مجلة تفكر المجلد (13) العدد (1-2)

Page 1

‫تَـفـكُّـــــــــــــر‬ ‫جمــلة نصـف سـنوية حمـكَّمة ى‬ ‫اجمللــد (‪)13‬‬

‫‪vvvvvvv‬ــر‬ ‫العــدد‬

‫(‪)2-1‬‬

‫(‪2013‬م ‪1434/‬هـ )‬

‫" متػؽُّر" مذبؾة مربؽّؿة مغصف مدـوؼة متصدر مسن مععفد مإدالم مادلعرصة م(إعام) مجباععة ماجلزؼرةم‬ ‫(اظلودان)‪ ،‬موتفؿم مبؼضاؼا مإدالم مادلعرصة ماظـظرؼة مواظؿطؾقؼقة م‪.‬تؿؽون ماجملّؾة معن مادلؾػات ماآلتقة م‪:‬م‬ ‫صؾلػةماظعؾوممواظػؾلػةم‪،‬مزاػرةماظوحيم‪،‬ماظظاػرةماالجؿؿاسقة م‪،‬ماظظاػرةماظطؾقعقةم‪،‬ماظرتاثمادلعريفم‬ ‫اإلدالعيم‪،‬ماظػؽرماإلغلاغي‪،‬ماظواضعماإلدالعيم‪،‬ماظعودلةم‪،‬مأوراقمظؾـؼاشم‪،‬ماظؿؼارؼرموادلراجعاتم‪ .‬م‬ ‫م‬ ‫م‬ ‫م‬ ‫ى‬ ‫المراســـــــــــالت‪ :‬ى‬

‫السيد رئيس حترير جملة تفكُّر‬ ‫معهد إسالم املعرفة (إمام) ‪ -‬ص ب ‪ - 526‬واد مدنى – السودان ‪.‬‬ ‫فاكس ‪22 249 - 555 /843399 - 22428 :‬‬ ‫تلفونات ‪22 249 /522882278 / 522885392 /522887535 :‬‬

‫‪E-mail : tafakkur2009@gmail.com‬‬

‫أ‬


‫ذروطماظـشر م‬ ‫م‬ ‫ؼرجىمعنممجقعماظذؼنمؼؿؼدعونمبأحباثفممإىلماجملؾةمادؿصقابماظـؼاطماآلتقةم‪ :‬م‬ ‫ مأنمؼفؿمماظؾقثماظعؾؿيمخبدعةمضضقةماظؿأصقلمادلعريفمعنمخاللمعصادرمادلعرصةماإلدالعقة‪.‬م م‬‫ مأنمؼؼدمماظؾقثمإضاصةمواضقةمإىلمادلوضوعمادلدروسم‪ .‬م‬‫ مأنمؼـادبماظؾقثموأدؾوبهماظؼارئمادلعاصرم‪ .‬م‬‫ مؼشرتطماالظؿزاممبؼواسدموذروطماظؾقثماظعؾؿيمادلؿعارفمسؾقفام‪ .‬م‬‫ مؼشرتطمطؿابةمأرضامماآلؼاتمودورػامودبرؼجماألحادؼثماظـؾوؼةميفمأصلماظؾقثم‪ .‬م‬‫ ممجقعماحلؾولموادلعاجلاتماظرؼاضقةمسدامادلعادالتماألدادقةمترصقمطؿؾققمعـػصلمسنمأصلماظؾقــثم(الم‬‫ؼـشر)م‪ .‬م‬ ‫ مؼـؾغيموضعمضائؿةمعصادرماظدرادةمعرتؾةميفمغفاؼةماظؾقثم‪ .‬م‬‫ مؼردلماظؾقثمعطؾوساًميفمغلكةمورضقةموغلكةماظؽرتوغقةمعاؼؽرودوصتموردم‪ .‬م‬‫ مؼـؾغيمأنمالمؼؽونماظؾقثمضدمغشرمعنمضؾلمأومعؼدعاًمظؾـشرميفمعؽانمآخر‪ .‬م‬‫ مم ؼؽؿبمادمماظؾاحثموسـواغهماظربؼديمواالظؽرتوغيمورضممػاتػهموصاطلهميفمورضةمعلؿؼؾةمسنماظؾقثم‪ .‬م‬‫ مدبضعمادلادةمادلردؾةمظؾـشرمظؾؿقؽقمماظعؾؿيمسؾىمسبومدري م‬‫ مالتعادمادلوادمادلردؾةمإىلماجملؾةم‪،‬موالمتلرتدم‪،‬مدواءم ُغشرتمأممملمتـشر‪ .‬م‬‫مممممظؾؿفؾةمحقمإسادةمغشرمادلوادمادلـشورةمعـػصؾةمأومضؿنمطؿابمعنمشريماحلاجةمإىلمإدؿؽذانمصاحؾفا‪ .‬م‬‫ ممؼـؾغيمأنمالمؼزؼدمسددمصػقاتماظؾقث مسنممخسموثالثنيمصػقةم(حفم م‪)A4‬موؼرصقمعلؿكؾصم‬‫ؼشؿؿلمسؾىمعشؽؾةماظؾقثمواأل ػدافموادلـففقةموأػمماظـؿائجمواظؿوصقاتمسؾىمأنمالمؼزؼدمسؾىمغصفم‬ ‫صػقةمعنمصؼرةمواحدةم‪ .‬م‬ ‫ مترتقبماألحباثمباجملؾةمؼأتيمحلبمادلؾػاتماحملددةمعنمضؾلمػقؽةماظؿقرؼرم‪ .‬م‬‫‪ -‬ممتـحماهلقؽةمصاحبماظؾقثماحملؽممادلـشورمسدداًمعنماظـلخموعؽاصأةمعاظقة‪ .‬م‬

‫ب‬


‫‪‬‬ ‫م‬

‫ى‬ ‫هوئةىالمستشارون ى‬ ‫أ‪.‬د‪/‬مربؿدماحللنمبرميةمإبراػقــــــــــــــمىىىىىىىىىىىىرئقسمػقؽةمادللؿشارؼن‬

‫أ‪.‬دم‪/‬معؾــاركمعـقؿدمسؾـيمذبـــذوب م‬ ‫أ‪.‬دم‪/‬مرــهمجـــابرماظـعؾـــــــــــــواغي م‬ ‫أ‪.‬دم‪/‬مجتاغيمحلـــنماألعقـــــــــــــن م‬ ‫أ‪.‬دم‪/‬مأمحدمربؿدماحللنمذـــــــــــان م‬ ‫أ‪.‬دم‪/‬مزطـــرؼامبشـــــريمإعــــــــــــام م‬ ‫أ‪.‬دم‪/‬ماظؿفـاغـيمسؾـدماظؼـادرمحاعـــــد م‬ ‫د‪.‬م‪/‬ممصؿــقـــــيمادلؾــؽــــــــــــــاوي م‬ ‫د‪/.‬مزطــــيمادلقـــــــــــــــــــــــــالد م‬

‫ج‬

‫م‬ ‫ى‬ ‫م‬


‫هيئة التحرير‬ ‫رئوسىهوئةىالتحرورم‪:‬‬

‫د‪.‬مربؿدمبابؽرماظعـــــــــــوض ى‬

‫رئوــــــــسىالتحرورم‪:‬‬

‫ى‬ ‫أ‪.‬د‪.‬مسؾدماهللمربؿدماألعنيماظـعقـم م‬

‫م‬ ‫اظطقـــــــبمزبؿارمدقدمأمحــــد‬

‫سكرتورىالتحرورم‪ :‬م‬ ‫م‬ ‫محــــــــــــــــــــــررونى‪ :‬م‬ ‫م‬ ‫م‬ ‫م‬ ‫م‬ ‫م‬ ‫م‬ ‫جمـــعىإلكتـــرونيى‪ :‬ى‬

‫م‬

‫ى‬

‫أ‪.‬د‪.‬مربؿدماحللنمصاحلماألعنيمأمحـــــــد م‬ ‫أ‪.‬د‪.‬ممجالماظدؼنمسؾدماظعزؼزمذرؼفمبشري م‬ ‫د‪.‬مربؿدمســـوضماظؽــرؼمماحللــــــــني م‬ ‫د‪.‬مربؿـدممحـــــــــــدمربؿـــدمأمحـــد م‬ ‫د‪.‬ممحدماظـقلمسـؿانمسؾدماظلقـــــــــــــد م‬ ‫د‪.‬مزاػرمأبوسؾقدةمأمحدمأبوساضؾـــــــــــة م‬ ‫د‪.‬مضادـــــممسؿـــــــرمأبوماخلــــــــــري م‬ ‫م‬ ‫صائزةمحلنمربؿدمأمحـــــــــــد م‬

‫د‬


‫‪‬‬ ‫كلمة التحرير‬

‫موضوعات العدد‬

‫الصفحة‬ ‫‪2-1‬‬

‫مفهوم الثقافة ‪ -‬مراجعة نقدية‬ ‫‪ ....................................‬أ‪.‬د‪ .‬عبد اهلل حممد األمني النعيم ‪22 -3‬‬ ‫الدين والثقافة – تبادلية الدين والمكانة‬ ‫‪ ...............................‬د‪ .‬قيس حممود حامد‬

‫‪44 -23‬‬

‫المنتج الثقافي في ضوء القرآن الكريم‬ ‫‪ ................................‬أ‪.‬د‪ .‬مجال الدين عبد العزيز شريف‬

‫‪44 -44‬‬

‫القرآن الكريم ومناهج التحليل الثقافي‪ -‬حنو مدخل منهجي ملقاربة الثقافة من‬ ‫منظور إسالمي‬ ‫‪ .......................................‬د‪ .‬حممد بابكر العوض‬

‫‪122 -44‬‬

‫دور الثقافة في التغير االجتماعي والتنموي‬ ‫‪ .....................................‬د‪ .‬الناجي حممد حامد ‪150 -123‬‬ ‫الثقافة واالقتصاد دراسة مفاهيمية حول ثقافة المؤسسة‬ ‫‪ .................................‬أ‪ .‬الزين عبد اهلل يوسف ‪140 -151‬‬ ‫الحياة الثقافية والعلمية في السودان (دراسة تاريخية عن التعليم في العهد التركي)‬ ‫‪ ......................................‬د‪ : .‬خوجلي أمحد صديق ‪214 -141‬‬

‫هـ‬


‫كلمة التحرير‬ ‫للمسألة الثقافية يف عامل اليوم أمهية خاصة‪ ،‬فما من بلد يف عامل اليوم إال ويعاين بصورة‬ ‫ما وهبذه الدرجة أو تلك ‪ ،‬مظهراً أو مظاىر عدة تتداخل كلها يف تكوين ىذه ادلسألة أو تشكل‬ ‫إحدى جتلياهتا‪ ،‬حىت أصبح من اجلائز القول أ ّن ادلسألة الثقافية مبعناىا الواسع ىي اليوم احملرك‬ ‫األساسي لعجلة التنمية والنهوض احلضاري‪ .‬وعلى حد تعبري اجلابري‪" ،‬ادلسألة الثقافية واذا كان لنا‬ ‫أن نأخذ مبعطيات عادلنا الراىن فإن ادلعطى الذي يفرض نفسو ىو أن ادلسألة الثقافية مل تعد يف‬ ‫الظل‪ ،‬مل تعد تابعاً ‪ ،‬بل إهنا شئنا أم أبينا‪ ،‬تطغى على سطح األحداث أو على األقل تزاحم‬ ‫وتضايق ىذا السطح غريىا من ادلعطيات " بل حتدد مسار األحداث واجتاىاهتا ادلختلفة وتطبعها‬ ‫بطابعها اخلاص وفقاً للخصوصيات الثقافية ادلنتجة ذلا‪.‬‬ ‫ويبدو التحدي الذي يواجو رلتمعات ادلسلمني اليوم يف كثري من جوانبو حتدياً ثقافياً‪،‬‬ ‫حيث أخذت مظاىر االستالب الثقايف تتسع وتشيع داخلياً على حساب ادلعاين وادلظاىر الثقافية‬ ‫لإلسالم‪ ،‬كما أ ّن األزمات الثقافية واحلمالت اإلعالمية اليت تعرض ذلا اإلسالم وعادلو من اخلارج؛‬ ‫مع ضعف اخلطاب الثقايف ادلوجو بإزاء تلك احلمالت عكست أيضاً وأبانت عمق اذلوة بني روح‬ ‫اإلسالم وثقافة اجملتمعات اإلسالمية ادلعاصرة‪ ،‬إضافة إىل استحكام سوء الفهم الثقايف لإلسالم‬ ‫وعادلو على أجزاء واسعة من العامل‪.‬‬ ‫تطرح تفكر يف ىذا اجمللد ادلسألة الثقافية وجتلياهتا يف العلوم االجتماعية واإلنسانية من‬ ‫خالل حبوث كتبها أساتذة ادلعهد من خالل ختصصاهتم والباب مفتوح دلزيد من البحوث يف ىذا‬ ‫اجملال‪ ،‬ويفتتح العدد يف ملف الفلسفة األستاذ الدكتور عبد اهلل زلمد األمني النعيم مبراجعة نقدية‬ ‫دلفهوم الثقافة حيث تتبع ادلفهوم يف الرؤية الغربية ومنوه وتطوره حىت شاع يف العلوم االجتماعية‬ ‫ادلعاصرة ‪ ،‬كما تتبع ظهور ادلفهوم يف الفكر اإلسالمي وتطوره وعالقتو بالدين ‪ .‬ويف ذات ادللف‬ ‫كتب الدكتور قيس زلمود حامد عن الدين والثقافة من حيث الدور وادلكانة فتحدث عن اجلدل‬ ‫الدائر حول الثقافات ونقاط التماس وادلشًتك بني الدين والثقافة واألدوار اليت يلعبها كل من الدين‬ ‫والثقافة يف بناء اجملتمعات‪.‬‬ ‫ويف ملف معارف الوحي كتب األستاذ الدكتور مجال الدين عبد العزيز شريف عن ادلنتج‬ ‫الثقايف يف ضوء القرآن الكرمي حيث حتدث عن تأثري القرآن الكرمي يف بلورة ثقافة اجملتمعات‬


‫ُّ‬ ‫تفكر ‪ ،‬مجلد (‪ ،)13‬العدد (‪2013 ، )2-1‬م‪1434/‬هـ‬

‫كلمة التحرير‬

‫وتشكيلها ويف بلورة تصورات ادلسلمني ورؤيتهم للعامل ‪ ،‬كما حتدث عن الشعر والغناء والتصوير‬ ‫باعتبارىا من اإلبداعات اليت انطلقت من ادلخزون الثقايف الذي ش ّكلو القرآن الكرمي‪.‬‬ ‫ويف ذات ادللف كتب الدكتور زلمد بابكر العوض عن القرآن الكرمي ومناىج التحليل‬ ‫الثقايف‪ ،‬ومناىج التحليل الثقايف تعين بدراسة اجملتمع وأمناط السلوك والعادات والتقاليد السائدة فيو‬ ‫والنظم واآلليات اليت حتكم نشاطو السياسي واالجتماعي واالقتصادي‪ ،‬كما تعين مداخل التحليل‬ ‫الثقايف بدراسة االدراكات والتصورات العقلية‪ ،‬والعالقات القيمية‪ ،‬اليت تسود اجملتمع‪ ،‬واللغة‬ ‫وأساليب التعبري ادلستخدمة للتعبري عن الذات والنفس واآلخر‪ ،‬وتطور ادلفردات والرموز‪...‬يف‬ ‫ادلتخيل اللغوي والفكري والثقايف‪ ،‬ويسعى البحث الختبار فاعلية مناىج التحليل الثقايف يف التعامل‬ ‫مع القرآن الكرمي الذي تؤكد طبيعتو التكوينية ابتداءً أنو ليس ظاىرة ثقافية‪ ،‬إنسانية ادلنشأ‪ ،‬فالقرآن‬ ‫الكرمي يتضمن يف طبيعتو رسالة شاملة تستوعب اإلنسان يف أبعاده الكلية وخطاباً عاماً موجهاً إىل‬ ‫الناس كافة وإىل اجملتمع البشري مبختلف تبايناتو الثقافية واإلثنية‪ ،‬فهو رسالة متجاوزة حلدود الزمان‬ ‫وادلكان ختاطب الثقافات األخرى دتاماً ويف ذات الوقت وبذات القدر الذي ختاطب فيو الثقافة‬ ‫العربية‪ ،‬بيئة التنزيل ورلتمع اإلسالم األول‪ .‬وىو ما يتطلب معرفة وتقدير للبعد الثقايف جملتمع‬ ‫الدعوة‪.‬‬ ‫ويف ملف الظاىرة االجتماعية كتب الدكتور الناجي زلمد حامد عن دور الثقافة يف التغري‬ ‫االجتماعي والتنموي حيث نقاش أقسام الثقافة وخصائصها ومساهتا ووظائفها وعالقتها بالشخصية‬ ‫التغري االجتماعي وثقافة التنمية والتنمية الثقافية‪.‬‬ ‫‪ ،‬ودورىا يف ّ‬ ‫ويف ذات ادللف كتب األستاذ الزين عبد اهلل يوسف عن العالقة بني الثقافة واالقتصاد‬ ‫بالًتكيز على ثقافة ادلؤسسة كحالة عملية حلضور ادلتغريات الثقافية يف الوقائع االقتصادية وقد أشار‬ ‫إىل بعض مفاىيم اإلسالم اليت ميكن تفعيلها إلنشاء وسط ثقايف فاعل يف ادلؤسسة‪.‬‬ ‫ويف ملف الًتاث اإلسالمي كتب الدكتور خوجلي أمحد صديق عن احلياة الثقافية‬ ‫والعلمية يف السودان بالًتكيز على التعليم يف السودان يف العهد الًتكي حيث ناقش احلياة الثقافية‬ ‫والتعليمية يف ذلك العصر باعتبارىا من ادلداخل التارخيية واحلضارية ادلهمة دلعرفة السمات العامة‬ ‫للعهد الًتكي يف السودان‪ .‬تلك ىي حبوث ىذا اجمللد ادلزدوج فنسأل اهلل أن ينفع هبا‪.‬‬ ‫رئيس التحرير‬ ‫‪2‬‬


‫مفهوم الثقافة ‪.....‬مراجعة نقدية‬

‫مقدمة‪:‬‬

‫أ‪.‬د‪ .‬عبداهلل محمد األمين النعيم *‬ ‫لكل لغة عقلها وإطارىا الفكري الذي يعطي دلفاىيمها دالالت وظالالً ال ديكن أف‬

‫تتطابق مع لغة أخرى ‪ ،‬لذلك فإ ّف "قضية ادلفاىيم وادلصطلحات قضية ىامة للغاية مل‬ ‫يعطها الكثَت حقها من االىتماـ فتساىلوا يف استخداـ مصطلحات ضلتها الغَت من وجهة‬ ‫نظرىم فأوجد ىذا حالة من التبعية الفكرية"‪ 1‬ال سيما يف استخداـ ادلصطلحات احلضارية‬

‫فقد ظلت حالة االستتباع دلفاىيم وقيم النموذج الغريب ىي السائدة ‪ ،‬وىو منوذج يُطرح‬

‫عادلياً باعتباره "النموذج البشري األرقى للتطور البشري ينبغي على كافة احلضارات تكراره‬ ‫واحتذاؤه"‪.2‬‬ ‫من ادلعروؼ أ ّف أي مصطلح ال يفرض نفسو على السطح" إالّ إذا واكبتو مكونات‬

‫معيّنو توحي بو وباستخدامو ‪ ،‬وغالباً ما تكوف تلك ىيٍّنو ليّنو يف أوؿ أمرىا ‪ ،‬لتنمو وتزدىر‬ ‫ليعّب عن‬ ‫حىت وإف كانت يف صورة مضمرة ‪ ،‬حينئذ يأخذ ادلصطلح الصورة العلوية الظاىرة ّ‬

‫مضموف بدأ يسري حثيثاً ليظهر نفسو فيما نعرفو بو ‪ ،‬إال أف األمر كاف سلتلفاً بصورة تكاد‬ ‫تكوف تامة يف حالة مصطلح الثقافة حيث إ ّف ادلكونات توافرت منذ قدمي الزماف إالّ أف‬ ‫الكلمة ذاهتا مل تظهر يف مفهومها احلايل إالّ إبّاف حركة النهضة األوربية"‪.3‬‬

‫* أستاذ باحث دبعهد إسالـ ادلعرفة ‪،‬جامعة اجلزيرة‪ ،‬ودمدين‪ ،‬السوداف ‪.‬‬ ‫‪ 1‬أمحد صدقي الدجاين ‪ 5‬التحيٌز يف ادلصطلح ‪ ،‬حبث منشور ضمن حبوث ندوة "إشكالية التحيُز ‪ ،‬رؤية‬ ‫معرفية ودعوة لالجتهاد" ربرير د‪ .‬عبد الوىاب ادلسَتي ‪ ،‬ادلعهد العادلي للفكر اإلسالمي ‪،‬ط‪ ،2‬امريكا‬ ‫‪6441‬ـ ‪ ،‬ص ‪.641‬‬ ‫‪2‬‬ ‫السعيد‪ 5‬التحيزات ادلعرفية يف الرؤية الغربية احلديثة للعامل ‪ ،‬ادلصدر السابق ‪ ،‬ص ‪.212‬‬ ‫‪ 3‬فؤاد َ‬ ‫فضل اهلل زلمد إمساعيل ‪ 5‬االيديولوجيا وفلسفة احلضارة ‪ ،‬ط‪ ، 6‬مكتبة بستاف ادلعرفة ‪ ،‬مصر‬ ‫‪2001‬ـ‪ ،‬ص ‪.611‬‬


‫تفكُّر ‪ ،‬جملد (‪ ،)31‬العدد (‪2013 ، )2-3‬م‪1434/‬هـ‬

‫الفلسفة وفلسفة العلوم‬

‫لقد حظيت الثقافة دبحاوالت تعريف عديدة وخرجت كل زلاولة لتعكس خلفية‬ ‫رلردة وزلايدة أي ال ترتبط‬ ‫الصعب – إذف – ُّ‬ ‫معيّنو عايشها صاحبها ‪ ،‬فمن ّ‬ ‫تصور ثقافة ّ‬ ‫خبلفيات تارخيية أو مذىب عقائدي أو ايديولوجيا ذلا فلسفتها يف الوجود تقيم عليها‬ ‫تصوراهتا ‪ .‬وعلى الرغم من ذلك فإ ّف "الثقافة تعتّب على ضلو ما متفقو بُت اجملتمعات وعلى‬ ‫ضل ٍو ما سلتلفة كذلك ‪ ،‬حيث ىناؾ قدر كبَت من التشابو بُت الثقافات "تتفق الثقافات يف‬ ‫العموميات وزبتلف يف التفاصيل"‪.1‬‬ ‫تشهد مسألة الثقافة أو باألحرى مسألة الثقافات ذب ّدداً جيعل منها مسألة راىنة سواء‬ ‫على ادلستوى الفكري أو على ادلستوى السياسي ‪ .‬وعلى الرغم من أ ّف مفهوـ الثقافة من‬ ‫أكثر ادلفاىيم تناوالً إالّ أنو من أكثرىا غموضاً حيث فاقت تعاريف ادلفهوـ ادلائو وأربعو‬ ‫وستوف تعريفاً كما احصاىا كوبَت وكلوكهوف ‪6412‬ـ‪ 2‬وسوؼ نناقش يف ىذا البحث تلك‬ ‫التعاريف يف بعديها الغريب واإلسالمي‪.‬‬ ‫‪ -1‬الرؤية الغربية لمفهوم الثقافة‪:‬‬ ‫‪ 1-1‬نشأة المفهوم‪:‬‬ ‫يرى دنيس كوش أ ّف لفظة "ثقافة" ظهرت يف أواخر القرف الثالث عشر متحدرة من‬ ‫"‪ " Cultura‬الالتينية اليت تعٍت العناية ادلوكولة للحقل وادلاشية وذلك لإلشارة لقسمة‬ ‫األرض احملروثة ‪ ،‬مث تطورت يف القرف السادس عشر لتدؿ على فعل ىو فالحة األرض ‪ ،‬ومل‬ ‫يتكوف ادلعٌت اجملازي إالّ يف منتصف القرف السادس عشر إذ بات شلكناً أف تشَت كلمة‬ ‫"ثقافة" حينذاؾ إىل تطوير كفاءة أي االشتغاؿ بإمنائها‪.3‬‬ ‫‪ 1‬ميكائيل تومبسوف وآخروف ‪ 5‬نظرية الثقافة ‪ ،‬ترمجة د‪ .‬علي سيد الصاوي ‪ ،‬سلسلة عامل ادلعرفة (‪، )22‬‬ ‫ط‪ ، 6‬الكويت يوليو ‪6442‬ـ ‪ ،‬ص ‪3‬‬ ‫‪Krobeir and kluckhon, Culture: Acritical of Conception and 2‬‬ ‫‪Definition, Harvard 1952.‬‬ ‫‪ 3‬دنيس كوش ‪ 5‬مفهوـ الثقافة يف العلوـ االجتماعية ‪ ،‬ترمجة د‪ .‬منَت السعداين ‪ ،‬ادلنظمة العربية للًتمجة ‪،‬‬ ‫مركز دراسات الوحدة العربية ‪ ،‬بَتوت ‪ ،‬مارس ‪2002‬ـ ‪ ،‬ص ‪.62‬‬ ‫‪3‬‬


‫أ‪.‬د‪ .‬عبداهلل محمد األمين النعيم‬

‫مفهوم الثقافة ‪.....‬مراجعة نقدية‪...‬‬

‫وىذه الداللة ادلتعلقة بتنمية األرض وزلصوالهتا ىي ذاهتا ما أورده وينر يف قاموسو‬

‫‪1‬‬

‫ومعجم ويبسًت اجلديد الثالث‪ ،2‬كما أ ّف اطالؽ ىذه اللفظة على عملية إمناء األشياء ادلادية‬ ‫مل ينقطع كل االنقطاع إذ أنو يشيع اآلف بنمو العلوـ الطبية والصناعية‪.3‬‬

‫‪ 2-1‬التطور ال ّداللي للمفهوم ‪:‬‬

‫حدث التطور الداليل احلاسم اخلاص بالكلمة والذي مسح الحقاً بابتداع ادلفهوـ‬ ‫داخل اللساف الفرنسي يف عصر األنوار قبل أف ينتشر بواسطة االقًتاض اللساين داخل‬ ‫اللسانُت اجملاورين (االصلليزي والّبيطاين)‪ .‬ويعتّب القرف الثامن عشر ىو القرف الذي بدأت فيو‬

‫كلمة ثقافة تفرض نفسها يف معناىا اجملازي ‪ ،‬وهبذا ادلعٌت مت إدراجها يف قاموس األكادديية‬ ‫الفرنسية نشرة (‪6263‬ـ) وىي يف أغلب األحياف متبوعة دبضاؼ يدؿ على موضوع الفعل‪،‬‬ ‫ىكذا كاف يقاؿ "ثقافة الفنوف" ‪" ،‬ثقافة اآلداب" و "ثقافة العلوـ" كما لو كاف ضرورياً أف‬

‫حي ّدد الشيء ادلعتٌت بو تثقيفاً‪.4‬‬

‫ربررت "ثقافة" من متمماهتا ادلضافة وانتهت إىل استعماذلا منفردة للتدليل على‬ ‫"تكوين" الفكر و "تربيتو" الحقاً ‪ ،‬ومتّ ادلرور من "ثقافة" بوصفها فعالً "فعل التعلُّم" إىل‬ ‫الثقافة "بوصفها حاالً" ‪" ،‬حاؿ الفكر وقد أخصبو التعليم ‪ ،‬حاؿ الفرد ذي الثقافة" ‪ ،‬وقد‬

‫تكرس ىذا االستخداـ يف منتهى القرف الثامن عشر يف قاموس األكادديية الفرنسية نشرة‬ ‫ّ‬ ‫(‪6243‬ـ)‪ .‬وكاف مفكرو األنوار يتصوروف الثقافة بوصفها خاصية شليزة للجنس البشري ‪،‬‬ ‫‪Winer, Philip ed: Dictionary of the History of ideas, Charles 1‬‬ ‫‪Scribners Sons ,New york 1973.‬‬ ‫‪ 2‬علوي الصايف‪ 5‬تعريف الثقافو ومفهومها‪ ،‬رللة الفيص العدد ‪ ،642‬السعودية ‪ ،‬الرياض‪ ،‬ديسمّب‬ ‫‪6434‬ـ ‪،‬ص‪.3 – 2‬‬ ‫‪ 3‬قسطنطُت زريق ‪ 5‬يف معركة احلضارة ‪ ،‬ص ‪.22‬‬ ‫‪ 4‬كوش ‪ 5‬مفهوـ الثقافة ‪ ،‬ص ‪.63 – 62‬‬ ‫‪4‬‬


‫تفكُّر ‪ ،‬جملد (‪ ،)31‬العدد (‪2013 ، )2-3‬م‪1434/‬هـ‬

‫الفلسفة وفلسفة العلوم‬

‫لقد كانت بالنسبة إليهم مجلة ادلعارؼ اليت راكمتها اإلنسانية خالؿ تارخيها ونقلتها منظوراً‬ ‫إليها على أهنا كلية‪.1‬‬ ‫ظهرت ثقافة "‪ "Kultur‬دبعناىا اجملازي يف اللساف األدلاين يف القرف الثامن عشر‬ ‫وبدت أهنا نقل حريف للفظ الفرنسي ‪ ،‬وعلى الرغم من ذلك تطورت كلمة ثقافة‬ ‫"‪ "Kultur‬سريعاً ضلو منحى أكثر حصراً من نظَتىا الفرنسي وحازت منذ النصف الثاين‬ ‫من القرف الثامن عشر صلاح صيت حيث مل تكن ثقافة "‪ "Cultur‬حظيت بو باعتبار فوز‬ ‫"حضارة" بسبق الشهرة ضمن معجم ادلفكرين الفرنسيُت‪ .2‬حيث عمد الفرنسيوف إىل‬ ‫استخداـ "‪ " Culture‬باعتبارىا حضارة‪ ،‬وكما يرى تَتي إجيلتوف يف تتبعو لتحوالت‬ ‫العالقة بُت الثقافة واحلضارة يف رؤية الفرنسيُت واألدلاف أ ّف "احلضارة فكرة فرنسية إىل حد‬ ‫بعيد حيث كانت تشَت يف آف معاً إىل كل من التهذيب االجتماعي يف سَتورتو التدرجيية‬ ‫والغاية الطوباوية اليت سبتد ضلوىا ىذه السَتورة ويف حُت كانت احلضارة الفرنسية تشتمل‬ ‫بصورة منطية على احلياة السيّاسية واالقتصادية والتقنية فإ ّف الثقافة األدلانية كانت ذات مرجعية‬ ‫دينية وفكرية فنية أضيق ‪ ،‬كما كانت تشَت إىل التهذيب الفكري جلماعة من اجلماعات أو‬ ‫فرد من األفراد وليس للمجتمع ككل ويف حُت كانت احلضارة تقلل من أمهية الفوارؽ القومية‬ ‫فإ ّف الثقافة كانت تسلّط عليها الضوء ‪ ،‬واحلاؿ أ ّف التوتر بُت الثقافة واحلضارة قد كاف أمر‬ ‫الصلة بالتنافس بُت فرنسا وادلانيا‪.3‬‬ ‫وثيق ّ‬ ‫إ ّف التطور الداليل احلاسم للثقافة وابتداع ادلعٌت العلمي للمفهوـ ظهر بصورة جلية‬ ‫لدي االثنولوجيُت واالنثروبولوجيُت ‪ ،‬فقد اكسب مؤسسوا األثنولوجيا مفهوـ الثقافة زلتوى‬ ‫وصفياً خالصاً ومل يعد األمر يتعلق بالنسبة إليهم كما كاف الشأف عند الفالسفة بتحديد ما‬ ‫‪ 1‬كوش ‪ 5‬مفهوـ الثقافة ‪ ،‬ص ‪.63‬‬ ‫‪ 2‬كوش ‪ 5‬نفس ادلصدر ‪ ،‬ص ‪.26 – 20‬‬ ‫‪ 3‬تَتي إجيلتوف ‪ 5‬فكرة الثقافة ‪ ،‬ترمجة ثائر ديب ‪ ،‬دار احلوار ‪ ،‬الالذقية ‪2000‬ـ ‪ ،‬ص ‪ ، 24‬وأنظر زكي‬ ‫ادليالد ‪ ،‬ادلسألة الثقافية ‪ ،‬ص ‪.46‬‬ ‫‪5‬‬


‫أ‪.‬د‪ .‬عبداهلل محمد األمين النعيم‬

‫مفهوم الثقافة ‪.....‬مراجعة نقدية‪...‬‬

‫على الثقافة أف تكوف عليو بل وصف ما ىي عليو كما تتبدى يف اجملتمعات اإلنسانية ‪،‬‬ ‫ومن جانب آخر فإ ّف االنثروبولوجيا كادت أف تتملك الثقافة وذبعل منها امتيازاً للعلم ذلا‪،‬‬ ‫وتتحوؿ إىل العلم الذي يتحدث بامسها وعنها وحوذلا وذلك على خلفية أ ّف الثقافة ىي من‬ ‫مكتشفات االنثربول وجيا ‪ ...‬بالعودة إىل العقل البدائي واجملتمعات البدائية وزلاولة البحث‬ ‫عن جذور الثقافة وبداياهتا وكيف تنشأ وتنمو وتتطور؟ وذبيب على سؤالنا دلاذا ينفرد‬ ‫اإلنساف بالثقافة؟‪.1‬‬ ‫عرؼ‬ ‫يعتّب عامل االنثربولوجيا إدوارد تايلور أوؿ من ق ّدـ تعريفاً علمياً للمفهوـ فقد ّ‬ ‫الثقافة بقولو "إ ّف (ثقافة) أو (حضارة) موضوعو يف معناىا االثنولوجي األكثر اتساعاً ىي‬ ‫ىذا الكل ادلرّكب الذي يشمل ادلعرفة وادلعتقدات والفن واألخالؽ والقانوف والعادات وكل‬ ‫القدرات والعادات األخرى اليت يكتسبها اإلنساف بوصفو عضواً يف اجملتمع"‪ .2‬فالثقافة على‬ ‫تعّب عن كلية حياة اإلنساف االجتماعية وتتميز ببعدىا‬ ‫ىذا األساس بالنسبة لتايلور – ّ‬ ‫اجلماعي ‪ ،‬والثقافة مكتسبة وال تتأتى من الوراثة البيولوجية ‪ ،‬دبعٌت أ ّف الثقافة ىي عملية‬ ‫اكتساب عّب وسائط الًتبية والتعليم والتنشئة وعّب مجيع طرائق التواصل االجتماعي وليست‬ ‫كل مركب يشتمل على ادلعرفة والعقائد والفن‬ ‫عملية انتقاؿ فطري أو غريزي ‪ .‬وكوهنا ُ‬ ‫واألخالؽ والعرؼ والقانوف فهذا يعٍت أ ّف الثقافة ليست علماً ألهنا لو كانت علماً لتضيقت‬ ‫ورب ّددت يف نطاؽ ذلك العلم وبصورة ال زبلو من صرامة‪.3‬‬ ‫تدور غالب تعريفات علماء االجتماع حوؿ تعريف تايلور حيث صلد أ ّف رالف لنتوف‬ ‫يرى أ ّف الثقافة "ىي النمط ادلميز للحياة اليت يعيشها اجملتمع أي أهنا شكل متكامل من‬ ‫السلوؾ ادلكتسب ونتائجو أي رلموعة األفكار والعادات اليت تعلموهنا ويشًتكوف فيها‬ ‫‪ 1‬زكي ادليالد ‪ 5‬ادلسألة الثقافية ‪ ...‬من أجل بناء نظرية يف الثقافة ‪ ،‬ادلركز الثقايف العريب ‪ ،‬ط‪ ، 6‬الدار‬ ‫البيضاء ‪ ،‬ادلغرب ‪2001‬ـ ‪ ،‬ص ‪.623‬‬ ‫‪. E.B.Tylor: Primitive Culture, Brentanos, New1924 York 2‬‬ ‫‪ 3‬كوش ‪ 5‬مفهوـ الثقافة ‪ ،‬ص ‪ ، 26‬وادليالد ‪ 5‬ادلسألة الثقافية ‪ ،‬ص ‪.622 – 621‬‬ ‫‪6‬‬


‫تفكُّر ‪ ،‬جملد (‪ ،)31‬العدد (‪2013 ، )2-3‬م‪1434/‬هـ‬

‫الفلسفة وفلسفة العلوم‬

‫وينقلوهنا من جيل إىل جيل آخر دبا فيها العنصر ادلادي"‪ 1‬والثقافة عند كاليد كلوكهوف ىي‬ ‫معُت ‪ ،‬أي ادلَتاث االجتماعي الذي حيصل عليو الفرد من‬ ‫"رلموعة طرائق احلياة لدى شعب ّ‬ ‫رلموعتو اليت يعيش فيها ‪ ،‬أو ىي اجلزء الذي خلقو اإلنساف يف زليطو أو ىي ادلواد‬ ‫واألدوات"‪.2‬‬ ‫ومن أبسط تعريفات الثقافة وأكثرىا وضوحاً تعريف أحد علماء االجتماع احملدثُت‬ ‫عرفها بقولو "إ ّف الثقافة ىي ذلك الكل‬ ‫روبرت بَتستد الذي ظهر يف أوائل الستينات حيث ّ‬ ‫ادلركب الذي يتألف من كل ما نفكر فيو أو نقوـ بعملو أو نتملكو كأعضاء يف رلتمع"‪3‬ويّبز‬ ‫ىذا التعريف الصيغة التأليفية للثقافة لتصبح ظاىرة مركبة تتكوف من عناصر بعضها فكري‬ ‫وبعضها سلوكي وبعضها مادي‪ 4‬غَت أنو يكفي القوؿ بأ ّف ىناؾ اذباىُت يتنافساف يف تعريف‬ ‫الثقافو‪.‬‬ ‫أحدهما‪ :‬ينظر للثقافة على أهنا تتكوف من القيم وادلعتقدات وادلعايَت والتفسَتات‬ ‫العقلية والرموز وااليديولوجيات وما شاكلها من ادلنتجات العقلية‪ .‬وىذا االستخداـ يسود‬ ‫بُت علماء السياسة‪ .5‬أما االتجاه اآلخر فَتى أ ّف الثقافو تشَت إىل النمط الكلي حلياة‬ ‫شعب ما ‪ ،‬والعالقات الشخصية بُت أفراده وكذلك توجهاهتم وىذا التعريف ىو ما دييل إليو‬ ‫‪ 1‬رالف لنتوف ‪ 5‬اال نثربولوجيا وأزمة العامل احلديث ‪ ،‬ترمجة عبد ادللك الناشف ‪ ،‬ادلكتبة العصرية ‪ ،‬بَتوت‬ ‫‪6412‬ـ ‪ ،‬ص ‪ ، 643 – 644‬وكذلك كتابو ‪ 5‬األصوؿ احلضارية للشخصية ‪ ،‬ترمجة عبد احلميد‬ ‫اللباف ‪ ،‬دار اليقظة العربية ‪ ،‬بَتوت ‪6414 ،‬ـ ‪ ،‬ص ‪.10 – 13‬‬ ‫‪ 2‬كاليد كلوكلهوف ‪ 5‬اإلنساف يف ادلرآة ‪ ،‬عالقة االنثروبولوجي باحلياة ادلعاصرة ‪ ،‬ترمجة د‪ .‬شاكر مصطفى‬ ‫‪ ،‬ادلكتبة األىلية ‪ ،‬بغداد ‪6414‬ـ ‪ ،‬ص ‪.44 ، 22 ، 24‬‬ ‫‪R.Bierstedt, The Social order, New , 1963. hill Mcgraw York 3‬‬ ‫‪ 4‬تومبسوف وآخروف ‪ 5‬نظرية الثقافة ‪ ،‬ص ‪.60‬‬ ‫‪ 5‬أنظر على سبيل ادلثاؿ ‪Gabriel A. Almond and Sidney verba: The Civic‬‬ ‫‪Culture: Political Attitudes and Demo cracy in Five Nation,‬‬ ‫‪Princeton university press 1963.‬‬ ‫‪7‬‬


‫أ‪.‬د‪ .‬عبداهلل محمد األمين النعيم‬

‫مفهوم الثقافة ‪.....‬مراجعة نقدية‪...‬‬

‫علماء االنثربولوجيا األمريكيُت وىو مفهوـ شامل للثقافو‪.1‬ولقد استمد تومبسوف وزمالوؤه‬ ‫من ىذين التعريفُت ثالثة مفاىيم سبثل الثقافة يف نظرىم وىي ‪ 5‬التحيزات الثقافية والعالقات‬ ‫االجتماعية وأمناط وأساليب احلياة‪.‬وواضح أهنا ظواىر أو عناصر مرتبط بعضها بالبعض يف‬ ‫الكل ادلركب للثقافة‪ ،‬فالتحيزات الثقافية تشمل القيم وادلعتقدات ادلشًتكة بُت الناس‬ ‫والعالقات االجتماعية تشمل العالقات الشخصية اليت تربط الناس بعضهم بالبعض اآلخر‪،‬‬ ‫أما منط احلياة فهو الناتج الكلي ادلركب من االضليازات الثقافية والعالقات االجتماعية‪ .2‬وال‬ ‫زبرج دراسات بوا ودوركامي ومالينوفسكي وليفي سًتوس دبدارسهم ‪ 5‬التطورية واالنتشارية‬ ‫والبنيوية عن ما سبق ذكره من تعريفات‪.‬‬ ‫ويالحظ الدارس دلفهوـ الثقافة يف دراسات الغربيُت أ ّف االنثربولوجيا كادت‬ ‫تتملك الثقافة وذبعل منها امتيازاً للعلم ذلا وتتحوؿ إىل العلم الذي يتحدث بإمسها وعنها‬ ‫وحوذلا ‪ ،‬وذلك على خلفية أ ّف الثقافة من مكتشفات األنثربولوجيا‪ ...‬العودة إىل العقل‬ ‫البدائي واجملتمعات البد ائية وزلاولة البحث عن جذور الثقافة وبداياهتا وكيف تنشأ وتنمو‬ ‫وتتطور؟ وذبيب على سؤالنا دلاذا ينفرد اإلنساف بالثقافة؟‪.3‬‬ ‫وقد استلهم فالسفة العلوـ تلك التعريفات األنثربولوجية للثقافو وبنوا عليها معارفهم‬ ‫على الرغم من أف كروبر يرى بأنو مل يتم التوفق إىل وضع تعريف هنائي لطبيعة الثقافة‪.4‬‬ ‫ولكن بقياس الفارؽ الزمٍت بُت رأي كروبر (‪6412‬ـ) وتطور العلوـ نلحظ أ ّف مفهوـ‬ ‫الثقافة قد كاد يستقر على أهنا ‪5‬قيم ومعتقدات ومعايَت وتفسَتات عقلية ورموز‬ ‫وايديولوجيات وما شاكلها من منتجات عقلية تشكل منطاً كلياً حلياة اجلماعة أو أسلوب‬

‫‪ 1‬أنظر على سبيل ادلثاؿ ‪Ruth Benedict, Patterns of Culture‬‬ ‫‪ 2‬تومبسوف وزمالؤه ‪ 5‬نظرية الثقافة ‪ ،‬ص ‪ 26‬وما بعدىا‪.‬‬ ‫‪ 3‬ادليالد ‪ 5‬ادلسألة الثقافيو ‪ ،‬ص ‪.623‬‬ ‫‪Alfred Louis Kroeber: The Nature of Culture. Chicago, 4‬‬ ‫‪university of Chicago press 1958.‬‬ ‫‪8‬‬


‫تفكُّر ‪ ،‬جملد (‪ ،)31‬العدد (‪2013 ، )2-3‬م‪1434/‬هـ‬

‫الفلسفة وفلسفة العلوم‬

‫للحياة‪ .‬وشلا ال شك فيو أ ّف التفكَت يف مفهوـ الثقافة قد تعمق لدى تركزه يف دراسة‬ ‫الثقافات ادلفردة ودراسة ادلبادئي الكونية للثقافة‪.‬‬ ‫إ ّف من اجلدير بادلالحظة أ ّف ىذه ادلعاين دلفهوـ الػ "‪ "Culture‬الغريب قد جرى‬ ‫تسويقها يف العامل فيما يعرؼ بعملية االنتشار الثقايف أو التثاقف وادلثاقفة ‪ ،‬وىذا التثاقف أو‬ ‫تغَتات يف األمناط الثقافية األصلية يف إحدى اجلماعتُت ‪ ،‬ويف‬ ‫ادلثاقفة يًتتب عليو حدوث ُ‬ ‫الغالب تكوف الثقافة الغربية ىي ادلفروضة باعتبارىا ثقافة ادلركز وغَتىا األطراؼ واذلامش‪.1‬‬ ‫وقد أنشأ رللس الواليات ادلتحدة للبحث يف العلوـ االجتماعية جلنة لدراسة ظواىر التثاقف‬ ‫عرفوا التثاقف بأنو "ىو رلموع‬ ‫من ىرسكوفيتس ورالف لنتوف وروبرت ريدفيلد حيث ّ‬ ‫الظواىر الناذبة عن سباس موصوؿ ومباشر بُت رلموعات أفراد ذوي ثقافات تؤدي إىل‬ ‫‪2‬‬ ‫تغَتات يف النماذج الثقافية األوىل اخلاصة بإحدى اجملموعتُت أو كليهما"‬ ‫‪ -2‬مفهوم الثقافة في الرؤية اإلسالمية‪:‬‬ ‫‪ 1-2‬نشأة المفهوم‪:‬‬ ‫مل تكن لفظة "الثقافة" من الكلمات اليت حظيت باىتماـ يف الثقافة اإلسالمية ومل‬ ‫ترتبط بقضايا أو خّبات أو رلاالت أو معارؼ تستدعي االنتباه ذلا واالىتماـ هبا ‪ ،‬ذلذا‬ ‫فقدت كلمة الثقافة الشروط وادلقتضيات ادلعرفية واالجتماعية اليت كاف بإمكاهنا ربريكها‬

‫وربدد مفهوـ "الثقافة" يف إطار‬ ‫والدفع هبا ضلو تطورات وانتقاالت مفاىيمية‪ ،3‬فقد تطور‬ ‫ّ‬ ‫العلوـ االجتماعية وأصبح وثيق الصلة هبا وىي علوـ حديثة ‪ ،‬لذلك ديكن القوؿ أ ّف‬ ‫ربددت ووصلت‬ ‫الكتابات العربية اكتفت باحلديث عن ادلعاين والدالالت اللغوية للثقافة كما ّ‬

‫‪ 1‬أنظر‪ 5‬أنور عبد ادللك ‪ 5‬تاريخ الشرؽ‪ ،‬ط‪ ،6‬دار ادلستقبل العريب ‪ ،‬القاىرة ‪6432‬ـ ‪ ،‬ص ‪– 24‬‬ ‫‪.46‬‬ ‫‪ 2‬دنيس كوش ‪ 5‬مفهوـ الثقافة يف العلوـ االجتماعية ‪ ،‬ص ‪.42‬‬ ‫‪ 3‬ادليالد ‪ 5‬ادلسألة الثقافية ‪ ،‬ص ‪.61‬‬ ‫‪01‬‬


‫أ‪.‬د‪ .‬عبداهلل محمد األمين النعيم‬

‫مفهوم الثقافة ‪.....‬مراجعة نقدية‪...‬‬

‫إلينا يف معاجم اللغة العربية‪ ،‬أما الدالالت االصطالحية وادلفهومية فَتجع فيها إىل الكتابات‬

‫الغربية دبعٌت أهنا مل تتطور من عامل الكلمة إىل عامل ادلفهوـ‪.1‬‬

‫تفسر عدـ تطور "الثقافة" من كلمة‬ ‫يرى زكي ادليالد أ ّف ىناؾ مجلة من األسباب اليت ّ‬ ‫إىل مفهوـ يف اطار الثقافة اإلسالمية حيث خلصها يف اآليت‪52‬‬ ‫‪ -6‬مل ترتبط الثقافة خبّبات أو معارؼ أو رلاالت تستدعي االىتماـ هبا ‪ ،‬ذلذا افتقدت‬ ‫كلمة الثقافة الشروط ادلعرفية اليت تدفع هبا ضلو تطورات وانتقاالت مفاىيمية‪.‬‬ ‫‪ -2‬إ ّف الفعل "ثقف" الذي ىو مصدر الثقافة ارتبط يف النص القرآين وادلعاجم يف مجيع‬ ‫استعماالتو بسياؽ واحد ورب ّدد دبعٌت واحد أيضاً حيث جاء يف سياؽ احلديث عن‬ ‫احلرب والقتاؿ ‪ ،‬ورب ّدد دبعٌت اإلدراؾ والظفر وادلقصود باإلدراؾ ىنا الوصوؿ إىل الشئ‬ ‫بادلعٌت احلسي والوجودي وليس بادلعٌت الذىٍت‪.‬‬

‫‪ -2‬إ ّف ادلعاين والدالالت رب ّددت يف معاجم اللغة العربية لكلمة ثقافة ظلت جامدة‬ ‫وساكنة ومل تّبح رلاؿ اختصاصها ومل يكن بامكاف اللغة تطوير ىذه الكلمة واالرتقاء‬ ‫هبا إىل مرحلة ادلفهوـ وليس ىذا من اختصاصها ايضاً‪.‬‬ ‫‪ -4‬إ ّف عدـ تبلور العلوـ االجتماعية يف اطار الثقافة اإلسالمية ما قبل عصر ابن خلدوف‬

‫كاف سبباً منهجياً ومعرفياً يف عدـ اكتشاؼ وبناء مفهوـ الثقافة اليت عُرفت وربددت‬ ‫وتطورت يف نطاؽ ىذه العلوـ‪.‬‬

‫إ ّف ادلعاين العربية لكلمة الثقافة كما ح ّددىا القرآف وقواميس اللغة العربية دارت‬ ‫مضامينها حوؿ إدراؾ الشئ واالحاطو بو واحلذؽ والفهم والضبط دلا حيويو ‪ ،‬والقياـ بو ‪،‬‬ ‫وكذلك تعٍت ذكي ‪ ،‬فطن ثابت ادلعرفة دبا حيتاج إليو ‪ ،‬كما تعٍت التهذيب والتقومي والتسوية‬ ‫‪ 1‬نفس ادلصدر ‪ ،‬ص ‪.64‬‬ ‫‪ 2‬نفس ادلصدر ‪ ،‬ص ‪.26 – 61‬‬ ‫‪00‬‬


‫تفكُّر ‪ ،‬جملد (‪ ،)31‬العدد (‪2013 ، )2-3‬م‪1434/‬هـ‬

‫الفلسفة وفلسفة العلوم‬

‫بعد إعوجاج‪ ،1‬ولقد تضافرت اآليات القرآنية على ىذه ادلعاين ‪ ،‬فقد جاء يف القرآف الكرمي‬ ‫قولو تعاىل‪ 5‬واقْػتػلُوىم حي ِ‬ ‫وى ْم‬ ‫َ ُ ُ ْ َْ ُ‬ ‫وى ْم َواقْػتُػلُ ُ‬ ‫وى ْم‪ ‬سورة البقرة ‪ ،‬آية ‪ .646‬فَ ُخ ُذ ُ‬ ‫ث ثَق ْفتُ ُم ُ‬ ‫حي ِ ِ‬ ‫ت َعلَْي ِهم ِّ‬ ‫الذلَّةُ أَيْ َن َما ثُِق ُفواْ‪‬‬ ‫َْ ُ‬ ‫ض ِربَ ْ‬ ‫وى ْم‪ ‬سورة النساء ‪ ،‬آية ‪ .46‬وقاؿ‪ُ  5‬‬ ‫ث ثق ْفتُ ُم ُ‬ ‫ُ‬ ‫ِ‬ ‫ُت أَيْػنَ َما ثُِق ُفوا‪ ‬سورة األحزاب ‪ ،‬آيو ‪..16‬‬ ‫سورة آؿ عمراف ‪ ،‬آية ‪ .662‬وقاؿ‪َ  5‬م ْلعُون َ‬ ‫قيل يف تفسَت ىذه اآليات إمجاالً "يقاؿ ثقف يثقف ورجل ثقف اثقف إذا كاف‬ ‫زلكماً دلا يتناولو من األمور ‪ .‬تثقفهم تأسرىم وذبعلهم يف ثقاؼ ‪ ،‬أو تلقاىم حباؿ ضعف‬ ‫تقدر عليهم فيها وتغلبهم ثقفتهم أثقفتو ثقفاً أي وجدتو‪ ،‬وفالف ثقف لقف أي سريع‬ ‫الوجود دلا حياولو ويطلبو ‪ ،‬والثقف وجود على وجو األخذ والغلبة ومنو رجل ثقف سريع‬ ‫األخذ ألقرانو‪.2‬‬ ‫إ ّف الثقافة يف سياقها القرآين وإف كانت تتعلق باحلرب إالّ أهنا يف معانيها تعٍت مطلق‬ ‫السعي ضلو الظفر بالشئ دبا يؤدي ألف يكوف اإلنساف فطناً ذكياً ثابتاً يف‬ ‫التهذيب والتقومي و ّ‬ ‫معرفتو دبا حيتاج إليو‪ .‬كما أ ّف الثقافة دبعانيها تلك تنبع من الذات اإلنسانية وال يغرس فيها‬ ‫من اخلارج كما ىو يف لفظ "‪ "Culture‬الغريب‪.‬‬ ‫‪ 2-2‬التطور ال ّداللي للمفهوم‪:‬‬ ‫كما سبق أف ذكرنا فإ ّف كلمة "ثقافة" يف الرؤية اإلسالمية مل تتطور وتتح ّدد لعدـ‬

‫ارتباطها دبجاالت أو معارؼ تستدعي االنتباه ذلا ‪ ،‬ومل يتأتى ربريكها وتفعيلها يف العلوـ إال‬ ‫بعد االحتكاؾ بالثقافة األوربية احلديثة ؛ وليس يف ذلك تقليل من شأف علوـ السلف‬ ‫اإلسالمي أل ّف لكل عصر مفاىيمو ومصطلحاتو اليت ربرؾ واقعو وتصوغ علومو ‪...‬‬ ‫وادلشتغلوف اآلف يف العلوـ سواء كانوا مسلمُت أو غَت مسلمُت ىم أسرى ثقافة عصرىم‬ ‫دبفاىيمو ومصطلحاتو احلضارية وال ضَت أف يتم االستمداد ‪ -‬من ‪ -‬والتثاقف مع الثقافة‬ ‫‪ 1‬ابن منظور ‪ 5‬لساف العرب ‪ ،‬ج‪ ، 60‬مادة ثقف ‪ ،‬والقاموس احمليد ‪ ،‬ج‪ ، 2‬مادة ثقف ‪ ،‬وادلعجم‬ ‫الوسيط ‪ ،‬ص ‪.43‬‬ ‫‪ 2‬القرطيب ‪ 5‬اجلامع ألحكاـ القرآف ‪ ،‬ج‪، 6‬ج‪ ، 2‬ص ‪.216‬‬ ‫‪01‬‬


‫أ‪.‬د‪ .‬عبداهلل محمد األمين النعيم‬

‫مفهوم الثقافة ‪.....‬مراجعة نقدية‪...‬‬

‫ادلعاصرة لبناء ادلفاىيم والعلوـ اإلسالمية‪ .‬وإبتداع مفاىيم إسالمية حديثة ىو ابتداع يف‬ ‫الشكل وادلسميات وليس ابتداعاً يف اجلوىر أو ادلضموف ألنو حسب رأينا أ ّف احملتوى‬ ‫وادلضموف كاف موجوداً يف كتابات علماء السلّف ادلسلمُت حيث أهنم كتبوا يف كافة اجملاالت‬

‫دبفاىيم عصرىم ‪.‬كما ذكرنا أ ّف لكل لغة عقلها واطارىا الفكري الذي يعطي دلفاىيمها‬ ‫دالالت وظالؿ ال ديكن أف يتطابق مع لغة أخرى ‪ ...‬والثقافة كلمة إسالمية أصيلة غَت أنو‬

‫مل يتم تشغيلها كمفهوـ يف علوـ السلّف من ادلسلمُت وإف كاف زلتوى ادلفهوـ ومضمونو‬ ‫ادلعاصر قد جرى تشغيلو يف علوـ السلّف دبسميات أخرى‪.‬‬

‫إذا حاولنا تتبع مفهوـ الثقافة يف الكتابات العربية واإلسالمية ادلعاصرة فإ ّف أكّب‬ ‫عرفتها ادلنظمة العربية للثقافة‬ ‫عرفتا الثقافة ‪ ،‬فقد ّ‬ ‫مؤسستُت للفكر العريب واإلسالمي قد ّ‬ ‫والعلوـ يف خطتها الشاملة للثقافة العربية بأهنا‪5‬‬

‫أ‪ -‬الثقافة بادلعٌت األنثربولوجي الذي يشمل كل فاعلية لإلنساف سبيزه عن أفعاؿ الطبيعة‬ ‫‌‬ ‫فكل نشاط ذىٍت أو مادي يقوـ بو لرفض التقبُّل السليب للطبيعة ىو ثقافة اعتباراً‬ ‫من أبسط السلوؾ لإلنساف البدائي حىت إنساف العصر اإللكًتوين فالثقافة هبذا‬ ‫الشكل الواسع ىي اإلنساف بوصفو فاعالً منفعالً‪ .‬ويدخل فيها كل ما أنتج البشر‬

‫يف احلياة من إنتاج مادي أو غَت مادي سواء كاف تراكم خّبات أـ شلارسات فكرية‬

‫أـ تصورات من عقائد روحية‪ ،‬أـ من صنع أداة من األدوات أـ تقليداً من التقاليد‪.‬‬

‫ب‪ -‬ال ثقافة بادلعٌت ادلرتبط بنوع األساليب وأشكاؿ القيم اليت يبتكرىا اإلنساف ليكسب‬ ‫‌‬ ‫إنسانيتو معناىا اخلاص‪ .‬وينظم هبا حياتو اخلاصة االجتماعية والفكرية والروحية‬ ‫واجلمالية ويف ىذا السياؽ فالثقافة تشمل رلموع النشاط الفكري والفٍت دبعنامها‬ ‫الواسع وما يتصل هبما من ادلهارات أو يعُت عليهما من الوسائل فهي موصولة‬

‫‪02‬‬


‫تفكُّر ‪ ،‬جملد (‪ ،)31‬العدد (‪2013 ، )2-3‬م‪1434/‬هـ‬

‫الفلسفة وفلسفة العلوم‬

‫الروابط جبميع أوجو النشاط االجتماعي األخرى مؤثرة فيها متأثرة هبا معينة عليها‬

‫مستعينة هبا‪.1‬‬ ‫أما اإلسًتاتيجية الثقافية اليت أقرهتا منظمة ادلؤسبر اإلسالمي فقد أوضحت أ ّف الثقافة‬ ‫ىي‪-52‬‬ ‫‪ -6‬التعليم واإلدراؾ وزبتص عند أىل العصر بالًتبية اليت تنمو هبا أساليب التفكَت‬ ‫والعمل دبا يالئم الزماف وادلكاف‪ ،‬فالثقافة إذف مفهوـ آيل "ديناميكي" يراد منو‬ ‫زبصيب للمدارؾ باإلطالع واستثمار للمعرفة بالتخمُت والتدبَت والسعي‪.‬‬ ‫‪ -2‬الثقافة حصيلة معلومات مًتاكمة؛ وأساليب يف التفكَت تتسع وتضيق حبكم ارتباطها‬ ‫بقضايا اإلنساف عموماً‪.‬‬ ‫‪ -2‬الثقافة يف مفهومها الذي ينسجم مع ادلنهج اإلسالمي ىي التعبَت عن الرقي‬ ‫والتق ّدـ يف سلتلف جوانب احلياة البشرية ورلاالهتا ادلختلفة وإبراز ما يبدعو اإلنساف‬ ‫من خالؿ خصائصو الكامنة فيو من فكر وسلوؾ يتواكب مع الواقع الذي يعيشو‬ ‫الفرد وادلتمتع وفق مضامُت ومعايَت إسالمية تنبع من العقيدة اإلسالمية اخلالصة‪.‬‬ ‫ويذىب بعض الباحثُت إىل أ ّف الثقافة ىي رلموع القيم وادلفاىيم اليت ربكم سلوؾ‬

‫األفراد أو اجملتمات يف حقبة معينة من التاريخ‪ .‬أو ىي رلموعة موروثة من األفكار وادلعايَت‬ ‫اليت ربدد األساليب اليت على منواذلا تُرتّب األشياء وتُصرؼ الشؤوف ادلختلفة عند اجلماعة‪،‬‬

‫أو ىي رلمل الطرؽ أو الوسائل اليت يستعملها الفرد أو اجلماعة لكي تتواءـ وتنضبط مع‬ ‫بيئتها اإلنسانية والطبيعية‪ .‬أو ىي ادلعرفة اليت تؤخذ عن طريق األخبار والتلقي واالستنباط‬

‫‪ 1‬ادلنظمة العربية للًتبية والثقافة والفنوف ‪ 5‬اخلطة الشاملة للثقافة العربية ‪ ،‬ص ‪ ، 42‬سلسلة ادلفاىيم ‪،‬‬ ‫حزمة رقم (‪ ، )6‬ادلعهد العادلي للفكر اإلسالمي‪ ،‬ىَتندف‪ ،‬أمريكا‪.‬‬ ‫‪ 2‬رللة التوحيد العدد ‪ ، 31‬السنة (‪ )61‬رمضاف ‪6462‬ىػ "شباط ‪6442‬ـ" مؤسسة الفكر اإلسالمي‬ ‫والتوحيد للنشر الثقايف ‪ ،‬طهراف ‪ ،‬مقاؿ‪ 5‬الثقافة اإلسالمية ‪ ،‬ادلفهوـ وادلضموف ‪ ،‬أجزاء من مشروع‬ ‫االسًتاتيجية الثقافية الذي أقرتو منظمة ادلؤسبر اإلسالمي ‪ ،‬ص ‪.634 – 634‬‬ ‫‪03‬‬


‫أ‪.‬د‪ .‬عبداهلل محمد األمين النعيم‬

‫مفهوم الثقافة ‪.....‬مراجعة نقدية‪...‬‬

‫بناءً على وجهة نظر معينة يف احلياة‪ .‬أو ىي ادلعارؼ والعلوـ واآلداب يتعلمها الناس‬ ‫ويتثقفوف هبا‪.1‬‬ ‫يعتّب مالك بن نيب من أكثر ادلفكرين ادلسلمُت الذين اشتغلوا يف حقل الثقافة حيث‬ ‫عرؼ الثقافة بأهنا‪" 5‬رلموعة من الصفات اخللقية‬ ‫كتب عدة كتب يف اجملاؿ احلضاري‪ ،‬وقد ّ‬

‫والقيم االجتماعية اليت يتلقاىا الفرد منذ والدتو كرأمساؿ ّأويل يف الوسط الذي ولد فيو‬ ‫والثقافة على ىذا ىي احمليط الذي يشكل فيو الفرد طباعو وشخصيتو‪ .‬وىي احمليط الذي‬ ‫يعكس حضارة معينة والذي يتحرؾ يف إطاره اإلنساف ادلتحضر‪ .‬فهي الوسط الذي تتكوف‬

‫فيو مجيع خصائص اجملتمع ادلتحضر‪ .‬وتتشكل فيو كل جزئية من جزئياتو تبعاً للغاية اليت‬ ‫رمسها اجملتمع لنفسو ؛ فالثقافة ىي تلك الكتلة نفسها دبا تتضمنو من عادات متجانسو‬ ‫وبعبارة جامعة ىي كل ما يعطي احلضارة مستها اخلاصة وحيدد قطبيها العقلي‬ ‫‪ 1‬أنظر‬ ‫ يوسف نور عوض ‪ 5‬ادلقومات اإلسالمية للثقافة العربية ‪ ،‬دار القلم ‪ ،‬بَتوت "ب‪.‬ت" ص ‪.1‬‬‫ مسيح عاطف الزين ‪ 5‬الثقافة والثقافة اإلسالمية ‪ ،‬ص ‪ 21 – 26‬نقالً عن ‪ 5‬د‪ .‬عبد القادر ىاشم‪.‬‬‫ رمزي ‪ 5‬النظرية اإلسالمية يف فلسفة الدراسات االجتماعية والًتبوية ‪ ،‬ط‪ ، 6‬دار الثقافة ‪ ،‬الدوحة‬‫‪6434‬ـ ‪ ،‬ص ‪.636‬‬ ‫ د‪ .‬علي عثماف زلمد صاحل ‪ 5‬منهجية دراسات الثقافات ‪ ،‬دور البيئة واجملتمع واخللفية احلضارية يف‬‫تشكيلها ‪ ،‬حبث منشور ضمن أوراؽ مؤسبر ادلنهجية اإلسالمية والعلوـ السلوكية والًتبوية ‪ ،‬ج‪ ، 2‬ربرير‬ ‫الطيب زين العابدين ‪ ،‬ادلعهد العادلي للفكر اإلسالمي ‪ ،‬ط‪ ،6‬ىَتندف‪ ،‬أمريكا ‪6442‬ـ ‪ ،‬ص ‪402‬‬ ‫وما بعده‪.‬‬ ‫ سالمة موسى ‪ 5‬الثقافة واحلضارة ‪ ،‬رللة اذلالؿ‪ ،‬القاىرة ‪ ،‬ديسمّب ‪6422‬ـ‪ ،‬ص ‪ ،626‬نقالً عن ‪5‬‬‫نصر زلمد عارؼ ‪ ،‬مصدر سابق ‪ ،‬ص ‪.22‬‬ ‫ مالك بن نيب ‪ 5‬تأمالت ‪ ،‬ط‪ ،1‬دار الفكر ‪ ،‬دمشق ‪6446‬ـ ‪ ،‬ص ‪.612 – 646‬‬‫ مالك بن نيب ‪ 5‬مشكلة الثقافة ‪ ،‬ترمجو عبد الصبور شاىُت ‪ ،‬ط‪ ، 4‬دار الفكر دمشق ‪6434‬ـ ‪ ،‬ص‬‫‪.22 – 64‬‬ ‫‪04‬‬


‫تفكُّر ‪ ،‬جملد (‪ ،)31‬العدد (‪2013 ، )2-3‬م‪1434/‬هـ‬

‫الفلسفة وفلسفة العلوم‬

‫والروحي‪.1‬واعتّب ابن نيب أ ّف ىذا التعريف يضم بُت دفتيو فلسفة اإلنساف وفلسفة اجلماعة‬ ‫أي مقومات اإلنساف ومقومات اجملتمع‪.2‬‬ ‫وكما يرى زكي ادليالد فإ ّف ىذا التعريف يتصف بعمومية شديدة ويفتقد إىل الضبط‬

‫الدقيق والتحديد الصارـ وإف كاف من التعاريف ادلعتّبة‪ 3‬ويتكوف ىذا التعريف – حسب‬ ‫ادليالد – من العناصر التالية‪5‬‬

‫أوالً‪ :‬رلموعة من الصفات اخللقية حيث يعتقد ابن نيب أ ّف أساس كل ثقافة ىو تركيب‬ ‫وتأليف لعامل األشخاص وفق منهج تربوي يأخذ صورة فلسفة أخالقية‪.‬‬ ‫ثانياً‪ :‬والقيم االجتماعية حيث يعتقد ابن نيب أف عامل األشخاص ال ديكن أف يكوف ذا‬ ‫فعاؿ إال إذا نُظم وربوؿ إىل تركيب والفرد ادلنعزؿ حسب رأيو ال‬ ‫نشاط اجتماعي ّ‬ ‫ديكن أف يستقبل الثقافة وال أف يرسل إشعاعها‪.‬‬

‫ثالثاً‪ :‬اليت تؤثر يف الفرد منذ والدتو حيث يذىب ابن نيب إىل أ ّف الفرد منذ والدتو يكوف‬ ‫غارقاً يف عامل األفكار واألشخاص واألشياء اليت يعيش معها يف حوار دائم وىي‬ ‫تكوف اطاره الثقايف الذي خياطب كل تفصيل ‪.‬‬ ‫اليت ّ‬

‫رابعاً‪ :‬وتصبح ال شعورياً العالقة اليت تربط سلوكو بأسلوب احلياة يف الوسط الذي ولد فيو‬ ‫حيث إ ّف مقاييسنا الذاتية ىي اليت رب ّدد سلوكنا االجتماعي يف عمومو كما ربدد‬ ‫موقعنا أماـ ادلشكالت قبل أف تتدخل عقولنا‪.4‬‬ ‫إف كاف مالك بن نيب من أميز من كتبوا يف الثقافة دراسات تعتّب األكثر خّبة‬ ‫ونضجاً وسباسكاً يف العامل اإلسالمي فإ ّف ىذا الرصيد العلمي الذي أصلزه ىو وليد احتكاكو‬

‫‪ 1‬ابن نيب ‪ 5‬شروط النهضة ‪ ،‬ترمجة عمر كامل مسقاوي وعبد الصبور شاىُت ‪ ،‬ط‪ ، 2‬دار الفكر دمشق‬ ‫‪6414‬ـ ‪ ،‬ص ‪.620 – 621‬‬ ‫‪ 2‬ابن نيب ‪ 5‬مشكلة الثقافة ‪ ،‬ص ‪ .24‬وراجع عرضاً موسعاً لنظرية الثقافة عند مالك بن نيب يف ‪ 5‬زكي‬ ‫ادليالد ‪ 5‬ادلسألة الثقافية ‪ ،‬ص ‪، 12 – 22‬‬ ‫‪ 3‬ادلسألة الثقافية ‪ ،‬ص ‪12‬‬ ‫‪ 4‬ادليالد ‪ 5‬ادلسألة الثقافية ‪ ،‬ص ‪.16 – 10‬‬ ‫‪05‬‬


‫أ‪.‬د‪ .‬عبداهلل محمد األمين النعيم‬

‫مفهوم الثقافة ‪.....‬مراجعة نقدية‪...‬‬

‫وخّبتو بالثقافة الغربية‪ ،‬وىناؾ من ادلفكرين ادلسلمُت من ُولد يف حضن تلك الثقافة وتشبع‬ ‫هبا وحاوؿ اخلروج برؤية إسالمية للثقافة فعلى سبيل ادلثاؿ فإ ّف دراسات علي عزت‬ ‫بيجوفيتش حاولت تأصيل ىذا ادلوضوع منطلقاً من موقف فلسفي لو عالقة بطبيعة الرؤية إىل‬ ‫اإلنساف والدين واحلياة والكوف يف ربديد تصور ُكلي وهنائي لكل من الثقافة واحلضارة لكي‬ ‫يقطع بينهما قطعاً هنائياً وجازماً‪. 1‬‬ ‫إ ّف الثقافة عند بيجوفيتش تبدأ بالتمهيد السماوي دبا اشتمل عليو من دين وفن‬ ‫وأخالؽ وفلسفة ‪ ،‬فالثقافة تعٍت بعالقة اإلنساف بتلك السماء اليت ىبط منها وكل شئ يف‬ ‫إطار الثقافة إما تأكيد أو رفض أو شك أو تأمل يف ذكريات ذلك األصل السماوي‬ ‫لإلنساف فالثقافة تتميز هبذا اللغز وتستمر ىكذا خالؿ الزمن يف نضاؿ مستمر حلل ىذا‬ ‫اللغز‪. 2‬‬ ‫والثقافة – عند بيجوفيتش – ىي تأثَت ال ّدين على اإلنساف أو تأثَت اإلنساف على‬ ‫نفسو بينما احلضارة ىي تأثَت الذكاء على الطبيعة أو العامل اخلارجي ‪ ،‬والثقافة معناىا " الفن‬ ‫الذي يكوف بو اإلنساف إنساناً" أما احلضارة فتعٍت "فن العمل والسيطرة وصناعة األشياء‬ ‫ص ناعة دقيقة" ‪ ،‬الثقافة ىي‪" 5‬اخللق ادلستمر للذات" ‪ ،‬أما احلضارة فهي "التغيَت ادلستمر‬ ‫التقدـ التقٍت‬ ‫للعامل" ‪ ،‬وىذا تضاد اإلنساف والشئ‪ ،‬اإلنسانيو والشيئية‪ ،‬احلضارة ىي استمرار ُ‬ ‫الشعور األبدي باالختيار والتعبَت عن حرية اإلنساف ‪ ،‬احلضارة‬ ‫الروحي ‪ ،‬أما الثقافة فهي ُ‬ ‫ال ُ‬ ‫تعزز التبادؿ ادلادي بُت اإلنساف والطبيعة ‪ ،‬وتغري اإلنساف باحلياة الّبانية على حساب‬ ‫ّ‬ ‫حياتو اجلوانية ‪ ،‬أما الثقافة فتميل إىل التقليل من احتياجات اإلنساف أو احلد من إشباعها‬ ‫وهبذه الطريقة توسع يف آفاؽ احلرية اجلوانية لإلنساف‪.3‬‬ ‫‪ 1‬ادليالد ‪ 5‬ادلسألة الثقافية ‪ ،‬ص ‪.24‬‬ ‫‪ 2‬علي عزت بيجوفيتش ‪ 5‬اإلسالـ بُت الشرؽ والغرب ‪ ،‬ترمجة زلمد يوسف عدس‪ ،‬ط‪ ، 6‬مؤسسة العلم‬ ‫حلديث ‪ ،‬بَتوت ‪6444‬ـ ‪ ،‬ص ‪ .44‬والحظ التقارب بُت مفهوـ الثقافة عند بيجوفيتش ومفهوـ‬ ‫احلضارة عند بن نيب يف شروط النهضة فهما متشاهباف رغم اختالؼ ادلفهومُت‪.‬‬ ‫‪ 3‬بيجو فيتش ‪ 5‬اإلسالـ بُت الشرؽ والغرب ‪ ،‬ص ‪.41 – 44‬‬ ‫‪06‬‬


‫تفكُّر ‪ ،‬جملد (‪ ،)31‬العدد (‪2013 ، )2-3‬م‪1434/‬هـ‬

‫الفلسفة وفلسفة العلوم‬

‫ويذكر بيجوفيتش أ ّف "التناقض بُت الثقافة واحلضارة يقوـ يف الواقع على تعارض‬ ‫أساس بُت الضمَت والعقل‪ ...‬بُت الوجود والطبيعة ‪ ،‬أو على ادلستوى العملي بُت الدين‬ ‫والعلم‪ ...‬كل ثقافة مؤمنة يف جوىرىا وكل حضارة ملحدة"‪ ...1‬وىكذا فإ ّف بيجوفيتش جعل‬ ‫الثقافة يف حالة عداء مع احلضارة ونقد مستمر ذلا غَت أنو يذكر "إ ّف نقد احلضارة ليس دعوة‬ ‫لرفضها فاحلضارة ال ديكن رفضها حىت لو رغبنا يف ذلك ‪ ،‬إمنا الشئ الوحيد الضروري‬ ‫وادلمكن ىو أف ضلطم األسطورة اليت ربيط هبا فإ ّف ربطيم ىذه األسطورة سيؤدي إىل مزيد‬ ‫من أنسنة ىذا العامل وىي مهمة تنتهي بطبيعتها إىل الثقافة‪.2‬‬ ‫لقد خاض بيجوفيتش يف ذات الصراع الذي خاض فيو الفرنسيوف واألدلاف حوؿ‬ ‫ماىية الثقافة ‪ ،‬وجاءت نتائج دراستو للثقافة متوافقة مع الفكرة االدلانية عنها ‪ ...‬كما‬ ‫نالحظ الربط الوثيق بُت الدين والثقافة عند بيجوفيتش وىو يف ىذا ينحو منحى توماس‬ ‫إليوت يف ربطو بُت الدين الثقافة حيث ديكن استنباط مكونات العالقة بُت الدين والثقافة‬ ‫عند إليوت وإمجاذلا يف اآليت‪-5‬‬ ‫‪ -6‬كل ثقافة ظهرت جبانب دين‪.‬‬ ‫‪ -2‬خطأ االنفصاؿ وخطأ ادلطابقة بُت الثقافة والدين‪.‬‬ ‫‪ -2‬يكوف التطابق الكلي بُت الثقافة وال ّدين يف اجملتمعات البدائية‪.‬‬ ‫‪ -4‬وحدة وتبادؿ التأثَت بُت الثقافات ادلتع ّددة‪.‬‬ ‫‪ -1‬إ ّف تكوين دين ىو تكوين ثقافة أيضاً‪.‬‬ ‫‪3‬‬ ‫‪ -1‬ال ّدين قوة رئيسية يف خلق ثقافة مشًتكة بُت شعوب متع ّددة الثقافات ‪.‬‬ ‫أما عن عالقة الثقافة والدين يف ادلنظور اإلسالمي فإ ّف لإلسالـ ذبربة يف احلضارة‬ ‫والتمدف تبلورت فيها ىذه العالقة وتنامت ‪ .‬واحلديث عن ىذه العالقة ال يكتمل إذا مل‬ ‫‪ 1‬نفس ادلصدر ‪ ،‬ص ‪.40‬‬ ‫‪ 2‬بيجوفيتش ‪ 5‬اإلسالـ بُت الشرؽ والغرب ‪ ،‬ص ‪.622‬‬ ‫‪ 3‬توماس إليوت ‪ 5‬مالحظات حوؿ تعريف الثقافة ‪ ،‬ترمجة شكري عياد ‪ ،‬القاىرة‪ ،‬اذليئة ادلصرية العامة‬ ‫للكتاب ‪ ،‬القاىرة ‪2006‬ـ ‪ ،‬ص ‪ . 624 – 622 ، 42 – 26‬وراجع مكونات نظرية الثقافة عند‬ ‫إليوت يف ‪ 5‬ادليالد ‪ 5‬ادلسألة الثقافية ‪ ،‬ص ‪.661 – 44‬‬ ‫‪07‬‬


‫أ‪.‬د‪ .‬عبداهلل محمد األمين النعيم‬

‫مفهوم الثقافة ‪.....‬مراجعة نقدية‪...‬‬

‫تدرس يف إطار اإلسالـ ومعارفو وخّباتو ‪ ،‬فاإلسالـ صنع ثقافة جديدة ع ّدت من الثقافات‬ ‫اإلنسانية العادلية الكّبى ‪ ،‬وال ّدين ىو الذي صنع الثقافة ‪ ،‬واربدت العالقة بينهما مع نزوؿ‬ ‫أوؿ آية "أقرأ" وال ّدين ليس بديالً عن الثقافة‪. 1‬‬ ‫الخاتمة‪:‬‬ ‫إ ّف من الصعب تصور ثقافة رلردة وزلايدة أي ال ترتبط خبلفيات تارخيية أو مذىب‬ ‫عقائدي أو ايديولوجيا ذلا فلسفتها يف الوجود تقيم عليها تصوراهتا ‪ .‬وىذا اجلانب التصوري‬ ‫– أي ادلرجعية الدينية – ينبغي االنتباه لو يف كل تعريف للمفهوـ يتوافق عليو ادلشتغلوف بعلم‬ ‫من العلوـ وحيث أف للثقافة تعاريف كثَتة فإ ّف يف اإلمكاف االستفادة منها مجيعاً‪.‬‬ ‫إ ّف الثقافة قد منت – كمفهوـ – يف ظل العلوـ االجتماعية أو االنثربولوجيا دبعٌت‬ ‫أدؽ ومن مثّ قاـ فالسفة العلوـ باستلهاـ تعريفات االنثربولوجيُت للثقافة وبنوا عليها‬ ‫معارفهم‪ .‬لذلك شاع ىذا ادلفهوـ يف العلوـ الغربية ‪ ،‬كما أف الصراع بُت الفرنسيُت واألدلاف‬ ‫يف ربديد ىذا ادلفهوـ قد ساىم إىل حد بعيد يف منوه وتطوره لدى الغربيُت‪.‬‬ ‫أما يف اجلانب اإلسالمي فإ ّف الثقافة مل زبرج من اطارىا اللغُوي وداللتو وتتجذر يف‬ ‫الفكر اإلسالمي كمفهوـ لو زلتواه ‪ ،‬ىذا مع اعتقادنا الراسخ أف احملتوى ادلعريف دلفهوـ الثقافة‬ ‫الغريب كما ىو اآلف قد جرى تشغيلو يف العلوـ اإلسالمية قددياً دوف أ ْف يسمى ثقافة ذلك أ ّف‬ ‫علماء السلف ادلسلمُت كانوا فيما يكتبوف إمنا يكتبوف علوماً – حسب تصورىم – وإف كاف‬ ‫قد جرى تصنيف العلوـ فيما بعد بداية باإلماـ الغزايل إىل علوـ دين ودنيا وشريفة ووضيعة‬ ‫وشلدوحو ومذمومة ليتح ّدد الفرؽ بُت ما ىو "علم" وما ىو "ثقافة" يتثقف هبا الناس‪.‬‬

‫‪ 1‬ادليالد ‪ 5‬ادلسألة الثقافية ‪ ،‬ص ‪662‬‬ ‫‪08‬‬


‫تفكُّر ‪ ،‬جملد (‪ ،)31‬العدد (‪2013 ، )2-3‬م‪1434/‬هـ‬ ‫المراجع‬

‫الفلسفة وفلسفة العلوم‬

‫المراجع العربية‪:‬‬ ‫‪ -1‬أنور عبد الملك ‪ 5‬تاريخ الشرؽ‪ ،‬ط‪ ،6‬دار ادلستقبل العريب ‪ ،‬القاىرة ‪6432‬ـ‪.‬‬ ‫‪ -2‬توماس اليوت ‪ 5‬مالحظات حوؿ تعريف الثقافة ‪ ،‬ترمجة شكري عياد ‪ ،‬القاىرة‪ ،‬اذليئة‬ ‫ادلصرية العامة للكتاب ‪ ،‬القاىرة ‪2006‬ـ‪.‬‬ ‫‪ -3‬تيري إيجلتون ‪ 5‬فكرة الثقافة ‪ ،‬ترمجة ثائر ديب ‪ ،‬دار احلوار ‪ ،‬الالذقية ‪2000‬ـ ‪.‬‬ ‫‪ -4‬دنيس كوش ‪ 5‬مفهوـ الثقافة يف العلوـ االجتماعية ‪ ،‬ترمجة د‪ .‬منَت السعداين ‪ ،‬ادلنظمة‬ ‫العربية للًتمجة ‪ ،‬مركز دراسات الوحدة العربية ‪ ،‬بَتوت ‪ ،‬مارس ‪2002‬ـ‪.‬‬ ‫‪ -5‬رالف لنتون ‪ 5‬االنثربولوجيا وأزمة العامل احلديث ‪ ،‬ترمجة عبد ادللك الناشف ‪ ،‬ادلكتبة‬ ‫العصرية ‪ ،‬بَتوت ‪6412‬ـ ‪.‬‬ ‫‪ - -6‬رالف لنتون ‪ 5‬األصوؿ احلضارية للشخصية ‪ ،‬ترمجة عبد احلميد اللباف ‪ ،‬دار اليقظة‬ ‫العربية ‪ ،‬بَتوت ‪6414 ،‬ـ‪.‬‬ ‫‪ -7‬زكي الميالد ‪ 5‬ادلسأل ة الثقافية ‪ ...‬من أجل بناء نظرية يف الثقافة ‪ ،‬ادلركز الثقايف العريب‬ ‫‪ ،‬ط‪ ، 6‬الدار البيضاء ‪ ،‬ادلغرب ‪2001‬ـ‪.‬‬ ‫‪ -8‬سالمة موسى ‪ 5‬الثقافة واحلضارة ‪ ،‬رللة اذلالؿ‪ ،‬القاىرة ديسمّب ‪6422‬ـ‪.‬‬ ‫‪ -9‬الطيب زين العابدين‪ 5‬مؤسبر ادلنهجية اإلسالمية والعلوـ السلوكية والًتبوية ‪ ،‬ج‪، 2‬‬ ‫ربرير الطيب زين العابدين ‪ ،‬ادلعهد العادلي للفكر اإلسالمي ‪ ،‬ط‪ ،6‬ىَتندف‪ ،‬أمريكا‬ ‫‪6442‬ـ‪.‬‬ ‫‪ -11‬عبد الوىاب ادلسَتي ‪ 5‬التحيُّز رؤية معرفية ودعوة لالجتهاد" ربرير د‪ .‬عبد الوىاب‬ ‫ادلسَتي‪ ،‬ادلعهد العادلي للفكر اإلسالمي ‪،‬ط‪ ،2‬امريكا ‪6441‬ـ ‪.‬‬ ‫‪ -11‬د‪ .‬عبد القادر هاشم رمزي ‪ 5‬النظرية اإلسالمية يف فلسفة الدراسات االجتماعية‬ ‫والًتبوية ‪ ،‬ط‪ ، 6‬دار الثقافة ‪ ،‬الدوحة ‪6434‬ـ‪.‬‬ ‫‪ -12‬علوي الصافي ‪ 5‬تعريف الثقافو ومفهومها ‪ ،‬رللة الفيصل العدد ‪ ،642‬السعودية ‪،‬‬ ‫الرياض ‪ ،‬ديسمّب ‪6434‬ـ‪.‬‬ ‫‪11‬‬


‫أ‪.‬د‪ .‬عبداهلل محمد األمين النعيم‬

‫مفهوم الثقافة ‪.....‬مراجعة نقدية‪...‬‬

‫‪ -13‬علي عزت بيجوفيتش ‪ 5‬اإلسالـ بُت الشرؽ والغرب ‪ ،‬ترمجة زلمد يوسف عدس‪،‬‬ ‫ط‪ ، 6‬مؤسسة العلم حلديث ‪ ،‬بَتوت ‪6444‬ـ‪.‬‬ ‫‪ -14‬فضل اهلل محمد اسماعيل ‪ 5‬االيديولوجيا وفلسفة احلضارة ‪ ،‬ط‪ ، 6‬مكتبة بستاف‬ ‫ادلعرفة ‪ ،‬مصر ‪2001‬ـ‪.‬‬ ‫‪ -15‬قسطنطين زريق ‪ :‬يف معركة احلضارة ‪ ،‬ط‪ ،6‬دار العلم للماليُت‪ ،‬بَتوت‬ ‫‪6414‬ـ‪.‬‬ ‫‪ -16‬كاليد كلوكلهون ‪ 5‬اإلنساف يف ادلرآة ‪ ،‬عالقة االنثروبولوجي باحلياة ادلعاصرة ‪ ،‬ترمجة‬ ‫د‪ .‬شاكر مصطفى ‪ ،‬ادلكتبة األىلية ‪ ،‬بغداد ‪6414‬ـ‪.‬‬ ‫‪ -17‬مالك بن نبي ‪ 5‬تأمالت ‪ ،‬ط‪ ،1‬دار الفكر ‪ ،‬دمشق ‪6446‬ـ‪.‬‬ ‫‪ -18‬مالك بن نبي ‪ 5‬مشكلة الثقافة ‪ ،‬ترمجو عبد الصبور شاىُت ‪ ،‬ط‪ ، 4‬دار الفكر‬ ‫دمشق ‪6434‬ـ‪.‬‬ ‫‪ -19‬مالك ابن نبي ‪ 5‬شروط النهضة ‪ ،‬ترمجة عمر كامل مسقاوي وعبد الصبور شاىُت ‪،‬‬ ‫ط‪ ، 2‬دار الفكر دمشق ‪6414‬ـ‪.‬‬ ‫‪ -21‬مجلة التوحيد العدد ‪ ، 31‬السنة (‪ )61‬رمضاف ‪6462‬ىػ "شباط ‪6442‬ـ"‬ ‫مؤسسة الفكر اإلسالمي والتوحيد للنشر الثقايف ‪ ،‬طهراف ‪ ،‬مقاؿ‪ 5‬الثقافة اإلسالمية‬ ‫‪ ،‬ادلفهوـ وادلضموف ‪ ،‬أجزاء من مشروع االسًتاتيجية الثقافية الذي أقرتو منظمة ادلؤسبر‬ ‫اإلسالمي ‪.‬‬ ‫‪ -21‬المنظمة العربية للتربية والثقافة والفنون ‪ 5‬اخلطة الشاملة للثقافة العربية ‪ ،‬سلسلة‬ ‫ادلفاىيم ‪ ،‬حزمة رقم (‪ ، )6‬ادلعهد العادلي للفكر اإلسالمي‪ ،‬ىَتندف‪ ،‬أمريكا‪.‬‬ ‫‪ -22‬يوسف نور عوض ‪ 5‬ادلقومات اإلسالمية للثقافة العربية ‪ ،‬دار القلم ‪ ،‬بَتوت‬ ‫"ب‪.‬ت"‪.‬‬ ‫‪ -23‬ميكائيل تومبسون وآخرون ‪ 5‬نظرية الثقافة ‪ ،‬ترمجة د‪ .‬علي سيد الصاوي ‪ ،‬سلسلة‬ ‫عامل ادلعرفة (‪ ، )22‬ط‪ ، 6‬الكويت يوليو ‪6442‬ـ ‪.‬‬ ‫‪10‬‬


‫الفلسفة وفلسفة العلوم‬

‫هـ‬1434/‫م‬2013 ، )2-3( ‫ العدد‬،)31( ‫ جملد‬، ‫تفكُّر‬ :‫المراجع االنجليزية‬

1. Alfred Louis Kroeber: The Nature of Culture. Chicago, university of Chicago press 1958. 2. E.B.Tylor: Primitive Culture, Brentanos, New York 1924. 3. Gabriel A. Almond and Sidney verba: The Civic Culture: Political Attitudes and Demo cracy in Five Nation, Princeton university press 1963. 4. Krobeir and kluckhon, culture: Acritical of Conception and Definition, Harvard 1952. 5. Ruth Benedict, Patterns of Culture,Boston, Houghton Mifflin 1934. 6. R.Bierstedt, The Social order, New York , Mcgraw hill 1963. 7. Winer, Philip ed: Dictionary of the History of ideas, Charles Scribners Sons ,New York 1973.

11


‫الدين والثقافة‬ ‫تبادلية الدور والمكانة‬ ‫مقدمة‪:‬‬

‫د‪ .‬قيس محمود حامد*‬

‫يدور نقاش عميق بُت اؼبشتغلُت يف ؾباؿ العلوـ اإلنسانية عن الدور الذي يلعبو كبلً‬ ‫من الدين والثقافة يف بناء اجملتمع واغبفاظ عليو‪ ،‬ويف ىذا السياؽ يطرح ىذا البحث عدداً‬ ‫من األسئلة مثل أيهما أوسع مفهوماً وأبعد مدى وأيهما أسبق يف الوجود على اآلخر وبالتايل‬ ‫أيهما مؤثر وأيهما متأثر باآلخر ‪ .‬ودبا أ ّف ىذه القضية حيوية جداً وذات انعكاسات خطَتة‬ ‫على اغبياة و على العلم يف آف معاً أردنا أف نديل بدلونا فيها علنا نسهم يف توضيح البٌت‬ ‫اؼبفهومية والًتكيبة لعنصرين مل يشهد التاريخ ظهور ؾبتمع خايل من أي منهما وال نظن أف‬ ‫اؼبستقبل سيختلف عن ذلك ‪.‬‬

‫مفهوم الثقافة‪:‬‬

‫تعٍت الثقافة يف نظر علماء االجتماع جوانب اغبياة االنسانية اليت يكتسبها اإلنساف‬

‫بالتعلم ال بالوراثة‪.‬و اليت يشًتؾ أ عضاء اجملتمع بعناصر الثقافة تلك اليت تتيح ؽبم ؾباالت‬ ‫التعاوف و التواصل و سبثل ىذه العناصر السياؽ الذي يعيش فيو أفراد اجملتمع‪ ،‬وتتألف ثقافة‬ ‫اجملتمع من جوانب مضمرة غَت عيانية مثل اؼبعتقدات و اآلراء والقيم اليت تشكل اؼبضموف‬ ‫اعبوىري للثقافة‪ ،‬ومن جوانب عيانية ملموسة مثل ‪:‬األشياء و الرموز أو الثقافة اليت تشكل‬ ‫ىذا اؼبضموف‪.‬‬

‫‪1‬‬

‫إ ّف اجملاؿ الداليل الذي يشَت إليو مصطلح الثقافة "‪ "Culture‬ىو ؾباؿ واسع‬ ‫ومعقد ولو تاريخ متشابك حبيث مل يعد فبكناً من الناحية العملية التعامل مع ىذا اؼبصطلح‬ ‫على أنو يشَت إىل موضوع مستقل بذاتو ‪ٍ ،‬ب إ ّف حقيقة وجود عبارات مشتقة منو وبصيغة‬

‫* أستاذ مساعد‪ ،‬معهد إسبلـ اؼبعرفة ‪،‬جامعة اعبزيرة ‪ ،‬ودمدين ‪ ،‬السوداف‪.‬‬ ‫‪1‬‬ ‫الصباغ‪،‬اؼبنظمة العربية للًتصبة‪ ،‬الطبعة األوىل‪،2005‬‬ ‫أنتوين غدنر‪ ،‬علم االجتماع‪،‬ترصبة وتقدمي فايز ُ‬ ‫ص‪.82‬‬


‫تفكُّر ‪ ،‬جملد (‪ ،)31‬العدد (‪2013 ، )2-3‬م‪1434/‬هـ‬

‫الفلسفة وفلسفة العلوم‬

‫اعبمع "الثقافات" "‪ "Cultures‬يدؿ على موضوع ـبتلف كلياً عما يشَت إليو البعض‬ ‫دبصطلح الثقافة أي دبعٌت أنو يشَت إىل علم واحد مستقل بذاتو‪. 1‬‬ ‫واألىم من ذلك ىل كبن نتعامل مع نظاـ حياة أـ مع علم ‪ ،‬إف كاف ذلك علم‬ ‫فهل ىو واح ٌد بذاتو أـ متعدد؟ الواقع أف األمر ليس سهل التحديد فما ىو موجود ىناؾ‬ ‫ليس الثقافة وإمبا ىو واحداً من مكوناهتا‪ ،‬أعٍت الرمز أو العرؼ أو العادات و التقاليد ‪،‬فأيّاً‬ ‫من ىذه اؼبكونات اليبكن أف نطلق عليها منفردة مصطلح ثقافة ‪ ،‬و بالتايل فإ ّف الثقافة ىي‬ ‫بالضرورة إنتقائية و نسقية‪.‬وهبذا الوصف فهي علم ‪.‬أراد الباحث بإثارة ىذه النقطة لفت‬ ‫اإلنتباه إىل ضرورة الفصل و التمييز بُت –اؼبفهوـ‪ /‬العلم‪ -‬وبُت الواقع الذي يعاعبو ىذا‬ ‫العلم‪ .‬و من ٍب فإ ّف اؼبعاعبة اليت يقوـ هبا الباحث لبياف التبادلية يف الدور و اؼبكانة تشمل‬ ‫اإلثنُت معاً الثقافة باعتبارىا دراسة نسقية أو علم و الثقافة باعتبارىا نظاماً معيشاً‪،‬‬ ‫وباختصار ساستعُت بتفسَت كولَت وتوماس للثقافة بوصفها سباىي شخص مع ؾبموعة سبتلك‬

‫نظاماً مشًتكاً متناقبلً تارىبياً من الرموز واؼبعاين واألعراؼ السلوطية ومقبولة قبوالً قائماً على‬

‫االدراؾ‪.2‬‬ ‫وإذا أردنا أف نشَت إىل الكلمات اؼبفتاحية يف التعريف السابق فهما ببل شك‬ ‫_سباىي و إدراؾ – فالقبوؿ التمثيلي لتلك اؼبكونات من قبل ؾبموعة من األشخاص ىو ما‬ ‫هبعلها ترقى ألف تكوف ثقافة أو على األقل سبكننا من إطبلؽ ىذا اؼبفهوـ عليها‪ ،‬ولكن‬ ‫الشرط اآلخر ليس أقل أنبية من األوؿ و ىو( الوعي) أي أف يكوف القبوؿ قبوالً واعياً لتلك‬ ‫الرموز واألعراؼ و اؼبعاين ‪ ،‬وىذا يعٍت بالضرورة أف تلك اؼبكونات ال يبكن أف نطلق عليها‬ ‫ثقافة وىي ‪-‬ىناؾ‪ -‬أي يف معزؿ عن سبثل الناس ؽبا ‪ .‬وبالتايل تكوف الثقافة بكلمة موجزة‬ ‫‪ .1‬كوليٍت ‪،‬ستيفاف ‪،‬اغبديث عن مصطلح الثقافة ‪::‬ترصبة عمر عطاري‪ ،‬الثقافة العاؼبية ‪،‬العدد ‪ 11‬سبتمرب‬ ‫‪2002‬ـ‪ ،‬ص‪. 168‬‬ ‫‪ 2‬فاف بيَت ‪،‬ويلي صخب ونبس حوؿ التعددية الثقافية ‪ ،‬ترصبة معصومة حبيب ‪،‬عامل الثقافة‪،‬ع ‪112‬‬ ‫‪،‬مايو ‪2002‬ـ‪ ،‬ص‪.138‬‬ ‫‪46‬‬


‫د‪.‬قيس محمود حامد‬

‫الدين والثقافة‪ ،‬تبادلية الدور واملكانة‬

‫ىي دائرة نشاط اإلنساف اؼبتحققة على األرض فعبلً مستقراً ‪ ،‬والراسخة فيمن يدب فوقها‬ ‫من البشر أثراً باقياً ‪ ،‬أو ىي كما يصفها '‪" R. Williams‬كل طريقة للحياة يعيشها‬ ‫الناس" أما الدراسات الثقافية ‪ ،‬فهي ذبميع أطياؼ ـبتلفة تشبو يف ذبمعها ألواف قوس قزح‬ ‫اؼبتنوعة ‪ ،‬وىذه االطياؼ اؼبتنوعة ىي ما تضمو النظرية النقدية اؼبعاصرة وحسب نقاد من‬ ‫أمثاؿ ادوارد سعيد وباربارا جونسوف وستيوارت مولًتوب وغَتىم ‪ ،‬فإ ّف الدراسات النظرية‬ ‫تبقى حيوية يف ؿبيط األسئلة العامة ‪ ،‬واليت نادراً ما تتوحد يف برنامج واحد يضم على كبو‬ ‫‪1‬‬ ‫جيد كل اىتماماهتا وأنظمتها‬ ‫فالدراسات الثقافية ليست علماً ولكنها نسق ؿبدد من البٌت النظرية اليت تعٌت‬ ‫بالشأف اإلنساين‪ ،‬واليت يبكن أف تنظر إىل أو يف مكوف واحد أو أكثر من مكونات الثقافة‪.‬‬ ‫وىذا (النظر) ليس ؿبايداً بالضرورة ولكنو ؿبمل بأيدولوجيا الناظر أو ؿبكوـ بزاوية النظر على‬ ‫األقل ومن ىنا يأٌب اإلختبلؼ بُت ؾبمل النظريات يف الدراسات الثقافية ‪ ،‬وىو أمر ليس‬ ‫بعيداً عن الدرسات الدينية‪ .‬ولكن بالرغم من كل ذلك فإف مصطلح الثقافة ال يزاؿ اظباً ذا‬ ‫قيمة يذكرنا بتلك القيم اليت عادة ما يهملها أصحاب الثروة والنقود يف العامل ومن ىذا‬ ‫اؼبنظور فإ ّف مصطلح الثقافة ال يزاؿ ينطوي على مفهوـ أخبلقي ويلمح إىل النتائج اليت‬ ‫سعت إليها ال نشاطات اإلنسانية اػبالية من اؼبصاحل الشخصية اليت ىدفت إىل اكتشاؼ‬ ‫وتوسيع القدرات اإلنسانية ‪ ،‬وسبثل النشاطات الفكرية والفنية على سبيل اؼبثاؿ ال اغبصر‬ ‫امبوذجاً ؽبا ‪ ،‬ويلمح اؼبصطلح كذلك إىل تأثَت ىذه النتائج يف العمليات اليت تتحكم فيها‬ ‫غايات نفعية‪ 2 .‬و الثقافة هبذه الصور أوسع مدى من الناحية اؼبفهومية من الدين ‪ ،‬إذ‬ ‫تتضمن الدين ضمن ما يتم سبثلو ثقافياً وسوؼ نرى أف ىذا الوضع سوؼ ينعكس يف مرحلة‬ ‫أخرى من مراحل التداخل بُت اجملالُت عند تناولنا للدين‪.‬‬ ‫‪ 1‬الرباعي‪،‬عبد ال قادر ‪ ،‬ثقافة النقد ونقد الثقافة قراءة يف ربوالت النقد الثقايف ‪،‬عامل الفكر ع ‪33‬‬ ‫يناير مارس ‪2005‬ـ‪ ،‬ص ‪.211‬‬ ‫‪2‬كوليٍت ‪،‬ستيفاف ‪،‬اغبديث عن مصطلح الثقافة‪ ،‬ترصبة عمر عطاري‪ ،‬ص ‪175‬مرجع سابق‪.‬‬ ‫‪47‬‬


‫تفكُّر ‪ ،‬جملد (‪ ،)31‬العدد (‪2013 ، )2-3‬م‪1434/‬هـ‬

‫الفلسفة وفلسفة العلوم‬

‫ثقافة ‪ -‬ثقافات‬

‫إذا توخينا إحراز تقدـ يف دراستنا لبلختبلفات الثقافية ‪ ،‬فإ ّف ىناؾ شرطاً أساسياً ال‬

‫غٌت عنو لتحقيق ىذا التقدـ وىو أف يتوفر لدينا وصف منصف وموثوؽ بو ؽبذه الثقافات ‪،‬‬ ‫وما دامت لدينا معلومات خاطئة سباماً عن بعضنا بعضاً أو تنقصها اؼبصداقية غبد كبَت ‪ ،‬فإ ّف‬ ‫معرفتنا ستكوف ىزيلة وناقصة وسنبقى ضحايا ألوىامنا‪ .1‬قد يكوف فهم الثقافة واستيعاهبا‬ ‫من اػبارج عملية بالغة الصعوبة‪ .‬فنحن ال نستطيع أف نفهم اؼبمارسات و اؼبعتقدات دبعزؿ‬ ‫عن النطاؽ الثقايف األوسع الذي تكوف جزءاً من مكوناتو و عناصره‪ ،‬ومن ىنا فإنو ينبغي‬ ‫دراسة الثقافة يف إطارىا و دبوجب دالالهتا اػباصة‪ .‬وتلك ىي واحدة من اإلفًتاضات‬ ‫الرئيسية يف علم االجتماع‬

‫‪.2‬‬

‫فالتعرؼ األمثل على الثقافة يكوف عن طريق اؼبعايشة و اؼببلحظة الفعالة عن قرب‬ ‫أو بصورة أخرى دراسة الثقافة "‪ "from within‬وبتحقيق ىذه اػبطوة يتبُت لنا أ ّف‬ ‫ىناؾ ثقافات وليس ثقافة واحدة ‪ ،‬فالدراسة من قرب تبُت ىذه اغبقيقة و اليت ال ينبغي أف‬ ‫تسبب أي إزعاج للمشتغل بالدراسات الثقافية‪ ،‬و مثل ىذه الشروط اؼبسبقة تقع يف خانة‬ ‫اؼباوراء أي ىي الشروط اليت ربكم العلم و تشكل إطاره العاـ‪ ،‬بناءً على ذلك تشكل يف‬ ‫العقود األخَتة من القرف العشرين إذباه أو قوؿ خطاب عرؼ خبطاب ما بعد الثقافة‪ ،‬أو‬ ‫ماوراء الثقافة‪ ،‬يقوؿ موؽبَتف أ ّف الدافع الثابت من وراء مفهوـ اػبطاب ما بعد الثقايف ‪ ،‬ىو‬

‫عزؿ السياسة كشكل من اشكاؿ السلطة االجتماعية وىذه الرؤية تستمد أسس صحتها‬

‫بشكل أوىل من اعبذور االؼبانية للمصطلح‪. 3‬ولكن ليست السلطة السياسية وحدىا ىي اليت‬ ‫هبب حذفها وإمبا ك ل البٌت الفوقية اليت تتحكم يف الثقافة كعلم أما الثقافة كحالة معيشة فهي‬ ‫‪ .1‬فاف بيَت ‪،‬ويلي ‪،‬صخب ونبس حوؿ التعددية الثقافية ‪،‬ص ‪144‬مرجع سابق‪.‬‬ ‫الصباغ‪ ،‬اؼبنظمة العربية للًتصبة‪ ،‬الطبعة األوىل‬ ‫‪2‬غدنر‪ ،‬أنتوين ‪،‬علم االجتماع ‪،‬ترصبة وتقدمي فايز ُ‬ ‫‪ ،2005‬ص‪.86.‬‬ ‫‪ 3‬كوليٍت ‪،‬ستيفاف‪ ،‬اغبديث عن مصطلح الثقافة ‪، :‬ص ‪ 177‬مرجع سابق‪.‬‬ ‫‪48‬‬


‫د‪.‬قيس محمود حامد‬

‫الدين والثقافة‪ ،‬تبادلية الدور واملكانة‬

‫يف حالة أخذ وعطاء أو تبادلية كاملة مع كل األشكاؿ و األبنية اإلجتماعية اؼبختلفة وإذا‬ ‫كاف التحكم السياسي عيب وبد من فاعليتو و قدرتو على البناء ‪ ،‬فاغباؿ ليس كذلك على‬ ‫األقل بُت الثقافة و الدين و ذلك العتبار بسيط وىو أف التبادلية تتم بينهما بتؤده وبناءً على‬ ‫ضرورات اقتضاىا حكم الوقت و اغبالة اإلجتماعية للمجتمع احملدد وال يكوف ذلك بطبيعة‬

‫اغباؿ بقرار فردي ال يبلك اجملموع حيالو سوى التنفيذ وإمبا بقرار صباعي و لكن أيضا ليس‬ ‫يف غبظة واحد ‪ ،‬فالثقافة كما عرفنا يف تعريفها ىي قبوؿ إرادي ولكنها ال تأخذ ىذا اإلسم‬ ‫إال بعد أف تكوف( حالة ) عامة‪ .‬ىذا فيما ىبص التبادلية داخل الثقافة الواحدة أما يف حالة‬ ‫العبلقة بُت أكثر من ثقافة فإ ّف القوانُت اغباكمة للتبادلية سوؼ تتغَت أل ّف التبادؿ الثقايف أو‬ ‫اؼبقايضة الثقافية يبكن أف تفقد كثَتاً من قيمتها العظمى إذا كانت إحدى الثقافات اؼبتقايضة‬ ‫تعترب ذاهتا العليا واألكثر تفوقاً بشكل عاـ ‪ ،‬وكذلك إذا اعتربىا اآلخروف ىكذا ‪ ،‬قد يقوض‬

‫ىذا القيمة العظمى للتبادؿ الثقايف ألف اعظم قيمة لو تكمن يف أنو يستدعي اذباىاً نقدياً‪،‬‬ ‫ودبزيد من التعيُت ‪ ،‬إذ بات فريق مقتنعاً بدونيتو ‪ ،‬فإ ّف االذباه النقدي حملاولة التعلم من اآلخر‬

‫سوؼ وبل ؿبلو نوع من التسليم األعمي ‪ ،‬الوثبة العمياء إىل قلب دائرة سحرية جديدة أو‬ ‫االرتداد ‪ ،‬كما يصفو فبلسفة االيباف والفبلسفة الوجوديوف ‪ .‬وكما يرى بوبر فبل بد إذف من‬

‫وجود نوع من الندية أو التكافؤ ‪ ،‬و التكافؤ ىنا ال نعٍت بو التكافؤ يف اغبالة اغبضارية أو‬ ‫القوة اؼبادية أل ّف التبادؿ ال يتم على ىذا الصعيد و إمبا نعٍت بو التكافؤ من حيث القناعة‬ ‫بالقيم الثقافية اؼبتبناه ‪ ،‬و لكن هبب التحذير ىنا أيضاً من أف تتحوؿ تلك( القناعة ) إىل‬

‫إطار أو سور عازؿ أل ّف األطر ىي السجوف وأولئك الذين يبقتوف السجوف سوؼ يبقتوف‬ ‫أسطورة اإلطار ‪،‬و سوؼ يرحبوف باؼبناقشة مع مشارؾ آت من عامل آخر من أطار آخر ‪،‬‬

‫ألف ذلك يتيح ؽبم فرصة الكتشاؼ اغبلؽبم اليت يشعروا هبا حىت اآلف ‪ ،‬وأف وبطموا تلك‬

‫االغبلؿ وبالتايل أف يتعالوا على أنفسهم‪.. 1‬‬

‫‪1‬كارؿ بوبر‪ ،‬أسطورة اإلطار يف دفاع عن العقل و العقبلنية‪ ،‬عامل اؼبعرفة ‪ ،‬الكويت‪ ،‬ص ‪.81‬‬ ‫‪49‬‬


‫تفكُّر ‪ ،‬جملد (‪ ،)31‬العدد (‪2013 ، )2-3‬م‪1434/‬هـ‬

‫الفلسفة وفلسفة العلوم‬

‫فنبذ األطر و القناعة بالتكافؤ نبا شرطاف ضرورياف للتبدؿ البُت ثقايف ‪..‬كما أ ّف‬ ‫ىناؾ عوامل أخرى ػبصها ىاملتوف جب يف التايل‪.‬‬ ‫‪ -1‬التأثَتات الثقافية تسبق دائماً بنشاط قائم فعبلً يف حقوؿ ذات صلة ‪ ،‬وزبلق ىذه‬ ‫النشاطات القائمة على عامل جذب ال يبكن بدونو قياـ أي سبثل إبداعي للثقافة‬ ‫األخرى‬ ‫‪( -2‬إ ّف االكثر نفعاً أف تأخذ ال أف تعطي ) ولكن تستدعي العناصر اؼبستعارة توسيع‬ ‫حيوية الثقافة اؼبتلقية فقط إذا استطاعت أف ربصل على غذائها من النشاطات اليت‬ ‫قادهتا إىل االستعارة أصبلً‪.‬‬ ‫‪ -3‬ترفض الثقافة و تتجاىل كل العناصر اليت تتعارض مع قيمها األساسية أو مواقفها‬ ‫العاطفية أو معايَتىا اعبمالية ‪.‬‬ ‫واضح من ذلك أ ّف ىاملتوف يعترب استيعاب التقافات قيمو إهبابية و ال‬ ‫تقتصرىذه اإلهبابية على الثقافة وحدىا وإمبا تشمل معها الدين أيضاً ‪ ،‬ولكنو يضع حداً‬

‫للمرونة حىت ال تتحوؿ إىل ميوعة تنتفي معها ذاتية الدين أو الثقافة ولعل ىذا االحًتاز ىو‬ ‫ما عرب عنو الباحث سابقاً بالتكافؤ وعدـ اإلحساس بالدونية‪ .‬ولعل ىناؾ إحًتاز البد منو‬ ‫للدارسُت للتأثَتات اؼبتبادلة البُت دينية و البُت ثقافية وىو هبب أف يقبل كقاعدة عامة أف‬ ‫التطورات والظواىر اؼبتشاهبة يف ثقافات ـبتلفة أو أدياف ـبتلفة قد ال تكوف بالضرورة نتيجة‬ ‫لتأثَت إحداىا على األخرى وإمبا قد تكوف نتيجة لظروؼ خارجية متشاهبة أو بسبب ضرورة‬ ‫دينية أو ردبا كانت بسبب تطورات بعض اؼبؤمنُت أو اعبماعة ككل أو حىت تعود إىل ؾبموعة‬ ‫من اؼبؤثرات اؼبختلفة‬

‫‪1‬‬

‫‪1‬الزاروس ‪،‬ىافا ‪ ،‬ا لفكر اإلسبلمي والفكر اليهودي بعض جوانب التأثَت الثقايف اؼبتبادؿ‪ ،‬االجتهاد‬ ‫ع‪ 28‬س ‪ .1995 - 7‬ص‪.187.‬‬ ‫‪4:‬‬


‫د‪.‬قيس محمود حامد‬

‫الدين والثقافة‪ ،‬تبادلية الدور واملكانة‬

‫فالتشابو الثقايف أو الديٍت يبكن أف يكوف عائدا إىل التشابو يف العوامل اؼبنتجة‬ ‫للظاىرة أو إىل وحدة اؼبصدر كما ىو اغباؿ يف حالة الديانات التوحيدية مثبل‪ ،‬أكثر منة‬ ‫كونو يبثل حالة استعارة من اغبضارات األخرى‪.‬ولكن ىذا ال ينفي التبادؿ البُت ثقايف وال‬ ‫ينفي كذلك البعد التارىبي و النسيب للقيم الثقافية فالقيم واؼبعايَت الثقافية تتغَت دبرور الزمن‬ ‫وكثَت من اؼبعايَت الثقافية اليت قد تكوف مألوفة يف كثَت من اجملتمعات الغربية اليوـ‪ ،‬مثل‬ ‫العبلقات اعبنسية قبل الزواج أو اؼبعاشرة اعبنسية من دوف زواج ىي من األموراليت تتناقض مع‬ ‫القيم اليت كاف وب ملها الناس قبل عدة عقود‪ .‬كما أف القيم اليت نستهدي هبا يف عبلقاتنا‬ ‫اغبميمة اليت تطورت بشكل تدرهبي وطبيعي عما كانت عليو قبل عدة سنوات‪ .‬أما اغباالت‬ ‫اليت هبري فيها تعديل القيم الثقافية وأمباط السلوؾ بصورة قسرية مقصودة‪ ،‬فتلك مسألة‬

‫أخرى)‪ 1‬ردبا تدخلنا يف ؾباؿ األيدولوجيا أ و الدراسات الثقافية اليت تكشف عن تلك‬ ‫األبعاد‪.‬‬

‫الدراسات الثقافية‪:‬‬

‫يستخدـ مصطلح الدراسات الثقافية استخداما مزدوجا‪،‬فهو من ناحية يشَت إىل‬

‫طبيعة التناوؿ من حيث اؼبنهج ‪ ،‬فالدراسات الثقافية من ىذه الناحية ىي الدراسات(‬ ‫اؼبتمردة) على الصرامة اؼبنهجية اليت نشهدىا يف اجملاالت العلمية األخرى‪ .‬ويشَت من ناحية‬ ‫أخرى إىل الدراسات اليت تتناوؿ الثقافة بصورة خاصة و حصرية وىي من ىذه الناحية يبكن‬ ‫اعتبارىا فرع علمي متميز وـبصوص وينظر للدراسات الثقافية بصورة عامة على أهنا إذباه‬ ‫يسعى إىل تسييس مفهوـ الثقافة وذلك بربطو بديبقراطية اغبياة اليومية "ويطلق موؽبَتف على‬ ‫ىذين االذباىُت تناوؿ قضية الثقافة واالحتكاـ إليها على كبو صريح مصطلح خطاب ما‬ ‫بعد الثقافة "‪ "Meta culture discourse‬أي حسب رأي موؽبَتف اػبطاب الذي‬ ‫تتناوؿ فيو الثقافة بعمومية جوانبها وظروؼ تواجدىا ولكن يوضح موؽبَتف يف الوقت نفسو‬ ‫‪1‬غدنر‪ ،‬أنتوين ‪،‬علم االجتماع‪،‬ص‪ 83.‬مرجع سابق‪.‬‬ ‫;‪4‬‬


‫تفكُّر ‪ ،‬جملد (‪ ،)31‬العدد (‪2013 ، )2-3‬م‪1434/‬هـ‬

‫الفلسفة وفلسفة العلوم‬

‫أف مفهوـ خطاب ما بعد الثقافة ال يبكن أف يكوف بديبلً عن الفضاء السياسي وأف وبل ؿبل‬ ‫قوتو وسلطتو ‪ .‬ولذا فهو يدعو إىل اطار مفاىيمي جديد وواقعي يسميو السياسات الثقافية‬

‫"‪( 1"Cultural politics‬وبالتايل فإف خطاب ما بعد الثقافة أو السياسات الثقافية‬

‫تقع خارج إطار (العلم) نفسو ولكنها ربدده‪ ،‬ولكن استخداـ موؽبَتف ؼبفهوـ خطاب مابعد‬ ‫الثقافة ال يقع ضمن إطار اػبطابات اؼبابعدية اليت نعرفها فهو ليس خطابا متجاوزا للثقافة و‬ ‫ال للدراسات اليت تتناوؽبا و اليت اصطلحنا على تسميتها بالدراسات الثقافية ‪ ،‬فهو خطاب‬ ‫مستوعب لتلك األبعاد سباما و لكنو يضيف إليها أبعادا أخرى ‪ ،‬وىذا يف نظر الباحث من‬ ‫قبيل التناقضات اؼبنهجية فبل يبكن أف نطلق على خطاب ما بأنو مابعدي إف مل يكن‬ ‫متجاوزا؟ أما اؼبأخذ الثاين على موؽبَتف ىو أف تسيس اؼبفهوـ أو حىت اجملاؿ ال يعٍت بالضرورة‬ ‫أف وبل ؿبلو السي اسة أو يكوف بديبل ؽبا ‪ ،‬فالسياسة سلطة و ما بعد الثقافة ؾبرد خطاب مل‬ ‫يرقى بعد أو مل يشكل سلطة و حىت إف إكتملت دورة حياة اػبطاب ليشكل سلطة فبل‬ ‫يبكن مضاىات سلطتو بالسلطة السياسية فسلطتو ال تعدوا أف تكوف سلطة معرفية أو ثقافية‬ ‫وىذا األمر شرحة ميشيل فوكو يف كتابو داللة اػبطاب بصورة دقيقة جداً مايزت بُت‬ ‫اػبطابات و السلطات ووضحت كيفية التحوالت ومداىا‬ ‫أما اػباصية الثانية للدراسات الثقافية فهي قد تؤدي أيضاً إىل تفسَت سبب‬ ‫شغ ف الباحثُت والدارسُت ؽبا بالغموض اللغوي فمسايرة لروح العصر يبانع بعض الكتاب‬ ‫بقوة من أجل التمييز بُت أو إصدار االحكاـ على أي نوع من العادات سواء يف اغبياة‬ ‫اليومية أو يف عناصر الثقافة الشعبية وىم يروف أف اؼبظاىر الشعبية ال تستحق الدراسة ‪....‬‬ ‫فحسب بل هبب أال تؤدي الدراسة إىل أصدار أحكاـ هنائية ال تقلل من شأهنا ‪ ،‬لذلك فقد‬ ‫يلجأوف إىل استخداـ كلمات تبدو ؿبايدة كلمات معمقة قد تبدو ذات طابع علمي‬ ‫‪ 1‬كوليٍت ستيفاف‪ ،‬اغبديث عن مصطلح الثقافة ‪،‬ترصبة عمر عطاري ص ‪71 – 70‬مرجع سابق‪.‬‬ ‫‪53‬‬


‫د‪.‬قيس محمود حامد‬

‫الدين والثقافة‪ ،‬تبادلية الدور واملكانة‬

‫موضوعي‪ 1‬فبا أدى إىل (ميوعة مفاىيمية) وخلط بُت اؼبفاىيم و اؼبصطلحات اؼبستخدمة فبا‬ ‫أدى إىل موت اؼبنهج و الكاتب و حلوؿ القاري ؿبلهما ‪ ،‬و من وجهة نظر الباحث أف ىذه‬ ‫اغبالة ليست وليدة الرغبة يف اغبياد العلمي أو التسامح الفكري الذي وبتم عدـ إصدار‬ ‫األحكاـ القيمية بقدر ما يوحي بعجز الدارس عن الفهم أو على األقل عجزه عن التعبَت‪.‬‬ ‫فالغموض قرين العجز‪.‬‬ ‫إ ّف التحدي األكرب للوفاء بالتزامات الدراسات الثقافية ىو الشكل القدمي لدراسة‬ ‫اؼبمارسات النقدية واالجتماعية والسياسية حوؿ ماذا نعلم وكيف يبكننا أف نعلم ‪ٍ ،‬ب ماذا‬ ‫وبدث عندما نعلم أنواعاً من األسئلة والنقد اؼبوجو إىل ما ينشر ‪ .....‬إف الدراسات الثقافية‬

‫شكل من أشكاؿ الثورة األكاديبية ضد الوضع الراىن لفرضيات العمل االكاديبي ‪ ،‬وبناءاً‬ ‫على ذلك فإ ّف الدراسات الثقافية تبدو أحياناً وكأهنا نوع من اغبركة االحتجاجية االكاديبية‬ ‫تسعى إىل تغيَت طبيعة ما يدرس اكاديبياً ‪. 2‬‬

‫على كل يرى موؽبَتف أ ّف اإلذباه اؼبعروؼ بػ (نقد الثقافة) واالذباه اآلخر واؼبشار‬ ‫إليو بػ (الدراسات الثقافية) "‪ "Culturals Studies‬على الرغم من أهنما يبدواف وكأهنما‬

‫متعارضاف من حيث اؼب بدأ السياسي واؽبدؼ إال أهنما يف رأيو يبثبلف يف الواقع استمرارية‬ ‫منتظمة على مستوى الشكل لدراسة الثقافة واجملتمع الرأظبايل اغبديث فيتضمن االذباىاف‬ ‫اىتماماً وإف كاف من زاويتُت ـبتلفتُت سباماً لفكرة جديدة يف مفهوـ الثقافة بغية التوصل إىل‬ ‫توسط أو توضيح يبثل رمزياً حل فوؽ سياسي "‪ "Meta political‬لتناقضات (اغبداثة‬ ‫الرأظبالية ) ‪.‬‬

‫‪1‬ىوجارت ‪،‬ريتشارد ‪،‬الثقافة والدولة ‪ ،‬ترصبة شعباف عبد العزيز عفيفي‪ .‬الثقافة العاؼبية ‪ ،‬الكويت ‪ ،‬العدد‬ ‫‪ 108‬سبتمرب ‪2001‬ـ‪ ،‬ص ‪.196‬‬ ‫‪ 2‬الرباعي‪ ،‬عبد القادر ‪ ،‬ثقافة النقد ونقد الثقافة قراءة يف ربوالت النقد الثقايف‪ ،‬ص‪ ،202،‬مرجع‬ ‫سابق‪.‬‬ ‫‪53‬‬


‫تفكُّر ‪ ،‬جملد (‪ ،)31‬العدد (‪2013 ، )2-3‬م‪1434/‬هـ‬

‫الفلسفة وفلسفة العلوم‬

‫وباوؿ مفهوـ نقد الثقافة أف ينفذ إىل مفهوـ روحاين للثقافة يسمو إىل مرتبة اغبقيقة‬ ‫السامية لئلنسانية أو األمة ‪"The higher truth of humanities or the‬‬

‫‪ .1"nation‬وذلك ليس ببعيد على كل حاؿ عن (حالة) مابعد اغبداثة و الكفر بكفاية‬ ‫التطور اؼبادي و حاكمية العقل فاغبضارة األوربية تشهد حالة عدـ توازف وىو من وجهة نظر‬

‫الباحث يعرب عن أعراض ـباض لوالدة جديدة سببها اليأس و اإلحباط من سيطرة النمط‬ ‫اؼبادي من العيش على حياة الناس ولذلك ليس مستغرب شيوع فلسفة النهايات‬ ‫(هنايةالتاريخ) وهناية األيديولوجيا) وهناية العقل‪ ،‬بالتزامن مع فلسفة متفائلة تسعي إىل ذباوز‬ ‫الوضع الراىن نلحظو يف فلسفات التجاوز‪ ،‬مابعد الثقافة ‪،‬ما بعد الثقافة و غَتىا من‬ ‫اؼبابعديات اليت هتدؼ إىل اػبروج من ضيق اؼبادة إىل فضاء الروح وليس أمثل بطبيعة اغباؿ‬ ‫من الطَت جبناحُت‪ ،‬الرفاه اؼبادي و السمو الروحي‪.‬و الوصوؿ إىل ىذا الوضع ال يتم من‬ ‫وجهة نظر الباحث بالقفز و التجاوز و ال بالردة و اإلحباط و إمبا (بالنقد) إكسَت التطور و‬ ‫التقدـ على كل اؼبستويات الفردي و االجتماعي ‪ ،‬العلمي و السياسي ‪،‬ذلك أل ّف منهج‬ ‫العلم منهج اؼبناقشة النقدية وىو الذي هبعل من اؼبمكن لنا أف نعلو ليس فقط على أطرنا‬ ‫اؼبكتسبة من الثقافة ‪ ،‬بل أيضاً على أطرنا الفطرية ‪ ،‬ىذا اؼبنهج هبعلنا نعلو ‪ ،‬ليس فقط على‬

‫حواسنا ‪ ،‬بل أيضاً على منحانا الغريزي جزئياً كبو اعتبار العامل كوناً من األشياء احملددة‬ ‫‪2‬‬ ‫وخصائصها‬ ‫يطرح راولز يف أحضاف التقليد الليربايل مسألة بناء "ؾبتمع يتضمن أقل قدر من‬ ‫التفاوتات"‪ .‬ىكذا ال يبكن للعدالة الليربالية أف تعًتؼ حبقوؽ ثقافية صباعية دوف أف تناقض‬ ‫نفسها؛ يتعُت على الدولة أف تتبٌت اغبياد‪ ،‬وبالتايل فهي ملزمة بأال تتدخل يف اغبقل الثقايف‬ ‫ماداـ من اؼبستحيل تصور ربقيق إصباع يف ىذا اجملاؿ‪ .‬بل ويتعُت على الدولة أف تتجنب‬ ‫‪ :1‬كوليٍت ‪ ،‬ستيفاف ‪،‬اغبديث عن مصطلح الثقافة ‪،‬ص ‪ 71‬مرجع سابق‪.‬‬ ‫‪.2‬بوبر‪،‬كارؿ‪ ،‬اسطورة اإلطار ‪.‬مرجع سابق‪،‬ص‪.80.‬‬ ‫‪54‬‬


‫د‪.‬قيس محمود حامد‬

‫الدين والثقافة‪ ،‬تبادلية الدور واملكانة‬

‫مساعدة ثقافة صباعة معينة‪ ،‬وذلك باسم مبدأ اإلنصاؼ نفسو (الذي يفرض معاملة صبيع‬

‫اؼبواطنُت بنفس القدر من اؼبساواة)‪.1‬‬

‫وبذلك يتحقق اؼبناخ اؼببلئم لنمو الثقافة حيث تنمو بفعل قدرة الدفع الذاٌب و‬ ‫التزود من اؼبخزونات الثقافية لآلخرين وبازدىار الثقافة تزدىر الدراسات الثقافية ‪ ،‬وإال فإ ّف‬ ‫احملصلة النهائية للتدخل ىي سيادة ثقافة واحدة على مستوى الدولة تتبعها رغبة يف سيادة‬ ‫ىذه الثقافة على مستوى الكوكب ينتهي الوضع باإلفبلس لنفاد اؼبخزوف وتعود الدورة من‬ ‫جديد لنشهد فلسفات إحباط جديدة و دعوات قفز وذباوز ال حقة ؽبا‪.‬‬ ‫وبالتايل فإ ّف سيادة ثقافة واحدة يف اجملتمع ليست باغبالة اإلهبابية على أي حاؿ‪،‬‬ ‫ألف ىذا الوضع يعزز رؤية واحدة للطبيعة واغبياة وتغيب معو إمكانات و تصورات يبكن أف‬ ‫تكوف أفعل و أثرى من ىذه النظرة اؼبتبناه‪ ،‬و فوؽ ىذا وذاؾ ىذا اؼبوقف يستبعد واقع اغباؿ‬ ‫والذي يؤكد على الكثرة و التنوع و كذا االختبلؼ وال يقتصر االختبلؼ بُت الثقافات على‬ ‫اؼبعتقدات الثقافية‪ ،‬إذ تشهد اجملتمعات البشرية درجات مشهودة من التنوع يف اؼبمارسات‬ ‫وأمباط السلوؾ كما تتباين أشكاؿ السلوؾ بشكل واسع بُت ثقافة وأخرى‪ .‬فما يبدو طبيعياً‬ ‫وسوياً يف أحد اجملتمعات على سبيل اؼبثاؿ قد يكوف مغايراً بصورة صارخة ؼبا يراه شعب‬

‫آخر)‪ 2‬و يف اؼبثاؿ الذي ساقو بوبر يف أسطورة اإلطار خَت مثاؿ على ىذا اؼبوقف ‪،‬‬ ‫فاغبضارة اليت ربرؽ موتاىا تستبشع ما تقوـ بو اغبضارة األخرى من أكل اؼبوتى و العكس‬ ‫صحيح‪ ،‬وبالتايل فإ ّف اؼبخرج من مثل ىذا اؼبوقف يكمن يف إحًتاـ القيم الثقافية للجماعات‬ ‫األخرى‪ ،‬ولكن االحًتاـ يظل مطلب عزيز اؼبناؿ بالنسبة ؼبن ليس ؽبم خربة بالتعدد و‬

‫اإلختبلؼ‪ .‬ولكن يبكن التدرب على ىذا اؼبوقف باحًتاـ الثقافات الفرعية يف اجملتمع احملدد‪،‬‬ ‫‪ 1‬ديكامب‪ ،‬كريستياف ‪،‬األفكار الفلسفية يف القرف العشرين‪ :‬كرونولوجيا أفكار القرف‪ ،‬ترصبة حسن‬ ‫أحجيج‪ ،‬مدارات فلسفية‪،‬العددس‪ 2008،‬ص‪.5‬‬ ‫‪ 2‬غدنر‪ ،‬أنتوين ‪،‬علم االجتماع‪،‬ص‪ 85‬مرجع سابق‪.‬‬ ‫‪55‬‬


‫تفكُّر ‪ ،‬جملد (‪ ،)31‬العدد (‪2013 ، )2-3‬م‪1434/‬هـ‬

‫الفلسفة وفلسفة العلوم‬

‫فمن يقوـ بذلك يسهل عليو احًتاـ الثقافات األخرى‪ ،‬الثقافات الفرعية ال تشَت إىل‬ ‫اعبماعات اإلثنية و اللغوية يف اجملتمع الواسع فحسب‪ ،‬بل يبكن أف تدؿ على شرائح‬ ‫سكانية سبيزىا أمباطها الثقافية عن بقية اجملتمع وتضم ىذه الثقافات الفرعية منظومة واسعة‬ ‫تشمل على سبيل اؼبثاؿ‪ :‬أنصار الطبيعة والقوطيُت واؽبيبُت وقراصنة اغباسوب و مشجعي‬ ‫أندية كرة القدـ‪ ،‬وقد يلتزـ بعض الناس بثقافات فرعية بصورة دائمة‪ ،‬بينما يتقلب آخروف‬ ‫وينتقلوف بسهولة من ثقافة إىل أخرى)‬

‫‪1‬‬

‫تعريف الدين‪:‬‬

‫اإلسبلـ مل يعرؼ الدين تعريفاً ؿبدداً و إمبا تعامل معو كمفهوـ معروؼ و من‬

‫ىذه الناحيو قبد أ ّف القرآف قد تعامل مع صبيع الديانات هبذا اؼبفهوـ ومل يبيز بينها من حيث‬ ‫التعريف و إمبا جاء التمييز يف مرحلة الحقة و ىي مرحلة القبوؿ و الرفض وىذا شأف آخر‪،‬‬

‫فالقرآف قد تعامل مع كل أشكاؿ العبادات اليت تتخذ إؽبا واحدا أو أكثر ‪ ،‬نظر إليها‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫يل ِدي ِن‪ ‬سورة الكافروف آية‪ 6‬وقاؿ‪َ ‬وَمن يػَْبتَ ِغ‬ ‫باعتبارىا دينا‪ ،‬فقاؿ تعاىل ‪ ‬لَ ُك ْم دينُ ُك ْم َو َ‬ ‫ِ ِ‬ ‫اآلخرِة ِمن ْ ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ين ‪‬آؿ عمراف آية ‪ 85‬وهبذا قبد‬ ‫اػبَاس ِر َ‬ ‫َغْيػَر ا ِإل ْسبلَـ دينًا فَػلَن يػُ ْقبَ َل مْنوُ َوُى َو يف َ َ‬ ‫أف القرآف تعامل مع صبيع األدياف من حيث التعريف دبعٌت واحد‪.‬‬ ‫أما يف العلوـ اؼبختلفة فبل يوجد للدين تعريف موحد وإمبا ىناؾ العديد من التعاريف‬ ‫تتصارع صبيعها على ؿباولة اغبصوؿ على تعريف أمشل وأدؽ لكن يف النهاية مثل ىذا‬ ‫اؼبوضوع ىبضع إليباف الشخص الذي يضع التعريف وبالتايل يصعب وضع تعريف يرضي‬ ‫صبيع الناس‪ .‬فالدين يتناوؿ واحدة من أقدـ نقاط النقاش على األرض‪ ،‬ويف القدـ كاف‬ ‫النقاش يتناوؿ شكل وطبيعة اإللو الذي هبب أف يعبد‪ ،‬أما يف العصر اغبديث فيًتكز النقاش‬ ‫أساساً حوؿ ‪ :‬وجود أو عدـ وجود إلو خالق تتوجب عبادتو‪.‬لذلك قبد من وباوؿ تعريف‬ ‫‪1‬غدنر‪ ،‬أنتوين ‪،‬علم االجتماع‪،‬ص‪86.‬مرجع سابق‪.‬‬ ‫‪56‬‬


‫د‪.‬قيس محمود حامد‬

‫الدين والثقافة‪ ،‬تبادلية الدور واملكانة‬

‫الدين من منطلق إيباين‪ ،‬روحاين‪ ،‬يقيٍت‪ ،‬أو من منطلق إغبادي‪ ،‬أو من منطلق عقبلين وباوؿ‬ ‫دراسة الدين كظاىرة اجتماعية أو نفسية أو فلسفية‪.‬علماء االجتماع وعلماء‬ ‫اإلنساف(األنثروبولوجيا) ينظروف إىل الدين على أنو ؾبموعة ؾبردة من القيم واؼبثل أو اػبربات‬ ‫اليت تتطور ضمن اؼبنظومة الثقافية للجماعة البشرية‪ .‬فالدين البدائي كاف من الصعب سبييزه‬ ‫بنظرىم عن العادات االجتماعية الثقافية اليت تستقر يف اجملتمع لتشكل البعد الروحي لو‪.‬‬ ‫أما اؼبتدينُت‪ ،‬فالدين بالنسبو ؽبم ال يبكن اختصاره دبظاىره االجتماعية والثقافية اليت‬ ‫تعرب عن سبثُل الدين وال تعرب بالضرورة عن الدين نفسو‪ ،‬فالدين بالنسبة ؽبم ىو الوعي‬ ‫واإلدراؾ للمقدس‪ ،‬وىو إحساس بأ ّف الوجود والعامل ًب إهباده بشكل غَت طبيعي عن طريق‬ ‫ذات فوؽ‪-‬طبيعية تدعى اإللو أو اػبالق أو الرب‪.‬أما سبثل الناس للدين أو استجابتهم لو‬ ‫فتختلف من فرد إىل آخر و بالتايل ال يبكن أف نقوؿ أ ّف ما يبارسو الناس ىو بالضرورة‬ ‫الدين‪ .‬و اؼبخرج من ىذا اؼبأزؽ من وجهة نظر الباحث يكمن يف التمييز بُت الدين و التدين‬ ‫ىذا من ناحيو و من ناحيو أخرى هبب ربكيم الدين على نفسو من خبلؿ ما يقولو ىو عرب‬ ‫كتابو اؼبقدس (مع العلم بأنو ال يوجد دين ليس لو كتاب أو كتب مقدسة يتفق يف ذلك‬ ‫كوف الدين ظباوياً أي موحى من عند اهلل ‪ ،‬أو بشري إختطو بشر كما يف اؽبندوسية و‬ ‫البوذية و الكنفوشيو وغَتىا)‬ ‫أما اؼبلحدين أو غَت اؼبتدينُت فيعرفوف الدين استناداً على الضرورة و اغباجة ‪ ،‬فمن‬ ‫حيث الضرورة يروف أ ّف الوضع اإلجتماعي للمجتمع اؼبعُت يقتضى وجود دين حىت يتم‬ ‫اغبفاظ على الوضع القائم و تعزيز اغبظوة و اؼبكانة اليت سبتاز هبا طبقة معينة‪ .‬و أبرز من يبثل‬ ‫ىذا اإلذباه كارؿ ماركس ‪.‬و ىناؾ من يفسر الدين بأنو ناتج عن ضعف اإلنساف يف مواجهة‬ ‫الكوارث أو عجزه عن تفسَت الظواىر الطبيعية و البيئية اؼبختلفة و بالتايل عبوءه لؤلسطوره‬ ‫والدين ومن أبرز ىؤالء فريدريك شبليرماخر )‪"Friedrich  (1768-1834‬‬ ‫‪‬عامل الىوت وفيلسوؼ أؼباين اعبنسية معروؼ دبحاولتو اعبمع بُت النقد التنويري و الربوتستانتية‬ ‫التقليدية‪ ،‬وعرؼ عنو أيضا تأثَته على اؽبرمنيوطيقا اغبديثة ‪ ،‬لقب بأب التفكَت الديٍت الليربايل‪.‬‬ ‫‪57‬‬


‫تفكُّر ‪ ،‬جملد (‪ ،)31‬العدد (‪2013 ، )2-3‬م‪1434/‬هـ‬

‫الفلسفة وفلسفة العلوم‬

‫"‪ Schleiermacher‬الذي عرؼ الدين يف هنايات القرف الثامن عشر بأنو "الشعور‬ ‫باالعتماد اؼبطلق (العجز اؼبطلق"‪ .".feeling of absolute dependence‬وىذا‬ ‫التعريف ال يعطي معٌت للدين بقدر ما وباوؿ الكشف عن كيفية ظهور التدين ‪ ،‬ومع ذلك‬ ‫فإ ّف التطورات البلحقة من تقدـ على الصعيد العلمي الذي مكن اإلنساف من فهم الطبيعة و‬ ‫من السيطرة عليها و بقاء اإليباف الديٍت يف موقعو بل كشفت العديد من الدراسات إف ازدياد‬ ‫اإللتزاـ الديٍت ينهض دليبلً على خطل الزعم السابق إذ أف اؼبنطق‪ ،‬حسب زعمهم ‪ ،‬يفًتض‬ ‫تناسبا عكسيا بُت الوعي و القوة من ناحية و التدين من ناحية أخرى و ىذا ما مل وبدث‬ ‫يف الواقع‪.‬‬ ‫أما ماكس فيرب(‪ )1920-1864‬فَتى أ ّف الرمزية سبثل أوج الفكر األسطوري‬ ‫داخل اؼبرحلة السحرية‪ .‬ىذا كما ربط تطور الفكر الديٍت بالتحوالت اػبارجية‪ ،‬وعلى رأسها‬ ‫البعد السياسي‪ ،‬ودوره يف ظهور ؾبمع األرباب "‪ "Pantheon‬الذي يرمز إىل مرحلة تعدد‬ ‫اآلؽبة‪ .‬خصوصاً حينما أصبح اؼبوضوع الديٍت يكتسي صبغة نسقية من حيث عبلقة اآلؽبة‬ ‫دبفهوـ االستقرار‪ ،‬وازباذىم الصبغة الرمزية التصنيفية للقبائل اليت ينتموف إليها‪.‬عوض‬ ‫االحتياج إىل توحيد اإللو كأعلى قوة‪ ،‬عبلقة اإلنساف بالطقوس السحرية‪ ،‬حيث أصبحت‬ ‫العبادة والصبلة ىي األداة ووسيلة االرتباط بكل ما ىو غييب أي ما فوؽ طبيعي‪ .‬وىو ما‬ ‫يشكل نقلة أساسية للدخوؿ يف العامل الديٍت‪ .‬فإذا كاف العامل السحري يقتضي اإلكراه‪ ،‬فإ ّف‬ ‫العامل الديٍت يقتضي الصبلة والقرباف والتعبد‪ ،‬كما أ ّف موضوع الصبلة والعبادة ىم اآلؽبة‬ ‫عكس الشياطُت واألرواح اليت تُكره عرب السحر‪ 1‬ومن ٍب يبكن اعتبار نظرية ماكس فيرب‬ ‫للدين بأهنا نظرية تطورية حيث يضع مراحل التفكَت اإلنساين يف حلقات تبدأ بالسحر تليها‬ ‫مرحلة التفكَت الديٍت ‪ ،‬و ىذه النظرية مهمو من ناحية و لكنها معيبة من ناحية أخرى‬ ‫أنبيتها تكمن يف أهنا ميزت بُت الطقس الديٍت و الطقس السحري وبل مايزت بُت الدين و‬ ‫السحر ‪ ،‬ومن ٍب أصبح مفهوـ الدين أقرب إىل الفهم و التحديد‪ ،‬أما عيبها فإهنا نظرت‬ ‫‪1‬‬

‫‪Weber, Max: Economy and Society, p.424‬‬

‫‪58‬‬


‫د‪.‬قيس محمود حامد‬

‫الدين والثقافة‪ ،‬تبادلية الدور واملكانة‬

‫لؤلدياف بكل أشكاؽبا واختبلفاهتا بنفس اؼبنظور ‪ ،‬فالديانات اليت تطورت عن اؼبمارسات‬ ‫السحرية ىي ديانات إنسانية اؼبصدر واؼبنشأ ‪ ،‬و لكن ىذا التصنيف ال زبضع لو الديانات‬ ‫السماوية فهي أدياف منزلة وليست متطورة عن مبوذج أو مثاؿ سابق ‪ ،‬وإف كانت زبضع‬ ‫لتطور من نوع آخر و ىو إنبناء البلحق على السابق يف كثَت أو قليل من اعبوانب ‪ .‬و ىذه‬ ‫اإلعتمادية أو التشابو أو االنبناء غَت خاضع لضرورة التأثَت و التأثر و ال على اؼبشاهبة يف‬ ‫الظروؼ الثقافية و اغبضارية ‪ ،‬و إمبا ىو تشابو ىبضع ؼبعيار آخر للتعرؼ عليو و سبييزه ‪ ،‬ذاؾ‬ ‫ىو وحدة اؼبصدر ‪ ،‬فجميع األدياف السماوية خرجت من كوة واحدة ‪ ،‬و لذلك ليس بدعاً‬ ‫أف قبد بينها العديد من نقاط اإللتقاء و الكثَت من أوجو الشبو‪.‬‬ ‫يبكن إصباؿ فبيزات األدياف كافة بعدة نقاط ‪:‬‬ ‫ اإليباف بوجود إلو فوؽ‪-‬طبيعي ىو اػبالق للكوف والعامل واؼبتحكم هبما وبالبشر‬‫وكافة اؼبخلوقات‪.‬‬ ‫ التمييز بُت عامل األرواح وعامل اؼبادة‪.‬‬‫ وجود طقوس عبادية يقصد هبا تبجيل اؼبقدس من ذات إؽبية وغَتىا من األشياء‬‫اليت تتصف بالقدسية‪.‬‬ ‫ قانوف أخبلقي ‪ ،moral code‬أو شريعة تشمل األخبلؽ واألحكاـ اليت هبب‬‫اتباعها من قبل الناس ويعتقد اؼبؤمنوف اهنا آتية من اهلل اػبالق لتنظيم شؤوف العباد‪.‬‬ ‫ الصبلة وىي الشكل األساس لبلتصاؿ باػبالق وإظهار التبجيل واػبضوع‪.‬‬‫ رؤية كونية ‪ : world view‬تشرح كيفية خلق العامل وتركيب السماوات واألرض‬‫وآلية الثواب والعقاب‪ ،‬أي كيف ينظم اهلل شؤوف العامل‪.‬‬ ‫ شريعة أو مباديء شرعية لتنظيم حياة اؼبؤمن وفقا للرؤية الكونية اليت يقدمها ىذا‬‫الدين‪.1‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪Apostel ,Leo ,and others .World view from fragmentation To Integration‬‬ ‫‪.Internet Edition2007,p13‬‬

‫‪59‬‬


‫تفكُّر ‪ ،‬جملد (‪ ،)31‬العدد (‪2013 ، )2-3‬م‪1434/‬هـ‬

‫الفلسفة وفلسفة العلوم‬

‫الدور االجتماعي للدين‬ ‫الفاعلية اغبقيقية اليت تغَت األشياء أي القوة اؼبؤثرة بالفعل ىي اؼبوجودة يف جهة‬ ‫اإل يباف‪ ،‬سواء كانت عادلة أو غَت عادلة ‪ ،‬صحيحة أـ خاطئة فتلك مسألة أخرى‪.‬و اإليباف‬ ‫الديٍت وبتوي على فاعل ية يف غاية القوة ومقدرة على التغيَت تتقاصر جبانبها كل وسائل و‬ ‫فلسفات التغيَت اإلجتماعي ‪ ،‬ولذؾ وجد بيَت مارؾ(بالنسبة يل فإف الفعل والتفكَت يف الفعل‬ ‫نبا اللذاف دفعاين إىل حقيقة أ ّف الشأف الديٍت مشبع بالفايتمُت ال باألفيوف ‪ ،‬فليس الدين‬ ‫ىو أفيوف الشعوب بل ىو ف يتامُت الضعف‪ .‬وىو ليس مادة منومة بل ىو عنصر ينبو ويثَت‬ ‫اغبماس ‪ ،‬وال يستطيع الفبلسفة أف يتخيلوا ذلك ألهنم ؿببوسوف يف اطار جامعي تنظَتي‬ ‫حبت)‪.1‬‬ ‫أما من جرب التجربة الدينية فيكتشف حقيقة القوة و القدرة على التغيَت اليت‬ ‫يبنحها للمنتسبُت لو ‪ ،‬نشاىد ذلك كمثاؿ يف قابلية اؼبتدينُت على العطاء اؼبادي منو و‬ ‫اؼبعنوي‪ ،‬و يف القدرة على التضحية بأعز ما يبلك اإلنساف يف سبيل ما يؤمن بو ‪ ،‬يف‬ ‫إحساس اإلنساف دبا حولو و من حولو‪ ،‬و كل تلك األمثلة تدؿ على أنبية العامل الديٍت‬ ‫كعامل مهم يف التغيَت االجتماعي ‪ ،‬و كعامل مهم أيضاً يف اغبفاظ على القيم االجتماعية و‬ ‫تطويرىا ‪ ،‬و من ىنا نلحظ التشابو بُت الدين و الثقافة من حيث الدور االجتماعي ‪ ،‬وكما‬ ‫كانت الثقافة (حالة ) معيشة فالدين ال يبكن أف ننظر لو على أنو ىناؾ‪ ،‬فالدين الذي ىو‬ ‫ىناؾ ىو ؾبرد كتاب أو كتب مقدسة ربوي األوامر و النواىي و الطقوس التعبدية‪ ،‬أما الدين‬ ‫كفاعل اجتماعي فيكمن يف سبثل الناس لو وىو سبثل ناتج عن قبوؿ واعي‪ ،‬وكما أرجعنا‬ ‫التشابو بُت الثقافات إىل تشابو العوامل اؼبؤثرة كعامل جوىري و أساسي فكذلك يبكن أف‬ ‫نفسر التشابو بُت الديانات إىل عامل شبيو بذلك و ىو كوف األدياف ىي يف األساس إؽبية‬ ‫اؼبصدر‪ ،‬فحىت األ دياف البشرية أو األرضية ىي يف كثَت من األحواؿ ربريف لدين ظباوي ما ‪،‬‬ ‫‪ 1‬دي بيازي ‪،‬بيَت مارؾ ‪ ،‬تأمبلت يف الشأف الديٍت – ترصبة ؿبمود ميبلد ‪،‬الثقافة العاؼبية ‪2004‬ـ ‪،‬ص‬ ‫‪165‬‬ ‫‪5:‬‬


‫د‪.‬قيس محمود حامد‬

‫الدين والثقافة‪ ،‬تبادلية الدور واملكانة‬

‫فهذا ما أخربنا بو اهلل سبحانو وتعاىل ‪ ،‬فاهلل مل ينزؿ اإلنساف إىل األرض ببل دليل يهديو و‬ ‫إمبا نزؿ و معو شريعتو من لدف آدـ و حىت يوـ الناس ىذا‪ .‬وإذا كاف الناس يقبلوف رموزىم‬ ‫الثقافية و عاداهتم و تقاليدىم ببل كثَت جهد لبحثها و تفسَتىا فكذا اإليباف فهو أيضاً ال‬ ‫وبتاج إىل أدلة ‪ ،‬فهو غَت قابل لبلثبات أو لبلحتماؿ ‪ ،‬إنو حاسم وىو يربىن على اغبركة‬ ‫بالزحف إىل األماـ ‪( ،‬ما يهمٍت ىو تلك الوظيفة احملركة الكامنة يف االيباف وقدرتو على سن‬ ‫القوانُت اؼبصَتية للعامل ‪ ،‬وقد انتهيت إىل فكرة الدافع عن طريق تلك القدرة على التحرؾ ‪،‬‬ ‫أريد أف أفهم ما الذي يطلق نزعة اغبركة لدى الناس ما الذي يثَت الفعل لديهم)‪.1‬فالشأف‬ ‫الديٍت مل يعد شأناً ىامشياً و إمبا أصبح ؿبل إىتماـ و دراسة ألعداد متعاظمة من الباحثُت‬ ‫و الدا رسُت و من زوايا و مداخل ـبتلفة لعل من أنبها الدور احملفز للعمل الذي يقوـ بو‬ ‫الدين‪ ،‬و الدين يف مرحلة التمثل يصبح ظاىرة ثقافية عامة فبل يبكن فصل الدين عن الثقافة‬ ‫اؼبشكلة أو السائدة يف اجملتمع اؼبعُت ولعل ىذا ما دفع بيَت مارؾ ؾبدداً للقوؿ بأ ّف (الشأف‬ ‫الديٍت ال يهم اؼبؤمنُت وحدىم بل يبكننا القوؿ أ ّف أىل االيباف ىم أقل الناس استفادة منو ‪،‬‬ ‫ألهنم قد زودوا بالفعل دبا وبتاجونو ‪،‬وباؼبقابل فإ ّف أماـ غَت اؼبؤمنُت الكثَت الذي ينتظرونو‬ ‫والذي يبكن أف يتعلموف منو عن عامل الواقع ‪ ،‬الشأف الديٍت يف اغبقيقة يهمنا صبيعاً مؤمنُت‬ ‫‪2‬‬ ‫وغَت مؤمنُت )‬ ‫فالدين دبا ىو كذلك يضع ؾبموعة من القواعد للتعامل بُت اؼبؤمنُت بو و غَت‬ ‫اؼبؤمنُت و تلك القواعد تدعم يف معظم األحياف استقرار اجملتمع و تشجع على التعايش بُت‬ ‫اؼبلل اؼبختلفة ‪،‬أما يف حالة اجملتمعات متعددة الديانات ‪ ،‬وىي باألحرى متعددة الثقافات‪،‬‬ ‫فإ ّف التبادلية تصبح سلعة رائجة و ذلك التساع سوؽ العرض‪ ،‬فالكل يعرض سلعتو و‬ ‫بأ فضل الطرؽ فيتم القبوؿ و التبادؿ دبعدالت أوسع‪ ،‬كما أف لكل دين تصوره للقضايا‬ ‫الكربى (اؼببدأ واؼبصَت‪،‬الكوف و اإلنساف) وىي تصورات غنية تثري بعضها بعضا ولذلك فإنو‬ ‫‪ 1‬بيَت مارؾ دي بيازي ‪ ،‬تأمبلت يف الشأف الديٍت ‪ ،‬ص ‪ 164‬مرجع سابق‬ ‫‪ .2‬اؼبرجع السابق‪،‬ص‪.167 .‬‬ ‫;‪5‬‬


‫تفكُّر ‪ ،‬جملد (‪ ،)31‬العدد (‪2013 ، )2-3‬م‪1434/‬هـ‬

‫الفلسفة وفلسفة العلوم‬

‫(فبا ال شك فيو أف اغبوار يبكن أف يتم بُت العقائد انطبلقاً من بعض نقاط االلتقاء ولكن‬

‫ىذا النوع من اغبوار ال معٌت لو وال فائدة ترجى منو ‪ ،‬إال إذا كاف يستطيع من مساعدة‬

‫اللقاء بُت االشخاص مع التقليل من أنبية أفكارىم وآرائهم اؼبسبقة ‪ ،‬ومع إزالة العوائق اليت‬

‫تقف يف وجو ىذا اغبوار‪ 1‬وىذ ا درس حضاري يف غاية األنبية استفدناه من تناولنا للمسألة‬ ‫الثقافية و ىا ىو يتكرر اآلف يف اؼبسألة الدينية لتستبُت أواصر القرىب بينهما‪ ،‬و اؼبتتبع للعبلقة‬ ‫التبادلية بُت األدياف السماوية الثبلثة على األقل يشهد قيمة التبادؿ و قوتو يف نفس الوقت‪،‬‬ ‫و قد كانت فًتة صعود اغبضارة اإلسبلمية مبوذجا لتلك العبلقة (وعلى عكس ما يدعيو‬ ‫بعض الدارسُت فمن يعتربوف استخداـ اغبرؼ العربي عند الكتابة بالعربية دليبلً "على أف‬ ‫التمثل الروحي بُت اليهود للثقافة اإلسبلمية كاف أقل من سبثلهم للثقافة األوربية اغبديثة" فإنٍت‬ ‫أشعر بأف استخداـ اليهود للغة العربية كاف أكثر من ؾبرد ظاىرة لغوية وكاف ؽبا نتائج دينية‬ ‫ثقافية بعيدة اؼبدى ‪ .‬ومل تكن اليهودية الوسيطة يف اؼبشرؽ العريب قد "عربت" فقط ‪ ،‬وإمبا‬ ‫ضبلت بصمات اإلسبلـ يف كل ؾباالت اغبياة تقريباً وليس فقط الفلسفة والكبلـ البلىوت)‬

‫‪2‬‬

‫حيث وصل التأثَت اإلسبلمي يف الديانة اليهودية حىت يف العقيدة ‪( ،‬الوضوء و الغسل و‬ ‫التيمم) كمثاؿ‪ ،‬و حيث وجدنا أيضا تأثَتا فباثبل يف اؼبسيحية حيث تراجعت فكرة التثليث‬ ‫أو وجدت تربيرات الىوتية للفكرة جعلتها أقرب إىل فكرة التوحيد (شهود يهوه )كمثاؿ‪ .‬و‬ ‫لكن تلك التأثَتات ربتاج إىل دراسة معمقة تكشف عن مدى و عمق التأثَت ‪ .‬ومن‬ ‫الدراسات الرائدة يف موضوع السوسيوعبيا الدينية دراسة ماكس فيرب وتربز أنبية السوسيولوجيا‬ ‫الدينية‪ ،‬داخل الًتاث الفيربي‪ ،‬يف ارتكازىا على نقطتُت أساسيتُت‪:‬‬

‫‪1‬السماؾ‪ ،‬ؿبمد ‪،‬اعبوامع اؼبشًتكة بُت الديانات ‪ ،‬االجتهاد ع‪ 29‬س‪1995، 7‬ـ ‪،‬ص ‪. 197‬‬ ‫‪ 2‬الزاروس‪ ،‬ىافا‪،‬الفكر اإلسبلمي والفكر اليهودي بعض جوانب التأثَت الثقايف اؼبتبادؿ‪ ،‬ص‪196.‬‬ ‫مرجع سابق‪.‬‬ ‫‪63‬‬


‫د‪.‬قيس محمود حامد‬

‫الدين والثقافة‪ ،‬تبادلية الدور واملكانة‬

‫‪ -1‬اعتبار كل فبارسة ُؿبفَّزة‪ ،‬عرب العوامل السحرية أو الدينية‪ ،‬ىي فبارسة موجهة كبو العامل‬ ‫األرضي وليست كما درجت عليو السوسيولوجيا الكبلسيكية‪ ،‬بأهنا زبتص فقط بالعامل‬ ‫اؼباورائي‪.‬‬ ‫‪ -2‬النقطة الثانية واليت نعتربىا ذات أنبية‪ ،‬زبصنا يف ىذا اؼبوضوع‪ ،‬وىي القطيعة اليت‬ ‫أحدثها فيرب من خبلؿ رفضو لتعريف الديٍت بالبلعقبلين‪ .‬إذ يعترب طرؽ كبح الشهوات‪،‬‬ ‫أو مناىج الزىد السحري أو التأملي يف أشكالو اؼبتناسقة كاليوجا والبوذية‪ ،‬أي كل‬ ‫أنواع األخبلؽ العملية ذات الصبغة النسقية يف توجهها كبو أىداؼ اػببلص‪ ،‬ىي‬ ‫عقبلنية‪.1‬‬ ‫وىذا ـبالف للسوسيولوجيا الكبلسيكية بصفة عامة‪ ،‬على األقل بالنسبة‬ ‫ألوغست كونت وإيبيل دوركامي ‪.‬‬ ‫مناطق التماس‬ ‫يبكن القوؿ بأ ّف ىناؾ عدد من نقاط اإللتقاء بُت ٍ‬ ‫كل من الدين و الثقافة ‪ ،‬بعضها‬ ‫يكمن يف البٌت التكوينيو وىذا اعبانب يبكن أف نطلق عليو اعبانب الشكلي ‪ ،‬أما البعض‬ ‫اآلخر فيكمن يف الدور أو الوظيفة اليت يقوـ هبا كبل منهما يف ما يليو من فرد أو ؾبتمع ‪،‬‬ ‫وىذا اعبانب يبكن أف نطلق عليو اسم اعبانب الوظيفي ‪.‬ويبكن أف كبصي طبسة من العوامل‬ ‫األكثر حضوراً و اليت يشًتؾ فيها الدين و الثقافة على أف نتعرض ؽبا بشيء من التفصيل‬ ‫فيما بعد ‪،‬تلك العوامل ىي‪:‬‬ ‫‪ -1‬اإللزاـ األخبلقي‬ ‫‪ -2‬اإللزاـ اإلجتماعي‬ ‫‪ -3‬اعبزاء‬ ‫‪ -4‬االرتفاع باؼبكانة الشخصية‬ ‫‪ -5‬سباسك اجملتمع‬ ‫‪Weber, Max: The Social Psychology of the world religion, P.2931‬‬ ‫ ‪.294‬‬‫‪63‬‬


‫تفكُّر ‪ ،‬جملد (‪ ،)31‬العدد (‪2013 ، )2-3‬م‪1434/‬هـ‬

‫الفلسفة وفلسفة العلوم‬

‫ٍ‬ ‫فكل من الدين و الثقافة يعترباف ملزمُت بعدد من القواعد و القيم األخبلقية ‪،‬‬ ‫وىذا اإللزاـ األخبلقي يفضي إىل إلزاـ من نوع آخر و ىو اإللزاـ االجتماعي‪ ،‬فبل يبكن‬ ‫للشخص الذي يعيش يف ؾبتمع معُت أف يتحلل من االلتزاـ بالقيم األخبلقية و االجتماعية‬ ‫اليت ارتضاىا ذلك اجملتمع و يف حالة اػبروج عنهما قبد أف كبل النظامُت أو باألحرى‬ ‫اؼبنظومتُت الثقافية و الدينية قد أوجدت لنفسها نظاماً من اعبزاءات اليت تردع من وباوؿ‬ ‫اػبروج عليو ‪ ،‬أما من يتمسك بتلك القيم و يتشبع هبا فإ ّف اؼبكافأة اليت تنتظره ىي ارتفاع‬ ‫اؼبكانة االجتماعية‪ ،‬فاؼبثقف اؼبتشبع بقيم اعبماعة و اؼبتمثل ؽبا يف سلوكو و الواعي بأبعادىا‬ ‫اؼبختلفة و القادر على اؼبدافعة عنها ونشرىا ىذا الشخص وضع لو اجملتمع مكانة خاصة‬ ‫باعتباره(مثقف) وىي مكانة تعود عليو بعدد كبَت من اؼبكاسب اليت قد ال يكوف من بينها‬ ‫مكاسب مادية و لكنها يف النهاية مكاسب تلقى الرضى من اؼبثقف و تغري غَته باؼبشي‬ ‫على خطاه‪ .‬و ينطبق نفس الشيء بالنسبة للمتدين اؼبتمثل لدينو و الذي يطلق عليو رجل‬ ‫الدين أو أي من األلقاب اليت ربمل الشيء الكثَت من معاين اإلجبلؿ و اإلكبار ‪ ،‬وليس من‬ ‫قبيل الصدفة إذف أف تكوف تلك البلئحة من اعبزاءات واغبوافز االجتماعية اليت يناؽبا‬ ‫الشخص من (اؼبؤسسة) الثقافية أو الدينية مل تكن إعتباطية أو ببل مربر‪ ،‬وإمبا يبكن القوؿ‬ ‫بأ ّف اؼبربر األىم لذلك كاف ىو اغبفاظ على سباسك اجملتمع و جعلو بنية جديرة بالتقدير‬ ‫واالحًتاـ‪ .‬عليو فإ ّف ىذه اؼبناطق اػبمس اليت تتماس فيها دوائر الثقايف و الديٍت ذبعلنا‬ ‫نذىب إىل القوؿ بأ ّف ىذه الدوائر غَت مستقلة عن بعضها البعض أو على أقل تقدير بينها‬ ‫نوع من التبادلية يف الدور واؼبكانة اليت تلعبها يف اغبفاظ على سباسك اجملتمع اؼبعُت و اغبس‬ ‫على قيم التعايش و اغب وار بُت شعوب االرض قاطبة ذلك الدور الذي ال يبكن مضاىاتو من‬ ‫وجهة نظر الباحث بدور أي (مؤسسة) أخري‪ .‬لذلك يبكن القوؿ بأنو ال يبكننا أف نتصور‬ ‫وجود حضارة ذات نقاء ثقايف أو ديٍت تكوف حضارة يطبعها العقل و سبيزىا االستمرارية‬ ‫ولذلك يعًتؼ بوبر بأف اغبضارة الغربية ىي حصيلة معقدة جداً لعدد من اؼبؤثرات الثقافية‬ ‫والدينية بدت من اغبضارة االغريقية والرومانية وانتهاءاً باؼبؤثرات اليت اكتسبتها من موجات‬ ‫‪64‬‬


‫د‪.‬قيس محمود حامد‬

‫الدين والثقافة‪ ،‬تبادلية الدور واملكانة‬

‫الغزو اعبرماين واإلسبلمي ‪ ،‬كل ىذه اؼبؤثرات جعلت تلك اغبضارة تتصف بأهنا عقبلنية‪.، 1‬‬ ‫فعقبلنية اغبضارة األوربية_لو صدقت‪ -‬تعود يف األساس إىل تعدد مشارهبا الدينية و الثقافية‬ ‫و بالتايل العرقية ‪ ،‬فاغبضارة األوربية إذف ليست أوربية خالصة و إمبا شاركت يف تكوينها عدد‬ ‫من اؼبؤثرات اؼبختلفة و كذا اغبضارة اإلسبلمية يف أوج ازدىارىا‪ ،‬و ىذا األمر هبعلنا لبلص‬ ‫إىل نتيجة مفادىا أ ّف اغبضارة تغٌت بتعدد مواردىا الثقافية والدينية و يذىب بريقها بإنكفائها‬ ‫على ذاهتا و رفضها لبلستعارة و التبادؿ مع اآلخر ‪.‬‬ ‫والوقع أ ّف الدين أكثر تغلغبلً يف الشأف العاـ من أف يتم ربديده أو ربييده فكل‬ ‫مظهر من مظاىر اغبياة و كل شأف ىو يف التحليل النهائي شأف ديٍت ويف ذلك يقوؿ تعاىل‪:‬‬ ‫ِ​ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫‪‬قُل إِ َّف َ ِ‬ ‫ُت‪ ))162( ‬وىذه القراءة للواقع‬ ‫اي َوفبَ​َ ِاٌب للّو َرب الْ َعالَم َ‬ ‫صبلٌَب َونُ ُسكي َوَْؿبيَ َ‬ ‫ْ‬ ‫االجتماعي ليست يف اغبقيقة قراءة اؼبسلم أو اؼبتدين فقط بل ىي قراءة دوركامي أيضاً الذي‬ ‫يرى أف التجمع يف حد ذاتو شأف ديٍت أو ال شئ وسواء تعلق األمر بتمجيد اؼبيت أو‬ ‫اعبدود أو تاريخ حدث خرايف أو حدث تأسيسي أو بإحياء ذكرى ‪ ..‬كل ىذه اؼبعتقدات‬ ‫ترتكز على أ فكار يف غاية اعبنوف ‪ ،‬لكنها متماسكة فهي ربرؾ اعبماىَت وتعدؿ اذباه‬ ‫التاريخ‪ .2‬وقبل التاريخ ىي تعدؿ إذباه اغبياة أيضاً ولوال ذلك ؼبا استعاف هبا اجملتمع ووظفها‬ ‫بغاية الذكاء للمحافظة على كينونتو و بقائو‪ .‬يصدؽ ذلك على أي ؾبتمع متشبع بثقافة‬ ‫معينة أو بدين ؿبدد فالثقايف و الديٍت كما أكدنا مراراً متداخبلف فمثبلً (ال يبكن فك‬ ‫اؼبسيحية – اإلسبلـ من النصوص اليت كتبت يف ضوئها ومن اؼبواقع اجملتمعية ‪ ،‬أو‬ ‫االجتماعية اليت ذبليا خبلؽبا وعربىا أو ذبريدنبا من الفضاء اجملتمعي والثقايف والسياسي ‪،‬‬ ‫فإذا كانت الديانتاف ظباويتاف ويبكن ربطهما من حيث السلطة اؼبرجعية بالكائن اؼبتعايل‬ ‫(اهلل) فهما يف جوىرنبا ال تستوعباف إال أرضياً ‪ ،‬فصورة السماء ترى يف مرآة األرض ‪،‬‬ ‫‪1‬بوبر‪ ،‬كارؿ أسطورة اإلطار‪ ،‬ص ‪65‬‬ ‫‪ 2‬دي بيازي‪ ،‬بيَت مارؾ ‪ ،‬تأمبلت يف الشأف الديٍت‪ . ،‬ص ‪ 166‬مرجع سابق‬ ‫‪65‬‬


‫تفكُّر ‪ ،‬جملد (‪ ،)31‬العدد (‪2013 ، )2-3‬م‪1434/‬هـ‬

‫الفلسفة وفلسفة العلوم‬

‫وحقيقة اهلل تستوعب من خبلؿ ذىن بشري)‪ .1‬و لكن صورة السماء اؼبنعكسة على مرآة‬ ‫األرض يشوهبا غالباً بعض التشويش بفعل األىواء و التفاسَت اؼبختلفة و اليت زبضع لعدد من‬ ‫العوامل من بينها الثقافة ‪ ،‬وىذا األمر يبكن أف يكوف طبيعياً و لكن يبكن أف يتحوؿ إىل‬ ‫صراع بُت تلك الرؤى وىذا ىو اؼبشهد األكثر ظهوراً وتأثَتاً إذ (ليس ىناؾ دين ال ترتبط بو‬ ‫سلسلة من الصراعات ـبتلفة يف مرجعيتها – ىناؾ صراعات شىت ربتد وتشتد نابعو من‬ ‫القاع اجملتمعي ‪ ،‬لتؤكد تأزمي الوضع االجتماعي والسياسي والتارىبي ‪ ،‬والبد من التحوؿ‬ ‫وضرورة ذبلي واقع آخر ـبتلف يف عبلماتو االجتماعية والسياسية ‪ ،‬صراعات سبهد لظهور‬ ‫ىذا الدين أو ذاؾ ‪ ،‬حيث ال يعود باإلمكاف االستمرار وفق ما ىو معاش )‪ .2‬ولكن البديل‬ ‫ليس جاىزاً اآلف من وجهة نظر الباحث على األقل ‪ ،‬أعٍت أنو ليس ىناؾ بديل جاىز ؿبدد‬ ‫اؼبعامل ‪ ،‬وما ىو متاح ؿبدد دبجموعة من احملددات يصعب استيفائو‪ ،‬فمناصرو النسبية‬ ‫يطرحوف أمامنا مقاييس للتفاىم اؼبتبادؿ ‪ ،‬ال وبكم الواقع بأهنا جادة ‪ ،‬وحينما نفشل يف‬ ‫استيفاء تلك اؼبقاييس ‪ ،‬يزعموف أف التفاىم مستحيل ‪ ،‬ويف مقابل ىذا ‪ ،‬أسوؽ اغبجج‬ ‫مؤكداً أ ّف التفاىم فبكن على اؼبدى البعيد ‪ ،‬إذا توافرت اإلرادة اػبَتة اؼبشًتكة وبذلنا من أجلو‬ ‫جهداً وافراً ‪ ،‬باإلضافة إىل أ ننا ‪ ،‬خبلؿ ىذه العملية قبد الدور السابق عبهدنا واؼبتمثل فيما‬ ‫نتعلمو عن آدائنا اػباص ‪ ،‬وباؼبثل عن آداء أولئك الذين نسلك سبيل التفاىم معهم ‪..3‬‬ ‫وؾبدداً أوليست دعاوى اؽبوة بُت األطر اؼبختلفة أو بُت الثقافات اؼبختلفة يبكن‬ ‫ألسباب منطقية اجتيازىا دائماً ‪ ،‬إمبا تنحصر دعواي يف أهنا يبكن عادة اجتيازىا ‪ ،‬قد ال‬ ‫يكوف شبة افًتاضات مشًتكة بُت اعبماعات البشرية اؼبختلفة من قبيل مشكبلت البقاء على‬ ‫قيد اغبياة ‪ ،‬ولكن حىت اؼبشكبلت اؼبشًتكة قد ال تكوف ىي اؼبطلوبة دائماً ‪ ،‬دعواي ىي أ ّف‬ ‫اؼبن طق ال يدعم أسطورة االطار وىو ال يدعم أسس أنكارىا ‪ ،‬بل إننا نستطيع أف كباوؿ‬ ‫‪ .1‬ؿبمود ‪،‬إبراىيم ‪،‬اؼبسيحية واإلسبلـ تصورات متخيلة ورىانات سياسية ‪، ،‬ص ‪171‬مرجع سابق‬ ‫‪ 2‬ؿبمود‪ ،‬إبراىيم‪ ،‬اؼبسيحية واإلسبلـ تصورات متخيلة ورىانات سياسية ‪،‬ص ‪.174‬مرجع سابق‬ ‫‪3‬بوبر ‪،‬كارؿ ‪،‬أسطورة االطار‪ .‬ص ‪ 60‬مرجع سابق‬ ‫‪66‬‬


‫د‪.‬قيس محمود حامد‬

‫الدين والثقافة‪ ،‬تبادلية الدور واملكانة‬

‫التعلم من بعضنا البعض ‪ .1‬وىذا ىو الدرس اغبضاري اؼبستفاد من تفحص التبادلية الدين و‬ ‫الثقافة ‪ ،‬و من معرفة طبيعة كل منهما ‪ ،‬ىذا الدرس الذي ؿبصلتو النهائية ىي أنو ليس‬ ‫ىناؾ ثقافة مكتفية ذاتيا ‪ ،‬ىو الذي هبعلنا نسعى للتبادؿ و اغبوار‪.‬‬ ‫المهم و األهم‬ ‫يرى بوبر أف ما هبب أف نتعلمو ىو أف االنتصار ال يعٍت شيئاً ‪ ،‬بينما يكوف النجاح‬ ‫العظيم يف أبسط توضيح ؼبشكلة ينشغل هبا اؼبرء ‪ ،‬بل ويف اؼبسانبة يف السَت قدما كبو تفهم‬ ‫أوضح ؼبوقفو اػباص أو موقف واحد من خصومو ‪ ،‬ألف اؼبناقشة اليت ننتصر فيها بينما تفشل‬ ‫يف أف تعيننا على تغيَت أو توضيح أفكارنا ولو إىل حد يسَت هبب اعتبارىا خسراناً مبينا ‪،‬‬ ‫ولصميم ىذا السبب ال ينبغي اف وبدث أي تغيَت يف موقف اؼبرء بصورة خفيو عن األعُت‬ ‫بل هبب دائماً التأكيد عليو واستكشاؼ معقباتو ‪.2‬‬ ‫فالتبادلية ماثلة على اؼبستويُت الديٍت و الثقايف ‪ ،‬و من النماذج الواضحة مبوذج‬ ‫التبادلية بُت الدين اإلسبلمي و الثقافة العربية السائدة ‪ ،‬فالكثَت من التشبيهات و‬ ‫االستعارات مردىا إىل البيئة و الثقافة العربية السائدة وقت تنزؿ القرآف الكرمي و ىي بالتأكيد‬ ‫ليست عربية خالصة النقاء_ مثاؿ على ذلك الكثَت من اؼبفردات الفارسية و الرومية مثل‬ ‫الدرىم و الدينار واالستربؽ و السندس وغَتىا‪ -‬ولكن القرآف تعامل مع تلك البيئة الثقافية‬ ‫دبا ىي عليو ‪ ،‬إذ أف تلك العوامل و اؼبفردات اؼبستعارة من قبل حضارات أخرى قد ًب‬ ‫إحتضاهنا و تدجينها و إدخاؽبا يف القوالب العربية و بالتايل أصبحت جزء ال يتجزأ من‬ ‫الثقافة العربية‪ .‬و يف اؼبقابل فإف اإلسبلـ بعد وجوده قد أثر على الثقافة العربية بصوره ذبعل‬ ‫من الصعب استخبلص جزء من مكوناهتا مل يطلو ذلك التأثَت‪ ،‬و ىذا ما يربر تسميتها‬ ‫باغبضارة العربية اإلسبلمية‪ .‬وىذا األمر يصدؽ على كل الثقافات و األدياف يضعف أو يكثر‬ ‫ولكنو ال ينعدـ‪.‬واػبطوة األوىل يف الطريق الصحيح ىي الكشف عنها لياٌب بعد ذلك تفعيلها‬ ‫وىذا ىو األىم‪.‬‬ ‫‪1‬اؼبرجع السابق‪ ،‬ص ‪64‬‬ ‫‪2‬اؼبرجع السابق‪،‬ص ‪. 71‬‬ ‫‪67‬‬


‫تفكُّر ‪ ،‬جملد (‪ ،)31‬العدد (‪2013 ، )2-3‬م‪1434/‬هـ‬

‫الفلسفة وفلسفة العلوم‬

‫المراجع ‪:‬‬ ‫‪ -1‬القرآف الكرمي ‪.‬‬ ‫الصباغ‪،‬اؼبنظمة العربية للًتصبة‪ ،‬الطبعة‬ ‫‪ -2‬أنتوني غدنر‪،‬علم االجتماع‪،‬ترصبة وتقدمي فايز ُ‬ ‫األوىل‪2005‬‬ ‫‪ -3‬أحمد إسماعيل‪ ،‬السبع ‪ ،‬مفاىيم إسبلمية‪ ،‬دار العلم ‪1988‬ـ ‪.‬‬ ‫‪ -4‬أضبد اؼبوصلي ‪ ،‬لؤي صايف‪ ،‬جذور أزمة اؼبثقف يف العامل العريب‪ ،‬دار الفكر اؼبعاصر‬ ‫‪2002‬ـ‬ ‫‪ -5‬األشقر‪ ،‬عمر سليمان عبد اهلل ‪ ،‬كبو ثقافة إسبلمية أصيلة ‪ ،‬الكويت دار النقاش‬ ‫األىلية األردف ‪.2001‬‬ ‫‪ -6‬بوبر‪ ،‬كارل ‪ ،‬أسطورة اإلطار ‪ ،‬يف الدفاع عن العقل والعقبلنية ‪،‬عامل اؼبعرفة‬ ‫الكويت‪.2003،‬‬ ‫‪ -7‬بوبر‪ ،‬كارل ‪ ،‬اغبياة بأثرىا حلوؿ اؼبشاكل‪ ،‬ت‪ .‬هباء درويش منشأة اؼبعارؼ مصر‬ ‫ط‪1994 1‬ـ ‪.‬‬ ‫‪ -8‬جبر‪،‬محمد سالمة ‪ ،‬ىل من ناقصات عقل ودين ‪ ،‬دار السبلـ القاىرة ‪2006‬ـ‪.‬‬ ‫‪ -9‬رضا ‪ ،‬أنور طاىر ‪ ،‬الثقافة سباؽ الورقة والشاشة ‪ ،‬مكتبة الًتبية العريب لدوؿ اػبليل‬ ‫دوف تاريخ‪.‬‬ ‫‪ -10‬ابن عاشور ‪ ،‬ؿبمد الطاىر ‪ ،‬تفسَت اؼبنار ‪ ،‬بَتوت دار اؼبعرفة ‪1993‬ـ‬ ‫‪ -11‬الغنوشي ‪ ،‬راشد ‪ ،‬حوارات‪ ،‬قصي صاحل درويش‪ ،‬لندف بدوف تاريخ ‪.‬‬ ‫‪ -12‬فراج ‪ ،‬أحمد ‪ ،‬خصائص الثقافة العربية واإلسبلمية يف ظل حوار الثقافات ‪.‬‬ ‫‪ -13‬القرضاوي ‪ ،‬يوسف‪ ،‬الثقافة اإلسبلمية بُت األصالة واؼبعاصرة ‪ ،‬مكتبة وىبة‬ ‫‪2005،‬ـ‪.‬‬ ‫‪ -14‬محمد ‪ ،‬سيد ‪ ،‬محمد الغزو الثقايف واجملتمع العريب اؼبعاصر‪ ،‬دار الفكر العريب‬ ‫القاىرة ‪1994‬ـ‬ ‫‪68‬‬


‫د‪.‬قيس محمود حامد‬

‫الدين والثقافة‪ ،‬تبادلية الدور واملكانة‬

‫‪ -15‬المرتضى ‪ ،‬محمد حسين ‪ ،‬الثقافة اإلسبلمية ومواجهة التيارات الفكرية ‪.‬اؼبعادية‬ ‫لئلسبلـ ‪ ،‬جامعة عمر اؼبختار البيضاء ‪2004‬ـ‪.‬‬ ‫‪ -16‬مؤسبر تدريس الثقافة اإلسبلمية وقضايا العصر يف اعبامعات‪ ،‬جامعة الزرقاء ‪.‬‬ ‫‪ -17‬الميالد ‪ ،‬زكي ‪ ،‬اإلسبلـ واإلصبلح الثقايف ‪ ،‬أطياؼ للنشر والتوزيع الرياض‪،‬‬ ‫‪2007‬ـ‪.‬‬ ‫‪ -18‬الميالد ‪ ،‬زكي ‪ ،‬اؼبسألة الثقافية ‪ ،‬من أجل بناء نظرية يف الثقافة ‪ ،‬اؼبركز الثقايف‬ ‫العريب ‪2005‬ـ‪.‬‬ ‫‪ -19‬ولد السعد ‪ ،‬محمد المختار ‪ ،‬عوائق اإلبداع يف الثقافة العربية بُت اؼبوروث‬ ‫وربديات العوؼبة‪ ،‬مكتب األمارات للبحوث والدراسات االسًتاتيجية‪.‬‬ ‫الدوريات ‪:‬‬ ‫‪ -1‬بيير مارك دي بيازي‪ -‬تأمبلت يف الشأف الديٍت – ترصبة ؿبمود ميبلد ‪ ،‬الثقافة‬ ‫العاؼبية ‪2004‬ـ‪.‬‬ ‫‪ -2‬الرباعي‪ ،‬عبد القادر – ثقافة النقد ونقد الثقافة قراءة يف ربوالت النقد الثقايف –‬ ‫عامل الفكر ـ ‪ – 33‬يناير مارس ‪2005‬‬ ‫‪ -3‬ريتشارد هوجارت – الثقافة والدولة – ترصبة شعباف عبد العزيز عفيفي‪ ،‬الثقافة‬ ‫العاؼبية‪ ،‬الكويت ع ‪2001 ،108‬ـ‪.‬‬ ‫‪ -4‬السيد رضوان ‪ ،‬التاريخ واالستحالة يف التحوالت التارىبية ويف الوعي ‪ ،‬االجتهاد‬ ‫ع‪1994، 25‬ـ‪ ،‬دار االجتهاد بَتوت لبناف‪.‬‬ ‫‪ -5‬السيد ‪ ،‬رضوان ‪ ،‬االنثروبولوجيا والتاريخ واالستشراؽ ‪ ،‬االجتهاد ‪/48 /47‬‬ ‫‪2000‬ـ ‪ .‬دار االجتهاد بَتوت لبناف‬ ‫‪ -6‬السماك ‪ ،‬محمد ‪ ،‬العوؼبة واثرىا على اػبصوصيات الثقافية ‪ ،‬االجتهاد ‪/53 /52‬‬ ‫‪2002 /2001‬ـ ‪ .‬دار االجتهاد بَتوت لبناف‬

‫‪69‬‬


‫تفكُّر ‪ ،‬جملد (‪ ،)31‬العدد (‪2013 ، )2-3‬م‪1434/‬هـ‬

‫الفلسفة وفلسفة العلوم‬

‫‪ -7‬السماك ‪،‬محمد – اعبوامع اؼبشًتكة بُت الديانات – االجتهاد ع‪ 29‬س‪– 7‬‬ ‫‪1995‬ـ دار االجتهاد بَتوت لبناف‬ ‫‪ -8‬ستيفان كوليني –اغبديث عن الثقافة –– ترصبة عمر عطاري‪ .‬الثقافة العاؼبية‬ ‫ع‪ 11‬سبتمرب ‪2002‬ـ‪ ،‬الكويت‪.‬‬ ‫‪ -9‬عبد الحميد ‪ ،‬عرفان‪ ،‬اؼبنهج العلمي ومقاربتو يف القرآف الكرمي‪ ،‬التجديد ‪ ،‬اعبامعة‬ ‫اإلسبلمية العاؼبية ‪1997 /1‬ـ‪.‬‬ ‫‪ -10‬لورفيغ هاتمان ‪ ،‬اؼبسيحية واإلسبلـ من التصادـ للتبلقي ‪ ،‬االجتهاد ‪/30 ،‬‬ ‫‪1996‬ـ ‪ ،‬دار االجتهاد بَتوت لبناف‪.‬‬ ‫‪ -11‬مراد ‪،‬محمد ‪،‬اجملتمع اإلسبلمي والغريب ‪ ،‬االجتهاد ‪1999 ،43 ،‬ـ دار‬ ‫االجتهاد بَتوت لبناف‬ ‫‪ -12‬هافا الزاروس‪ -‬الفكر اإلسبلمي والفكر اليهودي بعض جوانب التأثَت الثقايف‬ ‫اؼبتبادؿ ‪ -‬االجتهاد ‪ .‬ع‪ 28‬س ‪ ،1995 – 7‬دار االجتهاد بَتوت لبناف‪.‬‬ ‫‪ -13‬ويلي فان بيير – صخب ونبس حوؿ التعددية الثقافية –ترصبة معصومة‬ ‫حبيب– الثقافة العاؼبية‪ ،‬ع ‪ – 112‬مايو ‪2002‬ـ‪.‬‬ ‫المراجع االجنبية‪:‬‬

‫‪1- MATHEW‬‬ ‫‪Deflem,‬‬ ‫‪Introduction:‬‬ ‫‪Low‬‬ ‫‪in‬‬ ‫‪Hahormas’stncmy of Communicative Action, Phil and‬‬ ‫‪Social Lriticism VOL20 NO 4 1994.‬‬ ‫‪2- Weber, Max: Economy and Society,Edited by Gventher‬‬ ‫‪Roth‬‬ ‫‪3- Burger, Thomas: Max Weber’s Theory of Concept and‬‬ ‫‪chiswittich, Formation, University of California press,‬‬ ‫‪Durham Duke, Berkeley, Los Angelos, London ,1987,‬‬ ‫‪P.184.‬‬ ‫‪6:‬‬


‫الدين والثقافة‬ ‫تبادلية الدور والمكانة‬ ‫مقدمة‪:‬‬

‫د‪ .‬قيس محمود حامد*‬

‫يدور نقاش عميق بُت اؼبشتغلُت يف ؾباؿ العلوـ اإلنسانية عن الدور الذي يلعبو كبلً‬ ‫من الدين والثقافة يف بناء اجملتمع واغبفاظ عليو‪ ،‬ويف ىذا السياؽ يطرح ىذا البحث عدداً‬ ‫من األسئلة مثل أيهما أوسع مفهوماً وأبعد مدى وأيهما أسبق يف الوجود على اآلخر وبالتايل‬ ‫أيهما مؤثر وأيهما متأثر باآلخر ‪ .‬ودبا أ ّف ىذه القضية حيوية جداً وذات انعكاسات خطَتة‬ ‫على اغبياة و على العلم يف آف معاً أردنا أف نديل بدلونا فيها علنا نسهم يف توضيح البٌت‬ ‫اؼبفهومية والًتكيبة لعنصرين مل يشهد التاريخ ظهور ؾبتمع خايل من أي منهما وال نظن أف‬ ‫اؼبستقبل سيختلف عن ذلك ‪.‬‬

‫مفهوم الثقافة‪:‬‬

‫تعٍت الثقافة يف نظر علماء االجتماع جوانب اغبياة االنسانية اليت يكتسبها اإلنساف‬

‫بالتعلم ال بالوراثة‪.‬و اليت يشًتؾ أ عضاء اجملتمع بعناصر الثقافة تلك اليت تتيح ؽبم ؾباالت‬ ‫التعاوف و التواصل و سبثل ىذه العناصر السياؽ الذي يعيش فيو أفراد اجملتمع‪ ،‬وتتألف ثقافة‬ ‫اجملتمع من جوانب مضمرة غَت عيانية مثل اؼبعتقدات و اآلراء والقيم اليت تشكل اؼبضموف‬ ‫اعبوىري للثقافة‪ ،‬ومن جوانب عيانية ملموسة مثل ‪:‬األشياء و الرموز أو الثقافة اليت تشكل‬ ‫ىذا اؼبضموف‪.‬‬

‫‪1‬‬

‫إ ّف اجملاؿ الداليل الذي يشَت إليو مصطلح الثقافة "‪ "Culture‬ىو ؾباؿ واسع‬ ‫ومعقد ولو تاريخ متشابك حبيث مل يعد فبكناً من الناحية العملية التعامل مع ىذا اؼبصطلح‬ ‫على أنو يشَت إىل موضوع مستقل بذاتو ‪ٍ ،‬ب إ ّف حقيقة وجود عبارات مشتقة منو وبصيغة‬

‫* أستاذ مساعد‪ ،‬معهد إسبلـ اؼبعرفة ‪،‬جامعة اعبزيرة ‪ ،‬ودمدين ‪ ،‬السوداف‪.‬‬ ‫‪1‬‬ ‫الصباغ‪،‬اؼبنظمة العربية للًتصبة‪ ،‬الطبعة األوىل‪،2005‬‬ ‫أنتوين غدنر‪ ،‬علم االجتماع‪،‬ترصبة وتقدمي فايز ُ‬ ‫ص‪.82‬‬


‫تفكُّر ‪ ،‬جملد (‪ ،)31‬العدد (‪2013 ، )2-3‬م‪1434/‬هـ‬

‫الفلسفة وفلسفة العلوم‬

‫اعبمع "الثقافات" "‪ "Cultures‬يدؿ على موضوع ـبتلف كلياً عما يشَت إليو البعض‬ ‫دبصطلح الثقافة أي دبعٌت أنو يشَت إىل علم واحد مستقل بذاتو‪. 1‬‬ ‫واألىم من ذلك ىل كبن نتعامل مع نظاـ حياة أـ مع علم ‪ ،‬إف كاف ذلك علم‬ ‫فهل ىو واح ٌد بذاتو أـ متعدد؟ الواقع أف األمر ليس سهل التحديد فما ىو موجود ىناؾ‬ ‫ليس الثقافة وإمبا ىو واحداً من مكوناهتا‪ ،‬أعٍت الرمز أو العرؼ أو العادات و التقاليد ‪،‬فأيّاً‬ ‫من ىذه اؼبكونات اليبكن أف نطلق عليها منفردة مصطلح ثقافة ‪ ،‬و بالتايل فإ ّف الثقافة ىي‬ ‫بالضرورة إنتقائية و نسقية‪.‬وهبذا الوصف فهي علم ‪.‬أراد الباحث بإثارة ىذه النقطة لفت‬ ‫اإلنتباه إىل ضرورة الفصل و التمييز بُت –اؼبفهوـ‪ /‬العلم‪ -‬وبُت الواقع الذي يعاعبو ىذا‬ ‫العلم‪ .‬و من ٍب فإ ّف اؼبعاعبة اليت يقوـ هبا الباحث لبياف التبادلية يف الدور و اؼبكانة تشمل‬ ‫اإلثنُت معاً الثقافة باعتبارىا دراسة نسقية أو علم و الثقافة باعتبارىا نظاماً معيشاً‪،‬‬ ‫وباختصار ساستعُت بتفسَت كولَت وتوماس للثقافة بوصفها سباىي شخص مع ؾبموعة سبتلك‬

‫نظاماً مشًتكاً متناقبلً تارىبياً من الرموز واؼبعاين واألعراؼ السلوطية ومقبولة قبوالً قائماً على‬

‫االدراؾ‪.2‬‬ ‫وإذا أردنا أف نشَت إىل الكلمات اؼبفتاحية يف التعريف السابق فهما ببل شك‬ ‫_سباىي و إدراؾ – فالقبوؿ التمثيلي لتلك اؼبكونات من قبل ؾبموعة من األشخاص ىو ما‬ ‫هبعلها ترقى ألف تكوف ثقافة أو على األقل سبكننا من إطبلؽ ىذا اؼبفهوـ عليها‪ ،‬ولكن‬ ‫الشرط اآلخر ليس أقل أنبية من األوؿ و ىو( الوعي) أي أف يكوف القبوؿ قبوالً واعياً لتلك‬ ‫الرموز واألعراؼ و اؼبعاين ‪ ،‬وىذا يعٍت بالضرورة أف تلك اؼبكونات ال يبكن أف نطلق عليها‬ ‫ثقافة وىي ‪-‬ىناؾ‪ -‬أي يف معزؿ عن سبثل الناس ؽبا ‪ .‬وبالتايل تكوف الثقافة بكلمة موجزة‬ ‫‪ .1‬كوليٍت ‪،‬ستيفاف ‪،‬اغبديث عن مصطلح الثقافة ‪::‬ترصبة عمر عطاري‪ ،‬الثقافة العاؼبية ‪،‬العدد ‪ 11‬سبتمرب‬ ‫‪2002‬ـ‪ ،‬ص‪. 168‬‬ ‫‪ 2‬فاف بيَت ‪،‬ويلي صخب ونبس حوؿ التعددية الثقافية ‪ ،‬ترصبة معصومة حبيب ‪،‬عامل الثقافة‪،‬ع ‪112‬‬ ‫‪،‬مايو ‪2002‬ـ‪ ،‬ص‪.138‬‬ ‫‪46‬‬


‫د‪.‬قيس محمود حامد‬

‫الدين والثقافة‪ ،‬تبادلية الدور واملكانة‬

‫ىي دائرة نشاط اإلنساف اؼبتحققة على األرض فعبلً مستقراً ‪ ،‬والراسخة فيمن يدب فوقها‬ ‫من البشر أثراً باقياً ‪ ،‬أو ىي كما يصفها '‪" R. Williams‬كل طريقة للحياة يعيشها‬ ‫الناس" أما الدراسات الثقافية ‪ ،‬فهي ذبميع أطياؼ ـبتلفة تشبو يف ذبمعها ألواف قوس قزح‬ ‫اؼبتنوعة ‪ ،‬وىذه االطياؼ اؼبتنوعة ىي ما تضمو النظرية النقدية اؼبعاصرة وحسب نقاد من‬ ‫أمثاؿ ادوارد سعيد وباربارا جونسوف وستيوارت مولًتوب وغَتىم ‪ ،‬فإ ّف الدراسات النظرية‬ ‫تبقى حيوية يف ؿبيط األسئلة العامة ‪ ،‬واليت نادراً ما تتوحد يف برنامج واحد يضم على كبو‬ ‫‪1‬‬ ‫جيد كل اىتماماهتا وأنظمتها‬ ‫فالدراسات الثقافية ليست علماً ولكنها نسق ؿبدد من البٌت النظرية اليت تعٌت‬ ‫بالشأف اإلنساين‪ ،‬واليت يبكن أف تنظر إىل أو يف مكوف واحد أو أكثر من مكونات الثقافة‪.‬‬ ‫وىذا (النظر) ليس ؿبايداً بالضرورة ولكنو ؿبمل بأيدولوجيا الناظر أو ؿبكوـ بزاوية النظر على‬ ‫األقل ومن ىنا يأٌب اإلختبلؼ بُت ؾبمل النظريات يف الدراسات الثقافية ‪ ،‬وىو أمر ليس‬ ‫بعيداً عن الدرسات الدينية‪ .‬ولكن بالرغم من كل ذلك فإف مصطلح الثقافة ال يزاؿ اظباً ذا‬ ‫قيمة يذكرنا بتلك القيم اليت عادة ما يهملها أصحاب الثروة والنقود يف العامل ومن ىذا‬ ‫اؼبنظور فإ ّف مصطلح الثقافة ال يزاؿ ينطوي على مفهوـ أخبلقي ويلمح إىل النتائج اليت‬ ‫سعت إليها ال نشاطات اإلنسانية اػبالية من اؼبصاحل الشخصية اليت ىدفت إىل اكتشاؼ‬ ‫وتوسيع القدرات اإلنسانية ‪ ،‬وسبثل النشاطات الفكرية والفنية على سبيل اؼبثاؿ ال اغبصر‬ ‫امبوذجاً ؽبا ‪ ،‬ويلمح اؼبصطلح كذلك إىل تأثَت ىذه النتائج يف العمليات اليت تتحكم فيها‬ ‫غايات نفعية‪ 2 .‬و الثقافة هبذه الصور أوسع مدى من الناحية اؼبفهومية من الدين ‪ ،‬إذ‬ ‫تتضمن الدين ضمن ما يتم سبثلو ثقافياً وسوؼ نرى أف ىذا الوضع سوؼ ينعكس يف مرحلة‬ ‫أخرى من مراحل التداخل بُت اجملالُت عند تناولنا للدين‪.‬‬ ‫‪ 1‬الرباعي‪،‬عبد ال قادر ‪ ،‬ثقافة النقد ونقد الثقافة قراءة يف ربوالت النقد الثقايف ‪،‬عامل الفكر ع ‪33‬‬ ‫يناير مارس ‪2005‬ـ‪ ،‬ص ‪.211‬‬ ‫‪2‬كوليٍت ‪،‬ستيفاف ‪،‬اغبديث عن مصطلح الثقافة‪ ،‬ترصبة عمر عطاري‪ ،‬ص ‪175‬مرجع سابق‪.‬‬ ‫‪47‬‬


‫تفكُّر ‪ ،‬جملد (‪ ،)31‬العدد (‪2013 ، )2-3‬م‪1434/‬هـ‬

‫الفلسفة وفلسفة العلوم‬

‫ثقافة ‪ -‬ثقافات‬

‫إذا توخينا إحراز تقدـ يف دراستنا لبلختبلفات الثقافية ‪ ،‬فإ ّف ىناؾ شرطاً أساسياً ال‬

‫غٌت عنو لتحقيق ىذا التقدـ وىو أف يتوفر لدينا وصف منصف وموثوؽ بو ؽبذه الثقافات ‪،‬‬ ‫وما دامت لدينا معلومات خاطئة سباماً عن بعضنا بعضاً أو تنقصها اؼبصداقية غبد كبَت ‪ ،‬فإ ّف‬ ‫معرفتنا ستكوف ىزيلة وناقصة وسنبقى ضحايا ألوىامنا‪ .1‬قد يكوف فهم الثقافة واستيعاهبا‬ ‫من اػبارج عملية بالغة الصعوبة‪ .‬فنحن ال نستطيع أف نفهم اؼبمارسات و اؼبعتقدات دبعزؿ‬ ‫عن النطاؽ الثقايف األوسع الذي تكوف جزءاً من مكوناتو و عناصره‪ ،‬ومن ىنا فإنو ينبغي‬ ‫دراسة الثقافة يف إطارىا و دبوجب دالالهتا اػباصة‪ .‬وتلك ىي واحدة من اإلفًتاضات‬ ‫الرئيسية يف علم االجتماع‬

‫‪.2‬‬

‫فالتعرؼ األمثل على الثقافة يكوف عن طريق اؼبعايشة و اؼببلحظة الفعالة عن قرب‬ ‫أو بصورة أخرى دراسة الثقافة "‪ "from within‬وبتحقيق ىذه اػبطوة يتبُت لنا أ ّف‬ ‫ىناؾ ثقافات وليس ثقافة واحدة ‪ ،‬فالدراسة من قرب تبُت ىذه اغبقيقة و اليت ال ينبغي أف‬ ‫تسبب أي إزعاج للمشتغل بالدراسات الثقافية‪ ،‬و مثل ىذه الشروط اؼبسبقة تقع يف خانة‬ ‫اؼباوراء أي ىي الشروط اليت ربكم العلم و تشكل إطاره العاـ‪ ،‬بناءً على ذلك تشكل يف‬ ‫العقود األخَتة من القرف العشرين إذباه أو قوؿ خطاب عرؼ خبطاب ما بعد الثقافة‪ ،‬أو‬ ‫ماوراء الثقافة‪ ،‬يقوؿ موؽبَتف أ ّف الدافع الثابت من وراء مفهوـ اػبطاب ما بعد الثقايف ‪ ،‬ىو‬

‫عزؿ السياسة كشكل من اشكاؿ السلطة االجتماعية وىذه الرؤية تستمد أسس صحتها‬

‫بشكل أوىل من اعبذور االؼبانية للمصطلح‪. 3‬ولكن ليست السلطة السياسية وحدىا ىي اليت‬ ‫هبب حذفها وإمبا ك ل البٌت الفوقية اليت تتحكم يف الثقافة كعلم أما الثقافة كحالة معيشة فهي‬ ‫‪ .1‬فاف بيَت ‪،‬ويلي ‪،‬صخب ونبس حوؿ التعددية الثقافية ‪،‬ص ‪144‬مرجع سابق‪.‬‬ ‫الصباغ‪ ،‬اؼبنظمة العربية للًتصبة‪ ،‬الطبعة األوىل‬ ‫‪2‬غدنر‪ ،‬أنتوين ‪،‬علم االجتماع ‪،‬ترصبة وتقدمي فايز ُ‬ ‫‪ ،2005‬ص‪.86.‬‬ ‫‪ 3‬كوليٍت ‪،‬ستيفاف‪ ،‬اغبديث عن مصطلح الثقافة ‪، :‬ص ‪ 177‬مرجع سابق‪.‬‬ ‫‪48‬‬


‫د‪.‬قيس محمود حامد‬

‫الدين والثقافة‪ ،‬تبادلية الدور واملكانة‬

‫يف حالة أخذ وعطاء أو تبادلية كاملة مع كل األشكاؿ و األبنية اإلجتماعية اؼبختلفة وإذا‬ ‫كاف التحكم السياسي عيب وبد من فاعليتو و قدرتو على البناء ‪ ،‬فاغباؿ ليس كذلك على‬ ‫األقل بُت الثقافة و الدين و ذلك العتبار بسيط وىو أف التبادلية تتم بينهما بتؤده وبناءً على‬ ‫ضرورات اقتضاىا حكم الوقت و اغبالة اإلجتماعية للمجتمع احملدد وال يكوف ذلك بطبيعة‬

‫اغباؿ بقرار فردي ال يبلك اجملموع حيالو سوى التنفيذ وإمبا بقرار صباعي و لكن أيضا ليس‬ ‫يف غبظة واحد ‪ ،‬فالثقافة كما عرفنا يف تعريفها ىي قبوؿ إرادي ولكنها ال تأخذ ىذا اإلسم‬ ‫إال بعد أف تكوف( حالة ) عامة‪ .‬ىذا فيما ىبص التبادلية داخل الثقافة الواحدة أما يف حالة‬ ‫العبلقة بُت أكثر من ثقافة فإ ّف القوانُت اغباكمة للتبادلية سوؼ تتغَت أل ّف التبادؿ الثقايف أو‬ ‫اؼبقايضة الثقافية يبكن أف تفقد كثَتاً من قيمتها العظمى إذا كانت إحدى الثقافات اؼبتقايضة‬ ‫تعترب ذاهتا العليا واألكثر تفوقاً بشكل عاـ ‪ ،‬وكذلك إذا اعتربىا اآلخروف ىكذا ‪ ،‬قد يقوض‬

‫ىذا القيمة العظمى للتبادؿ الثقايف ألف اعظم قيمة لو تكمن يف أنو يستدعي اذباىاً نقدياً‪،‬‬ ‫ودبزيد من التعيُت ‪ ،‬إذ بات فريق مقتنعاً بدونيتو ‪ ،‬فإ ّف االذباه النقدي حملاولة التعلم من اآلخر‬

‫سوؼ وبل ؿبلو نوع من التسليم األعمي ‪ ،‬الوثبة العمياء إىل قلب دائرة سحرية جديدة أو‬ ‫االرتداد ‪ ،‬كما يصفو فبلسفة االيباف والفبلسفة الوجوديوف ‪ .‬وكما يرى بوبر فبل بد إذف من‬

‫وجود نوع من الندية أو التكافؤ ‪ ،‬و التكافؤ ىنا ال نعٍت بو التكافؤ يف اغبالة اغبضارية أو‬ ‫القوة اؼبادية أل ّف التبادؿ ال يتم على ىذا الصعيد و إمبا نعٍت بو التكافؤ من حيث القناعة‬ ‫بالقيم الثقافية اؼبتبناه ‪ ،‬و لكن هبب التحذير ىنا أيضاً من أف تتحوؿ تلك( القناعة ) إىل‬

‫إطار أو سور عازؿ أل ّف األطر ىي السجوف وأولئك الذين يبقتوف السجوف سوؼ يبقتوف‬ ‫أسطورة اإلطار ‪،‬و سوؼ يرحبوف باؼبناقشة مع مشارؾ آت من عامل آخر من أطار آخر ‪،‬‬

‫ألف ذلك يتيح ؽبم فرصة الكتشاؼ اغبلؽبم اليت يشعروا هبا حىت اآلف ‪ ،‬وأف وبطموا تلك‬

‫االغبلؿ وبالتايل أف يتعالوا على أنفسهم‪.. 1‬‬

‫‪1‬كارؿ بوبر‪ ،‬أسطورة اإلطار يف دفاع عن العقل و العقبلنية‪ ،‬عامل اؼبعرفة ‪ ،‬الكويت‪ ،‬ص ‪.81‬‬ ‫‪49‬‬


‫تفكُّر ‪ ،‬جملد (‪ ،)31‬العدد (‪2013 ، )2-3‬م‪1434/‬هـ‬

‫الفلسفة وفلسفة العلوم‬

‫فنبذ األطر و القناعة بالتكافؤ نبا شرطاف ضرورياف للتبدؿ البُت ثقايف ‪..‬كما أ ّف‬ ‫ىناؾ عوامل أخرى ػبصها ىاملتوف جب يف التايل‪.‬‬ ‫‪ -1‬التأثَتات الثقافية تسبق دائماً بنشاط قائم فعبلً يف حقوؿ ذات صلة ‪ ،‬وزبلق ىذه‬ ‫النشاطات القائمة على عامل جذب ال يبكن بدونو قياـ أي سبثل إبداعي للثقافة‬ ‫األخرى‬ ‫‪( -2‬إ ّف االكثر نفعاً أف تأخذ ال أف تعطي ) ولكن تستدعي العناصر اؼبستعارة توسيع‬ ‫حيوية الثقافة اؼبتلقية فقط إذا استطاعت أف ربصل على غذائها من النشاطات اليت‬ ‫قادهتا إىل االستعارة أصبلً‪.‬‬ ‫‪ -3‬ترفض الثقافة و تتجاىل كل العناصر اليت تتعارض مع قيمها األساسية أو مواقفها‬ ‫العاطفية أو معايَتىا اعبمالية ‪.‬‬ ‫واضح من ذلك أ ّف ىاملتوف يعترب استيعاب التقافات قيمو إهبابية و ال‬ ‫تقتصرىذه اإلهبابية على الثقافة وحدىا وإمبا تشمل معها الدين أيضاً ‪ ،‬ولكنو يضع حداً‬

‫للمرونة حىت ال تتحوؿ إىل ميوعة تنتفي معها ذاتية الدين أو الثقافة ولعل ىذا االحًتاز ىو‬ ‫ما عرب عنو الباحث سابقاً بالتكافؤ وعدـ اإلحساس بالدونية‪ .‬ولعل ىناؾ إحًتاز البد منو‬ ‫للدارسُت للتأثَتات اؼبتبادلة البُت دينية و البُت ثقافية وىو هبب أف يقبل كقاعدة عامة أف‬ ‫التطورات والظواىر اؼبتشاهبة يف ثقافات ـبتلفة أو أدياف ـبتلفة قد ال تكوف بالضرورة نتيجة‬ ‫لتأثَت إحداىا على األخرى وإمبا قد تكوف نتيجة لظروؼ خارجية متشاهبة أو بسبب ضرورة‬ ‫دينية أو ردبا كانت بسبب تطورات بعض اؼبؤمنُت أو اعبماعة ككل أو حىت تعود إىل ؾبموعة‬ ‫من اؼبؤثرات اؼبختلفة‬

‫‪1‬‬

‫‪1‬الزاروس ‪،‬ىافا ‪ ،‬ا لفكر اإلسبلمي والفكر اليهودي بعض جوانب التأثَت الثقايف اؼبتبادؿ‪ ،‬االجتهاد‬ ‫ع‪ 28‬س ‪ .1995 - 7‬ص‪.187.‬‬ ‫‪4:‬‬


‫د‪.‬قيس محمود حامد‬

‫الدين والثقافة‪ ،‬تبادلية الدور واملكانة‬

‫فالتشابو الثقايف أو الديٍت يبكن أف يكوف عائدا إىل التشابو يف العوامل اؼبنتجة‬ ‫للظاىرة أو إىل وحدة اؼبصدر كما ىو اغباؿ يف حالة الديانات التوحيدية مثبل‪ ،‬أكثر منة‬ ‫كونو يبثل حالة استعارة من اغبضارات األخرى‪.‬ولكن ىذا ال ينفي التبادؿ البُت ثقايف وال‬ ‫ينفي كذلك البعد التارىبي و النسيب للقيم الثقافية فالقيم واؼبعايَت الثقافية تتغَت دبرور الزمن‬ ‫وكثَت من اؼبعايَت الثقافية اليت قد تكوف مألوفة يف كثَت من اجملتمعات الغربية اليوـ‪ ،‬مثل‬ ‫العبلقات اعبنسية قبل الزواج أو اؼبعاشرة اعبنسية من دوف زواج ىي من األموراليت تتناقض مع‬ ‫القيم اليت كاف وب ملها الناس قبل عدة عقود‪ .‬كما أف القيم اليت نستهدي هبا يف عبلقاتنا‬ ‫اغبميمة اليت تطورت بشكل تدرهبي وطبيعي عما كانت عليو قبل عدة سنوات‪ .‬أما اغباالت‬ ‫اليت هبري فيها تعديل القيم الثقافية وأمباط السلوؾ بصورة قسرية مقصودة‪ ،‬فتلك مسألة‬

‫أخرى)‪ 1‬ردبا تدخلنا يف ؾباؿ األيدولوجيا أ و الدراسات الثقافية اليت تكشف عن تلك‬ ‫األبعاد‪.‬‬

‫الدراسات الثقافية‪:‬‬

‫يستخدـ مصطلح الدراسات الثقافية استخداما مزدوجا‪،‬فهو من ناحية يشَت إىل‬

‫طبيعة التناوؿ من حيث اؼبنهج ‪ ،‬فالدراسات الثقافية من ىذه الناحية ىي الدراسات(‬ ‫اؼبتمردة) على الصرامة اؼبنهجية اليت نشهدىا يف اجملاالت العلمية األخرى‪ .‬ويشَت من ناحية‬ ‫أخرى إىل الدراسات اليت تتناوؿ الثقافة بصورة خاصة و حصرية وىي من ىذه الناحية يبكن‬ ‫اعتبارىا فرع علمي متميز وـبصوص وينظر للدراسات الثقافية بصورة عامة على أهنا إذباه‬ ‫يسعى إىل تسييس مفهوـ الثقافة وذلك بربطو بديبقراطية اغبياة اليومية "ويطلق موؽبَتف على‬ ‫ىذين االذباىُت تناوؿ قضية الثقافة واالحتكاـ إليها على كبو صريح مصطلح خطاب ما‬ ‫بعد الثقافة "‪ "Meta culture discourse‬أي حسب رأي موؽبَتف اػبطاب الذي‬ ‫تتناوؿ فيو الثقافة بعمومية جوانبها وظروؼ تواجدىا ولكن يوضح موؽبَتف يف الوقت نفسو‬ ‫‪1‬غدنر‪ ،‬أنتوين ‪،‬علم االجتماع‪،‬ص‪ 83.‬مرجع سابق‪.‬‬ ‫;‪4‬‬


‫تفكُّر ‪ ،‬جملد (‪ ،)31‬العدد (‪2013 ، )2-3‬م‪1434/‬هـ‬

‫الفلسفة وفلسفة العلوم‬

‫أف مفهوـ خطاب ما بعد الثقافة ال يبكن أف يكوف بديبلً عن الفضاء السياسي وأف وبل ؿبل‬ ‫قوتو وسلطتو ‪ .‬ولذا فهو يدعو إىل اطار مفاىيمي جديد وواقعي يسميو السياسات الثقافية‬

‫"‪( 1"Cultural politics‬وبالتايل فإف خطاب ما بعد الثقافة أو السياسات الثقافية‬

‫تقع خارج إطار (العلم) نفسو ولكنها ربدده‪ ،‬ولكن استخداـ موؽبَتف ؼبفهوـ خطاب مابعد‬ ‫الثقافة ال يقع ضمن إطار اػبطابات اؼبابعدية اليت نعرفها فهو ليس خطابا متجاوزا للثقافة و‬ ‫ال للدراسات اليت تتناوؽبا و اليت اصطلحنا على تسميتها بالدراسات الثقافية ‪ ،‬فهو خطاب‬ ‫مستوعب لتلك األبعاد سباما و لكنو يضيف إليها أبعادا أخرى ‪ ،‬وىذا يف نظر الباحث من‬ ‫قبيل التناقضات اؼبنهجية فبل يبكن أف نطلق على خطاب ما بأنو مابعدي إف مل يكن‬ ‫متجاوزا؟ أما اؼبأخذ الثاين على موؽبَتف ىو أف تسيس اؼبفهوـ أو حىت اجملاؿ ال يعٍت بالضرورة‬ ‫أف وبل ؿبلو السي اسة أو يكوف بديبل ؽبا ‪ ،‬فالسياسة سلطة و ما بعد الثقافة ؾبرد خطاب مل‬ ‫يرقى بعد أو مل يشكل سلطة و حىت إف إكتملت دورة حياة اػبطاب ليشكل سلطة فبل‬ ‫يبكن مضاىات سلطتو بالسلطة السياسية فسلطتو ال تعدوا أف تكوف سلطة معرفية أو ثقافية‬ ‫وىذا األمر شرحة ميشيل فوكو يف كتابو داللة اػبطاب بصورة دقيقة جداً مايزت بُت‬ ‫اػبطابات و السلطات ووضحت كيفية التحوالت ومداىا‬ ‫أما اػباصية الثانية للدراسات الثقافية فهي قد تؤدي أيضاً إىل تفسَت سبب‬ ‫شغ ف الباحثُت والدارسُت ؽبا بالغموض اللغوي فمسايرة لروح العصر يبانع بعض الكتاب‬ ‫بقوة من أجل التمييز بُت أو إصدار االحكاـ على أي نوع من العادات سواء يف اغبياة‬ ‫اليومية أو يف عناصر الثقافة الشعبية وىم يروف أف اؼبظاىر الشعبية ال تستحق الدراسة ‪....‬‬ ‫فحسب بل هبب أال تؤدي الدراسة إىل أصدار أحكاـ هنائية ال تقلل من شأهنا ‪ ،‬لذلك فقد‬ ‫يلجأوف إىل استخداـ كلمات تبدو ؿبايدة كلمات معمقة قد تبدو ذات طابع علمي‬ ‫‪ 1‬كوليٍت ستيفاف‪ ،‬اغبديث عن مصطلح الثقافة ‪،‬ترصبة عمر عطاري ص ‪71 – 70‬مرجع سابق‪.‬‬ ‫‪53‬‬


‫د‪.‬قيس محمود حامد‬

‫الدين والثقافة‪ ،‬تبادلية الدور واملكانة‬

‫موضوعي‪ 1‬فبا أدى إىل (ميوعة مفاىيمية) وخلط بُت اؼبفاىيم و اؼبصطلحات اؼبستخدمة فبا‬ ‫أدى إىل موت اؼبنهج و الكاتب و حلوؿ القاري ؿبلهما ‪ ،‬و من وجهة نظر الباحث أف ىذه‬ ‫اغبالة ليست وليدة الرغبة يف اغبياد العلمي أو التسامح الفكري الذي وبتم عدـ إصدار‬ ‫األحكاـ القيمية بقدر ما يوحي بعجز الدارس عن الفهم أو على األقل عجزه عن التعبَت‪.‬‬ ‫فالغموض قرين العجز‪.‬‬ ‫إ ّف التحدي األكرب للوفاء بالتزامات الدراسات الثقافية ىو الشكل القدمي لدراسة‬ ‫اؼبمارسات النقدية واالجتماعية والسياسية حوؿ ماذا نعلم وكيف يبكننا أف نعلم ‪ٍ ،‬ب ماذا‬ ‫وبدث عندما نعلم أنواعاً من األسئلة والنقد اؼبوجو إىل ما ينشر ‪ .....‬إف الدراسات الثقافية‬

‫شكل من أشكاؿ الثورة األكاديبية ضد الوضع الراىن لفرضيات العمل االكاديبي ‪ ،‬وبناءاً‬ ‫على ذلك فإ ّف الدراسات الثقافية تبدو أحياناً وكأهنا نوع من اغبركة االحتجاجية االكاديبية‬ ‫تسعى إىل تغيَت طبيعة ما يدرس اكاديبياً ‪. 2‬‬

‫على كل يرى موؽبَتف أ ّف اإلذباه اؼبعروؼ بػ (نقد الثقافة) واالذباه اآلخر واؼبشار‬ ‫إليو بػ (الدراسات الثقافية) "‪ "Culturals Studies‬على الرغم من أهنما يبدواف وكأهنما‬

‫متعارضاف من حيث اؼب بدأ السياسي واؽبدؼ إال أهنما يف رأيو يبثبلف يف الواقع استمرارية‬ ‫منتظمة على مستوى الشكل لدراسة الثقافة واجملتمع الرأظبايل اغبديث فيتضمن االذباىاف‬ ‫اىتماماً وإف كاف من زاويتُت ـبتلفتُت سباماً لفكرة جديدة يف مفهوـ الثقافة بغية التوصل إىل‬ ‫توسط أو توضيح يبثل رمزياً حل فوؽ سياسي "‪ "Meta political‬لتناقضات (اغبداثة‬ ‫الرأظبالية ) ‪.‬‬

‫‪1‬ىوجارت ‪،‬ريتشارد ‪،‬الثقافة والدولة ‪ ،‬ترصبة شعباف عبد العزيز عفيفي‪ .‬الثقافة العاؼبية ‪ ،‬الكويت ‪ ،‬العدد‬ ‫‪ 108‬سبتمرب ‪2001‬ـ‪ ،‬ص ‪.196‬‬ ‫‪ 2‬الرباعي‪ ،‬عبد القادر ‪ ،‬ثقافة النقد ونقد الثقافة قراءة يف ربوالت النقد الثقايف‪ ،‬ص‪ ،202،‬مرجع‬ ‫سابق‪.‬‬ ‫‪53‬‬


‫تفكُّر ‪ ،‬جملد (‪ ،)31‬العدد (‪2013 ، )2-3‬م‪1434/‬هـ‬

‫الفلسفة وفلسفة العلوم‬

‫وباوؿ مفهوـ نقد الثقافة أف ينفذ إىل مفهوـ روحاين للثقافة يسمو إىل مرتبة اغبقيقة‬ ‫السامية لئلنسانية أو األمة ‪"The higher truth of humanities or the‬‬

‫‪ .1"nation‬وذلك ليس ببعيد على كل حاؿ عن (حالة) مابعد اغبداثة و الكفر بكفاية‬ ‫التطور اؼبادي و حاكمية العقل فاغبضارة األوربية تشهد حالة عدـ توازف وىو من وجهة نظر‬

‫الباحث يعرب عن أعراض ـباض لوالدة جديدة سببها اليأس و اإلحباط من سيطرة النمط‬ ‫اؼبادي من العيش على حياة الناس ولذلك ليس مستغرب شيوع فلسفة النهايات‬ ‫(هنايةالتاريخ) وهناية األيديولوجيا) وهناية العقل‪ ،‬بالتزامن مع فلسفة متفائلة تسعي إىل ذباوز‬ ‫الوضع الراىن نلحظو يف فلسفات التجاوز‪ ،‬مابعد الثقافة ‪،‬ما بعد الثقافة و غَتىا من‬ ‫اؼبابعديات اليت هتدؼ إىل اػبروج من ضيق اؼبادة إىل فضاء الروح وليس أمثل بطبيعة اغباؿ‬ ‫من الطَت جبناحُت‪ ،‬الرفاه اؼبادي و السمو الروحي‪.‬و الوصوؿ إىل ىذا الوضع ال يتم من‬ ‫وجهة نظر الباحث بالقفز و التجاوز و ال بالردة و اإلحباط و إمبا (بالنقد) إكسَت التطور و‬ ‫التقدـ على كل اؼبستويات الفردي و االجتماعي ‪ ،‬العلمي و السياسي ‪،‬ذلك أل ّف منهج‬ ‫العلم منهج اؼبناقشة النقدية وىو الذي هبعل من اؼبمكن لنا أف نعلو ليس فقط على أطرنا‬ ‫اؼبكتسبة من الثقافة ‪ ،‬بل أيضاً على أطرنا الفطرية ‪ ،‬ىذا اؼبنهج هبعلنا نعلو ‪ ،‬ليس فقط على‬

‫حواسنا ‪ ،‬بل أيضاً على منحانا الغريزي جزئياً كبو اعتبار العامل كوناً من األشياء احملددة‬ ‫‪2‬‬ ‫وخصائصها‬ ‫يطرح راولز يف أحضاف التقليد الليربايل مسألة بناء "ؾبتمع يتضمن أقل قدر من‬ ‫التفاوتات"‪ .‬ىكذا ال يبكن للعدالة الليربالية أف تعًتؼ حبقوؽ ثقافية صباعية دوف أف تناقض‬ ‫نفسها؛ يتعُت على الدولة أف تتبٌت اغبياد‪ ،‬وبالتايل فهي ملزمة بأال تتدخل يف اغبقل الثقايف‬ ‫ماداـ من اؼبستحيل تصور ربقيق إصباع يف ىذا اجملاؿ‪ .‬بل ويتعُت على الدولة أف تتجنب‬ ‫‪ :1‬كوليٍت ‪ ،‬ستيفاف ‪،‬اغبديث عن مصطلح الثقافة ‪،‬ص ‪ 71‬مرجع سابق‪.‬‬ ‫‪.2‬بوبر‪،‬كارؿ‪ ،‬اسطورة اإلطار ‪.‬مرجع سابق‪،‬ص‪.80.‬‬ ‫‪54‬‬


‫د‪.‬قيس محمود حامد‬

‫الدين والثقافة‪ ،‬تبادلية الدور واملكانة‬

‫مساعدة ثقافة صباعة معينة‪ ،‬وذلك باسم مبدأ اإلنصاؼ نفسو (الذي يفرض معاملة صبيع‬

‫اؼبواطنُت بنفس القدر من اؼبساواة)‪.1‬‬

‫وبذلك يتحقق اؼبناخ اؼببلئم لنمو الثقافة حيث تنمو بفعل قدرة الدفع الذاٌب و‬ ‫التزود من اؼبخزونات الثقافية لآلخرين وبازدىار الثقافة تزدىر الدراسات الثقافية ‪ ،‬وإال فإ ّف‬ ‫احملصلة النهائية للتدخل ىي سيادة ثقافة واحدة على مستوى الدولة تتبعها رغبة يف سيادة‬ ‫ىذه الثقافة على مستوى الكوكب ينتهي الوضع باإلفبلس لنفاد اؼبخزوف وتعود الدورة من‬ ‫جديد لنشهد فلسفات إحباط جديدة و دعوات قفز وذباوز ال حقة ؽبا‪.‬‬ ‫وبالتايل فإ ّف سيادة ثقافة واحدة يف اجملتمع ليست باغبالة اإلهبابية على أي حاؿ‪،‬‬ ‫ألف ىذا الوضع يعزز رؤية واحدة للطبيعة واغبياة وتغيب معو إمكانات و تصورات يبكن أف‬ ‫تكوف أفعل و أثرى من ىذه النظرة اؼبتبناه‪ ،‬و فوؽ ىذا وذاؾ ىذا اؼبوقف يستبعد واقع اغباؿ‬ ‫والذي يؤكد على الكثرة و التنوع و كذا االختبلؼ وال يقتصر االختبلؼ بُت الثقافات على‬ ‫اؼبعتقدات الثقافية‪ ،‬إذ تشهد اجملتمعات البشرية درجات مشهودة من التنوع يف اؼبمارسات‬ ‫وأمباط السلوؾ كما تتباين أشكاؿ السلوؾ بشكل واسع بُت ثقافة وأخرى‪ .‬فما يبدو طبيعياً‬ ‫وسوياً يف أحد اجملتمعات على سبيل اؼبثاؿ قد يكوف مغايراً بصورة صارخة ؼبا يراه شعب‬

‫آخر)‪ 2‬و يف اؼبثاؿ الذي ساقو بوبر يف أسطورة اإلطار خَت مثاؿ على ىذا اؼبوقف ‪،‬‬ ‫فاغبضارة اليت ربرؽ موتاىا تستبشع ما تقوـ بو اغبضارة األخرى من أكل اؼبوتى و العكس‬ ‫صحيح‪ ،‬وبالتايل فإ ّف اؼبخرج من مثل ىذا اؼبوقف يكمن يف إحًتاـ القيم الثقافية للجماعات‬ ‫األخرى‪ ،‬ولكن االحًتاـ يظل مطلب عزيز اؼبناؿ بالنسبة ؼبن ليس ؽبم خربة بالتعدد و‬

‫اإلختبلؼ‪ .‬ولكن يبكن التدرب على ىذا اؼبوقف باحًتاـ الثقافات الفرعية يف اجملتمع احملدد‪،‬‬ ‫‪ 1‬ديكامب‪ ،‬كريستياف ‪،‬األفكار الفلسفية يف القرف العشرين‪ :‬كرونولوجيا أفكار القرف‪ ،‬ترصبة حسن‬ ‫أحجيج‪ ،‬مدارات فلسفية‪،‬العددس‪ 2008،‬ص‪.5‬‬ ‫‪ 2‬غدنر‪ ،‬أنتوين ‪،‬علم االجتماع‪،‬ص‪ 85‬مرجع سابق‪.‬‬ ‫‪55‬‬


‫تفكُّر ‪ ،‬جملد (‪ ،)31‬العدد (‪2013 ، )2-3‬م‪1434/‬هـ‬

‫الفلسفة وفلسفة العلوم‬

‫فمن يقوـ بذلك يسهل عليو احًتاـ الثقافات األخرى‪ ،‬الثقافات الفرعية ال تشَت إىل‬ ‫اعبماعات اإلثنية و اللغوية يف اجملتمع الواسع فحسب‪ ،‬بل يبكن أف تدؿ على شرائح‬ ‫سكانية سبيزىا أمباطها الثقافية عن بقية اجملتمع وتضم ىذه الثقافات الفرعية منظومة واسعة‬ ‫تشمل على سبيل اؼبثاؿ‪ :‬أنصار الطبيعة والقوطيُت واؽبيبُت وقراصنة اغباسوب و مشجعي‬ ‫أندية كرة القدـ‪ ،‬وقد يلتزـ بعض الناس بثقافات فرعية بصورة دائمة‪ ،‬بينما يتقلب آخروف‬ ‫وينتقلوف بسهولة من ثقافة إىل أخرى)‬

‫‪1‬‬

‫تعريف الدين‪:‬‬

‫اإلسبلـ مل يعرؼ الدين تعريفاً ؿبدداً و إمبا تعامل معو كمفهوـ معروؼ و من‬

‫ىذه الناحيو قبد أ ّف القرآف قد تعامل مع صبيع الديانات هبذا اؼبفهوـ ومل يبيز بينها من حيث‬ ‫التعريف و إمبا جاء التمييز يف مرحلة الحقة و ىي مرحلة القبوؿ و الرفض وىذا شأف آخر‪،‬‬

‫فالقرآف قد تعامل مع كل أشكاؿ العبادات اليت تتخذ إؽبا واحدا أو أكثر ‪ ،‬نظر إليها‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫يل ِدي ِن‪ ‬سورة الكافروف آية‪ 6‬وقاؿ‪َ ‬وَمن يػَْبتَ ِغ‬ ‫باعتبارىا دينا‪ ،‬فقاؿ تعاىل ‪ ‬لَ ُك ْم دينُ ُك ْم َو َ‬ ‫ِ ِ‬ ‫اآلخرِة ِمن ْ ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ين ‪‬آؿ عمراف آية ‪ 85‬وهبذا قبد‬ ‫اػبَاس ِر َ‬ ‫َغْيػَر ا ِإل ْسبلَـ دينًا فَػلَن يػُ ْقبَ َل مْنوُ َوُى َو يف َ َ‬ ‫أف القرآف تعامل مع صبيع األدياف من حيث التعريف دبعٌت واحد‪.‬‬ ‫أما يف العلوـ اؼبختلفة فبل يوجد للدين تعريف موحد وإمبا ىناؾ العديد من التعاريف‬ ‫تتصارع صبيعها على ؿباولة اغبصوؿ على تعريف أمشل وأدؽ لكن يف النهاية مثل ىذا‬ ‫اؼبوضوع ىبضع إليباف الشخص الذي يضع التعريف وبالتايل يصعب وضع تعريف يرضي‬ ‫صبيع الناس‪ .‬فالدين يتناوؿ واحدة من أقدـ نقاط النقاش على األرض‪ ،‬ويف القدـ كاف‬ ‫النقاش يتناوؿ شكل وطبيعة اإللو الذي هبب أف يعبد‪ ،‬أما يف العصر اغبديث فيًتكز النقاش‬ ‫أساساً حوؿ ‪ :‬وجود أو عدـ وجود إلو خالق تتوجب عبادتو‪.‬لذلك قبد من وباوؿ تعريف‬ ‫‪1‬غدنر‪ ،‬أنتوين ‪،‬علم االجتماع‪،‬ص‪86.‬مرجع سابق‪.‬‬ ‫‪56‬‬


‫د‪.‬قيس محمود حامد‬

‫الدين والثقافة‪ ،‬تبادلية الدور واملكانة‬

‫الدين من منطلق إيباين‪ ،‬روحاين‪ ،‬يقيٍت‪ ،‬أو من منطلق إغبادي‪ ،‬أو من منطلق عقبلين وباوؿ‬ ‫دراسة الدين كظاىرة اجتماعية أو نفسية أو فلسفية‪.‬علماء االجتماع وعلماء‬ ‫اإلنساف(األنثروبولوجيا) ينظروف إىل الدين على أنو ؾبموعة ؾبردة من القيم واؼبثل أو اػبربات‬ ‫اليت تتطور ضمن اؼبنظومة الثقافية للجماعة البشرية‪ .‬فالدين البدائي كاف من الصعب سبييزه‬ ‫بنظرىم عن العادات االجتماعية الثقافية اليت تستقر يف اجملتمع لتشكل البعد الروحي لو‪.‬‬ ‫أما اؼبتدينُت‪ ،‬فالدين بالنسبو ؽبم ال يبكن اختصاره دبظاىره االجتماعية والثقافية اليت‬ ‫تعرب عن سبثُل الدين وال تعرب بالضرورة عن الدين نفسو‪ ،‬فالدين بالنسبة ؽبم ىو الوعي‬ ‫واإلدراؾ للمقدس‪ ،‬وىو إحساس بأ ّف الوجود والعامل ًب إهباده بشكل غَت طبيعي عن طريق‬ ‫ذات فوؽ‪-‬طبيعية تدعى اإللو أو اػبالق أو الرب‪.‬أما سبثل الناس للدين أو استجابتهم لو‬ ‫فتختلف من فرد إىل آخر و بالتايل ال يبكن أف نقوؿ أ ّف ما يبارسو الناس ىو بالضرورة‬ ‫الدين‪ .‬و اؼبخرج من ىذا اؼبأزؽ من وجهة نظر الباحث يكمن يف التمييز بُت الدين و التدين‬ ‫ىذا من ناحيو و من ناحيو أخرى هبب ربكيم الدين على نفسو من خبلؿ ما يقولو ىو عرب‬ ‫كتابو اؼبقدس (مع العلم بأنو ال يوجد دين ليس لو كتاب أو كتب مقدسة يتفق يف ذلك‬ ‫كوف الدين ظباوياً أي موحى من عند اهلل ‪ ،‬أو بشري إختطو بشر كما يف اؽبندوسية و‬ ‫البوذية و الكنفوشيو وغَتىا)‬ ‫أما اؼبلحدين أو غَت اؼبتدينُت فيعرفوف الدين استناداً على الضرورة و اغباجة ‪ ،‬فمن‬ ‫حيث الضرورة يروف أ ّف الوضع اإلجتماعي للمجتمع اؼبعُت يقتضى وجود دين حىت يتم‬ ‫اغبفاظ على الوضع القائم و تعزيز اغبظوة و اؼبكانة اليت سبتاز هبا طبقة معينة‪ .‬و أبرز من يبثل‬ ‫ىذا اإلذباه كارؿ ماركس ‪.‬و ىناؾ من يفسر الدين بأنو ناتج عن ضعف اإلنساف يف مواجهة‬ ‫الكوارث أو عجزه عن تفسَت الظواىر الطبيعية و البيئية اؼبختلفة و بالتايل عبوءه لؤلسطوره‬ ‫والدين ومن أبرز ىؤالء فريدريك شبليرماخر )‪"Friedrich  (1768-1834‬‬ ‫‪‬عامل الىوت وفيلسوؼ أؼباين اعبنسية معروؼ دبحاولتو اعبمع بُت النقد التنويري و الربوتستانتية‬ ‫التقليدية‪ ،‬وعرؼ عنو أيضا تأثَته على اؽبرمنيوطيقا اغبديثة ‪ ،‬لقب بأب التفكَت الديٍت الليربايل‪.‬‬ ‫‪57‬‬


‫تفكُّر ‪ ،‬جملد (‪ ،)31‬العدد (‪2013 ، )2-3‬م‪1434/‬هـ‬

‫الفلسفة وفلسفة العلوم‬

‫"‪ Schleiermacher‬الذي عرؼ الدين يف هنايات القرف الثامن عشر بأنو "الشعور‬ ‫باالعتماد اؼبطلق (العجز اؼبطلق"‪ .".feeling of absolute dependence‬وىذا‬ ‫التعريف ال يعطي معٌت للدين بقدر ما وباوؿ الكشف عن كيفية ظهور التدين ‪ ،‬ومع ذلك‬ ‫فإ ّف التطورات البلحقة من تقدـ على الصعيد العلمي الذي مكن اإلنساف من فهم الطبيعة و‬ ‫من السيطرة عليها و بقاء اإليباف الديٍت يف موقعو بل كشفت العديد من الدراسات إف ازدياد‬ ‫اإللتزاـ الديٍت ينهض دليبلً على خطل الزعم السابق إذ أف اؼبنطق‪ ،‬حسب زعمهم ‪ ،‬يفًتض‬ ‫تناسبا عكسيا بُت الوعي و القوة من ناحية و التدين من ناحية أخرى و ىذا ما مل وبدث‬ ‫يف الواقع‪.‬‬ ‫أما ماكس فيرب(‪ )1920-1864‬فَتى أ ّف الرمزية سبثل أوج الفكر األسطوري‬ ‫داخل اؼبرحلة السحرية‪ .‬ىذا كما ربط تطور الفكر الديٍت بالتحوالت اػبارجية‪ ،‬وعلى رأسها‬ ‫البعد السياسي‪ ،‬ودوره يف ظهور ؾبمع األرباب "‪ "Pantheon‬الذي يرمز إىل مرحلة تعدد‬ ‫اآلؽبة‪ .‬خصوصاً حينما أصبح اؼبوضوع الديٍت يكتسي صبغة نسقية من حيث عبلقة اآلؽبة‬ ‫دبفهوـ االستقرار‪ ،‬وازباذىم الصبغة الرمزية التصنيفية للقبائل اليت ينتموف إليها‪.‬عوض‬ ‫االحتياج إىل توحيد اإللو كأعلى قوة‪ ،‬عبلقة اإلنساف بالطقوس السحرية‪ ،‬حيث أصبحت‬ ‫العبادة والصبلة ىي األداة ووسيلة االرتباط بكل ما ىو غييب أي ما فوؽ طبيعي‪ .‬وىو ما‬ ‫يشكل نقلة أساسية للدخوؿ يف العامل الديٍت‪ .‬فإذا كاف العامل السحري يقتضي اإلكراه‪ ،‬فإ ّف‬ ‫العامل الديٍت يقتضي الصبلة والقرباف والتعبد‪ ،‬كما أ ّف موضوع الصبلة والعبادة ىم اآلؽبة‬ ‫عكس الشياطُت واألرواح اليت تُكره عرب السحر‪ 1‬ومن ٍب يبكن اعتبار نظرية ماكس فيرب‬ ‫للدين بأهنا نظرية تطورية حيث يضع مراحل التفكَت اإلنساين يف حلقات تبدأ بالسحر تليها‬ ‫مرحلة التفكَت الديٍت ‪ ،‬و ىذه النظرية مهمو من ناحية و لكنها معيبة من ناحية أخرى‬ ‫أنبيتها تكمن يف أهنا ميزت بُت الطقس الديٍت و الطقس السحري وبل مايزت بُت الدين و‬ ‫السحر ‪ ،‬ومن ٍب أصبح مفهوـ الدين أقرب إىل الفهم و التحديد‪ ،‬أما عيبها فإهنا نظرت‬ ‫‪1‬‬

‫‪Weber, Max: Economy and Society, p.424‬‬

‫‪58‬‬


‫د‪.‬قيس محمود حامد‬

‫الدين والثقافة‪ ،‬تبادلية الدور واملكانة‬

‫لؤلدياف بكل أشكاؽبا واختبلفاهتا بنفس اؼبنظور ‪ ،‬فالديانات اليت تطورت عن اؼبمارسات‬ ‫السحرية ىي ديانات إنسانية اؼبصدر واؼبنشأ ‪ ،‬و لكن ىذا التصنيف ال زبضع لو الديانات‬ ‫السماوية فهي أدياف منزلة وليست متطورة عن مبوذج أو مثاؿ سابق ‪ ،‬وإف كانت زبضع‬ ‫لتطور من نوع آخر و ىو إنبناء البلحق على السابق يف كثَت أو قليل من اعبوانب ‪ .‬و ىذه‬ ‫اإلعتمادية أو التشابو أو االنبناء غَت خاضع لضرورة التأثَت و التأثر و ال على اؼبشاهبة يف‬ ‫الظروؼ الثقافية و اغبضارية ‪ ،‬و إمبا ىو تشابو ىبضع ؼبعيار آخر للتعرؼ عليو و سبييزه ‪ ،‬ذاؾ‬ ‫ىو وحدة اؼبصدر ‪ ،‬فجميع األدياف السماوية خرجت من كوة واحدة ‪ ،‬و لذلك ليس بدعاً‬ ‫أف قبد بينها العديد من نقاط اإللتقاء و الكثَت من أوجو الشبو‪.‬‬ ‫يبكن إصباؿ فبيزات األدياف كافة بعدة نقاط ‪:‬‬ ‫ اإليباف بوجود إلو فوؽ‪-‬طبيعي ىو اػبالق للكوف والعامل واؼبتحكم هبما وبالبشر‬‫وكافة اؼبخلوقات‪.‬‬ ‫ التمييز بُت عامل األرواح وعامل اؼبادة‪.‬‬‫ وجود طقوس عبادية يقصد هبا تبجيل اؼبقدس من ذات إؽبية وغَتىا من األشياء‬‫اليت تتصف بالقدسية‪.‬‬ ‫ قانوف أخبلقي ‪ ،moral code‬أو شريعة تشمل األخبلؽ واألحكاـ اليت هبب‬‫اتباعها من قبل الناس ويعتقد اؼبؤمنوف اهنا آتية من اهلل اػبالق لتنظيم شؤوف العباد‪.‬‬ ‫ الصبلة وىي الشكل األساس لبلتصاؿ باػبالق وإظهار التبجيل واػبضوع‪.‬‬‫ رؤية كونية ‪ : world view‬تشرح كيفية خلق العامل وتركيب السماوات واألرض‬‫وآلية الثواب والعقاب‪ ،‬أي كيف ينظم اهلل شؤوف العامل‪.‬‬ ‫ شريعة أو مباديء شرعية لتنظيم حياة اؼبؤمن وفقا للرؤية الكونية اليت يقدمها ىذا‬‫الدين‪.1‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪Apostel ,Leo ,and others .World view from fragmentation To Integration‬‬ ‫‪.Internet Edition2007,p13‬‬

‫‪59‬‬


‫تفكُّر ‪ ،‬جملد (‪ ،)31‬العدد (‪2013 ، )2-3‬م‪1434/‬هـ‬

‫الفلسفة وفلسفة العلوم‬

‫الدور االجتماعي للدين‬ ‫الفاعلية اغبقيقية اليت تغَت األشياء أي القوة اؼبؤثرة بالفعل ىي اؼبوجودة يف جهة‬ ‫اإل يباف‪ ،‬سواء كانت عادلة أو غَت عادلة ‪ ،‬صحيحة أـ خاطئة فتلك مسألة أخرى‪.‬و اإليباف‬ ‫الديٍت وبتوي على فاعل ية يف غاية القوة ومقدرة على التغيَت تتقاصر جبانبها كل وسائل و‬ ‫فلسفات التغيَت اإلجتماعي ‪ ،‬ولذؾ وجد بيَت مارؾ(بالنسبة يل فإف الفعل والتفكَت يف الفعل‬ ‫نبا اللذاف دفعاين إىل حقيقة أ ّف الشأف الديٍت مشبع بالفايتمُت ال باألفيوف ‪ ،‬فليس الدين‬ ‫ىو أفيوف الشعوب بل ىو ف يتامُت الضعف‪ .‬وىو ليس مادة منومة بل ىو عنصر ينبو ويثَت‬ ‫اغبماس ‪ ،‬وال يستطيع الفبلسفة أف يتخيلوا ذلك ألهنم ؿببوسوف يف اطار جامعي تنظَتي‬ ‫حبت)‪.1‬‬ ‫أما من جرب التجربة الدينية فيكتشف حقيقة القوة و القدرة على التغيَت اليت‬ ‫يبنحها للمنتسبُت لو ‪ ،‬نشاىد ذلك كمثاؿ يف قابلية اؼبتدينُت على العطاء اؼبادي منو و‬ ‫اؼبعنوي‪ ،‬و يف القدرة على التضحية بأعز ما يبلك اإلنساف يف سبيل ما يؤمن بو ‪ ،‬يف‬ ‫إحساس اإلنساف دبا حولو و من حولو‪ ،‬و كل تلك األمثلة تدؿ على أنبية العامل الديٍت‬ ‫كعامل مهم يف التغيَت االجتماعي ‪ ،‬و كعامل مهم أيضاً يف اغبفاظ على القيم االجتماعية و‬ ‫تطويرىا ‪ ،‬و من ىنا نلحظ التشابو بُت الدين و الثقافة من حيث الدور االجتماعي ‪ ،‬وكما‬ ‫كانت الثقافة (حالة ) معيشة فالدين ال يبكن أف ننظر لو على أنو ىناؾ‪ ،‬فالدين الذي ىو‬ ‫ىناؾ ىو ؾبرد كتاب أو كتب مقدسة ربوي األوامر و النواىي و الطقوس التعبدية‪ ،‬أما الدين‬ ‫كفاعل اجتماعي فيكمن يف سبثل الناس لو وىو سبثل ناتج عن قبوؿ واعي‪ ،‬وكما أرجعنا‬ ‫التشابو بُت الثقافات إىل تشابو العوامل اؼبؤثرة كعامل جوىري و أساسي فكذلك يبكن أف‬ ‫نفسر التشابو بُت الديانات إىل عامل شبيو بذلك و ىو كوف األدياف ىي يف األساس إؽبية‬ ‫اؼبصدر‪ ،‬فحىت األ دياف البشرية أو األرضية ىي يف كثَت من األحواؿ ربريف لدين ظباوي ما ‪،‬‬ ‫‪ 1‬دي بيازي ‪،‬بيَت مارؾ ‪ ،‬تأمبلت يف الشأف الديٍت – ترصبة ؿبمود ميبلد ‪،‬الثقافة العاؼبية ‪2004‬ـ ‪،‬ص‬ ‫‪165‬‬ ‫‪5:‬‬


‫د‪.‬قيس محمود حامد‬

‫الدين والثقافة‪ ،‬تبادلية الدور واملكانة‬

‫فهذا ما أخربنا بو اهلل سبحانو وتعاىل ‪ ،‬فاهلل مل ينزؿ اإلنساف إىل األرض ببل دليل يهديو و‬ ‫إمبا نزؿ و معو شريعتو من لدف آدـ و حىت يوـ الناس ىذا‪ .‬وإذا كاف الناس يقبلوف رموزىم‬ ‫الثقافية و عاداهتم و تقاليدىم ببل كثَت جهد لبحثها و تفسَتىا فكذا اإليباف فهو أيضاً ال‬ ‫وبتاج إىل أدلة ‪ ،‬فهو غَت قابل لبلثبات أو لبلحتماؿ ‪ ،‬إنو حاسم وىو يربىن على اغبركة‬ ‫بالزحف إىل األماـ ‪( ،‬ما يهمٍت ىو تلك الوظيفة احملركة الكامنة يف االيباف وقدرتو على سن‬ ‫القوانُت اؼبصَتية للعامل ‪ ،‬وقد انتهيت إىل فكرة الدافع عن طريق تلك القدرة على التحرؾ ‪،‬‬ ‫أريد أف أفهم ما الذي يطلق نزعة اغبركة لدى الناس ما الذي يثَت الفعل لديهم)‪.1‬فالشأف‬ ‫الديٍت مل يعد شأناً ىامشياً و إمبا أصبح ؿبل إىتماـ و دراسة ألعداد متعاظمة من الباحثُت‬ ‫و الدا رسُت و من زوايا و مداخل ـبتلفة لعل من أنبها الدور احملفز للعمل الذي يقوـ بو‬ ‫الدين‪ ،‬و الدين يف مرحلة التمثل يصبح ظاىرة ثقافية عامة فبل يبكن فصل الدين عن الثقافة‬ ‫اؼبشكلة أو السائدة يف اجملتمع اؼبعُت ولعل ىذا ما دفع بيَت مارؾ ؾبدداً للقوؿ بأ ّف (الشأف‬ ‫الديٍت ال يهم اؼبؤمنُت وحدىم بل يبكننا القوؿ أ ّف أىل االيباف ىم أقل الناس استفادة منو ‪،‬‬ ‫ألهنم قد زودوا بالفعل دبا وبتاجونو ‪،‬وباؼبقابل فإ ّف أماـ غَت اؼبؤمنُت الكثَت الذي ينتظرونو‬ ‫والذي يبكن أف يتعلموف منو عن عامل الواقع ‪ ،‬الشأف الديٍت يف اغبقيقة يهمنا صبيعاً مؤمنُت‬ ‫‪2‬‬ ‫وغَت مؤمنُت )‬ ‫فالدين دبا ىو كذلك يضع ؾبموعة من القواعد للتعامل بُت اؼبؤمنُت بو و غَت‬ ‫اؼبؤمنُت و تلك القواعد تدعم يف معظم األحياف استقرار اجملتمع و تشجع على التعايش بُت‬ ‫اؼبلل اؼبختلفة ‪،‬أما يف حالة اجملتمعات متعددة الديانات ‪ ،‬وىي باألحرى متعددة الثقافات‪،‬‬ ‫فإ ّف التبادلية تصبح سلعة رائجة و ذلك التساع سوؽ العرض‪ ،‬فالكل يعرض سلعتو و‬ ‫بأ فضل الطرؽ فيتم القبوؿ و التبادؿ دبعدالت أوسع‪ ،‬كما أف لكل دين تصوره للقضايا‬ ‫الكربى (اؼببدأ واؼبصَت‪،‬الكوف و اإلنساف) وىي تصورات غنية تثري بعضها بعضا ولذلك فإنو‬ ‫‪ 1‬بيَت مارؾ دي بيازي ‪ ،‬تأمبلت يف الشأف الديٍت ‪ ،‬ص ‪ 164‬مرجع سابق‬ ‫‪ .2‬اؼبرجع السابق‪،‬ص‪.167 .‬‬ ‫;‪5‬‬


‫تفكُّر ‪ ،‬جملد (‪ ،)31‬العدد (‪2013 ، )2-3‬م‪1434/‬هـ‬

‫الفلسفة وفلسفة العلوم‬

‫(فبا ال شك فيو أف اغبوار يبكن أف يتم بُت العقائد انطبلقاً من بعض نقاط االلتقاء ولكن‬

‫ىذا النوع من اغبوار ال معٌت لو وال فائدة ترجى منو ‪ ،‬إال إذا كاف يستطيع من مساعدة‬

‫اللقاء بُت االشخاص مع التقليل من أنبية أفكارىم وآرائهم اؼبسبقة ‪ ،‬ومع إزالة العوائق اليت‬

‫تقف يف وجو ىذا اغبوار‪ 1‬وىذ ا درس حضاري يف غاية األنبية استفدناه من تناولنا للمسألة‬ ‫الثقافية و ىا ىو يتكرر اآلف يف اؼبسألة الدينية لتستبُت أواصر القرىب بينهما‪ ،‬و اؼبتتبع للعبلقة‬ ‫التبادلية بُت األدياف السماوية الثبلثة على األقل يشهد قيمة التبادؿ و قوتو يف نفس الوقت‪،‬‬ ‫و قد كانت فًتة صعود اغبضارة اإلسبلمية مبوذجا لتلك العبلقة (وعلى عكس ما يدعيو‬ ‫بعض الدارسُت فمن يعتربوف استخداـ اغبرؼ العربي عند الكتابة بالعربية دليبلً "على أف‬ ‫التمثل الروحي بُت اليهود للثقافة اإلسبلمية كاف أقل من سبثلهم للثقافة األوربية اغبديثة" فإنٍت‬ ‫أشعر بأف استخداـ اليهود للغة العربية كاف أكثر من ؾبرد ظاىرة لغوية وكاف ؽبا نتائج دينية‬ ‫ثقافية بعيدة اؼبدى ‪ .‬ومل تكن اليهودية الوسيطة يف اؼبشرؽ العريب قد "عربت" فقط ‪ ،‬وإمبا‬ ‫ضبلت بصمات اإلسبلـ يف كل ؾباالت اغبياة تقريباً وليس فقط الفلسفة والكبلـ البلىوت)‬

‫‪2‬‬

‫حيث وصل التأثَت اإلسبلمي يف الديانة اليهودية حىت يف العقيدة ‪( ،‬الوضوء و الغسل و‬ ‫التيمم) كمثاؿ‪ ،‬و حيث وجدنا أيضا تأثَتا فباثبل يف اؼبسيحية حيث تراجعت فكرة التثليث‬ ‫أو وجدت تربيرات الىوتية للفكرة جعلتها أقرب إىل فكرة التوحيد (شهود يهوه )كمثاؿ‪ .‬و‬ ‫لكن تلك التأثَتات ربتاج إىل دراسة معمقة تكشف عن مدى و عمق التأثَت ‪ .‬ومن‬ ‫الدراسات الرائدة يف موضوع السوسيوعبيا الدينية دراسة ماكس فيرب وتربز أنبية السوسيولوجيا‬ ‫الدينية‪ ،‬داخل الًتاث الفيربي‪ ،‬يف ارتكازىا على نقطتُت أساسيتُت‪:‬‬

‫‪1‬السماؾ‪ ،‬ؿبمد ‪،‬اعبوامع اؼبشًتكة بُت الديانات ‪ ،‬االجتهاد ع‪ 29‬س‪1995، 7‬ـ ‪،‬ص ‪. 197‬‬ ‫‪ 2‬الزاروس‪ ،‬ىافا‪،‬الفكر اإلسبلمي والفكر اليهودي بعض جوانب التأثَت الثقايف اؼبتبادؿ‪ ،‬ص‪196.‬‬ ‫مرجع سابق‪.‬‬ ‫‪63‬‬


‫د‪.‬قيس محمود حامد‬

‫الدين والثقافة‪ ،‬تبادلية الدور واملكانة‬

‫‪ -1‬اعتبار كل فبارسة ُؿبفَّزة‪ ،‬عرب العوامل السحرية أو الدينية‪ ،‬ىي فبارسة موجهة كبو العامل‬ ‫األرضي وليست كما درجت عليو السوسيولوجيا الكبلسيكية‪ ،‬بأهنا زبتص فقط بالعامل‬ ‫اؼباورائي‪.‬‬ ‫‪ -2‬النقطة الثانية واليت نعتربىا ذات أنبية‪ ،‬زبصنا يف ىذا اؼبوضوع‪ ،‬وىي القطيعة اليت‬ ‫أحدثها فيرب من خبلؿ رفضو لتعريف الديٍت بالبلعقبلين‪ .‬إذ يعترب طرؽ كبح الشهوات‪،‬‬ ‫أو مناىج الزىد السحري أو التأملي يف أشكالو اؼبتناسقة كاليوجا والبوذية‪ ،‬أي كل‬ ‫أنواع األخبلؽ العملية ذات الصبغة النسقية يف توجهها كبو أىداؼ اػببلص‪ ،‬ىي‬ ‫عقبلنية‪.1‬‬ ‫وىذا ـبالف للسوسيولوجيا الكبلسيكية بصفة عامة‪ ،‬على األقل بالنسبة‬ ‫ألوغست كونت وإيبيل دوركامي ‪.‬‬ ‫مناطق التماس‬ ‫يبكن القوؿ بأ ّف ىناؾ عدد من نقاط اإللتقاء بُت ٍ‬ ‫كل من الدين و الثقافة ‪ ،‬بعضها‬ ‫يكمن يف البٌت التكوينيو وىذا اعبانب يبكن أف نطلق عليو اعبانب الشكلي ‪ ،‬أما البعض‬ ‫اآلخر فيكمن يف الدور أو الوظيفة اليت يقوـ هبا كبل منهما يف ما يليو من فرد أو ؾبتمع ‪،‬‬ ‫وىذا اعبانب يبكن أف نطلق عليو اسم اعبانب الوظيفي ‪.‬ويبكن أف كبصي طبسة من العوامل‬ ‫األكثر حضوراً و اليت يشًتؾ فيها الدين و الثقافة على أف نتعرض ؽبا بشيء من التفصيل‬ ‫فيما بعد ‪،‬تلك العوامل ىي‪:‬‬ ‫‪ -1‬اإللزاـ األخبلقي‬ ‫‪ -2‬اإللزاـ اإلجتماعي‬ ‫‪ -3‬اعبزاء‬ ‫‪ -4‬االرتفاع باؼبكانة الشخصية‬ ‫‪ -5‬سباسك اجملتمع‬ ‫‪Weber, Max: The Social Psychology of the world religion, P.2931‬‬ ‫ ‪.294‬‬‫‪63‬‬


‫تفكُّر ‪ ،‬جملد (‪ ،)31‬العدد (‪2013 ، )2-3‬م‪1434/‬هـ‬

‫الفلسفة وفلسفة العلوم‬

‫ٍ‬ ‫فكل من الدين و الثقافة يعترباف ملزمُت بعدد من القواعد و القيم األخبلقية ‪،‬‬ ‫وىذا اإللزاـ األخبلقي يفضي إىل إلزاـ من نوع آخر و ىو اإللزاـ االجتماعي‪ ،‬فبل يبكن‬ ‫للشخص الذي يعيش يف ؾبتمع معُت أف يتحلل من االلتزاـ بالقيم األخبلقية و االجتماعية‬ ‫اليت ارتضاىا ذلك اجملتمع و يف حالة اػبروج عنهما قبد أف كبل النظامُت أو باألحرى‬ ‫اؼبنظومتُت الثقافية و الدينية قد أوجدت لنفسها نظاماً من اعبزاءات اليت تردع من وباوؿ‬ ‫اػبروج عليو ‪ ،‬أما من يتمسك بتلك القيم و يتشبع هبا فإ ّف اؼبكافأة اليت تنتظره ىي ارتفاع‬ ‫اؼبكانة االجتماعية‪ ،‬فاؼبثقف اؼبتشبع بقيم اعبماعة و اؼبتمثل ؽبا يف سلوكو و الواعي بأبعادىا‬ ‫اؼبختلفة و القادر على اؼبدافعة عنها ونشرىا ىذا الشخص وضع لو اجملتمع مكانة خاصة‬ ‫باعتباره(مثقف) وىي مكانة تعود عليو بعدد كبَت من اؼبكاسب اليت قد ال يكوف من بينها‬ ‫مكاسب مادية و لكنها يف النهاية مكاسب تلقى الرضى من اؼبثقف و تغري غَته باؼبشي‬ ‫على خطاه‪ .‬و ينطبق نفس الشيء بالنسبة للمتدين اؼبتمثل لدينو و الذي يطلق عليو رجل‬ ‫الدين أو أي من األلقاب اليت ربمل الشيء الكثَت من معاين اإلجبلؿ و اإلكبار ‪ ،‬وليس من‬ ‫قبيل الصدفة إذف أف تكوف تلك البلئحة من اعبزاءات واغبوافز االجتماعية اليت يناؽبا‬ ‫الشخص من (اؼبؤسسة) الثقافية أو الدينية مل تكن إعتباطية أو ببل مربر‪ ،‬وإمبا يبكن القوؿ‬ ‫بأ ّف اؼبربر األىم لذلك كاف ىو اغبفاظ على سباسك اجملتمع و جعلو بنية جديرة بالتقدير‬ ‫واالحًتاـ‪ .‬عليو فإ ّف ىذه اؼبناطق اػبمس اليت تتماس فيها دوائر الثقايف و الديٍت ذبعلنا‬ ‫نذىب إىل القوؿ بأ ّف ىذه الدوائر غَت مستقلة عن بعضها البعض أو على أقل تقدير بينها‬ ‫نوع من التبادلية يف الدور واؼبكانة اليت تلعبها يف اغبفاظ على سباسك اجملتمع اؼبعُت و اغبس‬ ‫على قيم التعايش و اغب وار بُت شعوب االرض قاطبة ذلك الدور الذي ال يبكن مضاىاتو من‬ ‫وجهة نظر الباحث بدور أي (مؤسسة) أخري‪ .‬لذلك يبكن القوؿ بأنو ال يبكننا أف نتصور‬ ‫وجود حضارة ذات نقاء ثقايف أو ديٍت تكوف حضارة يطبعها العقل و سبيزىا االستمرارية‬ ‫ولذلك يعًتؼ بوبر بأف اغبضارة الغربية ىي حصيلة معقدة جداً لعدد من اؼبؤثرات الثقافية‬ ‫والدينية بدت من اغبضارة االغريقية والرومانية وانتهاءاً باؼبؤثرات اليت اكتسبتها من موجات‬ ‫‪64‬‬


‫د‪.‬قيس محمود حامد‬

‫الدين والثقافة‪ ،‬تبادلية الدور واملكانة‬

‫الغزو اعبرماين واإلسبلمي ‪ ،‬كل ىذه اؼبؤثرات جعلت تلك اغبضارة تتصف بأهنا عقبلنية‪.، 1‬‬ ‫فعقبلنية اغبضارة األوربية_لو صدقت‪ -‬تعود يف األساس إىل تعدد مشارهبا الدينية و الثقافية‬ ‫و بالتايل العرقية ‪ ،‬فاغبضارة األوربية إذف ليست أوربية خالصة و إمبا شاركت يف تكوينها عدد‬ ‫من اؼبؤثرات اؼبختلفة و كذا اغبضارة اإلسبلمية يف أوج ازدىارىا‪ ،‬و ىذا األمر هبعلنا لبلص‬ ‫إىل نتيجة مفادىا أ ّف اغبضارة تغٌت بتعدد مواردىا الثقافية والدينية و يذىب بريقها بإنكفائها‬ ‫على ذاهتا و رفضها لبلستعارة و التبادؿ مع اآلخر ‪.‬‬ ‫والوقع أ ّف الدين أكثر تغلغبلً يف الشأف العاـ من أف يتم ربديده أو ربييده فكل‬ ‫مظهر من مظاىر اغبياة و كل شأف ىو يف التحليل النهائي شأف ديٍت ويف ذلك يقوؿ تعاىل‪:‬‬ ‫ِ​ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫‪‬قُل إِ َّف َ ِ‬ ‫ُت‪ ))162( ‬وىذه القراءة للواقع‬ ‫اي َوفبَ​َ ِاٌب للّو َرب الْ َعالَم َ‬ ‫صبلٌَب َونُ ُسكي َوَْؿبيَ َ‬ ‫ْ‬ ‫االجتماعي ليست يف اغبقيقة قراءة اؼبسلم أو اؼبتدين فقط بل ىي قراءة دوركامي أيضاً الذي‬ ‫يرى أف التجمع يف حد ذاتو شأف ديٍت أو ال شئ وسواء تعلق األمر بتمجيد اؼبيت أو‬ ‫اعبدود أو تاريخ حدث خرايف أو حدث تأسيسي أو بإحياء ذكرى ‪ ..‬كل ىذه اؼبعتقدات‬ ‫ترتكز على أ فكار يف غاية اعبنوف ‪ ،‬لكنها متماسكة فهي ربرؾ اعبماىَت وتعدؿ اذباه‬ ‫التاريخ‪ .2‬وقبل التاريخ ىي تعدؿ إذباه اغبياة أيضاً ولوال ذلك ؼبا استعاف هبا اجملتمع ووظفها‬ ‫بغاية الذكاء للمحافظة على كينونتو و بقائو‪ .‬يصدؽ ذلك على أي ؾبتمع متشبع بثقافة‬ ‫معينة أو بدين ؿبدد فالثقايف و الديٍت كما أكدنا مراراً متداخبلف فمثبلً (ال يبكن فك‬ ‫اؼبسيحية – اإلسبلـ من النصوص اليت كتبت يف ضوئها ومن اؼبواقع اجملتمعية ‪ ،‬أو‬ ‫االجتماعية اليت ذبليا خبلؽبا وعربىا أو ذبريدنبا من الفضاء اجملتمعي والثقايف والسياسي ‪،‬‬ ‫فإذا كانت الديانتاف ظباويتاف ويبكن ربطهما من حيث السلطة اؼبرجعية بالكائن اؼبتعايل‬ ‫(اهلل) فهما يف جوىرنبا ال تستوعباف إال أرضياً ‪ ،‬فصورة السماء ترى يف مرآة األرض ‪،‬‬ ‫‪1‬بوبر‪ ،‬كارؿ أسطورة اإلطار‪ ،‬ص ‪65‬‬ ‫‪ 2‬دي بيازي‪ ،‬بيَت مارؾ ‪ ،‬تأمبلت يف الشأف الديٍت‪ . ،‬ص ‪ 166‬مرجع سابق‬ ‫‪65‬‬


‫تفكُّر ‪ ،‬جملد (‪ ،)31‬العدد (‪2013 ، )2-3‬م‪1434/‬هـ‬

‫الفلسفة وفلسفة العلوم‬

‫وحقيقة اهلل تستوعب من خبلؿ ذىن بشري)‪ .1‬و لكن صورة السماء اؼبنعكسة على مرآة‬ ‫األرض يشوهبا غالباً بعض التشويش بفعل األىواء و التفاسَت اؼبختلفة و اليت زبضع لعدد من‬ ‫العوامل من بينها الثقافة ‪ ،‬وىذا األمر يبكن أف يكوف طبيعياً و لكن يبكن أف يتحوؿ إىل‬ ‫صراع بُت تلك الرؤى وىذا ىو اؼبشهد األكثر ظهوراً وتأثَتاً إذ (ليس ىناؾ دين ال ترتبط بو‬ ‫سلسلة من الصراعات ـبتلفة يف مرجعيتها – ىناؾ صراعات شىت ربتد وتشتد نابعو من‬ ‫القاع اجملتمعي ‪ ،‬لتؤكد تأزمي الوضع االجتماعي والسياسي والتارىبي ‪ ،‬والبد من التحوؿ‬ ‫وضرورة ذبلي واقع آخر ـبتلف يف عبلماتو االجتماعية والسياسية ‪ ،‬صراعات سبهد لظهور‬ ‫ىذا الدين أو ذاؾ ‪ ،‬حيث ال يعود باإلمكاف االستمرار وفق ما ىو معاش )‪ .2‬ولكن البديل‬ ‫ليس جاىزاً اآلف من وجهة نظر الباحث على األقل ‪ ،‬أعٍت أنو ليس ىناؾ بديل جاىز ؿبدد‬ ‫اؼبعامل ‪ ،‬وما ىو متاح ؿبدد دبجموعة من احملددات يصعب استيفائو‪ ،‬فمناصرو النسبية‬ ‫يطرحوف أمامنا مقاييس للتفاىم اؼبتبادؿ ‪ ،‬ال وبكم الواقع بأهنا جادة ‪ ،‬وحينما نفشل يف‬ ‫استيفاء تلك اؼبقاييس ‪ ،‬يزعموف أف التفاىم مستحيل ‪ ،‬ويف مقابل ىذا ‪ ،‬أسوؽ اغبجج‬ ‫مؤكداً أ ّف التفاىم فبكن على اؼبدى البعيد ‪ ،‬إذا توافرت اإلرادة اػبَتة اؼبشًتكة وبذلنا من أجلو‬ ‫جهداً وافراً ‪ ،‬باإلضافة إىل أ ننا ‪ ،‬خبلؿ ىذه العملية قبد الدور السابق عبهدنا واؼبتمثل فيما‬ ‫نتعلمو عن آدائنا اػباص ‪ ،‬وباؼبثل عن آداء أولئك الذين نسلك سبيل التفاىم معهم ‪..3‬‬ ‫وؾبدداً أوليست دعاوى اؽبوة بُت األطر اؼبختلفة أو بُت الثقافات اؼبختلفة يبكن‬ ‫ألسباب منطقية اجتيازىا دائماً ‪ ،‬إمبا تنحصر دعواي يف أهنا يبكن عادة اجتيازىا ‪ ،‬قد ال‬ ‫يكوف شبة افًتاضات مشًتكة بُت اعبماعات البشرية اؼبختلفة من قبيل مشكبلت البقاء على‬ ‫قيد اغبياة ‪ ،‬ولكن حىت اؼبشكبلت اؼبشًتكة قد ال تكوف ىي اؼبطلوبة دائماً ‪ ،‬دعواي ىي أ ّف‬ ‫اؼبن طق ال يدعم أسطورة االطار وىو ال يدعم أسس أنكارىا ‪ ،‬بل إننا نستطيع أف كباوؿ‬ ‫‪ .1‬ؿبمود ‪،‬إبراىيم ‪،‬اؼبسيحية واإلسبلـ تصورات متخيلة ورىانات سياسية ‪، ،‬ص ‪171‬مرجع سابق‬ ‫‪ 2‬ؿبمود‪ ،‬إبراىيم‪ ،‬اؼبسيحية واإلسبلـ تصورات متخيلة ورىانات سياسية ‪،‬ص ‪.174‬مرجع سابق‬ ‫‪3‬بوبر ‪،‬كارؿ ‪،‬أسطورة االطار‪ .‬ص ‪ 60‬مرجع سابق‬ ‫‪66‬‬


‫د‪.‬قيس محمود حامد‬

‫الدين والثقافة‪ ،‬تبادلية الدور واملكانة‬

‫التعلم من بعضنا البعض ‪ .1‬وىذا ىو الدرس اغبضاري اؼبستفاد من تفحص التبادلية الدين و‬ ‫الثقافة ‪ ،‬و من معرفة طبيعة كل منهما ‪ ،‬ىذا الدرس الذي ؿبصلتو النهائية ىي أنو ليس‬ ‫ىناؾ ثقافة مكتفية ذاتيا ‪ ،‬ىو الذي هبعلنا نسعى للتبادؿ و اغبوار‪.‬‬ ‫المهم و األهم‬ ‫يرى بوبر أف ما هبب أف نتعلمو ىو أف االنتصار ال يعٍت شيئاً ‪ ،‬بينما يكوف النجاح‬ ‫العظيم يف أبسط توضيح ؼبشكلة ينشغل هبا اؼبرء ‪ ،‬بل ويف اؼبسانبة يف السَت قدما كبو تفهم‬ ‫أوضح ؼبوقفو اػباص أو موقف واحد من خصومو ‪ ،‬ألف اؼبناقشة اليت ننتصر فيها بينما تفشل‬ ‫يف أف تعيننا على تغيَت أو توضيح أفكارنا ولو إىل حد يسَت هبب اعتبارىا خسراناً مبينا ‪،‬‬ ‫ولصميم ىذا السبب ال ينبغي اف وبدث أي تغيَت يف موقف اؼبرء بصورة خفيو عن األعُت‬ ‫بل هبب دائماً التأكيد عليو واستكشاؼ معقباتو ‪.2‬‬ ‫فالتبادلية ماثلة على اؼبستويُت الديٍت و الثقايف ‪ ،‬و من النماذج الواضحة مبوذج‬ ‫التبادلية بُت الدين اإلسبلمي و الثقافة العربية السائدة ‪ ،‬فالكثَت من التشبيهات و‬ ‫االستعارات مردىا إىل البيئة و الثقافة العربية السائدة وقت تنزؿ القرآف الكرمي و ىي بالتأكيد‬ ‫ليست عربية خالصة النقاء_ مثاؿ على ذلك الكثَت من اؼبفردات الفارسية و الرومية مثل‬ ‫الدرىم و الدينار واالستربؽ و السندس وغَتىا‪ -‬ولكن القرآف تعامل مع تلك البيئة الثقافية‬ ‫دبا ىي عليو ‪ ،‬إذ أف تلك العوامل و اؼبفردات اؼبستعارة من قبل حضارات أخرى قد ًب‬ ‫إحتضاهنا و تدجينها و إدخاؽبا يف القوالب العربية و بالتايل أصبحت جزء ال يتجزأ من‬ ‫الثقافة العربية‪ .‬و يف اؼبقابل فإف اإلسبلـ بعد وجوده قد أثر على الثقافة العربية بصوره ذبعل‬ ‫من الصعب استخبلص جزء من مكوناهتا مل يطلو ذلك التأثَت‪ ،‬و ىذا ما يربر تسميتها‬ ‫باغبضارة العربية اإلسبلمية‪ .‬وىذا األمر يصدؽ على كل الثقافات و األدياف يضعف أو يكثر‬ ‫ولكنو ال ينعدـ‪.‬واػبطوة األوىل يف الطريق الصحيح ىي الكشف عنها لياٌب بعد ذلك تفعيلها‬ ‫وىذا ىو األىم‪.‬‬ ‫‪1‬اؼبرجع السابق‪ ،‬ص ‪64‬‬ ‫‪2‬اؼبرجع السابق‪،‬ص ‪. 71‬‬ ‫‪67‬‬


‫تفكُّر ‪ ،‬جملد (‪ ،)31‬العدد (‪2013 ، )2-3‬م‪1434/‬هـ‬

‫الفلسفة وفلسفة العلوم‬

‫المراجع ‪:‬‬ ‫‪ -1‬القرآف الكرمي ‪.‬‬ ‫الصباغ‪،‬اؼبنظمة العربية للًتصبة‪ ،‬الطبعة‬ ‫‪ -2‬أنتوني غدنر‪،‬علم االجتماع‪،‬ترصبة وتقدمي فايز ُ‬ ‫األوىل‪2005‬‬ ‫‪ -3‬أحمد إسماعيل‪ ،‬السبع ‪ ،‬مفاىيم إسبلمية‪ ،‬دار العلم ‪1988‬ـ ‪.‬‬ ‫‪ -4‬أضبد اؼبوصلي ‪ ،‬لؤي صايف‪ ،‬جذور أزمة اؼبثقف يف العامل العريب‪ ،‬دار الفكر اؼبعاصر‬ ‫‪2002‬ـ‬ ‫‪ -5‬األشقر‪ ،‬عمر سليمان عبد اهلل ‪ ،‬كبو ثقافة إسبلمية أصيلة ‪ ،‬الكويت دار النقاش‬ ‫األىلية األردف ‪.2001‬‬ ‫‪ -6‬بوبر‪ ،‬كارل ‪ ،‬أسطورة اإلطار ‪ ،‬يف الدفاع عن العقل والعقبلنية ‪،‬عامل اؼبعرفة‬ ‫الكويت‪.2003،‬‬ ‫‪ -7‬بوبر‪ ،‬كارل ‪ ،‬اغبياة بأثرىا حلوؿ اؼبشاكل‪ ،‬ت‪ .‬هباء درويش منشأة اؼبعارؼ مصر‬ ‫ط‪1994 1‬ـ ‪.‬‬ ‫‪ -8‬جبر‪،‬محمد سالمة ‪ ،‬ىل من ناقصات عقل ودين ‪ ،‬دار السبلـ القاىرة ‪2006‬ـ‪.‬‬ ‫‪ -9‬رضا ‪ ،‬أنور طاىر ‪ ،‬الثقافة سباؽ الورقة والشاشة ‪ ،‬مكتبة الًتبية العريب لدوؿ اػبليل‬ ‫دوف تاريخ‪.‬‬ ‫‪ -10‬ابن عاشور ‪ ،‬ؿبمد الطاىر ‪ ،‬تفسَت اؼبنار ‪ ،‬بَتوت دار اؼبعرفة ‪1993‬ـ‬ ‫‪ -11‬الغنوشي ‪ ،‬راشد ‪ ،‬حوارات‪ ،‬قصي صاحل درويش‪ ،‬لندف بدوف تاريخ ‪.‬‬ ‫‪ -12‬فراج ‪ ،‬أحمد ‪ ،‬خصائص الثقافة العربية واإلسبلمية يف ظل حوار الثقافات ‪.‬‬ ‫‪ -13‬القرضاوي ‪ ،‬يوسف‪ ،‬الثقافة اإلسبلمية بُت األصالة واؼبعاصرة ‪ ،‬مكتبة وىبة‬ ‫‪2005،‬ـ‪.‬‬ ‫‪ -14‬محمد ‪ ،‬سيد ‪ ،‬محمد الغزو الثقايف واجملتمع العريب اؼبعاصر‪ ،‬دار الفكر العريب‬ ‫القاىرة ‪1994‬ـ‬ ‫‪68‬‬


‫د‪.‬قيس محمود حامد‬

‫الدين والثقافة‪ ،‬تبادلية الدور واملكانة‬

‫‪ -15‬المرتضى ‪ ،‬محمد حسين ‪ ،‬الثقافة اإلسبلمية ومواجهة التيارات الفكرية ‪.‬اؼبعادية‬ ‫لئلسبلـ ‪ ،‬جامعة عمر اؼبختار البيضاء ‪2004‬ـ‪.‬‬ ‫‪ -16‬مؤسبر تدريس الثقافة اإلسبلمية وقضايا العصر يف اعبامعات‪ ،‬جامعة الزرقاء ‪.‬‬ ‫‪ -17‬الميالد ‪ ،‬زكي ‪ ،‬اإلسبلـ واإلصبلح الثقايف ‪ ،‬أطياؼ للنشر والتوزيع الرياض‪،‬‬ ‫‪2007‬ـ‪.‬‬ ‫‪ -18‬الميالد ‪ ،‬زكي ‪ ،‬اؼبسألة الثقافية ‪ ،‬من أجل بناء نظرية يف الثقافة ‪ ،‬اؼبركز الثقايف‬ ‫العريب ‪2005‬ـ‪.‬‬ ‫‪ -19‬ولد السعد ‪ ،‬محمد المختار ‪ ،‬عوائق اإلبداع يف الثقافة العربية بُت اؼبوروث‬ ‫وربديات العوؼبة‪ ،‬مكتب األمارات للبحوث والدراسات االسًتاتيجية‪.‬‬ ‫الدوريات ‪:‬‬ ‫‪ -1‬بيير مارك دي بيازي‪ -‬تأمبلت يف الشأف الديٍت – ترصبة ؿبمود ميبلد ‪ ،‬الثقافة‬ ‫العاؼبية ‪2004‬ـ‪.‬‬ ‫‪ -2‬الرباعي‪ ،‬عبد القادر – ثقافة النقد ونقد الثقافة قراءة يف ربوالت النقد الثقايف –‬ ‫عامل الفكر ـ ‪ – 33‬يناير مارس ‪2005‬‬ ‫‪ -3‬ريتشارد هوجارت – الثقافة والدولة – ترصبة شعباف عبد العزيز عفيفي‪ ،‬الثقافة‬ ‫العاؼبية‪ ،‬الكويت ع ‪2001 ،108‬ـ‪.‬‬ ‫‪ -4‬السيد رضوان ‪ ،‬التاريخ واالستحالة يف التحوالت التارىبية ويف الوعي ‪ ،‬االجتهاد‬ ‫ع‪1994، 25‬ـ‪ ،‬دار االجتهاد بَتوت لبناف‪.‬‬ ‫‪ -5‬السيد ‪ ،‬رضوان ‪ ،‬االنثروبولوجيا والتاريخ واالستشراؽ ‪ ،‬االجتهاد ‪/48 /47‬‬ ‫‪2000‬ـ ‪ .‬دار االجتهاد بَتوت لبناف‬ ‫‪ -6‬السماك ‪ ،‬محمد ‪ ،‬العوؼبة واثرىا على اػبصوصيات الثقافية ‪ ،‬االجتهاد ‪/53 /52‬‬ ‫‪2002 /2001‬ـ ‪ .‬دار االجتهاد بَتوت لبناف‬

‫‪69‬‬


‫تفكُّر ‪ ،‬جملد (‪ ،)31‬العدد (‪2013 ، )2-3‬م‪1434/‬هـ‬

‫الفلسفة وفلسفة العلوم‬

‫‪ -7‬السماك ‪،‬محمد – اعبوامع اؼبشًتكة بُت الديانات – االجتهاد ع‪ 29‬س‪– 7‬‬ ‫‪1995‬ـ دار االجتهاد بَتوت لبناف‬ ‫‪ -8‬ستيفان كوليني –اغبديث عن الثقافة –– ترصبة عمر عطاري‪ .‬الثقافة العاؼبية‬ ‫ع‪ 11‬سبتمرب ‪2002‬ـ‪ ،‬الكويت‪.‬‬ ‫‪ -9‬عبد الحميد ‪ ،‬عرفان‪ ،‬اؼبنهج العلمي ومقاربتو يف القرآف الكرمي‪ ،‬التجديد ‪ ،‬اعبامعة‬ ‫اإلسبلمية العاؼبية ‪1997 /1‬ـ‪.‬‬ ‫‪ -10‬لورفيغ هاتمان ‪ ،‬اؼبسيحية واإلسبلـ من التصادـ للتبلقي ‪ ،‬االجتهاد ‪/30 ،‬‬ ‫‪1996‬ـ ‪ ،‬دار االجتهاد بَتوت لبناف‪.‬‬ ‫‪ -11‬مراد ‪،‬محمد ‪،‬اجملتمع اإلسبلمي والغريب ‪ ،‬االجتهاد ‪1999 ،43 ،‬ـ دار‬ ‫االجتهاد بَتوت لبناف‬ ‫‪ -12‬هافا الزاروس‪ -‬الفكر اإلسبلمي والفكر اليهودي بعض جوانب التأثَت الثقايف‬ ‫اؼبتبادؿ ‪ -‬االجتهاد ‪ .‬ع‪ 28‬س ‪ ،1995 – 7‬دار االجتهاد بَتوت لبناف‪.‬‬ ‫‪ -13‬ويلي فان بيير – صخب ونبس حوؿ التعددية الثقافية –ترصبة معصومة‬ ‫حبيب– الثقافة العاؼبية‪ ،‬ع ‪ – 112‬مايو ‪2002‬ـ‪.‬‬ ‫المراجع االجنبية‪:‬‬

‫‪1- MATHEW‬‬ ‫‪Deflem,‬‬ ‫‪Introduction:‬‬ ‫‪Low‬‬ ‫‪in‬‬ ‫‪Hahormas’stncmy of Communicative Action, Phil and‬‬ ‫‪Social Lriticism VOL20 NO 4 1994.‬‬ ‫‪2- Weber, Max: Economy and Society,Edited by Gventher‬‬ ‫‪Roth‬‬ ‫‪3- Burger, Thomas: Max Weber’s Theory of Concept and‬‬ ‫‪chiswittich, Formation, University of California press,‬‬ ‫‪Durham Duke, Berkeley, Los Angelos, London ,1987,‬‬ ‫‪P.184.‬‬ ‫‪6:‬‬


‫املنتج الثقايف يف ضوء القرآن الكريم‬

‫توطئة ‪:‬‬

‫أ‪.‬د‪ .‬جمال الدين عبد العزيز شريف‬

‫*‬

‫ما من كتاب من الكتب قد كاف لو من التأثَت يف بلورة ثقافة اجملتمعات كتشكيلها‬

‫ما كاف للقرآف الكرمي؛ إذ ما زاؿ ىذا الكتاب العظيم ذا أثر بالغ يف تشكيل أفكار اظتسلمُت‬ ‫كمعارفهم كلغاهتم كعاداهتم كتقاليدىم كأخالقهم كفنوهنم كآداهبم كيف بلورة تصوراهتم‬ ‫كرؤيتهم للعامل‪ .1‬كإذا كانت الفنوف كاآلداب كما ىو معلوـ تنبثق من ثقافة اظتبدع اليت ىي‬

‫جزء ال يتجزأ من ثقافة اجملتمع‪ -‬فإ ٌف إبداعات اظتسلمُت قد انطلقت من ؼتزكهنم الثقايف‬ ‫الذم شكلو القرآف ‪ ،‬كىذة اإلبداعات اليت نقصدىا يف ىذا البحث ىي الشعر كالغناء‬ ‫كالتصوير‪ ،‬كقد قاؿ الرصايف‪:‬‬ ‫إف رم ػػت عيػشان ناعػػمان كرقيػقا‬

‫كاجعل حياتك غضة بالشعر كالتمػ‬

‫فاسلك إليو من الفنوف طريقا‬ ‫ثيػل كالتصويػر كاظتػوسيػقى‬

‫كظتا كاف التمثيل قد طرأ على ثقافة األمة اإلسالمية حديثان بتأثَت الثقافات األخرل‬

‫ فإ ٌف ىذا البحث سوؼ يتناكؿ األشكاؿ الثالثة األخرل ؛ فضال عن تعريف مفهوـ‬‫الثقافة نفسو ؛كتفصيل ذلك كاآليت‪:‬‬

‫مفهوم الثقافة‪:‬‬

‫للثقافة يف لساف العرب و‬ ‫معاف ؼتتلفة كدالالت متعددة ؛ كىي كاآليت‪:‬‬

‫* أستاذ باحث معهد إسالـ اظتعرفة ‪ ،‬جامعة اصتزيرة‪ ،‬كدمدين‬ ‫‪ 1‬القرآف العظيم ىو الذم ينتج الثقافة عند اظتسلمُت كال تنتجو الثقافة خالفان ظتا ذىب إليو نصر حامد‬ ‫أبو زيد الذم ذىب إىل أ ٌف القرآف منتج ثقايف "بفتح التاء" كمعٌت كالمو أ ٌف القرآف نفسو ىو‬ ‫حصيلة للتفاعل مع البيئة العربية ‪ ،‬كىي دعول عجيبة أراد هبا ىوالء اضتداثيوف أف يقولوا أف القرآف‬ ‫منتج ثقايف ػتصور يف ظرؼ تارمتي ػتدكد‬


‫تفكُّر ‪ ،‬جملد (‪ ،)31‬العدد (‪2013 ، )2-3‬م‪1434/‬هـ‬

‫علوم الوحي‬

‫‪-1‬اإلدراك والظفر ‪ ،‬تقوؿ ‪ :‬ثقف فالف فالنان ؛ إذ أدركو يف اضترب كظفر بو ‪ ،‬كعلى ىذا‬

‫وى ٍم‬ ‫اظتعٌت دكف غَته من اظتعاين جاء معٌت ‪( :‬ثقف) يف القرآف الكرمي ؛ قاؿ تعاىل ‪  :‬ىكاقٍػتيػلي ي‬ ‫حي ً‬ ‫ت ىعلىٍي ًهم ِّ‬ ‫الذلةي أىيٍ ىن ىما‬ ‫ىٍ ي‬ ‫ض ًربى ٍ‬ ‫وى ٍم‪ ‬أم حيث كجددتوىم كظفرمت هبم ‪ ،‬كقاؿ‪  :‬ي‬ ‫ث ثىق ٍفتي يم ي‬ ‫ي‬ ‫ً‬ ‫اضتر ً‬ ‫ً‬ ‫ب فى ىشِّرٍد هبً​ًم م ٍن‬ ‫ثيق يفواٍ‪ ‬أم ‪:‬أينما كجدكا كظفر هبم ‪ ،‬كقاؿ‪ :‬فىإما تىػثٍػ ىق ىفنػ يه ٍم ًيف ٍىٍ‬ ‫ىخ ٍل ىف يه ٍم‪ ‬أم ‪:‬تظفر ٌف هبم ‪ ،‬كقاؿ‪ :‬إًف يػىثٍػ ىق يفويك ٍم يى يكونيوا لى يك ٍم أ ٍىع ىداء‪ ‬أم ‪ :‬إف يظفركا بكم‪،‬‬ ‫كبذلك يبدك كاضحان جدان أ ٌف معٌت الثقافة يف القرآف ال يعدك معٌت اإلدراؾ كال يتجاكز معٌت‬ ‫الظفر‪. 1‬‬

‫‪-2‬الحذق والفطنة‪ ، 2‬كقد جاء ىذا اظتعٌت يف حديث السيدة عائشة رضي اهلل عنها كىي‬ ‫تصف أخاىا عبداهلل ‪ -‬يف حديث اعتجرة ‪ -‬بأنو ‪( :‬ثقف لقن) ؛ تقوؿ ‪( :‬ضتق رسوؿ اهلل‬

‫‪ ‬كأبو بكر بغار يف جبل ثور فكمنا فيو ثالث لياؿ يبيت عندقتا عبد اهلل بن أيب بكر‬ ‫كىو غالـ شاب ثقف لقن فيدجل من عندقتا بسحر فيصبح مع قريش مبكة كبائت)‬

‫‪3‬‬

‫‪-3‬إقامة المعوج من السهام ‪ ،‬كالثقاؼ أداة من خشب أك حديد تثقف هبا الرماح ‪ ،‬قاؿ‬ ‫الشاعر‪:4‬‬

‫كقصيدة قد بت أرتع مشلها‬

‫حىت أقوـ ميلها كسنادىا‬

‫نظر اظتثقف يف كعوب قنػاتو‬

‫حىت يقيم ثقافو منآدىا‬

‫‪ 1‬اصتياين ‪ :‬شهاب الدين أزتد ‪ ،‬التبياف يف تفسَت غريب القرآف ‪ ،‬حتقيق فتحي أنور الدابويل ‪ ،‬ط ‪/‬‬ ‫‪1‬دار الصحابة للًتاث بطنطا – القاىرة ‪،‬سنة ‪1992‬ـ ‪ ،172 / 1 ،‬كالسجستاين‪ :‬ػتمد بن‬ ‫عزيز ‪ ،‬غريب القرآف ‪ ،‬حتقيق ػتمد أديب عبد الواحد رتراف ‪،‬ط ‪/‬دار قتيبة ‪،‬سنة ‪1416‬ىػ‪-‬‬ ‫‪1995‬ـ ‪525 / 1 ،‬‬ ‫‪ 2‬ابن منظور ‪ :‬ػتمد بن مكرـ ‪ ،‬لساف العرب ‪ ،‬ط‪1/‬دار صادر – بَتكت‪19/ 9 ،‬‬ ‫‪ 3‬البخارم ‪ :‬ػتمد بن إشتاعيل ‪،‬صحيح البخارم "اصتامع الصحيح" ‪ ،‬حتقيق مصطفى ديب البغا ‪،‬‬ ‫ط‪ 3/‬دار ابن كثَت اليمامة – بَتكت ‪،‬سنة ‪1417/ 1987،3 – 1407‬‬ ‫‪ 4‬ابن سيده ‪ :‬علي بن إشتاعيل اظترسي ‪ ،‬احملكم كاحمليط األعظم ‪ ،‬حتقيق عبد اضتميد ىنداكم‬ ‫‪،‬ط‪/‬دار الكتب العلمية بَتكت ‪،‬سنة ‪2000‬ـ ‪357/ 6 ،‬‬ ‫‪05‬‬


‫أ‪.‬د‪ .‬مجال الدين عبد العزيز شريف‬

‫املنتج الثقايف يف ضوء القرآن الكريم‬

‫كقاؿ عمرك بن كلثوـ ‪:‬‬ ‫على األ ً‬ ‫ك أى ٍف تىلًٍيػنىا‬ ‫ػت‬ ‫ىع ىداء قىػبىػلى ى‬ ‫ٍ‬ ‫فىًإف قىػنىاتىػنىا يىا ىع ٍمػ ػ يرك أ ٍىعيىػ ٍ‬ ‫ى‬ ‫ىكىكلٍتػوي ىع ىش ٍػوىزنىةن ىزبيػ ػ ػ ػ ػ ػ ػ ػ ػ ػ ػ ػ ػ ػ ػ ٍونىػ ػا‬ ‫ت‬ ‫اؼ ًهبىا ٍ‬ ‫إً ىذا ىعض الثػ ىق ي‬ ‫امشىأىز ٍ‬ ‫تى يش ُّج قىػ ىفا اظتثىػق ً‬ ‫ِّف ىكاصتىبًٍيػنى ػ ػ ػ ػ ػ ػ ػا‬ ‫ت أ ىىرنت‬ ‫ىع ىش ٍوىزنىةن إً ىذا انٍػ ىقلىبىػ ػ ٍ‬ ‫ي‬ ‫‪-4‬المالعبة بالسيف ‪ ،‬كاظتثاقف ىو ‪ :‬اظتالعب بالسيف‪1‬؛ كما قاؿ الشاعر ‪:‬‬ ‫يف اصتو أسياؼ اظتثاقف‬ ‫ككأف ظتع بركقه ػ ػ ػا‬ ‫‪-5‬األدب والتهذيب ‪ ،‬تقوؿ ‪ :‬ث ٌقفو ‪ ،‬أم ‪ٌ :‬أدبو كى ٌذبو ‪ ،‬كذكر اإلماـ الزؼتشرم ‪ :‬أ ٌف‬ ‫ىذا اظتعٌت إفتا ىو معٌت غتازم‪.2‬‬ ‫‪-6‬الحذق في العلوم والمعارف والفنون ‪ ،‬كقد جاء ىذا اظتعٌت عند أصحاب اظتعجم‬ ‫الوسيط‪ :‬أزتد الزيات كإبراىيم مصطفى كغَتقتا‪ ، 3‬كتبدك شتة ىذا العصر كاضحة جدان يف‬ ‫ىذا اظتعٌت الذم اقًتب نوعان ما من ذلك التعريف اجملازم للثقافة‪.‬‬ ‫أما من حيث اظتعٌت االصطالحي فإف مفهوـ الثقافة "باعتباره مفهومان متكامالن" ‪،‬‬ ‫فهو كأم مفهوـ آخر البد لو من عوامل تساعد يف بلورتو كتشكيلو كما البد لو من‬ ‫مؤثرات فكرية كاجتماعية منها ينبثق ‪ ،‬كىذ ا ما مل يتوافر لو يف البيئة الفكرية اإلسالمية ‪،‬‬ ‫كعتذا فإف مفهوـ الثقافة اظتعاصر مل يكن إال كليد التجربة الغربية منها انطلق كفيها فتا كأخرج‬ ‫شطأه كاستول على ساقو كازدىر ‪ ،‬كمن مث نيقل ىذا اظتصطلح إىل الفكر العريب كاإلسالمي‬ ‫كدتت تررتتو بلفظ (الثقافة) فحسب ليكوف مفهومان ذا أسس كأبعاد‪.‬‬ ‫كاضتق أنو رغم كل ما ذكر فإف مفهوـ الثقافة يف الفكر الغريب ذاتو حيث انطلق ‪،‬‬ ‫مل يكن مفهومان دقيقان ػتدد األبعاد كاضح الدالالت ػتصور اظتعاين ؛ إذ إف لو ما يفوؽ اظتائة‬ ‫‪ 1‬لساف العرب ‪ ، 19/ 9‬ك احملكم كاحمليط األعظم ‪357/ 6‬‬ ‫‪ 2‬أساس البالغة ‪47/ 1‬‬ ‫‪ 3‬إبراىيم مصطفى ك أزتد الزيات ك حامد عبد القادر كػتمد النجار ‪ ،‬اظتعجم الوسيط ‪،‬ط‪/‬دار‬ ‫الدعوة‪98/ 1 ،‬‬ ‫‪05‬‬


‫تفكُّر ‪ ،‬جملد (‪ ،)31‬العدد (‪2013 ، )2-3‬م‪1434/‬هـ‬

‫علوم الوحي‬

‫كالستُت تعريفان‪ .1‬كقد يًتادؼ مفهوـ (الثقافة) أحيانان مع مفهوـ (اضتضارة) كقتا بالطبع‬ ‫متداخالت متشابكاف ؛ كعتذا ذىب زكي ؾتيب ػتمود إىل أف ‪" :‬ما بُت الثقافة كاضتضارة ما‬ ‫بُت الركح كاصتسد‪ .‬فاضتضارة منشآت تراىا األبصار كدتسها األيدم أدت إليها ثقافة تسرم‬ ‫فيها بقيمها كأذكاقها كمعتقداهتا سرياف الركح يف اصتسد‪ ،‬فًتل اصتسد ناشطنا بفعلها كلكنك‬ ‫ال تراىا" ‪ ، 2‬كعتذا ذىب بعضهم إىل أ ٌف اضتضارة ما ىي إال تعبَت كاقعي عن مستول متقدـ‬ ‫من الثقافة‪.3‬‬ ‫كقد ذىب الدكتور حسُت مؤنس يف كتابو "اضتضارة" إىل أ ٌف ‪" :‬ثقافة األمة تعٍت‬ ‫علمها غَت الواعي الذم تتوارثو أجياعتا كتسَت بو يف شئوف حياهتا‪ ،‬أم ىي طريقتها يف‬ ‫اضتياة‪ ،‬متضمنة اللغة أك اللهجة من اللغة كنظاـ إقامة البيوت كأنواع اظتأكل كطرؽ حتضَتىا‬ ‫كتصور‬ ‫كطرؽ تناكعتا‪ ،‬كاظتالبس كالفرش كالثياب كأشكاعتا‪ ،‬كاألمثاؿ كاضتكايات الشعبية‪ٌ ،‬‬ ‫أىلها للدنيا كموقفهم من اضتياة كطريقة سَتىم فيها‪ ،‬كطرائقهم يف الصناعة كالزراعة كالتجارة‬ ‫كاظتالحة"‪.4‬‬ ‫كيقرب من ىذا التعريف ‪ -‬أك يسَت يف اجتاىو ‪ -‬ذلك التعريف الذم قدمو إدكارد‬ ‫تيلر سنة ‪1871‬ـ للثقافة كىو ‪" :‬إف الثقافة ىي ذلك اظتركب الذم يشتمل على اظتعرفة‬ ‫كالعقائد كالفنوف كاألخالؽ كالتقاليد كالقوانُت كرتيع اظتقومات كالعادات األخرل اليت‬ ‫عضوا يف اجملتمع"‪.5‬كىذا التعريف ما يزاؿ أساسان ألغلب‬ ‫يكتسبها اإلنساف بوصفو‬ ‫ن‬ ‫التعريفات السائدة اآلف‪.‬‬ ‫‪ 1‬دينس كوش ‪ ،‬مفهوـ الثقافة يف العلوـ االجتماعية ‪ ،‬تررتة منَت السعداين ‪ ،‬ط‪ /‬مركز دراسات‬ ‫الوحدة العربية ‪2007 ،‬ـ ‪ ،‬ص‪17‬‬ ‫‪ 2‬كماؿ بشر ‪ :‬اللغة العربية بُت العوربة كالعوظتة ‪ ،‬غتلة غتمع اللغة العربية بالقاىرة ‪247/1‬‬ ‫‪ 3‬اظترجع السابق‬ ‫‪ 4‬اظترجع السابق‬ ‫‪ 5‬اظترجع السابق‬ ‫‪05‬‬


‫أ‪.‬د‪ .‬مجال الدين عبد العزيز شريف‬

‫املنتج الثقايف يف ضوء القرآن الكريم‬

‫تصور ثقافة ما جملتمع من اجملتمعات مبعزؿ عن دينو أك‬ ‫كاضتق أنو ال نتكن إطالقان ٌ‬ ‫بعيدان عن معتقداتو كتصوراتو ؛ إذ إ ٌف الدين يساىم مساقتة فاعلة كيلعب دكران بارزان كيؤثر‬ ‫تاثَتان بالغان يف األخالؽ كالتقاليد كالعادات ‪ ،‬كليس ذلك فحسب بل نتتد ىذا التأثَت إىل‬ ‫اظتعارؼ كالفنوف كطريقة اجملتمع يف اضتياة كيف رؤيتو للعامل‪.‬‬ ‫كعتذا فإ ٌف الثقافة يف اإلسالـ قد تكونت عرب العصور اظتتتالية كعرب األجياؿ‬ ‫اظتتالحقة من خالؿ العقيدة كاظتعارؼ كالقيم اإلسالمية ؛ كهبذا تبلورت رؤية اظتسلمُت للعامل‬ ‫كتشكلت تصوراهتم الكلية كنظرهتم للحياة كطريقة سَتىم فيها ‪ ،‬كليس ذلك فحسب بل‬ ‫اصطبغ كل شئ عندىم بصبغة الدين ‪ ،‬كقد جاء يف تقرير ديلبس قنصل فرنسا العاـ يف‬ ‫سوريا سنة ‪1956‬ـ ‪" :‬إف أبرز اضتقائق اليت يلحظها من يريد دراسة ىذه البلداف سلطة‬ ‫الدين يف حياة الناس ؛ فالدين يظهر يف كل مكاف كيف كل أمر ‪ ،‬ففي اجملتمع الشرقي يظهر‬ ‫أثر الدين يف األخالؽ العامة كيف اللغة كيف األدب كيف رتيع اظتؤسسات االجتماعية" ‪ .1‬ىذا‬ ‫كمن اظتعركؼ أ ٌف العلوـ االسالمية ‪ :‬كالنحو كالبالغة كعلم اللغة كالفقو كاضتديث كالتاريخ‬ ‫قد تشكلت بأثر مباشر من الدين كالثقافة اإلسالمية ‪.2‬‬ ‫كعتذا فإ ٌف كل ما يبدعو العقل اظتسلم من معارؼ كعلوـ كفنوف كآداب ىو جزء من‬ ‫ثقافتو من ناحية كناتج عن ىذه الثقافة من ناحية أخرل ‪ ،‬فال يتصور إبداع عند اظتسلمُت‬

‫‪ 1‬الشحود ‪ :‬علي نايف ‪ ،‬الرد على اظتذاىب الفكرية اظتعاصرة ‪19/ 29 ،‬‬ ‫‪ 2‬نشأ علم اللغة ظتا تغَتت معاين اظتفردات كاستعمل كالـ العرب يف غَت موضعو فخاؼ أئمة اللساف‬ ‫أف تضيع معاين القرآف كالسنة فشمركا لذلك كأملوا الدكاكين كنشأ علم اللغة ‪ .‬كظتا فسدت ملكة‬ ‫النحو كاإلعراب كخشي أىل العلم أف ينغلق القرآف كالسنة على اظتفهوـ حسب تعبَت ابن خلدكف‬ ‫كضعوا علم النحو ‪ ،‬كقد نشأت البالغة إلثبات إعجاز القرآف بعد إنكار إبراىيم بن سيار‬ ‫النظاـ صتماليات القرآف كبالغتو العالية ‪ ،‬كىذه العلوـ ىي أدكات فهم القرآف كالسنة يقوؿ ابن‬ ‫خلدكف "النظر يف القرآف كاضتديث البد أف تتقدمو العلوـ اللسانية ؛النو متوقف عليها" ‪ .‬ىذا كقد‬ ‫نشأ علم الفقو كعلم اضتديث ايضان مبؤثرات ثقافية كفكرية عند اظتسلمُت ‪ ،‬إذ أنو ظتا تعقد اجملتمع‬ ‫اظتسلم كظهرت الفرؽ ككضعت األحاديث كنسبت للنيب ‪‬ظهرت اضتاجة لعلم اضتديث ذلك‬ ‫العلم الدقيق الذم نتيز الصحيح من غَت الصحيح ‪ ،‬كظتا كثرت الوقائع كاختلفت اآلراء احتاج‬ ‫الناس إىل علم كتمع ذلك كيرجح كيضبط فنشأ علم الفقو ‪.‬‬ ‫‪05‬‬


‫تفكُّر ‪ ،‬جملد (‪ ،)31‬العدد (‪2013 ، )2-3‬م‪1434/‬هـ‬

‫علوم الوحي‬

‫اظتكوف الثقايف الذم شكلتو العقيدة كأرسى أساسو الدين بكل معطياتو‪.‬‬ ‫إال من خالؿ ذلك ٌ‬ ‫كظتا كانت أعماؿ اظتسلمُت اإلبداعية منطلقة من ؼتزكهنم الثقايف فقد أثر القرآف الكرمي يف‬ ‫ىذه األعماؿ اإلبداعية منذ الوىلة األكىل اليت فيها نزؿ ‪ ،‬كلعل الناظر يف أعماؿ الصحابة‬ ‫اإلبداعية رضواف اهلل عليهم ‪ -‬ليجد ىذا األثر كاضحان جدان عندىم ؛ فقد تأثر حساف بن‬

‫ثابت كعبداهلل بن ركاحة شاعرا النيب ‪ ‬بالقرآف كشكلت العقيدة إبداعاهتم ‪ ،‬كإذا أردت‬

‫دليالن بيٌنان على ذلك فانظر إىل اظتفردات اإلسالمية ؿتو ‪ " :‬جنة اطتلد كاضتور العُت ‪،‬‬ ‫كاظتالئكة كالشهادة" يف قوؿ حساف يرثى خبيبا‪: 1‬‬ ‫ً‬ ‫عند اضتوًر يف ً‬ ‫الرفق‬ ‫خبيب‪ ،‬جز ىاؾ اهللي طيبة‬ ‫فاذىب‬ ‫كجنةى اطتلد ى‬ ‫ٍ‬ ‫ي‬ ‫حُت اظتالئكةي األبر يار يف األف ػ ًق‬ ‫لكم‬ ‫ماذا تقولو ىف‪ ،‬إ ٍف ى‬ ‫قاؿ ُّ‬ ‫ى‬ ‫النيب ٍ‬ ‫ً‬ ‫ث يف البلداف كالطٌيرًؽ‬ ‫يد الل ًو يف ىر يج ول‬ ‫و‬ ‫فيما قىػتىػ ٍلتي ٍم ىش ًه ى‬ ‫طاغ قد ٍأك ىع ى‬ ‫أما لبيد بن ربيعة صاحب اظتعلقة اظتشهورة رضي اهلل عنو فقد كاف لو رد فعل ؼتتلف‬

‫دتامان فقد أعجبو القرآف إىل حد الصدمة فأقلع عن قوؿ الشعر‪ . 2‬كمل يقف ىذا التأثَت عند‬

‫الصحابة رضواف اهلل عليهم بل تعداه إىل كافة اظتبدعُت اظتسلمُت بعدىم جيالن بعد جيل‬ ‫‪3‬‬ ‫كقرنان بعد قرف ؛ يقوؿ ابن حجر العسقالين ‪:‬‬ ‫خاض العواذؿ يف حديث مدامعي‬

‫ظتا جرل كالبحر سرعة سَته‬

‫فحبستو ألصوف سػر ىواك ػ ػ ػ ػ ػ ػ ػ ػ ػ ػ ػ ػ ػ ػ ػم‬

‫حىت متوضوا يف حديث غَته‬

‫إف الذين ترحلػ ػ ػ ػ ػ ػ ػ ػ ػ ػ ػ ػ ػ ػ ػ ػ ػ ػ ػ ػ ػ ػ ػ ػ ػ ػ ػ ػوا‬

‫نزلوا بعػػيػن ناظػ ػ ػ ػ ػ ػ ػ ػ ػ ػ ػ ػ ػ ػ ػ ػ ػ ػ ػ ػ ػ ػ ػ ػرة‬

‫كقاؿ ابن قرناص‪:4‬‬

‫‪ 1‬ديواف حساف بن ثابت ‪154/ 1‬‬ ‫‪ 2‬كقيل للبيد‪ :‬ملى ال تقوؿ الشعر؟ فقاؿ‪ :‬يف سورة البقرة كآؿ عمراف شغل عن الشعر‪.‬‬ ‫‪ 3‬الكشكوؿ ‪81/ 1‬‬ ‫‪ 4‬اظترجع السابق‬ ‫‪05‬‬


‫املنتج الثقايف يف ضوء القرآن الكريم‬

‫كقاؿ اآلخر‪: 1‬‬

‫أسكنتهم يف مقليت‬

‫أ‪.‬د‪ .‬مجال الدين عبد العزيز شريف‬

‫فإذا ىم بالساى ػ ػرة‬

‫يا عاشقُت حاذركا ‪ . . .‬مبتسمان من ثغػ ػ ػ ػ ػ ػ ػ ػ ػ ػره‬ ‫فطرفو الساحر مذ ‪ . . .‬شككتػ ػػم يف أم ػ ػ ػ ػ ػ ػ ػ ػره‬ ‫يريد أف مترجكػػم ‪ . . .‬من أرضكم بسح ػ ػ ػ ػ ػو‬ ‫كمل يقف تأثر اظتبدعُت اظتسلمُت على أخذىم ألفاظ القرآف كتراكيبو بل أخذكا‬

‫معانيو كحقائقو ؛ يقوؿ الشاعر‪: 2‬‬ ‫ت بأ ٍىع ىش ً‬ ‫ٍرت ًم ٍن ىح ٍد ىراءى ما كنت تأٍلىف‬ ‫اش كما كنت ىتع ًزؼ ‪ ...‬كأنك ى‬ ‫ىعىزفٍ ى‬ ‫ً‬ ‫دعوت ال ًذم سول السمو ً‬ ‫ف‬ ‫ات ي‬ ‫أيدهي ‪ ...‬كللٌوي ٍأد ىَن من ىكًريػ ػػدم كأىلٍطى ي‬ ‫ي‬ ‫ى‬ ‫كقد أخذ ذلك من قولو تعاىل ‪ :‬كىؿتن أىقٍػرب إًلىي ًو ًمن حب ًل الٍوًر ً‬ ‫يد‪ . ‬كيقوؿ أبو‬ ‫ى ٍ ي ى ي ٍ ٍ ىٍ ى‬ ‫‪3‬‬ ‫نواس‪:‬‬ ‫فهم ال يصربكف على طعاـ‬ ‫أراؾ بقيٌةن من قوـ موسى‬ ‫كقد أخذه من قولو تعاىل ‪ :‬إً ٍذ قيػ ٍلتيم يا موسى لىن نصًرب علىى طىع واـ ك ً‬ ‫اح ود‪ . ‬كقد‬ ‫ٍى ي ى‬ ‫ٍى ى ى ى ى‬ ‫‪4‬‬ ‫يكوف ىذا األخذ يف فكرة عامة يقوؿ أبو نواس أيضان‪:‬‬ ‫تأمل يف نبات األرض كانظػ ػر ‪ ...‬إىل آثار ما صنع اظتليػ ػ ػ ػ ػ ػ ػ ػ ػ ػ ػ ػ ػ ػ ػ ػ ػػك‬ ‫عيوف من صتُت شاخص ػ ػ ػات ‪...‬‬

‫بأحداؽ ىي الذىب السبيك‬

‫على قضب الزبرجد شاىدات ‪ ...‬بأف اهلل ليس لو ش ػ ػ ػريػ ػ ػ ػ ػ ػ ػ ػ ػ ػ ػ ػ ػ ػك‬ ‫‪ 1‬العاملي‪ :‬هباء الدين ػتمد بن حسُت ‪ ،‬الكشكوؿ ‪ ،‬حتقيق ػتمد عبد الكرمي النمرم‪ ،‬ط‪ 1/‬دار‬ ‫الكتب العلمية ‪ -‬بَتكت ‪ /‬لبناف ‪،‬سنة ‪1418‬ىػ ‪1998-‬ـ‪15/ 2 ،‬‬ ‫‪ 2‬البطليوسي ‪ ،‬اضتلل يف شرح أبيات اصتمل ‪67/ 1‬‬ ‫‪ 3‬الثعاليب ‪،‬التمثيل كاحملاضرة‪5/ 1‬‬ ‫‪ 4‬ابن كثَت ‪ :‬إشتاعيل بن عمر ‪ ،‬تفسَت القرآف العظيم ‪ ،‬حتقيق سامي بن ػتمد سالمة ‪،‬ط‪2/‬دار‬ ‫طيبة للنشر ‪،‬سنة ‪1420‬ىػ ‪ 1999 -‬ـ ‪198/ 1 ،‬‬ ‫‪00‬‬


‫تفكُّر ‪ ،‬جملد (‪ ،)31‬العدد (‪2013 ، )2-3‬م‪1434/‬هـ‬

‫علوم الوحي‬

‫ً ً‬ ‫ات‬ ‫ىنزىؿ لى يكم ِّم ىن الس ىماء ىماء فىأىنبىٍتػنىا بًو ىح ىدائ ىق ذى ى‬ ‫كقد أخذه من قولو تعاىل ‪  :‬ىكأ ى‬ ‫بػى ٍه ىج وة ما ىكا ىف لى يك ٍم أىف تينبًتيوا ىش ىجىرىىا أىإًلىوه م ىع الل ًو ‪ . ‬كقاؿ أبو دتاـ يرثي شهيدان‪:1‬‬ ‫ً‬ ‫ض ير‬ ‫كى ىي ًم ٍن يسٍن يد وس ىخ ٍ‬ ‫الليل إال ٍ‬ ‫تردل ى‬ ‫ثياب اظتوت زتران فما أتى ** عتا ي‬ ‫ً‬ ‫وـ ىشت واء ىخػػر ًم ٍن بػىٍينها البىػ ػ ػ ػ ػ ػ ػ ػ ػ ػ ػ ػ ػ ػ ػ ػ ٍد ير‬ ‫يوـ ىكفات ػ ػ ػ ػ ػ ػ ػ ػ ػ ػ ػ ػو ** يؾت ي‬ ‫كأف بىًٍت نػىٍب ػ ىػها ىف ى‬ ‫كقد أخذ ىذه الفكرة من دخوؿ الشهيد للجنة ‪ ،‬كأىل اصتنة لباسهم السندس‬ ‫األخضر ً ً‬ ‫ضهر ىكإً ٍستىٍبػىر هؽ) ‪ .‬كقد أينكر على اظتتنيب قولو‪:2‬‬ ‫ند وس يخ ٍ‬ ‫اب يس ي‬ ‫ى‬ ‫(عاليىػ يه ٍم ثيى ي‬ ‫أيت بػيػ ػدكران ** طلعت يف براقع كعقػ ػ ػ ػ ػ ػ ػ ػ ػ ػ ػ ػ ػ ػ ػػود‬ ‫ىع ٍمىرىؾ اهلل ! ىى ٍل ىر ى‬ ‫ً و‬ ‫ب تشق القلوب قبل اصتلود‬ ‫بأس يه وم ًر ي‬ ‫ىراميات ٍ‬ ‫يشها اعتػيػ ػ ػ ػ ػ ػ ػ ػ ٍد ** ي‬ ‫و‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫أحلى ًم ىن التٌػ ٍوحي ًػد‬ ‫يػىتىػىر ٌش ٍف ىن م ٍن فىمي ىر ىش ىف ػ ػ ػ ػ ػ ػ ػ ػ ػ ػ ػات ** يى ٌن فيو ٍ‬ ‫فهو كإف كاف قد جرح الشعور العاـ للمجتمع اإلسالمي بتقدنتو للرشف على‬

‫التوحيد الذم ىو رأس األمر كلو ‪ ،‬إال أف اظتتنيب تأثر بثقافة اظتسلمُت اليت تربز حالكة‬ ‫التوحيد يف حد ذاتو دكف مقارنة لو بشئ آخر ‪ ،‬كإف كاف قد أخطأ حينما قارف ‪.‬‬ ‫كمل يقتصر تأثر اظتسلمُت بالقرآف على إبداعاهتم الفصيحة بل تعداىا إىل إبداعاهتم‬ ‫العامية ‪ ،‬يقوؿ شاعر اضتقيبة ‪:‬‬ ‫كتب أشواقي ليك ما عددىا‬ ‫لو الشجر رتيع أقالـ كالنيل مداد‬ ‫كقد أخذ ذلك من قولو تعاىل ‪ :‬كلىو أىفتىا ًيف األىر ً ً‬ ‫ض من ىش ىجىرةو أىقٍ ه‬ ‫الـ ىكالٍبى ٍح ير ىنتيدُّهي‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ًمن بػع ًد ًه سبػعةي أ ٍىْب ور ما نىًفد ً‬ ‫ات الل ًو‪ ‬كيف بيت الشاعر مبالغة شديدة‪.‬‬ ‫ى ٍ‬ ‫ت ىكل ىم ي‬ ‫ى ٍ ىٍ ى ي‬ ‫كقاؿ اآلخر ‪:‬‬ ‫أحدث ما عرؼ الوجود‬ ‫‪1‬‬ ‫‪2‬‬

‫أشبو بنعيم اطتلود‬

‫ديواف أيب دتاـ ‪495/ 1‬‬ ‫ابن رشيق القَتكاين ‪،‬العمدة يف ػتاسن الشعر كآدابو ‪130/ 1‬‬ ‫‪05‬‬

‫الفي الكتاب‬


‫أ‪.‬د‪ .‬مجال الدين عبد العزيز شريف‬

‫املنتج الثقايف يف ضوء القرآن الكريم‬

‫فهو قد شبو شعوره بالسركر كالغبطة مع ػتبوبو ‪ -‬كقد ركبا طائرة ‪ -‬بذلك الشعور‬ ‫الغامر بالسعادة األبدية يف اصتنة‪.‬‬ ‫كقاؿ اظتادح متأثراى بركاية الدكرم يف اإلمالة كىي ركاية غالب أىل السوداف ‪:‬‬ ‫زخرؼ للفراديس كسد باب النَت‬

‫يوـ يكضع الرسوؿ اهنل سحب اطتَت‬

‫يقصد (النار) ‪.‬‬

‫كإذا كاف اظتسلموف قد تأثركا بالقرآف يف إبداعاهتم الشعرية فقد تأثركا كذلك باضتديث‬

‫الشريف ‪ ،‬يقوؿ ابن عباد‪:‬‬

‫‪1‬‬

‫قاؿ يل إف رقيػػيب ‪ ...‬سيء اطتلق فػ ػداره‬ ‫قلت دعٍت كجهك ‪ ...‬اصتنة حفت باظتكاره‬ ‫كقد أخذه من قوؿ النيب ‪( : ‬حفت اصتنة باظتكاره كحفت النار بالشهوات)‬ ‫كمل يقتصر تأثر اظتبدعُت اظتسلمُت على القرآف كالسنة بل تأثركا مبا نشأ حوعتما من‬ ‫علوـ كمعارؼ ‪ ،‬كقد كاف عتذه العلوـ ‪ -‬بطبيعة اضتاؿ ‪ -‬مصطلحات خاصة ‪ ،‬كقد أخذ‬ ‫ىوالء اظتبدعوف ىذه اظتصطلحات ككظفوىا يف أشعارىم خاصة مصطلحات النحو ‪ ،‬يقوؿ‬ ‫مشس الدين بن العفيف‬

‫‪2‬‬

‫يا ساكنا قليب اظتعػػٌت ‪ ...‬كليس فيو سػ ػواه ثاين‬ ‫ألم معٌت كسرت قليب ‪ ...‬كما التقى فيو ساكناف‬

‫كيقوؿ العفيف التلمساين‪:3‬‬

‫كعرفٍت أهنا الـ كي‬

‫كول القلب مٍت بالـ العذار‬

‫‪ 1‬ابن حجة اضتموم‪ ،‬خزانة األدب كغاية األرب ‪ ،‬حتقيق عصاـ شعيتو ‪ ،‬ط‪1/‬دار كمكتبة اعتالؿ –‬ ‫بَتكت ‪،‬سنة ‪457/ 2 ،1987‬‬ ‫‪ 2‬خزانة األدب كغاية األرب ‪476/ 2‬‬ ‫‪ 3‬الكشكوؿ ‪70/ 2‬‬ ‫‪05‬‬


‫تفكُّر ‪ ،‬جملد (‪ ،)31‬العدد (‪2013 ، )2-3‬م‪1434/‬هـ‬

‫علوم الوحي‬

‫كيقوؿ ابن الفارض‪:1‬‬ ‫أكسبٍت الشوؽ كما‬

‫كيقوؿ اظتتنيب‪:2‬‬

‫تكسب األفعاؿ نصبان الـ كي‬ ‫مضى قبل أف تلقى عليو اصتوازـ‬

‫إذا كاف ما ينويو فعالن مضارعان‬ ‫كمل يكن أثر اظتخزكف الثقايف الذم ش ٌكلو الدين عند اظتسلمُت مقتصران على األخذ‬ ‫منو كتوظيفو يف اإلبداعات اظتختلفة فحسب ؛ بل امتد ىذا األثر إىل حتديد شكل ىذه‬ ‫اإلبداعات كرسم حدكدىا كأبعادىا ‪ ،‬كقد كاف للقرآف توجيهات كإرشادات يف ىذه‬ ‫اإلبداعات ككاف لو مواقف من بعضها شكالن كمضمونان ‪ ،‬كعتذا كاف البد عتذه الدراسة أف‬ ‫تعرض ظتوقف القرآف من ىذه اإلبداعات ‪ ،‬كتفصيل ذلك كاآليت ‪:‬‬

‫أولا‪ :‬اإلبداعات الشعرية ‪:‬‬

‫جاء الشعر يف سياقات قرآنية توحي بذمو كإنكاره ‪ ،‬كمل يأت يف سياؽ اظتدح‬ ‫ُّعىراء يػىتبًعي يه يم الٍغى ياكك ىف‪ ‬كالغاككف ىم الضالوف الذين‬ ‫كاإلشادة إطالقان ؛ قاؿ تعاىل ‪  :‬ىكالش ى‬ ‫ً ً ً‬ ‫ك ًم ىن‬ ‫ك ىعلىٍي ًه ٍم يس ٍلطىا هف إًال ىم ًن اتػبىػ ىع ى‬ ‫س لى ى‬ ‫اتبعوا الشيطاف كما يف قولو تعاىل ‪ :‬إف عبىادم لىٍي ى‬ ‫ين‪. ‬‬ ‫الٍغىا ًك ى‬ ‫ِّعىر ىكىما يىنبىغًي لىوي إً ٍف يى ىو إًال ًذ ٍكهر ىكقػي ٍرآ هف‬ ‫كقاؿ تعاىل منزىان للنيب ‪ ( :‬ىكىما ىعل ٍمنىاهي الش ٍ‬ ‫ُت) فالنيب ‪ ‬أرفع من أف يتعلم الشعر كالقريض ‪ ،‬كىذا كأفتا يوحي بقلة شأف الشعر ؛‬ ‫ُّمبً ه‬ ‫كقد قاؿ النيب ‪ ‬كما ركل البخارم كمسلم كابن حباف كالًتمذم كالبيهقي كابن ماجة من‬ ‫حديث أيب ىريرة رضي اهلل عنو (ألف نتتلئ جوؼ أحدكم قيحان حىت يريو خَت من أف نتتلئ‬

‫‪ 1‬الكشكوؿ ‪70/ 2‬‬ ‫‪ 2‬خزانة األدب كغاية األرب ‪475/ 2‬‬ ‫‪05‬‬


‫أ‪.‬د‪ .‬مجال الدين عبد العزيز شريف‬

‫املنتج الثقايف يف ضوء القرآن الكريم‬

‫شعران)‪ .1‬كيبدك ‪ -‬من خالؿ ظاىر ىذه النصوص ‪ -‬أف الشعر مذموـ يف القرآف كالسنة ‪،‬‬

‫إال أ ٌف األمر ليس كذلك ؛ كىذا لآليت‪:‬‬ ‫الش ىعىراء يػىتبًعي يه يم الٍغى ياكك ىف‪ ‬يقصد هبم شعراء بأعينهم ؛ كىم شعراء الكفار‬ ‫‪-1‬قولو تعاىل ‪ ‬ىك ُّ‬ ‫الذين ىجوا النيب ‪ ‬كصدكا الناس عن اإلسالـ كظلموا اظتؤمنُت ؛ فهم إذف شعراء ك ٌفار‬ ‫ظاظتوف ‪ ،‬كيبدك ذلك كاضحان جدان عند دتاـ اآلية اليت استثٌت اهلل فيها الشعراء اظتؤمنُت‬ ‫الذين (ظيلموا) أم كقع عليهم الظلم باعتبارىم مؤمنُت‪ .‬ىذا كقد حدد اهلل تعاىل للشعر‬ ‫عند ىؤالء الشعراء اظتؤمنُت أربعة شركط ىي ‪ :‬اإلنتاف كالعمل الصاحل كذكر اهلل الكثَت‬

‫كاالنتصار بعد الظلم ‪ ،‬كاهلل تعاىل ال لتب اصتهر بالسوء إال من اظتظلوـ ‪ ،‬كمن السمات‬ ‫ذـ اهلل هبا شعراء الكفار أهنم ‪  :‬ىكأىنػ يه ٍم يػى يقوليو ىف ىما ال يىػ ٍف ىعليو ىف‪ ‬كقيل أف ىذه‬ ‫البغيضة اليت ٌ‬ ‫اآلية نزلت يف أيب عزة اصتمحي‪ 2‬؛ كذلك ألنو كاف من الشعراء الذين يدلوف الناس على‬

‫اطتَت كيأمركف باظتعركؼ كال يفعلونو ‪ ،‬كىو القائل ‪:‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪2‬‬

‫البخارم ‪ :‬ػتمد بن إشتاعيل ‪،‬صحيح البخارم "اصتامع الصحيح" ‪ ،‬حتقيق مصطفى ديب البغا ‪،‬‬ ‫ط‪ 3/‬دار ابن كثَت اليمامة – بَتكت ‪،‬سنة ‪ . 2279 / 5 ، 1987 – 1407‬كمسلم بن‬ ‫اضتجاج ‪،‬صحيح مسلم"اصتامع الصحيح"ط‪ /‬دار اصتيل بَتكت ‪ . 49 / 7،‬كابن حباف ‪ :‬ػتمد‬ ‫بن حباف بن أزتد ‪،‬صحيح ابن حباف بًتتيب ابن بلباف ‪ ،‬حتقيق شعيب األرنؤكط ‪ ،‬ط‪ 2/‬مؤسسة‬ ‫الرسالة ‪ -‬بَتكت‪ ،‬سنة ‪ . 93 / 13، 1993 – 1414‬ك الًتمذم ‪ :‬ػتمد بن عيسى ‪،‬سنن‬ ‫الًتمذم "اصتامع الصحيح"‪ ،‬حتقيق أزتد ػتمد شاكر كآخركف ‪،‬ط ‪ /‬دار إحياء الًتاث العريب –‬ ‫بَتكت‪ 140 / 5،‬كأزتد بن اضتسُت بن علي‪ ،‬سنن البيهقي الكربل ‪ ،‬حتقيق ػتمد عبد القادر‬ ‫عطا ‪،‬ط‪/‬دار الباز ‪ -‬مكة اظتكرمة ‪،‬سنة ‪ 1994 – 1414‬كالنسائي ‪ :‬أزتد بن شعيب ‪،‬سنن‬ ‫النسائي الكربل ‪ ،‬ط‪ 1/‬دار الكتب العلمية ‪ -‬بَتكت ‪ ،‬حتقيق عبد الغفار سليماف البندارم ‪,‬‬ ‫سيد كسركم حسن ‪،‬سنة ‪ 244 / 10 ، 1991 – 1411‬ك ابن ماجو ‪ :‬ػتمد بن يزيد أبو‬ ‫عبداهلل القزكيٍت ‪،‬سنن ابن ماجو ‪ ،‬حتقيق ػتمد فؤاد عبد الباقي ‪،‬ط‪/‬دار الفكر – بَتكت‪/ 2 ،‬‬ ‫‪1236‬‬ ‫القرطيب ‪:‬أزتد بن أيب بكر ‪ ،‬اصتامع ألحكاـ القرآف ‪ ،‬حتقيق ىشاـ شتَت ‪،‬ط‪/‬دار عامل الكتب‬ ‫الرياض اظتملكة العربية السعودية ‪،‬سنة ‪ 1423‬ىػ‪ 2003 /‬ـ ‪151/ 13 ،‬‬ ‫‪05‬‬


‫تفكُّر ‪ ،‬جملد (‪ ،)31‬العدد (‪2013 ، )2-3‬م‪1434/‬هـ‬ ‫أال أبلغا عٍت النيب ػت ػ ػػمدا‬ ‫كلكن إذا ذكرت بدران كأىلو‬

‫علوم الوحي‬

‫بأنك حق كاظتليك زتيد‬ ‫تػػأكه مٍت أعظم كجلػود‬

‫كقد كاف أليب عزة أخبار متفرقة متناقضة يف تأليب الناس على اإلسالـ تارة كيف‬ ‫مدح النيب ‪ ‬كيف ىجوه كيف خيانتو لو تارة أخرل ‪ .‬كقد قتلو النيب ‪ ‬بعد يوـ أحد عند‬ ‫زتراء األسد كخربه مشهور ‪.1‬‬

‫‪-2‬ذكر اهلل تعاىل أف من صفات ىؤالء الشعراء اظتذمومُت أهنم يبالغوف يف اعتجاء كيكذبوف‬ ‫كمتوضوف يف كل أمر يتطلبو ىذا اعتجاء ؛ فهم يهيموف يف كاد من الكالـ احملرـ كالكذب‬ ‫كقوؿ الزكر كمدح الباطل كذـ اضتق كجتريح النساء العفائف كىتك األعراض كؿتوىا‪.‬‬ ‫ِّعىر) فيها تنزيو للنيب ‪ ‬عن الشعر ‪ ،‬كأف ما جاء بو ليس‬ ‫(كىما ىعل ٍمنىاهي الش ٍ‬ ‫‪-3‬اآلية الثانية ‪ :‬ى‬ ‫من قبيل الشعر كال يشاهبو كال يدانيو ؛ كذلك ألف قريش ظتا شتعت القرآف كحالكتو‬

‫كجودة نظمو كعلو شأنو مل يريدكا االعًتاؼ بأنو كالـ إعتي فقالوا ىو ‪ -‬كإف كاف يف‬ ‫القمة العليا من البالغة ‪ -‬فما ىو إال قوؿ البشر ‪ ،‬كظتا كاف القرآف أعظم شأنان من أف‬ ‫يقولو بشر فإهنم استدركوا كقالوا ىو قوؿ رفيع للبشر كعليو حالكة كلو طالكة ‪ ،‬كمعلوـ أف‬ ‫قمة اإلبداع القويل عند البشر ىو الشعر ‪ ،‬كلذلك قالوا عن القرآف أنو شعر كقوؿ شاعر‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫اعر نػتىػربص بً​ًو ريب الٍمني ً‬ ‫رد اهلل‬ ‫وف‪ ‬كعتذا ٌ‬ ‫كقالوا عن النيب ‪  : ‬ىشاعر ٍغتنيوف‪ ‬ك‪ ‬ىش ه ى ي ى ٍ ى ى‬ ‫عليهم بقولو ‪ :‬كما ىو بًىقوًؿ ىش ً‬ ‫اع ور قىلًيالن ىما تػي ٍؤًمنيو ىف‪ ‬كيف تلك اآلية نزه اهلل النيب ‪‬‬ ‫ىى يى ٍ‬ ‫عن الشعر كبُت استحالة تأيت الشعر لو ؛ فال يظنن ظاف أنو قوم على قوؿ القرآف مبا يف‬ ‫طبعو من الشعر ؛ إذ ال شك يف نبوتو كال مراء يف رسالتو ؛ كألجل ذلك نفى اهلل‬ ‫‪1‬‬

‫ركل البيهقي أف أبا عزة اصتمحي كاف قد أسر يوـ بدر فقاؿ للنيب ‪ ‬يا ػتمد إين ذك بنات‬ ‫كحاجة كليس مبكة أحد يفديٍت فخلى النيب ‪ ‬سبيلو فعاىده أف ال يعُت عليو بيد كال لساف‬ ‫كامتدح النيب ‪ ‬حُت عفا عنو مث جاء مع اظتشركُت يف أحد فأسر فلما أتى بو إىل النيب ‪ ‬قاؿ‬ ‫أنعم على خل سبيلي فقاؿ لو النيب ‪ ‬ال يتحدث أىل مكة إنك لعبت مبحمد مرتُت فأمر بقتلو‬ ‫‪55‬‬


‫أ‪.‬د‪ .‬مجال الدين عبد العزيز شريف‬

‫املنتج الثقايف يف ضوء القرآن الكريم‬

‫ً‬ ‫ُت‪ ‬فهو ذكر‬ ‫الشاعرية عما جاء بو النيب ‪ ‬من عند ربو كذكر أنو ‪ :‬ذ ٍكهر ىكقيػ ٍرآ هف ُّمبً ه‬ ‫كقرآف ظاىر ال يلتبس بالشعر أك غَته من الكالـ البشرم ‪ ،‬كقريش تعلم علم اليقُت أف‬

‫القرآ ٌف ليس بشعر كال كالـ للبشر ْباؿ ‪ ،‬كلكنو أسلوب اظتكابرة كاظتغالطة؛ كعتذا فإ ٌف‬ ‫الشعر ليس مبذموـ إال ذمان نسبيان عند ذكره جبانب القرآف ‪ ،‬فقريش قالت أف القرآف شعر‬

‫كىي تعلم البعد بُت الدرجتُت حىت من الناحية الفنية اصتمالية البالغية ‪ ،‬فأين الشعر من‬

‫القرآف ‪ ،‬كأين كالـ البشر ‪ -‬ؽتا ارتفع ‪ -‬من كالـ اهلل ‪ ،‬كأين نظم الشعر من نظم القرآف‪،‬‬ ‫كأين حالكة الشعر من حالكة القرآف ؛ فالشعر أماـ القرآف ليس بشئ على اإلطالؽ‪.‬‬ ‫كقد كاف النيب ‪ ‬إذا أراد بيتان من الشعر كسره كأتى باظتعاين فقط‪ .‬كمن ذلك أنو‬

‫أنشد يومان قوؿ طرفة فقاؿ‪:1‬‬

‫كيأتيك من مل تزكده باألخبار‬

‫ستبدم لك األياـ ما كنت جاىالن‬ ‫كأنشد يومان ‪ -‬كقد قيل لو من أشعر الناس ‪ -‬فقاؿ ‪ :‬الذم يقوؿ‪: 2‬‬

‫كجدت هبا كإف مل تطب طيبان‬ ‫أمل ترياين كلما جئت طارقان‬ ‫كمن باب إبعاد كافة الشبهات عن النبوة فقد نزه اهلل تعاىل نبيو ‪ ‬عن أمور معينة‬

‫كمنعو عنها‪ ، 3‬كمن ذلك الكتابة كالشعر ؛ كقتا ؽتا ينتدح بو كييفتخر عند غَته ‪ ،‬كلكنو‬

‫اهلل تعاىل نزىو عنهما ليس لعيب فيهما كإفتا حىت ال تبقى ظتشكك حجة أك ظتبطل شبهة ‪،‬‬

‫كإذا كانت عدـ اظتعرفة بالكتابة كالشعر يف حق النيب ‪ ‬شكالن من أشكاؿ الكماؿ ‪ ،‬فإهنما‬

‫يف حق غَته شكل من أشكاؿ النقص ‪ ،‬كقد ذكر اإلماـ القرطيب أ ٌف اظتاموف قاؿ أليب علي‬ ‫‪ 1‬سنن النسائي الكربل ‪ ، 248/ 6‬كسنن الًتمذم ‪ ، 139/ 5‬كأزتد بن حنبل‪ ،‬مسند اإلماـ أزتد‬ ‫بن حنبل ‪ ،‬ط‪/‬مؤسسة قرطبة ‪ -‬القاىرة‪156/ 6 ،‬‬ ‫‪ 2‬اصتامع ألحكاـ القرآف ‪51/ 15‬‬ ‫‪ 3‬األمور اليت منع اهلل تعاىل عنها نبيو ‪ ‬ستسة أمور ىي الشعر كالكتابة كخائنة األعُت كالصدقة‬ ‫كأكل ما تؤذم رائحتو " اظتاكردل اضتاكل الكبَت ط‪ /‬دار الفكر ػ بَتكت ‪"65/9‬‬ ‫‪55‬‬


‫تفكُّر ‪ ،‬جملد (‪ ،)31‬العدد (‪2013 ، )2-3‬م‪1434/‬هـ‬

‫علوم الوحي‬

‫بن اظتنقرم ‪( :‬بلغٍت أنك أمي ‪ ،‬كأنك ال تقيم الشعر ‪ ،‬كأنك تلحن‪ .‬فقاؿ ‪ :‬يا أمَت‬ ‫اظتؤمنُت ‪ ،‬أما اللحن فرمبا سبق لساين منو بشيء ‪ ،‬كأما األمية ككسر الشعر فقد كاف رسوؿ‬ ‫اهلل ‪ ‬ال يكتب كال يقيم الشعر ؛ فقاؿ لو اظتأموف ‪ :‬سألتك عن ثالثة عيوب فيك فزدتٍت‬ ‫رابعان كىو ‪ :‬اصتهل ‪ ،‬يا جاىل! إ ٌف ذلك كاف للنيب ‪ ‬فضيلة ‪ ،‬كىو فيك كيف أمثالك‬ ‫نقيصة ‪ ،‬كإفتا منع النيب ‪ ‬ذلك لنفي الظنة عنو ‪ ،‬ال لعيب يف الشعر كالكتابة)‪.1‬‬ ‫ذـ فيو النيب ‪ ‬الشعر لو سبب كركد ركاه أبو سعيد اطتدرم‬ ‫‪-4‬إ ٌف حديث أيب ىريرة الذم ٌ‬ ‫رضي اهلل عنو كمل يأت يف حديث أيب ىريرة رضي اهلل عنو ‪ ،‬إذ ركل اإلماـ مسلم كأزتد‬ ‫كالبيهقي كابن أيب شيبة عن أيب سعيد قاؿ ‪( :‬بينا ؿتن نسَت مع رسوؿ اهلل ‪ ‬إذ عرض‬ ‫شاعر ينشد فقاؿ رسوؿ اهلل ‪" : ‬خذكا الشيطاف ‪ -‬أك أمسكوا الشيطاف ‪ -‬الف نتتلئ‬

‫جوؼ رجل قيحان خَت لو من أف نتتلئ شعرا) ‪ 2‬فالنيب ‪ ‬عندما قاؿ ذلك إفتا كاف‬ ‫يقصد مثل ىذا الشاعر ؛ قاؿ القرطيب ‪( :‬قاؿ علماؤنا ‪ :‬كإفتا فعل النيب ‪ ‬ىذا مع ىذا‬ ‫الشاعر ظتا علم من حالو ‪ ،‬فلعل ىذا الشاعر كاف ؽتن قد عيرؼ من حالو أنو قد اختذ‬ ‫الشعر طريقان للتكسب ‪ ،‬فيفرط يف اظتدح إذا أعطي ‪ ،‬كيف اعتجو كالذـ إذا منع ‪ ،‬فيؤذم‬ ‫الناس يف أمواعتم كأعراضهم‪ .‬كال خالؼ يف أ ٌف من كاف على مثل ىذه اضتالة فكل ما‬ ‫يكتسبو بالشعر حراـ‪ .‬ككل ما يقولو من ذلك حراـ عليو ‪ ،‬كال لتل اإلصغاء إليو ‪ ،‬بل‬

‫كتب اإلنكار عليو) ‪ 3‬؛ فالنيب ‪ ‬إفتا عاب على ىذا الشاعر ما علم من حالو ‪ ،‬كإذا‬

‫كاف النيب ‪ ‬قاؿ (إ ٌف من الشعر ضتكمة) فإ ٌف ىذا اضتديث يدؿ داللة كاضحة على أ ٌف‬ ‫‪ 1‬اصتامع ألحكاـ القرآف ‪54/ 15‬‬ ‫‪ 2‬صحيح مسلم ‪ 50 / 7‬ك مسند أزتد بن حنبل ‪ 8 / 3‬ك سنن البيهقي الكربل ‪244 / 10‬ك‬ ‫مصنف ابن أيب شيبة ‪.532 / 8‬‬ ‫‪ 3‬اصتامع ألحكاـ القرآف ‪54/ 15‬‬ ‫‪55‬‬


‫أ‪.‬د‪ .‬مجال الدين عبد العزيز شريف‬

‫املنتج الثقايف يف ضوء القرآن الكريم‬

‫يف الشعر اضتكمة كما أ ٌف يف بعضو الباطل كاظتفسدة كىو ضرب من الكالـ حسنو حسن‬ ‫كقبيحو قبيح‪.‬‬

‫كقد كاف النيب ‪ ‬يستمع لشعر أمية بن أيب الصلت كيستكثر منو كقد أشتعو الشريد‬

‫بن سويد مائة بيت من شعر أمية‪ ، 1‬كقد شتع كذلك شعر كعب بن زىَت كقصيدتو‪: 2‬‬ ‫وؿ‬ ‫متي هم إثٍػىرىا مل يٍكتىز ىمكٍبي ي‬

‫متبوؿ‬ ‫اليوـ ي‬ ‫بانت ي‬ ‫ي‬ ‫سعاد فقليب ى‬ ‫كيف ىذه القصيدة قاؿ كعب ‪:‬‬ ‫وؿ‬ ‫ت‬ ‫ىكأنٌوي يمٍنػ ىه هل بالرا ًح ىم ٍعلي ي‬ ‫سم ٍ‬ ‫جتليو ىعوا ًر ى‬ ‫ض ذم ظىٍل وم إذا ابتى ى‬ ‫كقد شبو ريق ػتبوبتو باطتمر ‪ ،‬كمل ينكر النيب ‪ ‬ذلك ‪ ،‬بل أىدل إليو بردتو‪.‬‬

‫كقد كاف أبو بكر الصديق ينشد النيب ‪ ‬كىو يسمع‪ ، 3‬كليس ذلك فحسب بل‬

‫جعل النيب ‪ ‬ضتساف بن ثابت شاعره منربان يف مسجده‪ ، 4‬ككاف يستشهد كثَتان بقوؿ‬ ‫الشاعر‪:5‬‬ ‫ب قى ٍد ىفتىى‬ ‫ك ال ىلتيٍر ى‬ ‫ضعي ىف ى‬ ‫بك ى‬ ‫ارفى ٍع ى‬ ‫ض ٍع يفو يػى ٍومان فتدرىكوي ى‬ ‫العواقػ ػ ي‬ ‫ػك كإً ٌف من أثٍػٌت على ى ً‬ ‫لت فقد ىجىزل‬ ‫يك أك يي ًثٍت ىعلىٍيػ ى‬ ‫ىٍكت ًز ى‬ ‫ى ى‬ ‫فع ى‬ ‫يك مبا ى‬ ‫ىٍ‬ ‫كركل الزبَت بن ب ٌكار أ ٌف رسوؿ اهلل ‪ ‬كمعو أبو بكر رضي اللٌو عنو قد مر برجل‬ ‫ى‬ ‫‪6‬‬ ‫يقوؿ يف بعض أزقة مكة ‪:‬‬ ‫‪ 1‬البخارم ‪ :‬ػتمد بن إشتاعيل ‪ ،‬األدب اظتفرد ‪ ،‬حتقيق ػتمد فؤاد عبدالباقي‪،‬ط‪ 3/‬دار البشائر‬ ‫اإلسالمية ‪ -‬بَتكت ‪،‬سنة ‪ ، 278/ 1 ، 1989 – 1409‬كصحيح مسلم ‪ ، 48/ 7‬كصحيح‬ ‫ابن حباف ‪ ، 97/ 13‬كسنن ابن ماجة ‪ ، 1236/ 2‬كسنن البيهقي الكربل ‪226/ 10‬‬ ‫‪ 2‬اصتامع ألحكاـ القرآف ‪146/ 13‬‬ ‫‪ 3‬اصتامع ألحكاـ القرآف ‪146/ 13‬‬ ‫‪ 4‬أبو داكد ‪ :‬سليماف بن األشعث ‪،‬سنن أيب داكد ‪،‬ط‪/‬دار الكتاب العريب ‪462/ 4 ،‬‬ ‫‪ 5‬اصترجاين ‪ :‬عبدالقاىر بن عبدالرزتن ‪،‬دالئل اإلعجاز ‪ ،‬حتقيق ػتمد التنجي ‪ ،‬ط‪ 1/‬دار الكتاب‬ ‫العريب ‪ -‬بَتكت ‪،‬سنة ‪ ،1995‬ص‪35‬‬ ‫‪ 6‬دالئل اإلعجاز‪ ،‬ص ‪36‬‬ ‫‪55‬‬


‫تفكُّر ‪ ،‬جملد (‪ ،)31‬العدد (‪2013 ، )2-3‬م‪1434/‬هـ‬

‫علوم الوحي‬

‫بآؿ ً‬ ‫ىالٌ نزلت ً‬ ‫عبد الدا ًر‬ ‫ى‬ ‫الر يج يل احملو يؿ ىر ٍحلىوي‬ ‫يا أيُّها ٌ‬ ‫الشاعر " قاؿ ‪ :‬ال يا رسوؿ اهلل كلكنو قاؿ‪:‬‬ ‫فقاؿ النيب ‪ ":‬يا أبا بكر أىكذا قاؿ ٌ‬ ‫ىالٌ سألت عن ًآؿ ً‬ ‫عبد ً‬ ‫مناؼ‬ ‫ى‬ ‫الر يج يل احملو يؿ ىرحلىوي‬ ‫يا أيُّها ٌ‬ ‫ىص ىد يؽ ىكلً ىم وة‬ ‫كمل يقتصر األمر على ذلك بل كاف ‪ ‬يعلٌق على الشعر فيقوؿ ‪( :‬أ ٍ‬ ‫ً ‪1‬‬ ‫و‬ ‫ً ً ًو‬ ‫(كىك ىاد شعر أ ىيميةي بٍ ين أًىِب‬ ‫قىا ىعتىا ىشاعهر ىكل ىمةي لىبيد أىالى يك ُّل ىش ٍىء ىما ىخالى الل ىو بىاط هل) ‪ ،‬كيقوؿ ‪ :‬ى‬ ‫ً ‪2‬‬ ‫الص ٍل ً‬ ‫ت أى ٍف يي ٍسل ىم)‬ ‫كإذا كاف النيب ‪ ‬قد يمنع من قوؿ الشعر منعان إعتيان فإنو مل ينتنع من استماعو‬ ‫كاستحسانو ‪ ،‬يقوؿ اطتليل ‪( :‬كاف الشعر أحب إىل رسوؿ اهلل ‪ ‬من كثَت من الكالـ ‪،‬‬ ‫‪3‬‬ ‫كلكن ال يتأتى لو)‬ ‫كقد كاف أفاضل الصحابة كأيب بكر كعمر رضي اهلل عنهما لتفظوف الشعر‬ ‫كينشدكنو كينقدكنو ‪ ،‬كقد كانت عائشة رضي اهلل عنها بارعة جدان يف ركاية األشعار ‪ ،‬ككاف‬ ‫علي بن أيب طالب رضي اهلل عنو نفسو شاعران غتيدان‪ .4‬كقاؿ معاكية رضي اهلل عنو‪" :‬كتب‬ ‫على الرجل تأديب كلده‪ ،‬كالشعر أعلى مراتب األدب كقاؿ‪ :‬اجعلوا الشعر أكرب قتكم‪،‬‬ ‫كأكثر دأبكم‪ ،‬فلقد رأيتٍت ليلة اعترير بصفُت كقد أتيت بفرس أغر ػتجل بعيد البطن من‬ ‫األرض‪ ،‬كأنا أريد اعترب لشدة البلول فما زتلٍت على اإلقامة إال أبيات عمرك بن اإلطنابة‪:5‬‬ ‫اإلطنابة‪:5‬‬ ‫كأخذم اضتمد بالثمػن الربيح‬ ‫أبت يل قتيت كأِب بالئ ػػي‬ ‫كضػريب ىامة البػػطل اظتشيح‬ ‫كإقحامي على اظتكركه نفسي‬ ‫كقويل كلما جشأت كجاشت مكانك حتمدم أك تسػ ػػًتلتي‬ ‫‪ 1‬صحيح مسلم ‪49/ 7،‬‬ ‫‪ 2‬اظتصدر السابق‬ ‫‪ 3‬اصتامع ألحكاـ القرآف‪51/ 15 ،‬‬ ‫‪ 4‬العمدة يف ػتاسن الشعر كآدابو ‪4/ 1‬‬ ‫‪ 5‬العمدة يف ػتاسن الشعر كآدابو ‪3/ 1‬‬ ‫‪55‬‬


‫أ‪.‬د‪ .‬مجال الدين عبد العزيز شريف‬

‫املنتج الثقايف يف ضوء القرآن الكريم‬

‫ألدفع عن مآث ػػر صاضتػات كأزتي بعد عن عرض صحيػ ػح‬ ‫فللشعر ػتاسن كفضائل قاؿ الشاعر‪: 1‬‬ ‫مثل اظتياسم يف اظتواسم‬ ‫صونوا القريض فإنو‬ ‫خر كاحملاسػ ػػن كاظتكارـ‬ ‫الشعر جامعة اظتفػػا‬ ‫كقاؿ ابن الركمي‪:2‬‬ ‫كما الناس إال أعظم ـترات‬ ‫كما اجملد لوال الشعر إال معاىد‬ ‫كقاؿ أبو دتاـ‪:3‬‬ ‫كلوال خالؿ سنها الشعر ما درت بغاة العال من أين تؤتى اظتكارـ‬ ‫‪4‬‬ ‫كقاؿ علي ابن أيب طالب ‪( :‬الشعر ميزاف القوؿ)‬ ‫كالشعر متلد ذكر الناس كالدكؿ ؛ فسيف الدكلة اضتمداين مثالن مل يكن لو كبَت ذكر‬ ‫يف التاريخ ‪ ،‬كلكن خلده شعر اظتتنيب ؛ كعتذا قاؿ أمُت تقي الدين‪: 5‬‬ ‫خلد الشعر لك الذكر دكاما‬ ‫مل متلد ذكرؾ اظتلك كما‬ ‫كتعلٌم الشعر ضركرة ظتعرفة معاين القرآف كدالالتو كمعرفة إعجازه كبالغتو ‪ ،‬ككاف ابن‬ ‫عباس يقوؿ ‪( :‬إذا قرأمت شيئان من كتاب اهلل فلم تعرفوه فاطلبوه يف أشعار العرب؛ فإ ٌف الشعر‬ ‫ديواف العرب) ‪ .6‬ككاف إذا سئل عن شيء من القرآف أنشد فيو شعران)‪.7‬‬ ‫كعتذا قاؿ ابن قدامة ‪( :‬ليس يف إباحة الشعر خالؼ ‪ ،‬كقد قالو الصحابة كالعلماء‪،‬‬ ‫كتعرؼ معاين كالـ اهلل‬ ‫كاضتاجة تدعو إليو ظتعرفة اللغة العربية ‪ ،‬كاالستشهاد بو يف التفسَت ‪ٌ ،‬‬ ‫‪.1‬‬ ‫تعاىل ككالـ رسولو ‪ ‬كيستدؿ بو أيضان على النسب كالتاريخ كأياـ العرب)‬ ‫‪ 1‬ػتاضرات األدباء ‪31/ 1‬‬ ‫‪ 2‬ػتاضرات األدباء ‪31/ 1‬‬ ‫‪ 3‬ديواف أيب دتاـ ‪185/ 1‬‬ ‫‪ 4‬العمدة يف ػتاسن الشعر كآدابو ‪3/ 1‬‬ ‫‪ 5‬ديواف أمُت تقي الدين ‪172/ 1‬‬ ‫‪ 6‬العمدة يف ػتاسن الشعر كآدابو ‪4/ 1‬‬ ‫‪ 7‬العمدة يف ػتاسن الشعر كآدابو ‪4/ 1‬‬ ‫‪50‬‬


‫تفكُّر ‪ ،‬جملد (‪ ،)31‬العدد (‪2013 ، )2-3‬م‪1434/‬هـ‬

‫علوم الوحي‬

‫كالشعر كالـ ؛ كلكنو كالـ راؽ رتيل لو موسيقى كقواؼ كنظم عاؿ ؛ كعتذا قاؿ‬ ‫ابن سَتين ‪( :‬الشعر كالـ عقد بالقوايف‪ ،‬فما حسن يف الكالـ حسن يف الشعر‪ ،‬ككذلك ما‬

‫قبح منو) ‪ 2‬كىذا قوؿ النيب ‪( : ‬ىو كالـ فحسنو حسن كقبيحو قبيح) ‪ 3‬كظتا كاف الشعر‬ ‫ضرب من الكالـ يتحدد حسنو أك قبحو ْبسب معناه فإ ٌف للفقهاء يف أحكامو أقواؿ ؛‬ ‫كتفصيل ذلك كاآليت‪: 4‬‬ ‫‪ -1‬مباح إذا خال من الفحش كاعتجو‬ ‫‪ -2‬مندكب إذا تضمن ذكر اهلل أك مدح النيب ‪ ‬أك الدفاع عن اإلسالـ أك الصحابة أك‬ ‫اضتث على مكارـ األخالؽ‪.‬‬ ‫‪ -3‬فرض كفاية ‪ ،‬كىذا قالو رتهور الفقهاء ؛ كما نقل ابن عابدين عن الشهاب اطتفاجي‬ ‫قاؿ ‪( :‬معرفة شعر أىل اصتاىلية كاظتخضرمُت ( كىم من أدرؾ اصتاىلية كاإلسالـ )‬ ‫كاإلسالميُت ركاية كدراية فرض كفاية عند فقهاء اإلسالـ ؛ أل ٌف بو تثبت قواعد العربية‬ ‫اليت هبا يعلم الكتاب كالسنة اظتتوقف على معرفتهما األحكاـ اليت يتميز هبا اضتالؿ من‬ ‫اضتراـ ‪ ،‬ككالمهم كإف جاز فيو اطتطأ يف اظتعاين فال كتوز فيو اطتطأ يف األلفاظ كتركيب‬ ‫اظتباين)‬

‫‪5‬‬

‫‪ 1‬ابن قدامة اظتقدسي ‪ :‬عبد اهلل بن أزتد‪ ،‬اظتغٍت يف فقو اإلماـ أزتد بن حنبل ‪ ،‬ط‪ 1/‬دار الفكر –‬ ‫بَتكت ‪،‬سنة ‪1405‬ق ‪44/ 12،‬‬ ‫‪ 2‬العمدة يف ػتاسن الشعر كآدابو ‪4/ 1‬‬ ‫‪ 3‬الدار قطٍت ‪ ،‬سنن الدار قطٍت ‪ ،‬حتقيق السيد عبد اهلل ىاشم نتاين علي بن عمر ط ‪/‬دار اظتعرفة ‪-‬‬ ‫بَتكت ‪،‬سنة ‪1966 – 1386‬ـ‪ ، 155/ 4 ،‬كأبو يعلى ‪ :‬أزتد بن علي بن اظتثٌت ‪،‬مسند‬ ‫أيب يعلى ‪ ،‬حتقيق حسُت سليم أسد ‪ ،‬ط‪ 1/‬دار اظتأموف للًتاث ‪ -‬دمشق ‪،‬سنة ‪- 1404‬‬ ‫‪ ، 200/ 8 ،1984‬كسنن البيهقي الكربل ‪239/ 10‬‬ ‫‪ 4‬اظتوسوعة الفقهية الكويتية ‪،‬ط‪/‬كزارة األكقاؼ كالشئوف اإلسالمية ‪ -‬الكويت ‪115/ 26 ،‬‬ ‫‪ 5‬ابن عابدين‪،‬حاشية رد اظتختار على الدر اظتختار شرح تنوير األبصار ‪،‬ط‪/‬دار الفكر للطباعة كالنشر‬ ‫بَتكت ‪،‬سنة ‪1421‬ىػ ‪2000 -‬ـ ‪109/ 1 ،‬‬ ‫‪55‬‬


‫أ‪.‬د‪ .‬مجال الدين عبد العزيز شريف‬

‫املنتج الثقايف يف ضوء القرآن الكريم‬

‫‪ -4‬مكركه إذا شغل عن ذكر اهلل أك كاف يف ذكر الفسق كؿتوه ‪.‬‬ ‫‪ -5‬حراـ إذا كاف فيو ىجو ظتسلم أك ذمي أك تشبيب مبعُت ‪ ،‬كهبذا تربز خطورة الشعر عند‬ ‫العرب إذ كاف ىو اآللة اإلعالمية الكربل كمل يكن عتم من آلة إعالمية غَته‪.‬‬ ‫كىذه أحكاـ الشعر ْبسب معانيو ‪ ،‬أما الشعر على إطالقو فهو ضركرة أل ٌف بو‬ ‫تعرؼ العربية ‪ ،‬كىو اصتزء األكرب الذم كصل إلينا من كالـ العرب ‪ ،‬كمعلوـ أنو مبعرفة‬ ‫العربية تعرؼ معاين القرآف كالسنة ‪ ،‬كليس ىنالك من سبيل أفضل يف استخراج معانيهما‬ ‫كدقائقهما من معرفة العربية ‪.‬‬ ‫كالشعر عند العرب أمر يف غاية األقتية ‪ ،‬كقد ركم عن النيب ‪ ‬أنو قاؿ‪( :‬ال تدع‬ ‫العرب الشعر حىت تدع اإلبل اضتنُت)‪ .1‬كقيل لسعيد بن اظتسيب ىهنا قوـ نساؾ يعيبوف‬ ‫إنشاد الشعر قاؿ ‪( :‬نسكوا نسكا أعجميا)‪. 2‬‬ ‫ثانيا‪ :‬اإلبداع الغنائي ‪:‬‬ ‫مل يأت "الغناء" يف القرآف الكرمي بلفظو على اإلطالؽ ؛ كإفتا جاءت عبارات يزتلت‬ ‫على الغناء كفيسرت بو ‪ ،‬كذلك ؿتو (عتو اضتديث) ك (اللغو) ك (السمود) كليس ذلك‬ ‫فحسب بل فسر بعضهم (صوت إبليس) بأنو الغناء ‪ ،‬كقد جاءت ىذه األلفاظ يف‬ ‫السياقات القرآنية اآلتية ‪:‬‬ ‫ً‬ ‫يث لًي ً‬ ‫اس من ي ٍش ً​ًتم ىعتو ٍ ً ً‬ ‫ضل ىعن ىسبً ًيل الل ًو بًغى ًٍَت ًع ٍل وم‬ ‫اضتىد ي‬ ‫أ‪-‬قاؿ تعاىل ‪  :‬ىكم ىن الن ً ى ى ى ٍى‬ ‫ُت‪ . ‬كقد جاء يف اظتستدرؾ للحاكم كسنن‬ ‫ىكيػىت ًخ ىذ ىىا يى يزنكا أيكلىئً ى‬ ‫اب ُّم ًه ه‬ ‫ك ىعتي ٍم ىع ىذ ه‬ ‫البيهقي الكربل عن عمار الدىٍت عن سعيد بن جبَت عن أيب الصهباء عن ابن مسعود‬

‫‪1‬‬ ‫‪2‬‬

‫العمدة يف ػتاسن الشعر كآدابو‪4/ 1 ،‬‬ ‫اصتاحظ ‪ :‬أيب عثماف عمرك بن ْبر ‪،‬البياف كالتبيُت ‪ ،‬حتقيق فوزم عطوم ‪ ،‬ط‪ 1/‬دار صعب ‪-‬‬ ‫بَتكت ‪،‬سنة ‪1968‬ـ‪116/ 1 ،‬‬ ‫‪55‬‬


‫تفكُّر ‪ ،‬جملد (‪ ،)31‬العدد (‪2013 ، )2-3‬م‪1434/‬هـ‬

‫علوم الوحي‬

‫(ى ىو ىكالل ًو الٍغًنىاءي‪ 1 ).‬كجاء يف‬ ‫ كقد سئل عن عتو اضتديث يف ىذه اآلية ‪ -‬فقاؿ ‪ :‬ي‬‫األدب اظتفرد للبخارم كسنن البيهقي عن عطاء بن السائب عن ابن عباس أنو قاؿ‬ ‫عن عتو اضتديث ‪( :‬الغناء كأشباىو ) ‪ . 2‬كأخرج الًتمذم من حديث أيب أمامة عن‬ ‫رسوؿ اهلل ‪( :‬قاؿ ال تبيعوا القينات كال تشًتكىن كال تعلموىن كال خَت يف جتارة‬ ‫فيهن كذتنهن حراـ ‪ .‬يف مثل ذلك أنزلت علي ىذه اآلية "كمن الناس من يشًتم عتو‬ ‫اضتديث ليضل عن سبيل اهلل) ‪.3‬‬ ‫اضت ًد ً‬ ‫ً‬ ‫يث تىػ ٍع ىجبيو ىف‬ ‫ب‪ -‬يشتي الغناء أيضان يف القرآف بالسمود ؛ قاؿ تعاىل ‪ :‬أىفىم ٍن ىى ىذا ٍى‬ ‫ض ىح يكو ىف ىكال تىػٍب يكو ىف ىكأىنتي ٍم ىس ًام يدك ىف ‪ .‬كالسمود ىو الغناء بلغة زتَت ؛ كمنو قوؿ‬ ‫ىكتى ٍ‬ ‫بعضهم صتاريتو ‪ :‬اشتدم لنا ‪ :‬أم غٍت ‪ ،‬كمعٌت اآلية على ىذا كأنتم سادركف يف‬ ‫غنائكم‪.4‬‬ ‫ج‪ -‬يشتي الغناء أيضان ‪ -‬عند بعض اظتفسرين‪ -‬بػ"صوت إبليس" ؛ كذلك أل ٌف اهلل تعاىل قاؿ‬ ‫ً​ً‬ ‫ً‬ ‫لو ‪ :‬كاستػ ٍف ًزز م ًن استطىعت ًمٍنػهم بًصوتًك كأ ً‬ ‫ك‪ ‬كاظتراد‬ ‫ك ىكىرجل ى‬ ‫ب ىعلىٍي ًهم ًِبىٍيل ى‬ ‫ى ٍى ٍ ى ٍى ٍ ى ي ٍ ىٍ ى ى ٍ‬ ‫ىجل ٍ‬ ‫ىنا بصوت إبليس عندىم ‪ :‬الغناء‪. 5‬‬

‫‪6‬‬ ‫ً‬ ‫ضوا‬ ‫د‪ -‬يشتي الغناء أيضان ‪ -‬عند بعض اظتفسرين‪ -‬بػ"اللغو" يف قولو ‪ :‬ىكإً ىذا ىشتعيوا الل ٍغ ىو أ ٍىعىر ي‬ ‫عٍنو كقىاليوا لىنا أىعمالينا كلى يكم أىعمالي يكم سالـ علىي يكم ال نػىبتغًي ٍ ً ً‬ ‫ُت‪. ‬‬ ‫ى ي ى ى ٍ ى ى ى ٍ ٍ ى ٍ ى ه ى ٍ ٍ ٍى‬ ‫اصتىاىل ى‬

‫‪ 1‬اظتستدرؾ على الصحيحُت للحاكم مع تعليقات الذىيب يف التلخيص ‪ 445/ 2‬كسنن البيهقي‬ ‫الكربل ‪223/ 10‬‬ ‫‪ 2‬األدب اظتفرد ‪ 274/ 1‬كسنن البيهقي الكربل ‪221/ 10‬‬ ‫‪ 3‬سنن الًتمذم ‪579/ 3‬‬ ‫‪ 4‬انظر التفسَت القيم البن القيم ‪ ، 146/ 2‬كاصتامع ألحكاـ القرآف ‪ ، 51/ 14‬كالدر اظتصوف يف‬ ‫علم الكتاب اظتكنوف ‪5055/ 1‬‬ ‫‪ 5‬انظر السمعاين ‪ :‬منصور بن ػتمد بن عبد اصتبار‪ ،‬تفسَت القرآف ‪ ،‬حتقيق ياسر بن إبراىيم ‪،‬ط‪/‬دار‬ ‫الوطن ‪ -‬الرياض ‪،‬سنة ‪1418‬ىػ‪1997 -‬ـ ‪258/ 3،‬‬ ‫‪ 6‬مل أجد من اظتفسرين من قاؿ بذلك أك نقل عمن يقوؿ بو ‪ ،‬كلكن رد الغزايل كابن حزـ على من‬ ‫يقوؿ ذلك كسوؼ يأيت اضتديث عنو‬ ‫‪55‬‬


‫أ‪.‬د‪ .‬مجال الدين عبد العزيز شريف‬

‫املنتج الثقايف يف ضوء القرآن الكريم‬

‫كاضتق أف ىذه األدلة حتتاج إىل تعليق ‪ ،‬كذلك كاآليت ‪:‬‬ ‫اضت ًد ً‬ ‫‪-1‬قولو تعاىل ‪ ‬ىكًم ىن الن ً‬ ‫يث‪ ‬البد فيو أكالن من تفسَت اآلية بصورة‬ ‫اس ىمن يى ٍش ىً​ًتم ىعتٍىو ٍى‬ ‫دقيقة حىت يتأتى فهم اضتديث الصحيح بصورة تناسب معٌت اآلية ‪ ،‬كذلك كاآليت‪:‬‬ ‫أ‪ .‬الشراء يف اآلية نتكن أف يكوف لو معنياف قتا ‪:‬‬

‫األول ‪ :‬الشراء ضد البيع ‪ ،‬كالبيع كالشراء أضداد ؛ فيمكن أف يطلق الشراء على البيع أيضان‬ ‫ً‬ ‫س ىما ىشىرٍكاٍ بً​ًو أىن يف ىس يه ٍم‪ ‬أم باعوا كقولو ‪ :‬فىػ ٍلييػ ىقاتً ٍل ًيف‬ ‫كما يف قولو تعاىل ‪  :‬ىكلىبٍئ ى‬ ‫ً ً‬ ‫ً‬ ‫اضتىيىا ىة ُّ ً ً ً‬ ‫(كًم ىن الن ً‬ ‫اس ىمن‬ ‫ين يى ٍش يرك ىف ٍ‬ ‫الدنٍػيىا باآلخىرة‪ ‬أم يبيعوف كقولو ‪ :‬ى‬ ‫ىسب ًيل اللو الذ ى‬ ‫ي ٍش ًرم نػى ٍفسو ابتًغىاء مرض ً‬ ‫ات الل ًو) أم يبيع ‪ ،‬كقد تأيت الشراء بغَت معٌت البيع أم مبعناه‬ ‫ى ي ٍ ى ىٍ ى‬ ‫ى‬ ‫ً​ً‬ ‫ً‬ ‫ُت أىن يف ىس يه ٍم ىكأ ٍىم ىوا ىعتيم بًأىف ىعتي يم‬ ‫االصلي كما يف قولو تعاىل‪ :‬إًف الل ىو ا ٍشتىػىرل م ىن الٍ يم ٍؤمن ى‬ ‫اصتىنةى‪ ‬ككما يف ىذه اآلية اظتعنية بالدراسة ‪.‬‬ ‫ً‬ ‫ً ً‬ ‫اآلخرةً‬ ‫الثاني‪ :‬الشراء ىو االختيار ؛ كما يف قولو تعاىل ‪  :‬ىكلىىق ٍد ىعل يمواٍ لى ىم ًن ا ٍشتىػىراهي ىما لىوي يف ى‬ ‫ًم ٍن ىخالى وؽ‪ ‬أم ‪ :‬اختاره ‪ .‬كقد فيسر الشراء باالختيار أيضان يف اآلية اظتعنية بالدراسة ‪.‬‬ ‫ب‪ -‬باختالؼ كل معٌت من معاين "الشراء" متتلف معٌت "عتو اضتديث" يف السياؽ ‪ ،‬كذلك‬ ‫على النحو اآليت‪:‬‬

‫أولا‪ :‬على اظتعٌت األصلي للشراء يكوف معٌت شراء (عتو اضتديث) ىو ‪ :‬شراء اصتوارم‬ ‫اظتغنيات ؛ أم ذكات عتو اضتديث ‪ ،‬كذلك بتقدير ػتذكؼ كىو (ذكات)‪ ،‬كىذا مثل‬ ‫اسأ ًىؿ الٍ ىق ٍريىةى ال ًيت يكنا فً ىيها) أم ‪ :‬أىل القرية‪ 1‬؛ كذلك ألف الغناء يف‬ ‫(ك ٍ‬ ‫قولو تعاىل‪ :‬ى‬ ‫ذاتو ال نتكن شراؤه‪.‬‬

‫ثانيا ‪ :‬على اظتعٌت الثاين كىو االختيار فإ ٌف شراء عتو اضتديث ىو اختياره أم اختيار الغناء‪.‬‬

‫كمن األقتية مبكاف بياف أ ٌف معٌت (عتو اضتديث) ىو اضتديث اظتلهي عن اطتَت كاظتعركؼ‪،‬‬

‫كىذا اظتعٌت أكرب من أف ينحصر يف الغناء ‪ .‬كعتو اضتديث ىو ‪ :‬كل ما يلهي سواء كاف‬

‫‪ 1‬اصتامع ألحكاـ القرآف ‪51/ 14‬‬ ‫‪55‬‬


‫تفكُّر ‪ ،‬جملد (‪ ،)31‬العدد (‪2013 ، )2-3‬م‪1434/‬هـ‬

‫علوم الوحي‬

‫غناء أك غَت غناء ؛ كعتذا كاف قوؿ ابن عباس أدؽ ؛ إذ قاؿ ‪( :‬الغناء كأشباىو) كيذكر‬ ‫يف أسباب النزكؿ أ ٌف النضر بن اضتارث كاف يأيت بأحاديث مكذكبة كليس غناء ؛ ألنو‬ ‫اشًتل كتب رستم كاسفنديار فأتى أىل مكة فأخذ لتدثهم بتلك األباطيل كيقوؿ أنا‬

‫أحسن حديثاٌ من ػتمد‪ . 1‬كألجل ذلك كلو مل يتفق العلماء على حتديد معٌت (عتو‬ ‫اضتديث) كقد ذكر اظتاكردم يف تفسَته أف لو سبعة تأكيالت ىي شراء اظتغنيات أكالغناء‬

‫أك الطبل أك الشرؾ أك الباطل أك ما أعتى أك اصتداؿ يف الدين‪ ، 2‬كيقوؿ الكيا اعتراسي‬

‫(الغناء ال يطلق عليو الوصف بأنو حديث كال إضالؿ‪ ,‬كإفتا يطلق ذلك على‬ ‫األحاديث الكاذبة اصتارية غترل القدح يف القرآف‪ ،‬على ما ركم فيما كاف يتعاطاه النضر‬

‫بن اضتارث) ‪ 3‬كلكن إذا سلمنا أ ٌف عتو اضتديث ىو الغناء ؛ كذلك أل ٌف الغناء كالشعر‬ ‫أشد خطورة من الكالـ العادم ألهنما منظوماف ينتشراف بسرعة كتسَت هبما الركباف ‪،‬‬

‫فإ ٌف اظتقصود بذلك ىو الذم متتار الغناء اظتلهي بسبب ؼتصوص كىو‪" :‬االضالؿ عن‬ ‫سبيل اهلل" ‪ ،‬كىذا ىو الذم عليو النكَت ‪ ،‬كليس كل غناء مضل بو سبيل اهلل‪ ، 4‬كمعٌت‬

‫ىذا الكالـ أ ٌف العيب كالنكَت ىو يف الصد عن سبيل اهلل كاإلضالؿ عنو كليس يف‬ ‫الغناء نفسو ‪ ،‬كمن الناس من يضل عن سبيل اهلل (كىي أسوأ غاية) بأشرؼ كسيلة‬ ‫كىي القرآف ‪ ،‬كلذلك حكى اإلماـ الغزايل أ ٌف بعض اظتنافقُت كاف يؤـ الناس كال يقرأ إال‬ ‫‪ 1‬ابن عطية األندلسي‪ :‬أبو ػتمد عبد اضتق بن غالب‪ ،‬احملرر الوجيز يف تفسَت الكتاب العزيز ‪ ،‬حتقيق‬ ‫عبد السالـ عبد الشايف ػتمدط‪1/‬دار الكتب العلمية ‪ -‬لبناف ‪، -‬سنة ‪1413‬ىػ ػ ‪1993‬ـ ‪،‬‬ ‫‪ 399 / 4‬ك حاشية ابن عابدين ‪424 / 6‬‬ ‫‪ 2‬اظتاكردم ‪ :‬أبو اضتسن علي بن ػتمد بن حبيب البصرم ‪ " ،‬تفسَت اظتاكردل" النكت كالعيوف ‪،‬‬ ‫حتقيق السيد بن عبد اظتقصود بن عبد الرحيم ‪،‬ط‪/‬دار الكتب العلمية ‪ -‬بَتكت ‪ -‬لبناف ‪/ 4‬‬ ‫‪328‬‬ ‫‪ 3‬أحكاـ القرآف للكيا اعتراسى ‪56 / 4‬‬ ‫‪ 4‬أبو حامد الغزايل‪ :‬ػتمد بن ػتمد‪ ،‬إحياء علوـ الدين دار ااظتعرفة ‪ -‬بَتكت‪285 / 2‬‬ ‫‪55‬‬


‫أ‪.‬د‪ .‬مجال الدين عبد العزيز شريف‬

‫املنتج الثقايف يف ضوء القرآن الكريم‬

‫عمر بقتلو‪.1‬كعتذا يقوؿ ابن‬ ‫بسورة عبس ‪ ،‬ظتا فيها من العتاب مع رسوؿ اهلل ‪ ،‬ى‬ ‫فهم ي‬

‫حزـ (ككل شيء يقتٌت ليضل بو عن سبيل اهلل فهو إمث كحراـ‪ ،‬كلو أنو شراء مصحف أك‬

‫تعليم قرآف) ‪ 2‬كيقوؿ أيضان عن الصفة اظتذكورة يف اآلية ‪( :‬ىذه صفة من فعلها كاف‬ ‫كافران‪ ،‬بال خالؼ‪ ،‬إذا اختذ سبيل اهلل تعاىل ىزكان‪ .‬كلو أف امرأ اشًتل مصحفان ليضل‬ ‫بو‪ ،‬عن سبيل اهلل كيتخذىا ىزكان لكاف كافران‪ ،‬فهذا ىو الذم ذـ اهلل تعاىل‪ ،‬كما ذـ قط‪،‬‬

‫عز كجل‪ ،‬من اشًتل عتو اضتديث ليلتهي بو كيركح نفسو‪ ،‬ال ليضل‪ ،‬عن سبيل اهلل‬

‫تعاىل) ‪.3‬كعتذا فإنو ليس يف اآلية ما يدؿ على حترمي الغناء يف ذاتو‪.‬‬

‫‪ -2‬تسمية الغناء بالسمود ىو على لغة زتَت ‪ ،‬كقد قيل يف معناه غَت ذلك ؛ فالسمود ‪-‬‬ ‫عند اظتفسرين ‪ -‬ىو ‪ :‬اللعب كاللهو ‪ ،‬كقيل ىو اطتمود ؛ قاؿ الشاعر‪: 4‬‬ ‫مبقدكر شتدف لو شتودا‬ ‫أتى اضتدثاف نسوة آؿ حرب‬ ‫كلكن حىت لو كاف اظتقصود ىو الغناء فليس ىذا دليل على حترنتو ؛ إذ إف اظتقصود‬ ‫من اآلية أهنم يضحكوف من القرآف كال يبكوف كىم يتلهوف عنو باظتالىي ‪.‬‬ ‫استىطى ٍع ى ً ً‬ ‫ك‪ ‬قيل يف‬ ‫ص ٍوتً ى‬ ‫استىػ ٍف ًزٍز ىم ًن ٍ‬ ‫‪-3‬قولو تعاىل ؼتاطبان إبليس ‪  :‬ىك ٍ‬ ‫ت مٍنػ يه ٍم ب ى‬ ‫ىذا الصوت معاين أخرل غَت الغناء كذلك ؿتو ‪ :‬كسوستك ‪ ،‬كقيل‪ :‬اللهو كاللعب‪. 5‬‬

‫كلكن لو كاف اظتقصود ىو الغناء فليس فيو دليل صريح على حترنتو ‪ ،‬إذ ما ىو إال كسيلة‬ ‫‪ 1‬إحياء علوـ الدين ‪285 / 2‬‬ ‫‪ 2‬ابن حزـ ‪ :‬علي بن أزتد بن سعيد ‪ ،‬رسائل ابن حزـ األندلسي ‪ ،‬حتقيق إحساف عباس‬ ‫‪،‬ط‪/‬اظتؤسسة العربية للدراسات كالنشر‪435 / 1‬‬ ‫‪ 3‬ابن حزـ‪ :‬علي بن أزتد بن سعيد ‪ ،‬احمللى ‪،‬ط‪/‬دار الفكر للطباعة كالنشر كالتوزيع ‪60 / 9 ،‬‬ ‫‪ 4‬اصتامع ألحكاـ القرآف ‪ ،123/ 17‬ك الطربم ‪ :‬ػتمد بن جرير ‪،‬جامع البياف يف تأكيل القرآف‬ ‫"تفسَت الطربم" ‪ ،‬حتقيق أزتد ػتمد شاكر‪ ،‬ط‪ 1/‬مؤسسة الرسالة ‪،‬سنة ‪ 1420‬ىػ ‪2000 -‬‬ ‫ـ‪558 / 22،‬‬ ‫‪ 5‬السمرقندم ‪ :‬نصر بن ػتمد بن إبراىيم ‪ْ،‬بر العلوـ ػ ‪ ،‬حتقيق ػتمود مطرجي دار الفكر ‪ -‬بَتكت‬ ‫‪ 319 / 2‬ك تفسَت الطربم ‪491/ 17‬‬ ‫‪55‬‬


‫تفكُّر ‪ ،‬جملد (‪ ،)31‬العدد (‪2013 ، )2-3‬م‪1434/‬هـ‬

‫علوم الوحي‬

‫من كسائل إبليس‪ ،‬كليس العيب يف الوسيلة كإفتا يف الغاية ‪ ،‬كمل متصص اهلل تعاىل يف‬ ‫القرآف ألبليس صوتان معينان ؛ كعتذا قاؿ الطربم ‪( :‬كأكىل األقواؿ يف ذلك بالصحة أف يقاؿ‪:‬‬

‫تستفزه بصوتك‪،‬‬ ‫ذرية آدـ من استطعت أف ٌ‬ ‫إ ٌف اهلل تبارؾ كتعاىل قاؿ إلبليس‪ :‬كاستفزز من ٌ‬

‫كمل متصص من ذلك صوتان دكف صوت‪ ،‬فكل صوت كاف دعاء إليو كإىل عملو كطاعتو‪،‬‬ ‫كخالفان للدعاء إىل طاعة اهلل‪ ،‬فهو داخل يف معٌت صوتو) ‪.1‬‬ ‫ً‬ ‫ضوا ىعٍنوي‪ ‬قيل أنو الغناء ‪ .‬كلكن ال‬ ‫‪-4‬اللغو يف قولو تعاىل ‪  :‬ىكإًذىا ىشتعيوا الل ٍغ ىو أ ٍىعىر ي‬ ‫نتكن اطالقان أف يكوف اللغو بشمولو ىو الغناء حتديدان ‪ ،‬كقد قاؿ تعاىل عن أصحاب‬ ‫ً‬ ‫الـ‪ ،‬كقاؿ ‪ :‬يػىتىػنى ىازعيو ىف فً ىيها ىكأٍ نسا ال لى ٍغ هو فً ىيها ىكال‬ ‫اصتنة‪ :‬ال يى ٍس ىمعيو ىف ف ىيها لى ٍغ نوا إًال ىس ن‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫يما‪ ، ‬كقاؿ ‪ :‬ال يى ٍس ىمعيو ىف فً ىيها لى ٍغ نوا ىكال‬ ‫تىأٍث ه‬ ‫يم‪ ، ‬كقاؿ ‪ :‬ال يى ٍس ىمعيو ىف ف ىيها لى ٍغ نوا ىكال تىأٍث ن‬ ‫كًذابنا) ‪ .‬كاصتنة فيها الغناء‪ 2‬من ناحية مث إ ٌف كلمة اللغو إذا قيل أهنا الغناء فال نتكن أف‬ ‫يستقيم اظتعٌت يف اآليات اظتذكورة من ناحية أخرل ‪ .‬كمل يفسر أكثر اظتفسرين اللغو يف ىذه‬ ‫اآلية بالغناء بل قيل أ ٌف اللغو ىو كل ما كتب أف يلغى كيًتؾ كمنهم من فسر اللغو بأنو ما‬ ‫ليس بطاعة ‪ ،‬كلكن لو كاف الغناء لغوان فال نتكن أف يقاؿ اللغو ىو الغناء حتديدان بل ىو‬ ‫منو كال يشمل كافة معناه ‪ ،‬كقد ذىب اإلماـ الغزايل كابن حزـ إىل أنو إذا كاف الغناء لغوان‬ ‫فهذا ال يعٍت حترنتو ؛ فاللغو ىو ما ال فائدة منو أك ىو العبث الذم ال يؤاخذ صاحبو عليو؛‬ ‫يقوؿ الغزايل ‪( :‬اللهو كاللغو ال يؤاخذ اهلل تعاىل بو إف عٌت بو أنو فعل ما ال فائدة فيو فإ ٌف‬ ‫اإلنساف لو كظف على نفسو أف يضع يده على رأسو يف اليوـ مائة مرة فهذا عبث ال فائدة‬ ‫‪ 1‬جامع البياف يف تأكيل القرآف "تفسَت الطربم" ‪491 / 17‬‬ ‫‪ 2‬جاء يف اظتعجم األكسط للطرباين كاظتعجم الصغَت قاؿ رسوؿ اهلل صلى اهلل عليو ك سلم إف أزكاج‬ ‫أىل اصتنة ليغنُت أزكاجهن بأحسن أصوات شتعها أحد قط أف ؽتا يغنُت بو ‪ :‬ؿتن اطتَتات اضتساف‬ ‫‪ ...‬أزكاج قوـ كراـ كإف ؽتا يغنُت بو ؿتن اطتالدات فال نتتنو ‪ ...‬ؿتن اآلمنات فال متفنو (الطرباين ‪:‬‬ ‫سليماف بن أزتد ‪،‬اظتعجم األكسط ‪ ،‬حتقيق طارؽ بن عوض اهلل ‪،‬ط‪/‬دار اضترمُت ‪ -‬القاىرة‬ ‫‪،‬سنة ‪ ، 149 / 5 ، 1415‬الطرباين‪ :‬سليماف بن أزتد ‪ -‬اظتعجم الصغَت "الركض الداين" حتقيق‬ ‫‪ :‬ػتمد شكور ػتمود اضتاج أمرير‪ ،‬ط‪1/‬اظتكتب اإلسالمي‪،‬بَتكت ‪،‬سنة ‪)35/ 2 ،1985 –1405‬‬ ‫‪55‬‬


‫أ‪.‬د‪ .‬مجال الدين عبد العزيز شريف‬

‫املنتج الثقايف يف ضوء القرآن الكريم‬

‫لو كال لترـ)‪ 1‬كيذكر الغزايل أ ٌف اهلل ال يؤاخذ على اللغو يف القسم بو فكيف يؤاخذ باللغو‬ ‫ً‬ ‫ً ً​ً‬ ‫يف أىٍنتىانً يك ٍم‪ . ‬كقد ذكر ابن حزـ أف النية يف‬ ‫يف غَته ؛ قاؿ تعاىل ‪ :‬ا يػي ىؤاخ يذ يك يم اللوي بالل ٍغو ى‬ ‫ذلك ىي األصل ؛ فإذا مل يرد اإلنساف بالغناء طاعة كال معصية فهو لغو معفو عنو ؛‬ ‫كخركج اإلنساف إىل بستانو أك صبغو ثوبو الزكرديان أك أخضر كؿتوه‪.2‬‬ ‫كىذه النصوص اليت أكردنا ليس فيها دليل صريح يدؿ على حترمي الغناء إال حديث‬ ‫أيب أمامة الذم حرـ شراء اظتغنيات كنص على أ ٌف قولو تعاىل ‪( :‬كمن الناس من يشًتم عتو‬ ‫اضتديث) قد نزؿ فيهن ‪ .‬كىذا اضتديث الذم أخرجو الًتمذم فيو علي بن يزيد اإلعتاين‬ ‫كقد ضعفو الًتمذم نفسو‪ ، 3‬كقاؿ البخارم عنو ‪( :‬ذاىب اضتديث) ‪ ، 4‬كقاؿ يعقوب‪:‬‬ ‫‪5‬‬ ‫ضعف اضتديث ؛ يقوؿ ابن حجر (كيف سنده‬ ‫(كاىي اضتديث كثَت اظتنكرات) ‪ ،‬كعتذا ي‬ ‫ضعف)‪.6‬‬ ‫كقد ٌقول العالمة األلباين ‪ -‬يف أكؿ األمر ‪ -‬ىذه اضتديث يف (السلسلة‬

‫الصحيحة)؛ كذلك ألنو كجد لعلي بن يزيد األعتاين متابعان قويان ىو الوليد بن الوليد‪ 7‬مث‬ ‫تراجع االلباين عن تصحيحو ‪ ،‬يقوؿ ‪( :‬فقد رجعت عن االستشهاد ْبديث الوليد ىذا‬ ‫كبقي اضتديث على ضعفو)‬

‫‪8‬‬

‫‪ 1‬إحياء علوـ الدين ‪284 / 2‬‬ ‫‪ 2‬احمللى ‪60 / 9‬‬ ‫‪ 3‬سنن الًتمذم ‪579 / 3‬‬ ‫‪ 4‬سنن البيهقي الكربل ‪14 / 6‬‬ ‫‪ 5‬هتذيب التهذيب ‪346 / 7‬‬ ‫‪ 6‬ابن حجر‪ :‬أزتد بن علي ‪،‬فتح البارم شرح صحيح البخارم ‪،‬ط‪/‬دار اظتعرفة ‪ -‬بَتكت ‪،‬سنة‬ ‫‪91 / 11 ،1379‬‬ ‫‪ 7‬السلسلة الصحيحة اجمللدات الكاملة ‪421 / 6،‬‬ ‫‪ 8‬تراجعات العالمة األلباين يف التصحيح كالتضعيف ‪19 / 1‬‬ ‫‪55‬‬


‫تفكُّر ‪ ،‬جملد (‪ ،)31‬العدد (‪2013 ، )2-3‬م‪1434/‬هـ‬

‫علوم الوحي‬

‫كقد شتى النيب ‪ ‬الغناء باللهو ‪ ،‬كلكن جاء ذلك يف سياؽ التحليل كاإلباحة ال يف‬ ‫سياؽ الذـ ؛ فقد جاء يف صحيح البخارم عن عائشة ‪ :‬أهنا زفت امرأة إىل رجل من‬

‫األنصار فقاؿ نيب اهلل ‪ ( ‬يا عائشة ما كاف معكم عتو ؟ فإف األنصار يعجبهم اللهو ) ‪.1‬‬

‫كليس ذلك فحسب بل جاء يف سنن ابن ماجة كالنسائي كالبيهقي أف النيب ‪ ‬ذكر مقطعان‬ ‫من األغنية ؛ كىو‪: 2‬‬ ‫فحيانا كحياكم‬

‫أتيناكم أتيناكم‬

‫كذكر النيب ‪ ‬يف ىذا اضتديث أف األنصار يعجبهم اللهو ‪ ،‬كقد ظل ذلك األمر‬ ‫فيهم ؛يقوؿ الغزايل نقالن عن أيب طالب اظتكي‪( :‬كمل يزؿ أىل اظتدينة مواظبُت كأىل مكة‬ ‫على السماع إىل زماننا ىذا) ‪ .3‬كيقوؿ الغزايل أيضان ‪( :‬قاؿ الشافعي ال أعلم أحدان من‬ ‫علماء اضتجاز كره السماع إال ما كاف منو يف األكصاؼ) ‪ .4‬كقد ذكر اإلماـ الشوكاين كابن‬ ‫عجيبة كالمان قريبان من ذلك ‪.‬‬

‫كقد اعًتض ابن تيمية على نقل إباحة أىل اضتجاز للغناء كقاؿ إنو غلط ؛ إذ إف‬

‫أىل اضتجاز على كراىتو كذمو ‪ ،‬كذكر أ ٌف اإلماـ مالك كىو إماـ أىل اظتدينة من اظتبالغُت‬ ‫يف كراىيتو ؛ كقد سألو إسحاؽ بن عيسى الطباع عما يًتخص فيو أىل اظتدينة من الغناء‬ ‫فقاؿ‪( :‬إفتا يفعلو عندنا الفساؽ)‬

‫‪5‬‬

‫كيقوؿ ابن تيمية ‪( :‬نعم كثَت من أىل اظتدينة يسمع‬

‫الغناء كقد دخل معهم يف ذلك بعض فقهائهم ‪ ،‬فأما أف يكوف ىذا قوؿ أىل اضتجاز كلهم‬ ‫‪ 1‬صحيح البخارم ‪1980/ 5‬‬ ‫‪ 2‬سنن ابن ماجو ‪ ، 612/ 1‬كسنن النسائي الكربل ‪ ، 332/ 3‬ك سنن البيهقي الكربل ‪7‬‬ ‫‪289/‬‬ ‫‪ 3‬إحياء علوـ الدين ‪269/ 2‬‬ ‫‪ 4‬إحياء علوـ الدين ‪284/ 2‬‬ ‫‪ 5‬ابن تيمية‪ :‬أزتد بن عبد اضتليم‪ :‬االستقامة‪ ،‬حتقيق ػتمد رشاد سامل ‪ ،‬ط‪ 1/‬جامعة اإلماـ ػتمد‬ ‫بن سعود ‪ -‬اظتدينة اظتنورة‪ ،‬سنة ‪ ، 1403 ،‬ص‪274‬‬ ‫‪55‬‬


‫أ‪.‬د‪ .‬مجال الدين عبد العزيز شريف‬

‫املنتج الثقايف يف ضوء القرآن الكريم‬

‫أك قوؿ مالك فهذا غلط) ‪ ، 1‬كذكر ابن تيمية أف الغناء مرخص فيو فقط يف أكقات األفراح‬ ‫للنساء كالصبياف ‪ ،‬كأنو أمر مضت بو السنن‪ 2‬كيذكر ابن تيمية أيضان أف ذلك جاءت بو‬

‫اآلثار كأف دين اهلل كاسع ال حرج فيو‪.3‬‬ ‫كؽتا سبق يتبُت أنو ليس ىنالك من دليل صريح يف حترمي الغناء‪ ،‬كإفتا األدلة الصرلتة‬ ‫يف ج وازه خاصة يف األعياد كاألعراس ‪ ،‬كذىب كثَت من أىل العلم إىل أنو جائز حىت يف‬ ‫غَت األعراس كاألعياد كعتم أدلتهم يف ذلك‪.‬‬ ‫كمن الغناء اظتطلوب ‪ :‬التغٍت بالقرآف كحتسُت الصوت بو ‪ ،‬كقد قاؿ رسوؿ اهلل ‪:‬‬ ‫(ليس منا من مل يتغن بالقرآف) ‪ . 4‬كقد حاكؿ بعض اظتتشددين تأكيل كلمة (يتغٌت) حىت ال‬ ‫تدؿ على الغناء فقالوا ىي من الغٌت كليس الغناء ؛ كاظتعٌت‪ :‬ليس منا من مل يستغن بالقرآف؛‬ ‫فتصدل عتم اإلماـ الشافعي كدحض حجتهم ؛ يقوؿ ‪( :‬ؿتن أعلم هبذا لو أراد النيب ‪‬‬ ‫االستغناء لقاؿ ‪ :‬من مل يستغن ؛ كلكن ظتا قاؿ ‪" :‬يتغن" علمنا انو أراد التغٍت)‪ .5‬كيقوؿ‬ ‫الطربم ‪( :‬كأما ادعاء الزاعم أف تغنيت مبعٌت ‪ :‬استغنيت ‪ -‬فليس يف كالـ العرب كأشعارىا‬ ‫كال نعلم أحدان من أىل العلم قالو)‪ .6‬كقد حدد النيب ‪ ‬شكل ىذا التغٍت كذكر أنو بلحوف‬ ‫‪1‬‬ ‫بلحوف العرب ال غَتىم‪ 7‬فقاؿ ‪( :‬اقرءكا القرآف بلحوف العرب كأصواهتا)‬ ‫‪ 1‬االستقامة ص‪274‬‬ ‫‪ 2‬االستقامة ص‪287‬‬ ‫‪ 3‬ابن تيمية ‪ :‬أزتد بن عبد اضتليم ‪،‬الفتاكل الكربل ‪ ،‬حتقيق ػتمد عبدالقادر عطا ‪،‬ط‪/‬دار الكتب‬ ‫العلمية ‪،‬سنة ‪1408‬ىػ ‪1987 -‬ـ‪427/2 ،‬‬ ‫‪ 4‬اظتستدرؾ على الصحيحُت للحاكم مع تعليقات الذىيب يف التلخيص ‪ ، 759/ 1‬كسنن أِب داكد‬ ‫‪548/ 1‬‬ ‫‪ 5‬اصتامع ألحكاـ القرآف ‪14/ 1‬‬ ‫‪ 6‬اصتامع ألحكاـ القرآف ‪14/ 1‬‬ ‫‪ 7‬يقرأ كثَت من القراء اليوـ مبقامات اظتوسيقى العربية كالرست كالبيايت كالنهاكند كاضتجاز كالصبا‬ ‫كالسيكاه ‪ ،‬كاظتقاـ ىو تتايل لعالمات موسيقية كفق أبعاد معينة كقواعد موضوعة لتصنيف اللحن ‪،‬‬ ‫‪50‬‬


‫تفكُّر ‪ ،‬جملد (‪ ،)31‬العدد (‪2013 ، )2-3‬م‪1434/‬هـ‬

‫علوم الوحي‬

‫كرغم أنو ال يوجد دليل صريح صحيح يف حترمي الغناء ‪ ،‬إال أف الغناء يف كثَت من‬ ‫األحياف تصحبو احملرمات من ستور كتربج كمياعة كخالعة كتكسر كؿتوىا ‪ ،‬كىذه أمور ال‬ ‫يشك أحد يف إنكارىا كحترنتها ؛ كعتذا جعل بعض الفقهاء ىذا الغناء طريقان للفسق‬ ‫كالفجور فمنعوه من باب سد الذرائع ‪ ،‬كليس ذلك فحسب بل إ ٌف يف بعض اظتعاين الغنائية‬ ‫ما متالف الدين كالشرع كاألخالؽ فحرـ من أجل معناه ؛ كيف ىذه اضتالة يكوف الغناء‬

‫كالشعر حسنو حسن كقبيحو قبيح ؛ كعتذا ذىب العالمة االلباين إىل أف الغناء ليس كلو‬ ‫ػترـ بل ما كاف منو يف كصف اطتدكد كاطتصور كاطتمور كؿتو ذلك فحراـ قطعان كما خال من‬

‫ذلك فاإلكثار منو مكركه‬

‫‪2‬‬

‫الختالف في المعازف ‪:‬‬

‫قاؿ البخارم ‪( :‬قاؿ ىشاـ بن عمار حدثنا صدقة بن خالد حدثنا عبد الرزتن بن‬

‫يزيد بن جابر حدثنا عطية بن قيس الكاليب حدثنا عبد الرزتن بن غنم األشعرم قاؿ‬ ‫حدثٍت أبو عامر ‪ -‬أك أبو مالك ‪ -‬األشعرم كاهلل ما كذبٍت‪ :‬شتع النيب ‪ ‬يقوؿ ‪( :‬ليكونن‬ ‫من أميت أقواـ يستحلوف اضتر كاضترير كاطتمر كاظتعازؼ) ‪ . 3‬كقد ألف األلباين كتابان شتاه‬

‫(حترمي آالت الطرب) أك (الرد بالوحيُت كأقواؿ أئمتنا على ابن حزـ كمقلديو اظتبيحُت‬

‫للمعازؼ كالغنا كعلى الصوفيُت الذين اختذكه قربة كدينان) كقد رد فيها األلباين على فتول‬ ‫الشيخ ػتمد أبو زىرة كتالميذه ؿتو ػتمد الغزايل كيوسف القرضاكم‬

‫كقد كره بعضهم القراءة هبذه اظتقامات ‪ ،‬كذكر اظتدافعوف أنو ال نتكن جتاكزىا ْباؿ فبأم ضتن قرأت‬ ‫فقد دخلت يف مقاـ من ىذه اظتقامات‪.‬‬ ‫‪ 1‬اظتعجم األكسط ‪/183/ 7‬‬ ‫‪ 2‬األلباين ‪ :‬ػتمد ناصر الدين ‪،‬السلسلة الضعيفة ‪،‬ط‪/‬مكتبة اظتعارؼ ‪ -‬الرياض ‪245/1 ،‬‬ ‫‪ 3‬صحيح البخارم ‪2123 / 5‬‬ ‫‪55‬‬


‫أ‪.‬د‪ .‬مجال الدين عبد العزيز شريف‬

‫املنتج الثقايف يف ضوء القرآن الكريم‬

‫كقد أكرد القرضاكم اعًتاضاتو على اضتديث السابق سواء يف السند أك اظتنت كذلك‬

‫كاآليت‪: 1‬‬ ‫أ‪-‬ىذا اضتديث ركاه البخارم معلٌقان عن أيب مالك أك أيب عامر كىذا شك من الراكم ‪،‬‬ ‫كاضتديث‪ -‬كإف كاف يف صحيح البخارم‪ -‬إال أنو من اظتعلٌقات ال من اظتسندات اظتتصلة‪،‬‬ ‫كمع ىذا التعليق مل يسلم سنده كال متنو من االضطراب ‪ ،‬كقد اجتهد ابن حجر لوصل‬ ‫اضتديث ‪ ،‬كقد كصلو فعالن من تسع طرؼ إال أهنا رتيعان تدكر على را وك كاحد متكلم فيو ‪،‬‬ ‫كىو ‪ :‬ىشاـ بن عمار كىو طياش خفيف ‪ ،‬كقد حدث بأربعمائة حديث ال أصل عتا‪.‬‬ ‫ب‪-‬مل يتفق العلماء على أ ٌف اظتعازؼ ىي آالت الطرب فقد قيل أهنا اظتالىي ‪ .‬كلكن لو‬ ‫سلمنا أهنا آالت الطرب فليس يف اضتديث ما يشَت إىل حرمتها بصورة مستقلة ؛ إذ أف‬ ‫اضتديث ينهى عن أخالؽ طائفة انغمسوا يف الًتؼ كالليايل اضتمراء كشرب اطتمر كالنساء‬ ‫كالغناء ‪ .‬ككل من ركل اضتديث من طريق غَت طريق ىشاـ بن عمار جعل النكَت على‬ ‫شرب اطتمر كما اظتعازؼ إال تابعة كمكملة‪.‬‬ ‫كقد رد األلباين بأ ٌف ىشاـ بن عمار من شيوخ البخارم ؛ فقوؿ البخارم ‪( :‬قاؿ‬ ‫ىشاـ بن عمار) ليس تعليقان بل ىو متصل ؛ ألنو ال فرؽ بالنسبة للبخارم بُت قولو ‪(:‬قاؿ‬ ‫‪2‬‬ ‫ىشاـ) أك ‪( :‬حدثٍت ىشاـ) ‪ ،‬كالبخارم قد لقى ىشامان كىو ال يدلس‬ ‫كقد جاء القرضاكم بشواىد على عدـ حترمي السلف كعلماء األمة آلالت الطرب ‪،‬‬ ‫كذكر أف عبداهلل بن الزبَت كانت لو جوار عوادات ‪ ،‬كأف حساف شتع عزة اظتيالء تغٍت شعره‬ ‫باظتزىر (العود) ‪.3‬‬ ‫ثالث ا ‪ :‬التصوير ‪:‬‬

‫‪ 1‬اإلسالـ كالفن ص ‪44 -40‬‬ ‫‪ 2‬األلباين ‪ :‬ػتمد ناصر الدين ‪،‬حترمي آالت الطرب ‪ ،‬ط‪ 1/‬مكتبة الدليل ‪،‬سنة ‪1416‬ص ‪28‬‬ ‫‪ 3‬القرضاكم‪ :‬يوسف ‪ ،‬اإلسالـ كالفن ‪ ،‬ط‪ 1/‬مطبعة كىبة القاىرة ‪،‬سنة ‪1996‬ـ ‪66 -60 ،‬‬ ‫‪55‬‬


‫تفكُّر ‪ ،‬جملد (‪ ،)31‬العدد (‪2013 ، )2-3‬م‪1434/‬هـ‬

‫علوم الوحي‬

‫اظتقصود بالتصوير‪ 1‬ىنا ‪ :‬صنع الصور سواء عن طريق الرسم أك النحت ‪ ،‬كاظتقصود‬ ‫بالنحت ‪ :‬صناعة التماثيل لذكات األركاح ‪ ،‬كقد كردت التماثيل يف القرآف يف سياقُت‬ ‫ؼتتلفُت ‪ :‬سياؽ يوحي بذمها كالتشديد فيها ؛ كسياؽ يوحي بإباحتها ؛ كذلك كاآليت‪:‬‬ ‫‪-1‬التماثيل اليت تعبد من دكف اهلل كما يف قولو تعاىل ‪ -‬على لساف إبراىيم عليو السالـ‬ ‫ً​ً ً‬ ‫يل ال ًيت أىنتي ٍم ىعتىا ىعاكً يفو ىف‪.‬‬ ‫ؼتاطبا قومو ‪ : -‬ىما ىىذه الت ىماث ي‬

‫‪ -2‬التماثيل اليت يأمر سليماف عليو السالـ اصتن بصناعتها لو ‪ ،‬كقد كردت ىذه التماثيل ‪-‬‬ ‫يعمليو ىف لىوي ىما‬ ‫يف سياؽ ما امنت اهلل بو على سليماف عليو السالـ ‪ -‬بقولو تعاىل ‪  :‬ى‬ ‫اب كقي يدكور ر ًاسي و‬ ‫ي ىشاء ًمن ػتا ًريب كدتىىاثًيل كًج ىف و‬ ‫اف ىك ٍ ً‬ ‫ات‪.‬‬ ‫ى‬ ‫ى‬ ‫اصتىىو ى‬ ‫ى ى ى ىى‬ ‫كقد أرتع اظتسلموف على حترمي التماثيل اليت تصنع للعبادة ‪ ،‬فذلك كفر صريح ال‬ ‫خالؼ فيو ؛ إذ إف فيو ؼتالفة كاضحة ظتبادئ الدين اضتنيف ‪ ،‬كقد بدأت عبادة التماثيل‬ ‫كاأل صناـ بصورة عفوية على عهد نوح عليو السالـ مث تطور األمر حىت كصل إىل الشرؾ‬ ‫ً‬ ‫اعا ىكال‬ ‫كالعياذ باهلل ؛ قاؿ تعاىل عن قوـ نوح ‪  :‬ىكقىاليوا ال تى ىذ يرف آعتتى يك ٍم ىكال تى ىذ يرف ىكًّدا ىكال يس ىو ن‬ ‫وؽ ىكنى ٍسنرا ‪ .‬كجاء يف البخارم أف أشتاء ىذه األصناـ ىي أشتاء رجاؿ صاضتُت‬ ‫ث ىكيػىعي ى‬ ‫يػىغيو ى‬ ‫من قوـ نوح فلما ىلكوا أكحى الشيطاف إىل قومهم أف انصبوا إىل غتالسهم اليت كانوا‬ ‫كتلسوف أنصابان كشتوىا بأشتائهم ففعلوا فلم تعبد حىت إذا ىلك أكلئك كتنسخ العلم‬ ‫‪2‬‬ ‫عبدت)‬ ‫كقد كصف النيب ‪ ‬متخذم التصاكير يف أماكن العبادة بأهنم شرار الناس ‪ ،‬كقد‬ ‫جاء يف البخارم أ ٌف أـ سلمة ذكرت لرسوؿ اهلل ‪ ‬كنيسة رأهتا بأرض اضتبشة يقاؿ عتا‬ ‫مارية فذكرت لو ما رأت فيها من الصور فقاؿ رسوؿ اهلل ‪ ( : ‬أكلئك قوـ إذا مات فيهم‬ ‫‪ 1‬ال نقصد ىنا التصوير الفٍت البالغي اظتتعلق بالشعر كالكالـ ‪ ،‬كما ال نقصد بالنحت ؿتت‬ ‫األخشاب كغَتىا أك اضتفر العميق فيها‪.‬‬ ‫‪ 2‬صحيح البخارم ‪1873/ 4‬‬ ‫‪55‬‬


‫أ‪.‬د‪ .‬مجال الدين عبد العزيز شريف‬

‫املنتج الثقايف يف ضوء القرآن الكريم‬

‫العبد الصاحل أك الرجل الصاحل بنوا على قربه مسجدان كصوركا فيو تلك الصور أكلئك شرار‬

‫اطتلق عند اهلل) ‪.1‬‬

‫أما صناعة التماثيل ألغراض فنية ػتضة ال عبادة فيها كال تقديس فقد ذىب قوـ‬ ‫إىل أهنا ال حرج فيها ‪ ،‬كاستدؿ أصحاب ىذا الرأم باآليت ‪:‬‬ ‫‪ -1‬ذكرت اآلية أ ٌف سليماف عليو السالـ كاف يأمر بصناعة التماثيل كىو نيب مرسل ‪ ،‬كلو‬ ‫مل يكن ذلك مباحان ظتا كقع من نيب من جهة كظتا ذكره القرآف من جهة أخرل‪.‬‬

‫‪-2‬فتح الصحابة رضواف اهلل تعاىل عليهم مصر يف جيش عمرك بن العاص ‪ ،‬كقد نصب‬ ‫عمرك خيمتو (فسطاطو) بالفسطاط كىي قريبة جدان من أيب اعتوؿ كمل يهدـ الصحابة أبا‬

‫اعتوؿ كمل يأمركا هبدمو ‪.‬‬

‫‪ -3‬دخل الصحابة رضواف اهلل عليهم إيواف كسرل باظتدائن فوجدكا فيو التماثيل كالتصاكير‬ ‫فلم يزيلوىا كمل يأمركا بإزالتها ‪ ،‬كيذكر الطربم يف تارمتو أف (سعد بن أيب كقاص ظتا‬ ‫دخل اظتدائن فرأل خلوهتا كانتهى إىل إيواف كسرل‪ ،‬أقبل يقرأ‪  :‬ىكم تىػريكوا ًمن جن و‬ ‫ات‬ ‫ى‬ ‫ٍ ى‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫و‬ ‫كعي و‬ ‫ين‪‬‬ ‫وف ىكيزير و‬ ‫ُت ىك ىذل ى‬ ‫كع ىكىم ىق واـ ىك ًرومي ىكنػى ٍع ىمة ىكانيوا ف ىيها فىاك ًه ى‬ ‫ك ىكأ ٍىكىرثٍػنى ى‬ ‫اىا قىػ ٍونما ى‬ ‫ى يي‬ ‫آخ ًر ى‬ ‫كصلى فيو صالة الفتح‪ -‬كال تصلى رتاعة‪ -‬فصلى ذتاين ركعات ال يفصل بينهن‪،‬‬ ‫كاختذه مسجدان؛ كفيو دتاثيل اصتص‪ :‬رجاؿ كخيل ‪ ،‬كمل نتتنع ‪-‬كال اظتسلموف‪ -‬لذلك‬ ‫كتركوىا على حاعتا)‪ . 2‬كىذه الصور ىي اليت قاؿ فيها البحًتم‪:‬‬ ‫صف العُت أىنػهم ًج ُّد أ و‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫شارةي يخ ً‬ ‫رس‬ ‫ىحياء‬ ‫تى ي ى ي ي‬ ‫ىعتيم بىينىػ يهم إ ى‬ ‫دام بًلى ً‬ ‫مس‬ ‫يىغتىػلي في ًهم إًرتػً ػ ػ ػ ػ ػ ػ ػ ػ ػ ػ ػ ػايب ىح ٌىت‬ ‫تىػتىػ ىقػ ٌػر ياى يم يى ى‬ ‫‪ 1‬صحيح البخارم ‪ ،167/ 1‬ك صحيح مسلم ‪ ، 66/ 2‬ك ابن خزنتة ‪ :‬ػتمد بن إسحاؽ‬ ‫‪،‬صحيح ابن خزنتة ‪ ،‬حتقيق ػتمد مصطفى األعظمي‪ ،‬ط‪ /‬اظتكتب اإلسالمي ‪ -‬بَتكت ‪،‬سنة‬ ‫‪1970 – 1390‬ـ ‪ 7 / 2 ،‬كسنن النسائي الكربل ‪ 260/ 1‬سنن البيهقي الكربل ‪80/ 4‬‬ ‫‪ 2‬الطربم ‪ :‬ػتمد بن جرير ‪،‬تاريخ األمم كاظتلوؾ "تاريخ الطربم"ط‪ 1/‬دار الكتب العلمية ‪ -‬بَتكت‬ ‫‪،‬سنة ‪64/4،1407‬‬ ‫‪55‬‬


‫تفكُّر ‪ ،‬جملد (‪ ،)31‬العدد (‪2013 ، )2-3‬م‪1434/‬هـ‬

‫علوم الوحي‬

‫‪-4‬كاف يف قصر اضتمراء بغرناطة دتاثيل خترج من أفواىها اظتاء ‪ ،‬كىي حتفة فنية رائعة يف‬ ‫تلك البيئة االندلسية اليت سيطر عليها الفقهاء‪.‬‬ ‫‪-5‬إ ٌف التشديد يف شأف التماثيل إفتا كاف ‪ -‬يف أكؿ أمره ‪ -‬لقرب الناس من اصتاىلية الوثنية‬ ‫اليت عيبدت فيها األصناـ كاألكثاف ‪ ،‬كقد تغَت كل ذلك ْبمد اهلل يف العصور التالية‪.‬‬

‫‪-6‬ذىب بعض من أباح التماثيل إىل زتل كلمة (اظتصورين) الذين ذكر اضتديث أهنم أشد‬ ‫الناس عذابان على أكلئك الذين جعلوا هلل تعاىل صورة كىم اظتشبهة كاجملسمة‬

‫‪1‬‬

‫كلكن أكثر علماء اإلسالـ على خالؼ ىذا اظتذىب ‪ ،‬كعتذا ردكا على تلك األدلة باآليت ‪:‬‬ ‫‪-1‬إ ٌف صناعة التماثيل كانت حالالن يف شرع من قبلنا كقد نسخ ذلك يف شريعتنا ‪ ،‬كقد‬ ‫جاء ىذا النسخ بأحاديث كثَتة حترـ صنع التماثيل سواء كاف ذلك للعبادة كالتقديس أـ‬ ‫مل تكن ‪ ،‬كقد علٌق ابن عطية الغرناطي على فرقة حتيز التصوير استدالال هبذه اآلية فقاؿ‬ ‫‪( :‬ذلك خطأ كما أحفظ عن أحد من أىل العلم من كتوزه )‬

‫‪2‬‬

‫‪-2‬مل يثبت أ ٌف الصحابة رضواف اهلل عليهم رأكا دتثاؿ أيب اعتوؿ عند دخوعتم مصر ؛ إذ كاف‬ ‫ىذا التمثاؿ مدفونان ‪ ،‬كقد سئل الزركلي عن األىراـ كأيب اعتوؿ كؿتوىا ‪:‬ىل رآىا‬ ‫الصحابة الذين دخلوا مصر ؟ فقاؿ ‪( :‬كاف أكثرىا مغموران بالرماؿ كال سيما أبا‬ ‫اعتوؿ)‪ .3‬كقد يظهر رأس أيب اعتوؿ يف بعض األعصر كقد متتفي ‪ ،‬كرمبا كاف ؼتتفيا على‬ ‫عهد الصحابة ؛ يقوؿ ابن فضل اهلل العمرم يف كتابو مسالك األبصار يف ؽتالك‬ ‫األمصار ‪( :‬كمن ذلك أبو اعتوؿ‪ -‬كىو اسم لصنم يقارب اعترـ الكبَت‪ -‬ال يبُت من‬ ‫فوؽ سطح األرض إال رأس ذلك الصنم كعنقو) ‪ 4‬يقوؿ ياقوت اضتموم ‪( :‬كيف سفح‬

‫‪ 1‬اإلسالـ كالفن ص ‪114‬‬ ‫‪ 2‬اصتامع ألحكاـ القرآف ‪272/ 14‬‬ ‫‪ 3‬موسوعة الرد على اظتذاىب الفكرية اظتعاصرة ‪496 / 52‬‬ ‫‪ 4‬مسالك األبصار يف ؽتالك األمصار ‪75 / 1‬‬ ‫‪55‬‬


‫أ‪.‬د‪ .‬مجال الدين عبد العزيز شريف‬

‫املنتج الثقايف يف ضوء القرآن الكريم‬

‫أحد اعترمُت صورة آدمي عظيم مصبغة كقد غطى الرمل أكثرىا كىي عجيبة غريبة)‬

‫‪1‬‬

‫كأبو اعتوؿ اليوـ مكشوؼ بالكامل كمل يكن كذلك‪.‬‬ ‫‪-3‬مل يهدـ الصحابة رضواف اهلل عليهم التصاكير اليت كانت يف إيواف كسرل لكثرهتا‬ ‫كضخامتها كصعوبة إزالتها ‪ ،‬كقد حاكؿ بعض خلفاء اظتسلمُت ىدـ اإليواف فلم يستطع‬ ‫‪ ،‬كىذا اطتليفة ىو الرشيد كما يذكر ابن خلدكف يف مقدمتو‪.2‬‬ ‫‪-4‬القوؿ بأ ٌف ىدـ التماثيل إفتا كاف لقرب عهد الناس باصتاىلية قوؿ ضعيف ؛ كذلك ألف‬ ‫اإلسالـ قد جاء لكل زماف‪ ،‬كما زاؿ ماليُت البشر يعبدكف التماثيل حىت يف ىذا العصر‬ ‫‪ ،‬كقد رد ابن دقيق العيد على من ذىب ىذا اظتذىب بقولو ‪(:‬ىذا القوؿ عندنا باطل‬ ‫قطعان ألنو قد كرد يف األحاديث‪ :‬اإلخبار عن أمر اآلخرة بعذاب اظتصورين كأهنم يقاؿ‬ ‫عتم‪" :‬أحيوا ما خلقتم" كىذه علة ؼتالفة ظتا قالو ىذا القائل كقد صرح بذلك يف قولو‬ ‫عليو السالـ‪" :‬اظتشبهوف ِبلق اهلل" ؛ كىذه علة عامة مستقلة مناسبة ال ختص زمانا‬ ‫دكف زماف كليس لنا أف نصرؼ يف النصوص اظتتظاىرة اظتتضافرة مبعٌت خيايل نتكن أف‬ ‫يكوف ىو اظتراد مع اقتضاء اللفظ التعليل بغَته كىو التشبو ِبلق اهلل) ‪. 3‬‬ ‫‪ -5‬القوؿ بأف اظتصورين ىم اجملسمة كاظتشبهة قوؿ ضعيف ؛ يقوؿ القرضاكم ‪( :‬كىو‬ ‫تكلف كاعتساؼ ال تساعده األلفاظ الثابتة يف األحاديث) ‪.4‬‬

‫كقد استثٌت العلماء الذين قالوا ْبرمة التماثيل من ذلك ‪ -‬دتاثيل األطفاؿ اليت‬ ‫يلعبوف هبا كتلك العرائس اظتصنوعة من اضتلول كؿتو ذلك‪.‬‬

‫‪ 1‬ياقوت اضتموم‪ :‬ياقوت بن عبد اهلل ‪،‬معجم البلداف‪ ،‬ط‪ /‬دار الفكر – بَتكت ‪402 / 5 ،‬‬ ‫‪ 2‬مقدمة ابن خلدكف ص‪383‬‬ ‫‪ 3‬ابن دقيق العيد‪ :‬أبو الفتح القشَتم ‪ ،‬إحكاـ األحكاـ شرح عمدة األحكاـ ‪ ،‬حتقيق مصطفى‬ ‫شيخ مصطفى ‪ ،‬ط‪ 1/‬مؤسسة الرسالة ‪،‬سنة ‪ 1426‬ىػ ‪ 2005 -‬ـ ‪ ،‬ص‪253‬‬ ‫‪ 4‬اإلسالـ كالفن ‪114‬‬ ‫‪55‬‬


‫تفكُّر ‪ ،‬جملد (‪ ،)31‬العدد (‪2013 ، )2-3‬م‪1434/‬هـ‬

‫علوم الوحي‬

‫ىذا ما يتعلق بالتماثيل اظتنحوتة كاليت عتا ظل أما الصور اظترقومة يف كرؽ أك ثوب أك‬ ‫بساط فقد أجازىا الفقهاء خاصة إذا كانت ؽتتهنة يعٍت على كسائد أك بساط كؿتوىا كذلك‬ ‫لوركد األدلة بذلك ‪ ،‬كمن العلماء من منع كل الصور الورقية غَت اظتمتهنة إال للضركرة‪.‬‬ ‫كمبنع اإلسالـ للتماثيل كالصور ذات األركاح انفتحت أماـ اظتبدعُت اظتسلمُت عوامل‬ ‫جديدة برعوا فيها فظهر عندىم فن الزخرفة كأشرقت يف اضتضارة اإلسالمية فتاذج معقدة من‬ ‫التزيُت كجعلت ىذه النماذج يف أشكاؿ ىندسية دتتاز بالالهنائية كالتكرار كالتشابك كما‬ ‫دتت الزخرفة بالزىور كاألكراؽ كابتكرت اظتضلعات كأشكاؿ التوريق اظتختلفة ‪ ،‬ىذا كقد برع‬ ‫اظتبدعوف اظتسلموف يف فن اطتط فكتبت بو اآليات كاالحاديث كاضتكم يف صور تسر‬ ‫الناظرين ؛ كبذلك تركت اضتضارة اإلسالمية آثاران من ركائع الدنيا كعجائبها ‪.‬كىذا أثر من‬ ‫آثار الثقافة اإلسالمية اليت بلورىا الدين فانعكست على إبداعات األمة فتميزت كتفردت‪.‬‬

‫‪55‬‬


‫املنتج الثقايف يف ضوء القرآن الكريم‬

‫خاتمة‪:‬‬

‫أ‪.‬د‪ .‬مجال الدين عبد العزيز شريف‬

‫كاف للقرآف أثر بالغ يف تشكيل ثقافة اظتسلمُت كما ينشأ عنها من فنوف كآداب ‪،‬‬

‫كقد أثىر القرآف يف الشعر عند اظتسلمُت بألفاظو كتراكيبو كنظمو ‪ ،‬كليس ذلك فحسب بل‬

‫ذـ شعراء بأعينهم‬ ‫يذـ القرآف الشعر كإفتا ٌ‬ ‫أثٌر القرآف كذلك يف مضموف الشعر كػتتواه‪ ،‬كمل ٌ‬ ‫احملرـ ‪ ،‬كقد ٌبُت أ ٌف الشعر ‪ -‬مهما بلغ – فإنو عند مقارنتو بكالـ‬ ‫يهيموف يف أكدية الكالـ ٌ‬ ‫اهلل ليس بشئ ؛ كذلك صتماؿ القرآف كجودة نظمو كسبكو ككونو إعتي اظتصدر؛ كما الشعر‬

‫إال إبداع بشرم ػتض ‪ ،‬كإذا كاف القرآف قد أثٌر يف مضموف الشعر عند اظتسلمُت فقد أثر‬

‫كذ لك يف مضموف الغناء كػتتواه عندىم‪ .‬كظتا منع اإلسالـ النحت كتصوير األجساـ ذكات‬ ‫األركاح فقد انفتحت ‪-‬من جراء ذلك ‪ -‬أماـ الفن اإلسالمي عوامل جديدة من الزخرفة‬ ‫كالتزيُت كالتوريق‪ ،‬كبذلك تفردت اضتضارة اإلسالمية كدتيزت ‪.‬‬

‫‪55‬‬


‫تفكُّر ‪ ،‬جملد (‪ ،)31‬العدد (‪2013 ، )2-3‬م‪1434/‬هـ‬ ‫‪ /1‬األلباني ‪ :‬ػتمد ناصر الدين‬

‫علوم الوحي‬

‫المراجع‬

‫أ‪-‬‬

‫حترمي آالت الطرب ‪ ،‬ط‪ 1/‬مكتبة الدليل ‪،‬سنة ‪1416‬ىػ‬

‫ب‪-‬‬

‫السلسلة الضعيفة ‪،‬ط‪/‬مكتبة اظتعارؼ – الرياض"د‪.‬ت"‪.‬‬

‫‪ /2‬البخاري ‪ :‬ػتمد بن إشتاعيل‬

‫أ‪ -‬صحيح البخارم "اصتامع الصحيح" ‪ ،‬حتقيق مصطفى ديب البغا ‪ ،‬ط‪ 3/‬دار‬ ‫ابن كثَت اليمامة – بَتكت ‪،‬سنة ‪ 1407‬ق– ‪1987‬ـ‬ ‫ب‪ -‬األدب اظتفرد ‪ ،‬حتقيق ػتمد فؤاد عبدالباقي‪،‬ط‪ 3/‬دار البشائر اإلسالمية ‪-‬‬ ‫بَتكت ‪،‬سنة ‪ 1409‬ىػ‪1989 -‬ـ‬

‫‪ /3‬البيهقي ‪ :‬أزتد بن اضتسُت بن علي‬

‫أ‪ -‬سنن البيهقي الكربل ‪ ،‬حتقيق ػتمد عبد القادر عطا ‪،‬ط‪/‬دار الباز ‪ -‬مكة‬ ‫اظتكرمة ‪،‬سنة ‪1414‬ىػ – ‪1994‬ـ‬ ‫ب‪-‬‬

‫سنن البيهقي الصغرل ‪ ،‬حتقيق ػتمد ضياء الرزتن األعظمي ‪،‬ط‪/‬مكتبة‬

‫الدار اظتدينة اظتنورة ‪،‬سنة ‪1989 – 1410‬ـ‬

‫‪ /4‬الترمذي ‪ :‬ػتمد بن عيسى ‪،‬سنن الًتمذم "اصتامع الصحيح" ‪ ،‬حتقيق أزتد ػتمد‬ ‫شاكر كآخركف ‪،‬ط ‪ /‬دار إحياء الًتاث العريب – بَتكت"د‪.‬ت"‪.‬‬

‫‪ /5‬ابن تيمية ‪ :‬أزتد بن عبد اضتليم‬

‫أ‪-‬الفتاكل الكربل ‪ ،‬حتقيق ػتمد عبدالقادر عطا ‪ -‬مصطفى عبدالقادر عطا‬ ‫‪،‬ط‪/‬دار الكتب العلمية ‪،‬سنة ‪1408‬ىػ ‪1987 -‬ـ‬ ‫ب‪ -‬االستقامة حتقيق ػتمد رشاد سامل ‪ ،‬ط‪ 1/‬جامعة اإلماـ ػتمد بن سعود ‪-‬‬ ‫اظتدينة اظتنورة‪ ،‬سنة ‪1403 ،‬ىػ‪.‬‬ ‫‪55‬‬


‫أ‪.‬د‪ .‬مجال الدين عبد العزيز شريف‬

‫املنتج الثقايف يف ضوء القرآن الكريم‬

‫‪ /6‬الجاحظ ‪ :‬أيب عثماف عمرك بن ْبر ‪،‬البياف كالتبيُت ‪ ،‬حتقيق فوزم عطوم ‪ ،‬ط‪ 1/‬دار‬ ‫صعب ‪ -‬بَتكت ‪،‬سنة ‪1968‬ـ‬

‫ا‪ /7‬الجرجاني ‪ :‬عبدالقاىر بن عبدالرزتن ‪،‬دالئل اإلعجاز ‪ ،‬حتقيق ػتمد التنجي ‪ ،‬ط‪1/‬‬ ‫دار الكتاب العريب ‪ -‬بَتكت ‪،‬سنة ‪1995‬ـ‬

‫‪ /8‬الجياني ‪ :‬شهاب الدين أزتد ‪ ،‬التبياف يف تفسَت غريب القرآف ‪ ،‬حتقيق فتحي أنور‬ ‫الدابويل ‪ ،‬ط ‪1 /‬دار الصحابة للًتاث بطنطا – القاىرة ‪،‬سنة ‪1992‬ـ‬

‫‪ /9‬الحاكم النيسابوري ‪ :‬ػتمد بن عبداهلل ‪،‬اظتستدرؾ على الصحيحُت للحاكم مع‬ ‫تعليقات الذىيب يف التلخيص ‪ ،‬حتقيق مصطفى عبد القادر عطا ‪ ،‬ط‪1/‬دار الكتب‬

‫العلمية ‪ -‬بَتكت ‪،‬سنة ‪1411‬ىػ – ‪1990‬ـ‬

‫‪ /10‬ابن حبان ‪ :‬ػتمد بن حباف بن أزتد ‪،‬صحيح ابن حباف بًتتيب ابن بلباف ‪ ،‬حتقيق‬ ‫شعيب األرنؤكط ‪ ،‬ط‪ 2/‬مؤسسة الرسالة ‪ -‬بَتكت ‪،‬سنة ‪ 1414‬ىػ – ‪1993‬ـ‬

‫‪ /11‬ابن حجر‪ :‬أزتد بن علي ‪،‬فتح البارم شرح صحيح البخارم ‪،‬ط‪/‬دار اظتعرفة ‪-‬‬ ‫بَتكت ‪،‬سنة ‪1379‬ىػ‬

‫‪ /12‬ابن حجة الحموي ‪ ،‬خزانة األدب كغاية األرب ‪ ،‬حتقيق عصاـ شعيتو ‪ ،‬ط‪1/‬دار‬ ‫كمكتبة اعتالؿ – بَتكت ‪،‬سنة ‪1987‬ـ‬

‫‪ /13‬ابن حزم ‪ :‬علي بن أزتد بن سعيد ‪:‬‬

‫أ‪-‬رسائل ابن حزـ األندلسي ‪ ،‬حتقيق‬

‫إحساف عباس ‪،‬ط‪/‬اظتؤسسة العربية‬

‫للدراسات كالنشر"د‪.‬ت"‪.‬‬ ‫ب‪ -‬احمللى ‪،‬ط‪/‬دار الفكر للطباعة كالنشر كالتوزيع"د‪.‬ت"‪.‬‬

‫‪ /14‬الحسين بن محمد ‪،‬اظتفردات يف غريب القرآف ‪ ،‬حتقيق ػتمد سيد كيالين ‪ ،‬ط‪ /‬دار‬ ‫اظتعرفة لبناف"د‪.‬ت"‪.‬‬

‫‪50‬‬


‫تفكُّر ‪ ،‬جملد (‪ ،)31‬العدد (‪2013 ، )2-3‬م‪1434/‬هـ‬

‫علوم الوحي‬

‫‪ /15‬ابن حنبل‪ ،‬أحمد ‪ ،‬مسند اإلماـ أزتد بن حنبل ‪ ،‬ط‪/‬مؤسسة قرطبة ‪-‬‬ ‫القاىرة"د‪.‬ت"‪.‬‬

‫‪ /16‬ابن خزيمة ‪ :‬ػتمد بن إسحاؽ ‪،‬صحيح ابن خزنتة ‪ ،‬حتقيق ػتمد مصطفى‬ ‫األعظمي‪ ،‬ط‪ /‬اظتكتب اإلسالمي ‪ -‬بَتكت ‪،‬سنة ‪1390‬ىػ – ‪1970‬ـ‬

‫‪ /17‬الدارقطني ‪ ،‬سنن الدارقطٍت ‪ ،‬حتقيق السيد عبد اهلل ىاشم نتاين علي بن عمر ط‬ ‫‪/‬دار اظتعرفة ‪ -‬بَتكت ‪،‬سنة ‪ 1386‬ىػ– ‪1966‬ـ‬

‫‪ /18‬ابن دقيق العيد ‪ :‬أبو الفتح القشَتم ‪ ،‬إحكاـ األحكاـ شرح عمدة األحكاـ ‪،‬‬ ‫حتقيق مصطفى شيخ مصطفى ‪ ،‬ط‪ 1/‬مؤسسة الرسالة ‪،‬سنة ‪ 1426‬ىػ ‪ 2005 -‬ـ‬

‫‪ /19‬أبو داود ‪ :‬سليماف بن األشعث ‪،‬سنن أيب داكد ‪،‬ط‪/‬دار الكتاب العريب ػ‬ ‫بَتكت"د‪.‬ت"‪.‬‬

‫‪ /20‬الزيات ‪ :‬أزتد كإبراىيم مصطفى ك حامد عبد القادر كػتمد النجار ‪ ،‬اظتعجم‬ ‫الوسيط ‪،‬ط‪/‬دار الدعوة"د‪.‬ت"‪.‬‬

‫‪ /21‬السجستاني‪ :‬ػتمد بن عزيز ‪ ،‬غريب القرآف ‪ ،‬حتقيق ػتمد أديب عبد الواحد رتراف‬ ‫‪،‬ط ‪/‬دار قتيبة ‪،‬سنة ‪1416‬ىػ‪1995 -‬ـ‬

‫‪ /22‬السمرقندي ‪ :‬نصر بن ػتمد بن إبراىيم ‪ْ،‬بر العلوـ ‪ ،‬حتقيق ػتمود مطرجي دار‬ ‫الفكر ‪ -‬بَتكت"د‪.‬ت"‪.‬‬

‫‪ /23‬السمعاني ‪ :‬منصور بن ػتمد بن عبد اصتبار‪ ،‬تفسَت القرآف ‪ ،‬حتقيق ياسر بن إبراىيم‬ ‫‪ ،‬ط‪/‬دار الوطن ‪ -‬الرياض ‪،‬سنة ‪1418‬ىػ‪1997 -‬ـ‬

‫‪ /24‬ابن سيده ‪ :‬علي بن إشتاعيل اظترسي ‪ ،‬احملكم كاحمليط األعظم ‪ ،‬حتقيق عبد اضتميد‬ ‫ىنداكم ‪،‬ط‪/‬دار الكتب العلمية بَتكت ‪،‬سنة ‪2000‬ـ‬

‫‪ /25‬الطبري ‪ :‬ػتمد بن جرير‬

‫‪55‬‬


‫أ‪.‬د‪ .‬مجال الدين عبد العزيز شريف‬

‫املنتج الثقايف يف ضوء القرآن الكريم‬

‫أ‪ -‬تاريخ األمم كاظتلوؾ "تاريخ الطربم"ط‪ 1/‬دار الكتب العلمية ‪ -‬بَتكت ‪،‬سنة‬ ‫‪1407‬ق‬ ‫ب‪-‬‬

‫جامع البياف يف تأكيل القرآف "تفسَت الطربم" ‪ ،‬حتقيق أزتد ػتمد شاكر‪،‬‬

‫ط‪ 1/‬مؤسسة الرسالة ‪،‬سنة ‪ 1420‬ىػ ‪ 2000 -‬ـ‬

‫‪ /26‬الطبراني ‪ :‬سليماف بن أزتد‬

‫أ‪ -‬اظتعجم األكسط ‪ ،‬حتقيق طارؽ بن عوض اهلل ‪،‬ط‪/‬دار اضترمُت ‪ -‬القاىرة‬ ‫‪1415‬ق‬ ‫ب اظتعجم الصغَت "الركض الداين" حتقيق ‪ :‬ػتمد شكور ػتمود اضتاج أمرير ‪،‬‬ ‫ط‪1/‬اظتكتب اإلسالمي ‪،‬بَتكت ‪،‬سنة ‪1405‬ق – ‪1985‬ـ‬

‫‪ /27‬ابن عابدين ‪،‬حاشية رد اظتختار على الدر اظتختار شرح تنوير األبصار فقو أبو حنيفة‬ ‫‪،‬ط‪/‬دار الفكر للطباعة كالنشر بَتكت ‪،‬سنة ‪1421‬ىػ ‪2000 -‬ـ‬

‫‪ /28‬العاملي‪ :‬هباء الدين ػتمد بن حسُت ‪ ،‬الكشكوؿ ‪ ،‬حتقيق ػتمد عبد الكرمي النمرم‪،‬‬ ‫ط‪ 1/‬دار الكتب العلمية ‪ -‬بَتكت ‪ /‬لبناف ‪،‬سنة ‪1418‬ىػ ‪1998-‬ـ‬

‫‪ /29‬ابن عطية األندلسي‪ :‬أبو ػتمد عبد اضتق بن غالب‪ ،‬احملرر الوجيز يف تفسَت الكتاب‬ ‫العزيز ‪ ،‬حتقيق عبد السالـ عبد الشايف ػتمدط‪1/‬دار الكتب العلمية ‪ -‬لبناف ‪، -‬سنة‬

‫‪1413‬ىػ ػ ‪1993‬ـ‬

‫‪ /30‬الغزالي‪ :‬ػتمد بن ػتمد‪ ،‬إحياء علوـ الدين دار ااظتعرفة ‪ -‬بَتكت"د‪.‬ت"‪.‬‬

‫‪ /31‬ابن قدامة المقدسي ‪ :‬عبد اهلل بن أزتد‪ ،‬اظتغٍت يف فقو اإلماـ أزتد بن حنبل ‪ ،‬ط‪1/‬‬ ‫دار الفكر – بَتكت ‪،‬سنة ‪1405‬ق‬

‫‪ /32‬القرطبي ‪ :‬أزتد بن أيب بكر ‪ ،‬اصتامع ألحكاـ القرآف ‪ ،‬حتقيق ىشاـ شتَت ‪،‬ط‪/‬دار‬ ‫عامل الكتب الرياض اظتملكة العربية السعودية ‪،‬سنة ‪ 1423‬ىػ‪ 2003 /‬ـ‬

‫‪ /33‬القرضاوي‪ :‬يوسف ‪ ،‬اإلسالـ كالفن ‪ ،‬ط‪ 1/‬مطبعة كىبة القاىرة ‪،‬سنة ‪1996‬ـ‬ ‫‪55‬‬


‫تفكُّر ‪ ،‬جملد (‪ ،)31‬العدد (‪2013 ، )2-3‬م‪1434/‬هـ‬

‫علوم الوحي‬

‫‪ /34‬ابن كثير ‪ :‬إشتاعيل بن عمر تفسَت‪ ،‬القرآف العظيم ‪ ،‬حتقيق سامي بن ػتمد سالمة‬ ‫‪،‬ط‪2/‬دار طيبة للنشر ‪،‬سنة ‪1420‬ىػ ‪ 1999 -‬ـ‬

‫‪ /35‬ابن ماجو ‪ :‬ػتمد بن يزيد أبو عبداهلل القزكيٍت ‪،‬سنن ابن ماجو ‪ ،‬حتقيق ػتمد فؤاد‬ ‫عبد الباقي ‪،‬ط‪/‬دار الفكر – بَتكت"د‪.‬ت"‪.‬‬

‫‪ /36‬الماوردي ‪ :‬علي بن ػتمد‪:‬‬

‫أ‪-‬النكت كالعيوف ( تفسَت اظتاكردل ) ‪ ،‬حتقيق السيد بن عبد اظتقصود بن عبد‬ ‫الرحيم ‪،‬ط‪/‬دار الكتب العلمية ‪ -‬بَتكت ‪ /‬لبناف"د‪.‬ت"‪.‬‬ ‫ب‪-‬اضتاكل الكبَت ط‪ /‬دار الفكر ػ بَتكت"د‪.‬ت"‪.‬‬

‫‪ /37‬مسلم بن الحجاج ‪،‬صحيح مسلم"اصتامع الصحيح"ط‪ /‬دار اصتيل بَتكت"د‪.‬ت"‪.‬‬ ‫‪ /38‬ابن منظور ‪ :‬ػتمد بن مكرـ ‪ ،‬لساف العرب ‪ ،‬ط‪1/‬دار صادر – بَتكت"د‪.‬ت"‪.‬‬

‫‪ /39‬النسائي ‪ :‬أزتد بن شعيب ‪،‬سنن النسائي الكربل ‪ ،‬ط‪ 1/‬دار الكتب العلمية ‪-‬‬ ‫بَتكت ‪ ،‬حتقيق دعبد الغفار سليماف البندارم ‪ ,‬سيد كسركم حسن ‪،‬سنة ‪1411‬ق‬

‫– ‪1991‬ـ‬

‫‪ /40‬ياقوت الحموي‪ :‬ياقوت بن عبد اهلل ‪،‬معجم البلداف‪ ،‬ط‪ /‬دار الفكر – بَتكت‬ ‫"د‪.‬ت"‪.‬‬

‫‪ /41‬أبو يعلى ‪ :‬أزتد بن علي بن اظتثٌت ‪،‬مسند أيب يعلى ‪ ،‬حتقيق حسُت سليم أسد ‪،‬‬ ‫ط‪ 1/‬دار اظتأموف للًتاث ‪ -‬دمشق ‪،‬سنة ‪1404‬ىػ– ‪1984‬ـ‪.‬‬

‫‪55‬‬


‫القرآن ومناهج التحليل الثقايف‬ ‫"نحو مدخل منهجي لمقاربة الثقافة من منظور قرآني"‬ ‫*‬

‫مقدمة منهجية‪:‬‬

‫د‪.‬محمد بابكر العوض عبد اهلل‬

‫يبدو التحدي الذي يواجه ؾبتمعات اؼبسلمُت اليوـ يف كثَت من جوانبه ربدياً ثقافياً‪،‬‬ ‫حيث أخذت مظاهر االستبلب الثقايف تتسع وتشيع داخلياً على حساب اؼبعاين واؼبظاهر‬

‫الثقافية لئلسبلـ‪ ،‬كما أ ّف األزمات الثقافية واغبمبلت اإلعبلمية اليت تعرض ؽبا اإلسبلـ وعاؼبه‬

‫من اػبارج؛ مع ضعف اػبطاب الثقايف اؼبوجه بإزاء تلك اغبمبلت عكست أيضاً وأبانت‬ ‫عمق اؽبوة بُت روح القرآف وثقافة اجملتمعات اإلسبلمية اؼبعاصرة‪ ،‬إضافة إىل استحكاـ سوء‬ ‫الفهم الثقايف لئلسبلـ وعاؼبه على أجزاء واسعة من العامل‪ .‬لقد عاًف القرآف اغبياة اإلنسانية‬

‫معاعبة كلية مشلت مناحيها العلمية والعملية والعادية والتعبدية‪ ،‬وتتبعت الذات اإلنسانية يف‬ ‫تقلباهتا على أفقي الزماف واؼبكاف وذباوز خطاب القرآف لئلنساف دبا حوا من رصد وتوثيق‬ ‫ومعايرة ألشكاؿ الفعل االجتماعي وصيغ التعبَت اإلنساين صبلة احملددات الثقافية اليت‬ ‫حصرت خطاب غَت من الكتب الدينية فتأكد القرآف خبصائصه البنائية وآثار الوجودية‬ ‫خطاباً معيارياً عابراً للثقافات‪ .‬كما تعُت مرجعاً توثيقياً للتجربة البشرية اؼبتسعة على أفقي‬ ‫الزماف واؼبكاف بتجلياهتما الغيبية والشهودية‪ .‬وقد نو القرآف دبنجزات اإلنساف بأبعادها‬

‫الوظيفية واإلبداعية وقيمها اعبمالية و آثارها األخبلقية والروحية ومآالهتا الدنيوية واألخروية‬ ‫باعتابرها دبنطق الوقع أوالً شواهد على سعي اإلنساف إىل زبليد ذكر وإعمار واقعه؛ كما اهنا‬

‫على أفق البصَتة ثانياً معامل دالة على عظمة خالقه‪ .‬وعبلمات مؤكدة على طبيعة الرسالة‬ ‫الوجودية اؼبلقاة على عاتقه‪ ،‬ومن خبلؿ مواءمة القرآف يف خطابه بُت تلك األبعاد زبلق‬ ‫منوذج إنساين رسم عبلمة فارقة يف مسَتة التطور البشري‪ ،‬وظل عطاؤ الروحي واغبضاري‬ ‫* أستاذ مساعد ‪ ،‬معهد إسبلـ اؼبعرفة ‪ ،‬جامعة اعبزيرة ‪ ،‬ودمدين‪.‬‬


‫تفكُّر ‪ ،‬جملد (‪ ،)31‬العدد (‪2013 ، )2-3‬م‪1434/‬هـ‬

‫علوم الوحي‬

‫مستمراً على انقطاع ابتعاث الرسل وظهور األنبياء؛ فتميز ذلك النموذج البشري باستدامة‬ ‫والئه الروحي ػبالقه الواحد األحد من ناحية ولرسالته الوجودية من ناحية أخرى ‪َ ‬وَما‬ ‫خلَ ْقت ِْ‬ ‫اإلنس إَِّال لِيػعب ُد ِ‬ ‫وف ‪( ‬ؽ‪ ، )56:‬وما كاف ذلك ؾبرد أمراً اختيارياً يقوـ على‬ ‫َ ُ‬ ‫اعب َّن َو ِْ َ َ ْ ُ‬ ‫االفًتاض اؼبثايل‪ ،‬بل كاف ؿبكاً اختبارياً شاقاً وعنيفاً مرت خبلله التجربة اإلسبلمية بابتبلءات‬ ‫واسعة وربديات عظيمة ليست هي ؿبل نظرنا هنا وهو أمر مفارؽ ؼبا قد يتبادر عند اغبديث‬ ‫عن الثقافة بدالالهتا اغبالية‪ ،‬حيث يربز ما يعرؼ بالقوى الناعمة وتتوارى كل مظاهر القوى‬ ‫اػبشنة وهو الواقع الذي سعت الرسالة اإلسبلمية إلرساله يف سياؽ من التضحيات اعبساـ‪.‬‬ ‫نعم كاف القرآف الكرمي من ناحية رمزيته الثقافية‪ ،‬ومن كونه موجهاً حضارياً ديثل‬

‫عامبلً جوهرياً يف الشهود اغبضاري لئلسبلـ‪ ،‬الذي صمد كخيار إنساين مورست ضد كل‬ ‫أشكاؿ العسف والعنف‪ ،‬وؿباوالت الطمس واإلفناء‪ ،‬ولكنه ظل ديارس دور اؼبرجعية اؼبوحدة‬

‫ألمة اؼبسلمُت متباينة اللغات‪ ،‬سباماً مثلما ظلت الكعبة قبلتهم اؼبشًتكة على اختبلؼ‬ ‫مواقعهم‪ ،‬ليشكبل برمزيتهما الثقافية والتارحيية وداللتهما اغبضارية عقب ًة كأداء أماـ اؼبساعي‬ ‫اليت بذلت عىلى مر العصور للقضاء على اإلسبلـ ديناً وحضارة‪،‬‬

‫‪1‬‬

‫ولعل تلك اػبواص الثقافية والعبلمات اغبضارية اليت أشارت إليها رساالت‬

‫السماء‪ ،2‬وأشادت هبا ثقافات األرض‪ ،‬وذلك النمط من اغبياة الذي ال يزاؿ يفرض وجود‬

‫‪ 1‬وهو ما عرب عنه"وليم جينورد بلجراؼ" الذي يقوؿ‪" :‬مىت توارى القرآف ومدينة مكة عن ببلد العرب‬ ‫ديكننا حينئذ أف نرى العربػِّي يتدرج يف سبيل اغبضارة [اؼبسيحية الغربية] اليت لػم يبعد عنها إال ؿبمد‬ ‫وكتابه" واؼبعٌت نفسه كرر اؼببشر وليم موير‪ « :‬إف سيف ؿبمد والقرآف مها أكثر أعداء اغبضارة واغبرية‬ ‫عنادا حىت اآلف»أنظر‪ :‬إدوارد سعيد‪ ،‬االستشراؽ‪ ،‬ص ‪.168‬‬ ‫واغبقيقة الذين عرفهم العامل ً‬ ‫‪ 2‬أنظر قوله تعاىل ‪  :‬حؿب َّم ٌد َّرس ُ ِ َّ ِ‬ ‫ين َم َعهُ أ َِشدَّاء َعلَى الْ ُكفَّا ِر ُر َضبَاء بػَْيػنَػ ُه ْم تَػَر ُاه ْم ُرَّكعاً ُس َّجداً‬ ‫َ ُ‬ ‫وؿ اللَّه َوالذ َ‬ ‫ود َذلِ‬ ‫وه ِهم ِّمن أَثَِر ال حسج ِ‬ ‫يػبتػغو َف فَضبلً ِّمن اللَّ ِه وِرضواناً ِسيماهم ِيف وج ِ‬ ‫ك َمثَػلُ ُه ْم ِيف التػ َّْوَراةِ َوَمثَػلُ ُه ْم ِيف‬ ‫َْ َ ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ ُْ ُ​ُ‬ ‫ْ َ َ َْ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ​ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َّار َو َع َد اللهَُّ‬ ‫ِْ‬ ‫اع ليَغي َ‬ ‫استَػ ْغلَ َ‬ ‫َخَر َج َشطْأَُ فَ َ‬ ‫اإلقب ِيل َكَزْرٍع أ ْ‬ ‫ب الحزَّر َ‬ ‫ظ فَ ْ‬ ‫آزَرُ فَ ْ‬ ‫ظ هب ُم الْ ُكف َ‬ ‫استَػ َوى َعلَى ُسوقه يػُ ْعج ُ‬ ‫ِ‬ ‫الَّ ِذين آمنُوا وع ِملُوا َّ ِ ِ ِ‬ ‫َجراً َع ِظيماً‪" ‬الفتح‪29 :‬‬ ‫َ َ َ​َ‬ ‫الصاغبَات مْنػ ُهم َّم ْغفَرًة َوأ ْ‬ ‫‪09‬‬


‫القرأن ومناهج التحلول الثقايف ‪ ،‬حنو مدخل منهجي ‪....‬‬

‫د‪.‬محمد بابكر العوض‬

‫اؼبستقل ويلفت خبصوصيته وسبيز وحضور الطاغي أنظار أويل البصائر من البشر‪ 1،‬هو ما‬ ‫حيدو إىل دراسة متأنية للبعد الثقايف يف القرآف الكرمي‪ .‬يف هذا اإلطار يأيت هذا البحث ؼبعاعبة‬

‫موضوع الثقافة ناظراً‪ ،‬إليها من منظور قرآين متوسبلً دبداخل التحليل الثقايف كأداة منهجية‬ ‫لدراسة وربليل احملتوى القرآين‪.‬‬

‫‪-1‬‬

‫أهمية الموضوع‪:‬‬

‫وموضوع الثقافة واضح األمهية خاصة يف ظل تصاعد حدة االنتقاد واؽبجوـ اؼبوجه‬

‫موجه‪.2‬‬ ‫للقرآف من منظورات ثقافية متباينة‪ ،‬بعضها غريب تقليدي‪ .‬وبعضها إعبلمي َّ‬

‫ويزيد على ما سبق ما ذكرنا من مفارقة واقع اجملتمعات اإلسبلمية للمثاؿ القرآين‬

‫حيث يربز على األفق الثقايف للمجتمعات اإلسبلمية(الفنوف)و(اإلعبلـ)و(الزي واؼبظهر)‬ ‫تعبَتات ثقافية تكاد تناقض اػبصوصية الثقافية للرسالة اإلسبلمية وسبيزها كنمط حياة له‬ ‫ؿبدداته اػباصة‪.‬‬

‫‪ 1‬كما لفت من قبل أولوا العزـ من الرسل قاؿ موسى "إين ألجد ىف األلواح أمة أناجيلهم ىف صدورهم‬ ‫يقرأوهنا وكاف من قبلهم يقرأوف كتاهبم نظراً ‪ ،‬حىت إذا رفعوها مل حيفظوا شيئاً ومل يعرفو وإف اهلل أعطاهم‬ ‫من اغبفظ شيئاً مل يعطه أحداً من األمم ‪ ،‬رب اجعلها أمىت‪.‬قاؿ تلك أمة أضبد" أورد البغوي يف‬ ‫تفسَت ‪ ,‬و أيب نعيم يف اغبلية و ابن عساكر يف تارخيه ‪ ,‬بأسانيد ضعيفة ‪ ..‬من رواية كعب األحبار ‪..‬‬ ‫لكن جاء هذا اػبرب مقطوعاً من تفسَت قتادة رضبه اهلل يف قوله سبحانه و تعاىل ‪ ( :‬أخد االلواح ) ‪,‬‬ ‫وروا ابن جرير الطربي يف تفسَت من طريق ‪ :‬بشر (بن معاذ)‪ ,‬قاؿ حدثنا ‪ :‬يزيد (بن زريع العيشي) ‪,‬‬ ‫قاؿ حدثنا ‪ :‬سعيد (ابن ايب عروبة ) ‪ ,‬عن قتادة‪ ,‬كبو ‪. .‬و هذا إسناد صحيح رجاله ثقات‬ ‫‪ 2‬كاغبمبلت اؼبثارة حوؿ الرموز الثقافية اإلسبلمية حيناً بعد حُت‪،‬منها ضببلت اغبجاب يف فرنسا وأؼبانيا‬ ‫والرسوـ واألفبلـ اؼبسيئة للرسوؿ يف الدمنارؾ والسويد واغبملة ضد اؼبآذف يف سويسرا؛ وضببلت ذات‬ ‫طابع ثقايف يتزعمها مسلموف مثل "(سلماف رشدي)وروايته اآليات الشيطانية و(إرشاد موقبي)وكتاهبا‬ ‫(اػبلل يف اإلسبلـ)و األكادديية(أمينة ودود) ومواقفها اليت أعربت عن سوء فهم ثقايف للقرآف الذي قرأته‬ ‫من منظور النوع‪.‬‬ ‫‪09‬‬


‫تفكُّر ‪ ،‬جملد (‪ ،)31‬العدد (‪2013 ، )2-3‬م‪1434/‬هـ‬

‫علوم الوحي‬

‫كما يؤكد االنتاج الئلنساين حوؿ اؼبوضوع اغباجة اؼباسة إىل إعادة مقاربة موضوع‬ ‫الثقافة‪،‬وفق رؤية أكثر ذبريداً وإطار أكثر موضوعية يف نظرته لئلنساف‪ .‬وال شك أف القرآف‬ ‫دبطلقيته قادر على سبثيل ذلك اإلطار اؼبوضوعي اؼبتجرد‪.‬‬

‫فقد مثَّل القرآف ؿبوراً ؼبشروع تغيَتي خياطب البشرية بعموـ ولئن كانت الثقافة‬ ‫العربية قد مثلت منوذجاً مصغراً ؼبعانيه‪ ،‬فلقد كاف التاريخ اإلنساين بعموـ مسرحاً لقيادة‬ ‫القرآف لتحوالت كربى عاشتها اغبضارة اإلنسانية احمليطة باعبغرافيا العربية كاغبضارة الفارسية‬ ‫والرومانية وتأثرت هبا ثقافات وحضارات يفصلها عن اعبزيرة العربية مسافات شاسعة‬

‫كاؼبغولية والصينية‪ .‬واألمهية الثقافية للقرآف الكرمي مقررة تارخيياً ومعرفياً‪ ،‬والوعي هبا تعزز كثَت‬ ‫من الشواهد اليت حفلت هبا الكتب وعززهتا ثقافات الشعوب اؼبسلمة على امتداد العامل‬

‫اإلسبلمي‪.‬‬

‫‪ -2‬منهجية التحليل‪:‬‬

‫وتستدعي خطورة اؼبسألة الثقافية خاصة يف تطوراهتا الراهنة البحث عن مدخل‬

‫منهجي يتميز باألصالة يف داللته على موضوع الثقافة‪ ،‬واؼبوضوعية يف تعامله مع احملتوى‬ ‫القرآين‪ ،‬ومشوله يف النظر إىل الظاهرة الثقافية يف أبعادها اؼبختلفة‪.‬‬ ‫وتعٍت مناهج التحليل الثقايف بدراسة اجملتمع وأمناط السلوؾ والعادات والتقاليد‬ ‫السائدة فيه والنظم واآلليات اليت ربكم نشاطه السياسي واالجتماعي واالقتصادي‪ ،‬كما‬ ‫تعٍت مداخل التحليل الثقايف بدراسة االدراكات والتصورات العقلية‪ ,‬والعبلقات القيمية‪ ،‬اليت‬ ‫تسود اجملتمع‪ ،‬واللغة وأساليب التعبَت اؼبستخدمة للتعبَت عن الذات والنفس واألخر‪ ،‬وتطور‬ ‫اؼبفردات والرموز‪...‬يف اؼبتخيل اللغوي والفكري والثقايف‪.‬‬ ‫و يسعى البحث الختبار فاعلية مناهج التحليل الثقايف يف التعامل مع القرآف الكرمي‬ ‫الذي تؤكد طبيعته التكوينية ابتداءً أنه ليس ظاهرة ثقافية‪ ،‬إنسانية اؼبنشأ‪ .‬فالقرآف الكرمي‬ ‫يتضمن يف طبيعته رسالة شاملة تستوعب اإلنساف يف أبعاد الكلية وخطاباً عاماً موجهاً إىل‬ ‫‪09‬‬


‫القرأن ومناهج التحلول الثقايف ‪ ،‬حنو مدخل منهجي ‪....‬‬

‫د‪.‬محمد بابكر العوض‬

‫الناس كافة وإىل اجملتمع البشري دبختلف تبايناته الثقافية واإلثنية‪ ،‬فهو رسالة متجاوزة غبدود‬ ‫الزماف واؼبكاف ‪ ..‬زباطب الثقافات األخرى سباماً ويف ذات الوقت وبذات القدر الذي‬ ‫زباطب فيه الثقافة العربية‪ ،‬بيئة التنزيل وؾبتمع اإلسبلـ األوؿ‪ .‬وهو ما يتطلب معرفة وتقدير‬ ‫للبعد الثقايف جملتمع الدعوة‪.‬‬

‫مناهج التحليل الثقافي‪:‬‬

‫ويفًتض البحث أ ّف مناهج التحليل الثقايف هي األقدر على ربقيق تلك الغايات‬ ‫اؼبشار إليها آنفاً‪ ،‬أوالً لكوهنا ال تتوقف يف حدود التعامل الوظيفي القائم على االستشهاد‬

‫اللغوي االستنباط الفقهي لؤلحكاـ أو ثانياً‪ :‬لداللة هذ اؼبداخل على اؼبتلقُت أكثر من‬ ‫داللت ها على احملتوى واؼبضموف فبا يعٍت إمكانية تفعيلها داخل وخارج الدائرة اإلسبلمية فبا‬ ‫يستوجب اختبارها الستبطاف الدالالت احملتملة لدى اؼبتعامل غَت اؼبسلم من القرآف‪ ،‬وثالثاً‬ ‫لداللتها على الرؤية الكلية الناظمة للمحتوى القرآين ومن مث بياف الرؤية القرآنية للموضوعات‬ ‫اؼبدروسة بإزاء الرؤى اآلخرى‪ ،‬اإلسبلمية منها وغَت اإلسبلمية وهو مطلب عزيز يف ظل‬ ‫التطورات الدراماتيكية للواقع اإلنساين‪.‬‬ ‫وديكن مبلحظة ندرة الدراسات القرآنية اليت تعتمد مبدأ التحليل الثقايف فمع توفر‬ ‫إشارات هنا وهناؾ للمحتوى واألثر الثقايف للقرآف الكرمي إال انه يندر وجودها ؾبتمعة حوؿ‬ ‫عنواف واحد‪ ،‬وديكن إرجاع ذلك إىل عدة اعتبارات منها‪:‬‬ ‫‪.1‬‬

‫تركيز الدراسات القرآنية اؼبعاصرة على اعبوانب العلمية (اإلعجاز) وإمهاؿ األبعاد‬ ‫الثقافية للخطاب العلمي اؼبتعلق بالقرآف‪.‬‬

‫‪.2‬‬ ‫‪.3‬‬

‫اإلعتقاد باف مفهوـ الثقافة مفهوـ غريب ال داللة له على احملتوى القرآين‬ ‫الصبغة العلمانية اليت وظبت معظم الدراسات الثقافية للقرآف‪.1‬‬

‫‪ 1‬ولعل منها كتاب ؿبمد شحرور "القرآف والكتاب"وكتاب آمنة ودود "القرآف والنساء إعادة قراءة النص‬ ‫اؼبقدس من وجهة نظر اؼبرأة" وكتاب اعبابري "مدخل إىل فهم القرآف"‪.‬‬ ‫‪09‬‬


‫تفكُّر ‪ ،‬جملد (‪ ،)31‬العدد (‪2013 ، )2-3‬م‪1434/‬هـ‬

‫علوم الوحي‬

‫‪ .4‬التحفظات اليت يبديها البعض ذبا هذا النوع من اؼبداخل ـبافة أف يفضي إىل تعزيز‬ ‫‪-3‬‬

‫التوجهات القائلة بظرفية وتارخيية القرآف‪.‬‬ ‫األسئلة المنهجية‪:‬‬

‫ويأيت هذا البحث ؼبقابلة صبلة من التساؤالت منها‪:‬‬

‫هل ناقش القرآف موضوع الثقافة؟ وما هي اؼبوضوعات الثقافية اليت ناقشها‬ ‫القرآف؟كي ف سبت معاعبة موضوع الثقافة يف الًتاث الفكري اإلسبلمي اؼبعاصر ؟وما موضع‬ ‫القرآف من تلك اؼبعاعبات؟ ما هي األسباب اليت أدت إىل ندرة الكتابات الثقافية حوؿ‬ ‫القرآف؟ ما هي اآلثار اليت تركها القرآف على الواقع الثقايف العريب واإلسبلمي؟ وهل صحيح‬ ‫أف القرآف قد أثر سلباً على أشكاؿ التعبَت الثقايف يف البيئة العربية (الشعر) ؟ وهل ديكن‬ ‫التربير أصولياً للمواقف اؼبتطرفة من الفن واألدب اليت يتخذها بعض اؼبسلمُت؟‬

‫إجابة على األسئلة اؼبنهجية جاءت ؿباور البحث لتضع اإلطار اؼبفاهيمي‬

‫للموضوع مناقشةً مفهوـ الثقافة يف إطار عبلقته دبفهومي الوحي والعلم‪ ،‬واستعرضت اؼبداخل‬

‫اؼبنهجية اليت استخدمها الباحثوف اؼبسلموف ؼبعاعبة اؼبوضوع‪ ،‬وعرب استعراض العنصر‬

‫األساسية للثقافة سعى البحث لتعريف النمط الثقايف القرآين‪.‬‬ ‫وبُت هذا وذاؾ كبتاج إىل وقفة على الدالالت اؼبباشرة ؼبفهوـ الثقافة يف اؼبستويات‬ ‫التداولية السائدة‪ ،‬فمعلوـ أف الثقافة دبفهومها ومنطوقها التداويل القائم هي مصطلح إنساين‬ ‫أصلت له الثقافة الغربية بعمق واتساع كونه مفهوماً داالً على جوهر تلك الثقافة الدنيوية‪ ،‬إال‬

‫أف له داللته العامة على التجربة اإلنسانية بإصباؿ وتعينت كلمة ثقافة (‪ )Culture‬مفردة‬ ‫ذات داللة موجبة يف حياة اإلنساف اؼبعاصر باتنمائاته اؼبختلفة‪.‬‬

‫‪ -1‬فكرة الثقافة وطبيعتها‪:‬‬

‫وقد سبت معاعبة مفهوـ الثقافة يف النسقُت العريب والغريب على كبو ال كبتاج معه‬

‫سوى ؾبرد التذكَت ببعض اؼبسائل اؼبتعلقة باؼبفهوـ‪ ،‬فالثقافة باعتبارها مفهوماً معاصراً فإهنا ببل‬ ‫‪09‬‬


‫القرأن ومناهج التحلول الثقايف ‪ ،‬حنو مدخل منهجي ‪....‬‬

‫د‪.‬محمد بابكر العوض‬

‫شك مل ترد ‪-‬دبعناها اغبايل‪ -‬يف القرآف فكلمة ثقافة اؼبتداولة عربياً اليوـ ما هي إال ؿباولة‬ ‫لتعريب كلمة (‪ )Culture‬الواردة من الثقافات الغربية‪ ،‬ومن مث فإف ؿباوالت التقريب بُت‬ ‫مفهوـ الثقافة وما ورد يف القرآف من مادة "ثقف" تبدو ؿباوالت غَت ؾبدية‪ .‬ومكمن اؼبفارقة‬ ‫أف الثقافة (‪ )Culture‬يف التجربة الغربية تبدو أكثر التصاقاً بالطبيعة (‪ )Nature‬تلهمها‬ ‫وتصنعها‪ ،‬تصوغها وتضبط ـبرجاهتا‪ ،‬فاإلنساف مهما تسامى فهو وفق هذ الرؤية "ابن‬

‫للطبيعة ويبقى دائماً جزءاً منها"‪.1‬وهو ما كرس له العلم اؼبعاصر عرب الرؤية الدارونية اليت‬ ‫زبتزؿ الفرؽ بُت اإلنساف واغبيواف يف كوف اإلنساف ديشي منتصباً ويستخدـ يف تواصله اللغة‬ ‫الرمزية واؼبنطوقة‪ .‬والثقافة اليت ال تضع نصب عينيها التغيَت سوؼ تؤوؿ إىل التفاهة كما يقوؿ‬

‫تَتي إجيلتوف‪ ،‬الذي يعرض مفهوماً متقدماً للثقافة حُت يعترب أف "فكرة الثقافة هي اليت تنقلنا‬ ‫من الطبيعي إىل الروحي"ولكنه سرعاف ما يعود بنا إىل نقطة "داروف" حُت يستطرد‬

‫قائبلً"واغباجة إىل الثقافة هي اليت تنقلنا من الطبيعي إىل الروحي‪ ،‬واغباجة إىل الثقافة تشَت‬

‫إىل وجود ضرب من النقص واالفتقار يف الطبيعة‪،‬كما تشَت إىل قدرتنا على االرتقاء إىل ذراً‬ ‫ال تطوؽبا بقية نظرائها من ـبلوقات الطبيعة‪،‬هي أمر ضرور يفرضه شرطنا الطبيعي‪ ،‬الذي هو‬

‫شرط غَت طبيعي إىل حد بعيد قياساً بشرط أولئك النظراء"‪.2‬‬

‫جيب أف ننتبه إىل أ ّف موضوع الثقافة هو التعبَت عن اإلنساف كذات؛ كما أنه يف‬ ‫الوقت نفسه تعبَت عن اؼبشروع اإلنساين؛ اذباهاته آماله وطموحاته‪ ،‬فبا يكسب التعبَت‬

‫الثقايف غائية تستهدؼ تغيَت الواقع وإعادة توجيهه كبو اهداؼ عليا وقد يتم تعريف الثقافة‬ ‫من أفق مناظر لسابقه بأهنا هي عمل اإلنساف واػبلق هو عمل اهلل " َواللَّهُ َخلَ َق ُك ْم َوَما‬ ‫تَػ ْع َملُو َف‪(.‬الصافات‪ .")96:‬أف اػبلق واألمر يف اؼبفهوـ القرآين يشَتاف (غالباً) إىل الفعل‬

‫‪ 1‬جيوفيتش‪ ،‬علي عزت‪ :‬اإلسبلـ بُت الشرؽ والغرب‪ ،‬دار بافاريا‪،‬ص‪.47‬‬ ‫‪ 2‬إجيلتوف‪،‬تَتي ‪ :‬فكرة الثقافة ‪ ،‬ص ‪.22‬‬ ‫‪09‬‬


‫تفكُّر ‪ ،‬جملد (‪ ،)31‬العدد (‪2013 ، )2-3‬م‪1434/‬هـ‬

‫علوم الوحي‬

‫اإلؽبي بينما اإلبداع والثقافة دبعنامها الوضعي يدالف على الفعل اإلنساين فصح قولنا (اهلل‬ ‫خيلق واإلنساف يصنع الثقافة)‪.‬‬ ‫وتأسيساً على ما سبق من مقدمة ومسلمات يصبح مدار هذا البحث النظر يف‬ ‫مواضع إشارة الوحي اإلؽبي إىل الفعل اإلنساين‪ ،‬واستخبلص اإلشارات والعبارات ذات‬ ‫الداللة على اؼبسألة الثقافية فيه‪.‬‬

‫ثانياً ‪:‬كيف تمت معالجة موضوع الثقافة إسالمياً؟‬ ‫ولعلنا نزداد قناعة بأمهية الوحي القرآين يف مثل موضوع البحث إذا ما استعرضنا‬

‫مضامينه اؼبعرفية يف سياؽ التاريخ والتجربة اإلنسانيُت‪ .‬حيث سبثل مسألة الثقافة باعتبارها‬ ‫حقيقة وجودية مبلزمة غبياة اإلنساف أفقاً تتجلى عليه الفروؽ يف الرؤية بُت اؼبنظور القرآين‬ ‫واؼبادي لئلنساف‪ ،‬فئلنساف يولد باستعداد بايولوجي للتفاعل االجتماعي والتواصل الرمزي مع‬ ‫ؿبيطه‪،1‬ؾبهزاً لدور الثقايف ورسالته يف اغبياة ومهيئاً للتلقي وقاببلً للتوجيه وقد روى البخاري‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬ ‫(ما م ْن َم ْولُود إِالَّيُولَ ُد َعلَى الْفطَْرةِ‪ ،‬فَأَبػَ َوا ُ‬ ‫يف صحيحه عن رسوؿ اهلل ‪ ‬أنه قاؿ‪َ :‬‬ ‫صَرانِ​ِه أ َْو ُديَ ِّج َسانِ​ِه)‪.‬‬ ‫يػُ َه ِّوَدانِ​ِه أ َْو يػُنَ ِّ‬ ‫وإذا كاف من احملاؿ تصور وجود الناس يف هيئة ذوات مفردة صامتة معزوؿ بعضها‬ ‫عن بعض‪ ،‬فإ ّف من احملاؿ أيضاً وجود اجتماع إنساين ال يسفر عنه منط ثقايف وتعبَت عن‬ ‫خصوصية سبيز ذلك االجتماع عن سائر اجملموعات البشرية األخرى وقد جعل اهلل هذا‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫اجا َولَ ْو َشاء اللّهُ‬ ‫الشعور باػبصوصية االجتماعية هبة إؽبية " ل ُك ٍّل َج َع ْلنَا من ُك ْم ش ْر َعةً َومْنػ َه ً‬ ‫ػكن لِّيبػلُوُكم ِيف مآ آتَا ُكم فَاستبِ ُقوا اػبيػر ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ات إِ َىل اهلل مرِجع ُكم َِ‬ ‫صب ًيعا‬ ‫َْ‬ ‫َعبَ َعلَ ُك ْم أ َُّم ًة َواح َد ًة َولَ َْ َ ْ َ‬ ‫َْ ُ ْ‬ ‫َْ َ‬ ‫فَػيُػنَبِّئُ ُكم ِدبَا ُكنتُ ْم فِ ِيه َزبْتَلِ ُفو َف(اؼبائدة‪ ")48 :‬وتشكل الثقافة األفق األوؿ الذي يتمظهر عليه‬ ‫هذا التباين بُت اجملموعات اإلنسانية‪ .‬ولكننا ويف حدود هذا البحث سنعمد إىل استعراض‬ ‫‪1‬‬ ‫ِ‬ ‫ص َار َو ْاألَفْئِ َد َة قَلِ ًيبل َّما تَ ْش ُك ُرو َف ‪ 23‬قُ ْل‬ ‫َنشأَ ُك ْم َو َج َع َل لَ ُك ُم َّ‬ ‫‪ ‬قُ ْل ُه َو الَّذي أ َ‬ ‫الس ْم َع َو ْاألَبْ َ‬ ‫ُه َو الَّ ِذي َذ َرأَ ُك ْم ِيف ْاأل َْر ِ‬ ‫ش ُرو َف‪ ) ‬اؼبلك ‪. (24 ، 23 :‬‬ ‫ض َوإِلَْي ِه ُْرب َ‬

‫‪09‬‬


‫القرأن ومناهج التحلول الثقايف ‪ ،‬حنو مدخل منهجي ‪....‬‬

‫د‪.‬محمد بابكر العوض‬

‫بعض الكتابات اإلسبلمية اؼبعاصرة لتبُت مدى حضور اؼبنظور القرآين يف ثنايا تلك‬ ‫اؼبعاعبات للموضوع‪.‬‬ ‫لقد شغل موضوع الثقافة اهتمامات عدد من اؼبفكرين اؼبسلمُت منهم على سبيل‬ ‫اؼبثاؿ اؼبفكر اعبزائري مالك بن نيب الذي نشر كتاباته ضمن سلسلة بعنواف (مشكبلت‬ ‫اغبضارة) وقد شغلت اؼبسألة الثقافية حيزاً مقدراً يف كتاباته خاصة كتاب شروط النهضة‬

‫الصادر عاـ‪1948‬ـ‪ ،‬وكتاب مشكلة الثقافة الصادر يف العاـ ‪1958‬ـ ‪ .‬وديكن أ ّف نعترب‬ ‫كتابه الظاهرة القرآنية ‪1946‬ـ من الدراسات اؼبتقدمة يف ؾباؿ التحليل الثقايف للقرآف الكرمي‬ ‫وقد تنبأ يف كتابه "رسالة اؼبسلم يف الربع األخَت من القرف العشرين" الصادر ‪1973‬ـ‬ ‫باهنيارات كربى لبلنساؽ الثقافية اؼبادية‪ .‬وهو ما ربقق فعبلً يف العقد األخَت من ذلك القرف‬

‫اؼبيبلدي وكاف من شبراته أف انفسح األفق أماـ اؼببليُت من الشعوب اؼبسلمة اؼبغيبة يف غياهب‬

‫الشيوعية يف االرباد السوفييت وغرب أوروبا‪ ،‬وكاف من شبرات ذلك ظهور االستاذ علي عزت‬

‫بيجوفيتش ‪1‬كقائد ربرري صلب وصاحب واحدة من أنضج الكتابات اإلسبلمية حوؿ‬ ‫مفهوـ الثقافة عرب كتابه (اإلسبلـ بُت الشرؽ والغرب) هذا إىل جانب عدد كبَت من‬ ‫الكتابات احملدثة اليت اهتمت بدراسة اؼبسألة الثقافة يف إطار مستقل إال انه كما ذكرنا ندر‬ ‫أف تتم معاعبة قضية الثقافة يف إطار قرآين إال يف حاالت نادرة منها احملاولة اعبادة للكاتب‬ ‫السعودي زكي اؼبيبلد الذي أكد أف القرآف الكرمي قد حوى إشارات مهمة تستدعي التوقف‬ ‫عندها والبدء منها لتحليل فكرة الثقافة ومع أمهية هذ اإلشارات إال انه من النادر اإللتفات‬ ‫إليها والكشف عن قيمتها يف الكتابات العربية واإلسبلمية اليت عاعبت فكرة الثقافة ‪ ..‬ولعل‬ ‫ذلك –حسب اؼبيبلد‪ -‬فبا يفسر الضعف العلمي والتأخر اؼبنهجي ‪ ..‬يف ؾباؿ فكرة أو‬ ‫نظرية الثقافة‪.2‬‬

‫‪" 1‬اوؿ رئيس عبمهورية البوسنة واؽبرسك"‬ ‫‪ 2‬زكي اؼبيبلد‪ :‬اؼبسألة الثقافية ‪،‬ص‪218‬‬ ‫‪09‬‬


‫تفكُّر ‪ ،‬جملد (‪ ،)31‬العدد (‪2013 ، )2-3‬م‪1434/‬هـ‬

‫علوم الوحي‬

‫ولعل كثَت من هذ األطروحات اإلسبلمية ؼبوضوع الثقافة جاءت يف إطار اؼبدافعة‬ ‫مع تيارات فكرية أخرى ظلت تنظر إىل األصوؿ اإلسبلمية باعتبارها روافد ؼبشكل العقل‬ ‫الع ريب واإلسبلمي‪ ،‬بذات القدر حاولت بعض مدارس التغيَت إرجاع مشكل الثقافة يف العامل‬ ‫العريب واإلسبلمي إىل التفكَت األصويل‪ ،‬والربط سببياً بُت النظرة التقديسية للقرآف وتدين‬ ‫الذوؽ الفٍت لدى بعض اؼبنتسبُت لئلسبلـ‪ ،‬ولعل ما أثَت حوؿ كتاب طه حسُت (يف الشعر‬ ‫اعباهلي) ديثل منوذجاً للحالة اؼبذكورة‪.‬‬

‫ولعل التقليد اعباري يف سياؽ مثل هذ الدراسات والذي لن نتخطا وكبن نتلمس‬

‫موضوع الثقافة يف القرآف الكرمي يتمثل يف ربديد عناصر الثقافة حيث يربز إدوارد تايلور‬ ‫بتعريفه األشهر على مستوى الفكر الغريب وهي البيئة اليت تولد عنها اؼبفهوـ مقارنُت له دبا‬ ‫قدمه عامل االجتماع التونسي ؿبمود الذوادي حوؿ مفهوـ الرموز الثقافية من ناحية أكادديية‬ ‫والتحديد الذي وضعه زكي اؼبيبلد لآليات األكثر داللة على موضوع الثقافة من ناحية‬ ‫تأصيلية‪.‬‬ ‫لقد أسهم تيلور كما ذكرنا إسهاماً كبَتاً يف تطوير الدراسات الثقافية والدراسات اؼبقارنة‬

‫لؤلدياف وكاف أحد رواد االذبا التطوري‪،‬ومن أبرز اؼبؤيدين للنظرية البيولوجية يف نظرهتا‬ ‫لئلنساف‪ .‬ويرى تايلور أف الثقافة تطورت من الشكل غَت اؼبعقد إىل األشكاؿ اؼبعقدة مبدياً‬ ‫اتفاقه مع مورغاف بشأف مراحل التتابع الثقايف من الوحشية إىل الرببرية فاؼبدنية‪ .‬وكاف كتابه‬ ‫"أحباث يف التاريخ اؼببكر للبشرية وتطور اؼبدنية" يف عاـ ‪ 1869‬والذي أعقبه كتابه”اجملتمع‬ ‫البدائي”يف عاـ ‪ 1871‬قد انطلقا من وجهة نظر تطورية‪.‬ويرجع الفضل إىل تايلور يف ابتكار‬ ‫مصطلح الثقافة مفهوماً أنثروبولوجياً حبسبانه“ كل ما يفهم من العلم والعقيدة‪ ،‬والفن‬ ‫واألخبلؽ‪ ،‬والتقاليد واألعراؼ‪ ،‬وأية قدرات أخرى يكتسبها اإلنساف بصفته عضواً يف‬ ‫ؾبتمع”‪.‬وقد ُع َّد تعريف تايلور للثقافة يف حينه أحد أهم التعريفات لكنه ومع تقدـ اؼبناهج‬ ‫العلمية وتوسع األحباث والدراسات اؼبيدانية مل يعد هذا التعريف مناسباً‪ .‬تبدو ؿبدودية هذا‬ ‫‪09‬‬


‫القرأن ومناهج التحلول الثقايف ‪ ،‬حنو مدخل منهجي ‪....‬‬

‫د‪.‬محمد بابكر العوض‬

‫التعريف يف كونه اعتمد على الدراسات االثنوغرافية الوصفية اليت سجلها الرحالة ومل يتجاوز‬ ‫ؾبرد كونه سرداً وصفي لعناصر الثقافة وؿبتواها‪.‬‬

‫‪1‬‬

‫ويف تصنيفه للرموز الثقافية يبدو واضحاً أف ؿبمود الذوادي تأثر بتعريف تيلور‬ ‫السابق فقاـ بتعريف الثقافة بأهنا "ذلك الكل اؼبتمثل يف اللغة والفكر والدين واؼبعرفة‪/‬العلم‬ ‫والقوانُت والقيم واألعراؼ الثقافية‪ ،‬اليت لن نستجلي خبايا السلوؾ البشري بدوف أولوية‬ ‫الرجوع إليها ‪،‬إذ اإلنساف كائن رموزي ثقايف بالطبع‪ ،‬يتناوؿ ككل مركب "‪ 2‬وقد حاوؿ‬

‫الذوادي كما تشَت الدراسات اؼبختلفة اليت أجراها واليت اجريت حوؿ نظرية الرموز الثقافية‬ ‫ومن موقعه كعامل اجتماع أف يوائم بُت الرؤية اإلسبلمية والرؤية األكادديية ؼبفهوـ الثقافة‪.‬‬ ‫ومن خبلؿ انشغاله األساسي دبوضوع اؼبقاربة القرآنية ؼبوضوع الثقافة حصر زكي‬ ‫‪3‬‬ ‫ض ُه ْم‬ ‫آد َـ األ ْ‬ ‫َظبَاء ُكلَّ َها ُمثَّ َعَر َ‬ ‫اؼبيبلد اإلشارات القرآنية للثقافة يف طبس آيات ‪:‬هي ‪َ ‬و َعلَّ َم َ‬ ‫َظباء هػؤالء إِف ُكنتم ِ ِ‬ ‫َعلَى الْ َمبلَئِ َك ِة فَػ َق َ‬ ‫اؿ أنبؤين بِأ َْ َ ُ‬ ‫صادق َ‬ ‫ُت ‪(‬البقرة‪" )31 :‬و ‪ ‬فَِإ َذا َس َّويْػتُهُ‬ ‫ُْ َ‬ ‫ِ​ِ‬ ‫ونػَ َفخ ِ ِ ِ ِ‬ ‫ك الَّ ِذي َخلَ َق ‪‬‬ ‫اس ِم َربِّ َ‬ ‫َ ْ ُ‬ ‫ين‪( ‬اغبجر‪" )29:‬و‪ ‬اقْػَرأْ بِ ْ‬ ‫ت فيه من حروحي فَػ َقعُواْ لَهُ َساجد َ‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬ ‫ت َوفَػ ْرعُ َها ِيف‬ ‫َصلُ َها ثَابِ ٌ‬ ‫ف َ‬ ‫(العلق ‪")1:‬و‪‬أَ َملْ تَػَر َكْي َ‬ ‫ب اللّهُ َمثَبلً َكل َم ًة طَيِّبَةً َك َش َجرةٍ طَيِّبَة أ ْ‬ ‫ضَر َ‬ ‫ِ‬ ‫السماء‪( ‬إبراهيم ‪" )24:‬و‪ ‬فِطْرَة اللَّ ِه الَِّيت فَطَر النَّاس علَيػها َال تَػب ِد ِ‬ ‫ك‬ ‫يل ػبَْل ِق اللَّ ِه َذل َ‬ ‫َ َ َ َْ‬ ‫َّ َ‬ ‫َ‬ ‫ْ َ‬ ‫ِّين الْ َقيِّ ُم َولَ ِك َّن أَ ْكثَػَر الن ِ‬ ‫َّاس َال يَػ ْعلَ ُمو َف‪ (‬الروـ‪)30 :‬وتستحق عملية حصر واختيار‬ ‫الد ُ‬ ‫اآليات الدالة على الثقافة –اليت قاـ هبا اؼبيبلد‪ -‬نظراً متأنياً وهو ما مل تسعفنا حدود هذا‬ ‫البحث يف القياـ به‪.‬‬

‫‪/http://www.aranthropos.com 1‬‬ ‫‪2‬ؾبلػػة ‪ :‬اؼبنار اعبػػديد (عدد‪33:‬ص‪)43 :‬السنة التاسعة ؿبرـ ‪1427:‬هػ ‪ -‬يناير‪2006:‬ـ ‪ .‬بػػعنواف ‪:‬‬ ‫" مػػفاهيم عربػػية جديدة يف العلوـ االجتماعية "‪.‬‬ ‫‪ 3‬أنظر‪ :‬اؼبيبلد‪ ،‬زكي‪ :‬اؼبسألة الثقافية من أجل بناء نظرية يف الثقافة‪،‬اؼبركز الثقايف العريب(بَتوت‬ ‫‪2005‬ـ)‪ .‬ص‪218‬‬ ‫‪00‬‬


‫تفكُّر ‪ ،‬جملد (‪ ،)31‬العدد (‪2013 ، )2-3‬م‪1434/‬هـ‬

‫علوم الوحي‬

‫ومن مث فإننا ودوف مزيد من اعبدؿ حوؿ مفهوـ الثقافة إىل سرد صبلة العناصر‬ ‫الواردة يف احملاوالت الثبلث لكل من تيلور والذوادي واؼبيبلد يف‪ :‬الفطرة والطبيعة األولية‪،‬‬ ‫اؼبعتقدات والعبادات‪،‬اؼبعارؼ والعلوـ‪ ،‬والفنوف‪ ،‬السلوؾ واألخبلؽ ‪،‬القانوف واألعراؼ‬ ‫والعادات والتقاليد‪.‬‬ ‫القرآف‬ ‫ِ‬ ‫َّ ِ َّ‬ ‫َّاس‬ ‫فطَْرةَ الله ال ِيت فَطَ​َر الن َ‬ ‫َعلَْيػ َها‬ ‫َظبَاء ُكلَّ َها‬ ‫آد َـ األ ْ‬ ‫َو َعلَّ َم َ‬ ‫ت فِ ِيه ِمن‬ ‫فَِإ َذا َس َّويْػتُهُ َونػَ َف ْخ ُ‬ ‫حر ِ‬ ‫وحي‬ ‫ك الَّ ِذي َخلَ َق‬ ‫اس ِم َربِّ َ‬ ‫اقْػَرأْ بِ ْ‬

‫زكي اؼبيبلد‬

‫تيلور‬

‫الذوادي‬

‫الفطرة‬ ‫تعليم األظباء‬

‫اللغة‬

‫التكرمي اإلؽبي‬

‫والدين‬

‫والعقيدة‬

‫بالنفخ والسجود‬ ‫العلم‬

‫إقرأ‬

‫واؼبعرفة العلم‬

‫والفكر‬

‫ب اللّهُ َمثَبلً كلمة طيبة‬ ‫ف َ‬ ‫"أَ َملْ تَػَر َكْي َ‬ ‫ضَر َ‬ ‫َكلِ َمةً طَيِّبَةً َك َش َجرٍة طَيِّبَ ٍة‬ ‫ت َوفَػ ْرعُ َها ِيف‬ ‫َصلُ َها ثَابِ ٌ‬ ‫أْ‬ ‫الس َماء"‬ ‫َّ‬

‫والقيم‬

‫األخبلؽ‬

‫واألعراؼ‬

‫والتقاليد‬ ‫واألعراؼ‬

‫‪999‬‬

‫الرموز الثقافية‬

‫الفن‬

‫القوانُت‬

‫القوانُت‬


‫القرأن ومناهج التحلول الثقايف ‪ ،‬حنو مدخل منهجي ‪....‬‬

‫د‪.‬محمد بابكر العوض‬

‫سنبلحظ من خبلؿ التحليل اؼبفهومي السابق أف الثقافة دبا هي فعل إنساين‪ ،‬ومنجز‬ ‫بشري ورؤية للعامل‪ ،‬يعاد تكييفها قرآنياً على كبو كلي‪ ،‬حيث يبدو التداخل بُت الرؤية‬ ‫القرآنية للعامل واؼبنظور البشري على كبو دينح الثقافة أبعاداً ال ديكن استحضارها يف إطار‬

‫اؼبنظورات األخرى‪ ،‬وهو ما توسع اؼبفكر الياباين (توشيهيكو ايزوتسو) يف بيانه يف كتابه "اهلل‬ ‫و اإلنساف يف القرآف‪ :‬علم داللة الرؤية القرآنية للعامل رؤية من اػبارج للداخل"‪ .‬مقاربة جريئة‬ ‫تعاملت مع القرآف باعتبار رؤية مستقلة للعامل ومعتربًة إيا توثيقاً للحوار والتواصل بُت اهلل‬ ‫اػبالق واإلنساف اؼبخلوؽ‪ ،‬وقد اشتبك الكاتب مع اخطر اؼبشتبهات الثقافية يف الوحي‬ ‫القرآين بداً دبسألة التواصل بُت أفقي الوجود اؼبطلق للخالق والوجود النسيب للمخلوؽ عرب‬ ‫ظاهرة الوحي فمسألة اللغة موازناً بُت عاؼبية القرآف وخصوصية اللغة اليت نزؿ هبا‪.‬‬ ‫ويرى (إيزوتسو) أف أكثر الصفات اليت سبيز األدياف الثبلثة الكربى ذات األصوؿ‬

‫السامية – اليهودية واؼبسيحية واإلسبلـ – هي تلك النظرة الشائعة فيها من أف اؼبصدر‬ ‫التارخيي اغبقيقي والضامن النهائي لصدؽ ذبربة اؼبؤمنُت الدينية يتمثل يف حقيقة أساسية هي‬ ‫أف اهلل قد أظهر نفسه من خبلؿ اللغة‪ ،‬وأف ذلك مل يتم بلغة غَت إنسانية غامضة ‪ ،‬بل بلغة‬ ‫مبينة قابلة للفهم‪ ،‬وهذ هي اغبقيقة األوىل واغباظبة‪ ،‬فمن دوف هذا الفعل األساسي من‬ ‫جانب اهلل ‪ ،‬لن يكوف شبة دين حقيقي على األرض ‪ ،‬وفقاً للفهم اإلسبلمي لكلمة دين ‪..‬‬

‫فقد ظهر اإلسبلـ عندما تكلم اهلل ‪ .‬والثقافة اإلسبلمية كلها بدأت مع الواقعة التارخيية اليت‬ ‫تتمثل يف أف اهلل خاطب اإلنساف باللغة اليت يتكلمها هو ‪ .‬إف هذ ليست ؾبرد مسألة إله "‬

‫ينزؿ " كتاباً كردياً ‪ ،‬إذ تعٌت بصورة أساسية ‪ ،‬أف اهلل قد تكلم ‪ ،‬وهذا هو بالضبط ما تعنيه‬

‫كلمة " وحي"‪.‬‬

‫‪1‬‬

‫‪ 1‬أنظر‪ .‬إيزوتسو‪ ،‬توشيهيكو ‪ :‬اهلل واإلنساف يف القرآف الكرمي‪ ،‬ترصبة هبلؿ جهاد‪ .‬اؼبنظمة العربية للًتصبة‬ ‫‪ ،‬بَتوت ‪2007‬ـ‪.‬‬ ‫‪999‬‬


‫تفكُّر ‪ ،‬جملد (‪ ،)31‬العدد (‪2013 ، )2-3‬م‪1434/‬هـ‬

‫علوم الوحي‬

‫ويعتقد ايزوتسو أ ّف للوحي يف السياؽ القرآين وجهُت ؽبما األمهية نفسها‪ :‬أحدمها‬ ‫يتعلق بكونه مفهوـ " كبلـ " باؼبعٌت التقٍت الضيق للمصطلح يف سبيز عن اللغة " اللساف " ‪،‬‬ ‫واآلخر م تعلق حبقيقة أف اهلل اختار العربية من بُت كل اللغات الثقافية يف ذلك العصر ‪،‬‬ ‫عمداً ال اتفاقاً ‪ ،‬لكي تكوف إداة الكبلـ اإلؽبي ‪ ،‬كما يؤِّكد القرآف يف مواضع عدة ‪ ..‬إف‬ ‫كبلً من هذين الوجهُت كاف له أصداء عميقة يف تاريخ الفكر اإلسبلمي ‪ ..‬ومن خبلؿ‬ ‫التفاعل الضروري بُت الوحي اإلؽبي والعلم البشري والتنسيق الدقيق بُت (مطلقية) حكم‬ ‫القرآف الكرمي و(مرونة) حكمة السنة اؼبطهرة و(دينامية) الواقع البشري اؼبتمادي يف صَتورته‬ ‫وتطور وكدحه إىل اهلل تعاىل تتولد اؼبعرفة اإلسبلمية متخذاً معناها اػباص وتنمو وتتجدد‬ ‫وتكتسب أهم خصائصها دبوازنتها بُت اإلطبلقية والظرفية وبُت الربانية واإلنسانية وبُت‬ ‫الثبات والتطور ليصبح العلم تبعاً لذلك مظهراً من مظاهر العبودية هلل‪ ،‬ال ذبلياً من ذبليات‬

‫الصراع الوجودي بُت اإلله واإلنساف كما تقوؿ الوضعية‪ ..‬إ ّف خلود الرسالة اإلسبلمية‬ ‫وامتدادها زماناً ومكاناً رهن هبذا التفاعل اػببلؽ القادر على توليد العلم التوحيدي واإليفاء‬ ‫باالحتياجات اؼبعرفية اؼبتجددة لئلنساف؛ وهذا معٌت أساسي يعطي كلمة علم بُت تعريف‬

‫تيلور وتعريف اؼبيبلد داللتُت ـبتلفتُت بدرجة قد تصل غبد التناقض‪.‬‬ ‫إ ّف ما جيعل " الوحي " نوعاً خصوصياً وغَت طبيعي كهذا من الظاهرة اللغوية رغم‬ ‫تشكله من ذات مادة الكبلـ البشري هو أف اؼبتكلم فيه هو اهلل‪ ،‬واؼبستمع هو اإلنساف ‪.‬‬ ‫وهذا يعٍت أف " الكبلـ " هنا يتم بُت نظاـ وجود خارؽ للطبيعة ‪ ،‬ونظاـ وجود طبيعي ‪ ،‬لذا‬ ‫‪ ،‬فليس شبة توازف أو انسجاـ وجودي بُت اؼبتكلم والسامع ‪ .‬ففي كلمات األخذ والرد‬ ‫اؼبعتادة يكوف كل من اؼبتكلم والسامع على اؼبستوى نفسه من الوجود ‪ ،‬ويقفاف على أرضية‬ ‫التساوي األنطولوجي"‬ ‫ويستلزـ هنا التأكيد والتسليم بأف الوحي الكرمي ظاهرة وجودية متزامنة ومرتبطة مع‬ ‫وجود اإلنساف يف هذا الكوف‪ .‬وأف الوحي القرآين _ تأسيساً على اؼبسلمة السابقة _ ليس‬ ‫‪999‬‬


‫القرأن ومناهج التحلول الثقايف ‪ ،‬حنو مدخل منهجي ‪....‬‬

‫د‪.‬محمد بابكر العوض‬

‫منتجاً ثقافياً بأي حاؿ من األحواؿ؛ وهو وإف ارتبط باإلطار التنزيلي زماناً ومكاناً ومع‬ ‫اؼبعطيات الظرفية اجتماعية كانت أو تارخيية يظل وحياً إؽبياً‪ ،‬وشواهد ذلك ظاهرة يف ٍ‬ ‫كل من‬

‫األساليب والدالالت القرآنية‪ ،‬وهو ما يستدعي التمييز بُت البعدين اإلؽبي واالنساين يف تلك‬ ‫الظاهرة ومن مث الثقايف وغَت الثقايف يف عملية التواصل اليت أسس ؽبا القرآف بُت اإلنساف‬

‫وؿبيطه الوجودي بأبعاد اؼبوزعة بُت أفقي الغيب والشهادة‪.‬‬

‫الوحي اإللهي والرؤية اإلنسانية للعالم‪:‬‬

‫إ ّف بناء صورة حقيقية لئلنساف والعامل يتطلب إؼباماً كلياً دبجمل التجربة البشرية منذ‬

‫غبظة الوجود األوؿ إىل اللحظة الراهنة ؛واستيعاهبا وفق عقلية حكيمة؛ وبصَتة نافذة ؛قادرة‬ ‫على ذباوز ؿبددات الواقع ومعوقاته وتصور النتائج اؼبًتتبة على معطيات اغباضر و مآالته‪،‬‬ ‫واستكشاؼ قطاع أوسع من أفق اؼبستقبل‪ ،‬وهو أمر متعذر على إنساف مفرد ؿبكوـ‬ ‫دبحددات الزماف واؼبكاف‪ ,‬وؿبدودية التجربة اإلنسانية الظرفية‪ ,‬وهنا يكمن سبيز التصور‬ ‫اإلسبلمي للوجود اؼببٍت على الوعي بنسبية اؼبعرفة اإلنسانية وظرفية التجربة البشرية فبا‬ ‫استدعى تزويد هذا اإلنساف بضوء كاشف ونافذة منفتحة على أفق اؼبعرفة اؼبطلقة؛ ومد‬ ‫دبلكات تؤهله ؼبواجهة مصَت يف ؿبيط يكتنفه من الغيب أضعاؼ ما تظهر اؼبشهودات‪،‬‬ ‫وذلك من خبلؿ مركزية الوحي كمحدد رئيس من ؿبددات الرؤية اإلسبلمية للكوف‪ ،‬وتعُت‬ ‫العقل كأداة ضرورية للتعامل مع الوحي‪ ،‬والتأكيد على مبدأ التسخَت القاضي بقابلية الكوف‬ ‫للتحكم اإلنساين‪.‬‬ ‫ويعرؼ القرآف نفسه بإزاء اإلنساف‪ .‬كهدؼ للرسالة‪ .‬بأنه رسالة من اهلل عز وجل‬ ‫ّ‬ ‫الذي له اػبلق بإطبلؽ فكل ما صنع اإلنساف هو خلق اهلل‪ .‬وله األمر باطبلؽ وأعظم أمر‬ ‫الوحي الكرمي‪ ،‬اؼبتنزؿ على نبيه بواسطة أمُت الوحي جربيل ‪‬اللَّه الَّ ِذي خلَق سبع َظباو ٍ‬ ‫ات‬ ‫ُ‬ ‫َ َ َْ َ َ َ‬ ‫َوِم َن ْاأل َْر ِ‬ ‫َف اللَّهَ َعلَى ُك ِّل َش ْي ٍء قَ ِد ٌير َوأ َّ‬ ‫ض ِمثْػلَ ُه َّن يػَتَػنَػَّزُؿ ْاأل َْم ُر بػَْيػنَػ ُه َّن لِتَػ ْعلَ ُموا أ َّ‬ ‫َف اللَّهَ قَ ْد‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬ ‫نت‬ ‫ك أ َْو َحْيػنَا إِلَْي َ‬ ‫َحا َط بِ ُك ِّل َش ْيء ِع ْل ًما ‪(‬الطبلؽ‪َ  " ) 12:‬وَك َذل َ‬ ‫وحا ِّم ْن أ َْم ِرنَا َما ُك َ‬ ‫ك ُر ً‬ ‫أَ‬ ‫‪999‬‬


‫تفكُّر ‪ ،‬جملد (‪ ،)31‬العدد (‪2013 ، )2-3‬م‪1434/‬هـ‬

‫علوم الوحي‬

‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫اب َوَال ِْ‬ ‫َّك لَتَػ ْه ِدي‬ ‫َّشاء ِم ْن ِعبَادنَا َوإِن َ‬ ‫ورا نػ َّْهدي بِ​ِه َم ْن ن َ‬ ‫تَ ْد ِري َما الْكتَ ُ‬ ‫اإلديَا ُف َولَكن َج َع ْلنَا ُ نُ ً‬ ‫إِ َىل ِصر ٍ‬ ‫اط حم ْستَ ِقي ٍم‪ ‬الشورى ‪.52 :‬‬ ‫َ‬ ‫ويشكل الوحي قرآناً وسنةً موضوعاً رئيساً للمعرفة اإلسبلمية واهتماماً جوهرياً لثقافة‬

‫اؼبسلمُت وموجهاً قوياً غبركة األمة االجتماعية والسياسية واالقتصادية والثقافية‪ ..‬ويتعُت‬ ‫الوحي سبيبلً وحيداً للمعرفة القطعية الضرورية للفهم والتعامل اعباد مع اليقينيات والكليات‬ ‫والعقائد والغيبيات وما ال سبيل إىل إدراكه باغبواس اجملردة‪ ،‬حيث تبقى اؼبعرفة اؼبتحصلة بغَت‬ ‫طريق الوحي ومنها اؼبعرفة العقلية عاجزة عن النفاذ إىل جوهر اغبياة ؿبتبسة يف حدود السطح‬ ‫والظواهر مهما تعمقت هبا اؼبناهج وتعددت اؼبداخل؛كما تظل اؼبعرفة غَت اؼبعززة بسلطاف‬ ‫الوحي معرفة ظنية وإف ادعت االقًتاب من حدود اليقُت‪ ،‬وهي نقطة جوهرية للخبلؼ بُت‬ ‫بُت الرؤية اإلسبلمية للعامل ورؤى العامل األخرى‪.‬‬ ‫فمصدر القرآف ومنطلقه هو اهلل عز وجل ليس ألحد يف تكوينه من دور اللهم إال‬ ‫مهمة اإلببلغ‪ ،‬وهو تعريف مهم للتمييز بُت مستويات الوحي فمن الوحي ما يلهم اهلل معنا‬ ‫للعبد الذي يصوغ تلك اؼبعاين بكلمات من عند "كاغبديث القدسي"‪ .‬أما القرآف فهو إؽبي‬ ‫يف لفظه ومعنا ‪ ....‬ويتميز الوحي القرآين بانعقاد إصباع األمة على اختبلؼ طوائفها وفرقها‬ ‫ومذاهبها حوله من حيث حجيته التشريعية وطبيعته يف حُت زبتلف هبا اؼبذاهب فيما يتعلق‬

‫(بالسنة) من جوانب عدة‪ ..1‬ومن هنا يأخذ الوحي القرآين أمهيته اؼبعرفية وموقعه يف مركز‬

‫‪ 1‬ولسنا هنا بصدد طرح اؼبواقف الكبلمية من قضية حجية السنة اليت تعترب األصل الثاين من أصوؿ‬ ‫اإلسبلـ لدى عامة اؼبسلمُت وواحدة من ؿباور التمييز بُت الفرؽ واؼبذاهب اإلسبلمية‪ ،‬فإذا كاف‬ ‫االتفاؽ قائماً تقريباً حوؿ اآليات الدالة على معٌت السنة من مثل قوله تعاىل ‪‬وما ي ِ‬ ‫نط ُق َع ِن ا ْؽبَ​َوى‪،‬‬ ‫َ​َ َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫وحى‪( ‬سورة النجم‪ :‬اآليتُت ‪ )4 -3‬فإف مورد اػببلؼ نابع من تباين اآلراء حوؿ‬ ‫إ ْف ُه َو إَّال َو ْح ٌي يُ َ‬ ‫ما يعد من السنة ومن مصادرها ومرجعياهتا‪ ،‬واؼبوقف من اغبديث النبوي وطرقه يف الرواية والدراية‪ ،‬وكبو‬ ‫ذلك من خبلؼ ال قبد ما دياثله فيما يتعلق بالنص القرآين‪.‬‬ ‫‪999‬‬


‫القرأن ومناهج التحلول الثقايف ‪ ،‬حنو مدخل منهجي ‪....‬‬

‫د‪.‬محمد بابكر العوض‬

‫الوعي اإلسبلمي فبثبلً عنصر الثبات واألساس اؼبعريف اؼبشًتؾ بُت اؼبسلمُت وتأيت السنة حبكم‬

‫التغَت‪.‬‬ ‫التصاقها بالواقع البشري وتقلباته فبثلة لعنصر النسبية و ح‬

‫ويف ظل سيطرة االعتقاد بأ ّف (اؼبعرفة العقلية) هي مكتسب إنساين خالص ال يتحفظ‬

‫اإلنساف اؼبتعايل عن التصريح بأ ّف العلم هو أعظم إقباز بشري وأ ّف العقل وحد هو األداة‬ ‫اعببارة لتسخَت الكوف والتحكم فيه‪ ،‬إال انه كاف يبدو أكثر تواضعاً حياؿ حقيقة (اػبلق) و‬

‫أكثر ميبلً إىل االعتقاد بأ ّف قوة أعلى هي وحدها صاحبة االقباز والقدرة فيما يتعلق‬ ‫(باػبلق)‪ ،‬ومع ذلك فقد يتطور إحساسه بكسبه اؼبعريف وتتضخم ثقته يف امكاناته العلمية‬ ‫واإلدراكية لدرجة من الطغياف تنتهي به إىل إنكار بدهية اػبلق و إنكار وجود اػبالق نفسه‬ ‫يف بعض األحياف‪.‬‬ ‫من جانبه جاء القرآف ليقدـ حكماً جازماً بأيلولة كل من (اػبلق) و(اؼبعرفة) إىل اهلل‬ ‫اػبَْلق واألَمر تَػبارَؾ اللّه ر ح ِ‬ ‫ُت‪[ ‬األعراؼ آية ‪.] 54‬‬ ‫ب الْ َعالَم َ‬ ‫فيقوؿ ‪‬أَالَ لَهُ ْ ُ َ ْ ُ َ َ ُ َ‬

‫و(اػبلق يف القرآف الكرمي) هو إجياد األشياء اؼبادية من العدـ ومن أمهها اإلنساف‬ ‫السماو ِ‬ ‫َّاس َولَ ِك َّن أَ ْكثَػَر الن ِ‬ ‫ض أَ ْكبَػ ُر ِم ْن َخ ْل ِق الن ِ‬ ‫ات َو ْاأل َْر ِ‬ ‫َّاس َال‬ ‫والكوف يقوؿ تعاىل ‪َ :‬ػبَْل ُق َّ َ َ‬

‫يػَ ْعلَ ُمو َف‪ [ ‬غافر ‪ ] 57‬و(األمر) هو إجياد األشياء اؼبعنوية من العدـ ومن أهم هذ األشياء‬ ‫الوحي والعلم يقوؿ تعاىل‪ :‬اللَّه الَّ ِذي خلَق سبع َظباو ٍ‬ ‫ات َوِم َن ْاأل َْر ِ‬ ‫ض ِمثْػلَ ُه َّن يػَتَػنَػَّزُؿ ْاأل َْم ُر‬ ‫ُ‬ ‫َ َ َْ َ َ َ‬ ‫بػَْيػنَػ ُه َّن لِتَػ ْعلَ ُموا أَ َّف اللَّ َه َعلَى ُك ِّل َش ْي ٍء قَ ِد ٌير َوأ َّ‬ ‫َحا َط بِ ُك ِّل َش ْي ٍء ِع ْل ًما‪[ ‬الطبلؽ‬ ‫َف اللَّ َه قَ ْد أ َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫اب َوَال ِْ‬ ‫اإلديَا ُف‬ ‫ك أ َْو َحْيػنَا إِلَْي َ‬ ‫‪ ]12‬ويقوؿ‪َ  :‬وَك َذل َ‬ ‫وحا ِّم ْن أ َْم ِرنَا َما ُك َ‬ ‫نت تَ ْد ِري َما الْكتَ ُ‬ ‫ك ُر ً‬ ‫ولَ ِكن جع ْلنا نُورا نػَّه ِدي بِ​ِه من ن ِ ِ ِ‬ ‫َّك لَتَػه ِدي إِ َىل ِصر ٍ‬ ‫اط حم ْستَ ِقي ٍم ‪‬‬ ‫َْ َ‬ ‫َّشاء م ْن عبَادنَا َوإِن َ ْ‬ ‫َ​َ َ ُ ً ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫[الشورى ‪.]52‬‬ ‫وقد شكلت مفاهيم "اؼبعرفة" و"اػبلق" و"األمر" موضوعات رئيسة يف الوحي‬ ‫القرآين‪ ،‬ويستخدـ اػبطاب القرآين حاؿ حديثه عن اؼبعرفة اؼبكتسبة أسلوب اؼبقاربة واؼبقارنة‬ ‫بُت ثنائ يات (اػبلق والعلم) و(اػبلق واؼبعرفة) أما عند اغبديث عن اؼبعرفة اؼبطلقة اؼبتمثلة يف‬ ‫‪999‬‬


‫تفكُّر ‪ ،‬جملد (‪ ،)31‬العدد (‪2013 ، )2-3‬م‪1434/‬هـ‬

‫علوم الوحي‬

‫الوحي قبد يناظر مباشرة بُت (اػبلق واألمر)؛ وهو بذلك يؤِّكد على بدهية هامة مفادها أنه‬ ‫كما أ ّف اؼبخلوقات هي نتاج الفعل اإلؽبي فإ ّف اؼبعنويات واؼبفهومات واؼبدركات هي كذلك‬ ‫نتاج األمر اإلؽبي ‪ ..‬وأ ّف أمر اهلل ووحيه يستمر يف التنزؿ ورفد اؼبعرفة اإلنسانية سواء عن‬ ‫طريق الوحي اؼبباشر كما حيدث مع األنبياء والرسل‪ ،‬أو عرب طرؽ أخرى كاإلؽباـ الغريزي‬ ‫ِ‬ ‫ك إِ َىل النَّح ِل أ َِف َِّ‬ ‫ازب ِذي ِمن ِْ ِ‬ ‫َّج ِر َوِفبَّا‬ ‫للحيواف يقوؿ تعاىل ‪َ  :‬وأ َْو َحى َربح َ‬ ‫ْ‬ ‫اعببَاؿ بػُيُوتًا َوم َن الش َ‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫وسى أَ ْف أ َْر ِضعِ ِيه‪... . .‬‬ ‫يػَ ْع ِر ُشو َف‪ ‬النحل آية ‪ 68‬والتعليم قاؿ تعاىل‪َ  :‬وأ َْو َحْيػنَا إ َىل أ ُِّـ ُم َ‬ ‫[القصص آية ‪ ]7‬ويقوؿ أيضاً‪  :‬الَّ ِذي َعلَّ َم بِالْ َقلَ ِم ‪ [ ‬العلق آية ‪.]4‬‬ ‫وبالنظر إىل أوؿ ما نزؿ من القرآف ديكن أ ّف نتبُت اؼبعاين اؼبشار إليها آنفاً؛ فمن‬ ‫خبلؿ اؼبناظرة بُت مفهومي اػبلق والعلم قدمت سورة القلم (إقرأ) دعوة إىل التسليم بربانية‬ ‫ك الَّ ِذي َخلَ َق‪ ‬العلق‪ 1 :‬يف‬ ‫اس ِم َربِّ َ‬ ‫اؼبعرفة جنباً إىل جنب مع التسليم بربانية اػبلق ‪ ‬اقْػَرأْ بِ ْ‬ ‫ثبلث عبارات ـبتصرة استطردت السورة يف شرحها بعد ذلك مؤكدة على حقيقة التدخل‬ ‫اإلؽبي يف إجياد اؼبعرفة‪ ،‬لتحسم بذلك تساؤالً بشرياً هاماً حوؿ أصل اؼبعرفة اإلنسانية حُت‬

‫ربطتها منذ الوهلة األوىل دبسألة اػبلق قاضية بأف احملرؾ األوؿ هو ذاته اؼبعلم األوؿ؛ هو اإلله‬

‫األزيل اػبالد الذي خلق اػبلق األوؿ وأنشأ النشأة األوىل واستمر برعايته ولطفه يف هداية‬ ‫اإلنساف وتوجيهه يف صَتورته الدنيوية‪.‬‬ ‫وديثل العلم الصورة الظاهرية للمعرفة وهو يف التصور اإلسبلمي ينقسم إىل قسمُت‪:‬‬

‫القسم االول (علم مطلق) شامل يستوعب يف داخله الكليات واعبزئيات والغيوب والظواهر‬ ‫وما حدث وما مل حيدث وهو نوع من العلم ال جيوز يف اؼبعتقد اإلسبلمي نسبته‬

‫إال هلل‪ ،‬وألمهية هذا العلم لئلنساف يف مسَتته الوجودية فقد تعُت الوحي طريقاً‬ ‫وحيداً للتوصل إليه‪ .‬وأعلى مصادر درجة هو القرآف الذي يتطلب لبلستفادة‬ ‫من مضامينه ذهنية مستوعبة غبقيقة استناد الظواهر إىل عناصر منظورة‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ك الْ ِكتَاب الَ ري ِ ِ‬ ‫ُت‬ ‫(مشاهدة) وأخرى غَت منظورة (غيبية)‪‬ذَل َ‬ ‫ب فيه ُه ًدى لِّْل ُمتَّق َ‬ ‫ُ َْ َ‬ ‫‪999‬‬


‫القرأن ومناهج التحلول الثقايف ‪ ،‬حنو مدخل منهجي ‪....‬‬

‫د‪.‬محمد بابكر العوض‬

‫الَّ ِذ ِ ِ ِ‬ ‫(السنَّة) اليت‬ ‫َ‬ ‫ين يػُ ْؤمنُو َف بالْغَْيب‪" ‬البقرة آية ‪ "2-1‬وتلي القرآف يف الدرجة ُ‬ ‫سبثل آخر مراتب العلم اؼبطلق (دبا تتضمنه من الوحي) وأوؿ مراتب العلم‬

‫النسيب(دبا ربتويه من اجتهاد بشري معزز بالوحي)‪.‬‬

‫والقسم الثاني (علم نسيب) ظريف مكتسب يتولد خبلؿ تفاعل اإلنساف والوجود الكوين‬ ‫والبشري يف إطار اغبياة الدنيا وأعلى درجاته السنة النبوية تليه يف الدرجة‬

‫السنَّة ربتوي يف داخلها نوعُت من اؼبعارؼ‬ ‫اجتهادات األمة‪ .‬وهو ما يعٍت أف ُ‬ ‫بعضها يتسم باإلطبلقية لكونه وحياً واآلخر بالنسبية لكونه صادراً عن النيب‬ ‫بصفته البشرية احملضة أو ما أقر من أفعاؿ وأقواؿ اآلخرين فبا دينح السنة موقعاً‬ ‫وسطاً بُت العلم اإلؽبي اؼبطلق الذي سبثل موضع الطريق األوحد للوصوؿ إليه؛‬ ‫والعلم اإلنساين النسيب الذي تسعى باذبا إعادة تشكيله وفق معطيات العلم‬

‫اإلؽبي‪.‬‬

‫ثالثاً‪ :‬معالم النمط الثقافي القرآني‪:‬‬

‫يبُت القرآف منذ البداية أنه يسعى إىل إخراج منوذج بشري ذي خصائص واضحة‬

‫وؿبددة‪ ،‬وبالتايل فإف الثقافة دبا هي انعكاس للفعل اإلنساين اؼبادي واؼبعنوي كانت وستظل‬ ‫موضوعا رئيسياً للقرآف‪ ،‬الذي يطمح ؽبداية اإلنساف إىل النهج الذي يتيح له فهم اغبياة‬ ‫وتقديرها كمشروع جاد‪ ،‬ويؤهله ليؤمن باهلل كغاية عليا للكدح اإلنساين ويؤمن باإلنساف‬ ‫(فبثبلً يف الرسل) ومشروعه يف الوجود داعياً إىل ثقافة كونية تزدري اعبهل واػبرافة اؼبتمظهرة‬

‫يف النموذج "الوثٍت"دوف أف تنكر الغيب وتعوؿ على العلم والسنن والقوانُت دوف أف هتمل‬ ‫القدر‪.‬وترفض الظلم والعدواف دوف اف تدمن التمرد وسبتهن اػبروج على السلطاف‪,‬ولبياف معامل‬ ‫النمط الثقايف القرآين سنعرض يف البداية لفئة مثلت يف التاريخ اإلسبلمي ذبسيداً حياً للثقافة‬

‫القراء‪ ،‬مث نتجه مستفيدين من نتائج التأطَت اؼبنهجي السابق الستعراض‬ ‫القرآنية هم فئة ّ‬ ‫التصوير القرآين لبعض الرموز الثقافية‪.‬‬ ‫‪999‬‬


‫تفكُّر ‪ ،‬جملد (‪ ،)31‬العدد (‪2013 ، )2-3‬م‪1434/‬هـ‬ ‫‪-1‬‬

‫علوم الوحي‬

‫القراء كنموذج للمثقف القرآني‪:‬‬ ‫جماعة َّ‬

‫ال شك أ ّف النيب وأصحابه من اؼبهاجرين من أهل مكة واالنصار من أهل اؼبدينة قد‬

‫أسسوا لنمط االجتماع اإلسبلمي الذي جيسد معاين القرآف يف صورهتا التنزيلية‪ ،‬وهو ما‬ ‫وؿ اللَّ ِه‬ ‫بشرت به الكتب السماوية السابقة ووثق له القرآف الكرمي بقوله تعاىل‪ ‬حؿبَ َّم ٌد َّر ُس ُ‬ ‫َّ ِ‬ ‫ض َواناً‬ ‫ضبلً ِّمنَاللَّ ِه َوِر ْ‬ ‫ين َم َعهُ أ َِشدَّاء َعلَى الْ ُكفَّا ِر ُر َضبَاء بػَْيػنَػ ُه ْم تَػَر ُاه ْم ُرَّكعاً ُس َّجداً يػَْبتَػغُو َف فَ ْ‬ ‫َوالذ َ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ك َمثَػلُ ُه ْم ِيف التػ َّْوَراةِ َوَمثَػلُ ُه ْم ِيف ِْ‬ ‫اإل ِقب ِيل َكَزْرٍع‬ ‫اه ْم ِيف ُو ُجوه ِهم ِّم ْن أَثَ ِر ال حس ُجود ذَل َ‬ ‫يم ُ‬ ‫سَ‬ ‫ظ فَاستَػوى علَى سوقِ ِه يػع ِجب الحزَّراع لِيغِي َ ِ​ِ‬ ‫َخَر َج َشطْأَ ُ فَ َ‬ ‫أْ‬ ‫َّار َو َع َد اللَّهُ‬ ‫آزَرُ فَ ْ‬ ‫َ َ‬ ‫ظ هب ُم الْ ُكف َ‬ ‫استَػ ْغلَ َ ْ َ َ ُ ُ ْ ُ‬ ‫ِ‬ ‫الَّ ِذين آمنُوا وع ِملُو َّ ِ ِ ِ‬ ‫َجراً َع ِظيماً ‪ " (29(‬لقد شهد تاريخ العهد‬ ‫َ َ َ​َ‬ ‫االصاغبَات مْنػ ُهم َّم ْغفَرًة َوأ ْ‬ ‫األوؿ ذبليات عدة ؽبذا النمط البشري الذي أخرجه القرآف فبثبلً يف ؾبتمع اؼبدينة بعموـ ويف‬ ‫القراء خبصوص؛ وسبثِّل صباعة (القراء) حالة العكوؼ التخصصي على القرآف الكرمي وهو‬ ‫فئة ّ‬ ‫ما كاف يلقى من النيب نظرة خاصة وإف مل تصل الينا بشكل صريح إال أ ّف تقدير ألمهيتهم‬ ‫واضح يف كثَت من اؼبرويات منها ما يروى حوؿ مأساة بئر معونة فقد دعا النيب على القبائل‬ ‫اليت تآمرت على اغتياؽبم شهوراً عدداً ويورد البغوي يف تفسَت ‪َ ‬وَما َج َعلَهُ اللّهُ إِالَّ بُ ْشَرى‬ ‫لَ ُكم ولِتطْمئِ َّن قُػلُوب ُكم بِ​ِه وما النَّصر إِالَّ ِمن ِع ِ‬ ‫اغبَ ِكي ِم ‪ 126‬لِيَػ ْقطَ َع طَ​َرفًا ِّم َن‬ ‫ند اللّ ِه الْ َع ِزي ِز ْ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ْ َ​َ َ‬ ‫َ​َ ُْ‬ ‫الَّ ِذين َك َفرواْ أَو ي ْكبِتَػهم فَػين َقلِبواْ خآئِبُِت ‪ 127‬لَيس لَ َ ِ‬ ‫وب َعلَْي ِه ْم أ َْو‬ ‫َ ُ ْ َ ُْ َ ُ َ َ‬ ‫ك م َن األ َْم ِر َش ْيءٌ أ َْو يػَتُ َ‬ ‫ْ َ‬ ‫يػُ َع َّذبػَ ُه ْم فَِإنػ َُّه ْم ظَالِ ُمو َف ‪" 128‬آؿ عمراف‪ "128-126 :‬اختلفوا يف سبب نزوؿ هذ‬ ‫اآلية فقاؿ قوـ نزلت يف أهل بئر معونة وهم سبعوف رجبلً من القراء بعثهم رسوؿ اهلل ‪ ‬إىل‬ ‫أهل بئر معونة يف صفر سنة أربع من اؽبجرة على رأس أربعة أشهر من أحد ليعلموا الناس‬ ‫القرآف والعلم أمَتهم اؼبنذر بن عمرو فقتلهم"‪.1‬‬ ‫كما أ ّف هذ الفئة كانت ربظى بتقدير فباثل من اػبلفاء الراشدين فنجد عمر وهو‬ ‫على فراش اؼبوت يقوؿ لو كاف سامل موىل أيب حذيفة حياً لوليته‪ ،‬سنبلحظ أيضاً أف دور‬ ‫‪1‬البغوي ‪.349 /1،‬‬ ‫‪999‬‬


‫القرأن ومناهج التحلول الثقايف ‪ ،‬حنو مدخل منهجي ‪....‬‬

‫د‪.‬محمد بابكر العوض‬

‫هذ الفئة يأخذ يف التزايد كلما ابتعدنا عن اغبقبة النبوية ‪ .‬فقد كانت اجملموعة يف طليعة‬ ‫اؼبتصدين لظاهرة الردة اليت ظهرت يف باية عهد أيب بكر الصديق ففي حروب الردة استشهد‬ ‫منهم (‪ )700‬شهيد وقد ترتب على ذلك تفكَت اػبليفة الراشد يف صبع القرآف الذي أوكل‬ ‫به أعلم الصحابة بالقرآف "أيب بن كعب"‪.1‬‬ ‫وحىت يف عهد اػببلفة األموية لقيت ؾبموعة القراء اهتماماً كبَتاً من قبل القيادة‬ ‫السياسية" وقاؿ سبلـ أبو ؿبمد اغبماين إ ّف اغبجاج صبع (القراء واغبفاظ وال ُكتَّاب) فقاؿ‬ ‫اخربوين عن القرآف كله كم حرؼ هو قاؿ فحسبنا فأصبعوا أنه ثلثمائة ألف وأربعوف ألف‬ ‫وسبعمائة وأربعوف حرفا قاؿ فأخربوين عن نصفه فإذا هو إىل الفاء من قوله يف الكهف‬ ‫( وليتلطف ) وثلثه األوؿ عند رأس مائة آية من براءة والثاين على رأس مائة أو إحدى ومائة‬ ‫من الشعراء والثالث إىل آخر وسبعه األوؿ إىل الداؿ من قوله تعاىل (فَ ِمْنػ ُهم َّم ْن َآم َن بِ​ِه‬ ‫ِ‬ ‫ت‬ ‫ص َّد ) والسبع الثاين إىل التاء يف قوله تعاىل يف سورة األعراؼ (أولئك َحبِطَ ْ‬ ‫َومْنػ ُهم َّمن َ‬ ‫أ َْع َما ُؽبُ ْم ) والثالث إىل األلف الثانية من قوله تعاىل يف الرعد ( أكلها ) والرابع إىل األلف يف‬ ‫اغبج من قوله ( جعلنا منسكا ) واػبامس إىل اؽباء من قوله يف األحزاب ( َوَما َكا َف لِ ُم ْؤِم ٍن‬ ‫ٍِ‬ ‫الس ْوِء) والسابع‬ ‫ُِّت بِاللَّ ِه ظَ َّن َّ‬ ‫َوَال ُم ْؤمنَة ) والسادس إىل الواو من قوله تعاىل يف الفتح (الظَّان َ‬ ‫‪2‬‬ ‫إىل آخر القرآف قاؿ سبلـ أبو ؿبمد علمنا ذلك يف أربعة أشهر ‪.‬‬ ‫‪ 1‬وكاف أوؿ من كتب لرسوؿ اهلل ‪ ‬حُت قدـ اؼبدينة‪ ،‬وهو من أشهر ُكتَّاب الوحي؛ قاؿ فيه ( ‪:‬‬ ‫ُيب بن كعب روا اإلماـ أضبد ‪ .‬ويدؿ على رسوخ باعه يف قراءة كتاب اهلل أف‬ ‫أقرؤهم لكتاب اهلل أ ح‬ ‫رسوؿ اهلل ‪ ‬طلب منه أف يقرأ القرآف عليه‪ ،‬ففي "الصحيحُت" من حديث أنس رضي اهلل عنه‪ ،‬قاؿ‪:‬‬ ‫ُيب( ‪:‬إف اهلل أمرين أف أقرأ عليك{ ‪:‬مل يكن الذين كفروا من أهل الكتاب }قاؿ‪:‬‬ ‫إف النيب ‪‬قاؿ أل ِّ‬ ‫ُيب ‪:‬آهلل ظباين لك؟‬ ‫وظباين؟ قاؿ( ‪:‬نعم)‪ ،‬فبكى)‪ ،‬ويف رواية( ‪:‬إف اهلل أمرين أف أقرأ عليك القرآف‪ ،‬قاؿ أ ي‬ ‫أليب ‪:‬يا أبا اؼبنذر !ففرحت‬ ‫قاؿ( ‪:‬اهلل ظباؾ يل)‪ ،‬فجعل أُيبي يبكي)‪ .‬ويف رواية ثالثة عند أضبد‪ ،‬قيل ٍّ‬ ‫بذلك؟ قاؿ‪ :‬وما دينعٍت‪ ،‬واهلل تبارؾ وتعاىل يقوؿ{ ‪:‬قل بفضل اهلل وبرضبته فبذلك فليفرحوا هو خَت فبا‬ ‫جيمعوف( }يونس‪.)58:‬‬ ‫‪ 2‬ابن كثَت ‪ 8/1‬بن كثَت ‪ 23/1‬اآليات " الفاربة‪."2 :‬‬ ‫‪990‬‬


‫تفكُّر ‪ ،‬جملد (‪ ،)31‬العدد (‪2013 ، )2-3‬م‪1434/‬هـ‬ ‫‪-2‬‬

‫علوم الوحي‬

‫اللغة وسؤال الثقافة‪:‬‬

‫ِ‬ ‫نسا َف * َعلَّ َمهُ‬ ‫سبثل اللغة هبة فطرية ميز اهلل هبا اعبنس البشري ‪َ ‬خلَ َق اإل َ‬ ‫عرؼ الفبلسفة اإلنساف بأنه حيواف ناطق‪ ،‬ويعرض‬ ‫البَػيَا َف‪"‬سورة الرضبن‪ ."4-3 :‬وقددياً َّ‬ ‫السمو ِ‬ ‫ِ ِ​ِ‬ ‫ات َواأل َْر ِ‬ ‫ض‬ ‫القرآف حقيقة التعدد اللغوي باعتبار آية من آيات اهلل ‪َ ‬وم ْن آيَاته َخ ْل ُق َّ َ َ‬ ‫ِ‬ ‫ٍ ِ​ِ‬ ‫ُت‪ " ‬الروـ‪ .1"22:‬ويف خضم هذا‬ ‫اختِ ُ‬ ‫بلؼ أَلْ ِسنَتِ ُك ْم َوأَلْ َوانِ ُك ْم إِ َّف ِيف ذَل َ‬ ‫َو ْ‬ ‫ك آليَات لِّْل َعالم َ‬ ‫التباين تبقى اللغة ؿبدداً أولياً للخصوصية الثقافية وباكتساهبا يكتسب الفرد أوؿ معامل هويته‬ ‫الثقافية وعربها تنتقل بقية مكونات الثقافة قاؿ تعاىل "وما أرسلنا من رسوؿ إال بلساف قومه‬ ‫ليبُت ؽبم" وديثل التواصل جانب التعبَت عن هذا الوجود والذي تنعكس صورتهً يف اعبوانب‬ ‫الثقافية من اغبياة اإلنسانية‪.‬‬ ‫واألمهية الثقافية للغة راجعة لكوهنا أحد عوامل التنوع واالختبلؼ الذي يسم اغبياة‬ ‫اإلنسانية "فالتنوع الثقايف يف القدمي واغبديث بُت الشعوب واألمم والقبائل واجملموعات‬

‫الصغَتة هو يف اؼبقاـ األوؿ نتيجة لبلختبلؼ بينها يف اللغات"‪.2‬‬

‫‪ .1‬القرآن والثقافة العربية‪. :‬ويؤكد القرآف يف تسعة مواضع منه أنه جاء بلساف عريب مبُت‬

‫‪3‬‬

‫لقد تنزؿ القرآف يف جزيرة العرب والعرب يومها أمة أمية ال تقرأ وال تكتب وال هتتدي يف‬ ‫دينها بكتاب من اهلل أو أثارة من العلم‪ ،‬خالية حياهتم من معرفة حقيقية بالدين إال بقايا‬ ‫من الكتابيُت‪ ،‬وقد اتسم اؼبوقف العريب من القرآف يف غبظات تنزله األوىل باغبدة يف‬ ‫الرفض ويف القبوؿ كمظهر ومضموف‪ ،‬ومرجع ذلك إىل أف القرآف قبل تكونه الكلي وسباـ‬ ‫‪ 1‬أنظر ‪:‬ؿبمود الذوادي ‪ :‬مقاربة عربية يف مركزية الثقافة يف هوية اإلنساف‪ ،‬ورقة علمية غَت منشورة‬ ‫مقدمة ؼبؤسبر التحيز واؼبسارات اؼبتعددة للمعرفة (القاهرة فرباير ‪2007‬ـ)‪.‬‬ ‫‪-Kivisto P (2002 ) Multiculturalism in A Global Society , Oxford 2‬‬ ‫‪, Blackwell Publishing‬‬ ‫‪ 3‬ؿبمد بابكر العوض‪،‬أصوؿ الظاهرة االتصالية يف القرآف الكرمي‪ ،‬تف حكر ‪ ،‬ؾبلد (‪ ، )7‬عدد (‪، )1‬‬ ‫‪2005‬ـ ص‪.141‬‬ ‫‪999‬‬


‫القرأن ومناهج التحلول الثقايف ‪ ،‬حنو مدخل منهجي ‪....‬‬

‫د‪.‬محمد بابكر العوض‬

‫مبلؿبه كظاهرة معرفية كاف يتعامل معه كادعاء قابل لئلثبات والنقض ‪َ ‬وإِ َذا تػُْتػلَى َعلَْي ِه ْم‬ ‫آياتػُنَا بػيِّػنَ ٍ‬ ‫ص َّد ُك ْم َع َّما َكا َف يػَ ْعبُ ُد آبَا ُؤُك ْم َوقَالُوا َما َه َذا‬ ‫ات قَالُوا َما َه َذا إَِّال َر ُج ٌل يُِر ُ‬ ‫يد أَف يَ ُ‬ ‫َ َ‬ ‫ِ‬ ‫ك حم ْفتػرى وقَ َ َّ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ُت‪(‬سبأ‪)43:‬‬ ‫اءه ْم إِ ْف َه َذا إَِّال س ْحٌر حمبِ ٌ‬ ‫ين َك َف ُروا ل ْل َح ِّق لَ َّما َج ُ‬ ‫إَّال إفْ ٌ َ ً َ‬ ‫اؿ الذ َ‬ ‫"وقاؿ الذين كفروا إف هذا إال إفك افًتا وأعانه عليه قوـ آخروف فقد جاءوا ظلما وزورا"‬ ‫(الفرقاف‪ ) 4:‬لذلك قبد أف مساحة واسعة من الوحي أفردت لتقدمي اغبجج اؼبنطقية‬ ‫والتارخيية الدالة على صدقية الرسالة وقد مثلت اإلحالة الثقافية واحدة من اسًتاتيجيات‬ ‫ند اللَّ ِه وَك َفرُ​ُت بِ​ِه وش ِهد ش ِ‬ ‫اإلقناع اليت عبأ إليها القرآف ‪‬قُل أَرأَيػتم إِف َكا َف ِمن ِع ِ‬ ‫اه ٌد ِّمن‬ ‫َ ْ َ​َ َ َ‬ ‫ْ‬ ‫ْ َ ُْ ْ‬ ‫ِ ِ​ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫"أوَملْ يَ ِسَتُوا ِيف األ َْر ِ‬ ‫ض‬ ‫آم َن َو ْ‬ ‫يل َعلَى مثْله فَ َ‬ ‫استَ ْكبَػ ْرُُْت ‪ ( ‬األحقاؼ ‪َ (10‬‬ ‫بٍَِت إ ْسَرائ َ‬ ‫فَػينظُروا َكيف َكا َف عاقِبةُ الَّ ِذين ِمن قَػبلِ ِهم َكانُوا أ َ ِ‬ ‫وها‬ ‫َ ُ ْ َ‬ ‫ض َو َع َم ُر َ‬ ‫َش َّد مْنػ ُه ْم قُػ َّوًة َوأَثَ ُاروا األ َْر َ‬ ‫َ َ‬ ‫ْ ْ‬ ‫َ‬ ‫أَ ْكثػر ِفبَّا عمروها وجاءتْػهم رسلُهم بِالْبػيِّػنَ ِ‬ ‫ات فَ َما َكا َف اللَّهُ لِيَظْلِ َم ُه ْم َولَ ِكن َكانُوا أَن ُف َس ُه ْم‬ ‫َ​َ َ َ ُ َ َ َ َ ُ ْ ُ ُ ُ َ‬ ‫يَظْلِ ُمو َف" (الروـ‪ )9:‬ويف نفس السورة "قُ ْل ِسَتُوا ِيف األ َْر ِ‬ ‫ف َكا َف َعاقِبَةُ‬ ‫ض فَانظُ​ُروا َكْي َ‬ ‫ِ‬ ‫الَّ ِذ ِ‬ ‫ُت" (الروـ‪)42:‬‬ ‫ين من قَػْب ُل َكا َف أَ ْكثَػ ُرُهم حم ْش ِرك َ‬ ‫َ‬

‫إال أ ّف التعلق الثقايف بالعربية مل ينظر كإجيابية يف كل األحواؿ وهو ما عكسه‬ ‫اؼبستشرؽ الفرنسي (جاؾ بَتؾ) "إف الوحي القرآين كاف يتم بلهجة قريش‪ .‬وإف هذ لتعد‬ ‫من منظور فقه لغوي قريبة من ؽبجة الشعراء العرب قبل الوحي وبعد …كاف هذا التناظر‬ ‫من القوة إىل درجة أف الرسوؿ قد رأى أف يدفع عن نفسه هتمة النظم (الشعري) أو هتمة‬

‫الكهانة"‪.1‬‬

‫فلما توفرت لؤلثر القرآين مربرات البقاء وربقق كظاهرة ماثلة يف اغبياة يشكل‬ ‫التعامل معها ربدياً للمجتمع العريب الوثٍت يف أعز ما ديلك اؼبعتقد والسلطة الدينية والثقافية‬

‫على حساب الوثنية والشعر‪ ،‬تغَتت أساليب التعامل معه من قبل احمليطُت به فالوثنية نظرت‬

‫إليه كمرآة لتحليل النموذج الوثٍت ونقد وتفكيكه‪.‬كاف مظهر قوة القرآف يف مصدر غَت‬ ‫‪ -1‬جاؾ بَتؾ‪" :‬القرآف وعلم القراءة" دار التنوير‪ -‬بَتوت‪ ،‬ط‪ ،1996 1‬ص‪.109‬‬ ‫‪999‬‬


‫تفكُّر ‪ ،‬جملد (‪ ،)31‬العدد (‪2013 ، )2-3‬م‪1434/‬هـ‬

‫علوم الوحي‬

‫البشري ومن مث حيادية أحكامه وحقائقه وصدقية قضايا ودعاوا وإطبلقية ؿبتوا وربرر من‬ ‫الذاتية والظرفية‪ ،‬وقد انعكست هذ اؼببلمح يف ؿبتوا فرغم انطبلقه من رحم الواقع العريب إال‬ ‫أف رؤيته كانت تتسم بسعة غَت متفهمة من قبل غالب أهل اعبزيرة العربية والعمق غَت‬ ‫اؼبرغوب يف ذبشمه للعقلية الوثنية‪.‬‬ ‫كما زامن من تنزؿ عليهم القرآف وعايشوا معامل كثَت من اغبضارات والثقافات‬ ‫احمليطة هبم‪ ،‬متخذين منها موقف االستسبلـ والسلبية والسؤاؿ هنا كيف صاغ القرآف وكوف‬ ‫موقف اؼبسلمُت من ثقافتهم احمللية اؼبتدهورة؟ وكيف نظم عبلقتهم بثقافات من حييط هبم‬ ‫من الشعوب؟ وما مدى توافق ذلك وـبالفته للتوجهات التقليدية للعرب يف ذلك الوقت؟‬ ‫ِ‬ ‫ث‬ ‫يبُت القرآف كيف كاف تنزله على أمة ذات كسب ثقايف متواضع ‪ُ ‬ه َو الَّذي بَػ َع َ‬ ‫ِيف ْاأل ُِّميُِّت رس ًوال ِّمْنػهم يػْتػلُو علَي ِهم آياتِ​ِه ويػَزِّكي ِهم ويػعلِّمهم الْ ِكتَاب و ِْ‬ ‫ْم َة َوإِف َكانُوا ِمن‬ ‫َ َُ‬ ‫اغبك َ‬ ‫َ َ‬ ‫ُ ْ َ َ ْ ْ َ َ ُ ْ َ َُ ُ ُ ُ‬ ‫ِ‬ ‫ض َبل ٍؿ حمبِ ٍ‬ ‫ُت ‪"‬اعبمعة‪."2:‬‬ ‫قَػْب ُل لَفي َ‬ ‫وقد جسد الشعر العريب القدمي حالة الشخصية العربية‬ ‫حيث قاؿ شاعرهم ‪ :‬وما العيش إال خيمة يف تنوفة وسبر على ظهر النخيل وماء‬

‫وهل أنا إال من غزية أف غوت ‪ ..‬غويت وإف ترشد غزية أرشد‬

‫كاف العرب يف منظور معاصريهم من أهل الكتاب مستضعفُت ثقافياً حيث وقعوا‬ ‫بُت االستعبلء العرقي لليهود يف مكة واؼبدينة‪ ،‬واالستعبلء الديٍت واغبضاري للمسيحيُت‬ ‫الروماف هذا إىل ج انب طغياف اغبضارة الفارسية يف منطقة فارس واليمن‪ ،‬كيف عاًف القرآف‬ ‫هذا االنكسار اغبضاري؟‪.‬‬ ‫لقد عزز القرآف اؼبكوف اإلجيايب للثقافة العربية وهو جانب الببلغة والفصاحة والبياف‬ ‫كونه جاء بلساف عريب مبُت‪.‬وأكسبه موقفاً إجيابياً من الثقافات اؼبعاصرة له حُت بُت العبلقة‬ ‫اؼبوضوعية بُت القرآف وما سبقه من الكتب معترباً ذلك شرطاً من شروط التعامل الرشيد مع‬ ‫‪999‬‬


‫القرأن ومناهج التحلول الثقايف ‪ ،‬حنو مدخل منهجي ‪....‬‬

‫د‪.‬محمد بابكر العوض‬

‫القرآف"والذين يؤمنوف دبا أنزؿ إليك وما أنزؿ من قبلك وباآلخرة هم يوقنوف ‪ ،،‬أولئك على‬ ‫هدى من رهبم وأولئك هم اؼبفلحوف"(البقرة‪.)45:‬‬ ‫أكد على القراءة كقيمة ؿبورية للحضارة العربية بعد نزوؿ القرآف فقضى بذلك على‬ ‫ك الَّ ِذي َخلَ َق‪‬‬ ‫اس ِم َربِّ َ‬ ‫أهم مرتكزات االستضعاؼ الثقايف للعرب فجاء أوؿ القرآف بػ‪ ‬اقْػَرأْ بِ ْ‬

‫العلق‪ 1 :‬فأحاؽبم من امة أمية غلى أمة قارئة‪.‬‬

‫لقد منح القرآف للعربية سلطاناً ثقافياً حيث صَتها لغة رظبية لئلسبلـ فتعلمتها‬ ‫الشعوب اإلسبلمية اختيارا كما دخلت اإلسبلـ قبل ذلك طوعاً‪،‬وتولد من رحم هذا التبلزـ‬

‫بُت القرآف والعربية فنوف "اػبط العريب"و"علوـ النحو العريب"على يد أيب األسود الدؤيل‬

‫واػبليل ابن أضبد الفراهيدي "الذي دوف إىل جانب ذلك أحكاـ التجويد" وأنشأ علم‬ ‫العروض وإىل جانب تلك اؼبعارؼ القرآنية برزت فنوف اػبط العريب وفنوف التبلوة ترتيل‬ ‫وذبويد‪ ،‬ومعرفة باؼبقامات اؼبوسيقية لتوثيق الصيغ الصوتية للقراءة ‪.1‬‬

‫على اؼبستوى اؼبعريف علينا أف نعًتؼ أف هناؾ ضعف يف اؼبعرفة بتاريخ القرآف بعموـ‬ ‫وعدـ قدرة على تصور النطاؽ اؼبكاين اعبغرايف الذي َّ‬ ‫شكل ساحة للمضامُت القرآنية وكاف‬ ‫ناتج ذلك غياب الوعي بالسنن اليت ربكم التعاطي بُت القرآف والسنة والواقع‪ .‬الوعي بالواقع‬ ‫الظريف الذي ترتبت عليه اآليات قائماً على عبلقة شبه علِّيَّة أو سببية أو عبلقة تناص يف‬ ‫بعض األحياف‪ .‬فعلى أساس السببية ظهر علم (أسباب النزوؿ ) وانبثق عن العبلقة التوليدية‬ ‫بُت القرآف والواقع أو(آثار القرآف) بزوغ ثقافة جديدة ‪،‬ومنوذج إنساين جديد ‪،‬رؤية كلية‬ ‫‪ 1‬انظر‪ :‬حجازي‪ ،‬ؿبمد الواحد ‪،‬اثر القرآف الكرمي يف اللغة العربية ‪ ،‬دار الوفاء لدنيا الطباعة والنشر‪(,،‬‬ ‫‪1998‬جامعة إندياف)‬

‫‪999‬‬


‫تفكُّر ‪ ،‬جملد (‪ ،)31‬العدد (‪2013 ، )2-3‬م‪1434/‬هـ‬

‫علوم الوحي‬

‫جديدة للكوف واغبياة‪ .‬أما عبلقة اؽبيمنة على الًتاث اإلنساين القائم (الديٍت والسياسي)‬ ‫اليهود والنصارى والوثنيُت (مكة – فارس‪ -‬الروـ)‪.‬فبل زالت ساحة االبتبلء فيها قائمة‪.‬‬ ‫‪-3‬‬

‫الدين‪ :‬التوحيد كمقصد رئيس للحياة اإلسالمية‪:‬‬

‫عاًف القرآف مسألة العقيدة ال باعتبارها موضوعاً عقلياً فحسب بل عاعبها يف‬ ‫أبعادها اؼبنطقية والوجدانية فعرض القصص القرآين لعدد من التجارب اإلنسانية اليت تصور‬ ‫مرارة الشك العقدي منوذج إبراهيم ‪‬الَر كِتاب أَنزلْنَا إِلَيك لِتخرِج النَّاس ِمن الظحلُم ِ‬ ‫ات إِ َىل‬ ‫َ ٌ َ ُ ْ َ ُْ َ َ َ َ‬ ‫النحوِر‪"‬إبراهيم‪ "1:‬وتربز التحديات اليت عاشها رموز من البشر أبرزوا اعبهاد اإلنساين الطويل‬ ‫يف سبيل إرساء عقيدة التوحيد‪،‬ومثلوا النموذج الذي تدعوا له رسالة القرآف‪‬فَ ْ ِ‬ ‫صبَػَر‬ ‫اص ْرب َك َما َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫اعةً ِم ْن‬ ‫وع ُدو َف َملْ يػَْلبَثُوا إَِّال َس َ‬ ‫أُولُو الْ َع ْزـ م َن الحر ُس ِل َوَال تَ ْستَػ ْعج ْل َؽبُ ْم َكأَنػ َُّه ْم يػَ ْوَـ يػَ​َرْو َف َما يُ َ‬ ‫ِ‬ ‫نػَ َها ٍر بَ​َبلغٌ فَػ َهل يػُ ْهلَ ُ َِّ‬ ‫ذبسد يف‬ ‫ك إال الْ َق ْوُـ الْ َفاس ُقو َف‪"‬األحقاؼ‪ "35:‬وهو اؼبعٌت الذي ّ‬ ‫ْ‬ ‫عرب به ربعي بن عامر "جئنا‬ ‫حياة األفراد واقعاً معاشاً ومشروعاً للحياة على النحو الذي َّ‬ ‫لنخرج الناس من عبادة العباد لعبادة رب العباد"‪ ،‬كما أسس لعقيدة التوحيد كشرط بقاء‬ ‫لؤلمة اإلسبلمية بأصبعها قاؿ تعاىل‪ُ ‬كنتم خيػر أ َُّم ٍة أُخ ِرج ِ‬ ‫َّاس تَأْمرو َف بِالْمعر ِ‬ ‫وؼ‬ ‫ْ َ ْ‬ ‫َ ُْ‬ ‫ت لل ن ِ ُ ُ‬ ‫ُ ْ ََْ‬ ‫َوتَػْنػ َه ْو َف َع ِن الْ ُمن َك ِر َوتػُ ْؤِمنُو َف بِاللَّ ِه‪" ...‬ألعمراف ‪ "110:‬وقاؿ أيضاً ‪":‬وإف تتولوا يستبدؿ‬ ‫قوماً غَتكم مث ال يكونوا أمثالكم" " ؿبمد‪."38:‬‬

‫‪ -4‬المعرفة‪ :‬ومركزية مفهوم القراءة‪:‬‬ ‫إ ّف تبُت معامل النمط الثقايف القرآين رهن بتتبع احملتوى القرآين منذ أوؿ آيات القرآف‬ ‫نزوالً "إقرأ" تلك اآليات اليت تعكس مركزية مفهوـ القراءة‪ ،‬يف البنية الثقافية القرآنية‪ .‬ولبياف‬ ‫مشروعية القراءة التحليلية نفسها البد من الوقوؼ على بعض اعبوانب اؼبتعلقة بالًتاث‬ ‫التحليل والتفسَتي لدى اؼبسلمُت‪ .‬فعلى أفق اؼباضي ساهم القرآف واالهتماـ به من قبل‬ ‫اؼبسلمُت يف رفع مستوى اإلحساس بالنص وقد نبهت دعواته اؼبستمرة للمسلمُت للتدبر و‬

‫‪999‬‬


‫القرأن ومناهج التحلول الثقايف ‪ ،‬حنو مدخل منهجي ‪....‬‬

‫د‪.‬محمد بابكر العوض‬

‫اإل ًدكار والنظر يف آيات الكتاب اغبكيم والسعي إىل ربصيل اؼبراد اإلؽبي من كلمات‬ ‫اؼبصحف الكرمي إيل رفع اغباسة التحليلية لدى علماء اؼبسلمُت‪.‬‬ ‫وال يعرؼ كتاب يف التاريخ خضع لعمليات الفحص والتحليل كالقرآف الكرمي‪،‬‬ ‫ولعل ذلك ما حدا باؼبفكر الفرنسي "جاؾ بَتؾ" بكتابة سفرة القيم "القرآف وعلم القراءة "‪.‬‬ ‫"لقد قاد البحث يف معاين القرآف اؼبسلمُت إىل مساقات يف اؼبعرفة اللغوية ما كاف‬ ‫ؽبم أف ينتبهوا إليها لوال عمق الرغبة يف ربصيل اؼبراد اإلؽبي‪ .‬وقد عملت مدارس التفسَت‬ ‫وعلوـ القرآف يف ذلك النص الشاهد ؿبللة له من حيث بنائه األجبدي والصويت واللفظي هذا‬ ‫خبلؼ ربليل معانية ‪ ..‬وتعددت زوايا النظر إليه باختبلؼ مذاهب ومشارب الدارسُت له‪،‬‬ ‫وتكونت على زبوـ النص القرآين علوـ ومعارؼ أثرت علوـ اللغة وطورت أساليبها وهذبت‬ ‫سلوؾ مستخدميها"‪.1‬‬ ‫ويدوف الًتاث اإلسبلمي لعدد من الشواهد على عمق التجربة اإلسبلمية يف التعامل‬ ‫مع النص تعامبلً ذباوز الظاهر اجملرد واؼبعامل الدالة على ذلك يف الًتاث ال ربصى‪ .2‬واألمثلة‬ ‫على تعمق اؼبفسرين يف ربليل الكتاب الكرمي دبا يتجاوز الظاهر اجملرد لؤللفاظ أكثر من أف‬ ‫ربصى‪.‬‬ ‫‪ 1‬أنظر‪ :‬العوض‪ ،‬ؿبمد بابكر‪ :‬أصوؿ الظاهرة االتصالية يف القرآف الكرمي‪،‬ؾبلة تفكر العدد (‪ )1‬اجمللد‬ ‫(‪ 2005)7‬الصفحات‪( :‬من ‪:‬ص‪، 139‬إىل‪:‬ص‪)186‬‬ ‫‪ 2‬لعل منها (كتاب الفوائد اؼبشوؽ لعلوـ القرآف البن القيم وغرائب ما سجله من مفارقات وطرائف‬ ‫وخواص تتعلق بالنص القرآين قل نظَتها يف سائر النصوص و(الكشاؼ) للزـبشري و ما حوا من روائع‬ ‫يف التحليل اللفظي والببلغي للقرآف منها طريف قوله يف اغبروؼ اؼبقطعة "اعلم أنك إذا تأملت ما أورد‬ ‫اهلل عز سلطانه يف الفواتح من هذ األظباء وجدهتا نصف أسامي حروؼ اؼبعجم أربع عشر سواء يف تسع‬ ‫وعشرين سورة على عدد حروؼ اؼبعجم مث إذا نظرت يف هذ األربعة عشر وجدهتا مشتملة على أجناس‬ ‫اغبروؼ ‪ ،‬بياف ذلك أف فيها من اؼبهموسة نصفها ومن اجملهورة نصفها ومن الشديدة نصفها ومن الرخوة‬ ‫نصفها ‪ ،‬ومن اؼبطبقة نصفها ‪ ،‬ومن اؼبنفتحة نصفها ومن اؼبستعلية نصفها ومن اؼبنخفضة نصفها ومن‬ ‫حروؼ القلقلة نصفها"أنظر‪ :‬مَتغٍت‪ ،‬جعفر‪ ":‬القرآف وعلم اؽبجاء ‪ ،‬ؾبلة دراسات أفريقية العدد ‪* 22‬‬ ‫‪ 18‬ديسمرب ‪.2002‬‬ ‫‪999‬‬


‫تفكُّر ‪ ،‬جملد (‪ ،)31‬العدد (‪2013 ، )2-3‬م‪1434/‬هـ‬

‫علوم الوحي‬

‫وعلى األفق اؼبعريف اؼبعاصر غدت األمهية العلمية لتحليل النصوص قناعة شائعة‬ ‫وأمر بالغ التأكيد ‪ ،‬وقد نسجت على زبوـ النص مدارس لغوية وفلسفية سبثلها ألسنية‬ ‫(دوسوسَت ) وبنيوية وتفكيكية (فوكو وهيدجر) وتواصلية (هابرماس)‪. ..‬ويندرج اؼبنهج الذي‬ ‫اختارته هذا البحث ضمن ذلك النوع من الدراسات اؽبادفة إىل ربليل النص‪.‬‬ ‫‪ -5‬الفن والجمال في الخطاب القرآني‪:‬‬ ‫لقد عاًف القرآف موضوعات الفنوف من الرسم والنحت واؼبعمار‪ ،‬يف كثَت من‬ ‫اآليات وقد حوى القصص القرآين كأداة تعبَتية تنويها بأشكاؿ التعبَت الفٍت وحكم عليها‬ ‫من حيث غايتها ومقصدها قاؿ تعاىل "يعملوف له ما يشاء من ؿباريب وسباثيل ‪ ..‬اآلية"‬ ‫ولكنه يف ذات الوقت اهتم بإشاعة اإلحساس باعبماؿ كقيمة إنسانية رفيعة وعٌت بتنمية‬ ‫الذائقة الفنية واعبمالية للمسلم ‪‬انظُرواْ إِ​ِىل َشبَِرِ إِ َذا أَْشبَر ويػْنعِ ِه إِ َّف ِيف َذلِ ُكم آلي ٍ‬ ‫ات لَِّق ْوٍـ‬ ‫ْ َ‬ ‫َ َ​َ‬ ‫ُ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َّاها َوَما‬ ‫يػُ ْؤِمنُو َف‪(‬األنعاـ‪ )99:‬وقاؿ تعاىل ‪‬أَفَػلَ ْم يػَْنظُ​ُروا إ َىل َّ‬ ‫الس َماء فَػ ْوقَػ ُه ْم َكْي َ‬ ‫اها َوَزيػَّن َ‬ ‫ف بػَنَػْيػنَ َ‬ ‫َؽبَا ِمن فُػروج‪(‬ؽ‪)6:‬بل طرح صفة اعبماؿ على اؼبعاين فقاؿ *‪‬فَ ْ ِ‬ ‫صْبػًرا‬ ‫اص ْرب َ‬ ‫ْ ُ‬ ‫صب ًيبل ‪(‬اؼبعارج‪ )5:‬وقاؿ تعاىل ‪‬وما خلَ ْقنَا َّ ِ‬ ‫َِ‬ ‫اغبَ ِق َوإِ َّف‬ ‫ض َوَما بػَْيػنَػ ُه َما إَِّال بِ ْ‬ ‫الس َم َاوات َو ْاأل َْر َ‬ ‫َ​َ َ‬ ‫ِ‬ ‫الص ْفح ْ ِ‬ ‫يل ‪"‬اغبجر‪."85:‬‬ ‫َّ‬ ‫الس َ‬ ‫اعةَ َآلتيَةٌ فَ ْ‬ ‫اص َف ِح َّ َ‬ ‫اعبَم َ‬ ‫حىت اػببلفات اليت ثارت حوؿ مشروعية بعض الفنوف مثل الغناء واؼبوسيقى لعبت‬ ‫فيها االختبلفات الثقافية بُت الفقهاء دوراً كبَتاً‪ ..‬لقد جاء التشدد يف اؼبوقف من بعض‬ ‫الفنوف نتيجة للقصور يف ربصيل الثقافة القرآنية اليت أخذت تضمر غبساب تضخم احملصوؿ‬ ‫الثقايف فيما يتعلق بعلوـ السنة واغبديث فبا أفضى يف عصور االكبطاط اغبضاري للمسلمُت‬ ‫إىل احتقار الفنوف وإمهاؿ حىت اعبوانب الوظيفية للفن مثل التجسيم لغرض التعليم والدراسة‪،‬‬ ‫وانعكس أيضاً على اؼبعمار وزبطيط اؼبدف وانقلب من بعد ذلك حىت على الذوات اؼبفردة‬ ‫من اؼبسلمُت حىت غدا التقشف اؼببتذؿ صفة لشخصية اؼبسلم عوضاً عن االذبا اعبمايل يف‬ ‫السمت واؼبظهر الذي ظل ينتظم الشارع اؼبسلم منذ اؽبجرة وغدا ملمحاً من مبلمح التحوؿ‬ ‫اإلسبلمي‪.‬‬ ‫‪999‬‬


‫القرأن ومناهج التحلول الثقايف ‪ ،‬حنو مدخل منهجي ‪....‬‬

‫د‪.‬محمد بابكر العوض‬

‫إ ّف الرؤية القاصرة اليت ظلت تتعامل مع القرآف باعتبار مصدراً للتشريعات‬ ‫واألحكاـ وعجزت عن النظر إىل ما حوا من موجهات ثقافية وسبيز به من عناصر إؽباـ‬ ‫فردي وصباعي أسهمت يف تكريس وجهة نظر سلبية للفنوف ومظاهر التعبَت اإلنساين‪.‬‬ ‫لقد أحيا اإلسبلـ ألواناً من الفنوف ‪ ،‬ازدهرت يف حضارته وسبيزت هبا عن اغبضارات‬ ‫األخرى مثل فن اػبط والزخرفة والنقوش ‪ :‬يف اؼبساجد ‪ ،‬واؼبنازؿ ‪ ،‬والسيوؼ‪ ،‬واألواين‬ ‫النحاسية واػبشبية واػبزفية وغَتها ‪.‬كما اهتم بالفنوف األدبية اليت نبغ فيها العرب من قدمي ‪،‬‬ ‫وأضافوا إليها ما تعلمو من األمم األخرى ‪ ،‬وجاء القرآف ديثل قمة الفن األديب ‪ ،‬وقراءة‬ ‫القرآف وظباعه عند من عقل وتأمل إمنا مها غذاء للوجداف والروح ال يعدله وال يدانيه غذاء ‪،‬‬ ‫وليس هذا ؼبضمونه وؿبتوا فقط ‪ ،‬بل لطريقة أدائه أيضاً ‪ ،‬وما يصحبها من ترتيل وذبويد‬ ‫ورببَت تستمتع به اآلذاف ‪ ،‬وتطرب له القلوب ‪ ،‬وخصوصاً إذا تبل قاريء حسن الصوت‪،‬‬ ‫وؽبذا قاؿ النيب (‪ )‬ؼبا ظبع أبا موسى األشعري يقرأ القرآف ويتغٌت به قاؿ ‪:‬لقد أوتيت‬ ‫مزمارا من مزامير آل داود ‪).‬روا البخاري ومسلم)‪.‬‬ ‫‪ -6‬البعد القيمي للثقافة القرآنية‪:‬‬ ‫يؤسػػس الق ػراف ؼبػػنهج حيػػاة شػػاملة ؛ ال ؼبلػػة ؿبصػػورة اؽبػػم يف حػػدود التكػػاليف الفرديػػة‬ ‫والش ػرائع واألحكػػاـ والعبػػادات ؛ وال يف نطػػاؽ األمػػة احملػػدودة الػػيت جيمعهػػا اعبػػنس واؼبكػػاف أو‬ ‫اللغة واللساف‪ .‬ويف هذا البناء تأخذ اعبوانب القيميػة واألخبلقيػة موقعػاً مركزيػاً‪ ،‬ويؤسػس القػراف‬ ‫غبيػ ػػاة متماسػ ػػكة البنػ ػػاءات تكػ ػػوف منوذج ػ ػاً شػ ػػاهداً علػ ػػى الػ ػػدواـ للحيػ ػػاة الصػ ػػاغبة ‪ ،‬ومعيػ ػػار‬ ‫الصػبلحية هنػا لػيس هػو ؾبػرد الصػبلح الػػذايت للفػرد أو اعبماعػة بػل قوامػه تػوفر إرادة اإلصػػبلح‬ ‫العػػاـ ‪ ،‬حيػػث يعتػػرب االنكفػػاء واالنع ػزاؿ عػػن عمليػػة اإلصػػبلح خط ػراً يعػػرض اجملتمػػع للفسػػاد‬ ‫اؼبفضػػي إىل السػػخط اإلؽبػػي ‪ ،‬ومعلػػوـ أ ّف تػػوفر إرادة اإلصػػبلح هػػي سػػبيل النجػػاة مػػن الظلػػم ؛‬ ‫أل ّف هذ اإلرادة تقطع الطريق على الطغياف؛ قاؿ تعاىل‪ :‬ومػا َكػا َف ربح ِ ِ‬ ‫ػك الْ ُق َػرى بِظُْلػ ٍم‬ ‫ػك ليُػ ْهل َ‬ ‫َ َ‬ ‫َ​َ‬ ‫صػػلِ ُحو َف‪" ‬هػػود اآليػػة ‪ ."117‬وهػػذا الصػػبلح اؼبتعػػدي هػػو منػػاط خَتيػػة هػػذ األمػػة؛‬ ‫َوأ َْهلُ َهػػا ُم ْ‬ ‫قاؿ تعاىل ‪ُ  :‬كنتم خيػر أ َُّم ٍة أُخ ِرج ِ‬ ‫َّاس تَأْمرو َف بِالْمعر ِ‬ ‫وؼ َوتَػْنػ َه ْػو َف َعػ ِن الْ ُمن َكػ ِر َوتػُ ْؤِمنُػو َف‬ ‫ْ َ ْ‬ ‫َ ُْ‬ ‫ت لل ن ِ ُ ُ‬ ‫ُ ْ ََْ‬ ‫‪999‬‬


‫تفكُّر ‪ ،‬جملد (‪ ،)31‬العدد (‪2013 ، )2-3‬م‪1434/‬هـ‬

‫علوم الوحي‬

‫ػاب لَ َكػػا َف خػػَتاً َّؽبػػم ِّمػْنػهم الْم ْؤِمنُػػو َف وأَ ْكثَػػرهم الْ َف ِ‬ ‫بِاللّػ ِػه ولَػػو آمػػن أ َْهػػل الْ ِكتَػ ِ‬ ‫اسػ ُقو َف‪ "‬آؿ عمػراف‬ ‫َْ ُ ُ​ُ ُ‬ ‫َ ُ​ُ ُ‬ ‫َْ َ​َ ُ‬

‫اآليػة ‪ ."110‬وال شػػك أف اعبػػداؿ باغبسػػٌت وتقػػدمي القػػدوة هػػي أفضػػل السػػبل لؤلمػػر بػػاؼبعروؼ‬ ‫والنهي عن اؼبنكر ‪.‬‬ ‫وقد أ ّكد الرسوؿ ‪ ‬على هذ اؼبعاين فقاؿ "إمنا بعثت ألسبم مكارـ األخبلؽ" ‪.‬‬ ‫خامساً‪:‬خصائص الخطاب الثقافي للقرآن‪:‬‬ ‫غالباً ما يقود مفهوـ الثقافة إىل النظر يف األبعاد التواصلية واإلعبلمية فبا يلفت‬ ‫االنتبا إىل فاعلية الرسالة القرآنية سواء من حيث البناء التقٍت أو قوة اؼبضموف وجيعلها‬ ‫مضماراً مفتوحاً للتنافس البحثي ويعطي تطور الدراسات القرآنية هبذا االذبا داللة على‬ ‫اهتماـ األمة بالقياـ بواجبات الشهود وذلك لتعلقها القوي دبفهوـ الدعوة والببلغ‪.‬‬ ‫وسنبلحظ أ ّف البناء اػبطايب للقرآف يعتمد آلة متناسقة اغبركة منتظمة اإليقاع‬ ‫يتناغم فيها الداخلي واػبارجي والشكل واؼبضموف‪ ،‬وقد ش ّد هذا التناغم انتبا عدد من‬ ‫الباحثُت يف العلم قددياً وحديثاً ‪ ،‬وسبثل دراسات اإلعجاز ؾبلى واضحاً ؽبذا اؼبعٌت فقد ظل‬ ‫التساؤؿ عن مظاف اإلعجاز يف النص القرآين "هل هو يف اؼبعٌت أـ اؼببٌت " تساؤالً ظل‬ ‫يشغل أذهاف الباحثُت‪.‬‬ ‫ولقد أحدث التبلقح اؼباثل بُت الفكر الغريب الذي فرض نفسه على البيئات‬ ‫اإلسبلمية اغبديثة االنتبا إىل مكامن للقوة يف النص القرآين مل يكن االنتبا إليها متاحاً يف‬ ‫ظل غلبة وانتشار ثقافة التسليم العاطفي على الوعي اإلسبلمي‪ .‬ومن الطبيعي أف تنعكس‬ ‫على الطريقة اليت يعاًف هبا العلماء اؼبسلموف النص القرآين‪ ،‬فكاف فبا لفت احملدثُت من علماء‬ ‫اؼبسلمُت من تقنيات اػبطاب القرآين ‪ -‬مضمونه اؼبنطقي‪ ،‬وقدرته العالية على سوؽ اغبجج‬ ‫وتنظيمها حبيث تكوف سبيبلً ميسوراً إىل الوصوؿ باؼبتلقي إىل حالة من الرضا واالقتناع‬ ‫اؼبفضي إىل التسليم باغبقيقة القرآنية‪ .‬وقد استخدـ بعض العلماء اؼبناهج احملدثة يف سرب‬ ‫النص القرآين للوصوؿ إىل مواقع القوة اؼبنطقية يف بنائه‪ ،‬خاصة من جانب ما ينطوي عليه‬ ‫ا لنص القرآين من قدرة عالية على اإلقناع وديكن تصنيف هذا النوع من الدراسات إىل‬ ‫‪999‬‬


‫القرأن ومناهج التحلول الثقايف ‪ ،‬حنو مدخل منهجي ‪....‬‬

‫د‪.‬محمد بابكر العوض‬

‫قسمُت ‪:‬قسم اهتم بدراسة أساليب اغبجاج القرآين استناداً على منهج فلسفي منطقي‪،‬‬ ‫وقسم عبأ إىل استخداـ منهج دراسات اإلقناع يف علوـ االتصاؿ يف تتبع أساليب اإلقناع يف‬ ‫القراف الكرمي‪ ،‬وكاف ناتج عمل الفريقُت إضافات مقدرة ؼبناهج التعامل العصري مع القرآف‬ ‫الكرمي ‪ ،‬وقد ساعد يف السَت هبذا االذبا تطورات متعلقة بتطور اؼبعرفة اإلنسانية والتساؤالت‬ ‫اؼبستجدة لئلنساف اؼبعاصر و ظروؼ الواقع اؼبتجددة‪.‬‬ ‫وتعكس دراسات اػبطاب القرآين كيف أصل القرآف لثقافة إعماؿ العقل والبحث‬ ‫عن الدليل والربهاف واحلها مكاف التفكَت اػبرايف الذي أصلت له الوثنية العربية والتفكَت‬ ‫اؼبنكر للغيب الذي أصلت له الوثنية اليونانية ‪ ،‬وجعلت العلم العقلي مرجعية ثانية إىل‬ ‫جانب العلم النقلي‪.‬‬ ‫عالمية الخطاب القرآني‪:‬‬ ‫ومن اػبصائص الثقافية للخطاب القرآين كونه خطاب عاؼبي عمل على استيعاب‬ ‫اجملتمع العريب يف إطار اإلجتماعي والثقايف من خبلؿ نزوؿ القرآف بلغة العرب ولكنه حوؿ‬ ‫سرعاف ما حوؿ (اللغة العربية) من داللة ثقافية إىل لغة عاؼبية ؿبايدة ثقافياً فهي لغة التعبَت‬ ‫عن اغبضارة اإلسبلمية اليت تضم يف إطارها كما هائبلً من الثقافات الفرعية‪ ،‬سباماً كما‬ ‫أصبحت اللغة اإلقبليزية (والفرنسية على حد ما) لغة للحضارة اللربالية الغربية‪.‬‬ ‫إىل جانب ذلك فقد قاـ خبلق منوذج بشري متعومل قبل ‪ 1400‬سنة حيث استطاع‬ ‫اؼبسلموف األوائل أف دييزوا بُت التزاماهتم الثقافية وانتماءهم األفبي لئلسبلـ فتم استيعاب عدد‬ ‫من الشعوب يف إطار الثقافة اإلسبلمية وفق اسًتاتيجيات متباينة بعضها اجتماعي وبعضها‬ ‫اآلخر ثقايف ويف حاالت نادرة جاءت عملية الدمج نتيجة للمواجهة العسكرية‪.‬وهو جزء من‬ ‫ض لَ​َفس َد ِ‬ ‫واقعية النموذج الثقايف ايل ينتجه اإلسبلـ ‪ ‬ولَوال َدفْع اللَّ ِه النَّاس بػ ْع َ ِ‬ ‫ت‬ ‫َ َ‬ ‫َْ ُ‬ ‫ض ُه ْم ببَػ ْع ٍ َ‬ ‫ِ‬ ‫ض ٍل علَى ِ‬ ‫ُت ‪" ‬البقرة‪."251 :‬‬ ‫العالَم َ‬ ‫ْاأل َْر ُ‬ ‫ض َولَك َّن اللَّهَ ذُو فَ ْ َ َ‬

‫‪990‬‬


‫تفكُّر ‪ ،‬جملد (‪ ،)31‬العدد (‪2013 ، )2-3‬م‪1434/‬هـ‬ ‫الخاتمة‪:‬‬

‫علوم الوحي‬

‫وغاية القوؿ أ ّف القرآف قد أسهم يف إحداث ربوالت ثقافية واسعة النطاؽ بدأت‬ ‫بإحداث ربوؿ معريف كبَت حشد كل الطاقات للخروج باجملتمع العريب من مرحلة األمية‬ ‫اغبضارية واألجبدية إىل مرحلة اؼبعرفة والريادة وقيادة التنوير العاؼبي‪ ،‬كما ساهم القرآف يف‬ ‫إخراج منوذج إنساين له خصوصيته على اؼبستوى الفردي واالجتماعي‪ ،‬كما أسهم القرآف يف‬ ‫إعادة صياغة اللغة العربية وعوؼبتها فًتكت أثرها على لغات العامل اإلسبلمي اليت تأثرت‬ ‫مفرداهتا بالقاموس القرآين أديا تأثر‪ .‬كما أسهم القرآف يف ربويل اجملتمعات العربية من‬ ‫ؾبتمعات أمية إىل ؾبتمعات قارئة‪ ،‬وساهم يف أجياد أسلوب للحياة شامل ومتميز‪.‬‬ ‫و ديكن نقرر يف خاسبة هذا البحث االرتيادي يف مدخله أف من أهم ما ديتاز به‬ ‫منهج التحليل الثقايف أنه يهتم بالتأثَتات النفسية (السلوكية) واالجتماعية واؼبعرفية بينما يقل‬ ‫اهتمامه جبوانب استنباط األحكاـ إال يف إطار عبلقتها بتلك التأثَتات‪ .‬وهذا مع عدـ‬ ‫االنكار ؼبا لعملية استنباط اغبكم الفقهي من أبعاد ثقافية‪.‬كما أ ّف من مزايا هذا النوع من‬ ‫التحليل أنه ينشط يف السياقات اغبوارية غالباً ويف سياقات اػبطابات الدعوية ومن مث فإ ّف له‬ ‫تأثَتاً قوياً وسريعاً على اعبمهور‪ .‬حيث إنه يقوـ على االستفادة من اؼبنهجية اؼبعاصرة للعلوـ‬ ‫االجتماعية واالنسانية بشكل خاص ومناهج العلوـ الطبيعية على كبو عارض‪.‬‬ ‫ويمكن تلخيص ما انتهى له البحث في اآلتي‪:‬‬ ‫‪ -1‬هناؾ ندرة يف اؼبعاعبات اإلسبلمية ؼبوضوع الثقافة من منظور قرآين أرجعها البحث إىل‬ ‫عدة أسباب أيدلوجية ومعرفية‪.‬‬ ‫‪ -2‬مل يتوقف القرآف يف معاعبته ؼبسألة العقيدة باعتبارها موضوعاً عقلياً فحسب بل عاعبها‬ ‫يف أبعادها اؼبنطقية والوجدانية فعرض القصص القرآين لعدد من التجارب اإلنسانية اليت‬ ‫تصور مرارة الشك العقدي منوذج إبراهيم وتربز مناذج للجهاد اإلنساين الطويل يف سبيل‬ ‫إرساء عقيدة التوحيد‪ ..‬وهو اؼبعٌت الذي ذبسد يف حياة األفراد واقعاً معاشاً ومشروعاً‬ ‫للحياة‬ ‫‪999‬‬


‫القرأن ومناهج التحلول الثقايف ‪ ،‬حنو مدخل منهجي ‪....‬‬

‫د‪.‬محمد بابكر العوض‬

‫‪ -3‬أكد القرآف على أمهية البعد الثقايف يف إقباح الدعوة فعرض القصص القرآين الصلة‬ ‫الثقافية بُت األتبياء والرسل وثقافات أقوامهم كشرط ضروري لتحقيق البياف والببلغ قاؿ‬ ‫تعاىل "وما ارسلنا من رسوؿ إال بلساف قومه ليبُت ؽبم"‪.‬‬ ‫‪ -4‬لقد عزز القرآف اؼبكوف اإلجيايب للثقافة العربية وهو جانب الببلغة والفصاحة والبياف كونه‬ ‫جاء بلساف عريب مبُت‪.‬وأكسبه موقفاً إجيابياً من الثقافات اؼبعاصرة لنزوله حُت بُت‬ ‫العبلقة اؼبوضوعية بُت القرآف وما سبقه من الكتب معترباً ذلك شرطاً من شروط التعامل‬ ‫الرشيد مع القرآف واضعاص النواة األوىل للتواصل بُت الثقافات اإلنسانية‪.‬‬ ‫‪ -5‬ومن اػبصائص الثقافية للخطاب القرآين كونه خطاباً عاؼبياً استطاع أف خيرج (اللغة‬ ‫العربية) من داللتها الثقافية احملدودة إىل لغة عاؼبية ؿبايدة ثقافياً يف تعبَتها عن اغبضارة‬ ‫اإلسبلمية اليت تضم يف إطارها كما هائبلً من الثقافات الفرعية‪ ،‬سباماً كما أصبحت اللغة‬ ‫اإلقبليزية (والفرنسية على حد ما) لغة للحضارة اللربالية الغربية ‪ .‬كما منح القرآف للعربية‬ ‫سلطاناً ثقافياً حيث صَتها لغة رظبية لئلسبلـ فتعلمتها الشعوب اإلسبلمية اختيارا كما‬ ‫دخلت اإلسبلـ قبل ذلك طوعاً‪،‬وتولد من رحم هذا التبلزـ بُت القرآف والعربية فنوف‬ ‫"اػبط العريب"و"علوـ النحو العريب"‪.‬‬ ‫‪ -6‬أسهم القرآف يف التوجيه القيمي للثقافة اإلسبلمية فازدهرت التعبَتات الثقافية والفنية‬ ‫الدالة على التوحيد على حساب األنواع اؼبعربة عن النمط الثقايف الوثٍت فلم يعد مستغرياً‬ ‫أف تزدهر الفنوف الفطرية مثل الفنوف القائمة على الصوت البشري(التبلوة واإلنشاد)‬ ‫والنزعة التجريدية للفنوف التشكيلية (يف عمارة اؼبصاحف وتزيُت اؼبصاحف) وجاء ذلك‬ ‫على حساب بعض أنواع النحت واؼبوسيقى والفنوف التعبَتية ذات اعبذور الوثنية‪.‬‬ ‫‪ -7‬يقتضي تفعيل البعد العاؼبي للخطاب القرآين وعي القائمُت على امر الدعوة باألبعاد‬ ‫الثقافية للمحتوى القرآين من ناحية ووعيهم باالذباهات الثقافية للمجتمعات موضوع‬ ‫الدعوة‪.‬‬

‫‪999‬‬


‫تفكُّر ‪ ،‬جملد (‪ ،)31‬العدد (‪2013 ، )2-3‬م‪1434/‬هـ‬

‫علوم الوحي‬

‫المراجع‬

‫القرآن الكريم‬ ‫صحيحي البخاري ومسلم‬ ‫الكتب‪:‬‬ ‫‪ -1‬إيجلتون‪ ،‬تيري ‪ :‬فكرة الثقافة ‪ ،‬ترصبة ثائر ديب‪ ،‬دار حوار ‪2000‬ـ‪.‬‬ ‫‪ -2‬بيجوفيتش‪ ،‬علي عزت‪ :‬اإلسبلـ بُت الشرؽ والغرب‪ ،‬ترصبة ‪:‬ؿبمد يوسف عدس‪،‬‬ ‫بَتوت مؤسسة العلم اغبديث ‪1993‬ـ‬ ‫‪ -3‬بيرك‪ ،‬جاك‪" :‬القرآف وعلم القراءة" دار التنوير‪ -‬بَتوت ط‪،1996 1‬‬ ‫‪ -4‬الذوادي‪ ،‬محمود‪ :‬مقاربة عربية يف مركزية الثقافة يف هوية ا إلنساف‪ ،‬ورقة علمية‬ ‫غَت منشورة مقدمة ؼبؤسبر التحيز واؼبسارات اؼبتعددة للمعرفة (القاهرة فرباير ‪2007‬ـ)‪.‬‬ ‫‪ -5‬الذوادي‪ ،‬محمود‪ :‬ؾبلػػة ‪ :‬اؼبنار اعبػػديد (عدد‪ 33:‬السنة التاسعة ؿبرـ ‪1427:‬هػ ‪-‬‬ ‫يناير‪2006:‬ـ‪ .‬بػػعنواف ‪ " :‬مػػفاهيم عربػػية جديدة يف العلوـ االجتماعية "‪.‬‬ ‫‪ -6‬سعيد‪ ،‬ادوارد‪ :‬االستشراؽ ‪ :‬اؼبعرفة ‪،‬السلطة‪ ،‬االنشاء ترصبة كماؿ أبو ديب مؤسسة‬ ‫االحباث العربية)بَتوت ‪ -‬الطبعة الرابعة ‪)1995‬‬ ‫‪ -7‬الميالد‪ ،‬زكي‪ :‬اؼبسألة الثقافية من أجل بناء نظرية يف الثقافة‪ ،‬اؼبركز الثقايف العريب‬ ‫بَتوت ‪2005‬ـ‪.‬‬ ‫‪ -8‬بن نبي‪ ،‬مالك ‪ :‬مشكلة الثقافة‪ ،‬ترصبة عبد الصبور شاهُت‪ ،‬دمشق دار‬ ‫الفكر‪2000،‬ـ‪.‬‬ ‫‪ -9‬ميرغني‪ ،‬جعفر ‪ ":‬القرآف وعلم اؽبجاء ‪ ،‬ؾبلة دراسات أفريقية العدد ‪18 * 22‬‬ ‫ديسمرب ‪.2002‬‬ ‫‪-Kivisto P (2002 ) Multiculturalism in A Global Society , Oxford , -10‬‬ ‫‪Blackwell Publishing‬‬

‫األوراق البحثية‪:‬‬ ‫ح‬ ‫‪ -1‬العوض‪ /‬محمد بابكر‪ :‬أصوؿ الظاهرة االتصالية يف القرآف الكرمي‪ ،‬تفكر ‪ ،‬ؾبلد‬ ‫(‪ ، )7‬عدد (‪2005 ، )1‬ـ‬ ‫ؿباولة قراءة وظيفية ؼبنهجية حاج ضبد يف التعامل مع القرآف الكرمي‪ُّ .‬‬ ‫تفكر ‪ ،‬ؾبلد‬ ‫‪-2‬‬ ‫(‪ ، )10‬عدد (‪2010 ، )2‬ـ‪.‬‬ ‫‪ -3‬المنار الجــديد (عدد‪33:‬ص‪ )43 :‬السنة التاسعة ؿبرـ ‪1427:‬هػ ‪-‬‬ ‫يناير‪2006:‬ـ‪ .‬بػػعنواف ‪ " :‬مػػفاهيم عربػػية جديدة يف العلوـ االجتماعية "‪.‬‬ ‫‪999‬‬


‫دور الثقافة يف التغري االجتماعي والتنموي‬ ‫د‪ .‬الناجي محمد حامد‬

‫*‬

‫المقدمة ‪:‬‬ ‫تكتسي ادلسألة الثقافية يف عادلنا اليوـ ‪ ،‬ويف سلتلف اجلهات واالقطار أعلية خاصة‪،‬‬ ‫فما من بلد يف عامل اليوـ إال ويعاين بصورة ما وهبذه الدرجة أو تلك ‪ ،‬مظهراً أو مظاىر عدة‬

‫تتداخل كلها يف تكوين ىذه ادلسألة أو تشكل إحدى ذبلياهتا‪ .‬حىت أصبح من اجلائز القوؿ‬

‫أ ّف ادلسألة الثقافية دبعناىا الواسع ىي اليوـ احملرؾ األساسي لعجلة التنمية والنهوض‬ ‫احلضاري‪ .‬وعلى حد تعبَت اجلابري‪" ،1‬ادلسألة الثقافية واذا كاف لنا أف نأخذ دبعطيات عادلنا‬ ‫الراىن فإف ادلعطى الذي يفرض نفسو ىو أف ادلسألة الثقافية مل تعد يف الظل‪ ،‬مل تعد تابعاً ‪،‬‬

‫بل إهنا شئنا أـ أبينا‪ ،‬تطغى على سطح األحداث أو على األقل تزاحم وتضايق ىذا السطح‬

‫غَتىا من ادلعطيات " بل ربدد مسار االحداث واذباىاهتا ادلختلفة وتطبعها بطابعها اخلاص‬ ‫وفقاً للخصوصيات الثقافية ادلنتجة ذلا‪.‬‬

‫يف كثَت من جهات العامل اليوـ انقلبت األدوار بُت االجتماعي والسياسي والثقايف ‪.‬‬

‫لقد كاف التصور السائد من قبل على األقل إىل النصف الثاين من القرف ادلاضي‪ ،‬أ ّف العبلقة‬

‫بُت ىذه ادلستويات الثبلثة الرئيسية يف احلضارة ادلعاصرة‪ ،‬عبلقة تراتبية يتصدرىا االجتماعي‬

‫أوالً مث السياسي ثانياً مث الثقايف أخَتاً ‪ ّ،‬إف ىذا يعٍت أ ّف عبلقة الفعل واالنفعاؿ بُت ىذه‬ ‫ادلستويات الثبلثة‪ ،‬ىي على الرغم من تداخلها وجدليتها‪ ،‬عبلقة يتجو التأثَت فيها بصورة‬ ‫اصبالية من العبلقات االقتصادية – االجتماعية اليت تنعكس مباشرة على ادلستوى السياسي‬ ‫فتحدد شكل العبلقات فيو لينتهي التأثَت إىل ادلستوى الثقايف حيث غلد يف الوعي والثقافة‬ ‫* أستاذ مشارؾ‪ ،‬معهد إسبلـ ادلعرفة (إماـ)‪ ،‬جامعة اجلزيرة‪ ،‬معهد إسبلـ ادلعرفة‬ ‫‪ 1‬زلمد عابد اجلابري‪ ،‬ادلسألة الثقافية يف الوطن العريب‪ ،‬مركز دراسات الوحدة العربية ‪ ،‬بَتوت ‪ ،‬لبناف ‪،‬‬ ‫‪9111‬‬


‫تفكُّر ‪ ،‬جملد (‪ ،)31‬العدد (‪2013 ، )2-3‬م‪1434/‬هـ‬

‫الظاهرة االجتماعية‬

‫السياسية واالجتماعية أي االيديولوجيا تعبَته النظري الذي يكوف على ىذه الدرجة أو تلك‬

‫من ادلطابقة مع الواقع االقتصادي واالجتماعي القائم ‪ .1‬أما اليوـ فبل أحد يستطيع أف ينكر‬ ‫أنو حدث منذ عقد ونيف من السنُت أف تراجعت ىذه الشعارات ومثيبلهتا لفائدة الشعارات‬ ‫اليت تطرح ادلسألة الثقافية أو جانباً من جوانبها باعتبارىا معطى أساسي يف مقدمة تلك‬

‫الًتاتبية‪.‬‬

‫لقد أصبح االرتباط قوالً وفعبلً وبعنف أحياناً بالطائفة والعشَتة وادلذىب الديٍت ‪،‬‬ ‫وصار تأكيد االرتباط هبذه العناصر اليت تدخل يف تكوين ادلسألة الثقافية كما تطرح اليوـ‬ ‫ادلظهر الرئيسي والبارز يف مايشهده العامل الراىن من ربركات ونزاعات جعلت ادلعطى الثقايف‬

‫‪2‬‬ ‫يف قائمة األولويات واالحتياجات االنسانية ‪ ،‬بل غدا موضوعاً اجتماعياً وثقافياً واعبلمياً‬ ‫وعلمياً ػللل ويناقش يف أمهات الكتب وادلراجع ربت عناوين متنوعة " عودة ادلكبوت"و "‬

‫عودة ادلقدس " و"صداـ احلضارات " يف العامل الغريب ‪ ،‬والصحوة االسبلمية والتأصيل‬

‫واسبلمية ادلعرفة يف العامل العريب واالسبلمي ‪.‬‬ ‫إ ّف الوضع الثقايف الدويل الراىن يكرس اآلف اسًتاتيجية ثقافية جديدة‪ ،‬لقد حل‬ ‫االخًتاؽ زلل االستتباع فتحولت التبعية الثقافية إىل عملية تكريس وترسيخ ثقافة االخًتاؽ‬ ‫وخاصة بعد انسحاب الشيوعية كمعسكر وكايديولوجيا من ادليداف ‪ ،‬وانفراد الغرب الرأمسايل‬ ‫بقيادة العامل فإف االستقبلؿ السياسي والثقايف وااليديولوجي الذي كانت تتمتع بو بعض‬ ‫بلداف العامل الثالث‪ ،‬دبا فيها البلداف االسبلمية مل يعد غلد سنداً يسنده أو يستند إليو‬ ‫فأصبحت العبلقة السياسية والثقافية وااليديولوجيا ادلتاحة من اخلارج وحيدة االذباه ومفروضة‬ ‫‪ 1‬زلمد عابد اجلابري ‪ ،‬نفس ادلرجع السابق‪ ،‬ص‪91 .‬‬ ‫‪ 2‬السيد ولد أباه ‪ ،‬اذباىات العودلة ‪ ،‬اشكاالت األلفية اجلديدة ‪ ،‬ادلركز الثقايف العريب ‪ ،‬ادلغرب ‪،‬‬ ‫‪1009‬ـ‪.‬‬ ‫‪424‬‬


‫د‪ .‬ناجي محمد حامد‬

‫دور الثقافة يف التغري االجتماعي والتنموي‬

‫عرب وسائط اإلعبلـ وشبكة االتصاالت عرب األقمار الصناعية والفضائيات اليت غَتت‬ ‫ادلفاىيم والتوقعات واالنتظارات اليت كانت سائدة يف السابق بل جعلت مفهوـ السيادة‬ ‫الوطنية يف ورطة تارؼلية الفكاؾ منها‪.‬‬ ‫والثقافة يف واقع األمر صناعة إنسانية حبتة واخًتاع بشري خالص ‪ ،‬فهي فاصل‬ ‫نوعي بُت االنساف وسائر األحياء اليت تقامسو احلياة على ىذه األرض ومن خصائص الثقافة‬

‫أهنا متنوعة وأ ّف لكل رلموعة ثقافتها اخلاصة وىذا مايسمى بنسبية الثقافة ‪ .1‬ومن ىنا تعترب‬ ‫الثقافة ظاىرة انسانية وزلور احلياة االجتماعية وظيفياً وسلوكياً ‪ .‬إ ّف ىذا التصور يقر عبلقة‬ ‫التداخل والتكامل بُت الثقافة والتنمية‪ .‬فالثقافة سبكن من إعداد االنساف ادلدرؾ حلقيقة‬

‫وجوده والواثق بقدرتو على التغيَت ضلو األفضل وكذلك التنمية دبعناىا الشامل‪ .‬وعليو فإ ّف‬ ‫ىذا البحث يسعى إىل معاجلة عبلقة ادلسألة الثقافة بالتنمية ىذا من جهة ومن جهة ثانية‬ ‫البد من ربديد مفهوـ الثقافة لتجنب ادلتاىات اليت قد يوقعنا فيها مفهوـ الثقافة اذا أخذناه‬ ‫ىكذا مطلقاً بدوف ربديد‪ .‬والسؤاؿ الذي يفرض نفسو يف ىذا ادلقاـ ماىو دور الثقافة يف‬ ‫التنمية ؟ وماىي العبلقة بُت ثقافة التنمية وتنمية الثقافة‪ ،‬الغايات واالىداؼ؟‬ ‫تعريف المفاهيم‪:‬‬ ‫مفهوم الثقافة‪:‬‬ ‫من الواضح أ ّف ىناؾ عدـ اتفاؽ كامل يف الرأي حوؿ مفهوـ الثقافة كمصطلح‬ ‫حيث يراه العامة وكذلك العلماء من زوايا وعناصر سلتلفة وفقاً الختبلؼ ادلنطلقات الفكرية‬ ‫للدارسُت ذلذا ادلصطلح ولكن يظل تعريفها‪ ،‬مهما اتسع قاصراً عن االحاطة بكل اجلوانب‬ ‫‪ 1‬ادلنظمة العربية للًتبية والثقافة والعلوـ ‪ ،‬الثقافة ودورىا يف التنمية ‪ ،‬تونس ‪ ، 9111‬عن أضبد صاحل‬ ‫البطاينة ‪ ،‬اإلعبلـ الثقايف يف عصر التنمية ‪ ،‬ص‪101.‬‬ ‫‪425‬‬


‫تفكُّر ‪ ،‬جملد (‪ ،)31‬العدد (‪2013 ، )2-3‬م‪1434/‬هـ‬

‫الظاهرة االجتماعية‬

‫ادلكونة للثقافة ومثَتاً للجدؿ بل والحتماالت اللبس واختبلفات التأويل‪ .‬ولذلك سوؼ لن‬ ‫نتعرض لكل التعريفات يف ىذا البحث ‪ ،‬بل سنكتفي بإبراز أمشلها معٌت‪ .‬لقد تعددت‬

‫التعريفات العربية وغَت العربية اليت أثارت اشكالية تعريف الثقافة‪ .‬وقد ادخل علماء‬ ‫االنثروبولوجيا كلمة ثقافة ضمن القاموس العلمي ووضعوا تعريفات عديدة ذلا منذ أواسط‬ ‫القرف التاسع عشر‪ .‬وانتهوا اىل أهنا "صبلة االصلازات االنسانية" ‪ .‬إ ّف أبرز تعريف أعطى‬ ‫للثقافة ىو تعريف ادوارد تايلور فهو أوؿ من أعطى الثقافة معناه االصطبلحي يف كتاب لو‬ ‫بعنواف الثقافة البدائية (‪ )Primitive Culture‬حيث يعرفها بأهنا " ىي تلك الوحدة‬ ‫الكلية ادلعقدة اليت تشمل ادلعرفة واإلؽلاف والفن واألخبلؽ والقانوف والعادات باإلضافة اىل‬

‫أي قدرات وعادات أخرى يكتسبها االنساف بوصفو عضواً يف اجملتمع"‪ .1‬ويف كتابو‬ ‫االنثربولوجيا أضاؼ تايلور أ ّف الثقافة هبذا ادلفهوـ ‪ ،‬ىي شيء الؽلتلكو االنساف‪.2‬‬ ‫كذلك فإ ّف عادلي االنثربولوجيا األمريكيُت يف كتاهبما الثقافة ‪ :‬مراجعة نقدية‬ ‫للمفاىيم والتعريفات‪ ،‬قدما تعريفاً بأ ّف " الثقافة ىي ذبريد مأخوذ من السلوؾ ادللموس‬ ‫ولكنها ليست سلوكاً بذاهتا " وقد أدى ىذا التعريف اىل إثارة تساؤالت حوؿ حقيقة الثقافة‬ ‫بوصفها رلردة فكيف بالتايل لشئ رلرد ال وجود لو أف يكوف موضوعاً لعلم وحبث ‪ ،‬كثَت‬

‫من حاجيات الثقافة أشياء زلسوسة وملموسة‪ .‬وقد حاوؿ ليزيل وايت ( ‪Leslie‬‬ ‫‪ )White‬أف يقدـ حبلً ذلذا اإلشكاؿ حُت أ ّكد أ ّف القضية ليست قضية شيئاً حقيقياً أو‬

‫رلرداً بل القضية ىي يف السياؽ الذي غلري فيو التأويل‪ ،‬فهي تؤلف السلوؾ وعندما ينظر‬ ‫اليها ليس من خبلؿ عبلقتها باإلنساف بل عبلقتها بعضها ببعض ‪ ،‬فهي تصبح ثقافة‪ ،‬ومن‬

‫‪1‬كليفورد غَتتز ‪ ،‬تأويل الثقافات ‪ ،‬ترصبة زلمد بدوي ‪ ،‬ادلنظمة العربية للًتصبة‪ ،‬مركز دراسات الوحدة‬ ‫العربية ‪ ،‬بَتوت لبناف‪ ،‬الطبعة األوىل ‪ ،1001 ،‬ص‪8 .‬‬ ‫‪ 2‬كليفورد غَتتز‪ ،‬ادلرجع السابق‪ ،‬ص‪8.‬‬ ‫‪426‬‬


‫د‪ .‬ناجي محمد حامد‬

‫دور الثقافة يف التغري االجتماعي والتنموي‬

‫ىنا ؽلكن القوؿ بأف (الثقافة ىي االسم الذي يطلقو الدارسوف على أنواع من األشياء‬ ‫واألحداث اليت تعتمد على "الًتميز" أي على النطق والكبلـ واليت ينظر اليها يف سياؽ‬

‫يتجاوز ماىو بشري)‪ .1‬فمن الصعب ربديد مصطلح الثقافة أو اغلاد تعريف زلدد ذلا ‪.‬‬ ‫ويؤكد على ىذه الصعوبة موقف كاتب منهجي مدقق مثل رؽلوند وليامز يف مقدمة كتابو "‬ ‫الثقافة واجملتمع " إذ يعًتؼ بصعوبة ربديد مصطلح الثقافة وىو الذي يعد من أوائل‬ ‫الكتاب الذين يؤكدوف على أعلية ربديد ادلصطلحات والكلمات ادلفتاحية ربديداً صارماً يف‬

‫بدء كل دراسة‪ ،‬حيث يقوؿ رؽلوند وليامز عن موضوع الثقافة " نظراً التساع مرجعيتها يبدو‬

‫ضرورياً – على أية حاؿ – إقامة التساؤؿ منذ البدء على قاعدة عريضة وكنت يف البدء‬ ‫نويت أف أحافظ على التصاؽ شديد بالثقافة نفسها ولكن كلما تفحصتها بشكل وثيق‬ ‫كاف علي أف أعيد ترتيب حدود إحااليت"‪ .2‬كذلك يعرفها كبليد كلوكوف يف كتابو مرآة‬

‫االنساف (‪ )Mirror for Man‬حيث قدـ فيو تعريقات متعددة وسلتلفة للثقافة منها ‪:‬‬ ‫("الطريقة الكلية حلياة شعب" " ادلَتاث االجتماعي الذي يكتسبو الفرد من صباعتو " "‬ ‫طريقة تفكَت وشعور واعتقاد" " ذبريد قائم من السلوؾ " " نظرية يقدمها عامل االنثربولوجيا‬ ‫حوؿ الطريقة اليت يتصرؼ هبا شعب ما" " سلزف للمعارؼ ادلشًتكة " " رلموعة من‬ ‫التوجهات ادلوحدة ادلقاييس حياؿ ادلشكبلت ادلتكررة " " السلوؾ ادلكتسب " " آلية‬ ‫للضبط ادلعياري للسلوؾ " " رلموعة تقنيات هتدؼ للتأقلم مع البيئة اخلارجية ومع‬ ‫األشخاص االخرين على حد سواء" " راسب من رواسب التاريخ")‪ .3‬يقوؿ كليفورد‬ ‫غَتتز يف مواجهة ىذ الكم من التعريفات اذلائلة للثقافة "يف مواجهة ىذا النوع من التفشي‬ ‫‪ 1‬كليفورد غَتتز ‪،‬تأويل الثقافات ‪ ،‬مرجع سابق ‪ ،‬ص‪.90-1.‬‬ ‫‪ 2‬ادلنظمة العربية للًتبية والثقافة والعلوـ مرجع سابق‪ ،‬ص‪.18‬‬ ‫‪ 3‬كليفورد غَتتز ‪ ،‬مرجع سبق ذكره ‪ ،‬ص‪.81-89 .‬‬ ‫‪427‬‬


‫تفكُّر ‪ ،‬جملد (‪ ،)31‬العدد (‪2013 ، )2-3‬م‪1434/‬هـ‬

‫الظاهرة االجتماعية‬

‫التنظَتي سيكوف من ادلستحسن ويف موقف متقدـ أف نقدـ مفهوماً للثقافة يكوف زلدوداً‬ ‫نوعا ما وليس معيارياً بالكلية ‪ ،‬وىو مفهوـ مًتابط داخلياً على األقل"‪ .1‬وتبدو إضافة‬ ‫كليفورد حيث يقوؿ " إف مفهوـ الثقافة الذي اعتنقو ىو باألساس مفهوـ سيميائي‬

‫) ‪ )semiotic‬ويضيف بأنو مقتنع مع ماكس فيرب بأ ّف االنساف ىو حيواف عالق يف‬ ‫شبكات رمزية نسجها بنفسو حوؿ نفسو وبالتايل أنظر للثقافة على اهنا ىذه الشبكات‬ ‫وأرى أ ّف ربليلها غلب أف اليكوف علماً ذبريبياً يبحث عن قانوف بل علما تأويلياً يبحث عن‬

‫معٌت ‪ ..‬شرح التعبَتات االجتماعية وإجبلء غموضها الظاىر على السطح "‪ .2‬وىكذا‬

‫فالثقافة حسب كلفورد غَتتز "ىي تلك الوثيقة ادلتمثلة باألفعاؿ وىي شئ علٍت وليس‬ ‫بالفكرة الباطنية ‪ ..‬وعلى الرغم من كوف الثقافة متعلقة دبا ىو فكري فهي ليست شيئاً يف‬

‫داخل رأس ادلرء وعلى الرغم من كوهنا ليست شيئاً مادياً فهي ليست كياناً باطنياً زلجوباً‬ ‫ولذلك فإ ّف تلك ادلناظرة صلد ال هناية ذلا ‪ ،‬وىي كذلك ألهنا غَت قابلة لئلهناء بالفعل بُت‬ ‫علماء االنثربولوجيا حوؿ ما اذا كانت الثقافة ذاتية (‪ )Subjective‬أو موضوعية‬

‫(‪ .3" )Objective‬فالثقافة ىي شيء علٍت أل ّف ادلعٌت ىو شيء ظاىر علٍت‪ .‬فأنت ال‬ ‫ؽلكنك أف تغمز أو تقلد غمزة من دوف أف تكوف عادلاً هبذه الغمزة وبكيفية القياـ هبا ‪ .‬إ ّف‬ ‫ىذه ادلقاربة التأويلية اليت أسسها كليفورد تصنف الثقافة "بأهنا رؤية األشياء من وجهة نظر‬

‫الفاعل أو ربليل من الداخل " ‪ .4‬وعليو عملية التحليل الثقايف حسب كليفورد ىي " عملية‬ ‫يف تطورىا ال تتخذ شكل منحٌت صاعد تًتاكم فيو ادلكتشفات بشكل مستمر‪ ،‬بل ىي‬

‫‪ 1‬كليفورد غَتتز‪ ،‬مرجع سبق ذكره ‪،‬ص‪81 .‬‬ ‫‪ 2‬كليفورد غَتتز‪ ،‬مرجع سبق ذكره ‪ ،‬ص‪81 .‬‬ ‫‪ 3‬كليفورد غَتتز‪ ،‬مرجع سبق ذكره ‪11 -19 ،‬‬ ‫‪ 4‬كليفورد غَتتز ‪ ،‬مرجع سبق ذكره‪ ،‬ص‪11 .‬‬ ‫‪428‬‬


‫د‪ .‬ناجي محمد حامد‬

‫دور الثقافة يف التغري االجتماعي والتنموي‬

‫تتخذ شكل اندفاعات غَت متصلة مع أهنا مًتابطة يف سياؽ متواؿ من احللقات تزداد جرأة‬

‫مرة بعد مرة"‪.1‬‬

‫وتعرفها جيهاف رشيت " بأهنا الشئ الذي يصنعو البشر من الظروؼ البشرية احمليطة‬ ‫وىي القيم والتجارب وقواعد السلوؾ وغَت ذلك من األمور اليت ينقلها البشر عرب أجياؿ أو‬ ‫خبلؿ فًتة زمنية مدهتا أكثر من جيل أل ّف ذلا قيمة معينة يف استمرار اجملتمع وربقيق األمن‬ ‫ألفراده "ىناؾ عبلقة وطيدة بُت الثقافة والسياسة ‪ ،‬وىي ليست عبلقة بسيطة أو ميكانيكية‪.‬‬ ‫فالثقافة غلب أف ربلل إىل أشكاؿ سلتلفة ‪ ،‬سواء كانت ثقافة رفيعة أو بسيطة ‪ ،‬ثقافة طلبوية‬ ‫أو ثقافة شعبية‪ ،‬فلسفة أو شعور مشًتؾ‪ ،‬غلب أف ربلل وفقاً لفعاليتها يف سباسك األشكاؿ‬

‫القيادية ادلتعددة "‪ 2‬ويف نفس السياؽ تقسم رشيت الثقافة إىل قسمُت متميزين؛ الثقافة‬ ‫ادلوضوعية والثقافة الذاتية والتفرقة والتمييز بُت الثقافتُت مستمد من التفاعل الذي ؽلكن‬ ‫مبلحظتو بُت البشر والظروؼ احمليطة هبم ‪ .‬فالثقافة ادلوضوعية مكونة من االشياء ادلصنوعة‬ ‫والتكنولوجيا اليت تتيحها " كاالدوات وادلباين ‪ ،‬واماكن السكن ‪ ،‬اظلاط ادلواصبلت والرسم‬ ‫وغَتىا" أما الثقافة الذاتية فهي العمليات االدراكية البشرية " القيم والصور الذىنية ادلنطبعة‬ ‫واالذباىات وادلشاعر والدوافع وادلعتقدات وبشكل أكثر عمومية ادلعاين"‬

‫‪3‬‬

‫ويقسم البعض الثقافة إىل سبعة أقساـ وىي‪ :4‬الوصفية ‪ ،‬التارؼلية ‪ ،‬ادلعيارية ‪،‬‬

‫السيكلوجية ‪ ،‬البنيوية ‪ ،‬التطورية ‪ ،‬الشمولية ‪.‬‬ ‫‪ 1‬كليفورد غَتتز‪ ،‬مرجع سبق ذكر‪ ،‬ص‪998.‬‬ ‫‪Tony Bennett, Culture, Ideology and Social Process : A Reader, 2‬‬ ‫‪Set Book (LONDON :Batsford Academic and Educational in‬‬ ‫‪Association with the open University Press, 1985).‬‬ ‫‪ 3‬ادلنظمة العربية للًتبية والثقافة والعلوـ‪ ،‬ادلرجع السابق ‪،‬ص‪11 .‬‬ ‫‪4‬سامية حسن الساعايت ‪ ،‬الثقافة والشخصية ‪ ،‬دار النهضة العربية ‪ ،‬بَتوت ‪،9181 ،‬ص‪11.‬‬ ‫‪429‬‬


‫تفكُّر ‪ ،‬جملد (‪ ،)31‬العدد (‪2013 ، )2-3‬م‪1434/‬هـ‬

‫الظاهرة االجتماعية‬

‫‪ – 1‬الوصفـية‪:‬‬ ‫تتميز التعريفات الوصفية للثقافة بالًتكيز على تعدد زلتويات الثقافة متأثرة بتعريف‬ ‫تايلور "ذلك الكل ادلركب ادلعقد الذي يشمل ادلعلومات وادلعتقدات والفن واألخبلؽ والعرؼ‬

‫والتقاليد والعادات وصبيع قدرات االنساف"‪.1‬‬ ‫‪ -1‬التاريخية ‪:‬‬

‫تنفرد التعريفات التارؼلية بأهنا ذبعل الًتاث االجتماعي أو التقاليد يف بؤرة اىتمامها‬ ‫ويتجلى ذلك باستعراضنا ألىم التعريفات التارؼلية‪ .‬يرى "مالينوفسكي" إف الًتاث‬ ‫االجتماعي ىو ادلفهوـ الرئيسي من االنثروبولوجيا الثقافية ‪ ،‬وغالباً ما يطلق عليو مصطلح‬

‫الثقافة‪ ،‬فالثقافة تضم الصناعات ادلوروثة والبضائع والسلع والعمليات التكنولوجية واألفكار‬

‫والعادات والقيم"‪ .‬أما" رالف لنتوف " فيعتقد من جهتو ‪ ":‬أ ّف الوراثة االجتماعية ىي الثقافة‪،‬‬

‫فالثقافة كاصطبلح عاـ تعٍت الوراثة االجتماعية للبشرية بينما يعٍت االصطبلح النوعي صفة‬

‫معينة من الوراثة االجتماعية‪.‬ويذىب بارسونز إىل أف‪(:‬الثقافة تتكوف من تلك النماذج‬ ‫ادلتصلة بالسلوؾ ودبنتجات الفعل اإلنساين اليت ؽلكن أف تورث ‪ ،‬دبعٌت أف تنتقل من جيل‬

‫إىل جيل ‪ ،‬بصرؼ النظر عن اجلينات البيولوجية)‪.2‬‬

‫وتتميز ىذه التعريفات بكوهنا تنتقي أحد أوجو الثقافة وىو الًتاث االجتماعي‬ ‫فًتكز عليو بدالً من أف رباوؿ تعريف الثقافة بشكل موسع‪ ،‬وشلا يؤخذ على ىذه التعريفات‬

‫كوهنا تصور الثقافة على أهنا يف حالة استاتيكية‪،‬أي جامدة ال تتطور‪ .‬والثقافة دائمة التغَت‬

‫دبا تضيفو إليها األجياؿ اجلديدة من خربات وأدوات وقيم وأظلاط سلوكية أو بالعكس دبا‬

‫‪ 1‬سامية حسن الساعايت ‪ ،‬الثقافة والشخصية ‪ ،‬ادلرجع السابق ‪ ،‬ص‪13.‬‬ ‫‪ 2‬سامية حسن الساعايت ‪ ،‬ادلرجع السابق‪ .‬ص‪18.‬‬ ‫‪431‬‬


‫د‪ .‬ناجي محمد حامد‬

‫دور الثقافة يف التغري االجتماعي والتنموي‬

‫تستبعده وربذفو من بعض األساليب واألفكار أو األدوات القدؽلة اليت مل تعد تتفق مع‬

‫ظروؼ حياهتا اجلديدة‪.1‬‬ ‫‪ – 3‬المعيارية‪:‬‬

‫ؽلكن تقسيم التعريفات ادلعيارية للثقافة إىل فئتُت فرعيتُت‪:‬األوىل هتتم بالثقافة‬ ‫كقاعدة وأسلوب‪،‬والثانية تربز أعلية ادلثل والقيم‪ .‬وؽلثل الفئة األوىل "ويسلر" الذي يرى‪":‬أ ّف‬ ‫الثقافة ىي أسلوب تت بعو اجلماعة أو القبيلة وىو يضم كل اإلجراءات االجتماعية ادلقننة ‪،‬‬ ‫وثقافة القبيلة تتضمن رلموعة ادلعتقدات واإلجراءات اليت تتبعها القبيلة"‪ .‬أما الفئة الثانية‬ ‫فيمثلها على اخلصوص "سوروكُت" حيث يعتقد‪ ":‬أ ّف ادلظهر االجتماعي للكوف فوؽ‬ ‫العضوي يتكوف من أفراد متفاعلُت ومن أشكاؿ من التفاعل ‪،‬من رلموعة منظمة‪،‬ومن‬ ‫عبلقات بُت االفراد وبُت اجملموعات منظمة وغَت منظمة ‪ ،‬أما ادلظهر الثقايف للكوف فوؽ‬ ‫العضوي فيتكوف من ادلعاين والقيم وادلعايَت"‪ .‬هتتم بالثقافة كقاعدة وطريقة وأسلوب حياة‬ ‫يتبعها الناس يف أعماذلم وأفكارىم‪.‬وما ؽليز التعريفات ادلعيارية للثقافة أهنا ربي من جديد‬

‫فكرة األعراؼ االجتماعية وترى أ ّف القيم وادلثل وحدىا أىم ظلاذج السلوؾ اإلنساين‪.2‬‬

‫‪ – 4‬السيكولوجية‪:‬‬

‫من بُت أىم التعريفات اليت تدخل يف نطاؽ التعريفات السيكولوجية تعريف "يونغ"‬ ‫الذي يرى أ ّف ‪(:‬ىذه األساليب الشعبية ادلتميزة دلعاجلة ادلشكبلت والنظم االجتماعية‬ ‫الشعبية‪ ،‬نطلق عليها الثقافة‪ ،‬إ ّف الثقافة تتكوف من ذلك الكل من السلوؾ ادلتعلم أو ظلاذج‬ ‫سلوؾ أية صباعة اليت تتسلمها من صباعة سابقة أو جيل سابق عليها مث تسلمها بدورىا ‪،‬‬

‫‪ 1‬سامية حسن الساعايت ‪ ،‬ادلرجع السابق ‪18 ،‬‬ ‫‪ 2‬سامية حسن الساعايت ‪ ،‬ادلرجع السابق‪ ،‬ص‪11 -10 .‬‬ ‫‪434‬‬


‫تفكُّر ‪ ،‬جملد (‪ ،)31‬العدد (‪2013 ، )2-3‬م‪1434/‬هـ‬

‫الظاهرة االجتماعية‬

‫بعد أف تضيف إليها إىل صباعات الحقة أو جيل الحق)‪.‬كما يوجد تعريف "مسنروكلر"‬ ‫الذي يرى أف‪ :‬الثقافة ىي رلموع أساليب تكيف الناس لظروؼ حياهتم ‪،‬وىذا التكيف‬

‫الؽلكن الوصوؿ إليو آال من خبلؿ أفعاؿ ذبمع ما بُت التنوع واالنتقاؿ واالنتقاء"‪ .1‬وىذا‬ ‫يعٍت أ ّف الثقافة متحولة ومكتسبة ومسألة نسبية متجددة على الدواـ كل جيل يضيفي عليها‬

‫دلسات من طرؽ عيشو وظروؼ حياتو وحاجياتو‪.‬‬ ‫‪ – 5‬البنيوية‪:‬‬

‫تنفرد التعريفات البنيوية للثقافة بوضوح فكرة النموذج فيها ويتجلى ذلك من‬ ‫تعريف‪ ":‬وليم أو جربف ونيمكوؼ" اللذاف يعترباف أف "الثقافة تتكوف من ادلخًتعات أو‬ ‫السمات الثقافية ادلتكاملة يف نسق بدرجات سلتلفة من االرتباط بُت أجزائو ‪،‬وتنتظم السمات‬ ‫ادلادية وغَت ادلادية على السواء حوؿ إشباع احلاجات اإلنسانية األساسية ‪ ،‬وذلك لتمدنا‬

‫بالنظم االجتماعية اليت ىي قلب الثقافة"‪.2‬‬

‫وتتميز ىذه التعريفات بسمتُت علا وجود تأكيد على العبلقات التنظيمية بُت مظاىر‬ ‫الثقافة وابراز ال صفة التجريدية للثقافة‪ .‬وتكمن أعلية ذلك الفهم يف أنو ػلرر الثقافة من‬

‫السلوؾ وغلردىا من النشاط اإلنساين‪.3‬‬ ‫‪ – 6‬التطورية‪:‬‬

‫وتنطوي ربت ىذا التعريف ثبلث اذباىات ىي‪:4‬‬

‫‪ – 9‬اذباه ينظر إىل الثقافة باعتبارىا نتاج التفاعل اإلنساين‪.‬‬ ‫‪– 1‬اذباه ينظر إىل الثقافة على أهنا عبارة عن أفكار‪.‬‬ ‫‪1‬‬ ‫‪2‬‬ ‫‪3‬‬ ‫‪4‬‬

‫سامية حسن الساعايت ‪ ،‬ادلرجع السابق‪ ،‬ص‪11 -11 .‬‬ ‫سامية حسن الساعايت ‪ ،‬ادلرجع السابق ‪ ،‬ص‪14.‬‬ ‫سامية حسن الساعايت ‪ ،‬ادلرجع السابق‪11 ،‬‬ ‫سامية حسن الساعايت‪ ،‬ادلرجع السابقن ص‪11 .‬‬ ‫‪432‬‬


‫د‪ .‬ناجي محمد حامد‬

‫دور الثقافة يف التغري االجتماعي والتنموي‬

‫‪ – 1‬اذباه ينظر إليها بوصفها رموزاً تنتقل من جيل إىل جيل‪.‬‬

‫التعريفات التطورية تنظر اىل الثقافة باعتبارىا نتاج والثاين ينظر اليها بوصفها أفكار والثالث‬

‫ينظرر إليها على أهنا رموز وصبيعها تعطي أعلية للناحية النشوئية والتطورية ‪.1‬‬ ‫‪ – 4‬الشمولية ‪:‬‬

‫من أىم التعريفات الشمولية للثقافة التعريف ادلاركسي ‪ ،‬وىو تعريف ال ينظر إليها‬ ‫من زاوية واحدة‪ ،‬بل ينظر إليها من جهات سلتلفة ‪ ،‬ويرى أصحاب ىذا التعريف أ ّف ‪ :‬كل‬

‫القيم ادلادية والروحية ووسائل خلقها واستخدامها ونقلها اليت ؼللقها اجملتمع ‪ ،‬من خبلؿ سَت‬

‫التاريخ ‪ ،‬مع التميز بُت الثقافة ادلادية والثقافة الروحية ‪،‬والثقافة ظاىرة تارؼلية يتحدد تطورىا‬ ‫بتتابع النظم االقتصادية‪ ،‬االجتماعية‪ ،‬وتتخذ الثقافة يف اي رلتمع طبقي طابعا طبقيا سواء‬

‫فيما يتعلق دبفهومها األيديولوجي أو أىدافها العميقة"‪.2‬‬

‫وادلبلحظ أ ّف ادلصادر ادلعرفية جلميع ىذه التعريفات مستمدة من احلضارة الغربية‬ ‫فبلبد حينئذ من ربديد ىذا ادلفهوـ من داخل السياؽ العريب االسبلمي والذي ؼلتلف كلياً‬ ‫عن الواقع الثقايف الغريب ولنبدأ بالعبلمة ابن خلدوف مث ننتقل إىل ادلفكر اجلزائري مالك بن‬

‫نيب الذي لو وجهة نظر متميزة خبصوص الثقافة‪ .‬فقد سبق عبد الرضبن بن خلدوف أراء كل‬ ‫من 'رالف لنتوف' و'ماليونفسكي'' يف األسس اخلاصة بالثقافة ‪ ،‬فقد أوضح يف مقدمتو كيف‬ ‫أف دوافع اإلنساف الفطرية ىي أساس الظواىر االجتماعية ‪ ،‬بل أساس الثقافة دبعناىا‬ ‫الكامل ‪ ،‬كما حلل النشاط االجتماعي وأبرز ما ػلتوي عليو من ظواىر ىي نفس الظواىر‬ ‫اليت أبرزىا ' ماليونفسكي' وىي ظاىرة التخصص وظاىرة تقسيم العمل وظاىرة التعاوف اليت‬ ‫‪ 1‬سامية حسن الساعايت ‪ ،‬ادلرجع السابق‪ ،‬ص‪31 -11 .‬‬ ‫‪ 2‬سامية حسن الساعايت ‪ ،‬ادلرجع السابق‪31 -31 ،‬‬ ‫‪433‬‬


‫تفكُّر ‪ ،‬جملد (‪ ،)31‬العدد (‪2013 ، )2-3‬م‪1434/‬هـ‬

‫الظاهرة االجتماعية‬

‫بدوهنا ال تتحقق مطالب اإلنساف فابن خلدوف يرى أف االجتماع اإلنساين ضروري للتعاوف‬ ‫من أجل احلصوؿ على الغذاء من جهة ولدفع عدواف احليواف من جهة أخرى"‪ .‬أما ادلفكر‬ ‫مالك بن نيب فَتى‪ ":‬أ ّف الثقافة ىي توجيو الطاقات الفردية لتحقيق بناء الفرد يف الداخل‬ ‫بالنسبة اىل مصلحتو ولتحقيق مكانو يف اجملتمع بانسجاـ تلك ادلصلحة مع مصلحة اجملتمع‪.‬‬ ‫والتحديد ىذا فيو ما يدخل يف نطاؽ االخبلؽ وفيو ما ؼلرج من ىذا النطاؽ ليدخل يف‬ ‫نطاؽ العلم والذي يدخل من ربديدنا يف ىذا النطاؽ األخَت قولنا ‪ :‬أ ّف الثقافة ىي توجيو‬

‫الطاقات الفردية ‪ ،‬وليست الثقافة يف غٌت عن ىذا الشطر من التحديد مطلقاً "‪ .1‬فالثقافة‬ ‫ىي اجلو ادلشتمل على أشياء ظاىرة ‪ ،‬مثل األوزاف والؤلحلاف واحلركات وعلى أشياء باطنة‬

‫كاالذواؽ والعادات والتقاليد ‪ ،‬دبعٌت أهنا اجلو العاـ الذي يطبع أسلوب احلياة يف رلتمع معُت‬ ‫وسلوؾ الفرد فيو بطابع خاص ‪ ،‬ؼلتلف عن الطابع الذي صلده يف حياة رلتمع آخر"‪.2‬‬

‫ويتضح من خبلؿ ىذا الرأي أف مالك بن نيب يركز على 'جو' احلياة االجتماعية وما‬ ‫ؽليزىا من أشياء ظاىرة وأخرى باطنة‪ ،‬وىو ال يكتف بتحديد ىذه العناصر فقط‪ ،‬بل يربطها‬ ‫بالعملية التطبيقية اليت ينتهي إليها التحليل ‪ ،‬ويف ذلك يقوؿ‪ " :‬إ ّف الثقافة ال تستطيع أف‬ ‫تكوف أسلوب يف رلتمع معُت ‪ ،‬كما ذكرنا ‪ ،‬آال إذا اشتملت على عنصر غلعل كل فرد‬ ‫مرتبطا هبذا األسلوب ‪ ،‬فبل ػلدث فيو نشوز بسلوكو اخلاص‪ ،‬وىذا العنصر يتمثل يف العنصر‬ ‫األخبلقي ‪ ،‬أل ّف ادلبدأ األخبلقي يقوـ بالضبط ببناء عامل األشخاص ‪ ،‬الذي ال يتصور‬ ‫بدونو عامل األشياء وال عامل ادلفاىيم"‪.3‬‬

‫‪ 1‬مالك بن نيب ‪ :‬تأمبلت ‪ ،‬دار الفكر ‪ ،‬دمشق ‪9119 ،‬ـ ‪ ،‬ص‪13 .‬‬ ‫‪ 2‬مالك بن نيب ‪ :‬تأمبلت ‪ ،‬دار الفكر ‪ ،‬دمشق ‪9119 ،‬ـ ‪ ،‬ص‪914 .‬‬ ‫‪ 3‬مالك بن نيب ‪ :‬تأمبلت ‪ ،‬دار الفكر‪ ،‬دمشق‪ 9119،‬ص‪918:‬‬ ‫‪434‬‬


‫د‪ .‬ناجي محمد حامد‬

‫دور الثقافة يف التغري االجتماعي والتنموي‬

‫ومن جانب آخر يؤكد مالك بن نيب على دور الفعالية يف العملية الثقافية ‪ ،‬إذ ال‬ ‫يكفي ربديد عناصر الثقافة ومبادئها وجوانبها النفسية‪ ،‬واالجتماعية فحسب بل ينبغي أف‬ ‫تكوف (الفكرة) يف حد ذاهتا فعالة لتحديد سلوؾ وظلط من أظلاط احلياة‪ ،‬فإ ّف فعاليتها ذات‬

‫عبلقة وظيفية بطبيعة عبلقتها دبجموع الشروط النفسية الزمنية اليت تنطبع هبا احلضارة يف‬

‫‪1‬‬ ‫اجملتمع" ‪ .‬ومع اجلابري فإنو يرى بأ ّف مفهوـ الثقافة يف السياؽ العريب ؼلتلف اختبلفاً جذرياً‬ ‫عن ادلعٌت األدلاين للكلمة وادلعٌت االثنربولوجي فهو سياؽ يتميز بتلك العبلقة االشتقاقية بُت‬

‫كلمة ثقافة وكلمة مثقف وىي عبلقة الذبدىا يف اللغات األوروبية حيث تنفصل الكلمة‬ ‫الدالة على الثقافة " كلتور " عن الكلمة الدالة على ادلثقف " انتلكتويل" انفصاالً لغوياً‬ ‫تاماً"‪ . 2‬وعليو فإف ىذا البحث يعترب الثقافة ىي كل ما يتعلق بنوعية أساليب احلياة والقيم‬ ‫اليت يبتكرىا ويتبناىا االنساف لتكوين شخصيتو االنسانية ادلتميزة وىي بالتايل تشمل كافة‬

‫االنشطة الفكرية والفنية وما يتصل هبما من مهارات يف تفاعل متبادؿ مع كافة أوجو النشاط‬ ‫االجتماعي االخرى‪ .‬وكذلك فهي تشمل كافة فعاليات االنساف متضمنة كل ما أنتجو البشر‬ ‫يف احلياة من إنتاج مادي أو غَت مادي وعبلقة االنساف بالبيئة احمليطة ووطنو وابداعاتو ادلادية‬ ‫واجلمالية وذاكرتو اجلماعية واذليكل الشامل والبنية العريضة لللوعي هبذه العبلقة والذاتية‬ ‫اجلماعية‪.‬‬ ‫نشأة الثقافة وتطورها‪:‬‬ ‫شلا الشك فيو أ ّف الثقافة البشرية نشأت مع ظهور االنساف على االرض وتطورت‬ ‫من عصر إىل عصر على مر التاريخ‪ .‬وكلما أمعنت الثقافة اليت نبحث عنها يف أعماؽ‬ ‫‪ 1‬مالك بن نيب ‪ :‬مشكلة الثقافة ‪،‬ترصبة عبد الصبور شاىُت ‪ ،‬دار الفكر (بَتوت) دوف تاريخ ‪ ،‬ص‪11‬‬ ‫‪ 2‬زلمد عابد اجلابري ‪ ،‬مرجع سبق ذكره ‪ ،‬ص‪.91 -98 .‬‬ ‫‪435‬‬


‫تفكُّر ‪ ،‬جملد (‪ ،)31‬العدد (‪2013 ، )2-3‬م‪1434/‬هـ‬

‫الظاهرة االجتماعية‬

‫التاريخ يف القدـ كلما ندر أف صلد يف احلفريات مايدؿ عليها أو يكشف أسرارىا‪ .‬ومع‬ ‫تواصل ىذه احلفريات كشفت لنا تطور ثقافة االنساف على األرض يسميها العلماء "‬ ‫حفريات العقل " حيث أهنا كشفت عن تطور العقل البشري ‪ ،‬خالق تلك الثقافة وبانيها ‪،‬‬ ‫فقد أمكن العثور منها على " أحجار فجر التاريخ" منذ ماقبل العصر اجلليدي دبراحلو‬ ‫األربعة‪ .‬استمر ىذا التطور عرب عصور التاريخ ادلختلفة ولكل مرحلة ثقافتها اخلاصة هبا حىت‬ ‫حقق طفرة ملحوظة بظهور االنساف احلديث ‪ 90.000‬سنة قبل ادليبلد حيث ظهر الفن‬ ‫اذلندسي اخلاـ واالحجار واستخداـ القوس والسهم واألواين الفخارية وغَتىا‪.‬‬ ‫خصائص وسمات الثقافة ‪:‬ـ‬ ‫‪ -‬الثقافة مكتسبة‪:‬‬

‫فهي ليست غريزية وال فطرية ‪ ،‬كما أهنا ال تنتقل بيولوجياً ولكنها تتكوف من‬ ‫العادات اليت يكتسبها كل فرد خبلؿ خربة حياتو‪ .‬ويكتسب األفراد الثقافة من خبلؿ‬ ‫صبلهتم وعبلقاهتم باآلخرين ‪ ،‬وتشَت عملية التعلم واالكتساب إىل أساليب السلوؾ‬ ‫االجتماعي ادلشًتكة بُت أعضاء صباعة اجتماعية معينة يتعلمها الفرد من خبلؿ عملية‬

‫التكيف االجتماعي ويكتسب الطفل ثقافة اجملتمع الذي ترىب فيو عن طريق التعلم واحملاكاه‪.1‬‬

‫ الثقافة متحولة وانتقالية‪ " :‬تنتقل الثقافة من جيل إىل جيل على شكل عادات وتقاليد‬‫و نظم وأفكار ومعارؼ يتوارثها اخللف عن السلف عن طريق ادلخلفات ادلادية والرموز‬ ‫اللغوية‪ ،‬كما أهنا تنتقل من وسط اجتماعي آخر وهبذا ادلعٌت فهي تراكمية أي أف‬

‫‪ 1‬سامية حسن الساعايت‪ ،‬مرجع سبق ذكره ‪ ،‬ص‪. 41‬‬ ‫كذلك عبد احلميد زلمود سعد ‪ ،‬دراسات يف علم االجتماع الثقايف ‪ ،‬جامعة ادلنيا ‪ ،‬مكتبة هنضة‬ ‫الشروؽ ‪ ، 9180‬ص‪.81‬‬ ‫‪436‬‬


‫د‪ .‬ناجي محمد حامد‬

‫دور الثقافة يف التغري االجتماعي والتنموي‬

‫خربات وعادات وتقاليد اجلماعة تنتقل دبرور الزمن إىل األجياؿ اجلديدة فتتأثر هبا‬

‫وتؤثر فيها ‪ ،‬وىكذا ػلدث الًتاكم الثقايف‪.1‬‬

‫ الثقافة مثالية ‪ " :‬ينظر إىل العادات االجتماعية اليت تكوف الثقافة على أهنا سبثل ظلاذج‬‫مثالية ينبغي على أعضاء اجلماعة أو اجملتمع أف ػلتذوىا أو ؽلتثلوا ذلا ويتكيفوا معها ‪،‬‬ ‫وقد يكوف ىناؾ تفاوت ملحوظ بُت النموذج والواقع‪ ،‬ولكن أعلية وجود النموذج أو‬

‫ادلثاؿ تبقى موجودة ومعروفة"‪.2‬‬

‫ الثقافة إشباعية‪ :‬من أىم خصائص الثقافة أيضاً إهنا إشباعية بالضرورة للحاجات‬‫البيولوجية األولية الثانوية ادلشتقة منها أيضاً ‪ ،‬ولذلك يقاؿ أف للثقافة خاصية إشباعية‪،‬‬ ‫واجلوع والعطش مثاالف على احلاجات البيولوجية ‪ ،‬أما احلاجات الثانوية ادلشتقة‬

‫فيمكن أف نطلق عليها احلاجات االجتماعية الثقافية ألهنا تظهر وتنشأ من خبلؿ‬ ‫التفاعل االجتماعي ‪،‬وتنتقل بالطريقة نفسها ‪ ،‬مثل احلاجة إىل الزواج ‪ ،‬وكذلك تدعيم‬ ‫العادات ادلتوارثة عرب األجياؿ ‪ ،‬بينما ينجم عن قلة اإلشباع أف تنطفئ العادات أو‬

‫زبتفي سباماً‪.3‬‬

‫ الثقافة تكيفية‪ " :‬إ ّف الثقافة تتغَت وتتميز عملية التغَت بأهنا عملية تكيفية ؽلكن‬‫مقارنتها على وجو ما بالتطور يف علم الكائنات احلية‪ ،‬ولكنها تأخذ رلرى آخر‪،‬‬ ‫وسبيل الثقافات إىل التكيف مع البيئة اجلغرافية ‪ ..‬والبيئة االجتماعية"‪.4‬‬

‫‪ 1‬سامية حسن الساعايت ‪ ،‬مرجع سبق ذكره ‪ ،‬ص‪41 .‬‬ ‫‪ 2‬سامية حسن الساعايت‪ ،‬مرجع سبق ذكره ‪ ،‬ص‪41 .‬‬ ‫‪ 3‬سامية حسن الساعايت‪ ،‬مرجع سابق ‪ ،‬ص‪44 -41 .‬‬ ‫‪ 4‬سامية حسن الساعايت‪ ،‬مرجع سابق ‪ ،‬ص‪48 -44 .‬‬ ‫‪437‬‬


‫تفكُّر ‪ ،‬جملد (‪ ،)31‬العدد (‪2013 ، )2-3‬م‪1434/‬هـ‬

‫الظاهرة االجتماعية‬

‫ الثقافة تكاملية ‪ " :‬يعد ميل ادلكونات الثقافية بعينها إىل أف تلتحم وتتحد لتكوف‬‫كبلً منسجما ىو أحد نتائج عملية التكيف‪ ،‬وأ ّف العادات االجتماعية تتعرض‬ ‫لضغوط من أجل أف تتكامل وتتناسق بعضها مع بعض ‪ ،‬لكن التكامل احلقيقي‬ ‫ال يتحقق بشكل تاـ ‪ ،‬وىناؾ دائما ما يسميو (اوجربف) التخلف الثقايف الذي ينشأ‬ ‫من اختبلؼ سرعة التغيَت بُت العناصر ادلادية والعناصر غَت ادلادية يف الثقافة"‪.1‬‬

‫وبالطبع فإ ّف العناصر ادلادية يكوف التغيَت فيها أسرع منو يف العناصر غَت ادلادية‪.‬‬

‫ الثقافة انتقائية ‪ ":‬يتم توارث الثقافة من جيل إىل جيل ‪ ،‬ولكن العملية ال ؽلكن‬‫تصورىا بطريقة آل ية وحتمية بل تتم العملية عن وعي وإدراؾ ‪ ،‬وال ؽلكن يف أغلب‬ ‫األحياف ربديد طريقة االنتقاؿ ىذه ‪ ..‬وخبلفاً للموروثات البيولوجية اليت ربدث‬ ‫للكائن احلي فإ ّف انتقاؿ عناصر الثقافة ينتقي منها البعض ويستبعد البعض اآلخر‬

‫تبعا لظروفو وحاجاتو‪ ،‬وغلب أف نربز ىنا حقيقة جوىرية وىي أنو ليس معٌت االنتقاء‬

‫أف لنا اختياراً تاماً يف قبوؿ عناصر ثقافية أو رفضها ‪ ،‬الف ىذه العناصر تعلوعلى‬

‫مشيئتنا إىل حد ما‪ ،‬وغاية ما ىنالك أف قبولنا الواعي لعناصر الثقافة غلعل لنا نوعاً‬ ‫من القدرة على تكييفها تبعاً لظروفنا والوقوؼ منها موقف اإلنتماء ال موقف‬ ‫التلقي السليب وىوما يذىب إليو بن خلدوف من تبدؿ األحواؿ بتبدؿ اإلعصار‬

‫ومرور األياـ"‪.2‬‬

‫ الثقافة اجلامدة‪ " :‬إف حدث التغيَت الثقايف ببطء شديد ‪ ،‬ويف نطاؽ ضيق ‪ ،‬فانو ال‬‫يدرؾ بسهولػة ‪ ،‬ويف ىػذه احلاؿ توصف الثقافػة باالستقػرار واجلمود‪ ،‬كثقافات‬

‫‪ 1‬سامية حسن الساعايت‪ ،‬مرجع سابق ‪ ،‬ص‪41 .‬‬ ‫‪ 2‬سامية حسن الساعايت‪ ،‬مرجع سابق ‪ ،‬ص‪80 .‬‬ ‫‪438‬‬


‫د‪ .‬ناجي محمد حامد‬

‫دور الثقافة يف التغري االجتماعي والتنموي‬

‫الشعوب البدائية ‪ ،‬أو ثقافات البيئات الريفية ‪ ،‬ومن بُت أسباب صبود الثقافة العزلة‬

‫وعدـ االتصاؿ بالثقافات األخرى واالستفادة من خرباهتا"‪.1‬‬

‫ الثقافة ادلتغَتة‪ :‬ذكرنا يف احلالة السابقة صبود الثقافة بفعل االستقرار والعزلة ‪ ،‬وأما‬‫الثقافة ادلتغَتة فهي نتاج حدوث التغَت الثقايف بسرعة ويف نطاؽ واسع ؽلس كثَتاً من‬

‫مظاىر احلياة ‪ ،‬ففي ىذه احلاؿ ؽلكننا أف نصنف الثقافة بأهنا متغَتة كثقافة ادلدينة‬

‫بالنسبة لثقافة الريف ‪ ،‬أل ّف ادلدينة ىيئة اجتماعية مفتوحة خبلفاً للريف ‪ ،‬وكلكما‬ ‫اجملتمع مفتوحاً أي على اتصاؿ بغَته زادت التغَت فيو"‪ .2‬وذلذا صلد اجملتمعات‬ ‫احلديثة سريعة التغَت إىل درجة كبَتة بفعل االنتشار السريع والتحوؿ والتغَت الدائم‬

‫للتكنولوجيات وسلتلف أجهزة االتصاالت والتقنيات احلديثة‪.‬‬ ‫وظائف الثقافة‪:‬‬ ‫تقوـ الثقافة بوظيفة متعددة اجلوانب لصاحل الفرد واجلماعة ‪ ،‬وحسب ما مر معنا‬ ‫من تعريفات الثقافة وخصائصها فهي سبكن الفرد من إشباع حاجتو البيولوجية والنفسية‪،‬‬ ‫وكما ربفظ كياف اجلماعة تضمن استمرارىا يف الوجود‪.‬‬ ‫الوظيفة األولى‪ :‬تتمثل يف أ ّف ثقافة رلتمع ما سبد أعضاءه بتربيرات لشرعية ظلط اإلنتاج‬ ‫السائدة وظلط التوزيع‪.‬‬ ‫الوظيفة الثانية‪ :‬إهنا سبد الفرد من خبلؿ إجراءات وطقوس التنشئة االجتماعية ادلقبولة ‪،‬‬ ‫ببنية دافعة تربط ىويتو ‪ ،‬والنمط السائد يف اإلنتاج‪.‬‬

‫‪ 1‬سامية حسن الساعايت‪ ،‬مرجع سابق ‪ ،‬ص‪81 .‬‬ ‫‪ 2‬سامية حسن الساعايت‪ ،‬مرجع سابق ‪ ،‬ص‪81 .‬‬ ‫‪439‬‬


‫تفكُّر ‪ ،‬جملد (‪ ،)31‬العدد (‪2013 ، )2-3‬م‪1434/‬هـ‬ ‫الوظيفة الثالثة‪:‬‬

‫الظاهرة االجتماعية‬

‫أهنا سبد أعضاء اجملتمع بتفسَتات رمزية للحدود الطبيعية للحياة‬ ‫اإلنسانية‪.‬أف الثقافة استقامة يف السلوؾ واألخبلؽ وهتذيب للشواعر‪ ،‬وىي‬ ‫تشمل أيضاً نواحي النشاط العادي ‪ ،‬كالعبادات ‪ ،‬والعادات والتقاليد ‪،‬‬

‫إضافة إىل ذلك فهي تشمل النشاط الفكري ‪ ،‬كاألدب ‪،‬والعلم‪،‬‬

‫والفلسفة ‪ ،‬والفن ‪ ،‬جبميع أنواعو وسلتلف فروعو ‪ ،‬فهي نتاج فكري ‪ .‬وعلى‬ ‫وجو العموـ ؽلكن اعتبار الثقافة ابتكار واخًتاع يف الفكر ‪ ،‬وىي يف خدمة‬ ‫اإلنساف‪.‬‬ ‫عالقة الثقافة بالشخصية‪:‬‬ ‫توجد بُت الثقافة والشخصية (الفردية واجلماعية) عبلقة تأثَت متبادؿ ‪ ،‬فكبلعلا تؤثر‬ ‫يف مكونات األخرى وتتأثر هبا ‪ ،‬وتتم ىذه العملية داخل أي نظاـ اجتماعي‪ ،‬وذلذا تعترب‬ ‫"كاردنر" ‪ " KARDINER‬أ ّف كل نظاـ اجتماعي ثقايف يتميز بشخصية أساسية‪،‬‬ ‫وؽليل كل رلتمع إىل تشكيل كل ثقايف فريد‪ ،‬ؽلكن جملتمعات متشاهبة من جهة تطورىا‬

‫االقتصادي أف تكوف سلتلفة عن بعضها بقوة من الناحية الثقافية"‪.1‬‬

‫وىكذا نبلحظ اف اجملتمع األدلاين ؼلتلف عن اجملتمع اإلصلليزي ثقافيا رغم تقارهبما اقتصاديا‬ ‫وكذلك اجملتمع الياباين ؼلتلف ثقافيا اختبلفا واضحا عن اجملتمع األمريكي رغم تقارب‬ ‫تطورعلا االقتصادي‪.‬‬ ‫وربيلنا ىذه ادلبلحظة إىل أ ّف النظاـ االجتماعي يصبح متميزاً بثقافة خاصة ‪ ،‬من‬

‫خبلؿ أظلاط سلوكية تزيد يف انتشارىا وتعميمها على األفراد وسائل االتصاؿ بصفة مركزة‬ ‫ودائمة ‪ ،‬ومثلما تتمايز ثقافات اجملتمعات ادلتقاربة اقتصاديا تتمايز أيضاً ثقافات األفراد‬ ‫ادلتقاربة جغرافيا داخل اجملتمع الواحد‪ ،‬فبُت ادلدينة (أ) مثبل وادلدينة (ب) تعد العادات‬ ‫‪ 1‬ر‪-‬بودوف ‪ ،‬وؼ ‪.‬بور يكو – ادلعجم النقدي لعلم االجتماع ‪ ،‬ترصبة د‪.‬سليم حداد ‪ ،‬ديواف‬ ‫ادلطبوعات اجلامعية ‪ 9181‬ط‪ : 9‬ص ‪118 .‬‬ ‫‪441‬‬


‫د‪ .‬ناجي محمد حامد‬

‫دور الثقافة يف التغري االجتماعي والتنموي‬

‫والتقاليد واألفكار متمايزة وسلتلفة عن بعضها البعض بينما ادلسافة بُت ادلدينتُت قد ال‬ ‫تتجاوز ‪ 900‬كلم‪.‬ويف إطار جدلية التأثَت ادلتبادؿ بُت الثقافة والشخصية صلد أ ّف الثقافة‬ ‫تؤثر يف الشخصية من عدة جوانب منها‪:‬الناحية العقلية ‪ ،‬فالفرد الذي يعيش يف صباعة‬ ‫تسود يف ثقافتها العقائد الدينية أو األفكار السحرية تنشأ عقليتو وأفكاره متأثرة بذلك"‬ ‫وبدورىا تتأثر الناحية ادلزاجية لؤلفراد واجلماعات بنوع الثقافة اليت ينشأ فيها‪ ،‬وتتضمن‬ ‫الناحية ادلزاجية تلك االستعدادات الثابتة نسبيا ادلبنية على ما لدى الشخص من الطاقة‬ ‫االنفعالية والدوافع الغريزية اليت يتزود هبا منذ طفولتو وىكذا نسمع عن بعض اجلماعات‬ ‫والش عوب أهنا تتميز دبزاج ىادئ‪ ،‬وخبلفا ذلا توجد شعوب أو رلتمعات كاملة يغلب على‬ ‫مزاجها طابع العنف واالستعداد ادلبكر للمواجهة‪ .‬وال بد من التوضيح أ ّف الثقافة ال تغَت نوع‬

‫أو طبيعة االنفعاالت نفسها ‪ ،‬بل تؤثر يف كيفية التعبَت عنها‪ ،‬أي أف الثقافة تلعب دوراً‬ ‫جربياً إلزامياً يف تنميط العبلقات‪ ،‬أي تكوين أظلاط خاصة هبا" فاإلنساف ىو صانع الثقافة‬ ‫ومبتكرىا وناقلها ومغَتىا يف الوقت الذي ػلدد فيو البناء االقتصادي واالجتماعي للمجتمع‬ ‫‪ ،‬طابع النشاطات االجتماعية البشرية ‪ ،‬وجوىرىا فإنو ىو ذاتو نتاج ذلذه النشاطات ‪.‬‬ ‫والتوجد بالتايل ثقافة من الثقافات غَت خاضعة للتغَت الثقايف فهي نتاج اجتماع انساين‬ ‫تتحوؿ وتتغَت بتغَت حالة ىذا االجتماع من حيث ظلط العيش واحلالة التارؼلية التنموية‬ ‫السائدة يف ذلك اجملتمع‪.‬‬ ‫مفهوم التنمية ‪:‬‬ ‫لقد تعددت ادلفاىيم والتعريفات ادلستخدمة يف رلاؿ الفكر التنموي من حقبة زمنية‬ ‫إىل أخري منذ مصطلح النمو والتنمية االقتصادية مرورا بالتنمية االجتماعية والتنمية الشاملة‬ ‫والتنمية ادلستدامة والتنمية البشرية‪.‬‬

‫‪444‬‬


‫تفكُّر ‪ ،‬جملد (‪ ،)31‬العدد (‪2013 ، )2-3‬م‪1434/‬هـ‬

‫الظاهرة االجتماعية‬

‫إ ّف أبلغ تعريف للتنمية قرأتو وشدين إليو ىو ذلك يعرفها بأهنا "العلم حُت يصبح‬ ‫ثقافة" وأعلية ىذا التعريف ترجع يف نظرنا ‪ ،‬ليس فقط إىل ادلضموف الذي يعطيو للتنمية‬ ‫يعكس واقع التطور واذباىو يف العامل ادلعاصر ‪ ،‬واقع الثورة العلمية التقانية وآفاقها ‪ ،‬بل ألنو‬ ‫يعطي كذلك ؿ "غياب التنمية" أو" التخلف" مضموناً يعرب ىو األخر أصدؽ تعبَت عن‬

‫واقع البلداف ادلسماة " نامية" دبعٌت أهنا متخلفة تسعى إىل ربقيق التقدـ ‪ .‬وىكذا فإذا كانت‬ ‫التنمية ىي "العلم حُت يصبح ثقافة" فإف التخلف سيكوف ىو "العلم حُت ينفصل عن‬

‫الثقافة" أو ىو "الثقافة حُت اليؤسسها العلم" ‪ .1‬إنطبلقاً من ىذا التعريف يقع ربديدنا‬ ‫دلفهوـ التنمية البشرية يف ىذا البحث‪ ،‬بإعتبارىا‪ ،‬عملية اجتماعية تؤسس لنشر ثقافة‬

‫اجتماعية علمية وفلسفية تكرس أساليب البحث العلمي ومناىجو‪ ،‬نظرية وشلارسة‪ ،‬من أجل‬ ‫بناء عناصرنا البشرية الفاعلة‪ ،‬وىي يف نفس الوقت الشرط الضروري لبلنتماء ذلذا العصر‬ ‫العلمي والتقاين وإستدامة التنمية البشرية وضرورة من ضرورات األمن الوطٍت‪ .‬إ ّف مكانة‬ ‫العقل ىي ضرورية لؤلمة اآلمنة‪ ،‬تدفع األفراد وادلؤسسات االجتماعية الختيار الكماؿ‬ ‫واالمتياز يف كل األشياء‪ .‬فهاجس النوعية وادلقاييس الرفيعة ضروري لبقاء اجملتمع يف العامل‬

‫ادلعاصر(‪ .)2‬الشك إف االنساف ىو زلور قضية التنمية وعنصرىا الفعاؿ وىو يف الوقت نفسو‬ ‫ىدفها فمنو تبدأ التنمية وتنمو كل اذباىاهتا وإليو تعود شبارىا ‪ .‬ومن ىنا فإ ّف التنمية بادلفهوـ‬

‫العصري الراىن تعتمد إىل حد كبَت على التنمية البشرية من أجل صلاح مشاريع التنمية ومن‬

‫أجل استدامتها‪.3‬‬

‫‪ 1‬زلمد عابد اجلابري مرجع سبق ذكره‪ ،‬ص‪901 .‬‬ ‫‪ 2‬أنطواف زحبلف ‪ ،‬العرب والعلم والتقانة‪ ،‬سلسلة الثقافة القومية‪ ،‬مركز دراسات الوحدة العربية ‪ ،‬بَتوت‪،‬‬ ‫الطبعة األوىل‪ ،9188،‬ص‪18.‬‬ ‫‪Maider Maraña, Culture and Development, Evolution and 3‬‬ ‫‪prospects , UNESCO , Etxea, 2010.P.4- 6.‬‬ ‫‪442‬‬


‫د‪ .‬ناجي محمد حامد‬

‫دور الثقافة يف التغري االجتماعي والتنموي‬

‫مفهوم التغير الثقافي‪:‬‬ ‫لقد اىتم االنثربولوجيوف بدراسة التغَت الثقايف وشكل جل اىتمامهم بو ىدفا‬ ‫أساسياً دليداف البحث يف االنثربولوجيا على ادلستويُت النظري وادليداين‪ .‬وىنالك تعريفات‬

‫عديدة دلفهوـ التغَت االجتماعي والثقايف‪ .‬مفهوـ التغَت الثقايف ىو كل ما ػلدث من تغَتات‬

‫يف صبيع قطاعات ونظم اجملتمع سواء ما يتصل بالناحية ادلادية مثل التغَتات التكونولوجية أو‬

‫ما يتصل بالناحية غَت ادلادية مثل االيديواوجيا والقيم واألفكار‪ .1‬بالتايل الؽلكن تصور‬ ‫حدوث تغَتات ثقافية خارج البناء االجتماعي أو خارج وظائفو أل ّف البناء االجتماعي ىو‬ ‫االطار االيكولوجي الذي تتجسد فيو ثقافة معينة‪.‬وقد ميز غالبية االنثربولوجيوف بُت التغَت‬ ‫االجتماعي والتغَت الثقايف ‪ ،‬فالتغَت االجتماعي يتضمن التبدالت والتحوالت اليت ربدث‬ ‫فقط يف رلاؿ التنظيم االجتماعي أو ما يطرأ على بناء اجملتمع ونظمو االجتماعية من‬ ‫تبدالت وهبذا يكوف التغَت االجتماعي جزءاً من فئة أكرب وىي التغَت الثقايف‪ .‬وىذا يعٍت أ ّف‬ ‫التغَت الثقايف أمشل من التغَت االجتماعي ‪.2‬‬ ‫دور الثقافة في التغير االجتماعي‪:‬‬ ‫البد من االشارة يف البداية إىل أ ّف اجملتمع الدويل يعيش منعرجاً تارؼليا أصبح فيو‬ ‫الًتكيز أكثر فأكثر على مفهوـ االعتماد ادلتبادؿ الذي يعترب االنسانية كلها رلموعة واحدة‬ ‫ذات مشاغل وأىداؼ كربى موحدة " ضباية البيئة – احلفاظ على استمرارية احلياة البشرية‪-‬‬ ‫قيم اخبلقية مشًتكة – حوار احلضارات " ‪ .‬ويف ىذا االطار يأيت مفهوـ التغَت االجتماعي‬ ‫يف موقع متقدـ وضرورة من ضرورات االطلراط يف ادلنظومة العادلية وضرورة من ضرورات البقاء‬ ‫‪ 1‬عبد احلميد زلمود سعيد‪ ،‬دراسات يف علم االجتماع الثقايف ‪ ،‬مكتبة هنضة الشروؽ ‪ ،‬القاىرة ‪،‬‬ ‫‪ ، 9180‬ص‪10.‬‬ ‫‪ 2‬عبد احلميد زلمود سعد‪ ،‬ادلرجع السابق ‪ ،‬ص‪.11 -19 .‬‬ ‫‪443‬‬


‫تفكُّر ‪ ،‬جملد (‪ ،)31‬العدد (‪2013 ، )2-3‬م‪1434/‬هـ‬

‫الظاهرة االجتماعية‬

‫وكسب رىاف ادلنافسة العادلية ‪ .‬التغَت االجتماعي ىو التغَت الذي يصيب البناء االجتماعي‬ ‫الكلي يف صبيع مكوناتو واجزائو‪ .‬لقد تعددت التعريفات من قبل ادلختصُت يف علم االجتماع‬ ‫حوؿ مفهوـ التغَتاالجتماعي وعليو يرى البعض من الصعوبة دبكاف وضع تعريف مانع‬ ‫جامع دلفهوـ وابعاد ال تغَت االجتماعي "ألف كل شيء يف حياتنا عرضة للتغَت ادلستمر على‬ ‫الدواـ ‪ ،‬فكل يوـ يف حياتنا يوـ جديد وكل حلظة سبثل حدثا مستجدا يف العمر‪ .‬وعلى حد‬ ‫تعبَت الفيلسوؼ اليوناين القدمي ىَتقليطس فإ ّف ادلرء ال يستحم يف النهر الواحد مرتُت ‪ ،‬ألف‬

‫النهر يتغَت جبرياف ادلاء فيو مثلما يتغَت الشخص فور احساسو أو مبلمستو دلاء النهر ‪ ..‬ورغم‬ ‫دقة ىذه ادلبلحظة فإننا ظليل اىل إسباغ طابع الثبات والدؽلومة ولو لفًتات زلدودة عل أنفسنا‬ ‫وعلى ما حولنا‪ .‬ورغم ماػلدث من وجوه التغَت سواء كانت طفيفة أـ كبَتة ‪ ،‬فإننا نظل‬

‫نعتقد أف للنهر شكبلً ثابتاً ‪ ،‬واف لئلنساف ولشخصيتو مبلمح تبقى على حاذلا من دوف‬ ‫تغيَت"‪ .1‬ومن خبلؿ ىذا الوصف للتغَت االجتماعي نستطيع القوؿ بأ ّف التغَت االجتماعي‬ ‫ىي مسألة نسبية حلظية‪ ،‬فالتغَت االجتماعي الراىن يتميز بالتسارع اذلائل وادلستمر بسبب‬

‫تأثَت العلم والتقانة على سلتلف العوامل االقتصادية والسياسية والثقافية‪ .‬إف التغَتات اليت‬ ‫ذبري يف عامل اليوـ يف سلتلف دوؿ العامل جعلت الثقافات واجملتمعات أكثر تداخبلً وقرباً‬ ‫واعتماداً على بعضها البعض أكثر شلا كاف عليو األمر يف ادلاضي‪ .‬حيث أصبح كل منا على‬ ‫حد تعبَت غدنز "يعيش يف الساحة اخللفية لآلخر" ودلا كانت احلياة االجتماعية الثقافية مسة‬ ‫شليزة للجنس البشري سبيزه عن غَته من الكائنات احلية‪ ،‬ىذا اجملتمع البشري الدائم التغيَت‬ ‫نتيجة لسنة احلياة الدنيا ونتيجة للتقدـ العلمي والتكنولوجي ادلعاصر‪ ،‬بالتايل فإ ّف عملية‬ ‫التنشئة واعداد الفرد منذ الطفولة للحياة اجملتمعية من خبلؿ مؤسسات األسرة وادلدرسة‬ ‫ووسائط االعبلـ والثقافة من الضروري دبكاف من أجل احلفاظ على اذلوية والكياف الثقايف‬ ‫‪ 1‬انطوين غدنز ‪ ،‬مرجع سبق ذكره ‪903 ،‬‬ ‫‪444‬‬


‫د‪ .‬ناجي محمد حامد‬

‫دور الثقافة يف التغري االجتماعي والتنموي‬

‫الذي أصبح خط الدفاع األوؿ بعد أف ربوؿ الصراع من صراع عسكري واستعماري مسلح‬ ‫إىل صراع ثقايف يعيش داخل منازلنا ويف عقر ديارنا وىو أمر البد منو ‪ .‬وعليو غلب التشجيع‬ ‫على االستثمار يف القطاع الثقايف من أجل إحياء الًتاث وذبديده وتسويقو داخليا وخارجياً ‪.‬‬ ‫ثقافة التنمية‪:‬‬

‫شلا الشك فيو أ ّف العمل الثقايف دبعٌت النشاط االبداعي بكل أشكالو يساىم بصفة‬

‫أساسية يف إعطاء النمط التنموي نوعية شليزة وخصوصية ذاتية ألنو يستجيب حلاجيات نوعية‬ ‫ضرورية غلب تلبيتها واشباعها حىت التقع خلخلة البٌت الذاتية للمجتمع وربل االضلرافات‬ ‫ادلدمرة‪ .‬وبالتايل يصبح اجلهد اذلائل ادلبذوؿ من أجل التنمية بدوف جدوى ‪ ،‬إف مل يكن‬ ‫جهداً ضائعاً مفلساً يف ادلدى ادلتوسط‪ .‬إ ّف توجيو االىتماـ وبذؿ اجلهد لصاحل العمل الثقايف‬ ‫دبعٌت االبداع بكل اشكالو الفنية واجلمالية والتقنية يأخذ أعلية قصوى يف رلتمعنا ادلعاصر‬

‫الذي يواجو ما يسمى بصدمة احلداثة والغزو الثقايف‪ .‬ويف ىا االطار يقوؿ وزير فرنسي سابق‬ ‫للثقافة جاؾ النغ ‪ " Lang‬الثقافة ىي القواـ األساسي للحركية االقتصادية وىي أوؿ‬ ‫صناعة تصديرية " فالتوفَت أو االستثمار من أجل الثقافة ىو التوفَت يف احلقل االقتصادي دلا‬ ‫لو من بعد مستقبلي يعطي للحياة كل معانيها‪ .‬وعليو ؽلكن القوؿ التوجد ثقافة بدوف تنمية‬ ‫كما التوجد تنمية بدوف ثقافة فكبلعلا يعزز األخر ‪ .‬ويف ىذا االطار يأيت دور الثقافة لتعزيز‬ ‫كل معاين التمكُت والعدالة واالستدامة واألمن وثقافة العمل ادلنتج باعتباره أحد ضرورات‬ ‫التنمية البشرية كما تعترب التنمية البشرية أحد ضرورات العمل ادلنتج‪ .‬والتنمية البشرية‪ ،‬تعٍت‬ ‫توفَت الفرص اجملتمعية والبيئية والعدالة يف توزيعها لنمو الطاقات اجلسمانية والعقلية والروحية‬

‫‪445‬‬


‫تفكُّر ‪ ،‬جملد (‪ ،)31‬العدد (‪2013 ، )2-3‬م‪1434/‬هـ‬

‫الظاهرة االجتماعية‬

‫واالبداعية واالجتماعية إىل أقصى ماتستطيعو طاقات وإبداعات الفرد واجلماعة(‪ .)1‬وذلك‬ ‫يف ضوء القيم الثقافية واالوضاع االجتماعية ادلعقدة يف ظل التحديات ادلاثلة أمامنا اليوـ‪،‬‬ ‫وىي القدرة على اإلبداع العلمي والتقاين‪ ،‬والتوظيف األمثل لكل أنواع التكنولوجيات‬ ‫ادلناسبة كوسيلة من وسائل القضاء على الفقر‪ ،‬وتوفَت شروط العمل ادلنتج واإلنتاجية العالية‪،‬‬ ‫والسعي الدؤوب لتأصيل معاين الدؽلقراطية وحقوؽ اإلنساف ىدفاً ووسيلة للمشاركة يف‬ ‫صياغة حاضرومستقبل أفضلُت‪.‬‬ ‫التنمية الثقافية ‪:‬‬ ‫هتدؼ التنمية الثقافية قبل كل شئ إىل بناء االنساف معنوياً ‪ ،‬ومن ىذا اذلدؼ‬ ‫تتبلور األىداؼ الثانوية حيث يربز دور اإلعبلـ واضحاً يف ربقيق ىذه األىداؼ‪.‬‬ ‫إ ّف أىداؼ وزارات الثقافة ووزارات اإلعبلـ يف سلتلف الدوؿ النامية تتفق يف مفهوـ‬

‫التنمية الثقافية‪ .‬ولكن الصعوبة تبدأ مع التطبيق والتخطيط الثقايف واالعبلمي ‪ .‬فالعمل‬ ‫اليومي يستوعب طاقات أجهزة الثقافة واالعبلـ يف كثَت من األحياف فيتوه منها الطريق الذي‬ ‫رمسو التخطيط أو يتعذر تنفيذ أىم األعماؿ الثقافية بسبب تركيز اجلهد على مانشتات‬ ‫الصحف ونشرات األخبار يف اإلذاعة والتلفزيوف‪.‬‬ ‫إ ّف أىم األىداؼ األساسية للتنمية الثقافية إىل جانب بناء االنساف ‪ ،‬إثراء وجداف‬

‫ادلواطن بالقيم الروحية والتقاليد األصلية وزلو األمية الثقافية وبناء ادلواطن ادلستنَت الذي يبدع‬ ‫ويبتكر ويبٍت الدولة العصرية وربقيق جو دؽلقراطي حر تزدىر فيو كل طاقات الفكر اخلبلؽ‬ ‫واالبداع الفٍت‪ .‬كيف نبٍت االنساف احلر ادلبدع ادلفكر اخلبلؽ ؟ بأي وسيلة نصل إىل ىذا‬ ‫اذلدؼ ؟ ماىو الكتاب الذي غلب أف نقدمو لعقلو ؟ واللوحة اليت ننمي من خبلذلا ملكاتو‬ ‫‪ 1‬حامد عمار‪ ،‬التنمية البشرية يف الوطن العريب‪،‬ادلفاىيم – ادلؤشرات – األوضاع ‪ ،‬دار سيناء للنشر ‪،‬‬ ‫مصر‪ ،‬يناير ‪.9119‬مرجع سابق‪ ،‬ص(‪.)11‬‬ ‫‪446‬‬


‫د‪ .‬ناجي محمد حامد‬

‫دور الثقافة يف التغري االجتماعي والتنموي‬

‫والفيلم وادلسرحية وبقية الزاد الثقايف الذي يشبع حاجاتو الروحية وادلعنوية واليت التقل أعلية‬

‫عن مطالبة ادلادية األساسية‪ .1‬وىذا يقتضي االىتماـ والرعاية من قبل الدولة بدور الثقافة‬ ‫وأجهزة الرعية ادلختلفة وهتيئة ادلناخ ادلبلئم لتوفَت ادلعرفة وتنمية الثقافة من خبلؿ ادلنتديات‬

‫العامة للنقاش وادلناظرات يف النوادي ودور الثقافة ومراكز الشباب ومراكز زلو األمية‪ 2‬وغَتىا‬ ‫من مؤسسات اجملتمع ادلدين الناشطة يف احلقل الثقايف كاالحزاب السياسية وغَتىا‪ .‬فالدولة‬ ‫يف أوربا سبوؿ الثقافة بنسب تًتاوح بُت ‪ %11‬و ‪ %900‬يف بعض البلداف ‪ .‬كذلك‬ ‫انتشرت حديثاً على نطاؽ واسع يف أوروبا وامريكا الشمالية والياباف خبلؿ العقدين األخَتين‬

‫يف رعاية ادلؤسسة الصناعية والتجارية واالقتصادية عموماً للثقافة ومساعلتها يف سبويل اآلداب‬

‫والفنوف والعلوـ ومشاريعها ودعم الفنانيُت وادلبدعُت وصيانة ادلعامل األثرية‪ .‬بل ىناؾ بعض‬ ‫البلداف يف زليطنا العريب منذ مطلع التسعنيات أضحت تتحدث عن تسويق ادلنتوجات‬

‫الثقافية حيث غدت ىذه العملية ذات قيمة انتاجية عالية ورافد أساسي من روافد التغيَت‬ ‫والتنمية ادلستدامة‪.‬‬

‫‪ 1‬ادلنظمة العربية للًتبية والثقافة والعلوـ ‪ ،‬الثقافة ودورىا يف التنمية ‪ ،‬ص‪48 -44 .‬‬ ‫‪ 2‬نفس ادلرجع ‪ ،‬ص ‪81‬‬ ‫‪447‬‬


‫تفكُّر ‪ ،‬جملد (‪ ،)31‬العدد (‪2013 ، )2-3‬م‪1434/‬هـ‬ ‫الخاتمة‪:‬‬

‫الظاهرة االجتماعية‬

‫التخطيط لثقافة ادلستقبل أو دلستقبل الثقافة ىو اآلف من القضايا األساسية اليت‬ ‫ربظى باىتماـ زائد يف اضلاء العامل "ادلتحضر" كافة‪ ،‬العامل ادلنخرط هبذه الدرجة أو تلك يف‬ ‫مسلسل التطور العلمي والتقاين الذي يطبع احلضارة ادلعاصرة ‪ ".‬ذلك أ ّف ىذه احلضارة‬ ‫حضارة علم زبتلف عن صبيع احلضارات األخرى اليت عرفها االنساف منذ ظهوره على االرض‬ ‫‪ ،‬خباصية أساسية جديدة وىي التوسع واالنتشار والنزوع ضلو العادلية واذليمنة ‪ ،‬والعمل‬ ‫وبالتايل على ضرب اخلصوصيات الثقافية بتفكيك أسسها ادلادية وادلعنوية وتغيَتىا ‪ .‬وليست‬ ‫ثقافات العامل الثالث يف البلداف ادلستضعفة يف آسيا وافريقيا وامريكا البلتينية ىي وحدىا‬ ‫ادلهددة يف خصوصياهتا وبالتايل كياناهتا ‪ ،‬بل التهديد أضحى يشمل حىت بلداف القارة‬ ‫األوروبية "‪ .1‬واذا ضلن قللنا من أعلية التخطيط دلستقبل الثقافة وضرورتو فإ ّف مسألة بقاء‬ ‫كياناتنا ىذه على حاذلا مسالة أضحت ضرباً من ادلستحيل ‪ .‬فالتخطيط دلستقبل الثقافة‬ ‫غلب أف يأخذ يف حسبانة حاجتنا للحداثة والتجديد وحاجتنا اىل االطلراط يف عصر العلم‬ ‫والتقانة كفاعلُت مساعلُت يف بناء الثقافة ويف التخطيط ذلا وكذلك ضلن يف حاجة إىل ضباية‬ ‫ىويتنا القومية وخصوصيتنا الثقافية من االضلبلؿ والتبلشي ربت تأثَت موجات الغزو الثقايف‬ ‫الذي ؽلارس علينا وعلى العامل أصبع بوسائل العلم والتقانة وبوسائل ثقافية عرب أجهزة الفيديو‬ ‫والسينما‪ .‬ولكسب رىاف التحدي واحلفاظ على اخلصوصية الثقافية غلب وضع ىذه‬ ‫ادلتغَتات يف االعتبار عند التخطيط دلستقبل الثقافة وىو جزء من عملية صنع ادلستقبل‬ ‫وادلستقبل يف العامل ادلعاصر ىو للمجموعات ادلتحدة ادلتكتلة وليس للطوائف وال اجلماعات‬ ‫وال الشعوب اجملزأة ادلستضعفة‪ ،‬زبطيطاً يعتمد النظرة العلمية النقدية ويستهدؼ إعادة ترتيب‬ ‫العبلقات داخل ثقافة ادلاضي واحلاضر يف الوقت الذي يعمل فيو على بناء عبلقات متينة‬ ‫بُت خصوصيتنا الثقافية وادلنظومة العادلية للعلم والتقانة‪.‬‬ ‫‪1‬زلمد عابد اجلابري‪ ،‬مرجع سبق ذكره ‪ ،‬ص‪11 -19 .‬‬ ‫‪448‬‬


‫د‪ .‬ناجي محمد حامد‬

‫دور الثقافة يف التغري االجتماعي والتنموي‬

‫المراجع‬ ‫‪ .9‬انتوني غدنز ‪ ،‬علم االجتماع ف ترصبة فايز الصباغ ‪ ،‬ادلنظمة العربية للًتصبة ‪ ،‬مركز‬ ‫دراسات الوحدة العربية ‪ ،‬بَتوت ‪ ،‬الطبعة األوىل ‪1003‬ـ‪.‬‬ ‫‪ .1‬أنطوان زحالن ‪ ،‬العرب والعلم والتقانة‪ ،‬سلسلة الثقافة القومية‪ ،‬مركز دراسات الوحدة‬ ‫العربية ‪ ،‬بَتوت‪ ،‬الطبعة األوىل‪9188،‬ـ ‪.‬‬ ‫‪ .1‬حامد عمار‪ ،‬التنمية البشرية يف الوطن العريب‪،‬ادلفاىيم – ادلؤشرات – األوضاع ‪ ،‬دار‬ ‫سيناء للنشر ‪ ،‬مصر يناير ‪9119‬ـ‪.‬‬ ‫‪ .1‬ر‪-‬بودون ‪ ،‬وف ‪.‬بور يكو – ادلعجم النقدي لعلم االجتماع ‪ ،‬ترصبة د‪.‬سليم حداد ‪،‬‬ ‫ديواف ادلطبوعات اجلامعية ‪9181‬ـ‪.‬‬ ‫‪ .3‬سامية حسن الساعاتي‪ ،‬الثقافة والشخصية‪ ،‬دار النهضة العربية ‪ ،‬بَتوت ‪ 9181 ،‬ـ‪.‬‬ ‫‪ .1‬السيد ولد أباه ‪ ،‬اذباىات العودلة ‪ ،‬اشكاالت اللفية اجلديدة ‪ ،‬ادلركز الثقايف العريب ‪،‬‬ ‫ادلغرب ‪1009 ،‬ـ‪.‬‬ ‫‪ .4‬عبد الحميد محمود سعد ‪ ،‬دراسات يف علم االجتماع الثقايف ‪ ،‬جامعة ادلنيا ‪ ،‬مكتبة‬ ‫هنضة الشروؽ ‪9180‬ـ‪.‬‬ ‫‪ .8‬كليفورد غيرتز ‪ ،‬تأويل الثقافات‪ ،‬ترصبة زلمد بدوي‪ ،‬ادلنظمة العربية للًتصبة ‪،‬مركز‬ ‫دراسات الوحدة العربية ‪ ،‬الطبعة األوىل ‪ ،‬بَتوت ‪ ،‬لبناف ‪1001،‬ـ‪.‬‬ ‫‪ .1‬مالك بن نبي ‪ ،‬مشكلة الثقافة ‪ ،‬ترصبة عبد الصبور شاىُت ‪ ،‬دار الفكر ‪ ،‬دمشق ‪،‬‬ ‫‪ 1000‬ـ‪.‬‬ ‫‪ .90‬مالك بن نبي ‪،‬مشكبلت احلضارة‪ ،‬تأمبلت ‪ ،‬دار الفكر (دمشق) ‪ 9119‬ـ‪.‬‬

‫‪449‬‬


‫تفكُّر ‪ ،‬جملد (‪ ،)31‬العدد (‪2013 ، )2-3‬م‪1434/‬هـ‬

‫الظاهرة االجتماعية‬

‫‪ .99‬محمد عابد الجابري‪ ،‬ادلسألة الثقافية يف الوطن العريب‪ ،‬مركز دراسات الوحدة العربية ‪،‬‬ ‫بَتوت ‪ ،‬لبناف ‪9111 ،‬ـ‪.‬‬ ‫‪ .91‬المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم ‪ ،‬الثقافة ودورىا يف التنمية ‪ ،‬عن أضبد صاحل‬ ‫البطاينة ‪ ،‬االعبلـ الثقايف يف عصر التنمية‪ ،‬تونس‪9111 ،‬ـ‪.‬‬ ‫المراجع األجنبية‪:‬‬ ‫‪13. Maider Maraña, Culture and Development, Evolution and‬‬ ‫‪prospects , UNESCO , Etxea, 2010.‬‬ ‫‪14. Tony Bennett, Culture, Ideology and Social Process: A‬‬ ‫‪Reader, Set Book (LONDON: Bats ford Academic and‬‬ ‫‪Educational in Association with the open University Press,‬‬ ‫‪1985.‬‬

‫‪451‬‬


‫الثقافة واالقتصاد‬ ‫دراسة مفاهيمية حول ثقافة المؤسسة‬ ‫*‬

‫مقدمة‬

‫أ‪.‬الزين عبد اهلل يوسف أحمد‬ ‫حياوؿ ىذا البحث أف يلقي الضوء على طبيعة العالقة بُت الثقافة واالقتصاد مع‬

‫الًتكيز على مفاىيم ثقافة ادلؤسسة كحالة عملية حلضور ادلتغَتات الثقافية يف الوقائع‬ ‫االقتصادية‪ ،‬وذلك من خالؿ منهج وصفي تارخيي‪-‬نقدي‪ .‬توصلت الدراسة إذل أف الفصاـ‬ ‫التأرخيي بُت الثقافة واالقتصاد يكمن يف سبسك االقتصاديُت بادلنهج الوضعي الذي يأىب أف‬ ‫يتعامل مع متغَتات قيمية تستعصي على احلس والقياس‪ .‬ويف ذات الوقت تشَت الدراسة إذل‬ ‫فعل لتنشىء وسطاً ثقافياً فاعالً يف ادلؤسسة‪.‬‬ ‫بعض مفاىيم اإلسالـ اليت ديكن أف تُ َّ‬ ‫التطور التاريخي لمفهوم الثقافة‬

‫إ َف كلمة ثقافة ذلا استخدامات متنوعة ولكنها أكثر ما تستخدـ دبعٌت "زراعة" كما‬

‫ىو احلاؿ يف زراعة األنسجة إذ أ ّف مقابلها باللغة اإلصلليزية ىو " ‪ ." tissue culture‬إالَ أ ّف‬ ‫استخداـ الكلمة كمفهوـ يعود إذل القرف الثامن عشر‪ ،‬وخاصةً يف فرنسا بعد أف فرضت‬ ‫الكلمة نفسها دبعناىا اجملازي اليت أُدرجت بو يف قاموس األكادديية الفرنسية (نشرة‬

‫‪ ،1)1718‬ولكن يف ذات الوقت فقد زامحت كلمة حضارة كلمة ثقافة‪ ،‬ورغم أ ّف الكلمتُت‬ ‫تنتمياف إذل ذات احلقل الدالرل‪ ،‬فلم يتم استخدامهما مًتادفتُت؛ إذ أ ّف كلمة ثقافة‬ ‫تستصحب البعد الفردي يف التقدـ والتطور‪ ،‬يف حُت أ ّف كلمة حضارة تستحضر البعد‬

‫* زلاضر‪ ،‬ادلركز اإلسالمي لبحوث ودراسات التنمية ادلستدامة‪ ،‬معهد إسالـ ادلعرفة (إماـ) ‪ ،‬جامعة اجلزيرة‬ ‫بريد إلكًتوين‪elzeinaay@gmail.com :‬‬ ‫‪ 1‬أنظر دنيس كوش (ترمجة منَت السعيداين)‪ .2004 .‬مفهوـ الثقافة يف العلوـ االجتماعية‪ .‬بَتوت‪ :‬مركز‬ ‫دراسات الوحدة العربية‪.‬‬


‫تفكُّر ‪ ،‬جملد (‪ ،)31‬العدد (‪2013 ، )2-3‬م‪1434/‬هـ‬

‫الظاهرة االجتماعية‬

‫اجلماعي‪ .1‬ودلا كاف مفهوـ احلضارة عند الفالسفة اإلصالحيُت يشَت إذل صَتورة ذبويد‬ ‫ّ‬ ‫ادلؤسسات والتشريع والًتبية‪ ،‬فإهنا بالضرورة تُعٌت بكل اجملتمع‪ ،‬دبا يف ذلك الدولة‪ .‬وعلى ىذا‬ ‫األساس ًب تصور منطية التقدـ اإلنساين على غرار ما جيري يف فرنسا آنذاؾ باعتبارىا األكثر‬ ‫تقدماً‪ ،‬دبعٌت أ َف أي دولة حىت ولو كانت متخلفة البد وأف سبر دبراحل التقدـ اإلنساين كما‬

‫مرت هبا فرنسا‪.‬‬

‫ّأما استخداـ كلمة ثقافة كمفهوـ فَتجع الفضل فيو إذل شرحية الربجوازية األدلانية‬ ‫ادلثقفة يف معارضتها لشرائح البالط احلاكم يف الدولة األدلانية‪ ،‬باعتبار أ ّف مفهوـ احلضارة ال‬ ‫حيمل إالَ قيماً سطحية سبثِل يف رلملها منطاً للحياة مستعاراً من البالط احلاكم يف فرنسا‪.‬‬ ‫ولذلك‪ ،‬كاف البد ذلوالء الربجوازيُت من تبٍت مفهوـ يربز القالب األدلاين ويُشكل لو مالزلو‬ ‫اخلاصة بو‪ .‬إذاً تَبٌت الربجوازيوف األدلاف مفهوـ الثقافة باعتباره مفهوماً معبأً بالقيم الروحية‬

‫ادلؤسسة على العلم والفلسفة والفن والدين ليُناىض قيم الكياسة (احلضارة) لدى‬ ‫األُرستقراطيُت (أىل البالط احلاكم)‪ .‬وبانتصار الشرحية الربجوازية األدلانية يف إحداث التغيَت‬ ‫ادلنشود يف الوعي القومي األدلاين‪ ،‬من خالؿ بث الروح فيو عن طريق قيم الثقافة وتأكيد‬ ‫اخلصوصية األدلانية‪ ،‬انداح البعد النسيب للثقافة يف مقابل البعد ادلطلق ذلا‪ ،‬كما يدؿ عليو‬ ‫مفهوـ احلضارة عند الفرنسيُت؛ وأصبح يف اإلمكاف القبوؿ خبصوصية الثقافة كمجموعة من‬ ‫القيم تتشكل عناصرىا فريد ًة بتفرد الشعوب ادلختلفة‪ .2‬باإلضافة إذل ذلك ويف إطار التالقح‬ ‫الثقايف وحضور البعد العادلي للفكر‪ ،‬كاف البد دلفهوـ الثقافة أف يتجاوز اخلصوصية القومية‬

‫ليشمل كل البشرية دبختلف موروثاهتا وذبارهبا‪.‬‬

‫‪ 1‬ادلصدر السابق نفسو‪ ،‬النسخة االكًتونية على‬

‫‪ ia701208.us.archive.org/10/items/ketabn011/m034.pdf‬ص‪17‬‬ ‫‪ 2‬ادلصدر السابق نفسو ص‪.19‬‬ ‫‪263‬‬


‫الثقافة واالقتصاد‪ :‬دراسة مفاهيمية حول ثقافة املؤسسة‪...‬‬

‫أ‪.‬الزين عبد اهلل يوسف‬

‫َّ‬ ‫إف تسارع التطورات العلمية ورسوخ الفلسفة التجريبية قد حفز الفالسفة والعلماء‬ ‫على التفكَت يف اإلنساف واجملتمع باعتبارمها عنصرين يتصالف دبسألة مشًتكة؛ ىي وحدة‬ ‫التنوع‪ ،‬حيث ظهر علم اإلجتماع وعلم اإلثنلوجيا للخوض يف ىذه القضايا‬ ‫اإلنسانية وقضية ُّ‬

‫التنوع اإلنساين‪ .‬عليو ودلا‬ ‫وتناوذلا علمياً‪ .‬وقد كاف من سعي اإلثنلوجيا أف ذبيب على مسألة ُّ‬ ‫َّ‬ ‫التنوع اإلنساين من خالؿ نوافذ العلم‬ ‫كاف من الصعوبة اإلدالء بإجابات قاطعة عن مسألة ُّ‬ ‫البيلوجية‪ ،‬فقد ًب ذباوز ىذا اإلشكاؿ من خالؿ استخداـ أداة مفهوـ الثقافة‪ ،‬ولذلك َّ‬ ‫فإف‬ ‫زلتوى وصفياً خالصاً ودل يعد األمر بالنسبة إليهم‬ ‫مؤسسي اإلثنلوجيا قد أكسبوا ىذا ادلفهوـ ً‬

‫يتعلق بتحديد ما على الثقافة أف تكوف عليو‪ ،‬كما ىو احلاؿ عند الفالسفة‪ ،‬بل بوصف ما‬

‫ىي عليو كما تتبدى يف اجملتمعات اإلنسانية‪.1‬‬ ‫أما فيما خيتص بقضية الثقافة يف اإلسالـ‪ ،‬فقد ذىب بعض من تعاطوا مع ىذه‬ ‫القضية إذل القوؿ بغياب مفهوـ الثقافة عن الًتاث اإلسالمي‪ ،‬وذلك رغم وجود كلمة ثقافة‬ ‫وتداوذلا من خالؿ األشعار وادلعاجم العربية‪ ،‬فعلى سبيل ادلثاؿ يقوؿ ادليالد (‪" :)2005‬‬ ‫ٍ‬ ‫بطائفة من الكلمات والتسميات اليت تواترت يف نصوصو وخطاباتو ‪. . . .‬‬ ‫جاء اإلسالـ‬ ‫ومن ىذه الكلمات الفقو والعلم والعقل واحلكمة واجلهاد واالجتهاد واألمة ‪ . . .‬وغَتىا ودل‬ ‫تكن الثقافة من بُت ىذه الكلمات‪ ."2‬ويضيف ادليالد‪ ،‬أيضاً‪َّ :‬‬ ‫"إف الفعل ِثقف الذي ىو‬ ‫مصدر كلمة الثقافة‪ ،‬ورد يف النص القرآين‪ ،‬وتطرقت إليو بعض معاجم ألفاظ وكلمات القرآف‬

‫الكرمي ؛ ىذا الفعل جاء يف سياؽ اليلفت االنتباه إليو‪ ،‬أو التأمل فيو بصورة تساعد على‬ ‫اكتشافو والتعرؼ عليو‪ ،‬وبالتارل امكانية تطويره وربويلو إذل مفهوـ يعرب عن فكرة زلددة ذلا‬

‫‪ 1‬ادلصدر السابق نفسو ص‪.20‬‬ ‫‪ 2‬أنظر‪ :‬زكي ادليالد‪ .2005 .‬ادلسألة الثقافية‪ :‬من أجل بناء نظرية يف الثقافة‪ .‬بَتوت‪ :‬ادلركز الثقايف‬ ‫العريب‪ .‬ص‪5 .‬‬ ‫‪264‬‬


‫تفكُّر ‪ ،‬جملد (‪ ،)31‬العدد (‪2013 ، )2-3‬م‪1434/‬هـ‬

‫الظاهرة االجتماعية‬

‫قابلية التجدد والنمو مىت ما اتصلت بًتاكمات معرفية وخربات اجتماعية"‪ .1‬بالطبع‪ ،‬عدـ‬ ‫ورود كلمة الثقافة يف الًتاث اإلسالمي ردبا يثَت بعض التساؤالت‪ ،‬ولكن عند من تغفل‬ ‫مالحظتهم عن بعض احلقائق‪ .‬يف الواقع‪ ،‬ليس ذلك بغريب وال يكاد ذلك يشَت إذل أي‬ ‫قصور من جانب اإلرث اإلسالمي وما ذلك إالَّ َّ‬ ‫ألف علماء ادلسلمُت األوائل دل يلمسوا‬ ‫حاجة البتداع مفهوـ للثقافة أل ّف واقع احلياة عندىم كاف تنزيالً للوحي‪ ،‬ودل توجد ىناؾ ىوة‬ ‫أحدثها انفصاـ العلم عن التطبيق كما ىو احلاؿ اليوـ؛ بل َّ‬ ‫إف التكامل ادلعريف لديهم قد‬ ‫عمق عندىم استيعاب إشكاالت واقعهم والتعامل معها دوف عناء‪.‬‬ ‫َّ‬ ‫يف احلقيقة‪ ،‬ومن ادلعروؼ َّ‬ ‫أف القرآف الكرمي دل يًتؾ أمراً إالَّ وأدذل حولو داللةً مباشرة‬

‫احلق سبحانو وتعاذل‪:‬‬ ‫باأللفاظ‪ ،‬أو غَت مباشرة من خالؿ سياؽ العبارات واجلُ َمل‪ ،‬يقوؿ ُّ‬ ‫َّ ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ ٍ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ضربْػنَا لِلن ِ ِ‬ ‫ين َك َف ُروا إِ ْف‬ ‫َّاس يف َى َذا الْ ُق ْرآف من ُكل َمثَ ٍل َولَئن جْئتَػ ُهم بآيَة لَيَػ ُقولَ َّن الذ َ‬ ‫‪َ ‬ولَ​َق ْد َ َ‬ ‫أَنتُ ْم إَِّال ُمْب ِطلُو َف ‪ " ‬الروـ‪ :‬اآلية ‪ "58‬لكن‪ ،‬القرآف يف ادلقاـ األوؿ ىو كتاب عبادة ما نزؿ إالَّ‬ ‫ليبُت رسالة التوحيد ذلداية الناس لعبادة اخلالق تعاذل أحق العبادة‪ .‬وكل العلم الذي يأٌب بو‬ ‫القرآف ىو علم توحيدي جيب أف يعمل يف صناعتو والعمل بو دلز ٍ‬ ‫يد من التعبد والتقرب إذل‬ ‫َُ‬ ‫اهلل سبحانو وتعاذل‪ .‬ولذلك كل سكنات اإلنساف وحركاتو‪ٍ ،‬‬ ‫كفرد أو رلموعة أو رلتمع أو أ َُّمة‬ ‫واسعة‪ ،‬جيب أف تكوف ربانية بكل ما تعنيو ىذه الكلمة؛ أي َّ‬ ‫أف حياة اإلنساف الشخصية‪،‬‬ ‫وحياتو يف رلتمع األسرة أو رلتمع العمل أو اجملتمع الواسع‪ ،‬ويف إطار كل ادلؤسسات الرمسية‬ ‫وغَت الرمسية اليت يتفاعل فيها مع غَته من إنساف أو حيواف أو ٍ‬ ‫نبات أو موجودات وكائنات‬ ‫أخرى‪ ،‬ينبغي أف تتبلور على هنج الربانية الذي حيقق سباـ العبودية باتباع مبدأ التوحيد‪ ،‬ليحيا‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ْم‬ ‫اب َو ْ‬ ‫العبد من ٍّبَّ حياة طيبة‪ .‬يقوؿ احلق تعاذل‪َ :‬ما َكا َف لبَ َش ٍر أَف يػُ ْؤتيَوُ اللّوُ الْكتَ َ‬ ‫احلُك َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫وؿ لِلن ِ‬ ‫ُت ِدبَا ُكنتُ ْم تػُ َعل ُمو َف‬ ‫َوالنُّبُػ َّوَة ٍُبَّ يَػ ُق َ‬ ‫َّاس ُكونُواْ عبَاداً رل من ُدوف اللّو َولَػكن ُكونُواْ َربَّاني َ‬ ‫‪ 1‬ادلصدر السابق نفسو‪ ،‬ص‪.5 .‬‬ ‫‪265‬‬


‫الثقافة واالقتصاد‪ :‬دراسة مفاهيمية حول ثقافة املؤسسة‪...‬‬

‫أ‪.‬الزين عبد اهلل يوسف‬

‫ِ‬ ‫صالٌَِب َونُ ُس ِكي‬ ‫اب َوِدبَا ُكنتُ ْم تَ ْد ُر ُسو َف ‪ " ‬آؿ عمراف‪ :‬اآلية ‪"79‬؛ ويقوؿ‪ :‬قُ ْل إِ َّف َ‬ ‫الْكتَ َ‬ ‫ِ​ِ‬ ‫ِ‬ ‫ُت‪ " ‬األنعاـ‪ :‬اآلية ‪."162‬‬ ‫اي َوشلَ​َ ِاٌب للّو َرب الْ َعالَم َ‬ ‫َوَْزليَ َ‬ ‫مبدأ التوحيد يقتضي هنجاً ربانياً يُتبع وفق كل التفاصيل اليت ًب بياهنا يف القرآف‬ ‫والسنة‪ .‬تلك التفاصيل والعمل هبا وانزاذلا ادلنزؿ الصواب وااللتزاـ هبا يف كل واقعة من شؤوف‬

‫احلياة ‪ ،‬ىي اليت تشكل الوسط الذي يتدافع فيو البشر سواء كاف ذلك الوسط نفسياً أو‬ ‫كوف من القيم‬ ‫اجتماعياً أو اقتصادياً أو سياسياً أو تربوياً أو بيئياً‪ ..‬إخل‪ .‬أي أَّنو وسط ُم َّ‬ ‫وادلثل وادلؤسسات‪ ،‬اليت تُوجد من أجل تنظيم احلياة‪ ،‬وما ينتج من ذلك من عمراف على‬ ‫األرض‪ .‬تلك ىي ثقافة اإلسالـ؛ وألهنا ثقافة شاملة مستدامة قائمة على قيم التوحيد األبدية‬

‫يف حياة سبتد من الدنيا إذل اآلخرة‪ ،‬دل ترد الثقافة كمفهوـ يصف نوعية أو خصوصية بشكل‬ ‫جزئي يف أي مستوى من مستويات االجتماع البشري كما ىو احلاؿ يف الغرب الذي أقصى‬ ‫قيم الدين احلق عن تعاطي العلم والعمل بو ‪ ،‬فأوغل يف العلمانية وغاص يف مشكالهتا رغم‬ ‫ادلباديء اليت تدثرت هبا من حرية وسيادة قانوف ومحاية حلقوؽ اإلنساف ومؤسسية وشفافية؛‬ ‫وما ذلك إال أل ّف اللوائح واالجراءات والسياسات واحلوافز والعقوبات ال تستطيع أف تؤثر‬ ‫إجياباً على ادلكوف الداخلي لألفراد ما دل ترتبط دبُثل وقيم مساوية حقة تظل ثابتة يف كل زماف‬ ‫ومكاف‪.1‬‬

‫وإمجاالً َّ‬ ‫فإف كل اإلسالـ وروحو اليت تزدىي بتطبيقو على أرض الواقع سبثل الثقافة‬ ‫اإلسالمية؛ ىذه الشمولية اليت تستدرؾ عادل الغيب والشهادة والروح وادلادة يف غَتما ذبزئة أو‬

‫‪ 1‬الشاىد أ ّف كلمة الثقافة وتطور مفهومها‪ ،‬كما ذُكر آنفاً‪ ،‬دل يبدأ يف الظهور إال بعد إقصاء القيم الدينية‬ ‫الذي أنتج وسطاً فاسداً من قبل البالط احلاكم يف الدوؿ الغربية كما ًب ذكره أنفاً‪ ،‬شلا حدا بالنخبة‬ ‫ادلفكرة أف تبحث عن سلرج يعيد بعض القيم السمحة فكاف مفهوـ الثقافة ومكوناتو ىو الذي جيء‬ ‫ظل القالب الذي تطور عليو الفكر الثقايف علمانياً كما ىو‪.‬‬ ‫بو‪ ،‬وإف َّ‬ ‫‪266‬‬


‫تفكُّر ‪ ،‬جملد (‪ ،)31‬العدد (‪2013 ، )2-3‬م‪1434/‬هـ‬

‫الظاهرة االجتماعية‬

‫ٍ‬ ‫مدخل للقيم ألهنا جزء من منظومتو‪ .‬وإف‬ ‫تبعيض لتشكل أمنوذجاً كلياً ال حياوؿ معو إجياد‬ ‫كاف األمر كذلك لإلجتماع واإلثنولوجيا‪ ،‬فما ىو احلاؿ بالنسبة لالقتصاد؟‬

‫الثقافة واالقتصاد‬

‫أثر بال ٌغ على تأسيس العلوـ‬ ‫كاف النطالقة العلوـ الطبيعية وسيادة منهج الوضعية ٌ‬ ‫االجتماعية (االقتصاد‪ ،‬واالجتماع‪ ،‬واألنثروبلوجيا‪ ،...،‬اخل) خاصةً فيما يتعلق دبنهجية ىذه‬ ‫العلوـ وهتافتها ضلو تأكيد وضعيتها العلمية من خالؿ تبٍت مبادىء الوضعية يف تطورىا‬

‫البنائي‪ .‬ومن أىم تلك ادلبادىء يف البناء النظري الوضعي اختزاؿ ادلوروث الثقايف والديٍت من‬ ‫أُطر تلك العلوـ واإلبقاء على اجلانب التجرييب‪ .‬وبالرجوع إذل تاريخ تطور العلوـ‪َّ ،‬‬ ‫فإف‬ ‫الثقافة كمصطلح أكادديي يعترب‪ ،‬إذل ٍ‬ ‫حد ما‪ ،‬ليس ببعيد النشأة‪ ،‬والشاىد َّ‬ ‫أف الفكر الثقايف‬ ‫ذاتو دل يتبلور إالَّ استجابةً لظهور فكر عصر التنوير )‪)Enlightenment‬؛ وذلك عندما‬ ‫حاوؿ فالسفة ع صر التنوير دراسة اجملتمعات باستخداـ مناىج عقالنية ذبريبية شلاثلة لتلك‬ ‫اليت استخدمتها العلوـ الطبيعية ليتسٌت ذلم الوصوؿ إذل اكتشاؼ ادلبادىء اليت تقف خلف‬ ‫السلوؾ اإلجتماعي‪ .‬على َّ‬ ‫أف بعض ادلشككُت يف مناىج الفكر التنويري أبدوا امتعاضاً‬

‫واعًتاضاً على تطبيق تلك ادلناىج يف اجملاؿ اإلجتماعي آخذين يف االعتبار حساسية التعامل‬

‫التنوع والتعقيد الذي يضفيو الوجود البشري‪ .‬ودلا كاف األمر كذلك‪ ،‬فقد أضلى‬ ‫مع قضية َّ‬ ‫َّ‬ ‫أولئك ادلشككوف الستخداـ مصطلح الثقافة رغبةً منهم يف النأي عن ادلناىج العلمية لعصر‬

‫التنوير والبحث عن بديل يناسب اجملاؿ اإلجتماعي واإلنساين‪.1‬‬ ‫تارخيياً وفيما يتعلق باالقتصاد‪ ،‬دل جيد رواد االقتصاد الكالسيكي تعارضاً يف ربط‬ ‫قضايا االقتصاد بالثقافة يف أُطروحاهتم ولذلك دل يأنفوا من استخداـ تفسَتات ثقافية‬ ‫للظواىر االقتصادية‪ ،‬على سبيل ادلثاؿ تعترب أطروحة آدـ مسيث "نظرية الوجداف األخالقي"‬

‫‪ 1‬أنظر ولياـ جاكسوف‪ .2009 .‬االقتصاد والثقافة والنظرية اإلجتماعية ‪Economics, Culture,‬‬ ‫‪and Social Theory‬‬ ‫‪267‬‬


‫الثقافة واالقتصاد‪ :‬دراسة مفاهيمية حول ثقافة املؤسسة‪...‬‬

‫أ‪.‬الزين عبد اهلل يوسف‬

‫)‪ (Theory of Moral Sentiments‬جزءاً مكمالً إلطروحتو " ثروات األمم"‪ .‬كما َّ‬ ‫أف‬ ‫االقتصادي جوف ستورت ِمل )‪ (John Stuart Mill‬اعترب َّ‬ ‫أف القيود الثقافية اليت تربز أحياناً‬ ‫[وربدد السلوؾ البشري] أكثر أمهيةً من السعي ضلو ربقيق ادلصاحل الشخصية‪[ 1‬وىذا من‬ ‫أىم ادلبادىء السلوكية اليت تقوـ عليها النظرية االقتصادية احلديثة]‪ .‬عليو‪ ،‬ىناؾ داللة‬ ‫واضحة على َّ‬ ‫أف بدايات علم االقتصاد من خالؿ ادلدرسة الكالسيكية دل تكن تقصي البعد‬ ‫الثقايف‪ ،‬والديٍت بالضرورة‪ ،‬من تفسَتات الظواىر االقتصادية‪ ،‬بل ديكن القوؿ َّ‬ ‫أف تلك‬ ‫البدايات التنظَتية جعلت من اإلطار الثقايف أحد أىم األُطر ادلرجعية يف ربديد العالقات‬ ‫وادلآالت االقتصادية‪ ،‬وذلك حلضورىا البُت يف الواقع السلوكي لإلنساف‪ .‬باإلضافة إذل ذلك‪،‬‬ ‫يعتقد ماكس فيرب )‪َّ (Max Weber‬‬ ‫أف الدين يلعب دوراً أساسياً يف التطور الرأمسارل‪ .‬وتتضح‬ ‫زلورية ذلك الدور يف صعوبة تغيَت النظاـ الرأمسارل حيث ال جيد منظمو األعماؿ احلوافز‬ ‫الكافية للمضي قدماً يف تأسيس نظاـ جديد؛ فعلى سبيل ادلثاؿ جاء النظاـ الرأمسارل ألف‬ ‫احلافز الذي قدمو اإلصالح الربوتستاين كفل دلنظمي األعماؿ صناعة الثروات أل ّف السعي‬ ‫من أجل الثروة ليس رلرد فرصة فقط َّ‬ ‫وإمنا واجب ديٍت جيب اإللتزاـ بو‪.‬‬ ‫َّأما الفكر االقتصادي احلديث فيعترب من أكثر العلوـ اإلجتماعية التزاماً بادلنهج‬ ‫التجرييب‪ ،‬وأكثرىا غلواً يف رلانبة الفكر الثقايف؛ بل إ ّف علو كعب النظرية اجملددة لالقتصاد‬ ‫الكالسيكي على نظرية االقتصاد الكالسيكي قد ضيَّق اخلناؽ على أي رابط جيمع بُت‬ ‫االقتصاد والثقافة‪ .‬ولذلك‪ ،‬فبانتهاء القرف التاسع عشر فقد ًب تأكيد ذلك من خالؿ التحوؿ‬ ‫يف تسمية اجملاؿ ادلعريف لإلقتصاد من "االقتصاد السياسي" إذل االقتصاد؛ وىو ما يشَت إذل‬ ‫انفصاؿ علم االقتصاد عن السياسة واالجتماع‪ ،‬وغَتىا من العلوـ االجتماعية واالنسانية‪.‬‬ ‫‪ 1‬أنظر ليغي غيسو وبوال سابينزا‪ .2006 .‬ىل تؤثر الثقافة على ادلخرجات االقتصادية‪.‬‬ ‫‪http://www.eui.eu/Personal/Guiso/CV/Papers/JEP20_2_2006.pd‬‬ ‫‪ f‬وذات ادلقاؿ منشور يف‪Journal of Economic Perspectives—Volume 20, :‬‬ ‫‪Number 2—Spring 2006—Pages 23–48‬‬ ‫‪268‬‬


‫تفكُّر ‪ ،‬جملد (‪ ،)31‬العدد (‪2013 ، )2-3‬م‪1434/‬هـ‬

‫الظاهرة االجتماعية‬

‫كرست النظرية االقتصادية احلديثة اىتمامها بقياس متغَتات الظاىرة‬ ‫وعالوًة على ذلك‪ ،‬فقد َّ‬

‫االقتصادية وما ينتج عنها من عالقات يف اإلنتاج والتوزيع والتبادؿ واإلستهالؾ؛ وما تعاظم‬

‫االعتماد على الرياضيات‪ ،‬واإلحصاء‪ ،‬واالقتصاد القياسي منذ النصف الثاين للقرف العشرين‬ ‫إالَّ داللةٌ واضحةٌ على الطموح للوصوؿ باالقتصاد إذل مصاؼ العلوـ الطبيعية ورصانتها‬ ‫العلمية‪ ،‬واإلبتعاد عن مصاؼ العلوـ اإلنسانية اليت تتهم أحياناً بكوهنا ال علمية‪.‬‬ ‫الشاىد‪َّ ،‬‬ ‫أف اإلىتماـ الدقيق بالرياضيات والتوسع يف استخدامها يف تطوير النظرية‬ ‫االقتصادية‪ ،‬وبالطبع يف التحليل والتنبؤات االقتصادية‪ ،‬قد أورث الباحثُت من ادلهتمُت بطوير‬ ‫النظرية االقتصادية شعوراً بعدـ احلاجة الستخداـ متغَتات أُخرى لتفسَت الظاىرة االقتصادية‬

‫خاصة إذا كانت تلك ادلتغَتات عصيةً على القياس كما ىو احلاؿ يف متغَتات الثقافة‪.‬‬ ‫ولذلك دل ذبد الثقافة طريقاً سهالً لعلم االقتصاد‪ ،‬بل وعلى العكس فقد ًب تفسَت عنصر‬ ‫الثقافة كمجرد نتيجة جانبية إلعماؿ آلية السوؽ‪ ،‬فعلى سبيل ادلثاؿ يؤدي تفاعل قوى‬

‫العرض والطلب يف السوؽ لتحديد أذواؽ اإلستهالؾ وثقافتو من خالؿ آلية األسعار‬ ‫واألُجور‪.‬‬

‫وعليو‪ ،‬فقد طُ ِمَرت متغَتات الثقافة كعناصر تفسَتية للظواىر والوقائع االقتصادية‬ ‫يف الفكر التنظَتي لتطوير النظرية االقتصادية احلديثة‪ ،‬وأصبح العرؼ العلمي السائد ىو بناء‬ ‫مناذج رياضية أُختُ ِزؿ فيها البعد الثقايف‪ .‬ودلا كاف الفرض األساس ذلذه النماذج ىو‬ ‫َّ‬ ‫موضوعيتها التامة يف الوصوؿ دلستوى "األمثلية" سواءً كاف على مستوى اإلنتاج أو التوزيع أو‬ ‫التبادؿ أو اإلستهالؾ‪ ،‬فقد أصبح من الضرورة أف ذبيء خيارات الناس وأولوياهتم‪ ،‬على‬ ‫سلتلف صعد الوقائع االقتصادية‪ ،‬وفق تلك النماذج؛ أي َّ‬ ‫أف الناس يُثقَّفوف على مناىج‬ ‫سلوكية مرسومة وزلددة سلفاً يف مبادىء علم االقتصاد بنماذجو ادلختلفة‪.‬‬

‫سبيل لالقتصاد إالَ من خارج سرب‬ ‫وىكذا‪ ،‬دل يكن للمقوالت واحلجج الثقافية ٌ‬ ‫االذباه السائد يف األدبيات االقتصادية من خالؿ النموذج ادلاركسي الذي استصحب‬ ‫‪269‬‬


‫الثقافة واالقتصاد‪ :‬دراسة مفاهيمية حول ثقافة املؤسسة‪...‬‬

‫أ‪.‬الزين عبد اهلل يوسف‬

‫البعدين التأرخيي والثقايف‪ 1‬يف التحليل االقتصادي؛ باإلضافة إذل فكر مدرسة االقتصاد‬ ‫ادلؤسسي (‪ ،)Institutional Economics‬واليت نادت بضرورة تناوؿ األبعاد الثقافية والتأرخيية‬ ‫وادلؤسسية يف تطور النظرية االقتصادية‪ .‬ولكن ىنا يربز تساؤالف‪ :‬أوذلما‪ ،‬ما ىي أمهية الثقافة‬ ‫لتكوف جديرة بربطها باالقتصاد؟ وثانيهما‪ ،‬ما ىو اجلديد يف أمر عالقة الثقافة واالقتصاد‬ ‫(على مستوى االقتصاد التقليدي)؟‬

‫أهمية الثقافة‬

‫الثقافة َّإمنا تتولد وتتطور وتًتاكم يف شكل خربات بشرية جراء التفاعل اإلجتماعي‬

‫يف شىت مناحي التدافع البشري‪ .‬تلك اخلربات اليت تًتاكم ويتم تبادذلا جيالً بعد جيل سبثل‬

‫رلموعاً خلالصات من القواعد وادلوجهات السلوكية اليت تعمل على تنظيم اإلجتماع اإلنساين‬

‫بشكل يوفر ألفراد اجملتمع حاجاهتم األساسية ادلختلفة؛ وإف اختلفت الوسائل ادلفضية إذل‬

‫اشباع تلك احلاجات من رلتم ٍع إذل آخر‪ .‬على سبيل ادلثاؿ صلد أف زلاولة تلبية احلاجات يف‬

‫االقتصاد الرأمسارل تتم من خالؿ زلاولة ربقيق أىداؼ ترمي إذل تعظيم العائد ادلادي من‬ ‫خالؿ اإلمتثاؿ لقوى العرض والطلب يف ربديد رلاالت انتاج‪ ،‬وتوزيع‪ ،‬وتبادؿ‪ ،‬واستهالؾ‬ ‫السلع واخلدمات‪ ،‬باإلضافة إذل استخداـ الربا كآلية للتوسط ادلارل؛ يف حُت صلد أف االقتصاد‬

‫اإلسالمي حياوؿ تلبية حاجات رلتمعو من خالؿ ربقيق أىدافو الرامية إذل تعظيم الثواب عند‬ ‫اهلل تعاذل بتعظيم العمل الصاحل الذي يتأتى بدوره من خالؿ توخي ادلقاصد الشرعية يف‬ ‫تنظيم وإدارة االجتماع البشري عامةً‪ ،‬وادلتصل منو باحلياة االقتصادية خاصة‪ .‬على سبيل‬ ‫ادلثاؿ‪ ،‬محاية النفس والدين والعقل والنسل وادلاؿ ضرورات أساسية جيب مراعاهتا وأخذىا‬

‫‪ 1‬يف حُت يرى آدـ مسيث َّ‬ ‫أف عالقة السببية تبدأ من الثقافة وتنتهي باالقتصاد‪ ،‬يعتقد ماركس غَت ذلك؛‬ ‫فعنده طبيعة التقنية ادلتوافرة لدى اجملتمع ىي اليت ربدد نوع البنية اإلجتماعية والثقافية السائدة‪ ،‬وليس‬ ‫ىذا بغريب َّ‬ ‫أف الدين لدى ماركس يعترب منتجاً غَت مباشر لعالقات اإلنتاج‪.‬‬ ‫‪26:‬‬


‫تفكُّر ‪ ،‬جملد (‪ ،)31‬العدد (‪2013 ، )2-3‬م‪1434/‬هـ‬

‫الظاهرة االجتماعية‬

‫بعُت االعتبار‪ ،‬وال جيب ذباوزىا أبداً عند ازباذ أي قرارات تتصل بعملية تنظيم عمليات‬ ‫انتاج وتوزيع وتبادؿ واستهالؾ السلع واخلدمات‪.‬‬ ‫إذف ديكن القوؿ َّ‬ ‫أف أمهية الثقافة تنبع من كوهنا تساعد على تلبية حاجات اجملتمع‬ ‫من خالؿ مساعدهت ا يف خلق وتفعيل ادلنظومات ادلختلفة اليت يكوهنا األفراد‪ ،‬بصورة رمسية‬ ‫وغَت رمسية‪ ،‬يف سعيهم ضلو ربقيق أىدافهم‪ .‬عليو‪ ،‬وإذا ما قِيست الثقافة من حيث أمهية‬ ‫دورىا‪ ،‬دبفردات عادل تقنية ادلعلومات واالتصاالت؛ فيمكن وصفها بأهنا الربامج التطبيقية‬ ‫جلهاز حاسوب اإلجتماع البشري‪ .‬وإف كاف األمر كذلك‪ ،‬فهذا يعٍت َّ‬ ‫أف كفاءة الثقافة يف‬ ‫تأدية دورىا َّإمنا تعتمد على ما خياجلها من عناصر ذات تأثَت سالب يف مكوناهتا ادلختلفة؛‬ ‫أي على مدى قوة أثر تلك العناصر السالبة يف احلد من االتياف بالنتائج ادلأمولة يف كل‬ ‫منحى من مناحي التدافع والتواصل البشري على ادلستوى الفردي واجلماعي واجملتمعي‪ ،‬وعلى‬ ‫مستوى األُمة‪.‬‬ ‫االقتصاد الثقافي‬ ‫َّ‬ ‫إف مسألة الثقافة وربطها باالقتصاد دل تكن لتظل حبيسةً لقيود النمذجة الرياضية‬ ‫للنظرية االقتصادية احلديثة‪ ،‬خاصةً بعدما احتد التداوؿ النظري حوؿ قضية التخلف والتنمية‪،‬‬ ‫واليت بدورىا أدت إذل ظهور علم اقتصاديات التنمية‪ .‬فقد كاف "بانفيلد" من أوائل من‬ ‫اقًتحوا تفسَتاً ثقافياً دلسألة التخلف يف كتابو " األساس األخالقي جملتمع التخلف" وىو‬ ‫األُطروحة اليت يع ِزي فيها زبلف اجلنوب اإليطارل إذل صفة اإلفراط يف سعي أفراد ذلك‬ ‫اجملتمع ضلو ربقيق مصاحلهم الذاتية‪ ،‬والذي بدوره مساه األُسرية غَت األخالقية‪ .1‬تلك‬ ‫األُطروحة ردبا سبثل بداية االقتصاد الثقايف كفرع من علم االقتصاد يهتم بدراسة الوقائع‬ ‫االقتصادية ‪-‬الثقافية‪.‬‬ ‫وبشكل عاـ يتفق االقتصاديوف على َّ‬ ‫أف بزوغ فجر االقتصاد الثقايف كاف يف العاـ‬ ‫‪1966‬ـ‪ ،‬وىو العاـ الذي ش ِهد نشر أوؿ جهد علمي رئيس يف ىذا اجملاؿ وبالذات يف‬ ‫‪1‬‬

‫أنظر‪:Luigi Guiso and Paola Spienza, ibid. p. 8.‬‬

‫‪271‬‬


‫الثقافة واالقتصاد‪ :‬دراسة مفاهيمية حول ثقافة املؤسسة‪...‬‬

‫أ‪.‬الزين عبد اهلل يوسف‬

‫اقتصاديات الفنوف من خالؿ أ ٍ‬ ‫ُطروحة بعنواف "الفنوف األدائية‪ :‬ادلعضلة االقتصادية"‪ .1‬ومن ٍَبَّ‬ ‫انطلقت‪ ،‬وإف كانت بطيئة‪ ،‬مسَتة ىذا احلقل من االقتصاد‪ ،‬ففي منتصف سبعينيات القرف‬ ‫العشرين ًب نشر رلموعة من األوراؽ العلمية يف ىذا اجملاؿ‪ .2‬بعد ذلك‪ ،‬ويف عاـ ‪1977‬ـ‬ ‫انطلقت رللة االقتصاد الثقايف؛ وىي رللة قاـ بتأسيسها رلموعة من الباحثُت يف جامعة‬ ‫األوؿ لالقتصاد الثقايف يف مدينة ادنبَتج ليصبح‬ ‫اكروف‪ .‬ويف العاـ ‪1979‬ـ انعقد ادلؤسبر َّ‬ ‫زلفالً راتباً يعقد مرتُت يف كل عاـ‪.‬‬ ‫الواقع َّ‬ ‫أف ىذه اجلهود ادلبذولة لتطوير نظرية يف االقتصاد الثقايف دل تعرج كثَتاً على‬ ‫قضايا ادلنهجية وإشكاالهتا َّ‬ ‫وإمنا ًب تناوؿ القضايا االقتصادية ادلتشابكة بالثقافة تناوالً منفصالً‬ ‫يهتم دبحيط ادلؤسسات واألفراد ادلتعاملُت فيو‪ ،‬إذ َّ‬ ‫أف الفنوف واإلعالـ والًتاث ىي رلاالت‬ ‫تتشكل وقائعها من منتجات وعمل ومستهلكُت‪ ،‬فعلى سبيل ادلثاؿ ادلنتجات الفنية‬ ‫كاللوحات واألفالـ السينمائية ذات طبيعة خاصة وترتبط بنوعية مًتفة من ادلستهلكُت‪ .‬لكن‬ ‫وعلى الرغم من تزايد االىتماـ باالقتصاد الثقايف وتفرد جزئياتو‪ ،‬إالَّ أنَّو اليعرب عن االذباه‬ ‫السائد يف أدبيات التنظَت االقتصادي الذي ما زالت تسيطر عليو النظرية الكالسيكية‬ ‫اجملددة‪ ،‬من خالؿ منهجيتها اليت تدثَّرت دبسلمات العقالنية‪ ،‬واحلرية ادلطلقة‪ ،‬والفردية‪،‬‬ ‫كوف اجملتمع‬ ‫وسيادة قوى السوؽ‪ ،‬والسلوؾ الفردي احليازي القائم على تعظيم الفائدة‪ ،‬وتَ ُّ‬ ‫اإلس تهالكي‪ .‬وإف كاف األمر كذلك‪ ،‬فمن األوذل أف يتم تطوير حقل يف علم االقتصاد كلما‬ ‫دعت احلاجة لدراسة الظواىر االقتصادية اليت تتصل بشرائح بعينها يف اجملتمع‪ ،‬أو بقطاعات‬ ‫اقتصادية ذلا خصوصية نوعية سبيزىا عن غَتىا من القطاعات األخرى‪ .‬وحىت إ ْف سلمنا‬ ‫دبعقولية ذلك التشطُّر يف عل ٍم يطمح للمسامهة يف تقدمي حلوؿ يف رلاالت وأوجو اقتصادية‬ ‫‪1‬أنظر ‪:W. J. Buamol and W. G. Bowen. 1966. Performing Arts:‬‬ ‫‪The Economic Dilemma. New York: Twentieth Century Fund.‬‬ ‫‪ 2‬أنظر ‪M. Blaug (Ed.). 1976. The Economics of the Arts: Selected‬‬ ‫‪Readings. London: Marton Robertson.‬‬ ‫‪272‬‬


‫تفكُّر ‪ ،‬جملد (‪ ،)31‬العدد (‪2013 ، )2-3‬م‪1434/‬هـ‬

‫الظاهرة االجتماعية‬

‫متباينة للمجتمع البشري‪ ،‬فإننا النستطيع التسليم والقبوؿ باختزاؿ البعد الثقايف عن نظرية‬ ‫اقتصادية عامة‪ .‬وما يربر ذلك ىو َّ‬ ‫أف األثر الثقايف يف التنشئة اإلجتماعية يًتتب عليو‬ ‫تطورات إدراكية زلددة‪ ،‬وتصورات معرفية زلددة‪ ،‬وتنامي مناذج خليارات كلية‪ ،‬تتشكل على‬ ‫ضوئها خيارات تفصيلية زلددة للتعاطي مع وقائع التدافع االقتصادي اليومي يف اجملتمع‬ ‫البشري‪ ،‬الديكن على أي ٍ‬ ‫حاؿ إقصائها وغض الطرؼ عنها‪.‬‬ ‫الشاىد‪َّ ،‬‬ ‫أف زلنة النظرية االقتصادية اجملددة واليت اقتضتها مسلمات رؤية للعادل‬ ‫اضلازت الضلرافات دينية وفكرية‪ ،‬وأركنتها يف رك ٍن ضيق من احلس والتجربة والقياس ما كانت‬

‫لتفتح باباً يلج من خاللو البعد الثقايف بكلما تلتف حولو من مفاىيم تنبع من العقائد‬ ‫والقيم‪ .‬ولكن يأىب ذلك البعد الثقايف إالَّ أ ْف يكوف حاضراً يف الفعل االقتصادي للفرد‬ ‫واجملموعة واجملتمع؛ وىو الشيء الذي أدى إذل ضرورة النظر يف أمر تباين أداء ادلؤسسات‪،‬‬ ‫ادلتشاهبة منها وغَت ادلتشاهبة؛ يف قطاعات متماثلة أو سلتلفة؛ ويف ذات البلد أو بلداف‬ ‫سلتلفة‪ ،‬رغم امتالؾ تلك ادلؤسسات دلدخالت انتاجية متشاهبة‪ ،‬ورغم إدارة أنشطة تلك‬ ‫ادلؤسسا ت عن طريق ىياكل إدارية متناظرة‪ .‬ذاؾ اإلشكاؿ ىو ما قاد ادلهتمُت بأمر البحث‬ ‫اإلداري إذل منعطف ثقافة ادلؤسسات‪ ،‬والذي ديكن جالء بعض مفاىيمو فيما يلي من‬ ‫نقاش‪.‬‬

‫ثقافة المؤسسة‬ ‫شهد أواخر األربعينيات من القرف العشرين ترُّكز اىتماـ النفسانيُت اإلجتماعيُت‬ ‫بقضايا تدريب القيادة‪ 1‬من أجل تفعيل اإلدارة وربسُت أداء الشركات‪ ،‬وذلذا الغرض فقد‬ ‫استخدموا العديد من ادلصطلحات منها على سبيل ادلثاؿ مصطلح "اجلزيرة الثقافية" وذلك‬ ‫لإلشارة إذل َّ‬ ‫أف الظروؼ ادلعدة للتدريب زبتلف جزرياً عن شاكلتها يف البيئة اليت يأٌب منها‬

‫‪ 1‬بصورة عامة يعرؼ علماء اإلدارة القيادة بأهنا القدرة على التأثَت يف سلوؾ األتباع وتوجيههم ضلو ىدؼ‬ ‫معُت مع احملافظة على والئهم وطاعتهم وتعاوهنم‪.‬‬ ‫‪273‬‬


‫الثقافة واالقتصاد‪ :‬دراسة مفاهيمية حول ثقافة املؤسسة‪...‬‬

‫أ‪.‬الزين عبد اهلل يوسف‬

‫ادلتدربوف‪ .‬عالوًة عل ى ذلك‪ ،‬ففي اخلمسينات والستينات من القرف ادلاضي بدأ علم النفس‬ ‫التنظيمي يف اإلنسالؿ من دائرة علم النفس الصناعي بادئاً بالتأكيد على ادلفاىيم اليت تتصل‬ ‫وزبوض يف القضايا اليت تتعلق بوحدات أكرب تكويناً من رلموعات العمل‪ .1‬ومع التأكيد‬ ‫على تلك ادلفاىيم برزت احلاجة إذل مفاىيم أخرى مثل مفهوـ " النسق" والذي ديكن وصفو‬ ‫بأنو منط من القواعد واالذباىات اإلجتماعية اليت تنداح على وحدة اجتماعية برمتها‪.2‬‬ ‫أيضاً‪ ،‬ساعد انتشار مدارس اإلدارة واألعماؿ على منو علم النفس التنظيمي وربرره‬ ‫من قبضة علم النفس ذي التوجو القياسي‪ ،‬ومن ٍَبَّ انفتاحو على ادلناىج وادلفاىيم‬ ‫اإلجتماعية (نسبةً إذل علم اإلجتماع) واألنثروبلوجية (نسبةً إذل علم األنثروبلوجيا)‪ .‬باإلضافة‬ ‫إذل ذلك‪ ،‬ورغم وجود علم النفس الثقايف َّ‬ ‫فإف تطبيق استخداـ مفهوـ الثقافة على ادلنظومات‬ ‫يف رلتمع معُت قد جاء مؤخراً‪ ،‬حيث أدى اىتماـ الباحثُت يف رلاؿ الظواىر التنظيمية إذل‬ ‫البحث عن مفهوـ يستطيع تفسَت سلتلف أمناط السلوؾ ومستويات ثباهتا يف اجملموعات‬ ‫وادلنظومات‪ .3‬لكن‪ ،‬ما أدى إذل احتالؿ مفهوـ الثقافة مكاناً بارزاً يف السطح ىو احملاوالت‬ ‫احلديثة (خالؿ سبعينيات القرف ادلاضي) اليت شدَّدت على تفسَت ما يقف وراء عدـ أداء‬ ‫الشركات األمريكية بصورةٍ طيبة كما ىو احلاؿ يف رصيفاهتا يف اجملتمعات األخرى‪ ،‬ال سيما‬ ‫اليابانية‪ .‬وبالنظر إذل تلك االختالفات يف أداء الشركات‪ ،‬فقد أدرؾ الباحثوف َّ‬ ‫أف اختالؼ‬ ‫الثقافات الوطنية دل يكن سبباً كافياً لتفسَت اختالؼ النتائج يف أداء الشركات يف ذات‬ ‫اجملتمع‪ ،‬خاصةً فيما يتعلق باختالؼ مستويات فعالية تلك الشركات ولذا لزـ البحث عن‬

‫‪1‬‬

‫أنظر ‪Edgar H. Schein. 1988. Organizational Culture. Sloan School of‬‬ ‫‪Management, MIT, December, P. 2‬‬

‫‪ 2‬ادلصدر السابق ‪P. 20.‬‬ ‫‪ 3‬لعل ذلك ادلفهوـ قد أتى برداً وسالماً على ادلهتمُت بتفسَت الظواىر اإلجتماعية ألنو أتاح فرصة ربليل‬ ‫تلك الظواىر يف نطاؽ وحدات اجتماعية أكثر ذبانساً واتساقاً يف مكوناهتا من أف يكوف ربليل تلك‬ ‫الظواىر شامالً لكل اجملتمعات‪.‬‬ ‫‪274‬‬


‫تفكُّر ‪ ،‬جملد (‪ ،)31‬العدد (‪2013 ، )2-3‬م‪1434/‬هـ‬

‫الظاهرة االجتماعية‬

‫مفاىيم أخرى؛ وكاف أبرز تلك ادلفاىيم حلل مثل تلك اإلشكاالت ىو مفهوـ ثقافة‬ ‫ادلؤسسة‪ .1‬فما ىو ادلقصود بثقافة ادلؤسسة وما ىي عناصرىا؟‬ ‫مفهوم ثقافة المؤسسة‬ ‫بشري إالَّ وتولدت عنو‬ ‫ذبمع أو باألحرى‬ ‫احلقيقة‪ ،‬أنَّو ال يكاد يكوف ىناؾ ٌ‬ ‫تفاعل ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫ثقافة ذات طبيعة ما‪ .‬وتلك الثقافة َّإما أف تكوف يف رلملها أشتاتاً لثقافات شخصية زلضة‬

‫قائمة على معارؼ وذبارب شخصية‪ ،‬و بالطبع‪ ،‬تفضي إذل إجراء أحكاـ تقديرية تتم بصورة‬ ‫شخصية حوؿ سلتلف القضايا احمليطة بالفرد‪ ،‬ومن ٍَبَّ تولُّد ردود أفعاؿ‪ ،‬تتسم بذات الصفة‬ ‫الشخصية وتصطبغ بطابعها‪ ،‬حياؿ تلك القضايا‪ .‬وإف كاف األمر كذلك‪ ،‬فمن ادلؤكد أف‬

‫تكوف ىناؾ تباينات كبَتة واختالفات واسعة حوؿ احلكم على سلتلف القضايا‪ ،‬ومن ٍّبَّ‬ ‫تتباين األفعاؿ وردود األفعاؿ من سلتلف الشخوص يف دائرة التفاعل ادلعٍت على وتَتة يلجمها‬ ‫يف الغالب األعظم اذلوى الشخصي وادلصلحة الشخصية البحتة فتكوف احملصلة النهائية‬ ‫لألداء واىنة رديئة‪ .‬ىذا ىو احلاؿ وادلآؿ عند غياب اإلجراءات واللوائح والسياسات‬ ‫التنظيمية‪ ،‬وضعف العمل هبا‪ ،‬وعدـ إنزاذلا مواقع التنزيل و تغييبها حاؿ ُوجودىا‪ .‬ومن‬ ‫ٍ‬ ‫جانب آخر‪ ،‬فإ ّف كانت ىناؾ إجراءات ولوائح وسياسات تنظيمية توجو وتضبط سلوؾ‬

‫األفراد من حيث أفعاذلم وردود أفعاذلم يف زليطهم وتفاعلهم اإلجتماعي ادلتصل بأي شكل‬

‫من أنشطة ادلنظمة فستكوف ىناؾ ثقافة مؤسسية بناءة تساعد على حسن األداء وتطويره‪.‬‬ ‫عموماً‪ ،‬ارتكز مفهوـ ثقافة ادلؤسسة على أهنا ىي‪ :‬ادلعتقدات والقيم وأمناط السلوؾ‬

‫ادلشًتكة لدى اجملموعات‪ .‬وىي رمزية وشاملة وموحدة ومستقرة وصعبة التغيَت‪ .2‬وىنا يشَت‬

‫‪Op,cit P. 3. 1‬‬ ‫‪ 2‬سنكتفى هبذا التعريف ‪ -‬واحلقيقة أف أدبيات اإلدارة وجدت َّ‬ ‫أف ‪ %80‬منها تُعرؼ ثقافة ادلؤسسة على‬ ‫ىذا النحو‪.‬‬ ‫‪275‬‬


‫الثقافة واالقتصاد‪ :‬دراسة مفاهيمية حول ثقافة املؤسسة‪...‬‬

‫أ‪.‬الزين عبد اهلل يوسف‬

‫ىوفستيد (‪ )1991‬أنو على الرغم من غياب مفهوـ موحد لثقافة ادلؤسسة إالَّ َّ‬ ‫أف معظم من‬ ‫تعاملوا معو قد يتفقوف على أنَّو مفهوـ‪:1‬‬ ‫كل مشًتؾ ألفراد ادلؤسسة وليس زلصلة لثقافاهتم الفردية)‪.‬‬ ‫‪ -‬كلي (أي ٌ‬

‫ يتحدد تارخيياً؛ دبعٌت أف يعكس تاريخ ادلؤسسة بكل معطياتو من فلسفة وأىداؼ ورؤية‬‫ورسالة وسياسات ولوائح وقيادة تارخيية ذلا‪.‬‬

‫ يهتم بدراسة العناصر الرمزية والطقوسية‪ ،. . . ،‬اخل‪( .‬ما يدرسو علماء األنثربلوجيا)‪.‬‬‫ يتكوف إجتماعياً؛ أي ينشئو وحيافظ عليو كل األفراد يف ادلؤسسة‪.‬‬‫‪ -‬ال يتغَت بسهولة‪.‬‬

‫ يوجد يف ىيئة متخفية‪.‬‬‫ويف الواقع َّ‬ ‫عرب عنو‬ ‫فإف ثقافة ادلؤسسة دلنشأة ما ليست بالضرورة أف تعٍت ما ىو ُم َّ‬ ‫بالرؤية والرسالة اللتُت تُصدَّر هبما كتيبات التسويق والًتويج‪ ،‬وإمنا ىي بالضرورة ما يعكسو‬ ‫الواقع من شلارسات يومية وأمناط إتصاؿ ومعتقدات بُت طاقم تلك ادلنشأة فيما بينهم وبُت‬ ‫أي فرد أو رلموعة من الشرائح ادلستفيدة من وجود ادلؤسسة‪ .‬وىي بكل بساطة تعٍت الطريقة‬ ‫أو الكيفية اليت يتم هبا إصلاز األشياء يف ادلؤسسة‪ .‬باإلضافة إذل أهنا ىي الدافعية اليت تقف‬ ‫خلف القرارات واألفعاؿ يف ادلؤسسة واليت تضبط كيفية تفكَت ادلوظفُت وأفعاذلم وشعورىم‪،‬‬ ‫باإلضافة إذل ذلك فهي سبثل منظومة اإلفًتاضات اليت تشكل أمناط سلوؾ العمل اليومي يف‬ ‫ادلؤسسة‪ ،‬وبالنسبة إذل بوال (‪2001‬ـ) َّ‬ ‫فإف ثقافة ادلؤسسة تشتمل على التارل‪:‬‬ ‫ كيفية تنظيم العمل وتسيَته‪.‬‬‫ طريقة شلارسة السلطة وتوزيعها‪.‬‬‫ كيفية مكافأة العاملُت وتنظيمهم وضبطهم وشعورىم حياؿ ذلك‪.‬‬‫‪1‬‬

‫أنظر ‪Geert Hofstede. 1991. Cultures and Organizations: Software of Minds. :‬‬ ‫‪New York: McGraw Hill, p. 179.‬‬

‫‪276‬‬


‫تفكُّر ‪ ،‬جملد (‪ ،)31‬العدد (‪2013 ، )2-3‬م‪1434/‬هـ‬

‫الظاهرة االجتماعية‬

‫ رلموع القيم اليت توجو العمل لدى العاملُت‪.‬‬‫ مساحة تطبيق الطريقة الرمسية وادلعيارية واإلنضباطية من خالؿ أنظمة زلددة يف ادلؤسسة‪.‬‬‫ القيمة اليت يوليها قادة ادلؤسسة لعمليات التخطيط والتحليل وادلنطق يف اإلدارة‪.‬‬‫ ماىية مقدار أخذ ادلبادرة وادلخاطرة ومدى مساحة الفردية والتعبَت ادلمنوح للموظفُت‪.‬‬‫ وجود لوائح وتوقعات عن بعض األشياء غَت الرمسية يف العالقات الشخصية وادلظهر‬‫العاـ وغَتىا‪.‬‬ ‫ مدى التأكيد على اللوائح واإلجراءات ومواصفات األداء والنتائج لألفراد وفرؽ العمل‪.‬‬‫ مدى احًتاـ فوارؽ الرتب ادلهنية‪.‬‬‫وتتشكل ثقافة ادلؤسسة بداية بقياداهتا والغرض الذي من أجلو أنشئت ادلؤسسة‪،‬‬ ‫ومن ٍب تتبلور متطورة يف ظل معطيات البيئة والتكنولوجيا ادلتوفرة وقيم القيادة السائدة‬ ‫وتوقعات األداء يف ادلؤسسة‪ .‬ويف ىذا ادلقاـ يؤكد كافيال (‪َّ )2010‬‬ ‫أف القيادة تلعب دوراً‬ ‫زلورياً يف تشكيل أىداؼ ورؤية وقيم ادلؤسسة واحملافظة عليها من خالؿ جعلهم من أنفسهم‬ ‫قدوة يف االلتزاـ بقيم وثقافة ادلؤسسة ومن خالؿ قدرهتم يف وضع ادلعايَت واإلجراءات‬ ‫الواضحة ألفعاؿ أفراد ادلؤسسة وأدائهم‪ .1‬وىنا يأٌب اإلسالـ دبفهومُت أساسيُت جيمعاف كل‬ ‫ما أتت بو أدبيات اإلدارة يف وصف صفات القيادة الناجحة ومها‪ :‬القوة واألمانة وىذا ما‬ ‫ت ِ‬ ‫ِ‬ ‫ي‬ ‫ت إِ ْح َد ُ‬ ‫ت الْ َق ِو ُّ‬ ‫جاء بو الوحي يف قولو تعاذل‪ :‬قَالَ ْ‬ ‫استَأْ َج ْر َ‬ ‫استَأْج ْرهُ إِ َّف َخْيػَر َم ِن ْ‬ ‫امهَا يَا أَبَ ْ‬ ‫ِ‬ ‫أي رلتمع (عاـ أو رلتمع‬ ‫ْاألَم ُ‬ ‫ُت ‪ " ‬القصص‪ :‬اآلية ‪ ."26‬وبصورة عامة تتجلى ثقافة ّ‬ ‫مؤسسة) على ثالثة مستويات ىي‪:2‬‬ ‫‪1‬‬

‫أنظر ‪: Ghirmai T. Kefela. 2010. "Understanding Organizational Culture and‬‬ ‫‪Leadership: Enhance Efficiency and Productivity" in PM World Today.‬‬ ‫‪Vol. 12, No. 1‬‬ ‫‪2‬‬ ‫أنظر ‪: Potecea Valeriu and Cebuc Georgiana. 2009. Aspects of Organizational‬‬ ‫‪Culture. http://steconomice.uoradea.ro/anale/volume/2009/v1‬‬‫‪international-relations-and-european-integration/37.pdf (accessed on‬‬ ‫)‪01/12/2010‬‬

‫‪277‬‬


‫الثقافة واالقتصاد‪ :‬دراسة مفاهيمية حول ثقافة املؤسسة‪...‬‬

‫أ‪.‬الزين عبد اهلل يوسف‬

‫أوالً‪ :‬ادلستوى ادلادي‪ :‬ويتمثل يف ادلوجودات وادلنتجات ادللموسة كفنوف العمارة وتصميماهتا‬ ‫والتقنية ادلتاحة وادلالبس ادلعتاد لباسها‪ .‬ىذه العناصر تؤثر تأثَتاً واضحاً على الثقافة يف‬ ‫ادلؤسسة من خالؿ التأثر هبا والقيم اجلمالية اليت يوليها رلتمع ادلؤسسة ذلا‪.‬‬ ‫ثانياً‪ :‬القيم والعادات اليت يتبناىا ادلوظفوف‪ ،‬باإلضافة إذل ذلك فإ ّف أىداؼ ادلؤسسة‬ ‫ولوائحها وأخالقيات ادلهنة اليت تتبعها ورسالتها ذات مردود مباشر على ثقافة ادلؤسسة‬

‫وربديد طبيعتها‪.‬‬

‫ثالثاً‪ :‬اال فًتاضات األساسية عن احلياة؛ دبعٌت ما ىي اخللفية اليت تشكل التصورات الذىنية‬ ‫وذبيب عن أسئلة مثل‪ :‬ماىية احلياة؟ ومن أين بدأت؟ وأين تنتهي؟ وما الغرض منها؟‬

‫كل ذلك ديثل ادلستوى األعمق واألعقد حوؿ ثقافة ادلؤسسة ألنو يشكل قناعات‬ ‫ومعتقدات ادلوظفُت وبالتارل حيدد بشكل كبَت طبيعة سلوكياهتم داخل ادلؤسسة‪.‬‬ ‫أيضاً ُربدد قيادة ادلؤسسة طبيعة الثقافة السائدة فيها من خالؿ األساليب ادلتبعة يف‬

‫إدارهتا وعلي سبيل ادلثاؿ صلد األمناط اآلتية‪:‬‬ ‫‪/1‬‬

‫الثقافة البيروقراطية‪ :‬وتتسم بعدـ وضوح األسلوب ادلتبع يف اإلدارة وتعتمد يف‬

‫األساس على إجراءات وقواعد سلوكية متفق عليها‪ .‬وعليو فهي ثقافة ىرمية مركزية‬ ‫صارمة‪.‬‬

‫‪ /2‬الثقافة اإلدارية‪ :‬وىي ثقافة قائمة على توجهات اإلنتاج وغالباً ما تتباهنا ادلؤسسات‬ ‫ذات احلساسية ادلفرطة للتغيَت‪.‬‬ ‫‪ /3‬الثقافة الفنية‪ :‬وىي ثقافة قائمة على اخلربات الفنية وغالباً ما تتبعها ادلؤسسات‬ ‫الصناعية‪.‬‬

‫ويف سياؽ أثر القيادة على طبيعة ثقافة ادلؤسسة فإنذ اإلسالـ يأٌب دبفهومُت‬ ‫أساسيُت جيمعاف كل ما أتت بو أدبيات اإلدارة يف وصف صفات القيادة الناجحة ومها‪:‬‬ ‫ِ‬ ‫استَأْ ِج ْرهُ إِ َّف‬ ‫ت إِ ْح َد ُ‬ ‫القوة واإلمانة وىذا ما جاء بو الوحي يف قولو تعاذل‪ :‬قَالَ ْ‬ ‫امهَا يَا أَبَت ْ‬ ‫‪278‬‬


‫تفكُّر ‪ ،‬جملد (‪ ،)31‬العدد (‪2013 ، )2-3‬م‪1434/‬هـ‬

‫الظاهرة االجتماعية‬

‫خيػر م ِن استَأْجرت الْ َق ِو ُّ ِ‬ ‫ُت ‪ " ‬القصص‪ :‬اآلية ‪ ."26‬ىذه اآلية الكردية ربكي عن‬ ‫ي ْاألَم ُ‬ ‫ََْ َ ْ َْ َ‬ ‫توصية إبنيت شعيب عليو السالـ لدى أبيهما بتوظيف موسى عليو السالـ يف رعي وتعهد‬ ‫األوؿ‪ ،‬أي أ ّف ىناؾ حالة لوجود مؤسسة‪ ،‬وإف كانت غَت رمسية‪ ،‬اقتضت توظيف‬ ‫غنم َّ‬ ‫شخص دبواصفات زلددة‪ .‬ويف احلقيقة دل تاٌب تلك التوصية من فراغ وإمنا على أسس‬ ‫موضوعية من القيم وادلواصفات الضرورية للحفاظ على كياف ادلؤسسة وحسن أدائها‪ .‬يقوؿ‬ ‫صاحب اجلاللُت "(قالت إحدامها) وىي ادلرسلة الكربى أو الصغرى (يا أبت استأجره) ازبذه‬ ‫أجَتا يرعى غنمنا بدلنا (إف خَت من استأجرت القوي األمُت) استأجره بقوتو وأمانتو فسأذلا‬ ‫عنو فأخربتو دبا تقدـ من رفعو حجر البئر ومن قولو ذلا امشي خلفي وزيادة اهنا دلا جاءتو‬ ‫وعلم هبا صوب رأسو فلم يرفعو ‪ . 1". . .‬ىذا يفضي إذل القوؿ أننا ومن منظوٍر إسالمي‪،‬‬ ‫صلد َّ‬ ‫أف أسس ثقافة ادلؤسسة‪ ،‬باعتبارىا جزء ال يتجزأ من ثقافة اجملتمع ككل‪ ،‬ينبغي أف تقوـ‬ ‫على منهج التوحيد الذي ًب بيانو بياناً كافياً يف القرآف الكرمي والسنة ادلطهرة‪ ،‬وطادلا َّ‬ ‫أف األمر‬ ‫يتعلق دبجتمع إنساين (حىت وإف كاف منحصراً يف مؤسسة صغَتة) فبالضرورة أف يرتكز على‬

‫قيم عليا وقيم إنسانية لتشكيل الوسط الثقايف تشكيالً حيقق وتتحقق بو‪:‬‬

‫‪ .1‬عبادة اهلل سبحانو وتعاذل على الوجو الصواب القائم على العلم وادلعرفة‪ .‬ولو َّ‬ ‫أف أفراد‬ ‫رلتمع ادلؤسسة سبثلوا تلك العبادة احلقة و َّادكروا َّ‬ ‫رقيب عليهم يف كل شىء‪ ،‬وىذا‬ ‫أف اهلل ٌ‬ ‫منتهى العبودية‪ ،‬ألذعنوا وأطاعوا ودلا اتبعوا غَت الرشاد يف أقواذلم وأفعاذلم يف ادلؤسسة‬

‫(وخارجها) ‪ ،‬ولوجد ىؤالء اخلشية وادلراقبة من اهلل تعاذل‪ ،‬وذلك حىت قبل أف يأٌب يف‬ ‫خلدىم العقاب والثواب ادلوصوؼ يف االجراءات والسياسات واللوائح اليت هتتم بسلوؾ‬ ‫ادلوظفُت‪ .‬وبالطبع تلك العبادة التنحصر يف القياـ وااللتزاـ بالعبادات فحسب‪ ،‬بل إف‬ ‫كل عمل يؤديو الفرد ادلسلم وتُستصحب فيو النية اخلالصة هلل تعاذل ويتحقق بو ادلقصد‬

‫ادلطلوب للشارع‪ ،‬فإنو عمل صاحل تتحقق بو العبادة هلل تعاذل‪ .‬وإف كاف األمر كذلك‪،‬‬

‫‪ 1‬تفسَت اجلاللُت (ادلصحف الرقمي)‬ ‫‪279‬‬


‫الثقافة واالقتصاد‪ :‬دراسة مفاهيمية حول ثقافة املؤسسة‪...‬‬

‫أ‪.‬الزين عبد اهلل يوسف‬

‫فمن الضروري أف يهتدي العمل الصاحل بقيم العدؿ واإلحساف‪ ،‬يقوؿ احلق تعاذل ‪‬إِ َّف‬ ‫اللّو يأْمر بِالْع ْد ِؿ وا ِإلحس ِ‬ ‫اف َوإِيتَاء ِذي الْ ُق ْرَىب َويػَْنػ َهى َع ِن الْ َف ْح َشاء َوالْ ُمن َك ِر َوالْبَػ ْغ ِي‬ ‫َ َ ُ​ُ َ َ ْ َ‬ ‫يَعِظُ ُك ْم لَ َعلَّ ُك ْم تَ َذ َّك ُرو َف ‪" ‬النحل‪ :‬اآلية ‪ ،"90‬وإذل معٌت العدؿ واإلحساف يشَت‬

‫صاحب اجلاللُت بقولو‪ " :‬إ ّف اهلل سبحانو وتعاذل يأمر عباده يف ىذا القرآف بالعدؿ‬ ‫واإلنصاؼ يف حقو بتوحيده وعدـ اإلشراؾ بو‪ ،‬ويف حق عباده بإعطاء كل ذي حق‬ ‫حقو‪ ,‬ويأمر باإلحساف يف حقو بعبادتو وأداء فرائضو على الوجو ادلشروع‪ ,‬وإذل اخللق‬ ‫وبرىم‪ ،‬وينهى عن كل ما‬ ‫يف األقواؿ واألفعاؿ‪ ,‬ويأمر بإعطاء ذوي القرابة ما بو صلتهم ُّ‬ ‫قَػبُ َح قوال أو عمال وعما ينكره الشرع وال يرضاه من الكفر وادلعاصي‪ ،‬وعن ظلم الناس‬ ‫والتعدي عليهم ‪ 1". . .‬ويف ذات الشأف يقوؿ صاحب ابن عاشور "والعدؿ ‪ :‬إعطاء‬

‫احلق إذل صاحبو وىو األصل اجلامع للحقوؽ الراجعة إذل الضروري واحلاجي من‬ ‫ّ‬ ‫احلقوؽ الذاتية وحقوؽ ادلعامالت‪ . . .‬ومرجع تفاصيل العدؿ إذل أدلّة الشريعة‪ .‬فالعدؿ‬ ‫ُ‬ ‫ىنا كلمة ُرلملة جامعة فهي بإمجاذلا مناسبة إذل أحواؿ ادلسلمُت حُت كانوا دب ّكة ‪،‬‬ ‫مقرر بُت الناس يف أصوؿ الشرائع وإذل ما رمستو الشريعة من‬ ‫فيصار فيها إذل ما ىو ّ‬ ‫األخوة والتناصح‬ ‫البياف يف مواضع اخلفاء ‪ ،‬فحقوؽ ادلسلمُت بعضهم على بعض من ّ‬ ‫قد أصبحت من العدؿ بوضع الشريعة اإلسالمية ‪ . . .‬وأما اإلحساف فهو معاملة‬

‫ادلعامل بو ودل‬ ‫احلسن ‪ :‬ما كاف زلبوباً عند َ‬ ‫باحلسٌت شلن ال يلزمو إذل من ىو أىلها‪ .‬و َ‬ ‫فسره النيب بقولو ‪:‬‬ ‫يكن الزماً لفاعلو ‪ ،‬وأعاله ما كاف يف جانب اهلل تعاذل شلا ّ‬ ‫التقرب إذل‬ ‫اإلحساف أف تعبد اهلل كأنّك تراه ‪ ،‬فإف دل تكن تراه فإنو يراؾ ‪ .‬ودوف ذلك ّ‬ ‫اهلل بالنوافل ‪ٍ .‬ب اإلحساف يف ادلعاملة فيما زاد على العدؿ الواجب‪ ،‬وىو يدخل يف‬ ‫مجيع األقواؿ واألفعاؿ ومع سائر األصناؼ إال ما ُحرـ اإلحسا َف حبكم الشرع"‪. 2‬‬ ‫‪ 1‬تفسَت اجلاللُت (ادلصحف الرقمي)‬ ‫‪ 2‬تفسَت ابن عاشور ص ‪( 277‬ادلكتبة الشامالة – إلكًتونية)‬ ‫‪27:‬‬


‫تفكُّر ‪ ،‬جملد (‪ ،)31‬العدد (‪2013 ، )2-3‬م‪1434/‬هـ‬

‫الظاهرة االجتماعية‬

‫عليو‪ ،‬ينبغي أف تعمل قيادة ادلؤسسة على غرس مفهوـ العمل الصاحل‪ ،‬وما حييط بو‬ ‫من مفاىيم وقيم آنفة الذكر‪ ،‬يف ثقافة ادلؤسسة ليكوف أمر تنزيلو تلقائياً من خالؿ أداء ادلهاـ‬

‫والواجبات يف ادلؤسسة من كل منسوبيها أفراداً وفرؽ ورلموعات عمل‪.1‬‬ ‫‪.2‬‬

‫خالفة اهلل سبحانو وتعاذل يف األرض على الوجو الصواب الذي تتحقق بو تلك‬

‫اخلالفة‪ ،‬ولتتم بو عمارة األرض باجلد والعمل وإقامة احلق والعدؿ ونشر الصالح ومنع‬ ‫ك لِْلمالَئِ َك ِة إِين ج ِ‬ ‫اع ٌل ِيف األ َْر ِ‬ ‫الفساد؛ يقوؿ الق تعاذل‪َ  :‬وإِ ْذ قَ َ‬ ‫ض َخلِي َفةً قَالُواْ‬ ‫َ‬ ‫اؿ َربُّ َ َ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫أَ ِ‬ ‫اؿ إِين‬ ‫ك قَ َ‬ ‫ْ‬ ‫س لَ َ‬ ‫َذب َع ُل ف َيها َمن يػُ ْف ِس ُد ف َيها َويَ ْسف ُ‬ ‫ك الد َماء َوَْضل ُن نُ َسب ُح حبَ ْمد َؾ َونػُ َقد ُ‬ ‫أ َْعلَ ُم َما الَ تَػ ْعلَ ُمو َف ‪" ‬البقرة‪ :‬اآلية ‪ " 30‬واذكر ‪-‬أيها الرسوؿ‪ -‬للناس حُت قاؿ ربك‬ ‫بعضا لعمارهتا‪ .‬قالت‪ :‬يا ربَّنا‬ ‫قوما خيلف بعضهم ً‬ ‫للمالئكة‪ :‬إين جاعل يف األرض ً‬ ‫عل ْمنا وأ َْرِش ْدنا ما احلكمة يف خلق ىؤالء‪ ،‬مع َّ‬ ‫أف من شأهنم اإلفساد يف األرض واراقة‬ ‫الدماء ظلماً وعدوانًا وضلن طوع أمرؾ‪ ،‬ننزىك التنزيو الالئق حبمدؾ وجاللك‪ ،‬ومنجدؾ‬ ‫بكل صفات الكماؿ واجلالؿ؟ قاؿ اهلل ذلم‪ :‬إين أعلم ما ال تعلموف من احلكمة البالغة‬ ‫يف خلقهم"‬

‫‪2‬‬

‫إذف من ادلرجو أف تكوف ثقافة ادلؤسسة يف اإلسالـ ثقافة أوجدت يف إطار معياري‬ ‫قيمي وليس فقط كنتيجة موصوفة حملصلة تفاعل رلموعة من البشر مجع بينهم ىم مادي‬ ‫فحسب‪ .‬ولذلك ىناؾ رلموعة من القيم‪ ،‬باإلضافة إذل ما ذكر سابقاً‪ ،‬اليت ينبغي أف تشكل‬

‫الوسط الثقايف ألي مؤسسة ومنها‪:‬‬

‫‪ 1‬دلزيد من التوضيح حوؿ صفات القائد يف اإلسالـ والقيم اإلدارية يف اإلسالـ ديكن االطالع على كتاب‬ ‫"اإلداري القائد يف رلتمع متغَت‪ ،‬معهد إسالـ ادلعرفة‪ ،‬جامعة اجلزيرة – حرره عبد اهلل زلمد األمُت‬ ‫ومجاؿ الدين عبد العزيز شرؼ وقاسم عمر أبو اخلَت – سلسلة ادلؤسبرات والندوات (‪.2006 ،)1‬‬ ‫‪ 2‬التفسَت ادليسر (ادلصحف االلكًتوين)‪.‬‬ ‫‪281‬‬


‫الثقافة واالقتصاد‪ :‬دراسة مفاهيمية حول ثقافة املؤسسة‪...‬‬

‫أ‪.‬الزين عبد اهلل يوسف‬

‫‪ .1‬التواصي بالحق والصبر‪ :‬وذلك َّ‬ ‫ألف التفاعل اإلجتماعي تتولد عنو اختالفات وجهات‬

‫النظر واآلراء وجيد فيو الشيطاف منفذاً لغرز التحاسد والتباغض والشحناء بُت الناس‪،‬‬ ‫وإذا دل تكن ىناؾ قيمة للتواصي باحلق نوراً وىداية ومرجعية ينتهي إليها األمر كلو؛ يقوؿ‬ ‫اإلنسا َف لَِفي خس ٍر(‪ )2‬إَِّال الَّ ِذين آمنوا وع ِملُوا َّ ِ‬ ‫احل ِ‬ ‫احلق تعاذل ‪َ ‬والْ َع ْ ِ ِ ِ‬ ‫ات‬ ‫َ َُ َ َ‬ ‫الص َ‬ ‫ُْ‬ ‫صر(‪ )1‬إ َّف ْ َ‬ ‫الص ِْرب(‪" )3‬العصر‪ ."3-1‬وإذا دل يكن ىناؾ تواصي بالصرب‬ ‫اص ْوا بِ ْ‬ ‫اص ْوا بِ َّ‬ ‫احلَق َوتَػ َو َ‬ ‫َوتَػ َو َ‬ ‫حافزاً وسبيالً للحق فلن يكوف الوسط الثقايف للمؤسسة غَت وسط تسوده تلك‬ ‫ادلشكالت‪ ،‬وبالتارل ينعكس ذلك سلباً على األداء‪.‬‬ ‫‪ .2‬اإلخاء والمحبة‪ :‬وذلك أل ّف ثقافة تقوـ على اإلخاء واحملبة تزيد وتدعم الثقة بُت‬ ‫ادلوظفُت فيكوف التواصل واإلتصاؿ أسهل بينهم وبغض النظر عن ادلستويات اإلدارية‪،‬‬

‫ويكوف النظاـ اإلداري بصورة عامة أكثر ذبانساً وتكامالً شلا يسهل من أداء ادلهاـ‬ ‫وبكفاءة وفعالية أفضل‪ .‬قية اإلخاء واحملبة من أىم القيم اليت أرساىا اإلسالـ‪ ،‬فعن أيب‬ ‫ىريرة رضي اهلل عنو أ ّف الرسوؿ ‪ ‬وىو قائد ابشرية قد قاؿ‪" :‬إِيَّا ُك ْم َوالظَّ َّن فَِإ َّف الظَّ َّن‬ ‫أَ ْك َذب ْ ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫الر ُج ُل‬ ‫ب َّ‬ ‫احلَديث َوَال َذبَ َّس ُسوا َوَال َربَ َّس ُسوا َوَال تَػبَا َغ ُ‬ ‫ُ‬ ‫ضوا َوُكونُوا إ ْخ َوانًا َوَال َخيْطُ ُ‬ ‫‪1‬‬ ‫َعلَى ِخطْبَ ِة أ َِخ ِيو َح َّىت يػَْن ِك َح أ َْو يػَْتػ ُرَؾ"‬ ‫‪ .3‬التكافل والتضامن‪ :‬يشَت صاحب الظالؿ‪ ،‬يف حديثو عن النظاـ االجتماعي‬ ‫اإلسالمي‪ ،‬إذل أمهية قيمة التكافل فيقوؿ‪" :‬إف قاعدة ىذا النظاـ ىي التكافل ‪. . .‬‬

‫ولكي يقوـ ىذا التكافل على أسس وطيدة راعى اإلسالـ أف يقوـ على أساس ادليوؿ‬ ‫الفطرية الثابتة يف النفس البشرية ‪ .‬ىذه ادليوؿ اليت دل خيلقها اهلل عبثاً يف الفطرة إمنا‬ ‫خلقها لتؤدي دوراً أساسياً يف حياة اإلنساف"‪ 2‬إذف‪ ،‬قيمة التكافل والتضامن تتجلى من‬ ‫حيث أمهيتها يف توثيق الروابط اإلجتماعية بُت ادلوظفُت‪ ،‬دبا يف ذلك قيادة ادلؤسسة‪،‬‬

‫‪ 1‬صحيح البخاري‪ ،‬اجلزء ‪ ، 16‬ص ‪( 110‬ادلكتبة الشاملة – االلكًتونية)‬ ‫‪ 2‬أنظر سيد قطب‪ .‬يف ظالؿ القرآف‪ .‬اجلزء الثاين‪ ،‬الباب األوؿ‪ ،‬ص ‪( 54‬ادلكتبة الشاملة – االلكًتونية)‬ ‫‪282‬‬


‫تفكُّر ‪ ،‬جملد (‪ ،)31‬العدد (‪2013 ، )2-3‬م‪1434/‬هـ‬

‫الظاهرة االجتماعية‬

‫وتكامل جهودىم شلا يساعد على روح العمل اجلماعي‪ ،‬وبالتارل ربقيق أىداؼ‬ ‫ادلؤسسة‪.‬‬

‫أف ىناؾ قيمة كبَتة لكل ٍ‬ ‫‪ .4‬التعاون‪ :‬ال شك َّ‬ ‫جهد يؤديو أفراد ادلؤسسة كل على حده‪،‬‬

‫ولكن القيمة احلقيقية واألعظم جلهودىم ىي تلك اليت تنتج عن تعاوهنم وتضافر‬ ‫جهودىم‪ .‬ولذلك َّ‬ ‫فإف ثقافةً مؤسسة تقوـ على قيمة التعاوف ذلي أجدر بتهيئة ادلؤسسة‬ ‫لتجويد نوعية منتجاهتا من سلع وحزـ خدمية‪ ،‬بل وأف هتيئها دلز ٍ‬ ‫يد من التطوير واإلبداع‬ ‫واالبتكار‪.‬‬

‫‪ .5‬التعاطف والتراحم‪ :‬وىي من أىم القيم اليت ينبغي أف تتجلى يف ثقافة ادلؤسسة وذلك‬ ‫ألمهيتها يف خلق اإللفة والود واالحًتاـ بُت أفرادىا فتتحد وجهة مههم ضلو أىداؼ‬ ‫مشًتكة َّ‬ ‫ألف قابلية بروز مؤسسات غَت رمسية تثَت تيارات الصراعات داخل ادلؤسسة ذلي‬ ‫أقل شأناً يف ٍ‬ ‫وسط تسوده قيم التعاطف والًتاحم‪.‬‬

‫‪ .6‬التكافل والتضامن ‪ :‬وتأٌب أمهية ىذه القيمة من حاجة رلتمع ادلؤسسة إذل التماسك‪،‬‬ ‫وتوفَت الشعور باألمن داخل ىذا اجملتمع‪ ،‬ومحاية ألفراده من ادلخاطر ادلتعددة اليت ربيط‬

‫ببيئة العمل داخلياً وخارجياً‪ .‬وأيضاً‪ ،‬سبثل قيم التكافل والتضامن مدخالً مهماً يف ربقيق‬

‫أىداؼ ورسالة ادلؤسسة‪.‬‬

‫ورغم ثبات ثقافة ادلؤسسة إالَّ أف ىنالك إمكانية لتغيَتىا من خالؿ ادلتغَتات‬

‫التصميمة للمؤسسة كتجارهبا العملية‪ ،‬وأسلوب اإلدارة اليت تتبعو قيادهتا‪ ،‬وىيكل ادلؤسسة‪،‬‬ ‫وطبيعة مهاـ رلموعات عملها ادلختلفة‪ ،‬وطبيعة صنع القرار‪ ،‬وحجم ادلؤسسة‪ .‬والواقع نادراً‬ ‫ما حيدث وجود ثقافة مؤسسية متكاملة تنبسط على كافة مستويات ادلؤسسة‪ ،‬بل يف أحايُت‬ ‫كثَتة ذبد تعدداً ثقافياً متنوعاً بتنوع مستويات ادلؤسسة وطبيعة مهاـ العاملُت هبا‪ ،‬ورغم أف‬ ‫تلك الثقافات الفرعية قد تتشارؾ يف بعض العناصر مع الثقافة الرئيسة يف ادلؤسسة إال أهنا قد‬

‫توظف يف صاحل ادلؤسسة أو ضدىا‪.‬‬ ‫‪283‬‬


‫الثقافة واالقتصاد‪ :‬دراسة مفاهيمية حول ثقافة املؤسسة‪...‬‬

‫أ‪.‬الزين عبد اهلل يوسف‬

‫ولكن السؤاؿ الذي يفرض نفسو ىو‪ :‬مىت ينبغي تغيَت ثقافة ادلؤسسة؟ يف الواقع‬ ‫تغيَت ثقافة ادلؤسسة يعترب من أخطر ادلهاـ ألنو يتصل مباشرة بوجود ادلؤسسة من عدمها يف‬ ‫حالة أدى التغيَت إذل إنعاش ادلؤسسة أو فشلها سباماً‪ ،‬ومع ذلك ىنالك بعض احلاالت اليت‬ ‫تستدعي الشروع يف تغيَت ثقافة ادلؤسسة‪:1‬‬

‫أوالً ‪ :‬يف حاالت صراع األفراد واجملموعات داخل ادلؤسسة وذلك غالباً ما حيدث يف حالة‬ ‫إندماج ادلؤسسات ذات اخللفيات ادلتباينة‪ ،‬ويؤثر ذلك سلباً يف اإلنتاجية‪.‬‬

‫ثانياً ‪ :‬يف حاالت رتابة طرؽ عمل ادلؤسسات خاصة عندما تعيق تلك الرتابة قدرة‬ ‫ادلؤسسات على التكيف وفق متطلبات ظروفها احمليطة‪.‬‬

‫ثالثاً ‪ :‬يف حاالت ربوؿ الشركة إذل ميادين عمل جديدة أو التوسع يف رلاالت أخرى مع‬ ‫العلم بوجود قصور يف طرؽ أو كيفية إصلاز األشياء بالقدر الذي يهدد بقاء‬ ‫ادلؤسسة‪.‬‬

‫رابعاً ‪ :‬يف حاالت ادلؤسسات اليت اعتاد موظفوىا على العمل يف ظل ظروؼ زليطة مواتية‬ ‫ودل يستطع ذات ادلوظفُت من التأقلم يف حاالت عسر تلك الظروؼ‪.‬‬ ‫على كل حاؿ‪ ،‬ينبغي أف تفطن القيادة إذل ضرورة التأمل يف ثقافة ادلؤسسة‬ ‫ومراقبتها وذلك ليتسٌت ذلا‪ ،‬أوالً أف تتفادى التغَتات الطارئة‪ ،‬ذات األثر السليب‪ ،‬على تلك‬ ‫ادلؤسسة أو لتكوف على استعداد للتعامل مع مثل تلك التغَتات؛ وثانياً لتجري تغيَتات يف‬

‫ثقافة ادلؤسسة مىت ما دعت ضرورة الظروؼ احمليطة داخلياً أو خارجياً‪ ،‬ومن ٍَبَّ وضع ادلؤسسة‬ ‫يف موضع التنافسية واإلستمرارية‪ .‬والواقع َّ‬ ‫ومتوقعاً‬ ‫أف أي تغيَت‪ ،‬طارئاً (سليب) كاف أـ متعمداً ُ‬ ‫(إجيايب)‪ ،‬ينبغي أف يأٌب يف ظل وجود اسًتاتيجية واضحة وفاعلة إلدارة ادلؤسسة وتوجيهها؛‬ ‫‪1‬‬

‫أنظر ‪Joanne Mowat. Corporate Culture. 2010. The Herridge Group.‬‬ ‫‪http://www.herridgegroup .com/pdfs/corp_cultures.pdf (accessed‬‬ ‫)‪02/10/2010‬‬

‫‪284‬‬


‫تفكُّر ‪ ،‬جملد (‪ ،)31‬العدد (‪2013 ، )2-3‬م‪1434/‬هـ‬

‫الظاهرة االجتماعية‬

‫حيث َّ‬ ‫أف ادلؤسسات اليت تتسم بالفاعلية دائماً ما تكوف لديها اسًتاتيجية متطورة وفاعلة وذلا‬

‫ومفعلة يصبح من‬ ‫القدرة على ربقيق أىدافها‪ .‬ويف وجود اسًتاتيجية واضحة وقيم زلددة ُ‬ ‫السهل ازباذ قرارات ناجحة خبصوص ُمتطلبات ىيكل ادلؤسسة‪ ،‬وطاقمها‪ ،‬وأنظمتها‪،‬‬ ‫ومهارات العمل‪ ،‬وطريقة اصلاز ادلهاـ‪.1‬‬ ‫وللقيادة الفاعلة والقادرة على النهوض بصنع التغيَت ادلطلوب يف ثقافة ادلؤسسة‬

‫صفات عديدة‪ ،‬باإلضافة إذل صفيت القوة واآلمانة كما ذكرتا آنفاً‪ ،‬ينبغي أف تتوفر يف كل من‬ ‫يتوذل أمر ادلسلمُت يف أديا مسؤولية أوكلت إليو‪ ،‬ومنها على سبيل ادلثاؿ‪:‬‬

‫‪ .1‬العلم وادلعرفة وذلك ألهنا أساس متُت الزباذ القرارات والقدرة على تسيَت كل مايتعلق‬ ‫بأمور ادلؤسسة‪ .‬تلك الثقة ىي اليت دفعت يوسف عليو السالـ ليقدـ نفسو إلدارة‬ ‫ادلهاـ ادلالية يف مصر آنذاؾ‪ ،‬وىو ادلوقف الذي أورده القرآف الكرمي إذ يقوؿ احلق تعاذل‬ ‫ض إِين ح ِفي ٌ ِ‬ ‫اج َع ْل ٍِت َعلَى َخَزآئِ ِن األ َْر ِ‬ ‫يم ‪ " ‬يوسف‪ :‬اآلية ‪ ."55‬أي "أراد‬ ‫‪‬قَ َ‬ ‫اؿ ْ‬ ‫َ‬ ‫ظ َعل ٌ‬

‫يوسف أف ينفع العباد‪ ,‬ويقيم العدؿ بينهم‪ ,‬فقاؿ للملك‪ :‬اجعلٍت واليًا على خزائن‬ ‫"مصر"‪ ,‬فإين خازف أمُت‪ ,‬ذو علم وبصَتة دبا أتواله"‪ .2‬ودل يًتدد ملك مصر يف تعيينو‬ ‫ِ‬ ‫وسد األمر ألىلو حىت التضيع‬ ‫ألنو َخرب عن يوسف أمانتو وعلمو‪ ،‬ولذلك ينبغي أف يُ ّ‬ ‫األمانات وتضيع معها مصاحل العباد‪.‬‬ ‫لب اإلذلاـ والتأثَت الذي يصنعو القائد يف مرؤسيو وهبا ديكن‬ ‫‪ .2‬القدوة احلسنة وذلك ألهنا ّ‬ ‫توجيههم ضلو أىداؼ ادلؤسسة بدواف ٍع ذاتية أكثر منها خالؼ ذلك‪ .‬ولذلك فقد ّبُت‬ ‫ند‬ ‫القرآف الكرمي توجيهو للمؤمنُت أف يكونوا خَت قدوة‪ ،‬يقوؿ احلق تعاذل ‪َ ‬كبُػَر َم ْقتاً ِع َ‬ ‫اللَّ ِو أَف تَػ ُقولُوا َما َال تَػ ْف َعلُو َف‪" ‬الصف‪ :‬اآلية ‪ ."3‬إذف سبثُّل القدوة احلسنة من جانب‬

‫‪1‬‬

‫أنظر ‪Richard Bellingham (ed.). 2001. The Managers Pocket Guide to :‬‬ ‫‪Corporate Culture Change. Massachusetts: HRD Press, Inc‬‬

‫‪ 2‬التفسَت ادليسر (ادلصحف االلكًتوين)‬

‫‪285‬‬


‫الثقافة واالقتصاد‪ :‬دراسة مفاهيمية حول ثقافة املؤسسة‪...‬‬

‫أ‪.‬الزين عبد اهلل يوسف‬

‫القيادة يساعد على االصطفاؼ خلفها ضلو رؤية ورسالة واحدة‪ ،‬بل وجيعل السمع‬ ‫ٍ‬ ‫يسهل القياـ بادلهاـ والواجبات‪.‬‬ ‫والطاعة من قبل ادلرؤسُت لقيادهتم أمراً يسَتاً‪ ،‬وبالتارل ُ‬ ‫‪ .3‬التقومي الذاٌب وذلك أل ّف القائد الذي يقوـ نفسو قبل اآلخرين حري بو أ ّف يلتفت إذل‬ ‫من حولو فال يكلفهم ما اليطيقوف‪ ،‬وال ينفرد دبصاحلو اخلاصة دوف مصاحلهم‪ ،‬وال‬ ‫يستأثر دبعينات أداء مهامو دوف أف يوفر ذلم كل ادلعينات الضرورية ألداء مهامهم‪ .‬ولن‬ ‫ذبد قائداً على تلك الشاكلة إالَّ من امتثل قولو ‪‬‬

‫أهمية ثقافة المؤسسة‪:‬‬

‫سبثل ثقافة ادلؤسسة آلية خفية لتنسيق توجيو األفراد ضلو اذلدؼ ادلشًتؾ والذي ال‬ ‫ديكن تغيَته أو تغيَت طرؽ ربقيقو بدوف فهم لعناصر اجلذب والدافعية يف تلك الثقافة‪،‬‬ ‫وتفصيالً يؤدي فهم ثقافة ادلؤسسة إذل تسهيل اآلٌب‪:1‬‬ ‫‪-‬‬

‫اختيار ادلوظفُت الذين سينجحوف يف ادلؤسسة وىو ما يؤدي إذل تقليل‬ ‫اإلنفاؽ على استخداـ ادلوظفُت وإصالح ادلوارد البشرية وإدارهتا‪.‬‬

‫‪-‬‬

‫خلق سياسات ومهاـ عملية لزيادة العائد ادلنشود من عائد ادلؤسسة‪.‬‬

‫‪-‬‬

‫أي مهددات حقيقية‬ ‫إجراء تغيَتات مهمة يف ادلؤسسة يف حالة وجود ّ‬ ‫لوجودىا‪.‬‬

‫باإلضافة إذل ذلك أوضح روبن (‪1989‬ـ) أ ّف ثقافة ادلؤسسة تؤدي عدة مهاـ أو‬ ‫وظائف ىي ‪:‬‬ ‫‪ .1‬دور ربديدي ذلوية ادلؤسسة وما دييزىا من غَتىا من ادلؤسسات‬ ‫‪1‬‬

‫أنظر ‪Eric Van den Steen. 2003. On the Origin and Evolution of Corporate :‬‬ ‫‪Culture. http://www. people.‬‬ ‫‪hbs.edu/bhall/NOMTalks/papers/evds_culture_evolution.pdf (accessed‬‬ ‫)‪22/11/2010‬‬

‫‪286‬‬


‫تفكُّر ‪ ،‬جملد (‪ ،)31‬العدد (‪2013 ، )2-3‬م‪1434/‬هـ‬

‫الظاهرة االجتماعية‬

‫‪ .2‬تساعد على توالد شعور أكرب لإلنتماء من الشعور باإلنتماء للمؤسسة‬ ‫من الشعور بادلصلحة الذاتية فقط‪.‬‬ ‫‪ .3‬تساعد على تقوية وثبات النظاـ اإلجتماعي للمؤسسة‪.‬‬ ‫‪ .4‬تشكل آلية لضبط وتوجيو سلوؾ ادلوظفُت ‪.‬‬ ‫‪ .5‬سبثل آلية لتعضيد العمل اجلماعي يف ادلؤسسة‪.‬‬ ‫وحاؿ كانت ىناؾ قيادة قوية يف ادلؤسسة ديكن للتغيَت الناجح أف يتبلور ويربز من‬ ‫خالؿ األوجو اآلتية‪:1‬‬ ‫‪ .1‬خلق منظومة من القيم اليت تدفع ادلؤسسة ضلو ربقيق رؤية مشًتكة‪.‬‬ ‫‪ .2‬فهم دوافع الطاقم العامل وجعلهم شركاء يف ذلك التغيَت‪.‬‬ ‫‪ .3‬خلق بيئة سبكن من ادلشاركة يف األفكار واالسًتاتيجيات وتشجع على‬ ‫التغيَت‪.‬‬ ‫‪ .4‬صياغة غايات واضحة ومناقشتها وإيصاذلا بصورة مستمرة (متكررة) لطاقم‬ ‫العمل مع جعلهم يشعروف بالرابط القوي بُت غاياهتم وغايات ادلؤسسة‪.‬‬ ‫‪ .a‬وجود نظاـ مكافآت قائم على أخالقيات األداء ديكن من خاللو التبُت‬ ‫من األداء وادلكافأة عليو‪.‬‬

‫‪ 1‬ادلصدر السابق‬ ‫‪287‬‬


‫الثقافة واالقتصاد‪ :‬دراسة مفاهيمية حول ثقافة املؤسسة‪...‬‬

‫الخاتمة‬

‫أ‪.‬الزين عبد اهلل يوسف‬

‫تناوؿ البحث مسألة الثقافة واالقتصاد من حيث العالقة الوثيقة بينهما‪ ،‬وكيف َّ‬ ‫أف‬

‫اخللفية التأرخيية لتطور العلم يف الغرب‪ ،‬السيما تطور ادلنهجية الوضعية‪ ،‬قد أدت إذل إقصاء‬ ‫الثقافة عن االقتصاد حينما ركن علماؤه إذل إعماؿ النماذج الرياضية لتجريد النظريات‬ ‫االقتصادية تقليداً للعلوـ الطبيعية‪ ،‬وحبثاً عن اثبات الشرعية العلمية لالقتصاد‪ .‬والشاىد‪َّ ،‬‬ ‫أف‬ ‫اإلىتماـ الدقيق بالرياضيات والتوسع يف استخدامها يف تطوير النظرية االقتصادية‪ ،‬وبالطبع‬

‫يف التحليل والتنبؤات االقتصادية‪ ،‬قد أورث الباحثُت من ادلهتمُت بطوير النظرية االقتصادية‬ ‫شعوراً بعدـ احلاجة الستخداـ متغَتات أُخرى لتفسَت الظاىرة االقتصادية خاصة إذا كانت‬ ‫تلك ادلتغَتات عصيةً على القياس كما ىو احلاؿ يف متغَتات الثقافة‪.‬‬

‫ولكن اجلدؿ الذي أثَت حوؿ إشكالية التخلف والتنمية دل يكن ليغض الطرؼ عن‬

‫تأثَت متغَتات الثقافة على الوقائع االقتصادية‪ ،‬وبالتارل إبراز شأف الثقافة على السطح من‬ ‫خالؿ اجياد تفسَتات ثقافية دلشكالت التخلف‪ .‬ىكذا ويف بداية ستينيات القرف العشرين‬ ‫انطلقت مسَتة االقتصاد الثقايف ليهتم بالتأثَت ادلتبادؿ بُت الثقافة واالقتصاد‪ ،‬واحلقيقة أف‬ ‫ُج َّل االىتماـ انصب على دراسة أسواؽ الفن دوف اخلوض كثَتاً يف أمر ادلنهجية‪ ،‬وما ذلك‬ ‫إالَّ للمشكل القيمي ادلعياري الذي يتعارض مع االذباه السائد للنظرية االقتصادية‬ ‫(‪ .)Mainstream Economics‬وعلى الصعيد العملي للوقائع االقتصادية‪ ،‬ودلا دل جيد علماء‬ ‫َّ‬ ‫العلوـ اإلدارية أسباباً جوىرية لتفسَت تباين األداء بُت ادلؤسسات‪ ،‬يف ذات القطاع أو‬ ‫ا لصناعة‪ ،‬ويف ذات البلد أو بلداف متفرقة ورغم تشابو تلك ادلؤسسات من حيث مدخالت‬ ‫انتاجها ومنتوجاهتا‪ ،‬أكدوا على َّ‬ ‫أف اإلختالفات الثقافية اخلاصة بتلك ادلؤسسات ىي البعد‬ ‫ادلفقود يف تفسَتاهتم‪ .‬عليو‪ ،‬نشأ فرع مهم من فروع نظرية اإلدارة ىو ثقافة ادلؤسسة واليت‪،‬‬ ‫بصورة عامة‪ ،‬يتفق علماء اإلدارة على أهنا ادلعتقدات والقيم وأمناط السلوؾ ادلشًتكة لدى‬ ‫اجملموعات داخل ادلؤسسات‪.‬‬ ‫‪288‬‬


‫تفكُّر ‪ ،‬جملد (‪ ،)31‬العدد (‪2013 ، )2-3‬م‪1434/‬هـ‬

‫الظاهرة االجتماعية‬

‫وتتجلى ثقافة ادلؤسسة فيما يعكسو الواقع من شلارسات يومية وأمناط إتصاؿ‬ ‫ومعتقدات بُت طاقم ادلؤسسة ادلعنية فيما بينهم‪ ،‬ويف تعاملهم مع أي فرد أو رلموعة من‬ ‫الشرائح ادلستفيدة من وجود ادلؤسسة‪ .‬وىي بكل بساطة تعٍت الطريقة أو الكيفية اليت يتم هبا‬ ‫إصلاز األشياء يف ادلؤسسة‪ .‬باإلضافة إذل أهنا ىي الدافعية اليت تقف خلف القرارات واألفعاؿ‬ ‫يف ادلؤسسة واليت تضبط كيفية تفكَت ادلوظفُت وأفعاذلم وشعورىم‪ ،‬باإلضافة إذل ذلك فهي‬ ‫سبثل منظومة اإلفًتاضات اليت تشكل أمناط سلوؾ العمل اليومي يف ادلؤسسة‪ .‬ولكن ما جرى‬ ‫عليو أمر األدبيات اإلدارية التقليدية يف تناوذلا لثقافة ادلؤسسة ىو ذات التناوؿ الذي يتم‬ ‫حوؿ الثقافة بصورة عامة؛ أي كواقع ذبرييب موصوؼ يتحدد دبهارات القيادة ويتأطر بنسق‬ ‫الفكر الوضعي الذي يقصي القيم الدينية عن ادلعايَت احلاكمة دلا ىو أمثل‪ ،‬وذلك رغم‬ ‫اإلقرار بوجود مؤثرات قوية للجوانب العقيدية يف تكوين التصورات الذىنية اليت تلعب دوراً يف‬

‫توجيو سلوؾ األفراد‪.‬‬ ‫ومن منظوٍر إسالمي‪ ،‬صلد َّ‬ ‫أف ثقافة ادلؤسسة‪ ،‬باعتبارىا جزءاً ال يتجزأ من ثقافة‬ ‫اجملتمع ككل‪ ،‬ينبغي أف تقوـ على منهج التوحيد الذي ًب بيانو بياناً كافياً يف القرآف الكرمي‬ ‫قيم بعينها يف رلتمع ادلؤسسة لتشكيل‬ ‫والسنة ادلطهرة‪ .‬إذف ويف إطار التوحيد ينبغي أف تسود ٌ‬

‫الوسط الثقايف هبا‪ ،‬ومن تلك القيم‪ :‬التواصي باحلق والصرب؛ واإلخاء واحملبة؛ والتعاوف؛‬

‫والتعاطف والًتاحم؛ والتكافل والتضامن‪ .‬وىنا ياٌب دور القيادة حيث أهنا تلعب دوراً زلورياً‬ ‫يف تشكيل أىداؼ ورؤية وقيم ادلؤسسة واحملافظة عليها من خالؿ جعلهم من أنفسهم قدوة‬ ‫يف االلتزاـ بقيم وثقافة ادلؤسسة ومن خالؿ قدرهتم يف وضع ادلعايَت واإلجراءات الواضحة‬ ‫ألفعاؿ أفراد ادلؤسسة وأدائهم‪ .‬ودل يغفل اإلسالـ عن وصف القيادة ادلثلى إذ َّ‬ ‫أف الوحي قد‬ ‫مجع كل صفات القيادة اليت تعج هبا أدبيات اإلدارة يف مفهومُت أساسيُت مها‪ :‬القوة‬ ‫واألمانة‪.‬‬

‫‪289‬‬


‫الثقافة واالقتصاد‪ :‬دراسة مفاهيمية حول ثقافة املؤسسة‪...‬‬

‫‪ .1‬القرآف الكرمي (ادلصحف الرقمي)‬

‫أ‪.‬الزين عبد اهلل يوسف‬

‫المراجع‬

‫‪ .2‬جاكسون‪ ،‬وليام‪ .)9002( .‬االقتصاد والثقافة والنظرية اإلجتماعية‬

‫‪Economics,‬‬

‫)‪ .)Culture and Social Theory‬نورثامبتوف‪ :‬إدوارد إلغار‬

‫‪ .3‬صحيح البخاري (ادلكتبة الشاملة – االلكًتونية)‬ ‫‪.4‬‬

‫غيسو‪ ،‬ليغي و سابينزا‪ ،‬بوال )‪ .2006 .(Luigi Guiso and Paola Spienza‬ىل‬ ‫تؤثر الثقافة على ادلخرجات االقتصادية‪.‬‬

‫‪ http://www.eui.eu/Personal/Guiso/CV/Papers/JEP20_2_2006.pdf‬وذات‬ ‫ادلقاؿ منشور يف‪Journal of Economic Perspectives.( 2006). Volume 20, :‬‬ ‫‪Number 2 Spring‬‬

‫‪ .5‬كتب تفسير القرآن (ادلكتبة الشاملة – االلكًتونية)‬

‫‪ .6‬كوش‪ ،‬دنيس (ترجمة منير السعيداني)‪ )9002( .‬مفهوـ الثقافة يف العلوـ‬ ‫االجتماعية‪ .‬بَتوت‪ :‬مركز دراسات الوحدة العربية‪.‬‬

‫‪ .7‬الميالد‪ ،‬زكي‪ .)9002( .‬ادلسألة الثقافية‪ :‬من أجل بناء نظرية يف الثقافة‪ .‬بَتوت‪:‬‬ ‫ادلركز الثقايف العريب‪.‬‬

‫المراجع األجنبية‪:‬‬ ‫‪1. Bellingham, Richard (ed.). (2001). The Managers Pocket‬‬ ‫‪Guide to Corporate Culture Change. Massachusetts: HRD‬‬ ‫‪Press, Inc‬‬ ‫‪2. Blaug, M. (Ed.). (1976). The Economics of the Arts:‬‬ ‫‪Selected Readings. London: Marton Robertson.‬‬

‫‪28:‬‬


‫الظاهرة االجتماعية‬

‫هـ‬1434/‫م‬2013 ، )2-3( ‫ العدد‬،)31( ‫ جملد‬، ‫تفكُّر‬

3. Buamol, W. J. and W. G. Bowen.( 1966). Performing Arts: The Economic Dilemma. New York: Twentieth Century Fund. 4. den Steen, Eric Van. (2003). On the Origin and volution of Corporate Culture. http://www. people. hbs.edu/bhall/NOMTalks/papers/evds_culture_evolution.p df 1. Hofstede, Geert. (1991). Cultures and Organizations: Software of Minds. New York: McGraw Hill 2. Kefela, Ghirmai T. ( 2010). "Understanding Organizational Culture and Leadership: Enhance Efficiency and Productivity" in PM World Today. Vol. 12, No. 1 3. Mowat, Joanne. (2010).Corporate Culture.. The Herridge Group. http://www.herridgegroup. com/pdfs/corp_cultures.pdf 4. Schein, Edgar H. (1988). Organizational Culture. Sloan School of Management, MIT, December 5. Valeriu, Potecea and Georgiana, Cebuc. (2009). Aspects of Organizational Culture. http://steconomice.uoradea.ro/anale/volume/(2009)/v1international-relations-and-european-integration/37.pdf

291


‫احلياة الثقافية والعلمية يف السودان‬ ‫(دراسة تاريخية عن التعليم في العهد التركي)‬ ‫مقدمة ‪:‬‬

‫د‪.‬خوجلي أحمد صديق‬

‫*‬

‫تعترب دراسة اغبياة الثقافية والتعلمية من اؼبداخل اغبضارية والتارىبية اؼبهمة ؼبعرفة‬

‫السمات العامة لعصر من العصور ومن مث االطالع على حياة شعب من الشعوب جبانب‬ ‫العوامل األخرى السياسية واالجتماعية واالقتصادية وغَتىا ‪.‬‬ ‫ويعترب دخوؿ ؿبمد علي وأبنائو إىل السوداف مرحلة فاصلة ومهمة يف تاريخ ىذه‬ ‫اؼبنطقة حيث أف حكومة ؿبمد علي ىي اليت أعطت السوداف حدوده اعبغرافية اؼبعروفة اليوـ‬ ‫كما أهنا سعت لتوحيد صبيع أىل السوداف ربت مظلة إدارة واحدة ألوؿ مرة يف تاريخ ىذه‬ ‫اؼبنطقة‪.‬وقد قاـ ؿبمد علي وأبناؤه من بعده بدور مهم يف اغبياة العلمية والثقافية حيث أهنم‬ ‫شجعوا ىجرة طالب العلم إىل مصر للدراسة هبا كما أهنم عملوا على فتح اؼبدارس‬ ‫بالسوداف‪.‬‬ ‫ولذلك رأيت أف أكتب يف ىذا اؼبوضوع متعرفاً على الدور الشعيب الذي قاـ بو‬ ‫اجملتمع يف دفع عملية التعليم ونشره ودور اؼبساجد واػبالوي يف نشر العلم الشرعي بُت‬ ‫الناس ربفيظاً لكتاب اهلل ونشراً للعلوـ اإلسالمية ‪.‬وكذلك سبت اإلشارة إىل الدور الرظبي‬ ‫واؼبتمثل يف فتح اؼبدارس أو تشجيع طالب العلم والعلماء وإنشاء الروابط العلمية والثقافية‬ ‫بُت مصر والسوداف ‪.‬وقد تتبعت مسَتة التعليم يف السوداف قبل عصر ؿبمد علي وبعده مث‬ ‫تعرضت لدراستها يف عهود عباس األوؿ مث ؿبمد سعيد مث إظباعيل ‪.‬‬ ‫التعليم في السودان قبل عصر محمد علي ‪:‬‬

‫دخلت الثقافة العربية اإلسالمية إىل السوداف عرب مداخل أربعة ىي مصر واغبجاز‬

‫واليمن واؼبغرب ‪ .‬ولقد كاف ملوؾ سنار ودارفور على عالقة طيبة دبصر وذلك حبكم اعبوار‬ ‫* أستاذ مشارؾ ‪ ،‬معهد إسالـ اؼبعرفة ‪ ،‬ودمدين ‪،‬السوداف‪.‬‬


‫تفكُّر ‪ ،‬جملد (‪ ،)31‬العدد (‪2013 ، )2-3‬م‪1434/‬هـ‬

‫الرتاث اإلسالمي‬

‫وباعتبار أف مصر كانت سبثل واحداً من طرؽ دخوؿ اإلسالـ واللغة العربية إىل السوداف‬ ‫‪.‬وكاف اؼبلك بادي اؼبعروؼ بسيد القوـ أحد ملوؾ سنار الذين كانوا على صلة بعلماء مصر‪،‬‬ ‫وكاف يرسل إليهم اؽبدايا واشتهرت مناقبو عندىم حىت أهنم مدحوه بقصائد عدة‪.1‬‬

‫وقد أشار كاتب الشونة بصفة خاصة إىل قصيدة عمر اؼبغريب أحد علماء األزىر يف‬

‫مدح اؼبلك بادي واليت ربتوي على أكثر من مائة بيت‪.2‬والظاىر أف الصالت الثقافية بُت‬ ‫مصر ودولة سنار كانت تتم عرب طريقُت ‪:‬‬ ‫(‪ )1‬ىجرة الطالب السناريُت للدراسة يف األزىر الشريف مث العودة إىل أوطاهنم لينشروا‬ ‫معارفهم العربية واإلسالمية بُت أىليهم ‪.‬‬ ‫(‪ )2‬ىجرة علماء مصر إىل سنار واإلقامة ىناؾ بقصد نشر معارفهم بُت السكاف وقد عرب‬ ‫عن ىذه الصلة أحد الباحثُت بقولو ‪ " :‬وقد ظل الفونج إىل أف دالت دولتهم‬ ‫يعتمدوف على مصر يف غذائهم الروحي‪ ،‬فدرس لببة من أبناء ىذه الدولة يف األزىر‬ ‫الشريف وعادوا إىل بالدىم ينشروف هبا ما تلقوه من علوـ ومعارؼ دينية إسالمية ‪.‬‬ ‫ووفد على البالد كذلك بعض الفقهاء من مصر وبيوف هبا دراسة الشرع اغبنيف‪ ،‬ؾبرداً‬ ‫من تلك البدع واػبرافات اليت لصقت بو‪.3‬‬ ‫ويشَت كاتب آخر إىل دور الفونج يف نشر الثقافة العربية اإلسالمية بقولو ‪:‬‬ ‫"ولقد كاف لدولة الفونج فضل كبَت يف نشر الثقافة العربية اإلسالمية ففي عهدىم‬ ‫انتشرت اػبالوي يف بقاع السوداف اؼبختلفة ومن مآثر ملوكهم أهنم عنوا باإلسالـ واللغة‬ ‫‪ 1‬عبد اجمليد عابدين – تاريخ الثقافة العربيو يف السوداف منذ نشأهتا ايل العصر اغبديث – دار الثقافة‬ ‫للطباعة والنشر بدوف تاريخ ص ‪. 56‬‬ ‫‪ 2‬أضبدين اغباج أبو علي – ـبطوطة كاتب الشونة من تاريخ السلطنة السنارية واالدارة اؼبصرية – ربقيق‬ ‫الشاطر بصيلي عبد اعبليل – دار احياء الكتب العربية ‪1961‬ـ ص ‪.11‬‬ ‫‪ 3‬د‪ .‬ؿبمد فؤاد شكري – صفحة من تاريخ السوداف اغبديث – ؾبلة كلية اآلداب جامعة القاىرة ‪،‬العدد‬ ‫الثامن من اجمللد الثاين ديسمرب ‪1946‬ـ ص ‪. 27‬‬ ‫‪293‬‬


‫احلياة الثقافية والعلمية يف السودان (دراسة تارخيية‪).........‬‬

‫د‪.‬خوجلى أمحد صديق‬

‫العربية‪ ،‬ومن مظاىر تلك العناية أف قربوا إليهم كثَتاً من العلماء وأغروىم باؽبجرة إىل سنار‬

‫فتجمع حوؽبم طالب العلم من نواحي السوداف اؼبختلفة ومن خارجو‪ ،‬كذلك أقطعوا ؽبم‬ ‫الكثَت من الضياع الواسعة يف أماكن متفرقة من البالد وأجزلوا ؽبم اؽبدايا وكانوا ال يردوف ؽبم‬

‫شفاعة – بل جعلوىم أىل مشهورهتم‪ ،‬ومل يقف جهد الفونج عند ىذا اغبد‪ ،‬بل أنو يف‬ ‫زمنهم بدأت دراسة العربية الفصحى ذبد أذناً صاغية وعرفت صالت أدبية بُت ملوؾ الفونج‬ ‫وأدباء مصر‪.1‬‬

‫ومن أوائل الطالب السودانيُت الذين نزحوا إىل مصر لطلب العلم الشيخ ؿبمود‬ ‫العركي الذي يعترب أوؿ من نشر علوـ الدين يف جهات النيل األبيض ‪ .‬إذ مل هبد حُت‬ ‫قدومو من مصر مدرسة علم وال مدرسة قرآف‪ ،‬ويقاؿ أف اؼبرأة يطلقها الرجل ويتزوجها غَته‬ ‫يف يوـ طالقها من غَت عدة ‪ 2‬فأنشأ اػبالوي لتحفيظ القرآف وتدريس علوـ الدين وكاف لو‬

‫بُت اػبرطوـ والكوة ثالثة عشر مدرسة‪. 3‬‬

‫كذلك ىاجر إىل مصر أوالد جابر األربعة وىؤالء يرجعوف نسبهم إىل الشيخ غالـ‬ ‫اهلل بن عائد اليمٍت ‪ .‬ويبدو أف قدومهم إىل مصر كاف بعد قدوـ الشيخ ؿبمود العركي ‪.‬‬ ‫وبعد عودهتم من مصر سكن أحدىم وىو الشيخ إبراىيم بن جابر اؼبعروؼ بالبوالد‬ ‫قرية ترنج ودرس فيها خليالً والرسالة ‪ .‬وىو أوؿ من درس خليل ببالد الفونج وشدت إليو‬

‫الرحاؿ ‪ .‬ودراستو ػبليل تتم يف سبع ختمات وعلم فيها أربعُت تلميذاً صاروا كلهم علماء‪.‬‬

‫‪ 1‬د‪ .‬صالح الدين اؼبليك – شعراء الوطنية يف السوداف – دار التأليف والًتصبة والنشر _ جامعة اػبرطوـ‬ ‫‪1975‬ـ ص ‪.34‬‬ ‫‪ 2‬ؿبمد النور ضيف اهلل – كتاب الطبقات يف خصوص األولياء والصاغبُت والعلماء والشعراء فسي‬ ‫السوداف – ربقيق وتعليق الدكتور يوسف فضل – الطبعة الثالثة ‪ – 1985‬دار التأليف والًتصبة والنشر‬ ‫جامعة اػبرطوـ ص‪.344‬‬ ‫‪ 3‬ؿبمد فوزي مصطفى عبد الرضبن – الثقافة العربية وأثرىا يف سباسك الوحدة القومية يف السوداف اؼبعاصر‬ ‫– الدار السودانية ‪1972‬ـ ص ‪. 34‬‬ ‫‪294‬‬


‫تفكُّر ‪ ،‬جملد (‪ ،)31‬العدد (‪2013 ، )2-3‬م‪1434/‬هـ‬

‫الرتاث اإلسالمي‬

‫ومن الطالب الذين وفدوا على مصر وكاف ؽبم شأف يف نشر علوـ الدين يف‬ ‫السوداف الشيخ ؿبمد اجملذوب الذي ينتمي إىل عشَتة اجملاذيب‪ ،‬اليت كانت ذات أثر كبَت‬ ‫يف نشر الثقافة الدينية يف البالد وكاف الكثَت من أبنائها يرحلوف إىل القاىرة أو مكة طلباً‬ ‫للعلم‪ ،‬مث يعودوف ؼبتابعة رسائلهم يف بناء اؼبساجد وإنشاء الزوايا لتصبح مدارس ومعاىد‬ ‫للتعليم يفد إليهاالطالب من كافة اآلفاؽ‪. 1‬‬

‫وبصفة عامة فإف من يراجع كتاب الطبقات ؼبؤلفو ؿبمد النور بن ضيف اهلل هبد‬ ‫ظاىرة اؽبجرة إىل مصر واضحة جداً ‪.‬وقد ذكر لنا اؼبؤلف ؾبموعة من الشيوخ الذين رحلوا‬

‫إىل مصر وأخذوا العلم من شيوخ األزىر ‪ .‬ويالحظ أف ىجرة الطالب إىل مصر قد قلت يف‬

‫أواخر عصر الفونج بسبب الكوارث واجملاعات اليت أصابت اجملتمع‪ ،‬إضافة إىل ذلك حالة‬ ‫العزلة اليت فرضها حكاـ الفونج يف آخر عهدىم وبذلك انقطعت صلتهم بالعامل اػبارجي‪.2‬‬

‫أما الطريق الثاين لنشر الثقافة العربية اإلسالمية يف السوداف وأعٍت بو ىجرة العلماء‬ ‫اؼبصريُت إىل السوداف‪ ،‬فمن العلماء الذين وفدوا على السوداف يف عهد الفونج الشيخ ؿبمد‬ ‫القناوي تلميذ الشيخ سامل السنهوري الذي نزؿ برببر وبٌت هبا مسجداً ‪ .‬ومن ذرية ىذا‬ ‫الشيخ نبغ حفيده الشيخ ؿبمد أكداوي الذي جلس للتدريس دبدينة شندي ‪.‬‬ ‫كذلك قدـ إىل السوداف يف عهد الفونج الشيخ ؿبمد بن قرـ الكيماين الذي‬ ‫استوطن بربر إىل أف توىف هبا‪ ،‬وأخذ عنو العلم عدد كبَت من شيوخ السوداف ‪.‬كما وفد إىل‬ ‫الس وداف كذلك من مصر الشيخ جاد اهلل الشكري الذي وصفو صاحب الطبقات بأنو كاف‬ ‫ورعاً تقياً زاىداً عابداً متواضعاً ‪.‬‬

‫‪ 1‬اؼبرجع السابق ص‪. 36‬‬ ‫‪ 2‬انظر اؼبرجع السابق ص‪. 37‬‬ ‫‪295‬‬


‫احلياة الثقافية والعلمية يف السودان (دراسة تارخيية‪).........‬‬

‫د‪.‬خوجلى أمحد صديق‬

‫ويالحظ قلة العلماء اؼبصريُت الوافدين إىل السوداف يف عهد الفونج وردبا يرجع ذلك‬ ‫إىل صعوبة اؼبواصالت وخطورة الطريق وعدـ استتباب األمن‪ ،‬إضافة إىل جشع اػبرباء‬ ‫واألدالء الذين يتحكموف يف اؼبسافرين ‪.‬‬ ‫والظاىر أف ؽبؤالء العلماء الذين وفدوا من مصر دور كبَت يف تذىيب أىل السوداف‬ ‫باؼبذىب اؼبالكي خاصة وأف أىل صعيد مصر يتمذىبوف هبذا اؼبذىب‪ ،‬والصالت بُت مشاؿ‬ ‫السوداف وصعيد مصر ال ربتاج إىل برىاف ‪.‬‬ ‫ويرى بعض الباحثُت أف ىذا اؼبذىب قد جاء إىل السوداف مع اؼبوجات الثقافية اليت‬ ‫قدمت من غرب أفريقيا وحوض حبَتة تشاد ويف اعتقادي أف ىذا الرأي يبكن أف يكوف‬ ‫صحيحاً ولكن الدور اؼبصري ال يبكن ذباىلو يف ىذا األمر وذلك ألف عالقة مصر‬ ‫بالسوداف كانت أقوى من عالقة السوداف بغرب أفريقيا ‪.‬‬

‫مدارس السودان في ذلك الوقت ‪:‬‬ ‫يف حبثو عن دور العلماء يف السوداف قاؿ الدكتور ؿبمد إبراىيم أبو سليم عن‬ ‫مدارس السوداف يف ذلك الوقت ‪ ":‬أما مدارس العلم فتقوؿ األخبار بأهنا بدأت دبدرسة‬ ‫غالـ اهلل بن عائد يف دنقلة يف القرف الرابع عشر ورغم اننا ال نعرؼ إال القليل عن ىذه‬ ‫اؼبدرسة إال أهنا بال شك قد وضعت األساس ؼبدارس دنقلة الكثَتة فيما بعد ‪ .‬وبعد انقطاع‬ ‫قرنُت من الزماف جاءت مدرسة أوالد جابر بتأثَتات مصرية وبكم أف مؤسسها تلقى تعليمو‬ ‫يف مصر ‪ .‬واؼبرء يعجب ؽبذه الفجوة الزمنية الطويلة بُت ىذه اؼبدرسة واليت قبلها ‪ .‬وأنا لنكاد‬ ‫مبيل إىل القوؿ بأف حركة اؼبدارس واصلت سَتىا وأف مل تصلنا أخبارىا ‪ .‬ولقد بدأت مدرسة‬ ‫أوالد جابر يف سنة ‪1552‬ـ وانتهت يف سنة ‪1614‬ـ وكانت جبزيرة ترنج قرب كاسنجر‬ ‫بديار الشايقية وقد اختَتت ىذه اعبزيرة النائية مقراً لتكوف اؼبدرسة منقطعة للعلم وبعيدة من‬ ‫اغبكاـ وطرؽ القوافل وذلك بعكس مرابط‪ 1‬الصوفية اليت كانت تقاـ على طريق القوافل ‪.‬‬ ‫‪1‬‬

‫الصحيح أربطة صبع رباط أما مرابط فهي صبع مربط ‪.‬‬ ‫‪296‬‬


‫تفكُّر ‪ ،‬جملد (‪ ،)31‬العدد (‪2013 ، )2-3‬م‪1434/‬هـ‬

‫الرتاث اإلسالمي‬

‫ولعلنا نلحظ ىذا الفرؽ فاغبركة الصوفية تتجو كبو اعبمهور وتتصل دبعابر القوافل التجارية‬ ‫بينما يتجو العلم كبو اػباصة بعيداً عن الضوضاء ‪.‬‬ ‫لقد وضعت ىذه اؼبدرسة بعض التقاليد منها الدراسة اؼبنتظمة وفق منهج مقرر من‬ ‫العلوـ اإلسالمية تدرس يف أوقات ؿبددة‪ ،‬ويف فصوؿ للدراسة ذباورىا مساكن الطلبة وىي‬ ‫بعيدة كل البعد عن نفوذ اغبكاـ وتأثَت العواصم واؼبدف ليقبل الطلبة على العلم ويتفرغوا لو‬ ‫تفرغ أىل األربطة للعبادة ‪.‬‬ ‫ومن تقاليدىا أيضاً أف اؼبعلم يعطي العلم ؼبن يرغب تطوعاً لوجو اهلل وال يطلب‬ ‫مقابلو شيئاً‪ .‬ولكن التطوع من أجل العلم كاف يقابلو إحساف اعبميع بالعطايا وىكذا يشكل‬ ‫العامل بنشر العلم خدمة للدين ويتكفل اجملتمع حباجاتو ودبا يصرفو على طلبتو" ‪.‬‬ ‫"ومدرسة نوري اليت أنشأىا عبد الرضبن ولد ضبدتو اػبطيب تفرعت من مدرسة‬ ‫أوالد جابر‪ ،‬وعمرت ألكثر من قرف وخرجت أجياالً من العلماء وكاف من مربزيها ضبد‬ ‫األغبش وإبراىيم بن عبودي الفرضى وقد أسسا مدرستُت مستقلتُت‪ ،‬وضبد اجملذزب مؤسس‬ ‫مدرسة الدامر‪ ،‬وعبد الرضبن النويري مؤسس مدرسة أرجبي ‪.‬‬ ‫"ومن الذين أخذوا العلم من مدرسة أوالد جابر أبو إدريس العركي ويعقوب باف‬ ‫نقا‪ ،‬والشيخ صغَتوف مؤسس مدرسة القوز‪ ،‬وىو أستاذ أرباب بن علي اػبشن اؼبشهور‬ ‫بأرباب العقائد والذي زبرج على يديو أعداد غفَتة من العلماء – نذكر منهم ضبد أـ مريوـ‬ ‫وخوجلي عبد الرضبن وفرح ولد تكتوؾ" ‪.‬‬ ‫وبعد أف أفلت مدارس الشايقية جاءت مدارس األبواب اليت أمتدت من مقرات إىل‬ ‫شندي وكاف أنبها مدرسة القوز ومدرسة الغبش ومدرسة الدامر واؼبدرسة األخَتة ترتبط‬ ‫بطريقة صوفية ىي اجملذوبية‪ ،‬مؤسس ىذه اؼبدرسة ىو نفسو مؤسس الطريقة ‪ .‬أما مدرسة‬ ‫الغبش فكانت معادية عموماً للطرؽ الصوفية وقد ركزت على علوـ القرآف"‪.‬‬ ‫"وإىل اعبنوب من األبواب تأيت مدارس قري وقد سبيزت أوالً بتفرد فقهاء احملس‬ ‫والذين انتشروا من جزيرهتم تويت‪ ،‬وأنشأوا عدداً من اؼبراكز الدينية كما سبيزت بعالقتها‬ ‫‪297‬‬


‫احلياة الثقافية والعلمية يف السودان (دراسة تارخيية‪).........‬‬ ‫الوطيدة دبشيخة العبدالب‪ ،‬األمر الذي جعل إقباؽبا كبو األحواؿ الشرعية والفتاوي‬ ‫واألحكاـ اؼبتعلقة دبلكية األرض أمراً ملحوظاً‪ ،‬لقد كرس قدر كبَت من اعبهد كبو خدمة‬ ‫الدولة وشئوف اؼبتقاضُت ‪ .‬وأشهر مدارس قري مدرسة أرباب العقائد واليت بدأ هبا عمراف‬ ‫اػبرطوـ ‪ .‬لقد تعلم يف ىذه اؼبدرسة اآلالؼ ‪.‬‬ ‫أما الشيخ فرح ولد تكتوؾ فقد ازبذ خطاً مغايراً لعادة الفقهاء وىاجم الكثَت من‬ ‫ىذه العادات‪ ،‬وازبذ الشيخ ضبد ولد أـ مريوـ مساراً توحيدياً متشدداً ونادى بااللتزاـ‬ ‫اؼبنضبط بالكتاب والسنة ‪ .‬ومدرسة ود عيسى اػبزرجي يف كًتانج ومن بعد يف اؼبسيد كانت‬ ‫ذات تأثَت عظيم وقد لعب خرهبوىا دوراً كبَتاً يف تاريخ القضاء ‪".‬وقامت يف اعبزيرة مدارس‬ ‫وكانت متأثرة بقرهبا من قصبة الدولة‪ ،‬وبالعالئق التجارية ولعل من أىم مدارسها مدرسة‬ ‫ؿبمد العركي يف النيل األبيض ‪ .‬فبا ذكرنا يبكن أف نالحظ عدة مالحظات ‪:‬‬ ‫‪ -1‬أف اللبنة األوىل للمدارس قد وضعت يف الشماؿ حيث اجملتمع اؼبستقر ‪.‬‬ ‫وأف ىذه اللبنة كانت متأثرة دبصر حبكم ثقافة وتعليم اؼبؤسسُت ؽبا ‪.‬‬ ‫‪ -2‬أف اتساع اؼبدارس قد ازبذ وجهة جنوبية مع النيل يف خط مع اجملتمع اؼبستقر وقد‬ ‫ازداد نشاطها كلما اقًتبنا من مركزي مشيخة العبدالب يف قري واغبلفاية أما‬ ‫مدارس سنار فلم يكن ؽبا ذلك القدر من الشهرة وردبا كاف ذلك بسبب نفوذ‬ ‫الطرؽ الصوفية الكبَت الذي كاف وبد من نفوذ اؼبدارس ‪.‬‬ ‫‪ -3‬كاف اؼبعلم يقوـ بدوره تطوعاً ػبدمة الدين بقصد الثواب وأف اجملتمع كاف يقوـ‬ ‫باالنفاؽ على اؼبعلمُت والطالب خدمة للدين وبقصد الثواب أيضاً ‪.‬‬ ‫‪ -4‬ىذه اؼبدارس مل تكن معزولة عن اجملتمع وما هبري فيو وامبا كانت تؤثر وتتأثر وىكذا‬ ‫د‪.‬خوجلى أمحد صديق‬

‫قبد اقباؽبا كبو الفتيا وأمور اغبكم كلما اقًتبت من مراكز اغبكم‪. 1‬‬

‫‪ 1‬أنظر ؿبمد إبراىيم أبو سليم – دور العلماء يف نشر اإلسالـ يف السوداف ‪ ..‬اؼبنشور يف اجملموعة األوىل‬ ‫من أحباث معامل تاريخ السوداف – دار الفكر للطباعة والنشر – بدوف تاريخ ‪. 77 – 76‬‬ ‫‪298‬‬


‫تفكُّر ‪ ،‬جملد (‪ ،)31‬العدد (‪2013 ، )2-3‬م‪1434/‬هـ‬

‫الرتاث اإلسالمي‬

‫ىذا ما كاف عليو أمر التعليم يف سلطنة سنار‪ ،‬أما دارفور فقد وطدت صالهتا‬ ‫الثقافية مع تلك الدويالت واإلمارات اليت قامت يف وسط السوداف الغريب ‪ .‬وانتقلت إليها‬ ‫الثقافة اإلسالمية من أفريقيا الشمالية والغربية ‪.‬‬ ‫وبالرغم من ذلك فقد ذكر االقبليزي براوف وىو أحد الرحالة األجانب والقالئل‬ ‫الذين استطاعوا اإلقامة بدارفور ردحاً من الزمن يف أوائل القرف الثالث اؽبجري وأواخر القرف‬ ‫الثامن عشر اؼبيالدي‪ ،‬أنو كاف يوجد بدارفور وقتذاؾ بعض الفقهاء الذين تلقوا العلم يف‬

‫القاىرة ‪ ،‬مث أكد ىذا القوؿ ؿبمد بن عمر التونسي يف رحلتو اؼبسماة بتشحيذ األذىاف‬ ‫بسَتة بالد العرب والسوداف‪. 1‬‬

‫التعليم ومناىجو في ىذه المرحلة ‪:‬‬

‫إذا نظرنا إىل الثقافة العربية اإلسالمية يف األقطار اجملاورة للسوداف قبل ضمو لإلدارة‬

‫اؼبصرية قبد أف ىذه الثقافة قد دخلت يف طور التقليد واالضمحالؿ ‪ .‬فالدراسة يف األزىر‬ ‫– مركز الثقافة يف البالد اإلسالمية – موجهة يف أغلبها إىل العلوـ النقلية‪ ،‬وما يدرس من‬ ‫العلوـ العقلية كاؼب نطق أو الطب أو الفلك إمبا كاف يدرس دراسة آليو القصد منها حفظ‬ ‫اؼبسائل واعبدؿ اللفظي دوف ذبديد أو استنباط لقواعد جديدة ‪.‬‬ ‫ولذلك اذبهت الدراسة إىل العلوـ اؼبقصودة لذاهتا كعلوـ الفقو والتوحيد والتصوؼ‪.‬‬ ‫وقد سادت يف العامل اإلسالمي – وقتذاؾ – مذاىب الصوفية اليت شجعتها الدولة العثمانية‬ ‫وسيطرت على عقائد الناس وتفكَتىم وامتزجت بالدراسات اإلسالمية وصار الناس‬ ‫يقسموف شريعة اهلل إىل علم باطن وعلم ظاىر‪ ،‬بل إف بعضهم اعترب أف علم الباطن حسب‬ ‫زعمهم ىو العلم اغبقيقي ‪.‬‬ ‫وقد تأثرت الثقافة اإلسالمية دبا هبري يف العامل اإلسالمي وإذا رجعنا لكتاب‬ ‫الطبقات البن ضيف اهلل لوجدنا أف أىم العلوـ اليت لقيت عناية كبَتة ىي علوـ القرآف‬ ‫‪ 1‬أنظر ؿبمد فؤاد شكري – مرجع سابق ص ‪. 27‬‬ ‫‪299‬‬


‫احلياة الثقافية والعلمية يف السودان (دراسة تارخيية‪).........‬‬

‫د‪.‬خوجلى أمحد صديق‬

‫والفقو ولواحقو مثل علم اؼبَتاث والتصوؼ‪" .1‬والظاىر أف أوؿ ما وجهت إليو العناية من‬ ‫ىذه العلوـ القرآف الكرمي وأوؿ مظهر لذلك ىو حفظو‪ ،‬ولذلك كاف الطالب يتعلموف‬ ‫القراءة والكتابة عرضاً أثناء حفظهم للقرآف ولعل منشأ ذلك ما ذكره ابن خلدوف أف دراسة‬

‫القرآف امبا تقدمت يف ىذه اؼبرحلة ايثاراً للتربؾ والثواب وخشية ما يعرض للولد من جنوف‬ ‫الصبا من اآلفات والقواطع عن العلم فيفوتو القرآف"‪. 2‬‬

‫وإىل جانب حفظ القرآف نشطت الدراسات القرآنية اليت تعُت على حفظو حفظاً‬ ‫جيداً مثل علم التجويد والقراءات ‪ .‬ونبغ يف ىذه العلوـ بعض العلماء مثل الشيخ ؿبمد‬ ‫عيسى سوار الذىب والشيخ سعد الكرسٍت الذي كاف شديد الرياضة لتالميذه حريصاً على‬ ‫معرفتهم للشد واؽبمز والقلقلة واالظهار واالدغاـ والغنة ومعرفة الوقوؼ من تاـ و ٍ‬ ‫كاؼ‬

‫وحسن‪. 3‬‬

‫غَت أف أىم ما يالحظ على الدراسات القرآنية أف العلوـ اليت كانت تساعد على‬ ‫فهم معاين القرآف وتدبر آياتو مثل علم التفسَت مل ذبد عناية كبَتة يف ذلك الوقت ولذلك‬ ‫كاف بعض الطالب وبفظوف القرآف من غَت اىتماـ دبعانيو ‪ .‬كما أنو مل تكن ىناؾ‬ ‫مصاحف م كتوبة فكاف اؼبدرس يبلي من الذاكرة والطالب يكتبوف على ألواح من اػبشب‬ ‫سبحى بعد اغبفظ وبذا كاف الطالب يتعلموف القراءة والكتابة أثناء حفظهم للقرآف كما‬ ‫سبقت اإلشارة ‪.‬‬ ‫أما علوـ القراءات فقد كاف مدار تدريسها على كتاب الشاطبية ؼبؤلفو ايب القاسم‬ ‫بن خَتة األندلسي‪ ،‬وكانت أىم القراءات الشائعة عند أىل السوداف نبا قراءة ورش يف‬

‫‪ 1‬أنظر ؿبمد فوزي مصطفى – الثقافة العربية – مرجع سابق ‪ ،‬ص ‪. 47‬‬ ‫‪ 2‬أنظر عبد اجمليد عابدين – تاريخ الثقافة العربية يف السوداف – مرجع سابق ‪ ،‬ص‪. 86‬‬ ‫‪ 3‬أنظر ؿبمد فوزي مصطفى – الثقافة العربية – مرجع سابق ‪،‬ص ‪. 49‬‬ ‫‪29:‬‬


‫تفكُّر ‪ ،‬جملد (‪ ،)31‬العدد (‪2013 ، )2-3‬م‪1434/‬هـ‬

‫الرتاث اإلسالمي‬

‫نواحي دارفور وكردفاف وأ يب عمر الدوري يف دنقال والدامر واػبرطوـ‪ ،‬أما حفص فهي أقل‬

‫القراءات انتشاراً يف السوداف‪. 1‬‬

‫يلي القرآف وعلومو يف األنبية علم الفقو ومن يرجع إىل كتاب الطبقات هبد أف‬

‫رسالة ا بن أيب زيد القَتواين وـبتصر خليل بن اسحاؽ واألخضري يف الفقو اؼبالكي وجدت‬ ‫عناية كبَتة من صبهرة اؼبتعلمُت وإىل جانب كتب اؼبالكية كانت تدرس كتب الشافعية‬ ‫وخاصة يف أرجبي اليت نبغ فيها ؾبموعة من رجاؿ الفقو الشافعي مثل القاضي دشُت والشيخ‬ ‫مشو بن ؿبمد عدالف ‪.‬‬ ‫وإذا نظرنا يف ثقافة ىؤالء العلماء الفقهية قبد أف بعضهم قد وصل درجة ال بأس‬ ‫هبا يف علم الفقو‘ وبعض ىؤالء اؼبشايخ كانت ؽبم مشاركة يف التأليف يف الفقو‪ ،‬ودراية‬ ‫باألحكاـ والفتاوي‪ ،‬وكثَتاً ما قبد صاحب الطبقات يصف بعض الفقهاء بقولو‪" :‬فهو‬ ‫مرجح التصنيف على التدريس" ‪.‬‬ ‫والحظ بعض الباحثُت أف ىذه اؼبستوى مل يكن يبثل التحصيل العلمي الشائع عند‬

‫معظم اؼبتعلمُت ولكنو يبثل ربصيل الطبقة اؼبمتازة من العلماء‪. 2‬‬

‫كذلك ا ىتم العلماء جبانب آخر من الدراسات الفقهية فوجهوا عناية شديدة إىل‬ ‫علم اؼبَتاث والفرائض وقد نبغ يف ىذا العلم ؾبموعة من العلماء أشهرىم الشيخ إبراىيم بن‬ ‫عبودي اؼبشهور بالفرضي‪ ،‬الذي ألف اغباشية اؼبشهورة ‪ .‬ومرد عنايتهم هبذا العلم ترجع إىل‬

‫حاجتهم الضرورية ؽبذا الفن يف تقسيم الًتكات‪.3‬‬

‫وإىل جانب علوـ القرآف والفقو ازدىرت دراسة التوحيد الذي تطلق عليو اؼبصادر‬ ‫علم العقائد ونبغ فيو ؾبموعة من العلماء منهم الشيخ أرباب بن علي الذي ألف كتاباً يف‬ ‫‪ 1‬أنظر اؼبرجع السابق ص ‪. 55‬‬ ‫‪ 2‬أنظر اؼبرجع السابق ص ‪. 51‬‬ ‫‪ 3‬نفس اؼبرجع ‪،‬ص ‪. 51‬‬ ‫‪2:1‬‬


‫احلياة الثقافية والعلمية يف السودان (دراسة تارخيية‪).........‬‬

‫د‪.‬خوجلى أمحد صديق‬

‫أركاف اإليباف وأظباء اعبواىر‪ .‬والظاىر أف مدار علم التوحيد كاف على كتاب السنوسية‬ ‫وشروحها ولذلك نشطت حركة تأليف اغبواشي والشروح حوؽبا فبا يدؿ داللة واضحة على‬ ‫انتشار ىذا العلم ورغبة الطالب فيو‪ ،‬فألف الشيخ علي بري شرحاً على السنوسية كما كاف‬

‫للشيخ مكي النحوي الشروح اعبليلة منها شرحو الكبَت على السنوسية يف أربعُت كراساً‬ ‫وشرحو الصغَت يف عشر ‪ .‬ومن العلماء الذين أسهموا يف حركة التأليف يف علم التوحيد‬ ‫الشيخ ؿبمد أكداوي بن الشيخ ؿبمد اؼبصري الذي ألف حسب عبارة صاحب الطبقات‬ ‫"كتباً شأهنا أف تكتب دبداد الذىب" منها أربعة شروح على أـ الرباىُت‪ ،‬العمدة اليت عم‬ ‫النفع هبا يف سائر األقطار والوسط والصغَت واغباشية اليت ىل من أجل مؤلفاتو ‪.‬‬ ‫وإىل جانب علوـ القرآف والفقو واؼبَتاث والتوحيد يًتدد ذكر علوـ أخرى يف الطبقات‬ ‫مثل علوـ اغبديث ومصطلحها والتفسَت ‪ .‬على أف معظم ىذه اؼبؤلفات عبارة عن ـبطوطات‬ ‫أكثرىا مل يصل إلينا ومل نقف على مطبوع منها سوى مؤلفات أضبد بن عيسى اػبزرجي‬ ‫األنصاري ‪ .‬وكاف ذلك عمل علمي جليل يدؿ على مدى االىتماـ بالدراسات اإلسالمية‬ ‫والعربية يف ذلك العهد ‪ .‬كما يدؿ على نوع التعليم الذي كاف يتلقاه الطالب وقتئذ ‪ .‬وكما‬

‫يدؿ كذلك على مستوى ىذا التعليم"‪. 1‬‬

‫ويرى باحث آخر أف الكتب اؼبتداولة بُت علماء السوداف كانت قليلة لبعد السوداف‬ ‫عن مراكز التأليف وارتفاع تكلفة ىذه الكتب على علماء السوداف ولذلك ضعفت ثقافتهم‬ ‫العامة ومل يكن ؽبم إقباؿ كبَت على التأليف‪ ،‬وقد أورد صاحب الطبقات أغلب ما ألفوا وىو‬ ‫عبارة عن حواش وشروح ‪.‬‬ ‫وعموماً كاف ِ‬ ‫العامل السوداين معلماً وقارئاً ومل يكن مؤلفاً ‪ .‬وعلى ما يبدو فإف أكثر‬

‫ما تطارح فيو علماء السوداف كاف حوؿ النب والتبغ إذ ذىب البعض إىل ربرمي ىذا أو ذاؾ‬

‫‪ 1‬أنظر د ‪ .‬عز الدين األمُت – تراث الشعر السوداين – معهد البحوث والدراسات العربية – القاىرة‬ ‫‪1969‬ـ – ص ‪.14‬‬ ‫‪2:2‬‬


‫تفكُّر ‪ ،‬جملد (‪ ،)31‬العدد (‪2013 ، )2-3‬م‪1434/‬هـ‬

‫الرتاث اإلسالمي‬

‫بينما ذىب اآلخروف إىل أنو حالؿ‪ . 1‬ولعل ىذه اؼبالحظة ال تنطبق على السوداف وحده يف‬ ‫ىذه الفًتة فقد ضعفت الثقافة اإلسالمية يف معظم األقطار اؼبسلمة بفعل التقليد وقفل باب‬ ‫االجتهاد ‪.‬‬

‫التعليم في السودان في عصر محمد علي باشا ‪:‬‬

‫يعترب ؿبمد علي باشا مؤسس النهضة التعليمية يف مصر اغبديثة حيث أنشأ عدداً‬ ‫من اؼبدارس منها مدرسة اؽبندسة يف سنة ‪1816‬ـ ومدرسة اؼبهندسخانة ببوالؽ يف سنة‬ ‫‪1834‬ـ ومدرسة الطب يف سنة ‪1827‬ـ ومدرسة الصيدلة والوالدة ومدرسة األلسن يف‬ ‫سنة ‪1836‬ـ ومدرسة اؼبعادف دبصر القديبة يف سنة ‪1834‬ـ ومدرسة احملاسبة بالسيدة‬ ‫زينب يف سنة ‪1837‬ـ ومدرسة الفنوف والصنائع يف سنة ‪1839‬ـ ‪ .‬كما اىتم بارساؿ‬ ‫البعثات إىل مصر وأوروبا وخاصة إىل فرنسا وذلك بقصد االستفادة فبا انتجتو اغبضارة‬

‫األوروبية يف ؾباؿ التعليم‪.2‬‬

‫وعندما ضم ؿبمد علي السوداف إىل أمالكو يف سنة ‪1821‬ـ اىتم بأمر التعليم يف‬ ‫السوداف – ففي البداية قبد أنو قد أرسل مع ضبلة الفتح ثالثة من العلماء اؼبصريُت ىم‬ ‫القاضي ؿبمد األسيوطي اغبنفي والسيد أضبد البقلي الشافعي والشيخ السالوي اؼبغريب‬ ‫اؼبالكي ‪ .‬ووىب كالً منهم خلعة سنية وطبسة عشر كيساً (الكيس طبسمائة قرش) وأوصاىم‬

‫أف وبثوا أىل البالد على الطاعة بال حرب حبجة أهنم مسلموف وأف اػبضوع عباللة السلطاف‬ ‫أمَت اؼبؤمنُت واجب ديٍت‪ . 3‬وقد مات يف السوداف القاضي ؿبمد األسيوطي وتوىل القضاء‬

‫‪ 1‬أنظر د ‪ .‬ؿبمد إبراىيم أبو سليم – دور العلماء يف نشر اإلسالـ يف السوداف‪ -‬مرجع سابق ص ‪. 85‬‬ ‫‪ 2‬ؼبعرفة تطور النهضة التعليمية يف مصر انظر عبد الرضبن الرافعي – عصر ؿبمد علي ‪،‬مكتبة النهضة‬ ‫اؼبصرية ‪1956‬ـ وأضبد عزت عبد الكرمي – تاريخ التعليم يف عصر ؿبمد علي ‪ ،‬مكتبة النهضة اؼبصرية‬ ‫‪1938‬ـ ‪.‬‬ ‫‪ 3‬أنظر نعوـ شقَت – تاريخ السوداف – ربقيق ؿبمد إبراىيم أبو سليم دار اعبيل – بَتوت ‪1981‬ـ ص‬ ‫‪. 196‬‬ ‫‪2:3‬‬


‫احلياة الثقافية والعلمية يف السودان (دراسة تارخيية‪).........‬‬ ‫الشيخ أضبد البقلي وكاف اؼبفيت ىو السيد أضبد أفندي السالوي‬

‫د‪.‬خوجلى أمحد صديق‬ ‫‪1‬‬

‫‪ .‬وقد قدر للقاضي‬

‫السالوي أف يلعب دوراً مهماً يف السوداف فهو مالكي اؼبذىب مثل أغلب السودانيُت ويبدو‬

‫أف الغَتة اؼبذىبية واندماجو يف اجملتمع السوداين باؼبصاىرة والصداقة دفعتو إىل اغبماس يف‬ ‫خدمة علماء السوداف ‪ .‬فقد شجع مدارس السوداف وخالويو وأجرى عليها اعبرايات وارتبط‬ ‫مع بعض العلماء حببل الود والصداقة وكاف ىو الذي فتح الباب أماـ خرهبي مدارس‬ ‫السوداف لاللتحاؽ بالقضاء وبوظائف الدولة عموماً وقد كاف ذلك فتحاً مهماً ‪ .‬وقد تعهد‬ ‫بعض علماء الس وداف بالتشجيع على الكتابة ‪ .‬فهو الذي كاف وراء تأليف تاريخ سنار إذ‬ ‫شجع أضبد أبو علي كاتب الشونة على تأليفو مث دفعو إىل الزبَت ود ضوة وإبراىيم عبد الدافع‬ ‫واألمُت الضرير فنظر كل منهم فيو وأدخل فيو ما أدخل ‪ .‬وقد دفع إبراىيم عبد الدافع فجعل‬ ‫من ذكرىم وذ ضيف اهلل يف طبقاتو ومن جاءوا بعده يف أرجوزة مث توىل ىو شرح األرجوزة ‪.‬‬

‫وىكذا عرض السالوي طبقات أولياء السوداف بعيداً عن مبالغات وشطحات الطبقات"‪.2‬‬

‫لقد قاـ السالوي بدور مهم عندما فتح لعلماء السوداف العمل يف ؾباؿ دوالب‬

‫اغبكومة غَت أف ذلك ربط ىؤالء بنظاـ اغبكم‪ ،‬وجعل اعتمادىم على ما يتلقونو من اؼبرتبات‬ ‫فبا أفقدىم اغبرية اليت كانوا يتمتعوف هبا وأضر دبكانتهم االجتماعية"‪. 3‬‬

‫وبضم ؿبمد علي السوداف إىل أمالكو أصبح وادي النيل كلو يف وحدة إدارية جعلت‬ ‫االتصاؿ الثقايف بُت شطري الوادي أكثر التحاماً حيث فتحت أبواب األزىر لعدد أكرب من‬

‫السودانيُت ويالحظ نشاط ىجرة الطالب السودانيُت إىل مصر يف ىذه الفًتة‪. 4‬‬

‫‪ 1‬أنظر ـبطوطة كاتب الشونة – مرجع سابق ص ‪ 95 – 89‬وؿبمد سليماف – دور األزىر يف السوداف‬ ‫– اؽبيئة اؼبصرية العامة للكتاب ‪1985‬ـ ص ‪. 55‬‬ ‫‪ 2‬د ‪ .‬ؿبمد إبراىيم أبو سليم – دور العلماء يف نشر اإلسالـ يف السوداف – مرجع سابق ص ‪. 81‬‬ ‫‪ 3‬اؼبرجع السابق ص ‪. 82‬‬ ‫‪ 4‬أنظر ؿبمد فوزي مصطفى – الثقافة العربية – مرجع سابق ص ‪37‬ـ ‪.‬‬ ‫‪2:4‬‬


‫تفكُّر ‪ ،‬جملد (‪ ،)31‬العدد (‪2013 ، )2-3‬م‪1434/‬هـ‬

‫الرتاث اإلسالمي‬

‫كذلك ويف أوائل العهد الًتكي يف السوداف نسمع عن ىجرة بعض العلماء اؼبصريُت‬ ‫إىل السوداف ذلك أف سياسية ؿبمد علي كانت هتدؼ إىل توثيق العالقات الدينية أوالً قبل‬ ‫كل شئي بُت البلدين " ‪ . 1‬ويعترب عصر ؿبمد علي بداية طبيعية لنشر التعليم اغبديث بُت‬ ‫أبنائو وذلك بوسيلتُت إما عن طريق بناء اؼبساجد يف عدد من البالد السودانية أو عن طريق‬ ‫السماح للسودانيُت بااللتحاؽ باآلزىر الشريف لتكملة دراستهم‪.2‬‬ ‫ولقد كاف من األعماؿ اؽبامة اليت أدخلها ؿبمد علي على السوداف تطويره لنظاـ‬ ‫التعليم الذي كاف سائداً ىناؾ ‪ ،‬والذي كاف قاصراً على حفظ القرآف وتعليم القراءة والكتابة‬ ‫لبعض األطفاؿ يف الزوايا ويف اعبوامع الصغَتة اليت كانت توجد يف بعض قرى السوداف‬ ‫الشمايل وكانت ىذه الزوايا ال تؤدي دورىا يف خدمة العلم بالكفاءة اؼبطلوبة ألنو مل يكن ؽبا‬ ‫مصدر ثابت لإلنفاؽ عليها ‪ .‬فقد قاـ ؿبمد علي بتطويرىا عن طريق بناء اؼبساجد مثل‬ ‫مسجد اػبرطوـ‪ ،‬الذي كانت وظيفتو تنحصر يف تعليم أبناء السوداف القراءة والكتابة وبعض‬ ‫العلوـ األخرى كالنحو واػبط ‪ .‬وقد خصص ؽبذا اعبامع مائة وطبسُت قرشاً يف الشهر‬ ‫لإل نفاؽ منها على التالميذ الذين كانوا يدرسوف فيو‪ .‬لكن ىذا اؼببلغ كاف ال يفي باحياجات‬ ‫اإلماـ والدارسُت معاً فبا اضطره أف يشتكي إىل حكمدار السوداف الذي طلب بدوره زيادة‬ ‫اؼببلغ اؼبخصص ؽبذا اعبامع حبوايل مائة قرش ليصبح ؾبموع ـبصصاتو مائتُت وطبسُت قرشاً ‪.‬‬ ‫كما طلب أيضاً زبصيص ثالثة أرادب من الذرة ؽبذا اؼبسجد كي يؤدي دوره يف خدمة‬ ‫العلم‪.3‬‬ ‫وقد بلغ عدد الدارسُت يف مسجد اػبرطوـ يف عصر ؿبمد علي حوايل واحد وشبانُت‬ ‫تلميذاً كانوا صبيعاً من أبناء السوداف وفيما بعد تقرر أف يتقاضى كل تلميذ من ىؤالء‬ ‫‪ 1‬اؼبرجع السابق ص ‪38‬ـ ‪.‬‬ ‫‪ 2‬أنظر د ‪ .‬السيد يوسف نصر – الوجود اؼبصري يف افريقيا يف الفًتة من ‪1899 – 1825‬ـ ‪ .‬دار‬ ‫اؼبعارؼ – الطبعة األوىل ‪1981‬ـ ص ‪. 122‬‬ ‫‪ 3‬أنظر اؼبرجع السابق ‪ ،‬ص ‪.121 – 125‬‬ ‫‪2:5‬‬


‫احلياة الثقافية والعلمية يف السودان (دراسة تارخيية‪).........‬‬

‫د‪.‬خوجلى أمحد صديق‬

‫التالميذ مرتباً شهرياً قدره قرشاف فقط باالضافة إىل حصولو ربعُت من الذرة وذلك لكي‬ ‫يهتم كل منهم بدروسو ‪ .‬وىذه وسيلة من وسائل التشجيع‪ ،‬وإف دؿ ىذا العمل على شئ‬ ‫فامبا يدؿ على اىتماـ ؿبمد علي بنشر التعليم الديٍت يف السوداف‪. 1‬‬

‫مل يقتصر نشاط ؿبمد علي التعليمي على اػبرطوـ وحدىا دوف غَتىا بل امتد‬ ‫نشاطو إىل اؼبناطق األخرى كدنقلة اليت وافق ؿبمد علي على إنشاء مسجد آخر هبا لتعليم‬ ‫أبنائها القراءة والكتابة وحفظ القرآف باالضافة إىل ذلك فأنو قد ظبح ألبناء سنار بااللتحاؽ‬ ‫باعبامع األزىر وذلك ؼبواصلة دراستهم فكانوا يدرسوف التفسَت والفقو والشريعة اإلسالمية‬ ‫وما إىل ذلك ‪ .‬وكاف قد تصادؼ أف ىؤالء التالميذ بعد وصوؽبم إىل مصر مل هبدوا رواقاً‬ ‫خاصاً القامتهم فيو أسوة بغَتىم من أبناء الصعيد واؼبغاربة وغَتىم من األجناس األخرى ‪.‬‬ ‫وؼبا طلبوا ؽبم رواقاً أفادت إدارة األزىر بأنو ال توجد أروقة خالية‪ ،‬فجميع األروقة اليت كاف‬ ‫يبلغ عددىا اثنُت وعشروف رواقاً كانت مشغولة وعندما علم ؿبمد علي بذلك أمر بأف يؤجر‬

‫ؽبم مكاف يستقروف فيو فأجرت ؽبم إدارة األزىر رواقاً جديداً عرؼ باسم رواؽ السنارية ‪.‬‬ ‫إضافة إىل ذلك فإف ؿبمد علي أمر بإعادة بناء مسجد الفقيو إبراىيم بن عيسى‬ ‫وجعلو معهداً علمياً مع زبصيص راتب شهري لو كما أمر ببناء عشر حجرات لسكن‬ ‫الطالب دبسجد كًتانج ‪ .‬كما أمر بإنشاء مدرسة لتعليم الصبياف جبانب مسجد دنقلة‪ ،‬وإىل‬ ‫جانب ىذه اؼبؤسسات أمر يف كردفاف باعفاء أوالد الشيخ إظباعيل الويل من ضريبة السواقي‬ ‫واألطياف مساعدة ؽبم ليمضوا يف التدريس ويف إقامة شعائر الدين‪.2‬‬ ‫ويتجلى اىتماـ ؿبمد علي بأمر التعليم يف السوداف أثناء رحلتو إىل السوداف سنة‬ ‫‪1838‬ـ حيث خاطب رؤساء القبائل واؼبشائخ موضحاً ؽبم أنبية تعليم أبنائهم وقد جاء يف‬ ‫بعض فقرات حديثو ‪ ... ":‬ولكن اؼبشاىدة والتقدير مع العلم بالقراءة والكتابة شئ وبدوهنما‬ ‫‪ 1‬أنظر اؼبرجع السابق نفس الصفحة ‪.‬‬ ‫‪ 2‬أنظر د‪ .‬عز الدين األمُت – تراث الشعر السوداين – مرجع سابق ص ‪. 41‬‬ ‫‪2:6‬‬


‫تفكُّر ‪ ،‬جملد (‪ ،)31‬العدد (‪2013 ، )2-3‬م‪1434/‬هـ‬

‫الرتاث اإلسالمي‬

‫شئ آخر ‪ .‬فإف كنتم توفدوف أبناءكم فأين أغبقهم باؼبدارس الكثَتة اليت وفقٍت اهلل سبحانو‬ ‫وتعاىل يف إنشائها لتعليم أبناء األمة وتثقيفهم‪ ،‬وأدفع ؽبم نفقات مأكلهم وبذلك ينعم‬ ‫أبناؤكم بنصيب وافر من العلم واألدب يف ىذه اؼبدارس مث أعيدىم بعد سنوات قليلة إىل‬ ‫أوطاهنم معززين مكرمُت‪ ،‬وأكوف هبذا العمل قد خدمت عائالتكم خدمة عظيمة من جهة‪،‬‬ ‫وخلدت أظبي مقروناً بالفخار إىل يوـ القيامة من جهة أخرى"‪.1‬‬ ‫وقد كانت كلمات الباشا ذات أثر كبَت على الزعماء واؼبشايخ حىت أف التقرير‬ ‫الرظبي ؽبذه الزيارة قد ذكر أنو كاف ؽبذا اػبطاب أثر عظيم على نفوسهم ووعدوا بإرساؿ‬ ‫أبنائهم‪. 2‬‬ ‫وتشَت اؼبصادر إىل أف عدداً من أبناء وجهاء السوداف قد وصلوا إىل القاىرة عقب‬ ‫عودة ؿبمد علي إليها ‪ .‬وقد أمر ؿبمد علي بإغباقهم باؼبدرسة التجهيزية ليتعلموا القراءة‬ ‫والكتابة أوالً مث يدرسوا بعد ذلك علم الزراعة ‪.‬‬

‫ىذا وقد وجو الباشا بلزوـ العناية هبم وسبيزىم على غَتىم من تالميذ اؼبدرسة‬

‫اآلخرين وأف ىبصص ؽبم خادـ يقوـ دبا يلزـ ؽبم وأال يفرؽ بينهم بل يكونوا معاً‪. 3‬‬ ‫وتذكر بعض اؼبراجع أف ىؤالء الطالب قد أغبقوا دبدرسة األلسن قبل عودهتم إىل‬ ‫الس وداف لتسلم وظائفهم اغبكومية ‪ .‬وقد قضوا يف مصر ثالث سنوات كانت تصرؼ ؽبم‬ ‫فيها اإلعانات الالزمة ‪ .‬وعندما شرع ؿبمد علي باشا يف إرساؿ البعثات اؼبصرية إىل أوروبا‬ ‫كجزء من سياستو التعليمية وقع االختيار ايضاً على نفر من أبناء السوداف الذين كانوا‬ ‫يدرسوف دبصر ولكنهم عادوا من أوروبا ومل وبضروا إىل السوداف وفضلوا االلتحاؽ بوظائف‬ ‫‪ 1‬د ‪ .‬حسن أضبد إبراىيم – رحلة ؿبمد علي باشا إىل السوداف ‪ 1839-1838‬كراسة رقم ‪– 15‬‬ ‫معهد الدراسات االفريقية واآلسيوية – جامعة اػبرطوـ ‪ ، 1985‬ص ‪. 51‬‬ ‫‪ 2‬أنظر د ‪ .‬ؿبمد فؤاد شكري – مرجع سابق ‪ ،‬ص ‪. 27‬‬ ‫‪ 3‬أنظر عبد العزيز أمُت عبد اجمليد – تاريخ الًتبية يف السوداف – اؼبطبعة األمَتية بالقاىرة ‪1949‬ـ‪ ،‬ص‬ ‫‪. 16‬‬ ‫‪2:7‬‬


‫احلياة الثقافية والعلمية يف السودان (دراسة تارخيية‪).........‬‬ ‫يف مصر‬

‫‪1‬‬

‫د‪.‬خوجلى أمحد صديق‬

‫‪.‬كما أشارت بعض اؼبصادر إىل خطاب من أحد علماء السوداف أرسلو إىل‬

‫ؿبمد علي باشا أثناء زيارتو للسوداف يشكره فيو على اػبدمات اليت يقدمها لطالب العلم ‪.‬‬ ‫ومل يكتف ؿبمد علي بارساؿ العلماء إىل السوداف وتشجيع الطالب باؽبجرة إىل‬ ‫مصر ولكنو أيضاً حاوؿ تشجيع الطرؽ الصوفية اليت كانت منتشرة يف ذلك الوقت إىل النزوح‬

‫إىل السوداف ‪ .‬وبالفعل جاءت بعض ىذه الطرؽ إىل السوداف‪.2‬‬

‫يالحظ أف ؿبمد علي على الرغم من تشجيعو للتعليم يف السوداف – مل يضع‬

‫سياسة تعليمية واضحة كتلك اليت وضعها يف مصر‪.3‬ويعلل أحد الكتاب ىذا األمر بأف‬

‫ؿبمد علي مل يرد أف يبلي إرادتو على القوـ وىم حديثو الصلة بو حىت ال يغَت قلوهبم‪. 4‬‬ ‫وعل ق أحد الباحثُت على سياسة األتراؾ التعليمية بصفة عامة بقولو ‪" :‬وحصر األتراؾ‬ ‫مسئولية الدولة يف جباية الضرائب وضباية الواليات من الغزو واقرار األمن الداخلي وفض‬ ‫اػبصومات بُت الناس‪ ،‬أما اؼبسائل العامة كالثقافة والتعليم فلم تكن تدخل بالضبط يف‬

‫مسئولية الدولة بل تركت لألفراد واعبماعات"‪.5‬‬

‫وىذا القوؿ على اطالقو ليس صحيحاً ألف األتراؾ بصفة عامة وؿبمد علي بصفة‬ ‫خاصة قد اىتموا بالتعليم وفتح اؼبدارس واالنفاؽ عليها ولكن اىتمامهم بالتعليم واغبق يقاؿ‬ ‫ليس يف مستوى اىتمامهم بالنواحي اإلدارية والعسكرية والعمرانية ‪.‬‬ ‫‪ 1‬انظر ؿبمد عمر بشَت – تطور التعليم يف السوداف ‪1956 -1898‬ـ ترصبة ىنري رياض وآخرين –‬ ‫دار الثقافة بَتوت ‪ ،1975‬ص ‪. 45‬‬ ‫‪ 2‬انظر عبد اجمليد عابدين – تاريخ الثقافة العربية يف السوداف – مرجع سابق ص‪.98‬‬ ‫‪ 3‬انظر د‪ .‬إبراىيم اغباردلو – الرباط الثقايف بُت مصر والسوداف – دار جامعة اػبرطوـ للًتصبة والنشرى‬ ‫والتأليف ‪1977‬ـ‪ ،‬ص ‪. 8‬‬ ‫‪ 4‬عبد العزيز أمُت عبد اجمليد – تاريخ الًتبية يف السوداف – مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.13‬‬ ‫‪ 5‬د ‪ .‬يوسف خليل يوسف – القومية العربية ودور التًتيك يف ربقيقها – الدار القومية للطباعة والنشر‬ ‫القاىرة ‪1966‬ـ‪ ،‬ص ‪.151‬‬ ‫‪2:8‬‬


‫تفكُّر ‪ ،‬جملد (‪ ،)31‬العدد (‪2013 ، )2-3‬م‪1434/‬هـ‬

‫الرتاث اإلسالمي‬

‫أما ؼباذا مل يضع ؿبمد علي سياسة تعليمية واضحة يف السوداف فالسبب يف ظٍت‬ ‫يرجع إىل أف ؿبمد علي كاف يفكر يف إنشاء دولة مًتامية األطراؼ ولذلك فإف تركيزه يف‬ ‫اؼبقاـ األوؿ كاف على اعبوانب اإلدارية والعسكرية حىت إذا ما استقرت ىذه األمور فكر يف‬ ‫اعبوانب األخرى ‪.‬‬ ‫وعل ق الدكتور عبد العزيز أمُت على سياسة ؿبمد علي التعليمية بقولو‪ :‬كاف حملمد‬ ‫علي سياسة معروفة تتعلق بالتعليم منذ كاف يغلب اؼبنفعة على النظريات وقد أبقى يف مصر‬ ‫التعليم القومي‪ ،‬وىو التعليم الديٍت اؼبنتشر يف القرى واغبواضر على أوضاعو اؼبألوفة‪ .‬أي أنو‬ ‫واجو مشكلة الثقافة عموماً ومسائل الًتبية والتعليم خصوصاً بروح االعتداؿ فتجنب االمالء‬

‫على الناس كما ذبنب الفصل بُت نظم ونظم فلم ىبلق ثنائية يف معاىذ التعليم بل سبت تلك‬

‫الثنائية يف أياـ اعبيلُت اغباضر والسابق من اؼبصريُت‪.‬‬

‫ومل تعرؼ أياـ ؿبمد علي إال ثقافة إسالمية يف كل مكاف"‪ . 1‬ويبكن أف يضاؼ إىل‬

‫تشجيع ؿبمد علي للتعليم اىتمامو بالرحالت الكشفية وؾبهوداتو يف كشف منابع النيل ‪.‬‬ ‫فبا تقدـ نالحظ أف ؿبمد علي قد شجع التعليم اإلسالمي الذي كاف موجوداً يف‬

‫السوداف بطرؽ شىت مشلت بناء اؼبساجد واػبالوي ودعمها وإرساؿ العلماء إىل السوداف‬ ‫وتشجيع الطالب على السفر إىل القاىرة‪ ،‬إال أف األمر الذي يؤخذ عليو ىو أنو مل ينتهج‬ ‫سياسة واضحة يف ىذا اجملاؿ كتلك اليت انتهجها يف مصر ومل يقم بفتح مدرسة واحدة يف‬ ‫السوداف يف الوقت الذي أنشأ فيو عشرات اؼبدارس ىناؾ‪.‬‬ ‫جهود عباس األول التعليمية ‪:‬‬

‫قاـ عباس بن طوسوف بن ؿبمد علي بتويل اغبكم عقب وفاة عمو إبراىيم باشا وقاـ‬

‫باغالؽ بعض اؼبدارس اليت كاف جده ؿبمد علي قد افتتحها يف مصر األمر الذي جعل‬ ‫بعض الكتاب يتهمونو بالرجعية وؿباربة العلم والعلماء ‪ .‬ولكن األمر الذي فأجأ بو عباس‬ ‫‪ 1‬د ‪ .‬عبد العزيز أمُت عبد اجمليد – تاريخ الًتبية يف السوداف – مرجع سابق ‪ ،‬ص‪.13‬‬ ‫‪2:9‬‬


‫احلياة الثقافية والعلمية يف السودان (دراسة تارخيية‪).........‬‬

‫د‪.‬خوجلى أمحد صديق‬

‫الناس ىو قيامو بافتتاح مدرسة نظامية يف اػبرطوـ تعترب األوىل من نوعها فبا جعل قطاعاً‬ ‫كبَتاً من اؼبؤرخُت يشككوف يف نوايا عباس ويعتقدوف أنو ما افتتح ىذه اؼبدرسة إال لتكوف‬ ‫منفى لرجاؿ العلم واألدب وقادة النهضة يف مصر‪.1‬‬

‫وقد أرسل عباس خطاباً إىل حكمدار السوداف يذكر فيو أنو ال بد من افتتاح‬ ‫مدرسة يف األقاليم السودانية يدرس فيها أوالد اؼبشايخ وغَتىم من أبناء السوداف إضافة إىل‬ ‫أبناء األتراؾ اؼبوجودين يف السوداف وقد تقرر أف تكوف يف اػبرطوـ وأف يكوف نظامها موافقاً‬ ‫ألصوؿ اؼبدارس اؼبصرية وأف يقبل فيها كبو مائتُت وطبسُت من أوالد اؼبشايخ واألىايل‬ ‫دبديريات دنقلة واػبرطوـ وسنار والتاكة وملحقاهتا‪ ،‬إضافة إىل أبناء األتراؾ ‪ .‬ومت اختيار‬ ‫رفاعة الطهطاوي ناظراً ؽبا وطلب منو ربديد احتياجاتو حىت يتم افتتاح اؼبدرسة‪.‬‬

‫وتنفيذاً لتوجيهات اػبديوي فقد اختار رفاعة أحد عشر مدرساً وطبيباً للعمل يف‬ ‫مدرسة اػبرطوـ وكاف أكثر اؼبدرسُت من تالميذه الذين درسوا عليو‪.2‬‬ ‫وقد صحبت الفًتة اليت قضاىا الطهطاوي يف اػبرطوـ ظروؼ قاسية إذ مات أربعة‬

‫من اؼبدرسُت الذين صحبوه للعمل يف اؼبدرسة فأصبح ىذا حدثاً فاجعاً للعاملُت من‬ ‫اؼبدرسُت ومصدر فزع لكل من يعُت مستقبالً يف السوداف ‪ .‬وكانوا يرجعوف أسباب اؼبوت إىل‬

‫رداءة الطقس يف السوداف واألمراض الناصبة عنو‪. 3‬‬

‫يضاؼ إىل كل ذلك تشكيك اؼبؤرخُت كما ذكرنا يف نوايا عباس‪ ،‬فهو يف نظرىم‬ ‫مثاؿ للرجعية ومعاداة العلم والعلماء ‪ ،‬وقد أغلق من اؼبدارس ما كاف قائماً فكيف يبكن‬ ‫تفسَت افتتاحو ؽب ذه اؼبدرسة ما مل يكن قصده منها أف تكوف منفى للعلماء ‪ .‬ويؤكدوف ذلك‬ ‫‪ 1‬أنظر رفاعة رافع الطهطاوي – األعماؿ الكاملة ربقيق د ‪ .‬ؿبمد عمارة – اؼبؤسسة العربية للدراسات‬ ‫والنشر بَتوت ‪1973‬ـ ‪،‬ج ‪ ، 1‬ص ‪ 57‬وما بعدىا‪.‬‬ ‫‪ 2‬أنظر د ‪ .‬عبد العزيز أمُت عبد اجمليد – تاريخ الًتبية يف السوداف – مرجع سابق ‪،‬ص‪. 29 – 28‬‬ ‫‪ 3‬أنظر د‪ .‬إبراىيم اغباردلو – الرباط الثقايف – مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.13‬‬ ‫‪2::‬‬


‫تفكُّر ‪ ،‬جملد (‪ ،)31‬العدد (‪2013 ، )2-3‬م‪1434/‬هـ‬

‫الرتاث اإلسالمي‬

‫بأف مرتب رفاعة الطهطاوي ظل ؿبجوزاً منذ أف غادر القاىرة حىت عاد إليها بعد وفاة عباس‬

‫باشا ‪ .‬وكاف حجز الصرؼ بدعوى أف رفاعة قد تصرؼ يف بعض الكتب األفرقبية اليت‬ ‫كانت دبدرسة األلسن ومت حجز مرتبو حىت يتم الفراغ من جرد الكتب ‪ .‬وقد دافع البعض‬ ‫عن نوايا عباس يف افتتاح ىذه اؼبدرسة بقولو ‪ ":‬لو أراد عباس نفي رفاعة الطهطاوي أو غَته‬

‫ألمكنو ذلك دوف اللجؤ إىل اؼبربرات واؼبعاذير"‪. 1‬‬

‫وأنا أرى أف األمرين يبكن أف يكونا قد حدثا ألف اجمللس اػبصوصي ىو الذي وافق‬ ‫على افتتاح ىذه اؼبدرسة كما جاء يف خطاب عباس باشا إىل حكمدار السوداف ‪ .‬وردبا‬ ‫يكوف اجمللس اػبصوصي قد استشعر حاجة البالد إىل مثل ىذه اؼبدرسة‪ ،‬فلما رأى عباس أف‬ ‫اؼبدرسة تقرر فتحها أرسل إليها رفاعة الطهطاوي ومن معو من األساتذة غَت اؼبرغوب فيهم‪.‬‬ ‫على كل افتتحت اؼبدرسة بقليل من الطالب‪ ،‬واحداً وثالثُت طالباً ومل يزيدوا على‬

‫ىذا العدد بعد استمرار الدراسة فيها إف مل ينقصوا‪ .‬وىذا عدد قليل جداً بالنسبة للعدد‬ ‫الذي حدده اجمللس اػبصوصي (‪ 255‬تلميذ) ومل تستمر الدراسة أكثر من سنة دراسية‬ ‫واحدة بدأت يف شواؿ سنة ‪1269‬ىػ إىل شعباف سنة ‪1275‬ىػ وكانت كبواً من تسعة‬ ‫أشهر‪ .‬و ال أحد يستطيع اغبديث عن الفائدة اليت خرج هبا ىؤالء التالميذ ‪ .‬ويف ىذا العاـ‬ ‫وبعد وفاة عباس باشا صدر أمر يف ‪ 27‬شعباف سنة ‪1275‬ىػ إىل حكمدار السوداف بإلغاء‬ ‫مدرسة اػبرطوـ ‪ .‬وذكر أف حكمدار السوداف مل يستقبل رفاعة وأصحابو استقباالً طيباً بل‬

‫وزع معدات اؼبدرسة على اعبيش وأنبل شأف رفاعة وصحبو وقد قيل أهنم بقوا يف اػبرطوـ‬ ‫دوف عمل وبلغ اؽبواف برفاعة مبلغو عندما انتدب إلحصاء النخيل‪.2‬‬

‫‪ 1‬أنظر د ‪ .‬عبد العزيز أمُت عبد اجمليد – تاريخ الًتبية يف السوداف – مرجع سابق‪،‬ص ‪.25‬‬ ‫‪ 2‬أنظر د‪ .‬ؿبمد إبراىيم أبو سليم – تاريخ اػبرطوـ – دار اعبيل بَتوت – الطبعة الثانية ‪1979‬ـ ‪،‬ص‬ ‫‪.43‬‬ ‫‪311‬‬


‫احلياة الثقافية والعلمية يف السودان (دراسة تارخيية‪).........‬‬

‫د‪.‬خوجلى أمحد صديق‬

‫وقد ذكر الدكتور أبو سليم أف طالب ىذه اؼبدرسة كانوا من أبناء اؼبوظفُت وأثرياء‬

‫اؼبدينة‪ ،‬أما أبناء العامة فكانوا يذىبوف إىل اػبالوي‪. 1‬‬

‫وقد ذكر الطهطاوي أف مشايخ اػبرطوـ الذين كانوا وبفظوف القرآف قد تعلموا منو‬ ‫ذبويد القرآف وعلم القراءات حىت صاروا ماىرين يف ذلك‪ ،‬كما قاـ رفاعة بًتصبة كتاب يف‬

‫األدب أثناء مكوثو يف اػبرطوـ‪. 2‬‬

‫وبالطبع " مل تسعد اػبرطوـ الشيخ فصار يرسل التوسل تلو التوسل لرؤسائو‬ ‫يستعطفهم العفو عنو واعادتو إىل مصر وقد سجل لنا يف كتبو شيئاً عن السوداف دبا يف ذلك‬

‫قصيدة ىجا فيها اػبرطوـ وحياهتا القاسية اليت إذا قورنت دبا رأى من حاؿ اؼبدنية واغبضارة‬

‫يف فرنسا تعد أكثر من بدائية‪ ،‬وىذا ما تكشفو لنا قصيدتو الطويلة واليت اختتمها بقولو ‪:‬‬ ‫ثالث سػ ػػنُت باػبرطوـ مرت‬

‫‪-‬‬

‫بدوف مدارس طبق اؼبػ ػراد‬

‫وكيف مدارس اػبرطوـ ترجى‬

‫‪-‬‬

‫ىناؾ ودوهنا خرط القتاد‬

‫نعم ترجى اؼبصانع وىي أجدى‬

‫‪-‬‬

‫لتأييد اؼبقاصػ ػػد واؼببادئ‬

‫عل ػػوـ الشرع قائمة لديه ػ ػ ػ ػ ػم‬

‫‪-‬‬

‫ؼبرغوب اؼبعاش أو اؼبعػاد ‪. 3‬‬

‫ومل يقم رفاعة الطهطاوي يف السوداف بعد وفاة عباس باشا سوى أياـ معدودات‬ ‫غادر فيها اػبرطوـ إىل القاىرة ومل يعد للسوداف أبداً ‪.‬‬

‫ىذا ما كاف عليو التعليم على الصعيد الرظبي أما على الصعيد الشعيب فقد استمرت‬

‫اؼبساجد واػبالوي والعلما ء يف أداء مهامهم التعليمية واستمر الطالب يف ىجرهتم إىل مصر‬ ‫لطلب العلم يف األزىر‪.‬‬

‫‪ 1‬أنظر اؼبرجع السابق نفس الصفحة ‪.‬‬ ‫‪ 2‬أنظر األعماؿ الكاملة لرفاعة رافع الطهطاوي – مرجع سابق ‪،‬ج ‪،1‬ص ‪.462‬‬ ‫‪ 3‬أنظر اؼبرجع السابق ‪،‬ج‪ ،1‬ص ‪.453‬‬ ‫‪312‬‬


‫تفكُّر ‪ ،‬جملد (‪ ،)31‬العدد (‪2013 ، )2-3‬م‪1434/‬هـ‬

‫الرتاث اإلسالمي‬

‫ويالحظ أنو قد ظهرت ألوؿ مرة يف ىذا العهد اجازات علمية لبعض الطالب‬ ‫الذين كانوا يدرسوف دبصر ‪ .‬ومن أقدـ ىذه اإلجازات اؼبؤرخة إجازة الشيخ علي العريب من‬ ‫علماء األزىر ألضبد ابن ؿبمد بن عيسى السناري وولده الشيخ ؿبمد وىي بتاريخ سنة‬ ‫‪1267‬ىػ مع أف ىناؾ بعض االجازات غَت اؼبؤرخة ؽبذين الشيخُت من بعض شيوخ األزىر‬ ‫مثل الشيخ أضبد بن علي بن ضبد اؼبالكي والشيخ أضبد االظباعيلي والشيخ ؿبمد خَت اهلل‬ ‫العدوي اؼبالكي وغَتىم ‪.‬‬ ‫ىذه االجازات العلمية تعكس اؼبستوى العلمي اعبيد الذي وصلو الشيخ أضبد‬ ‫وولده الشيخ ؿبمد الذي أوصلو علمو ألف يصبح أستاذاً باألزىر ‪ .‬والشك أف الشيخ أضبد‬

‫وأبنو مانبا إال مبوذجُت لكثَت من الطالب السودانيُت الذين ىاجروا إىل األزىر لتلقي العلم‬

‫يف تلك الفًتة ‪. 1‬‬

‫التعليم في السودان في عصر محمد سعيد ‪:‬‬

‫كاف ؿبمد سعيد مثل عباس باشا يف عدـ اىتمامو بالتعليم يف مصر والسوداف على‬

‫الرغم من علمو وثقافتو وتأثره حبضارة أوروبا بل قاـ سعيد بقفل اؼبدرسة الوحيدة اليت أنشأىا‬ ‫عباس يف اػبرطوـ واليت اعتربت بداية للتعليم النظامي يف البالد ‪ .‬ولكن استمر اغبكمداريوف‬ ‫يف منح العطايا واؼبكافآت للعلماء واألدباء والطالب األمر الذي شجع اغبركة العلمية‬ ‫ولكنها على كل حاؿ تبقى حركة شعبية غَت مرشدة وال موجهة ‪.‬‬ ‫شهد عصر عباس وسعيد نوعاً جديداً من أنواع التعليم وىو التعليم الكنسي الذي‬

‫كاف لو بالغ األثر على مستقبل البالد ‪.‬ويذكر أف ؿبمد علي باشا كاف قد أصدر أوامره إىل‬ ‫الوالة يف اػبرطوـ بتقدمي كل عوف لالرساليات واعفائها من الضرائب ‪ .‬كما وافق السلطاف‬ ‫العثماين استجابة لرغبة االمرباطور فرانز جوزيف امرباطور النمسا على منح االرساليات‬ ‫‪ 1‬أنظر د‪ .‬عبد العزيز األمُت – قرية كًتانج واثرىا العلمي يف السوداف – دار جامعة اػبرطوـ للًتصبة‬ ‫والتأليف والنشر‪ ،‬الطبعة األوىل ‪1975‬ـ ‪ ،‬ص ‪ 85‬وما بعدىا‪.‬‬ ‫‪313‬‬


‫احلياة الثقافية والعلمية يف السودان (دراسة تارخيية‪).........‬‬

‫د‪.‬خوجلى أمحد صديق‬

‫التبشَتية يف السوداف نفس االمتيازات واالعفاءات اليت منحت للمبشرين النصارى يف سائر‬

‫أرجاء الدولة العثمانية‪ .1‬وىذه االمتيازات كانت قد منحت للدوؿ األوربية يف الدولة‬ ‫العثمانية يف طورىا األخَت أياـ ضعفها وتفككها ‪.‬‬ ‫وقد بدأ نشاط االرسالية الكاثوليكية يف اػبرطوـ ‪1848‬ـ عندما وصل األب لوهبي‬

‫منتوري وفتح مدرسة صغَتة ألبناء اعبالية النصرانية باػبرطوـ مث أنشأ ؽبم كنيسة ومقربة ‪.‬‬ ‫وتواصل ىذا اعبهد بوصوؿ دفعات من اؼببشرين البيض الذين تعرضوا لنكبات‬ ‫اؼبرض واؼبوت يف وسط افريقيا حيث أمر البابا باغالؽ ارسالياهتم يف وسط افريقيا وقرر‬

‫بقاءىم يف اػبرطوـ ‪. 2‬‬

‫وقد كاف القبوؿ ؼبدرسة األب لوهبي منتوري قاصراً على أبناء الكاثوليك اؼبقيمُت يف‬

‫اػبرطوـ وأبناء الرقيق الذين حررهتم اغبكومة ‪ .‬وكاف التالميذ يدرسوف فيها القراءة والكتابة‬

‫واالقبيل‪. 3‬‬

‫وقد كتب األب منتوري إىل فبثل البابا بأنو اعتزـ فتح مدرستُت أحدنبا يف منظقة‬ ‫الشلك باعبنوب والثانية يف شرؽ السوداف على حدود اثيوبيا ‪ .‬وكاف من رأيو أف يعلم‬ ‫ويدرب نفر من ىذه القبائل للمسانبة يف نشر النصرانية يف أفريقيا الوسطى ‪ .‬إال أف األب‬ ‫منتوري غادر الس وداف قبل تنفيذ مشروعو وخلفو يف اإلشراؼ على الكنيسة واؼبدرسة القس‬ ‫سَتاسنت الذي ترؾ رعاية االرسالية واؼبدرسة ‪1855‬ـ‪.4‬‬

‫‪ 1‬أنظر د‪ .‬ؿبمد عمر بشَت – تطور التعليم يف السوداف – مرجع سابق ‪ ،‬ص ‪.49‬‬ ‫‪ 2‬أنظر د‪ .‬حسن مكي ؿبمد أضبد – جزور وابعاد التبشَت اؼبسيحي يف العاصمة اؼبثلثة – اؼبركز اإلسالمي‬ ‫االفريقي باػبرظوـ – شعبة البحث والنشر – كراسة رقم ‪ ، 1‬ص‪. 4‬‬ ‫‪ 3‬أنظر د‪ .‬ؿبمد عمر بشَت – تطور التعليم يف السوداف – مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.55‬‬ ‫‪ 4‬أنظر اؼبرجع السابق نفس الصفحة ‪.‬‬ ‫‪314‬‬


‫تفكُّر ‪ ،‬جملد (‪ ،)31‬العدد (‪2013 ، )2-3‬م‪1434/‬هـ‬

‫الرتاث اإلسالمي‬

‫وتنفيذاً ؼبقًتحات منتوري وافق البابا على إنشاء مركز للفاتيكاف يف افريقيا واصبحت‬

‫اػبرطوـ دبقتضى ىذه اؼبوافقة مركزاً لنشاط االرساليات الكاثوليكية يف السوداف‪ .‬ونتيجة ؽبذه‬ ‫اعبهود افتتحت مدرسة باػبرطوـ التحق فيها أبناء األقباط وأبناء األوربيُت اؼبوجودين باػبرطوـ‬ ‫اضافة إىل أبناء غَت اؼبسلمُت من السودانُت‪ ،‬وكاف يدرس فيها اللغات العربية والفرنسية‬ ‫وااليطالية واغبساب واؼبوسيقى واألعماؿ اليدوية ‪ .‬وقيل أف تالميذ ىذه اؼبدرسة بلغ عددىم‬ ‫يف وقت من األوقات أربعُت تلميذاً جلهم من السودانيُت ‪ .‬وكانت اؼبدرسة ربظى بتأييد‬ ‫سلطات اغبكومة ومل بعًتض عليها األىايل ألنو مل يكن يعنيهم من أمرىا شيئاً إذ مل تفتح‬

‫أبواهبا لقبوؿ أبناء اؼبسلمُت بل اقتصرت على أبناء النصارى ‪.‬‬

‫ىذا وقد أرسل اثناف من تالميذ ىذه اؼبدرسة إىل مالطة ؼبواصلة تعليمهم بينما البرط‬ ‫التالميذ اآلخروف الذين أكملوا تعليمهم يف اؼبدرسة يف سلك العمل اغبكومي ‪ .‬وقد اتسع‬ ‫النشاط التبشَتي يف السوداف حىت مشل اعبنوب حيث أسس مركزاف يف غندكرو يف ‪1855‬ـ‬

‫ويف كاكا ‪1862‬ـ إال أف ىذين اؼبركزين مل يذكر ؽبا نشاط‪. 1‬‬ ‫الحياة العلمية في السودان في عهد الخديوي إسماعيل ‪:‬‬

‫لعل أكرب هنضة تعليمية وثقافية شهدىا السوداف يف العهد الًتكي كانت يف فًتة‬ ‫اػبديوي إظباعيل ويرجع ذلك يف اعتقادي لسببُت ‪:‬‬ ‫‪-1‬‬

‫السبب األوؿ ىو اتصاؿ اظباعيل بأوربا ووقوفو على النهضة ىناؾ وبالتايل ؿباولة‬ ‫جلب ىذه النهضة لبالده وىذا األمر ال يتم إال بنشر التعليم ‪.‬‬

‫‪-2‬‬

‫السبب الثاين ىو حرص إظباعيل الشخصي واىتمامو بالسوداف وترقية سكانو‬ ‫ويظهر ىذا اغبرص يف معظم اؼبراسالت اليت كانت تتم بُت اظباعيل ووالتو يف‬ ‫السوداف ‪.‬‬

‫‪ 1‬أنظر اؼبرجع السابق‪ ،‬ص‪. 51‬‬ ‫‪315‬‬


‫احلياة الثقافية والعلمية يف السودان (دراسة تارخيية‪).........‬‬

‫د‪.‬خوجلى أمحد صديق‬

‫ويبكن أف نشاىد آثار ىذه النهضة التعليمية على اؼبستويُت الرظبي والشعيب ‪.‬‬ ‫أوالً ‪ :‬المستوى الرسمي‬

‫يف العاـ ‪1864‬ـ طلب موسى ضبدي حكمدار السوداف من اػبديو إظباعيل أف‬

‫يوافق على تعليم أ بناء العمد واؼبشايخ القراءة والكتابة وذلك لالستعانة هبم بعد اسباـ‬ ‫دراستهم يف دواوين اغبكومة وكاف إظباعيل قد وافق على فتح مدرسة اػبرطوـ لتعليم أبناء‬

‫السوداف واشًتط أف تضم اؼبدرسة طبسمائة تلميذ‪. 1‬‬

‫كما طلب ىذا اغبكمدار من اػبديو ترتيب راتب شهري مع كمية من الذرة لبعض‬ ‫الزوايا اليت يتلقى فيها الطالب العلم وقد رد اػبديو على طلبو خبطاب يف ‪ 27‬مارس‬ ‫‪ 1864‬ـ وافق فيو على مرتب شهري وذرة للزاوية اليت بناىا الشيخ مصطفى إبراىيم برببر‬ ‫واليت كاف يدرس فيها القرآف والعلوـ الدينية ‪.‬‬ ‫كما وافق اػبديو على منح راتب شهري قدره ‪ 255‬قرشاً وأربعة أرادب ذرة بصفة‬

‫شهرية لكل اؼبساجد الكبَتة خدمة للعلم وختم اػبديو خطابو للحكمدار بقوؿ ‪ ..":‬وحيث‬ ‫إف إنشاء مثل ىذه الزوايا واألعماؿ اػبَتية فبا يستوجب سرورنا نأمر بتوسيع زاوية الشيخ‬

‫مصطفى إبراىيم وذبديد بنائها لتكوف مثاؿ الزوايا األخرى بالسوداف على نفقة اغبكومة"‪.2‬‬

‫وىذا اػبطاب يعترب عندي من أكرب األدلة على حرص إظباعيل على نشر التعليم يف‬ ‫الس وداف ‪ .‬إذ أف اغبكمدار وصاحب الزاوية اؼبذكورة طلبا فقط ‪ 75‬قرش وأردب واحد من‬ ‫الذرة ولكن اػبديو جعل اؼببلغ ‪ 255‬قرش والذرة أربعة أرادب حرصاً وتشجيعاً على نشر‬ ‫العلم ‪.‬‬

‫‪ 1‬أنظر د ‪ .‬السيد يوسف نصر – الوجود اؼبصري يف أفريقيا – مرجع سابق ‪،‬ص ‪.276‬‬ ‫‪ 2‬أنظر د‪ .‬ؿبمد فؤاد شكري اغبكم اؼبصري يف السوداف ‪ ،‬ص‪..355‬‬ ‫‪316‬‬


‫تفكُّر ‪ ،‬جملد (‪ ،)31‬العدد (‪2013 ، )2-3‬م‪1434/‬هـ‬

‫الرتاث اإلسالمي‬

‫وزاد اػبديو من اىتمامو بالتعليم فأمر بفتح طبسة مدارس ابتدائية دفعة واحدة بدالً‬ ‫من مدرسة واحدة تكوف يف اػبرطوـ وذلك بغرض نشر التعليم يف أكرب مساحة فبكنة من‬ ‫البالد السودانية ‪.‬‬ ‫وقد رؤى أف تك وف ىذه اؼبدارس يف مدف اػبرطوـ‪ ،‬بربر‪ ،‬دنقلة‪ ،‬كردفاف والتاكة ‪.‬‬ ‫وقد جاء يف خطاب اظباعيل للحكمدار مايلي ‪ " :‬وحيث إف تأسيس طبس مدارس يف‬ ‫اؼبديريات اؼبذكورة لنشر وتعميم العلوـ واؼبعارؼ واغبضارة على الوجو اؼبشروع موافق لنفس‬ ‫اؼبصلحة‪ ،‬بناءاً عليو بادروا إىل إجراء إجابة واسعة يف تعليم سكاف اعبهات اؼبذكورة وتقدمهم‬

‫بأحسن وجو"‪. 1‬‬

‫ىذا وقد زودت ىذه اؼبذاىب اؼبدارس دبا يلزمها من الكتب واألدوات اؼبكتبية‬ ‫وغَتىا ‪ .‬وقد خصت مدرسة اػبرطوـ خبمسُت كتاباً من كل صنف من أصناؼ الكتب‬ ‫اؼبقررة وزودت اؼبدارس األخرى خبمس وعشرين كتاباً من كل صنف كما زودت ىذه اؼبدارس‬ ‫باؼبدرسُت الالزمُت للتدريس وكاف كل واحد منهم يتقاضى مبلغ شهري قدره ألف قرش‪ ،‬أما‬

‫العماؿ فقد كاف العامل يتقاضى مبلغ طبسة وثالثوف قرشاً‪ .2‬وقد كانت ىذه اؼبدارس ربت‬ ‫اإلشراؼ الفٍت لديواف اؼبدارس دبصر ‪ .‬وتتبع خطط الدراسة اؼبتبعة يف اؼبدارس اؼبصرية وقد‬ ‫اختَت بعض خرهبي ىذه اؼبدارس إلسباـ تعليمهم دبدارس التلغراؼ واؽبندسة والطب والصيدلة‬ ‫واؼبدارس الفنية دبصر‬

‫‪3‬‬

‫‪ .‬وقد بلغ عدد الطالب الذين كانوا يتلقوف تعليمهم يف مدرسة‬

‫اػبرطوـ ‪ 124‬طالباً و‪ 75‬طالباً يف اؼبدارس األخرى‪. 4‬‬

‫‪ 1‬مكي شبيكة – السوداف عرب القروف – دار الثقافة بَتوت ‪ ،‬ص‪.143‬‬ ‫‪ 2‬أنظر د‪ .‬السيد يوسف نصر – الوجود اؼبصري يف افريقيا – مرجع سابق ‪،‬ص‪.276‬‬ ‫‪ 3‬أنظر د‪ .‬شوقي اعبمل – تاريخ سوداف وادي النيل – حضارتو وعالقتو دبصر منذ أقدـ العصور إىل‬ ‫الوقت اغباضر – مكتبة االقبلو اؼبصرية ‪1969‬ـ ج‪، 2‬ص‪.143‬‬ ‫‪ 4‬أنظر د ‪ .‬ؿبمد عمر بشَت – تاريخ التعليم يف السوداف – مرجع سابق ‪،‬ص‪.42‬‬ ‫‪317‬‬


‫احلياة الثقافية والعلمية يف السودان (دراسة تارخيية‪).........‬‬ ‫واؼبناىج اليت تدرس يف ىذ ه اؼبدارس ىي اللغة الًتكية ويف بعضها اللغة الفرنسية‬ ‫والرياضيات واعبغرافيا والتاريخ كما كاف يدرس فيها علماء من األزىر علوـ اللغة العربية‬ ‫والدين كشرح الكفراوي وشرح الشيخ خالد أو شرح األزىرية وشرح ابن عقيل على ألفية ابن‬ ‫مالك ‪ .‬باإلضافة إىل تعليم اػبط‪ ،‬الذي عٍت بو عناية خاصة‪ ،‬حىت أف الطالب ال ينجح إذا‬ ‫رسب فيو ومن ذلك يبكننا أف ندرؾ اؼبستوى الرفيع الذي بلغتو تلك اؼبدارس‪. 1‬‬ ‫وكاف من يتخرج يف ىذه اؼبدارس من الطلبة يستوعب يف الوظائف يف دواوين‬ ‫اغبكومة للمساعدة يف اإلدارة والكتابة ومن أراد منهم أف يواصل تعليمو يلتحق باؼبدرسة‬ ‫التجهيزية يف مصر‪. 2‬‬ ‫وكاف نظاـ الدراسة يف ىذه اؼبدارس ينقسم إىل قسمُت ‪ :‬قسم خارجي وقسم‬ ‫داخلي ‪ .‬وبعد التخرج كاف طالب القسم الداخلي يعينوف يف وظائف كتابية يف السلكُت‬ ‫العسكري واإلداري بينما كاف تالميذ القسم اػبارجي ىبَتوف بُت التوظيف واألعماؿ‬ ‫األخرى‪ .‬وكاف تالميذ ىذه اؼبدارس من أبناء اؼبصريُت اؼبقيمُت بالسوداف ومن أبناء اعبنود‬ ‫واؼبشايخ والعمد ‪. 3‬‬ ‫ىذا وقد كاف حكمدار السوداف جعفر باشا مظهر ؿبباً للعلم واألدب فاجتمع‬ ‫حولو كثَت من العلماء واألدباء الذين كسبوا عطفو وناؽبم حظ من رعايتو واىتمامو ‪ ،‬فخلق‬ ‫ىذا االىتماـ وسطاً أدبياً علمياً يف أيامو وزاد من الصلة الثقافية بُت مصر والسوداف وأخذ‬ ‫أدباء السوداف وشعراؤه يرسلوف أعماؽبم األدبية لنشرىا يف الوقائع اؼبصرية بالقاىرة‪. 4‬‬ ‫وقد كتب ىذا اغبكمدار إىل مصر يطلب اؼبوافقة على إرساؿ بعثات من الطالب‬ ‫د‪.‬خوجلى أمحد صديق‬

‫السودانيُت الذين وبفظوف القرآف وفبن حصلوا على بعض مبادئ الفقو للدراسة يف األزىر‬ ‫‪ 1‬أنظر ؿبمد سليماف – دور األزىر يف السوداف – مرجع سابق ‪،‬ص‪.57‬‬ ‫‪ 2‬أنظر إبراىيم اغباردلو – الرباط الثقايف – مرجع سابق‪ ،‬ص‪.15‬‬ ‫‪ 3‬أظر السيد يوسف نصر – الوجود اؼبصري – مرجع سابق‪ ،‬ص‪.278‬‬ ‫‪ 4‬أنظر إبراىيم اغباردلو – الرباط الثقايف – مرجع سابق‪ ،‬ص‪.15‬‬ ‫‪318‬‬


‫تفكُّر ‪ ،‬جملد (‪ ،)31‬العدد (‪2013 ، )2-3‬م‪1434/‬هـ‬

‫الرتاث اإلسالمي‬

‫الشريف ؼبدة ثالث سنوات يعودوف بعدىا ألىلهم رسل ثقافة دينية سليمة ودعاة دين‬

‫قومي‪.1‬‬

‫وقد وافق اػبديو على طلب اغبكمدار وسبت اؼبخاطبات باؼبوافقة على ذلك‬ ‫وباعتماد الًتتيبات اؼبالية اؼبتعلقة هبا ‪.‬‬ ‫ىذا وقد كانت مدارس السوداف تكلف اغبكومة اؼبصرية الكثَت من األمواؿ فقد‬ ‫بلغت تكاليف مدرسة اػبرطوـ الشهرية ‪ 8346474‬قرشاً وتكاليف مدرسة كردفاف دبا يف‬ ‫ذلك مرتبات اؼبدرسُت ومعيشة التالميذ ‪ 2913472‬قرشاً وتكاليف مدرسة بربر ‪2871‬‬

‫قرشاً وتكاليف مدرسة دنقلة ‪ 128741‬قرشاً كما بلغت تكاليف مدرسة التاكا ‪2911‬‬ ‫قرشاً وبلغت التكلفة اإلصبالية الشهرية ؽبذه اؼبدارس ‪ 29913‬قرشاً تقريباً ‪. 2‬‬

‫كذلك أحدثت اإلدارة اؼبصرية يف السوداف شبكة ػبطوط التلغراؼ بُت اػبرطوـ‬

‫واألبيض وفازوغلي والكوة وبربر وكسال وسواكن وغَتىا من مدف السوداف ‪ .‬وكاف ال بد ؽبذه‬ ‫الشبكة من فنيُت يقوموف بأمرىا وكذلك انشئت مدرستاف يف كل من اػبرطوـ وكسال لتعليم‬ ‫التالميذ من خرهبي اؼبدارس االبتدائية فن التلغراؼ وكاف يشرؼ على ىؤالء التالميذ أحد‬ ‫اؼبهندسُت ووكيل تلغراؼ كل جهة وبعد أف ينهي ىؤالء التالميذ تدريباهتم يف تعلم فن‬ ‫ال تلغراؼ ينقسموف إىل ثالث فئات حسب مستواىم العلمي ‪ .‬وإىل جانب تعلمهم فن‬ ‫التلغراؼ تعلم البعض منهم فن اؽبندسة واغبساب فكانوا يلحقوف أيضاً بًتسانة اػبرطوـ‬ ‫البحرية وكانوا يبكثوف هبا عدة شهور وبعدىا يوزعوف للعمل على السفن اليت تعمل يف النيل‬

‫والبحر األضبر ‪. 3‬‬

‫‪ 1‬أنظر ؿبمد سليماف – دور األزىر – مرجع سابق ‪،‬ص‪.65‬‬ ‫‪ 2‬أنظر السيد يوسف نصر – الوجود اؼبصري – مرجع سابق ‪،‬ص‪.279‬‬ ‫‪ 3‬أنظر نفس اؼبرجع السابق والصفحة‪.‬‬ ‫‪319‬‬


‫احلياة الثقافية والعلمية يف السودان (دراسة تارخيية‪).........‬‬

‫د‪.‬خوجلى أمحد صديق‬

‫ىذا وقد أنشا ؿبافظ سواكن والبحر األضبر مدرسة إبتدائية يف سواكن للمحررين من‬ ‫العبيد بسبب عدـ انصهارىم يف اجملتمع وعدـ تقبل اجملتمع يف ذلك الوقت الندماجهم‬

‫فيو‪.1‬‬

‫إضافة إىل ىذه اؼبدارس فقد طلب حكمدار السوداف من أحد األطباء الذين‬ ‫يعملوف دبستشفى اػبرطوـ أف يقوـ بتعليم عدداً من التالميذ من خرهبي اؼبدارس االبتدائية‬ ‫مهنة الطب وقد أبدى ىذا الطبيب استعداده للقياـ هبذه اؼبهمة ولكن ؼبا عرض ىذا األمر‬ ‫على اػبديو اظباعيل رفض ذلك حبجة أف مهنة الطب ربتاج إىل وقت طويل يف التعليم ووعد‬

‫بأنو سوؼ يرسل أطباء من مصر للعمل بالسوداف‪. 2‬‬

‫ويذكر الدكتور شوقي اعبمل أنو قد أنشئت بعض اؼبدارس لتدريب السودانيُت على‬ ‫الصناعات الصغَتة اؼبختلفة وبعض ىذه اؼبدارس كانت تعلم الصبية يف الصباح بينما يؤمها‬ ‫الكبار يف الليل لدراسة القرآف الكرمي ‪ .‬كما أضاؼ أف حكمدار السوداف عندما شعر‬ ‫باغباجة إىل ميكانيكيُت إلدارة اؼباكينات اػباصة دبحاًف القطن أرسل عدداً من الشباب‬ ‫السودانيُت إىل مصر لتعلم الصناعات اؼبيكانيكية ‪.3‬‬ ‫ىذا وقد وضع مشروع لفتح مدرسة صناعية يف جنوب السوداف ليستفيد منها‬ ‫األىايل يف تعليم أبنائهم تعليماً مهنياً فضالً عن تعليمهم اللغة العربية والدين اإلسالمي‪.‬‬

‫كما وضع مشروع متكامل لفتح مركز لتطوير اجملتمع يف أدفو بالقرب من القاىرة‬

‫ليلتحق بو حوايل مائة وعشرين طالباً سودانياً على أف تًتاوح أعمارىم من اثنيت عشر سنة إىل‬

‫طبسة عشر سنة على أف يقبل مائيت طالب كل عاـ ‪ .‬وأف يسكن الطالب يف مشروع زراعي‬

‫وأف يتلقوا تعليماً أولياً وتدريباً عملياً يف الزراعة ‪ .‬وكاف اؼبشروع يتضمن دراسة مبسطة‬ ‫‪ 1‬أنظر د‪ .‬ؿبمد عمر بشَت – تطور التعليم يف السوداف – مرجع سابق ‪،‬ص‪.45‬‬ ‫‪ 2‬أنظر السيد يوسف نصر – الوجود اؼبصري – مرجع سابق ‪ ،‬ص‪.279‬‬ ‫‪ 3‬أنظر د‪ .‬شوقي اعبمل – تاريخ سوداف وادي النيل – مرجع سابق‪ ،‬ص‪.143‬‬ ‫‪31:‬‬


‫تفكُّر ‪ ،‬جملد (‪ ،)31‬العدد (‪2013 ، )2-3‬م‪1434/‬هـ‬

‫الرتاث اإلسالمي‬

‫لالقتصاد والتدبَت اؼبنزيل وتربية األطفاؿ ‪ .‬وكاف يهدؼ أساساً ؼبد السوداف دبزارعُت متعلمُت‬

‫ذوي خربة‪ ،‬إال أف ىذه اؼبشروعات مل تر النور ‪. 1‬‬

‫كذلك تشَت بعض اؼبراجع إىل أف بعض التالميذ الذين ذىبوا إىل مصر قد التحقوا‬ ‫دبدرسة اؼببتدياف وذلك ليتعلموا العلوـ الزراعية وبعض العلوـ األخرى وكاف بعض الذين‬ ‫التحقوا دبدرسة اؼببتدياف من كبار السن والبعض اآلخر من صغار السن ويبدو أف كبار السن‬ ‫كاف ال يتقدموف يف دراستهم‪ ،‬وؼبا علم اػبديو إظباعيل بعدـ تقدمهم يف الدراسة قرر أف‬ ‫ينهي دراستهم وأف يلحق اقوياء البنية منهم باعبيش‪ ،‬أما ضعاؼ البنية فيلحقوف باغبرؼ‬

‫والصناعات األخرى‪. 2‬‬

‫أشرت سابقاً إىل اف اغبكومة اؼبصرية ظبحت للبعثات التبشَتية دبمارسة نشاطها يف‬

‫السوداف كما أف اغبكومات األوربية حصلت على اذف بذلك من السلطاف العثماين باعتبار‬ ‫أف السوداف جزء من األراضي العثمانية وبالتايل وبق لألوربيُت التمتع باغبقوؽ واالمتيازات‬ ‫اليت اعطتها ؽبم الدولة العثمانية يف أياـ ضعفها‪ ،‬وقد أشرنا للدور التعليمي ؽبذه البعثات ‪.‬‬ ‫ولقد ساعد اغبكاـ األجانب الذين عملوا يف السوداف ىذه البعثات يف مهامها‬ ‫خاصة غردوف باشا الذي كتب يف ‪1871‬ـ جمللس الكنيسة االسقفية يف اقبلًتا داعياً اياىا‬ ‫للقياـ بنشاط تبشَتي يف اؼبناطق االستوائية ‪. 3‬‬ ‫وكاف من أكرب اؼببشرين يف تلك الفًتة يف السوداف األب دانياؿ كمبوين الذي عمل‬ ‫يف السوداف منذ العاـ ‪1857‬ـ وكاف يرى أف اعتناؽ االفارقة للمسيحية ال يتم إال بقسس‬ ‫من بٍت جلدهتم يتعلموف تعليماً خاصاً ‪ .‬وقد نشر ىذا الرأي يف كتيب صغَت ‪1864‬ـ ويف‬ ‫عاـ ‪ 1867‬ـ أسس معهدين للتبشَت اؼبسيحي يف ايطاليا وكاف أوؽبما معهد مالذ السود‬ ‫‪ 1‬أنظر ؿبمد عمر بشَت – تطور التعليم يف السوداف – مرجع سابق‪ ،‬ص‪.46-45‬‬ ‫‪ 2‬أنظر السيد يوسف نصر – الوجود اؼبصري يف افريقيا – مرجع سابق‪ ،‬ص‪.285‬‬ ‫‪ 3‬أنظر ؿبمد عمر بشَت – تطور التعليم يف السوداف – مرجع سابق‪ ،‬ص‪.53‬‬ ‫‪321‬‬


‫احلياة الثقافية والعلمية يف السودان (دراسة تارخيية‪).........‬‬ ‫يقوـ بتعليم وتدريب القسس للتبشَت يف افريقيا وثانيهما ىو معهد األمهات الصاغبات‬ ‫لتدريب الراىبات لنفس الغرض كما أسس دانياؿ كمبوين معهدين آخرين لنفس الغرض يف‬ ‫القاىرة‪. 1‬‬ ‫وقد أرسل األب كمبوين ثالثة سودانيُت من اعبنوب إىل ايطاليا كما أرسل شبانية‬ ‫عشر امرأة إىل معاىد القاىرة لتلقي التدريب ىناؾ ‪ .‬كما أنشأ األب كمبوين مركزاً تبشَتياً‬ ‫باعبنوب وفتح مدرسة مهنية باألبيض وقد بلغ عدد طالهبا يف ‪1876‬ـ أكثر من مائة‬ ‫وطبسُت طالباً درسوا ـبتلف اؼبهن ويف ‪1881‬ـ أعدت مزرعة كبَتة يف جنوب األبيض‬ ‫كانت تعيش فيها حوايل ثالشبائة أسرة وكاف افرادىا يدربوف على األعماؿ الزراعية ‪.‬‬ ‫كذلك أسست مدرستاف تبشَتيتاف يف بربر وسواكن ‪ .‬كما بلغ عدد طالب مدرسة‬ ‫اػبرطوـ الكاثوليكية يف سنة ‪1877‬ـ مئتاف من البنات ومن الطالب ثالشبائة معظمهم من‬ ‫السودانيُت ‪.‬‬ ‫ونتيجة للنجاح اؼبلحوظ الذي حققو دانياؿ كمبوين فقد طلب منو غردوف أف يعيد‬ ‫د‪.‬خوجلى أمحد صديق‬

‫إنشاء وتنظيم التعليم التبشَتي يف جنوب السوداف‪. 2‬‬

‫إال أنو هبب أف نذكر يف ىذا اؼبقاـ أف قدراً من اللغة العربية والتعليم اإلسالمي قد‬

‫انتشرت يف اعبنوب يف ىذه الفًتة بسبب امتداد اإلدارة اؼبصرية إىل ىناؾ ‪.‬‬

‫وبسبب نشاط التجار الشماليُت كالزبَت باشا وغَته ويف ىذا الصدد يقوؿ حسن‬ ‫مكي ‪ " :‬وما يهم أف جهود الزبَت أدت إىل استتباب األمن وازدىار التجارة فبا أدى بدوره‬ ‫إىل تقوية انتشار اإلسالـ واللغة العربية ‪ .‬كما لعب اجملندوف اعبنوبيوف يف جيش الزبَت باشا‬ ‫دوراً بارزاً يف نشر اللغة العربية‪ ،‬ألف والء ىؤالء ظل يتنقل عرب اغبكاـ واؼبغامرين بعد إبعاد‬

‫‪ 1‬نفس اؼبرجع‪ ،‬ص‪.54‬‬ ‫‪ 2‬أنظر نفس اؼبرجع والصفحة ‪.‬‬ ‫‪322‬‬


‫تفكُّر ‪ ،‬جملد (‪ ،)31‬العدد (‪2013 ، )2-3‬م‪1434/‬هـ‬

‫الرتاث اإلسالمي‬

‫ال زبَت فعملوا مع غردوف وأمُت باشا وجسي‪ ،‬وعدد ىؤالء ليس بقليل إذ يف اعبيش اإلسالمي‬

‫الذي كونو الزبَت بلغ عدد اعبنوبيُت أثنا عشر ألف عسكري"‪. 1‬‬

‫إال أنو يعلق على دخوؿ اإلسالـ واللغة العربية إىل اعبنوب بقولو ‪ ":‬وىكذا نرى أف‬ ‫دخوؿ اإلسالـ والعربية يف جنوب السوداف حدث اباف اكبطاط الدولة اإلسالمية وضعف‬ ‫كياهنا إذ انفتح اعبنوب على العامل اإلسالمي يف القرف التاسع عشر فيما كانت اػبالفة‬ ‫العثمانية تتهاوى أماـ ضربات األوربيُت كما أف االسالـ الرظبي الذي دخل السوداف امبا كاف‬ ‫اسالـ العلمانيُت الذي يقوـ على فصل الدين عن الدولة‪ ،‬ويعد ؿبمد علي أوؿ ابطالو يف‬ ‫العصر اغبديث‪ ،‬كما أف فبثلي الدولة الًتكية يف جنوب السوداف جلهم من اؼبسيحيُت لذا‬ ‫فإف االسالـ الذي دخل إىل اعبنوب امبا جاء نتيجة للجهد الشعيب واالتصاؿ اغبضاري‬

‫العفوي‪. 2‬‬

‫وظيفة االفتاء ودورىا في نشر العلم الشرعي‪-:‬‬

‫معلوـ أف جيش ؿبمد علي عندما جاء إىل السوداف جاء بصحبتو ثالثة من العلماء‬

‫يبثلوف اؼبذاىب الفقهية اؼبشهورة وكانوا يقوموف بوظيفة الفتيا وتفقيو الناس ‪ .‬وبعد ذلك مت‬ ‫تعيُت مفيت عاـ للسوداف يف اػبرطوـ كما مت كذلك تعيُت مفتيُت يف اؼبديريات وقد قاـ ىؤالء‬ ‫اؼبفتوف بدور كبَت يف نشر العلم الشرعي االسالمي واللغة واألدب حيث كاف اتصاؽبم بالناس‬ ‫مباشراً ويشَت كثَت من الباحثُت إىل ازدىار اللغة العربية وعلومها يف ىذه الفًتة وذلك نتيجة‬

‫لوجود اؼبدارس اليت اكسبت العقوؿ ثقافة ونضجاً انعكس على شعر الشعراء ومن ذلك‬ ‫القصائد اليت قيلت يف مدح ؿبمد رؤوؼ حكمدار السوداف واليت قيلت دبناسبة االحتفاؿ‬

‫‪ 1‬د‪ .‬حسن مكي ؿبمد أضبد – السياسة التعليمية والثقافة العربية يف جنوب السوداف – اؼبركز اإلسالمي‬ ‫األفريقي باػبرطوـ شعبة البحوث والنشر ‪1983‬ـ ‪ ،‬ص‪.15‬‬ ‫‪ 2‬اؼبرجع السابق ‪ ،‬ص‪.16‬‬ ‫‪323‬‬


‫احلياة الثقافية والعلمية يف السودان (دراسة تارخيية‪).........‬‬

‫د‪.‬خوجلى أمحد صديق‬

‫بامتحانات مدرسة اػبرطوـ يف ‪ 18‬من شعباف ‪1297‬ىػ اؼبوافق ‪1885‬ـ ‪ .‬وكاف اغبكمدار‬

‫قد حضر ذلك االحتفاؿ وألقيت تلك القصائد من قبل الطالب واؼبدرسُت ‪. 1‬‬

‫وقد سبقت اإلشارة إىل اىتماـ اغبكمدار جعفر باشا مظهر بالعلم واألدب‬ ‫والتفاؼ العلماء واألدباء حولو وتشجيعو ؽبم من حيث اهنم اصبحوا يرسلوف انتاجهم لينشر‬ ‫يف الصحف اؼبصرية ‪.‬‬

‫ثانياً ‪ :‬المستوى الشعبي ‪-:‬‬

‫أما على اؼبستوى الشعيب فقد استمر الطالب يف ىجرهتم إىل أرض الكنانة للتزود‬

‫بالعلم وبعد عودهتم إىل ديارىم يقوموف بنشره بُت األىايل ‪ .‬ومن أمثلة ىؤالء الشيخ أضبد‬ ‫األزىري الذي ذىب إىل مصر وقضى هبا فًتة طويلة وأصبح من أساتذة األزىر مث رجع إىل‬

‫بالده حيث قصده الطالب من أماكن بعيدة‪.2‬‬

‫كما استمرت اؼبساجد يف أداء رسالتها من ربفيظ للقرآف ونشر لعلوـ الشريعة ‪.‬‬ ‫ومن اؼبسا جد اليت عمرت يف ىذه الفًتة مسجد اػبرطوـ‪ ،‬اعبامع الشريف بدنقلة‪ ،‬اعبامع‬ ‫العتيق باأل بيض‪ ،‬مسجد سنار‪ ،‬مسجد قرية عبود باعبزيرة‪ ،‬مسجد اؼبسلمية‪ ،‬مسجد مروي‪،‬‬ ‫مسجد طوكر واؼبساجد اليت بنيت يف سواكن وغَتىا ‪. 3‬‬

‫وهبذه اؼبناسبة نذكر أف فبتاز باشا عندما كاف حكمداراً على السوداف أوقف صرؼ‬

‫اؼبكافآت اليت كانت تعطى للعلماء حبجة ضبط اؼبيزانية مث أعيد صرؼ ىذه اؼبكافآت‬ ‫واالعانات إال أف غردوف باشا قد أوقف صرفها بعد تعيينو حكمداراً عاماً على السوداف ‪.‬‬

‫ىذا ما كاف عليو أمر اغبياة العلمية يف السوداف يف العهد الًتكي‪ ،‬والباحث اؼبنصف‬

‫يلمس هنضة وتطوراً يف ؾباؿ التعليم يف ىذه الفًتة ‪ .‬وقد أشاد هبذه النهضة عدد من الكتاب‬ ‫‪ 1‬أنظر د ‪ .‬عز الدين األمُت – تراث الشعر السوداين – مرجع ‪ ،‬سابق ص‪.48‬‬ ‫‪ 2‬أنظر حسن سيد أضبد اؼبفيت – تطور نظاـ القضاء يف السوداف – أمدرماف ‪1958‬ـ ‪ ،‬ص‪.152‬‬ ‫‪ 3‬أنظر د‪ .‬شوقي اعبمل – تاريخ سوداف وادي النيل – مرجع سابق ج‪ ، 2‬ص‪.145‬‬ ‫‪324‬‬


‫تفكُّر ‪ ،‬جملد (‪ ،)31‬العدد (‪2013 ، )2-3‬م‪1434/‬هـ‬

‫الرتاث اإلسالمي‬

‫السودانيُت منهم ؿبمد أضبد اعبابري يف كتابو يف شأف اهلل أو تاريخ السوداف كما يرويو أىلو‬ ‫حيث يقوؿ ومل تقتصر هنضة السوداف على النواحي االقتصادية واالجتماعية فحسب بل‬ ‫سجلت ىذه النهضة الناحية الفكرية فكاف عهد الًتكية السابقة فتحاً جديداً يف تاريخ الفكر‬

‫السوداين إذ استيقظ الفكر السوداين يف ذلك الوقت من سباتو فتحرر من كابوس اػبياالت‬ ‫األوىل اليت تشبو ىذياف اؼبرض وأوىاـ االطفاؿ ونفض عن نفسو ما كاف يساوره من فزع‬

‫وىلع ازاء مشاىد الطبيعة وأحداثها ‪.‬‬ ‫"فبفضل انتشار التعليم وانشاء اؼبدارس ودراسة العلوـ الفقهية والرياضية وبفضل‬ ‫تعيُت األىايل يف وظائف اغبكومة اإلدارية وبفضل ارساؿ البعثات للخارج صارت تتسابق‬ ‫الناس إىل دور التعليم واالنتساب إىل العلماء والفقهاء "‪. 1‬‬

‫وفبن أشاد هبذا اعبهد من الكتاب اؼبصريُت الدكتور شوقي اعبمل إال أنو أخذ عليو‬ ‫بعض اؼبآخذ منها أف ىذا التعليم مل يكن سائراً على خطة معلومة كما أف ىذا التعليم مل‬ ‫يتصف بالصفة الدينية ‪. 2‬‬

‫‪ 1‬ؿبمد أضبد اعبابري – يف شأف اهلل أو تاريخ السوداف كما يرويو أىلو – دار الفكر العريب – القاىرة‬ ‫‪1947‬ـ ‪ ،‬ص‪.39-38‬‬ ‫‪ 2‬أنظر د‪ .‬شوقي اعبمل – تاريخ سوداف وادي النيل – مرجع سابق ج‪ ، 2‬ص‪.146‬‬ ‫‪325‬‬


‫احلياة الثقافية والعلمية يف السودان (دراسة تارخيية‪).........‬‬ ‫الخاتمة‬ ‫يبكن يل من خالؿ ىذا االستعراض ؼبسَتة اغبياة العلمية أف اسجل اؼبالحظات التالية ‪-:‬‬ ‫‪ -1‬إف التعليم خالؿ ىذه الفًتة شهد هنضة كبَتة على اؼبستويُت الرظبي والشعيب ويف‬ ‫صبيع اجملاالت تقريباً قياساً على ما كاف عليو قبل ىذه الفًتة ‪.‬‬ ‫ىذه النهضة التعليمية والتوسع يف افتتاح اؼبدارس مل توضع ؽبا سياسة واضحة‬ ‫‪-2‬‬ ‫ربكم مسارىا وربدد أىدافها مثلما كاف يف مصر وامبا كاف األمر مًتوكاً ؼببادرات‬ ‫اغبكاـ وتوجهاهتم ‪.‬‬ ‫‪ -3‬كانت ىذه الفًتة بداية الفصاـ يف السياسة التعليمية واليت استمرت إىل اليوـ حيث‬ ‫جعلت مؤسسات التعليم اؼبدين موازية ؼبؤسسات التعليم الديٍت وكانت ىذه التجربة‬ ‫منقولة من التجربة اؼبصرية‪ ،‬ومن اآلثار السيئة ؽبذه التجربة ظهور العلمانية يف ؾباؿ‬ ‫التعليم اليت ما يزاؿ التعليم يف السوداف يعاين منها ‪ .‬ولو قامت اإلدارة اؼبصرية يف‬ ‫السوداف بتوحيد التعليم اؼبدين والشرعي لكاف السوداف يف غٌت عن اؼبشكالت اليت‬ ‫يعاين منها اليوـ ‪ ،‬ولكن الذي حدث ىو أف اؼبدارس اؼبدنية – مثلما ىو يف مصر‬ ‫زبرج أجياالً الصلو ؽبا بالدين اال نادراً وأف اؼبعاىد واؼبدارس الدينية زبرج أجياالً تفتقر‬ ‫اىل العلوـ العصرية فبا أحدث ثنائية سيئة يف بيئة اجملتمع الواحد ‪.‬‬ ‫‪ -4‬ظبحت الدولة للمؤسسات التبشَتية بإنشاء تعليم كنسي كاف لو أثر سليب على أبناء‬ ‫اؼبسلمُت‪.‬كما اف ىذه اؼبؤسسات البشَتية ظلت تنفث ظبومها ضد االسالـ وحضارتو‬ ‫عرب مدارسها ومؤسساهتا التعليمية ‪.‬كما أوجدت ىذه اؼبؤسسات شروبة من اؼبتعلمُت‬ ‫غربية الوالء أحدثت شرخاً واسعاً يف اجملتمع السوداين اؼبسلم ‪ .‬وىذه الطريقة السيئة‬ ‫الىت اختطتها االدارة اؼبصرية بالسماح للمؤسسات التبشرية بإنشاء تعليم خاص هبا ما‬ ‫تزاؿ قائمة اىل اليوـ ‪ .‬وىذه اؼبؤسسات التعليمية الكنسية ال زبضع يف الغالب لنظاـ‬ ‫التعليم يف الدولو وبعد أف كانت يف اؼباضي قاصرة على أبناء النصارى أصبح يدرس‬ ‫هبا اليوـ قطاع كبَت من أبناء اؼبسلمُت‪ .‬فبا هبدر ذكره أف صبيع اؼبؤسسات التعليمية‬ ‫الىت أ نشئت خالؿ العهد الًتكي قد توقفت اباف فًتة اؼبهدية اال أف بعضها استانف‬ ‫نشاطو بعد ذلك ‪.‬‬ ‫د‪.‬خوجلى أمحد صديق‬

‫‪326‬‬


‫تفكُّر ‪ ،‬جملد (‪ ،)31‬العدد (‪2013 ، )2-3‬م‪1434/‬هـ‬

‫الرتاث اإلسالمي‬

‫المراجع‬

‫(‪)1‬‬

‫إبراىيم الحاردلو – الرباط الثقايف بُت مصر والسوداف – دار جامعة اػبرطوـ‬

‫(‪)2‬‬

‫أحمدبن الحاج أبو علي – ـبطوطة كاتب الشونة من تاريخ السلطنة السنارية‬

‫للًتصبة والنشر والتأليف ‪1977‬ـ ‪.‬‬

‫واالدارة اؼبصرية – ربقيق الشاطر بصيلي عبد اعبليل – دار احياء الكتب العربية‬ ‫‪1961‬ـ‪.‬‬

‫(‪)3‬‬

‫أحمد عزت عبد الكريم تاريخ التعليم يف عصر ؿبمد علي مكتبة النهضة اؼبصرية‬

‫(‪)4‬‬

‫حسن أحمد إبراىيم– رحلة ؿبمد علي باشا إىل السوداف ‪-1838‬‬

‫‪1938‬ـ ‪.‬‬

‫‪،1839‬كراسة رقم ‪ –15‬معهد الدراسات االفريقية واآلسيوية – جامعة اػبرطوـ‬ ‫‪.1985‬‬ ‫(‪)5‬‬ ‫(‪)6‬‬

‫حسن سيد أحمد المفتي– تطور نظاـ القضاء يف السوداف– أمدرماف ‪1958‬ـ ‪.‬‬

‫حسن مكي محمد أحمد – السياسة التعليمية والثقافة العربية يف جنوب السوداف‬ ‫– اؼبركز اإلسالمي األفريقي باػبرطوـ شعبة البحوث والنشر ‪1983‬ـ‪.‬‬

‫(‪)7‬‬

‫حسن مكي محمد أحمد – جذور وابعاد التبشَت اؼبسيحي يف العاصمة اؼبثلثة –‬

‫(‪)8‬‬

‫رفاعة رافع الطهطاوي – األعماؿ الكاملة‪ ،‬ربقيق د ‪ .‬ؿبمد عمارة – اؼبؤسسة‬

‫(‪)9‬‬

‫السيد يوسف نصر – الوجود اؼبصري يف افريقيا يف الفًتة من ‪– 1825‬‬

‫اؼبركز اإلسالمي االفريقي باػبرطوـ – شعبة البحث والنشر – كراسة رقم ‪. 1‬‬ ‫العربية للدراسات والنشر بَتوت ‪1973‬ـ ج ‪.1‬‬

‫‪1899‬ـ‪ .‬دار اؼبعارؼ – الطبعة األوىل ‪1981‬ـ ‪.‬‬

‫(‪ )15‬شوقي الجمل – تاريخ سوداف وادي النيل – حضارتو وعالقتو دبصر منذ أقدـ‬ ‫العصور إىل الوقت اغباضر – مكتبة االقبلو اؼبصرية ‪1969‬ـ ج‪.2‬‬ ‫‪327‬‬


‫احلياة الثقافية والعلمية يف السودان (دراسة تارخيية‪).........‬‬

‫د‪.‬خوجلى أمحد صديق‬

‫(‪ )11‬صالح الدين المليك – شعراء الوطنية يف السوداف – دار التأليف والًتصبة والنشر‬ ‫_ جامعة اػبرطوـ ‪1975‬ـ‪.‬‬

‫(‪ )12‬عبد العزيز أمين عبد المجيد – تاريخ الًتبية يف السوداف – اؼبطبعة األمَتية‬ ‫بالقاىرة ‪1949‬ـ ‪.‬‬

‫(‪ )13‬عبد المجيد عابدين – تاريخ الثقافة العربيو يف السوداف منذ نشأهتا ايل العصر‬ ‫اغبديث – دار الثقافة للطباعة والنشر ‪ ،‬بدوف تاريخ ‪.‬‬

‫(‪ )14‬عز الدين األمين – تراث الشعر السوداين – معهد البحوث والدراسات العربية –‬ ‫القاىرة ‪1969‬ـ‪.‬‬

‫(‪ )15‬عز الدين األمين – قرية كًتانج وأثرىا العلمي يف السوداف – دار جامعة اػبرطوـ‬ ‫للًتصبة والتأليف والنشر الطبعة األوىل ‪1975‬ـ‪.‬‬

‫(‪ )16‬عبد الرحمن الرافعي – عصر ؿبمد علي مكتبة النهضة اؼبصرية ‪1956‬ـ ‪.‬‬

‫(‪ )17‬محمد إبراىيم أبو سليم – تاريخ اػبرطوـ – دار اعبيل بَتوت – الطبعة الثانية‬ ‫‪1979‬ـ‪.‬‬

‫(‪ )18‬محمد إبراىيم أبو سليم – دور العلماء يف نشر اإلسالـ يف السوداف ‪ ..‬اؼبنشور يف‬

‫اجملموعة األوىل من احباث معامل تاريخ السوداف – دار الفكر للطباعة والنشر –‬

‫بدوف تاريخ ‪.‬‬

‫(‪ )19‬محمد أحمد الجابري – يف شأف اهلل أو تاريخ السوداف كما يرويو أىلو – دار‬ ‫الفكر العريب – القاىرة ‪1947‬ـ‪.‬‬

‫(‪ )25‬محمد النور ضيف اهلل – كتاب الطبقات يف خصوص األولياء والصاغبُت والعلماء‬ ‫والشعراء فسي السوداف – ربقيق وتعليق الدكتور يوسف فضل – الطبعة الثالثة‬ ‫‪ – 1985‬دار التأليف والًتصبة والنشر جامعة اػبرطوـ‪.‬‬

‫‪328‬‬


‫تفكُّر ‪ ،‬جملد (‪ ،)31‬العدد (‪2013 ، )2-3‬م‪1434/‬هـ‬

‫الرتاث اإلسالمي‬

‫(‪ )21‬محمد عمر بشير – تطور التعليم يف السوداف ‪1956 -1898‬ـ ترصبة ىنري‬ ‫رياض وآخرين – دار الثقافة بَتوت ‪. 1975‬‬

‫(‪ )22‬محمد فؤاد شكري – صفحة من تاريخ السوداف اغبديث – ؾبلة كلية اآلداب‬ ‫جامعة القاىرة العدد الثامن من اجمللد الثاين‪ ،‬ديسمرب ‪1946‬ـ ‪.‬‬

‫(‪ )23‬محمد فوزي مصطفى عبد الرحمن – الثقافة العربية وأثرىا يف سباسك الوحدة‬ ‫القومية يف السوداف اؼبعاصر – الدار السودانية ‪1972‬ـ ‪.‬‬

‫(‪ )24‬نعوم شقير – تاريخ السوداف – ربقيق ؿبمد إبراىيم أبو سليم دار اعبيل – بَتوت‬ ‫‪1981‬ـ ‪.‬‬

‫(‪ )25‬يوسف خليل يوسف – القومية العربية ودور التًتيك يف ربقيقها – الدار القومية‬ ‫للطباعة والنشر القاىرة ‪1966‬ـ‪.‬‬

‫‪329‬‬


Submission Guidlines "Tafakkur" is a refereed biannual journal issued by the Institute for Islamization of knowledge (IMAM), Gezira University, Sudan. The main focus of the journal is on issues concerning Islamization of knowledge, both theoretical and empirical. Contributors are kindly requested to take note of the following points when submitting their manuscripts: 1. The submitted paper should focus on issues of Islamization of knowledge. 2. The paper should at least contribute to a better understanding of its subject matter. 3. The research methodology and style should suit the modern reader. 4. Whenever verses from the Holy Qur’an are quoted, reference should be made to their chapters and numbers. Sayings from Sunnah should be authenticated. 5. Detailed mathematical derivations should be supplied separately and will not be published. 6. References should be listed at the end of the paper. References in English should be written in the standard format, e.g, for essays: Biraima, M. H., (1999): "Social Reality."Tafakkur, Vol. 1, No. 1, Sudan, And for books: Biraima, M.H., (1999): A Quranic View..., (International Centre for Faith Studies), Sudan. References in Arabic should be written as shown in the Arabic section. 7. All manuscripts should be submitted in a typewritten copy plus an electronic copy (MS Word format). 8. The manuscript should not exceed 35 typewritten pages (A4 size), with a separately supplied abstract of no more than 200 words. 9. Papers submitted publication should be original, and are not expected to have been submitted for publication elsewhere. 10. The author's name his postal and electronic address as well as his phone and fax numbers should be supplied separately from the text of the paper. 11. The paper would be subjected to a double blind refereeing. 12. The editorial board reserves the right to make nonsubstantial changes in the paper, as well as not returning the original manuscripts to their authors. 13. Authors of accepted refereed papers will be paid a financial reward.

B


 Editorial Board Chairperson Dr. Dr .Mohammed Babiker EL-Awad

Editor-in-Chief Prof. Abdalla Mohammed.AL.Amin

Editing Secretary Eltyb Mukhtar Members * Prof. Gamal AL- Shareef * Prof. Mohammed Alhasan Salih * Dr. Mohammed Awad –ALKareem

*Dr. Hamad.El Neel M.O.A.S

* Dr. Zahir Abo Obida .A.A *Dr. Mohammed Hamed Mohammed Ahmed * Dr . Gasim Omer Abu Elkhair

Correspondence Editor- in – Chief: IMAM, P.O. Box 526, Wad Medani, Sudan. Fax: 00249-511/ 843399- 820428 Tel: 00249 / 0120880278- 0120881390- 0120887135 E-mail : tafakkur2009@gmail. com

A


Issuu converts static files into: digital portfolios, online yearbooks, online catalogs, digital photo albums and more. Sign up and create your flipbook.