ليبيا الثورة وتحديات بناء الدولة

Page 1

‫د‪ .‬يوسف محمد الصواني‬ ‫أستاذ السياسة والعلاقات الدوليةن جامعة طرابلس‪ ،‬ليبيا‬ ‫ليبيا‪ :‬الثورة وتحديات بناء الدولة‬ ‫نالت ليبيا استقللها في ‪ 24‬كانون الول‪ /‬ديسمبر ‪ 1951‬عن طريق هيئة المم المتحدة وبقرار من‬ ‫جمعيتها العامة في سابقة هي الولى من نوعها بعد نهاية الحرب العالمية الثانية وقبل بدء عمليات تصفية‬ ‫الستعمار في إفريقيا وآسيا‪ 1.‬عاشت البلد تحت قيادة الملك إدريس السنوسي الذي تميز عهده بانطلق البدايات‬ ‫الحقيقية لتأسيس الدولة الحديثة وتمكنت من تحقيق إنجازات حقيقية في مجالت التنمية التي حددتها خطتأن‬ ‫خمسيتان رئيسيتان للتنمية ما بين ‪ 1974-1963‬فساهمت المشروعات المنبثقة عنهما في رفع معدلت وأداء‬ ‫القتصاد الوطني‪ ،‬ومساهمة القطاعات المختلفة وفي زيادة الناتج المحلى الجمالي عامة والنفطي خاصة‪ .‬لقد‬ ‫تركزت اهتمامات المشروعات التنموية‪ ،‬التي نفذ ما تبقى منها خلل العهد الجمهوري‪ ،‬على البنى الساسية‬ ‫للقتصاد الليبي وبزيادة رأس المال الجتماعي والتنمية البشرية ‪ ،‬وهو ما ساهم خلل سنوات قليلة في رفع‬ ‫مستويات المعيشة بشكل عام وتحسن مؤشرات التنمية على كل المستويات‪.‬‬

‫‪2‬‬

‫النفط والفساد وال ننقل ب على الملكية‬ ‫تتتم اكتشتتاف النفتتط فتتي ليبيتتا وبتدأ تصتتديره بكميتتات تجاري ة إعتبتتا ار متتن ‪ ، 1963‬وه و العتتام التتذي تتتم فيتته‬ ‫التخلي عن النظام التحادي لتعتود ليبيتا دولة موحدة بستيطة ‪ ،‬مستتفيدة متن العوائتد الماليتة لتصتدير النفتط ولتنطلتق‬ ‫عمليات تنمية وتحتديث واستعة النطتاق‪ .‬إل أن متا نجتم عتن هتذه التثروة‪ ،‬أيضتا ‪ ،‬كتان مولدا لمتراض مختلفتة عتانى‬ ‫منها النظام الملكي الذي قلتتل متن نطتاق الحريات وجعتل النظتتام البرلمتتاني مستتخا ل يعتبر عتن أي ديمقراطيتة ‪ ،‬فيمتتا‬ ‫انتشر الفساد وبدأ ينخر جسد النظام‪ ،‬ولم يتمكن الملك الضعيف من القيام بما يمليه عليه الواجب‪ .‬كانت الظتتروف‬ ‫القليميتتة المحيطتتة ذات تتتأثير هائتتل علتتى ليبيتتا لطبيعتتة التحتتولت التتتي كتتانت تمتتر بهتتا المنطقتتة ممتتا خلتتق أوضتاعا‬

‫‪2‬‬

‫‪Adrian Pelt, Libyan Independence and the United Nations, New Haven, New Yale University Press, 1970‬‬ ‫علي خضير ميرزا‪ ،‬ليبيا‪ :‬الفرص الضائعة والمال المتجددة‪ ،‬بيروت‪ ،‬المؤسسة العربية للدراسات والنشر‪ ،2012 ،‬ص ‪131‬‬

‫‪1‬‬

‫‪1‬‬


‫حملت بذور التهديد للنظام الملكي‪ .‬بدا أن ثروة النفط كانت سلحا ذو حدين ولم يتمكتن الملتك رغم بستاطته وورعه‬ ‫وصوفيته وزهده من التصدي للقوى التي بدأت تفعل فعلها ضمن النظام وخارجه‪.‬‬

‫‪3‬‬

‫فشتتل النظتتام الملكتتي فتتي الستتتجابة لطموحات الشتتعب وجمتتد المؤسستتات الديمقراطيتتة بعتتد تزوير متواصتتل‬ ‫للنتخابتتات ونختتر بنيتتانه الفستتاد‪ 4.‬تراجعتتت بشتتكل حتتاد قتتدرة النظتتام الملكتتي علتتى الستتتجابة لشتتتراطات وتحتتديات‬ ‫البيئتتتين المحليتتة والقليميتتة فتتي وقتتت ارجتتت فيتته الثتتورات أو النقلبتتات العستتكرية العربيتتة رافعتتة أفكتتار التحرري ة‬ ‫والعروبة والشتتتراكية التتتي انتشتترت بفاعليتتة بيتتن أوساط الشتتباب الليتتبي وبخاصتتة أبنتتاء الفقتراء والشترائح التتدنيا متتن‬ ‫"الطبقة المتوسطة" سواء كانوا مدنيين أوعسكريين والذين كانت مصر عبدالناصر قبلتهم‪.‬‬

‫‪5‬‬

‫هكذا كانت البلد مهيأة للتغيير فتمكن مجموعة من الضباط الصغار بقيادة معمر القذافي من الستيلء‬ ‫على السلطة إواقامة النظام الجمهوري بانقلب عسكري في ايلول‪/‬سبتمبر ‪ .1969‬على الرغم من أن القذافي‬ ‫جاء إلى السلطة عن طريق انقلب عسكري ‪ ،‬فقد كان قاد ار في البداية على بناء قاعدة واسعة بما فيه الكفاية‬ ‫من الدعم الشعبي‪ .‬نجح في السنوات الولى من حكمه في بناء شرعية شعبية تستجيب لتطلعات وآمال‬ ‫واحتياجات السكان‪ ،‬لكنه كان بعدها حريصا على البقاء في السلطة ‪ ,‬وقام باتباع سياسات ونفذ ممارسات أدت‬ ‫إلى تغيير قاعدة نظامه الجتماعية‪ 6.‬حكم القذافي ليبيا وكانت حالة فريدة‪ ،‬فرغم قسوته ودكتاتوريته لم يكن‬ ‫القذافي حاكما قويا رغم سعيه المتواصل لتعزيز سلطته‪ .‬لقد كان حاكما ضعيفا تمسك بالسلطة لنه سعى بكل ما‬ ‫أمكنه ‪ ،‬لجعل الناس في وضعية تجبرهم على العمل من أجل البقاء وليس النشغال بقضايا الحكم والسياسة رغم‬ ‫ادعاءه المتواصل بأن الشعب هو الحاكم وهو ما أفرغ العملية السياسية من أي محتوى وجعلها مجرد صدى‬ ‫لصوته شخصيا‪.‬‬

‫‪3‬‬ ‫‪4‬‬ ‫‪5‬‬

‫حول دور النفط ‪ ،‬أنظر الدراسة ‪،‬التي يمكن اعتبارها"كلسيكية"‪ ،‬لشكري غانم‪ ،‬النفط والتقتصاد الليبي‪ ،‬بيروت‪ ،‬معهد النماء العربي‪1985 ،‬‬ ‫انظر تحليل للوضاع في ‪ ،‬مالك عبيد ابوشهيوة‪ ،‬اسباب تقيام الثورة في ليبيا‪ ،‬رسالة ماجستير غير منشورة‪ ،‬جامعة القاهرة ‪1976‬‬ ‫ابراهيم فتحي عميش‪ ،‬التاريخ السياسي ومستقبل المجتمع المدني في ليبيا‪ ،‬الجزء الول‪ ،‬بنغازي‪ ،‬برنيق للطباعة والترجمة والنشر‪ ،2008 ،‬ص‪،‬‬

‫‪ ،300-251‬ص ‪401-351‬‬ ‫‪Jadaliyya, interview with Ali Abdullatif Ahmida, www.jadaliyya.com/pages/index/7892/new-texts-out-now_ali‬‬‫‪abdullatif-ahmida-libya-soci‬‬ ‫‪6‬‬

‫‪2‬‬


‫القضاء على المعارضة والديمقراطية المزيفة‬ ‫سعى القذافي وعمل على القضاء على كل معارضة‪ ،‬وتهديد أو تحدي لسيطرته‪ ،‬وكان ذهنه قد تفتق‬ ‫عن تعزيز الدكتاتورية والتسلطية باستخدام الديمقراطية ذريعة ووسيلة‪ .‬أدخل البلد في غمار تجربة اعتمدت‬ ‫الخداع الديمقراطي ورغم استجابة شعبية لها في البداية‪ ،‬إل أن سياسته وممارساته الغير معقولة أدت إلى‬ ‫تدمير معنى السلطة والمؤسسات وحكم القانون‪ .‬بذل القذافي جهودا متواصلة وقام بدعاية مكثفة لقناع الناس‬ ‫بنموذجه الفريد ‪ ،‬إل أن ديمقراطيته المزورة لم تعد تنطلي على أحد‪ ،‬حيث برزت بقوة ظاهرة عزوف الناس‬ ‫عن حضور مؤتمراته ولقاءاته ‪ ،‬فلجأ إلى تدابير متعددة لخلق حراك سياسي واجتماعي لصالحه ولتقوية‬ ‫نظامه‪ .‬شملت هذا المحاولت تطبيق مبادارت خبيثة مثل الجمهرة وتطبيق أفكار مثل " السلطة شعبية‬ ‫والدارة ثورية" إوانشاء القيادات الشعبية والروابط الشبابية الجتماعية وغيرها من الليات التي ابتدعها لحكام‬ ‫السيطرة إواشاعة مناخ مصطنع من التأييد الشعبي‪ .‬هكذا ومع أن القذافي حافظ على استخدام التوجهات‬ ‫اليديولوجية االقومية والسلمية والحديث عن المثل العليا للديمقراطية والعدالة والمساواة‪ ،‬فقد كشفت‬ ‫السياسات الممارسة تناقضا بين الفكر والتجربة المعاشة على كل المستويات‪.‬‬

‫‪7‬‬

‫ص وتتت المعارض لذلك فإّنه اّتخذ كل الوسائل‬ ‫لم يكن هناك استعداد لدى القّذ اتفي ليقبل مجّر دتال ّ‬

‫لمواجهة المعارضة في الخارج‪ .‬كان القذافي ل يقبل المساومة ‪،‬عندما تعلق المر بتحدي سلطته‪ ،‬لذلك أنهى‬ ‫كل أشكال المعارضة القائمة والمحتملة بالداخل‪ ،‬وعندما لجأ معارضون للعمل بالخارج ‪ ،‬فلم يألو القذافي‬ ‫جهدا أو وسيلة للقضاء عليهم‪ .‬لذلك فقد شهد النصف الول من الثمانينات حملت اغتيال متزايدة لعضاء‬ ‫المعارضة الليبية في الخارج ‪ ،‬والذين أطلق عليهم الفاظا مهينة للكرامة النسانية مثل "الكلب الضالة"‪ .‬كان‬ ‫كل ليبي أشهر معارضته أو انتقاده للقذافي هدفا مشروعا في أي مكان في العالم‪ .‬لم يبال القذافي بالثمن‬ ‫السياسي والخلقي لعماله الرهابية ولم يقم وزنا للرأي العام الدولي‪ ،‬فقد فسحت الحرب الباردة المجال‬ ‫لممارسات إرهاب الدولة في العلقات الدولية بشكل عام‪ .‬لذلك كان صارخا في تهديداته التي جعلته يقول‬

‫‪Mohamed Berween, the political belief system of Qaddafi: power politics and self fulfilling prophecy,‬‬

‫‪7‬‬

‫‪http://sgsnow.files.wordpress.com/2011/03/political_belief_system_of__qaddafi_1.pdf‬‬

‫‪3‬‬


‫عن المعارضين لحكمه في عام ‪" ،1978‬هم أحرار في السفر حتى إلى القطبين الشمالي أو الجنوبي إذا‬ ‫أرادوا‪ ،‬ولكن إذا انتقدوا الثورة فستتم ملحقتهم "حيثما وجدوا"‪.‬‬

‫‪8‬‬

‫كانت الحياة "السياسية" تعاني سيطرة اللون والرأي الواحد ولم يكن أمام المواطنين وخاصة المهتمين‬ ‫بالشأن العام أية فرصة للتعبير خارج حدود النظام‪ .‬لم يكن هناك مجال للصحافة المستقلة أو للمجتمع المدني‬ ‫والحزاب‪ .‬الدولة الشمولية ‪ ،‬وأن أنشأت تنظيمات مجتمع مدني فهي ضمن الكوربوراتية المسيطرة والمهيمنة‬ ‫على كل شيء‪ .‬كان النظام يرى في موارد النفط قوة هائلة وكافية لجعل الدولة قادرة على شراء المجتمع ‪،‬‬ ‫كما أن الموارد وفرت للنظام وهم أن بأمكانه تحقيق طموحاته خارج الحدود‪ .‬لذلك بدأ القذافي في ممارسة‬ ‫التجاهل للشأن الداخلي واتجه لتحقيق طموحاته ومجده الشخصي بمغامرات خارج الحدود‪ .‬من هنا أصبحت‬ ‫الدولة تنفصل بشكل أو آخر عن المجتمع وتتغاضى عن أي مطالبات باستثناء سد المطالبات الحياتية‪ .‬مع‬ ‫ذلك ‪ ،‬لم تسكت الناس فكانت هناك محاولت انقلبية تعد بالعشرات ‪ ،‬كما جرت مظاهرات احتجاح في كثير‬ ‫من المدن والقرى الليبية ‪ ،‬ولكن بفضل التعتيم والهيمنة لم يكن هذا معروفا‪.‬‬ ‫عمل القذافي على تطبيق سياسات كانت ل تستهدف سوى إرهاق المجتمع والعبث بما احتفظ به من‬ ‫مقدرات ووشائج‪ .‬وظف كل الليات التي ابتدعها في تدمير كل ما يمكن أن يشكل خط ار ضده‪ .‬اعتمد على ما‬ ‫كان يقيمه من أشكال وهياكل لتحل محل المجتمع‪ ،‬الذي رأى فيه عدوا وخصما ‪ ،‬كانت أقل عيوبه‪ ،‬وفقا للقذافي‪،‬‬ ‫أنه لم يتشرب نظريته الجماهيرية ولم يحسن الصغاء لتوجيهات" القائد الملهم" ‪ ،‬الذي رأى نفسه هبة وطاقة وقيادة‬ ‫ل يستحقها الليبيون‪ .‬لجأ القذافي إلى ما أقامه من ترتيبات وانكفأ إليها ‪ ،‬بدل عن السعي للتصالح مع المجتمع ‪،‬‬ ‫وحرص على إدامة حالة عدم الستقرار و تغيير الهياكل الحكومية في ليبيا م ارٍت عديدة‪ ،‬على مدار أربعة عقود‬ ‫معتمدا سياسة الخلخلة المتواصلة لكل شيء ‪ ،‬للحيلولة دون مأسسة السياسة والممارسة ‪ ،‬وهو مانظر إليه الوسيلة‬ ‫الفعالة لمنع تشكل قوى معارضة‪.‬‬

‫الصل ح المزعوم والتمهيد للثورة‬ ‫‪8‬‬

‫"خطاب القذافي في اللجأن الثورية‪ ،1978/08/03 ،‬طرابلس‪ ،‬مركز الكتاب الخضر ‪ ،‬الطبعة الولى‪ ،1986 ،‬ص ‪.24‬‬

‫‪4‬‬


‫كان ل بد للظروف المحلية والدولية أن تتغير‪ ،‬وأن يشهد المجتمع تحولت ديموغرافية وثقافية‬ ‫تزامنت مع اتساع نطاق العولمة والمركة على المستوى الكوني‪ .‬وجد القذافي تفسه مضط ار للتراجع أمام‬ ‫العاصفة الكونية التي كانت تهدد أمثاله وكان مضط ار إلى إعادة تأهيل نظامه على المستوى الدولي‪.‬‬ ‫اتضح للقذافي أن ما كان ممكنا وجائ از من قبل‪ ،‬لم يعد كذلك ‪ ،‬بعد انفراد الوليات المتحدة المريكية بسدة‬ ‫الهيمنة على النظام الدولي‪ ،‬إواعلنها العزم ‪ ،‬وقيامها بالفعل‪ ،‬فرض شروطها ‪ ،‬حتى عندما استلزم ذلك‬ ‫استخدام القوة العارية‪ .‬أراد القذافي تجاوز المحنة والتحدي دون أن يقرر التغيير‪ .‬لقد شعر بدون شك‬ ‫بضرورة إعادة النظر في السياسات و"المؤسسات" أو انه أراد توزيع الدوار داخل نظامه إواعطاء فرصة‬ ‫لبنه سيف السلم‪ ،‬الذي كان قد حقق نجاحات خارجية ملموسة ساهمت تماما في إعادة تأهيل النظام‬ ‫على المستوى الدولي وليجدد شرعية النظام التي كانت تتناقص بشكل مخيف‪.‬‬ ‫مع ذلك ‪ ،‬فقد كان واضحا مقدار التردد أو المكر الذي يخفيه القذافي‪ .‬إنه من المؤكد أن سيف‬ ‫القذافي ووالده‪ ،‬كانا يدركان أن التحول مفرط السرعة سيؤدي إلى أحداث أثر عكسي ليس أقله شأنا ظهور‬ ‫معارضة أو تذمر وتراجع ولء قوى متزمتة ومحافظة‪ ،‬ولكنها أساسية في دعم النظام واستم ارره أمنيا ‪،‬‬ ‫خاصة إذا رأت أن مصالحها في خطر‪ .‬ل يمكن للمحلل إل أن يتصور إدراك النظام لمعضلته ‪ ،‬وأن لم‬ ‫تصاحبه استجابة ملئمة لما كان يجري من تغيرديموغرافي واجتماعي ‪ ،‬وارتفاع المطالبات والضغط من‬ ‫البيئة المحلية بمكوناتها الشبابية بشكل خاص‪ .‬كان هناك ما يكفي من الشارات الواضحة إلى أن قفل‬ ‫البواب أمام أي تغيير بمثابة القدام على الموت ‪ ،‬وأن الستجابة أو التحول البطيء للغاية يعرض‬ ‫النظام لخطر فقدان الرابط مع الجيال الشابة والفئات الطامحة والمحرومة أيضا ‪ ،‬وقد يولد تصاعدا في‬ ‫الخطرالناجم عن ما كان قائما من الحباط العام والشعور المستمر باليأس من قبل الشعب الليبي‪ .‬لذلك‬ ‫حاول النظام استيعاب ما كان يجري وأطلق مشروعا للصلح والنفتاح السياسي حيث ارتكز بشكل‬ ‫أساسي على إدماج أكبر عدد ممكن من السكان‪ ،‬وخاصة الشباب والمنادين بالصلح ‪ ،‬ضمن ما عرف‬ ‫ب "مشروع ليبيا الغد" ‪ ،‬وكان سيف السلم يتواصل مباشرة مع معارضين وخبراء ليبيين بالخارج‬ ‫لستمالتهم للعمل ضمن المشروع‪.‬‬

‫‪5‬‬


‫ساهمت قوى وطنية إواصلحية ‪ ،‬بالداخل والخارج ‪ ،‬في دعم هذا التوجه أوالسياسة وقدمت‬ ‫الدعم لمبادراته‪ .‬كان إصلحيو الداخل ويدعمهم الكثيرون من أبناء الشعب مستعدون للعمل ضمن‬ ‫مبادرات سيف ودعمها ‪ ،‬لنهم أروا فيها فرصة لحداث قدر‪ ،‬ولو محدود ‪ ،‬من التغيير‪ ،‬في ظل‬ ‫انعدام البدائل الحقيقية للتغيير‪ .‬كان هناك ادراك بما يواجه الهدف من عقبات وتحديات لكن ذلك لم‬ ‫يثن المؤمنين بالوطن عن العمل في أضيق الحدود المتاحة وبالتالي أهمية فتح كوة ولو صغيرة في‬ ‫جدار التسلط ‪ ،‬وأن أية خطوات ستقود حتما وبشكل منطقي وطبيعي إلى غيرها‪ ،‬بحكم قانون‬ ‫التداعي ‪ ،‬وتساهم في أحداث حراك أوسع‪ .‬كان هناك حراكا معارضا وفي لبوس اصلحية على كل‬ ‫المستويات وهو ما أشار اليه المعارض المعروف محمود شمام مق ار بوجود هذا الحراك الذي كان‬ ‫يشكل جزءا ل يتج أز من المعارضة للنظام الذي ل ينبغي إنكار أهميته ودوره‪ " .‬الذين ينفون وجود‬ ‫حراك سياسي في ليبيا ل يهينون الشعب الليبي فقط‪ ،‬بل ينكرون حقيقة علمية هي أن التحرك جزء‬ ‫أصيل من طبيعة أي مجتمع‪".‬‬

‫‪9‬‬

‫استطاع سيف السلم أن يجذب إليه المثّقفين الصلحيين والشباب في ليبيا وقد زاد من شعبيته‬ ‫وجاذبيته أنه كأن هدفًا لمشاعر الريبة التي عبرت عنها اطراف الحرس القديم‪ ،‬ومن وصفهم بالقطط‬ ‫السمان ‪ ،‬وخاصة في أوساط اللجان الثورية والمؤسسات المنية‪ .‬ولعل ما ساعده في الوصول إلى قلوب‬ ‫الناس والصلحيين انه استحوذ‪ ،‬في الوقت نفسه‪ ،‬على مخّي لتة الساسة والمراقبين الغربيين‪ ،‬الذين أروا في‬

‫ما كان يعبر عنه ويقوم به في مجال إعادة تأهيل ليبيا ‪ ،‬وعودتها إلى المجتمع الدولي فاتحة إصلح‬

‫داخلي أيضًا‪ .‬لكن ورغم ما قد يكون قد تحقق من إيجابيات‪ ،‬فإن جميع مبادرات الصلح وصلت لطريق‬ ‫مسدود وتبين أن القذافي ل يتغير‪ .‬فقد الليبيين بشكل عام المل في الصلح وشككوا في النوايا‬ ‫والسياسات من خلفه ‪ ،‬ولم تؤد تصريحات سيف السلم القذافي ومبادراته السياسية العديدة ‪ ،‬في‬ ‫نهاية المطاف‪ ،‬إلى أي نتيجة وثبت أنها لم تكن سوى عملية تجميل لتغطية العيوب‪ .‬لقد تغلبت روح‬ ‫الفرد المتسلط كخاصية جوهرية للنظام الذي أقامه القذافي وتمحور حوله شخصيا ‪ ،‬فقضت على كل‬ ‫فرص الصلح وقفلت آفاق التغيير من الداخل ن إوان كانت بعض قوى ومقومات التغيير قد انطلقت من‬ ‫‪ 9‬ليبيا المستقبل‪ ،‬حوار مع العلمي والمحلل السياسي الليبي محمود شمام‪،‬‬ ‫‪http://archive.libya-al-mostakbal.org/moqabalat2009/shammam_interveiw_161009.html‬‬

‫‪6‬‬


‫عقالها ولم يعد ممكنا إعادة التاريخ للوراء‪ .‬هكذا كانت البلد جاهزة ومستعدة لتلقي ومعانقة أفق تغيير‬ ‫جديد‪.‬‬ ‫ثورة ‪ 17‬شباط‪/‬فبراير ‪ 2011‬ومآل تنها‬ ‫انطلقت الحتجاجات في شباط‪/‬فبراير ‪ 2011‬معلنة بداية مرحلة جديدة في تاريخ ليبيا‬ ‫المعاصر‪ ،‬ومؤذنة بتحولت هائلة‪ .‬انضمت ليبيا إلى بلدان الربيع العربي الخرى‪ 10‬عندما اندلعت‬ ‫الحتجاجات الشعبية ضد عقود من حكم القذافي الستبدادي صنفها الليبيون "بفترة اللنظام"‪ ،‬لتميزها‬ ‫بالشذوذ من خلل تجنب بناء مؤسسات الدولة‪ ،‬والقدام على كل مستغرب أو فريد من الممارسات‪.‬‬ ‫دعت الحتجاجات واسعة النطاق إلى إسقاط النظام إواقامة الديمقراطية واحترام حقوق النسان‬ ‫والحرية‪ .‬ان انتفاضة الشعب الليبي احتجاجا على شمولية ودكتاتورية نظام القذافي وان بدأت‬ ‫مظاهرات واحتجاجات حول قضايا السكن في مطلع كانون الثاني‪/‬يناير ‪ 2011‬فذلك لم يكن القضية‬ ‫أو السبب الساسي وراء الحتجاجات إذ أنها كانت تحمل في طياتها مشاعر سياسية عميقة‪.‬‬ ‫وتصاعدت هذه الحتجاجات في نهاية المطاف إلى انتفاضة دعت إلى تنحي القذافي‬ ‫لم يكن يتوقع من القذافي أن يتنازل عن السلطة بسهولة فكان العنف ش ار ل بد منه وقد‬ ‫أثار التحول من الحتجاج السلمي إلى العنف رد فعل النظام القمعي‪ .‬عندما قتلت قوات المن‬ ‫المتظاهرين المسالمين رميا بالرصاص أمام مقر المن في بنغازي‪ ،‬أطلقت دعوات توسيع الحتجاج‬ ‫في أنحاء البلد مرة أخرى يوم ‪ 17‬شباط‪/‬فبراير ‪ 2011‬عبر مواقع النترنيت ووسائل التواصل‬ ‫الجتماعي‪ .‬بدت هذه الحتجاجات سلمية جدا ولكن سرعان ما تصاعدت إلى انتفاضة مسلحة أدت‬ ‫إلى حرب واسعة النطاق لم تجتاح البلد فحسب وانما أدت أيضا لتدخل القوات العسكرية الدولية في‬ ‫نهاية المطاف‪ .‬احتكم مجلس المن إلى مبدأ مسؤولية الحماية )‪ (R2P‬وأصدر القرار ‪ 1973‬الذي‬ ‫بموجبه فرضت منطقة حظر الطيران )‪ (NFZ‬عبر ليبيا‪ .‬كان المقصود من القرار حماية المدنيين‬ ‫‪10‬‬

‫لقراءة تحليل مثير للهتمام حول ما إذا كانت هذه ثورات أو مجرد حركات تمرد‪ ،‬أنظر‪،‬‬ ‫‪Zenonas Tziarras, “ New Prespectives on the Sociology of the Arab Spring”,‬‬ ‫‪http://thegwpost.com/2011/12/01/new-perspectives-on-the-sociology-of-the-arab-spring-mark-ii/‬‬

‫‪7‬‬


‫فأنشئ نظام فعال لتنفيذه سمح باستخدام طائرات حلف شمال الطلسي لفرض منطقة الحظر الجوي‬ ‫ثم تدمير القدرات القتالية والمقدرات العسكرية وغيرها مما يمكن للنظام استخدامه للمواجهة‪.‬‬ ‫لقد عبرت النتفاضات والثورة على مخزون هائل من الغضب الذي كان يسكن نفوس جميع‬ ‫الليبيين تقريبا تجاه القذافي ونظامه‪ .‬ومع أنه ما ل يمكن تجاوز السباب القتصادية والمعيشية‬ ‫عندما يتعلق المر بالحتجاجات ‪ ،‬فإن السباب الحقيقية القوى تظل ‪ ،‬في الواقع‪ ،‬مرتبطة بطبيعة‬ ‫نظام القذافي‪ ،‬والكيفية التي تعامل بها مع مكونات المجتمع المختلفة‪ .‬يمكن القول بوثوقية مناسبة أن‬ ‫الثورة قامت أساسا بدافع التخلص من الظلم والقهر وبحافز التحرر من التسلطية والولوج لعصر‬ ‫الديمقراطية والحريات ‪ ،‬أكثر من أي سبب آخر‪ ،‬اي أنها كانت ثورة الحريات والكرامة‪ .11‬ومع بعض‬ ‫الخصوصيات التي ميزت الحالة الليبية عن غيرها فإن ما حدث في ليبيا في ‪ 2011‬من مظاهرات‬ ‫واحتجاجات وتمرد تحول إلى عصيان وثورة ضد القذافي يشترك في كثير من العناصر‬ ‫والخصائص مع ما حصل في بلدان الربيع العربي‪ .‬فلقد بلغ الحباط بالشعب عامة‪ ،‬والشباب‬ ‫خاصة ‪ ،‬مبلغا بعد عقود طويلة من الستبداد وبعد إحباط هائل من عدم تحقق وعود الصلح‪.‬‬ ‫إن الثورة ضد نظام القذافي عكست ‪ ،‬بشكل أو آخر‪ ،‬طبيعة هذا النظام وسياساته خلل أكثر من‬ ‫أربعة عقود‪ ،‬بقدر ما عكست طبيعة المجتمع الليبي وتطوره القتصادي والجتماعي أيضا‪ .‬إل أنه ل بد‬ ‫من الشارة إلى أن القوى الفاعلة في الثورة ومشاركتها في العمل ضد النظام حتى إسقاطه ‪ ،‬ل تزال فاعلة‬ ‫بمستويات مختلفة بعد سقوط النظام‪ ،‬بينما اتخذت بعض القوى الفاعلة أدوا ار جديدة ‪ ،‬وتمكنت من قدرات‬ ‫إضافية وفرتها الثورة وعملياتها وتداخل القوى الداخلية مع التدخل الخارجي أيضا‪ .‬يبدو هذا واضحا في‬ ‫ما عرفته المرحلة النتقالية‪ ،‬التي تعكس بشكل متواصل الحضور الفاعل والمكثف للديناميات التي كانت‬ ‫حاضرة في عمل الثورة ضد القذافي‪ ،‬كما تعكس أيضا ‪ ،‬وبشكل ينذر بتطورات أخرى ذات تاثير‬ ‫مستقبلي‪ ،‬الثار المباشرة وغير المباشرة لسياسات القذافي من جهة‪ ،‬والثار المرتبطة بالتدخل الجنبي‬ ‫من جهة أخرى‪ ،‬والذي جعل انتصار الشعب على النظام ممكنا‪ ،‬لكنه أدخل عناصر في السياق الوطني‬ ‫تبين في المرحلة النتقالية مدى تأثيرها على الوضاع‪.‬‬ ‫‪Francis Fukuyama, the drive for dignity, www.foreignpolicy.com/articles/2012/01/12/the_drive_for_dignity‬‬

‫‪8‬‬

‫‪11‬‬


‫المآل الهم والخطر للثورة ‪ ،‬هو أن الليبيين لم يتخلصوا فقط من نظام القذافي ‪ ،‬بل أن‬ ‫الثورة والصراع نجم عنهما تدمير أي تمثل للسلطة المعاصرة ولمركزها‪ ،‬الذي كان يفتقر إلى جذور‬ ‫راسخة في التربة والثقافة الليبية‪ .‬أسفرت الثورة والحرب عن تدمير شامل‪ ،‬بما يعني الحاجة للبداية‬ ‫من الصفر‪ .‬حقا أن البداية من الصفر يمكن أن تمثل عنص ار إيجابيا لكن وبسبب مكونات السياق‬ ‫والحالة الليبية ‪ ،‬فإن هذه البداية تقف في طريقها الكثير من المعوقات التي لها علقة بالخلفيات‬ ‫التاريخية والطبيعية والجغرافية وبمعطيات القبيلة والتدخل الخارجي‪ .‬لكنها أيضا مرتبطة بما حدث‬ ‫أثناء الثورة من ديناميات وتفاعلت وصراع ‪ ،‬عبرت عنه بشكل ما‪ ،‬النزعة اللمركزية للنتفاضات‬ ‫التي انطلقت في الطراف لتعزز المكونات والديناميات المحلية والقبلية‪ .‬لقد قاد ذلك إلى بروزالنزعات‬ ‫القبلية والمحلية والمناطقية ‪ ،‬المتناقضة أحيانا ‪ ،‬حاضرة بقوة ‪ ،‬وهو ما يجعل عملية التخلص من‬ ‫السلحة والمسلحين‪ ،‬إوادماجهم ضمن مؤسسات للدولة أمر خطير يهدد ويعوق بناء مؤسسات الدولة‬ ‫لنجاح عملية النتقال الديمقراطي‪ ،‬ويعطل بناء المنتظم السياسي الجديد بشكل كبير‪.‬‬ ‫ال ننتقال الديمقراطي وتحديات بناء المجتمع والدولة‬ ‫أن ما تحقق في ليبيا منذ سقوط نظام القذافي ‪ ،‬حتى الن ‪ ،‬إيجابي بجميع المقاييس‪ ،‬رغم‬ ‫كل ما يتردد يوميا في عناوين الخبار من أحداث عنف أو اعتداء على الشرعية المؤقتة‪ .‬ما تحقق‬ ‫إيجابي‪ ،‬إذا ما قيس بما عرفته البلد خلل مرحلة طويلة من تراكمات‪ .‬يأتي في مقدمة ما تحقق‬ ‫تحرر الناس من كل العقد والقيود وفي مقدمتها الخوف ‪ ،‬وبالتالي رغم أن القذافي كأن دائما يردد‬ ‫بكل صفاقة أن الناس لها الولية على السلطة‪ ،‬فإن هذه المقولة لم تتحقق إل بعد انهيار نظامه‪.‬‬ ‫لذلك نجد الحوادث المتكررة ‪ ،‬من استهزاء بالسلطة‪ ،‬واعتداء على رموزها وأشخاص ممثليها‪ ،‬مثلما‬ ‫نشهد أسبقية مستويات مختلفة من الشارع وحضوره ‪ ،‬ولو على حساب المصلحة العامة الوطنية‪ .‬مع‬ ‫ذلك فل بد من الشارة والتأكيد على أنه ما زال أمام البلد طريق طويل وشائك قبل أن تصل إلى‬ ‫تحقيق النجاز التاريخي بإقامة الدولة الديمقراطية إذ تقف في طريق هذا الهدف تحديات وعقبات‬ ‫متنوعة‪.‬‬

‫‪9‬‬


‫من الواضح أن ليبيا تشترك مع الحالت العالمية المشابهة في ما يتصل بمرحلة ما بعد‬ ‫الصراعات أو الحروب الهلية‪ ،‬وكيف تلقي هذه بظللها الكثيفة على أي انتقال ديمقراطي‪ ،‬ولكن‬ ‫ليبيا تتوفر ايضا‪ ،‬على مكّو نتتات وتحديات خاصة بها‪ .‬بعض هذه التحديات تجد جذورها في الثقافة‬

‫السياسية‪ ،‬وفي طبيعة القتصاد الوطني‪ ،‬بينما ترتبط أخرى بما ترّتب على حكم القذافي‪ ،‬والظروف‬ ‫والوضاع التي نجمت عن الطاحة به‪ .‬ومع أن التهديد الخارجي‪ ،‬أو التدخل الجنبي يبرز كأخطر‬

‫تحّد للسيادة الوطنية‪ ،‬ويهدد أية توازنات أو توافقات يمكن التوصل إليها بين الطراف‪ ،‬فإنه يضاعف‬ ‫من حّد ةت التحديات الخرى‪ ،‬وخاصة تلك المتعّلقة بإعادة البناء إواعادة العتبار للدولة وهيبتها‪ 12.‬أن‬ ‫التجربة المّرة التي عاشتها البلد خلل العقود الماضية‪ ،‬أدت إلى عدم الهتمام بالجوانب المؤسسية‬

‫بشكل واضح ونشوء ثقافة تحتقر المؤسسات والقواعد وتسوغ الفساد وتحتقر الخير العام‪.‬‬

‫إن ليبيا تواجه اليوم تحّد يت إعادة العتبار للمقاييس أو المؤسسات بما يؤسس لتنمية‬ ‫حقيقية‪ .‬إن لذلك صلة أيضا بتحقيق الهداف الجتماعية‪ ،‬مثل تنظيم التقسيم المنتج للعمل‪ ،‬وتوليد‬ ‫وصيانة النمو الموالي للبسطاء‪ ،‬مثلما هو معّز ز تلداء واتخاذ الق اررات اللمركزية‪ ،‬وبناء وتعزيز رأس‬ ‫المال الجتماعي‪ .‬أدى التدخل العسكري لحلف الطلنطي مدعوما بالمال والسلح من بعض بلدان‬ ‫الخليج – قطر والمارات في المقام الول‪ -‬إلى تعميق اشتغال اللية القبلية والجهوية سلبيا ‪ ,‬من ناحية‬ ‫أولى‪ ,‬إوالى بدء عملية تحويل ليبيا إلى منطقة لممارسة النفوذ الجنبي من ناحية ثانية‪ ،‬بينما تتوقع بعض‬ ‫التحليلت استنادا إلى تطورات الحداث أن السوأ لم يقع بعد حيث هناك أشارات على وقوع تداعيات‬ ‫قاسية مثلما بينت أحداث اوائل صيف ‪.2013‬‬ ‫ل يبدو أمام الليبيين إل السعي للتمسك بقيم تم تجاهلها لوقت طويل لتجنيب البلد العواقب‬ ‫الوخيمة للعسكرة والتدخل الجنبي بدل الدعوة إلى مزيد منه‪ ،‬حيث تتعاظم أخطار التدخل ويتكرر الخطأ‬ ‫في اعتبار هدف إسقاط الحكم التسلطي أكثر أهمية من هدف الحفاظ على البنية المجتمعية من التفكك‬ ‫وحماية الكيان السياسي من الضمحلل‪ 13.‬إن من شأن إسقاط الدكتاتورية بثورة مسلحة في مواجهة‬ ‫‪ 12‬محّمد الفيتوري‪" ،‬تقطر تقود ليبيا خارجيًا"‪http: //www. alwatan-libya. com/more-18776-13 ،‬‬ ‫‪13‬‬

‫محمد عبدالشفيع عيسى‪ ،‬بدايات ونهايات ثورة يناير‪ :‬رؤية فكرية‪ ،‬منشورات الهيئة العامة لقصور الثقافة‪ ،‬القاهرة‪ ،2012 ،‬ص‬

‫‪129‬‬

‫‪10‬‬


‫آلة القتل التي يستخدمها الدكتاتور الطاغية أن يجعل العنف ومؤسساته‪ ،‬وربما اللجوء إليه في‬ ‫ل في مرحلة لحقة‪ .‬إن هذا يبدو نتيجة واضحة‪،‬‬ ‫مستويات مختلفة من الممارسة‪ ،‬أم ًار قائمًا أو محتم ً‬ ‫خاصة إذا ما تذّك رتنا أن الدكتاتورية تقتل أو تضعف وتهّم شت كّل قوى الديمقراطية والتغيير‪ .‬إن‬

‫أساليب النضال المستخدمة ذات صلة وثيقة بتوزيع القوى المؤثرة من أجل تحقيق أهداف الثورة في‬ ‫القضاء على الطغيان وخلق نظام ديمقراطي‪ ،‬مثلما هي وثيقة الصلة بهدف الحيلولة دون ظهور‬

‫دكتاتورية جديدة‪ .‬وفي هذا السياق‪ ،‬يقرر جين شارب أّنه لن "الشعوب ومؤسسات المجتمع المدني‬

‫تكون ضعيفة في ظّل وجود أنظمة الحكم الدكتاتورية‪ ،‬وتكون الحكومة في المقابل قوية جدًا‪ ،‬فإذا لم‬ ‫يحدث تغيير في موازين القوى هذه‪ ،‬فإن الحّك اتم الجدد يستطيعون أن أرادوا أن يكونوا حّك اتمًا‬ ‫دكتاتوريين كأسلفهم"‪.‬‬

‫‪14‬‬

‫الكيان الليبي‪ :‬الهوية والاقاليمية‬ ‫مع أن أحد أخطر التهديدات التي برزت بعد سقوط نظام القذافي هي المتعلقة بالمناداة‬ ‫بالفدرالية وما يمكن أن يشكله ذلك من خطر مباشر أو غير مباشر على الوحدة الوطنية والهوية‬ ‫الوطنية الهشة‪ ،‬فل بد في المقابل من التذكير بضخامة المظاهرات الرافضة للفدرالية والتي عمت‬ ‫بشكل خاص مدن الشرق الليبي ‪ ،‬وبنتائج عدد من استطلعات الرأي التي بينت تدني شعبية‬ ‫الفدرالية خاصة بشرق البلد‪ .‬لقد حفلت المواقع العلمية اللكترونية الليبية وشبكات التواصل‬ ‫الجتماعي بمجادلت ونقاشات شارك فيها اللف حول الفدرالية وبدأ واضحا النقسام حولها بما‬ ‫يعكس عدم المعرفة الواضحة بالمصطلحات والمفاهيم و حالة الخوف والرغبة في مقاومة التهمي ش‪،‬‬ ‫علوة على بروز إشارات واضحة في النقا ش تستحضر سلبيات الفدرالية على المستوى العربي حيث‬ ‫انقسم العراق لعدة كيانات مستقلة واقعيا‪ ،‬بينما حدث النفصال بالسودان مع نذر حرب بين البلد الم‬ ‫والبلد الوليد‪ .‬كل ذلك يلقي بظلل من الشك على المستقبل‪ ،‬رغم إعلن الداعين للفدرالية الحرص‬ ‫على وحدة ليبيا والعتراف بشرعية السلطات النتقالية ‪ ،‬ورفضهم تقسيم البلد ‪ ،‬وتبرير دعواهم‬ ‫بمعالجة التهمي ش والستبعاد الذي أحسوا به متواصل بعد سقوط نظام القذافي‪.‬‬ ‫‪14‬جين شارب‪ ،‬المقاومة اللعنفية‪ :‬دراسة في النضال بوسائل اللعنف؟ ‪ ،‬ترجمة خالد دار عمر‪ ،‬بيروت‪ ،‬الدار العربية للعلوم ناشرون‪ 2009 ،‬ط ‪ ،1‬ص‬ ‫‪72‬‬

‫‪11‬‬


‫ومع اختلف المقاربات الكاديمية بشأن الهوية الليبية وتكونها‪ ،‬فإن الكثير من الدبيات تتسائل‬ ‫عن حقيقة وجود هذه الهوية وتسعى لتحليل تاريخها وخاصة صلتها بنظم الحكم التي توالت على البلد‬ ‫وأقاليمها المختلفة‪ .‬يدور قدر كبير من هذه الدبيات حول الطروحة الستشراقية القائلة بأن تاريخ ليبيا‬ ‫هو في الواقع تاريخ الخارج الذي وفد إليها خلل فترات تاريخها‪ ،‬ومن ثم فإنه ل وجود لكيان اسمه ليبيا‬ ‫‪،‬إل بوجود الخارج الذي يعطي للمجال معنى ومحتوى‪ ،‬وبذلك فإن من العبث البحث عن هوية ليبية‪ .‬كما‬ ‫طرحت مقاربات ترى البلد في واقعها المعاصر مجتمعا حديثا يتركز معظم سكانه في مناطق حضرية‬ ‫ويتمتعون بمعدل عالي من التعليم ولم تعد القبيلة تشكل فيه قوة رئيسية‪ 15.‬إن الجدل حول الهوية والكيان‬ ‫الليبي هو أحد النتائج المباشرة لسقوط نظام القذافي‪ ،‬وهو موضوع محوري اليوم على كل المستويات‬ ‫الفكرية والسياسية والجتماعية‪ .‬تتنوع مقاربات ورؤى الدارسون اللليبيون حول المسألة خاصة بعد بروز‬ ‫مطالبات الجماعات الثقافية كالمازيغ ‪ ،‬البربر‪ ،‬التبو‪ ،‬والطوارق‪ ،‬بحقوق خاصة وبإعادة النظر في هوية‬ ‫البلد واسمها ودوائر انتمائها المختلفة وهو جدل يزيزد من قوته الستقطاب السياسي واليديولوجي‬ ‫الجاري والرغبة في التخلص من كل ما كان يمت للقذافي بصلة مهما كان‪.‬‬ ‫يرى بعض الدارسين أن للهوية الليبية عراقة ترجع إلى أعماق التاريخ معتمدة على التصاهر‬ ‫والختلط بين المكونات المختلفة للمجتمع والتوافق الظاهر في العادات والتقاليد التي ساهمت المدن‬ ‫الكبرى في بللورتها ثقافة ليبية واحدة إوان تنوعت‪ 16.‬وبينما يرى علي احميدة أن الفكرة القائلة أن ليبيا‬ ‫مجتمع قبلي هي من اختراع القذافي وخارج التاريخ ‪ ،‬فإنه ل بد من التيقظ إلى ما يمكن أن يؤدي إليه هذا‬ ‫القول من إغفال لجوانب هامة من المسألة‪ 17.‬إن ذلك ل يلغ حقيقة التنوع القبلي والعرقي" الثني" وهو‬ ‫تنوع يعتمد تأثيره على الهوية والندماج على السياسات المتبعة وعلى مدى قدرة القادة على صنع‬ ‫التوافقات المتعددة المستويات والوظيفة بشأن الكيان الوطني وادارته ايضا‪.‬‬ ‫إن هوية ليبيا ل يمكن فصلها عن البلدان المجاورة لها‪ ،‬لسباب تاريخية‪ ،‬حيث الحدود الجغرافية‬ ‫السياسية لليبيا ل تتفق واقعيا مع حقيقة التداخل الجتماعي على الحدود مع الدول المجاورة‪ ،‬ول تتفق‬ ‫‪15‬‬

‫‪Ali Abdullatif Ahmida,Libya, social origins of dictatorship and the challenge for democracy, Journal of Middle East‬‬ ‫)‪and Africa, 3.1(2012‬‬ ‫‪ 16‬البشير علي الكوت‪ ،‬ليبيا‪ :‬الهوية والستبداد والثورة‪ ،‬طرابلس‪ ،‬دار الفسيفساء للطباعة والنشر والتوزيع‪ ،2012 ،‬ص ‪35-30‬‬ ‫‪17‬‬ ‫‪Jadallyya, interview with Ali Abdullatif Ahmida, op.cit.‬‬

‫‪12‬‬


‫الحدود الرسمية مع الحدود الديموغرافية تماما حيث القبائل الليبية تتواجد بشكل ملحوظ في الدول‬ ‫المجاورة‪.‬‬

‫‪18‬‬

‫كما أن الجهاد والمقاومة الليبية ضد الطليان قد كشفت عن عمق هذه المتدادات‪ ،‬مثلما‬

‫كشفت عنها سياسات دولة ما بعد الستقلل‪ ،‬حيث كان التمسك بالهوية والدين جامعا للسكان ضد‬ ‫المستعمر وهو ما اعطى هذه الهوية زخما كان واضحا في رفض تقسيم البلد عندما حانت لحظة‬ ‫الستقلل وقبول الطرابلسيين لحكم السنوسي من أجل الوحدة الوطنية ‪ ،‬إل أن ذلك ل يلغ حقيقة التنوع‬ ‫وهيمنة البنى الجتماعية وخاصة القبلية على كل شيء تقريبا‪.‬‬ ‫وبغض النظر عن كون قسم من المقاربات ل تعطي ما كان يجري بين قبائل ليبيا خلل تاريخها‬ ‫المعاصر مكانته المناسبة فإن القسم الخر منها يغفل محتوى ومضامين مراحل هامة من تاريخ المجال‬ ‫الجغرافي المعروف بليبيا اليوم الذي شهد استقلل حقيقيا وقامت بين جوانبه دول وسلطات محلية وحدت‬ ‫المجال بالهوية‪ .‬ل بد من الشارة إلى أن ليبيا الحالية خضعت في أغلب تاريخها المعاصر لسلطة‬ ‫الخارج أو الجنبي‪ ،‬لدرجة أن الكثيرين يقررون أن عهد المملكة الليبية ‪ ،‬كان هو الخر‪ ،‬أجنبيا لصول‬ ‫عائلة ادريس السنوسي العائدة للجزائر‪ ،‬كما أن روايات برزت بعد سقوط القذافي تؤكد أصوله اليهودية‬ ‫وليس الليبية ‪ ،‬بما يثير سؤال أجنبية السلطة مجددا في المخيال والثقافة الشعبية‪ ،‬مثلما يكشف عمق البعد‬ ‫القبلي ايضا‪ ،‬والذي لم تختف تمثلته رغم مظاهر التحديث‪ ،‬كما لم تختف حتى في ذروة الجهاد ضد‬ ‫الحتلل اليطالي‪.‬‬ ‫لكن ما يمكن استخلصه من المقاربات المختلفة هو أن ليبيا الحديثة والمعاصرة عرفت ظاهرة‬ ‫افتقار الحكومات للشرعية وقبول السكان وشكهم بدرجات متفاوتة‪ ،‬ولسباب مختلفة‪ ،‬في مراحل مختلفة‪.‬‬ ‫ول شك أن لظاهرة غياب سلطة مركزية مهيمنة فاعلة على مجمل أو كل المجال الليبي المعروف‪ ،‬عبر‬ ‫مراحل متواصلة) رغم بعض استثناءات( كان سببا قويا ومباش ار ليس فقط في الحيلولة دون حدوث‬ ‫التطور الملئم لنشوؤ الهوية الجامعة‪ ،‬بل حرم البلد من كتابة تاريخها العام بمنطق وأطروحة المجال‬ ‫الوطني والهوية ‪ ،‬بل تم ذلك بفعل تشرذم السلطات بإبراز الهويات والقاليم والقبائل‪.‬‬

‫‪19‬‬

‫‪ 18‬البشير علي الكوت‪ ،‬المصدر السابق‪ ،‬ص ‪ ،35-30‬ص ‪68-67‬‬ ‫‪ 19‬محمود ابوصوة‪ :‬تاريخ ليبيا العام‪ :‬جدل المجال والهوية‪ ،‬دار الرواد‪ ،‬طرابلس‪ .2013 ،‬هذا الكتاب يمثل عمل رياديا بجميع المقاييس يحلل هذه‬ ‫الجدلية برؤية تستند على اهمية الهوية الجامعة وفكرة التنوع والتناغم‪.‬‬

‫‪13‬‬


‫تحديات ال ننتقال الديمقراطي ومستقبل ليبيا‬ ‫سقط نظام القذافي وتأسس نظام انتقالي اعتمد على دستور مؤقت وخارطة طريق للنتقال‬ ‫الديمقراطي‪ .‬العامين الماضيين بينا أن ليبيا تواجه تحديات كثيرت تتصل بتاريخها ومكوناتها القتصادية‬ ‫والجتماعية وبما ترتب على إرث القذافي والثورة ضده وما ولدته من استقطاب وشرخ اجتماعي واضح‪.‬‬ ‫أن إرث القذافي اللمؤسسي إضافة إلى الثورة جعل ليبيا تفتقد إلى مؤسسات الدولة عشية النتخابات التي‬ ‫إوان حققت نسبة عالية من إقبال الناخبين وصلت ‪ %63‬وبلغت مشاركة المراة نحو ‪ % 50‬من‬ ‫المشاركين فأنها عكست خصائص النتخابات التي تجري عقب الصراع‪ .‬ورغم غياب مظاهر العنف‬ ‫والقتال فإن النتخابات ذاتها مثلت مجال للصراع والتنافس المجتمعي التقسيمي الذي جعل ليبيا أكثر‬ ‫انقساما ل اكثر وحدة‪.‬‬ ‫لقد كان لنتخابات يوليو ‪ 2012‬دو ار في تسهيل خلق مناخ سياسي جديد شجع على استمرار‬ ‫النقسامات والتكتلت والتشرذم الجتماعي اكثر من أن يعمل على معالجتها‪ .‬لم يتمكن المؤتمر‬ ‫الوطني الذي تم انتخابه في تموز‪/‬يوليو ‪ 2012‬حتى الن سوى من تحقيق تقدم بطيء بشأن الدستور‪،‬‬ ‫فرغم صدور قرار المؤتمر في فبراير ‪ 2013‬بشأن اختيار اعضاء لجنة الستين المكلفة بإعداد الدستور‬ ‫عن طريق النتخاب ‪ ،‬فإن المؤتمر لم يقم بأية خطوات ذات أهمية سوى إصدارقانون انتخابها الذي لم‬ ‫ينجح في تحقيق التوافق لعدم استجابته لمطالب الجماعات الثقافية التي هددت بمقاطعة العملية برمتها‪.‬‬ ‫ويرجع ذلك إلى الضعف في المؤتمر الوطني الذي يعكس قد ار ل بأس به من التشرذم والنقسام ويعج‬ ‫بالمناورات السياسية القائمة في الغالب على الولءات الحزبية والشخصية والجهوية والقبلية‪.‬‬ ‫وبينما تتناقض المؤشرات في تحديد اتجاه ما يحدث أو سيحدث في المرحلة النتقالية الحاسمة‬ ‫وما يمكن أن يسود في النهاية من اتجاهات وأوضاع بعد نهايتها‪ ،‬فإن ما كتبته لي از أندرسون قبل أكثر‬ ‫من عشرين عاما يبدوا اليوم أكثر أهمية‪ .‬ذلك أن "سياسات القذافي الخاصة اقد حددت إرث نظامه‬ ‫في ليبيا‪ ،‬وسوف تكون هناك حاجة ل ي نظام جديد للتعامل مع الضطرابات الاقتصادية‬ ‫والجتماعية الناجمة عن ‪ ...‬ثورته"‪ 20‬إن ليبيا في حاجة إلى قطع شوط طويل حتى تتمكن من‬ ‫‪Lisa Anderson, Qaddhafi and his opposition, Middle East Journal, Vol.40, No.(Spring 1986), p. 226.‬‬ ‫‪14‬‬

‫‪20‬‬


‫معالجة العواقب والثار المترتبة عن مساويء حكم القذافي الذي أتى على الخضر واليابس‪ .‬لم‬ ‫تقتصر آثاره السلبية في انتهاكات حقوق النسان وجرائم الحرب ‪ ،‬أو إهدار الصول الطبيعية‬ ‫والمالية الوطنية فحسب‪ ،‬بل تجاوزت جرائم القذافي الهدر المادي فدمر القيم الخلقية التي أدت إلى‬ ‫تعطل ثقافة المجتمع السياسية‪ ،‬وهوعنصر أساسي للتنمية الثقافية‪ .‬قلد خلقت تركة القذافي تحديات‬ ‫هائلة سوف تجعل تجاوز العقبات صعبا وهو ما سيجعل المصالحة الجتماعية أكثر صعوبة ‪ ،‬رغم‬ ‫أنها تعتبر ضرورية لرساء الديمقراطية إواعادة العمار في نهاية المطاف‪.21‬‬

‫‪21‬‬

‫تقرير المين العام للمم المتحدة حول بعثة المم المتحدة إلى ليبيا‪2011/01/12 ،‬‬

‫‪http://unsmil.unmissions.org/LinkClick.aspx?fileticket=v_-F2Xr3c9I%3d&tabid=3543&mid=6187&language=en-US‬‬ ‫‪,”Jason Pack and Barak Barfi,” in Wars Wake: the Struggle for Post-Qadhafi Libya‬‬

‫‪17/3/2012‬‬

‫‪http://www.washingtoninstitute.org/policy-analysis/view/in-wars-wake-the-struggle-for-post-qadhafi-libya‬‬

‫‪15‬‬


Issuu converts static files into: digital portfolios, online yearbooks, online catalogs, digital photo albums and more. Sign up and create your flipbook.