املسيحية واحملمدية والقومية
195
وعرفت داءنا املقعد تف ّرغ اخت�صا�صيوها ال�ستنباط املخدرات لعقولنا واملح ّر�ضات لدائنا. فكلما وجدوا �أن الداء يكاد ي�ضعف حقنوا �أجهزتنا الفكرية مبا يهيج جراثيمه الفتاكة ،في�صدر يف �إحدى العوا�صم اال�ستعمارية مقال �أو كتاب عن خطر الإ�سالم املحمدي الذي يهدد �أوروبة وعن خطر العروبة الدينية على ال�سيا�سات اال�ستعمارية ،فتتناوله �صحافتنا التي يقوم عليها يف الغالب �أ�شخا�ص عدميو �أو قليلو العلم ،يف نفو�سهم مر�ض وعلى عقولهم غ�شاوة، في�صيحون« :ها �أوروبة ب�أ�سرها ترتعد اليوم فرقاً من فكرة وحدة �أقطارنا وقيام جامعتنا الدينية اللغوية»� ،أو كما قال �صاحبا «العروة الوثقى»( ): «نعم �إن الإفرجن ت�أكد لديهم �أن �أقوى رابطة بني امل�سلمني �إمنا هي الرابطة الدينية و�أدركوا �أن قوتهم ال تكون �إال بالع�صبية االعتقادية ،ولأولئك الإفرجن مطامع يف ديار امل�سلمني (املحمديني) و�أوطانهم ،فتوجهت عنايتهم �إىل بث هذه الأفكار ال�ساقطة (التع�صب اجلن�سي وحمبة الوطن) بني �أرباب الديانة الإ�سالمية (املحمدية) وزينوا لهم هجرة هذه ال�صلة املقد�سة وف�صم حبالها ،لينق�ضوا بذلك بناء امل ّلة الإ�سالمية (املحمدية) وميزقوها �شيعاً و�أحزاباً ،ف�إنهم علموا كما علمنا وعلم العقالء �أجمعون �أن امل�سلمني (املحمديني) ال يعرفون لهم جن�سية �إال يف دينهم واعتقادهم� ،إلخ». هذا الكالم غاية يف ال�سف�سطة وف�ساد اال�ستنتاج .فلو �أن رابطة الدين واالعتقاد تقوم مقام النوامي�س االجتماعية لكان الإفرجن الذين نالوا �أعظم حظ من العلم يف القرون الأخرية، جل�أوا �إليها واتخذوها �أ�سا�ساً لتفكريهم هم وقيام دولتهم .فالع�صبية القومية عند «الإفرجن» مل تكن بدعة ق�صدوا تغرير الأمم العربية بها ،بل كانت �شعوراً �صادقاً بوحدة كل �أمة من �أممهم و�شخ�صيتها وحقوقها وحاجاتها وم�صاحلها .وهذه هي الع�صبية التي �أنقذت �أمم «الإفرجن» من انق�ساماتها الداخلية الدينية ،وجعلت كل �أمة يداً واحدة على �أعدائها .و�إننا مل جند كتاباً واحداً كتبه �أحد من «الإفرجن» بق�صد تفكيك ع�صبية املحمديني الدينية دون ع�صبية غريهم من امللل� ،إال �أن يكون رجل دين �أو متع�صباً �ضد املحمديني .ودار�س التاريخ يعلم �أن انق�سام الدولة الدينية املحمدية بعد الفتح املحمدي مل يكن بدعاوات «الإفرجن» للع�صبية القومية، بل بانت�صار العامل القومي يف ال�شعوب التي �شملها الفتح على عامل الرابطة الدينية ،من 1