Tahawolat may 2013

Page 1

‫العدد االول ‪� -‬أيار‬

‫‪2013‬‬

‫فـ�صـل ـيـة فـكريـة ثـقافيـة تـعنى ب�ش ـ�ؤون امل�شــرق‬

‫د‪ .‬عادل �سمارة‬ ‫تركيا وكيل للمركز‬ ‫العميد الركن اليا�س فرحات‬ ‫الو�ضع الع�سكري االمريكي‬ ‫يف العامل‬ ‫�سركي�س �أبو زيد‬ ‫�سوريا والق�ضية الفل�سطينية‬ ‫حممود حيدر‬ ‫اجليو�سرتاتيجيا العراقية‬

‫ملف العدد ‪:‬‬ ‫د‪ .‬عادل �ضاهر‬ ‫د‪ .‬عاطف عطية‬ ‫ن�صري ال�صايغ‬ ‫�سميح حمودة‬

‫عبداهلل حمودة‬ ‫املعاهدة االردنية اال�سرائيلية‬

‫العلمانية اليوم‬

‫الدين والدولة والعروبة‬ ‫بني الف�صل والو�صل‬


‫كنت قبل اليوم أنكر َصاحبي‬ ‫ُ‬ ‫كل ص ٍ‬ ‫ورة‬ ‫لقد‬ ‫َ‬ ‫صار قلبي قابالً َ ُ‬ ‫ألوثان وكعب ُة ط ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ـائف‬ ‫وبيت‬ ‫ٌ‬

‫هت‬ ‫بدين‬ ‫أدين‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫توج ْ‬ ‫الحب أنّى ّ‬ ‫ُ‬

‫إذا لم يكن ديني إلى ِ‬ ‫دينه داني‬ ‫ْ‬

‫فمرعى‬ ‫ً‬ ‫وألواح‬ ‫ُ‬

‫ٍ‬ ‫ودير لرهب ِ‬ ‫ان‬ ‫لغزالن‬ ‫َ ٌ ُ َ‬ ‫ٍ‬ ‫ومصحف قرآن‬ ‫توراة‬ ‫ُ‬

‫وإيماني‬ ‫فالحب ديني‬ ‫ركائبه‪،‬‬ ‫ُّ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ابن عربي‬


‫العدد رقم ‪� - 1‬أيــار ‪2013‬‬

‫املحتويات‬

‫فـ�صـل ـيـة فـكريـة ثـقافيـة تـعنى ب�ش ـ�ؤون امل�شــرق‬

‫امل�رشق‬

‫كلمة التحرير‬ ‫‪3‬‬

‫النه�ضة �أوالً‬

‫العلمانية اليوم‬ ‫‪7‬‬

‫‪81‬‬

‫حراك اجليو�سرتاتيجيا العراقية‬

‫‪95‬‬

‫�سوريا والق�ضية الفل�سطينية‬

‫‪107‬‬

‫الإ�سالم ال�سيا�سي والدميقراطية‬

‫‪45‬‬

‫الدين والدولة والعلمانية‬

‫‪55‬‬

‫العروبة والدين والف�صل بينهما‬

‫‪71‬‬

‫االت�صال واالنف�صال بني الإ�سالم‬ ‫والعلمانية‬

‫بعد انق�ضاء ت�سعة ع�رش عاما ً على‬ ‫املعاهدة الأردنية ‪-‬الإ�رسائيلية‬

‫املنطقة والعامل‬ ‫‪113‬‬

‫تركيا‪...‬عدو تاريخي ووكيل للمركز‬ ‫�ضد الأمة العربية‬

‫‪129‬‬

‫أوروبيون‬ ‫ميانيون ال �‬ ‫الب َبر‪...‬‬ ‫رَ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬

‫‪141‬‬

‫الو�ضع اال�سرتاتيجي والع�سكري‬ ‫االمريكي يف العامل‬


‫حتوالت‬

‫ف�صلية‪ ،‬فكرية‪ ،‬ثقافية‪ ،‬تعنى ب�ش�ؤون امل�شرق واملنطقة‬

‫هيئة التحرير‬

‫د‪ .‬فاتن املر‬ ‫د‪ .‬عاطف عطية‬ ‫ح�سن حماده‬ ‫ن�صري ال�صايغ‬

‫ت�صدر بالتعاون مع م�ؤ�س�سة �سعاده للثقافة‬ ‫�سعاده م�صطفى ر�شيد‬ ‫�سليمان بختي‬ ‫�سركي�س ابو زيد‬

‫ت�صميم الغالف‪ :‬طالل يحفويف‬ ‫االخراج الفني‪ :‬عالء �صقر‬ ‫املدير امل�س�ؤول‪� :‬سركي�س ابو زيد‬ ‫الربيد الإلكرتوين‪abouzeid@gmail.com :‬‬ ‫هاتف‪)00961-1( 751541 :‬‬ ‫�صندوق بريد‪ 113-7179 :‬بريوت ‪ -‬لبنان‪.‬‬ ‫ت�صدر يف طبعتني من فل�سطني ولبنان‬ ‫مدير عام طبعة فل�سطني‪� :‬سعاده م�صطفى ر�شيد‬ ‫هاتف‪0599305248 :‬‬ ‫�صندوق بريد‪ 41 :‬جنني ‪ -‬فل�سطني‬

‫بناية ر�سامني‪� ،‬شارع احلمرا‪ ،‬ر�أ�س بريوت‪،‬‬ ‫�صندوق بريد‪ 113-5557 :‬بريوت ‪ -‬لبنان‪.‬‬ ‫هاتف‪)00961-1( 753363 :‬‬ ‫فاك�س‪)00961-1( 753364 :‬‬ ‫الربيد الإلكرتوين‪saadehcf@idm.net.lb :‬‬ ‫املوقع الإلكرتوين‪www.saadehcf.org :‬‬ ‫ت�صدر مبوجب قرار رقم ‪ 82‬تاريخ‬ ‫�صادرة عن وزارة االعالم اللبناين‬

‫‪1981/7/6‬‬

‫توزيع‪ :‬النا�رشون‬

‫بريوت ‪ -‬امل�شرفية‪� ،‬سنرت ف�ضل اهلل ‪ -‬ط‬ ‫هاتف وفاك�س‪)00961-1( 277007 - 277088 :‬‬ ‫خليوي‪)00961-3( 975033 :‬‬ ‫اال�شرتاك ال�سنوي‬

‫للأفراد‪ 50 :‬دوالراً �أمريكياً‬ ‫للم�ؤ�س�سات‪ 100 :‬دوالر �أمريكي‬

‫املواد املن�شورة تعرب عن ر�أي كاتبها‬

‫‪4‬‬


‫‪3‬‬

‫كلمة التحرير‬ ‫النه�ضة �أوالً‬

‫مل حتقق النه�ضة العربية االوىل منوذجها‪ .‬مل تتج�سد يف بيئتها‪ ،‬وما ن�سب اليها كان م� ّشوهاً‪....‬‬ ‫ا�ستدرجت النه�ضة اىل اختيارات انتقائية‪ ،‬مزقت ن�سيجها الفكري الذي الت�أم يف �سياق نظري‬ ‫واحد‪ ،‬كان يفرت�ض �أن يبقى موحداً‪ ،‬من دون �أن يتعر�ض لتجزئة وا�ستالب‪ .‬ن�سيجها املتما�سك‪،‬‬ ‫حرية ودميقراطية وعلمانية وقومية ووحدة‪ .‬نه�ضة‪ ،‬حولتها التجربة ال�سيا�سية �إىل �سلعة مرفو�ضة‪،‬‬ ‫فامل�ؤمنون بالوحدة �أطاحوا باحلرية والدميوقراطية‪ ،‬ومل ينجزوا غري تكري�س التجزئة وتثبيتها وت�أبيدها‪،‬‬ ‫والداعون لتج�سيد احلرية والدميوقراطية‪ ،‬مل يلتفتوا �إىل مبد�أ ال�سيادة ومواجهة االحتالل والهيمنة‬ ‫والنفوذ اخلارجي‪ ،‬ف�أطاحوا باملقاومة من جهة وباملواطنة املج�سدة ملبد�أ العلمنة‪� ...‬إنه م�سار م�ضاد‬ ‫للنه�ضة‪ ،‬ما �شهدته االمة وال تزال‪ ،‬فانت�صرت املوروثات الدينية واملذهبية واالثنية على �أولوية‬ ‫العقل يف اعتباره ال�شرع واملرجع‪ ،‬ك�ضامن حلرية التفكري و�إبداع احللول وجت�سيد الرغبات و�صيانة‬ ‫احلقوق وت�أمني االنخراط يف عملية التفاعل املجتمعي‪ ،‬لت�أ�سي�س جمتمع تتناف�س فيه قواه وال‬ ‫تت�صارع‪ ،‬تخ�ضع ل�سيادة القانون وال تتجاوزه‪ ،‬معلية �ش�أن القيم واالن�سان يف املجتمع والأفراد‪.‬‬ ‫م�سار قاد االمة من مرتبة نظرية راقية وحمببة‪� ،‬إىل مرتبة التخلف ومهاوي التجزئة ومن�صات‬ ‫الديكتاتوريات وجماهل التعدد والتوح�ش‪� ،‬إثنياً وطائفياً ومذهبياً وجهوياً‪.‬‬ ‫لي�س يف ر�صيد امل�ؤ�س�سات واحلركات القومية ما يفيد �أنها ك�سبت جولة واحدة يف هذه املعركة‪،‬‬ ‫ولي�س يف ما و�صلت �إليه وما بلغته من �ضعف و�ضياع وهزال ما ي�شي ب�أنها قادرة على �إطالق‬ ‫مبادرة �إعادة ت�أ�سي�س �أو ت�أهيل جدية وطموحة‪ .‬فال هي راجعت م�سارها‪ .‬وال جتر�أت على نقد‬ ‫ل�سيا�ساتها و�أفكارها وبناها وخططها وعالقتها بالنا�س وباجلماهري التي ا�ستقلت عنها وا�ستقالت‬ ‫يف مهماتها بعد معاناة واحباط‪ .‬جل ما قامت به هذه امل�ؤ�س�سات‪� ،‬إن�شاء حقل وا�سع من‬ ‫التربيرات التي ّ‬ ‫�شكلت العقيدة املربمة لالنظمة وامل�ؤ�س�سات‪.‬‬ ‫ف�شلت النه�ضة الأوىل يف حتقيق منوذجها‪ :‬دولة الد�ستور والقوانني وامل�ؤ�س�سات‪ ،‬دولة الوطن‬ ‫واملواطن‪ ،‬دولة النظام الدميوقراطي امل�ؤ�س�س على مبد�أ املواطنة املرتكزة على االلتزام التام‬ ‫بامل�ساواة والعدالة وحرية االختيار‪ ،‬دولة القوة القادرة على �صيانة حقوقها ومواجهة التحديات‬ ‫الكربى اخلارجية‪ ...‬ف�شل النه�ضة هذا �أف�سح الطريق �أمام بدائل كارثية‪� :‬أنظمة ا�ستبدادية‬ ‫عدد رقم ‪� | 1‬أيـار‬

‫‪2013‬‬


‫‪4‬‬ ‫كلمة التحرير‬

‫قمعية‪ ،‬كيانات قطرية انعزالية‪ ،‬تنمية �إقت�صادية فا�شلة‪ ،‬تنمية ب�شرية هجينية‪ ،‬ما �أدى اىل ح�شر‬ ‫املجتمع يف م�سار التفكك الطائفي والأمني‪ ،‬الذي ير�شح املجتمع ملزيد من احلروب العدوانية‬ ‫من اخلارج‪ ،‬واحلروب امل�أ�ساوية امل�ؤ�س�سة على عنف اجلماعات االهلية‪ ،‬القبلية‪ ،‬الدينية‪،‬‬ ‫املذهبية‪ ،‬الطائفية‪ ،‬واالقليمية واالقوامية‪.‬‬ ‫مل تنج احلركات ال�سيا�سية من عواقب ف�شلها‪ ،‬فهي التي رفعت يف بداياتها قيم النه�ضة‬ ‫واحت�ضانها والعمل لتج�سيد مبادئها‪ ،‬وانتهت �إىل احزاب منكوبة من داخلها‪ ،‬ل�سوء فهمها‬ ‫وخطل ادائها وانعدام اخال�صها‪.‬‬ ‫زمن ال�سقوط بلغ امتالءه‪ ،‬بلغ مداه‪ .‬زمن النه�ضة يعا�صر القرون الو�سطى‪ ،‬ولقد �أزفت �ساعة �إ�سدال‬ ‫ال�ستارة على ما تبقى من �أوهام و�آمال خائبة‪� .‬إن الهاوية حتيق بامل�ستقبل العربي‪ ،‬فما العمل؟‬ ‫�أوالً‪� :‬إعادة قراءة منطلقات ومبادىء و�أفكار النه�ضة على قاعدة االنتماء الواعي لق�ضيتها‬ ‫وااللتزام ب�أولوياتها‪ ،‬والعمل ن�ضاليا لتحقيقها‪� .‬أولوية النه�ضة تفرت�ض مواءمتها مع �أدوات‬ ‫الواقع التي ن�ضجت من خالل برامج مو�ضوعية حت�سب فيها القدرات واالمكانات‬ ‫والظروف يف حقل قوى مناف�سة تقاتل باملوروث والتخلف لتحقيق م�صالح فئوية متزمتة‪.‬‬ ‫ثانيا ً‪� :‬إن الوعي بق�ضية النه�ضة يفرت�ض عدم الت�ضحية ب�أي مبد�أ من مبادئها‪ ،‬ل�صالح �أولويات‬ ‫م�ؤقتة‪ .‬وال يجوز �أن حتذف �أولوية مفرت�ضة‪� ،‬أولويات العمل املتوازن واملت�ضامن ل�صالح‬ ‫اقرار وحتقيق اولويات تفر�ضها امل�ؤ�س�سات؟ طبيعة الق�ضية ومرحلتها‪ .‬فالوحدة‪� ،‬إن اعتربت‬ ‫�أولوية‪ ،‬ال تلغي الدميوقراطية واحلرية‪ ،‬وهاتان ال تلغيان القومية وم�ستلزماتها‪ .‬فالدميوقراطية‬ ‫بال مواطنة وبال هوية‪ ،‬هروب بها �إىل اجلماعات القبلية التجزيئية‪ .‬والوحدة بال حرية‬ ‫ومواطنة وتنمية وعدالة وم�ساواة‪ ،‬تتحول ب�سرعة اىل �سلطة اعتباطية ا�ستئثارية تطيح‬ ‫بالوحدة والدميوقراطية وتهدد وحدة املجتمع يف ن�سيجه اال�صلي وفروعه الغنية‪.‬‬ ‫ثالثا ً‪ :‬اعتبار العمل الثقايف ركناً من �أركان العقل النه�ضوي‪ ،‬لأنه يفرت�ض �أن يعيد �إىل العقل‬ ‫مكانته و�شرعيته‪ ،‬كونه املرجع يف بلورة فكر دميوقراطي وحدوي مواجه ومقاوم‪.‬‬ ‫رابعا ً‪ :‬ال نه�ضة من دون قطع مع التخلف ومظاهره املت�شعبة‪ ،‬ومن دون قطع مواز مع النفوذ والت�سلط‬ ‫اخلارجي‪ ،‬وال ا�ستغالل وال �سيادة‪ ،‬من دون القطع مع نظام العوملة النيوليربايل‪ ،‬الذي يحيل اقت�صاد‬ ‫املجتمع �إىل اقت�صاد تبعي ا�ستهالكي‪ ،‬ويجعل من ثقافة الأمة‪ ،‬ثقافة التقليد واالقتبا�س بال �أي �إبداع‬


‫‪5‬‬ ‫كلمة التحرير‬

‫وا�صالة و�أفق‪� .‬إن احللول ال�سيا�سية املتاحة على م�ستوى االمة معدومة‪ .‬االبواب ال�سيا�سية مقفلة‬ ‫�أمام االنظمة القائمة واالحزاب والهيئات ال�سيا�سية‪ .‬لذلك ف�إن جمتمعاً تو�صد يف وجه م�ؤ�س�ساته‬ ‫املخارج ال�سيا�سية‪ ،‬ملزم ب�أن يعيد قراءة واقعة وح�ساب قواه‪ ،‬ل�صياغة ردوده اال�سرتاتيجية‪ ،‬م�ستعيناً‬ ‫بالثقافة والفكر‪ ،‬لو�ضع ما ي�صل اليه‪ ،‬يف برنامج مقاوم لأخطار اخلارج وكوارث الداخل‪.‬‬ ‫�صيغة هذه املقدمة‪ ،‬لي�ست بياناً حلركة‪ ،‬بل هي �إطار لعمل ي�ضع حجر الزاوية لنه�ضة قومية‬ ‫جديدة‪ ،‬عرب ابتداع و�سائل تخدم �أغرا�ض االمة م�ستفيداً من اخلربات ال�سابقة‪ ،‬وما �أجنزته‬ ‫مكت�سبات التقنيات احلديثة‪.‬‬ ‫«حتوالت م�شرقية» جملة دورية ت�صدر يف لبنان وفل�سطني‪ ،‬ملتزمة بالنه�ضة واملقاومة والعروبة‬ ‫العلمانية‪ ،‬ترف�ض التطبيع مع الكيان ال�صهيوين ب�أ�شكاله كافة‪ ،‬و�ضد كل تبعية للخارج و�ضد‬ ‫كل تربير للتخلف و�ضد كل تهاون مع اال�ستبداد‪.‬‬ ‫و«حتوالت م�شرقية» هذه‪ ،‬منفتحة على الفكر والثقافة والنقد والآخر‪ .‬ال ت�ؤمن بوحدانية‬ ‫املناهج واحلقائق واالفكار‪ .‬تدرك �أن ديكتاتورية الفكر وااليديولوجيا‪ ،‬تقود �إىل ت�شريع‬ ‫اال�ستبداد والقمع‪ .‬لذلك‪ ،‬هي ت ّعول على امل�ساهمات الثقافية والفكرية وال�سيا�سية النقدية‬ ‫واال�سرتاتيجية‪ ،‬وتن�أى عن الت�ضييق على احلرية‪ ،‬وحتديداً احلرية الفكرية‪.‬‬ ‫وعليه‪ ،‬فهي ملتقى تيارات خمتلفة‪ ،‬وخمترب ل�صراع الأفكار احلرة امللتزمة �أ�سا�ساً بعملية‬ ‫النهو�ض والتغيري والتعبري احلر‪.‬‬ ‫«حتوالت م�شرقية» ت�ؤمن �أن ال�صراع الفكري من �أجل فهم �أعمق للواقع‪ ،‬ومن �أجل العمل‬ ‫امل�شرتك نحو الغايات الف�ضلى‪ ،‬هو من مهماتها وم�س�ؤولياتها‪ .‬التزامها بالدميوقراطية واحلرية‬ ‫واالبداع والوحدة‪ ،‬ال يلغي �أبداً حق االختالف وحق الدفاع عن هذا االختالف‪.‬‬ ‫�إنها جملة املواطن يف وطن‪ .‬جملة االن�سان يف بيئته املجتمعية‪ ،‬جملة امل�ؤمن باحلقوق االن�سانية‬ ‫وملتزمة بالدفاع عنها وباحلقوق الوطنية والعمل لن�صرتها‪ ،‬وباحلقوق القومية والن�ضال من �أجل‬ ‫حتقيقها‪ .‬فهي جملة احلرية‪ ،‬ولهذا فهي حرة وال ترتبط ب�أي نظام �أو تنظيم �سيا�سي �أينما كان‪.‬‬ ‫ال زال يف هذا الزمن امل�أ�ساوي مكان لف�سحة �أمل وف�سحة قول وف�سحة فكر‪ ،‬و«حتوالت» حتاول‬ ‫�أن تكون هذا االمل‪.‬‬ ‫التحرير‬

‫عدد رقم ‪� | 1‬أيـار‬

‫‪2013‬‬



‫‪7‬‬

‫العلمانية اليوم‬

‫الإ�سالم ال�سيا�سي والدميقراطية‬ ‫| د‪.‬عادل �ضاهر |‬

‫من الأطروحات التي تتك ّرر يف �أدبيات بع�ض منظري احلركات الإ�سالمية الأطروحة املتمثلة‬ ‫بالإدعاء ب�أن ا�ستهداف �إقامة دولة �إ�سالمية ال يت�ضمن العودة �إىل مفهوم الدولة الدينية‪ ،‬كما‬ ‫عرفناه يف القرون الو�سطى امل�سيحية‪� .‬إن الدولة الإ�سالمية �أو(«دولة الإ�سالم»‪ ،‬بح�سب و�صف‬ ‫را�شد الغنو�شي) ‪ ،‬املزمع �إقامتها‪ ،‬لن تكون‪ ،‬يف نظر ه�ؤالء املنظرين‪ ،‬دولة كليانية‪ ،‬بل دولة حُتفظ‬ ‫فيها احلريات واحلقوق الفردية‪ ،‬مثلما حتفظ فيها حقوق الأقليات‪ .‬وال غرابة �أن جند ه�ؤالء املنظرين‬ ‫ي�صفون نظام ال�شورى الإ�سالمي امل�ستهدفة �إقامته من قبلهم ب�أنه النظري الإ�سالمي للدميقراطية‬ ‫حد تبني الدميقراطية يف جميع وجوهها و�سماتها‪ ،‬بل يعني‪،‬‬ ‫الغربية‪ .‬ال يعني هذا �أنهم يذهبون اىل ّ‬ ‫على الأقل‪� ،‬أنهم يعتقدون (�أو رمبا يتظاهرون باالعتقاد) ب�أن النظام الإ�سالمي املنتظر �سيحت�ضن‬ ‫فكرة التمثيل ال�سيا�سي‪� ،‬إ�ضافة اىل حفاظه على العديد من احلريات الدميقراطية‪ .‬بيت الق�صيد يف‬ ‫كل هذا �أن العلمانية هذا النظام لن ت�شكل عائقاً �أمام تزويده ببعد دميقراطي عاك�س خل�صو�صيات‬ ‫الإ�سالم والقيم الإ�سالمية‪.‬‬ ‫من اجلدير باملالحظة هنا �أن بع�ض املفكرين العرب الذين ال تربطهم باحلركات اال�سالمية �أي‬ ‫رابطة‪ ،‬فال هم من منظريها وال من �آبائها الروحيني وال حتى من املتعاطفني معها‪ ،‬يفرت�ضون‬ ‫ب�صورة م�ضمرة‪ ،‬على الأقل‪� ،‬إمكان تعاي�ش الدميقراطية مع نظام �إ�سالمي ال علماين‪ .‬يح�ضرين‬ ‫هنا‪ ،‬بخا�صة ا�سم املفكر املغربي حممد عابد اجلابري‪ .‬يعترب اجلابري �أن امل�شكلة الأ�سا�سية التي‬ ‫يواجهها العرب اليوم هي م�شكلة �إقامة نظام دميقراطي‪ ،‬ال �إقامة نظام علماين‪ .‬يف الواقع‪� ،‬إنه يعتقد‬ ‫�أن م�شكلة العلمانية (م�شكلة م�صطعنة)‪� .‬أنها اختلقت من قبل مفكرين م�سيحيني يف امل�شرق‪،‬‬ ‫ظناً منهم �أن العلمانية هي ال�ضمان حلقوق الأقليات �أو حلل م�شكلة احلريات واحلقوق عموماً ‪.‬‬ ‫�إن خط�أهم‪ ،‬يف اعتقاد اجلابري‪ ،‬كامن يف �أنهم يح ّولون الأنظار عن احلل احلقيقي والوحيد مل�شكلة‬ ‫احلريات واحلقوق‪ ،‬الفردية واجلمعية‪� ،‬أال وهو احلل الدميقراطي‪ ،‬مت�صورين‪ ،‬خط�أ‪� ،‬أن التهديد لهذه‬ ‫احلريات واحلقوق �آت ٍ عن عدم ف�صل اال�سالم عن ال�سيا�سة‪ .‬هنا جند اجلابري ميا�شي اال�سالميني‬ ‫يف اعتقادهم ب�أن عدم وجود طبقة �إكلريو�س يف اال�سالم ميكن �أن ت�ست�أثر بال�سلطة‪ ،‬كما ح�صل يف‬ ‫الغرب امل�سيحي‪ ،‬لهو عامل م�ساعد على التوفيق بني اال�سالم ال�سيا�سي والدميقراطية‪� ،‬أو على‬ ‫(‪)1‬‬

‫(‪)2‬‬

‫عدد رقم ‪� | 1‬أيـار‬

‫‪2013‬‬


‫‪8‬‬

‫العلمانية اليوم‬

‫�إقامة نظام �إ�سالمي دميقراطي ‪ .‬من هنا نفهم و�صفه م�شكلة العلمانية ب�أنها «م�شكلة م�صطعنة»‪.‬‬ ‫ان املوقف الذي �سندافع عنه هنا هو �أن العلمانية �شرط �ضروري للدميقراطية‪ ،‬و�إن مل يكن كافياً‪.‬‬ ‫مبعنى �آخر‪ ،‬النظام الالعلماين نظام غري دميقراطي بال�ضرورة‪ ،‬وال ي�صح العك�س‪� ،‬إذ بع�ض االنظمة‬ ‫العلمانية هي حتماً �أنظمة غري دميقراطية‪ .‬والطابع الالدميقراطي للنظام الالعلماين‪ ،‬كما �سنبينّ ‪ ،‬ال‬ ‫يرتبط ب�صورة من �صور هذا النظام دون �سواها‪� .‬إنه غري مق�صور‪ ،‬مث ًال‪ ،‬على ال�صورة التي يتخذها‬ ‫عندما ت�ست�أثر طبقة كطبقة االكلريو�س امل�سيحي بال�سلطة‪ .‬ف�سواء وجدت طبقة كهذه �أو مل توجد‪،‬‬ ‫ف�إن ال علمانية النظام ال ميكن �أن يتولد عنها‪ ،‬يف �أف�ضل حال‪� ،‬سوى دميقراطية �صورية‪ ،‬ال دميقراطية‬ ‫باملعنى اجلوهري الذي �سيتو�ضح من خالل نقا�شنا‪ ،‬ولذلك‪ ،‬و�إن كان ميكن للدميقراطية �أن تت� ّأ�س�س‬ ‫يف جمتمع �إ�سالمي‪ ،‬كما ت� ّأ�س�ست مث ًال يف جمتمعات م�سيحية �أو هندو�سية �أو بوذية‪� ،‬إال �أنها ال‬ ‫ميكن �أن تتعاي�ش مع اال�سالم ال�سيا�سي �أو ان تنمو وتزدهر يف ظل نظام يتخذ من الدين ‪� -‬أي‬ ‫دين ‪� -‬أ�سا�ساً له‪� .‬إذن‪ ،‬بعك�س ما يعتقده اجلابري‪ ،‬ال ميكن �أن تكون العلمانية «م�شكلة م�صطنعة»‬ ‫للعربي احلري�ص على �إقامة نظام دميقراطي حقيقي يف ظهرانينا حر�ص اجلابري نف�سه على ذلك‪،‬‬ ‫خ�صو�صاً و�أن فكرة كون الإ�سالم ديناً ودولة ما زالت فكرة ح ّية يف �أذهان الكثريين‪ ،‬وما زال‬ ‫مطلب �إقامة دولة �إ�سالمية مطلباً ا�سا�سياً حلركات �شتى ال ُي�ستهان بقوتها‪.‬‬ ‫ال يعنيني هنا ما �إذا كان الإ�سالم الديني يت�ضمن �أفكاراً �أو مبادىء م�ساندة للدميقراطية‪� ،‬أو ما‬ ‫�إذا كان نظام ال�شورى هو النظري الإ�سالمي للدميقراطية الغربية‪ ،‬فامل�س�ألة التي ت�ست�أثر باهتمامي ال‬ ‫تتعلق باال�سالم يف ذاته وبعقيدته الدينية وما يرتتب عليها من نتائج �سيا�سية‪ ،‬واجتماعية‪ ،‬وغري‬ ‫ذلك‪ .‬فهذه امل�س�ألة �سبق وعاجلناها يف م�ؤلف �آخر ‪ ،‬حيث ب ّينا �أن املاهية العقدية لدين �سماوي‬ ‫كالإ�سالم ينتمي اىل التقليد الإبراهيمي ال ميكن �أن تكون ذات نتائج �سيا�سية واجتماعية من �أي‬ ‫نوع‪ .‬كل ما ميكن قوله من �ضمن التقليد االبراهيمي‪ ،‬وعلى �أ�سا�س الت�صور النابع منه للألوهة‪،‬‬ ‫هو انه �إذا كان نظام �سيا�سي معني هو النظام الذي ت�شري االعتبارات العقلية �إىل �ضرورة تبنيه يف‬ ‫ظل �شروط معينة‪ ،‬دون �سواه من البدائل املتاحة لنا‪� ،‬إذن فال يعقل �أن يكون تبنيه خمالفاً للإرادة‬ ‫الإلهية‪ .‬فال ميكن �أن يكون عمل ما هو �صحيح �أو واجب عق ًال �شيئاً ميكن لكائن مطلق الكمال‬ ‫�أن ينهى عنه‪ .‬وهذا يعني �أنه �إذا كان اختيار النظام الدميقراطي هو االختيار ال�صحيح �أو الواجب‬ ‫عق ًال‪ ،‬يف ظل �شروطنا الراهنة‪� ،‬إذن فهو اختيار يت�ساوق مع الإرادة االلهية بال�ضرورة‪ .‬ولكن هذا‬ ‫ال يعني �أن �ضرورة اختيار هذا النظام م�شتقة من االعتقاد باهلل على نحو مبا�شر �أو غري مبا�شر‪ ،‬بل‬ ‫من االعتبارات العقلية وحدها‪.‬‬ ‫يف الواقع‪ ،‬ما نقوله عن اختيار النظام الدميقراطي‪ ،‬جلهة عدم �إمكان ا�شتقاقه من االعتقاد باهلل‪،‬‬ ‫ميكن تعميمه على كل االختيارات الأخرى على امل�ستوى ال�سيا�سي ‪ -‬االجتماعي‪ .‬فمن النافل‬ ‫القول �إن اختيارات كهذه م�شروطة ب�أو�ضاع الب�شراملتغرية و�أن ما هو �صحيح �أو واجب عق ًال‪ ،‬بني‬ ‫يتم يف ظلها هذا االختيار هي ما هي‪،‬‬ ‫هذه االختيارات‪ ،‬هو كذلك‪ ،‬جزئياً‪ ،‬لأن ال�شروط التي ّ‬ ‫(‪)3‬‬

‫(*)‬


‫الإ�سالم ال�سيا�سي والدميقراطية‬

‫العلمانية اليوم‬

‫‪9‬‬

‫ولو كانت خالف ما هي عليه‪ ،‬ملا كان هذا االختيار هو االختيار ال�صحيح بال�ضرورة‪� .‬أن نفرت�ض‪،‬‬ ‫�إذن‪� ،‬أن ثمة �أمراً مطلقاً موجهاً �إلينا من ال�سماء ب�ضرورة القيام بهذا االختيار �أو ذاك على امل�ستوى‬ ‫الدنيوي هو �أن نفرت�ض �أن م�صدر هذا االمر يت�صرف على نحو حتكمي وع�شوائي‪ .‬واالفرتا�ض‬ ‫االخري‪ ،‬بدون �أدنى �شك‪ ،‬خمالف لالعتقاد ب�أن اهلل بالذات هو م�صدر هذا الأمر‪ .‬فمن املتناق�ض‬ ‫منطقياً �أن نفرت�ض �أن كائناً كام ًال على نحو مطلق ميكن �أن يت�صرف على نحو حتكمي وع�شوائي‪.‬‬ ‫اذن‪� ،‬إما �أمر كهذا لي�س �أمراً �إلهياً �أو لي�س مطلقاً‪� .‬أن نفرت�ض‪� ،‬إذن‪� ،‬أنه �أمر الهي هو �أن نفرت�ض‬ ‫بال�ضرورة �أنه �أمر م�شروط‪� ،‬أي �أن تنفيذه منوط بتوافر �شروط من نوع معني‪ .‬ب�صورة �أخرى‪� ،‬إن‬ ‫اختيار العمل مبوجب هذا االمر هو اختيار �صحيح فقط يف ظل �شروط من نوع معني تتعلق ب�أو�ضاع‬ ‫الب�شر‪ ،‬وظروف حياتهم‪ ،‬وم�ستوى تطورهم‪ ....‬الخ‪ .‬من الوا�ضح‪� ،‬إذن‪� ،‬أنه ال ميكن ا�شتقاق كون‬ ‫هذا االختيار هو االختيار ال�صحيح فقط من االعتقاد بوجود اهلل ومن انه ي�أمرنا ب�أن نقوم بهذا‬ ‫االختيار‪ .‬فنحن نحتاج لأن نعرف‪� ،‬إ�ضافة �إىل ذلك‪ ،‬ما �إذا كانت �أو�ضاع الب�شر‪ ،‬وظروف حياتهم‪،‬‬ ‫ومرحلة تطورهم هي من النوع الذي يوجب هذا االختيار �أو يجعله م�ستح�سناً‪ ،‬على االقل‪� .‬إذن‪،‬‬ ‫ثمة اعتبارات م�ستقلة عن االوامر والنواهي االلهية تتق ّرر على �أ�سا�سها �صحة اختباراتنا على‬ ‫امل�ستوى ال�سيا�سي‪ -‬االجتماعي‪ ،‬كائنة ما كانت هذه االختبارات‪.‬‬ ‫لنرتك امل�س�ألة االخرية جانباً الآن ولرنكز على امل�س�ألة التي تعنينا ب�شكل �أ�سا�سي‪� ،‬أال وهي امل�س�ألة‬ ‫املتعلقة ب�إمكان التوفيق بني اال�سالم ال�سيا�سي (ولي�س اال�سالم الديني) والدميقراطية‪ .‬فهل ميكن‬ ‫للدميقراطية �أن تكون �سمة للنظام ال�سيا�سي املزمع �إقامته من قبل اال�سالميني؟ جوابي هو بالنفي‪،‬‬ ‫و�أخل�ص �أ�سبابه على النحو الآتي‪ .‬ال ميكن لنظام �سيا�سي دميقراطي �أن يجد تربة �صاحلة له يف‬ ‫الدولة الدينية (الالعلمانية) �أم�سيحية كانت ام ا�سالمية‪ ،‬لأن الدولة الدينية متيل بطبيعتها لأن‬ ‫تكون دولة كليانية (توتاليتارية)‪ ،‬والدولة الكليانية هي متاماً عك�س الدولة الدميقراطية‪ .‬ومبا ان‬ ‫الغر�ض اال�سا�سي لال�سالم ال�سيا�سي هو �إقامة دولة �إ�سالمية ‪� -‬أي دولة دينية ‪� -‬إذن ال �أمل يف �أن‬ ‫تكون الدميقراطية �سمة للنظام ال�سيا�سي لهذه الدولة‪ .‬ولكن‪ ،‬قبل اخلو�ض يف امل�س�ألة االخرية على‬ ‫نحو �أكرث تف�صيال‪ ،‬ال ّبد من تو�ضيح مفهوم الدولة الدينية ومفهوم الدولة الكليانية‪.‬‬ ‫يف مفهوم الدولة الدينية‬

‫يف حماولتنا تو�ضيح مفهوم الدولة الدينية‪ ،‬ب�إمكاننا �أن نتخذ من الدولة امل�سيحية القرو�سطية‬ ‫منوذجاً للتحليل‪ .‬ولكن ال ّبد من التحذير من املزالق املرتتبة على ا�ستعمال �أي حالة واقعية‬ ‫منوذجاً ال�ستخال�ص نتائج عامة بخ�صو�ص ما ي�شكل ال�سمات اجلوهرية للدولة الدينية‪ .‬فاحلالة‬ ‫الواقعية معطاة لنا من خالل �سماتها اجلوهرية والعار�ضة‪ ،‬و�إال فهي لي�ست حالة واقعية بل مثال‬ ‫نتوخ منتهى احلذر والدقة يف املالحظة‪ ،‬يف تفح�صنا للحالة الواقعية‪� ،‬سنكون‬ ‫جمرد‪ .‬ولذلك‪� ،‬إن مل َ‬ ‫عدد رقم ‪� | 1‬أيـار‬

‫‪2013‬‬


‫‪10‬‬

‫العلمانية اليوم‬

‫مع ّر�ضني للخلط بني العار�ض واجلوهري‪ ،‬فال ي�ؤدي جلو�ؤنا �إىل احلالة الواقعية �إىل �أي فائدة‪� .‬إن‬ ‫خلطاً كهذا هو ما جنده يف تناول اال�سالميني لطبيعة الدولة امل�سيحية القرو�سطية‪� ،‬إذ �إنهم خل�صوا‬ ‫�إىل النتيجة �أن املكون اجلوهري لها هو خ�ضوع مقدراتها ل�سيطرة رجال الدين من حيث كون‬ ‫االخريين ّيدعون لأنف�سهم دور الو�سطاء بني االن�سان وخالقه‪ .‬ومن النتيجة االخرية‪ ،‬م�ضافاً اليها‬ ‫�أنه ال مكان يف اال�سالم لطبقة كطبقة الإكلريو�س امل�سيحي‪ ،‬خل�صوا �إىل نتيجة �أخرى‪� ،‬أال وهي �أن‬ ‫الدولة الإ�سالمية املتوخاة لي�ست من جن�س الدولة امل�سيحية القرو�سطية‪.‬‬ ‫�إن الأغلوطة الكبرية يف املحاجة ال�سابقة تكمن يف النظر �إىل �سمة عار�ضة كال�سمة املتعلقة ب�سيطرة‬ ‫الإكلريو�س على مقدرات الدولة الدينية يف القرون الو�سطى على �أنها املكون اجلوهري ملفهوم‬ ‫الدولة الدينية يف الغرب امل�سيحي‪� .‬إن ال�س�ؤال الذي له كل االهمية يف ال�سياق احلايل لي�س‪ :‬ما‬ ‫هي اجلماعة �أو الطبقة التي ت�سيطر على مقدرات الدولة؟ بل‪ :‬ما هو اال�سا�س الذي ت�سوغ عليه‬ ‫هذه ال�سيطرة؟ فتدخل الإكلريو�س يف ال�ش�ؤون ال�سيا�سية �أو جعلهم الكني�سة املرجع الأخري يف كل‬ ‫ال�ش�ؤون الدنيوية‪ ،‬مثلما هي املرجع االخري يف كل ال�ش�ؤون الدينية‪ ،‬يقوم على �أ�سا�س اعتقادهم ب�أن‬ ‫القوانني الإلهية حتيط بال�ش�ؤون الدينية والدنيوية على حد �سواء و�أنهم (�أو كني�ستهم ممثلة فيهم) هم‬ ‫تت�ضمنه بخ�صو�ص كيفية تدبري �ش�ؤوننا الدنيوية‪� .‬إنهم مل يقدموا‬ ‫الأقرب �إىل فهم هذه القوانني وما ّ‬ ‫�أنف�سهم‪� ،‬إذن‪ ،‬على �أنهم خرباء يف �ش�ؤون الدنيا على �أ�سا�س �أنهم ذوو مرا�س طويل يف هذ ال�ش�ؤون‬ ‫�أو على �أ�سا�س �أنهم �أتقنوا من فنون ال�سيا�سة واالجتماع ما يفوق ما �أتقنه �سواهم‪ ،‬بل على �أ�سا�س‬ ‫�أنهم‪ ،‬دون �سواهم‪ ،‬يعرفون ما يريده منا اهلل يف دنيانا‪ ،‬مثلما يعرفون ما ينتظرنا يف �آخرتنا‪.‬‬ ‫�إن ثمة عدة افرتا�ضات �أ�سا�سية هنا‪ ،‬و�س�أخت�صرها يف ثالثة‪ .‬االفرتا�ض االول هو �أن العقيدة الدينية‬ ‫عقيدة �شاملة‪� .‬إنها حتيط بال�ش�ؤون الدنيوية مثلما حتيط بال�ش�ؤون الأخروية‪ .‬واالفرتا�ض الثاين هو‬ ‫يخ�ص كيفية تنظيمنا ل�ش�ؤوننا الدنيوية‪.‬‬ ‫�أن القوانني الإلهية‪ ،‬ال الإن�سانية‪ ،‬هي مرجعنا االخري فيما ّ‬ ‫وهذا يعني �أنه ينبغي �إما ا�شتقاق القوانني االن�سانية من القوانني االلهية �أو‪ ،‬يف حال تعذر ذلك‪،‬‬ ‫�ضمان عدم ت�ضارب ال�سابقة مع االخرية‪ .‬واالفرتا�ض الثالث والأخري هو �أن القوانني االلهية‬ ‫املوحى بها �إىل االنبياء بحاجة �إىل ت�أويل‪ ،‬خ�صو�صاً بالن�سبة ملا يرتتب عليها �أو‪ ،‬باالحرى‪ ،‬ملا يرتتب‬ ‫على التق ّيد بها على امل�ستوى الدنيوي‪ ،‬و�أنه لي�س متاحاً جلميع الب�شر �أن يحتلوا الو�ضع املنا�سب‬ ‫لت�أويلها كما ينبغي بل لفئة خمتارة منهم‪ .‬ما هو مهم يف هذا االفرتا�ض هو �أن كون القوانني االلهية‪،‬‬ ‫ال االن�سانية‪ ،‬هي مرجعنا الأخري‪ ،‬حتى على امل�ستوى الدنيوي‪ ،‬ال يعني �أنه ال دور لالن�سان يف‬ ‫ف�ض مكنون القوانني االلهية‪ ،‬كما هي معطاة‬ ‫ت�سيري �ش�ؤونه الدنيوية‪ .‬فعلى االن�سان تقع م�س�ؤولية ّ‬ ‫يف الن�صو�ص املقد�سة‪ ،‬وما يرتتب‪� ،‬سيا�سياً واجتماعياً‪ ،‬على العمل مبوجبها‪ ،‬و�ضمان عدم ت�ضارب‬ ‫القوانني االن�سانية مع م�ستلزماتها‪ .‬ولكن االن�سان الذي تقع عليه هذه امل�س�ؤولية لي�س �أي ان�سان‬ ‫على االطالق‪ ،‬بل �إن�سان تتوافر فيه موا�صفات معينة ت�ؤهلة �أكرث من �سواه ملعرفة ما يرتتب على‬ ‫تنفيذ القوانني الإلهية وت�ضمن عمله على تنفيذها بكل �إخال�ص وجترد‪ .‬ال �أهمية هنا‪ ،‬من الوجهة‬


‫الإ�سالم ال�سيا�سي والدميقراطية‬

‫العلمانية اليوم‬

‫‪11‬‬

‫املفهومية‪ ،‬ملا �إذا كان هذا االن�سان يف جبة �إكلريكية �أم خالف ذلك‪ ،‬بل ما له كل االهمية هو‬ ‫لف�ض مكنون القوانني الإلهية وا�ستعداده جلعل م�ستلزماتها نافذة بدون تر ّدد �أو‬ ‫�أهلية هذا االن�سان ّ‬ ‫حرج‪ .‬وهذا‪ ،‬ال �شك‪ ،‬ينطوي على موقف نخبوي يف املجال ال�سيا�سي‪.‬‬ ‫تتحدد‪ ،‬لي�س بكونها تخ�ضع‪ ،‬على‬ ‫ما يت�ضح يف �ضوء حتليلنا ال�سابق هو �أن طبيعة الدولة الدينية ّ‬ ‫تتحدد‬ ‫نحو مبا�شر �أو غري مبا�شر‪ ،‬ل�سلطة م�ؤ�س�سة دينية ما‪ ،‬بل مبا هو �أعمق من ذلك بكثري‪� ،‬إنها ّ‬ ‫بثالثة مبادىء مرتابطة‪.‬‬ ‫ولن�سمه من الآن ف�صاعداً بـ «املبد�أ الكلياين»‪.‬‬ ‫املبد�أ االول هو مبد�أ �شمولية العقيدة الدينية‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫واملبد�أ الثاين هو املبد�أ الذي يق�ضي ب�إخ�ضاع قوانني الب�شر للقوانني الإلهية‪� ،‬أي مبد�أ «احلاكمية‬ ‫هلل»‪ .‬واملبد�أ الثالث هو مبد�أ مركزانية �سلطة النخبة‪ .‬ال �شك �أن و�ضع هذه املبادىء الثالثة مو�ضع‬ ‫التنفيذ قد يقود‪ ،‬يف ظل ظروف م�ؤاتية‪� ،‬إىل جعل امل�ؤ�س�سة الدينية ذات نفوذ كبري يف املجال‬ ‫ال�سيا�سي ‪ -‬االجتماعي‪� ،‬أو حتى �إىل جعل الدولة حتت �سيطرتها املبا�شرة‪ ،‬كما هو احلال يف‬ ‫ايران مث ًال‪ .‬ولكن يبقى ح�صول �شيء كهذا جمرد مظهر لكون الدولة تقوم على املبادىء الثالثة‬ ‫املذكورة‪ .‬مبعنى �آخر‪� ،‬إنه لي�س مكوناً جوهرياً ملفهوم الدولة الدينية‪ ،‬وال عالقة منطقية‪� ،‬إذن‪ ،‬بني‬ ‫كون دول ٍة دولة دينية باملعنى احلق وكونها تخ�ضع ل�سيطرة امل�ؤ�س�سة الدينية‪� .‬إن عالقة كهذه‪� ،‬إن‬ ‫وجدت‪ ،‬هي عالقة �ضرورية واقعياً �أو تاريخياً يف �أف�ضل حال‪.‬‬ ‫ال ينحرف اال�سالميون مطلقاً عن هذا الت�صور للدولة الدينية كما يتحدد باملبادىء الثالثة‬ ‫املذكورة‪ .‬هذا ي�صدق على الذين ال يظهرون عداء للدميقراطية‪ ،‬مثل الغنو�شي والرتابي‪ ،‬مثلما‬ ‫ي�صدق على املعادين لها‪ ،‬مثل �سيد قطب و�أنور اجلندي‪� .‬إنهم جميعهم ينطلقون من فكرة‬ ‫�أن اال�سالم دين ودولة‪ ،‬وهي الفكرة التي تنطوي على املبد�أ االول‪ ،‬املبد�أ الكلياين‪ .‬لي�ست‬ ‫عالقة اال�سالم بالدولة �أو ال�سيا�سة‪ ،‬يف نظرهم‪ ،‬جمرد عالقة تاريخية �أملتها ظروف ن�ش�أة اال�سالم‬ ‫وال�صراعات التي خا�ضها‪ ،‬بل �إنها‪ ،‬كما ي�ص ّر ه�ؤالء اال�سالميون عالقة �ضرورية باملعنى املنطقي‬ ‫�أو املفهومي‪ .‬ال معنى‪ ،‬يف نظرهم‪ ،‬للف�صل‪ ،‬كما �أفعل �أنا او حممد �أحمد خلف اهلل �أو علي عبد‬ ‫الرازق‪ ،‬بني اال�سالم ال�سيا�سي واال�سالم الديني‪� .‬إنهما وجهان لعملة واحدة‪ .‬وهذا ال يعني لهم‬ ‫فقط �أن امل�سلم ملزم‪ ،‬باعتباره م�سلماً‪ ،‬ب�أن يقيم مواقفه من ق�ضايا ال�سيا�سة‪ ،‬واالجتماع‪ ،‬والقانون‬ ‫على �أ�سا�س اعتبارات م�ستمدة من تعاليم اال�سالم‪ ،‬بل �أن ي�سعى �إىل �إقامة الدولة على ا�سا�س‬ ‫تعاليم اال�سالم‪ .‬باخت�صار‪� ،‬إقامة دولة ا�سالمية هي واجب ديني‪.‬‬ ‫�إن االلتزام باملوقف االخري نابع بال�ضرورة من التزامهم باملبد�أ الثاين‪ ،‬مبد�أ احلاكمية هلل‪ .‬فال �شك‬ ‫�أن �سيد قطب كان ينطق بل�سان جميع اال�سالميني عندما �أعلن‪ ،‬كما �أعلن من قبله �أبو علي‬ ‫املودودي‪�« ،‬إن احلاكمية ت�أتي يف ر�أ�س اخل�صائ�ص الإلهية‪� ،‬أي حق احلاكمية املطلقة الذي ين�ش�أ عنه‬ ‫حق الت�شريع للعباد‪ ،‬وحق و�ضع املناهج حلياتهم‪ ،‬وحق و�ضع القيم التي تقوم عليها هذه احلياة» ‪.‬‬ ‫(‪)4‬‬

‫عدد رقم ‪� | 1‬أيـار‬

‫‪2013‬‬


‫‪12‬‬

‫العلمانية اليوم‬

‫واحلاكمية‪ ،‬يف نظره‪ ،‬هي عك�س اجلاهلية‪ .‬وهذا يعني له �أن اجلاهلية هي بال�ضرورة اخل�ضوع حلكم‬ ‫الب�شر‪ ،‬لأن احلاكمية هي‪ ،‬مفهومياً‪ ،‬حكم اهلل‪.‬‬ ‫�إن فكرة كون احلاكمية هي هلل وحده وا�ضحة �أي�ضاً يف كتابات اخلميني‪ ،‬و�أنور اجلندي‪ ،‬وح�سن‬ ‫البنا‪ ،‬و�سواهم‪ .‬يقول اخلميني «�إن احلكم الذي يقوم على التوحيد ينطلق من مبد�أ �أوحد هو‬ ‫القانون الإلهي‪ .‬احلكم هو حكم اهلل‪ ،‬واالنبياء ال يفعلون �شيئاً �سوى تنفيذ القانون االلهي» ‪.‬‬ ‫ويذهب �أنور اجلندي �إىل االعتقاد �أن اخلليفة ٍ‬ ‫وال يتمثل �إرادة اهلل بدرا�سته ال�شريعة وفهمه لها‪،‬‬ ‫يعاونه يف ذلك علماء الدين و�أعيان االمة بالن�صح وال�شورى‪ .‬ويف جمع اخلليفة لل�سلطتني‪ ،‬الروحية‬ ‫والزمنية‪ ،‬فهو �إمنا ميثل �إرادة اهلل‪ ،‬وبالتايل‪ ،‬ال يفعل �أكرث من تنفيذ القانون االلهي ‪ .‬لي�ست الفكرة‬ ‫اال�سا�سية‪ ،‬هنا‪ ،‬كما يهيىء لنا �أنور اجلندي‪� ،‬أن حاكمية اهلل ال تتم �إال عن طريق ٍ‬ ‫وال يجمع‬ ‫ال�سلطتني‪ ،‬الروحية والزمنية‪ .‬ف�سواء �أخذ اال�سالمي بفكرة اخلالفة او بفكرة �سواها‪ ،‬ف�إن امل�س�ألة‬ ‫اال�سا�سية له هي �أن اهلل وحده له احلق يف حكم الب�شر و�أن احلاكم الزمني‪� ،‬أخليفة كان �أم خالف‬ ‫ذلك‪ ،‬ال يفعل �أو‪ ،‬بالأحرى‪ ،‬ال يجوز �أن يفعل �أكرث من متثيل ارادة اهلل‪� .‬إن واجبه‪ ،‬كما ين ّبهنا‬ ‫ح�سن البنا‪ ،‬هو الوقوف عند احلدود الربانية النبوية فال يق ّيدنا بغري ما يقيدنا به اهلل ‪.‬‬ ‫من الوا�ضح �أن التزام اال�سالميني باملبد�أ الثاين يفر�ض حتويل الإلزام ال�سيا�سي �إىل �إلزام ديني‪.‬‬ ‫ف�إذا كانت احلاكمية‪ ،‬مفهومياً‪ ،‬هي هلل وحده‪� ،‬إذن االن�سان غري ملزم ب�أن يطيع احلاكم الزمني �إال‬ ‫�إذا كان ميثل �إرادة اهلل ويعمل فقط على تنفيذ القانون االلهي‪ .‬اذن‪� ،‬إلزامه بالطاعة للحاكم الزمني‬ ‫يف�سر الطابع املطلق لاللزام ال�سيا�سي يف الدولة‬ ‫م�ستمد من كونه ملزماً ب�أن يطيع خالقه‪ .‬وهذا ما ّ‬ ‫الدينية ‪ .‬فال ي�صدق على الدولة مفهوم الدولة الدينية �إال اذا كان احلاكم الزمني يحكم نيابة عن‬ ‫اهلل‪ .‬وما دام االن�سان ملزماً ب�أن يطيع خالقه على نحو مطلق‪� ،‬أي‪ ،‬كما يقول البنا‪« ،‬من غري تردد وال‬ ‫مراجعة وال �شك وال حرج»‪� .‬إذن الطابع املطلق لهذه الطاعة ال بد �أن ينتقل يف الدولة الدينية �إىل‬ ‫طاعة االن�سان للحاكم‪ .‬ال ي�صبح االن�سان يف ّ‬ ‫حل من االلتزام بطاعة احلاكم �إال �إذا رف�ض الأخري‬ ‫�أن يحكم وفق ما يقت�ضيه القانون االلهي‪� ،‬إذ هو‪ ،‬بذلك‪ ،‬يلغي الطابع الديني للدولة بتقوي�ضه �أهم‬ ‫مبادئها‪� ،‬أي مبد�أ احلاكمية هلل‪.‬‬ ‫ي�ستمد احلاكم الزمني �شرعيته‪� ،‬إذن‪ ،‬يف الدولة الدينية من كونه يحكم با�سم اهلل �أو نيابة عن اهلل‪.‬‬ ‫انها م�س�ألة عار�ضة متاماً �أن من يحكم با�سم اهلل هو من طبقة االكلريو�س �أو من طبقة �سواها‪� .‬إن‬ ‫طبيعة الدولة الدينية هي هي‪ ،‬بغ�ض النظر عمن ّيدعي احلكم با�سم اهلل‪� :‬أنها دولة ال �أ�سا�س فيها‬ ‫لل�شرعية �سوى متثيل �إرادة اهلل‪ ،‬وال معيار للإلزام ال�سيا�سي �سوى الإلزام الديني‪ .‬وهذا يعني �أنه‬ ‫ما دام احلكم �شرعياً‪ ،‬ف�إن االلتزام بطاعة احلاكم هو التزام مطلق‪ .‬وما دامت امل�س�ألة اجلوهرية يف‬ ‫الدولة اال�سالمية �أو دولة اال�سالم هي متثيل احلاكم او امل�ش ّرع لإرادة اهلل او �ضمانه عدم ت�ضارب‬ ‫القانون االن�ساين مع القانون االلهي‪� ،‬إذن من املحتوم ان تقوم هذه الدولة على املبد�أ الثالث‪ ،‬مبد�أ‬ ‫مركزانية �سلطة النخبة‪ .‬لي�س جميع الب�شر يف و�ضع ي�سمح لهم ب�أن يعرفوا ما هو م�ضمون القانون‬ ‫(‪)5‬‬

‫(‪)6‬‬

‫(‪)7‬‬


‫الإ�سالم ال�سيا�سي والدميقراطية‬

‫العلمانية اليوم‬

‫‪13‬‬

‫االلهي وما يرتتب عليه عملياً‪� ،‬أي ما يرتتب على تطبيقه يف املجال ال�سيا�سي والقانوين‪� .‬إ�ضافة �إىل‬ ‫ذلك‪ ،‬ال يكفي العلم بالقانون االلهي وما يرتتب على تطبيقه من نتائج‪ ،‬بل ثمة �شرط �آخر ال ميكن‬ ‫�أن تقوم للدولة اال�سالمية قائمة بدون توافره‪� ،‬أال وهو التزام احلاكم بتنفيذ هذا القانون باخال�ص‬ ‫وجترد‪ .‬هذا ال�شرط ‪ ،‬مثله مثل ال�شرط ال�سابق (�شرط العلم بالقانون االلهي)‪ ،‬ال ميكن �أن يتوافر‬ ‫�إال يف فئة خمتارة من الب�شر‪ .‬ال يجتمع هذان ال�شرطان ب�صورة تامة �إال يف �شخ�ص نبي‪ .‬ولكن يف‬ ‫غياب االنبياء‪ ،‬اخليار الوحيد �أمامنا هو �أن جنعل احلكم والت�شريع من �ش�أن نخبة من الب�شر تقرتب‪،‬‬ ‫جميعاً‪ ،‬من جمع هذين ال�شرطني يف ذاتها‪ .‬ال ميكن‪ ،‬عملياً‪� ،‬أال يكون لعلماء الدين والفقهاء‬ ‫دور �أ�سا�سي يف احلكم‪ ،‬نظراً لأنهم الأكرث تبحراً يف �ش�ؤون الدين واالقرب من �سواهم من فهم‬ ‫م�ضمون القانون االلهي وما يرتتب على تطبيقه‪ .‬ال يعني هذا بال�ضرورة الذهاب �إىل حد احت�ضان‬ ‫نظرية «والية الفقيه» اخلمينية‪ ،‬بل يعني‪ ،‬على االقل‪ ،‬ما عناه لأنور اجلندي مث ًال‪� ،‬أن احلاكم ال‬ ‫ّبد �أن يحكم مبعاونة رجال الدين‪ .‬حتى الغنو�شي مل ي َر منا�صاً من احت�ضان موقف اجلندي‪� .‬إنه‬ ‫يدعو �إىل حكم النخبة �ش�أن جميع اال�سالميني‪ .‬متار�س هذه النخبة ال�سلطة باعتبارها هيئة مهيكلة‬ ‫تتكون من كبار الق�ضاة وعلماء الدين الذين �إذا ما اجتمعوا على حكم ي�صري هذا احلكم جزءاً‬ ‫من ال�شريعة‪ ،‬و�إذا ما اجتمعوا على بيعة �إمام �صارت طاعته ملزمة للأمة كلها ‪ .‬ال نن�سى هنا �أن‬ ‫اجتماعها على بيعة �إمام هو مبثابة و�ضعها له يف و�ضع قمني مبمار�سته احلكم‪ ،‬بالتعاون مع هذه‬ ‫الهيئة‪ ،‬نيابة عن اهلل‪ .‬هنا نرى بو�ضوح كيف يتحول الإلزام ال�سيا�سي �إىل �إلزام ديني‪.‬‬ ‫(‪)8‬‬

‫يف مفهوم الدولة الكليانية‬

‫ثمة موازاة �شبه تامة بني املبادىء التي تقوم عليها الدولة الدينية واملبادئ التي تقوم عليها الدولة‬ ‫الكليانية‪ .‬لتو�ضيح ذلك‪ ،‬لنن�صرف �أو ًال �إىل تناول مفهوم الدولة الكليانية‪� .‬أول ما يتبادر �إىل‬ ‫�أذهاننا‪ ،‬يف تناولنا ملفهوم الدولة الكليانية‪ ،‬هو مدى حداثة هذا املفهوم‪ .‬فالب�شر مل يعرفوا الدولة‬ ‫الكليانية ويختربوا ويالتها �إال يف القرن الع�شرين الذي �شهد ظهور ال�ستالينية والنازية والفا�ش�ستية‬ ‫وما مثلته باعتبارها �أنظمة �سيا�سية‪ .‬ل�سنا معنيني هنا طبعاً بال�شروط التاريخية لظهور الدولة الكليانية‬ ‫وملاذا مل يعرف هذا النوع من التنظيم ال�سيا�سي قبل القرن الع�شرين‪ .‬ما يعنينا هو ال�س�ؤال‪ :‬ما‬ ‫الذي ي�شكل املكونات اجلوهرية ملفهوم الدولة الكليانية على خمتلف جت�سداته املعروفة؟‬ ‫ثمة مكونان جوهريان لهذا املفهوم‪ .‬املك ّون االول هو �أن ال�سلطة يف الدولة الكليانية متار�س با�سم‬ ‫جماعة �إيديولوجية معينة ي�ؤول �إليها وحدها احلق يف احلكم‪ .‬مبعنى �آخر‪ ،‬املكون االول يتعلق‬ ‫با�ستئثار جماعة �إيديولوجية معينة بال�سلطة على نحو دائم‪ .‬حقها يف احلكم هو غري حق حزب‬ ‫�سيا�سي يف احلكم يف االنظمة الدميقراطية‪ .‬ففي احلالة االخرية‪ ،‬احلق يف احلكم م�شروط بفوز‬ ‫احلزب على االحزاب املناف�سة يف االنتخابات العامة‪ .‬و�إن اتفق �أن حزباً �آخر فاز يف انتخابات عامة‬ ‫عدد رقم ‪� | 1‬أيـار‬

‫‪2013‬‬


‫‪14‬‬

‫العلمانية اليوم‬

‫الحقة‪ ،‬ف�إن احلكم �سيكون من ن�صيبه ال من ن�صيب ال�سابق‪� .‬أما يف النظام النازي‪ ،‬مث ًال‪ ،‬ف�إن حق‬ ‫احلزب النازي يف احلكم غري م�شروط‪ .‬ال �إمكان يف نظام كهذا لالعرتاف ب�شرعية �أي �أحزاب‬ ‫مناف�سة للحزب النازي‪ ،‬وال معنى‪ ،‬بالتايل‪ ،‬للقول �إن احلق يف احلكم قد ي�ؤول �إىل حزب مناف�س‪،‬‬ ‫يف حال توافر �شروط معينة كفوزه يف االنتخابات �أو ما �شاكل ذلك‪ .‬فرتكيبة النظام هي على نحو‬ ‫بحيث ميتنع من حيث املبد�أ توافر �شروط كهذه �ضمن هذا النظام‪ .‬فمفهوم فوز حزب مناف�س يف‬ ‫االنتخابات العامة‪ ،‬ولي�س مفهوم االنتخابات العامة نف�سه‪ ،‬ال تطبيق له �ضمن هذا النظام‪ ،‬ما دام‬ ‫ال يوجد اعرتاف ب�شرعية �أي حزب مناف�س‪ .‬من الوا�ضح‪� ،‬إذن‪� ،‬أن النظام الكلياين هو نظام يتميز‪،‬‬ ‫بالتعريف‪ ،‬با�ستئثار جماعة �إيديولوجية باحلق مبمار�سة ال�سلطة‪.‬‬ ‫املك ّون اجلوهري الثاين ملفهوم الدولة الكليانية هو �أن نطاق ال�سلطة ال�سيا�سية يف النظام الكلياين يت�سع‬ ‫حد يكاد ميتنع عنده الف�صل بني العام واخلا�ص‪ .‬فال القيم (الأخالقية والفنية) وال االعتقاد وال‬ ‫�إىل ّ‬ ‫الفكر وال الدين وال حتى ممار�سات الفرد يف حياته اخلا�صة تقع خارج حدود ال�سلطة ال�سيا�سية‪ .‬ويف‬ ‫النظامني الهتلري وال�ستاليني بوجه خا�ص‪ ،‬مل يكن حتى العلم مبن�أى عن م�ؤثرات قرارات ال�سلطة‬ ‫ال�سيا�سية ومواقفها الر�سمية‪ .‬فقد ُرف�ض‪ ،‬مث ًال‪ ،‬تدري�س النظرية الن�سبية يف االحتاد ال�سوفييتي يف العهد‬ ‫ال�ستاليني على �أ�سا�س قرار �سيا�سي ر�سمي‪ ،‬مثلما رف�ض تدري�س نظرية مندل يف الوراثة على نف�س‬ ‫الأ�سا�س‪� .‬أما يف النظام النازي ف�إن النظرية العن�صرية‪ ،‬كما هو معروف‪ ،‬عوملت وك�أنها نظرية مثبتة‬ ‫علمياً‪ ،‬ال ل�سبب �سوى �أن معاملتها كذلك هو ما اقت�ضاه املوقف الر�سمي لل�سلطة ال�سيا�سية منها‪.‬‬ ‫�إن تو�سيع نطاق ال�سلطة ال�سيا�سية يف الدولة الكليانية لي�شمل كل مناحي احلياة هو‪ ،‬كما ي�ؤكد‬ ‫نا�صيف ن�صار‪ ،‬مبثابة «دولنة للمجتمع» ‪ .‬مبعنى �آخر‪ ،‬يت�شكل املجتمع بالدولة‪ ،‬يف النظام الكلياين‪،‬‬ ‫وال تت�شكل الدولة باملجتمع‪ ،‬وهو يت�شكل بالدولة وفق ما تقت�ضيه الإيديولوجيا الر�سمية للحزب‬ ‫احلاكم‪ .‬و�إذا �أ�ضفنا �أن هذه االيديولوجيا تنطوي على نظرة �شاملة �إىل الكون‪ ،‬والفن‪ ،‬واحلياة‪،‬‬ ‫يت�ضح عندها �أن ما تقت�ضيه هذه االيديولوجيا هو �إعادة ت�شكيل �شبه تام للمجتمع‪ .‬والنظرة ال�شاملة‬ ‫التي ت�شكل االطار املرجعي للحزب احلاكم ت�ؤخذ على �أنها جت�سيد حلقائق مطلقة ال يطالها النقد‬ ‫من حيث املبد�أ‪ .‬وحده احلزب احلاكم ميتلك املعايري واملبادىء ال�صحيحة املطلوبة لتنظيم �ش�ؤون‬ ‫ال�سيا�سة‪ ،‬واالجتماع‪ ،‬واالقت�صاد‪ ،‬و�ضبط الفكر‪ ،‬وال�سلوك‪ ،‬والذوق‪ .‬من هنا يت�ضح �أن احتكار‬ ‫ال�سلطة ال�سيا�سية يف النظام الكلياين من قبل جماعة �إيديولوجية يقوم على افرتا�ضها احتكار‬ ‫احلقيقة يف كل جماالت احلياة‪ .‬كل من هم خارج هذه اجلماعة الإيديولوجية هم بال�ضرورة خارج‬ ‫احلقيقة‪� .‬إن هذا متاماً ما يف�سر ملاذا الدولة الكليانية هي دولة غري مت�ساحمة قط مع من يتحدون‬ ‫�سيا�سات الطبقة احلاكمة فيها‪ .‬من ينطلق من افرتا�ض عدم �إمكان وجود �أي خط�أ يف موقفه ال‬ ‫ميكنه �أن ينظر بت�سامح �إىل معار�ضيه لأنه ال يجوز الت�سامح مع اخلط�أ‪ .‬و�إذا كان موقف الالمت�سامح‬ ‫هو مبثابة اعتقاد ديني لديه‪ ،‬ف�إن االعرتا�ض عليه لي�س خط�أ فح�سب‪ ،‬بل خطيئة‪ ،‬مما ي�ضاعف مرات‬ ‫عديدة حجم الالت�سامح‪.‬‬ ‫(‪)9‬‬


‫الإ�سالم ال�سيا�سي والدميقراطية‬

‫العلمانية اليوم‬

‫‪15‬‬

‫بني الدولة الدينية والدولة الكليانية‬

‫من ال�سهل �أن نرى الآن‪ ،‬يف �ضوء ما �سبق‪ ،‬ان ثمة موازاة �شبه كاملة بني املبادىء التي تقوم عليها‬ ‫الدولة الدينية والتي تقوم عليها الدولة الكليانية‪.‬‬ ‫املبد�أ االول‪ ،‬كما ر�أينا‪ ،‬هو املبد�أ الكلياين‪ .‬يف الدولة الكليانية‪ ،‬كما عرفناها من خمتلف �أ�شكالها‬ ‫التي ظهرت فيها يف القرن املا�ضي‪ ،‬ثمة �أيديولوجيا علمانية توجه الفكر والعمل وتطال كل �أوجه‬ ‫احلياة‪ ،‬كما �سبق وب ّينا‪ .‬تقابل هذه الأيديولوجيا يف الدولة الدينية عقيدة الدين الذي تتخذ‬ ‫تعاليمه �أ�سا�ساً للحكم وم�صدراً للت�شريع يف هذه الدولة‪� ،‬أي عقيدة هذا الدين بح�سب الفهم‬ ‫اخلا�ص لها من قبل اجلماعة االيديولوجية التي ت�ست�أثر بال�سلطة ال�سيا�سية يف هذه الدولة‪� .‬إن نظرة‬ ‫هذه اجلماعة لعقيدتها الدينية هي متاماً كنظرة الكلياين �إىل عقيدته العلمانية‪ .‬يف كال احلالتني‪،‬‬ ‫ينظر كل فريق لعقيدته على �أنها �شاملة كل مناحي احلياة وتز ّودنا‪ ،‬بالتايل‪ ،‬باملعايري واملبادىء‬ ‫الالزمة لتوجيه و�ضبط الفكر‪ ،‬وال�سلوك‪ ،‬والذوق‪.‬‬ ‫املبد�أ الثاين الذي تقوم عليه الدولة الدينية‪ ،‬كما ر�أينا‪ ،‬هو مبد�أ «احلاكمية هلل»‪� .‬أما يف الدولة‬ ‫الكليانية يف �أ�شكالها املعروفة فاحلاكمية هي للحزب‪ ،‬ف�أين هي املوازاة بني احلالتني هنا؟ اجلواب‬ ‫ب�سيط‪ .‬يف الدولة الكليانية العلمانية يحكم احلزب وفق ما تقت�ضيه �أيديولوجيته ال�شاملة‪ .‬ويف الدولة‬ ‫الدينية‪ ،‬كما ر�أينا‪ ،‬تتحول حاكمية اهلل �إىل حاكمية جماعة �أيديولوجية ّتدعي احلكم با�سم اهلل �أو‬ ‫نيابة عن اهلل‪� ،‬أي تدعي انها ال تفعل ما يخالف �أوامر اهلل‪ .‬ولكن معرفة �أوامر اهلل‪ ،‬من منظورها‪،‬‬ ‫يف�سر ذاته‪ .‬فكما ن ّبهنا علي بن �أبي طالب «القر�آن‬ ‫ت�ستلزم العودة �إىل الن�ص الديني‪ ،‬واالخري ال ّ‬ ‫كتاب م�سطور بني دفتني ال ينطق‪ ،‬و�إمنا ينطق بها الرجال»‪ .‬ولكن َمن مِن الرجال ينطق به؟ الت�أويل‬ ‫�أو االجتهاد‪ ،‬نظرياً‪ ،‬مفتوح للجميع‪ ،‬ولكن‪ ،‬عملياً وواقعياً‪ ،‬هو لي�س فقط من احتكار الرجال دون‬ ‫الن�ساء‪ ،‬بل‪ ،‬يف ال�سياق الذي يعنينا‪ ،‬هو من احتكار جماعة من الرجال دون اجلماعات الأخرى‪.‬‬ ‫�إذن‪ ،‬ما يعنيه‪ ،‬عمليا وواقعياً‪ ،‬ت�أ�سي�س دولة على مبد�أ «احلاكمية هلل» هو �أن جماعة �أيديولوجية‬ ‫معينة ّتدعي لنف�سها‪ ،‬دون �سواها‪ ،‬احلق يف متثيل �إرادة اهلل هي التي �ستتوىل زمام احلكم على‬ ‫�أ�سا�س احتكارها للمعرفة ال�ضرورية مل�ضمون القانون االلهي وم�ستلزماته العملية وامتالك �أع�ضائها‬ ‫لل�صفات والف�ضائل ال�شخ�صية التي جتعل من املمتنع عليهم ع�صيان �أوامر ونواهي اهلل‪ .‬ف�إن جماعة‬ ‫كهذه ال مربر لوجودها‪� ،‬أ�ص ًال‪� ،‬سوى اعتقاد عنا�صرها ب�أنهم وحدهم امل�ؤهلون ملعرفة ما يريد منا اهلل‬ ‫يف دنيانا‪ ،‬ووحدهم القادرون على تنفيذ �أوامره ونواهيه ب�إخال�ص وجترد‪.‬‬ ‫ما يرتتب على كل هذا هو �أن الفهم اخلا�ص بجماعة معينة للعقيدة الدينية وما ت�ستوجبه على‬ ‫امل�ستوى ال�سيا�سي‪ ،‬واالجتماعي‪ ،‬والقانوين‪ ،‬واالخالقي‪ ،‬والفني هو ما يقابل الأيديولوجيا‬ ‫الكليانية العلمانية‪ .‬الكالم على احلاكمية االلهية يرتجم‪ ،‬يف هذه احلالة‪� ،‬إىل كالم على كون‬ ‫تخ�ص احلكم‬ ‫�أيديولوجيا اجلماعة الدينية امل�س ّي�سة للدين هي املرجع الأخري يف كل ال�ش�ؤون التي ّ‬ ‫عدد رقم ‪� | 1‬أيـار‬

‫‪2013‬‬


‫‪16‬‬

‫العلمانية اليوم‬

‫وتنظيم املجتمع‪ ،‬مثلما هي الأيديولوجيا النازية او ال�شيوعية‪ ،‬مث ًال‪ ،‬املرجع الأخري يف كل هذه‬ ‫ال�ش�ؤون يف النظام النازي �أو ال�شيوعي‪.‬‬ ‫بالن�سبة للمبد�أ الثالث والأخري‪ ،‬مبد�أ مركزانية �سلطة النخبة‪ ،‬ال نحتاج �إىل كبري عناء لندرك مدى‬ ‫�أهميته لكال الدولة الدينية والدولة الكليانية العلمانية‪ .‬ف�إذا كان احلكم ال�سوي يف كال احلالتني‬ ‫هو الذي ال يحيد عن الأيديولوجيا الر�سمية (الدينية �أو العلمانية) �إذن‪ ،‬بطبيعة احلال‪ ،‬ال يجوز‬ ‫�أن يحكم �إال من هو مزود بالفهم الالزم لاليديولوجيا الر�سمية ومتطلباتها العملية‪ ،‬ومن هو ملتزم‬ ‫بعدم االنحراف عنها‪ ،‬ومن له من ف�ضائله ومزاياه ال�شخ�صية ما ي�ضمن ثباته على التزامه هذا‪.‬‬ ‫ومن الوا�ضح �أنه غري متاح �سوى لفئة خمتارة من املنتمني للجماعة االيديولوجية اال�ستيفاء على‬ ‫ال�شروط املطلوبة‪ .‬ال�سلطة �إذن هي �سلطة النخبة‪.‬‬ ‫�إن املوازاة بني املبادىء التي تقوم عليها الدولة الدينية والتي تقوم عليها الدولة الكليانية العلمانية‬ ‫ال بد ان تقود‪ ،‬عملياً وواقعياً‪� ،‬إىل ا�شرتاكهما يف عدد من ال�سمات اال�سا�سية‪ .‬ر�أينا يف تناولنا ملفهوم‬ ‫الدولة الكليانية �إنها ذات �سمتني جوهريتني‪ ،‬ال�سمة املتعلقة باحتكار ال�سلطة ال�سيا�سية من قبل‬ ‫الطبقة احلاكمة وال�سمة املتعلقة بكون هذه ال�سلطة تطال كل مناحي احلياة وتكاد تزيل �أي حد‬ ‫فا�صل بني اخلا�ص والعام‪ .‬ال ميكن‪ ،‬يف نظري‪� ،‬سوى �أن جتتمع هاتان ال�سمتان يف الدولة الدينية‪.‬‬ ‫ولذلك �إن جناح �أي جماعة من اجلماعات املمثلة لال�سالم ال�سيا�سي يف �إحكام قب�ضتها على‬ ‫ال�سلطة ال�سيا�سية احكاماً تاماً ال ميكن ان يعني‪ ،‬يف التحليل االخري‪� ،‬أقل من احتكارها املطلق‬ ‫لهذه ال�سلطة وتو�سيعها على النحو الذي يتواءم مع مقت�ضيات املبد�أ الكلياين‪ .‬احتكارها ال�سلطة‪،‬‬ ‫فيما لو اتيحت لها الفر�صة لفعل ذلك‪ ،‬هو �أمر متوقع بكل ت�أكيد‪� ،‬إذ‪ ،‬من منظورها االيديولوجي‪،‬‬ ‫ال جماعة �سواها متثل ارادة اهلل‪ .‬ولن يكون هذا االحتكار لل�سلطة‪ ،‬من وجهة نظرها‪ ،‬ترتيباً موقتاً‪،‬‬ ‫كاحتكار الربوليتاريا لل�سلطة يف النظرية املارك�سية‪ ،‬بل �سيكون ترتيباً دائماً تفر�ضه طبيعة الب�شر من‬ ‫حيث هم‪ ،‬بح�سب و�صف اخلميني‪« ،‬حيوانات بحاجة �إىل تروي�ض» بوا�سطة التعاليم الدينية ‪.‬‬ ‫ومن تقع على �أكتافهم م�س�ؤولية «تروي�ض» الب�شر هم طبعاً الذين يدعون النف�سهم احلق يف متثيل‬ ‫�إرادة اهلل على �أ�سا�س كونهم اجتازوا مرحلة «الرتوي�ض» و�صاروا م�ستوفني لكل ال�شروط املطلوبة‬ ‫الكتمال �شخ�صيتهم اال�سالمية بكل ما يعنيه هذا من فهم و�إخال�ص لتعاليم دينهم‪ ،‬وتفان يف‬ ‫خدمة ربهم ور�سوله‪ ،‬وجترد يف تنفيذ �أوامره ونواهيه‪� .‬إنهم‪ ،‬مبعنى �آخر‪ ،‬الذين يفرت�ضون يف �أنف�سهم‬ ‫االهلية والقدرة على «تروي�ض» الب�شر‪� ،‬أي على خلق االن�سان املدين ال�صالح واملجتمع املدين‬ ‫ال�صالح بتعاليم الدين احلنيف‪.‬‬ ‫حد توحيد ر�سالتهم (= ايديولوجيتهم) بر�سالة اهلل‬ ‫من هنا نفهم ملاذا يذهب اال�سالميون �إىل ّ‬ ‫بالذات‪ .‬فهذا �سيد قطب‪ ،‬مث ًال‪ ،‬ي�صف ر�سالة االخوان ب�أنها عينها ر�سالة اهلل «التي جاءت تعر�ض‬ ‫اال�سالم يف �صورته النهائية‪ ...‬ليكون دين الب�شرية كلها ولتكن �شريعته هي �شريعة النا�س جميعاً‬ ‫ولتهيمن على كل من كان قبلها وتكون هي املرجع النهائي ولتقيم منهج احلياة الب�شرية حتى يرث‬ ‫(‪)10‬‬


‫الإ�سالم ال�سيا�سي والدميقراطية‬

‫العلمانية اليوم‬

‫‪17‬‬

‫اهلل الأر�ض ومن عليها» ‪� .‬إن توحيد قطب بني �أيديولوجيا احلركة اال�سالمية التي ارتبط ا�سمه‬ ‫بها‪ ،‬ور�سالة اهلل يجعل هذه االيديولوجيا مطلقة مبعنى مزدوج‪ .‬فهي‪ ،‬من جهة‪ ،‬مطلقة مبعنى �أنها‬ ‫ت�شتمل على حقائق مطلقة‪ ،‬مما يجعلها �صاحلة لكل زمان ومكان‪ .‬وهي‪ ،‬من جهة ثانية‪ ،‬مطلقة مبعنى‬ ‫�أنها املرجع النهائي‪� ،‬أي �إن «احلقائق» التي ت�شتمل عليها هي اال�سا�س الأخري الذي ت�شتق منه كل‬ ‫احلقائق االخرى‪ ،‬الدينية والدنيوية‪ ،‬وهي لهذا ال�سبب ال تخ�ضع لأي معايري م�ستقلة‪.‬‬ ‫من النتائج املرتتبة على املوقف االخري النتيجة التي ر�آها قطب نف�سه بو�ضوح‪ ،‬اال وهي �أن‬ ‫هذه االيديولوجيا ال ميكن �أن ت�سمح بالتعددية‪ .‬فكما يقول قطب‪ ،‬وك�أنه ينطق بل�سان جميع‬ ‫اال�سالميني‪�« ،‬إن هناك حزباً واحداً هلل ال يتعدد و�أحزاب �أخرى كلها لل�شيطان والطاغوت» ‪ .‬فاذا‬ ‫كانت هذه االيديولوجيا مطلقة باملعنى املزدوج الذي بيناه‪ ،‬فهي كذلك لأنها متثل‪ ،‬يف نظر دعاتها‪،‬‬ ‫ر�سالة اهلل التي ال تتعدد‪� .‬إذن من الطبيعي �أن ينظروا �إىل احلزب الذي يحمل هذه الر�سالة على‬ ‫�أنه حزب اهلل وانه ال �شرعية لأي حزب �آخر �سواه‪.‬‬ ‫ينم عن اعتقاد اال�سالميني بـ «الربانية» يف قادة و�أع�ضاء حركتهم‪ .‬والرباين هو‬ ‫�إن هذا التفكري ّ‬ ‫املتم�سك بتعاليم اال�سالم‪ ،‬واملتبحر فيه‪ ،‬ومن ي�شعر‪ ،‬بالتايل‪ ،‬باال�ستعالء على �سواه باعتبار �أنه‬ ‫ميلك احلقيقة املطلقة كاملة لأنه من حزب اهلل‪ ،‬بينما �سواه فاقد لها لأنه من حزب ال�شيطان‪.‬‬ ‫ولذلك جند �أن من االمور التي ي�شرتطها ح�سن البنا يف �أخذ البيعة على الأخوان التج ّرد وي�شرحه‬ ‫بقوله «ان تخل�ص لفكرتك من كل ما �سواها من املبادىء لأنها �أ�سمى الفكر و�أجمعها و�أعالها» ‪.‬‬ ‫�إن هذا ي�شي بو�ضوح عن اليقني التام ب�أن اجلماعة بيدها احلقيقة املطلقة‪.‬‬ ‫ان �إ�ضفاء اال�سالميني على �أيديولوجيتهم هذا الطابع املطلق هو �أول خطوة هامة نحو الكليانية‬ ‫لأنه �سيقود‪ ،‬ال حمالة‪ ،‬يف حال ت�سلمهم زمام احلكم‪� ،‬إىل احتكار ال�سلطة ال�سيا�سية وقطع دابر �أي‬ ‫معار�ضة �سيا�سية‪ .‬فال ميكن جلماعة تدعي لنف�سها فقط احلق يف متثيل �إرادة اهلل‪ ،‬كائنة ما كانت‬ ‫هويتها الدينية‪� ،‬أن تقبل‪ ،‬من حيث املبد�أ‪ ،‬ان يكون لأي جماعة �سواها احلق يف �أن حتكم‪ ،‬حتى‬ ‫و�إن ادعت االخرية �أنها ال تفعل �أكرث مما ي�ستلزمه القانون االلهي يف املجال الدنيوي‪ ،‬ال�سيا�سي‬ ‫وغري ال�سيا�سي‪� .‬إذن‪ ،‬املح�صلة االخرية لنجاح جماعة كهذه يف �إحكام قب�ضتها على زمام احلكم‬ ‫هي فر�ضها لفهمها االيديولوجي للقانون االلهي على املجتمع ب�أكمله عن طريق احتكارها لل�سلطة‬ ‫ال�سيا�سية‪ .‬احلاكمية املطلقة �ست�ؤول اليها وحدها‪ ،‬علمياً‪ ،‬مهما بالغ قادتها ومنظروها يف ت�أكيدهم �أن‬ ‫احلاكمية هلل وحده و�أنهم جمرد وا�سطة لتنفيذ �أوامره ونواهيه‪.‬‬ ‫لن يقف الأمر‪ ،‬كما ر�أينا‪ ،‬عند حد احتكار جماعة �أيديولوجية كهذه لل�سلطة ال�سيا�سية با�سم‬ ‫الدين‪ ،‬بل �إنه �سيتجاوز ذلك اىل قيام هذه اجلماعة بدولنة �شبه تامة للمجتمع‪� ،‬أي بتو�سيع دائرة‬ ‫ال�سلطة ال�سيا�سية �إىل حد يكاد يلتغي عنده التمييز بني العام واخلا�ص‪ .‬فال�سلطة االلهية‪ ،‬بح�سب‬ ‫فهمهم االيديولوجي لها‪� ،‬شاملة لكل مناحي احلياة‪ ،‬الروحية والزمنية على حد �سواء‪ .‬ولذلك ما‬ ‫(‪)11‬‬

‫(‪)12‬‬

‫(‪)13‬‬

‫عدد رقم ‪� | 1‬أيـار‬

‫‪2013‬‬


‫‪18‬‬

‫العلمانية اليوم‬

‫�سيعنيه‪ ،‬عملياً واقعياً‪ ،‬احتكار هذه اجلماعة لل�سلطة ال�سيا�سية هو حتويل ال�سلطة االلهية ال�شاملة‬ ‫�إىل �سلطة �سيا�سية متار�سها فئة خمتارة من هذه اجلماعة‪� ،‬سلطة ال يفلت من هيمنتها �أي جانب‬ ‫من جوانب احلياة االجتماعية‪ ،‬واالقت�صادية‪ ،‬والرتبوية‪ ،‬والفكرية ‪ ،‬والفنية‪ .‬ومن الوا�ضح هنا �أن‬ ‫ترجمة ال�سلطة االلهية ال�شاملة �إىل �سلطة �سيا�سية تتم يف �ضوء قراءة �أيديولوجية خا�صة باجلماعة‬ ‫املعنية مل�ضمون القانون االلهي‪ .‬وم�ؤدى هذا ت�سيي�س �أو �أدجلة لكل �ش�ؤون احلياة‪ ،‬وتذويب للخا�ص‬ ‫يف العام‪ ،‬وحتويل كامل للنظام ال�سيا�سي �إىل نظام كلياين‪.‬‬ ‫حزب النه�ضة التون�سي والدميقراطية‬

‫قد يتفق معنا عدد من الدار�سني بخ�صو�ص ادعائنا �أن الدولة املزمع �إقامتها من قبل اال�سالميني ال‬ ‫بد �أن جت�سد املبادىء الثالثة التي اعتربناها من املكونات اجلوهرية للدولة الدينية‪ .‬وقد ال يجد ه�ؤالء‬ ‫�أي �سبب لالعرتا�ض على ادعائنا �أن هناك عالقة بني كون دولة تقوم على هذه املبادىء الثالثة‬ ‫دولة كليانية‪ ،‬وبالتايل الدميقراطية‪� ،‬شريطة �أال نفهم هذه العالقة على �أنها واجبة منطقياً �أو مفهومياً‪،‬‬ ‫بل على �أنها‪ ،‬يف �أف�ضل حال‪ ،‬عالقة جائزة‪ .‬مبعنى �آخر‪ ،‬قد يقبل ه�ؤالء الدار�سون ادعاءنا االخري‬ ‫فقط �إذا فهمناه على �أنه ال يعني �أكرث من ان تطبيق املبادىء الثالثة املعنية هو �شرط �ضروري ال‬ ‫كاف لقيام نظام كلياين الدميقراطي‪ .‬ومعنى هذا �أنه �إذا كان تطبيق هذه املبادىء �سيقود �إىل قيام‬ ‫نظام كالأخري �أم ال �أمر يتوقف على �شروط �أخرى‪� .‬أي �شروط هي هذه؟ اجلواب املحتمل هنا هو‬ ‫�أن هذه ال�شروط تخت�صر يف �شرط واحد �أ�سا�سي‪� ،‬أال وهو ال�شرط املتعلق بكيفية فهم املنادين ب�إقامة‬ ‫دولة ا�سالمية �أو «دولة اال�سالم» لهذه املبادىء الثالثة‪ .‬قد ينطبق على اال�سالميني عموماً �أن‬ ‫ت�أويلهم لها يقودهم يف اجتاه كلياين ال دميقراطي‪ ،‬ولكن ما ي�صدق على وجه العموم ال ي�صدق يف‬ ‫كل احلاالت‪ .‬يف الواقع‪ ،‬يعتقد ه�ؤالء الدار�سون �أن ثمة حركة ا�سالمية ت�ستثنى من هذا التعميم‪،‬‬ ‫�أال وهي احلركة اال�سالمية يف تون�س املمثلة بحزب النه�ضة الذي يقوده را�شد الغنو�شي‪ .‬يعتقد‬ ‫بع�ضهم �أي�ضاً �أن احلركة التي يقودها ح�سن الرتابي يف ال�سودان هي ا�ستثناء �آخر ‪.‬‬ ‫ال�س�ؤال املطروح الآن هو‪ :‬كيف‪ ،‬بل هل ميكن ت�أويل هذه املبادىء الثالثة على نحو يق ّرب النظام‬ ‫ال�سيا�سي املزمع �إقامته على هذه املبادىء من �أن يكون نظاماً دميقراطياً؟ �سنكتفي هنا بتناول �أفكار‬ ‫را�شد الغنو�شي لعدم وجود �أي فروقات جوهرية بينه وبني الرتابي‪� .‬سرنكز �أو ًال على كيف ميكن‬ ‫فهم املبادىء الثالثة املعنية يف �ضوء فكر الغنو�شي لننطلق من ثم �إىل معاجلة ال�س�ؤال‪ :‬هل ميكن‬ ‫لفهمها على هذا النحو ان يق ّرب الدولة التي �ستقام عليها من �أن تكون دولة دميقراطية؟‬ ‫(‪)14‬‬


‫العلمانية اليوم‬

‫الإ�سالم ال�سيا�سي والدميقراطية‬

‫‪19‬‬

‫الغنو�شي و«دولة اال�سالم»‬

‫ال �شك �أن الغنو�شي كما �أملحنا �سابقاً يتبنى املبادئ الثالثة املرتبطة مبفهوم الدولة الدينية‪ .‬فهو ال‬ ‫يختلف عن �سائر اال�سالميني يف نظرته �إىل اال�سالم ال�سيا�سي‪� ،‬أو ب�صورة �أكرث تعميماً اال�سالم‬ ‫الثقايف‪ ،‬على �أنه متمم �ضروري لال�سالم الديني‪ .‬اال�سالم‪ ،‬مبعنى �آخر‪ ،‬ميثل له عقيدة �شاملة‬ ‫كل مناحي احلياة ‪ .‬وامل�سلم احلقيقي‪ ،‬تبعا لذلك‪ ،‬هو من يقي�س املواقف من الق�ضايا العامة او‬ ‫ال�ش�ؤون الزمنية مبقيا�س �إ�سالمي‪ ،‬متاما مثلما يقي�س املواقف من الق�ضايا الروحية وال�ش�ؤون االخروية‬ ‫مبقيا�س �إ�سالمي‪ .‬وهذا بدون �أدنى �شك يقب�ض على الفحوى الأ�سا�سية للمبد�أ الكلياين‪ .‬فالنظر‬ ‫اىل العقيدة اال�سالمية على �أنها �شاملة لكل مناحي احلياة هو مبثابة �إلزام امل�سلم باملبد�أ‪ :‬ينبغي‬ ‫جعل العقيدة اال�سالمية مرجعنا االخري يف كل ال�ش�ؤون الروحية والزمنية على حد �سواء‪� ،‬أي‬ ‫باملبد�أ الكلياين‪.‬‬ ‫وهو �أي�ضا يلتزم مببد�أ «احلاكمية هلل» و�إال ملا كان �أي معنى حلركتة امل�ستهدفة �إقامة ما ي�سميه بـ‬ ‫«دولة اال�سالم»‪� .‬إن و�صف الدولة املن�شودة بـ «دولة اال�سالم» كما ي�ؤكد لنا هو نف�سه‪ ،‬هو لغر�ض‬ ‫حتديد اال�سالم بالذات على �أنه ميثل املرجعية االخرية للدولة ‪ .‬وهذا يعني �أن الت�شريع يف دولة‬ ‫اال�سالم مق ّيد بالقانون االلهي‪ .‬وما يعنيه هذا‪ ،‬عمليا‪ ،‬هو عدم جواز جتاوز الهيئة الت�شريعية ملا‬ ‫جاء يف الن�صو�ص املقد�سة‪ ،‬بح�سب القراءة الر�سمية لهذه الن�صو�ص‪ .‬ولكن ما يعنينا الآن هو �أن‬ ‫الغنو�شي ال يحيد عن مبد�أ «احلاكمية هلل»‪ ،‬اذ ا�صراره على جعل اال�سالم مرجعنا االخري حتى يف‬ ‫�ش�ؤون احلكم والت�شريع يف الدولة املن�شودة‪ ،‬هو مبثابة جعل اهلل لي�س جمرد �شريك يف احلكم‪ ،‬بل‬ ‫�صاحب القول الف�صل فيما يخ�ص �ش�ؤون احلكم و�صاحب احلق املطلق يف �إبطال ما ي�سنه الب�شر‬ ‫من قوانني وما يختطونه من �سيا�سات‪ .‬ف�شرعية القوانني وال�سيا�سات يف دولة اال�سالم‪ ،‬مثلها مثل‬ ‫�شرعية الدولة ذاتها‪ ،‬منوطة بكونها ال حتيد عن القانون االلهي‪� ،‬أي عما ي�أمر به اهلل وعما ينهى عنه‪.‬‬ ‫كذلك‪ ،‬ال �شك يف التزام الغنو�شي باملبد�أ الثالث مبد�أ مركزانية �سلطة النخبة‪� .‬إنه‪ ،‬كما ر�أينا‪ ،‬يدعو‬ ‫�إىل حكم النخبة �ش�أن جميع اال�سالميني‪ .‬والنخبة هي هيئة مهيكلة تتكون‪ ،‬كما ذكرنا �سابقا‪ ،‬من‬ ‫كبار الق�ضاة والعلماء‪ ،‬وال حدود ل�سلطاتها الت�شريعية �سوى ما يقيدها به القانون االلهي‪.‬‬ ‫لنن�صرف الآن �إىل تناول ال�س�ؤال اال�سا�سي الذي يعنينا هنا‪ :‬كيف ميكن لـ «دولة اال�سالم»‬ ‫الغنو�شية ان تكون النظري اال�سالمي للدميقراطية الغربية‪ ،‬ما دامت تقوم على املبادىء الثالثة‬ ‫االخرية؟ ال يدعي الغنو�شي طبعاً �إن «دولة اال�سالم» املن�شودة �ستكون دولة دميقراطية باملعنى‬ ‫الغربي املعروف‪� .‬أنه يك ّرر مقولة الكثري من اال�سالميني الذين يتظاهرون بالغرية على احلريات‬ ‫الدميقراطية �أن ملجتمعاتنا اال�سالمية ظروفها اخلا�صة ومبادئها وقيمها اخلا�صة التي جتعل من املتعذر‬ ‫�أخذ النظام الغربي بحذافريه‪ .‬ما يهم الغنو�شي هو معنى الديقراطية الكامن يف كونها و�سيلة جلعل‬ ‫االرادة ال�شعبية حرة ونافذة على امل�ستوى ال�سيا�سي‪ ،‬ولي�س معناها بو�صفها قيماً متخ�ضت عنها‬ ‫(‪)15‬‬

‫(‪)16‬‬

‫عدد رقم ‪� | 1‬أيـار‬

‫‪2013‬‬


‫‪20‬‬

‫العلمانية اليوم‬

‫جتارب الغربيني ‪ .‬قبول الدميقراطية‪ ،‬مبعنى �آخر‪ ،‬م�شروط بتجريدها من كل ما ال ين�سجم مع‬ ‫�أحكام اال�سالم‪ ،‬مع قيم ومبادىء ومقا�صد اال�سالم‪.‬‬ ‫من الوا�ضح هنا �أن الغنو�شي‪� ،‬ش�أنه يف ذلك �ش�أن �أي �إ�سالمي «دميقراطي» ال يلتزم بالدميقراطية‬ ‫�أو ب�أي معنى من معانيها ‪ ،‬بدئياً‪ ،‬على �أ�سا�س اعتبارات عقلية م�ستقلة‪� .‬إنه ي�شرط االلتزام بها �أو‬ ‫ب�أي معنى من معانيها بكون هذا االلتزام ال يخالف احكام اال�سالم ‪ ،‬و�إال ال يكون مت�سقاً مع‬ ‫ذاته‪ ،‬نظراً لكونه يجعل اال�سالم املرجع االخري يف كل ال�ش�ؤون‪� .‬إن موقفاً كهذا ال يعني للغيورين‬ ‫على الدميقراطية �أي �ضمانات ان «دولة اال�سالم» املن�شودة �ستكون دميقراطية حتى باملعنى الذي‬ ‫احلد االدنى من ال�شروط ال�ضرورية لوجود نظام دميقراطي‪ .‬وجود �أو عدم وجود نظام‬ ‫ي�ؤمن توافر ّ‬ ‫دميقراطي يف «دولة اال�سالم» �سيتوقف على كيفية فهم القيمني على �ش�ؤون الدولة لال�سالم‬ ‫و�أحكامه وما تنطوي عليه من قيم ومقا�صد‪ .‬و�إذا كان فهم الغنو�شي‪ ،‬كما ّيدعي هو نف�سه‪ ،‬يتيح‬ ‫لنا التوفيق بني اال�سالم ومتثل بع�ض اجلوانب الهامة للدميقراطية الغربية‪ ،‬ف�إنه ال �ضمان مطلقاً �أن‬ ‫هذا الفهم هو الذي �سيثبت لأن املجال وا�سع هنا لت�أويل الن�صو�ص الدينية على النحو الذي‬ ‫ينا�سب وجهة نظر امل�ؤول (املجتهد)‪ .‬فمن امل�سائل التي لها �أهمية ق�صوى هنا �أن الذي يدخل‬ ‫لعبة اال�سالم ال�سيا�سي ال يحر�ص على �أي �شيء �أكرث من حر�صه على �أن يكون فهمه لتعاليم‬ ‫اال�سالم هو املوجه لعمله ال�سيا�سي‪ .‬انه‪ ،‬مبعنى �آخر‪ ،‬ال يدخل هذه اللعبة حلر�صه على احلريات‬ ‫الدميقراطية وعلى امل�ساواة وغري ذلك مما نحر�ص عليه نحن الذين التزمنا بالدميقراطية‪� .‬إعالء �ش�أن‬ ‫اال�سالم وجعله املرجع االخري يف �ش�ؤون ال�سيا�سة واالجتماع هما هدفاه‪ ،‬بغ�ض النظر عما اذا كان‬ ‫اال�سالم دميقراطياً �أم غري دميقراطي‪ ،‬ين�سجم مع بع�ض جوانب الدميقراطية �أم ال ين�سجم مع �أي‬ ‫جانب منها‪ .‬انه ال ي�شرتط لإقامة نظام العلماين �أال تتعار�ض �إقامته مع احلريات الدميقراطية‪ ،‬بل‬ ‫العك�س هو ال�صحيح‪� :‬إنه ي�شرتط لإقامة نظام دميقراطي اال تتعار�ض اقامته مع م�ستلزمات النظام‬ ‫الالعلماين املن�شود‪ .‬وهذا املوقف من الدميقراطية ال ميكن ان يكون موقف امللتزم بها او ببع�ض‬ ‫جوانبها او مبادئها‪ .‬ال ميكن‪� ،‬إذن‪� ،‬أن ن�ضمن‪ ،‬ولو قليال‪ ،‬ان ما �سيعنيه هذا املوقف على م�ستوى‬ ‫املمار�سة �سيكون �أكرث من تظاهر بالتم�سك باحلريات الدميقراطية وامل�ساواة �أو �أكرث من �إعطاء والء‬ ‫كالمي كاذب لهذه االمور‪.‬‬ ‫على �أي حال‪ ،‬هل ميكن ت�أويل املبادىء الثالثة التي ُيفرت�ض �أن تقوم عليها «دولة اال�سالم» ت�أويال‬ ‫ين�سجم مع الدميقراطية او بع�ض معانيها؟ لن�أخذ املبد�أ االول‪ ،‬املبد�أ الكلياين‪ .‬ال �أعرف كيف ميكن‬ ‫ت�أويل مبد�أ كهذا ت�أويال دميقراطيا �أو �شبه دميقراطي‪ .‬فما دام هذا املبد�أ‪ ،‬بح�سب فهم الغنو�شي له‪،‬‬ ‫ينطوي على النظر اىل تعاليم اال�سالم على �أنها تطال كل �ش�ؤون احلياة‪� ،‬إذن ما يقت�ضيه هذا املبد�أ‬ ‫على م�ستوى املمار�سة ال�سيا�سية هو حتويل الأيديولوجيا ال�سيا�سية حلزب «النه�ضة» �إىل �أيديولوجيا‬ ‫كليانية كااليديولوجيا النازية‪ ،‬مثال‪ .‬ومن الوا�ضح هنا �أنه ال ميكن ت�أمني حتى احلد االدنى من‬ ‫ال�شروط ال�ضرورية لإقامة نظام دميقراطي يف ظل حكم م�ؤ�س�س على �أيديولوجيا كليانية‪.‬‬ ‫(‪)17‬‬


‫العلمانية اليوم‬

‫الإ�سالم ال�سيا�سي والدميقراطية‬

‫‪21‬‬

‫ثمة احتماالن للرد على موقفنا‪ .‬االحتمال الأول هو �أن ننظر �إىل موقف الغنو�شي‪ ،‬كما توحي‬ ‫بع�ض ت�صريحاته‪ ،‬على �أنه ال يطالب ب�أكرث من التق ّيد باملبادىء االخالقية العامة لال�سالم يف‬ ‫توجه حركته ال تطالب‬ ‫املجال ال�سيا�سي والت�شريعي‪ .‬مبعنى �آخر‪� ،‬إن االيديولوجيا ال�سيا�سية التي ّ‬ ‫مثال بتطبيق ال�شريعة �أو بجعل اال�سالم مرجعنا االخري يف كل �ش�ؤون احلياة الدنيا بل فقط‬ ‫ب�ضرورة �إقامة «دولة اال�سالم» على القيم اال�سالمية اال�سا�سية‪ .‬واالحتمال الثاين هو �أنّ تبنيه‬ ‫للمبد�أ الكلياين ال ي�ستبعد بال�ضرورة فكرة التعددية ال�سيا�سية‪� ،‬إذ �أنه يرتك املجال مفتوحا لوجود‬ ‫�أكرث من حزب �سيا�سي ي�ستوحي براجمه من تعاليم اال�سالم‪.‬‬ ‫لن�أخذ االحتمال االول‪ .‬يف ت�صريح �أدىل به لالذاعة الفرن�سية‪ ،‬نفى الغنو�شي �أن من مطالبه‬ ‫تطبيق ال�شريعة اال�سالمية ‪ .‬ونقر�أ له يف حاالت نادرة ما ي�شري �إىل �أنه ال يطالب ب�أكرث من التقيد‬ ‫باالخالق والقيم اال�سالمية‪ .‬ولكن يجب �أال يعمينا هذا عن �أن امل�س�ألة الأبرز يف فكره والتي‬ ‫تظهر على نحو وا�ضح يف ّ‬ ‫جل كتاباته هي مت�سكه التام بفكرة ان اال�سالم دين ودولة وان ال�شريعة‬ ‫اال�سالمية تبقى اال�سا�س االخري الذي ي�شتق منه النظام القانوين للأمة ال�سيا�سية‪ .‬كذلك‪ ،‬ما‬ ‫ي�صدق على ال�شريعة هي �أنها «�شاملة ال تفرق بني �سيا�سة ودين‪� ،‬أو حياة عامة وخا�صة‪، »....‬‬ ‫كما ر�أى بو�ضوح ح�سن الرتابي الذي تربطه بالغنو�شي قرابة فكرية متينة‪ .‬من ال�صعب‪� ،‬إذن‪� ،‬أن‬ ‫ن�أخذ ت�صريحه ب�أنه ال يطالب بتطبيق ال�شريعة م�أخذ اجلد‪.‬‬ ‫ولكن لنفرت�ض الآن على �سبيل اجلدل �أن كل ما يطالب به الغنو�شي هو مراعاة املبادىء االخالقية‬ ‫العامة والقيم اال�سا�سية لال�سالم ال تطبيق ال�شريعة‪ .‬ال�س�ؤال الذي يثور فوراً الآن هو التايل‪ :‬ما دام‬ ‫الكالم الآن هو على املبادىء االخالقية العامة والقيم اال�سا�سية‪ ،‬فهل من م ّربر للكالم عليها وك�أنها من‬ ‫خ�صو�صيات اال�سالم؟ هل جمرد ورودها يف القر�آن او احلديث �أو ارتباطها بالفقه اال�سالمي تاريخياً هو ما‬ ‫يجعلها من خ�صو�صيات اال�سالم؟ اذا �أخذنا‪ ،‬مث ًال‪ ،‬مبد�أ مثل مبد أ� ال �ضرر وال �ضرار‪ ،‬الذي كان له دوره‬ ‫يف الفقه اال�سالمي‪ ،‬فما هو املوجب العتباره خا�صاً باال�سالم؟ �ألي�س هذا املبد�أ �شبيهاً مببد�أ املنفعة العامة‬ ‫الذي جنده يف كتابات جرمي بنثام وجون �ستوارت مل؟ وماذا عن مبد أ� مثل مبد�أ ما ال يتم الواجب �إال‬ ‫به فهو واجب كان وما زال ذا �أهمية يف تفكري فقهاء وعلماء امل�سلمني؟ هل ميكن لعاقل‪� ،‬أم�سلماً كان ام‬ ‫م�سيحياً �أم بوذياً‪� ،‬أمتديناً كان �أم ملحداً‪� ،‬أن يجد اي �سبب عقلي وجيه لرف�ضه؟ ال �شك �أننا عندما ندخل‬ ‫مملكة املبادىء او القيم االخالقية اال�سا�سية فاننا نتجاوز الفروقات الثقافية والدينية بني الب�شر ونقرتب مما‬ ‫هو م�شرتك بينهم‪ .‬والأهم من هذا �أن االخالق لي�ست بال�ضرورة �ش�أناً من �ش�ؤون التدين‪ ،‬بل ان طبيعتها‪،‬‬ ‫كما ب ّينت يف كتابي االخالق والعقل‪ ،‬تفر�ض ان تكون م�ستقلة منطقياً واب�ستمولوجياً عن الدين ‪.‬‬ ‫فالعقل العملي هو طريقنا الوحيد �إىل تقرير ما ي�ستوجبه املنظور االخالقي‪� .‬أن يطالب الغنو�شي‪� ،‬إذن‪،‬‬ ‫ب�أن ت�ستوحي الدولة ت�شريعاتها و�سيا�ساتها من مبادىء اخالقية ال ميكن للعقالء �أن يختلفوا حولها‪،‬‬ ‫مهما كانت خلفياتهم الدينية �أو الثقافية ‪ ،‬يلغي احلاجة العتبار الدولة التي تنفذ ما يطالب به ذات هوية‬ ‫�إ�سالمية �أكرث مما هي‪ ،‬مث ًال‪ ،‬ذات هوية م�سيحية �أو بوذية �أو حتى العتبارها دينية �أكرث مما هي علمانية‪.‬‬ ‫(‪)18‬‬

‫(‪)19‬‬

‫(‪)20‬‬

‫عدد رقم ‪� | 1‬أيـار‬

‫‪2013‬‬


‫‪22‬‬

‫العلمانية اليوم‬

‫ولكن ما دام ما يطالب به الغنو�شي‪ ،‬يف املقام الأول‪ ،‬هو �إقامة دولة ذات هوية ا�سالمية‪� ،‬إذن‬ ‫من الطبيعي �أال يقف عند حد املطالبة ب�أن تراعي الدولة املن�شودة‪ ،‬يف ت�شريعاتها و�سيا�ساتها‪،‬‬ ‫مبادىء او قيماً �أخالقية �أ�سا�سية م�شرتكة بني امل�سلم وغري امل�سلم‪ .‬انه ال ّبد �أن يطالب �أي�ضاً ب�أن‬ ‫تكون للمبادىء �أو القيم اال�سا�سية من منظور ا�سالمي‪ ،‬ال �أي منظور �سواه‪ ،‬االولوية بني املبادىء‬ ‫والقيم التي ينبغي �أن ت�ستوحي منها الدولة املن�شودة ت�شريعاتها و�سيا�ساتها‪ .‬هل ثمة مبادىء‬ ‫�أو قيم يتوافر فيها هذا ال�شرط؟ قد يظن هنا �أن مبادىء �أو قيماً كهذه هي ما يتعلق مبا يعرف يف‬ ‫االدبيات اال�سالمية بامل�صالح املر�سلة �أو امل�صالح الكربى التي هي‪ ،‬ح�صراً‪ ،‬حفظ الدين ‪ ،‬وحفظ‬ ‫حت�ض على حفظ م�صالح كهذه ال ميكن‬ ‫العقل‪ ،‬وحفظ الن�سل‪ ،‬وحفظ املال‪ .‬ولكن حتى مبادىء ّ‬ ‫احل�ض‬ ‫اعتبارها خا�صة باال�سالم �أو �أ�سا�سية فقط من منظور �إ�سالمي‪� ،‬إال �إذا كان الق�صد منها هو ّ‬ ‫على حفظ امل�صالح الكربى للم�سلمني دون �سواهم‪ .‬ولكن اذا كان هذا هو الق�صد منها‪ ،‬اذن‬ ‫ينتفي عنها‪ ،‬بالتعريف‪ ،‬ان تكون مبادىء اخالقية‪ ،‬ا�سا�سية او غري ا�سا�سية‪� .‬أن ننظر �إليها على انها‬ ‫مبادىء اخالقية هو �أن ننظر اليها على �أنها تدعو اىل حفظ امل�صالح الكربى للب�شر‪ ،‬بغ�ض النظر‬ ‫عن دينهم او جن�سهم او قوميتهم‪ .‬ويف هذه احلالة‪ ،‬ال �أظن �أن عاق ًال ميكنه �أن يرف�ض هذه املبادىء‪.‬‬ ‫ب�صورة �أخرى ان مبادىء كهذه ميكن ت�أويلها على نحو يجعلها مقبولة للعقل العملي‪ ،‬باعتباره ذا‬ ‫ا�ستقاللية عن �أي منظور خا�ص‪ ،‬ا�سالمي �أو غري ا�سالمي‪.‬‬ ‫ما زلنا‪� ،‬إذن مواجهني بال�س�ؤال‪ :‬ما املبد�أ الذي ميكن �أن ي�صدق عليه انه خا�ص باال�سالم؟ �إن‬ ‫يوحد بني اخلري والتدين على الطريقة اال�سالمية‬ ‫مبد�أ كهذا ال بد ان ينطوي على ت�صور للخري ّ‬ ‫�أو يجعل هذا النمط من التدين‪ ،‬على االقل‪ ،‬من املك ّونات اجلوهرية للخري‪ .‬ولكن قد يت�ساءل‬ ‫يح�ض عليه مبد�أ كهذا هو �أن يعتنق الب�شر اال�سالم‬ ‫القارىء ‪ -‬ما عالقة مبد�أ كهذا بال�سيا�سة؟ فما ّ‬ ‫وان ميار�سوا العبادة‪ ،‬بالتايل‪ ،‬وفق تعاليم اال�سالم‪ ،‬و�إال فلن يحققوا اخلري لأنف�سهم‪ ،‬على االقل‪،‬‬ ‫على النحو االكمل‪ .‬والتب�شري‪ ،‬ال ال�سيا�سة‪ ،‬هو الو�سيلة امل�شروعة لدعوة الب�شر للعمل مبوجب‬ ‫هذا املبد�أ‪ُ .‬يهمل هذا الت�سا�ؤل االفرتا�ض الأ�سا�سي الذي ينطوي عليه موقف اال�سالميني‪� ،‬أال‬ ‫وهو �أنه ال تفرقة يف اال�سالم بني العبادة وال�سيا�سة‪ .‬معنى هذا‪ ،‬كما بينا يف الف�صل اخلام�س‪� ،‬إن‬ ‫تعاليم اال�سالم‪ ،‬من منظور اال�سالميني‪ ،‬تن�ص فيما تن�ص عليه‪ ،‬على �ضرورة �إقامة الدولة على‬ ‫�أ�سا�س تعاليم الدين احلنيف‪ .‬ال �أمل يف حتقق اخلري العام‪ ،‬الذي هو غر�ض الدولة‪� ،‬إال با�شتقاقها‬ ‫ت�شريعاتها و�سيا�ساتها من تعاليم اال�سالم‪.‬‬ ‫من الوا�ضح هنا �أن االفرتا�ض االخري ال ّبد ان يعيدنا �إىل املوقف الكلياين الذي افرت�ضنا تخلي‬ ‫الغنو�شي عنه‪� ،‬أم ًال يف �أن يقود هذا �إىل التوفيق بني �إ�سالميته وبع�ض معاين الدميقراطية‪ .‬فالكالم‬ ‫على ا�شتقاق الدولة ت�شريعاتها و�سيا�ساتها من تعاليم اال�سالم ال ميكن �أن يعني‪ ،‬يف �ضوء ما قدمناه‪،‬‬ ‫فقط عودة احلكام وامل�ش ّرعني �إىل مبادىء اخالقية عامة كالتي ذكرناها‪ ،‬لأن مبادىء كهذه لي�ست‬ ‫خا�صة باال�سالم‪ .‬ما يق�ضيه حتقيق اخلري العام‪ ،‬بح�سب الت�صور اال�سالمي اخلا�ص للخري‪ ،‬هو �إذن‪،‬‬


‫الإ�سالم ال�سيا�سي والدميقراطية‬

‫العلمانية اليوم‬

‫‪23‬‬

‫العودة �إىل ال�شريعة ككل‪ ،‬اذ بهذه العودة ووحدها تت�أكد �إ�سالمية الدولة‪ .‬والعودة �إىل ال�شريعة‬ ‫هي‪ ،‬كما بينا‪ ،‬العودة �إىل املبد�أ الكلياين بكل ما يعنيه من نفي لأي معنى �أ�سا�سي من معاين‬ ‫الدميقراطية‪ .‬ال مفر من هذه النتيجة‪ ،‬ما دام ما له االولوية من منظور اال�سالمي‪ ،‬هو �إعطاء الدولة‬ ‫هوية �إ�سالمية‪� .‬إنه‪ ،‬لهذا ال�سبب‪ ،‬دائماً مدفوع يف اجتاه طبع ت�شريعات و�سيا�سات الدولة بطابع‬ ‫اال�سالم اخلا�ص‪ .‬ونظراً لتبنيه ايديولوجيا كليانية‪ ،‬ف�إنه لن يكتفي ب�أ�سلمة ال�سيا�سة والق�ضاء بل‬ ‫من الطبيعي �أال يكتفي ب�أقل من �إحداث �أ�سلمة �شاملة تطال الرتبية‪ ،‬واالخالق‪ ،‬والفن‪ ،‬والفكر‪.‬‬ ‫لتجنب النتيجة االخرية‪ ،‬ينبغي �أن نخرج من الت�صور املقرتح للخري كل ما من �ش�أنه ان ي�ضيف‬ ‫�إىل الواجبات الدينية للم�سلم واجب �إقامة نظام �سيا�سي ي�ستمد ت�شريعاته و�سيا�ساته من ال�شريعة‪.‬‬ ‫ولكن عندما نعدل هذا الت�صور على النحو االخري‪ ،‬ما يرتتب على ذلك هو �أنه ميكن للم�سلم �أن‬ ‫يقوم بكل واجباته الدينية يف ظل �أي نظام �سيا�سي‪ ،‬ما دام هذا النظام يتيح له ممار�سة �شعائره‬ ‫الدينية بحر ّية‪ .‬مبعنى �آخر‪ ،‬ال يعود ثمة مربر‪ ،‬يف هذه احلالة‪ ،‬للغنو�شي �أو �سواه العتبار �إقامة دولة‬ ‫ذات هوية ا�سالمية واجباً دينياً‪ .‬ولكن �إذا �أ�ص ّر اال�سالمي على �أن من واجباته باعتباره م�سلماً‪،‬‬ ‫�أن يعمل لي�س فقط على ن�شر اال�سالم ودعوة اجلميع لالن�ضواء حتت رايته‪ ،‬بل �أن ي�ضمن ح�صول‬ ‫هذا‪ ،‬و�إن �إقامة دولة ذات هوية ا�سالمية هي ال�سبيل الوحيد ل�ضمانه‪� ،‬إذن ف�إنه‪ ،‬بهذا يك�شف‬ ‫بو�ضوح عن نواياه التوتاليتارية النافية لأي �أمل يف تعاي�ش الدميقراطية مع دولته املن�شودة‪.‬‬ ‫لن�أخذ الآن االحتمال الثاين لت�أويل املبد�أ الكلياين من وجهة نظر الغنو�شي‪ .‬بناء على هذا‬ ‫االحتمال‪ ،‬كما ر�أينا‪ ،‬ال تعار�ض بني احت�ضان الغنو�شي للمبد�أ املذكور وفكرة التعددية ال�سيا�سية‪،‬‬ ‫ما دام يعرتف ب�أن هناك �أكرث من طريقة لفهم امل�ضمون ال�سيا�سي لتعاليم اال�سالم ‪.‬‬ ‫ي�ضمن اعرتافه هذا‪ ،‬ظاهرياً‪ ،‬تعامله بت�سامح مع �أي طريقة غري طريقته لت�أويل امل�ضمون ال�سيا�سي‬ ‫للإ�سالم ويف�سح املجال‪ ،‬من حيث املبد�أ‪ ،‬لن�شوء �أكرث من حزب ا�سالمي‪ ،‬وللتناف�س ال�سيا�سي‬ ‫واملعار�ضة ال�سيا�سية‪ .‬من ال�سهل طبعاً االعرتاف ب�أن هناك �أكرث من ت�أويل لتعاليم اال�سالم �أو‬ ‫مل�ضمونها ال�سيا�سي‪ .‬ولكن ما لي�س �سه ًال على اال�سالمي هو االعرتاف ب�أن ت�أويله قد ال يكون هو‬ ‫الت�أويل ال�صحيح‪ .‬لي�س ما هو مهم هنا االعرتاف بوجود �أكرث من ت�أويل بل موقف امل�ؤول من ت�أويله‬ ‫مقابل �أي ت�أويل مناف�س له‪ .‬قد يعرتف امل�ؤدلج مارك�سياً‪ ،‬مثال‪� ،‬أن هناك ت�أويالت للمارك�سية مناف�سة‬ ‫لت�أويله‪ ،‬ولكن ال ميكنه �أن يعرتف �أن ت�أويله قد ال يكون الت�أويل ال�صحيح‪ .‬و�إذا كان هذا ي�صدق‬ ‫على من هو ملتزم ب�أيديولوجيا علمانية‪ ،‬فمن باب �أوىل �أن ي�صدق‪� ،‬أي�ضاً‪ ،‬وب�صورة �أقوى‪ ،‬على‬ ‫من هو ملتزم ب�أيديولوجيا دينية‪ .‬و�إن اتفق ان وجد �شخ�ص‪ ،‬ولنقل انه الغنو�شي‪ ،‬على ا�ستعداد‬ ‫لالعرتاف ب�أن ت�أويله مل�ضمون اال�سالم ال�سيا�سي لي�س ذا امتياز مطلق‪ ،‬ف�إن هذا �أمر عار�ض وحالة‬ ‫�شاذة جداً‪ .‬ما ي�صدق على اال�سالمي (= امل�ؤدلج ا�سالمياً) على العموم هو العك�س متاماً‪ ،‬مما يعني‬ ‫�أنه ال مكان حقيقياً للتعددية ال�سيا�سية يف «دولة اال�سالم» املن�شودة على املدى البعيد‪.‬‬ ‫(‪)21‬‬

‫عدد رقم ‪� | 1‬أيـار‬

‫‪2013‬‬


‫‪24‬‬

‫العلمانية اليوم‬

‫وحتى لو افرت�ضنا على �سبيل اجلدل �أن الفر�صة �أتيحت يف دولة اال�سالم لن�شوء �أحزاب �إ�سالمية‬ ‫متناف�سة فما الذي ميكن �أن يعنيه هذا للدميقراطية؟ ال يبدو �أنه ميكن �أن يعني �أكرث من تنوع‬ ‫�ضمن الوحدة‪ .‬ولكن تنوعاً كهذا ال يختلف عن تنوع جنده حتى داخل احلزب الواحد‪ ،‬ف�أين‬ ‫هي‪� ،‬إذن التعددية ال�سيا�سية احلقيقية؟ قد يجيب معرت�ض �أن الغنو�شي ال ميانع يف ن�شوء �أحزاب‬ ‫غري �إ�سالمية بدليل قوله «وال �ضري‪� ...‬أن توجد عندنا‪ ...‬جماعات هام�شية ب�سبب عدم اندماجها‬ ‫يف التيار العام‪ ،‬تيار اال�سالم» ‪ .‬لي�س هذا االعرتا�ض يف حمله على االطالق‪ .‬فاذا �أخذنا يف‬ ‫االعتبار �أن ت�سامح الغنو�شي مع هذه اجلماعات مرده �إىل هام�شيتها‪ ،‬فهل نتوقع منه �أن يبقى‬ ‫على ت�ساحمه هذا واال يرى «حاجة اىل �سلطان الدولة» لقمعها فيما لو مل تعد هام�شية و�أ�صبح‬ ‫لها ثقل �سيا�سي حقيقي؟ طبعا ال ‪ .‬فهو ال يختلف عن �سائر اال�سالميني يف �إ�صراره على �أنه ال‬ ‫مكان يف الدولة املن�شودة �سوى «(حلزب) واحد هو حزب اهلل» و�أن االختالف �ضمن هذا احلزب‬ ‫الواحد‪ ،‬الذي قد يفرز تنظيمات �سيا�سية متعددة‪ ،‬ال يطال الغايات بل فقط الو�سائل املطلوبة‬ ‫لتحقيقها‪ .‬ما يعنيه هذا هو �أن التنظيمات التي قد تن�ش�أ والتي متثل جميعها ما يدعوه الغنو�شي بـ‬ ‫«اجلماعة الناجية» ت�شرتك يف نف�س االيديولوجيا الكليانية و�أن لهذه االيديولوجيا ال�سيطرة التامة‬ ‫على �ش�ؤون املجتمع‪ .‬يقول الغنو�شي‪ ...« :‬ميكن �أن تتنوع ا�ساليب الو�صول �إىل االهداف امل�شرتكة‬ ‫بني القادة اجلماهرييني �أو النخبة‪ .‬فمن مائل �إىل ال�شدة ومائل اىل اللني ‪ ،‬ومن م�ؤثر للعجلة وم�ؤثر‬ ‫للتدرج‪ ،‬ومن نازع اىل �شيء من الغلو �إىل مف�ضل لالعتدال‪ .‬االختالف يف الر�أي حول اخلطط‬ ‫تلتف حولها‪ ...‬فئات من ال�شعب‬ ‫والأ�ساليب بني النخبة جائز �أن ينتهي �إىل اجتهادات خمتلفة ّ‬ ‫تتناف�س لتحقيق الأهداف نف�سها‪ ،‬فتن�ش�أ االحزاب وهي كلها‪ ،‬يف احلقيقة‪ ،‬حزب واحد هو حزب‬ ‫اهلل‪ ،‬وكلهم اجلماعة الناجية» ‪.‬‬ ‫من الوا�ضح يف �ضوء ما يقوله الغنو�شي‪� ،‬أنه ما دام التناف�س احلقيقي هو بني �أحزاب �سيا�سية‬ ‫ي�ستوحي كل حزب منها برناجمه ال�سيا�سي من نف�س االيديولوجيا الكليانية‪� ،‬إذن ال يت�سلم مقادير‬ ‫ال�سلطة يف دولة اال�سالم املن�شودة �إال من �سيحكم مبوجب �أيديولوجيا كليانية يذوب فيها اخلا�ص‬ ‫يف العام‪ .‬يف ظل هيمنة هذه االيديولوجيا ‪ ،‬ال مكان للحريات الدميقراطية‪ .‬التناف�س‪ ،‬يف هذا‬ ‫احلالة‪ ،‬هو تناف�س بني مواقف خمتلفة ال مت�س �أي ق�ضايا جوهرية‪ .‬تتقل�ص احلريات الدميقراطية هنا‬ ‫�إىل حرية واحدة حمدودة جداً‪ ،‬حرية االختيار بني الو�سائل البديلة املقرتحة لتحقيق االهداف‬ ‫االيديولوجية امل�شرتكة‪.‬‬ ‫وفوق كل هذا‪ ،‬و�إن كان املبد�أ الكلياين ال ي�ستبعد بال�ضرورة التعددية ال�سيا�سية بهذا املعنى‬ ‫املحدود جداً‪� ،‬إال انه ي�ستبعد التعددية مبا هي تعددية ت�صورات �شاملة للخري‪� .‬إنه‪ ،‬فيما لو و�ضع‬ ‫مو�ضع التطبيق‪ ،‬ال بد �أن ي�ؤول �إىل فر�ض الت�صور اال�سالمي ال�شامل للخري على املجتمع ب�أكمله‪.‬‬ ‫املوجه اال�سا�سي والأخري ل�سيا�سات وت�شريعات الدولة‪ ،‬ينتهي‬ ‫ففي جعل اال�سالمي لهذا الت�صور ّ‬ ‫�إىل فر�ض هيمنته الكاملة يف املجال العام على ح�ساب الت�صورات املناف�سة‪.‬‬ ‫(‪)22‬‬

‫(‪)23‬‬


‫الإ�سالم ال�سيا�سي والدميقراطية‬

‫العلمانية اليوم‬

‫‪25‬‬

‫لننتقل الآن �إىل تناول الإ ّدعاء ب�أن مبد�أ احلاكمية ومبد�أ مركزانية �سلطة النخبة ال يتعار�ضان‬ ‫بال�ضرورة مع �إقامة نظام دميقراطي‪ .‬ال �شك �أن الغنو�شي يتكلم يف �أحايني كثرية على «�سلطة االمة»‬ ‫و�سلطة ال�شعب ويلج�أ �إىل مفاهيم مثل مفهوم الإرادة العامة‪ .‬وهو بذلك يختلف عن �إ�سالميني‬ ‫مثل �سيد قطب و�سواه‪ .‬ولكن لي�س هذا االختالف �أكرث من اختالف لفظي‪ .‬فهو ينظر �إىل الن�ص‬ ‫الديني « يا �أيها الذين �آمنوا �أطيعوا اهلل و�أطيعوا الر�سول و�أويل االمر منكم» (الن�ساء‪� ،‬آية ‪ )59‬على‬ ‫�أنه «�أ�سا�س نظام اال�سالم ال�سيا�سي واالجتماعي والديني كما �أنه حجر الزاوية القانوين يف الدولة‬ ‫«يحدد بو�ضوح مركز ال�سلطة العليا يف حياة‬ ‫اال�سالمية والد�ستور اال�سالمي»‪ ،‬لأنه‪ ،‬يف اعتقاده‪ّ ،‬‬ ‫امل�سلمني و�أنها هلل‪ ...‬و�أن طاعة الر�سول (�ص) هي ال�شكل العملي لطاعة اهلل» ‪.‬‬ ‫ومع �أن الآية ال ُت�شري �إىل �سلطة الأمة‪ ،‬ف�إنه يقر�أ فيها �إ�شارة م�ضمرة �إىل �سلطة الأمة باعتبارها ال�سلطة‬ ‫االقل �أهمية يف هذا الت�سل�سل الهرمي ‪ -‬ال�سلطوي‪ .‬ولكن ال يجوز �أن يخدعنا الكالم على �سلطة‬ ‫االمة يف هذا ال�سياق‪� ،‬إذ ما �أن ي�أتي الغنو�شي على ذكر �سلطة االمة حتى ي�سارع �إىل تنبيهنا �إىل �أن‬ ‫جمال النفوذ امل�شروع لهذه ال�سلطة « ال يخرج عن �شريعة اهلل الواردة يف الكتاب وال�س ّنة» ‪ .‬واذا‬ ‫�أ�ضفنا الآن ما بيناه �سابقا من �أن تقييد االمة بال�شريعة «يرتجم» �سيا�سياً‪ ،‬اىل تقييدها ب�إيديولوجيا‬ ‫كليانية‪ ،‬اذن تتقل�ص �سلطتها اىل ال �شيء تقريباً‪ ،‬وذلك ل�سببني ا�سا�سيني‪ .‬ال�سبب االول هو �أن‬ ‫دور االن�سان ينح�صر يف ا�ستخال�ص احللول مل�شكالته وال�سيا�سات والت�شريعات الالزمة لتنظيم‬ ‫وت�سيري �أموره من هذه االيديولوجيا الكليانية‪ .‬وال�سبب الثاين هو �أن الكالم على االن�سان يف هذا‬ ‫ال�سياق لي�س كالماً على اي �إن�سان‪� ،‬إذ فئة خمتارة من الب�شر فقط م�ؤهلة ال�ستخال�ص ما ميكن‬ ‫ا�ستخال�صه من حلول‪ ،‬و�سيا�سات‪ ،‬وت�شريعات من هذه االيديولوجيا الكليانية‪ .‬فمن اال�ستخفاف‬ ‫بعقولنا التظاهر ب�أن كل م�سلم جمتهد‪ .‬هنا ال يعود ثمة مفر من تبني فكرة حكم النخبة‪ ،‬وهذا‬ ‫وا�ضح لدى الغنو�شي و�سائر الإ�سالميني‪ ،‬كما ب ّينا‪ .‬وبهذا نف�سح املجال على نحو وا�سع لقيام‬ ‫الطبقة احلاكمة يف دولة اال�سالم املن�شودة بال�سيطرة على الأمة حتت �ستار �أنها الأدرى مبا يريده‬ ‫منا اهلل يف دنيانا‪.‬‬ ‫�إن هذه النتيجة حمتومة‪ ،‬ما دام اال�سالميون ينطلقون من االفرتا�ضات الثالثة الآتية‪ .‬االفرتا�ض‬ ‫االول هو �أن العمل مبوجب اجلزء احلياتي من ال�شريعة واجب ديني‪ .‬واالفرتا�ض الثاين هو �أن‬ ‫نخبة من الب�شر فقط م�ؤهلة لأن تعرف ما هي م�ستلزمات ال�شريعة على امل�ستوى ال�سيا�سي‪-‬‬ ‫القانوين‪-‬االجتماعي (�أي امل�ستوى احلياتي‪ ،‬بعامة) وما هي حدود التق ّيد بها‪ .‬واالفرتا�ض الثالث‬ ‫واالخري هو �أن الب�شر‪ ،‬با�ستثناء فئة خمتارة منهم‪ ،‬معر�ضون جداً للت�أثر مب�صاحلهم اخلا�صة وجعلها‬ ‫اال�سا�س لقراراتهم الفردية او اجلمعية‪ ،‬وال �ضمان بالتايل يف �أن يكون الدافع اال�سا�سي لهم يف‬ ‫املجال العام هو احلر�ص على �أن ت�أتي اختياراتهم ال�سيا�سية متطابقة مع م�ستلزمات ال�شريعة‪ ،‬على‬ ‫اجلد‬ ‫افرتا�ض �أنهم على دراية بهذه امل�ستلزمات‪ .‬ال ميكن ملن ي�أخذ هذه االفرتا�ضات الثالثة م�أخذ ّ‬ ‫�أن يكون مت�سقاً مع ذاته فيما لو ترك م�س�ألة تقرير ما �إذا كان ينبغي ان نط ّبق ال�شريعة �أم ال �أو ما‬ ‫(‪)24‬‬

‫(‪)25‬‬

‫عدد رقم ‪� | 1‬أيـار‬

‫‪2013‬‬


‫‪26‬‬

‫العلمانية اليوم‬

‫ينبغي تطبيقه منها وما ال ينبغي تطبيقه لالرادة ال�شعبية‪ .‬ف�إذا كان تطبيقها واجباً دينياً‪� ،‬إذن ال‬ ‫ميكن �أن يوجد �أي اعتبار مبطل له‪ .‬و�إذا �أخذنا يف االعتبار الآن مبد�أ �أن ما ال يتم الواجب �إال‬ ‫به فهو واجب‪ -‬وهو مبد�أ عزيز جداً على اال�سالميني‪ ،‬مبا فيهم الغنو�شي ‪� -‬إذن فهو واجب ديني‬ ‫�أي�ضاً ت�أمني ال�شروط التي ت�ضمن على النحو االف�ضل عدم االنحراف عن واجب تطبيق ال�شريعة‪.‬‬ ‫�إن هذا ما يكمن‪� ،‬أ�ص ًال‪ ،‬وراء مطالبة الإ�سالميني ب�إقامة دولة �إ�سالمية‪ .‬بقيام دولة كهذه‪ ،‬تتهي�أ‬ ‫الفر�صة لت�أمني ال�شروط املعنية‪ .‬و�إذا �أخذنا يف االعتبار الآن االفرتا�ضني الثاين والثالث‪� ،‬إذن ال‬ ‫نتوقع �أن يكون بني هذه ال�شروط �شرط �أن ُيرتك للعامة ان تقرر �أي �ش�أن يتعلق بتنفيذ هذا الواجب‪،‬‬ ‫ما دامت ال هي يف و�ضع ي�سمح لها ب�أن تعرف ما هي م�ستلزمات ال�شريعة وحدود تطبيقها وال‬ ‫هي ذات ا�ستعداد كاف‪ ،‬حتى و�إن كانت تعرف هذه امل�ستلزمات‪ ،‬لأن تقيم قرارتها على �أ�سا�س‬ ‫اعتبارات ال تنحرف بها عن هذا الواجب الديني املزعوم‪ .‬يف �ضوء كل هذا‪� ،‬أي وزن يبقى لإرادة‬ ‫ال�شعب �أو «�سلطة االمة» و�أي دور يبقى‪ ،‬بالتايل‪ ،‬للممار�سة الدميقراطية يف دولة اال�سالم؟‪.‬‬ ‫الدولة الدينية واحلقوق والواجبات الدميقراطية‬

‫تناولنا حتى االن الإعتبارات اال�سا�سية التي تدعونا �إىل االعتقاد ب�أن املبادىء التي تقوم عليها‬ ‫الدولة الدينية هي نظري املبادىء التي تقوم عليها الدولة الكليانية‪ .‬ننتقل يف هذا الق�سم �إىل تناول‬ ‫اعتبارات �إ�ضافية لتدعيم وجهة نظرنا بخ�صو�ص وجود تعار�ض بني الدولة الدينية والدميقراطية‪.‬‬ ‫ما �سيرتكز عليه نقا�شنا الآن هو �أن بع�ض احلقوق اال�سا�سية التي تفر�ضها املمار�سة الدميقراطية هي‬ ‫حقوق ال مكان لها يف الدولة الدينية‪ .‬ومن االمور االخرى التي �سرنكز عليها يف ق�سم الحق هو‬ ‫يتم خرقها حتى مبجرد‬ ‫�أن بع�ض الواجبات املدنية اال�سا�سية التي تفر�ضها املمار�سة الدميقراطية ّ‬ ‫اللجوء اىل االعتبارات الدينية يف املجال العام‪ .‬مبعنى �آخر‪ ،‬لي�س خرقها منوطاً فقط بقيام دولة‬ ‫دينية‪ ،‬بل �إنه يكفي خلرقها ان ُيقحم الدين يف ال�سيا�سة و�أن ت�صبح مواقف واحدنا من الق�ضايا‬ ‫العامة مواقف لي�س لها �أي �أ�سا�س معلن �سوى اال�سا�س الديني‪.‬‬ ‫على �أي حقوق وواجبات نتكلم هنا؟ حتى جنيب عن هذا ال�س�ؤال على نحو واف ٍ لنتناول باخت�صار‬ ‫�أو ًال ما الذي ي�شكل‪ ،‬يف اعتقادنا‪ ،‬املربر اال�سا�سي (‪ (raison d’être‬لوجود الدميقراطية‪ .‬ال �أق�صد هنا‬ ‫تف�سر وجودها �أو ن�ش�أتها بل الكالم على علة ‪ reason‬وجودها‪ُ .‬تخت�صر‬ ‫الكالم على اال�سباب التي ّ‬ ‫هذه العلة‪ ،‬يف نظري‪ ،‬يف االعتقاد ب�ضرورة م�شاركة كل �شخ�ص را�شد يف تقرير القيم وال�سيا�سات‬ ‫التي يفرت�ض �أن تنظم احلياة امل�شرتكة لأفراد املجتمع الواحد‪ .‬ت�ستمد الدميقراطية ال�سيا�سية‪،‬‬ ‫يف خمتلف ال�صور التي عرفناها عليها‪ ،‬م�شروعيتها من فكرة �أن ال �إن�سان‪ ،‬مهما �سما‪ ،‬هو من‬ ‫الذكاء واحلكمة والطيبة مبكان بحيث يكون م�سوغاً له �أن يحكم الآخرين بدون ر�ضاهم‪ .‬واملدلول‬ ‫االيجابي لهذه الفكرة هو �أن كل الذين يت�أثرون بامل�ؤ�س�سات ال�سيا�سية والقانونية واالجتماعية‬


‫العلمانية اليوم‬

‫الإ�سالم ال�سيا�سي والدميقراطية‬

‫‪27‬‬

‫من �أفراد املجتمع الرا�شدين لهم احلق يف �أن ي�شاركوا يف تكوين و�إدارة هذه امل�ؤ�س�سات‪ .‬ال يوجد‬ ‫�شرط غري �شرط كون الفرد الرا�شد املنتمي �إىل جمتمع معني يت�أثر �أو ميكن �أن يت�أثر مب�ؤ�س�سات هذا‬ ‫املجتمع ما يعطيه حق امل�شاركة يف تكوينها وادارتها‪� .‬أن كونه يت�أثر بها وكونه ذا حق كالأخري هما‬ ‫وجهان لعملة واحدة‪.‬‬ ‫�إذن‪� ،‬إن الفحوى الأ�سا�سية لفكرة الدميقراطية ب�صفتها غاية‪ ،‬كما يذكرنا جون ديوي‪ ،‬هي فكرة‬ ‫امل�شاركة‪ ،‬م�شاركة كل �أع�ضاء املجتمع يف تقرير �صورة واجتاهات امل�ؤ�س�سات التي لها م�سا�س‬ ‫بحياتهم امل�شرتكة ‪� .‬أما الدميقراطية ال�سيا�سية من حيث هي ترتيبات م�ؤ�س�سية واجرائية معينة‬ ‫لإدارة دفّة االمور على امل�ستوى ال�سيا�سي ول�صنع القوانني وانتخاب امل�شرعني وغري ذلك‪ ،‬فما هي‬ ‫�إال و�سيلة لتحقيق الدميقراطية ب�صفتها غاية‪.‬‬ ‫من �أهم الأ�س�س التي تقوم عليها فكرة الدميقراطية االعتقاد بقدرة العقل االن�ساين على �إيجاد‬ ‫احللول للم�شكالت العملية التي تواجه الب�شر من خالل العمل اجلماعي والتعاوين‪ .‬الب�شر‬ ‫قادرون عن طريق �إعمالهم لقواهم العقلية وتوظيفهم ملواهبهم وتعاونهم مع بع�ض �أن ي�صلوا تدريجياً‬ ‫وعلى نحو مطرد �إىل احلكمة واملعرفة ال�ضروريتني لتوجيه العمل اجلماعي �إىل ما فيه م�صلحتهم‬ ‫باعتبارهم ي�شرتكون يف حياة واحدة ‪.‬‬ ‫تقدم‪� ،‬أنه ال بد من مراعاة �أي نظام �سيا�سي لل�شروط الآتية‬ ‫من ال�سهل �أن نرى الآن‪ ،‬يف �ضوء ما ّ‬ ‫حتى ي�ستحق ب�أن ُينعت ب�أنه دميقراطي‪:‬‬ ‫ ال�شرط االول هو �شرط عدم ا�ستئثار �أي فرد �أو جماعة بال�سلطة‪� ،‬أي �شرط �أن تكون االرادة‬ ‫ال�شعبية وحدها م�صدراً لل�سلطة‪ .‬وال�شرط الثاين هو �شرط تكاف�ؤ فر�ص العمل ال�سيا�سي‪ ،‬مما‬ ‫ي�ستوجب حياد الدولة �إزاء االيديولوجيات املت�صارعة‪ .‬وال�شرط الثالث هو �إعطاء �أي مواطن‬ ‫احلد الأعلى من احلرية الذي يتفق مع �إعطاء حرية مماثلة لكل مواطن �سواه‪ .‬وال�شرط الرابع هو‬ ‫ّ‬ ‫عدم حرمان �أي فرد يدخل يف معدودية الدولة من حق املواطنة على �أ�سا�س تع�سفي‪ .‬وال�شرط‬ ‫اخلام�س واالخري هو �شرط التعاون‪ ،‬وبالتايل‪ ،‬ت�أمني االجواء املنا�سبة للحوار ال�سيا�سي بني‬ ‫خمتلف الفئات و�ضمان االحرتام املتبادل‪.‬‬ ‫ال ي�ستحق ال�شرط الأول الكثري من التعليق‪ .‬فمن الوا�ضح �أن ال�شعب وحده �صاحب احلق‬ ‫يف النظام الدميقراطي ب�أن يق ّرر من يحكم با�سمه و�ضمن �أي حدود ولأية غاية‪ .‬وا�ستئثار �أي‬ ‫جماعة �أو حزب �أو فرد بال�سلطة ال�سيا�سية يعني جتريد ال�شعب من هذا احلق‪ .‬وقد �سبق وب ّينا‬ ‫ب�أي معنى يتعار�ض قيام دولة دينية مع هذا ال�شرط‪ ،‬وال حاجة لقول املزيد‪.‬‬ ‫ ال�شرط الثاين (�شرط تكاف�ؤ فر�ص العمل ال�سيا�سي) ذو �أهمية بالغة‪ .‬املربر اال�سا�سي لوجود‬ ‫الدميقراطية‪ ،‬كما ر�أينا‪ ،‬هو �أنه ال يجوز �أن يخ�ضع الب�شر حلكم �أحد بدون ر�ضاهم‪ ،‬مما يعني انهم‬ ‫وحدهم �أ�صحاب احلق يف تقرير ال�سيا�سات والقيم التي يفرت�ض �أن تنظم حياتهم امل�شرتكة‪.‬‬ ‫(‪)26‬‬

‫(‪)27‬‬

‫عدد رقم ‪� | 1‬أيـار‬

‫‪2013‬‬


‫‪28‬‬

‫العلمانية اليوم‬

‫و�إذا �أ�ضفنا الآن �أن هذا احلق لي�س منوطاً �سوى بكون ال�شخ�ص را�شداً ويتميز باال�ستقاللية‬ ‫الذاتية‪� autonomy ،‬إذن لي�س هو حقاً لبع�ضهم �سوى �سواهم (�أي لفئة خمتارة منهم‪ ،‬مث ًال)‬ ‫�أو حتى لأكرثيتهم دون �أقليتهم‪� .‬إنهم ميتلكون هذا احلق جميعاً‪ ،‬مثلما ميتلكونه ا�ستغراقياً‪،‬‬ ‫وامتالكه جمعياً م�شتق‪ ،‬ال �شك‪ ،‬من امتالكه ا�ستغراقياً‪.‬‬ ‫�إذن‪ ،‬هو‪ ،‬يف �أ�سا�سه‪ ،‬حق لكل فرد را�شد منهم للم�شاركة على قدم امل�ساواة يف العمل ال�سيا�سي‪،‬‬ ‫�أي حقه يف �أن تتاح له نف�س فر�ص العمل ال�سيا�سي املتاحة لأي �سواه‪ .‬ولكن من الوا�ضح �أن الدولة‬ ‫التي ي�س ّوغ د�ستورها �أو االعراف القانونية املعمول بها عدم حيادها �إزاء وجهات النظر ال�سيا�سية‬ ‫املختلفة او �إزاء االيديولوجيات املتناف�سة يف املجال العام هي دولة تخرق على نحو فا�ضح مبد�أ تكاف�ؤ‬ ‫فر�ص العمل ال�سيا�سي‪ .‬فاالفراد الذين ينتمون �إىل التجمعات �أو االحزاب التي تقف الدولة منها‬ ‫موقفاً �سلبياً �أو معار�ضاً ال تتاح لهم نف�س الفر�ص للم�شاركة يف احلياة ال�سيا�سية التي تتاح لالفراد‬ ‫الذين ينتمون اىل التجمع او احلزب املوايل لإيديولوجية الدولة‪.‬‬ ‫ال يحتاج واحدنا �إىل كبري عناء ليدرك مدى تعار�ض الدولة الدينية مع مبد�أ تكاف�ؤ فر�ص العمل‬ ‫ال�سيا�سي‪ .‬فدولة كهذه ذات هوية �أيديولوجية اتفق �أنها م�ستمدة من دين معني‪ .‬ال يعني كونها ذات‬ ‫�أ�سا�س ديني‪ ،‬حتى باملعنى االبراهيمي للدين‪� ،‬إن الدولة التي تعمل بوحيها حمايدة على �أ�سا�س �أن‬ ‫يوجه عمل الدولة‪ ،‬وهو‪ ،‬بالتعريف‪ ،‬ال ميكن ان ينتج عنه حت ّيز لفريق �ضد‬ ‫القانون الإلهي هو الذي ّ‬ ‫فريق �أو �إجحاف بحق �أحد‪ .‬فما ي�صح قوله هنا لي�س �أن الدولة تعمل بوحي القانون االلهي‪ ،‬بل مبا‬ ‫يعتقد الذين على ر�أ�سها �أنه القانون االلهي ومبا يفرت�ضونه على انه امل�ضمون ال�سيا�سي ‪ -‬االجتماعي‬ ‫له‪ .‬ان القانون الإلهي يتحول �إذن �إىل ايديولوجيا �سيا�سية ‪ -‬اجتماعية ‪ ،‬بح�سب فهم جماعة معينة له‬ ‫نابع من خ�صو�صياتها الدينية‪ ،‬والثقافية‪ ،‬وامل�صلحية‪ .‬وما دامت هذه اجلماعة ال تعرتف‪ ،‬بل ال ميكن �أن‬ ‫تعرتف‪ ،‬ب�أنه متاح لأي جماعة �سواها ال ت�شاركها يف معتقدها الديني �أن تدرك ما هو القانون االلهي‬ ‫او ما يرتتب عليه �سيا�سياً واجتماعياً‪� ،‬إذن ف�إنها بذلك تعطي للدولة التي تعمل بوحي فهمها وتف�سريها‬ ‫اخل�صو�صيني للقانون االلهي طابعاً متحيزاً ي�ستدعي حرمان اجلماعات االخرى من امل�شاركة يف احلياة‬ ‫ال�سيا�سية على قدم امل�ساواة مع اجلماعة احلاكمة واجلماعات املوالية لها‪ .‬ما هو ن�صيب العلماين‪ ،‬مث ًال‪،‬‬ ‫حتى وان كان م�سلماً‪ ،‬يف امل�شاركة يف احلياة ال�سيا�سية لدولة كهذه؟ وما هو ن�صيب اجلماعات الدينية‬ ‫االخرى ون�صيب الال�أدريني يف امل�شاركة يف هذه احلياة ال�سيا�سية؟ اجلواب وا�ضح‪ :‬ال �شيء‪ .‬ف�إذا كان‬ ‫وجود دولة كهذه هو تنفيذ لأمر �إلهي‪ ،‬واذا كانت قوانينها و�سيا�ساتها حمكومة بالقانون االلهي‪ ،‬اذن‬ ‫ال دور يبقى للذين يرف�ضون القانون االلهي �أ�سا�ساً للحكم �أو للذين ال يدينون بدين الدولة ‪ -‬ال دور‬ ‫يبقى لهم يف جمال الت�شريع وتقرير ال�سيا�سات‪ .‬بل �إن «منطق» الدولة الدينية يفر�ض قمعهم فيما لو‬ ‫ينم عن معار�ضة للإيديولوجيا الر�سمية للدولة‪ .‬فما دام الق ّيمون على �ش�ؤون‬ ‫قاموا ب�أي ن�شاط �سيا�سي ّ‬ ‫الدولة ي َرون اليها حمكومة بالقانون االلهي بناء على �أمر �إلهي‪� ،‬إذن‪ ،‬لأن االمر االلهي ملزم على نحو‬ ‫مطلق‪ ،‬ال يحق لأحد �أن يقوم ب�أي عمل يتعار�ض مع تنفيذ �أمر اهلل لنا بعدم خمالفة القانون االلهي‬ ‫(*)‬


‫العلمانية اليوم‬

‫الإ�سالم ال�سيا�سي والدميقراطية‬

‫‪29‬‬

‫ن�سن من قوانني ّ‬ ‫ونختط من �سيا�سات‪ .‬ولكن ماذا ميكن �أن يعني هذا‪ ،‬عملياً‪� ،‬سوى فر�ض حظر‬ ‫فيما ّ‬ ‫قانوين على كل الذين يعار�ضون االيديولوجيا الر�سمية للدولة ‪� -‬أي قمعهم؟‪.‬‬ ‫ولكن ‪ -‬قد يت�ساءل بع�ضهم ‪� -‬أال ي�صدق �شيء مماثل حتى على الدولة الدميقراطية‪ ،‬دون �أن يعني‬ ‫هذا جتريدها من طابعها الدميقراطي؟ �ألي�ست الدولة الدميقراطية متحيزة للفكرة الدميقراطية وال‬ ‫تعطي‪ ،‬بالتايل‪ ،‬نف�س الفر�ص ال�سيا�سية للمعادين للدميقراطية التي تعطيها للموالني للدميقراطية؟‬ ‫جوابي هو �أنه ال �شيء يف النظام الدميقراطي‪ ،‬ب�صفته نظاماً دميقراطياً‪ ،‬يحول دون قيام تنظيمات‬ ‫�سيا�سية ذات �أهداف يحتاج حتقيقها اىل اطار غري دميقراطي‪ .‬والأكرث من ذلك‪ ،‬ال ميكن �أن يكون‬ ‫م�سوغاً من منظور دميقراطي و�ضع العراقيل �أمام و�صول تنظيمات كهذه �إىل احلكم‪ .‬هذه‪ ،‬يف‬ ‫الواقع‪ ،‬هي مفارقة الدميقراطية التي كانت مدار نقا�ش العديد من علماء وفال�سفة ال�سيا�سة‪� ،‬أي‬ ‫املفارقة الكامنة يف كون الفكرة الدميقراطية على م�ستوى املمار�سة حتمل يف تالفيفها �إمكان انتقائها‪.‬‬ ‫ال�صورة تختلف متاماً بالن�سبة للدولة الدينية‪ .‬فهي‪ ،‬كما ر�أينا واجبة ب�أمر �إلهي‪ ،‬من وجهة نظر‬ ‫يهددون وجودها من داخلها‪.‬‬ ‫م�ؤيديها‪ ،‬وال ميكن الت�ساهل ب�أي معنى من املعاين مع الذين ّ‬ ‫ولأنها واجبة ب�أمر �إلهي‪ ،‬ف�إنها واجبة على نحو مطلق‪� .‬إذن «منطق» الدولة الدينية يفر�ض �أن‬ ‫يج ّرد العلماين �أو اللأدري �أو الذي ال يدين بدين الدولة من احلق يف امل�شاركة يف احلياة‬ ‫ال�سيا�سية لهذه الدولة‪.‬‬ ‫قد يعرت�ض معرت�ض على �أ�سا�س �أن الدميقراطية تعني حكم االكرثية‪ .‬واذا اتفق �أن الأكرثية يف‬ ‫جمتمع ما م�سلمة‪ ،‬مثال‪ ،‬و�أن احلكم ميثل �إرادتها‪ ،‬فكيف ميكن �أن يكون هذا احلكم ال دميقراطياً‪،‬‬ ‫حتى وان عنى‪ ،‬عملياً‪ ،‬تهمي�ش االقلية �سيا�سياً؟ مبعنى �آخر‪� ،‬إذا اختارت الأكرثية ب�صورة دميقراطية‬ ‫�أن يتخذ احلكم �صورة �إ�سالمية و�أن ُي�صار اىل التقيد بالقانون االلهي‪ ،‬كما جنده يف القر�آن وال�س ّنة‪،‬‬ ‫يف كل املجاالت احلياتية فما هو املوجب‪ ،‬يف حالة كهذه‪ ،‬العتبار احلكم ال دميقراطياً؟‪.‬‬ ‫يف ر ّدنا على هذا االعرتا�ض‪ ،‬ال بد �أو ًال من التو�ضيح �أن كون الطرق الدميقراطية هي التي تو�صل‬ ‫حزباً ما �إىل احلكم ال يعني بال�ضرورة �أن هذا احلزب‪ ،‬بعد و�صوله �إىل احلكم‪ ،‬لن يتحينّ الفر�ص‬ ‫لتقوي�ض النظام الدميقراطي الذي �أو�صله اىل احلكم‪ .‬فاذا كان هذا احلزب ذا �أهداف ال تتحقق‬ ‫ظل نظام دميقراطي‪� ،‬إذن ال نتوقع‪ ،‬يف حال و�صوله �إىل احلكم وجناحه يف حتقيق �أهدافه‪� ،‬أن ّ‬ ‫يف ّ‬ ‫يظل‬ ‫النظام الذي �أو�صله اىل احلكم حمافظاً على طابعه الدميقراطي‪.‬‬ ‫من امل�سائل االخرى ذات االهمية هنا �أن جمرد مطالبة اجلماعة التي ي�شكل املنتمون اليها �أكرثية‬ ‫تنم عن ميل معاد جداً للروح الدميقراطي‬ ‫عددية يف املجتمع �أن تتحول اىل اغلبية �سيا�سية حاكمة ّ‬ ‫والواجبات املدنية النابعة من فكرة الدميقراطية ‪ .‬ال فرق هنا �إن كانت هذه اجلماعة ت�شكل �أكرثية‬ ‫عرقية �أو �أكرثية دينية �أو �أكرثية تتحدد ثقافياً على نحو ما‪ .‬لي�س من حق البي�ض يف الواليات املتحدة‪،‬‬ ‫مثال‪ ،‬ان يطالبوا �أن يتحولوا �إىل �أغلبية �سيا�سية حاكمة ملجرد �أنهم ي�شكلون �أكرثية ال�سكان‪ ،‬مثلما‬ ‫(‪)28‬‬

‫عدد رقم ‪� | 1‬أيـار‬

‫‪2013‬‬


‫‪30‬‬

‫العلمانية اليوم‬

‫لي�س من حق اليهود يف «ا�سرائيل» �أن يطالبوا ب�شيء مماثل ل�سبب مماثل‪ .‬فال من املنظور االخالقي‬ ‫وال من املنظور الدميقراطي ميكن ت�سويغ مطالبة كهذه‪.‬‬ ‫حتى تتو�ضح هذه امل�س�ألة �أكرث‪ ،‬من ال�ضروري �أن نبد�أ بالتمييز بني املبادىء التي ينبغي التق ّيد‬ ‫بها يف �إطار املمار�سة الدميقراطية واملبادىء التي ينبغي التقيد بها للحفاظ على هذه املمار�سة‬ ‫وعلى ا�ستمرارية النظام الدميقراطي نف�سه‪ .‬ما يهمنا‪ ،‬بوجه خا�ص‪ ،‬بني املبادىء التي جتد تطبيقها‬ ‫�ضمن املمار�سة الدميقراطية‪ ،‬هو مبد�أ حكم االغلبية‪ .‬ال مهرب من التقيد بهذا املبد�أ من الناحية‬ ‫العملية �ضمن نطاق النظام الدميقراطي‪ ،‬لأن الإجماع على �أي ق�ضية لي�س باالمر املمكن عملياً‬ ‫�إال يف حاالت نادرة جداً‪� .‬إذن‪ ،‬جعل الإجماع �أ�سا�ساً التخاذ قرارات �سيا�سية هو مبثابة تعطيل‬ ‫لالرادة ال�سيا�سية ‪ .‬ولكن �أن تتماهى االغلبية ال�سيا�سية‪ ،‬د�ستورياً‪ ،‬مع جماعة معينة عرقية �أو‬ ‫دينية او ثقافية‪ ،‬هو خرق لأهم املبادىء املطلوبة للحفاظ على املمار�سة الدميقراطية‪ ،‬بل وعلى‬ ‫يحدد امل�س�ؤوليات‪ ،‬واحلقوق‪،‬‬ ‫النظام الدميقراطي نف�سه‪ .‬وهذا املبد�أ هو �أن الد�ستور الذي ينبغي �أن ّ‬ ‫والواجبات لكل من احلكام واملحكومني‪ ،‬يف �إطار املمار�سة الدميقراطية‪ ،‬ال يجوز �أن يت�ضمن �أي‬ ‫بنود تقود‪ ،‬او حتى قد تقود‪� ،‬إىل ترجيح م�صلحة فريق على م�صلحة �سائر الفرقاء �أو �إىل ح�صر‬ ‫ال�سلطة يف فريق دون �سائر الفرقاء �أو تقوية نفوذ فريق على ح�ساب كل فريق �آخر‪ .‬ولذلك �أن‬ ‫يطالب فريق‪ ،‬لأنه ميثل �أكرثية دينية �أو عرقية �أو غري ذلك‪� ،‬أن ي�ؤول احلكم �إليه على نحو دائم ال‬ ‫ميكن ان تكون له نتيجة‪ ،‬يف حال متكن هذا الفريق من ت�سلم احلكم‪� ،‬سوى و�ضع د�ستور جديد‬ ‫يخالف املبد�أ املعني‪� .‬إن ما يق�ضي به هذا املبد�أ هو �ضرورة �إجماع جميع الفرقاء على الد�ستور‬ ‫الذي يفرت�ض �أن يكون احلكم االخري للجميع الذي يتعني على مبادئه تقرير م�شروعية �أو عدم‬ ‫جت�سد‬ ‫م�شروعية الت�شريعات التي يطال ت�أثريها جميع الفئات‪ .‬من هنا يت�ضح �أن من ال�ضروري ان ّ‬ ‫بنوده مبادىء من�صفة للجميع وتنال‪ ،‬بالتايل‪ ،‬ثقة وت�أييد اجلميع‪ .‬ولكن هذا ال ميكن ان ينطبق‬ ‫على د�ستور يعك�س ر�أي االكرثية الدينية‪ ،‬مث ًال‪ ،‬بخ�صو�ص ما ينبغي ان ي�شكل امل�صدر الأخري‬ ‫واحلكم الأخري ملا يجوز �س ّنه �أو عدم �س ّنه من قوانني ولكيف ينبغي ان تدار �ش�ؤون االمة‪ ،‬لأن‬ ‫يج�سد ت�صو ًرا للحق واخلري خا�صاً باجلماعة الدينية التي اتفق انها متثل‬ ‫د�ستوراً كهذا ال بد �أن ّ‬ ‫�أكرثية عددية يف املجتمع‪ .‬وو�ضع د�ستور كهذا مو�ضع التنفيذ هو مبثابة فر�ض هيمنة هذا الت� ّصور‬ ‫اخلا�ص للحق واخلري على املجتمع ب�أكمله‪ .‬وال �شك �أن د�ستوراً كهذا يخالف على نحو �صارخ‬ ‫مبد�أ عدم جواز جت�سيد د�ستور الدولة الدميقراطية ملا يقود‪ ،‬عملياً‪� ،‬إىل ترجيح م�صلحة جماعة على‬ ‫م�صلحة �سائر اجلماعات او تقوية نفوذها على ح�ساب كل جماعة �سواها‪.‬‬ ‫والأكرث من ذلك �أن د�ستوراً كهذا يخالف �أي�ضاً ال�شروط الثالثة االخرية ال�ضرورية لوجود نظام‬ ‫دميقراطي‪ .‬ال�شرط الثالث من هذه ال�شروط هو �إعطاء كل فرد احلد االق�صى من احلرية الذي يتفق‬ ‫مع �إعطاء حرية مماثلة لكل من عداه‪ .‬ما يعنينا الآن هو حق االعتقاد الذي يت�ضمن �إعطاء كل‬ ‫فرد احلرية يف �أن يعتقد فيما ي�شاء‪ ،‬ما دام هذا ال يتعار�ض مع �إعطاء حرية مماثلة لكل من عداه‪.‬‬ ‫(**)‬


‫العلمانية اليوم‬

‫الإ�سالم ال�سيا�سي والدميقراطية‬

‫‪31‬‬

‫وهذا ي�شتمل على �إعطائه احلرية يف �أن يعتقد يف �أي دين ي�شاء �أو يف �أن يغري دينه �أو يف �أال يعتقد‬ ‫ب�أي دين على االطالق‪ .‬ولكن هذا يفرت�ض م�سبقاً �ضرورة حياد الدولة �إزاء الدين واالديان‬ ‫املختلفة‪ ،‬مثلما يفرت�ض حيادها‪ ،‬كما بينا‪� ،‬إزاء االيديولوجيات املختلفة‪ .‬ولكن الدولة الدينية‪،‬‬ ‫بالتعريف‪ ،‬وكما ال بد �أن ين�ص عليه د�ستورها بو�ضوح‪ ،‬منحازة لدين معني‪ .‬فكيف ميكن لدولة هذا‬ ‫د�ستورها �أن ت�ضمن حرية االعتقاد الديني و�أن تكون عام ًال م�ساعداً على �إ�شاعة جو الت�سامح يف‬ ‫املجتمع بحيث ال يعود الفرد خا�ضعاً با�ستمرار ل�ضغوط غري عادية متنعه من تغيري اعتقاده الديني‪،‬‬ ‫�أن اتفق �أنه يدين بدين الدولة‪� ،‬أو جتعل بقاءه على دينه‪� ،‬إن اتفق �أنه ال يدين بدين الدولة‪� ،‬أمراً‬ ‫غري مرغوب قط؟ الغنو�شي نف�سه‪ ،‬على الرغم من �إظهاره والء كالمياً حلرية االعتقاد‪ ،‬ال يعطي‬ ‫للمولود لأب م�سلم حرية التخلي عن دين والده‪ ،‬بدليل �أنه يعترب الردة جرمية‪ ،‬و�إن مل يذهب اىل‬ ‫اعتبارها جرمية دينية‪ ،‬بل اكتفى باعتبارها جرمية �سيا�سية ‪ .‬ما هو مهم هنا‪ ،‬على �أي حال‪ ،‬لي�س ما‬ ‫يقوله هذا املنظر اال�سالمي او ذاك بخ�صو�ص حرية االعتقاد‪ ،‬بل «منطق» الدولة الدينية من حيث‬ ‫كونها تقوم على تعاليم دين معني وتظهر انحيازها الوا�ضح لهذا الدين‪� .‬إن «منطق» دولة كهذه ال‬ ‫ي�سمح بت�أمني ال�شروط املطلوبة ملمار�سة الذين ال ينت�سبون لدين الدولة حرية ال�ضمري واالعتقاد‬ ‫بدون اخل�ضوع ل�شتى الإكراهات وال�ضغوط‪ .‬قد ال توجد قوانني متنعهم من ذلك‪ ،‬و�إن كان هذا‬ ‫جد م�ستبعد‪ .‬امل�شكلة لي�ست بال�ضرورة �إن الإكراهات وال�ضغوط التي يخ�ضع لها غري املدينني‬ ‫�أمراً ّ‬ ‫بدين الدولة نا�شئة عن قوانني معينة‪ ،‬بل امل�شكلة‪ ،‬يف �أ�سا�سها‪� ،‬أن انحياز الدولة‪ ،‬من جهة‪ ،‬ي�شجع‬ ‫على عدم ت�سامح االكرثية التي تدين بدين الدولة �إزاء من ال يدينون بهذا الدين‪ ،‬واحلفاظ على‬ ‫الهوية الدينية للدولة‪ ،‬من جهة ثانية‪ ،‬يق�ضي ب�إعطاء االف�ضلية يف �شغل الوظائف املهمة يف القطاع‬ ‫العام للذين يدينون بدين الدولة‪ .‬تن�ش�أ عن نزعة عدم الت�سامح العامة �شتى ال�ضغوط واالكراهات‬ ‫التي جتعل غري املت�سامح معهم يف و�ضع ّ‬ ‫يتعذر عليهم فيه �أن ميار�سوا بحرية تامة حقّهم يف االعتقاد‪.‬‬ ‫وال نتوقع هنا من دولة منحازة لدين غري املت�ساحمني ومتثل م�صاحلهم �أن حتمي بقوانينها حرية غري‬ ‫املت�سامح معهم يف ممار�سة �شعائرهم الدينية وحقهم يف االعتقاد‪ .‬و�إعطاء الدولة الأف�ضلية يف �شغل‬ ‫املراكز والوظائف يف القطاع العام ملن يدينون بدينها هو عامل مولد ل�ضغط قوي على الذين ال‬ ‫يدينون بهذا الدين لتغيري دينهم والإنت�ساب �إىل دين الأكرثية‪ .‬من هنا يت�ضح �أن «منطق» الدولة‬ ‫الدينية يتنافر مع مبد�أ تكاف�ؤ احلرية‪ ،‬مثلما يتعار�ض مع مبد�أ تكاف�ؤ فر�ص العمل ال�سيا�سي‪.‬‬ ‫وهو يتعار�ض �أي�ضاً مع ال�شرط الرابع الذي هو‪ ،‬يف فحواه اال�سا�سي‪� ،‬شرط امل�ساواة يف احلقوق‪ .‬ال‬ ‫يجوز‪ ،‬بح�سب هذا ال�شرط‪ ،‬حرمان �أي فرد يدخل يف معدودية الدولة من حقوق املواطنة على‬ ‫�أ�سا�س تع�سفي‪ .‬ال نفرت�ض هنا طبع�أ ان حقوقاً كهذه‪� ،‬أو �أي حقوق �سواها‪ ،‬مطلقة‪ .‬ميكن‪ ،‬من حيث‬ ‫املبد�أ‪� ،‬إيجاد �أ�سباب وجيهة حلرمان فرد من حقوقه‪ ،‬ولكن دين الفرد ال ميكن �أن يكون من هذه‬ ‫الأ�سباب‪ ،‬من منظور دميقراطي‪ .‬كل من يدخل يف معدودية الدولة‪ ،‬بغ�ض النظر عن ملته‪ ،‬يت�أثر‬ ‫ب�سيا�سات وت�شريعات الدولة‪ ،‬مما يعطيه من املنظور الدميقراطي‪ ،‬كما ب ّينا �سابقاً‪ ،‬احلق يف امل�شاركة‬ ‫(***)‬

‫(‪)29‬‬

‫عدد رقم ‪� | 1‬أيـار‬

‫‪2013‬‬


‫‪32‬‬

‫العلمانية اليوم‬

‫يف تقرير وادارة امل�ؤ�س�سات التي يخ�ضع لت�أثرياتها‪ .‬لي�س دينه هو ما يجعله خا�ضعاً لت�أثري هذه‬ ‫امل�ؤ�س�سات بل كونه ي�شرتك يف حياة واحدة مع �سائر �أفراد املجتمع‪ ،‬على خمتلف مللهم ونحلهم‪،‬‬ ‫الذين ت�شكل هذه امل�ؤ�س�سات م�صدر القيم والقواعد التي يفرت�ض �أن تنظم احلياة امل�شرتكة لهم‪.‬‬ ‫ولذلك‪� ،‬أن نعطي للدولة هوية دينية هو بال�ضرورة �أن جن ّرد الذين ال يدينون بدين الدولة من‬ ‫الذين يدخلون يف معدوديتها من الكثري من حقوق املواطنة التي يتم ّتع بها االخرون‪ .‬يح ّرم على‬ ‫غري امل�سلم‪ ،‬مث ًال‪ ،‬يف دولة ذات هوية �إ�سالمية من �شغل منا�صب ومراكز معينة لها ارتباط مبا�شر‬ ‫بالهوية الدينية للدولة‪ .‬بل يح ّرم هذا حتى على امل�سلم العلماين‪� ،‬إذ هو يف رف�ضه �أن تكون للدولة‬ ‫اي هوية دينية‪ ،‬ي�شارك غري امل�سلم يف رف�ضه لأن تكون للدولة هوية ا�سالمية‪ .‬من اجلدير باملالحظة‬ ‫هنا �أن الغنو�شي ال يعترب هذا احلرمان منطوياً على متييز بل على جمرد ت�صنيف‪ ،‬وينفي‪ ،‬بالتايل‬ ‫تعار�ضه مع مبد�أ امل�ساواة يف احلقوق ‪� .‬إن هذا املوقف حميرّ جداً‪ ،‬بالنظر �إىل �أن الغنو�شي يدرك‬ ‫بو�ضوح انه لي�س لغري امل�سلم ان يرف�ض �شرعية الدولة ومواطنيته تظل غري مكتملة بدون اعتناقه‬ ‫حمددة بالعقيدة مما يعني حرمان غري امل�سلم‪ ،‬وحتى امل�سلم العلماين‪،‬‬ ‫اال�سالم‪ .‬املواطنة وحقوقها ّ‬ ‫من حقوق تدخل يف اطار املواطنة العامة‪ .‬والالم�ساواة وا�ضحة جداً هنا‪� :‬إنها الم�ساواة يف حقوق‬ ‫املواطنة‪ .‬لي�س �أكرث من هراء‪� ،‬إذن‪ ،‬ادعاء الغنو�شي �أنه لي�س يف ذلك خمالفة ملبد�أ امل�ساواة‪.‬‬ ‫لننتقل الآن اىل ال�شرط اخلام�س واالخري �شرط التعاون الذي ي�ستلزم‪ ،‬بدوره‪ ،‬خلق �أجواء منا�سبة‬ ‫للحوار بني جميع املواطنني وتقيدهم بواجبات املواطنة‪ .‬ي�أتي يف ر�أ�س هذه الواجبات واجب احرتام‬ ‫كل جماعة لالعتقادات الدينية �أو الالهوتية �أو امليتافيزيقية لأي جماعة �سواها‪ .‬امل ّربر اال�سا�سي‬ ‫للدميقراطية ال�سيا�سية‪ ،‬كما ر�أينا‪ ،‬هو االعتقاد ب�ضرورة ا�شرتاك كل االفراد �أو اجلماعات يف تقرير‬ ‫القيم‪ ،‬وال�سيا�سات ‪ ،‬والقوانني التي يفرت�ض ان تنظم احلياة امل�شرتكة لهم باعتبارهم ي�شكلون جمتمعاً‬ ‫واحداً‪ .‬وهذا‪ ،‬كما �أو�ضحنا‪ ،‬يفرت�ض قدرة العقل اجلمعي (�أو العقل العام) على �إيجاد احللول املنا�سبة‬ ‫للم�شكالت العملية التي تواجه الب�شر‪ ،‬مما يجعل التعاون يف �أ�سا�س املمار�سة الدميقراطية والتدابر من‬ ‫�أ�سو�أ معرقالت هذه املمار�سة‪ .‬ووا�ضح ان التعاون ممتنع‪� ،‬إال يف اجواء قمينة بتوليد ال�شروط ال�ضرورية‬ ‫لقيام تفاعل حواري بني خمتلف وجهات النظر واملواقف من الق�ضايا العامة‪� .‬أهم �شرط من هذه‬ ‫ال�شروط هو تق ّيد جميع الفئات مببد�أ االحرتام املتبادل الذي تناولناه بالتف�صيل يف الف�صل الثالث‪.‬‬ ‫من الوا�ضح �أن الدولة الدينية ال ميكن لها‪ ،‬بحكم طبيعتها‪� ،‬سوى �أن ت�ستبعد من �سريورة التفاعل‬ ‫احلواري يف املجال العام كل الذين ال يدينون بدين الدولة وكذلك كل العلمانيني‪ ،‬حتى و�إن كانوا‬ ‫يدينون بدينها‪ .‬فال ميكن للأخريين �أن ي�شاركوا م�شاركة فعلية‪ ،‬مع �سائر الفئات‪ ،‬يف تقرير ال�سيا�سات‬ ‫العامة‪ ،‬والقيم‪ ،‬والقوانني التي يفرت�ض �أن تنظم احلياة امل�شرتكة داخل جمتمعهم وترتتب عليها‬ ‫نتائج ذات م�سا�س مب�صاحلهم‪ .‬ففي دولة اال�سالم الغنو�شية‪ ،‬مث َال‪ ،‬اال�شرتاك يف احلوار‪ ،‬يف اف�ضل‬ ‫حال‪ ،‬متاح للإ�سالميني وحدهم (الذين ينتمون �إىل �أحزاب �إ�سالمية) وللموالني لاليديولوجيا‬ ‫الر�سمية من امل�سلمني‪ ،‬وك�أنهم ال يرتبطون بالفئات االخرى يف جمتمعهم ب�أوا�صر احلياة امل�شرتكة‪.‬‬ ‫(‪)30‬‬


‫الإ�سالم ال�سيا�سي والدميقراطية‬

‫العلمانية اليوم‬

‫‪33‬‬

‫من الطبيعي �أال ت�شارك الفئات الأخرية يف �سريورة احلوار ال�سيا�سي حول الق�ضايا العامة و�أال‬ ‫يكون لها دور‪� ،‬أو �أال يكون لها ما ت�ساهم به‪ ،‬يف تقرير ال�سيا�سات ‪ ،‬والقيم ‪ ،‬والقوانني التي �ستكون‬ ‫مطالبة باخل�ضوع لها‪ ،‬ما دام ما تعنيه هذه امل�شاركة يف نهاية املطاف هو الو�صول �إىل اتفاق حول �أي‬ ‫ال�سيا�سات �أو الت�شريعات التي ينظر فيها ال يقود تبنيها �إىل خمالفة �أي ن�ص ديني �أو خمالفة �أي‬ ‫قيم من قيم اال�سالم اال�سا�سية‪ .‬فمن الوا�ضح انه ال الذين يدينون بدين �آخر ويرف�ضون‪ ،‬بالتايل‪،‬‬ ‫اللجوء اىل الن�صو�ص الدينية للإ�سالم وال امل�سلمون العلمانيون الذين يرف�ضون ا�شتقاق املواقف‬ ‫من الق�ضايا العامة من �أي ن�ص ديني‪ ،‬ال �أولئك وال ه�ؤالء لديهم ما ي�ساهمون به يف املجال العام‪.‬‬ ‫�إنهم ُي�ستبعدون ب�صورة طبيعية من �سريورة التفاعل احلواري على خمتلف م�ستوياته يف املجالني‬ ‫ال�سيا�سي واالجتماعي‪ .‬ي�صبح و�ضعهم �أ�شبه بو�ضع ال�شاهد �أو املتفرج على اجلدل الدائر على‬ ‫ال�ساحة العامة ال بو�ضع امل�شارك يف هذا اجلدل‪.‬‬ ‫والدولة الدينية‪ ،‬وحتى جمرد الدعوة �إىل �إقامتها‪ ،‬ت�شكل خرقاً فا�ضحاً ملبد�أ الإحرتام املتبادل‪.‬‬ ‫يقول هذا املبد�أ‪ :‬ال تعامل �أفكار واعتقادات �سواك التي تفتقر �أ�س�سها �إىل ال�شفافية من منظورك‬ ‫اخلا�ص �إال بنف�س االحرتام الذي تريدهم �أن يعاملوا به �أفكارك واعتقاداتك التي تفتقر �أ�س�سها‬ ‫�إىل ال�شفافية من منظورهم هم‪ .‬ما يرتتب على هذا املبد�أ هو �أنه ال يجوز لأي فريق �أن ّ‬ ‫يحل �سلطته‬ ‫املعرفية حمل ال�سلطة املعرفية للفريق املخالف له يف اعتقاده‪ ،‬حيث تكون االعتقادات مو�ضوع‬ ‫اخلالف من النوع الذي يفتقر �إىل �أ�س�س �شفافة‪.‬‬ ‫ال ي�صدق ال�شيء نف�سه على احلاالت التي ال تكون فيها االعتقادات املختلف حولها ذات �أ�س�س‬ ‫غري �شفافة‪ .‬االعتقادات العلمية هي �أف�ضل مثال على االعتقادات التي ال تفتقر �أ�س�سها �إىل‬ ‫ال�شفافية‪ .‬ما يعنيه هذا هو �أن اخلالفات التي تن�ش�أ حولها هي خالفات ميكن احل�سم فيها‪ ،‬من‬ ‫حيث املبد�أ‪ ،‬عن طريق اللجوء اىل منهج معروف‪ ،‬ومتفق عليه‪ ،‬وموثوق فيه من قبل اجلميع‪� ،‬إال‬ ‫وهو املنهج العلمي‪ .‬من ميتلك الدليل العلمي الكايف لدعم اعتقاده هو يف و�ضع معريف متفوق‬ ‫على و�ضع من هو ذو اعتقاد خمالف وال ميتلك �أي �أدلة كافية لت�سويغه‪ .‬واالعتقاد املخالف على‬ ‫نحو �صارخ ملا هو ثابت علمياً‪ ،‬كاالعتقاد ب�أن ال�شم�س تدور حول االر�ض �أو �أن االر�ض م�سطحة‪،‬‬ ‫ال ي�ستحق �أي احرتام‪� .‬إن و�ضع العامل �سلطته املعرفية حمل �أو فوق «ال�سلطة املعرفية» للجاهل يف‬ ‫�أمور العلم ال ي�شكل مطلقاً خرقاً ملبد�أ االحرتام املتبادل‪.‬‬ ‫تختلف ال�صورة كلياً عندما تتعامل مع اعتقادات من النوع الديني �أو امليتافيزيقي‪ .‬ال توجد طرق‬ ‫معروفة‪ ،‬ومتفق عليها‪ ،‬وموثوق فيها من قبل اجلميع حل�سم اخلالفات التي قد تن�ش�أ حول اعتقادات‬ ‫من هذا النوع‪ .‬ولذلك تظل اعتقادات كهذه مثرية للجدل على م ّر ال�سنني‪ .‬ما يق�ضي به مبد�أ‬ ‫االحرتام املتبادل‪ ،‬بخ�صو�ص اعتقادات كهذه‪ ،‬هو �أنه يف حال ح�صول خالف حولها‪ ،‬على كل‬ ‫طرف من �أطراف اخلالف �أن يحرتم حق كل طرف �آخر يف �أن يختار الطريق التي يراها منا�سبة‬

‫عدد رقم ‪� | 1‬أيـار‬

‫‪2013‬‬


‫‪34‬‬

‫العلمانية اليوم‬

‫للو�صول �إىل «احلقيقة» ‪� -‬أي حقه املعريف ولي�س فقط حقه االخالقي‪.‬ال �أحد ذو امتياز معريف‬ ‫‪ epistemic privilege‬يف حاالت كهذه‪ .‬كل فريق‪ ،‬ال �شك‪� ،‬سيتم�سك بعناد �شديد باعتقاداته على‬ ‫حمدد ومتفق عليه من‬ ‫اال�س�س التي يراها منا�سبة‪ .‬ولكن ما دام ال وجود لـ(�ألغورثم) �أو منهج ّ‬ ‫قبل اجلميع حل�سم هذه اخلالفات‪� ،‬إذن ال �سبيل ل�ضبط التعامل بني الفرقاء‪ ،‬يف هذه احلالة‪ ،‬على‬ ‫نحو معقول ومن�صف للجميع �إال عن طريق مبد�أ االحرتام املتبادل‪ .‬ال فريق ير�ضى ب�أن يتخلى عن‬ ‫�سلطته املعرفية لأي فريق �آخر‪� .‬إذن االن�صاف واملعقولية يق�ضيان ب�أال يحل �أي فريق �سلطته املعرفية‬ ‫حمل ال�سلطة املعرفية لأي فريق خمالف له‪.‬‬ ‫من ال�سهل �أن نرى الآن ملاذا الدولة الدينية‪ ،‬او حتى جمرد الدعوة �إىل �إقامتها‪ ،‬ت�شكل خرقاً‬ ‫ملبد�أ الإحرتام املتبادل‪ .‬مبد�أ �أ�سا�سي من مبادىء الدولة الدينية‪ ،‬كما ر�أينا‪ ،‬هو مبد�أ احلاكمية‪.‬‬ ‫وما يعنيه هذا املبد�أ علمياً هو �ضرورة ت�أ�سي�س الدولة على تعاليم دين معني‪ ،‬ال �سواه‪ ،‬لأنها كما‬ ‫يزعم امل�ؤمنون بها‪ ،‬التعاليم التي تنطوي على القوانني الإلهية التي ُيفرت�ض تقيدنا بها فيما ن�سن‬ ‫من قوانني ونختط من �سيا�سات‪� .‬إذن‪ ،‬من يدعو �إىل تطبيق مبد�أ احلاكمية امنا يفرت�ض جواز �إحالل‬ ‫ال�سلطة املعرفية للجماعة الدينية التي ينتمي �إليها حمل ال�سلطة املعرفية لأي جماعة �أخرى‬ ‫ت�سلك طريقاً �آخر للو�صول �إىل معرفة القوانني الإلهية‪� .‬إنه ُيجيز لنف�سه ما ال يجيزه ل�سواه ممن‬ ‫هو يف و�ضع مماثل لو�ضعه‪ .‬فلو طالب املنتمون �إىل جماعة دينية �أخرى ت�أ�سي�س الدولة على تعاليم‬ ‫دينهم‪ ،‬لر�أيناه يحتج‪ ،‬وبوجه حق‪ ،‬على �أ�سا�س انهم يحلون �سلطتهم املعرفية حمل ال�سلطة املعرفية‬ ‫للجماعة الدينية التي ينتمي اليها‪ .‬هل يعقل ان ير�ضى الغنو�شي‪ ،‬مث ًال �أو �أي م�سلم �سواه‪� ،‬إن‬ ‫تقام الدولة يف الهند على �أ�سا�س تعاليم «رام»‪ ،‬كما ي�صر الهندو�سيون املتطرفون فتحل بذلك‬ ‫ال�سلطة املعرفية للهندو�سي حمل ال�سلطة املعرفية للهندي امل�سلم‪ ،‬والهندي البوذي‪ ،‬والهندي‬ ‫العلماين؟ طبعاً ال‪ .‬ولكن مثلما �أنه ال يجوز للهندو�سي �أن يقيم دولة على �أ�سا�س قيم م�ستمدة من‬ ‫الت�صور الهندو�سي اخلا�ص للخري واحلق‪ ،‬فار�ضاً بذلك هيمنة هذا الت�صور يف املجال العام‪ ،‬كذلك‬ ‫ال يجوز للم�سلم �أن يفعل �شيئاً مماث ًال‪ .‬من هنا �أهمية مبد�أ االحرتام املتبادل الذي يق�ضي يف هذا‬ ‫احلالة ب�ضرورة حياد الدولة �إزاء الت�صورات الدينية املتعار�ضة للحق واخلري‪.‬‬ ‫ت�سيي�س الدين وواجبات املواطنة‬

‫ذكرت �سابقاً �أنه حتى جمرد اللجوء �إىل االعتبارات الدينية يف املجال العام هو دليل انعدام الروح‬ ‫الدميقراطي و�إخالل بواجبات املواطنة‪ .‬ال يجوز �أن ُيفهم من هذا �أنه م�س ّوغ من منظور دميقراطي‬ ‫حترمي ت�سيي�س الدين قانونياً وجتريد امل�ؤمنني من حق اللجوء �إىل اعتبارات خا�صة بدينهم لت�سويغ‬ ‫مواقفهم من الق�ضايا العامة‪ .‬املق�صود هو فقط �أن واجبات املواطنة يف جمتمع دميقراطي تق�ضي‪ ،‬كما‬ ‫ب ّينا‪ ،‬بالتقيد مببد�أ الإحرتام املتبادل باعتباره اخلطوة اال�سا�سية االوىل خللق �أجواء منا�سبة لن�شوء‬


‫الإ�سالم ال�سيا�سي والدميقراطية‬

‫العلمانية اليوم‬

‫‪35‬‬

‫تفاعل حواري بني خمتلف فئات املجتمع الواحد‪ ،‬وتقريب وجهات نظرهم املتباينة‪ ،‬وت�أمني �أف�ضل‬ ‫ال�شروط القمينة بتعاونهم‪ .‬وال يجوز طبعاً حتويل واجبات املواطنة �إىل واجبات قانونية‪ ،‬بل ُيرتك‬ ‫للفرد �أن يقرر كيف يت�صرف يف املجال العام بخ�صو�ص التقيد بواجبات املواطنة‪ .‬ولذلك يبقى له‬ ‫احلق يف �أن يجعل الن�صو�ص املقد�سة لدينه املرجع االخري يف املجال العام و�أن يطالب الآخرين‬ ‫ب�أن ي�ؤيدوه يف موقفه هذا‪� .‬إن حقه هذا م�ستمد من كونه �شخ�صاً م�ستق ًال بذاته‪ ،‬مثله مثل �أي‬ ‫�شخ�ص �آخر يف هذا الكون الوا�سع‪ ،‬وال �أحد �سواه ميلك احلق يف �أن ميلي عليه كيف ينبغي �أن يدير‬ ‫�ش�ؤون حياته‪ ،‬ويفكر‪ ،‬ويقرر اجتاهاته ومواقفه‪� ،‬أو يحرمه من حرية اللجوء �إىل ما ي�شاء من م�سوغات‬ ‫ملواقفه من ق�ضايا ال�سيا�سة‪ ،‬واالجتماع‪ ،‬واالقت�صاد‪ ،‬واالخالق‪ .‬مبد�أ احرتام ا�ستقاللية ال�شخ�ص‬ ‫االن�ساين هو من �أهم املبادىء الدميقراطية‪ ،‬وال�سماح بخرقه �أو الت�ساهل مع من يقومون بخرقه‪،‬‬ ‫وتبني ذلك �سيا�سة عامة‪ ،‬يتعار�ضان‪ ،‬ب�شكل �أ�سا�سي‪ ،‬مع �شروط املمار�سة الدميقراطية‪ .‬ولذلك من‬ ‫يتبنى الدميقراطية موقفاً ال ميلك �سوى �أن يعطي لأي �شخ�ص احلرية يف �أن يك ّون مواقفه واجتاهاته‬ ‫ال�سيا�سية وغري ال�سيا�سية على النحو الذي يعك�س قناعاته اخلا�صة‪ ،‬وير�ضي �ضمريه اخلا�ص‪ ،‬وينبع‬ ‫من تفكريه اخلا�ص‪.‬‬ ‫�أن ننطلق من النظر �إىل ال�شخ�ص باعتباره ذا ا�ستقاللية اخالقية يعني �أن ثمة اعتباراً اخالقياً‬ ‫لإعطائه احلق ب�صفته فاع ًال �سيا�سياً واجتماعياً‪� ،‬أي فاع ًال يف املجال العام‪ ،‬يف �أن ي�ستمد مواقفه‬ ‫واجتاهاته من �أي م�صدر ي�شاء‪ .‬ولكن هذا احلق‪ ،‬مثل �أي حق �آخر لالن�سان‪ ،‬هو حق للوهلة االوىل‬ ‫‪ primafacie right‬وال يرتجم عملياً‪ ،‬بالتايل‪� ،‬سوى اىل حرية م�شروطة‪ ،‬من الوجهة االخالقية‪.‬‬ ‫وهذا يعني‪ ،‬مث ًال‪� ،‬أن حق اال�سالمي يف �أن ُيقحم الدين يف ال�سيا�سة و�أن يطرح �شعار «اال�سالم‬ ‫هو احلل» مل�شكالتنا ال�سيا�سية واالجتماعية‪ ،‬و�إن كان ال ميارى فيه من الوجهة االخالقية‪ ،‬بدليل‬ ‫وجود اعتبار اخالقي ل�صاحله‪� ،‬إال انه م�شروط بعدم وجود اعتبار �أخالقي �آخر مبطل لالعتبار‬ ‫االخالقي ل�صاحله‪.‬‬ ‫قد يت�ساءل واحدنا هنا عما ميكن ان ي�شكل‪ ،‬من حيث املبد�أ‪ ،‬اعتبا ًر اخالقياً مبط ًال لالعتبار الذي‬ ‫يقوم عليه احلق املذكور‪ .‬جوابي هو �أن ثمة اعتبارات تتعلق باملمار�سة الدميقراطية والواجبات‬ ‫املدنية املرتتبة على هذه املمار�سة ‪ -‬اعتبارات نابعة من مبد�أ القابلية للكوننة ‪- Universalizability‬‬ ‫ينبغي لواحدنا �أن يراعيها يف ممار�سته للحق املعني‪ ،‬و�إال ف�إنه يفقد هذا احلق‪ .‬ما يقوله مبد�أ القابلية‬ ‫للكوننة‪ ،‬الذي هو عماد االخالق‪ ،‬هو �أن احلاالت املت�ساوية يجب �أن تعامل بالت�ساوي و�أن �أي‬ ‫اختالف يف املعاملة يجب ان يعك�س اختالفاً منا�سباً بني احلاالت التي تعامل باختالف‪ .‬والكالم‬ ‫على احلاالت املت�ساوية هنا هو كالم على احلاالت التي ت�شرتك يف نف�س ال�سمات املجردة‪� ،‬أي‬ ‫حتدد كونها من نوع معني‪ ،‬ال من نوع �آخر‪� .‬إن كوين‪ ،‬مث ًال‪� ،‬شخ�صاً را�شداً وذا‬ ‫ال�سمات التي ّ‬ ‫قدرة على التفكري على نحو م�ستقل وعلى الت�أمل املرتوي يف هذه امل�س�ألة �أو تلك للو�صول �إىل‬ ‫قرار بخ�صو�ص املوقف الذي ينبغي اتخاذه منها‪ ،‬وكوين ذا قدرة على تقومي االمور و�إعادة النظر‬ ‫عدد رقم ‪� | 1‬أيـار‬

‫‪2013‬‬


‫‪36‬‬

‫العلمانية اليوم‬

‫يف مواقفي‪ ،‬عندما تدعو احلاجة �إىل ذلك‪ ،‬وعلى معاندة �أهوائي وفهم نوازعي وحمركات �أفعايل‪،‬‬ ‫�إن هذه كلها من �سماتي املجردة التي ي�شاركني فيها كل الب�شر الذين بلغوا �سن الر�شد ولي�سوا‬ ‫من البلهاء �أو املختلني �أو ناق�صي العقول �أو املعاقني عقلياً �أو �أي �شيء �آخر من هذا القبيل‪ .‬وهذه‬ ‫حتدد كوننا من نوع معني من الب�شر‪� ،‬أي النوع الرا�شد‪ ،‬مقابل �أنواع �أخرى‪ ،‬كالنوع الذي‬ ‫ال�سمات ّ‬ ‫يتحدد ب�سمة البالهة او نق�ص العقل او الق�صور‪ .‬و�إذا كانت هذه ال�سمات هي ما يعطيني احلق يف‬ ‫ّ‬ ‫علي‬ ‫التحرر من و�صاية الآخرين ويف ا�ستقالليتي االخالقية‪� ،‬إذن ف�إن مبد�أ القابلية للكوننة يفر�ض ّ‬ ‫واجباً مدنياً �أ�سا�سياً‪ ،‬واجب �إعطاء كل من ي�شاركني يف هذه ال�سمات نف�س احلق وعدم الت�صرف‬ ‫على �أي نحو يتعار�ض مع ممار�سته لهذا احلق‪ .‬و�إذا كان حقي يف اال�ستقاللية االخالقية‪ ،‬بدوره‪ ،‬هو‬ ‫حقي‪ ،‬بو�صفي فاع ًال �سيا�سياً واجتماعياً‪ ،‬يف �أن �أك ّون مواقفي من الق�ضايا العامة و�سواها بح�سب‬ ‫قناعاتي اخلا�صة‪� ،‬إذن من الوا�ضح هنا‪ ،‬يف �ضوء مبد�أ القابلية للكوننة‪� ،‬أن حرية ممار�ستي لهذا احلق‬ ‫م�شروطة ب�إعطاء حرية مماثلة لكل من ي�شاركني يف امتالك ال�سمات املجردة املذكورة‪ .‬وما يرتتب‬ ‫ت�ضمنت حرماناً �أو‪ ،‬على الأقل‪ ،‬حماولة‬ ‫على ذلك طبعاً هو �أن ممار�سة واحدنا لهذه احلرية‪� ،‬إن ّ‬ ‫حلرمان �سواه من ممار�سة حرية مماثلة‪ ،‬ف�إنها‪ ،‬بذلك‪ ،‬ت�شكل خرقاً ملبد�أ �أخالقي ا�سا�سي وملا يرتتب‬ ‫عليه من واجبات مدنية‪.‬‬ ‫لنحاول �أن نو�ضح الآن كيف ميكن �أن تت�ضمن ممار�سة واحدنا للحرية املعنية حماولة حلرمان �سواه‬ ‫من ممار�سة حرية مماثلة‪� .‬أول ما ينبغي التنبيه �إليه هنا �أن يجعل ممار�سة هذه احلرية من قبل بع�ضنا‬ ‫متعار�ضة مع ممار�سة حرية مماثلة من قبل �سواه لي�س �شيئاً مرتبطاً مبحتوى املوقف ال�سيا�سي �أو‬ ‫االجتماعي الذي تفرزه هذه املمار�سة‪ ،‬بل مرتبط‪ ،‬يف املقام االول‪ ،‬بكون الفاعل ال�سيا�سي �أو‬ ‫الإجتماعي يعطي ملوقفه امتيازاً مطلقاً على كل املواقف املناف�سة له‪ ،‬بحيث يو�صله هذا �إىل و�صم‬ ‫هذه املواقف االخرى بالالم�شروعية والعمل‪ ،‬بالتايل‪ ،‬على حرمان �أ�صحابها من حرية الت�صريح‬ ‫بها �أو الدعوة اليها ب�أي �شكل �أو ب�أي طريقة‪ .‬لن�أخذ موقف اال�صويل يف الواليات املتحدة من‬ ‫يف�سر النزعة‬ ‫الإجها�ض للتمثيل‪ .‬لي�س كون هذا املوقف موقفاً من الإجها�ض بالذات هو الذي ّ‬ ‫القوية لدى اال�صويل لإخرا�س كل اال�صوات املعار�ضة ملوقفه‪ .‬فكم من �أمريكي يقف موقفاً‬ ‫معار�ضاً من الإجها�ض دون �أن ُيظهر �أي ميل على االطالق العتبار املوقف املناف�س جمرداً من‬ ‫�أي درجة من امل�شروعية �أو غري جدير ب�أي �شيء من االحرتام‪ .‬قد ال يجد �أن الإعتبارات التي‬ ‫ُيقيم عليها موقفه تقود �إىل �أكرث من ترجيح �صحة موقفه على املوقف املناف�س له‪� .‬أما �إذا كان‬ ‫�صاحب هذا املوقف من اال�صوليني‪� ،‬أتباع االئتالف امل�سيحي يف الواليات املتحدة ( ما يعرف‬ ‫باليمني الديني)‪ ،‬ف�إنه �سينظر �إىل الأ�سا�س الذي يقيم عليه موقفه (�أي اعتقاده �أن اهلل ينهى عن‬ ‫الإجها�ض) على �أنه ي�ضمن على نحو مطلق عدم احتمال وجود خط�أ يف هذا املوقف‪ .‬هنا نتوقع‬ ‫�أن تختلف ال�صورة كلياً بخ�صو�ص ما تعنيه ممار�سته حلقه يف اال�ستقاللية بالن�سبة ملمار�سة �سواه‬ ‫حلق مماثل‪ .‬ففي نظره �إىل موقفه على هذا النحو‪ ،‬لن يكون ميا ًال على االطالق للنظر �إىل املوقف‬


‫الإ�سالم ال�سيا�سي والدميقراطية‬

‫العلمانية اليوم‬

‫‪37‬‬

‫املخالف ملوقفه على �أنه يت�سم ب�أي �شيء من امل�شروعية‪ ،‬وبالتايل لإظهار �أي �شيء من الت�سامح‬ ‫مع هذا املوقف‪ .‬من املالحظ هنا �أن امل�س�ألة اال�سا�سية‪ ،‬من زاوية نظر هذا اال�صويل‪ ،‬لي�ست فقط‬ ‫ان الر�أي املخالف لر�أيه يف االجها�ض غري م�صيب‪ ،‬بل �إنه ال يعقل‪ ،‬بل ال ميكن‪ ،‬حتى من حيث‬ ‫املبد�أ‪� ،‬أن يكون م�صيباً‪ ،‬ف�ض ًال عن �أنه‪ ،‬ملخالفته امراً الهياً‪ ،‬يرتكب خطيئة فادحة‪ .‬ومن الوا�ضح‬ ‫�أن ما يرتتب على نظره اىل املوقف املخالف على هذا النحو هو اعتقاده ب�أن عدم جواز تبني هذا‬ ‫املوقف �أمر ال جدال فيه و�أن من يتبناه مطعون يف �أخالقه وقيمه‪ .‬هنا‪� ،‬إذن‪ ،‬جند حالة ُيعطي فيها‬ ‫ّ‬ ‫ي�ستقل بر�أيه فيما هو‪ ،‬يف ممار�سته لهذا احلق‪ُ ،‬يريد حرمان �سواه من‬ ‫�شخ�ص لنف�سه احلق يف �أن‬ ‫حق مماثل‪ ،‬وك�أين به يقول ل�سواه‪ّ :‬فكر كما �أفكر �أنا‪ ،‬و�إال فال مكان لفكرك يف مملكة احلياة العامة‪.‬‬ ‫قلت لي�س م�ضمون املوقف بالذات هو ما له �أهمية يف حكمنا على ما �إذا كان �صاحب هذا املوقف‬ ‫ُي�سيء ا�ستعمال حقه يف ت�أ�سي�س مواقفه من الق�ضايا العامة على النحو الذي يروق له‪ .‬كذلك‪،‬‬ ‫دعوين �أ�ؤكد‪ ،‬لي�س اال�سا�س الذي ُ يقام عليه هذا املوقف هو ما له هذه االهمية يف حكمنا هذا‪.‬‬ ‫مبعنى �آخر‪ ،‬ال فرق �إن كان املوقف م�ؤ�س�ساً على اعتبارات دينية �أو م�ؤ�س�ساً على اعتبارات علمانية‬ ‫بالن�سبة ملا �إذا كان �صاحبه ي�سيء ا�ستعمال احلق املعني‪ .‬فما هو ذو �أهمية ق�صوى هنا هو كيفية نظر‬ ‫�صاحب املوقف �إىل موقفه‪ .‬فكم من مارك�سي م�ؤدلج‪ ،‬مث ًال‪ ،‬يواجه من يخالفه الر�أي �أو خ�صومه‬ ‫احلزبيني بالإدعاء �أنه ال ينطق �إال بالعلم‪ ،‬مما يعني‪ ،‬من وجهة نظره‪� ،‬أن خ�صومه فاقدو العلم وال‬ ‫م�شروعية ملواقفهم‪ ،‬بل هي �أدنى من ان تكون جديرة ب�أي احرتام‪.‬‬ ‫القول «�أنا ال �أنطق �إال بالعلم» مواز للقول «انا ال �أنطق �إال مبا �أوحى به اهلل»‪ ،‬من حيث كونه �أداة‬ ‫حد لأي نقا�ش �أو حوار بينهما‪ ،‬وللت�أكيد‬ ‫ي�ستعملها �صاحب القول لإخرا�س من يخالفه‪ ،‬ولو�ضع ّ‬ ‫املطلق ان �صاحب القول املخالف على �ضالل مبني‪ ،‬وال ينطق �إال بالهوى‪ ،‬وال ي�ستحق موقفه‪،‬‬ ‫بالتايل‪� ،‬أي احرتام‪ .‬ولقد خربت الب�شرية النتائج الوخيمة لهذه النزعة‪ ،‬يف �أكرث من حالة و�أكرث‬ ‫من ع�صر‪� ،‬سواء اتخذت �صورة دينية �أو علمانية‪ .‬فعندما ي�شرتك عدد ٍ‬ ‫كاف من الب�شر يف نزعة‬ ‫كهذه وتكون الظروف م�ؤاتية جلعلهم �إرادتهم نافذة يف مملكة احلياة العامة‪� ،‬أو لإعطائهم الفر�صة‬ ‫ملمار�سة نفوذ قوي ووا�سع على ال�ساحة العامة‪ ،‬ف�إن النتيجة �شبه املحتومة لذلك هي �أن ترتجم‬ ‫هذه النزعة �إىل نظام كلياين ال يعطي �أي وزن للحق يف اال�ستقاللية‪� ،‬أو تقود يف �أف�ضل حال‪� ،‬إىل‬ ‫�إ�شاعة ج ّو من االرهاب والقمع ت�صبح ممار�سة الب�شر حلقهم يف اال�ستقاللية يف كنفه جمازفة فيها‬ ‫الكثري من اخلطورة‪.‬‬ ‫جد مهمة ال يجوز �إغفالها هنا‪ .‬قد ينزع العلماين هذه النزعة �أو ال‪ .‬يتوقف‬ ‫ولكن ثمة م�س�ألة ّ‬ ‫االمر‪ ،‬بالدرجة االوىل‪ ،‬على مدى اقرتابه من اال�صويل �أو املتدين‪ ،‬بعامة‪ ،‬يف كيفية نظر الأخري �إىل‬ ‫اعتقاده الديني‪ .‬مبقدار ما يقرتب العلماين‪ ،‬يف نظره �إىل اعتقاده العلماين‪ ،‬من نظرة التقدي�س التي‬ ‫ينظر بها املتدين �إىل اعتقاده الديني مبقدار ما يقرتب من النزعة الإ�ستعالئية املعنية للأخري بكل ما‬

‫عدد رقم ‪� | 1‬أيـار‬

‫‪2013‬‬


‫‪38‬‬

‫العلمانية اليوم‬

‫يف�سر‪� ،‬إذن‪ ،‬وجود نزعة‬ ‫يرتتب عليها من ازدراء العتقادات الآخرين �أو �إنكار مطلق مل�شروعيتها‪ .‬ما ّ‬ ‫املحدد ملواقفهم او بالإعتبارات‬ ‫كهذه لدى بع�ض العلمانيني لي�س �شيئاً متعلقاً بامل�ضمون العلماين ّ‬ ‫التي ُيقيمون عليها هذه املواقف‪ ،‬بل بتغلب عقلية التدين عليهم يف تعاملهم مع مواقفهم واملواقف‬ ‫املخالفة لها‪ .‬ولكن من الوا�ضح �أن هذه العقلية لي�ست من ن�صيب العلمانيني ب�صفتهم علمانيني‪،‬‬ ‫و�إمنا من ن�صيب امل�ؤدجلني بينهم‪ .‬الت�أدلج هو من جن�س التدين‪� .‬إذا كان الت�أدلج من جن�س التدين‪،‬‬ ‫ينم عن تدين م�ضاعف‪ .‬تلتقي يف هذا املوقف النزعة‬ ‫�إذن ف�إن موقف اال�صويل امل�س ّي�س للدين ّ‬ ‫النابعة من الت�أدلج نحو حت�صني العقيدة االجتماعية ل�صاحب هذا املوقف �ضد النقد على نحو‬ ‫مطلق مع النزعة النابعة من التدين نحو �إ�سباغ طابع مطلق على الأ�سا�س الديني الذي تقوم عليه‬ ‫هذه العقيدة‪ .‬ومن التقاء النزعتني تنتج �أف�ضل ال�شروط القمينة بن�شوء عقلية توتاليتارية �أ�سرية‬ ‫لوهم قاتل‪ ،‬وهم االعتقاد ب�أن ثمة طريقة وحيدة �سديدة للتفكري حول ال�ش�ؤون العامة هي طريقته‪،‬‬ ‫و�أن كل ما عدا ذلك باطل وال يعقل �سوى �أن يكون باط ًال‪.‬‬ ‫�إن تزاوج النزعتني الأخريتني‪ ،‬كما هو حا�صل يف جميع احلركات امل�س ّي�سة للدين‪ ،‬يف جميع �أ�شكالها‬ ‫وعلى خمتلف خلفياتها الدينية‪ ،‬لهو دليل قاطع على انعدام الروح الدميقراطي يف هذه احلركات‪ .‬فما‬ ‫يرتتب على تزاوج هاتني النزعتني‪ ،‬كما ر�أينا‪ ،‬هو ا�ستئثار اال�صويل للحق يف اال�ستقاللية‪� ،‬إذ ي�ضع‬ ‫�سلطته املعرفية فوق ال�سلطة املعرفية لكل من ال ي�شاركه يف تفكريه‪ .‬وهذا‪ ،‬ال �شك كفيل بخلق‬ ‫�شروط تتعار�ض مع مبد�أ امل�ساواة ال�سيا�سية الذي يق�ضي بت�أمني تكاف�ؤ الفر�ص �أمام كل الأفراد‬ ‫والفئات ملمار�سة حرياتهم ال�سيا�سية‪ ،‬نظراً وقوال وعمال‪.‬‬ ‫ال نبد�أ‪ ،‬يف املمار�سة الدميقراطية‪ ،‬بافرتا�ض �أي امتياز مطلق‪ ،‬معريف �أو �سوى ذلك‪ ،‬لأي فكرة او‬ ‫م�شروع �سيا�سي �أو موقف من الق�ضايا العامة‪ ،‬بل نبد�أ من واقعة ب�سيطة‪� ،‬أال وهي‪� ،‬أن هناك �أفكارا‪،‬‬ ‫وم�شروعات‪ ،‬ومواقف متعددة جلماعات متعددة تتناف�س بحرية يف حلبة احلياة العامة‪ .‬وما هو‬ ‫�صائب �أو غري �صائب من بينها‪ ،‬من منظور دميقراطي خال�ص‪� ،‬أمر ال يتق ّرر قبلياً على �أ�سا�س معيار‬ ‫مطلق م�ستقل عن املمار�سة الدميقراطية بل يتق ّرر يف �سياق هذه املمار�سة بالذات‪� ،‬أي يف �سياق‬ ‫التناف�س احل ّر واملفتوح‪� ،‬ضمن �إطار من التفاعل احلواري بني اجلميع‪ ،‬على ثقة وت�أييد املواطنني‬ ‫الأحرار‪ .‬واحلكم اجلمعي ‪ -‬حكم الناخبني ‪ -‬الذي ينتهي �إليه هذا التناف�س هو ما ي�شكل املعيار‬ ‫الدميقراطي للخط�أ وال�صواب ‪.‬‬ ‫عندما ُنقحم الدين يف ال�سيا�سة‪ ،‬ن�ضع �أنف�سنا خارج اللعبة الدميقراطية رمة‪ .‬فال ُيعقل‪ ،‬من منظور‬ ‫الأ�صويل امل�س ّي�س للدين‪ ،‬الإفرتا�ض �أن ثمة معياراً للخط�أ وال�صواب يف املجال ال�سيا�سي يعلو على‬ ‫امل�ستمد من الن�صو�ص الدينية التي ا ُتفق �إنها ت�شكل املرجع االخري لهذا اال�صويل‪ .‬ال‬ ‫املعيار‬ ‫ّ‬ ‫ميكنه‪� ،‬إذن‪� ،‬إن يكون مت�سقاً مع ذاته �إذا �سلم بافرتا�ض الدميقراطي ان ما نبد�أ به قبلياً ‪� -‬أي ب�صورة‬ ‫�سابقة على التناف�س ال�سيا�سي �ضمن �إطار من التفاعل احلواري بني اجلميع ‪ -‬هو فقط حق كل‬ ‫(‪)31‬‬


‫العلمانية اليوم‬

‫الإ�سالم ال�سيا�سي والدميقراطية‬

‫‪39‬‬

‫فريق من الفرقاء املتناف�سني يف �أن يطرح م�شروعه ال�سيا�سي بحرية لينظر فيها اجل�سم ال�سيا�سي‬ ‫ب�أكمله وي�صدر حكمه عليها‪� .‬إن افرتا�ضاً كهذا ي�ضع موقفه يف حماذاة املواقف املناف�سة ملوقفه‬ ‫و ُيخ�ضعه‪ ،‬بالتايل‪ ،‬لنف�س املعيار الذي تخ�ضع له كل املواقف االخرى‪� ،‬أال وهو املعيار الدميقراطي‪.‬‬ ‫ولكن «منطق» موقع اال�صويل ال ي�سمح له ب�أن يرى �إىل موقفه على �أنه يف حماذاة املواقف املناف�سة‬ ‫له‪ ،‬مهما كانت خلفياتها وم�سوغاتها ‪ ،‬لأنه ي�ص ّر على �أنه ي�ستوحي موقفه من القانون االلهي‬ ‫(كما يف اال�صولية امل�سيحية �أو اليهودية �أو اال�سالمية) �أو تعاليم االله «رام» (كما يف الهندو�سية)‪.‬‬ ‫وهذا يعني انه يوجد‪ ،‬من وجهة نظره‪ ،‬معيار قبلي يتق ّرر على �أ�سا�سه ما هو خط�أ او �صواب يف‬ ‫املجال ال�سيا�سي هو معيار االتفاق مع ما �أوحى به اهلل �أو «رام» �أو �أي م�صدر غيبي اخر اتفق انه‬ ‫ي�شكل‪ ،‬يف اعتقاد هذا اال�صويل‪� ،‬سلطة مطلقة ومع�صومة‪ .‬وبهذا‪ ،‬فهو ال يجد نف�سه مدفوعاً بـ‬ ‫«منطق» موقفه فقط �إىل ا�ستبعاد املعيار الدميقراطي للخط�أ وال�صواب من املجال العام‪ ،‬بل و�أي�ضاً‬ ‫اىل الإخالل بواجبات املواطنة اذ يجعل عدم التزامه مببد�أ تكاف�ؤ فر�ص العمل ال�سيا�سي خياره‬ ‫الوحيد‪ -‬هذا �إن ابتغى عدم الوقوع يف تناق�ض ذاتي‪ .‬فهل ميكن‪ ،‬من منظور اال�سالم ال�سيا�سي‪،‬‬ ‫مث ًال‪ ،‬و�ضع الفريق الذي ميثل مبعنى من املعاين‪« ،‬حزب اهلل» يف حماذاة �أي فريق علماين مناف�س‬ ‫ميثل‪ ،‬بح�سب زعم اال�سالمي‪ ،‬حزب الطاغوت‪.‬؟ هل يعقل‪ ،‬من وجهة النظر هذه‪ ،‬املكاف�أة بني‬ ‫«اخلري» و»ال�شر»‪ ،‬بني «احلق» و «الباطل»؟‪.‬‬ ‫ينم �أي�ضاً عن عدم وجود‬ ‫ا�ستبعاد اال�صويل للمعيار الدميقراطي للخط�أ وال�صواب من املجال العام ّ‬ ‫�أي ميل لديه الحرتام الإرادة العامة الذي هو من �أهم واجبات املواطنة يف املجتمع الدميقراطي‪.‬‬ ‫�أي قيمة �أو �أي وزن يبقى لالختيار اجلمعي يف تقرير ال�سيا�سات والت�شريعات‪ ،‬من وجهة نظره‪ ،‬ما‬ ‫دامت الن�صو�ص املقد�سة هي مرجعه االخري‪ ،‬حتى يف املجال العام؟ هل يعقل‪ ،‬من وجهة النظر‬ ‫هذه‪ ،‬و�ضع ما ي�صدر عن �سلطة مطلقة على املحك الدميقراطي‪ ،‬حمك التناف�س احل ّر املفتوح‪� ،‬أي‬ ‫الإحتكام اىل الر�أي العام ب�ش�أنه‪ ،‬ما دام تق ّرر م�سبقاً �أنه ذو م�صدر مطلق‪ ،‬وبالتايل‪ ،‬مع�صوم وال‬ ‫يحتاج �إىل اجتيازه �أي امتحان؟ �ألي�س العك�س متاماً هو ما تفر�ضه وجهة النظر اال�صولية‪� ،‬أي‬ ‫الإحتكام �إىل هذه ال�سلطة املطلقة للتثبت من عدم وجود �أي انحراف يف اختياراتنا اجلمعية من‬ ‫االوامر والنواهي ال�صادر عنها؟ ولكن ما الذي ميكن �أن يعنيه هذا‪ ،‬على م�ستوى املمار�سة‪� ،‬سوى‬ ‫�إن �إرادة جماعة ايديولوجية (جماعة اال�صوليني الذين ينطلقون من فهم خا�ص بهم لدينهم‬ ‫وما يرتتب على تعاليمه �سيا�سياً) هي التي ينبغي االحتكام �إليها يف املجال العام ال الإرادة‬ ‫العامة؟ هل ميكن ت� ّصور عقلية تتنافر مع روح الدميقراطية �أكرث من تنافر هذه العقلية اال�صولية التي‬ ‫احلد؟ ماذا يبقى من معاين الدميقراطية عندما تو�ضع الإرادة‬ ‫يبلغ ا�ستخفافها باالرادة العامة هذا ّ‬ ‫اخلا�صة جلماعة فرعية تنتمي �إىل جمتمع ما فوق الإرادة العامة لهذا املجتمع؟‬ ‫تتنافر هذه العقلية اال�صولية �أي�ضاً مع جانب هام جداً للممار�سة الدميقراطية‪� ،‬أال وهو اجلانب‬ ‫املتعلق بكون هذه املمار�سة ت�ستهدف و�صول كل الفرقاء املتناف�سني يف احللبة العامة �إىل ما يدعوه‬ ‫(‪)32‬‬

‫عدد رقم ‪� | 1‬أيـار‬

‫‪2013‬‬


‫‪40‬‬

‫العلمانية اليوم‬

‫جون رولز �إجماعاً مت�شابكاً ‪ Overlapping consensus‬حول الق�ضايا العامة يتخطى كل الفروقات‬ ‫الفل�سفية والدينية بينهم‪ .‬ال ت�ضمن املمار�سة الدميقراطية طبعاً و�صولهم �إىل �إجماع كهذا‪ ،‬ولكنها‬ ‫توفر لهم‪� ،‬أكرث من �أي بديل �آخر‪ ،‬ال�شروط القمينة باالقرتاب من حتقيق هذا الإجماع باعتباره‬ ‫مثاال �أعلى لأي جمتمع دميقراطي تعددي ‪ .‬و�إقحام الدين يف ال�سيا�سة ال يبعدنا عن حتقيق هذا‬ ‫املثال االعلى فح�سب‪ ،‬بل �إنه يلغيه كلياً‪ .‬فلو كان غر�ض اال�صويل الو�صول �إىل �إجماع كهذا‬ ‫حول الق�ضايا العامة لكان عليه �أن ي�ضع جانبا �أي اعتبارات ال تدخل �ضمن �إطار ما �صار ُيعرف‬ ‫يف االدبيات الفل�سفية بالعقل العام ‪ Public reason‬ولكن االعتبارات الدينية‪ ،‬كما �أو�ضحنا‪ ،‬ال‬ ‫تدخل �ضمن هذا االطار‪ ،‬وكذلك هو �ش�أن الإعتبارات الفل�سفية امل�ستمدة من نظرات فل�سفية‬ ‫�شاملة‪ ،‬كالإعتبارات امل�ستمدة مث ًال‪ ،‬من ت�صور ميتافيزيقي �شامل للكون والفن واحلياة‪� .‬إن‬ ‫اعتبارات كهذه‪ ،‬وبخا�صة ما هو ذو طابع ديني او ميتافيزيقي بينها‪ ،‬لي�ست‪ ،‬كما بينا �سابقاً‪� ،‬شفافة‬ ‫للذين ال ي�شاركون من يلج�ؤون �إليها موقفهم الديني �أو امليتافيزيقي‪ .‬ولذلك ي�شكل اللجوء اليها‬ ‫عقبة ك�أداء �أمام الو�صول �إىل �إجماع حول الق�ضايا العامة‪ ،‬بل‪ ،‬الأ�سو�أ من ذلك‪� ،‬أنه يلغي �أي‬ ‫�أمل يف الو�صول �إىل �إجماع كهذا‪ .‬من يقرر‪ ،‬مثال‪ ،‬منذ بداية دخوله احللبة العامة ان يكون املنظور‬ ‫الديني هو املنظور الذي تنبع منه االعتبارات التي يقيم عليها مواقفه من الق�ضايا العامة �إمنا يق ّرر‬ ‫�أن يكون منظوره الديني هو البديل للعقل العام‪ .‬ولكن هذا هو مبثابة تخ ّليه عن الإجماع باعتباره‬ ‫مثا ًال �أعلى للمجتمع الدميقراطي التعددي‪ .‬فمن ال ي�شاركه منظوره ال ميكن �أن يدخل معه يف �أي‬ ‫حوار مثمر حول الق�ضايا العامة‪ .‬و�إن كان ال�سابق هو الذي ميلي �شروط الدخول يف حوار كهذا‪،‬‬ ‫�إذن ف�إنه يجعل كل الذين ال ي�شاركونه منظوره خارج �إطار التفاعل احلواري الذي ينبغي دخول‬ ‫كل الفرقاء فيه بغية الو�صول اىل الإجماع املعني او االقرتاب من حتقيقه‪�.‬إنه‪ ،‬بذلك‪ ،‬يلغي �إمكان‬ ‫قيام تفاعل حواري كهذا ب�إلغاء �أهم �شروطه‪ .‬وب�إلغائه‪ ،‬ال تبقى يف �أيدينا �أي و�سيلة لتحقيق �أو‬ ‫االقرتاب من حتقيق �إجماع كهذا‪ ،‬فتفقد املمار�سة الدميقراطية معناها‪.‬‬ ‫الق�ضية الأ�سا�سية هنا تتعلق ب�ضرورة وجود �أر�ضية م�شرتكة بني الفرقاء (وهنا يكمن املجال لعمل‬ ‫العقل العام)‪ ،‬و�إال ميتنع احلوار املثمر بينهم وميتنع‪ ،‬بالتايل‪� ،‬إمكان و�صولهم �إىل اتفاق يعك�س‬ ‫وجهات النظر املختلفة‪ ،‬ويتخطى الفروقات الفل�سفية والدينية بينهم‪ .‬يف غياب �أي �أر�ضية م�شرتكة‬ ‫جراء �إقحام الدين يف ال�سيا�سة‪ ،‬ت�صبح املمار�سة ال�سيا�سية نوعاً من املواجهة الدائمة بني الفرقاء‪،‬‬ ‫بحيث يكون غر�ض كل فريق فر�ض منظوره و�إرادته على اجلميع وخلق املجتمع ال�سيا�سي على‬ ‫�صورته ومثاله‪� .‬أي معنى يبقى للممار�سة الدميقراطية بعد ذلك؟‪.‬‬ ‫(‪)33‬‬

‫(‪)34‬‬


‫الإ�سالم ال�سيا�سي والدميقراطية‬

‫العلمانية اليوم‬

‫‪41‬‬

‫هوام�ش‬ ‫(‪ .)1‬‬

‫(‪ .)2‬‬

‫(‪ .)3‬‬ ‫(‪ .)4‬‬

‫را�شد الغنو�شي‪ ،‬احلريات العامة يف الدولة اال�سالمية (بريوت‪ :‬مركز درا�سات الوحدة‬ ‫العربية ‪� )1993‬ص ‪.49‬‬ ‫حممد عابد اجلابري‪« ،‬يف ق�ضايا الدين والفكر» (حوار �أجراه معه حممد جنجار ملجلة فكر‬ ‫ونقد‪ ،‬ال�سنة االوىل‪ ،‬العدد ‪� )1988( 9‬ص ‪.12‬‬ ‫املرجع ال�سابق‪� ،‬ص ‪13-12‬‬ ‫�سيد قطب‪ ،‬هذا الدين (انديانا ‪ -‬الواليات املتحدة ‪ -‬االحتاد اال�سالمي العاملي للمنظمات‬ ‫اال�سالمية د‪.‬ت) �ص ‪15-16‬‬

‫(‪Ruholla Khomeini, the Religious Scholars Led the Revolt, In Islamic politics, ed.by .)5‬‬ ‫‪A.C.Kimmens, new York: H.W. Wilson Co 1991 p.115.‬‬

‫(‪� .)6‬أنور اجلندي‪� ،‬سقوط العلمانية (بريوت‪ :‬دار الكتاب اللبناين‪� )1973 ،‬ص ‪-‬‬ ‫(‪ .)7‬ح�سن البنا‪ ،‬جمموعة الر�سائل (بريوت‪ :‬م�ؤ�س�سة الر�سالة‪ ،‬د‪ .‬ت) �ص ‪.272‬‬ ‫(‪ .)8‬را�شد الغنو�شي‪ ،‬م�صدر �سابق‪� ،‬ص ‪.110‬‬ ‫(‪ .)9‬نا�صيف ن�صار‪�« ،‬إ�سهام يف نقد النظام الكلي» يف الفل�سفة العربية املعا�صرة‪ ،‬بحوث امل�ؤمتر‬ ‫الفل�سفي العربي الثاين (بريوت‪ :‬مركز درا�سات الوحدة العربية‪� ،)1988 ،‬ص ‪.61‬‬ ‫(‪ .)10‬اخلميني‪ ،‬م�صدر �سابق‪.‬‬ ‫(‪� .)11‬سيد قطب‪ ،‬يف ظالل القر�آن‪ ،‬اجلزء ال�ساد�س (القاهرة‪ :‬دار ال�شروق‪� )1982 ،‬ص ‪.901‬‬ ‫(‪� .)12‬سيد قطب‪ ،‬معامل يف الطريق (القاهرة‪ :‬مكتبة وهبة ‪� )1968‬ص ‪.136‬‬ ‫(‪ .)13‬ح�سن البنا‪ ،‬م�صدر �سابق‪� ،‬ص ‪.20‬‬ ‫(‪ .)14‬ثمة عدة ك ّتاب يعتقدون ب�أن �أفكار را�شد الغنو�شي وح�سن الرتابي تنجح ن�سبياً بالتوفيق‬ ‫بني اال�سالم ال�سيا�سي والدميقراطية‪� .‬أنظر‪ :‬زوبري عرو�س‪« ،‬االمة»‪ ،‬املواطنة‪ ،‬وق�ضايا‬ ‫«احلرية» يف اخلطاب اال�سالمي «املحلي» و«املحلي املجاور»‪ ،‬يف‪ :‬وعي املجتمع بذاته (عن‬ ‫املجتمع املدين يف املغرب العربي)‪ ،‬ا�شراف عبداهلل حمودي (الدار البي�ضاء‪ :‬دار توبقال‬ ‫للن�شر‪� )1998،‬ص ‪ ،152 - 135‬رجا بهلول‪ ،‬دولة الدين‪ ،‬دولة الدنيا (حول العالقة بني‬ ‫الدميقراطية والعلمانية)‪ ،‬رام اهلل‪ :‬مواطن ‪ -‬امل�ؤ�س�سة الفل�سطينية لدرا�سة الدميقراطية‬ ‫‪ ،2000‬خالد اجلندي «‪ ،The Rhetoric of Rashid Ghannushi - Arab Studies Journal‬العدد‬ ‫الأول‪ ،‬املجلد الثالث (ربيع ‪� )1995‬ص ‪.119-101‬‬ ‫(‪ . )15‬را�شد الغنو�شي وح�سن الرتابي‪ ،‬احلركة اال�سالمية والتحديث‪ ( ،‬اخلرطوم‪ :‬مكتبة دار الفكر‬ ‫‪� )1980‬ص ‪.190‬‬ ‫(‪ .)16‬را�شد الغنو�شي‪ ،‬احلريات العامة يف الدولة اال�سالمية ‪ ،‬م�صدر �سابق‪� ،‬ص ‪.119‬‬ ‫‪36 35‬‬

‫عدد رقم ‪� | 1‬أيـار‬

‫‪2013‬‬


‫‪42‬‬

‫العلمانية اليوم‬

‫(‪ .)17‬املرجع ال�سابق‪� ،‬ص ‪.18‬‬ ‫(‪ .)18‬عن‪ :‬خالد اجلندي‪ ،‬م�صدر �سابق‪� ،‬ص ‪.107‬‬ ‫(‪ .)19‬ح�سن الرتابي‪ ،‬ق�ضايا احلرية والوحدة وال�شورى والدميقراطية (الدار ال�سعودية للن�شر والتوزيع‬ ‫د‪.‬م‪� )1987 .‬ص ‪.64-63‬‬ ‫(‪ .)20‬عادل �ضاهر‪ ،‬االخالق والعقل (عمان ‪ -‬دار ال�شروق‪ )1990 -‬الف�صل ال�سابع‪.‬‬ ‫(‪ .)21‬را�شد الغنو�شي‪« ،‬اال�سالميون واخليار الدميقراطي»‪ ،‬يف قراءات �سيا�سية‪ ،‬العدد ‪� ،3‬ص ‪.122‬‬ ‫(‪ .)22‬را�شد الغنو�شي‪ ،‬احلريات العامة يف الدولة اال�سالمية ‪� ،‬ص ‪.295‬‬ ‫(‪ .)23‬امل�صدر ال�سابق‪� ،‬ص ‪.295 -294‬‬ ‫(‪ .)24‬امل�صدر ال�سابق‪� ،‬ص ‪.119‬‬ ‫(‪ .)25‬امل�صدر ال�سابق‪.‬‬

‫(‪John dewey, «democracy», in exploring philosophy,ed.S.M.Cahn (oxford: oxford university .)26‬‬ ‫‪press 2000) p. 321.‬‬

‫(‪ .)27‬امل�صدر ال�سابق‪� ،‬ص ‪-‬‬ ‫(*) �أو ال ُت�شاركها حتى يف فهمها للدين على �أنه �ضروري لل�سيا�سة‪.‬‬ ‫(‪� .)28‬إننا منا�شي هنا نا�صيف ن�صار يف متييزه الدقيق بني االكرثية واالغلبية‪� .‬أنظر‪ ،‬نا�صيف ن�صار‪،‬‬ ‫منطق ال�سلطة ‪ -‬مدخل �إىل فل�سفة االمر ‪( -‬بريوت ‪ :‬دار �أمواج‪� ،)1995 ،‬ص ‪.176-173‬‬ ‫(**) ولكن الو�صول �إىل �إجماع ّ‬ ‫يظل مثا ًال �أعلى للممار�سة الدميوقراطية‪.‬‬ ‫(***) �أي الدولة الدميوقراطية‪.‬‬ ‫(‪ .)29‬را�شد الغنو�شي‪ ،‬احلريات العامة يف الدولة اال�سالمية‪� ،‬ص ‪. 50-49‬‬ ‫(‪ .)30‬امل�صدر نف�سه‪� ،‬ص ‪.157‬‬ ‫(‪ .)31‬جتدر املالحظة هنا �أن احلكم اجلمعي يف النظام الدميقراطي هو معيار اخلط�أ وال�صواب‪ ،‬مثلما‬ ‫هو‪ ،‬مث ًال‪ ،‬حكم املحلفني يف النظام القانوين الأجنلو ‪� -‬أمريكي املعيار الذي يتعني عليه من‬ ‫هو جمرم ومن هو بريء‪ .‬بالن�سبة للمماثلة بني النظام الدميقراطي ونظام هيئة املحلفني‪� ،‬أنظر‪،‬‬ ‫عادل �ضاهر‪« ،‬الدميوقراطية ونظرية االختيار االجتماعي»‪ ،‬املواقف‪ ،‬ال�سنة االوىل‪ ،‬العدد‬ ‫الثاين (‪� )1987‬ص �ص ‪.140-124‬‬ ‫(‪ .)32‬الغنو�شي‪ ،‬كما ر�أينا‪ ،‬قد يقبل و�ضع موقفه يف حماذاة مواقف مناف�سة له فقط �إن كانت نابعة‬ ‫من تعاليم اال�سالم وال تختلف مع موقفه �سوى بالن�سبة للو�سائل املطلوبة لتحقيق الغايات‬ ‫املتفق عليها م�سبقاً‪.‬‬ ‫‪323 322‬‬

‫(‪John Rawls, Politicial Liberalism (New York: Columbia University Press, 1993), pp. 150–154 .)33‬‬

‫ ال توجد مماثلة‪ ،‬ب�أي معنى من املعاين‪ ،‬بني الإجماع املت�شابك والإجماع باملعنى الذي فهمه‬ ‫الغنو�شي �أو الرتابي‪ ،‬كما يعتقد كاتب كرجا بهلول ( �أنظر رجا بهلول‪ ،‬م�صدر �سابق‪� ،‬ص ‪-52‬‬ ‫‪ .)65‬فالإجماع املت�شابك لي�س �شيئاً معطى م�سبقاً كالإجماع الديني ونا�شئاً عن جمرد كون‬


‫الإ�سالم ال�سيا�سي والدميقراطية‬

‫العلمانية اليوم‬

‫‪43‬‬

‫االطراف الداخلة فيه ت�شرتك يف نف�س الت�صور ال�شامل للحق واخلري �أو تلتزم بنف�س العقيدة‬ ‫الدينية‪� .‬إنه ي�أتي نتيجة لتداول جميع الأطراف معاً‪ ،‬بغ�ض النظر عن خلفياتهم الدينية‬ ‫والفل�سفية‪� ،‬ضمن �إطار من التفاعل احلواري ال تطرح على ب�ساط التداول فيه �إال املقرتحات‬ ‫التي ميكن التحاور املثمر حولها‪ .‬وهذا يعني �أنه ال مكان �ضمن هذا الإطار لأي مقرتحات‬ ‫هي من خ�صو�صيات الإميان الديني �أو من خ�صو�صيات النظرة الفل�سفية ال�شاملة لأي طرف‬ ‫من الأطراف‪ ،‬وال �أهمية هنا ملا �إذا كان هذا الطرف ميثل �أكرثية عددية �أو ال‪� .‬إن مقرتحات‬ ‫كهذه لي�ست مما ميكن الإجماع حوله عن طريق تداول كهذا‪ .‬من يدخل طرفاً يف �سريورة هذا‬ ‫التفاعل احلواري �إما ي�ضع جانباً كل ما ال ميكن قبوله من اقرتاحات من قبل �أي طرف �آخر‬ ‫ال ي�شاركه خ�صو�صياته العقدية التي ت�شكل الأ�سا�س لهذه االقرتاحات �أو يعرتف �أن غر�ضه‬ ‫لي�س الو�صول �إىل �إجماع ي�ضم جميع الأطراف وامنا الإنطالق من �إجماع متحقق م�سبقاً‬ ‫بني الذين �أتفق �أنهم ي�شاركونه اعتقاده الديني �أو الفل�سفي ال�شامل‪ .‬و�إذا اتفق ان الأخريين‬ ‫ي�شكلون �أكرثية عددية‪ ،‬فان املح�صلة االخرية جلعل �إجماعهم وحده‪ ،‬احلا�صل ا�ص ًال‪ ،‬خارج‬ ‫�أي �إطار من التفاعل احلواري‪� ،‬أ�سا�ساً للعمل يف املجال العام ‪� -‬إن املح�صلة االخرية لذلك‬ ‫لي�ست �سوى فر�ض طرف ت�صوره ال�شامل للحق واخلري على االطراف االخرى‪ .‬و�إجماع‬ ‫كهذا هو �إذن‪ ،‬اجماع خا�ص بالفريق الأكرث عدداً ومعطى ب�صورة �سابقة على �أي تداول‬ ‫وخارج �أي اطار من التفاعل احلواري‪� .‬إنه م�ضاد على نحو تام للإجماع املت�شابك‪.‬‬ ‫(‪ .)34‬لي�س املق�صود باملجتمع التعددي‪ ،‬كما يعتقد بع�ضهم‪ ،‬فقط جمتمعاً متعدد االديان‪ .‬كذلك‪،‬‬ ‫لي�س املجتمع التعددي‪ ،‬كما يفهمه الغنو�شي �أو الرتابي‪ ،‬جمتمعاً ال يتجاوز فيه اخلالف بني‬ ‫�أفراده �أو فئاته كونه خالفاً حول الو�سائل املطلوبة لتحقيق غايات متفق عليها‪� .‬أن ال�سمة‬ ‫اجلوهرية للمجتمع التعددي هي تعدد الت�صورات ال�شاملة للحق واخلري داخله‪ .‬قد يكون‬ ‫تعدد االديان داخله هو م�صدر تعدد هذه الت�صورات ال�شاملة �أو قد يكون هذا امل�صدر �شيئاً‬ ‫اخر ذا طبيعة فل�سفية او �شبه فل�سفية‪ .‬ولذلك‪ ،‬حتى و�إن مل تتعدد االديان داخل جمتمع‬ ‫معني‪ ،‬ف�إنه قد يكون‪ ،‬مع ذلك‪ ،‬جمتمعاً تعددياً باملعنى املق�صود هنا‪ .‬فال عالقة �ضرورية بني‬ ‫الإ�شرتاك يف نف�س الإعتقاد الديني والإ�شرتاك يف نف�س الت�صور ال�شامل للحق واخلري مبا‬ ‫هو ت�صور يتعلق بال�ش�ؤون الدنيوية‪ .‬هنا حت�ضرين نقطة مهمة جداً �أثارها نا�صيف ن�صار (انظر‬ ‫نا�صيف ن�صار‪ ،‬منطق ال�سلطة‪� ،‬ص ‪ )172‬تتعلق ب�ضرورة عدم جت�سيد د�ستور �أي دولة لت�صور‬ ‫�شامل للحق واخلري كالذي ينبع من الدين لأن ت�صوراً كهذا‪ ،‬فلأذكر القارىء‪ ،‬ينبغي �أن‬ ‫ُيرتك للإختيار احل ّر‪ .‬الدولة التي ال تكون حمايدة �إزاء الت�صورات ال�شاملة للحق واخلري‪� ،‬أال‬ ‫و�إن التعددية هي من طبيعة هذه الت�صورات‪ ،‬هي دولة تق ّيد الب�شر فيما ال يجوز تقييدهم‬ ‫بخ�صو�صه‪.‬‬

‫عدد رقم ‪� | 1‬أيـار‬

‫‪2013‬‬


‫دار كتب للن�شر �ش‪.‬م‪.‬ل‬

‫بناية الربج‪ ،‬الطابق الرابع‪� ،‬ساحة ال�شهداء الو�سط التجاري‪ ،‬بريوت‪ ،‬لبنان‬ ‫�صندوق بريد‪ ،11-4353 :‬بريوت ‪ -‬لبنان‪.‬‬ ‫هاتف‪)961-1( 983008 /9 :‬‬ ‫فاك�س‪)961-1( 980630 :‬‬ ‫الربيد الإلكرتوين‪kutub@kutubltd.com :‬‬ ‫املوقع الإلكرتوين‪www.kutubltd.com :‬‬


‫‪45‬‬

‫العلمانية اليوم‬

‫الدين والدولة والعلمانية‬ ‫| د‪.‬عاطف عطيـّه |‬

‫يثري هذا العنوان م�سائل متعددة تتعلق ب�إ�شكاليات العالقة بني العلمانية والدين‪ ،‬العلمانية‬ ‫والدولة‪ ،‬العلمانية وال�سلطة‪ .‬كما يثري‪ ،‬يف الوقت نف�سه‪ ،‬م�سائل �أخرى مت�صلة بال�سلطة والدولة‪،‬‬ ‫ال�سلطة والدين‪ ،‬والدولة والدين‪ .‬والعالقة بني كل من هذه الثنائيات يف عالقاتها الداخلية ‪� ،‬إن‬ ‫كانت مت�صلة‪ ،‬م�ؤتلفة‪� ،‬أو متعار�ضة‪ ،‬تتطلب بحثاً م�ستق ًال‪ ،‬وتفر�ض البحث يف �إ�شكالية العالقة بني‬ ‫كل منها ‪ ،‬من جهة؛ وبني الثنائيات الأخرى‪ ،‬من جهة ثانية‪.‬‬ ‫والبحث يف �إ�شكاليات العالقة بني هذه الثنائيات‪ ،‬جمتمعة ومنفردة‪ ،‬يتطلب البحث يف من�ش�أ‬ ‫هذه املفاهيم ويف م�ضمونها‪ ،‬ويف عالقاتها بنا‪ ،‬كثقافة وانتماء وانت�ساب �إىل تاريخ و�إميان وتراث‪،‬‬ ‫ويف عالقاتنا بها‪ ،‬كمفاهيم وحمددات ن�ش�أت �إما يف �سياق اجتماعي‪ -‬تاريخي خم�صو�ص ومرهون‬ ‫بظروفه ومناخاته وحركته يف التاريخ‪� ،‬أو يف �سياق �آخر ي�ستجيب حلاجات وم�آالت مغايرة يف التاريخ‬ ‫واجلغرافيا واحل�ضارة‪.‬‬ ‫هذا الكالم يفر�ض نف�سه عند البحث يف �ش�ؤون العلمانية ويف �شجونها‪ .‬كما يف ظروف ن�ش�أة‬ ‫ال�سلطة وحتوالتها‪ .‬ويف كيفية ت�شكل الدولة والأ�س�س التي تقوم عليها‪ ،‬والعالقة التي تربط الدين‬ ‫بالدولة وال�سلطة‪ ،‬وم�سائل املواجهة‪ ،‬املهادنة �أو املالءمة‪ ،‬بني الدين والعلمانية‪.‬‬ ‫العلمانية مبعناها ال�شامل‪� ،‬أو �إذا �شئت الدنيوية ‪ ،‬هي موقف نظري وا�ضح وحمدد من طبيعة الدين‪،‬‬ ‫ومن طبيعة القيم واالن�سان وعالقته باهلل ‪ .‬والعلماين (�أو الدنيوي) �صاحب موقف مبدئي �ضد �أي‬ ‫جماعة ت�ؤمن �أن التعاليم الدينية ت�شكل املرجع الأخري لكل ما له عالقة بال�ش�ؤون الدينية والزمنية‬ ‫ب�صرف النظر عن �أي دين �أو جماعة‪ ،‬وب�صرف النظر عن وجود رجال دين �أو عدم وجودهم‪.‬‬ ‫ال�س�ؤال الذي يطرح نف�سه الآن هو‪ :‬هل الف�صل بني ال�سلطتني على ال�صعيد الإجرائي هو ما ا�صطلح‬ ‫على ت�سميته عندنا بالعلمانية؟ مبعنى �آخر‪ ،‬هل الف�صل بني الدين وال�سيا�سة يعني العلمانية؟ و�إذا‬ ‫كان ذلك كذلك‪ ،‬ف�أية علمانية نق�صد؟ هل العلمانية كما عرفتها املجتمعات الغربية‪ ،‬امل�سيحية يف‬ ‫�أ�صولها‪� ،‬أم هي علمانية مغايرة؟ و�إذا كانت مغايرة‪ ،‬فما هي حدودها‪ ،‬وما هي �أ�صولها‪� ،‬إذا كان لها‬ ‫�أ�صول يف املجتمعات العربية اال�سالمية؟‬ ‫‪1‬‬

‫عدد رقم ‪� | 1‬أيـار‬

‫‪2013‬‬


‫‪46‬‬

‫العلمانية اليوم‬

‫ال �شك �أن العلمانية مفهوم غربي كان لع�صر الأنوار والثورة الفرن�سية الف�ضل يف �صوغه واعتماده‬ ‫للف�صل بني �ش�ؤون الدين و�ش�ؤون ال�سيا�سة‪ .‬وجاء تطبيقه كنتيجة ل�صراع طويل بني الكني�سة‬ ‫والدولة‪ ،‬بني ال�سلطة الكن�سية الدينية وال�سلطة ال�سيا�سية املدنية يف الغرب‪ ،‬ويف �أوروبا خ�صو�صاً‪.‬‬ ‫وعن ا�ستح�ضار هذا املفهوم لدى البحث يف �إ�شكالية العالقة بني الدين والدولة عند امل�سلمني‬ ‫والعرب‪ ،‬يبادر املفكرون اال�سالميون �إىل ا�ستبعاد مفهوم العلمانية باعتباره‪� ،‬أو ًال‪ ،‬مفهوماً غربياً؛‬ ‫وال معنى له يف اال�سالم‪ ،‬ثانياً‪ .‬ملاذا؟ لأن ال كهنوت يف اال�سالم‪ ،‬وال �سلطة كن�سية فيه‪ .‬وبالتايل‬ ‫اال�سالم منهج حياة‪ ،‬دين ودنيا‪� ،‬أي يف الأخري دين و�سيا�سة وال ميكن الف�صل بينهما‪.‬‬ ‫�إال �أن هذه الأفكار ال حتوز على �إجماع املفكرين امل�سلمني‪ .‬وال تزال هذه امل�س�ألة مدار نقا�ش‬ ‫بينهم‪ .‬وهو نقا�ش ال يعود �إىل بدايات القرن الع�شرين مع ما طرحه علي عبد الرازق يف «اال�سالم‬ ‫و�أ�صول احلكم» فح�سب‪ ،‬بل يعود �إىل بدايات النقا�ش الكالمي بني املعتزلة والأ�شاعرة حول‬ ‫�أولوية العقل �أو النقل يف اال�سالم‪ ،‬وحول الأولوية يف تدبري �ش�ؤون امل�سلمني يف احلياة الدنيا‬ ‫ح�سب اهتمامات النا�س باعتبارها م�صالح متغرية ومتبدلة بتغري وتبدل الأمكنة والأزمنة‪ .‬من‬ ‫هنا جاء تف�ضيلي مل�صطلح الدنيوية بدل العلمانية والدنيويني بدل العلمانيني‪ ،‬رمبا للتخل�ص من‬ ‫ح�سا�سية مفهوم العلمانية ‪.‬‬ ‫على �أي حال‪� ،‬إن �أهم نقطة يتداولها العلمانيون (الدنيويون) يف نقا�شهم مع اال�سالميني هي حتديد‬ ‫ال�سمات ال�ضرورية للعلمانية‪ ،‬وهي ال�سمات التي ال ي�ستقيم معنى العلمانية بدونها‪ .‬والتحديد هذا‬ ‫مهم جداً للعلمانيني لأنهم يعتربون �أن اال�سالميني اكتفوا ب�إحدى ال�سمات الأ�سا�سية للعلمانية‬ ‫وهي رف�ض �سيطرة الكني�سة ورجال الدين‪ ،‬باعتبارها ت�ستنفد معنى العلمانية بكامله‪ .‬بينما يعترب‬ ‫العلمانيون �أن ال�سمة ال�ضرورية للعلمانية هي رف�ض اعتبار التعاليم الدينية ت�شكل وحدها املرجع‬ ‫الأخري للق�ضايا الزمنية والروحية معاً‪ .‬ويعتربون �أن املعنى الأول املعتمد من اال�سالميني يت�ضمن‬ ‫يف املعنى الثاين الذي يعتمدونه هم‪ ،‬وناجت عنه‪ ،‬ولي�س العك�س‪.‬‬ ‫�أما يف م�س�ألة ت�شكل مفهوم ال�سلطة‪ ،‬فمما ال �شك فيه �أن الطبيعة الب�شرية وال�سلطة متالزمان‪.‬‬ ‫وال وجود ملجتمع �إن�ساين بدون �سلطة‪ .‬وال�سلطة يف طبيعة وجودها �سابقة على وجود الدولة‪.‬‬ ‫وهي لذلك «قوة �إرادة حلكم جماعة من النا�س» ‪ .‬والقوة هذه تتيح لأ�صحابها فر�ض �أنف�سهم‪،‬‬ ‫و�سلطتهم‪ ،‬مب�ساعدة موا�صفات �شخ�صية‪ ،‬فردية �أو جماعية‪ .‬وال ت�صري �أمراً واقعاً �إال بالقوة ذاتها‬ ‫التي تعمل مبوجب قانون ت�ضعه هي بنف�سها‪ ،‬ويحوز على ر�ضى وموافقة املحكومني ‪.‬‬ ‫هذا املفهوم لل�سلطة‪ ،‬قدمياً وحديثاً‪ ،‬يف بداية احلياة املجتمعية �أو يف حداثتها‪ ،‬ال يزال هو نف�سه‪ ،‬و�إن‬ ‫تغريت �آليات ممار�سة ال�سلطة‪� ،‬أو ا�ستحدثت م�ؤ�س�سات تطبيقها �أو مراقبتها‪� .‬إال �أن �أ�صلها مل يكن‬ ‫وتوحد الكالم عليها باعتبارها من منابع متعددة‪� ،‬إن كان يف الغرب‪� ،‬أو عندنا‪.‬‬ ‫من منبع واحد‪ّ .‬‬ ‫فنظرية احلق االلهي‪ ،‬الغربية يف من�شئها‪� ،‬أنتجت امللكية املطلقة من خالل االندماج بني ال�سلطة‬ ‫‪2‬‬

‫‪3‬‬

‫‪4‬‬

‫‪5‬‬


‫العلمانية اليوم‬

‫الدين والدولة والعلمانية‬

‫‪47‬‬

‫الدينية وامللكية‪ ،‬ومن ثم التحالف املتني بينهما‪ .‬والأ�صل االلهي لل�سلطة جعل احلكم امللكي‬ ‫التج�سيد العملي للحكم االلهي‪ ،‬كما �سمح للملك �أن يكون ظل اهلل على الأر�ض‪ .‬والأ�صل‬ ‫االلهي نف�سه هو الذي حتول‪ ،‬وب�شكل �أقرب �إىل الطبيعة الدنيوية‪� ،‬إىل احلق ال�سماوي باعتبار‬ ‫النظر �إىل تدبري �ش�ؤون الدنيا ما هو �إال تعبري عن رعاية جتليات االبداع االلهي يف العامل الدنيوي‪.‬‬ ‫والرعاية هذه‪ ،‬يف الأخري‪ ،‬ما هي �إال احلفاظ على ما �أبدعه اهلل من خالل تكليف الب�شر حكم‬ ‫انف�سهم مبا يرونه منا�سباً‪� ،‬أي العمل على رعاية �سعادة االن�سان باعتبارها حتقيقاً لالرادة االلهية‪،‬‬ ‫ولكن ب�أيدي الب�شر و�إرادتهم‪.‬‬ ‫رعاية االن�سان‪ ،‬واحلفاظ على االرادة االلهية واحرتامها‪ ،‬تتيح احلكم مبوجب ذلك‪ ،‬و�إن كان بفر�ض‬ ‫اال�ستبداد واحلكم ال�شمويل طاملا ذلك يبقي على املجتمع يف االطار الذي ير�ضي اهلل وي�ؤ ّمن رعاية‬ ‫�ش�ؤون النا�س بالطريقة التي تعرب عن طاعة اهلل من خالل تعبري املوجودات بكل عنا�صرها عن‬ ‫عظمته‪ .‬و�إذا كان املجتمع‪ ،‬بكل فئاته وتفاوتاته وعنا�صره‪ ،‬مقتنعاً مبا يقوم به احلكام للحفاظ على‬ ‫ما �أبدعه اهلل يف موجوداته‪ ،‬فال معنى‪ ،‬عندئذ‪ ،‬لال�ستبداد وال�شمولية‪ .‬ويف هذه احلالة يكون احلكم‬ ‫�سه ًال مبقدار طاعة املحكومني‪ .‬ويتحول �إىل حكم �صعب يتو�سل ال�شمولية واال�ستبداد لت�سيري‬ ‫�ش�ؤونه مبقدار خروج املحكومني‪ ،‬بالأقل �أو الأكرث‪ ،‬عن طاعة احلكام ‪.‬‬ ‫�إذا كان هذا �أ�صل ال�سلطة وف�صلها يف القرون الو�سطى الأوروبية‪ ،‬ف�إن ع�صر الأنوار‪ ،‬املمهد للثورة‬ ‫ال�صناعية وللع�صر احلديث‪� ،‬أعطى لل�سلطة معنى جديداً م�ستمداً من املجتمع‪ ،‬من واقع العالقات‬ ‫االجتماعية‪ .‬ال�سلطة التي ي�ستمدها احلكام من ال�شعب مبا�شرة‪� .‬سلطة ال�سيادة ال�شعبية‪� .‬إال �أن‬ ‫هذه ال�سلطة‪ ،‬بحكم ت�شكلها‪ ،‬ال حتوز على ر�ضى كل اجلماعة‪ .‬وهي عاجزة‪ ،‬يف كل حال‪ ،‬عن‬ ‫ت�أمني االجماع‪ .‬وميكن لهذه ال�سلطة �أن تتح�صل �أو ًال بالقوة من قبل الأقلية وخ�ضوع الأكرثية‪،‬‬ ‫قبل �أن تتطور من خالل �ضبط ممار�ستها‪ ،‬على �أية �صورة كانت‪ ،‬مل�صلحة اجلماعة ولت�أمني ال�صالح‬ ‫العام‪ .‬وال يكون ذلك �إال بتطور ال�سلطة ذاتها عن طريق �صوغ الد�ساتري والت�شريعات والقوانني‬ ‫التي ت�سمح للدولة‪ ،‬املمار�سة لهذه ال�سلطة‪ ،‬باالنتقال من طور اال�ستبداد والفردية والطغيان‪،‬‬ ‫�إىل طور الدولة احلديثة مب�ؤ�س�ساتها ومبمار�ساتها الدميوقراطية القائمة على تداول ال�سلطة‪ ،‬حكم‪/‬‬ ‫معار�ضة‪ ،‬وعلى ممار�سة احلرية والعدالة وامل�ساواة �أمام القانون‪.‬‬ ‫بهذه اخل�صائ�ص‪ ،‬تكون الدولة احلديثة‪ ،‬تف�صي ًال‪� ،‬صاحبة �سلطة هرمية جت�سدها امل�ؤ�س�سات ووظائفها‬ ‫من �أعلى الهرم‪ ،‬ر�أ�س الدولة‪� ،‬إىل �صاحب املرتبة الدنيا يف �أجهزتها وم�ؤ�س�ساتها‪ .‬وهي مركزية‬ ‫باعتبار �أنها تنطلق من مركز واحد يف �إدارة �ش�ؤون احلكم‪ ،‬وهو حمور العمل ال�سيا�سي يف الدولة‪،‬‬ ‫و�إن كانت ذات نظام المركزي‪� ،‬سيا�سي و‪�/‬أو �إداري‪ .‬وهي �سلطة �سيا�سية تدير كل ما ي�شكل‬ ‫عنا�صر املجتمع ال�سيا�سي‪ ،‬وتعمل على �إتاحة املمار�سة ال�سيا�سية يف كل �أ�شكالها باحلرية الالزمة‪.‬‬ ‫وهي مدنية تقود ال�سلطة الع�سكرية‪ ،‬وت�سمح لها باحلركة �ضمن ا�سرتاتيجيتها ال�سيا�سية‪ ،‬وال‬ ‫تنقاد منها يف �أي ظرف من الظروف‪� ،‬إال يف �أوقات خم�صو�صة حتددها ال�سلطة ال�سيا�سية نف�سها‪.‬‬ ‫‪6‬‬

‫عدد رقم ‪� | 1‬أيـار‬

‫‪2013‬‬


‫‪48‬‬

‫العلمانية اليوم‬

‫وهي ال�سلطة التي حتتكر العنف املادي ومتار�سه بال�شرعية التي تتيحها ال�سلطة ال�سيا�سية بقوانينها‬ ‫وم�ؤ�س�ساتها‪ .‬وهي ال�سلطة الزمنية التي ينف�صل فيها العمل بني ال�سلطة املدنية وال�سلطة الدينية‪.‬‬ ‫�إن من�ش�أ ال�سلطة يف املجتمع �ضروري �ضرورة املجتمع االن�ساين نف�سه‪ .‬و�إذا كان «الوازع» هو بداءة‬ ‫ال�سلطة (بدايتها‪ ،‬بداوتها) يف املجتمع الأويل للإن�سان‪ ،‬فهي منذ حلظة ت�شكلها كوازع‪ ،‬نواة الدولة‪.‬‬ ‫و�إذا كان الوازع �ضرورة اجتماعية ال وجود للمجتمع بدونه‪ ،‬ف�إن الدولة هي �ضرورة �سيا�سية‪ ،‬هي‬ ‫�ش�أن ثقايف‪ .‬والدولة مبا �أنها �ش�أن �سيا�سي وثقايف‪ ،‬فهي قبل هذا وذاك �ش�أن اجتماعي‪ ،‬مبعنى �أن ال‬ ‫وجود لل�سيا�سة بدون االجتماع‪ ،‬وال وجود للدولة �إال يف املجتمع ‪.‬‬ ‫والدولة ك�ش�أن ثقايف‪ ،‬هي ح�صيلة الثقافة االجتماعية‪ ،‬ومرتبطة بالتطور االجتماعي العام‪ .‬وهي‪،‬‬ ‫لذلك‪ ،‬تندغم‪ ،‬ك�ش�أن �سيا�سي‪ ،‬باملجتمع‪ .‬ويظهر االجتماع وال�سيا�سة ك�أنهما �ش�أن واحد يف حالة‬ ‫املجتمع البدوي(االبتدائي‪ ،‬البدائي)‪� .‬إال �أن هذا التماثل واالندغام يبد�آن باالنف�صال مع ارتقاء‬ ‫املجتمع املتنا�سب مع تبلور �سلطة الدولة ونظامها ال�سيا�سي‪.‬‬ ‫�إال �أنه ال ميكن الكالم على دولة‪� ،‬أي دولة‪ ،‬مبعزل عن املجتمع الذي يحملها وحتكمه وتقوده‪.‬‬ ‫لذلك ميكن القول �إنّ الدولة هي جمموعة ب�شرية على �أر�ض حمددة ذات �سلطة توجه هذه‬ ‫املجموعة مبوجب نظام اقت�صادي اجتماعي و�سيا�سي وحقوقي ت�سعى ال�سلطة �إىل حتقيقه‪.‬‬ ‫والدولة‪ ،‬على �شتى هذه الوجوه واالحتماالت‪ ،‬غري جمربة �أن تكون �ضد الدين‪� ،‬أو لي�س من‬ ‫ال�ضرورة �أن ت�ضع نف�سها يف مواجهة الدين‪ .‬وعلى الدولة يف كل �أ�شكالها‪ ،‬باعتبارها دولة ت�سيرّ‬ ‫�ش�ؤون النا�س يف حياتهم العملية ويف تفاعالتهم اليومية‪� ،‬أن تفر�ض وجودها‪ ،‬و�أن يتم االعرتاف‬ ‫بها وب�صريورتها اخلا�صة ومنطقها‪ ،‬حتى على الدين نف�سه‪ .‬و�إال‪� ،‬إذا بقيت العالقة على �ضبابيتها‬ ‫بني الدين والدولة وعلى تداخلها فيما بينهما‪� ،‬سيتحول الدين‪ ،‬يف تداخل العالقة هذه‪� ،‬إىل روح‬ ‫الدولة‪ ،‬والدولة �إىل ج�سد الدين و�سالحه وذراعه‪ .‬و�إذا تر�سخت العالقة بني الدين والدولة على‬ ‫هذه ال�صورة‪ ،‬فال بد �أن ت�صبح ال�شريعة نظام الدولة وقانونها‪ ،‬والدولة حامية لهذا النظام واملنفذة‬ ‫لهذا القانون‪.‬‬ ‫�أما عوائق ت�شكل الدولة فهي متعددة‪ ،‬منها جغراف ّية (�أندوني�سيا والباك�ستان‪� ،‬أو عرقية (الهند‬ ‫والباك�ستان)‪� ،‬أو عن�صرية قبلية (الهند‪ ،‬ال�صومال واملغرب العربي)‪� ،‬أو طائفية (لبنان‪ ،‬قرب�ص‬ ‫ويوغو�سالفيا)‪� .‬إال �أن هذه العوائق ميكن �أن ت�ضمحل لظروف تاريخية ون�ضالية تتوجه وجهة‬ ‫اال�ستقالل و�إن�شاء الدولة‪ .‬ولكن بزوال هذه الظروف‪ ،‬تعود العوائق للظهور‪ ،‬من جديد‪ ،‬لعدم‬ ‫تبلور عنا�صر املجتمع‪ ،‬وق�صوره عن الوعي بالذات‪ ،‬وباملبد�أ الذي ير�سخ هذا الوعي ويقويه‪ ،‬مبد�أ‬ ‫القومية‪.‬‬ ‫هنا تكمن اال�شكالية التي ت�شغل املفكرين العرب وامل�سلمني‪ ،‬اال�سالميني منهم والليرباليني‪.‬‬ ‫وهي اال�شكالية التي ميكن �أن تخت�صر هنا‪ ،‬و�إن تع�سفاً‪ ،‬يف الت�سا�ؤل التايل‪ :‬كيف ميكن مراقبة‬ ‫‪7‬‬


‫العلمانية اليوم‬

‫الدين والدولة والعلمانية‬

‫‪49‬‬

‫الدولة‪� ،‬أو م�ساءلتها‪ ،‬كمنفذة قهرية لل�شريعة‪ ،‬وحمتكرة للعنف الر�سمي؟ ومن الذي ي�ستطيع �أن‬ ‫يراقب وي�س�أل يف ظل حكم اهلل ؟‬ ‫هنا تظهر �ضرورة البحث يف �أ�شكال العالقة املمكنة بني الدين والدولة‪.‬‬ ‫اال�سالم دين ودنيا‪ .‬هذا ما �آمن به امل�سلمون منذ بداية اال�سالم حتى الآن‪ .‬وهذا ما �أقره الدار�سون‪،‬‬ ‫عرباً وغري عرب‪ ،‬من خالل مقارباتهم للدين اال�سالمي واحل�ضارة اال�سالمية‪.‬‬ ‫ولكن �إذا كان اال�سالم ديناً ودنيا‪ ،‬فهل يعني ذلك �أن اال�سالم دين ودولة؟ وهل هذا يعني �أن‬ ‫اال�سالم ال يكتمل �إال بنظام �سيا�سي يطبق ال�شريعة اال�سالمية‪ ،‬ويحكم با�سم الدولة الدينية؟‬ ‫�إن العالقة بني اال�سالم وال�سيا�سة هي عالقة �إ�شكالية ال تزال ت�شكل حمور اهتمام املفكرين‬ ‫العرب وامل�سلمني‪� ،‬إن كان على م�ستوى العالقة بني اال�سالم كدين وبني ال�سيا�سة‪� ،‬أو كان‬ ‫على م�ستوى العالقة بني الدين والدولة �أو بني ال�سلطة الدينية وال�سلطة ال�سيا�سية‪ .‬وكان الهم‬ ‫الأ�سا�سي‪ ،‬وال يزال‪ ،‬هو كيفية بناء دولة دميوقراطية حديثة مع احلفاظ على املقا�صد الأ�سا�سية‬ ‫للدين‪� ،‬أو كيفية املواءمة بني اال�سالم كدين وح�ضارة‪ ،‬ومفاهيم تتبناها الدولة احلديثة من مثل‪:‬‬ ‫الدميوقراطية وامل�ساواة يف احلقوق والواجبات وف�صل الدين عن الدولة والعلمنة والعدالة وغريها‬ ‫من املفاهيم ‪.‬‬ ‫لي�س علينا يف هذا املقام �أن نتعر�ض لإ�شكالية العالقة بني الدين والدولة‪ ،‬لأن هذه امل�س�ألة تعر�ض‬ ‫لها الكثريون من املفكرين‪ ،‬وقدموا الأطروحات حولها ‪� ،‬أو ًال؛ ولأننا هنا ‪ ،‬ويف جمال هذا املقال‪،‬‬ ‫نحاول البحث يف �إ�شكالية العالقة بني ال�سلطة ال�سيا�سية وال�سلطة الدينية‪ ،‬ويف احلدود التي‬ ‫يتيحها هذا املقال‪ ،‬ثانياً؛ دون ادعاء االحاطة باملو�ضوع من جوانبه كافة‪.‬‬ ‫هذا الكالم ي�سمح لنا بالقول �إنّ ثمة �أكرث من االندماج �أوالف�صل يف العالقة بني ال�سلطة‬ ‫ال�سيا�سية وال�سلطة الدينية‪� .‬إذ �إن �أ�شكال العالقة بني ال�سلطتني خم�سة ‪ .‬ف�إذا كان االندماج‬ ‫�أحد هذه الأ�شكال‪ ،‬والف�صل ال�شكل الثاين‪ ،‬ف�إن بقية الأ�شكال ترتاوح بني التحالف والإبعاد‬ ‫واالنكار‪ .‬و�إذا كان التحالف �سائداً يف الأكرثية ال�ساحقة من البلدان العربية واال�سالمية دون‬ ‫حتديد وا�ضح لأ�س�س هذا التحالف �أو عنا�صره‪ ،‬ف�إن الف�صل �أو اال�ستقالل بني ال�سلطتني غري‬ ‫موجود فعلياً‪ .‬وما هو موجود يظهر �شكل الإبعاد «من فوق»‪ ،‬كما هي احلال يف تون�س وتركيا قبل‬ ‫خما�ض الربيعني امل�سلمني العربي والرتكي‪ ،‬بتبنيهما العلمنة ال�شاملة املبعدة للدين عن التدخل‬ ‫يف �ش�ؤون ال�سيا�سة‪ ،‬ويف �ش�ؤون الأحوال ال�شخ�صية املدنية والدنيوية‪� .‬إال �أن هذا التبني كان‬ ‫قد بقي حم�صوراً يف دائرة اهتمامات الدولة وم�ؤ�س�ساتها‪ ،‬و�شبه معزول عن نب�ض احلياة اليومية‬ ‫واملمار�سة العملية للمجتمع بهمومه وهواج�سه وق�ضاياه‪ .‬لذلك بقي ه�شاً وقاب ًال لالنفراط‪ ،‬ما �أدى‬ ‫�إىل التغيري و�إن كانت مل تت�ضح بعد وتتبلور معامل هذا التغيري‪.‬‬ ‫‪8‬‬

‫‪9‬‬

‫‪10‬‬

‫‪11‬‬

‫عدد رقم ‪� | 1‬أيـار‬

‫‪2013‬‬


‫‪50‬‬

‫العلمانية اليوم‬

‫والقول يف ال�سلطة ال�سيا�سية وال�سلطة الدينية يقت�ضي منا البحث يف غايات وو�سائل كل من‬ ‫ال�سلطتني‪ .‬ف�إذا كانت ال�سلطة ال�سيا�سية تعمل يف الوجود من �أجل �سعادة االن�سان‪ ،‬ف�إن ال�سلطة‬ ‫الدينية تعمل باالميان مبا هو خارج الوجود‪ ،‬و�سيلتها الطاعة للأوامر االلهية من �أجل ك�سب الآخرة‬ ‫بتو�سل العمل ال�صالح يف الدنيا‪ .‬من هنا جتمع الدنيا بني ال�سلطتني‪ .‬ويح�صل التفاعل الذي يقوم‬ ‫على مقولة الدنيوية التي تراها كل �سلطة ح�سب مقت�ضى وجودها وم�صلحتها‪.‬‬ ‫من املهم الت�أكيد �أن ال�شكل االندماجي يجعل ال�سلطتني الدينية وال�سيا�سية وك�أنهما �سلطة‬ ‫واحدة‪ .‬ذلك �أن الدولة تظهر بثوبها ال�سيا�سي و�سالحها وت�شريعاتها الالب�سة لبو�س ال�سيا�سة بروح‬ ‫وم�ضمون دينيني‪ .‬وال فرق فيها بني كونها دولة دينية �أو دولة �سيا�سية ت�سود فيها ال�شريعة ن�صاً‬ ‫وروحاً؛ وال �ش�أن للدولة‪ ،‬كجهاز‪� ،‬إال حرا�سة ال�شريعة الدينية ومراقبة ح�سن تطبيقها‪ ،‬باعتبارها‬ ‫امل�صدر االلهي الوحيد‪ ،‬وما يرتبط به من �ضروب الت�شريع الأخرى‪.‬‬ ‫�أما ال�شكل التحالفي‪ ،‬فهو باال�ضافة �إىل كونه ال�سائد عملياً وتطبيقياً يف الكثري من البالد التي‬ ‫تدين باال�سالم‪ ،‬يلحظ الفرق بني ال�سلطة الدينية وال�سلطة ال�سيا�سية مع وجود التحالف بينهما‬ ‫يف كل ما يخدم توجه ال�سلطة ال�سيا�سية من ناحية‪ ،‬وما يخدم غايات ال�سلطة الدينية من ناحية‬ ‫ثانية‪ .‬والعالقة بني ال�سلطتني يف �شكلها التحالفي هي دائم َا يف حالة رجراجة‪ ،‬كرقا�ص ال�ساعة‪،‬‬ ‫ال ت�ستقيم على حال بحكم العالقة ذاتها‪ ،‬املتغرية يف الأ�سا�س‪ ،‬باعتبارها �سلطة زمنية �سيا�سية‬ ‫ت�ضعف �أو تقوى‪ ،‬من ناحية؛ و�سلطة دينية ت�ضعف �أو تقوى ب�شكل معاك�س لل�سلطة ال�سيا�سية‪،‬‬ ‫من ناحية ثانية‪ .‬وما يعنيه هذا القول‪� ،‬أنه �إذا قويت ال�سلطة ال�سيا�سية‪ ،‬تطلب الدعم والفتوى من‬ ‫ال�سلطة الدينية لرت�سيخ القرارات وتثبيتها و�إ�ضفاء ال�شرعية «ال�شرعية» عليها؛ و�إذا قويت ال�سلطة‬ ‫الدينية ت�ضعف ال�سلطة ال�سيا�سية وحت�صل التبعية من هذه �إىل تلك‪ ،‬ومييل احلكم ال�سيا�سي �إىل‬ ‫الفردانية وال�شمولية قبل �أن يتحول �إىل نظام الدولة الدينية واحلكم االلهي‪ ،‬وقبل �أن يحكمها‬ ‫التع�صب الذي يطغى على �أي �شيء �آخر‪.‬‬ ‫�أما �شكال الإبعاد والإنكار‪ ،‬فهما حا�صالن يف النظام الأيديولوجي الذي عليه �أن يطبق م�شروعاً‬ ‫ح�ضارياً و�سيا�سياً ي�ؤمن به هذا النظام‪ .‬و�شكل العالقة هذا �إما يكون االنكار التام باعتبار �أن‬ ‫ال�سلطة الدينية معطلة للم�شروع احل�ضاري وخطرة عليه‪ ،‬كما كانت احلال يف االحتاد ال�سوفياتي؛‬ ‫�أو االبعاد باعتبار �أن ال�سلطة الدينية معرقلة مل�شروع العلمنة ال�شاملة كما ح�صل‪ ،‬وال يزال يح�صل‪،‬‬ ‫و�إن ب�شكل �أخف يف تركيا‪.‬‬ ‫يبقى �شكل اال�ستقالل‪� ،‬أو الف�صل‪ ،‬بني ال�سلطتني الدينية وال�سيا�سية‪ .‬وهو ال�شكل الذي يختلف‬ ‫ب�شكل وا�ضح عن �شكلي الإبعاد والإنكار‪ ،‬ويقرتب من �شكل التحالف‪� .‬إنه حتالف مع حفظ‬ ‫احلدود‪ .‬لكل �سلطة ميدانها مع حلظ �إمكانية التعاون بينهما ملا فيه امل�صلحة العامة للمجتمع‪ ،‬دينية‬ ‫كانت هذه امل�صلحة �أو �سيا�سية‪.‬‬


‫العلمانية اليوم‬

‫الدين والدولة والعلمانية‬

‫‪51‬‬

‫ت�أ�سي�ساً على �إ�شكالية العالقة بني �سلطة الدولة و�سلطة الدين‪ ،‬ميكن القول �إن الدولة يف الغرب‬ ‫مل تكن دولة حديثة عندما مل ينوجد هذا الف�صل الدقيق بني ال�سلطات‪ ،‬وخ�صو�صاً الف�صل بني‬ ‫ال�سلطة ال�سيا�سية وال�سلطة الدينية‪� ،‬أو بني ال�سلطة ال�سيا�سية وال�سلطة الع�سكرية‪ .‬لذلك كان‬ ‫الف�صل وا�ضحاً بني الدولة التقليدية والدولة احلديثة يف الغرب‪ ،‬وخ�صو�صاً الأوروبي منه‪ .‬وقد‬ ‫�أ�س�س لهذا الف�صل ع�صر الأنوار والثورة الفرن�سية ون�شوء الر�أ�سمالية؛ وهي املحطات الرئي�سة التي‬ ‫�أر�ست دعائم احلداثة‪.‬‬ ‫�إذا كانت الدولة احلديثة يف الغرب قد ن�ش�أت بناء على هذه االعتبارات التاريخية التي اخت�ص بها‬ ‫الغرب‪ ،‬فكيف ميكن النظر �إىل الدولة التي تدين باال�سالم؟‬ ‫من نافل القول الت�أكيد �أن االعتبارات التي �أدت �إىل ن�شوء الدولة احلديثة يف الغرب مل تعمل‬ ‫على �إن�شاء الدولة احلديثة يف العاملني العربي واال�سالمي فح�سب ‪� -‬إذ لي�س عليها �أن تعمل‬ ‫على �إن�شاء مثل هذه الدولة‪ ،‬ولي�س مبقدور هذه الدولة �أن تن�ش�أ‪ ،‬الختالف الظروف والوقائع‬ ‫االجتماعية والتاريخية لكل من العاملني العربي واال�سالمي من ناحية‪ ،‬والعامل االوروبي‪ ،‬من‬ ‫ناحية ثانية؛ بل �إن �أنوار العامل االوروبي ما كان لها �أن ت�شع‪ ،‬وثورته ال�صناعية ما كان لها �أن تغيرّ ‪،‬‬ ‫وحداثته ما كان لها �أن حت ّول منط احلياة يف �أوروبا‪ ،‬لوال ا�ستعمار العاملني العربي واال�سالمي‪،‬‬ ‫وعوامل �أخرى مت�شابهة يف �أمناط حياتها‪ ،‬ويف وقائعها االجتماعية والتاريخية‪ ،‬ويف حالتها التقليدية‬ ‫ال�سابقة على احلداثة باملعنى واملقيا�س االوروبيني‪ ،‬ومبعنى ال�سيطرة على الذات اجتماعياً و�سيا�سياً‬ ‫واقت�صادياً وثقافياً يف العاملني العربي واال�سالمي‪ .‬فالعالقة غري املتكافئة بني هذه العوامل املختلفة‬ ‫�أنتجت جمتمعات هجينة ال هي باحلديثة وال بالتقليدية ‪ ،‬جمتمعات اكتفت مبا �أنتجته احلداثة يف‬ ‫ممار�ساتها اال�ستهالكية اليومية‪ ،‬و�أبقت امل�ضمون غارقاً يف تقليديته احلائرة بني هذا القدر �أو ذاك‬ ‫من الرتاث والتقليد ومن الع�صرنة والتجديد‪.‬‬ ‫يف هذا املناخ التاريخي ن�ش�أت الدولة امل�سلمة يف العامل العربي‪ ،‬وخارج هذا العامل‪ .‬والدولة‬ ‫امل�سلمة هي التي ين�ص د�ستورها على �أن دينها الر�سمي هو اال�سالم‪ .‬بهذا املعنى الدولة امل�سلمة‬ ‫هي لي�ست دولة �إ�سالمية‪ ،‬بينما الدولة اال�سالمية هي دولة م�سلمة يف الأ�سا�س‪ .‬وبهذا املعنى‬ ‫�أي�ضاً‪ ،‬ميكن �أن يكون نظام الدولة امل�سلمة و�ضعياً‪� ،‬أي من �صنع الب�شر و�إن كان ي�ستمد بع�ض‬ ‫قوانينه من ال�شريعة اال�سالمية‪� ،‬أو جلها؛ والدولة اال�سالمية ت�ستند يف نظام حكمها على ال�شريعة‬ ‫اال�سالمية ب�صفته هذه‪ ،‬وباعتبار �أن اهلل هو املرجع النهائي يف احلكم‪.‬‬ ‫هذا التحديد ي�سمح لنا بالت�سا�ؤل عن �إمكانية ن�شوء الدولة امل�سلمة احلديثة‪ ،‬وبالتايل عن �إمكانية‬ ‫ن�شوء الدولة اال�سالمية احلديثة‪.‬‬ ‫هذا الت�سا�ؤل ي�ضعنا يف مواجهة مبا�شرة مع الدول العربية وغري العربية التي تدين باال�سالم دون‬ ‫�أن تكون �أنظمتها �إ�سالمية باملعنى املذكور �أعاله‪ .‬واملواجهة هذه حتتم علينا البحث يف �إ�شكالية‬ ‫‪12‬‬

‫‪13‬‬

‫عدد رقم ‪� | 1‬أيـار‬

‫‪2013‬‬


‫‪52‬‬

‫العلمانية اليوم‬

‫العالقة بني الدين والدولة يف هذه الأنظمة من ناحية‪ ،‬وبني الدين والدنيا من ناحية ثانية‪ .‬وهنا‪،‬‬ ‫ال بد من الت�أكيد �أن �أكرث البلدان العربية وامل�سلمة تعلن عن دينها الر�سمي يف د�ساتريها دون �أن‬ ‫يعني ذلك �أن نظامها ال�سيا�سي هو نظام �إ�سالمي‪� ،‬أو يطبق ال�شريعة اال�سالمية يف نظامه ال�سيا�سي‬ ‫باعتبارها امل�صدر الوحيد‪ .‬وهذه البلدان تعتمد يف �أكرثيتها ال�ساحقة �أي�ضاً على �أنظمة و�ضعية‬ ‫وم�ستمدة من الت�شريع الب�شري‪ ،‬و�إن كانت ت�ستلهم بع�ض هذه الت�شريعات من ال�شرع الديني‬ ‫واحلكم االلهي‪ .‬هذه البلدان مهي�أة مثل غريها لأن تعتمد احلداثة‪ ،‬ولأن تكون الدول التي‬ ‫حتكمها حديثة‪ .‬والتاريخ يطلعنا على �أن العرب كانوا يف قمة احلداثة يف القرن الرابع للهجرة مع‬ ‫القرون التي تلت‪ .‬وماليزيا و�أندوني�سيا وغريهما يف ال�شرق الأق�صى ميكن اعتبارها دو ًال حديثة‪.‬‬ ‫�إال �أن اختالط الأمور يف م�صادر الت�شريع‪ ،‬ويف �أنظمة احلكم‪ ،‬املت�أتية من االختالط بني �أمور الدين‬ ‫و�أمور الدنيا‪ ،‬ومن عدم و�ضوح احلدود بينهما يف البلدان التي تدين باال�سالم؛ باال�ضافة �إىل �أمور‬ ‫�أخرى‪� ،‬أتينا على ذكر بع�ضها �آنفاً؛ �أدت �إىل عرقلة ن�شوء احلداثة عندنا‪ ،‬ومنعت‪ ،‬حتى الآن‪ ،‬ن�شوء‬ ‫الدولة احلديثة‪ ،‬عربية كانت �أو م�سلمة‪ .‬وهنا تندرج امل�سائل التي تتعلق ب�أمور التطاول على الدين‪،‬‬ ‫�أو القول بغري ما يقول الدين‪� ،‬أو االتهامات بالكفر والردة و�أحكام التطليق والتجديف‪ ،‬ومن هم‬ ‫�أ�صحاب الف�صل يف ذلك‪ ،‬وغريها من الأمور‪ .‬هذا باال�ضافة �إىل امل�س�ألة ال�سيا�سية‪ ،‬واعتبارات‬ ‫امل�صلحة التي تربط بني �أ�صحاب ال�سلطة ال�سيا�سية وال�سلطة الدينية‪ ،‬وما ميكن ان ت�صل �إليه هذه‬ ‫االعتبارات يف العالقة بني الدولة واملجتمع‪� ،‬أو بني الدولة وفئات حمددة من املجتمع ‪.‬‬ ‫�أما الدولة اال�سالمية مبعنى الدولة التي تطبق ال�شريعة اال�سالمية‪ ،‬كنظام حكم‪ ،‬على الأقل يف‬ ‫جتليات الأنظمة التي ت�صرح ب�أنها �إ�سالمية‪ :‬نظام طالبان الذي حكم يف �أفغان�ستان‪ ،‬ونظام احلكم‬ ‫يف ال�سودان‪ ،‬وغريهما‪ ...‬فمن ال�سهل احلكم عليها ب�أنها ال تقرتب من الدولة احلديثة‪� ،‬إن كان‬ ‫مبقيا�سها الغربي‪� ،‬أو ب�أي مقيا�س �آخر‪.‬‬ ‫يف النظر �إىل �إمكانية قبول اال�سالم للعلمانية‪� ،‬أو لأمور الدنيا با�ستقالل عن الدين‪ ،‬يناق�ش‬ ‫العلمانيون الأ�صوليني يف م�س�ألة التناق�ض بني قولهم �إن اال�سالم دين العقل من ناحية‪ ،‬وا�ستحالة‬ ‫�أن تكون الدولة يف ظل اال�سالم علمانية‪ .‬وفحوى هذه املناق�شة هي املقارنة بني الفكرتني الآتيتني‪:‬‬ ‫اال�سالم يقدم امل�صلحة على الن�ص‪� ،‬أي يقدم العقل على النقل؛ وهي فكرة دنيوية (علمانية)‬ ‫يف الأ�سا�س؛ واال�سالم بطبيعته ال ي�سمح لأية اعتبارات م�صلحية �أو عقلية �أن تبطل االعتبارات‬ ‫الدينية النابعة منه‪ ،‬ومنها‪ :‬اال�سالم دين ودولة‪ .‬وال ي�ستقيم الأمر هنا �إال ب�إلغاء �إحدى الفكرتني‬ ‫املتناق�ضتني‪.‬‬ ‫ومبا �أن اال�سالم دين العقل‪ ،‬ومبا �أنه يقدم امل�صلحة على الن�ص‪ ،‬فيمكن‪ ،‬ب�سبب ذلك‪� ،‬أن تقوم‬ ‫الدولة العلمانية (الدنيوية) يف اال�سالم �إذا اقت�ضت امل�صلحة ذلك‪.‬‬ ‫‪14‬‬


‫الدين والدولة والعلمانية‬

‫العلمانية اليوم‬

‫‪53‬‬

‫وهنا ال بد من التو�ضيح‪ .‬ذلك �أن قوانني الدولة املتطابقة مع ال�شريعة ال تكفي لتكون هذه الدولة‬ ‫دولة دينية غري علمانية‪� ،‬أو غري دنيوية‪ .‬فالأ�سا�س الذي يقوم عليه الت�شريع هو الذي يقرر �إذا‬ ‫كانت الدولة دينية �أو علمانية‪ .‬وهذا الأ�سا�س هو �إما االعتبارات الدينية‪� ،‬أو االعتبارات العقلية‬ ‫(الدنيوية)‪ .‬وعليه‪ ،‬فكل دولة تعترب زمنية علمانية �إذا كانت �أحكامها م�ستمدة يف �شتى �ش�ؤون‬ ‫احلياة من العقل ال من الدين‪ ،‬حتى و�إن كانت �أحكامها ب�أكرثيتها متطابقة مع ال�شرع الديني ‪.‬‬ ‫انطالقاً من هذا التحديد‪ ،‬ميكن العمل على بناء العالقة بني ال�سلطة الدينية وال�سلطة ال�سيا�سية‬ ‫انطالقاً من موقع التحالف‪ ،‬كمرحلة �أوىل‪ ،‬و� ً‬ ‫صوال �إىل موقع اال�ستقالل لكل من ال�سلطتني جتاه‬ ‫الأخرى‪ .‬فالتحالف بـينّ َ ويـبينّ ‪ ،‬بالتجربة واملمار�سة‪ ،‬مدى كثافة �ضبابية احلدود بني ال�سلطتني‪.‬‬ ‫وال ي�ستفيد من جتربته‪ ،‬وال من خربته‪ ،‬لينتقل‪ ،‬كتحالف‪ ،‬من �ضبابية العالقة واختالط املهام‬ ‫والغايات‪� ،‬إىل البدء يف ر�سم حدود املمار�سة لكل من احلقلني لت�صل هذه العالقة �إىل �إظهار ما‬ ‫هو ديني‪ ،‬وما هو دنيوي‪ ،‬ليمار�س كل منهما �سلطته دون طغيان �أو هيمنة من الآخر عليه‪ .‬فيكون‬ ‫الدين‪ ،‬وال�سلطة املنبثقة منه‪ ،‬يف خدمة املجتمع مبا يقوم به من ن�شاط روحي و�أخالقي‪ ،‬ومن متتني‬ ‫العالقة بني امل�ؤمن واخلالق‪ .‬وتكون ال�سيا�سة يف خدمة املجتمع مبا تقوم به على �صعيد قيادة حياة‬ ‫النا�س يف جماري حياتهم اليومية باعتبارها �ش�ؤوناً دنيوية‪ ،‬و�إن ا�ستوحت يف قيادتها ما تراه منا�سباً‬ ‫من مبادئ ال�شرع الديني‪.‬‬ ‫هذا االنتقال الهادئ واملت�أين من التحالف بني ال�سلطتني الدينية وال�سيا�سية �إىل ا�ستقالل الواحدة‬ ‫منهما عن الأخرى يف �ش�ؤون احلياة اليومية‪ ،‬يعطي لل�سيا�سة االنفتاح الكامل لكل ما يتعلق‬ ‫ب�ش�ؤون الدنيا دون جتاهل �أو جتاوز الأمور الأخالقية والروحية‪ .‬ويعطي للدين االهتمام بامل�سائل‬ ‫الأخالقية والروحية دون جتاهل �أو جتاوز الأمور ال�سيا�سية باعتبارها �ش�ؤوناً دنيوية ميكن ممار�ستها‪،‬‬ ‫ولي�س باعتبارها تكليفاً �شرعياً �أو دعوة للحكم االلهي‪.‬‬ ‫‪15‬‬

‫عدد رقم ‪� | 1‬أيـار‬

‫‪2013‬‬


‫العلمانية اليوم‬

‫‪54‬‬ ‫الهوام�ش‬

‫‪ .1‬عادل �ضاهر‪ ،‬الأ�س�س الفل�سفية للعلمانية‪ ،‬دار ال�ساقي‪ ،1993 ،‬لندن‪� ،‬ص‪.39 :‬‬ ‫‪ . 2‬علي عبد الرازق‪ ،‬اال�سالم و�أ�صول احلكم (‪ ،)1925‬طبعة الهيئة امل�صرية العامة للكتاب‪ ،1991،‬القاهرة‪� ،‬ص‪.103 :‬‬ ‫‪� .3‬أنظر يف هذا اخل�صو�ص‪ ،‬ف�صل هراطقة و�أطهار‪ ،‬الدنيويون والدينيون يف جمتمع متنوع‪ ،‬يف‪:‬‬ ‫ ‪ -‬عاطف عطيه‪ ،‬يف االجتماع اللبناين‪ ،‬جدلية الوحدة والتعدد‪ ،‬دار االن�شاء‪ ،2005 ،‬طرابل�س‪� ،‬ص‪.179 -169 :‬‬ ‫‪� .4‬أندريه هوريو‪ ،‬القانون الد�ستوري وامل�ؤ�س�سات ال�سيا�سية‪ ،‬اجلزء الأول‪ ،‬ترجمة علي مقلد و�آخرون‪ ،‬الأهلية للن�شر‬ ‫والتوزيع‪ ،1974 ،‬بريوت‪� ،‬ص‪.106 :‬‬ ‫‪ .5‬املرجع نف�سه‪� ،‬ص‪.107 :‬‬ ‫‪ .6‬للتف�صيل حول الأ�صل ال�شعبي لل�سلطة وتطورها‪� ،‬أنظر‪:‬‬ ‫ ‪ -‬املرجع نف�سه‪� ،‬ص‪.125 -107 :‬‬ ‫‪� .7‬أنطون �سعاده‪ ،‬ن�شوء الأمم‪ ،)1938(،‬طبعة ‪ ،1978‬بريوت‪� ،‬ص‪.90 :‬‬ ‫‪ .8‬برهان غليون‪ ،‬نقد ال�سيا�سة‪ ،‬الدولة والدين‪ ،‬الطبعة الثانية‪ ،‬امل�ؤ�س�سة العربية للدرا�سات والن�شر‪ ،1993 ،‬بريوت‪،‬‬ ‫�ص‪71 :‬‬ ‫‪� .9‬إيليا حريق‪ ،‬الدميوقراطية وحتديات احلداثة بني ال�شرق والغرب‪ ،‬دار ال�ساقي‪ ،2001 ،‬بريوت‪� ،‬ص‪.249 -247 :‬‬ ‫‪� .10‬أنظر على �سبيل املثال ال احل�صر‪:‬‬ ‫ ‪ -‬حممد عابد اجلابري‪ ،‬العقل ال�سيا�سي يف اال�سالم‪ ،‬مركز درا�سات الوحدة العربية‪ ،1990 ،‬بريوت‪� ،‬ص‪.392 :‬‬ ‫ ‪ -‬برهان غليون‪ ،‬نقد ال�سيا�سة‪ ،‬الدولة والدين‪ ...‬مذكور �سابقاً؛ وحديثاً‪:‬‬ ‫ ‪ -‬علي رحال‪ ،‬الدين وال�سلطة‪ ،‬درا�سة يف �إ�شكالية الفكر ال�سيا�سي اال�سالمي املعا�صر‪� ،‬أطروحة دكتوراه يف علم‬ ‫االجتماع ال�سيا�سي قدمت يف معهد العلوم االجتماعية‪ ،‬اجلامعة اللبنانية‪ ،‬العام اجلامعي ‪.2002 -2001‬‬ ‫‪ .11‬للتف�صيل حول �أ�شكال العالقة بني ال�سلطة ال�سيا�سية وال�سلطة الدينية‪� ،‬أنظر‪:‬‬ ‫ ‪ -‬نا�صيف ن�صار‪ ،‬منطق ال�سلطة‪ ،‬مدخل �إىل فل�سفة الأمر‪ ،‬دار �أمواج‪ ،1995 ،‬بريوت‪� ،‬ص‪.184 -143 :‬‬ ‫‪� .12‬أنظر يف هذا اخل�صو�ص ما يقوله ه�شام �شرابي حول ع�صر النه�ضة العربية‪ ،‬يف‪:‬‬ ‫ ‪ -‬ه�شام �شرابي‪ ،‬مقدمات لدرا�سة املجتمع العربي‪ ،‬دار نل�سن للن�شر‪ ،‬الطبعة ال�ساد�سة‪ ،1999 ،‬ال�سويد‪� ،‬ص‪:‬‬ ‫‪.89 -88‬‬ ‫‪ .13‬حول النظام الأبوي امل�ستحدث واملجتمع العربي الذي يجمع بني التقليد واحلداثة يف خليط هجني‪� ،‬أنظر‪:‬‬ ‫ ‪ -‬ه�شام �شرابي‪ ،‬النظام الأبوي و�إ�شكالية تخلف املجتمع العربي‪ ،‬الطبعة الرابعة‪ ،‬دار نل�سن‪ ،2004 ،‬ال�سويد‪.‬‬ ‫‪ .14‬الأمثلة على ذلك كثرية‪ ،‬ن�صر حامد �أبو زيد وق�ضية تكفريه وتطليقه من زوجته ورف�ضها ذلك وتهجريهما من‬ ‫م�صر‪ ،‬وق�ضية �إهدار دم �سلمان ر�شدي‪ ،‬واتهام الكثريين بالكفر والردة من خالل �آرائهم الفكرية والأدبية‪.‬‬ ‫‪ .15‬للتف�صيل حول هذه امل�سائل‪� ،‬أنظر‪:‬‬ ‫ ‪� -‬ضاهر‪ ،‬الأ�س�س الفل�سفية للعلمانية‪ ،‬مذكور �سابقاً‪� ،‬ص‪.59 :‬‬


‫‪55‬‬

‫العلمانية اليوم‬

‫العروبة والدين والف�صل بينهما‬ ‫| ن�صري ال�صايغ |‬ ‫‪ .I‬من توما الر�سول‪� ...‬إىل مارك غرافيت�س‬

‫تقدم لنا رواية الإجنيل عن توما الر�سول‪� ،‬أمثولة ذات داللة‪ .‬كان توما من ر�سل امل�سيح‪ ،‬وعاي�شه‬ ‫وعرف منه‪ ،‬ولي�س بالتواتر‪� ،‬أنه �سيموت وبعد ثالثة �أيام يقوم من بني الأموات‪ .‬وملا انت�شر خرب‬ ‫قيامة امل�سيح‪ ،‬وحده توما‪ ،‬مل ي�صدق‪� .‬إىل �أن �أتيح اللقاء به يف العلية‪ ...‬ومل ي�ؤمن �إال بعد و�ضع‬ ‫�إ�صبعه يف جرح يده‪.‬‬ ‫احلقيقة ال�صعبة‪ ،‬التي حتتمل نقا�شات متعددة‪ ،‬بحاجة �إىل معيار خارجي للت�أكد من ثباتها‪� ،‬أن‬ ‫تلم�س بالتجربة خري من �أن ت�ستنبط باملنطق‪.‬‬ ‫وعليه‪ ،‬ف�أين تقيم هذه العروبة؟ �إنها موجودة كم�شروع مكتوب بغزارة الت�أليف ورغبة الطموح‬ ‫ون�ضال الطليعيني‪� .‬إنها موجودة يف امل�شتهى من امل�آالت‪ ،‬ولكن البحث عنها اليوم‪ ،‬ال يف�ضي‬ ‫�إىل طحني عروبي �صالح لأن يتح ّول �إىل خبز �سيا�سي ووليمة ثقافية‪ ،‬العروبة املكتوبة‪ ،‬بتياراتها‬ ‫املختلفة‪ ،‬يف مكان‪ .‬والعروبة الواقعية امللمو�سة‪ ،‬قد ال تكون يف �أي مكان �آخر‪ ،‬اليوم‪.‬‬ ‫من الأدلة ما يلي‪:‬‬ ‫كتب مارك غرافيت�س مقالة يف جريدة «ليربا�سيون» الفرن�سية بعد فوز «الت�ضامن» (�سوليدارنو�سك)‬ ‫يف بولونيا و�صعود جنم لي�ش فالي�سا ال�سيا�سي‪ ،‬يتنب�أ فيها ب�أن القرن الواحد والع�شرين �سيحتفل‬ ‫بدخول �شعوب ودول حلبة التاريخ‪ ،‬بينما �سيغيب العرب‪ .‬لن يح�ضروا‪ ،‬ولن يقرعوا الباب‪.‬‬ ‫فعال‪ ،‬بعد ذلك التاريخ‪ ،‬وبعد ت�ساقط الأمرباطورية ال�سوفياتية‪ ،‬ح�ضر العرب دو ًال وكيانات‪ ،‬ثم‬ ‫ا�ستبدل ح�ضورهم هذا‪ ،‬با�ستقبال «لعرب»‪ ،‬كجماعات دينية و�أثنية وطائفية‪ ،‬ثم �أعيد ا�ستح�ضارهم‬ ‫ب�صفاتهم املنتقاة‪ ،‬مت ّوجني مبا ال يليق بهم‪.‬‬ ‫فقد العرب‪ ،‬القدرة على احل�ضور‪ ،‬كعرب ومن دون عرب‪ ،‬يف ال�سيا�سة والثقافة والإبداع‪ ،‬ف�أين‬ ‫تكون العروبة؟‬

‫عدد رقم ‪� | 1‬أيـار‬

‫‪2013‬‬


‫‪56‬‬

‫العلمانية اليوم‬

‫‪ .II‬عروبة بال عرب‬

‫�أ ـ كان العراق على و�شك ال�سقوط‪ ،‬فانتف�ضت «البيئة ال�شعبية العاملية»‪ ،‬و�سيرّ ت تظاهرات امتدت‬ ‫من �سان فرن�سي�سكو وباري�س وروما وميالنو ولندن ومدريد و�أثينا‪ ،‬دفاعاً عن العراق‪ .‬و�ضد الغزو‬ ‫اال�ستباقي‪ .‬لقد كانت تلك املظاهرات عروبية بال عرب‪ ،‬و�إ�سالمية بال م�سلمني‪ ،‬قالوا ‪ .No‬فيما‬ ‫كانت «البيئة العربية» تبحث عن الم �ألف (ال) وال جتد طريقا جلمعهما معاً‪ ،‬يف موقف عروبي‪/‬‬ ‫عربي راف�ض‪ ،‬وهو �أقل الإميان يف عقيدة العروبة‪ .‬لقد اغتال �أهل العروبة عروبتهم‪ ،‬وباتوا يف العراء‪.‬‬ ‫ب ـ كانت بريوت حما�صرة �إثنان و�ستون يوماً‪ ،‬وبريوت وحيدة‪ .‬اثنان و�ستون يوماً من ق�صف‬ ‫بحري‪ ،‬وبري وجوي‪ ،‬بال ماء �أو خبز �أو دواء‪ ...‬كان �أرييل �شارون هناك‪ ،‬على و�شك «�صربا‬ ‫و�شاتيال»‪ ،‬وكان العربي اللبناين‪ ،‬مقاتال �أو قتيال‪ ،‬وكان العربي الفل�سطيني‪ ،‬مقاتال �أو قتيال‪ ،‬وكان‬ ‫اجلي�ش العربي ال�سوري مقاتال �أو قتيال‪.‬‬ ‫مل يح�ضر عرب من �أي نوع او �صنف او مذهب �أو دين �أو عرق �أو ثقافة او حزب �أو ي�سار �أو ميني‪ ،‬يف‬ ‫معركة عربية‪ .‬ال قاتلوا معنا‪ ،‬وال مللموا قتالنا‪ .‬لكنهم ح�ضروا �إىل مائدة ال�سالم التي ُم ّد ف�سطاطها‪،‬‬ ‫لإطالق مبادرة الأمري فهد (ويل العهد �آنذاك) لل�سالم‪.‬‬ ‫ج ـ وكان لبنان‪ ،‬مراراً‪ ،‬عر�ضة العتداءات وا�سعة وحروب م�ستعادة‪ ،‬وقد �أقدمت ا�سرائيل على‬ ‫حرب تدمريية‪ ،‬فق�صفت بنى لبنان التحتية‪ ،‬ودمرت �ضاحيته‪ ،‬و�أ�صابت جنوبه باخلراب‪ .‬وكانت‬ ‫املقاومة الإ�سالمية اللبنانية‪ ،‬تنتهك امل�ستحيل لإجناز املمكن‪ ،‬ومل يح�ضر �أحد‪( .‬دول املواجهة‬ ‫واملمانعة قامت بواجبها دعماً ت�سليماً واحت�ضاناً)‪ .‬انتظرنا عربا‪ ،‬فكانوا بائدة‪ ،‬وانتظرنا م�سلمني‪،‬‬ ‫فكانوا على كفر مذهبي‪ ،‬بع�ضهم يفتي بخطر الت�ش ّيع‪ ،‬و�آخرون يفتون بالظروف املو�ضوعية‬ ‫وال�شروط ال�شرعية‪.‬‬ ‫ف�أي عروبة اليوم‪ ،‬بل‪� ،‬أي �إ�سالم؟‬ ‫�أي ثقافة و�أي لغة اليوم؟ بل �أي قيم؟‪.‬‬ ‫ما الذي يربطنا كقوم يف �أر�ض وم�صالح م�شرتكة‪.‬‬ ‫ما هويتي؟ �أي �سمة لها؟ ملاذا لي�ست بارزة املعامل يف املنعطفات العروبية احلا�سمة؟‬ ‫ك�أننا يف حل من هوياتنا الواقعية‪.‬‬ ‫لذا‪ ،‬فتاريخ العروبة مزدوج‪ :‬عروبة انهزامية وعروبة ن�ضالية‪ .‬الأوىل ت�شتيت وتفريع وجدل بيزنطوـ‬ ‫ا�سالمي‪ ،‬والثانية‪ ،‬جترتح االنتماء الفعلي‪ ،‬من خالل ترجمة العروبة ن�ضاال والتزاما بالق�ضية‪.‬‬ ‫والق�ضية‪� ،‬أولها فل�سطني‪ .‬دينها‪ ،‬يعلو على قامات التمذهب والتطيف والتغرب والتعولمُ ‪ .‬دينها‬ ‫قوميتها‪ ،‬والن�ضال فيها ومن �أجلها‪ ،‬هو العروبة املج�سدة فع ًال‪.‬‬


‫العروبة والدين والف�صل بينهما‬

‫العلمانية اليوم‬

‫‪57‬‬

‫‪ .III‬العروبة‪ :‬يف البدء كانت الوحدة ومل َن ّت ِحد‬

‫العروبة‪ ،‬يف الأ�سا�س واملنطلق‪ ،‬بدءاً من بذور ع�صر النه�ضة الأوىل‪ ،‬كانت دعوة لرابطة‪ ،‬جتمع قوماً‪.‬‬ ‫�أو �أقواما‪ ،‬يلتقون على انتماء لأر�ض وح�ضارة وثقافة وم�صالح‪ ،‬لأمة‪ ،‬ت�ستفيق من غفوتها‪ ،‬وتنه�ض‬ ‫لتكون حرة‪ ،‬موحدة‪ ،‬تليق بالإن�سان العربي‪.‬‬ ‫كان �شعار العروبة الواقعية �آنذاك‪ ،‬الوحدة والتحرر واال�ستقالل‪ ،‬واال�شرتاك مع العامل‪ ،‬عرب‬ ‫�شخ�صية عربية ح�ضارية‪ ،‬طاعنة يف التاريخ والثقافة والإبداع والفكر‪.‬‬ ‫لقد �أبيد م�شروع العروبة الأول‪ ،‬يف مي�سلون‪ .‬هناك‪ ،‬هزمت الأمة وانت�صر �سايك�س‪-‬بيكو‪ ،‬بقيادة‬ ‫اجلرنال غورو‪ .‬ومت بعد تلك املعركة الفا�صلة‪ ،‬ت�أ�سي�س كيانات �سيا�سية‪ ،‬مرجعيتها الأوىل والأخرية‪،‬‬ ‫�سايك�س وبيكو‪َ ,‬ج ّدا هذه الأمة املنكوبة بتنا�سل كياناتها‪ ،‬وت�ش ّلع ن�سيجها �إىل فتات من قبائل‬ ‫حد من حدود �سايك�س بيكو‪ .‬ولدت‬ ‫وع�شائر وطوائف ومذاهب و‪ ...‬وتغري العامل مراراً ومل يتغري ّ‬ ‫دول وزالت �أمرباطوريات‪ ،‬وتزعزعت عوامل‪ ،‬وظ ّلت حدود �سايك�س‪-‬بيكو حمرو�سة وم�صانة‬ ‫العروبة النظرية والعروبة اللفظية‪.‬‬ ‫ماتت الدولة العربية الأوىل‪ ،‬و�ألغي م�شروع د�ستورها العروبي العلماين احلديث‪ ،‬وا�ستعي�ض عنه‬ ‫با�ستعمار انتدابي‪� ،‬أعقبته دول ال�شتات القومي‪ ،‬م�شرقاً ومغرباً‪.‬‬ ‫حاولت قوى الأمة املنا�ضلة‪� ،‬أن تهزم م�شروع التجزئة‪ ،‬عرب ثورات م�سلحة ا�شرتك فيها منا�ضلون‬ ‫من العراق و�سوريا وفل�سطني ولبنان‪ ،‬من �أديان ومذاهب وم�شارب متعددة‪ ،‬يلتقون حتت لواء‬ ‫قومي‪ ،‬يحاول م�ستحي ًال ‪« :‬ا�ستعادة دولة الوحدة واحلرية واال�ستقالل»‪.‬‬ ‫ق�صروا عن الأوائل‪ .‬ا�ستقروا يف كيانات و�أقطار‪ ،‬تفوقت على الأمة‪ ،‬التي‬ ‫ومن جا�ؤوا بعد ذلك‪ّ ،‬‬ ‫مت تغييبها‪� ،‬إما عرب عروبة ال�شعار وقطرية املمار�سة‪� ،‬أو عرب التدخل الغربي (بتناوب مراكز القوى‬ ‫فيه)‪ ،‬مانعاً �أي التقاء بني قطرين‪.‬‬ ‫ال مفر من العودة �إىل «اخلطيئة الأ�صلية»‪ .‬ال�سقوط يف مي�سلون‪ .‬من هناك‪ ،‬ميكن ا�ست�شفاف �آليات‬ ‫النهو�ض وال�سقوط معاً‪� ...‬إذ‪ ،‬مما مل يظهره التاريخ الر�سمي‪ ،‬موقف القوى الوحدوية �آنذاك من �أ�سلوب‬ ‫املقاومة امل�سلحة‪ .‬فقبل معركة مي�سلون‪ ،‬ومن خالل منطق القبول بالتنازالت‪ ،‬منعاً للمواجهة‪ ،‬ف�ضلت‬ ‫حكومة في�صل املهادنة على املواجهة‪ ،‬فا�ضطرت �إىل قبول ما ال يقبل من التنازالت‪ .‬وقد ن�صت‬ ‫ر�سالة‪ /‬االنذار التي �أر�سلها غورو �إىل في�صل‪� ،‬ضرورة ت�سريح اجلي�ش ال�سوري �آنذاك‪ ،‬بعدما كانت‬ ‫قد ح�صلت منه على تنازل ق�ضى بالق�ضاء على املقاومة امل�سلحة يف مناطق عديدة من �سوريا ولبنان‪.‬‬ ‫لقد فقدت الوحدة �آنذاك‪� ،‬أداتها الن�ضالية الفعالة‪ ،‬التي كانت قادرة‪ ،‬رمبا‪ ،‬على منع تنفيذ التجزئة‪ ،‬وعلى‬ ‫�إنهاك االنتداب‪ .‬ولعل‪ ،‬يف تاريخ �إعالن غورو لدولة لبنان الكبري‪ ،‬الذي �أعقب هزمية مي�سلون‪ ،‬خري دليل‬ ‫على �أن الكيانات (عدو الوحدة) كانت على �أنقا�ض هزمية امل�شروع العربي الوحدوي واال�ستقاليل‪.‬‬ ‫عدد رقم ‪� | 1‬أيـار‬

‫‪2013‬‬


‫‪58‬‬

‫العلمانية اليوم‬

‫‪ .IV‬علمانية �سابقة لزمننا‪ ...‬قرنا ً من الزمن‬

‫�إن م�شروع د�ستور الدولة العربية الأوىل‪ ،‬كان علمانياً بن�سبة متفوقة‪ ...‬د�ستور‪ ،‬مل ي� ِأت يف ن�صه على‬ ‫دين الدولة‪ .‬اكتفى بتحديد دين امللك‪ ،‬املحدودة �صالحياته الد�ستورية‪ ،‬ب�سلطة الربملان املنتخب‬ ‫مبا�شرة من ال�شعب‪ .‬امنا‪� ،‬أباح الد�ستور للمحاكم ال�شرعية �إدارة الأحوال ال�شخ�صية املذهبية‪،‬‬ ‫ب�شرط �أن ت�صدر القوانني اخلا�صة بها‪ ،‬من امل�ؤمتر (جمل�س النواب العتيد)‪.‬‬ ‫تكر مواد الد�ستور (‪ 147‬مادة) من دون �إ�شارة �إىل �أي توجه ديني �أو حما�ص�صة طائفية �أو مذهبية‪،‬‬ ‫با�ستثناء املادة ال�ساد�سة التي ن�صت على ق�سم امللك‪« :‬باحرتام ال�شرائع الإلهية وبالأمانة للأمة‬ ‫ومراعاة القانون الأ�سا�سي»‪.‬‬ ‫وقد ن�ص الد�ستور على هوية «ال�سوري» (�سوريا العروبة) فهي تطلق على كل فرد من �أهل‬ ‫اململكة ال�سورية العربية‪ ...‬وال�سوريون مت�ساوون �أمام القانون يف احلقوق والواجبات‪ ،‬واحلرية‬ ‫ال�شخ�صية م�صونة‪ ،‬وال يجوز التعر�ض حلرية املعتقدات الدينية‪ ،‬وال منع احلفالت الدينية لطائفة‬ ‫من الطوائف‪ ...‬واحلريات مكفولة �إىل جانب حرية الطباعة والزامية التعليم والرتبية يف املدار�س‬ ‫الر�سمية واخل�صو�صية على �أن يكون الربنامج موحداً وعلى �أ�سا�س املبادئ الوطنية يف جميع‬ ‫املقاطعات ال�سورية‪( .‬ال �إ�شارة البتة �إىل مبادئ الدين‪� ،‬أو �إىل دين احلكومة و�أع�ضائها‪� ،‬أو �إىل‬ ‫مذاهب الهيئات احلكومية) كان ذلك الد�ستور‪ ،‬د�ستوراً ع�صرياً حديثاً وعلمانياً‪ .‬غري �أن غورو‬ ‫العلماين‪� ،‬أ�سقط هذه احلكومة و�ألغى الد�ستور وفتح الباب �أمام ان�شاء كيانات على قيا�س طوائف‬ ‫ومذاهب يف كل من �سوريا ولبنان‪ ،‬فيما تفردت بريطانيا باعطاء اليهود‪ ،‬دولة يف فل�سطني‪.‬‬ ‫لبنان الطائفي ولد‪ ،‬عندما دفنت دولة العروبة يف دم�شق‪ .‬والكيانات القطرية ولدت وت�أبدت بعد‬ ‫و�أد العروبة يف مي�سلون‪.‬‬ ‫‪ .V‬لبنان‪ ،‬دولة بال دين‬

‫علي‪ .‬الوعي بامل�ساواة �أ�شار �إ ّيل �أن من معي‪ ،‬مثلي‪ ،‬و�أنا مثله‪.‬‬ ‫كنت �أعرف من �أنا‪ .‬الكتب دلتني َّ‬ ‫نلتقي يف منعطفات احلياة‪ ،‬ون�ستمر معاً من دون كثري �شرح‪ ،‬كانت القومية �سلوكاً وطريقة حياة‪ ،‬تنطلق‬ ‫من انتماء �شبه فطري‪� .‬إىل املجاعة يف �أر�ض ما‪ .‬ويت�شعب االنتماء ويت�سع‪ ،‬بات�ساع الأر�ض والب�شر‪،‬‬ ‫وهم على ت�شابك �أو ت�شابه معك‪.‬‬ ‫كنت �أعرف �أنني �إن�سان‪ ،‬يفرت�ض ان �أعي�ش م�ساوياً ل�سواي يف رقعة تدعى وطن‪ .‬والوطن‪ ،‬يقر�أ يف‬ ‫كتاب‪ ،‬قبل �أن يعا�ش يف التجربة‪ ،‬وكان الوطن‪ ،‬قادماً من تاريخنا القدمي واحلديث‪...‬‬ ‫علي مراراً‪ ،‬ومل �أعد �أعرف من‬ ‫وكنت كلما تقدمت يف املعرفة‪� ،‬أنكر معرفتي ملن �أكون‪� ...‬أغم�ض َّ‬ ‫�أنا‪ ...‬و�إذا جتر�أت مرة وقلت �أنا لبناين‪ ،‬فال �أعرف كيف �أحدد لبنانيتي‪ .‬وي�شبهني يف العجز املدين‬


‫العروبة والدين والف�صل بينهما‬

‫العلمانية اليوم‬

‫‪59‬‬

‫كثريون‪ .‬و�إذا قلت �أنا عروبي‪ ،‬عجزت �أكرث‪ ...‬ت�شعبت الأمور كثرياً‪ .‬حملت هويات عديدة‪ ،‬بهوية‬ ‫واحدة ال معلم حمدداً ووا�ضحاً لها‪.‬‬ ‫ولي�س هذا بغريب البتة‪ .‬ف�أنا من القارة اللبنانية املرتامية الطوائف والهويات والنزعات والع�صبيات‬ ‫والثقافات والوالءات واالنهيارات والتباعدات وال�صدامات واحلروب‪ ...‬لي�س غريباً �أن �أجهل‬ ‫ما �أنا ومن �أنا‪ ،‬لأين حماط بالربع العربي اخلايل من دليل �أو �إ�شارة �إىل طريق‪ ،‬يكرث �سالكوها �إىل‬ ‫هدف‪ ،‬فال ي�ضيعون يف متاهات الديانات والطوائف والع�شائر والبطون والأفخاذ والأقوام واللغات‪،‬‬ ‫وكلها من �أرومات تاريخية ودينية ع�صبوية انتقائية‪ ،‬ذات فرادة يف عنفها الذاتي‪ .‬كلها �أرومات‬ ‫تت�سل�سل من عتمة ما�ضينا‪ ،‬ال من �أ�ضوائه‪ ،‬لتنجب واقعاً من بابل الهويات‪ ،‬املكتوبة بطعنات‬ ‫اخلناجر‪ ،‬وغدر الأفكار‪.‬‬ ‫حريتي يف هويتي ال مبالغة فيها‪ ...‬ق�صدت من ير�شدين يف لبنان �إىل لبنانيتي (على الأقل)‪.‬‬ ‫قلت ل�سماحة ال�شيخ حممد مهدي �شم�س الدين‪ ،‬وقد كان من رعاة اتفاق الطوائف يف الطائف‪:‬‬ ‫«جئتك �أ�شكوك �إليك‪ .‬ف�أنت متنع عني هويتي ولبنانيتي»‪.‬‬ ‫�أجاب بود وح�سم‪« :‬يا �إبني‪ ،‬كي تكون لبنانياً‪ ،‬معرتفاً بك‪ ،‬عليك �أن تكون �أو ًال طائفيا‪� ،‬أي منتمياً‬ ‫�إىل طائفتك‪ .‬من طائفتك تعرب �إىل الوطن‪ ...‬و�أنا‪ ،‬الذي ال طائفة يل‪� ،‬أ�شعر ب�أنني دا�شر ومن الطفّار‪.‬‬ ‫�أنتقي مواقع لبنانية و�أنتمي �إليها من خالل ق�ضايا عروبتي‪ .‬ال �أطالب بهوية‪ .‬هويتي‪ ،‬قيد �صناعتي‪..‬‬ ‫النجاح غري م�ضمون‪� .‬أ�ستمد هويتي من املواقع التي �ألتزم بها‪� ،‬أو ت�ستدعيني ف�أ�ستجيب‪.‬‬ ‫فما لبنان هذا؟‬ ‫لبنان‪ ،‬دولة ال دينية‪ .‬ال دين للدولة وال لرئي�سها‪ .‬غري �أنها متعددة الآلهة‪ ،‬وهذه‪ ،‬ال وطناً واحداً‬ ‫جت�سدت يف طوائف ومذاهب‪ ،‬وهي‪ ،‬بحكم م�صاحلها وع�صبياتها‪ ،‬عابرة للحدود‬ ‫يكفيها‪� ،‬آلهة ّ‬ ‫وللد�ستور وللجغرافيا‪.‬‬ ‫ال�س ّنة عا�صمتهم �إما دم�شق‪� ،‬أو القاهرة‪� ،‬أو الريا�ض‪.‬‬ ‫امل�سيحيون‪ ،‬عا�صمتهم يف مكان ما خلف البحار‪.‬‬ ‫ال�شيعة‪ ،‬وجدوا عا�صمتهم خارج اجلغرافيا العربية‪.‬‬ ‫دولة ال دينية‪ ،‬تدين بالتع�صب والعن�صرية‪ ...‬وعليه‪ ،‬فالطوائف ال ق�ضايا لها‪ .‬تبدل ق�ضاياها مراراً‪.‬‬ ‫فمن كان مع فل�سطني قد ي�صبح �ضدها‪ ،‬ومن تخلى عنها ذات زمن طائفي‪ ،‬يتوىل يف زمن �آخر قيادة‬ ‫املقاومة واال�ست�شهاد من �أجلها‪.‬‬ ‫ال ق�ضية تعلو فوق ق�ضية الطائفية‪.‬‬ ‫دولة علمانية يف ن�صها الد�ستوري‪ ،‬لوال املادة ‪ ،95‬التي فتحت املجال‪ ،‬الخرتاق طائفي كا�سح‪� ،‬أطاح‬ ‫عدد رقم ‪� | 1‬أيـار‬

‫‪2013‬‬


‫‪60‬‬

‫العلمانية اليوم‬

‫بالد�ستور‪ ،‬و�أقام �شرعة الغاب الطائفية مكانه‪ ،‬لي�صار بعد كل «جولة مفرت�سة»‪� ،‬إىل اتفاق‪ ،‬يئد �شيئا‬ ‫مقيتاً‪ ،‬وال يلد �شيئاً جميال‪.‬‬ ‫ولأن لبنان متعدد الهويات‪ ،‬وهويته العلمانية ن�ص على ورق‪ ،‬فقد انق�سم اللبنانيون �سيا�سياً �إبان‬ ‫العدوان الثالثي على م�صر ب�شحنات طائفية ‪ ،‬ثم انق�سموا طائفياً �إزاء الوحدة بني �سوريا وم�صر‪ ،‬ثم‬ ‫انق�سموا �إزاء نتائج هزمية حزيران‪ ،‬ثم تناحروا مع و�ضد الكفاح الفل�سطيني امل�سلح‪ ،‬وتذابحوا حتى‬ ‫اتفاق الطائف‪ ...‬ومنذ ذلك االتفاق‪ ،‬واللبنانيون‪ ،‬يف كل وا ٍد �سيا�سي‪ ،‬يهيمون‪.‬‬ ‫طوائف �صغرية جداً‪ ،‬ترتكب الكبائر الكبرية جداً‪.‬‬ ‫هذا يف لبنان‪.‬‬ ‫امل�شهد العراقي‪ ،‬كان بالأم�س لبنانياً‪ ،‬ال�سودان منوذجاً‪ ،‬اليمن كذلك ويخلق من ال�شبه �أربعني‪� ،‬أو �أقل‬ ‫قليال‪ ،‬بعدد الكيانات العربية املتعاي�شة على زغل‪ ،‬يف ظل الب�ؤ�س القومي‪ ،‬والفقر الدميوقراطي‪ ،‬و�أدقاع‬ ‫العلمانية املزمن‪.‬‬ ‫‪ .VI‬علمانية العروبة‬

‫العروبة‪ ،‬عقيدة توحيد‪ ،‬باملعرفة والوعي والعمل‪ .‬هي‪ ،‬يف النظرية على الأقل‪ ،‬واجبة العالقة بكافة‬ ‫اجلماعات‪ ،‬برغم تبايناتها‪ ،‬امل�ضافة �إىل مبد�أ الهوية‪ .‬ومهما كانت ت�أوالت والدتها ومفاهيمها وعالئقها‪،‬‬ ‫ال ميكن النظر �إليها‪� ،‬إال ك�أداة توحيد‪� ،‬أو على الأقل‪ ،‬ك�إطار وحدوي‪ ،‬متار�س يف اجلغرافيا (�أر�ض الأمة‬ ‫والوطن) وحتت�ضن �شعباً بكامله‪ ،‬بتفرعاته املتعددة‪ ،‬فال تنفي (�أي العروبة) جماعة عرقية (لأ�صولها‬ ‫االثنية‪ ،‬احلقيقية �أو املزعومة) �أو جماعة دينية‪�( ،‬أكانت من طوائف متعددة �أو مذاهب خمتلفة)‪.‬‬ ‫العروبة‪ ،‬ق�سراً‪ ،‬هي �إطار توحيدي لكافة العنا�صر املكونة لالجتماع (�أو االجتماعات) الب�شرية‬ ‫يف �أر�ض معينة تفاعلت معها‪ ،‬يف ما بينها‪ ،‬ب�أ�شكال متفاوتة‪ ،‬بع�ضها �شديد الرثاء وبع�ضها �شديد‬ ‫اخل�صب‪ ،‬وبع�ضها �إذا ا�ستعيد يف الذاكرة‪ ،‬فلكي ال ي�ستعاد‪.‬‬ ‫يف هذا املنحى التف�سريي للعروبة الواقعية‪ ،‬من املفرت�ض �إلزاماً‪ ،‬العمل على الوحدة‪ ،‬بو�سائل‬ ‫معرفية ون�ضالية ور�سولية‪ ،‬لإزالة احلواجز اجلغرافية واحلدود اال�صطناعية والتق�سيمات املوروثة‪،‬‬ ‫كما من املفرت�ض �إلزاماً �أي�ضا‪� ،‬أن تزيل الفوا�صل بني اجلماعات وتوحد يف التعامل معها‪ ،‬على‬ ‫قاعدة امل�ساواة‪ ،‬و�إف�ساح املجال الرحب ل�ضخ خ�صو�صية اجلماعات‪ ،‬يف عمومية العروبة‪.‬‬ ‫فالعروبة‪� ،‬إن كانت نفياً لق�سم من «�أبناء بالدها»‪ ،‬ف�إنها تخون املبد�أ الأ�سمى يف الرابطة القومية‪ ،‬وهو‬ ‫الوحدة‪ .‬وعليه‪ ،‬وت�أ�سي�ساً على هذا املنطق الوحدوي‪ ،‬تكون العلمانية (دائرة التوحيد الفعلية)‪ ،‬مبا‬ ‫هي ف�صل املجال الديني عن املجال ال�سيا�سي‪� ،‬أو ف�صل الدين (مب�ؤ�س�ساته �أو عقائده) عن الدولة‪،‬‬


‫العروبة والدين والف�صل بينهما‬

‫العلمانية اليوم‬

‫‪61‬‬

‫(مب�ؤ�س�ساتها و�سيا�ساتها وقوانينها و�آليات العمل الت�شريعية‪ ،‬امل�ستندة �إىل الدميوقراطية‪.‬‬ ‫العلمانية‪ ،‬حاجة عربية �أكرث مما هي مبد�أ‪ .‬وهي حاجة لغري الأقليات امل�سيحية املنت�شرة يف �أ�صقاع‬ ‫الأمة‪ .‬ولقد حتولت‪ ،‬بعد ا�ستعادة النزاعات ال�سنية ال�شيعية التاريخية واحاللها املكانة العنفية‬ ‫داخل الفعل ال�سيا�سي‪ ،‬حاجة لكل من ال�سنة وال�شيعة‪ ...‬حرب الألف وخم�سماية عام‪ ،‬ت�ضع‬ ‫حداً لف�صولها الدامية �أو ال�ساخنة‪ ،‬عندما جتد العلمانية طريقها �إىل جعل امل�ساواة مطلقة‪ ،‬واالنتماء‬ ‫�أكرث واقعية‪ ،‬و�أجدى فعليا‪ ...‬الوريث للعروبة الالعلمانية‪ ،‬الإ�سالم ال�سيا�سي بتفريعاته املتباينة‪،‬‬ ‫تكفرياً وزندقة وت�سعرياً وحذفاً والغا ًء‪.‬‬ ‫تتمة العروبة‪ ،‬علمانيتها وتتمة علمانيتها دميوقراطيتها‪ .‬ال وحدة من دون علمانية‪ ،‬حت ّيد الدين‬ ‫عن ال�سيا�سة والدولة‪ ،‬وترفعه �إىل مكانته العقدية وتفتح له املجال‪ ،‬ليتنف�س امل�ؤمنون �إميانهم بنقاء‬ ‫يقربهم من �سماواتهم ورجاءاتهم الأخروية‪ ...‬فمن دون �إلغاء احلواجز الفا�صلة‪ ،‬اجتماعيا و�سيا�سيا‬ ‫وتربويا و�إداريا‪ ،‬بني اجلماعات الدينية املختلفة‪ ،‬ال وحدة �أبداً‪...‬‬ ‫�إذاً‪ ،‬العروبة‪ ،‬ال دين لها‪ .‬ن�ستطيع تنقيتها مما علق بها من موروث ديني‪ ،‬كان مقب ً‬ ‫وال‪ ،‬بحكم انتماء‬ ‫جماعات كبرية من امل�سلمني ال�سنة لها‪ ،‬قيادة وجماهري‪ .‬ومراجعة كتاب فيليب خوري‪« ،‬االنتداب‬ ‫الفرن�سي على �سورية» تظهر انتماءات القيادات املحلية والقومية يف �أكرثيتها �إىل الإ�سالم‪ ،‬بوجهه‬ ‫ال�سني‪ ...‬كان ذلك طبيعياً‪� ،‬إمنا‪ ،‬لي�س مقبوال‪ ،‬ا�ستبقاء تلك احلالة التي ن�ش�أت يف ظروف ع�سكرية‬ ‫و�سيا�سية‪ ،‬وك�أنها من متممات العروبة‪ ،‬خا�صة‪ ،‬و�أن العروبة حتولت بعد ذلك �إىل حركة عقدية‬ ‫ثقافية ح�ضارية‪ ،‬تطمح �إىل مل �شمل اجلماعات الب�شرية‪ ،‬املنغرزة تاريخيا وثقافيا واجتماعيا‬ ‫وح�ضاريا‪ ،‬يف تراث هذه الأمة البعيد والو�سيط والقريب‪.‬‬ ‫العروبة‪� ،‬إذا ت�سننت لفرتة‪ ،‬وبحكم التمو�ضع ال�سيا�سي وال�شعبي‪ ،‬مل يعد جائزاً‪ ،‬ا�ستبقا�ؤها يف �أ�سر‬ ‫هذه الو�ضعية‪ ،‬بعد متظهر العروبة‪ ،‬كحركة قومية وحدوية‪.‬‬ ‫�إذا تدينت العروبة‪ ،‬اقرتفت التكفري ال�سيا�سي‪� .‬أ�صول العروبة لي�ست دينية فقط‪ ،‬كما �أنها لي�ست‬ ‫من �صلب دين واحد ومذهب واحد ولغة واحدة‪ ...‬تدين العروبة‪ ،‬يبعد عنها من ال يدين بدينها‬ ‫وهذا �أمر طبيعي جداً‪ .‬ال عالقة للأجنبي يف ت�أ�سي�سه‪� ،‬إمنا‪ ،‬هو منا�سبة وفر�صة تتيح للأجنبي‬ ‫العزف على وتر التمييز واال�ستعالء واال�ضطهاد و«حقوق الإن�سان»‪.‬‬ ‫العروبة املتدينة بدين ما‪ ،‬حتيل من لي�س من دينها �إىل �أقلية‪ ،‬وت�ضع النا�س يف �سل�سلة من الرتب‪،‬‬ ‫تبد�أ من الدرجة الثانية لت�صل �إىل ما دون ذلك بكثري‪.‬‬ ‫تفقد العروبة �صيغتها الوحدوية‪� ،‬إذا مل تكن علمانية‪� ،‬إمنا‪ ،‬ال علمانية بالقوة‪ ...‬دين العلمانية هو‬ ‫الدميوقراطية امل�ؤ�س�سة على مبد�أ امل�ساواة يف احلقوق والواجبات والت�ساوي �أمام القوانني‪ ،‬التي ال‬ ‫متيز بني �أ�صحاب مذهب �أو عرق �أو دين‪.‬‬ ‫عدد رقم ‪� | 1‬أيـار‬

‫‪2013‬‬


‫‪62‬‬

‫العلمانية اليوم‬

‫هكذا كانت العروبة يف بع�ض ف�صولها التاريخية املعا�صرة‪ .‬وينبغي �أن تتقدم العروبة‪� ،‬إذا ا�ستعادت‬ ‫عافيتها‪ ،‬لتكري�س هذا املبد�أ‪ ،‬بجر�أة وجدارة‪ ،‬من دون ممالأة ظرفية‪ ،‬تقت�ضيها مرحلة نهو�ض الإ�سالم‬ ‫ال�سيا�سي والن�ضايل‪.‬‬ ‫�إن احرتام عقائد الإ�سالم ال�سيا�سي يف �صحوته اجلديدة‪ ،‬ال ي�ستدعي البتة‪ ،‬التفريط «بعقائد‬ ‫العروبة» وحتديداً التفريط بالعلمانية‪ ،‬لك�سب ر�ضى جماهري «ال�صحوة الدينية»‪ .‬ما تقت�ضيه‬ ‫ال�سيا�سة من تنازالت‪ ،‬يفرت�ض تقدميها من احلقل ال�سيا�سي‪ ،‬ولي�س من احلقل املبدئي‪.‬‬ ‫علمانية العروبة‪� ،‬إذا ُم ّ�ست‪ ،‬فقدت العروبة قدرتها ومنعتها‪ ،‬و�صارت ف�صيال ه�شاً من ف�صائل‬ ‫«ال�صحوة الإ�سالمية»‪.‬‬ ‫كما تعلي «ال�صحوة الإ�سالمية» �ش�أن معتقدها‪ ،‬على العروبة �أن تعلي �ش�أن معتقدها العلماين‪ .‬من‬ ‫دون ذلك‪ ،‬ت�صبح من جماعة «البدون»‪� ،‬أي ال هوية لها‪.‬‬ ‫‪ .VII‬جدل ٍ‬ ‫جمد عن جن�س املالئكة‬

‫ندخل يف الأ�سا�س‪ ،‬و�أول الأ�سئلة‪« :‬هل الإ�سالم دين الأكرثية يف البالد العربية‪ ،‬يجيز العلمانية»؟‬ ‫اجلواب النظري‪« :‬يجيز �إن �شئنا ذلك‪ ،‬وال يجيز �إن �شاء غرينا عك�س ذلك»‪.‬‬ ‫الأكرثية‪ ،‬ن�ش�أت وروجت ملقولة‪ ،‬ال ن�ص عليها‪ ،‬تقول‪« :‬الإ�سالم دين ودولة»‪ .‬و�أقلية من املفكرين‬ ‫امل�سلمني اجلادين‪ ،‬عملت على تظهري مقولة معاك�سة مفادها‪« :‬الإ�سالم دين بال دولة»‪ ،‬والدولة‬ ‫كانت عر�ضا‪ ،‬فر�ضته الظروف املحيطة بن�ش�أة الإ�سالم وتطوره‪� ..‬إ�ضافة �إىل خلو الن�ص القر�آين من‬ ‫�أي �إ�شارة �إىل املقولة الأوىل‪.‬‬ ‫فبالإمكان‪ ،‬التعامل‪ ،‬على امل�ستوى النظري‪ ،‬مبقولتني متناق�ضتني‪ ،‬وكل مقولة‪ ،‬لها �شرعيتها‬ ‫الفكرية و�أ�صولها االجتهادية‪ .‬فهناك من اجتهد و�أقر بدين الدولة‪ ،‬وهناك من فكر و�أقر عك�س‬ ‫ذلك‪ .‬ومن املفرت�ض �أن ي�ستمر النقا�ش واجلدل والفكر والنقد يف هذا امليدان‪� ،‬إىل زمن غري قريب‬ ‫وهذا لي�س من العيوب‪.‬‬ ‫غري �أن اجلدل‪ ،‬مل يح�سمه الفكر واالجتهاد‪ ،‬ومل مينعه �إقرار املفكرين ب�صواب مقولة «الإ�سالم‬ ‫دين ودولة»‪ .‬بل لقد ح�سم‪ ،‬عرب عمليات �ضغط وت�شهري وت�سفيه و�إجراء احلد‪.‬‬ ‫ك�أن ال انت�صار لأي فكرة على فكرة‪� ،‬أو مبقولة على مقولة‪ ،‬يف دنيا العرب‪� ،‬إال بقوة امل�ؤ�س�سة الدينية‪،‬‬ ‫التي تفتي بالتكفري واخلروج‪ ،‬فت�ؤلب العامة على ما لي�س من خا�صتها‪ ،‬لتقف �إىل جانبها‪ ،‬ا�ستعداداً‬ ‫ملنع الفتنة ب�إ�سكات الفكر‪.‬‬


‫العروبة والدين والف�صل بينهما‬

‫العلمانية اليوم‬

‫‪63‬‬

‫�سي�ستمر النقا�ش بطيئاً ال جر�أة على التحدي‪ ،‬ب�سبب تطاول امل�ؤ�س�سة الدينية املدعومة بالقب�ضة‬ ‫الأمنية الر�سمية املتواطئة‪� ...‬سي�ؤكد الإ�سالميون‪ ،‬ومن تفقه منهم‪ ،‬ب�أن العلمانية تنطبق على‬ ‫امل�سيحية‪ ،‬وال يجوز تطبيقها على الإ�سالم‪ ،‬حمتجني على ذلك‪ ،‬بدعاوى متهافتة‪ ،‬منها‪ ،‬عدم‬ ‫وجود �إكلريو�س �أو كهنوت يف الإ�سالم‪ ،‬يتحكم يف �ش�ؤون النا�س‪ .‬امل�ؤ�س�سة الدينية يف �أي دين‪،‬‬ ‫�أعتى من الكهنوت‪ .‬الكهنوت ميكنه �أن ي�ستمر من دون دولة‪ .‬وبعد زوال الدول الدينية يف‬ ‫الغرب‪ ،‬ا�ستمر الكهنوت‪.‬‬ ‫�سي�ستمر النقا�ش‪ ،‬مع غلبة التيار الذي يقوم با�ستدعاء الن�صو�ص الدينية‪ ،‬ملمار�سة القمع‬ ‫با�ستخدامات ملتوية‪ ،‬ولت�أكيد احلاكمية يف الإ�سالم‪ ،‬وفقدان هذه احلاكمية يف امل�سيحية‪ ،‬التي‬ ‫«�أعطت ما لقي�صر لقي�صر وما هلل هلل»‪.‬‬ ‫و�سي�ؤكد الإ�سالميون موقفهم املناه�ض للعلمانية‪ ،‬بتف�سري ن�صو�ص دينية‪ ،‬هي من �صنع نخب‬ ‫مف�سرة‪� ،‬أو جمتهدة‪ ،‬ال من �صنع �إله‪ .‬فالن�ص ال يف�سر ذاته‪ .‬هو بحاجة �إىل ب�شر يف�سرونه‪« .‬فالقر�آن‬ ‫ّ‬ ‫خط م�سطور بني دفتني ال ينطق‪� .‬إمنا ينطقه الرجال»‪ ،‬وفق قول الإمام علي بن �أبي طالب‪ .‬ويف هذا‬ ‫ال�سياق �سنجد �أنف�سنا �أمام «طبقات» من علماء الدين والنخب الفقهية‪ ،‬اتخذت لنف�سها �صفة‬ ‫املرجعية‪ ،‬التي يعود �إليها وحدها‪ ،‬البت باحلالل واحلرام‪ ،‬واخلري وال�شر‪ ،‬واجلائر واملمتنع‪ ،‬واملمنوع‬ ‫وامل�سموح‪ ،‬واجلائز وغري اجلائز‪� ،‬سيا�سياً وخلقياً واجتماعيا وتربويا‪ ...‬وتقنياً‪.‬‬ ‫هذا «الكهنوت» الإ�سالمي‪� ،‬شبيه «بالكهنوت» امل�سيحي‪ ،‬لأنه ي�شكل املرجعية املع�صومة‪ ،‬علماً‪،‬‬ ‫�إن الكهنوت لي�س عاماً يف الكنائ�س كلها‪( ،‬كالربوت�ستانتية مث ًال) وال هو من�صو�ص عليه �إجنيلياً‪.‬‬ ‫الكهنوت‪ ،‬هو م�ؤ�س�سة الدين‪ ،‬ويف كل دين م�ؤ�س�سات‪ .‬ولكل كهنوت اجتهاد خا�ص‪ .‬لقد‬ ‫اعت�صمت الكني�سة بالع�صمة‪ ،‬من خالل اجتهاد منها ولها‪ .‬اتخذت �صفة املرجعية املطلقة‪ ،‬ف�أفتت‬ ‫يف �أحايني �سيطرتها مبا يجوز وال يجوز‪ ،‬فحللت املح ّرم‪ ،‬وح ّرمت املحلل‪ ...‬هي كني�سة من ب�شر‬ ‫جداً‪ ،‬ون�صو�ص قابلة ب�أن تكون حتت �سلطة الرجال‪� ،‬إذ ال ت�ستطيع �أن تخدم نف�سها بنف�سها‪.‬‬ ‫�إن وجود كهنوت م�سيحي‪ ،‬مرادف «لوجود طبقة يف الإ�سالم تدعي لنف�سها احلق املطلق يف‬ ‫التحليل والتحرمي‪ ،‬انطالقا من �أن لها وحدها حق معرفة ما يريده اهلل منا يف هذه الدنيا ويف‬ ‫الآخرة»‪ .‬وغالباً ما تتبو�أ هذه الطبقة مرتبة القدا�سة‪ ،‬املوازية للن�ص املقد�س يف الكتاب‪.‬‬ ‫لقد امتد نفوذ هذه الطبقة �إىل ر�سم الأطر ال�سيا�سية لل�سلطة وكيفية ممار�سة احلكم‪ ،‬وو�ضعت �شروطاً‬ ‫�صارمة لتنفيذ القوانني وال�شريعة واحلدود التي «ن�ص عليها الكتاب»‪.‬‬ ‫من هذا «الكهنوت» الإ�سالمي‪ ،‬ت�صدر الت�شريعات‪ ،‬ومن يخالفها يقع يف املحظور‪ ،‬ونبذه واجب‪...‬‬ ‫هذا يف احلدود الدنيا‪ .‬ويف ظروف م�ؤاتية‪ .‬يتحول النبذ �إىل تكفري يعقبه عقاب �صارم‪.‬‬ ‫كل تدخل بني النا�س واهلل‪ ،‬كهنوت ما‪ ،‬كل وا�سطة بني م�ؤمن وربه‪ ،‬هي �إكلريو�س‪� ،‬أي طبقة نافذة‪،‬‬ ‫عدد رقم ‪� | 1‬أيـار‬

‫‪2013‬‬


‫‪64‬‬

‫العلمانية اليوم‬

‫حتتكر معرفة ما يريده اهلل‪ .‬وهذا �أ�شد وط�أة من كني�سة رومانية‪ ،‬ادعت الع�صمة عن اخلط�أ‪ ،‬باالعتماد‬ ‫على تدخل الروح القد�س‪ ،‬يف �صياغة قرارات الكني�سة الرومانية‪.‬‬ ‫ويف ا�ستنتاج بديهي ن�صل �إىل �أن العلمانية لي�ست م�س�ألة خا�صة «باملجتمعات امل�سيحية»‪ ،‬بل هي‬ ‫اخت�صا�ص بكل دين‪ ،‬تنزع م�ؤ�س�ساته ونخبه �إىل التدخل املبا�شر بحياة النا�س‪ ،‬وفر�ض تف�سرياتها‬ ‫املعتقدية على اتباعها‪ ،‬بحجة ورود ن�ص مثبت‪� ،‬أو عن تف�سري ن�ص‪ ،‬وفق �أهواء متباينة ‪.‬‬ ‫�إن احتكار الفهم الديني وادعاء الع�صمة وال�صواب‪� ،‬أ ّديا اىل ن�شوء �أنظمة مت�سلطة‪ ،‬ترفع العقوبة‬ ‫لواء‪ ،‬واملمنوع بريقا‪ ،‬واحلرام عقيدة الن�ص ال�صامت بني دفتي كتاب‪ ،‬م�شاع ملراتب من العقول‪.‬‬ ‫فمنهم من يفهمه على ظاهره‪ ،‬ومنهم على باطنه‪� ،‬أو بني بني‪ .‬والفهم مذاهب �شتى‪ ،‬ولي�س من‬ ‫حق احد االدعاء ب�أنه من الفرقة الناجية‪.‬‬ ‫الن�ص الديني م�شاع ملن ال عقل له‪ ،‬كما هو اخت�صا�ص ملن كان يف رتبة الفال�سفة والفقهاء‪ ،‬وملن‬ ‫تي�سر له من �أدوات معرفية‪ .‬فللعامة دينها‪ ،‬وللخا�صة دينها‪،‬‬ ‫وجد �إىل فهمه �سبيال‪ ،‬اعتماداً على ما ّ‬ ‫وللفقهاء دينهم‪ ،‬وللفال�سفة دينهم‪ ،‬حتى ولو كانوا يقر�ؤون يف كتاب واحد‪.‬‬ ‫وعليه‪ ،‬ف�إن ما و�صل �إليه ال�شيخ علي عبد الرازق بخ�صو�ص «�أ�صول احلكم» من نتائج‪ ،‬يحوز على‬ ‫�شرعية توازي وقد ت�ضاهي وتتفوق على �شرعية خمالفيه‪ ،‬ولو كانوا �أكرثية متكاثرة‪ ،‬يف ظروف التزمت‬ ‫الديني واخلوف من احلرية‪.‬‬ ‫لقد ا�سكت عبد الرازق بالقوة والقمع والعقاب والتهديد‪ ،‬مل يتم �إ�سكاته باحلجة �أبداً ‪ ،...‬ال�سلطة‬ ‫الدينية مل حتاوره‪ .‬هي ت�أمر وعلى امل�ؤمنني طاعتها‪ .‬ومن مل يلتزم‪ ،‬خارج ومارق وحمكوم عليه‬ ‫باخلروج من اجلماعة‪ ،‬ق�سراً‪.‬‬ ‫�أخت�صر‪:‬‬ ‫‪ )1‬الإ�سالم دين ودولة‪� ،‬إن �شئت‪ .‬ولك ملء احلق يف هذا االعتقاد‪.‬‬ ‫والإ�سالم لي�س ديناً ودولة‪� ،‬إن �شئت‪ ،‬ولك ملء احلق يف هذا االعتقاد‪ ،‬واعتبار الإ�سالم علمانيا‪،‬‬ ‫ن�صاً وممار�سة‪ .‬وكاتب هذه الن�صو�ص‪ ،‬على هذا االعتقاد يف الإ�سالم‪.‬‬ ‫‪ )2‬يف امل�سيحية كهنوت والإكلريو�س‪ ،‬لي�س من �صنع اهلل‪ ،‬بل من �صنع الب�شر‪.‬‬ ‫وحا�صل امل�س�ألتني‪� ،‬أن امل�ؤ�س�سات يف الدينني‪ ،‬مار�ست �أ�سلوباً يف ال�سيا�سة‪ ،‬ال ي�شذ يف جوهره‪ ،‬عن‬ ‫التطابق‪ .‬ف�إذا تغريت الأ�سماء‪ ،‬ف�إن ذلك ال يعني �أن الأفعال واملمار�سات قد اختلفت‪ .‬فتدخل الدين‬ ‫يف امل�سيحية‪ ،‬قبل بلوغ ع�صر العلمانية‪� ،‬شبيه بتدخل الإ�سالم بالدولة‪ ...‬االختالف هو يف �آليات‬ ‫التدخل و�أ�شكاله و�أحجامه‪ ...‬ويف النتيجة‪ ،‬كانت العاقبة وخيمة على امل�سيحيني وامل�سلمني‪.‬‬ ‫ومع ذلك‪ ،‬لن ينتهي النقا�ش‪ ...‬بل‪ ،‬فلي�ستمر‪� ،‬إمنا من دون تكفري �أو قمع او تهويل �أو حماكم تفتي�ش‪.‬‬


‫العروبة والدين والف�صل بينهما‬

‫العلمانية اليوم‬

‫‪65‬‬

‫‪ .VIII‬العلمانية تنت�رص بقوتها ال بحجتها‬

‫نتيجة لل�صراع بني �سلطة الكني�سة من جهة والبورجوازيات الأوروبية ال�صاعدة من جهة �أخرى‪،‬‬ ‫�سيقت الكني�سة عنوة �إىل قبول العلمانية‪ .‬ا�ستعملت الكني�سة‪ ،‬و�سائل القمع والتنكيل واحلرب‪،‬‬ ‫حلرا�سة «حقها االلهي» ولكنها‪� ،‬أُكرهت على التخلي عن وظيفتها التي ابتدعتها لنف�سها‪ ،‬مبربرات‬ ‫دينية جاهزة غب الطلب واحلاجة‪ ،‬من خالل ن�صو�ص �إجنيلية �أو من دون ن�صو�ص‪ .‬لقد �ألزمت‬ ‫الكني�سة بتبني اخل�سارة‪ ،‬فتخلت عن جربوت �سيا�ساتها و�سلطة قوانينها وت�شريعاتها‪ ،‬وانتزعت منها‬ ‫الدولة التي كانت مطية لها‪ ،‬بالقوة ولي�س بالإقناع‪.‬‬ ‫لقد �أق�صيت الكني�سة من خالل �إلزامها بقبول التعدد الديني‪ .‬ا�ستبدل احلق االلهي املزعوم‬ ‫باحلق ال�شعبي‪ .‬فالن�صو�ص ال�سيا�سية والد�ستورية والت�شريعية والقانونية تكتبها نخب منتخبة يف‬ ‫�صناديق االقرتاع‪ .‬فال�شعب م�صدر الت�شريع‪ ،‬ال �سواه‪ .‬وله احلق يف �أن يقبل من التف�سريات‬ ‫الدينية ما ينا�سبه‪ ،‬ويرف�ض ما يجده عابراً ومنتهي ال�صالحية‪.‬‬ ‫لقد انت�صر ال�سيا�سي على الديني‪ ،‬بالفكر واملوقف‪ .‬مل ت�شهر القوى ال�صاعدة‪ ،‬فل�سفة دينية مناوئة‬ ‫لفل�سفة دينية‪ .‬لقد انت�صرت يف معركة �شديدة التما�س مع القوى االجتماعية ال�صاعدة‪ ،‬بفكرها‬ ‫امل�شتق من حاجاتها وتطلعاتها‪ ،‬وما كانت تطمح �إليه من حريات‪.‬‬ ‫مل تكن هزمية الكني�سة‪ ،‬فريدة من نوعها يف التاريخ‪ .‬فقد �سبق �أن انت�صرت امل�سيحية عرب انتزاعها �صفة‬ ‫الديانة الر�سمية لالمرباطورية البيزنطية بوا�سطة ال�سلطة‪ ... ،‬عممت ال�سلطة قرار اعتناق امل�سيحية‪،‬‬ ‫ف�صارت جزءاً من ال�سلطة ومن �سيا�ساتها وتقاليدها‪ ،‬حتى يف اللبا�س الفخم‪ ،‬املذهب وامللوكي‪.‬‬ ‫دخل امل�سيحيون ال�سلطة‪ ،‬معذبني و�شهداء ومنبوذين‪ ،‬وملا مار�سوها‪ ،‬ا�ستغلوا قوتها اىل �أبعد‬ ‫احلدود‪ ،‬فحولوا �أتباع الديانات االخرى �إىل �شهداء ومنبوذين ومعذبني‪.‬‬ ‫نبذوا كل من لي�س م�سيحياً‪ ،‬وظلت بيزنطية حتت �أمرتهم �ألف عام‪ .‬وات�سع نطاق نفوذ بيزنطية مع تبوء‬ ‫الكني�سة �صدارة ال�سيا�سة‪ ،‬حروباً وفتاوى وم�صالح‪ ...‬ومل تعد �إىل ر�شدها الواقعي‪� ،‬إال بعد �ضربات‬ ‫موجعة تلقتها على مدى عقود‪.‬‬ ‫الكني�سة يف �أوروبا‪ ،‬كانت على م�ستوى هزميتها‪ .‬عندما كانت تتعر�ض خل�سارة‪ ،‬كانت ته�ضم‬ ‫خ�سارتها‪ ،‬وتقرتب من انت�صارات �أخ�صامها‪� .‬أي‪ ،‬كانت تتخلى عن كثري من ما�ضيها‪ ،‬وتعيد ت�أهيل‬ ‫نف�سها بتبني ما ينا�سب واقعها‪ ،‬و�صارت حت�ضر بحلة دينية جديدة‪ ،‬تتفق مع طبيعة املجتمعات‬ ‫وجع ثم تتعافى بقوة‪ ،‬وباتت ج�سماً طبيعيا‪ ،‬يف جمتمع ت�أهل لأن‬ ‫املتجددة‪ ...‬كانت ُت�ضرب وت َت ّ‬ ‫ي�أخذ كل فريق �أو حزب �أو دين �أو جماعة مكانه الطبيعي‪ ،‬فال يكون ن�شازاً‪ ،‬وال يكون منبوذاً‪.‬‬ ‫وهكذا‪ ،‬كان الدين يتعافى عندما يتعافى املجتمع‪ .‬و�أول عالمات العافية‪� ،‬إقامة الدين خارج ال�سيا�سة‬ ‫وخارج الدولة‪.‬‬ ‫عدد رقم ‪� | 1‬أيـار‬

‫‪2013‬‬


‫‪66‬‬

‫العلمانية اليوم‬

‫�أما الإ�سالم‪ ،‬كما ي�شري كل من الدكتور جورج قرم والدكتور حممد �أركون والروائي والكاتب‬ ‫�أمني معلوف‪ ،‬فقد بد�أ م�سرية خمتلفة عن م�سار امل�سيحية ال�سيا�سي‪ .‬بد�أ الإ�سالم م�ؤمنا وممار�ساً‬ ‫للتعدد الديني‪ .‬كان م�ؤمنا بال�شورى وامل�ساواة والعدالة و«ال فرق بني عربي و�أعجمي �إال»‪ .‬لقد‬ ‫ظهر يف مبادئه �أنه كوزموبوليتي وعاملي‪ ،‬ت�صلح مبادئه ال�سامية لكل زمان ومكان‪ ،‬لأنها مبادئ احلق‬ ‫الطبيعي‪ ،‬وما تلزمه الفطرة‪.‬‬ ‫الغريب‪ ،‬وتف�سريه ممكن‪� ،‬أن هذا الإ�سالم‪ ،‬الذي ن�ش�أ على انفتاح وتعاي�ش‪ ،‬وعلى بروتوكول ت�سامح‬ ‫فذ‪ ،‬انتهى �إىل حاالت من التمذهب والتكفري والتع�صب والنبذ والإق�صاء‪ .‬و�إىل �إ�صرار ال �سابقة‬ ‫له‪ ،‬يف جعل امل�ستقبل‪� ،‬صورة للما�ضي‪ ،‬وهذا من امل�ستحيالت‪ ،‬و�أقرب �إىل تخريف املنجمني‪.‬‬ ‫�إن ديننا اليوم‪� ،‬أياً كان الدين الذي نعتقده‪ ،‬ال ي�شبه دين �أجدادنا و�آبائنا‪ ،‬ولن ي�شبه دين �أحفادنا‬ ‫وورثتنا يف هذه الدنيا‪...‬‬ ‫املا�ضي م�ضى بهم‪ ،‬واحلا�ضر لي�س هذا املا�ضي‪ ،‬وامل�ستقبل لن يكون هذا وال ذاك‪ .‬على �أن بلوغ‬ ‫هذه القناعة‪ ،‬يحتاج �إىل �أبعد من عملية تفكري‪ .‬حتتاج �إىل عملية تغيري‪ ،‬حتدث �صدمة كبرية‪ ،‬لنقل‬ ‫الوعي الراب�ض على االطالل‪ ،‬واالنق�ضا�ض على التقليد وعمليات الن�سخ والت�شويه‪ ،‬لبلوغ �أ�صالة‬ ‫الإبداع والتجديد‪ ،‬من دون اللجوء �إىل ن�سخ ال�صور العلمانية ملجتمعات غربية‪ ،‬لها خ�صو�صياتها‬ ‫وحاجاتها وثقافاتها املتباينة‪.‬‬ ‫‪� .IX‬أتاتورك‪ :‬فلتذهب اخلالفة �إىل‪ ...‬فذهبت‬

‫هل ميكن عقد مقارنة ما‪ ،‬بني عملية طرد الكني�سة من الدولة‪ ،‬وعملية طرد اخلالفة عن ال�سلطة‪،‬‬ ‫وجعل الدين م�س�ألة �شخ�صية‪ ،‬بني الإن�سان وربه؟ جائزة وجوه ال�شبه‪ .‬على �أن النموذج الرتكي‪،‬‬ ‫يختلف عن النماذج الأوروبية‪ ،‬املتعددة‪ ،‬ب�أنه مار�س العلمانية كدين �سيا�سي‪ ،‬يق�صي الدين‬ ‫الإ�سالمي‪.‬‬ ‫لكن �أحد وجوه ال�شبه التي افرت�ض �أننا بحاجة �إىل درا�ستها‪� ،‬أن �إقدام كمال �أتاتورك على علمنة‬ ‫تركيا‪ ،‬جاء من موقع القوة التي ا�ستجمعها‪ ،‬من خالل م�سرية �سيا�سية فذة‪ .‬فقد ا�ستطاع �أتاتورك‪،‬‬ ‫ان يعيد توحيد منطقة الأنا�ضول بعد جتزئتها‪ ،‬وحترير �أق�سام منها‪ ،‬بعد احتاللها‪ ،‬واخلروج من الهزمية‬ ‫املربمة لالمرباطورية العثمانية‪� ،‬إىل موقع املفاو�ض القوي مع الدول املنت�صرة عليه‪.‬‬ ‫لقد حقق انت�صارات �أك�سبته زعامة وظفها يف الق�ضاء على اخلالفة‪ ،‬و�أو�صلته �إىل فر�ض العلمانية‪،‬‬ ‫كدين مدين للدولة الرتكية‪.‬‬ ‫كانت اخلالفة‪ ،‬التي مل تنقطع عن احل�ضور تاريخيا‪ ،‬قد هزلت وتخ ّلفت واهرت�أت‪ .‬تطاول عليها‬


‫العروبة والدين والف�صل بينهما‬

‫العلمانية اليوم‬

‫‪67‬‬

‫الطورانيون قبل احلرب‪ ،‬ترنحت حتت وط�أة �إ�صالحات ابتزازية‪ ،‬وملا بلغ فيها ال�ضعف غايته‪ ،‬انق�ض‬ ‫عليها �أتاتورك و�ألغاها‪ ،‬وال تزال ملغاة‪ ،‬يف تركيا‪ ،‬ويف غريها من البالد العربية والإ�سالمية‪.‬‬ ‫لقد �ألزمت اخلالفة الإ�سالمية باالختفاء‪ .‬هزمت‪ .‬مل تكن امل�س�ألة م�س�ألة جدال ونقا�ش يف‬ ‫الن�صو�ص الدينية‪ .‬مل تكن امل�س�ألة بحاجة �إىل فتوى واجتهاد‪ .‬حاجة تركيا �إىل دولة حديثة‬ ‫وقوية تفرت�ض �إقامة نظام علماين يف�صل الدين عن الدولة‪ .‬من حيث �آلية احلدث الأتاتوركي‪،‬‬ ‫ف�إن انق�ضا�ضه على اخلالفة‪ ،‬ي�شبه انق�ضا�ض البورجوازية على الكني�سة لإلغاء دورها وامتيازاتها‬ ‫وتدخلها يف الدولة وال�سيا�سة‪.‬‬ ‫عندما كانت العروبة يف �أوج ن�شاطها الن�ضايل وزهو تقدمها‪ ،‬و�ضعت الدين بني قو�سني تقريباً‪.‬‬ ‫علمنت م�شروعها للدولة العربية بال �ضجيج وبال ا�ستفزاز ومن دون معارك‪ .‬كانت العروبة تختزن‬ ‫مقوالت فكر النه�ضة‪ :‬الد�ستور‪ ،‬العلمانية‪ ،‬الدميوقراطية‪ ،‬العلم‪ ،‬الوحدة‪ ،‬احلرية‪ ،‬اال�ستقالل‬ ‫وال�سيادة‪ ،‬وقد ظهرت هذه املقوالت جلية يف كتاباتها و�آليات ن�ضاالتها وم�شاريع عملها‪.‬‬ ‫غري ان هذه العروبة الن�ضالية‪ ،‬كانت قد قدمت تنازالت طفيفة كي ال تثري حفيظة العامة‪( ،‬خزان‬ ‫احل�سا�سيات التي تعزف عليها قيادات مذهبية رجعية)‪ ،‬وجنحت يف جتريد ال�سلطات الدينية‬ ‫املتوارثة من �شذوذها عن القومية واحلرية واحلياة الد�ستورية املوعودة‪ .‬لقد عزلتها عن مواقع الت�أثري‬ ‫املبا�شر و�أجل�أتها �إىل التق ّية‪.‬‬ ‫مل تفز هذه العروبة يف معركة العلمانية‪ ،‬لأنها كانت بحاجة �أو ًال �إىل انت�صار قومي حا�سم‪ .‬ف�شلت‬ ‫هذه العروبة االوىل‪ ،‬املتج�سدة يف الثورة العربية‪ ،‬ثم يف الثورة ال�سورية الكربى‪ ،‬يف حتقيق ن�صر‬ ‫على اال�ستعمار‪ ،‬وكانت ف�شلت يف خو�ض �صراع م�صريي يف فل�سطني‪� ،‬ضد احلركة ال�صهيونية‪،‬‬ ‫فرتاجعت �إجنازاتها وتخلفت عن خو�ض معركة الدميوقراطية والعلمانية‪ ،‬يف ما خ ّلفه اال�ستعمار من‬ ‫كيانات قطرية‪ ،‬ع�صية على الإجنازات احلا�سمة‪.‬‬ ‫ولت�أكيد ذلك‪ ،‬ميكن مراجعة �أدبيات ومواقف احلركات العروبية‪ .‬كانت م�شغولة مبقاومة م�شاريع‬ ‫الدول اال�ستعمارية العلمانية الدميوقراطية‪ ،‬ومل تتي�سر لها فر�صة تطبيق ما كانت قد ر�ست عليه من‬ ‫ت�صورات ل�شكل وم�ضمون الدولة العربية العتيدة‪� ،‬إحدى جت�سيدات القومية والعروبة‪.‬‬ ‫‪ .X‬اخلامتة غري ال�سعيدة‬

‫مل تعد العروبة علمانية‪ .‬لأنها‪ ،‬مل تعد �أداة توحيد‪� .‬صارت �سالحاً ه�شاً يف يد جمموعات متباعدة‪،‬‬ ‫ال تلتقي �إال على عجز و�إدمان ال�شلل‪ ...‬لقد غابت العروبة‪ ،‬بعدما تقاتلت يف ما بينها‪ ،‬وبعدما‬ ‫وهنت �أمام اخلارج‪ ،‬وبعدما ف�شلت يف رفع التحديات ومواجهتها‪ .‬لقد �شاخت العروبة على يد‬ ‫�شبابها‪ ،‬وقتلت ‪.‬‬ ‫عدد رقم ‪� | 1‬أيـار‬

‫‪2013‬‬


‫‪68‬‬

‫العلمانية اليوم‬

‫�شروط البناء والتقدم كثرية‪� ،‬أبرزها‪ ،‬حتقيق االنت�صار على العدو اخلارجي‪ .‬وكل تقدم �آخر‪ ،‬هو يف‬ ‫الق�شرة‪ ،‬لأنه نتاج تبعية‪ ،‬و�سيا�سات مفرو�ضة‪ ،‬و�شعوب مغلولة‪.‬‬ ‫ولأن العروبة تغيبت‪ ،‬طغت احلركات الدينية الدنيوية يف ال�سيا�سة‪ ،‬وتراجعت املفاهيم العلمانية‬ ‫والدميوقراطية واحلرية‪.‬‬ ‫وبرغم احلاجة املا�سة للعلمانية‪ .‬ف�إنها معزولة ومتهمة‪ .‬بديلها هو الفنت املذهبية �إىل امتداد الأمة‬ ‫وجوارها‪.‬‬ ‫فهل من عودة؟‬ ‫رمبا‪...‬‬ ‫فهل من حاجة؟‬ ‫�أكيد؟‬ ‫فمطلوب �إذاً‪� ،‬إ�صدار مذكرة جلب بحق العلمانية‪ ،‬لتكون يف طليعة املطالب النه�ضوية والعروبية‪،‬‬ ‫خا�صة‪ ،‬وانها الرديف الالزم‪ ،‬حلركات التحرر وحركات املقاومة‪ .‬كل مقاومة مبنية على مذهب‬ ‫�أو دين‪ ،‬وبرغم تفوقها �أحياناً على العدو‪ ،‬ف�إنها تبقى �أ�سرية اخلوف من ال�سقوط يف حمى الطائفية‬ ‫ودماء املذاهب‪.‬‬ ‫املزيد من اجلر�أة من �أجل املزيد من العلمانية‪ .‬بال خجل وال خوف من تهمة‪ .‬علينا �أن ننتهي‬ ‫من �أكذوبة بلقاء يرميها �أهل التدين الكاذب‪ ،‬ب�أن العلمانية مرادف للإحلاد‪ .‬العلمانية ال‬ ‫عالقة لها بالإميانيات‪ ،‬فهناك علمانيون ملحدون‪ ،‬وعلمانيون م�ؤمنون‪ ،‬وعلمانيون على ال�صراط‬ ‫امل�ستقيم‪ ...‬ال دين للعلمانية‪ ،‬بل هي‪� ،‬إن �شئنا االجتهاد‪� ،‬أكرث الت�صاقا مبفهوم التوحيد القائم‬ ‫على مكافحة التمييز و�إلغاء الفروقات واالعرتاف بالآخر‪ ،‬وتقدمي العقل على الببغائية النقلية‬ ‫الإرهابية‪.‬‬ ‫ال خوف من تكفري العلمانيني‪ ،‬لأننا نعي�ش يف ظرف �سيا�سي ـ ديني‪ ،‬يكفر فيه �أهل املذاهب‬ ‫�أهلهم يف املذهب عينه‪ .‬ال خوف من �شتائم املتدينني ال�سيا�سيني‪ ،‬لأنهم يت�شامتون وهم يقر�أون ّن�صاً‬ ‫واحداً‪ ،‬وي�ؤمنون بكتاب واحد‪ ،‬و�إله واحد‪.‬‬ ‫القارة العربية ملأى بذئاب الفتك الديني والطوائفي‪ ...‬والدماء النازفة تب�صم على هذا الكفر‬ ‫بهذا الأ�سلوب االنحطاطي‪.‬‬ ‫ال خوف يف رفع مطالب علمانية يف كل قطر وكيان‪:‬‬ ‫تربية علمانية‪ .‬برامج تدريب على العلمانية‪ ،‬دعم العلمانية‪ ،‬مدار�س علمانية‪( ،‬معلنة وعلى‬


‫العروبة والدين والف�صل بينهما‬

‫العلمانية اليوم‬

‫‪69‬‬

‫ر�ؤو�س اال�شهاد)‪( .‬لقد امتلأت القارة العربية باملعاهد الدينية واجلامعات‪ .‬ف�أين الدعم للمدار�س‬ ‫واجلامعات العلمانية؟‬ ‫نحن‪ ،‬كعلمانيني‪ ،‬لنا حقوق يف بالدنا‪ ،‬نريدها غري منقو�صة‪.‬‬ ‫العلمانية والدميوقراطية ت�أخذان البالد العربية �إىل امل�ستقبل‪� ،‬سواها‪ ،‬يعيدها �إىل اجلاهلية‪� ،‬إمنا‪،‬‬ ‫بثياب القرن الواحد والع�شرين‪ ،‬وهي باملنا�سبة‪ ،‬ثياب موقع عليها‪� :‬صنع يف الغرب‪.‬‬

‫عدد رقم ‪� | 1‬أيـار‬

‫‪2013‬‬


‫الدولية للمعلومات �ش‪.‬م‪.‬ل‬

‫بناية الربج‪ ،‬الطابق الرابع‪� ،‬ساحة ال�شهداء الو�سط التجاري‪ ،‬بريوت‪ ،‬لبنان‬ ‫�صندوق بريد‪ ،11-4353 :‬بريوت ‪ -‬لبنان‪.‬‬ ‫هاتف‪)961-1( 983008 /9 :‬‬ ‫فاك�س‪)961-1( 980630 :‬‬ ‫الربيد الإلكرتوين‪infointl@information-international.com :‬‬ ‫املوقع الإلكرتوين‪www.information-international.com :‬‬


‫‪71‬‬

‫العلمانية اليوم‬

‫االت�صال واالنف�صال بني الإ�سالم والعلمانية‬ ‫| �سميح ح ّمودة ‪ | 1‬جامعة بريزيت‬

‫لي�ست هذه املقالة ملجرد البحث العلمي والفكري‪ ،‬بل هي �أ�سا�ساً لت�شييد م�ساحة لقاء وتوافق‬ ‫بني التيارات ال�سيا�سية التي تعترب نف�سها علمانية وتلك التي تعترب نف�سها �إ�سالمية من �أجل‬ ‫بناء م�ستقبل زاهر للعامل العربي‪ ،‬فاملالحظ �أنّ كال الطرفني يعترب نف�سه منف�ص ًال عن الطرف‬ ‫الآخر‪ ،‬بل نقي�ضه‪ .‬ومع �أنّ هذا الف�صل احلا ّد يجد قب ً‬ ‫وال وا�سعاً ورمبا �شام ًال من الطرفني‪� ،‬إال �أ ّنه‬ ‫باعتقادنا يتناق�ض فل�سفياً مع حقيقة �أنّ حركات عديدة من الطرفني الإ�سالمي والعلماين تلتقي‬ ‫يف ال�سعي لتحقيق ا�ستقالل حقيقي للعامل العربي‪ ،‬وللنهو�ض به‪ ،‬ولتحريره من الهيمنة الغربية‪،‬‬ ‫نتاج خا�ص للتطور‬ ‫مبا فيها الفكرية واملعرفية‪ .‬ووجه التناق�ض �أنّ الف�صل بني العلماين والديني هو ٌ‬ ‫الفكري‪-‬الفل�سفي واالقت�صادي‪-‬ال�سيا�سي يف الغرب‪ ،‬وهو لي�س عاملياً بال�ضرورة‪ ،‬فالقبول به ٌ‬ ‫قبول‬ ‫�أعمى باملنظومة الفل�سفية الغربية‪ ،‬دون نقدها ومتحي�صها واختيار الإن�ساين منها‪.‬‬ ‫هذه املقالة حماولة لتعزيز تيار املقاومة للهيمنة الغربية بت�شكيالتها الع�سكرية‪ ،‬واالقت�صادية‪-‬‬ ‫ال�سيا�سية‪ ،‬والفل�سفية‪ -‬الفكرية‪ ،‬والقيمية‪-‬الأخالقية‪ ،‬وت�ؤ�س�س ال�ستقالل معريف‪ -‬فل�سفي عن‬ ‫املركزية الغربية يف الفكر واملعرفة‪ ،‬فهي تنطلق من رف�ض الثنائيات الغربية التي ترى العامل‬ ‫وال�شعوب من منظار ثنائية «الأنا» مقابل «الآخر»‪ ،‬وثنائيات «العقل» و«النقل»‪« ،‬التقدم» و«التنوير»‬ ‫و«احلداثة» للذات الغربية‪ ،‬مقابل «التخلف» و»الظالمية» و«الرببرية» لذات الآخر‪ ،‬وحني ُتطبق هذه‬ ‫الثنائيات على العامل العربي ف�إ ّنها ت�صوره من خالل ثنائيات «املعتدل» و«املتطرف»‪« ،‬الإ�سالمي»‬ ‫و«الوطني»‪ ،‬و«الديني» و«العلماين»‪ .‬واملقالة لي�ست من نوع مراجعة الدرا�سات املن�شورة والأفكار‬ ‫ال�شائعة حول املو�ضوع ‪ ،‬بل هي اقرتاح لقواعد �أح�سبها منطقية‪ ،‬ت�صلح لأن ينطلق منها عمل‬ ‫�سيا�سي م�شرتك بني الفريقني يهدف لتحقيق �أهدافهما امل�شرتكة‪ .‬وت�أ�سي�ساً لأطروحة االت�صال‬ ‫‪2‬‬

‫ ‪ 1‬يعمل �سميح حمودة حما�ضراً يف دائرة العلوم ال�سيا�سية بجامعة بريزيت‪ ،‬وهو حمرر جملة حوليات القد�س التي ت�صدر عن م�ؤ�س�سة‬ ‫الدرا�سات الفل�سطينية برام اهلل‪.‬‬ ‫ ‪ 2‬مثل كتاب زكريا فايد‪ ،‬العلمانية الن�ش�أة والأثر يف ال�شرق والغرب‪ ،‬الزهراء للإعالم العربي‪ ،‬القاهرة‪1988 ،‬؛ ودرا�سة د‪ .‬عبد الرزاق‬ ‫التلحمي «العلمانية مدلوالتها وتطورها»‪ ،‬املن�شورة يف كتاب‪� :‬أ�شقر‪ ،‬حممود �سعيد‪ ،‬وزواوي‪ ،‬خالد (حمرران)‪� ،‬إ�شكالية العالقة بني‬ ‫الدين وال�سيا�سة ‪ -‬م�ؤمتر بيت املقد�س الإ�سالمي الدويل الثالث‪ ،‬اجلزء الأول‪ ،‬دولة فل�سطني‪-‬وزارة الأوقاف وال�شئون الإ�سالمية‪،‬‬ ‫القد�س‪-‬العيزرية‪� ،2012 ،‬ص‪.187-135 .‬‬ ‫عدد رقم ‪� | 1‬أيـار‬

‫‪2013‬‬


‫‪72‬‬

‫العلمانية اليوم‬

‫بني العلمانية والإ�سالم �س�أ�ضع الأفكار واحلجج على �شكل مقوالت متتابعة‪.‬‬ ‫املقولة الأوىل‪ :‬مثّلت العلمانية الغربية انف�صا ًال عن �سلطة الكني�سة �سيا�سياً وفكرياً‪ ،‬ورف�ضاً‬ ‫للخ�ضوع لالهوتها وتف�سريها املحدد للدين‪ ،‬ومل يكن املفكرون الغربيون الذين دعوا لهذا‬ ‫االنف�صال متماثلني يف �أطروحاتهم و�أفكارهم حول الدين ودوره ‪ ،‬فمنهم‪ ،‬مثل ديدييه �إيرا�سم‬ ‫(ولد ‪1466‬م)‪ ،‬من ت�صور جمتمعاً م�سيحياً جيداً يقوم على العقل والتعاليم امل�سيحية‪ ،‬ومنهم‬ ‫من طرح تف�سرياً جديداً للدين ين�سجم مع قيم تكرمي الإن�سان والإقرار بحريته يف التفكري وحقه‬ ‫يف املعرفة الدينية عن طريق قراءة الكتاب املقد�س وفهمه وتف�سريه دون احلاجة للكني�سة‪ ،‬وحقه‬ ‫بالإميان باالختيار الذاتي‪ ،‬مثل حركة الإ�صالح الديني (الربوت�ستانتي)‪ ،‬التي قام رائدها وم�ؤ�س�سها‬ ‫مارتن لوثر (‪1546-1483‬م) برتجمة الكتاب املقد�س ل ّلغة الأملانية حتى ي�صبح متوفراً �أمام جموع‬ ‫امل�ؤمنني لقراءته؛ وكان الفيل�سوف الإجنليزي املعروف جون لوك (‪1704-1632‬م) معروفاً ب�إميانه‬ ‫باهلل‪ ،‬وقد ذهب �إىل �ضرورة توفري احلرية للعقائد الدينية‪ ،‬با�ستثناء الكاثوليكية (دين الكني�سة)‬ ‫والإحلاد «ب�سبب خطرهما الداهم على ا�ستقرار املجتمع» ‪ .‬وذهب وليم هملتون (‪1856-1788‬م)‬ ‫�إىل �أن نهاية كل تفكري هي الدين‪ ،‬و�أن التطور املنطقي للتفكري هو انتها�ؤه بهذا الدين‪ .‬ومن‬ ‫املفكرين الغربيني من نادى بالدين الفطري مثل جان جاك رو�سو (‪1778-1712‬م) الذي �أ�صدر‬ ‫عام ‪1762‬م كتاب دين الفطرة‪ ،‬وقد اعترب رو�سو �أن معا�صريه �أكرث ا�ستعداداً لقبول �إ�صالح ديني‬ ‫منه للم�صادقة على حتليالته ال�سيا�سية؛ �أ ّما فولتري (‪1778-1694‬م) فقد اعترب �أن الإميان بوجود‬ ‫اهلل ي�شكل �ضرورة اجتماعية حلفظ النظام بني الب�شر‪ ،‬فبدونه ال ميكن للعالقات االجتماعية �أن‬ ‫ت�سود‪ ،‬وح ّتى ميكافيللي (‪1527-1469‬م) الذي يعترب م�ؤ�س�ساً للنزعة العلمانية الغربية‪ ،‬ومعادياً‬ ‫للكني�سة‪ ،‬ف�إ ّنه مل ينكر ما للدين من �أهمية يف تر�سيخ ال�سلطة ال�سيا�سية و�شرعنتها؛ ولنا �أن نذكر‬ ‫يف هذا ال�سياق تيار الت�أليهيني الذي ظهر يف �أوروبا يف �أواخر القرن ال�سابع ع�شر وانت�شر و�شاع يف‬ ‫القرن الثامن ع�شر‪ ،‬وكان يدعو �إىل الإميان باهلل ونبذ الإحلاد والوثنية‪ ،‬ولكنه حارب الدين ب�صورته‬ ‫الكن�سية‪ ،‬وك�شف تناق�ضات الكتاب املقد�س وخمالفته للحقائق العلمية والتاريخية‪ ،‬نافياً عنه‬ ‫منحى‬ ‫�صفة الوحي الإلهي املقد�س ‪ .‬ومقابل ه�ؤالء كان من املفكرين من رف�ض الدين متاماً‪ ،‬وتب ّنى ً‬ ‫مادياً خال�صاً‪ ،‬مثل الفال�سفة املاديني الفرن�سيني‪ :‬دولباك (‪1789-1723‬م) وبنتام (‪1832-1748‬م)‬ ‫وجيم�س مل (‪1836-1773‬م)‪ ،‬والأملانيني هولباخ (‪1789-1723‬م) وكارل مارك�س (‪1883-1818‬م)‪.‬‬ ‫لذا ال ميكن اعتبار العلمانية الغربية ف�ص ًال للدين «عموماً» عن ال�سيا�سة‪ ،‬بل هي ٌ‬ ‫ف�صل لدين‬ ‫الكني�سة «خ�صو�صاً» عن ال�سيا�سة‪ ،‬كما ال ميكن اعتبار كل روافدها الفكرية روافد �إحلادية منكرة‬ ‫للدين والإميان يف حياة املجتمع ونظامه ال�سيا�سي‪.‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪4‬‬

‫‪5‬‬

‫تقدم لنا درا�سة زكريا فايد �سابقة الذكر تلخي�صاً مفيداً للمواقف املختلفة جتاه الدين من قبل فال�سفة الغرب ومفكريه منذ القرن‬ ‫ ‪ّ 3‬‬ ‫اخلام�س ع�شر حتى الن�صف الأول من القرن الع�شرين‪ .‬انظر ال�صفحات ‪.14-66‬‬ ‫‪ 4‬راجع كتاب رم�سي�س عو�ض‪ ،‬الإحلاد يف الغرب‪� ،‬سينا للن�شر‪ ،‬القاهرة‪ ،‬وم�ؤ�س�سة الإنت�شار العربي‪ ،‬بريوت‪� ،1997 ،‬ص‪.62 .‬‬ ‫ ‪ 5‬امل�صدر نف�سه‪� ،‬ص‪.115 .‬‬


‫العلمانية اليوم‬

‫االت�صال واالنف�صال بني الإ�سالم والعلمانية‬

‫‪73‬‬

‫املقولة الثانية‪� :‬أن قراءة التيارات العلمانية العربية للدين الإ�سالمي‪ ،‬وقراءة التيارات الإ�سالمية‬ ‫للعلمانية‪ ،‬كانتا جمتز�أتني‪ ،‬وغري �شموليتني‪ ،‬ومتناق�ضتني‪ .‬فالعلمانية العربية �أ�سقطت الت�صور والفهم‬ ‫والتعريف الغربي للدين الكن�سي امل�سيحي على الإ�سالم نف�سه‪ ،‬وتبنتها كلها دون ا�ستيعاب �أو‬ ‫�إدراك للفرق بني الإ�سالم بخا�صيته ال�شمولية لكافة �أنظمة احلياة‪ ،‬وبني امل�سيحية املتمحورة حول‬ ‫القيم الروحانية والأخالقية‪ ،‬كما تبنت اعرتا�ضات املفكرين العلمانيني على الكني�سة الغربية‪ ،‬يف‬ ‫العامل الغربي‪ ،‬واعتربتها اعرتا�ضات على الدين‪� ،‬أي دين‪ .‬كما خلطت القراءة العلمانية للإ�سالم‬ ‫بني تخلف امل�سلِم وت�س ّلط احلاكم وا�ستبداده يف مراحل تاريخية معينة‪ ،‬وبني الإ�سالم نف�سه‪،‬‬ ‫�سخر َّ‬ ‫كل جهوده‬ ‫فاعتربت الإ�سالم �سبباً للظواهر املَ َر�ضية‪ .‬وظهر من املثقفني العلمانيني من ّ‬ ‫الفكرية ملهاجمة مبادئ الإ�سالم و�شريعته دون ا�ستيعاب للفرق بني ن�صو�ص الدين نف�سه وبني‬ ‫اجتهادات الفقهاء واملف�سرين وفهمهم اخلا�ص لهذه الن�صو�ص‪ ،‬وبالتايل دون االلتفات لن�سبية‬ ‫التف�سري وتنوعه من عا ٍمل لآخر ومن زمن لآخر؛ ور ّدد الكثريون من ناقدي الإ�سالم الكثري‬ ‫من الإدعاءات اال�ست�شراقية الغربية املتحيزة التي انبثقت يف �أ�سا�سها الفل�سفي من �أطروحات‬ ‫املركزية الغربية‪ ،‬وعمل قائلوها مع �أجهزة اال�ستعمار‪ ،‬وخالفت يف �أطروحاتها احلقائق املعروفة‪،‬‬ ‫ومنها احلقيقة التاريخية ب�أن نه�ضة العرب الثقافية واحل�ضارية كانت نابعة من الإ�سالم‪ .‬وال ّ‬ ‫�شك‬ ‫�أنّ هذا الهجوم على الإ�سالم املت�سرت بالعلمانية كان �سبباً �أ�سا�سياً يف حالة اخل�صام واالنف�صال بني‬ ‫التيارات الإ�سالمية والعلمانية‪.‬‬ ‫مقابل هذه القراءة الظاملة للإ�سالم يجد املت�أمل مل�ضامني العلمانية يف �سياقها الغربي �أنها تتقاطع‬ ‫ب�صورة كبرية مع املفاهيم الإ�سالمية‪ ،‬وخ�صو�صاً دور العقل والعلم يف حياة الإن�سان‪ ،‬حيث ي�شري‬ ‫القر�آن يف موا�ضع عديدة لأهمية التعقل والتفكر والتدبر والنظر والبحث ‪ ،‬ويف الأحاديث النبوية‬ ‫‪6‬‬

‫‪7‬‬

‫ ‪ 6‬مث ًال موقف عزيز العظمة من احلدود يف الإ�سالم‪ ،‬كحد ال�سرقة القا�ضي بقطع يد ال�سارق‪ ،‬واعتباره هذا احلد بربرياً ووح�شياً‪ ،‬وي�أتي‬ ‫هذا الر�أي تناغماً مع املوقف اال�ست�شراقي الغربي من احلدود يف الإ�سالم‪ ،‬ولكنه يف�شل يف الأخذ باالعتبار �أنّ احلد يط ّبق يف ظروف‬ ‫الرخاء االقت�صادي ولي�س الع�سر والفقر‪ ،‬و�أنّ من �ضمن م�س�ؤوليات احلاكم وواجبات املجتمع يف الإ�سالم توفري الطعام للفقراء‬ ‫واملحتاجني وعدم �إجلائهم لل�سرقة‪ ،‬وبالتايل فالذي ي�سرق طمعاً وعدواناً على املجتمع وقيمه و�أمن �أفراده ي�ستحق هذه العقوبة‬ ‫الرادعة‪ ،‬التي قررها اهلل تعاىل الذي وهب اليد للإن�سان كي يعمل وي�ستعمر الأر�ض‪ ،‬ال كي يعيث بها ف�ساداً‪.‬‬ ‫‪� 7‬إن التفكري املنهجي والعقلي موجود يف ن�صو�ص الإ�سالم الأ�سا�سية‪ ،‬القر�آن الكرمي والأحاديث النبوية ال�شريفة‪ ،‬ومنها ا�ستمد‬ ‫امل�سلمون يف نه�ضتهم املنهج القومي للبحث والتفكري‪ .‬يلخ�ص اللواء �أحمد عبد الوهاب (التغريب طوفان من الغرب‪ ،‬القاهرة‪ :‬مكتبة‬ ‫الرتاث الإ�سالمي‪� ،1990 ،‬ص‪ )27-24 .‬بع�ضاً من املالمح الأ�سا�سية ملا ميكن ت�سميته باملنهج القر�آين يف البحث والتفكري‪ ،‬وهو ما‬ ‫يطلق عليه هو التنوير من مفهوم �إ�سالمي‪ .‬ففي القر�آن الكرمي �آيات تدل على حترير البحث الفكري من خالل‪:‬‬ ‫ّ‬ ‫مُتفُو َها‬ ‫ ‪ -‬التحررمن تقاليد الأولني‪ :‬كما يف الآية ‪ 23-24‬من �سورة الزخرف‪َ « :‬وك َ​َذل َِك َما �أَ ْر َ�س ْل َنا مِن َق ْبل َِك فيِ ق َْر َي ٍة ِّمن َّنذِ ي ٍر �إِال ق َ​َال رْ َ‬ ‫دت َع َل ْي ِه �آ َب ُ‬ ‫اءك ْم قَالُوا ِ�إ َّنا بمِ َا �أُ ْر�سِ ْل ُتم ِب ِه كَا ِف ُرونَ ‪».‬‬ ‫ِ�إ َّنا َو َج ْدنَا �آ َباءنَا َع َلى �أُ َّم ٍة َو ِ�إ َّنا َع َلى �آثَارِهِ م ُّم ْقتَدُ ونَ (‪ )24‬ق َ​َال �أَ َو َلوْ جِ ْئ ُت ُكم ِب�أَ ْه َدى ممِ َّا َو َج مُّ ْ‬ ‫َ‬ ‫ا�س ِبالحْ َ قِّ َوال َت َّتب ِ​ِع‬ ‫ التحرر من الهوى‪ :‬كما يف الآية ‪ 26‬من �سورة �ص‪َ « :‬يا َدا ُوو ُد �إِ َّنا َج َع ْل َن َاك خَ لِي َف ًة فيِ الأ ْر ِ�ض ف َْاح ُكم َبينْ َ ال َّن ِ‬‫اب �شَ دِ ٌيد بمِ َا نَ�سُوا يَوْ َم الحْ َِ�س ِاب‪ »،‬والآية ‪ 29‬من �سورة‬ ‫ِيل اللهَّ ِ �إِنَّ ا َّلذِ َين َي ِ�ضلُّونَ َعن َ�سب ِ‬ ‫ا ْل َه َوى َف ُي ِ�ض َّل َك َعن َ�سب ِ‬ ‫ِيل اللهَّ ِ َل ُه ْم َع َذ ٌ‬ ‫للهَُّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ِين‪».‬‬ ‫الروم‪َ « :‬ب ِل ا َّت َب َع ا َّلذِ َين َظ َلمُوا �أه َْواء ُهم ِبغ رْ َِي عِ ْل ٍم َف َمن َي ْهدِ ي َم ْن �أ�ضَ لَّ ا َو َما ل ُهم ِّمن َّن ِا�صر َ‬

‫عدد رقم ‪� | 1‬أيـار‬

‫‪2013‬‬


‫‪74‬‬

‫العلمانية اليوم‬

‫ال�شريفة ما ي�شري ل�ضرورة اتباع العلم التجريبي يف ال�شئون الدنيوية‪ ،‬مثل حديث ت�أبري النخل ‪.‬‬ ‫‪8‬‬

‫الظ َّن َو�إِنَّ َّ‬ ‫ �إقامة املنهج العلمي على ترك الظن‪ :‬كما يف الآية ‪ 28‬من �سورة النجم‪َ « :‬و َما َل ُهم ِب ِه م ِْن عِ ْل ٍم �إِن َي َّت ِبعُونَ �إِ ّال َّ‬‫الظ َّن ال‬ ‫ُي ْغنِي م َِن الحْ َ قِّ �شَ ْي ًئا‪».‬‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫لجْ‬ ‫ ‪ -‬و�إقامته على �ضرورة الربهان‪ :‬كما يف الآية ‪ 111‬من �سورة البقرة‪َ « :‬وقَالُو ْا لن َيدْخُ َل ا َّن َة �إِال َمن كَانَ هُوداً �أ ْو نَ َ�صا َرى ِت ْلك �أ َما ِن ُّي ُه ْم‬ ‫قُلْ َهاتُو ْا ُب ْر َهانَ ُكم �إِن ُكن ُت ْم َ�صا ِد ِق َني‪ »،‬والآية ‪ 75‬من �سورة الق�ص�ص‪َ « :‬ونَ َز ْع َنا مِن ُك ِّل �أُ َّم ٍة �شَ هِي ًدا َف ُق ْل َنا َهاتُوا ُب ْر َهانَ ُكم َف َع ِلمُوا َ�أنَّ الحْ َ قَّ‬ ‫ا�س ق َْد َج ُ‬ ‫اءكم ُب ْر َهان ِّمن َّر ِّب ُك ْم َو�أَن َز ْل َنا �إِ َل ْي ُك ْم نُو ًرا ُّمبِي ًنا‪».‬‬ ‫للِهَّ ِ َو�ضَ لَّ َع ْن ُهم َّما كَانُوا َيفْترَُ ون‪ »،‬والآية ‪ 174‬من �سورة الن�ساء‪َ « :‬يا �أَ ُّي َها ال َّن ُ‬ ‫ ت�أ�سي�س قواعد �صحيحة وو�سائل �سليمة لتح�صيل العلم مثل‪:‬‬‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ التعلم من ذي علم‪ :‬كما يف الآية ‪ 14‬من �سورة فاطر‪�« :‬إِنْ َت ْدعُو ُه ْم ال َي ْ�س َمعُوا ُد َعا َء ُك ْم َولوْ َ�سمِ عُوا َما ْا�س َت َجابُوا لك ْم َويَوْ َم ال ِق َيا َم ِة‬‫هِم فَا�سْ�أَلُو ْا‬ ‫َي ْك ُف ُرونَ بِ�شِ ْركِ ُك ْم َو َال ُي َن ِّبئ َُك ِمث ُْل خَ بِري‪ »،‬والآية ‪ 43‬من �سورة النحل‪َ « :‬و َما �أَ ْر َ�س ْل َنا مِن َق ْبل َِك ِ�إ َّال ر َِجا ًال نُّوحِ ي ِ�إ َل ْي ْ‬ ‫�أَ ْه َل ِّ‬ ‫الذ ْك ِر �إِن ُكن ُت ْم َال َت ْع َلمُون‪».‬‬ ‫ اعتماد امل�شاهدة وا�ستخدام احلوا�س‪ :‬كما يف الآية ‪ 19‬من �سورة الزخرف‪َ « :‬و َج َعلُوا المْ َالئ َِك َة ا َّلذِ َين ُه ْم عِ َبا ُد ال َّر ْح َمنِ �إِنَاثًا‬‫ال�س َما َو ِات َوالأَ ْر ِ�ض َو َما ُت ْغنِي‬ ‫�أَ�شَ هِدُ وا خَ ْل َق ُهم َ�س ُت ْك َت ُب �شَ َها َد ُت ُه ْم َو ُي�سْ�أَلُونَ ‪ »،‬والآية ‪ 101‬من �سورة يون�س‪« :‬ق ُِل انْ ُظ ُروا َما َذا فيِ َّ‬ ‫الآ َي ُات َوال ُّن ُذ ُر َع ْن َقوْ ٍم ال ُي ْ�ؤمِنُونَ ‪».‬‬ ‫للهَُّ‬ ‫اب َوالحُْ ْك َم َوال ُّنب َُّو َة ث َُّم َيق َ‬ ‫ا�س‬ ‫ُول لِل َّن ِ‬ ‫ الدرا�سة والتعليم‪ :‬كما يف الآية ‪ 79‬من �سورة �آل عمران‪َ « :‬ما كَانَ ِل َب�شَ ٍر �أَنْ ُي ْ�ؤ ِت َي ُه ا الْكِ َت َ‬‫اب َوبمِ َا ُك ْن ُت ْم َت ْد ُر�سُونَ ‪« ،‬والآية ‪ 44‬من �سورة �سب�أ‪َ « :‬و َما‬ ‫كُونُوا عِ َبا ًدا ليِ م ِْن ُدونِ اللهَّ ِ َو َلكِ ْن كُونُوا َر َّبا ِن ِّي َني بمِ َا ُك ْن ُت ْم ُت َع ِّلمُونَ الْكِ َت َ‬ ‫هِم َق ْب َل َك م ِْن نَذِ يرٍ‪».‬‬ ‫�آَ َت ْي َنا ُه ْم م ِْن ُك ُت ٍب َي ْد ُر�سُونَ َها َو َما �أَ ْر َ�س ْل َنا �إِ َل ْي ْ‬ ‫ ا�ستخدام املنطق‪ :‬كما يف الآية ‪ 22‬من �سورة الأنبياء‪َ « :‬لوْ كَانَ فِي ِه َما �آَ ِل َه ٌة ِ�إ َّال اللهَُّ َلف َ​َ�س َد َتا ف َُ�س ْب َحانَ اللهَّ ِ َر ِّب ا ْل َع ْر ِ�ش َع َّما َي ِ�صفُونَ ‪»،‬‬‫والآية ‪ 42‬من �سورة الإ�سراء‪« :‬قُلْ َلوْ كَانَ َم َع ُه َ�آ ِل َه ٌة َك َما َيقُولُونَ �إِ ًذا َال ْب َت َغوْ ا ِ�إلىَ ذِي ا ْل َع ْر ِ�ش َ�سبِي ًال‪».‬‬ ‫للهَُّ‬ ‫ ا�ستخدام القيا�س‪ :‬كما يف الآية ‪ 29‬من �سورة الأعراف‪« :‬قُلْ إِ�نْ ت ُْخفُوا َما فيِ �صُ دُ ور ُِك ْم �أَ ْو ُت ْبدُ و ُه ي ْع َل ْم ُه ا َو َي ْع َل ُم َما فيِ‬‫ال�س َما َو ِات َو َما فيِ الأَ ْر ِ�ض َواللهَُّ َع َلى ُك ِّل �شَ ْي ٍء قَدِ ي ٌر‪ »،‬والآية ‪ 27‬من �سورة الروم‪« :‬قُلْ �أَ َم َر َر ِّبي بِا ْلق ِْ�سطِ َو�أَقِيمُوا ُوجُو َه ُك ْم عِ ْن َد‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫دٍ‬ ‫ِ‬ ‫جِ‬ ‫ون‪».‬‬ ‫د‬ ‫ُو‬ ‫ع‬ ‫ت‬ ‫م‬ ‫ك‬ ‫�‬ ‫أ‬ ‫د‬ ‫ب‬ ‫ا‬ ‫م‬ ‫ك‬ ‫ين‬ ‫ه‬ ‫ل‬ ‫ني‬ ‫ِ�ص‬ ‫ل‬ ‫ه‬ ‫ُو‬ ‫ع‬ ‫د‬ ‫ا‬ ‫و‬ ‫�س‬ ‫م‬ ‫ل‬ ‫ُك ِّ َ ْ َ ْ ُ مخُْ َ ُ الدِّ َ َ َ َ ْ َ ُ َ‬ ‫ ا�ستخدام اال�ستنباط‪ :‬كما يف الآية ‪ 83‬من �سورة الن�ساء‪َ « :‬و�إِ َذا َجا َء ُه ْم �أَ ْم ٌر م َِن ْالأ ْمنِ َ�أ ِو الخْ َ وْ ِف َ�أ َذاعُوا ِب ِه َو َلوْ َر ُّدو ُه �إِلىَ ال َّر�سُولِ‬‫َو�إِلىَ �أُوليِ الأَ ْم ِر ِم ْن ُه ْم َل َع ِل َم ُه ا َّلذِ َين َي ْ�س َت ْن ِبطُونَ ُه ِم ْن ُه ْم َو َل َ‬ ‫وْال َف�ضْ ُل اللهَّ ِ َع َل ْي ُك ْم َو َر ْح َم ُت ُه ال َّت َب ْع ُت ُم ال�شَّ ْي َطانَ �إِ ّال َقلِي ًال‪».‬‬ ‫ البحث واال�ستك�شاف‪ :‬كما يف الآية ‪ 20‬من �سورة العنكبوت‪« :‬قُلْ �سِ ُريوا فيِ الأَ ْر ِ�ض فَانْ ُظ ُروا َك ْي َف َب َد َ�أ الخْ َ ْلقَ ث َُّم اللهَُّ ُي ْن�شِ ُئ‬‫ال َّن�شْ�أَ َة الآَخِ َر َة ِ�إنَّ اللهَّ َ َع َلى ُك ِّل �شَ ْي ٍء قَدِ ي ٌر‪».‬‬ ‫ِّ‬ ‫ ‬ ‫يو�ضح هوارد ترينر (العلوم عند امل�سلمني‪ ،‬ترجمة فتح اهلل ال�شيخ‪ ،‬القاهرة‪ :‬املجل�س الأعلى للثقافة‪� )2004 ،‬أنّ التعاليم والو�صايا‬ ‫املخ�ص�صة للمعرفة عند املفكرين امل�سلمني‪ .‬وتقول التعاليم الإ�سالمية‬ ‫املهمة ّ‬ ‫الواردة يف الأحاديث النبوية تبينِّ املكانة التاريخ ّية ّ‬ ‫«ب�أنّ كل الكون املادي دليل على وجود اهلل اخلالق القاب�ض عليه‪ .‬وح ّتى تدرك الذات الإلهية ال ّبد من درا�سة كافة �أ�شكال اخللق‪،‬‬ ‫كل الظواهر املوجودة يف العامل من حيوانات وخ�ضروات ومعادن وكل ما يتعلق بحياة الإن�سان‪ ،‬ومن الطبيعي �أن ت�شمل هذه‬ ‫الدرا�سة اجلن�س الب�شري نف�سه‪ .‬وتبعاً للعقيدة الإ�سالم ّية ال�صحيحة‪ ،‬ف�إنّ هذا اجلهد املبذول لإدراك الذات الإلهية هو �أمر �أ�سا�سي‬ ‫للتو�صل �إىل حياة دنيوية م�ستقيمة وعادلة كما بينّ الر�سول‪ .‬ومن ال�صعب ت�صور واقع �أب�سط �أو �أكرث روحان ّية للبحث العلمي من‬ ‫ذلك‪ ،‬ناهيك عن الدرا�سات امليتافيزيق ّية‪».‬‬ ‫ ‪ 8‬هو حديث �صحيح‪ ،‬روي من عدة طرق‪ ،‬ومنها طريق عن عائ�شة ر�ضي اهلل عنها‪ ،‬وقد �أخرجه �أحمد يف م�سنده (‪ ،)24964‬وم�سلم‬ ‫ون�صه‪« :‬عن عائ�شة ر�ضي اهلل عنها �أَنّ ال َّنب َِّي َ�ص َّلى اللِهَّ ِ َع َل ْي ِه َو َ�س َّل َم َ�سمِ َع‬ ‫يف �صحيحه (‪ ،)2363‬كما ورد يف كتب �أخرى كثرية‪ّ ،‬‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ات؟»‪ ،‬قَالُوا‪ :‬ال َّن ْخ ُل َي�أْ ِب ُرونَ ُه‪َ ،‬فق َ​َال‪َ « :‬لوْ لمَْ َي ْف َعلُوا َل َ�ص ُل َح َذل َِك»‪َ ،‬ف�أ ْم َ�سكُوا‪َ ،‬ف َل ْم َي�أ ِب ُروا َعا َّم َت ُه‪ ،‬ف َ​َ�صا َر‬ ‫�أَ� َصْوا ًتا‪َ ،‬فق َ​َال‪« :‬ما هذِ ِه الأَ� َصْو ُ‬ ‫ي�صا‪ ،‬ف َُذكِ َر َذل َِك لِل َّنب ِِّي َ�ص َّلى اللِهَّ ِ َع َل ْي ِه َو َ�س َّل َم‪َ ،‬فق َ​َال‪« :‬كَانَ �شَ ْي ٌء م ِْن �أَ ْم ِر ُدنْ َي ُاك ْم َف�شَ �أْن ُ​ُك ْم‪َ ،‬وكَانَ �شَ ْي ٌء م ِْن َ�أ ْم ِر دِين ُِك ْم َف�إِليَ َّ » ‪ ،‬ويف‬ ‫�شِ ً‬ ‫لفظ م�سلم‪َ »:‬فق َ​َال‪َ :‬ما ِل َن ْخل ُِك ْم‪ ،‬قَالُوا‪ُ :‬ق ْل َت ك َ​َذا َوك َ​َذا‪ ،‬ق َ​َال‪� :‬أَ ْن ُت ْم َ�أ ْع َل ُم ِب�أَ ْم ِر ُدنْ َي ُاك ْم»‪.‬‬


‫االت�صال واالنف�صال بني الإ�سالم والعلمانية‬

‫العلمانية اليوم‬

‫‪75‬‬

‫وهناك تقاطع �أي�ضاً يف اعتبار كرامة الإن�سان وحريته يف االعتقاد والعمل‪ ،‬وحريته يف التعبري‪،‬‬ ‫�أ�سا�سية يف النظام االجتماعي وال�سيا�سي واالقت�صادي‪.‬‬ ‫يف اجلانب الآخر قر�أ الإ�سالميون العلمانية يف �إطار ت�شكلها الغربي على �أ ّنها الدينية‪�-‬إحلادية‬ ‫متمردة على اهلل تعاىل ووحيه‪ ،‬وقبلوا فر�ضية اعتبار م�ضامينها �إنتاجاً غربياً خال�صاً‪ ،‬فا�صلني لها‬ ‫عن ت�أثرها بالفكر العاملي واحل�ضارة الإن�سانية عموماً‪ .‬واعترب الإ�سالميون �أنّ الدعوة لها يف العامل‬ ‫العربي والإ�سالمي مرتبطة مب�شروع الغرب للهيمنة وال�سيطرة على العرب وامل�سلمني وثرواتهم‪،‬‬ ‫ومل يقر�أوا يف ظهورها يف العامل الغربي دوافعها اخلرية ال�ساعية ل�سعادة الإن�سان الغربي وحترره‬ ‫الفكري وحقه يف البحث والتعبري عن نف�سه‪ ،‬و�سعيها الزدهاره وحت�سن ظروفه احلياتية‪ ،‬وهي دوافع‬ ‫تلتقي مع الإ�سالم ور�سالته‪ ،‬ال بل تقع يف جوهر نظرة الر�سالة الإ�سالمية للإن�سان‪.‬‬ ‫املقولة الثالثة‪ :‬العلمانية الغربية كانت نتاجاً لت�أثر �أوروبا بثقافات العامل الآخر‪ ،‬و�أهمها الثقافة‬ ‫العربية‪-‬الإ�سالمية‪ ،‬فال ميكن ف�صل الرتاث الغربي يف مرحلة ت�شكل العلمانية عن الرتاث العربي‪-‬‬ ‫ٌ‬ ‫منف�صل عن الفكر الإن�ساين عموماً‪� ،‬أو الفكر الإ�سالمي على‬ ‫غربي‬ ‫الإ�سالمي ‪ ،‬فال يوجد فك ٌر ٌ‬ ‫وجه اخل�صو�ص‪ ،‬وت�أثري الإ�سالم على الغرب معروف يف ال�سياقات الفل�سفية والعلمية واملدنية ‪،‬‬ ‫وقد �صدرت ع�شرات الدرا�سات والأبحاث التي تناولت هذه الق�ضية بالتف�صيل‪ .‬يف املقابل‪ ،‬ال‬ ‫ميكن احلديث عن فكر �إ�سالمي خال�ص‪ ،‬تطور عرب التاريخ مبعزل عن «الآخر» غري امل�سلم‪ ،‬فهنا �أي�ضاً‬ ‫ُن�شرت ع�شرات الدرا�سات والأبحاث التي تبني انفتاح الفكر الإ�سالمي على الثقافات الهندية‬ ‫والفار�سية واليونانية والرومانية‪ .‬فال ينبغي هنا رف�ض «العلمانية» ب�صورة كلية لأنها �إنتاج غربي‪،‬‬ ‫بل ينبغي التدقيق يف امل�ضامني التي حتويها‪ ،‬وتتبع جذور هذه امل�ضامني الإن�سانية والإ�سالمية‪،‬‬ ‫واحلكم عليها عقلياً من جهة نفعها �أو �إ�ضرارها بالإن�سان واملجتمع والوطن‪ .‬ويف احلقيقة �أنّ الأمر‬ ‫ذاته ينطبق على كافة االجتاهات والر�ؤى الفل�سفية الغربية والعاملية‪ ،‬فباعتقادي �أن جوانب من‬ ‫النظرية املارك�سية‪ ،‬مثل العدالة االجتماعية والدفاع عن املحرومني والفقراء‪ ،‬ومنع اال�ستغالل‬ ‫والظلم االجتماعي واالقت�صادي‪ ،‬تلتقي مع الإ�سالم‪ ،‬رغم البون ال�شائع بني املارك�سية والإ�سالم‪.‬‬ ‫‪9‬‬

‫‪10‬‬

‫ ‪ 9‬تو�ضح درا�سة �أ‪ .‬ل‪ .‬رانيال املا�ضي امل�شرتك بني العرب والغرب �أ�صول الآداب ال�شعبية الغربية‪ ،‬الأر�ضية امل�شرتكة بني الثقافتني‬ ‫ال�شعبيتني الإجنليزية والعربية‪ ،‬م�ؤكداً �أن ثقافة الغرب يف القرون الو�سطى كانت �إغريقية التينية عربية‪ ،‬وبينّ الكاتب �أنّ �إ�سبانيا‬ ‫و�صقلية كانتا ج�سرين للم�شروعات ال�ضخمة للرتجمة يف القرن الثاين ع�شر التي انتقلت عربها املعارف العلمية من العرب �إىل‬ ‫غرب �أوروبا‪ ،‬التي كانت �آنذاك يف مرحلة ابتدائية‪�( .‬ص‪� .)11 .‬صدر الكتاب من ترجمة د‪ .‬نبيلة �إبراهيم‪� ،‬ضمن �سل�سلة كتب عامل‬ ‫املعرفة التي �أ�شرف عليها املجل�س الوطني للثقافة والفنون والآداب‪ ،‬الكويت‪ ،‬كانون الثاين ‪.1999‬‬ ‫‪ 10‬ن�شري يف هذا ال�سياق للعمل الرائد للأملانية زيغريد هونكه �شم�س العرب ت�سطع على الغرب «�أثر احل�ضارة العربية يف �أوروبة»‪ ،‬ترجمة‬ ‫فاروق بي�ضون وكمال د�سوقي‪ ،‬دار الآفاق اجلديدة‪ ،‬بريوت‪ .1986 ،‬ولكتاب د‪ .‬عبد الرحمن بدوي‪ ،‬دور العرب يف تكوين الفكر‬ ‫الأوروبي‪ ،‬وكالة املطبوعات‪ ،‬الكويت‪ ،‬ودار القلم‪ ،‬بريوت‪ .1979 ،‬والكتابان يف�صالن ت�أثري العرب على �أوروبة يف الريا�ضيات‬ ‫والفلك والأدب والفل�سفة والطب‪ .‬وبح�سب ر�أي عبد الرحمن بدوي ف�إنّ «املذاهب الرئي�سية والتيارات الكربى يف الفكر الفل�سفي‬ ‫الأوروبي يف القرون من الثالث ع�شر حتى ال�ساد�س ع�شر تدين بوجودها و�آرائها اجلديدة الأ�صيلة للفال�سفة العرب»‪ .‬وهذه هي‬ ‫الفرتة التي �شكلت �أ�سا�س نه�ضة �أوروبا‪.‬‬ ‫عدد رقم ‪� | 1‬أيـار‬

‫‪2013‬‬


‫‪76‬‬

‫العلمانية اليوم‬

‫املقولة الرابعة‪� :‬صحيح �أنّ تياراً قوياً يف الفكر العلماين الغربي حاول تف�سري الكون واحلياة‬ ‫تف�سرياً مادياً خال�صاً‪ ،‬و�أنّ هذا التيار ا�ستند للعلم التجريبي و�سطوته وقوته من �أجل تربير الإحلاد‬ ‫وا�ضح وكبري‪،‬‬ ‫ورف�ض الإميان باهلل تعاىل وبالأديان؛ ولكن �صحيح �أي�ضاً �أنّ هذا التيار تراجع ب�شكل ٍ‬ ‫و�أنّ �أغلب العلماء الغربيني وجدوا الإميان باهلل م َّربراً علمياً واعتربوه من احلقائق الرا�سخة‪.‬‬ ‫املقولة اخلام�سة‪ :‬هناك خلل يف حتديد املفاهيم ومعانيها‪ ،‬وخلل �آخر يف امليل �إىل �إ�ضفاء طابع ثابت‬ ‫جوهراين عليها‪ ،‬بدل فهمها يف �سياقها التاريخي وطبيعتها الن�سبية‪ ،‬فما هو الدين وما هي العلمانية؟‬ ‫�إن دين الإن�سان هو منظومة املبادىء والأفكار واالعتقادات التي يدين لها‪ ،‬والتي ي�ستلهمها وي�سرت�شد‬ ‫بها يف �سلوكه وعالقاته‪ .‬وقد �أطلق القر�آن الكرمي م�صطلح الدين على الكفر ذاته ‪ ،‬و�ضمن حرية‬ ‫الإن�سان يف �أن يدين مبا ي�شاء‪ ،‬فـ «ال �إكراه يف الدين» ‪ .‬وعليه ف�إن مفهوم الدين ي�شمل بذلك االعتقاد‬ ‫العلماين‪ ،‬لأن العلمانية هي يف النهاية اعتقاد مببادىء معينة‪ ،‬لكن ال ميكن اعتبار العلمانية ديناً م�ستنداً‬ ‫�إىل الوحي الإلهي مثل الإ�سالم وامل�سيحية واليهودية‪ .‬بل هي دين ي�ستند �إىل العقل الب�شري وال‬ ‫ُيعترب الوحي مرجعي ًة له‪ .‬ولكن هل يعني هذا انف�صا ًال تا ّماً بني الإ�سالم والعلمانية؟‬ ‫اجلواب قطعاً ال‪ ،‬وذلك ل�سببني‪ :‬الأول لأنّ الوحي ال ينف�صل عن العقل‪ ،‬فحتى ي�ؤمن الإن�سان‬ ‫ويدين بالوحي ال ّبد له من القناعة العقلية ب�صحة هذا الوحي و�أ ّنه �إلهي؛ و�أي�ضاً حتى يفهم‬ ‫الإن�سان الوحي وتعاليمه‪ ،‬وينزلها يف حياته‪ ،‬وي�ستنبط منها القوانني‪ ،‬ال ّبد له من العقل‪� .‬أ ّما‬ ‫ال�سبب الثاين ف�إنّ الإ�سالم والعلمانية يلتقيان عند اعتماد القانون الطبيعي‪ ،‬فكل القوانني‬ ‫ال�سائدة يف الدول العلمانية اليوم تعترب القانون الطبيعي �أ�سا�ساً من �أ�س�سها‪ ،‬وت�ستنبط منه وت�ستند‬ ‫�إليه‪ ،‬والإ�سالم يعترب ت�شريعاته ت�شريعات الفطرة‪ ،‬املتالئمة مع الطبيعة الب�شرية‪ ،‬فال ُين�سب املولود‬ ‫مث ًال لغري �أبيه و�أمه‪ ،‬وال ُتهدر كرامة الإن�سان ولو كان كافراً‪� ،‬أو كان يدين بغري الإ�سالم‪ ،‬وكال‬ ‫هذين املبد�أين مع َت َمدان يف القوانني العلمانية‪.‬‬ ‫باخت�صار ف�إنّ ما يفرق بني الدين والعلمانية مبفهومهما ال�شا�سع كامن يف نوع املبادىء التي يعتقدها‬ ‫الإن�سان‪�( ،‬سواء كان متدي ًنا �أم علمان ًيا)‪ .‬وهذه املبادىء التي يعتقدها النا�س ت�شرتك ب�شكل كبري‪،‬‬ ‫�أي �أن الإن�سان الذي يعتقد بدين �إلهي معني ي�شرتك يف االعتقاد مببادىء كثرية مع الإن�سان الذي‬ ‫يعتقد بدين �إلهي �آخر‪� ،‬أو ال يعتقد ب�أي دين (مبفهومه ال�شا�سع)‪ .‬كما �أن النا�س الذين يتبعون دي ًنا‬ ‫واح ًدا‪ ،‬ال يعتقدون باملبادىء الدينية ب�صورة متطابقة متا ًما‪ ،‬فداخل كل ديانة يوجد من ي�شرتك‬ ‫معهم يف مبادىء �أخرى‪.‬‬ ‫لذلك فقد جند متدي ًنا يعتقد مببادىء يعتقدها علماين وال يعتقدها علماين �آخر �أو متدين �آخر‪،‬‬ ‫فاالعتقادات واملبادئ التي ي�ؤمن بها الب�شر �أعقد من �أن ن�صنفها �ضمن ثنائية علماين‪-‬ديني‪.‬‬ ‫‪11‬‬

‫‪12‬‬

‫‪� 1 1‬سورة الكافرون‪« :‬قل يا �أيها الكافرون‪....‬لكم دينكم ويل دين‪».‬‬ ‫الغي»‪� ،‬سورة البقرة‪ ،‬الآية ‪.256‬‬ ‫‪« 1 2‬ال �إكراه يف الدين قد تبينّ الر�شد من ّ‬


‫االت�صال واالنف�صال بني الإ�سالم والعلمانية‬

‫العلمانية اليوم‬

‫‪77‬‬

‫�إذاً فالق�ضية يف التمييز بني الأفكار واملبادىء واالجتاهات واملواقف ال ميكن �أن تكون �صحيحة �إذا‬ ‫يف�سر‬ ‫اعتمدنا على �أ�سا�س ثنائية علماين‪ -‬ديني‪ ،‬بل يجب �أن ن�ستند �إىل �أ�سا�س �آخر ي�ستطيع �أن ّ‬ ‫لنا اختالف النا�س وتفرقهم يف الآراء‪ ،‬فما هو هذا الأ�سا�س؟‬ ‫�إن االعتقاد هو املحور الأ�سا�سي يف م�س�ألة التمييز بني الأفكار واملبادىء‪ .‬واالعتقاد يقوم بالأ�سا�س‬ ‫على قناعات فكرية ‪ -‬عقلية‪� ،‬أو خماوف �أو رغبات نف�سية �إن�سانية‪ ،‬ف�إميان الإن�سان بالعلوم التجريبية‬ ‫واقتناعه واعتقاده بخال�صاتها ونتائجها ناجم عن ا�ستنتاجات عقلية خال�صة‪ ،‬تعتمد على احل�س‬ ‫واملنطق يف حني �أن االعتقاد بالأرواح ال�شريرة ناجم عن م�شاعر اخلوف والرهبة التي يعي�شها حني‬ ‫يواجه املر�ض �أو امل�صائب والكوارث‪.‬‬ ‫�إذاً يجب �أن نعتمد البحث يف الأ�سا�س الذي ينبع من االعتقاد الإن�ساين‪ ،‬وهل هو عقلي؛ ح�سي‪-‬‬ ‫جتريبي؛ �أو منطقي برهاين؛ �أو نف�سي ناجم عن م�شاعر داخلية‪.‬‬ ‫املقولة ال�ساد�سة‪ :‬هناك م�شاكل منهجية يقع فيها الدار�سون واملفكرون حني يتطرقون ملو�ضوع‬ ‫الدين‪ .‬فهم ال مييزون بني دين و�آخر‪ ،‬وال مييزون بني الدين يف طوره الأول (عند الوحي به) ويف‬ ‫�أطواره الالحقة املتطورة عن الأ�صل الأول‪ ،‬وال يدر�سون ما فعله النا�س بالدين وكيف ّف�سروه‬ ‫واختلفوا يف فهمه‪.‬‬ ‫لذا ال ميكن احلديث عن تطابق املرحلة الأوىل من حياة اجلماعة الدينية و�أفكارها مع املراحل‬ ‫الالحقة‪ ،‬ولذا ال ميكن احلديث عن كلية دينية ثابتة وجوهرية ال تتغري‪� ،‬إذ �أنه هناك جوهر ثابت‬ ‫يتمثل باالعتقادات املتعلقة باهلل واليوم الآخر وغريها من الق�ضايا‪ ،‬ويوجد �إىل جانبه �أ�شكال ورموز‬ ‫وا�ستنباطات و�سلوكيات متغرية‪.‬‬ ‫�إذاً ما ميكن �أن نطلق عليه ديناً �سماوياً هو الوحي يف �صورته الأوىل‪ ،‬ولي�س الرتاث املرتاكم حول‬ ‫فهم هذا الوحي يف �صورته الأوىل والأ�صلية‪.‬‬ ‫العلمانية‪ :‬هل العلمانية �إذاً خروج عن جوهر الدين و�صورته الأوىل املوحى بها‪� ،‬أم �أنها خروج عن‬ ‫ت�أويالت النا�س عرب الع�صور لأ�سا�س الدين‪ ،‬وفهمهم املتغري له؟‬ ‫املقولة ال�سابعة‪ :‬حني نطرح ال�س�ؤال هل ميكن ف�صل الدين عن ال�سيا�سة؟ ف�إنّ اجلواب هو ال‬ ‫قط ًعا‪ ،‬وذلك للأ�سباب التالية‪:‬‬ ‫ �أو ًال‪� ،‬إن الدين حاجة �إن�سانية ومنظومة �سلوك وقيم عاملية يتبعها الب�شر يف كل مكان‪ ،‬وجندها‬ ‫يف كل مراحل التاريخ الب�شري وكافة املجتمعات الب�شرية‪ .‬وال�سيا�سة كذلك نظام �أ�سا�سي يف‬ ‫احلياة الإن�سانية‪ ،‬ال ميكن للمجتمع �أن يبقى وي�ستمر وينمو دون وجودها فكراً وممار�سة (حكماً)‪.‬‬ ‫لذا فالدين وال�سيا�سة موجودان دائماً يف حياة الب�شرية‪ ،‬ومل ينف�صال �أبداً‪ ،‬بل كان الدين دائماً‬ ‫ركناً من �أركان الفكر ال�سيا�سي‪ ،‬وكانت ال�سيا�سة دائماً ترتكز �إىل قوة الدين و�أثره يف املجتمع‪.‬‬ ‫عدد رقم ‪� | 1‬أيـار‬

‫‪2013‬‬


‫‪78‬‬

‫العلمانية اليوم‬

‫ ثان ًيا‪ ،‬ت�ستند ال�سيا�سة يف جزء مهم منها �إىل منظومة وا�سعة من القيم واملفاهيم املتعلقة بالوالء‬ ‫والطاعة وااللتزام مب�صلحة اجلماعة‪ ،‬وهي املنظومة التي ال تنف�صل �إطالقًا عن الدين‪ ،‬واملجتمع‬ ‫الذي يفتقد هذه املنظومة ال ميكن له اال�ستقرار وال اال�ستمرار‪ ،‬لذا فالدين يف جوهره الأخالقي‬ ‫والتعبوي مكون �أ�سا�سي لل�سيا�سة‪ ،‬فكراً وحكماً (تطبيقاً)‪ ،‬وتن�شئة‪ .‬ولذا جند �أن هذا الدور كان‬ ‫حا�ضراً يف الفكر ال�سيا�سي من عهوده الأوىل القدمية حتى وقتنا احلا�ضر‪ ،‬وال ي�ستثنى من ذلك‬ ‫حتى مفكري النه�ضة والعلمانية واحلداثة الأوروبية كميكافيللي ورو�سو ومونت�سكيو‪.‬‬ ‫اخلا�صة بالدول الغربية‪ ،‬التي ّتدعي‬ ‫�أما يف جمال املمار�سة‪ ،‬فالدين ي�ؤدي دوراً كبرياً يف ال�سيا�سة ّ‬ ‫�أنها علمانية تف�صل الدين عن ال�سيا�سة‪ ،‬ويكفي �أن نت�ساءل عن الأ�س�س التي قامت عليها �إ�سرائيل‬ ‫و�أخذتها هذه الدول التي ّتدعي العلمانية‪( .‬دور حركة الإ�صالح الديني يف تقوية التيار العلماين‬ ‫و�إ�ضعاف الكني�سة)‪.‬‬ ‫املقولة الثامنة‪ :‬ال ي�صح تق�سيم ال�ساحة الفكرية العربية اليوم بني تيارين �أحدهما ليربايل علماين‬ ‫ينم‬ ‫و�آخر ديني‪�-‬إ�سالمي‪ ،‬فال ما يطلق عليه التيار العلماين‪ ،‬وال ما يطلق عليه التيار الإ�سالمي‪ُّ ،‬‬ ‫موحد يف الفكر والأهداف وال�سيا�سات واملواقف‪ ،‬فهناك اختالفات �شديدة‬ ‫يف داخله عن ج�سم ّ‬ ‫وعميقة بني ت�شكالت وقوى موجودة داخل كل تيار من التيارين‪ .‬لذا ف�إنّ التق�سيم الذي �أدعو �إىل‬ ‫تبنيه يف �سياق البحث بالعالقة بني الإ�سالم والعلمانية هو بني قوى وتيارات و�أحزاب وت�شكالت‬ ‫اجتماعية مرتبطة باخلارج اال�ستعماري‪/‬االمربيايل ارتباطاً تبعياً‪ ،‬تفقد من خالله هويتها العربية‬ ‫و�أ�صالتها الثقافية‪/‬احل�ضارية‪ ،‬وح�ضورها الوطني وم�سئوليتها جتاهه‪ ،‬ومن هذه القوى من هو علماين‬ ‫ال�شكل وال�شعار‪ ،‬ومنها ما هو �إ�سالمي ال�شكل وال�شعار؛ وبني قوى �أخرى مناه�ضة ومقاومة للهيمنة‬ ‫الغربية‪ ،‬وهي �أي�ضاً تتنوع بني االنتماء العلماين والإ�سالمي‪ .‬فال�شيخ تاج الدين احل�سني الذي تولىّ‬ ‫رئا�سة اجلمهورية ال�سورية حتت الرعاية والكفالة وال�سيادة اال�ستعمارية الفرن�سية ال ميثل ب�أي حالٍ من‬ ‫الأحوال حالة دينية‪�-‬إ�سالمية‪ ،‬و�إن تز ّيا بها‪ .‬وموقف احل�سني يتناق�ض مع جتارب املقاومة امل�ستندة‬ ‫�إىل الأ�سا�س الإ�سالمي يف العامل العربي‪ ،‬مثل جتارب ال�سنو�سي واملهدي وعبد القادر اجلزائري‬ ‫وعبد الكرمي اخلطابي وعز الدين الق�سام وغريهم الكثري‪ .‬هذه القيادات العلمائية التي وقفت يف وجه‬ ‫اال�ستعمار الفرن�سي والربيطاين والإمربيالية الأمريكية واال�ستعمار ال�صهيوين‪ .‬و�أي�ضاً موقف قوى‬ ‫علمانية كثرية يف العامل العربي تدعو لالعرتاف ب�إ�سرائيل والتطبيع معها ال ميكن تعميمه على كل‬ ‫القوى العلمانية الأخرى التي ت�ساهم يف مواجهة �إ�سرائيل ومقاومة خمططاتها باملنطقة‪ ،‬مثل احلزب‬ ‫ال�سوري القومي االجتماعي مث ًال‪ .‬فال ي�صح �أن نقر�أ احلركات بنا ًء على مظهرها وز ّيها‪ ،‬بل ينبغي‬ ‫درا�ستها بنا ًء على موقفها يف معركة الدفاع عن الأ ّمة والوطن يف وجه الغزاة الطامعني‪.‬‬


‫االت�صال واالنف�صال بني الإ�سالم والعلمانية‬

‫العلمانية اليوم‬

‫‪79‬‬

‫خال�صة‪:‬‬

‫�إذا كان من املمكن حتديد مفهوم العلمانية كما ن�ش�أت وتبلورت يف ال�سياق الغربي فهي ال تعدو‬ ‫كونها فل�سفة للحياة تت�ضمن ثالثة م�ضامني �أ�سا�سية‪ :‬الأول الأخذ بالعلم التجريبي واالعتقاد‬ ‫بنتائجه؛ والثاين اعتماد العقل �أ�سا�ساً للتفكري والإميان‪ ،‬فما قبله العقل ي�ؤخذ به‪ ،‬وما رف�ضه فيرُ ف�ض؛‬ ‫�أما امل�ضمون الثالث فهو الأخذ مبا يحقق امل�صلحة العا ّمة‪ ،‬وهذه امل�ضامني الثالثة ال تتعار�ض مع‬ ‫الإ�سالم‪ ،‬فالإ�سالم حني انت�شر يف العامل ن�شر معه املنهج العلمي التجريبي والتفكري احلر و�أكد رقي‬ ‫الإن�سان بالعقل و�أنه تكرمي من اهلل له‪ ،‬كما جعل امل�صلحة العا ّمة �أ�سا�ساً يف الت�شريع وال�سيا�سة‪.‬‬ ‫لذا فالإ�سالم يلتقي يف الكثري من الأهداف والأ�س�س مع العلمانية‪ ،‬فعلى القوى الوطنية والتقدمية‬ ‫ال�ساعية لنه�ضة العرب وامل�سلمني ورفعتهم �أن تقف مع القيم الإن�سانية والعقالنية التي جاء بها‬ ‫الوحي الإلهي‪ ،‬و�أن متيز بني الوحي اخلال�ص وال�صادق وتبحث عن عالماته ودالالته العقلية‪ ،‬وبني‬ ‫تف�سرياته املتع�سفة وغري العقلية؛ وعلى القوى الدينية �أن تخرج من دائرة االنغالق يف فهم الدين‬ ‫و�أن تراه �إن�سان ًيا �أكرث منه حملياً �أو حزبياً‪.‬‬ ‫امل�صادر واملراجع‬

‫بدوي‪ ،‬عبد الرحمن‪ ،‬دور العرب يف تكوين الفكر الأوروبي‪ ،‬وكالة املطبوعات‪ ،‬الكويت‪ ،‬ودار‬ ‫القلم‪ ،‬بريوت‪.1979 ،‬‬ ‫التلحمي‪ ،‬عبد الرزاق‪« ،‬العلمانية مدلوالتها وتطورها»‪ ،‬يف كتاب‪� :‬أ�شقر‪ ،‬حممود �سعيد‪ ،‬وزواوي‪،‬‬ ‫خالد (حمرران)‪� ،‬إ�شكالية العالقة بني الدين وال�سيا�سة ‪ -‬م�ؤمتر بيت املقد�س الإ�سالمي الدويل‬ ‫الثالث‪ ،‬اجلزء الأول‪ ،‬دولة فل�سطني‪-‬وزارة الأوقاف وال�شئون الإ�سالمية‪ ،‬القد�س‪-‬العيزرية‪.2012 ،‬‬ ‫ترينر‪ ،‬هوارد‪ ،‬العلوم عند امل�سلمني‪ ،‬ترجمة فتح اهلل ال�شيخ‪ ،‬القاهرة‪ :‬املجل�س الأعلى للثقافة‪.2004 ،‬‬ ‫رانيال‪� ،‬أ‪ .‬ل‪ ،.‬املا�ضي امل�شرتك بني العرب والغرب �أ�صول الآداب ال�شعبية الغربية‪ ،‬ترجمة د‪ .‬نبيلة �إبراهيم‪،‬‬ ‫مراجعة د‪ .‬فاطمة مو�سى‪ ،‬املجل�س الوطني للثقافة والفنون والآداب‪ ،‬الكويت‪ ،‬كانون الثاين ‪.1999‬‬ ‫عبد الوهاب‪� ،‬أحمد‪ ،‬التغريب طوفان من الغرب‪ ،‬القاهرة‪ :‬مكتبة الرتاث الإ�سالمي‪.1990 ،‬‬ ‫عو�ض‪ ،‬رم�سي�س‪ ،‬الإحلاد يف الغرب‪� ،‬سينا للن�شر‪ ،‬القاهرة‪ ،‬وم�ؤ�س�سة الإنت�شار العربي‪ ،‬بريوت‪.1997 ،‬‬ ‫فايد‪ ،‬زكريا‪ ،‬العلمانية الن�ش�أة والأثر يف ال�شرق والغرب‪ ،‬الزهراء للإعالم العربي‪ ،‬القاهرة‪.1988 ،‬‬ ‫هونكه‪ ،‬زيغريد‪� ،‬شم�س العرب ت�سطع على الغرب «�أثر احل�ضارة العربية يف �أوروبة»‪ ،‬ترجمة فاروق‬ ‫بي�ضون وكمال د�سوقي‪ ،‬دار الآفاق اجلديدة‪ ،‬بريوت‪.1986 ،‬‬

‫عدد رقم ‪� | 1‬أيـار‬

‫‪2013‬‬


‫م�ؤ�س�سة �سعاده للثقافة‬

‫بناية ر�سامني‪� ،‬شارع احلمرا‪ ،‬ر�أ�س بريوت‪ ،‬لبنان‬ ‫�صندوق بريد‪ 113-5557 :‬بريوت ‪ -‬لبنان‬ ‫هاتف‪)00961-1( 753363 :‬‬ ‫فاك�س‪)00961-1( 753364 :‬‬ ‫الربيد الإلكرتوين‪saadehcf@idm.net.lb :‬‬ ‫املوقع الإلكرتوين‪www.saadehcf.org :‬‬


‫‪81‬‬

‫م�رشوعات �أ�سئلة يف مناخ التحوالت الإقليمية والدولية‬ ‫| حممود حيدر | باحث يف الفل�سفة ال�سيا�سية ‪-‬‬

‫امل�رشق‬

‫حراك اجليو�سرتاتيجيا العراقية‬

‫‪1‬‬

‫رئي�س مركز دلتا للأبحاث املع ّمقة ‪ -‬بريوت‬

‫�سوف يكون على قارئ امل�شهد العراقي �أن ي�أخذ بف�ضيلة ال�صرب‪ ،‬وهو مي�ضي يف املالحظة‪ .‬ف�إنه‬ ‫وقتئد‪ ،‬ب�إزاء م�شهد حتكمه قوانني جيو�سرتاتيجية ال قبل له بها‪ .‬ذاك �أن واقع احلال هو من الرتكيب‬ ‫والتعقيد‪ ،‬والتداخل‪ ،‬واملفارقة‪ ،‬ما يجعل حا�ضر العراق ومقبله مفتوحني على �أ�سئلة ت�أ�سي�سية‬ ‫تت�صل بدول اجلوار‪ ،‬مثلما تتعلق بتوا�صل وثيق مع املنظومة االجمالية التي حتكم العالقات الدولية‪.‬‬ ‫كل ما يف ال�صورة يجري جمرى التحول والتبدل وعدم الثبات‪ .‬فلقد �أدرك الغرب‪ ،‬ب�أمريكييه‬ ‫و�أوروبييه‪ ،‬ناهيك ببقية العامل‪ ،‬حقيقة �أن احلرب التي بد�أت بقرار مل تنته بقرار‪ ..‬و�أن التاريخ‬ ‫الذي �شُ َّن ْت احلرب عليه بو�صفه تاريخ �صدام ح�سني‪ ،‬مل ينته بانتهاء الأخري �إىل من�صة الإعدام‪.‬‬ ‫�أما اجلغرافيا التي قيل �إنها ا�ستبيحت و ُه ِز َم �أهلها‪ ،‬فلم تلبث حتى عادت ت�ستنتج قوانني جديدة‬ ‫يف ال�صراع على املعنى‪ ،‬وكذلك على التاريخ وال�سيا�سة والأمن واالقت�صاد واالجتماع‪.‬‬ ‫ترمي هذه الورقة �إىل االقرتاب من الو�ضعية اجليوبوليتيكية للعراق بعد التحرير‪ .‬وهي حتاول تبعاً‬ ‫لذلك‪ ،‬الإجابة على الت�سا�ؤالت التي تواجهها نخب املجتمع ال�سيا�سي العراقي وترتكز حول‬ ‫حمى التحوالت الكربى التي‬ ‫خريطة التمو�ضع التي �ستهتدي بها ل�صوغ ا�سرتاتيجياتها‪ ،‬يف ّ‬ ‫ت�شهدها املنطقة‪.‬‬ ‫ولقد وجدنا �أن ن�ؤ�س�س هذا االقرتاب على فر�ضية م�ؤداها‪� :‬أن امل�ؤثر اجليو�سرتاتيجي املحيط‬ ‫بالعراق‪ ،‬هو عامل �أ�سا�سي يف حتديد االجتاهات واخليارات املتخذة على ال�صعيد الوطني الداخلي‪،‬‬ ‫�أو يف ميدان العالقات الدولية‪.‬‬ ‫ومن البديهي �أن ت�أخذ هذه الفر�ضية وترية م�ضاعفة يف مناخ داخلي و�إقليمي ودويل‪ ،‬ينطوي على‬ ‫�سمة انتقالية �شديدة احل�سا�سية والتعقيد‪� .‬أما �صورة امل�ؤثر اخلارجي فقد برزت كفاعل حا�سم يف‬ ‫ر�سم الهند�سة االجمالية لل�سيا�سات املعتمدة داخل دول الإقليم‪ .‬حتى �إذا انفجرت التحوالت‬ ‫بعدد من دول امل�شرق العربي ومغربه مع بداية العام ‪ ،2001‬كانت �أدنى �إىل اختبارات تطبيقية‬ ‫للمدى الذي بلغه الت�أثري اجليو�سرتاتيجي على الكيانات الوطنية‪.‬‬ ‫مقدم اىل امل�ؤمتر العلمي ال�سنوي الثالث املنعقد يف بيت احلكمة ‪ -‬بغداد ‪ -‬حتت عنوان «النخبة والتح ّوالت االجتماعية يف‬ ‫ ‪ 1‬بحث ّ‬ ‫العراق املعا�صر» ‪ 4-3‬ت�شرين الأول ‪2012‬‬ ‫عدد رقم ‪� | 1‬أيـار‬

‫‪2013‬‬


‫‪82‬‬

‫امل�رشق‬

‫ال ين�أى العراق عن هذه القاعدة‪ ،‬بل قد يكون هو ال�صورة املثالية جلدلية الت�أثر والت�أثري بني احلالة‬ ‫الوطنية‪ ،‬وحالتي الإقليم والعامل‪� .‬إىل درجة �أن غراهام فولر وهو �أحد �أبرز ا�سرتاتيجيي الأمن‬ ‫الأمريكيني‪ ،‬ر�أى �إىل الو�ضعية العراقية على �أ�سا�س كونها حالة ا�ستثنائية يف منطق اجلغرافيا ال�سيا�سية‪.‬‬ ‫وقد جاء كالمه الفتاً يف معر�ض معاينته جلذرية الوطنية العراقية يف التعامل مع االحتالل‪ .‬مالحظاً �أنّ‬ ‫ال�شيء الذي ال ت�ستطيع �أن تقوم به �أية قوة احتالل‪ ،‬هو منع القوانني اجليوبوليتيكية للعراق من القيام‬ ‫بدورها‪ .‬فهذا البلد (بر�أيه) لن يتوقف عن كونه العراق حتى بعد رحيل حاكمه الدموي‪.‬‬ ‫ولأن امل�س�ألة العراقية هي على هذا القدر من احليوية‪� ،‬سرنى �أي�ضاً كيف �أن كثريين من علماء‬ ‫اجليوبوليتيك ذهبوا �إىل و�صف احتالل العراق كحادث عاملي م�ؤ�س�س لأطروحة جديدة يف‬ ‫ال�سيا�سة والأمن‪ ،‬ويف تداعيات اجلغرافيا الإ�سرتاتيجية على �أبواب القرن احلادي والع�شرين‪.‬‬ ‫ما مييز ال�صورة العراقية بعد التحرير‪ ،‬هو انحكامها �إىل ثالثة م�ؤثرات تدفعها على الدوام نحو‬ ‫مواجهة اال�ستحقاق الأعظم‪ ،‬وهو القلق املقيم على الأمن القومي وا�ستقرار املجتمع والدولة‪:‬‬ ‫امل�ؤثر الأول‪ :‬حروب اال�ستنزاف الدموية املفتوحة على الدولة واملجتمع والوحدة الوطنية‪.‬‬ ‫الثاين‪ :‬موجات االحتواء ال�سيا�سي املتواترة على النظام‪ ،‬وم�ؤ�س�سات احلكم‪ .‬الغاية منها على‬ ‫اجلملة‪ ،‬هي احل�ؤول دون متكني عراق ما بعد االحتالل من اال�ستقالل مبوقعيته ال�سيادية يف �إطار‬ ‫حركة اال�ستقطاب والتحالفات التي �أخذت حتفر م�ساراتها املدوية يف املديني الإقليمي والدويل‪.‬‬ ‫الثالث‪ :‬احتدام دويل يرتجم بال�صراع على الإقليم‪ ،‬وهو احتدام يعك�س يف وجه من وجوهه‬ ‫ا�ستئنافاً حلرب باردة من نوع جديد‪.‬‬ ‫ي�سري هذا مبوازاة وج ٍه �آخر للعراق ال تنفك تظهر معامله مع تقادم الزمن ال�سيا�سي وكثافته‪ .‬من‬ ‫�أظهر هذه املعامل‪ ،‬الت�سا�ؤالت التي تنعقد اليوم حول �إمكان تطور موقعية العراق اجليو�سرتاتيجية‪،‬‬ ‫ليكون القطب العربي الأكرث �أهلية للعب دور حموري يف عمليات اال�ستقطاب و�أنظمة الأمن‬ ‫وال�سيا�سات الإ�سرتاتيجية واالقت�صادية يف املنطقة‪...‬‬ ‫�أما ال�سمات الأ�سا�سية لهذه املوقعية املفرت�ضة فل�سوف ت�ؤلف مبجملها العنا�صر املكونة للت�صور‪،‬‬ ‫التي تبتغي هذه الورقة تظهريها للنقا�ش‪.‬‬ ‫لقد اكت�سب العراق �صفة جيو�سرتاتيجية حمورية‪ ،‬مرتني يف خالل �أقل من عقد من ال�سنوات‪.‬‬ ‫ال�سيا�سي وجغرافي ُته الوطنية �إىل ميدان ف�سيح حلرب عاملية رابعة‪،‬‬ ‫يف امل ّرة الأوىل‪ ،‬ملّا حت ّول كيا ُنه‬ ‫ُ‬ ‫احلد على نحو ن�صف قرن من احلرب الباردة‪.‬‬ ‫بادرت �إليها الواليات امل ّتحدة الأمريكية بعدما �أقامت ّ‬ ‫ويف املرة الثانية‪ ،‬ملّا حت ّرر �شعبه وكيانه ال�سيا�سي و�أر�ضه من االحتالل‪ ،‬وتزامن مع حت ّوالت ي�شري‬ ‫عنوانها الإجمايل �إىل والدة زمن جديد من التوازنات واال�ستقطابات والأحالف‪.‬‬


‫حراك اجليو�سرتاتيجيا العراقية‬

‫امل�رشق‬

‫‪83‬‬

‫يف امل ّرتني كان العراق حا�ضراً يف موازين وح�سابات القوى‪ ،‬حتى وهو ينوء ب�أثقال االحتالل‬ ‫وت�صدع م�ؤ�س�سات املجتمع والدولة‪ .‬ولئن كان هذا احل�ضور �سلبي ّا �إ ّبان االحتالل‪ ،‬فقد ظهر‬ ‫ّ‬ ‫�سينف�سح ل�شعبه ونخبه مع انكفاء املحت ّلني عن ترابه الوطني‪.‬‬ ‫مدى �آخ َر‬ ‫بو�ضوح بينِّ �أن ً‬ ‫ُ‬ ‫ولو �أنّ من ت�سا�ؤلٍ �إجمايل تدور هذه الورقة مداره‪ ،‬فهو يف مدى توفّر الت� ّصور النظري والإمكان‬ ‫العملي النتقال العراق من اال�ستباحة والوهن �إىل طور ال�سيادة واالقتدار‪.‬‬ ‫وبعبارات �أكرث حتديداً‪ :‬هل ميكن لدولة غادرت للت ّو جحيم االحتالل �أن تتحول �إىل حا�ضرة‬ ‫جيو�سرتاتيجية ت�ضطلع ك�شريك فاعل وم�ؤثر يف الإقليم �أوعلى نطاقٍ قاري؟‬ ‫لقد انك�سف امل�شهد العراقي بعد زوال االحتالل عن توفّر معطيات مو�ضوعية متنح َ‬ ‫املد َيينْ‬ ‫اجليوبوليتيكي (الداخلي) واجليو�سرتاتيجي (دول اجلوار والنطاق الدويل) القدرة على احل�ضور‬ ‫يبيت ّ‬ ‫متعذراً‬ ‫والتمو�ضع والت�أثري‪ .‬وب�سبب من تالزم َ‬ ‫املد َيينْ املذكورين يف ّ‬ ‫املقدمات والآليات والنتائج ُ‬ ‫احلديث عن اجليو�سرتاتيجيا من دون �أن متتلك النخبة الوطنية احلاكمة عوامل القوة التي ّمتكنها من‬ ‫�صوغ �سيا�سات م�ؤثرة يف حميطها‪ .‬فبهذا املعنى يرتتب عليها يف �سياق ن�شاطها اجليوبوليتيكي حتقيق‬ ‫�سعي موا ٍز �إىل توفري العنا�صر ال�ضرورية التخاذ قرارات بعيدة املدى‬ ‫الربنامج الإ�سرتاتيجي الوطني‪ ،‬مع ٍ‬ ‫على م�ستوى الإقليم ا�ستناداً �إىل القدرات الوطنية‪ .‬ذاك �أنّ من �أهم القواعد التي يقوم عليها الواقع‬ ‫اجليوبوليتيكي هي �أن تر�سم النخب الوطنية اخلطط التي ينبغي تطوير الدولة على �أ�سا�سها‪ ،‬و�أن ت�ضع‬ ‫ت� ّصوراً م�ستقبلياً حلالة هذه الدولة‪ ،‬وكل ذلك يف نطاق حراك ال ينقطع يف احلياة ال�سيا�سية الوطنية‪.‬‬ ‫يف احلالة العراقية الراهنة ّثمة ما ميكن و�صفه بو�ضعية جيوبوليتيكية يف طور التكوين‪� .‬سوى �أنها‬ ‫و�ضعية حيوية ت�ستمد حركتها من التداخل الوثيق بني حراك الداخل وحت ّوالت الأمداء اخلارجية‪.‬‬ ‫لكن القول ب�أن اجليوبوليتيكا العراقية مل تنجز بعد‪ ،‬هو قول م ّت�صل بانحكامها ل�شروط زمن انتقايل‬ ‫�شديد التعقيد‪ .‬ف�سرنى بو�ضوح �أنّ من �أبرز �شواهده تركة النظام البائد‪ ،‬ومرياث االحتالل وما‬ ‫ت�صدعات عميقة يف بنية املجتمع والدولة‪ .‬وهو ما �سري ِّتب على النخب الوطنية �أعباء‬ ‫�أ َّديا �إليه من ّ‬ ‫ا�ستثنائية وهي مت�ضي �إىل و�ضع ا�سرتاتيجيات �إعادة البناء يف احلقول املختلفة‪.‬‬ ‫ولبيان ما نذهب �إليه يف معنى اجليوبوليتيك كم�صطلح تطبيقي عام‪ ،‬وحلالة العراق بوجه خا�ص‪،‬‬ ‫هو «�سيا�سة اجلغرافيا الوطنية» املكان �أو مبعنى �أكرث دقّة «�إدارة املكان» من خالل تفعيل ما يحويه‬ ‫من �إمكانات وقدرات‪ ،‬لي�صبح قادراً عرب نخبه وقواه ال�شعبية على �صنع وتوليد احلقائق ال�سيا�سية‪.‬‬ ‫وثمة من يرى ‪ -‬وذلك �صحيح يف املثال العراقي‪� -‬أن اجليوبوليتيك هي الأر�ض التي ال تهد�أ‪،‬‬ ‫فتثري بذلك ما تختزنه من عنا�صر وقدرات و�سيا�سات تفتح �أمام نخبها و�ساكنيها �آفاق التحرير‬ ‫والنمو الداخلي والتطوير الوطني‪ ،‬وي�ضعها يف دائرة الت�أثري الإ�سرتاتيجي‪.‬‬ ‫هكذا تف�ضي �إعادة ت�شكيل اجليوبوليتيكا العراقية (�أي البناء الداخلي للعراق بحدوده املعرتف‬

‫عدد رقم ‪� | 1‬أيـار‬

‫‪2013‬‬


‫امل�رشق‬

‫‪84‬‬

‫بها دولياً)‪� ،‬إىل حقل نقا�ش عميق وم�صريي حول ماهية البلد وهويته يف زمن ما بعد االحتالل‪.‬‬ ‫فلم يعد ثمة ريب لدى النخب الوطنية من وجود م�شكل جوهري يتع ّلق بالقواعد اجليوبوليتيكية‬ ‫التي قامت عليها الوالدة الثالثة للعراق احلديث بعد النظامني امللكي والتوتاليتاري اللذين‬ ‫حكماه على مدار القرن الع�شرين املن�صرم‪.‬‬ ‫عيوب زمن االنتقال‬

‫من بواعث الإ�شكال الراهن �أن «الوالدة العراقية الثالثة» مل تكن طبيعية بحال من الأحوال‪.‬‬ ‫وهو ما يجعلها يف مو�ضع ا�ستثنائي يوجب التعاطي معها بطريقة ا�ستثنائية‪ .‬ف�إذا كان مقت�ضى‬ ‫م�سددة ب�إجماع‬ ‫اجليوبوليتيكا �أن يتوفّر للدولة املعنية دميقراطية تعددية تعبرّ عن نف�سها بحيوية ّ‬ ‫قومي ا�سرتاتيجي حول الق�ضايا ال�سيادية‪ ،‬فقد متو�ضعت حالة العراق قبل و�أثناء االحتالل على‬ ‫خالف املقت�ضى امل�شار �إليه‪ .‬ولذا قد يكون الأمر الذي ينبغي تفعيل النقا�ش ب�صدده هو �أن‬ ‫االنكفاء امليداين لالحتالل نقل الو�ضع �إىل طور جديد �سماته �أنه فتح الأبواب �أمام االحتمال‬ ‫الفعلي لإعادة ت�شكيل اجليوبوليتيكا العراقية‪.‬‬ ‫وعلى الرغم مما يكتنف العراق اليوم من عيوب تفرت�ضها مرحلة االنتقال‪ ،‬ف�إنه يظهر كمنف�سح‬ ‫�صعيد ْين‬ ‫جيوبوليتيكي يزخر بوعود جدية لدور مفرت�ض على م�ستوى الإقليم‪ .‬ولنا �أن ن�شري �إىل َ‬ ‫متواز َّيينْ ومتالزمَينْ ‪:‬‬ ‫�أوالً‪ -‬ال�صعيد الوطني‪:‬‬

‫ ‬

‫ ‬

‫ ‬

‫وال مقب ً‬ ‫قد يبدو ما �سبق القول �إليه �إن اجليوبوليتيكا الوطنية مل تنجز بعد‪ ،..‬ق ً‬ ‫وال من‬ ‫وجهة نظر الواقعية ال�سيا�سية‪ ،‬لكن مقت�ضى الواقعية نف�سها يوجب التعامل معها‪� -‬أي‬ ‫و�ضع داخلي‬ ‫مع اجليوبوليتيكا العراقية بعد االحتالل‪ -‬كحقيقة قطعت �شوطاً وازناً و�سط ٍ‬ ‫وحميط �إقليمي ّ‬ ‫يكتظ بالتعقيد والتناق�ض‪.‬‬ ‫ُّمتكن النخبة ال�سيا�سية احلاكمة مبكوناتها املختلفة من ا�ستيعاب املنعطف ال�سيا�سي الأمني‬ ‫الذي تزامن مع انكفاء االحتالل‪ُّ ،‬‬ ‫ومتكنها بالتايل من �إر�ساء م�سارات ت�ؤمن احلدود املعقولة‬ ‫من اال�ستقرار لإدارة العملية ال�سيا�سية‪� .‬سوى �أنّ ما يجعل هذه امل�سارات �أكرث ر�سوخاً‬ ‫ح�سن توظيفها يف �إطار ا�سرتاتيجية وطنية تكت�سب م�شروعيتها عرب امل�ؤ�س�سات املُ ْن َت َخ َبة‬ ‫وتداول ال�سلطة‪.‬‬ ‫�إجماع عام على التعاطي مع فكرة الدولة ومنطق عملها كمرجعية حا�ضنة ل�سائر القوى ال�سيا�سية‬ ‫على الرغم من االختالف واخلالف حول هذه الفكرة بني القوى والأحزاب والتك ّتالت‪.‬‬


‫حراك اجليو�سرتاتيجيا العراقية‬

‫امل�رشق‬

‫‪85‬‬

‫ثانيا ً‪� -‬صعيد الإقليم والعامل‪:‬‬

‫ ‬

‫ ‬ ‫ ‬

‫ّ‬ ‫�شكل انكفاء االحتالل بالتوازي مع قدرة م�ؤ�س�سة احلكم على ملء الفراغ وتظهري القرارات‬ ‫ال�سيادية داخلياً وخارجياً‪ ،..‬عالمة فارقة يف مناخ عربي و�إقليمي بدت فيه ال�سيادات الوطنية‬ ‫عر�ضة لالخرتاق واال�ستباحة‪ .‬وثمة ما يحملنا على الظن �أنّ عراق ما بعد االحتالل‪ ،‬قد‬ ‫يكون واحداً من بني الدول القليلة يف املنطقة والعامل ممن ُيف َتح لنخبها ال�سيا�سية الوطنية‪،‬‬ ‫باب الرهان على بناء دولة �سيدة م�ستق ّلة‪ ،‬ذات ح�ضور م�ؤثّر على امل�ستوى اجليو�سرتاتيجي‪.‬‬ ‫�إنّ ما ت�شي به «اجليولوجيا ال�سيا�سية العربية» من تداعيات و�آثار‪� ،‬سيكون من �ش�أنه �أن ي�ضاعف‬ ‫من حيوية الرهان ال�سيادي للنخبة العراقية‪ ،‬وال �سيما �إذا عرفنا �أن الإقليم‪ ،‬ف�ض ًال عن العامل‪ ،‬بد�أ‬ ‫ي�شهد تراجعاً ب ِّيناً للأحادية القطبية وحتكماتها يف قرارات احلرب وال�سلم واالقت�صاد و�أنظمة القيم‪.‬‬ ‫لي�ست لعبة م�صادفة �أن يتزامن االن�سحاب من العراق مع انكفاء الأحادية القطبية‪ .‬فمثل‬ ‫هذا التزامن يرتجم املنطق الداخلي لل ّتحوالت التي ع�صفت ب�أمريكا مع حقبة املحافظني‬ ‫اجلدد‪ ،‬وما تركته هذه احلقبة من نتائج قلقة على مهمة ودور �أمريكا يف العامل‪ ،‬وجوهر هذين‬ ‫«املهمة والدور»‪ ،‬يف زمني ما بعد احلرب الباردة واحلادي ع�شر من �أيلول‪�/‬سبتمرب‪.‬‬

‫الأ�سئلة املطروحة على �أمريكا اليوم كبرية وخطرية‪ ،‬بقدر ما هي طبيعية‪ ،‬فالدولة التي �أحرزت‬ ‫ن�صراً مد ّوياً على امل�ؤ�س�سة ال�شيوعية يف �شرق �أوروبا‪ ،‬ال ي�سعها � اّإل �أن متلأ الفراغ الذي �أحدثه‬ ‫مثل هذا االنت�صار‪ ،‬على النطاق العاملي ّ‬ ‫ككل‪ .‬غري �أن ملء الفراغ نف�سه‪ ،‬فكرة تبعث على احلرية‬ ‫والقلق‪ ،‬وا�ستيالد الأ�سئلة‪ ،‬و�إ�شارات اال�ستفهام‪ .‬ذلك �أنّ الأمر يتعلق ب�شروط التك ُّيف مع الواقع‬ ‫العاملي اجلديد‪ .‬وهي �شروط ُتلزم قبل كل �شيء وجوب االعرتاف ب�أنّ الن�صر كالهزمية له ثمن‪.‬‬ ‫وغالباً ما يكون ثم ُنه باهظاً‪� .‬إذ على املنت�صر �أن يفي ب�ضريبة تت�صاعد با�ستمرار‪ ،‬ك ّلما كان له وحده‬ ‫الأمر والنهي يف ت�شكيل �أو �إعادة ت�شكيل‪ ،‬منظومة العالقات الدولية‪.‬‬ ‫الهواج�س التي متكث النخب الأمريكية �ضمن دوائرها‪ ،‬تت�صل عموماً‪ ،‬باملهمة التي على الواليات‬ ‫امل ّتحدة �أن ت�ؤديها �إزاء نف�سها و�إزاء العامل يف �آنٍ واحد‪.‬‬ ‫ويف الهواج�س ت�سا�ؤالت مل ُي َجب عنها بعد‪:‬‬ ‫ كيف ميكن لأمريكا �أن تقود العامل؟ وكيف ميكنها القبول بعامل متعدد الأقطاب؟‬ ‫ ثم كيف لها �أن تتك َّيف و�شروط زعامتها الدولية‪ ،‬يف عامل زاخر بالتناق�ضات والال َيقني‪ .‬ويف‬ ‫مناخ عاملي مملوء بركام هائل من النزاعات‪ ،‬والتوترات‪ ،‬والع�صبيات الإيديولوجية‪ ،‬وكذلك‬ ‫الفو�ضى العارمة يف االقت�صاد وال�سيا�سة واالجتماع والأمن؟‬ ‫عدد رقم ‪� | 1‬أيـار‬

‫‪2013‬‬


‫‪86‬‬

‫امل�رشق‬

‫لي�س من الي�سري بلوغ �أجوبة وافية عن �أ�سئلة وت�سا�ؤالت من هذا النوع‪ .‬حتى رموز الفكر ال�سيا�سي‬ ‫الأمريكي‪� ،‬سواء �أولئك الذين يف ال�سلطة ب�صفة م�ست�شارين للرئي�س‪� ،‬أو الذين يعملون ب�صفة �شبه‬ ‫ر�سمية يف مراكز التخطيط اال�سرتاتيجي‪ ،‬ف�إنهم غري م ّتفقني يف الغالب على �سياق واحد من الأجوبة‬ ‫واالحتماالت‪ .‬بني ه�ؤالء و�أولئك‪ ،‬املت�شائم الذي ال يرى ملقبل الدولة الأمريكية � اّإل ما توقّعه لها‬ ‫ّ‬ ‫املفكر االقت�صادي بول كينيدي قبل ب�ضع �سنوات‪ ،‬يف كتابه «�صعود و�سقوط القوى الكربى»‪ ،‬وفيه‬ ‫�أنّ الإمرباطورية تنهار بعد �أن تتعاظم وتقوى‪ ،‬حينما جتاوز التزاماتها حدود قدراتها‪ .‬ويف تقدير �أن�صار‬ ‫وحجتهم يف‬ ‫هذا الر�أي‪� ،‬أنَّ الواليات امل ّتحدة الأمريكية اليوم‪ ،‬هي متثيل منوذجي لنظرية كينيدي‪ّ .‬‬ ‫ذلك �أنّ �أمريكا �سارت يف طريق االنحدار‪ ،‬بعدما �أ�صبحت ت�ستنزف نف�سها يف التزامات ع�سكرية‬ ‫واقت�صادية و�سيا�سية وا�سعة فوق طاقتها‪� .‬إنه الطريق نف�سه الذي �سلكته من قبل الإمرباطوريات‬ ‫الإ�سبانية والفرن�سية والربيطانية والرو�سية والعثمانية ثم �آلت اىل اال�ضمحالل ‪.‬‬ ‫ولنا �أن ن�ستذكر يوماً لي�س ببعيد‪ّ ،‬‬ ‫ويدل على الدرجة القيا�سية التي �أظهرها ّ‬ ‫اخلط البياين يف �صعود‬ ‫�أمريكا وانكفائها يف خالل العقدين املن�صرمني‪ .‬فلقد �أُعلن عن غزو العراق بالرتافق مع الك�شف‬ ‫عن ا�سرتاتيجية �إدارة بو�ش للأمن القومي التي �شاعت حتت عبارة «الإ�سرتاتيجية الإمربيالية‬ ‫الكربى اجلديدة»‪.‬‬ ‫م�ؤ ّدى هذه الإ�سرتاتيجية كما هو معروف‪ :‬عزم الواليات امل ّتحدة الأمريكية ال�سيطرة على العامل‪،‬‬ ‫حتد حمتمل لهذه ال�سيطرة‪ ،‬وال�سماح للأمم املتحدة �أن تكون ذات �صلة بها‪� ،‬إن هي‬ ‫وتدمري �أي ٍّ‬ ‫�أق ّرت مب�ضامينها �أو العمل بها‪ ،‬و�أن يكون غزو العراق هو االختبار الأ ّول للمبد�أ اجلديد لإ�سرتاتيجية‬ ‫الأمن القومي القائم على ال�ضربات اال�ستباقية ‪.‬‬ ‫الإ�سرتاتيجية �إياها �سيطلق عليها ّ‬ ‫املفكر الفرن�سي ف‪ .‬ب‪ .‬هويغيه عبارة «اجلنون الإ�سرتاتيجي»‪.‬‬ ‫وهذه العبارة هي املعنى املوازي ملا �أُطلق عليه «احلرب اال�ستباقية» �أو «احلرب الالمتكافئة»‪ .‬لكن‬ ‫حمملة بتغطية فكرية‬ ‫مهما كانت ت�سميتها‪ ،‬فالثابت �أنها حرب ُولِدت على �أر�ض العراق‪ ،‬وكانت ّ‬ ‫و�إعالمية وا�سعة النطاق عنوانها العام «احلرب �ضد الإرهاب»‪ .‬ووفق مبد�أ ال�ضربة اال�ستباقية‪،‬‬ ‫ُيفرت�ض �أن ت�ؤدي هذه الإ�سرتاتيجية املجنونة ‪ -‬بح�سب هويغيه ‪ -‬وظيفة مث ّلثة الأبعاد‪:‬‬ ‫ �أوالً‪ :‬ا�سرتاتيجية ومادية‪ :‬وتقوم على حرمان اخل�صم من قواه قبل �أن يتمكن من الو�صول �إىل‬ ‫الواليات امل ّتحدة وذلك عرب تدمري قواعده اخللفية‪.‬‬ ‫ ثانيا ً‪ :‬رمزية ورادعة‪ :‬توجيه ر�سالة قوية للإرهابيني والدكتاتوريني و�إفهامهم �أنّ الواليات‬ ‫امل ّتحدة �سرتد على كل �ضربة‪ ،‬وحتبط م�شاريعهم ومتنع انت�شارها باخلوف من القوة العظمى‪.‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪3‬‬

‫املعمقة ‪-‬‬ ‫ ‪ 2‬حممود حيدر ‪-‬الهوت الغلبة‪ -‬الت�أ�سي�س الديني للفل�سفة ال�سيا�سية الأمريكية‪ -‬دار الفارابي ومركز دلتا للأبحاث ّ‬ ‫بريوت‪.2009 ،‬‬ ‫‪ 3‬نعوم ت�شوم�سكي ‪ -‬من يدير العامل؟ ‪ -‬نق ً‬ ‫ال عن موقع ‪zmag.org 7/6/2004‬‬


‫امل�رشق‬

‫حراك اجليو�سرتاتيجيا العراقية‬

‫‪87‬‬

‫ ثالثا ً‪� :‬أيديولوجية و�سيا�سية‪ :‬وخال�صتها ن�شر الدميقراطية يف العامل‪� ،‬أو ما ي�سمى باحلكم‬ ‫مقدمة لن�شر‬ ‫ال�صالح‪ .‬ذلك يعني ‪ -‬كما يبينِّ اخلرباء ‪� -‬أنّ ترويع �أعداء �أمريكا لي�س �سوى ّ‬ ‫احلكم ال�صالح يف الكرة الأر�ضية ك ّلها وتعميم ثقافة ال�سوق وحقوق الإن�سان‪ .‬فامل�شروع يهدف‬ ‫وفق التعبري املعتمد �إىل جعل العامل مكاناً �أكرث �أماناً للدميقراطية‪ ،‬وهذا يعني ب�شكل خا�ص‬ ‫�آمناً للواليات املتحدة‪ .‬ولقد كانت هذه الإ�سرتاتيجية تنتظر يف �أدراج املحافظني اجلدد طيلة‬ ‫�أكرث من عقد من الزمن قبل و�صولهم اىل ال�سلطة‪ .‬وهي يف جوهرها تطابق ما �سبق للفيل�سوفة‬ ‫الأملانية‪ -‬الأمريكية حنة �أرندت ‪� ،Hannah arendt‬أن ّنظرت له يف خالل حرب فيتنام‪« :‬يجب‬ ‫�أن جنعل من عر�ض �صورة معينة قاعدة ل�سيا�سة �شاملة‪ ،‬ونعمل لي�س على غزو العامل‪ ،‬بل‬ ‫على التفوُّ ق يف معركة ت�ستهدف عقول النا�س‪ ،‬وهذا �شي ٌء جديد و�سط هذا الكم الهائل من‬ ‫�سجله التاريخ» ‪.‬‬ ‫اجلنون الب�شري الذي ّ‬ ‫مل ي�ؤ ِّد التنظري الأمريكي على النحو الذي م ّر معنا �إىل �إعادة �إنتاج الف�ضاء العاملي على ن�صاب‬ ‫الهيمنة ال�شاملة‪ .‬فمن املخترب العراقي �ستبد�أ �إرها�صات املراجعة اجلذرية حل�صاد التورط املجنون‬ ‫الذي بد�أت وقائعه املعا�صرة بعد احلادي ع�شر من �أيلول ‪ .2001‬ففي �سياق مطالعاته النقدية‬ ‫ل�سلوك املحافظني اجلدد‪ ،‬يالحظ زبيغنيو بريجن�سكي جملة حتوالت رئي�سية �شهدها العامل منذ‬ ‫العام ‪� ،1990‬أي خالل انح�سار التناف�س الدويل‪ ،‬حيث مل ت�ستطع ال�سيا�سة اخلارجية الأمريكية‬ ‫اال�ستفادة منها �أو التفاعل معها على النحو الأف�ضل‪ ،‬وهي‪ :‬انهيار االحتاد ال�سوفياتي‪ ،‬واالنت�صار‬ ‫الأمريكي الع�سكري يف حرب اخلليج الأوىل يف ‪ ،1991‬وات�ساع حلف «الناتو» �شرقاً بان�ضمام‬ ‫املزيد من دول �أوروبا ال�شرقية لي�صبح بذلك �أكرث التجمعات الدولية ت�أثرياً ونفوذاً على ال�ساحة‬ ‫العاملية‪ .‬ويقارن بريجن�سكي بني �صورة الواليات املتحدة يف العامل عام ‪ 1989‬عند �سقوط حائط‬ ‫برلني وانهيار االحتاد ال�سوفياتي‪ ،‬حني كانت �صورتها مقبولة يف كافة �أنحاء العامل بال مناف�سة‬ ‫�أو كراهية‪ ،‬والو�ضع الذي ا�ستقرت عليه حالياً‪ ،‬حيث باتت م�شاعر العداء لوا�شنطن القا�سم‬ ‫امل�شرتك بني معظم �شعوب العامل والعامل الإ�سالمي ب�صفة خا�صة‪ .‬وي�صف حرب العراق بالكارثة‬ ‫اجليوبوليتيكية التي �صرفت االنتباه واملوارد عن جمابهة الإرهاب يف �أفغان�ستان وباك�ستان‪ ،‬و�أدت‬ ‫�إىل زيادة التهديدات الإرهابية املوجهة �ضد الواليات امل ّتحدة‪ ،‬معترباً �أنه لن يكون للواليات‬ ‫املتحدة ما هو �أ�سو�أ من تبنيها �سيا�سة ينظر �إليها العامل على �أنها امتداد للحقبة اال�ستعمارية‪.‬‬ ‫ثم يخل�ص بريجن�سكي �إىل �أن املوقف املتدهور لو�ضع الواليات املتحدة يف العامل الآن �سيحتاج‬ ‫ل�سنوات من العمل اجلاد واخلالق لإعادة االعتبار ل�شرعية وم�صداقية الواليات املتحدة كقائدة‬ ‫للعامل‪ .‬وذلك يعني �ضرورة �أن يتحلى الرئي�س الأمريكي مبهارات دبلوما�سية ا�سرتاتيجية‪ ،‬وغري‬ ‫تقليدية كي ي�صوغ �سيا�سة خارجية تتنا�سب مع التحوالت الكربى ‪.‬‬ ‫‪4‬‬

‫‪5‬‬

‫‪ 4‬ف‪ .‬ب‪ .‬هويغيه ‪ -‬اجلنون الإ�سرتاتيجي يف احلرب العاملية الرابعة‪ -‬جملة «مدارات غربية» العدد الثاين ‪ -‬بريوت ‪ -‬متوز ‪� -‬آب‬ ‫‪ 5‬الكالم املن�سوب لربيجن�سكي نق ًال عن موقع «تقرير وا�شنطن» ‪-‬راجع �أي�ضاً «ال�سفري» البريوتية‪ -‬اخلمي�س ‪ 5‬ني�سان‪ /‬ابريل‬

‫‪2004‬‬

‫‪2007‬‬

‫عدد رقم ‪� | 1‬أيـار‬

‫‪2013‬‬


‫‪88‬‬

‫امل�رشق‬

‫ت�أ�سي�ساً على ت� ّصو ٍر كهذا‪ ،‬ي�ستطيع العراق �أن ي ّتخذ لنف�سه منطقة و�سطى داخل فو�ضى اال�ستقطاب‪،‬‬ ‫من دون �أن يعني ذلك اعتماد �سيا�سة احلياد ال�سلبي يف الق�ضايا ذات الطابع امل�صريي للمنطقة‪،‬‬ ‫وخ�صو�صاً يف ما يتع ّلق بال�صراع العربي الإ�سرائيلي وحت ّوالت الق�ضية الفل�سطينية‪ ،‬وحروب‬ ‫االحتالل والغزو والفنت الأهلية والتفتيت الوطني‪.‬‬ ‫ ‬ ‫املنطقة الو�سطى و�إدارة التعقيد ‬

‫قد تكون �سرتاتيجية �إدارة التعقيد هي العنوان الأكرث تنا�سباً مع ما ذهبنا �إىل ت�سميته بـ «املنطقة‬ ‫ِ‬ ‫مقت�ضيات ا�سرتاتيجية كهذه توفري �آليات عمل ت ّت�سم باملرونة يف ميدان التو�سط‬ ‫الو�سطى»‪� .‬إذ من‬ ‫حلل امل�شكالت وت�سوية النزاعات‪ .‬ويف املقابل ف�إنّ من املقت�ضيات اال�سرتاتيجية لدول ٍة تعترب‬ ‫ال�سيادة يف ر�أ�س �أولوياتها‪� ،‬أن تدخل بال حرج يف احلراك اجليو�سرتاتيجي الذي بدا �أن احلياد معه‬ ‫هو �أم ٌر م�ستحيل‪...‬‬ ‫وفقاً ملوقعيته اجليو�سرتاتيجية وتكوينه الدميغرايف الديني والثقايف‪ ،‬واالجتاهات املتوقّعة ل�سيا�ساته‬ ‫اخلارجية‪ ،‬ي�ستطيع العراق يف �إطار مهمة �إدارة التعقيد �أن ي�شكل �صلة الو�صل بني �إيران ودول‬ ‫اخلليج (وبع�ض حكومات العامل العربي)‪ ،‬باجتاه خف�ض من�سوب التوتر املزمن بينهما‪ .‬وعلى ال�ضفة‬ ‫الأخرى من احليوية املفرت�ضة للموقعية العراقية‪ ،‬ف�إن من بديهيات التمو�ضع �أن تنحو النخبة احلاكمة‬ ‫نحو الدخول يف حركة التدافع وال�صراع‪ ،‬التي ت�شهدها منطقة الفراغ الإ�سرتاتيجي‪ ،‬التي يعي�شها‬ ‫عامل ما بعد الواحدية القطبية‪ .‬ولذا �سيكون التح ُّيز يف ا�صطفافات نظام الأمن الإقليمي قدر‬ ‫العراق وخياره يف امل�ستقبل املنظور‪ .‬ولقد بدا الفتاً للخرباء كيف �أمكن العراق وقد خرج لت ّوه من‬ ‫وط�أة االحتالل �أن ي ّتخذ مواقف دقيقة وح�سا�سة وذات طبيعة جيو�سرتاتيجية �صريحة الدالالت‪.‬‬ ‫فلقد جرى احلديث وملا يزل عن ت�شكيل املحور العربي القاري من رو�سيا وال�صني �إىل �إيران عرب‬ ‫العراق و�سوريا‪ ،‬بالإ�ضافة �إىل حركات التحرير الوطني يف لبنان وفل�سطني‪ .‬وهو حمور مفرت�ض‬ ‫ي�شكل تكت ًال جيو�سرتاتيجياً معادياً للأمركة‪.‬‬ ‫كان عامل اجليوبوليتيكا الرو�سي «�ألك�سندر دوغني» يرى �أنّ العامل الإ�سالمي مو ّزع يف نهاية القرن‬ ‫عدة اجتاهات‪ :‬االجتاه الأ�صويل الثوري الإيراين؛ التيار العلماين الرتكي؛ التيار العروبي‬ ‫الع�شرين بني ّ‬ ‫العراقي ال�سوري؛ والتيار ال�سلفي ال�سعودي‪ .‬و�إذ ُي�سقط �صاحب هذه النظرة من ح�سابه التيارين‬ ‫الرتكي وال�سعودي‪ ،‬يروح ي�ؤكد على �أهمية احل�ضور الإيراين والعراقي وال�سوري‪ ،‬ف�ض ًال عن تيار‬ ‫التحرير واملقاومة‪ ،‬يف �إقامة حلف قاري مع رو�سيا وال�صني يف م�ستهل القرن احلادي والع�شرين‪.‬‬ ‫�أما ملاذا ذهب �إىل هذا‪ ،‬وقد و�ضع ت�صنيفاته تلك قبل حت ّوالت املنطقة �إثر زلزال ‪� 11‬أيلول ‪ ،2001‬فلأنه كان يبحث‬ ‫مدى جيو�سرتاتيجي لرو�سيا ما بعد املرحلة ال�سوفياتية‪ّ ،‬ميكنها من مواجهة احللف الغربي اليورو‪� -‬أمريكي‪.‬‬ ‫عن ً‬


‫حراك اجليو�سرتاتيجيا العراقية‬

‫امل�رشق‬

‫‪89‬‬

‫مثل هذا الت� ّصور يكت�سب اليوم �أهمية ا�ستثنائية بعد التح ّول العميق يف منظومات الأمن‬ ‫وال�سيا�سة‪ ،‬خ�صو�صاً مع االنكفاء الأمريكي الغربي عن �أر�ض العراق‪ ،‬وبداية متو�ضع هذا البلد‬ ‫�ضمن منف�سح تكثرُ فيه احتماالت بناء الدولة ووعود اال�ستقالل الوطني‪ ،‬ومقومات الت�أثري يف‬ ‫عامل عربي يفتقد �إىل احلد الأدنى من املرجعية‪.‬‬ ‫لكن ال�س�ؤال الذي يظل ُيطرح يف كل اجتاه هو التايل‪:‬‬ ‫�إىل �أي م�سافة من الرهان ميكن للعراق �أن يتخذ لنف�سه موقعية جيو‪� -‬سرتاتيجية ذات �أثر وازن‬ ‫وحا�سم يف نظام الأمن الإقليمي يف الوقت الذي يحتاج فيه ككيان وطني �إىل هند�س ٍة معرفية تعيد‬ ‫ن�صاب جديد من الوحدة واالقتدار والت�أثري؟‬ ‫�إنتاجه على ٍ‬ ‫التفكيك الوطني كعامل �إ�ضعاف للجيو‪� -‬سرتاتيجيا‬

‫ال يغرب عن وعي النخب العراقية م�س�ألة الإنتماء الوطني مبا هي م�س�ألة ت�أ�سي�سية لعراق ما بعد‬ ‫االحتالل‪ .‬ويل �أن �أم�ضي �إىل ما مي�ضي �إليه جم ٌع وازن من النخب‪ ،‬جلهة �أن الدولة كناظم د�ستوري‬ ‫�سيا�سي و�أمني تبقى امل�آل الأخري لأي م�شروع يعيد �إنتاج الهوية الوطنية اجلامعة‪.‬‬ ‫فما فعله االحتالل الأمريكي‪ ،‬كمثل ما يفعله � ُّأي احتالل‪ ،‬هو حتويل الو�ضع اجليوپوليتيكي للبالد‬ ‫�إىل ما هو �أ�شبه مب�ستوطنات تتوزعها �أعراق وطوائف متناحرة‪ ،‬جاع ًال بن َي ِت ِه الدميوغرافية �أحياء مغلقة‬ ‫تقطنها جماعات م�سكونة باخلوف والهلع والتوج�س‪.‬‬ ‫وعلى امل�ستويني النظري والعملي يظل النكو�ص املجتمعي نحو هويات متعددة م�صدراً ل�صراعات‬ ‫متمادية بني �أهل البلد الواحد‪ .‬وتدل الوقائع على �أنه من دون الإلتقاء الطوعي حول امل�شرتك‬ ‫الأعلى‪ ،‬اي حول دولة كمرجعية ك ّلية‪ ،‬لن يكون ثمة نهاية منظورة لالحرتاب الناجت عن احتدامها‪.‬‬ ‫لقد ّ‬ ‫�شكلت حقبة االحتالل متثي ًال منوذجياً للنكو�ص املجتمعي باجتاه الهويات الفرعية‪ .‬كما �أفلح‬ ‫املحتل يف عمليات التفكيك على قاعدة الوهن الذي َّ‬ ‫حل على البنية العراقية منذ ما �سمي بـ «حرب‬ ‫اخلليج االوىل ‪� .»1991‬أما الطور التايل من الغزو ال�شامل للبالد يف العام ‪ 2003‬فقد كان من �ش�أنه �أن‬ ‫ي�ضاعف من ال�صدع البنيوي الذي �سي�ضرب الدولة واملجتمع على نحو متوا ٍز ومنهجي يف الآن عينه‪.‬‬ ‫اذا كانت العمليات التفكيكية للهوية الدينية هي �أدنى �إىل جدا ٍر �إ�سمنتي يحول دون تبلور و�إجناز‬ ‫الإطار اجليوبوليتيكي الذي ُيفرت�ض �أن ي�ؤ�س�س لدولة موحدة ومن�سجمة ‌‪ ،‬فمن البديهي �أن تكون‬ ‫الغاية الق�صوى للنخب العراقية هي ك�سر هذا اجلدار من خالل ا�ستعادة مفهوم الدولة واملواطنة‬ ‫وو�ضعه على ن�صاب جديد‪.‬‬ ‫ولئن كان ثمة من باب ُيفتح على التفا�ؤل‪ ،‬فهو يف ما انتهى اليه �سقوط الديكتاتورية ورحيل‬ ‫عدد رقم ‪� | 1‬أيـار‬

‫‪2013‬‬


‫‪90‬‬

‫امل�رشق‬

‫االحتالل من حقائق وتبدالت‪ .‬ن�شري يف هذا اخل�صو�ص �إىل �أن حترر احلالة العراقية اجلديدة من‬ ‫الواحدية االيديولوجية‪� ،‬سوف يتيح ملنظومة احلكم اجلديدة منف�سحاً تكون فيه مركز جاذبية ل�سائر‬ ‫االيديولوجيات امل�شاركة يف ال�سلطة‪ .‬كما مينحها امل�شروعية الفعلية يف �إدارة التعقيد الذي يكتظ به‬ ‫املجتمع ال�سيا�سي العراقي بعد زوال االحتالل‪.‬‬ ‫وال تتوقف ح�سنات التحرر من الواحدية االيديولوجية عند هذا احلد‪ ،‬بل هي متتد لتعني �سلطات‬ ‫الدولة على توفري التوا�صل بني �أقطاب وتكوينات الكرثة العراقية بتنوعاتها القومية والدينية‬ ‫وال�سيا�سية وااليديولوجية‪.‬‬ ‫وعلى الرغم مما يظهره ال�سجال الداخلي حيال م�ساوىء الد�ستور ومواطن الوهن فيه‪ ،‬فهو يظل‬ ‫�إطاراً مرجعياً �ضرورياً لتوفري م�ستلزمات االنتقال �إىل و�ضعية م�ستقرة‪.‬‬ ‫لو �أجمع العراقيون عل ‌ى مفهوم موحد للوطنية‪ ،‬ف�إن لهم �أن ينظروا �إ ‌ىل «الدولة املدنية» كمرجعية‬ ‫�سيا�سية حقوقية عليا تقدر على �أن حتكم بروح القانون وتف�صل فيما يختلفون فيه‪ .‬وهو ما يرتب‬ ‫عل ‌ى النخبة التاريخية يف العراق اجلديد القيام مبهمة تنظريية غايتها تظهري فكرة الدولة بو�صفها‬ ‫ق�ضية ثقافية ومعرفية و�أخالقية جامعة ملكونات املجتمعني ال�سيا�سي واملدين على ال�سواء‪.‬‬ ‫ت�ستطيع النخبة التاريخية العراقية لو �أفلحت يف القيام مبهمتها التنظريية تلك‪� ،‬أن تقدم منوذجاً‬ ‫للدولة واحلكم واملجتمع ال�سيا�سي مل ي�سبق �أن توفَّر له نظري يف دولة عربية من قبل‪� .‬إذ بهذا‬ ‫النموذج الذي ينبغي للنخب العراقية بذل اجلهد لإجنازه ميكن �أن ي�س ّوى م�شكل تكويني مزمن‬ ‫داخل البناء اجليوبولتيكي ملعظم دول امل�شرق‪ .‬وهو امل�شكل املتمثل ب�صريورة الدولة معاد ًال‬ ‫ونظرياً للحاكم الفرد‪ .‬وهو الأمر الذي �أ ّدى يف ما م�ضى‪ ،‬ف�ض ًال عما ن�شهد اليوم‪� ،‬إىل فنت وحروب‬ ‫�أهلية وا�ستدعاءات للغزو الأجنبي‪ .‬فالدولة املدنية ت�ؤ�س�س ل�سياق �آخر ولزمن جديد‪ ،‬بحيث ال‬ ‫يعود املدى الوطني الداخلي مبجاالته ال�سيا�سية واالجتماعية والثقافية واملعرفية جمرد‌ كهف مغلق‬ ‫يلغي التنوع ويقيم احلد على كل غريية واختالف‪.‬‬ ‫دولة العناية كمقرتح لال�ستثناء العراقي‪:‬‬

‫يقدمه العراقيون لأنف�سهم وللعرب‪ ،‬هي منظومة تنتمي يف‬ ‫«الدولة املدنية» املقرتحة كنموذج ّ‬ ‫�صفاتها �إىل طراز يتعدى ال�شائع يف �أدبيات الفكر ال�سيا�سي الكال�سيكي‪� ،‬أو يف ما نالحظه من‬ ‫مداوالت بني النخب العربية واال�سالمية املعا�صرة‪.‬‬ ‫ف�إذا كانت �صورة اجلدل الذي ينمو بقوة يف الغرب تدور حول وجوب اعادة االعتبار لدولة‬ ‫الرعاية‪ ،‬ف�إن ما تفرت�ضه اجليوبوليتيكا العراقية ‪ -‬ف�ض ًال عن ت�سييل هذا املفهوم ب�أبعاده وقواعده‬ ‫التقليدية‪ ‌-‬وجوب فتح الكالم على ما ن�سميه بــ«دولة العناية»‪ .‬ومثل هذا املقرتح نفرت�ض �أنه‬


‫حراك اجليو�سرتاتيجيا العراقية‬

‫امل�رشق‬

‫‪91‬‬

‫ينا�سب احلاجات التي ت�ستلزمها الو�ضعية االنتقالية املعقدة التي يعربها عراق ما بعد االحتالل‪.‬‬ ‫ثقيل‬ ‫�إن ما يحملنا على هذا َّ‬ ‫كحمل ٍ‬ ‫املدعى هو مالحظتنا للمهمات ذات الطابع التاريخي امللقاة ٍ‬ ‫على االنتلجن�سيا العراقية املنخرطة يف �إدارة الدولة وم�ؤ�س�سات املجتمعني املدين وال�سيا�سي‪.‬‬ ‫ما ينبغي قوله يف هذا ال�ش�أن‪� ،‬إن قيام دولة العناية �أم ٌر م�شروط بتالزم ثالثة �أركان ال منا�ص من‬ ‫توافرها لعراق حديث و�سيد ومقتدر‪:‬‬ ‫الأول‪ :‬ركن العلم واملعرفة‪:‬‬

‫وهو ما ال منا�ص من التوفر عليه لدولة تع�صف بها رياح مثلثة االجتاهات‪ :‬اال�ستبداد‪ ،‬واالحتالل‪،‬‬ ‫وفو�ضى �إعادة البناء‪ .‬الغاية من هذا الركن بالن�سبة للنخبة العراقية هي ر�سم هند�سة معرفية م�ؤداها‬ ‫ما يلي‪� :‬إحالل املتحد ال�سيا�سي املتعدد االقطاب حمل �أحادية اال�ستبداد‪ ..‬وب�سط ال�سيادة الوطنية‬ ‫حمل االحتالل‪ ،‬و�صوغ ا�سرتاتيجيات التنمية ال�سيا�سية واالقت�صادية واالجتماعية مبن�أى من‬ ‫اال�ستتباع الق�سري �إىل املركز الر�أ�سمايل النيوليربايل‪.‬‬ ‫�أما مقت�ضى فالح النخبة يف �إجناز ا�ضالع هذا الركن‪ ،‬فيقوم على �إيالء البحوث العلمية يف امليادين‬ ‫املختلفة مقاماً ا�ستثنائياً على نحو ي�ؤ ِّمن قواعد التنمية واالكتفاء الذاتي‪ .‬كما يقوم على الإفادة من‬ ‫جتارب التنمية ال�شاملة يف البلدان واملجتمعات املتقدمة‪ ،‬وفتح الآفاق على ما تنطوي عليه تلك‬ ‫التجارب من علم م�ستحدث يفتح �آفاق التقدم والتحديث والع�صرنة‪.‬‬ ‫الثاين‪ :‬ركن الأخالق والقيم‪:‬‬

‫ركن يت�صل بعمق يف اجلواب على �س�ؤال الدولة جلهة ماهيتها وهويتها‪ .‬ويف الو�ضعية العراقية‬ ‫وهو ٌ‬ ‫يت�ضاعف الرهان على هذا الركن كعامل حا�سم يف بلورة اجلواب على خا�ص َّية مركزية من خ�صائ�ص‬ ‫الدولة الناجحة‪� .‬أما الق�صد من تظهري هذه اخلا�ص َّية فيكمن يف مقدرة النخبة على ح�سم اجلدل‬ ‫ال�سلبي بني الديني والدنيوي‪ .‬وذلك من خالل حتويل وجهي املعادلة �إىل طاقة حيوية خ ّالقة يف‬ ‫�إعادة ت�أ�سي�س الدولة واملجتمع وامل�ؤ�س�سات على ن�صاب النمو والتكامل واجلمع بني االميان الديني‬ ‫وال�سيا�سة املدنية و�صناعة اال�سرتاتيجيات الوطنية يف عامل ممتلىء بعوامل االحتدام‪ .‬وما دمنا يف‬ ‫معر�ض الكالم على دولة العناية‪ ،‬ف�إن كثرياً من ال�صفات التي ت�ستلزم جالء �صورتها‪� ،‬سوف حتتل‬ ‫مكاناً �أعلى مما نتخ َّيل‪ .‬لعل ال�صفة االبرز يف �صفاتها املتعددة هي �أنها دولة مدنية بامتياز‪ .‬فلئن كانت‬ ‫نظرية الدولة تطوي يف �أعماقها بعداً وجودياً بالن�سبة ملواطنيها‪ ،‬فذلك يعني �أننا ب�إزاء ق�ضية فل�سفية‬ ‫مركبة‪ .‬ولذا ف�إن �آليات التفكري التي ت�ضبط �سريورة ُّ‬ ‫�سيا�سية َّ‬ ‫التحكم بها �سوف تف�ضي بنا �إىل‬ ‫الدخول يف لعبة �سجالية جتري وقائعها �ضمن حقول امليتافيزيقا‪ .‬فالقيادة اال�سرتاتيجية عندما جتد‬ ‫عدد رقم ‪� | 1‬أيـار‬

‫‪2013‬‬


‫‪92‬‬

‫امل�رشق‬

‫نف�سها �أنها �أمام �أحد خيارين‪ :‬الوجود والالوجود‪ .‬احلياة واملوت‪ ،‬ال�سيادة وال ّال�سيادة‪ ،‬ف�إن معايري‬ ‫الر�ؤية وقواعد النظر �سوف تتبدل على اجلملة لت�ستوي على ن�صاب فوق عادي‪ .‬فامل�س�ألة النووية‬ ‫مثال وهي امل�س�ألة الأكرث تهديداً مل�صري الب�شرية‪ -‬ال تتوقف عند حدود ال�سيا�سة وح�سب‪ ،‬بل‬ ‫كذلك وب�صورة �أعمق و�أ�شمل على امليتافيزيقا كما يبينِّ اال�سرتاتيجي الفرن�سي جان غيتون‪ .‬ذلك‬ ‫�أنَّ الق�ضايا العليا املتعلقة مبعنى احلياة‪ ،‬واالختيار بني الكل والال�شيء لي�ست َع َر�ضية‪ .‬كذلك ال‬ ‫تعود الأخالق وامليتافيزيقا معزولة داخل ال�ضمائر الفردية‪� ،‬أو موقوفة على الأديان‪ .‬بل �إنها تغادر‬ ‫�س ّر ال�ضمائر وتندرج يف التجربة‪ ،‬يف ال�سيا�سة والق�ضايا الدولي ‌ة وح�سابات اال�سرتاتيجيا ‪.‬‬ ‫مثل هذه الإحالة �إىل املنطقة الق�صوى من ن�شاط الفكر اال�سرتاتيجي تبدو لنا �ضرورية يف معر�ض‬ ‫الكالم على «دولة العناية»‪ .‬وما ذاك �إال لأن العراق واقع اقليمي ودويل ا�ستثنائي‪ ،‬ميلي على‬ ‫ُن َخ ِب ِه الوطنية وقواه ال�سيا�سية �أفهاماً وتدبريات توازي هذا الواقع وت�ستجيب ل�ضروراته‪ .‬ولأن دولة‬ ‫العناية تقع يف ر�أ�س هذه ال�ضرورات‪ ،‬فمن البديهي �أن ُينظر اليها على �أنها الغاية التي ت�سعى‬ ‫الكتلة التاريخية العراقية الجنازها كنموذج وطني وجيو�سرتاتيجي وح�ضاري يف الآن عينه‪.‬‬ ‫‪6‬‬

‫الثالث‪ :‬ركن القدرة والتخطيط اال�سرتاتيجي‪:‬‬

‫وهو يجمع بني ركني العلم واالخالق‪ ،‬ويقوم على ح�سن توظيف القوى والقدرات الكامنة‬ ‫يف املجتمع والدولة‪ .‬ومن دواعي التفا�ؤل �أن عوامل القدرة يف العراق كثرية‪ ..‬وهي ذات قيمة‬ ‫ا�ستثنائية يف تكوين هذا الركن‪ ،‬حيث ميكن �إجمالها مبا يلي‪:‬‬ ‫ العامل احل�ضاري التاريخي‪ ،‬او ما ي�سمى باجلغرافيا التاريخية لبالد ما بني النهرين والأهمية‬ ‫العظمى التي ت�شكلها يف امليادين احل�ضارية والدينية واالقت�صادية واال�سرتاتيجية‪ ،‬وبالتايل‬ ‫�أثرها احلا�سم يف املثلث القاري (�آ�سيا‪ -‬افريقيا واوروبا املتو�سطية)‪.‬‬ ‫ العامل االقت�صادي ب�شطريه النفطي واملائي‪.‬‬ ‫ العامل اجليو‪ -‬ب�شري‪ ،‬وغنى التنوع الدميغرايف‪.‬‬ ‫ العامل ال�سيا�سي‪ ،‬وما ينطوي عليه يف ف�ضاء التعددية احلزبية‪ ،‬ويف انفتاح �أفق التنوع‬ ‫ال�سيا�سي والثقايف على والدات جديدة لفعاليات املجتمع املدين‪.‬‬ ‫ العامل العلمي والثقايف يف ميادين االبداع والفن والبحوث العلمية‪.‬‬ ‫ العامل الدويل‪/‬االقليمي وحاجته �إىل منطقة و�سطى ت�شكل جما ًال لإدارة الأزمات والت�سويات‬ ‫واحللول‪ .‬ول�سوف تت�ضاعف احلاجة �إىل مثل هذه املنطقة الو�سطى يف مناخ جيو�سرتاتيجي‬ ‫‪ 6‬جان غيتون‪-‬الفكر واحلرب‪ -‬امل�ؤ�س�سة العربية للدرا�سات والن�شر‪ -‬بريوت‪� 1988-‬ص‬

‫‪11‬‬


‫حراك اجليو�سرتاتيجيا العراقية‬

‫امل�رشق‬

‫‪93‬‬

‫م�شحون مب�شاريع احلروب وباحتماالت االنفجار كل حلظة‪ .‬ولعل ا�ستقرا ًء �إجمالياً ملا م َّر معنا من‬ ‫خ�صو�صيات جيو�سرتاتيجية لعراق ما بعد الديكتاتورية واالحتالل‪� ،‬سوف يف�ضي �إىل �إمكان �أن‬ ‫ي�شكل تلك املنطقة الو�سطى‪ ،‬من دون �أن يعني ذلك التمو�ضع خارج دوائر اال�ستقطاب والتح ُّيز‪.‬‬ ‫ت�ؤلف هذه االركان الثالثة وحدة عمل ا�سرتاتيجية لنخب احلكم واملعار�ضة يف �آنٍ واحد‪ .‬فهي‬ ‫تر�سم للإجماع الوطني حدوده الكربى واال�سا�سية يف جدلية االتفاق واالختالف‪ .‬كما ت�ؤ�س�س‬ ‫لقواعد عقالنية يف �إدارة التزاحم على ال�سلطة‪ .‬و�أما التالزم بني مكارم االخالق وروح القانون‬ ‫يف دولة العناية فمن �ش�أنه �أن مينحها القدرة على �ضبط النخب �ضمن حدود التقوى ال�سيا�سية‬ ‫يف تدبري ال�ش�أن العام‪� .‬إذ عندما يتحقق التالزم امل�شار اليه ي�صري امل�سلك االخالقي والعمل‬ ‫ال�سيا�سي تبعاً لروح القانون واحداً‪ ،‬فال يعود ثمة انف�صال بني الأمرين‪ .‬يف املقابل ي�ؤدي هذا‬ ‫التالزم �إىل حترير دولة العناية من �إلزامات الدر�س «املقد�س» للماكيافيللية‪ ،‬الذي غالباً ما يلقي‬ ‫بثقله على احلكام متى يجدون �أنف�سهم يف تلك املنطقة ال�صعبة بني الأخذ مبت�ساميات القيم‪،‬‬ ‫و�ضرورات احلفاظ على م�صاحلهم ال�سيا�سية‪� ،‬أو على امل�صالح الوطنية العليا للبالد‪.‬‬ ‫رب قائل �إن الأخذ بخيار دولة العناية هو �أدنى �إىل حلم رومان�سي كثرياً‌ ما يلتجىء اليه اليائ�سون‬ ‫جلي من �أزمات الر�أ�سمالية النيوليربالية‪ .‬امل�س�ألة تتجاوز‬ ‫من ا�صالح دولهم وهي ت�ستغرق يف بحر ٍّ‬ ‫مثل هذا التب�سيط‪ .‬ذاك �أن دولة العناية و�إن بدت بعيدة املنال يف زمن اال�ستباحة الذي يع�صف‬ ‫ب�سيادات الدول‪ /‬الأمم منذ نهايات القرن الع�شرين‪ ،‬هي دولة واقعية لو توفرت لها �إرادة اال�شتغال‬ ‫على مثلث املعرفة والتب�صُّ ر ا ُخل ُلقي والتخطيط اال�سرتاتيجي‪.‬‬ ‫وهذه االرادة ممكنة‪ .‬فعلى الرغم مما تظهره تداعيات ما بعد االحتالل من �سحب قامتة‪ ،‬يبقى الف�ضاء‬ ‫مفتوحاً �أمام ن�شوء وتبلور كتلة تاريخية م�سكونة ب�شغف املبادرة �إىل عمل نه�ضوي ي�سمو فوق يوميات‬ ‫ال�سلطة ومنازعاتها‪ ،‬ويتطلع �إىل دولة مدنية ع�صرية م�سددة بالإيثار الوطني ومنطق القوانني‪.‬‬ ‫ولأن دولة العناية ت�ستوجب قيادة اعتنائية مدركة وعاملة ومتلك �أهلية العقد واحلل‪ ،‬ف�إن من �ش�أنها‬ ‫توليد و�إنتاج نخب تعمل على �شاكلتها‪ ،‬وتلتزم قواعد االعتناء التي قامت عليها‪� ،‬سواء ما ات�صل‬ ‫منها ب�أنظمة القيم والقوانني اجلديدة‪� ،‬أو جلهة �صوغ اال�سرتاتيجيات ال�سيا�سية واالقت�صادية الآيلة‬ ‫�إىل حتقيق العدل يف توزيع الرثوة الوطنية‪ ،‬والتوازن يف االجتماع ال�سيا�سي وتداول �سلطة احلكم‪.‬‬ ‫ولذا فامل�سار الذي حتفره دولة العناية على �صعيدي احلكم واملجتمع‪ ،‬هو م�سار دميقراطي تراحمي‬ ‫تتالقى فيه �إرادة االعتناء يف مقام الغرية على الوحدة الوطنية والعدالة االجتماعية‪ ،‬ب�إرادة‬ ‫االعرتاف وامل�ساحمة يف مقام العمل ال�سيا�سي وتدبري ال�ش�أن العام‪ .‬لن�أخذ مث ًال يتعلق بال�سلم‬ ‫االهلي‪ .‬فالكالم على ال�سالم يف دولة خارجة من عتمة اال�ستبداد واالحتالل كالعراق اليوم‪،‬‬ ‫يفرت�ض مواجهة �إ�شكالية العنف‪ ،‬والكيفية التي ينبغي �أن تتم فيها هذه املواجهة‪.‬‬

‫عدد رقم ‪� | 1‬أيـار‬

‫‪2013‬‬


‫‪94‬‬

‫امل�رشق‬

‫�إذا كانت الدميقراطية الرتاحمية هي الطريق املفرت�ض حلالة كاحلالة العراقية‪ ،‬فذلك ال يعني‬ ‫قيام هذا النوع من الدميقراطية على ال�سلبية واالمتثال لفو�ضى التدمري والت�شظي واالحرتاب‬ ‫االهلي‪ ،..‬فدولة العناية املت�أ�س�سة على مثلث القانون واالخالق والتخطيط‪ ،‬ت�ستطيع �إجراء تقدير‬ ‫دقيق بني ا�سرتاتيجية الالعنف الآيلة اىل حتقيق ال�سالم الوطني و�ضرورة مواجهة العنف الذي‬ ‫ال يزال يع�صف بالكيان الوطني عرب �آليات وطرق وكيفيات خمتلفة‪ .‬واذاً‪ ،‬فالدميقراطية الرتاحمية‬ ‫التي �أخذت بها دولة العناية‌ �سبي ًال لإدارة تعقيداتها‪ ،‬هي دميقراطية مو�صولة بالقدرة على ا�ستيالد‬ ‫الأمن كمك ِّون �سيادي يقع يف ا�صل والدتها‪ .‬وعلى هذا اال�صل ال�سيادي ت�ستطيع دولة العناية‬ ‫اكت�شاف البدائل الالعنفية كا�سرتاتيجية عليا لها‪ ،‬بد ًال من مواجهة العنف بعنف م�ضاد‪ .‬وذلك‬ ‫ا�ستناداً �إىل القاعدة الكلية التي تقول �إن العنف املفتوح يف�ضي �إىل الفو�ضى املفتوحة‪ .‬وهكذا ف�إن‬ ‫الو�صول �إىل ف�ضيلة ال�سالم العام وال�شامل يفرت�ض بال�ضرورة احتكار القدرة على �ضبط العنف‬ ‫حتت �سقف الد�ستور وروحانية االعتناء‪.‬‬ ‫بهذا املعنى �سيكون يف �إمكان دولة العناية �أن تو�صي بالعنف امل�شروع عند ال�ضرورة املطلقة‪� ،‬إما‬ ‫لتقاوم اعتداء دولة ما‪� ،‬أو لتكبح امتداد االرهاب الداخلي‪� ،‬أو لتواجه جرائم الإف�ساد والف�ساد‬ ‫والإ�ضرار بحقوق اجلماعات والأفراد‪ .‬وف�ض ًال عن ذلك‪ ،‬ف�إن فكرة «املهابة» بحد ذاتها ال تفارق‬ ‫نت به‪ ،‬ا�ستحال تهومياً‬ ‫مبد�أ العناية‪ ،‬بل هي يف وجه من وجوهها‪ ،‬حت�صني لهذا املبد�أ الذي �إن مل ُيع َ‬ ‫ذهنياً ال يع َّول عليه‪ .‬ولذا ف�إن مقت�ضى العناية بهذا املعنى هو �صون القيم واملعايري واالعراف‬ ‫والقوانني التي متنع العنف قبل وقوعه‪.‬‬ ‫�إن ما تفعله دميقراطية الرتاحم يف هذه املنزلة بالذات‪� ،‬أنها تقدم نف�سها كحا�صل القرتان روح‬ ‫القانون بالتب�صر االخالقي‪ .‬ولذلك فهي دميقراطية تقوم على التنازل الطوعي من جانب قواها‬ ‫املتعددة‪� ،‬إىل الدولة الواحدة اجلامعة‪ .‬ولئن ظهر وك�أننا ب�إزاء اطروحة لدميقراطية �سلبية‪ ،‬لأنها تدعو‬ ‫�إىل تنازل كل فريق عن �شيء من امتيازاته‪ ،‬فما ذاك يف حقيقة الأمر �سوى �إجراء خالق �أنتجته‬ ‫املنظومة ال�سيا�سية لدولة‌ العناية‪ .‬ف�إنها بهذا حتفظ للقوى ح�ضورها وفعالياتها وت�صلها مبرجعية‬ ‫الدولة‪ ،‬مثلما حتفظ لهذه املرجعية دميومتها ور�سوخها واقتدارها‪.‬‬ ‫ُّ‬ ‫للت�شكل‬ ‫عند هذه الدرجة من الدميقراطية ذات ال�سمة االعتنائية‪ ،‬تنفتح الآفاق الفعلية‬ ‫اجليوبوليتيكي الوطني كطور ال بد منه لتحقيق احل�ضور اجليو‪� -‬سرتاتيجي يف االقليم ف�ض ًال عن‬ ‫املجال الدويل االو�سع‪.‬‬ ‫�إن ما حتمله دولة العناية من وعود جلهة البناء الوطني واحل�ضور يف الأمداء اجليو�سرتاتيجية‪ ،‬يعود‬ ‫بالتحديد �إىل قدرتها على التمو�ضع يف املنطقة الو�سطى التي ت�شكل �أر�ض اللقاء بني اجليوبوليتيك‬ ‫الوطني‪ ،‬والقدرة على‌ حتويله �إىل م�ؤثر اقليمي وقاري ودويل وازن يف انظمة الأمن وال�سيا�سة‬ ‫واالقت�صاد‪ ،‬وبالتايل ك�شريك يف التنمية احل�ضارية لعامل القرن احلادي والع�شرين‪.‬‬


‫‪95‬‬

‫امل�رشق‬

‫�سوريا والق�ضية الفل�سطينية‬ ‫| �سركي�س ابو زيد | قدّمت قي ‪ 2012/3/19‬يف ندوة «�سورية والق�ضية الفل�سطينية» مبكتبة الأ�سد ‪ -‬دم�شق‬

‫«�سوريا والق�ضية الفل�سطينية» عنوان غري دقيق ال بد من ا�ستبداله بعنوان �أ�صح وهو‪�« :‬سوريا‬ ‫وق�ضيتها»‪ ،‬لأن فل�سطني هي جزء من الذات ال�سورية‪ .‬فال فل�سطني ميكن �أن تتحرر من دون �سوريا‪.‬‬ ‫وال �سوريا قادرة �أن تدير ظهرها لفل�سطني وترفع �شعار �سوريا �أو ًال‪ ،‬لأنها عندئذ تفقد معناها ودورها‬ ‫وذاتها‪ .‬على عك�س غريها من الدول العربية التي فكت ارتباطها بالق�ضايا القومية امل�شرتكة وال‬ ‫�سيما امل�س�ألة املركزية فل�سطني‪.‬‬ ‫ال�صراع اليوم على �سوريا ويف �سوريا هو �صراع ب�سبب فل�سطني �أو ًال‪� .‬إنه �صراع من �أجل �ضمان‬ ‫�أمن �إ�سرائيل‪ ،‬و ا�ستكمال �سلب كامل �أر�ض فل�سطني‪ ،‬ما ي�ستلزم �إ�ضعاف �سوريا والهاءها مب�شاكلها‬ ‫الداخلية حتى تتمكن الدولة اليهودية من فر�ض م�شروعها وتو�سيعه تدريجياً بالتهويد واال�ستيطان‬ ‫حيناً‪ .‬والتو�سع عندما تتاح الظروف واالمكانيات‪.‬‬ ‫بهذا املعنى ال�صراع يف املنطقة هو �صراع على وجودنا كهوية وحق وم�صري‪ ،‬وهو لي�س جمرد �صراع‬ ‫على حدود الدولة اليهودية التي تر�سمها موازين القوى والت�سويات ال�سيا�سية املرحلية‪.‬‬ ‫�إنه �صراع وجود وم�صري بني م�شروعني‪:‬‬ ‫�إما �أن تكون �إ�سرائيل الكربى من النيل اىل الفرات وهو �شعار مرفوع فوق الكني�ست اال�سرائيلي‬ ‫وتطبيقه مرهون بقوة ا�سرائيل وقدرتها على التمدد‪.‬‬ ‫و�إما �أن تكون �سوريا الكربى �أو الطبيعية �أو الهالل اخل�صيب �أو �سوراقيا �أو امل�شرق العربي �أو اجلبهة‬ ‫ال�شرقية وهي �أ�سماء متعددة ملكان واحد ممتد من اخلليج �إىل املتو�سط‪ ،‬ومن جبال طورو�س �إىل‬ ‫ال�سوي�س وحتقيقه مرهون بقوة الأمة وحيويتها وقدرتها على التغلب على انق�ساماتها الذاتية‪.‬‬ ‫بهذا املعنى احلروب التي خا�ضتها اجلمهورية العربية ال�سورية مل تكن حروباً للدفاع عن فل�سطني‬ ‫بل عن ذاتها ووجودها‪ .‬كما �أن احلروب التي خي�ضت �ضدها‪ ،‬وتخا�ض اليوم عليها‪ ،‬لي�س املق�صود‬ ‫منها �إخ�ضاع �سوريا وتق�سيمها �أو احتواءها لذاتها‪ ،‬بل ن�صرة للم�شروع ال�صهيوين اال�ستعماري‬ ‫الذي ي�ستهدف حماية �أمن �إ�سرائيل وم�صالح الر�أ�سمالية الغربية‪ ،‬خا�صة الواليات املتحدة‬ ‫االمريكية ومنع �سورية من حتقيق ذاتها عرب تعطيل نه�ضتها وا�ستنزافها بفو�ضى وحروب �أهلية وفنت‬

‫عدد رقم ‪� | 1‬أيـار‬

‫‪2013‬‬


‫‪96‬‬

‫امل�رشق‬

‫و�إغراقها يف فراغ القوة‪ .‬وهي املخططات ال�صهيونية (اليهودية ‪ -‬الغربية ‪ -‬العربية) التي �شهدناها‬ ‫يف العراق وفل�سطني ولبنان ون�شهدها اليوم يف �سوريا‪.‬‬ ‫وعلى هذا اال�سا�س ُي�سمح ملجل�س التعاون اخلليجي �أن يجتمع و�أن يتحول �إىل احتاد ملمالك‬ ‫و�إمارات اجلزيرة العربية‪ .‬كما ُ�سمح لت�شكيل احتاد املغرب العربي‪ ،‬و�إعادة �إحيائه م�ؤخراً لدعم‬ ‫انظمته الفتية يف ليبيا وتون�س واملرتنحة يف املغرب واجلزائر‪ .‬بينما كل اجلهود من�صبة ملنع �أي تقارب‬ ‫يف امل�شرق العربي‪ ،‬والعمل على �إغراق دوله يف حروب داخلية تق�سيمية لتفكيك املجتمع وملزيد‬ ‫من التجزئة‪ ،‬وكل ذلك ب�سبب وجود ار�ض واحدة‪ ،‬يتنازع عليها م�شروعان متناق�ضان وجودياً‪:‬‬ ‫ا�سرائيل الكربى و�سوريا الكربى‪.‬‬ ‫من هذه الر�ؤية �سوف �أ�ستعر�ض الق�ضية ال�سورية ودورها يف ال�صراع الوجودي امل�صريي �ضد‬ ‫ا�سرائيل‪� ،‬صراع ق�ضيته اال�سا�سية وحدة الوجود القومي وم�س�ألته املركزية وقبلته فل�سطني‪� .‬إنه‬ ‫�صراع �سوري‪ -‬ا�سرائيلي مو�ضوعه اال�سا�سي فل�سطني‪.‬‬ ‫هذه الدرا�سة موزعة على ‪ 6‬حماور ا�سا�سية‪:‬‬ ‫يف البدء كانت الوحدة ال�سورية‬

‫لن �أعود �إىل الوحدة عرب التاريخ القدمي يف هذه العجالة �س�أكتفي بالتذكري ب�أنه قبل والدة ا�سرائيل‬ ‫كانت فل�سطني وحميطها جزءاً من �سوريا يف االمرباطورية العثمانية‪.‬‬ ‫عمد العثمانيون بعد �سيطرتهم على بالد ال�شام يف موقعة مرج دابق عام ‪� 1516‬إىل �إعادة تنظيم االدارة‬ ‫يف البالد املفتوحة‪ ،‬ف�أبقوا على وجود ثالث واليات مع تعديل يف م�ساحاتها اجلغرافية والتنظيم‬ ‫الإداري‪ ،‬فكانت والية ال�شام ووالية حلب ووالية طرابل�س‪� .‬ضمت والية دم�شق مركز الوالية دم�شق‬ ‫و�سناجق القد�س وغزة و�صفد ونابل�س وعجلون وتدمر و�صيدا وبريوت والكرك ولكن هذه التق�سيمات‬ ‫مل تكن نهائية فكثرياً ما كانت ُتدمج ال�سناجق �أو تلغى بح�سب الأو�ضاع امل�ستجدة وحدث عام ‪1660‬‬ ‫�أن �شُ كلت والية رابعة هي والية �صيدا و�ضمت �سناجق �صفد و�صيدا مع بريوت‪ .‬عمد الباب العايل‬ ‫�إىل �إن�شاء والية بريوت عام ‪ 1888‬و�أحلق بها �سناجق الالذقية وطرابل�س وعكا ونابل�س و�صيدا و�صور‬ ‫ومرجعيون وهكذا حلت بريوت ب�شكل كبري مكان واليتي �صيدا وطرابل�س‪.‬‬ ‫كانت هذه البالد منطقة جغرافية واحدة على م ّر التاريخ‪ ،‬ال تف�صل بينها حدود �سيا�سية‪ ،‬بل ما‬ ‫مييزها عن بع�ضها ا�سم الوايل احلاكم من قبل ال�سلطة احلاكمة‪ ،‬وكان انتقال ال�سكان بني هذه‬ ‫املناطق يتم دون �أية عوائق‪ .‬ومنذ قرن تقرر تق�سيم املنطقة وفقاً لالنتداب الأجنبي‪ ،‬ودون الأخذ‬ ‫برغبة �شعوبها‪.‬‬ ‫من �أجل وراثة الرجل املري�ض �أي االمرباطورية العثمانية‪ ،‬وحتى يتمكن اال�ستعمار االوروبي من‬


‫�سوريا والق�ضية الفل�سطينية‬

‫امل�رشق‬

‫‪97‬‬

‫ال�سيطرة وزرع الدولة اليهودية مت ر�سم خمطط كامل من �سايك�س ‪ -‬بيكو ووعد بلفور وتواط�ؤ عربي‬ ‫ �صهيوين (اتفاقية في�صل ‪ -‬وايزمن) حيث برزت بداية والدة ما �أ�سميه «ال�صهيونية العربية»‪،‬‬‫وهي ت�سمية العرب الذين يخدمون �أهداف ال�صهيونية وما �أكرثهم اليوم‪ .‬كما جتلى غبا ٌء او تواط�ؤٌ‬ ‫عربي يف التعامل مع االنكليز وه�ؤالء قب�ضوا وعوداً مل ُتنفذ ‪.‬‬ ‫الثورة العربية الكربى يف ذلك الزمان هي الربيع العربي االول‪ :‬يف ظاهرها حترر من اال�ستبداد العثماين‬ ‫ويف النتائج �أدت خدمات لأهداف االنكليز واليهود‪ ،‬رغم حتركات املقاومة ال�سورية لال�ستقالل ورف�ض‬ ‫االنتداب وقيام دولة اليهود‪.‬‬ ‫كل ذلك �أدى �إىل ظهور احلدود الداخلية للتجزئة ور�سم معامل الدولة اليهودية على ح�ساب‬ ‫�سوريا الطبيعية‪.‬‬ ‫�إنها معركة على الوجود واحلدود معاً‪.‬‬ ‫ظهور احلدود الداخلية‬

‫تطور تر�سيم احلدود بني لبنان و�سوريا وفل�سطني واالردن منذ مطلع القرن التا�سع ع�شر‪ ،‬يف ظل‬ ‫االنتداب واال�ستقالل واحتالل فل�سطني‪ .‬حيث �شهدت انتقال بع�ض املناطق والقرى من لبنان‬ ‫�أو �سوريا �إىل فل�سطني‪ ،‬وكذلك مت تعديل م�سار اخلطوط احلدودية وفق م�صالح االنتداب واطماع‬ ‫ال�صهيونية‪.‬‬ ‫�إنه �صراع مزدوج على احلدود‪ :‬من جهة نزاع على تداخل حدود لبنان و�سوريا واالردن وفل�سطني‬ ‫ومن جهة ثانية حرب تر�سيم حدود الت�سويات بني هذه الدول وا�سرائيل‪.‬‬ ‫خمططات تق�سيم �سوريا ور�سم حدود داخلية فيها‪ ،‬وزرع ا�سرائيل يف جنوبها ُووجهت مبقاومة‬ ‫�شعبية اخذت ا�شكا ًال خمتلفة‪:‬‬ ‫فكانت الثورات واالحتجاجات ومنها الثورة ال�سورية الكربى عام ‪ 1925‬وثورات فل�سطني العامة‬ ‫واملختلفة‪.‬‬ ‫وعلى �إثر قيام ثورة عام ‪ 1936‬يف فل�سطني‪ ،‬قامت بريطانيا بف�صل فل�سطني عن لبنان و�سوريا بحجة‬ ‫تنفيذ االتفاقيات املوقعة مع الفرن�سيني‪ ،‬فيما هدفت يف الواقع �إىل منع ت�سلل املقاومني العرب من‬ ‫لبنان و�سوريا لتقدمي العون �إىل �أخوانهم الثوار يف فل�سطني‪ ،‬وهكذا تكر�س الف�صل بني املنطقتني‬ ‫وظهرت احلدود بينهما‪.‬‬ ‫تكررت االقتطاعات الربيطانية ل�صالح فل�سطني على ح�ساب لبنان و�سوريا‪.‬‬

‫عدد رقم ‪� | 1‬أيـار‬

‫‪2013‬‬


‫‪98‬‬

‫امل�رشق‬ ‫والدة م�رشوع �إ�رسائيل الكربى‬

‫يزعم اليهود وجود ن�صو�ص يف التوراة تدعي �أن اهلل وعد اليهود بامتالك هذه الأر�ض دون �أن‬ ‫يحدد احلدود‪ .‬وذكرت بع�ض امل�صادر ا�شتمالها على م�ساحة كبرية بني النيل والفرات‪.‬‬ ‫يف هذا ال�سياق تداول امل�ؤمتر ال�صهيوين الأول يف بال عام ‪ 1897‬مقررات تدعو ال�ستعمار فل�سطني‬ ‫و�سوريا و�آ�سيا ال�صغرى والعري�ش وقرب�ص‪.‬‬ ‫وخالل امل�ؤمتر ال�صهيوين الثالث ّركز امل�ؤمترون على �ضرورة �إدخال �سوريا �ضمن فل�سطني‪.‬‬ ‫وكان تيودور هرتزل يردد‪:‬‬ ‫«�سوف نطالب مبا نحتاج �إليه كلما ازداد عدد املهاجرين ازدادت حاجتنا للأر�ض»‪.‬‬ ‫كما ُتبينّ �إحدى اخلرائط امل�ؤرخة بعام ‪� 1904‬أن امل�ساحة املرتقبة لفل�سطني اليهودية هي بني النيل والفرات‬ ‫ومن الأنا�ضول حتى اخلط املمتد من الب�صرة على ال�شاطىء ال�شمايل للخليج العربي وق�سم من �شمايل‬ ‫احلجاز و� ً‬ ‫صوال حتى م�صر‪.‬‬ ‫ومن يومها اتخذ ال�صراع �شكل حروب على حدود مفتوحة لأن ال�صهيونية تطمع ب�أر�ض ا�سرائيل‬ ‫الكربى بينما ال�صراع يف جوهره هو حرب وجود الأمة ال�سورية على كامل �أر�ضها الطبيعية‪.‬‬ ‫تق�سيم �سوريا الكربى‬

‫يف البدء كانت الوحدة ال�سورية‪ .‬ثم جاء التق�سيم‪ .‬منذ ‪� 100‬سنة �شهدت املنطقة حتوالت جذرية‬ ‫جمعت تفكيك ال�سلطنة العثمانية وهجمة اوروبا اال�ستعمارية و�أحالم الثورة العربية الكربى‬ ‫واخلائبة‪ ،‬و�سلخ جنوب �سوريا لإن�شاء دولة يهودية‪ .‬لذلك ال بد من �إعادة بناء امل�شهد كما تركب‬ ‫منذ قرن‪ .‬وكم يت�شابه مع �صور اليوم‪ ،‬وك�أن الربيع العربي الثاين هو تكرار ملا �سبقه‪.‬‬ ‫ عقدت دول احللفاء العديد من االتفاقيات ال�سرية القت�سام الغنائم بعد احلرب‪ ،‬فكانت‬ ‫اتفاقية �سايك�س ‪ -‬بيكو يف ‪ 16‬ايار ‪.1916‬‬ ‫ ح�صل اليهود من االنكليز على وعد بلفور (وزير اخلارجية الربيطاين) يف ت�شرين الثاين‬ ‫‪ 1917‬متخطني حمادثات ح�سني ـ مكماهون‪.‬‬ ‫ وقّع في�صل ب�صفته ممثل اململكة احلجازية والدكتور حاييم وايزمان ممث ًال احلركة ال�صهيونية‬ ‫اتفاقاً يف �شباط ‪ ،1919‬ين�ص على �أن الوجود اليهودي يف فل�سطني �إمنا هو لإعمار فل�سطني‬ ‫وتطويرها ملا فيه م�صلحة العرب واليهود ب�شكل مت�ساو‪.‬‬ ‫ رداً على اقت�سام �سوريا بني االنتدابني وال�صهيونية‪ ،‬انعقد امل�ؤمتر ال�سوري العام‪ ،‬يوم ‪� 7‬آذار‬ ‫‪ ،1920‬وا�صدر املجتمعون بياناً دعوا فيه‪ ...« :‬نحن �أع�ضاء هذا امل�ؤمتر وب�صفتنا املمثلني‬


‫�سوريا والق�ضية الفل�سطينية‬

‫ ‬ ‫ ‬

‫امل�رشق‬

‫‪99‬‬

‫للأمة ال�سورية �أعلنا ب�إجماع الر�أي ا�ستقالل بالدنا �سوريا بحدودها الطبيعية ورف�ض املزاعم‬ ‫ال�صهيونية يف جعل فل�سطني وطناً للهجرة �أو حمل هجرة لهم»‪.‬‬ ‫بعد معركة مي�سلون يف ‪ 25‬متوز ‪ ،1920‬فر�ضت فرن�سا �سيطرتها الع�سكرية على لبنان و�سوريا‪،‬‬ ‫و�أنهت �إدارة في�صل وحكومته‪ .‬كما احتلت بريطانيا العراق وفل�سطني‪.‬‬ ‫معركة مي�سلون كانت فا�صلة يف حتديد حدود اال�ستعمار و�إ�سرائيل‪.‬‬

‫�سوريا تتوزع بني حدود ال�صهيونية وحدود االنتدابني‬

‫بد�أت مالمح االتفاقات احلدودية يف مناطق االنتدابني الفرن�سي والربيطاين يف بالد ال�شام تربز‬ ‫تباعاً‪ .‬منها تو�سيع املت�صرفية �إىل اجلنوب حتى حدود فل�سطني‪.‬‬ ‫وللمرة الأوىل تظهر احلدود لتف�صل بني �أرا�ضي امل�شرق العربي املق�سمة بني نفوذين غريبني‪.‬‬ ‫�أ�صدر غورو يف ‪ 20‬ايلول ‪ 1920‬قراراً ّذكر فيه اللبنانيني «بح�سنة �ضم الأق�ضية الأربعة �إىل لبنان ملا‬ ‫يف ذلك من فوائد اقت�صادية وكذا جعل بريوت عا�صمة للبنان»‪.‬‬ ‫كما عمد غورو �إىل تق�سيم �سوريا �إىل �أربع مناطق م�ستقلة عن بع�ضها وهي‪ :‬دولة دم�شق ودولة حلب‬ ‫ودولة جبل الدروز ودولة بالد العلويني‪ .‬وذلك ملنعها من التوحد �ضد الفرن�سيني والتوحد لرف�ض‬ ‫الوجود الفرن�سي يف �سوريا‪.‬‬ ‫من املالحظ هنا �أن القادة ال�صهاينة ا�ستمروا بلقاءاتهم مع بع�ض ال�شخ�صيات العربية �سراً يف‬ ‫�سبيل الو�صول �إىل حتقيق م�صاحلهم‪ .‬ومن هذا اال�سا�س التقى �إلياهو �سا�سون ال�شيخ ب�شارة‬ ‫اخلوري عام ‪ 1941‬وريا�ض ال�صلح‪ ،‬كما ت�سابقت الأنظمة العربية يف ال�سر ملحاولة توثيق العالقة مع‬ ‫الدولة اليهودية‪.‬‬ ‫هكذا ا�ستطاعت �إ�سرائيل عند قيامها‪ ،‬اخت�صار احللم اليهودي وتبديد احللم العربي وبد�أت مرحلة‬ ‫جديدة من �سيا�سة ق�ضم الأرا�ضي العربية و�إن�شاء امل�ستوطنات عليها متهيداً القتطاع �آخر من هذه‬ ‫الأرا�ضي‪ ،‬ويف ظل مطالبة م�ستمرة بتعديل احلدود مع لبنان و�سوريا لتحقيق ما يتنا�سب وال�سيا�سة‬ ‫التو�سعية الإ�سرائيلية‪.‬‬ ‫�سوريا تخ�رس جنوبها وجوالنها يف النكبة والنك�سة‬

‫يف البدء كانت الوحدة ال�سورية ثم جاء التق�سيم وقيام �إ�سرائيل‪ ،‬ف�شهدت املنطقة نزاعاً فل�سطينياً ‪-‬‬ ‫ا�سرائيلياً ا�ستغلته الرجعية العربية‪ ،‬ما ادى اىل النكبة والنك�سة ب�سبب �ضعف املقاومة الفل�سطينية‬ ‫واجها�ض املقاومة القومية و�سيطرة العروبة التقليدية على ال�سيا�سات العربية وال �سيما جناحها‬ ‫عدد رقم ‪� | 1‬أيـار‬

‫‪2013‬‬


‫‪100‬‬

‫امل�رشق‬

‫املقرر �أال وهو ال�صهيونية العربية‪.‬‬ ‫اخلطة العربية التي ُو�ضعت من قبل جامعة الدول العربية لتحرك اجليو�ش العربية �ضد القوات‬ ‫اليهودية يف فل�سطني‪ ،‬مل تكن فعالة‪.‬‬ ‫�سرعان ما اختل ميزان القوى ل�صالح اليهود‪.‬‬ ‫من املعلوم �أن التخاذل العربي وال�صراع ال�شخ�صي بني القادة العرب لل�سيطرة على قيادة اجليو�ش‬ ‫العربية‪� ،‬ساهما ب�إ�ضعاف قوتهم وانهيار جبهتهم‪.‬‬ ‫بعد النكبة وتوقيع اتفاقيات الهدنة عام ‪ ،1949‬ا�ستمر النزاع على املناطق املنزوعة ال�سالح‪ ،‬كما‬ ‫قامت ا�سرائيل بفر�ض �سيطرتها على بع�ض م�صادر املياه‪� .‬إىل �أن �شنت �صباح ‪ 4‬حزيران ‪1967‬‬ ‫حرباً مفاجئة على العرب‪ ،‬كان من نتائجها ازدياد حجم �إ�سرائيل وفر�ض �سيطرتها على الكثري من‬ ‫الأرا�ضي العربية‪.‬‬ ‫عرفت �سوريا �سل�سلة انقالبات بني ‪ 1949‬و ‪ 1970‬وكانت ب�سبب فل�سطني �أو من اجلها‪ .‬فبذريعة‬ ‫التق�صري يف نكبة ‪ 1949‬قام ح�سني الزعيم قائد اجلي�ش ال�سوري بانقالب يف ‪ 11‬ني�سان ‪ 1949‬تبني‬ ‫فيما بعد انه مدعوم من الربيطانيني والعراقيني‪ .‬و�آخر انقالب قاده الرئي�س الراحل حافظ الأ�سد‬ ‫عام ‪ 1970‬رداً على النك�سة وحت�ضرياً حلرب ت�شرين وت�أ�سي�ساً لتوازن ا�سرتاتيجي يكون قاعدة‬ ‫انطالق للمقاومة والتحرير‪.‬‬ ‫�سوريا تعمل من �أجل التوازن اال�سرتاتيجي‬

‫رد العرب بحرب عام ‪ 1973‬لتحريك عملية ال�سالم بالن�سبة مل�صر‪ ،‬ولت�أ�سي�س توازن جديد للمقاومة‬ ‫والتحرير بالن�سبة ل�سوريا‪.‬‬ ‫بعد توقيع اتفاقية كامب ديفيد بني م�صر و�إ�سرائيل عام ‪ ،1978‬وخروج م�صر من ال�صف العربي‬ ‫املواجه لإ�سرائيل‪ ،‬انح�صر ال�صراع العربي مع �إ�سرائيل بني �سوريا واملقاومة الفل�سطينية مبختلف‬ ‫تياراتها واملقاومة الوطنية ومن ثم اال�سالمية يف لبنان‪.‬‬ ‫راجت معادلة تقول‪ :‬ال حرب من دون م�صر وال �سالم من دون �سوريا‪ .‬تبني على �أر�ض الواقع �أنه‬ ‫�شعار خاطىء لأن املقاومة ممكنة من دون م�صر وجتربة لبنان وفل�سطني �شاهدة على ذلك‪.‬‬ ‫من نتائج حرب ت�شرين ح�صول طالق بني نهجني عربيني‪ :‬م�صر انحرفت باجتاه الت�سوية‪ ،‬بينما‬ ‫اختارت �سوريا املمانعة ودعم املقاومة‪.‬‬ ‫ا�ستمرت �سوريا يف حماوالتها لتحقيق التوازن اال�سرتاتيجي لكن انهيار االحتاد ال�سوفياتي وتغيري‬ ‫املناخ الدويل ق�ضيا على هذا االحتمال وجعال احلرب النظامية والكال�سيكية م�ستبعدة‪ .‬لذلك‬


‫�سوريا والق�ضية الفل�سطينية‬

‫امل�رشق‬

‫‪101‬‬

‫اعتمدت �سوريا معادلة مركبة‪ :‬العمل االيجابي من �أجل حل �سلمي عادل و�شامل ويف الوقت‬ ‫نف�سه توفري الدعم للمقاومة يف لبنان وفل�سطني‪.‬‬ ‫�سوريا يف خيار املقاومة‬

‫العمل الفدائي يف فل�سطني واالردن ولبنان جنح يف ت�أكيد الهوية الفل�سطينية و�أثار اهتمام العامل‬ ‫بامل�س�ألة الفل�سطينية‪ .‬لكن ابتعاد �أطراف من القيادة الر�سمية عن عمقها القومي �س ّهل عزلها‬ ‫وحرفها‪ .‬وت�أكد بالتايل ان حترير فل�سطني غري ممكن من دون حميطها‪ .‬كما �أن الدول املحيطة‬ ‫بفل�سطني غري قادرة على �إدارة ظهرها وفك ارتباطها بامل�س�ألة املركزية للت�أثري املتبادل بينهما‪ .‬لذلك‬ ‫عندما تختلف املقاومة مع �سوريا تتعرث‪ .‬وكلما تكاملت وت�ساندت املقاومة مع �سوريا انت�صرت وهذا‬ ‫ما ح�صل يف لبنان عملياً‪.‬‬ ‫يف املقابل ظلت �إ�سرائيل متار�س �سيا�سة التو�سع داخل فل�سطني‪ ،‬وتوا�صل اعتداءاتها على لبنان يف‬ ‫حماولة منها لإنهاء العمل الفدائي املنطلق من لبنان‪ ،‬يف �سبيل حتقيق الفر�صة امل�ؤاتية لالنق�ضا�ض‬ ‫على لبنان‪ ،‬وال�سيطرة على موارده املائية التي كانت تطمع بها منذ �أمد بعيد‪.‬‬ ‫منذ تلك الفرتة‪� ،‬أ�صبح لبنان طرفاً و�ساحة لل�صراع العربي ـ اال�سرائيلي‪ .‬وقد توجت �إ�سرائيل‬ ‫اعتداءاتها على لبنان ب�ضربة قا�صمة ملنظمة التحرير الفل�سطينية‪ ،‬وذلك ب�إخراجها من بريوت‬ ‫�إثر اجتياحها للبنان عام ‪ 1982‬وحماولتها فر�ض اتفاق �سالم عليه‪ .‬لكنها عادت وقبلت باتفاقية‬ ‫لإخراج اجلي�ش الإ�سرائيلي من لبنان و�ضمن �شروط حمددة‪ .‬واحلقيقة �أن اتفاق ‪ 17‬ايار الذي‬ ‫تو�صلت اليه �إ�سرائيل بعد مفاو�ضاتها مع لبنان‪ ،‬مت �إ�سقاطه بعد �أقل من �سنة‪ ،‬بف�ضل املقاومة‬ ‫الوطنية يف لبنان ودعم �سوريا‪.‬‬ ‫ا�شتدت �سطوة املقاومة و�شرا�ستها �ضد اجلي�ش اال�سرائيلي وعمالئه‪ .‬وكانت قد بد�أت يف متوز ‪1982‬‬ ‫فت�سببت لها بالكثري من اال�صابات واخل�سائر‪ ،‬و�أدت �إىل خروج ا�سرائيل من لبنان عام ‪.2000‬‬ ‫تو�صل �إىل نوع من‬ ‫تطور عمل املقاومة يف لبنان‪ ،‬بف�ضل حزب اهلل املدعوم من �سوريا و�إيران حتى ّ‬ ‫التوازن بني �إ�سرائيل واملقاومة‪� .‬ساهم هذا الو�ضع يف حترك املقاومة داخل فل�سطني لتعلن انتفا�ضة‬ ‫عام ‪ 1987‬التي �أربكت احلكومات اال�سرائيلية‪.‬‬ ‫ال�رصاع على �سوريا م�ستمر‬

‫تاريخ الت�آمر �ضد �سوريا مل يتوقف لأن موقعها اجليو �سيا�سي مفتاح ا�سرتاتيجي يف املنطقة‪� .‬س�أكتفي‬ ‫ب�أمثلة من املا�ضي واحلا�ضر‪:‬‬ ‫عدد رقم ‪� | 1‬أيـار‬

‫‪2013‬‬


‫‪102‬‬

‫امل�رشق‬

‫يف عام ‪� 1957‬سعت بريطانيا والواليات املتحدة �سراً �إىل غزو �سوريا «وتغيري النظام فيها» لأنهما‬ ‫اعتربتاها تهدد �إمدادات النفط املتوجهة للغرب‪ .‬وهو خط الأنابيب الذي يربط حقول النفط‬ ‫العراقية‪-‬الرتكية‪.‬‬ ‫هذه اخلطة مل ُتنفذ لأن القوة الدولية مل ت�ستطع �إقناع جريان �سوريا العرب باتخاذ تلك الإجراءات‪،‬‬ ‫والهجوم الرتكي وحده مل يكن مقب ً‬ ‫وال‪.‬‬ ‫ك�شفت مذكرات مو�شي دايان م�ؤخراً عن خطة ر�سمت يف منت�صف اخلم�سينات حول تعاون‬ ‫�إ�سرائيل مع العراق الحتالل �سوريا‪ .‬جاء فيها‪« :‬يدخل العراق ال�ضفة ال�شرقية ويبتلع �سوريا‪،‬‬ ‫وي�صبح لبنان دولة م�سيحية وحتتل �إ�سرائيل ال�ضفة الغربية وتتو�صل �إىل اتفاق مع نوري ال�سعيد‬ ‫تو�سع‬ ‫(رئي�س حكومة العراق) على �أن ُت�سكن ن�صف مليون الجئ بنفقة مالية �أمريكية و�أن ّ‬ ‫�إ�سرائيل حدودها حتى نهر الليطاين وحتتل غزة وجزءاً من �سيناء‪.‬‬ ‫من هي �سوريا بر�أي هرني كي�سنجر‬

‫قال كي�سنجر يف مقابلة مع �صحيفة نيوروركر الأمريكية ‪:‬‬ ‫ �أنا �أعرتف �أن حافظ الأ�سد هو ال�شخ�ص الوحيد الذي هزمني وقهرين يف حياتي كلها‪.‬‬ ‫ �إن ثورة �سوريا �أ�صبحت منذ �آب ‪ 2011‬حرباً عاملية ثالثة باردة‪ ،‬ولكنها �ست�سخن بعد عدة �شهور‪.‬‬ ‫ املتحاربون هم ال�صني ورو�سيا والهند من جهة ومن جهة �أخرى نحن وحلفا�ؤنا‪.‬‬ ‫ �سوريا الآن مركز اال�سالم املعتدل يف العامل‪ .‬ويف الوقت نف�سه مركز امل�سيحية العاملية‪ ،‬وال بد‬ ‫من تدمري مئات البنى العمرانية امل�سيحية وتهجري امل�سيحيني منها‪ ،‬وهنا لب ال�صراع مع مو�سكو‪.‬‬ ‫فرو�سيا و�أوروبا ال�شرقية تدينان بالأرثوذك�سية وهي تابعة دينياً ل�سوريا وهذا �سر من �أ�سرار رو�سيا‬ ‫و�سوريا‪ ،‬بالتايل «ف�إخواننا العرب» لو ر�شوا رو�سيا بكل نفطهم لن ي�ستطيعوا فعل �شيء‪.‬‬ ‫ احتل هوالكو �أكرث من ن�صف �آ�سيا ولكنه ُهزم عند �أبواب دم�شق‪ .‬بالد ال�شرق من املحيط‬ ‫الهادي حتى املتو�سط مرتابطة مع بع�ضها ك�أحجار الدومينو‪ ،‬لقد حركنا �أفغان�ستان ف�أثر ذلك‬ ‫على ال�صني فما بالك ب�سوريا‪.‬‬ ‫ ميكن لك �أن تالحظي �أن ال�صني والهند والباك�ستان دول متناف�سة متناحرة فيما بينها ولكن‬ ‫من يرى مناق�شات جمل�س الأمن حول �سوريا يظنها دولة واحدة بخطاباتها وت�صرفات مندوبيها‬ ‫وا�صرارهم على الرتحيب باجلعفري �أكرث من مرة‪ ،‬رغم �أنه مندوب �سوريا الدائم‪.‬‬ ‫ ما من حل ف�إما �ضرب �سوريا بال�صواريخ الذرية وهذا م�ستحيل لأن ا�سرائيل موجودة‪.‬‬ ‫ و�إما احلل الآخر الوحيد‪ ،‬هو �إحراق �سوريا من الداخل وهو ما يحدث الآن‪.‬‬


‫�سوريا والق�ضية الفل�سطينية‬

‫امل�رشق‬

‫‪103‬‬

‫"اجلبهة ال�رشقية"‪ :‬طريق �سوريا �إىل حترير فل�سطني‬

‫هل و�صلت املقاومة �إىل طريق م�سدود‪ ،‬ومعها دول املمانعة التي تتعر�ض �إىل حماوالت لعزلها‬ ‫يف كيانها ال�سيا�سي لإخراجها من اال�سرتاتيجية القومية عرب فر�ض توازن رعب وحالة �ستاتيكو‪،‬‬ ‫ت�ؤدي اىل �إغراق هذه الدول يف م�شاكل داخلية وعقوبات دولية وح�صار مثلث من ال�صهيونية‬ ‫اليهودية الغربية العربية؟‬ ‫ال�س�ؤال املطروح اليوم هو‪ :‬كيف اخلروج من هذا امل�أزق؟‬ ‫رئي�س الوزراء بنيامني نتنياهو يعترب �أن املنطقة متر مبرحلة انتقالية غري م�ستقرة قد ت�ستمر �سنوات‬ ‫عدة‪ ،‬ور�أى �أن على «�إ�سرائيل» �أن جت ّهز نف�سها لكل تطور‪.‬‬ ‫من جهة اخرى‪� ،‬أعلن ال�سيد ح�سن ن�صر اهلل �صراحة �أن املقاومة على ا�ستعداد لتحرير �شمال �أرا�ضي‬ ‫فل�سطني املحتلة يف �أي حرب مقبلة‪ .‬وقد �شكلت «معادلة اجلليل» رداً مبا�شراً على وزير الدفاع اال�سرائيلي‬ ‫حتدث عن اجتياح لبنان جمدداً‪ .‬ما ي�ساعد على احتمال قيام «جبهة �شرقية» ت�ساعد‬ ‫�إيهود باراك حني ّ‬ ‫وت�ضمن جناح عملية اجلليل التحريرية‪.‬‬ ‫اجلبهة ال�شرقية هي اجلبهة العربية على احلدود ال�شرقية لإ�سرائيل من ميناء العقبة الأردين جنوباً‬ ‫�إىل الناقورة اللبناين �شما ًال‪ .‬بعد حرب الأيام ال�ستة يف حزيران ‪ ،1967‬برزت دعوات �إىل جبهة‬ ‫�شرقية تتلخ�ص يف �إن�شاء وحدة ع�سكرية بني دول املواجهة يف امل�شرق العربي وهي �سوريا واالردن‬ ‫والعراق ومنظمة التحرير الفل�سطينية‪� .‬إال �أن �أحداث الأردن‪ ،‬التي حتولت �صراعاً م�سلحاً بني‬ ‫ال�سلطات الأردنية ومنظمة التحرير الفل�سطينية عام ‪ ،1970‬وتردد لبنان وتخوفه من هجمات‬ ‫�إ�سرائيلية على �أرا�ضيه‪� ،‬صرفا نظر املعنيني عن هذه اجلبهة‪.‬‬ ‫بعد حرب ت�شرين عام ‪� ،1973‬أعادت �سوريا طرح تكوين «اجلبهة ال�شرقية» وذلك بعد م�شاركة‬ ‫قوات عراقية و�أردنية وفل�سطينية يف احلرب �ضد ا�سرائيل على جبهة اجلوالن‪ .‬لكن اجلبهة ال�شرقية‬ ‫مل ُيكتب لها اال�ستمرار بعد توقيع كل من م�صر واالردن مبادرة روجرز ورف�ض �سوريا لهذه املبادرة‪.‬‬ ‫هذه ال�صيغة عادت �إىل العلن من جديد‪ .‬فقد الحظ ال�سيا�سي الإ�سرائيلي املخ�ضرم �أوري �أفرني‬ ‫�أن رئي�س حكومة العدو بنيامني نتنياهو بد�أ يف الآونة الأخرية ي ّلوح كثرياً «بفزاعة» جديدة ا�سمها‬ ‫«اجلبهة ال�شرقية»‪.‬‬ ‫وال يرتك رئي�س الوزراء الإ�سرائيلي منا�سبة متر‪ ،‬من دون �أن ّ‬ ‫يذكر حمدثيه‪ ،‬ب�أن بالده تواجه خطر‬ ‫انبعاث «اجلبهة ال�شرقية» من جديد‪ ،‬و�أن هذا اخلطر �سيتفاقم خ�صو�صاً بعد ا�ستكمال �سحب‬ ‫القوات الأمريكية من العراق‪ ...‬و �سرعان ما ي�شرع يف احلديث عن احلاجة لالحتفاظ بـ«غور‬ ‫الأردن» لغر�ض جمابهة «اجلبهة ال�شرقية» التي متتد من �إيران �إىل غور الأردن‪.‬‬

‫عدد رقم ‪� | 1‬أيـار‬

‫‪2013‬‬


‫‪104‬‬

‫امل�رشق‬

‫يف ظل هذه التطورات‪ ،‬هل �ستعود اجلبهة ال�شرقية �إىل الواجهة وهل دخلت املنطقة يف مرحلة‬ ‫جديدة وهي االنتقال من املقاومة اىل التحرير؟‬ ‫اجلبهة ال�رشقية وم�ستقبل ال�رصاع مع �إ�رسائيل‬

‫يتخذ ال�صراع العربي ‪ -‬الإ�سرائيلي يف املرحلة القادمة �أبعاداً جديدة يف �ضوء م�ستقبل الدور‬ ‫الأمريكي يف املنطقة وانح�سار امل�شروع ال�صهيوين ال�شامل يف دولة يهودية م�صغرة يف فل�سطني‪.‬‬ ‫م�ؤخراً‪ ،‬كرثت الدرا�سات التي تتوقع «نهاية احلقبة الأمريكية» وفق تعبري ّ‬ ‫املنظر ال�سيا�سي الأمريكي‬ ‫«ريت�شارد ها�س»‪ ،‬حيث تعي�ش وا�شنطن يف م�أزق ا�سرتاتيجي منذ تورطها يف �أفغان�ستان والعراق‪،‬‬ ‫بالإ�ضافة �إىل �أزمتها املالية املتفاقمة‪ ،‬و�صعود قوى املقاومة يف �إيران و�سوريا وفل�سطني ولبنان‪ .‬عالوة‬ ‫على عودة الروح �إىل رو�سيا القومية يف نه�ضة جديدة‪ ،‬وبروز القوى الآ�سيوية ‪-‬ال�صني والهند‬ ‫حتديداً‪ -‬كقوى دولية جديدة تناف�س الواليات املتحدة يف املجال ال�صناعي والع�سكري‪ .‬بالإ�ضافة‬ ‫�إىل حتالف بريك�س‪.‬‬ ‫�إنها بداية لنهاية �أحادية القطبية الدولية ‪ -‬تبعاً لتحليل هرني ك�سينجر وت�صوره‪ ،‬هو الذي يتنب�أ‬ ‫بعدم ا�ستقرار نظام �أحادي القطبية‪.‬‬ ‫من جهة �أخرى‪ ،‬فقدت �إ�سرائيل �أهميتها اال�سرتاتيجية والأمنية بالن�سبة للواليات املتحدة‬ ‫الأمريكية يف ال�شرق الأو�سط‪ ،‬منذ حرب اخلليج الثانية عام ‪ ،1991‬حيث ا�ضطرت الواليات‬ ‫املتحدة للتدخل الع�سكري املبا�شر يف اخلليج العربي حلماية م�صاحلها بعد �أن ف�شلت �إ�سرائيل يف‬ ‫اال�ستمرار كذراع �أمنية للم�صالح الأمريكية يف املنطقة‪.‬‬ ‫هذه البيئة اال�سرتاتيجية اجلديدة مرهونة ب�أهمية املوقف ال�سوري يف املنطقة وقوته‪ ،‬وانتظار دور‬ ‫�سوري جديد يعيد ت�أ�سي�س النظام الإقليمي العربي وحتقيق توازن رعب مع �إ�سرائيل‪ ،‬عرب �إعادة‬ ‫ت�شكيل جبهة �شرقية جديدة فاعلة‪ ،‬ت�ستفيد من فر�صة االن�سحاب االمريكي من العراق وقدرة‬ ‫بالد الرافدين على ا�ستعادة ا�ستقاللها ووحدتها وفعاليتها‪ ،‬وقدرة �سوريا على جتاوز �أزمتها الداخلية‬ ‫وتزخيم دورها القومي التاريخي‪.‬‬ ‫�إعادة ت�شكيل امل�رشق العربي‬

‫ال�سيناريو املتداول هو �أن الغرب نف�سه قد بد�أ يدمر اتفاقية �سايك�س ‪ -‬بيكو انطالقا من العراق رغم‬ ‫�أنه �صنعها بنف�سه بداية القرن املا�ضي‪ .‬وذلك رغبة منه ب�إعادة تقطيع وتو�صيل املنطقة بالطريقة التي‬ ‫تتنا�سب مع م�صاحله ومع متغريات الع�صر‪.‬‬ ‫يف هذه اللحظة التاريخية التي ت�شبه من بع�ض اجلوانب حلظة نهاية احلرب العاملية الأوىل‪ ،‬هل نرد‬


‫�سوريا والق�ضية الفل�سطينية‬

‫امل�رشق‬

‫‪105‬‬

‫على التحدي الأمريكي با�ستجابة ح�ضارية‪ ،‬ون�ستغل فر�صة تهدمي الأمريكي ل�سايك�س‪ -‬بيكو كي‬ ‫نعيد ت�شكيل املنطقة وفق م�صاحلنا ك�أمة واحدة كانت احلدود تخنقها ومتنع دورة حياتها وتوا�صلها‬ ‫احل�ضاري الروحي واالقت�صادي؟‬ ‫�إن امل�شرق العربي هو قلب العاملني العربي والإ�سالمي ف�إذا نه�ض كتلة واحدة موحدة �شكل كياناً‬ ‫�صلباً ي�سيطر على �أكرب خطوط �إنتاج و�إمداد الطاقة يف العامل‪ ،‬وله قاعدة ب�شرية متنوعة‪ ،‬وميتلك‬ ‫�إمكانيات التحول �إىل قطب جاذب لباقي الأقطار العربية‪ ،‬والقوميات املجاورة‪ ،‬وهو �أمر كفيل‬ ‫بتغيري ميزان القوى يف العامل ل�صالح ال�شعوب املهم�شة‪ .‬وهنا تكمن �أهمية التقارب ال�سوري ‪-‬‬ ‫العراقي الذي ميكن �أن يعيد ت�شكيل العامل برمته ولنتذكر �أن ا�سرتداد بيت املقد�س وحت�صني‬ ‫املنطقة يف وجه الفرجنة قد بد�أ بجهد �أول و�أ�سا�سي على هذا املحور‪ ،‬فمن املو�صل انطلق �آل الزنكي‬ ‫ليتوحدوا مع حلب ثم دم�شق وبعدها يكمل �صالح الدين م�سريتهم فيوحد �سوريا ويحرر فل�سطني‬ ‫من ممالك الفرجنة‪.‬‬ ‫يجب التفكري بحل من خارج الت�سليم بالأمرالواقع امل�أزوم من خارج البنية ال�سائدة واملقفلة‪،‬‬ ‫و�إبداع خمرج خالق‪.‬‬ ‫تعود الأحوال �إىل املربع الأول �إىل عام ‪ 1917‬فلنبد�أ من م�س ّلمة �أوىل �أننا كتلة واحدة يجب �أن جند‬ ‫احللول لها �ضمن بنية واحدة‪ .‬ون�ستعيد ال�س�ؤال من نحن فنجيب ب�أننا �أمة واحدة وم�صرينا واحد‪.‬‬ ‫وعلى هذا الأ�سا�س ن�س�أل‪ :‬كيف �ستخرج �سوريا من التحديات التي تواجهها؟ اجلواب ال ميكن‬ ‫�أن يكون اال من خالل ر�ؤية قومية ان�سانية لدور �سوريا ومعناها‪ .‬الدفاع عن �سوريا يكون بتجديد‬ ‫�إطالق م�شروع قومي دميقراطي جديد حول املقاومة والنه�ضة معاً‪ ،‬ينطلق من �سوريا وي�شمل‬ ‫�إعادة بناء جبهة �شرقية �ضمن م�شروع حرب حترير قومية جتمع املقاومة وحترير الأر�ض مع بناء دولة‬ ‫النه�ضة واالن�سان‪.‬‬ ‫بهذا املعنى �سقطت العروبة التقليدية اخليالية وجتري حماوالت لتفكيك العامل العربي �إىل حماور‬ ‫متنازعة و�إجها�ض اجلامعة العربية التي بد ًال من �أن تتطور باجتاه �صيغة احتادية تتكامل �أقاليمها يف‬ ‫جهة عربية موحدة �ضد امل�شروع ال�صهيوين اال�ستعماري‪ ،‬ن�شهد موتها مل�صلحة حماور او اختزالها‬ ‫مب�شايخ و�أمراء‪ .‬وهذا الواقع يفر�ض على �سوريا بالذات �أن ت�صارع من �أجل ذاتها ووجودها ومن‬ ‫�أجل عودة الروح �إىل العروبة الواقعية التي تنطلق من وحداتها الطبيعية املتقاربة جغرافياً لإعادة‬ ‫بناء البيت العربي على �أ�س�س جديدة تعيد االعتبار �إىل العروبة احل�ضارية ‪.‬‬ ‫هذه هي �سوريا وهذه هي ق�ضيتها‪ .‬ومن هنا طريق حترير فل�سطني‪.‬‬

‫عدد رقم ‪� | 1‬أيـار‬

‫‪2013‬‬


‫م�ؤ�س�سة �سعاده للثقافة‬

‫بناية ر�سامني‪� ،‬شارع احلمرا‪ ،‬ر�أ�س بريوت‪ ،‬لبنان‬ ‫�صندوق بريد‪ 113-5557 :‬بريوت ‪ -‬لبنان‬ ‫هاتف‪)00961-1( 753363 :‬‬ ‫فاك�س‪)00961-1( 753364 :‬‬ ‫الربيد الإلكرتوين‪saadehcf@idm.net.lb :‬‬ ‫املوقع الإلكرتوين‪www.saadehcf.org :‬‬


‫‪107‬‬

‫مالحظات على بنود املعاهدة الأردنية ‪ -‬الإ�رسائيلية‬

‫| الباحث عبداهلل حموده | باحث من فل�سطني‬ ‫ ‬ ‫ ‬ ‫ ‬ ‫ ‬ ‫ ‬ ‫ ‬ ‫ ‬

‫اال�ستيطان و�سالح الدمار ال�شامل خطران �صهيونيان على الأردن‬

‫وجود ن�ص ال يعار�ض التهجري الطوعي‬

‫االحتالل ال�صهيوين هو اخلطر الأمني وامل�صريي على الأردن‬

‫املعاهدة ت�ؤكد على توطني الالجئني‬ ‫ال يوجد �أي ن�ص على حق العودة‬

‫قانون تطبيق املعاهدة الإ�رسائيلي ي�ؤكد على عدم خ�ضوع �أمالك الالجئني يف ‪ 1948‬لقانون �أمالك الغائبني‬ ‫ال�سيادة القانونية للأرا�ضي الأردنية يف الباقورة ووادي عربة للقانون الإ�رسائيلي‬

‫عند النظر يف مقدمة معاهدة ال�سالم بني الأردن و(ا�سرائيل)‪ ،‬نرى �أن املقدمة ت�ؤكد على حتقيق‬ ‫�سالم عادل ودائم و�شامل‪ ،‬والآن بعد مرور ‪� 19‬سنة على املعاهدة‪ ،‬جند بلدنا �أبعد ما يكون عن‬ ‫ال�سالم‪ ،‬ما دامت دولة العدو ال�صهيوين تبط�ش ب�شعبنا‪ ،‬بالطائرات وال�صواريخ والدبابات وتقيم‬ ‫امل�ستوطنات وتزج بالآالف من املنا�ضلني يف ال�سجون وتدمر القرى واملزروعات بحيث حتولت‬ ‫فل�سطني �إىل �أكرب معتقل يف العامل‪.‬‬ ‫كما �أن املقدمة تن�ص على احلرية وامل�ساواة والعدل واحرتام حقوق الإن�سان‪ ،‬ومن املعروف �أن‬ ‫�شعبنا الواقع يف ظل االحتالل يعاين من غياب كل هذه املبادئ الأ�سا�سية الأمر الذي ي�ؤكد‬ ‫عن�صرية دولة العدو‪.‬‬ ‫وت�ؤكد الفقرة الرابعة يف املقدمة على الإميان مببادئ ميثاق الأمم املتحدة والعي�ش ب�سالم مع كافة‬ ‫الدول �ضمن حدود �آمنة مع �أن �أكرث من ‪� 19‬سنة م�ضت ت�ؤكد �أن دولة العدو ال حترتم ميثاق الأمم‬ ‫املتحدة وت�شن حرباً على �شعبنا يف فل�سطني وت�شكل خطراً على �أمتنا والوطن العربي‪.‬‬ ‫�إن ما جاء يف املقدمة ال ميكن �أن يعني �سالماً‪ ،‬خا�صة و�أن الأردن جزء من الأمة العربية‪ ،‬بح�سب‬ ‫الد�ستور الأردين‪ ،‬وكحقيقة مو�ضوعية‪� ،‬إن املادة الأوىل من املعاهدة التي تعترب ال�سالم قائماً من‬ ‫عدد رقم ‪� | 1‬أيـار‬

‫‪2013‬‬

‫امل�رشق‬

‫مبنا�سبة مرور (‪� )19‬سنة‬


‫‪108‬‬

‫امل�رشق‬

‫تاريخ تبادل وثائق الت�صديق على املعاهدة‪� ،‬أي �أن املادة الأوىل تطالب بالتطبيع مع دولة العدو‬ ‫ال�صهيوين بدون �أخذ احلقوق العربية‪ ،‬تعني عدم احرتامها �أن الأردن جزء من الأمة العربية‪،‬‬ ‫وت�شن عدوانها امل�ستمر منذ �أكرث من ‪ 65‬عاماً‪.‬‬ ‫وهذا انطبق �أي�ضاً على املادة الثانية من املعاهدة التي تن�ص على مبادئ عامة مثل احرتام ال�سيادة‪،‬‬ ‫والعي�ش ب�سالم‪ ،‬و�أنها �ضد حتركات ال�سكان الق�سرية‪ ،‬بينما ما يجري من قتل ل�شعبنا العربي‬ ‫الفل�سطيني و�إقرار خطط التهجري من م�ؤ�س�سات بحثية �صهيونية ي�ؤكد �أن دولة العدو ال ميكن �أن‬ ‫حترتم �أي ميثاق‪ ،‬كما تعني هذه املادة قبول الهجرة الطوعية‪.‬‬ ‫�أما املادة ‪ 3‬التي تتحدث عن احلدود والأو�ضاع اخلا�صة يف منطقة الباقورة ومنطقة الغمر فقد‬ ‫جاء عنها يف قانون تطبيق املعاهدة الإ�سرائيلية‪ ،‬ن�ص على ت�أكيد �سيادة القانون الإ�سرائيلي ولي�س‬ ‫القانون الأردين‪.‬‬ ‫وتن�ص املادة الرابعة على عدم التهديد بالقوة واالمتناع عن الأعمال العدائية �أو ا�ستعمال الأ�سلحة‬ ‫التقليدية وغري التقليدية‪ ،‬وي�شري البند الرابع �إىل االمتناع عن الدخول يف �أي ائتالف �أو تنظيم �أو‬ ‫حلف ع�سكري �أو ذي �صفة ع�سكرية �أو �أمنية مع طرف ثالث وعدم ال�سماح بدخول قوة ع�سكرية‬ ‫�أو معدات تعود لطرف ثالث على �أرا�ضيها‪.‬‬ ‫�إن ن�ص البند الرابع [(�أ) و (ب)] ي�ؤكد �أن عالقة ال�صداقة مع دولة العدو مطلقة وعالقتنا مع الدول‬ ‫العربية مرهونة بعدم عدائها لدولة العدو �أي �أن ن�ص املعاهدة مع دولة العدو ي�ؤكد �أن العالقة مع‬ ‫دولة العدو ا�سرتاتيجية‪.‬‬ ‫و�أما الفقرة (ب) من البند ال�سابع من املادة الرابعة فهي ت�ؤكد على �إيجاد منطقة خالية من �أ�سلحة‬ ‫الدمار ال�شامل التقليدية �أو غري التقليدية‪ .‬ومن املعروف �أن دولة العدو هي التي متتلك �أ�سلحة‬ ‫الدمار ال�شامل‪ .‬والأردن ال ميتلكها‪ .‬وت�ؤكد كافة املعلومات �أن دولة العدو تخزن املزيد من �أ�سلحة‬ ‫الدمار ال�شامل والأ�سلحة غري التقليدية للعدوان على الأمة والوطن العربي والتهديد با�ستعمال‬ ‫القوة وهذا يجري كل يوم‪.‬‬ ‫�إن املادة الرابعة تطلب حماية احلدود ومنع الت�سلل الأمر الذي يعني �أن يقوم الأردن مبنع �أي عمل‬ ‫�ضد دولة العدو‪ ،‬وعدم قيام �أعمال �ضد االحتالل ال�صهيوين‪ ،‬وعدم ال�سماح لعمل �أي منظمة‬ ‫تهدد �أمن الطرف الآخر‪ ،‬ومن املعلوم �أن منظمات �صهيونية تهدد �أمن الأردن وال يجري احلديث‬ ‫عن ذلك �أبداً‪.‬‬ ‫وتفر�ض املادة اخلام�سة عالقات دبلوما�سية وقن�صلية مع الطرف الآخر خالل �شهر من تاريخ‬ ‫تبادل وثائق الت�صديق على املعاهدة‪ .‬وين�ص البند الثاين من املادة اخلام�سة على التطبيع الكامل‬ ‫االقت�صادي والثقايف‪.‬‬


‫بعد انق�ضاء ت�سعة ع�شر عاماً على املعاهدة الأردنية الإ�سرائيلية‬

‫امل�رشق‬

‫‪109‬‬

‫وتتحدث املادة ال�ساد�سة عن املياه‪ ،‬وهذه حتتاج �إىل تف�صيل كبري حيث يتم نقل مياه الأمطار يف‬ ‫ال�شتاء للعدو‪ .‬ون�أخذ جزءاً منها يف ال�صيف‪ .‬وق�صة املياه امللوثة القادمة من طربيا معروفة‪.‬‬ ‫املادة ال�سابعة تتطرق �إىل العالقات االقت�صادية‪� ،‬أي عن �إنهاء املقاطعة االقت�صادية والعمل لإنهاء‬ ‫املقاطعة من قبل �أطراف ثالثة‪ .‬وهذا يعني �أن يعمل الأردن لت�سويق �إ�سرائيل بني الدول والكف‬ ‫عن مقاطعتها كما جاء يف البند (�أ) من البند الثاين من املادة ال�سابعة‪ .‬ومن املعروف �أن دولة‬ ‫االحتالل متنع الكثري من املواد عن الو�صول �إىل �أهلنا يف فل�سطني‪.‬‬ ‫املادة الثامنة‪ :‬الالجئون والنازحون‬

‫حيث يذكر يف البند الأول من هذه املادة �أن على البلدين ال�سعي لتخفيف حدة امل�شاكل‬ ‫(الإن�سانية) لالجئني‪ ،‬بينما دولة االحتالل تق�صف خميمات الالجئني يف جنني وغزة ورام اهلل‬ ‫ونابل�س ولبنان‪� .‬أي �أن ال�صهيونية متار�س طبيعتها العدوانية وال تلتزم ب�أي ن�ص‪ .‬فكيف ت�ساهم يف‬ ‫التخفيف من حدة امل�شاكل لالجئني وهي حتتل وطنهم وتق�صف بيوتهم وت�سجن �أبناءهم؟ فهي‬ ‫ال�سبب يف كل معاناة الالجئني الذين يريدون العودة �إىل وطنهم حيث ال ميكن �أن ي�شعروا بالراحة‬ ‫وهم خارج وطنهم‪.‬‬ ‫وي�ؤكد البند (�أ) من النقطة الثانية يف املادة الثامنة �أن مو�ضوع النازحني يحل �ضمن جلنة رباعية‪،‬‬ ‫في�ؤكد على �إيجاد حلول متعددة الأطراف‪ .‬وي�أتي الن�ص اخلطري يف الفقرة (ج) حول الالجئني‬ ‫الذي يقول ما يلي‪( :‬من خالل تطبيق برامج الأمم املتحدة املتفق عليها وغريها من الربامج‬ ‫االقت�صادية والدولية املتعلقة بالالجئني والنازحني مبا يف ذلك امل�ساعدة على توطينهم)‪� .‬إن‬ ‫املعاهدة تن�ص على التوطني‪.‬‬ ‫املادة التا�سعة‪ :‬الأماكن ذات الأهمية التاريخية والدينية وحوار الأديان‪.‬‬ ‫�إن ن�ص هذه املادة يعطي لكل طرف حرية الو�صول للأماكن ذات الأهمية التاريخية والدينية‬ ‫وهذه املادة جاءت مطلق ًة �أن هناك �أماكن ذات �أهمية دينية وتاريخية لدولة العدو يف الأردن‪ ،‬فما‬ ‫هي هذه الأماكن؟ وماذا جرى يف الت�سع ع�شرة �سنة املا�ضية حول هذا املو�ضوع؟ حيث تبني �أنه‬ ‫ال يوجد �أي �أثر عربي يف فل�سطني بعد ‪ 65‬عاماً من االحتالل والتنقيب والبحث ال�صهيوين‪ .‬بينما‬ ‫هذه املادة تعرتف ب�أماكن ذات �أهمية دينية وتاريخية لل�صهاينة وال نعرف عنها �شيئاً‪.‬‬ ‫�أما عن احرتام الدور الأردين يف الأماكن الإ�سالمية املقد�سة يف القد�س‪ ،‬ف�إننا نعرف كيف يتم‬ ‫االعتداء ال�صهيوين يومياً على هذه الأماكن‪ .‬كما �أن الإدارة الأمريكية ممثلة بالكوجنر�س وبت�صديق‬ ‫الرئي�س الأمريكي بو�ش اعتمدت القد�س العا�صمة الأبدية لدولة العدوان‪ .‬الأمر الذي يتناق�ض‬ ‫مع املعاهدة‪ .‬وهذا اعتداء �صارخ على الوجود العربي ‪ -‬الإ�سالمي يف القد�س‪ .‬و�أما التزام الطرفني‬ ‫عدد رقم ‪� | 1‬أيـار‬

‫‪2013‬‬


‫‪110‬‬

‫امل�رشق‬

‫بتعزيز حوار الأديان فهو �أمر يعطي �شرعية لدولة االحتالل لفل�سطني واللقاء مع احلاخامات اليهود‬ ‫�أي تطبيع ديني مع حمتل وطننا‪.‬‬ ‫تطالب املادة العا�شرة بتطبيع ثقايف وعلمي‪ ،‬الأمر الذي يقاومه �شعبنا باعتبار �أن حالة العداء‬ ‫لل�صهيونية العن�صرية املغت�صبة لفل�سطني لن تزول‪ .‬و�سيبقى �شعبنا يعمل لتحرير فل�سطني راف�ضاً‬ ‫التطبيع االقت�صادي والثقايف والعلمي وكل �أنواع التطبيع‪.‬‬ ‫�أما املادة (‪ :)11‬التي تتحدث عن التفاهم املتبادل وعالقات ح�سن اجلوار‪ :‬ف�إنها تطالب باتخاذ‬ ‫الإجراءات القانونية والإدارية ملنع الثقافة الوطنية �ضد ال�صهيونية من قبل �أي تنظيم �أو فرد‬ ‫يف املناطق التابعة لأي منهما وتطالب خالل ‪� 3‬شهور ب�إلغاء كافة الإ�شارات امل�ضادة واملعادية‬ ‫لل�صهيونية يف الت�شريع يف بلدنا ومنع العداء لل�صهيونية يف كافة املطبوعات احلكومية‪.‬‬ ‫وبالرغم من مرور ‪� 19‬سنة على املعاهدة ف�إن القوانني ال�صهيونية العن�صرية �ضد �أبناء فل�سطني عام‬ ‫‪ 48‬والالجئني والأفكار ال�صهيونية والقوانني التمييزية والأوامر الع�سكرية �ضد �شعبنا ما زالت‬ ‫متار�س كل يوم‪.‬‬ ‫املادة (‪ )12‬وعنوانها حماربة اجلرمية واملخدرات‪ :‬وهل هناك جرمية �أكرب من احتالل وطن وت�شريد‬ ‫�شعب منذ ‪ 65‬عاماً حتى الآن‪ ،‬حيث متار�س ال�صهيونية العن�صرية جرائمها يومياً �ضد �أ�صحاب‬ ‫الأر�ض‪ ،‬وتهدد وجود الأمة العربية كلها‪.‬‬ ‫�أما املادة (‪ )13‬فتتحدث عن �أماكن العبور واتفاقيات النقل وترخي�ص املركبات و�شحن الب�ضائع‪.‬‬ ‫كما �أن البند الرابع من هذه املادة ين�ص على �إقامة طريق �سريع يربط بني الأردن وم�صر و(�إ�سرائيل)‪.‬‬ ‫وكلنا يعلم �أنها ال ت�سمح بالتنقل من مدينة ومدينة وبني قرية وقرية ون�شاهد على التلفاز احلواجز‬ ‫ال�صهيونية‪ .‬فكيف ن�شق هذا الطريق ال�سريع وقوات االحتالل ال�صهيوين تذبح �شعبنا يومياً؟‬ ‫وتتطرق املادة (‪� )14‬إىل حرية املالحة والو�صول �إىل املوانئ فتعترب م�ضيق تريان وخليج العقبة ممرين‬ ‫خليجيني مفتوحني لكل الأمم وللطريان فوقهما بدون �إعاقة �أو توقف‪ .‬فكيف �أ�صبح خليج العقبة‬ ‫العربي ممراً دولياً؟ وكم يعني هذا الن�ص من التزامات قانونية لدولة العدو‪.‬‬ ‫وتتحدث املادة (‪ )15‬عن الطريان املدين حيث تن�ص على �إقامة اتفاقية طريان مدين خالل مدة‬ ‫ال تزيد عن �ستة �أ�شهر من تاريخ ت�صديق املعاهدة‪ .‬هذا الن�ص يعطي �شرعية ما للعدو يف املمرات‬ ‫اجلوية‪.‬‬ ‫كما �أن املادة (‪ )16‬التي تتحدث عن الربيد واالت�صاالت تفتح خطوط الهاتف والفاك�سميلي فيما‬ ‫بني البلدين‪ ،‬والربط الربيدي و�إن�شاء ات�صاالت �سلكية وال�سلكية‪ ،‬وخدمات الربط التلفزيوين‪.‬‬ ‫فهل ن�ستطيع التعامل مع العدو املحتل لوطننا بهذا ال�شكل‪.‬‬ ‫�أما املادة (‪ )17‬التي عنوانها ال�سياحة فتطلب الو�صول �إىل اتفاق يف فرتة ال تزيد عن ‪� 3‬أ�شهر‬


‫بعد انق�ضاء ت�سعة ع�شر عاماً على املعاهدة الأردنية الإ�سرائيلية‬

‫امل�رشق‬

‫‪111‬‬

‫من تاريخ ت�صديق املعاهدة وت�شجيع ال�سياحة املتبادلة ولكن احلقيقة الكربى �أن �شعبنا الراف�ض‬ ‫للتطبيع رف�ض ب�شكل وا�ضح التعامل ال�سياحي مع دولة العدو‪.‬‬ ‫كذلك املادة (‪ )18‬عن البيئة‪� :‬إن �شعبنا يعترب دولة االحتالل �أكرب م�صدر لتخريب البيئة يف‬ ‫بالدنا‪ .‬واالحتالل ميار�س يومياً تدمري البيئة الفل�سطينية‪.‬‬ ‫وتتحدث املادة (‪ )19‬عن الطاقة حيث تن�ص الفقرة الثانية من هذه املادة على ربط كهربائي يف‬ ‫منطقة العقبة‪� /‬إيالت وتو�سيع جمال الربط لل�شبكات الكهربائية واتفاقيات يف جمال الطاقة خالل‬ ‫‪� 3‬أ�شهر من تاريخ الت�صديق على املعاهدة‪.‬‬ ‫وورد يف املادة (‪ )20‬وهي بعنوان تنمية �أخدود وادي الأردن ن�ص عن تنمية متكاملة لوادي الأردن‬ ‫ب�إقامة م�شاريع اقت�صادية و�سياحية وللطاقة �آخذين بعني االعتبار االتفاق الذي مت التو�صل �إليه‬ ‫يف �إطار اللجنة االقت�صادية الثالثية الأردنية الإ�سرائيلية الأمريكية‪ .‬وال�س�ؤال هنا ما هو ن�ص هذا‬ ‫الإطار؟ ومتى و ِّقع؟ وماذا يلزمنا يف بلدنا؟ وهل جلنة اقت�صادية �إ�سرائيلية‪�-‬أمريكية ممكن �أن تكون‬ ‫يف �صالح الأردن؟ ونحن نعرف �أن املوقف الأمريكي �أكرث �صهيونية من املوقف (الإ�سرائيلي)‪.‬‬ ‫وت�ؤكد املادة (‪ )20‬على �ضرورة عمل �إتفاقية �صحية خالل ‪� 9‬أ�شهر من ت�صديق املعاهدة‪ ،‬فهل‬ ‫ممكن لأبناء هذا البلد �أن يقبلوا التعاون ال�صحي مع ال�صهاينة الذين يذبحون �شعبنا ويعتدون‬ ‫على �أمننا؟‬ ‫وتتحدث املادة (‪ )22‬عن الزراعة وهناك حديث طويل عن حقيقة التعامل يف هذا املجال احليوي‬ ‫والذي كان له الأثر ال�سلبي على الكثري من امل�ؤ�س�سات التي تعاملت مع ال�صهاينة‪ .‬وهنالك‬ ‫التجربة امل�صرية التي ت�ؤكد اخلراب الذي يتم على �أيدي ال�صهاينة‪.‬‬ ‫ويف املادة (‪ - )23‬العقبة و�إيالت ‪ -‬هناك حديث عن تنمية م�شرتكة ملدينتي العقبة و�إيالت‬ ‫يف ال�سياحة واجلمارك وعمل منطقة جتارة حرة وعن الطريان وحماربة التلوث والأمور البحرية‬ ‫وال�شرطة والر�سوم اجلمركية والتعامل ال�صحي �أي كونهما منطقة واحدة‪ .‬فماذا جرى يف هذه‬ ‫امل�س�ألة؟ وهل ميكن التعامل مع العدو بكل هذه التفا�صيل؟ علماً ب�أن العدو ال�صهيوين عدو �أبدي‬ ‫لأمتنا‪.‬‬ ‫وجاء يف املادتني (‪ )24‬و (‪( :)25‬يتعهد الطرفان بعدم الدخول يف �أي التزام يتعار�ض مع هذه‬ ‫املعاهدة) هذا الن�ص الذي يتكرر كثرياً يف هذه املعاهدة ي�ؤكد على انتزاع الأردن من �أمته العربية‬ ‫حيث جرى الت�أكيد يف البند ‪ 6‬من املادة ‪� 25‬أنه يف حالة تعار�ض التزامات الطرفني مبوجب هذه‬ ‫املعاهدة مع التزاماتهما الأخرى ف�إن االلتزامات مبوجب هذه املعاهدة �ستكون ملزمة و�ستنفذ‪.‬‬ ‫�أي ال يجوز �أن تكون لنا �أي عالقات حتى لو كانت بدولة عربية �إذا كانت هذه الدولة معادية‬ ‫لالحتالل‪� ،‬أي عالقتنا مع دولة االحتالل ا�سرتاتيجية ملزمة وعالقتنا مع الدول العربية تكتيكية‪.‬‬ ‫عدد رقم ‪� | 1‬أيـار‬

‫‪2013‬‬


‫‪112‬‬

‫امل�رشق‬

‫�أما املادة (‪ )26‬فتن�ص على ما يلي‪:‬‬ ‫(يتعهد الطرفان خالل ثالثة �أ�شهر من تبادل وثائق الت�صديق على هذه املعاهدة بتبني الت�شريعات‬ ‫ال�ضرورية لتنفيذ هذه املعاهدة ولإنهاء �أي التزامات دولية و�إلغاء �أي ت�شريعات تتناق�ض مع هذه‬ ‫املعاهدة)‪.‬‬ ‫لقد �أ�صدر الأردن تطبيقاً لهذا الن�ص قانوناً يق�ضي ب�إلغاء العداء «لإ�سرائيل» و�إلغاء املقاطعة معها‬ ‫وال�سماح لها بالتملك مثل �أي �أجنبي‪� .‬أما القانون الإ�سرائيلي الذي �صدر طبقاً لهذه املادة فن�ص‬ ‫على ال�سيطرة الع�سكرية واجلمركية وال�ضريبية والقانونية على الباقورة ومنطقة الغمر يف وادي‬ ‫عربة ولكن البند ال�ساد�س من القانون الإ�سرائيلي يقول‪�( :‬إن كل فل�سطيني تواجد يف الأردن‬ ‫بعد النكبة يطبق عليه قانون �أمالك الغائبني حتى ‪� ،1994/11/10‬أي م�صادرة �شاملة للأمالك)‪.‬‬ ‫وهكذا تن�ص املادة (‪ )8‬الفقرة (ج) على التوطني والقانون الإ�سرائيلي الذي �صدر مبوجب املادة ‪26‬‬ ‫ي�ؤكد على م�صادرة �أمالك الغائبني‪� ،‬أي ت�أكيد �ضرورة التوطني مرة �أخرى‪.‬‬ ‫�أما املواد الأخرى فتتحدث عن املعاهدة والإجراءات امل�ؤقتة وحل النزاعات وت�سجيلها لدى الأمم‬ ‫املتحدة مبقت�ضى املادة (‪ )102‬من ميثاق الأمم املتحدة‪.‬‬ ‫�إن هذه القراءة ال�سريعة لهذه املعاهدة ت�أخذ عمقها مع قراءة كافة االتفاقيات التي جرى توقيعها‬ ‫مع ال�صهاينة حيث �سنبني تف�صيلياً خماطر هذه الن�صو�ص واالتفاقات مع دولة العدو ال�صهيوين‬ ‫الأمر الذي يحتاج �إىل كتاب م�ستقل يف هذا املو�ضوع‪.‬‬


‫‪113‬‬

‫| د‪ .‬عادل �سمارة |‬

‫املنطقة والعامل‬

‫تركيا‪...‬عدو تاريخي ووكيل للمركز‬ ‫�ضد الأمة العربية‬ ‫مف ّكر فل�سطيني‬

‫العرب والفر�س والرتك والأحبا�ش هي الأمم القدمية ذات الوجود املو�ضوعي يف الإقليم الذي يربط‬ ‫�آ�سيا و�إفريقيا و�أوروبا‪� .‬إقليم بحكم موقعه عا�ش تاريخياً �أمام �أحد حتديني �أكرث من كونهما جمرد‬ ‫خيارين على ال�صعيد العاملي‪ :‬فهو �إما �أن ي�سيطر و�إما �أن ُيحكم‪.‬‬ ‫يف ال�صراع العاملي‪ ،‬منذ الفراعنة فالأحبا�ش فاليونان فالرومان فالأمرباطورية العربية فال�صفويني‬ ‫فالأتراك و�أخرياً اال�ستعمار الأوروبي احلايل وهذا ال�صراع املتوا�صل‪ ،‬والذي قررت املركزانية‬ ‫الأوروبية يف طبعتها فرجنة الإقطاع ومن ثم يف طبعتها احلالية فرجنة ر�أ�س املال‪ ،‬تغليفه ب�صراع‬ ‫ثقايف �أو ديني‪ ،‬هو يف جوهره كمختلف ال�صراعات يف العامل الإن�ساين املت�صارع بطبيعته على‬ ‫امل�صالح املادية‪ -‬االقت�صادية‪ .‬وهي م�صالح مت دوماً توريط �أمم ب�أكملها فيها‪ ،‬ولكن حمركها كان‬ ‫دوماً م�صالح طبقات حاكمة‪/‬مالكة لل�سلطة والرثوة‪ ،‬مبعنى �أن التاريخ ٌ‬ ‫�سجل لل�صراعات الطبقية‬ ‫ح�سب مارك�س‪ ،‬ولكن �صراعات الأمم هي يف جوهرها �صراعات طبقية‪ .‬كما مل يخرج اال�ستعمار‬ ‫العثماين للوطن العربي عن �سياق ا�ستخدام الإيديولوجيا‪ ،‬حتت ت�سمية اخلالفة الإ�سالمية‬ ‫لت�سويق ا�ستعمار الوطن العربي‪.‬‬ ‫لعل من مفارقات التاريخ‪� ،‬أن هذه الأمم الأربع القدمية مل تن�سجم مع بع�ضها يف حتالف حتى‬ ‫لو دفاعي فقد حكمت عالقاتها �صراعات متوا�صلة حتى اليوم‪ ،‬رغم وجود �أمثلة عدة معا�صرة‬ ‫ج�سدت تكتالت �إقت�صادية و�شبه �سيا�سية يف العامل رغم �صراعاتها التاريخية‪ ،‬ومثال االحتاد‬ ‫الأوروبي وا�ضح يف هذا ال�سياق‪ .‬ورمبا من املفيد الإ�شارة �إىل �أن الإ�سالم مل يتجاوز‪� ،‬أي مل ّ‬ ‫يحل‬ ‫حمل‪ ،‬االنتماء القومي لدى الأمم الثالث التي تدين بالإ�سالم �إىل جانب �أجزاء كثرية من الأمة‬ ‫العربية تدين بالن�صرانية ‪ ،‬رمبا لأن الإ�سالم كدين يطرح �أممية‪/‬عاملية غالفها ثقايف ولكن جوهرها‬ ‫م�صالح طبقية لطبقة‪/‬ات حاكمة �ضمن دولة قومية‪ ،‬وهذا ما التقطته الربجوازية يف الأمم الثالث‬ ‫الأخرى بينما يف الوطن العربي بقي الأمر خمتلفاً!‪ .‬ميكننا القول ب�أن الأممية الأخالقية للدين‬ ‫ت�ساهم يف تف�سري تفكك الأمرباطورية العربية‪/‬الإ�سالمية والحقاً الإمرباطورية العثمانية �إىل دول‬ ‫‪1‬‬

‫ ‪ 1‬لي�س هنا جمال مناق�شة الإ�شكالية القائمة يف الوطن العربي بني ا�ستبدال الإ�سالم كدين ب�إ�سالم قوى الدين ال�سيا�سي التي‬ ‫جعلت الدين مربراً ملعاداة وتقوي�ض امل�شروع القومي العربي‪ ،‬بخالف تركيا و�إيران وحتى �إثيوبيا امل�سيحية‪.‬‬ ‫عدد رقم ‪� | 1‬أيـار‬

‫‪2013‬‬


‫‪114‬‬

‫املنطقة والعامل‬

‫قومية‪ ،‬وتركيا منوذج على هذا‪ ،‬حيث عادت �إىل حجمها احلقيقي يف �آ�سيا ال�صغرى لي�س �أكرث‪.‬‬ ‫ويف هذا ال�سياق‪ ،‬هناك مالحظة مف�صلية م�ضمونها �أن الأمة التي تتو�سط هذا الإقليم الرباعي‬ ‫هي الأمة العربية‪ ،‬وب�أن دورها القيادي وحده الذي ميكن �أن يخلق يف الإقليم حالة من القوة‬ ‫واال�ستقرار وقدرة الدفاع‪ .‬و�إذا كان هذا قد جتلى �سابقاً منذ م�صر الفرعونية و� ً‬ ‫صوال �إىل الإ�سالم‬ ‫العربي وحتى جتربة حممد علي وجتربة تدمريها و� ً‬ ‫صوال �إىل تدمري النا�صرية‪ ،‬ف�إن ما ميكن ا�ستثماره‬ ‫اليوم من هذا هو امل�صالح املادية التي تربط الأمم الثالث الأخرى مع دولة عربية قوية‪ ،‬ولي�س �سيطرة‬ ‫يف�سر ا�ست�شرا�س الغرب الر�أ�سمايل �ضد الأمة العربية ووجود‬ ‫عربية على هذه الأمم‪ .‬ولكن هذا قد ِّ‬ ‫دور وموقع فيه لرتكيا‪.‬‬ ‫على �أن �أي حديث عن الع�صر احلديث وال�صراع اجلاري دولياً ال ميكنه قط االنح�صار يف هذا‬ ‫الإقليم‪ ،‬بل �إن م�صري وحتى التطورات اليومية يف هذا الإقليم مقودان �إىل درجة كبرية باملركز‬ ‫الر�أ�سمايل العاملي الذي يعترب هذا الإقليم ميدان م�صاحله بل ع�صب ا�ستمراره‪ .‬و�إذا مت�سكنا‬ ‫بالزعم �أن الأمة العربية هي مركز هذا الإقليم وب�أن تفتيتها هو �ضرورة لل�سيطرة الر�أ�سمالية الغربية‬ ‫ن�صل �إىل احلقيقة القا�سية وهي �أن هذه الأمة هي �أمة قيد اال�ستهداف الدائم‪ ،‬وهذا ما ينق�ض‬ ‫عبارة �ستالني ب�أن‪« :‬الأمة العربية �أمة يف طور التكوين»‪ ،‬فهي على الأقل من الأمم القدمية املمتدة‬ ‫�إىل احلا�ضر‪.‬‬ ‫على هذه القاعدة �أقام الغرب الر�أ�سمايل ا�سرتاتيجيته يف الإقليم على قائمتني‪:‬‬ ‫الأوىل‪ :‬وجوب زرع كيان لتفجري الوطن العربي من داخله‪ ،‬وهذا ما دعا له بداية مارتن لوثر قبل‬ ‫قرون من تبلور ال�صهيونية ‪.‬‬ ‫والثانية‪ :‬عالقاته بالأمم الثالث الأخرى مبا هي‪ ،‬يف ظروف معينة‪ ،‬عوامل م�ساعدة على تفكيك‬ ‫الأمة العربية و�إخ�ضاعها‪ ،‬وهو ما يحقق عدة �أمور‪:‬‬ ‫ احليلولة دون تناغم الإقليم على العك�س مما و�صلت �إليه �أوروبا‬ ‫ يحقق للغرب الر�أ�سمايل ال�سيطرة والتفرد مبكونات هذا الإقليم فرادى‬ ‫ �إحداث احرتابات بني مكونات هذا الإقليم‬ ‫عرب ل�صاحله‪ ،‬وهذه املذبحة الكربى ودرجة التفاقم العليا‬ ‫عرب باالحرتاب مع ٍ‬ ‫ وم�ؤخراً توكيل ٍ‬ ‫كما يح�صل �ضد �سوريا‪.‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪ 2‬انظر درا�سة حممد وِلد �إملي «الأ�صل غري اليهودي لل�صهيونية» يف جملة كنعان العدد ‪ 113‬ني�سان ‪� ،2003‬ص ‪ 60-29‬ترجمة‬ ‫د‪� .‬إبراهيم مكاوي‪.‬‬


‫املنطقة والعامل‬

‫تركيا‪...‬عدو تاريخي ووكيل للمركز �ضد الأمة العربية‬

‫‪115‬‬

‫�إن قراءة هذا‪ ،‬رمبا ت�سمح لنا بالتنبه �إىل االختالف الذي حكم عالقة املركز الر�أ�سمايل العاملي‬ ‫بالعرب مقارنة مع عالقته بالرتك والفر�س‪ .‬مبعنى �أن ا�ستهداف الوطن العربي بالتق�سيم الدائم‬ ‫خمتلف عن عدم تق�سيم تركيا و�إيران ما قبل اجلمهورية الإ�سالمية احلالية بل وتقدمي جزء من‬ ‫�سوريا لرتكيا من قبل اال�ستعمار الفرن�سي عام ‪� 1939‬ضمن �إ�صرار اال�ستعمار الفرن�سي على جتزيء‬ ‫�سوريا قبل �أن يخرج‪ .‬وكل هذا جتلى يف العالقة احلميمة بني �إيران ال�شاه وتركيا من جهة وبني‬ ‫املركز الإمربيايل والكيان ال�صهيوين الإ�شكنازي من جهة ثانية‪.‬‬ ‫وقد تكون هذه امل�س�ألة هي حمرك �أو مفتاح احلديث عن تركيا التي هي بوابة هذا الإقليم �إىل‬ ‫�أوروبا والقاعدة ال�شرقية حلماية الكيان ال�صهيوين ما يفر�ض عليها دوراً ما‪ ،‬هو ر�أ�س احلربة التي‬ ‫�إما �أن تُوجه �ضد �أوروبا م�ستخدمة �سيطرتها على الإقليم‪ ،‬كما كان يف املا�ضي‪ ،‬و�إما �أن تتبع لأوروبا‬ ‫فتتحول �ضد الأقليم كما هي اليوم‪.‬‬ ‫لقد و�ضعت احلرب العاملية الأوىل حداً للدور الأول لرتكيا‪ ،‬فحني مت جتريدها من م�ستعمراتها‬ ‫�أُعيدت تركيا �إىل حجمها الطبيعي والذي بالت�أكيد ال ي�سمح لها بدور قيادي يف الإقليم‪ ،‬فاختارت‬ ‫«مو�ضوعياً» التبعية لأوروبا �أو الغرب عامة‪ .‬وبكالم �آخر‪ ،‬فقد بينت احلرب العاملية الأوىل �أن تركيا‬ ‫قد فقدت عا ِم َل ْي القوة اللذين مكناها من �إقامة �إمرباطورية وهما‪:‬‬ ‫ عامل املجتمع احلربي ‪( Warrior Society‬كما ي�سميه �سمري �أمني ومك�سيم رودن�سون) الذي‬ ‫اعتمد على ما ي�ستلبه من الأمم اخلا�ضعة لها‪ .‬فقدت هذا العامل لأنها‪� ،‬أي الأمرباطورية‬ ‫العثمانية‪ ،‬مل توظف الفوائ�ض التي كانت ت�سلخها من �أنحاء الإمرباطورية �سوى يف �صعيدين‪:‬‬ ‫ الإنفاق على اجليو�ش ال�ستمرار اال�ستعمار‬ ‫ والإنفاق البذخي ولي�س التنموي‪ ،‬وخا�صة يف م�ستعمراتها العربية‪ ،‬ما ق َّو�ض مواقع الإنتاج يف‬ ‫هذه امل�ستعمرات و�أعاق تطورها الر�أ�سمايل مقارنة ب�أوروبا التي قاد تطورها الر�أ�سمالية �إىل تفوقها‬ ‫الع�سكري الت�سليحي كذاك‪.‬‬ ‫‪3‬‬

‫ولأنها مل تكن تعي�ش ب�إمكاناتها‪ ،‬فقد قادت هزميتها �إىل الرجوع �إىل حجمها الطبيعي‪.‬‬ ‫ وعامل ا�ستخدام الدين لل�سيطرة على الوطن العربي و�شعوب م�سلمة �أخرى‪ ،‬وذلك �أن هذه الأمم‬ ‫وجدت م�صاحلها يف اخلروج على �سيطر ِة العثمانية‪ .‬ولي�س غريباً �أن من ابكر هذه املحاوالت كانت‬ ‫‪ 3‬هناك توا�صل وتكامل بني كل من تركيا والكيان ونظام املغرب و�أنظمة النفط يف حماية الكيان وتثبيت م�صالح املركز يف الوطن العربي‪،‬‬ ‫ال�سنة وح�سب‬ ‫لذا لي�س غريباً �أن اقرتح جمل�س التعاون اخلليجي �ضم املغرب �إليه وذلك لي�س �أ�سا�ساً على �أر�ضية حتالف برجوازية طائفة ُ‬ ‫بقدر ما هو تنفيذ مل�شروع ال�شرق الأو�سط الأمريكي‪ ،‬ومن �ضمنه اندماج الكيان ال�صهيوين اندماجاً مهيمناً يف الوطن العربي‪ .‬ميكن‬ ‫الرجوع �إىل كتاب عادل �سمارة ثورة م�ضادة �إرها�صات �أم ثورة‪ ،‬ال�صادر حديثاً عن دار ف�ضاءات يف عمان ‪ 2012‬لالطالع على �شبكة‬ ‫ال�شركات املمتدة من ال�سعودية وقطر والإمارات �إىل الكيان ال�صهيوين عرب ال�ضفة الغربية وقا�سمها امل�شرتك ر�أ�سماليون فل�سطينيون‪.‬‬ ‫عدد رقم ‪� | 1‬أيـار‬

‫‪2013‬‬


‫‪116‬‬

‫املنطقة والعامل‬

‫م�صر حممد علي‪ ،‬وهي التجربة التي ُتن�سب �إىل حممد علي كقائد فرد دون قراءة �أمرين مهمني‬ ‫كما يجب على الأقل‪:‬‬ ‫ الأول‪ :‬الدور املو�ضوعي عروبياً مل�صر مبا هي املهي�أة لتكون الدولة املركزية يف الإقليم منذ‬ ‫الفراعنة وهو ما �أتاح ملحمد علي جتريب طموحاته التي جنحت ب�شكل فذ‪ ،‬والتي هي �أي�ضا‬ ‫كتجربة ناجحة دفعت بريطانيا والعثمانية لك�سر ظهر هذه التجربة‪ ،‬وهي جتربة �أ�ضاءت على �أمر‬ ‫مهم من ال�سذاجة تغييبه‪ ،‬وهو وقوف فرن�سا �إىل جانب العدوان الربيطاين العثماين وخذالنها‬ ‫ملحمد علي الأمر الذي يبني �أن �أوروبا الر�أ�سمالية‪ ،‬والحقاً املركز الر�أ�سمايل‪ ،‬هي عدو دائم‬ ‫للأمة العربية بغ�ض النظر عن بع�ض التباينات هنا وهناك‪ .‬واملثري كذلك‪� ،‬أنه بعد احلرب العاملية‬ ‫الأوىل دخلت تركيا حتت جناح املركز ومل تتغري �سواء حكمها العلمانيون �أو الإ�سالميون مما‬ ‫ي�ؤكد الأر�ضية القومية ولي�س الدينية التي تتحكم ب�سيا�سات تركيا‪.‬‬ ‫ والثاين‪� :‬أن حممد علي الألباين وامل�سلم‪ ،‬ما كان ليخرج على تركيا لو مل تكن هناك مو�ضوعياً‬ ‫جاهزية م�صرية من جهة‪ ،‬ولو كان مقوداً ب�إميانه بالثقافة الإ�سالمية التي مل تكن هي مكونه‬ ‫احلا�سم‪ ،‬ملا كان ليخرج على «اخلالفة»!‪.‬‬ ‫العثمانية هي�أت الوطن العربي لال�ستعمار الأوروبي‪:‬‬

‫على امتداد ‪� 400‬سنة من اال�ستعمار العثماين كان جوهر العالقة االقت�صادية بني ال�سلطة العثمانية‬ ‫والوطن العربي هي عالقة ا�ستخال�ص الفائ�ض من املنتج الزراعي ال�صغري �أو امل�ستقل عرب تغطية‬ ‫ذلك بت�شريع ق�ضائي لرتكيز العامل الإيديولوجي وامللخ�ص يف تربير �سلخ الفائ�ض با�سم اخلالفة‬ ‫التي تزعم انها متثل الإ�سالم وحماية ديار الإ�سالم‪ .‬وهو فائ�ض يذهب �إىل ال�سلطة املركزية دون‬ ‫�أن ُيعاد بع�ضه كخدمات من املركز �إىل الأطراف‪ .‬وبغ�ض النظر عن الت�سميات �سواء كانت‬ ‫الت�شكيالت االجتماعية االقت�صادية العثمانية ي�سيطر عليها منط الإنتاج الآ�سيوي �أو اخلراجي‪،‬‬ ‫و�إن كنا نف�ضل ت�سميته الإقطاع الع�سكري ال�شرقي بل املهم يف الأمر هو �سلخ الفائ�ض‪.‬‬ ‫باملعنى التاريخي كانت الإمرباطورية العثمانية متفردة يف كونها اعتمدت القوة الع�سكرية يف ب�سط‬ ‫نفوذها على الوطن العربي حيث بقايا املماليك معتمدة على وراثتها للخالفة �إيديولوجياً‪ ،‬وعلى‬ ‫فرتة من التاريخ كان الغرب يخلو من مركز قوي يت�صدى لتو�سعاتها يف البلقان‪ .‬ولعل ما �أطال‬ ‫عمرها هو هذه العوامل التي كانت يف فرتة من الزمن تتكون من انهيار الإمرباطورية العربية‬ ‫الإ�سالمية من جهة وانبعاث �أوروبا التدريجي واحرتاباتها الداخلية قبل دخولها ع�صر التنوير‬ ‫والثورة ال�صناعية من جهة ثانية‪� ،‬إىل �أن متكنت �أوروبا اال�ستعمارية من قتل الرجل املري�ض الذي‬ ‫‪4‬‬

‫ ‪ 4‬انظر عادل �سمارة‪ ،‬الر�أ�سمالية الفل�سطينية من الن�شوء التابع �إىل م�أزق اال�ستقالل‪ .‬من�شورات مركز الزهراء‪ ،‬القد�س ‪.1990‬‬


‫تركيا‪...‬عدو تاريخي ووكيل للمركز �ضد الأمة العربية‬

‫املنطقة والعامل‬

‫‪117‬‬

‫ا�ستطال حتى احلرب العاملية الأوىل نظراً لتناق�ض م�صالح الدول الأوروبية وتوازن الرعب فيما‬ ‫بينها‪� .‬إذ و�صلت قوات احللفاء �أر�ض تركيا نف�سها واحتل اجلي�ش اليوناين جزءاً منها و�شكل‬ ‫احللفاء �سلطة تابعة لهم هناك �إىل �أن متكن م�صطفى كمال �أتاتورك من الو�صول �إىل احلكم بعد‬ ‫‪ 1919‬يف �أنقرة ودحر اليونان من الأنا�ضول ‪ 1921-22‬وحقق �صلحا مقبوال للأتراك مبوجب اتفاقية‬ ‫لوزان ‪ ،1923‬والتي مت فيها جتريد العثمانية من كافة م�ستعمراتها وخا�صة العربية لتنكفىء على‬ ‫حدودها الطبيعية‪� ،‬أي بعد �أن قدمت م�ستعمراتها العربية ثمناً خلروج احللفاء من �أر�ضها‪ .‬هذا هو‬ ‫الرتاث «العظيم» الذي خ َّلفته لنا اخلالفة العثمانية با�سم الإ�سالم!‬ ‫خالل احتاللها للوطن العربي ولكي متول ال�سلطة العثمانية دولتها الع�سكرية مل يكن �أمامها �سوى‬ ‫ا�ستخال�ص الفائ�ض من الفالحني كمالك م�ستقلني والربح من ال�ضرائب املفرو�ضة على التجار‬ ‫املتخ�ص�صني يف التجارة بعيدة املدى كي ُتنفق على اجلي�ش ورفاه الطبقة احلاكمة يف الآ�ستانة‪.‬‬ ‫من ناحية التطور االقت�صادي االجتماعي‪ ،‬مل ُتقر العثمانية بع�ض قوانني الأرا�ضي مبعنى امللكية‬ ‫اخلا�صة �سوى مع �ستينات القرن التا�سع ع�شر وذلك حتت �ضغط احلاجة امللحة للمال لتغذية‬ ‫جيو�شها حيث وجدت يف حتديد امللكية طريقة �أكرث دقة يف مالحقة املنتجني ل�سلخ الفائ�ض منهم‪.‬‬ ‫فالعثمانية �إذن مبا هي ت�شكيالت من الإقطاع الع�سكري‪� ،‬أي الدولة احلربية‪ ،‬وال�شرقي مبعنى‬ ‫االختالف عن الإقطاع الأوروبي الذي كان ا�شتمل على ت�شريع امللكية اخلا�صة والذي خدم‬ ‫كعامل �أ�سا�سي يف االنتقال من الإقطاع �إىل الر�أ�سمالية‪ ،‬فهي كانت ُتعدم �إمكانات التحول �إىل‬ ‫الر�أ�سمالية باملعنى ال�صناعي على الأقل يف البلدان اخلا�ضعة لها وخا�صة الوطن العربي‪ .‬وبالطبع‪،‬‬ ‫ف�إن تدمري جتربة حممد علي يف م�صر �شاهد جد وا�ضح على ذلك‪.‬‬ ‫�إن طبيعة الت�شكيالت العثمانية ك�إقطاع ع�سكري‪�/‬شرقي هي التي حددت �شكل انخراط العثمانية‬ ‫يف النظام العاملي انخراطاً تدريجياً ومتحفظاً وا�ضطرارياً‪ ،‬ونق�صد هنا الر�سملة‪ .‬فقد كان دخول الر�سملة‬ ‫�إىل العثمانية مت�أخراً وعرب جتارة التهريب ورمبا لهذا مل ترتك هذه الأمرباطورية وراءها �أي م�ستوى‬ ‫ح�ضاري ُيذكر وال �سيما يف الوطن العربي الذي كان يف معظمه خا�ضعاً لها لأربعة قرون‪ ،‬والأجزاء‬ ‫التي مل ُتخ�ضع ق�ضت تلك الفرتة ُم�ستننزفة يف مقاومة الغزو العثماين مثال يف جبال اليمن ال�شاهقة‪.‬‬ ‫ويكفي للمقارنة �أن نقارن ما تركه العرب من ح�ضارة ُتعلن عن نف�سها حتى اليوم يف خمتلف‬ ‫جماالت الري والإنتاج والعمران والأدب والفن والفل�سفة‪ ،‬يف الأندل�س خالل ا�ستعمارهم لها‬ ‫وبني انتهاء اال�ستعمار العثماين للوطن العربي كخرائب بلقعاً يف خمتلف جماالت احلياة‪ .‬وبهذا‬ ‫فقد هي�أت العثمانية وطننا العربي للخ�ضوع لال�ستعمار الأوروبي الغربي جاهزية �سهلة‪.‬‬ ‫‪5‬‬

‫ ‪ 5‬نف�س امل�صدر ‪.‬‬ ‫عدد رقم ‪� | 1‬أيـار‬

‫‪2013‬‬


‫‪118‬‬

‫املنطقة والعامل‬

‫قرن على االختيار الرتكي‪:‬‬

‫ُي�شيد كثري من العرب وخا�صة الإ�سالميني منهم ب�أن ال�سلطان عبد احلميد رف�ض عرو�ض ثيودور‬ ‫هرت�سل ب�ش�أن اال�ستيطان اليهودي يف فل�سطني‪ .‬وهو رف�ض يجب قراءته يف �سياق موقف رجل‬ ‫الدولة من �إحدى مقاطعات دولته �سواء كانت جزءاً من الأر�ض القومية �أو امل�ستع َمرة‪ .‬فلم يكن‬ ‫الأتراك يف غفلة عن الأهداف الأوروبية املعلنة يف تفكيك وراثة العثمانية‪.‬‬ ‫�أما الأمر الأهم فهو �أن اال�ستبداد العثماين يف الوطن العربي كان قد ه َّي�أ هذا الوطن بكامله‬ ‫للخ�ضوع لال�ستعمار الر�أ�سمايل الغربي‪ ،‬كما �أ�شرنا �أعاله‪ ،‬وخا�صة فل�سطني‪:‬‬ ‫ فال دافعت العثمانية عن هذا الوطن بل انكف�أت على ذاتها‬ ‫ وال كانت قد �أ�س�ست �أو �أبقت فيه ما يمُ ِّكنه �أو ي�ساعده على مقاومة امل�ستعمِ ر اجلديد ‪،‬‬ ‫ وبالطبع‪ ،‬ف�إن تاريخ التبعية للعثماين كان قد و َّلد نخباً عربية ترى يف التبعية خال�صها الأبدي‬ ‫وهي تق�سم �إىل فريقني‪:‬‬ ‫ فريق قوى الدين ال�سيا�سي التي ت�صر حتى اليوم على �ضرورة العودة للخالفة �أي اخل�ضوع‬ ‫لال�ستعمار العثماين رغم تراث اال�ستغالل والقمع والتخلف الذي عا�شته الأمة العربية‬ ‫حتت نري العثمانيني‪.‬‬ ‫ وفريق من اللرباليني املتغربنني الذين ينتمون �إىل تخليد الهزمية عرب التبعية لال�ستعمار الغربي‬ ‫الر�أ�سمايل وحتى ال�صهيوين وه�ؤالء حاملو ثقافة الإجنلو‪� -‬ساك�سون والفرانكفونية‪...‬الخ‬ ‫و�إذا كانت النخب العربية االقطاعية والتجارية والحقاً اللربالية‪ ،‬بعد هزمية العثمانية يف احلرب‬ ‫العاملية الأوىل قد قررت اختيار التبعية للغرب الر�أ�سمايل �أو خُ دعت كما يزعم احل�سني بن علي‪،‬‬ ‫ف�إن تركيا مل تكن خارج هذا اخليار‪ ،‬ولكن ب�شروط �أف�ضل‪ .‬فقد متكن م�صطفى كمال �أتاتورك‬ ‫عما احتلته من تركيا والتو�صل‪ ،‬كما �أ�شرنا‪� ،‬إىل اتفاق مقبول يف لوزان ‪،1923‬‬ ‫من دحر اليونان ّ‬ ‫و�ضمن انبهاره بالغرب قرر دفع تركيا باجتاه الأوربة معتقداً �أن تقدمها �سيكون يف هذا التوجه �أو‬ ‫رمبا مقتنعاً �أن م�ستقبل تركيا هو يف م�أجورية للغرب‪ .‬وهذا بالطبع مل ي�ضع ال العرب وال الأتراك‬ ‫يف موقع َي ْف�ضُ ل الآخر جتاه املركز الإمربيايل �سوى يف طبيعة القيادة املحلية لكل منهما من جهة‪،‬‬ ‫ودرجة وطريقة ا�ستهداف املركز الإمربيالية لكل منهما من جهة ثانية‪ ،‬وهذا ما يرجح كفة �أتاتورك‬ ‫‪6‬‬

‫‪ 6‬مل ٍ‬ ‫تكتف ال�سلطة العثمانية ب�سلخ ال�ضرائب من م�ستعمراتها بل كانت تفر�ض التجنيد الإجباري على رعاياها من تلك البلدان‪ .‬فبما انها‬ ‫جمتمع حربي ومبا �أن عدد �سكانها ال يغطي حاجتها التجنيدية الع�سكرية جل�أت لتجنيد العرب يف جيو�شها‪ ،‬وهي ال�سيا�سة التي افرزت‬ ‫الرف�ض ال�شعبي عرب هروب الكثريين من اجلندية فيما ُعرف كت�سمية �شعبية «فرارات»‪ .‬فهل كان ال�سوري معنياً بالقتال يف البلقان �أو‬ ‫الفل�سطيني ليقاتل يف جبال اليمن با�سم الإ�سالم‪ .‬لطاملا حدثني جدي لأمي الذي كان يحمل ا�سم عزيز �شاوي�ش يف اجلي�ش العثماين‬ ‫كيف هرب من اليمن‪ ،‬وقد رحل عام ‪ 1963‬عن مئة وخم�س �سنوات؟ ل�ست �أدري �إن كان هناك تاريخ �شفوي لريوي هذه امل�آ�سي‪� .‬أذكر‬ ‫�أن معلم التاريخ وهو من الإخوان امل�سلمني طردين من ال�صف التوجيهي عام ‪ 1963‬حني قلت �إن تركيا كانت ا�ستعماراً‪.‬‬


‫تركيا‪...‬عدو تاريخي ووكيل للمركز �ضد الأمة العربية‬

‫املنطقة والعامل‬

‫‪119‬‬

‫على الأنظمة القُطرية العربية التي ولدتها اتفاقية �سايك�س‪ -‬بيكو ‪ 1916‬والتي جاءت تهيئة لوعد‬ ‫بلفور ‪ 1917‬مما ي�ؤكد الت�آخي غري املعلن بني الدولة القُطرية والكيان ال�صهيوين حتى اليوم‪ .‬وهذا‬ ‫اخليار التبعوي املزدوج واملتناف�س‪/‬املت�سابق على التبعية هو الذي ال يزال يحكم موقع الإقليم يف‬ ‫اال�سرتاتيجية الإمربيالية الغربية‪.‬‬ ‫ولكن‪ ،‬ملاذا كان الغرب �أكرث مرونة جتاه تركيا رغم �أن مكوناتها ت�سمح بتق�سيمها على غرار تق�سيم‬ ‫الوطن العربي �إذا كانت «دائما» املكونات الطائفية والقومية والإثنية تعاند الوحدة كما ُيزعم دوماً‬ ‫�ضد الوطن العربي؟ وهل كان عامل تقوية تركيا اقت�صادياً ذا دور حا�سم يف عدم تفككها‪ ،‬وهل‬ ‫هذا ما �أدركه احلكام الأتراك فقرروا الإبقاء على عالقة قوية ب�أوروبا مبا يخدمهم اقت�صادياً؟‬ ‫ال �شك �أن للجغرافيا دورها يف حالة تركيا‪ .‬فهي �أكرث متا�ساً و�أقرب �إىل قلب الوطن العربي من �إيران‬ ‫وهي بوابة �آ�سيا على �أوروبا ما يوفر فيها دور خادم �أف�ضل للمركز الر�أ�سمايل الغربي وال ي�سمح لها‬ ‫بالقدرة على ال�سيطرة على الإقليم‪ ،‬كما �أنها ال تتمتع باالمتداد وال بالقوة الكامنة املوجودة يف‬ ‫الوطن العربي ما يجعل احتواءها �أكرث �سهولة‪ ،‬وبالتايل ا�ستخدامها �أكرث �سهولة كذلك‪ .‬ورمبا هذا‬ ‫ما �أدركه �أتاتورك بدوره حيث عمل ولو ب�شكل ق�سري على �أوربة تركيا‪.‬‬ ‫�إذن بني عجز تركيا �أن تكون قطباً يف مواجهة �أوروبا و�إدراك �أوروبا لذلك‪ ،‬وجاهزية تركيا لتكون‬ ‫�أداة او �شريكاً و�ضيعاً لأوروبا �ضد العرب‪ ،‬و�إدراك الأوروبيني والأتراك لذلك‪ ،‬وافتقار تركيا لتاريخ‬ ‫وتراث عريقني ‪...‬الخ كل هذه ت�ساعد على فهم ملاذا كان هذا التقارب الرتكي الأوروبي �سريعاً‬ ‫وم�ستمراً‪ .‬وبالطبع‪ ،‬فهذه العوامل تتج�سد يف النهاية يف موقف عدائي م�شرتك �ضد الأمة العربية‬ ‫ال ينح�صر يف تفكيكها بل كذلك يف منع �أو احتجاز تطورها فرادى‪.‬‬ ‫لقد �أثبت القرن الع�شرون بامتداده �أن تركيا قد متثلت الدور الذي اقتنعت به م�ستثمرة موقعها‬ ‫اجلغرايف لتكون ر�أ�س ج�سر للعدوان الإمربيايل الغربي �ضد الوطن العربي‪ ،‬وهو ما تال يف �سيا�ساتها‬ ‫�سواء يف ع�ضويتها يف الأطل�سي املوجه �ضد االحتاد ال�سوفييتي ال�سابق �أو اعرتافها وعالقتها بالكيان‬ ‫ال�صهيوين ودخولها الأحالف املوجهة �ضد الأمة العربية كحلف بغداد‪.‬‬ ‫وكل هذه ت�أكدت �أكرث ب�أن وا�صلت تركيا دورها الأداة والعدو يف نف�س الوقت بعد تفكك االحتاد‬ ‫ال�سوفييتي حيث وا�صلت ارتباطها بالأطل�سي ما �أكد �أنها تلعب دوراً �ضد نه�ضة االحتاد الرو�سي‬ ‫جمدداً‪ ،‬كما �أنها وا�صلت عالقتها بالكيان ال�صهيوين وعززت تلك العالقة‪.‬‬ ‫جتدر الإ�شارة �أي�ضا �إىل �أن الدور التابع لرتكيا زودها بقبول دور براجماتي وا�ضح من الناحية‬ ‫الثقافية‪ .‬ففي حني ما تزال ت�ستخدم م�س�ألة مركز اخلالفة الإ�سالمية‪ ،‬ف�إنها‪� ،‬أي تركيا تقيم �أقوى‬ ‫العالقات مع الغرب غري امل�سلم ومع الكيان ال�صهيوين غري امل�سلم كذلك‪ ،‬بينما تنا�صب الدول‬ ‫العربية وهي امل�سلمة العداء وهو الأمر الذي ي�ؤكد �أن ما يقود تركيا هو طموحها القومي ولي�س‬ ‫تراث اخلالفة الإ�سالمية الذي ا�ستخدمته ل�ستة قرون وحتاول جتديده‪ ..‬اليوم‪.‬‬ ‫عدد رقم ‪� | 1‬أيـار‬

‫‪2013‬‬


‫‪120‬‬

‫املنطقة والعامل‬

‫ميكننا القول ب�أن عالقة تركيا ب�أوروبا وبالأطل�سي ت�شرتط لها دوراً معادياً للأمة العربية‪ ،‬وهو دور له‬ ‫ما ُيغري تركيا به ال �سيما وهي حتتل �أر�ضاً عربية هو لواء الإ�سكندرونة حيث يرى اال�سرتاتيجيون‬ ‫الأتراك ب�أن �أية وحدة عربية �سوف ت�ضعها �أمام ا�ستعادة العرب لهذا الإقليم‪ .‬وهذا ما يدفعها‬ ‫خلدمة �سيطرة وعدوانية الإمربيالية �ضد الوطن العربي‪ .‬وهذا ي�ؤكد �أنه ال امل�شرتك الإ�سالمي‬ ‫وال اجلوار اجلغرايف هما احلا�سمان يف عالقة تركيا بالعرب‪ .‬كما �أنها تت�ساوى وت�شرتك مع الكيان‬ ‫ال�صهيوين الإ�شكنازي يف اغت�صاب �أر�ض عربية ناهيك عن عالقتهما باملركز الإمربيايل‪.‬‬ ‫وتبقى الإ�شارة �إىل مفارقة زعم الكثري من القوميني الأتراك ب�أن انحياز النخب العربية �ضد تركيا‬ ‫يف احلرب العاملية الأوىل كان �ضربة للخالفة الإ�سالمية على يد القومية العربية‪ ،‬علماً ب�أن ال هذا‬ ‫وال ذاك كان �صحيحاً‪ .‬فال متثل تركيا اخلالفة الإ�سالمية بل م�صلحتها القومية الطورانية بدليل �أن‬ ‫�أتاتورك حاول حمو الإ�سالم من تركيا ملدة قرن كامل ومل يجد حتى معار�ضة حقيقية من ال�شارع‬ ‫الرتكي‪ ،‬كما �أن تركيا كانت قد �أنهكت الأمة العربية ما �أكد ب�أن ذلك الوجود العثماين يف الوطن‬ ‫العربي ال عالقة له بالإ�سالم‪.‬‬ ‫العالقة بالواليات املتحدة‪:‬‬

‫لي�ست لدينا �إجابة على عدم حماولة احللفاء اال�ستقرار يف تركيا �أو متكني اليونان من االحتفاظ‬ ‫مبا احتلته منها‪ .‬كما لي�س �شرطاً �أن �إ�صالحات �أتاتورك هي التي حالت دون حماولة الغرب جتزئة‬ ‫تركيا كما فعلت يف الوطن العربي‪ ،‬بل وحتى قيام فرن�سا ب�ضم �إقليم الإ�سكندرون �إىل تركيا عام‬ ‫‪ ،1939‬وهل كان ذلك كي ال تدخل تركيا احلرب �إىل جانب املحور؟ �أم خللق ما ي�ؤبد عالقات‬ ‫عدائية بني تركيا و�سوريا؟ �أم �أن احللفاء كانوا يريدون تركيا غري جمز�أة للوقوف يف وجه االحتاد‬ ‫ال�سوفييتي وما كانوا ي�سمونه باملد ال�شيوعي‪.‬‬ ‫قد جند بع�ض الإجابة على هذه الأ�سئلة يف ان�ضمام تركيا املبكر �إىل حلف �شمال الأطل�سي عام‬ ‫‪� 1952‬أي مع بواكري احلرب الباردة وبواكري النه�ضة القومية العربية وبعد �سنوات قليلة على خلق‬ ‫الكيان ال�صهيوين يف فل�سطني‪ .‬فهذه التطورات جميعاً تدعم اعتقادنا بتف�ضيل الغرب الإبقاء على‬ ‫تركيا متما�سكة خلدمة �أدوارها هذه على الوجه الأف�ضل‪.‬‬ ‫من الالفت �أن تركيا القوميني‪/‬الع�سكر وتركيا الإ�سالميني مل تختلفا فيما يخ�ص موقفهما من‬ ‫الغرب‪ .‬ففي بداية ان�ضمام تركيا للأطل�سي كانت املخابرات االمريكية قد نقلت ال�سلطة من‬ ‫العلمانيني واجلي�ش �إىل جمموعة �إ�سالمية برئا�سة عدنان مندري�س‪ ،‬والحقاً بعد �أن ا�سرتد اجلي�ش‬ ‫�سيطرته على تركيا مل تتغري عالقة تركيا بالأطل�سي‪ .‬و�ضمن هذه العالقة بد�أت الواليات املتحدة‬


‫تركيا‪...‬عدو تاريخي ووكيل للمركز �ضد الأمة العربية‬

‫املنطقة والعامل‬

‫‪121‬‬

‫ب�إقامة القواعد الع�سكرية يف تركيا موجهة �ضد االحتاد ال�سوفييتي‪ ،‬وخا�صة قاعدة �إجنرليك ‪ .‬ويف‬ ‫الفرتة نف�سها هددت تركيا النظام الوطني يف �سوريا الذي كان مقرباً من م�صر النا�صرية (كما يذكر‬ ‫د‪ .‬موفق حمادين) ما ي�ؤكد الدور الرتكي املعادي للقومية العربية‪ .‬ومع تطور عالقة تركيا بالأطل�سي‬ ‫�أ�صبحت دولة تابعة بالكامل لوا�شنطن ففي هذا العام (‪ )1969‬وقعت اتفاقية ُ�سمح مبوجبها‬ ‫للواليات املتحدة ب�إقامة (‪� )26‬ست وع�شرين قاعدة ع�سكرية بالإ�ضافة �إىل مراكز الر�صد والإنذار‬ ‫املبكر ومراكز االت�صاالت الال�سلكية وقواعد التج�س�س وجمع املعلومات‪ ،‬وكذلك الت�سهيالت‬ ‫املوجهة �ضد امل�صالح العربية وخلدمة احللف الأمريكي ‪ -‬الإ�سرائيلي‪ .‬وميكن القول �إنه منذ عام‬ ‫‪� 1969‬صارت ميداناً مفتوحاً لقوات الواليات املتحدة الأمريكية (كما يذكر د‪ .‬حممد نور الدين)‪.‬‬ ‫‪7‬‬

‫العالقة بالكيان‪:‬‬

‫كانت تركيا �أول دولة �إ�سالمية تعرتف بالكيان ال�صهيوين (‪� 29‬آذار ‪ ،)1949‬وهي بالطبع دولة جوار‬ ‫عربي مبعنى �أنها على معرفة بال�سيا�سة الإمربيالية يف املنطقة وحقيقة �أن الكيان ما كان ليوجد لوال‬ ‫وجود الإمربيالية‪� ،‬أي الإمربيالية التي اختارت تركيا �أن تكون حليفها‪/‬الأداة ما ي�ؤكد القناعة‬ ‫العدوانية الرتكية للأمة العربية واعتبار �أن وجود الكيان يف الوطن العربي هو حالة حليفة لها‬ ‫تخدمها يف وجود وطن عربي �ضعيف‪ .‬واالعرتاف بالكيان يك�شف ب�أن عدم ت�أييد تركيا لقرار‬ ‫تق�سيم فل�سطني ‪ ،1947‬مل يكن �سوى موقف عابر من تركيا‪ ،‬رمبا لأنها مل تكن قد ت�أكدت من‬ ‫�إمكانية قيام الكيان‪.‬‬ ‫‪ ‬لقد ان�ضمت تركيا �إىل حلف بغداد املعادي مل�صر عبد النا�صر عام ‪ 1955‬و�أيدت العدوان الثالثي‬ ‫على م�صر عام ‪ ،1956‬والتدخل الأمريكي يف لبنان ون�شرت قوتها على احلدود العراقية للتدخل يف‬ ‫�إ�سقاط ثورة ‪ 14‬يوليو ‪� 1958‬إ�ضافة �إىل تلويحها امل�ستمر بقطع املياه �أو تخفي�ض ح�صة �سوريا والعراق‬ ‫من املياه و�إن�شاء ال�سدود واخلزانات لإحلاق ال�ضرر بالزراعة يف العراق و�سوريا‪ ،‬بل �أُحلق بها ال�ضرر‬ ‫فع ًال‪ .‬وانتهاكها امل�ستمر حلرمة الأرا�ضي العراقية منذ عام ‪ 1991‬وحلد الآن بحجة مطاردة مقاتلي‬ ‫حزب العمال الكرد�ستاين‪.‬‬ ‫وقد يكون الفتاً �أن تركيا عدنان مندري�س قد وقّعت عام ‪ 1958‬مع الكيان بقيادة بن غوريون اتفاقية‬ ‫تعاون �ضد التطرف ونفوذ االحتاد ال�سوڤييتي يف ال�شرق الأو�سط‪ ،‬ولكن هذا االتفاق كان قد مت يف‬ ‫نف�س عام الوحدة بني م�صر و�سوريا‪ ،‬ما يك�شف نوايا تركيا التي تطالب بزعامة العامل الإ�سالمي‬ ‫عرب حتالفها الوثيق �ضد العرب وامل�سلمني! وباملنا�سبة‪ ،‬ف�إن �أدنى عدد من امل�ستجلبني ال�صهاينة �إىل‬ ‫فل�سطني كان يف ال�سنوات الثالث للوحدة بني م�صر و�سوريا‪ .‬وهي �أكرب �شريك ع�سكري للكيان‬ ‫‪ 7‬زعمت تركيا �أنها مل ت�سمح عام ‪ 1991‬للواليات املتحدة با�ستخدام قاعدة اجنرليك يف العدوان على العراق!‬ ‫عدد رقم ‪� | 1‬أيـار‬

‫‪2013‬‬


‫‪122‬‬

‫املنطقة والعامل‬

‫حيث يقوم الكيان ال�صهيوين بتدريب طريان يف �صحراء الأنا�ضول ويقوم ببيع طائرات بدون طيار‬ ‫لرتكيا وبتحديث طائرات �أف ‪ 15‬الرتكية املقاتلة‪.‬‬ ‫منذ ‪ 1‬يناير ‪� ،2000‬أ�صبحت اتفاقية التجارة احلرة الإ�سرائيلية‪-‬الرتكية �سارية‪ .‬و�ضمن عالقتهما‬ ‫التجارية‪ُ ،‬و�ضعت الدرا�سات لتنفيذ مد م�شروع «�أنابيب ال�سالم» يف �إقامة حمطة مبنطقة �شالالت‬ ‫مناوجات الرتكية لتزويد الكيان بكمية ‪ 50‬مليون طن �سنوياً من املياه ملدة ‪ 20‬عاماً‪ .‬وي�ستند‬ ‫امل�شروع �إىل �ضخّ املياه يف �أنابيب برية عرب الأرا�ضي ال�سورية‪ ،‬ثم دخولها �إىل �شمال لبنان �أو‬ ‫�شمال �شرق الأردن‪ ،‬وبعدها �إىل الأرا�ضي الفل�سطينية‪� ،‬أو نقلها بحراً �إىل ال�ساحل الإ�سرائيلي يف‬ ‫حال عدم توقيع اتفاقية �سالم بني �إ�سرائيل وكل من �سوريا ولبنان‪ .‬وت�شري م�صادر �إىل انتهاء بناء‬ ‫املحطة الرتكية‪ ،‬مع بقاء تنفيذ امل�شروع معلقاً‪ .‬م�شروع تبلغ تكلفته نحو مليار دوالر‪ ،‬و ُو ِّق َع يف عهد‬ ‫�أجاويد‪ ،‬علماً ب�أن �أوزال بد�أ يتحدث عنه منذ ‪ 1991‬بقوله امل�شهور «مثلما يبيع العرب البرتول‪،‬‬ ‫يجب على تركيا �أن تبيع برتولها‪� ،‬أي املياه»‪ .‬وقد ّمت التوقيع على االتفاق يف �أغ�سط�س ‪،2002‬‬ ‫ويرتدد اليوم �أن �أردوغان قد �أعطى �إ�شارة العمل الفوري فيه ب�أوامر �أمريكية وبروح برجماتية‬ ‫بحتة ال ترى تناق�ضاً بني ادعائه دعم ال�سالم وامل�سلمني وعالقاته ال�سيا�سية والع�سكرية مع‬ ‫�أعدائهم‪ ،‬ال�صهاينة! و�إ�سراع �أردوغان يف هذا امل�شروع مرتبط بحلمه يف �سقوط �سوريا لربط‬ ‫العالقة الرتكية ال�صهيونية براً‪.‬‬ ‫�شهد حجم التبادل التجاري بني تركيا و�إ�سرائيل تطوراً هائ ًال فقد ارتفع من ‪ 300‬مليون دوالر يف‬ ‫‪� 1997‬إىل ‪ 3.1‬مليارات دوالر عام ‪ 2010‬وفيه بلغ حجم ال�صادرات الإ�سرائيلية لأنقرة مليارين وربع‬ ‫املليار دوالر‪.‬‬ ‫القفزة االقت�صادية الرتكية‪:‬‬

‫لي�س من ال�سهولة مبكان االقتناع ب�أن القفزة االقت�صادية الرتكية يف ال�سنوات الع�شر املا�ضية كانت‬ ‫بقوة دفع حم�ض ذاتية‪� ،‬أو نتاج عبقرية خا�صة كما تزعم امل�ؤ�س�سات املالية الدولية ال �سيما يف �ضوء‬ ‫الأزمة االقت�صادية يف املركز الر�أ�سمايل العاملي وهي يف عامها اخلام�س‪ ،‬وال�س�ؤال هو‪ :‬هل كان هناك‬ ‫جانب �سيا�سي يف التوجه اال�ستثماري الأوروبي يف تركيا؟ �أي هل لتو�سع ر�أ�س املال ك�سلوك طبيعي‬ ‫جانب �سيا�سي مق�صود به �إعطاء �أف�ضلية لرتكيا دون �إغفال االهتمام الأ�سا�س �أي حت�صيل معدل ربح‬ ‫�أعلى؟‪ .‬ورمبا يذكرنا هذا بنموذج الفرتينة الذي طبقته الإمربيالية يف بلدان النمور اال�سيوية الأربع‬ ‫حيث ُق�صد بذلك مواجهة النمو االقت�صادي الوا�سع يف ال�صني املاوية بنمو م�شابه لدى دول اختارت‬ ‫طريق اللحاق الر�أ�سمايل‪ .‬ورمبا هذا ما يف�سر الدفوقات اال�ستثمارية �إىل تركيا على �شكل اال�ستثمار‬ ‫‪8‬‬

‫ ‪ 8‬جتدر الإ�شارة �إىل �أن ال�صني ال�شعبية كانت حتقق منواً عالياً خالل فرتة الزعامة املاوية‪ ،‬وهو منو ناجت عن تنمية �شعبية ا�شرتاكية متوازنة‪،‬‬ ‫وهذا ي�ؤكد �أن النمو ال�صيني احلايل هو امتداد للفرتة املاوية و�إن باجتاه ر�أ�سمايل‪.‬‬


‫تركيا‪...‬عدو تاريخي ووكيل للمركز �ضد الأمة العربية‬

‫املنطقة والعامل‬

‫‪123‬‬

‫الأجنبي املبا�شر‪ .‬فقد مت �ضخ ‪ 110‬مليارات دوالر يف االقت�صاد الرتكي على �شكل ا�ستثمار �أجنبي‬ ‫مبا�شر يف ال�سنوات الع�شر الأخرية لأنه اقت�صاد مم�أ�س�س ح�صل على املرتبة الثالثة ع�شرة من حيث‬ ‫جذبه لال�ستثمار الأجنبي املبا�شر يف العامل» (‪(2012 A.T. Kearney FDI Confidence Index‬‬ ‫ولذا‪ ،‬قفز الإنتاج املحلي الإجمايل الرتكي �إىل ‪ 722‬بليون دوالر عام ‪ 2011‬بعد �أن كان ‪ 231‬بليون‬ ‫عام ‪ .2002‬وهذا يربر لنا ال�س�ؤال‪ ،‬هل كان �سبب ذلك �سيا�سات اقت�صادية ذات معنى و�أنظمة‬ ‫نقودية �صارمة‪� ،‬أم كذلك كانت هناك تف�ضيالت مق�صودة لرتكيا؟‬ ‫فمن بني ‪ 68‬مليار دوالر هي ا�ستثمار �أجنبي مبا�شر يف تركيا يف الفرتة من ‪ 2011-2005‬كانت هناك‬ ‫‪ 63‬مليار دوالر ا�ستثمارات لالحتاد الأوروبي مبعزل عن بقية �أوروبا‪ .‬ومن بني جممل اال�ستثمارات‬ ‫العاملية يف تركيا يف نف�س الفرتة والبالغة ‪ 88.5‬مليار دوالر‪ ،‬هناك ‪ 8‬مليارات دوالر من �أمريكا‬ ‫ال�شمالية (الواليات املتحدة وكندا) مقابل ح�صة االحتاد الأوروبي البالغة ‪ 63‬مليار دوالر ‪.‬‬ ‫ال بد من الأخذ باالعتبار �أن تركيا ت�شكل موقعاً منا�سباً جداً لر�أ�س املال الأوروبي كي ينقل‬ ‫�صناعات تقليدية �إىل تركيا حيث تدين �أجرة العمال وتدين حقوقهم وقرب تركيا من الأ�سواق‬ ‫الأوروبية‪ .‬وهذا يعني �أن الهدف الأ�سا�سي الذي و�ضعته الر�أ�سمالية الأوروبية �أبعد من تو�سع‬ ‫ر�أ�س املال ‪ capital Expansion‬باجتاه اال�ستثمار يف الأ�سواق الرتكية بل �أي�ضاً حتويل تركيا �إىل منوذج‬ ‫القت�صاد �إ�سالمي هو ر�أ�سمايل يف جوهره وال �سيما بعد تفكك االحتاد ال�سوفييتي لتكون تركيا ر�أ�س‬ ‫حربة الخرتاق الوطن العربي بقو ٍة اقت�صادية وب�إيديولوجيا الإ�سالم ال�سيا�سي مغلفة بدميقراطية‬ ‫«معتدلة» على �أن تكون �صادرات هذه القوة االقت�صادية �إىل الوطن العربي ولي�س �إىل �أوروبا‪ .‬وهذا‬ ‫ما يف�سر عدم قبول تركيا يف االحتاد الأوروبي بو�ضوح ودون مواربة وانخراطها العدواين لتفكيك‬ ‫�سوريا‪ .‬وبهذا يحقق تو�سع ر�أ�س املال من املركز الأوروبي عدة �أهداف معاً‪:‬‬ ‫ ا�ستثمار يف بيئة تركية �أقل كلفة من حيث الأجور وحقوق العمالة‪،‬‬ ‫ حماية �أ�سواق �أوروبا من ال�سلع امل�صنوعة يف تركيا رغم �أن ر�أ�س املال امل�ستثمر �أوروبي ب�شكل‬ ‫كبري‪.‬‬ ‫ ت�سويق خمرجات اال�ستثمار ال�صناعي الأوروبي يف تركيا يف مناطق �أخرى وخا�صة الوطن‬ ‫العربي وهذا يحقق �سل�سلة من حاالت التبعية لأوروبا‪.‬‬ ‫‪9‬‬

‫‪10‬‬

‫‪11‬‬

‫ ‪ 9‬تدفقت �إىل الكيان ال�صهيوين الإ�شكنازي بعد م�ؤمتر مدريد ‪ 1991‬واتفاق �أو�سلو ‪ 1993‬وحتى عام ‪� 2006‬أكرث من ‪ 114‬مليار دوالر‬ ‫من اال�ستثمار الأجنبي املبا�شر حمفوزة ب�سالم ر�أ�س املال بني الكيان وقيادة منظمة التحرير والر�أ�سمالية الفل�سطينية التابعة‪.‬‬ ‫‪10 Central Bank of the Republic of Turkey and‬‬ ‫‪ http://www.invest.gov.tr/en-US/investmentguide/investorsguide/Pages/FDIinTurkey.aspx‬‬

‫‪ 1 1‬يف ا�ستغالل للإ�سالم‪� ،‬س�ألتني �سيدة من ال�سفارة الرتكية قبل �سبع �سنوات كم عدداً نطبع من جملة كنعان‪ ،‬ف�أجبتها ب�أنني ال �أقدم‬ ‫معلومات لدول �أجنبية‪ ،‬فقالت ولكن نحن م�سلمون‪ ،‬فكنت م�ضطراً للرد ب�أن حكام العرب م�سلمون و�أغلبهم عمالء!‬ ‫عدد رقم ‪� | 1‬أيـار‬

‫‪2013‬‬


‫‪124‬‬

‫املنطقة والعامل‬

‫لعل ما �أ�سعف تركيا �أن تدفق اال�ستثمار االجنبي املبا�شر تزايد مع بداية الألفية اجلديدة‪ ،‬حيث‬ ‫تو�سع ر�أ�س املال بحثاً عن الربح الأعلى‪ ،‬وهذا م�شابه ملا ح�صل يف ال�صني‪.‬‬ ‫من الوا�ضح �أن و�صول حزب العدالة والتنمية �إىل ال�سلطة ترافق مع الأزمة االقت�صادية الهائلة‬ ‫لعام ‪ ،2001‬التي �أفقدت اللرية الرتكية اجلزء الأكرب من قيمتها ال�شرائية‪ .‬ولعل هذا ما فتح �شهية‬ ‫اال�ستثمار الأجنبي املبا�شر ال�ستغالل الطبقة العاملة هناك من جهة وهو الذي دفع االقت�صاد‬ ‫ملعدالت منو عالية رفعت من �أ�سهم احلزب احلاكم‪ .‬وعليه‪ ،‬يف حني دخل العامل �أزمته االقت�صادية‬ ‫احلادة عام ‪ 2008‬كان االقت�صاد الرتكي يحقق منواً عالياً‪ ،‬وهو الأمر الذي قدم لقوى الدين‬ ‫ال�سيا�سي مادة دعائية كبرية‪.‬‬ ‫لذا‪ ،‬عام ‪ 2009‬مث ًال‪ ،‬كان لدى تركيا احتياطات من النقد الأجنبي �أكرب بثالثة �أ�ضعاف مما كانت عليه‬ ‫يف عام ‪� .2002‬أ�ضف �أن حجم االقت�صاد الرتكي كان ال يتجاوز يف جمموعه ‪ 250‬مليار دوالر �أمريكي يف‬ ‫‪ ،2002‬بينما اليوم جتاوز الناجت املحلي الإجمايل ال�سنوي لرتكيا ‪ 800‬مليار دوالر‪ .‬كذلك حال الدخل‬ ‫يتعدى ‪ 3300‬دوالر عند‬ ‫الفردي ال�سنوي الذي يناهز اليوم ‪� 11‬ألف دوالر للفرد الواحد‪ ،‬بينما مل يكن ّ‬ ‫و�صول احلزب احلاكم �إىل ال�سلطة‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫مداخيل ال�سياحة‪ .‬فمن عدد زوا ٍر لرتكيا بلغ ‪ 1.5‬مليون عام‬ ‫من جهة �أخرى‪ ،‬فقد �ساعدت تركيا‬ ‫‪� ،1983‬أدخلوا ‪ 411‬مليون دوالر‪ ،‬وو�صل عدد زوار تركيا عام ‪� 2009‬إىل ‪ 32‬مليون �شخ�ص �أدخلوا‬ ‫‪ 21.1‬بليون دوالر‪ ،‬بينما كان الدخل املت�أتي من ال�سياحة عام ‪ 2002‬هو ‪ 8.5‬باليني دوالر فقط‪ .‬ويف‬ ‫عام ‪� 2008‬أدت ال�سياحة دوراً يف �إغالق فجوة يف العجز يف امليزان التجاري الذي ازداد ‪ 31.3‬باملئة‪.‬‬ ‫ويف عام ‪ 2011‬و�صلت عائدات ال�سياحة �إىل ‪ 23‬بليون دوالر ‪.‬‬ ‫وهكذا‪ ،‬ميكن قراءة القفزة الرتكية كنموذج م�صغر للقفزة ال�صينية حيث توفر قوة عمل هائلة‬ ‫العدد �ضئيلة الأجور فر�ص َة �إغرا ٍء لر�أ�س املال الذي كان بني �إغراء التو�سع و�شروط الهروب من‬ ‫دول املركز‪ .‬ومن يتابع اجلدل يف الواليات املتحدة اليوم يالحظ �أنه يرتكز على �ضرورة ا�سرتجاع‬ ‫ال�شركات الأمريكية التي هربت �إىل ال�صني‪.‬‬ ‫ولكن تهور حكومة �أردوغان يف العدوان على �سوريا‪ ،‬ال بد �أن يحمل خماطر بدوره على االقت�صاد‬ ‫الرتكي ومن �ضمنها ح�سا�سية «الأموال ال�ساخنة ‪ »Hot Money‬ذات اجلاهزية العالية للهروب من‬ ‫مناطق اخلطر والتوتر‪.‬‬ ‫«‪ُ ...‬تقر النظرية النيوكال�سيكية ب�أنه حينما ال تكون املدخرات الأهلية كافية‪ ،‬ميكن للمدخرات‬ ‫الأجنبية �أن تكون اعتمادات هامة لال�ستثمارات والنمو» (‪)Yentürk 2003: 131‬وكنتيجة للعوملة‬ ‫االقت�صادية‪ ،‬كان الهدف هو احل�صول على دفوقات ر�أ�س املال �إىل البلدان النامية كي ت�صل �إىل‬ ‫‪12‬‬

‫)‪12 Source: IMF World Economic Outlook April 2012, Turkish Statistical Institute (TurkStat‬‬


‫املنطقة والعامل‬

‫تركيا‪...‬عدو تاريخي ووكيل للمركز �ضد الأمة العربية‬

‫‪125‬‬

‫م�ستوى ما و�صلت �إليه البلدان املتقدمة‪ .‬ولكن الرغبة يف احل�صول على مداخيل للأمد الق�صري‬ ‫ت�سببت يف مناخ �سلبي على فر�ص اال�ستثمار احلقيقي‪ .‬وقد ح�صل هذا �أي�ضاً يف تركيا‪ .‬ففي‬ ‫خمتلف بلدان العامل بد�أ احلراك التمويلي يف الت�سعينات‪ ،‬و�أظهر �أن منواً بطريقة ما ح�صل بعيداً‬ ‫عن التجارة احلقيقية‪� .‬أي �أن حركات ر�أ�س املال ق�صرية الأمد‪ ،‬ما ت�سمى «النقد ال�ساخن»‪ ،‬ت�ؤدي‬ ‫دوراً كبرياً يف التاريخ االقت�صادي احلديث يف تركيا ‪.‬‬ ‫لكن اختبار الدور ال�سلبي للنقد ال�ساخن مل يت�ضح بعد على �ضوء التدخل الرتكي يف �سوريا‪،‬‬ ‫فهل بد�أت هذه الأموال بال�شعور ب�سخونة الو�ضع ومن ثم الهروب �أو اجلاهزية للهروب؟ �أم �أن‬ ‫م�سارعة �أردوغان لال�ستنجاد بالناتو لن�صب �صواريخ الباتريوت على احلدود ال�سورية جاء كذلك‬ ‫لتطمني ر�أ�س املال �أكرث مما هو لعدوان تركي �صرف على �سوريا؟ هذا ما �ستنبئنا به تطورات‬ ‫العدوان على �سوريا‪.‬‬ ‫�إن ال�صورة الوردية لالقت�صاد الرتكي‪ ،‬ال تقلقها فقط املمار�سات احلربية �ضد �سوريا‪ ،‬وح�سا�سية‬ ‫الأموال ال�ساخنة‪ ،‬بل كذلك الفجوة االجتماعية يف بلد يحقق منواً عالياً ارتكازاً على �سيا�سات‬ ‫الرتاكم الأويل ‪ Primitive Accumulation‬التي حتمل ع�سفاً �شديداً �ضد الطبقة العاملة وحتى املناطق‬ ‫املحرومة ب�أكملها‪.‬‬ ‫«بناء على الإح�صاءات الرتكية للعام املا�ضي ‪ ،2011‬ف�إن �سكان �أغنى خم�س مناطق يف تركيا يك�سبون‬ ‫دخ ًال هو ثمانية �أ�ضعاف‪� ،‬أو ‪ %46.7‬من ثروة البالد‪ ،‬مقارنة مع �أفقر خم�س مناطق تك�سب ‪ ...%5.8‬وحتتل‬ ‫تركيا املركز ‪ 34‬ح�سب منظمة التعاون والتنمية الدولية على �سلم عدم ت�ساوي الدخل»‪.‬‬ ‫«كما �أن الإنتاج الأهلي الإجمايل للمناطق الع�شر يف قمة املناطق الرتكية وهي ا�ستانبول‪� ،‬أنقرة‪،‬‬ ‫بور�سا‪� ،‬إ�شكهري‪ ،‬بيليك‪ ،‬كو�سيلي‪� ،‬سكاريا‪،‬بولو‪ ،‬دز�شي‪ ،‬ويالوفا‪ ،‬ي�صل �إىل ‪ 376‬بليون دوالر‪،‬‬ ‫اي يتفوق على بع�ض البلدان الغنية مثل �سنغافورة‪ ،‬والرنويج و�سوي�سرا من حيث احلجم‬ ‫االقت�صادي »‪.‬‬ ‫‪13‬‬

‫‪14‬‬

‫تركيا والأزمة ال�سورية‪:‬‬

‫�شكل تورط �سوريا يف تبني �سيا�سة ال�سوق االجتماعي بجوهرها النيولربايل �سوقاً مفتوحاً‬ ‫للمنتجات الرتكية‪ ،‬ما قوى منوها االقت�صادي على ح�ساب ال�صناعات املحلية ال�سورية‪ .‬بل �إن‬ ‫‪13 DO CAPİTAL INFLOWS PROVİDE ECONOMİC GROWTH: A CASE OF TURKEY BETWEEN 1984-2007 Serkan Dilek,‬‬ ‫‪Dr.,Beykent University Korkmaz Uluçay, Dr., Beykent University‬‬ ‫‪ Corresponding Author: Serkan Dilek, Beykent University, Beylikdüzü YerleĢkesi, B:Çekmece- Ġstanbul, tel: 0212 867‬‬ ‫‪5338, fax: 0212 867 5566, serkandilek@beykent.edu.tr‬‬ ‫‪14 Source: OECD Economic Outlook No: 86‬‬

‫عدد رقم ‪� | 1‬أيـار‬

‫‪2013‬‬


‫‪126‬‬

‫املنطقة والعامل‬

‫انفتاح �سوريا على تركيا بدءاً ب�ضبط حراك حزب العمال الكرد�ستاين وانتهاء بفتح الأ�سواق‬ ‫و�سع ال�سوق العربي عامة للمنتجات الرتكية‪ ،‬ما خدم متاماً متطلبات النمو العايل‬ ‫ال�سورية قد َّ‬ ‫لالقت�صاد الرتكي وخدم من حيث ال دراية قوى الدين ال�سيا�سي التي هي نيولربالية اقت�صادياً‬ ‫وقرو�سطية فكرياً واجتماعياً‪.‬‬ ‫و�إذا كان هدف �سوريا هو ت�صفري امل�شاكل �ضمن خطة ُقطرية �سورية هدفت �إىل حتييد تركيا جتاه‬ ‫التحالف القوي بني �سوريا و�إيران �ضمن جبهة املقاومة واملمانعة‪ ،‬فقد ات�ضح �أن هدف تركيا مل‬ ‫يتوقف ومل يهدف �أ�سا�ساً ال �إىل ال�صداقة مع �سوريا وال �إىل ح�صر العالقات يف �صداقة تركية‬ ‫�سورية‪ .‬فتح�سن العالقة ال�سورية‪-‬الرتكية كان بالن�سبة لرتكيا جزءاً مكم ًال للدور الرتكي يف‬ ‫الوطن العربي الذي هو دور �أداة للم�شروع الأمريكي يف ال�شرق الأو�سط اجلديد تكون تركيا‬ ‫مكونه الإ�سالمي ورمبا الع�سكري طبقاً للتطورات ونوع ال�سالح الأف�ضل لال�ستخدام وا�ستخدام‬ ‫�سوريا لعبور مو�سع �إىل الوطن العربي‪.‬‬ ‫طِ بقاً للعالقة اجليدة التي ح�صلت بني تركيا و�سوريا‪ ،‬وطبقاً للغ�ضبة «املُ�ضرية» التي لعبها �أردوغان‬ ‫�ضد بريي�س ث�أراً للفل�سطينيني‪ ،‬وطبقاً لقيام قوات الكيان باختطاف �سفينة مرمرة وقتل م�ساملني‬ ‫�أتراكاً �أتوا للت�ضامن مع غزة‪ ،‬و�أهم من كل ذلك بناء على امل�صلحة االقت�صادية لالخرتاق الرتكي‬ ‫لل�سوق ال�سوري وو�صول منتجات تركيا حتى لل�ضفة الغربية عرب �سوريا �إىل الأردن ويف النهاية عرب‬ ‫املوافقة ال�صهيوينة على اجل�سور �أو من خالل الكيان مبا�شرة �إىل �أ�سواق ال�ضفة الغربية‪ ،‬طبقاً �أو‬ ‫بناء على كل هذا‪ ،‬كان املفرت�ض �أن تلتزم تركيا احلياد جتاه الأزمة ال�سورية‪� ،‬إن مل نقل الوقوف �إىل‬ ‫جانب الدولة ال�سورية ممثلة يف قيادتها‪.‬‬ ‫ولكن‪� ،‬إذا اعتربنا التح�سن يف عالقات البلدين هو اال�ستثناء‪ ،‬و�إذا اعتربنا �أن القاعدة هي كل ما‬ ‫�أو�ضحناه يف هذه املقالة‪ ،‬ف�إن من الطبيعي �أن تنقلب ال�سلطة الرتكية للوقوف �ضد �سوريا كدولة‬ ‫وجمتمع‪ .‬ولذا‪ ،‬ال غرابة �أن ت�شكل تركيا ر�أ�س احلربة �ضد �سوريا ممثلة لتدخل الأطل�سي بكل‬ ‫الو�سائل املمكنة با�ستثناء الق�صف اجلوي‪ .‬ونق�صد هنا ب�أن جتميع وتدريب وت�سليح وت�سهيل دخول‬ ‫امل�سلحني من ‪ 29‬دولة من تركيا �إىل �سوريا هو غزو بري بال رتو�ش‪ .‬وعليه‪ ،‬ف�إن حكام اخلليج النفطي‬ ‫العربي قد �أدوا دور املقاولني من حيث دفع النفقات والتحري�ض الإعالمي �ضد �سوريا وجتميع‬ ‫الوهابيني واالعتناء بو�صولهم �إىل تركيا ولبنان والأردن‪.‬‬ ‫وهنا ميكن الإ�شارة �إىل �أن ف�شل ال�سعودية يف �إخراج �سوريا من حتالف املمانعة واملقاومة‪ ،‬ومن ثم‬ ‫احتفاظ �سوريا بدعمها حلزب اهلل قد دفع ال�سعودية لإ�شهار عدائها ل�سوريا م�ؤكدة بال مواربة �أنها‬ ‫جزء من امل�شروع ال�صهيوين ل�ضرب املقاومة‪ .‬وقد ات�ضح موقف ال�سعودية منذ عدوان ‪ 2006‬الذي‬ ‫كانت نتيجته االنت�صار للمقاومة‪ ،‬ما دفع الواليات املتحدة لتوظيف ال�سعودية ب�شكل مبا�شر �ضد‬ ‫�سوريا �أي ل�صالح الكيان ال�صهيوين ناهيك عن ا�ستخدام حزب «امل�ستقبل» يف لبنان حتت يافطة‬


‫تركيا‪...‬عدو تاريخي ووكيل للمركز �ضد الأمة العربية‬

‫املنطقة والعامل‬

‫‪127‬‬

‫طائفية‪ .‬ونق�صد هنا �أن ال�سعودية بادرت بالعدوان �ضد �سوريا قبل �أن تفعل ذلك تركيا‪ .‬وهذا يبني‬ ‫�أن املوقف الر�سمي للدول العربية هو �أخطر من موقف تركيا بل �إن املوقف العربي قد �شكل نقطة‬ ‫ارتكاز مهمة وقوية للعدوان الرتكي‪.‬‬ ‫وعليه‪ ،‬ف�إن تركيا بني دورها التابع للمركز الر�أ�سمايل الغربي وبني م�صلحة الربجوازية الرتكية يف‬ ‫احللم ب�سيطرة على الوطن العربي هذه املرة باالقت�صاد وامتطاء الدين‪ ،‬وبني تالقي م�صاحلها �ضد‬ ‫�أي نهو�ض عربي مع م�صالح الكيان‪ ،‬وبني �شهوتها الجتثاث �آخر معقل قومي عربي‪ ،‬ما كان �أمامها‬ ‫�سوى االنخراط يف العدوان واالندفاع فيه �إىل النهاية‪.‬‬ ‫ويبدو �أن ما حال دون تورط تركيا بعدوان ع�سكري مبا�شر بجي�شها على �سوريا هو توفر معلومات‬ ‫لديها ب�أن اجلي�ش ال�سوري قادر على �إحلاق دمار يف تركيا يقود �إىل �سقوط حكومة الإ�سالميني هناك‬ ‫وبالطبع هروب اال�ستثمارات الأجنبية وو�ضع حد لـ «املعجزة» االقت�صادية‪ .‬وهذا ما دفع تركيا‬ ‫�إىل حماوالت عدة ال�ستدراج الأطل�سي �ضد �سوريا دون جدوى �سواء ب�سبب الفيتو الرو�سي‪-‬‬ ‫ال�صيني �أو ب�سبب فقدان قدرة الناتو على دخول حرب مكلفة �ضد �سوريا‪.‬‬ ‫من املهم الإ�شارة �إىل �أن هذا الدور العدواين الرتكي ال ميكن قراءته خارج �سياق ما حتدثنا عنه‬ ‫�أعاله من جهة‪ ،‬ووجوب قراءته الحقاً يف �ضوء احلقيقة الأهم وهي �أن هذا العدوان متعدد الر�ؤو�س‬ ‫والروافد �ضد �سوريا هو عدوان �ضد امل�شروع القومي العربي يف طبعته احلالية �أي املقاومة واملمانعة‬ ‫مبا يخدم ت�صفية الق�ضية الفل�سطينية و�إدماج الكيان يف الوطن العربي اندماجاً مهيمناً‪ ،‬كجزء‬ ‫�أ�سا�س من م�شروع ال�شرق الأو�سط اجلديد �إ�ضافة �إىل تفكيك �سوريا كدولة ترف�ض االعرتاف‬ ‫بالكيان وت�شكل نواة واقع عربي علماين يف مقبل الأيام‪ .‬وهو م�شروع ال عالقة له بالدميقراطية‬ ‫وحقوق الإن�سان كما تثبت الوقائع‪.‬‬ ‫وعليه‪ ،‬ف�إن ف�شل العدوان على �سوريا يعني و�ضع حد لقوى الدين ال�سيا�سي التي دخلت يف �صفقة‬ ‫�سيا�سية �سلطوية مع املركز الإمربيايل على �أ�سا�س لكم ال�سلطة وال�شريعة ولنا املوارد والأر�ض‪� .‬إن‬ ‫املواقف التي اتخذتها قوى الدين ال�سيا�سي و�أنظمته يف تون�س وليبيا وم�صر قد قدمت �إي�ضاحات‬ ‫�أكرث عن دور �أنظمة الريع النفطي التي هي بو�ضوح �ضد مع�سكر املقاومة واملمانعة‪ .‬فقد حتولت‬ ‫هذه الأنظمة اجلديدة من حراك �شعبي �إىل مع�سكر الثورة امل�ضادة و�ساهمت بعالنية يف �إر�سال‬ ‫امل�سلحني والأ�سلحة لقوى الإرهاب �ضد الدولة ال�سورية‪ .‬وحيث حافظت هذه الأنظمة على‬ ‫تبعيتها للمركز الإمربيايل وعلى عالقاتها مع الكيان ال�صهيوين وحتت يافطات الدين ال�سيا�سي‪،‬‬ ‫ف�إن هذا يك�شف عن ذلك التمدد الوا�سع لنموذج الإ�سالم ال�صهيوين‪ .‬كما يك�شف كذلك عن‬ ‫‪15‬‬

‫‪ 15‬رمبا بد�أ التح�ضري ملثل هذه ال�صفقة يف م�ؤمتر الدار البي�ضاء عام ‪ 1995‬الذي تال م�ؤمتر مدريد ‪ 1991‬واتفاق �أو�سلو ‪ ،1993‬والذي‬ ‫عربت فيه الواليات املتحدة عن �ضرورة تو�سيع قاعدة الأنظمة احلاكمة يف الوطن العربي بحيث ال تقت�صر على الع�سكر �أو النخب‬ ‫احلاكمة‪ ،‬وهو ما تبلور يف �صفقات بني الواليات املتحدة وقوى الدين ال�سيا�سي وخا�صة الإخوان امل�سلمني‪.‬‬ ‫عدد رقم ‪� | 1‬أيـار‬

‫‪2013‬‬


‫‪128‬‬

‫املنطقة والعامل‬

‫�إن قوى الدين ال�سيا�سي لو تفاوت تطرفها �شكلياً وعلى ال�سطح‪ ،‬ف�إنها جوهريا تتبادل املواقف‬ ‫ب�سهولة ومرونة‪ .‬ولعل خلق الإخوان امل�سلمني بقيادة فاروق طيفور جلبهة الن�صرة التي هي فكريا‬ ‫و�سيا�سيا وممار�سة ن�سخة من القاعدة دليل وا�ضح على هذا‪ .‬وكان بالطبع من املفارقة �أن تقوم‬ ‫الواليات املتحدة باعتبار جبهة الن�صرة منظمة �إرهابية بينما يحتج على ذلك الإخوان امل�سلمون!‬ ‫ولعل ما هو �أكرث افت�ضاحاً من مواقف قوى الدين ال�سيا�سي يف هذه البلدان جتاه �سوريا هو موقف‬ ‫حركة حما�س بدءاً من الهروب املبكر لأمني �سرها خالد م�شعل �إىل قطر وذهابه ملبايعة �أردوغان‬ ‫وم�شاركة مقاتلني من حما�س يف القتال �ضد اجلي�ش العربي ال�سوري وخا�صة يف خميم الريموك‪.‬‬ ‫�إن نظرة دقيقة لهذا امل�شهد ت�شي ب�أن اال�شتباك لن يوقف قريباً وب�سهولة‪ ،‬وب�أن �أمام �سوريا معركة‬ ‫ال منا�ص من االنت�صار فيها‪ ،‬وب�أن املكون الرتكي يف العدوان هو الأ�سا�س نظراً للجوار اجلغرايف‬ ‫وللدور الذي حتلم به وتوكيل املركز الإمربيايل لها للقيام بهذا الدور‪ .‬ولعل ما ي�ضع تركيا يف م�أزق‬ ‫�أ�شد �أن دورها «الوكيل للمركز الإمربيايل» ي�ضعها �أو يجدد دورها املعادي لالحتاد الرو�سي الذي‬ ‫تعمق حتالفه مع �سوريا‪ .‬و�إذا و�ضعنا باالعتبار �أن املركز الإمربيايل يف م�أزق بدايته تراخي قب�ضته‬ ‫على �صعيد عاملي‪ ،‬ف�إن هذا ال يحمل لرتكيا �أنباء م�ستقبل جيد‪ .‬ولعل ما يقلق تركيا كذلك �أن‬ ‫الأزمة االقت�صادية املالية مل تنح�صر يف �سيدها الع�سكري �أي الواليات املتحدة بل تطول �سيدها‬ ‫االقت�صادي �أي االحتاد الأوروبي الذي يقف على طريق فقدان وليده املهتز اليورو‪.‬‬ ‫�أما واملعركة على �أ�شدها مع بداية العام ‪ ،2013‬كما �أن اال�صطفاف يف غاية الو�ضوح‪ ،‬ف�إن ما يجب‬ ‫�إ�ضافته ملا ذكر هو التذكري بالأدوار املعادية للقومية العربية التي تقفها معظم الطبقات احلاكمة‬ ‫يف الوطن العربي مدعومة بفيالق من املثقفني املخروقني يف هذا الوطن والذين ال يقلون �سطحية‬ ‫وارتزاقاً عن ابطال الف�ضائيات و�أجهزة الإعالم التي ت�صطف يف جانب الثورة امل�ضادة‪ .‬ولعل‬ ‫الالفت هو حال ال�سلطة واملعار�ضة والإعالم امل�صري حيث ال يجتمعون على م�صلحة م�صر بل‬ ‫�ضد �سوريا‪ .‬لكن هذا حديث �آخر‪.‬‬ ‫وعود على بدء‪ ،‬ف�إن ا�ستقرار وتقدم هذا الإقليم مرتبط بانت�صار حتالف املقاومة واملمانعة ما يخلق‬ ‫فر�صة تفاهم عربي‪� -‬إيراين و ُيبقي تركيا يف حجمها احلقيقي ناهيك عن حتجيم الكيان ال�صهيوين‪.‬‬ ‫وهذا التحالف ُمطالب اليوم ب�إدراك �أن ما ُيقال على �أل�سنة بع�ض املحللني العرب عن ان�سحاب‬ ‫الواليات املتحدة للتخ�ص�ص يف العدوان على ال�صني لي�س دقيقاً‪ .‬فما يح�صل هو تق�سيم عمل بني‬ ‫ل�صو�ص الإمربيالية الذين ال يزالون مت�آخني‪ ،‬وبالتايل‪ ،‬ف�إن ما يح�صل هو تو�سيع للدور العدواين‬ ‫الأوروبي‪ ،‬وهو باملنا�سبة �أخطر من الأمريكي نظراً لتال�صق احليز بني الإقليم و�أوروبا ونظراً لل�صراع‬ ‫التاريخي بني �أوروبا والأمة العربية‪ ،‬وهو �صراع ال يحله قط �سوى مغادرة العامل للت�شكيالت‬ ‫االجتماعية االقت�صادية الر�أ�سمالية‪ .‬فر�أ�س املال ال ُي�صالح وال ُي�سامل‪.‬‬


‫‪129‬‬

‫املنطقة والعامل‬

‫أوروبيون‬ ‫ميانيون ال �‬ ‫الب َبر‪...‬‬ ‫رَ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬

‫| املحامي �أحمد الدب�ش | نقابي وباحث من فل�سطني‬

‫ُ‬ ‫قوي البنية‪� ،‬صعب اِملرا�س‪ُ ،‬عرف عند امل�ؤ ِّرخني القُدامى‪،‬‬ ‫ي�سكن ال�شمال الإفريقي �شعب ٌ‬ ‫يتحدثونَ عنه‪ ،‬وقد اختلف‬ ‫واملُ ْحدِ ث َني با�سم الرببر‪ ،‬وهذه الت�سمية يرويها امل�ؤ ِّرخون العرب‪ ،‬عندما َّ‬ ‫الباحثون يف �أُ�صول ال�شعوب‪ ،‬اختالفاً كبرياً‪ ،‬يف ت ْعيني الأَ�صل الذي ا�ش ُت ٌق منه هذا ال�شعب‪،‬‬ ‫فمنهم من ر َّد ُه �إىل �أ�صل �سامي‪� ،‬أو يافثي‪ ،‬وجاء الأوروبيون حديثاً‪ ،‬فزادوا البحث ت�ش ٌعباً‪ ،‬وا�ضطراباً‪،‬‬ ‫�سِ َّيما املُغر�ضني منهم‪� ،‬أولئك الذين مل يكونوا يبحثون عن احلقيقة لذاتها‪ ،‬و�إمنا كانوا َيرمون �إىل‬ ‫ت�شكيك امل�ست�ض َعفني يف �أن�سابهم‪ ،‬وحموْ االعتزاز بالآباء‪ ،‬والأجداد من نفو�سهم‪� ،‬إخماداً جلِذو ِة‬ ‫وحما�ستهم‪ ،‬وتروي�ضهم على اال�ستكانة‪ ،‬والهوان‪.‬‬ ‫حِ ميتِهم‪َ ،‬‬ ‫نقدم هذه املادة‪ ،‬يف �سياق الت�أكيد على عروبة كل الأر�ض العربية‪ ،‬وعلى حقيقة الوجود القومي‬ ‫ِّ‬ ‫فثمة م�ؤامرة‬ ‫العربي‪ ،‬من العراق‪ ،‬وبالد ال�شام‪� ،‬إىل م�صر‪ ،‬وال�سودان‪� ،‬إىل بلدان املغرب العربي‪َّ .‬‬ ‫اليوم‪ ،‬لو�صف الوجود العربي‪ ،‬خارج اجلزيرة العربية كاحتالل‪ ،‬والخرتاع ه ِو ّيات حم ِّلية �أ�صيلة‪،‬‬ ‫ُمناهِ �ضة للعروبة‪ ،‬و�سابِقة لها‪ ،‬على ما زعموا‪ ،‬يف كل �أقطار العرب‪ ،‬خارج اجلزيرة العربية‪ .‬و�إذ‬ ‫نقدم هنا �صفحات موثَّقة من عروبة الرببر (الأمازيغ) القدمية‪ ،‬فلأن التاريخ القدمي للمغرب العربي‬ ‫ِّ‬ ‫يتع َّر�ض للت�شكيك‪ ،‬والطعن بعروبته �أكرث من غريه‪� ،‬أكرث من العراق‪ ،‬و�سوريا الكربى‪ ،‬مث ًال‪،‬‬ ‫و�أكرث من م�صر‪ ،‬وال�سودان‪ .‬وامل�ست�شرقون الغرب ّيون حر�صوا على اخرتاع �أ�صول �أوروبية للأمازيع‬ ‫(الرببر)‪ ،‬كجزء من م�شروع �شطب هوية الوطن العربي؛ القومية‪ ،‬واحل�ضارية‪.‬‬ ‫ففي «مو�سوعة ويكيبيديا» على الإنرتنت‪ ،‬مث ًال‪ ،‬جتد بالإجنليزية حتت مدخل «بربر»‪ ،‬تعريفاً يقول‪:‬‬ ‫يهدف ل�سلخ املغرِب‬ ‫«�أنهم قو ٌم �أقرب للأوروبيني‪ ،‬منهم لل�ساميني‪ ،‬والعرب»‪ .‬وهو الأمر الذي ُ‬ ‫العربي الكبري عن �أ َّمت ُه‪ .‬‬ ‫والدارِ�سون املُ ِ‬ ‫ن�صفون لل�شعب الرببري‪ ،‬مل يوجد بينهم واحد‪ُ ،‬ينكِ ر �أن يكون لبع�ض الرببر‬ ‫انتماء �سامي [جزري مبفهومنا]‪ ،‬بل � َّأكد العديد منهم‪� ،‬أن �أكرث َّية القبائل الرببرية‪ُ ،‬منحدِ رة من‬ ‫احلمري ّيني ُ�س ّكان اليمن‪ .‬فقد روي عن م�ؤ ِّرخي العرب‪ ،‬وعديد من م�ؤ ِّرخي الرببر املتع ِّربني‪ ،‬من‬ ‫وتخليفهم بها‪ ،‬عند رجوعهم جماعات‬ ‫غزو احلمري ّيني لبالد املغرب‪ ،‬يف �أواخر الألف الثالثة‪ْ ،‬‬ ‫منهم‪ ،‬وفرية العدد ُهم �أ�صل بع�ض قبائله‪ ،‬ول َن�شِ ْر �إىل �أحد م�ؤ ِّرخي اليمن‪ ،‬وهو «حممد بن احل�سن‬ ‫عدد رقم ‪� | 1‬أيـار‬

‫‪2013‬‬


‫‪130‬‬

‫املنطقة والعامل‬

‫�سمى بالإكليل‪ ،‬ف�إنه‬ ‫بن �أحمد بن يعقوب الهمداين»‪ ،‬الذي �أ�شار �إىل ذلك يف كتا ِب ِه احلافل‪ ،‬املُ ّ‬ ‫ملّا َذكر قبيلة ملتونة‪ ،‬التي منها الأ�سرة امللك َّية املرابِطة باملغرب‪ ،‬قال �إنها فخذ من �صنهاجة‪ ،‬و�إن‬ ‫�صهناجة من ولد عبد �شم�س بن وائل بن حِ ْمري‪ ،‬و�إن امللك �أفريقي�ش بن �أبرهة‪ ،‬ملّا ملك حمري‬ ‫فلما َّ‬ ‫توغل باملغرب بنى مدينة �أفريقية؛ هي م�شتقة‬ ‫خرج غازياً نحو بالد املغرب‪ ،‬و�أر�ض �أفريقية‪ّ ،‬‬ ‫وخلف بها من قبائل حمري وزعمائها �صنهاجة‪ ،‬لري ُّدوا الرببر على �شاكلتهم‪ ،‬وي�أخذوا‬ ‫من ا�سمه؛ َ‬ ‫�سمى �سكان املغرب بربراً‪ ،‬ف�إنه ملا غزاه‬ ‫خراجهم‪ ،‬و ُيد ِّبروا �أمرهم‪ .‬ويقال �إن �أفريقي�ش هو الذي َّ‬ ‫بقومه ا ِحل ْمرييني‪ ،‬و�سمع رطانة ُ�س ّكان ُه‪ ،‬قال ما �أكرث بربرتهم‪ُ ،‬ف�س ّموا بربراً‪ ،‬والرببرة يف اللغة ال َّل ُ‬ ‫غط‪،‬‬ ‫واختالط �أ�صوات غري مفهومة ‪.‬‬ ‫�أما الع َّالمة «ابن خلدون»‪ ،‬الذي َك َت َب تاريخه‪ ،‬بعد «الهمداين» بنحو �أربعمائة عام‪ ،‬فريى �أن‬ ‫الرببر ي�صلون �أن�سابهم ب�أن�ساب العرب من �أهايل اليمن‪ .‬وال �أ�ستطيع �أن �أَنقِل كل ما ذكر ُه الع ّالمة‬ ‫«ابن خلدون»‪ ،‬يف �أن�ساب الرببر‪ ،‬ولكن �أَنقِل ما جاء يف اجلزء الثاين من تاريخه‪ ،‬حيث قال‪�« :‬أول‬ ‫و�س ِّم َي ذا املنار؛ لأنه َرفع املنار‬ ‫التبابِعة باتفاق امل�ؤ ِّرخني احلارث الرائ�ش‪ ...‬ثم َم َل َك بعده ذو املنار‪ُ ...‬‬ ‫ليهتدي به‪ ،‬ثم َم َل َك بعده ابنه �أفريقي�ش‪ ،‬وهو الذي ذهب بقبائل العرب �إىل افريقية‪ ،‬وبه ُ�س ِّم َي ْت‪،‬‬ ‫و�ساق الرببر �إليها من �أر�ض كنعان‪ ،‬م َّر بها‪ ،‬عندما غلبهم يو�شع‪ ،‬وقتلهم‪ ،‬فاحتمل �أفريقي�س الغل‬ ‫منهم‪ ،‬و�ساقهم �إىل �أفريقية‪ ،‬ف�أنزلهم بها‪ ،‬وقتل ملكها جرجري‪ ،‬ويقال �إنه الذي َ�س ّمى الرببر بهذا‬ ‫اال�سم‪ ،‬لأنه ملا افتتح املغرب‪ ،‬و�سمع رطانتهم قال‪ :‬ما �أكرث بربرتهم‪ُ ،‬ف�س ّموا الرببر‪ ،‬والرببرة يف لغة‬ ‫العرب‪ ،‬هي اختالط �أ�صوات غري مفهومة‪ ،‬ومنه بربرة الأ�سد‪ .‬وملَّا َرجع [�أفريقي�ش] من غزو املغرب‪،‬‬ ‫َترك هنالك من قبائل حمري �صنهاجة‪ ،‬وكتامة‪ ،‬فهم �إىل الآن بها‪ ،‬ولي�سوا من نَ�سب الرببر ‪.‬‬ ‫قال «ن�شوان احلمريي»‪« :‬امللك �أفريقي�س بن ذي املنار بن الرائ�ش‪ ،‬غزا نحو املغرب عن ميني م�سري‬ ‫�أبيه‪ ،‬حتى انتهى �إىل طنجة من �أر�ض املغرب‪ ،‬فر�أى بالداً كثرية اخلري‪ ،‬قليلة الأهل‪ ،‬ف�أمر ببناء مدينة‬ ‫�إفريقية‪ ،‬و�أ�سكن فيها قبائل من قو ِمهِ‪ ،‬وهم ُكتامة‪ ،‬و ُعهامة‪ ،‬وزناتة‪ ،‬ولُواتة‪ ،‬و�صُ نهاجة‪ ،‬قبائل �ضخمة‬ ‫يف املغرب من حمري‪ ،‬ونقل الرببر‪ ،‬وهم جيل من النا�س‪ ،‬بق َّية َّممن قتلهم يو�شع بن نون‪َ ،‬هربت منهم‬ ‫طائفة �إىل ال�سواحل‪ ،‬ثم رجعوا بعد ذلك �إليها‪ ،‬فقتل �إفريقي�س منهم يف غزوته من قاتل‪ ،‬ونقل‬ ‫بقيتهم‪ ،‬ف�أ�سكنهم بحيث هم من بالد الرببر‪ ،‬ويف ذلك يقول‪:‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪2‬‬

‫بربرت كنعان ملا �ساقها‬

‫للعي�ش اللجب‬ ‫من بال ِد املُلك‬ ‫ِ‬

‫(*)‬

‫ ‪ 1‬جم َّلة درا�سات مين َّية (�صنعاء)‪ ،‬عبد الوهاب بن من�صور‪ ،‬داللة املعمار اليمني على عروبة قبائل بربرية‪ ،‬العدد الثامن والثالثون‪ ،‬جم َّلة‬ ‫ف�صل َّية ت�صدر عن مركز الدرا�سات والبحوث اليمني‪� ،‬أكتوبر ـ نوفمرب ـ دي�سمرب‪� ،1989 ،‬ص (‪.)116-115‬‬ ‫‪( 2‬ابن خلدون) عبد الرحمن بن حممد‪ ،‬تاريخ ابن خلدون‪ ،‬املُج َّلد ال�ساد�س‪ ،‬اجلزء الثاين‪ ،‬م�صر‪ ،‬مطبعة بوالق‪ ،‬بدون تاريخ ن�شر‪� ،‬ص‪.51‬‬ ‫* هنا خط�أ تاريخي ق�صد منه منطقة ميانية‪ ،‬يراجع (الدب�ش) �أحمد‪ ،‬كنعان وملوك بني �إ�سرائيل يف جزيرة العرب‪ ،‬ط‪ ،1‬دم�شق‪ ،‬خطوات‬ ‫للن�شر والتوزيع‪.2006 ،‬‬


‫املنطقة والعامل‬

‫البرَ َبر‪ ...‬ميان ّيون ال �أوروب ّيون‬

‫‪131‬‬

‫�أما «ابن عبد احلكم»؛ فيقول‪« :‬وكان الرببر بفل�سطني*‪ ،‬وكان ملكهم جالوت‪ ،‬ف ّلما قتله داود عليه‬ ‫متوجهني �إىل املغرب‪ ،‬حتى انتهوا �إىل لوبية‪ ،‬ومراقية‪ ،‬وهما كورتان من كور‬ ‫ال�سالم‪ ،‬خرج الرببر ِّ‬ ‫فتقدمت زناتة‪ ،‬ومغلية‬ ‫م�صر الغربية‪ ،‬مما ي�شرب من ماء ال�سماء‪ ،‬وال ينالهما النيل‪ .‬فتف َّرقوا هنالك‪َّ ،‬‬ ‫وتقدمت لواتة‪ ،‬ف�سكنت �أر�ض انطابل�س وهي برقة‪ ،‬وتفرقت يف هذا‬ ‫�إىل املغرب‪ ،‬و�سكنوا اجلبال‪َّ ،‬‬ ‫املغرب وانت�شروا فيه حتى بلغوا ال�سو�س‪.‬ونزلت هوارة مدينة لبدة‪ .‬ونزلت نفو�سة �إىل مدينة �سربة‪.‬‬ ‫وجال من كان بها من الروم من �أجل ذلك ‪.‬‬ ‫قال «الذهبي»‪ ،‬الرببر‪ ،‬وبربر من َولد قيذار بن �إ�سماعيل؛«�إِنَّ َدار البرَْ َبر َكانَ ْت ِف َل ْ�سطِ ينْ ‪َ ،‬و َمل ُِكهم‬ ‫ه َُو َجالُوت‪َ ،‬ف َل َّما قتله نَب ُِّي اهلل َدا ُو ِ‬ ‫د؛جلت البرَْ َب ُر �إِلىَ املَ ْغ ِرب‪َ ،‬وانت�ش ُروا �إِلىَ ال�سو�س الأَ ْق َ�صى‪َ ،‬فطُول‬ ‫�أَ َرا�ضيهم نَح ٌْو م ِْن َ�ألف َفر�سخ» ‪.‬‬ ‫وقال �أي�ضا‪َ « :‬ف�أَ ّول َم ْن كَانَ فِيهِ م امللك م َِن البرَْ َبر ِ�ص ْن َه َاجةُ‪ ،‬ث َُّم ُك َتا َمة‪ ،‬ث َُّم لمَْتُونَة‪ ،‬ث َُّم م�صْ مو َدة‪ ،‬ث َُّم‬ ‫زنَا َتة‪َ .‬وق َْد َذ َك َر ا ْب ُن ُد َر ْيد �أَنَّ ُك َتا َمة‪َ ،‬ولمَْتُونَة‪َ ،‬و َه َّوا َرة م ِْن حِ مِ رْي‪َ ،‬و َم ْن �سِ َوا ُهم‪ ،‬فَمِ َن البرَْ َبر‪َ ،‬وبربر م ِْن‬ ‫َولد َ‬ ‫قيذار بن �إِ ْ�س َماعِ ْي َل» ‪.‬‬ ‫يقول �صاحب كتاب «تاج العرو�س من جواهر القامو�س»‪َ « :‬ب ْرب ٌر‪ :‬جِ ٌيل من النا�س ال تكا ُد قبائ ُله‬ ‫حام‪،‬‬ ‫َت ْن َح ِ�ص ُر‪ ،‬كما قا َله ُ‬ ‫لل�س َه ْيل ِّي‪� :‬إ ّنهم‪ ،‬وا َحل َب�شَ َة مِن َو َلدِ ٍ‬ ‫ابن َخ ْل ُدون يف ال ّتاريخ‪ ،‬ويف ال َّر ْو�ض ُّ‬ ‫ويف ا ِمل�صْ باح �إ ّنه ُم َع َّر ٌب‪ ،‬وقيل‪� :‬إ ّنهم َب ِق َّي ٌة من َن ْ�س ِل يُو�شَ َع ِبن نُونٍ ‪ ،‬مِن ال َع َماليقِ ا ِحلمْيرَ ِ َّيةِ‪ ،‬وهم‬ ‫ال�س َم ْي َد ِع‪ ،‬و�إنه َ�سمِ َع َلف َْظهم‪ ،‬فقال‪ :‬ما �أكثرَ َ َب ْر َب َر َتكم‪ُ ،‬ف�سمُّوا البرَْ َبر َ‪ ،‬وقيل غ ُري ذلك‪ .‬البرَ ا ِب َر ُة‬ ‫َر ْه ُط َّ‬ ‫�شئت َح َذ ْف َتها‪ ،‬وهم‬ ‫زا ُدوا الها َء فيه �إما لل ُع ْج َمةِ‪ ،‬و�إ ّما لل َّن َ�س ِب وهو‬ ‫ال�صحيح‪ .‬قال «اجلو َهر ُِّي»‪ :‬و�إن َ‬ ‫ُ‬ ‫ُو�س‪ ،‬وغ ِري َها‪ ،‬متف ِّر َق ٌة يف �أطرافِها‪ ،‬وهم َزنَانَةُ‪ ،‬و َه ّوارة‪،‬‬ ‫�أي �أك ُرث قبائلِهم باملَ ْغر ِ​ِب يف اجلِبال مِن �س َ‬ ‫ِ‬ ‫جالُوت‪ ،‬فلما ُقت َِل‬ ‫و�ص ْن َه َاجةَ‪ ،‬ونبزةُ‪ُ ،‬وك َتامةُ‪ ،‬و َلوِات َه‪ ،‬ومديونة‪ ،‬و�شباته‪ ،‬وكانوا كلهم ب ِف َل ْ�سطِ َني مع‬ ‫َ‬ ‫الد َر ِر َ‬ ‫ابن َح َجر ‪.‬‬ ‫الكا ِم َنة للحافظِ ِ‬ ‫َت َف َّرقُوا‪ ،‬كذا ُّ‬ ‫جند رواية �أخرى عند «�أحمد بن �أبي يعقوب بن وا�ضح»‪ ،‬يف تاريخه امل�شهور بتاريخ اليعقوبي‪،‬‬ ‫غري هذه تقول‪« :‬وكانت الرببر‪ ،‬والأفارقة‪ ،‬وهم �أوالد فارق بن بي�صر بن حام بن نوح‪ ،‬ملا ملك‬ ‫�إخوتهم ب�أر�ض م�صر‪ ،‬ف�أخذوا من العري�ش �إىل �أ�سوان ط ً‬ ‫وال‪ ،‬ومن �أيلة �إىل برقة عر�ضاً‪ ،‬خرجوا نحو‬ ‫املغرب‪ ،‬فلما جاوزوا �أر�ض برقة �أخذوا البالد‪ ،‬فغلب كل قوم منهم على البلد‪ ،‬حتى انت�شروا‬ ‫‪3‬‬

‫‪4‬‬

‫‪5‬‬

‫‪6‬‬

‫ ‬

‫‪3‬‬

‫ ‬

‫‪4‬‬

‫ ‬ ‫ ‬

‫‪5‬‬ ‫‪6‬‬

‫(ابن عبد احلكم) عبد الرحمن بن عبد اهلل‪ ،‬فتوح م�صر واملغرب‪ ،‬اجلزء الأول‪ ،‬حتقيق‪ :‬عبد املنعم عامر‪ ،‬القاهرة‪ ،‬الهيئة العامة‬ ‫لق�صور الثقافة‪� ،1999 ،‬ص‪.229‬‬ ‫َ‬ ‫(الذ َهبي) �شم�س الدين �أبو عبد اهلل حممد بن �أحمد‪� ،‬سري �أعالم النبالء‪ ،‬اجلزء الثامن ع�شر‪ ،‬حتقيق‪ :‬جمموعة حمققني ب�إ�شراف‬ ‫�شعيب الأرنا�ؤوط‪ ،‬بدون بلد ن�شر‪ ،‬م�ؤ�س�سة الر�سالة‪� ،‬ص‪.429‬‬ ‫امل�صدر نف�سه‪� ،‬ص‪.429‬‬ ‫حممد بن عبد الر ّزاق احل�سيني �أبو الفي�ض‪ ،‬تاج العرو�س من جواهر القامو�س‪ ،‬اجلزء الأول‪،‬حتقيق‪ :‬جمموعة‬ ‫حممد بن ّ‬ ‫(ال َّزبيدي) ّ‬ ‫من املحقِّقني‪ ،‬بدون بلد ن�شر‪ ،‬دار الهداية‪� ،‬ص (‪.)2503-2502‬‬ ‫عدد رقم ‪� | 1‬أيـار‬

‫‪2013‬‬


‫‪132‬‬

‫املنطقة والعامل‬

‫ب�أر�ض املغرب‪ .‬ف�أ َّول من َملك منهم لواتة يف �أر�ض‪ُ ،‬يقال لها �أجدابية من جبال برقة‪ ،‬وملكت مزاته‬ ‫يف �أر�ض‪ُ ،‬يقال لها ودان‪ ،‬فن�سب ه�ؤالء القوم �إىل �أبيهم‪ ،‬وجاز قوم منهم �إىل بلد‪ُ ،‬يقال له تورغة‪،‬‬ ‫فملكوا هناك‪ ،‬وهم هواره‪ ،‬و�آخرون �إىل بالد �أرميك‪ ،‬وهم بذرعه‪ .‬و�سار قوم �إىل طرابل�س‪ُ ،‬يقال لهم‬ ‫امل�صالني‪ ،‬وجاز قوم �إىل غربي طرابل�س‪ُ ،‬يقال لهم وهيلة ‪.‬‬ ‫قال «ابن خلكان»‪ ،‬يف َمعر�ض ذِكر �أ�صل امللثمني [الطوارق]‪�« :‬أ�صل ه�ؤالء القوم من حمري بن‬ ‫�سب�أ‪ ،‬وهم �أ�صحاب خيل‪ ،‬و�إبل‪ ،‬و�شاء‪ ،‬وي�سكنون ال�صحارى اجلنوبية‪ ،‬وين َتقِلون من ماء �إىل ماء‬ ‫كالعرب‪ ،‬وبيوتهم من ال�شعر‪ ،‬والوبر ‪.‬‬ ‫�أما «القلق�شندي»‪ ،‬فقد َّخل�ص الآراء يف َن�سب الرببر‪ ،‬قائ ًال‪« :‬والرببر فيهم خالف يرجع �إىل �أنهم‪ ،‬هل‬ ‫الن�سابني‬ ‫هم من العرب‪� ،‬أو من غريهم؟ وقد اختلف يف ن�سبهم اختالفاً كثرياً‪ ،‬فذهبت طائفة من ّ‬ ‫�إىل �أنهم من العرب‪ ،‬ثم اخ ُتلف يف ذلك‪ ،‬فقيل‪� :‬أوزاع من اليمن‪ ،‬وقيل‪ :‬من غ�سان‪ ،‬وغريهم تف َّرقوا‬ ‫عند �سيل ال َعرم‪ ،‬قاله امل�سعودي‪ .‬وقيل‪ :‬خ َّلفهم �أبرهة ذو املنار‪� ،‬أحد َتبابعة اليمن حني غزا العرب‪.‬‬ ‫وقيل‪ :‬من ولد لقمان بن حِ ْمري بن �سب�أ‪ ،‬بعث �سر ّية من بنيه �إىل املغرب ليعمروه فنزلوا وتنا�سلوا فيه‪.‬‬ ‫وجذام كانوا نازلني بفل�سطني من ال�شام‪� ،‬إىل �أن �أخرجهم منها بع�ض ملوك فار�س‪،‬‬ ‫وقيل‪ :‬من خلم‪ُ ،‬‬ ‫فلج�أوا �إىل م�صر‪ ،‬فمنعهم ملوكها من نزولها‪ ،‬فذهبوا �إىل الغرب‪ ،‬فنزلوه‪ .‬وذهب قوم �إىل �أنهم من ولد‬ ‫يق�شان بن �إبراهيم عليه ال�سالم‪ .‬وذكر احلمداين �أنهم من ولد بر بن قيذار بن �إ�سماعيل بن �إبراهيم‬ ‫عليهما ال�سالم‪ ،‬و�أنه كان قد ارتكب مع�صية فطرده �أبوه‪ ،‬وقال له‪ :‬الرب‪ ،‬ال ّرب‪ ،‬اذهب يا َبر‪ ،‬فما �أنت َبر‪.‬‬ ‫وقيل‪ :‬هم من ولد بربر بن ك�سلوحيم بن حام‪.‬‬ ‫وقيل‪ :‬من ولد متيلة بن م�أرب بن قاران بن عمرو بن عمليق بن الوذ ابن �إرم بن �سام بن نوح‪.‬‬ ‫وقيل‪ :‬من ولد قبط بن حام بن نوح‪.‬‬ ‫وقيل‪� :‬أخالط من كنعان والعماليق‪.‬‬ ‫وقيل‪ :‬من حمري وم�صر‪ ،‬والقبط‪.‬‬ ‫وقيل‪ :‬من ولد جالوت‪ ،‬ملك بني �إ�سرائيل‪ ،‬و�أنه ملّا َق َت َل داود عليه ال�سالم جالوت‪ ،‬تف َّرقوا يف‬ ‫و�سماهم الرببر‪.‬‬ ‫فلما غزا �إفريق�ش الغرب‪ ،‬نقلهم من �سواحل ال�شام‪ ،‬و�أ�سكنهم املغرب‪ّ ،‬‬ ‫البالد‪ّ ،‬‬ ‫وقيل‪ :‬بل �أخرجهم داود عليه ال�سالم من ال�شام‪ ،‬ف�صاروا �إىل املغرب‪ .‬وهم قبائل كثرية‪ ،‬و�شعوب‬ ‫جمة‪ ،‬وطوائف متف ِّرقة‪ ،‬و�أكرثهم ببالد املغرب‪ ،‬وقد �صار بع�ضهم من املغرب �إىل م�صر‪ ،‬فنزلوا‬ ‫وتل َّب�سوا بالعرب‪ ،‬بع�ضهم بالوجه البحري‪ ،‬ببالد البحرية‪ ،‬واملنوفية‪ ،‬والغربية‪ ،‬وبع�ضهم بالوجه‬ ‫‪7‬‬

‫‪8‬‬

‫‪( 7‬اليعقوبي) عبد الرحمن بن حممد‪ ،‬تاريخ اليعقوبي‪ ،‬موقع الوراق‪http://www.alwarraq.com:‬‬ ‫‪( 8‬ابن خلكان) �أبي العبا�س �شم�س الدين �أحمد بن حممد بن �أبي بكر‪ ،‬وفيات الأعيان و�أنباء الزمان‪ ،‬اجلزء ال�سابع‪ ،‬حتقيق‪� :‬إح�سان‬ ‫عبا�س‪ ،‬بدون بلد ن�شر‪ ،‬دار الثقافة‪� ،1968 ،‬ص ‪.128‬‬


‫املنطقة والعامل‬

‫البرَ َبر‪ ...‬ميان ّيون ال �أوروب ّيون‬

‫‪133‬‬

‫القبلي باجليزة‪ ،‬وبالد البهن�سا‪� ،‬إىل �أق�صى ال�صعيد‪ .‬قال �صاحب العرب‪ :‬وهي على كرثتها ترجع‬ ‫�إىل �أ�صلينْ ‪ ،‬ال تخرج عنهما‪ ،‬وهم‪ :‬الأول‪ :‬الربان�س‪ ،‬وهم بنو برن�س من بربر‪ .‬والثاين‪ :‬البرت‪ ،‬وهم‬ ‫بنو مادغ�ش الأبرت بن بربر‪ .‬قال‪ :‬وبع�ضهم يقول‪� :‬إنهم يرجعون �إىل �سبعة �أ�صول‪ ،‬وهم‪� :‬إردواحة‪،‬‬ ‫وم�صمودة‪ ،‬و�أَ ْو َر َّبة‪ ،‬وعجبة‪ُ ،‬وكتامه‪ ،‬و�صنهاجة‪ ،‬و�أوريغة‪ .‬ثم قال‪ :‬وزاد بع�ضهم‪ :‬ملطة‪ ،‬وهك�سوره‪،‬‬ ‫وكزولة» ‪.‬‬ ‫وقال ل�سان اليمن «الهمداين»‪ ،‬يف نَ َ�س ِب قبائل الهمي�سع بن حمري الأكرب بن �سب�أ الأكرب‪ ،‬ما يلي‪:‬‬ ‫«و�أما ُم ّرة بن عبد �شم�س فولده ـ كما ُيقال واهلل �أعلم ـ كتامة‪ ،‬وعهامة‪ ،‬و�صنهاجة‪ ،‬ولواتة‪ ،‬وزنيت‪،‬‬ ‫وهو زناتة‪ .‬و ُهم ر�ؤ�ساء الرببر‪ُ ،‬نقِلوا مع �س ِّيدهم كنيع بن يزيد‪ ،‬يوم �أ�شْ َخ َ�صه �إفريقي�س‪� ،‬إىل �إفريقية‪،‬‬ ‫و�ص َرف املُنتاب عنها» ‪.‬‬ ‫َ‬ ‫مقدمته ال�شهرية‪« :‬واحلق الذي ال ينبغي التعويل على غ ِري ِه‪ ،‬يف �ش�أنهم‬ ‫يقول «ابن خلدون»‪ ،‬يف ِّ‬ ‫�أنهم من َو َلدِ كنعان بن حام بن نوح عليه ال�سالم‪ ...‬و�أن ا�سم �أبيهم �أمازيغ» ‪.‬‬ ‫�إذن َت�سمِ يتهم «�أمازيغ»‪ ،‬ف�أ�صلها من ا َجلد الأعلى للربان�س‪ ،‬وهو «مازيغ بن كنعان»؛ ذكر ذلك‬ ‫ابن خلدون يف تاريخه‪ ،‬نق ًال عن ّن�ساب ِة الرببر «هاين بن بكور ال�ضريبي»‪ ،‬و»�سابق بن �سليمان‬ ‫املطماطي»‪ ،‬و»كهالن بن �أبي ل�ؤي»‪ ،‬و»�أيوب بن �أبي يزيد»‪ ،‬وغريهم‪ ،‬قال‪�« :‬إن الرببر‪ ،‬فرقتان‪،‬‬ ‫وهما الربان�س والبرت‪ ،‬فالبرت من ولد بر بن قي�س بن عيالن‪ ،‬والربان�س بنو برن�س بن �سفجو بن ابزج‬ ‫بن جناح بن‪ ،‬واليل بن �شراط بن تام بن دومي بن دام بن مازيغ بن كنعان بن حام‪ ،‬وهذا الذي‬ ‫يعتمد ُه ّن�سابة الرببر» ‪.‬‬ ‫ف�أغلب امل�ؤ ِّرخني العرب يرون‪�« :‬إن الرببر قدموا من اجلزيرة العربية‪ ،‬يف زمن ال يقِل عن ثالثني‬ ‫قرناً ق‪.‬م‪ ،.‬و�أن الفينيقيني اختلطوا بالرببر‪ ،‬على طول ال�سواحل الأفريقية املغربية‪ ،‬يف القرن الثاين‬ ‫ع�شر ق‪.‬م‪ ،.‬وملّا كان الفينيقيون عرباً من كنعان‪ ،‬فقد اختلطوا بالرببر‪ ،‬الذين هم َعرب من العاربة‬ ‫القحطان َّية»‪.‬‬ ‫يقول الكاتب الفرن�سي‪« ،‬فلوريان»‪« :‬التطا ُبق الكامل بني العرب والرببر‪ ،‬فيما يلي‪� :‬أ�صل م�شرتك‪،‬‬ ‫لغة واحدة‪ ،‬عواطف واحدة‪ ،‬كل �شيء ُي�ساهِ م يف ربطها ربطاً متيناً» ‪.‬‬ ‫يقول «عبد الرحمن باغي»‪« :‬علماء اجليولوجيا يعتربون اجلزيرة العربية‪ ،‬امتداداً طبيعياً لأفريقيا‪،‬‬ ‫‪9‬‬

‫‪10‬‬

‫‪11‬‬

‫‪12‬‬

‫‪13‬‬

‫ ‪ 9‬القلق�شندي‪ ،‬قالئد اجلمان يف التعريف بقبائل عرب الزمان‪ ،‬ن�سخة م� َّصورة‪ ،‬بدون بلد ن�شر‪ ،‬بدون دار ن�شر‪.‬‬ ‫‪( 10‬الهمداين) احل�سن بن �أحمد بن يعقوب‪ ،‬الأكليل‪ ،‬اجلزء الثاين‪ ،‬حتقيق‪ :‬حممد بن علي الأكوع احلوايل‪ ،‬ط ‪ ،3‬بريوت‪ ،‬من�شورات‬ ‫املدينة‪� ،1986 ،‬ص‪.94‬‬ ‫‪( 1 1‬ابن خلدون) عبد الرحمن بن حممد‪ ،‬مقدمة ابن خلدون‪ ،‬بريوت‪ ،‬دار اجليل‪ ،‬بدون تاريخ ن�شر‪� ،‬ص‪.106‬‬ ‫‪( 1 2‬ابن خلدون) عبد الرحمن بن حممد‪ ،‬تاريخ ابن خلدون‪ ،‬اجلزء الرابع‪ ،‬م�صر‪ ،‬مطبعة بوالق‪ ،‬بدون تاريخ ن�شر‪� ،‬ص‪.164‬‬ ‫‪( 1 3‬ال�سعدي) عثمان‪ ،‬الرببر االمازيغ عرب عاربة‪ ،‬ط‪ ،2‬طرابل�س ‪ -‬ليبيا‪� ،‬شُ عبة التثقيف والتعبئة والإعالم‪� ،‬ص‪.28‬‬ ‫عدد رقم ‪� | 1‬أيـار‬

‫‪2013‬‬


‫‪134‬‬

‫املنطقة والعامل‬

‫ال يف�صلها عنها �سوى منبطح وادي النيل‪ ،‬ومنخفَ�ض البحر الأحمر» ‪.‬‬ ‫يقول امل�ؤ ِّرخ الأمريكي‪« ،‬وليم النغز» يف ت�أريخهِ‪« :‬و�إذن؛ فقد كان االجتاه العام للحركة احل�ضارية‪،‬‬ ‫من اجلنوب �إىل ال�شمال‪ ،‬ومن ال�شرق �إىل الغرب‪ ،‬ولهذا كانت املناطق اجلنوبية‪ ،‬وال�شرقية‪ ،‬يف �أي‬ ‫وقت م�ضى‪ ،‬تتم َّتع بح�ضارات �أكرث ُر ِق ًّيا‪ ،‬من ح�ضارات املناطق الهام�ش َّية‪ ،‬يف ال�شمال الغربي» ‪.‬‬ ‫ي� ِّؤكد هذا‪�ِ ،‬ص َّحة كون انتقال الرببر من اجلزيرة العربية‪� ،‬إىل �إفريقيا‪ ،‬يف تلك الفرتة‪ ،‬لعدم وجود‬ ‫عوارِ�ض لتلك الهِجرة‪� .‬إن هذا الكالم ال ينفي وجود اختالف يف الأقوام‪ ،‬التي َّ‬ ‫�شكلت الرببر‪،‬‬ ‫ولكن هذا االختالف‪ ،‬ال يخرج عن كو ِن ِه ُم�شابهاً لالختالف‪ ،‬املوجود بني �سكان جزيرة العرب‪،‬‬ ‫�شمالها‪ ،‬وجنوبها‪ ،‬وما ي� ِّؤكد هذا الكالم‪ ،‬ما قاله «ابن خلدون»‪ ،‬الذي يرى يف الرببر‪ ،‬ما يلي‪:‬‬ ‫«الرببر قبائل �ش ّتى‪ ،‬من حمري‪ ،‬وم�ضر‪ ،‬ولقيط‪ ،‬والعمالقة كنعان‪ ،‬وقري�ش؛ تالقوا بال�شام‪ ،‬ولغطوا‪،‬‬ ‫ف�سماهم �إفريق�ش بالرببر‪ ،‬لكرثة كالمهم‪. »...‬‬ ‫ّ‬ ‫يختلف «الكلبي» مع بع�ض كالم «ابن خلدون»؛ فيقول‪�« :‬إن كتامة‪ ،‬و�صنهاجة‪ ،‬لي�ستا من قبائل‬ ‫الرببر‪ ،‬و�إمنا هما من ال�شعوب اليمانية‪ ،‬تركهما �إفريق�ش بن �صيفي ب�أفريقية‪ ،‬مع من نَزل بها من‬ ‫حامية‪. »...‬‬ ‫الن�سابة العرب‪� ،‬إن‬ ‫جند «ابن خلدون» ي�ستطرد كالمه عن الرببر؛ فقال فيهم‪« :‬ال خالف بني ّ‬ ‫الن�سابة‬ ‫�شعوب الرببر‪ ،‬الذين قدمنا ذك َرهم ‪،‬ك ّلهم من الرببر‪� ،‬إال �صنهاجة‪ ،‬وكتامة‪ ،‬ف�إن من بني ّ‬ ‫العرب خِ الفاً‪ ،‬وامل�شهور �أنهم من اليمنية» ‪.‬‬ ‫يف تو�ضيح لكالم «الكلبي» و«ابن خلدون»‪ ،‬فالر�أي �إنهم عندما َّق�سموا الرببر �إىل عرب‪ ،‬وغري‬ ‫عرب‪ ،‬لي�س املعنى �أنهم قد قالوا بعدم عروبة الرببر‪ ،‬و�إمنا قد ف�صلوا بني القبائل العربية‪ ،‬التي كانت‬ ‫يف اجلزيرة العربية‪ ،‬من حيث اللغة العربية‪ ،‬التي كانت يلهجون بها‪ ،‬من ناحية‪ ،‬ومن حيث ت�أثري‬ ‫مناطق �سكناهم على �صفاتهم‪ ،‬من ناحية �أخرى‪.‬‬ ‫هذا االختالف ال يخرج عن هذا الإطار‪� ،‬أما عن حتديد قبائل �صنهاجة‪ ،‬وكتامة‪ ،‬ب�أنهم من العرب‪،‬‬ ‫فاملق�صود �أنهم من قبائل اليمن‪� ،‬أما الباقي فهم من قبائل العرب يف بالد ال�شام‪.‬‬ ‫فاحلديث عن �شمال �أفريقي جزري‪ ،‬ال يبد�أ مع دخول الفينيقيني‪ ،‬يف �أوائل القرن الأول قبل‬ ‫امليالد‪ ،‬و�إمنا يعود �إىل �أزمنة � ّأقدم بكثري‪ ،‬وهذا‪ ،‬بدو ِر ِه‪ ،‬يجعلنا ننظر �إىل ال�شعب الذي �أُطلِق عليه‬ ‫‪14‬‬

‫‪15‬‬

‫‪16‬‬

‫‪17‬‬

‫‪18‬‬

‫‪( 1 4‬ياغي) عبد الرحمن‪ ،‬حياة القريوان‪ ،‬بدون بلد ن�شر‪ ،‬بدون دار ن�شر‪ ،‬بدون تاريخ ن�شر‪� ،‬ص‪.13‬‬ ‫‪( 15‬النغر) وليم‪ ،‬مو�سوعة تاريخ العامل‪ ،‬اجلزء الأول‪ ،‬ترجمة‪ :‬د‪ .‬حممد م�صطفى زيادة‪ ،‬القاهرة‪ ،‬مكتبة النه�ضة امل�صرية‪� ،1962 ،‬ص‬ ‫(‪.)26-25‬‬ ‫‪ 1 6‬تاريخ ابن خلدون‪ ،‬م�صدر �سبق ذكره‪� ،‬ص ‪.177‬‬ ‫‪ 17‬امل�صدر نف�سه‪�،‬ص ‪.192‬‬ ‫‪ 18‬امل�صدر نف�سه‪�،‬ص (‪.)185-184‬‬


‫املنطقة والعامل‬

‫البرَ َبر‪ ...‬ميان ّيون ال �أوروب ّيون‬

‫‪135‬‬

‫لفظ بربري‪ ،‬على �أنه ينتمي �إىل ال�شعوب اجلزر َّية‪.‬‬ ‫يف ذلك يقول«د‪.‬طيب تيزيني»‪ ،‬يف مو�سوعة «م�شروع ر�ؤية جديدة للفكر العربي منذ بداياته حتى‬ ‫املرحلة املعا�صرة‪ ،‬اجلزء الثاين‪ ،‬الفكر العربي يف بواكريه و�آفاقه الأوىل»‪ ،‬ما يلي‪« :‬هكذا �إذن‪ ،‬جند‬ ‫�أنف�سنا �أمام فكرة �أ َّو ِل َّيه محِور َّية؛ �أن الرببر ذوو جذور‪ ،‬ترتد �إىل م�صادر �سام َّية [جزر َّية مبفهومنا]‪،‬‬ ‫ال تبد�أ مع نزوح الفينيقيني �إىل هناك‪ ،‬وت�أ�سي�سهم م�ستوطنات خا�صة بهم (قرطاجة خ�صو�صاً)‪،‬‬ ‫يف القرن ال�سابع قبل امليالد‪ ،‬كما ُيعلن جميع امل�ؤ ِّرخني‪ ،‬والباحثني‪� .‬أن تلك ِ‬ ‫ال�ص َلة‪ ،‬تغدو �ضمن‬ ‫ذلك املنظور‪� .‬أكرث ق َِدماً‪ .‬بل �إنها تبدو بنوعية �أخرى‪ ،‬تتحد بكون الرببر �أنف�سهم �سام ّيني [جزر ّيني‬ ‫مبفهومنا]‪� ،‬أو ذوي جذور �سام َّية [جزر َّية مبفهومنا] ‪.‬‬ ‫ُتعترب هجرة الفينيقيني �إىل املغرب‪ ،‬واحدة من هذه الهجرات املُت�أخِّ رة للأقوام العربية‪ ،‬من اجلزيرة‬ ‫�سجل هجرة الفينيقيني‪ .‬و َتنقُّل‬ ‫العربية‪ ،‬التي ُ�سبِقت بهجرات �سابقة لها‪ ،‬مل ُي ِّ‬ ‫�سجلها التاريخ‪ ،‬كما َّ‬ ‫الفينيقيني‪ ،‬من اجلزيرة العربية‪� ،‬إىل بالد ال�شام‪ ،‬ومن بالد ال�شام‪� ،‬إىل املغرب العربي‪ ،‬جاء عفوياً‪،‬‬ ‫املد الب�شري‪ ،‬يف هذا احلو�ض احل�ضاري الكبري»‪.‬‬ ‫لي� ِّؤكد تبا ُدل هذا ْ‬ ‫فمح ِّررو (مادة اجلزائر)‪ ،‬يف املو�سوعة الفرن�سية (يونيفري�سالي�س ‪)UNIVERSALIS‬؛ يقولون‪« :‬بد�أ تاريخ‬ ‫�سجلوا ح�ضارتهم‪ ،‬ك�أول ح�ضارة باملدن‪ ،‬حيث َتركت‬ ‫املغرب الأو�سط‪ ،‬بو�صولِ الفينيق ّيني‪ ،‬الذين َّ‬ ‫بها �آثاراً مكتوبة‪ ،‬ف� َّأ�س�سوا ُم ِّبكراً‪ ،‬يف القرون الأخرية‪ ،‬للألف الثانية قبل امليالد‪ ،‬مراكز جتارية‪.‬‬ ‫وتط َّور الفينيقيون �إىل قرطاجنيني‪ ،‬ومل ي�ستعمروا داخل البالد‪ ،‬ولكنهم ط َّوروا هذه املدن ال�ساحلية‬ ‫التجارية‪ ،‬والتي ا�ستم َّرت قائمة‪ ،‬حتى بعد تدمري قرطاج‪ ،‬حتمِ ل ت�سميات �سام َّية‪ ،‬كمدن را�سكورو‬ ‫(دل�س)‪ ،‬ورو�س كاد (�سكيكدة)‪ ،‬ورو�س قونية (ماتيفون)‪ .‬وكان الر�ؤ�ساء الرببر‪ ،‬امل�سيطرون على‬ ‫داخل البالد حلفاء‪ ،‬وزبائن جتاريني للقرطاجنيني‪ُّ ،‬ميدونهم بفِرق ع�سكرية‪ ،‬وبخا�صة بالفر�سان‬ ‫النوميد ّيني امل�شهورين‪ ،‬وبال ِف َيلة احلربية‪ ،‬واجلنود‪ .‬وانت�شرت ال ُلغة البونيق َّية (اللهجة الفينيقية‬ ‫الكنعانية ال�سائدة يف �شمال �أفريقيا ‪ -‬النا�سخ)‪ ،‬واحل�ضارة الفينيق َّية بعمق يف البالد‪ ،‬وظهرت‬ ‫مدناً للأهايل‪ ،‬و�أ�ضرِحة‪ ،‬ومزارات دينية‪ ،‬ب ُنيت‪� ،‬أحياناً‪ ،‬من طرف َف ِّنيني قرطاجنيني‪ .‬وهكذا‬ ‫فقد كان الرببر تالميذ للفينيقيني‪ ،‬الذين ع َّلموهم �أ�ساليب زراعية‪ ،‬و�صناعية‪ ،‬ك�صناعة الزيت‪،‬‬ ‫والنبيذ‪ ،‬و�صناعة الأدوات من النحا�س؛ وع َّلموهم على اخل�صو�ص ديانتهم‪ .‬وا�ستمر الرببر يعبدون‬ ‫�آلهة قرطاج‪ ،‬حتى �أثناء االحتالل الروماين‪ ،‬لدرجة �أن بع�ض امل�ؤ ِّرخني‪ ،‬يرون �أن امل�سيحية‪ ،‬ثم‬ ‫الإ�سالم‪ ،‬مل ُيقبِال من الرببر‪ ،‬بهذه ال�سهولة‪� ،‬إال ب�سبب دخول هذه الديانة القرطاجنية املغرب‪،‬‬ ‫التي هي ديانة �سام َّية‪ .‬وا�ستمرت اللغة البونيق َّية متداولة‪ ،‬حتى بعد القرن الثالث امليالدي‪ ،‬حيث‬ ‫َلعبت دور الو�صلة �إىل اللغة العربية» ‪.‬‬ ‫‪19‬‬

‫‪20‬‬

‫‪( 1 9‬تيزيني) د‪ .‬طيب‪ ،‬م�شروع ر�ؤية جديدة للفكر العربي منذ بداياته حتى املرحلة املعا�صرة ‪ ,‬اجلزء الثاين ‪,‬الفكر العربي يف بواكريه‬ ‫و�آفاقه الأوىل‪ ،‬ط‪ ،1‬دم�شق‪ ،‬دار دم�شق‪� ،1982 ،‬ص‪.67‬‬

‫‪20 Encyclopeadia Universalis, T1, P633.‬‬

‫عدد رقم ‪� | 1‬أيـار‬

‫‪2013‬‬


‫‪136‬‬

‫املنطقة والعامل‬

‫لقد خرج الرببر من الع�صر احلجري احلديث‪ ،‬ودخلوا التاريخ‪ ،‬والع�صر احل�ضاري عن طريق �إخوانهم‬ ‫املتخ�ص�ص يف الدرا�سات الرببرية‪« ،‬رونيه با�سيه» (‪ ،)R. Basset‬يورِد‬ ‫الفينيقيني‪ .‬فامل�ؤ ِّرخ الفرن�سي‬ ‫ِّ‬ ‫حقائق ت� ِّؤكد ذلك‪ ،‬فيقول‪�« :‬إن ال ُلغة البونيق َّية‪ ،‬مل تختف من املغرب‪� ،‬إال بعد دخول العرب‪ .‬ومعنى‬ ‫هذا‪� ،‬أن هذه اللغة َبقِيت قائمة‪ ،‬هذه املُ َّدة باملغرب‪ ،‬لتِ�سعة ع�شر قرناً‪ ،‬وهو �أمر عظيم‪ .‬لقد ا�ستمر ت�أثري‬ ‫مدينة قرطاج قائماً‪ ،‬حتى بعد تدمريها‪ ،‬فقد حت َّولت (�سريتا)‪ ،‬حتت حكم امللوك النوميد ّيني الرببر‪،‬‬ ‫�إىل مركز بونيقي‪ ،‬بل �أن ا�سم �سريتا‪ ،‬هو (قرطا)‪� ،‬أي املدينة بالبونيق َّية‪ .‬لقد َعلم القرطاجنيون الربب َر‬ ‫الزراعةَ‪ .‬فالرببر يك�سرون ال ُر ّمانة على مقب�ض املِحراث‪� ،‬أو يدفنونها يف �أول خط للحرث‪ ،‬تفا�ؤ ًال ب�أن‬ ‫م�ستمدة من ثقافة قرطاج‪ ،‬فال ُر ّمانة‬ ‫�سنابل احل َّبة املبذورة‪� ،‬ست�أتي كثرية‪ ،‬بعدد ح ّبات ال ُر ّمانة‪ .‬وهي عادة‬ ‫َّ‬ ‫لديهم رمز للخ�صوبة‪ .‬و ُتعترب قرطاج ُمر ِّبية للرببر‪ ،‬فقد ع َّلمتهم كيفية االعتناء بالزيتونة‪ ،‬التي كانت‬ ‫موجودة باملغرب‪ ،‬ك�شجرة وح�شِ َّية‪ ،‬وكيف َّية ا�ستخراج الزيت منها‪ .‬ويف�صل «غزيل» (‪ (Gsell‬هذه‬ ‫امل�س�ألة لغوياً؛ فيقول‪�[ :‬إن كلمة �أزمور بالرببرية‪ ،‬تعني الزيتونة الوح�ش َّية‪ ،‬وهو اال�سم الرببري لهذه‬ ‫ال�شجرة‪� .‬أما �إذا تك َّلموا عن الزيتونة امللقَّمة‪� ،‬أطلقوا عليها اال�سم ال�سامي (الزيتونة)‪ ،‬وعلى �سائلها‬ ‫ا�سم الزيت‪.]...‬كما َع َّل َم الفينيقيون الرببر زراعة التينة‪ ،‬التي كانت قبلهم موجودة باملغرب‪ ،‬ك�شجرة‬ ‫وح�شِ َّية‪� ،‬أي�ضً ا‪ ،‬وع َّلموهم زراعة الكرمة‪ ،‬والر ّمانة‪ ،‬وع َّلموهم‪ ،‬عمو ًما‪ ،‬فن زراعة ال�شجر املُثمر‪ .‬وقد‬ ‫تبينَّ لنا الآن‪� ،‬أن الرببر كانوا على ا ِّت�صال بالفينيقيني منذ ما قبل التاريخ‪ .‬و َع َّل َم الفينيقيون الرببر‬ ‫ال�صناعات القابِلة للت�صدير‪ ،‬كال�سرياميك‪ ،‬و�صناعة املعادن‪ ،‬والن�سيج‪ ،‬واملجوهرات‪ :‬كاخلالخيل‪،‬‬ ‫والتيجان‪ ،‬واخلالالت (امل�شابِك)‪ ،‬التي ت�صنع يف �صورة كف مب�سوطة الأ�صابِع‪ .‬والت�شا ُبه ِ‬ ‫وا�ضح‪ ،‬بني‬ ‫جموهرات القبائل (باجلزائر)‪ ،‬وال�سو�س (باملغرب)‪ ،‬وبني املجوهرات القرطاجية‪� .‬أما ديانة قرطاج فهي‬ ‫التي كانت ُمنت�شرة باملغرب‪ ،‬كالإله (بعل عمون)‪ ،‬والإلهة (تانيت)‪ ،‬وكان هذا الإله منت�شراً بالعامل‬ ‫العربي ك ّله‪ ،‬الأمر الذي �أور َد ا�سمه القر�آن‪ ،‬بالآية‪�« :‬أتدعون بعال وتذرون �أح�سن اخلالقني»؛ لدرجة �أن‬ ‫انت�شار الإ�سالم ب�شمال �أفريقيا عائد �إىل ما فعلته قرطاج يف هذه البالد‪� .‬أما عن ال ُلغة‪ ،‬فقد جعل امللوك‬ ‫النوميديون الرببر‪ ،‬يف العهود الأخرية‪ ،‬من البونيقية‪ ،‬لغتهم الر�سمية‪ ،‬لدرجة �أنه كان النا�س‪ ،‬يف بالد‬ ‫يتحدثون البونيق َّية‪� ،‬أكرث من الرببر َّية‪ ،‬وحتى يف العهد الروماين‪� .‬إن‬ ‫الرببر‪ ،‬ويف املدن على اخل�صو�ص‪َّ ،‬‬ ‫املناطق التي انت�شرت فيها البونيق َّية �أكرث‪ ،‬هي التي تع َّربت بالكامل‪.‬والبونيق َّية ُلغة قريبة من العربية‪،‬‬ ‫التي ما �إن دخلت املغرب‪ ،‬حتى خ َّلفت البونيق َّية‪ ،‬وب�سهولة‪ ،‬كما �أن �آلهة قرطاج‪ ،‬هي التي م َّهدت‬ ‫النت�صار الإ�سالم‪ ،‬يف هذه البالد‪ ،‬وال ُلغة القرطاجنية‪ ،‬ع َّبدت الطريق للعربية‪ .‬وخُ ال�صة القول‪� ،‬أن‬ ‫قرطاج مل جتلب �سوى اخلري للرببر‪ ،‬فقد ع َّلمتهم غر�س الأ�شجار املثمِ رة‪ ،‬ور َّبتهم روحياً‪ ،‬ودينياً‪ .‬ومن‬ ‫تعمق �أكرث‪ ،‬بعد تدمري قرطاج‪ .‬لقد د َّمرت روما �أ�سوار قرطاج‪ ،‬لكنها ف�شلت يف‬ ‫الغريب �أن هذا الت�أثري َّ‬ ‫وتعمقت يف‬ ‫تدمري ت�أثريها يف نفو�س الرببر‪ ،‬بل �إنه كلما ت� َّأ�س�س احتالل روما للمغرب‪ ،‬كلما انت�شرت‪َّ ،‬‬ ‫نفو�س الرببر ُلغة قرطاج‪ ،‬وعقائدها‪ .‬وهل يختلف الو�ضع الآن عنه �آنذاك؟!» ‪.‬‬ ‫‪21‬‬

‫‪21 Rene Basset: Les Influences Puniques chez les Berberes, Revue Africaine, V.62 (1921), p.340.‬‬


‫املنطقة والعامل‬

‫البرَ َبر‪ ...‬ميان ّيون ال �أوروب ّيون‬

‫‪137‬‬

‫وي� ِّؤكد م�ؤ ِّرخ �آخر فرن�سي‪ ،‬هو «�سانتا�س» )‪)P. CINTAS‬؛ فيقول‪« :‬لقد ب َّينت الكتابات البونيق َّية‬ ‫املك َت�شَ فَة باملغرب‪ ،‬والتي حتمِ ل تاريخ ‪162 ‬و‪ 147‬قبل امليالد (�أي حتت حكم ما�سينيا)‪ ،‬مدى ارتباط‬ ‫الأهايل بقرطاج دينياً‪ ،‬من خالل عبادتهم لبعل عمون‪ ،‬الإله القرطاجي‪ ،‬وهذا ي� ِّؤكد ال�سيطرة‬ ‫التحدث عن ا�ستمرار البونيق َّية‪ ،‬فقد‬ ‫امل�ستدمية للديانة القرطاجية‪ ،‬على ال�سكان املح ِّليني‪� .‬أريد ُ‬ ‫بقِيت منت�شرة باملغرب‪ ،‬بعد تدمري قرطاجن ويف العهد الروماين‪ ،‬وحتى بعد القدي�س �أوغ�سطني‪،‬‬ ‫الذي َذكر مراراً �أن ال�سكان الذين كانوا يحيطون به‪ ،‬يتك َّلمون البونيق َّية‪� .‬إن ال ُّلغة البونيق َّية‬ ‫مقدمة لإلغاء الإ�سالم‪ ‬للم�سيحية‪ ،‬وللثقافة‬ ‫ا�ستمرت بني بع�ض الرببر‪ ،‬ك ُلغة ثقافة‪ .‬بل �أن الدونات َّية ّ‬ ‫الرومانية باملغرب ‪.‬‬ ‫فح�سب رواية «بروكوبيو�س» (‪� ،)Procope‬أحدث احتالل يو�شع بن نون للأر�ض املوعودة‪ ،‬رحيل‬ ‫الأقوام الذين كانوا يقطنون ال�شاطئ‪ .‬وبعد �أن حاول ه�ؤالء اال�ستقرار يف م�صر‪ ،‬ووجدوها مزدحمة‬ ‫توجهوا نحو ليبيا التي احتلوها حتى �أعمدة هرقل (م�ضيق جبل طارق)‪ ،‬و� َّأ�س�سوا عدداً‬ ‫بال�سكان‪َّ ،‬‬ ‫كبرياً من املدن‪ .‬ي� ِّؤكد «بروكوبيو�س»‪ ،‬وقد َبق َِي فيها خلفهم‪ ،‬ومازالوا يتك َّلمون لغة الفينيقيني‪ ،‬حتى‬ ‫اليوم‪ .‬وقد �ش َّيدوا‪� ،‬أي�ضاً‪ ،‬ح�صناً يف نوميديا‪ ،‬يف املكان الذي ترتفع فيه مدينة تيجي�سي�س (‪.)Tigisis‬‬ ‫وهناك‪ ،‬بالقرب من العني الكبرية‪ِ ،‬‬ ‫تنت�صب م�س َّلتان من احلجر الأبي�ض‪ُ ،‬نق�ش عليهما بحروف‬ ‫فينيقية‪ ،‬وبلغة الفينيقيني‪ ،‬ما معناه‪ :‬نحن الذين هربنا بعيداً‪ ،‬من �أمام ال�شرير يو�شع بن نون‪.‬‬ ‫ت�ستند هذه الرواية‪ ،‬كذلك‪ ،‬على ب ِّينة �أخرى‪ ،‬جند �أثرها‪ ،‬قبل ذلك بقرن‪ ،‬يف ر�سالة للقدي�س‬ ‫«�أوغ�سطني» (‪)Saint Augustin‬؛ جاء فيها‪�« :‬إذا �س�ألتم فالحينا من هم‪ :‬يجيبون بالبونيقية �أنهم‬ ‫�شنانيون‪� ،‬أو ال يتفق هذا ال�شكل املح َّرف بلهجتهم مع كنعانيني؟»‪ .‬ويذهب علماء كثريون‪ ،‬مثل‬ ‫«�أ‪ .‬دي فيتا» (‪� ،)A.di Vitta‬إىل تف�سري رواية «بروكوبيو�س» (‪ ،)Procope‬بالذكرى الغام�ضة لأقدم‬ ‫تغلغُل فينيقي يف املغرب‪ ،‬وكان �سابقاً لت�أ�سي�س قرطاج ‪.‬‬ ‫َيذكر امل�ؤ ِّرخ الفرن�سي «رينان» (‪�« :)E. RENAN‬أن الرببر اعتنقوا الإ�سالم ‪ ‬ب�سهولة‪ ،‬لأنهم كانوا‬ ‫يعرفون البونيق َّية» ‪ .‬‬ ‫متع�صب للرببرية‪« :‬كتب امل�ؤ ِّرخون العرب‪،‬‬ ‫‪ ‬ويقول «حممد �شفيق»‪ ،‬من املغرب الأق�صى؛ وهو ِّ‬ ‫وتكمن فكرة الت�أكيد‪ ،‬اليوم‪ ،‬على القَرابة‬ ‫وجزموا ب�أن الرببر من �أ�صل مياين‪ ،‬من العرب العاربة‪ُ ،‬‬ ‫القدمية املحت َملة‪ ،‬بني الأمازيغيني‪ ،‬واليمانيني‪ ،‬يف ثالث قرائن‪� :‬أو ًال‪� :‬أن عد ًدا ال ب�أ�س به من �أ�سماء‬ ‫الأماكن‪ ،‬على الطريق الذي ميتد من املغرب الكبري‪ ،‬واليمن‪ ،‬لها ِ�صيغ �أمازيغية وا�ضحة‪ .‬منها يف‬ ‫�صعيد م�صر (�أبنو‪� ،‬أ�سيوط)‪ ،‬و�إيخيم‪ ،‬وتيما‪ ،‬يف جبل حوران‪ ،‬يف �سوريا‪ ،‬وتيما يف �شمال ال�سعودية‪،‬‬ ‫‪22‬‬

‫‪23‬‬

‫‪24‬‬

‫‪22 P. Cintas: Ceramiques Puniques, Paris 1950. Revue Africaine, Vol. 100, 1956.‬‬

‫‪( 23‬ج‪.‬كامب)‪ ،‬الرببر الذاكرة والهوية‪ ،‬ترجمة‪ :‬جاد اهلل عزوز الطلحي‪ ،‬طرابل�س ‪ -‬ليبيا‪ ،‬مركز جهاد الليبيني للدرا�سات التاريخية‪،‬‬ ‫‪� ،2005‬ص (‪.)52-51‬‬

‫‪24 E. Renan: Histoire Generale des Langues Semitiques 7eme edition, p.199.‬‬

‫عدد رقم ‪� | 1‬أيـار‬

‫‪2013‬‬


‫‪138‬‬

‫املنطقة والعامل‬

‫وتاركما‪ ،‬و�أتبار‪ ،‬وتيمرايني يف ال�سودان‪ ،‬و�أك�سوم‪ ،‬ب�أ�سمرا‪ ،‬و�أكوال‪ ،‬و�أكو�ؤدات (�أكو�ؤ�ضاد)‪ ،‬يف‬ ‫�أريرتيا‪ ،‬وجزيرة �أنتوفا�ش‪ ،‬يف اليمن‪ .‬ثانياً‪ :‬لقد عثرَ ت على عدد من الألفاظ العربية التي قال‬ ‫ب�ش�أنها �صاحب ل�سان العرب‪� ،‬أنها حمري َّية‪� ،‬أو ميان َّية‪ ،‬وهي الألفاظ التي لها وجود يف الأمازيغية؛‬ ‫�إما مبدلولها احلمريي‪� ،‬أو مبدلول ُمعاك�س (الأ�ضداد) ‪[ -‬درج العرب القدماء على و�صف الأ�شياء‬ ‫ب�أ�ضدادها ‪ -‬النا�سخ]‪ ،‬ثالثاً‪ :‬بني حروف التيفيناغ القدمية‪ ،‬ومنها التوارق َّية‪ ،‬وبني حروف احلمرييني‬ ‫(الأبجدية احلمري َّية ‪ -‬امل�سند) �شَ َبه ملحوظ» ‪ .‬‬ ‫يقول «حممد �شفيق»‪ ...« :‬ت�سمى هذه احلروف تيفيناغ‪ ،‬ولقد �أُ ِّو َل ْت هذه الت�سمية ت�أويالت‬ ‫خمتلفة‪� ،‬أ�سرعها �إىل الذهن هو �أن الكلمة م�شتقَّة من ‹فينيق‪ ،‬فينيقيا›‪ ،‬وما �إىل ذلك‪ .‬قد ُيطابق‬ ‫رجح‬ ‫ذلك �أ�صل هذه الت�سمِ ية‪ ،‬ولكن املحقَّق‪ ،‬هو �أن الكتابة الأمازيغية غري منقولة عنها‪ ،‬بل َ‬ ‫االعتقاد ب�أنها‪ ،‬والفينيقية‪ ،‬تنتمِ يان �إىل مناذج‪ ،‬جد قدمية‪ ،‬لها عالقة باحلروف التي اك ُت�شِ ف َْت‪ ،‬يف‬ ‫جنوبي اجلزيرة العربية» ‪ .‬‬ ‫يقول �أي�ضً ا‪«:‬بني حروف «تيفيناغ»‪ ،‬القدمية منها والتوار َكية‪ ،‬وبني حروف احلمرييني‪� ،‬شَ َبه ملحوظ‬ ‫يف الأ�شكال‪ ،‬لكنها ال تتقابل يف ت�أدِية الأ�صوات‪� ،‬إال يف حالتينْ اثنتينْ ‪ ،‬بتجا ُوز يف التدقيق» ‪.‬‬ ‫جنوب اجلزيرة العربية‪،‬‬ ‫وي� ِّؤكد امل�ؤ ِّرخون‪� ،‬أن مدينة �سو�سة بتون�س‪ ،‬بناها العرب القادمونَ من ِ‬ ‫قبل �أربعة �آالف �سنة‪ ،‬و�أعطوها ا�سم (ح�ضرموت)‪ .‬وتوجد �أ�سماء باليمن متطابِقة مع �أ�سماء‬ ‫جتمع كبري للقبائل الرببرية باملغرب‬ ‫لقبائل بربر َّية‪ ،‬كالأ�شلوح؛ ا�سم قرية‪ ،‬وقبيلة باليمن‪ ،‬وال�شلوح ُّ‬ ‫الأق�صى‪ .‬والأكنو�س‪ ،‬ع�شرية من بني مهاجر باليمن‪ ،‬ومكنا�سة باملغرب ‪.‬‬ ‫ي�شري «عبد الوهاب بن من�صور»‪ ،‬ع�ضو �أكادمي َّية اململكة املغرب َّية‪ ،‬يف درا�سته الق ِّيمة «داللة املعمار اليمني‬ ‫ملحدثني‪ ،‬عندما �أخ�ضعوا �أ�صل الرببر‪� ،‬أو �أ�صولهم للمقايي�س‬ ‫على عروبة قبائل بربرية»‪� ،‬إىل �أن العلماء ا ِّ‬ ‫العلم َّية اخلا�صة بهم‪َ ،‬ك َلون الب�شرة‪ ،‬ونوع ال�شَ عر‪ ،‬و�شكل اجلمجمة‪ ،‬وبنية اجل�سم‪ ،‬م�ضافة �إليها ال ُلغة‪،‬‬ ‫واملو�سيقا‪ ،‬واملعمار‪ ،‬والعادات‪ ،‬واملعتقدات‪ ،‬وجدوا بينْ بع�ض قبائل الرببر‪ ،‬وقبائل العرب‪ ،‬يف اليمن‪،‬‬ ‫وح�ضرموت‪� ،‬شبهاً كبرياً‪ ،‬مالوا معه �إىل ت�صديق ما يروِيه كثري من ّن�سابة العرب‪ ،‬والرببر‪ ،‬وم�ؤ ِّرخيهم‪ ،‬عن‬ ‫ف�شكل الإن�سان يف بع�ض القبائل الرببرية‪� ،‬شديد ال�شبه ْ‬ ‫ُعروبة الأرومة الرببرية‪ْ ،‬‬ ‫ب�شكل الإن�سان العربي‪،‬‬ ‫يف اليمن‪ ،‬وح�ضرموت؛ كما �أن ال�ش َبه قوي بني اللهجات الرببرية‪ ،‬وبني اللغة العربية‪ ،‬من حيث‬ ‫اال�شتقاق‪ ،‬وت�صريف الكلمات‪ ،‬ووجود حروف احل ْلق جمتمعة‪ ،‬وهي ال جتتمِ ع �إال يف ال ُلغات ال�سام َّية‬ ‫[اجلزر َّية]‪ ،‬وي�شتد على اخل�صو�ص بني اللهجات الرببرية‪ ،‬وبني لغة املهرة‪ ،‬يف غرب �سلطنة ُعمان‪.‬‬ ‫‪25‬‬

‫‪26‬‬

‫‪27‬‬

‫‪28‬‬

‫‪�( 2 5‬شفيق) حممد‪ ،‬ثالثة وثالثني قرناً من تاريخ الأمازيغيني‪ ،‬الرباط‪ ،‬بدون دار ن�شر‪� ،1989 ،‬ص (‪.)21-20‬‬ ‫‪ 2 6‬ثالثة وثالثني قرناً من تاريخ الأمازيغيني‪ ،‬م�صدر �سبق ذكره‪� ،‬ص ‪.65‬‬ ‫‪ 27‬امل�صدر نف�سه‪� ،‬ص ‪.21‬‬ ‫يراجع (النواي�سة) �أديب‪ ،‬املعجم ال�شامل للقبائل العربية‬ ‫الرببرية‪،‬‬ ‫القبائل‬ ‫مع‬ ‫اليمنية‬ ‫اال�سماء‬ ‫تطابق‬ ‫عن‬ ‫‪ 28‬ملزيد من التفا�صيل‬ ‫َ‬ ‫والأمازيغية‪ ،‬ثالثة �أجزاء‪ ،‬ط‪َ ،1‬ع ّمان‪ ،‬دار كنوز املعرفة‪.2007 ،‬‬


‫املنطقة والعامل‬

‫البرَ َبر‪ ...‬ميان ّيون ال �أوروب ّيون‬

‫‪139‬‬

‫ومثل هذا الت�شابه يوجد‪� ،‬أي�ضً ا‪ ،‬يف املو�سيقا‪ ،‬فالر ّنات‪ ،‬والأحلان‪ ،‬يف مو�سيقا اجلنوبي العربي‪،‬‬ ‫و�أغانيه‪ ،‬وكذلك الت�صفيق الرتيب‪ ،‬المُ �صاحب ب�أيدي‪ ،‬ت�شبه كلها الر ّنات‪ ،‬والأحلان‪ ،‬يف مو�سيقا‪،‬‬ ‫و�أغاين القبائل الرببرية‪ ،‬باجلنوب املغربي‪ ،‬وكذلك طريقه الأداء‪ ،‬والإن�شاد‪ ،‬وقد َدر�س كل ذلك‪،‬‬ ‫العالمِ الأملاين‪« ،‬كارل ولهم خلمان» (‪1793‬ـ‪ ،)1851‬درا�سة ُم�ستفي�ضة‪ ،‬واملو�سيقار النم�ساوي‪« ،‬فون‬ ‫الرحالة الأملاين‪« ،‬هانز هولفريتز»‪ ،‬و�أ�شار �إليه ب�إ�سهاب‪ ،‬يف‬ ‫هورن جو�ستل» (‪1877‬ـ‪ ،)1935‬و َت َّفط َن له ّ‬ ‫كتابه املو�سوم اليمن من الباب اخل ْلفي‪.‬‬ ‫ولكن الذي لفت نظر الباحثني‪ ،‬والدار�سني المُ عا�صرين‪ ،‬الذين يعتمدون على الأ ِد َّلة العلم َّية‪،‬‬ ‫واملقايي�س العقل َّية‪ ،‬وا�ستد ّلوا به على عروبة بع�ض قبائل الرببر‪ ،‬يف �شمال �أفريقيا‪ ،‬هو ت�شا ُبه املعمار‬ ‫اليمني‪ ،‬واملعمار الرببري‪ ،‬وتطبيقها؛ فقد قارنوا بني املباين العا ِل َية‪ ،‬املوجودة يف جنوب اجلزيرة‬ ‫العربية‪ ،‬وبني املباين العالية يف قلب احل�ضارة الرببرية‪ ،‬ب�أعايل جبال الأطل�س‪ ،‬فلم يجدوا بينهما‬ ‫وال�سمات الهند�س َّية نف�سها؛ كالنتوءات‪،‬‬ ‫فرقاً؛ فاملباين يف اجلهتينْ معاً‪ ،‬تحَ مل املظاهر املعمار َّية‪َّ ،‬‬ ‫والأنابيب اخل�شب َّية‪ ،‬ل�صرف مياه الأمطار‪ ،‬والكوات‪ ،‬والثقوب؛ حتى �إنك لو َ�سكنت‪ ،‬برهة من‬ ‫الزمان‪ ،‬قلعة من قِالع جبال ت ُعز‪ ،‬و�صعدة‪� ،‬أو �صرحاً �شاخماً من �صروحها؛ ثم انتقلت فج�أة �إىل‬ ‫قلعة من قِالع �أمزميز‪ ،‬وتلوات‪ ،‬بجبال الأطل�س الكبري‪ ،‬باململكة املغربية؛ لتخ َّي ْلت �أنك ال تزال يف‬ ‫م�سكنك الأول؛ ال�شيء الذي ي� ِّؤكد االعتقاد ِب�ص َّحة ما ُير ِّدد ُه كثري من م�ؤ ِّرخي العرب‪ ،‬والرببر‪،‬‬ ‫ون�سابيهم‪ ،‬من انحدار الرببر‪� ،‬أو بع�ض من قبائلهم من �أرحام مين َّية! ‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫‪29‬‬

‫(*) (احلمريي) ن�شوان‪ ،‬خال�صة ال�سرية اجلامعة لعجائب �أخبار امللوك التبابعة‪،‬حتقيق‪ :‬علي بن ا�سماعيل امل�ؤيد وا�سماعيل بن احمد‬ ‫اجلرايف‪ ،‬ط‪ ،2‬بريوت‪ ،‬دار العودة‪� ،1978 ،‬ص‪.71‬‬ ‫‪ 29‬جملة درا�سات مين َّية (�صنعاء)‪ ،‬جم َّلة ف�صلية تَ�صدُ ر عن مركز الدرا�سات والبحوث اليمني‪ ،‬عبد الوهاب بن من�صور‪ ،‬داللة املعمار‬ ‫اليمني على عروبة قبائل بربر َّية‪ ،‬العدد الثامن والثالثون‪� ،‬أكتوبر ـ نوفمرب ـ دي�سمرب‪� ،1989 ،‬ص (‪.)116-115‬‬

‫عدد رقم ‪� | 1‬أيـار‬

‫‪2013‬‬


‫م�ؤ�س�سة �سعاده للثقافة‬

‫بناية ر�سامني‪� ،‬شارع احلمرا‪ ،‬ر�أ�س بريوت‪ ،‬لبنان‬ ‫�صندوق بريد‪ 113-5557 :‬بريوت ‪ -‬لبنان‬ ‫هاتف‪)00961-1( 753363 :‬‬ ‫فاك�س‪)00961-1( 753364 :‬‬ ‫الربيد الإلكرتوين‪saadehcf@idm.net.lb :‬‬ ‫املوقع الإلكرتوين‪www.saadehcf.org :‬‬


‫‪141‬‬

‫املنطقة والعامل‬

‫الو�ضع اال�سرتاتيجي والع�سكري‬ ‫االمريكي يف العامل‬

‫| العميد املتقاعد اليا�س فرحات |‬

‫مل يعد االنت�شار الع�سكري يف العامل �ش�أنا �أمريكياً خا�صا وال من اهتمامات القطب الآخر‬ ‫يف النظام العاملي ال�سابق ثنائي القطبية‪� ،‬إنه �ش�أن جميع الدول وال�شعوب التي ي�شملها‬ ‫االنت�شار او االن�سحاب من االرا�ضي الوطنية واملياه االقليمية �أو الدولية القريبة‪.‬‬ ‫الواليات املتحدة �سيدة البحار من دون منازع جدي‪ ،‬والدولة الوحيدة القادرة على التدخل‬ ‫الع�سكري ال�سريع يف جميع �أنحاء العامل هي اليوم �أمام حتديات ا�سرتاتيجية النت�شارها‬ ‫املفرط بامل�ساحة وحتديات ع�سكرية �أبرزها احلرب غري املتماثلة التي جل�أت اليها ال�شعوب‬ ‫يف افغان�ستان والعراق والتي فر�ضت عليها االن�سحاب من دون حتقيق �أهداف احلرب �أو‬ ‫االنت�شار الذي جرى يف تلك البالد‪ .‬الواليات املتحدة ذكية والمعة و�سريعة يف الدخول‬ ‫الع�سكري �إىل �أي بلد‪ ،‬لكنها غبية ومرتددة يف اخلروج وباتت ا�سرتاتيجية اخلروج �أمراً‬ ‫معقدا مل حت�سن الدوائر الع�سكرية اعداده‪،‬واالكرث من ذلك انها ف�شلت يف اعداد مثل‬ ‫هذه اال�سرتاتيجية يف منا�سبات عديدة لي�س �أقلها م�شهد الهروب على منت ال�سفن‬ ‫او�سالمل الطائرات من فيتنام �أو الوقفة الت�أملية يف العراق عندما اكت�شف �صناع القرار‬ ‫انهم ب�إزاحتهم نظام �صدام ح�سني ف�سحوا املجال لإيران للتمدد غربا نحو البالد العربية‬ ‫و�شرق �أفريقيا والبحر االحمر‪.‬‬ ‫نعر�ض �أدناه لال�سرتاتيجية االمريكية ولالنت�شار الع�سكري االمريكي الذي يعاين الكثري‬ ‫من ال�شوائب وامل�شاكل التي يغطيها عدم وجود قوة ع�سكرية دولية مناف�سة بعدما ف�شل‬ ‫االحتاد االوروبي يف �إن�شاء قوة تدخل يف العامل �أو يف حميطه القريب وبعدما تبني �أن الرو�س‬ ‫وال�صينيني ي�سريون كال�سلحفاة لتحقيق م�أربهم فيما يراوح االرنب االمريكي خطاه‪.‬‬

‫عدد رقم ‪� | 1‬أيـار‬

‫‪2013‬‬


‫‪142‬‬

‫املنطقة والعامل‬

‫جاء يف ن�شرة ا�سرتاتيجية االمن القومي االمريكية ال�صادرة عن البيت االبي�ض‪« :‬يف مطلع القرن‬ ‫الواحد والع�شرين تواجه الواليات املتحدة جملة حتديات لأمنها القومي‪ ,‬وكما جنحت يف امل�ساعدة‬ ‫على حتديد م�سار القرن الع�شرين فانها �سوف تبني م�صادر القوة والنفوذ وحتدد النظام العاملي‬ ‫القادرعلى التغلب على حتديات القرن الواحد والع�شرين» ‪ .‬بعد م�ضي عقدين على انتهاء احلرب‬ ‫الباردة يبدو م�شهد العامل املتغري كما يلي‪ :‬منو كبري يف االقت�صاد العاملي‪ ,‬التجارة الدولية تتحكم‬ ‫مب�صري معظم الدول‪ ,‬تو�سعت دائرة الدول الدميوقراطية‪ ,‬تراجع خطر املواجهة النووية‪ ,‬الدميوقراطية‬ ‫تنت�شر وبات عدد ال�شعوب التي تتحكم مب�صريها �أكرب‪ .‬يف املقابل هناك م�شاكل كبرية تواجه هذا‬ ‫العامل �أبرزها �أن احلرب على االيديولوجيات تراجعت لتحل مكانها احلروب الدينية واالثنية‬ ‫والقبلية‪,‬ارتفعت خماطر االنت�شار النووي‪ ,‬ازداد عدم اال�ستقراراالقت�صادي وتراجعت امل�ساواة‬ ‫بني ال�شعوب‪ .‬يت�شارك اجلميع خماطر تلوث البيئة وت�أثريها على الغذاء وال�صحة العامة‪ .‬ميكن‬ ‫القول �إن �أدوات بناء الدول نف�سها ميكن �أن ت�ستخدم لتدمريها‪ .‬ازاء هذا امل�شهد جاءت هجمات‬ ‫‪ 11‬ايلول لتفتح �صفحة جديدة يف خيارات االمريكيني وهي حماربة االرهاب وما يرتتب عليها من‬ ‫�سيا�سات و ا�سرتاتيجيات جديدة ومكلفة‪ .‬و�ضع البيت االبي�ض ا�سرتتيجية ثابتة للواليات املتحدة‬ ‫تخدم م�صاحلها االمنية وال�سيا�سية واالقت�صادية والثقافية انطالقا من التحديات التي يفر�ضها‬ ‫الواقع الدويل الراهن يف �أوائل القرن الواحد والع�شرين ومن الفر�ص التي ي�ؤمنها النظام العاملي‬ ‫اجلديد لتحقيق �أهداف وم�صالح �أمريكا‪.‬‬ ‫حدد البيت االبي�ض �أربعة �أهداف ثابتة لال�سرتاتيجة االمريكية هي االمن ويق�صد به �أمن‬ ‫الواليات املتحدة ومواطنيها وحلفائها و�شركائها‪ .‬واالزدهار �أي حتقيق اقت�صاد �أمريكي قوي ومتطور‬ ‫وخالق �ضمن نظام دويل يوفر الفر�ص و�سبل التقدم ‪ .‬والقيم اي احرتام القيم العاملية داخل‬ ‫الواليات املتحدة وخارجها واحلفاظ على النظام العاملي بقيادة الواليات املتحدة الذي يحقق‬ ‫ال�سالم والأمن ويوفر الفر�ص من �أجل تعاون �أقوى ملواجهة التحديات العاملية‪.‬‬ ‫يف القوة الع�سكرية تعترب الواليات املتحدة من دون نقا�ش االقوى ع�سكريا يف العامل فهي �سيدة‬ ‫البحار ب�أ�ساطيلها املنت�شرة يف جميع البحار واملحيطات واقمارها اال�صطناعية يف الف�ضاء تراقب‬ ‫الكرة االر�ضية ب�أكملها وقواتها الربية منت�شرة يف نحو ‪ 550‬مكانا يف العامل وهي الدولة الوحيدة‬ ‫القادرة على التدخل الع�سكري التقليدي يف جميع �أنحاء العامل‪.‬‬ ‫تتمتع الواليات املتحدة بدبلوما�سية نا�شطة متحركة ال تهد�أ‪ .‬ترى الدبلوما�سيني ي�أتون من‬ ‫وا�شنطن وين�ضمون �إىل ال�سفراء يف املناطق ال�ساخنة ويتابعون �أدق التفا�صيل ومي�سكون مبلفاتهم‬ ‫ويعاجلونها بجدية ويحر�صون على ا�ستمرارها عند كل تغيري لال�شخا�ص امل�س�ؤولني ‪.‬على ال�صعيد‬ ‫اال�ستخباري يوجد يف الواليات املتحدة ‪ 17‬جهاز ا�ستخبارات تن�ضوي حتت �إمرة رئي�س املجموعة‬ ‫اال�ستخبارية (ا�ستحدث هذا التنظيم الرئي�س بو�ش الثاين بعد ‪� 11‬أيلول) و�أهم الأجهزة‪ ،‬وكالة‬ ‫املخابرات املركزية ووكالة الأمن القومي ووكاالت الدفاع واجلي�ش والقوات اجلوية والبحرية‬ ‫(‪)1‬‬


‫الو�ضع اال�سرتاتيجي والع�سكري االمريكي يف العامل‬

‫املنطقة والعامل‬

‫‪143‬‬

‫ومكتب التحقيق الفدرايل وغريها‪.‬‬ ‫حققت الواليات املتحدة تقدما �إقت�صادياً مذهال جعلها ترتبع على عر�ش االقت�صاد العاملي وتهيمن‬ ‫على اقت�صادات العامل وحتول الدوالر االمريكي �إىل عملة دولية‪ .‬عام ‪� 1972‬أعلن الرئي�س نيك�سون‬ ‫وقف االرتباط بني الدوالر والذهب‪ ,‬معترباً �أن قوة االقت�صاد االمريكي هي م�صدر قوة الدوالر‪,‬‬ ‫وبعدها طرحت �أوراقها النقدية من دون تغطية‪ .‬مل يت�أثر االقت�صاد االمريكي �إال قليال نتيجة‬ ‫احداث ‪ 11‬ايلول وبعد االع�صارات التي اجتاحت مناطق عديدة �أبرزها �إع�صار كاترينا الذي‬ ‫زادت خ�سائره على ‪ 100‬مليار دوالر‪ .‬حتى االزمة املالية العاملية االخرية الناجتة عن افال�سات‬ ‫امل�صارف الكربى وتدهور �سوق العقارات ا�ستطاعت الواليات املتحدة مواجهتها باعمال حتفيز‬ ‫وهي كناية عن طرح مبالغ مالية هائلة يف اال�سواق وتعومي البنوك من �أجل حتريك االقت�صاد‬ ‫والتغلب على عدو االقت�صاد االول وهو اجلمود‪.‬‬ ‫بعد �سقوط االحتاد ال�سوفياتي وتفككه �أ�ضحت الواليات املتحدة القوة العظمى الوحيدة يف العامل‬ ‫وال�سلطة التي تتحكم يف م�صري الدول وال�شعوب‪ .‬مع كل ذلك �أوقعت الواليات املتحدة نف�سها‬ ‫يف حربني تقليديتني يف �أفغان�ستان والعراق ا�ستنزفتا مواردها وامكاناتها الع�سكرية واالقت�صادية‪.‬‬ ‫وبدا ان هاتني احلربني �سوف تنتهيان بهزمية وا�ضحة للواليات املتحدة ب�سبب عدم حتقيق �أهدافها‬ ‫بل على العك�س حتققت �أهداف �أعدائها‪ .‬ي�ضاف �إىل هاتني احلربني احلرب على االرهاب التي‬ ‫بد�أت بعد ‪ 11‬ايلول ‪ 2011‬ومل تنته بعد وال يقدر �أن تنتهي يف امل�ستقبل القريب‪.‬‬ ‫�شكل قرار الواليات املتحدة االن�سحاب من العراق يف نهاية ‪ 2011‬واالن�سحاب من �أفغان�ستان يف‬ ‫نهاية ‪� 2014‬شبه هزمية ع�سكرية و�سيا�سية‪ ,‬وقد �أملت املعطيات ال�سيا�سية و االقت�صادية على االدارة‬ ‫اتخاذ هذا القرار ووافق عليه الكونغر�س ب�سبب تفهمه للكلفة العالية للحربني‪ .‬متتد ا�سرتاتيجية‬ ‫الواليات املتحدة �إىل خمتلف جماالت ال�سيا�سة واالمن والدفاع واالقت�صاد والثقافة وغريها‪ ,‬وما‬ ‫يهمنا هو ا�سرتاتيجية االمن لأنها اال�سا�س يف املواجهة مع الهيمنة االمريكية‪.‬‬ ‫نعر�ض للو�ضع اال�سرتاتيجي االمريكي باال�ستناد �إىل اال�سرتاتيجية التي �أعدها البيت االبي�ض‬ ‫وامل�شار �إليها �آنفاً ‪.‬يتميز عر�ض اال�سرتاتيجية بتف�صيل كل املوا�ضيع وك�أنها �أجندة عمل‪ ,‬ال عجب‪,‬‬ ‫فتلك هي الرباغماتية االمريكية البعيدة عن االدبيات املطولة‪.‬‬ ‫اعترب البيت االبي�ض �أن التهديدات التي تواجهها الواليات املتحدة تغريت ب�شكل دراماتيكي‬ ‫خالل ال�سنوات الع�شرين املا�ضية‪ ,‬فبدال عن خ�صم نووي واحد �أي االحتاد ال�سوفياتي ال�سابق‪,‬‬ ‫تتعر�ض لتهديد انت�شار ا�سلحة نووية وو�صولها �إىل �أيدي متطرفني ال ميكن ردعهم عن ا�ستعمالها‪.‬‬ ‫وبدال من التعامل مع امرباطورية كبرية تو�سعية‪ ,‬تواجه الواليات املتحدة عدداً من الدول التي‬ ‫تعتربها متطرفة ومارقة عن ال�شرعية الدولية �أو دول تتهاوى وت�شكل خطراً جراء تفككها‪ .‬باال�ضافة‬ ‫�إىل مواجهة اعدائها يف امليدان التقليدي تواجه �أمريكا خطر احلرب غري املتماثلة (احلرب الثورية‬ ‫عدد رقم ‪� | 1‬أيـار‬

‫‪2013‬‬


‫‪144‬‬

‫املنطقة والعامل‬

‫واالرهاب) وخطر حرب املعلوماتية‪ .‬تبقى م�س�ؤولية الواليات املتحدة حماية مواطنيها واال�ضطالع‬ ‫مب�س�ؤولية احلفاظ على ال�سالم واالمن الدوليني‪ .‬الواليات املتحدة هي الدولة الوحيدة يف العامل‬ ‫القادرة على ن�شر قوات ع�سكرية مقاتلة يف جميع �أنحاء العامل وحتتفظ بقدرات ع�سكرية متفوقة‬ ‫متكنها من �إحلاق الهزمية ب�أي عدو‪ ,‬وردع �أي تهديد وت�أكيد م�صداقيتها جتاه حلفائها و�شركائها‪ .‬يف‬ ‫الداخل تعمد االدارة على تكامل جهود االمن الوطني مع كل متطلبات االمن القومي وتعزيز‬ ‫جهوزية الوحدات املخت�صة ومرونتها يف العمل‪ .‬يف اخلارج‪ ,‬تعزز االدارة حتالفاتها وتقيم �شراكات‬ ‫جديدة وت�ستخدم �أدوات القوة االمريكية من �أجل حتقيق اهدافها ومن �ضمنها ا�ستخدام‬ ‫الدبلوما�سية و تقوية القواعد والنظم الدولية من �أجل عزل احلكومات التي ال تلتزم بها وح�شد‬ ‫التعاون الدويل �ضد الالعبني‪ -‬غريالدول الذين يعر�ضون امنها للخطر‪.‬‬ ‫تتمثل تدابرياالمن يف اال�سرتاتيجية االمريكية النقاط التالية‪:‬‬ ‫تعزيز االمن واملرونة يف العمل على اجلبهة الداخلية‪:‬‬

‫تواجه الواليات املتحدة االخطار املهددة ملواطنيها وهي االرهاب والكوارث الطبيعية والهجمات‬ ‫االلكرتونية املعلوماتية وانت�شار االوبئة‪ .‬ولهذه الغاية يجري تعزيز التدابرياالمنية يف الداخل‬ ‫لردع �أي هجمات وحماية البنى التحتية واملوانىء البحرية واجلوية والنقاط احلدودية وال�سواحل‬ ‫واالجواء وتن�سيق اجلهود الفدرالية واملحلية واالهلية لتحقيق هذه االهداف‪.‬‬ ‫ �إتخاذ تدابري فعالة ملواجهة حاالت الطوارىء‪ :‬تقوم االدارة ببناء كل االمكانات املطلوبة من‬ ‫اجل مواجهة الكوارث والتخفيف من �أ�ضرارها‪ ,‬والت�أكد من توحيد كل اجلهود وامل�ؤ�س�سات‬ ‫املعنية بعمليات االنقاذ واالغاثة تطوير‪ ,‬وتعزيز االمكانات التقنية واالت�صاالت وتخطيط برامج‬ ‫العمل على خمتلف امل�ستويات احلكومية من �أجل �سرعة املواجهة وجناحها‪.‬‬ ‫ حت�صني املجتمع �ضد الراديكالية‪ :‬ح�صلت م�ؤخرا �أعمال �إرهابية قام بها مت�شددون �أعدوا‬ ‫انف�سهم للعمل يف داخل البالد وخارجها وتبني �أنه قد مت تن�شئتهم يف داخل البالد‪ .‬تقوم‬ ‫احلكومة الفدرالية باتخاذ تدابري لتوعية العائالت واملجتمعات وامل�ؤ�س�سات‪ .‬تخ�ص�ص احلكومة‬ ‫الفدرالية جهودا ا�ستخبارية من �أجل تفهم هذا التهديد وحث املجتمعات على مواجهته‬ ‫واعداد برامج لهذه الغاية‪ .‬وتقوم �أي�ضاً بناء على خربة الوكاالت احلكومية ومواردها‪ ,‬باال�صغاء‬ ‫�إىل هواج�س املجتمع ومنع الهجمات على الداخل االمريكي و�إعداد �سيا�سات تتما�شى مع‬ ‫اهتمامات املجتمعات للحفاظ على التعددية واعتبارها م�صدر قوة �أمريكياً‪.‬‬ ‫ حت�سني الليونة يف العمل من خالل �شراكة بني القطاعني اخلا�ص والعام‪ :‬عند ح�صول حوادث‬ ‫يجب �أن تظهر االدارة مرونتها يف اخلروج من الو�ضع اال�ستثنائي واال�سراع يف العودة �إىل‬


‫الو�ضع اال�سرتاتيجي والع�سكري االمريكي يف العامل‬

‫ ‬

‫املنطقة والعامل‬

‫‪145‬‬

‫احلياة الطبيعية‪ .‬يجب االهتمام بالقطاع اخلا�ص لأنه ميتلك معظم موارد البالد وبناها التحتية‬ ‫ويلعب دورا هاما يف �أعمال االغاثة‪ .‬يجب �إيجاد حوافز للحكومة والقطاع اخلا�ص من �أجل‬ ‫و�ضع هيكليات وخمططات وانظمة تخفف من التعر�ض لال�ضرار‪ ,‬و ت�شجيع اال�ستثمار يف‬ ‫التح�سينات على البنى التحتية‪.‬‬ ‫التعامل مع اجلماعات واملواطنني‪ :‬يجب الت�أكيد على واجب االفراد واجلماعات يف توفري‬ ‫املعلومات املطلوبة املتعلقة باالخطار الطارئة والت�شديد على اتخاذ خطوات عملية متكن جميع‬ ‫االمريكيني من حماية �أنف�سهم وعائالتهم و جريانهم وجمتمعهم‪.‬‬

‫تفكيك و�رضب تنظيم القاعدة والتنظيمات املتطرفة العنيفة التابعة له يف افغان�ستان‬ ‫وباك�ستان جميع انحاء العامل‪:‬‬

‫ت�شن الواليات املتحدة حربا وا�سعة على تنظيم القاعدة من �أجل الق�ضاء عليه وتعتمد يف هذه‬ ‫احلرب ا�سرتاتيجية احلماية يف الداخل واملحافظة على اال�سلحة الفتاكة‪ ,‬ومنع و�صولها �إىل‬ ‫القاعدة‪ ,‬ومنع القاعدة من احل�صول على مالذ �آمن يف العامل‪ .‬وتعمل على بناء �شراكات ايجابية‬ ‫مع اجلماعات اال�سالمية يف جميع انحاء العامل‪ .‬تلحظ اال�سرتاتيجية االمريكية يف حماربة القاعدة‬ ‫اجراءات عديدة هي‪:‬‬ ‫ منع الهجمات على االرا�ضي االمريكية وداخلها‪ :‬من �أجل منع العمليات االرهابية على‬ ‫االرا�ضي االمريكية يجب ت�ضافر جهود اال�ستخبارات وال�ضابطة العدلية وجهاز ال�شرطة والأمن‬ ‫الداخلي و�أن تت�شارك جميعها املعلومات اال�ستخبارية وتو�صلها �إىل م�س�ؤويل اال�ستخبارات‬ ‫واملحللني و�ضباط مكافحة االرهاب‪ .‬يجب التن�سيق مع ال�شركاء يف اخلارج من �أجل حتديد‬ ‫م�صدر متويل االرهاب وتعقبه والو�صول �إليه‪ .‬يجب تعزيز التعاون الثنائي مع الدول ومن‬ ‫خالل املنظمات االقليمية والدولية لتن�سيق اجلهود الدولية ملنع العمليات االرهابية‪.‬‬ ‫ تقوية الأمن اجلوي‪ :‬من املعروف �أن الطريان الدويل هو هدف �أ�سا�سي لتنظيم القاعدة‬ ‫والتنظيمات التي تدور يف فلكه‪ .‬تقوم الواليات املتحدة بتعزيز االمن اجلوي يف العامل بالرتكيز‬ ‫على جمع املعلومات وفح�ص الركاب واجراءات التفتي�ش وا�ستخدام �أجهزة امل�سح املتطورة‬ ‫وتعزيز قواعد االمان يف الطريان الدويل‪.‬‬ ‫ منع االرهابيني من الو�صول �إىل �أ�سلحة الدمار ال�شامل‪ :‬من �أجل منع وقوع �أ�سلحة الدمار‬ ‫ال�شامل بيد االرهابيني تتخذ الواليات املتحدة حزمة اجراءات لتكثيف اجلهود حلماية جميع‬ ‫املواد النووية وفق برنامج زمني حتى نهاية العام ‪ 2013‬ومنع �إنت�شار اال�سلحة النووية‪ .‬كما تتخذ‬ ‫�إجراءات حلماية االمكانات واملعلومات يف العلوم الكيميائية التي ت�ؤدي �إىل �إ�ساءة ا�ستعمالها‪.‬‬ ‫عدد رقم ‪� | 1‬أيـار‬

‫‪2013‬‬


‫املنطقة والعامل‬

‫‪146‬‬ ‫ ‬

‫ ‬

‫ ‬

‫منع القاعدة من تهديد الواليات املتحدة ومواطنيها و�شركائها وحلفائها وم�صاحلها يف جميع‬ ‫�أنحاء العامل‪ :‬تعمل الواليات املتحدة على منع القاعدة �أو �أي من حلفائها من �أن تكت�سب �أي‬ ‫قدرة على تخطيط وتنفيذ هجمات ارهابية خ�صو�صا �ضد الواليات املتحدة‪ .‬يعد تنظيم القاعدة‬ ‫يف باك�ستان االخطر يف العامل ومع ذلك تواجه الواليات املتحدة تهديدات من �أماكن �أخرى‬ ‫يف العامل وت�سعى ال�سلطات االمريكية �إىل منع القاعدة واملنظمات التابعة لها من التخطيط‬ ‫والتدريب لالرهاب وتطويع االرهابيني ومتركزهم يف جميع بالد العامل ومن �ضمنها �أوروبا‬ ‫و�أمريكا ال�شمالية‪.‬‬ ‫باك�ستان و�أفغان�ستان‪ :‬يعترب هذان البلدان مركز الثقل لتنظيم القاعدة‪ .‬يف �أفغان�ستان ت�سعى‬ ‫الواليات املتحدة ملنع القاعدة من �أي مالذ �آمن‪ ,‬ومنع طالبان من االطاحة باحلكومة االفغانية‪,‬‬ ‫ودعم قوات االمن االفغانية واحلكومة‪ ,‬لتتمكن من تويل امل�س�ؤولية يف البالد‪ .‬يف باك�ستان‬ ‫تعمل مع احلكومة الباك�ستانية ملواجهة التهديدات املحلية واالقليمية والدولية من االرهابيني‪.‬‬ ‫تتحقق هذه االهداف من خالل اخلطوات الثالث التالية‪:‬‬ ‫ تتابع القوات االمريكية وقوات حلف �شمال االطل�سي «�إي�ساف» ا�ستهداف املتمردين‬ ‫وحماية املدن والتجمعات ال�سكنية وزيادة دعم تدريب القوات االفغانية من �أجل انتقال‬ ‫امل�س�ؤولية يف امل�ستقبل �إىل احلكومة االفغانية‪.‬‬ ‫ العمل مع ال�شركاء يف االمم املتحدة واحلكومة االفغانية من اجل توفري خربة ودراية يف‬ ‫احلكم‪ .‬تدعم الواليات املتحدة الرئي�س االفغاين واحلكومة والوزارات واملحافظني واحلكام‬ ‫املحليني ملكافحة الف�ساد وتقدمي اخلدمات الالزمة للمواطنني والت�أكيد على املحافظة على‬ ‫حقوق االن�سان لدى ال�شعب االفغاين ‪ -‬رجاال ون�ساء‪ .‬ت�ؤكد الواليات املتحدة على‬ ‫ا�ستقرار �أفغان�ستان وازدهارها‪.‬‬ ‫ تعزيز العالقة مع باك�ستان ا�ستنادا �إىل امل�صالح امل�شرتكة واالحرتام املتبادل‪ .‬من �أجل‬ ‫التغلب على االرهابيني الذين يهددون البلدين �ستعزز الواليات املتحدة قدرة باك�ستان‬ ‫على ا�ستهداف االرهابيني داخل �أرا�ضيها وتقدم لها م�ساعدات امنية‪ .‬كما �ستقدم‬ ‫م�ساعدات ل�سد احتياجات ال�شعب الباك�ستاين من �أجل بناء �شراكة ا�سرتاتيجية وتقوية‬ ‫التعاون يف جماالت عديدة‪.‬‬ ‫حرمان القاعدة من املالذات االمنة وتقوية الدول املهددة‪� :‬ستواجه الواليات املتحدة تنظيم القاعدة‬ ‫يف �أي مكان يقيم فيه مالذا �آمناً مثل اليمن وال�صومال واملغرب وال�ساحل االفريقي الغربي بكل‬ ‫ال�ضغوط‪ .‬و�ستقوي �شبكة حلفائها من �أجل تعطيل القدرات الب�شرية واملالية واملخططات‪ ,‬و�إحباط‬ ‫خمططات العمليات االرهابية قبل تنفيذها‪� .‬سترتكز اجلهود على تبادل املعلومات اال�ستخبارية‬ ‫والتعاون يف التحقيقات وخلق ممار�سات جديدة من التعاون ملواجهة الأعداء امل�شرتكني‪.‬‬


‫الو�ضع اال�سرتاتيجي والع�سكري االمريكي يف العامل‬

‫املنطقة والعامل‬

‫‪147‬‬

‫ اعتماد معايري العدالة الثابتة واحلا�سمة‪ :‬اعتماد مقاربات قانونية تن�سجم مع القيم االمريكية يف‬ ‫احتجاز املتهمني وا�ستجوابهم‪ .‬يجب جلب االرهابيني �إىل العدالة وااللتزام بحكم القانون ‪.‬‬ ‫ مقاومة اخلوف واملبالغة يف ردود الفعل‪ :‬من املعروف �أن هدف االعمال االرهابية هو بث الذعر‬ ‫فاذا اعرتانا اخلوف نكون قد حققنا هدف االرهابيني‪� .‬إن املبالغة يف ردود الفعل على العمليات‬ ‫االرهابية ت�ؤدي �إىل �شرخ بني الواليات املتحدة وبع�ض املناطق واالديان و�ست�ؤدي �إىل تقوي�ض‬ ‫عمل القيادة االمريكية وجتعل الواليات املتحدة �أقل �أمناً‪.‬‬ ‫ التباين بني نوايا القاعدة بالتدمري واميان الواليات املتحدة بالبناء‪ :‬فيما تعمد القاعدة على‬ ‫التدمري �سوف تو�ضح الواليات املتحدة نواياها يف بناء اجل�سور بني ال�شعوب من خمتلف‬ ‫املناطق واملعتقدات و�سوف ت�ستمر بالعمل حلل النزاع العربي‪-‬اال�سرائيلي الذي يعترب م�صدر‬ ‫توتر منذ زمن طويل‪ .‬و�ستقف �إىل جانب حقوق كل ال�شعوب مبن فيهم الذين تختلف معهم‪.‬‬ ‫وتقيم �شراكات مع جمموعات ا�سالمية يف جميع انحاء العامل‪.‬‬ ‫يف جمال ال�صحة والتعليم واالبتكارات‪ ,‬ويف جمال الت�أكيد على العالقة مع امل�سلمني �ست�ؤكد على‬ ‫التزامها بدعم تطلعات ال�شعوب لتحقيق الأمن وخلق الفر�ص‪ .‬و�أخرياً ترف�ض الواليات املتحدة‬ ‫الكالم عن ان القاعدة متثل اية �سلطة دينية‪ .‬وتعترب �أنها لي�ست القيادة الدينية بل جمموعة من‬ ‫القتلة لأن اال�سالم مثل �سائر االديان ال ير�ضى بقتل االبرياء‪.‬‬ ‫منع انت�شار اال�سلحة البيولوجية والنووية واملحافظة على املواد النووية‪:‬‬

‫�إن �أخطر ما يواجه ال�شعب االمريكي هو هجوم �إرهابي با�ستخدام ال�سالح النووي‪ ,‬كما ي�ؤدي‬ ‫انت�شار اال�سلحة النووية �إىل تهديد لالمن وال�سالم الدوليني‪ .‬بعد انتهاء احلرب الباردة ازداد خطر‬ ‫الهجوم با�ستخدام اال�سلحة النووية‪ .‬بقي خمزون اال�سلحة النووية على حاله وامتلكت مزيد من‬ ‫الدول ال�سالح النووي‪ .‬وا�ست�ؤنفت التجارب النووية‪� .‬شهدت ال�سوق ال�سوداء االجتار بالأ�سرار‬ ‫واملواد النووية وظهر ت�صميم االرهابيني على �شراء ال�سالح النووي �أو �صنعه �أو �سرقته‪� .‬ستبذل‬ ‫الواليات املتحدة �أق�صى جهودها من �أجل احتواء املواد النووية‪ ,‬ولهذه الغاية تقوم مبا يلي‪:‬‬ ‫ متابعة حتقيق هدف «عامل خال من الأ�سلحة النووية»‪ :‬علما �أن هذا الهدف لن يتحقق يف‬ ‫والية هذه االدارة ‪.‬تلتزم الواليات املتحدة ا�ستنادا �إىل معاهدة احلد من انت�شار اال�سلحة‬ ‫الكيماوية والبيولوجية والنووية �أن تتعاون مع رو�سيا والدول االخرى من �أجل زيادة امل�صداقية‬ ‫يف حما�سبة االخرين على التزامهم مبوجبات املعاهدة‪ .‬طاملا �أنّ اال�سلحة النووية موجودة فان‬ ‫الواليات املتحدة تلتزم باالحتفاظ برت�سانة نووية كافية من �أجل ردع خ�صومها والت�أكيد‬ ‫حللفائها على احرتام التزاماتها االمنية‪ .‬وقعت الواليات املتحدة مع رو�سيا معاهدة «�ستارت»‬ ‫عدد رقم ‪� | 1‬أيـار‬

‫‪2013‬‬


‫املنطقة والعامل‬

‫‪148‬‬

‫ ‬

‫ ‬

‫ ‬

‫ ‬

‫للحد من انت�شار الأ�سلحة اال�سرتاتيجية التي حتدد عدد الر�ؤو�س النووية وو�سائل االطالق‬ ‫وطرق املراقبة‪ .‬الواليات املتحدة ب�صدد تخفيف االعتماد على اال�سلحة النووية يف مقاربتها‬ ‫االمنية والت�أكيد على عدم ا�ستعمال اال�سلحة النووية �ضد الدول التي ال متتلكها وتلتزم‬ ‫مبوجبات معاهدة احلد من انت�شار اال�سلحة النووية وبعدم �إنتاج �سالح نووي‪ .‬و�ستتابع م�صادقة‬ ‫الدول على معاهدة منع �إجراء التجارب النووية‪.‬‬ ‫تقوية العمل مبعاهدة منع انت�شار الأ�سلحة النووية‪� :‬إن جوهر معاهدة احلد من انت�شار اال�سلحة‬ ‫النووية هو ان الدول التي حتوزعلى هذه اال�سلحة تتجه �إىل نزعه والدول التي ال متتلك هذا‬ ‫ال�سالح متتنع عن حيازته وجلميع الدول حق احل�صول على الطاقة النووية ال�سلمية‪.‬من اجل‬ ‫تقوية هذه املعاهدة يجب �أن ت�سعى �إىل مزيد من ال�صالحيات واملوارد يف �أعمال التفتي�ش‪.‬‬ ‫يجب الت�أكد من �أن جميع الدول تفي بالتزاماتها يف هذه املعاهدة و�أن تتخذ تدابري �ضد الدول‬ ‫غري امللتزمة‪.‬‬ ‫تقدمي خيار وا�ضح اليران ولكوريا ال�شمالية‪ :‬ت�سعى الواليات املتحدة �إىل �إزالة ال�سالح النووي‬ ‫من �شبه اجلزيرة الكورية ومنع �إيران من حيازته‪ .‬انه لي�س ا�ستفرادا لدول لكن �إذا تخل�صت‬ ‫كوريا ال�شمالية من ال�سالح النووي وامتنعت ايران عن بناء �سالح نووي فهذا ي�ؤدي �إىل‬ ‫تكاملهما مع املجتمع الدويل‪� .‬أما �إذا مل يح�صل ذلك فان هناك و�سائل �أخرى لزيادة عزلهما‬ ‫حلني موافقتهما على التخل�ص من هذه اال�سلحة‪.‬‬ ‫املحافظة على اال�سلحة واملواد النووية املعر�ضة ل�سوء اال�ستخدام‪ :‬يف عام ‪ 2010‬ومببادرة‬ ‫امريكية اجتمعت قمة االمن النووي العاملي بح�ضور ‪ 47‬دولة بهدف املحافظة على املواد‬ ‫النووية من خطر �سيطرة االرهابيني عليها‪ .‬يف نهاية عام ‪� 2013‬سوف ت�سعى الواليات املتحدة‬ ‫اىل الرتكيز على قيام جهود دولية من �أجل الت�أكد من املحافظة على املواد النووية املعر�ضة‬ ‫ل�سوء اال�ستخدام وتعزيز حمايتها و�إجراء م�ساءالت عنها بالتعاون مع امل�ؤ�س�سات الدولية‪,‬‬ ‫واقامة �شراكات جديدة القفال هذا املو�ضوع‪� .‬ستقوم الواليات املتحدة باطالق مبادرة �أمن‬ ‫انت�شار اال�سلحة النووية‪ ,‬واملبادرة العاملية ملحاربة االرهاب النووي‪ ,‬من �أجل البحث عن املواد‬ ‫النووية واعرتا�ضها اثناء نقلها ومنع االجتار بالتكنولوجيا النووية‪.‬‬ ‫دعم الطاقة النووية ال�سلمية‪ :‬فيما تتحرك بع�ض الدول النتاج الكهرباء من الطاقة النووية‬ ‫يجب التحقق من �أن تلك الدول تطور بنى حتتية من �أجل �ضمان انتاج الطاقة ب�سالمة و�أمان‪.‬‬ ‫ت�سعى الواليات املتحدة من اجل توفريالهيئات املخت�صة وتدريب املوظفني املعنيني وتعميم‬ ‫قواعد االمان ملنع العمليات االرهابية يف املجال النووي وت�أمني التعامل ب�سالمه مع الوقود‬ ‫النووي يف �أول العمليات و�آخرها ‪.‬‬


‫الو�ضع اال�سرتاتيجي والع�سكري االمريكي يف العامل‬ ‫ ‬

‫املنطقة والعامل‬

‫‪149‬‬

‫مواجهة التهديدات البيولوجية‪� :‬إن انت�شار العوامل البيولوجية القاتلة يف املناطق ال�سكنية‬ ‫ي�ؤدي �إىل موت �أعداد كبرية من ال�سكان وي�ؤثر على االو�ضاع االقت�صادية وال�سيا�سية‬ ‫واالجتماعية‪ .‬تعمل االدارة االمريكية مع �شركاء يف الداخل واخلارج للحماية من التهديدات‬ ‫البيولوجية بن�شر قواعد ال�صحة العامة الدولية‪ ,‬وتعزيز تدابري االمان واالطالع الدائم على‬ ‫املخاطر احلالية واملرتقبة وتعزيز القدرات من �أجل منع الهجمات البيولوجية ‪,‬وتوقيف من‬ ‫يقوم بهذا العمل‪ ,‬وت�أمني االت�صال مع املعنيني باالخطار البيولوجية‪ ,‬و�إطالق حوار دويل حول‬ ‫التهديدات البيولوجية‪.‬‬

‫دفع عملية ال�سالم واالمن وحتقيق الفر�ص يف ال�رشق االو�سط الكبري‬

‫متلك الواليات املتحدة م�صالح هامة يف ال�شرق االو�سط الكبري تت�ضمن‪:‬‬ ‫ التعاون يف جماالت عديدة مع »�صديقتها املقربة �إ�سرائيل» وااللتزام الثابت بامنها‪.‬‬ ‫ حتقيق تطلعات ال�شعب الفل�سطيني يف �إقامة دولته‪ ,‬و�إتاحة الفر�ص �أمامه‪ ,‬وحتقيق طموحاته‬ ‫املميزة‪.‬‬ ‫ وحدة العراق و�أمنه ودعم الدميوقراطية فيه و�إعادة تكامله مع حميطه‪.‬‬ ‫ حتويل ال�سيا�سة االيرانية بعيدا عن �سعيها المتالك اال�سلحة النووية ودعمها »االرهاب وتهديد‬ ‫الدول املجاورة»‪.‬‬ ‫ منع انت�شار اال�سلحة النووية والتعاون يف مكافحة االرهاب‪ ,‬وا�ستك�شاف موارد الطاقة وتكامل‬ ‫املنطقة يف اال�سواق العاملية‪.‬‬ ‫�إن عالقة الواليات املتحدة مع ا�صدقائها اال�سرائيليني والعرب تتجاوز االلتزامات االمنية نحو‬ ‫التجارة والتبادل والتعاون يف م�سائل عديدة‪.‬‬ ‫�أهم الق�ضايا اال�سرتاتيجية �أمام الواليات املتحدة يف ال�شرق الأو�سط الكبري هي‪:‬‬ ‫ مع نهاية احلرب يف العراق �إنهاء مرحلة انتقالية جادة‪ :‬تعترب الواليات املتحدة �إن احلرب‬ ‫على العراق ت�شكل حتدياً كبرياً لها وللمجتمع الدويل ولل�شعب العراقي وللمنطقة بكاملها‪,‬‬ ‫وهي تهدف اىل عراق �سيد م�ستقل معتمد على نف�سه‪ ,‬وت�سعى �إىل قيام حكومة عراقية متثل‬ ‫ال�شعب‪ ,‬وتخ�ضع للم�ساءلة ومتنع االرهابيني من احل�صول على مالذ �آمن يف البالد‪ .‬ت�سعى‬ ‫الواليات املتحدة لتحقيق هذه الأهداف باعتماد ا�سرتاتيجية تت�ألف من ثالثة مكونات‪:‬‬

‫عدد رقم ‪� | 1‬أيـار‬

‫‪2013‬‬


‫املنطقة والعامل‬

‫‪150‬‬

‫ ‬

‫�أ‪� -‬أمن املرحلة االنتقالية‪� :‬سوف ت�سحب الواليات املتحدة قواتها من العراق التزاما باالتفاقية‬ ‫املعقودة مع احلكومة العراقية‪� .‬سوف ت�ستمر بتدريب وجتهيز قوات االمن العراقية وتقدمي‬ ‫امل�شورة لها وتنفيذ مهمات حمددة ملكافحة االرهاب‪ ,‬و�سوف تنقل امل�س�ؤولية الأمنية‬ ‫بكاملها �إىل احلكومة العراقية‪.‬‬ ‫ب‪ -‬دعم امل�ؤ�س�سات املدنية‪ :‬مع حت�سن الو�ضع االمني �سوف تتو�سع امل�ساعدات املدنية‬ ‫االمريكية للعراق و�سوف حتافظ الواليات املتحدة على ن�شاطها ال�سيا�سي والدبلوما�سي‬ ‫واملدين من �أجل حل اخلالفات بني العراقيني‪ ,‬وتكامل الالجئني واملهجرين العائدين يف‬ ‫املجتمع‪ ,‬وتطوير م�ؤ�س�سات دميوقراطية خا�ضعة للم�ساءلة‪� .‬ستعمل الواليات املتحدة مع‬ ‫احلكومة العراقية لتطبيق اتفاقية االطار اال�سرتاتيجي‪ ,‬مع احلر�ص �أن تتوىل وزارة اخلارجية‬ ‫االمريكية زمام القيادة‪ .‬تت�ضمن هذه االتفاقية التعاون يف جماالت الدفاع والأمن‬ ‫والدبلوما�سية وال�سيا�سة والتعليم وال�صحة والعلوم وحكم القانون‪.‬‬ ‫ج‪ -‬الدعم يف جمال الدبلوما�سية االقليمية والتنمية‪� :‬سوف تتابع الواليات املتحدة ن�شاطها يف‬ ‫املنطقة للت�أكد من �أن ان�سحاب القوات االمريكية من العراق يوفر فر�صة لتثبيت اال�ستقرار‬ ‫والتنمية امل�ستدامة يف العراق ودول املنطقة‪�.‬ستحافظ الواليات املتحدة على وجود مدين‬ ‫يف املنطقة ي�ؤمن م�صاحلها اال�سرتاتيجية يف العراق واملنطقة‪.‬‬ ‫متابعة عملية ال�سالم العربية اال�سرائيلية‪ :‬تعترب الواليات املتحدة �أنها و�إ�سرائيل والفل�سطينيني‬ ‫والدول العربية لها م�صلحة يف حتقيق ت�سوية �سلمية للنزاع العربي اال�سرائيلي تقوم عل حتقيق‬ ‫�آمال اال�سرائيليني والفل�سطينيني يف احلفاظ على �أمنهم وكرامتهم‪ ,‬ويحقق ال�سرائيل ال�سالم‬ ‫ا ّالمن والدائم مع جميع جريانها‪ .‬ت�سعى الواليات املتحدة �إىل حل دولتني تعي�شان جنبا �إىل‬ ‫جنب ب�سالم و�أمن‪ :‬دولة يهودية تعي�ش يف �أمن حقيقي ومقبولة ويتمتع اال�سرائيليون فيها‬ ‫بجميع حقوقهم ودولة فل�سطينية يف االرا�ضي املجاورة و�إنهاء االحتالل الذي بد�أعام ‪1967‬‬ ‫و حتقيق �آمال ال�شعب الفل�سطيني‪� .‬سوف ت�ستمر الواليات املتحدة بالعمل مع من و�صفتهم‬ ‫بال�شركاء الذين اعتربت بان «لهم ميولنا وعقليتنا» يف املنطقة من �أجل م�سائل الو�ضعية‬ ‫الدائمة وهي‪� :‬أمن �إ�سرائيل والفل�سطينيني‪ ,‬واحلدود‪ ,‬والالجئني‪ ,‬والقد�س‪ .‬وت�سعى �أي�ضاً‬ ‫�إىل احل�صول على دعم دويل لبناء م�ؤ�س�سات الدولة الفل�سطينية ودعم التنمية االقت�صادية‪.‬‬ ‫تعترب الواليات املتحدة �أن ال�سالم العربي اال�سرائيلي لن يكون دائما �إال �إذا انتهى التدخل‬ ‫االقليمي «امل�ؤذي»‪ .‬فيما ت�سعى الواليات املتحدة �إىل �سالم فل�سطيني ا�سرائيلي فانها تعمل‬ ‫اي�ضا على �سالم ا�سرائيلي‪ -‬لبناين وا�سرائيلي‪� -‬سوري و�سالم �شامل مع كل جريانها‪ .‬وتتعاون‬ ‫الواليات املتحدة لهذه الغاية مع مبادرات �إقليمية وم�شاركات متعددة االطراف ومفاو�ضات‬ ‫ثنائية‪.‬‬


‫الو�ضع اال�سرتاتيجي والع�سكري االمريكي يف العامل‬

‫املنطقة والعامل‬

‫‪151‬‬

‫ ال�سعي لتحويل �إيران �إىل دولة م�س�ؤولة‪ :‬تعترب الواليات املتحدة �أن �إيران منذ عقود عر�ضت‬ ‫الأمن يف املنطقة ويف الواليات املتحدة للخطر وف�شلت يف االلتزام مب�س�ؤولياتها الدولية‪.‬‬ ‫باال�ضافة �إىل برناجمها النووي الغام�ض‪ ,‬ف�إنها ت�ستمر بدعم االرهاب وتقوي�ض ال�سالم بني‬ ‫�إ�سرائيل والفل�سطينيني وحرمان �شعبها من حقوقه االن�سانية‪ .‬م�ضت �سنوات عديدة على‬ ‫مقاطعة �إيران ومل تغري�سلوكها‪ ,‬وعلى العك�س �أ�صبح هذا ال�سلوك ي�شكل تهديدا‪ .‬ميكن �إجراء‬ ‫احلوار مع �إيران من دون وهم‪ ,‬وميكن �أن يقدم لإيران طريق نحو م�ستقبل �إذا كان القادة‬ ‫الإيرانيون جاهزين لذلك وم�ستعدين لتغيري �سلوكهم وا�ستعادة ثقة املجتمع الدويل بهم و�أوفوا‬ ‫بالتزاماتهم الدولية‪ .‬و�إذا �أ�صرت احلكومة الإيرانية على رف�ض االلتزامات الدولية فانها �سوف‬ ‫تواجه املزيد من العزل‪.‬‬ ‫ت�شكل الفقرات �أعاله دليل عمل الجهزة االدارة االمريكية يف التعامل مع االزمات وامل�شاكل‬ ‫وفقا للخطوط العامة‪ .‬لكن ال ميكننا بكل ب�ساطة القبول ب�أن هذه هي اال�سرتاتيجية االمريكية رغم‬ ‫انها ر�سمية ومعتمدة يف االدارة‪ .‬ت�شري تطور االحداث �إىل �أن هناك ا�سرتاتيجية غري معلنة تت�ضمن‬ ‫�سلوكا ا�ستخباريا ي�ؤدي �إىل تطورات �سيا�سية تتم معاجلتها وفقا لال�سرتاتيجية املعلنة‪� .‬صدرت‬ ‫عدة كتب لعمالء �سابقني يف وكالة اال�ستخبارات االمريكية حتدثوا فيها عن عمليات اغتيال‬ ‫وحتري�ض وقلب انظمة ور�شاوى قامت بها االدارة االمريكية يف عدد كبري من دول العامل و�أبرزها‬ ‫كتاب «ارث الرماد» ت�أليف تيم ويرن �صادر عام ‪ 2009‬وكتاب «احلجاب» لبوب وودورد �صادر عام‬ ‫‪ .1988‬وهذا ما يدفعنا لالعتقاد �أن هناك ا�سرتاتيجية موازية تت�ضمن ا�ستخدام جميع ال�سبل من‬ ‫اجل مواكبة تنفيذ اال�سرتاتيجية املعلنة‪ .‬ومثال على ذلك تواكب ن�شاطات �أجهزة اال�ستخبارات‬ ‫التدابري اال�سرتاتيجية املعلنة جتاه �إيران‪ .‬يف ق�ضية الغمو�ض النووي‪ ,‬ت�شن عمليات ا�ستخبارية من‬ ‫�أجل التعرف على الربنامج النووي ووقفه عند حد معني‪ ,‬وفيما يتعلق باالرهاب تدفع الواليات‬ ‫املتحدة بكل طاقاتها من �أجل �شن عمليات ا�ستخبارية ملكافحة ما تعتربه االرهاب يف ايران‬ ‫والعامل‪ .‬ينطبق هذا على ا�سرتاتيجية الواليات املتحدة يف النزاع العربي‪-‬اال�سرائيلي يف تكري�س‬ ‫اجلهد اال�ستخباري ملا ت�سميه مكافحة االرهاب والتدخالت االقليمية امل�ؤذية لعملية ال�سالم‪.‬‬ ‫بعد ان�سحاب القوات الع�سكرية االمريكية من العراق و�أفغان�ستان �ستتغري قواعد اللعبة‪ ,‬لن يكون‬ ‫هناك تدخل ع�سكري جديد للواليات املتحدة على منط التدخل يف العراق وافغان�ستان‪ ,‬ويح�ضر‬ ‫املثل الليبي للتدخل عن بعد با�ستخدام التكنولوجيا يف الطريان احلربي احلديث ورمبا �صواريخ‬ ‫كروز التي تطلق من الغوا�صات �أو ال�سفن احلربية لكن �إمكانية مواكبتها بعمليات برية مل تعد‬ ‫واردة‪� .‬سوف حتر�ص الواليات املتحدة على عدم الزج بقواتها الربية يف احتالالت ونزاعات جديدة‪.‬‬ ‫كيف حتقق الواليات املتحدة �أهدافها؟ بغياب �أي احتمال ل�ضربات ع�سكرية مرفقة بعمليات برية‬ ‫ميكن للواليات املتحدة اعتماد �أحد اخليارات التالية‪:‬‬

‫عدد رقم ‪� | 1‬أيـار‬

‫‪2013‬‬


‫املنطقة والعامل‬

‫‪152‬‬ ‫ ‬

‫ ‬

‫خيار الق�صف اجلوي والبحري املدمر �ضد دولة تعار�ض �سيا�ستها بغية �أرغامها على العودة‬ ‫�إىل احلظرية االمريكية‪ .‬وهنا يبدو املثل االيراين حا�ضراً �أمامنا‪ .‬هل توجه الواليات املتحدة‬ ‫�ضربة ع�سكرية �إىل �إيران؟ تتجه التقديرات �إىل ا�ستبعاد مثل هذه ال�ضربة لعدم اقت�صارها على‬ ‫الق�صف وتوفر امكانية عالية لتو�سع احلرب �إىل مواجهات برية وتهديدات للم�صالح االمريكية‬ ‫االمر الذي يحتم عليها التدخل الربي والتورط جمددا يف حرب لن تنتهي �إال بخ�سارتها‪,‬‬ ‫ف�ضال عن �أن االقت�صاد االمريكي امل�أزوم لن يتحمل مثل هذا التدخل‪.‬‬ ‫خيار م�ساندة ا�سرائيل يف توجيه �ضربة �إىل �إيران‪ :‬لي�س �سراً �أن االدارة االمريكية احلالية‬ ‫وحتى ال�سابقة ال حتبذ �أية �ضربة ا�سرائيلية اىل ايران النها الترى فيها بوادر النجاح يف وقف‬ ‫الربنامج النووي‪ ,‬ويح�ضرنا هنا قول وزير الدفاع االمريكي ليون بانيتا يف حما�ضرة له يف معهد‬ ‫بروكنغز ح�ضرها نخبة م�ؤيدي �إ�سرائيل يف الواليات املتحدة‪�« ,‬أن ال�ضربة الع�سكرية اليران‬ ‫توقف الربنامج النووي �سنة �أو اثنني على االكرث وانه يف�ضل ا�ستخدام الدبلوما�سية واالقت�صاد‬ ‫الرغام ايران على التخلي عن م�شروعها النووي»‪.‬‬ ‫مبا �أن كال اخليارين �صعب �إىل درجة اال�ستبعاد فان الواليات املتحدة جل�أت �إىل نوع جديد‬ ‫من احلرب وهو احلرب الناعمة وهي احلرب با�ستخدام ال�سيا�سة والدبلوما�سية واالقت�صاد‬ ‫واملال واالعالم واال�ستخبارات والعمليات ال�سرية من �أجل الق�ضاء على النظام احلاكم يف‬ ‫الدولة املعار�ضة وتقوي�ض الالعبني من غري الدول‪ .‬هذه احلرب هي جارية حاليا وتخو�ضها‬ ‫الواليات املتحدة بكل �إمكاناتها وقدراتها الذكية وعلى جميع اجلبهات املذكورة‪� .‬إنها‬ ‫ت�ستهدف نقاط ال�ضعف البنيوية يف الدول املعار�ضة من تركيبتها االثنية والدينية واملذهبية‬ ‫والقبلية �إىل امكاناتها االقت�صادية واملوارد ال�ضرورية والطاقة واالو�ضاع املالية �إىل العالقات‬ ‫ال�سيا�سية والدبلوما�سية مع املجتمع الدويل ودول االقليم واو�ضاع احلريات والدميوقراطية‬ ‫والثقافات واالو�ضاع االجتماعية‪ .‬تلعب احلرب الناعمة على هذه االنق�سامات وت�ستح�ضر‬ ‫من التاريخ الوقائع واحلروب والنزاعات التي تلهب احلما�س فيما تغيب �أطول مراحل التاريخ‬ ‫التي �شهدت تعاي�شا و�سلما بني خمتلف الفئات‪� .‬إذا عدنا عقدين من الزمن للخلف نرى �أن‬ ‫االحتاد ال�سوفياتي ال�سابق قد انهزم يف هذه حرب كهذه و�سقط وتفكك ومل حتن له الفر�صة‬ ‫ال�ستخدام ال�سالح النووي وال التقليدي للدفاع عن نف�سه‪ .‬واليوم ت�شكل احلرب على �سوريا‬ ‫منوذجا للحرب الناعمة فقد �شهدنا ا�ستخدام �سالح االعالم وال�سيا�سة والدبلوما�سية واالقت�صاد‬ ‫ب�شكل علني وفا�ضح �ضد �سوريا‪ .‬مثل هذه احلرب متاما هو ما ت�سعى �إليه الواليات املتحدة وما‬ ‫بد�أته باال�شرتاك مع �إ�سرائيل منذ زمن طويل �ضد حركات املقاومة يف لبنان وفل�سطني‪ ,‬حزب‬ ‫اهلل وحما�س وغريها‪ .‬تختلف احلرب الناعمة عن احلرب الباردة الن االخرية كانت تعتمد‬ ‫حروبا اقليمية طاحنة وثورات وقلب �أنظمة بديال عن املواجهة بني القوتني العظميني نف�سيهما‪.‬‬ ‫تتميز هذه احلرب �أنها غري مكلفة مثل احلرب الع�سكرية و�أنها ال تلفت انتباه املواطن االمريكي‬ ‫(‪)2‬‬

‫ ‬


‫املنطقة والعامل‬

‫الو�ضع اال�سرتاتيجي والع�سكري االمريكي يف العامل‬

‫‪153‬‬

‫الذي يتح�س�س ملقتل جنود وخ�سارة مئات املليارات من الدوالرات وهذا ال يح�صل يف احلرب‬ ‫الناعمة حيث تكون الكلفة املالية حمدودة وي�سهل حتملها‪.‬‬ ‫الو�ضع الع�سكري يف ال�رشق االو�سط وت�أثريات االن�سحاب من العراق وافغان�ستان على النفوذ‬ ‫االمريكي‬

‫بد�أت العالقات االمريكية يف املنطقة العربية قبيل انتهاء احلرب العاملية الثانية حني اجتمع امللك‬ ‫ال�سعودي عبد العزيز �آل �سعود بالرئي�س االمريكي روزفلت على منت املدمرة االمريكية كوين�سي‬ ‫يف البحريات املرة قرب قناة ال�سوي�س يف م�صر يف ‪� 14‬شباط ‪ 1945‬وتباحثا يف «�ش�ؤون دولية وعربية»‪,‬‬ ‫يف الوقت الذي كانت فيه منطقة ال�شرق االو�سط تخ�ضع النتداب بريطانيا وفرن�سا ونفوذهما‪.‬من‬ ‫املعروف �أن الهدف اال�سرتاتيجي االمريكي من االنت�شار يف منطقة ال�شرق االو�سط هو حماية‬ ‫م�صالح الواليات املتحدة يف احلرب الباردة و�ضمان �أمن �إ�سرائيل وامن تدفق النفط �إىل اال�سواق‬ ‫االمريكية والعاملية‪ .‬عام ‪ 1958‬حدث �أول تدخل ع�سكري �أمريكي مبا�شر يف املنطقة عندما �أنزلت‬ ‫الواليات املتحدة قوات من اال�سطول ال�ساد�س على ال�شواطىء اللبنانية على خلفية االنقالب‬ ‫الذي اطاح بالنظام امللكي يف العراق وتخوف الغرب من ان�ضمام العراق �إىل الوحدة بني م�صر‬ ‫و�سوريا واخل�شية من �إ�سقاط الرئي�س اللبناين كميل �شمعون وكالم الرئي�س االمريكي عن ملء‬ ‫الفراغ الناجت عن تراجع الوجود الفرن�سي والربيطاين يف املنطقة واحتمال انحياز الدول العربية اىل‬ ‫االحتاد ال�سوفياتي يف احلرب الباردة‪.‬‬ ‫(‪)3‬‬

‫االنت�شار الع�سكري االمريكي يف اخلليج‬

‫عام ‪ 1971‬وبعدما نالت البحرين ا�ستقاللها ا�ست�أجرت البحرية االمريكية من بريطانيا قاعدة الدعم‬ ‫اللوج�ستي يف البحرين وتغري ا�سمها �إىل وحدة دعم البحرية االمريكية عام ‪ .1999‬ويف عام ‪1995‬‬ ‫كلف اال�سطول اخلام�س وبحرية املنطقة الو�سطى بقيادة الوحدات البحرية االمريكية املتمركزة‬ ‫يف مهمات يف اخلليج والقادمة من املحيطني الهندي والهادىء ويف عام ‪� 2002‬أعلن عن ت�شكيل‬ ‫قيادة القوات البحرية امل�شرتكة يف البحرين‪ .‬تو�سع االنت�شار الع�سكري يف اخلليج وجاءت حرب‬ ‫�أفغان�ستان والعراق لت�صبح املهمة قتالية بعدما كانت ردعية دفاعية وذلك على ال�شكل التايل‪:‬‬ ‫البحرين‪:‬‬ ‫وهي مقر الأ�سطول البحري الأمريكي اخلام�س يف املنامة‪ ,‬يعمل فيه ‪ 4200‬جندي �أمريكي‪ ,‬وي�ضم حاملة‬ ‫طائرات �أمريكية وعدداً من الغوا�صات الهجومية واملدمرات البحرية و�أكرث من ‪ 70‬طائرة مقاتلة‪� ,‬إ�ضافة‬ ‫لقاذفات قنابل ومقاتالت تكتيكية وطائرات التزود بالوقود املتمركزة بقاعدة ال�شيخ عي�سى اجلوية‪.‬‬ ‫عدد رقم ‪� | 1‬أيـار‬

‫‪2013‬‬


‫‪154‬‬

‫املنطقة والعامل‬

‫ال�سعودية‪:‬‬ ‫�إثر عملية عا�صفة ال�صحراء لتحرير الكويت ن�شرت القوات االمريكية مركزاً لقيادة القوات اجلوية‬ ‫الأمريكية الإقليمية داخل قاعدة الأمري �سلطان اجلوية يف الريا�ض وي�ضم ‪ 5000‬جندي تابعني‬ ‫للجي�ش والقوات اجلوية الأمريكية و�أكرث من ‪ 80‬طائرة مقاتلة ا�ستخدمت هذه القاعدة يف �إدارة‬ ‫الطلعات اجلوية ملراقبة حظر الطريان الذي كان مفرو�ضا على �شمال العراق وجنوبه خالل فرتة‬ ‫تنفيذ العقوبات الدولية‪ ,‬كما كان املركز يعمل للتن�سيق بني عمليات جمع املعلومات واال�ستطالع‬ ‫واال�ستخبارات الأمريكية يف املنطقة‪ .‬لكن ومنذ �أوا�سط العام ‪ 2003‬تقريبا‪ ،‬انتقل نحو ‪ 4500‬جندي‬ ‫�أمريكي �إىل دولة قطر املجاورة‪ ,‬وبقي يف ال�سعودية نحو ‪ 500‬جندي �أمريكي متمركزين فيما يعرف‬ ‫بـ«قرية الإ�سكان» وبذلك انتهى الوجود الع�سكري االمريكي يف قاعدة الأمري �سلطان اجلوية يف‬ ‫الريا�ض‪.‬‬ ‫قطر‪:‬‬ ‫انتقلت وحدات من القوات الأمريكية من ال�سعودية �إىل دولة قطر بعد حرب العراق وانتقل �إليها‬ ‫كذلك ‪ 600‬عن�صرتابعني ملركز القيادة الع�سكرية الأمريكية الو�سطى يف تامبا ‪ -‬فلوريدا‪ .‬وتوجد‬ ‫يف قطر قاعدة العديد اجلوية التي ت�شمل مدرجاً للطائرات يعد من �أطول املدارج يف العامل‪,‬‬ ‫وهي قادرة على ا�ستيعاب �أكرث من ‪ 100‬طائرة على الأر�ض‪ .‬وهذه القاعدة هي مقر جمموعة ‪319‬‬ ‫لال�ستطالع اجلوي التي ت�ضم قاذفات ومقاتالت وطائرات ا�ستطالع �إ�ضافة لعدد من الدبابات‬ ‫ووحدات الدعم وخمزون من العتاد والتجهيزات الع�سكرية املتطورة ما جعل بع�ض اخلرباء‬ ‫يعتربونها �أكرب خمزن �إ�سرتاتيجي للأ�سلحة الأمريكية يف املنطقة‪.‬‬ ‫الكويت‪:‬‬ ‫تنت�شر يف الكويت الفرقة الثالثة املحمولة جواً من اجلي�ش االمريكي يف مع�سكر الدوحة‪ ,‬و وت�ضم‬ ‫جتهيزات متنوعة من دبابات وعربات مدرعة و طائرات هليكوبرت و�أكرث من ‪ 80‬طائرة مقاتلة ووحدات‬ ‫من القوات اخلا�صة �سريعة االنت�شار‪ .‬انتقلت بع�ض الوحدات من العراق �إىل الكويت �إثر ان�سحاب‬ ‫القوات االمريكية من العراق مما رفع عدد القوات املنت�شرة يف الكويت حاليا اىل ‪� 23‬ألفاً‪.‬‬ ‫عمان‪:‬‬ ‫ت�ستخدم الواليات املتحدة يف عمان ثالثة مواقع متعددة املهام خلدمات دعم ج�سر جوي‪ ,‬وت�أمني‬ ‫جميع امل�ستلزمات اللوج�ستية لثالث قواعد جوية من وقود و�آليات وخدمات طبية و�صيانة‬ ‫وا�صالح وتغذية ‪.‬‬ ‫االمارات العربية املتحدة‪:‬‬ ‫ت�ستخدم الواليات املتحدة قاعدة جوية وم�ستودعات متعددة للدعم اللوج�ستي �إ�ضافة �إىل‬


‫الو�ضع اال�سرتاتيجي والع�سكري االمريكي يف العامل‬

‫املنطقة والعامل‬

‫‪155‬‬

‫ميناءين هامني يطالن على مياه اخلليج كما ت�ستخدم جميع املوانىء الغرا�ض التموين ولر�سو‬ ‫ال�سفن الع�سكرية الكبرية‪ .‬كما تعتمد على �أنبوب من الفجرية �إىل جبل علي لنقل النفط يف حال‬ ‫�إقفال م�ضيق هرمز‪.‬‬ ‫ت�ستفيد الواليات املتحدة ت�سهيالت ع�سكرية يف االردن وم�صر‪� .‬أما العراق فقد ان�سحبت القوات‬ ‫االمريكية م�ؤخرا منه بعد احتالله منذ اذار ‪ 2003‬ويقت�صر الوجود الع�سكري االمريكي على حماية‬ ‫ال�سفارة واملراكز القن�صلية ‪.‬‬ ‫(‪)4‬‬

‫مهمات القوات املنت�رشة‪:‬‬

‫كانت مهمة القوات االمريكية املنت�شرة يف ال�شرق االو�سط مماثلة لباقي القوات املنت�شرة يف �سائر‬ ‫�أنحاء العامل وهي العمل كقوة ردع ودعم للحلفاء يف فرتة احلرب الباردة‪ .‬وما �أن انتهت هذه‬ ‫احلرب حتى تبلورت مهمة القوات يف ال�شرق االو�سط وهي �ضمان �أمن �إ�سرائيل و�أمن تدفق‬ ‫النفط‪ .‬مل تت�أثر هاتني املهمتني بنهاية احلرب الباردة �إذ �أن النزاع العربي اال�سرائيلي مل ي�صل اىل‬ ‫ت�سوية‪ ,‬وما زالت الواليات املتحدة تعترب ايران القوة الكبرية على ال�ضفة ال�شرقية للخليج‪ ,‬دولة‬ ‫معادية وترى انها ت�شكل خطرا على م�صاحلها وعلى حلفائها‪ .‬مل تظهر دول اخلليج �أية ا�ستعدادات‬ ‫عملية للتفاهم مع �إيران حول �أمن املنطقة‪ ,‬وما فتىء قادة اخلليج يعربون يف غري منا�سبة عن‬ ‫مت�سكهم باحلماية االمريكية وعدم ثقتهم بايران رغم �إقامة عدد من هذه الدول عالقات �صداقة‬ ‫وتعاون مع ايران «بالتجزئة» مثل قطر وعمان والكويت‪.‬‬ ‫منذ عام ‪ 2002‬كانت مهمة القوات االمريكية التح�ضري لعملية الهجوم على العراق وبعدما دخلت‬ ‫هذه القوات �إىل العراق حتولت املهمة �إىل م�ساندة الوجود الع�سكري يف العراق‪.‬‬ ‫ي�شكل �أمن تدفق النفط �إحدى مهمتي القوات االمريكية يف ال�شرق االو�سط وجتوب البحرية‬ ‫االمريكية مياه منطقة اخلليج و ويحلق الطريان يف اجوائها للت�أكد من �أمن حركة نقل النفط‪.‬‬ ‫تعترب الواليات املتحدة �أن التهديد الذي يواجه النفط هو �إيران بالدرجة االوىل واحيانا تهديدات‬ ‫القاعدة اذ �سبق وان تعر�ضت ناقلة نفط يابانية �إىل عملية ارهابية يف مياه االمارات‪ .‬ان عديد‬ ‫وجتهيز القوات املنت�شرة حاليا يكفي ملهمة حفظ امن النفط لكنه ال يكفي ل�شن عملية ع�سكرية‬ ‫�ضد �إيران‪ .‬ت�ستوجب العملية الع�سكرية‪ ,‬وهي يف الغالب �ضربات جوية و�صاروخية‪ ,‬ح�شدا بحريا‬ ‫حلامالت طائرات وقوة عمل بحرية م�ؤلفة من مدمرات وغوا�صات ومراكب �إنزال وم�ساندة يجري‬ ‫اح�ضارها من القوات البحرية املنت�شرة يف املحيطني الهادىء والهندي‪.‬‬ ‫ال يبدو �أن هناك يف الوقت الراهن خطرا على تدفق النفط لأن ال م�صلحة �إيرانية بذلك وهي‬ ‫التي يعتمد اقت�صادها على النفط ب�شكل ا�سا�سي‪ .‬لكن القادة االيرانيني حتدثوا مرارا عن احتمال‬ ‫عدد رقم ‪� | 1‬أيـار‬

‫‪2013‬‬


‫املنطقة والعامل‬

‫‪156‬‬

‫اقفال م�ضيق هرمز �أمام املالحة وربطوا ذلك بتعر�ض �إيران لعمل ع�سكري �أمريكي �أو �إ�سرائيلي‬ ‫وم�ؤخراً حتدثوا عن اقفاله يف حال توقيف �صادرات النفط االيرانية‪� .‬أما تهديدات القاعدة فهي‬ ‫تعالج باال�ساليب االمنية ولي�س باالنت�شار الع�سكري‪.‬‬ ‫�أمن النفط بعد االن�سحاب من العراق و�أفغان�ستان‪ :‬و�ضع نفطي جديد‬

‫يطل على �ضفاف اخلليج �أكرب جتمع لدول منتجة للنفط والغاز‪ :‬ال�سعودية‪ ,‬الكويت‪ ,‬قطر االمارات‬ ‫العربية‪ ,‬العراق‪ ,‬ايران وبن�سب �أقل البحرين وعمان‪ .‬ومتر �إمدادات النفط عرب م�ضيق هرمز اىل‬ ‫بحر العرب واملحيط الهندي ومنه �إىل اال�سواق العاملية‪ .‬متتلك دول جمل�س التعاون اخلليجي نحو‬ ‫‪ %45‬من احتياطي النفط الثابت يف العامل �إىل جانب ‪ %20‬من الغاز العاملي ‪ .‬وتنتج هذه الدول‬ ‫يف الوقت احلا�ضر ‪ 15‬مليون برميل يومياً من النفط �أي ‪ %20‬من �إجمايل �إنتاج العامل ي�ضاف اليها‬ ‫انتاج ايران الذي يبلغ نحو ‪ 4‬ماليني برميل يوميا (الدولة الثانية بعد ال�سعودية) وانتاج العراق‬ ‫الذي يبلغ مليوين برميل وهو قابل لالرتفاع عند اعادة ت�أهيل قطاع النفط يف ذلك البلد‪.‬‬ ‫يف عام ‪� 2002‬أ�شار رئي�س مركز اخلليج للطاقة والدرا�سات اال�سرتاتيجية يف ال�سعودية عيد اجلهني �إىل‬ ‫�أن النفط اخلليجي �شكل ‪ %40‬من واردات العامل النفطية عام ‪ .1999‬واعتمدت الواليات املتحدة‬ ‫على الواردات لتغطية ن�سبة ‪ %60‬من احتياجاتها النفطية‪ .‬هذا ما دفع الواليات املتحدة لالهتمام �أكرث‬ ‫ب�أمن تدفق النفط لأنها اعتربت �أنه مي�س بالأمن القومي االمريكي ولهذا كانت �أولوية االنت�شار كما‬ ‫�أ�سلفنا �أمن تدفق النفط‪ .‬لكن وبعد نحو ‪� 10‬سنوات قال الرئي�س االمريكي باراك اوباما يف ايار ‪2010‬‬ ‫يف حديث اذاعي �إن الواليات املتحدة �ست�سعى لرفع �إنتاجها املحلي من النفط يف حماولة لتقليل‬ ‫اعتمادها على النفط امل�ستورد و ا�شار اوباما يف كلمته �إن انتاج الواليات املتحدة من النفط يف عام ‪2010‬‬ ‫و�صل �إىل �أعلى م�ستوى له منذ �سبع �سنوات ولكنه �أ�ضاف «اعتقد ان علينا امل�ضي قدما يف التو�سع‬ ‫بانتاج النفط يف الواليات املتحدة ويف الوقت نف�سه نوا�صل االرتقاء مبعايري ال�سالمة يف القطاع النفطي»‬ ‫و�أ�ضاف �أن �إدارته قررت بيع عقود ايجار احلقول يف حممية اال�سكا النفطية ب�شكل �سنوي‪ ,‬بينما �سيتم‬ ‫التعامل مع احلقول الواقعة يف املحيط االطل�سي ك�أولوية‪.‬‬ ‫يف عام ‪ 2008‬ح�صل تطور دراماتيكي يف م�س�ألة النفط يف الواليات املتحدة عندما ك�شف تقرير‬ ‫لوزارة الداخلية االمريكية ‪� -‬إدارة امل�سح اجليولوجي عن وجود خمزون من النفط يف واليتي‬ ‫داكوتا ال�شمالية ومونتانا يبلغ من ‪� 3‬إىل ‪ 4.3‬بليون برميل �أي �أكرث بـ ‪ 25‬مرة من تقديرات عام‬ ‫‪ , 1995‬لكن املفاج�أة املذهلة كانت يف العام ‪ 2011‬عندما ك�شفت �إدارة امل�سح اجليولوجي عن‬ ‫وجود خمزون هائل يف والية وايومنغ يقدر بـ ‪ 969‬بليون برميل يف مناطق غرين ريفر وحو�ض‬ ‫وا�شاكي يف جنوب غربي الوالية ‪ .‬هذا وتقدر احتياط النفط يف دول اخلليج (ال�سعودية و�إيران‬ ‫والعراق والكويت واالمارات) بـ ‪ 715‬بليون برميل ‪.‬‬ ‫(‪)5‬‬

‫(‪)6‬‬

‫(‪)7‬‬

‫(‪)8‬‬


‫املنطقة والعامل‬

‫الو�ضع اال�سرتاتيجي والع�سكري االمريكي يف العامل‬

‫‪157‬‬

‫هذه االكت�شافات جتعل الواليات املتحدة يف نهاية العقد احلايل �أو يف العقد القادم م�ستقلة متاما يف‬ ‫الطاقة النفطية وال حتتاج �إىل �إنفاق املال على اال�ساطيل وانت�شار القوات من �أجل �أمن تدفق النفط‪.‬‬ ‫�سوف تعمد الرباغماتية االمريكية اىل االن�سحاب الع�سكري من اخلليج بعدما بات ال يعنيها امن‬ ‫النفط وترتك للم�ستفيدين �أمر تدبره‪ .‬لن يكون هذا االن�سحاب مفاجئا و �سريعا لكن يرجح ح�صوله‬ ‫بعد دخول االنتاج النفطي االمريكي �إىل الأ�سواق االمريكية وخالل عقد من الزمن‪.‬‬ ‫نحو �آ�سيا والبا�سيفيك‬

‫يف ت�شرين الثاين ‪ 2011‬كتبت وزيرة اخلارجية االمريكية هيالري كلينتون مقاال يف جملة فورين‬ ‫بولي�سي بعنوان «قرن �أمريكا البا�سيفيكية» ‪� .‬أعلنت كلينتون يف هذا املقال عن �سيا�سة جديدة‬ ‫للواليات املتحدة يف املحيط الهادىء‪ ,‬واعتربت �أن م�ستقبل ال�سيا�سة العاملية �سوف يتقرر يف ا�سيا‬ ‫ولي�س يف افغان�ستان وال يف العراق‪ ,‬و�أن الواليات املتحدة �ستكون يف قلب احلركة ال�سيا�سية هناك‪.‬‬ ‫وفيما احلرب يف العراق على و�شك نهايتها‪ ,‬اعتربت �أن الواليات املتحدة تقف يف نقطة مف�صلية‬ ‫وهي ت�ستعد ل�سحب قواتها من افغان�ستان‪ .‬يف ال�سنوات الع�شر املا�ضية خ�ص�صت �أمريكا موارد‬ ‫�ضخمة لهاتني احلربني ويف ال�سنوات الع�شر القادمة حتتاج �إىل ذكاء ومنهجية يف ا�ستثمار الوقت‬ ‫والطاقة لت�ضع نف�سها يف و�ضع حتافظ فيه على ريادتها وقيادتها وحتفظ م�صاحلها وقيمها‪ .‬و�أ�ضافت‬ ‫�أن زيادة اال�ستثمار ال�سيا�سي واالقت�صادي واال�سرتاتيجي يف �آ�سيا واملحيط الهادىء هي االعلى‬ ‫يف �سلم اولويات ال�سيا�سة االمريكية يف العقد القادم‪ .‬اعتربت كلينتون �أن منطقة �آ�سيا‪-‬املحيط‬ ‫الهادىء هي حمرك ا�سا�سي لل�سيا�سة الدولية‪ .‬انها متتد من �شبه القارة الهندية اىل ال�سواحل الغربية‬ ‫للواليات املتحدة ومن على مدى املحيط الهادىء واملحيط الهندي اللذين يتحكمان باملالحة‬ ‫واال�سرتاتيجية‪ .‬انها تت�سع لنحو ن�صف �سكان العامل وت�ضم املحركات اال�سا�سية لالقت�صاد العاملي‬ ‫وهي اكرث املناطق باعثة للغازات التي ت�سبب لالحتبا�س احلراري يف العامل‪� .‬إنها ت�ضم عددا من‬ ‫اكرب حلفاء الواليات املتحدة‪ ,‬باال�ضافة اىل قوى �صاعدة مثل ال�صني و الهند واندوني�سيا‪.‬‬ ‫�أ�شارت كلينتون �إىل �أنه مع تفاقم االزمة االقت�صادية يف الداخل االمريكي ودخول العراق‬ ‫وافغان�ستان يف الفرتة االنتقالية تدعو بع�ض القوى ال�سيا�سية االمريكية االدارة للعودة اىل الداخل‬ ‫االمريكي‪ ,‬وت�سعى لتخفي�ض حجم القوات الع�سكرية املنت�شرة يف اخلارج وزيادة االهتمام بال�ش�ؤون‬ ‫الداخلية‪ .‬واعتربت انه ميكن تفهم هواج�س ه�ؤالء‪ ,‬لكنهم لي�سوا بال�ضرورة على حق‪� ,‬أن مفتاح‬ ‫االمن واالزدهار االمريكي هو تو�سيع االهتمامات اخلارجية‪ ,‬من خلق ا�سواق جديدة‪� ,‬إىل ال�سيطرة‬ ‫على االنت�شار النووي ‪,‬اىل املحافظة على حرية املالحة والتجارة‪ .‬لقد بد�أت االدارة االمريكية فعال‬ ‫بالتحرك باجتاه املحيط الهادىء وبلغ عدد زيارات الوزيرة كلينتون �إىل املنطقة �سبعاً ناهيك عن‬ ‫زيارات الدبلوما�سيني املعاونني ووفود االخت�صا�صيني من �أجل املبا�شرة باعتماد هذه ال�سيا�سة‪ .‬من‬ ‫(‪)9‬‬

‫عدد رقم ‪� | 1‬أيـار‬

‫‪2013‬‬


‫‪158‬‬

‫املنطقة والعامل‬

‫املنطقي �أن يرتافق االهتمام االمريكي ب�آ�سيا والبا�سيفيك مع تراجع االهتمام بال�شرق االو�سط‬ ‫خ�صو�صا مع انح�سار االعتماد على النفط من تلك املنطقة‪ .‬يبقى �أن جتد الواليات املتحدة و�سيلة‬ ‫ل�ضمان �أمن حليفتها �إ�سرائيل وال تغادر املنطقة متاما �إال بعد تيقنها من ذلك‪.‬‬ ‫�أين �أمن ا�رسائيل؟‬

‫من الزاوية اجلغرافية �إن التدخل االمريكي الع�سكري لدعم �إ�سرائيل ي�أتي حكما من البحر‬ ‫االبي�ض املتو�سط وهذا ما ح�صل فعال عام ‪ 1973‬عندما �أنزل االمريكيون �آليات وعتادا ع�سكريا‬ ‫للجي�ش اال�سرائيلي لدعمه يف حرب ت�شرين يف مواجهة القوات امل�صرية التي عربت قناة ال�سوي�س‬ ‫واندفعت يف �سيناء قبل �أن توقفها القوات اال�سرائيلية بعدما تلقت الدعم االمريكي‪ .‬ثم �إن‬ ‫التدخل االمريكي يف لبنان عام ‪ 1958‬وعامي ‪ 1982‬و‪ 1983‬جاء من اال�سطول ال�ساد�س الذي‬ ‫يجوب مياه البحر املتو�سط و لهذا فان ان�سحاب القوات االمريكية م�ستقبال لن ي�ؤثر من ناحية‬ ‫امل�ساندة الع�سكرية على �أمن �إ�سرائيل‪.‬‬ ‫ال �شك �أن االدارة االمريكية ت�سعى الحالل ال�سالم يف املنطقة وت�سوية النزاع العربي اال�سرائيلي‪,‬‬ ‫لكن‪ ,‬ولتاريخه وفقا لل�شروط اال�سرائيلية التي رف�ضها الفل�سطينيون والتي يتعذر �أن يقبلوا بها‬ ‫م�ستقبال‪ .‬احدثت هذه ال�شروط �ضيقا يف االدارة االمريكية التي ترغب بر�ؤية مفاو�ضات جتري‬ ‫بني الفل�سطينيني واال�سرائيليني كي تقنع العرب �أنها ما زالت حترتم وعودها يف ال�سعي حلل‬ ‫للق�ضية الفل�سطينية‪� .‬إال �أن االدارة االمريكية تكتفي‪ ,‬وخ�صو�صا يف فرتة االنتخابات‪ ,‬بالكالم عن‬ ‫مفاو�ضات فل�سطينية ا�سرائيلية من دون ان تورط نف�سها بعمل دبلوما�سي‪ .‬لعل �أ�صدق تعبري عن‬ ‫هذا ال�ضيق هو كالم وزير لدفاع االمريكي ليون بانيتا يف معهد بروكنغز ‪ -‬مركز �صبان امام نخبة‬ ‫من قادة اليهود وم�ؤيدي ا�سرائيل حني قال‪ :‬عودوا �إىل الطاولة امللعونة (يق�صد طاولة املفاو�ضات)‬ ‫يف دعوة �صريحة من �أجل ا�ستئناف املفاو�ضات مع الفل�سطينيني ‪ .‬ان الرتاخي العربي يف‬ ‫دعم الفل�سطينيني يف املقاومة ويف املفاو�ضة معا‪� ,‬أراح ال�سيا�سة االمريكية جتاه �إ�سرائيل ووفر على‬ ‫االدارة عناء حتقيق �إجناز مطلوب يف عملية ال�سالم ال يبدو �أن العرب ي�سعون وراءه ب�شكل جدي‬ ‫يف الوقت الراهن‪ .‬لقد تراجعت الق�ضية الفل�سطينية ب�شكل مثري يف االهتمامات العربية �سواء‬ ‫على ال�صعيد الر�سمي �أو ال�شعبي مل�صلحة الربيع العربي الذي مل تت�ضح نتائجه بعد‪ ,‬فيما انتقل‬ ‫االهتمام االمريكي �إىل متابعة احداث هذا الربيع للتغطية ما �أمكن على الف�شل يف عملية ال�سالم‬ ‫التي روجت الواليات املتحدة لها كثريا‪.‬‬ ‫ال تبدو �إ�سرائيل يف الو�ضع الراهن يف دائرة اخلطر‪ ,‬لكن هناك احتمال كبري حل�صول تغيريات يف‬ ‫موازين القوى يف املنطقة ويف مواقف الدول العربية منها وبالتايل ف�إن �أمن �إ�سرائيل يبقى هاج�سا‬ ‫�أمريكيا يحتاج �إىل تدابري من �أجل تبديده ميكن اتخاذها بوا�سطة الأ�سطول ال�ساد�س عند احلاجة‪.‬‬ ‫(‪)10‬‬


‫املنطقة والعامل‬

‫الو�ضع اال�سرتاتيجي والع�سكري االمريكي يف العامل‬

‫‪159‬‬

‫ا�ستنتاج‪:‬‬

‫من املرتقب �أن ت�سحب الواليات املتحدة قواتها من �أفغان�ستان بعدما �أكملت ان�سحابها من العراق‪,‬‬ ‫وخالل العقد احلايل والعقد القادم يتحقق احلدث الكبري وهو االن�سحاب من اخلليج (ن�ضع هنا‬ ‫قرار جمل�س التعاون اخلليجي بالتحول ل�صيغة االحتاد يف اطار الهواج�س من ان�سحاب امريكي‬ ‫من اخلليج يف امل�ستقبل) ورمبا ا�ستطاعت �إحدى االدارات االمريكية القادمة حتقيق ت�سوية للنزاع‬ ‫العربي اال�سرائيلي‪ ,‬لكن موازين القوى مقبلة على تغيري كبري لغري �صالح �إ�سرائيل التي لن يعود‬ ‫لها �أن تفر�ض �شروطا تعجيزية مثل التي تفر�ضها حاليا‪ ,‬و�ست�ضطر �إىل �إقامة �سالم بغري �شروطها‬ ‫اذا تغريت �سيا�سة م�صر جتاهها‪� .‬أما �إذا تغريت �سيا�سة االردن فان انقالبا حقيقيا �سوف يح�صل يف‬ ‫موازين القوى يح�شر الدولة العربية يف زاوية �ضيقة ويبقى لال�سرائيليني خيار البقاء داخل دولة‬ ‫ينتهي فيها تفوقهم الع�سكري واالقت�صادي وبني عودة من يرغب �إىل �أوروبا وبالنتيجة �إنهاء دور‬ ‫ووظيفة �إ�سرائيل يف املنطقة‪.‬‬

‫(‪ )1‬‬

‫نظرة عامة على ا�سرتاتيجية الأمن القومي الأمريكية‪ .‬البيت الأبي�ض‬

‫(‪ )2‬‬

‫�صحيفة وا�شنطن تاميز‬

‫‪http://www.whitehouse.gov/sites/default/files/rss_viewer/national_security_strategy.pdf‬‬

‫ ‬ ‫ ‬

‫‪/http://m.washingtontimes.com/news/2011/dec/14/us-will-leave-iraqi-airspace-clear-for- strategic-i‬‬

‫ ‬

‫‪http://www.susris.com/2011/02/14/today-in-history-king-abdulaziz-and-president-‬‬

‫(‪ )3‬موقع ا�ستعالمات العالقات الأمريكية ال�سعودية‬ ‫(‪ )4‬‬

‫(‪ )5‬‬

‫‪/roosevelt-meeting‬‬ ‫‪Global Security magazine‬‬

‫موقع �شركة برتول ابو ظبي الوطنية‬

‫ ‬

‫‪http://www.adnoc.ae/arabic/content.aspx?newid=306&mid=306‬‬

‫ ‬

‫‪http://www.usgs.gov/newsroom/article.asp?ID=1911‬‬

‫(‪ )6‬تقرير �إدارة امل�سح اجليولوجي‬ ‫(‪ )7‬‬

‫تقرير �إدارة امل�سح اجليولوجي‬

‫(‪ )8‬‬

‫موقع وكالة املخابرات املركزية‬

‫‪/http://pubs.usgs.gov/fs/2011/3113‬‬

‫ ‬

‫‪https://www.cia.gov/library/publications/the-world-factbook/rankorder/2178rank.html?coun‬‬

‫ ‬

‫‪tryName=Bahrain&countryCode=ba&regionCode=mde&rank=66#ba‬‬

‫(‪ )9‬جملة فورين بولي�سي ت�شرين الثاين‬

‫‪2011‬‬

‫ ‬

‫‪http://www.foreignpolicy.com/articles/2011/10/11/americas_pacific_century‬‬

‫ ‬

‫‪http://edition.cnn.com/2011/12/02/world/meast/israel-peace-talks/index.tml‬‬

‫(‪ ) 10‬من �شبكة «�سي‪� .‬إن‪� .‬إن‪ ».‬كالم وزير الدفاع بانيتا‬

‫عدد رقم ‪� | 1‬أيـار‬

‫‪2013‬‬



‫�آثار من فل�سطني‪� ،‬سلبها مو�شي دايان وا�سرتدت من قبل «م�ؤ�س�سة �سعاده للثقافة»‬


‫لبنان ‪ 5000‬لرية | الأردن‪ 2 :‬دينار | �سوريا‪ 100 :‬لرية | م�صر‪ 10 :‬جنيه | تون�س ‪ 1.5 :‬دينار | املغرب‪ 20 :‬درهم | م�سقط‪ 1 :‬ريال‬ ‫ال�سعودية‪ 10 :‬ريال | البحرين‪ 1.5 :‬دينار | الكويت‪ 1.5 :‬دينار | قطر‪ 10 :‬ريال | الإمارات‪ 10 :‬درهم‬



Issuu converts static files into: digital portfolios, online yearbooks, online catalogs, digital photo albums and more. Sign up and create your flipbook.