اعترافات روائي شاب ـ أمبرتو إكو ـ ترجمة ناصر الحلواني

Page 1


‫اعرتافات روائي شاب‬

‫‪2‬‬


Confessions of a Young Novelist

Umberto Eco ‫ترمجة‬

Nasser ElHalawani

3


‫اعرتافات روائي شاب‬

‫‪4‬‬


‫مقدمة املترجم‬ ‫إن قراءة إكو أشبه برحلة عرب الزمان واملكان‪ ،‬إبحار يف حميطات‬ ‫شاسعة البعد‪ ،‬عميقة القرار‪ ،‬اجتياز أهنار برية‪ ،‬تأخذ بقاربك إىل‬ ‫مهاوي شالالت مفاجئة ومدهشة‪ ،‬جتد عقلك يسبح يف بحريات‬ ‫ذاخرة بالغرائب‪ ،‬أو خائضا يف غابة من الرسود املشكولة أشجارا‪،‬‬ ‫حتيا يف مسارهبا عجائب املخلوقات اللغوية‪ ،‬وما يذهلك من‬ ‫مفردات أزهرت‪ ،‬فقط‪ ،‬يف أرضه‪ ،‬وبراعم من خيال منسوج‬ ‫بتواريخ غامضة‪ ،‬خمبأة يف رساديب زمانية‪ ،‬وكهوف مكتبية عتيقة‪،‬‬ ‫ال يناهلا إال من حاز رس الولوج إىل فضائها‪ ،‬وقدر عىل فك شفرة‬ ‫الدخول إىل غياهب عصور ‪ ،‬مضت مثل سفن مرشعة يف التاريخ‪،‬‬ ‫مل نرى غري أرشعتها البعيدة‪ ،‬فيام تنطوي خفاياها عىل صناديق‬ ‫ذخائر‪ ،‬ال تُفتح إال ملن يملك اجلرأة عىل نطق الكلمة‪ ،‬الرس‪،‬‬ ‫املفتاح‪ ،‬فتبيح له معانيها‪ ،‬ينهل من تراثها ما يشاء‪.‬‬ ‫األمر أشبه بمغامرة‪ ،‬أو هوس ثقايف‪ ،‬للمؤلف والقارئ‪،‬‬ ‫واملرتجم؛ أن ختوض يف بحر ثقايف‪ ،‬أو مفازة من املعارف‪ ،‬ال حدود‬ ‫هلام‪ ،‬تتالمس حدودمها مع كافة الثقافات‪ ،‬بال رهبة‪ ،‬أو إساءة‬


‫اعرتافات روائي شاب‬

‫تقدير‪ ،‬يأخذك إليه إكو بحامسة فارس‪ ،‬يقصد أرضه املقدسة‪،‬‬ ‫ليكشف لك ما استنبطه من كنوز‪ ،‬وما مجعه من جواهر املعرفة‪،‬‬ ‫عتيقها وحديثها‪.‬‬ ‫إن إكو نموذج لألكاديمي املثقف املبدع‪ ،‬فبحثه دؤوب يف‬ ‫دراساته العلمية‪ ،‬وعميق التقيص‪ ،‬يغوص بعيدا يف مصادره‪،‬‬ ‫وخاصة القروسطية‪ ،‬التي شغف هبا‪ ،‬موسوعي املعرفة‪ ،‬يف لغاهتا‬ ‫العديدة‪ ،‬وهو مثال ُ​ُيتذى به كمبدع؛ بطريقته يف التحضري ألعامله‪،‬‬ ‫وهو ما يتحدث عنه بتفصيل يف كتابه هذا‪ ،‬من مراجعة لألماكن‬ ‫احلقيقية ألحداث رواياته‪ ،‬وتطورها التارخيي‪ ،‬وما كانت عليه يف‬ ‫الفرتة الزمنية التي يتناوهلا عمله الروائي‪ ،‬بدقة بالغة‪ ،‬من اهتامم‬ ‫بالتفاصيل العارضة‪ ،‬مثل حال املناخ‪ ،‬واألزياء السائدة‪،‬‬ ‫واللهجات‪ ،‬واملفردات اللغوية الشائعة‪ ،‬وأساليب الشخصيات‪،‬‬ ‫وخصوصيات اجلامعات والطوائف‪ ،‬مع ثراء لغوي مثري‬ ‫لإلعجاب‪ ،‬إضافة إىل دراسته لألساليب األدبية السابقة‪ ،‬وفهمه‬ ‫ملكانة ما أنجزه بينها‪ ،‬وحتقيق خصوصيته‪ ،‬واستفادته من األعامل‬ ‫الرائدة‪ ،‬وإن بشكل إجيايب وذكي‪ ،‬من حيث التناص معها‪ ،‬أو‬

‫‪6‬‬


‫الكتابة من الشمال إىل اليمني‬

‫االقتباس منها‪.‬‬ ‫وهلذا كانت الصعوبة‪ ،‬واملتعة يف الوقت ذاته‪ ،‬يف ترمجة مثل هذا‬ ‫العمل‪ ،‬الذي احتاج إىل‪ ،‬يف فقرات منه‪ ،‬إىل الرتمجة عن لغات عدة‪،‬‬ ‫كالالتينية‪ ،‬والفرنسية‪ ،‬واإليطالية‪ ،‬والبحث أحيانا عن ترمجة‬ ‫ملفردات مل تعد موجودة يف القواميس‪ ،‬وكذلك ترمجة العديد من‬ ‫املقتطفات الروائية والشعرية‪ ،‬سواء له‪ ،‬أو لغريه‪ ،‬والتي سبق‬ ‫ترمجتها إىل العربية‪ ،‬بواسطة مرتمجني متميزين‪ ،‬فكان التحدي كبريا‪.‬‬ ‫وهذا الكتاب تسجيل للتجربة الشخصية ملؤلفه‪ ،‬يف عامله‬ ‫اإلبداعي‪ ،‬فيه الكثري من التجارب واخلربات املمتعة‪ ،‬واألكثر من‬ ‫الفوائد املهمة للمبدعني‪ ،‬خاصة الشباب‪ ،‬ليتعلموا أن اإلبداع‬ ‫األصيل ال يقوم عىل املوهبة وحدها‪ ،‬بل عىل أضعافها من البحث‬ ‫والفهم‪ ،‬واالطالع‪ ،‬والتجريب‪ ،‬والصقل‪.‬‬ ‫آمل أن تكون الرتمجة قد و َّفت الكتاب حقه‪ ،‬وقدرت عىل‬ ‫صياغته يف لغة سلسة‪ ،‬غري خملة أو مبالغة‪ ،‬ويرست االستفادة منه‪.‬‬ ‫نارص احللواين‬

‫‪7‬‬


‫اعرتافات روائي شاب‬

‫‪8‬‬


‫الكتابة من الشمال إىل اليمني‬

‫‪1‬‬

‫عنوان هذه املحارضات هو " مذكرات روائي شاب ‪ ،‬وربام‬ ‫يتساءل املرء‪ :‬ملاذا "شاب"‪ ،‬وأنا أخطو إىل العام السابع والسبعني‬

‫من عمري‪ .‬لكن ما حدث هو أين نرشت روايتي األوىل " اسم‬ ‫الوردة" عام ‪ ،1980‬ما يعني أين بدأت حيايت كروائي منذ ثامن‬ ‫وعرشين سنة فقط‪ .‬وهكذا‪ ،‬فإين أعترب نفيس روائيا شابا‪،‬‬ ‫وبالتأكيد‪ ،‬روائيا واعدا‪ ،‬مل ينرش سوى مخس روايات حتى اآلن‪،‬‬ ‫وسينرش العديد غريها خالل اخلمسني عاما القادمة‪.‬‬ ‫هذا العمل املتواصل َّملا ينتهي بعد (وإال ما كان متواصال)‬ ‫ولكني آمل أن يكون قد تراكم لدي ما يكفي من اخلربة كي ألقي‬ ‫بعض الكلامت حول طريقة كتابتي‪.‬‬ ‫ومتاشيا مع الروح العامة لـ "حمارضات ريتشارد إملان"[‪ ]1‬سوف‬ ‫[‪ ]1‬تقام هذه املحاضرات في جامعة إيموري‪ ،‬في الواليات املتحدة‪ ،‬تكريما السم ريتشارد‬ ‫إملان (‪ ،)1987 1918‬أول من شغل منصب أستاذ كرس ّي في جامعة إيموري منذ‬ ‫ً‬ ‫واحدا من أهم َّ‬ ‫كتاب السير األدبية‪ ،‬فقد‬ ‫عام ‪ 1980‬حتى عام ‪ .1987‬ويعتبر إملان‬

‫‪9‬‬


‫اعرتافات روائي شاب‬

‫أركز عىل روايايت ال عىل مقااليت‪ ،‬رغم أنني أعترب نفيس أكاديميا‬ ‫حمرتفا‪ ،‬أما كروائي فأراين جمرد هاو‪.‬‬ ‫بدأت كتابة الروايات يف طفولتي‪ .‬كان العنوان هو أول ما يرد‬ ‫عىل خاطري‪ ،‬وغالبا ما كنت استوحيه من كتب املغامرات الرائجة‬ ‫يف تلك األيام‪ ،‬والتي كانت تشبه قصص " قراصنة الكاريبي"[‪.]1‬‬ ‫وعىل الفور كنت أقوم برسم كافة أحداث الرواية‪ ،‬ثم أرشع الحقا‬ ‫يف كتابة الفصل األول‪ .‬ولكن‪ ،‬حيث أنني كنت أكتب بحروف‬ ‫كبرية داكنة‪ ،‬حماكيا الكتب املطبوعة‪ ،‬فقد كان ينتابني اإلعياء بعد‬ ‫صفحات قليلة‪ ،‬ومن َثم أختىل عن األمر برمته‪.‬‬ ‫كان كل عمل من أعاميل‪ ،‬بالتايل‪ ،‬عبارة عن حتفة فنية غري‬ ‫ّ‬ ‫أكاديمي ومتخصص بارز‬ ‫كتب سيرة أوسكار وايلد وجيمس جويس‪ ،‬باإلضافة إلى أنه‬ ‫في ويليام بتلر ييتس‪ ،‬وصمويل بيكيت‪ ،‬وت‪.‬س إليوت‪ ،‬وواالس ستيفنس‪ ،‬وغيرهم‬ ‫من الكتاب الحديثين‪ .‬كما ّ‬ ‫أن محاضراته العامة كانت موجهة إلى القراء في جميع‬ ‫بلدان العالم بسبب لغته التي دأبت على إغراء هذه الشريحة باملشاركة الشخصية‬ ‫واإلنخراط في األدب الجاد‪[ .‬املترجم]‬ ‫[‪ ]1‬قراصنة الكاريبي ‪ :Pirates of the Caribbean‬سلسلة سينمائية ناجحة مكونة من ‪5‬‬ ‫أفالم‪ ،‬طابعها الحركة واملغامرات الكوميدية‪ ،‬تدور أحداثها في البحر الكاريبي خالل‬ ‫أوائل القرن السادس عشر‪ُ ،‬عرض جزأها األول عام ‪ ،2003‬السلسلة بأكملها‬ ‫مبنية على لعبة في حديقة ديزني الند الشهيرة‪ ،‬تسمى قراصنة الكاريبي‪[ .‬املترجم]‬

‫‪10‬‬


‫الكتابة من الشمال إىل اليمني‬

‫مكتملة‪ ،‬مثل سيمفونية شوبريت الناقصة‪.‬‬ ‫عندما بلغت السادسة عرشة‪ ،‬بدأت‪ ،‬بالطبع‪ ،‬يف كتابة األشعار‪،‬‬ ‫مثل أي مراهق‪ .‬ال أذكر ما إذا كانت احلاجة ِّ‬ ‫للشعر هي ما أثمرت‬ ‫حبي األول (األفالطوين وغري املعلن)‪ ،‬أم العكس‪ .‬لقد كان املزيج‬ ‫كارثيا‪ .‬ولكن‪ ،‬كام كتبت ذات مرة ـ وإن يف شكل مفارقة تلفظت‬ ‫هبا إحدى شخصيايت الروائية‪ :‬ـ هناك نوعان من الشعراء‪ :‬شعراء‬ ‫جيدون‪ ،‬وهم الذين ُيرقون قصائدهم حينام يبلغون الثامنة عرش‬ ‫من عمرهم‪ ،‬وشعراء سيئون‪ ،‬وهم الذين يستمرون يف كتابة الشعر‬ ‫مدى حياهتم‪.‬‬

‫(‪)11‬‬

‫ما هي الكتابة اإلبداعية؟‬ ‫حني رصت يف اخلمسني من عمري‪ ،‬مل أشعر باإلحباط ‪ ،‬مثلام‬ ‫ُيدث مع الكثري من الباحثني‪ ،‬من حقيقة أن كتابتي ال تنتمي إىل‬ ‫النوع اإلبداعي من الكتابة‪.‬‬

‫(‪)2‬‬

‫(‪ )1‬يقلع البعض عن نظم الشعر بعد الثامنة عشر من العمر بقليل ‪ ،‬مثل رامبو‪( .‬إكو)‬ ‫[‪ ]2‬كتبت‪ ،‬في نهاية الخمسينيات وبداية الستينيات‪ ،‬عددا من األعمال الساخرة‬ ‫والنثرية‪ ،‬مجموعة اآلن في مجلد بعنوان "القراءة الخاطئة "‪ Misreadings‬الناشر ‪:‬‬

‫‪11‬‬


‫اعرتافات روائي شاب‬

‫مل أفهم مطلقا ملاذا ُيعترب هومريوس[‪ ]1‬كاتب ًا إبداعي ًا وال ُيعترب‬ ‫أفالطون[‪ ]2‬كذلك‪ .‬ملاذا ُيعدُّ الشاعر السيئ كاتبا مبدعا‪ ،‬بينام ال ُيعدُّ‬ ‫كاتب املقاالت العلمية كذلك؟‬ ‫يف الفرنسية‪ ،‬يمكن التمييز بني مبدع ‪ :écrivain‬شخص ُينتج‬

‫نصوصا "إبداعية" كالروائي والشاعر‪ ،‬وبني كاتب ‪:écrivant‬‬ ‫شخص يسجل الوقائع‪ ،‬مثل كاتب البنك‪ ،‬أو رجل رشطة يسجل‬ ‫تقريرا عن قضية جنائية‪.‬‬ ‫لكن إىل أي أنواع الكتَّاب ينتمي الفيلسوف؟‬ ‫يمكننا القول‪ :‬أن الفيلسوف كاتب حمرتف‪ ،‬يمكن اختصار‬ ‫نصوصه أو ترمجتها إىل كلامت أخرى من دون أن تفقد كل معانيها‪،‬‬ ‫بينام ال يمكن لنصوص الكاتب املبدع أن ُترتجم معانيها بنحو تام‪،‬‬ ‫أو أن تعاد صياغتها يف كلامت أخرى‪ .‬لكن عىل الرغم من تأكد‬

‫)‪New York: Harcourt, 1993‬ولكنني أعتبر هذه األعمال مجرد لهو‪(.‬إكو)‬ ‫ُ‬ ‫[‪ ]1‬هوميروس‪ :‬شاعر إغريقي ملحمي‪ ،‬تنسب إليها ملحمتا اإللياذة واألوديسة‪ ،‬عاش في‬ ‫القرن الثاني عشر قبل امليالد‪[ .‬املترجم]‬ ‫[‪ ]2‬أفالطون (‪ 427‬ـ ‪ 347‬ق‪.‬م)‪ :‬فيلسوف يوناني‪ ،‬صاحب الفلسفة املثالية‪ ،‬الداعية إلى‬ ‫َّ‬ ‫تحصيل املعرفة الشاملة‪ ،‬ألف العديد من املحاورات الفلسفية‪[ .‬املترجم]‬

‫‪12‬‬


‫الكتابة من الشمال إىل اليمني‬

‫قراء العامل قد‬ ‫صعوبة ترمجة الشعر والروايات‪ ،‬فإن تسعني باملائة من َّ‬ ‫قرأوا "احلرب والسالم"‬

‫[‪] 1‬‬

‫و"دون كيشوت"‬

‫[‪] 2‬‬

‫مرتمجتني‪،‬‬

‫وأحسب أن أعامل تولوستوي املرتمجة هي أكثر إخالصا لألصل‬ ‫من أي ترمجة إنجليزية ألعامل هيدجر[‪ ]3‬أو الكان[‪ .]4‬هل الكان‬ ‫أكثر "إبداعا" من رسفانتس؟‬ ‫اليمكن أن نعرب عن هذا االختالف بحسب الوظيفة االجتامعية‬ ‫لنص حمدد؛ إن نصوص جاليليو‪ ،‬بالتأكيد‪ ،‬عىل درجة كبرية من‬ ‫األمهية الفلسفية والعلمية‪ ،‬ولكنها تُدرس ‪ ،‬يف املدارس الثانوية‬ ‫اإليطالية‪ ،‬كأمثلة للكتابة اإلبداعية اجليدة ـ كعمل فني أصيل يف‬ ‫أسلوبه‪.‬‬ ‫لنفرتض أنك ق ِّيم مكتبة‪ ،‬وقررت أن تضع ما يسمى بالنصوص‬ ‫اإلبداعية يف احلجرة (أ)‪ ،‬وما يسمى بالنصوص العلمية يف احلجرة‬ ‫[‪ ]1‬الحرب والسالم‪ :‬رواية للكاتب الروس ي تولوستوي‪ ،‬نشرت حوالي ‪ ،1865‬وتدور‬ ‫أحداثها في فترة حكم القيصر وهجوم نابليون على روسيا وهزيمته‪[ .‬املترجم]‬ ‫[‪ ]2‬دون كيشوت‪ :‬رواية لألديب اإلسباني ميجيل دي ثيرفانتس‪ ،‬وتدور حول شخصية‬ ‫ألونسو الذي يتخيل نفسه فارسا من فرسان العصور الوسطى‪ ،‬فيجوب البالد‬ ‫بفرسه ورمحه‪ ،‬متحليا بأخالق الفرسان املثالية‪[ .‬املترجم]‬ ‫[‪ ]3‬هيدجر‪ :‬فيلسوف أملاني (‪ 1889‬ـ ‪1976‬م)‪[ .‬املترجم]‬ ‫[‪ ]4‬الكان (‪ 1901‬ـ ‪1981‬م)‪ :‬الكان جاك‪ .‬محلل نفس ي فرنس ي‪[ .‬املترجم]‬

‫‪13‬‬


‫اعرتافات روائي شاب‬

‫(ب)‪ ،‬فهل ستضع مقاالت أينشتني مع "رسائل إديسون إىل‬ ‫رعاته"‪ ،‬يف جمموعة واحدة‪ ،‬و" آه سوزانا"[‪ ]1‬مع "هاملت"[‪ ]2‬يف‬ ‫املجموعة األخرى؟‬ ‫اقرتح البعض‪ ،‬كمعيار للتفرقة‪ ،‬أن الكاتب "غري اإلبداعي"‬ ‫أمثال‪ :‬لينوس‬ ‫احليتان أو ِ‬ ‫الق َر َدة‪ ،‬أما حني كتب ملفيل[‪ ]4‬عن احلوت األبيض‪،‬‬ ‫[‪]3‬‬

‫وداروين‪ ،‬إنام أرادا نقل معلومات حقيقية عن‬

‫وحكى بوروس عن "طرزان ابن ِ‬ ‫الق َر َدة"‪ ،‬فقد تظاهرا فحسب‬ ‫بأهنام ينقالن الواقع‪ ،‬ولكنهام‪ ،‬يف احلقيقة‪ ،‬اخرتعا حيتانا ِ‬ ‫وق َر َدة ليس‬ ‫هلا وجود‪ ،‬ومل يعبأ أحدمها باحلقيقي منها‪.‬‬ ‫هل بإمكاننا القول‪ ،‬بدون أي شك‪ ،‬أن ملفيل‪ ،‬حني روى تلك‬

‫[‪ ]1‬آه سوزانا‪ :‬عرض غنائي كوميدي من تأليف ستيفن فوستر (‪1826‬ـ ‪.)1864‬‬ ‫[املترجم]‬ ‫[‪ ]2‬هاملت‪ :‬مسرحية تراجيدية من تأليف وليم شكسبير (‪1564‬ـ ‪ )1616‬كتبت تقريبا‬ ‫بين عامي ‪1599‬ـ‪[ .1601‬املترجم]‬ ‫[‪ ]3‬كارل نيلسون لينوس (‪1707‬ـ ‪ )1778‬عالم سويدي في مجاالت النبات‪ ،‬والحيوان‪،‬‬ ‫والفيزياء‪[ .‬املترجم]‬ ‫[‪ ]4‬هيرمان ملفيل (‪1819‬ـ‪ )1891‬روائي وشاعر أمريكي ‪ ،‬ومن أشهر أعماله رواية "موبي‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ديك" وتدور أحداثها في سفينة لصيد الحيتان‪ ،‬ونحكي صراعا رمزيا بين الحوت‬ ‫واإلنسان‪[ .‬املترجم]‬

‫‪14‬‬


‫الكتابة من الشمال إىل اليمني‬

‫القصة عن حيتان ال وجود هلا‪ ،‬مل يقصد قول أي يشء حقيقي عن‬ ‫احلياة واملوت‪ ،‬أو عن الغرور والعناد البرشيني؟‬ ‫إهنا إشكالية ؛ أن تصفه بأنه "مبدع" ذلك الكاتب الذي خيربنا‪،‬‬ ‫ببساطة‪ ،‬بأشياء ختالف الواقع‪ .‬لقد قال بطليموس‬

‫[‪]1‬‬

‫شيئا غري‬

‫حقيقي عن حركة األرض‪ ،‬هل ندعي حينئذ أنه أكثر إبداعا من‬ ‫كبلر[‪]2‬؟‬ ‫يقع االختالف‪ ،‬باألحرى‪ ،‬يف الطرق املتباينة التي يمكن أن‬ ‫يستجيب بحسبها الكتَّاب لتأويالت نصوصهم؛ فإذا قلت‬ ‫لفيلسوف‪ ،‬أو ِ‬ ‫لعامل‪ ،‬أو لناقد فني ‪ " :‬أنت كتبت ذا وذاك "‪ ،‬فيمكن‬ ‫للمؤلف دوما أن يرد بحسم قائال ‪ " :‬لقد أسأت فهم نيص‪ ،‬أنا‬ ‫أقصد العكس متاما"‪ ،‬لكن إذا طرح أحد النقاد تأويال ماركسيا‬ ‫لرواية‪" :‬البحث عن الزمن املفقود"[‪ ]3‬ـ وقال‪ :‬إنه يف ذروة أزمة‬ ‫[‪ ]1‬كالوديوس بطليموس (‪ 83‬ـ ‪ 161‬بعد امليالد) عالم رياضيات‪ ،‬وجغرافيا‪ ،‬وعالم‬ ‫فلك‪ ،‬كان قد ذهب إلى أن األرض ثابتة وأنها مركز الكون‪[ .‬املترجم]‬ ‫[‪ ]2‬يوهان كبلر (‪ 1571‬ـ ‪ )1630‬عالم أملاني متخصص في الرياضيات والفلك ‪ ،‬ذهب‬ ‫بخالف بطليموس إلى القول أن الكواكب تسير كل في مساره‪ ،‬فيما تحتل الشمس‬ ‫املركز‪[ .‬املترجم]‬ ‫[‪ ]3‬البحث عن الزمن املفقود‪ :‬رواية في سبعة مجلدات‪ ،‬من تأليف مارسيل بروست‪.‬‬ ‫وهي رواية عاملية إنسانية‪ ،‬تعنى بحياة الطفولة وذكرياتها‪ ،‬من خالل أسلوب‬

‫‪15‬‬


‫اعرتافات روائي شاب‬

‫انحالل الربجوازية فإن االنغامس التام يف جمال الذاكرة‪ ،‬قد أدى‪،‬‬ ‫بالرضورة‪ ،‬إىل عزل الفنان عن املجتمع ـ فإن هذا التأويل قد ال‬ ‫يروق لربوست‪ ،‬ولكن قد يكون من الصعب أن يدحضه‪.‬‬ ‫كقراء‬ ‫كام سنرى يف حمارضة الحقة‪ ،‬فإن الكتاب املبدعني ـ َّ‬ ‫مدركني ألعامهلم ـ يملكون‪ ،‬بالتأكيد‪ ،‬احلق يف حتدي التأويل غري‬ ‫ذي الصلة بأعامهلم‪.‬‬ ‫ولكن ينبغي عليهم‪ ،‬عموما‪ ،‬احرتام قرائهم‪ ،‬بام أهنم قد ألقوا‬ ‫بنصوصهم إىل العامل‪ ،‬كرسالة وضعت يف زجاجة وألقيت يف البحر‪،‬‬ ‫إذا جاز التعبري‪.‬‬ ‫بعدما أنرش نصا عن السيميوطيقا‬

‫[‪]1‬‬

‫كرس وقتي إما‬ ‫فإين أ ِّ‬

‫لالعرتاف بأنني كنت خمطئا‪ ،‬أو إلثبات أن أولئك الذين مل يفهموا‬ ‫النص‪ ،‬عىل النحو الذي قصدته‪ ،‬قد أساءوا قراءته‪.‬‬

‫«التذكر أو التداعي الحر ‪ Free Associtions‬أو تيار الوعي»‪ .‬وهي تقنية حديثة في‬ ‫الرواية‪ ،‬ابتكرها بروست وأدباء آخرون أمثال جيمس جويس‪ ،‬وفرجينا وولف‬ ‫وغيرهم‪[ .‬املترجم]‬ ‫ُ‬ ‫[‪ ]1‬السيميوطيقا‪ :‬علم يعنى بدراسة العالمات الرموز‪ ،‬ومعناها‪ ،‬وكيفية استعمالها‪.‬‬ ‫[املترجم]‬

‫‪16‬‬


‫الكتابة من الشمال إىل اليمني‬

‫وعىل العكس من ذلك‪ ،‬بعد نرشي لرواية‪ ،‬فإين أشعر مبدئيا‬ ‫عل‪ ،‬من الوجهة األخالقية‪ ،‬أال أحتدى تأويالت الناس هلا‬ ‫بأنه جيب َّ‬ ‫(وأال أشجع أ َّيا منها)‪.‬‬ ‫ذلك ُيدث ـ وهنا يمكننا متييز الفارق بني الكتابة اإلبداعية‬ ‫والكتابة العلمية ـ وذلك ألنه يف املقال النظري يريد املرء عادة أن‬ ‫يوضح فرضية معينة‪ ،‬أو أن يقدم إجابة ملسألة حمددة‪.‬‬ ‫بينام يف حالة القصيدة أو الرواية‪ ،‬فإن املرء يرغب يف أن يصور‬ ‫احلياة بكل تناقضاهتا‪ .‬يريد املرء حينئذ أن َينظِم سلسلة من‬ ‫التناقضات‪ ،‬وأن جيعلها جلية ومؤثرة‪ .‬ويطلب املبدعون من قرائهم‬ ‫حماولة الوصول إىل حل‪ ،‬إهنم ال يطرحون صيغة قاطعة (عدا ك َّتاب‬ ‫الفن اهلابط والك َّتاب العاطفيني‪ ،‬الذين هيدفون إىل تقديم التعزية‬ ‫الرخيصة)‪.‬‬ ‫وهذا هو سبب قويل‪ ،‬حني كنت ألقي كلمة حول روايتي األوىل‬ ‫عند صدورها‪ :‬أنه يمكن للروائي‪ ،‬أحيانا‪ ،‬أن يقول شيئا ال يستطيع‬ ‫الفيلسوف قوله‪.‬‬ ‫وهكذا‪ ،‬حتى كان عام ‪ ،1978‬عنها أحسست أين قد أمتمت‬

‫‪17‬‬


‫اعرتافات روائي شاب‬

‫حتقيق كوين فيلسوفا وعا ًملا سيميائ ًيا‪ ،‬حتى أين كتبت‪ ،‬ذات مرة‪،‬‬ ‫بلمسة تعجرف أفالطوين‪ :‬أن الشعراء والفنانني‪ ،‬عموما‪ ،‬سجناء‬ ‫أكاذيبهم‪ ،‬مقلدون ألمور مق َّلدة‪ ،‬بينام كنت‪ ،‬كفيلسوف‪ ،‬حائزا‬ ‫ملفاتيح عامل ا ُمل ُثل األفالطوين احلقيقي‪.‬‬ ‫يمكن القول‪ ،‬إذا استثنينا اإلبداع‪ ،‬أن العديد من الباحثني قد‬ ‫أحسوا بالدافع إىل رسد قصص‪ِ ،‬‬ ‫وأسفوا لعدم استطاعتهم حتقيق‬ ‫ذلك ـ وهذا هو السبب يف أن أدراج مكاتب العديد من أساتذة‬ ‫اجلامعة متتلئ بروايات سيئة مل تُنرش‪ .‬ولكني‪ ،‬عرب السنني‪ ،‬أشبعت‬ ‫رغبتي الرسية يف الرسد الروائي بطريقتني خمتلفتني‪:‬‬ ‫أوال‪ ،‬باالنخراط يف الرسد الشفاهي‪ ،‬فكنت أقص احلكايات‬ ‫عىل أطفايل (لذا أصبحت يف حرية بعدما كربوا‪ ،‬وحتولوا من سامع‬ ‫القصص اخليالية إىل سامع موسيقى الروك)؛ ثانيا‪ :‬صوغ كل مقال‬ ‫نقدي يف قالب رسدي‪.‬‬ ‫حينام ناقشت أطروحتي للدكتوراه عن "اجلامليات يف فلسفة‬ ‫توما األكويني" ـ وهو موضوع مثري للخالف‪ ،‬إذ كان العلامء يف‬ ‫ذلك الوقت‪ ،‬يعتقدون عدم وجود تأمالت مجالية يف جمموع أعامله‬

‫‪18‬‬


‫الكتابة من الشمال إىل اليمني‬

‫الضخمة ـ اهتمني أحد األساتذة املناقشني بنوع من "املغالطة‬ ‫الرسدية"؛ حيث قال‪ :‬حني يرشع الباحث الناضج يف عمل بحث‬ ‫حتام‪ ،‬يتقدم يف بحثه عرب مسار التجربة واخلطأ‪ ،‬يطرح‬ ‫ما‪ ،‬فإنه‪ً ،‬‬ ‫ويرفض االفرتاضات املختلفة‪ ،‬ولكن يف هناية البحث يكون قد تم‬ ‫هضم مجيع هذه املحاوالت‪ ،‬وعىل الباحث أن يعرض‬ ‫االستنتاجات النهائية فقط‪ ،‬ثم أضاف قائال‪ :‬أنني‪ ،‬عىل النقيض من‬ ‫ذلك‪ ،‬قد تناولت قصة بحثي كام لو كان رواية بوليسية‪.‬‬ ‫وكان االعرتاض وديا‪ ،‬وأوحى يل بفكرة جوهرية‪ ،‬مفادها‪ :‬أنه‬

‫ينبغي لكل النتائج البحثية أن " ُترسد" هبذه الطريقة‪.‬‬ ‫جيب أن يكون كل كتاب علمي أشبه ما "بالرواية البوليسية"[‪،]1‬‬ ‫تقرير عن السعي إىل ما يشبه الكأس املقدسة ‪.]2[Holy Grail‬‬ ‫وأحسب أنني قد حققت ذلك يف كل أعاميل األكاديمية الالحقة‪.‬‬ ‫[‪ Who-dun-it ]1‬أو ‪ whodunit :‬نوع من األعمال الفنية ـ فيلم أو روايةـ تدور حول‬ ‫جريمة قتل‪ ،‬وال ُيعرف فيها الجاني إال مع نهاية العمل‪[ .‬املترجم]‬ ‫[‪ ]2‬الكأس املقدسة ‪ Holy Grail:‬في األدب والتراث املسيحي تعني تلك الكأس التي‬ ‫استخدمها املسيح في العشاء األخير‪ ،‬ويسعى الجميع إلى العثور عليها‪ ،‬وتضفي‬ ‫األسطورة عليها سمة املعجزة‪ ،‬بالقول أنها تتضمن قوة ما‪ ،‬وعند بعض الجماعات‬ ‫ُ‬ ‫املسيحية األخرى فإنها رمز لوثائق ومخطوطات دفينة ألناجيل غير معروفة‪ ،‬تذكر‬ ‫فيها الطبيعة البشرية للمسيح‪[ .‬املترجم]‬

‫‪19‬‬


‫اعرتافات روائي شاب‬

‫كان يا ما كان‬ ‫يف بداية عام ‪ ،1978‬أخربتني صديقة يل‪ ،‬تعمل يف دار نرش‬ ‫صغرية‪ ،‬أهنا كانت تطلب من الكتاب غري الروائيني ( الفالسفة‪،‬‬ ‫وعلامء االجتامع‪ ،‬والسياسيني‪ ،‬وأمثال هؤالء ) أن يكتب الواحد‬ ‫منهم قصة بوليسية قصرية‪.‬‬ ‫للسبب الذي ذكرته توا‪ ،‬أجبتها بأين ال أهتم بالكتابة اإلبداعية‪،‬‬ ‫وتأكدي من عدم قدريت التامة عىل كتابة حوار جيد‪ ،‬وانتهيت (ال‬ ‫أدري ملاذا) إىل القول‪ ،‬بنحو مستفز‪ ،‬بأنه إن كان ينبغي عل أن‬ ‫أكتب رواية بوليسية‪ ،‬فستكون يف مخس مائة صفحة عىل األقل‪،‬‬ ‫وستقع أحداثها يف أحد أديرة العصور الوسطى‪ .‬فقالت تلك‬ ‫الصديقة أهنا ال تسعى إىل عمل رديء غري متقن‪ ،‬وانتهى لقاؤنا‬ ‫عندئذ‪.‬‬ ‫بمجرد عوديت إىل املنزل‪ ،‬أخذت يف تفتيش أدراج مكتبي‬ ‫مستعيدا بعض اخلربشات املكتوبة منذ أعوام سابقة ـ قطعة ورق‬ ‫كتبت عليها أسامء بعض الرهبان‪ .‬ومعنى ذلك أنه يف أكثر أنحاء‬

‫‪20‬‬


‫الكتابة من الشمال إىل اليمني‬

‫روحي رسية كانت تنمو‪ ،‬بالفعل‪ ،‬فكرة كتابة رواية‪ ،‬ولكني مل أكن‬ ‫واعيا هبا‪ .‬عند هذه النقطة‪ ،‬أدركت أنه سيكون أمرا جيدا أن يموت‬ ‫راهب بالسم بينام يقرأ كتابا غامضا‪ ،‬كان هذا كل يشء‪ .‬وبدأت يف‬ ‫كتابة" اسم الوردة"‪.‬‬ ‫بعدما تم نرش الكتاب‪ ،‬كثريا ما كان الناس يسألونني عن سبب‬ ‫قراري كتابة رواية‪ ،‬وكانت األسباب التي ذكرهتا ( والتي كانت‬ ‫تتنوع بحسب حالتي ) كلها حقيقية عىل األرجح ـ أي أهنا مجيعا‬ ‫كانت زائفة‪ .‬أخريا‪ ،‬أدركت أن اإلجابة الصحيحة الوحيدة هي‬ ‫أنني شعرت‪ ،‬يف حلظة معينة من حيايت‪ ،‬بدافع ُيثني عىل فعل ذلك‬ ‫ـ وأحسب أن هذا تفسري معقول وكاف‪.‬‬

‫كيف تكتب‬ ‫عندما كان مقدمو الربامج يسألونني ‪" :‬كيف تكتب رواياتك؟"‬ ‫فعادة ما أقطع احلديث عند هذه النقطة وأجيب ‪" :‬من الشامل إىل‬ ‫اليمني"‪.‬‬ ‫أدرك أن هذه إجابة غري مرضية‪ ،‬ويمكنها أن تثري بعض الدهشة‬

‫‪21‬‬


‫اعرتافات روائي شاب‬

‫يف البالد العربية وإرسائيل[‪ .]1‬أما اآلن فإن لدي الوقت لتقديم‬ ‫إجابة أكثر تفصيال‪.‬‬ ‫أثناء كتابة روايتي األوىل‪ ،‬تعلمت بعض األشياء‪:‬‬ ‫أوال‪ :‬أن "اإلهلام" كلمة سيئة‪ ،‬يستخدمها املؤلفون املخادعون‬ ‫ليبدوا ذوي مكانة فنية عالية‪ .‬وكام جاء يف القول املأثور ‪ :‬العبقرية ‪:‬‬ ‫عرشة باملائة إهلام وتسعون باملائة جهد‪ .‬وقد ُذكر أن الشاعر‬ ‫الفرنيس المارتني وصف الظروف التي كتب فيها واحدة من‬ ‫أفضل قصائده‪ ،‬فزعم أهنا جاءته كاملة يف حلظة نورانية‪ ،‬ذات ليلة‬ ‫فيام كان جيوب الغابة‪ .‬بعد موته‪ ،‬عثر أحدهم‪ ،‬يف غرفة مكتب‬ ‫المارتني‪ ،‬عىل عدد مثري للذهول من مسودات القصيدة ذاهتا‪ ،‬التي‬ ‫كتبها‪ ،‬ثم أعاد كتابتها عىل مدار السنني‪ .‬قال أول النقاد الذين‬ ‫عرضوا رواية" اسم الوردة" أهنا كُتبت حتت تأثري إهلام إرشاقي‪،‬‬ ‫وذلك‪ ،‬بسبب صعوباهتا املفاهيمية واللغوية‪ ،‬املوجهة‪ ،‬فقط‪ ،‬لقلة‬ ‫من السعداء‪.‬‬

‫[‪ ]1‬يقصد أن هذه الدول تكتب من اليمين إلى الشمال‪ ،‬فربما يندهش أهلها من أنه‬ ‫يكتب من الشمال إلى اليمين‪[ .‬املترجم]‬

‫‪22‬‬


‫الكتابة من الشمال إىل اليمني‬

‫عندما القى الكتاب نجاحا ملحوظا‪ ،‬وبيعت منه ماليني‬ ‫النسخ‪ ،‬كتب نفس الناقد لتدبري مثل هذا العمل الرائج واملمتع‬ ‫واألكثر مبيعا‪ ،‬فال شك‪ ،‬أنه اتبع وصفة رسية‪.‬‬ ‫بعد ذلك قالوا أن مفتاح نجاح الكتاب برناجما حاسوبيا ـ ناسني‬ ‫أن أول حاسوب شخيص به برنامج للكتابة قد ظهر‪ ،‬فقط‪ ،‬يف بداية‬ ‫الثامنينيات‪ ،‬عندما كانت روايتي تُطبع بالفعل‪ .‬ففي أعوام ‪ 1978‬ـ‬ ‫‪ ،1979‬كان كل ما يمكنك أن جتده‪ ،‬حتى يف الواليات املتحدة‬ ‫األمريكية‪ ،‬هو أجهزة كمبيوتر صغرية ورخيصة من إنتاج رشكة‬ ‫تاندي‪ ،‬ومل يكن هناك من يمكنه استخدامها يف كتابة أي يشء أكثر‬ ‫من رسالة‪.‬‬ ‫يف وقت ما‪ ،‬بعد ذلك‪ ،‬منزعجا قليال من تلك االدعاءات‬ ‫صغت وصفة حقيقية لكتابة عمل ُيقق أعىل املبيعات‪،‬‬ ‫احلاسوبية‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫باستخدام احلاسوب‪:‬‬ ‫قبل كل يشء فإنك حتتاج إىل حاسوب‪ ،‬أمر واضح‪ ،‬وهو عبارة‬ ‫عن آلة ذكية تقوم بالتفكري لك‪ .‬وقد ُيعد ذلك تقدما حاسام بالنسبة‬ ‫لبعض الناس‪ .‬وكل ما حتتاج إليه هو برنامج من عدة أسطر‪ ،‬يمكن‬

‫‪23‬‬


‫اعرتافات روائي شاب‬

‫حتى لطفل أن يفعل ذلك‪ .‬ثم يقوم املرء بتغذية احلاسوب‬ ‫بمحتويات مائة أو نحو ذلك من الروايات‪ ،‬واألعامل العلمية‪،‬‬ ‫واإلنجيل‪ ،‬والقرآن‪ ،‬وباقة من أدلة اهلاتف ( مفيدة جدا بالنسبة‬ ‫ألسامء الشخصيات )‪ .‬ولنقل‪ ،‬يشء مثل ‪ 120000‬صفحة‪ .‬بعد‬ ‫ذلك‪ ،‬باستخدام برنامج آخر‪ ،‬جتمع بعشوائية‪ ،‬أو بكلامت أخرى‪،‬‬ ‫ختلط كل هذه النصوص معا‪ ،‬وتقوم ببعض التعديالت ـ عىل سبيل‬ ‫املثال حذف كل حرف (‪ )e‬ـ من أجل أن حتصل‪ ،‬ليس عىل رواية‬ ‫فحسب‪ ،‬بل عىل رواية أشبه بأعامل برييك[‪ ]1‬اخلالية من حروف‬ ‫معينة[‪ .]2‬عند هذه النقطة‪ ،‬تضغط مفتاح "طباعة"‪ ،‬وحيث أنك قد‬ ‫حذفت كل حروف (‪ )e‬فام سيخرج سيكون أقل من ‪120000‬‬

‫صفحة‪ .‬وبعد أن تقرأها بعناية‪ ،‬عدة مرات‪ ،‬واضعا خطوطا حتت‬ ‫الفقرات املميزة‪ ،‬تذهب هبا إىل املحرقة‪ .‬ثم جتلس‪ ،‬ببساطة‪ ،‬حتت‬ ‫شجرة‪ ،‬مع قطعة من الفحم ولوح رسم‪ ،‬من نوع جيد‪ ،‬يف يدك‪،‬‬ ‫[‪ ]1‬جورج بيريك (‪1936‬ـ‪ )1982‬روائي فرنس ي‪ ،‬وصانع أفالم‪ ،‬تحتوي رواياته على الكثير‬ ‫من تجارب اللعب بالكلمات‪ ،‬فإحدى روايته "فراغ "‪ A Void‬تقع في ‪ 300‬صفحة‬ ‫كتبت جميعها بدون أي كلمة تتضمن حرف‪[ "e".‬املترجم]‬ ‫[‪ lipogram ]2‬نوع من الكتابة املتكلفة‪ ،‬أو لعبة الكلمات‪ ،‬وهي عبارة عن كتابة فقرات‬ ‫أو أعمال طويلة يتجنب مؤلفها استخدام حروف معينة‪ ،‬وغالبا ما تكون من‬ ‫الحروف املتحركة مثل حرف"‪[ ."e‬املترجم]‬

‫‪24‬‬


‫الكتابة من الشمال إىل اليمني‬

‫وتطلق لعقلك العنان‪ ،‬وتكتب سطرين ـ مثل ‪" :‬القمر عايل يف‬ ‫السامء ‪ /‬وللغابة حفيف"‪ .‬ربام ال يكون ما ينشأ يف بادئ األمر‬ ‫رواية‪ ،‬بل باألحرى من شعر اهلايكو الياباين[‪ ]1‬وبالرغم من ذلك‪،‬‬ ‫فإن األمر املهم هو البدء‪.‬‬

‫(‪)2‬‬

‫إذا حتدثنا عن تواتر اإلهلام‪ ،‬فقد استغرقني العمل يف كتابة "اسم‬ ‫الوردة" عامني فقط‪ ،‬لسبب بسيط؛ وهو أين مل أكن يف حاجة إلجراء‬ ‫بحوث تتعلق بالعصور الوسطى‪ .‬كام ذكرت آنفا‪ ،‬فإن أطروحتي‬ ‫لنيل الدكتوراه كانت حول مجاليات العصور الوسطى‪ ،‬كام أنني‬ ‫قمت بدراسة إضافية كرستها للعصور الوسطى‪ ،‬فعىل مدار‬ ‫األعوام قمت بزيارة الكثري من األديرة الرومانسكية[‪ ،]3‬والكنائس‬

‫[‪ ]1‬الهايكو‪ :Haiku :‬نوع من الشعر الياباني‪ ،‬يتميز بقصره الشديد‪ ،‬وبساطة ألفاظه‪،‬‬ ‫والتعبير عن عميق املشاعر واألحاسيس‪ ،‬الذي قد ال يتجاوز البيت الواحد‪.‬‬ ‫[املترجم]‬ ‫‪(2) (See Umberto Eco, "Come Scrivo, " in Maia Teresa Serafini, ed., come si‬‬ ‫‪scrive un romanzo (Milan:Bompiani,1996).‬‬ ‫[‪ ]3‬الطراز الرومانسكي ‪ :Romanesque‬هو أسلوب معماري للقرون الوسطى األوربية‪،‬‬ ‫ويتميز باألقواس شبه الدائرية‪ ،‬وضخامة الكتلة‪ ،‬والصالبة البادية‪ ،‬والقوة‪.‬‬ ‫[املترجم]‬

‫‪25‬‬


‫اعرتافات روائي شاب‬

‫القوطية[‪ ،]1‬وهكذا‪.‬‬ ‫عندما قررت كتابة الرواية‪ ،‬بدا األمر وكأين فتحت خزانة كبرية‪،‬‬ ‫حيث كنت أراكم ملفايت اخلاصة بالعصور الوسطى لعهود‪ .‬كل‬ ‫هذه املادة كانت متوفرة لدي‪ ،‬يف متناول يدي‪ ،‬ومل يكن عل إال أن‬ ‫أنتقي ما أحتاجه‪.‬‬ ‫بالنسبة للروايات الالحقة‪ ،‬كان األمر خمتلفا (رغم أن اختياري‬ ‫ملوضوع حمدد إنام يكون بسبب كونه مألوفا لدي)‪ .‬ويوضح ذلك‬ ‫السبب يف أن روايايت األخرية استغرقت وقتا طويال ـ ثامن سنوات‬ ‫ألجل "بندول فوكو"‪ ،‬ست سنوات ألجل "جزيرة اليوم السابق"‪،‬‬ ‫وكذلك ألجل "باودولينو"‪ .‬واستغرقت أربع سنوات فقط ألجل‬ ‫كتابة" اللهب الغامض للملكة لوانا"‪ ،‬بسبب أهنا تتعلق بقراءايت‬ ‫حينام كنت طفال‪ ،‬يف الثالثينيات واألربعينيات‪ ،‬وقد كان لدي‬ ‫االستعداد الستخدام الكثري من املواد القديمة‪ ،‬التي يف منزيل‪ ،‬مثل‬ ‫الرسوم اهلزلية‪ ،‬والتسجيالت‪ ،‬واملجالت‪ ،‬واجلرائد ـ باختصار‬ ‫[‪ ]1‬الطراز القوطي ‪ :Gothic‬طراز معماري انبثق من الطراز الرمانسكي في العصور‬ ‫الوسطى األوربية‪ ،‬ويتميز في املعمار الكنس ي بالتأكيد على االستطالة عاليا والخفة‪،‬‬ ‫كما تميز باألقواس املحدبة‪ ،‬والقباب ذات األضالع‪ ،‬والدعامات الطائرة‪[ .‬املترجم]‬

‫‪26‬‬


‫الكتابة من الشمال إىل اليمني‬

‫جمموعتي الكاملة من ذكريايت‪ ،‬وأسباب حنيني‪ ،‬وتوافهي‪.‬‬

‫َ‬ ‫بناء عالم‬ ‫ما الذي أفعله خالل أعوام احلمل األديب؟‬ ‫أمجع الوثائق‪ ،‬أزور أماكن‪ ،‬وأرسم خرائط‪ ،‬أسجل تصميامت‬ ‫املباين‪ ،‬أو السفن‪ ،‬كام يف حالة رواية "جزيرة اليوم السابق"‪ ،‬كام أقوم‬

‫بعمل رسوم ختطيطية لوجوه الشخصيات‪ .‬بالنسبة لرواية " اسم‬ ‫الوردة" فقد قمت بعمل لوحات فنية لوجوه كل الرهبان الذين‬ ‫كتبت عنهم‪.‬‬ ‫لقد قضيت أعوام اإلعداد هذه فيام يشبه القلعة املسحورة ـ أو‪،‬‬ ‫إذا كنتم تفضلون ذلك‪ ،‬يف حالة انسحاب توحدي‪ ،‬مل يكن أحد‬ ‫يعرف ما الذي أفعل‪ ،‬حتى أفراد أرسيت‪.‬‬ ‫كنت أعطي انطباعا بأين مشغول بالكثري من األشياء املختلفة‪،‬‬ ‫ولكني كنت دائم االنشغال يف صيد األفكار‪ ،‬والصور‪ ،‬والكلامت‬ ‫ألجل روايتي‪ ،‬فإذا رأيت سيارة عابرة يف الطريق‪ ،‬أثناء كتابتي عن‬ ‫العصور الوسطى‪ ،‬فيحدث أن أتأثر بلوهنا‪ ،‬فإين أسجل هذه‬

‫‪27‬‬


‫اعرتافات روائي شاب‬

‫التجربة يف دفرت مالحظايت‪ ،‬أو‪ ،‬ببساطة‪ ،‬يف عقل‪ ،‬فقد يلعب هذا‬ ‫اللون‪ ،‬الحقا‪ ،‬دورا يف وصف منمنمة فنية‪.‬‬ ‫عندما كنت بصدد التخطيط لرواية "بندول فوكو"‪ ،‬كنت أقيض‬ ‫الليايل املتتالية‪ ،‬حتى حلظة اإلغالق ‪ ،‬أذهب وأجيئ عرب ممرات‬ ‫املعهد الوطني للفنون ِ‬ ‫واحل َرف[‪ ،]1‬حيث تقع بعض أحداث قصتي‪،‬‬

‫حتى أمتكن من وصف سري كازاوبون‬

‫[‪]2‬‬

‫الليل عرب باريس‪ ،‬من‬

‫املعهد الوطني للفنون واحلرف إىل ميدان دي فويس[‪ ،]3‬قضيت‬ ‫عددا من الليايل متجوال عرب املدينة‪ ،‬بني الثانية والثالثة صباحا‪ ،‬وأنا‬ ‫ُأمل‪ ،‬عىل جهاز تسجيل صغري‪ ،‬كل يشء يمكن أن أراه‪ ،‬حتى ال‬ ‫أخطئ يف أسامء وتقاطعات الشوارع‪.‬‬ ‫حينام كنت أجهز لكتابة "جزيرة اليوم السابق" ذهبت‪ ،‬بطبيعة‬ ‫[‪ ]1‬املعهد الوطني للفنون والح َرف ‪:Conservatoire National des Arts et Métiers‬‬ ‫أسسته الحكومة الفرنسية عام ‪ ،1794‬وخصصته لتعليم وإجراء األبحاث ألجل‬ ‫التطوير في مجالي العلوم والصناعة‪ ،‬ويتضمن متحفا كبيرا يضم آالف األعمال‬ ‫الفنية واالبتكارات‪ ،‬ومن بينها النسخة األصلية لبندول فوكو‪[ .‬املترجم]‬ ‫[‪ ]2‬كازاوبون‪ :‬الشخصية الرئيسية في رواية "بندول فوكو"‪[ .‬املترجم]‬ ‫[‪ ]3‬ميدان دي فوي‪ :‬هو أقدم مخطط بنائي في باريس‪ ،‬على شكل مربع تام‪ ،‬طول ضلعه‬ ‫‪ 140‬مترا‪ ،‬بناه هنري الرابع بين عامي ‪- 1605‬ـ‪ ،1612‬ويقع في مقاطعة ماريه‪.‬‬ ‫[املترجم]‬

‫‪28‬‬


‫الكتابة من الشمال إىل اليمني‬

‫احلال‪ ،‬إىل بحار اجلنوب ‪ ،‬بالضبط إىل املوقع اجلغرايف الذي حدده‬ ‫الكتاب‪ ،‬لرؤية ألوان البحر والسامء يف ساعات خمتلفة من اليوم‪،‬‬ ‫والتالوين الشفيفة لألسامك والشعاب املرجانية‪.‬‬ ‫وكذلك قضيت‪ ،‬عامني أو ثالثة أعوام يف دراسة رسوم ونامذج‬ ‫السفن السائدة يف تلك الفرتة‪ ،‬ألعرف كيف كان حجم ال ُقمرة أو‬ ‫الكابينة‪ ،‬وكيف يمكن للشخص أن يتحرك من إحداها إىل‬ ‫األخرى‪.‬‬ ‫بعد نرش رواية "اسم الوردة" كان ماركو فرييري هو أول خمرج‬ ‫سينامئي يقرتح حتويل الرواية إىل فيلم‪ .‬قال يل ‪ " :‬يبدو كتابك وكأنه‬ ‫قد تم تصوره بشكل رصيح كسيناريو سينامئي‪ ،‬حيث يتسم احلوار‬ ‫بالطول الزمني املناسب"‪.‬‬ ‫يف البداية‪ ،‬مل أفهم السبب‪ ،‬تذكرت بعد ذلك أنني قبلام أبدأ‬ ‫الكتابة‪ ،‬كنت قد رسمت املئات من املتاهات وختطيطات األديرة؛‬ ‫لذا‪ ،‬علمت كم من الوقت تستغرقه شخصيتان للذهاب من مكان‬ ‫إىل آخر‪ ،‬فيم يتحاورون أثناء ذهاهبام‪ ،‬هكذا‪ ،‬فإن تصميم عاملي‬ ‫الروائي فرض الطول الزمني للحوار‪.‬‬

‫‪29‬‬


‫اعرتافات روائي شاب‬

‫هبذه الطريقة‪ ،‬تعلمت أن الرواية ليست جمرد ظاهرة لغوية‪.‬‬ ‫يف الشعر‪ ،‬يصعب ترمجة الكلامت ؛ ألن املعترب هو َجر ُسها[‪،]1‬‬ ‫إضافة إىل معانيها املتعددة واملقصودة‪ ،‬كام أن انتقاء املفردات هو ما‬

‫ُيدد املحتوى‪ ،‬بينام يف الرسد‪ ،‬تكون لدينا حالة مغايرة ؛ إنه ال َكو ُن‬ ‫الذي بناه املؤلف‪ ،‬واألحداث التي جرت فيه‪ ،‬وهذا هو ما يمل‬ ‫عليه اإليقاع‪ ،‬األسلوب‪ ،‬بل وحتى اختيار املفردات‪.‬‬ ‫الرسد حمكوم بالقاعدة الالتينية‪" :‬إلزم املوضوع‪ ،‬وستنثال‬ ‫الكلامت"‪ ،‬بينام جيب علينا‪ ،‬يف الشعر‪ ،‬أن نبدل ذلك إىل ‪":‬إلزم‬ ‫الكلامت‪ ،‬وسينثال املوضوع"‪.‬‬ ‫الرسد‪ ،‬أوال‪ ،‬وقبل أي يشء‪ ،‬هو مسألة كونية؛ لكي ترسد شيئا‬ ‫ما‪ ،‬تبدأ بام يشبه اخلالق الذي ُينشئ عاملا ـ وينبغي هلذا العامل أن‬ ‫يكون حمدد التفاصيل إىل أقىص درجة‪ ،‬بحيث يمكنك التجوال يف‬ ‫أرجائه بثقة تامة‪.‬‬ ‫اتبعت هذه القاعدة بدقة‪ ،‬فعىل سبيل املثال‪ ،‬عندما أقول‪ ،‬يف‬ ‫[‪َ ]1‬‬ ‫الج ْرس‪ :‬التأثير الصوتي أللفاظ القصيدة‪ ،‬والذي ينتج عن حسن اختيار الكلمات‪،‬‬ ‫وموسيقاها الداخلية‪[ .‬املترجم]‬

‫‪30‬‬


‫الكتابة من الشمال إىل اليمني‬

‫رواية "بندول فوكو" أن دارا نرش مانوزيو وجاراموند تقعان يف‬ ‫مبنيني متجاورين‪ ،‬وبينهام ممر‪ ،‬فإين قد أنفقت الكثري من الوقت يف‬ ‫رسم العديد من التخطيطات‪ ،‬متدبرا الكيفية التي يبدو عليها ذلك‬ ‫املمر‪ ،‬وما إذا كان جيب وجود بعض الدرجات لتعويض الفارق‬ ‫بني ارتفاع املبنيني‪ .‬يف الرواية‪ ،‬ذكرت الدرجات بإجياز‪ ،‬ومر هبا‬ ‫القارئ مرور الكرام‪ ،‬أظن‪ ،‬بدون أن يمنحها كثري اهتامم‪ .‬لكن‬ ‫بالنسبة يل فقد كانت أمرا حاسام‪ ،‬وإذا مل أكن قمت بتصميمها فام‬ ‫كنت ألواصل كتابة قصتي‪.‬‬ ‫يذكر الناس أن لوتشينو فيسكونتي[‪ ]1‬قام بيشء مشابه لذلك يف‬ ‫أفالمه‪ .‬فعندما يستدعي السيناريو من شخصيتني أن تتحدثا عن‬ ‫صندوق جموهرات‪ ،‬فإنه يرص عىل أن ُيتوي الصندوق‪ ،‬رغم أنه لن‬ ‫ُيفتح أبدا‪ ،‬عىل جموهرات حقيقية‪ .‬وإال فإن املمثلني سيؤدون‬ ‫أدوارهم بأداء أقل إقناعا‪.‬‬ ‫لقراء رواية "بندول فوكو" أن يعرفوا التصميم‬ ‫من غري املفرتض َّ‬

‫[‪ ]1‬لوتشينو فيسكونتي دي مودرون (‪1906‬ـ‪ )1976‬مخرج مسرحي وسينمائي وأوبرالي‬ ‫وكاتب سيناريو إيطالي‪ ،‬من أشهر أعماله "النمر األرقط"‪[ .‬املترجم]‬

‫‪31‬‬


‫اعرتافات روائي شاب‬

‫الدقيق ملكاتب دار النرش‪ ،‬عىل الرغم من أن بنية عامل الرواية ـ‬ ‫اإلعدادات اخلاصة بأحداث وشخصيات القصة ـ جوهرية بالنسبة‬ ‫للكاتب‪ ،‬وغالبا ما جيب أن تظل قليلة الوضوح بالنسبة للقارئ‪ .‬يف‬ ‫رواية "اسم الوردة"‪ ،‬عىل أية حال‪ ،‬هناك رسم ختطيطي للدير يف‬ ‫مقدمة الكتاب‪ .‬وهو مرجع خمادع للكثري من الروايات البوليسية‬ ‫التقليدية التي تتضمن رسام ختطيطيا ملرسح اجلريمة (مثل‪ :‬مقر‬ ‫الكاهن‪ ،‬قرص مالك الضيعة)‪ ،‬وهذا نوع من العالمات الساخرة‬ ‫للواقع‪ ،‬أقرب إىل "الدليل" املربهن عىل أن الدير موجود بالفعل‪.‬‬ ‫ولكني رغبت يف أن يتصور قرائي‪ ،‬بوضوح‪ ،‬كيف تتحرك‬ ‫شخصيايت يف الدير‪.‬‬ ‫بعدما نُرشت رواية "جزيرة اليوم السابق"‪ ،‬سألني نارشي‬ ‫األملاين عام إذا كان ذا نفع أن تتضمن الرواية رسام ختطيطيا يبني‬ ‫تصميم السفينة‪ .‬كان لدي مثل هذا الرسم التوضيحي‪ ،‬وقد‬ ‫استغرقني الكثري من الوقت يف تصميمه‪ ،‬مثلام كان األمر مع الرسم‬ ‫التخطيطي للدير لرواية "اسم الوردة"‪ .‬لكن يف حالة رواية‬ ‫"اجلزيرة" فقد رغبت يف أن يقع القارئ يف حرية ـ وكذا بطل‬

‫‪32‬‬


‫الكتابة من الشمال إىل اليمني‬

‫الرواية‪ ،‬غري القادر عىل إجياد طريقه يف هذه السفينة املتاهة‪ ،‬التي‬ ‫يبدأ يف استكشافها بعدما يتقرب بإراقة الكثري من اخلمر‪ .‬وهكذا‪،‬‬ ‫كنت يف حاجة إىل إرباك قارئي فيام أحتفظ بأفكاري واضحة ـ‬ ‫وأشري دوما‪ ،‬وأنا آخذ يف الكتابة‪ ،‬إىل الفضاءات املدروسة بدقة‬ ‫حتى آخر ملليمرت‪.‬‬

‫أفكار موحية‬ ‫إيل‪ ،‬وهو‪" :‬أي فكرة تقريبية‪ ،‬أو خطة‬ ‫سؤال آخر غالبا ما يوجه َّ‬ ‫تفصيلية‪ ،‬تشغل عقلك عندما ترشع يف الكتابة؟" فقط‪ ،‬بعد روايتي‬ ‫الثالثة‪ ،‬أدركت متاما أن كل رواية من روايايت إنام تنبثق من فكرة‬

‫موحية أصغر قليال من جمرد صورة‪ .‬يف كتايب "تأمالت يف اسم‬ ‫الوردة" ذكرت أين قد بدأت كتابة الرواية بسبب "أنني رغبت يف‬ ‫قتل ناسك بالسم"‪ .‬الواقع‪ ،‬أنا مل أرغب يف تسميم ناسك ـ أعني‪،‬‬ ‫أنني مل أرد أبدا أن أقتل أي شخص بالسم‪ ،‬سواء كان ناسكا أو‬ ‫عاملانيا‪ .‬لكنني‪ ،‬ببساطة‪ ،‬كنت مأخوذا بتصور أن ناسكا يموت بأثر‬ ‫السم بينام يقرأ كتابا‪ .‬ربام كنت أتذكر جتربة مرت يب يف عمر‬

‫‪33‬‬


‫اعرتافات روائي شاب‬

‫السادسة عرش‪ :‬كنت أزور حينها ديرا بندكتيا‬

‫[ ‪]1‬‬

‫(دير سانتا‬

‫سكوالستيكا يف سوبياكو)‪،‬رست عرب األروقة القروسطية‪ ،‬ثم‬ ‫وجلت إىل مكتبة معتمة‪ ،‬حيث وجدت‪ ،‬عىل مائدة القراءة‪ ،‬كتاب‬ ‫"أعامل القديسني"[‪ ]2‬مفتوحا‪ .‬تصفحت املجلد الضخم يف سكون‬ ‫عميق‪ ،‬فيم تنرسب بعض شعاعات ضوء عرب زجاج النوافذ‬ ‫امللونة‪ ،‬البد وأين أحسست بشئ كهزة إثارة‪ .‬بعد أكثر من أربعني‬ ‫عاما‪ ،‬انبثقت هذه اإلثارة من الوعيي‪.‬‬ ‫كانت تلك هي الصورة املوحية‪ .‬أما الباقي فقد جاء رويدا‬ ‫رويدا‪ ،‬أثناء سعيي الدؤوب ألجل الوصول إىل معنى هلذه الصورة‪.‬‬ ‫وقد جتىل بذاته‪ ،‬تدرجييا‪ ،‬بينام أن ِّقب يف نتاج مخس وعرشين عاما من‬ ‫واملسودة حول القرون الوسطى‪ ،‬واملقصود هبا‪،‬‬ ‫الكروت القديمة‬ ‫َّ‬ ‫أصال‪ ،‬غرض مغاير متاما‪.‬‬

‫[‪ ]1‬بندكتي‪ :‬نسبة إلى الرهبنة البندكتية‪ ،‬وهو نظام ديني كاثوليكي يتألف من مجتمعات‬ ‫رهبانية مستقلة‪ ،‬تحترم دور القديس بنديكت وتدعو إلى تكريس الحياة الروحانية‪،‬‬ ‫بحسب قاعدة القديس بنديكت‪ ،‬التي كتبها في القرن السادس‪ ،‬ملجتمعات الرهبنة‪.‬‬ ‫[املترجم]‬ ‫[‪ ]2‬أعمال القديسين‪ :‬موسوعة في ‪ 68‬مجلدا تدرس سير حياة القديسين املسيحين‬ ‫دراسة نقدية‪ ،‬ومرتبة بحسب يوم عيد كل قديس‪ ،‬نشرت عام ‪[ .1643‬املترجم]‬

‫‪34‬‬


‫الكتابة من الشمال إىل اليمني‬

‫مع رواية "بندول فوكو" كانت األمور أكثر تعقيدا؛ فبعد‬ ‫االنتهاء من كتابة "اسم الوردة" انتابني إحساس بأنني قد وضعت‬ ‫يف روايتي األوىل (وربام األخرية) كل يشء‪ ،‬حتى بنحو غري مبارش‪،‬‬ ‫يمكن أن أقوله عن نفيس‪ .‬هل كان هناك أي يشء آخر‪ ،‬خيصني‬ ‫حقا‪ ،‬يمكنني الكتابة عنه؟ انسابت صورتان إىل ذهني‪.‬‬ ‫األوىل‪ :‬كانت لبندول ليون فوكو[‪ ،]1‬الذي رأيته قبل ثالثة عرش‬ ‫عاما يف باريس‪ ،‬والذي ترك انطباعا هائال يف نفيس‪ .‬هزة إثارة‬ ‫أخرى كانت قد ُطمرت طويال يف روحي‪ .‬الصورة الثانية‪ :‬كانت يل‬ ‫وأنا أعزف الرتومبيت يف جنازة أقيمت ألعضاء من املقاومة‬ ‫اإليطالية[‪ .]2‬إهنا قصة حقيقية مل أتوانى عن تكرار ذكرها‪ ،‬ألين‬ ‫وجدهتا مجيلة ـ وأيضا ‪ ،‬ألنني أدركت ‪ ،‬بعدما قرأت أعامل جيمس‬ ‫جويس‬

‫[‪]3‬‬

‫الحقا‪ ،‬أنني مررت بتجربة ما أطلق عليه جويس يف‬

‫[‪ ]1‬بندول فوكو‪ُ :‬سمي باسم الفيزيائي الفرنس ي ليون فوكو‪ ،‬وهو عبارة عن أداة بسيطة‬ ‫ُ‬ ‫صنعت إلثبات دوران األرض‪ ،‬وهو عبارة عن بندول من الرصاص املطلي بالنحاس‪،‬‬ ‫وزنه ‪ 28‬كيلوجرام‪ ،‬معلق في سلك طوله ‪ 67‬مترا‪ ،‬واملزيد في هذا الرابط‪:‬‬ ‫‪[ https://en.wikipedia.org/wiki/Foucault_pendulum‬املترجم]‬ ‫[‪ ]2‬حركة املقاومة اإليطالية ‪ :The Italian resistance‬وهو ُّ‬ ‫تجمع لألحزاب اإليطالية‬ ‫املوالية للحلفاء في الحرب العاملية الثانية‪[ .‬املترجم]‬ ‫[‪ ]3‬جيمس جويس (‪ :)1941-1882‬قاص وروائي وشاعر ايرلندي‪ ،‬يعد من أهم وأكثر‬

‫‪35‬‬


‫اعرتافات روائي شاب‬

‫روايته( ستيفن بطال[‪ :)]1‬جتليا‪.‬‬

‫هكذا ‪ ،‬قررت أن أحكي قصة تبدأ بالبندول‪ ،‬وتنتهي بعازف‬ ‫ترومبيت صغري يف مقربة‪ ،‬ذات صباح مرشق‪ .‬لكن كيف يل‬ ‫االنتقال من البندول إىل الرتومبيت؟ ثامنية أعوام استغرقتها اإلجابة‬ ‫عىل هذا السؤال‪ ،‬وكانت اإلجابة هي الرواية ذاهتا‪.‬‬ ‫بالنسبة لرواية "جزيرة اليوم السابق"‪ ،‬فقد بدأت من سؤال‬ ‫عل صحفي فرنيس‪" :‬ملاذا تصف األماكن هبذه الدقة‬ ‫طرحه َّ‬ ‫العالية؟" مل ألتفت مطلقا ألسلويب يف وصف األماكن‪ ،‬لكن‬ ‫بالتفكري يف ذاك السؤال‪ ،‬فهمت ما قد قلت ـ أعني‪ ،‬أنك إذا قمت‬ ‫بتصميم التفاصيل الكاملة لعامل ما‪ ،‬فبإمكانك أن تصفه باعتباره‬ ‫مكانا‪ ،‬حيث أنه يتجسد أما ناظريك‪.‬‬

‫هناك صنف أديب تقليدي يسمى التجسيد اللغوي للصورة‬ ‫الكتاب تأثيرا في القرن العشرين‪ ،‬من أعماله الشهيرة‪" :‬عوليس"‪ ،‬و"صورة الفنان‬ ‫في شبابه"‪[ .‬املترجم]‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫[‪ ]1‬ستيفن بطال‪ :‬رواية من تأليف الكاتب االيرلندي جيمس جويس‪ .‬ن ِشرت الرواية في‬ ‫ُ‬ ‫عام ‪ ،1944‬بعد وفاة جيمس جويس‪ ،‬الرواية املطبوعة ال تشمل ك َّل النص‬ ‫ً‬ ‫األصلي‪ ،‬حيث ضاعت أجزاء من املخطوطة‪ .‬اقتبس جويس في كتابة "ستيفن بطال"‬ ‫َّ‬ ‫الذاتية‪[ .‬املترجم]‬ ‫عناصر من سيرته‬

‫‪36‬‬


‫الكتابة من الشمال إىل اليمني‬

‫‪ ، ]1[ ekphrasis‬وهو عبارة عن وصف عمل فني معني (لوحة أو‬ ‫متثال) بدقة عالية‪ ،‬حتى يمكن‪ ،‬ملن مل يشاهدوا ذلك العمل‪ ،‬أن‬ ‫يروه كأنه قائم أمام أعينهم‪ .‬مثلام كتب جوزيف أديسون يف كتابه‬ ‫" ُم َتع التخيل"(‪" :)1712‬إذا اختريت الكلامت بدقة‪ ،‬فإهنا حتوز قوة‬

‫داخلية‪ ،‬حتى لنجد أن الوصف يقدم لنا أفكارا أكثر حيوية مما تقدمه‬

‫رؤية األشياء نفسها"‪ .‬لقد قيل أنه عند اكتشاف متثال الوكون‬

‫[‪]2‬‬

‫يف‬

‫روما عام ‪ ،1506‬عرف الناس أنه ذلك التمثال اليوناين الشهري؛‬ ‫بسبب الوصف الذي كتبه بليني الكبري يف كتابه "التاريخ الطبيعي"‪.‬‬ ‫فلم ال أحكي قصة يلعب فيها املكان دورا هاما؟ إضافة إىل‬ ‫روايتي األوليتني تكلمت كثريا عن األديرة‬ ‫ذلك (قلت لنفيس) ففي‬ ‫َّ‬ ‫واملتاحف ـ وهذا عن أماكن ثقافية مغلقة‪ .‬جيب أن أحاول الكتابة‬ ‫عن أماكن طبيعية مفتوحة‪ .‬ولكن كيف يمكنني أن أمأل رواية بمثل‬

‫ُ‬ ‫ترجمتها إلى‪ " :‬التصوير اللغوي للعمل الفني"‪ ،‬وهي كلمة من أصل‬ ‫[‪:ekphrasis ]1‬‬ ‫يوناني‪ ،‬تعني‪ :‬كتابة وصف بالغي لعمل فني (لوحة أو تمثال) على سبيل التمرين‪.‬‬ ‫[املترجم]‬ ‫[‪ ]2‬تمثال الوكون‪ :‬تمثال تذكاري ضخم من املرمر‪ ،‬يوجد حاليا في متاحف الفاتيكان في‬ ‫روما‪ .‬ويصور الكاهن الطروادي الكون‪ ،‬وأبناءه أنتيفانتس وثيمبرايوس‪ ،‬يصارعون‬ ‫أفاعي بحرية‪[ .‬املترجم]‬

‫‪37‬‬


‫اعرتافات روائي شاب‬

‫هذه األماكن اهلائلة االتساع ـ الطبيعية وال يشء آخر؟ بأن أضع‬ ‫بطل روايتي يف جزيرة خالية‪.‬‬ ‫يف الوقت نفسه‪ ،‬كنت مفتونا بإحدى تلك الساعات التي تبني‬ ‫الوقت يف كل بقعة عىل وجه األرض‪ ،‬وهبا عالمة تشري إىل خط‬ ‫التوقيت الدويل[‪ ]1‬عىل املائة وثامنني خط زوال‪ .‬كلنا يعلم بوجود‬

‫هذا اخلط‪ ،‬ألن اجلميع قرأوا كتاب جوليوس فرين "حول العامل يف‬ ‫ثامنني يوما"‪ ،‬ولكننا‪ ،‬غالبا‪ ،‬ال نفكر فيه‪.‬‬ ‫حسنا‪ ،‬فقد كان عىل بطل روايتي أن يكون غرب هذا اخلط‪،‬‬ ‫ويرى جزيرة جهة الرشق‪ ،‬حيث كانت يف اليوم السابق‪ .‬ال يمكن‬ ‫أن يتحطم قاربه عىل شاطئ اجلزيرة نفسها‪ ،‬بل جيب أن تتقطع به‬ ‫السبل عىل مرمى البرص منها‪ ،‬وجيب أن أال يكون قادرا عىل‬ ‫السباحة‪ ،‬ولذلك سيكون جمربا عىل أن يرنو بنظره إىل اجلزيرة‬ ‫القاصية عنه مكانا وزمانا‪.‬‬ ‫أظهرت ساعتي أن تلك البقعة احلاسمة تقع عند جزر‬ ‫[‪ ]1‬خط التوقيت الدولي‪ :‬هو خط جرينيتش الوهمي‪ ،‬الواقع على خط الطول ‪180‬‬ ‫درجة‪ ،‬وبه تتحدد املناطق الزمنية في أنحاء العالم‪ ،‬بحسب بعد املكان عنه‪ ،‬شرقا‬ ‫أو غربا‪[ .‬املترجم]‬

‫‪38‬‬


‫الكتابة من الشمال إىل اليمني‬

‫أليوتيان[‪ ،]1‬ولكني ما كنت أعلم كيف أجعل الشخصية تعلق يف‬ ‫هذا املكان‪ .‬هل بإمكاين أن أجعل قارب بطل يتحطم مصطدما‬ ‫بمنصة برتول؟ ذكرت آنفا أين أحتاج‪ ،‬حني الكتابة عن مكان حمدد‪،‬‬ ‫أن أذهب إليه‪ ،‬ولكن فكرة الذهاب إىل منطقة شديدة الربودة مثل‬ ‫جزر أليوتيان مل تكن مقبولة يل عىل اإلطالق‪.‬‬ ‫لكن بعدما فكرت يف املسألة مليا‪ ،‬وتصفحت أطلس اخلرائط‪،‬‬ ‫اكتشفت أن خط التوقيت الدويل يمر أيضا عرب أرخبيل فيجي‪.‬‬ ‫جزر جنوب املحيط الباسيفيكي هلا روابط قوية بالكاتب روبرت‬ ‫لويس ستيفنسون[‪ .]2‬أصبحت الكثري من هذه األرايض معروفة‬ ‫لألوربيني يف القرن السابع عرش‪ ،‬أنا أعلم ثقافة الباروك[‪ ]3‬جيدا ـ‬ ‫[‪ ]1‬جزر أليوتيان‪ :‬سلسلة جزر بركانية‪ ،‬غرب شبه جزيرة أالسكا‪[ .‬املترجم]‬ ‫[‪ ]2‬روبرت لويس بلفور ستيفنسون( ‪ )1894 - 1850‬روائي‪ ،‬وشاعر‪ ،‬وكاتب مقاالت‪،‬‬ ‫وكاتب اسكتلندي‪ ،‬تخصص في أدب الرحالت‪ ،‬أبحر في يخت استأجره هو وعائلته‬ ‫من سان فرانسيسكو إلى جزر جنوب املحيط الهادي‪ ،‬زار خاللها ثالثا وثالثين‬ ‫جزيرة‪ ،‬وقد وصف بعض هذه الجزر كجزر املاكيز‪ ،‬وهاواي‪ ،‬وساموا‪ ،‬في كتاب‬ ‫"حاشية للتاريخ" عام ‪ ،1892‬وكتاب " البحار الجنوبية"‪ ،‬ثم أصبحت جزيرة ساموا‬ ‫وطنه الدائم‪ ،‬منذ عام ‪ 1890‬فمات فيها في ديسمبر عام ‪ ،1894‬ودفن جثمانه في‬ ‫قمة جبل "فيا" في هذه الجزيرة أيضا‪[ .‬املترجم]‬ ‫[‪ ]3‬الباروك‪ :‬اصطالح مستعمل في فن العمارة والتصوير‪ ،‬معناه الحرفي‪ :‬شكل غريب‪،‬‬ ‫غير متناسق‪ ،‬معوج‪ .‬يتميز األسلوب الباروكي بالضخامة‪ ،‬ويمتلئ بالتفاصيل املثيرة‪.‬‬

‫‪39‬‬


‫اعرتافات روائي شاب‬

‫تلك كانت أزمان الفرسان الثالثة والكاردينال ريتشيليو[‪ .]1‬كان‬ ‫عل البدء‪ ،‬وبعد ذلك‪ ،‬فإن الرواية سوف متيض بنفسها‪.‬‬ ‫ما أن ينتهي املؤلف من تصميم عامله الرسدي‪ ،‬فإن الكلامت‬ ‫ستنثال‪ ،‬وستكون عىل النحو الذي يتطلبه هذا العامل‪ .‬هلذا السبب‪،‬‬ ‫فإن األسلوب الذي استخدمته يف رواية "اسم الوردة" كان‬ ‫أسلوب مؤرخ قروسطي‪ :‬دقيق‪ ،‬بسيط‪ ،‬سطحي عند الرضورة‬ ‫(ناسك متواضع يف القرن الرابع عرش لن يكتب مثل جويس‪ ،‬ولن‬ ‫تكون له ذاكرة بروست)‪ .‬من ناحية أخرى‪ ،‬فحيث من املفرتض‬ ‫أنني أنسخ من إحدى ترمجات القرن التاسع عرش لنص قروسطي‪،‬‬ ‫فإن النموذج األسلويب كان‪ ،‬بنحو غري مبارش‪ ،‬هو التينية الرواة‬ ‫التارخييني القروسطيني يف ذاك الوقت‪ ،‬أما النموذج األكثر مبارشة‬ ‫فهو أسلوب املرتمجني املعارصين ألعامهلم‪.‬‬ ‫يف رواية "بندول فوكو" لزم أن يكون هناك دور لعدد من‬

‫[املترجم]‬ ‫[‪ ]1‬الفرسان الثالثة‪ :‬رواية أللكسندر دوماس‪ ،‬وكانت إحدى شخصياتها الكاردينال‬ ‫ريتشيليو‪ ،‬رجل دين ونبيل فرنس ي‪ ،‬عين كارديناال ورئيسا للوزراء في حكم لويس‬ ‫الثالث عشر‪ .‬وهناك لوحة شهيرة له في متحف اللوفر‪[ .‬املترجم]‬

‫‪40‬‬


‫الكتابة من الشمال إىل اليمني‬

‫اللغات‪ :‬لغة منطقة آجليي [شامل إيطاليا] املثقفة والعتيقة‪ ،‬واللغة‬ ‫البالغية ِشبه الفاشية االنونزية[‪ ]1‬ألردنتي‪ ،‬واللغة األدبية اجلافة‬ ‫واملثرية للسخرية مللفات بيلبو الرسية (ما بعد حداثية حقا يف‬ ‫استخدامها النهم لالقتباسات األدبية)‪ ،‬إن أسلوب جاراموند‬ ‫املبتذل[‪ ،]2‬واحلوار الفاحش للمحررين الثالثة‪ ،‬خالل ختيالهتم‬ ‫املستخفة بالعواقب‪ ،‬حيث يمزجون اإلشارات الرصينة بالتوريات‬ ‫العابثة‪ .‬مل تستند تلك "القفزات يف الالئحة" إىل اختيار أسلويب‬ ‫َ‬ ‫العامل الذي جتري فيه‬ ‫بسيط‪ ،‬ولكنها حتددت بحسب طبيعة‬ ‫األحداث‪ ،‬وبحسب الطبيعة النفسية للشخصيات‪.‬‬ ‫يف رواية "جزيرة اليوم السابق" كانت احلقبة الثقافية هي العامل‬ ‫املحدِّ د‪ .‬مل تؤثر يف األسلوب فحسب‪ ،‬بل يف نفس بنية احلوار‬ ‫اجلاري بني السارد والشخصية‪ ،‬فيم ُيناشد القارئ باستمرار‬ ‫للمشاركة كشاهد متواطئ يف ذلك احلوار‪ .‬نشأ هذا النوع من‬

‫[‪ ]1‬أنونزي‪ :‬نسبة إلى جابرييل دانونزيو‪ ،‬كاتب روائي ومسرحي وشاعر وصحفي إيطالي‪،‬‬ ‫كان جنديا في الحرب العاملية األولى‪ ،‬يميل إلى الفاشية‪[ .‬املترجم]‬ ‫[‪ ]2‬جاراموند‪ :‬إحدى شخصيات رواية "بندول فوكو"‪ :‬مالك دار جاراموند للنشر‪.‬‬ ‫[املترجم]‬

‫‪41‬‬


‫اعرتافات روائي شاب‬

‫االختيار املاوراء رسدي[‪ ]1‬من واقع أن عىل شخصيايت التحدث‬ ‫بأسلوب باروكي[‪ ،]2‬رغم أنني شخصيا ال أستطيع ذلك‪ .‬لذا‪ ،‬كان‬ ‫جيب أن يكون لدي راو متعدد األحوال املزاجية واملهام‪ :‬فأحيانا‬ ‫يكون ساخطا من التجاوزات اللفظية لشخصياته‪ ،‬ويف أحيان‬ ‫أخرى يصري هو ضحيتهم‪ ،‬ويف غريها‪ُ ،‬ياول ختفيف تلك‬ ‫التجاوزات باالعتذار إىل القارئ‪.‬‬ ‫حتى اآلن‪ ،‬فإين قلت‪:‬‬ ‫صورة‪،‬‬

‫و(‪)2‬‬

‫(‪)1‬‬

‫نقطة بدئي هي فكرة موحية أو‬

‫أن بنية العامل الرسدي هو ما ُيدد أسلوب الرواية‪.‬‬

‫وتأيت مغامريت الرابعة يف كتابة الرواية‪" :‬باودولينو "‪ ،‬ل ُتناقض هذين‬ ‫املبدأين‪ .‬ففيام خيص الفكرة املوحية‪ :‬فقد ظل لدي عدد من هذه‬ ‫األفكار‪ ،‬لعامني عىل األقل ـ وإذا كان هناك العديد من األفكار‬ ‫املوحية‪ ،‬فتلك عالمة عىل أهنا أفكار عقيمة‪ .‬عند نقطة معينة قررت‬

‫[‪ ]1‬ما وراء سردي‪ :‬نوع من الكتابة األدبية‪ ،‬يكون التركيز فيه على العمل نفسه‪ ،‬والذي‬ ‫يدخل في بنيته تنبيه القارئ‪ ،‬كل حين‪ ،‬بأنه يقرأ عمال روائيا‪ .‬وبتعبير أمبرتو إكو‪ :‬هو‬ ‫" إيحاءات بأن النص يشكل طبيعته بنفسه‪ ،‬بينما نرى املؤلف يتحدث مباشرة إلى‬ ‫القارئ‪[ ".‬املترجم]‬ ‫[‪ ]2‬أسلوب باروكي‪ :‬أسلوب فني‪ ،‬يتميز باملبالغة في التراكيب والتفاصيل الفنية‪ ،‬وميل‬ ‫للغموض‪ ،‬واستخدام الحيل البالغية في األدب‪ ،‬إلظهار ترف اللغة‪[ .‬املترجم]‬

‫‪42‬‬


‫الكتابة من الشمال إىل اليمني‬

‫أن يكون بطل روايتي صبي مولود يف اإلسكندرية‪ ،‬مسقط رأيس‪،‬‬ ‫بارباروسا‪.‬‬ ‫والتي ُبنيت يف القرن الثاين عرش‪ ،‬وحارصها فريدريك‬ ‫َّ‬ ‫إضافة إىل ذلك‪ ،‬فقد أردت أن يكون باودولينو ابنا جلاجلياودو‬ ‫األسطوري‪ ،‬الذي قام‪ ،‬بإحباط خطة بارباروسا يف اجتياح املدينة‪،‬‬ ‫بواسطة خدعة ماكرة‪ ،‬كذبة‪ ،‬حيلة‪ ،‬وإذا أردتم أن تعرفوها فاقرأوا‬ ‫الكتاب‪.‬‬ ‫كانت رواية "باودولينو" فرصة طيبة للعودة إىل العصور‬ ‫الوسطى‪ ،‬األثرية لدي‪ ،‬إىل جذوري الشخصية‪ ،‬إىل افتتاين بتلفيق‬ ‫األحداث‪ .‬لكن هذا مل يكن كافيا‪ .‬مل أكن أعلم كيف أبدأ‪ ،‬أي‬ ‫أسلوب أستخدم‪ ،‬أو من هو بطل احلقيقي‪.‬‬ ‫فكرت يف حقيقة أنه يف هذه األيام‪ ،‬يف مسقط رأيس‪ ،‬مل يعد‬ ‫الناس يتحدثون باللغة الالتينية‪ ،‬بل استخدموا هلجات جديدة‪،‬‬ ‫شكلت بنحو ما اللغة اإليطالية املعارصة‪ ،‬التي كانت حينئذ يف‬ ‫مهدها‪ .‬غري أنه مل يكن لدينا سجالت للهجة املستخدمة يف تلك‬ ‫األعوام‪ ،‬يف شامل رشق إيطاليا‪ .‬بالتايل‪ ،‬رصت حرا يف اخرتاع‬ ‫تعبريات شعبية‪ ،‬لغة افرتاضية بسيطة ختص منطقة وادي بو‪ ،‬يف‬

‫‪43‬‬


‫اعرتافات روائي شاب‬

‫القرن الثاين عرش‪ ،‬وأحسب أين قد أجدت صياغتها‪ ،‬إذ أخربين‬ ‫صديق يل‪ ،‬يقوم بتدريس مقرر درايس عن تاريخ اللغات اإليطالية‪،‬‬ ‫أن لغة باودولينو ـ عىل الرغم من أن أحدا ال يمكنه أن يؤكد أو أن‬ ‫يدحض ابتكاري ـ غري بعيدة االحتامل‪.‬‬ ‫هذه اللغة‪ ،‬التي جعلت مرتمجي أعاميل الشجعان يواجهون‬ ‫إيل بالطبيعة النفسية لبطل روايتي‪،‬‬ ‫مشاكل ليست هينة‪ ،‬أوحت َّ‬ ‫باودولينو‪ ،‬وجعلت من روايتي الرابعة حتوال إىل دنيا العوام من‬ ‫الناس‪ ،‬بالنسبة إىل رواية " اسم الوردة"‪ .‬فاألخرية كانت قصة‬ ‫مثقفني يتحدثون بأسلوب راق‪ ،‬بينام "باودولينو" تتعامل مع‬ ‫فالحني‪ ،‬حماربني‪ ،‬وشعراء يتصفون باملجون [‪ .] 1‬وهكذا فإن‬ ‫األسلوب الذي تبنيته هو الذي حدد القصة التي سأحكيها‪.‬‬ ‫ينبغي يل االعرتاف‪ ،‬عىل أية حال‪ ،‬أن رواية " باودولينو"‪ ،‬تقوم‪،‬‬ ‫أيضا‪ ،‬عىل صورة أوىل مثرية للمشاعر؛ فلطاملا كنت مفتونا‬

‫[‪ ]1‬جاليار ‪ :Goliards‬جماعة صغيرة من الكهنة في القرنين الثاني عشر والثالث عشر‪،‬‬ ‫اشتهروا بكتابة الشعر الساخر‪ ،‬محتجين به على ما تعانيه الكنيسة من تناقضات‪،‬‬ ‫واتصفت حياتهم بالتسكع واالنحراف‪[ .‬املترجم]‬

‫‪44‬‬


‫الكتابة من الشمال إىل اليمني‬

‫بالقسطنطينية ‪ ،‬التي مل أرها مطلقا‪ ،‬ولكي أجد مربرا لزيارهتا‪،‬‬ ‫احتجت إىل أن أحكي قصة عن هذه املدينة‪ ،‬وعن احلضارة‬ ‫البيزنطية‪ .‬لذلك ذهبت إىل القسطنطينية‪ ،‬واستكشفت سطحها‬ ‫البادي‪ ،‬وكذا ما حتته من طبقات‪ ،‬ووجدت صورة البداية لقصتي‪:‬‬ ‫لقد أحرق الصليبيون املدينة عام ‪.1204‬‬ ‫القسطنطينية آخذة يف االشتعال‪ ،‬وشاب خيتلق األكاذيب‪،‬‬ ‫وإمرباطور جرماين‪ ،‬وبعض املتوحشني األسيويني‪ ،‬وها قد صار‬ ‫لديك الرواية‪ .‬أعرتف أهنا ال تبدو كوصفة مقنعة‪ ،‬ولكن بالنسبة يل‬ ‫فقد أدت عملها‪.‬‬ ‫جيب أن أذكر هنا أنه بالقراءة املتبحرة حول الثقافة البيزنطية‪،‬‬ ‫اكتشفت نيكيتاس إكسونياتيس‪ ،‬وهو مؤرخ يوناين هلذه الفرتة‬ ‫الزمنية‪ ،‬وقررت أن أحكي القصة برمتها يف صورة تقرير يقدمه‬ ‫باودولينو ـ كاذب مزعوم ـ إىل نيكيتاس‪ .‬كان لدي أيضا بنائي‬ ‫املاوراء رسدي‪ :‬قصة يكون فيها نيكيتاس‪ ،‬بل والسارد والقارئ‬ ‫أيضا‪ ،‬غري موقنني بام يرويه باودولينو‪.‬‬

‫‪45‬‬


‫اعرتافات روائي شاب‬

‫قيــود‬ ‫قلت آنفا أنني ما إن أجد الصورة املوحية ‪ ،‬فإن القصة تتابع‬ ‫تقدمها ذاتيا‪ .‬هذا حقيقي ولكن إىل مدى معني‪ .‬فلكي ُمتكن القصة‬ ‫من امليض قدما‪ ،‬فعىل الكاتب أن يفرض بعض القيود‪.‬‬ ‫القيود أمر جوهري يف كل حماولة فنية‪ .‬املصور الذي يقرر‬ ‫استخدام ألوان الزيت ال ألوان التمبريا[‪ ،]1‬وأن يرسم عىل القامش‬ ‫وليس عىل اجلدار‪ ،‬املؤلف املوسيقي الذي خيتار مقام معني‪ ،‬الشاعر‬ ‫الذي خيتار نظام إيقاعيا معينا‪ ،‬أو التفعيلة اليونانية األحادية عرشة‬ ‫وليس التفعيلة السداسية السكندرية‪ ،‬مجيع ذلك يؤسس ملنظومة‬ ‫من القيود‪ .‬كذلك فعل الفنانون الطليعيون‪ ،‬الذين بدوا وكأهنم‬ ‫يتجاوزون القيود؛ ولكنهم‪ ،‬ببساطة‪ ،‬يؤسسون قيودا أخرى‪ ،‬ال‬ ‫يالحظها أحد‪.‬‬ ‫أن ختتار األبواق السبعة يف ِسفر الرؤيا ثيمة ألحداث متوالية‪،‬‬ ‫مثلام فعلت يف "اسم الوردة"‪ ،‬هو قيد‪ .‬البعض اآلخر قد جيعل‬ ‫[‪ ]1‬ألوان التيمبيرا‪ :‬نوع من األلوان املستخدمة في التصوير‪ ،‬تتكون من مزيج من‬ ‫الصباغ‪ ،‬وصفار البيض‪ ،‬واملاء‪[ .‬املترجم]‬

‫‪46‬‬


‫الكتابة من الشمال إىل اليمني‬

‫أحداث القصة تقع يف وقت حمدد بإحكام‪ ،‬ألنه‪ ،‬يف فرتات تارخيية‬ ‫حمددة‪ ،‬يمكنك أن جتعل بعض األشياء حتدث‪ ،‬وال يمكنك يف‬ ‫غريها‪ .‬مما ُيعد قيدا أن تقرر‪ ،‬جمارا ًة للهواجس الغامضة لبعض‬ ‫شخصيايت‪ ،‬أن رواية "بندول فوكو" يف حاجة إىل أن تتكون من مائة‬ ‫وعرشين فصال بالتحديد‪ ،‬ألنه جيب تقسيم القصة إىل عرش أجزاء‪،‬‬ ‫لتصبح مثل التجليات النورانية العرشة للكاباال[‪.]1‬‬ ‫قيد آخر يف رواية "بندول فوكو"؛ إذ كان عىل الشخصيات أن‬ ‫تعايش احتجاجات الطلبة عام ‪ .1968‬غري أن بيلبو حينئذ كان‬ ‫يسجل ملفاته عىل احلاسوب ـ والذي يلعب دورا أساسيا يف‬ ‫القصة‪ ،‬عرب االستلهام اجلزئي لطبيعة نظامه الرقمي والعشوائي ـ‬ ‫وعىل ذلك فإن األحداث النهائية يمكن أن تقع‪ ،‬فقط‪ ،‬يف بداية‬ ‫الثامنينيات‪ ،‬وليس قبل ذلك؛ إذ أن أول حاسوب شخيص‪ ،‬يتضمن‬ ‫برناجما ملعاجلة الكلامت‪ ،‬كان قد بدأ تسويقه يف إيطاليا عام‬ ‫‪1982‬ـ‪ .1983‬وحتى ينرصم الوقت من عام ‪ 1968‬إىل عام‬ ‫‪ 1983‬اضطررت إىل إرسال بطل روايتي إىل مكان آخر‪ ،‬أين؟‬ ‫[‪ ]1‬الكاباال‪ :‬عقيدة صوفية سرية يهودية‪ ،‬وتؤمن بقوى عشرة لإلله‪ ،‬يتحكم من خاللها‬ ‫بأبديته في العالم الزائل‪[ .‬املترجم]‬

‫‪47‬‬


‫اعرتافات روائي شاب‬

‫أرجعتني ذكريايت عن بعض الطقوس السحرية التي شهدهتا إىل‬ ‫الربازيل‪ ،‬حيث جعلت كازاوبون يعيش ألكثر من عرش أعوام‪.‬‬ ‫رأى البعض يف ذلك استطرادا طويال‪ ،‬أما بالنسبة يل (ولبعض‬ ‫اخلريين) فقد كان ذلك أمرا أساسيا‪ ،‬ألن ما حدث يف‬ ‫القراء ِّ‬ ‫الربازيل هو نوع من هلوسة الشعور املسبق بام سيحدث‬ ‫لشخصيايت فيام بقي من الكتاب‪.‬‬ ‫إذا كانت رشكتي الكمبيوتر الشخيص‪ :‬آي يب إم‪ ،‬وآبل‪ ،‬قد بدأتا‬ ‫يف تسويق معالج كلامت جيد‪ ،‬قبل ذلك الوقت بست أو سبع‬ ‫سنني‪ ،‬جلعل هذا روايتي خمتلفة‪ .‬فام كانت الربازيل لتوجد يف‬ ‫الرواية ـ ومن وجهة نظري‪ ،‬فإن ذلك كان س ُيعد خسارة كبرية‪.‬‬ ‫قامت رواية "جزيرة اليوم السابق" عىل سلسلة من القيود‬ ‫الزمنية‪ .‬عىل سبيل املثال‪ :‬أردت لبطل روايتي‪ ،‬روبرتو‪ ،‬أن يكون يف‬ ‫باريس يوم موت ريتشيليو (‪ 4‬ديسمرب ‪ .)1642‬هل كان من‬ ‫الرضوري لروبرتو أن يكون حارضا ملوت ريتشيليو؟ أبدا‪ ،‬فإن‬ ‫روايتي ستظل كام هي‪ ،‬حتى وإن مل يرى روبرتو روتشيليو يف نزعه‬ ‫ضمنت هذا‬ ‫األخري‪ ،‬عىل رسير املوت‪ .‬إضافة إىل ذلك‪ ،‬فحينام َّ‬

‫‪48‬‬


‫الكتابة من الشمال إىل اليمني‬

‫القيد‪ ،‬مل يكن لدي فكرة عن وظيفته املمكنة‪ .‬كل ما أردته هو‬ ‫تصوير ريتشيليو وهو عىل شفا املوت‪ .‬ببساطة كانت هذه سادية‬ ‫مني‪.‬‬ ‫غري أن هذا القيد قد ألزمني بحل معضلة‪ .‬كان عىل روبرتو أن‬ ‫يصل إىل اجلزيرة يف شهر أغسطس من العام التايل؛ ألن هذا هو‬ ‫الشهر الذي زرت فيه اجلزر‪ ،‬بإمكاين أن أصف رشوق الشمس‪ ،‬يف‬ ‫قلب سامء يغشاها الليل‪ ،‬يف هذا املوسم فقط‪ .‬مل يكن من املستحيل‬ ‫أن تبحر سفينة رشاعية من أوروبا إىل ميالنيزيا[‪ ]1‬يف ستة أو سبعة‬ ‫أشهر‪ ،‬لكن عند هذه النقطة كان عل أن أواجه صعوبة هائلة؛ بعد‬ ‫أغسطس‪ ،‬كان عىل شخص ما أن يعثر عىل يوميات روبرتو فيام بقي‬ ‫من السفينة التي أقلته‪ .‬غري أن من املحتمل أن يصل املكتشف‬ ‫األملاين آبل تاسامن إىل جزر فيجي قبل يونيو ـ أي قبل وصول‬ ‫روبرتو‪ .‬وهذا يفرس التلميحات التي زججت هبا يف هناية الفصل‪،‬‬ ‫ألقنع القارئ بإمكانية أن يمر تاسامن باألرخبيل مرتني‪ ،‬من دون أن‬ ‫يسجل الزيارة الثانية يف سجل السفينة (هلذا‪ ،‬فكال من املؤلف‬ ‫[‪ ]1‬ميالنيزيا‪ :‬منطقة تقع في الجنوب الغربي للمحيط الهادي‪ ،‬وتمتد من جزيرة نيو‬ ‫غينيا‪ ،‬إلى بحر أرافورا‪ ،‬على الجانب الشرقي لجزر فيجي‪[ .‬املترجم]‬

‫‪49‬‬


‫اعرتافات روائي شاب‬

‫والقارئ يتم حثهام عىل ختيل حلظات صمت‪ ،‬مؤامرات‪ ،‬وأحوال‬ ‫غامضة)‪ ،‬أو أن القبطان بلييه قد ريس عىل اجلزيرة‪ ،‬فرارا من مترد‬ ‫السفينة باونتي (فرضية إضافية مذهلة‪ ،‬ووسيلة جيدة وساخرة‬ ‫للمزج بني عاملني نصيني)‪.‬‬ ‫تعتمد روايتي عىل العديد من القيود األخرى‪ ،‬ولكن ال يمكنني‬ ‫الكشف عنها مجيعا‪ .‬لكي ُتكتب رواية ناجحة‪ ،‬فعىل املرء أن ُيتفظ‬ ‫بوصفات معينة رسا‪.‬‬ ‫بالنسبة لرواية "باودولينو" ‪ ،‬قلت أين أردت بدء القصة بحريق‬ ‫القسطنطينية‪ ،‬عام ‪ .1204‬وحيث أن مقصدي أن يقوم باودولينو‬ ‫بتزوير رسالة منسوبة إىل يوحنا الكاهن[‪ ،]1‬وأن يكون له دور يف‬ ‫عل أن أجعل مولده نحو عام ‪،1142‬‬ ‫تأسيس اإلسكندرية‪ ،‬كان َّ‬ ‫وهكذا يكون يف الثانية والستني من عمره عام ‪ .1204‬هبذا املعنى‪،‬‬ ‫كان عىل القصة أن تبدأ من نقطة النهاية‪ ،‬إذ ُيكي باودولينو عن‬ ‫[‪ ]1‬يوحنا الكاهن‪ :‬ملك مسيحي أسطوري‪ ،‬يقال أنه كان يحكم آسيا الوسطى‪ ،‬أو‬ ‫أثيوبيا‪ ،‬في القرون الوسطى‪ ،‬وقد حيكت حول أعماله وأوصافه العديد من‬ ‫الحكايات‪ ،‬وقد شغل الكثير من الرحالة في البحث عنه‪ ،‬وانشغل الكثير من‬ ‫الباحثين الحديثين في بحث أصل أسطورته‪[ .‬املترجم]‬

‫‪50‬‬


‫الكتابة من الشمال إىل اليمني‬

‫مغامراته السابقة‪ ،‬عرب سلسلة من اسرتجاعات الذاكرة‪ .‬ال مشكلة‪.‬‬ ‫غري أن باودولينو جيد نفسه يف القسطنطينية يف طريق عودته من‬ ‫مملكة يوحنا الكاهن‪ .‬اآلن‪ ،‬فإن اخلطاب الزائف للكاهن ـ من‬ ‫الوجهة التارخيية ـ قد تم تزويره أو إشاعته نحو عام ‪ ،1160‬ويف‬ ‫روايتي يكتب باودولينو خطابا ليقنع فريدريك بارباروسا بالتقدم‬ ‫نحو اململكة الغامضة‪ .‬هكذا‪ ،‬فحتى لو كان عىل باودولينو قضاء‬ ‫مخسة عرش عاما‪ ،‬أو نحوها‪ ،‬مسافرا إىل اململكة‪ ،‬والبقاء هناك‪،‬‬ ‫واهلروب من آالف املغامرات‪ ،‬فليس بإمكانه أن يبدأ رحلته‬ ‫الطويلة تلك قبل عام ‪( 1198‬أيضا‪ ،‬فإنه من املقرر تارخييا أن‬ ‫بارباروسا حترك جهة الرشق يف هذا العام فقط)‪ .‬إذن‪ ،‬ما الذي‬ ‫أجعل باودولينو يفعله بني عام ‪ 1160‬وعام ‪1190‬؟ مل ال يستطيع‬ ‫أن يبدأ رحلة بحثه مبارشة‪ ،‬بعد نرش اخلطاب؟ كان ذلك أشبه إىل‬ ‫حد ما بأمر احلاسوب يف رواية "بندول فوكو"‪.‬‬ ‫هكذا‪ ،‬كان لزاما عل أن أجعله مشغوال‪ ،‬فجعلته يداوم عىل‬ ‫تأجيل إقالعه‪ .‬كان عل أن أخرتع سلسلة من احلوادث لكي يصل‬ ‫أخريا مع هناية القرن‪ .‬غري إنه بفعل ذلك وحده‪ ،‬فإن الرواية ختلق ـ‬

‫‪51‬‬


‫اعرتافات روائي شاب‬

‫ليس يف باودولينو فحسب بل ويف قراءها ـ وخز الرغبة‪ .‬يتوق‬ ‫باودولينو إىل اململكة‪ ،‬لكنه بنحو ثابت يؤجل بحثه‪ .‬لذا فإن مملكة‬ ‫يوحنا الكاهن تنمو كغاية لشوق باودولينو‪ ،‬وأيضا‪ ،‬آمل‪ ،‬كغاية‬ ‫لرغبة القارئ أيضا‪ .‬مرة أخرى‪ ،‬مميزات القيود‪.‬‬

‫تشفير مزدوج‬ ‫أنا ال أنتمي إىل تلك ال ُعصبة من الكتاب السيئني‪ ،‬الذين يقولون‬ ‫أهنم يكتبون ألنفسهم فقط‪ .‬اليشء الوحيد الذي يكتبه الك َّتاب‬ ‫ألنفسهم هو قائمة املشرتيات‪ ،‬التي تساعدهم يف تذكر ما يرغبون‬ ‫يف رشائه‪ ،‬ومن ثم يلقون هبا‪ .‬كل ما سوى ذلك‪ ،‬حتى قائمة‬ ‫الغسيل‪ ،‬هي رسائل موجهة إىل شخص ما آخر‪ .‬هي ليست‬ ‫مناجاة‪ ،‬بل حوارات‪.‬‬ ‫اآلن‪ ،‬توصل أحد النقاد إىل أن روايايت تتضمن سمة نموذجية‬ ‫من سامت ما بعد احلداثة ـ أعني‪ :‬تشفري مزدوج‪.‬‬

‫(‪)1‬‬

‫‪(1( Linda Hutcheon, "Eco's Echoes:Ironizing the (Post) Modern," in Norma‬‬ ‫‪Bouchard and Veronica Pravadelli, eds .Umberto Eco's Alternative (New‬‬ ‫‪York: Peter Lang, 1998); Linda Hutcheon, A Poetics of Postmodernism‬‬

‫‪52‬‬


‫الكتابة من الشمال إىل اليمني‬

‫كنت واعيا بذلك منذ البداية ـ وذكرت ذلك يف كتايب "تأمالت‬ ‫حول اسم الوردة"ـ أنه‪ ،‬كيفام تكون ما بعد احلداثة‪ ،‬فإين أستخدم‬ ‫تقنيتان نموذجيتان من تقنيات ما بعد احلداثة‪ .‬إحدامها‪ :‬املفارقة‬ ‫التناصية‪ :‬اقتباسات مبارشة من نصوص شهرية أخرى‪ ،‬أو‬ ‫إحاالت‪ ،‬أقل أو أكثر شفافية‪ ،‬إىل تلك االستشهادات‪ .‬ثانيها‪:‬‬ ‫املاوراء رسدي‪ :‬إُياءات بأن النص يشكل طبيعته بنفسه‪ ،‬بينام نرى‬ ‫املؤلف يتحدث مبارشة إىل القارئ‪.‬‬ ‫"التشفري املزدوج" هو االستخدام املتزامن للمفارقة التناصية‪،‬‬ ‫واملناشدة الضمنية للاموراء رسدي‪ .‬متت صياغة مصطلح "التشفري‬ ‫املزدوج" بواسطة املعامري شارلز جينكز‪ ،‬الذي يرى أن املعامر ما‬ ‫بعد احلداثي "يتحدث إىل مستويني‪ ،‬عىل األقل‪ ،‬معا‪ :‬إىل املعامريني‬ ‫اآلخرين‪ ،‬ومعهم أقلية من املهتمني باملعاين املعامرية بشكل خاص‪،‬‬ ‫وإىل عامة الناس‪ ،‬أو السكان املحليني‪ ،‬املشغولون بأمور أخرى‬

‫‪(London: Routledge' 1988); Brian McHale, Constructing Postmodernism‬‬ ‫‪(London: Routledge, 1992); Remo Ceserani, "Eco's (Post) modernism‬‬ ‫‪Fictions," in Bouchard and vadelli, Umberto Eco's Alternative.‬‬

‫‪53‬‬


‫اعرتافات روائي شاب‬

‫معنية بالراحة‪ ،‬والبناء التقليدي‪ ،‬وطريقة احلياة"‬

‫(‪)1‬‬

‫ويضيف يف تعريفه‪ ،‬قائال‪" :‬إن املبنى ما بعد احلداثي‪ ،‬أو العمل‬ ‫الفني‪ ،‬إنام خياطب‪ ،‬عىل نحو متزامن‪ ،‬األقلية من النخبة‪ ،‬مستخدما‬ ‫شيفرات "عالية"‪ ،‬ومجاهري العامة‪ ،‬مستخدما شيفرات شائعة"‬

‫(‪)2‬‬

‫سأستشهد بمثال للتشفري املزدوج من روايايت‪ :‬تبدأ رواية "اسم‬ ‫الوردة" بحكاية الكيفية التي صادف فيها املؤلف نصا قديام‪ ،‬من‬ ‫نصوص العصور الوسطى‪ .‬تلك حالة صارخة للمفارقة التناصية‪،‬‬ ‫حيث نجد أن احلدث العادي (أي‪ :‬املألوف أدبيا) للعثور عىل‬ ‫املخطوطة‪ ،‬ذو أصل جليل‪ .‬املفارقة هنا مزدوجة‪ ،‬كام أهنا أيضا ذات‬ ‫مسحة ما وراء رسدية‪ ،‬إذ أن النص يدَّ عي أن املخطوطة كانت‬ ‫متاحة‪ ،‬خالل ترمجة متت يف القرن التاسع عرش للمخطوطة‬ ‫األصلية ـ وهي مالحظة تربر وجود بعض عنارص الرواية القوطية‬ ‫اجلديدة يف القصة‪ .‬لن يستمتع البسطاء‪ ،‬أو عامة القراء‪ ،‬بام يل من‬ ‫‪(1) Charles A. Jencks, The Language of Post-Modern Architecture (Wisbech,‬‬ ‫‪U.K.: Balding and Mansell, 1978), 6.‬‬ ‫‪)2( Charles A. Jencks, What is Post-Modernism? (London: Art and Design,‬‬ ‫‪1986), 14-15. See also Charles A. Jencks, ed., The Post-Modern Reader‬‬ ‫‪(New York: Martin's, 1992).‬‬

‫‪54‬‬


‫الكتابة من الشمال إىل اليمني‬

‫رسد‪ ،‬إال إذا كانوا واعني هبذه اللعبة‪ ،‬لعبة الصناديق الصينية[‪،]1‬‬ ‫هذا االرتداد يف رواية املصادر‪ ،‬هو ما يمنح القصة تلك اهلالة من‬ ‫الغموض‪.‬‬ ‫لكن إذا تذكرتم‪ ،‬فإن ترويسة الصفحة التي تتحدث عن املصدر‬ ‫القروسطي تذكره باعتباره "خمطوطة ‪ ،‬بالفعل"‪ ،‬إن كلمة "بالفعل"‬ ‫ينبغي أن يكون هلا تأثري خاص عىل القراء املتمرسني‪ ،‬وامللتزمني‪،‬‬ ‫اآلن‪ ،‬بإدراك أهنم يتعاملون مع موضوع أديب مألوف‪ ،‬وأن املؤلف‬ ‫يكشف عن "قلقه من سطوة التأثري"‪ ،‬بام أن اإلشارة املقصودة (عىل‬ ‫األقل بالنسبة للقراء اإليطاليني) إنام تشري إىل أعظم الروائيني‬ ‫اإليطاليني يف القرن التاسع عرش‪ ،‬أليساندرو مانزوين‪ ،‬الذي بدأ‬ ‫روايته "املخطوبان" بادعاء أن مصدره هو خمطوطة تنتمي للقرن‬ ‫السابع عرش‪ .‬كم قارئ يمكنه أن يفهم رنة التهكم يف كلمة‬ ‫"بالفعل"؟ ليس الكثري‪ ،‬حيث أن العديد منهم قد راسلني ليسأل‬ ‫عام إذا كانت هذه املخطوطة موجودة فعال‪ .‬لكن إذا مل يفهموا هذا‬

‫[‪ ]1‬لعبة الصناديق الصينية‪ :‬مجموعة من الصناديق املتزايدة في الحجم‪ ،‬يوضع‬ ‫األصغر منها داخل األكبر منه‪ ،‬وهكذا‪ ،‬حتى يكونوا صندوقا كبيرا واحد يحوي‬ ‫الجميع‪[ .‬املترجم]‬

‫‪55‬‬


‫اعرتافات روائي شاب‬

‫التلميح‪ ،‬فهل سيتمكنون من تقدير بقية القصة بنحو مالئم‪ ،‬وأن‬ ‫ُيظوا باالستمتاع بمذاقها اخلاص؟ أحسب أن هذا ما سيحدث‪.‬‬ ‫لقد فاهتم جمرد تلميح إضايف‪.‬‬ ‫أعرتف أنه باستخدام تقنية التشفري املزدوج‪ ،‬يؤسس املؤلف‬ ‫لنوع من التواطؤ الصامت مع القارئ املتمرس‪ ،‬وأن بعض القراء‬ ‫من العامة‪ ،‬حينام ال يفهمون هذه التلميحات املثقفة‪ ،‬قد يشعرون‬ ‫بأن شيئا ما قد فاهتم‪ .‬غري أن األدب‪ ،‬يف اعتقادي‪ ،‬ال يراد منه تسلية‬ ‫أو مواساة الناس فحسب‪ ،‬إنام يقصد به أيضا حتريض وإثارة الناس‬ ‫لقراءة النص ذاته مرتني‪ ،‬أو ربام ألكثر من مرة‪ ،‬ألهنم يرغبون يف‬ ‫زيادة فهمهم له‪ .‬وعىل ذلك‪ ،‬أعتقد أن التشفري املزدوج ليس خلجة‬ ‫أرستقراطية‪ ،‬وإنام هو وسيلة إلظهار االحرتام لذكاء وحسن نية‬ ‫القارئ‪.‬‬

‫‪56‬‬


‫املؤلف والنص واملؤولون‬

‫‪2‬‬

‫ُيدث أحيانا أن يسألني أحد املرتمجني السؤال التايل‪" :‬إين يف‬ ‫حرية‪ ،‬وال أدري كيف أترجم هذا املقطع؛ إذ إنه يتسم بالغموض‪،‬‬ ‫ويمكن قراءته بأوجه متباينة‪ ،‬فامذا كان قصدك؟‬ ‫وطبقا للحالة‪ ،‬فإن لدي ثالث إجابات حمتملة‪ ،‬هي‪:‬‬ ‫‪" .1‬هذا حقيقي‪ .‬لقد اخرتت التعبري اخلاطئ‪ .‬أرجو أن‬ ‫تستبعد أي سوء فهم حمتمل"‪ .‬ويف الطبعة اإليطالية‬ ‫التالية‪ ،‬سأكرر األمر!‬ ‫‪" .2‬لقد تعمدت أن أكون غامضا‪ .‬وإذا قرأت بانتباه‪،‬‬ ‫فسوف جتد أن هذا الغموض ذا صلة بالطريقة التي‬ ‫ُيقرأ هبا النص‪ .‬أرجو أن تبذل جهدك يف احلفاظ عىل‬ ‫هذا الغموض يف ترمجتك"‪.‬‬ ‫‪" .3‬مل أدرك أن ثمة غموض هناك‪ ،‬صدقني‪ ،‬أنا مل أقصد‬

‫‪57‬‬


‫اعرتافات روائي شاب‬

‫أن أجعله هكذا‪ .‬لكن كقارئ‪ ،‬فإين أجد هذا‬ ‫الغموض مثريا للفضول‪ ،‬ومثمرا يف كشف النص‪.‬‬ ‫أرجو أن تبذل جهدك يف احلفاظ عىل هذا التأثري يف‬ ‫ترمجتك"‪.‬‬ ‫اآلن‪ ،‬إذا ما كنت قد ِم ُّت منذ أعوام (رشط مغاير للحقيقة‪،‬‬ ‫ولكن تزيد احتامالت حدوثه قبل هناية هذا القرن)‪ ،‬فإن مرتجم‬ ‫أعاميل‪ ،‬بسلوكه كقارئ‪ ،‬ومؤول عادي لنيص‪ ،‬بإمكانه‪ ،‬معتمدا عىل‬ ‫نفسه‪ ،‬الوصول إىل إحدى النتائج التالية‪ ،‬التي هي‪ ،‬يف الواقع‪ ،‬نفس‬ ‫إجابايت املحتملة‪:‬‬ ‫‪ .1‬ال معنى للغموض هنا‪ ،‬باإلضافة إىل أنه يربك فهم القارئ‬ ‫للنص‪ .‬ربام مل يدرك املؤلف ذلك األمر‪ ،‬لذا فمن األفضل‬ ‫استبعاد ذلك الغموض‪" .‬أحيانا ما تكون‪ ،‬حتى هلومريوس‬ ‫العظيم‪ ،‬هتويامت"[‪.]1‬‬ ‫[‪ ]1‬تهويمات هوميروس‪ :‬تعبير ُيستخدم للداللة على استمرار الخطأ‪ ،‬صاغه الشاعر‬ ‫الروماني هوراس في كتابه "فن الشعر"‪ ،‬في العبارة الالتينية " ‪Quandoque bonus‬‬ ‫‪ "dormitat Homerus‬التي ذكرها إكو‪ ،‬حيث ظهر في إلياذة هوميروس بعض‬ ‫األخطاء مثالها‪ :‬يقتل مينالوس في "اإللياذة" إحدى الشخصيات الثانوية‪ ،‬والحقا‬ ‫نجد ذلك املقتول حيا يشهد مصرع ابنه‪[ .‬املترجم]‬

‫‪58‬‬


‫املؤلف والنص واملؤولون‬

‫‪ .2‬األرجح أن املؤلف قد تعمد هذا الغموض‪ ،‬وسيكون جيدا أن‬ ‫أحرتم هذا القرار‪.‬‬ ‫‪ .3‬من املحتمل أن املؤلف مل يدرك كونه غامضا‪ .‬لكن‪ ،‬من وجهة‬ ‫نصية ما‪ ،‬فإن هذا التأثري بعدم اليقني غني بالدالالت‪،‬‬ ‫نظر ِّ‬ ‫والتلميحات اخلصبة بالنسبة ملجمل االسرتاتيجية النصية‪.‬‬ ‫ما أحب أن أقوله هنا هو‪ :‬أن هؤالء الذين يقال عنهم ُكتَّاب‬ ‫"مبدعون" (وقد رشحت آنفا ما الذي يمكن أن يعنيه هذا‬ ‫املصطلح املزعج) جيب أال يقوموا‪ ،‬مطلقا‪ ،‬بتقديم تأويالت‬ ‫ألعامهلم اخلاصة؛ فالنص أداة كسولة‪ ،‬يرغب يف أن يؤدي قراؤه‬ ‫النص أداة متخ َيلة الستنباط التأويالت‬ ‫جزءا من عمله؛ بمعنى‪ ،‬أن َّ‬ ‫(كام ذكرت يف كتايب "دور القارئ")‪ .‬إذا كان لدى املرء نص يبحثه‪،‬‬ ‫فمام ال صلة له باملوضوع أن يسأل املؤلف‪ ،‬ويف الوقت ذاته‪ ،‬ال‬ ‫يمكن للقارئ أن يطرح أي تأويل هكذا‪ ،‬معتمدا‪ ،‬ببساطة‪ ،‬عىل‬ ‫تومهه‪ ،‬بل جيب عليه التأكد من أن النص‪ ،‬بطريقة ما‪ ،‬جييز‪ ،‬بل‬ ‫وُيث عىل قراءة معينة‪.‬‬

‫‪59‬‬


‫اعرتافات روائي شاب‬

‫يف كتايب "حدود التأويل"‪ ،‬أميز بني قصد املؤلف‪ ،‬وبني قصد‬ ‫القارئ‪ ،‬وبني قصد النص‪.‬‬ ‫يف عام ‪ 1962‬كتبت "العمل املفتوح"‪( ،‬تُرجم إىل اإلنجليزية‬ ‫حتت عنوان ‪ )1(.)The Open Work‬يف هذا الكتاب‪ ،‬أكدت عىل الدور‬ ‫الف َّعال للمؤول‪ ،‬يف قراءة النصوص الثرية بالقيم اجلاملية‪ .‬عندما‬ ‫كُتبت هذه الصفحات‪ ،‬ر َّكز قرائي‪ ،‬بشكل أسايس‪ ،‬عىل اجلانب‬ ‫"املفتوح" من جممل العمل‪ ،‬مستخفني بحقيقة أن القراءة ذات‬ ‫النهاية املفتوحة‪ ،‬التي أدعمها‪ ،‬إنام هي فاعلية ُأثريت بواسطة‬ ‫(وتستهدف تأويل) العمل‪ .‬بمعنى آخر‪ ،‬لقد كنت أدرس التفاعل‬ ‫بني حقوق النصوص وحقوق مؤوليها‪ .‬وتولد لدي االنطباع‪ ،‬بأنه‬ ‫خالل العهود القليلة املاضية‪ ،‬فإن حقوق املؤولني قد تم املغاالة‬ ‫فيها‪.‬‬ ‫وقد قدمت‪ ،‬يف العديد من كتابايت‪ ،‬رشحا وافيا للصريورة‬ ‫الالحمدودة للعالمات[‪ ،]2‬التي صاغها تشارلز ساندرز بيريس أوال‪،‬‬ ‫‪(1) Umberto Eco, The Open Work (Cambridge, Mass.: Harvard University Press,‬‬ ‫‪1989).‬‬ ‫[‪ ]2‬صيرورة العالمة ‪ :Semiosis‬عملية تنطوي على التكامل بين مكونات ثالثة‪ :‬عالمة‪،‬‬

‫‪60‬‬


‫املؤلف والنص واملؤولون‬

‫غري أن فكرة الصريرة الالحمدودة للعالمات ال تقود إىل استنتاج أن‬ ‫التأويل غري منضبط بمعايري‪ ،‬ألمر واحد‪ ،‬أن التأويل الالحمدود‬ ‫ُيعنى بالنظم ال بالعمليات‪.‬‬ ‫ألوضح األمر‪ ،‬املنظومة اللغوية هي أداة ينتج عنها‪،‬‬ ‫وبواسطتها‪ ،‬خيوط لغوية ال هنائية‪ .‬فإذا رجعنا إىل القاموس ملعرفة‬ ‫معنى مفردة ما‪ ،‬سنجد العديد من املعاين واملرادفات ـ أي‪ :‬كلامت‬ ‫أخرى ـ ومن ثم نبحث هذه الكلامت األخرى لنعرف معانيها‪،‬‬ ‫ومن تعريفاهتا يمكننا االنتقال إىل كلامت أخرى‪ ،‬وهكذا‪ ،‬ال هنائية‬ ‫حمتملة‪.‬‬

‫وموضوعها‪ ،‬ومعناها‪ .‬وقد صاغ شارل ساندرز بيرس هذا املصطلح للداللة على‬ ‫العملية التي بموجبها تصبح العالمة عالمة‪ ،‬أي ذات معنى‪ ،‬وبحسبه فإن هذه‬ ‫العملية ذات ثالث أركان أساسية‪َّ :‬‬ ‫الدال(‪ :)Representamen‬وهو ش يء ملموس‬ ‫يمثل شيئا ما‪ ،‬وهو العالمة‪ .‬املوضوع (‪ :)Object‬وهو موضوع العالمة‪ ،‬وهو ما نراه‪،‬‬ ‫أو نشمه‪ ،‬أو نسمعه‪ ،‬أو نلمسه‪ ،‬أو نتذوقه‪ .‬املدلول (‪ :)Interpretants‬وهو معنى‬ ‫العالمة في ذهن متلقيها‪ ،‬كما أنه الواسطة بين العنصرين اآلخرين‪ ،‬إلنشاء عالقة‬ ‫داخلية بينهما‪ ،‬وبالتالي ينش ئ العالقة بينه وبينهما‪ ،‬وبحسب هذه العملية تتولد في‬ ‫ذهن املرء عالمة ما‪ ،‬تشكل نقطة بدء في عملية مماثلة إليجاد عالمة جديدة‪،‬‬ ‫وهكذا يصير ال محدودا‪[ .‬املترجم]‬

‫‪61‬‬


‫اعرتافات روائي شاب‬

‫القاموس‪ ،‬كام قال جيمس جويس يف روايته "يقظة فينيجان"‪ :‬هو‬ ‫كتاب ُجعل لقارئ نموذجي يعاين أرقا نموذجيا‪ .‬القاموس اجليد‬ ‫ينبغي أن يكون دائريا ـ جيب أن يقول ما معنى كلمة " ِقط"‬ ‫باستخدام كلامت أخرى‪ ،‬وإال لكان كافيا أن تغلق القاموس‪ ،‬وأن‬ ‫تشري إىل قط‪ ،‬وتقول‪" :‬هذا قط"‪ .‬سهل جدا‪ ،‬وقد تلقينا مجيعا ما‬ ‫يكفي من مثل هذه التفسريات يف طفولتنا‪ .‬غري أن تلك ليست‬ ‫الطريقة املالئمة التي نعرف هبا معنى كلامت مثل‪" :‬ديناصور"‪،‬‬ ‫و"عىل أية حال"‪ ،‬و"يوليوس قيرص"‪ ،‬و"حرية"‪.‬‬ ‫عىل النقيض من ذلك‪ ،‬فالنص‪ ،‬بقدر ما ينشأ عن التالعب‬ ‫باحتامالت منظومة لغوية ما‪ ،‬ال يكون مفتوحا بنفس الطريقة‪.‬‬ ‫فاملرء بتأليفه لنص ما خيتزل جمال االختيارات اللغوية املمكنة‪ .‬إذا‬ ‫كتبنا‪" :‬جون يأكل ‪ ،"...‬فهناك احتامل قوي أن الكلمة التالية‬ ‫ستكون اسام‪ ،‬وأن هذا االسم لن يكون " ُس َّلام" (رغم أنه يف سياق‬ ‫معني يمكن أن تكون الكلمة "سيف")‪ .‬بتقليص احتامل توليد‬ ‫خيوط ال هنائية‪ ،‬يقلل النص أيضا من احتامل جتربة تأويالت حمددة‪.‬‬ ‫يف معجم اللغة اإلنجليزية‪ ،‬نجد أن الضمري "أنا"‪ ،‬ما زال معناه‪:‬‬

‫‪62‬‬


‫املؤلف والنص واملؤولون‬

‫"الشخص الذي يتلفظ بالعبارة التي يرد فيها الضمري "أنا" ـ‬ ‫وبالتايل‪ ،‬فإنه بحسب جمموعة من االحتامالت املقدمة من ِق َبل‬ ‫املعجم‪ ،‬فإن "أنا" يمكن أن تشري إىل الرئيس لينكولن‪ ،‬أو أسامة بن‬ ‫الدن‪ ،‬أو جروشو ماركس‪ ،‬أو نيكول كيدمان‪ ،‬أو أي شخص من‬ ‫باليني األفراد اآلخرين الذين يعيشون يف احلارض‪ ،‬أو املايض‪ ،‬أو‬ ‫املستقبل‪ .‬غري أن خطابا موقعا باسمي‪ ،‬فإن الضمري "أنا" فيه‬ ‫سيعني‪" :‬أمربتو إكو"‪ ،‬بغض النظر عن االعرتاضات التي وجهها‬ ‫جاك دريدا جلون سريل[‪ ]1‬أثناء نقاشهم الشهري حول التوقيع‬ ‫والسياق‪.‬‬

‫(‪)2‬‬

‫[‪ ]1‬جون روجر سيرل‪ :‬فيلسوف أمريكي معاصر‪ ،‬دار بينه وبين جاك دريدا نقاش شهير‬ ‫عام ‪ 1977‬حول املعنى‪ ،‬فقال سيرل بحرفية املعنى‪ ،‬وقال دريدا أن ليس ثم أساس‬ ‫مستقر للمعنى‪ ،‬وتضمن النقاش الكالم عن توقيع املؤلف باسمه على أعماله‪،‬‬ ‫ولدريدا في ذلك مقال بعنوان‪" :‬التوقيع‪ ،‬الحدث‪ ،‬السياق"‪[ .‬املترجم]‬ ‫‪(2 (See Jacques Derrida, "Signature Event Context" (1971),Glyph, I (1977): 172‬‬‫‪197, reprinted in Derrida, Limited Inc., trans. Samuel Weber and Jeffrey‬‬ ‫‪Mehlman (Evanston,I11.: Northwestern University Press, 1988); and John‬‬ ‫‪Searle, "Reiterating the Differences: A Replay to Derrida," Glyph, I (1977):‬‬ ‫‪198-208, reprinted in Searle, The Construction of Social Reality (New York:‬‬ ‫‪Free Press, 1995).‬‬

‫‪63‬‬


‫اعرتافات روائي شاب‬

‫أن نقول أن تأويالت نص ما قد تكون غري حمدودة‪ ،‬ال يعني أن‬ ‫التأويل ال يملك موضوعا ـ أي‪ :‬ليس لديه يشء موجود (حقيقة أو‬ ‫نص) لريكز عليه‪ .‬وقولنا أن نصا ما قد ال تكون له هناية‪ ،‬ال يعني‬ ‫أن كل تأويل يمكن أن ينتهي هناية سعيدة‪ .‬ويبني هذا السبب يف‬ ‫أنني اقرتحت ‪ ،‬يف كتايب "حدود التأويل"‪ ،‬نوعا من الضابط املعياري‬ ‫للتكذيب (مستوحى من الفيلسوف كارل بوبر[‪ :)]1‬وبرغم صعوبة‬ ‫تقرير ما إذا كان تأويال ُمعطى هو تأويل جيد‪ ،‬أو تقرير أي‬ ‫التأويلني للنص نفسه هو األفضل‪ ،‬فمن املمكن دوما اإلخبار بأن‬ ‫تأويال معينا هو تأويل خاطئ بشكل صارخ‪ ،‬تأويل جمنون‪ ،‬أو‬ ‫تأويل مستبعد‪.‬‬ ‫بعض النظريات النقدية املعارصة تؤكد عىل أن القراءة الوحيدة‬ ‫اجلديرة بالثقة هي قراءة خاطئة‪ ،‬وأن النص ُييا‪ ،‬فقط‪ ،‬بفضل‬ ‫سلسلة االستجابات التي يثريها‪ .‬غري أن هذه السلسة من‬

‫[‪ ]1‬كارل ريموند بوبر‪1902( :‬ـ‪ )1994‬فيلسوف إنجليزي متخصص في فلسفة العلم‪،‬‬ ‫قال بمعيار قابلية التكذيب‪ ،‬ومعناه‪ :‬إجراء اختبار تكذيب للنظرية بعد التوصل‬ ‫إليها‪ ،‬فإن أمكن تكذيبها كانت نظرية علمية‪ ،‬وإن لم يمكن تكذيبها لم تكن كذلك‪،‬‬ ‫أي أن قيمتها العلمية تتحدد بقدر إمكانية خضوعها للتجريب‪[ .‬املترجم]‬

‫‪64‬‬


‫املؤلف والنص واملؤولون‬

‫االستجابات متثل االستخدامات الالهنائية‪ ،‬التي يمكن أن نجعلها‬ ‫للنص (فبإمكاننا‪ ،‬عىل سبيل املثال‪ ،‬استخدام اإلنجيل بدال من‬ ‫قطعة خشب كوقود للمدفأة)‪ ،‬وليس جمموعة التأويالت التي‬ ‫تعتمد عىل بعض التخمينات املقبولة حول قصد النص‪.‬‬ ‫كيف يمكننا أن نربهن عىل أن ختمينا ما حول قصد النص هو‬ ‫ختمني مقبول؟ الطريقة الوحيدة تكون بمقابلته بالنص ككل‬ ‫متامسك‪ .‬وتلك فكرة قديمة وترجع إىل أوغسطني[‪( ]1‬حول العقيدة‬

‫املسيحية)‪ :‬إن تأويل أي جزء من النص يمكن قبوله إذا تأكد ـ‬ ‫ويمكن أن ُيستبعد إذا عورض ـ من ِقبل جزء آخر من النص نفسه‪.‬‬ ‫هبذا املعنى‪ ،‬فإن التامسك الداخل للنص هو املتحكم يف البواعث‬ ‫غري املحكومة للقارئ‪.‬‬ ‫دعوين أقدم مثاال‪ ،‬خاص بنص يشجع بنحو قصدي ومربمج‬ ‫عىل أكثر التأويالت جرأة ـ أعني‪ :‬رواية "يقظة فينيجان"‪ .‬يف‬

‫[‪ ]1‬أوغسطين‪354( :‬ـ‪430-‬م) الهوتي وفيلسوف من أصل أمازيغي التيني‪ ،‬ولد في شمال‬ ‫أفريقيا‪ ،‬وكتابه "عن العقيدة املسيحية" يتكون من أربعة أجزاء يصف فيه كيفية‬ ‫تأويل وشرح الكتب املقدسة‪[ .‬املترجم]‬

‫‪65‬‬


‫اعرتافات روائي شاب‬

‫الستينيات‪ ،‬يف جريدة ‪ ،A Wake Newslitter‬كان ثمة مناقشة حول‬ ‫التلميحات التارخيية احلقيقية‪ ،‬التي قد يتم التعرف عليها‪ ،‬يف رواية‬ ‫"يقظة فينيجان" ـ عىل سبيل املثال‪ ،‬تلميحات إىل اتفاقية أنشيلوس‬

‫[الضم]‬ ‫َّ‬

‫[‪] 1‬‬

‫للوحدة السياسية بني أملانيا والنمسا ‪ ،‬ومعاهدة‬

‫ميونيخ[‪ ]2‬يف سبتمرب ‪ .)3(1938‬وألجل أن يتحدى هذه التأويالت‪،‬‬ ‫أشار ناثان هالرب‪ ،‬إىل أن كلمة أنشيلوس هلا معنى دارج غري سيايس‬ ‫(مثل كلمتي "ارتباط" و"اندماج")‪ ،‬وأن النص ال يدعم القراءة‬ ‫السياسية‪ .‬ولكي يبني سهولة العثور عىل أي يشء يف رواية "يقظة‬

‫فينيجان"‪ ،‬أخذ هالرب مثال برييا[‪ .]4‬بداية‪ ،‬ففي مستهل "حكاية‬ ‫النملة واجلندب"[‪ ]5‬عثر [هالرب] عىل تعبري "!‪[ "So vi et‬صوتيا‬

‫[‪ Anschluss ]1‬كلمة أملانية تعني "الضم"‪ :‬هو االسم الذي أطلق على االتفاقية التي‬ ‫تضمنت ضم النمسا إلى أملانيا النازية‪ ،‬في مارس ‪[ .1938‬املترجم]‬ ‫[‪ ]2‬معاهدة ميونيخ‪ :‬كانت بين أملانيا النازية وبين بريطانيا وفرنسا وإيطاليا‪ ،‬في ‪30‬‬ ‫سبتمبر ‪ ،1938‬منحوا بمقتضاها أملانيا جزءا من تشيكوسلوفاكيا‪[ .‬املترجم]‬ ‫‪(3( See Philip L. Graham, "Late Historical Events," A Wake Newslitter (October‬‬ ‫‪1964): 13-14; Nathan Halper, "Notes on Late Historical Events," A Wake‬‬ ‫‪Newslitter (October 1965): 15-16.‬‬ ‫[‪ ]4‬بيريا‪ :‬هو الفرنتي بافلوفيتش‪ ،‬رئيس البوليس السري السوفييتي في عهد ستالين‪،‬‬ ‫قتله مساعدوه بتهمة الخيانة بعد موت ستالين‪[ .‬املترجم]‬ ‫[‪ ]5‬حكاية النملة والجندب‪ :‬قصة خيالية من "حكايات إيسوب"‪ ،‬استخدمها جيمس‬

‫‪66‬‬


‫املؤلف والنص واملؤولون‬

‫تعني "سوفييت" نسبة إىل االحتاد السوفييتي] فظن بإمكانية‬ ‫ارتباطها بمجتمع النمل شبه الشيوعي‪ .‬ولكن بعد صفحة واحدة‬ ‫عثر عىل تلميح إىل "‪ ،"berial‬والتي تبدو للمحة األوىل كتنويع‬ ‫لكلمة "‪[ "burial‬الدفن]‪.‬هل يمكن أن تكون كناية عن الوزير‬ ‫السوفييتي الفرنتي برييا؟ لكن برييا مل يكن معروفا يف الغرب حتى‬ ‫‪ 9‬ديسمرب ‪ ،1938‬عندما تم تعيينه مفوضا للداخلية (قبل ذلك‪ ،‬كان‬ ‫جمرد موظف يف درجة أقل)‪ ،‬ويف ديسمرب ‪ 1938‬كانت خمطوطة‬ ‫جويس يف املطبعة‪ .‬غري أن كلمة "‪ "berial‬كانت موجودة يف نسخة‬ ‫عام ‪ 1929‬التي نرشت يف اجلريدة األدبية ‪ .12 transition‬يبدو‬ ‫السؤال قائام عىل أسس من األدلة اخلارجية ـ رغم أن بعض‬ ‫املؤولني كانوا عىل استعداد ألن يضفوا عىل جويس قوى مقدسة‪،‬‬ ‫والقدرة عىل التنبؤ بظهور برييا‪ .‬أمر مثري للضحك حقا ـ غري أنه‬ ‫بني املعجبني بجويس‪ ،‬يمكنك إجياد أمور أكثر سخافة‪.‬‬ ‫األدلة الداخلية هي األكثر أمهية‪ ،‬أي‪ :‬األدلة النصية‪ .‬يف عدد‬ ‫جويس في روايته "يقظة فينيجان"‪[ .‬املترجم]‬

‫‪67‬‬


‫اعرتافات روائي شاب‬

‫الحق من جملة ‪ ،Awake Newslitter‬أشار رث فون َفل إىل أن‬ ‫"‪ "So vi et‬قد يكون املقصود منها ما يشبه كلمة "آمني" التي يتلفظ‬ ‫هبا أعضاء اهليئات السلطوية الدينية‪ ،‬وبذا ال يكون السياق العام‬ ‫لتلك الصفحات سياسيا بل إنجيليا؛ حيث تقول النملة ‪: Ondt‬‬ ‫"بقدر ما يزداد حقل ببي إزهارا‪ ،‬بقدر ما يزداد سلطاين ازدهارا"‪،‬‬ ‫وحيث أن "ببي" هي صيغة تصغري إيطالية لـ"يوسف"‪ ،‬وحيث‬ ‫يمكن لكلمة "‪ "berial‬أن تكون خياال متحورا لشخصية يوسف‬ ‫اإلنجيلية (ابن يعقوب وراشيل)‪ ،‬الذي ُدفن مرتني عىل نحو‬ ‫جلب‪ ،‬ويف السجن‪ ،‬والذي أنجب إفرايم‪ ،‬الذي‪،‬‬ ‫جمازي؛ يف ا ُ‬ ‫بدوره‪ ،‬أنجب برييا (أخبار األيام األول ‪ ،)23:10‬وحيث أن كان‬ ‫آلرش ‪ Asher‬أخو يوسف ولد ُيسمى برييا (سفر التكوين ‪)45:30‬‬ ‫وهكذا دواليك‪.‬‬

‫(‪)1‬‬

‫كثري من األوهام التي عثر عليها فون َفل هي‪ ،‬بال شك‪،‬‬ ‫مستبعدة‪ ،‬ولكن يبدو أنه ال يمكن جتاهل أن كل هذه التلميحات‪،‬‬

‫‪(1( Ruth Von Phul, "Late Historical Events" A Wake Newslitter (December‬‬ ‫‪1965): 14-15.‬‬

‫‪68‬‬


‫املؤلف والنص واملؤولون‬

‫يف هذه الصفحات‪ ،‬هي تلميحات إنجيلية يف طبيعتها‪ .‬وهكذا‪ ،‬فإن‬ ‫الدليل النيص‪ ،‬أيضا‪ُ ،‬يقيص الفارنتي برييا من كتاب جويس‪،‬‬ ‫وأحسب أن القديس أوغسطني كان ليوافق عىل ذلك‪.‬‬ ‫النص أداة متخيلة من أجل أن ينتج قارئه النموذجي[‪ .]1‬هذا‬ ‫القارئ ليس هو من يقدم التخمني "الصحيح الوحيد"‪ .‬بإمكان‬ ‫النص أن يتوقع قارئا نموذجيا خموال بتجربة ختمينات ال هنائية‪.‬‬ ‫القارئ التجريبي‪ ،‬هو‪ ،‬ببساطة‪ ،‬من يقوم بعمل ختمينات حول‬ ‫القارئ النموذجي الذي يفرتضه النص‪ .‬حيث أن قصد النص‪،‬‬ ‫بالدرجة األوىل‪ ،‬هو إنتاج القارئ النموذجي‪ ،‬القادر عىل القيام‬ ‫بتخمينات ختص النص‪ ،‬فمهمة القارئ النموذجي تتأسس عىل أن‬

‫إن من سمات القارئ النموذجي [عند إكو] ّأنه ال يباشر ّ‬ ‫[‪ ]1‬القارئ النموذجي‪ّ " :‬‬ ‫النص‬ ‫ي ّ‬ ‫اتيجية قر ّ‬ ‫الذهن‪ ،‬بل يباشره وهو يحمل استر ّ‬ ‫ائية‪ ،‬يواجه بها مسكوت‬ ‫وهو خاو‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫النص وغموضه‪ ،‬موظفا كفاءات لسانية وغير لسانية‪ ،‬تساعده على استنطاق‬ ‫أن معنى ّ‬ ‫النص‪ ،‬واستخراج ما لم يقله صراحة‪ .‬وينتج عن هذا ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫دينامي‬ ‫النص حدث‬ ‫ّ‬ ‫يتولد بمساهمة القارئ عبر فعل القراءة‪ .‬ولكن "إيكو" اشترط في فعل القراءة أن‬ ‫ّ‬ ‫يكون للتأويل سند نص ّي يحميه من الخطأ والال منطق‪( ".‬املصدر‪ :‬تشكل املعنى بين‬ ‫دالالت ّ‬ ‫النص وتأويل القارئ عند “أمبرتو إيكو” أ‪ .‬امليلود حاجي) [املترجم]‬

‫‪69‬‬


‫اعرتافات روائي شاب‬

‫يتعرف عىل املؤلف النموذجي ـ وهو ليس املؤلف التجريبي ـ الذي‬ ‫يتوافق جوهريا مع قصد النص‪.‬‬ ‫معرفة قصد نص ما‪ ،‬تعني‪ :‬معرفة االسرتاتيجية السيميائية‪ .‬يف‬ ‫بعض األحيان تكون االسرتاتيجية السيميائية قابلة للكشف عىل‬ ‫أساس من التقاليد األسلوبية املنشأة‪ .‬إذا بدأت القصة بـ"كان ياما‬ ‫لدي سبب وجيه الفرتاض أهنا قصة خرافية‪ ،‬وأن‬ ‫كان"‪ ،‬يكون َّ‬ ‫القارئ النموذجي املثار واملفرتض هنا طفل (أو مراهق شغوف‬ ‫باالنفعال بروح طفولية)‪ .‬من الطبيعي‪ ،‬أن تكون هناك مسحة من‬ ‫السخرية‪ ،‬ويف مثل هذه احلالة فإن النص الالحق جيب أن ُيقرأ‬ ‫بطريقة أكثر مترسا‪ .‬لكن‪ ،‬عىل الرغم من أن املرء يمكنه القول ـ من‬ ‫خالل كشف النص ـ أن هذه هي الطريقة التي جيب أن ُيقرأ هبا‪،‬‬ ‫األمر املهم هو مالحظة أن النص يتظاهر بأنه يبدأ كقصة خرافية‪.‬‬ ‫عندما خيرج نص إىل العامل كمثل رسالة يف زجاجة ُألقيت يف‬ ‫البحر ـ وهذا ال ُيدث مع الشعر أو النثر فقط‪ ،‬بل أيضا مع كتب‬ ‫مثل كتاب كانط " نقد العقل اخلالص" ـ بمعنى‪ ،‬أنه عندما يتم إنتاج‬ ‫نص‪ ،‬ال من أجل مرسل إليه واحد‪ ،‬بل من أجل مجع من القراء‪،‬‬

‫‪70‬‬


‫املؤلف والنص واملؤولون‬

‫يؤول ال وفق مقاصده ـ أو‬ ‫يعلم املؤلف أنه ـ أو أهنا ـ سوف َّ‬ ‫مقاصدها ـ بل وفقا السرتاتيجية معقدة من التفاعالت‪ ،‬التي‬ ‫تشمل ال ُق َّراء أيضا‪ ،‬مع كفاءهتم يف لغتهم كخزينة اجتامعية‪ .‬وأعني‬ ‫بقويل‪" :‬خزينة اجتامعية" ليس فقط جمرد لغة حمددة تضم جمموعة‬ ‫من القواعد النحوية‪ ،‬ولكن أيضا جممل املوسوعة التي تولدها‬ ‫مبارشة هذه اللغة‪ :‬التقاليد الثقافية التي أنتجتها هذه اللغة‪ ،‬وتاريخ‬ ‫التأويالت السابقة للعديد من نصوصها‪ ،‬متضمنة النص الذي‬ ‫يكون القارئ بصدد قراءته‪.‬‬ ‫جيب عىل فعل القراءة أن يأخذ يف حسبانه كل هذه العنارص‪،‬‬ ‫عىل الرغم من أن االحتامل بعيد يف أن ُييط قارئ مفرد هبا مجيعا‪.‬‬ ‫وهكذا‪ ،‬فإن كل فعل للقراءة هو إجراء معقد بني كفاءة القارئ‬ ‫(العامل املعريف للقارئ) وبني نوع الكفاءة التي يفرتضها نص معني‬ ‫لكي تتم قراءته بطريقة "اقتصادية" ـ أي بطريقة تعمل عىل زيادة‬ ‫فهم النص واالستمتاع به‪ ،‬ويدعمها السياق‪.‬‬ ‫إن القارء النموذجي للقصة ليس هو القارئ التجريبي‪ .‬القارئ‬

‫‪71‬‬


‫اعرتافات روائي شاب‬

‫التجريبي هو أنت‪ ،‬أنا‪ ،‬أي شخص‪ ،‬حينام نقرأ نصا‪ .‬القراء‬ ‫التجريبيون بإمكاهنم القراءة بطرق عدة‪ ،‬وليس ثمة قانون يعني هلم‬ ‫كيف يقرأون‪ ،‬بسبب أهنم‪ ،‬غالبا‪ ،‬ما يستعملون النص كواسطة‬ ‫ملشاعرهم اخلاصة‪ ،‬والتي يمكنها املجيئ من خارج النص‪ ،‬أو ربام‬ ‫يثريها النص مصادفة‪.‬‬ ‫دعوين أعرض لبعض املواقف الظريفة التي قد حتصل من أحد‬ ‫قرائي كقارئ جتريبي‪ ،‬بأكثر منه كقارئ نموذجي‪ .‬كتب إىل أحد‬ ‫أصدقاء الطفولة‪ ،‬الذي مل أره منذ أعوام‪ ،‬بعد نرش روايتي الثانية‬ ‫"بندول فوكو" ‪ " :‬عزيزي أمربتو‪ ،‬ال أذكر أنني أخربتك بالقصة‬ ‫الشجية لعمي وعمتي‪ ،‬لكني أحسب أنك مل تكن حصيفا يف‬ ‫استخدامها يف روايتك"‪ .‬حسنا‪ ،‬ففي كتايب أرسد بعض الوقائع‬ ‫التي تتعلق بالعم شارلز والعمة كاترين‪ ،‬ومها‪ ،‬يف القصة‪ ،‬عم وعمة‬ ‫بطل الرواية جاكوب بيلبو‪ .‬حقيقة أن مثل هؤالء الناس موجودون‬ ‫بالفعل‪ .‬مع بعض التعديالت‪ ،‬فقد كنت أقص قصة من زمن‬ ‫طفولتي تتعلق بعم وعمة يل ـ بالطبع كان هلام اسمني غري اسمي‬ ‫شخصيات الرواية‪ .‬ردد عىل صديقي قائال أن العم شارلز والعمة‬

‫‪72‬‬


‫املؤلف والنص واملؤولون‬

‫كاترين مها أقارب يل‪ ،‬وليسوا أقاربه (لذا فإين أملك حق النرش)‪،‬‬ ‫وأنني حتى مل أكن عىل علم بأن له عم أو عمة‪ .‬اعتذر صديقي بأنه‬ ‫كان مستغرقا متاما بالقصة حتى أنه ظن أنه تعرف عىل بعض‬ ‫األحداث التي وقعت لعمه وعمته ـ مما ال يستحيل حدوثه‪ ،‬ألنه يف‬ ‫زمن احلرب (الفرتة التي عدت إليها بذاكريت) فإن نفس األشياء‬ ‫كان يمكن أن تقع ألعامم وعامت آخرين‪.‬‬ ‫ما الذي حدث لصديقي؟ لقد رأى يف قصتي شيئا كان يقع يف‬ ‫ذاكرته الشخصية‪ ،‬فهو مل يكن بصدد تأويل قصتي‪ ،‬بل باألحرى‬ ‫كان يستخدمها‪ .‬من الصعب منع استخدام نص ألجل أحالم‬ ‫اليقظة‪ ،‬ومجيعنا نفعل ذلك يف كثري من األحيان ـ لكن هذه ليست‬ ‫مسألة عامة‪ .‬استخدام النص هبذه الطريقة يعني التحرك داخله‪ ،‬كام‬ ‫لو كان جريدة خاصة‪.‬‬ ‫هناك قواعد معينة للعبة‪ ،‬والقارئ النموذجي هو شخص‬ ‫متشوق إىل ممارسة هذه اللعبة‪ .‬لقد نيس صديقي اسم اللعبة‪،‬‬ ‫ور َّكب توقعاته اخلاصة كقارئ جتريبي عىل التوقعات التي أرادها‬

‫‪73‬‬


‫اعرتافات روائي شاب‬

‫املؤلف من القارئ النموذجي‪.‬‬ ‫يف الفصل ‪ 115‬من رواية "بندول فوكو"‪ ،‬كان بطل روايتي‪،‬‬ ‫كازاوبون‪ ،‬يف ليلة ‪ 24/23‬يونيو ‪ ،1984‬بعدما حرض مراسم‬ ‫احتفال سحري يف معهد الفنون ِ‬ ‫واحل َرف يف باريس‪ ،‬يميش‪ ،‬كام لو‬ ‫كان مأخوذا‪ ،‬عىل طول شارع سان مارتني‪ ،‬عابرا شارع الدب‬

‫‪Rue‬‬

‫‪ ،aux Ours‬إىل أن وصل إىل مركز بوبورج‪ ،‬ثم اجته إىل كنيسة سان‬ ‫ماري‪ ،‬ثم واصل املسري عرب شوارع عديدة‪ ،‬أسامؤها مجيعا مذكورة‬ ‫يف كتايب‪ ،‬حتى وصل إىل قرص فوج‪.‬‬ ‫كام ذكرت آنفا‪ ،‬من أجل أن أكتب هذا الفصل تابعت نفس‬ ‫اجلولة لعدة ليال‪ ،‬حامال جهاز تسجيل‪ ،‬مسجال مالحظايت عن كل‬ ‫عل (إين هنا أكشف عن منهجي كمؤلف‬ ‫ما يمكنني رؤيته‪ ،‬وأثره َّ‬ ‫جتريبي)‪ .‬باإلضافة إىل ذلك‪ ،‬وحيث أين أملك برناجما حاسوبيا‬ ‫يريني كيف تبدو السامء يف أي وقت‪ ،‬يف أي عام‪ ،‬يف أي خط طول‬ ‫أو خط عرض‪ ،‬حتى أين علمت‪ ،‬أنه يف تلك الليلة كان هناك قمر‪،‬‬ ‫وأنه كان باإلمكان رؤيته من مواقع معينة يف أوقات عديدة‪ .‬لقد‬ ‫فعلت ذلك‪ ،‬ال من أجل حماكاة واقعية إميل زوال‪ ،‬ولكن (كام‬

‫‪74‬‬


‫املؤلف والنص واملؤولون‬

‫ذكرت) ألنني أحب أن أحوز املشهد الذي سأكتب عنه أمامي حني‬ ‫أقوم بالرسد‪.‬‬ ‫بعد نرش الرواية‪ ،‬تلقيت خطابا من رجل‪ ،‬من الواضح أنه ذهب‬ ‫إىل املكتبة الوطنية لقراءة كل الصحف الصادرة يف ‪ 24‬يونيو ‪،1984‬‬ ‫واكتشف أنه عند ناصية شارع رومر ـ والذي مل أذكر اسمه بالفعل‪،‬‬ ‫ولكنه يمر عرب شارع سان مارتني يف نقطة معينة ـ وبعد منتصف‬ ‫الليل‪ ،‬أقل أو أكثر قليال من الوقت الذي مر فيه كازاوبون‬ ‫بالشارع‪ ،‬كان هناك حريق‪ ،‬حريق كبري وإال ملا كتبوا عنه يف‬ ‫الصحف‪ .‬يسألني القارئ‪ :‬كيف اتفق أن مل يرى كازاوبون هذا‬ ‫احلريق‪.‬‬ ‫أجبت بأن من املؤكد أن كازاوبون رأى احلريق‪ ،‬ولكنه مل يذكره‬ ‫لسبب غامض‪ ،‬ال أعرفه ـ والذي كان مرجحا جدا يف قصة دسمة‬ ‫باألحداث الغامضة‪ ،‬احلقيقية والزائفة معا‪ .‬إن قارئي‪ ،‬بال شك‪،‬‬ ‫مازال ُياول معرفة السبب الذي من أجله مل يذكر كازاوبون ذلك‬ ‫احلريق‪ ،‬شاكا يف حصول مؤامرة أخرى قام هبا فرسان املعبد‪.‬‬

‫‪75‬‬


‫اعرتافات روائي شاب‬

‫احلقيقة أنني ربام مل أمر هبذا اجلانب من الشارع يف منتصف الليل‪،‬‬ ‫بل ربام مررت به قبل اشتعال احلريق‪ ،‬أو بعد إطفائه بوقت قصري‪،‬‬ ‫ال أدري‪ .‬كل ما أعلمه أن قارئي كان يستخدم نيص ألغراضه‬ ‫اخلاصة‪ :‬لقد رغب يف أن يكون النص متجانسا‪ ،‬يف كل تفاصيله‪،‬‬ ‫مع ما حدث يف الواقع‪.‬‬ ‫اآلن‪ ،‬دعوين أخربكم بقصة أخرى تتعلق بالليلة ذاهتا‪ .‬الفرق‬ ‫هو ما يل‪ :‬يف احلالة التي ذكرت توا‪ ،‬فإن القارئ املشغول‬ ‫بالتفاصيل غري املهمة أراد لقصتي أن تتوافق مع أحداث العامل‬ ‫احلقيقي‪ ،‬بينام يريد القارئ‪ ،‬يف املثال التايل‪ ،‬أن يتوافق العامل احلقيقي‬ ‫مع روايتي اخليالية ـ حالة خمتلفة قليال وأكثر فائدة‪.‬‬ ‫اثنان من طلبة مدرسة الفنون اجلميلة يف باريس أتيا لريياين ألبوم‬ ‫صور أعادا فيه تصوير جممل اجلولة التي قام هبا كازاوبون‪ .‬لقد عثرا‬ ‫عىل كل األماكن التي ذكرهتا‪ ،‬وقاما بتصويرها واحد بعد آخر‪ ،‬يف‬ ‫نفس الوقت من الليل‪ .‬يف هناية الفصل ‪ 115‬خيرج كازاوبون من‬ ‫مرصف مياه املدينة ويدخل‪ ،‬عرب القبو‪ ،‬حانة أسيوية متتلئ بالزبائن‬ ‫الذين يكسوهم العرق‪ ،‬براميل جعة‪ ،‬وبصقات لزجة‪ .‬لقد عثر‬

‫‪76‬‬


‫املؤلف والنص واملؤولون‬

‫الطالبان بالفعل عىل هذه احلانة‪ ،‬والتقطا صورا هلا‪ .‬غني عن البيان‬ ‫أن هذه احلانة كانت من اخرتاعي‪ ،‬مع أين قمت بتصميمها ويف‬ ‫ذهني احلانات العديدة يف اجلوار‪ ،‬لكن هذان الطالبان اكتشفا‪ ،‬بال‬ ‫شك‪ ،‬احلانة املوصوفة يف كتايب‪ .‬أكرر‪ ،‬هذان الطالبان مل يضيفا إىل‬ ‫مهمتهام كقارئني نموذجيني اهتامم القارئ التجريبي‪ ،‬الذي يريد أن‬ ‫خيترب ويرى إذا ما كانت روايتي تصف باريس احلقيقية‪ .‬بل‬ ‫باألحرى‪ ،‬أرادا حتويل باريس "احلقيقية" لتكون املكان املوجود يف‬ ‫روايتي‪ .‬احلقيقة‪ ،‬أن من بني كل ما أمكنهم العثور عليه يف باريس‪،‬‬ ‫فقد اختارا‪ ،‬فقط‪ ،‬تلك املظاهر التي تتوافق مع التوصيفات التي‬ ‫قدمها نيص‪.‬‬ ‫هذه احلانة موجودة يف نيص‪ ،‬بالرغم من ذلك‪ ،‬أعتقد أنني‪،‬‬ ‫ببساطة‪ ،‬قمت بتخيلها‪ .‬وبإزاء وجودها يف النص‪ ،‬يصبح قصد‬ ‫القارئ التجريبي‪ ،‬باألحرى‪ ،‬ال عالقة له باملوضوع‪ .‬كثريا ما يقول‬ ‫املؤلفون أشياء غري مدركني هلا؛ فقط‪ ،‬بعدما تصلهم ردود أفعال‬ ‫قرائهم‪ ،‬يكتشفون ما الذي قالوه‪.‬‬

‫‪77‬‬


‫اعرتافات روائي شاب‬

‫هناك‪ ،‬عىل أية حال‪ ،‬حالة يمكن أن تكون مضيئة وكاشفة للنظر‬ ‫إىل مقاصد املؤلف التجريبي‪ ،‬تكون واملؤلف ما زال حيا‪ ،‬وبعدما‬ ‫يقدم النقاد تأويالهتم للنص‪ ،‬ويمكن ألحدهم أن يسأل املؤلف إىل‬ ‫أي مدى كان ـ هو أو هي ـ كشخص جتريبي‪ ،‬مدركا للتأويالت‬ ‫املتعددة التي يدعمها النص‪ .‬عند هذه النقطة‪ ،‬فإن استجابة املؤلف‬ ‫تُستخدم‪ ،‬ليس من أجل إثبات تأويالت النص‪ ،‬ولكن لبيان‬ ‫التضارب بني قصده أو قصدها وبني قصد النص‪ .‬الغرض من‬ ‫التجربة نظري أكثر منه جتريبي‪.‬‬ ‫أخريا‪ ،‬هناك احلالة التي يكون فيه املؤلف‪ ،‬أيضا‪ ،‬من ِّظرا نصيا‪.‬‬ ‫يف هذا املثال ربام يستجيب املؤلف بطريقتني خمتلفتني‪ .‬يمكن أن‬ ‫تكون استجابته‪" :‬مل أعني ذلك‪ ،‬لكن جيدر يب املوافقة عىل أن النص‬ ‫يقول ذلك‪ ،‬وأشكر القارئ عىل أن نبهني لألمر"‪ .‬أو يمكن أن‬ ‫تكون االستجابة‪" :‬بعيدا عن حقيقة أنني مل أعني ذلك‪ ،‬فإين أعتقد‬ ‫أن القارئ احلصيف ال ينبغي له قبول مثل هذا التأويل؛ ألنه تأويل‬ ‫غري اقتصادي"‪.‬‬ ‫اآلن‪ ،‬دعوين أعرض لبعض احلاالت التي جيب عل فيها‪،‬‬

‫‪78‬‬


‫املؤلف والنص واملؤولون‬

‫كمؤلف جتريبي‪ ،‬أن أستسلم يف مواجهة قارئ متسك بشدة بقصد‬ ‫نيص‪.‬‬ ‫يف كتايب "تأمالت يف اسم الوردة"‪ ،‬قلت أنني شعرت هبزة إثارة‬ ‫ارتياح عندما قرأت عرضا للكتاب يتضمن اقتباسا لتعليق ذكره‬ ‫ويليام يف هناية املحاكمة‪ ،‬يف الفصل املعنون "اليوم اخلامس‪،‬‬ ‫تاسعة"‪" .‬ما أكثر ما خييفك يف الطهارة؟" سأل أدسو‪ .‬وأجاب‬ ‫ويليام‪" :‬التعجل"‪ .‬لقد أحببت‪ ،‬وما زلت أحب ذلكام السطرين‬ ‫بشدة‪ .‬لكن حينها‪ ،‬أشار يل أحد القراء إىل أنه يف نفس الصفحة‪،‬‬ ‫يقول برنارد‪ ،‬مهددا قيِّم الدير بالتعذيب‪" :‬العدالة ال تكون بوازع‬ ‫من العجلة‪ ،‬كام يعتقد الرسل الزائفون‪ ،‬وعدالة الرب لدهيا مئات‬ ‫األعوام رهن أمرها"‪ .‬كان القارئ حمقا يف سؤايل عن الصلة التي‬ ‫هدفت إىل إنشائها بني التعجل التي خيشاه ويليام وبني غياب‬ ‫التعجل الذي أطرى عليه برنارد‪ .‬مل أمتكن من الرد‪.‬‬ ‫احلقيقة‪ ،‬أن احلوار الذي دار بني أدسو وويليام غري موجود يف‬ ‫املخطوطة األصلية؛ لقد أضفت هذا احلوار املوجز أثناء صف‬

‫‪79‬‬


‫اعرتافات روائي شاب‬

‫الكتاب‪ ،‬ألسباب تتعلق بالتوازن واإليقاع‪ ،‬فقد كنت يف حاجة إىل‬ ‫إدخال بعض األسطر قبل أن أعطي الكلمة لربنارد مرة أخرى‪.‬‬ ‫وقد نسيت ذلك األمر متاما؛ فبعدها بقليل يتكلم برنارد عن‬ ‫التعجل‪ .‬فهو يستخدم تعبريا نمطيا‪ ،‬من النوع الذي نتوقع صدوره‬ ‫من قاض ـ مألوفا مثل‪" :‬الكل سواء أمام القانون"‪ .‬فيا أسفاه‪،‬‬ ‫حينام توضع جنبا إىل جنب التعجل الذي ذكره ويليام‪ ،‬فالتعجل‬ ‫املذكور من ِق َبل برنارد ُيعطي االنطباع بأنه يقول شيئا موضوعيا‬ ‫بدال من يشء رسمي؛ ولدى القارئ ما يربر تساؤله عام إذا كان‬ ‫الرجالن يعنيان اليشء ذاته‪ ،‬أو عام إذا كان االشمئزاز من التعجل‬ ‫عرب عنه ويليام ال خيتلف كثريا عن االشمئزاز من التعجل‬ ‫الذي َّ‬ ‫عرب عنه برنارد‪ .‬النص موجود‪ ،‬وينتج تأثرياته اخلاصة‪.‬‬ ‫الذي َّ‬ ‫وسواء أردته عىل هذا النحو أم ال‪ ،‬فإننا اآلن مواجهون بمشكلة‪،‬‬ ‫بغموض مستفز ـ وأنا نفيس حمتار يف الكيفية التي أحل هبا هذا‬ ‫التضارب‪ ،‬رغم إدراكي من أن هناك معنى مسترت (وربام الكثري من‬ ‫املعاين)‪.‬‬ ‫املؤلف الذي جعل عنوان كتابه "اسم الوردة" عليه أن يكون‬

‫‪80‬‬


‫املؤلف والنص واملؤولون‬

‫مستعدا ملواجهة تأويالت متشعبة لعنوانه‪ .‬كمؤلف جتريبي‪ ،‬كتبت‬ ‫(يف كتاب تأمالت) أنني اخرتت هذا العنوان بالتحديد لكي أمنح‬ ‫القارئ احلرية‪ " :‬الوردة شكل غني جدا باملعاين‪ ،‬حتى أهنا اآلن ال‬ ‫تكاد حتمل أي معنى منها‪ :‬وردة دانتي الغامضة[‪ ،]1‬و"هيا‪ ،‬ورديت‬ ‫احلبيبة"‬

‫[‪]2‬‬

‫‪،‬‬

‫وحرب الوردتني[‪ ،]3‬و"الوردة املريضة"‪ ]4[،‬وأغنية‬

‫"الكثري جدا حول روزي‪ ،‬وعبارة شكسبري‪" :‬وردة بواسطة أي‬ ‫اسم آخر"‪ ،‬وتعبري جريترود شتاين الشعري‪":‬الوردة هي وردة هي‬ ‫وردة هي وردة"‪ ،‬و"أعضاء مجعية الصليب والوردة[‪ ."... ]5‬إضافة‬

‫[‪ ]1‬وردة دانتي‪ :‬في "الكوميديا اإللهية" يصور دانتي الفردوس كوردة هائلة‪ ،‬تذخر‬ ‫بالضوء واملالئك‪[ .‬املترجم]‬ ‫[‪ ]2‬هيا‪ ،‬وردتي الحبيبة ‪ : Go, lovely Rose‬قصيدة للشاعر اإلنجليزي إدموند واالر‬ ‫(‪[ .)1687-1606‬املترجم]‬ ‫[‪ ]3‬حرب الوردتين‪ :‬حرب أهلية دارت بين أسرتين إنجليزيتين‪ ،‬على مدى ثالثين عاما‪،‬‬ ‫حول أحقية كل منهما في عرش إنجلترا‪ ،‬واتخذت كلتا األسرتين الوردة شعارا لها‪،‬‬ ‫إحداهما حمراء واألخرى بيضاء‪ ،‬وكان شكسبير هو من أطلق على هذه الحرب اسم‬ ‫"حرب الوردتين" في مسرحية "هنري السادس"‪[ .‬املترجم]‬ ‫[‪]4‬الوردة املريضة ‪ : Rose thou art sick‬قصيدة للشاعر اإلنجليزي وليام بليك (‪-1757‬‬ ‫‪[ .)1827‬املترجم]‬ ‫[‪ ]5‬جمعية الصليب والوردة ‪ :Rosicrucian‬جمعية سرية باطنية تأسست في القرن‬ ‫السابع عشر‪ ،‬ورمزها الصليب وفي منتصفه الوردة‪[ .‬املترجم]‬

‫‪81‬‬


‫اعرتافات روائي شاب‬

‫إىل ذلك‪ ،‬أكتشف أحد الباحثني أن بعض املخطوطات املبكرة‬ ‫لكتاب‪" :‬ازدراء العامل"‪ ،‬ملؤلفه‪ :‬برنارد دي مورل ِيه ـ الذي استعرت‬ ‫منه النص السدايس التفعيلة الذي ختمت به روايتي‪stat rosa " :‬‬

‫‪"( "pristina nomine, nomina nuda tenemus‬وردة العام‬ ‫املايض مل يبقى إال اسمها‪ ،‬األسامء فقط هي كل ما نملكه") ـ يمكن‬ ‫قراءهتا‪" :‬روما القديمة مل يبقى إال اسمها ‪stat Roma pristine‬‬

‫‪ ،"nomine‬والتي تبدو‪ ،‬بعد كل يشء‪ ،‬أكثر توافقا مع سائر‬ ‫القصيدة وصورها اخليالية عن بابل املفقودة[‪ .]1‬لذا‪ ،‬فإن عنوان‬ ‫ِ‬ ‫مورالي‪ ،‬كان يمكن‬ ‫روايتي‪ ،‬بام أين لقيت نسخة أخرى من قصيدة‬ ‫أن يكون‪ ":‬اسم روما" (وبذا كان ليكتسب إُياءات فاشية)‪.‬‬ ‫لكن العنوان هو بالفعل‪" :‬اسم الوردة"‪ ،‬وأنا أدرك اآلن كيف‬ ‫كان صعبا تقليص السلسة الالهنائية للدالالت التي تثريها كلمة‬ ‫"وردة"‪ .‬ربام قصدت إىل زيادة القراءات املحتملة للدرجة التي‬

‫[‪ ]1‬يجب االنتباه إلى أنه من جهة مقاطع الكلمة‪ ،‬فإن حر ف"‪ "o‬في كلمة "‪ "Roma‬هو‬ ‫حرف مد‪ ،‬وبالتالي فإن التفعيلة السداسية لن تكون مضبوطة‪ ،‬وبذلك فإن كلمة‬ ‫"‪ "Rosa‬هي القراءة الصحيحة لتنضبط التفعيلة‪( .‬إكو)‬

‫‪82‬‬


‫املؤلف والنص واملؤولون‬

‫يكون معها أي من هذه القراءات ال صلة هلا باملوضوع‪،‬‬ ‫وكمحصلة‪ ،‬أكون قد أنتجت سلسلة شاسعة‪ ،‬ال مفر منها‪ ،‬من‬ ‫التأويالت‪ .‬غري أن النص قد خرج إىل العامل‪ ،‬وعىل املؤلف‬ ‫التجريبي أن يبقى صامتا‪.‬‬ ‫عندما أطلقت اسم كازاوبون عىل الشخصية الرئيسية يف رواية‬ ‫"بندول فوكو" كنت مشغوال بالتفكري يف إسحاق كازاوبون‪ ،‬الذي‬ ‫أثبت عام ‪ 1614‬أن النصوص اهلرمسية[‪ ]1‬نصوص زائفة‪ ،‬واملرء عند‬ ‫قراءة "بندول فوكو" يمكن أن يعثر عىل بعض التامثالت بني ما فهمه‬ ‫ِ‬ ‫عامل اللغة العظيم وبني ما فهمته شخصيتي آخر األمر‪ .‬لقد كنت‬ ‫مدركا أن قليال من قرائي سوف يفهم التلميح‪ ،‬ولكني كنت مدركا‬ ‫بالقدر ذاته‪ ،‬من حيث اإلسرتاتيجية النصية‪ ،‬أن هذا النوع من‬ ‫املعرفة ليس مما ال يمكن االستغناء عنه‪( .‬أعني‪ :‬أنه من املمكن‬

‫[‪ ]1‬املتون الهرمسية‪ ،‬أو الهرموتيكا‪ :‬هي مجموعة كتب حكم‪ ،‬يونانية فرعونية‪ ،‬كتبت‬ ‫ما بين القرنين الثاني والثالث امليالدية‪ ،‬وتتناول مواضيع حياتية وفلسفية‪ ،‬بأسلوب‬ ‫تخاطب ما بين معلم‪ ،‬وهو هرمس الهرامسة‪ ،‬ومريديه الطالبين للمعرفة‪ .‬واملتون‬ ‫هي أساس الفكر الهرمس ي‪ .‬تشمل مواضيع املتون‪ :‬هللا‪ ،‬الكون‪ ،‬الفكر‪ ،‬والطبيعة‪،‬‬ ‫وبعضها يتطرق للخيمياء والتنجيم‪ ،‬وما يتعلق بهما‪[ .‬املترجم]‬

‫‪83‬‬


‫اعرتافات روائي شاب‬

‫للمرء أن يقرأ روايتي وأن يفهم شخصية كازاوبون حتى وإن مل‬ ‫يكن يعرف شيئا عن شخصية إسحاق كازاوبون التارخيية‪ .‬بعض‬ ‫املؤلفني يميلون إىل تضمني بعض اإلحاالت اخلاصة يف نصوصهم‪،‬‬ ‫ألجل متعة القراء املتمرسني)‪.‬‬ ‫قبلام أنتهي من كتابة روايتي‪ ،‬اكتشفت قدرا أن كازاوبون كان‬ ‫إحدى شخصيات رواية ميدل مارش للكاتبة اإلنجليزية جورج‬ ‫إليوت‪ ،‬رواية كنت قد قرأهتا منذ عهود مضت‪ ،‬ونسيت أمرها‪.‬‬ ‫وهذه حالة‪ ،‬بحسبها‪ ،‬كمؤلف نموذجي‪ ،‬حاولت إقصاء أية إشارة‬ ‫ممكنة إىل جورج إليوت‪ .‬يف الفصل العارش تتضمن الرتمجة‬ ‫اإلنجليزية احلوار التايل بني بيلبو وكازاوبون‪:‬‬ ‫"باملناسبة‪ ،‬ما اسمك؟"‬ ‫"كازاوبون"‪.‬‬ ‫"كازاوبون‪ .‬أمل يكن اسم شخصية يف رواية ميدل مارش؟"‬ ‫"ال أعلم‪ .‬هناك أيضا عامل لغة يف عرص النهضة ُيمل االسم‬ ‫نفسه‪ ،‬لكننا لسنا أقارب"‪.‬‬

‫‪84‬‬


‫املؤلف والنص واملؤولون‬

‫لقد بذلت ما يف وسعي ألجل جتنب ما اعتربته إشارة غري جمدية‬ ‫إىل املؤلفة ماري آن إيفانز‪ ،‬والشهرية باسم جورج إليوت‪ ،‬لكن‬ ‫حينها‪ ،‬الحظ قارئ ذكي‪ ،‬هو دافيد رويب‪ ،‬أن كازاوبون يف رواية‬ ‫إليوت كان بصدد تأليف كتاب بعنوان "مفتاح كل األساطري"‪،‬‬ ‫كقارئ نموذجي‪ ،‬شعرت أين ملزم بقبول هذه الصلة‪ .‬النص‪،‬‬ ‫باإلضافة إىل املعرفة املوسوعية‪ُ ،‬متكن أي قارئ موهوب من إجياد‬ ‫هذه العالقة‪ .‬إهنا معقولة‪ .‬أمر سيئ بالنسبة للمؤلف التجريبي‪،‬‬ ‫الذي مل يكن بقدر ذكاء قارئه‪.‬‬ ‫عىل نفس املنوال‪ ،‬جعلت عنوان روايتي‪" :‬بندول فوكو" ألن‬ ‫البندول الذي تتحدث عنه اخرتعه ليون فوكو‪ .‬إذا ما كان ُخمرتعا‬ ‫بواسطة بنيامني فرانكلني‪ ،‬لكان عنوان الرواية بندول فرانكلني‪ .‬هذه‬ ‫املرة‪ ،‬كنت مدركا منذ البداية بأن شخصا ما قد يشم رائحة تلميح‬ ‫إىل ميشيل فوكو‪ :‬إن شخصيايت مهوسة بالتشبيهات‪ ،‬وقد كتب‬ ‫ميشيل فوكو عن صيغ التشابه يف نمط التفكري الغريب يف القرن ‪.16‬‬ ‫كمؤلف جتريبي‪ ،‬مل أكن سعيدا بمثل هذه الصلة املحتملة‪ .‬إهنا تبدو‬ ‫أشبه باملزحة‪ ،‬ال كصلة متقنة‪ .‬غري أن البندول الذي تم اخرتاعه‬

‫‪85‬‬


‫اعرتافات روائي شاب‬

‫بواسطة ليون فوكو كان هو بطل قصتي‪ ،‬وبحسبه حتدد عنواهنا‪ ،‬لذا‬ ‫فإين آمل أال ُياول قارئي النموذجي إقامة روابط سطحية مع‬ ‫ميشيل فوكو‪ .‬لقد كنت خمطئا ـ وكثري من القراء األذكياء ُخيطئون‪.‬‬ ‫النص موجود‪ ،‬وربام كانوا مصيبني‪ ،‬وربام أكون أنا املسئول عن‬ ‫تلك املزحة السطحية‪ ،‬وربام ال تكون املزحة هبذه السطحية‪ .‬ال‬ ‫أدري‪ .‬فاآلن‪ ،‬صار األمر برمته خارجا عن سيطريت‪.‬‬ ‫اآلن‪ ،‬دعونا نتأمل حاالت‪ ،‬أعتقد بحسبها ـ ولعل نسيت‬ ‫مقاصدي األولية‪ ،‬بينام أقوم بدور القارئ النموذجي‪ ،‬وفحص‬ ‫النص ـ أن يل احلق‪ ،‬مثل أي إنسان آخر‪ ،‬يف رفض التأويالت التي‬ ‫ال تبدو اقتصادية‪.‬‬ ‫قبل أن تقوم هيلينا كوستيوكوفيتش برتمجة رواية" اسم الوردة"‬ ‫إىل الروسية (ترمجة بارعة) كتبت مقاال طويال عنها‪ )1(.‬عند نقطة‬ ‫معينة‪ ،‬تذكر كتابا إلميل هنريوت‪ ،‬اسمه‪" :‬وردة براتيسالفا"‬ ‫وخيتتم بدمار‬ ‫(‪ ،)1946‬والذي يتناول مالحقة خمطوطة غامضة‪ُ ،‬‬

‫‪( 1 ( Helena Costiucovich, "Umberto Eco: Imja Rosi," sovriemiennaja‬‬ ‫‪budoziestviennaja literature za rubiezom, 5 (1982): 101ff.‬‬

‫‪86‬‬


‫املؤلف والنص واملؤولون‬

‫املكتبة يف احلريق‪ .‬والقصة تدور أحداثها يف مدينة براج‪ ،‬ويف بداية‬ ‫قصتي أذكر براج‪ .‬باإلضافة إىل ذلك فإن أحد أمناء املكتبة يف‬ ‫روايتي ُيدعى برنارد‪ ،‬وأحد أمناء املكتبة يف كتاب هنريو ُيدعى‬ ‫برنارد‪.‬‬ ‫أنا مل أقرأ رواية هنريو‪ ،‬مل أكن حتى أعلم بوجودها‪ .‬لقد قرأت‬ ‫تأويالت ُيظهر نقادي فيها مصادر أعلمها‪ ،‬وقد كنت سعيدا للغاية‬ ‫ملقدرهتم البارعة عىل اكتشاف ما قمت بإخفائه بدهاء‪ ،‬لكي أقودهم‬ ‫إىل العثور عليه ـ عىل سبيل املثال‪ :‬حقيقة أن سريينوس زيتبلوم‪،‬‬ ‫وأدريان ليفركوهن‪ ،‬يف رواية "دكتور فاوست" لتوماس مان‪ ،‬كانا‬ ‫النموذج للعالقة احلوارية بني أدسو وويليام يف" اسم الوردة"‪ .‬لقد‬ ‫أعلمني القراء بمصادر مل أسمع عنها قبال‪ ،‬وسعدت أن ُيظن أين‬ ‫واسع املعرفة بنحو كاف ألن أقتبسها (ومؤخرا‪ ،‬أخربين أحد‬ ‫الشباب املتخصصني يف القرون الوسطى‪ ،‬أن ق ِّيم املكتبة األعمى‬ ‫سبق أن ذكره كاسيودوروس‪ ،‬يف القرن السادس قبل امليالد)‪ .‬لقد‬ ‫املؤول مؤثرات مل أكن أفكر فيها‬ ‫قرأت حتليالت نقدية يكتشف فيها ِّ‬ ‫حني الكتابة‪ ،‬ولكن من املؤكد أين قرأهتا يف شبايب‪ ،‬ومن الواضح‬

‫‪87‬‬


‫اعرتافات روائي شاب‬

‫أين تأثرت هبا بنحو غري واع‪ .‬قال صديقي جيورجيو تشيلل‪ ،‬عىل‬ ‫سبيل املثال‪ ،‬أن قراءايت القديمة قد تضمنت والبد روايات الكاتب‬ ‫الرمزي ديميرتي مريزكوفسكي‪ ،‬ولقد تبني يل صحة ذلك‪.‬‬ ‫كقارئ عادي لرواية" اسم الوردة" (لندع جانبا حقيقة أنني‬ ‫املؤلف)‪ ،‬أحسب أن إدعاء هيلينا كوستيوكوفيتش ال يثبت شيئا ذا‬ ‫أمهية‪ .‬البحث عن خمطوطة غامضة‪ ،‬ودمار املكتبة يف احلريق‪ ،‬من‬ ‫املوضوعات األدبية الشائعة للغاية‪ ،‬وبإمكاين التنويه إىل الكثري من‬ ‫الكتب األخرى التي تستخدمهام‪ُ .‬ذكرت مدينة براج يف بداية‬ ‫الرواية‪ ،‬ولكن إذا كنت ذكرت بودابست بدال من براج‪ ،‬فسيكون‬ ‫األمر سواء‪ .‬براج ال تلعب دورا حاسام يف القصة‪.‬‬ ‫باملناسبة‪ ،‬فعندما تُرمجت رواية" اسم الوردة" يف إحدى دول‬ ‫أوروبا الرشقية‪ ،‬قبل الربيسرتويكا[‪ ]1‬بوقت طويل‪ ،‬اتصل يب‬ ‫املرتجم قائال أن افتتاحية الرواية التي تشري إىل الغزو الرويس‬

‫[‪ ]1‬بيريسترويكا‪ :‬تعني "إعادة الهيكلة"‪ ،‬هو برنامج لإلصالحات االقتصادية أطلقه‬ ‫رئيس االتحاد السوفييتي ميخائيل جورباتشوف‪ ،‬إلعادة بناء اقتصاد االتحاد‬ ‫السوفيتي‪ .‬صاحبت البيريسترويكا سياسة جالسنوست وتعني الشفافية‪ .‬وقد أدت‬ ‫تلك السياستين إلي انهيار االتحاد السوفييتي وتفككه عام‪[ .1991‬املترجم]‬

‫‪88‬‬


‫املؤلف والنص واملؤولون‬

‫لتشيكوسلوفاكيا‪ ،‬قد تسبب مشاكل‪ .‬أجبته بأين ال أوافق عىل أي‬ ‫تغيريات يف نيص‪ ،‬وإذا ما تم إجراء عمل رقايب عليها‪ ،‬فسوف‬ ‫أوقف عقد النارش‪ .‬حينئذ‪ ،‬أضفت قائال‪ ،‬عىل سبيل املزاح‪" :‬لقد‬ ‫ذكرت براج يف البداية؛ ألهنا واحدة من مدين السحرية‪ ،‬ولكني‬ ‫أحب دبلن أيضا‪ ،‬ضع "دبلن" بدال من "براج"‪ ،‬فلن يكون ثمة‬ ‫فرق"‪ .‬اعرتض املرتجم قائال‪" :‬لكن روسيا مل تغزو دبلن!" فرددت‬ ‫قائال‪" :‬هذا ليس خطأي"‪.‬‬ ‫أخريا‪ ،‬فإن أسامء مثل‪" :‬برينجار" و"برنجارد" يمكن أن حتدث‬ ‫مصادفة‪ .‬عىل أية حال‪ ،‬فعىل القارئ النموذجي أن يعرتف أن هذه‬ ‫املصادفات األربع ـ املخطوطة‪ ،‬واحلريق‪ ،‬ومدينة براج‪ ،‬وبرنجارد ـ‬ ‫مشوقة‪ .‬وكمؤلف جتريبي‪ ،‬فليس يل حق االعرتاض‪ .‬وبالرغم من‬ ‫كل ذلك‪ ،‬فقد لقيت مؤخرا نسخة للنص الفرنيس إلميل هنريو‪،‬‬ ‫واكتشفت أن اسم قيم املكتبة يف كتابه ليس برينار بل بريهنارد مار‪.‬‬ ‫ربام أعتمدت كوستيوكوفيتش عىل الطبعة الروسية‪ ،‬التي نُقل فيها‬ ‫االسم مرتمجا‪ ،‬عىل نحو خاطئ‪ ،‬إىل سريليك‪ .‬وهكذا‪ ،‬تكون‬ ‫إحدى املصادفات املثرية للفضول قد تم إقصائها‪ ،‬ويمكن لقارئي‬

‫‪89‬‬


‫اعرتافات روائي شاب‬

‫النموذجي أن يسرتيح قليال‪.‬‬ ‫غري أن هيلينا كوسيوكوفيتش كتبت شيئا آخر إلثبات التامثالت‬ ‫بني كتايب وكتاب هنريو‪ .‬فقالت‪ :‬يف رواية هنريو‪ ،‬كانت املخطوطة‬ ‫املبتغاة هي النسخة األصلية من مذكرات كازانوفا‪ .‬وقد حدث ـ يف‬ ‫روايتي ـ أن كانت هناك شخصية ثانوية تُدعى هيو النيوكاسل‬ ‫(واسمه يف الطبعة اإليطالية‪ :‬أوجو النيوكاسل)‪ .‬انتهت‬ ‫كوستيوكوفيتش إىل أنه "باالنتقال من اسم إىل آخر‪ ،‬يمكن‬ ‫الوصول إىل تصور السم الوردة"‪.‬‬ ‫كمؤلف جتريبي‪ ،‬يمكنني القول أن شخصية هيو النيوكاسل‬ ‫ليست من اخرتاعي‪ ،‬إنام هي شخصية تارخيية ُذكرت يف املصادر‬ ‫القروسطية التي استعنت هبا‪ :‬فواقعة لقاء البعثة الفرنسيسكانية‬ ‫وممثل البابوية مستمدة‪ ،‬يف الواقع‪ ،‬من السجل التارخيي ألحداث‬ ‫القرن الرابع عرش‪ .‬لكن ليس من املتوقع أن يكون القارئ عارفا‬ ‫بذلك‪ ،‬كام ال يمكن لردي عىل ذلك أن يؤخذ يف احلسبان‪ .‬لكن‬ ‫يبقى أن من حقي أن أقرر رأيي كقارئ عادي‪ .‬أوال‪ ،‬فإن‬ ‫"نيوكاسل" ليست هي ترمجة كلمة "كازانوفا"‪ ،‬بل إن ترمجتها‬

‫‪90‬‬


‫املؤلف والنص واملؤولون‬

‫تكون‪" :‬البيت اجلديد" (من الوجهة املعرفية‪ ،‬فإن معنى االسم‬ ‫الالتيني "‪ Novocastro‬نيو كاسل" هو‪" :‬املدينة اجلديدة" أو‬ ‫"املعسكر اجلديد")‪ .‬وبالتايل‪ ،‬فإن االسم "نيوكاسل" قد ُيلمح إىل‬ ‫"كازانوفا" بنفس الدرجة التي يلمح هبا إىل "نيوتن"‪.‬‬ ‫غري أن هناك عنارص أخرى يمكنها ـ من الوجهة النصية ـ أن‬ ‫تربهن عىل أن افرتاض كوستيوكوفيتش غري اقتصادي‪ .‬أوال‪ ،‬فإن‬ ‫هيو النيوكاسل يلعب يف الرواية دورا هامشيا للغاية‪ ،‬وال عالقة له‬ ‫باملكتبة‪ .‬وإذا ما كان النص راغبا يف اقرتاح عالقة وثيقة الصلة بني‬ ‫هيو وبني املكتبة (كام هي بينه وبني املخطوطة)‪ ،‬لكان قد قال شيئا‬ ‫إضافيا هبذا الصدد‪ ،‬غري أن النص مل يذكر شيئا عن ذلك‪ .‬ثانيا‪ :‬لقد‬ ‫كان كازانوفا‪ ،‬حسب املعرفة املوسوعية واملشرتكة ثقافيا‪ ،‬عاشقا‬ ‫حمرتفا وخليعا فاجرا‪ ،‬بينام ال نجد يف الرواية حتى ما يثري الشبهة يف‬ ‫فضيلة هيو‪ .‬ثالثا‪ :‬ليس ثم عالقة واضحة بني خمطوطة ختص‬ ‫كازانوفا وخمطوطة ختص أرسطو‪ ،‬كام أن الرواية مل ترش يف أي‬ ‫موضع منها إىل الفجور باعتباره سلوك مستحق للثناء‪ .‬باعتباري‬ ‫قارئا نموذجيا لروايتي‪ ،‬أحسبني خموال بالقول‪ :‬أن النظر إىل‬

‫‪91‬‬


‫اعرتافات روائي شاب‬

‫"الرابطة بكازانوفا" ال يؤدي إىل يشء‪.‬‬ ‫ذات مرة‪ ،‬أثناء أحد احلوارات‪ ،‬سألني أحد القراء عام قصدته‬ ‫بعبارة‪" :‬إن السعادة العظمى تكون يف امتالك ما هو لك"‪ .‬أصابني‬ ‫االرتباك‪ ،‬وأعلنت أين أبدا‪ ،‬مل أكتب هذه العبارة‪ .‬كنت موقنا من‬ ‫ذلك‪ ،‬وألسباب عدة؛ أوال‪ :‬أين ال أعتقد أن السعادة يف امتالك ما‬ ‫هو يف حوزة املرء‪ ،‬حتى تلك الشخصية الكارتونية سنويب‪ ،‬ما كان‬ ‫ليشارك يف مثل هذه التفاهة‪ .‬ثانيا‪ :‬من املستبعد أن ترى شخصية‬ ‫تنتمي للقرون الوسطى أن السعادة تكون يف امتالك ما يمتلكه‬ ‫بالفعل‪ ،‬حيث أن السعادة ـ يف العقل القروسطي ـ كانت حالة‬ ‫مستقبلية ُيبتغى حتصيلها عرب املعاناة احلارضة‪ ،‬وبالتايل‪ ،‬فقد كررت‬ ‫القول بأنني مل أكتب هذا السطر أبدا‪ ،‬فنظر إيل حماوري كام لو كنت‬ ‫غري قادر عىل تذكر ما كتبته بنفيس‪.‬‬ ‫الحقا‪ ،‬صادفت هذا املقطع‪ ،‬الذي يظهر يف رواية" اسم الوردة"‪،‬‬ ‫يف غضون وصف نشوة إدسو احلسية يف املطبخ‪ .‬هذه الواقعة‪ ،‬كام‬ ‫يمكن ألكثر قرائي مخوال أن خيمنها‪ ،‬معمولة بالكامل من اقتباسات‬ ‫من "نشيد اإلنشاد"‪ ،‬ومن مؤلفات الصوفيني يف القرون الوسطى‪.‬‬

‫‪92‬‬


‫املؤلف والنص واملؤولون‬

‫عىل أية حال‪ ،‬فإن مل تكن املصادر حمددة‪ ،‬فبإمكان القارئ اإلخبار‬ ‫بأن هذه الفقرة تصور مشاعر شاب بعد جتربته احلسية األوىل (وربام‬ ‫األخرية)‪ .‬إذا أعاد أحدهم قراءة ذلك السطر يف سياقه (أعني‪ :‬يف‬ ‫سياق الرواية‪ ،‬ال سياق املصادر القروسطية) سيجد التايل‪" :‬آه‪ ،‬يا‬ ‫إهلي‪ ،‬عندما يبلغ الوجد بالروح مبلغه‪ ،‬فإن الفضيلة الوحيدة تكمن‬ ‫يف احلصول عىل ما تراه‪ ،‬فالسعادة القصوى تكمن يف احلصول عىل‬ ‫ما أنت حاصل عليه"‪ .‬هكذا فأن كون "السعادة تكمن يف احلصول‬ ‫عىل ما أنت حاصل عليه" ليس عىل عمومه‪ ،‬وال يف كل حلظة من‬ ‫حياتك‪ ،‬لكن‪ ،‬فقط‪ ،‬يف حلظة اخليال النشوان‪ .‬تلك حالة‪ ،‬ال يكون‬ ‫من الرضوري فيها أن تكون عارفا بقصد املؤلف التجريبي‪ :‬قصد‬ ‫النص فيها شديد الوضوح‪ .‬وإذا كانت مفردات اللغة اإلنجليزية‬ ‫ذات معنى تقليدي‪ ،‬فإن املعنى الفعل للنص ليس هو املعنى الذي‬ ‫يعتقد القارئ ـ خاضعا إلحلاح خاص وغريب ـ أنه املراد توصيله‪.‬‬ ‫فبني قصد املؤلف غري املمكن إحرازه‪ ،‬وبني قصد القارئ القابل‬ ‫لألخذ والرد‪ ،‬ثمة القصد الشفيف للنص‪ ،‬الذي يدحض‬ ‫التأويالت املتهافتة‪.‬‬

‫‪93‬‬


‫اعرتافات روائي شاب‬

‫لقد استمتعت بقراءة كتاب مجيل من تأليف روبرت ف‪.‬‬ ‫فليسنر‪" :‬وردة باسم آخر‪ :‬مسح درايس للوردة األدبية من شكسبري إىل إكو"‬ ‫ـ وآمل لو كان شكسبري قد شعر بالفخر أن جيد اسمه مرتبطا‬ ‫باسمي‪ .‬بينام كان فليسنر يناقش العالئق املختلفة‪ ،‬التي وجدها بني‬ ‫ورديت وبني كل الورود األخرى يف عامل األدب‪ ،‬يقول شيئا مثريا‬ ‫للغاية‪ ،‬فهو يرغب يف أن يبني‪" :‬كيف أن وردة إكو مستلهمة من‬ ‫مغامرة شريلوك هوملز "وثائق املعاهدة البحرية"‪ ،‬لكونان دويل‪،‬‬ ‫التي‪ ،‬بدورها‪ ،‬تدين بالكثري‪ ،‬إىل إعجاب التحري كف بالزهور يف‬ ‫رواية "حجر القمر"[‪." ]1‬‬

‫(‪)2‬‬

‫أقول‪ ،‬أين من مدمني قراءة أعامل ويلكي كولنز‪ ،‬لكني ال أتذكر‬ ‫(خاصة حني كتابة روايتي) أن شخصية الرقيب كَف كان هلا شغف‬ ‫بالورود‪ .‬أحسب أين قرأت كل ما كتب أرثر كونان دويل‪ ،‬ولكن‬ ‫جيدر يب االعرتاف أنني ال أتذكر "مغامرة وثائق املعاهدة البحرية"‪.‬‬ ‫ْ‬ ‫كف‪ ،‬تحري‬ ‫[‪ ]1‬حجر القمر‪ :‬أول رواية بوليسية إنجليزية‪ ،‬أحد شخصياتها هو املالزم‬ ‫بوليس ي مولع بالزهور‪[ .‬املترجم]‬ ‫‪(2( Robert F. Fleissner, A Rose by Another Name: A Survey of Literary Flora‬‬ ‫‪from Shakespeare to Eco (West Cornwall, U.K.: Locust Hill Press, 1989),‬‬ ‫‪139.‬‬

‫‪94‬‬


‫املؤلف والنص واملؤولون‬

‫هذا ال هيم‪ ،‬ففي روايتي يوجد العديد من اإلشارات الرصُية إىل‬ ‫شريلوك هوملز‪ ،‬ما يعني أنه يمكن لنيص أن يدعم هذه العالقة‬ ‫أيضا‪ .‬لكن عىل الرغم من انفتاحي العقل‪ ،‬أحسب أن الناقد فليسنر‬ ‫قد أفرط يف التأويل‪ ،‬حماوال إثبات إىل أي مدى كان ويليام يف‬ ‫روايتي مرددا لصدى إعجاب هوملز بالورود‪ ،‬لقد اقتبس املقطع‬ ‫التايل من كتايب‪ِ " :‬سدر مسهل"‪ ،‬قال ويليام فجأة‪ ،‬منحنيا لينظر نبتة‬ ‫عرفها‪ ،‬يف ذلك اليوم الشتائي‪ ،‬من شجريهتا احلارسة‪ُ " .‬يصنع‬ ‫منقوعا جيدا من قرشته ‪."..‬‬ ‫املثري للفضول أن فليسنر توقف يف االقتباس عند كلمة‬ ‫"قرشته"‪ ،‬فبعد فاصلة‪ ،‬يستمر نيص يف إكامل العبارة كام يل‪:‬‬ ‫"لعالج البواسري"‪ .‬وبأمانة‪ ،‬أحسب أن القارئ النموذجي غري‬ ‫مدعو إىل اعتبار "شجرية السدر" كتلميح للوردة‪.‬‬ ‫كتب جيوسو موسكا حتليال نقديا لرواية "بندول فوكو"‪ ،‬وأنا‬ ‫أعترب ُه من ضمن أفضل األعامل التي قرأهتا‪ ]1[.‬غري أنه يف مستهل‬

‫‪(1( Giosue Musca, "La camicia del nesso," Quaderni Medievali, 27 (1989).‬‬

‫‪95‬‬


‫اعرتافات روائي شاب‬

‫قر أنه قد ُفتن بنشدان التامثالت مع شخصيات روايتي ـ‬ ‫التحليل ُي ُّ‬ ‫وأخذ يف التفتيش عن الروابط‪ .‬لقد ن َّبه برباعة إىل العديد من‬ ‫االقتباسات والتشبيهات األسلوبية شديدة اخلفاء‪ ،‬والتي رغبت يف‬ ‫يتم اكتشافها‪ :‬لقد وجد روابط أخرى مل أفكر فيها‪ ،‬ولكنها تبدو‬ ‫مقنعة‪ ،‬ولعب دور القارئ املهووس‪ ،‬واكتشف روابط أذهلتني‪،‬‬ ‫ولكني غري قادر عىل دحضها ـ رغم علمي أهنا تضلل القارئ‪ .‬عىل‬ ‫سبيل املثال‪ :‬يبدو أن االسم الذي وضعته جلهاز احلاسوب‪ :‬أبوالفيا‬ ‫‪ ،Abulaphia‬باإلضافة إىل أسامء الشخصيات الرئيسية الثالث‪:‬‬ ‫بيلبو ‪ ،Belbo‬وكازاوبون ‪ ،Casaubon‬وديوتاليفي ‪،Diotallevi‬‬ ‫قد أثمرت احلروف االستهاللية ‪ ، ABCD‬من غري املفيد أن أقول‬ ‫أن هذا صحيح حتى أفرغ من كتابة خمطوطتي‪ ،‬لقد كان للحاسوب‬ ‫للقراء أن يعرتضوا بأين غريته بشكل غري واع‬ ‫اسام آخر‪ ،‬ويمكن َّ‬ ‫ألجل حتصيل هذا التسلسل األلفبائي‪ .‬ويبدو أن جاكوبو بيلبو‬ ‫مولع باخلمر‪ ،‬كام أن حروف اسمه األوىل‪ ،‬بغرابة شديدة‪ ،‬هي‪.JB :‬‬

‫ومن غري املفيد أن أعلن أنه‪ ،‬خالل كتابة الرواية‪ ،‬مل يكن اسمه‬ ‫األول جاكوبو بل ستيفانو‪ ،‬وأنني غريته إىل جاكوبو يف اللحظة‬

‫‪96‬‬


‫املؤلف والنص واملؤولون‬ ‫األخرية‪ .‬ليس ثمة تلميح إىل نوع اخلمر ‪.J&B‬‬

‫فقط‪ ،‬ما أقدر عىل تقديمه من اعرتاضات كقارئ نموذجي‬ ‫لروايتي‪ )1( :‬أن التسلسل األلفبائي ‪ ،ABCD‬من الوجهة النصية‪،‬‬ ‫غري ذي صلة؛ إذا مل تكن أسامء الشخصيات األخرى تواصل‬ ‫التسلسل‬

‫إلى‬

‫‪ )2( . X,Y,Z‬أن بيلبو يرشب املارتيني أيضا‪،‬‬

‫باإلضافة إىل أن معاقرته املعتدلة للخمر ليست أكثر مالمح‬ ‫شخصيته متيزا‪.‬‬ ‫عىل العكس من ذلك‪ ،‬فإين ال أستطيع جمادلة قارئي‪ ،‬عندما‬ ‫يالحظ أيضا أن سيزار بيفيز‪ ،‬وهو كاتب أحببته‪ ،‬ومازلت أحبه‬ ‫جدا‪ ،‬قد ولد يف قرية تُدعى سانتو ستيفانو بيلبو‪ ،‬وأن شخصيتي‬ ‫الروائية بيلبو‪ ،‬البيدمونتي السوداوي‪ ،‬يتذكر بيفيز‪ .‬احلقيقة (رغم‬ ‫أنه من غري املفرتض لقارئي النموذجي أن يعرف هذه التفاصيل)‪،‬‬ ‫أنني قضيت فرتة طفولتي عىل ضفاف هنر بيلبو‪ ،‬حيث مررت‬ ‫ببعض التجارب القاسية التي نسبت حدوثها إىل جاكوبو بيلبو‪.‬‬ ‫حقيقي أن هذا حدث منذ فرتة طويلة وقبل أن أعلم شيئا عن‬

‫‪97‬‬


‫اعرتافات روائي شاب‬

‫سيزار بيفيز‪ ،‬لذلك بدلت االسم األصل لستيفانو بيلبو إىل جاكوبو‬ ‫بيلبو‪ ،‬بالتحديد‪ ،‬ألجتنب حصول صلة صارخة ببيفيز‪ .‬غري أن هذا‬ ‫مل يكن كافيا‪ ،‬وكان قارئي حمقا يف العثور عىل صلة بني بيفيز‬ ‫وجاكوبو بيلبو‪ .‬وربام كان حمقا حتى لو كنا جعلت لبيلبو أي اسم‬ ‫آخر‪.‬‬ ‫بإمكاين مواصلة تقديم األمثلة عىل هذا النوع من االرتباطات‪،‬‬ ‫لكني آثرت االقتصار عىل تلك األمثلة األكثر يرسا يف فهمها‪.‬‬ ‫وجتاوزت أمثلة أخرى‪ ،‬هي حاالت أكثر تعقيدا‪ ،‬وإال أكون خماطرا‬ ‫بالغوص يف تأويالت فلسفية أو مجالية‪ .‬آمل أنكم توافقون عىل أين‬ ‫قدمت املؤلف التجريبي يف هذه اللعبة‪ ،‬فقط‪ ،‬لكي أركز عىل عدم‬ ‫صلته باملوضوع‪ ،‬ولكي أجدد التأكيد عىل حقوق النص‪.‬‬ ‫وحيث أين قاربت عىل إهناء مالحظايت‪ ،‬عىل أية حال‪ ،‬فإين‬ ‫أشعر أين كنت سخيا بالكاد بالنسبة للمؤلف التجريبي‪ .‬هناك حالة‬ ‫واحدة‪ ،‬فقط‪ ،‬عىل األقل‪ ،‬التي يمكن بحسبها لشهادة املؤلف‬ ‫التجريبي أن حتقق وظيفة مهمة‪ :‬ليس إىل درجة أن جتعل القراء‬ ‫أفضل فهام لنصوصه‪ ،‬لكن‪ ،‬بالتأكيد‪ ،‬تساعدهم عىل فهم املسار‬

‫‪98‬‬


‫املؤلف والنص واملؤولون‬

‫الذي يصعب التنبؤ به يف كل عملية إبداعية‪ .‬فهم العملية اإلبداعية‬ ‫يعني أيضا‪ :‬فهم كيف أن حلوال نصية معينة تتحقق وحدها قدرا‪،‬‬ ‫أو كنتيجة آللية الالوعي‪ .‬ذلك يساعدنا عىل فهم الفرق بني‬ ‫اسرتاتيجية النص ـ املوضوع اللغوي الذي حازه القراء التجريبيون‬ ‫أمام أعينهم‪ ،‬ليمكنهم من الوصول إىل أحكام تتعلق به‪ ،‬مستقلني‬ ‫عن مقاصد املؤلف التجريبي ـ وبني قصة تطور ذلك النص‪.‬‬ ‫يمكن لبعض األمثلة التي قدمتها أن تعمل يف هذا االجتاه‪.‬‬ ‫دعوين أذكر مثالني آخرين مثريين للفضول‪ ،‬وهلام ملمح خاص‪:‬‬ ‫ومها يتعلقان‪ ،‬فقط‪ ،‬بحيايت الشخصية‪ ،‬وليس هلام أي نظري نيص‬ ‫يمكن اكتشافه‪ .‬مها ببساطة خيربان كيف يمكن للنص ـ الذي ُيعترب‬ ‫آلة متخيلة إلثارة التأويالت ـ أن ينبثق من صهارة عميقة الغور ال‬ ‫عالقة هلا ـ حتى اآلن ـ باألدب‪.‬‬ ‫القصة األوىل‪ :‬يف رواية "بندول فوكو"‪ ،‬يقع كازاوبون الشاب يف‬ ‫غرام فتاة برازيلية اسمها أمبارو‪ .‬جيد جيوسو موسكا ـ ويا‬ ‫للسخرية ـ رابطا بينها وبني الفيزيائي أندريه ماري أمبري‪ ،‬الذي‬

‫‪99‬‬


‫اعرتافات روائي شاب‬

‫بحث القوة املغنطيسية بني التيارات الكهربائية‪ .‬يا للذكاء‪ ،‬أنا مل‬ ‫أعرف ملاذا اخرتت هذا االسم‪ .‬وقد علمت أنه ليس اسام برازيليا‪،‬‬ ‫لذا قررت أن أكتب (يف الفصل ‪" :)23‬مل أفهم أبدا كيف أن أمبارو‪،‬‬ ‫سليلة املستوطنني األملان يف ريسيف‪ ،‬الذين تزاوجوا مع اهلنود‬ ‫والسودانيني السود ـ بوجهها اجلامايكي‪ ،‬وثقافتها الباريسية ـ قد‬ ‫ُخدشت هبذا االسم األسباين"‪ .‬بمعنى آخر‪ :‬أين أختار االسم‬ ‫"أمبارو" كام لو كان قد جاء من خارج روايتي‪.‬‬ ‫بعد شهور من نرش الكتاب‪ ،‬سألني صديق‪" :‬ملاذا "أمبارو؟"‬ ‫أليس هذا اسم جبل‪ ،‬أو اسم فتاة تنظر إىل اجلبل؟" ثم بني يل‬ ‫شارحا‪" :‬هناك أغنية‪" ،‬فتاة من جوانتانامو"‪ ،‬يرد فيها يشء مثل‬ ‫"أمبارو"‪ .‬يا إهلي‪ ،‬إين أعرف هذه األنشودة جيدا‪ ،‬عىل الرغم من‬ ‫أين ال أذكر ولو كلمة واحدة منها‪ .‬لقد تغنت هبا‪ ،‬يف منتصف‬ ‫اخلمسينيات‪ ،‬فتاة كنت أحبها‪ ،‬يف ذاك الوقت‪ .‬كانت أمريكية‬ ‫التينية‪ ،‬رائعة اجلامل‪ ،‬مل تكن برازيلية‪ ،‬وال ماركسية‪ ،‬وال سوداء‪،‬‬ ‫وال هيستريية‪ ،‬مثلام هي أمبارو‪ ،‬ولكن من الواضح أنني عندما‬ ‫كنت بصدد اخرتاع فتاة أمريكية التينية فاتنة‪ ،‬فكرت بشكل غري‬

‫‪100‬‬


‫املؤلف والنص واملؤولون‬

‫واعي يف تلك الصورة األخرى يف شبايب‪ ،‬عندما كنت يف مثل سن‬ ‫كازاوبون‪.‬‬ ‫لقد فكرت يف أن هذه األغنية‪ ،‬وبشكل ما االسم "أمبارو"‬ ‫الذي كنت قد نسيته متاما‪ ،‬قد رحال من الوعيي إىل الصفحة‪ .‬ليس‬ ‫هلذه القصة عالقة البتة بتأويل الرواية‪ .‬وبقدر ما ينصب االهتامم‬ ‫عىل النص‪ ،‬فإن أمبارو‪ ،‬هي أمبارو‪ ،‬هي أمبارو‪ ،‬هي أمبارو‪.‬‬ ‫القصة الثانية‪ :‬أولئك الذين قرأوا رواية" اسم الوردة" يعرفون‬ ‫أهنا تدور حول خمطوطة غامضة‪ ،‬وأن املفقود هو اجلزء الثاين من‬ ‫كتاب فن الشعر ألرسطو‪ ،‬الذي ُلطخت صفحاته بالسم‪ ،‬والذي‬ ‫ُو ِصف (يف فصل‪ :‬اليوم السابع‪ ،‬ليال) هكذا‪" :‬قرأ الصفحة األوىل‬ ‫بصوت عال‪ ،‬ثم توقف‪ ،‬كام لو كان ُمعرضا عن معرفة املزيد‪،‬‬ ‫وبرسعة ق َّلب الصفحات التالية‪ ،‬حتى لقي مقاومة بعد بضع‬ ‫صفحات‪ ،‬إذ كانت بعض الصفحات ملتصقة معا عند الزاوية‬ ‫العليا للحافة اجلانبية‪ ،‬مثلام ُيدث عندما تشكل الرطوبة مع مادة‬ ‫الورق املتحللة نوعا من العجينة الالصقة"‪.‬‬

‫‪101‬‬


‫اعرتافات روائي شاب‬

‫كتبت هذه السطور عند هناية عام ‪ .1979‬يف األعوام التالية‪،‬‬ ‫وألين بدأت‪ ،‬بعد نرش رواية "اسم الوردة"‪ ،‬يف التعامل املتكرر مع‬ ‫ق ِّيمي املكتبات‪ ،‬وجامعي الكتب (بالتأكيد بسبب أن لدي بعض‬ ‫املال)‪ ،‬أصبحت جامعا للكتب النادرة‪ .‬لقد حدث من قبل‪ ،‬يف‬ ‫مسار حيايت‪ ،‬أن اشرتيت بعض الكتب القديمة‪ ،‬لكني فعلت ذلك‬ ‫دون ختطيط لذلك‪ ،‬وعندما كان سعرها رخيصا‪ .‬فقط يف اخلمس‬ ‫والعرشين سنة املاضية‪ ،‬أصبحت جامعا جادا للكتب ـ وكلمة‬ ‫"جاد" تعني أن عىل املرء أن يستشري قوائم الكتب املتخصصة‪ ،‬كام‬ ‫جيب عليه أن جيعل لكل كتاب ملفا فنيا‪ ،‬يتضمن البيانات التارخيية‬ ‫والبيبليوجرافية للكتاب‪ ،‬والوصف الدقيق للحالة املادية للطبعة‬ ‫اململوكة‪ ،‬وهذا العمل األخري يتطلب لغة اصطالحية فنية‪ ،‬لتحديد‬ ‫ما إذا كان الكتاب ملطخ ببقع صفراء بفعل الزمن‪ ،‬أو صارت‬ ‫صفحاته بنية‪ ،‬وما إذا كانت عليه آثار بقع مائية‪ ،‬أو متسخا‪ ،‬وما إذا‬ ‫كان فيه أوراق ممسوحة أو هشة‪ ،‬مقصوص احلافات‪ ،‬مواضع‬ ‫املحو‪ ،‬جتليد حمشو‪ ،‬غالف مهرتئ الزوايا‪ ،‬وهكذا‪.‬‬ ‫ذات يوم‪ ،‬وأنا أفتش يف األرفف العليا يف مكتبة منزيل‪ ،‬عثرت‬

‫‪102‬‬


‫املؤلف والنص واملؤولون‬

‫عىل نسخة من "فن الشعر" ألرسطو‪ ،‬علق عليها‪ :‬أنطونيو‬ ‫ريكوبوين‪ ،‬مدينة بادوا‪ ،‬عام ‪ .1587‬كنت قد نسيتها متاما‪ .‬الرقم‬ ‫‪ 1000‬كان مكتوبا بالقلم الرصاص عىل الصفحة األخرية‪ ،‬ويعني‪:‬‬ ‫أنني قد اشرتيت الكتاب من مكان ما بألف لرية (ما يساوي اليوم‬ ‫حوايل سبعني سنتا أمريكيا)‪ ،‬تقريبا‪ ،‬يف اخلمسينيات‪ .‬تقول قوائمي‬ ‫أهنا كانت الطبعة الثانية‪ ،‬ليست شديدة الندرة‪ ،‬وأن هناك نسخة‬ ‫منها يف املتحف الربيطاين‪ .‬لكني كنت سعيدا بامتالكها؛ فمن‬ ‫الواضح أنه يصعب احلصول عىل مثلها‪ ،‬وعىل أية حال فإن‬ ‫تعليقات ريكوبوين كانت أقل شهرة‪ ،‬وأقل يف االقتباس منها‪ ،‬من‬ ‫تعليقات روبرتيللو‪ ،‬أو تعليقات كاستيلفيرتو‪.‬‬ ‫هكذا بدأت يف كتابة وصفي للكتاب‪ .‬نسخت صفحة العنوان‪،‬‬ ‫واكتشفت أن هذه الطبعة تتضمن ملحقا عنوانه "‪Ejusdem Ars‬‬

‫‪ ،"Comica ex Aristotle‬زاعام تقديم كتب أرسطو املفقودة حول‬ ‫الكوميديا‪ .‬من الواضح أن ريكوبوين قد حاول إعادة بناء اجلزء‬ ‫الثاين من كتاب "فن الشعر"‪ .‬وهذا‪ ،‬عىل أية حال‪ ،‬مل يكن مسعى غري‬ ‫معتاد‪ ،‬وأخذت يف إكامل الوصف املادي للمجلد‪ .‬عندها‪ ،‬مررت‬

‫‪103‬‬


‫اعرتافات روائي شاب‬

‫بتجربة شبيهة بتلك التي لزاسيتسكي‪ ،‬الذي وصف حالته العامل‬ ‫السوفيتي‪ ،‬املتخصص يف علم النفس العصبي‪ :‬أ‪ .‬ر‪ .‬لوريا‪.‬‬

‫(‪)1‬‬

‫زاسيتسكي كان قد فقد جزءا من خمه خالل احلرب العلمية الثانية‪،‬‬ ‫ومعه‪ ،‬فقد كل ذاكرته‪ ،‬وقدرته عىل النطق ـ غري أنه ظل قادرا عىل‬ ‫الكتابة‪ .‬كانت يده تكتب بشكل آيل كل املعلومات التي مل يكن‬ ‫قادرا عىل التفكري فيها‪ ،‬وخطوة بخطوة‪ ،‬أعاد بناء هويته بقراءة ما‬ ‫كتبه‪.‬‬ ‫كذلك‪ ،‬كنت أنظر هبدوء وبنحو فني إىل الكتاب‪ ،‬مسجال‬ ‫وصفي له‪ ،‬وفجأة‪ ،‬أدركت أنني أعيد كتابة رواية " اسم الوردة"‪.‬‬ ‫االختالف الوحيد كان بداية من الصفحة ‪ ،120‬عند بداية جزء" فن‬

‫الكوميديا"‪ ،‬فإن احلوايش السفلية هي ما كانت شديدة التآكل‪،‬‬ ‫وليست احلوايش العلوية كام يف الروايةـ غري أن بقية الوصف كان‬ ‫هو نفسه‪ .‬صارت الصفحات داكنة بشدة‪ ،‬مبقعة بأثر الرطوبة‪،‬‬ ‫ملتصقة عند احلواف‪ ،‬وبدت كام لو كانت ملطخة بامدة دهنية مقرفة‪.‬‬

‫‪(1( A. R. Luria, The Man with a Shattered World: The History of a Brain Wound‬‬ ‫‪(Cambridge, Mass.: Harvard University Press, 1987).‬‬

‫‪104‬‬


‫املؤلف والنص واملؤولون‬

‫كنت أمحل بني يدي‪ ،‬يف شكل مطبوع‪ ،‬املخطوطة التي وصفتها‬ ‫يف روايتي‪ .‬لقد كنت أحوزها ألعوام يف بيتي‪ ،‬فوق رف مكتبتي‪.‬‬ ‫مل يكن األمر مصادفة غري عادية‪ ،‬وال حتى معجزة‪ .‬لقد اشرتيت‬ ‫الكتاب يف فرتة شبايب‪ ،‬نظرت فيه نظرة رسيعة‪ ،‬وأدركت أنه شديد‬ ‫االتساخ‪ ،‬لكنه هناك يف مكان ما‪ ،‬ونسيت أمره‪ .‬لكن باستخدام نوع‬ ‫من الكامريا الداخلية‪ ،‬كنت قد صورت هذه الصفحات‪ ،‬ولعهود‪،‬‬ ‫قبعت صورة هذه الصفحات املسمومة‪ ،‬يف القسم األعمق من‬ ‫روحي‪ ،‬كام لو يف قرب‪ ،‬حتى حلظة نشورها ـ ال أدري ملاذا ـ‬ ‫واعتقدت أنني قد اخرتعت هذا الكتاب‪.‬‬ ‫هذه القصة كالقصة األوىل‪ ،‬ال شأن هلا بالتأويل املحتمل لروية‬ ‫"اسم الوردة"‪ .‬املغزى‪ ،‬إن ِ‬ ‫وجد‪ ،‬أنه يصعب سرب غور احلياة‬ ‫الشخصية للمؤلفني التجريبيني‪ ،‬إىل حد ما‪ ،‬بأكثر من نصوصهم‪.‬‬ ‫وبني املسار الغامض لإلبداع النيص‪ ،‬والتدفق املتعذر ضبطه‬ ‫لقراءاته املستقبلية‪ ،‬يظل النص ذاته‪ ،‬يمثل حارضا مرُيا‪ ،‬نقطة‬ ‫يمكننا االنطالق منها برسعة‪.‬‬

‫‪105‬‬


‫اعرتافات روائي شاب‬

‫‪106‬‬


‫بعض املالحظات حول الشخصيات الروائية‬

‫‪3‬‬

‫"أصبح (دون كيشوت) مستغرقا يف قراءة كتبه‪ ،‬حتى صار‬ ‫يقيض لياليه‪ ،‬من غروب الشمس إىل مرشقها‪ ،‬وأيامه‪ ،‬من بزوغ‬ ‫الشمس إىل أول الليل‪ ،‬منكبا عليها‪ ،‬ولقلة نومه وكثرة القراءة‪،‬‬ ‫جف دماغه وفقد عقله‪ ،‬وامتأل خياله بام اعتاد القراءة عنه يف تلك‬ ‫الكتب‪ :‬أمور سحرية‪ ،‬مشاجرات‪ ،‬معارك‪ ،‬حتديات‪ ،‬جروح‪،‬‬ ‫جمامالت‪ ،‬قصص حب‪ ،‬وعذابات‪ ،‬وكل أنواع اهلراء املستحيل‪،‬‬ ‫وهيمن عىل عقله أن كل ما قرأه من نسج خيال وتومهات حقيقي‪،‬‬ ‫وأن ليس يف الدنيا تاريخ أكثر واقعية من هذا‪ .‬كان يقول‪ :‬إن السيد‬ ‫روي دياز كان فارسا رائعا‪ ،‬غري أنه ال ُيقارن بفارس السيف‬ ‫الناري‪ ،‬الذي شطر‪ ،‬برضبة خلفية من سيفه‪ ،‬عمالقني وحشيني‬ ‫ومرعبني إىل نصفني‪ .‬وكان أكثر اهتامما بربناردو دل كاربيو‪ ،‬ألنه‬ ‫أهلك رونالد يف رونسيفاليس عىل الرغم من قوته السحرية‪.‬‬ ‫ـ رسفانتس‪ ،‬دون كيشوت‬

‫‪107‬‬


‫اعرتافات روائي شاب‬

‫بعد نرش رواية "اسم الوردة"‪ ،‬كتب إيل العديد من القراء أهنم‬ ‫اكتشفوا الدير الذي دارت فيه أحداث قصتي وقاموا بزيارته‪.‬‬ ‫وطلب آخرون معلومات إضافية عن املخطوطة التي ذكرهتا يف‬ ‫مقدمة الكتاب‪ .‬يف نفس املقدمة أقول أنني عثرت عىل كتاب من‬ ‫دون عنوان‪ ،‬ألفه أثناسيوس كريرش‪ ،‬يف متجر لبيع الكتب األثرية يف‬ ‫بيونس آيرس‪ .‬ومؤخرا ـ أي‪ ،‬بعد ما يقرب من الثالثني عاما من‬ ‫نرش روايتي ـ كتب يل صديق أملاين يقول أنه عثر للتو عىل متجر لبيع‬ ‫الكتب العتيقة يف بيونس آيرس‪ ،‬ووجد فيه جملدا من تأليف كريرش‪،‬‬ ‫وتعجب سائال عام إذا كان القدر قد ساقه إىل نفس املتجر والكتاب‬ ‫الذين ذكرهتام يف روايتي‪.‬‬ ‫من غري املفيد القول أين قد اخرتعت كال من ختطيط وموضع‬ ‫الدير (وإن كانت بعض التفاصيل مستوحاة من أماكن حقيقية)‪ ،‬إذ‬ ‫أن بدء عمل روائي بالقول أن شخصا عثر عىل خمطوطة قديمة هو‬ ‫موضوع أديب جليل‪ ،‬إىل الدرجة التي جتعلني أعنون مقدمة روايتي‬ ‫"خمطوطة‪ ،‬بطبيعة احلال"‪ ،‬كام أن الكتاب الغامض لكريرش‪ ،‬بل‬ ‫خمرتعني‪.‬‬ ‫وحتى متجر الكتب العتيقة‪ ،‬كالمها َ‬

‫‪108‬‬


‫بعض املالحظات حول الشخصيات الروائية‬

‫اآلن‪ ،‬بالنسبة ملن انشغلوا بالبحث عن الدير احلقيقي‬ ‫واملخطوطة احلقيقية‪ ،‬فربام كانوا قراء َّ‬ ‫سذج‪ ،‬ال يألفون األعراف‬ ‫األدبية‪ ،‬التي صادفوها يف روايتي‪ ،‬بعد مشاهدة الرواية سينامئيا‪.‬‬ ‫غري أن الصديق األملاين‪ ،‬الذي ذكرته آنفا‪ ،‬والذي يعتاد التعامل مع‬ ‫بائعي الكتب النادرة‪ ،‬والذين‪ ،‬كام يبدو‪ ،‬يعرفون كريرش‪ ،‬فمن‬ ‫املؤكد أنه شخص مثقف‪ ،‬يألف الكتب واملواد املطبوعة‪ .‬هكذا‪،‬‬ ‫يبدو أن العديد من القراء‪ ،‬بغض النظر عن مستواهم الثقايف‪ ،‬غري‬ ‫قادرين‪ ،‬أو أصبحوا غري قادرين‪ ،‬عىل التمييز بني الروائي‬ ‫والواقعي‪ .‬إهنم يتعاملون مع الشخصيات الروائية بجدية‪ ،‬كام لو‬ ‫كانت برشا حقيقيني‪.‬‬ ‫تعليق آخر حول هذا التمييز‪ ،‬بني الشخصيات الروائية‬ ‫والشخصيات الواقعية‪( ،‬أو انعدام هذا التمييز) يتجىل يف رواية‬ ‫"بندول فوكو"؛ ُياول جاكوب بيلبو ـ بعد حضور طقس ديني‬ ‫خيميائي‬

‫يشبه احللم ـ أن يربر‪ ،‬بنحو ساخر‪ ،‬ممارسة املتعبدين‪،‬‬

‫[‪ ]1‬الخيمياء‪ :‬نوع من الكيمياء‪ ،‬ترجع ممارسته إلى العصور الوسطى‪ ،‬ويمازجه نوع من‬ ‫التأمل الفلسفي‪ ،‬والغاية منه تحويل املعادن الرخيصة إلى ذهب‪ ،‬واختراع دواء لكل‬ ‫األمراض‪ ،‬وإكسير إلطالة الحياة‪[ .‬املترجم]‬

‫‪109‬‬


‫اعرتافات روائي شاب‬

‫قائال‪" :‬املسألة ليست ما إذا كان هؤالء الناس هنا أفضل أو أسوأ‬ ‫من املسيحني الذين يذهبون إىل املزارات املقدسة‪ .‬كنت أسأل‬ ‫نفيس‪ :‬من نظن أنفسنا؟ نحن الذين نعترب هاملت أكثر واقعية من‬ ‫حارس البوابة؟ هل أملك احلق يف احلكم ـ وأنا من ال يكل يف‬ ‫البحث عن مدام بوفاري اخلاصة به‪ ،‬ألجل أن جيمعنا مشهد‬ ‫عظيم؟"‬

‫البكاء من أجل َّأنا كارينينا‬ ‫يف عام ‪ ،1860‬يف مستهل إبحاره عرب البحر املتوسط‪ ،‬للميض‬ ‫عىل طريق محلة جاريبالدي إىل صقلية‪ ،‬توقف ألكسندر دوماس‬ ‫األب يف مارسيليا‪ ،‬وزار حصن إيف‪ ،‬حيث تم سجن إدموند دانتي‬ ‫بطل روايته ـ قبل أن يصبح كونت مونت كريستو ـ ملدة أربعة عرش‬ ‫عاما‪ ،‬تعلم خالهلا الكثري يف زنزانته عىل يد زميله يف السجن‪،‬‬ ‫الكاهن فاريا‪.‬‬

‫(‪)2‬‬

‫‪(1( Umberto Eco, Foucault's Pendulum, trans. William Weaver (New York:‬‬ ‫‪Harcourt,1989),ch. 57.‬‬ ‫)‪ (2‬بهذه املناسبة‪ ،‬فإن القس فاريا شخصية حقيقية‪ ،‬استلهم ألكسندر دوماس‬

‫‪110‬‬


‫بعض املالحظات حول الشخصيات الروائية‬

‫بينام كان دوماس يف القلعة‪ ،‬الحظ املواظبة عىل إطالع الزائرين‬ ‫ملا يسمونه الزنزانة "الواقعية" التي ُسجن فيه مونت كريستو‪،‬‬ ‫والحظ أن املرشد السياحي يداوم عىل احلديث عن دانتي‪ ،‬وفاريا‪،‬‬ ‫وعن الشخصيات األخرى يف الرواية‪ ،‬كام لو كان هلم وجود‬ ‫حقيقي‪.‬‬ ‫عىل العكس من ذلك‪ ،‬فإن املرشد السياحي نفسه ال يذكر أبدا‬ ‫أن حصن إيف قد ضم بعض الشخصيات التارخيية املهمة‪،‬‬ ‫كسجناء‪ ،‬مثل أونوريه مريابو ‪.‬‬ ‫وهكذا‪ ،‬يعلق دوماس يف مذكراته‪" :‬إن مما يميز الروائيني أهنم‬ ‫يبدعون شخصيات روائية تطمس تلك الشخصيات التي يسجلها‬ ‫املؤرخني؛ ذلك ألن املؤرخني يستحرضون أشباحا‪ ،‬بينام يبدع‬ ‫شخصية الكاهن البرتغالي الغامض تلك‪ ،‬لكن فاريا الحقيقي كان مهتما بالتنويم‬ ‫املغناطيس ي‪ ،‬وال عالقة له بمعلم مونت كريستو‪ .‬اعتاد ألكسندر دوماس على‬ ‫استعارة بعض الشخصيات التاريخية (كما فعل مع شخصية دارتنيان)‪ ،‬غير أنه لم‬ ‫يتوقع من قرائه أن ينشغلوا بالحياة الواقعية املرتبطة بتلك الشخصيات‪( .‬إكو)‬ ‫)‪ (1‬زرت تلك القلعة‪ ،‬بعد عدة سنوات‪ ،‬ورأيت زنزانة مونت كريستو‪ ،‬وكذلك نفق‬ ‫الهروب الذي حفره الكاهن فاريا‪( .‬إكو)‬ ‫[‪ ]2‬أونوريه ميرابو‪ :‬هو أونوريه جابرييل ريكويتي ‪ ،‬ويعرف بالكونت دي ميرابو‪ ،‬خطيب‬ ‫الثورة الفرنسية‪ ،‬ثوري فرنس ي‪ ،‬وصحافي‪ ،‬وسياس ي‪ ،‬وكاتب‪[ .‬املترجم]‬

‫‪111‬‬


‫اعرتافات روائي شاب‬

‫الروائيون أشخاصا من حلم ودم"‪.‬‬ ‫ذات مرة ألح عل أحد أصدقائي لتنظيم حلقة نقاش حول‬ ‫املوضوع التايل‪ :‬إذا كنا نعلم أن أنَّا كارينينا شخصية روائية‪ ،‬ال‬ ‫وجود هلا يف العامل الواقعي‪ ،‬فلامذا ننتحب عىل مصاهبا‪ ،‬أو‪ ،‬عىل‬ ‫األقل‪ ،‬ملاذا نتأثر بعمق بسبب سوء حظها؟‬ ‫من املحتمل أن هناك العديد من القراء املثقفني الذين مل يسكبوا‬ ‫الدمع عىل مصري سكارليت أوهارا لكنهم‪ ،‬عىل الرغم من ذلك‪،‬‬ ‫ُيصدمون بمصري أنَّا كارينينا‪ .‬باإلضافة إىل ذلك‪ ،‬لقد رأيت بعض‬

‫املفكرين‪ ،‬ذوي الثقافة الرفيعة‪ ،‬جيهشون بالبكاء عند هناية سريانو‬ ‫دي بريجريا ـ حقيقة ال جيب أن تُذهل أحدا‪ ،‬ألنه عندما هتدف‬ ‫‪( 1 ) Alexander Dumas, Viva Garibaldi!Une Odyssée en 1860 (Paris:‬‬ ‫‪Fayard,2002),ch. 4.‬‬ ‫[‪ ]2‬سكارليت أوهارا‪ :‬الشخصية الروائية الرئيسية لرواية "ذهب مع الريح"‪ ،‬فتاة‬ ‫جميلة‪ ،‬عانت الكثير في حياتها من هجر الحبيب‪ ،‬وموت الزوج‪ ،‬والفقر‪ ،‬وانتهت إلى‬ ‫حياة زوجية قاسية‪[ .‬املترجم]‬ ‫[‪ ]3‬سيرانو دي برجراك‪ :‬مسرحية للشاعر الفرنس ي إدموند روستان‪ ،‬أبطالها‪ :‬سيرانو‪:‬‬ ‫الفارس النبيل‪ ،‬دميم الوجه‪ ،‬الذي يعشق ابنة عمه‪ ،‬وروكسان‪ :‬ابنة عم سيرانو‪،‬‬ ‫املحبة للتكلف في الكالم واالهتمام ببالغة الحديث‪ ،‬وكريستيان‪ :‬نبيل يهوى‬ ‫روكسان‪ ،‬ويساعده سيرانو في كتابة الرسائل البليغة إليها‪ ،‬مضحيا بحبه لها‪ ،‬ألجل‬ ‫إسعادها‪[ .‬املترجم]‬

‫‪112‬‬


‫بعض املالحظات حول الشخصيات الروائية‬

‫اسرتاتيجية درامية إىل محل املشاهدين عىل سكب الدموع‪ ،‬فإهنا‬ ‫جتعلهم يبكون بغض النظر عن مستواهم الثقايف‪ .‬هذه ليست‬ ‫مشكلة مجالية‪ :‬األعامل الفنية العظيمة قد ال تثري أي استجابة‬ ‫عاطفية‪ ،‬بينام ينجح العديد من األفالم السيئة‪ ،‬والروايات‬ ‫الرخيصة‪ ،‬يف فعل ذلك‪.‬‬

‫(‪)1‬‬

‫ودعونا ال ننسى أن مدام بوفاري‪،‬‬

‫الشخصية التي أبكت الكثري من القراء‪ ،‬أعتادت البكاء بتأثري‬ ‫قصص احلب التي كانت تقرأها‪.‬‬

‫)‪ (1‬اعتاد صديق لي‪ ،‬رقيق الحاشية‪ ،‬وذو حساسية عالية‪ ،‬القول‪" :‬كلما رأيت علما‬ ‫مرفرفا في أحد األفالم‪ ،‬بكيت‪ ،‬بغض النظر عن هوية ذلك العلم"‪ .‬على أية حال‪،‬‬ ‫فإن حقيقة تأثر البشر بالشخصيات الروائية‪ ،‬قد تزايد االهتمام بها‪ ،‬في كثير من‬ ‫الكتابات‪ ،‬في مجالي علم النفس‪ ،‬والنقد األدبي املهتم ببنية السرد‪( .‬إكو)‬ ‫ألجل نظرة شاملة على املوضوع‪ ،‬انظر‪:‬‬ ‫‪Margit Sutrop, "Sympathy,Imagination, and the Reader's Emotional‬‬ ‫‪Response to Fiction," in Jürgen Schlaeger and Gesa Stedman,‬‬ ‫‪eds.,Representations of Emotions (Tübingen: Günter Narr Verlag,1999), 29‬‬‫‪42. See also Margit Sutrop, Fiction and Imagination (Paderborn: Mentis‬‬ ‫‪Verlag, 2000), 5.2; Colin Radford, "How Can We Be Moved by Fate of Anna‬‬ ‫;‪Karenina?" Proceeding of the Aristotelian Society, 69, suppl. (1975): 77‬‬ ‫‪Fracis Farrugia, "Syndrome narrative et archetypés romanesques de la‬‬ ‫‪sentimentalité:Don Quichotte, Madame Bovary, un discourse du pape, et‬‬ ‫‪autres histoires," in Farrugia et al., Emotins et sentiments: Une construction‬‬ ‫‪sociale (Paris: L'Harmattan, 2008).‬‬

‫‪113‬‬


‫اعرتافات روائي شاب‬

‫أخربت صديقي بحزم أن هذه الظاهرة ال صلة هلا بام هو‬ ‫وجودي أو منطقي‪ ،‬وربام تكون موضع اهتامم علامء النفس فقط‪.‬‬ ‫بإمكاننا التامهي مع الشخصيات الروائية ومع أفعاهلم ألننا ـ‬ ‫بحسب اتفاق رسدي ـ نرشع يف العيش يف العامل املمكن لقصتهم‪،‬‬ ‫كام لو كنا نعيش يف عاملنا الواقعي‪ .‬لكن هذا ال يقع فقط عندما نقرأ‬ ‫رواية‪.‬‬ ‫بعضنا قد يفكر‪ ،‬أحيانا‪ ،‬يف احتامل موت شخص ُيبه‪ ،‬ويتأثر‬ ‫بعمق‪ ،‬وربام ذرف الدمع‪ ،‬عىل الرغم علمه بأن هذا أمر متخيل‪،‬‬ ‫غري حقيقي‪ .‬مثل هذه الظواهر؛ كاالندماج‪ ،‬واإلسقاط‪ ،‬تعد من‬ ‫األمور الطبيعية‪ ،‬وهي (أكرر) أمر خيص علامء النفس‪ .‬إذا كان‬ ‫هناك وهم برصي‪ ،‬نرى بحسبه شكال أكرب من شكل آخر‪ ،‬عىل‬ ‫الرغم من علمنا أهنام متساوين متاما يف احلجم‪ ،‬فلامذا ال يكون‬ ‫هناك‪ ،‬باملثل‪ ،‬ومها انفعاليا‪.‬‬

‫(‪)1‬‬

‫‪(1) See Gregory Currie, Image and Mind (Cambridge: Cambridge University‬‬ ‫‪Press,1995).‬‬ ‫الكاثارسيس‪ ،‬كما عرفه أرسطو‪ :‬هو نوع من األوهام العاطفية‪ ،‬يقوم على اندماجنا مع‬ ‫أبطال األعمال التراجيدية‪ ،‬مما يؤثر في شعورنا باألس ى والهلع‪ ،‬عندما نشهد ما‬

‫‪114‬‬


‫بعض املالحظات حول الشخصيات الروائية‬

‫لقد حاولت أيضا‪ ،‬أن أبني لصديقي‪ ،‬أن قدرة الشخصية‬ ‫الروائية عىل إثارة بكاء الناس‪ ،‬ال ترجع إىل صفات تلك الشخصية‬ ‫فحسب‪ ،‬ولكن أيضا إىل العادات الثقافية للقراء ـ أو إىل العالقة بني‬ ‫توقعاهتم الثقافية واسرتاتيجية الرسد‪ .‬يف منتصف القرن التاسع‬ ‫عرش‪ ،‬بكى الناس‪ ،‬بل خنقتهم العربات‪ ،‬عىل مصري شخصية فلور‬ ‫دي ماري يف رواية "أرسار باريس" للكاتب يوجني سو‪ ،‬أما اليوم‪،‬‬ ‫فإن احلظ السيئ لتلك الفتاة الفقرية مل يعد ُيرك فينا شيئا‪ .‬عىل‬ ‫العكس من ذلك‪ ،‬فمنذ عهود مضت‪ ،‬تأثر كثري من الناس بمصري‬ ‫جيني يف رواية "قصة حب" إلريك ساجال‪ ،‬يف كل من الرواية‬ ‫والفيلم‪.‬‬ ‫أخريا‪ ،‬أدركت أنه ال يمكنني رصف جممل السؤال بسهولة‪ .‬كان‬ ‫عل أن أعرتف بوجود اختالف بني البكاء بسبب تصور موت‬ ‫شخص حمبوب‪ ،‬وبني البكاء عىل موت أنَّا كارينينا‪ .‬احلق أننا يف‬ ‫احلالتني نسلم بأن ما ُيدث إنام ُيدث يف عامل حمتمل‪ :‬عامل خيالنا يف‬ ‫َ‬ ‫والعامل الذي أبدعه تولوستوي يف احلالة الثانية‪ .‬لكن‬ ‫احلالة األوىل‪،‬‬

‫يحدث لهم‪( .‬إكو)‬

‫‪115‬‬


‫اعرتافات روائي شاب‬

‫إذا تم سؤالنا الحقا‪ ،‬ما إذا كان الشخص الذي نحبه مات فعال‪،‬‬ ‫فبإمكاننا أن نرد بارتياح شديد بأن هذا غري حقيقي ـ نفس االرتياح‬ ‫الذي نشعره عندما نستيقظ من كابوس‪ .‬بينام إذا ُسئلنا ما إذا كانت‬ ‫أنَّا كارينينا قد ماتت‪ ،‬فيجب علينا دوما أن نجيب‪ :‬نعم‪ ،‬حيث أن‬ ‫واقعة انتحار أنَّا كارينينا حقيقية‪ ،‬يف كل العوامل املمكنة‪.‬‬ ‫يضاف إىل ذلك‪ ،‬حينام يتعلق األمر بحب رومانيس‪ ،‬فإننا نعاين‬ ‫عندما نتخيل أن حبيبنا قد هجرنا‪ ،‬وبعض الناس‪ ،‬ممن هجرهم‬ ‫حمبوهبم بالفعل‪ ،‬قادهم ذلك إىل االنتحار‪ .‬ولكننا ال نعاين كثريا إذا‬ ‫ما تعرض أصدقاؤنا للهجر من أحبائهم‪ .‬من املؤكد أننا تعاطف‬ ‫معهم‪ ،‬لكني مل أسمع أبدا عن شخص انتحر بسبب أن صديقه‬ ‫تعرض هلجر حبيب له‪ .‬لذا يبدو غريبا‪ ،‬عندما نرش جوتة رواية‬ ‫(آالم فرتر)‪ ،‬التي ينتحر فيها البطل‪ ،‬فرتر‪ ،‬بسبب النهاية التعيسة‬ ‫لقصة حبه‪ ،‬أن فعل كثري من القراء من الشباب الرومانسيني املثل‪،‬‬ ‫وانتحروا‪ .‬واشتهرت تلك الظاهرة باسم "تأثري فرتر"‪ .‬ما الذي‬ ‫يعنيه أن ينزعج الناس‪ ،‬قليال فقط‪ ،‬ملوت املاليني من البرش‬ ‫احلقيقيني جوعا ـ بينهم العديد من األطفال ـ ثم نجدهم يشعرون‬

‫‪116‬‬


‫بعض املالحظات حول الشخصيات الروائية‬

‫بالكرب العظيم ملوت أنَّا كارينينا؟ ما الذي يعنيه أن نشارك بعمق‬ ‫أحزان شخص نعلم أنه مل يكن موجودا أبدا؟‬

‫االنطولوجيا مقابل السيميوطيقا‬ ‫ولكن‪ ،‬هل نحن متأكدون من أن ليس للشخصيات الروائية‬ ‫وجود ما؟ دعونا نستخدم اصطالح "اليشء ذو الوجود املادي‬ ‫‪ ،" Physically Existing Object‬أو ‪ ،PhEO‬لألشياء املوجودة‬ ‫حاليا (مثلك أنت‪ ،‬والقمر‪ ،‬ومدينة أتالنتا)‪ ،‬إضافة إىل األشياء التي‬ ‫كانت موجودة يف املايض (مثل يوليوس قيرص‪ ،‬أو سفينة‬ ‫كولومبوس)‪ .‬من املؤكد أن أحدا لن يقول أن الشخصيات الروائية‬ ‫هي أشياء ذات وجود مادي‪ .‬لكن هذا ال يعني أهنا ليست أشياء‬ ‫عىل اإلطالق‪.‬‬ ‫يفي بالغرض أن تتبني هنج األنطولوجيا التي طورها ألكسيوس‬

‫[‪ ]1‬األنطولوجيا‪ :‬علم الوجود‪ ،‬وهو فرع في الفلسفة (امليتافيزيقا)‪ ،‬يبحث في طبيعة‬ ‫الوجود واملوجودات‪ ،‬وجوهر األشياء‪[ .‬املترجم]‬ ‫[‪ ]2‬السيميوطيقا‪ :‬علم يبحث في الرموز والعالمات‪ ،‬واستخداماتها‪ ،‬وتأويالتها‪[ .‬املترجم]‬

‫‪117‬‬


‫اعرتافات روائي شاب‬

‫مينونج (‪1853‬ـ‪ ،)1920‬لتقبل فكرة أن كل تصوير‪ ،‬أو حكم‪،‬‬ ‫جيب أن يكون متوافقا مع يشء‪/‬موضوع ما‪ ،‬رغم أنه من غري‬ ‫الرضوري أن يكون للموضوع‪/‬اليشء وجود بالفعل‪ .‬املوضوع هو‬ ‫أي يشء يتسم بصفات معينة‪ ،‬غري أن صفة الوجود ال تعد من‬ ‫الصفات التي يمكن االستغناء عنها‪ .‬قبل سبعة قرون من مينونج‪،‬‬ ‫قال الفيلسوف ابن سينا أن الوجود جمرد صفة عارضة للذات أو‬ ‫اجلوهر‪ .‬هبذا املعنى‪ ،‬يمكن وجود موضوعات جمردة ـ مثل الرقم‬ ‫سبعة عرش والزاوية القائمة‪ ،‬إذ ليس هلا وجود مادي‪ ،‬ولكنها‬ ‫موجودة وجودا ال زمنيا جمردا ـ وموضوعات مادية‪ ،‬مثل‪ ،‬ومثل أنَّا‬ ‫كارينينا‪ ،‬مع الفارق أنني أملك وجودا ماديا‪ ،‬وأنَّا كارينينا ليست‬ ‫كذلك‪.‬‬ ‫اآلن‪ ،‬أحب أن أوضح أنني ال انشغل هنا بأنطولوجيا‬ ‫الشخصيات الروائية‪ .‬لكي يصبح املوضوع موضعا للتفكري‬

‫[‪ ]1‬أنطولوجيا مينونج‪ :‬بحسب نظرية الفيلسوف النمساوي مينونج في األنطولوجيا‪،‬‬ ‫فإن ما يمكن للعقل أن يتصوره‪ ،‬يملك وجودا ما‪ ،‬ويميز بين كينونة‬ ‫املوضوع‪/‬الش يء‪ ،‬باعتباره موجودا عقليا‪ ،‬وبين وجود املوضوع‪/‬الش يء‪ ،‬باعتباره ذا‬ ‫وجود موضوعي مادي‪[ .‬املترجم]‬

‫‪118‬‬


‫بعض املالحظات حول الشخصيات الروائية‬

‫األنطولوجي‪ ،‬فيجب أن ُينظر إليه كوجود مستقل عن أي عقل‪ ،‬كام‬ ‫هو احلال مع الزاوية القائمة‪ ،‬التي ينظر إليها العديد من علامء‬ ‫الرياضيات والفالسفة كنوع من الوجود األفالطوين ـ بمعنى أن‬ ‫اليقني "بأن الزاوية القائمة تسعون درجة" سيظل حقيقة‪ ،‬حتى لو‬ ‫اندثر النوع البرشي‪ ،‬وستبقى حقيقتها مقبولة‪ ،‬حتى من الغرباء‬ ‫القادمني من الفضاء اخلارجي‪.‬‬ ‫عىل العكس من ذلك‪ ،‬فإن واقعة انتحار أنَّا كارينينا تعتمد عىل‬ ‫األهلية الثقافية للعديد من القراء األحياء‪ ،‬لقد تم توثيقها بواسطة‬ ‫بعض الكتب‪ ،‬لكن من املؤكد أهنا ستُنسى إذا اندثر اجلنس البرشي‬ ‫وكل ما عىل وجه األرض من كتب‪ .‬ثمة اعرتاض ممكن وهو أن‬ ‫الزاوية القائمة سيكون هلا تسعون درجة فقط للغرباء من الفضاء‬ ‫اخلارجي‪ ،‬الذين يشاركوننا يف علم اهلندسة اإلقليدية‪ ،‬وأن كل‬ ‫تأكيد حول أنَّا كارينينا سيظل حقيقي أيضا بالنسبة هلؤالء الغرباء‪،‬‬ ‫إذا نجحوا يف اسرتداد نسخة واحدة‪ ،‬عىل األقل‪ ،‬من رواية‬ ‫تولوستوي‪ .‬لكني لست مرغام هنا عىل تبني موقف من الطبيعة‬ ‫األفالطونية للموجودات الرياضية‪ ،‬كام أنه ليس لدي أية معلومات‬

‫‪119‬‬


‫اعرتافات روائي شاب‬

‫عن اهلندسة أو األدب املقارن اخلاصني بغرباء الفضاء اخلارجي‪.‬‬ ‫دعوين أفرتض‪ ،‬كيفام كان‪ ،‬أن النظرية الفيثاغورسية قد تكون‬ ‫صحيحة‪ ،‬حتى لو مل يكن هناك برش موجودون للتفكري فيها‪ ،‬بينام‬ ‫إذا عزونا إىل أنَّا كارينينا وجودا ما ‪ ،‬فمن املؤكد أنه ستكون هناك‬ ‫حاجة لوجود ما‪ ،‬يشبه العقل البرشي‪ ،‬يمكنه حتويل نص‬ ‫تولوستوي إىل ظاهرة عقلية‪.‬‬ ‫اليشء الوحيد الذي أتأكد منه متاما‪ ،‬أن بعض الناس قد تأثر‬ ‫بالكشف عن أن أنَّا كارينينا قد انتحرت‪ ،‬لكن القليل جدا (أو ال‬ ‫أحد) قد صدموا‪ ،‬أو فوجئوا‪ ،‬عندما علموا أن الزاوية القائمة‬ ‫تسعون درجة‪ .‬وحيث أن لب تأماليت هنا هو‪ :‬ملاذا يتأثر الناس‬ ‫بالشخصيات الروائية‪ ،‬فليس بمقدوري افرتاض وجهة نظر‬ ‫أنطولوجية‪ .‬إين ملتزم باعتبار أنَّا كارينينا كموضوع يتوقف وجوده‬ ‫عىل العقل‪ ،‬كموضوع معريف‪ .‬بمعنى آخر (وسوف أقوم برشح‬ ‫وجهة نظري بنحو أكثر وضوحا فيام يل)‪ ،‬إن هنجي ليس‬ ‫انطولوجيا بل سيميوطيقيا‪ .‬بمعنى‪ ،‬أن اهتاممي‪ :‬ما هو نوع‬ ‫املحتوى الذي يتوافق ـ بالنسبة للقارئ املؤهل ـ مع تعبري "أنَّا‬

‫‪120‬‬


‫بعض املالحظات حول الشخصيات الروائية‬

‫كارينينا" ـ خاصة إذا ما اعترب هذا القارئ‪ ،‬كأمر مفروغ منه‪ ،‬أن أنَّا‬ ‫كارينينا ليست‪ ،‬ومل تكن أبدا‪ ،‬موضوعا ذا وجود مادي‪.‬‬ ‫باإلضافة إىل ذلك‪ ،‬فإن املسألة التي أبحثها هي‪ :‬بأي معنى‬ ‫يمكن للقارئ العادي أن يعترب التأكيد بأن " أنَّا كارينينا قد‬ ‫انتحرت" أمرا حقيقيا‪ ،‬إذا كان هو‪ ،‬أو هي‪ ،‬يعلم يقينا أن أنَّا‬ ‫كارينينا ليست موضوع ذو وجود مادي؟ سؤايل ليس "أين‪ ،‬يف‬ ‫بقاع األرض‪ ،‬تعيش الشخصيات الروائية؟" بل باألحرى‪" :‬بأي‬ ‫كيفية نتحدث عنهم‪ ،‬كام لو كانوا ُييون يف إحدى بقاع األرض؟"‬ ‫لإلجابة عن كل هذه األسئلة‪ ،‬إن كان ممكنا‪ ،‬أحسب أنه سيكون‬ ‫مفيدا إعادة النظر يف بعض احلقائق الواقعية الواضحة‪ ،‬عن‬ ‫الشخصيات الروائية‪ ،‬والعامل الذي يعيشون فيه‪.‬‬

‫)‪ (1‬من أجل دراسة مكتملة وجادة‪ ،‬أنظر‪:‬‬ ‫‪Carola Barbero, Madame Bovary: Something like Melody (Milan: Albo Versorio‬‬ ‫‪2005).‬‬ ‫قامت باربيرو بعمل جيد في توضيح االختالف بين البحث الوجودي والبحث املعرفي‪:‬‬ ‫"نظرية األشياء ال تهتم بالكيفية التي ندرك بها األشياء غير املوجودة معرفيا‪،‬‬ ‫الحقيقة‪ ،‬أنها تركز فقط على األشياء في عمومها املطلق‪ ،‬مستقلة عن الطرق‬ ‫املمكنة لتحققها"(‪(.)65‬إكو)‬

‫‪121‬‬


‫اعرتافات روائي شاب‬

‫العوالم املمكنة غير املكتملة والشخصيات املكتملة‬ ‫بحسب التعريف‪ ،‬فإن النصوص الروائية تتحدث عن‬ ‫أشخاص وأحداث ال وجود هلا (وهلذا السبب‪ ،‬بالتحديد‪ ،‬فإهنا‬ ‫تستدعي تعليق إنكارنا هلا)‪ .‬بالتايل‪ ،‬من وجهة نظر داللة التصديق‬ ‫الرشطي ‪ ،‬فدائام ما يصوغ التأكيد الروائي شيئا مناقضا للواقع‪.‬‬ ‫بالرغم من ذلك‪ ،‬فإننا ال نأخذ التأكيدات الروائية كأكاذيب‪.‬‬ ‫أوال‪ ،‬وقبل أي يشء‪ ،‬عند قراءة مقطع من رواية‪ ،‬فإننا ندخل يف‬ ‫اتفاق ضمني مع مؤلفه‪ ،‬الذي يتظاهر بأن ما كتبه‪ ،‬أو كتبته‪،‬‬ ‫حقيقي‪ ،‬ويطلب منا أن نتظاهر أننا نأخذه عىل حممل اجلد‪ .‬بمثل‬ ‫هذا‪ ،‬فإن كل روائي يقوم بتصميم عامل ممكن‪ ،‬وبالتايل فإن كل‬ ‫أحكامنا بالصدق أو الكذب مرتبطة هبذا العامل املمكن‪ .‬وهكذا‪،‬‬ ‫يكون حقيقي‪ ،‬من الوجهة الروائية‪ ،‬أن شريلوك هوملز يقطن يف‬

‫[‪ ]1‬داللة التصديق الشرطي‪ :‬منهج في علم الداللة‪ ،‬بحسبه يكون املعنى صادقا إذا ما‬ ‫وافق شروط تحققه في الواقع‪ ،‬مثال‪ :‬تعتبر عبارة "الثلج أبيض" صحيحة إذا ما‬ ‫ثبت أن الثلج أبيض في الواقع‪[ .‬املترجم]‬ ‫‪(2) See John Searl, "The Logical Status of Fictional Discourse,"New Literary‬‬ ‫‪History, 6, no.2 (Winter 1975): 319-332.‬‬

‫‪122‬‬


‫بعض املالحظات حول الشخصيات الروائية‬

‫شارع بيكر‪ ،‬ويكون كذبا‪ ،‬من الوجهة الروائية‪ ،‬أنه عاش عىل‬ ‫ضفاف هنر سبوون‪.‬‬ ‫النصوص الروائية ال تأخذ يف حسباهنا أبدا أن يكون مرسح‬ ‫أحداثها عاملا مغايرا متاما للعامل الذي نعيش فيه‪ ،‬حتى لو كانت‬ ‫قصصا خرافية‪ ،‬أو روايات علمية‪ .‬حتى يف هذه احلاالت‪ ،‬فإذا‬ ‫ُذكرت غابة‪ ،‬فمن املفهوم أهنا ستكون قريبة الشبه بالغابات يف عاملنا‬ ‫الواقعي‪ ،‬حيث األشجار نباتية وليست معدنية‪ ،‬وهكذا‪ .‬وإذا‬ ‫ُأخربنا‪ ،‬بنحو ما‪ ،‬أن الغابة تتكون من أشجار معدنية‪ ،‬سيلزم أن‬ ‫تكون فكريت "معدن" و"شجرة" مماثلتني ملا يدالن عليه يف عاملنا‬ ‫الواقعي‪.‬‬ ‫عادة ما ختتار الرواية‪ ،‬احلياة اليومية‪ ،‬كمرسح ألحداثها‪ ،‬عىل‬ ‫األقل بقدر ما تنشغل بمالحمه الرئيسية‪ .‬إن قصص ريكس ستاوت‪،‬‬ ‫تطلب من قرائها أن يعتربوا كحقيقة واقعة أن نيويورك يقطنها‬ ‫أناس مثل نريو وولف‪ ،‬وأريش جودوين‪ ،‬وسول بانزر‪ ،‬واملفتش‬ ‫كرامر‪ ،‬وهم غري مدرجة أسامؤهم يف قوائم سجالت بلدية‬ ‫نيويورك‪ .‬أما بقية األحداث فإهنا تقع يف نيويورك كام لو أهنا (أو كام‬

‫‪123‬‬


‫اعرتافات روائي شاب‬

‫لو كانت) يف عاملنا الواقعي‪ ،‬لذا فإننا سنصاب باالرتباك إذا ما قرر‬ ‫أريش جودوين أن يقفز من أعىل برج إيفل يف السنرتال بارك‪ .‬العامل‬ ‫الروائي ليس عاملا ممكنا فحسب لكنه عامل صغري أيضا ـ بمعنى‪:‬‬ ‫"مسار‪ ،‬قصري نسبيا‪ ،‬من األحداث‪ ،‬يف ركن أو زاوية ما‪ ،‬من عاملنا‬ ‫الفعل"‬ ‫العامل الروائي غري مكتمل‪ ،‬ليس احلالة القصوى لألمور‪ .‬يف‬ ‫العامل الواقعي‪ ،‬إذا كانت العبارة‪" :‬جون يعيش يف باريس" صادقة‪،‬‬ ‫فسيكون صادق أيضا أن جون يعيش يف عاصمة فرنسا‪ ،‬وكذا أنه‬ ‫يعيش شامل ميالن‪ ،‬وجنوب ستوكهومل‪ .‬مثل هذه املجموعة من‬ ‫اللوازم ال تثبت أمام العوامل املمكنة العتقاداتنا ـ ما ُيسمى بالعوامل‬ ‫"االعتقادية"‪ .‬إذا كان صحيحا أن جون يعتقد أن توم يعيش يف‬ ‫باريس‪ ،‬فهذا ال يعني أن جون يعتقد أن توم يعيش شامل ميالن‪،‬‬

‫‪(1) Jaakko Hintikka, "Exploring Possible Worlds," in Sture Allén, ed., Possible‬‬ ‫‪Worlds in Humanities, Arts and Science, vol.65 of Proceedings of the Nobel‬‬ ‫‪Symposium (New York: De Gruyter, 1989), 55.‬‬ ‫‪(2) Lubomir Dolezel, "Possible Worlds and Literary Fiction," in Allén, Possible‬‬ ‫‪Worlds, 233.‬‬

‫‪124‬‬


‫بعض املالحظات حول الشخصيات الروائية‬

‫ألنه ربام كان جون يعاين نقصا يف املعلومات اجلغرافية‪ .‬العوامل‬ ‫الروائية غري مكتملة كالعوامل االعتقادية‪ ،‬وإن بطريقة خمتلفة‪.‬‬ ‫عىل سبيل املثال‪ :‬ففي بداية رواية "جتار الفضاء" لفريدريك‬ ‫بول وس‪ .‬م‪ .‬كورنبلوث‪ ،‬نقرأ‪" :‬دعكت الصابون املزيل للشعر‬ ‫عىل وجهي‪ ،‬ثم غسلته باملاء املنساب من صنبور املاء العذب" يف‬ ‫عبارة تشري إىل العامل الواقعي‪ ،‬فإن ذكر املاء "العذب" قد يبدو من‬ ‫فضول الكالم‪ ،‬إذ أن الصنابري عادة هي صنابري ماء عذب‪ ،‬لكن‬ ‫بقدر ما يشك املرء أن هذه العبارة تصف عاملا روائيا‪ ،‬فإن املرء يفهم‬ ‫أهنا تقدم معلومات غري مبارشة عن عامل بعينه‪ ،‬فيه نجد يف‬ ‫األحواض املعتادة صنبور املاء العذب يف مقابل صنبور املاء املالح‬ ‫(بينام يكون التقابل يف عاملنا بني صنبور املاء البارد وصنبور املاء‬ ‫الساخن)‪ .‬حتى إذا مل تقدم لنا القصة معلومات إضافية‪ ،‬فسيكون‬

‫)‪ (1‬على سبيل املثال‪ :‬قال جورج بوش‪ ،‬رئيس الواليات املتحدة األمريكية‪ ،‬في مؤتمر‬ ‫صحفي‪ ،‬في ‪ 24‬سبتمبر ‪ ،2001‬أن "العالقات الحدودية بين كندا واملكسيك في‬ ‫أفضل حاالتها"‪ .‬انظر‪:‬‬ ‫‪Usinfo.org/wf-archive/2001/010924/epf109.htm.‬‬ ‫‪(2) Cited in Samuel Delany, "Generic Protocols," in Teresa de Lauretis, ed., The‬‬ ‫‪Technological Imagination (Madison, Wis,: Coda Press, 1980).‬‬

‫‪125‬‬


‫اعرتافات روائي شاب‬

‫القراء متلهفني إىل استنتاج أهنا ُتعنى بعامل الرواية العلمية‪ ،‬حيث‬ ‫هناك نقص يف املاء العذب‪ .‬أما يف غياب املعلومات اإلضافية‪،‬‬ ‫فسيلزم عن ذلك اعتقاد القارئ بأن كال من املاء العذب واملاء املالح‬ ‫مها ‪ H2O‬املعتاد‪ .‬هبذا املعنى‪ ،‬يبدو أن العوامل الروائية طفيلية عىل‬ ‫العامل الواقعي‪ .‬إن كل يشء يف العامل الروائي املمكن هو مماثل ملا‬ ‫نسميه عاملنا الواقعي‪ ،‬باستثناء التنوع الذي يقدمه النص رصاحة‪.‬‬ ‫يقول شكسبري يف مرسحية "حكاية شتاء" أن املشهد رقم ‪ 3‬يف‬ ‫الفصل رقم ‪ 3‬تدور أحداثه يف "بوهيميا"‪ ،‬دولة صحراوية قرب‬ ‫البحر‪ .‬نحن نعلم أن بوهيميا ليس لدهيا ساحل‪ ،‬مثلام أنه ال يوجد‬ ‫منتجعات بحرية يف سويرسا‪ ،‬ولكننا نسلم بأن "بوهيميا" ـ يف العامل‬ ‫املمكن ملرسحية شكسبري ـ هلا ساحل‪ .‬باالتفاق الروائي‪ ،‬وتعليق‬ ‫عدم التصديق من جانبنا‪ ،‬جيب أن نأخذ هذه التغريات كام لو كانت‬ ‫حقيقية‪.‬‬ ‫[‪ ]1‬الرمز الكيميائي للماء‪ :‬ذرتان من الهيدروجين وذرة من األكسجين‪[ .‬املترجم]‬ ‫‪(2) On narrative possible world being "small" and "parasitic," see Umberto Eco,‬‬ ‫‪The Limits of Interpretation (Bloomington: Indana University Press,1990),‬‬ ‫‪chapter entitled "Small Worlds".‬‬ ‫)‪ (3‬كما ذكرت في كتابي "ست مسارات في غابة السرد" الفصل ‪.5‬‬

‫‪126‬‬


‫بعض املالحظات حول الشخصيات الروائية‬

‫لقد قيل أن الشخصيات الروائية غري تامة التعني ـ بمعنى‪ :‬أننا‬

‫ال نعرف إال القليل من خصائصها ـ بينام األفراد احلقيقيون فتعينهم‬ ‫تام ‪ ،‬وأنه جيب علينا أن نكون قادرين عىل أن نعزو إىل كل منهم كل‬ ‫صفة من صفاهتم املعروفة‪ .‬لكن عىل الرغم من صحة ذلك من‬ ‫الوجهة األنطولوجية‪ ،‬فإهنا عىل النقيض متاما من الوجهة‬ ‫األبستمولوجية؛ فليس بمقدور أحد تأكيد كافة خصائص شخص‬ ‫حمدد‪ ،‬أو جنس برشي حمدد‪ ،‬إذ أهنا ال هنائية‪ ،‬بينام خصائص‬ ‫الشخصية الروائية شديدة التحدد يف النص الرسدي ـ وتلك‬ ‫الصفات التي يذكرها النص‪ ،‬هي فقط ما ُيعترب يف حتديد هوية‬ ‫‪)Cambridge, Mass: Harvard University Press, 1994),‬‬ ‫أن القراء‪ ،‬أكثر أو أقل لهفة‪ ،‬على قبول انتهاك شروط العالم الواقعي‪ ،‬على أساس‬ ‫من حالة معارفهم املوسوعية‪ .‬في رواية "الفرسان الثالثة" أللكسندر دوماس‪ ،‬التي‬ ‫ألفها عام ‪ ،1600‬نجد أراميس‪ ،‬يعيش في شارع سيرفاندوني‪ ،‬استحالة‪ ،‬ألن‬ ‫املعماري جيوفاني سيرفاندوني‪ ،‬الذي تسمى الشارع باسمه‪ ،‬عاش ومارس عمله‬ ‫بعد ذلك بمائة عام‪ .‬غير أن القارئ يقبل هذه املعلومة بدون أدنى انزعاج‪ ،‬ألن‬ ‫القليل جدا منهم من يعرف شيئا عن سيرفاندوني‪ ،‬على العكس من ذلك‪ ،‬لو قال‬ ‫ألكسندر دوماس ألن أراميس يعيش في شارع بونابرت‪ ،‬سيكون من الطبيعي أن‬ ‫ينزعج القراء‪( .‬إكو)‬ ‫‪(1) See, for instance, Roman Ingarden, Das Literarische Kunstwerk (Halle.,‬‬ ‫‪Niemayer Verlag, 1931); in English, The Literary Work of Art, trans. George‬‬ ‫‪G. Grabwiscz (Evanston, I11.: Northwestern University Press, 1973).‬‬

‫‪127‬‬


‫اعرتافات روائي شاب‬

‫الشخصية‪.‬‬ ‫احلقيقة‪ ،‬أنني أعرف ليوبولد بلووم بأكثر مما أعرف والدي‪.‬‬ ‫من بمقدوره إخباري كم فصال من حياة أيب ال أعرف عنه شيئا؟‬ ‫كم من أفكار أيب مل يفصح عنها؟ كم من املرات أخفى أحزانه‪،‬‬ ‫مآزق مر هبا‪ ،‬وحلظات ضعف؟ اآلن‪ ،‬بعدما مات‪ ،‬فمن املحتمل‬ ‫أال أكتشف أبدا هذه األرسار‪ ،‬ومعها‪ ،‬ربام‪ ،‬جوانب جوهرية من‬ ‫كينونته‪ .‬مثل تلك الشخصيات التارخيية التي وصفها دوماس‪ ،‬فإين‬ ‫استغرق يف التفكري‪ ،‬واستغرق‪ ،‬بال جدوى‪ ،‬يف ذلك الشبح العزيز‪،‬‬ ‫الذي فقدته لألبد‪ .‬عىل العكس من ذلك‪ ،‬فإين أعرف كل يشء عن‬ ‫ليوبولد بلووم‪ ،‬مما أحتاج إىل معرفته ـ ويف كل مرة أعيد قراءة‬ ‫عوليس فإين أكتشف اجلديد عنه‪.‬‬ ‫عند التعامل مع احلقائق التارخيية‪ ،‬فبإمكان املؤرخني اجلدال‬ ‫لقرون حول ما إذا كانت معلومة معينة متعلقة باملوضوع أم ال‪ .‬عىل‬ ‫سبيل املثال‪ :‬فإن مما يتعلق بتاريخ نابوليون أن تعرف ماذا أكل قبل‬

‫[‪ :Leopold Bloom ]1‬الشخصية الرئيسية لرواية "عوليس" للروائي األيرلندي جيمس‬ ‫جويس‪[ .‬املترجم]‬

‫‪128‬‬


‫بعض املالحظات حول الشخصيات الروائية‬

‫معركة واترلو مبارشة؟ معظم كتاب السرية الذاتية يعتربون هذه‬ ‫التفصيلة غري متعلقة باملوضوع‪ .‬لكن ربام كان هناك باحثون‬ ‫يعتقدون أن نوعية الطعام يمكن أن تكون ذات تأثري حاسم يف‬ ‫سلوك اإلنسان‪ .‬وبذلك فإن تلك التفصيلة من حياة نابوليون‪ ،‬إذا‬ ‫ما كان هناك وثيقة تؤكدها‪ ،‬قد تكون ذات فائدة عظيمة ملثل هذا‬ ‫البحث‪.‬‬ ‫عىل النقيض‪ ،‬فإن النص الروائي خيربنا‪ ،‬عىل وجه التحديد‪ ،‬أي‬ ‫التفاصيل له عالقة بتأويل القصة‪ ،‬وبسيكولوجية الشخصيات‪،‬‬ ‫وغري ذلك‪ ،‬وأهيا هاميش‪.‬‬ ‫عند هناية الكتاب ‪ ،2‬الفصل ‪ ،35‬من رواية "األمحر واألسود"‪،‬‬ ‫يروي مؤلفها ستندال كيف ُياول جولني سوريل قتل مدام دي‬ ‫رينال يف كنيسة فريري‪ .‬وحيث ُذكر أن ذراع جولني كانت ترجتف‪،‬‬ ‫فإنه ينتهي قائال‪" :‬يف تلك اللحظة‪ ،‬قام القسيس الشاب‪ ،‬الذي‬ ‫يتوىل مراسم القداس‪ ،‬بدق الناقوس من أجل عرض خبز التقدمة‪.‬‬ ‫خفضت مدام دي رينال رأسها‪ ،‬ومالبثت أن اختفت خلف طيات‬ ‫شاهلا‪ .‬ومل يعد بمقدور جولني رؤية مالحمها بوضوح كاف‪ ،‬أطلق‬

‫‪129‬‬


‫اعرتافات روائي شاب‬

‫رصاصة نحوها‪ ،‬وأخطأها‪ .‬أطلق رصاصة أخرى‪ ،‬فسقطت"‬ ‫يف صفحة الحقة نعرف أن ُجرح مدام دير ينال غري قاتل‪:‬‬ ‫أصابت الرصاصة األوىل قبعتها‪ ،‬والثانية كتفها‪ .‬من املثري مالحظة‬ ‫أن ستندال ـ ألسباب ُفتن هبا العديد من النقاد ـ ُيدد أين انتهت‬ ‫الرصاصة الثانية‪ :‬ارتدت من عظام كتفها إىل عمود قوطي‪ ،‬لتنتهي‬ ‫إىل االصطدام بلوح هائل من احلجر‪ .‬لكن عىل الرغم من أنه يقدم‬ ‫تفاصيل مسار الطلقة الثانية‪ ،‬فإنه يذكر القليل عن الطلقة األوىل‪.‬‬ ‫ما زال الناس متحريين عام حدث لطلقة جولني األوىل‪ .‬الشك‬ ‫أن العديد من املعجبني بستندال ُياولون حتديد موضع الكنيسة‪،‬‬ ‫والعثور عىل آثار الطلقة (مثل ألواح حجرية مفقودة من أعمدة‬ ‫أخرى)‪ .‬يف السياق نفسه‪ ،‬فقد ُعرف أن العديد من املعجبني‬ ‫بجيمس جويس يتجمعون يف دبلن‪ ،‬ألجل العثور عىل الصيدلية‬ ‫التي اشرتى منها بلووم صابونة الليمون ـ ومثل هذه الصيدلية‬

‫‪(1) Stenhal, The Red and the Black, trans. Horace B. Samuel (London: Kegan‬‬ ‫‪Paul, 1916), 464.‬‬ ‫‪(2) On these two bullets, see Jaques Geninasca, La Parole Littéaire (Paris:‬‬ ‫‪PUF,1997), II, 3.‬‬

‫‪130‬‬


‫بعض املالحظات حول الشخصيات الروائية‬

‫موجودة‪ ،‬أو كانت ماتزال موجودة عام ‪ ،1965‬حني اشرتيت نفس‬ ‫النوع من الصابون‪ ،‬أنتجتها الصيدليات القديمة‬

‫إلرضاء‬

‫السائحني املعجبني بجويس‪.‬‬ ‫دعونا نفرتض اآلن أن ناقدا يرغب يف تأويل جممل رواية‬ ‫ستندال‪ ،‬متخذا من الرصاصة املفقودة نقطة بدء‪ .‬هناك أشكال‬ ‫أكثر جنونا من النقد! وحيث أن النص ال جيعل لتلك الطلقة‬ ‫املفقودة عالقة باملوضوع (يف الواقع‪ ،‬مل يزد عن جمرد ذكرها)‪ ،‬فإنه‬ ‫جيوز لنا اعتبار مثل هذا التأويل تأويال مستبعدا‪ .‬النص الروائي ال‬ ‫خيربنا‪ ،‬فقط‪ ،‬ما هو حقيقي وما هو غري حقيقي يف عامله الرسدي‪،‬‬ ‫بل خيربنا أيضا عن ما هو متعلق باملوضوع وما يمكن جتاهله‬ ‫باعتباره غري ذي قيمة‪.‬‬ ‫ويوضح ذلك السبب يف تولد االنطباع بأننا يف موضع صنع‬ ‫تأكيدات غري قابلة للنقاش حول الشخصيات الروائية‪ .‬فإهنا حقيقة‬ ‫مؤكدة أن طلقة جولني سوريل األوىل فقدت أثرها‪ ،‬مثلام أهنا‬ ‫[‪ ]1‬استخدم إكو هنا كلمة ‪ ،apothecary‬وهو اسم تاريخي للصيدليات القديمة التي‬ ‫يقوم الصيدالني فيها بتركيب الدواء املطلوب‪ ،‬ووصف الدواء للمرض ى‪ ،‬والقيام‬ ‫ببعض الجراحات البسيطة أحيانا‪[ .‬املترجم]‬

‫‪131‬‬


‫اعرتافات روائي شاب‬

‫حقيقة مؤكدة أن ميكي ماوس صديق ميني‪.‬‬

‫التأكيدات الروائية في مقابل التأكيدات التاريخية‬ ‫هل تعترب التأكيدات الروائية مثل‪" :‬انتحرت أنَّا كارينينا بإلقاء‬ ‫نفسها أمام قطار"‪ ،‬حقيقية كالتأكيدات التارخيية مثل‪" :‬انتحر هتلر‪،‬‬ ‫و ُأحرقت جثته‪ ،‬يف خمبأ يف برلني"؟ إن استجابتنا الغريزية هي‪ :‬أن‬ ‫العبارة املتعلقة بأنَّا كارينينا تشري إىل يشء خمرتع‪ ،‬وأن تلك املتعلقة‬ ‫هبتلر فتتعلق بأمر حدث بالفعل‪.‬‬ ‫وعليه‪ ،‬لنكون صائبني من حيث داللية التصديق الرشطي‪،‬‬ ‫جيب علينا القول أن عبارة‪" :‬أنه حقيقي أن أنَّا كارينينا انتحرت‬ ‫بإلقاء نفسها أمام قطار" هي جمرد طريقة أخرى إلفادة "أنه أمر‬ ‫حقيقي يف هذا العامل‪ ،‬أن نص رواية تولوستوي يؤكد أن أنَّا كارينينا‬ ‫قد انتحرت بإلقاء نفسها أمام قطار"‪.‬‬ ‫إذا كان األمر كذلك‪ ،‬فبحسب اصطالحات املنطق‪ ،‬فإن العبارة‬ ‫اخلاصة بأنَّا كارينينا ستكون صادقة‪ ،‬من جهة اللغة ومنطق العبارة‪،‬‬ ‫وليس من جهة اليشء نفسه‪ ،‬ومن وجهة النظر السيميوطيقية فإهنا‬

‫‪132‬‬


‫بعض املالحظات حول الشخصيات الروائية‬

‫تُعنى بـمستوى التعبري وليس بـمستوى املحتوى‬

‫ـ أو بحسب‬

‫اصطالحات فرديناند دي سوسري‪ :‬مستوى الدال بدال من مستوى‬ ‫املدلول‪.‬‬ ‫يمكننا تقديم حقائق حول شخصيات روائية؛ ألن ما حدث هلم‬ ‫مسجل يف نص‪ ،‬نص أشبه باملدونة املوسيقية ‪" .‬انتحرت أنَّا‬ ‫كارينينا بإلقاء نفسها أمام قطار" أمر حقيقي‪ ،‬مثلام هو حقيقي أن‬ ‫سيمفونية بيتهوفن اخلامسة هي من مقام "مي" صغري (وليست من‬ ‫مقام "ال" كبري كسيمفونيته السادسة)‪ ،‬وأهنا تبدأ باجلملة املوسيقية‪:‬‬ ‫"يس‪ ،‬يس‪ ،‬يس‪ ،‬صول ـ خفيض"‪.‬‬ ‫دعوين أطلق عىل هذه الطريقة يف اعتبار التأكيد الروائي اسم‪:‬‬ ‫[‪ ]1‬مستوى التعبير ومستوى املحتوى‪ :‬عند هلمسليف وبارت‪ :‬فإن الدوال في مستوى‬ ‫التعبير هي‪ :‬مادة التعبير‪ ،‬وتتضمن املكونات املادية للوسط املحيط‪ ،‬مثل‪ :‬الصور‬ ‫واألصوات‪ .‬أما املدلوالت في مستوى املحتوى هي‪ :‬مادة املحتوى‪ ،‬وتتضمن‪ :‬املحتوى‬ ‫اإلنساني‪ ،‬العالم النص ي‪ ،‬مادة وجنس املوضوع‪[ .‬املترجم]‬ ‫ُ‬ ‫[‪ ]2‬مدونة موسيقية ‪ :score‬سلسلة من املدارج املوسيقية‪ ،‬التي تكتب عليها األجزاء‬ ‫اآللية‪ ،‬أو الغنائية املختلفة للعمل املوسيقي‪ ،‬واحدا بعد اآلخر‪ ،‬في خط رأس ي‪،‬‬ ‫بحيث يمكن قراءة األجزاء في وقت واحد‪ .‬وقد استخدم إكو هذا االصطالح للتعبير‬ ‫عن العمل األدبي األصلي‪ ،‬التي تولد فيه الشخصية الروائية‪ ،‬وللتعبير عن العمل‬ ‫الفرعي‪ ،‬املكتوب أو الشفاهي‪ ،‬الذي تنتقل إليه الشخصية الروائية بسماتها‬ ‫األصلية‪[ .‬املترجم]‬

‫‪133‬‬


‫اعرتافات روائي شاب‬

‫"مقاربة إىل املقطع"‪ .‬لكن يبقى أن مثل هذا املوقف غري مريض متاما‬ ‫من جانب خربة القارئ‪ .‬إذا نحينا جانبا الكثري من املشكالت التي‬ ‫تنتج عن حقيقة أن قراءة مقطع تعد عملية تأويل معقدة‪ ،‬فيمكننا‬ ‫القول أن املدونة املوسيقية هي أداة سيميوطيقية‪ ،‬خترب املرء عن‬ ‫كيفية إنتاج تسلسل صويت معني‪ .‬فقط‪ ،‬بعد حتويل سلسلة من‬ ‫العالمات املكتوبة إىل أصوات‪ ،‬يمكن للمستمعني القول أهنم‬ ‫يستمتعون بسيمفونية بيتهوفن اخلامسة‪( .‬وهذا ُيدث حتى‬ ‫للموسيقي البارع‪ ،‬القادر عىل قراءة املقاطع يف صمت‪ :‬احلقيقة‪ ،‬أنه‬ ‫يعيد إنتاج األصوات يف عقله)‪ .‬عندما نقول‪" :‬من احلقيقي يف هذا‬ ‫العامل أن نصا يف رواية تولوستوي يؤكد أن أنَّا كارينينا انتحرت‬ ‫بإلقاء نفسها أمام قطار"‪ ،‬فإننا‪ ،‬ببساطة‪ ،‬نقول أنه حقيقي يف هذا‬ ‫العامل أنه يف صفحات مطبوعة معينة هناك سلسلة من الكلامت‬ ‫املكتوبة التي متكن القارئ ـ إذا قرأها (حتى ولو قراءة صامتة) ـ من‬ ‫معرفة أن هناك عامل رسدي‪ ،‬يوجد فيه أناس مثل أنَّا كارينينا‪،‬‬ ‫وفرونسكي‪.‬‬ ‫لكن حني احلديث عن أنَّا كارينينا وفرونسكي‪ ،‬فإننا‪ ،‬عادة‪،‬‬

‫‪134‬‬


‫بعض املالحظات حول الشخصيات الروائية‬

‫نتوقف عن التفكري يف النص الذي قرأناه عن تغري األحوال هبم‪.‬‬ ‫نتحدث عنهام كام لو كانا أناس حقيقيون‪.‬‬ ‫صحيح (يف هذا العامل) أن اإلنجيل يبدأ بـعبارة‪" :‬يف‬ ‫البدء‪ ،"Bereshit...‬لكن عندما نقول أن قابيل قتل أخاه‪ ،‬أو أن‬ ‫أبراهام كان عىل وشك التضحية بابنه ـ وغالبا عندما نحاول تأويل‬ ‫هذه األحداث‪ ،‬بنحو أخالقي أو صويف رمزي ـ فإننا ال نشري إىل‬ ‫املقطع العربي األصل (الذي ال يألفه تسعون باملائة من قراء‬ ‫اإلنجيل)؛ إننا نتحدث عن حمتوى وليس عن تعبري النص اإلنجيل‪.‬‬ ‫حقا نحن نعرف أن قابيل قتل أخاه بفضل املقطع اإلنجيل‬ ‫املكتوب‪ ،‬وقد تم افرتاض أن وجود العديد من األشياء غري املادية‪،‬‬ ‫املسامة‪" :‬أمور اجتامعية"‪ ،‬جيب أن تكون‪ ،‬أو يمكن إثباهتا بوثيقة‪.‬‬ ‫لكننا سوف نرى الحقا أن‪:‬‬

‫(‪)1‬‬

‫أحيانا ما تكون الشخصيات‬

‫الروائية موجودة قبل أن يتم تسجيل وجودها يف وثيقة مكتوبة‬ ‫(مثلام هو احلال مع الشخصيات األسطورية واخلرافية)‪ ،‬و(‪ )2‬أن‬ ‫العديد من الشخصيات الروائية تنجح يف اإلبقاء عىل الوثائق التي‬ ‫سجلت وجودها‪.‬‬

‫‪135‬‬


‫اعرتافات روائي شاب‬

‫يف الواقع‪ ،‬فإن أحدا ال يستطيع (أعتقد) أن ينفي‪ ،‬بشكل‬ ‫عقالين‪ ،‬أن أدولف هتلر وأنَّا كارينينا‪ ،‬نوعان خمتلفان من الوجود‪،‬‬ ‫فلكل منهام حالته األنطولوجية املختلفة‪ .‬أنا لست ذلك الذي‬ ‫يسمونه باحتقار ـ يف بعض األقسام األكاديمية يف الواليات املتحدة‬ ‫األمريكية ـ "النُّص ِ‬ ‫وص"‪ ،‬الشخص الذي يعتقد (مثلام يفعل بعض‬ ‫ُ‬ ‫التفكيكيني) أن ليس ثمة حقيقة إال للتأويالت‪ ،‬أي‪ :‬للنصوص‪.‬‬ ‫وحيث أين طورت نظرية يف التأويل تقوم عىل سيميوطيقا شارلز‬ ‫ساندر بريس‪ ،‬فإين أفرتض إلنجاز أي تأويل فالبد من وجود‬ ‫بعض احلقائق لتأويلها‪ .‬أن تقبل‪ ،‬مثلام أفعل‪ ،‬أن هناك اختالفا‬ ‫بني احلقائق التي هي‪ ،‬بدون شك‪ ،‬نصوص (كالنسخة املادية من‬ ‫كتاب أنت عىل وشك قراءته) وبني احلقائق التي ليس بنصوص‬ ‫(مثل حقيقة أنك تقرأ ذلك الكتاب) فإن يقيني شديد من أن هتلر‬ ‫إنسان حقيقي (عىل األقل‪ ،‬سأعتقد ذلك حتى يأيت مؤرخون‬ ‫موثوقون ببينة مناقضة‪ ،‬تثبت أنه كان إنسان آيل بناه فرنر فون‬ ‫براون)‪ ،‬بينام أنَّا كارينينا كانت جمرد شخصية متخيلة من قبل عقل‬ ‫‪(1) See, for instance, Umberto Eco, Kant and the Platypus, trans, Alastair‬‬ ‫‪McAwen (New York: Harcourt,1999), in particular sect. 1.9.‬‬

‫‪136‬‬


‫بعض املالحظات حول الشخصيات الروائية‬

‫إنساين‪ ،‬وأهنا‪ ،‬كام قد يقول البعض‪" :‬مصنوعة" ‪.‬‬ ‫عىل أية حال‪ ،‬يمكن للمرء القول‪ ،‬أن ليست الشخصيات‬ ‫الروائية فقط‪ ،‬بل الشخصيات التارخيية أيضا‪ ،‬ذات وجود لفظي‪:‬‬ ‫فالتالميذ الذين يكتبون أن هتلر قد مات يف خمبأ يف برلني‪ ،‬يقررون‪،‬‬ ‫ببساطة‪ ،‬أن ذلك حقيقي بحسب كتبهم التارخيية‪ .‬بمعنى آخر‪ ،‬أنه‬ ‫بخالف األحكام التي تستند إىل اخلربة املبارشة (مثل‪" :‬إهنا متطر")‪،‬‬ ‫فإن كل األحكام التي ُأصدرها عىل خلفية من خربيت الثقافية (أي‪:‬‬ ‫كل األحكام املتعلقة باملعلومات التي تسجلها املوسوعات ـ من أن‬ ‫الديناصورات عاشت يف املرحلة اجلوراسكية‪ ،‬وأن الرمز الكيميائي‬ ‫حلامض الكربيتيك هو ‪ ،H2SO4‬وهكذا)‪ ،‬إنام تستند إىل معلومات‬ ‫نصية‪ .‬وعىل الرغم من أهنا تبدو معربة عن حقائق واقعية‪ ،‬فإهنا‬ ‫جمرد وقائع لفظية‪.‬‬ ‫لذا‪ ،‬دعوين أستخدم مصطلح "احلقائق املوسوعية" لإلشارة إىل‬ ‫)‪ (1‬إذا كانت شخصية َّأنا كارينينا مصنوعة‪ ،‬فإنها تختلف عن غيرها من األشياء‬ ‫املصنوعة؛ كاملقاعد والسفن‪ .‬انظر‪:‬‬ ‫‪Amie L. Thomasson, "Fictional Characters and Literary Practices," British Jornal‬‬ ‫‪of Aesthetics, 43, no. 2 (April 2002): 138-157.‬‬ ‫الصنائع الروائية ليست كيانات مادية‪ ،‬كما تفتقر إلى التموقع في الزمان واملكان‪( .‬إكو)‬

‫‪137‬‬


‫اعرتافات روائي شاب‬

‫كل بنود املعرفة العامة التي أتعلمها من موسوعة (مثل املسافة بني‬ ‫األرض والشمس‪ ،‬أو حقيقة أن هتلر مات يف خمبأ)‪ .‬إين أعترب هذه‬ ‫القطع من املعلومات حقيقية؛ ألنني أثق باملجتمع العلمي‪ ،‬وأقبل‬ ‫نوع من " َق َسم املعمل الثقايف" الذي أ ُنتدب له أناس متخصصون‪،‬‬ ‫إلثبات هذه املعلومات‪ .‬غري أن لتأكيدات املوسوعة حدود‪ .‬فإهنا ما‬ ‫تزال قابلة للمراجعة‪ ،‬بام أن العلم‪ ،‬بحكم التعريف‪ ،‬مهيأ دوما‬ ‫إلعادة النظر يف مكتشفاته‪ .‬إذا ما احتفظنا بعقل مفتوح‪ ،‬فعلينا‬ ‫االستعداد دوما ملراجعة آرائنا حول موت هتلر‪ ،‬يف حال ما تم‬ ‫اكتشاف وثائق جديدة‪ ،‬وأن نعدِّ ل اعتقاداتنا عن املسافة بني‬ ‫األرض والشمس‪ ،‬كنتيجة للمقاييس الفلكية اجلديدة‪ .‬إضافة إىل‬ ‫ذلك‪ ،‬فإن حقيقة أن هتلر مات يف أحد املخابئ‪ ،‬هي مما يشكك‬ ‫بعض املؤرخني هبا بالفعل‪ .‬مما يمكن تصوره‪ :‬أن هتلر عاش إىل‬ ‫سقوط برلني يف يد احللفاء‪ ،‬وأنه هرب إىل األرجنتني‪ ،‬وأن أحدا مل‬ ‫ُ​ُيرق يف املخبأ‪ ،‬أن املحرتق كان شخصا آخر‪ ،‬وأن انتحار هتلر قد‬ ‫تم اخرتاعه ألسباب دعائية من قبل الروس‪ ،‬الذين وصلوا إىل‬ ‫املخبأ‪ ،‬أو أن املخبأ نفسه مل يكن له وجود عىل اإلطالق‪ ،‬حيث أن‬

‫‪138‬‬


‫بعض املالحظات حول الشخصيات الروائية‬

‫حتديد موقعه بدقة مازال موضع خالف‪ ،‬وهلم جرا‪ ،‬وهكذا‬ ‫دواليك‪.‬‬ ‫عىل النقيض‪ ،‬فإن التأكيد أن "أنَّا كارينينا قد انتحرت بإلقاء‬ ‫نفسها أمام قطار" ال يمكن أن يكون موضع شك‪.‬‬ ‫إن كل تأكيد يتعلق باحلقائق املوسوعية جيب أن خيضع لالختبار‬ ‫من حيث الصحة التجريبية اخلارجية (وبحسبها يقول املرء‪:‬‬ ‫"زودين بالدليل عىل أن هتلر قد مات بالفعل يف خمبأ")‪ ،‬بينام تتعلق‬

‫التأكيدات اخلاصة بانتحار أنا كارينينا بحالة الصحة النصية‬ ‫الداخلية (بمعنى أن املرء ليس بحاجة للذهاب خارج النص‬ ‫إلثباهتا)‪ .‬عىل أساس من مثل هذه الصحة الداخلية‪ ،‬سوف نعترب‬ ‫من يقول أن أنَّا كارينينا تزوجت بيسوكوف‪ ،‬جمنونا‪ ،‬أو واهي‬ ‫املعلومات‪ ،‬بينام سنكون أقل إقصاء لشخص يعلن شكوكه حول‬ ‫موت هتلر‪.‬‬ ‫عىل أساس من نفس الصحة الداخلية‪ ،‬فال يمكن إن نخطئ يف‬ ‫هوية الشخصية الروائية‪ .‬يف احلياة الواقعية‪ ،‬مازلنا غري متأكدين من‬ ‫هوية الرجل ذي القناع احلديدي‪ ،‬نحن ال نعلم من يكون كاسرب‬

‫‪139‬‬


‫اعرتافات روائي شاب‬

‫هاورس بالفعل‪ ،‬نحن ال نعلم ما إذا كانت أنستازيا نيكاليفنا‬ ‫رومانوفا قد تم اغتياهلا‪ ،‬مع بقية العائلة امللكية الروسية‪ ،‬يف‬ ‫ييكاتريينربج‪ ،‬أم أهنا نجت‪ ،‬ثم ظهرت يف صورة املرأة اجلذابة‬ ‫املطالبة بالعرش‪ ،‬التي لعبت انجريد برمجان دورها الحقا‪ .‬عىل‬ ‫النقيض‪ ،‬فإننا نقرأ روايات أرثر كونان دويل‪ ،‬ونحن متأكدون من‬ ‫أنه‪ ،‬حني يشري شريلوك هوملز إىل واطسون‪ ،‬فإنه دائام يسمي‬ ‫الشخص نفسه‪ ،‬وأن مدينة لندن ليس فيها اثنان ُيمالن االسم‬ ‫نفسه‪ ،‬أو نفس جمال العمل ـ وإال لكان النص قد بني‪ ،‬عىل األقل‪،‬‬ ‫هذا احلال‪ .‬لقد سبق أن قدمت ما خيالف نظرية سول كريبكي يف‬ ‫التعيينات اجلامدة ‪ ،‬ولكني أعرتف ‪ ،‬بطيب خاطر‪ ،‬أن مثل هذه‬ ‫الفكرة تصلح يف العوامل الروائية املمكنة‪ .‬بإمكاننا تعريف دكتور‬ ‫واطسون بأكثر من طريقة‪ ،‬لكن يبقى واضحا أنه الشخص الذي‬ ‫ُأطلق عليه اسم واطسون يف رواية "دراسة للون القرمزي" للمرة‬ ‫األوىل‪ ،‬بواسطة شخصية اسمها ستامفورد‪ ،‬وأنه من اآلن فصاعدا‪،‬‬

‫‪(1) See, for instance, Umberto Eco, Semiotics and Philosophy of Language‬‬ ‫‪(Bloomington: Indana University Press, 1984), 2.3.3; and idem, The Limits‬‬ ‫‪of Interpretaion (Bloomington: Indana University Press, 1990).‬‬

‫‪140‬‬


‫بعض املالحظات حول الشخصيات الروائية‬

‫فإن كال من شريلوك هوملز وقراء آرثر كونان دويل‪ ،‬باستخدامهم‬ ‫االسم "واطسون"‪ ،‬يقصدون اإلشارة إىل تلك الواقعة األصلية‬ ‫األوىل‪ .‬من املمكن أنه يف رواية مل تُكتشف بعد‪ ،‬أن يقول كونان‬ ‫دويل أن واطسون كذب بادعائه أنه ُجرح يف معركة مايواند‪ ،‬أو أنه‬ ‫تدرب يف جمال الطب‪ .‬لكن حتى يف هذه احلالة؛ أن ينكشف تزوير‬ ‫دكتور واطسون‪ ،‬فإنه سيظل ذلك الشخص الذي قابل شريلوك‬ ‫هوملز يف "دراسة للون القرمزي" ألول مرة‪.‬‬ ‫إن اهلوية القوية للشخصية الروائية تظل مشكلة شديدة األمهية‪.‬‬

‫خيربنا فيليب دومينك يف كتابه "حتقيق مضاد يف موت إيام‬ ‫بوفاري" عن قصة حمقق رشطة يثبت أن مدام بوفاري مل تقتل‬ ‫نفسها بالسم‪ ،‬إنام تم قتلها‪ .‬اآلن‪ ،‬اكتسبت هذه الرواية نكهة ما‪،‬‬ ‫ألن القراء يعتربونه أمرا مسلام به أن إيام بوفاري "يف الواقع" قد‬ ‫قتلت نفسها بالسم‪ .‬يمكن لرواية دومينك أن متتع القراء بنفس‬ ‫الطريقة التي يستمتع هبا القراء بام يسمى‪ :‬قصص "املعاجلة اخليالية‬

‫‪(1) Philippe Doumenc, Contre-enquéte sur la mort d'Emma Bovary (Paris: Actes‬‬ ‫‪Sud,2007).‬‬

‫‪141‬‬


‫اعرتافات روائي شاب‬

‫للواقع" قصص دنيوية مماثلة لليوتوبيات‪ ،‬نوع من ("القصص‬ ‫التارخيية"‪ ،‬أو قصص اخليال العلمي التي حتكي عن املايض)‪ ،‬التي‬ ‫يتخيل فيها املؤلف‪ ،‬عىل سبيل املثال‪ ،‬ما الذي كان يمكن أن ُيدث‬ ‫ألوروبا إذا انترص نابليون يف معركة واترلو‪ .‬يمكن لرواية املعاجلة‬ ‫اخليالية للواقع أن تكون ممتعة‪ ،‬فقط‪ ،‬إذا عرف القارئ أن نابليون‬ ‫قد ُهزم يف واترلو‪ .‬باملثل‪ ،‬لكي يستمتع برواية دومينك‪ ،‬فعىل‬ ‫القارئ أن يوقن أن مدام بوفاري قد انتحرت بالفعل‪ .‬وإال‪ ،‬ملاذا‬ ‫أكتب ـ أو أقرأ ـ مثل هذه القصة املخالفة للواقع؟‬

‫الوظيفة اإلبستمولوجية للتصريحات الروائية‬ ‫نحن ملا نتحقق بعد أي نوع من الكيانات هي الشخصيات‬ ‫الروائية‪ ،‬بعيدا عن املقاربة إىل املقطع‪ .‬لكننا يف موقف يسمح لنا‬ ‫بالقول أن التأكيدات الروائية ‪ ،‬بسبب من طريقة استخدامنا هلا‪،‬‬ ‫[‪ ]1‬املعالجة الخيالية للواقع‪ :‬أي العوالم الروائية والخيالية املنطلقة من عالم الواقع‪،‬‬ ‫بخالف تلك العوالم الروائية الخيالية تماما‪[ .‬املترجم]‬ ‫[‪ ]2‬التأكيدات الروائية‪ُ :‬يقصد بها ما تذكره الرواية في متنها‪ ،‬باعتباره حقائق حول‬ ‫الشخصيات‪ ،‬أو األماكن‪ ،‬أو غير ذلك‪ ،‬وهو ما ذكره إكو في حديثه عن َّأنا كارينينا‪،‬‬ ‫وواطسون‪ ،‬الخ‪[ .‬املترجم]‬

‫‪142‬‬


‫بعض املالحظات حول الشخصيات الروائية‬

‫وتفكرينا فيها‪ ،‬تعد جوهرية بالنسبة لتوضيح فكرتنا احلالية عن‬ ‫احلقيقة‪.‬‬ ‫لنفرتض أن أحدهم سأل‪ :‬ما معنى أن يكون التأكيد حقيقيا‪،‬‬ ‫ولنفرتض أننا أجبنا بالتعريف الشهري الذي صاغه ألفريد تارسكي‪،‬‬ ‫وبحسبه فإن "الثلج أبيض" صادقة إذا كان كذلك‪ ،‬وإذا كان فقط‬ ‫الثلج أبيض‪ .‬كنا لنقول شيئا مثريا للغاية لتحفيز النقاش العقل‪،‬‬ ‫ولكنه قليل الفائدة بالنسبة لألناس العاديني (فمثال‪ ،‬ما كنا لنعرف‬ ‫ما نوع الربهان املادي الكايف الذي يتمكن املرء بحسبه من تأكيد أن‬ ‫الثلج أبيض)‪ .‬جيب علينا القول‪ ،‬باألحرى‪ ،‬أن التأكيد يكون‬ ‫حقيقيا بنحو ال يقبل النقاش‪ ،‬حينام يكون غري قابل للدحض‪ ،‬بمثل‬ ‫ما هو التأكيد بأن‪" :‬سوبرمان هو كالرك كنت"‪.‬‬ ‫عموما‪ ،‬فإن القارئ يقبل‪ ،‬كأمر غري قابل للدحض‪ ،‬فكرة أن أنَّا‬ ‫كارينينا قد انتحرت‪ .‬ولكن حتى إذا أراد املرء البحث عن دليل‬ ‫جتريبي خارجي‪ ،‬فإنه يكفي‪ ،‬لقبول املقاربة إىل املقطع (والتي‬ ‫بحسبها يكون حقيقيا أن تولوستوي‪ ،‬كتب كذا وكذا‪ ،‬يف كتاب‬ ‫يمكن الرجوع إليه‪ ،‬واسرتجاع ما قال)‪ ،‬أن يكون لديك اإلحساس‬

‫‪143‬‬


‫اعرتافات روائي شاب‬

‫أن املعلومات املعطاة تعزز هذا التأكيد ـ أما بالنسبة ملوت هتلر‪ ،‬فإن‬ ‫كل دليل هو موضع نقاش أبعد من ذلك‪.‬‬ ‫لكي نقرر ما إذا كان عبارة‪" :‬مات هتلر يف خمبأ يف برلني"‬ ‫حقيقية بال جدال‪ ،‬جيب علينا أن نحدد ما إذا كنا نعترب هذه العبارة‬ ‫حقيقية بال أي شك‪ ،‬مثل عبارة‪" :‬سوبرمان هو كالرك كنت" أو‬ ‫عبارة‪" :‬انتحرت أنَّا كارينينا بإلقاء نفسها أمام قطار"‪ .‬فقط‪ ،‬بعد‬ ‫إجراء هذا االختبار‪ ،‬يمكننا القول أن عبارة‪" :‬مات هتلر يف خمبأ يف‬ ‫برلني" حمتملة الصدق‪ ،‬ربام كانت ذات احتاملية صدق كبرية‪،‬‬ ‫ولكن ليس إىل درجة اعتبارها حقيقية ال شك فيها (أما عبارة‪:‬‬ ‫"سوبرمان هو كالرك كنت" فال يمكن الطعن فيها)‪ .‬يمكن لكل‬ ‫من بابا الفاتيكان والدالي الما أن يقضيا أعوام يف النقاش حول ما‬ ‫إذا كان حقيقيا أن يسوع املسيح ابن الرب‪ ،‬لكن (إذا ما كانا مطلعني‬ ‫عىل األدب‪ ،‬والكتب اهلزلية) فسيتحتم عليهام اإلقرار بأن كالرك‬ ‫كِنت هو سوبرمان‪ ،‬والعكس بالعكس‪ .‬وهكذا‪ ،‬فإن هذه هي‬ ‫الوظيفة املعرفية للتأكيدات الروائية‪ :‬أن يمكن استخدامها بمثل‬

‫‪144‬‬


‫بعض املالحظات حول الشخصيات الروائية‬

‫اختبار صبغة دوار الشمس لبيان عدم إمكانية دحض احلقائق‪.‬‬

‫أفراد متنقلون في مدونات متغيرة‬ ‫إن اقرتاح تطبيق وظيفة أنامط احلقائق عىل احلقائق الروائية‪ ،‬ال‬ ‫يفرس لنا سبب بكائنا ملا يصيب الشخصيات الروائية من حمن‪ .‬فال‬

‫ُيتوقع من أحد أن يتأثر بسبب أن تولوستوي كتب أن أنَّا كارينينا قد‬ ‫ماتت‪ .‬لكن املرء يتأثر‪ ،‬يف الغالب‪ ،‬ألن أنَّا كارينينا ماتت ـ حتى لو‬ ‫مل يكن املرء مدركا حلقيقة أن تولوستوي هو أول من كتب عنها‪.‬‬ ‫الحظ أن ما قلته توا يصدق عىل أنَّا كارينينا‪ ،‬وكالرك كنت‪،‬‬ ‫وهاملت‪ ،‬والعديد من الشخصيات األخرى‪ ،‬ولكن ليس عىل كل‬ ‫شخصية روائية‪ .‬ال أحد يعرف (عدا املتخصصون يف توافه نريو‬ ‫وولف) من هو دانا هاموند‪ ،‬وماذا فعل‪ .‬يمكن للمرء‪ ،‬عىل األكثر‪،‬‬

‫[‪ ]1‬اختبار دوار الشمس‪ :‬اختبار كيميائي‪ ،‬تستخدم فيه مادة تستخرج من نبات دوار‬ ‫الشمس‪ ،‬يتحول لونها إلى األحمر إذا غمست في محلول حمض ي‪ ،‬واألزرق في املحلول‬ ‫القلوي‪[ .‬املترجم]‬ ‫[‪ ]2‬أنماط الحقائق‪ :‬في الفلسفة‪ :‬تشير إلى تعيين ما إذا كانت الحقيقة ضرورية‪ ،‬أو‬ ‫ممكنة‪ ،‬أو طارئة‪ ،‬أو مستحيلة‪[ .‬املترجم]‬

‫‪145‬‬


‫اعرتافات روائي شاب‬

‫القول أنه يف الرواية املعنونة يف أحسن العائالت (نرشها ركس‬ ‫ستاوت عام ‪ ،)1950‬يقرر النص أن رجل بنوك ُيدعى دانا هاموند‬ ‫فعل كذا وكذا‪ .‬لقد ظل دانا هاموند‪ ،‬إذا جاز التعبري‪ ،‬أسريا ملدونته‬ ‫األصلية‪ .‬عىل العكس من ذلك‪ ،‬فإذا أردنا أن نذكر مثاال لرجل‬ ‫بنوك شهري‪ ،‬وسيئ سمعة‪ ،‬سنذكر البارون نوسينجني‪ ،‬الذي‬ ‫اكتسب‪ ،‬بشكل ما‪ ،‬القدرة عىل احلياة خارج كتب بلزاك‪ ،‬حيث‬ ‫ولد‪ .‬لقد أصبح نوسينجني ما تسميه بعض النظريات اجلاملية‪:‬‬ ‫"نمط عاملي"‪ ،‬أما دانا هاموند‪ ،‬فوا أسفاه‪ ،‬مل يكن كذلك‪ .‬أمر‬ ‫مؤسف بالنسبة له‪.‬‬ ‫هبذا املعنى‪ ،‬جيب علينا افرتاض أن بعض الشخصيات الروائية‬ ‫تكتسب نوعا من الوجود املستقل عن مدوناهتم األصلية‪ .‬كم عدد‬ ‫األشخاص‪ ،‬ممن يعلمون مصري أنَّا كارنينا‪ ،‬قد قرأوا كتاب‬ ‫تولوستوي؟ وكم من هؤالء قد سمع عنها خالل األفالم السينامئية‬ ‫(فيلامن من بطولة جريتا جاربو) واملسلسالت التلفزيونية؟ أنا ال‬ ‫أعلم اإلجابة الدقيقة‪ ،‬ولكن يمكنني بالتأكيد القول أن الكثري من‬ ‫الشخصيات الروائية "تعيش" خارج املدونة التي وهبتهم الوجود‪،‬‬

‫‪146‬‬


‫بعض املالحظات حول الشخصيات الروائية‬

‫وينتقلون إىل منطقة من العامل نجد صعوبة شديدة يف تعيني ختومها‪.‬‬ ‫بل إن بعضهم هياجر من نص إىل نص‪ ،‬ألن اخليال اجلمعي‪ ،‬عىل‬ ‫مدار القرون‪ ،‬استثمرهم عاطفيا‪ ،‬وحوهلم إىل أشخاص متنقلون‪.‬‬ ‫معظمهم من شخصيات األعامل الفنية العظيمة‪ ،‬أو من األساطري‪،‬‬ ‫ولكن من املؤكد أن ليس مجيعهم‪ .‬ومن ثم‪ ،‬فإن جمتمعنا من‬ ‫الكيانات املتنقلة يشمل‪ :‬هاملت‪ ،‬وروبني هود‪ ،‬وهيثكليف‬ ‫وميلالدي‪ ،‬وليوبولد بلوم‪ ،‬وسوبرمان‪.‬‬ ‫وحيث كنت دوما مولعا بالشخصيات املتنقلة‪ ،‬اخرتعت‪ ،‬ذات‬ ‫مرة‪ ،‬املعارضة األدبية التالية (أستميحكم العذر يف هذه الرسقة‬ ‫األدبية الذاتية البسيطة)‪:‬‬ ‫فيينا‪ .1950 ،‬عرشون عاما مضت‪ ،‬ولكن سام سبِايد[‪ ]1‬مل يتخىل‬ ‫عن بحثه عن الصقر املالطي ‪ ،‬هو اآلن عىل صلة هباري اليم‪ ،‬ومها‬ ‫اآلن يتبادالن احلديث‪ ،‬متخفيان‪ ،‬أعىل العجلة الدوارة يف مدينة‬

‫[‪ ]1‬سام سبايد‪ :‬شخصية روائية‪ ،‬لتحري خاص‪ ،‬في روايات وقصص بوليسية‪ ،‬للكاتب‬ ‫األمريكي صامويل داشييل هاميت‪[ .‬املترجم]‬ ‫[‪ ]2‬الصقر املالطي‪ :‬صقر مدبج باملجوهرات‪ ،‬يبحث عنه سام سبايد في رواية لداشييل‬ ‫هاميت تحمل العنوان ذاته‪[ .‬املترجم]‬

‫‪147‬‬


‫اعرتافات روائي شاب‬

‫املالهي‪ .‬هيبطان‪ ،‬ويمضيان سريا عىل األقدام إىل مقهى موتزارت‪،‬‬ ‫حيث يعزف سام أغنية "بمرور الوقت" عىل القيثارة‪ .‬عىل منضدة‬ ‫يف اجلانب اخللفي‪ ،‬جيلس ريك‪ ،‬واضعا سيجارة يف جانب فمه‪،‬‬ ‫وعىل وجهه تعبري مرير‪ .‬كان قد عثر عىل دليل يف األوراق التي‬ ‫أراها له أوجارت‪ ،‬واآلن‪ُ ،‬يري سام سبايد صورة فوتوجرافية‬ ‫ألوجارت‪" :‬القاهرة!"‪ ،‬متتم رجل التحري‪ .‬يواصل ريك كالمه‪:‬‬ ‫عندما دخل باريس منترصا بصحبة الكابتن رينولت‪ ،‬كعضو يف‬ ‫جيش التحرير التابع لدجيول‪ ،‬سمع عن امرأة قاتلة معينة (التي‬ ‫ُيظن أهنا التي اغتالت روبرت جوردان خالل احلرب األهلية‬ ‫األسبانية)‪ ،‬والتي وضعها رجال اخلدمة الرسية يف طريق الصقر‪.‬‬ ‫ستكون هنا يف أية حلظة‪ُ .‬يفتح الباب‪ ،‬وتظهر امرأة‪" .‬إلسا!" صاح‬ ‫ريك‪" .‬برجييد!" صاح سام سبايد‪" .‬أنَّا شميدت!" صاح اليم‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫عدت! ال تدعي رئييس‬ ‫"اآلنسة سكارليت!" صاح سام‪" ،‬ها قد‬ ‫يعاين أكثر من ذلك"‪.‬‬ ‫ومن ظلمة البار‪ ،‬خرج رجل تعلو وجهه ابتسامة ساخرة‪.‬‬ ‫إنه فيليب مارلو‪" .‬لنذهب‪ ،‬أنسة ماربل" قال للمرأة‪" ،‬األب‬

‫‪148‬‬


‫بعض املالحظات حول الشخصيات الروائية‬

‫براون ينتظرنا يف شارع بيكر" ‪.‬‬ ‫ال ُيتاج املرء إىل أن يكون قد قرأ املدونة األصلية ليكون عىل‬ ‫دراية بالشخصية املتنقلة‪ .‬إن الكثري من الناس يعرفون عوليس من‬ ‫دون أن يقرأوا األوديسة‪ ،‬واملاليني من األطفال الذين يتحدثون‬ ‫عن "ذات الرداء األمحر"‪ ،‬مل يقرأوا أبدا املصدرين األساسيني‬ ‫للقصة‪ :‬التي ألفها شارل بريو‪ ،‬وتلك التي ألفها األخوان جريم‪.‬‬ ‫أن تصري الشخصية الروائية كيانا متنقال‪ ،‬أمر ال يتعلق‬ ‫باخلصائص اجلاملية للمدونة األصلية‪ .‬ملاذا ينتحب الكثري من‬ ‫الناس النتحار أنَّا كارينينا‪ ،‬فيام ُيزن القليل من عشاق فيكتور‬ ‫ِ‬ ‫سيمورداين يف روايته "الثالث والتسعون"؟ بالنسبة‬ ‫هوجو النتحار‬ ‫ِ‬ ‫سيمورداين (بطل‬ ‫يل شخصيا‪ ،‬فإن تأثري أكثر عمقا بمصري‬ ‫تذكاري) من مصري تلك السيدة املسكينة‪ .‬أمر سيئ للغاية ـ‬ ‫األغلبية ضدي‪ .‬من الذي يذكر ـ عدا املعجبني باألدب الفرنيس ـ‬ ‫أوجستني ميولنه؟ رغم أنه كان‪ ،‬ومل يزل‪ ،‬الشخصية الرئيسية لرواية‬ ‫‪(1) See Eco, Six Walkes in the Fictinal Woods,126.‬‬

‫‪149‬‬


‫اعرتافات روائي شاب‬

‫عظيمة من تأليف آالن فورنيري‪ :‬ميولنه العظيم‪ .‬بعض القراء‪ ،‬ممن‬ ‫يتميزون باحلساسية‪ ،‬ويمكنهم التعامل بعمق وتعاطف شديدين‬ ‫ِ‬ ‫وسيمورداين يف‬ ‫مع هذه الروايات‪ ،‬يرحبون بأوجستني ميولنه‬ ‫نادهيم‪ .‬غري أن معظم القراء املعارصين ال يتوقعون أن يقابلوا هذه‬ ‫الشخصيات‪ ،‬وجها لوجه‪ ،‬يف الطريق ـ يف حني أين قرأت مؤخرا‬ ‫أنه‪ ،‬بحسب استطالع للرأي‪ ،‬فإن عرشين باملائة من املراهقني‬ ‫الربيطانيني يعتقدون أن وينستون ترششل‪ ،‬وغاندي‪ ،‬وديكنز‪،‬‬ ‫شخصيات روائية‪ ،‬وأن رشلوك هوملز‪ ،‬وإليانور رجيبي‪ ،‬شخصيات‬ ‫حقيقية‪ .‬وهكذا‪ ،‬يبدو أنه بإمكان ترششل أن يملك مكانة مميزة‬ ‫كشخصية روائية ملتنقلة ‪ ،‬بينام ال يمكن ذلك ألوجستني ميولنه‪.‬‬ ‫هناك شخصيات حتظى بمعرفة واسعة‪ ،‬من خالل جتسدها‬ ‫خارج النص‪ ،‬بأكثر مما حتظى به من خالل دورها الذي لعبته يف‬ ‫قلب نص أديب معني‪ .‬لنأخذ حالة "ذات الرداء األمحر"‪ .‬يف نص‬ ‫شارل بريو‪ .‬يأكل الذئب الفتاة الصغرية‪ ،‬وتنتهي القصة‪ ،‬لتصبح‬

‫"‪(1) See, for instance, Aislinn Simpson, "Winston Churchill Didn't Really Exist,‬‬ ‫‪Telegraph, February 4,2008.‬‬

‫‪150‬‬


‫بعض املالحظات حول الشخصيات الروائية‬

‫مصدر إهلام ألفكار مهمة حول خماطر التهور‪ .‬ويف نص األخوين‬ ‫جريم‪ ،‬يصل الصياد‪ ،‬ويقتل الذئب‪ ،‬وينقذ الطفلة وجدهتا من‬ ‫املوت‪ .‬يف تلك األيام‪ ،‬فإن ذات الرداء األمحر التي تعرفها كل‬ ‫األمهات واألطفال‪ ،‬ليست هي ذات الرداء األمحر اخلاصة بشارل‬ ‫بريو واألخوين جريم‪ .‬تأيت النهاية السعيدة من نسخة األخوين‬ ‫جريم‪ ،‬بالتأكيد‪ ،‬لكن العديد من التفاصيل األخرى هي نوع من‬ ‫التوفيق بني النسختني‪ .‬إن "ذات الرداء األمحر" التي نعرفها تنتج‬ ‫عن مدونة متغرية ‪ ،‬أكثر أو أقل من تلك التي تقاسمتها كل‬ ‫األمهات وكتاب قصص األطفال‪.‬‬ ‫العديد من الشخصيات األسطورية انتمت إىل هذا العامل‬ ‫املشرتك قبل أن تصبح شخصية يف نص معني‪ .‬لقد كانت شخصية‬ ‫أوديب موجودة يف العديد من القصص األسطورية قبل أن يصبح‬ ‫موضوعا ملرسحيات سوفوكليس‪ .‬وبعد عدة معاجلات سينامئية‪ ،‬مل‬ ‫يعد الفرسان الثالثة أولئك الذين أبدعهم ألكسندر دوماس‪ .‬كل‬ ‫قراء قصص نريو وولف يعرفون أنه كان يعيش يف ماهناتن‪ ،‬يف مبنى‬ ‫من احلجر البني‪ ،‬يقع يف موضع ما يف غرب الشارع اخلامس‬

‫‪151‬‬


‫اعرتافات روائي شاب‬

‫والثالثني ـ غري أن روايات ركس ستاوت تذكر‪ ،‬عىل األقل‪ ،‬عرشة‬ ‫أرقام خمتلفة للمنزل‪ .‬يف حلظة بذاهتا‪ ،‬فإن نوعا من االتفاق الضمني‬ ‫أقنع املعجبون بوولف أن الرقم الصحيح للمنزل هو ‪454‬؛ ويف ‪22‬‬ ‫يونيو ‪ ،1996‬قامت مدينة نيويورك‪ ،‬ومنظمة تُدعى وولف باك‪،‬‬ ‫بتكريم ركس ستاوت ونريو وولف‪ ،‬بتقليدمها نيشانا برونزيا‪ ،‬يف‬ ‫‪ 454‬غرب الشارع اخلامس والثالثني‪ ،‬وهذا يعد تصديقا بأن هذه‬ ‫البقعة باعتبارها موقع املبنى احلجري الروائي‪.‬‬ ‫بالطريقة نفسها‪ ،‬ديدو‪ ،‬وميديا‪ ،‬ودون كيشوت‪ ،‬ومدام بوفاري‪،‬‬ ‫وهولدين كولفييلد‪ ،‬وجاِي جاتسبي‪ ،‬وفيليب مارلو‪ ،‬واملحقق‬ ‫ميجريت‪ ،‬وهريكيول بوارو‪ ،‬مجيعهم صار إىل الوجود من خارج‬ ‫مدوناهتم األدبية األصلية ـ وحتى أولئك الذين مل يسبق هلم أبدا‬ ‫قراءة أعامل فريجيل‪ ،‬ويوريبيدوس‪ ،‬وسريفانتس‪ ،‬وفلوبري‪،‬‬ ‫وسالينجر‪ ،‬وفيتزجرالد‪ ،‬وشاندلر‪ ،‬وسيمينون‪ ،‬أو كريستي‪،‬‬ ‫بإمكاهنم ادعاء تقديم تأكيدات حقيقية عن هذه الشخصيات‪.‬‬ ‫ولكوهنم مستقلني عن النص‪ ،‬وعن العامل املمكن الذي ولدوا فيه‪،‬‬ ‫فإن هذه الشخصيات (إذا جاز التعبري) تدور بيننا‪ ،‬ونجد صعوبة يف‬

‫‪152‬‬


‫بعض املالحظات حول الشخصيات الروائية‬

‫التفكري فيهم باعتبارهم أي يشء سوى أشخاص حقيقيني‪.‬‬ ‫وبالتايل‪ ،‬فنحن ال نعتربهم‪ ،‬فقط‪ ،‬نامذجا حلياتنا الشخصية‪ ،‬بل‬ ‫أيضا‪ ،‬نامذجا حلياة اآلخرين‪ .‬فربام نقول أن شخصا ما‪ ،‬نعرفه‪ ،‬يعاين‬ ‫من عقدة أوديب‪ ،‬أو "له شهية جارجنتية" ‪ ،‬أو "غيور كعطيل"‪،‬‬ ‫أو "شكاك كهملت"‪ ،‬أو "سكروج "‪.‬‬

‫الشخصيات الروائية كموضوعات سيميوطيقية‬ ‫عند هذه النقطة‪ ،‬فعىل الرغم من أنني ذكرت أن اهتاممي األول‪،‬‬ ‫يف هذا املقام‪ ،‬ليس وجوديا‪ ،‬فإين ال أستطيع اهلرب من سؤال‬ ‫وجودي أسايس‪ :‬أي نوع من الكيانات تكون الشخصية الروائية‪،‬‬ ‫وبأي شكل ـ إن مل تكن تتصف بالوجود احلقيقي ـ حتيا هذه‬ ‫الكيانات؟‬ ‫من املؤكد أن الشخصية الروائية هي موضوع سيميوطيقي؛‬

‫[‪ ]1‬جارجانتا‪ :‬شخصية روائية لعمالق‪ ،‬يتصف بالنهم الشديد للطعام‪ ،‬في رواية‬ ‫"جارجانتا وولده بانتاجرول" لفرانسوا رابيليه‪[ .‬املترجم]‬ ‫[‪ ]2‬سكروج‪ :‬الشخصية الرئيسية لرواية "أنشودة عيد امليالد" لشارلز ديكنز‪ ،‬وكان‬ ‫يتصف بالبخل الشديد‪[ .‬املترجم]‬

‫‪153‬‬


‫اعرتافات روائي شاب‬

‫أعني بذلك‪ :‬جمموعة من اخلصائص املسجلة يف موسوعة أحد‬ ‫الثقافات‪ ،‬وتم نقلها بتعبري معني (كلمة‪ ،‬صورة‪ ،‬أو أي أداة‬ ‫أخرى)‪ .‬مثل هذه الكتلة من اخلصائص هي ما نسميه "معنى"‪ ،‬أو‬ ‫تعرب ـ كمحتواها ـ‬ ‫"مدلول" التعبري‪ .‬وعىل هذا‪ ،‬فإن كلمة "كلب" ِّ‬ ‫عن خصائص خملوق‪ ،‬هو حيوان‪ ،‬ثديي‪ ،‬من فصيلة الكلبيات‪،‬‬ ‫حيوان نابح‪ ،‬أفضل صديق لإلنسان‪ ،‬والعديد من السامت‬ ‫األخرى‪ ،‬املذكورة يف موسوعة شاملة‪ .‬هذه اخلصائص‪ ،‬بدورها‪،‬‬ ‫يمكن تأويلها بعبارات أخرى‪ ،‬وتؤسس تلك السلسلة من‬ ‫التأويالت املرتابطة كل األفكار املعنية هبذا ا ُمل َ‬ ‫دخل‪ ،‬والتي يتشارك‬ ‫فيها جمتمع ما‪ ،‬واملسجلة بنحو مجعي‪.‬‬ ‫هناك العديد من املوضوعات السيميوطيقية‪ ،‬بعضها يمثل فئات‬ ‫من املوضوعات ذات الوجود املادي (عىل سبيل املثال‪ :‬فئة‬ ‫"األنواع الطبيعية"‪ ،‬ويتم التعبري عنها بكلامت مثل "حصان"‪ ،‬أو‬ ‫من فئة "األنواع الصناعية"‪ ،‬ويتم التعبري عنها بالكلامت‪ ،‬مثل‪:‬‬ ‫"منضدة")‪ ،‬والبعض اآلخر يمثل األفكار املجردة‪ ،‬أو املوضوعات‬ ‫الفكرية (مثل‪" :‬حرية"‪ ،‬أو "اجلذر الرتبيعي")‪ ،‬والبعض اآلخر‬

‫‪154‬‬


‫بعض املالحظات حول الشخصيات الروائية‬

‫ينتمي إىل فئة تسمى "موضوعات إجتامعية"‪ ،‬وهذه تتضمن‪:‬‬ ‫الزواج‪ ،‬املال‪ ،‬الدرجات اجلامعية ـ وبوجه عام‪ :‬أي كيان تأسس‬ ‫بحسب اتفاق مجعي‪ ،‬أو قانون‪.‬‬ ‫غري أن هناك‪ ،‬أيضا‪ ،‬موضوعات سيميوطيقية متثل شخصيات‬ ‫فردية‪ ،‬أو أبنية‪ُ ،‬رمز إليها بأسامء أعالم‪ ،‬مثل‪" :‬بوسطن"‪ ،‬أو "جون‬ ‫سميث"‪ .‬أنا ال أتفق مع نظرية "التعيني الصارم"‪ ،‬والتي بمقتضاها‬ ‫يشري تعبري معني‪ ،‬بالرضورة‪ ،‬إىل اليشء نفسه يف كل العوامل املمكنة‪،‬‬ ‫بغض النظر عن أي تغريات يف الظروف‪ .‬أعتقد جازما أن كل اسم‬ ‫علم هو مشجب نعلق عليه جمموعة من اخلصائص‪ ،‬وعىل هذا ‪،‬‬ ‫فإن اسم "نابليون" ينقل لنا خصائص معينة‪ :‬رجل ُولد يف قرية‬ ‫أجاكسيو‪ ،‬أدى اخلدمة كجنرال للقوات الفرنسية‪ ،‬أصبح‬ ‫إمرباطورا‪ ،‬انترص يف معركة أوسرتليتز‪ ،‬مات يف جزيرة سانت‬ ‫هيالنة يف ‪ 5‬مايو‪ ،1821 ،‬وهكذا‪.‬‬

‫‪(1) For history of the idea of social objects, from Giambattista Vico and Thomas‬‬ ‫‪Reid to John Searle, see Maurizio Ferraris, "Scienze social," in Ferraris, ed.,‬‬ ‫‪Storia dell'ontologia (Milan: Bombiani, 2008), 475-490.‬‬ ‫‪(2) See, for instance, John Searle, "Paper Names," Mind, 67 (1958): 172.‬‬

‫‪155‬‬


‫اعرتافات روائي شاب‬

‫تشرتك أغلبية املوضوعات السيميوطيقية يف سمة مهمة‪:‬‬ ‫امتالكها مرجعا حمتمال‪ .‬بعبارة أخرى‪ ،‬يملكون خاصية أن هلم‬ ‫وجودا فعليا (مثلام هو احلال مع املدخل "جبل إيفرست")‪ ،‬أو كان‬ ‫هلم وجود سابقا (مثلام هو األمر مع "شيرشون" )‪ ،‬وغالبا ما‬ ‫يوصل ا ُمل َ‬ ‫دخل تعليامت ألجل حتديد املرجع‪ .‬كلامت مثل‪:‬‬ ‫"حصان"‪ ،‬أو "منضدة"‪ ،‬متثل فئات من املوضوعات ذات الوجود‬ ‫املادي‪ ،‬أما املوضوعات الذهنية مثل‪" :‬حرية"‪ ،‬أو "اجلذر‬ ‫الرتبيعي"‪ ،‬فيمكن أن تكون متصلة بفئات فردية ملموسة (إن‬ ‫دستور والية فريمونت‪ ،‬مثال‪ ،‬يمثل حالة ضامن احلرية لكل‬ ‫مواطن‪ .‬و ‪ 1.7320508075688772‬هو اجلذر الرتبيعي للرقم ‪،)3‬‬ ‫ويمكن لذلك نفسه أن يقال بالنسبة للموضوعات االجتامعية‬ ‫(احلدث س هو حالة زواج)‪ .‬غري أن هناك حاالت من النوع‬ ‫الطبيعي‪ ،‬أو الصناعي‪ ،‬أو املجرد‪ ،‬أو االجتامعي‪ ،‬مما ال يمكن‬ ‫[‪ ]1‬املرجع‪ :‬هو الكينونة أو الوجود الذي تشير إليه الكلمة‪ ،‬أو التي يحل محلها في العالم‬ ‫الخارجي‪ ،‬أو الواقع الالألسني‪ ،‬واملرجع يمكن أن يكون شيئا‪ ،‬أو نوعية‪ ،‬أو أفعاال‪ ،‬أو‬ ‫أحداثا حقيقية‪ ،‬واملرجع لكلمة "بقرة" هو الحيوان‪ :‬بقرة‪( .‬معجم مصطلحات‬ ‫السيميوطيقا ـ برونوين ماتن)‪[ .‬املترجم]‬ ‫[‪ ]2‬شيشرون‪ :‬كاتب روماني‪ ،‬وخطيب روما املميز‪ ،‬ولد سنة ‪ 106‬ق‪.‬م‪[ .‬املترجم]‬

‫‪156‬‬


‫بعض املالحظات حول الشخصيات الروائية‬

‫ربطها بأي خربة فردية‪ .‬وهكذا‪ ،‬فإننا نعرف معنى (اخلصائص‬ ‫املزعومة) لـ"احلصان املقرن" ‪ ،‬و"الكأس املقدسة" ‪ ،‬و"القانون‬ ‫الثالث للروبوتات"‬

‫عرفه إسحاق عظيموف‪ ،‬و"الدائرة‬ ‫كام َّ‬

‫املربعة"‪ ،‬و"ميديا" ‪ ،‬ولكننا نعي أننا ال نستطيع حتديد أي مثال‬ ‫هلذه املوضوعات يف عاملنا الواقعي‪.‬‬

‫َّ‬ ‫املقرن‪ :‬كائن خرافي على هيئة حصان أبيض ذو قرن وحيد‪ ،‬ذكر في‬ ‫[‪ ]1‬الحصان‬ ‫األساطير اإلغريقية واتخذ كشعار لنبالء العصور الوسطى في أوروبا‪[ .‬املترجم]‬ ‫[‪ ]2‬الكأس املقدسة‪ :‬في امليثولوجيا املسيحية‪ ،‬الكأس املقدسة كانت ً‬ ‫ً‬ ‫طبقا أو لوحا أو‬ ‫ً‬ ‫كوبا استخدمها يسوع في العشاء األخير‪ ،‬يقال أن الكأس ذات قدرة إعجازية‪.‬‬ ‫[املترجم]‬ ‫[‪ ]3‬قوانين أسيموف أو قوانين اإلنسان اآللي الثالثة‪ :‬هي مجموعة من القوانين يلتزم‬ ‫بها الروبوت‪ .‬ظهرت للمرة األولى في إحدى روايات الخيال العلمي‪ ،‬وهي رواية‬ ‫"التملص" لكاتب روايات الخيال العلمي األمريكي‪ ،‬الروس ي املولد‪ ،‬إسحاق‬ ‫ً‬ ‫عظيموف‪ ،‬في عام ‪ ،1942‬والحقا أضاف عظيموف القانون صفر إلى مجموعة‬ ‫القوانين‪ .‬وهي تعتبر بعض الضوابط حول كيف يجب برمجة وصنع اإلنسان اآللي‪،‬‬ ‫خاصة من منطلق الذكاء االصطناعي‪ .‬وهذه القوانين هي‪( :‬القانون األول)‪ :‬ال يجوز‬ ‫لإلنسان اآللي إيذاء البشر‪ ،‬وال يجب أن يسمح بحدوث أذى لهم‪( .‬القانون الثاني)‪:‬‬ ‫يجب على اإلنسان اآللي إطاعة أوامر البشر‪ ،‬إال حينما يتعارض ذلك مع القانون‬ ‫األول‪( .‬القانون الثالث)‪ :‬يجب أن يحافظ اإلنسان اآللي على وجوده‪ ،‬طاملا ال‬ ‫يتعارض ذلك مع القانون األول والثاني‪[ .‬املترجم]‬ ‫[‪ ]4‬ميديا‪ :‬في األساطير اإلغريقية‪ ،‬ساحرة شهيرة‪ ،‬وكانت ابنة أيتس ملك كولخيس‪.‬‬ ‫[املترجم]‬

‫‪157‬‬


‫اعرتافات روائي شاب‬

‫سأطلق عىل هذه الكيانات‪" :‬موضوعات قصدية خالصة" ‪،‬‬ ‫إذا مل ُيستخدم ا ُمل َ‬ ‫دخل من ِقبَل رومان إنجاردن لغرض آخر‪.‬‬ ‫بالنسبة إلنجاردن‪ ،‬فإن املوضوعات القصدية اخلالصة هي‬ ‫موضوعات من صنع اإلنسان‪ ،‬كالكنيسة‪ ،‬أو الراية ـ فاملوضوع‬ ‫األول [الكنيسة] أكرب من جمموع أجزائه املادية‪ ،‬املوضوع الثاين‬ ‫[الراية] هو أكثر من جمرد قطعة من النسيج‪ ،‬إذ تم منحه قيمة‬ ‫رمزية‪ ،‬تقوم عىل توافق اجتامعي ثقايف‪ .‬وعىل الرغم من هذا‬ ‫التعريف‪ ،‬فإن كلمة "كنيسة" تنقل أيضا معايريا لتعريف الكنيسة‪،‬‬ ‫[‪ ]1‬موضوع قصدي خالص‪ :‬ذكر هذا املصطلح الفيلسوف البولندي‪ :‬رومان إنجاردن‪،‬‬ ‫في معرض تقسيمه ألنماط الوجود‪ ،‬ذاكرا أنها أربعة‪ :‬النمط املجرد للوجود‪ :‬ويتجلى‬ ‫فقط في موجود مثل اإلله‪ ،‬الذي يمكنه الوجود‪ ،‬حتى ولو لم يكن هناك وجود آخر‬ ‫موجود‪ .‬النمط الذهني للوجود‪ :‬هو نمط خالد من الوجود‪ ،‬يناسب األرقام‬ ‫املتصورة على نحو أفالطوني‪ .‬النمط الواقعي للوجود‪ :‬هو الخاص بالكيانات‬ ‫الزمانية املكانية‪ ،‬كاالفتراضات الواقعية بوجود أحجار وأشجار‪ .‬النمط القصدي‬ ‫الخالص للوجود‪ :‬هو الذي تشغله الشخصيات الروائية‪ ،‬والكيانات األخرى التي‬ ‫تدين بوجودها وطبيعتها إلى أفعال الوعي‪[ ..‬املترجم]‬ ‫‪(2) See Roman Ingarden, Time and Modes of Being, trans. Helen R. Michejda‬‬ ‫‪(Springfield, I11.: Charles C. Thomas, 1964); and idem,The Literary Work of‬‬ ‫‪Art. For a criticism of Ingarden's position, see Amie L. Thomasson,‬‬ ‫‪"Ingarden and the Ontology of Cultural Objects,"in Arkadiusz Chrudzimski,‬‬ ‫( ‪ed., Existence, Culture, and Persons: The Ontology of Roman Ingarden‬‬ ‫‪Frankfurt: Ontos Verlag, 2005).‬‬

‫‪158‬‬


‫بعض املالحظات حول الشخصيات الروائية‬

‫يتضمن املواد التي ُبنيت هبا‪ ،‬وحجمها املعتاد (فإن نسخة مصغرة‪،‬‬ ‫وطبق األصل‪ ،‬مصنوعة من حلوى املرزبان‪ ،‬لكاتدرائية ريمز‪،‬‬ ‫ليست بكنيسة)‪ ،‬ومن املمكن أن جتد املوضوعات ذات الوجود‬ ‫املادي‪ ،‬والتي هي كنائس بالفعل (مثل كنيسة نوتردام يف باريس‪،‬‬ ‫كنيسة سان بيرت يف روما‪ ،‬أو كنيسة سان بازيل يف موسكو)‪ .‬وعىل‬ ‫عرفنا الشخصيات الروائية باعتبارها‬ ‫النقيض من ذلك‪ ،‬إذا َّ‬ ‫موضوعات قصدية خالصة‪ ،‬نعني‪ :‬جمموعات من اخلصائص التي‬ ‫ال يوجد أصل مادي مقابل هلا يف العامل الواقعي‪ .‬إن التعبري‪" :‬أ َّنا‬ ‫كارينينا" ليس له مرجع متجسد عىل اإلطالق‪ ،‬كام أننا ال يمكننا‬ ‫العثور عىل أي يشء يف العامل يمكن للمرء أن يشري إليه ويقول‪:‬‬ ‫"هذه هي أنَّا كارينينا"‪.‬‬ ‫دعونا‪ ،‬إذن‪ ،‬نعنون الشخصيات الروائية بأهنا‪" :‬موضوعات‬ ‫قصدية مطلقة"‪.‬‬

‫أشارت كاروال باربريو‬

‫إىل أن الشخصيات الروائية هي‬

‫[‪ ]1‬كاروال باربيرو‪ :‬كاتبة إيطالية‪ ،‬لها كتابات في فلسفة األدب‪ ،‬والتحليل النقدي لألدب‪.‬‬

‫‪159‬‬


‫اعرتافات روائي شاب‬

‫"موضوع من مرتبة أعىل" ـ أعني‪ ،‬أنه أحد تلك املوضوعات التي‬ ‫هي أكرب من جمموع خصائصها‪ .‬موضوع من مرتبة أعىل "إنام ُذكر‬ ‫ليستند بوجه عام (وليس بنحو جامد) عىل عنارصه وعالقاته‬ ‫التأسيسية‪ ،‬حيث تعني "بوجه عام" أنه يف حاجة إىل بعض العنارص‬ ‫التي تشكلت يف صيغة معينة لتكون هي املوضوع‪ ،‬ولكنه ليس يف‬ ‫حاجة إىل تلك العنارص املعينة بالضبط"‪ .‬األمر احلاسم بالنسبة‬ ‫إلدراك املوضوع أنه ُيتفظ بجشتالت ‪ ،‬عالقة ثابتة بني عنارصه‪،‬‬ ‫حتى ولو مل تعد هذه العنارص هي نفسها‪ .‬عىل سبيل املثال‪" :‬قطار‬ ‫الرابعة ومخس وثالثني دقيقة من نيويورك إىل بوسطن" هو‬ ‫موضوع‪ ،‬إذ يظل معروفا عىل الدوام باعتباره القطار نفسه‪ ،‬حتى إذا‬ ‫تغريت عرباته كل يوم‪ .‬ليس هذا فحسب ـ بل يبقى هو نفس‬ ‫املوضوع القابل للتعرف عليه حتى لو ُأنكر وجوده‪ ،‬كام يف حالة‬ ‫تأكيد احلجز‪" :‬قطار الرابعة ومخس وثالثني دقيقة من نيويورك إىل‬

‫‪(1) Barbero, Madam Bovary, 45-61.‬‬ ‫[‪ ]2‬جشتالت‪( :‬كلمة أملانية تعني‪ :‬شكل)‪ .‬مجموعة كليات رمزية فيزيائية‪ ،‬بيولوجية‪،‬‬ ‫نفسانية‪ ،‬تخلق رمزا موحدا‪ ،‬تشكيال أو نمطا‪ ،‬يكون فيه هذا الكيان أهم‪ ،‬وأكثر‬ ‫فعالية‪ ،‬وأعظم من مجموع أجزائه‪[ .‬املترجم]‬

‫‪160‬‬


‫بعض املالحظات حول الشخصيات الروائية‬

‫بوسطن قد ُألغي" و"بسبب عطل فني‪ ،‬فإن قطار الرابعة ومخس‬ ‫وثالثني دقيقة من نيويورك إىل بوسطن سيقلع يف متام اخلامسة"‪.‬‬ ‫ومثال نموذجي للموضوع األعىل مرتبة هو اللحن؛ فإن سوناتا‬ ‫البيانو رقم ‪ ،2‬مقام ري خفيض‪ ،‬القطعة ‪ ،35‬لشوبان‪ ،‬ستظل قابلة‬ ‫للتعرف عليها بصيغتها اللحنية حتى إذا تم عزفها عىل آلة‬ ‫املاندولني‪ .‬أعرتف أن نتيجة ذلك ـ من الوجهة اجلاملية ـ ستكون‬ ‫كارثية‪ ،‬لكن سيستمر احلفاظ عىل النمط اللحني‪ .‬كام ستظل تلك‬ ‫القطعة املوسيقية قابلة للتعرف عليها‪ ،‬إذا ما سقط بعض من نوتتها‬ ‫املوسيقية‪.‬‬ ‫من املثري لالهتامم حتديد أي من النوتات يمكن إسقاطها‪ ،‬بدون‬ ‫تدمري اجلشتالت املوسيقي‪ ،‬وأهيا‪ ،‬عىل العكس من ذلك‪ ،‬تتسم‬ ‫باجلوهرية ـ أو "التشخيصية" ـ بالنسبة للحن ليمكن حتديدها‪ .‬غري‬ ‫أن هذه ليست مشكلة نظرية؛ بل إهنا‪ ،‬باألحرى‪ ،‬مهمة الناقد‬ ‫املوسيقي‪ ،‬وسيكون هلا حلول عدة‪ ،‬استنادا إىل املوضوع موضع‬ ‫حتليلنا‪.‬‬ ‫تلك نقطة مهمة؛ ألن املشكلة ذاهتا حتصل عندما نقوم ـ بدال من‬

‫‪161‬‬


‫اعرتافات روائي شاب‬

‫اللحن ـ بتحليل الشخصية الروائية‪ .‬هل كانت مدام بوفاري ستظل‬ ‫هي مدام بوفاري إذا مل تنتحر؟ عندما نقرأ رواية فيليب دومنك‪،‬‬ ‫يتولد لدينا ‪ ،‬بالتأكيد‪ ،‬االنطباع بأننا نتعامل مع نفس الشخصية‬ ‫التي نتعامل معها يف كتاب فلوبري‪ .‬ويرجع هذا الوهم "البرصي"‬ ‫إىل حقيقة أن إيام بوفاري تظهر يف مستهل الرواية كام لو كانت قد‬ ‫ماتت بالفعل‪ ،‬وتُذكر باعتبارها املرأة التي ُزعم أهنا انتحرت‪.‬‬ ‫البديل املقرتح من قبل املؤلف (أهنا قد ُقتلت) يظل هو الرأي‬ ‫الشخيص لبعض الشخصيات يف رواية دومنك‪ ،‬وال يغري من‬ ‫السامت األساسية إليام بوفاري‪.‬‬ ‫تقتبس باربريو من قصة وودي آلن املعنونة "حادثة‬ ‫كوجلامس" ‪ ،‬حيث ُأحرضت مدام بوفاري‪ ،‬بواسطة آلة ما‬ ‫للزمن‪ ،‬إىل مدينة نيويورك يف الفرتة الزمنية املعارصة‪ ،‬وأقامت‬ ‫عالقة حب‪.‬‬

‫إهنا تبدو كمحاكاة ساخرة إليام بوفاري اخلاصة‬

‫[‪ ]1‬حادثة كوجلماس‪ :‬قصة نشرها الكاتب وودي آلن عام ‪ ،1977‬وهي قصة رائعة عن‬ ‫كوجلماس أستاذ العلوم اإلنسانية الذي يشعر باالستياء‪ ،‬فينتقل إلى العالم الروائي‬ ‫لرواية مدام بوفاري لجوستاف فلوبير‪[ .‬املترجم]‬ ‫‪(2) Woody Allen, "The Kugelmass Episode," ik Allen, Side Effects (New York:‬‬ ‫‪Random House, 1980).‬‬

‫‪162‬‬


‫بعض املالحظات حول الشخصيات الروائية‬

‫بفلوبري؛ إذ ترتدي مالبس عرصية‪ ،‬وتتسوق يف حمالت تيفاين‪.‬‬ ‫ولكن تظل قابلة للتعرف عليه [باعتبارها إيام بوفاري] ألهنا تظل‬ ‫حمتفظة بمعظم خصائصها املميزة لشخصيتها؛ فهي من أبناء طبقة‬ ‫الربجوازية الصغرية‪ ،‬متزوجة بطبيب‪ ،‬تعيش يف يونفيل‪ ،‬غري‬ ‫راضية عن حياهتا يف البلدة الصغرية‪ ،‬ولدهيا ميل للخيانة الزوجية‪.‬‬ ‫يف قصة وودي آالن ال تنتحر إيام بوفاري‪ ،‬لكنها ـ وهذا أمر‬ ‫جوهري للطابع الساخر للرسد ـ فاتنة (مرغوب فيها) حتديدا‬ ‫بسبب أهنا عىل وشك االنتحار‪ .‬كان عىل كوجلامس أن يدخل بنحو‬ ‫يناسب اخليال العلمي إىل عامل فلوبري قبل أن تقيم إما بوفاري آخر‬ ‫عالقات خيانتها الزوجية‪ ،‬وهكذا‪ ،‬ال يكون قد وصل متأخرا‪.‬‬ ‫هكذا‪ ،‬يمكننا مالحظة أن الشخصية الروائية تظل هي نفسها‪،‬‬ ‫حتى لو حلت الشخصية يف سياق خمتلف‪ ،‬برشط أن تظل سامهتا‬ ‫الشخصية املميزة هلا باقية؛ أي جيب للخصائص املميزة لكل‬ ‫معرفة‪.‬‬ ‫شخصية أن تكون َّ‬ ‫‪(1) On this problems, see Patrizia Viloi, Meaning and Experince, trans. Jeremy‬‬ ‫‪Carden (Bloomington: Indana University Press, 2001), IIB and III. See also‬‬ ‫‪Eco, Kant and the Platypus, 199, 3.7.‬‬

‫‪163‬‬


‫اعرتافات روائي شاب‬

‫ذات الرداء األمحر‪ ،‬صبية‪ ،‬ترتدي معطفا ذا قلنسوة محراء اللون‪،‬‬ ‫وتلتقي يف طريقها ذئبا‪ ،‬يفرتسها‪ ،‬ويفرتس َجدهتا الحقا‪ .‬تلك هي‬ ‫املالمح املميزة‪ ،‬برغم أن أناس خمتلفون قد تتكون لدهيم أفكار‬ ‫خمتلفة عن عمر الصبية‪ ،‬عن نوع الطعام الذي حتمله يف سلتها‪،‬‬ ‫وهكذا‪ .‬هذه الصبية تتقلب بطريقتني‪ :‬أهنا تعيش خارج مدونتها‬ ‫األصلية‪ ،‬وأهنا نوع من السديم ذي احلدود املتعددة وغري الدقيقة‪.‬‬ ‫ومع ذلك‪ ،‬تبقى بعض خصائصها املميزة ثابتة‪ ،‬وجتعلها قابلة‬ ‫للتعرف عليها‪ ،‬يف السياقات واملواقف املختلفة‪ .‬ويتعجب املرء‬ ‫متسائال‪ ،‬عام كان يمكن حدوثه لذات الرداء األمحر‪ ،‬إذا مل تكن‬ ‫التقت الذئب يف طريقها‪ ،‬ولكني عثرت‪ ،‬يف مواقع إلكرتونية‬ ‫متنوعة‪ ،‬عىل العديد من التمثالت لفتاة ترتدي قلنسوة محراء‪،‬‬ ‫ويرتاوح عمرها بني اخلامسة والثانية عرشة‪ ،‬ويف كل مرة كنت‬ ‫أتعرف عىل بطلة احلكاية اخليالية‪.‬‬ ‫كان هناك أيضا صورة لفتاة شقراء مثرية يف العرشين من‬ ‫عمرها‪ ،‬وترتدي قلنسوة محراء‪ ،‬وقد قبلت هبا باعتبارها ذات الرداء‬ ‫األمحر؛ ألن التعليق عىل الصورة قدمها باعتبارها كذلك‪ ،‬ولكني‬

‫‪164‬‬


‫بعض املالحظات حول الشخصيات الروائية‬

‫اعتربت األمر مزحة‪ ،‬حماكاة ساخرة‪ ،‬إثارة‪ .‬فلكي تكون الفتاة هي‬ ‫ذات الرداء األمحر فيجب عليها أن تُظهر‪ ،‬عىل األقل‪ ،‬خاصيتان من‬ ‫اخلصائص املميزة ‪ :‬جيب أن ترتدي قلنسوة محراء‪ ،‬كام جيب أن‬ ‫تكون صغرية‪.‬‬ ‫إن ذات وجود الشخصيات الروائية ُيلزم السيميوطيقا مراجعة‬ ‫بعض مقارباهتا‪ ،‬التي ختاطر بكوهنا تبدو شديدة البساطة‪ .‬يظهر‬ ‫املثلث السيميوطيقي التقليدي عادة كام يف الشكل‪ ،1‬إن تضمني‬ ‫املرجع يف هذا املثلث نتج عن حقيقة أننا غالبا ما نستخدم‬ ‫التعبريات الشفاهية يف اإلشارة إىل يشء ما‪ ،‬يوجد عىل نحو مادي‬ ‫يف عاملنا‪.‬‬ ‫تابعت بيرت سرتاوسن يف افرتاض أن التنويه [بيشء ما]‬ ‫لقد‬ ‫ُ‬ ‫واإلحالة [إىل يشء ما] ليست شيئا يفعله التعبري‪ ،‬بل هي باألحرى‬ ‫يشء يفعله املرء باستخدام التعبري‪ .‬فالتنويه‪ ،‬أو اإلحالة‪ ،‬هو وظيفة‬ ‫تقصد إىل استخدام تعبري ما‪.‬‬

‫‪(1) Peter Strawson, "OnReffering,"Mind, 59 (1950).‬‬

‫‪165‬‬


‫اعرتافات روائي شاب‬

‫املعنى أو املدلول أو املضمون‬ ‫كمجموعة من اخلصائص‬

‫التعبري أو الدال‬

‫املرجع‬

‫(شكل ‪)1‬‬ ‫من املشكوك فيه أننا ننجز عمال مرجعيا حني نقول أن الكالب‬ ‫حيوانات‪ ،‬أو أن القطط لطيفة‪ .‬يبدو أننا يف هذه احلالة مازلنا نصدر‬ ‫أحكاما حول موضوع سيميوطيقي (أو فئة من املوضوعات)‪،‬‬ ‫نعزوه إىل خصائص معينة‪.‬‬ ‫قد تقول عاملة أهنا اكتشفت خصائص جديدة للتفاح‪ ،‬وهي‬ ‫حتقق عمال مرجعيا‪ ،‬عندما تقرر يف قواعدها اإلجرائية أهنا اختربت‬ ‫تلك اخلصائص عىل ثمرات التفاح احلقيقية أ‪ ،‬ب‪ ،‬ج (مبينة‬ ‫لسلسلة األشياء احلقيقية التي استخدمتها إلجراء التجارب والتي‬ ‫أجازت نتائجها)‪ .‬لكن بمجرد قبول اكتشافها من جهة املجتمع‬ ‫العلمي‪ ،‬فإن خصائص جديدة تُلحق بالتفاح عموما‪ ،‬وتصبح جزءا‬

‫‪166‬‬


‫بعض املالحظات حول الشخصيات الروائية‬

‫دائام من مضمون الكلمة "تفاح"‪.‬‬ ‫إننا ننجز فعال مرجعيا عندما نتحدث عن األفراد ـ غري أن هناك‬ ‫اختالف بني اإلشارة إىل أفراد موجودين‪ ،‬وأفراد كانوا موجودين‬ ‫يف املايض‪ .‬إن مضمون كلمة "نابليون" جيب أن يكون متضمنا‪ ،‬من‬ ‫بني خصائص نابليون‪ ،‬خاصية أنه مات يف ‪ 5‬مايو ‪ .1821‬عىل‬ ‫العكس من ذلك‪ ،‬فإن خصائص مضمون كلمة "أوباما"‪ ،‬عندما‬ ‫ُيستخدم يف عام ‪ ،2010‬جيب أن يتضمن ملمح كونه حيا‪ ،‬وأنه‬ ‫رئيس الواليات املتحدة األمريكية‪.‬‬ ‫يمكن متثيل االختالف بني اإلحالة إىل أفراد أحياء‪ ،‬واإلشارة‬ ‫إىل أفراد عاشوا يف املايض‪ ،‬بواسطة مثلثني سيميوطيقيني خمتلفني‪،‬‬ ‫كام يف الشكلني ‪ 2‬و‪.3‬‬

‫)‪ (1‬من الجلي وجوب الحفاظ على التحديث الدائم للموسوعات‪ ،‬ففي الرابع من مايو‬ ‫‪ ،1821‬ورد في املوسوعة العامة أن نابليون بونابرت‪ ،‬اإلمبراطور السابق‪ ،‬يعيش في‬ ‫منفاه في جزيرة سانت هيالنة‪( .‬إكو)‬

‫‪167‬‬


‫اعرتافات روائي شاب‬

‫خصائص أوباما‬

‫(شكل ‪)2‬‬

‫يف هذه احلالة‪ ،‬فإن املتحدثني بقوهلم‪" :‬خ" حني ُييلون إىل‬ ‫أوباما‪ ،‬فإن ذلك يدعو مستمعيهم إىل التحقق من "خ" (إذا رغبوا)‬ ‫يف موضع زماين مكاين حمدد يف العامل املادي املوجود‪.‬‬ ‫خصائص نابليون‬ ‫العامل الواقعي املايض‬ ‫كام ُسجل بواسطة‬

‫(شكل ‪)3‬‬

‫عىل العكس من ذلك‪ ،‬فأيا من يقول‪" :‬خ"‪ ،‬حميال إىل نابليون‪،‬‬ ‫فإنه ال يدعو الناس إىل التحقق من صحة "خ" يف العامل املايض‪ .‬فإن‬ ‫)‪ (1‬في حال صعوبة اختبار األمر بالعين املجردة (على سبيل املثال‪ :‬إذا كانت "خ" تؤكد‬ ‫أن أوباما زار بغداد أمس) فإننا نعتمد على "البدائل الصناعية" (مثل الصحف‬ ‫والبرامج التليفزيونية)‪ ،‬التي تزعم أنها تمكننا من متابعة ما يحدث بالفعل في هذا‬ ‫العالم‪ ،‬حتى لو كان الحدث بعيد عن إدراكنا الحس ي املباشر‪(.‬إكو)‬

‫‪168‬‬


‫بعض املالحظات حول الشخصيات الروائية‬

‫مل يكن لدى أحدهم آلة زمن‪ ،‬فإنه ال يستطيع أن يعود إىل املايض‪،‬‬ ‫ليفحص ويرى إذا ما كان نابليون قد أنترص بالفعل يف معركة‬ ‫أوسرتليتز‪.‬‬ ‫كل عبارة حول نابليون‪ ،‬إما أهنا تؤكد اخلصائص التي تنقلها‬ ‫إلينا الكلمة "نابليون"‪ ،‬أو أهنا تلمح إىل وثيقة مكتشفة حديثا‪ ،‬يتغري‬ ‫بمقتضاها ما نعتقد عنه حتى اآلن ـ عىل سبيل املثال‪ :‬أنه مل يمت يف‬ ‫يوم اخلامس‪ ،‬بل يوم السادس من مايو‪ .‬فقط‪ ،‬عندما أثبت املجتمع‬ ‫العلمي أن الوثيقة ذات وجود مادي‪ ،‬أصبح بمقدورنا مواصلة‬ ‫تصحيح املوسوعة العامة ـ أي‪ :‬تقديم اخلصائص الصحيحة‬ ‫املعزوة إىل نابليون كموضوع سيميوطيقي‪.‬‬ ‫يمكن‪ ،‬من الوجهة التصورية‪ ،‬أن يصبح نابليون الشخصية‬ ‫الرئيسية يف إعادة بناء لسرية ذاتية (أو رواية تارخيية)‪ ،‬حتاول‬ ‫إرجاعه إىل احلياة مرة أخرى‪ ،‬يف زمنه‪ ،‬وتعيد تشكيل أفعاله‪ ،‬بل‬ ‫ومشاعره‪.‬‬ ‫يف هذه احلالة‪ ،‬سيبدو نابليون شديد الشبه بشخصية روائية‪.‬‬ ‫نحن نعلم أنه كان موجودا بالفعل ـ ولكن ألجل أن نالحظ‪ ،‬بل‬

‫‪169‬‬


‫اعرتافات روائي شاب‬

‫ونشارك يف حياته‪ ،‬فإننا نحاول تصور عامله املنتمي إىل الزمن‬ ‫املايض‪ ،‬كام لو كان عاملا حمتمال لرواية‪.‬‬ ‫ما الذي ُيدث بالفعل يف حالة الشخصيات الروائية؟ صحيح‬ ‫أن بعضها قد تم تقديمه كأناس عاشوا يف "كان يا ما كان" (مثل‪:‬‬ ‫ذات الرداء األمحر‪ ،‬وأنَّا كارينينا)‪ ،‬ولكننا قد أكدنا أنه بفضل‬ ‫االتفاق الرسدي‪ ،‬فإن القارئ ملزم بأخذ ما تم رسده باعتباره‬ ‫حقيقة‪ ،‬وأن عليه التظاهر بالعيش يف العامل املمكن للرسد‪ ،‬كام لو‬ ‫كان عامله‪ ،‬أو عاملها‪ ،‬الواقعي‪.‬‬ ‫وغري ذي صلة باملوضوع ما إذا كانت القصة حتكي عن شخص‬ ‫حي مزعوم (كرجل حتريات يعمل حاليا يف لوس أنجلوس)‪ ،‬أو ما‬ ‫إذا كانت حتكي عن شخص ميت مزعوم‪ .‬يبدو األمر كام لو أن‬ ‫شخصا ما أخربنا أنه يف هذا العامل قد مات أحد أقاربنا للتو؛ فإننا‬ ‫سنرتبط عاطفيا بالشخص الذي ما يزال موجودا يف عامل خرباتنا‪.‬‬ ‫قد يتخذ املثلث السيميوطيقي الصيغة البادية يف شكل(‪.)4‬‬

‫‪170‬‬


‫بعض املالحظات حول الشخصيات الروائية‬

‫خصائص أنَّا كارينينا‬

‫عامل تولوستوي املمكن حيث‬ ‫نتظاهر بأن أشخاصا‬ ‫وأحداثا توجد يف مكان‬ ‫وزمان معينني‬

‫أنَّا كارينينا‬ ‫(شكل ‪)4‬‬

‫اآلن‪ ،‬يمكننا أن نتفهم‪ ،‬بنحو أفضل‪ ،‬كيف يمكن للمرء أن‬ ‫يرتبط عاطفيا مع ساكني العامل الروائي املمكن‪ ،‬كام لو كانوا أناسا‬ ‫حقيقيني‪ .‬وُيدث‪ ،‬بنحو جزئي‪ ،‬ولنفس السبب‪ ،‬أن تتحرك‬ ‫مشاعرنا بسبب حلم يقظة نرى فيه أحد أحبائنا يموت‪ .‬يف احلالة‬ ‫األخرية‪ ،‬عند هناية استغراقنا يف التفكري احلامل‪ ،‬نعود إىل حياتنا‬ ‫اليومية‪ ،‬وندرك أن ليس هناك داع للقلق‪ ،‬لكن ما الذي ُيدث إن‬ ‫ظل املرء يف مستغرقا يف حلم اليقظة‪ ،‬بال انقطاع؟‬ ‫لكي يدوم ارتباطنا العاطفي بسكان العامل الروائي املمكن‪ ،‬جيب‬ ‫علينا أن نستويف مطلبني‪ )1( :‬جيب أن نعيش يف العامل الروائي‬ ‫املمكن كام لو كنا نعاين حلم يقظة دائم‪ ،‬و(‪ )2‬جيب علينا الترصف‬

‫‪171‬‬


‫اعرتافات روائي شاب‬

‫كام لو كنا أحد شخصيات الرواية‪.‬‬ ‫لقد افرتضنا أن الشخصيات الروائية قد ُولدت يف قلب العامل‬ ‫املمكن للرسد‪ ،‬وأهنم إذا‪ ،‬وعندما يصبحون كيانات متنقلة‪ ،‬فإهنم‬ ‫يظهرون يف أبنية رسدية أخرى‪ ،‬أو ينتمون إىل مدونة متغرية‪ .‬وقد‬ ‫افرتضنا أيضا‪ ،‬أنه تبعا التفاق ضمني ينشأ بنحو روتيني بواسطة‬ ‫قراء الرواية‪ ،‬فإننا نتظاهر بأننا نأخذ العامل الروائي املمكن عىل حممل‬ ‫اجلد‪ .‬وهكذا‪ ،‬يمكن أن ُيدث‪ ،‬عندما ندلف إىل عامل رسدي آرس‪،‬‬ ‫وتستحوذ روعته علينا‪ ،‬فإن االسرتاتيجية النصية يمكن أن ُحتدث‬ ‫شيئا شبيها باالنرشاح الصويف أو اهللوسة‪ ،‬وننسى‪ ،‬ببساطة‪ ،‬أن ما‬ ‫وجلناه هو جمرد عامل ممكن‪.‬‬ ‫ُيدث ذلك خاصة عندما نلقى شخصية يف قلب مدونتها‬ ‫األصلية‪ ،‬أو يف سياق جديد ومغو‪ ،‬لكن‪ ،‬حيث أن هذه‬ ‫الشخصيات متنقلة‪ ،‬وإن جاز التعبري‪ ،‬تأيت وتذهب يف عقولنا‬ ‫(كتلك النساء ـ يف عامل قصيدة ت‪ .‬س‪ .‬إليوت ـ " أغنية حب‬ ‫ج‪.‬ألفريد بروفروك"‪ ،‬الالئي يتحدثن عن مايكل أنجلو) كام أهنم‬ ‫مستعدون دائام إهبارنا‪ ،‬وجعلنا نعتقد أهنم يعيشون بيننا‪.‬‬

‫‪172‬‬


‫بعض املالحظات حول الشخصيات الروائية‬

‫بالنسبة للمطلب الثاين‪ ،‬فام أن نرشع يف العيش يف العامل املمكن‪،‬‬ ‫كام لو كان هو عاملنا الواقعي‪ ،‬فإننا ال نصبح‪ ،‬إن جاز لنا التعبري‪،‬‬ ‫مسجلون رسميا فيه‪ .‬ليس للعامل املمكن شأن بنا‪ ،‬فإننا نتحرك‬ ‫خالله كام لو كنا رصاصة جولني سوريل املفقودة‪ ،‬غري أن تورطنا‬ ‫العاطفي يقودنا إىل أن نتقمص شخصية شخص آخر ـ شخص له‬ ‫حق العيش هناك‪ .‬وبالتايل‪ ،‬فإننا نتلبس هوية إحدى الشخصيات‬ ‫الروائية‪.‬‬ ‫حينام نفيق من حلم يقظة يموت فيه أحد أحبائنا‪ ،‬فإننا ندرك أن‬ ‫ما ختيلناه زائف‪ ،‬ونعترب حقيقيا التأكيد بأن "حمبويب حي ويف حالة‬ ‫طيبة"‪ ،‬عىل العكس من ذلك‪ ،‬عندما تنتهي اهللوسة الروائية ـ‬ ‫عندما نتوقف عن التظاهر بأننا الشخصيات الروائية‪ ،‬ألنه‪ ،‬كام‬ ‫كتب بول فالرييه‪" :‬الريح عاصفة‪ ،‬جيب علينا حماولة البقاء أحياء"‬ ‫ـ فإننا نستمر يف اعتباره أمرا حقيقيا أن أنَّا كارينينا انتحرت‪ ،‬وأن‬ ‫أوديب قتل أباه‪ ،‬وأن شريلوك هوملز يعيش يف شارع بيكر‪.‬‬ ‫أعرتف أن هذا سلوك غريب‪ ،‬ولكنه غالبا ما ُيدث‪ .‬بعدما‬ ‫نسكب الدموع‪ ،‬فإننا نطوي كتاب تولستوي‪ ،‬ونعود إىل‪ :‬هنا‬

‫‪173‬‬


‫اعرتافات روائي شاب‬

‫واآلن‪ .‬ولكننا نظل عىل اعتبار أن أنَّا كارينينا قد انتحرت‪ ،‬ونظن أن‬ ‫من قال أهنا تزوجت هيثكليف‪ ،‬جمنون‪.‬‬ ‫كوهنا كيانات متنقلة‪ ،‬فإن رفقاء عمرنا املخلصون هؤالء‬ ‫(بخالف املوضوعات السيميوطيقية األخرى‪ ،‬التي تعد موضع‬ ‫مراجعة ثقافيا) لن يتغريوا أبدا‪ ،‬وسيظلون إىل األبد هم املعربون‬ ‫عن سامهتم اخلاصة وأفعاهلم‪ .‬وبسبب عدم القابلية لتحريف‬ ‫أفعاهلم‪ ،‬فبإمكاننا االدعاء دوما أهنم حقيقيون‪ ،‬وأهنم حازوا‬ ‫خصاال معينة‪ ،‬وترصفوا بطريقة معينة‪ .‬وسيظل كالرك كنت هو‬ ‫سوبرمان‪ ،‬اآلن‪ ،‬وإىل هناية الزمن‪.‬‬

‫موضوعات سيميوطيقية أخرى‬ ‫هل هناك كيانات أخرى تشارك نفس املصري؟ نعم‪ :‬كل أبطال‬ ‫املقرن‪ ،‬واجلنيات‪،‬‬ ‫وآهلة األساطري؛ والكائنات اخلرافية؛ كاحلصان َّ‬ ‫)‪ (1‬ربما يميل املرء إلى ادعاء أن الكيانات الرياضية‪ ،‬باملثل‪ ،‬غير قابلة للمراجعة‪ ،‬غير أنه‬ ‫حتى مفهوم الخطوط املتوازية قد تغير بعد ظهور الهندسة اإلقليدية‪ ،‬وتغيرت‬ ‫أفكارنا حول نظرية فيرمات بعد عام ‪ ،1994‬ويرجع الفضل في ذلك إلى عالم‬ ‫الرياضيات البريطاني أندرو ويلز‪( .‬إكو)‬

‫‪174‬‬


‫بعض املالحظات حول الشخصيات الروائية‬

‫وسانتا كلوز‪ ،‬وتقريبا كل الكيانات املمقدسة يف العقائد املختلفة يف‬ ‫العامل‪ .‬من اجلل أنه بالنسبة للملحد أن كل املوجودات الدينية‬ ‫موجودات خيالية‪ ،‬أما بالنسبة للمؤمن فثمة عامل روحي‪ ،‬يتكون‬ ‫من موضوعات "خارقة للطبيعة" (آهلة‪ ،‬ومالئكة‪ ،‬وغري ذلك) مما‬ ‫يتعذر إدراكه بحواسنا‪ ،‬ولكنه "واقعي" متاما ـ وهبذا املعنى‪ ،‬فإن‬ ‫كال من امللحد واملؤمن يعوالن عىل نظريتني خمتلفتني يف طبيعة‬ ‫الوجود‪ .‬لكن إذا كان الكاثوليك الرومان يعتقدون يف وجود اإلله‬ ‫الشخص‪ ،‬وأن الروح القدس‪ ،‬وابنه يصدران عنه‪ ،‬بالتايل‬ ‫فسيعتربون أن اهلل‪ ،‬عز وجل‪ ،‬واإلله شيفا اهلندويس‪ ،‬والروح‬ ‫املقدسة للرباري لدى سكان أمريكا األصليني‪ ،‬جمرد كيانات‬ ‫خيالية‪ ،‬أبدعتها احلكايات الدينية‪ .‬ومثل ذلك بالنسبة للبوذي‪ ،‬فإن‬ ‫إله اإلنجيل هو كيان خيايل‪ ،‬والروح العظيمة لقبائل اجلونكيان‪،‬‬ ‫هي موجود خيايل بالنسبة للمسلم أو املسيحي‪ .‬معنى ذلك؛ أنه‬ ‫بالنسبة للمؤمن بعقيدة معينة‪ ،‬فإن كل الكيانات الدينية اخلاصة‬ ‫بالديانات األخرى ـ بتعبري آخر‪ :‬أن الغالبية العظمى من هذه‬ ‫الكيانات ـ هي كيانات خيالية‪ .‬لذلك‪ ،‬فنحن ملزمون باعتبار أن‬

‫‪175‬‬


‫اعرتافات روائي شاب‬

‫تسعني يف املائة‪ ،‬تقريبا‪ ،‬من كافة الكيانات الدينية خيالية‪.‬‬ ‫تتضمن املصطلحات اخلاصة بتلك الكيانات الدينية مرجعا‬ ‫سيميائيا مزدوجا‪ .‬بالنسبة للشكاك‪ ،‬فإن املسيح شخص مادي‬ ‫حقيقي‪ ،‬عاش ملدة ثالث وثالثني عاما‪ ،‬يف بدايات األلفية األوىل‪،‬‬ ‫أما بالنسبة للمسيحي امللتزم‪ ،‬فإنه‪ ،‬أيضا‪ ،‬كان ذو وجود مادي‪،‬‬ ‫وأنه ما زال حيا (يف السامء‪ ،‬بحسب التصور السائد) وإن يف حال‬ ‫وجود غري مادية ‪ .‬هناك العديد من حاالت املرجعية السيميائية‬ ‫املزدوجة‪ .‬أما إذا أتينا إىل حتقيق املعتقدات احلقيقية لعامة الناس‪،‬‬ ‫فسنكتشف أن بعض الربيطانيني (كام الحظنا آنفا) يعتقدون أن‬ ‫شريلوك هوملز شخص حقيقي‪ .‬بنحو مماثل‪ ،‬نجد العديد من‬ ‫الشعراء املسيحيني يستهلون قصائدهم بذكر ربات اإلهلام‪ ،‬أو اإلله‬ ‫أبوللو ـ وال يمكننا القول ما إذا كانوا يذكروهنم كثيمة أدبية‪ ،‬أم‬ ‫أهنم ‪ ،‬بشكل ما‪ ،‬يعتقدون حقا بألوهية جبل األوليمب‪ .‬الكثري من‬ ‫الشخصيات األسطورية صارت أبطاال ملؤلفات رسدية‪ ،‬وبنحو‬ ‫)‪ (1‬ليكون كالمنا دقيقا‪ ،‬فإن تعبير "يسوع املسيح" يشير إلى موضوعين مختلفين‪،‬‬ ‫ويلزمنا ـ لكي نحدد معنى التعبير ـ تحديد طبيعة االعتقاد الديني (أو غير الديني)‬ ‫للمتحدث‪( .‬إكو)‬

‫‪176‬‬


‫بعض املالحظات حول الشخصيات الروائية‬

‫مواز‪ ،‬صارت كثري من شخصيات املؤلفات ال َع َلامنية أقرب إىل‬ ‫شخصيات احلكايات األسطورية‪ .‬إن الروابط بني أبطال احلكايات‬ ‫اخلرافية‪ ،‬وآهلة األساطري‪ ،‬والشخصيات األدبية‪ ،‬والكيانات‬ ‫الدينية‪ ،‬غالبا ما تكون ملتبسة‪.‬‬

‫القوة األخالقية للشخصيات الروائية‬ ‫ذكرنا أنه بخالف كافة املوضوعات السيميائية‪ ،‬القابلة‬ ‫للمراجعة من الوجهة الثقافية‪ ،‬والتي قد تشابه كيانات الرياضيات‪،‬‬ ‫فإن الشخصيات الروائية لن تتغري أبدا ‪ ،‬وستظل أبدا مرهونة بام‬ ‫فعلته‪ .‬ويوضح ذلك سبب أمهية تلك الشخصيات بالنسبة لنا‪،‬‬ ‫وبشكل خاص من الوجهة األخالقية‪.‬‬ ‫تصور أننا نشاهد عرضا لدراما سوفوكليس أوديب ملكا‪،‬‬ ‫نجدنا نرغب‪ ،‬بنحو يائس‪ ،‬يف أن يسلك أوديب طريقا غري الذي‬ ‫وجد فيه أباه وقتله‪ .‬ونتساءل ملاذا أصيب يف طيبة وليس يف أثينا‪،‬‬ ‫مثال‪ ،‬حيث كان يمكن له أن يتزوج من فرين أو إسباسيا‪ ،‬أو أي‬ ‫كان‪ .‬كذلك‪ ،‬عند قراءتنا ملرسحية هاملت‪ ،‬ونتساءل ملاذا مل يقم هذا‬

‫‪177‬‬


‫اعرتافات روائي شاب‬

‫الشاب اللطيف بالزواج من أوفيليا‪ ،‬والعيش سعيدا‪ ،‬بعدما يقتل‬ ‫عمه الوغد‪ ،‬وينفي أمه خارج الدنامرك‪ .‬ملاذا ال ُيظهر هيثكليف ـ‬ ‫بطل رواية "مرتفعات ويزرنج" إلميل برونتي ـ بعض الثبات‬ ‫والتحمل أمام ما القاه من إذالل‪ ،‬ويصرب إىل أن يتمكن من الزواج‬ ‫من كاترين‪ ،‬ويعيش معها كوجيه حمرتم؟ ملاذا مل يتمكن األمري‬ ‫أندريه ـ يف رواية "احلرب والسالم" لتولستوي ـ من الصمود يف‬ ‫مرضه القاتل‪ ،‬ويتزوج ناتاشا؟ ملاذا استحوذ عىل راسكولنيكوف ـ‬ ‫يف رواية "اجلريمة والعقاب" لدوستويفسكي ـ ذلك اهلاجس‬ ‫املريض بقتل امرأة عجوز‪ ،‬بدال من االنشغال بإهناء دراسته ليصبح‬ ‫أستاذا حمرتما؟ ملاذا‪ ،‬حينام حتول جرجيور سامسا ـ يف رواية "املسخ"‬

‫لكافكا ـ إىل حرشة مثرية للشفقة‪ ،‬مل تظهر يف املشهد أمرية حسناء‪،‬‬ ‫تقبله‪ ،‬وحتوله إىل شاب من أمجل شباب براج؟ ملاذا‪ ،‬يف تلك التالل‬ ‫اجلدباء‪ ،‬يف إسبانيا‪ ،‬مل يرضب روبرت جوردون ـ يف رواية "ملن‬ ‫تقرع األجراس" هليمنجواي ـ تلك اخلنازير الفاشية‪ ،‬ويلحق بامريا‬ ‫الفاتنة؟‬ ‫مبدئيا‪ ،‬بمقدورنا حتقيق كل هذه األشياء‪ ،‬كل ما علينا فعله هو‬

‫‪178‬‬


‫بعض املالحظات حول الشخصيات الروائية‬

‫إعادة كتابة أوديب ملكا‪ ،‬وهاملت‪ ،‬ومرتفعات ويزرنج‪ ،‬واحلرب‬ ‫والسالم‪ ،‬واجلريمة والعقاب‪ ،‬واملسخ‪ ،‬وملن تقرع األجراس‪ .‬لكن‪،‬‬ ‫هل نريد ذلك فعال؟‬ ‫إن التجربة املؤملة احلاصلة‪ ،‬بالرغم من متنياتنا‪ ،‬من أن هاملت‪،‬‬ ‫وروبرت جوردون‪ ،‬واألمري أندريه‪ ،‬يموتون ـ أن األمور جتري‬ ‫بسياق حمدد‪ ،‬لألبد‪ ،‬بغض النظر عام نتوق إليه‪ ،‬أو نأمل حدوثه‪ ،‬كام‬ ‫لو كنا نعاين يد القدر‪ .‬ندرك أنه ال يمكننا معرفة ما إذا كان القبطان‬ ‫أهاب سيتمكن من صيد احلوت األبيض‪ .‬الدرس احلقيقي يف رواية‬ ‫مويب ِدك‪ ،‬هو أن أنثى احلوت تذهب حيثام تشاء‪ .‬إن الطبيعة الالزمة‬ ‫لألعامل الرتاجيدية العظيمة تنبثق من حقيقة أن أبطاهلا‪ ،‬بدال من‬ ‫اهلرب من املصري املروع‪ ،‬يلقون بأنفسهم فيه ـ وهم من صنعوه‬ ‫بأيدهيم ـ إذ ال يملكون فكرة عام ينتظرهم‪ ،‬ونحن‪ ،‬الذين نرى‬ ‫بوضوح إالم يتجهون وال يرونه‪ ،‬وال يمكننا منعهم‪ .‬إن لدينا‬ ‫مدخل معريف للولوج إىل عامل أوديب‪ ،‬ونعرف كل يشء عنه‪ ،‬وعن‬ ‫جوكاستا ـ وبالرغم من أهنام يعيشان يف عامل يستمد وجوده من‬ ‫عاملنا‪ ،‬فإهنام ال يعرفان شيئا عنَّا‪ .‬ليس يف مقدور الشخصيات‬

‫‪179‬‬


‫اعرتافات روائي شاب‬

‫الروائية التواصل مع البرش يف احلياة الواقعية ‪.‬‬ ‫تلك ليست باملسألة اهلزلية كام يبدو؛ رجاء‪ ،‬حاول اعتبارها‬ ‫مسألة جدية‪ ،‬فأوديب ليس يف مقدوره إدراك عامل سوفوكليس‪،‬‬ ‫وإال ملا أنتهى به األمر إىل الزواج بأمه‪ ،‬فالشخصيات الروائية تعيش‬ ‫يف عامل غري مكتمل ـ أو إذا عربنا بشكل أشد قسوة‪ ،‬وغري مالئم‬ ‫سياسيا ـ عامل معاق‪.‬‬ ‫عندما نفهم مصائرهم‪ ،‬بالفعل‪ ،‬نبدأ يف الظن بأننا‪ ،‬أيضا‪،‬‬ ‫كمواطنني نعيش هنا واآلن‪ ،‬كثريا ما نلقى مصرينا؛ ببساطة‪ ،‬ألننا‬ ‫نفكر يف عاملنا بمثل ما تفكر الشخصيات الروائية يف عاملها‪ .‬تفرتض‬ ‫الرواية احتامل أن نظرتنا إىل العامل الواقعي غري تامة‪ ،‬مثلام هي نظرة‬ ‫الشخصيات الروائية إىل عاملها‪ ،‬ويوضح ذلك السبب يف أن تصبح‬ ‫الشخصيات الروائية الناجحة نامذج متميزة للحالة اإلنسانية‬ ‫"الواقعية"‪.‬‬

‫‪(1) On this question, see Umberto Eco, The Role of the Reader (Bloomington:‬‬ ‫‪Indana University Press, 1979).‬‬

‫‪180‬‬


‫‪4‬‬

‫قوائمي‬ ‫تلقيت تعليام كاثوليكيا‪ ،‬وبذا أصبحت معتادا عىل إنشاد‬ ‫االبتهاالت واالستامع إليها‪ ،‬واالبتهاالت‪ ،‬بطبيعة احلال‪ ،‬تتسم‬ ‫بتكرار مقاطعها‪ ،‬وعادة ما تكون الئحة لعبارات التمجيد‪ ،‬كام يف‬ ‫أناشيد العذراء‪" :‬القديسة مريم"‪" ،‬القديسة عذراء العذراوات"‪،‬‬ ‫"أم املسيح"‪" ،‬أم الطهر والنقاء"‪ ،‬ومثل ذلك‪.‬‬ ‫تلك االبتهاالت اإلنشادية‪ ،‬مثل دليل اهلاتف‪ ،‬وقوائم البضائع‪،‬‬ ‫هي نوع من القوائم‪ .‬هي حاالت من التعداد‪ .‬ربام مل أدرك‪ ،‬يف بداية‬ ‫نشاطي ككاتب روائي‪ ،‬قدر شغفي بالقوائم‪ .‬اآلن‪ ،‬بعد كتابة مخس‬ ‫روايات‪ ،‬وبعض املحاوالت األدبية األخرى‪ ،‬أصبحت يف حال‬ ‫تسمح يل بوضع الئحة كاملة تضم كل قوائمي‪ .‬غري أن تلك‬ ‫مغامرة قد تستغرق الكثري من الزمن‪ ،‬لذلك سأكتفي باالقتصار‬ ‫عىل اقتباس بعض تعدادايت‪ ،‬ومقارنتها ـ للتدليل عىل تواضعي ـ‬


‫اعرتافات روائي شاب‬

‫مع بعض من أعظم القوائم يف تاريخ األدب العاملي‪.‬‬

‫القوائم العملية والقوائم الشعرية‬ ‫بداية‪ ،‬جيب علينا أن نميز بني القوائم "العملية" (أو "النفعية")‬ ‫وبني القوائم "األدبية" أو "الشعرية" أو "اجلاملية" ـ واألخرية‬ ‫أشمل من سابقتيها‪ ،‬لكوهنا ال تقترص عىل التعداد اللفظي‪ ،‬بل‬ ‫تشمل أيضا البرصي‪ ،‬واملوسيقي‪ ،‬واإليامئي‪.‬‬

‫(‪)1‬‬

‫قد تكون القائمة العملية‪ :‬قائمة مشرتيات‪ ،‬أو قائمة أرشيفية‬ ‫ملكتبة‪ ،‬أو سجل جرد ملوجودات مكان ما (مكتب‪ ،‬أو أرشيف‬ ‫حمفوظات‪ ،‬أو متحف)‪ ،‬أو قائمة طعام ألحد املطاعم‪ ،‬أو حتى‬ ‫معجم يسجل كافة الكلامت التي تنتمي لقاموس لغة ما‪ .‬ملثل هذه‬ ‫القوائم وظيفة مرجعية بحتة‪ ،‬إذ ال تدل مدخالهتا االسمية إال عىل‬ ‫مسمياهتا من األشياء‪ ،‬وإذا مل تكن تلك األشياء موجودة فستصبح‬ ‫القائمة جمرد وثيقة زائفة‪ .‬بحسب وظيفتها‪ ،‬فإهنا تسجل األشياء‬

‫‪(1) See Umberto Eco, The Infinity of Lists, trans. Alastair McEwen (New York:‬‬ ‫‪Rizzoli International,2009).‬‬

‫‪182‬‬


‫قوائمي‬

‫املوجودة‪ ،‬وتتسم القوائم العملية باملحدودية والتناهي‪ ،‬وهلذا فإهنا‬ ‫قد ال حتتاج إىل تعديل‪ ،‬بمعنى أنه غري ذي معنى أن تتضمن قائمة‬ ‫معروضات أحد املتاحف لوحة غري معروضة يف املتحف‪.‬‬ ‫عىل العكس من ذلك‪ ،‬تتسم القوائم الشعرية بأهنا مفتوحة‪،‬‬ ‫وبنحو ما‪ ،‬فإهنا تفرتض مسبقا إضافة "إىل آخره" يف هناياهتا‪ .‬إهنا‬ ‫هتدف إىل طرح ما ال ُ​ُيىص من األشخاص‪ ،‬واملوضوعات‪،‬‬ ‫كم األشياء هائل إىل‬ ‫واألحداث‪ ،‬لسببني‪ )1( :‬أن الكاتب يدرك أن َّ‬ ‫درجة ال يمكن معها أن نحرصها‪ )2( ،‬أن الكاتب يستمتع ـ متعة‬ ‫سمعية خالصة أحيانا ـ بذلك التعداد غري املنتهي‪.‬‬

‫(‪)1‬‬

‫‪(1) On the difference between "Pragmatic" and "Literary" lists (see Robert E.‬‬ ‫‪Belknap, The List (New Haven, Yale University press, 2004). A valuable‬‬ ‫‪anthology of literary lists can also be found in Francis Spuffold, ed., The‬‬ ‫‪Chatto Book of Cabbage and Kings: Lists in Literature (London: Chatto and‬‬ ‫‪Windus, 1989).‬‬ ‫يعتقد بلكناب أن القوائم "البرجماتية" يمكن أن تتسع إلى ما ال نهاية (مثل دليل‬ ‫الهاتف‪ ،‬إذ يمكن أن يزداد كل عام‪ ،‬كما يمكننا أن نزيد في طول قائمة املشتريات في‬ ‫طريقنا إلى السوق)‪ ،‬بينما تكون القوائم التي يصفها بأنها "أدبية"‪ ،‬في الواقع‪ ،‬مغلقة‪،‬‬ ‫بسبب الشكل املقيد للعمل الذي يتضمنها (الوزن‪ ،‬اإليقاع‪ ،‬قالب السوناتا‪ ،‬وهكذا)‪.‬‬ ‫يبدو لي أن هذا النقاش قد دار في رأسه‪ .‬حيث أن القوائم العملية تحدد سلسلة‬ ‫نهائية من األشياء في وقت معين‪ ،‬فإنها بالضرورة نهائية‪ .‬واملؤكد أنه يمكن توسيعها‪،‬‬

‫‪183‬‬


‫اعرتافات روائي شاب‬

‫متثل القوائم العملية ‪ ،‬بطريقتها اخلاصة‪ ،‬قالبا‪ ،‬ألهنا تنشئ وحد ًة‬ ‫عرض ًة‪ ،‬بغض النظر عن ما بينها من‬ ‫بني جمموعة من املوضوعات‪ُ ،‬م َّ‬ ‫اختالفات‪ ،‬للضغط السياقي ـ بمعنى أهنا ترتبط معا‪ ،‬ببساطة‪ ،‬ألهنا‬ ‫تشكل هدف مرشوع معني (مثال ذلك‪ :‬قائمة ضيوف حفلة ما)‪.‬‬ ‫القائمة العملية ال يشوهبا التضارب أبدا‪ ،‬رشيطة أن يتحدد املعيار‬ ‫الذي ُيكمها‪ .‬يف رواية "جرس سان لويس ِراي" لثورنتون وايلدر‪،‬‬ ‫نجد جمموعة من الناس ال جيمعهم إال واقعة عرضية‪ ،‬هي عبورهم‬ ‫اجلرس يف حلظة اهنياره‪.‬‬ ‫من النامذج اجليدة للقائمة العملية‪ ،‬التعداد الشهري الذي قام به‬ ‫ليبوريللو يف اوبرا "دون جيوفاين" ملوتسارت‪ .‬فقد أغوى دون‬ ‫جيوفاين عددا كبريا من النساء؛ الريفيات‪ ،‬واخلادمات‪ ،‬وسيدات‬ ‫املجتمع‪ ،‬وكونتيسات‪ ،‬وبارونات‪ ،‬وماركيزات‪ ،‬وأمريات ـ نساء‬ ‫من كل الطبقات‪ ،‬واألشكال‪ ،‬واألعامر‪ .‬وكان ليبوريللوا يتصف‬

‫كما هو األمر مع دليل الهاتف‪ ،‬غير أن دليل عام ‪ ،2008‬مقارنة بدليل عام ‪،2007‬‬ ‫يعد‪ ،‬ببساطة‪ ،‬قائمة أخرى ‪ .‬على النقيض من ذلك‪ ،‬فعلى الرغم من املحددات‬ ‫املتضمنة في التقنيات الفنية‪ ،‬فإن كل القوائم الشعرية‪ ،‬التي سأقتبسها الحقا‪ ،‬يمكن‬ ‫أن تستطيل إلى ما ال نهاية‪( .‬إكو)‬

‫‪184‬‬


‫قوائمي‬

‫بكونه كاتب دقيق‪ ،‬وتصف الئحته بأهنا تامة‪:‬‬ ‫يف إيطاليا مائة وأربعني‪،‬‬ ‫يف أملانيا مائتان وإحدى وثالثني‪،‬‬ ‫مائة يف فرنسا‪ ،‬وواحدة وتسعون يف تركيا‪،‬‬ ‫أما يف إسبانيا فألف وثالثة‪.‬‬ ‫اإلمجايل‪ ،2.056 :‬ال أكثر وال أقل‪.‬‬ ‫فإذا أغوى دون جيوفاين دونَّا أنَّا‪ ،‬أو زارلينا‪ ،‬أو أي امرأة‬ ‫أخرى‪ ،‬يف اليوم التايل‪ ،‬فستكون هناك الئحة جديدة‪.‬‬ ‫السبب واضح وراء إنشاء الناس لقوائم عملية‪ ،‬لكن‪ ،‬ما سبب‬ ‫إنشائهم لقوائم شعرية؟‬

‫بالغة اإلحصاء العددي‬ ‫كام ذكرت آنفا‪ ،‬ينشئ الكتَّاب قوائام‪ ،‬إما ألتساع نطاق األعامل‬ ‫التي يتعاملون معها‪ ،‬بام يستنزف طاقاهتم يف ترتيبها‪ ،‬أو عندما‬ ‫يتملكهم الشغف بصوت الكلامت التي تعني جمموعة من األشياء‪.‬‬

‫يف احلالة األخرية‪ ،‬ينتقل املرء من قائمة تُعنى باملراجع و املدلوالت‬ ‫‪185‬‬


‫اعرتافات روائي شاب‬

‫إىل قائمة ُتعنى بالدوال‪.‬‬ ‫انظر يف نسب املسيح‪ ،‬كام ورد يف اإلنجيل بحسب القديس‬ ‫متى‪ .‬لدينا احلرية يف الشك بوجود العديد من أولئك األسالف‪،‬‬ ‫لكن املؤكد أن متى (أو أيا من كان مكانه) يرغب يف تقديم‬ ‫أشخاص "حقيقيني"‪ ،‬ضمن عامل معتقداته‪ ،‬لذا فإن للقائمة قيمة‬ ‫عملية‪ ،‬ووظيفة مرجعية‪ .‬نقيض ذلك‪ ،‬فإن ابتهاالت العذراء‬ ‫املقدسة ـ بيان باخلصال املستلهمة من الكتاب املقدس‪ ،‬أو من‬ ‫موروث اإليامن الشعبي ـ جيب ترتيلها بمثل ما يتم إنشاد املانرتا[‪،]1‬‬ ‫كام يؤدي البوذيون أنشودة "‪ .]2["Om mani padme hum‬ال هيم‬ ‫كثريا‪ ،‬ما إذا كانت العذراء تتصف باالعتدال أو التشدد (عىل أية‬ ‫حال‪ ،‬فإىل انعقاد جملس الفاتيكان الثاين‪ ،‬ظل املؤمنون يرتلون‬ ‫االبتهال بالالتينية‪ ،‬التي ال يفهمها معظمهم)‪ .‬ما هيم‪ ،‬هو أن املرء‬ ‫قد استحوذ عليه الصوت اآلرس للقائمة‪ .‬مثلام هو األمر مع‬ ‫]‪ [1‬املانترا‪ :‬في الحضارة الهندية‪ ،‬كلمة سنسكريتية تعني تعويذة‪ ،‬إما صوتية أو من كلمة‪ ،‬أو‬ ‫من جملة تساعد في خلق تحول نفس ي‪[ .‬املترجم]‬ ‫]‪ :Om mani padme hum [2‬مانترا سنسكريتية من ستة مقاطع‪ (Om) ،‬مقطع مقدس في‬ ‫الديانة الهندية‪ )mani( ،‬تعني‪ :‬جوهرة (‪ )padme‬تعني‪ :‬زهرة اللوتس‪ ،‬الزهرة املقدسة‬ ‫لدى البوذيين‪ )hum( ،‬تعني‪ :‬الروح في حال إشراقها‪[.‬املترجم]‬

‫‪186‬‬


‫قوائمي‬

‫ابتهاالت القديسني‪ ،‬فام هيم‪ ،‬ليس ما ُيذكر من أسامء أو ُيغفل‪ ،‬بل‬ ‫أهنا ظلت تؤ َّدى بنحو إيقاعي لفرتة طويلة من الزمن‪.‬‬ ‫كان ذلك النوع األخري من املحفزات هو موضوع كثري من‬ ‫التحليالت والتعريفات عند البالغيني القدامى‪ ،‬الذين بحثوا‬ ‫العديد من احلاالت‪ ،‬حيث تكون اإلشارة إىل الكميات الالهنائية‬ ‫أقل أمهية من إسناد اخلصائص إىل األشياء بطريقة إمجالية‪ ،‬وغالبا ما‬ ‫كان ذلك عن ولع خالص بالتكرار‪.‬‬ ‫غالبا ما تتكون األنامط املختلفة من القوائم من تراكامت ـ أي‪:‬‬ ‫سالسل ومصفوفات من االصطالحات اللغوية‪ ،‬التي تنتمي إىل‬ ‫املجال املفهومي نفسه‪ .‬أحد أنامط هذا الرتاكم كان معروفا باسم‬ ‫التعداد ‪ ،enumeratio‬وكان كثري الظهور يف أدب العصور‬ ‫الوسطى‪ .‬تبدو مفردات القائمة‪ ،‬يف بعض األحيان‪ ،‬مفتقدة‬ ‫لالتساق والتجانس‪ ،‬ويرجع ذلك إىل أن الغرض منها هو حتديد‬ ‫صفات الرب ـ والرب‪ ،‬يمكن‪ ،‬وفق ديونيسيوس األريوباجي[‪،]1‬‬ ‫]‪ [1‬ديونيسيوس األريوباجي ‪ :Pseudo-Dionysius the Areopagite‬الهوتي وفيلسوف‬ ‫مسيحي‪ ،‬عاش في نهاية القرن الخامس وأوائل القرن السادس امليالديين‪ ،‬تسمى باسم‬ ‫مستعار هو ديونيسيوس‪ ،‬له عدد من املصنفات املجموعة تحت اسم األعمال‬

‫‪187‬‬


‫اعرتافات روائي شاب‬

‫أن يوصف فقط بواسطة صور متباينة‪ .‬وهلذا‪ ،‬كتب أونوديوس‪ ،‬يف‬ ‫القرن اخلامس امليالدي‪ ،‬أن املسيح هو "املصدر‪ ،‬والسبيل‪ ،‬واحلق‪،‬‬ ‫والصخرة‪ ،‬واألسد‪ ،‬وحامل النور‪ ،‬واحلَ َمل‪ ،‬والباب‪ ،‬واألمل‪،‬‬ ‫والفضيلة‪ ،‬والكلمة‪ ،‬واحلكمة‪ ،‬والرسول‪ ،‬والضحية‪ ،‬والسليل‪،‬‬ ‫والراعي‪ ،‬واجلبل‪ ،‬واحلبل‪ ،‬والياممة‪ ،‬والشعلة‪ ،‬والعمالق‪ ،‬والنرس‪،‬‬ ‫والزوج‪ ،‬والصرب‪ ،‬والدودة"(‪ .)1‬توضع مثل هذه القوائم‪ ،‬كام هو‬ ‫األمر مع ابتهاالت العذراء‪ ،‬حتت وصف اإلطراء واملدح‪.‬‬ ‫ثمة نوع آخر من الرتاكم‪ ،‬هو املعاين املتناظرة ـ سلسلة من‬ ‫الكلامت‪ ،‬أو اجلمل‪ ،‬الدَّ الة عىل املعنى ذاته‪ ،‬والتي ينتج عنها الفكرة‬ ‫نفسها بطرق ال ُحتىص‪ .‬وتلك املعاين املتناظرة وشيجة الصلة بمبدأ‬ ‫"اإلسهاب اخلطايب"‪ ،‬والذي يصوره املثال املشهور خلطبة شيرشو‬ ‫األوىل ضد كاتيلني‪ ،‬يف جملس الشيوخ الروماين (‪ 63‬ق‪.‬م‪" :).‬متى‪،‬‬ ‫يا كاتيلني‪ ،‬ستتوقف عن إساءة استغالل صربنا؟ إىل متى سيظل‬ ‫هذا املجنون يسخر منا؟ متى تكون هناية جرأتك اجلاحمة‪ ،‬التي‬ ‫األريوباجية‪[ .‬املترجم]‬ ‫‪(1) Ennodius, Carmina, Book 9, sect. 323c, in Patrologia Latina, ed. J.-P. Migne, vol.‬‬ ‫‪63 (Paris, 1847).‬‬

‫‪188‬‬


‫قوائمي‬

‫تتبجح هبا‪ ،‬كام تفعل اآلن؟ أليس للحراس الليليني عىل تل باالتني‬ ‫ـ واملراقبني املنترشين يف أنحاء املدينة ـ وحتذير الناس‪ ،‬واحتاد مجيع‬ ‫الرجال األخيار ـ واالحتياطات التي اختذت بجمع جملس الشيوخ‬ ‫يف هذا املكان األكثر حصانة ـ ومظهر وحميا هذا املجلس املبجل‪،‬‬ ‫احلارض اآلن‪ ،‬أي تأثري عليك؟ أال تشعر بأن خططك قد تم‬ ‫كشفها؟ أال ترى أن مؤامرتك قد تم إحباطها بالفعل‪ ،‬وأصبحت ال‬ ‫قوة هلا‪ ،‬بسبب أن كل من يف املجلس يعلم هبا؟"(‪ )1‬إىل آخره‪.‬‬ ‫يوجد نمط خمتلف قليال‪ ،‬وهو‪ :‬املتزايد ‪ ،incrementum‬ويعرف‬ ‫أيضا باسم املتصاعد ‪ climax‬أو املتدرج ‪ . gradatio‬عىل الرغم من‬ ‫أهنم يدلون عىل نفس احلقل املفاهيمي‪ ،‬إال أهنم يتضمنون جديدا يف‬ ‫كل مرحلة‪ ،‬أو بتكثيف أعىل‪ .‬يمكننا العثور عىل مثال ذلك‪ ،‬مرة‬ ‫أخرى‪ ،‬يف خطبة شيرشو األوىل ضد كاتيلني‪" :‬مل تفعل شيئا‪ ،‬أو‬ ‫خططت شيئا‪ ،‬أو فكرت يف يشء‪ ،‬إال وعلمت به‪ ،‬وليس هذا‬

‫‪(1) Cicero, "First Oration against Lucius Catilina," in The Orations of Marcus‬‬ ‫‪Tullius Cicero, trans. C. D. Younge, vol. 2 (London: G. Bell and Sons, 1917),‬‬ ‫‪279-280 (sect. 1).‬‬

‫‪189‬‬


‫اعرتافات روائي شاب‬

‫فحسب‪ ،‬بل وكل ما مل أرى قد علمت بتفاصيله"(‪.)1‬‬

‫تعرف البالغة التقليدية التعداد بالتكرار اللفظي يف أوائل‬ ‫ِّ‬ ‫اجلمل‪ ،‬وحذف الروابط‪ ،‬أو تعدد الروابط‪ .‬التكرار اللفظي‪ :‬هو‬ ‫تكرار للكلمة نفسها يف مستهل كل عبارة‪ ،‬أو يف أول كل سطر‬ ‫شعري‪ .‬ربام ال يشكل ذلك‪ ،‬دوما‪ ،‬ما قد نطلق عليه‪ :‬قائمة‪ .‬هناك‬ ‫مثال رائع للتكرار اللفظي‪ ،‬يف قصيدة "احتامالت" للشاعرة‬ ‫البولندية فيسوافا شيمبورسكا‪:‬‬ ‫أفض ُل األفالم‪.‬‬ ‫ِّ‬ ‫أفض ُل القطط‪.‬‬ ‫ِّ‬ ‫أفض ُل أشجار السنديان عىل ضفة هنر فارتا‪.‬‬ ‫ِّ‬ ‫أفض ُل ديكنز عىل دستويفسكي‪.‬‬ ‫ِّ‬ ‫أفض ُل نفيس يف حبها للناس عىل نفيس يف حبها للبرش‪.‬‬ ‫ِّ‬

‫‪(1) Cicero, "First Oration against Lucius Catilina," in The Orations of Marcus‬‬ ‫‪Tullius Cicero, trans. C. D. Younge, vol. 2 (London: G. Bell and Sons, 1917),‬‬ ‫‪282 (sect. 3).‬‬

‫‪190‬‬


‫قوائمي‬

‫أفض ُل االحتفاظ بإبرة وخيط يف يدي‪ ،‬احتياطا‪.‬‬ ‫ِّ‬ ‫أفض ُل اللون األخرض‪.‬‬ ‫ِّ‬ ‫وهكذا‪ ،‬لست وعرشين بيتا آخرين‪.‬‬

‫(‪)1‬‬

‫حذف الروابط؛ اسرتاتيجية بالغية ُحتذف بمقتضاها الروابط‬ ‫بني العنارص املتتابعة‪ .‬مثاهلا اجليد نجده يف االفتتاحية الكالسيكية‬ ‫للشاعر اإليطايل لودوفيكو أريوستو‪ ،‬مللحمته الرومانسية‪:‬‬ ‫أورالندو فوريوسو‪" :‬السيدات‪ ،‬الفرسان‪ ،‬األسلحة‪ ،‬احلب ‪/‬‬ ‫املالطفة‪ ،‬التعهدات اجلريئة‪ُ ،‬أغني"(‪.)2‬‬

‫املقابل حلذف الروابط‪ ،‬هو تعدد الروابط؛ والذي َي ِصل كل‬ ‫العنارص بواسطة الروابط‪ .‬يف الكتاب الثاين مليلتون‪ :‬الفردوس‬ ‫املفقود‪ ،‬السطر ‪ 949‬يصور حذف الروابط‪ ،‬يتبعه يف السطر التايل‬ ‫بتعدد الروابط‪:‬‬ ‫‪(1) From Wislawa Syzmborska, Nothing Twice, trans. Stanislaw Baranczak and‬‬ ‫‪Clare Cavanagh (Krakow: Wydawnictwo Literackie, 1997).‬‬ ‫)‪ (2‬لألسف‪ ،‬ضاع الجزء الخاص بحذف الروابط في الترجمة اإلنجليزية األولى‪ ،‬بواسطة‬ ‫ُ‬ ‫ويليام ستيوارت روز (القرن الثامن عشر)‪ ،‬والتي تقرأ‪" :‬للعشاق والسيدات‪ ،‬الفرسان‬ ‫واألسلحة‪ ،‬أغني‪ ،‬للمالطفات‪ ،‬وللكثير من التعهدات الجريئة"‪( .‬إكو)‬

‫‪191‬‬


‫اعرتافات روائي شاب‬

‫برأس‪ ،‬أيدي‪ ،‬أجنحة‪ ،‬أو أقدام يتابع امليض يف طريقه‬ ‫ويسبح أو يغرق‪ ،‬أو خيوض يف املاء‪ ،‬أو يزحف‪ ،‬أو يطري‪.‬‬ ‫لكن يف البالغة التقليدية ال يوجد تعريف حمدد ملا يبهرنا‬ ‫كرشاهة تصيب بالدوار للقوائم ـ خاصة القوائم الطويلة‪،‬‬ ‫لتصنيفات من أشياء عدة‪ ،‬كام يف هذه الفقرة القصرية‪ ،‬من رواية‬ ‫الفارس اخلفي إليتالو كالفينو‪:‬‬ ‫جيب أن تتعاطف معنا‪ :‬نحن القرويات‪ ....‬باستثناء اخلدمات‬ ‫الدينية‪ ،‬وشعائر األيام الثالثة‪ ،‬والصالة التاسوعية‪ ،‬والعمل يف‬ ‫احلقول‪ ،‬ودرس احلنطة‪ ،‬وقطف العنب‪ ،‬وجلد اخلدم‪ ،‬وزنا‬ ‫املحارم‪ ،‬واحلرائق‪ ،‬والشنق‪ ،‬واجليوش الغازية‪ ،‬والسلب‪،‬‬ ‫واالغتصاب‪ ،‬والوباء‪ ،‬فإننا مل نر شيئا‪.‬‬

‫(‪)1‬‬

‫حينام كنت مشغوال بكتابة أطروحتي لنيل درجة الدكتوراه‪،‬‬ ‫حول علم اجلامل يف العصور الوسطى‪ ،‬قرأت الكثري من أشعار‬ ‫العصور الوسطى‪ ،‬تبني يل غرام العصور الوسطى اهلائل بالتعداد‪.‬‬ ‫‪(1) Italo Calvino, The Noneexistent Knight, trans. Archibald Colquhoun (New‬‬ ‫‪York: Harcourt 1963).‬‬

‫‪192‬‬


‫قوائمي‬

‫أذكر‪ ،‬عىل سبيل املثال‪ ،‬مدح مدينة ناربون بواسطة سيدونيوس‬ ‫أبوليناريس‪ ،‬الذي عاش يف القرن اخلامس‪:‬‬ ‫مرحبا ناربون‪ ،‬مناخك الصحو‪ ،‬ومجال حرضك وريفك‪،‬‬ ‫وأسوارك‪ ،‬وأهلك‪ ،‬والطواف يف أنحائك‪ ،‬ومتاجرك‪ ،‬وبواباتك‪،‬‬ ‫وأروقتك ذات ال ُعمد‪ ،‬ومسارحك‪ ،‬وأرضحتك‪ ،‬ومعابدك‪،‬‬ ‫ونقودك‪ ،‬ومحاماتك‪ ،‬وقناطرك‪ ،‬ومستودعاتك‪ ،‬وأسواقك‪،‬‬ ‫ومروجك‪ ،‬والينابيع‪ ،‬واجلُزر‪ ،‬ومناجم امللح‪ ،‬وسدودك‪ ،‬والنهر‪،‬‬ ‫والبضائع‪ ،‬واجلرس‪ ،‬والقوارب‪ ،‬وزخرفات إله باخوس‪ ،‬وربة‬ ‫احلنطة والفاكهة‪ ،‬وربة الرعاة والقطعان‪ ،‬وسنابل مينرفا‪ ،‬والكَرم‪،‬‬ ‫واملراعي‪ ،‬ومعارص الزيتون‪.‬‬ ‫لست بحاجة إىل أن تكون ملام باللغة الالتينية لكي حتظى مثل‬ ‫هذه القوائم بتقديرك‪ .‬ما هيم هو ذلك االستقصاء العددي‪،‬‬ ‫موضوع القائمة ـ يف هذه احلالة‪ :‬العنارص املعامرية للمدينة ـ غري‬ ‫ذي أمهية‪ .‬الغاية احلقيقية والوحيدة للقائمة اجليدة؛ هي أن تنقل‬ ‫الفكرة عن الالهنائية‪ ،‬وأن تسبب الدوار بفعل إهنائها بعبارة‪ :‬إىل‬ ‫آخره‪.‬‬

‫‪193‬‬


‫اعرتافات روائي شاب‬

‫عندما كربت ورصت أكثر حكمة‪ ،‬اكتشفت قوائم رابيليه‬ ‫وجيمس جويس‪ .‬قوائم متثل قسام هائال من أعامل هذين املؤلفني‪.‬‬ ‫وحيث أين ال أقدر عىل تفادي هذه النامذج‪ ،‬التي لعبت دورا حاسام‬ ‫يف تطوري ككاتب‪ .‬دعوين أقتبس فقرتني‪:‬‬ ‫االقتباس األول من رواية حياة جارجانتوا‪:‬‬ ‫ِ‬ ‫ب ُلع َبة الفالش الورقية‪ ،‬ولعبة احلب‪ ،‬وبريمريو‪،‬‬ ‫هناك َلع َ‬ ‫والشطرنج‪ ،‬ولعبة الثعلب رينارد‪ ،‬والوحش‪ ،‬ولعبة مربعات‬ ‫األرقام‪ ،‬والورقة الرابحة‪ ،‬ولعبة األبقار‪ ،‬واطعن وال ُمتسك‪،‬‬ ‫ولعبة اليانصيب‪ ،‬ولعبة املائة‪ ،‬ولعبة احلظ أو الصمت‪ ،‬ولعبة‬ ‫القرش‪ ،‬وقطع النرد الثالث‪ ،‬ولعبة املرأة املشؤومة‪ ،‬واجلداول‪،‬‬ ‫ولعبة التلفيق‪ ،‬واختيار اليد الصحيحة‪ ،‬ولعبة مرر عرشة‪،‬‬ ‫والرتنح‪ ،‬ولعبة واحد وثالثني‪ ،‬ومربعات الكلامت أو لعبة‬ ‫امللكة‪ ،‬ولعبة فردي وزوجي أو زوجي متتابع‪ ،‬والطاولة‬ ‫الفرنسية‪ ،‬ولعبة الثالث مائة‪ ،‬واملناضد الطويلة‪ ،‬والرجل غري‬ ‫املحظوظ‪ ،‬واملطاردة‪ ،‬ولعبة الزوجني األخريين يف اجلحيم‪،‬‬ ‫وجسد تود‪ ،‬ولعبة املقايضة‪ ،‬ولعبة أحتاج بشدة‪ ،‬والعابس‪،‬‬ ‫وال داما‪ ،‬والالنسكوينت‪ ،‬ولعبة بوب ومو‪ ،‬ولعبة الكوكو‪،‬‬

‫‪194‬‬


‫قوائمي‬

‫وجدول الفيلسوف‪ ،‬ولعبة النفخة‪ ،‬أو فليتكلم من كانت لديه‪،‬‬ ‫وعالمة السكني‪ ،‬ولعبة املفاتيح‪ ،‬ولعبة خذ ال يشء وأقذفه‪،‬‬ ‫ولعبة عد ِشرب‪ ،‬ولعبة الزواج‪ ،‬وفردي أم زوجي‪ ،‬واملزحة أو‬ ‫الغراب‪ ،‬ولعبة الصورة أم النقش‪ ،‬والرأي‪ ،‬والكرة وعظمة‬ ‫الفخذ‪ ،‬ولعبة َمن فعل واحدة فعل األخرى‪ ،‬وكرات العاج‪،‬‬ ‫والبلياردو‪ ،‬ولعبة التسلسالت‪ ،‬وهز وأرضب‪ ،‬ورصر العاج‪،‬‬ ‫حتمله له‪.‬‬ ‫ولعبة البومة‪ ،‬والتاروت‪ ،‬وسحر األرنبة‪ ،‬عند اخلسارة ِّ‬ ‫اسحب قليال‪ .‬إنه نائم‪ .‬التعذيب‪ .‬القرن‪ .‬التكة‪ .‬ا ُملزهر أو ثور‬ ‫رشوفتايد‪ .‬مراتب الرشف‪ .‬بومة خمزن احلبوب‪ .‬قرصة دون‬ ‫ضحك‪ .‬امليل يف املاء أسبوعي‪ .‬أوخزين دغدغني‪ .‬تسعة دبابيس‪.‬‬ ‫فك حدوة احلامر‪ .‬ملحة ورشقة‪ .‬هاري هوهي‪ .‬األطباق‬ ‫املسطحة‪ .‬أنا أجلستني‪ .‬انعطاف ودوران‪ .‬اإليرل امللتحي‪.‬‬ ‫الوغد واخلسيس‪ .‬الوضع القديم‪ .‬ملسة بومباتش‪ .‬رسم البصقة‪.‬‬ ‫احلوض الغامض‪ .‬إمخاد‪ .‬الصحون القصرية‪ .‬أهيا الثرثار أعرين‬ ‫حقيبتك‪ .‬الرمادي املرقش‪ .‬كرة رامكود‪ .‬يف الديك كرنك ذلك‪.‬‬ ‫إخراج الزانية‪ .‬كرس اإلبريق‪ .‬تني مرسيليا‪ .‬رغبتي‪ .‬إطالق اسم‪.‬‬

‫‪195‬‬


‫اعرتافات روائي شاب‬

‫الدوامة الدائرة‪ .‬عصا وثقب‪ .‬احلزمة املندفعة‪ .‬الكز أو هو أو‬ ‫قهر الثعلب‪.‬‬

‫(‪)1‬‬

‫وهكذا‪ ،‬طوال صفحات عدة أخرى‪.‬‬ ‫االقتباس الثاين‪ ،‬نقتطفه من رواية جيمس جويس "عوليس"‪،‬‬ ‫ويشكل مقطعا صغريا من الفصل السابع عرش (الذي تتجاوز‬ ‫صفحاته املائة)‪ .‬وهو يرسد‪ ،‬يف شكل قائمة‪ ،‬األشياء التي يمكن أن‬ ‫يعثر عليها بلووم يف منضدة املطبخ‪:‬‬ ‫ما الذي ُيتويه الدرج األول الذي فتحه؟ دفرت كتابة من نوع فري‬ ‫فوسرت‪ ،‬خيص ميلل (ميليسنت) بلووم‪ ،‬إحدى صفحاته حتمل‬ ‫رسام‪ ،‬ومكتوب عليها ‪ ،Papli‬ويصور رأسا مكورا فوقه تنتصب‬ ‫مخس شعرات‪ ،‬وعينان مرسومتان من زاوية جانبية‪ ،‬واجلذع من‬ ‫منظور أمامي‪ ،‬وعليه ثالثة أزرار كبرية‪ ،‬وقدم واحدة عىل شكل‬ ‫مثلث‪ ،‬وصورتان باهتتان مللكة إنجلرتا ألكساندرا‪ ،‬وصورة ملود‬ ‫برانزكومب‪ ،‬ممثلة فاتنة‪ ،‬وبطاقة عيد امليالد‪ ،‬تصور نبات طفيليا‪،‬‬

‫)‪(1) Francoi Rabelais, Gargantua, trans.Sir Thomas Urquhart of Cromarty (1653‬‬ ‫‪and Peter Antony Motteux (1693-1708) (Chicago: Encyclopedia Britannica,‬‬ ‫"‪1990), ch. 22, "The Games of Gargantua.‬‬

‫‪196‬‬


‫قوائمي‬

‫وحتمل عنوان "املصفاة"‬

‫[‪]1‬‬

‫وتاريخ عيد امليالد عام ‪،1892‬‬

‫وأسامء املرسلني‪ :‬من السيد والسيدة م‪ .‬كومرفورد‪ ،‬وعبارة‪:‬‬ ‫أرجو أن جيلب لك عيد امليالد البهجة والسالم واحلبور‪ .‬عُ قب‬ ‫أصبع من شمع األختام‪ ،‬انصهر بعضه‪ ،‬تم رشاؤه من متاجر‬ ‫السادة هيل املحدودة‪ ،‬الواقعة يف ‪ ،89‬و‪ ،90‬و‪ 91‬شارع دام‪،‬‬ ‫صندوقا ُيتوي عىل ما بقي من دستة من ريشات احلرب املذهبة‪،‬‬ ‫حمفور عليها حرف "‪ ،"J‬تم رشاؤها من نفس القسم من نفس‬ ‫املتجر‪ ،‬ساعة رملية قديمة حتوي رمال يتدفق إذا مالت‪ ،‬ونبوءة‬ ‫خمتومة (مل ُت َفض أبدا) خ َّطها ليوبولد بلوم عام ‪ 1886‬تتعلق‬ ‫بعواقب مترير مرشوع قانون ويليام إيوارت جالدستون اخلاص‬ ‫بأحكام املنزل لعام ‪( 1886‬مل يتم إقراره كقانون أبدا)‪ ،‬تذكرة‬ ‫سوق خريية‪ ،‬رقمها ‪ ،2004‬ملعرض سان كيفني اخلريي‪ ،‬سعرها‬ ‫‪ 6‬دينار و‪ 100‬درهم‪ ،‬رسالة إنجيلية لألطفال‪ ،‬مؤرخة‪ ،‬يوم‬ ‫االثنني‪ ،‬مكتوب‪ P :‬كبرية‪ ،‬فاصلة‪ H ،‬كبرية‪ ،‬كيف حالك‪،‬‬ ‫ملحوظة استفسار‪ E ،‬كبرية‪ ،‬أنا بخري‪ ،‬نقطة‪ .‬سطر جديد‪ ،‬توقيع‬

‫]‪ [1‬ميتسباه ‪ : Mizpah‬في العبرية تعني "برج املراقبة"‪ .‬كما ذكر في قصة الكتاب املقدس‬ ‫عن يعقوب ولبان‪ ،‬فإن صنع كومة من الحجارة يمثل اتفاقا بين شخصين‪ ،‬وهللا هو‬ ‫الشاهد على اتفاقهما‪[ .‬املترجم]‬

‫‪197‬‬


‫اعرتافات روائي شاب‬

‫ميلل مع ‪ M‬كبرية مزخرفة بالزهور‪ ،‬ال توجد نقطة‪ .‬بروش ذو‬ ‫حجر كريم‪ ،‬من ممتلكات إلني بلوم (اسمها عند الوالدة‬ ‫هيغينز)‪ ،‬توفيت‪ ،‬دبوس مزين بحجر كريم‪ ،‬من ممتلكات‬ ‫رودولف بلوم (اسمه عند الوالدة فرياج)‪ ،‬تويف‪ 3 ،‬رسائل‬ ‫رسل إليه‪ :‬هنري فالور‪ ،‬بعناية‬ ‫مكتوبة عىل اآللة الكاتبة‪ ،‬امل َ‬ ‫ص‪.‬ب‪ .‬ويستالند روو‪ ،‬واملرسل إليها‪ :‬مارتا كليفورد‪ ،‬بعناية‬ ‫ص‪ .‬ب‪ .‬دولفني بارن‪ ،‬االسم املنسوخ بحروف أخرى‪ ،‬وعنوان‬ ‫املرسل من ‪ 3‬حروف يف ترتيب أبجدي معكوس‪ ،‬تتخالف فيه‬ ‫األسطر من اليمني إىل الشامل ثم العكس‪ ،‬مع أحرف مشفرة‬ ‫ذات تنقيط رباعي الرتتيب (حمذوفة حروفه اللينة) ‪N.‬‬

‫‪ ،IGS./WI. UU. OX/W. OKS. MH/Y. IM‬قصاصة من‬ ‫دورية إنجليزية أسبوعية هتتم بشؤون املجتمع احلديث‪ ،‬عن‬ ‫قضية العقاب اجلسدي يف مدارس البنات‪ ،‬رشيط وردي كان‬ ‫يزين بيضة عيد الفصح عام ‪ ،1899‬اثنان من احلافظات املطاطية‪،‬‬ ‫حملول رباطهام جزئيا‪ ،‬هبام أكياس حفظ‪ ،‬تم رشاؤمها عرب الربيد‬ ‫من صندوق ‪ ،32‬ص‪.‬ب‪ .‬شريينج كروس‪ ،‬لندن دبليو يس‪،‬‬ ‫عبوة واحدة مكونة من اثنتي عرشة ظر ًفا كريم ًيا‪ ،‬وورقة ُمس َّطرة‪،‬‬ ‫هبا عالمة مائية‪ ،‬بعض العمالت املعدنية النمساوية ـ املجرية‬

‫‪198‬‬


‫قوائمي‬

‫املتنوعة‪ ،‬تذكرتا اليانصيب املجري امللكي املتميز‪ ،‬عدسة مكربة‬ ‫منخفضة القدرة ‪...‬‬

‫(‪)1‬‬

‫حتت هذا التأثري‪ ،‬باإلضافة إىل ذائقة رابيليه للرتاكم‪ ،‬يف أوائل‬ ‫ستينيات القرن العرشين‪ ،‬كتبت خطابا إىل ابني (كان عمره عام يف‬ ‫ذلك الوقت) أخربه بأنني أعزم‪ ،‬يف أقرب وقت ممكن‪ ،‬عىل إهدائه‬ ‫الكثري من اللعب احلربية‪ ،‬لكي أجعل منه شخصا مساملا ولكن قويا‬ ‫حني يكرب‪ .‬ها هي ترسانة األسلحة التي ذكرهتا يف الرسالة‪:‬‬ ‫ستكون هديتك‪ :‬أسلحة‪ ،‬وبنادق مزدوجة املاسورة‪ ،‬وأجهزة‬ ‫إرسال‪ ،‬وبنادق رشاشة‪ ،‬ومدافع‪ ،‬ومدافع بازوكا‪ ،‬وسيوف‪،‬‬ ‫وجيوش من اجلنود يف زهيم العسكري الكامل‪ ،‬وقالع ذات‬ ‫جسور متحركة‪ ،‬وحصون حلصارها‪ ،‬وأقبية‪ ،‬وبارود‪،‬‬ ‫ومدمرات‪ ،‬وصواريخ‪ ،‬وبنادق آلية‪ ،‬وخناجر‪ ،‬ومسدسات‪،‬‬ ‫وأسلحة كولت ووينشسرت‪ ،‬وبنادق ُحتشى بالبارود‪ ،‬وبنادق ‪،91‬‬ ‫وبنادق شبه آلية‪ ،‬وقذائف‪ ،‬وبنادق من طراز قديم‪ ،‬ومدافع‪،‬‬ ‫ومقاليع‪ ،‬وقوس ونشاب‪ ،‬وكرات الرصاص‪ ،‬ومنجنيق‪،‬‬ ‫‪(1) James Joyce, Ulysses, ed. Hans Walter Gabler (New York: Vintage, 1986), 592‬‬‫‪593 (Book 3, ch.2).‬‬

‫‪199‬‬


‫اعرتافات روائي شاب‬

‫ومشاعل‪ ،‬وقنابل يدوية‪ ،‬ورامجات أحجار‪ ،‬وسيوف‪ ،‬ورماح‪،‬‬ ‫ووعول معدنية‪ ،‬وحراب‪ ،‬وكالبات‪ ،‬وعمالت ‪ 8‬ريال‪ ،‬كتلك‬ ‫التي للقبطان جون فلينت يف رواية "جزيرة الكنز" (يف ذكرى‬ ‫لونج جون سيلفر وبن جن)‪ ،‬وخناجر قصرية‪ ،‬من النوع الذي‬ ‫يفضله دون بارخيو‪ ،‬ومدية طليطلة‪ ،‬لترضب ثالث مسدسات‬ ‫معا‪ ،‬وترصع ماركيز مونتيليامر‪ ،‬أو تستخدم خدعة نابويل‪ ،‬التي‬ ‫ذبح هبا بارون سيجوجناك الشيطان اخلسيس‪ ،‬الذي حاول رسقة‬ ‫امرأته إيزابيلال‪ .‬وستكون هناك فؤوس قتال‪ ،‬وأنصار‪ ،‬ومقاعد‬ ‫رمحة‪ ،‬وخناجر مموجة النصل‪ ،‬ورماح‪ ،‬وسيوف معقوفة‪ ،‬وسهام‬ ‫صغرية‪ ،‬وسيوف خشبية كذلك الذي كان يقبضه جون كارادين‬ ‫عندما صعقته الكهرباء عند احلاجز الثالث‪ ،‬وإذا مل يتذكر أحد‬ ‫ذلك‪ ،‬فسيكون من حظهم النحس‪ .‬وسيوف القرصان املقوسة‪،‬‬ ‫لتجعل من مسدسات كارمو وفان ستيللر الفضية واملزينة‬ ‫بالنقوش املعدنية‪ ،‬كيشء مل يره السري جيمس بروك من قبل (وإال‬ ‫ما كان استسلم يف مواجهة سخرية الربتغايل الذي ال يكف عن‬ ‫التدخني)‪ ،‬وخناجر ذات نصل ثالثي ُ‬ ‫الش َعب‪ ،‬كذلك الذي قام‬ ‫تابع السري ويليام‪ ،‬والنهار آخذ يف الرحيل‪ ،‬بقتل زامبا القاتل‪،‬‬ ‫الذي اغتال أمه‪ ،‬العجوز البائسة فيربت‪ ،‬وكمثرى التعذيب‪،‬‬

‫‪200‬‬


‫قوائمي‬

‫كتلك التي توضع يف فم سجناء قلعة ال رام‪ ،‬بينام الدوق‬ ‫بيفورت‪ ،‬ذو اللحية النحاسية الفاتنة‪ ،‬بفضل الرعاية الدائمة‬ ‫بمشطه احلديدي‪ ،‬يفر عىل فرسه‪ ،‬متوقعا‪ ،‬ببهجة‪ ،‬ثورة غضب‬ ‫مازاررين‪ ،‬ومقذوفات حمشوة باملسامري‪ ،‬يطلقها رجال محر‬ ‫األسنان بفعل أوراق التنبول‪ ،‬وبنادق مزينة بالصدف‪ ،‬حممولة‬ ‫عىل مسند عريب المع الطالء‪ ،‬ونبال رسيعة كالربق‪ ،‬لتحول‬ ‫مأمور نوتينجهام إىل اللون األخرض بفعل احلسد‪ ،‬وسكاكني‬ ‫سلخ‪ ،‬كتلك التي ملكها مينيهاها‪ ،‬أو (بام أنك جتيد لغتني) البطل‬ ‫وينيتو‪ ،‬ومسدس صغري‪ ،‬يمكن دسه يف الصديرية حتت البالطو‪،‬‬ ‫ألجل حتقيق مآثر لص نبيل‪ ،‬أو مسدس لوجر الذي ُيثقل‬ ‫اجليب‪ ،‬أو يعلق حتت اإلبط مثل التحري اخلاص مايكل شني‪،‬‬ ‫وبنادق صيد تناسب جييس جيمس ووايلد بيل هيكوك‪ ،‬أو‬ ‫سامبيجليونج‪ ،‬حتشى من الفوهة‪ .‬بعبارة أخرى‪ ،‬أسلحة‪ .‬تلك يا‬ ‫ولدي‪ ،‬ستكون أبرز ما يف عيد امليالد (‪.)1‬‬

‫عندما رشعت يف كتابة اسم الوردة‪ ،‬استعرت من السجالت‬

‫‪(1) Umberto Eco, Misleadings, trans. William Weaver (New Yourk: Harecourt,‬‬ ‫‪1993).‬‬

‫‪201‬‬


‫اعرتافات روائي شاب‬

‫القديمة العديد من األسامء التي كانت تطلق عىل املرشدين‪،‬‬ ‫واللصوص‪ ،‬واهلراطقة اجلوالني‪ ،‬من أجل أن تنقل روايتي حالة‬ ‫التشوش االجتامعي والديني الذي ساد خالل القرن الرابع عرش‬ ‫يف إيطاليا‪ .‬كان مسوغ قائمتي هو كَم األنامط غري املعتادة والشاردة‬ ‫من الناس‪ ،‬ومن الواضح أنني انغمست يف هذا اخلليط بتوسع‪،‬‬ ‫ولعا من جهتي بالتتايل الصويت ‪ flatus vocis‬ـ املتعة اخلالصة‬ ‫بالصوت‪.‬‬ ‫بعبارات مبترسة‪ ،‬أجربين عىل تذكر القليل مما أعرفه عن لغة‬ ‫بروفنسال واللهجات اإليطالية‪ ،‬أخربين عن قصة فراره من قريته‪،‬‬ ‫وجتواله يف أرجاء الدنيا‪ .‬يف قصته تعرفت عىل كثري ممن أعرفهم‪ ،‬أو‬ ‫التقيتهم يف الطريق‪ ،‬وأعرف اآلن العديد ممن كنت قد قابلتهم بعد‬ ‫ذلك‪...‬‬ ‫‪ ...‬سافر سالفاتوري عرب بلدان عدة‪ ،‬من مسقط رأسه؛ قرية‬ ‫مونفريرات‪ ،‬إىل ليجوريا‪ ،‬ثم اجته صعدا من بروفنس إىل أرايض‬ ‫ملك فرنسا‪.‬‬ ‫جاب سلفاتوري الدنيا‪ ،‬متسوال‪ ،‬وسارقا تارة أخرى‪ ،‬متظاهرا‬

‫‪202‬‬


‫قوائمي‬

‫باملرض أحيانا‪ ،‬وتارة ينخرط لفرتة يف خدمة بعض اللوردات‪ ،‬ثم‪،‬‬ ‫من جديد‪ ،‬يتخذ طريقه إىل الغابة‪ ،‬أو عرب الطريق الرئييس‪ .‬تصورته‪،‬‬ ‫من القصة التي حكاها يل‪ ،‬بني تلك الفرق من املترشدين‪ ،‬الذين‬ ‫رأيتهم يف األعوام التالية‪ ،‬مرات ومرات‪ ،‬جيوبون أنحاء أوروبا‪:‬‬ ‫رهبان زائفني‪ ،‬ومشعوذين‪ ،‬وحمتالني‪ ،‬وغشاشني‪ ،‬وصعاليك وذوي‬ ‫ثياب رثة‪ ،‬وجمذومني ومعاقني‪ ،‬وهباليل‪ ،‬ومرتزقة فاسدين‪ ،‬وهيود‬ ‫جائلني‪ ،‬هاربني من الكفار بأرواحهم املكسورة‪ ،‬وجمانني‪ ،‬ومنفيني‪،‬‬ ‫وأرشار مقطوعي األذن‪ ،‬ولوطيني‪ ،‬ومعهم حرفيني متنقلني‪:‬‬ ‫حائكني‪ ،‬وسمكريني‪ ،‬وصانعي الكرايس‪ ،‬واجلالخني‪ ،‬وصانعي‬ ‫السالل‪ ،‬وعامل بناء‪ ،‬وكذلك أوغاد من كل نوع‪ ،‬ومزورين‪ ،‬وأنذال‪،‬‬ ‫وخمادعني‪ ،‬وأوغاد‪ ،‬ومتنمرين‪ ،‬ومنبوذين‪ ،‬وخائنني‪ ،‬وحمتالني‪،‬‬ ‫ومهجيني‪ ،‬وبائعي املناصب الكنسية‪ ،‬وخمتلسني‪ ،‬وكهنة وقسيسني‪،‬‬ ‫ومن يتعيشون عىل استغفال اآلخرين‪ ،‬ومزوري املراسيم واألختام‬ ‫البابوية‪ ،‬وبائعي صكوك الغفران‪ ،‬ومدعي اإلصابة بالشلل الذين‬ ‫ويرقدون عند أبواب الكنائس‪ ،‬واهلاربني من سلك الرهبنة‪ ،‬وبائعي‬ ‫اآلثار املقدسة‪ ،‬والكهان والعرافني‪ ،‬ومستحرضي األرواح‪،‬‬ ‫واملعاجلني‪ ،‬وجباة الزكاة املزيفني‪ ،‬والزناة من كل نوع‪ ،‬ومن يفسدون‬ ‫الراهبات والعذراوات باخلداع والعنف‪ ،‬ومدعي اإلصابة‬

‫‪203‬‬


‫اعرتافات روائي شاب‬

‫باالستسقاء‪ ،‬والرصع‪ ،‬والبواسري‪ ،‬والنقرس‪ ،‬والقروح‪ ،‬وكذلك‬ ‫جنون االكتئاب‪ .‬وكان هناك من يضعون الضامدات الطبية عىل‬ ‫أجسادهم‪ ،‬وكأهنا تقرحات ال عالج هلا‪ ،‬وأخرون من يضعون يف‬ ‫أفواههم مادة بلون الدم‪ ،‬ليتظاهروا بأهنم مرىض بالسل‪ ،‬وأوغاد‬ ‫يتظاهرون بعجز أحد سيقاهنم‪ ،‬وُيملون عيص ال حاجة هلم هبا‪،‬‬ ‫ويتصنعون مرضهم باجلرب‪ ،‬واخلراريج‪ ،‬والتورمات‪ ،‬وهم يضعون‬ ‫الضامدات‪ ،‬مصبوغة بلون الزعفران‪ ،‬وجيعلون حديدا يف أيدهيم‪،‬‬ ‫ولفائف عىل رؤوسهم‪ ،‬تفوح يف الكنائس روائحهم الكرهية‪،‬‬ ‫ويسقطون فجأة‪ ،‬مغشيا عليهم يف امليادين‪ ،‬يبصقون وجتحظ عيوهنم‪،‬‬ ‫وجيعلون أنوفهم ترعف بعصري التوت األسود واللون القرمزي‪،‬‬ ‫لينتزعوا املال والطعام من اخلائفني من الناس‪ ،‬الذين يطلبون‬ ‫اإلرشاد من آباء الكنيسة إلعطاء الصدقات‪ :‬شارك خبزك مع‬ ‫اجلائع‪ ،‬اصطحب من ال مأوى له إىل بيتك‪ ،‬لنزر املسيح‪ ،‬لنأوي‬ ‫املسيح‪ ،‬لنكسو املسيح‪ ،‬فكام يطفئ املاء النار‪ ،‬تطهر الصدقة خطايانا‪.‬‬ ‫بعد فرتة طويلة من األحداث التي أرسدها‪ ،‬رأيت الكثري منهم‪ ،‬عىل‬ ‫امتداد هنر الدانوب‪ ،‬وما أزال أرى بعضهم‪ ،‬من أولئك الدجالني‪،‬‬ ‫الذين اختذوا أسامء ألنفسهم‪ ،‬وهلم مجاعات كالفيالق‪ ،‬مثل‬

‫‪204‬‬


‫قوائمي‬

‫الشياطني‪ .‬كان األمر أشبه باملستنقع الذي تدفق يف سبلنا عرب العامل‪،‬‬ ‫وهبم اختلط املبرشون من املؤمنني‪ ،‬واهلراطقة الباحثني عن ضحايا‬ ‫جدد‪ ،‬ومهيجو الشقاقات‪...‬‬ ‫ثم انتمى إىل الطوائف التكفريية‪ ،‬وإىل مجاعات يصعب عليه نطق‬ ‫أسامئها بشكل صحيح‪ ،‬ويتعرس يف التعريف بحدود عقيدهتا‪.‬‬ ‫استنتجت أنه التقى بأصحاب احلركة الباتارية اإلصالحية‪ ،‬أو‬ ‫الوالدينيسية‪ ،‬أو الكاثارية‪ ،‬أو األرنولدية‪ ،‬أو األوميلياتية‪ ،‬وأنه‪،‬‬ ‫يف جتواله حول العامل‪ ،‬تنقل من مجاعة إىل أخرى‪ ،‬مفرتضا‬ ‫بالتدريج أن ذلك مهمة ترشده‪ ،‬وأنه يعمل للرب‪ ،‬حتى ذاك‬ ‫احلني‪ ،‬ما يعمله ألجل نفسه‪...‬‬

‫(‪)1‬‬

‫القالب والقائمة‬ ‫الحقا‪ ،‬بدأت يف تأمل إمكانية سيميائية القوائم‪ ،‬عندما أكتب‬ ‫عن "تراكامت" الفنان الفرنيس أرمان[‪ :]2‬وهي عبارة عن جتميع ـ‬ ‫‪(1) Umberto Eco, The Name of the Rose, trans. William Weaver (New Yourk:‬‬ ‫‪Harecourt, 1983), ch. 3.‬‬ ‫]‪ [2‬أرمان فرنانديز (‪ 1928‬ـ ‪ )2005‬فنان تشكيلي‪ ،‬فرنس ي املولد‪ ،‬أمريكي األصل‪ ،‬اشتهر‬ ‫بمنحوتاته التي تتكون من األشياء املهملة‪ ،‬مستلهما جماليات الدادية‪[ .‬املترجم]‬

‫‪205‬‬


‫اعرتافات روائي شاب‬

‫قوائم مادية ملموسة ـ من أنواع خمتلفة من النظارات‪ ،‬وساعات‬ ‫اليد‪ ،‬مضغوطة يف حاوية من البالستيك‪ .‬يف ذلك الوقت‪ ،‬فكرت‬ ‫يف واقعة أن أول ظهور للقائمة كأداة أدبية‪ ،‬كان عند هومريوس‪ :‬ما‬ ‫أطلق عليه كتالوج السفن‪ ،‬يف الكتاب الثاين من اإللياذة (‪ .)1‬الواقع‬ ‫أن هومريوس يقدم لنا تقابال رائعا بني تصوير قالب تام وهنائي من‬ ‫جهة‪ ،‬وقائمة غري مكتملة وحتتمل الالهنائية‪ ،‬من جهة أخرى‪.‬‬ ‫القالب التام والنهائي هو درع أخيل يف الكتاب الثامن عرش من‬ ‫يقسم هيفيستوس ذلك الدرع اهلائل إىل مخسة مناطق‪،‬‬ ‫اإللياذة‪ِّ ،‬‬ ‫ويصور مدينتني مزدمحتني‪ .‬يف األوىل يصف حفل زفاف‪ ،‬وميدان‬ ‫مزدحم‪ ،‬حيث تُعقد حماكمة‪ .‬يصور املشهد الثاين قلعة ُحمارصة‪ ،‬عىل‬ ‫أسوارها‪ :‬الزوجات‪ ،‬والصغار‪ ،‬والشيوخ‪ ،‬يرقبون األحداث‪.‬‬ ‫تتقدم قوات األعداء‪ ،‬بقيادة مينرفا‪ ،‬بينام يسوق الناس ماشيتهم إىل‬ ‫النهر‪ ،‬لنصب كمني‪ .‬اندلعت معركة حامية الوطيس‪ ،‬ثم يصور‬ ‫هيفيستوس حقل قمح خصب‪ ،‬جيد احلرث‪ ،‬يعربه بعض‬

‫)‪ (1‬ربما كنت مخطئا في ذلك‪ .‬رغم عدم دقة التواريخ‪ ،‬يحتمل أن أول قائمة أدبية هي‬ ‫مجمل قصيدة ثيوجونيا لهيزيود‪( .‬إكو)‬

‫‪206‬‬


‫قوائمي‬

‫الفالحني مع ثرياهنم‪ ،‬وحقول كروم‪ ،‬متتلئ بعناقيد العنب‬ ‫الناضجة‪ ،‬كرباعم من ذهب‪ ،‬وكروم يتسلق أعمدة من فضة‪ ،‬حماط‬ ‫ِ‬ ‫بش َباك حديدية‪ ،‬وقطيع من املاشية‪ ،‬منحوت من الذهب‬ ‫والرصاص‪ ،‬يتسابق نحو املرعى‪ ،‬عىل طول ضفتي النهر‪ ،‬الذي‬ ‫يتدفق خالل القصب‪ .‬فجأة‪ ،‬يظهر أسدان‪ ،‬يثبان عىل الثور‪،‬‬ ‫يصيبانه ويسحبانه بينام يعلو خواره وهو يئن‪ .‬يف ذات الوقت الذي‬ ‫يصل الرعاة بكالهبم‪ ،‬كانت الوحوش تلتهم الثور الذي ُبقرت‬ ‫بطنه‪ ،‬ومل تفعل الكالب غري النباح عليهم‪ .‬يصور هيفيستوس يف‬ ‫القسم األخري قطعانا من املاشية خالل منظر عام لقرية رعوية‪،‬‬ ‫تتناثر يف أنحائه األكواخ‪ ،‬واحلظائر‪ ،‬وشباب وصبايا يرقصون‪.‬‬ ‫ترتدي الصبايا عباءات شفافة ورؤوسهن متوجة باألكاليل‪،‬‬ ‫ويرتدي الشباب صديريات‪ ،‬ويعلقون خناجرا ذهبية يف أجناهبم‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫الفخار‪ .‬يتابع‬ ‫ومجيعهم يدورون يف رقصهم دوران حجر صانع‬ ‫الرقص‪ ،‬الذي يليه حضور ثالث مهرجني‪ ،‬قدموا‬ ‫كثري من الناس‬ ‫َ‬ ‫عرضا غنائيا أثناء أدائهم حلركاهتم البهلوانية‪ُ .‬ييط هنر أقيانوس‬ ‫العظيم بكل مشهد‪ ،‬ويفصل الدرع عن سائر العامل‪.‬‬

‫‪207‬‬


‫اعرتافات روائي شاب‬

‫لكن عريض امللخص هذا غري تام‪ :‬إذ يتضمن الدرع الكثري من‬ ‫املشاهد‪ ،‬بحيث ما مل نتصور أن هيفستوس يستخدم آلة صياغة‬ ‫ميكروسكوبية للذهب‪ ،‬فمن الصعب تصور املوضوع بثراء‬ ‫تفاصيله‪ .‬إضافة إىل ذلك‪ ،‬فإن الصور ال تشغل املكان فحسب‪ ،‬بل‬ ‫تشغل الزمان أيضا‪ :‬فاألحداث املتنوعة يتبع بعضها بعضا‪ ،‬كام لو‬ ‫كان الدرع شاشة سينامئية‪ ،‬أو قصة مصورة طويلة‪ .‬وتوحي الطبيعة‬ ‫الدائرية املتقنة يف ُصنع الدرع أال يوجد يشء آخر فيام وراء حدوده‪:‬‬ ‫إنه قالب هنائي‪.‬‬ ‫كان هومريوس قادرا عىل ختيل الدرع ألنه امتلك فكرة واضحة‬ ‫عن الثقافة الزراعية واحلربية يف عرصه‪ .‬إنه يعرف عامله‪ :‬يعرف‬

‫قوانينه‪ ،‬ومؤثراته‪ ،‬وآثارها‪ .‬ويبني ذلك السبب يف قدرته عىل إنشاء‬ ‫قالب له‪.‬‬ ‫يف الكتاب الثاين‪ ،‬أراد هومريوس استحضار إحساس بعظمة‬ ‫اجليش اليوناين‪ ،‬ونَقل فكرة ما عن مجوع الرجال الذين يراهم‬ ‫الطرواديون املرعبون عىل طول الساحل‪ .‬حاول‪ ،‬يف البداية‪ ،‬تقديم‬ ‫مقاربة هلم مع رسب اإلوز أو رسب من طيور الكركي‪ ،‬التي كانت‬

‫‪208‬‬


‫قوائمي‬

‫تعرب حم ِّلقة كالربق‪ ،‬لكنه كان جمازا غري مؤثر‪ ،‬ثم نراه (كام يف ترمجة‬ ‫صمويل بتلر الكالسيكية) يستدعي ر َّبات الشعر لتساعدنه‪:‬‬ ‫واآلن‪ ،‬يا عرائس الشعر‪ ،‬ساكنات األوليمب‪ ،‬أخربنني ـ فأنتن‬ ‫َكن يف كل مكان‪ ،‬شاهدات عىل كل يشء‪ ،‬أما نحن فال‬ ‫ر َّبات‪ ،‬ت َّ‬ ‫نعرف غري ما ُيقال لنا ـ من هم سادة وأمراء الدانائيني؟[‪ ]1‬أما‬ ‫عامة اجلنود‪ ،‬فال أقدر عىل أن أذكر كل واحد منهم باسمه‪ ،‬رغم‬ ‫ألسن‪ ،‬وصويت ال يكل‪ ،‬ويف صدري قلب من‬ ‫أين أملك عرشة ُ‬ ‫الربونز‪ ،‬ما مل تريد ربات الشعر‪ ،‬ساكنات األوليمب‪ ،‬بنات‬ ‫زيوس البس الدرع‪ ،‬أن يذكرهن يل‪ .‬مع ذلك‪ ،‬سأذكر لكم قادة‬ ‫السفن وكافة سفن األساطيل معا‪.‬‬

‫يبدو ذلك كعرض موجز‪ ،‬لكن هذا اإلجياز استغرق منه ما‬ ‫يقرب من الثالث مائة سطر شعري عن األصول اليونانية‪ ،‬من‬ ‫أجل ذكر ‪ 1186‬سفينة‪ .‬ومن الواضح أن القائمة هنائية (فال جيب أن‬ ‫يكون هناك ذكر لقادة سفن آخرين أو سفن أخرى)‪ ،‬غري أنه ال‬ ‫يستطيع أن يذكر عدد من يؤدي اخلدمة من الرجال حتت إمرة كل‬

‫]‪ [1‬الدانائيين ‪( :Danaans‬في صيغة الجمع) مصطلح قديم يشير إلى اليونانيين‪[.‬املترجم]‬

‫‪209‬‬


‫اعرتافات روائي شاب‬

‫قائد‪ ،‬فيظل العدد الذي يشري إليه ال هنائي‪.‬‬

‫ما ال يمكن وصفه‬ ‫ال يقدم لنا هومريوس‪ ،‬بكتالوجه للسفن‪ ،‬جمرد مثال مذهل‬ ‫للقائمة‪ ،‬لكنه قدم أيضا ما ُيطلق عليه "ثيامت ال يمكن وصفهاا"‬

‫(‪)1‬‬

‫تظهر تلك الثيامت مرات عدة عند هومريوس (عىل سبيل املثال‪ :‬يف‬ ‫األوديسة‪ ،‬الكتاب الرابع‪ ،‬السطر ‪ 273‬وما بعده‪ ،‬ترمجة بتلر‪" :‬حقا‪،‬‬ ‫ال يمكنني ذكر كل عمل بطويل مفرد لعوليس ‪ ،)"...‬ويف بعض‬ ‫األحيان‪ ،‬يقرر الشاعر ـ وقد واجهته أشياء أو أحداث ال هنائية عليه‬ ‫ذكرها ـ أن يبقى صامتا‪ .‬شعر دانتي بعدم قدرته عىل ذكر أسامء‬ ‫مجيع مالئكة الفردوس‪ ،‬ألنه ال ُييط بعددهم اهلائل (يف األنشودة‬ ‫التاسعة والعرشين من الفردوس‪ ،‬يذكر أن عددها يفوق إمكانيات‬ ‫العقل البرشي )‪ .‬هكذا‪ ،‬حني يواجه الشاعر ما ال يوصف‪ ،‬فبدال‬ ‫من حماولة مجع سلسلة غري كاملة من األسامء‪ ،‬نجده يؤثر التعبري‬ ‫"‪(1) See Giuseppe Ledda, "Elenchi impossipili: Cataloghi e topos dell'indicibilita,‬‬ ‫‪unpublished; and idem' La Guerra della Lingua: Ineffabilitia, retorica e‬‬ ‫‪narrative nella Commedia di Dante (Ravenna: Longo, 2002).‬‬

‫‪210‬‬


‫قوائمي‬

‫عن نشوة ما ال يمكن وصفه‪ .‬يف غالب األحيان‪ ،‬ألجل أن ينقل‬ ‫الفكرة عن العدد الذي ال يمكن حرصه للمالئكة‪ ،‬فإنه ُيلمح إىل‬ ‫حكاية خمرتع الشطرنج‪ ،‬الذي طلب من ملك فارس‪ ،‬كجائزة له‬ ‫عىل اخرتاعه‪ ،‬أن يعطيه حبة قمح للمربع األول عىل اللوحة‪،‬‬ ‫وحبتني للمربع الثاين‪ ،‬وأربع حبات للمربع الثالث‪ ،‬وهكذا‪ ،‬حتى‬ ‫املربع الرابع والستني‪ ،‬وبذلك حصل عىل عدد فلكي من حبوب‬ ‫القمح‪" :‬وكانت من الكثرة بحيث جتاوزت املاليني‪/‬وأكثر‬ ‫بأضعاف من رقعة الشطرنج"(‪.)1‬‬ ‫يواجه املؤلف بيشء هائل الكم أو غري‬ ‫يف حاالت أخرى‪ ،‬حني َ‬ ‫معروف‪ ،‬وما زلنا ال نعرفه بنحو كاف‪ ،‬أو لن نعرف عنه أبدا‪ ،‬فإنه‬ ‫يقدم قائمة كعينة‪ ،‬كمثال‪ ،‬أو كمؤرش‪ ،‬تاركا للقارئ مهمة ختيل‬ ‫الباقي‪.‬‬ ‫يف روايايت‪ ،‬هناك عىل األقل نقطة واحدة اهتممت عندها‬ ‫بالقوائم‪ ،‬ببساطة ملا أصابني من ذهول بفعل اإلحساس بام ال‬

‫‪(1) Dante, Paradise, trans. Henry Francis Cary (London: Barfield, 1814), Canto 28,‬‬ ‫‪line 91-92.‬‬

‫‪211‬‬


‫اعرتافات روائي شاب‬

‫يوصف‪ .‬مل أكن أجتول يف الفردوس‪ ،‬مثل دانتي‪ ،‬بل عىل نحو‬ ‫أريض أكثر‪ ،‬كنت أزور الشعاب املرجانية يف بحار اجلنوب‪ .‬كان‬ ‫ذلك عند كتابتي لرواية "جزيرة اليوم السابق"‪ ،‬وتولد لدي‬ ‫االنطباع بأن اللسان البرشي ال يمكنه وصف الوفرة‪ ،‬والتنوع‪،‬‬ ‫واأللوان املذهلة ِ‬ ‫للشعاب واألسامك املوجودة يف هذه املنطقة‪ .‬لكن‬ ‫حتى إن كان بمقدوري فعل ذلك‪ ،‬فإن شخصية روايتي روبرتو‪،‬‬ ‫الذي حتطمت سفينته عند تلك السواحل‪ ،‬يف القرن السابع عرش‪،‬‬ ‫وربام كان أول إنسان‪ ،‬عىل اإلطالق‪ ،‬يزور تلك املنطقة‪ ،‬ما كان‬ ‫بمقدوره إجياد كلامت تعرب عن وجده وابتهاجه‪.‬‬ ‫كانت مشكلتي أن بحار اجلنوب حتمل تدرجات ال هنائية من‬ ‫الظالل (من رأوا الشعاب املرجانية الفقرية يف بحار أخرى‪ ،‬ال‬ ‫عل أن أضع األلوان يف‬ ‫يمكن أن يتصورا معنى قويل)‪ ،‬وكان َّ‬ ‫كلامت‪ ،‬مستخدما األداة البالغية املسامة بالوصف التصويري‬ ‫املؤثر‪ .‬كان التحدي يتمثل يف استدعاء قدر هائل التنوع من األلوان‬ ‫وصياغته يف قدر هائل من الكلامت‪ ،‬وعدم استخدام اللون نفسه‬ ‫مرتني‪ ،‬والبحث عن مرادفات‪.‬‬

‫‪212‬‬


‫قوائمي‬

‫ها هو ذا مقطع من قائمتي املزدوجة للشعاب املرجانية‬ ‫(واألسامك) والكلامت‪:‬‬ ‫بحار عىل ظهر سفينة يف‬ ‫لوهلة‪ ،‬مل ير غري بقع‪ ،‬بعد ذلك‪ ،‬مثل َّ‬ ‫ليلة يغشاها الضباب‪ ،‬فاجأه جرف صخري‪ ،‬ظهر أمامه‪ ،‬شديد‬ ‫االنحدار‪ ،‬ورأى حافة اهلاوية التي كان يسبح عندها‪.‬‬ ‫نزع القناع عن وجهه‪ ،‬أفرغه من املياه‪ ،‬ثم أعاد وضعها‪ ،‬ضاغطا‬ ‫عليها بيده‪ ،‬وبركالت بطيئة سبح متجها نحو املشهد الذي ملحه للتو‪.‬‬ ‫إذن‪ ،‬هذه هي الشعاب املرجانية‪ .‬كان ذاك انطباعه األول‪،‬‬ ‫وبحسب مالحظاته الالحقة‪ ،‬كان متحريا‪ ،‬ومنبهرا‪ .‬كان انطباعا‬ ‫أشبه بالتواجد يف متجر تاجر أقمشة‪ ،‬يعرض عليه احلرير الباذخ‪،‬‬ ‫والتافتاه‪ ،‬والديباج املطرز‪ ،‬والساتان‪ ،‬والدمقس‪ ،‬واملخمل‪،‬‬ ‫ورشائط ذات رشاشيب وحوايش زينة‪ ،‬وكذلك عباءات‪،‬‬ ‫وقلنسوات‪ ،‬وأردية‪ .‬لكنها مجيعا تنبض باحلياة‪ ،‬وباإلثارة احلسية‬ ‫للراقصات الرشقيات‪.‬‬ ‫يف هذا املشهد ـ الذي مل يصفه روبرتو‪ ،‬إذ برؤيته له ألول مرة‪ ،‬مل‬ ‫جيد يف ذاكرته صورا تساعده عىل أن ترتمجه إىل كلامت ـ تظهر فجأة‬

‫‪213‬‬


‫اعرتافات روائي شاب‬

‫جمموعة من الكائنات‪ ،‬والتي يعرفها بالتأكيد‪ ،‬أو عىل األقل‪ ،‬يمكنه‬ ‫أن يقارهنا بام سبق له أن رآها‪ .‬كانت أسامك‪ ،‬متقاطعة يف انطالقاهتا‪،‬‬ ‫مثل شهب يف سامء أغسطس‪ ،‬لكنها يف تكوينات وتوزيع درجاهتا‬ ‫اللونية ونقوش قشورها‪ ،‬بدا أن الطبيعة رغبت يف الربهنة عىل التنوع‬ ‫املوجود يف الكون‪ ،‬وكيف يمكن للكثري املتعدد أن يكون معا عىل‬ ‫سطح واحد‪.‬‬ ‫كان بعضها خمطط بألوان خمتلفة‪ ،‬طوليا أو منترشة‪ ،‬وكان لبعضها‬ ‫خطوط مائلة‪ ،‬وأخرى ذات خطوط منحنية‪ .‬بدا بعضها كام لو كانت‬ ‫جتميع ألجزاء خشبية مصنوعة من قطع موزعة برباعة‪ ،‬وبدت أخرى‬ ‫مرقطة أو مرقشة‪ ،‬وغريها مرقعة‪ ،‬مرشوشة‪ ،‬أو مغطاة بنقاط دقيقة‪،‬‬ ‫أو جمزعة كالرخام‪.‬‬ ‫كان للبعض اآلخر تصميم متعرج‪ ،‬أو نقوش تشبه سالسل‬ ‫متداخلة‪ ،‬والبعض ملطخ بالطالء‪ ،‬تتناثر عليه أشكال دروع وزهور‬ ‫صغرية‪ .‬وكانت إحداها‪ ،‬مجيلة بأكثر من الباقيات‪ ،‬حماطة برشائط‬ ‫تشكل صفني من العنب واحلليب‪ ،‬وكانت اإلعجاز أن الصف الذي‬ ‫ُييط بالبطن استمر عىل الزعنفة‪ ،‬كام لو كان ذلك من عمل فنان‪.‬‬ ‫فقط يف تلك اللحظة‪ ،‬برؤيته ملا وراء األسامك وتكوينات‬

‫‪214‬‬


‫قوائمي‬

‫الشعاب املرجانية‪ ،‬التي مل يتمكن من التعرف عليها يف البداية‪ ،‬كان‬ ‫بإمكان روبرتو رؤية سباطات من املوز‪ ،‬وسالل من اخلبز‪،‬‬ ‫وأحواض من أشجار البشملة الربونزية اللون‪ ،‬حتلق فوقها طيور‬ ‫الكناري‪ ،‬واألبراص‪ ،‬والطيور الطنانة‪.‬‬ ‫كان فوق حديقة‪ ،‬ال‪ ،‬كان خمطئًا‪ ،‬اآلن يراها‪ ،‬إهنا غابة متحجرة‪،‬‬ ‫ويف اللحظة التالية رآها ركاما‪ ،‬وثنايا‪ ،‬وشواطئ‪ ،‬وفلجات‪،‬‬ ‫وكهوف‪ ،‬ومنحدر واحد من األحجار املكسوة باحلياة؛ إذ سكنت‬ ‫عليها نباتات ال تنتمي هلذه األرض‪ ،‬رابضة عليها‪ ،‬أو ملتفة حوهلا‪،‬‬ ‫أو تتخذ شكل قشور‪ ،‬فبدت كأهنا ترتدي درعا مزردا‪ ،‬أو اختذت‬ ‫شكل ال ُع َقد‪ ،‬أو اللفائف‪ .‬ولكن عىل الرغم من اختالفها‪ ،‬فقد كانت‬ ‫مجيعها مذهلة يف مجاهلا وسحرها‪ ،‬إىل درجة أنه حتى تلك التي‬ ‫تراصت بإمهال واضح‪ ،‬وتشكلت بعشوائية‪ ،‬أظهرت حتجرها يف‬ ‫ً‬ ‫وحوشا‪ ،‬حقيقية‪ ،‬إنام وحوش من مجال‪.‬‬ ‫جالل‪ :‬كانوا‬ ‫أو أيضا (روبرتو يمحو ويراجع‪ ،‬غري قادر عىل الكتابة‪ ،‬مثل‬ ‫شخص عليه أن يصف دائرة مربعة ألول مرة‪ ،‬سهل ساحل‪ ،‬صمت‬ ‫صاخب‪ ،‬قوس قزح ليل) ما كان يراه هو شجريات السنابار[‪.]1‬‬ ‫]‪ [1‬السنابار‪ :‬أو الزنجفر‪ ،‬حجر معدني قرمزي‪ ،‬يحتوي على الزئبق‪[.‬املترجم]‬

‫‪215‬‬


‫اعرتافات روائي شاب‬

‫ربام‪ ،‬بعد أن حبس أنفاسه طويال‪ ،‬أصبح مشوشا‪ ،‬ونفذ املاء إىل‬ ‫قناعه فأ َّثر يف وضوح األشكال ودرجاهتا اللونية‪ .‬أخرج رأسه ليدع‬ ‫رئتيه تنسامن بعض اهلواء‪ ،‬واستأنف الطفو عىل طول حافة احلاجز‪،‬‬ ‫يتبع صدوعه وشقوقه‪ ،‬عرب ممرات طباشريية‪ ،‬تلتصق بجدراهنا‬ ‫نقوش مخرية‪ ،‬وعىل نتوء صخري رأى جراد بحر‪ ،‬مستقرا‪ُ ،‬يركه‬ ‫تنفس بطيئ‪ ،‬وتلوُيات من خمالبه‪ ،‬متوج بتخثر أبيض‪ ،‬فوق شبكة‬ ‫مرجانية (بدا هذا املرجان مثل املرجان الذي يعرفه‪ ،‬ولكنه منترش‬ ‫مثل اجلبن األسطوري لـفرا ستيفانو‪ ،‬الذي ال ينتهي أبدً ا)‪.‬‬ ‫ما يراه اآلن ليس سمكة‪ ،‬وليس ورقة شجر سابحة‪ .‬من املؤكد‬ ‫أنه كان شيئا ح ًيا‪ ،‬مثل رشُيتني عريضتني من مادة متيل إىل البياض‬ ‫ذات حواف قرمزية‪ ،‬وله مروحة من ريش‪ ،‬ويف املوضع الذي تتوقع‬ ‫وجود عيون فيه‪ ،‬هناك قرنان شمعيان‪.‬‬ ‫أظهرت أوراق الرسو‪ ،‬يف تلوهيا الدودي‪ ،‬اللون الوردي للحافة‬ ‫املركزية العظيمة‪ ،‬تداعب زروع منصبة ذات لون أمهق‪ ،‬وهلا غدد‬ ‫قطيفية؛ وأسامك املينو الوردية ذات النقط الزيتونية‪ ،‬تسبح بني أوراق‬ ‫قرنبيط رمادي‪ ،‬يعلوها رذاذ قرمزي‪ ،‬وظهورها خمططة بلون‬ ‫النحاس الداكن ‪ ...‬عند ذاك كان يمكنه رؤية الكبد الزعفراين‬

‫‪216‬‬


‫قوائمي‬

‫املسامي حليوان كبري‪ ،‬أو باألحرى نار صناعية من األرابيسك‬ ‫الزئبقي‪ ،‬خصالت من شوك تقطر ما يشبه الدم‪ ،‬و أخريا نوع من‬ ‫األصداف الرخوية يف شكل كأس ‪...‬‬ ‫ثم بدا له هذا الكأس مثل جرة‪ ،‬وفكَّر أن جثة األب كاسبار‬ ‫مدفونة بني تلك الصخور‪ .‬مل تعد اجلثة مرئية إذا كان املاء قد غطاها‬ ‫بالغرضوف املرجاين؛ لكن الشعاب املرجانية بامتصاصها‬ ‫ً‬ ‫أشكاال من الزهور‬ ‫للسخافات األرضية من اجلثة‪ ،‬قد افرتضت‬ ‫وحدائق الفاكهة‪ .‬ربام‪ ،‬بعد فرتة وجيزة‪ ،‬سيدرك أن الشيخ املسكني‬ ‫قد حتول إىل خملوق غريب هنا‪ :‬الرأس من ثمرة جوز اهلند املشعرة‪،‬‬ ‫تفاحتان ذابلتان للوجنتني‪ ،‬وحتولت العينان واجلفنان إىل ثمريت‬ ‫مشمش فجتني‪ ،‬أنف من عقد شوك تشبه روث احليوانات‪ ،‬حتته‪،‬‬ ‫بدالً من الشفتني‪ ،‬تني جاف‪ ،‬وللذقن ثمرة بنجر بساقها القذر‪،‬‬ ‫اخلرشوف املجعد للحنجرة‪ ،‬وللصدغني حبتا كستناء‪ ،‬لتكونا بمثابة‬ ‫وجزَ ر لألصابع‪،‬‬ ‫جتعيد جانبي‪ ،‬ولألذنني أنصاف اجلوز املنفلق‪َ ،‬‬ ‫وبطيخة للبطن‪ ،‬وسفرجل للركبتني(‪.)1‬‬ ‫‪(1) Umberto Eco, The Island of the Day Before, trans. William Weaver (New York:‬‬ ‫‪Harcourt, 1995), pp. 407-410 (ch. 32).‬‬ ‫سيلحظ القارئ الخبير‪ ،‬في العبارة الختامية للفقرة‪ ،‬ليس فقط وصفا تصويريا مؤثرا‪ ،‬لكن‬

‫‪217‬‬


‫اعرتافات روائي شاب‬

‫قوائم األشياء‪ ،‬واألشخاص‪ ،‬واألماكن‬ ‫ُيتشد تاريخ األدب بمجموعات استحواذية لألشياء‪ .‬تكون رائعة‬ ‫أحيانا‪ ،‬كتلك التي‪ ،‬وفقا ألريوستو[‪ ،]1‬عُ ثر عليها عىل القمر‪ ،‬بواسطة‬ ‫أستولفو[‪ ،]2‬الذي صعد إىل القمر من أجل استعادة عقل أورالندو‪.‬‬

‫وتكون ُمربكة يف أحيان أخرى‪ ،‬مثل قائمة املواد اخلبيثة‪ ،‬التي‬ ‫استخدمتها الساحرات يف الفصل الرابع يف مرسحية ماكبث‪ .‬ويف‬ ‫أحيان أخرى‪ ،‬تكون ما تثريه العطور من نشوات‪ ،‬كتلك املجموعة‬

‫من الزهور‪ ،‬التي يصفها جامباتيستا مارينو[‪ ]3‬يف قصيدته أدونيس‬ ‫(جزء‪ .)159 -115 ،6‬ويف بعض األحيان تكون قوائم ال قيمة هلا‪،‬‬ ‫ولكنها مهمة‪ ،‬كتلك التي تضم حطام السفينة‪ ،‬الذي أعان‬ ‫أيضا تصويرا بالغيا لعمل فني‪ :‬هو وصف للوحة أرسيمبولدو‪ ،‬التي تصور رأس رجل‬ ‫مكون من ثمار ‪( .‬إكو)‬ ‫]‪ [1‬لودفيجو أريوستو‪ ( 1533 -1474( :‬شاعر إيطالي‪ ،‬اشتهر بوصفه صاحب القصيدة‬ ‫امللحمية "أورالندو فوريوسو" (‪ .)1516‬وفيها يصف مغامرات شارملان وأورالندو‬ ‫والفرنجيين‪ ،‬خالل معاركهم ضد املسلمين‪[ .‬املترجم]‬ ‫]‪ [2‬أستولفو‪ :‬شخصية خيالية في ملحمة "أورالندو فوريوسو" ألريوستو‪ ،‬يذهب بمساعدة‬ ‫سحرية إلى القمر‪ ،‬حيث تذهب كل األشياء املفقودة على األرض‪ ،‬وهناك عثر على عقل‬ ‫أورالندو محفوظا في زجاجة‪[ .‬املترجم]‬ ‫أبرز‬ ‫شعراء عصر الباروك وتعد‬ ‫]‪ [3‬جامباتيستا مارينو‪ ،)1625 -1569( :‬شاعر إيطالي‪ ،‬من‬ ‫"أدونيس" من روائع قصائده‪[ .‬املترجم]‬

‫‪218‬‬


‫قوائمي‬

‫روبنسون كروزو عىل البقاء حيا يف جزيرته‪ ،‬أو كالكنز املتواضع‪،‬‬ ‫الذي أخرب مارك توين أن توم سوير مجعه‪ .‬ويف أحيان أخرى‪ ،‬تكون‬ ‫عادية بنحو مشوش للذهن‪ ،‬كتلك املجموعة اهلائلة لألشياء غري‬ ‫املهمة يف مطبخ ليوبولد بلوم‪ .‬وتكون أحيانا مثرية للمشاعر‪ ،‬برغم‬ ‫أهنا تشبه معروضات متحف‪ ،‬فغالبا ما تكون كئيبة وجامدة‪،‬‬ ‫كمجموعة اآلالت املوسيقية التي وصفها توماس مان‪ ،‬يف الفصل‬ ‫السابع من روايته دكتور فاوست‪.‬‬ ‫األمر نفسه بالنسبة لألماكن‪ .‬مرة أخرى‪ ،‬يلجأ الكاتب إىل تعبري‬ ‫"إىل آخره" يف القائمة‪ .‬يقدم لنا ِسفر حزقيال ‪ 27‬قائمة باملمتلكات‪،‬‬ ‫ليعطينا فكرة عن عظمة مدينة ُصور‪ .‬وجياهد شارلز ديكنز‪ ،‬يف‬ ‫الفصل األول من روايته البيت املوحش‪ ،‬لتقديم صورة للندن‬ ‫بمالمح خفية بفعل الضباب الذي يغشى املدينة‪ .‬ويوجه إدجار‬ ‫آالن بو نظرته الفاحصة‪ ،‬يف قصته "رجل من احلشد"‪ ،‬إىل سلسلة‬ ‫من الشخصيات يصورهم بإجياز "كحشد"‪ .‬كام يستحرض‬ ‫بروست‪ ،‬يف روايته (طريقة سوان‪ ،‬الفصل الثالث) مدينة طفولته‪.‬‬ ‫وإيتالو كالفينو (مدن ال مرئية‪ ،‬الفصل التاسع) يستدعي املدن التي‬

‫‪219‬‬


‫اعرتافات روائي شاب‬

‫حلم هبا اخلان األعظم‪ .‬وبليز ساندررز‪ ،‬يف قصيدته (نثر عرب‬ ‫سيربيا) يصف الضجيج الذي ُيدثه القطار عرب السهول السيبريية‪،‬‬ ‫من خالل تذكر العديد من األماكن‪ .‬ويراكم وايتامن ـ الذي اعتُرب‬ ‫الشاعر الذي تفوق‪ ،‬واألكثر إفراطا‪ ،‬يف تأليف القوائم التي تصيب‬ ‫بالدوار ـ األشياء فوق بعضها البعض من أجل االحتفاء بقريته‬ ‫ومسقط رأسه‪:‬‬ ‫الفأس متتد!‬ ‫الغابة الصلبة تفيض بالكلامت السائلة‬ ‫إهنا ُهتوي‪ ،‬وتصعد متشكلة‬ ‫كوخ‪ ،‬خيمة‪ ،‬مرفأ‪ ،‬خريطة مساحية‬ ‫مدراس حنطة‪ ،‬حمراث‪ ،‬معول‪ ،‬عتلة‪ ،‬جمرفة‬ ‫لوح خشبي‪ ،‬سياج‪ ،‬دعامة‪ ،‬كسوة خشبية‪ ،‬مصباح‪ ،‬رشُية‬ ‫خشبية‪ ،‬لوح رسم‬ ‫قلعة‪ ،‬سقف‪ ،‬صالون‪ ،‬أكاديمية‪ ،‬قاعة عرض‪ ،‬مكتبة‬ ‫كورنيش‪ ،‬تعريشة‪ ،‬عمود متوج‪ ،‬رشفة‪ ،‬نافذة‪ ،‬برج‪ ،‬رواق‬

‫‪220‬‬


‫قوائمي‬

‫جمرفة‪ ،‬مكنسة العشب‪ ،‬مذراة‪ ،‬قلم رصاص‪ ،‬عربة‪ ،‬سارية‪،‬‬ ‫منشار‪ ،‬مسحجة‪ ،‬مطرقة‪ ،‬اسفني‪ ،‬مقبض‬ ‫مقعد‪ ،‬حوض‪ ،‬طوق‪ ،‬منضدة‪ ،‬باب صغري‪ ،‬دليل رياح‪ ،‬إطار‬ ‫نافذة‪ ،‬أرضية‬ ‫صندوق أدوات‪ ،‬خزانة‪ ،‬آلة وترية‪ ،‬قارب‪ ،‬إطار‪ ،‬وما شابه‬ ‫برملانات الواليات‪ ،‬وبرملان األمة‬ ‫الصفوف املرتاصة بفخامة يف الطرق‪ ،‬مشايف لليتامى والفقراء‬ ‫واملرىض‬ ‫زوارق ماهناتن البخارية واملراكب الرشاعية جتوب البحار‬

‫(‪)1‬‬

‫بالنظر إىل الرتاكامت املتعلقة باألماكن‪ ،‬يف رواية ثالثة وتسعني‪،‬‬ ‫لفيكتور هوجو (جزء ‪ ،1‬فصل ‪ )3‬نجد قائمة مفردة ملواضع يف‬ ‫مقاطعة فنديي‪ ،‬يرسدها املاركيز دو النتوناك شفاهيا للبحار هاملالو‪،‬‬ ‫لكي ينتقل عربها مجيعا‪ ،‬حامال األمر بالتمرد‪ .‬من الواضح أن‬ ‫‪(1) Walt Whitman, Leaves of Grass, Part 12, "Song of the Broad-Axe." See in‬‬ ‫‪particular the chapter devoted to Whitman in Robert E. Bel;nap, The List‬‬ ‫‪(New Haven: Yale University Press, 2004).‬‬

‫‪221‬‬


‫اعرتافات روائي شاب‬

‫املسكني ال يمكنه بحال أن يتذكر تلك القائمة اهلائلة‪ ،‬ومن املؤكد‬ ‫أن هوجو ال يتوقع أن يتذكرها القارئ أيضا‪ .‬لقد ُصممت تلك‬ ‫القائمة الضخمة بأسامء األماكن‪ ،‬ببساطة‪ ،‬لتدل عىل ضخامة التمرد‬ ‫الشعبي‪.‬‬ ‫قائمة أخرى مذهلة لألماكن‪ ،‬كان هلا دورها عند جيمس‬

‫جويس‪ ،‬يف الفصل املعنون "آنَّا ليفيا بلورابل" يف روايته يقظة‬ ‫فينيجان‪ ،‬حيث نجده‪ ،‬من أجل إعطاء إحساس بتدفق هنر ليفي‪،‬‬ ‫يرسد جويس أسامء مئات من األهنار‪ ،‬من كافة أنحاء العامل‪ ،‬خفية‬ ‫مثل تورية أو منحوتة من لفظني‪ .‬ليس من السهل عىل القارئ‬ ‫معرفة تلك األهنار غري املعروفة باالسم‪ ،‬مثل‪ :‬شيب‪ ،‬فاط‪ ،‬بان‪،‬‬ ‫دك‪ ،‬سابراين‪ ،‬تيل‪ ،‬واج‪ ،‬بومو‪ ،‬بويانا‪ ،‬تشو‪ ،‬باثا‪ ،‬سكوليس‪،‬‬ ‫شاري‪ ،‬سو‪ ،‬توم‪ ،‬تشيف‪ ،‬سري‪ ،‬داريا‪ ،‬الدر‪ ،‬برين‪ ،‬وهكذا‪ .‬وحيث‬ ‫أن ترمجة "آنَّا ليفيا" متاحة غالبا‪ ،‬فربام يظهر مرجع هنر بعينه‪ ،‬يف‬ ‫النسخة املرتمجة إىل لغة أجنبية‪ ،‬يف موضع خمتلف عن موضعه يف‬ ‫النص األصل‪ ،‬وربام خيتلف بالكلية‪ .‬يف الرتمجة اإليطالية األوىل‪،‬‬ ‫التي ُأنجزت بالتعاون مع جيمس جويس نفسه‪ ،‬هناك إشارات‬

‫‪222‬‬


‫قوائمي‬

‫مرجعية إىل أهنار إيطالية‪ ،‬مثل‪ :‬سرييو‪ ،‬بو‪ ،‬سريشيو‪ ،‬بياف‪ ،‬كونكا‪،‬‬ ‫آنيني‪ ،‬أومربون‪ ،‬المربو‪ ،‬تارو‪ ،‬توكو‪ ،‬بيلبو‪ ،‬سيلالرو‪ ،‬تاليمنتو‪،‬‬ ‫المون‪ ،‬بريمبو‪ ،‬تريبيو‪ ،‬مينسيو‪ ،‬تيدون‪ ،‬و بانارو ـ ال يوجد أي‬ ‫منها يف النسخة اإلنجليزية(‪ )1‬األمر نفسه حدث مع الرتمجة‬ ‫الفرنسية التارخيية األوىل‪.‬‬

‫(‪)2‬‬

‫تعطي هذه القائمة االنطباع بأهنا ال هنائية‪ .‬ليس فقط أن عىل‬ ‫القارئ أن يبذل جهدا من أجل التعرف عىل كل تلك األهنار‪ ،‬بل إن‬ ‫املرء يشك يف أن النقاد قد يتعرفون عىل أهنار أكثر من تلك التي‬ ‫ذكرها جويس‪ .‬ويشك املرء كذلك‪ ،‬كنتيجة لالحتامالت التوافقية‬ ‫التي تقدمها األبجدية اإلنجليزية‪ ،‬أن هناك أهنار أكثر مما فكر فيه‬ ‫النقاد وجويس معا‪.‬‬ ‫يصعب تصنيف مثل هذا النوع من القوائم‪ .‬إهنا تنبع من النَّهم‪،‬‬

‫‪(1) James Joyse, "Anna Livia Plurabelle", trams. James Joyse and Nino Frank‬‬ ‫‪(1938), reprinted in Joyse, Scritti italiani ( Milan: Mondadori, 1979).‬‬ ‫‪(2) James Joyse, "Anna Livia Plurabelle", trams. Samuel Beckett, Alfred PerronK‬‬ ‫‪philippe Soupault, Paul Leon, Eugene Jolas, Ivan Goll, and Adrienne Monnier,‬‬ ‫‪with the collaporation of Joyse, Nouvelle Revue Francaise, May 1, 1931.‬‬

‫‪223‬‬


‫اعرتافات روائي شاب‬

‫من املجموعات غري القابلة للوصف (ال يستطيع أحد حتديد عدد‬ ‫األهنار املوجودة يف العامل)‪ ،‬ومن حب جارف للقوائم‪ .‬البد وأن‬ ‫جويس بذل الكثري من اجلهد‪ ،‬عىل مدى طويل‪ ،‬من أجل العثور‬ ‫عىل أسامء تلك األهنار‪ ،‬وساعده يف ذلك الكثري من املعاونني‪ .‬من‬ ‫املؤكد أنه مل يقم بذلك بدافع من حب اجلغرافيا‪ .‬املحتمل أنه مل‬ ‫يرغب يف أن تكون للقائمة هناية‪.‬‬ ‫يف هناية األمر‪ ،‬نحن نلمح مكان األمكنة‪ :‬العامل يف جممله‪ .‬ينظر‬ ‫إليه بورخس‪ ،‬يف قصته "األلف"‪ ،‬عرب شق صغري‪ ،‬ويراه كقائمة‬ ‫ُقدر هلا أال تكون مكتملة ـ قائمة باألماكن‪ ،‬والناس‪ ،‬والطقوس‬ ‫املزعجة‪ .‬إنه يرى املحيط الزاخر‪ ،‬الفجر والغسق‪ ،‬وحشود‬ ‫األمريكتني‪ ،‬شبكة عنكبوت فضية يف مركز هرم معتم‪ ،‬متاهة‬ ‫متصدعة (يتضح أهنا مدينة لندن)‪ ،‬سلسلة ال هنائية من العيون التي‬ ‫ُينظر إليها من قرب‪ ،‬وكل املرايا املوجودة يف الكون‪ ،‬وساحة خلفية‬ ‫يف شارع سولري‪ ،‬جيد فيه نفس البالطات التي رآها منذ عرشين‬ ‫عاما يف مدخل منزل يف فاري بنتوس‪ ،‬وعناقيد عنب‪ ،‬وثلج‪،‬‬ ‫وسجائر‪ ،‬وعروق معدنية‪ ،‬وبخار ماء‪ ،‬وصحراوات استوائية حمدَّ بة‬

‫‪224‬‬


‫قوائمي‬

‫وكل حبة رمل فيها‪ ،‬وامرأة يف مدينة إنفرينس‪ ،‬وشعرها املتشابك‪،‬‬ ‫وجسدها البهي‪ ،‬ورسطان ينخر ثدهيا‪ ،‬ودائرة من الرتاب اجلاف‬ ‫عىل جانب الطريق حيث كانت شجرة يوما ما‪ ،‬ومنزل ريفي يف‬ ‫أدروجي‪ ،‬ونسخة من الرتمجة اإلنجليزية األوىل لكتاب بليني‬

‫[‪]1‬‬

‫وكل حرف يف كل صفحة معا‪ ،‬والليل والنهار متزامنني‪ ،‬والغروب‬ ‫يف مدينة كرييتارو‪ ،‬حيث يعكس ألوان وردة يف البنجال‪ ،‬وغرفة‬ ‫نومه الفارغة‪ ،‬غرفة مكتب يف الكامار‪ ،‬حتتوي عىل كرة أرضية‬ ‫بأرضه وبحاره‪ ،‬وضعت بني مرآتني تضاعفان صورهتا إىل ما ال‬ ‫هناية‪ ،‬وخيول تلهب ريح الفجر أعرافها عىل شاطئ بحر كاسبينا‪،‬‬ ‫وعظام يد هشة‪ ،‬وناجون من معركة يرسلون بطاقات بريدية‪،‬‬ ‫وبطاقات التاروت يف نافذة متجر يف مريزابور‪ ،‬وانحناءات ظالل‬ ‫أعشاب الرسخس عىل أرضية دفيئة‪ ،‬ونمور‪ ،‬ومكابس‪ ،‬وثريان‪،‬‬ ‫وظواهر مد وجذر‪ ،‬وجيوش‪ ،‬وكل النامل عىل وجه األرض‪،‬‬ ‫واسطرالب فاريس‪ ،‬ودرج مكتب ُيوي رسائل فاحشة ومذهلة‬

‫]‪ [1‬گايوس پلينيوس سِـكوندوس‪ ،‬أشتهر بأسم پليني األكبر‪ ،‬عالم إيطالي‪ ،‬كتب الكثير من‬ ‫ً‬ ‫مجلدا من التاريخ‬ ‫األعمال التاريخية والفنية التي لم يتبق منها سوى ‪37‬‬ ‫الطبيعي‪[.‬املترجم]‬

‫‪225‬‬


‫اعرتافات روائي شاب‬

‫التفاصيل‪ ،‬كتبتها صديقته احلميمة بياتريس فيرتبو‪ ،‬أثر حمبوب يف‬ ‫مقربة شاكاريتا‪ ،‬للبقايا املتحللة ملا كانت يوما بياتريس اللذيذة‪،‬‬ ‫الدورة الدموية اخلاصة بدمائها الداكنة‪ ،‬لفائف ونوابض احلب‬ ‫وتبدالت املوت‪ .‬كان يرى األلِف ـ نقطة يف الفضاء حتوي كل‬ ‫النقاط ـ من كل اجلهات معا‪ ،‬األرض يف األلف‪ ،‬واأللف بدورها‬ ‫يف األرض‪ ،‬واألرض يف األلف‪ .‬يرنو إىل وجهه وإىل أحشائه‪ ،‬يشعر‬ ‫بالدوار‪ ،‬ويبكي‪ ،‬إذ رأت عيناه ذلك الرس‪ ،‬موضوع افرتايض‪،‬‬ ‫استوىل الرجال عىل اسمه‪ ،‬لكن أحدا منهم مل يعتربه حقا‪ :‬كون ال‬ ‫يمكن تصوره (‪.)1‬‬ ‫لقد كنت مفتونا دوما بمثل تلك القوائم ـ وأرى أنني يف صحبة‬ ‫جيدة‪ ،‬من املؤكد أن ذلك كان بتأثري بورخيس الذي قمت بتجربته‪،‬‬ ‫يف رواية باودولينو‪ ،‬لتأليف جغرافيا متخ َّيلة‪ .‬يصف باودلوينو‬ ‫روعة الغرب البن بريسرت جون‪ ،‬املجذوم الذي يواجه موتا حمققا‬ ‫بسبب مرضه‪ ،‬والذي يعيش يف عزلة‪ ،‬يف مدينة رشقية أسطورية‬

‫)‪ (1‬اعتمدت في مجموعتي على ترجمة أندرو هيرلي لكتابه أعمال مختارة لخورخي لويس‬ ‫بورخيس (‪( .)New York: Viking, 1998‬إكو)‬

‫‪226‬‬


‫قوائمي‬

‫بعيدة‪ .‬من ثم‪ ،‬فإنه خيرب عن أماكن وأشياء العامل الغريب بنفس‬ ‫الطريقة الرائعة التي كان يرى هبا العامل الغريب‪ ،‬يف القرون الوسطى‪،‬‬ ‫الرشق األقىص‪:‬‬ ‫رحت أصف له األماكن التي زرهتا‪ ،‬من راتيسبون إىل باريس‪،‬‬ ‫ومن فيينا إىل بيزنطة‪ ،‬ثم قونيه وأرمينيا‪ ،‬والشعوب التي التقيناها‬ ‫خالل ر حلتنا‪ .‬كان مقدرا له أن يموت دون أن يرى شيئا عدا‬ ‫كهوف بنداتزيم‪ ،‬فحاولت أن أبث فيه احلياة بحكايايت‪ .‬ولعل‬ ‫اختلقت بعضها‪ ،‬فحدثته عن مدن مل أزرها‪ ،‬ومعارك مل أخضها‪،‬‬ ‫وأمريات مل أعرفهن‪ .‬حكيت له عن عجائب األرض التي متوت‬ ‫عندها الشمس‪ .‬جعلته يستمتع بغروب الشمس يف بروبونتيس‪،‬‬ ‫وألق الالزورد يف مياه البندقية‪ ،‬وادي هيبرينا‪ ،‬حيث تقبع سبع‬ ‫كنائس بيضاء عىل ضفاف بحرية ساكنة‪ ،‬وصفت له جبال األلب‬ ‫وهي تتغطى بامدة بيضاء ناعمة‪ ،‬تذوب يف الصيف لتصري‬ ‫شالالت هائلة‪ ،‬تتفرع أهنارا وجداول جتتاز املنحدرات الغنية‬ ‫بأشجار الكستناء‪ ،‬وأخربته عن صحاري امللح التي متتد بطول‬ ‫سواحل أبوليا‪ ،‬واقشعر بدنه لوصفي للبحار التي مل أبحر عربها‪،‬‬ ‫تتقافز فيها أسامك بحجم العجول‪ ،‬لكنها أليفة حتى أنه يمكن‬

‫‪227‬‬


‫اعرتافات روائي شاب‬

‫للرجال أن يمتطوهنا‪ ،‬وقصصت عليه أحداث رحلة القديس‬ ‫برندان إىل اجلزر املباركة‪ ،‬وكيف أنه ارتقى يف أحد األيام‪ ،‬ظنا منه‬ ‫أنه وصل إىل أرض يف قلب البحر‪ ،‬ظهر حوت‪ ،‬وهو سمكة يف‬ ‫عل أن‬ ‫حجم جبل‪ ،‬يمكنها أن تبتلع سفينة بأكملها‪ ،‬لكن كان َّ‬ ‫أرشح له ما هي السفن‪ :‬سمكة مصنوعة من اخلشب خترتق‬ ‫األمواج‪ ،‬بينام ترفرف عليها أجنحة بيضاء‪ ،‬ورسدت عليه قائمة‬ ‫باحليوانات العجيبة يف بالدي‪ :‬األيل‪ ،‬الذي يملك قرنني كبريين‬ ‫عىل هيئة صليب‪ ،‬وطائر اللقلق‪ ،‬الذي يطري بني أرض وأخرى‪،‬‬ ‫ويرعى أبويه عندما يكربان‪ُ ،‬يملهام عىل ظهره ويطري هبام‪،‬‬ ‫والبقة‪ ،‬التي تشبه نبات الفطر‪ ،‬محراء منقطة ببقع حليبية اللون‪،‬‬ ‫والسحلية التي تشبه التمساح‪ ،‬لكنها صغرية إىل حد أنه يمكنها‬ ‫املرور حتت عقب الباب‪ ،‬وطائر الوقواق‪ ،‬الذي يبيض يف‬ ‫أعشاش الطيور األخرى‪ ،‬والبومة‪ ،‬التي تبدو عيناها الدائريتني‬ ‫يف الليل كمصباحني‪ ،‬وتتغذى عىل زيت القناديل املعلقة يف‬ ‫الكنائس‪ ،‬والقنفذ‪ ،‬الذي يتغطى ظهره بأشواك حادة‪ ،‬ويمتص‬ ‫حليب األبقار‪ ،‬واملحار‪ ،‬صندوق جواهر حي‪ ،‬ينتج مجاال ميتا‪،‬‬ ‫ولكن ذو قيمة فائقة‪ ،‬والعندليب‪ ،‬الذي يظل يقظا يغني‪ ،‬وُييا‬ ‫مدرع بالقشور احلمراء‬ ‫هائام باألزهار‪ ،‬والسلطعون‪ ،‬وحش َّ‬

‫‪228‬‬


‫قوائمي‬

‫كاللهب‪ ،‬يسبح القهقرى حني يفر من الصيادين الشغوفني‬ ‫بمذاق حلمه‪ ،‬وثعبان البحر‪ ،‬املرعب‪ ،‬السمني لذيذ الطعم‪،‬‬ ‫والنورس‪ ،‬الذي ُيلق فوق البحار مثل مالك ساموي‪ ،‬لكنه‬ ‫يطلق رصخة حادة كالشيطان‪ ،‬والشحرور األسود ذو املنقار‬ ‫األصفر‪ ،‬ويتحدث كالبرش‪ ،‬متملق يردد أرسار سيده‪ ،‬والبجعة‪،‬‬ ‫التي ختوض بأهبة ملكية يف املياه الضحلة‪ ،‬وتغني عند موهتا حلنا‬ ‫عذبا‪ ،‬وابن عرس‪ ،‬املتموج يف ليونة كالصبية اللعوب‪ ،‬والصقر‪،‬‬ ‫الذي ينقض من عليائه عىل فريسته‪ ،‬ويعود هبا إىل فارسه الذي‬ ‫دربه‪ .‬أختيل روعة اجلواهر التي مل يرها قط ـ وال أنا ـ والقطع‬ ‫األرجوانية واحلليبية اللون من املزهريات املورينية‪ ،‬والعروق‬ ‫الوردية والبيضاء يف حجر مرصي‪ ،‬والبياض الشاهي ملعدن‬ ‫األوريكالكوم‪ ،‬وشفافية الكريستال‪ ،‬وبريق املاس‪ ،‬عندئذ‬ ‫رشعت يف اإلنشاد يف مدح روعة الذهب‪ ،‬معدن طري يمكن‬ ‫تشكيله كهيئة ورقة شجر مجيلة‪ ،‬وهسيس املشغوالت الفضية‬ ‫حني توضع يف املاء لتربيدها‪ ،‬واملذاخر التي ال يمكن تصورها‪،‬‬ ‫وال تُرى إال يف ذخائر األديرة العظيمة‪ ،‬وارتفاع األبراج املدببة‬ ‫لكنائسنا‪ ،‬وقدر علو واستقامة أعمدة مضامر سباق اخليل يف‬ ‫القسطنطينية‪ ،‬والكتب التي يقرأها اليهود‪ ،‬تزينها عالمات تبدو‬

‫‪229‬‬


‫اعرتافات روائي شاب‬

‫كاحلرشات‪ ،‬واألصوات التي يصدروهنا عند قراءهتم هلا‪ ،‬وكيف‬ ‫تلقى ملك مسيحي من أحد اخللفاء املسلمني ديكا حديديا‪،‬‬ ‫يصيح من تلقاء نفسه عند رشوق الشمس‪ ،‬والكرة التي تدور‬ ‫وهي تنفث البخار‪ ،‬وكيف تشعل مرايا أرشميدس احلريق‪ ،‬وكم‬ ‫هو خميف رؤية طاحونة هواء يف ظلمة الليل‪ ،‬وأخربته أيضا عن‬ ‫الكأس املقدسة‪ ،‬وعن الفرسان الذين ما زالوا يبحثون عنها يف‬ ‫بريتاين‪ ،‬وعنَّا‪ ،‬كيف سنسلمها إىل أبيه بمجرد أن نعثر عىل‬ ‫زوسيموس الذي ال يوصف‪ .‬ملا تبني يل أن تلك األشياء الرائعة‬ ‫قد فتنته‪ ،‬وأن استحالة نواهلا قد أحزنه‪ ،‬فكرت يف إقناعه بأن‬ ‫هناك ما هو أسوأ مما يعانيه‪ ،‬بإخباره عام القاه أندرونيكوس من‬ ‫عذاب‪ ،‬بتفاصيل تفوق كثريا ما حدث له بالفعل‪ ،‬ومذبحة مدينة‬ ‫كريام‪ ،‬واألرسى الذين ُقطعت أيدهيم‪ ،‬وآذاهنم‪ ،‬وأنوفهم‪،‬‬ ‫ووضعت أمام ناظريه صور أمراض ال يبلغها الوصف‪ ،‬يبدو‬ ‫ُ‬ ‫اجلذام بالنسبة هلا أقل بؤسا‪ ،‬وأخربته كم هو فظيع إىل درجة‬ ‫حلم َرة‪ ،‬ومرض‬ ‫رهيبة التهاب العقد الليمفاوية‪ ،‬ومرض ا ُ‬ ‫الرقاص‪ ،‬ومرض اهلربس الناري‪ ،‬وعضة العنكبوت الذئبي‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫جل َرب‪ ،‬الذي جيعلك حتك كل موضع يف جلدك‪ ،‬والتأثري‬ ‫وا َ‬ ‫اخلبيث ألفعى الصل‪ ،‬وتعذيب القديس أجاثا‪ ،‬الذي قطعت‬

‫‪230‬‬


‫قوائمي‬

‫أثداؤه‪ ،‬والقديس لويس‪ ،‬الذي ُفقأت عيناه‪ ،‬والقديس ستيفن‪،‬‬ ‫الذي ٌحطمت مججمته باألحجار‪ ،‬والقديس لورانس‪ ،‬الذي‬ ‫أحرق فوق نار هادئة‪ ،‬واختلقت قصصا عن قديسني وفظائع‬ ‫أخرى‪ ،‬مثل القديس أورسيسينوس الذي ُأدخل اخلازوق يف‬ ‫دبره و ُأخرج من فمه‪ ،‬والقديس سارابيون‪ ،‬الذي ُسلخ جلده‪،‬‬ ‫والقديس موبسويستوس‪ ،‬الذي ربطت أطرافه األربعة بأربعة‬ ‫فج َّن ثم تقطعت أوصاله أربعة أجزاء‪ ،‬والقديس‬ ‫خيول‪ُ ،‬‬ ‫دراكونتيوس‪ ،‬الذي أجرب عىل جترع القار املغل ‪ ....‬بدا يل أن ذكر‬ ‫تلك األمور الرهيبة قد أراحه‪ ،‬لكني خشيت حينئذ من أن أكون‬ ‫قد بالغت كثريا‪ ،‬ومن ثم رشعت يف أن أحكي له عن اجلانب‬ ‫اجلميل من العامل‪ ،‬والتي غالبا ما تكون عزاء للسجني‪ :‬عن رشاقة‬ ‫الفتيات الباريسيات‪ ،‬والرتف الكسول لغانيات فينيسيا‪ ،‬والبرشة‬ ‫التي ال تضاهى إلمرباطورة‪ ،‬والضحكة الطفولية لكوالندرينا‪،‬‬ ‫وعيني أمرية بعيدة‪ .‬أثاره ذلك‪ ،‬وطلب مني أن أحكي له املزيد‪،‬‬ ‫راغبا يف معرفة كيف كان َشعر ماليسندا‪ ،‬كونتيسة طرابلس‪،‬‬ ‫فتن فرسان بروسليندا بأكثر من‬ ‫وشفاه وافرات اجلامل الالئي َّ‬ ‫افتتاهنم بالكأس املقدسة ذاهتا‪ .‬أثاره ذلك‪ ،‬ليغفر يل الرب‪ ،‬أظنه‬ ‫قد بلغ حد الشهوة‪ ،‬مرة أو مرتني‪ .‬وإضافة إىل ذلك‪ ،‬حاولت‬

‫‪231‬‬


‫اعرتافات روائي شاب‬

‫إفهامه كيف أن العامل غني بالتوابل ذات الروائح الواهنة‪ ،‬وملا مل‬ ‫يكن معي شيئا منها‪ ،‬حاولت تذكر أسامء التوابل التي كنت‬ ‫أعرفها‪ ،‬وتلك التي سمعت عنها فقط‪ ،‬كلامت سوف تصيبه‬ ‫بالثاملة كام العطور‪ ،‬وعددت له‪ :‬املاالبسرت‪ ،‬والبخور‪ ،‬والناردين‪،‬‬ ‫وحب اهلال‪،‬‬ ‫والعوسج‪ ،‬والصندل‪ ،‬والزعفران‪ ،‬والزنجبيل‪َ ،‬‬ ‫واجلدوار‪ ،‬والغار‪ ،‬واملردقوش‪ ،‬والكزبرة‪َ ،‬‬ ‫والش َبت‪ ،‬والزعرت‪،‬‬ ‫والقرنفل‪ ،‬والسمسم‪ ،‬واخلشخاش‪ ،‬وجوز ال ِّطيب‪ ،‬وإذخر‬ ‫الشامس‪ ،‬وهو عىل‬ ‫إيل َّ‬ ‫الليمون‪ ،‬والكركم‪ ،‬والكمون‪ .‬أنصت َّ‬ ‫الو َله‪ ،‬حتسس وجهه‪ ،‬كام لو أن أنفه املسكني غري قادر عىل‬ ‫شفا َ‬ ‫حتمل كل هذه الروائح‪ ،‬وتساءل‪ ،‬وهو يبكي‪ ،‬ماذا أعطوه من‬ ‫طعام حتى اآلن‪ ،‬أولئك اخلصيان امللعونني‪ ،‬بذريعة أنه مريض‪،‬‬ ‫غري لبن املاعز واخلبز املنقوع يف البورق‪ ،‬الذي ادعوا أنه مفيد‬ ‫ملرىض اجلذام‪ ،‬وقىض أيامه مذهوال‪ ،‬نائام يف معظم األحيان‪ ،‬ويف‬ ‫فمه املذاق نفسه‪ ،‬يوما بعد آخر(‪.)1‬‬

‫‪(1) Umberto Eco, Baudolino, trans. William Weaver (New York: Harcourt Brace,‬‬ ‫‪2001), 31.‬‬

‫‪232‬‬


‫قوائمي‬

‫قاعات العجائب واملتاحف‬ ‫إن القائمة املصورة (كتالوج) للمتحف تعترب مثاال للقائمة‬ ‫العملية‪ ،‬التي تشري إىل األشياء املوجودة يف مكان معد مسبقا‪،‬‬

‫وهي‪ ،‬بالتايل‪ ،‬هنائية بالرضورة‪ .‬ولكن ماذا نعترب املتحف يف حد‬ ‫ذاته‪ ،‬أو أي جمموعات أخرى؟ باستثناء بعض احلاالت شديدة‬ ‫الندرة ملجموعات تتضمن كل األشياء املنتمية إىل نوع حمدد (عىل‬ ‫سبيل املثال‪ :‬كل ـ وأنا أعني فعال كل ـ األعامل الفنية لفنان معني)‪،‬‬ ‫فإن املجموعة تظل دائام مفتوحة‪ ،‬ويمكن هلا أن تتسع للمزيد من‬ ‫العنارص اإلضافية‪ ،‬خاصة إذا كانت املجموعة تتأسس عىل ميل ـ‬ ‫كام يمكن للمرء أن يقول عن جمموعة تضم النبالء الرومان‪ ،‬و‬ ‫لوردات العصور الوسطى‪ ،‬واملتاحف احلديثة ـ إىل إنشاء تراكامت‬ ‫تتزايد إىل ما ال هناية‪ .‬رغم أن املتحف يعرض عددا هائال من‬ ‫األعامل الفنية‪ ،‬إال أنه يعطي االنطباع بأهنا أكثر عددا من ذلك‪.‬‬ ‫إضافة إىل ذلك‪ ،‬فيام عدا بعض احلاالت اخلاصة‪ ،‬فإن‬ ‫املجموعات تكون دائام غري متناغمة‪ .‬سيصاب املسافر الفضائي‪،‬‬

‫‪233‬‬


‫اعرتافات روائي شاب‬

‫غري العليم بمفاهيمنا عن الفن‪ ،‬بالدهشة ويتساءل عن سبب ضم‬ ‫متحف اللوفر لبعض األشياء شائعة االستعامل؛ مثل‪ :‬املزهريات‪،‬‬ ‫واألطباق‪ ،‬أو أوعية امللح‪ ،‬ومتاثيل آهلة مثل متثال فينوس دي ميلو‪،‬‬ ‫وصور مناظر طبيعية‪ ،‬وصورا شخصية ألناس عاديني‪ ،‬وآثار‬ ‫جنائزية‪ ،‬ومومياوات‪ ،‬وصور كائنات متوحشة‪ ،‬ومستلزمات‬ ‫عبادة‪ ،‬وصور أناس ُي َّ‬ ‫عذبون‪ ،‬ولوحات تصور املعارك‪ ،‬ولوحات‬ ‫لعاريات‪ُ ،‬قصد هبا إثارة الشهوة‪ ،‬وحفريات‪.‬‬ ‫وبام أن تلك املعروضات بالغة التنوع‪ ،‬وألنه يمكن للمرء أن‬ ‫يتخيل كيف يكون حاله وهو حماط هبا يف الليل‪ ،‬يمكن للمتحف أن‬ ‫يشكل جتربة مرعبة‪ ،‬ينشأ عنها إحساس بعدم الراحة بسبب العدد‬ ‫اهلائل والتنافر الذي تتصف به تلك األشياء املجموعة‪.‬‬ ‫عندما تكون األشياء املجموعة غري ممكن التعرف عليها‪ ،‬فإن‬ ‫املتحف احلديث يمكنه أن يكون أشبه بممهد الطريق ملتاحف القرن‬ ‫السابع عرش ـ والقرن الثامن عرش للعلوم الطبيعية‪ :‬الذي ُيطلق‬ ‫عليه ‪ Wunderkammern‬ـ "خزائن العجائب"‪ ،‬أو "خزائن‬ ‫األشياء املثرية للفضول" ـ بينام ُياول البعض مجع جمموعات بنحو‬

‫‪234‬‬


‫قوائمي‬

‫منهجي‪ ،‬من كل ما جيب معرفته‪ ،‬جيمع آخرون أشياء تبدو غري‬ ‫طبيعية‪ ،‬أو مل ُيسمع عنا من قبل‪ ،‬ومن بينها أشياء غريبة أو مدهشة؛‬ ‫مثل‪ :‬متساح حمنط وحمشو‪ ،‬كالذي ُيعلق عادة يف صدر القاعة‬ ‫فيهيمن عليها بوجوده‪.‬‬ ‫من بني تلك املجموعات‪ ،‬تلك التي مجعها بيرت العظيم‪ ،‬يف سان‬ ‫املشوهة املحفوظة بعناية يف‬ ‫بطرسربج‪ ،‬وكانت جمموعة من األجنة‬ ‫َّ‬ ‫الكحول‪.‬‬ ‫إن األعامل الشمعية‪ ،‬يف متحف ديلال سبيكوال يف فلورنسا‪،‬‬ ‫تعرض جمموعة من العجائب الترشُيية‪ ،‬أعامل واقعية للغاية‬ ‫ألجساد منزوعة األحشاء‪ ،‬ترقد عارية‪ ،‬يف سيمفونية من النغامت‬ ‫اللونية‪ ،‬التي تتدرج من الوردي إىل األمحر القاين‪ ،‬ومن ثم ختفت إىل‬ ‫درجات البني الداكنة لألمعاء‪ ،‬والكبد‪ ،‬والرئتني‪ ،‬واملعدة‪،‬‬ ‫والطحال‪.‬‬ ‫ما تبقى من قاعات عرض اجلائب يتكون بدرجة كبرية من‬ ‫عروض تصويرية‪ ،‬أو رسومية يف كتالوجاهتا‪ .‬بعضها كان يتكون‬ ‫من مئات من األرفف الصغرية‪ ،‬التي تؤوي أحجارا‪ ،‬وأصدافا‪،‬‬

‫‪235‬‬


‫اعرتافات روائي شاب‬

‫وهياكل عظمية حليوانات غريبة‪ ،‬وأعامال فنية أصلية ملحنطي‬ ‫احليوانات‪ ،‬ممن متكنوا من تكوين حيوانات غري موجودة‪ .‬بعض‬ ‫قاعات عرض الغرائب األخرى كانت تشبه متحفا للمصغرات ـ‬ ‫مقسمة إىل حجريات‪ ،‬حتوي وحدات تبدو‪،‬‬ ‫صناديق عرض‬ ‫َّ‬ ‫بانفصاهلا عن سياق وجودها األصل‪ ،‬وكأهنا خترب قصصا غري ذات‬ ‫معنى‪ ،‬أو غري مناسبة‪.‬‬ ‫نعلم من كتالوجات مثل كتالوج متحف سيليربيموم‪ ،‬بواسطة‬ ‫دي سيبيبوس (‪ ،)1678‬وكتالوج متحف كريشرييانوم‪ ،‬بواسطة‬ ‫بوناين (‪ ،)1709‬أن يف املجموعة التي مجعها األب أثناسيوس‬ ‫كريرش‪ ،‬يف الكلية الرومانية‪ ،‬توجد متاثيل قديمة‪ ،‬ومتعلقات‬ ‫للعقيدة الوثنية‪ ،‬ومتائم‪ ،‬وأوثان صينية‪ ،‬وطاوالت نذور‪،‬‬ ‫وصحيفتان تظهران جتسدات الربامها اخلمسني‪ ،‬ونقوش معابد‬ ‫رومانية‪ ،‬وقناديل‪ ،‬وخواتم‪ ،‬وأختام‪ ،‬وحل معدنية‪ ،‬وأساور‪،‬‬ ‫وصنجات وزن‪ ،‬وأجراس‪ ،‬وأحجار‪ ،‬وحفريات ذات صور عجيبة‬ ‫نحتتها الطبيعة عىل سطوحها‪ ،‬وأشياء غريبة‪ ،‬تم مجعها من أنحاء‬ ‫العامل‪ ،‬من بينها أحزمة سكان الربازيل األصليني‪ ،‬مزخرفة بأسنان‬

‫‪236‬‬


‫قوائمي‬

‫ضحاياهم‪ ،‬وطيور عجيبة‪ ،‬وحيوانات أخرى حمنَّطة‪ ،‬وكتاب من‬ ‫ماالبار مصنوع من سعف النخيل‪ ،‬ومصنوعات تركية‪ ،‬وموازين‬ ‫صينية‪ ،‬وأسلحة بربرية‪ ،‬وفواكه هندية‪ ،‬وقدم مومياء مرصية‪،‬‬ ‫وأجنَّة ترتاوح أعامرها بني أربعني يوما وسبعة أشهر‪ ،‬وهياكل‬ ‫عظمية لصقور‪ ،‬وطيور هدهد‪ ،‬وعقعق‪ ،‬وطائر السمنة‪ ،‬وقرود‬ ‫برازيلية‪ ،‬وقطط وفئران‪ُ ،‬‬ ‫وخلد‪ ،‬ونيص‪ ،‬وضفادع‪ ،‬وحرباء‪،‬‬ ‫وأسامك قرش‪ ،‬وكذلك نباتات بحرية‪ ،‬وأسنان عجل بحر‪،‬‬ ‫املدرع‪ ،‬وعنكبوت ذئبي‪ ،‬ورأس فرس هنر‪ ،‬وقرن‬ ‫ومتساح‪ ،‬وحيوان َّ‬ ‫مشوه حمفوظ يف وعاء من حملول بلسمي‪،‬‬ ‫وحيد قرن‪ ،‬وكلب‬ ‫َّ‬ ‫وعظام ضخمة‪ ،‬وآالت موسيقية وحسابية‪ ،‬ومرشوعات جتريبية‬ ‫آلالت دائمة احلركة‪ ،‬وإنسان آيل وأجهزة أخرى كثرية صنعها‬ ‫أرشميدس وهريون السكندري‪ ،‬وقواقع أذن‪ ،‬وموشورات مثمنة‬ ‫تضاعف صورة نموذج فيل صغري‪ ،‬فتُبدي "صورة قطيع من‬ ‫األفيال‪ ،‬التي تبدو كام لو أنه تم مجعها من مجيع أنحاء آسيا‬ ‫وأفريقيا"‪ ،‬وآالت هيدروليكية‪ ،‬وتلسكوبات وميكروسكوبات‬ ‫مع صور ميكروسكوبية حلرشات‪ ،‬ونامذج للكرة األرضية‪ ،‬وكرات‬

‫‪237‬‬


‫اعرتافات روائي شاب‬

‫أرضية عسكرية‪ ،‬وأسطرالب‪ ،‬وخرائط لنصف الكرة األرضية‪،‬‬ ‫وساعات شمسية‪ ،‬وهيدروليكية‪ ،‬وميكانيكية‪ ،‬ومغناطيسية‪،‬‬ ‫وعدسات‪ ،‬وساعات رملية‪ ،‬وأجهزة قياس درجات احلرارة‬ ‫والرطوبة‪ ،‬ولوحات وصور عديدة جلبال وأجراف‪ ،‬ومسارات‬ ‫ودوامات‪،‬‬ ‫ريح يف األودية‪ ،‬ومتاهات خشبية‪ ،‬وموجات رغوية‪َّ ،‬‬ ‫وتالل‪ ،‬ورسوم منظورية معامرية‪ ،‬وأطالل‪ ،‬وآثار قديمة‪ ،‬ومعارك‪،‬‬ ‫ومذابح‪ ،‬ومبارزات‪ ،‬وانتصارات‪ ،‬وأماكن‪ ،‬وأرسار إنجيلية‪،‬‬ ‫ومتاثيل آهلة‪.‬‬

‫استمتعت بشدة بتصور إحدى الشخصيات يف بندول فوكو‬ ‫وهو يتجول عرب األروقة املهجورة للمعهد الوطني للفنون ِ‬ ‫واحل َرف‬ ‫يف باريس ـ متحف لتاريخ التكنولوجيا‪ ،‬يضم آليات عفا عليها‬ ‫الزمن‪ ،‬حتى مل تعد وظيفتها واضحة للزوار‪ ،‬هلذا بدى املعهد‬ ‫الوطني للفنون ِ‬ ‫واحل َرف مثل قاعة عرض غرائب تنتمي لعرص‬ ‫الباروك‪ .‬زاد ذلك من انطباع الزائر بالتهديد من جانب وحوش‬ ‫آلية غري معروفة‪ ،‬وأطلق يف هلوساته الذهنية سلسلة متواصلة من‬ ‫اخلياالت جنون الشك‪:‬‬

‫‪238‬‬


‫قوائمي‬

‫يمتد صف من العربات‪ :‬دراجات‪ ،‬وعربات بال أحصنة‪،‬‬ ‫وسيارات‪ ،‬وطائرات معلقة يف السقف‪ .‬بعض املعروضات مل‬ ‫ُمتَس‪ ،‬رغم آثار البِ َىل وتقرش طالئها بفعل الزمن‪ ،‬تبدو يف املزيج‬ ‫الغامض للضوء الطبيعي والصناعي كام لو أهنا مغطاة بخرضة‬ ‫صدأ النحاس‪ ،‬وورنيش كمنجات قديم‪ .‬بعض املعروضات‬ ‫األخرى كانت جمرد هياكل‪ ،‬قضبان وأذرع نقل حركة هتدد‬ ‫بأشكال تعذيب ال توصف‪ .‬إذ تتصور نفسك مقيدا إىل آلة‬ ‫تعذيب تشد ذراعيك وقدميك‪ ،‬ويشء ما ينغرز يف حلمك إىل أن‬ ‫تعرتف‪.‬‬ ‫خلف تلك املجموعة من اآلالت القديمة ـ التي كانت‬ ‫تتحرك فيام سبق‪ ،‬وسكنت اآلن بال حركة‪ ،‬بعدما طال أرواحها‬ ‫الصدأ‪ ،‬وصارت جمرد نامذج للكربياء التكنولوجي‪ ،‬الذي يشتد‬ ‫توقه إىل عرضها لتقديرات الزوار ـ منصة اجلوقة‪ُ ،‬يرسها من‬ ‫جانبها األيرس نموذج مصغر لتمثال احلرية‪ ،‬الذي صممه‬ ‫بارتولدي لعامل آخر‪ ،‬ومن اجلانب األيمن‪ ،‬متثال لباسكال‪ .‬هنا‬ ‫حتيط بتأرجحات البندول كوابيس ِ‬ ‫عامل حرشات خمتل ـ خمالب‪،‬‬ ‫وفكوك‪ ،‬وقرون استشعار‪ ،‬وأحشاء دودة رشيطية‪ ،‬وأجنحة ـ‬

‫‪239‬‬


‫اعرتافات روائي شاب‬

‫مقربة حتوي جثثا ميكانيكية تبدو كام لو أهنا عىل أهبة االستعداد‬ ‫ملعاودة احلركة يف أي حلظة ـ مغناطيس‪ ،‬وحموالت أحادية‬ ‫املرحلة‪ ،‬وحمركات توربينية‪ ،‬وحموالت كهربائية‪ ،‬آالت بخارية‪،‬‬ ‫مولدات كهرباء‪ .‬يف اخللفية‪ ،‬يف الرواق املسقوف بعد البندول‪،‬‬ ‫تنتصب أوثان أشورية‪ ،‬وكلدانية‪ ،‬وقرطاجنية‪ ،‬وأوثان لإلله بعل‪،‬‬ ‫الذي توهجت بطوهنا‪ ،‬منذ زمن‪ ،‬بحمرة ملتهبة‪ ،‬وعذراوات‬ ‫نورمربج[‪ ،]1‬التي ما تزال تنتصب يف قلوهبا املسامري العارية‪ :‬التي‬ ‫كانت ذات يوم حمركات طائرات‪ .‬يشكلون اآلن إكليال مهيبا من‬ ‫الصور الشبحية‪ ،‬التي متجد البندول‪ ،‬بدا األمر كام لو أن نسل‬ ‫العقل والتنوير استنكرا أن يقفا حراسا أبديني للرمز املطلق‬ ‫للرتاث واحلكمة‪.‬‬ ‫‪......‬‬ ‫أهبط إىل الطابق السفل‪ .‬أحترك ‪ ...‬لساعات كنت ارتقب‬ ‫هذا‪ ،‬ولكن اآلن‪ ،‬بعد أن أصبح ممكنا‪ ،‬بل ومن احلكمة‪ ،‬القيام‬ ‫بذلك‪ ،‬انتابني شلل‪ .‬كنت سأضطر إىل عبور القاعات يف الليل‪،‬‬ ‫]‪ [1‬عذراوات نورمبرج‪ ،‬أو عذراء الحديد‪ :‬آلة تعذيب‪ ،‬على هيئة تشبه التابوت الفرعوني‪،‬‬ ‫يتخذ شكله الخارجي صورة امرأة‪ ،‬ومفرغ داخله‪ ،‬املثبت في جدرانه مسامير‪ ،‬ويوضع‬ ‫الضحية داخله‪ ،‬ويغلق عليه‪ ،‬فتنغرز املسامير في جسده‪[ .‬املترجم]‬

‫‪240‬‬


‫قوائمي‬

‫مستخدما مصباحي اليدوي عند الرضورة‪ .‬أثر ضئيل من الوهج‬ ‫الليل عرب صافيا عرب النوافذ الكبرية‪ .‬رأيت بعني خيايل متحفا من‬ ‫أطياف تصنعها أشعة القمر‪ .‬كنت خمطئا‪ .‬تعكس اخلزانات‬ ‫الزجاجية بريقا غامضا من اخلارج‪ ،‬هذا كل يشء‪ .‬إذا مل أكن‬ ‫أحترك بحرص‪ ،‬لكنت سقطت عىل األرض‪ ،‬كان يمكن أن أسقط‬ ‫عىل يشء فيصدر صوت حتطم زجاجي‪ ،‬أو رنة معدن‪ .‬بني احلني‬ ‫واآلخر أقوم بإضاءة املصباح‪ ،‬وأطفئه‪ .‬مع تقدمي‪ ،‬شعرت كام لو‬ ‫كنت يف ملهى كريزي هورس الليل‪ .‬كشف الشعاع املفاجئ عن‬ ‫عُري‪ ،‬لكن ليس من حلم‪ ،‬وإنام من مشابك ومسامري‪.‬‬ ‫ماذا لو انكشف يل فجأة وجود حي‪ ،‬شخص هو مبعوث‬ ‫السادة‪ ،‬الذي يراقب ويرصد تقدمي؟ من سيكون أول من‬ ‫يرصخ؟ أنصت‪ .‬بال فائدة‪ .‬أميض يف خفة املنزلق‪ ،‬ال أصدر‬ ‫صوتا‪ .‬وكذلك هو‪.‬‬ ‫يف تلك الظهرية‪ ،‬درست بعناية تسلسل القاعات‪ ،‬حتى‬ ‫أمتكن من العثور عىل الدَ َرج الكبري‪ ،‬حتى يف الظالم‪ .‬ولكن بدالً‬ ‫من ذلك كنت أجتول‪ ،‬أتلمس‪ .‬ولكني فقدت اجتاهايت‪.‬‬ ‫ربام كنت أسري يف دوائر‪ ،‬أمر ببعض القاعات مرتني‪ .‬ربام‬

‫‪241‬‬


‫اعرتافات روائي شاب‬

‫لن أخرج أبدً ا من هذا املكان؛ ربام صار طقسا أن أميض متلمسا‬ ‫بني آالت ال معنى هلا‪.‬‬ ‫‪.....‬‬ ‫املعني‪.‬‬ ‫حمرك فرومنت‪ :‬هيكل عمودي عىل قاعدة عىل شكل َّ‬ ‫ُيتوي‪ ،‬مثل شكل ترشُيي‪ُ ،‬يبدي أضالعه وأحشاءه‪ ،‬عىل‬ ‫جمموعة متتالية من البكرات‪ ،‬والبطاريات‪ ،‬وقواطع الدائرة ـ ما ذا‬ ‫تسميه الكتب املدرسية بحق اجلحيم؟ ـ وهذا اليشء ُيركه حزام‬ ‫نقل تديره عجلة مسننة ‪ ...‬ألي غرض كان ُيستخدم؟ اجلواب‪:‬‬ ‫لقياس التيارات الكهربائية التي حتدث حتت األرض‪ ،‬بالطبع‪.‬‬ ‫ا ُملراكِ َامت‪ .‬ماذا راكمت؟ ختيلت ستة وثالثون من غري‬ ‫املرئيني كأمناء جمتهدين (أمناء الرس) ينقرون طوال الليل عىل‬ ‫لوحة املفاتيح ليصدر عن هذه اآللة صوتًا‪ ،‬رشارة‪ ،‬مجيعهم‬ ‫منهمكون يف حوار من الساحل إىل الساحل‪ ،‬من اهلاوية إىل‬ ‫السطح‪ .‬عىل السطح‪ ،‬من مدينة ماتشو بيتشو[‪ ]1‬إىل أفالون [‪،]1‬‬ ‫]‪ [1‬مدينة ماتشو بيتشو‪ :‬أو القلعة الضائعة‪ ،‬ومعني كلمة ماتشو بيتشو في اللغة اإلنكية‬ ‫“قمة الجبل القديمة”‪ .‬بناها شعب اإلنكا‪ ،‬في القرن الخامس عشر‪ ،‬وهي تقع في‬ ‫ً‬ ‫كوزكو في البيرو‪ ،‬بين جبلين من سلسلة جبال األنديز‪ ،‬على ارتفاع ‪ 2340‬مترا فوق‬ ‫سطح البحر‪ ،‬وعلى كال جانبيها هاوية سحيقة يبلغ ارتفاعها حوالي ‪ 600‬متر‪ ،‬قامت‬

‫‪242‬‬


‫قوائمي‬

‫هيا‪ ،‬هيا‪ ،‬حول‪ ،‬حول‪ ،‬حول‪ ،‬بامارسيل‪ ،‬بامارسيل[‪ ،]2‬لقد‬ ‫رصدنا هزة أرضية‪ ،Mu 36 ،‬تلك التي يعبدها الربامهة معتقدين‬ ‫أهنا زفري اإلله‪ ،‬واآلن سأقوم بتوصيل الصنبور‪ ،‬الصامم‪ ،‬ومجيع‬ ‫دوائر الكون الكبري والدقيق‬

‫[‪]3‬‬

‫تعمل‪ ،‬وكل جذور املاندريك‬

‫ترجتف حتت القرشة األرضية‪ ،‬تسمع أغنية التعاطف العاملي‪،‬‬ ‫مرارا وتكرارا‪.‬‬ ‫وبينام كانوا يقومون بتشغيل تلك املعاجلات الكهربائية‬ ‫السداسية شبه احلرارية ـ هكذا كانت ستقول عنها جاراموند ـ‬ ‫لقاحا أو‬ ‫بني احلني واآلخر‪ ،‬خيرتع شخص ما‪ ،‬عىل سبيل املثال‪ً ،‬‬ ‫مصباحا كهربائيا‪ ،‬منترصا يف املغامرة الرائعة للمعادن‪ ،‬لكن املهمة‬ ‫األصلية كانت خمتلفة متا ًما‪ :‬ها هم‪ ،‬يتم جتميعهم يف منتصف‬

‫منظمة اليونسكو بتصنيف هذه املدينة في قائمة التراث العالمي عام ‪ .1983‬وهي‬ ‫إحدى عجائب الدنيا السبع الجديدة‪[ .‬املترجم]‬ ‫]‪ [1‬أفالون‪ :‬جزيرة خيالية في األساطير الويلزية‪ ،‬وهي مملكة املوتى‪ ،‬وأصبحت الحقا جنة‬ ‫على األرض في البحار الغربية‪ ،‬ثم أصبحت موطن األبطال في الحكايات اآلرثرية‪،‬‬ ‫‪[.‬املترجم]‬ ‫]‪ [2‬العبارة تعبر عن اتصال السلكي للتحذير من ‪[.‬املترجم]‬ ‫]‪ [3‬الكون الكبير والدقيق ‪ :micro-macrocosmic‬مفهوم فلسفي يرى عالقة بين الكون‬ ‫األصلي الكبير (العالم) ونموذجه الدقيق‪/‬الصغير (اإلنسان)‪ ،‬الذي يحمل كل صفاته‪،‬‬ ‫ونجدها عند فيثاغورس‪ ،‬وبعده أفالطون‪ ،‬وليوناردو دافنش ي‪[ .‬املترجم]‬

‫‪243‬‬


‫اعرتافات روائي شاب‬

‫الليل‪ ،‬لتدوير آلة دوكريتيه للكهرباء الساكنة؛ عجلة شفافة‪ ،‬تبدو‬ ‫مثل حزام عريض‪ ،‬وداخلها‪ ،‬كرتان اهتزازيتان صغريتان‬ ‫مدعومتان بعيص مقوسة‪ ،‬وعندما تتالمسان‪ ،‬يتطاير الرشر‪،‬‬ ‫ويأمل د‪ .‬فرانكنشتاين يف إعطاء احلياة لغولته‪ ،‬ولكن ال‪ ،‬لإلشارة‬ ‫خللد الكهل يقوم باحلفر ‪....‬‬ ‫معنى آخر‪ :‬إنه ا ُ‬ ‫ماكينة حياكة (ماذا أيضا؟ واحد من تلك اإلعالنات‬ ‫املطبوعة‪ ،‬إىل جوار إعالن عن حبوب لتكبري الصدر‪ ،‬وصقر كبري‬ ‫ُيلق فوق اجلبال‪ ،‬مع مرشوب منعش بني خمالبه‪ ،‬رواية روبور‬ ‫الفاتح[‪ ،]1‬ولكن عندما تقوم بتشغيلها‪ ،‬فإهنا تُدير عجلة‪ ،‬وتُدير‬ ‫العجلة مل ًفا‪ ،‬وامللف ‪ ...‬ماذا يفعل امللف؟ من يستمع إىل امللف؟‬ ‫يقول امللصق‪" ،‬التيارات املستحثة من احلقول األرضية"‪ .‬وقح!‬ ‫يمكن أن يقرأها حتى األطفال يف الزيارات النهارية!‬ ‫مشيت بينها‪ .‬ختيلت نفيس أتضاءل حتى أصبح يف حجم‬ ‫ُ‬ ‫نملة‪ ،‬أميش مذهوال يف شوارع مدينة ميكانيكية‪ ،‬ناطحات‬ ‫سحاب معدنية عىل كل جانب‪ .‬ترتاكم األسطوانات‪،‬‬

‫ُ‬ ‫]‪ [1‬روبور الفاتح‪ :‬رواية خيال علمي لجول فيرن‪ ،‬نشرت عام ‪ ،1886‬كما تعرف باسم‬ ‫"مقص السماء" ‪[ .‬املترجم]‬

‫‪244‬‬


‫قوائمي‬

‫والبطاريات‪ ،‬وقوارير ليدن[‪ ]1‬فوق بعضها البعض‪ ،‬وآالت الطرد‬ ‫املركزي الدوارة‪ ،‬وآلة كهربائية للجذب والتنافر‪ ،‬وتعويذة‬ ‫لتحفيز التيارات التعاطفية‪ ،‬وصف من أعمدة يشكل تسعة‬ ‫أنابيب‪ ،‬ومغناطيس كهربائي‪ ،‬ومقصلة‪ ،‬ويف املركز ـ بدا وكأنه‬ ‫مكبس ـ خطافات معلقة من السالسل‪ ،‬كتلك التي قد تراها يف‬ ‫إسطبل‪ .‬مكبس يمكنك به سحق يد أو رأس‪ .‬جرس زجاجي مع‬ ‫مضخة هوائية‪ ،‬وأسطوانتني‪ ،‬وما يشبه إمبيق التقطري الزجاجي‪،‬‬ ‫مزج سان جريمان‬ ‫مع كوب حتته‪ ،‬وإىل يمينه‪ ،‬كرة نحاسية‪ ،‬فيها َ‬ ‫أصباغه من أجل الندجراف هيس‪.‬‬ ‫رف معدين‪ ،‬عليه ص َّفان من الساعات الرملية الصغرية‪،‬‬ ‫عرشة يف كل صف‪ ،‬ممدودة أعناقها مثل رقبة املرأة يف لوحة‬ ‫موديلياين‪ ،‬ويف داخلها مواد غري حمددة‪ ،‬يتسع االنتفاخ العلوي‬ ‫لكل منها بحجم خمتلف‪ ،‬مثل بالونات عىل وشك اإلقالع‪ .‬هذا‪،‬‬

‫]‪ [1‬قارورة ليدن‪ :‬هي أول قارورة لحفظ الطاقة داخل الدوائر الكهربائية‪ ،‬تم اختراعها عام‬ ‫‪ ،1745‬وتتكون من قارورة زجاجية تحفظ املاء بداخلها‪ ،‬ويخترق املاء مسمار عبر‬ ‫ّ‬ ‫يوصل شحنة كهربية ساكنة‪ ،‬ثم ُيفصل عنها‪،‬‬ ‫فتحة ضيقة في غطاء القارورة‪ِ ،‬‬ ‫وتحفظ الشحنة لفترة داخل القارورة ‪[ .‬املترجم]‬

‫‪245‬‬


‫اعرتافات روائي شاب‬

‫جهاز إلنتاج الريبيس[‪ ،]1‬يمكن ألي شخص رؤيته‪.‬‬ ‫يل ذلك قسم املصنوعات الزجاجية‪ .‬عدت يف مسريي‪.‬‬ ‫زجاجات خرضاء صغرية‪ :‬مضيف سادي ُياول أن يقدم يل ُسام‬ ‫من العنرص اخلامس‪ .‬ماكينات حديدية لتصنيع الزجاجات‪ ،‬يتم‬ ‫معصام‬ ‫فتحها وإغالقها بواسطة ذراعني‪ .‬ماذا لو أن شخصا وضع‬ ‫ً‬ ‫بدالً من الزجاجة؟ طراخ! وسيكون األمر نفسه مع تلك الكامشة‬ ‫العظيمة‪ ،‬تلك املقصات الضخمة‪ ،‬واملشارط امللتوية‪ ،‬التي يمكن‬ ‫إيالجها يف عضلة الرشج العارصة أو األذنني‪ ،‬يف الرحم النتزاع‬ ‫اجلنني الذي ما يزال عىل قيد احلياة‪ ،‬والذي سيتم طحنه مع‬ ‫العسل والفلفل إلرضاء شهية عشرتوت ‪ ...‬كانت الغرفة التي‬ ‫كنت أمر عربها اآلن حتتوي عىل دواليب عرض واسعة‪ ،‬وأزرار‬ ‫لتحريك لولب معدين ليتحرك بال رمحة نحو عني الضحية‪ ،‬والبئر‬ ‫والبندول‪ .‬كنا قريبني من قسم الرسوم الكاريكاتورية‪ ،‬إىل‬ ‫األدوات السخيفة لروب جولدبريج‪ ،‬ألواح التعذيب التي ربط‬ ‫هبا ُدنجل الضخم ميكي ماوس‪ ،‬وآلة ذات ثالثة تروس‪ ،‬انتصار‬ ‫ميكانيكا عرص النهضة‪ ،‬مرشوب برانكا‪ ،‬وراميلل‪ ،‬وزونكا‪.‬‬ ‫]‪ [1‬الريبيس ‪.:Rebis‬املادة املزدوجة‪ ،‬ويقصد به إيجاد الش يء املزدوج الجنس‪ ،‬كالخنثى‪،‬‬ ‫بفعل الكيمياء‪[ .‬املترجم]‬

‫‪246‬‬


‫قوائمي‬

‫كنت أعرف هذه املعدات ذات الرتوس‪ ،‬وقد وضعتها يف املغامرة‬ ‫الرائعة للمعادن‪ ،‬ولكن تم وضعها هنا يف وقت الحق‪ ،‬يف القرن‬ ‫املايض‪ ،‬وكانت عىل استعداد لكبح مجاح املعاندين بعد غزو‬ ‫العامل؛ تعلم فرسان املعبد من احلشاشني كيف ُخيرسون نوفو دي‬ ‫عندما ُيني وقت القبض عليه؛ سيتلوى الصليب املعقوف‬ ‫لسيبوتندورف‪ ،‬يف اجتاه الشمس‪ ،‬األطراف املنتزعة ألعداء سادة‬ ‫العامل‪ .‬كل يشء جاهز‪ ،‬هذه األدوات يف انتظار إشارة‪ ،‬كل يشء‬ ‫واضح ومرئي‪ ،‬كانت اخلطة معلنة‪ ،‬ولكن ما كان أحد ليتوقعها‪،‬‬ ‫احلناجر امليكانيكية ذات الرصير ستنشد ترنيمة الفتح‪ ،‬عربدة‬ ‫هائلة تصدر عن األفواه‪ ،‬كل األسنان التي أطبقت وتعشقت‬ ‫بالضبط‪ ،‬وأفواه تغني يف تشنجات تيك توك‪.‬‬ ‫معروضة لرياها اجلميع‪ .‬وألجل هذا‪ ،‬ما هو الغرض احلقيقي‬ ‫من هذا الصندوق الضخم يف مركز لوتيتيا (لوتيتيا‪ ،‬اهلواء يتدفق‬ ‫يف بحر جويف من الطني)‪ ،‬حيث كان‪ ،‬ذات مرة‪ ،‬قلب باريس‪ ،‬مع‬ ‫أنابيب التهوية تلك‪ ،‬وذلك اجلنون باألنابيب‪ ،‬واملواسري‪ ،‬وبآذان‬ ‫ديونيسيوس املفتوحة للسامء من أجل التقاط األصوات‪،‬‬ ‫والرسائل‪ ،‬واإلشارات‪ ،‬وإرساهلا إىل مركز الكرة األرضية‪ ،‬ثم‬

‫‪247‬‬


‫اعرتافات روائي شاب‬

‫إعادهتا‪ ،‬ودفق املعلومات اآليت من اجلحيم؟ أوالً‪ ،‬الكونرسفتوار‪،‬‬ ‫وأخريا بوبورج‪ ،‬جهاز إرسال‬ ‫وخمترب‪ ،‬ثم القوة‪ ،‬واملسبار‪،‬‬ ‫ً‬ ‫واستقبال عاملي‪ .‬هل قاموا بإعداد كأس شفط ضخم للرتفيه عن‬ ‫حفنة من الطالب كثيفي الشعر‪ ،‬والرائحة‪ ،‬الذين ذهبوا إىل هناك‬ ‫لالستامع بأحدث سامعة رأس يابانية؟ لرياها اجلميع‪ .‬بوبورج‪،‬‬ ‫بوابة إىل مملكة أجارتا ‪ Agarttha‬حتت األرض‪ ،‬النُّصب‬ ‫التذكاري لعودة فرسان السينارشييس‪ .‬والباقي – اثنان‪ ،‬أو ثالثة‪،‬‬ ‫أو أربعة مليارات منهم ـ مل يكونوا عىل علم بذلك‪ ،‬أو أجربوا‬

‫أنفسهم عىل أن يشيحوا بوجوههم عن ذلك(‪.)1‬‬

‫التعريف بقائمة الخصائص مقابل التعريف باملاهية‬ ‫يصف هومريوس درع أخيل باعتباره قالبا؛ ألنه يعلم بالضبط‬ ‫كيف تكون احلياة يف ذلك املجتمع‪ ،‬فهو ال يفعل غري تقديم الئحة‬ ‫باملحاربني ألنه ال يعرف عددهم‪ .‬هكذا‪ ،‬قد ُيسب املرء أن‬ ‫القوالب قد تكون من خصائص املجتمعات املتطورة‪ ،‬التي حتوز‬

‫‪(1) Umberto Eco, Facault Pendulum, trans. William Weaver (New York: Harcourt‬‬ ‫‪Brace, 1998), pp. 7-8 (ch. 1); pp. 575-579 (ch. 112).‬‬

‫‪248‬‬


‫قوائمي‬

‫معارفا بالعامل الذي نجحت يف اكتشافه وتعريفه‪ ،‬بينام تكون القوائم‬ ‫مناسبة للثقافات البدائية التي ال متلك إال صورة غري دقيقة عن‬ ‫الكون‪ ،‬وحتاول‪ ،‬بقدر ما تستطيع‪ ،‬إنشاء قائمة بخصائصه ‪ ،‬دون أن‬ ‫تؤسس لعالقات تراتبية فيام بينها‪ .‬سوف نرى أنه بحسب أوصاف‬ ‫معينة‪ ،‬أن هذا قد يكون صحيحا ـ غري أن القوائم قد ظهرت مرة‬ ‫أخرى يف العصور الوسطى (حني ا َّدعى كِتاب اخلالصة‬ ‫الالهوتية‬

‫[‪] 1‬‬

‫واملوسوعات تقديم قالب هنائي للعامل املادي‬

‫والروحي)‪ ،‬يف فرتة عرص النهضة والباروك (حينام كان قالب العامل‬ ‫يتخذ هيئة قالب علم الفلك اجلديد)‪ ،‬وبنحو خاص يف العامل‬ ‫احلديث وما بعد احلداثي‪ .‬لنتأمل اجلانب األول من املسألة‪.‬‬ ‫إن حلم أي فلسفة أو علم‪ ،‬منذ عرص اليونان القديم وما تاله‪،‬‬ ‫هو معرفة وتعريف األشياء باملاهية‪ .‬بداية بأرسطو‪ ،‬كان التعريف‬ ‫باملاهية يعني تعريف يشء حمدد كوجود فردي‪ ،‬يندرج حتت نوع‬

‫ّ‬ ‫(بالالتينية‪ :)Summa Theologica :‬كتاب شهير لتوما األكويني‪،‬‬ ‫]‪ [1‬الخالصة الالهوتية‬ ‫ورغم عدم اكتماله إال أنه يعد من كالسيكيات تاريخ الفلسفة‪ ،‬ومن األعمال األكثر‬ ‫ً‬ ‫تأثيرا في األدب الغربي‪ ،‬ويدريسه طالب الالهوت‪ ،‬باعتباره دليل تعليمي‪ ،‬ويعتبر جزء‬ ‫من التعاليم الالهوتية الرئيسية للكنيسة الكاثوليكية‪[ .‬املترجم]‬

‫‪249‬‬


‫اعرتافات روائي شاب‬

‫معني‪ ،‬والنوع بدوره يندرج حتت جنس حمدد(‪ .)1‬اإلجراء نفسه‬ ‫اتبعه التصنيف احلديث يف تعريف احليوانات والنباتات‪ .‬وبطبيعة‬ ‫احلال‪ ،‬فإن نظام األنواع واألنواع الفرعية يعد أكثر تعقيدا‪ .‬عىل‬

‫سبيل املثال‪ ،‬ينتمي النمر إىل النوع‪ :‬نمر ‪ ،Tigris‬وجنس‪ :‬النمر‬ ‫‪ ،Panthera‬وعائلة‪ :‬السنوريات ‪ ،Felidae‬والرتبة الفرعية‪ :‬ذات‬ ‫أصابع مفرتقة ‪ ،Fissipedia‬ورتبة‪ :‬آكلة اللحوم ‪،Carnivora‬‬

‫والفئة الفرعية‪ :‬ا َملشيميَّات‬

‫‪ ،Eutheria‬وفئة‪ :‬الثدييات‬

‫‪.Mamalia‬‬ ‫إن ُخلد املاء من نوع الثدييات أحادية املسلك [‪( ]2‬يضع بيضا)‪.‬‬ ‫لكن ثامنون عاما مرت بعد اكتشاف خلد املاء‪ ،‬قبل أن يتم تصنيفه‬ ‫حتت رتبة الثدييات أحادية املسلك‪ .‬خالل هذا الوقت‪ ،‬كان عىل‬ ‫العلامء حتديد كيفية تصنيفه‪ ،‬وإىل أن حققوا ذلك‪ ،‬ظل مبوبا‬ ‫)‪ (1‬لن ن عالج هنا املشكلة القديمة الخاصة باالختالفات املحددة‪ ،‬التي بفضلها يتميز‬ ‫اإلنسان كحيوان عاقل باملقارنة بالكائنات األخرى‪ ،‬غير العاقلة‪ .‬في هذا‪ ،‬انظر‪:‬‬ ‫السيميوطيقا وفلسفة اللغة‪ ،‬إكو (‪)Bloomington: Indiana University Press, 1984‬‬ ‫الفصل‪ .2 :‬حول خلد املاء انظر‪ :‬كانط وخلد املاء (‪.)New York: Harourt, 1999‬‬ ‫(إكو)‬ ‫]‪ [2‬أحادي املسلك‪ :‬فصيلة من الحيوانات الثديية التي تبيض‪ ،‬له مسلك واحد لإلخراج‬ ‫والتناسل معا‪[ .‬املترجم]‬

‫‪250‬‬


‫قوائمي‬

‫خللد‪ ،‬له عينان صغريتان‪ ،‬ومنقار ب َّطة‪ ،‬وذيل‪،‬‬ ‫كمخلوق يف حجم ا ُ‬ ‫وأقدام يستخدمها للسباحة وحفر اجلحور‪ ،‬يوجد يف القدمني‬ ‫األماميتني أربعة خمالب بينها غشاء ( وهو غشاء أكرب من الذي بني‬ ‫خمالب القدم اخللفية)‪ ،‬ويبيض‪ ،‬و ُيرضع صغاره اللبن بواسطة غدد‬ ‫ثديية‪.‬‬ ‫هذا‪ ،‬بالضبط‪ ،‬ما قد يقوله غري املتخصص‪ ،‬حني ينظر إىل ُخلد‬ ‫املاء‪ .‬لنالحظ أنه باإلشارة إىل تلك املجموعة غري املنتظمة من‬ ‫الصفات‪ ،‬يمكن لغري املتخصص أن يميز بني ُخلد املاء والثور‪ ،‬بينام‬ ‫إذا قيل هلم ـ وهم ال يعلمون شيئا عن التصنيف العلمي ـ أنه‬ ‫"حيوان ثديي أحادي املسلك"‪ ،‬فلن يتمكنوا من التمييز بني ُخلد‬ ‫املاء والكانجارو‪ .‬إذا سأل طفل أمه‪ :‬ما هو النمر‪ ،‬وكيف يبدو‪،‬‬ ‫فمن غري املحتمل أهنا ستجيبه بأنه حيوان ثديي‪ ،‬من الرتبة الفرعية‬ ‫مفرتقة األصابع‪ ،‬أو آكل حلوم بأصابع مشقوقة‪ ،‬لكن األرجح أهنا‬ ‫ستقول إنه حيوان مفرتس‪ ،‬يشبه القط‪ ،‬لكنه أكرب حجام‪ ،‬ورشيق‬ ‫جدا‪ ،‬لونه أصفر بخطوط سوداء‪ ،‬يعيش يف الغابة‪ ،‬ويمكن أن‬ ‫يفرتس البرش‪ ،‬إىل آخره‪.‬‬

‫‪251‬‬


‫اعرتافات روائي شاب‬

‫إن التعريف باملاهية يأخذ الصفات اجلوهرية يف االعتبار‪ ،‬ونحن‬ ‫نفرتض أننا عىل علم بالسلسلة الكاملة للصفات اجلوهرية ـ عىل‬ ‫سبيل املثال‪" :‬الكائن احلي"‪" ،‬حيوان "‪" ،‬نبات"‪" ،‬معدن"‪ .‬عىل‬ ‫العكس من ذلك‪ ،‬بحسب أرسطو‪ ،‬إن التعريف بالصفات هو‬ ‫العرضية حمدودة الكم‪.‬‬ ‫العرضية‪ ،‬والصفات َ‬ ‫تعريف بالصفات َ‬ ‫عرف باملاهية بأنه من مملكة احليوان‪ ،‬وعائلة‬ ‫النمر ـ والذي ُي َّ‬ ‫الفقاريات ـ يتميز بخصائص عدد كبري من األنواع‪ :‬له أربع أرجل‪،‬‬ ‫ويشبه قطا كبريا‪ ،‬وخمطط‪ ،‬وثقيل الوزن‪ ،‬ويزأر بطريقة خاصة‪ ،‬وله‬ ‫عمر تقريبي‪ .‬لكن يمكن للنمر أيضا‪ ،‬أن يكون حيوانا تواجد يف‬ ‫ساحة املباريات يف روما‪ ،‬يف يوم معني‪ ،‬يف عرص نريون‪ ،‬أو أنه ُقتل‬ ‫يف ‪ 24‬مايو ‪ ،1846‬بواسطة ضابط إنجليزي ُيدعى فريجسون‪ ،‬أو‬ ‫العرض َّية األخرى‪.‬‬ ‫له ما ال ُ​ُيىص من السامت َ‬ ‫الواقع أننا نادرا ما نقوم بتعريف األشياء باملاهية‪ ،‬الغالب‪ ،‬أننا‬ ‫تعرف‬ ‫نقدم قائمة من الصفات‪ .‬وهذا هو السبب يف أن القوائم التي ِّ‬ ‫شيئا من خالل سلسلة ال هنائية من الصفات‪ ،‬رغم أهنا تصيب‬ ‫بالدوار‪ ،‬تبدو أقرب إىل الطريقة التي نستخدمها يف حياتنا اليومية‬

‫‪252‬‬


‫قوائمي‬

‫(وإن مل تكون معتمدة يف أقسام العلوم األكاديمية) لتعريف ومعرفة‬ ‫األشياء(‪.)1‬‬ ‫إن التصوير بواسطة تراكم من الصفات أو سلسلة الصفات ال‬ ‫يفرتض قاموسا مسبقا‪ ،‬بل يشء أقرب إىل موسوعة ـ ال ينتهي منها‬ ‫املرء أبدا‪ ،‬والتي يعرفها ويتحكم فيها أفراد ثقافة معينة‪ ،‬عىل نحو‬ ‫جزئي‪ ،‬بحسب مهارهتم‪.‬‬ ‫إنام نستخدم التوصيف بواسطة الصفات إذا كنا ننتمي إىل ثقافة‬ ‫بدائية‪ ،‬مل تؤسس بعد تراتبية من األنواع واألجناس‪ ،‬وليس لدهيا‬ ‫تعريف باملاهية‪ .‬لكن قد يكون هذا صحيحا أيضا بالنسبة للثقافات‬ ‫املتطورة‪ ،‬غري الراضية عن بعض التعريفات باملاهية‪ ،‬وترغب يف‬ ‫)‪ (1‬بالطبع‪ ،‬يمكن لقائمة الصفات أن ّ‬ ‫تعد باملعنى التقديري‪ .‬ومثال ذلك يمكن أن نجده‬ ‫في مديح مدينة صور‪ ،‬في سفر حزقيال ‪ ،27‬أو أنشودة تمجيد انجلترا (" جزيرة‬ ‫الصولجان ‪ )"...‬في الفصل الثاني من مسرحية ريتشارد الثاني لشكسبير‪ .‬ومن قوائم‬ ‫املدح بالصفات موضوع قصيدة ‪laudation puellae‬ـ تصوير امرأة جميلة ـ التي يعد‬ ‫مثالها األكثر نبالة هو نشيد اإلنشاد‪ .‬لكننا نجد ذلك أيضا لدى كتاب معاصرين مثل‬ ‫الشاعر روبن داريو في قصيدته "أغني لألرجنتين" التي تعد جيشان حقيقي لقوائم‬ ‫الثناء باسلون وايتمان‪ .‬باملثل‪ ،‬هناك قصيدة ‪vituperation puellae‬ـ في وصف امرأة‬ ‫قبيحةـ كما عند هوراس أو كليمنت ماروت‪ .‬هناك أيضا قصائد في وصف رجل قبيح‪،‬‬ ‫كما في خطبة سيرانو الشهيرة واصفا أنفه‪ ،‬في مسرحية سيرانو دي برجراك ألدموند‬ ‫روستاند ‪( .‬إكو)‬

‫‪253‬‬


‫اعرتافات روائي شاب‬

‫إعادة بحث هذه التعريفات‪ ،‬أو التي حتاول‪ ،‬باكتشافها خلصائص‬ ‫جديدة‪ ،‬زيادة حصيلتها املعرفية املتعلقة بموضوع معني يف‬ ‫موسوعتها‪.‬‬ ‫يقرتح البالغي اإليطايل إمانويل تيسورو‪ ،‬يف كتابه ‪Il‬‬ ‫‪ ،Cannocchiale aristotelico‬أو تليسكوب أرسطو (‪،)1665‬‬ ‫نموذجا للمجاز كوسيلة الكتشاف العالقات املجهولة‪ ،‬حتى اآلن‪،‬‬ ‫بني املعطيات املعروفة‪ .‬تعمل هذا الطريقة بواسطة جتميع أشياء‬ ‫معلومة يمكن للخيال املجازي استخدامها للعثور عىل متامثالت‪،‬‬ ‫وروابط‪ ،‬ومشاهبات جديدة‪.‬‬ ‫هبذه الطريقة‪ ،‬شكَّل تيسورو فكرة الفهرس التبويبي ـ الذي بدا‬ ‫العرضية‪.‬‬ ‫مثل قاموس هائل ولكنه يف الواقع سلسلة من الصفات َ‬ ‫عرض فهرسه (ببهجة باروكية بتلك الفكرة "الرائعة") باعتباره‬ ‫"رس أرسار حقيقي"‪ ،‬كأداة جوهرية من أجل "الكشف عن‬ ‫املوضوعات املختبئة يف قلب العديد من املقوالت‪ ،‬ومن أجل‬ ‫إجراء املقارنات فيام بينها"‪ .‬بتعبري آخر‪ ،‬كان لدى هذا الفهرس‬ ‫القدرة عىل استخراج تشاهبات ومتاثالت ما كان يمكن مالحظتها‬

‫‪254‬‬


‫قوائمي‬

‫إذا ما ظل كل يشء مصنفا يف بابه كام هو‪.‬‬ ‫هنا‪ ،‬بمقدوري أن أفعل ما هو أكثر من تقديم أمثلة من كتالوج‬ ‫تيسورو‪ ،‬الذي يبدو قابال للتوسع غري املحدود‪ .‬فقائمته اخلاصة‬ ‫"باملواد" مفتوحة بنحو ال هنائي‪ ،‬إذ تضم شخصيات إهلية‪ ،‬وأفكار‪،‬‬ ‫وآهلة األساطري‪ ،‬ومالئكة‪ ،‬وشياطني‪ ،‬وأرواح‪ .‬وحتت باب "سامء"‬ ‫اجلوالة‪ ،‬واألبراج الفلكية‪ ،‬والبخار‪ ،‬وزفرات اهلواء‪،‬‬ ‫يضع النجوم َّ‬ ‫ُّ‬ ‫والش ُهب‪ ،‬والنيازك‪ ،‬والربق‪ ،‬والرياح‪ .‬ويشمل باب "األرض"‪:‬‬ ‫احلقول‪ِ ،‬‬ ‫القفار‪ ،‬واجلبال‪ ،‬والتالل‪ ،‬واملرتفعات الصخرية املطلة عىل‬ ‫البحر‪ .‬أما باب "األجسام" ففيه‪ :‬األحجار‪ ،‬واجلواهر‪ ،‬واملعادن‪،‬‬ ‫واألعشاب‪ ،‬ويشمل باب "الرياضيات"‪ :‬الكرة األرضية‪،‬‬ ‫والبوصلة‪ ،‬واملربع‪ ،‬إىل آخره‪ .‬باملثل يف باب "الكميات"‪ ،‬إذ نجد‬ ‫حتت "كم األحجام"‪ :‬الصغري‪ ،‬والكبري‪ ،‬والطويل‪ ،‬والقصري‪،‬‬ ‫وحتت "كم األوزان"‪ :‬اخلفيف‪ ،‬والثقيل‪ .‬ويف باب "الكيف"‪ ،‬نجد‬ ‫حتت "الرؤية"‪ :‬املرئي‪ ،‬وغري املرئي‪ ،‬والواضح‪ ،‬واجلميل‪ ،‬والقبيح‪،‬‬ ‫واجلل‪ ،‬والغامض‪ ،‬واألسود واألبيض‪ .‬ونجد يف باب "الرائحة"‪:‬‬ ‫الشذى‪ ،‬والرائحة الكرهية ـ وهكذا يف أبواب "العالقة‪ ،‬و"الفعل‬

‫‪255‬‬


‫اعرتافات روائي شاب‬

‫والتأثري"‪ ،‬و"املواقع"‪ ،‬و"الزمن"‪ ،‬و"املكان"‪ ،‬و"احلال"‪ .‬ولنأخذ‬ ‫مثاال واحدا‪ ،‬يف باب "الكم"‪ ،‬حتت "كم األحجام"‪ ،‬وحتته‬ ‫"األشياء الصغرية" نجد املالئكة التي تستطيع الوقوف عىل رأس‬ ‫دبوس‪ ،‬واألشكال الروحية‪ ،‬واألقطاب كنقاط ثابتة عىل جمسم‬ ‫كروي‪ ،‬السمت والنظري[‪ .]1‬ونجد يف باب "أشياء أولية"‪ :‬رشارة‬ ‫النار‪ ،‬وقطرة ماء‪ ،‬وكرسة حجر‪ ،‬وحبة رمل‪ ،‬واجلوهرة‪َ ،‬‬ ‫والذ َّرة‪.‬‬ ‫وبني "األشياء اإلنسانية"‪ :‬اجلنني‪ ،‬واإلجهاض‪ ،‬املتقزم‪ ،‬والقزم‪.‬‬ ‫وبني "احليوانات"‪ :‬النمل‪ ،‬والربغوث‪ .‬وبني "النبات"‪ :‬بذور‬ ‫اخلردل‪ ،‬وفتات اخلبز‪ .‬وبني "العلوم"‪ :‬النقطة الرياضية‪ .‬وحتت‬ ‫"املعامر"‪ :‬قمة اهلرم‪.‬‬ ‫ال يبدو أن هذه القائمة تتصف باالتساق أو املنطق‪ ،‬مثل كل‬ ‫املحاوالت الباروكية لضم حمتويات العامل يف جسد املعرفة‪ .‬يف‬ ‫مطبوعة ‪ ،)1664( Technica curiosa‬ويف كتابه عن السحر‬ ‫]‪ [1‬السمت والنظير‪ :‬سمت الرأس‪ ،‬في علم الفلك‪ ،‬نقطة ينتهي إليها الخط الخارج من‬ ‫مركز األرض على استقامة قامة الشخص‪ ،‬وتقابلها في آخر القطر املمتد في اتجاه‬ ‫القدمين إلى أسفل نقطة النظير‪ .‬ويتوقف موقع سمت الرأس والنظير على موضع‬ ‫الراصد على سطح األرض‪ ،‬فإذا كان الراصد عند قطب األرض الشمالي كان قطب‬ ‫السماء الشمالي في سمت رأسه‪ ،‬ويتعين النظير دائما باتجاه جاذبية األرض‪[ .‬املترجم]‬

‫‪256‬‬


‫قوائمي‬

‫الطبيعي ‪Joco-seriorium naturaeet artis sive magiae‬‬

‫‪ ،)1665( naturalis centuriae tres‬يذكر كاسبار سكوت عمال‪،‬‬ ‫كُتب عام ‪ ،1653‬قدَّ م دليال لألعامل الفنية‪ ،‬يف روما‪ ،‬يتضمن أربعة‬ ‫طهر‪،‬‬ ‫وأربعني بابا‪ :‬العنارص‪( :‬نار‪ ،‬ريح‪ ،‬دخان‪ ،‬رماد‪ ،‬جحيم‪َ ،‬م َ‬ ‫مركز األرض)‪ ،‬الكيانات الساموية‪( :‬نجوم‪ ،‬برق‪ ،‬قوس قزح)‪،‬‬ ‫الكيانات العقلية‪( :‬إله‪ ،‬يسوع‪ ،‬خطاب‪ ،‬رأي‪ ،‬شك‪ ،‬روح‪ ،‬حيلة‪،‬‬ ‫أو شبح)‪ ،‬الدول العاملانية‪( :‬إمرباطور‪ ،‬بارون‪ ،‬عوام)‪ ،‬الدولة‬ ‫الكنسية‪ ،‬احلرفيون‪( :‬مصورون‪ ،‬بحارة)‪ ،‬أدوات‪ ،‬عاطفة‪( :‬حب‪،‬‬ ‫عدل‪ ،‬رغبة)‪ ،‬دين‪ ،‬اعرتاف مقدس‪ ،‬حمكمة‪ ،‬جيش‪ ،‬طب‪( :‬طبيب‪،‬‬ ‫جوع‪ ،‬حقنة رشجية)‪ ،‬حيوانات متوحشة‪ ،‬طيور‪ ،‬زواحف‪ ،‬سمك‪،‬‬ ‫أعضاء احليوانات‪ ،‬مفروشات‪ ،‬طعام‪ ،‬مرشوبات وسوائل‪( :‬نبيذ‪،‬‬ ‫شعري‪ ،‬ماء‪ ،‬زبد‪ ،‬شمع‪ ،‬صمغ)‪ ،‬مالبس‪ ،‬أقمشة حريرية‪ ،‬صوف‪،‬‬ ‫كتان‪ ،‬ومنسوجات أخرى‪ ،‬كيانات بحرية‪( :‬سفن‪ ،‬مرساة)‪ ،‬نكهة‪:‬‬ ‫(قرفة‪ ،‬شوكوالتة)‪ ،‬معادن‪ ،‬عمالت معدنية‪ ،‬مصنوعات متنوعة‪،‬‬ ‫أحجار‪ ،‬جواهر‪ ،‬أشجار‪ ،‬فواكه‪ ،‬أماكن عامة‪ ،‬أوزان‪ ،‬مقاييس‪،‬‬ ‫أرقام‪ ،‬زمن‪ ،‬صفات‪ ،‬حال‪ ،‬حروف جر‪ ،‬أشخاص‪( :‬ضامئر‪،‬‬

‫‪257‬‬


‫اعرتافات روائي شاب‬

‫ألقاب مثل‪" :‬نيافة الكاردينال")‪ ،‬سفر‪( :‬علف‪ ،‬طرق‪ ،‬لص)‪.‬‬ ‫يمكنني مواصلة االقتباس من قوائم باروكية أخرى‪ ،‬متتد من‬ ‫كريرش إىل ويلكينز‪ ،‬تثري الواحدة منها االرتباك بأكثر مما تليها‪.‬‬ ‫ومجيعها تفتقد روحا منهجية تشهد للمجهود املضني الذي بذله‬ ‫املوسوعي للتملص من التصنيفات التي عفا عليها الزمن لألجناس‬ ‫واألنواع(‪.)1‬‬

‫املبالغة‬ ‫من وجهة النظر األدبية‪ ،‬فمثل هذه املحاوالت "العلمية"‬ ‫للتصنيف تقدم للكتَّاب نموذجا للوفرة‪ ،‬وإن كان يمكن للمرء أن‬ ‫يقول‪ ،‬عىل العكس من ذلك‪ ،‬إن الكتَّاب هم من قدموا النموذج‬ ‫للعلامء‪ .‬حقا‪ ،‬إن أحد سادة القائمة اجلاحمة هو رابليه‪ ،‬وقد استخدم‬ ‫مثل هذه القوائم‪ ،‬بالتحديد‪ ،‬من أجل كرس النظام اجلامد لنوع‬ ‫الكتابة األكاديمي‪ ،‬يف العصور الوسطى‪ ،‬والذي ُيدعى‬

‫‪(1) See Umberto Eco, The Search of a Perfect Language (Oxford: Blackwell,‬‬ ‫‪1995).‬‬

‫‪258‬‬


‫قوائمي‬

‫التلخيصات ‪.]1[Summae‬‬ ‫من تلك اللحظة‪ ،‬نجد أن القائمة ـ التي كانت‪ ،‬يف العصور‬ ‫الكالسيكية هي أسوأ البدائل‪ ،‬واحلل األخري‪ ،‬وما نلجأ إليه حني‬ ‫َّ‬ ‫املعذب‪،‬‬ ‫يفشل الكالم يف التعبري عام نتحدث عنه‪ ،‬أو الكتالوج‬ ‫الذي يتضمن أمال صامتا بالعثور‪ ،‬يف هناية األمر‪ ،‬عىل قالب يفرض‬ ‫النظام عىل جمموعة من األحداث العشوائية ـ قد أصبحت فعال‬ ‫شعريا‪ ،‬متت صياغته للتعبري عن احلب النقي للتشوه‪ .‬أسس رابليه‬ ‫لشاعرية القائمة من أجل القائمة‪ ،‬ولشاعرية القائمة باملبالغة‪.‬‬ ‫وحدها الرغبة يف املبالغة هي ما أهلمت احلكاء الباروكي‬

‫جيامباتستا باسيل‪ ،‬يف كتابه حكاية احلكايات‪ ،‬أو كتابه‪ :‬تسلية‬ ‫الصغار ـ حيث ُيكي عن كيف حتول سبعة أخوة إىل سبع ياممات‬ ‫بسبب ما ارتكبته أختهم من إثم ـ متوسعا يف نصه بحشد هائل من‬ ‫أسامء الطيور‪ :‬احلدأة‪ ،‬والصقر‪ ،‬والباز‪ ،‬ودجاج املياه‪ ،‬والشنقب‬ ‫]‪ :Summae [1‬نوع أدبي تعليمي‪ ،‬انتشر في العصور الوسطى‪ُ ،‬يكتب بالالتينية‪ ،‬وهو نوع‬ ‫من امللخص املعرفي ملجال من املجاالت‪ ،‬كملخص الالهوت‪ ،‬أو الفلسفة‪ .‬وكان‬ ‫استخدامه األساس ي كدليل‪ ،‬أو كتيب يحوي املعلومات الضرورية للمبتدئين في هذا‬ ‫املجال‪[ .‬املترجم]‬

‫‪259‬‬


‫اعرتافات روائي شاب‬

‫القناص‪ ،‬واحلَ ُّس ٌ‬ ‫ون‪ ،‬ونقار اخلشب‪ ،‬والزرياب‪ ،‬والبوم‪ ،‬وال َعق َعق‪،‬‬ ‫والزاغ‪ ،‬والغداف‪ ،‬والزرزور‪ ،‬وديك األرض‪ ،‬والديوك‪ ،‬والفروج‬ ‫َّ‬ ‫والرش ُشور‪،‬‬ ‫والسامن‪،‬‬ ‫والدجاج‪ ،‬والديك الرتكي‪ ،‬والشحرور‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫والصعو‪ ،‬والزقزاق الشامي‪ ،‬والزفيفية‪،‬‬ ‫وال ُقر ُقف األزرق‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫ِ‬ ‫والقربة‪،‬‬ ‫والربقش األخرض‪ ،‬وأبو منقار‪ ،‬وصائد الذباب‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫ُ‬ ‫والذعرة‪ ،‬وأبو احلناء‪ ،‬والعصفور‬ ‫والكروان‪ ،‬وصائد السمك‪،‬‬ ‫األمحر‪ ،‬والعصافري‪ ،‬والبط‪ ،‬والدٌّ ج‪ ،‬ومحام اخلشب‪ ،‬والدَ غناش‪.‬‬

‫كان حب املبالغة هو ما جعل روبرت بريتون‪ ،‬يف كتابه‪ :‬ترشيح‬ ‫االكتئاب (الكتاب الثاين‪ ،‬اجلزء الثاين) يقدم وصفا مرتاكام عرب‬ ‫صفحات المرأة قبيحة‪ ،‬قدر شنيع من األوصاف الشائنة واملهينة‪.‬‬ ‫وكان حب املبالغة هو ما أدى بجيامباتيستا مارينو‪ ،‬يف اجلزء العارش‬ ‫من كتابه‪ :‬أدونيس‪ ،‬إىل تسويد فيض من الصفحات يذكر فيها ثامر‬ ‫االبتكار اإلنساين‪" :‬األسطرالب‪ ،‬والتقاويم‪ ،‬ورشاك الصيد‪،‬‬ ‫ربد‪ ،‬وال َط َّفاشة‪ ،‬واألقفاص‪ ،‬ومصحات األمراض النفسية‪،‬‬ ‫وا َمل َ‬ ‫والسرتات القصرية‪ ،‬وظرف القذيفة‪ ،‬واملتاهات‪ ،‬وميزان ومقياس‬ ‫االستواء عند البنائني‪ ،‬والنرد‪ ،‬وأوراق اللعب‪ ،‬والكرة‪ ،‬ورقعة‬

‫‪260‬‬


‫قوائمي‬

‫وشخوص الشطرنج‪ ،‬والشخشيخة‪ ،‬والبكرة‪ ،‬واملخرز‪ ،‬وبكرة‬ ‫اخليط‪ ،‬وامللفاف‪ ،‬والرباميل‪ ،‬والساعات‪ ،‬واإلمبيق‪ ،‬وأداة صب‬ ‫اخلمر‪ ،‬والكري والبوتقة‪ ،‬واحلقائب‪ ،‬والفقاعات املليئة باهلواء‪،‬‬ ‫وفقاعات الصابون‪ ،‬وأبراج الدخان‪ ،‬وأوراق نبات القراص‪،‬‬ ‫وزهور اليقطني‪ ،‬والريش األخرض واألصفر‪ ،‬والعناكب‪،‬‬ ‫واجلعران‪ ،‬ورصصار الليل‪ ،‬والنمل‪ ،‬واليعسوب‪ ،‬والبعوض‪،‬‬ ‫وذباب النار‪ ،‬والفراشات‪ ،‬والفئران‪ ،‬والقطط‪ ،‬وحرير القز‪ ،‬ومئات‬ ‫من مثل تلك األدوات املبهجة‪ ،‬واحليوانات‪ ،‬وكل ما تراه من أوهام‬ ‫أخرى غريبة‪ ،‬عىل كل املستويات"(‪.)1‬‬

‫بعيدٌ عن املبالغة‪ ،‬ما كان من فيكتور هوجو‪ ،‬يف روايته‪ :‬ثالثة‬ ‫وتسعون (الكتاب الثاين‪ ،‬الفصل الثالث)‪ ،‬من إشارته إىل األبعاد‬ ‫اهلائلة للمؤمتر اجلمهوري‪ ،‬بفيض متوايل من األسامء عرب‬ ‫الصفحات‪ ،‬فنجد أن ما ُيعترب سجال أرشيفيا يصبح جتربة حمرية‬ ‫للعقل‪ .‬يمكن للقوائم الشغوفة بتجاوز احلد‪ ،‬والقوائم املفرطة‬ ‫ذاهتا‪ ،‬أن تصبح مرسفة ومفرطة‪.‬‬ ‫)‪ (1‬أتبع هنا ترجمة أالستير ماكواين‪،‬لكتاب إكو‪ :‬قوائم ال نهائية‪( ..‬إكو)‬

‫‪261‬‬


‫اعرتافات روائي شاب‬

‫إن عدم التقيد بحدود ال يعني التناقض‪ :‬يمكن للقائمة أن‬ ‫تتصف باإلفراط (انظر‪ ،‬عىل سبيل املثال‪ ،‬كتالوج األلعاب التي‬ ‫لعبها جارجانتوا) لكنها تبقى متامسكة متاما (قائمة األلعاب تلك‬

‫هي تعداد منطقي للتسلية)‪ .‬هكذا‪ ،‬تكون هناك قوائم متامسكة يف‬ ‫إفراطها‪ ،‬وأخرى ليست مبالغة يف طوهلا لكنها متثل حشد ألشياء‬ ‫ُقصد أال يكون بينها عالقات ظاهرة ـ كثرية لدرجة أن مثل هذه‬ ‫احلاالت ُأشري إليها كنامذج للتعداد الفوضوي(‪.)1‬‬ ‫ربام يكون أفضل مثال للمزيج الناجح بني اإلفراط والتامسك‬ ‫هو وصف الزهور يف حديقة بارادو‪ ،‬يف رواية‪ :‬خطأ األب موريه‪،‬‬ ‫للروائي إميل زوال‪ .‬أما املثال الكارثي فيمكن أن نجده يف تعداد‬ ‫األسامء واألشياء‪ ،‬التي مجعها كول بورتر يف أغنيته " ِ‬ ‫أنت القمة!"‪:‬‬ ‫الكوليزيوم‪ ،‬متحف اللوفر‪ ،‬حلن من سيمفونية لشرتاوس‪ ،‬قلنسوة‬ ‫ماركة بندل‪ ،‬سوناتا لشكسبري‪ ،‬ميكي ماوس‪ ،‬النيل‪ ،‬برج بيزا‪،‬‬ ‫ابتسامة املوناليزا‪ ،‬املهامتا غاندي‪ ،‬براندي نابليون‪ ،‬ضوء أرجواين يف‬

‫‪(1) See Leo Spitzer, La Enumeracion caotica en la poesia moderna ( Buenos Aires:‬‬ ‫‪Faculdad de Filosofia y Letras, 1945).‬‬

‫‪262‬‬


‫قوائمي‬

‫جوال‪ ،‬عشاء تركي‪،‬‬ ‫ليلة صيف إسبانية‪ ،‬املتحف القومي‪ ،‬هاتف َّ‬ ‫دوالر كوليدج‪ ،‬خطوات فريد استري الرشيقة‪ ،‬مرسحية أونيل‪،‬‬ ‫لوحة األم لويسلر‪ ،‬جبن الكممبري‪ ،‬زهرة‪ ،‬جحيم دانتي‪ ،‬أنف‬ ‫ديورانت العظيم‪ ،‬رقصة باليه‪ ،‬وجبة تامايل حارة‪ ،‬بوتيتشيلل‪،‬‬ ‫كييتس‪ ،‬شيلل‪ ،‬رنة صوت عميق‪ ،‬القمر فوق كتف ماي ويست‪،‬‬ ‫سالطة ولدورف‪ ،‬أغنية برلني‪ ،‬القوارب املنزلقة عىل هنر زويدر‬ ‫زي‪ ،‬سيد أملاين كهل‪ ،‬ليدي أستور‪ ،‬بروكل‪ ،‬رومانسية ‪ ...‬غري أن‬ ‫القائمة ال حتتاج إىل أمر حمدد لتكون متامسكة‪ ،‬حيث أهنا تتضمن‬ ‫كل األشياء التي يرى بورتر أهنا رائعة باعتباره الشخص الذي‬ ‫ُيبها‪ .‬يمكننا أن ننتقد االفتقار إىل التمييز يف قائمته للتقييامت‪ ،‬لكن‬ ‫ال يمكننا انتقاد منطقه‪.‬‬ ‫إن التعداد الفوضوي ال يتشابه مع تيار الوعي‪ .‬إن األحاديث‬ ‫الذاتية يف أعامل جيمس جويس يمكن أن تشكل جمموعات من‬ ‫العنارص غري املتجانسة متاما‪ ،‬ألسنا نفرتض‪ ،‬من أجل جعلها ك ً‬ ‫ال‬ ‫متامسكا‪ ،‬أهنا تنبع من وعي الشخصية ذاهتا‪ ،‬واحدة بعد أخرى‪،‬‬ ‫بواسطة روابط‪ ،‬ال جيب عىل املؤلف دوما أن يفرسها‪.‬‬

‫‪263‬‬


‫اعرتافات روائي شاب‬

‫إن مكتب تريون سليثروب‪ ،‬الذي وصفه توماس بينشون يف‬ ‫الفصل األول من روايته‪ :‬قوس قزح اجلاذبية‪ ،‬فوضوي بالتأكيد‪،‬‬ ‫لكن وصفه ليس كذلك‪ .‬واألمر ذاته ينطبق عىل وصف الفوىض يف‬ ‫مطبخ بلووم‪ ،‬يف رواية عوليس‪ .‬من الصعب القول ما إذا كانت‬ ‫القائمة املفرطة لألشياء التي يراها جورج برييس يف يوم واحد‪ ،‬يف‬

‫ساحة القديس سول َب ِيس‪ ،‬يف باريس (حماولة الستنفاد مكان‬ ‫بارييس) هي قائمة منسجمة أم مشوشة‪ .‬يلزم أن تكون القائمة‬ ‫عشوائية وغري مرتبة‪ :‬امليدان‪ ،‬يف ذلك اليوم‪ ،‬كان‪ ،‬بال شك‪ ،‬مرسحا‬ ‫آلالف األحداث األخرى التي مل يالحظها برييس أو يسجلها‪ .‬من‬ ‫ناحية أخرى‪ ،‬فحقيقة أن القائمة ال تتضمن غري ما الحظه فقط‪،‬‬ ‫جتعلها متجانسة بنحو مشوش‪.‬‬ ‫من بني القوائم املتجانسة واملفرطة‪ ،‬يمكننا أيضا أن نضيف‬ ‫تصوير املسلخ‪ ،‬يف رواية ألفرد دوبلني‪ :‬ساحة ألكسندر يف برلني‪.‬‬ ‫ظاهريا‪ ،‬تبدو هذه الفقرة وصفا منظام ملنشأة تقوم بنشاط ما‪،‬‬ ‫ولألعامل التي جترى فيها‪ ،‬لكن القارئ يواجه صعوبة يف تصور‬ ‫مالمح املكان‪ ،‬والتسلسل املنطقي لألنشطة التي جتري‪ ،‬يف قلب‬

‫‪264‬‬


‫قوائمي‬

‫هذا التكتل الكثيف للتفاصيل‪ ،‬والبيانات الرقمية‪ ،‬وبرك الدماء‪،‬‬ ‫وقطعان صغار اخلنازير الفزعة‪ .‬إن مسلخ دوبلني مفزع؛ ملا ُيتويه‬ ‫من أشياء غامرة يف عددها‪ ،‬إىل درجة تصدم القارئ‪ .‬أي ترتيب‬ ‫ممكن سيفشل‪ ،‬ببساطة‪ ،‬يف هذ الفوىض البهيمية املجنونة ـ التي‬ ‫تلمح جمازيا إىل املسالخ املستقبلية‪.‬‬ ‫يشبه وصف دوبلني للمسلخ تصوير بينشون ملكتب‬ ‫سلوثروب‪ :‬متثيل منظم حلال فوضوي‪ .‬األمر أشبه بقائمة زائفة‬ ‫الفوىض‪ ،‬وهو ما استلهمته حني كتابتي للفصل ‪ 28‬من روايتي‬ ‫باودولينو‪.‬‬ ‫يتجه باودولينو وصديقه صوب بلد بريسرت جون اخلرافية‪.‬‬ ‫فجأة‪ ،‬يصالن إىل سامباتيون ـ النهر الذي‪ ،‬بحسب الرتاث‬ ‫احلاخامي‪ ،‬ال ماء فيه‪ .‬وال يوجد غري سيل حمتدم من الرمال‬ ‫واألحجار‪ ،‬التي يصدر عنها ضجيج هائل يصم اآلذان‪ ،‬حتى‬ ‫يمكن سامعه عىل بعد مسرية يوم‪ .‬مل يتوقف هذا التدفق الصخري‬ ‫إال مع بداية يوم السبت ‪ ،Sabbath‬فقط يوم السبت يمكنهام أن‬ ‫يعربا النهر‪.‬‬

‫‪265‬‬


‫اعرتافات روائي شاب‬

‫تصورت أن هنرا من احلجارة سيكون نوعا ما فوضويا‪ ،‬خاصة‬ ‫إذا كانت األحجار خمتلفة يف حجمها‪ ،‬وألواهنا‪ ،‬وصالبتها‪ .‬عثرت‬

‫عىل قائمة مذهلة لألحجار واملعادن األخرى يف كتاب‪ :‬التاريخ‬ ‫الطبيعي لبليني‪ ،‬تآلفت أسامء تلك املواد ذاهتا لتصنع قائمة أكثر‬ ‫"موسيقية"‪ .‬هاكم عينات من كتالوجي‪:‬‬ ‫كان تيارا مهي ًبا من الصخور والطني‪ ،‬التي تتدفق بال توقف‪،‬‬ ‫ويف قلب هذا التيار من الكتل الكبرية التي ال شكل هلا‪ ،‬يمكن‬ ‫متييز بالطات غري منتظمة‪ ،‬حادة كالشفرات‪ ،‬عريضة مثل‬ ‫شواهد القبور‪ ،‬وخالهلا كان احلىص‪ ،‬واألحافري‪ ،‬والنتوءات‪،‬‬ ‫والصخور‪.‬‬ ‫وتتحرك بنفس الرسعة‪ ،‬كأهنا مدفوعة بريح هائجة‪ ،‬شظايا‬ ‫من احلجر اجلريي‪ ،‬تتدحرج فوق صدوع كبرية يف األعىل‪ ،‬ثم‬ ‫حني يقل زخم اندفاعها‪ ،‬تتقافز من جمرى الصدع‪ ،‬يف حني تصبح‬ ‫الرقائق الصغرية اآلن مستديرة‪ ،‬مصقولة كام لو بفعل املاء‪ ،‬أثناء‬ ‫انزالقها بني صخرة وأخرى‪ ،‬تتطاير لتسقط حمدثة صوتا حادا‪،‬‬ ‫لتقع بعد ذلك يف تلك الدوامات التي تسببت هي نفسها يف‬ ‫إحداثها‪ .‬ووسط وفوق هذا التداخل من املعادن‪ ،‬تشكلت‬

‫‪266‬‬


‫قوائمي‬

‫نفثات من الرمل‪ ،‬وفورات من الطباشري‪ ،‬وغيوم من صخور‬ ‫احلمم‪ ،‬ورغوة اخلفاف اإلسفنجي‪ ،‬ودفقات من الوحل‪.‬‬ ‫َّ‬ ‫الفخار‪ ،‬وابل من اجلمر‪،‬‬ ‫هنا وهناك رشاش من شظايا‬ ‫اهنمرت عىل الضفة‪ ،‬وكان عىل املسافرين تغطية وجوههم حتى‬ ‫ال يصابوا باجلروح‪.‬‬ ‫‪.....‬‬ ‫ملدة يومني‪ ،‬مثلت أمام أعينهم‪ ،‬فوق األفق‪ ،‬سلسلة منيعة من‬ ‫اجلبال الشاهقة‪ ،‬التي تلوح فوق املسافرين‪ ،‬وتعوق رؤيتهم‬ ‫للسامء‪ ،‬وتزامحوا كام لو كانوا يف ممر ضيق ال هناية له‪ ،‬ال يمكنهم‬ ‫رؤية يشء غري سحابة كبرية غائمة‪ ،‬حتتك بقمم اجلبال‪.‬‬ ‫هنا‪ ،‬عرب شق مثل ُجرح بني جبلني‪ ،‬رأوا منبع هنر‬ ‫السامباتيون[‪ :]1‬كدر من احلجر الرمل‪ ،‬وغرغرة حجر التوف‪،‬‬ ‫وقطرات الوحل‪ ،‬ودغدغة الشظايا اخلزفية‪ ،‬وتربم األرض‬ ‫]‪ [1‬نهر السامبتيون‪ :‬تدعي األدبيات اليهودية أنه النهر الذي تم نفي القبائل العشر‬ ‫املفقودة إلسرائيل إلى ما وراءه‪ ،‬من قبل امللك اآلشوري شلمنصر الخامس‪ .‬وأنه‬ ‫يجري ويرمي الحجارة ستة أيام في األسبوع‪ ،‬ويتألف بأكمله من الحجارة والرمال‬ ‫واللهيب‪ .‬ويستحيل عبوره طوال تلك األيام الستة‪ ،‬لكنه يتوقف عن الجريان في كل‬ ‫يوم سبت‪[ .‬املترجم]‬

‫‪267‬‬


‫اعرتافات روائي شاب‬

‫املتخثرة‪ ،‬وفيضان الرتاب‪ ،‬وأمطار طينية‪ ،‬حتولت مجيعها تدرجي ًيا‬ ‫إىل تدفق ثابت‪ ،‬بدأ مساره نحو بعض املحيطات الرملية التي ال‬ ‫حدود هلا‪.‬‬ ‫قىض أصدقاؤنا يو ًما يف حماولة االلتفاف حول اجلبال‪،‬‬ ‫والعثور عىل ممر أعىل املنبع‪ ،‬ولكن دون جدوى‪.‬‬ ‫‪.....‬‬ ‫قرروا السري بمحاذاة النهر‪ ،‬آملني أن يصل هبم إىل خمرج له‪،‬‬ ‫أو دلتا‪ ،‬أو مصب‪ ،‬كام ينبغي أن يكون لألهنار‪ ،‬ليكون إىل أرض‬ ‫قاحلة أكثر راحة‪ .‬لذلك سافروا لعدة هنارات وأمايس‪ ،‬ابتعدوا‬ ‫عن ضفاف النهر من أجل العثور عىل مناطق أقل وعورة‪ ،‬والبد‬ ‫أن السامء قد نسيت انتهاكاهتم‪ ،‬إذ بلغوا واحة صغرية هبا بعض‬ ‫الري‬ ‫املساحات اخلرضاء‪ ،‬وحوض ماء ضئيل‪ ،‬يكفي ملنحهم ِّ‬ ‫والتزود منه لبضعة أيام‪ .‬ثم واصلوا مسريهم‪ ،‬يصاحبهم هدر‬ ‫النهر‪ ،‬حتت سامء متوهجة‪ ،‬متر فيها أحيانًا بعض الغيوم‪ ،‬الناعمة‬ ‫واملنبسطة مثل حجارة بوبكتور‪.‬‬ ‫حتى أدركوا‪ ،‬بعد ما يقرب من مخسة أيام من السفر‪ ،‬وليايل‬ ‫ال يقل قيظها عن النهارات‪ ،‬أن احلركة املستمرة للمد واجلزر‬

‫‪268‬‬


‫قوائمي‬

‫تغريت‪ .‬اختذ النهر رسعة أكرب‪ ،‬ويف جمراه كان يشء ما مثل‬ ‫التيارات التي تبدو مرئية‪ ،‬جتري متسارعة حتى إهنا تدفع قطعا‬ ‫من البازلت كأهنا أكوام من القش‪ ،‬ومن بعيد يصل صوت رعد‬ ‫‪ ...‬ثم بحامسة متزايدة‪ ،‬انقسم هنر سامباتيون إىل ما ال حرص له‬ ‫من جماري األهنار‪ ،‬التي اخرتقت املنحدرات اجلبلية‪ ،‬مثلام خترتق‬ ‫أصابع اليد كتلة من الطني‪ ،‬يف بعض األحيان تغيب موجة يف فم‬ ‫مغارة‪ ،‬ثم‪ ،‬تنبثق من قلب ممر صخري وعر‪ ،‬وهي هتدر وتندفع‬ ‫بغضب نحو الوادي‪ .‬بشكل مفاجئ‪ ،‬بعد منحنى واسع‪ُ ،‬جترب‬ ‫عىل الدوران حوله‪ ،‬ألن ضفة النهر وعرة‪ ،‬بفعل العواصف قوية‬ ‫التي جتلدها‪ ،‬وصل األصدقاء إىل قمة اهلضبة ورأوا هنر‬ ‫سامباتيون حتتهم‪ ،‬خمتفيا كأنام يف هوة اجلحيم‪.‬‬ ‫كانت هناك شالالت تتدفق من العرشات من احلواف‬ ‫الصخرية املرتَّبة مثل املدرج‪ ،‬تنتهي إىل دوامة ال حدود هلا‪،‬‬ ‫وجتشأ متواصل للجرانيت‪ ،‬ودوامة من القار‪ ،‬وتيار وحيد من‬ ‫حجر الشب‪ ،‬وفوران من حجر الشست‪ ،‬صدام من الرهج‬ ‫األصفر مع ضفاف النهر‪ .‬ويف مادة الدوامة التي اندلعت نحو‬ ‫السامء‪ ،‬وإن بنحو منخفض بالنسبة ألعني الذين ينظرون إىل‬

‫‪269‬‬


‫اعرتافات روائي شاب‬

‫األسفل‪ ،‬كام لو من أعىل الربج‪ ،‬شكلت أشعة الشمس عىل تلك‬ ‫القطرات‪ ،‬ذات الربيق السيليكوين‪ ،‬قوس قزح هائل‪ ،‬عكس‪،‬‬ ‫بمثل ما يعكس كل جسم األشعة‪ ،‬بروعة تتفاوت حسب طبيعته‬ ‫اخلاصة‪ ،‬فكان هلا من األلوان ما هو أكثر بكثري من تلك التي‬ ‫تتشكل عادة يف السامء بعد العاصفة‪ ،‬ولكن عىل عكسها‪ ،‬بدت‬ ‫متجهة للتألق األبدي‪ ،‬والذي ال ينوبه انتهاء‪.‬‬ ‫وهجا من السواد كام لو‬ ‫كان تألقا امحر حلجر الدم والزنجفر‪،‬‬ ‫ً‬ ‫كان معدنيا‪ ،‬أرساب من فتات الرهج تراوح بني األصفر إىل‬ ‫الربتقايل الساطع‪ ،‬زرقة األرمينيوم‪ ،‬وبياض األصداف املتكلسة‪،‬‬ ‫وخرضة املاالكيت‪ ،‬خفوت الليثرجاريان إىل صفرة الزعفران‬ ‫الشاحبة‪ ،‬ووهج الريسيجاالم‪ ،‬ودفقات األرض املخضورضة‬ ‫التي تتالشى يف غبار لزاق الذهب‪ ،‬لتستحيل إىل درجات دقيقة‬ ‫التفاوت من النيل والبنفسجي‪ ،‬ليسود موزاييك من الذهب‪،‬‬ ‫وأرجوان من الرصاص األبيض املحرتق‪ ،‬وتوهج لصمغ‬ ‫السندروس‪ ،‬وأريكة من الطني الفيض‪ ،‬وشفافية رائعة من املرمر‪.‬‬ ‫ال يمكن لصوت برشي أن يكون مسموعًا يف قلب تلك‬ ‫الضجة‪ ،‬وليس لدى املسافرين رغبة يف التحدث‪ .‬لقد شهدوا‬

‫‪270‬‬


‫قوائمي‬

‫احتضار هنر السامباتيون الثائر‪ ،‬غاض ًبا من اضطراره إىل التاليش‬ ‫يف أحشاء األرض‪ ،‬حماوال أخذ كل ما ُييط به معه‪ ،‬متعلقا بكل‬ ‫حجر للتعبري عن عجزه التام(‪.)1‬‬

‫بعض القوائم تصبح مشوشة باملبالغة يف التعبري عن الغضب‪،‬‬ ‫والكراهية‪ ،‬واحلقد‪ ،‬فتطلق العنان لشالل من اإلهانات‪ .‬مثال‬

‫نموذجي لذلك نجده يف إحدى فقرات رواية‪ :‬تفاهات من أجل‬ ‫مذبحة‪ ،‬حيث ُيطلق سيلني سيال من اإلساءات ـ ال يوجهها‪،‬‬ ‫كالعادة‪ ،‬إىل اليهود‪ ،‬بل إىل روسيا السوفييتية‪:‬‬ ‫دينج! بادابينج! إهنم ينفثوهنا! منتفخة! أحشاء اإلله! ‪487 ...‬‬ ‫مليون! من علامء القوزاق املخوزقني! ماذا؟ ماذا؟ كيف؟ كل‬ ‫التقرحات السلوفانية! ماذا! من البلطيق السلوفاكي إىل أبيض‬ ‫أعايل البحار السوداء؟ كم؟ البلقان! نجس! مثل خيارة عفنة! ‪...‬‬ ‫ناثروا غائط كريه! براز فأر! لن أعطيهم ولو رضطة ‪ ...‬لن‬ ‫أعتربكم! أنا خارج هنا‪ ،‬حلظة هائلة! أبقار مكدسة! بنحو ضخم!‬ ‫‪ ...‬عامل سخرة! ‪ ...‬تتار منغوليون! ‪ ...‬ستاخانوفيون!‬ ‫‪(1) Eco, Baudolino, ch. 28, trans. William Weaver.‬‬

‫‪271‬‬


‫اعرتافات روائي شاب‬

‫ من السهول املغطاة‬... ‫أرسيليكوف! أربعامئة ألف مقياس طول‬ ‫ لقد عربت كل جبال فيزوف‬... !‫ من جلود اخلنزير املقدد‬،‫بالغائط‬ ... !‫ عديمو اجلدوى املصابون بالفطريات‬... !‫هنا! فيضانات‬ ... !‫أوعية غرف القيرص من أجلك ولفتحات قذارتك املنحرفة‬ )1(

!‫ عرب برييا‬... !‫ستابيلني! فوروشيتسكي! خملفات عاجز‬

(1) Louis-Ferdinand Celine, Bagatelles pour un massacre, trans. Alastair McEwan. Any translation of that rabidly anti- Semitic workhas been forbidden by Celine estate. A version is offerd at: vho.org/aaargh/fran/livres6/CELINEtrif.pdf (accessed August 20, 2010). Alastair McEwan, the translator of my book The Infinity of Lists, preferred to trya brand-new rendering. It's probably worth quoting the original (which smacks curiously of Captain Haddock's furious outbursts in Tintin): Dine! Paradine! Crevent! Boursouflent! Ventre dieu! … 487 millions! D'empalafies cosacologues! Quid? Quid? Quod? Dans [353] tous les chancres de Slavie! Quid? De Baltique slavigote en Blanche Altramer noire? Quam? Balkans! Visqueux! Ratagan! de concombres!... mornes! roteux! de ratamerde! Je m'en pourfentre... Je m'en pourfoutre! Gigantement! Je m'envole! coloquinte!... Barbatoliers? immensément! Volgaronoff!... mongomoleux Tartaronesques!... Stakhanoviciants!... Culodovitch!... Quatre cent mille verstes myriamètres... de steppes de condachiures, de peaux de Zébis-Laridon!... Ventre Poultre! Je m'en gratte tous les Vésuves!... Déluges!... fongueux de margachiante!... Pour vos tout sales pots fiottés d'entzarinavés!... Stabiline! Vorokchiots! Surplus Déconfits!... Transbérie!"

272


‫قوائمي‬

‫التعداد الفوضوي‬ ‫من املستحيل أن نصف كل تعداد بالفوضوي‪ ،‬حيث يمكن‬ ‫لكل تعداد‪ ،‬من وجهة نظر معينة‪ ،‬أن ُيوز تساوقا ما‪ .‬لن يكون‬ ‫هناك يشء غري متناسق حتى بالنسبة لقائمة جتمع معا‪ :‬مكنسة‪،‬‬ ‫ونسخة غري مكتملة من السرية الذاتية جلالن‪ ،‬وجنني حمفوظ يف‬ ‫الكحول‪ ،‬و(اقتباسا من الكونت لوتريامون) مظلة‪ ،‬ومنضدة‬ ‫ترشيح‪ .‬قد يلجأ املرء إىل اعتبار ذلك جرد ألشياء مطروحة يف قبو‬ ‫معهد طبي‪ .‬إن قائمة تتضمن‪ :‬يسوع‪ ،‬ويوليوس قيرص‪،‬‬ ‫وشيرشون‪ ،‬ولويس التاسع‪ ،‬وريمون لويل‪ ،‬وجان دارك‪ ،‬وجيل‬ ‫دي ريز‪ ،‬وداميان‪ ،‬ولينكولن‪ ،‬وهتلر‪ ،‬وموسوليني‪ ،‬وكينيدي‪،‬‬ ‫وصدام حسني‪ ،‬تشكل جمموعة متجانسة‪ ،‬إذا الحظنا أهنا مجيعا‬ ‫أرس ِهتم‪.‬‬ ‫أسامء أناس مل يموتوا عىل َّ‬ ‫من أجل العثور عىل أمثلة أصيلة للتعداد الفوضوي‪ ،‬والتي‬ ‫تسبق القوائم املشوشة للسورياليني‪ ،‬فعلينا أن ننظر يف قصيدة‬ ‫رامبو "القارب املخمور"‪ .‬احلقيقة‪ ،‬بالنسبة لرامبو‪ ،‬أن أحد‬

‫‪273‬‬


‫اعرتافات روائي شاب‬

‫الباحثني ذكر أن ثمة اختالف بني تعداد املعطوفات‪ ،‬وتعداد‬ ‫املتفرقات غري املعطوفة(‪ .)1‬كل اقتباسايت السابقة تعد أمثلة عىل‬ ‫تعول عىل جمال معني للخطاب‪،‬‬ ‫تعداد املعطوفات‪ :‬فكل منها ِّ‬ ‫تتطلب عنارص القائمة‪ ،‬وفقا له‪ ،‬تناغام متبادال‪ .‬عىل النقيض‬ ‫من ذلك‪ ،‬فإن التعداد بني املنفصل يؤسس لقاعدة التشظي‪،‬‬ ‫مثل ما يعانيه املبتىل بمرض االنفصام يف الشخصية‪ ،‬الذي‬ ‫يدرك سلسلة من االنطباعات املتباينة‪ ،‬وال يكون قادرا عىل‬ ‫إضفاء أي وحدة بينها‪ .‬أهلمت فكرة التعداد املنفصل ليو‬ ‫سبيتزر‪ ،‬فقام بصياغة مفهومه‪ :‬التعداد الفوضوي(‪ .)2‬الواقع‪،‬‬ ‫أنه اقتبس‪ ،‬عىل سبيل التمثيل‪ ،‬تلك األبيات من قصيدة رامبو‪:‬‬ ‫إرشاقات‪:‬‬ ‫يف الغابة عصفور‪ ،‬يأرسك غناؤه‪ ،‬جيعلك تتورد خجال‬ ‫هناك ساعة ال تدق أبدا‬ ‫هناك غور فيه ُعش لوحوش بيضاء‬

‫‪(1) See Detlev W. Schumann, "Enumerative Style and Its Significance in Whitman,‬‬ ‫‪Rilke, Werfel," Modern Language Quarterly, 3, no. 2 ( June 1942): 171-204.‬‬ ‫‪(2) Spitzer, La Enumeracion caotica en la poesia moderna..‬‬

‫‪274‬‬


‫قوائمي‬

‫هناك كاتدرائية هتبط‪ ،‬وبحرية تصعد‬ ‫هناك عربة صغرية مهجورة يف الدغل أو هتبط عىل الطريق املحدد‬ ‫باخلطوط‪.‬‬ ‫هناك فرقة من املمثلني الصغار يرتدون مالبس التمثيل‪ُ ،‬ملحوا عند‬ ‫حدود الغابة‪.‬‬ ‫وحينئذ‪ ،‬عندما تشعر باجلوع والعطش‪ ،‬فهناك من سيدفع بك‬ ‫بعيدا(‪.)1‬‬

‫بالنسبة للتعداد الفوضوي‪ ،‬يقدم لنا األدب ثروة من األمثلة‪،‬‬ ‫من بابلو نريودا إىل جاك بريفري‪ ،‬وحتى إيتالو كالفينو يف جمموعته‬ ‫القصصية ‪ ،Cosmicomics‬التي تصور التشكل العشوائي لسطح‬ ‫األرض‪ ،‬بواسطة حتطم النيازك عليها‪ .‬يطلق كالفينو عىل قائمته‪:‬‬ ‫"اخلليط العبثي"‪ ،‬ويقول‪" :‬لقد استمتعت بتصور أن هناك‪ ،‬بني‬ ‫تلك األشياء شديدة التنافر‪ ،‬رابطة رسية بينها‪ ،‬عل أن أمخنها"(‪.)2‬‬ ‫)‪(1‬‬

‫‪Arthur Rimbaud, "Childhood," Part 3, trans. Louis Varese (1946),‬‬ ‫‪Illuminations, www.mag4.net/Rimbaud/poesies/Childhood.html (accessed‬‬ ‫‪September 2, 2910).‬‬ ‫‪(2) Italo Calvino, "Il cielo de pietra," in Tutte le cosmicomiche (Milan: Mondadori,‬‬ ‫‪1997), 314; in English, The Complete Cosmocomics, trans. Martin‬‬ ‫‪McLaughlin, Tim Parks, and William Weaver (New York: Penguin, 2009).‬‬

‫‪275‬‬


‫اعرتافات روائي شاب‬

‫لكن ال شك أن القائمة األكثر فوضوية‪ ،‬من بني كل القوائم غري‬ ‫املتجانسة‪ ،‬هي قائمة احليوانات يف املوسوعة الصينية‪ ،‬املسامة‪:‬‬

‫السوق الساموي للمعرفة اخلريية‬

‫‪The Celestial Emporium of‬‬

‫‪ ،Benevolent Knowledge‬أبتكرها بورخيس‪ ،‬وذكرها ميشيل‬ ‫فوكو‪ ،‬يف مستهل مقدمته لكتاب‪ :‬الكلامت واألشياء‪ .‬تفرتض‬ ‫املوسوعة أن احليوانات تنقسم إىل‪( :‬أ) احليوانات التي يملكها‬ ‫املدربة‪،‬‬ ‫اإلمرباطور‪( ،‬ب) احليوانات املحنطة‪( ،‬ت) احليوانات‬ ‫َّ‬ ‫(ث) خنازير رضيعة‪( ،‬ج) جنيات البحر‪( ،‬ح) وحوش األساطري‬ ‫واخلرافات‪( ،‬خ) الكالب الضالة‪( ،‬د) احليوانات املذكورة يف هذا‬ ‫التصنيف‪( ،‬ذ) احليوانات التي تنتفض كاملجانني‪( ،‬ر) احليوانات‬ ‫التي ال ُحتىص‪( ،‬ز) احليوانات املرسومة بدقة بريشة من وبر اجلمل‪،‬‬ ‫(س) إىل آخره‪( ،‬ش) احليوانات التي كرست املزهرية تو ًا‪( ،‬ص)‬ ‫وتلك التي تبدو من بعيد كالذباب(‪.)1‬‬ ‫‪(1) Jorge Luis Borges, "John Wilkins' Analytical Language," in Borges, Selected‬‬ ‫‪Nonefictions, ed. Eliot Weinberger, trans. Esther Allen et al. (New York:‬‬ ‫‪Viking Penguin, 1999). Michel Foucault, Les Mots et les choses (Paris:‬‬ ‫‪Gallimard, 1966); in English, The Order of Things (New York: Pantheon,‬‬ ‫‪1970), preface.‬‬

‫‪276‬‬


‫قوائمي‬

‫بعدما استعرضنا أمثلة للتعداد املتناغم‪ ،‬واملفرط‪ ،‬والفوضوي‪،‬‬ ‫ندرك أهنا‪ ،‬مقارنة بقوائم العصور القديمة‪ ،‬تكشف عن يشء‬ ‫خمتلف‪ .‬كام راينا‪ ،‬اجته هومريوس إىل القائمة الفتقاره إىل الكلامت‬ ‫التي تفي بموضوعه‪ ،‬كام هيمنت فكرة ما ال يوصف عىل شعرية‬ ‫القوائم لقرون عديدة‪ .‬لكن‪ ،‬بالنظر إىل القوائم التي أنشأها جويس‬ ‫وبورخيس‪ ،‬نرى أهنا تصنع قوائم‪ ،‬ليس ألهنام مل جيدا ما يقوالنه‪،‬‬ ‫وإنام ألهنام رغبا يف قول يشء ينبع من الرغبة يف املبالغة‪ ،‬والتباهي‪،‬‬ ‫والرشه إىل الكلامت‪ ،‬من أجل العلم املرح (ونادرا ما ينشأ ذلك عن‬ ‫هوس لدهيام) وصيغ اجلمع‪ ،‬وغري املحدود‪ .‬تصبح القائمة نوعا من‬ ‫إعادة تنظيم العامل‪ ،‬بوضع منهج تيسورو لتعداد اخلصائص موضع‬ ‫التنفيذ‪ ،‬من أجل احلصول عىل عالقات جديدة بني األشياء‬ ‫املختلفة‪ ،‬وإلقاء ظل من الشك عىل تلك القوائم التي يتم قبوهلا من‬ ‫احلس املشرتك‪ .‬بذلك‪ ،‬تصبح القائمة الفوضوية إحدى األنامط‬ ‫التي عملت عىل تفكيك الشكل‪ ،‬الذي تم تداوله بأساليب عديدة‪،‬‬ ‫من جانب مذاهب املستقبلية‪ ،‬والتكعيبية‪ ،‬والدادائية‪ ،‬والسوريالية‪،‬‬ ‫والواقعية اجلديدة‪.‬‬

‫‪277‬‬


‫اعرتافات روائي شاب‬

‫إن قائمة بورخيس‪ ،‬إضافة إىل ما سبق‪ ،‬ال تتحدى فقط كل‬ ‫معايري التطابق‪ ،‬بل تقصد أن تلعب أيضا عىل تناقضات نظرية‬ ‫املجموعات[‪ .]1‬تتمرد قائمته عىل أية معايري منطقية للتطابق؛ حيث‬ ‫ال يمكن للمرء أن يفهم ما الذي قد يعنيه إضافة "إىل آخره"‪ ،‬ال يف‬

‫هناية السلسلة‪ ،‬حيث يمكن وجود عنارص إضافية أخرى‪ ،‬لكن بني‬ ‫مواد القائمة ذاهتا‪ .‬ليست تلك هي املسألة الوحيدة‪ .‬فاليشء الذي‬ ‫جيعل القائمة غري متجانسة هو‪ ،‬أنه من بني األشياء التي تصنفها‪،‬‬ ‫تتضمن أيضا "األشياء املذكورة يف هذا التصنيف"‪ .‬يميز هنا‪،‬‬ ‫طالب املنطق الريايض‪ ،‬عىل الفور‪ ،‬املفارقة التي صاغها برتراند‬ ‫رسل‪ ،‬يف شبابه‪ ،‬يف معارضته لفرجية‪ :‬إذا كانت املجموعة عادية‬ ‫عندما ال تتضمن ذاهتا (جمموعة من أنواع القطط ليست قطة‪ ،‬بل‬ ‫مفهوم)‪ ،‬وإذا كانت املجموعة غري عادية عندما تكون‪ ،‬هي ذاهتا‪،‬‬ ‫أحد عنارصها (جمموعة من مجيع املفاهيم هي مفهوم)‪ ،‬فكيف‬ ‫]‪ [1‬نظرية املجموعة ‪ :Set Theory‬أحد فروع علم املنطق الرياض ي‪ ،‬تهتم بدراسة‬ ‫املجموعات‪ ،‬أي‪ :‬جمع كائنات رياضية مجردة والعمليات املطبقة عليها‪ ،‬وتشكل إحدى‬ ‫أهم ركائز الرياضيات الحديثة‪ .‬وعلى اثر اكتشاف تناقضات عديدة في نظرية‬ ‫ُ‬ ‫املجموعات األساسية اقترحت العديد من األنظمة البديهية لتجاوز هذه التناقضات‬ ‫‪[.‬املترجم]‬

‫‪278‬‬


‫قوائمي‬

‫نصنف جمموعة تضم كافة املجموعات العادية؟ إذا صنفناها بأهنا‬ ‫عادية‪ ،‬فسيكون لدينا جمموعة غري مكتملة‪ ،‬ألهنا ال تتضمن ذاهتا‪،‬‬ ‫وإذا صنفناها بأهنا غري عادية‪ ،‬فسيكون لدينا جمموعة غري منطقية‪،‬‬ ‫ألنه بني كل املجموعات العادية سيكون لدينا جمموعة غري عادية‪.‬‬ ‫إن تصنيف بورخس يتالعب هبذه املفارقة‪ .‬سواء كان تصنيف‬ ‫احليوانات جمموعة عادية‪ ،‬وبالتايل ال جيب أن تتضمن ذاهتا ـ لكن‬ ‫التضمني الذايت ال يظهر يف قائمة بورخس‪ ،‬أم إهنا قائمة غري عادية‪،‬‬ ‫وبالتايل يلزم أن تكون القائمة متناقضة؛ ألن شيئا ما سيكون بني‬ ‫احليوانات وهو ليس بحيوان؛ إهنا جمموعة‪.‬‬ ‫أتساءل إن كنت صممت يوما قائمة فوضوية فعال‪ .‬لإلجابة‪،‬‬ ‫أقول إن القوائم الفوضوية األصيلة ال يمكن أن يكتبها غري‬ ‫الشعراء‪ .‬أما الرواة فعليهم أن يقدموا شيئا ُيدث يف مكان وزمان‬ ‫حمددين‪ ،‬وبفعل ذلك‪ ،‬فإهنم يصممون‪ ،‬أيضا‪ ،‬نوعا من إطار عمل‪،‬‬ ‫يف داخله تكون العنارص املتناقضة‪ ،‬بطريقة ما‪" ،‬متالصقة" ببعضها‬ ‫البعض‪ .‬مثال ذلك‪ :‬أود أن أقرتح نوعا من تيار الوعي ليامبو‪ ،‬بطل‬ ‫رواية‪ :‬الشعلة الغامضة للملكة لوانا‪ .‬ف َقدَ يامبو ذاكرته الشخصية‪،‬‬

‫‪279‬‬


‫اعرتافات روائي شاب‬

‫ومل ُيتفظ بغري الذاكرة الثقافية‪ ،‬التي استحوذت عليه‪ ،‬ورغم أنه ال‬ ‫يستطيع تذكر أي يشء عن نفسه أو عن عائلته‪ .‬ويف حلظة معينة‪،‬‬ ‫كون جمموعة متنافرة بالكلية من املقتطفات‬ ‫بنوع من اهلذيان‪َّ ،‬‬ ‫الشعرية املتنوعة‪ .‬بدت القائمة‪ ،‬بكل تأكيد‪ ،‬فوضوية‪ ،‬إذ أن ما‬ ‫رغبت يف استلهامه هو اإلحساس بالتشوش العقل‪ .‬لكن إذا كانت‬ ‫أفكار بطل روايتي فوضوية‪ ،‬فكذلك كانت قائمتي‪ ،‬ألين قصدت‬ ‫هبا تصوير عقل خرب‪:‬‬ ‫داعبت األطفال وكنت أشم رائحتهم‪ ،‬دون أن أمتكن من‬ ‫حتديد طبيعتها إال أن أقول إهنا رقيقة‪ .‬كل ما يتبادر إىل الذهن هو‬ ‫وجود عطر منعش مثل رائحة برشة طفل‪ .‬واملؤكد أن رأيس ليس‬ ‫ً‬ ‫فارغا‪ ،‬بل كان عبارة عن جمموعة من الذكريات املضطربة‪ ،‬التي‬ ‫مل تكن يل‪ :‬خرجت املركيزة يف الساعة اخلامسة من منتصف رحلة‬ ‫حياتنا‪ ،‬أنجب إبراهيم إسحاق‪ ،‬وأنجب إسحاق يعقوب‪،‬‬ ‫وأنجب يعقوب رجل المانشا‪ ،‬وكان ذلك عندما رأيت البندول‬ ‫ما بني ابتسامة ودمعة‪ ،‬عىل فرع من بحرية كومو حيث غنت‬ ‫الطيور احللوة آخر اليوم‪ ،‬تتساقط ثلوج األمس هبدوء إىل أمواج‬ ‫شانون اهلائجة واملظلمة‪ ،‬السادة اإلنجليز‪ ،‬لقد نمت مبكرا‪ ،‬رغم‬

‫‪280‬‬


‫قوائمي‬

‫أن الكلامت ال يمكنها أن تشفي اضطراب امرأة‪ ،‬هنا سنجعل‬ ‫إيطاليا أو ُ‬ ‫القبلة جمرد قبلة‪ ،‬أنت نرد أيضا‪ ،‬رجل بدون قدرات‬ ‫يقاتل وهيرب‪ ،‬إخوة إيطاليا ال يسألون عام يمكنك القيام به‬ ‫لبلدك‪ ،‬املحراث الذي يشق األخاديد يف األرض سيعيش من‬ ‫أجل أن جياهد يوما آخر‪ ،‬أعني أن ًفا بأي اسم آخر‪ ،‬لقد نشأت‬ ‫إيطاليا اآلن والباقي تعليقات‪ ،‬لقد طهرت روحي يف باريس‬ ‫بغزارة األمطار‪ ،‬ال تطلب منا كلمة جمنونة بالضوء‪ ،‬ستكون لدينا‬ ‫معركة يف الظل وفجأة حل الليل‪ ،‬أغنِّي‪ :‬حول قلبي أذرع ثالث‬ ‫نساء‪ ،‬أوه فالنتينو فالنتينو أين أنت‪ ،‬العائالت السعيدة متشاهبة‬ ‫قالت العريس للعروس‪ ،‬جويدو أمتنى لو ماتت األم اليوم‪،‬‬ ‫الر ُجل‪ ،‬موسيقى مشاة كولومبس‪،‬‬ ‫أدركت ارتعاش أول عصيان َّ‬ ‫اذهب أهيا الكتاب الصغري إىل حيث يزهر الليمون‪ ،‬ذات مرة‬ ‫عاش أخيل ابن بيليوس‪ ،‬وكانت األرض بدون شكل ومزدمحة‬ ‫بنا‪ ،‬أشعل إضاءة أكثر أنِر فوق كل يشء‪ ،‬أيتها الكونتيسة‪ ،‬ماذا‪،‬‬ ‫آه‪ ،‬ما هي احلياة؟ وجاء جيل بعد ذلك يتشقلب‪ .‬أسامء‪ ،‬أسامء‪،‬‬ ‫أسامء‪ :‬أنجلو ديال أوكا بيانكا‪ ،‬اللورد برومل‪ ،‬بيندار‪ ،‬فلوبري‪،‬‬ ‫دزرائيل‪ ،‬ريميجيو‪ ،‬زينا‪ ،‬جوراسيك‪ ،‬فاتوري‪ ،‬سرتاباروال‪،‬‬ ‫والليايل السعيدة‪ ،‬دي بومبادور‪ ،‬سميث وويسون‪ ،‬روزا‬

‫‪281‬‬


‫اعرتافات روائي شاب‬

‫لوكسمبورج‪ ،‬زينو كوزيني‪ ،‬باملا الكربى‪ ،‬أركيوبرتكس‪،‬‬ ‫سيرساتشيو‪ ،‬ماثيو مارك لوك جون‪ ،‬بينوكيو‪ ،‬جوستني‪ ،‬ماريا‬ ‫جوريتي‪ ،‬تاييس العاهرة مع أظافر قذرة‪ ،‬هشاشة العظام‪،‬‬ ‫القديس أونوريه‪ ،‬باكرتيا إكاتانا برسيبوليس سوسا أربيال‪،‬‬ ‫ألكسندر وعقدة جورديان‪.‬‬ ‫كانت املوسوعة تنهار عل‪ ،‬وتفككت صفحاهتا‪ ،‬وشعرت‬ ‫وكأنني ألوح بيدي بالطريقة التي يفعل هبا املرء ذلك بني رسب‬ ‫من النحل(‪.)1‬‬

‫قوائم وسائل اإلعالم الجماهيرية‬ ‫تغلغلت شعرية القائمة يف عديد من مظاهر الثقافة اجلامهريية‪،‬‬

‫‪(1) Umberto Eco, The Mysterious Flame of Queen Loana, trans. Geoffrey Brock‬‬ ‫‪(New York: Harecourt, 2005), ch. 1.‬‬ ‫شعر ببعض الحرج في اقتباس هذا النص كما لو أنه لي‪ .‬ففي النص األصلي اإليطالي قمت‬ ‫بجمع اقتباسات أدبية يسهل على القارئ اإليطالي العادي‪ ،‬وكان على املترجم أن "يعيد‬ ‫تخليق" هذه املقتطفات باختيار أخرى يسهل على القارئ اإلنجليزي استيعابها‪ .‬تلك‬ ‫إحدى حاالت التي ينبغي على املترجم أن يتجنب الترجمة الحرفية فيها‪ ،‬من أجل أن‬ ‫ينتج‪ ،‬في لغة أخرى‪ ،‬التأثير نفسه‪ .‬على أية حال‪ ،‬فإن نص بوكر‪ ،‬وإن كان مختلفا عن‬ ‫النص األصلي‪ ،‬فقد انطوى على اإلحساس بفوضوية مقاطعي املقتبسة‪( .‬إكو)‬

‫‪282‬‬


‫قوائمي‬

‫ولكن بمقاصد ختتلف عن تلك التي للفن الطليعي‪ .‬نحن يف‬ ‫حاجة‪ ،‬فقط‪ ،‬للتفكري يف تلك النامذج السينامئية للقائمة املرئية ـ‬

‫موكب الفتيات املزينات بريش النعام هيبطن الدرج يف فيلم محاقات‬ ‫زجيفيلد‬

‫(‪ ،)1945‬باليه املاء الشهري يف فيلم ‪Bathing Beauty‬‬

‫(‪ ،)1944‬صف الراقصات يف فيلم ‪Footlight Parade‬‬

‫(‪ ،)1933‬والعارضات الالئي يتتابعن يف فيلم روبرتا (‪،)1935‬‬ ‫واالستعراضات احلديثة للمصممني العظامء‪.‬‬ ‫إن تعاقب الكائنات الفاتنة هنا‪ ،‬مصمم فقط من أجل اإلُياء‬ ‫بالكثرة‪ ،‬واحلاجة إىل إشباع الرغبة يف إنجاز عمل ضخم‪ ،‬ال‬ ‫إلظهار صورة براقة واحدة‪ ،‬بل الكثري من تلك الصور‪ ،‬لتوفر‬ ‫للمتلقي احتياطيا ال ينضب من املثريات احلسية‪ ،‬مثل امللكات‬ ‫القدامى‪ ،‬الالئي كن يزين أنفسهن بالكثري من اجلواهر‪ .‬إن أسلوب‬ ‫القائمة غري مصمم ألن يضع النظام االجتامعي موضع االهتام‪ ،‬عىل‬ ‫العكس من ذلك‪ ،‬إن غايته أن يعيد القول بأن عامل الوفرة‬ ‫واالستهالك‪ ،‬املتاح للجميع‪ ،‬يمثل النموذج الوحيد املمكن‬ ‫للمجتمع املنظم‪.‬‬

‫‪283‬‬


‫اعرتافات روائي شاب‬

‫إن توفري قوائم بأشكال اجلامل املختلفة له عالقة بالسامت املميزة‬ ‫للمجتمع الذي أنتج الوسائط اإلعالمية اجلامهريية‪ .‬األمر يذكرنا‬ ‫بكارل ماركس‪ ،‬الذي يقول يف مقدمة كتابه رأس املال‪" :‬إن ثروة‬ ‫املجتمعات التي يسودها نمط اإلنتاج الرأساميل‪ ،‬تقدم نفسها‬ ‫كتكدس هائل للسلع"‪ ،‬ولننظر إىل نافذة العرض التي تعرض‬ ‫الثروة الباهظة من البضائع‪ ،‬وتشري إىل أن هناك املزيد يف داخل‬ ‫املتجر‪ ،‬أو املعرض التجاري‪ ،‬الذي يذخر بالبضائع املجلوبة من‬ ‫أنحاء العامل‪ ،‬أو األروقة الباريسية (املمرات) التي احتفى هبا والرت‬ ‫بنيامني ـ أروقة ذات أرفف زجاجية‪ ،‬وحوائط مكسوة بالرخام‪،‬‬ ‫تضم صفوفا من املتاجر األنيقة الفخمة ـ التي تصفها األدلة‬ ‫السياحية للمدينة الباريسية‪ ،‬يف القرن التاسع عرش‪ ،‬بأهنا عامل‬

‫مص َّغر‪ ،‬وأخريا‪ ،‬املتاجر الشاملة (مدحها زوال يف روايته‪ :‬سعادة‬ ‫النساء) هي قائمة حقيقية يف حد ذاهتا‪.‬‬ ‫يف روايتي‪ :‬الشعلة الغامضة للملكة لوانا‪ ،‬التي تتعامل مع‬ ‫اسرتجاع شبه أثري للتذكارات العتيقة من ثالثينيات القرن‬ ‫العرشين‪ ،‬وغالبا ما أجلأ فيها إىل أسلوب الكتالوج (الذي يصبح‬

‫‪284‬‬


‫قوائمي‬

‫فوضويا بفعل التجميع املحموم)‪ .‬دعوين أقتبس فقرة‪ ،‬من الرواية‪،‬‬ ‫حيث استحرض قدرا كبريا من األغنيات الرديئة‪ ،‬التي كانت‬ ‫اإلذاعة املحلية ترهق سمعي هبا يف شبايب‪:‬‬ ‫كان األمر كام لوكان الراديو يغني يل من تلقاء نفسه‪ ،‬دون حاجة‬ ‫مني ألن أدير أي من مفاتيحه‪ .‬بدأت أول معزوفة‪ ،‬ووقفت أمتايل‬ ‫عند النافذة‪ ،‬وفوقي السامء مرصعة بالنجوم‪ ،‬مع أصوات املوسيقى‬ ‫جيدة السوء‪ ،‬وكان يشء ما قد استيقظ داخل‪.‬‬ ‫الليلة‪ ،‬تتألأل يف السامء آالف النجوم ‪ ...‬ليلة‪ ،‬تضمك أنت‬ ‫وحدك والنجوم ‪ ...‬تكلم‪ ،‬تكلم بوضوح يف ضوء النجوم‪ ،‬فلتهمس‬ ‫بكلامت حلوة يف أذين‪ ،‬حتت سحر احلب ‪ ...‬يف غامر ليل جزر‬ ‫األنتيل‪ ،‬والنجوم تتألق مبهجة‪ ،‬انساب تيار من نور احلب ‪ ...‬مايلو‪،‬‬ ‫حتت سامء سنغافورة‪ ،‬ونجومها الذهبية العالية كاحللم‪ ،‬وقعنا يف‬ ‫احل ب‪ ،‬أنت وأنا ‪ ...‬حتت متاهة من النجوم التي ترنو إىل كل هذا‪،‬‬ ‫حتت جنون النجوم رغبت يف أن أق َّبل شفاهك ‪ ...‬معك‪ ،‬بدونك‪،‬‬ ‫نغني للنجوم والقمر‪ ،‬ال يمكنك أن تستبعدي ذلك‪ ،‬قد يصيبني‬ ‫احلظ الطيب قريبا ‪ ...‬قمر املرفأ‪ ،‬احلب لذيذ إذا مل تعريف‪ ،‬فينيسيا‬ ‫والقمر وأنت‪ ،‬أنت وأنا وحدنا يف الليل‪ ،‬أنت وأنا نرنِّم حلنا ‪...‬‬

‫‪285‬‬


‫اعرتافات روائي شاب‬

‫السامء املجرية‪ ،‬تنهيدة حزينة‪ ،‬أفكر ِ‬ ‫فيك بحب الهنائي ‪ ...‬أتساءل‬ ‫أين تكون السامء دائمة الزرقة‪ ،‬أنصت إىل رفرفة الطيور‪ ،‬يأتيني‬ ‫تغريدها عرب الدغل(‪.)1‬‬

‫كتب‪ ،‬كتب‪ ،‬كتب ‪...‬‬ ‫إن كتالوج املكتبة‪ ،‬كام ذكرت من قبل‪ ،‬يعد مثاال للقائمة‬ ‫العملية‪ ،‬ألن الكتب التي حتتوهيا املكتبة هلا عدد حمدد‪.‬‬ ‫كم كان عدد الكتب التي حوهتا مكتبة بابل مما جعل بورخيس‬ ‫يصفها هبذه الصورة اخليالية؟ إن إحدى خصائص مكتبة بورخيس‬ ‫أهنا تعرض الكتب التي تتضمن كل الرتاكيب املمكنة خلمس‬ ‫وعرشين رمزا هجائيا‪ ،‬لذا فال يمكننا أن نتخيل أي تركيب من‬ ‫احلروف مل تتوقعه املكتبة‪ .‬يف عام ‪ 1622‬بحث بول جولدين‪ ،‬يف‬

‫مؤ َّلفه‪ :‬املسألة الرياضية يف تراكيب‬

‫األشياء ‪Problema‬‬

‫‪ ،arithmeticum de rerum combinationbus‬عدد الرتاكيب‬ ‫التي يمكن تكوينها من ثالثة وعرشين حرفا هجائيا تستخدم يف‬ ‫‪(1) Ibid., ch. 8.‬‬

‫‪286‬‬


‫قوائمي‬

‫زمانه‪ .‬قام بعمل تراكيب من حرفني‪ ،‬ثم من ثالثة حروف‪ ،‬وهكذا‪،‬‬ ‫حتى وصل إىل تركيب كلامت من ثالثة وعرشين حرفا‪ ،‬بدون أن‬ ‫يأخذ يف اعتباره التكرار‪ ،‬أو ما إذا كانت الكلامت التي يقوم برتكيبها‬ ‫ذات معنى‪ ،‬ووصل إىل رقم يزيد عىل سبعني ألف مليار مليار‬ ‫(لكتابة هذه الرتاكيب ُيتاج إىل أكثر من مليون مليار مليار حرف)‪.‬‬ ‫إذا كتبنا هذه الرتاكيب يف جملدات‪ ،‬لكل جملد منها ألف صفحة‪،‬‬ ‫ويف كل صفحة مائة سطر‪ ،‬فسنحتاج إىل ‪ 257‬مليون مليار جملد‪.‬‬ ‫وإذا رغبنا يف إيداعها يف مكتبة ذات مساحات مكعبة للتخزين‪،‬‬ ‫يصل طول ضلع الواحدة منها إىل ‪ 432‬قدم‪ ،‬يضم كل منها ‪32‬‬ ‫مليون جملد‪ ،‬فسنكون يف حاجة إىل ‪ 8,052,122,350‬مكتبة مثل‬ ‫هذه‪ .‬لكن‪ ،‬أي عامل يمكن أن ُيوي كل هذه املباين؟ إذا قمنا‬ ‫بحساب مساحة الكرة األرضية سنجد أهنا ال تستوعب غري‬ ‫‪ 7,575,213,799‬فقط من تلك املباين‪.‬‬ ‫هناك آخرون‪ ،‬بداية من مارين مرسينيه إىل جوتفريد ليبنتز‪،‬‬ ‫قاموا بدراسات حسابية من هذا النوع‪ .‬شجع احللم باملكتبة‬ ‫الالهنائية كثريا من الكتَّاب عىل حماولة جتميع نامذج من القوائم‬

‫‪287‬‬


‫اعرتافات روائي شاب‬

‫الالهنائية للعناوين ـ والعينة األكثر إقناعا لتلك الالهنائية هي قائمة‬ ‫ مما يعني أنه من املمكن تصور ابتكار‬،‫ وال وجود هلا‬،‫عناوين خمتلقة‬ ،‫ التي يمكن أن متنحنا إياها‬،‫ ذلك هو نوع املغامرة املثرية‬.‫ال هنائي‬ ُ ‫ قائمة كتب‬،‫مثال‬ ‫ مثل تلك التي‬،‫ يف مكتبة سان فيكتور‬،)‫(خمت َلقة‬ :‫قدمها رابيليه يف كتابه بانتاجوريل‬ The for Godsake of Salvation, The Codpiece of the Law, The Slipshoe of the Decretals, The Pomegranate of Vice, The Clew-bottom of Theology, The Duster or Foxtail-flap of Preachers, composed by Turlupin, The Churning Ballock of the Valiant, The Henbane of the Bishops, Marmotretus de baboonis et apis, cum Commento Dorbellis, Decretum Universitatis Parisiensis super gorgiasitate muliercularum ad placitum, The Apparition of Sancte Geltrude to a Nun of Poissy, Being in travail at the bringing forth of a child, Ars honeste fartandi in societate, per Marcum Corvinum Quaestio subtilissima, utrum Chimaera in vacuo bonbinans possit comedere secundas intentiones.

.)1(‫ ما يقرب من مائة ومخسني عنوانا‬،‫وهكذا‬ (1) Francois Rabelais, Pantagurel, trans. Sir Thomas Urquhart of Cromatry and Peter Antony Motteux (Derby, U.K.: Moray Press, 1894), Book 1, ch. 7. ‫ حزام‬:‫ مثل‬،‫ وفي مجملها تحمل معاني عجيبة‬،‫ كما ذكر إكو‬،‫[ أسماء الكتب مختلقة‬ ُ ،‫ ظهور القديس جيلترود العجيب لراهبة بويس ي‬،‫ خف املرسوم البابوي‬،‫عفة القانون‬

288


‫قوائمي‬

‫يمكننا الشعور بالدوار نفسه بفعل الالهنائية حينام نكون بإزاء‬ ‫قوائم تضم عناوين كتب حقيقية‪ ،‬مثلام نرى لدى ديوجني الاليريت‪،‬‬ ‫عندما صنف كل الكتب التي كتبها ثيوفراستوس‪ .‬جيد القارئ‬ ‫صعوبة يف تصور تلك املجموعة اهلائلة من الكتب ـ ال يف حمتواها‪،‬‬ ‫ولكن حتى يف عناوينها فقط‪:‬‬ ‫األويل‪ .‬سبعة كتب عن التحليل الالحق‪.‬‬ ‫ثالثة كتب عن التحليل َّ‬ ‫كتاب يف حتليل القياس املنطقي‪ .‬كتاب خالصة اإلعراب‪ .‬كتابان عن‬ ‫موضوعات إلحالة األشياء إىل املبدأ األول‪ .‬كتاب عن اختبار‬ ‫املسائل التأملية حول النقاشات‪ .‬كتاب عن اإلحساسات‪ .‬كتاب‬ ‫موجه إىل أنكساجوراس‪ .‬كتاب حول مذهب أنكساجوراس‪ .‬كتاب‬ ‫حول مذهب أنكسيامنس‪ .‬كتاب حول مذهب أركيالوس‪ .‬كتاب عن‬ ‫امللح‪ :‬ملح البارود والشب‪ .‬كتابان عن التصخر‪ .‬كتاب عن اخلطوط‬ ‫غري القابلة للتجزئة‪ .‬كتابان عن السمع‪ .‬كتاب عن الكلامت‪ .‬كتاب‬ ‫عن االختالفات بني الفضائل‪ .‬كتاب عن السلطة امللكية‪ .‬كتاب‬ ‫حول تعليم امللوك‪ .‬ثالثة كتب عن احلياة‪ .‬كتاب عن الشيخوخة‪.‬‬ ‫كتاب عن نظام ديموقريطيس الفلكي‪ .‬كتاب عن علم األرصاد‬ ‫َّ‬ ‫أن تكون في الطلق عند الوالدة‪ ،‬وهكذا‪[ ].‬املترجم]‬

‫‪289‬‬


‫اعرتافات روائي شاب‬

‫اجلوية‪ .‬كتاب عن صور األشباح‪ .‬كتاب عن العصائر‪ ،‬والبرشة‪،‬‬ ‫واجلسد‪ .‬كتاب عن وصف العامل‪ .‬كتاب عن الرجال‪ .‬كتاب جيمع‬ ‫أقوال ديوجني‪ .‬ثالثة كتب حول التعريفات‪ .‬أطروحة عن احلب‪.‬‬ ‫أطروحة أخرى عن احلب‪ .‬كتاب عن السعادة‪ .‬كتابان عن األنواع‪.‬‬ ‫الرصع‪ .‬كتاب عن احلامسة‪ .‬كتاب عن إمبدوقليس‪ .‬ثامنية‬ ‫كتاب عن َ َ‬ ‫عرشة كتابا عن إبيخريميس‪ .‬ثالثة كتب عن املعارضات‪ .‬كتاب عن‬ ‫العمل الطوعي‪ .‬كتابان خمترص لدولة أفالطون‪ .‬كتاب عن‬ ‫االختالفات يف األصوات بني احليوانات املتشاهبة‪ .‬كتاب عن التجل‬ ‫املفاجئ‪ .‬كتاب عن احليوانات التي تعض أو تلسع‪ .‬كتاب عن‬ ‫احليوانات التي يقال إهنا غيورة‪ .‬كتاب عن احليوانات التي تعيش يف‬ ‫األرايض اجلافة‪ .‬كتاب عن احليوانات التي تغري ألواهنا‪ .‬كتاب عن‬ ‫احليوانا ت التي تعيش يف جحور‪ .‬سبعة كتب عن احليوانات بشكل‬ ‫عام‪ .‬كتاب عن اللذة بحسب تعريف أرسطو‪ .‬أربعة وسبعون كتابا‬ ‫عن االفرتاضات‪ .‬أطروحة عن السخونة والربودة‪ .‬مقال عن‬ ‫الدوخة والدوار واإلعتام املفاجئ للبرص‪ .‬كتاب عن التعرق‪ .‬كتاب‬ ‫عن التأكيد واإلنكار‪ .‬كتاب عن أحوال كاليسثينيس‪ ،‬أو مقال عن‬ ‫ِ‬ ‫احلداد‪ .‬كتاب عن العامل‪ .‬ثالثة كتب عن احلركة‪ .‬كتاب عن‬ ‫األحجار‪ .‬كتاب عن األوبئة‪ .‬كتاب عن نوبات اإلغامء‪ .‬كتاب عن‬

‫‪290‬‬


‫قوائمي‬

‫الفالسفة امليجاريني‪ .‬كتاب عن الكآبة‪ .‬كتابان عن املناجم‪ .‬كتاب‬ ‫عن عسل النحل‪ .‬كتاب جامع ملذاهب املؤرخ مرتودوروس‪ .‬كتابان‬ ‫عن الفالسفة الذين عاجلوا مسائل األرصاد اجلوية‪ .‬كتاب عن إدمان‬ ‫اخلمر‪ .‬أربعة وعرشون كتابا عن القوانني‪ ،‬مرتبة أبجديا‪ .‬عرش كتب‬ ‫حتوي خمترصا للقوانني‪ .‬كتاب عن التعريفات‪ .‬كتاب عن الروائح‪.‬‬ ‫كتاب عن النبيذ والزيت‪ .‬ثامنية عرشة كتابا عن القضايا األولية‪.‬‬ ‫ثالثة كتب عن مرشعي القوانني‪ .‬ستة كتب للخطب السياسية‪.‬‬ ‫أطروحة عن األمور السياسية‪ ،‬مع اإلحالة إىل املناسبات التي ظهرت‬ ‫فيها‪ .‬أربعة كتب عن األعراف السياسية‪ .‬كتاب عن أفضل دستور‪.‬‬ ‫مخسة كتب عن املشكالت‪ .‬كتاب عن األمثال‪ .‬كتاب عن التجمد‬ ‫واالنصهار‪ .‬كتابان عن النار‪ .‬كتاب عن األرواح‪ .‬كتاب عن الشلل‪.‬‬ ‫كتاب عن االختناق‪ .‬كتاب عن انحراف العقل‪ .‬كتاب عن‬ ‫العواطف‪ .‬كتاب عن العالمات‪ .‬كتابان عن الصوفية‪ .‬كتاب عن‬ ‫حل القياس املنطقي‪ .‬كتابان للموضوعات‪ .‬كتابان عن العقوبة‪.‬‬ ‫كتاب عن َ‬ ‫الشعر‪ .‬كتاب عن الطغيان‪ .‬ثالثة كتب عن املاء‪ .‬كتاب عن‬ ‫النوم واألحالم‪ .‬ثالثة كتب عن الصداقة‪ .‬كتابان عن التسامح‪ .‬ثالثة‬ ‫كتب عن الطبيعة‪ .‬ثامنية عرشة كتابا عن مسائل الفلسفة الطبيعية‪.‬‬ ‫كتابان خمترص الفلسفة الطبيعية‪ .‬ثامنية كتب أخرى عن الفلسفة‬

‫‪291‬‬


‫اعرتافات روائي شاب‬

‫الطبيعية‪ .‬أطروحة موجهة إىل فالسفة الطبيعة‪ .‬كتابان عن تاريخ‬ ‫النبات‪ .‬ثامنية كتب عن علل النباتات‪ .‬مخسة كتب عن العصائر‪.‬‬ ‫مخسة كتب عن اللذات اخلاطئة‪ .‬كتاب عن حتقيق افرتاض يتعلق‬ ‫بالروح‪ .‬كتاب عن إيراد األدلة بشكل خاطئ‪ .‬كتاب عن الشكوك‬ ‫البسيطة‪ .‬كتاب عن التناغم‪ .‬كتاب عن الفضيلة‪ .‬كتاب معنون‬ ‫باألحداث أو التناقضات‪ .‬كتاب عن إنكار الذات‪ .‬كتاب عن الرأي‪.‬‬ ‫كتاب عن األمور السخيفة‪ .‬كتابان بعنوان حفالت ساهرة‪ .‬كتابان‬ ‫حول االنقسامات‪ .‬كتاب عن االختالفات‪ .‬كتاب عن أفعال الظلم‪.‬‬ ‫كتاب عن االفرتاء‪ .‬كتاب عن املدح‪ .‬كتاب عن املهارة‪ .‬ثالثة كتب‬ ‫عن الرسالة اإلنجيلية‪ .‬كتاب عن احليوانات ذاتية التناسل‪ .‬كتاب‬ ‫عن االختيار‪ .‬كتاب بعنوان متجيد اآلهلة‪ .‬كتاب عن املهرجانات‪.‬‬ ‫كتاب عن احلظ الطيب‪ .‬كتاب عن احلجج البالغية‪ .‬كتاب عن‬ ‫االبتكارات‪ .‬كتاب عن املدارس األخالقية‪ .‬كتاب عن الصفات‬ ‫األخالقية‪ .‬أطروحة عن الشغب‪ .‬كتاب عن التاريخ‪ .‬كتاب عن‬ ‫احلكم املتعلق بالقياس املنطقي‪ .‬كتاب عن اإلطراء‪ .‬كتاب عن‬ ‫البحر‪ .‬مقال موجه إىل كاسندر بخصوص السلطة امللكية‪ .‬كتاب عن‬ ‫الكوميديا‪ .‬كتاب عن النيازك‪ .‬كتاب عن األسلوب‪ .‬كتاب مسمى‬ ‫جمموع األقوال‪ .‬كتاب عن احللول‪ .‬ثالثة كتب عن املوسيقى‪ .‬كتاب‬

‫‪292‬‬


‫قوائمي‬

‫عن األمتار‪ .‬كتاب عن آل ميجاد‪ .‬كتاب عن القوانني‪ .‬كتاب عن‬ ‫انتهاك القانون‪ .‬كتاب يضم جمموع أقوال ومذاهب زينوقراط‪ .‬كتاب‬ ‫القسم‪ .‬كتاب عن التعاليم اخلطابية‪.‬‬ ‫حول املناقشات‪ .‬كتاب عن َ‬ ‫كتاب عن األغنياء‪ .‬كتاب عن الشعر‪ .‬كتاب يضم جمموع املشكالت‬ ‫السياسية واألخالقية واملادية والغرامية‪ .‬كتاب لألمثال‪ .‬كتاب جيمع‬ ‫مشكالت عامة‪ .‬كتاب عن مسائل الفلسفة الطبيعية‪ .‬كتاب عن‬ ‫املثال‪ .‬كتاب عن القضية والتوضيح‪ .‬أطروحة أخرى عن ِ‬ ‫الشعر‪.‬‬ ‫كتاب عن احلكامء‪ .‬كتاب عن املشورة‪ .‬كتاب عن األخطاء النحوية‪.‬‬ ‫كتاب عن فن اخلطابة‪ ،‬جيمع واحد وستني شخصية من اخلطباء‪.‬‬ ‫كتاب عن النفاق‪ .‬ستة كتب تضم تعليقات عىل أرسطو‪ .‬ستون كتابا‬ ‫تضم آراء يف الفلسفة الطبيعية‪ .‬كتاب يضم خمترصا لآلراء يف‬ ‫الفلسفة الطبيعية‪ .‬كتاب عن العرفان‪ .‬كتاب يسمى الصفات‬ ‫األخالقية‪ .‬كتاب عن الصدق والكذب‪ .‬ستة كتب عن تاريخ‬ ‫األشياء اإلهلية‪ .‬ثالثة كتب عن اآلهلة‪ .‬أربعة كتب عن تاريخ‬ ‫اهلندسة‪ .‬ستة كتب تضم خمترص ًا ألعامل أرسطو عن احليوان‪ .‬كتابان‬ ‫عن احلجج‪ .‬ثالثة كتب عن االفرتاضات‪ .‬كتابان عن السلطة‬ ‫امللكية‪ .‬كتاب عن العلل‪ .‬كتاب عن ديموقريطوس‪ .‬كتاب عن‬ ‫القدح‪ .‬كتاب عن التكاثر‪ .‬كتاب عن الصفات العقلية واألخالقية‬

‫‪293‬‬


‫اعرتافات روائي شاب‬

‫للحيوان‪ .‬كتابان عن احلركة‪ .‬أربعة كتب عن النظر‪ .‬كتابان عن‬ ‫التعريفات‪ .‬كتاب عن الدوطة يف الزواج‪ .‬كتاب عن األكرب واألقل‪.‬‬ ‫كتاب عن املوسيقى‪ .‬كتاب عن السعادة اإلهلية‪ .‬كتاب موجه إىل‬ ‫فالسفة األكاديمية‪ .‬أطروحة وعظية‪ .‬كتاب يناقش كيف ُحتكم‬ ‫املدينة بأفضل شكل‪ .‬كتاب معنون بالتعليقات‪ .‬كتاب عن فوهة‬ ‫بركان جبل إتنا يف صقلية‪ .‬كتاب عن احلقائق املعرتف هبا‪ .‬كتاب عن‬ ‫مسائل التاريخ الطبيعي‪ .‬كتاب عن العادات املختلفة يف حتصيل‬ ‫املعرفة‪ .‬ثالثة كتب عن الكذب‪ .‬كتاب هو مقدمة للموضوعات‪.‬‬ ‫كتاب موجه إىل أسخيلوس‪ .‬ستة كتب عن تاريخ علم الفلك‪ .‬كتاب‬ ‫عن تاريخ الرياضيات املتعلقة باألرقام املتزايدة‪ .‬كتاب بعنوان‬ ‫أسيخاروس‪ .‬كتاب عن اخلطب القضائية‪ .‬كتاب عن االفرتاء‪ .‬جملد‬ ‫ُيوي رسائل إىل أستيسريون وفانياس ونيكانور‪ .‬كتاب عن التقوى‪.‬‬ ‫كتاب بعنوان إفياس‪ .‬كتاب عن الظروف‪ .‬جملد بعنوان نقاشات‬ ‫مألوفة‪ .‬كتاب عن تعليم األطفال‪ .‬آخر عن نفس املوضوع‪ ،‬يستخدم‬ ‫أسلوبا آخر‪ .‬كتاب عن التعليم‪ ،‬ويسمى أيضا أطروحة يف الفضيلة‬ ‫أو اعتدال النفس‪ .‬كتاب للعظات‪ .‬كتاب عن األرقام‪ .‬كتاب ُيوي‬ ‫تعريفات باإلشارة إىل نطق الكلامت املنطقية‪ .‬كتاب عن السامء‪.‬‬ ‫كتابان عن السياسة‪ .‬كتابان عن الطبيعة‪ ،‬والفاكهة‪ ،‬واحليوانات‪.‬‬

‫‪294‬‬


‫قوائمي‬

‫وتصل تلك األعامل يف جمملها إىل مائتني وثالثة وعرشين ألفا‬ ‫وتسعامئة وثامنية (‪ )223908‬سطرا‪ .‬تلك‪ ،‬إذن‪ ،‬هي الكتب التي‬ ‫صنفها ثيوفراستوس(‪.)1‬‬

‫ربام كنت أفكر يف مثل هذه القوائم عندما أضفت‪ ،‬يف روايتي‪:‬‬ ‫اسم الوردة‪ ،‬قائمة متواصلة بالكتب املوجودة يف مكتبة الدير‪.‬‬ ‫وحقيقة أنني ذكر ت أسامء كتب حقيقية (منترشة يف تلك الفرتة يف‬ ‫جمموعات كتب األديرة)‪ ،‬ومل أختلق عناوين كتلك التي استشهد‬ ‫هبا رابيليه‪ ،‬ال يبدل من تأثري الصلوات‪ ،‬واألناشيد الدينية‪،‬‬ ‫واالبتهاالت التي يمكن لقائمة الكتب أن تقرتحها‪ .‬إن الرغبة يف‬ ‫قوائم الكتب قد فتنت الكثري من الكتَّاب‪ ،‬بداية من رسفانتس إىل‬ ‫هويسامنس وكالفينو‪ .‬يرى حمبو الكتب كتالوج مكتبة الكتب‬ ‫العتيقة (التي ُقصد بالتأكيد أن تكون قوائم عملية) كصور فاتنة‬ ‫ألرض الوفرة[‪ ،]2‬عامل من املتعة‪ ،‬وُيصلون عىل املتعة من ذلك‪،‬‬ ‫‪(1) Diogene Laertius, The Lives and Opinions of Eminent Philosophers, trans.‬‬ ‫‪C.D. Yonge (London: Bohn, 1853), Book 5, "Life of Theophrastus," 42-50.‬‬ ‫]‪ [2‬أرض الوفرة ‪ :Land of Cockaigne‬في أساطير العصور الوسطى‪ ،‬مكان خيالي‬ ‫يتصف بالترف والسهولة املطلقة‪ ،‬حيث تتحقق املتع والراحة على الفور‪ ،‬وكل‬ ‫ش يء في متناول اليد [ملترجم]‬

‫‪295‬‬


‫اعرتافات روائي شاب‬

‫بمثل ما ُيصل عليها قارئ جول فرين من اكتشاف صمت عمق‬ ‫املحيط‪ ،‬ومقابلة وحوش بحرية مذهلة‪.‬‬ ‫يمكننا اليوم‪ ،‬بالفعل‪ ،‬العثور عىل قائمة الهنائية بالعناوين‪:‬‬ ‫الشبكة العنكبوتية العاملية‪ ،‬هي حقا أم القوائم‪ ،‬الهنائية بحسب‬ ‫التعريف‪ ،‬ألهنا يف تطور دائم‪ ،‬فهي‪ ،‬معا‪ ،‬شبكة ومتاهة‪ .‬من بني كل‬ ‫ما يصيب بالدوار‪ ،‬فإن القائمة التي تعدنا هبا هي األكثر غموضا؛‬ ‫إذ تكاد أن تكون افرتاضية يف جمملها‪ ،‬وتقدم لنا كتالوج باملعلومات‬ ‫التي جتعلنا نشعر بالوفرة املعرفية والسيطرة الكاملة‪ .‬العقبة الوحيدة‬ ‫أننا ال نعرف أي من عنارصها ُييل إىل معلومات من واقع العامل‬ ‫وأهيا ليس كذلك‪ .‬مل يعد هناك متايز بني الصواب واخلطأ‪.‬‬ ‫طلبت من جوجل أن‬ ‫هل يظل ممكنا اخرتاع قوائم جديدة إذا ما‬ ‫ُ‬ ‫يبحث يل عن الكلمة "قائمة"‪ ،‬فأجد قائمة بام يقرب من ‪ 2.2‬مليار‬ ‫موقع؟‬ ‫لكن‪ ،‬إذا كان هناك قائمة تقرتح الالهنائية‪ ،‬فال يمكن أن تكون‬ ‫فاحشة الطول‪ .‬أشعر بالدوار حينام أطالع بعض العناوين فقط‪ ،‬مما‬

‫ذكرهتا يف رواية اسم الوردة‪ :‬أدب الكالم والفهم يف اللغة العربية‪،‬‬ ‫‪296‬‬


‫قوائمي‬

‫يف األدوات املعدنية لروجر أوف هريفورد‪ ،‬اجلرب‪ ،‬للخوارزمي‪،‬‬

‫قصيدة بونيكا‪ ،‬لسيليوس إيتاليكوس‪ ،‬مآثر الفرنجة‪ ،‬يف إجالل‬ ‫الصليب املقدس‪ ،‬لرابانوس ماورو‪ ،‬جيورداين عن عمر العامل‬ ‫واإلنسان املحفوظ يف كل الرسائل وكافة الكتب من األلف إىل‬ ‫الياء‪ ،‬الطقس اخلامس للعقاقري‪ ،‬الظواهر‪ ،‬كتاب إيسوب عن طبائع‬ ‫احليوانات‪ ،‬كتاب بريونيام عن علم الكون‪ ،‬ثالثة كتب لألسقف‬ ‫إركولفوس عن األماكن املقدسة فيام وراء البحار‪ ،‬كتيب لويل‬ ‫هيالريونيس عن أصل العامل‪ ،‬كتاب سوليني بوليستور عن موضع‬ ‫الكرة األرضية وعجائبها‪ ،‬املاجيستوس ‪...‬‬ ‫أو قائمة الروايات التي تدور حول شخصية فانتوماس‪:‬‬

‫فانتوماس‪ ،‬يويف يف مواجهة فانتوماس‪ ،‬اجلثة القاتلة‪ ،‬العميل‬ ‫الرسي‪ ،‬سجني فانتوماس امللكي‪ ،‬املحقق املنحرف‪ ،‬رجل لندن‬ ‫املشنوق‪ ،‬ابنة فانتوماس‪ ،‬تاكيس الليل‪ ،‬اليد املقطوعة‪ ،‬القبض عىل‬ ‫فانتوماس‪ ،‬القايض اللص‪ ،‬حي اجلريمة‪ ،‬موت يويف‪ ،‬اهلارب من‬ ‫سان الزار‪ ،‬اختفاء فاندور‪ ،‬زواج فانتوماس‪ ،‬مقتل الليدي بلثام‪،‬‬

‫الدبور األمحر‪ ،‬حذاء املوت‪ ،‬القطار املختفي‪ ،‬احلياة العاطفية‬ ‫‪297‬‬


‫اعرتافات روائي شاب‬

‫لألمري‪ ،‬الباقة املأساوية‪ ،‬الفارس امللثم‪ ،‬التابوت الفارغ‪ ،‬صانع‬ ‫امللكة‪ ،‬اجلثة الضخمة‪ ،‬اللص الذهبي‪ ،‬سلسلة اجلرائم الدموية‪،‬‬ ‫فندق اجلريمة‪ ،‬ربطة عنق من القنب‪ ،‬هناية فانتوماس‪.‬‬ ‫أو الكتالوج (املولع) بقصص شريلوك هوملز‪" :‬قضية هوية"‪،‬‬ ‫"فضيحة يف بوهيميا"‪" ،‬عصابة ذوي الشعر األمحر"‪" ،‬الطلبة‬ ‫الثالثة"‪" ،‬لغز وادي بوسكومب"‪" ،‬مخس بذور برتقالية"‪،‬‬ ‫"الرجل ذو الشفة امللتوية"‪" ،‬مغامرة اجلوهرة الزرقاء"‪" ،‬مغامرة‬ ‫الرشيط املرقط"‪" ،‬لغز إهبام املهندس"‪" ،‬مغامرة النبيل األعزب"‪،‬‬ ‫"مغامرة األشجار النحاسية"‪" ،‬الشعلة الفضية"‪" ،‬مغامرة اجلندي‬ ‫الشاحب"‪" ،‬مغامرة الرجل الزاحف"‪" ،‬مغامرة العميل املرموق"‪،‬‬ ‫"مغامرة لبدة األسد"‪" ،‬مغامرة حجر املازارين"‪" ،‬مغامرة رجل‬ ‫الطالء املتقاعد"‪" ،‬مغامرة مصاصة دماء سوسكس"‪" ،‬مغامرة‬ ‫املنزل ذي األسقف الثالثة املحدبة"‪" ،‬مغامرة األشخاص الثالثة‬ ‫باسم جاريديب"‪" ،‬مغامرة النزيلة امللثمة"‪" ،‬مغامرة جوهرة‬ ‫التاج"‪" ،‬لغز الطرد الربيدي"‪" ،‬مغامرة املحقق املحترض"‪" ،‬املنزل‬ ‫اخلايل"‪" ،‬املشكلة األخرية"‪" ،‬مغامرة جلوريا سكوت"‪" ،‬لغز‬

‫‪298‬‬


‫قوائمي‬

‫املرتجم اليوناين"‪" ،‬كلب آل بسكرفيل"‪" ،‬وصية عائلة‬ ‫موسجريف"‪" ،‬دراسة يف اللون القرمزي"‪" ،‬مغامرة خمطوطة‬ ‫املعاهدة البحرية"‪" ،‬مغامرة بنَّاء نوروود"‪" ،‬قضية جرس ثور"‪،‬‬ ‫"الدائرة احلمراء"‪" ،‬لغز بلدة رجييت"‪" ،‬لغز املريض املقيم"‪" ،‬لغز‬ ‫البقعة الثانية"‪" ،‬لغز العالمة أربعة"‪" ،‬متاثيل نابليون الستة"‪" ،‬لغز‬ ‫راكب الدراجة"‪" ،‬مغامرة موظف البورصة"‪" ،‬مغامرة وادي‬ ‫اخلوف"‪...‬‬ ‫القوائم‪ :‬ممتع قراءهتا وكتابتها‪ .‬تلك هي اعرتافات كاتب شاب‪.‬‬

‫‪299‬‬


‫اعرتافات روائي شاب‬

‫‪300‬‬


‫قوائمي‬

‫الفهرس‬ ‫مقدمة املترجم‬

‫‪5‬‬

‫‪ 1‬ـ الكتابة من الشمال إلى اليمين‬

‫‪9‬‬

‫ما هي الكتابة اإلبداعية‬

‫‪11‬‬

‫كان ياما كان‬

‫‪20‬‬

‫كيف تكتب‬

‫‪21‬‬

‫بناء عالم‬

‫‪27‬‬

‫أفكار موحية‬

‫‪33‬‬

‫قيود‬

‫‪46‬‬

‫تشفير مزدوج‬

‫‪52‬‬

‫‪2‬ـ املؤلف‪ ،‬والنص‪ ،‬واملؤولون‬

‫‪57‬‬

‫‪3‬ـ بعض املالحظات حول الشخصيات الروائية‬

‫‪107‬‬

‫َّ‬ ‫البكاء من أجل أنا كارينينا‬

‫‪110‬‬

‫األنطولوجيا مقابل السيميوطيقا‬

‫‪117‬‬

‫العوالم املمكنة غير املكتملة والشخصيات املكتملة‬

‫‪122‬‬

‫التأكيدات الروائية في مقابل التأكيدات التاريخية‬

‫‪132‬‬

‫الوظيفة اإلبستمولوجية للتصريحات الروائية‬

‫‪142‬‬

‫أفراد متنقلون في مدونات متنقلة‬

‫‪145‬‬

‫الشخصيات الروائية كموضوعات سيميوطيقية‬

‫‪153‬‬

‫‪301‬‬


‫اعرتافات روائي شاب‬

‫موضوعات سيميوطيقية أخرى‬

‫‪174‬‬

‫القوة األخالقية للشخصيات الروائية‬

‫‪177‬‬

‫‪4‬ـ قوائمي‬

‫القوائم العملية والقوائم الشعرية‬

‫‪182‬‬

‫بالغة اإلحصاء العددي‬

‫‪185‬‬

‫القالب والقائمة‬

‫‪205‬‬

‫ما ال يمكن وصفه‬

‫‪210‬‬

‫قوائم األشياء واألشخاص واألماكن‬

‫‪218‬‬

‫قاعات العجائب واملتاحف‬

‫‪233‬‬

‫التعريف بقائمة الخصائص مقابل التعريف باملاهية‬

‫‪248‬‬

‫املبالغة‬

‫‪258‬‬

‫التعداد الفوضوي‬

‫‪273‬‬

‫قوائم وسائل اإلعالم الجماهيرية‬

‫‪282‬‬

‫كتب‪ ،‬كتب‪ ،‬كتب‬

‫‪286‬‬

‫الفهرس‬

‫‪302‬‬

‫‪181‬‬

‫‪301‬‬


‫قوائمي‬

‫‪303‬‬


Issuu converts static files into: digital portfolios, online yearbooks, online catalogs, digital photo albums and more. Sign up and create your flipbook.