬

‫العالقات مع الرياض‪ ،‬ومن جانب آخر نجد قيادات عسكرية‬ ‫ورمو ًزا سياسية وحزبية تهاجم اململكة وتشجع بشكل أو بآخر‬ ‫عىل العنف يف الداخل السعودي‪ ،‬وإذا لم تتحول إيران من‬

‫ثورة طائفية إىل دولة طبيعية فإن محاوالت بناء الثقة بينها‬

‫ودول الجوار العربي لن تصل إىل نتيجة حقيقية وتوافق‬ ‫مستدام‪ ،‬وإن شهدت تحس ًنا يف مرحلة تاريخية معينة فإنها‬ ‫لن تصمد كثريًا أمام أول اختبار حقيقي يواجهها‪ .‬خالصة‬

‫يدرك الجميع أن هناك مشاريع إقليمية تحيط باملنطقة‬

‫القول‪ :‬ليس من صالح الرياض أو طهران استمرار حالة التوتر‬

‫املشاريع أدوات ووسائل‪ ،‬بعضها بارز وبعضها أقل وضوحً ا‪،‬‬

‫وتنام‬ ‫ومنطقة الشرق األوسط تحديدً ا من مهددات أمنية‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫للجماعات اإلرهابية الشيعية والسنية عىل حد سواء‪ ،‬إال‬ ‫ً‬ ‫خطوطا حمراء من الصعوبة بمكان التنازل عنها أو‬ ‫أن هناك‬

‫العربية‪ ،‬كاملشروع الرتيك واإلسرائييل واإليراين‪ ،‬ولكل من هذه‬

‫كما أن هناك تقاطعات ومشرتكات بني بعض هذه املشاريع من‬ ‫ناحية الرؤى واألهداف‪ ،‬وإن اختلفت الوسائل واألدوات‪ .‬من‬

‫هنا تحتاج منظومة دول الخليج العربي التي تقود حاليًا الدول‬ ‫العددان ‪ 478 - 477‬شوال ‪ -‬ذو القعدة ‪1437‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬أغسطس ‪2016‬م‬

‫القائمة حاليًا‪ ،‬وهذا الصراع السيايس يف ظل ما يشهده العالم‬

‫التساهل مع من يحاول تجاوزها‪.‬‬


‫السعودية وإيران‬

‫ال ضوء في آخر النفق‬ ‫تشهد منطقة الشرق األوسط حربًا باردة على صفيح‬

‫ساخن منذ ما يزيد على عقد من الزمن ال تختلف كثي ًرا عما‬ ‫شهدته المنطقة في حقبة الخمسينيات والستينيات من‬

‫القرن المنصرم‪ .‬وتعد السعودية ومعها دول الخليج القطب‬ ‫الرئيس في الصراع مع إيران والذي يتباهى بتسمية نفسه‪:‬‬ ‫قوى الممانعة‪.‬‬

‫البعد الطائفي‪ :‬يخطئ من يظن أن الصراع القائم بين‬

‫السعودية وإيران مرده صراع مذهبي أو عقائدي صرف‪ .‬مع أن‬

‫قطبي الصراع يمثالن اإلسالم السني بالنسبة للمملكة العربية‬

‫البدر شريف شيخ الشاطري‬ ‫أستاذ السياسة في كلية‬ ‫الدفاع الوطني باإلمارات‬

‫السعودية وإيران تحمل راية المذهب الشيعي االثني عشري‪،‬‬

‫إال أن الصراع في مجمله صراع جيوسياسي يتدثر في كثير‬ ‫من األحيان بلباس طائفي وعقائدي‪ .‬مع أن الهوية الطائفية‬ ‫اكتسبت دورًا متقدمً ا منذ الغزو األميركي للعراق وسيطرة‬

‫التيارات الشيعية السياسية على مقاليد األمور؛ حيث تم‬ ‫إقصاء الطائفة السنية التي كانت تتحكم في البالد منذ أن بزغ‬

‫العراق الحديث تحت القيادة الهاشمية في عشرينيات القرن‬

‫الماضي‪.‬‬

‫الصراع الجيوستراتيجي‪ :‬لعبت المملكة العربية‬ ‫ً‬ ‫موازنا إليران إبان حكم الشاه في صيغة‬ ‫السعودية دورًا‬

‫حفظت أمن واستقرار الخليج‪ .‬ولكن الثورة اإليرانية قلبت‬ ‫ذلك التفاهم السائد‪ .‬وقد بشر نظام الخميني بتصدير الثورة‬

‫إلى خارج إيران‪ .‬ولعل الحرب اإليرانية العراقية التي استعر‬ ‫أُوارها ثماني سنوات ولفحت تداعياتها بقية دول الخليج‪،‬‬ ‫أوقفت النزعة إلى تصدير الثورة‪ ،‬ومهدت إلى انقسام في‬

‫الرؤى اإليرانية بين إيران الثورة وإيران الدولة‪.‬‬

‫الجمهورية الثانية وصعود التيار البراغماتي واإلصالحي‬

‫تزامنت عوامل أدت إلى ما يمكن تسميته بالجمهورية‬

‫الثانية‪ ،‬وتغلب تيار الدولة على الثورة‪ .‬العامل األول يكمن‬ ‫في قبول إيران وقف إطالق النار مع العراق عام‬ ‫‪1988‬م‪ ،‬والعامل الثاني تغييب الموت لمؤسس‬ ‫الجمهورية اإلسالمية اإليرانية الخميني عام‬

‫‪1989‬م‪ ،‬وأخي ًرا انتخاب الرئيس البراغماتي أكبر‬

‫هاشمي رافسنجاني إلى الرئاسة اإليرانية عام‬ ‫‪1989‬م‪ .‬وكان لهذه العوامل أثر في أن تقنع‬ ‫النخبة اإليرانية والشعب اإليراني‬ ‫بعبثية تصدير الثورة‪ ،‬وأن‬ ‫إيران بإمكانها تحقيق نظام‬

‫إسالمي من خالل اتباعها نهجً ا‬

‫براغماتيًّا وتحسين عالقتها بجيرانها‬

‫العرب‪ .‬وقد عزز من هذا التوجه صعود التيار‬

‫اإلصالحي بقيادة سيد محمد خاتمي عام ‪1997‬م‪ .‬وقد شهدت‬

‫‪109‬‬


‫قضايا‬

‫حقبتا حكم رافسنجاني وخاتمي تحس ًنا وانفراجً ا في العالقات‬ ‫السعودية اإليرانية‪ .‬وقد قامت الرياض بتنسيق سياستها‬

‫النفطية مع طهران لوقف تدهور أسعار النفط في األسواق‬ ‫العالمية؛ ويدلل هذا التعاون على استعداد الطرفين للتعاون‬ ‫إذا ما تطلبت المصالح اإلستراتيجية ذلك‪ .‬ويدل هذا التعاون‬

‫على محدودية العامل الطائفي في تفسير حدة المواجهة بين‬ ‫السعودية وإيران‪ .‬فقد شهدت التسعينيات وبداية األلفية‬ ‫أحسن حقبات العالقات السعودية اإليرانية منذ سقوط الشاه‪.‬‬ ‫تغير السياق الدولي‪ :‬كان ألحداث سبتمبر ‪2011‬م اإلرهابية‬

‫أثر كبير في تغير السياسة األميركية في المنطقة‪ .‬وقد تبنت‬

‫إدارة بوش حينها سياسة تغيير األنظمة في المنطقة‪ .‬وقد‬

‫األميركي الذي أزاح عن كاهل‬ ‫طهران نظامين معاديين في‬ ‫كابول المتمثل في طالبان ونظام‬ ‫صدام حسين في بغداد‬

‫مع إيران مفتوحة على مصراعيها‪.‬‬

‫تتنازع السعودية وإيران على عدة قضايا في المنطقة‬

‫تشكل لب ديناميكية النظام اإلقليمي‪ .‬ولعل من أهم هذه‬ ‫القضايا اإلقليمية الصراع في اليمن الذي دخل فيه مجلس‬

‫استهلت اإلدارة األميركية سياستها الجديدة بقلب نظام‬ ‫الحكم في أفغانستان أولاً ‪ ،‬والعراق ثانيًا بالتعاون مع إيران‪.‬‬

‫التعاون الخليجي في مواجهة مع الحوثيين حلفاء إيران‪.‬‬

‫في فهم اإلشكالية الرئيسة في المنطقة التي تسببت في‬

‫في حالة وقوعها في دائرة النفوذ اإليراني‪ .‬وتحاول دول‬

‫وقد ابتعدت واشنطن من الرياض؛ بسبب اختالف الطرفين‬

‫تفشي ظاهرة اإلرهاب وبروز تنظيم القاعدة‪.‬‬

‫وتعد دول الخليج اليمن حديقتها الخلفية ومصدر تهديد‬ ‫المجلس من خالل تدخلها المباشر في اليمن منع تكرار‬

‫وقد وجدت إيران ضالتها في االندفاع األميركي الذي أزاح‬

‫الحالة اللبنانية من توسع نفوذ ميليشيا مسلحة موالية‬

‫ونظام صدام حسين في بغداد‪ .‬كما أن أنصار إيران من الطائفة‬

‫التي أضحت بال شك ميدان صراع إقليمي ودولي‪ .‬وثالثة‬

‫عن كاهل طهران نظامين معاديين هما‪ :‬طالبان في كابول‪،‬‬

‫‪110‬‬

‫وجدت إيران ضالتها في االندفاع‬

‫الشيعية تقلدوا مفاصل السلطة في العراق بعد سقوط‬

‫النظام البعثي في العراق‪ .‬وما فتئ هذان المنجزان يمنحان‬ ‫إيران مجالاً واسعً ا في أن تتوسع غربًا عبر تعزيز نفوذها في‬

‫إليران على مقدرات البالد‪ .‬والقضية األخرى تتعلق بسوريا‬ ‫األثافي لبنان حيث تمارس إيران نفوذها فيه من خالل حزب‬

‫الله اللبناني‪ .‬والحال ال يختلف بالنسبة للعراق؛ إذ تتدخل‬ ‫إيران من خالل حلفائها العراقيين‪ ،‬وتمارس سلطتها على‬

‫العراق وعبر شبكة من العالقات مع جماعات تعادي األنظمة‬

‫الشأن العراقي‪ .‬وقد أدى تصاعد المواجهات بين السعودية‬

‫الشيعية في البحرين‪ ،‬وحماس في فلسطين‪ ،‬إضافة إلى‬

‫بعض دول مجلس التعاون السعودية في اتخاذ خطوات‬

‫الخليجية أو حلفاءها؛ كحزب الله في لبنان‪ ،‬والمعارضة‬ ‫التحالف اإلستراتيجي مع سوريا الذي تجاوز أربعة عقود‪.‬‬ ‫شتاء الغضب أو ربيع العرب‬

‫وإيران إلى القطيعة الدبلوماسية بين البلدين‪ ،‬وقد ساندت‬

‫دبلوماسية مثيلة أو مقتربة من الرياض‪.‬‬

‫إال أن دول مجلس التعاون تختلف في إدراكها لمخاطر‬

‫التدخل اإليراني في الشؤون العربية؛ فاإلمارات والبحرين‬

‫أدت هذه التطورات إلى قلق دول الخليج‪ ،‬وباتت‬

‫تساندان بقوة الموقف السعودي تجاه إيران؛ بينما تتخذ‬ ‫ً‬ ‫موقفا مواربًا‪ ،‬أما عمان فإنها تتمتع بصداقة‬ ‫الكويت وقطر‬

‫من الدول العربية التي عرفت بـ«الربيع العربي» من حساسية‬

‫تمر العالقات السعودية اإليرانية بأصعب مراحلها نتيجة‬

‫تتوجس من التوسع اإليراني إلى قلب العالم العربي‪ .‬وقد‬

‫ً‬ ‫أصقاعا كثيرة‬ ‫زادت االضطرابات التي بدأت في تونس وعمت‬ ‫دول المنطقة األمنية‪ .‬ويبدو أن إيران أرادت أن تصطاد في‬

‫الماء العكر وأطلقت تصريحات بأن الثورات العربية ما هي إال‬ ‫امتداد للثورة اإلسالمية في إيران‪ .‬بيد أن اقتراب االضطرابات‬

‫إلى ضفاف الخليج في البحرين وتدخل إيران في الشأن‬ ‫الداخلي لمملكة البحرين تحت دواعي نصرة المستضعفين‬

‫الشيعة أجّ ج الصراع بين الرياض والعواصم الخليجية‬ ‫وطهران‪ .‬ولم تر السعودية واإلمارات بدًّ ا من التدخل‬

‫العسكري إلعادة االستقرار إلى البحرين‪ .‬وأصبحت المواجهة‬ ‫العددان ‪ 478 - 477‬شوال ‪ -‬ذو القعدة ‪1437‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬أغسطس ‪2016‬م‬

‫جيدة مع إيران‪.‬‬

‫لتغير البيئة الدولية واإلقليمية‪ .‬وال يبدو أن هناك ضوءً ا في‬

‫نفق العالقات الثنائية بين البلدين‪ .‬وال شك أن هذا الصراع‬ ‫اإلقليمي يلقي بظالله القاتمة على مجمل قضايا المنطقة‪،‬‬

‫ويعمق الشرخ الطائفي‪ ،‬ويغذي المواجهات اإلقليمية‪.‬‬

‫ولكن ليس من المستحيل أن تتالقى مصالح األطراف في‬

‫الخليج على المدى المتوسط مرة أخرى كما حصل في حقبة‬ ‫التسعينيات؛ إذ باإلمكان أن يكون الخليج العربي أداة وصل‬

‫ال فصل‪ ،‬كما يقول أحد الدبلوماسيين في اإلمارات‪.‬‬


‫نصوص‬

‫أكنت أنا؟‬ ‫الرجل الذي سمي باسمني اثنني باملجاز‪ ،‬لم يكن باستطاعته‬ ‫ً‬ ‫موزعا بني «الهُنا» و«الهُناك»‪ ،‬وواقع‬ ‫أن يكون أحدهما كاملاً ! فبقي‬

‫سوريايل يجري عىل مبعدة خطوات قصرية منه‪ ،‬يف املدينة التي‬ ‫ّ‬ ‫علمت العالم األبجدية‪.‬‬ ‫ينبت له شاربان خفيفان بخطني صغريين ناعمني كزغب‬

‫طيور وُلدت للتو‪ ،‬بلون أشقر أو أصفر يشبه رأس سنبلة قمح‬ ‫شمس آب‪ ..‬وجهه طوالين‪ ،‬أنف صغري‬ ‫بفعل أشع ِة‬ ‫متوهجة‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫مدبّب‪ ،‬بعينني حاملتني ناعستني ترنوان نحو أفق بعيد تطوقه‬

‫أسالك حديدية شائكة غليظة‪ ،‬لن يتمكن حتى الطري يف سمائه‬

‫السابعة أو الثامنة‪ ،‬من التوقف فوقها ذات فجر‪.‬‬

‫«إلهي‪ :‬ارفع عني هذه الكأس!»‪ ..‬سيقول ذات صباح أحمر‬

‫نهض فيه متأخرًا عىل غري ما اعتاده يف سابق أيامه ولياليه‪ ،‬ولم‬

‫لحلم عود ٍة‬ ‫انتظار‬ ‫يجد مدينته‪ ..‬مدينة إقامته هذه املؤقتة‪ ،‬يف‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬ ‫مباغتة طال سرابها‪ .‬يتذكر توسل «السيد» ورجاءَه لربه «له املجد‬

‫يف عاله» يف وقت يشبه وقته هذا تمامً ا! ينظر إىل املدينة‪ ،‬صباحها‬

‫جميلة عمايرة‬ ‫قاصة أردنية‬

‫هذه املرة وتصفعه عىل وجهه صفعات لم يعد يتذكرها لقسوتها‪،‬‬ ‫وتعيده ثانية تحت سمائه املقيمة هذه‪.‬‬

‫سيبيك‪ .‬سيبيك كثريًا تحت سماء مدينته التي لم يتعرف إىل‬

‫ساعات مرت‬ ‫ساعات ال تشبه غريها من‬ ‫مالمحها هذا الصباح‪ ،‬يف‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫لاً‬ ‫عليه‪ ،‬تحت سمائها املختنقة بـ«طائرات امليغ» محاو أن يحتفظ‬ ‫بسماء املدينة الذي اعتاده‪ ،‬عاريًا مشلوحً ا متوسلاً لرب السماء‬ ‫«له املجد يف عاله»‪ .‬يف هروبه أو لجوئه نحو اسمه الثاين‪ ،‬يحاول‬ ‫التذكر ليكتب عن هول ما جرى منذ عام ‪-‬أقل أو أكرث قليلاً ‪ -‬لم‬

‫يعد يتذكر‪ ،‬ثمة شقوق يف الذاكرة وفيما يجري اآلن من عام ‪2012‬م‪.‬‬ ‫سيكتب عن هول ما جرى‪ ،‬وما يجري‪ .‬عن مدن يحنّ إىل رؤيتها يف‬ ‫الحب أو الحرب‪ .‬الحرب التي يحاول تأجيلها عىل طريقته هو‪« :‬أيها‬ ‫الجندي تمهل قليلاً ‪ ،‬تمهل كثريًا‪ ،‬دع املطر يتساقط من سماء‬

‫ضاحكة ليبلل روحي‪ ،‬دع نظرة عي َن ّي تقف عىل بيت صغري يغفو‬

‫أسفل بطن الجبل‪ ،‬وعىل ياسمني لم يتفتح بعد‪ .‬عندها فقط ربما‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫«ظننت أن‬ ‫«لست بجندي»‪ ،‬يقول‪:‬‬ ‫عليك أن تطلق رصاصتك!»‪.‬‬ ‫شغفي بالسهول‪ ،‬وبالياسمني‪ ،‬والنارنج ويوسف أفندي‪ ،‬والبحرة‬

‫املعتم بسواده‪..‬‬ ‫رفاته املدينةُ‬ ‫عىل مبعدة يرى موقع «املعمداين» الذي ضمت َ‬ ‫بعد أن ّ‬ ‫بشر بـ«سيده» وآمن به ولم يره قط‪ .‬املدينة نفسها التي‬

‫خيالها ذاكرة ال تقيم‪ ،‬ويف ليلة عاصفة ومعتمة محته «أثرًا بعد‬

‫النحيلة سوى رجاء «السيد» لربه وتوسله يف محنته‪ ..‬املدينة نفسها‬

‫يجد غري حبات سوداء صغرية برؤوس فارغة! عندها أصبح قلبي‬

‫لم يتعرف إىل وجهها يف هذا الصباح‪ ،‬فلم يجد ما يسند قامته‬ ‫حدث مباغت وللمرة األوىل منذ خمسني عامً ا أو أكرث أو أقل‪،‬‬ ‫ويف‬ ‫ٍ‬

‫ستقذفه! يتذكر األمر اآلن يف هذه الساعة بمدينته التي ال تشبه‬ ‫ساعات غريها‪ ..‬ستقذفه نحو األفق املسيج باألسالك الشائكة‪،‬‬ ‫نحو حلمه الذي يرنو إليه القلب قبل العني طويلاً ‪ ،‬ذلك أنه لم‬ ‫ً‬ ‫خطفا سريعً ا ومرغمً ا نحو املدينة نفسها‪،‬‬ ‫يتوقع أنه سيعود‬

‫كخروجه تمامً ا‪ ..‬سيعود‪ ،‬إال أنه يف هذه املرة سيخلف قلبه وراءه‪.‬‬ ‫ً‬ ‫ثانية باسمه الذي يحب‪ ،‬والذي يحاول أن يكونه‬ ‫ستقابله املدينة‬ ‫ً‬ ‫عبثا‪ .‬ستأخذه من يده‪ ،‬ستأخذه‬

‫عند مدخل بيتنا القديم‪ ،‬سينقذين مني ومنك»‪ .‬لكن طواحني هواء‬

‫عني»‪ ،‬فاشتهى الطحان الغايف قمحً ا من غري زؤان لطحنه! لكنه لم‬ ‫برئًا أصابه حجر يف عمقه‪ ،‬فظن أنه أمل تناثر ماؤه وتوزع ليحضن‬ ‫الياسمني والبيت أسفل الجبل‪ ،‬أو ذاك البيت الصغري الذي ّ‬ ‫مل‬ ‫انتظاره يف «جادة العائدين»‪ ،‬بالقرب من ثانوية البنات‪ ،‬يف املدينة‬

‫التي تقتلني وتقتلك‪ ،‬إال أن الظن خاب واندثر‪ .‬هي عاطفة لم‬ ‫أتبني آثارها بعد‪ .‬ذلك أنني ربطت قلبي من وسطه بحجر (يجيبه‬ ‫بأحد اسميه) يك ينىس حنينه أو ال يتذكر‪ .‬تجاهلت األمر بزراعة‬

‫الصبار يف طريق عودة مرتقبة‪ ،‬إال أنني أضعت طريقي بني أشجار‬ ‫كثيفة ويابسة قرب نبع جف ماؤه فنشف‪ ،‬ليبقى الحىص يف مكانه‬

‫ْ‬ ‫واعرتضت‬ ‫كشاهد فزاعة! منذ ذلك الوقت استوقفتني األحالم‬

‫بعيني‬ ‫طريقي يف حقول العودة املليئة باألشباح والعتمة‪ ،‬ألرى‬ ‫ّ‬ ‫املغمضتني الرجل مي ًتا وسط األعشاب الضارة وقد دخل عامه‬ ‫األلف أو يزيد‪ ،‬وما يزال يحتفظ بخاتم يّ‬ ‫فض حال لونه ْ‬ ‫واص َفرّ‪،‬‬

‫ومفتاح قديم أسود‪ .‬هل كنت أنا؟ أم كان هو؟ أم كنا االثنني معً ا؟‬ ‫بت ال أعرف شي ًئا وال ّ‬ ‫أم أنا باسمَ ّي االثنني؟ ُّ‬ ‫أتذكر‪.‬‬

‫‪111‬‬


‫مقال‬

‫اللغة والمنفى‪:‬‬ ‫أسماء الشجرة‬ ‫لإلنسان وطن واحد‪ ،‬وهو المكان الذي نشأ فيه‪ ،‬غيره ليس سوى‬

‫ناف مهما كانت جميلة وخيرة وآمنة‪ ،‬لإلنسان لغة واحدة وهي لغته‬ ‫مَ ٍ‬

‫عبدالعزيز بركة ساكن‬ ‫روائي سوداني يقيم في فيينا‬

‫األم غيرها ليس سوى غربة‪ ،‬مهما أجادها وأحبها وعايشها تظل هشة‬ ‫ومنغلقة ومربكة وال تعطي نفسها‪ .‬وهذا ال ينفي أن يكتسب اإلنسان‬

‫هُ ويّات كثيرة في مسيرة حياته الطويلة الممتدة إلى ما ال نهاية‪،‬‬

‫تتقاطع وتتوازى وتحترب الهُويّات في ذاته‪ ،‬مثلما لك أمّ واحدة أنت‬ ‫ً‬ ‫أيضا واحدٌ ‪ ،‬وستظل واحدً ا لألبد في تعدد هُ وياتك وحيرتك ويقينك‬ ‫الممسوخ‪.‬‬

‫أزمتي األم هي اللغة‪ ،‬وهي دائمً ا ما تفضحني‪ ،‬لغة األشياء كلها‪:‬‬

‫‪112‬‬

‫الشوارع‪ ،‬والمعمار‪ ،‬واألشجار‪ ،‬واألزقة‪ ،‬والطيور‪ ،‬والجعارين‪،‬‬ ‫والسحالي‪ ،‬لغة العمل لغة الفصول والزمن لغة الديانات والمعارف‬

‫األكاديمية لغات الروح ولغات اإلنسان ولغات الجسد العصية‪.‬‬

‫إلي الطريق كعادته‪ ،‬ولكنني أظل غبيًّا‬ ‫عندما أم ّر بشارع ما‪ ،‬ويتحدث ّ‬ ‫متبلدً ا‪ ،‬ال أستطيع أن أفهم لغته ولو أنني أسمع صوته‪ ،‬وألنني ال‬

‫أعرف معادلة بناء لغته وال موسيقا كلماته‪ :‬متى أنشئ أول مرة هذا‬ ‫الطريق‪ ،‬من هو أول من مشى به‪ ،‬وكيف كانت هيئته األولى‪ ،‬هل‬ ‫كانت هنالك غابة تم بترها‪ ،‬هل كان يمر على شاطئ ُنهير ما ابتلعته‬

‫األمكنة واألزمنة‪ ،‬شربته نوائب الدهر‪ ،‬أو لحسته الشمس‪ ،‬هل كانت‬

‫بيت في العراء‪،‬‬ ‫المنفى‬ ‫ٌ‬ ‫ومسخ للمكان‬ ‫وقطع للغة‪،‬‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫وجرح في‬ ‫في الروح‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫الذاكرة‪ ،‬المنفى أن ال تكون‬ ‫لك صلة ِبك‪ ،‬وتظل مثل‬ ‫الثعبان الذي يبتلع نفسه‬

‫ترتاده األرانب أم الثعالب أم الضباع‪ ،‬هل بنت على أرضه الطيور‬ ‫أعشاشها‪ ،‬وحلقت فوقه النسور‪ ،‬من الذي أطلق عليه هذا االسم‪،‬‬

‫إلى أين يقود‪ ،‬ومتى ينتهي في أي بيت أم نهر أم بحر؟ في مدينتي‬ ‫أعرف كل تلك اإلجابات‪ ،‬وبالتالي أعرف لغة الطريق‪ ،‬وسنتبادل‬ ‫الحوارات‪ ،‬ونختصم‪ ،‬ونلعب ً‬ ‫أيضا‪ ،‬وأستطيع أن أختبئ في أحد‬ ‫أزقته إذا داهمني خطر أو مطر أم حنين‪ .‬أزقته التي سوف يهمس بها‬

‫إلي في أذني‪ ،‬بلغتنا التي نعرفها‪.‬‬ ‫ّ‬

‫عندما أشاهد معمارًا في هذه المدائن‪ ،‬قد أعرف أنه غوطي أو‬

‫إلي‬ ‫إليزابيثي أو روماني أو ألي عصر ينتمي‪ ،‬ولكنه عندما يتحدث ّ‬ ‫فإنني ال أستطيع أن أراه؛ ألنه يتالشى في الريح أم ينمسخ في لغاته‪،‬‬

‫أو يصبح شبحً ا ال مكان له وال لون وال رائحة أو روح له‪ ،‬شبحً ا عظيمً ا‬ ‫العددان ‪ 478 - 477‬شوال ‪ -‬ذو القعدة ‪1437‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬أغسطس ‪2016‬م‬


‫يختفي في عدم األشياء واللغة‪ ،‬فالعالقة المكانية التي كانت ستشكل مقعدً ا جميلاً للحوار ال توجد بيننا اآلن‪ ،‬إنه جدار‬

‫اللغة‪ :‬من ومتى وكيف وأين ولم ولماذا وبمَ وفيمَ ؟ المكان الذي ال ينتمي إليك ال تجيد لغته‪ ،‬وال يمكنك أن تنتمي إليه‪.‬‬

‫وإال تعبر مثل سائح في يدك خارطة وفي أذنك ترجمان وفي فمك أسئلة عصية صماء‪ .‬عندما أتحدث مع أحد أصدقائي‬ ‫بلغته‪ ،‬فإنني ال أتردد في استخدام كلمات كثيرة من لغتي األم‪ ،‬نعم قد أفعلها بدون وعي ولكنني بالتأكيد في ال وعي‬

‫أريد أن أتحدث إليه باللغة التي يمكنه أن يراني بها‪ ،‬وإال أصبحنا كشبحين‪ ،‬عندما أريد أن أكون مفهومً ا مثلما هو‬ ‫علي ً‬ ‫أيضا أن أحدثه عن بلدي وأرضي وشعوبي وحيواناتي وثعابيني‪ ،‬وأن أقول له‪ :‬ما هي أسماء الشجرة‪.‬‬ ‫عبر لغته‪ّ ،‬‬ ‫اآلن يبدو واضحً ا جدًّ ا لماذا يحتفظ المنفيون والغرباء في بيوتهم بزيهم القومي‪ ،‬لماذا يصرون على أكل أطعمتهم‬

‫الوطنية وهم في أقاصي األرض‪ ،‬لماذا يصرون على االحتفاظ بأسمائهم بل أن يطلقوا أسماء ألبنائهم الذين ولدوا في‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫وإمعانا في القطيعة‪ ،‬بل هي محاولة للتحاور‬ ‫إغراقا في التغريب‬ ‫المنفى نفس أسماء أمكنتهم األم‪ ،‬فالمسألة ليست‬

‫ً‬ ‫إمعانا في الظهور واالنسجام‪ ،‬هي محاولة للحب‬ ‫مع المكان واإلنسان الجديدين في بالد المهجر‪ ،‬هي محاولة أكثر‬

‫والمشاركة‪ .‬إنهم يرغبون في أن يراهم اآلخر أكثر وضوحً ا‪ ،‬أن يعرف عالماتهم ويقرأهم جيدً ا‪ ،‬فإنها مسألة لغة‪ ،‬أي‬

‫أشكال ترميز بحت‪ .‬فالغريب شخص ال يمكن رؤيته إال بفك شفرات لغته‪.‬‬

‫هذه البالد التي أقيم فيها اآلن‪ ،‬تلك البالد الجميلة التي يأتي إليها السائحون من كل بقاع األرض‪ ،‬وهم مصدر‬

‫دخلها األساسي‪ ،‬البالد التي قدمت لي األمن والسالم والظل‪ ،‬لم تستطع أن تقدم لي مفتاح لغتها‪ ،‬ولن تستطيع‬ ‫ذلك‪ ،‬وال أستطيع أن أتحمل أنا ً‬ ‫أيضا ذلك‪ ،‬فاللغة شاسعة وتحتاج لميالد جديد على األرض مباشرة‪ ،‬تحتاج لنشأة‬ ‫قد تستمر إلى ما ال نهاية‪ ،‬فالذين يعرفون اللغة تراوح أعمارهم ما بين اليوم األول لنشأة الكون‪ ،‬وهذه اللحظة التي‬ ‫نعيشها هنا واآلن‪ ،‬فاللغة ال ُتعلم وال ُتدرس‪ ،‬وإذا مضى قطارها فال مُ درك له‪ ،‬فعندما تنمو الشجرة فإنها تسجل‬ ‫لغتها يومً ا بيوم في طبقات حياتها‪ ،‬فهي تقرأ ما حولها بعينين مبصرتين وبقلب عارف‪ ،‬كما ال يستطيع أن يعود النهر‬ ‫إلى مصبه‪ ،‬ال يمكننا قراءة الشجرة في لحظتنا هذه‪ ،‬وال يمكن إضافة تاريخنا الحالي إلى اليوم األول في سجلها‪ ،‬هل‬

‫سنكتفي بحوار الطرشان؟‬

‫ٌ‬ ‫المنفى ٌ‬ ‫ومسخ للمكان في الروح‪ ،‬وجُ رح في الذاكرة‪ ،‬المنفى أن ال تكون لك صلة‬ ‫بيت في العراء‪ ،‬وقطعٌ للغة‪،‬‬

‫بِك‪ ،‬وتظل مثل الثعبان الذي يبتلع نفسه‪ :‬يبدأ ذلك عادة بالذيل‪ .‬هل قلت‪ :‬هذه البالد جميلة؟ ولكنني ال أعرف أنها‬ ‫إلي‪ ،‬لم تقل لي طيورها ذلك‪ ،‬لم تهمس لي شجيراتها ونساؤها وأطفالها بسر الكالم‪ .‬أن تعرف‬ ‫جميلة‪ ،‬طالما لم تتكلم ّ‬ ‫لغة األشياء يعني ذلك أنك في المكان الصحيح‪ ،‬وإذا ناديت بصوت حقيقي وجميل فإن أمك ستجيب النداء‪ ،‬ولو‬

‫كانت في قبرها الذي في السماء‪ ،‬أما إذا كانت في حجرتها أو في بيت صحيباتها‪ ،‬فإنك تستطيع أن تطعم مما صنعته‬ ‫يدها في ُظهر هذا اليوم‪ .‬من يقول‪ :‬إن اإلنسان كائن عالمي ال يعني بالطبع أن تنمو شجرة الطلح في قمة األلب‪ ،‬وال أن‬ ‫تعيش الحيتان في نهر النيل‪ .‬إن ذلك يعني ببساطة قيم الخير والجمال والشر ً‬ ‫أيضا‪ ،‬وهي القاسم المشترك بيننا وبين‬

‫اآلخر‪ ،‬وذلك ما بعد األيديولوجيا والديانات‪ ،‬قيم الخير والشر التي تخص البقاء‪ ،‬ما يدركه الحيوان والنبات واإلنسان‬ ‫من أجل أن يبقى‪ :‬لغة الصمت‪.‬‬

‫لديّ أصدقاء كثر‪ ،‬ولديّ مكانٌ محش ٌّو بذاكرتي‪ ،‬وطفالن وزوجة‪ ،‬وفيه مطعم تشم منه عبق‪ :‬الكول والمصران‬

‫والويكة وأم تكشو‪ ،‬به الدوم والصمغ العربي والكركدي والمرس واللوبة البيضاء‪ ،‬إنني أحاول أن أكون واضحً ا‬

‫ومقروءً ا لآلخر‪ ،‬بمكتبتي‪ :‬تاريخ السودان الحديث‪ ،‬وكتب األستاذ محمود محمد طه وشيخي محمد محمود‪ ،‬وتقريبًا‬ ‫ً‬ ‫حديثا وقديمً ا وليلى البلوشي‪ ،‬وألف ليلة وليلة باأللمانية والعربية‪ ،‬وعابد‬ ‫صف كامل من تحقيقات األدب العماني‬

‫الجابري‪ ،‬وإبراهيم إسحاق‪ ،‬ومنصور الصويم‪ ،‬ونميري مجاور‪ ،‬وفي بيتي كتاب الطواسين للحالج‪ ،‬وجلباب َ‬ ‫وع َّراقِي‬ ‫ومركوب سوداني‪ ،‬وعلى سطح الكمبيوتر يُوجد الفيسبوك‪ً :‬‬ ‫إذا في بيتي لغتي‪ .‬ثالث سنوات مما يعدون في المنفى‪،‬‬ ‫ألف عام من الغربة‪ ،‬وخراب الذاكرة‪ ،‬وتفسخ اللغة بحساب الروح‪.‬‬

‫‪113‬‬


‫شخصيات‬

‫عبدالله العثيمين‪:‬‬ ‫محددات الشخص ومكونات النص‬

‫إبراهيم بن عبدالرحمن التركي‬ ‫كاتب سعودي‬

‫‪114‬‬

‫العددان ‪ 478 - 477‬شوال ‪ -‬ذو القعدة ‪1437‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬أغسطس ‪2016‬م‬


‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ورحلتها الحياتية المجردة‪ ،‬أما‬ ‫وبيئتها‬ ‫تكوينها‬ ‫«يعني الكاتب بالشخص ذات المبحوث من حيث‬ ‫ً‬ ‫سلوكا وتفاعلاً ومواقف»‪.‬‬ ‫النص فهو ناتج هذه الشخصية‬ ‫محددات الشخص‪ :‬البيئة والتكوين‬

‫َ‬ ‫عاش اثنين وثمانين ً‬ ‫يرض‬ ‫عاما مألى بعصامية نادرة نقلته من دائرة مغلقة إلى مدار مفتوح‪ ،‬فلم‬ ‫َّ‬ ‫ْ‬ ‫ً‬ ‫ُ‬ ‫متحكما في ظاهره؛ فبدت سيرته الممتدة‬ ‫اإلنسان في داخله‬ ‫وظل‬ ‫ينقد إلى اندالق‪،‬‬ ‫بانغالق مثلما لم‬

‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫مرتبطة‬ ‫مؤمنة بمبادئه‪ ،‬وهو ما يجعل قراءة عبدالله العثيمين‬ ‫مستجيبة للتحديات‪،‬‬ ‫موصولة بجذوره‪،‬‬ ‫ً‬ ‫أسس أسهمت في تخليق معالمها وهي‪:‬‬ ‫مستندة إلى ثالثة‬ ‫بمحددات شخصيته البسيطة المركبة‬ ‫ٍ‬ ‫* االنتماء والمبدئية‪.‬‬ ‫* التحدي واالستجابة‪.‬‬ ‫* التربة والتربية‪.‬‬ ‫ً‬ ‫ولعلنا نحاول اإللمام بهذه المحددات التي تكشف جوانب فاصلة في مسيرة األستاذ الدكتور عبدالله‬ ‫الصالح العثيمين (‪1437 -1355‬هـ‪2016 -1936 /‬م)‬ ‫أولاً ‪ -‬التربة والتربية‬

‫ينتمي عبدالله بن صالح بن محمد بن سليمان بن‬

‫عبدالرحمن العثيمين إلى فرع الوهبة من بني تميم مجتمعً ا في‬ ‫االنتماء َ‬ ‫القبلي مع الشيخ محمد بن عبدالوهاب‪ ،‬وهو الشخصية‬

‫مواز؛ فعمل في التجارة‬ ‫من جانب‪ ،‬وضرورة الكدح من جانب‬ ‫ٍ‬ ‫المبتدئة مثلما واصل دراسته برفقة قرناء مقبلين على العلم‬

‫ومهتمين بشؤون األدب ومتابعين لألوضاع السياسية المحلية‬

‫والعربية والدولية؛ فالتأمت تربة القبيلة واألسرة والمدينة‬

‫التاريخية التي اختارها العثيمين لتكون مدار بحثه في الدراسات‬ ‫العليا‪ ،‬ومجالاً لبعض تآليفه في مرحلة ما بعد الدكتوراه‪،‬‬

‫العثيمين ومواقفه الوطنية والعروبية واإلسالمية‪ ،‬وإذا أضفنا‬

‫مباشر لهذه الجذور في تكوينه الثقافي‪ ،‬مثلما‬ ‫تأثير‬ ‫ينفي وجود‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ُّ‬ ‫ينفك عن‬ ‫مجتمع ال‬ ‫يشير إلى بعدٍ مهمٍّ في دائرة َنس ِبه ضمن‬ ‫ٍ‬

‫من نابه مثله أن يتقن اللغة العربية‪ ،‬ويلمّ بالعلوم الشرعية‪،‬‬ ‫ً‬ ‫ومتحدثا مفوهً ا منذ‬ ‫ويتخصص في التاريخ‪ ،‬ويبرز شاع ًرا وكاتبًا‬

‫مؤكدًا أنه يفكر خارج الصندوق بما قدمه من أبحاث عنه مما‬

‫واألصدقاء في تكوين تربوي متوازن وضح تأثيره في فكر الدكتور‬

‫إليها نشأته في مدينة كانت سيمياؤها علمية وثقافية فال غرابة‬

‫تعن للدكتور شي ًئا ذا بال بحكم تحرره من‬ ‫توثيقها‪ ،‬وإن لم‬ ‫ِ‬ ‫مداراتها الضيقة‪ ،‬وإيمانه بنفسه وأسرته الصغيرة المكونة من‬

‫‪1952‬م)‪ ،‬ويترجَ م له في كتاب (شعراء نجد المعاصرون) للشيخ‬

‫نفسها‪ ،‬وانتسابه من جهة والدته‬ ‫(سليمان‪ ،‬وحمد) زاوال التجارة َ‬

‫في بريطانيا منتصف الثمانينيات الهجرية (الستينيات الميالدية)‪.‬‬

‫مكافح زاول التجارة في الرياض وعنيزة ُ‬ ‫وعرف بورعه‪ ،‬وعمَّين‬ ‫أب‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫إلى جده الشيخ عبدالرحمن السليمان الدامغ الذي كان معلمً ا‬ ‫ُ‬ ‫«الخريزة» الذي يعد‬ ‫للقرآن الكريم‪ ،‬وإمامًا للمصلين في مسجد‬

‫من أقدم مساجد مدينته‪ ،‬ويعود تأسيسه إلى النصف األول من‬ ‫القرن الثالث عشر الهجري (في حدود عام ‪1230‬هـ أو قبل هذا‬ ‫التاريخ بقليل)‪ ،‬وقد خلفه في التدريس واإلمامة ابنه (خال‬

‫الدكتور عبدالله) الشيخ سليمان بن عبدالرحمن الدامغ‪ ،‬كما‬

‫كان لتقارب عمره مع أخيه األكبر الشيخ العلم محمد الصالح‬

‫العثيمين (‪1421 -1347‬هـ‪2001 -1929 /‬م) دو ٌر في توجهه العلمي؛‬ ‫فكان ُ‬ ‫األخ األكبر يصطحب األصغر لحلقات الشيخ عبدالرحمن‬

‫السعدي (‪1376 -1307‬هـ‪1956-1889 /‬م)‪ ،‬ويكفي أن يعيش الصبي‬ ‫ً‬ ‫محاطا بقيمة العلم‬ ‫هذه األجواءَ العلمية والعملية ليجد نفسه‬

‫صغره‪ ،‬فيشارك في نادي عنيزة الثقافي الذي أسس عام (‪1372‬هـ‪/‬‬ ‫عبدالله بن إدريس عام (‪1380‬هـ‪ 1960 /‬م)‪ ،‬ويبتعث للدراسات العليا‬

‫ثانيًا‪ -‬التحدي واالستجابة‬ ‫َ‬ ‫نسبة نظرية التحدي واالستجابة للمؤرخ البريطاني‬ ‫نعلم‬

‫أرنولد توينبي (‪1975 -1889‬م) حيث فسر عبرها صعود الحضارات‬

‫وسقوطها كما تمثلها في األفراد ذوي السلوك االنبساطي الذين‬

‫يستطيعون تجاوز الصعاب باستيعابها وعدم الوقوف عندها‬ ‫أو االستسالم لها بخالف غيرهم من االنطوائيين الذين يأذنون‬

‫للظروف القاسية أن تبدل مسيرتهم‪.‬‬

‫ولعل الدكتور العثيمين أنموذج بارز على الشخصية‬

‫االنبساطية التي لم تعش الترف فتحدّت الشظف‪ ،‬كما تحدى‬

‫إبعاده عن التعليم في مرحلتين فاصلتين خالل دراستيه الثانوية‬

‫‪115‬‬


‫شخصيات‬

‫والجامعية فلم يستسلم ولم ينكفئ‪ ،‬مثلما تحدى بواعث‬ ‫الوظيفة الميسرة حين تهيأ له أن يكون معلمً ا في المرحلة‬

‫االبتدائية بالمدرسة الفيصلية عام (‪1378‬هــ‪1958 /‬م)؛ إذ لم يمكث‬ ‫غير أشهر فيها بالرغم من توفيرها دخلاً معقولاً يمكن أن يكفيه‬

‫قصيدته الذائعة (عودة الغائب) التي سمّى بها أحد دواوينه‬

‫النتائج التي توصل إليها‪ ،‬وكان يعرف صعوبة إقناع العامة بها‪،‬‬

‫الشعراء من أبرزهم‪ :‬عبدالعزيز المسلم‪ ،‬وإبراهيم الدامغ‪،‬‬

‫ويفيض‪ ،‬وحين ابتعث اختار مركبًا عسي ًرا ال في بحثه فقط بل في‬ ‫ونشر الحقائق التي توصل إليها‪.‬‬ ‫لاً‬ ‫عاش عبدالله العثيمين التحديات طف وفتى وشابًّا‪ ،‬وال ينكر‬ ‫دور كثيرين في حياته من خارج أسرته‪ ،‬وال ينسى في أحاديثه‬

‫وكتاباته اإلشارة إلى ما قدمه له الدكتور عبدالعزيز الخويطر ‪ -‬رحمه‬ ‫الله‪1435 -1344( -‬هـ‪2014-1925 /‬م) من عناية ورعاية حتى قاسمه‬

‫مكتبه عندما عمل سكرتي ًرا له ولمجلس الجامعة الوليدة (جامعة‬ ‫الملك سعود) التي ُفصل منها بسبب انتقاده مناهجها التعليمية‬ ‫في اللغة العربية وعودته إليها مغ ّي ًرا تخصصه ومتجهًا نحو دراسة‬

‫التأريخ‪.‬‬

‫ً‬ ‫ثالثا‪ -‬االنتماء والمبدئية‬

‫كان عمر الدكتور العثيمين ثالث عشرة سنة حين اغ ُتصبت‬

‫فلسطين عام ‪1948‬م‪ ،‬وفي عمر مقارب بدأت حركات التحرر‬

‫‪116‬‬

‫مهمتين في البحوث والدراسات واإلبداع‪.‬‬ ‫ويتجلى انتماؤه متمثلاً في عشق وطنه الكبير وحب مدينته‬

‫العربي من االستعمار اإلنجليزي والفرنسي واإليطالي؛ ففي عمر‬

‫السابعة استقلت لبنان عام ‪1943‬م‪ ،‬وفي العاشرة سوريا واألردن‬ ‫عام ‪1946‬م‪ ،‬وفي الحادية عشرة شرعت ليبيا في االستقالل عام‬

‫‪1947‬م‪ ،‬كما تزامن العدوان الثالثي عام ‪1956‬م مع استقالل السودان‬ ‫وتونس والمغرب وعمره لم يتجاوز العشرين؛ فاستيقظت‬

‫مشاعره العروبية وأيقظت شاعريته‪ ،‬وكان للثورة الجزائرية التي‬ ‫توجت باستقاللها عام ‪1962‬م دورها في حفز نصوصه وإيقاظ‬

‫الصغيرة التي قال فيها أعذب النصوص والمقاالت‪ ،‬وأشه ُرها‬

‫العشرة ولقيت أصداءً واسعة حين نشرها‪ ،‬وعارضها جمع من‬

‫وعبدالله السناني‪ ،‬وعبدالرحمن السماعيل‪ ،‬وكانت مناسبتها‬ ‫عودته من المغترب األسكتلندي عام (‪1392‬هـ‪1972 /‬م) ومطلعها‪:‬‬ ‫ُ‬ ‫طربت ماذا على المشتاق إن طربا‬ ‫ٌ‬ ‫لحظات نحوهن صبا !‬ ‫لما دنت‬ ‫وفيها‪:‬‬ ‫ُ‬ ‫مثلي بالفيحا تعلقه‬ ‫مَن كان‬ ‫َ‬

‫فال غرابة إن عانى وال عجبا‬ ‫**‬

‫وإن تأملت أزياءً تتيه بها‬ ‫َ‬ ‫البرحي والعنبا‬ ‫وجدت من بينها‬ ‫َّ‬

‫وتالحظ معارض ُته في هذا النص قصيدة نزار قباني الشهيرة‬

‫(من مفكرة عاشق دمشقي) التي كتبها عام ‪1971‬م ومطلعها‪:‬‬ ‫ُ‬ ‫فرشت فوق ثراك الطاهر الهُدبا‬ ‫ُ‬ ‫فيا دمشق لماذا نبدأ العتبا؟‬ ‫وفيها‪:‬‬

‫هذي البساتين كانت بين أمتعتي‬

‫ُ‬ ‫ارتحلت عن الفيحاء مغتربا‬ ‫لما‬ ‫**‬

‫فال قميص من القمصان ألبسه‬ ‫إال وجدت على خيطانه عنبا‬

‫مكامن ذاته المتوهجة بحب األمة والخوف عليها‪ ،‬ولعله الشاعر‬ ‫ً‬ ‫عناية بقضايا العرب المصيرية المتصلة باالحتالل‬ ‫والكاتب األوفى‬

‫فالتشابه جلي في الوزن والقافية والموضوع وبعض‬

‫التي بعث بها إلى صحيفة الجزيرة؛ حيث استقرت كتاباته األخيرة‬

‫وفيما جمع نزار بين المحورين الوطني والعروبي اقتصر‬

‫ً‬ ‫مخلصا للقضية الفلسطينية حتى خاتمة أعماله‬ ‫الصهيوني‪ ،‬فظل‬ ‫كل يوم اثنين قبل أن يتوقف في عمر الثمانين حين غلبه المرض‪.‬‬

‫ظل العثيمين ملتزمً ا بمبادئه العروبية وانتمائه اإلسالمي‬ ‫ً‬ ‫ومتحدثا لم يحد عنها‪ ،‬وقد تخلى األكثرون عن‬ ‫كاتبًا وشاع ًرا‬

‫قضية فلسطين خاصة‪ ،‬وقضايا التحرر من االستعمار الجديد‬ ‫عامة؛ فلم يخن ضميره ولم يبدل هُ ويته‪ ،‬وال يخفى هذا المحدد‬ ‫في موقفه من اللغة العربية وخوفه عليها وحرصه على التمسك‬

‫بها أمام اللغات األجنبية واالحتفاء بالعامية مع أنه شاعر مجيد‬

‫بالفصحى والعامية‪ ،‬وله مواقف مأثورة في رفض الزحف األجنبي‬ ‫ً‬ ‫مضادة‬ ‫والعامي على لغة القرآن الكريم‪ ،‬وكثي ًرا ما أخذ مواقف‬ ‫ممن يراهم يقدمون اإلنجليزية أو يحتفون باللهجات العامية على‬ ‫حساب الفصحى وإن رآهما (اللغة األجنبية واللهجة العامية)‬ ‫العددان ‪ 478 - 477‬شوال ‪ -‬ذو القعدة ‪1437‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬أغسطس ‪2016‬م‬

‫المفردات (الفيحاء – العنب – اللباس واألزياء‪ -‬االغتراب)‪،‬‬ ‫العثيمين على المحور الوطني‪ ،‬ولعل أحد المختصين يلتفت‬

‫ملتزما بمبادئه‬ ‫ظل العثيمين‬ ‫ً‬ ‫كاتبا‬ ‫العروبية وانتمائه اإلسالمي‬ ‫ً‬ ‫وشاعرا ومتحد ًثا لم يحد عنها وقد‬ ‫ً‬ ‫تخلى األكثرون عن قضية فلسطين‬ ‫خاصة‪ ،‬وقضايا التحرر من االستعمار‬ ‫الجديد عامة؛ فلم يخن ضميره‪ ،‬ولم‬ ‫هويته‬ ‫يبدل ُ‬


‫عبدالله العثيمين‪ :‬محددات الشخص ومكونات النص‬

‫لدراسة النصين الجميلين دراسة مقارنة‪ ،‬ومن وحي بحرهما‬

‫السعودي بأدواره الثالثة‪ ،‬ومنها كتبه وتحقيقاته وترجماته‪:‬‬

‫وأسماه‪( :‬غيبة العائد)‪:‬‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫رحلت ماذا على الموجوع إن عتبا‬

‫تاريخ المملكة العربية السعودية – الشيخ محمد بن عبدالوهاب‪:‬‬

‫وقافيتهما جاء نص صاحبكم الرثائي بعد رحيل العثيمين‬

‫تاريخ المملكة العربية السعودية ‪ -‬بحوث وتعليقات في‬

‫حياته وفكره ‪ -‬العالقات بين الدولة السعودية األولى والكويت –‬

‫تستجب والوع ُد منك كبا‬ ‫ناداك لم‬ ‫ْ‬

‫قراءة في كتابات عن تاريخ الوطن ‪ -‬قراءات في دراسات عن إمارة‬

‫بعود ٍة هل مضت تلك السنون هَ با‬ ‫أم أصبح العم ُر ً‬ ‫طيفا ال يصاحبُه‬

‫– نبذة تاريخية عن نجد – كيف كان ظهور شيخ اإلسالم محمد‬ ‫بن عبدالوهاب ‪ -‬لمع الشهاب في سيرة محمد بن عبدالوهاب ‪-‬‬

‫َ‬ ‫وداع أي قافي ٍة‬ ‫غادرت دون ٍ‬

‫بوركهارت عن الخيل واإلبل العربية – مواد لتاريخ الوهابيين‪،‬‬

‫َ‬ ‫يمض ٌ‬ ‫آذنت مبتهجً ا‬ ‫وقت وقد‬ ‫لم‬ ‫ِ‬

‫ُ‬ ‫يعشق الحُ لم إال خاله كذبا‬ ‫من‬

‫مكتوب بمن كتبا‬ ‫جفتك‪ ..‬هل ضاق‬ ‫ٌ‬ ‫ّ‬ ‫كل األماكن تستدعيك سي َدها‬ ‫ُ‬ ‫النخيل التي قد آذنت رطبا‬ ‫حتى‬ ‫ٌ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫عاشقها‬ ‫تشتاق‬ ‫وغزة لم تزل‬

‫هناك صارت هنا‪ ..‬ما أشرف النسبا‬ ‫مجالسهم‬ ‫مجلسنا‪ ..‬ترنو‬ ‫يرثيك‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬

‫صالح‪ ..‬مذ غاب مغتربا‬ ‫إلى أبي‬ ‫ٍ‬

‫ادعوا له في رحاب الله طيب جنى‬ ‫وانسوا عثار بياني ؛ ضاق ما رحبا‬

‫واإلشارة إلى «غزة» في النص ترمز إلى اهتمامه بقضية‬

‫فلسطين وتصادف معها أن كان بيته في حي المحمدية‬

‫الغربي بالرياض يقع على شارع غزة‪.‬‬ ‫ويتبدى انتماؤه كذلك في إخالصه لتخصصه تأليفاً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫وترجمة حيث تجاوزت مؤلفاته ثالثين كتابًا حول التأريخ‬ ‫وبحثا‬

‫آل الرشيد – معارك الملك عبدالعزيز المشهورة لتوحيد المملكة‬

‫بعثة إلى نجد – توحيد المملكة العربية السعودية – من حديث‬ ‫تأمالت في التاريخ والفكر؛ إضافة إلى ما جمعه من مقاالت‬

‫عن الوطن والتصهين والقضية الفلسطينية والهم العربي‪،‬‬ ‫ومنها‪:‬خواطر حول القضية – كتابات حول التصهين – مقاالت‬

‫عن الهم العربي – مقاالت عن قضايا عربية ‪ -‬أنت في مقاالت‬

‫‪117‬‬


‫شخصيات‬

‫عن فلسطين والعراق وقضايا مصيرية ‪ -‬عن الوطن وإليه – من‬

‫وعبدالعزيز رعاهم الله‪ ،‬وال ينسى الشاعر الراحل األستاذ صالح‬

‫األوطان بالمزاد العلني – أنت يا فيحاء ملهمتي – خواطر حول‬

‫األساتذة عبدالرحمن ومحمد‪ ،‬رحمهما الله‪ ،‬وعبدالله والدكتور‬ ‫ً‬ ‫محيطا ببعض التفاصيل‬ ‫يوسف‪ ،‬حفظهما الله‪ ،‬مما يجعله‬

‫وحي رحالت إلى خارج الوطن ‪ -‬عام من الذل واالنخداع ‪ -‬بيع‬

‫الوطن والمواطنة‪ ،‬عدا دواوينه الشعرية العشرة‪:‬بوح الشباب –‬

‫دمشق وقصائد أخرى – صدى البهجة – عودة الغائب – ال تسلني‬ ‫– عرس الشهباء وقصائد أخرى – في زفاف العروس‪ -‬ال تلوموه‬

‫إذا غضبا – مشاعر في زمن الوهج ‪ -‬نمونة قصيد‪ ،‬وهو ديوانه‬

‫العامي الوحيد‪.‬‬

‫ً‬ ‫أستاذا في جامعة الملك سعود‬ ‫يشار إلى أن العثيمين عمل‬

‫ورأس قسم التاريخ فيها‪ ،‬وكان عضوًا في بعض مجالسها‬

‫ومستشارًا في وزارتي المعارف (التربية والتعليم) والتعليم العالي‬

‫(التعليم) وفي مجلس أمناء مؤسسة حمد الجاسر وهيئات تحرير‬ ‫مجلة العرب ومجلة الدارة ورسالة الخليج‪ ،‬وعضوًا مراسلاً في‬ ‫مجمعي اللغة العربية بدمشق والقاهرة‪ ،‬وعضوًا في مجلس‬ ‫الشورى السعودي عشرة أعوام‪ ،‬وأمي ًنا عامًّا لجائزة الملك فيصل‬

‫العالمية ثالثة عقود‪ ،‬كما نال عددًا من الجوائز التقديرية‪.‬‬ ‫مكونات النص‪ :‬مواقف وحكايات‬

‫يعرف صاحبكم الدكتور عبدالله العثيمين مثلما يعرف‬

‫‪118‬‬

‫شقيقه األكبر شيخنا الراحل‪ :‬محمد‪ ،‬رحمهما الله‪ ،‬وشقيقه‬ ‫األصغر الشيخ عبدالرحمن وأوالدهم‪ ،‬رعاهم الله‪ ،‬مثلما ال ينسى‬

‫مالمح والدهم العم صالح ‪-‬غفر الله له توفي عام (‪1398‬هـ‪1978 /‬م)‬

‫كما تربطه عالقات جيدة بمعظم آل العثيمين‪ ،‬ومنهم المحقق‬ ‫المعروف الدكتور عبدالرحمن السليمان العثيمين ‪-‬رحمه الله‪-‬‬

‫(‪1436-1365‬هـ‪2014 –1946 /‬م) وأشقاؤه األساتذة محمد وعبدالله‬

‫األحمد العثيمين ‪-‬رحمه الله‪1433 -1359( -‬هـ‪2012 -1940 /‬م) وإخوته‬

‫الصغيرة عن هذه األسرة الكريمة التي أنجبت علماء ومبدعين‬

‫يستحقون الذكر والشكر‪.‬‬

‫إمكانيات لقراءة الشخص‬ ‫تخول المعرفة المباشرة للكاتب‬ ‫ٍ‬

‫والنص أكبر مما تتيحه للباحث النائي‪ ،‬وبخاصة حين ال يطغى‬

‫الجانب الذاتي على الموضوع المبحوث‪ ،‬وهو ما أتاح لقلمه‬ ‫إطالالت متعددة حول الفقيد نشرت في حياته‪ ،‬كما شارك في‬ ‫ندوة غير مسجلة بنادي الرياض األدبي وكتب مقالاً واحدً ا بعد‬ ‫وفاته التي حدثت وصاحبكم على بعد تسع ساعات طيران فكان‬

‫ألمُ الفقد كبي ًرا مثلما عبّر في مقاله الموسوم‪« :‬مسافات القلب‬ ‫وغياب القرب»؛ فالعالقة بينهما – خالل األعوام الخمسة عشر‬ ‫األخيرة ال تفهم ضمائر الفصل‪ ،‬وال الجمل المعترضة‪ ،‬وال مكان‬

‫«يسد مسدَّ» األصل؛ أفيكون قريبًا منه – طيلة فترة‬ ‫فيها لما ُ‬

‫الدكتور العثيمين أنموذج بارز على‬ ‫الشخصية االنبساطية التي لم تعش‬ ‫الترف فتحدت الشظف‪ ،‬كما تحدى‬ ‫إبعاده عن التعليم في مرحلتين‬ ‫فاصلتين خالل دراستيه الثانوية‬ ‫والجامعية فلم يستسلم ولم ينكفئ‬

‫ال يتكلف ً‬ ‫لفظا وال يتعمد إغراقً ا‬ ‫ً‬ ‫بساطة العثيمين امتدت إلى لهجته المحكية فكان ال يتكلف ً‬ ‫ً‬ ‫استعراضا‪ ،‬بالرغم من‬ ‫إغراقا‪ ،‬وال يحاول‬ ‫لفظا‪ ،‬وال يتعمد‬

‫إتقانه الفصحى وغيرته عليها وحرصه على عدم تجاوز نحوها وصرفها مثلما درَسه في النحو الواضح وشرح ابن عقيل‪ ،‬بل‬ ‫امتدت دقته إلى كتابة الشعر العامي؛ إذ كان ينعى على من يستبدل الحروف بالحركات‪ ،‬فيجيء بالواو بدل الضمة‪ ،‬وبالياء‬ ‫ً‬ ‫عوضا عن الكسرة؛ لمخالفتهم القواعد اإلمالئية‪ ،‬وخشية تأثر النشء بهم‪ ،‬ويستدعي حين كان في محاضرة بدار األوبرا‬ ‫ٌ‬ ‫متخصص باللغة العربية يلحن في قراءته فحسبل أبو صالح وحوقل وكاد يغادر اللقاء‪ ،‬وغضب ً‬ ‫ٌ‬ ‫مرة في‬ ‫وأستاذ‬ ‫المصرية‬

‫ندوة مشهودة حين وجد شبابًا ينتدون باللغة اإلنجليزية تحت الفتة عربية معروفة‪.‬‬

‫وبالرغم من أن تخصصه في تاريخ الجزيرة العربية الحديث‪ ،‬وإذ يدور الحديث حول أحداثه في المجالس العامة‪ ،‬فلم‬

‫يكن يتصدر الحاضرين حين يحكون فيه‪ ،‬بل ربما أعرض عمن يحاجُّ ه في تخصصه دون أن يتعالم أو يتعالى‪ ،‬بل إنه – وهو‬ ‫ًّ‬ ‫ومعتدا بمالحظاتهم‪ ،‬فجمع الشموخ والتواضع‪.‬‬ ‫الشاعر المجلي – ال يتردد في عرض نصوصه على تالميذه طالبًا رأيهم‬

‫كتب شعرًا ونثرًا في معظم األغراض إال الرثاء؛ فلم يكتب سوى قصيدة واحدة بعد وفاة الشيخ عبدالرحمن السعدي‪،‬‬

‫ومقالة عقب وفاة شقيقه الشيخ محمد‪ ،‬وعرف بوفائه ألصدقائه وحبه للناس حتى في أصعب مراحل مرضه حيث لم ينقطع‬

‫عنهم‪ ،‬فكان يزورهم ويرتاد مناسباتهم ومعه جهاز األكسجين‪ ،‬وحين اشتد به المرض واصل اإلطالل عليهم مع بقائه في‬

‫العددان ‪ 478 - 477‬شوال ‪ -‬ذو القعدة ‪1437‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬أغسطس ‪2016‬م‬


‫عبدالله العثيمين‪ :‬محددات الشخص ومكونات النص‬

‫مرضه ‪ -‬ثم ينأى عنه ساعة الوداع؟‬

‫القرب ال يحقق الحياد كما ال يحققه االبتعاد‪ ،‬فجاء حزنه‬ ‫ً‬ ‫مكثفا‪ ،‬ويستعيد موقعه على شرفة غرفة‬ ‫على رحيل الرمز‬

‫ما حفزه إلى االقتراب من دائرته؛ فضمت الفقيد وصاحبكم‬

‫لقاءات عامة وخاصة أكدت تواضعه وبساطته التي رآها في‬

‫عيون الكثيرين المعجبين بهذا الـ«أبي صالح» الذي تحقق له –‬

‫«فندق فيرمونت في جاكرتا» والشمس تؤذن بالغياب وهو يصور‬

‫كما سبق أن كتب‪ -‬أن يصعّ ر خده ويختال في مشيته ويضع‬

‫أقسى الغياب»‪.‬‬

‫ظاهرة وغترته مرمية بجانبه‪ ،‬وال ينسى ليلة شتوية مطيرة كان‬

‫لقطتها غير العابرة ويكتب على صفحات وسائطه الرقمية‪« :‬ما‬

‫يذكر لقاءهما األول عام ‪1972‬م حين كان أقرب إلى‬ ‫ً‬ ‫ضيفا‪ ،‬ولم يكن‬ ‫الصبا ووالدُ ه – سلمه الله – يوصيه أن ينتظر‬

‫َ‬ ‫َ‬ ‫حديث العودة‬ ‫المنتظر في «أصيل» يوم احتفائي إال أبا صالح‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫جلية عنه أكثر من أنه كان معتدل‬ ‫صورة‬ ‫من بعثته‪ ،‬وال يملك‬

‫الطول ذا لحية سوداءَ مبتسمً ا ودودًا؛ فتفرغ الفتى لدوره‬ ‫«الخِ دمي» في صب الشاي والقهوة‪ ،‬وتقديم الماء والفاكهة‪،‬‬

‫لحديث يحسبه ثر ّيًا‪ ،‬فلم تستوعب‬ ‫وهو ما حال دون اإلنصات‬ ‫ٍ‬ ‫ذاكرته منه شي ًئا‪.‬‬ ‫ال يضيف كثي ًرا إلى ما سبق أن سطره حول العثيمين‬

‫حاجبًا وسكرتيرين‪ ،‬فإذا به متربعٌ فوق كرسيه ونصف ساقه‬

‫لصاحبكم فيها لقاء مفتوح بمكتبة الملك عبدالعزيز العامة‬ ‫شرقي الرياض حول تجربته في القراءة‪ ،‬وفوجئ بمجيء‬

‫الدكتور العثيمين من منزله غربي العاصمة‪ ،‬وال يزال يرى‬ ‫تعليقا طويلاً‬ ‫ً‬ ‫حضوره تاجً ا يعتمره؛ إذ لم يكتف بذلك‪ ،‬بل علق‬ ‫ً‬ ‫لطيفا‪ ،‬وما كان التلميذ سيضيف إلى األستاذ لكنه طبعه اإليثاري‬

‫ال يتنازل عنه بالرغم من المشقة وعدم الجدوى‪ ،‬وبالمثل فقد‬ ‫كان يلقي نصوص بعض أصفيائه في المناسبات العامة إذا تعذر‬

‫حضورهم‪ ،‬وهو مسلك ال يقوم به إال الكبار‪.‬‬

‫فيستعيد بعض ما كتبه عنه‪ ،‬ويذكر في هذا المقام‬

‫أن والده قد حكى له عن ميز ٍة في أبي صالح‪ ،‬وهي‬

‫مهارة اإلصغاء الصامت‪ ،‬فال يدخل النقاش في أوله‬

‫حتى إذا تكلم جاء حديثه مستوعبًا ما قيل ومبر ًزا‬ ‫أجمل ما في الجلسة من آراء‪ ،‬فبدا حكيمً ا رزي ًنا غير‬

‫متعجل في أحكامه ومحاكماته‪ ،‬وكان الوالد يمتنّ له‬

‫حين يجيء ذكره؛ فهو –مع آخرين– ذو الفضل في إقناعه‬

‫بترك العمل بجدة وإكمال تعليمه الثانوي والجامعي‪.‬‬

‫كفلت هذه الصور تجذير صورة جميلة في ذهن الناشئ‬

‫تبدّى منها العقل والهدوء والعصامية وحب اآلخرين‪ ،‬وهو‬ ‫سيارته‪ ،‬وبعدما أعيته الحركة فتح باب بيته بشكل يومي «بين العشاءين»‪ ،‬واشتد به المرض فاختصر الجلسة في يومين‪،‬‬

‫ثم اقتصرت على األدنين منه حيث لم يكن يستطيع الكالم فحملت نظرات عينيه الذابلتين الموحيتين مشاعر الحب واالمتنان‪.‬‬ ‫ً‬ ‫زاهدا في الثناء بالرغم من كثرة ما كتب عنه أو أُلف حوله‪ ،‬وفي مجلسه الكبير ال وجود إال لقطعة من ثوب الكعبة‬ ‫كان‬ ‫كرمه بها الشيخ عبدالمقصود خوجة ودرع تقديرية قدمتها إليه مؤسسة الملك فيصل الخيرية‪ ،‬وقبل أن يُعييه التواصل‬ ‫حمل إليه صاحبكم الجزء السادس من سلسلة (من أعالم الثقافة السعودية) الذي نشرته «الجزيرة» ضمن إصداراتها‬

‫الثقافية‪ ،‬وفيه فصل عنه يوثق الملف الذي أصدرته مجلة الجزيرة الثقافية تحت عنوان‪( :‬عبدالله العثيمين الشاعر – المؤرخ‬ ‫ً‬ ‫مؤلفا ضخمً ا‪ ،‬فكان محرجً ا؛ إذ لن ينشره بنفسه أو عن طريقه ولن ير َّده‬ ‫– األمين) وسبق أن كتب عنه الدكتور أحمد مطلوب‬ ‫ً‬ ‫متسمة بتواضعه وانعدام‬ ‫إلى كاتبه‪ ،‬ولو شاء لوجد دور نشر عديدة ستتولى أمره‪ ،‬كما كانت تعامالت الفقيد مع دور النشر‬

‫اشتراطاته المادية‪ ،‬وال تزال لديه نصوص شعرية ومقاالت وقصائد ورسائل إخوانية‪ ،‬فلعلها ُتجمع قريبًا‪ ،‬ويضاف إليها –في‬

‫كتاب مستقل– ما قيل عنه قبل وبعد رحيله مما لم ير النور بعد‪.‬‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫وبعد‪ ..‬سيبقى الدكتور عبدالله العثيمين وسمً ا عروبيًّا ومؤرخا موضوع ًيا ومواطنا صادقا وإنسانا بسيطا سعى لنفسه‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫دموع الراثين ودعوات المحبين‪ ،‬مثلما يستحق قراءة شخصه ونصه‬ ‫وقدم نفيسه‪ ،‬ورحل مطمئ ًنا إلى أنه بذل ما استحق به‬

‫رمز علمي وإبداعي ووطني عاش ثم غاب كما يعيش ويغيب الكبار‪.‬‬ ‫بمنهجية تدع أمام األجيال حكاية ٍ‬ ‫السيرة شخص ونص‪.‬‬

‫‪119‬‬


‫شخصيات‬

‫عبدالله الشبل‪..‬‬ ‫اإلداري واإلنسان‬

‫محمد بن عبدالرحمن الرب ِّيع‬ ‫أكاديمي وأديب سعودي‬

‫في هذه المقالة القصيرة عن األستاذ الدكتور عبدالله بن يوسف الشبل –رحمه الله– لن أكتب عن الشبل العالم‬ ‫ًّ‬ ‫مهما في حياته‪ ،‬وهو الجانب اإلداري واإلنساني‪ .‬وقد عرفت أستاذنا الجليل‬ ‫والمؤرخ لكني سأتناول جانبًا‬

‫ً‬ ‫مدرسا في (معهد الرياض‬ ‫الدكتور‪ :‬عبدالله بن يوسف الشبل ‪-‬رحمه الله‪ -‬أول مرة عام (‪1391‬هـ) عندما كنت‬ ‫إلي تدريس مادة (التاريخ) مع أن تخصصي في اللغة العربية‪ ،‬وكان الشبل قد ّ‬ ‫أعد مذكرة‬ ‫العلمي)‪ ،‬وأسند ّ‬

‫‪120‬‬

‫تحولت بعد ذلك إلى مقرَّر دراسي للتاريخ‪ ،‬وعند تدريسي إياها للطالب اكتشفت عقلية فذة تنظر إلى أحداث‬ ‫العبر‬ ‫التاريخ بعين الناقد البصير‪ ،‬فال تكتفي بسرد الحوادث إنما تهتم بتحليل األحداث وتعليلها‪ ،‬واستنباط ِ‬

‫منها‪ ،‬وربطها بأحداث العصر‪ ،‬وكانت تلك المذكرة تؤرخ للحروب الصليبية‪ ،‬وتمتد إلى بدايات العصر الحديث‪.‬‬ ‫كانت امتحانات الثانوية للمعاهد العلمية مركزية؛ توضع‬

‫لشخصية ما‪ ،‬ويحاول الرتكيز عىل معرفة لوازمها‪ ،‬ثم تطبيقاتها‬

‫الرياض من جميع املعاهد‪ ،‬ويتم التصحيح بوساطة لجنة ثالثية‪،‬‬

‫الزمة تحكم تصرفات اإلنسان‪ ،‬وتوجه سلوكه‪ ،‬وتكشف عن‬

‫األسئلة بوساطة (إدارة االمتحانات) وتحمل أوراق اإلجابة إىل‬ ‫فكان اللقاء مع الشبل يف لجنة تصحيح مادة التاريخ‪ ،‬واستغرق‬

‫العمل عشرة أيام‪ ،‬عرفت فيها أستاذنا الشبل فإذا هو املؤرخ‬

‫الثبت والعالم الجليل واملربي الفاضل‪ ،‬يتسم بالهدوء والتواضع‬

‫وحسن الحديث‪ ،‬ودارت بيننا أحاديث يف أمور شتى‪.‬‬ ‫نموذج إنساين فريد‬

‫لقد كانت تلك األيام العشرة كافية ألتعرف إىل نموذج‬

‫العملية عندما تتحول من فكرة وشعار إىل برنامج عمل وسمة‬ ‫منهجه يف الحياة وأسلوبه يف اإلدارة‪ .‬وال أريد أن أتقمص دور‬ ‫املحلل النفيس والراصد اإلداري ولست قادرًا عىل ذلك‪ ،‬لكني‬

‫أصف عن قرب وأروي عن معرفة وأرصد عن طول مالزمة ملعايل‬

‫الدكتور الشبل‪ ،‬وقد أنجحُ وقد أخفق‪ ،‬ولكنها يف كل األحوال‬

‫محاولة ومقاربة‪.‬‬

‫من صفاته األناة والروية‪ ،‬وعدم االستعجال يف الحكم‬

‫عىل األشياء أو اتخاذ القرارات املتسرعة‪ .‬فهو يستمع إىل جميع‬

‫إنساين فريد وفاتحة عالقة استمرت أكرث من خمس وأربعني‬ ‫ً‬ ‫أستاذا يف الجامعة‪،‬‬ ‫سنة‪ ،‬ومنذ ذلك التاريخ لم تنقطع عالقتي به‬

‫دقة وتفصيل‪ .‬وهنا ال بد أن نستحضر أنه مؤرخ منصف يحكم يف‬

‫منه‪ ،‬رحمه الله رحمة واسعة‪ .‬وما سأذكره يف هذه العجالة إنما‬

‫تعرض عليه يف الجامعة‪.‬‬

‫ثم أمي ًنا عامًّا‪ ،‬فوكيلاً فمدي ًرا للجامعة‪ .‬تاريخ طويل من العالقة‬ ‫الحميمية‪ .‬يحكمها نصح وإرشاد وتوجيه بلطف وَأُ ُبوَّة صادقة‬ ‫هو رصد صادق ومحاولة جادة لتع ُّرف مفاتيح شخصية الشبل‬

‫وأسلوبه الحكيم يف التعامل مع اإلنسان‪.‬‬

‫ومفاتيح الشخصية اإلنسانية واألبواب التي يلج منها املحلل‬

‫العددان ‪ 478 - 477‬شوال ‪ -‬ذو القعدة ‪1437‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬أغسطس ‪2016‬م‬

‫اآلراء‪ .‬ويجيد اإلنصات واالستيعاب‪ .‬ويدرس أبعاد القضية بكل‬

‫قضايا التاريخ بناءً عىل الشواهد واألدلة‪ ،‬وال شك أنه استفاد من‬ ‫ً‬ ‫تاريخا مفصلاً لكل قضية‬ ‫تخصصه يف التاريخ مما جعله يرصد‬ ‫وبعد هذا الرصد الدقيق‪ ،‬والتحليل العميق‪ ،‬واستشارة كل‬

‫األطراف دونما احتقار لصغري أو دنو مرتبته أو رتبته‪ ،‬وال انخداع‬

‫بمجامل أو منافق أو مخادع‪ ،‬وبعد كل ذلك يأيت القرار‪ .‬فإذا‬


‫وفق فيه فذلك فضل الله‪ ،‬وإن لم يكن كذلك فله أجر االجتهاد‬ ‫واإلخالص والنية الطيبة‪ .‬ومن صفاته –رحمه الله– الحلم‬ ‫والتواضع والبعد من الغرور والتعايل‪ ،‬فلم أسمعه يومً ا وقد رفع‬

‫صوته عىل موظف أو مراجع‪ .‬ولم أره وهو يدير املجالس والحوارات‬ ‫قد َ‬ ‫ً‬ ‫متحدثا‪.‬‬ ‫تعالمَ أو ادعى االنفراد باملعرفة أو سفه رأيًا‪ ،‬أو احتقر‬ ‫وهنا أقف عند عالقته –رحمه الله– بجميع منسوبي الجامعة‬

‫بعد أن ترجل عن كريس القيادة وتخفف من هموم اإلدارة‪ .‬هل‬

‫انقطعت عالقتهم به؟! هل هي عالقة مصلحة ومنصب؟!‬

‫عالقة رئيس ومرؤوس؟! ال –والله– والدليل املشاهد هو‬

‫جلسته الشهرية واملناسبات االجتماعية والدينية يف األعياد‬ ‫وغريها‪ .‬هنا نجد الجميع صغارًا وكبارًا يذهبون إليه بمحبة‬

‫واحرتام‪ .‬فاملنصب عرض زائل‪ .‬أما املحبة واالحرتام فمستقرة يف‬ ‫القلوب‪ .‬وإذا أحب الله عبدً ا حبّب خلقه فيه‪ .‬وتلك من عاجل‬

‫بشرى املؤمن‪.‬‬

‫متعدد املواهب‬

‫به‪ ،‬وتذليل العقبات بسالسة عجيبة ونقاشات وحوارات مهذبة‪،‬‬ ‫إيل أمر متابعة امليزانية‪ ،‬وزودين بنصائح ثمينة‬ ‫وبعد ذلك أوكل ّ‬

‫تكتب بماء الذهب استفدت منها وقت عميل معه وبعد أن ترك‬

‫وأستاذنا الشبل متعدد املواهب واملعارف لم يحصر نفسه‬

‫العمل وجاء أخي معايل الدكتور محمد بن سعد السالم إلدارة‬

‫ً‬ ‫تخصصا آخر ربما ال يخطر عىل البال وهو (الهندسة)‬ ‫وسأذكر هنا‬

‫ذكر شهادة للتاريخ هي أنه مع االعرتاف بالفضل ملعايل الدكتور‬

‫يف التاريــخ لكنه ذو ثقافة شرعية عالية ومعرفة إدارية متميــزة‪.‬‬

‫فقد أشرف وتابع إنشاء (املدينة الجامعية لجامعة اإلمام) وهي‬ ‫مدينة جامعية عىل أحدث طراز عاملي‪ ،‬بل هي مفخرة من مفاخر‬ ‫بالدنا الغالية‪.‬‬

‫وقد أشرف عىل هذا العمل الجبار معايل الدكتور الشبل‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫تخطيطا‬ ‫تخطيطا أكاديميًّا‪ ،‬ثم‬ ‫منذ أن كانت املدينة فكرة‪ ،‬ثم‬ ‫ً‬ ‫تنفيذا ومتابعة‪ .‬ولقد عملت معه يف (هيئة‬ ‫هندس ًّيا وعمران ًّيا‪ ،‬ثم‬

‫املشروعات) فكان الزمالء املهندسون أعضاء هيئة املشروعات‬ ‫يرجعون إليه يف كل صغرية وكبرية‪ ،‬فيجدون املعلومة حاضرة يف‬ ‫ذهنه والرأي السديد متكاملاً يف تصوره‪.‬‬

‫يف أول عام يل يف وكالة الجامعة جاء وقت مناقشة مشروع‬

‫ميزانية الجامعة لدى وزارة املالية‪ ،‬فذهبت معه للمرة األوىل‬ ‫لوزارة املالية‪ ،‬ووقفت عىل مكانته لدى مسؤويل الوزارة وترحيبهم‬

‫أعد مذكرة تحولت بعد ذلك إلى‬ ‫الشبل ّ‬ ‫مقرر دراسي للتاريخ‪ ،‬وعند تدريسي‬ ‫َّ‬

‫إياها للطالب اكتشفت عقلية فذة تنظر‬ ‫إلى أحداث التاريخ بعين الناقد البصير‪،‬‬ ‫فال تكتفي بسرد الحوادث إنما تهتم‬ ‫بتحليل األحداث وتعليلها واستنباط العبر‬ ‫منها وربطها بأحداث العصر‬

‫الجامعة‪ ،‬فكنا نسري عىل خطا وتوجيهات الشبل‪ ،‬وهنا ال بد من‬ ‫عبدالله بن عبداملحسن الرتيك يف تطوير الجامعة ويف إنشاء املدينة‬ ‫الجامعية الرائعة لها؛ إال أن دور الشبل يجب أن يذكر ويشكر‬

‫فهو الوسيط دائمً ا مع وزارة املالية‪ ،‬وهو الذي يمهد لالعتمادات‬ ‫املالية الضخمة لبناء املدينة الجامعية بأسلوبه السلس وعالقاته‬

‫ومرونته ومتابعته الدقيقة لكل مراحل التخطيط والتنفيذ‪.‬‬

‫التسامح وتجاوز الصغائر‬ ‫لاً‬ ‫وقد تعلمت من معاليه –وبخاصة عندما أصبحت وكي له‬

‫يف الجامعة ومالزمً ا له يف العمل اليومي– وحاولت االقتداء به‬

‫والسري عىل نهجه يف إدارة العمل‪.‬‬

‫تعلمت منه الحلم واألناة والروية فلم أره يومً ا يظهر غضبه‪،‬‬

‫وإن كان يغيل من الداخل‪ ،‬وتلك صفة مدحها الله يف كتابه‬ ‫العزيز‪{ :‬و ْ‬ ‫َال َكاظِ مِ نيَ ْال َغي َْظ} (آل عمران‪.)134 :‬‬ ‫وتعلمت منه العفو والتسامح وتجاوز صغائر األمور مع من‬ ‫زل أو أخطأ أو تجاوز حدوده متمثلاً قوله تعاىل‪{ :‬و ْ‬ ‫ّ‬ ‫َالعَ ا ِفنيَ َعنْ‬

‫ً‬ ‫ومطبقا لقاعدة‪« :‬إن تخطئ يف العفو‬ ‫اس} (آل عمران‪)134 :‬‬ ‫ال َّن ِ‬ ‫خري من أن تخطئ يف العقوبة»‪ .‬وتعلمت منه الحرص عىل اإلحاطة‬ ‫بكل جوانب املوضوع املطروح للنقاش وكأنه يف كل قضية تناقش‬ ‫تاريخا لها منذ أن بدأت حتى ييسر الله لها اًّ‬ ‫ً‬ ‫حل وفرجً ا‪.‬‬ ‫يكتب‬

‫وتعلمت منه التواضع الذي يزينه ويزيد من قدره‪ ،‬ومن تواضع‬ ‫لله رفعه‪ ،‬ومن تواضع للخلق أحبوه وقدروه‪ ،‬فكان عظيمً ا يف‬ ‫تواضعه ونبل أخالقه‪ .‬رحم الله الشبل وأسكنه فسيح جناته‪.‬‬

‫‪121‬‬


‫شخصيات‬

‫مطاع صفدي‬ ‫قامة فكرية عالمية خسرناها‬ ‫تهاني سنديان‬ ‫كاتبة وأكاديمية لبنانية‬

‫‪122‬‬

‫من بوابة األدب الروائي والقصصي والمسرحية‪َ ،‬د َلف مطاع صفدي إلى مدارات الفكر القومي العربي والفلسفة‬ ‫الوجودية‪ ،‬واستطرا ًدا خ ّوض في فلسفة النيتشويين الجدد‪ ،‬الذين ّ‬ ‫غذوا أطروحاتهم الماركسية غير التقليدية‬ ‫ّ‬ ‫متجددة من أسئلة الحداثة‪ ،‬وما بعد الحداثة‪ ،‬وعلى رأسهم الفالسفة‪ :‬ميشيل فوكو‪ ،‬وجاك دريدا‪،‬‬ ‫بأمداء‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫كتابي الحقا على حساب ما كان قد انتهجه‬ ‫خيار‬ ‫وغيل دولوز‪ ،‬وهربرت ماركوز‪ ،‬فبرع ُمفكرنا فيما انتهجه من‬ ‫ّ‬ ‫ٍ‬ ‫ً‬ ‫سابقا‪ ،‬وإن كان قد م ّهد للفكر القومي العربي في األساس‪ ،‬عبر روايته الواقعية‪« :‬جيل القدر» عام ‪1960‬م‪ ،‬التي‬ ‫ينتهي فيها البطل المؤمن بالوحدة العربية (ذكر أكثر من مرة أن هذا الشاب قد يكون هو‪ ،‬أو أي واحد من جيله‬ ‫العروبي بالضرورة) بخيبة األمل بالوحدة المصرية السورية‪ ،‬التي قامت أركانها عام ‪1958‬م‪ ،‬أي قبل انفراط‬ ‫ّ‬ ‫المحصلة يعد مفكرنا تجربته في حزب البعث‬ ‫عقدها عام ‪1961‬م‪ ،‬ويستمر بالنواح عليها فيما بعد كذلك‪ .‬وفي‬ ‫السوري أولاً ‪ ،‬ثم في نظيره العراقي ثانيًا‪ ،‬لم تفشل فقط‪ ،‬إنما كانت ً‬ ‫درسا له لن يكرره ثانية البتة؛ والسبب كما‬ ‫ّ‬ ‫مستبدين‪ ،‬من غير المنصف مقارنة ما قاموا به من فظائع‬ ‫يفيد‪ ،‬هو تعسكر الحزب‪ ،‬وتح ّول قادته إلى طغاة‬ ‫وأهوال‪ ،‬مع ما قام به أولئك الذين وصموهم بالرجعية والعمالة لالستعمار‪.‬‬ ‫لكن مطاع صفدي (‪2016 – 1929‬م)‪ ،‬ا ّ‬ ‫ملفكر العربي السوري‪،‬‬

‫حتى وهو مندمج بالسؤال الحدايث الغربي‪ ،‬وبالبحث عن‬

‫آخر يوم من حياته عىل إيمانه املطلق بالفكر القومي العربي‪،‬‬ ‫وفلسفة حتمية نهضة األمة العربية من جديد‪ ،‬حتى لو تم ّزق‬

‫مطاع صفدي عن عقله القومي‪ ،‬وال عن بصريته العروبية‪ ،‬ولم‬

‫الذي رحل عن هذه الفانية يف السادس من يونيو املايض‪ ،‬أي يف‬ ‫أجواء الذكرى الـ ‪ 49‬لهزيمة الخامس من يونيو ‪1967‬م‪ّ ،‬‬ ‫ظل حتى‬

‫جسدها شلوًا شلوًا عىل مذبح املتآمرين عليها من كل حدب‬ ‫وصوب‪.‬‬

‫الحقيقة‪ ،‬من خالل تأثره «بمنهج إرادة املعرفة» و«آليات فضاء»‬ ‫ّ‬ ‫يتخل‬ ‫ما بعد الحداثة‪ ،‬الذي دار فيه ميشيل فوكو طويلاً ‪ ،‬لم‬

‫ير يف ذلك أيّ تناقض حسبما أفادين (كان هو أحد موجّ هي رسالتي‬

‫األكاديمية لنيل شهادة الدكتوراه يف الفلسفة)‪« :‬فأنا أبحث‬

‫عن ذايت وهويتي كشعب يريد أن يشارك يف املصري العاملي‪ ،‬وال‬ ‫ّ‬ ‫تتخطى البعد‬ ‫يمنعني ذلك من الخوض يف أي تجارب فلسفية‬ ‫القومي والهويّايت يف طبيعتها ومآالتها‪ ،‬بل أشعر أن من واجبي‬ ‫كعربي أن أخوض يف تلك التجارب الفلسفية الفاعلة واملتفاعلة‪،‬‬ ‫وأستوعبها‪ ،‬وأنقدها يف‬ ‫الصميم‪ ،‬كرمي تصويب‬ ‫معركتي الكيانيّة من أجل‬

‫الحرية بإزاء االستبدادين‪:‬‬ ‫الداخيل والخارجي»‪.‬‬

‫من هنا رأينا مطاع‬

‫صفدي‬

‫ينشغل‬

‫مع‬

‫مثقفني وناشطني عرب‬ ‫آخرين يف مشاريع فكرية‬

‫العددان ‪ 478 - 477‬شوال ‪ -‬ذو القعدة ‪1437‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬أغسطس ‪2016‬م‬


‫وفلسفية جدّية‪ ،‬صدر حولها كتب وأبحاث ودراسات ومقاالت‬

‫الكاسحة عىل فرض «ذوقه الفني» يف مكانه‪ ،‬ويف أمكنة اآلخرين‬

‫«الفكر العربي» أيام كان يُشرف عىل إدارة «معهد اإلنماء العربي»‬

‫وميشيل فوكو الذي هو أحد فرسان ما بعد الحداثة الكبار‬ ‫يف فرنسا والعالم‪ّ ،‬أثر انقالب ًّيا ً‬ ‫أيضا‪ ،‬حتى يف الجيل الفلسفي‬

‫عدة‪ .‬كما رأيناه يُصدر من قبل مجلة فكرية متميزة للغاية‪ ،‬هي‬ ‫يف بريوت‪ ،‬الذي كان يعمل يف عداد طاقمه مفكرون لبنانيون‬

‫وعرب مرموقون؛ أمثال‪ :‬د‪ .‬وضاح شرارة‪ ،‬د‪ .‬أحمد بيضون‪،‬‬ ‫د‪ .‬غسان سالمة‪ ،‬د‪ .‬حافظ قبييس‪ ،‬د‪ .‬منذر لطفي‪ ،‬د‪ .‬محمد‬

‫الدبس‪ ،‬وغريهم‪.‬‬

‫بعدها ترك مطاع صفدي هذا املعهد‪ ،‬ليؤسّ س «مركز‬ ‫اإلنماء القومي» يف العاصمة اللبنانية ً‬ ‫أيضا‪ ،‬ويُصدر مجلة فكرية‬

‫عىل السواء‪.‬‬

‫الشبابي الجديد‪ ،‬الذي عرفناه مطالع القرن الحايل‪ ،‬الذي بدأ‬

‫يؤسس إلعالنه عن «موت ما بعد الحداثة»‪ ،‬وقيام تيار «بعد ما‬ ‫بعد الحداثة»‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫من هنا بعد‪ ..‬وبعد‪ ،‬س ّر تعلق مطاع صفدي بميشيل فوكو‪،‬‬ ‫كفيلسوف اللحظة الراهنة واملستقبلية عىل قاعدة الحفر يف‬ ‫املايض‪ ،‬واستخالص دروسه العميقة‪ .‬كما ّ‬ ‫تعلق صفدي بفوكو‬

‫ّ‬ ‫ومجلة أخرى‬ ‫طليعية تحت عنوان‪« :‬الفكر العربي املعاصر»‪،‬‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫تأليفا وترجمة‪ ،‬حملت عنوان‪« :‬العرب‬ ‫مختصة بالفكر الغربي‪،‬‬

‫ألسباب عربية ً‬ ‫ً‬ ‫خصوصا أن الفيلسوف الفرنيس الكبري‪ ،‬كان‬ ‫أيضا‪،‬‬

‫املقتدرين‪ ،‬أغلبهم من دول املغرب العربي‪.‬‬

‫بوفوار‪ ،‬وأندريه غلوكسمان وغريهم‪ ،‬تنديدًا بالجريمة العنصرية‬

‫والفكر العاملي»‪ ،‬شاركه فيها لفيف من الك ّتاب واملرتجمني العرب‬

‫قد نزل إىل الشارع عام ‪1971‬م ومعه جان بول سارتر‪ ،‬وسيمون دو‬

‫يف هذه املرحلة كان مطاع صفدي قد تش ّرب الفكر الفلسفي‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫وانشق عنه‬ ‫األخص‪،‬‬ ‫الغربي الحديث‪ ،‬بوجهه الفرنيس عىل‬

‫التي لحقت بالشاب الجزائري جالل بن عيل‪ .‬وكان فوكو يف طليعة‬ ‫املتظاهرين الغاضبني‪ ،‬وقد تولىّ بنفسه إلقاء الخطاب التنديدي‬

‫املفهومية»‪ ،‬املواكبة آلخر انفجارات العقل الغربي يف مفاهيمه‬ ‫ّ‬ ‫وتعقد أسئلته وأزماته؛ وراح خاللها مفكرنا ينقد هذا‬ ‫وإشكالياته‬

‫«ال تسمحوا للفاشية الجديدة بتفجري مخزونها األيديولوجي‬

‫بكيمياء كتابيّة جديدة‪ ،‬يمكننا تسميتها بـ«الكتابة العربية‬

‫العقل‪ ،‬بخطاباته املص ّنفة تحت الفتة الحداثة وما بعد الحداثة‪،‬‬

‫بالجريمة عرب املذياع اليدوي قائلاً أمام املحتشدين يف الشانزيليزيه‪:‬‬

‫املريض‪ ،‬واستخدام املواطنني من أصول غري فرنسية‪ ،‬كفائض‬

‫ديموغرايف ال لزوم له‪ ،‬بل هم الذين ال لزوم لهم يف مجتمعنا‪ ،‬ويف‬ ‫سائر املجتمعات اإلنسانية الواحدة»‪.‬‬

‫فأنشأ ما سمّاه «مشروع مطاع صفدي لرتجمة أمهات الكتب‬ ‫الغربية»‪ ،‬وحول ذلك كان أصدر ً‬ ‫أيضا كتبًا مهمة من بينها‪« :‬نقد‬

‫راهن مطاع صفدي عىل «ثورات الربيع العربي» يف بداياتها‪،‬‬

‫(جزآن)‪« ،‬إسرتاتيجية التسمية يف نظام األنظمة املعرفية»‪ ،‬ماذا‬

‫األرض حتى اآلن‪ .‬واتهم الغرب األمرييك باختطاف الثورات وحرفها‬

‫العقل الغربي‪ :‬الحداثة ما بعد الحداثة»‪ ،‬و«نقد الشر املحض»‬

‫يعني أن نفكر اليوم؟ وترجمة «الكلمات واألشياء» مليشيل فوكو‪،‬‬ ‫حتى صار هو (أي مطاع صفدي) أحد دعاة ما بعد الحداثة عرب ًّيا‬ ‫منخطف بميشيل فوكو الذي خلب لبّه‪،‬‬ ‫ومشرقيًّا‪ ،‬وصار أكرث من‬ ‫ٍ‬

‫ووجد فيه الفيلسوف الوحيد املستقل يف العالم خالل السبعني‬ ‫ً‬ ‫خصوصا لجهة استيعابه العميق (فوكو) ملراحل‬ ‫سنة الفائتة‪،‬‬

‫الفلسفة منذ اإلغريق إىل اليوم‪ ،‬وبكل أبعادها املثالية واملادية‪،‬‬

‫وتلك املتناغمة بني االتجاهني أو األكرث منهما‪.‬‬

‫واالستيعاب لدى صفدي هنا‪ ،‬يعني النقد الجريء‪ ،‬واملتجاوز‬

‫وال سيما يف بلده سوريا‪ ،‬لكنه خاب أمله بالنتائج املتوالية عىل‬

‫عن مسارها‪ .‬كما تحدّث عن يشء سمّاه «اقتصاد األسواق الحمر‬ ‫يف مقابل اقتصاد األسواق السود»‪ .‬وقال لو أتيح مستقبلاً ملراقب‬ ‫ِعلمي أن يتنبّه ألسرار هذه املرحلة الراهنة‪ ،‬وهي من أتعس ما‬

‫عرفه تاريخ النهوض لألمم والحضارات‪ ،‬فقد يفاجئه بروز نظام‬

‫جديد متكامل القتصاد الحروب‪ ،‬تصحّ تسميته باقتصاد الفنت‬ ‫ا ّ‬ ‫ملنظمة‪ ،‬وهو آخر ما ابتدعه عصر اإلمرباطورية اآلحادية بديلاً عن‬

‫أصناف حروبها التاريخية السابقة جميعها‪.‬‬ ‫رحم الله مطاع صفدي؛ هذا ا ّ‬ ‫ملفكر القومي العربي الحضاري‪،‬‬ ‫الذي أبى إلاّ أن يستخدم أدوات منهج البحث العلمي املحايد يف كل‬

‫امليلء‪ ،‬وشطب كل أبعاد البالدة والتنميط‪ ،‬حتى يف صيغة ما‬ ‫يُطلق بـ«الحيوية»‪ ،‬فثمة «حيوية نمطية ً‬ ‫أيضا‪ ،‬هي أخطر وأدهى‬

‫ما ّ‬ ‫سطره يف كتبه الفكرية والنقدية‪ .‬وبعدما تشبّع بكربى عناوين‬

‫بورديو‪ ،‬عالم االجتماع الفرنيس الكبري‪ ،‬من خالل حوار كان أجراه‬

‫األرض؛ صار‪ ،‬وعن جدارة‪ ،‬يستحق لقب مفكر عاملي كبري‪ .‬قبل‬

‫من أي فكر فلسفي سكوين دال»‪ ،‬كما ص ّرح بذلك فوكو لبيار‬ ‫معه األخري لصحيفة املوند يف أواخر الستينيات‪ ،‬قال بورديو‪« :‬إنه‬

‫يدين مليشيل فوكو يف نقده القاطع لتغايض املاركسية عن العوامل‬ ‫األخرى غري االقتصادية‪ ،‬والتي ال ّ‬ ‫تقل خطورة يف تأثريها عىل الفرد‬ ‫ّ‬ ‫وتسلط رأسمال‪ ،‬ومنها‪ ،‬مثالاً ال حص ًرا‪،‬‬ ‫واملجتمع من االقتصاد‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫فرض املنتج الثقايف للقوي يف املدينة‪ ،‬وتكريسه‪ ،‬عرفا ورمزا‪ ،‬عىل‬ ‫اآلخرين يف الريف‪ ،‬ال ليشء إلاّ لكون القوي يف املدينة لديه القدرة‬

‫ومتون أفكار التيارات الفلسفية واملعرفية بجدليّاتها املتغايرة عىل‬

‫رحيله بشهر تقريبًا حادثته بالهاتف‪ ،‬فأشار إىل أنه سيغادر هذه‬ ‫الدنيا‪ ،‬ولديه أمنية وحيدة فقط‪ ،‬وهي ألاّ يفقد شباب األمة‬

‫العربية الثقة بديناميات إنسانهم العربي‪ ،‬وقدراته الهائلة عىل‬ ‫بناء النهضة من جديد وفق ركائز حضارية غري مسبوقة‪ ،‬ومنطلقة‬ ‫من كل التجارب والجائحات املؤملة الراهنة‪ ...‬وذلك مهما بدا املشهد‬ ‫العام مقفلاً أو مستحيلاً ‪.‬‬

‫‪123‬‬


‫نصوص‬

‫أرض األحياء في المكان‬ ‫الدلموني ومقابره المائية‬ ‫حسن دعبل‬ ‫كاتب سعودي‬

‫في أرض األحياء كما غلغامش‪ّ ،‬‬ ‫شدتهم الحياة إلى أبدية الخلود‪،‬‬ ‫دوما عن خلودهم‪ُ ،‬م ّ‬ ‫فكانوا الباحثين ً‬ ‫دللين أطفالهم وزوجاتهم‪ ،‬ملؤوا‬

‫كروشهم باألكل‪ ،‬وشربوا من ماء الحياة ما يكفي لجعل أيامهم راقصة‬ ‫وزاهية‪ .‬غواصون لم تكن محارتهم غير لؤلؤة مستقرة في أعماق بحارهم‬ ‫القريبة‪ ،‬ولم تبتعد كتلك العشبة األبدية‪ .‬غوايتهم لؤلؤة تتراقص‬

‫في َسحر الليل‪ ،‬وأفعاهم أنثى تتلظى في سرير الشتاء ُ‬ ‫المشتعل‬ ‫باحتراقهم‪ُ ،‬يشعلون الغناء بفوانيسهم‪ ،‬ويتراقصون حبًّا في نجمة‬

‫الصبح الغائبة‪.‬‬

‫لكنهم في أرض األحياء‪ ،‬نعم أرض األحياء البعيدة عن غلغامش‪،‬‬

‫وخلود لم يبحثوا عنه بموت أو طوفان‪ ،‬وأنكيدو لم يكن ُمسجى بينهم‪،‬‬ ‫ً‬ ‫بعيدا عن زوجاتهم‪.‬‬ ‫حين باغتهم إعصار ليلي ليرميهم‬ ‫ملاّ حون بشعاع الشمس ُ‬ ‫المشرقة بأعينهم‪ ،‬حتى كأنهم من يبعث‬

‫‪124‬‬

‫لك ماهر في اصطياد الموج‪،‬‬ ‫الشمس من زرقة الماء؛ أورشنابي مالح ُف ٍ‬ ‫أورثهم حِ كمته البحرية الجتياز ّ‬ ‫الصعاب‪ ،‬ولم يأتمنهم على َمردياته‪،‬‬ ‫البحار‬ ‫وألواح‬ ‫ّ‬ ‫المي السبعة؛ وأتونابشتم سيدهم الحكيم وغواص ِ‬ ‫األزلي في أرض األحياء‪ ،‬أرضهم‪.‬‬ ‫ُترى ل َِم اختا َر أسالفي سكنهم في خاصرة البحر؟‬

‫مثني ٌّة أرضهم‪ ،‬كقوس رُمح مشدود في وجه الشمس‪ ،‬وغصن‬

‫سالم ينحني في ضوء القمر‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫قربهم نامت سالالت وتناسلت‪ ،‬ومقابر مائية شيّدت فوق مياه‬

‫ضحلة‪ ،‬وأرخبيالت تباعدت في الحروب‪ ،‬وتدانت في الفرح‪.‬‬ ‫إلى أيّ السالالت ينتمون؟‬

‫احتاروا في تشييد بيوتهم‪ ،‬حين اهتدوا إلى بقع ٍة حملت روائحهم‪،‬‬

‫ولم تكن األختام المدفونة واللقى‪ ،‬وقطع فخاريات محروقة ومتكسرة‬ ‫غير مفاتيح لكنوز أسالفهم البعيدين في تحوالتهم وأسفارهم بين‬ ‫البحار‪ ،‬ولم تكن تلك المقبرة المائية‪ ،‬إلاّ واحدة من المقابر المتناثرة‬ ‫ِ‬ ‫ّ‬ ‫متبدلة‪.‬‬ ‫داخل جزيرة تنام في حضن البحر‪ ،‬وتستفيق على صباحات‬ ‫عابرة بلون وجوه وأناس وبشر‬

‫ّ‬ ‫ومشمسون‪.‬‬ ‫أحبار‪ ،‬قديسون‪ ،‬رهبان‪ ،‬وراهبات‪ .‬مطران‪ ،‬أبرشية‪،‬‬

‫مهرّبون‪ ،‬تجار‪ ،‬غزاة‪ ،‬وباحثون عن كنوز وأمجاد‪ .‬هاربون من قسوة‬

‫بالدهم ووالتهم وملوكهم وقبائلهم وعشائرهم‪ ،‬أو ت ّواقون لخلو ٍد أبديّ‬ ‫ّ‬ ‫سطرته ألواح وكتب منزلة ووصايا آلهات‪.‬‬ ‫هل ُد ْ‬ ‫فنت تلك المد ّونات واأللواح في القبور المتناثرة؟‬

‫العددان ‪ 478 - 477‬شوال ‪ -‬ذو القعدة ‪1437‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬أغسطس ‪2016‬م‬


‫حمورابي ً‬ ‫أيضا تاق لكنوز أسالفه‪ ،‬حين فاضت مراكبه‬

‫اللهاث‪ ،‬وهم ّ‬ ‫حد ّ‬ ‫التي ستشيّد متراصة ومتقاربة ّ‬ ‫يغطون في النوم‬

‫واألثواب والفخاريات والجرار‪ ،‬وتتوارى عن األعين‪ .‬هذا هو س ُّر‬ ‫ْ‬ ‫يعرف س ّر غيابها أو تغي ِّبها عن الناس‪ ،‬ولو بطرفة‬ ‫المدافن التي لم‬ ‫الحكايات‪ ،‬وهي تتناقل أو ُتالك على األلسن‪.‬‬

‫هنا ستكون البقعة التي ستشهد تحوالتهم الجديدة‪ ،‬حتى‬

‫بحموالتها ولم تغرق‪ ،‬وهي تحمل الموتى والكنوز والحلي‬

‫بنصف إغماضة‪ ،‬حين يفترشون الرمل ويلتحفون السماء‪.‬‬

‫نسلهم حين يتكاثرون‪ ،‬تكون الحكايات س ّر أب ّوتهم وهم ّ‬ ‫يرمزونها‬ ‫ألحفادهم بكثرة الغواية في س ّر تناسلهم وغناهم وفقرهم‪ّ ،‬‬ ‫وتبدل‬

‫األسالف وهم يتنقلون في عرض البحر بأشرعتهم‪ ،‬لم يأبهوا‬ ‫لهذه األسرار التي باتت قرب أنفاسهم‪ ،‬حتى أرجلهم وهي تطأ ً‬ ‫أرضا‬

‫عن النميمة والتشهير‪ ،‬تلك عادة يتوارثها األحفاد في تنقالتهم‬

‫تتمايل بها األجساد‪ ،‬وأكف وزغاريد بأجساد البنات‪ ،‬ويعبثون‬

‫الخلود األبدي‪ ،‬أو بأرض المقابر المائية المنسية في المدونات‪.‬‬

‫حسبوها محروقة بلون رمادها‪ ،‬أو بيوتات قديمة لمذابح ديانات‬ ‫ً‬ ‫أيضا مرّت قرب بيوتهم وهم يشيّدونها بغناء ومرح‪ ،‬ورقصات‬ ‫بفخاريات تتناقلها كفوفهم أو في حضن أحفادهم‪ ،‬يرمونها في‬

‫كأسماك على صفحة الماء‪.‬‬ ‫عرض البحر سابحة‬ ‫ٍ‬ ‫ُ‬ ‫فلنشيّد منازلنا هنا‪ :‬صاح كبيرهم!‬ ‫هذه البقعة‪ ،‬نحن‪.‬‬

‫لتكن مباركة خطواتك يا‬

‫نساءنا‪ ،‬يا أمهاتنا ويا زوجاتنا‪.‬‬ ‫ليجلل الرّب العزيز تعبكم بهذه‬

‫الشمس‪ ،‬وهي تحرق سحنات‬ ‫وجوهكم كي تزداد اسمرارًا‪.‬‬

‫هذه البقعة ُ‬ ‫المنحنية على‬

‫هيئة قوس هي «فنيتنا»‪ ،‬وهي‬

‫مقامنا وطيب إقامتنا‪ ،‬فل َي ُهم‬

‫الجميع إلى ربط سفننا وقواربنا‬

‫بازدراءات بعيد ٍة‬ ‫األلقاب واألسماء‪ ،‬حتى أعدائهم وهم يصفونهم‬ ‫ٍ‬ ‫ورحالتهم أو في تبدل مهنهم وصنعتهم وطرق عيشهم‪ .‬ذاك‬ ‫ً‬ ‫تيمنا بأرض‬ ‫منعطف آخر يزلزل أرض األحياء التي أسميتها هنا‪،‬‬ ‫المكان تكثر به التالل‪ ،‬متغاوية على مشهد البحر كجذع‬

‫ملكة تبرز مفاتنها بخيالء التعفف والشبق المخفي تحت دالل‬ ‫الترف والجوع‪ ،‬إذ ينهش الجسد بلسعات أطرافه بنسمات الفجر‪،‬‬

‫وهو يودع صمت السواد بردائه‪ .‬الحكايات تتناقل أو تنقل لهم عن‬

‫مثنيةٌ أرضهم كقوس ُرمح مشدود في‬ ‫ّ‬ ‫وجه الشمس‪ ،‬وغصن سالم ينحني في‬ ‫ضوء القمر‬ ‫قربهم نامت سالالت وتناسلت‪ ،‬ومقابر‬ ‫مائية ُ‬ ‫دت فوق مياه ضحلة‪ ،‬وأرخبيالت‬ ‫ش ّي ْ‬ ‫تباعدت في الحروب‪ ،‬وتدانت في الفرح‬

‫باليابسة‪ ،‬وإنزال األطفال والنساء واألكل والفرش وما بقي من‬

‫أقوام مرّوا أو أقاموا قرب الماء‪،‬‬

‫شيّدوا المعابد‪ ،‬وتركوا القبور‪،‬‬ ‫تركوا‬

‫عاداتهم‬

‫وصلواتهم‪،‬‬

‫فتناسلت بين الناس‪ ،‬وتغلغلت‬ ‫في قيامهم وقعودهم‪ ،‬حتى‬

‫في طرق أكلهم وشربهم‪،‬‬

‫وممارسات عباداتهم‪..‬‬

‫ربما هنا –وهو يشير إلى‬

‫القبور أو التالل المحروقة‪-‬‬ ‫صاح بهم كبيرهم‪ ،‬دفنوا موتاهم وكنوزهم‪ ،‬هم من ُي َسموا‬

‫زادنا ومحارنا ولؤلئنا النفيس‪.‬‬ ‫ُشيّدت المنازل متالصقة ببعضها‪ .‬منازل بسيطة ُص ْ‬ ‫نعت‬ ‫من جريد النخيل‪ ،‬وخيوط ّ‬ ‫الليف المفتولة أسموها «المختوم»‪،‬‬

‫تتوقون بالذهاب إليه كلما جاد لكم البحر من خيراته ورزقه بعد‬

‫بموجه وزرقته‪ ،‬حيث مبتغاهم األزلي‪ .‬من بعي ٍد تتراقص النوارس‬

‫بهذا الوصف المقتضب كانت فاتحة ليلتهم األولى‪ ،‬في مكان‬

‫سهلة البناء والحمل والتنقل‪ ،‬جاورتهم سفنهم وجاورهم البحر‬

‫وتحط على «دقل» سفنهم‪ .‬تغسل أشرعتهم بياض الزبد وتل ّونه‬ ‫َ‬ ‫يرسون مراكبهم بأدعي ٍة حفظوها بالوراثة‬ ‫بنيل «بندرهم»‪ ،‬وهم‬ ‫ْ‬ ‫بعدت بهم المسافات واألزمنة‪ ،‬وتعددت وتبدلتْ‬ ‫عن آبا ٍء وأجدا ٍد‬ ‫بهم الحكايات وهم يتناقلونها من بحر إلى يابسة‪ ،‬إلى بنادر‬

‫ً‬ ‫لسماوات وبحار‬ ‫نجوما وثريات‬ ‫ودوحات‪ .‬أشعلوا بها‬ ‫ومرافئ‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫تسامرت بمواويلهم وحكاياتهم وهم يتوارون في الغبيب‪.‬‬ ‫زرقاء‪،‬‬ ‫من خلفهم تتراقص غابات من خوص النخيل‪ ،‬تتمايل بحمام‬

‫ّ‬ ‫الدوح وتغريد البالبل‪.‬‬

‫ُ‬ ‫توهن‬ ‫صوت المياه وهي تتناهى إلى أسماعهم قبل الجسد‪،‬‬

‫العطش المتربص بملوحة البحر‪ ،‬وشياطين الجوع وهي تتراقص‬ ‫على شفاه يابسة حد التشقق‪.‬‬

‫بحركة من أصبعه وهو يشير إلى حدود المنازل والبيوت‬

‫بالسومريين أو البابليين‪ ،‬هذا ما سمعته من أجدادي وأسالفي‪،‬‬

‫قرب الماء كان يطيب لهم المقام‪ ،‬هؤالء من أتوا من العراق الذي‬ ‫انتهاء موسم الغوص‪.‬‬

‫ّ‬ ‫شدوا به أوتار الحبال‪ ،‬وهم يبرّجون خطوط الطول والعرض‬ ‫ألساسات بيوتاتهم‪ ،‬وقد صبغوها بدماء ّ‬ ‫الديكة المذبوحة‬ ‫والمتعفرة بدمائها؛ كي ّ‬ ‫يحلوا ً‬ ‫أرضا ويبيحوها‪ ،‬فتطأ أقدامهم‬ ‫ُمباركة خطوهم‪.‬‬

‫منذ أن ّ‬ ‫ضل هذا ّ‬ ‫السرد خطوه أو أثر أسالفه‪ ،‬وأنا أحاول‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫جاهدا الصطياد تلك اللحظات الهاربة من ُ‬ ‫المخيّلة البعيدة‪ ،‬لهذا‬

‫الوصف الذي يتعثر بغبش ٍة من أزمانه المنسية‪ .‬أسميته بأرض‬ ‫األحياء أو األحالم‪ ،‬وهي تسمية ً‬ ‫أيضا مغبشة لِما تاقت له أرض‬ ‫األحالم أو األحياء أو دلمون الخلود‪ .‬وأعرف أن أسالفي هم ً‬ ‫أيضا‬

‫ّ‬ ‫ممن ورثوا تلك الحكمة البحرية من حكيمهم األول «أتونابشتم»‪،‬‬

‫أو من ُمنح الخلود بعد الطوفان في أرضهم المباركة‪ .‬وأعرف‬

‫أن مهنة الغوص‪ ،‬أو تلك المهنة األزلية‪ ،‬هي مهنتهم‪ ،‬وهم‬

‫‪125‬‬


‫نصوص‬

‫يورثونها ألحفادهم‪ ،‬وأن عشبة الخلود ليست بتلك العشبة التي‬ ‫تدور حولها الحكاية الخالدة في الملحمة الغلغامشية‪ .‬إنما هي‬

‫«اللؤلؤة» النائمة في محارتها التي تنام في حضن بحرهم الطاهر‪.‬‬

‫ولوال تلك ُ‬ ‫المخيلة ودورانها في فلك «أورشنابي» المالح الذي‬ ‫ً‬ ‫بعيدا بهداية الكواكب والنجوم‪ ،‬والمرديات السبعة بقدسية‬ ‫سافر‬

‫الماء‪ ،‬وما صاغته الحكاية والحكمة التي صرخت بها «سيدوري»‬ ‫سيدة الحانة وكاهنتها في وجه «غلغامش» التائه َ‬ ‫قرب حانتها‪،‬‬

‫وهو يبحث عن هداي ٍة وحير ٍة للوصول إلى أرض أسالفي؛ للبحث‬

‫عن خلوده‪:‬‬

‫إلى أين تمضي يا غلغامش؟‬

‫إن الحياة التي تبحث عنها لن تجدها‬

‫أرض األحياء‪ ،‬هي أرض أسالفي وما حملوه من جينات‬

‫مكانهم‪ .‬وما وصفته في كتاب ٍة بأنه المقبرة الدلمونية‪ ،‬أو ما أسماه‬

‫صديقي الكاتب العراقي والقاص «علي السوداني»‪ :‬بالمقبرة‬

‫َ‬ ‫حين وصفت له المكان ُ‬ ‫المتخيّل في الكتابات العراقية‬ ‫المائية‪.‬‬ ‫التي تتناول الوصف وتنشد بمخيلة األدباء أو من كتبوا «ملحمة‬

‫غلغامش» وهم يتوقون بالسفر إلى أرض األحياء‪ ،‬أرض أسالفي‪.‬‬

‫أتعثر كثيرًا في المشي‪ ،‬أو في الوصف‪ ،‬أو حتى بالمسك بأول‬

‫‪126‬‬

‫خيط من خيوط الفجر‪ ،‬وهو يفتح باب األفق من الوعي البكر‪،‬‬ ‫ٍ‬

‫لتلك المناحات العاشورية في طفولة قماطي‪ ،‬وأنا أنزعه أو أقطع‬ ‫رباطه الملفوف على جسدي الغرّ؛ ألتذكر الشيخ اآلتي من العراق‪،‬‬

‫ليحط ّفي بيتنا المتواضع والمبني من سعف النخيل‪ ،‬ويجلس بين‬ ‫فيّها ونسمات البحر الرطبة‪ .‬أسمع األناشيد بوجعها‪ ،‬وأحزانها‪،‬‬

‫وسواد ليلها الدفين‪ ،‬وتلك الحسرات المتباعدة‪ ،‬وجرّات الوجع‬ ‫ً‬ ‫الحقا في قراءاتي األولى من‬ ‫من خيوط نحيبها‪ .‬هذا ما أدركته‬ ‫روايات «غائب طعمة فرمان» في النخلة والجيران‪ ،‬وخمسة‬

‫سحر الليل‪،‬‬ ‫غوايتهم لؤلؤة تتراقص في َ‬ ‫وأفعاهم أنثى تتلظى في سرير الشتاء‬ ‫المشتعل باحتراقهم‪ُ ،‬يشعلون الغناء‬ ‫ُ‬ ‫بفوانيسهم‪ ،‬ويتراقصون ح ًّبا في نجمة‬ ‫الصبح الغائبة‬ ‫أصوات‪ .‬قبل أن أقرأ العراق القديم لجورج دو‪ ،‬أو حتى القراءات‬ ‫المتأخرة لمحمد خضير وبصرياته‪ ،‬أو مصاطب اآللهة لمحمود‬

‫جنداري‪ .‬كل ما تشكل للمكان الذي أعيش فيه وبه‪ ،‬يفتح لي هذه‬ ‫النافذة الشمالية على سعة سماواتها حتى وإن غابت نجومها‪ .‬كل‬ ‫بعيدا‪ ،‬وتغرّب بي في قراء ٍة ربما هي ً‬ ‫ً‬ ‫أيضا غائرة‬ ‫هذا األفق سافر بي‬ ‫في األديم‪ .‬تاقت روحي إلى تتبع «نابونيد» وهو يشيّد معابده‬

‫وأسواقه في تيماء ودومة الجندل ويثرب وفدك وخيبر‪ ،‬ويفتح‬ ‫أبواب التجارة ُمتغر ًبا عن بابل التي ُطرد منها‪.‬‬

‫لمكان‬ ‫أثر وكتاب ٍة‬ ‫جاورت قصر عشتار ومعبدها‪ ،‬وتتبعت كل ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫وجزير ٍة تتناثر قبورها قرب الماء‪ ،‬وهم يتغنون بفينيقيتها العابرة‪،‬‬

‫وكمن يتناسى تلك النسمات العذبة برافدينيتها األولى‪ ،‬ألبسوها‬ ‫كشراع على صارية‬ ‫ثوب ملوكيتها الفينيقية‪ ،‬ونشروا عباءة بابليتها‬ ‫ٍ‬ ‫لاّ‬ ‫السفن الفينيقية ببيارق حمراء‪ .‬أتذكر اإلنشاد بصوت «م يات»‬ ‫المآتم العاشورائية في أرض دلمون‪ ،‬وأسمع صوت أرجلهم‪ ،‬وهم‬

‫يضربون األرض بصرخات خافتة من صدورهم‪ ،‬حين اهتديت في‬

‫قراءاتي «لألكجيتو» بأيامه العشرة في أعياد النوروز‪ .‬تلك األعياد‬ ‫فتيات حُ ّدث‬ ‫التي توارت اآلن من «روزنامة» طفولتي‪ ،‬ورقصات بين‬ ‫ٍ‬ ‫ونساء طافحات بشهوة الرقص والغناء‪ ،‬وتلصص عين الطفولة‬ ‫بين الصدور ونهرها‪.‬‬

‫تلك األعياد التي تنشد بها «مالية»‬

‫دلمون في األينوما إيليش‪ ،‬قرب‬ ‫معابد بابل وشوارعها‪ .‬ذلك اإلنشاد‬

‫الدلموني هو من يشد خيط الحزن‬

‫الذي لم ينقطع‪ ،‬وبقي كما عشبة‬ ‫الخلود أو لؤلؤته النائمة في بحر دلمون‬

‫الصافي‪ ،‬أو دفن بين قبوره المتناثرة‬ ‫ومقابره المائية‪ .‬تلك األسرار التي‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫وخلدت‬ ‫خلدت هذا المكان الطاهر‪،‬‬

‫كتابتها وألواحها‪ ،‬وبيوتها التي ُشيّدت‬ ‫بألواح الملح‪ ،‬وموانئها‪ ،‬وهي ُتودع‬ ‫سفنها وملاّ حيها‪ ،‬وهم يحملون الهدايا‬ ‫والبخور والتوابل واألردية الحريرية لبالد‬

‫ما بين النهرين ومعابدها‪.‬‬ ‫العددان ‪ 478 - 477‬شوال ‪ -‬ذو القعدة ‪1437‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬أغسطس ‪2016‬م‬


‫نصوص‬

‫الحكاية كانت‬ ‫ُ‬ ‫الحكاية كانت‬ ‫ّ‬ ‫الصمت أظفارها‬ ‫تقل ُم يف هدأ ِة‬ ‫ِ‬

‫عبدالوهاب أبو زيد‬

‫ّ‬ ‫وتحد ُق يف ليل مرآتها‬

‫شاعر سعودي‬

‫نحيل‬ ‫تحت ضو ٍء‬ ‫ٍ‬ ‫زيت مشكاتها‬ ‫تس ّرب من ِ‬ ‫ليمد عليها غشا ًء كثيفاً‬ ‫َّ‬

‫ْ‬ ‫الذكريات‬ ‫من‬

‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫تعيد تفاصيلها‬ ‫الحكاية كانت‬

‫ُ‬ ‫الحكاية ُتسقى‬

‫الحكاية‬ ‫بما ِء‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫تصحر‬ ‫حتى تعيد إىل ما‬

‫وتيض ُء قناديلها‬ ‫لقلوب ُت ِّ‬ ‫رتل يف السرِّ‬ ‫ٍ‬ ‫أسما َءها والصفاتْ‬

‫الجديبة‬ ‫الذكريات‬ ‫تربة‬ ‫من‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫أشجارها‬

‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫الحكاية‬ ‫وهم‬ ‫الحكاية‬ ‫ِ‬ ‫ً‬ ‫بالبداية‬ ‫ملتبسا‬ ‫النهاية‬ ‫معنى‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬

‫ُ‬ ‫األرض‬ ‫الحكاية ُتجري عىل‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫الحكاية!)‬ ‫األرض لوال‬ ‫أتعس‬ ‫(ما‬ ‫ِ‬

‫ُ‬ ‫الحكاية ُّ‬ ‫الحكاية‬ ‫ظل‬ ‫ِ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫البعيد‬ ‫رجع صداها‬ ‫ُ‬ ‫يطرق أبوابنا‬ ‫حني‬

‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫كالشمس‬ ‫تأفل‬ ‫الحكاية‬ ‫ِ‬ ‫ّ‬ ‫لكن آثا َرها‪...‬‬

‫األمس‬ ‫وهج‬ ‫ما يتسلل من‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫صهوة املفرداتْ‬ ‫ممتطيًا‬

‫متعبًا مثقلاً‬ ‫ْ‬ ‫بالربيد‬ ‫حاملاً بني كفيه أخبا َرها‬ ‫ُ‬ ‫الحكاية‬ ‫ُت ُ‬ ‫بعث‬

‫ُ‬ ‫تخون الشفا ُه الشفاها‬ ‫حني‬ ‫ُ‬ ‫الحكاية تبقى‬

‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫العنكبوت‬ ‫نسجت فوقها‬ ‫وإن‬ ‫بيتها‪ ،‬وتالىش صداها‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫تشيخ‬ ‫ليست‬ ‫الحكاية‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫تموت‬ ‫وليست‬

‫أنهارها‬ ‫ُ‬ ‫الحكاية تؤوي الطيو َر التي بعرثتْ‬ ‫ُ‬ ‫الريح أوكا َرها‬ ‫قبضة‬ ‫ِ‬


‫تحقيقات‬

‫رموزه يلقون الرواج في الخارج ويحوزون الجوائز وتقتنصهم دور النشر‬

‫المشهد الثقافي المغربي‬ ‫بائس في المغرب‪...‬‬ ‫ومتوهج في المشرق!‬ ‫‪128‬‬

‫العددان ‪ 478 - 477‬شوال ‪ -‬ذو القعدة ‪1437‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬أغسطس ‪2016‬م‬


‫الثقافة هي في األساس تكوين اإلنسان‪ ،‬ونشر المعرفة البشرية‬

‫وبناء الدولة‪ .‬وبال شك‪ ،‬فإنها وسيلة خالص الدول التي تطمح‬ ‫إلى التقدم‪ .‬ولكن من يجب أن يقوم بدور «نقل الثقافة»؟ من‬

‫المؤكد أن الدولة هي المسؤولة بسياساتها الثقافية ووسائلها‬ ‫التنفيذية من أجهزة ومؤسسات‪ ،‬ولكن هل الثقافة ًّ‬ ‫حقا من‬

‫الضروريات األساسية للحياة البشرية؟ إن التخلي عن دور الثقافة‬ ‫في بناء المجتمع والطموح إلى فكر مستنير يفتح الباب على‬

‫سعيد بوكرامي‬ ‫الدار البيضاء‬

‫مصراعيه أمام األفكار الظالمية والعدمية وبالتالي االضمحالل‪.‬‬

‫وما يمكن مالحظته اليوم في المغرب تهميش المجتمع‬

‫المغربي للمثقفين وإنتاجهم الثقافي الحقيقي‪ ،‬في المقابل‬ ‫ينصرف االهتمام إلى الثقافة الترفيهية والسياحية‪ ،‬التي تجد‬ ‫عوامل مساعدة من المؤسسات الرسمية والفاعلين في قطاع‬

‫اإلنتاج الثقافي الذين ينجحون في تمرير وتكريس مجموعة‬

‫من أنواع التصورات الكاذبة واألفكار الخاطئة‪ .‬ومن هنا كانت‬ ‫هجرة المثقفين المغاربة بكثافة إلى أوربا وتحديدً ا إلى فرنسا‬ ‫وبلجيكا وإسبانيا وهوالندا وإيطاليا‪ ،‬بل وتوطينهم لثقافتهم‬

‫ولغتهم ثقافة ولغة أخرى ساقتهم مباشرة إلى نوع من‬

‫التغريب واالغتراب‪ ،‬لكن لحسن حظهم أن منجزهم األدبي‬ ‫والفكري القى نجاحً ا وإقبالاً وجوائز مهمة بوّأتهم تدريجيًّا‬

‫مكانة مرموقة في جغرافية األدب العالمي‪ .‬ونذكر من الرعيل‬ ‫األول الذي حط الرحال في أوربا خالل السبعينيات من القرن‬

‫الماضي‪ :‬مصطفى النيسابوري‪ ،‬والطاهر بن جلون‪ ،‬وإدريس‬

‫الشرايبي‪ ،‬وعبداللطيف اللعبي وغيرهم‪ ،‬ومن الرعيل الجديد‬

‫الذي أصبحت أقالمهم تنطق اللغات جميعها‪ ،‬نذكر فؤاد‬ ‫العروي‪ ،‬وعبدالله الطايع‪ ،‬وفؤاد الساخي‪ ،‬وليلى العلمي‪،‬‬

‫وحفيظ بوعزة وغيرهم‪.‬‬

‫إذا كانت هجرة المثقفين إلى أوربا حديثة وجاءت خالل‬

‫االستعمار أو بعده‪ ،‬فإن رحلة المثقفين إلى بالد المشرق‪،‬‬

‫متغلغلة في جذور التاريخ‪ ،‬ونجد صداها في كتابات المغاربة‬ ‫ً‬ ‫وحديثا‪ .‬هجرة األقالم المغربية إلى المشرق ليست‬ ‫قديمً ا‬

‫حديثة العهد‪ ،‬كما ذكرنا‪ ،‬لكن حضورها باألمس واليوم‬

‫وتوهجها بكثافة عددية ونوعية وحصولها على جوائز مهمة‪،‬‬ ‫يطرح أكثر من سؤال عن سبب هذه الهجرة الحديثة‪ .‬عدد من‬

‫الكتاب تناولوا هذه اإلشكالية في تحقيق لـ«الفيصل»‪.‬‬ ‫أصوات تنتقد‬

‫يقول القاص أبو يوسف طه‪« :‬من الواضح أن التقاطبات‬

‫الحزبية‪ ،‬واختالف المنظور‪ ،‬واالسترفاد مما هو سائد في‬ ‫الثقافات الغربية من منازع فكرية‪ ،‬وأيديولوجيات‪ّ ،‬‬ ‫وطأ‬ ‫لصراعات حادة في المجال الثقافي الذي ينضفر في جدائل‬ ‫مع المجال السياسي؛ ما أنشأ دوائر مغلقة (نتذكر هنا ثنائيات‬

‫الشيخ والمريد‪ ،‬والفقيه والعامي‪ ،‬والزعيم والتابع‪ ،‬ثم الطائفة‬

‫أبو يوسف طه‪:‬‬ ‫نحن أمام رجة قوية في القيم‪،‬‬ ‫وأمام سيادة البراغماتية‪ ،‬وأمام‬ ‫تداخل وتشابك القضايا والمسارات‬

‫والزاوية إلخ‪ .‬وهذه تستبد بالوعي منتسبي حتى المؤسسات‬

‫الحديثة)‪ ،‬ووضحت اصطفافات المعارضة والمواالة‪ ،‬وبحكم‬

‫التطورات الخارجية‪ ،‬تباينت المواقف‪ ،‬وهو ما انعكس سلبًا‬ ‫على تماسك الوضع الثقافي (مع غياب فعال لمبادئ وأسس‬

‫الحوار) حيث بتنا نسمع مفردات من مثل اإلقصاء‪ ،‬والتهميش‪،‬‬ ‫‪ ...‬إلخ»‪.‬‬

‫‪129‬‬


‫تحقيقات‬

‫ويتطرق أبو يوسف طه إلى دور اتحاد كتاب المغرب الذي‬

‫لعب‪ ،‬ضمن هذا الفضاء المتشنج‪« ،‬دورًا رياديًّا لبلورة اتجاه‬

‫ثقافي إيجابي‪ ،‬واكبته صحف ومجالت‪ .‬لم تكن هذه الجوانب‬

‫وحدها هي المؤثرة‪ ،‬فهناك جوانب ذات تأثير نفسي‪ ،‬تتلخص‬

‫في جنوح بعض األفراد إلى تأكيد وضعهم االعتباري بالسير‬ ‫فوق أجساد غيرهم‪ ،‬ومن باب اإليضاح اإلشارة إلى تباين حوافز‬

‫المنتسبين إلى المجال الثقافي بين ذاتية صرف‪ ،‬وذات طابع‬ ‫رسالي (االشتغال على مشروع)‪ .‬في يقيني أن األعطاب تنحصر‬ ‫وتتجلى في قاعدة الهرم ووسطه‪ ،‬وتتسم بالفجاجة واالبتذال‪.‬‬ ‫وهنا بؤرة البؤس الثقافي‪ .‬بينما ال يمكن نكران الصراع بين‬

‫التوجهات واألفكار‪ ،‬ونشدان الهيمنة على الحقل الثقافي‬ ‫وتوجيهه‪ ،‬وهو واقع يستوعب األفراد ويتخطاهم‪ .‬وتحضرني‬

‫واقعة الولي عبدالعزيز التباع الذي حسم خالفه مع غريمه‬ ‫الولي رحال الكوشي قائلاً ‪« :‬ال يمكن لثعبانين أن يسكنا في‬ ‫جحر واحد» مما حدا بهذا األخير إلى مغادرة مراكش مُ كرهً ا‬ ‫نحو أحواز السراغنة ‪ -‬زمران‪ ،‬وإقامة رباطه هناك‪ .‬وهو األمر‬

‫نفسه الجاري بأوجه متعددة اآلن‪ ،‬وهو ما يحول دون حظو‬ ‫مثقفينا‪ ،‬في الحقيقة والجوهر‪ ،‬بما يجب من احتفاء خالص‪.‬‬

‫وإذا رأينا احتفاء باألموات منهم‪ ،‬فإنما وفق قاعدة غريبة‬

‫‪130‬‬

‫منافسا)‪.‬‬ ‫(الميت ال يشكل‬ ‫ً‬

‫ويرى طه أن الصورة ليست قاتمة بالمطلق‪« ،‬نحن أمام‬

‫مراد الخطيبي‪:‬‬ ‫المهتم بالشأن الثقافي المغربي تزداد‬ ‫خيبته ويعظم اإلحساس لديه بالدونية‬ ‫والتهميش عندما يتم االهتمام بمجاالت‬ ‫أخرى ال تنتج إال الرداءة‪ ،‬وال تحقق إال‬

‫إفساد الذوق والتفاهة‬ ‫رجة قوية في القيم‪ ،‬وأمام سيادة البراغماتية‪ ،‬وأمام تداخل‬ ‫وتشابك القضايا والمسارات‪ ،‬ومع ذلك‪ ،‬وباتساع التواصل‬

‫بات الفساد واإلفساد يرتد على مقترفيه‪ ،‬وما حضور اإلنتاج‬

‫الثقافي المغربي الوازن في المشرق العربي وبأجناسه‬ ‫المختلفة‪ ،‬ومن خالل الترجمة ً‬ ‫أيضا‪ ،‬إال داللة اعتراف بتميزه‪،‬‬

‫وخصوصيته النوعية؛ ألنه يحمل اجتهادًا‪ ،‬ونكهة‪ .‬إن انفتاح‬ ‫منتجي الخيرات الرمزية من المغاربة على اللغات والثقافات‬

‫يتبدى فيما ينتجون‪ ،‬ومع مرور الوقت‪ ،‬وعودة االتزان إلى‬

‫الحياة الثقافية‪ ،‬ووضوح المرامي الحقيقية للفعل الثقافي‪،‬‬

‫سعيد يقطين ‪ :‬واقعنا الثقافي تفككت أوصاله‬

‫حساسيات تكونت في أوج الصراع األيديولوجي‬ ‫متى يمكن أن تظهر اإلمكانيات والطاقات في بلد ما؟ الجواب بسيط‪ :‬عندما يكون المناخ الذي تعيش فيه سليمً ا‪،‬‬

‫ومشجعً ا‪ .‬ولكن عندما تنتفي هذه البيئة‪ ،‬فإن من يعمل على البحث عن تلك الطاقات واإلمكانيات سيعثر عليها في المكان‬

‫الذي ال يعترف بخصوصيتها‪ .‬وينطبق هذا بصورة كبيرة على ما يجري في بلدنا ومكوناته اإلعالمية والثقافية‪ .‬إنهم يبحثون‬ ‫عن الطاقات واإلمكانيات خارج فضائهم الخاص غير ملتفتين إلى ما يتحقق داخل مجالهم‪ .‬وما يصدق في هذا المضمار على‬ ‫المؤسسات المختلفة‪ ،‬يسري مع األفراد‪ .‬وكل ما تسمعه عن «ثقافة االعتراف» و«المصالحة مع الذات» ليس سوى لغو‬ ‫يوظف ألغراض ذاتية ومكاسب خاصة‪ .‬إن واقعنا الثقافي ال تزال ُتفكك أوصاله‪ ،‬تقاليد وحساسيات تكونت في أوج الصراع‬

‫السياسي واأليديولوجي لحقبة ما بعد االستقالل‪.‬‬

‫ورغم تغير الظروف والشروط نسبيًّا ال تزال تلك الذهنية التي هي وريث تلك الحساسيات هي السائدة والمتحكمة‪ .‬لذلك‬

‫ال غرو أن نرى تقييم األعمال واألفراد تحكمه العالقات والوالءات واالنتماءات‪ ،‬وأخيرًا االنتهازية‪ .‬وكلما كان تقدير العطاءات‬ ‫مؤسسا على مثل هذه األحكام والمواقف‪ ،‬يكون البحث في الخارج أو من داخل الحلقة‪ ،‬مع العمل على إقصاء وإلغاء من‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ال ينخرط في تلك العالقات أو ال يقيم لها وزنا‪.‬‬ ‫بالنسبة إلي ال يغيظني هذا الواقع من وسائل اإلعالم‪ ،‬وال من المؤسسات الثقافية‪ ،‬وال من بعض الزمالء‪ .‬بل إني ال‬ ‫أفكر فيه وال أهتم به‪ .‬أشتغل وأعمل‪ ،‬ألني ّ‬ ‫أعد هذا قدري الذي اخترته عن وعي‪ ،‬وال تهمني ردود األفعال‪ ،‬وال أبحث عن‬

‫العددان ‪ 478 - 477‬شوال ‪ -‬ذو القعدة ‪1437‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬أغسطس ‪2016‬م‬


‫المشهد الثقافي المغربي بائس في المغرب‪ ...‬ومتوهج في المشرق!‬

‫وتطور الحاضنة الثقافية‪ ،‬ستبقى النصوص متكلمة على‬ ‫الدوام بصرف النظر عما أحاط بها‪ ،‬وبأصحابها من تعويق»‪.‬‬ ‫اإلحساس بالدونية‬

‫أما المترجم واألديب مراد الخطيبي فيرى أن المتتبع‬

‫والمهتم بالشأن الثقافي المغربي «يستشعر غياب سياسة‬ ‫ثقافية واضحة المعالم من لدن الدولة المغربية‪ .‬تزداد خيبته‬

‫ويعظم اإلحساس لديه بالدونية والتهميش عندما يتم االهتمام‬ ‫بمجاالت أخرى ال تنتج إال الرداءة‪ ،‬وال تحقق إال إفساد الذوق‬ ‫والتفاهة»‪ .‬ويقول‪ :‬إن المثقف أصبح «معزولاً‬ ‫ً‬ ‫ومنبوذا وال‬

‫تتحدث عنه الدولة إال عندما يموت أو ينخر المرض جسمه‪ .‬هذا‬ ‫ناهيك عن أعماله التي يطالها النسيان إال من قراء حقيقيين‬ ‫وباحثين يعيدون النبش في مخطوطاته ويخلقون تواصلاً‬

‫متجددًا معها‪.‬‬

‫جمال الموساوي‪:‬‬ ‫المشهد الثقافي أصبح ملي ًئا بالنفاق‪،‬‬ ‫وبمظاهر التزلف‪ ،‬وأحيانًا بنوع من الناس‬ ‫الذين يعتقدون أنهم يمتلكون الحقيقة‬ ‫كاملة‪ ،‬وأنهم وحدهم الحاملون‬ ‫لمفاتيح المستقبل‬

‫«األحزاب‪ ،‬وهنا أتكلم عن األحزاب الحقيقية مع األسف‪،‬‬

‫وغالبا ما يتم اختزال الجانب الثقافي من طرف الدولة‬

‫تراجع دورها التاريخي‪ ،‬وأصبح الشأن الثقافي ال يحتل المكانة‬ ‫ً‬ ‫عنوانا عامًّ ا‬ ‫األساسية ضمن برامجها‪ .‬ويبقى في غالب األحيان‬

‫المتعارف عليها‪ .‬هو فقط شكل من أشكال التزييف وتكريس‬

‫لتنفيذه‪ .‬أكثر من ذلك تحس بأنه برنامج انتخابي تنسخه أغلب‬

‫بكل أجهزتها‪ ،‬وكذا من بعض وسائل اإلعالم في الفن‪ ،‬وحبذا‬ ‫لو كان ف ًّنا جميلاً ويحمل كل المقومات الفنية والجمالية‬

‫ً‬ ‫وفضفاضا ال يحمل رؤية إستراتيجية‪ ،‬وال يضع آليات علمية‬

‫ثقافة الرداءة‪ .‬وخير توصيف لهذه الحقيقة هو قلة البرامج‬

‫األحزاب فقط لتأكيد حضور الشأن الثقافي ضمن برنامجها‬

‫التلفازية المخصصة للثقافة الجادة بالمقارنة مع البرامج‬ ‫المكرسة للرداءة»‪ .‬ويلفت الخطيبي إلى دور األحزاب‪،‬‬

‫األيديولوجي‪ .‬مع األسف تنازلت غالبية األحزاب عن دور‬ ‫المثقف الحقيقي المتمثل في الكاتب والشاعر والفيلسوف‬ ‫والفنان التشكيلي والمفكر وغيرهم‪ ،‬وانزاحت نحو استقطاب‬ ‫أصحاب المال من أجل «انتصار انتخابي» مؤقت ما انعكس‬

‫ذلك سلبًا في األخير على المثقف ولكن على الحزب بدرجة‬ ‫أكبر‪ .‬أمام هذا الوضع أصبح الكاتب مثلاً‬ ‫ً‬ ‫منبوذا ال يحضر‬

‫موقع وال كرسي‪ .‬وحتى‬

‫لقاءاته إال القلة‪ ،‬وأصبح الكتاب قابعً ا في رفوف المكتبات»‪.‬‬

‫في خضم انخراطي في‬

‫ويؤكد الخطيبي أن المغرب يزخر بأسماء المعة في‬

‫العمل السياسي والثقافي‬

‫مجاالت الفكر واألدب والترجمة والفلسفة وغيرها «وال يلتفت‬

‫لم تكن وراء ذلك أي رغبة‬ ‫في تحصيل منفعة أو‬

‫إليها بل ويطالها نسيان غير مفهوم‪ ،‬بينما يتم تكريمها في‬

‫سعيد يقطين‬

‫الحصول على مكاسب‬ ‫ً‬ ‫جديدا‪ ،‬ال أرغب في تعليق‬ ‫معينة‪ .‬وعندما أنشر كتابًا‬ ‫ملصق عنه في ردهات الكلية‪ ،‬وال أخبر به ً‬ ‫أحدا من الناس‪.‬‬

‫لقد انتهى عملي بإصدار الكتاب‪ ،‬أو نشر المقال‪ ،‬وعليه أن‬ ‫يبحث عن موقعه بنفسه‪ .‬وعندما يلقى ما أكتب الترحيب‬ ‫في كل الوطن العربي‪ ،‬ومن لدن الصادقين من المغاربة‪،‬‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫أحيانا‪،‬‬ ‫أعد ذلك خير عزاء‪ .‬ولكن مع ذلك‪ ،‬يح ّز في نفسي‬ ‫أن أرى زامر الحي المغربي ال يطرب‪ .‬وأقصد هنا كتابًا‬

‫ومفكرين وفنانين آخرين غيري‪.‬‬

‫ناقد‬

‫المشرق‪ ،‬ويتم التنويه بها وبأعمالها في مختلف المحافل‬ ‫الثقافية والعلمية التي تحضرها‪ .‬أكثر من ذلك بعض المغاربة‬

‫يحصدون جوائز مهمة عن جدارة واستحقاق؛ ألن هذه الدول‬ ‫تؤمن بثقافة االعتراف‪ ،‬وتولي أهمية خاصة للجانب الثقافي‪،‬‬

‫وتشجع المجتهد‪ .‬وفي المغرب ال نتذكر رموزنا الفكرية واألدبية‬

‫سعيد يقطين‪ :‬كل ما تسمعه عن‬ ‫«ثقافة االعتراف» و«المصالحة مع‬ ‫الذات» ليس سوى لغو يوظف ألغراض‬ ‫ذاتية ومكاسب خاصة‬

‫‪131‬‬


‫تحقيقات‬

‫إال عندما يواريهم التراب مع األسف»‪.‬‬

‫على حين عدّ الشاعر جمال الموساوي أن البؤس الثقافي‬

‫«الذي يرين على واقعنا جزء من البؤس المجتمعي العام‪ .‬لنقل‬

‫البؤس وجه من أوجه المزاج العام لهذا المجتمع الشكاء‬ ‫إن‬ ‫َ‬ ‫البكاء‪ .‬بهذا نكون إزاء صورة نمطية تلقي بالمسؤولية دائمً ا على‬

‫اآلخرين‪ .‬اآلخرون الذين يفترض أن يشكلوا ذلك «الجمهور» الذي‬ ‫يحلم به المثقف وتسعى الثقافة (في مفهوم ضيق) الستقطابه‪،‬‬

‫كما تفعل مجاالت أخرى مثل كرة القدم‪ .‬والحال أن المشتغل‬ ‫بالثقافة إذ يصدر هذا النوع من األحكام‪ ،‬فهو يتهرب من نصيبه‬

‫من المسؤولية فيما آل إليه المشهد من ابتذال‪ .‬إن االبتذال هنا‪،‬‬ ‫ً‬ ‫توصيفا لوضعية المشهد‬ ‫ليس حكمً ا على اإلنتاج الثقافي‪ ،‬بل‬ ‫الثقافي العام‪ ،‬الذي من سماته اختفاء السؤال النقدي الذي‬ ‫ً‬ ‫خالقا واالكتفاء بالجاهز‪ .‬لهذا مثلاً تحصل‬ ‫يتطلب جهدً ا فكريًّا‬

‫أغنية رديئة على إقبال «فظيع»‪ ،‬وتكتفي رواية أو أي كتاب أدبي‬

‫أو فكري ببيع بضع عشرات من النسخ»‪.‬‬ ‫ويقول الموساوي‪ :‬إن المشهد الثقافي «أصبح مليئاً‬ ‫ً‬ ‫وأحيانا بنوع من الناس الذين‬ ‫بالنفاق‪ ،‬وبمظاهر التزلف‪،‬‬ ‫يعتقدون أنهم يمتلكون الحقيقة كاملة‪ ،‬وأنهم وحدهم‬

‫‪132‬‬

‫الحاملون لمفاتيح المستقبل‪ ،‬وهذا ال يختلف عما لدى الكثير‬ ‫من الناس والجماعات السياسية والدينية والعرقية حيث ال‬

‫مجال لطرح األسئلة‪ .‬إنه في هذا األمر ال يكاد يختلف من يأتيه‬ ‫ً‬ ‫انطالقا من‬ ‫اعتراف من المشرق‪ ،‬أو يحاول أن يكرس نفسه‬

‫موقعه هنا‪ .‬لنتأمل المشهد ونعدد بعض الظواهر التي باتت‬

‫لصيقة به‪ ،‬وتضفي عليه مسحة بئيسة‪ .‬هناك تقريبًا في كل‬ ‫ً‬ ‫وأحيانا أكثر بين الشعر والقصة والسينما‬ ‫مدينة مهرجان ثقافي‬

‫والمسرح والموسيقا وغير ذلك من األنشطة الثقافية‪ ،‬وهذه‬ ‫الكثرة ليست بالضرورة عالمة صحية‪ .‬ثم هناك أمر قريب من‬ ‫هذا‪ ،‬وهو غزارة في اإلنتاج من الكتب والكتابات (دون مقارنة مع‬

‫اآلخرين)‪ ،‬لكن ليس هناك تطور مماثل في حجم القراءة وعدد‬

‫شعيب حليفي‪ :‬ما يقلقني اليوم هو‬ ‫استسالم المثقف المغربي وانعدام‬ ‫حماسه ألحالمه وأحالم الذين يكتب‬ ‫بأصواتهم المشهد الثقافي المغربي‬ ‫بائس في المغرب‬

‫بؤسا متعد ًدا‬ ‫شعيب حليفي‪ :‬نحن نعيش‬ ‫ً‬ ‫مفارقات المشهد الثقافي المغربي هي من مفارقات المجتمع وما يحياه من تقلبات‬

‫اجتماعية واقتصادية وسياسية‪ .‬وأعتقد أن الثقافة المغربية عرفت صدمة قوية ال يزال‬ ‫أثرها جليًّا وسلبيًّا بشكل من األشكال حينما شعر المثقفون بأن بعض أحالمهم بالتغيير‪،‬‬

‫التي هي أحالم المجتمع‪ ،‬ستتحقق مع تجربة التناوب في المغرب‪ ،‬والتي يمكن أن تكون‬

‫قد نجحت نسبيًّا على المستوى السياسي‪ ،‬ولكنها فشلت ثقافيًّا‪ ،‬وأفرزت بالتزامن مع‬ ‫ثورة معلوماتية وسيادة ثقافة البذخ والواجهة والجوائز ثقافات أخرى ومثقفين آخرين‪،‬‬

‫شعيب حليفي‬

‫كما تحولت الثقافة من فعل نضالي‪ ،‬بحكم وضعنا وحقيقتنا‪ ،‬إلى فعل اقتصادي أفرز نخبة من المثقفين «الخبراء» في‬

‫مجاالت الخطاب عامة‪ ،‬والبقية الباقية بقيت في مربعها «الطاهر» وسط أسوار تعلو يومً ا بعد يوم‪ ،‬وتخفي بصيص تلك‬ ‫األحالم‪ ..‬فال يجدون للقفز نحو تلك األحالم إال زانة مكسورة تزيد الوضع صعوبة‪.‬‬ ‫إننا فعلاً نعيش حاالت من التحول ومن التعايش مع ما استجد وما يستجد لإلفاقة من الصدمة إفاقة صحية‪.‬‬

‫التاريخي إنْ على المستوى الفعلي في الواقع أو فيما يُكتب من‬ ‫بؤسا متعد ًدا في ابتعاد المثقف من دوره‬ ‫فنحن نعيش ً‬ ‫ّ‬ ‫زخارف تقزم المعرفة والتخييل القادر على محاورتنا وتفكيك َعطبنا‪ .‬وفي السياق ذاته‪ ،‬نحن جزء من عالمنا العربي‬ ‫الذي يسبقنا في انتصاراته وانتكاساته‪ .‬فها نحن أمام تزايد هجرة المثقفين الجامعيين إلى الجامعات العربية واألوربية‬

‫أمس الحاجة إليهم لتطوير البحث العملي والبيداغوجي‪ .‬كما بات‬ ‫مما يُفرغ جامعاتنا ويهددها‪ .‬والحال أن طلبتنا في‬ ‫ّ‬

‫ً‬ ‫متخصصا في اقتناص التأليفات المغربية في شتى األبواب‪ .‬أتساءل بصيغة أخرى‪ :‬هل‬ ‫العديد من دور النشر العربية‬

‫كل هذا سلبي أم أنه مرحلة سيأتي ما بعدها؟ فما يقلقني اليوم هو استسالم المثقف المغربي وانعدام حماسه ألحالمه‬ ‫وأحالم الذين يكتب بأصواتهم‪.‬‬

‫العددان ‪ 478 - 477‬شوال ‪ -‬ذو القعدة ‪1437‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬أغسطس ‪2016‬م‬

‫ناقد وروائي‬


‫االشتراك السنوي‬ ‫‪ 150‬ريالاً سعوديًّا لألفراد‪ 250 ،‬ريالاً‬ ‫سعوديًّا للمؤسسات‪ ،‬أو ما يعادلهما‬ ‫بالــدوالر األمـيـركــي خـــارج المملـكــة‬ ‫العربية السعودية‪.‬‬

‫السعر اإلفرادي‬ ‫السعــوديـــة ‪ 10‬ريـــاالت‪ ،‬اإلمــــارات‬

‫القراء‪ ،‬فيظل هذا اإلنتاج كاسدً ا‪ ،‬بمساعدة ظروف محيطة‪ ،‬منها غياب‬

‫إعالم ثقافي حقيقي بالرغم من الجهد الذي يبذله األصدقاء المشرفون‬

‫‪ 10‬دراهم‪ ،‬قطر ‪ 10‬رياالت‪ ،‬البحرين‬ ‫فلسا‪ ،‬مصر ‪4‬‬ ‫دينار واحد‪ ،‬األردن ‪750‬‬ ‫ً‬ ‫جنيهات‪ ،‬المغرب ‪ 10‬دراهم‪.‬‬

‫على الصفحات الثقافية في الجرائد اليومية‪ ،‬ومنها كذلك تراجع دور‬

‫بعض المؤسسات كاتحاد الكتاب الذي غرق في أزمة نتيجة تضخم في‬

‫بعض «األنوات» وغلبة الطموحات الشخصية على العمل الثقافي لهذه‬ ‫المؤسسة»‪.‬‬

‫ويرى الموساوي أنه لتحقيق هذه اآلمال وإعادة إحياء الثقافة‬

‫المغربية داخليًّا «ال بد من النظر إلى الشأن الثقافي نظرة واضحة‪ ،‬وأن‬

‫يتم تقبل الثقافة كجزء ال يتجزأ من حياته‪ ،‬فهو على المستوى الباطني‬

‫(ال يمتلكها وال يستخدمها بحكمة) وعلى المستوى الخارجي ( الثقافة‬ ‫فعلي واضح في حياته اليومية(‪ .‬في الحالة األخيرة‪ ،‬فإن‬ ‫ليس لها وجود‬ ‫ّ‬ ‫المواطن المغربي لديه ميل إلعفاء نفسه من تعقيدات األمور‪ ،‬وأن يصبح‬

‫متفرجً ا على محيطه وبيئته المباشرة‪ ،‬دون السعي إلى تعميق وعيه‬ ‫الثقافي وتوسيع مداركه المعرفية‪ ،‬وهذا ما دفع مجموعة من المثقفين‬

‫المغاربة إلى العزوف عن الحراك الثقافي الداخلي‪ .‬واالنخراط في الحراك‬ ‫الثقافي الخارجي‪ .‬أعتقد أن الوقت حان إلعداد ميثاق ثقافي وتأسيس‬

‫مجلس أعلى للثقافة يدبر المجال الثقافي ويرسم اإلستراتيجيات‪،‬‬ ‫ويضع البرامج ويمهد للتواصل والتفاعل بين المثقفين فيما بينهم داخل‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫وانكماشا‪ ،‬وبالمقابل هناك‬ ‫انغالقا‬ ‫المغرب الذي يشهد فيه المثقفون‬

‫ً‬ ‫خصوصا مع المشرق؛ إذ نالحظ حضورًا‬ ‫تفاعل مع المثقفين في الخارج‬ ‫ً‬ ‫وتألقا يتوج بجوائز ومكاسب ثقافية مهمة‪ .‬كما ينبغي‬ ‫حيويًّا وانفتاحً ا‬ ‫تفعيل دور وزارة الثقافة‪ ،‬التي ال تتحمل مسؤوليتها في خلق دينامية‬

‫ثقافية؛ إذ تنحصر أنشطتها في اإلشراف على بعض األنشطة؛ كمعرض‬ ‫الكتاب‪ ،‬أو رعاية بعض الندوات أو المهرجانات دون السعي إلى إنتاج‬

‫ثقافة والبحث عن أسباب إنتاج ثقافي»‪.‬‬

‫الموزعون‬ ‫السعودية‪ ،‬الشركة الوطنية الموحدة‬ ‫للتوزيع‪ ،‬هاتف‪ ،)٠١1(٤٨٧١٤١٤ :‬فاكس‪:‬‬ ‫‪ ،)٠١1(٤٨٧١٤٦٠‬مصر‪ ،‬مؤسسة توزيع‬ ‫األهرام‪ ،‬شارع الجالء‪ ،‬هاتف‪:‬‬ ‫‪ ،٣٣٩١٠٩٥‬فاكس‪ ٣٣٩١٠٩٦ :‬ـ ‪،..٢٠٢‬‬ ‫قطـر‪ ،‬دار الشرق للطباعة والنشر‬ ‫والتوزيع‪ ،‬ص‪.‬ب ‪ ،٣٤٨٨‬هاتف‪:‬‬ ‫‪ ،٤٦٦١٢٨٢‬فاكس‪ ٤٦٦١٨٦٥ :‬ـ ‪،٠٠٩٧٤‬‬ ‫األردن‪ ،‬شركة وكالة التوزيع األردنية‪،‬‬ ‫ص‪.‬ب ‪ ،٣٧٥‬هاتف‪ ،٤٦٣٠١٩١ :‬فاكس‪:‬‬ ‫‪ ٤٦٣٥١٥٢‬ـ ‪٦‬ـ ‪ ،٠٠٩٦٢‬البحرين‪ ،‬مؤسســــة‬ ‫الهالل لتوزيع الصحف‪ ،‬ص‪.‬ب ‪٢٢٤‬‬ ‫هاتف‪ ،٢٩٤٠٠٠ :‬فاكس‪ ٥٣١٢٨١ :‬ـ‬ ‫‪ ،٠٠٩٧٣‬اإلمارات العربية المتحدة‪،‬‬ ‫مكتبة دار الحكمة ص‪.‬ب ‪ ٢٠٠٧‬هاتف‪:‬‬ ‫‪ ،٤٩٣٥٦٦٢‬فاكس‪ ٢٦٦٩٨٢٧ :‬ـ ‪ ٤‬ـ ‪،٠٠٩٧١‬‬ ‫المغرب‪ ،‬الشركة الشريفية لتوزيع‬ ‫الصحف فاكس‪ ٢٢٤٠٤٠٣١/٣٢ :‬ـ ‪،٠٠٢١٢‬‬ ‫هاتف‪.٢٢٤٠٠٢٢٣ :‬‬

‫‪133‬‬


‫ثقافات‬

‫تاريخ األدب الكردي‪..‬‬ ‫التيه المفتوح على أفق مجهول‬ ‫يمتلك ُ‬ ‫الكرد في أنحائهم التاريخية األربعة نحو ‪ 300‬ملحمة‬

‫اجتماعية وسياسية تتداول شفهيًّا‪ ،‬بعضها يرددها المغنون‬ ‫ُ‬ ‫الكردية فتعلق بالذاكرة‬ ‫الفطريون الجوالون على القوى‬ ‫المحكية‪ ،‬غير أن ُكرد المدن أنفسهم ومجاوريهم من العرب‬ ‫واألتراك واإليرانيين لم تصلهم سوى عدة مالحم شهيرة مدونة‬

‫ومنتجة باحتراف كواجهة لألدب القومي الذي يعاني االندثار‪،‬‬

‫‪134‬‬

‫َ‬ ‫و«م ّم وزين» و« ُدمْ ُدمْ »؛ الرتباطها‬ ‫وأبرزها «كاوة الحداد»‬

‫بالمشغول السياسي والمحمول العاطفي والهم القومي‪ ،‬فيما‬

‫تضيع المالحم المتبقية في مغاور الجبال‪ ،‬رهينة اللهجات‬ ‫تعسر التواصل بين ُ‬ ‫ّ‬ ‫الكرد ذاتهم‪.‬‬ ‫العصية على الفهم‪ ،‬والتي‬

‫العددان ‪ 478 - 477‬شوال ‪ -‬ذو القعدة ‪1437‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬أغسطس ‪2016‬م‬

‫صفاء خلف‬ ‫باحث عراقي‬


‫تيه اللغة‬

‫يواجه ُ‬ ‫ٍّ‬ ‫تحد لهويتهم الثقافية متمثلاً في‬ ‫الكرد أكبر‬

‫«اللغة» التي تكاد تنشطر وتضيق وتنفتح‪ ،‬وتلملم ذاتها في‬ ‫مصبات لفظية مختلفة‪ ،‬حتى بات ُ‬ ‫الكرد شعوبًا «لغوية»‬ ‫رغم الدم القومي الذي يشحنهم بالعاطفة واالنتماء األبدي‪،‬‬ ‫فاالنقسام اللغوي ّ‬ ‫شكل ديموغرافية ما يُعرف بـ«كردستان‬

‫الكبرى»؛ فاستحوذت اللهجات على األرض والعرق‪ ،‬وباتت‬

‫كردستان «كرمانجية شمالية» و«كرمانجية جنوبية‪ ،‬ويطلق‬

‫عليها السورانية» فيما ظلت كردستان العراق حبيسة‬ ‫«السورانية» و«البهدينانية»‪ ،‬فتغلبت األولى وصارت «اللغة‬

‫الرسمية» في دواوين الحكومة والكتابة والنشر وحتى‬ ‫الصحافة‪ .‬فرئيس إقليم كردستان العراق مسعود بارزاني‬

‫الذي ينطق وقبيلته وأنصاره بـ«البهدينانية» وجّ ه باعتماد‬ ‫«السورانية» كلهجة رسمية تفاديًا لالختالفات‪ ،‬وكخطوة‬ ‫تمهد لمشروع توحيد اللغة العسيرة بـ«لهجة واحدة»‪.‬‬ ‫وفي األصل فإن اللغة ُ‬ ‫الكردية المتشعبة التي التقطت‬ ‫خالل عمرها المضطرب تبعً ا للتحوالت آالف المفردات العربية‬ ‫والفارسية واإلنجليزية والتركية‪ ،‬تعدّ لغة «هندوأوربية» وبها‬

‫لهجتان أساسيتان هما «الكرمانجية» و«البهلوانية»‪ ،‬اللتان‬ ‫تنقسمان إلى ‪ 18‬لهجة محلية‪ .‬وتبعً ا ألمين شحاتة الذي يعد‬

‫ً‬ ‫مرموقا لدى ُ‬ ‫كتابه ُ‬ ‫الكرد‬ ‫«الكرد‪ ..‬معلومات أساسية» مرجعً ا‬

‫وجميع المهتمين بقضيتهم‪ ،‬فإنه يؤكد أن «كرد تركيا وسوريا‬ ‫ً‬ ‫وبعضا منهم في إيران والعراق يتكلمون البهدينانية‪ ،‬في حين‬ ‫يتكلم معظم كرد العراق وإيران السورانية»‪.‬‬

‫لذا فانقسام اللغة ضيّع فرصة عظيمة لظهور تاريخ‬ ‫محدد لآلداب ُ‬ ‫الكردية‪ ،‬كما ضيّع فرصة أعظم منها لتدوين‬

‫أدب كردي بمالمح أكثر خصوصية‪ .‬ويعزو المثقفون ُ‬ ‫الكرد‬ ‫مآزق تش ُّتت اللغة وعدم توحيدها إلى االضطهاد السياسي‬ ‫المتعاقب!‬

‫تيه التدوين‬

‫أعلن الشاعر الراحل‬ ‫شيركو بيكس‬ ‫وآخرون في بيان‬ ‫جماعة «روانگة»‬ ‫رفضهم ألنماط‬ ‫الكتابة السائدة‪،‬‬ ‫ومحاوالتهم تحقيق أشكال إبداعية‬ ‫جديدة‪ ،‬وذلك بعد عام فقط من إصدار‬ ‫البيان الشعري لجماعة شعر ‪69‬‬ ‫العراقية‪ ،‬الذي أطلقه فاضل العزاوي‬ ‫انتصار الجيش اإلسالمي السلجوقي على الدولة البيزنطية‬

‫المسيحية‪ ،‬في موقعة «مالذ كرد» (مالزكير)‪ ،‬ويشدد‬ ‫المؤرخ ُ‬ ‫الكردي محمد أوزون (من كرد تركيا) في كتابه «بداية‬

‫األدب ُ‬ ‫الكردي» (ت‪ :‬دالور زنكي) أن «لهذا التاريخ أهمية‬

‫بالغة لدى األكراد‪ ،‬حيث اقتحمت القبائل الطورانية الغازية‬ ‫المدن‪ ،‬وفتحت بوّابة األناضول‪ ،‬وتشبثت باألرض‪ ،‬ورسخت‬ ‫فيها أقدامها‪ ،‬في هذا التاريخ اندحر سكان األناضول‬

‫البيزنطيون‪ ،‬ولحقت الهزيمة باألكراد في موقعة [مالزكير]‬ ‫لدى مقاومة الغزاة والتصدي لهم‪ ،‬وغدت هذه االنتكاسة‬

‫ومآس لألكراد ال تنتهي»‪.‬‬ ‫مصدر ويالت‬ ‫ٍ‬ ‫وتعود أُولى رباعيات كردية معروفة مماثلة لرباعيات‬ ‫الخيام الشهيرة إلى الشاعر ُ‬ ‫الكردي بابا طاهر الهمذاني‬ ‫(‪1010 –935‬م)‪.‬‬

‫تبعثر ُ‬ ‫الكرد في األرض‪ ،‬وباتت هويتهم متناثرة‪ ،‬ومنذ‬

‫الدخول األول لهم في اإلسالم حتى اللحظة‪ ،‬لم تظهر لهم‬ ‫ديانة إبراهيمية سوى «اليهودية»‪ ،‬فيما المحاوالت الضعيفة‬ ‫والخجولة في تأسيس ديانات كردية محضة خرجت ً‬ ‫أيضا من‬

‫يُرجع مؤرخون أكراد بداية األدب القومي إلى القرن‬

‫المرجل اإلسالمي كـ«الكاكائية» الشبيهة بـ«الدرزية»‪ ،‬بينما‬ ‫المسيحية ماتت في نفوس ُ‬ ‫الكرد منذ (مالزكير) لجهة قسوة‬

‫غالبًا ما تعود إلى عام ‪1071‬م‪ ،‬مرتبطة بسقطة سياسية‪،‬‬ ‫فجّ رت قيامة الكتابة ُ‬ ‫الكردية تدوي ًنا‪ ،‬فيما ظل هناك تاريخ‬

‫الوقائع الكارثية لألمة ُ‬ ‫الكردية خلقت أدبها المدوّن‪،‬‬

‫السابع (ق‪.‬م)‪ ،‬لكن الدالئل التاريخية تضعف كثي ًرا إزاء تلك‬ ‫العودة المغمورة‪ ،‬فمحاوالت أرشفة وأرخنة األدب ُ‬ ‫الكردي‬

‫أدب محايث يتداول شفهيًّا‪ ،‬رغم التحوّل الذي طرأ على‬ ‫الهوية ُ‬ ‫الكردية الدينية‪.‬‬

‫ففي عام ‪1071‬م‪ ،‬ضاعت أحالم ُ‬ ‫الكرد بالحفاظ على‬

‫أنفسهم كقومية تمسك باألرض الممهدة لقيام الدولة‬ ‫في يوم ما‪ .‬خسر ُ‬ ‫الكرد مناطقهم وهويتهم المحضة‪ ،‬إثر‬

‫ألب أرسالن السلجوقي‪.‬‬

‫وباتت «مم وزين» في القرن السابع عشر الميالدي ‪-‬أبدع‬ ‫في ترجمتها وتخريجها العلاّ مة الراحل محمد سعيد‬ ‫رمضان البوطي (دمشق‪ ،‬دار الفكر‪1982 ،‬م)‪ -‬أول تاريخ عابر‬ ‫للشفاهية إلى الكتابة في تاريخ ُ‬ ‫الكرد على يد مؤلفها مال‬ ‫أحمد خاني (‪1708 – 1650‬م) التي يورد فيها نتفة عن هزائم‬ ‫ُ‬ ‫الكرد المكررة في تأسيس دولة‪.‬‬

‫‪135‬‬


‫ثقافات‬

‫األدب ُ‬ ‫الكردي في غالبه شعر؛ فالكتابة تميل إلى‬

‫االستقرار‪ ،‬والشعر يميل إلى اإلنشاد‪ ،‬وما بين الكتابة‬ ‫واإلنشاد نشأ للكرد أدب‪ ،‬ابتداءً من الشاعر ُ‬ ‫الكردي (الالأدري)‬ ‫حاج قادر كويي (‪1892 -1815‬م نسبة إلى كويسنجق شمال‬

‫أربيل)‪ ،‬الذي حكمت عليه السلطات العثمانية باإلعدام‪،‬‬ ‫وأمرت بحرق كتبه وأشعاره‪ .‬بينما الشاعر «فقي طيران» يعد‬ ‫أول شاعر قصيدة نثر كردية عبر منجزه الملحمي «برسيس»‬

‫وتتحدث عن صراع الجان والعمالقة‪.‬‬

‫سميت بأسماء هؤالء الثالثة أشهر شوارع وساحات وأسواق‬

‫السليمانية‪.‬‬ ‫مدينة ُّ‬ ‫تيه الحداثة‬

‫ومثلما يقول الشاعر الفلسطيني محمود درويش «ليس‬ ‫للكردي سوى الريح»‪ ،‬فليس لألدب ُ‬ ‫الكردي سوى الشعر‪،‬‬ ‫والشعر وحده يُلخص تاريخ ُ‬ ‫الكرد‪ ،‬رغم المشغوالت‬

‫وعلى الرغم من التحديات المرعبة التي يواجهها ُ‬ ‫الكرد‬

‫األخرى في الرواية والقصة والمسرحية والنقد‪ ،‬غير أن‬

‫وجمع اآلثار الفنية والغنائية والشعرية لشعب تغ ّرب في‬ ‫الجبال‪ ،‬وأضاعته الدول والممالك‪ ،‬فإن منج ًزا مهمًّ ا بات‬ ‫هو البوابة الواسعة لفهم العالم المتشعب ألدب ُ‬ ‫الكرد‪،‬‬

‫ويفتتح عصر الكتابة الحديثة المُ علم عبدالله گوران‬ ‫(‪1963-1904‬م) شاع ًرا تجديديًّا‪ ،‬مُ ً‬ ‫طلقا انقالبًا على اآلباء‬

‫إزاء هويتهم األدبية‪ ،‬لجهة عدم مأسسة كتابة التاريخ األدبي‬

‫أنجزه الكاتب ُ‬ ‫الكردي الدكتور معروف خزندار بموسوعة‬ ‫«تاريخ األدب ُ‬ ‫الكردي» في سبعة مجلدات (‪ 3815‬صفحة من‬

‫القطع الكبير) صدرت عن (دار آراس) في أربيل (‪،)2006 - 2001‬‬ ‫دوّن فيها تاريخ األدب ُ‬ ‫عام حتى عام ‪1975‬م‪.‬‬ ‫الكردي عبر ألف ٍ‬ ‫مستكملاً مشروعه بـ«موجز تاريخ األدب ُ‬ ‫الكردي المعاصر»‬ ‫الذي طبع عام ‪ 2008‬بـ‪ 200‬صفحة من القطع المتوسط عن‬

‫‪136‬‬

‫اتصف شعره باألسى والرثاء لشقاء الحياة في هذا العالم‪.‬‬

‫«هوشنك كرداغي» بدمشق‪.‬‬

‫أفرزت البداية ُ‬ ‫الكردية في الكتابة شعراء مؤسسين‪ ،‬هم‬

‫آباء هذه األمة المتورطة في التيه‪ ،‬كمولوي (‪1852 -1806‬م)‬ ‫الذي ابتكر المقاطع الشعرية الملتزمة بالقافية‪ ،‬و مُ ال خيزر‬

‫ميكائيلي (مال خضر) من شهرزور (‪1855 -1797‬م) الشهير‬ ‫بـ«نالي» (تعني األنين بالعربية) بعد أن شهد انهيار اإلمارة‬

‫السليماني الكبير (‪1909 -1845‬م) الذي‬ ‫البابانية‪ ،‬وسالم الشيخ ُّ‬

‫للشعر سطوة‪.‬‬

‫المؤسسين‪ ،‬برفقة شيخ نوري شيخ صالح (‪1959 -1892‬م)‬ ‫ِّ‬ ‫منظ ًرا لحركة التحديث ُ‬ ‫الكردية‪ ،‬فكان گوران‬ ‫الذي يعد‬

‫وصالح األبوين الروحيين للشعر الحديث‪ ،‬وصاحبي الموجة‬ ‫األولى المعاصرة أو ما يُعرف بـ«شعراء الحداثة األولى»‪ ،‬التي‬

‫امتدت حتى أوائل السبعينيات من القرن العشرين لتبدأ‬ ‫الموجة الالحقة‪ ،‬بعد أن ظهرت بواكيرها في الستينيات‬

‫ضيع فرصة عظيمة‬ ‫انقسام اللغة ّ‬ ‫لظهور تاريخ محدد لآلداب ال ُكردية‪،‬‬ ‫وفرصة أعظم منها لتدوين أدب كردي‬ ‫بمالمح أكثر خصوصية‪ .‬ويعزو المثقفون‬ ‫ال ُكرد مآزق تشتت اللغة وعدم توحيدها‬ ‫إلى االضطهاد السياسي المتعاقب!‬

‫تيه الريادة‬ ‫كانت أول صحيفة كردية هي صحيفة «كردستان» التي أصدرها مدحت بك‪ ،‬في القاهرة عام ‪1898‬م‪ ،‬واختلف ً‬ ‫أيضا‬ ‫فيها المؤرخون ُ‬ ‫الكرد بتحديد تاريخ صدورها ومؤسسيها‪ ،‬فيما ظهرت أول مجلة تعنى بالمرأة وهي «ژن ـ ‪ »Jin‬األسبوعية‬

‫«رياتازه‪ -‬الطريق الجديدة»‪ ،‬ومجلة‬ ‫عام ‪1924‬م‪ ،‬وفي عام ‪1929‬م صدر في يريفان (عاصمة أرمينيا السوفييتية) صحيفة ِ‬ ‫َكالويژ (نجمة سهيل) ببغداد بين عامي (‪1949 -1939‬م)‪ ،‬و(ه ّتاو) في أربيل عام ‪1954‬م‪ ،‬وصحيفة «كردستان» بإيران‬

‫(‪1963 -1959‬م)‪ ،‬وفي دمشق أصدر أبناء بدرخان صحيفة «هاوار‪ -‬الصرخة» في المدة (‪1935 -1932‬م) و(‪1943 -1941‬م) إذ‬

‫صدر ‪ 57‬عد ًدا منها‪ ،‬وصحيفة «روناهي» (‪1945 -1942‬م) بـ‪ 28‬عد ًدا‪ ،‬وفي بيروت صدرت صحيفة «روژا نو ـ ‪ »rujanu‬أي‬

‫«اليوم الجديد»‪ ،‬في المدة (‪1945 -1943‬م)‪.‬‬

‫ويرجع تاريخ أول قصة كردية إلى عام ‪1925‬م‪ً ،‬‬ ‫وفقا إلى القاص حسين عارف في فهرسته للقصة ُ‬ ‫الكردية‪ ،‬فيما‬ ‫كانت رواية «الراعي ُ‬ ‫الكردي» لعرب شمّ و‪ ،‬كأول رواية كردية صدرت في أرمينيا عام ‪1935‬م‪ ،‬وفي النقد‪ ،‬كتاب «النقد‬

‫النثري التأثري» لشيخ نوري شيخ صالح‪ ،‬المنشور في ‪ 25‬حلقة في جريدة (ژيان ـ الحياة) بين عامي ‪1926 -1925‬م‪.‬‬

‫العددان ‪ 478 - 477‬شوال ‪ -‬ذو القعدة ‪1437‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬أغسطس ‪2016‬م‬


‫تاريخ األدب ال ُكردي‪ ..‬التيه المفتوح على أفق مجهول‬

‫مهرجان الشعر الكردي العشرين في عامودا‬

‫والتي يعتبرها المثقفون ُ‬ ‫الكرد حقبة أدبية مظلمة؛ لخلوها‬ ‫من أي منتج حداثي‪ ،‬رغم أن العالم كان يشتعل لحظتها‬

‫تجديدً ا وحداثة‪.‬‬

‫كاكه مم بوتاني‪ ،‬والشاعر جالل ميرزا كريم‪ ،‬والقاص جمال‬ ‫شاربازيري؛ إذ أعلنت الجماعة بوضوح رفضها ألنماط الكتابة‬

‫السائدة‪ ،‬وبحثها‪ ،‬أو محاوالتها تحقيق أشكال إبداعية‬

‫موجة الحداثة الثانية كما يُثبتها الشاعر والمترجم‬ ‫عبدالله طاهر برزنچي‪ ،‬في مقدمة أنطولوجيا الشعر ُ‬ ‫الكردي‬

‫شعر ‪ 69‬العراقية‪ ،‬الذي أطلقه فاضل العزاوي‪.‬‬

‫المسار للترجمة والنشر»؛ إذ يقول‪ :‬إن «الموجة الجديدة‬ ‫أو الحداثة الثانية‪ ،‬تأخر ظهورها في الشعر ُ‬ ‫الكردي إلى‬

‫عنه في المدة ذاتها‪ ،‬حتى كشف في عام ‪1992‬م في مجلة‬ ‫«بروژة» (المشروع) للشاعرين لطيف ّ‬ ‫هلمت وأنور شاكلي‪.‬‬

‫الحديث (‪2007 –1920‬م) التي صدرت عام ‪2008‬م عن «ديوان‬

‫السبعينيات؛ ألسباب متعلقة بالشاعر وظروفه الموضوعية‬ ‫واالجتماعية والسياسية (‪ )...‬إن الحداثة الثانية أرادت‬

‫جديدة‪ ،‬وبعد عام فقط من إصدار البيان الشعري لجماعة‬ ‫ولحق بيان «روانگة» بيان شعري ظل مخبوءً ا غير معلن‬

‫وفي تسعينيات القرن الماضي‪ ،‬انطلقت الحداثة الثالثة‪،‬‬

‫والتي لم تخلق مغايرة حقيقية‪ ،‬بل كانت متأثرة بواقع‬ ‫االنفتاح السياسي‪ ،‬والتبدالت الطارئة على المصير ُ‬ ‫الكردي‬

‫في خطوتها الجادة تجنب الركود»‪ .‬ويشير إلى أن الشاعر‬ ‫ُ‬ ‫الكردي أنور شاكلي «فرها شاكلي» أعلن االنقالب بمجموعته‬

‫الجديد في العراق‪ ،‬بعد االنفصال الذاتي عن مشيمة بغداد‬

‫لكن غاضبة «بكل فخر واعتزاز تتوجه قصائدي نحو الق ّراء‬

‫استثمروا المخيلة فـ«كثرت االنزياحات‪ ،‬وعمت الفوضى (‪)...‬‬

‫«مشروع انقالب سري» (بغداد ‪1973‬م) عبر مقدمة مقتضبة‬ ‫وتاريخ أدبنا‪ ،‬وتعلن عن نفسها كريادة لمرحلة تتجاوز‬ ‫مرحلة عبدالله گوران‪ ،‬وتحدد معالم شعر الحاضر‬

‫والمرحلة الراهنة في كردستان»‪.‬‬ ‫ً‬ ‫تاريخا أسبق من بيان انقالب شاكلي الذي‬ ‫لكنّ ثمة‬

‫صدر من طرف واحد‪ ،‬وهو بيان جماعة «روانگة» (المرصد)‬ ‫ّ‬ ‫والقاص‬ ‫الالذع‪ ،‬من طرف الشاعر الراحل شيركو بيكس‪،‬‬

‫عام ‪1991‬م‪ ،‬وبحسب برزنچي فإن شعراء هذه «الحداثة»‬

‫وكتبت نصوص كونكريتية»‪.‬‬

‫لكني أشير إلى أن هناك موجة حداثية جديدة رابعة‬ ‫في الشعر ُ‬ ‫الكردي المعاصر‪ ،‬بانت مالمحها البكر بعد‬ ‫ّ‬ ‫عام ‪2003‬م‪ ،‬رغم غياب بيان شعري جامع‪ ،‬أو مُ نظر يُثبتها‬ ‫كريادة جديدة‪ ،‬لكنها برزت في ظل ركود مزعج‪ ،‬مع شعراء‬

‫مجددين أبرزهم الشاعر طيب جبار والشاعرة الزو‪.‬‬

‫‪137‬‬


‫ثقافات‬

‫روالن بارت‪..‬‬ ‫المفكر الذي أخفى حزنه‬ ‫عبدالدائم السالمي‬ ‫ناقد تونسي‬

‫في مناسبة االحتفال بمئوية الناقد والمفكر الفرنسي‬

‫روالن بارت‪ ،‬وصدور كتاب جديد عنه بعنوان‪« :‬روالن‬ ‫بارت‪ :‬سيرة ذاتية» للكاتبة المختصة في السيرة الذاتية‬

‫‪138‬‬

‫ْ‬ ‫سام َويُو‪ ،‬يحاول هذا المقال تسليط الضوء على‬ ‫تيفين‬

‫مناطق لم تكشف من قبل في حياة صاحب «لذة النص»‪.‬‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ص َ‬ ‫أن َ‬ ‫العالم‬ ‫ت روالن بارت (‪1980-1915‬م) إلى أشياء‬ ‫ٍّ‬ ‫ً‬ ‫وشعريّ‬ ‫معا؛ أنصت إلى‬ ‫فكري‬ ‫وأحيائه بامتال ٍء‬ ‫ِ‬

‫حركة المفردات الحاكمة لمنظومة المعيش الثقافي‬

‫ّ‬ ‫كالنص األدبي‪ ،‬والموضة‪،‬‬ ‫واالجتماعي والسياسي؛‬ ‫واإلشهار‪ ،‬وألعاب األطفال‪ ،‬ورياضة الكاتش‪ ،‬وشميم‬ ‫األمكنة‪ ،‬والصورة الفوتوغرافية‪ ،‬والرغبة في العيش‬

‫المشترك‪ ،‬والسيارات واإلذاعة والجريمة واألطعمة‪،‬‬

‫وغير هذا كثي ٌر ّ‬ ‫مما تكتنزه الحياة اليومية من مفردات‪،‬‬ ‫ً‬ ‫ِّ‬ ‫الخاص‪،‬‬ ‫باحثا في كل واحد ٍة منها عن سرد ّي ِة خطابِها‬ ‫ّ‬ ‫الداخلي الباني ألسطورتِها‬ ‫اللي‬ ‫إيقاعها‬ ‫وعن‬ ‫ِّ‬ ‫الد ِّ‬ ‫ِ‬ ‫الجديد ِة‪ ،‬وعن «حقيقة» لها أخرى ُممكنة ال َت ْع َت ِورُها‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫والتسطح واالضطراب وأُحادية المعنى‪،‬‬ ‫أحوال التهافت‬

‫ٌ‬ ‫ّ‬ ‫العامة‪،‬‬ ‫أحوال رأى أنها قد الزمت الحقائق‬ ‫وهي‬ ‫–بكثير من ُ‬ ‫المألوف‬ ‫المعاناة‪ -‬في خانة‬ ‫وجعلتها تتحرّك‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬ ‫الم َ‬ ‫ً‬ ‫ُ‬ ‫سلفا‬ ‫نتظ ِر الذي يجعل مستقبل الناس ُم َع ًّدا‬ ‫لالستعمال فحسب وليس ُ‬ ‫للمتعة‪.‬‬

‫العددان ‪ 478 - 477‬شوال ‪ -‬ذو القعدة ‪1437‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬أغسطس ‪2016‬م‬


‫ّ‬ ‫حقائق الناس اليومي ِة هو ما‬ ‫ولعل افتتانَ روالن بارت بمسرح‬ ‫ِ‬ ‫ّ‬ ‫ُّ‬ ‫ف‬ ‫رغبه في تحليل شروط وجود الواحدة منها‪ ،‬وحَ ْفزها على‬ ‫التكش ِ‬

‫بِ ِب ْك ِر دالالتها‪ .‬وقد اتكأ في تحقيق ذلك على معرف ِته المائزة‬ ‫بتراث البالغة القديمة‪ ،‬وتش ُّربِه للنظرية اللسانية ومجلوبات‬ ‫علمي االجتماع والتحليل النفسي سبيلاً‬ ‫ً‬ ‫قويمة إلى نحت رؤي ٍة‬ ‫ِ‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫جامحة‬ ‫«مقاومة‬ ‫سيميولوجية للظواهر اإلنسانية‪ ،‬تحدوه فيها‬ ‫ّ‬ ‫لكل نظام مختزل»‪َ ،‬‬ ‫وت ٌ‬ ‫وق إلى بلوغ معقولية لألشياء مُخالفة لِما‬ ‫يبدو منها معقولاً في الواقع‪ ،‬وكأنه ال يوجد في المعقولية غير‬

‫ً‬ ‫كثير من‬ ‫عروش‬ ‫رغبة في هز‬ ‫فكرة المعقولية ذاتها‪ ،‬وكأن ألفكاره‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬ ‫َ‬ ‫العالم‪.‬‬ ‫للسكن في‬ ‫آفاق جديدة َّ‬ ‫النظريات‪ ،‬وفتح ٍ‬ ‫الغداء األخير‬

‫ّ‬ ‫توفي بارت يوم ‪ 26‬مارس ‪1980‬م بمشفى «سَ ْل ِب ْتريير» بباريس‬

‫بعد شهر من تع ّرضه لحادث مرور يوم ‪ 25‬فبراير من السنة‬ ‫ً‬ ‫بليغة‪ .‬وكان بارت ينتوي يومَها‬ ‫نفسها؛ سبّب له أضرارًا جسدية‬

‫التوجّ ه إلى «الكوليج دي فرانس»؛ لتهيئة التفاصيل التقنية التي‬ ‫ُ‬ ‫محاضرته التي يُزمع الحديث فيها عن كتابات مارسيل‬ ‫تحتاجها‬

‫ّ‬ ‫المفكر قد انغمس صباح الحادث في رقن َن ِّ‬ ‫ص محاضر ٍة‬ ‫أنّ هذا‬ ‫كان سيُلقيها بـمدينة «ميالنو» اإليطالية خالل ندوة حول كتابات‬

‫وانصب جه ُده فيها على تبيّن مظاهر‬ ‫ستندال (‪1842 – 1783‬م)‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫عشق هذا الروائي الفرنسي إليطاليا‪ ،‬واختار لها عنوانا‪« :‬نفشل‬ ‫نحب»‪ ،‬حيث أشار في الصفحة األولى التي‬ ‫دائمًا في الحديث عمّن‬ ‫ّ‬

‫رقنها إلى أنّ سبب تحوّل ستندال من كتابة يومياته عن مدن إيطاليا‬

‫إلى كتابة رواية عنها موسومة بـ«دير بارما» (‪1839‬م)‪ ،‬يعود إلى‬ ‫إحساسه بصعوبة نقل مشاعر حبّه إليطاليا في يوميات السفر‪،‬‬

‫وإمكان فعل ذلك في الرواية‪ ،‬حيث استطاع‪ ،‬عبر شخصية بطلها‬ ‫يوص َ‬ ‫«فابريس»‪ ،‬أن ِّ‬ ‫سنوات‬ ‫الحب الذي قضى من أجله‬ ‫ف ذلك‬ ‫ّ‬ ‫ٍ‬

‫ً‬ ‫الع ْش ِق ِّي‬ ‫عديدة مُقيمًا هناك‪ ،‬وأن يتجاوز الجمو َد العقيم للمتخيَّل ِ‬ ‫َ‬ ‫مغامرته‬ ‫الذي طغى على كتابة الرواية في زمنه ذاك‪ ،‬وأن يمنحَ‬ ‫ً‬ ‫عاطفية ووطنية وسياسية عامّة‪.‬‬ ‫السردية رمزيات‬

‫وتشير «تيفين سا ْم َويُو»‪ ،‬كاتبة سيرة بارت الذاتية‪ ،‬إلى أن‬

‫عدد الذين حضروا ببهو المشفى عند إخراج بارت من المشرحة‬ ‫كان قليلاً ‪ ،‬وقد خلت كوكبتهم من مشاهير المجتمع الفرنسي‪،‬‬

‫فأغلب هؤالء هم طلبته‪ ،‬ونفر من زمالئه وأصدقائه؛ أمثال‪:‬‬

‫َ‬ ‫حفل غداء‬ ‫بروست وعن الفوتوغرافيا‪ ،‬وذلك بعد حضوره‬

‫الدبلوماسي فيليب روبيرول‪ ،‬وفيليب سولرز‪ ،‬وإيتالو كالفينو‪،‬‬

‫إطار حرص هذا األخير على تمكين صديقه االشتراكي «فرانسوا‬

‫وج َّدة‬ ‫الذي لحق روالن بارت في الوسط الثقافي على كثرة كتاباته ِ‬

‫دعاه إليه «جاك النغ»‪ ،‬الذي صار فيما بع ُد وزي ًرا للثقافة‪ ،‬في‬

‫ميتران» من مالقاة النخبة الفرنسية من‬ ‫فنانين وسينمائيين وك ّتاب وإعالميين‬ ‫على غرار ٍّ‬ ‫كل من الملحّ ن بيار هنري‪،‬‬ ‫والممثلة دانييل ديلورم‪ ،‬ومدير أوبرا‬

‫باريس رولف ليبرمان‪ ،‬والمؤرخين‬

‫جاك بيرك وهيلين بارمالن‪ ،‬وذلك‬ ‫َ‬ ‫حظوظه في‬ ‫الستمالتهم إليه حتى يُقوّي‬

‫الفوز باالنتخابات الرئاسية أمام منافسه‬

‫«فاليري جيسكار ديستان»‪.‬‬ ‫وتذ ُكر «تيفين سا ْم َويُو» ّ‬ ‫َ‬ ‫مؤلفة كتاب‬

‫«روالن بارت ‪ -‬سيرة ذاتية» الذي صدر‬

‫مؤخ ًرا عن دار «سوي» بباريس في ‪ 700‬صفحة‬

‫ضمن فعاليات االحتفال بمئوية روالن بارت‬

‫تورط‬ ‫موت بارت يبعث على‬ ‫ّ‬ ‫الشك في ّ‬ ‫أطراف سياسية ولسانية واستخباراتية‪،‬‬ ‫السر‬ ‫ماسة إلى مثل هذا‬ ‫هي في حاجة‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫السحري‪ .‬وللكشف عن الحقيقة؛‬ ‫اللغوي‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫أمر الرئيس جيسكار ديستان المفتِّش‬ ‫«جاك بايارد» بالبحث في خفايا مقتل بارت‬

‫وفوكو‪ ،‬وغريماس‪ ،‬وجوليا كريستيفا‪ .‬وهو أمر يشي بالتهميش‬ ‫أفكاره وتنوّعها‪.‬‬

‫دائرة األحزان‬

‫بموت بارت انغلقت دائرتان كبريان‬

‫هيمنتا على مسار حياته‪ :‬أما الدائرة األولى‬ ‫ُ‬ ‫اجتهاداته البحثية في‬ ‫فتحضر فيها‬ ‫السيميولوجيا والبنيوية‪ ،‬وما كان لهما‬ ‫من تأثير في قراءاته للنصوص األدبية‬ ‫والظواهر االجتماعية على اعتبار أنّ‬ ‫مثلت شكلاً‬ ‫القراءة بالنسبة إليه قد ّ‬

‫من أشكال الوجود السعيد في‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫فظلت‬ ‫العالم‪ .‬وأما الدائرة الثانية‬

‫فضاءً تموج فيه سُ حب أحزا ِنه‬

‫الشخص ّي ِة حتى بدا الحزنُ كما لو‬ ‫َ‬ ‫ِّ‬ ‫المفك ِر بدءً ا ومنتهًى؛ فقد‬ ‫حياة هذا‬ ‫أنه َق َد ٌر يسربل‬ ‫تي ّتم وعمره لم يتجاوز بع ُد عا َمه األول‪ ،‬حيث مات والده «لويس‬

‫بارت» ضابط البحرية التجارية خالل معركة في بحر الشمال سنة‬ ‫‪1916‬م‪ ،‬وترك له وشمً ا من الفقد‪ ،‬واسمً ا ّ‬ ‫ظل محفورًا في ذاته‬ ‫مساحات من الفراغ األبويّ الدائم‪.‬‬ ‫ومُحيلاً فيه على‬ ‫ٍ‬ ‫الس ِّل قد أوهنت جسده وصدّت عزيم َته‬ ‫ثمّ إن إصابته بمرض ُّ‬

‫عن مواصلة الدراسة‪ ،‬ومنعته من اجتياز امتحان البكالوريا‪،‬‬

‫‪139‬‬


‫ثقافات‬

‫حياتي صارم‬ ‫بل وألجأته إلى زيارة المستشفيات والتقيّد بنظام‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫ممنوعا من مالقاة اآلخرين الذين يخشون أن تصيبهم‬ ‫ظل فيه‬ ‫َّ‬ ‫منه العدوى‪ .‬ولم يبرأ من هذا المرض‪ ،‬وإنْ برئ ُبرْءً ا مؤق ًتا‪،‬‬ ‫ً‬ ‫فجأة خالل‬ ‫سنوات من التداوي‪ .‬وقد ظهر وهنُ رئتيْه‬ ‫إال بعد‬ ‫ٍ‬

‫وجوده بمشفى «سَ ْل ِب ْتريير»؛ إذ أ ّكد أطبّاؤه في تقريرهم أنّ‬ ‫سبب‬ ‫َ‬

‫موتِه المباشر ليس حادث المرور‪ ،‬وإنما هو المضاعفات الرئوية‬ ‫ّ‬ ‫التنفسي»‪ ،‬وهو ما‬ ‫الناجمة عن «حالة الفشل المزمن لجهازه‬ ‫جعل النيابة العامّة بباريس ُتب ّر ُئ سائق الشاحنة التي دهسته‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫ولعلنا واجدون في تهميش الوسط الثقافي لبارت‪ ،‬وإلحاح‬

‫بعض الك ّتاب على التجريح في أفكاره سببًا خفيًّا من أسباب‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫التأثر‬ ‫وهادئ جعله كثي َر‬ ‫شفيف‬ ‫طبع‬ ‫وبخاصة أنه ذو‬ ‫حزنه‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫بالموجودات وبمحمول ُلغتها‪ .‬فقد كان قليل الكالم‪ ،‬ميّالاً‬ ‫إلى العزلة واالنسحاب من ّ‬ ‫كل فضاء مشحون بالعداوة‪ ،‬مُحبًّا‬

‫‪140‬‬

‫بارت وكريستيفا‬

‫للموسيقا التي قال عنها‪« :‬إن الموسيقا تجعلنا تعساء بشكل‬ ‫أفضل»‪ ،‬هذا إضافة إلى ميله إلى فني الرسم والفوتوغرافيا‪ .‬كما‬

‫كان دائمَ الحديث بنغمة صوتية كئيبة عن تأرجحه الصعب بين‬

‫مبال بالحضور التظاهري في مناسبات الناس‬ ‫الحياة والعمل‪ ،‬غي َر‬ ‫ٍ‬ ‫ُمض على «بيان ‪ »121‬ولم يشارك في‬ ‫ي‬ ‫لم‬ ‫أنه‬ ‫العامّة‪ ،‬من ذلك‬ ‫ِ‬ ‫مظاهرات مايو ‪1968‬م‪ .‬وال ّ‬ ‫شك في أنّ هذه المالمح الشخصية‬

‫االنطوائية إذا اقترنت بمنتجات أدبيّة جديدة الفكرة وجميلة‬ ‫األسلوب ‪-‬وقد ّ‬ ‫مثلت متضافرة مع غيرها من كتابات زمالئه‬

‫ً‬ ‫عرضة للنقد‪ ،‬بل‬ ‫مدرسة في النقد جديدة‪ -‬ستجعل من صاحبها‬ ‫وللسخرية‪.‬‬

‫وإنّ من أكبر معارضي أفكار روالن بارت زميله «ريمون بيكار»‬

‫المنتمي إلى مدرسة النقد التقليدي التي ال تنظر إلى النصوص‬

‫في ذاتها وإنما تنظر إليها من جهة سيرة كاتبها‪ ،‬وقد رأى في‬

‫عدد الذين حضروا ببهو المشفى‪ ،‬عند إخراج‬ ‫بارت من المشرحة‪ ،‬كان قليال‪ ،‬وقد خلت‬ ‫كوكبتهم من مشاهير المجتمع الفرنسي‪،‬‬ ‫فأغلب هؤالء هم طلبته‪ ،‬ونفر من زمالئه‬ ‫وأصدقائه؛ أمثال‪ :‬الدبلوماسي فيليب‬ ‫روبيرول‪ ،‬وفيليب سولرز‪ ،‬وإيتالو كالفينو‪،‬‬ ‫وفوكو‪ ،‬وغريماس‪ ،‬وجوليا كريستيفا‪ .‬وهو‬ ‫أمر يشي بالتهميش الذي لحق روالن بارت‬ ‫في الوسط الثقافي على كثرة كتاباته‬ ‫وتنوعها‬ ‫وج َّدة أفكاره‬ ‫ِ‬ ‫ّ‬

‫لست في حداد‪ ،‬إنني حزين‬ ‫يبقى موت والدته «هنرييت بينجر» سنة ‪1977‬م أهمّ عامل من عوامل تنامي أحزانه‪ ،‬فقد ّ‬ ‫مثلت بالنسبة إليه –منذ‬ ‫الوحيد والم َّتكأَ‬ ‫كلما فترت رغب ُته في الحياة‪َ ،‬‬ ‫العاطفي الذي يلوذ به ّ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫انصباب أيامه‬ ‫وث ُقل‬ ‫العائلي‬ ‫وفاة والده– المرجَ ع‬ ‫َّ‬ ‫ّ‬

‫عليه‪ .‬وبموت والدته‪ ،‬حفلت دروسه الجامعية بمعاني الفقد والوحدة والحزن على غرار درسه المعنون بـ«المحايد»‬

‫(كوليج دي فرانس سنة ‪1978‬م) وكتابه «الغرفة المضيئة» الذي كتبه سنة ‪1979‬م‪ ،‬وشذراته اليومية التي أطلق عليها‬

‫عنوان‪« :‬دفتر الحداد» مباشرة بعد موتها وجاء فيها قوله‪« :‬لم أكن مثلها؛ ألنني لم أمت معها»‪ ،‬ثم هو ينزاح بمفهوم‬ ‫الحداد على موت والدته إلى مفهوم الحزن؛ إذ يقول‪« :‬لست في حداد‪ ،‬إنني حزين»‪ ،‬ويُضيف في شذرة أخرى قوله‪:‬‬ ‫كتبت َّ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫كل ما كتبت إلى‬ ‫كنت قد‬ ‫إلي وإلاَّ لما‬ ‫«تنتابني فكرة مرعبة‬ ‫صورتها شعوري بأن أمي لم تكن كل شيء بالنسبة ّ‬

‫ً‬ ‫ً‬ ‫الحظت ً‬ ‫ُ‬ ‫شفيفا ال يكاد يُرى حتى أتمكن أنا من‬ ‫مخلوقا‬ ‫أيضا أن أمي كانت‪ ،‬قبل مرضها‪ ،‬تتعمَّ ُد أن تكون‬ ‫اآلن‪ ...‬وقد‬ ‫الكتابة»‪ .‬وقد تنبّه «جاك دريدا» إلى انهمار معنى الموت في كتابات بارت وفي أفهوماته على غرار تعريفه للرواية بالقول‪:‬‬ ‫«الرواية موت‪ ،‬إنها تجعل من الحياة قدرًا‪ ،‬ومن الذكرى فعلاً‬ ‫ً‬ ‫مفيدا‪ ،‬ومن الديمومة زم ًنا مُ وجّ هً ا ذا داللة»‪ ،‬وقد كتب‬ ‫«موت روالن بارت المُ ِّ‬ ‫ُ‬ ‫تعد ُد» وذهب فيها إلى تأكيد حقيقة أنّ معنى الموت مبثوث في‬ ‫دريدا مقالة في الغرض بعنوان‪:‬‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫الحد الذي صار فيه «موتا بصيغة الجمع»‪.‬‬ ‫واحتل من كيانه فضاءَ ات كبيرة إلى‬ ‫أغلب ما كتب بارت‬

‫العددان ‪ 478 - 477‬شوال ‪ -‬ذو القعدة ‪1437‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬أغسطس ‪2016‬م‬


‫روالن بارت‪ ..‬المفكر الذي أخفى حزنه‬

‫كتابة بارت ً‬ ‫نوعا من الدجل األدبي الذي يتغيّا منه صاحبه تحصيل‬

‫لمذهب في النقد جديدٍ ‪ ،‬وقد أصدر‬ ‫التأسيس‬ ‫الشهرة عبر زعمه‬ ‫َ‬ ‫ٍ‬ ‫الجامعي سنة ‪1965‬م كتابه الموسوم بـ«نقد جديد أم دجل‬ ‫هذا‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫جديد»‪ ،‬وانتقد فيه بح ّدة كل أفكار روالن بارت‪ ،‬وهو األمر‬

‫الذي دعا هذا األخير إلى الر ّد عليه في كتابه الموسوم بـ«النقد‬ ‫والحقيقة»‪ .‬غير أنّ مثل هذا االنتقاد لم يمنع ناقدً ا شهي ًرا مثل‬

‫«جان رودو» من كتابة مقالة قبل وفاة بارت بأسبوع قال فيها‪:‬‬ ‫ً‬ ‫معروفا‪ ،‬وإنما أن‬ ‫«إنّ ما يعني بارت من الكتابة‪ ،‬ليس أن يكون‬ ‫يُعترف به»‪ .‬وإنّ من خلوص نيّة بارت لألدب ما نلفيه في قوله‪:‬‬

‫ُ‬ ‫أحب األدب‪ ،‬فالجواب الذي يتبادر‬ ‫ساءلت نفسي اليومَ لماذا‬ ‫«لو‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫عفويًّا إلى ذهني هو‪ :‬ألنه يُعي ُنني على أن أحيا‪ ،‬لم أعد أطلب‬

‫منه‪ ،‬كما في ِّ‬ ‫الصبا‪ ،‬تجنيبي الجراح التي قد ُتصيبني من لقائي‬ ‫بأشخاص حقيقيّين»‪.‬‬

‫شخصية أسطورية حديثة‬

‫ويبدو أن تنامي حضور كتابات روالن بارت في منجزات الفكر‬

‫العالمي الحديث‪ ،‬قد جعلت منه «شخصية أسطورية حديثة»‬ ‫بالمفهوم الذي اقترحه هو لألسطورة‪ ،‬حيث ظهرت عنه كتب‬

‫عديدة يتغيّا فيها أصحابها إعادة قراءة أفكاره والتأريخ لحياته‬ ‫على غرار ما فعلت الباحثة «تيفين سا ْم َويُو» ّ‬ ‫مؤلفة كتاب «روالن‬

‫بارت‪ -‬سيرة ذاتية»‪ ،‬أو اعتماده شخصية رواية كما فعل الفرنسي‬ ‫لوران بينيه الذي أصدر هذه السنة رواية بعنوان‪« :‬الوظيفة‬

‫السابعة للغة» عن دار غراسيه بباريس في ‪ 496‬صفحة‪ ،‬وخلق بها‬ ‫جدلاً إعالميًّا كبي ًرا‪ .‬حيث تنطلق أحداث الرواية من واقعة حقيقية‬ ‫ُ‬ ‫صورتها َتعَ ُّر ُ‬ ‫دهس بسيارة يقودها سائق‬ ‫ض روالن بارت إلى حادث‬ ‫ٍ‬ ‫بلغاري يوم ‪ 25‬فبراير سنة ‪1980‬م أمام الكوليج دي فرانس بعد‬ ‫ّ‬ ‫المرشح الرئاسي المنافس لجيسكار‬ ‫غداء مع فرانسوا ميتران‬ ‫ديستان‪ ،‬وهو ما أدّى إلى وفاته‪.‬‬

‫بارت ووالدته سنة ‪1923‬م‬

‫هذا الس ّر اللغويّ السحريّ ‪ .‬وللكشف عن الحقيقة؛ أمر الرئيس‬ ‫جيسكار ديستان المف ِّتش «جاك بايارد» ‪-‬وهو أمني شارك في‬ ‫حرب الجزائر وال يهتم بالثقافة وأهلها‪ -‬بالبحث في خفايا مقتل‬

‫جامعي شاب اسمه «سيمون هرزوغ» انتخبه‬ ‫بارت بمساعدة‬ ‫ّ‬ ‫لكي ّ‬ ‫يمكنه من فهم المشهد الثقافي السائد في فرنسا بداية‬ ‫ّ‬ ‫ولعل في هذه التقنية السردية ما خوّل للرواية تمرير‬ ‫السبعينات‪.‬‬

‫وقد ّ‬ ‫مثلت هذه الحادثة قادحً ا سرديًّا ذهب فيه الكاتب إلى‬ ‫ً‬ ‫مخطوطا للباحث «رومان جاكبسون» فيه‬ ‫أن بارت كان يحمل‬

‫كثير من المعارف اللسانية والبنيوية التي كانت رائجة آنذاك‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫المثقفين فيما بينهم وتهافتهم على‬ ‫إضافة إلى كشف عالئق‬ ‫ُ‬ ‫الشهرة حتى صاروا بسببها أشبه بحيوانات ينهش بعضها لحمَ‬

‫ّ‬ ‫الست للغة في تصنيف جاكبسون‬ ‫الحادثة‪ .‬ومعلوم أن الوظائف‬

‫من فرنسا إلى إيطاليا‪ ،‬ومنها إلى بولونيا‪ ،‬ثم إلى أميركا‪ ،‬وفي‬

‫كشف عن وظيفة لغويّة سابعة‪ ،‬وقد اختفى هذا المخطوط لحظة‬

‫هي‪ :‬الوظيفة االنفعالية‪ ،‬والوظيفة الشعرية‪ ،‬والوظيفة‬

‫التأثيرية‪ ،‬والوظيفة اإلفهامية‪ ،‬والوظيفة المرجعية‪ ،‬والوظيفة‬ ‫الوصفية‪ .‬غير أنّ الوظيفة السابعة التي توجد بالمخطوط ُتراهن‬

‫وتخوِّل لمَن ّ‬ ‫على مبدأ «الفعل» ُ‬ ‫يطلع عليها التأثي َر في أيّ شخص‬ ‫إلنجاز أيّ عمل وفي أيّ مكان‪ ،‬أي ُت ّ‬ ‫مكنه من السلطة المطلقة‬

‫بعض‪ .‬وقد قادت رحلة البحث عن قاتل بارت هذيْن المُف ِّتشيْن‬ ‫خاللها قابال أغلب الرموز الفكرية والسياسية الغربية؛ أمثال‪:‬‬ ‫ميشيل فوكو‪ ،‬وجوليا كريستيفا وزوجها الروائي فيليب سوليرز‪،‬‬

‫ودريدا‪ ،‬وغيل دولوز‪ ،‬وأمبرتو إيكو‪ ،‬وتودوروف‪ ،‬وسارتر‪ ،‬وبرنار‬ ‫خف الرواية‬ ‫هنري ليفي‪ ،‬ولوران فابيوس‪ ،‬وميتران وغيرهم‪ .‬ولم ُت ِ‬ ‫ّ‬ ‫ِّ‬ ‫استلت‬ ‫المفكرين والسياسيّين الذين‬ ‫نق َدها الساخر لهؤالء‬

‫على اآلخرين وفق مبدأ «القول هو الفعل» الذي قال به الباحث‬

‫أقوالهم من سياقاتها الرسمية‪ ،‬وأوردتها ضمن سياقات حكائية‬

‫سياسية ولسانية واستخباراتية‪ ،‬هي في حاجة ماسّ ة إلى مثل‬

‫الشهرة العالمية أمثال بارت‪.‬‬

‫جون أوستين‪.‬‬

‫ّ‬ ‫الشك في تورّط أطراف‬ ‫ومن ثمة فإنّ موت بارت يبعث على‬

‫مُتخيَّلة‪ ،‬جاعلة منهم شخصيات عنيفة وماجنة ودعيّة كما لو‬ ‫ّ‬ ‫أنها تتغيّا محاكمة جيل ّ‬ ‫المفكرين ذوي‬ ‫مفكري السبعينات من‬

‫‪141‬‬


‫كتب‬

‫سيرة هشام ناظر‬ ‫وتركي الدخيل ومرآة الغريبة‬ ‫العنوان أعاله أعني به كتاب «هشام ناظر‪ :‬سيرة لمْ ُت ْر َو»‪ ،‬وهو‬

‫تركي َّ‬ ‫الكتاب الذي وضعه الكاتب َّ‬ ‫عن الوزير هشام‬ ‫حفي‬ ‫الص‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫الدخيل ِ‬ ‫َّ‬ ‫الضرب ِم َن ُ‬ ‫ويتملكني ميل كبير إلى هذا َّ‬ ‫الك ُتب‪ ،‬وال‬ ‫ناظر‪ ،‬رحمه الله‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫َّ‬ ‫ْ‬ ‫كانت ْ‬ ‫عن ذلك الجيل المخضرم الذي أتيحَ له أن يعيش حقبًا‬ ‫سيَّما إذا‬

‫مختلفة ِم ْن تاريخ بالدنا‪ ،‬ور َّبما اختلف ما أريده ِم َن الوقوف على حياة‬ ‫َّ‬ ‫الشخصيَّة المترجَ م لها‪ْ ،‬‬ ‫ّ‬ ‫المهتم بتاريخ الوزراء وكبار رجاالت‬ ‫عن عناية‬

‫‪142‬‬

‫َّ‬ ‫سحْ ألقران لهم‪َ ،‬د ْع عنك َّ‬ ‫الدولة‪ِ ،‬م َّم ْن عاشوا حياة عريضة لمْ ُت ْف َ‬ ‫عامة‬ ‫َّ‬ ‫الناس وبسطاءهم‪.‬‬ ‫كانت عيني تبحث في الكتاب عن مالمح أولى لتكوين ُّ‬ ‫ْ‬ ‫النخب َّالتي‬ ‫َّ‬ ‫الدولة‪ ،‬أعني تلك ُّ‬ ‫فت ِم ْنها اإلدارة الحديثة في َّ‬ ‫تأل ْ‬ ‫النخبة‬

‫ً‬ ‫ً‬ ‫حديثا‬ ‫تعليما‬ ‫َّالتي نعرف ِم ْنها أسماء نفر ِم َّم ْن أصاب‬ ‫يباين َّ‬ ‫التعليم َّالذي أصابه جمهرة ِم ْن ُر َّواد األدب‬

‫َّ‬ ‫والثقافة في البالد‪ ،‬ودعاني إلى ذلك َّ‬ ‫ُ‬ ‫اعتدت ْ‬ ‫أن‬ ‫أنني‬ ‫ألمح أسماء جماعة ِم َن ُّ‬ ‫الشبَّان ُّ‬ ‫السعود ِّيين َّالذين‬

‫ْ‬ ‫َّ‬ ‫السبعين ِم َن القرن‬ ‫صلت أسبابهم في عشر‬ ‫َّات‬ ‫بالصحافة‪ ،‬أولئك ُّ‬ ‫ِّ‬ ‫الشبَّان َّالذين‬ ‫الهجريّ الماضي‪،‬‬ ‫عبدالحي قزاز وقو ًدا لصحيفته‬ ‫رأى فيهم حسن‬ ‫ّ‬ ‫َّ‬ ‫«عرفات»‪ ،‬وهي َّ‬ ‫الصحيفة التي آذن تأسيسها‬

‫ْ‬ ‫ُّ‬ ‫عن هيئتها‬ ‫بتحول صحافتنا‬ ‫عام ‪1376‬هـ‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫أخذت تدخل أشكال ِّ‬ ‫ْ‬ ‫الصحافة‬ ‫القديمة‪ ،‬حين‬

‫الحديثة على صفحاتها‪ ،‬وكان مجموعة ِم َن‬ ‫ً‬ ‫ُّ‬ ‫حديثا‪،‬‬ ‫الشبَّان الجامع ِّيين َّالذين تخرَّجوا‪،‬‬

‫الصحيفة‪ ،‬وال ُ‬ ‫عالمة بارزة في تلك َّ‬ ‫زلت‬ ‫أذكر ِم ْنهم أحمد صالح جمجوم‪ ،‬وأحمد‬ ‫يماني‪ ،‬وهشام ناظر‪.‬‬ ‫زكي‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬

‫العددان ‪ 478 - 477‬شوال ‪ -‬ذو القعدة ‪1437‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬أغسطس ‪2016‬م‬

‫حسين محمد بافقيه‬ ‫أديب وناقد سعودي‬


‫سيرة هشام ناظر وتركي الدخيل ومرآة الغريبة‬

‫ْ‬ ‫وحين‬ ‫وقعت عيني على كتاب «هشام ناظر‪ :‬سيرة لمْ‬ ‫قلت‪ :‬عسى أنْ أظفر بشيء ِّ‬ ‫ِّ‬ ‫ُت ْروَ»‪ُ ،‬‬ ‫المبكرة‬ ‫يجلي تلك الحقبة‬ ‫من حياة رجل عرفناه‪ ،‬وزي ًرا ورجل دولة كبي ًرا‪ ،‬وربَّما كان‬

‫في الكتاب إشارة أ ْو إلماحة إلى مشاركته َّ‬ ‫الصحفيَّة تلك‪،‬‬ ‫ً‬ ‫عادة يريدون مِ نَ ُ‬ ‫الك ُتب َّالتي يقرؤونها أمورًا فوق طاقة‬ ‫والق َّراء‬

‫ِّ‬ ‫المؤلفين!‬ ‫َّ‬ ‫لمْ أظف ْر بغايتي التي رجوتها مِ نَ الكتاب‪ ،‬ومع ذلك‬ ‫ْ‬ ‫أنصرف عنه‪ ،‬ولك َّنني‪ ،‬مع ذلك‪ ،‬مضيت في قراءته‪ ،‬وإن‬ ‫لمْ‬ ‫َّ‬ ‫أسفت َّ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫كانت سببًا في وقوفي‬ ‫ضالتي َّالتي‬ ‫ألنني لمْ أجدْ فيه‬ ‫ُ‬ ‫وأدركت أنَّ الكتاب‪ ،‬في الجانب األعظم منه‪ ،‬انصرف‬ ‫عليه‪،‬‬ ‫إلى غاية جليلة أخرى‪ ،‬وهي تحقيق ما لهذا ال َّرجل‬

‫السعُ وديَّة‪ ،‬في زمن‬ ‫مِ نْ سهم في تاريخ الوزارات ُّ‬ ‫طويل ينيف على نصف القرن‪ ،‬وهي مدَّ ة ال‬ ‫ً‬ ‫عادة‪ ،‬إال لنفر قليل مِ نَ الوزراء والكبراء‪.‬‬ ‫تتاح‪،‬‬

‫وقلت‪ِّ :‬‬ ‫ُ‬ ‫لعلي أَ ِجدُ شي ًئا عنْ‬ ‫أنشأت اإلدارة الحديثة في الدَّ ولة‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫ِّ‬ ‫أنْ‬ ‫عن‬ ‫مبسوط‬ ‫بكالم‬ ‫أفوز‬ ‫وعسى‬ ‫حافة‪،‬‬ ‫بالص‬ ‫األولى‬ ‫ِصلته‬ ‫ِ‬ ‫ِّ‬ ‫َّ‬ ‫«الشاعر» المستخفي خلف ثيابه‪ ...‬ولمَّ ا لمْ يحق ْق لي الكتاب‬

‫ً‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫مظنونا فيها أنْ‬ ‫وحزنت على فرصة كان‬ ‫أسفت‬ ‫شي ًئا مِ نْ ذلك‬ ‫َّ‬ ‫«الموظف العامّ »‪ ،‬وال‬ ‫تجلو لنا «اإلنسان» في هشام ناظر ال‬ ‫«المسؤول»‪ ،‬وال «الوزير»‪ ،‬وال «السفير»‪.‬‬ ‫ألمْ أَ ُق ْل لكم‪َّ :‬إنني قارئ «طمَّ اع»!‬

‫أدع ما انطوى عليه الكتاب مِ نْ تأريخ هشام ناظر في‬ ‫أعمال الدَّ ولة‪ ،‬ألهل الحرفة مِ نَ االقتصاديِّين‪ ،‬وخبراء ال ِّنفط‪،‬‬

‫والساسة‪ ،‬وسأصرف همِّ ي إلى تحقيق كل ذلك‬ ‫وال َّتخطيط‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫لاً‬ ‫في ّ‬ ‫«السيرة» سبي له‪ ،‬فالكتاب‪ ،‬مهما‬ ‫نص َّاتخذ‬ ‫ِّ‬ ‫َّ‬ ‫ُضع لها = كتاب مظنون‬ ‫ضرب في غايته التي و ِ‬ ‫األدبي‬ ‫السيرة»‪ ،‬هذا ال َّنوع‬ ‫فيه َّأنه في «أدب ِّ‬ ‫ّ‬ ‫َّالذي ال يستطاع حصره في بناء واحد‪ ،‬مهما‬

‫َّ‬ ‫ً‬ ‫وتصنيفا‬ ‫تكلف ال ُّن َّقاد والدَّ ارسون له حص ًرا‬

‫وأعترف –وال ألزم أحدً ا برأيي– أنَّ هذا‬ ‫الجانب ال يعنيني‪ ،‬وإنْ كان مهمًّ ا ّ‬ ‫لكل‬

‫وتجنيسا‪ ،‬ولن يهمَّ القارئ‪ ،‬هنا‪ ،‬أن يعرف‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫فرقا ما بين «المذ ِّكرات»‪ ،‬و«الذكريات»‪،‬‬

‫ً‬ ‫تأريخا لعمل هشام ناظر في‬ ‫مَ نْ أراد‬

‫الدَّ ولة‪ ،‬أ ْو مَ نْ رغب في الوقوف على‬ ‫مسائل ت َّتصل بالمهامّ الجليلة َّالتي‬

‫أن اس ُتوزر‪ ،‬في مقتبل‬ ‫نيطت به‪ ،‬منذ كان شابًّا صغي ًرا‪ ،‬إلى ِ‬ ‫والسفارة‪ ،‬إلى أنْ َّ‬ ‫توفاه‬ ‫شبابه‪ ،‬حتى استراح مِ نْ أعمال الدَّ ولة‬ ‫ِّ‬

‫الله تبارك وتعالى‪.‬‬ ‫َ‬ ‫ً‬ ‫َّ‬ ‫خاصة‪ ،‬قِطعٌ هي‬ ‫وفي الكتاب‪ ،‬وفي الفصل األوَّل منه‬ ‫َ‬ ‫السيرة‪ ،‬حين أماط هشام ناظر‪ ،‬في حديثه‬ ‫أدنى إلى أدب ِّ‬

‫ً‬ ‫حديثا‬ ‫تركي الدَّ خيل‪ ،‬عنْ أسرته‪ ،‬ونشأته‪ ،‬وحين تحدَّث‬ ‫إلى‬ ‫ّ‬ ‫جميلاً عنْ لقب أسرته الكريمة «آل ناظر»‪ ،‬وعنْ تربيته‪ ،‬لكن‬

‫اإلنساني الحُ ْلو العذب‪ ،‬سرعان ما يذبل‪ ،‬فغاية‬ ‫هذا الجانب‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫ِّ‬ ‫الكتاب َّالتي ألف مِ نْ أجلها‪ ،‬لمْ تكنْ سوى بسط الكالم عنْ‬

‫تركي الدخيل‬

‫ْ‬ ‫اختلفت‪َّ ،‬أنها‬ ‫و«اليوميَّات»‪ ،‬فمآلها‪ ،‬مهما‬ ‫«السيرة الموضوعيَّة»‪ ،‬وإنْ‬ ‫أَ ْف ُرع مِ نْ شجرة‬ ‫ِّ‬

‫َ‬ ‫«السيرة الغيريَّة»‪.‬‬ ‫شئت‬ ‫ِّ‬

‫ً‬ ‫تيسر‬ ‫تركي الدَّ خيل ثمانين‬ ‫أنفق‬ ‫ساعة في تسجيل ما َّ‬ ‫ّ‬

‫للوزير هشام ناظر أن يتخيَّره وينتقيه مِ نْ حياته‪ ،‬وكان‬ ‫اآلني ذريعته السترداد تاريخ حياته‪ُ ،‬تسعفه ذاكرته‬ ‫«ال َّتذ ُّكر»‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ً‬ ‫ِّ‬ ‫متحدثا‪ ،‬وتشحّ فيستعين بالوثائق‪ ،‬وحين استوفى‬ ‫فيندفع‬

‫ِّ‬ ‫ويرتب هيئاتها‪،‬‬ ‫تركي الدَّ خيل يف ِّرغها‪،‬‬ ‫تلك الذكريات أنشأ‬ ‫ّ‬ ‫ويالئم ما بين األشباه وال َّنظائر‪ ،‬فاستوى له مِ نْ ذلك كتاب‬ ‫ُ‬ ‫أفردت له حديثي هذا‪.‬‬ ‫ضخم كبير هو َّالذي‬ ‫تركي أن يقف بكتابه عند هذا القدْ ر؛ ال يزيد‬ ‫ُسع‬ ‫وكان بو ْ‬ ‫ّ‬ ‫على ما قاله هشام ناظر وال ينقص‪ ،‬غير َّأنه سدَّ بعض فراغات‬

‫ُ‬ ‫فطويت الكتاب‪،‬‬ ‫عمله في الدَّ ولة‪ ،‬ذلك َّالذي م َّر بنا مِ نْ قب ُْل‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫رجوته فيه لمْ أظف ْر‬ ‫وانصرفت عنه‪ ،‬ال زهدً ا فيه‪ ،‬ولكنْ ألنَّ ما‬

‫الكتاب بأقوال استمدَّ ها مِ نْ رفقاء المترجَ م له‪ ،‬وزمالء‬

‫أردت أنْ أعرف ً‬ ‫ُ‬ ‫طرفا مِ نْ حياة ال َّناس‬ ‫وأنا قارئ «طمَّ اع»‬ ‫ُ‬ ‫ورجوت أنْ أظفر بتكوين ال ُّنخبة َّالتي‬ ‫في جدَّ ة القديمة‪،‬‬

‫ال َّرجل فوق ما عرف اآلخرون‪ ،‬فكان الحديث عنه ضربًا مِ نَ‬ ‫َ‬ ‫استوفى أعماله العريضة تلك‪ ،‬وانقطع‬ ‫أن‬ ‫«الوفاء»‪ ،‬بعد ِ‬ ‫لحياته وأسرته وأبنائه وحفدته‪ ،‬وصار ماضيه ّ‬ ‫كل حياته‪.‬‬

‫به‪ ،‬وما ُدوِّن فيه ال يعنيني‪ ،‬وال َّ‬ ‫شك أنه سيعني قراء آخرين‪،‬‬ ‫يهمُّ هم ّ‬ ‫كل كلمة سُ ِّط ْ‬ ‫رت في الصفحات الغزيرة‪.‬‬

‫أظفر بغايتي ا َّلتي رجوتها مِ َن الكتاب‪،‬‬ ‫لم‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫أنصرف عنه‪ ،‬ولكنَّني‪ ،‬مع‬ ‫لم‬ ‫ْ‬ ‫ومع ذلك ْ‬

‫أسفت ألنَّني‬ ‫ذلك‪ ،‬مضيت في قراءته‪ ،‬وإن‬ ‫ُ‬ ‫سببا في‬ ‫كانت‬ ‫أجد فيه ضا َّلتي ا َّلتي‬ ‫ْ‬ ‫ً‬ ‫لم ْ‬ ‫ْ‬ ‫وقوفي عليه‬

‫سابقين‪ ،‬وموظفين عملوا على مقربة منه‪ ،‬وعرفوا مِ نْ ذات‬

‫مسوغ الكتابة‬ ‫ً‬ ‫«السيرة الذاتية» عنْ «مسوِّغ» الكتابة‪،‬‬ ‫في‬ ‫عادة ما نبحث‬ ‫ِّ‬

‫أ ْو «مب ِّررها»‪ ،‬كما يحلو للكاتبين‪ ،‬وما بين أيدينا كتاب في‬

‫–أو «الغيريَّة»– وعلى ما بينهما مِ نْ‬ ‫ِّ‬ ‫«السيرة الموضوعيَّة» ِ‬ ‫فروق‪ ،‬فإنَّ بينهما مشتركات كثيرة‪ ،‬لنْ نخوض فيها‪ ،‬ألنَّ‬ ‫ال ُّن َّقاد‪ ،‬وال سيَّما إحسان عباس وجورج ماي‪ ،‬قد استوفوا‬

‫‪143‬‬


‫كتب‬

‫الحديث فيها ح َّتى الغاية‪ ،‬وكتاب «هشام ناظر‪ ،‬سيرة لمْ‬ ‫«السيرة الموضوعيَّة»‪َّ ،‬‬ ‫ُّ‬ ‫يمت بِ ِصل ٍة‬ ‫فإنه‬ ‫ُت ْروَ»‪ ،‬وإنْ كان في‬ ‫ِّ‬ ‫ِّ‬ ‫تركي الدَّ خيل‪ ،‬أنفق ثمانين‬ ‫ـ«السيرة الذاتيَّة»‪ ،‬فالمؤلف‪ ،‬وهو‬ ‫ب ِّ‬ ‫ّ‬

‫ساعة مِ نَ ال َّتسجيل‪ ،‬في سنتين اثنتين‪ ،‬والمترجَ م له وهو‬ ‫تركي‪ ،‬هنا‪ً ،‬‬ ‫باعثا على ال َّتذ ُّكر‬ ‫هشام ناظر يتذ َّكر ويُمْ لي‪ ،‬فكان‬ ‫ّ‬ ‫للسرد‪ ،‬وصحَّ في الكتاب تلك ال َّتسمية العميقة‪ ،‬حين‬ ‫ومح ِّر ًكا َّ‬ ‫َّ‬ ‫تركي ضربًا جديدً ا مِ نَ «األمالي»‪ ،‬هذا االسم الذي ما إن‬ ‫جعله‬ ‫ّ‬

‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫القالي»‪ ،‬و«أمالي‬ ‫علي‬ ‫قرأته ح َّتى‬ ‫ّ‬ ‫وجدتني أستذكر «أمالي أبي ّ‬ ‫الشجريّ »‪ ،‬وسواهما مِ نَ ُ‬ ‫ابن َّ‬ ‫الك ُتب العربيَّة َّالتي قام عليها‬

‫يختلف األمر‪ ،‬كثي ًرا‪،‬‬ ‫قدْ ر وافر مِ نَ ال َّتدوين‬ ‫العربي‪ ،‬وربَّما لمْ‬ ‫ِ‬ ‫ّ‬ ‫إلاَّ في الزمان والمكان واألشخاص والغاية‪ :‬جلس هشام ناظر‬

‫َ‬ ‫في مجلسه‪ ،‬وإنْ‬ ‫شئت في «مَ ْقعده»‪ ،‬وشرع «يُمْ لِي» وجعل‬ ‫ْ‬ ‫اختلفت آلة ال َّتدوين‪،‬‬ ‫وإن‬ ‫األمالي‪،‬‬ ‫تلك‬ ‫ِّن‬ ‫و‬ ‫تركي الدَّ خيل يد‬ ‫ّ‬ ‫ِ‬ ‫حين َّاتخذ «المسجِّ ل» –وربَّما األجهزة الذكيَّة– وسيلة له‪ ،‬كما‬

‫أو َّ‬ ‫السعادات هبة الله‬ ‫علي‬ ‫الشريف أبو َّ‬ ‫ّ‬ ‫كان يجلس أبو ّ‬ ‫القالي‪ِ ،‬‬ ‫ابن َّ‬ ‫الشجريّ ‪ ،‬في القرون الزاهية‪ ،‬في المسجد وجعال يُمْ ليان‬ ‫على طلاَّ بهما األدب ُّ‬ ‫واللغة وال َّنحو وال َّتاريخ واألخبار‪ ،‬فاستوى‬ ‫ٍّ‬ ‫لكل منهما كتاب لم ُي ْبلِه مَ ُّر القرون‪.‬‬

‫‪144‬‬

‫ُس ِعنا أنْ نعتدَّ هذا َّ‬ ‫السيرة «أمالي»‬ ‫الضرب مِ نَ ِّ‬ ‫إذنْ ‪ ،‬بو ْ‬ ‫ِّ‬ ‫بالقالي‬ ‫اختلفت الوسيلة والغاية‪ ،‬وألني مشغوف‬ ‫جديدة‪ ،‬وإن‬ ‫ِ‬ ‫ّ‬

‫وابن َّ‬ ‫ُ‬ ‫فكنت أرجو ل ْو كان عنوان الكتاب الذي هو مدار‬ ‫الشجريّ ‪،‬‬

‫تركي الدَّ خيل»! ربَّما ل ْو كان‬ ‫حديثي «أمالي هشام ناظر على‬ ‫ّ‬ ‫العربي‬ ‫الكتاب كذلك ألقبل عليه ُطلاَّ ب العربيَّة وق َّراء ال ُّتراث‬ ‫ّ‬

‫تركي ذلك‪ ،‬لبيع قدر كبير مِ نْ كتابه‪ ،‬وربَّما‬ ‫القديم‪ ،‬ول ْو فعل‬ ‫ّ‬ ‫ناله مِ نْ ْ‬ ‫نقد ال ُّتراثيِّين‪ ،‬فوق ما يحتمله‪ ،‬لظ ِّنهم أنَّ تركيًّا لبَّس‬ ‫ً‬ ‫َّس‬ ‫عليهم الكتاب حين َّاتخذ «األمالي»‬ ‫عنوانا له‪ ،‬ولطالما َلب َ‬

‫تركي على ق َّرائه!‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ِّ‬ ‫نَ‬ ‫السيرة َّالتي قوامها‬ ‫ب‬ ‫ت‬ ‫ك‬ ‫أعني‬ ‫ب‪،‬‬ ‫ت‬ ‫الك‬ ‫ف‬ ‫ن‬ ‫الص‬ ‫وهذا‬ ‫مِ‬ ‫ِّ‬ ‫ِّ‬ ‫«المؤلف»‪َّ ،‬‬ ‫فالذي‬ ‫اإلمالء وال َّتسجيل وال َّتدوين‪ ،‬يلتبس فيها‬ ‫«يتحدَّث» هو «المترجَ م له»‪َّ ،‬‬ ‫والذي يدوِّن هو الذي ُّات ِفق‬ ‫ِّ‬ ‫«مؤلف»‪ ،‬وليس هذا أم ًرا جديدً ا‪ ،‬ولك َّنه قديم‬ ‫عليه َّأنه‬ ‫ِقدَ م المعرفة اإلنسانيَّة َّالتي انبرى فيها الفالسفة وعلماء‬ ‫ُّ‬ ‫ِّ‬ ‫واللغويُّون واإلخباريُّون ومَ نْ إليهم يكتبون‬ ‫الدين وال ُّنحاة‬

‫ِّ‬ ‫ِّ‬ ‫ويؤلفون‪ ،‬وربَّما صحَّ أن يسأل قارئ‪ :‬مَ نْ‬ ‫مؤلف «محاورَات‬ ‫ِّ‬ ‫المتحدث؟ أم أفالطون الكاتب؟ وما مقدار‬ ‫سقراط»‪ ،‬أسقراط‬ ‫ما لألصمعي في رسالة «فحولة ُّ‬ ‫الشعراء»‪ ،‬تلك ال ِّرسالة َّالتي‬

‫ِّ‬ ‫المتكلم في «رحلة ابن‬ ‫جستاني؟ ومَ ِن‬ ‫الس‬ ‫نقلها إلينا تلميذه ِّ‬ ‫ّ‬ ‫بطوطة»؟ آبن ُّ‬ ‫ُّ‬ ‫الكلبي‬ ‫بطوطة «المُ مْ لي»‪ ،‬أمْ محمَّ د بن جَ زيّ‬ ‫ّ‬

‫تركي ال َّدخيل أن يطوي تلك‬ ‫كان بإمكان‬ ‫ّ‬

‫العبارة «الفلتة»‪ ،‬فال يذكرها‪ ،‬فيقرأ النَّاس‬ ‫يتدسسوا إلى َم َضايقه‪،‬‬ ‫الكتاب‪ ،‬دون أن‬ ‫َّ‬ ‫تركي أن يفعل‬ ‫تدس ْس ُت! كان بإمكان‬ ‫كما‬ ‫َّ‬ ‫ّ‬ ‫ولكن للكتاب «فلتاته»‬ ‫ذلك‪،‬‬ ‫َّ‬

‫أمضى هشام ناظر حياته ّ‬ ‫الدولة‪ ،‬وحين اس ُتوزرَ‪ ،‬كان وزيرًا لل َّتخطيط‪ ،‬ثمَّ وزيرًا للبترول َّ‬ ‫كلها في أعمال َّ‬ ‫والثروة المعدنيَّة‪،‬‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫َّ‬ ‫الخاصة حين أقاله مَ نْ بيده األمر‪ ،‬ولمْ‬ ‫وكانت سفارته على‬ ‫يمكث‪ ،‬إلاَّ حي ًنا‪ ،‬فعُ يِّنَ سفيرًا لبالده في مصر‪،‬‬ ‫وأخلد بعدها لشؤونه‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫ضفاف ِّ‬ ‫ْ‬ ‫كانت استراحة «رومنطيقيَّة» حالمة‪ ،‬لرجُ ل عاش حياته كلها وسط معمعة األرقام والقضايا الكبرى التي‬ ‫وكأنما‬ ‫النيل‪،‬‬

‫َ‬ ‫بالعالم ِمنْ حوله‪ ،‬وهل ِمنْ حياة أجمل ِمنْ أن يُمضيها إلى جانب ِّ‬ ‫النيل‪ ،‬غير بعيد ِمنَ األهرام‪ ،‬وفي بلد عظيم هو مصر؟!‬ ‫تعصف‬ ‫َّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ُ‬ ‫ً‬ ‫كان كل شيء ِمنْ حوله يسير سيرًا هنيئا ساكنا وادعا‪ ،‬وكان كل ما حواليه ي َِشي بأنَّ ذلك الوزير الذي كان‪ ،‬ال يزال في عنفوان‬ ‫ُّ‬ ‫َّ‬ ‫وتقلبات ِّ‬ ‫وكأنما كان هشام ناظر يستدعي شاعرًا ْ‬ ‫النفط‪ ،‬لكنَّ الزمان َّالذي ما‬ ‫قد غار في َن ْفسه‪ ،‬ل ْو لمْ تكبته أعباء الوزارة‬ ‫مجده‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ُضحِ ُكنا أ ْن ًسا ُ‬ ‫العربي» بأمجاد كثيرة‪ ،‬وقو َ‬ ‫زال ي ْ‬ ‫قد عاد ُيبْكينا‪ ،‬كما يقول ابن زيدون! فه ْ‬ ‫بقرْبهُمُ ‪ْ ،‬‬ ‫َّض ْت «مراكز»‬ ‫َوت ثورات «الرَّبيع‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ِّ‬ ‫ما َظنَّ أصحابها أنْ س ُتقوَّض‪ ،‬ولمَّ ا استحكم األمر في مصر‪ ،‬إذا بالنيل ما عاد‪ ،‬كما يقول شوقي في قصيدة ِّ‬ ‫عاميَّة له‪« :‬أسمر‬ ‫بلغت ّ‬ ‫وحليوة»‪ ،‬ولكنَّ ِّ‬ ‫أصبحت الكلمات َّالتي تقال فال يسمع لها أحد‪ْ ،‬‬ ‫ْ‬ ‫كل أذن‪،‬‬ ‫وقد‬ ‫النيل انتفض وعصف وزمجر وثار‪ ،‬وحين ثار‬ ‫ِ‬ ‫االجتماعي»‪ ،‬وربَّما لم ي ُْد ْ‬ ‫ْ‬ ‫ودارت دورتها في «مواقع ال َّت ُ‬ ‫رك هشامٌ أنَّ كلمته تلك َّالتي قالها في وجه مواطنة‬ ‫واصل‬ ‫وتناقل ْتها األلسن‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ْ‬ ‫فأذكرت ال َّناس عبارة قريبة منها‪ ،‬وإنْ لم تشبهها‪ ،‬وال أظ ُّنه‪،‬‬ ‫استثارت ال َّتاريخ‪،‬‬ ‫عندك حُ ُلول»!‬ ‫عليك‬ ‫سعوديَّة «يا سالم‬ ‫كانت قدِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫لاً‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫اس ْ‬ ‫رحمه الله‪ ،‬كان ْ‬ ‫وقد ولدتهُمْ‬ ‫قد عناها‪ ،‬ولكنْ ‪ ،‬مه ‪ ،‬فنحن في زمن «الرَّبيع‬ ‫العربي»‪ ،‬زمن «الجماهير»‪« :‬متى استعبدتم ال َّن َ‬ ‫ّ‬

‫أمَّ هاتهم أحرارًا»!‬ ‫السفير أُ‬ ‫تركي َّ‬ ‫ْ‬ ‫وأنَّ‬ ‫أنَّ‬ ‫أنْ‬ ‫فالمهمّ‬ ‫الدخيل‪ ،‬حين َهيَّأَ الكتاب‬ ‫تلك‪،‬‬ ‫«الفلتة»‬ ‫بعبارته‬ ‫فاه‬ ‫بعد‬ ‫ي‬ ‫ف‬ ‫ع‬ ‫ًا‪،‬‬ ‫ر‬ ‫كثي‬ ‫الحديث‬ ‫في‬ ‫لنْ أمضي‬ ‫َّ‬ ‫ّ‬ ‫ِ َ‬ ‫ً‬ ‫كانت َّ‬ ‫ِّ‬ ‫لل َّن ْشر‪ ،‬سرعان ما استذكرها! ْ‬ ‫ْ‬ ‫ساعة‬ ‫الثمانون‬ ‫المذكرات‪ ،‬وهل‬ ‫كانت تلك العبارة «الفلتة»‪ ،‬هي الباعث على تقييد تلك‬ ‫فهل‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫عندك حُ لول»‪ ،‬التي أ ْعف ْت‬ ‫عليك‬ ‫اس في بالدي أنَّ المترجَ م له‪ ،‬صاحب عبارة «يا سالم‬ ‫َّالتي‬ ‫كانت في سباق مع الزمن‪ِ ،‬ل ُتذك َر ال َّن َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬

‫العددان ‪ 478 - 477‬شوال ‪ -‬ذو القعدة ‪1437‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬أغسطس ‪2016‬م‬


‫سيرة هشام ناظر وتركي الدخيل ومرآة الغريبة‬

‫«المُ مْ َلى عليه»؟ وعلى ٍّ‬ ‫كل فإنَّ هذه ُ‬ ‫الك ُتب يختلط فيها‬ ‫فهي» بـ«المكتوب»؛ لتعاوُرهما بين هذين َّ‬ ‫َّ‬ ‫الشكلين مِ ِن‬ ‫«الش ّ‬

‫انتقال المعرفة‪.‬‬ ‫ِّ‬ ‫ً‬ ‫تركي الدَّ خيل «مؤلفا» فما مقدار‬ ‫وعليه‪ ،‬فإذا عددْنا‬ ‫ّ‬ ‫تص ُّرفه في مادَّة الكتابة‪ ،‬وما المدى َّالذي أُتيح له كي يتص َّرف‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ونقضا؟ وإذا عددْناه‬ ‫وإضافة‪ ،‬وتحري ًرا‪ ،‬ونقدً ا‪،‬‬ ‫حذفا‪،‬‬ ‫فيه‪،‬‬ ‫«ناقلاً »‪ ،‬ليس له إلاَّ أن يراقب َش َف َت ِي «المُ مْ لِي»‪ ،‬يتابعه إذا‬ ‫تحدَّث‪ ،‬ويقف إذا وقف‪ ،‬وتقتضيه األمانة‪ ،‬ألاّ يتزيَّد‪ ،‬وال‬

‫من اندفع‬ ‫سيرته الذاتيَّة‪ ،‬وللك َّتاب ذرائعهم للكتابة؛ فمنهم ِ‬ ‫ً‬ ‫اعترافا‪ ،‬ومنهم مَ ن يكتبها تحدُّ ًثا بنعمة‬ ‫يكتب سيرة حياته‬ ‫الله‪ ،‬وآخرون كتبوها لكي «ي َ‬ ‫ُص ُّفوا حسابهم مع ال َّتاريخ» –‬

‫ً‬ ‫دفاعا عنْ أنفسهم كما فعل طه‬ ‫كما فعل سالمة موسى– أ ْو‬ ‫السيَر وال َّتراجم َّ‬ ‫الشخصيَّة‪.‬‬ ‫حسين وغيره مِ نْ ُك َّتاب ِّ‬ ‫«الذاتية» و«الموضوعية»‬

‫ويظهر لي أنَّ كتاب «هشام ناظر‪ ،‬سيرة لمْ ُت ْروَ»‪ ،‬ي َّتخذ‬

‫يتقوَّل على صاحبه‪ ،‬فشروط ال َّنقل وآدابه مرعيَّة‪ ،‬وأدوات‬ ‫َّ‬ ‫الضبط وال َّتح ِّري مشروطة‪.‬‬ ‫ِّ‬ ‫ً‬ ‫َّ‬ ‫تركي الدَّ خيل «مؤلفا»‪ ،‬فال يعني أن‬ ‫غير أننا إذا عددْنا‬ ‫ّ‬

‫لهشام ناظر سطوته وسلطانه على الكتاب‪ ،‬فهو صاحب األمر‬

‫ِّ‬ ‫المحقق‪،‬‬ ‫أو «ال َّناقد»‪ ،‬أو «المؤرِّخ»‬ ‫أن يتوسَّ ل بقلم «المؤوِّل»‪ِ ،‬‬ ‫فيوسع المادَّة َّالتي أُ‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ْ‬ ‫وتفتيشا ومراجعة ونقدً ا‬ ‫تيحت له بحثا‬

‫إلى القارئ‪ ،‬وأن َت ْثبُت هذه «ال ِّرسالة» في ال َّتاريخ‪ ،‬حين تخرج‬

‫والد ْقة في َّ‬ ‫يضرب بشروط ال َّنقل وال َّتح ِّري ِّ‬ ‫الضبْط ُع ْرض الحائط‪.‬‬ ‫ِّ‬ ‫«مؤل ًفا» يصبح َ‬ ‫أدنى إلى‬ ‫ال‪ ..‬ال نقول بذلك‪ ،‬ولك َّنه حين يكون‬

‫و«السيرة‬ ‫«السيرة الذاتيَّة»‪،‬‬ ‫موقعه في «منطقة» وسطى بين‬ ‫ِّ‬ ‫ِّ‬ ‫وسمَ ات‪ ،‬وال يزال‬ ‫الموضوعيَّة»‪ ،‬وفيه مِ نْ كليهما مالمح ِ‬

‫تركي الدَّ خيل‬ ‫ما دام هو الممسك بمراحل «اإلمالء»‪ ،‬وكان‬ ‫ّ‬ ‫كـ«الوسيط» ال َّناقل‪ْ ،‬‬ ‫بل هو‪ ،‬ال َّ‬ ‫شك‪« ،‬وسيط» ناقل‪ ،‬مهمَّ ته‬ ‫َّالتي أرادها هو‪ ،‬أ ْو أرادها المترجَ م له‪ ،‬أن ينقل «رسالة» ما‬

‫ونقضا‪ ،‬وال يستسلم ْ‬ ‫ً‬ ‫لمكر «اإلمالء»‪ ،‬وحِ يَل «ال َّتذ ُّكر»‪ ،‬أمَّ ا إذا‬ ‫َ‬ ‫اكتفى بموقع «المُ مْ َلى عليه»‪ ،‬فلن يَعْ دو عمله دور «المح ِّرر»‬

‫هذه «األمالي» في «كتاب»‪ ،‬وأحسب أنَّ أحوال المترجَ م له‪،‬‬ ‫ْ‬ ‫أو «المذ ِّكرات»‪،‬‬ ‫والسياق َّالذي‬ ‫ِّ‬ ‫خرجت فيه هذه «األمالي»‪ِ ،‬‬

‫عمل ليس بالهيِّن اليسير‪ ،‬إذا أراد «المح ِّرر» أن «يح ِّرر» كتابًا في‬ ‫السبيل إلى ذلك اإلمالء وال َّن ْقل‪.‬‬ ‫ِّ‬ ‫«السيرة»‪ ،‬ول ْو كان َّ‬ ‫ُ‬ ‫قلت‪َّ :‬إنها‬ ‫سأعود‪ ،‬اآلن‪ ،‬إلى دواعي الكتابة‪ ،‬تلك َّالتي‬

‫أراد أن ينقل َّ‬ ‫قصة حياته‪ ،‬حين بلغ الهزيع األخير مِ نْ عمره‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫ْ‬ ‫نيطت به على مدار‬ ‫أن استراح مِ نَ التبعات الجسام التي‬ ‫بعد ِ‬ ‫نصف قرن‪ُّ ،‬‬ ‫ض ٍن‪ ،‬فال َّ‬ ‫شاق مُ ْ‬ ‫ٌّ‬ ‫أقل مِ ن أن يترك‬ ‫كلها عمل‬

‫َّالذي ينقل الكالم مِنْ طور «المشافهة» إلى طور «الكتابة»‪ ،‬وهو‬

‫ً‬ ‫«السيرة‬ ‫وعادة ما نبحث في‬ ‫ُتدْ َعى «المسوِّغ» أو «المب ِّرر»‪،‬‬ ‫ِّ‬ ‫ً‬ ‫الذاتيَّة» عنْ‬ ‫سبب ظاهر أ ْو كامن‪ ،‬حمل إنسانا ما على تدوين‬ ‫ٍ‬ ‫ْ‬ ‫كانت‬ ‫العربي» هل‬ ‫سفيرًا‪ ،‬انتصارًا لمواطنة في زمن «الرَّبيع‬ ‫ّ‬ ‫ترجو أنْ ِّ‬ ‫السفير‪،‬‬ ‫تذكر ال َّناس في بالدي بتاريخ عريض أمضاه َّ‬

‫َّ‬ ‫«موظ ًفا كبيرًا»‪ ،‬ثمَّ «وزيرًا» لوزارتين‬ ‫منذ كان في شبابه‬ ‫لاَّ‬ ‫ٌ‬ ‫دفاع عنْ تاريخ‪،‬‬ ‫خطيرتين‪ ،‬وأنَّ هذه «األمالي» إنْ هي إ‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫خِ يف عليه ِمنْ أثر تك العبارة «الفلتة»‪ ،‬التي نسي الناس في‬

‫«السفير» َّالذي كان‪ِ ،‬منْ ُ‬ ‫قبل‪« ،‬وزيرًا»‪،‬‬ ‫بالدي‪ِ ،‬منْ أجلها‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫تركي َّ‬ ‫أو ان ُت َ‬ ‫دِب‪ ،‬لكي َيجْ لو «المرآة»‪،‬‬ ‫فان َتدب‬ ‫ّ‬ ‫الدخيل َنفسه‪ِ ،‬‬ ‫َّ‬ ‫األعرابي ذو ال ُّرمَّ ة‪ ،‬مثل «مرآة‬ ‫كي تصبح‪ ،‬كما قال الشاعر‬ ‫ّ‬ ‫ناصعة مَ جْ ُلو ًَّة زاهية!ً‬ ‫ً‬ ‫الغريبة»‪،‬‬ ‫تركي َّ‬ ‫الدخيل أن يطوي تلك العبارة‬ ‫كان بإمكان‬ ‫ّ‬ ‫«الفلتة»‪ ،‬فال يذكرها‪ ،‬فيقرأ ال َّناس الكتاب‪ ،‬دون أن يتدسَّ سوا‬

‫تركي أن يفعل ذلك‪،‬‬ ‫إلى مَ َضايقه‪ ،‬كما تدسَّ ْس ُت! كان بإمكان‬ ‫ّ‬ ‫ولكنَّ للكتاب «فلتاته»‪ ،‬كما للكالم «فلتاته» تلك َّالتي كان‬

‫ْ‬ ‫َّ‬ ‫فرويد ْ‬ ‫وعرفنا‬ ‫فتهديْنا إلى باطن ال ُّن ُفوس‪،‬‬ ‫قد كشف مخبَّآتها‪،‬‬ ‫ِمنْ تلك «الفلتات» ما لمْ يكنْ ل ُتتاح لنا معرفته!‬ ‫ْ‬ ‫تركي في مهمَّ ته؟!‬ ‫فهل أفلحَ‬ ‫ّ‬

‫يحملنا على ال َّتفكير في دواعي الكتابة ومسوِّغاتها‪ ،‬فالرَّجُ ل‬

‫ّ‬ ‫يدل عليه‪ ،‬ويحيا بين ال َّناس‪ ،‬بعد أن‬ ‫لل َّتاريخ «أث ًرا» منه‬ ‫ّ‬ ‫كاف لكي يكتب‬ ‫يستوفي حياته‪ ،‬ولكل أجل كتاب‪ ،‬وهذا وحده ٍ‬ ‫اإلنسان سيرة حياته أو يُمْ ليها‪.‬‬

‫لكنَّ قارئ كتاب «هشام ناظر‪ِ ،‬سيرة لمْ ُت ْروَ» لن يُعييه‬ ‫َّ‬ ‫السيرة؛ َّ‬ ‫ألنه سرعان ما سيظفر به‪،‬‬ ‫الظفر بمسو ٍِّغ إلنشاء هذه ِّ‬ ‫منذ يقرأ َّ‬ ‫يذكر «المُ مْ لِي»‪،‬‬ ‫الصفحات األولى للكتاب! نعم‪ ،‬لمْ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫وال «المُ مْ َلى عليه» –وإنْ‬ ‫شئت «المح ِّرر»– أنَّ ذلك «مسوِّغ»‬ ‫ُّ‬ ‫السيرة‪ ،‬لك َّنه لن يُعييه ذلك متى ما قرأ‬ ‫الشروع في إنشاء هذه ِّ‬ ‫ُّ‬ ‫ِّ‬ ‫تستحقه مِ نْ تأمُّ ل وتدبُّر‪.‬‬ ‫المقدمة بما‬ ‫عبارات‬

‫لمْ يمهلنا الكتاب لل َّتكهُّن وال البحث وال ال َّتفتيش‪ ،‬وساق‬ ‫َّ‬ ‫نتكلف ذلك‪ ،‬وكأنَّ تلك‬ ‫السيرة‪ ،‬دون أن‬ ‫إلينا «مسوِّغ» هذه ِّ‬ ‫ْ‬ ‫كانت كالهمِّ الجاثم على‬ ‫العبارة َّالتي سأسوقها‪ ،‬بعد قليل‪،‬‬

‫ت عنه‪ُ ،‬ول ْ‬ ‫الصدر‪ ،‬وحين ُد ِفعَ ْ‬ ‫وكانت َّ‬ ‫َّ‬ ‫الصوت‬ ‫السيرة‪،‬‬ ‫ِدَت هذه ِّ‬ ‫ِ‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫وكأنه‬ ‫َّالذي بقي مِ نْ هشام ناظر بعد أن توفاه الله بزمن يسير‪،‬‬ ‫كان لزامً ا على هذا الكتاب أن يظهر‪ ،‬في عجلة مِ نَ الزمن‪،‬‬ ‫بُعَ يْد الوفاة‪ ،‬ما لم ُي َتحْ له أن يظهر في حياة المترجَ م له‪.‬‬ ‫عندك حُ ُلول»! سببًا‬ ‫عليك‬ ‫ربَّما كانت عبارة «يا سالم‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬

‫لوالدة هذه المذ ِّكرات‪ ،‬ولنا أنْ نحسبها «فلتة» مِ نْ «فلتات‬ ‫ً‬ ‫ساعة في‬ ‫الخطاب»‪ ،‬لوالها ما أنفق هشام ناظر ثمانين‬ ‫عامين‪ ،‬ليُمْ ل َِي فيها َّ‬ ‫تركي الدَّ خيل!‬ ‫قصة حياته على‬ ‫ّ‬

‫‪145‬‬


‫إصدارات‬

‫تاريخ الكذب المؤلف‪ :‬جاك دريدا‬ ‫ترجمة‪ :‬رشيد بازي الناشر‪ :‬المركز الثقافي العربي‬

‫كرس جاك دريدا في هذه الدراسة المختلفة في موضوعها كل جهده؛ لفهم الكذب‬

‫بطريقة ثقافية وليست أخالقية؛ إذ يلقي الضوء على ضرورة التمييز بين تاريخ الكذب‬

‫كمفهوم وتاريخه في حدّ ذاته‪ ،‬الذي يحيل إلى عوامل تاريخية وثقافية‪ ،‬تساهم في بلورة‬

‫الممارسات واألساليب والدوافع التي تتعلق بالكذب‪ ،‬وتختلف من حضارة إلى أخرى‪ ،‬بل‬ ‫داخل الحضارة الواحدة نفسها‪.‬‬

‫الطريق إلى سايكس ‪ -‬بيكو المؤلف‪ :‬مجموعة باحثين عرب‬ ‫الناشر‪ :‬مركز الجزيرة للدراسات‬

‫بينما كان البريطانيون يفاوضون الشريف حسين‪ ،‬باشروا س ًّرا مفاوضات موازية مع‬

‫فرنسا وروسيا القيصرية؛ لتقسيم تركة الدولة العثمانية‪ ،‬وتحديدً ا الواليات العربية‪...‬‬ ‫ً‬ ‫الحقا بالشرق األوسط بعد‬ ‫وأسفرت المفاوضات عن االتفاق على تقسيم ما أصبح يعرف‬

‫تجزئته إلى خمس مناطق‪ .‬عن الطريق إلى سايكس ‪ -‬بيكو‪ ،‬وكواليس انهيار اإلمبراطورية‬ ‫العثمانية‪ ،‬والتحوالت السياسية لمرحلة ما بعد الحرب العالمية األولى ونتائجها؛ يكتب‬

‫ثمانية باحثين عرب‪.‬‬

‫‪146‬‬ ‫المسلمون في مهب اإلرهاب‬

‫المؤلف‪ :‬عبدالعزيز المطوع‬

‫الناشر‪ :‬المؤسسة العربية للدراسات والنشر‬

‫ُّ‬ ‫للتخلص من الثقوب الثقافية والفكرية واألخالقية الكثيرة‬ ‫هذا الكتاب مشروع استثارةٍ؛‬

‫التي تستنزف طاقات المجتمعات والجماهير اإلسالمية‪ ،‬وتشتت رؤيتها المستقبلية‪،‬‬

‫وتعطل حركتها باتجاه تقمُّ ص روح التحرر والتغيير والتجديد واألصالة والنهوض‪ ،‬التي‬

‫تحول بينها وبين كل محاوالتها الجادة إلثبات الذات من خالل استرداد الهوية والثقافة‬ ‫والجذور اإلسالمية‪ ،‬مثلما نجحت هذه األمة من قبل في التفوق على مشكالتها وأزماتها‪،‬‬

‫وفي ابتكار وجوهها وتجاربها الحضارية المتميزة على امتداد التاريخ‪.‬‬

‫أعالم تجديد الفكر الديني المؤلف‪ :‬مجموعة من الباحثين‬ ‫إشراف‪ :‬بسام الجمل الناشر‪ :‬مؤمنون بال حدود‬

‫في هذا الكتاب عدد من مفكري اإلسالم الذين ساهموا بدرجات متفاوتة في تجديد‬

‫الفكر الديني عامة‪ ،‬والفكر اإلسالمي خاصة‪ ،‬وكانوا من أولئك الذين سعوا إلى تقديم‬

‫قراءة جديدة من داخل التراث الديني اإلسالمي‪ ،‬ودعوا إلى مراجعته‪ ،‬ومساءلته بروح‬

‫نقدية من دون مواقف سابقة منه‪ ،‬مهما كان مضمونها‪ ،‬ومبرراتها‪ ...‬يوفر هذا الكتاب‬ ‫للباحثين الشباب‪ ،‬وللطلبة المهتمين بالفكر الديني‪ ،‬ولعموم أهل الفكر والثقافة‪،‬‬ ‫مرجعً ا علميًّا يعرفهم بأبرز أعالم تجديد الفكر الديني‪ ،‬وأهم مفكري اإلسالم الجدد‪.‬‬

‫العددان ‪ 478 - 477‬شوال ‪ -‬ذو القعدة ‪1437‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬أغسطس ‪2016‬م‬


‫إنسان اليوم إلى أين؟‬

‫المؤلف‪ :‬جورج رشيد‬

‫الناشر‪ :‬دار الفارابي‬

‫يتطرق هذا الكتاب إلى الجانب األخالقي البشري‪ ،‬مستعينا بفرعين من فروع العلوم‬

‫اإلنسانية‪ ،‬وهما‪ :‬علم االجتماع وعلم النفس؛ بهدف الخروج بنتائج وتأمالت فكرية‪،‬‬ ‫تحاول اإلجابة على هذا التساؤل المزعج من حيث الوجهة التي تسلكها البشرية اآلن؟‬ ‫وهل هي كما يقول أحد المفكرين تقود نفسها إلى جحيمها المخيف؟‬

‫مذكرات پيشمرگة سابق بالقوات الكوردية المؤلف‪ :‬هشام النورسي ‬ ‫الناشر‪ :‬مؤسسة شمس للنشر واإلعالم‬

‫رواية واقعية ألحداث حقيقية حدثت فصولها في كل من‪ :‬بغداد؛ مناطق كوردستان‬

‫العراق‪ ،‬وأقفاص األسرى العراقيين في طهران‪ ،‬ومدن إيرانية أخرى في عامي ‪- 1982‬‬ ‫‪1983‬م‪ ،‬يرويها هشام النورسي الذي عاش وعايش أحداث تلك المرحلة من تاريخ كوردستان‬

‫كوطن قومي‪ ،‬والعراق كوطن جامع لكل القوميات‪ ،‬من خالل التحاقه بالفصائل الكوردية‬ ‫المسلحة‪ ،‬ثم بعد مرور أكثر من ثالثين عامً ا يشرع في توثيق ونشر وقائع تلك الحقبة؛ من‬ ‫أجل أن تكون رسالة مفتوحة لمن يرغب في االطالع واالستفادة من تلك التجربة‪.‬‬

‫‪147‬‬ ‫ما ال يدرك‬

‫المؤلف‪ :‬لويس غروس‬

‫ترجمة‪ :‬زينب بنياية الناشر‪ :‬مشروع كلمة للترجمة‬

‫ينطلق المؤلف في هذا الكتاب من فكرة أساسية هي أن أشهر أدباء القرن العشرين‬

‫هم‪ :‬فرانز كافكا‪ ،‬فرناندو بيسوا‪ ،‬وسيزار بافيسي؛ لم يكونوا يكرهون النساء بوصفهم‬ ‫قد أخفقوا في عالقاتهم العاطفية‪ ،‬إنما في تصورهم النساء أنهن يمثلن ثقبًا في العالم‬ ‫اليوتيوبي الذي يحلمون به‪ ،‬متوصلاً إلى هذه النتيجة من خالل دراسة مضامين الرسائل‬ ‫العاطفية التي كتبوها؛ إذ لم يتمكن أحد منهم أن يعقد شي ًئا وجدانيًّا يتصف بالمتانة‬

‫واالستقرار مع اآلخرين‪ ،‬وبخاصة مع النساء‪.‬‬

‫حال األمة العربية‪ :‬العرب وعام جديد من المخاطر‬ ‫المؤلف‪ :‬مجموعة من المفكرين الناشر‪ :‬مركز دراسات الوحدة العربية‬

‫ّ‬ ‫يقدم هذا الكتاب توضيحً ا لحال األمة العربية وتحديدً ا أكثر في العامين ‪2016 – 2015‬م‪،‬‬

‫بناء على المخاوف التي تحيط باألمة العربية بمختلف تواجدها الجغرافي‪ .‬يتناول المحور‬ ‫األول تطورات النظام الدولي وتأثيرها في الوطن العربي‪ ،‬وسياسات الدول الكبرى تجاه‬

‫هذا الوطن‪ ،‬ويبحث في تطور أدوار دول الجوار اإلقليمي وتداخلها عربيًّا‪ .‬وتتناول دراسات‬

‫المحور الثاني التطورات السياسية واالجتماعية واالقتصادية واألمنية في البلدان العربية‪.‬‬ ‫أما المحور الثالث فيتناول بؤر المواجهة على الساحة العربية‪ ،‬وبخاصة في فلسطين‬

‫المحتلة‪ ،‬أو في العراق وسوريا وليبيا واليمن‪ ،‬التي اتخذ الصراع أو المواجهات فيها‬ ‫ً‬ ‫عنيفا ومدم ًرا اقتلع الناس من أرضهم‪.‬‬ ‫منحى‬


‫كتب‬

‫النموذج الصيني‪...‬‬ ‫زلزال الدولة المتحضرة‬ ‫القاهرة‬

‫ذهب المفكر الصيني «تشانغ وي وي» إلى أن النهضة الكبرى‬ ‫التي قامت بها الصين منذ منتصف السبعينيات حتى اآلن تعد زلزالاً‬

‫مما أدى إلى تفكك االتحاد الروسي‪.‬‬

‫على مستوى الناتج القومي أو إنجاز طفرات واضحة في الصناعات‬

‫الصيني في التنمية‪ ،‬هذا النموذج القائم على إتاحة رأسمالية السوق‬

‫بكل المقاييس‪ ،‬وال ترجع أهمية هذا الزلزال إلى ما تحقق من تقدم‬ ‫العمالقة‪ ،‬إنما ألن التقدم السريع والمتالحق تم في دولة حضارية‬

‫بكل هذا االتساع الجغرافي والعمق التاريخي والتنوع الثقافي والثروة‬ ‫البشرية‪ .‬جاء ذلك في كتابه «الزلزال الصيني‪ :‬نهضة دولة متحضرة»‬

‫الصادر مؤخ ًرا بالقاهرة عن المجموعة‬

‫السير في ركاب كل ما ينصح به الغرب‪ ،‬كما فعل «غورباتشوف»؛‬ ‫ويذهب «وي وي» إلى أن الصين حققت اآلن ما يعرف بالنموذج‬

‫إلى جانب رأسمالية الدولة‪ ،‬ووضع خطط تنموية تستهدف بؤرًا‬ ‫ً‬ ‫ومدنا متقدمة بدرجة تتفوق على النموذج الغربي‪ ،‬مع السعي‬

‫لتحديث وتمدين الواليات الفقيرة في الصين عبر تدوير رأسمالي من‬ ‫الواليات األغنى إلى الواليات األفقر‪.‬‬

‫الدولية للنشر والتوزيع «سما» (ترجمه‬

‫‪148‬‬

‫وشن «وي وي» هجومًا على الغرب‪،‬‬

‫ً‬ ‫رافضا المقاييس الغربية للبلدان المتقدمة؛‬

‫عن اإلنجليزية كل من محمود مكاوي‬

‫وماجد شبانة‪ ،‬وراجعه على النسخة‬

‫إذ إن بعضها تم احتسابه على أساس الدخل‬

‫«وي وي» يؤكد في هذا الكتاب أن‬

‫يتوافر هذا المبلغ لدى المواطن الصيني‪ ،‬لكن‬

‫الياباني عام ‪2010‬م في سباق الناتج القومي‬

‫المواطن األوربي صاحب الـ‪ 20‬دوالرًا‪ ،‬فهو‬ ‫يمتلك منزلاً أو قطعة أرض‪ ،‬مشي ًرا إلى أن هذا‬

‫الصينية أحمد سعيد)‪.‬‬

‫الفردي الذي يزيد على ‪ 20‬دوالرًا يوميًّا‪ ،‬وقد ال‬

‫الصين استطاعت أن تتخطى العمالق‬

‫هذا المواطن‪ ،‬كما يقول‪ ،‬يمتلك ما ال يمتلكه‬

‫المحلي‪ ،‬وأن نصيب الناتج المحلي األميركي‬

‫المقياس ال تعرفه األمم المتحدة‪ ،‬فضلاً عن أن‬

‫من الناتج المحلي اإلجمالي العالمي سوف‬

‫يبلغ بحلول أغسطس ‪2016‬م نحو ‪،%18.3‬‬

‫فارق الغالء المعيشي يكون في الغرب أعلى‪.‬‬

‫بينما سيبلغ نصيب الصين من الناتج المحلي‬

‫وقال المؤلف‪ :‬إن تطور الغرب جاء بعد‬

‫العالمي نحو ‪ ،%16.9‬وأنه حسبما قدر الرئيس التنفيذي‬

‫احتالله إفريقيا‪ ،‬ونهب ثروات بلدانها‪ ،‬كما أن‬

‫للمنتدى االقتصادي العالمي «كالوس شوب» سوف يتجاوز النصيب‬

‫نهضة اليابان لم تحدث إال بعد احتاللها الصين‪،‬‬

‫وتحدث البروفيسور «تشانغ» بحماس عن النهضة االقتصادية‬

‫الصين مرتين من أجل الحفاظ على تجارة األفيون؛ مما عطل‬

‫األميركي بحلول عام ‪2018‬م‪ ،‬ليصبح أكبر اقتصاد في العالم‪.‬‬

‫الصينية‪ ،‬موضحً ا أنها نهضة دولة متحضرة‪ ،‬وأن الدولة الحضارية‬

‫ونهب الذهب الصيني‪ .‬كما شن هجومه على بريطانيا التي اجتاحت‬

‫هي بمثابة مئات الدول التي اندمج بعضها مع بعض على مدار‬

‫لسنوات مسيرة الصين للدخول في منظومة الدول الحضارية‪.‬‬ ‫ً‬ ‫أستاذا في جامعة شنغهاي‬ ‫ويذهب «وي وي»‪ ،‬الذي يعمل‬

‫أقدم دولة حضارية مستمرة منذ القرن الثاني قبل الميالد حتى اآلن‪،‬‬

‫األساسية التي قامت عليها النهضة الصينية هي الممارسة كمنهج‬

‫التاريخ‪ ،‬معتب ًرا الصين نموذجً ا فريدًا في هذا الشأن؛ ألنها تاريخيًّا‬

‫وأنها على المستوى الجغرافي أكبر من عشرين دولة أوربية‪ ،‬بينما‬ ‫على المستوى السكاني فإنها تشتمل على ُخمس سكان العالم‪ ،‬ومن‬

‫ثم فكل هذا الثقل يجعل من الصعوبة المغامرة بتطورات سريعة‪،‬‬ ‫وألنه ال بد من اتخاذ خطوات تدريجية بسيطة ومحسوبة‪ ،‬فال يمكن‬ ‫العددان ‪ 478 - 477‬شوال ‪ -‬ذو القعدة ‪1437‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬أغسطس ‪2016‬م‬

‫فضلاً عن تأسيسه مركز دراسات النموذج الصيني‪ ،‬إلى أن األعمدة‬

‫فكري‪ ،‬وإعطاء األولوية لالستقرار‪ ،‬واالهتمام بمستوى المعيشة‪،‬‬

‫واإلصالح التدريجي‪ ،‬والتمييز الصحيح لألولويات‪ ،‬واعتماد االقتصاد‬

‫المختلط‪ ،‬واالنفتاح على العالم الخارجي‪ ،‬وصياغة معايير صينية‬ ‫لكل األمور‪.‬‬


‫نصوص‬

‫جواب يفتش عن سؤال‬ ‫سعود بن سليمان اليوسف‬ ‫شاعر سعودي‬

‫ب ـ ـ ـ ــذاك ـ ـ ـ ــر ٍة م ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــألى ف ـ ـ ـ ـ ـ ً‬ ‫ـراغـا وم ـ ـ ـ ـ ـ ـه ـ ـم ـلـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ْـه‬

‫ّ‬ ‫تمط ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــيت‪ ..‬وج ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــه الدرب غابات أسئله‬

‫تض ـ ـ ـ ـ ـ ـ َ‬ ‫ٌ‬ ‫درب َيضـ ـ ـ ـ ـي ـ ـ ــع بنفسه‬ ‫ـاح َك ل ـ ـ ـ ـ ـ ــي‬

‫ـاح ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ َ‬ ‫تض ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ُ‬ ‫ـك فلاّ ٍح ملي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــالد سنبل ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــه‬

‫وف ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــي الروح أضداد الشعور تواشجت‬

‫عروس والتي ـ ـ ـ ـ ــاعـ ـ ـ ـ ُ‬ ‫ـات أرمل ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــه‬ ‫أغان ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــي‬ ‫ٍ‬

‫ّ‬ ‫يكحل عين ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــه‬ ‫ول ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــي أم ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــل األعمى‪..‬‬

‫ويرس ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــم مس ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــراه ويحم ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــل مشعله‬

‫ُي ّ‬ ‫الدرب‪ُ -‬‬ ‫ُ‬ ‫أرج َله ُّ‬ ‫السرى‬ ‫ـمن ـ ـ ـ ـ ــي ‪-‬وض ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــاع‬

‫ُ‬ ‫الدرب ض ّي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــع أرج ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــله!‬ ‫وحي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــن تراءى‬

‫ول ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــي خيبة الفالح‪ ..‬أغ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــرى الجراد أن‬

‫َ‬ ‫جدوله‬ ‫يطي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــر‪ ..‬وأغ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــوى بالسن ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــابل‬

‫يم ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــاطله فص ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــل الربي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــع ين ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــاعه‬

‫َ‬ ‫في ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ّ‬ ‫منجل ْه‬ ‫ـرتد مكس ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــو ًرا يم ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــاط ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــل‬

‫ٌ‬ ‫موحش‬ ‫ول ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــي ُح ُل ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ٌـم ف ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ّـظ املالم ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــح‬

‫ت ِّ‬ ‫استيقظت لمُ ُ‬ ‫ُ‬ ‫مؤو َله؟!‬ ‫فم ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــا ل ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــي إذا‬

‫ب ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ َـد ْ‬ ‫ت ف ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــي تضاريس الحقيقة صوريت‬

‫رك ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ َ‬ ‫ـام َمج ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــازات وأم ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ َ‬ ‫أخي َل ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــه‬ ‫ـواج ِ‬

‫ُخلق ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ُ‬ ‫ـؤال مه َّي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ًـئا‬ ‫ـت ج ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــوا ًب ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــا للس ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ِ‬

‫َ‬ ‫أبلد الغي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ َر الس ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ َ‬ ‫فم ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــا َ‬ ‫وأكسله!‬ ‫ـؤال‬

‫تعج ُ‬ ‫ّ‬ ‫لت ف ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــي أميس اقتطاف رؤى غدي‬

‫َّ‬ ‫مؤجله‬ ‫وم ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــا زال عن ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــدي ذكري ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــات‬

‫َ‬ ‫روحها‬ ‫إذا البيد ألقت ف ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــي الحدائ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــق‬

‫فق ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــد تظم ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــأ األشج ـ ـ ـ ـ ــار وه ـ ـ ـ ـ ــي َّ‬ ‫مبلله‬

‫السخي مشـ ــر ًدا‬ ‫وم ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــا أتعس الص ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــوت‬ ‫ّ‬

‫ُّ‬ ‫تسو َله!‬ ‫يمـ ـ ـ ـ ــارس ‪-‬واألص ـ ـ ـ ــداء شت ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـّى‪-‬‬

‫ُ‬ ‫وأوجع خيب ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــات الرحيل إذا انته ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــى‬

‫غنم سوى ّ‬ ‫حظ ُب َ‬ ‫ب ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــك الدرب لم َت ْ‬ ‫وصله‬

‫‪149‬‬


‫بورتريه‬

‫نور الدين فارح‪:‬‬ ‫قائد الحركة النسوية في الصومال‬ ‫متعب القرني‬ ‫مترجم وأكاديمي سعودي‬

‫‪150‬‬

‫العددان ‪ 478 - 477‬شوال ‪ -‬ذو القعدة ‪1437‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬أغسطس ‪2016‬م‬


‫«صالت»‪« ،‬عقد»‪« ،‬خرائط»‪« ،‬أسرار»‪« ،‬عظام»‪« ،‬هدايا»‪« ،‬أراضي» عناوين روايات من‬

‫حالة من الجمع تعكس مأساة روائي يعيش كلفظة مفردة في أرض المهجر‪ ،‬ال‬ ‫كلمات يتيمة في‬ ‫ٍ‬

‫تملك إال أن تطالب بعالمة التعددية (‪ ،)pluralism‬تعددية االتجاهات والثقافات واألديان في‬

‫بلده الصومال الذي انهار في حروب أهلية طاحنة‪ ،‬تركته ضعيف المقاومة لالستعمار‪ ،‬مشتت‬ ‫ً‬ ‫عاجزا عن النهضة واالرتقاء‪.‬‬ ‫الهوية واالنتماء‪،‬‬

‫َ‬ ‫نور الدين فارح (‪ )-1945‬روائي صومالي ّ‬ ‫نور وفرح‪ ،‬وكسر الشروط‬ ‫حول برواياته الظالمية إلى ٍ‬

‫الشفوية لألدب الصومالي‪ ،‬وأخرجه إلى حالة حية من الكتابة الحرّة المتجاوزة لإللزامات‬ ‫الثقافية‪ .‬نشأ يرضع الصناعة األدبية من أمه الشاعرة التي كانت تنظم األرجوزات لمجتمعه‬

‫في األعراس والوالدات والمرثيات والغنائيات‪ ،‬ليخرج من قشرة القارة اإلفريقية كأهم الرموز‬ ‫ّ‬ ‫العاقة‪.‬‬ ‫العالمية التي حررت األدب والمجتمع اإلفريقي على السواء من السلطة الذكورية‬ ‫انعتاق ثم انطالق‬ ‫ً‬ ‫بدأ نور الدين فارح مشروعه األدبي تاركا الحموالت الثقافية‬ ‫التي ورثها عن أجداده‪ ،‬حاملاً معاناة المرأة الصومالية‪ ،‬بعد أن‬

‫تكشف حيرة رجل يدعى كوستن‪ ،‬ومحاوالته إلقناع المجتمع‬

‫قرارات من القهر والالمساواة‪ .‬هاجر‬ ‫الحقوق والخيارات تحت‬ ‫ٍ‬

‫خطط الستقبالها في الصومال وتهيئة المجتمع واألسرة لقبول‬

‫عايش كرجل مرارة التشييء الجنسي لدورها في الحياة‪ ،‬وسلبها‬ ‫إلى الهند في أولى تناقالته‪ ،‬ليتزوج امرأة هندية توحي إليه ليقود‬ ‫الحركة النسوية في الصومال‪ ،‬ليكتب روايته األولى «من ضلع‬

‫أعوج» عام (‪1970‬م) في أربعة أسابيع‪ .‬تسرد الرواية قصة إبال‪ ،‬فتاة‬ ‫صومالية يتيمة في الثامنة عشرة من عمرها‪ ،‬ف ّرت من جدها‬

‫بعد ترتيب زيجة لها من كبير في السن‪ ،‬لتستجير بقريبها‬ ‫في بلدة مجاورة‪ ،‬فيصارحها هو اآلخر بترتيب زواجها‬

‫من تاجر‪ ،‬لتف ّر أخي ًرا لمقديشو‪ ،‬فتتزوج باختيارها‬

‫من رجل ثري يذرها لعشيقة إيطالية‪ ،‬فتتزوج هي‬ ‫بقرارها س ًّرا بدعم من صديقاتها من زوج آخر‪،‬‬

‫فتصطدم بحقيقة زواجه من غيرها‪ ،‬لتعيش عبر‬ ‫سلسلة من التجارب والخيانات الزوجية‪ ،‬وهي‬

‫القضية الكبرى التي تستحوذ على اهتمام‬ ‫نور الدين في رواياته على األغلب‪ .‬في هذه‬

‫الرواية‪ ،‬يؤكد نور الدين على أن بلوغ الحرية‬

‫التي تنشدها البطلة إبال ال يمكن أن تتم إال عبر تفاعالت‬ ‫ولقاءات تجريها مع الشخصيات النسوية األخرى‪ ،‬الالئي‬ ‫يدعمن جرأتها لتتخذ قرارات خاصة بها‪ ،‬معطيًا بهذا‬

‫درسً ا وافيًا عن أهمية «الجدل التواصلي» في إجراء‬ ‫التغيير‪ ،‬وهو شرط سبق إلى وضعه والدعوة إليه‬ ‫الفيلسوف األلماني يورغن هابرماس (‪.)-1929‬‬

‫بعد سرد الظلم المرير الواقع على المرأة‬

‫بلسان إبال‪ ،‬يدخل نور الدين في مرحلة روائية‬

‫جديدة يسرد من خاللها أزمات الحركة النسوية‪ ،‬ولكن هذه المرة‬

‫بلسان رجل في روايته «إبرة عارية» عام (‪1976‬م)‪ .‬هذه الرواية‬ ‫الصومالي بتقبل عشيقته نانسي‪ ،‬امرأة مسيحية بيضاء‪،‬‬ ‫االختالفات العرقية والدينية معها‪ .‬شيد نور الدين من خالل هذه‬ ‫الرواية إطارًا فلسفيًّا مبنيًّا على الم َ​َثل الصومالي‪« :‬اإلبرة العارية‬

‫تكسو الناس وال تجد ما يكسوها»‪ ،‬فيحكي معاناة كوستن مداراة‬

‫المجتمع الطارد لالختالف‪ ،‬فيكون البطل بمثابة اإلبرة العارية‬ ‫التي تكسو وال ُتكسى‪ ،‬وإن ُكسيت‬ ‫تكون قد فقدت وظيفتها المرجوة‬

‫منها‪ .‬وفي مقاربة بين العصبيات‬

‫الدينية والعرقية‪ ،‬يؤكد نور الدين على‬

‫علو كعب ال ِّدين على العرق في الصومال‬

‫فيقول‪« :‬صدّقيني وثقي بي‪ ،‬نانسي‪ ،‬إن‬

‫دينك يستفز قومي أكثر من لونك»‪.‬‬ ‫دماء في الشمس‬

‫بعد هاتين الروايتين‪ ،‬يُزيح‬

‫نور الدين الهمّ النسوي االجتماعي‬

‫جانبًا؛ ليكثف سردياته في الهم‬ ‫ً‬ ‫مسلطا الضوء‬ ‫السياسي‪،‬‬ ‫الوطني‬ ‫ّ‬

‫على ثيمة «الهوية الضائعة في زمن‬

‫الحرب»‪ ،‬في ثالثيته األولى‪« :‬دماء في‬

‫الشمس» (‪1998 -1986‬م) التي يطرح فيها‬

‫أثر الحرب في تحديد الهوية والوالء‪،‬‬

‫وضياع البالد تحت هيمنة االستعمار‪،‬‬

‫‪151‬‬


‫بورتريه‬

‫وأسرار أصول الدم في األسرة والقبيلة‪ .‬وعلى الرغم‬ ‫من طغيان الهم السياسي في هذه الثالثية‪ ،‬فإن‬ ‫الهم النسوي ال يزال يسكنه ويطارده كلمحات‬

‫وإشارات عبر شخصياته الروائية بصرف النظر‬

‫عن الثيمة الطاغية على نصوصه‪.‬‬

‫تستند رواية «خرائط» عام (‪1986‬م) على‬

‫خلفية النزاع الدائر بين إثيوبيا والصومال‬ ‫على إقليم أوغادين‪ ،‬وأثر الحرب في‬

‫تمزيق الشعوب‪ ،‬وحاالت التشريد والتهجير‬

‫والعنف واالغتصاب؛ ليسطع من هذه النكبة‬ ‫اليائسة بريق أمل متمثلاً في «ميسرا»‪ ،‬خادمة‬

‫إثيوبية تجد طفلاً وليدً ا صوماليًّا يصرخ بالقرب‬

‫من أمه التي ماتت بعد والدته بساعات‪ ،‬فتتبناه‬

‫وترعاه وتربيه متجاوزة بهذا الحب أقاليم الحرب‬ ‫ً‬ ‫تعلقا بـ«عسكر»‬ ‫بين الدولتين‪ .‬تزداد «ميسرا»‬

‫بعد يُتمه‪ ،‬وسماع خبر موت أبيه في السجن على‬

‫خلفية اشتراكه في منطقة الصراع‪ .‬عاش االبن‬

‫بالسعي الحثيث والسرد الكثيف عن‬ ‫واقع الصومال المنهار يمكن القول بأن‬ ‫نور الدين ُيبرز نفسه كأحد أهم روائيي‬ ‫إفريقيا المرشحين لجائزة نوبل لآلداب‬

‫الصومالي اليتيم «عسكر» في كنف أمه اإلثيوبية‬

‫في مجمع «العم أوراكس» الذي يلحظ فيه «عسكر»‬

‫نهمه الجنسي وزيجاته وطالقاته المتكررة وتحرشاته الدائمة بأمه‬ ‫«ميسرا» بذريعة تستره على هويتها‪ ،‬ليأخذ نور الدين القارئ‬ ‫مجددًا لقضية استغالل «المرأة» جنس ًّيا تحت ذرائع وطنية‪ .‬تضجّ‬

‫الرواية بأسئلة الهوية والوالءات العرقية في الحروب والنكبات‪،‬‬

‫العودة إلى الصومال‬ ‫‪152‬‬

‫بعد االنتهاء من ثالثية الهم السياسي‪ ،‬يكون الرهان األكبر لنور الدين تعزيز ثيمة جديدة بعنوان‪« :‬العودة إلى‬

‫الصومال» (‪2011 -2003‬م) يرفع عبرها نبرة اللوعة والحنين‪ ،‬ويصور فيها شقاء االغتراب الروحي والجسدي الذي يعانيه‬

‫في أرض المهجر‪ .‬ترتكز الثالثية على ثيمة «الهجرة والمنفى» وما يصحبها من ويالت وشتات‪ ،‬وهي الفكرة التي أشار لها‬ ‫بروفيسور األدب األميركي بجامعة هارفارد هومي بابا (‪1949‬م) حين أورد في كتابه «العالم والمنزل» (‪1997‬م) أن «الهجرة‬

‫وترحالت المهاجرين والنزوح المخيف ستكون من لبنات األدب العالمي في مجتمعات ما بعد االستعمار»‪ .‬يمتاح نور‬ ‫الدين من تجربته الخاصة التي دفعته للهجرة ‪ 22‬سنة‪ ،‬أسس القصة التي سيبنيها‪ ،‬فينطلق من خاللها برواية «صالت»‬ ‫عام (‪2003‬م) التي تسرد قصة جبيال الذي عاش بكندا ‪ 20‬سنة‪ ،‬ثم يقرر فجأة العودة لمقديشو حاجًّ ا لضريح أمه؛ حني ًنا‬

‫لوطن حائر تناهشته األيدي الظالمة من قبائل‬ ‫لها ال لوطنه الذي تركه بعد أن ُسجن فيه في زنزانة مظلمة‪ .‬يعود جبيال‬ ‫ٍ‬

‫متحاربة إلى عصابات خاطفة‪ ،‬فيبدأ رحلة البحث عن ابنة صديقه المختطفة الذي شاركه السجن في الطفولة‪ ،‬مُ فجرًا‬ ‫وطن تتجدد تعقيداته أكثر مما كان يتأمّ ل‪.‬‬ ‫بها سؤال العدالة الذي دوّى في صفحات الرواية شارحً ا أزمات‬ ‫ٍ‬

‫بلساني أنثى وذكر‪ ،‬يستأنف نور الدين الثالثية برواية‬ ‫على عادته في تناول القضية النسوية في بداية حياته بسردها‬ ‫ْ‬

‫ُ‬ ‫«عقد» عام (‪2007‬م) ليسرد العودة إلى الصومال بلسان امرأة هذه المرة‪ ،‬كامبرا صومالية تعود من شمال أميركا بعد‬ ‫‪ 20‬سنة لمقديشو بنية استرداد بيتها المسلوب في أثناء الحرب‪ ،‬لتجد الفروقات الحادة في حياة المرأة بين األوطان‬

‫في مراحل ما قبل وفي أثناء وما بعد المنفى‪ ،‬والثبات المهيمن للظلم واالضطهاد في الصومال‪ .‬هنا يعود نور الدين‬ ‫ً‬ ‫عارضا صالبة دور‬ ‫ليكثف السرد عن معاناة المرأة في محور بطولي بعد أن ودعها في رواية «إبرة عارية» عام (‪1976‬م)‪،‬‬

‫المرأة أكثر من الرجل‪ ،‬بعد أن أظهَ ر كامبرا بطلة رواية «عقد» أقوى وأقدر على المقاومة والمناضلة ومواجهة االضطهاد‬

‫واالستبداد من جبيال بطل رواية «صالت» الذي حار في التعامل مع هذه التغيرات‪ .‬في روايته الثالثة «عظام» عام (‪2011‬م)‬ ‫يعود جبيال لمقديشو بنية زيارة أصدقائه القدامى‪ ،‬مُ را ِف ًقا صهره «مالك» الذي يعمل مراسلاً ليغطي االضطرابات في‬

‫ً‬ ‫باحثا عن ابنه الذي اختفى‬ ‫المنطقة‪ ،‬وأخا «مالك» الذي يرجع هو اآلخر لبنتالند المنطقة المعروفة بقاعدة القراصنة‪،‬‬ ‫من مينيابلس بعد أن غرّر به إمام مسجد كان يحالف المليشيات الدينية في الصومال‪ .‬تحكي هذه الرواية الحالة التي‬

‫تعيش فيها القراصنة‪ ،‬وتشتبك فيها عناصر السلطة والحزبية والمليشيات والطائفية الدينية والقبلية والطبقية التي‬ ‫يعيشها السكان في بلدٍ بات يفتقد ألدنى درجات األمان‪.‬‬

‫العددان ‪ 478 - 477‬شوال ‪ -‬ذو القعدة ‪1437‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬أغسطس ‪2016‬م‬


‫نور الدين فارح‪ :‬قائد الحركة النسوية في الصومال‬

‫وتفجر الصراع األهلي والتخوينات التي تعدى أثرها في نفس‬ ‫«عسكر» حتى تطال أمه اإلثيوبية «ميسرا» بعد أن ّ‬ ‫شكك الجنود‬ ‫بوالئها في الحرب‪ ،‬ليقع «عسكر» أسي ًرا لهذه النوبات النفسية‬ ‫حائ ًرا معها بين خيار «الوطن األم» وخيار «األم الوطن»‪.‬‬

‫يستكمل نور الدين ثالثيته بـ«هدايا» عام (‪1990‬م) ليسرد‬

‫بقصته معاناة المرأة تحت وطأة الفقر والمجاعة والخوف‪،‬‬ ‫حكاية دنيا‪ ،‬ممرضة صومالية تقع في حب رجل ثريّ متعلم‪،‬‬

‫فتستذكر حين كانت هدية أعطيت لرجل أعمى في سن أبيها‪،‬‬

‫ليتركها أرملة شابة بتوءمين ثم لتتزوج مرة أخرى بصحافي‬ ‫يشرب الخمر‪ ،‬ليطلقها ويأخذ ابنتها التي أنجبتها‪ .‬تحكي القصة‬ ‫فلسفة الهدية‪ ،‬وكيف أن كل هدية لها حكاية وغاية‪ ،‬وأن «من‬ ‫يأخذ يجب أن يعطي»‪ .‬تمتد الرواية لتناقش القبضة االستعمارية‬

‫التي خنقت عنق الصومال من بين األوطان‪ ،‬بهداياها ومساعداتها‬

‫المالية التي أعاقت الوطن عن اإلفاقة‪ ،‬وخ ّدرته عن طرح تساؤالت‬ ‫االستقالل تجاه دول االستعمار‪.‬‬

‫حول‬ ‫نور الدين فارح روائي صومالي ّ‬ ‫برواياته الظالميةَ إلى نورٍ وفرح‪ ،‬وكسر‬ ‫الشروط الشفوية لألدب الصومالي‪،‬‬ ‫الحرة‬ ‫وأخرجه إلى حالة حية من الكتابة‬ ‫ّ‬

‫في ختام هذه الثالثية «أسرار» عام (‪1998‬م)‪ ،‬يناقش نور‬

‫الرواية اتساع أفق روائي يستملي األحداث‪ ،‬ويستنطق الظواهر‬

‫في الحروب األهلية عام ‪1991‬م‪ .‬تحكي أسرار قصة «كاالمان» من‬

‫األمم المتحدة التي دفعت عجلة روايته في المشهد األول‪ ،‬كما‬

‫الدين الهوس بأصول األسرة والدم والقبيلة إلى االنهيار التامّ‬

‫مقديشو‪ ،‬شاب في الثالثينيات‪ ،‬عاش تحت كنف جده بالقرب‬

‫من حبيبته في الصغر التي تحمل شخصية بهيمية لرضاعتها من‬ ‫ذئبة في الطفولة‪ ،‬لتعود إليه من أميركا‪ ،‬فيرفض الزواج منها‬

‫ليأخذ نور الدين القارئ في دهاليز األسرار واألساطير الغامضة‬ ‫التي تلفها خيوط الدجل والشعوذة والسحر والجنس مهيم ًنا‬

‫بها على المسرح العام للرواية‪ .‬في مسيرته‪ ،‬يكثف «كاالمان»‬ ‫البحث عن هويته وجذوره وحقيقة اسمه ليكتشف أنه جاء نتيجة‬

‫اغتصاب جماعي لوالدته‪ ،‬فيدخل في تساؤالت الهوية واألصول‬ ‫وطن متآكل‪ ،‬يقضم بعضه ً‬ ‫بعضا‪ .‬في هذه الفترة‪ ،‬بزغ نجم‬ ‫في‬ ‫ٍ‬

‫نور الدين عالم ًّيا ليحصد جائزة نيوستاد األدبية عن مجمل أعماله‬ ‫عام ‪1998‬م‪ ،‬وهي جائزة ُتمنح كل سنتين ُ‬ ‫وتعد ثاني أهم جائزة‬ ‫أدبية في العالم بعد جائزة نوبل لآلداب‪.‬‬ ‫االختباء في العراء‬

‫في روايته األخيرة «االختباء في العراء» عام (‪2014‬م)‬

‫يستلهم نور الدين التجربة قبل التعلم‪ ،‬والواقع قبل الخيال‪،‬‬ ‫فيسرد للقارئ قصة رجل في أحياء مقديشو المعقدة ُقتل‬ ‫في هجوم إرهابي في مكتب األمم المتحدة‪ ،‬وخلف بعده‬

‫أبناءه في حضانة أخته من أمه التي عادت من إيطاليا‬ ‫لتتولى رعايتهم‪ .‬هنا يُعلن نور الدين فلسفته الخاصة‬ ‫عن الموت بسلطة اإلرهاب فيقول‪« :‬الموت ال‬

‫يعلن قدومه‪ ،‬إنه ضيف متعجرف يزور بأي وقت‬ ‫يقي ًنا بأنه سيلقى احتفالاً حارًّا»‪ .‬يظهر في هذه‬

‫الصامتة‪ ،‬فيستذكر بروايته األحداث الواقعية النفجار مكتب‬ ‫يستوحي المستقبل قبل أوانه؛ إذ لم يُنه المسودة األولى من‬ ‫روايته للنشر حتى ُنبئ بمقتل أخته في كابل في عمل إرهابي‬ ‫مشابه‪.‬‬

‫نور الدين روائي يكتب بهمٍّ َ‬ ‫ونهَم‪ ،‬ويعطي رواياته الوقت‬

‫الكافي لإلنجاز‪ ،‬وقد حجز موقعه العالمي بسبب كتابته‬ ‫باإلنجليزية‪ ،‬وهي لغته الرابعة‪ ،‬رغم أن النقاد يرون أن أسلوبه‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫َ‬ ‫فني‬ ‫وضياعا‪ ،‬ويضعها في‬ ‫رتابة‬ ‫نصوصه‬ ‫اإلنجليزي يكسو‬ ‫إهاب ٍّ‬ ‫ٍ‬

‫متواضع‪ ،‬وهي سمات خاصة به يرى فيها نقا ٌد آخرون تعبي ًرا‬ ‫عن ال ِّتيه والضياع الذي يمر به بلده الصومال‪ .‬بهذا السعي‬

‫الحثيث والسرد الكثيف عن واقع الصومال المنهار في ‪ 11‬رواية‬ ‫وتناول قضايا جوهرية كالنسوية واإلرهاب‪ ،‬يمكن القول بأن نور‬ ‫الدين يُبرز نفسه بهذه األعمال الروائية كأحد أهم روائيي إفريقيا‬

‫المرشحين لجائزة نوبل لآلداب‪.‬‬

‫‪153‬‬


‫مقال‬

‫«موت المؤلف»‬ ‫أم «تقويض الكوجيتو»؟‬ ‫ما ينيف عىل العقد والنصف من الزمن‪ ،‬قبل أن يعلن كل من روالن بارت (‪1968‬م) وميشيل فوكو (‪1969‬م) «موت املؤلف»‪،‬‬

‫كان موريس بالنشو قد تحدث عن «غيابه»‪ .‬إذا كان ما ح ّرك «بارت» و«فوكو» إلعالن ذلك «املوت» هو محاولة القيام ضد مفهوم‬ ‫ً‬ ‫وتأريخا‪ ،‬فيبدو أن ما دفع «بالنشو» إىل إعالن «الغياب» فيما قبل‪ ،‬ربما‬ ‫معينّ عن األدب كان مهيم ًنا عىل الدراسات األدبية نقدً ا‬

‫كان أبعد من ذلك بكثري‪.‬‬

‫قبل أن نقف عند «الثورة الفكرية» التي بلورها بالنشو يف كتابيه املؤسِّ سني‪ :‬الفضاء األدبي (‪1955‬م)‪ ،‬وكتاب املستقبل (‪1959‬م)‪،‬‬ ‫ً‬ ‫وتأريخا‪:‬‬ ‫ال بأس أن نقف عند الدعائم األساسية التي كانت تقوم عليها الدراسات األدبية خالل النصف األول من القرن املايض نقدً ا‬

‫ً‬ ‫وتدريسا هو ذلك الذي أرىس دعائمه غوستاف النسون عند نهاية‬ ‫كتابة‬ ‫معروف أن الشكل الرسمي الذي اتخذه «تأريخ األدب»‬ ‫ً‬

‫القرن التاسع عشر‪ ،‬والذي ظل يهيمن عىل الجامعة الفرنسية خالل عقود‪ ،‬مكرّسً ا تفسريًا لألعمال األدبية بوصفها تعبريًا عن‬

‫مؤلفيها؛ لذا كان يكفي الوقوف عند مقاصد املؤلفني‪ ،‬ومعرفة ما يجول بخواطرهم‪ ،‬وما يدور بخلدهم؛ يك تتضح معاين تلك‬ ‫األعمال‪ .‬بلوغ مقصد املؤلف وإدراك نواياه كفيل بأن يجعلنا نقف عىل معنى العمل‪ .‬ولن يكون النقد األدبي حينئذ إال دراسة‬

‫لـ«الرجل وأعماله»‪.‬‬

‫‪154‬‬

‫لم يكن هدف بالنشو ليقتصر عىل إعادة النظر يف هذه الكيفية التي يتم وفقها النقد ويُؤرخ بها لألدب‪ ،‬وإنما كان يرمي إىل‬

‫الكشف عن الفلسفة الثاوية خلف الكتابة األدبية بهدف إعادة النظر يف األسس األنطلوجية التي تقوم عليها نظرية الكتابة‪ .‬وقد‬ ‫أدى به ذلك إىل خلخلة النظرة السائدة عن العمل األدبي‪ ،‬تلك النظرة التي كانت ُتعيل من «ذاتية» املؤلف‪ ،‬وتؤكد سلطته عىل‬ ‫النص‪ ،‬مع ما يصاحب ذلك من إلحاح عىل الطابع التعبريي للكتابة‪ .‬صحيح أن هناك من كان قد مهد الطريق لهذا النوع من‬ ‫إعادة النظر‪ ،‬فقام ضد املفهوم السيكولوجي الذي يرجع العمل األدبي إىل األحوال النفسية لصاحبه‪ ،‬ويكفي أن نذ ّكر هنا بما سبق‬

‫لـ«ت‪.‬س‪ .‬إليوت» أن أشار إليه عندما كتب أن «األدب ليس تعبريًا عن الشخص‪ ،‬بل هو هروب وانفالت»‪ ،‬إال أن بالنشو ال يكتفي‬ ‫ّ‬ ‫محل املؤلف‪ ،‬كمبدأ‬ ‫بالتأكيد عىل هذا الطابع الالشخيص للكتابة‪ ،‬وإضفاء طابع «الحياد» عليها‪ ،‬وإنما يذهب أبعد من ذلك ليضع‬ ‫َ‬ ‫اللغة بما تتسم به من طابع ال شخيص‪ ،‬مل ّبيًا دعوة ماالرميه إىل «انسحاب صوت الشاعر‪ ،‬إلفساح‬ ‫إبداع العمل األدبي وتفسريه‪،‬‬

‫املجال للكلمات»‪.‬‬

‫بالنشو وحصة النار‬ ‫ال داعي ً‬ ‫إذا ألن يويل النقد األدبي عنايته ملا يدور بخلد املؤلف‪ ،‬ما دام العمل سينحل إىل لغة‪ ،‬أي إىل منظومات من العالمات‬

‫ال تكرتث بالذات املتكلمة‪ .‬كتب بالنشو يف حصة النار‪« :‬نستخلص من املالحظات السابقة حول اللغة ً‬ ‫نقطا أساسية لعل أهمها هي‬ ‫الخاصية الالشخصية للغة‪ ،‬ووجودها املستقل املطلق الذي تحدّث عنه ماالرميه‪ .‬فهذه اللغة‪ ،‬ال تفرتض أي شخص يتكلمها‪ ،‬وال‬ ‫أيّ شخص يسمعها‪ :‬إنها ّ‬ ‫نفسها‪ .‬وذلك هو شرط سيادتها‪ .‬والكتاب هو رمز هذا الوجود املستقل‪ .‬إنه يتجاوزنا وال‬ ‫تكلم ذاتها وتكتب َ‬ ‫حول لنا وال قوة أمامه‪ .‬وإذا كانت اللغة تنعزل عن اإلنسان وتعزله عن األشياء‪ ،‬إذا لم تعد فعل شخص يتكلم تجاه من يسمعه‪،‬‬

‫فهمنا ملاذا غدت‪ ،‬بالنسبة ملن يتمثلها عىل هذا النحو‪ ،‬قوة سحرية‪ .‬إنها نوع من الوعي من غري ذات‪ ،‬انفصل عن الكائن‪ ،‬وغدا هو‬ ‫ِ‬ ‫ً‬ ‫وقدرة ال متناهية عىل خلق الفراغ»‪.‬‬ ‫نفسه انفصالاً ونفيًا‬

‫ّ‬ ‫ستمكنه من أن يكون تمهيدً ا‬ ‫لن ندرك قيمة هذا الكالم وأهميته التاريخية إال إذا وقفنا عىل ميزة السبق التي يتمتع بها والتي‬

‫لكل املواقف البنيوية‪ .‬وبالفعل‪ ،‬لن يعمل شيوخ البنيوية الفرنسية فيما بعد إال عىل تأكيد هذا املوقف من اللغة‪ .‬وهكذا فنحن‬ ‫ً‬ ‫محرفا عبارة باسكال «للقلب من الحجج واألسباب ما ال يملكه العقل»‪« :‬إن اللغة عقل‬ ‫نقرأ عىل سبيل املثال عند ليفي سرتوس‪،‬‬ ‫إنساين له حججه وقواعده التي ال يعرفها اإلنسان»‪.‬‬

‫العددان ‪ 478 - 477‬شوال ‪ -‬ذو القعدة ‪1437‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬أغسطس ‪2016‬م‬


‫يقوم هذا املوقف البنيوي من اللغة عىل دعائم ثالث‪:‬‬ ‫أولاً ‪ -‬اللغة منظومة من االختالفات‪ ،‬بدون حدود مطلقة‪ .‬واملسافة‬

‫بني الوحدات الصوتية هي واقع اللسان الذي يغدو بفعل ذلك من غري‬

‫مادة جوهرية‪ ،‬ال طبيعية وال ذهنية‪.‬‬

‫ثانيًا‪ -‬ال تتوقف الشفرة املتحكمة يف املنظومات عىل الذات املتكلمة‪،‬‬

‫وإنما هي باألحرى الالشعور املقويل الذي يسمح بممارسة الكالم من‬ ‫طرف أولئك الذين يستعملون اللسان‪.‬‬

‫ً‬ ‫ثالثا‪ -‬الدال نفسه يتكون من اختالفات‪ ،‬وال يستدعي الدال أي‬

‫عالقة خارجية‪.‬‬

‫لذا فإن اللغة‪ ،‬والحالة هذه‪ ،‬منظومة بال «حدود» وال «ذات» وال‬ ‫«أشياء»‪ .‬والذات مفعول للغة‪ ،‬وليست فاعلاً متحكمً ا فيها‪.‬‬ ‫ستغدو الكتابة‪ ،‬كما سيقول بارت فيما بعد «هي ذلك املحايد‪،‬‬

‫وتلك الالمباشرة التي تنفلت عربها ذاتيتنا‪ .‬إنها البياض والسواد اللذان‬

‫تضيع فيهما هوياتنا‪ ،‬ابتداء من هوية الجسد الذي يكتب»‪ .‬سيخيل‬ ‫املؤلف ً‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫املجال للناسخ الذي لن‬ ‫و«النص»‪ ،‬وسيرتك‬ ‫إذا املكان للكتابة‬ ‫تتعدى «ذاتيته» «الفاعل» باملعنى النحوي واللغوي للكلمة‪ ،‬وليس‬ ‫ً‬ ‫مطلقا باملعنى األنطلوجي من حيث هو الحامل املؤسس‪ .‬بل إن هناك من‬

‫عبدالسالم بن عبدالعالي‬ ‫كاتب مغربي‬

‫ً‬ ‫مطلقا‬ ‫سيقول فيما بعد‪ :‬إن املؤلف ليس إال كائ ًنا من ورق‪ ،‬وهو ليس‬

‫ذلك الشخص الذي يتحكم يف لعبة الكتابة؛ يهيمن عىل معانيها‪،‬‬

‫‪155‬‬

‫ويتحكم يف دالالتها‪.‬‬

‫وهكذا سيتضح إىل أيّ مدى قد شكل الوقوف عند «تراجم األدباء»‬ ‫ً‬ ‫تنكب تلك الدراسات‬ ‫عائقا معرفيًّا يف الدراسات األدبية؛ لذا فبدلاً من أن‬ ‫ّ‬ ‫عىل األدباء والشعراء وما يقصدون إليه‪ ،‬سيتحول االهتمام إىل دراسة‬

‫الشعر واألدب‪ ،‬أو األدبية عىل األصح‪.‬‬

‫عىل هذا النحو سينتقل النقد من املرمى التفسريي الذي يسعى إىل‬

‫بلوغ مقاصد املؤلف ونواياه إىل املرمى التأوييل الذي يروم قراءة النص‬

‫لتقيص معانيه‪ .‬نقرأ يف كتاب الفضاء األدبي‪« :‬كل قراءة هي نوع من‬ ‫الخصام الذي يقيض عىل املؤلف؛ يك يضع العمل األدبي أمام حضوره‬

‫النكرة‪ ،‬أمام ما هو عليه من إثبات للذات عنيف وال شخيص»‪ .‬ولن‬ ‫تتوخى القراءة بلوغ املقاصد والنوايا‪ ،‬وإنما ستنغمس بني ثنايا النص‬ ‫ً‬ ‫بحثا عن القوى املطموسة يف غياهب النسيان‪ ،‬وسعيًا وراء تلك اللغة‬ ‫التي تسبق الذات وتفعل خارج كل رقابة شعورية‪ .‬وهكذا سيغدو‬

‫«غياب املؤلف» مجرد شكل من األشكال التي يتخذها تقويض الكوجيتو‬ ‫يف الفكر املعاصر‪.‬‬ ‫ً‬ ‫لم يكتف م‪ .‬بالنشو إذا بإعادة النظر يف مفهوم الكتابة‪ ،‬وإنما أسهم‬

‫من زاوية األدب يف إقامة أسس «كوجيتو معاصر» يطرح عىل الفكر‪،‬‬ ‫وليس عىل نظرية األدب وحدها‪ ،‬أسئلة من نوع جديد‪ .‬ولعل أهمها‬

‫تلك التي صاغها م‪ .‬فوكو يف عبارة مركزة عندما كتب‪« :‬ماذا يتعني عيل‬ ‫أنا الذي أفكر وأشكل تفكريي‪ ،‬ليك أكون ذلك الذي ال أفكر فيه‪ ،‬وليك‬

‫يكون تفكريي غري ما أنا عليه»‪.‬‬

‫لم يكتف م‪ .‬بالنشو إ ًذا‬ ‫بإعادة النظر في مفهوم‬ ‫الكتابة‪ ،‬وإنما أسهم من‬ ‫زاوية األدب في إقامة‬ ‫أسس «كوجيتو معاصر»‬ ‫يطرح على الفكر‪ ،‬وليس‬ ‫على نظرية األدب وحدها‪،‬‬ ‫أسئلة من نوع جديد‬


‫إعالم‬

‫الحملة اإلعالمية الغربية على السعودية‪..‬‬

‫دوافعها واتجاهاتها‬ ‫تحتم المهنية اإلعالمية على الحمالت اإلعالمية‪ ،‬أن تصمم وفق‬

‫معايير وضوابط معينة‪ ،‬مثل أن تتوافر فيها العناصر الرئيسة األربعة‬

‫التي نادى بها األكاديميان « إيفيرت روجرز» و«دوغالس ستوري»‪،‬‬ ‫كاف للحملة‪ ،‬وأن توجّ ه إلى جمهور كبير‪ ،‬ويكون‬ ‫وهي‪ :‬وجود سبب ٍ‬

‫ناصر البراق‬ ‫رئيس قسم الصحافة والنشر اإللكتروني‬ ‫في كلية اإلعالم بجامعة اإلمام‬

‫‪156‬‬

‫لها وقت محدد‪ ،‬وتشمل مجموعة نشاطات إعالمية منظمة‪.‬‬ ‫وفي التطبيق الغربي‪ ،‬نجد أن الحمالت‪ ،‬أ ًّيا تكن أهدافها‪ ،‬تمضي‬

‫في تقاطع الفت‪ ،‬عبر منظومة من األنشطة واللقاءات والتصريحات‬ ‫واألدوات‪ ،‬التي ربما اختلفت مضامينها‪ ،‬إال أنها في نهاية المطاف‬

‫وبأكثر من أسلوب ال بد أن تلتقي عند هدفها «األوحد»‪.‬‬

‫العددان ‪ 478 - 477‬شوال ‪ -‬ذو القعدة ‪1437‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬أغسطس ‪2016‬م‬


‫لكن الالفت أكثر هو طول النفس‪ ،‬في الجانب المتصل‬

‫بتعبئة الرأي العام الغربي ضد بعض التقاليد العربية‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫بالمسلمات لكثرة طرقها‬ ‫والقيم اإلسالمية‪ ،‬حتى غدت أشبه‬ ‫لدى شرائح من المسلمين‪ ،‬ناهيك عن الجمهور الغربي‬

‫المستهدف‪ ،‬فتارة يربطون اإلرهاب بغياب الديمقراطية‪،‬‬ ‫ِّ‬ ‫ً‬ ‫وأحيانا بلبس النقاب‪ ،‬حتى إن‬ ‫باللحية‪،‬‬ ‫وتارة يربطونه‬ ‫شخصية رصينة‪ ،‬مثل الوزير السعودي الراحل غازي‬

‫القصيبي‪ ،‬أشار ذات مرة إلى أنه «ال يمكن لصحفية غربية‬ ‫أن تغير رأيها في الحجاب‪ ،‬ولو أقسمت أمامها ألف امرأة‬ ‫ً‬ ‫طوعا واختيارًا»‪.‬‬ ‫مسلمة أنها تحجبت‬

‫وبينما أتقن عدد كبير من المحللين أدوارهم في‬

‫الحمالت المنظمة‪ ،‬أو المنقوشة في «عقل الالوعي»‪،‬‬

‫نحو العرب؛ تظهر فئة تدفعها الحماسة‪ ،‬إلى االنكشاف‬

‫الموضوعي‪ ،‬واالنحياز لألهواء‪ ،‬ضدّ األخالقيات المهنية التي‬ ‫وضعها صانعو السياسات اإلعالمية‪.‬‬

‫هب اإلعالم‬ ‫فبُعيد أحداث الحادي عشر من سبتمبر‪ّ ،‬‬

‫الغربي وشنّ حملته الدعائية على المملكة العربية‬ ‫السعودية واإلسالم متمثلاً مقولة صانع الدعاية األول‬ ‫غوبلز‪« :‬اكذب اكذب‪ ،‬حتى يصدقك العالم»‪ ،‬فركز على‬

‫ربط الدين باإلرهاب‪ ،‬واختار المجتمع المسلم وغذى عقول‬

‫شبابه باألفكار التي تربط الدين باإلرهاب والعنف والتخلف‬

‫االجتماعي‪ ،‬وتتفق هذه الحمالت الغربية على مهاجمة‬ ‫السعودية لمكانتها الدينية بين المسلمين؛ إذ فيها المدينتان‬

‫المقدستان (مكة والمدينة)‪.‬‬

‫غازي القصيبي‬

‫انتقائية وعنف‬

‫تنبه بعض الغربيين إلى هذا التجني‪ ،‬فذكر الحائز‬

‫على جائزة نوبل البديلة في مجال أبحاث السالم إليوهان‬

‫كالتونغ أن اإلعالم الغربي يركز على تغطية األحداث‬ ‫واألخبار القادمة من الشرق األوسط بشكل انتقائي‪ ،‬وغير‬

‫عادل‪ ،‬وأن األخبار التي نشرتها وسائل اإلعالم عن المملكة‬

‫العربية السعودية تندرج في معظمها تحت أخبار العنف‪،‬‬ ‫وقد فعل الغرب ذلك إلضعاف موقف السعودية من‬ ‫االتفاق النووي اإليراني‪.‬‬

‫ولترسيخ فكرة إسالمية اإلرهاب‪ ،‬وأن من اإلسالم‬

‫العنف‪ ،‬وقتل الناس‪ ،‬واضطهاد المرأة‪ ،‬وقمع حرية‬

‫التعبير‪ ،‬وعدم تكافؤ الفرص‪ ،‬وغياب العدالة والمساواة‪.‬‬ ‫يتهم اإلعالم الغربي المناهج السعودية‪ ،‬وينتقد غياب‬

‫الديمقراطية‪ ،‬وإن تهاوت أسعار النفط فإن الملوم بين كل‬ ‫الدول المنتجة للنفط هو السعودية‪ ،‬ومن هذه المساعي‪،‬‬

‫اختالق أحداث وهمية أوحت أن هناك مشاكل سياسية‬

‫في البيت السعودي وأن هذه المشاكل ستلقي بظاللها‬ ‫على مستقبل الوطن؛ ادعاءات طالما أثبتت المواقف عدم‬

‫صدقيتها وعدم موضوعيتها‪.‬‬

‫وفي اإلطار نفسه يصور اإلعالم األميركي الشخصية‬

‫السعودية بأنها شخصية متطرفة وإرهابية‪ ،‬ويضرب المثل‬

‫‪157‬‬


‫إعالم‬

‫بل إشارة إلى أن أسامة بن الدن رجل سعودي‪ ،‬ذكر هذه‬

‫الحقيقة مروان بشارة في كتابه العربي الخفي صفحة‬ ‫‪ ،155‬قائلاً ‪« :‬إن شعوب المنطقة خيرت بين واشنطن وبين‬ ‫من تنتقيه هي لدور الشرير كل عشر سنوات تقريبًا‪ .‬في‬

‫ستينيات القرن الماضي كان عبدالناصر المصري‪ ،‬وفي أوائل‬ ‫السبعينيات كان عرفات الفلسطيني‪ ،‬وفي أوائل الثمانينيات‬ ‫كان آية الله اإليراني‪ ،‬وفي التسعينيات تاله صدام حسين‪،‬‬

‫ثم زعيم القاعدة ابن الدن في ‪2001‬م»‪.‬‬

‫ونقدً ا لهذا النهج‪ ،‬يشير القصيبي مرة أخرى في كتابه‬

‫«حملة إعالمية» إلى مقال في صحيفة وول ستريت جورنال‬ ‫بتاريخ ‪ 10‬أكتوبر ‪2001‬م‪ ،‬يتحدث عن الوهابية‪ ،‬ويصفها‬ ‫يكتف الغرب بإطالق‬ ‫بالتطرف‪ ،‬وإباحة العنف والقتل‪ .‬ولم‬ ‫ِ‬

‫الالفت أكثر هو طول النفس في الجانب‬ ‫عادل الجبير‬

‫للجمهور الغربي بشخصية أسامة بن الدن بعد أحداث‬

‫‪158‬‬

‫ً‬ ‫وترسيخا لهذه الحملة‬ ‫الحادي عشر من سبتمبر ‪2001‬م‪،‬‬

‫اإلعالمية والمؤطرة بالدعاية المغرضة فقد ظلت اإلدارة‬

‫األميركية تالحق ابن الدن إعالميًّا ال حربًا على اإلرهاب‪،‬‬

‫المتصل بتعبئة الرأي العام الغربي‬ ‫ضد بعض التقاليد العربية‪ ،‬والقيم‬ ‫اإلسالمية‪ ،‬حتى غدت أشبه بالمسلّمات‬ ‫لكثرة طرقها لدى شرائح من المسلمين‪،‬‬ ‫ناهيك عن الجمهور الغربي المستهدف‬

‫إعالم سعودي دون المستوى‬ ‫غير أن الذي يالحظه ويناقشه اإلعالميون واألكاديميون السعوديون في المجالس الخاصة هو أن التعاطي‬ ‫ً‬ ‫أحيانا إلى األمة والعالم‪ ،‬ال‬ ‫اإلعالمي السعودي مع هذه األزمات‪ ،‬وقضايا إستراتيجية على مستوى يتجاوز اإلقليم‬

‫ً‬ ‫خصوصا من الجانب اإلستراتيجي‪ ،‬وعمق التداول‪ ،‬وإشباع األفكار الجوهرية‪ ،‬بالنقاش‬ ‫يزال دون مستوى الحدث‪،‬‬

‫الجاذب لألطراف المهتمة‪ ،‬سواء عبر النقد أو التحليل‪ ،‬أو بالسجال وصناعة مواقف إيجابية ال تتوقف عند رد الفعل‪،‬‬ ‫بل اآلخرون من يردد صداها‪.‬‬

‫وبين النماذج المشرقة على هذا الصعيد‪ ،‬تفاعل السفير السعودي في العراق ثامر السبهان‪ ،‬مع الشأن العراقي‪،‬‬ ‫ً‬ ‫ومشاركا في كل القضايا‪ ،‬التي كانت من قبل محتكرة من جهات أجنبية‪ ،‬حتى‬ ‫فبات منفتح األفق‪ ،‬مساجلاً وموضحً ا‪،‬‬

‫انتزع ما يشبه اإلقرار بأن الشأن العراقي هو في المقام األول عربي‪ ،‬يعنى به العرب قبل غيرهم‪.‬‬ ‫ً‬ ‫متوقفا على صحف ومجالت بعينها‪ ،‬وقنوات‬ ‫لكن من حسن حظ السعوديين أن اإلعالم لم يعد رسم ًّيا فقط‪ ،‬أو‬

‫مهما تعددت‪ ،‬تظل محدودة‪ ،‬بل توسع ليشمل كل صاحب رأي أو كلمة‪ ،‬مهما كانت صفته‪ ،‬بواسطة منصات «اإلعالم‬ ‫ً‬ ‫مشاركا في مسؤولية التفاعل مع قضايا الوطن‪ ،‬وبوسع الكل اإلسهام فيها‪ ،‬بما يصنع‬ ‫الجديد»‪ .‬وهذا يجعل الجميع‬

‫ً‬ ‫موقفا‪ ،‬يوضع في الحسبان‪ .‬إال أن المسؤولية الكبرى تظل على عاتق المثقفين وصناع الرأي المؤثرين‪ ،‬في‬ ‫رأيًا أو‬ ‫ً‬ ‫تأطير تلك الوسائل‪ ،‬ودفعها نحو قنوات التأثير‪ ،‬والقضايا الكبرى‪ ،‬عوضا عن الهويات الصغرى‪ ،‬وتفاصيل التفاصيل‬ ‫الموغلة في الذاتية‪.‬‬

‫العددان ‪ 478 - 477‬شوال ‪ -‬ذو القعدة ‪1437‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬أغسطس ‪2016‬م‬


‫الحملة اإلعالمية الغربية على السعودية‪ ..‬دوافعها واتجاهاتها‬

‫المعلمي‬

‫تهمة التطرف على (الوهابية)‪ ،‬بل إنه نسب منشأها إلى‬

‫السعودية‪ ،‬وهو ال يعني بذلك غير اإلسالم‪.‬‬ ‫حملة أكثر عدوانية‬

‫الجعفري‬

‫عليه في وقت سابق‪ ،‬ففي األزمات األخيرة التي صاحبها‬

‫تصعيد إعالمي خطر‪ ،‬كان صانع القرار السعودي ناجعً ا‬ ‫في إيصال رسائل كافية إليضاح الجانب المظلم في زاوية‬

‫الخصم‪.‬‬

‫وفي الجانب اإلستراتيجي‪ ،‬تأخذ الحمالت ضد‬

‫وبين األمثلة على ذلك‪ ،‬هو األداء السياسي‪ ،‬والسجال‬

‫الحزم‪ ،‬ومقاومتها المد الفارسي على البلدان العربية في‬

‫وزير الخارجية السعودي عادل الجبير‪ ،‬في مثل نفيه مزاعم‬

‫السعودية جانبًا أكثر عدوانية‪ ،‬في مثل إطالقها لعاصفة‬

‫الدبلوماسي الذي أثار إعجاب السعوديين والعرب‪ ،‬من طرف‬

‫أن لإلسالم عالقة بـ«داعش»‪ ،‬عبر جمل قصيرة مفحمة‪،‬‬

‫سوريا واليمن والعراق‪ ،‬وفي تناول تفاصيل ذلك‪ ،‬دائمً ا ما‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫خصوصا منذ إعالن‬ ‫مكشوفا‪،‬‬ ‫يبدو االنحياز ضد السعودية‬

‫تداول السعوديون والعرب عبر «تويتر» مقطعها القصير‪،‬‬

‫حتى إن محللين اتجهوا إلى موضوعات‪ ،‬تثير االهتمام‬

‫بالمهارة الدبلوماسية»‪ .‬وفي ذلك الجواب لفت إلى أن كثي ًرا‬

‫السعودية التي تستند إلى قرارات دولية وإقليمية‪ ،‬وإنما‬

‫إليهم من مفكرين ومترجمين وعلماء مسلمين سابقين‪،‬‬

‫الغرب انخراطه في االتفاق النووي مع طهران‪.‬‬

‫الغربي أكثر‪ ،‬فشككوا ليس في مصداقية المواقف‬ ‫تحاول التشكيك في قدرتها على إحراز تقدم‪ ،‬أو أنها ستواجه‬

‫مخاطر نتيجة تلك المواقف‪ ،‬مثل زعم صحيفة التايمز أن‬

‫السعودية في خطر بسبب تدني أسعار البترول نتيجة اإلنفاق‬ ‫الزائد‪ ،‬مما يهدد مشاريع اإلسكان واالستقرار االجتماعي‪.‬‬

‫والذي وصفه بعض المحللين بـ«الجواب الفكري المغلف‬ ‫من العلوم التي يستند إليها األروبيون في أبحاثهم إنما نقلت‬ ‫فشخصية فلسفية عريقة مثل أرسطو‪ ،‬أكثر من ع ّرف الغرب‬ ‫به‪ ،‬ونقل معارفه فالسفة مسلمون‪ .‬وهكذا‪.‬‬

‫ومثل ذلك فعل المندوب السعودي لدى األمم المتحدة‬

‫عبدالله بن يحيى المعلمي‪ ،‬في سجاالته الشهيرة مع‬

‫ومثله ما نقلته صحيفة «ليزيكو» ‪ ،Les éco‬متى «ستفلس‬

‫بشار الجعفري‪ ،‬الذي أخذ أبعادًا ثقافية ومناكفات أدبية‪،‬‬

‫ستنفد االحتياطيات المالية للمملكة العربية السعودية؛‬

‫وأوزانه‪ ،‬ما لفت أنظار المتابعين‪ ،‬إلى نهج أعمق في تحدي‬

‫المملكة العربية السعودية» تزعم فيه أنه بحلول عام ‪2020‬م‬ ‫بسبب انخفاض أسعار النفط وكثرة اإلنفاق العسكري‪.‬‬

‫تجاوزت السياسية وأرقام ضحايا النظام السوري إلى الشعر‬

‫الصعاب من هذا القبيل‪.‬‬

‫إن الحمالت المناوئة للسعودية أو اإلسالم‪ ،‬أيًّا كانت‬

‫ً‬ ‫أيضا‪ ،‬صنع ولي ولي العهد السعودي بعد‬ ‫وهكذا‬

‫إستراتيجية مختلفة المراحل للتعاطي معها‪ ،‬فليس كل‬

‫بمقابلة تلفزيونية مع قناة العربية‪ ،‬يوم وافق مجلس الوزراء‬

‫وجهتها تتطلب من المجتمع العربي وعلى رأسه السعودية‪،‬‬ ‫حدث يجدي معه الشجب واالستنكار‪ ،‬أو هجاء مصدر‬ ‫الهجوم في الوسائل المحلية‪ ،‬التي يتردد صداها في الداخل‬

‫أكثر من الخارج‪.‬‬

‫ويالحظ الباحثون في هذا المجال أن التعاطي السعودي‬

‫مع هذه التقارير والحمالت‪ ،‬تحسن إلى حد بعيد عما كان‬

‫مقابالته الشهيرة مع بلومبيرغ‪ ،‬والتي توّجها من بعد‬

‫على رؤية «السعودية ‪2030‬م» التي كان مهندسها‪ ،‬فجاءت‬ ‫إجاباته كافية البتالع كثير من ألسنة التقارير المشككة في‬

‫قدرة البالد على الصمود أمام تهاوي أسعار النفط‪ ،‬ليقول‬

‫باألرقام والمنطق‪ :‬إن النفط سلعة مهمة‪ ،‬لكن الدولة ليست‬ ‫أسيرة لتقلباته‪.‬‬

‫‪159‬‬


‫إعالم‬

‫الحملة اإلعالمية على‬ ‫السعودية في الصحافة‬ ‫الغربية؛ هل هي ممنهجة؟‬

‫فضيلة الجفال‬ ‫كاتبة سعودية‬

‫‪160‬‬

‫حين نتحدث عن الهجوم الغربي ضد المملكة‪ ،‬بصفته حملة ممنهجة أو غير ممنهجة‪ ،‬يجب‬ ‫أن نتأكد من كونها «حملة» فعليًّا‪ .‬الهجوم ال يمكن تعريفه فحسب كهجوم غربي إعالمي عام‪.‬‬ ‫هناك اإلعالم األميركي والبريطاني والفرنسي وبقية اإلعالم األوربي‪ ،‬اتفقت أم اختلفت األسباب‬ ‫وراء ذلك‪ .‬فإذا شئنا تقسيم الهجوم عامة‪ ،‬فالمسألة قديمة وربما غير ممنهجة كما يمكن‬ ‫أن نراها اليوم‪ .‬وهو يحدث بشكل روتيني مع كل زيارات الرؤساء الغرب الرسمية للمملكة‪،‬‬ ‫األميركيين واألوربيين والبريطانيين‪ ،‬ومن تلك الزيارات زيارة األمير تشارلز األخيرة للمملكة‪،‬‬ ‫وزيارات أوباما‪ ،‬أو حتى أوالند‪ .‬والقضايا هي نفسها متكررة ومعروفة؛ مثل‪ :‬قضايا الحقوقيين‬ ‫المثارة‪ ،‬وقضايا معتقلين في أمور تتصل بالرأي والدين والحريات‪ ،‬وبالطبع ملف حقوق المرأة‬ ‫وغير ذلك‪ ،‬حتى إنه حين ظهرت سيدة سعودية تتحدث في مجلس األمن حول إسرائيل‪ ،‬انبرى‬ ‫بعض الغرب ومن بينهم إسرائيليون‪ ،‬في السخرية بإظهار صور إسرائيليات يقدن مقاتالت ‪F16‬‬ ‫والتعليق أسفل الصور‪« :‬تقود اإلسرائيليات ‪ F16‬أكثر مما تقود السعوديات سيارة»‪.‬‬

‫العددان ‪ 478 - 477‬شوال ‪ -‬ذو القعدة ‪1437‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬أغسطس ‪2016‬م‬


‫عىل سبيل املثال‪ ،‬كانت ردة فعل الصحافة الغربية‬ ‫وبخاصة الربيطانية تجاه قضية الربيطاين املُسنّ يف جدة‬

‫منها‪ ،‬كما أن لها بطبيعة الحال أبعادًا سياسية‪ .‬ووسائل‬

‫من أن القضية «قانونية» مثل أي قانون يف بريطانيا يجب‬

‫األسباب املتكررة مع تحديث أسباب جديدة‪ ،‬منها حرب‬

‫الذي حُ كم عليه بـ ‪ 350‬جلدة محل اهتمام‪ .‬وعىل الرغم‬ ‫احرتامه من الجميع‪ ،‬فإن املسألة كانت متداخلة مع حكم‬

‫الجلد نفسه لتطبيقه يف حق رجل مسن‪ ،‬إذن املسألة هي أن‬ ‫بعض األحكام املبنية عىل الشريعة اإلسالمية توصف –من‬ ‫وجهة نظر بعض الغربيني‪ -‬بأنها أحكام قمعية وقروسطية‬

‫تهدر حقوق اإلنسان‪ ،‬وبخاصة مع تواتر األخبار والتغطيات‬ ‫حول قصصنا املحلية التي لطاملا كانت مادة خصبة للصحافة‬

‫العاملية طوال العام‪ ،‬وغالبًا ما يكون سببها شخصيات‬ ‫متشددة من الداخل تحارب أي نزعة انفتاح أو حقوق للمرأة‬

‫يف اململكة‪ .‬هناك صورة نمطية حول اململكة؛ بسبب ملفات‬ ‫بسيطة يمكن وصفها بالتافهة؛ ألنها تستهلك من سمعة‬

‫املتهكم واملمنهج يصنع صورة عامة من الصعوبة التخلص‬ ‫اإلعالم تتبنى الهجوم الخاص عىل اململكة مؤخ ًرا لنفس‬ ‫اليمن‪ ،‬دون أدىن اعتبار لألهمية الجيوسياسية للمملكة‪،‬‬

‫وباقي ملفات الشرق األوسط الساخنة‪ ،‬وبالطبع موضوع‬

‫النفط الشائك‪ ،‬والعالقات األمريكية‪ ،‬وصفقات األسلحة‪،‬‬

‫وليس موضوع ربط السعودية بإرهاب ‪ 11‬سبتمرب من خالل‬ ‫قضية الـ‪ 28‬ورقة من التقرير‪ ،‬سوى مناورة سياسية إعالمية‬ ‫ً‬ ‫أيضا‪ .‬وبالتايل فهذا النوع من الهجوم يأيت إما من صحافة‬

‫مدفوعة ومأجورة من قبل سياسات لها أهداف وتمارس‬ ‫ً‬ ‫ضغطا معي ًنا ألسباب ما‪ ،‬أو دول لها مصالح يف استمرار‬

‫الهجوم عىل اململكة كإيران‪ ،‬أو ألسباب حقوقية من قبل‬

‫املنظمات الدولية كمنظمة العفو الدولية وجماعات حقوق‬

‫اململكة الكثري بال طائل‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫يف العامني األخريين‪ ،‬غطت الصحافة الربيطانية قضايانا‬

‫باإلمكان تحديد الصحف األكرث هجومً ا عىل اململكة من‬

‫بحدث؛ إذ لم توفر الصحافة الربيطانية مقاطع فيديو أشبه‬ ‫بالتعليمية‪ ،‬وبعناوين تلقت تفاعلاً جماهري ّيًا مثل‪ :‬لقد عرفنا‬

‫مثال عىل ذلك حينما ألغت بريطانيا عقدً ا لتدريب موظفي‬

‫وويل أمرها‪ ...‬إلخ‪ .‬بطبيعة الحال ال يمكن أن نختلف يف أن‬

‫منظمً ا‪ .‬كذلك وكجزء من هجوم الصحافة الربيطانية‪ ،‬نشرت‬

‫املثرية باهتمام شديد‪ ،‬املسألة ليست األخبار والتقارير املتعلقة‬

‫خمسة أشياء عن السعودية هذا األسبوع‪ :‬املرأة السعودية‪،‬‬

‫اإلنسان‪ ...‬إلخ‪.‬‬

‫خالل متابعة التغطيات الخربية وغري الخربية‪ .‬والالفت ليس‬ ‫الهجوم اإلعالمي فحسب‪ ،‬بل تأثريه ً‬ ‫أيضا يف السياسات‪،‬‬ ‫مصلحة السجون السعودية بعد هجوم إعالمي‪ ،‬ربما كان‬

‫دول الغرب متقدمة من حيث الحريات وحقوق اإلنسان‪.‬‬ ‫والصحافة منابر حرة مشاكسة وينبغي يف عامة األحوال ألاّ‬

‫السعودية بعد ّو حقيقي للغرب‪ ،‬وبأن سياسة العداء مع‬

‫وتداعياتها بطبيعة الحال مختلفة جدًّ ا‪.‬‬

‫يف بيع األسلحة للسعودية‪ .‬وذلك عىل الرغم من وجود بعض‬

‫نتابع ذلك بحساسية مفرطة‪ ،‬لكن األوضاع السياسية الراهنة‬

‫شفافية تصل إىل حد الفضائح‬

‫اإلندبندنت والغارديان مقاالت هجومية مختلفة واصفة‬ ‫إيران ال تخدم املجتمع الدويل‪ ،‬منتقدة سياسة إدارة كامريون‬

‫املقاالت القليلة الداعمة للعالقات مع اململكة‪ ،‬كمقال نشر يف‬ ‫دييل تليغراف ذات التوجه السيايس املحافظ عىل سبيل املثال‪.‬‬

‫وعادة ما تتناول الصحف قضايا الدول عامة بشفافية‬

‫والهجوم الواسع الذي يشنه أغلب اإلعالم األمرييك‬ ‫ً‬ ‫أحيانا إىل التساؤل عما إذا كان‬ ‫ضد اململكة مؤخ ًرا‪ ،‬يدفع‬

‫بنما وغريها‪ ،‬فالصحافة الغربية حرة‪ ،‬لكن ذلك ال يؤثر سلبيًّا‬

‫مقربة من البيت األبيض‪ .‬مثال عىل ذلك نيويورك تايمز‪،‬‬

‫تصل إىل حد الفضائح وكشف األوراق‪ ،‬مثل عنصرية يف‬

‫أمريكا‪ ،‬وفضائح سياسية يف بريطانيا وويكيليكس ووثائق‬ ‫يف صورة أمريكا أو بريطانيا كدولتني عظميني‪ .‬لكن التناول‬

‫البيت األبيض يقف خلف ذلك‪ ،‬ال سيما من جهات إعالمية‬ ‫التي تمارس هجومها بشكل مستمر وواضح‪ ،‬فقد دبجت‬

‫افتتاحية متبوعة بسلسلة مقاالت لكتاب من بينهم إيرانيون‬

‫إبان إعدام نمر النمر‪ .‬لذا فالهجوم املنظم واملخصص يف‬

‫وسائل اإلعالم الغربية تتبنى الهجوم‬

‫تغطيات عىل ‪ CNN‬األمريكية و‪ BBC‬الربيطانية و‪ RT‬الروسية‬ ‫ً‬ ‫اعرتاضا‬ ‫يف موضوع إعدام نمر النمر من بني اإلرهابيني ليس‬

‫نفسها‪ ،‬مع تحديث أسباب جديدة‪ ،‬منها‬

‫القضية سياسيًّا‪ ،‬وذلك يف تجاهل متعمّ د لثبوت تورط إيران‬

‫الجيوسياسية للمملكة‬

‫صحيفة واشنطن بوست‪ ،‬ومن بني ذلك ما كتبه نائب رئيس‬

‫على المملكة لألسباب المتكررة‬ ‫حرب اليمن‪ ،‬دون أدنى اعتبار لألهمية‬

‫عىل مسألة حقوقية وإنسانية كما يُزعم‪ ،‬إنما هو استثمار يف‬

‫يف دعم مجموعة من التنظيمات اإلرهابية‪ .‬وكذلك األمر يف‬ ‫التحرير نفسه‪.‬‬

‫‪161‬‬


‫إعالم‬

‫الجدير بالذكر أن التنسيق بني فريق إدارة أوباما واللوبي‬

‫بني كم من املقاالت التي تلمع إيران عىل حساب السعودية‪،‬‬

‫الكونغرس عىل القبول باالتفاقية النووية مع إيران‪ ،‬لدرجة‬

‫الجبري يف نفس الصحيفة ردًّا عىل الهجوم‪ .‬وليست املقاالت‬

‫اإليراين ومناهيض الحرب عىل العراق حشد اإلعالم لحث‬ ‫استعراض صارخ لتحسني صورة إيران من قبل اإلعالم‬ ‫األمرييك قبل توقيع االتفاقية وإبانها‪ .‬وقد يكون هذا الهجوم‬

‫جزءً ا من ثمن االتفاق النووي مع إيران‪ .‬وهذا يشري إىل حجم‬

‫هجوم مؤسسات العالقات العامة املتعاونة مع الصحف‬ ‫وكتابها ضد السعودية‪ ،‬والذي بدا واضحً ا بالتزامن مع‬ ‫هجوم اإليرانيني عىل سفارة السعودية وقنصليتها يف إيران‪.‬‬ ‫ولم يكن نشر صحيفة نيويورك تايمز مقالاً لوزير الخارجية‬

‫اإليراين محمد جواد ظريف يهاجم فيه اململكة سوى جزء من‬

‫فحسب‪ ،‬فبمتابعة بسيطة نرى حجم التعليقات التفاعلية‬ ‫أسفل املقاالت والتي تمتئل بشكل الفت بردود ضد اململكة‪،‬‬

‫وتبقى يف الصدارة بني الردود بفلرتة عىل موقع الصحيفة‬ ‫كآراء مرشحة‪ .‬وبعد أحداث باريس اإلرهابية نشرت صحيفة‬ ‫لوموند مقالاً يدعو الغرب لقطع عالقاته مع السعودية‪،‬‬ ‫بوصفها «أهم أسباب انتشار التطرف اإلسالمي»‪ .‬وال يعمل‬ ‫اإلعالم بطبيعة الحال بمعزل عن مراكز األبحاث‪ ،‬يتصدرهم‬ ‫يف ذلك ويل نصر وتريتا باريس وباربرا سالفني ولورا روزن‬ ‫وغريهم‪ .‬وقد نشرت فايننشال تايمز مقالاً للكاتب اليهودي‬

‫لم يكن نشر صحيفة نيويورك تايمز‬

‫جدعون راشمان‪ ،‬وهو املعلق يف الشؤون الخارجية‪ ،‬اعرتف‬

‫مقا لوزير الخارجية اإليراني محمد‬ ‫لاً‬ ‫جواد ظريف يهاجم فيه المملكة سوى‬

‫ضد اململكة‪ .‬يف املقابل هناك أصوات مؤيدة ملواقف الرياض‬

‫جزء من بين كم من المقاالت التي تلمع‬ ‫إيران على حساب السعودية‬

‫‪162‬‬

‫وقد حدث ونشر عىل إثرها وزير الخارجية السعودي عادل‬

‫فيه صراحة بتصاعد الهجوم اإلعالمي والسيايس الغربي‬ ‫ً‬ ‫خصوصا من اليمني األمرييك املعارض ألوباما‪،‬‬ ‫تجاه إيران‬ ‫وقد كتبوا يف وسائل عدة مثل‪ :‬يل سميث يف ويكيل ستاندرد‬

‫وفيليب سميث يف فورين بولييس‪.‬‬

‫أميركا وسياسة المملكة النفطية‬ ‫أمام كل السياسات الخارجية والداخلية املذكورة‪ ،‬ال ننىس عاملاً مهمًّ ا وحيويًّا يف الهجوم‪ ،‬وهو سياسة السعودية‬

‫االقتصادية يف النفط‪ ،‬وتأثري ذلك سلبيًّا يف استثمار النفط الصخري األمرييك ونفط القطران الكندي‪ .‬كما أن تأثر اقتصاد اململكة‬ ‫يؤثر بطبيعة الحال يف حجم استثماراتها يف أمريكا؛ األمر الذي أخرج كثريًا من التقارير التي تروّج انهيار السعودية واقتصادها‪،‬‬ ‫وقد سخر الربيطاين أليسرت سلون يف مقال عىل موقع ميدل إيست مونيتور من خرب يف برنامج ‪ News Night‬عىل ‪ ،BBC‬حذر‬

‫فيه محرر الربنامج للشؤون الدبلوماسية والدفاع مارك أوربان من أن اقتصاد السعودية بات عىل وشك االنهيار قبل نهاية‬ ‫العام؛ إذ أشار يف إحدى شرائح العرض التي قدمها إىل أن احتياطي السعودية النقدي قد تراجع إىل ‪ 650‬مليار دوالر أمرييك؛‬

‫«أتعرفون كم هو احتياطي اململكة املتحدة؟ إنه عشر ذلك املبلغ‪ ،‬وما هي نسبة االقرتاض إىل الناتج املحيل اإلجمايل؟ إنها ‪ .%90‬أما‬

‫بالنسبة للسعودية‪ ،‬فذلك الرقم يحوم حول نسبة ‪ ،%2‬وهي أقل نسبة اقرتاض بالنظر إىل الناتج املحيل اإلجمايل يف العالم‪ ..‬آل‬ ‫ً‬ ‫دفاعا وال كذبًا»‪.‬‬ ‫سعود أكرث شعبية بكثري مما يصوره اإلعالم الغربي‪ ،‬وهذا ليس‬

‫يف املحصلة‪ ،‬إنها دعوة إىل مراجعة جادة إلسرتاتيجيتنا اإلعالمية‪ ،‬والعمل عىل خلق توازن لدى الرأي العام الغربي‪،‬‬

‫بوساطة «صقور» لها كاريزما وثقة وقدرة عىل االتصال‪ .‬قائمة االتهامات يف هذا الهجوم ليست قصرية‪ ،‬وهي يف املحصلة تنميط‬ ‫للسياسة السعودية واألسرة الحاكمة والشعب؛ من اتهام بنشر التطرف وتمويله ونشر الطائفية‪ .‬ويمكن لكائن من كان أن‬

‫يهاجم السعودية من دون سؤال عن موقف الكاتب السيايس‪ ،‬بل األمر أشبه بصناعة كراهية ممنهجة عمياء‪ .‬الجبهة اإلعالمية‬ ‫ال تقل أهمية عن الجبهة العسكرية‪ .‬ويبقى جانب من املسألة يتجاوز توضيح وجهات نظرنا للغرب إىل تغيري بعض الجوانب التي‬

‫تختص بالسياسات الداخلية؛ كاالنفتاح‪ ،‬وملف حقوق املرأة عىل سبيل املثال‪ ،‬وذلك قبل جهود العالقات العامة‪ ،‬فالعالقات‬

‫العامة تقابلها سياسات وحمالت عالقات عامة شديدة الهجوم‪ .‬ونعوّل كثريًا عىل الرؤية الحكيمة التي تسري يف سبيل إحداث‬ ‫التغيري املأمول‪ ،‬وتعمل عىل خلق صورة عاملية أفضل؛ وهي إجمالاً مهمة أشبه بمن يميش يف حقل ألغام‪.‬‬

‫العددان ‪ 478 - 477‬شوال ‪ -‬ذو القعدة ‪1437‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬أغسطس ‪2016‬م‬


‫نصوص‬

‫كي يبدو مثلنا‬ ‫عارف حمزة‬ ‫شاعر سوري يقيم في ألمانيا‬

‫ُ‬ ‫تنزف‬ ‫ما زالت قدمي اليمنى‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫كأنني ما ُ‬ ‫عالقا بين األسالك الشائكة وحقل األلغام‬ ‫زلت‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫والقن ُ‬ ‫يتسلى وال يقتلني‬ ‫التركي‬ ‫اص‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫كأنني لم أغادر بلدي منذ سنوات‬

‫أعط ظهري ألحد!‬ ‫ولم ِ‬ ‫●●●‬

‫الشرفة‬ ‫أنا النبتة في أصيص‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬ ‫كنت تسقينها‬ ‫النبتة التي ِ‬

‫ْ‬ ‫كبرت واصف ّرت دون ّ‬ ‫تذمر‬ ‫النبتة التي‬ ‫مضت ّ‬ ‫كل هذه السنوات‬ ‫دون أن تعرفي‪.‬‬ ‫●●●‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫كنت ُ‬ ‫ُ‬ ‫المرتجف بشال صغير‬ ‫ألغطي البحر‬ ‫أريد أن أذهب‬

‫بكنزة صوف أكب َر من مقاسه‬ ‫كي يبدو مثلنا‪.‬‬ ‫●●●‬

‫عندما ّ‬ ‫ضمتنا‬ ‫نفسا عميقاً‬ ‫ُ‬ ‫األسالك الشائكة ً‬ ‫أخذت‬ ‫ِ‬ ‫ْ‬ ‫ودخلت تحت جلدنا‬ ‫نف َرت منها الدموع‬ ‫ونفرت ّ‬ ‫ْ‬ ‫منا‪.‬‬

‫صار لنا أخي ًرا‬ ‫ٌ‬ ‫أسالف‬ ‫رقيقون‬

‫من المعادن‪.‬‬ ‫●●●‬ ‫في آخر النفق وجدنا ضو ًءا بالفعل‪.‬‬ ‫ً‬ ‫بصيصا من الضوء كما قال الكثيرون‬ ‫ّ‬ ‫يسمونه سرا ًبا‪.‬‬ ‫وكانوا‬

‫●●●‬ ‫ٌ‬ ‫نظيف هنا أكثر من هواء بلدي‬ ‫الهوا ُء‬

‫نظيف بشكل خانق‪.‬‬ ‫●●●‬

‫على الحواجز كانوا يعثرون علينا بسهولة في بطاقاتنا‬

‫الشخصيّة‬ ‫ّ‬ ‫وكانوا ُي ّ‬ ‫ً‬ ‫قلبونها كثيرا كي يتخثر دمنا‪.‬‬

‫ُ‬ ‫الجندي ً‬ ‫على الحواجز ُ‬ ‫ّ‬ ‫أيضا‬ ‫أبحث في‬ ‫كنت‬ ‫ُ‬ ‫كنت أبحث عن أنثى في عينيه‬

‫عن زرقة على رقبته بسبب الحب‬

‫عن كدمة على قزحيّته بسبب الهجران‬ ‫ولكن ال شيء فيه‪ ،‬ال شيء‬

‫مثل هذا الثلج المتسخ في الطرقات‬ ‫ُ‬ ‫وكنت‬ ‫ّ‬ ‫أتأل ُم ألجله‪.‬‬ ‫●●●‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫العيش في مدينة بحريّة‬ ‫اخترت‬ ‫كي أدير ظهري للبحر‪.‬‬ ‫●●●‬ ‫أفعل ً‬ ‫ُ‬ ‫شيئا‬ ‫ال‬

‫ال أخرج من البيت‬

‫عندي فكرة راسخة‪،‬‬

‫أسقيها مثل نبتة ضعيفة‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫بأنهم استعملوا كثي ًرا الحياة التي في الخارج‬ ‫ْ‬ ‫عادت‬ ‫وما‬ ‫ّ‬ ‫تخصني‬ ‫في شيء!‬

‫‪163‬‬


‫مقال‬

‫موت زاحف إلى لبنان‬ ‫أن تعيش في بلد ال يشهد حربًا مباشرة‪ ،‬لكن ً‬ ‫موتا يشبه الحرب‪ ،‬بل يفوقها قسوة‪ ،‬يزحف إليه من كل‬ ‫جهة‪ ،‬فهذه تجربة مختلفة‪ ،‬وأثقل مما تحمله الحرب من أعباء‪ .‬ذاك أنك أيها الرجل ُتعاين الموت البطيء‬

‫ً‬ ‫وطارئا ومؤق ًتا‪ ،‬أما الموت‬ ‫بأم عينك‪ ،‬فيما الموت في الحروب سريع‪ ،‬وما يُخلفه من صدمة يجعل منه غريبًا‬

‫في بلد يحتضر من دون حرب مباشرة‪ ،‬فيمكن معاينته ورصده وهو يقترب منك‪ ،‬وهو بهذا المعنى موت غير‬

‫صادم؛ ألنه جزء من طبيعة األشياء‪.‬‬

‫في لبنان يقترب الموت منا منذ أكثر من عشر سنوات‪ .‬نعاين في كل يوم اقترابه خطوة منا‪ ،‬ونشعر بأنه‬

‫صار أقرب إلينا من أنفسنا‪ .‬لبنان المحاصر بالحروب األهلية والملتبس والمعقد ما عاد يفصله عن الحرب‬ ‫األهلية سوى مسافة واهية‪ ،‬هي نفسها ما يجعل اللبنانيين يعتقدون أنهم ما زالوا خارجها‪ .‬ال بل إن عدم‬ ‫سقوطه في هذه الحرب هو جزء من عجز البلد عن اإلتيان بأي شيء‪ .‬حتى الحرب يبدو أن لبنان عاجز عن‬

‫خوضها على نفسه‪ ،‬وهو عاجز ليس ألنه محصن منها إنما ألنه فاقد القدرة على المبادرة‪.‬‬

‫بيروت تفقد كل يوم وظيفة من وظائفها‪ .‬يصح ذلك على وظائفها المباشرة بصفتها مدينة أهلها‪ ،‬وعلى‬ ‫معانيها ً‬ ‫أيضا‪ .‬فعندما انقض حزب الله على المدينة في ‪ 7‬مايو ‪2008‬م كفت بيروت عن كونها ملجأ ألهلها‪،‬‬

‫‪164‬‬

‫وعندما أعلن الحزب انخراطه في القتال في سوريا أنهى بهذا اإلعالن قيمة الحدود وفتح لبنان على احتماالت‬ ‫الحرب اإلقليمية‪ ،‬واليوم بعد أن ُفجر بنك لبنان والمهجر في أعقاب التزامه ببرنامج العقاب األميركي للحزب‪،‬‬

‫أخضع الحزب القطاع المصرفي لمنظومته األمنية‪ ،‬ومن المتوقع أن يستجيب القطاع لضغوط حزب الله‪،‬‬ ‫ويصبح لبنان خارج المنظومة المالية الدولية‪.‬‬ ‫مدن البؤس التوتاليتاري‬

‫تجر هذه الوقائع منفصلة عن حال من الموت‪ ،‬ومن مشابهة مُ دن البؤس التوتاليتاري التي تقبض عليها‬ ‫لم‬ ‫ِ‬

‫أنظمة شمولية‪ .‬فالوسط التجاري للمدينة راح بالتزامن مع انقضاض حزب الله التدريجي على المدينة وعلى‬

‫أهلها ينطفئ يومًا بعد يوم‪ .‬في كل يوم يشهد هذا الوسط إقفال متجر أو شركة أو مقهى؛ حتى صار اليوم‬ ‫ً‬ ‫مخلفا طبقات من الغبار‪.‬‬ ‫مدينة خالية يزحف الفراغ على مبانيها‬ ‫منطقة الحمرا التي حاولت االستثمار بموت الوسط التجاري فراحت تزدهر وتتوسع ابتليت بشيء اسمه‬

‫«الحزب السوري القومي االجتماعي» وهو حزب يقاتل إلى جانب حزب الله في سوريا‪ ،‬ويسيطر على شارع‬

‫بصلة‪ .‬وكما فرض الحزب نموذجه وذوقه على‬ ‫الحمرا‪ ،‬ومعممً ا فيه شعارات ال تمت إلى الحياة وإلى هذا الزمن ِ‬ ‫الشارع فرض ً‬ ‫أيضا الفتات ُكتبت عليها عبارات ُتشعر العابر بأنها كتبت للنيل من ذكائه ومن كرامته‪ .‬وبموازاة‬

‫ذلك تحول الحزب السوري القومي «االجتماعي» إلى سلطة تفرض «خوّات»‪ ،‬وتنتشر على زوايا الشوارع معلنة‬

‫عن نفسها على نحو فظ‪.‬‬ ‫لاً‬ ‫والموت المحدق بلبنان جعل من أي رغبة في مقاومته أم ًرا مستحي ‪ .‬ثمة انقسام يمنع أي طموح للوقوف‬ ‫في وجه هذا الموت‪ .‬فقد قررت بيروت مثلاً في االنتخابات البلدية األخيرة أن ُتعلن تذمرها وعصيانها على تيار‬

‫المستقبل‪ ،‬وهو السلطة البلدية فيها‪ ،‬فجاءت نتائج االنتخابات كاشفة عن المزاج البيروتي المتذمر من أداء‬

‫المستقبل‪ ،‬لكن النتيجة لم تسمح بالتغيير؛ ألن الئحة المستقبل فازت بفارق ضئيل‪ ،‬يتيح هذا االستنتاج‪،‬‬ ‫لكنه ال يتيح التغيير‪.‬‬

‫ال يريد اللبنانيون معظمهم دورًا في القتال في سوريا‪ ،‬لكن حزب الله أقوى منهم‪ ،‬وبإمكانه توظيف‬

‫رئيسا للجمهورية‪ ،‬لكنّ أحدً ا ال يستطيع انتخاب رئيس ما دام الحزب‬ ‫انقساماتهم في معركته هناك‪ ،‬ويريدون‬ ‫ً‬ ‫العددان ‪ 478 - 477‬شوال ‪ -‬ذو القعدة ‪1437‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬أغسطس ‪2016‬م‬


‫رئيسا‪ .‬رائحة النفايات صارت جزءً ا من وعي اللبنانيين‬ ‫ال يريد‬ ‫ً‬

‫ألنفسهم؛ لشدة عجزهم عن محاسبة الحكومة المسؤولة عن تراكم‬ ‫هذه النفايات‪ .‬وهم‪ ،‬أي‪ :‬اللبنانيون‪ ،‬صاروا على قناعة باستحالة‬

‫التغيير‪ ،‬ال بل شرعوا يكيفون وقائع عيشهم مع حقيقة أن النفايات‬ ‫هي جزء من طبيعة األشياء ومن جريانها اليومي‪.‬‬ ‫جبال النفايات‬

‫ال شيء يُمكن تغييره‪ .‬هذه قناعة مستقرة في منطقة راسخة‬

‫من وعي أي لبناني‪ ،‬وهذا األخير ستراه منقا ًدا إلى انتخاب من تسبب‬

‫له بهذا اليأس وهذا الموت‪ .‬ال شيء أوضح من أزمة النفايات تعبي ًرا‬

‫عن هذه المعادلة‪ .‬المسؤول عن جبال النفايات المنتشرة في كل‬

‫حازم األمين‬ ‫كاتب لبناني‬

‫مكان هو حكومة ووزراء ومسؤولون سيعيد اللبنانيون انتخابهم‬ ‫في أقرب موعد لالقتراع‪ .‬فالتظاهرات التي شهدتها العاصمة بيروت‬

‫احتجاجً ا على غرق العاصمة بالنفايات بدت أصغر من أي تظاهرة‬

‫‪165‬‬

‫يمكن أن يدعو إليها زعيم أي طائفة مهما كان حجمها‪ .‬في وقت‬

‫طرحت التظاهرة ضد النفايات على نفسها مهمة مواجهة زعماء‬

‫الطوائف مجتمعين‪.‬‬ ‫ً‬ ‫ال يمكن ألحد أن يُغير شيئا‪ .‬تفجير فردان األخير كان أوضح مثال‬

‫على العجز‪ .‬الوضوح وانكشاف المهمة والوظيفة أشارا إلى أن الجهة‬ ‫المُ فجرة ال تشعر أن ثمة ما يمنعها من أن ُتعلن عن نفسها‪ ،‬وأن‬

‫ال رأي عام يعنيه هذا الوضوح‪ .‬فالتفجير هو جزء من اللغة العادية‬

‫التي يقبلها الجميع‪ ،‬وهو على استعداد للتعامل مع نتائجها‪،‬‬

‫وقبول الرسالة‪ ،‬والعمل بموجب ما يطلبه المفجرون‪ .‬ففي أعقاب‬ ‫التفجير ُعقد اجتماع لجمعية المصارف‪ ،‬وأُعلن في أعقابه تفهم‬

‫الجمعية مخاوف حزب الله من قبول المصارف بالشروط األميركية‪.‬‬ ‫ولبنان هذا هو على نحو ما هو عليه‪ ،‬أي أنه على شفير االنهيار‬

‫من دون أن يبلغه تمامً ا‪ ،‬فقط ألن وظيفتين ما زال لبنان يؤمنهما‬

‫للمجتمع الدولي‪ ،‬وإال كانت الحرب وكان دبيبها؛ المهمة األولى‬ ‫استقبال الالجئين السوريين‪ ،‬وهي ما يحسبه العالم له‪ .‬والمهمة‬

‫الثانية المحافظة على ما تبقى من وجود مسيحي‪ ،‬وهي أقل أهمية‬ ‫للعالم من المهمة األولى‪ ،‬لكنها ُتخاطب بعض القيم الدولية‪ .‬لكن‬ ‫البلد لن يصمد كثي ًرا‪ ،‬والمهمتان ال تكفيان وال تحصنان‪ ،‬واإلرادة‬ ‫الدولية ليست عاملاً وحيدً ا يعيق االنهيار‪ ،‬فنحن أمام بلد بال‬

‫حدود‪ ،‬وبال أمن‪ ،‬وبال اقتصاد‪ .‬أمام بلد يضم حزبًا أكثر قدرة من‬ ‫كل جماعاته‪ ،‬وأكثر قدرة منه هو نفسه‪.‬‬

‫التظاهرات التي‬ ‫شهدتها العاصمة‬ ‫احتجاجا على غرق‬ ‫بيروت‬ ‫ً‬ ‫العاصمة بالنفايات بدت‬ ‫أصغر من أي تظاهرة‬ ‫يمكن أن يدعو إليها‬ ‫زعيم أي طائفة مهما‬ ‫كان حجمها‪ .‬في وقت‬ ‫طرحت التظاهرة ضد‬ ‫النفايات على نفسها‬ ‫مهمة مواجهة زعماء‬ ‫الطوائف مجتمعين‬


‫زمان الفيصل‬

‫‪166‬‬

‫العددان ‪ 478 - 477‬شوال ‪ -‬ذو القعدة ‪1437‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬أغسطس ‪2016‬م‬


167


‫مخطوطات‬

‫‪168‬‬

‫مخطوط ( األدوار في علم الموسيقا واألوتار ) من مقتنيات مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات‬ ‫اإلسالمية‪ّ .‬‬ ‫ألفه‪ :‬عبدالمؤمن بن يوسف بن فاخر األموي‪ ،‬تاريخ وفاة المؤلف‪693 :‬هـ ‪1294 -‬م‪.‬‬

‫العددان ‪ 478 - 477‬شوال ‪ -‬ذو القعدة ‪1437‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬أغسطس ‪2016‬م‬


‫‪169‬‬

‫يحتوي المخطوط على مختصر في معرفة النغم ونسب أبعاده وأدواره وأدوار اإليقاع وأنواعه ‪..‬‬ ‫ورتب على خمسة عشر فصلاً ‪ ،‬وكتب بخط النسخ‪.‬‬


‫فنون‬

‫متحف إسطنبول للفن الحديث‬

‫على إيقاع البوسفور‬

‫‪170‬‬

‫علي مرزوق‬ ‫أكاديمي سعودي ‪ -‬إسطنبول‬

‫خالل زيارتك إلى مدينة إسطنبول ال بد أن تحرص على زيارة متحفها للفن الحديث‬

‫الذي تأسس في عام ‪2004‬م على مساحة ثمانية دونمات (ثمانية آالف متر مربع)‪ ،‬وإذا‬ ‫كنت برفقة العائلة فاحرص على اصطحاب عائلتك وأطفالك إلى المتحف؛ ألنهم سوف‬

‫يستمتعون باالنخراط في أنشطة متنوعة تستهدف الصغار والكبار على حد سواء‪ ،‬كما‬ ‫يستضيف المتحف أعمالاً ومعارض دائمة وأخرى مؤقتة‪ ،‬وهناك متجر خاص القتناء‬ ‫الهدايا التذكارية‪ ،‬ومكتبة عامة تضم مجموعة واسعة من المراجع العلمية لتاريخ‬

‫الفن العالمي والتركي‪ ،‬ومساحات أخرى مخصصة للبرامج التعليمية واالجتماعية‬

‫والتثقيفية‪ ،‬وصالة للسينما‪ ،‬ومطعم لتناول وجبة الغداء على ضفاف البوسفور‪.‬‬

‫العددان ‪ 478 - 477‬شوال ‪ -‬ذو القعدة ‪1437‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬أغسطس ‪2016‬م‬


‫‪171‬‬

‫ً‬ ‫مستودعا للجمارك قرب ميناء السفن‬ ‫المتحف كان‬

‫من األعمال التي تصدم المتلقي وتصيبه بالدهشة والحيرة‬

‫على مساحة ‪ 8000‬متر مربع‪ ،‬ويعرض أهم أعمال الفن المعاصر‬

‫ريتشارد وينت وورث الذي أنتجه في عام ‪2005‬م‪ ،‬ويعرض‬

‫السياحية‪ ،‬ويقع في منطقة بي أوغلو على ضفاف نهر البوسفور‬ ‫للفنانين األتراك منذ ستينيات القرن العشرين حتى وقتنا‬ ‫الحاضر‪ ،‬كما يضم بين جنباته أعمالاً لنخبة من أشهر فناني‬ ‫العالم الذين تنال أعمالهم تقدير محبي الفن والسياح ممن‬ ‫يفدون لزيارة المتحف من جميع أنحاء العالم جامعً ا أعمالاً‬ ‫أدائية‪ ،‬ومسندية‪ ،‬ونحتية‪ ،‬ومفاهيمية‪ ،‬إضافة إلى أعمال‬

‫الفيديو آرت‪ ،‬غير أن ما يثير حفيظة الكثير من السياح العرب‬ ‫وغيرهم من الجنسيات األخرى الحاجة إلى التعريف باللغة‬

‫العربية‪ ،‬والتوسع في الترجمة باللغة اإلنجليزية؛ ألهمية ذلك‬ ‫بالنسبة للسائح العربي وغير العربي‪.‬‬

‫معً ا ذلك العمل المفاهيمي المسمى «سقف معلق» للفنان‬ ‫مجموعة من الكتب المعلقة في سقف المدخل بواسطة‬

‫أسالك معدنية في مستوى واحد؛ لتجبر المتلقي على النظر‬

‫إلى األعلى بعد أن يمر أسفل منها‪ .‬بهذا العمل المميز يستقبل‬ ‫المتحف زواره ليجدوا أنفسهم أمام أعمال تستحق التوقف‬

‫أمامها كثيرًا‪ ،‬ومنها العمل المسمى «قدم نفسك لي» للفنانة‬ ‫التركية هاندان التي عرضت فيه عملاً مفاهيميًّا أنتجته في عام‬ ‫‪2009‬م يحتوي على مجموعة من الحقائب‪ ،‬ملحق بها عدسات‬

‫مقربة‪ ،‬تمثل بطاقة دعوة للمتذوقين إلى القرب من هذه‬ ‫الحقائب‪ ،‬بل والنظر من خالل هذه العدسات المقربة إلى‬


‫فنون‬

‫أدق تفاصيلها‪ ،‬وهي بهذا العمل تدعو المتذوقين إلى تتبع أثر‬

‫السفر على هذه الحقائب‪.‬‬

‫بينما تتوسط الكرة الزجاجية للفنان الدانماركي أوالفور‬

‫إيلسون التي أنتجها في عام ‪2010‬م بقطر (‪ 110‬سم) غرفة صغيرة‬

‫تنتشر فيها أشعة الضوء الملونة المنبعثة من الكرة الزجاجية‬

‫لتترك انطباعاتها على مُ حيّا المتذوقين‪ .‬أما عمل «بلدي‬ ‫الجحيم» للفنانة التركية فخر النساء زياد فيمثل عملاً مسنديًّا‬

‫‪172‬‬

‫يمتد على مساحة كبيرة (‪ 228×205‬سم)‪ ،‬استخدمت في تنفيذه‬ ‫ألوان الزيت على القماش «الكانفاس»‪ ،‬ويمثل منمنمات تجمع‬

‫بين األلوان‪( :‬الحمراء‪ ،‬والبيضاء‪ ،‬والسوداء‪ ،‬والصفراء)‪.‬‬ ‫ومن األعمال المميزة ً‬ ‫أيضا ذلك العمل التجريدي المسمى‬ ‫«سمك القرش الفظيع» للفنان مارك برد فورد‪ ،‬بمساحة‬ ‫واسعة تساوي (‪ 366×260‬سم) ‪ ،‬واستخدم في تنفيذه بقايا‬

‫وسائل إعالمية متنوعة على كانفاس‪ .‬ومجسم «األحمر‬

‫الخامس» للنحات سيهون توبوز الذي استخدم فيه خامة‬ ‫(الفايبر غالس) المطلي باللون األحمر بمقاسات (‪115×185×137‬‬ ‫سم)‪ً ،‬‬ ‫تاركا األضواء والظالل تتبادل فيما بينها على مساحاته‪.‬‬

‫العددان ‪ 478 - 477‬شوال ‪ -‬ذو القعدة ‪1437‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬أغسطس ‪2016‬م‬


‫متحف إسطنبول للفن الحديث‬

‫‪173‬‬


‫فنون‬

‫المخرج السعودي قال إنه يعي حجم التحديات ومؤمن بخلق سينما وطنية‬

‫محمود صباغ‪:‬‬

‫«بركة يقابل بركة» عن تحقيق الذات‬ ‫والتحرر من األوهام‬

‫جدة‬

‫‪174‬‬

‫العددان ‪ 478 - 477‬شوال ‪ -‬ذو القعدة ‪1437‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬أغسطس ‪2016‬م‬


‫على الرغم من أن فلم المخرج السينمائي السعودي محمود صباغ «بركة يقابل بركة» لم يعرض بعد في‬ ‫السعودية؛ لظروف هذا الفن في المملكة‪ ،‬إال أن الفلم حصد شهرة كبيرة‪ ،‬وحظي باهتمام ومتابعة في الداخل‬

‫ربما فاقا معظم األفالم التي تحققت للسينما في السعودية‪ .‬ويمكن أن نعزو هذا االهتمام بالفلم ليس إلى‬ ‫فوزه بجائزة في مهرجان برلين السينمائي في دورته األخيرة‪ ،‬إنما ً‬ ‫أيضا بسبب التوقعات من مخرج مثل صباغ‪،‬‬

‫ً‬ ‫ً‬ ‫خصوصا‬ ‫واع بقضايا المجتمع وإشكالياته‪،‬‬ ‫دارس للسينما ومدرك متطلباتها وقريب من جمالياتها‪ ،‬وأيضا ٍ‬ ‫ً‬ ‫ذائعا‪ ،‬مع أنه الفلم الروائي الطويل األول له‪« .‬الفيصل»‬ ‫جيل الشباب الذي يتحدث عنه فلمه الذي أصبح‬

‫التقت محمود صباغ على هامش االحتفاء الكبير بفلمه‪ ،‬وحاورته حول السينما في السعودية‪ ،‬وتجربته ورأيه‬ ‫في مهرجان أفالم السعودية بالدمام‪ ،‬ومهرجان الفلم السعودي بجدة‪ ،‬إضافة إلى قضايا أخرى‪.‬‬ ‫على الرغم من أن فلم «بركة يقابل بركة» أول فلم‬

‫روائي لك‪ ،‬إال أنه قوبل بصدى جيد‪ ،‬ولقي رواجً ا على األقل في‬ ‫مواقع التواصل وفي الصحافة؛ ماذا يعني لك هذا االهتمام؟‬

‫ هذا انتصار؛ انتصار لقيم العمل الجاد والمتقن‪ ،‬ولإلبداع‬‫الحر المستقل‪ .‬طريقنا في الفن كان عصام ًّيا‪ .‬لم نعرف أحدً ا في‬ ‫دوائر مؤسسات السينما والمهرجانات بالخارج قبل صناعة فلم‬

‫«بركة يقابل بركة»‪ .‬لكن الفلم تم قبوله بنزاهة بمهرجان برلين‬

‫من دون أي مؤثرات خارجية‪ ،‬ثم شق طريقه‪.‬‬

‫تؤكد في أحاديثك الصحافية أن الفلم يحكي قصة‬

‫جيل الشباب‪ ،‬هذا الجيل الحالم ال أقول بمستقبل إنما‬ ‫بحاضر يرى فيه جميع متطلباته ميسرة‪ ،‬جيل يعاني التعبير‬

‫عما يخالجه من مشاكل وعواطف في غياب اآلخر‪ ،‬هذا‬

‫الجيل الذي تترصد تحركاته العيون‪ ،‬وتحيط به مواضعات‬ ‫ً‬ ‫المجتمع‪ ،‬هل تعتقد أن ً‬ ‫كاف للتعبير عن هموم‬ ‫فلما‬ ‫واحدا ٍ‬

‫ً‬ ‫خصوصا أن ممثليك الرئيسيين‪ ،‬وأنت‬ ‫هذا الجيل وأحالمه‪،‬‬

‫ً‬ ‫أيضا‪ ،‬ينتمون‪ ،‬في شكل أو آخر‪ ،‬إلى هذا الجيل؟‬

‫‪ -‬‫ «‬بركة يقابل بركة» هو فلم يحكي قصة جيل الشباب‪،‬‬

‫أو جيل األلفية؛ أي من هم أقل من ‪ ٣٥‬سنة‪ ،‬وهم أغلبية‬ ‫ديموغرافية‪ ،‬لكنها تنال تمثيلاً أقل اجتماعيًّا‪ ،‬وسياسيًّا‪ ،‬وعلى‬

‫مستوى الفرص االقتصادية‪ .‬ليس نشرة تبجيلية للجيل‪ ،‬فالسينما‬ ‫ال تخلع أحكامً ا قيمية جاهزة‪ ،‬ال تن ّزه‪ ،‬وال تدين‪ ،‬لكنها تنقل الواقع‬ ‫كما هو ‪ ،‬ربما فقط من الزاوية التي اختارها صانع الفلم‪.‬‬

‫ً‬ ‫ضاغطا‪ ،‬مالمحه العجز‬ ‫وكما أن هناك شعورًا عامًّ ا‬ ‫ً‬ ‫إيمانا بحلو الحياة‬ ‫واإلحباط عند هذا الجيل‪ ،‬إال أن هناك‬

‫واالنطالق‪ ،‬وتحطيم القيود المفروضة‪.‬‬

‫فلم «بركة يقابل بركة» عن تحقيق الذات والتحرر من‬

‫األوهام‪ ،‬وهو تجربتي السينمائية الطويلة األولى التي حتمً ا‬

‫ستعقبها تجارب أخرى‪.‬‬

‫أنت كاتب ومنتج ومخرج الفلم؛ هل لذلك عالقة‬

‫بطبيعة صناعة السينما في السعودية‪ ،‬وظروف تكونها‪ ،‬أم‬

‫(الحوش بروديكشون)‬

‫‪175‬‬


‫فنون‬

‫أنك تميل أصلاً إلى سينما المؤلف التي عادة ما تتميز بأفالم‬ ‫نواح جمالية‪ ،‬كما ال تتطلب‬ ‫روائية في غاية األهمية من‬ ‫ٍ‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ضخما؟‬ ‫أحيانا إنتاجً ا‬ ‫‫‪ ‬-‬نعم في الحالتين؛ في فضاء ما قبل الصناعة عليك أن‬

‫تصنع فرصتك‪ ،‬وتبني قواعد العمل اإلنتاجي واإلبداعي كاملة‪،‬‬

‫وأن تكون مخرج العمل‪ ،‬ومنتجه وكاتبه‪ ،‬ومموله‪ ،‬ومسوّقه‪،‬‬ ‫وحارس طريقه‪.‬‬

‫راض عن التجربة‪ ،‬وسوف أعيدها‪ ،‬نعم أتمنى‬ ‫األولويات‪ .‬أنا ٍ‬ ‫تحسين شروط صناعة الفلم؛ لحفز األعمال‪ ،‬ورفع حق اإلنتاج‬ ‫السنوي‪ ،‬لكن في كل األحوال نحن مستمرون‪.‬‬

‫بساطة التناول في سينما السعوديين‪ ،‬تجعلها قريبة‬

‫ً‬ ‫نجوما كبارًا في اإلخراج؛‬ ‫من السينما اإليرانية التي عرفت‬

‫لكنني ً‬ ‫أيضا على مستوى اإلبداع أنتمي إلى مدارس «سينما‬

‫مثل‪ :‬عباس كيارستامي‪ ،‬وجعفر بناهي‪ ،‬ومجيد مجيدي‪،‬‬

‫الجديد»‪ ،‬ليس فقط للحريات اإلبداعية والتعبيرية التي‬ ‫تمنحني إياها‪ ،‬بل ً‬ ‫أيضا‪ ،‬ألنها هي ما يناسب منطقتنا وطبيعة‬

‫األضواء في مهرجانات عالمية‪ .‬ترى كم يحتاج السعوديون‬ ‫ليصير لديهم سينما حقيقية؟ وليس مجرد تجارب سينمائية‬

‫اإلنتاج الضخم‪ ،‬أو إنتاج األستوديوهات‪ ،‬يقومان على‬

‫‫‪ ‬-‬نحن بعيدون جدًّا عن السينما اإليرانية‪ .‬السينما اإليرانية‬

‫المؤلف»‪ ،‬أو امتداداتها المعاصرة مثل‪« :‬سينما اإلخراج‬

‫السوق الناشئة التي ننتمي إليها‪.‬‬

‫ومحسن مخملباف وابنته سميرة‪ ،‬هؤالء هم الذين سرقوا‬

‫بإمكانيات بسيطة؟‬

‫تفوقت؛ ألنها مزجت بين البساطة والتعقيد‪ ،‬النهايات‬

‫أساس وجود صناعة وسوق‪ ،‬وهو ما نفتقر إليه‪ .‬وأي اقتباس‬ ‫لها في بيئتنا سوف يصدر متهاف ًتا ومُ قلدً ا وبال روح‪.‬‬

‫غير المتوقعة وغير «الهوليوودية»‪ ،‬الحس الشاعري في‬

‫ترى ما أبرز ٍّ‬ ‫تحد واجهته خالل إنجاز الفلم؟‬

‫ً‬ ‫خصوصا األطفال وكبار‬ ‫اإلنسانية‪ ،‬ومسألة المشاعر البشرية‪،‬‬

‫‫‪ ‬-‬ربما صناعة الفلم في السعودية هو المرادف الحقيقي‬

‫‪176‬‬

‫لكننا في أعماق قلوبنا‪ ،‬كنا نضع مسألة األرباح المالية في آخر‬

‫ٍّ‬ ‫تحد‪ .‬هناك تحدي غياب الصناعة والبيئة الحاضنة؛ ال‬ ‫لكلمة‬

‫معاهد سينما‪ ،‬ال أنظمة أو نقابات تحمي العاملين‪ ،‬ال صناديق‬

‫تمويل‪ ،‬ال صاالت عرض أو نموذج لتسييل االستثمار‪ .‬ناهيك عن‬ ‫ً‬ ‫وأحيانا استحالتها‪.‬‬ ‫صعوبة استخراج التصاريح‪،‬‬

‫لكن دعني أقل لك شي ًئا‪ ،‬أنا ال أشكو‪ ،‬لقد كنا على علم‬

‫بحجم التحديات‪ ،‬وخضناها بحس المغامرة واإليمان بخلق‬

‫سينما وطنية جيدة‪ ،‬وبروحيات عالية وغير متذمرة‪.‬‬

‫أعطينا أنفسنا سنة كاملة‪ ،‬ونجحنا في التحدي قبل‬

‫انقضاء الوقت‪ .‬ربما الحديث عن النجاح المالي أمر باكر‪،‬‬

‫مواقع التصوير وفي الرؤية السينمائية‪ ،‬التركيز على القضايا‬ ‫السن‪ ،‬وأهل القرى والنواحي النائية‪.‬‬

‫في فضاء ما قبل الصناعة‪ ،‬عليك أن‬ ‫تصنع فرصتك‪ ،‬وتبني قواعد العمل‬ ‫اإلنتاجي واإلبداعي كاملة‪ ،‬وأن‬ ‫تكون مخرج العمل‪ ،‬ومنتجه‪ ،‬وكاتبه‪،‬‬ ‫ومسوقه‪ ،‬وحارس طريقه‬ ‫ومموله‪،‬‬ ‫ّ‬

‫(الحوش بروديكشون)‬ ‫العددان ‪ 478 - 477‬شوال ‪ -‬ذو القعدة ‪1437‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬أغسطس ‪2016‬م‬


‫المخرج السعودي قال إنه يعي حجم التحديات ومؤمن بخلق سينما وطنية‬

‫ناهيك عن التراكم الموجود للسينما اإليرانية من قبل‬

‫‪-‬ولو معنوي‪ -‬لتجارب مؤسساتية رائدة في الخليج مثل‪ :‬الرابطة‬

‫مؤسسي مباشر‪ .‬هناك مؤسسة فجر‪ ،‬وهناك مؤسسة‬

‫أما جدة فيبدو أنها ارتضت لنفسها أن تكون مق ًّرا‬

‫الثورة‪ .‬لكن علينا أن نتذكر أن السينما اإليرانية تحظى بدعم‬ ‫الفارابي‪ .‬وهناك نظام أو (سيستم) كامل لصناعة الفلم من‬

‫مرحلة التأليف إلى التسويق والتوزيع الداخلي والدولي‪ .‬علينا‬ ‫أن نتواضع كثي ًرا‪ ،‬ونتعلم من السينما اإليرانية‪ ،‬ال يعيبنا هذا‪،‬‬

‫فالسينما اإليرانية بدأت أساسً ا من تقليدها للسينما المصرية‪.‬‬

‫هناك خشية عبّر عنها كثير من المتابعين لسينما‬

‫السعوديين‪ ،‬أال يشبه االهتمام بالسينما واإلقبال عليها من‬ ‫شريحة واسعة من الشباب‪ ،‬ما حدث للرواية؛ إذ أقبل على كتابتها‬

‫كثيرون؛ األمر الذي جعل هذه الروايات تفتقد إلى الجماليات‪،‬‬

‫وتركز فقط على المكبوت‪ ،‬وكسر التابوهات؛ ما تعليقك؟‬

‫_ ‫«‬فتمتع بالصبح ما دمت فيه ‪ /‬ال تخف أن يزول حتى‬ ‫يزوال» كما يقول إيليا أبو ماضي‪ .‬يا أخي هات السينما أولاً ‪،‬‬

‫واإلنتاج الهائل‪ ،‬ثم يمكن أن نتحدث عن تصنيف ونقد وخشية‪.‬‬ ‫عمومً ا ال خوف على السينما من األدعياء‪.‬‬ ‫المعايير العالمية الرصينة سوف تص ّنف الجاد والمجتهد‬

‫التي تجمعه باألب الروحي لسينما الخليج‪ :‬مسعود أمر الله‪.‬‬

‫لسينما االستهالك واالستعراض‪ ،‬فالله يخارجنا من مقاولي‬ ‫المهرجانات الذين يبدو أنهم بجلبتهم اإلعالمية سوف يطبعون‬

‫شكل التظاهرات السينمائية القادمة بجدة بطابعهم التسويقي‬ ‫الفج‪.‬‬

‫لم أشترك في مهرجان الدمام؛ ألن أول عرض عالمي لفلم‬

‫«بركة يقابل بركة» كان في فبراير بمهرجان برلين‪ ،‬أما مهرجان‬ ‫الدمام فيقام في يناير‪ ،‬بالتالي فأول فرصة لنا لدخول مهرجان‬

‫الدمام هي الدورة القادمة‪ ،‬حتمً ا سوف نقدم عليها‪.‬‬ ‫ما مشاريعك المقبلة؟‬

‫‪ -‬أكتب فلمي الروائي الثاني‪ ،‬ومن ثم سوف أبدأ كفاح‬

‫تنفيذه‪ ،‬وهناك مسلسل تلفزيوني كتبته‪ ،‬وأنوي إخراجه‪ ،‬لكنه‬

‫في ذمة شبكات التلفزة وقرارها‪.‬‬

‫من المدّ عي واالستعراضي‪.‬‬

‫ما رأيك في مهرجان أفالم السعودية الذي تنظمه‬

‫جمعية الثقافة والفنون بالدمام‪ ،‬ومهرجان الفلم السعودي‬ ‫في جدة‪ ،‬ولماذا لم تشترك فيهما؟‬

‫‫‪ ‬-‬مهرجان األفالم السعودية في الدمام‪ ،‬والجهد الذي‬ ‫يقدمه أحمد المال عمل رائد ونوعي‪ ،‬وأراه يذهب بعيدً ا؛ أولاً‬ ‫ألنه يركز على الفلم السعودي‪ ،‬وال يتشعب فيما ليس هو قدير‬

‫عليه‪ .‬ثانيًا ألنه يتكئ على دعم مالي ولوجستي ومعنوي واضح‬ ‫من مؤسسة وطنية كبرى هي أرامكو‪ً .‬‬ ‫ثالثا ألنه يعبر عن امتداد‬

‫أنتمي إلى مدارس «سينما المؤلف»‪ ،‬أو‬ ‫امتداداتها المعاصرة مثل‪« :‬سينما اإلخراج‬ ‫الجديد»‪ ،‬ليس فقط للحريات اإلبداعية‬ ‫أيضا‪،‬‬ ‫والتعبيرية التي تمنحني إياها‪ ،‬بل ً‬ ‫ألنها هي ما يناسب منطقتنا وطبيعة‬ ‫السوق الناشئة التي ننتمي إليها‬

‫‪177‬‬


‫فنون‬

‫أفالم مارك فورستر‪:‬‬

‫دع رؤيتك ترشدك وليس غرورك‬ ‫إعداد وترجمة‪ :‬أمين صالح‬ ‫روائي ومترجم بحريني‬

‫خالل عقدين من المسيرة الفنية الخصبة والثرية‪ّ ،‬‬ ‫قدم المخرج مارك فورستر السويسري المولد‬

‫والنشأة‪ ،‬بدءًا من عام ‪1995‬م عشرة أفالم ناجحة‪ ،‬متعددة النوعيات‪ ،‬مختلفة األساليب‪ ،‬تنتمي إلى‬ ‫ً‬ ‫متعاونا مع‬ ‫األنواع الدرامية النفسية‪ ،‬والسياسية‪ ،‬والكوميدية‪ ،‬واإلثارة البوليسية أو الجاسوسية‪..‬‬ ‫ً‬ ‫وكاشفا من خاللها عن موهبة جديرة بالمتابعة واالهتمام‪ ،‬رغم أنه –‬ ‫كبار نجوم السينما األميركية‪،‬‬

‫‪178‬‬

‫حسب عدد من النقاد– يفتقر إلى الرؤية الفنية والفكرية التي من خاللها يشيّد عالمه الخاص والمميز‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫التنقل‬ ‫عن هذا االنتقال من نوعية إلى أخرى‪ ،‬دون االستقرار عند نوعية محددة‪ ،‬وما إذا كان هذا‬ ‫مقصو ًدا؛ أجاب مارك فورستر‪« :‬نعم‪ ،‬هو مقصود‪ .‬مخرجون مثل بيلي وايلدر وهوارد هوكس كانا‬

‫مصدر إلهام لي‪ ،‬في هذا الشأن‪ .‬كالهما عمل في العديد من‬ ‫األفالم التي تنتمي إلى نوعيات مختلفة‪ .‬ال أستطيع أن أكون‬ ‫مثل جون فورد وأحقق أفالم الغرب األميركي فقط‪،‬‬ ‫أو مثل هيتشكوك الذي ّ‬ ‫ركز على أفالم التشويق‪ .‬لديّ‬

‫اهتمام بالعديد من القصص‪ .‬أميل إلى القصص الفكاهية‬ ‫والدرامية واألكشن»‪.‬‬

‫العددان ‪ 478 - 477‬شوال ‪ -‬ذو القعدة ‪1437‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬أغسطس ‪2016‬م‬


‫منذ مرحلة صباه شعر برغبة جارفة في‬

‫ثم توالت أفالمه الناجحة فن ًّيا‬

‫مشاهدته فلم كوبوال «القيامة اآلن»‪ ..‬يقول‪:‬‬

‫(‪2004‬م) مع جوني ديب الذي يؤدي‬

‫ً‬ ‫خصوصا بعد‬ ‫أن يصبح مخرجً ا سينمائيًّا‪،‬‬

‫وجماهيريًّا‪Finding Neverland :‬‬

‫دور الكاتب المسرحي األسكتلندي‬

‫«كنت في الخامسة عشرة عندما أخذني‬

‫جيمس باري‪ ،‬مبتكر شخصية بيتر‬

‫والداي إلى السينما لمشاهدة «القيامة اآلن»‪.‬‬

‫بان‪ ،‬الصبي الذي ال يكبر أبدً ا‪ .‬الفلم‬

‫جلست أشاهد الفلم وأنا مصعوق وفي حالة‬

‫يركز على عالقته الحميمة والودودة‬

‫ذهول‪ .‬ولما خرجنا من الصالة‪ ،‬قلت لهما‪:‬‬

‫بأرملة (كيت وينسليت) وأبنائها‬

‫سوف أصبح مخرجً ا سينمائيًّا‪ .‬اعتقدا أنها‬

‫األربعة الصغار الذين معهم يحب أن‬

‫مجرد نزوة وسوف تزول بعد فترة‪ .‬غير أنني‬ ‫ّ‬ ‫أتخل عن طموحي‪ .‬عندما أنهيت المرحلة‬ ‫لم‬

‫يلهو‪ ،‬ويشحذ مخيلتهم بشخصيات‬ ‫ً‬ ‫خالقا‬ ‫وحكايات ومغامرات ال تنتهي‪،‬‬

‫ً‬ ‫شخصا أبدى استعداده ألن‬ ‫الثانوية‪ ،‬التقيت‬

‫يتحمل رسوم السنة األولى لي في معهد‬

‫السينما‪ ،‬وأنه سوف يواصل دفع رسوم السنوات التالية إذا ّ‬ ‫تيقن‬

‫من امتالكي الموهبة»‪.‬‬

‫حقق نجاحً ا فنيًّا منذ فلمه األول ‪Everything Put‬‬

‫‪1995( Together‬م)‪ ،‬ذي الطابع التجريبي‪ ،‬الذي بلغت تكلفة‬

‫البهجة والمعنى‪.‬‬

‫لهم عوالم مدهشة‪ ،‬ومانحً ا حياتهم‬

‫عن السبب الذي جعله يحقق هذا الفلم‪ ،‬يقول فورستر‪:‬‬

‫«قرأت السيناريو الذي ح ّرك مشاعري إلى حد البكاء‪ .‬لقد‬ ‫ذ ّكرتني القصة بطفولتي في سويسرا‪ .‬كنت أمارس تلك‬

‫األلعاب الصغيرة في الغابات‪ ،‬وكنت أرتدي أزياء الهنود‬

‫إنتاجه عشرة آالف دوالر‪ ،‬عندما فاز بجائزة الجمهور في مهرجان‬ ‫ساندانس‪ .‬يقول‪« :‬كنت مشار ًكا بفلمي األول في مهرجان‬

‫الحمر ورعاة البقر‪ .‬لم يكن لدي الكثير من األصدقاء‪ ،‬لذلك‬

‫‪ Ball‬لكن لم يتمكنوا من تنفيذه مدة سنتين‪ .‬بعد أن شاهدوا‬

‫السعادة والمتعة‪ .‬قرأت النص وصممت على تنفيذه»‪.‬‬

‫ً‬ ‫أشخاصا كتبوا سيناريو ‪Monster's‬‬ ‫ساندانس عندما التقيت‬

‫فلمي قالوا لي‪ :‬ها هو نصنا‪ .‬كم تحتاج في اعتقادك؛ إلنجاز‬

‫هذا العمل؟‪ ..‬قلت‪ :‬ربما ثالثة ماليين‪ .‬ثم جاءت شركة اإلنتاج‪،‬‬ ‫وأجازت لي صنع الفلم بشرط أال تتجاوز ميزانية العمل المبلغ‬ ‫الذي حدّ دته»‪.‬‬

‫استطاع فورستر أن يحقق ‪ Monster's Ball‬ويلفت األنظار‬

‫ً‬ ‫خصوصا بعد أن حازت هالي بيري‬ ‫إليه كطاقة إخراجية جيدة‪،‬‬

‫على أوسكار أفضل ممثلة عن دورها في الفلم‪.‬‬

‫كانت المخيلة وسيلتي للهروب من الواقع‪ ..‬هي التي منحتني‬ ‫مع نعومي واتس‪ ،‬وإيوان ماكغريغور‪ ،‬وريان غوسلينغ؛‬

‫حقق فورستر فلم ‪2005( Stay‬م) الذي يصور العالم الواقعي‬

‫بين النوم واليقظة‪ ،‬الحلم والواقع‪ ،‬الحياة والموت‪ .‬حادث‬ ‫سيارة مريع يتع ّرض له شاب مريض نفس ًّيا يتحوّل هذا الحادث‬

‫إلى مفجّ ر لسلسلة من التداعيات وحاالت الهذيان‪ ،‬وتشابك‬

‫الهوايات‪ ،‬والتداخالت المعقدة التي ال يحكمها منطق أو خط‬ ‫عقالني‪ ،‬ضمن أجواء سُ ريالية‪.‬‬

‫ثم قدّم ‪Stranger Than Fiction‬‬

‫(‪2006‬م) مع ويل فيريل‪ ،‬داستين هوفمان‪..‬‬

‫في دراما فانتازية عن عالقة الشخصية‬ ‫بمؤلفها‪ ،‬أو اإلنسان بخالقه‪ ،‬بحيث‬ ‫يصعب التمييز بين الواقع والرواية‪ ،‬أو‬

‫الحقيقة والخيال‪ .‬يومً ا ما يستمع ويل‬

‫فيريل إلى صوت امرأة (كاتبة معروفة)‬ ‫وهي تسرد تفاصيل من حياته‪ ،‬األمر الذي‬

‫يذهله ويثير حيرته وفضوله‪ ،‬فيبدأ في‬ ‫طرح األسئلة التي تتصل بوجوده‪.‬‬

‫ومن الوضع األفغاني انطلق إلى‬

‫عوالم‬

‫جيمس‬

‫بوند‬

‫الجاسوسية‪،‬‬

‫المليئة باإلثارة والمطاردات‪ ،‬في فلم‬

‫‪ Quantum of Solace‬عن هذه التجربة‬

‫‪179‬‬


‫فنون‬

‫يقول‪« :‬عملت هنا مع أفضل وأروع المنتجين‪ .‬شعرت بأنني‬

‫أن أحقق نوعية مختلفة من أفالم الزومبي‪ ،‬ال تشبه هذه‬

‫ً‬ ‫ناقصا‪ ،‬ولم يكتمل بعد لحظة مباشرتنا التصوير‪ .‬كان لدينا‬ ‫كان‬

‫بي‪ .‬أردت أن أشدّ أعصاب الجمهور من البداية إلى النهاية‪.‬‬ ‫أردت أن أخلق مجا ًزا يعكس حالة العالم في اللحظة الراهنة‪.‬‬

‫بين أيدٍ أمينة‪ .‬كل شيء كان متواف ًرا باستثناء السيناريو الذي‬ ‫نصف السيناريو فقط‪ .‬قالوا لي‪ :‬لديك أشهر لتنهي هذا الفلم‪ .‬من‬ ‫المفترض هنا أن أرفض لكنني اعتقدت أن السيناريو سوف يجهز‬

‫قريبًا فيما أصور المشاهد المتوافرة لدي‪ .‬غير أن ذلك لم يحدث‬

‫ُ‬ ‫وصلت إلى مرحلة فكرت فيها باالنسحاب‪ ،‬لكنني لم أفعل‪.‬‬ ‫أبدً ا‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫بل أنجزت الفلم بدعم من المنتجين‪ .‬وقد أسعدتني النتيجة حقا‪.‬‬ ‫عمل إثاري مليء بالحركة‪ ،‬وبإيقاع سريع جدًّا»‪.‬‬

‫أما آخر أفالمه فهو ‪ World War Z‬مع براد بيت‪ ،‬وهو‬

‫الموجة السائدة من األفالم‪ .‬أردت أن أخلق الزومبي الخاص‬

‫نحن نكون أشبه بالزومبي عندما ال نعي ما يدور من حولنا‪ .‬إننا‬ ‫نعيش في زمن ّ‬ ‫هش جدًّ ا فيما يتصل باالقتصاد والبيئة‪ .‬نبدو‬ ‫كما لو كنا معلقين بخيط رفيع‪.‬‬

‫من النوع الكوارثي الذي يتعرض إلى احتمال فناء العالم‪.‬‬

‫يقول مارك فورستر‪« :‬أحببت الرواية‪ ،‬رغم أنها تحتوي على‬ ‫‪ 54‬قصة منفصلة عن بعضها‪ .‬الفلم هو أكثر من مجرد قطعة‬

‫مصاحبة للرواية‪ .‬لقد حققت الفلم كما كنت أريد بالضبط؛‬

‫لذلك أسعدتني النتيجة‪ .‬قبل كل شيء‪ ،‬أعتقد أن الزومبي‬ ‫ً‬ ‫إفراطا‬ ‫(الموتى األحياء) مجاز سينمائي عظيم‪ .‬أشعر أن هناك‬ ‫في إنتاج أفالم عن الزومبي‪ ،‬والجمهور يتلقى المزيد من هذه‬

‫القصص‪ ،‬سواء من خالل السينما أو التلفزيون‪ .‬لذلك أردت‬

‫‪180‬‬

‫شخصيًّا أنا مفعم باألمل دائمًا‪ ،‬وأومن باإلنسانية‪ ،‬لكن‬

‫يتعيّن علينا أن ندرك أن النظم التي وضعناها في الموضع المالئم‬

‫من المهم للسينمائيين أن يبتكروا‬ ‫قصصا تثير النقاش وتحث على الجدال‪.‬‬ ‫ً‬ ‫نغير شي ًئا لكننا‬ ‫ربما ال نستطيع أن ّ‬ ‫نستطيع أن نجعل الناس يتحدثون عن‬ ‫القضايا التي نطرحها‬

‫عداء الطيارة والوضع األفغاني القمعي‬ ‫ّ‬ ‫‪2007( The Kite Runner‬م) عن رواية الكاتب األفغاني‬

‫خالد حسيني‪ ،‬التي تتناول الوضع األفغاني القمعي تحت‬

‫سيطرة قوات طالبان‪ ،‬مما دفع اآلالف للهجرة والعيش في‬ ‫غربة صعبة‪ .‬عن هذا الفلم‪ ،‬الذي ّ‬ ‫شكل تحديًا له‪ ،‬يقول‪:‬‬ ‫«قرأت الرواية‪ ..‬في الواقع‪ ،‬قرأت المخطوطة قبل أن ُتطبع‬ ‫في كتاب‪ .‬قلت للمنتجين‪ :‬أحببت الرواية‪ ،‬ينبغي أن نصورها‬

‫بلغتها األصلية وبال نجوم‪ ..‬وافق المنتجون‪ ،‬لكننا لم‬ ‫نحصل على التمويل إال بعد أن تصدرت الرواية قائمة أعلى‬

‫المبيعات‪.‬‬

‫ً‬ ‫تعقيدا وصعوبة‬ ‫يمكنني القول‪ :‬إنه من أكثر أفالمي‬

‫من ناحية التصوير‪ .‬لقد صورنا الفلم في غربي الصين‪ ،‬في منطقة تسكنها جماعات متنازعة‪ ،‬بينها الكثير من التوتر‬

‫والتضارب الذي يصل إلى حد النزاع المسلح‪ .‬المنطقة مرتفعة عن سطح األرض‪ ،‬ويبلغ ارتفاعها ‪ 15‬ألف قدم تقريبًا‪.‬‬ ‫مثل هذا االرتفاع أدى إلى مرض عدد من العاملين معنا‪ .‬كنا نعمل في ظروف صعبة ًّ‬ ‫جدا‪ ،‬وننام في خيام جلدية‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫تتعطل الشاحنات فال يصل الطعام إلينا‪ .‬ذات مرة تعطل كابح السيارة التي تقل‬ ‫وأحيانا‬ ‫ومحرومين من االستحمام‪،‬‬

‫بعض الممثلين‪ ،‬وكادت تسقط من قمة منحدر‪ .‬والفندق الذي أقمنا فيه كان ماخورًا‪ .‬في الواقع لم يكن هناك أي‬

‫فنادق حقيقية في تلك المنطقة‪ .‬والجرذان كانت في كل مكان‪.‬‬

‫ذات مرة أردنا أن نصور في إستاد رياضي مشهد الرجم‪ ،‬غير أن القوات الصينية خشيت من حدوث شغب مع‬

‫وجود أكثر من ألف عنصر من المجاميع في مكان واحد‪ .‬وقبل التصوير‪ ،‬في السادسة صباحً ا‪ ،‬أحاطت المدرعات بنا‪،‬‬

‫وهددونا باالعتقال إذا باشرنا التصوير‪ ..‬هكذا كنا نواجه المصاعب والمشاكل يوميًّا»‪.‬‬

‫العددان ‪ 478 - 477‬شوال ‪ -‬ذو القعدة ‪1437‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬أغسطس ‪2016‬م‬


‫أفالم مارك فورستر‬

‫لم تعد صالحة‪ .‬علينا أن نعيد التفكير في أمور كثيرة‪ ،‬وأن نكف‬

‫طاقتك على خلق رؤية أصيلة وحقيقية‪ .‬جوهريًّا‪ ،‬رواية القصة هي‬

‫طريقة للعمل معً ا‪ .‬أظن أن من المهم للسينمائيين أن يبتكروا‬

‫رابعً ا‪ -‬انظر إلى عيني الممثل الذي تعمل معه‪ ،‬وتأمل إن‬ ‫كانت عيناه تذ ّكرك بأشياء كنت قد نسيتها‪ .‬استمع إلى كل‬

‫عن االعتقاد بأن الرأسمالية هي الحل لكل شيء‪ .‬ينبغي أن نجد‬

‫ً‬ ‫قصصا تثير النقاش وتحث على الجدال‪ .‬ربما ال نستطيع أن نغيّر‬

‫تحديدً ا محاولة أن تجد حقيقتك‪ ،‬وصدقك‪ ،‬وأصالتك‪.‬‬

‫شي ًئا لكننا نستطيع أن نجعل الناس يتحدثون عن القضايا التي‬

‫شخص‪ ،‬وفي الوقت نفسه‪ ،‬ال تستمع إلى أحد‪ ..‬ربما يعرفون‬ ‫ً‬ ‫ومرنا لتتلقى بينما ال تزال تدع‬ ‫شي ًئا أنت ال تعرفه‪ .‬كن منفتحً ا‬

‫يكشف قوانينه الذهبية في صنع األفالم‪ ،‬وجّ ه النصائح اآلتية‪،‬‬

‫خامسا‪ -‬كل م ّرة أحقق فيها فلمً ا‪ ،‬يكون ذلك أشبه بالقفز‬ ‫ً‬

‫نطرحها»‪.‬‬

‫عندما طلبت مجلة ‪ Movie Maker‬من مارك فورستر أن‬

‫المنشورة في عدد سبتمبر ‪2013‬م‪:‬‬ ‫أولاً ‪ -‬عندما نتحدث عن الحياة‪ ،‬فإننا نتحدث عن التدفق‬

‫السلس الرشيق‪ ..‬كذلك هي عملية سرد القصة‪ .‬عندما نتحدث‬

‫عن صنع األفالم‪ ،‬فإننا نتحدث عن االكتشاف ضمن الكلمة‬ ‫المكتوبة‪ ،‬التي ال يمكن إيجادها عندما تكون ملفوظة‪ .‬البؤرة‬ ‫الرئيسية ينبغي أن تكون دومً ا مر ّكزة على مواصلة البحث عما‬ ‫هو غير مرئي‪ ،‬واالستمرار في النضال من أجل خلق صورة تتخطى‬

‫الكلمات‪.‬‬

‫رؤيتك ترشدك‪ ،‬وليس غرورك‪.‬‬

‫للمرة األولى‪ .‬حاول أن تصبح قصتك‪ ،‬وارقص معها‪ .‬تم ّتع‬

‫بالرحلة‪ .‬إنها رحلة ثريّة‪.‬‬ ‫لاً‬ ‫سادسً ا‪ -‬دائمًا ثمة أوقات أشعر خاللها بأني أشبه رج أعمى‬ ‫يحاول أن ّ‬ ‫يتعلم السير عبْر حيّزه الخاص من دون أن يرتطم باألثاث‬

‫في بحثه عن مقبض الباب‪ .‬إن من المستحيل التدرّب لهذه اللحظة‪.‬‬ ‫على نحو محتوم‪ ،‬شرعت في تحسس طريقي حتى النهاية‪ ،‬وفي‬

‫إيجاد الوئام ضمن الوضع الذي أكون فيه‪ ،‬وفهم الفرص التي تسنح‬

‫لي في كل ظرف‪.‬‬

‫ثانيًا‪ -‬كمخرج سينمائي أنا دائمً ا في حالة بحث عن السحر‪،‬‬

‫سابعً ا‪ -‬حاول دائمً ا أن تتذ ّكر أن رواية القصص هي الشكل‬

‫أحاول أن أكون في حالة كينونة وإدراك تام‪ ،‬والذي قد يأخذني‬

‫تعد هناك قصص أصلية أو جديدة‪ .‬إن ما سوف يبقى دائمً ا هو‬ ‫ّ‬ ‫تتخلق في عملية رواية القصص‪ .‬وكلما كانت‬ ‫تلك الطاقة التي‬

‫لكن يتعيّن على المرء قبول فكرة أن على السحر أن يحدث‬ ‫عضو ّيًا‪ .‬كل ما عليك فعله هو أن تضع األساس‪ .‬في حالتي‪،‬‬ ‫فوق حقل األفكار واألحاسيس والكلمات‪ ..‬كل هذه األشياء التي‬

‫آمل أن تأسرها العدسات‪.‬‬ ‫ً‬ ‫ثالثا‪ -‬السرد مرشد ودليل‪ .‬لكن ال تدع السرد يصبح عينيك‪،‬‬

‫ففي هذه الحالة يصبح كابوسً ا ال تستطيع الفرار منه‪ .‬سوف يعمي‬

‫األكثر قِدمً ا من أشكال االتصال‪ .‬لقد تم سرد كل القصص‪ ،‬لم‬

‫ً‬ ‫ً‬ ‫وصدقا؛ أضحت ملهمة أكثر لآلخرين‪.‬‬ ‫موثوقية‬ ‫هذه العملية أكثر‬ ‫ثام ًنا‪ -‬الناس يميلون إلى نسيان مدى أهمية المصوّر‬

‫السينمائي‪ .‬نحن نعمل في وسط بصري‪ ،‬ومن ثم أنت لن تحصل‬ ‫على فلم من غير أن تتوافر لديك الصور‪.‬‬

‫‪181‬‬


‫مقال‬

‫إيران والالدولة العربية‬

‫ماجد الحجيالن‬ ‫رئيس التحرير‬

‫‪182‬‬

‫إذا غاب الجيش وازدهرت‬ ‫الميليشيا وزعاماتها‬ ‫وساد الهوس الديني‬ ‫والشعاراتي؛ جاءت‬ ‫الالدولة العربية اإليرانية‬ ‫بمقترحات الحوار‬ ‫وحكومات الشراكة‬ ‫والوحدة الوطنية التي‬ ‫ليس لها من اسم‬ ‫الوحدة والوطن نصيب‬

‫هذا الزمن العربي الذي وصلنا إليه رغم كل مآسيه وإحباطاته يتميز‬ ‫ّ‬ ‫والتجلي‪ ،‬فخالل السنوات الخمس األخيرة سقطت مع األنظمة‬ ‫بالوضوح‬ ‫ً‬ ‫شعاراتها‪ ،‬ومع النخب ريادتها‪ ،‬وصار المشهد الذي أمامنا أكثر انكشافا؛‬ ‫ذلك ألننا نرقبه اليوم صافيًا من دون رتوش‪ ..‬ما عاد يشوّش المشهد‬ ‫شعار للبعث والقومية‪ ،‬وال شعار للمقاومة‪ ،‬وال شعار لألحزاب السياسية‬ ‫اإلسالمية‪ ،‬وال شعار لمكافحة اإلرهاب‪ ،‬وال شعار لحقوق اإلنسان‪.‬‬ ‫مشهد واحد مهم ومعبر‪ ،‬نلناه عربًا باستحقاق ضمن هذه‬ ‫ ‬ ‫االمتيازات المؤلمة التي حصلنا عليها؛ هو أننا صرنا نعرف ما الدولة العربية‬ ‫المناسبة‪ ،‬بل المثالية لجارتنا إيران‪ ،‬لقد ظلت الجارة غير الودودة تعمل‬ ‫في دولنا منذ ثورتها عام ‪1979‬م‪ ،‬وتفرغت لنا منذ توقفت حربها مع العراق‬ ‫عام ‪1988‬م‪ ،‬وكنا وقت عملها نكتفي بنداءات حسن الجوار واألمنيات‬ ‫الدبلوماسية الطيبة؛ حتى ّ‬ ‫تكشف لنا المشهد اليوم عن «الالدولة العربية»‬ ‫المرغوبة إيرانيًّا‪.‬‬ ‫أولى مواصفات الالدولة العربية اإليرانية هي أن تكون بال جيش‬ ‫ ‬ ‫وطني‪ .‬فالعدو األول لهذه الالدولة هو الجيش الوطني الموحد؛ لذا فالالدولة‬ ‫تستعيض عنه بميليشيات طائفية‪ ،‬يديرها «مستشارون» من الحرس الثوري‬ ‫اإليراني‪ .‬لبنان تحول جيشه إلى متفرج على ميليشيات طائفية تحتل بيروت‬ ‫عام ‪ 2008‬وهو يراقبها اآلن تعبر الحدود في مهام ال نهائية؛ من أرياف دمشق‬ ‫إلى سواحل المندب‪ .‬الجيش العراقي الذي ّ‬ ‫حله بريمر وأعاد تركيبه المالكي‬ ‫بصفقات مليارية؛ صار أضعف من الميليشيات التي ال تحصى أسماؤها‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫وهو ً‬ ‫وتصفي‪ .‬الجيش‬ ‫أيضا يفسح لها الطريق؛ لتحقق مع األهالي وتعتقل‬ ‫ّ‬ ‫اليمني ّ‬ ‫محله «لجان ثورية» تقيم نقاط التفتيش‪ ،‬وتشرف على توزيع‬ ‫حلت‬ ‫صفائح البنزين‪ .‬أما في سوريا فما تبقى من الجيش النظامي‪ ،‬ورغم كل‬ ‫ما أثبته ضباطه من والء للنظام؛ جرى تعويضه «بالمتطوعين» من أصقاع‬ ‫األرض «لحماية المراقد»‪ ،‬ومحاربة «التكفيريين»‪ ،‬فالجيش العربي مهما‬ ‫ً‬ ‫حليفا؛ فسيظل خط ًرا على الالدولة العربية اإليرانية‪ ،‬فقد ينبت له رأي‬ ‫كان‬ ‫لاً‬ ‫مستقل‪ ،‬وقد يطرح على نفسه سؤا ‪.‬‬ ‫وثانية مواصفات الالدولة العربية اإليرانية هي زعامة محلية‬ ‫ ‬ ‫موالية‪ ،‬تأخذ شكلاً دين ًّيا وسياس ًّيا معً ا‪ ..‬وفي الطريق إلى صناعة هذه‬ ‫الزعامة يجري طحن كل مرجعية عربية مستقلة؛ حسن نصرالله هو المثال‬ ‫األبرز لها في لبنان‪ ،‬وجرى استنساخه بشكل متواضع في اليمن‪ ..‬أما في‬ ‫العراق‪ ،‬وألنه هدف إيران األول‪ ،‬فالزعامات الدينية والسياسية ال يجري‬ ‫ترشيدها في شخص واحد‪ ،‬بل توزع المهام؛ فبدلاً من الميليشيا الواحدة‬ ‫هناك مئة‪ ،‬وبدلاً من الزعيم هناك عشرات يتقاسمون األدوار بما يبقي البالد‬ ‫محتاجة أبدً ا لرأفة المرشد األعلى‪.‬‬ ‫ثالثة مواصفات الالدولة العربية اإليرانية إيجاد شعار تعمل‬ ‫ ‬ ‫تحته هذه الميليشيات‪ ،‬ويبتز به الخصوم‪ ،‬على أال يكون مذهبيًّا ضي ًّقا‪،‬‬

‫العددان ‪ 478 - 477‬شوال ‪ -‬ذو القعدة ‪1437‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬أغسطس ‪2016‬م‬


‫بل ً‬ ‫الئقا بثقافة البلد‪ ،‬فقد جرى حلب ضرع المقاومة والصهيونية‬ ‫ّ‬ ‫جف تمامً ا‪ ،‬وفي اليمن نزلت المدفعية من جبال‬ ‫في لبنان حتى‬ ‫صعدة؛ لتحارب الفساد وتسقط «الجرعة» إلى أن وصلت القصر‬ ‫الرئاسي في صنعاء‪ ،‬فظهر شيء يسمى «الدواعش» الذين هم أعداء‬ ‫اليمن‪ ،‬واندرج تحت هذا التدعيش يساريون وليبراليون وناصريون‪،‬‬ ‫أما في العراق فكان اجتثاث البعث حتى صار نصف أبناء وبنات األنبار‬ ‫مهجرين ومسجونين ومالحقين‪ ..‬ثم جاءت داعش فابتلعت حربها‬ ‫كل شعار آخر‪.‬‬ ‫رابعة هذه المواصفات لالدولة العربية اإليرانية تتمثل‬ ‫ ‬ ‫في عقد الصفقات الداخلية والخارجية إلبقاء الالدولة الدولة؛ ففي‬ ‫لبنان كانت الصفقة مع التيار الوطني الحر ممثلاً في ميشيل عون؛‬ ‫أحالم الزعامة مقابل صوتك وصمتك‪ ،‬وفي اليمن صفقة مع علي‬ ‫عبدالله صالح؛ الرئاسة مقابل البالد‪ ،‬وفي العراق مع زعامات قبلية‬ ‫ومدنية مقابل مواقع برلمانية وبلدية‪ ،‬أما الصفقات الكبرى فهي‬ ‫مع الدول الغربية؛ محاربة القاعدة في اليمن‪ ،‬وحماية السفارات‬ ‫والدبلوماسيين في لبنان من التفجيرات الغامضة‪ ،‬ثم االمتناع عن‬ ‫مهاجمة الجنود األميركيين في العراق‪..‬‬ ‫والواقع أن الصفقة في العراق بين إيران والواليات المتحدة‬ ‫يجب أن تدوّن‪ ،‬وألاّ ينساها التاريخ‪ .‬لن يغيب عن الذاكرة أبدً ا كيف‬ ‫أسكتت اإلدارة األميركية الجنرال بترايوس بعد أن اتهم السفير‬ ‫اإليراني السابق في العراق حسن كاظمي قمي بالتخريب وتمويل‬ ‫الميليشيات وتسليحها‪ ،‬وكيف صمتت الواليات المتحدة وتف ّرجت‬ ‫على إبادة الالجئين اإليرانيين في معسكر أشرف في ديالى حتى أغلقته‬ ‫الميليشيات تحت سمع وبصر األمم المتحدة؛ كل هذا تم ألجل أن‬ ‫تغادر اإلدارة األميركية تركة بوش الثقيلة‪.‬‬ ‫إذا غاب الجيش وازدهرت الميليشيا وزعاماتها وساد‬ ‫ ‬ ‫الهوس الديني والشعاراتي؛ جاءت الالدولة العربية اإليرانية‬ ‫بمقترحات الحوار وحكومات الشراكة والوحدة الوطنية التي ليس لها‬ ‫من اسم الوحدة والوطن نصيب؛ حكومة تعمل طبقتها السياسية‬ ‫تحت تهديد باالغتيال‪ ،‬أو ترغيب بالمناصب واألموال‪.‬‬ ‫هذا مشهد مختصر لالدولة التي يمكن أن تقبل بها إيران‪،‬‬ ‫ ‬ ‫جارتنا التي يدعونا الرئيس األميركي بارك أوباما في حواره مع مجلة‬ ‫(أتالنتك) للتعايش معها‪ ،‬وبناء «سالم بارد» في المنطقة‪ ،‬والواقع‬ ‫الم ّر اليوم يؤكد أن التعايش المطلوب يشبه تعايش المريض مع ورمه‬ ‫السرطاني‪ ،‬وأن السالم البارد بالمواصفات اإليرانية هو سالم الخرائب‬ ‫والمقابر‪.‬‬

‫‪www.alfaisalmag.com‬‬ ‫مدير التحرير‬

‫أحمد زين‬

‫اإلخراج‬

‫ينال إسحق‬ ‫التنفيذ‬

‫رياض دفدوف‬ ‫مبارك علي‬ ‫الموقع اإللكتروني‬

‫معتز عبدالماجد‬

‫المراجعة اللغوية‬

‫محمد نصير سيد‬ ‫مراسالت التحرير واإلدارة‬

‫ص‪.‬ب (‪ )3‬الرياض ‪11411‬‬ ‫المملكةالعربيةالسعودية‬ ‫هاتف المجلة ‪)+966( 11٤٦٥3027 :‬‬ ‫‪)+966( 11٤٦٥٢٢٥٥‬‬ ‫فاكس‪)+966( 11٤٦٤٧٨٥١ :‬‬ ‫‪contact@alfaisalmag.com‬‬

‫اإلعالنات‬ ‫هاتف‪ .11٤٦٥٢٢٥٥ :‬ـ فاكس‪.11٤٦٤٧٨٥١ :‬‬ ‫‪advertising@alfaisalmag.com‬‬ ‫االشتراكات والتوزيع‬

‫‪ .11٤٦٥٢٢٥٥‬تحويلة‪6640 :‬‬ ‫‪subscriptions@alfaisalmag.com‬‬


‫مقال‬

‫تقنية كنوز المعرفة‬

‫‪184‬‬

‫أرسل لي صديق رابط «موقع أرشيف المجالت األدبية والثقافية‬ ‫العربية» يضم الدوريات‪ ،‬وبعضها مما ساد ثم باد‪ ،‬منذ أوائل القرن الماضي‬ ‫(الفيصل لم تكن من بينها)؛ إنه كنز للباحثين والطلبة‪.‬‬ ‫جمال خاشقجي‬ ‫بعد شكر من أسس الموقع‪ ،‬وبذل الجهد في تجميع صفحاته التي‬ ‫كاتب وإعالمي سعودي‬ ‫زادت على مليون وخمسمئة ألف صفحة‪ ،‬وتزويده بباحث في عناوين ‪238‬‬ ‫مدير قناة العرب اإلخبارية‬ ‫ألف مقالة‪ ،‬يساعد على الوصول إلى أعمال عتيقة لنحو ‪ 15‬ألف كاتب‪ ،‬فإنه‬ ‫ال يزال أمامنا كعرب كثير مما يجب فعله لتحويل هذه الكنوز المترامية في‬ ‫األسوأ في قائمة‬ ‫مواقع عدة‪ ،‬إلى ثورة معرفية‪.‬‬ ‫اإلنترنت يعج بمئات اآلالف من الكتب العربية‪ ،‬والمجالت‪ ،‬واألبحاث‪،‬‬ ‫التقصير هو عدم وجود‬ ‫وشتى أشكال اإلنتاج الثقافي والمعرفي العربي‪ ،‬لكن في فوضى‪ ،‬ال رابط‬ ‫«آلة بحث عربية» تمكن‬ ‫تنظيمي بينها‪ ،‬وال برتوكول تقني يجمعها‪ ،‬مع مخالفات صريحة لحقوق‬ ‫من الغوص بين ماليين‬ ‫النشر والملكية الفكرية‪ ،‬رغم أن مؤسسات رسمية عربية عدة نشطت في‬ ‫هذا المجال‪ ،‬إضافة إلى الهواة والمتطوعين الذين ال يجوز إنكار فضلهم‬ ‫الصفحات المتناثرة‬ ‫ومساهمتهم‪ ،‬فهؤالء جمعوا حتى الطريف الغريب من اإلنتاج الثقافي‬ ‫العربي‪ ،‬الذي له باحث يبحث عنه‪.‬‬ ‫لكن األسوأ في قائمة التقصير‪ ،‬ما يستدعي تحر ًكا جادًّا من جهة قادرة‪ ،‬هو عدم وجود «آلة بحث عربية» تمكن من الغوص في‬ ‫ماليين الصفحات المتناثرة‪ ،‬وجل اعتمادنا على غوغل الذي يبدو أن عليه الرجاء واألمل في أن يلتفت لتطوير البحث باللغة العربية‪،‬‬ ‫لكنه بالطبع مشغول أولاً بأهله وقومه األقربين‪ ،‬أي العالم الغربي ومعه اليابان وكوريا وغيرهما من الديمقراطيات؛ حيث انتظمت‬ ‫صناعة النشر واستقرت حقوق الملكية الفكرية‪ ،‬واألهم «األدوات المالية» التي يمكن أن تترجم جهده إلى كسب من خالل اإلعالن‬ ‫أو البيع‪.‬‬ ‫فالموقع المستهل به المقال يبحث فقط في عناوين المقاالت وأسماء كتابها‪ ،‬لكنه عاجز عن البحث في نص المقاالت الذي‬ ‫بلغ تعداد صفحاته في ذلك الموقع وحده أكثر من مليون وخمسمئة ألف صفحة‪ ،‬لكن جميعها صور بنسخة بي دي إف ‪ ،‬وفي ذلك‬ ‫قصور يحتاج إلى مبادرة من جهة مقتدرة لعالجه‪.‬‬ ‫دعوة إلى عقد مؤتمر‬ ‫لقد حان الوقت للدعوة إلى مؤتمر جامع للبحث في هذه المسألة من جهة قادرة؛ كجامعة أو مكتبة عامة‪ ،‬بل أدعو ناشر هذه‬ ‫المجلة الراقية؛ مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات اإلسالمية‪ ،‬إلى القيام بهذه المهمة‪ ،‬فيدعو المهتمين بتجميع اإلنتاج الثقافي‬ ‫العربي أيًّا كانوا مؤسسات أو أفرادًا وأيًّا كانت اهتماماتهم‪ ، ،‬ليكن لقاء أوليًّا تعارفيًّا‪ ،‬فهؤالء منتشرون بانتشار اللغة العربية‪ ،‬فلعل‬ ‫من بينهم من هو منخرط في تطوير آلة بحث عربية تفي بالغرض‪ ،‬لكن ينقصه دعم وتمويل‪ ،‬ولعل آخر لديه حل تقني لتحويل‬ ‫نصوص المجالت والكتب التراثية المصورة إلى نصوص يمكن التعامل معها والبحث فيها‪.‬‬ ‫فكلفة تحويل األعداد السابقة من مجلة الفيصل مثلاً إلى نصوص إلكترونية باهظة‪ ،‬وبحل هذه المعضلة سينهمر سيل من‬ ‫النتاج المعرفي يحيي أرض الثقافة والمعرفة العربية ويثري اللغة‪.‬‬ ‫كما يمكن خالل اللقاء إثارة ومعرفة مواطن الضعف ومسائل الخالف‪ ،‬واختالف وجهات النظر‪ ،‬كما يتع ّرف الحضور تجارب كل‬ ‫منهم‪ ،‬فثمة تنوع في هذا الحقل الجديد؛ ما بين فقيه يعيش بأصول البحث العلمي المتوارثة عبر قرون‪ ،‬وشاب طوّع التقنية وأدوات‬ ‫بحثها لتقليب الحقائق وحصر المعلومات التي يحتاجها‪.‬‬ ‫من بعد هذا اللقاء‪ ،‬قد يتطور اتحاد أو هيئة ما تنهض بتقنية الناتج المعرفي العربي‪ ،‬وتسهم في حالة التحول التي يعيشها‬ ‫العرب‪ ،‬فمن مزايا هذه التقنية أنها «ديمقراطية شعبية» تنساب إذا ما نظمت لكل المجتمعات‪ ،‬وتتجاوز الحدود من دون رسوم‬ ‫أو اتفاقيات‪ ،‬سيكون تأثيرها أبلغ من ذات اليوم الذي أُسست فيه جامعة الملك فؤاد بالقاهرة أو جامعة الملك سعود بالرياض‪.‬‬ ‫إنها أعظم تأثي ًرا من مجالت الرسالة والعربي والفيصل‪ ،‬من دون أن نغفل فضل هذه المجالت وغيرها على المعرفة العربية‪ ،‬لكننا‬ ‫نتحدث عن ساحة كبيرة في االتصال‪ ،‬وكذلك في اإلنتاج؛ لذلك فإن مؤتم ًرا مثل هذا ضروري‪.‬‬ ‫العددان ‪ 478 - 477‬شوال ‪ -‬ذو القعدة ‪1437‬هـ ‪ /‬يوليو ‪ -‬أغسطس ‪2016‬م‬




Issuu converts static files into: digital portfolios, online yearbooks, online catalogs, digital photo albums and more. Sign up and create your flipbook.