مطارح حط الطير

Page 1


‫رواية‬

‫َم َط ِ‬ ‫ار ُح َح ِّط ال َّط ِي‬ ‫نارص احللواين‬ ‫‪1‬‬


‫‪‬مجيع احلقوق حمفوظة للمؤلف‬ ‫الطبعة األوىل ‪1996‬‬

‫سلسلة "كتابات جديدة"‬ ‫اهليئة املرصية العامة للكتاب‬ ‫رقم اإليداع بدار الكتب‬ ‫‪1996/5318‬‬ ‫‪ISBN 977-01-4780-x‬‬ ‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫‪‬اإلصدار الثاين (‪2019 )PDF‬‬

‫نسخة معدَّ لة‬ ‫تصميم الغالف واإلعداد الفني للمؤلف‬ ‫‪nasserhilwani@gmail.com‬‬ ‫‪Nasser El Halawani‬‬

‫صورة الغالف األمامي‪ :‬قرص احلمراء‬ ‫لوحة الغالف اخللفي‪ :‬خروج املوريسكيني من األندلس‬

‫‪2‬‬


3


4


‫يُدركنا حُلم الطريان‪ ،‬فنُرانا طيورا‪ ،‬ذاهلني عن حقيقة‬ ‫أن التحليق إرادة‪ ،‬أن الطائر جمرب على الطريان‪ ،‬أما حنن‪ ،‬فنفعل‬ ‫مبشيئتنا‪ ،‬وحبرية نادرة‪ .‬وتبقى املغالطة يف فهمنا أن الفضاء‬ ‫الطبيعي هو اجملال األوحد ملمارسة نشوة احلومان‪ ،‬إنه متاما مثل‬ ‫البيئة الطينية للدودة العمياء‪ .‬فضاء طرياننا ليس هناك‪ ،‬بل هنا‪،‬‬ ‫ميتد إىل ما ال هناية‪ ،‬إىل أبد الروح‪ ،‬إىل أفق اخليال‪ ،‬إن حتليقا يف مثل‬ ‫هذا الفضاء ليحسدنا عليه الطري‪.‬‬

‫‪5‬‬


6


‫َُ َ ْ‬ ‫غِوايةِابلدءِ‬

‫‪7‬‬


8


‫بينام جيتاز أبو عبد اهلل بابا جانبيا صغريا يف سور احلمراء‪،‬‬ ‫خير جاثيا لربه‪ ،‬ليقوم وقلبه‬ ‫يطعن كوملبس بوابة عامل جديد‪ ،‬ثم ُّ‬ ‫مفعم بالفرح‪ ،‬ليرشع بطمأنينة الفوز يف إبادة شعب بدائي وحيد‪،‬‬ ‫نفذت فيه سيوف ِصي َغت من معدن مفاتيح غرناطة‪.‬‬ ‫لتحو ِل املادة‪،‬‬ ‫هكذا صارت كف إيزابيال املوطن السحري‬ ‫ُّ‬ ‫وبدَ ت تلك اللحظة؛ التي حتول عربها املفتاح املنهزم إىل سيف‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬ ‫الطريق إىل اجلانب‬ ‫غاز‪ ،‬وكأهنا أول النظرات إىل أسفل‪ ،‬وبدء‬ ‫ِ‬ ‫اآلخر من اجلَبَل‪.‬‬ ‫نقطة‪ ،‬مل يعد بعدها ابن زياد‪ ،‬وابن حزم‪ ،‬والغافقي‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫حروف َبا َد وجو ُدها‪َ ،‬‬ ‫وغدَ ت‬ ‫والنارص‪ ،‬وابن رشد‪ ،‬سوى‬ ‫الزهراء‪ ،‬وبيت املقدس‪ ،‬ومحراء غرناطة‪ ،‬مزارات سياحية‪،‬‬ ‫واستحالت املحاريب إىل هياكل‪ ،‬ومات الفرسان‪ ،‬والذ اإلبداع‬ ‫بنفوس نجت بنفسها‪ ،‬فوق أطواف بسيطة تتمسك هبا فوق‬ ‫‪9‬‬


‫ِ‬ ‫اجلنوب املفتوحِ‬ ‫ب من جهة الشامل اجلديد‪ ،‬إىل‬ ‫فيض جارف َ َُي ُّ‬ ‫إىل أقصاه‪.‬‬ ‫أتساءل ‪ ...‬هل كان أليب عبد اهلل أن حيول بني بوابات‬ ‫غرناطة وخيل فرناندو وإيزابيال؟‬ ‫ٍ‬ ‫بقادر؟‬ ‫وتزداد قسوة السؤال ‪ ...‬هل كان‬ ‫هل أستطيع االمتالء بقدر احلزن واألمل اللذين احتشدا يف‬ ‫قلب غرناطة‪ ،‬من دون أن أفنى‪ ،‬دون أن أستحيل ترا ًبا يتعلق‬ ‫ب ُقبة قرطبية‪ ،‬وأبقى هناك إىل األبد‪ ،‬أرقب أرسابا عربية تلو ُذ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫باملوت أو التعميد‪.‬‬ ‫باجلبال القاسية‪،‬‬ ‫ِ​ِ‬ ‫بالبحر‪،‬‬ ‫صهر ِن اوخوف من جنود َختَموا ُعهو َد ت حَر َحا‪،‬ي‪ ،‬طر‬ ‫أو ربام َي ُ‬ ‫أزحف فوق شفرات سيوفهم حتى البحر‪.‬‬ ‫أن‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫الفضاء‪ ،‬و ُأح ِّل ُق‬ ‫التحليق‪ ،‬فأقذف بنفيس إىل‬ ‫فتنتابني أسطور ُة‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫السفر‪َ ،‬‬ ‫فأخا َلني ُصوف ًيا يملك‬ ‫أزمان أخرى‪ ،‬فيستبد يب َر َه ُق‬ ‫إىل‬ ‫ِ‬ ‫وو حجدً ا بقدح ِر اهلوى يف ِ‬ ‫فأح ُّط يف‬ ‫إرادة‬ ‫قلب املجنون‪ُ ،‬‬ ‫الوصولِ‪َ ،‬‬ ‫‪10‬‬


‫زمن ٍ يمتطيه ثائر‪ ،‬ف ُأ ِ‬ ‫وق ُن باستعادة املفقود‪.‬‬ ‫ُ ٌ‬ ‫ولكنه يموت‪ ،‬قبل أن يموت‪ ،‬وقبل أن أبدأ رحلتي عرب‬ ‫مت ِ‬ ‫أشجار‬ ‫ُثمر‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َاهة اإلبداعِ‪ ،‬قبل أن ين ُب َت الق َل ُم يف َك ِّفي‪ ،‬أو ت َ‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫هزيمة غائرة‪ ،‬ويستعيد‬ ‫رب‬ ‫حروفها‪ ،‬فأصري إىل‬ ‫وجودي‬ ‫َ‬ ‫وطن يع ُ‬ ‫ستأج َرة‪ ،‬ويفقد أبناءه عرب مضايق‬ ‫ً‬ ‫أرضا ملكناها وإن بدت كا ُمل َ‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬ ‫وتبعية مبتدعة‪ ،‬وإبدا ٍع ُمستعار‪،‬‬ ‫واجلهل‪،‬‬ ‫اهلجرة‪ ،‬واحلاجة‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫شجرة يف إشبيلية ظللت عىل غرب الدنيا‪،‬‬ ‫وحتوالت ترتى؛ من‬ ‫ٍ‬ ‫جذ ِ‬ ‫ٍ‬ ‫غربية‪ ،‬وتنفص ُل عن ُ‬ ‫ورها‪ ،‬وال‬ ‫أشجار‬ ‫ذوع‬ ‫إىل نبتة تتس َل ُق ُج َ‬ ‫ٍ‬ ‫فيلسوف عل َم َغوغاء حماكم التفتيش‬ ‫َت حل َح ُق إال بالظاهر‪ ،‬من‬ ‫احلكمة واإلنسانية‪ ،‬إىل َهوى ال يتجاوز األعضا َء‪ ،‬ومن تفانني‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ِع ٍ‬ ‫لبناءات‬ ‫مالبسات مبهمة األصل‬ ‫اها خلفا ٌء سادوا‪ ،‬إىل‬ ‫أرس َ‬ ‫امرة َ‬ ‫َ‬ ‫شعب ي ِ‬ ‫ٍ‬ ‫يستدين‬ ‫شعب‬ ‫بد ُع وجو َد ُه‪ ،‬إىل‬ ‫ال َ​َت َ ُّس إال املؤقت‪ ،‬ومن‬ ‫ُ‬ ‫ٍ ُ‬ ‫َيو َم ُه‪.‬‬ ‫كف‬ ‫هل كان عليك أبا عبد اهلل أن تُلقي بمفاتيح غرناطتنا إىل ِّ‬ ‫إيزابيال الالهية‪.‬‬ ‫‪11‬‬


‫وهل كان عيل سوى منازلة أفالطون يف ساحة ُم ُثلِ ِه املتعالية‬

‫بم ُث ِيل املتحققة بالفعل !‬ ‫ُ‬

‫ُ‬ ‫حيمل يف كِيانِ ِه هذا التاريخ‪ ،‬وتلك‬ ‫سوى أن أرسم إنسانًا‬ ‫احلضارة‪ ،‬فيام حييا هذه احلياة النقيضة !‬ ‫إنسان معل ٌق بني عاملِه الذي ال يدر ُكه إال ِ‬ ‫ٌ‬ ‫باحل ِّس‪ ،‬وع َا َملٍ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫اغرتايب ال يمسه‪ ،‬أيضا‪ ،‬إال ِ‬ ‫باحل ِّس !‬ ‫َ ُّ ُ‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬ ‫لقرون يف بِنية هذا‬ ‫ُثري ما استقر‬ ‫هل كان‬ ‫ُ‬ ‫للحروف أن ت َ‬ ‫الوجود اإلنسان؛ من ُق ٍ‬ ‫درة عىل اإلبدا ِع والعقالنية‪ ،‬وإنشاء فكره‬ ‫اوخاص‪ ،‬وتأسيس فلسفته‪ ،‬وأن أستعيد بعض مبادئ حضارة‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬ ‫العقل عىل‬ ‫وعبقرية واضحة‪ ،‬بني قدرة‬ ‫بعربية راقية‪،‬‬ ‫وازنَت‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫جتس ِ‬ ‫ِ‬ ‫أفكاره‪ ،‬ووضعها موضع ال َق حب ِ‬ ‫احلس عىل‬ ‫يد‬ ‫ض‪ ،‬وبني قدرة ِّ‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬ ‫ومراتب‬ ‫والو حج ِد‪،‬‬ ‫راقية يف‬ ‫مدارك‬ ‫بخياله إىل‬ ‫االرتقاء‬ ‫األفكار َ‬ ‫ِ‬ ‫والزهد‪.‬‬ ‫ُعال يف اإليامن‬ ‫لم ال َ‬ ‫التأِّس‪ ،‬بل بكونه اعرتا ًفا‬ ‫أخا ُله‬ ‫يتسم باإلحيائية أو ِّ‬ ‫ُ‬ ‫ُح ٌ‬ ‫‪12‬‬


‫ٍ‬ ‫ومعارف مطمورة فيها‪ ،‬ربام كان‬ ‫للذات بقدر ما تتضمن ُه من قي ٍم‬ ‫استحضارا لعشق ابن زيدون‪ ،‬حلروف ابن رشد املحروقة‪،‬‬ ‫ً‬ ‫ِ‬ ‫ولشقوة أيب عبد اهلل‪.‬‬ ‫لزهراء النارص‪،‬‬ ‫حلم أران فيه مثل رؤيا ال َ ِ‬ ‫ِ‬ ‫خيال صاحبها‪ ،‬أو ٍ‬ ‫طائر‬ ‫حت ُّل إال يف‬ ‫َ‬ ‫ُ ُ‬ ‫ِ‬ ‫مطارحه‪.‬‬ ‫حي ُّط إال يف‬ ‫ال َ ُ‬

‫‪13‬‬


14


‫‪ِ1ِ‬‬

‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫أن َدلوسياَّ‬

‫‪15‬‬


16


‫يف مثل الظهرية‪ ،‬يكون َم َقا ُم الشيخ األنصاري خاليا‬ ‫إال من خادم املقام‪ ،‬غافيا يف ركن رطيب‪ ،‬وإال من بضع شمعات‬ ‫حمطوطة يف قاعدة ُشباكِه‪ ،‬تُص ِّعدُ نورها ونارها إىل النهار ال َف ِرح‬ ‫بشمسه التي تدفئ فضاء املقام اوخا‪،‬ي إال من الكسوة اوخرضاء‬ ‫الباهتة‪ ،‬واملزينة بالقصيدة ا ُملحاكَة بخيو الفضة‪ ،‬وتنعكس عىل‬ ‫زجاج شجرة النبوة‪ ،‬يف بروازها العتيق‪ ،‬يف صدر احلائط املواجه‬ ‫للباب‪ ،‬وتُلقي بظالل قضبان الشباك عىل جسد اوخادم‪ ،‬النائم‪،‬‬ ‫حيلم بإنسية تؤنسه‪.‬‬ ‫ويف مثل الظهرية‪ ،‬يكون يف سطوحه‪ ،‬جالسا يف ظل التكعيبة‬ ‫احلر‪ ،‬فيكون‬ ‫الصغرية‪ ،‬فوقها أوراق الياسمينة‪ ،‬حتمل عنه َدفق ِّ‬ ‫الحرتاقها عطر نشوة خفيفة‪ ،‬تذكِّره باملساء‪ ،‬وبع ِ‬ ‫رف فرس‬ ‫ُ‬ ‫بحر لوهنا وعميقة‬ ‫جمدولة شعراته الصهبة‪ ،‬ملضومة بخرزات‪ٌ ،‬‬ ‫وبَس ِجه املوشى بتفاصيل حكاية شعبية‪ ،‬وبفارس‬ ‫الزرقة‪َ ،‬‬ ‫‪17‬‬


‫مطهم‪ ،‬شاكي املعارف‪ ،‬مزج ٌج مقبض سيفه بتواريق أرابيسك‪،‬‬ ‫ومكحل بقراءات من فضة بيضاء‪ ،‬تنأى بقابضه عن ِخزي‬ ‫التجر ِد من النصل‪ ،‬وعىل مضاربه‪ ،‬تركت دماء ال قاها عالماهتا‪،‬‬ ‫ُّ‬ ‫وهنايات حلوهلا‪.‬‬ ‫ويف مثل الوقت‪ ،‬يصخب الشارع بعياله العائدين من‬ ‫مدارسهم وكتاتيبهم‪ ،‬أو مشاويرهم إىل األسواق القريبة‪ ،‬أو‬ ‫غاراهتم عىل احلارات املجاورة‪ ،‬ويرجع الرجال من أعامهلم‬ ‫وتصعلكهم‪ ،‬والنسوان بلوازم يوم‪ ،‬ومشاغل حياهتن‪.‬‬ ‫وأمام باب املقام‪ ،‬يمر اجلميع‪ ،‬حييونه بالفاحتة أو بالسالم‬ ‫عليكم‪ ،‬أو بنظرة خاشعة أو متجاهلة‪.‬‬ ‫وأمام البحر‪ ،‬يقف الفرس بفارسه‪ ،‬يداعب بحافريه َز َبد‬ ‫موجيات تلهو‪ ،‬ثم ترجع إىل بحرها مغسولة برائحة صهيله‪.‬‬ ‫وأمام كِنِّه‪ ،‬يقف ذكر احلامم املرقش‪ ،‬ينفض عن ريشاته رائحة‬ ‫مكانه‪ ،‬وجواره الفارس‪ ،‬خيتال يف سطوحه‪ ،‬أمام بحر ينتظره‪،‬‬ ‫‪18‬‬


‫وحتت صهد ينهمر إليه‪ ،‬وإىل تراب الشارع الصغري‪ ،‬ورؤوس‬ ‫العيال احلليقة‪ ،‬وأقدامهم احلافية‪ ،‬يزعقون‪ ،‬تتالشى خياالته‪،‬‬ ‫ويعود لألشياء وضوحها‪ ،‬فيتجه إىل غرفته يف زاوية السطوح‪.‬‬ ‫يطري ذكر احلامم‪ ،‬يد ِّو ُم‪ ،‬يناوش الَسب املح ِّلق فوق مطرحه‪،‬‬ ‫وهتيج رائحة املُخل ِل احلادة‪ ،‬املخلوطة بالتَابِ ِل وال ُب َهار‪ ،‬تصنعه أم‬ ‫اوخري يف ُد َجى دكاهنا‪ ،‬وتتداخل محامات الَسب يف حوماهنا‪،‬‬ ‫كر إىل‬ ‫حب ٌ‬ ‫ات بيضاء فائرة‪ ،‬تتحمم بنور هنار صابح‪ ،‬ويرجع الذ ُ‬ ‫كِن ِ​ِّه‪ ،‬تتبعه النتاية الذاهلة عن رسهبا‪ُّ ،‬‬ ‫حيط هبا عىل سور السطوح‪،‬‬ ‫فتحط‪ ،‬ال يفزعها صوت عصفور اوخشب يرضبه الصبي إىل‬ ‫أقىص احلارة‪ ،‬أو خبطات طيارة الورق يف جدار البيت‪ ،‬حتاول أن‬ ‫ص خي َطها من ِّ‬ ‫فخه‪ ،‬أو األشياء من حوهلا؛ املنضدة الصغرية‬ ‫خت ِّل َ‬ ‫املعمولة من خشب صناديق‪ ،‬والكرِّس املغزول بالقش الكِتان‪،‬‬ ‫يغفو ظلهام عىل جدار الغرفة‪ ،‬ترتدد يف أنحائه القريبة من السقف‬ ‫خروم مل يصنعها طائر أو عش َش فيها‪ ،‬فبانت مهجورة ومعتمة‪.‬‬ ‫وعىل املنضدة املائلة قليال‪ ،‬كان كتاب‪ ،‬وعىل الكرِّس الوحيد‬ ‫‪19‬‬


‫جيلس‪ ،‬يدع للوجد سطوة االنفراد إىل فراغات القلب‪ ،‬يمد كفه‬ ‫الكف احلبيبة‪ ،‬يقبض الكتاب‪ ،‬يفتحه حيث‬ ‫التائقة إىل ملمس‬ ‫ِّ‬ ‫زهرة ال تُنبِ ُت إال يف جبلِها‪ ،‬حتمل أريج أرضها‪ ،‬تفوح بزهوها‬ ‫القديم‪ ،‬ويقرأ ‪:‬‬ ‫"وأما العلة التي توقع احلب أبد ًا يف أكثر األمر عىل‬ ‫الصورة احلسنة‪ ،‬فالظاهر أن النفس تولع بكل يشء حسن‬ ‫ومتيل إىل التصاوير املتقنة‪ ،‬فهي إذا رأت بعضها تثبتت‬ ‫فيه‪ ،‬فإن ميزت وراءها شيئاً من أشكاهلا اتصلت وصحت‬ ‫املحبة احلقيقية‪ ،‬وإن مل متيز وراءها شيئ ًا من أشكاهلا مل‬ ‫يتجاوز حبها الصورة‪ ،‬وذلك هو الشهوة؛ وإن للصور‬ ‫لتوصي ً‬ ‫ال عجيب ًا بني أجزاء النفوس النائية"‬

‫(‪)1‬‬

‫وتفور املعان‪ ،‬لتبدأ َتأل الفراغات بني األشياء‪ ،‬تضيئ بعض‬ ‫بذ ٍ‬ ‫ظالل الكِ ِّن املشغول َ‬ ‫كر ونِتَا َية جيربان التحليق يف الداخل‪.‬‬ ‫ابة معت ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫قة‪،‬‬ ‫وكانت الكلامت تفيض عىل املنضدة واألشياء َ‬ ‫بص َب ُ‬ ‫(‪" )1‬طوق احلمامة" ابن حزم‪.‬‬ ‫‪20‬‬


‫اوخرو ِم املعتمة‪ ،‬تظل معتم ًة يف دفء‪،‬‬ ‫تصعد بالغ ُتها رائق ًة إىل ُ‬ ‫اج ِ‬ ‫امله ِ‬ ‫َ‬ ‫يرسمها‬ ‫رة‪،‬‬ ‫َتازج‬ ‫جمازات‪،‬‬ ‫وخت ُطر يف األنحاء‬ ‫ُ‬ ‫مالمح وجه َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫اآلن يف أوراقه املحفوظة هلا‪ ،‬وتذوب يف حروف القصيدة‬ ‫املوش ِ‬ ‫ومة يف َق ِ‬ ‫ُ‬ ‫وس باب حجرته‪ ،‬وجتتاز املسافة‪ ،‬إىل املدينة‬ ‫املحفورة يف خشب الباب‪ ،‬إليها كانت املهاجرة‪ ،‬وإليها كان‬ ‫هر‪ِ ،‬‬ ‫الفارس‪ ،‬بألوانه وأوتاره‪ ،‬وسيمياء معارفه بأرسار الز ِ‬ ‫وعامرة‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ِّ‬ ‫وشبق بقدر املدائن‪ ،‬وبسيف‬ ‫والظل‪ ،‬برتاويح صالة‪،‬‬ ‫النور‬ ‫ُ​ُمت َ​َرب‪ ،‬وفرس حمنى بامللح و َذ ِ‬ ‫هب النار‪ ،‬إليها كان‪ ،‬يتجول يف‬ ‫برشا َف ِ‬ ‫ول يف ُب ِ‬ ‫حور ِش ِ‬ ‫دروهبا املبلطة‪ ،‬و َي ُص ُ‬ ‫ات األعا‪،‬ي‬ ‫يمر ُ‬ ‫عرها‪ُّ ،‬‬ ‫املمزوجة بالسامء‪ ،‬وبأبواب اجلوز‪ ،‬وحتت تعاشيق من املالء‬ ‫ٍ‬ ‫َ‬ ‫صبية تفوت أبصارها يف نور‬ ‫نوافذ‪ ،‬وأمام عيون‬ ‫والفراغ‪ ،‬ترسم‬ ‫املرشبيات مثل تواشيح أندلسية‪ ،‬ويف حروف كتاب عن "األُلفة‬ ‫أقواسها‬ ‫واألُالف"‪ ،‬ويف صلوات ليلية بني أعمدة بلقاء‪ ،‬تُراوح‬ ‫ُ‬ ‫ِ‬ ‫أرساب‬ ‫احلمرة والبياض‪ ،‬ويف رحاب قباب تصعد أهل ُتها إىل‬ ‫بني‬ ‫َ‬ ‫لتحط‬ ‫طري َصا َفات‪ ،‬تعرب املدائن‪ ،‬وفوق أسطح البيوت‪ ،‬وتعود‪ُ ،‬‬ ‫‪21‬‬


‫يف جتاويف أعىل األبواب‪ ،‬وعىل شبابيك األصحاب‪ ،‬ويف‬ ‫الس ِ‬ ‫بل‪ ،‬إىل اجلالس‬ ‫أكناهنا‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫تنفض عن نفسها عناء خوض ُ‬ ‫وخياالت‬ ‫وصخب املارين‪،‬‬ ‫وحده‪ ،‬تأتيه روائح الشوارع‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫فارس‪ ،‬يدَ ُع رسومه عىل مقعده‪ ،‬ويقوم إىل مدينته‪ ،‬إىل بابه‬ ‫املحطو‬

‫بني السطوح املفتوح عىل ممالك وخلفاء كانوا‪،‬‬

‫وحجرته الصغرية اململوكة ألرسار ما كان وما سيكون‪ ،‬يرنو إىل‬ ‫قوس الباب‪ ،‬ويرتل‪:‬‬ ‫تناوشينِ‬ ‫َُ‬ ‫ُ‬ ‫األندِلسِ​ِ‬ ‫افِ ِ‬ ‫أطيَ ِ‬ ‫ِ‬ ‫َ َ َ‬ ‫َ‬ ‫يتِهوىِ‬ ‫ادِذاكِ َِر ِ‬ ‫في ِت ِ‬ ‫ِ‬

‫ُ‬ ‫بِ َّ‬ ‫ِإىلِطوق َ َ‬ ‫َ‬ ‫َِحامةِ​ِ‬ ‫اللب‬ ‫يسل ُ ِ‬ ‫َ‬ ‫ُ َ‬ ‫َ‬ ‫امةِ​ِ‬ ‫اإلق َِ‬ ‫حِمزنِناوياِ​ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫َِعِا‬ ‫أنزِل ِ‬ ‫ُ‬ ‫َ ُ ُ‬ ‫رط ِبَةِ‬ ‫يبِإىلِأنَاءِ​ِ ِق ُِ‬ ‫ِ‬ ‫أخ ِذِ‬ ‫ِي ِ‬ ‫َ ُ َ َ‬ ‫قِ‬ ‫وعشِ َِ‬ ‫شِ َِ‬ ‫ع ِ‬ ‫يثِ ِ‬ ‫م ِ‬ ‫ِ‬ ‫ُ​ُ‬ ‫َّ‬ ‫ِعليهِ​ِعِشق ِهِ‬ ‫وشق َِ‬ ‫َ‬ ‫اتِ‬ ‫ّتِ َِم ِ‬ ‫م َّ ِ‬ ‫َِ‬ ‫‪22‬‬


‫ِ‬ ‫كرى تصعدُ به إىل كَبِد اللحظة‪ ،‬وسامء‬ ‫ويعود إىل أشيائه‪ ،‬وذ َ‬ ‫تتهادى بزرقتها‪ ،‬ومفتاح قديم‪ ،‬وتساؤل‪" :‬أي زمن ينسكب‬ ‫اآلن؟"‪ ،‬وتساؤل‪" :‬كم من األزمان حيوَيا اآلن؟"‪.‬‬ ‫يعود إىل أوراقه‪ ،‬ويعود إىل تاريخ ص ِ‬ ‫بية‪ ،‬تعدو خلف ظ ِّلها‬ ‫َ‬ ‫اآلخذ يف الذ ِ‬ ‫وب‪ ،‬وشيخ ُّ‬ ‫يرتل أوراده اليومية‪ ،‬ألجل أن يرى‬ ‫شمسا أخرى‪ ،‬وطيارة ورق تتخبط بني حيطان البيوت‪ ،‬وكوب‬ ‫ممزوجة قهوته بالنهار الدافئ‪ ،‬يرشفها‪ ،‬و ُيمسك بريشته‪ ،‬وينتظر‬ ‫ٍ‬ ‫بلون له وهج‬ ‫حاب‪ ،‬و ُيبحر يف أنحاء ورقة بيضاء‪ ،‬مرشب ٌة‬ ‫الص َ‬ ‫ِّ‬ ‫النار الفائرة من خشب ُس ُف ٍن َعدت به البحر إىل أندلسه‪ ،‬ينثني‬ ‫إليها‪ ،‬وإليها ينثني‪ ،‬وله تتبدى‪ ،‬فيَ ُش ُّم هلا رائحة الفرس املغسول‬ ‫بامء البحر‪ ،‬وفيها‪ ،‬يرى مالمح السيف املرص ِع ب ُغ ِ‬ ‫بار َخ ِ‬ ‫طو ِه إليها‪،‬‬ ‫مرفرفة ِ‬ ‫ٍ‬ ‫بغاللة ت َ‬ ‫َنشدُّ إىل‬ ‫َفت حلقا ُه‪ ،‬تتألق يف نور األطرعة املحرتقة‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫ترحال ِ ِه‪ ،‬وتوحي له‪" :‬أن إ‪،‬ي"‪ ،‬فيمتطي‬ ‫قوادمها‪ ،‬ت ُ‬ ‫ُريق له خرائط َ‬ ‫صهوة الظل املخلوق من و ِق ِ‬ ‫يد خشب السفن الراحلة إىل أزمنة‬ ‫َ‬ ‫أريج َغ ٍار‪،‬‬ ‫شم لسفرها‬ ‫البحر‪َ ،‬‬ ‫َ‬ ‫وخيُب إىل موقع هجرهتا‪َ ،‬ي ُّ‬ ‫‪23‬‬


‫ف ُيسميها " َرنحد" وترنو إىل نقطة عينه‪ ،‬تلمح ذاهتا‪ ،‬فتناديه "ن ح‬ ‫ُون"‬ ‫ُ‬ ‫يدندن‪:‬‬ ‫وتنأى‪ ،‬وإليها‬ ‫َْ‬ ‫ُ‬ ‫بابِالوـجـودِ​ِعلـقةِ​ِ​ِ*ِ​ِ و َصالِنونِملـويلِ رائكِ​ِ‬ ‫ياِرن ُِدِأسـ ُ ِ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫فأناِهلِعنيِاحلصول َ‬ ‫ِاتلائقِ​ِ‬ ‫إنِاكنَِغ ُركِيفِاألـجيجِزاهراِ​ِ*ِ​ِ‬ ‫و َيغمس الريشة يف بقايا القهوة‪ ،‬يمر هبا عىل شطآن املدائن‬ ‫تقبض قبضاهتم عىل مقابض‬ ‫املرتقبة‪،‬‬ ‫تذخر بقوارب الفاحتني‪ُ ،‬‬ ‫ُ‬ ‫كنائن سهامهم‪ ،‬يرسمون‬ ‫سيوفهم‪ ،‬وعىل الظهور تتأرجح‬ ‫ُ‬ ‫أماكن‪ ،‬هلا لوعة الن ِ‬ ‫ِ‬ ‫صل‪ ،‬وروعة‬ ‫التاريخ‬ ‫خطواهتم يف الرمل‪ ،‬ويف‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫وو َر ِع الوحي الزاحف إىل الش ِّط‪ ،‬يسكن أسامء البالد‪،‬‬ ‫القصيد‪َ ،‬‬ ‫خرها‬ ‫وأجساد حمارات‪ ،‬تُغي ُبها حوافر اوخيل يف قلب الرمال‪ ،‬وتد ُ‬ ‫ِ‬ ‫اللهب‬ ‫نوارس هلا لون السحائب العذراء‪ ،‬تُدَ ِّو ُم حول أطراف‬ ‫ُ‬ ‫ِ‬ ‫حل حر ِق‪.‬‬ ‫الصاعد يف تناغم إىل السامء‪ ،‬تستَدف ُئ با َ‬ ‫وفوق األطرعة ا ُمل َرشعة لألجيج الذاهب إىل مواطن حوم ِ‬ ‫ان‬ ‫َ َ َ‬ ‫كر الزاجل‪ ،‬مرقشا‪ ،‬حيمل حول ساقه أخبار‬ ‫رب الذ ُ‬ ‫الط ِري‪ ،‬يع ُ‬ ‫ِ‬ ‫الوصول‪ ،‬ومفاتيح ُقر ُطبة‪.‬‬ ‫‪24‬‬


‫‪ِ​ِ2 ‬‬

‫َ ْ‬ ‫َّ‬ ‫ُ‬ ‫وْحِالراء‬

‫‪25‬‬


26


‫جلدِّ ِه‪ ،‬نٌحاسيا ُمصفر ًا‪ ،‬تكتنف ضخامته‬ ‫كان املفتاح َ‬ ‫نقرات ُسود‪ ،‬وعىل حلقته حمفور اسمه "نون"‪ ،‬وضعه يف ثقبه‪،‬‬ ‫ٌ‬ ‫ورص ِر‬ ‫وأغلق سطوحه عىل سامئه اوخاصة‪ ،‬ومحائمه املسافرة‪ُ ،‬‬ ‫السلم اوخشبي‪ ،‬يتأمل درجاتَه‪ ،‬لرائحته صوت‬ ‫أرساره‪ ،‬وهبط ُّ‬ ‫بحر‪ ،‬ولث َقلِه عليها أريج نِ ٍ‬ ‫اضه قبل اآلن‪ ،‬عىل مشارف‬ ‫زال َخ َ‬ ‫اص‪ ،‬صىل يف سهله‪ ،‬وفيه رآها‪ ،‬جمبولة من َص ِ‬ ‫جبل َق ٍ‬ ‫خره‪ُ ،‬رحمية‬ ‫القدِّ ‪ ،‬ول َل ِ‬ ‫وز عينيها عطر مدينة فتحها‪ ،‬فأسامها " َرنحد"‪.‬‬ ‫بالَس ِج املضيئة‪َُ ،‬ت ِّل ُس بنورها‬ ‫وكان الشارع الصغري‪ ،‬حمفوفا ُ ُ‬ ‫ِ‬ ‫قباب البالطات املصفوفة حتى آخر الضوء‪ ،‬حي ِّل ُق ومئذنة‬ ‫عىل‬ ‫ويسكن إىل حافة األهلة يف ساموات القباب‪.‬‬ ‫سامقة‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫َن يف مداخلها‪ ،‬وحتت احلروف‬ ‫والبيوت عتامهتا دفء َسك َ‬ ‫املو َاربة‪ ،‬تتعلق يف‬ ‫البارزة لقصائد منحوتة يف أعىل األبواب َ‬ ‫‪27‬‬


‫صدورها وجوه ُأ حس ٍد من معدن صلد‪ ،‬ل ِ َبدُ ها مصقولة‪ ،‬وحتتها‬ ‫قطع احلديد املحطوطة بيوت ًا لد ِّق َها‪.‬‬ ‫وكانت ال َعشية حتمل ناسها إىل مقاصدهم الليلية‪ ،‬وتعود‬ ‫َبرحلِهم إىل ُسكناها‪ ،‬إىل مصابيح الزيت تنتظر يف أول البيت‪،‬‬ ‫القاعدَ ة تنتظر اجلائي ِمن كدِّ ِ‬ ‫ِ‬ ‫يوم ِه‪،‬‬ ‫يرتاح نورها إىل شوق‬ ‫ِ‬ ‫اجها لدخوله إىل راحته‪.‬‬ ‫مَسجة رس َ‬ ‫ِّ‬ ‫ُ‬ ‫السكون بعدما َسكت الدكاكني الباقية ُض َل َفها‪ ،‬ويصري‬ ‫يشيع‬ ‫ُ‬ ‫والشارع مملك ًة للمزاليج املعلقة يف جنبات األبواب‪،‬‬ ‫الليل‬ ‫ُ‬ ‫وللمفاتيح العائدة إىل سياالت أصحاهبا‪ ،‬مطرزة يف نواحيها‬ ‫أسامؤهم وحرو ُفهم األوىل‪ ،‬وللعارفة اآليبة من باديتها‪ ،‬حتمل‬ ‫ِ‬ ‫شوشات الرمل‪ ،‬وخبايا الريح‪ ،‬ومغاليق األرسار‪،‬‬ ‫يف َغلقها َو َ‬ ‫ُحت ُّط مثل وحي يف جسد العتمة الصغرية الصاحية‪ ،‬تستدفئ‬ ‫بشحيح النور‪ ،‬وقوارير قهوة صهباء‪ ،‬مصهللة بفضل الضحكة‬ ‫الغانية ألم اوخري‪ ،‬تُشعل هبا كل ما سكن بني ِ‬ ‫قدح وقدح‪.‬‬ ‫كان املساء مزاجا من البكاء املنتهي وصهد لقاء األصحاب‪،‬‬ ‫‪28‬‬


‫للفر َدانِية‬ ‫ُ‬ ‫أنسب ما يكون الحتامل رسالة‪ ،‬وأصعب ما يكون َ‬ ‫واحتبال وحي‪ ،‬يف مثل مساء تدوس فيه احلوافر الصليبية‬ ‫طرقات القدس‪ ،‬يف مثل مساء حيلم فيه "النارص" باملرية‪ ،‬يف مثل‬ ‫مساء تدق فيه األجراس‪ ،‬املمهور عليها أسامء ُصناعها‪ ،‬يف‬ ‫منارات املآذن‪ ،‬يف مثل مساء سيكون ذات مساء‪.‬‬ ‫هكذا كان املساء الذي سامر فيه األصحاب‪ ،‬حول أقداح‬ ‫القهوة‪ ،‬وقطع املخلل امللحية‪ ،‬مثل حمارات َع َلقت بجنبات ُسفن‬ ‫حفرها يف خشب املنضدة الصغرية‪ ،‬يلت َُّمون حوهلا ويتحاكون‪،‬‬ ‫ويرنون إىل الداخل ِة‪ ،‬تتدثر بالسواد املشغول بِ َخرجِ الن َجف‪،‬‬ ‫هب‪ِ ،‬‬ ‫ومالليم الذ ِ‬ ‫والرتتِر امللون‪ ،‬واوخيو ِ املغزولة بتموجات‬ ‫شعرها الفاحم‪ ،‬املنسدل يف غري عناية‪ ،‬وحيدثون ‪:‬‬ ‫ـ "تُرى ما اسمها الليلة؟"‬ ‫ـ "أزمريالدا"‪.‬‬ ‫ـ " َع ِريب"‪.‬‬ ‫ـ "كارمن"‪.‬‬ ‫‪29‬‬


‫ـ " ُب َثينَة"‪.‬‬ ‫ـ " ُلبنَى"‪.‬‬ ‫ـ "هي الليلة َرنحد"‪.‬‬ ‫قال دون أن يسمعهم‪ ،‬دون أن يروه داخال خلفها‪ ،‬حتمل‬ ‫نبوءاهتا يف َغ َل ِق َها‪ ،‬املغطى بوشاح غري بال‪ ،‬مشغول احلوايش‬ ‫برسوم ونقوش‪ ،‬وحدها تعرف معانيها‪ ،‬ومجيعهم يدركون‬ ‫أسباب َو ِ‬ ‫ُ‬ ‫حي َها‪ ،‬ومعارفِ َها‪،‬‬ ‫تبسط‬ ‫سحرها‪ .‬ينادوهنا‪ ،‬تصري إليهم‪،‬‬ ‫َ‬ ‫فيسود َصمت‪ ،‬يتكئ إىل جمالسهم‪ ،‬ويرتاكم حتت املنضدة‬ ‫الصغرية‪ ،‬ويعو ُد مثل صدى إىل منطقها‪ ،‬فت َُحدِّ ُ‬ ‫ث‪:‬‬ ‫أنت ُنون"‪.‬‬ ‫ـ" َ‬ ‫فيعود بذاكرته إىل املساءات املاضية‪ ،‬حني رآها‪ ،‬تسبقه عرب‬ ‫طرقات هلا رائحة اآلس‪ ،‬ونور هنار مشغول باليد‪ ،‬ينادَيا‪ ،‬ال‬ ‫َتر ُّد‪ ،‬وَتيض يف طريقها‪ ،‬تلتف بإزار له لون النبيذ املطعون‬ ‫ف ِو َش ِ‬ ‫بالشمس‪ ،‬تدور ودوران الدروب‪ ،‬تُلمح له ب َطر ِ‬ ‫احها‪،‬‬ ‫ح‬ ‫ِ‬ ‫تبع خطوها‪ ،‬يف نعلها اجللدي‬ ‫املرفرف خلفها حيث تصري‪ ،‬ي ُ‬ ‫‪30‬‬


‫احلن ِ‬ ‫اء‪ ،‬وعىل س ِ‬ ‫املرسوم بصباغ ِ‬ ‫معها يتلو‪:‬‬ ‫َ‬ ‫كسيت‬ ‫أأسلب ‪ ،‬من وصال ِ ِك ‪ ،‬ما‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫سبيل ه ِ‬ ‫واك طوع ًا‬ ‫وكيف ‪ ،‬ويف‬ ‫َ‬ ‫ِ َ‬ ‫ِ‬ ‫فأسـ ُلو‬ ‫َفدَ ي ُتـك ليس ‪،‬ي قلــ ٌ‬ ‫ب ح‬ ‫ن اهلــ َوى دا ًء ممــيت ًا‬ ‫فـإن ي ُكــ ِ ح‬

‫عز ُل ‪َ ،‬عن ِر َض ِ‬ ‫ليت‬ ‫اك ‪َ ،‬وقد َو ُ‬ ‫َو ُأ َ‬ ‫ح‬ ‫يت ِمـ َن املَــك ِ‬ ‫يت‬ ‫َار ِه َما َل ِق ُ‬ ‫َلقـــِ ُ‬ ‫يت‬ ‫وال ن حفــ ٌس فـآنــ ُ‬ ‫ف إن ُجـ ِف ُ‬

‫يت‬ ‫ملـَ حن َ​َيــ َوى فـإن ُمـستَــ ِمـ ُ‬

‫(‪)2‬‬

‫ط مثل ملعة يف عيون‬ ‫كانت ُحت ِّو ُم خفيفة‪ ،‬تسابق النهار‪ ،‬و ُحت َ ُ‬ ‫العيال يلعبون بِنَح ِ‬ ‫الت اوخشب‪ ،‬وطائرات ورق الكُراسات‪،‬‬ ‫ح‬ ‫يدوسون بحفائهم يف مسارات َم ِ‬ ‫وتروح َُتل ُس عىل‬ ‫شي َها‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫األجساد املطروحة جنب احليطان الباردة‪ ،‬يتكلفتون بجالبيبهم‬ ‫البسيطة‪ ،‬وحيلمون باألرصفة‪.‬‬

‫(‪ )2‬قصيدة للشاعر القرطيب ابن زيدون‪.‬‬ ‫‪31‬‬


‫ِ‬ ‫ُّ‬ ‫كف‬ ‫َتر بك ِّفها عىل ِّ‬ ‫مر‪ ،‬فتكون إىل َو َس َعا َية الليل‪ُّ ،‬‬ ‫وحيل َق ٌ‬ ‫يلم بقايا اليوم‪ِ ،‬م َزق ورق‪ ،‬بقايا اوخطوات‪ ،‬ووهالت‬ ‫كناس ُّ‬ ‫اهلوى والتعب‪ ،‬وتغادر إىل نور ٍ‬ ‫نار بعيدة‪.‬‬ ‫نب امرأة تقعد أمام َرك َي ِة نار‪ ،‬تكَس عيدان‬ ‫َي ُشو ُفها هتبط َج َ‬ ‫حت ُّطها يف اجلمر‪ ،‬وتكلم نفسها عن سنني عمرها‬ ‫اجلَريد الناشفة‪ُ َ ،‬‬

‫رجلِ َها التي كانت تنتظره عند‬ ‫التي مرت من غري َو َلد‪ ،‬وعن ُ‬

‫ُشباكها‪ ،‬ألجل أن تسعد برؤياه وهو َِيِ ُّل عليها من أول الزقاق‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫جتمع َك حَسات اوخشب واوخبز‪،‬‬ ‫قعدهتا يف الشوارع سنني‪،‬‬ ‫وعن‬ ‫ُ‬ ‫ألجل الدفء واللقمة‪ ،‬وعن حكاياهتا ألُناس ال تراهم عن‬ ‫الذي كان وما صار‪ ،‬والذي صار وما كان‪.‬‬ ‫ص عليها من بعيد وال خيطو إليها‪.‬‬ ‫وكان ي ُب ُّ‬ ‫ربام استطاع أن يغادر نومه‪ ،‬أن يستسلم للرؤيا و ُيعان ال ُبعدَ ‪،‬‬ ‫أن يبقى يف حال احلُلم‪ ،‬أو يصحو‪ ،‬ولكن ما كان له أن يبدِّ َل‬ ‫يغري أسباب احللم‪.‬‬ ‫مسارات املنام‪ ،‬أو أن ِّ‬

‫‪32‬‬


‫وكان يدرك أن املستحيل قابل للنفاذ؛ طر أن يكون ال ُق ُ‬ ‫ربان‬ ‫مناسبا‪ ،‬فيعود إىل العارفة بأحواله‪ ،‬جتوس بِب ِ‬ ‫ناهنا يف َر ِ‬ ‫مل‬ ‫ُ َ‬ ‫املفرود عىل منديلها‪ ،‬يف أطرافه تعاويذ مرسومة بِ ِصباغ‬ ‫صحرائها ُ‬ ‫ترمز إىل مالمح خروج‪ ،‬وأشباه لالستحالة‪ ،‬حتوي دوائر‬ ‫ال يبىل‪ُ ،‬‬ ‫مقسومة‪ ،‬وتفاصيل وجوه‪ ،‬ونقطة نور مثل نجمة يف فضاء "ن"‪.‬‬ ‫يسأهلا‪" :‬أتعرفني؟"‬ ‫ـ "مثلام يعرف احللم قلب صاحبه"‪ .‬تقول‪.‬‬ ‫وتلمع عيناها‪ ،‬وتطرق‪ ،‬فتفرح روحه‪ ،‬ويرنو إىل صبابة عشقه‬ ‫تَسي يف أنحائها‪.‬‬

‫‪33‬‬


34


‫‪ِ​ِ3 ‬‬

‫َ َُ َ ْ‬ ‫مدَ‬ ‫َللةِالو ة‬

‫‪35‬‬


36


‫كشف َل ُه رس‬ ‫عز الليل ل ِ َي‬ ‫َ‬ ‫وما كان لتخيال ابن حزم يف ِّ‬

‫ِح ِ‬ ‫جاب البدوية‪.‬‬

‫وكان الليل حالكا‪.‬‬ ‫وا ُمل ُ‬ ‫لك َل حك َل حك َل حك يا صاحب ا ُمللك‪.‬‬ ‫ترف مثل ضوء ينبعث‬ ‫وكان كروان‪ ،‬يؤنس ليله بتسابيح‪ُّ ،‬‬ ‫حادا‪ ،‬ثم ال يعود سوى ظل‪ ،‬وتعتم الظلمة‪ ،‬و ُيرشق قلب‬ ‫ِ ِ‬ ‫جل ِ‬ ‫ائل وحدَ ه يف ِع ِّز الليل‪.‬‬ ‫َ‬ ‫الواجد ا َ‬ ‫كان حيمل ريش َته‪ِ ،‬‬ ‫راب أرساره‪ ،‬وأوراقا صنعها ملثل‬ ‫وج َ‬ ‫املساء‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫روح‬ ‫جيول يف أحوال الليل‪ ،‬يف األزقة واحلارات‪ ،‬يقتفي َ‬ ‫ِ‬ ‫اها‪،‬‬ ‫يلم حكاياهتا‪،‬‬ ‫وأرواح َرص َع َ‬ ‫َ‬ ‫امل َهاجرة‪ ،‬الساكنة يف القلوب‪ُّ ،‬‬ ‫َ‬ ‫وأشجان األصحاب‪.‬‬ ‫‪37‬‬


‫الفضاءات املق ُفول عليها‪،‬‬ ‫يمر يف ليل الشارع الصغري‪ُ ،‬تتابعه‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫واألبواب‪ ،‬ورؤى‬ ‫واألقفال املبسوطة برسومها‪،‬‬ ‫وأحال ُم العيال‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫من كانوا يف نومهم‪ ،‬وملا‪ ،‬ورسابات من كانوا يف النهار‪ ،‬وملح‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫تنسدل طعنة ضوء‪ ،‬تنفر ُد مثل ِغال َلة‬ ‫ويف صدر الليل‪،‬‬ ‫الور َبة الضيقة لباب أم اوخري واحلائط املقابل للباب‪،‬‬ ‫مشدودة بني َ‬ ‫ٍ‬ ‫ستار شفيف من حليب الضوء‪ ،‬مثل ملعب لغبار الليل‬ ‫مثل‬ ‫الالهي يف ملكوته‪ ،‬دليال إىل حيث تصدر أصوات شهية احلزن‪،‬‬ ‫الهية‪ ،‬يف مقامات وجد‪ ،‬حتكيها العارفة بالدواخل‪ ،‬ترتى من‬ ‫بني ضلفتي الباب‪ ،‬إىل ملكوت النور‪ُ ،‬‬ ‫فيخ ُّطها ابن حزم‪ ،‬دون‬ ‫سهو‪ ،‬يف أوراقه‪.‬‬ ‫فيضه‪ ،‬تتألق حوافه‬ ‫وإىل صندوق َمغنَاه يميل‪ ،‬وباحلركة ُي ُ‬ ‫الدائرة حتت بوق النحاس‪ ،‬يرنِّم عىل الليل وشاشة الضوء أمامه‬ ‫بصوهتا املرسوم عىل ِغاللة النور املفرودة للشيخ الوحيد‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫نرجس عينيها‪ ،‬وتشدو‪،‬‬ ‫وكانت يف ِ​ِخ ِارها‪ ،‬تكشف عن‬ ‫السام ُع‬ ‫الو َل ِه كؤوسا‪ ،‬ينه ُل َها‪،‬‬ ‫وأمامها ُنون‪ُ ،‬يريق من َ‬ ‫وينسى ٌّ‬ ‫َ‬ ‫‪38‬‬


‫ِ‬ ‫السكُون‪ ،‬فال‬ ‫َس َ‬ ‫مت الصوت‪ ،‬إال صوتا‪ ،‬ويلوذون بأسباب ُّ‬ ‫يكون سوى أرواح ليس هلا هسيس‪ ،‬وتصري هلا ولصوهتا كل‬ ‫فضاءات السكون القادرة عىل بذل وجودها‪ ،‬ألجل أن حتتشد‬ ‫برتنيمها‪ ،‬فت ِّ‬ ‫ُوش ُح‪:‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫اهلـوى‬ ‫فــي ليــال َكــت َ​َمت س َّـر َ‬ ‫ُـرر‬ ‫بــالدُّ جى لــوال ُشــموس الغ َ‬ ‫نجــم ال َكـأ ِ‬ ‫َم َ‬ ‫ـوى‬ ‫ــال‬ ‫س َ‬ ‫وه َ‬ ‫فيهـا َ‬ ‫ُ‬ ‫الس ِ‬ ‫ــي َســعدَ األَ َث ِ‬ ‫ــر‬ ‫ُم‬ ‫ســـتقيم ّ‬ ‫َ‬

‫و َطـر مـا فيـه ِمـن َعيـب ِسـوى‬

‫البص ِ‬ ‫ــر‬ ‫َأنّـــه‬ ‫مـــر كــلمح َ‬ ‫ّ‬ ‫حــني ّ‬ ‫لــذ األُنس شــيئًا َأو كمـا‬ ‫احلـر ِ‬ ‫س‬ ‫الص ُ‬ ‫هجــم ّ‬ ‫بــح هجــو َم َ‬ ‫ب بِنَــا َأو ر ّبمـا‬ ‫ــارت الشــه ُ‬ ‫غَ َ‬ ‫يــون النَّ ِ‬ ‫رج ِ‬ ‫ـس‬ ‫َأ ّثــرت فينــا ُع‬ ‫ُ‬

‫(‪ )3‬موشح للشاعر األندلسي لسان الدين اخلطيب‪.‬‬ ‫‪39‬‬

‫(‪)3‬‬


‫فيقبض ابن حزم كتا َبه ب ُيمناه‪ ،‬ويقوم إليها‪ ،‬خيطو إىل حديقة‬ ‫ِ‬ ‫إنشاد َها‪ ،‬ويف القلب كالم‪ ،‬يقرتب منها‪ ،‬فتنأى‪ ،‬عارف ًة باهلوى‬ ‫الصادر عنه‪.‬‬ ‫للقلب من َط ٍ‬ ‫ِ‬ ‫وق عىل اهلجر"‪ ،‬ويدنو‪.‬‬ ‫ينطق‪" :‬ما‬ ‫أنت‪ ،‬ومثل َور َقاء َحتا َمت‪ ،‬أكون"‪ ،‬وتنأى‪.‬‬ ‫تنطق‪" :‬سيدي َ‬ ‫ينطق‪" :‬وما للوصل! هل حال بني احلامم وح ِ‬ ‫ومه؟" وَيفو‪.‬‬ ‫َ‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫وصوت!"‬ ‫حرف‬ ‫تنطق‪" :‬وما للوصل بني‬ ‫ُ‬ ‫فيخ ُّط يف أول كتابه‪:‬‬ ‫ِ‬ ‫عل ح ِ‬ ‫ِ‬ ‫ومها يف قلبي"‬ ‫"إىل الورقاء‪ ،‬ما كان من ف ِ َ‬ ‫وحيدِّ ث‪ِ " :‬‬ ‫هاك َح ِ‬ ‫ريف"‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫فتجيء بصندوق إنشادها‪ ،‬و َحت ُّط فيه ما كان من روحها له‪،‬‬ ‫ث‪َ " :‬‬ ‫و ُحتدِّ ُ‬ ‫هاك صويت"‪.‬‬ ‫وتدنو بلِ َحاظِها إليه‪ ،‬وتكون إليه بصوهتا‪ ،‬ورفات أناملها‪،‬‬ ‫‪40‬‬


‫ِ‬ ‫عشق منفرد‪.‬‬ ‫ينأى عن املحيطني به إليها‪ ،‬ويف‬ ‫فؤاده يرتدد ٌ‬ ‫وخطوات ُجند‪ ،‬وصيحات وجع‬ ‫لصل ٌة بعيدة‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫وتكون َص َ‬ ‫صوهتا‪ ،‬وعاشق‬ ‫وموت‪ ،‬و ُبستان مرتوس بالرببر‪ ،‬وحبيبة غاب‬ ‫ُ‬ ‫يف وحدته القرطبية مسجون ًا‪ ،‬يسود أوراق و ِ‬ ‫وحيلم‬ ‫جده‪،‬‬ ‫َ‬ ‫ِّ ُ‬ ‫ُ‬ ‫بالبعيدة‪ ،‬أين؟‬ ‫ُّ‬ ‫ترن ضحك ٌة صاحية ألم اوخري‪ ،‬تُعيد الشيخ القرطبي إىل‬ ‫حيث هو‪ ،‬فيقعد‪ُ ،‬يكمل رؤياه ملا يكون‪ ،‬ويف القلب وجع‪ ،‬ينظر‬ ‫إىل حجري عينيها الرطبتني بالدمع‪َ ،‬تيل بوجهها عنه‪َ ،‬تد يدها‬ ‫بقنديل من زجاج شاطبة‪ ،‬يأخذه‪ ،‬ويف زجاجه كانت عيناه‬ ‫تلمعان برطابة ماحلة‪ ،‬ال تلمحها‪.‬‬ ‫ينساب‬ ‫وتعود إىل مكاهنا خلف الباب ا ُمل َو َارب‪ ،‬ومعها‬ ‫ُ‬ ‫الضو ُء إىل الداخل‪ ،‬وال يبقى منه غري نسيج شفيف أمام القاعد‪،‬‬ ‫يقر ُأ تارخي ًا يف زجاج القنديل‪ ،‬ويرقب‪ ،‬عىل شاشة النور‪ ،‬الداخل َة‬ ‫إىل َصه َل َلتِها‪ُ ،‬ت ِ‬ ‫ترتسم حبيبا َكان‪،‬‬ ‫شجنا قديام‪ ،‬وذاكر ًة‬ ‫داري َ‬ ‫ُ‬ ‫طريها فوق قصور اإلمارة واوخالفة‪،‬‬ ‫ورايات كان يصن ُعها‪ُ ،‬ي ِّ ُ‬ ‫‪41‬‬


‫ويع ِّل ُقها عىل أعواد ِرماح‪َ ،‬دا َنت هلا بلدان ِصالب‪َ ،‬‬ ‫رسها يف‬ ‫وغ َ‬ ‫َجنبات الطرقات أريج للمواكب‪.‬‬ ‫حبيب ًا كان‪ ،‬يراه ابن حزم مشبوحا‪ ،‬عىل صاريه كالراية‪ ،‬له‬ ‫قدما مهاجر‪ ،‬وعينا ثائر عاشق‪.‬‬ ‫تعلق مثل راية لألرض املرتوكة‪ ،‬وللبحر حيمل ما تَل ُف ُظه‪،‬‬ ‫وللباقني كاوخبايا‪.‬‬ ‫محى "باب الرشيعة"‪ ،‬وحتته بقايا خيل‬ ‫معل ٌق مثل راية‪ ،‬يف ِ َ‬ ‫وريح فرناندو املعطر‪.‬‬ ‫إيزابيال‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫تعلق مثل راية‪ ،‬يتكئ ظ ُّلها عىل املارين به‪َ ،‬‬ ‫يتخ ٌّفون‪ ،‬وينثرون‬ ‫وقطع خبز‪ ،‬لتهبط إليه الطري‪ ،‬تؤنس‬ ‫من حوله حبات قمح وأرز‬ ‫َ‬ ‫ب له برفرفاهتا‪.‬‬ ‫موته‪ ،‬ولرت ِّط َ‬ ‫رج من جرابه قارورة من ماء هنر غرناطة‪،‬‬ ‫يمر به شيخ‪ُ ،‬خي ُ‬ ‫روحه‪ ،‬ويميض إىل‬ ‫يضعها حتت قدمي املشبوح‪ ،‬علها ُتروي‬ ‫َ‬ ‫عابر سيفه‪،‬‬ ‫منفاه‪ ،‬ويف ظ ِّله املفرود عىل أرضه‪ ،‬يغرس فارس ٌ‬ ‫‪42‬‬


‫ويصيل‪ ،‬فال يكون إال نورا‪ ،‬ويميض جمردا إىل سفائن جاءت‬ ‫للرحيل‪.‬‬ ‫وح إىل املنفيني‪ ،‬وإىل "احلمراء"‬ ‫كرة موته‪ ،‬ينظر املش ُب ُ‬ ‫ويف َس َ‬ ‫يف ربوته‪ ،‬وإىل راياته التي كمدت ألواهنا‪ ،‬وهتدلت حبا ُهلا‪،‬‬ ‫بعض‬ ‫تنس ُّل ورطابتها ُ‬ ‫وَتزقت نسائجها‪ ،‬فيذرف دمعة سخينة‪َ ،‬‬ ‫ُّ‬ ‫وتظل‪.‬‬ ‫روحه‪ ،‬ترفرف‪ ،‬وتراوح بني اهلجرة واحللول‪،‬‬ ‫وَتسح أم اوخري نبيذ عينيها بك ِّفها‪ ،‬وتنسل إىل حجرهتا‬ ‫تصو ُر‬ ‫باهبا بحشوات ذات حفور‪،‬‬ ‫ِّ‬ ‫اجلانبية الوحيدة‪ ،‬املشغول ُ‬ ‫طيورا‪ ،‬وتواريق نبات‪ ،‬مطعمة بفضة نقية وريح و ٍ‬ ‫رد‪ ،‬تضع كفها‬ ‫َ‬ ‫حيث ُّ‬ ‫حيط طائر‪ ،‬ينفتح الباب‪ ،‬فال يكون صوت‪ ،‬وتُغلق عىل‬ ‫نفسها‪ ،‬تطوف باملالء املكدس برايات حتمل ألوانا كامدة‪ ،‬وآثار‬ ‫َط ٍ‬ ‫عن واحرتاق‪َُ ،‬ت ِّل ُس عليها‪ ،‬وَتر بكفها يف حنني صالة فوق‬ ‫ألوان‪ ،‬وخيو ‪ ،‬وقطع نسيج من تصانيف املرية‪ ،‬وغرناطة‪،‬‬ ‫اعتِه‪ ،‬وجتوس يف أوراق‬ ‫ومالقه‪ ،‬وإشبيلية‪ ،‬كان جيلبُها لصنَ َ‬ ‫قديمة‪ ،‬عليها رسوم ُأ ٍ‬ ‫سد‪ ،‬وخيول‪ ،‬وسيوف مرشعة‪ ،‬كان َي ِس ُم‬ ‫‪43‬‬


‫هبا راياته‪ ،‬وجتلس إىل كِليم معلق يف زاوية املكان‪ ،‬ويف نسائل‬ ‫ف صاغها من وشيج احلرير والذهب‪،‬‬ ‫صوفه تتعلق‬ ‫أحر ٌ‬ ‫ُ‬ ‫تقرؤها‪ ،‬وتعود إىل ذاكرة سنوات‪ ،‬عرب ليال َهبي ٌة أقامرها‪ ،‬تؤنسه‪،‬‬ ‫ويف نورها ينسج عىل الكِليم‪ ،‬خرب ِ‬ ‫عشقهام‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫لسو ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫اك‪،‬‬ ‫رس ال يبني َ‬ ‫ت َُرن ُِّم ببعض كالمه إليها‪" :‬حلرضة الكليم ٌّ‬ ‫ِ‬ ‫هبائك‪ ،‬أن نرتاءى"‪.‬‬ ‫القمر يف مثل‬ ‫آيت ُه حني يكون‬ ‫ُ‬ ‫املنحوت فيه جهة‬ ‫القارب‬ ‫غري بعيد‪ ،‬تدفع‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫تصري إىل صندوق َ‬ ‫الربوة احلمراء‪ ،‬فيتجىل هلا‪ ،‬جسدٌ خالص‪ ،‬ح ُّز ِ‬ ‫احل ِ‬ ‫بال ما زال‬ ‫ٌ َ‬ ‫موشوما يف معصميه وساقيه‪ ،‬لعينيه الربيق ذاته‪ ،‬وبقايا أصباغ‬ ‫عالقة بأصابعه‪ ،‬وبعض روح فيه ساجية‪ ،‬تُق ِّب ُله‪ ،‬وتغلق عليه‪.‬‬ ‫تتحس ُس حرفا مطبوعا يف‬ ‫كر َت ُه‪،‬‬ ‫تعود إىل الباب‪ُ ،‬‬ ‫َ‬ ‫تقبض ُأ َ‬ ‫َتر بالعارفة باألحوال متكئة إىل‬ ‫تفتح‪،‬‬ ‫قلبها‪،‬‬ ‫خترج‪ ،‬ت ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُغلق‪ُّ ،‬‬ ‫غرس ُه يف‬ ‫وَتر بنُون حيفر يف خشب املنضدة سيفا َ‬ ‫وسادة منزوية‪ُّ ،‬‬ ‫ً‬ ‫تذهب إىل القاعد‬ ‫ظل جسد مشبوح ينفرد عىل أرض بعيدة‪ ،‬و‬ ‫ُ‬ ‫الشارع‪ ،‬وهي يف قلب‬ ‫فيغمر الضو ُء‬ ‫باهبا‪،‬‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫وحده‪ ،‬تفتح إليه َ‬ ‫‪44‬‬


‫الباب‪ٌ ،‬‬ ‫ظل تام النقاء‪.‬‬ ‫حتدِّ ُثه‪" :‬أذكر يومها أنك أرقت قارورة ِ‬ ‫مائ َك حتت قدميه"‬ ‫ُ‬ ‫فال َي ُرد‪ ،‬وينظر إىل الزجاجة بني يديه‪.‬‬ ‫فرتدف‪ ،‬وهي تشري إىل قلبه‪" :‬كان ُيشبِ ُه َك"‪.‬‬ ‫وكان كروان‬ ‫وا ُمل ُ‬ ‫صاحب ا ُمللك‪.‬‬ ‫لك َل حك َل حك َل حك يا‬ ‫َ‬ ‫قمر يف مثل َهب ِائ َها‪.‬‬ ‫وكان ٌ‬ ‫ِ‬ ‫سمت املوصولة توا‪ ،‬وكان إىل‬ ‫وكانت إىل ُدكاهنا‪ ،‬تدخل يف‬ ‫ِجرابِه‪ُ ،‬خيرج قدحا من زجاج ٍ‬ ‫أزرق ُمم َوه باملِينَا‪ ،‬وقطع ًة من نسيج‬ ‫وجه َها‪ ،‬وحتت الوجه‪ُ ،‬مطو ‪:‬‬ ‫ا َملرية‪ ،‬مرسوم فيها ُ‬ ‫ِ‬ ‫اآليات‬ ‫بالعـناء تُقـد ُر‬ ‫وإال‬ ‫ُ‬

‫مالمات املحبة للمعنى لـذ ٌة‬ ‫ِ‬ ‫آثرت َص َ‬ ‫رايات‬ ‫هـواك مجــرة ‪ ‬وفوق هواي حلقت‬ ‫ـون‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬ ‫يرحل يف النور املفرود أمامه‪.‬‬ ‫بروح ِه يقرأ الرتنيم َة‪ ،‬وبعينيه‬ ‫‪‬‬

‫‪45‬‬


46


‫‪ِ​ِ4 ‬‬

‫َ َ ُ‬ ‫ِالمتَ َومِّ‬ ‫ُ‬ ‫فارسة‬ ‫د‬

‫‪47‬‬


48


‫الفرس يف ظ ِّل ِه يتأو ُه‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫مثل ُر ٍ‬ ‫خيرتق بدنا‬ ‫مح‬ ‫ال يعرف ُه َبعد‬ ‫ويف األنحاء‬ ‫تتناثر جريونيكا‬ ‫والعيون املفتوحة‬ ‫عىل املوت‬ ‫وأجسا ٌد مل تربح‬ ‫ُ‬ ‫ترصخ ببعض روحٍ‬ ‫وببعض موت‬ ‫وأكف َتتد‬ ‫ٌ‬ ‫إىل هناية األذر ِع‬ ‫تتعلق باألعا‪،‬ي‬ ‫‪49‬‬


‫وببقايا نور‬ ‫يصبغ وجع املذهولة‬ ‫عن موهتا‬ ‫بوليدها‬ ‫وما كانت اللمبة الوحيدة يف سقف اللوحة بقادرة عىل أن‬ ‫الكف‬ ‫ُختفي ما بقي من قبضة حية‪ ،‬أو شذرة النصل املكسور يف‬ ‫ِّ‬ ‫الصلبة‪ ،‬أو ورد ًة هلا لون البدن‪ ،‬أو ثديا يمتلئ بحليب الضوء‪.‬‬ ‫ُّ‬ ‫ويف هباء حيتمي الثور املبتور بأنني امرأة‪ ،‬تتشكل مثل طائر‪،‬‬ ‫يرشع يف التحليق بفرخه املغتال إىل سامئه‪ ،‬وال ‪...‬‬ ‫ويف وجل‪ ،‬يدور نون بعينيه يف أنحاء اللوحة‪ ،‬ويف األنحاء‬ ‫تنساب ترنيمة موتسارت اجلنائزية‪ ،‬ويف املكان حيل صفاء املوت‪.‬‬ ‫ويف اوخارج‪ ،‬تتواتر اوخطوات إىل الباب الوحيد بني السامء‬ ‫وبني الغرفة املبتهجة الليلة باملوت املتاح‪.‬‬ ‫يفكر إن كان موتسارت قد أحال‬ ‫يسمع نون خبطات خافتة‪ُ ،‬‬ ‫‪50‬‬


‫ترنيمته اجلنائزية األخرية إىل احتضار حي‪.‬‬ ‫تتواىل اوخبطات رسيعة‪ ،‬يف رقة املشغوف باجتياز رسوم‬ ‫املدينة املحطوطة يف جسد الباب‪ ،‬إىل شاغل الفراغ املتواري‪،‬‬ ‫فيجدها يف هلفتها‪ ،‬وجتده يف ذهوله ووحدته‪ ،‬وتدخل‪ ،‬وليس‬ ‫سوى مصباح وحيد‪ ،‬وذاكرة تندَ س يف القلب‪ ،‬فال يكون كالم‪.‬‬ ‫بش ِ‬ ‫تُسائ ُله‪" :‬سميتَني باسم مدينتِ َك"‪ ،‬وتتهيأ َ‬ ‫دوها‪.‬‬ ‫تُساء ُله‪" :‬أهي احلبيبة؟" وتومئ إىل طريط حرير معل ٌق يف‬ ‫غمده‪.‬‬ ‫ينطق‪" :‬أنت العارفة بالدواخل‪ ،‬أنبئيني" ويراوح بني ظل‬ ‫الفرس ونور حروف احلبيبة‪ ،‬يف جسد احلرير املدىل من غمده‪.‬‬ ‫تاريخ بحر عربته‪ ،‬أو حبيبة ِ‬ ‫ُ‬ ‫عشقتُها‪،‬‬ ‫ويردف‪" :‬وهل غادرن‬ ‫َ‬ ‫أو صانع رايات مشبوح‪ ،‬يرمق يف احتضاره راياته املتهدلة حتت‬ ‫صوارَيا"‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫ويسائل‪" :‬وهل ج ِ‬ ‫تنفست‬ ‫بت بني الطوائف يف ممالكها‪ ،‬أو‬ ‫ُ‬ ‫‪51‬‬


‫املعارف املحروقة‪ ،‬أو ُأ ِرست حبيبت ِ‬ ‫ِ‬ ‫ُك"‪.‬‬ ‫ريح‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫فترشع يف دندنة خافتة‪:‬‬ ‫ُ‬ ‫جريونيكا‬ ‫يا تِيه املوت عن مواقيته‬ ‫ِ‬ ‫اس يف ٍ‬ ‫زمن‬ ‫جا َبك احلر ُ‬ ‫فام ُع ِ‬ ‫دت سوى زمن‬ ‫ويف التاريخ عاد مشهدُ ِك‬ ‫َي ِس ُم األرحا َم بالوجع‬ ‫الليل ب ِ‬ ‫صل َ‬ ‫وي ُ‬ ‫الليل‬ ‫ِ‬ ‫باألرس‬ ‫املحبوب‬ ‫ويكلل‬ ‫َ‬ ‫فال نوم‬ ‫وال لوم‬ ‫سوى نصل‬ ‫ِ‬ ‫بالعشق‬ ‫يرن ُِّم يف الساحات‬ ‫ِ‬ ‫مقابضه‬ ‫وحيمل يف‬ ‫‪52‬‬


‫األرس‬ ‫نسيجا غادر‬ ‫َ‬ ‫بالو ِ‬ ‫صل‬ ‫ووحيا ُينبي َ‬ ‫وبصوهتا‪ ،‬تؤرخ العارفة ل ُع ِ‬ ‫مر احلبيب‪.‬‬ ‫ورنيم الصوت ُيشجي‪ ،‬والنطق عاص‪.‬‬ ‫ويسود حزن له سطوة النار‪ ،‬ويف ب ِ‬ ‫راح ِه النهاري‪ ،‬يطوف نون‬ ‫َ‬ ‫يف أزمان ُغرفته‪ ،‬ويف ليل احلبيبة‪.‬‬ ‫وكانت يف ب ِ‬ ‫عدها‪ ،‬أسرية يف ملكوت من حرير‪ ،‬والليل سادر‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫َتر عىل مالحمها ال ُغالمية‪،‬‬ ‫وصحراء ممزوجة باهلدوء‪ ،‬وريح‪ُّ ،‬‬ ‫تلهو بشعراهتا القصرية‪ ،‬وبع ِ‬ ‫رف الفرس املتأهب هلا‪ ،‬يرنو إىل أفق‬ ‫ُ‬ ‫مشيئتها‪ ،‬فتمتطي‪ ،‬تقبض بأصابعها الدقيقة عىل اللجام اللدن‪،‬‬ ‫تشده يف رفق‪ ،‬وتضغط بساقيها عىل بدن الفرس‪ ،‬فيتقدم‪ ،‬رائق‬ ‫اوخطو‪َ ،‬ول ِ ٌع بفارسته‪ ،‬يلج َ‬ ‫ب العاشق‬ ‫ُب َخ َب َ‬ ‫الليل املفرود هلا‪َ ،‬خي ُّ‬ ‫بض َغ َطات تذو ُد هبا عن ِ‬ ‫ذاهتا الش ُغو َفة‬ ‫طعمه َ‬ ‫اهلائم يف صحرائه‪ُ ،‬ت ُ‬ ‫تدفع عنها‬ ‫ريح الليل‪ ،‬تل َق َ‬ ‫اها‪ُ ،‬‬ ‫باحلبيب‪ ،‬فيبدأ الفرس يعدو‪ ،‬تنتبه ُ‬ ‫ِ‬ ‫الكامن‪ ،‬حتمل عنها ُخصالت َش ِ‬ ‫وأطراف‬ ‫عرها‪،‬‬ ‫ثِ َقل الوج ِع‬ ‫َ‬ ‫‪53‬‬


‫املم ُسوس بحكايات الفارس‪ ،‬وجتوز هبا وبفرسها البيدا َء‪،‬‬ ‫الثوب ح‬ ‫وبرغبتها يف اوخروج من ح ِّيز الزمن املتاح لوجودها‪.‬‬ ‫َ‬ ‫وتواريخ ما عادت‬ ‫ينطلق الفرس عابرا اللحظات املهملة‪،‬‬ ‫وحبات الصخر دليال إىل حيث‬ ‫مالت دربا‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ُجتدي‪ ،‬وتصري الر ُ‬ ‫ٍ‬ ‫ُهتوي الفارس ُة ب َف ِ‬ ‫صالبة ل ِّينة‪ ،‬تُطلق‬ ‫رس َها‪ ،‬تفور الريح يف‬ ‫شعرات الع ِ‬ ‫ِ‬ ‫وروح الراكبة إىل عنان سامء غري التي‬ ‫والذيل‬ ‫رف‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫بدن ال َف ِ‬ ‫بسا َق َيها َ‬ ‫املدوي يف ليل وحدهتا‪ ،‬فال‬ ‫رس ِّ‬ ‫غادرت‪َ ،‬هت ُرص َ‬ ‫ُ‬ ‫يرشخ الزمن املحيط‪ ،‬فال‬ ‫يملك هلا َعنَتا‪ ،‬ويَسي مثل ِشهاب‪،‬‬ ‫وولع االختفاء يف‬ ‫حيس السادرة يف غي امتطائها‪َ ،‬تلك الوجد‪،‬‬ ‫َ‬ ‫ُّ‬ ‫اللحظات املارقة من حوهلا‪ ،‬تفوت ُبرب ِاقها يف جمازات الليل‬ ‫والريح‪ ،‬واملفازة‪ ،‬ووجع الشوق‪َ ،‬‬ ‫وهلف لقاء حبيب ينتظر‪ ،‬تصري‬ ‫إليه‪ ،‬طائر ًا‪ُّ ،‬‬ ‫قر يف قلبه‪.‬‬ ‫حيل يف مكانه‪ ،‬وحرفا َي ُّ‬

‫‪54‬‬


‫‪ِ​ِ5 ‬‬

‫اء َ‬ ‫ِالم َراياَ‬ ‫َز ْرقَ ُ‬

‫‪55‬‬


56


‫يف تلك الليلة‪ ،‬رأت‪ ،‬ومل ِ‬ ‫حتك‪.‬‬ ‫السهدَ ‪.‬‬ ‫يف الليلة التالية‪ ،‬آثرت ُّ‬ ‫وبعد ٍ‬ ‫ليال عديدة‪َ ،‬د َ‬ ‫وهن َُها‪ ،‬ومل تعد قادرة عىل أن تواصل‬ ‫ان َ‬ ‫حلم رأته تلك الليلة‪.‬‬ ‫القبض عىل احلُل ِم‪ٌ ،‬‬ ‫ومل ِ‬ ‫حتك‪:‬‬ ‫احلراس إىل البوابة املترتسة بالسور‬ ‫حتت سامء زرقاء‪َُ ،‬يرع َ‬ ‫احلجري‪ ،‬يقرتب صوت نفري زاه‪ ،‬فتعدو هي إىل أمجة قريبة‬ ‫لتختبئ يف كثافتها‪ُ ،‬يدير احلراس دوالب اجلَس‪َ ،‬يبط بطيئا‪،‬‬ ‫كإيقاع حبات ساعة رملية‪ ،‬يمتد بني ملكوته الذي جيري بحسب‬ ‫اشتهاءات خليفة صبي‪ ،‬وبني ٍ‬ ‫كون من والة وأمراء‪ ،‬يتنازعون‬ ‫السامء املهدَ رة حتت أقدامهم‪.‬‬ ‫عىل أخشاب اجلَس املعمول من أبدان أشجار ِحيكَت يف‬ ‫فيض من دبات حواف خيل ترتى‪،‬‬ ‫ظلها غزوات‪ ،‬كان ٌ‬ ‫‪57‬‬


‫وأصوات أبواق صقيلة‪ ،‬تنتصب يف وجه اليوم الراجف بفعل‬ ‫ِ‬ ‫للحلم‪ ،‬مثل ُزرقة ساجية تنوش‬ ‫األحداث املنهمرة‪ ،‬هجائ ِّي ٌة ُ‬ ‫سالما ساكنا‪ِ ،‬‬ ‫كح ٍ‬ ‫ارصة تلوذ برشفها إىل َمقاتِل أجساد‬ ‫راب ُحم َ‬ ‫منثورة‪ ،‬فيسقط سكون اجلَس إىل املاء املعتم‪ ،‬غائصا دون جلبة‬ ‫إىل فراغه اجلديد‪.‬‬ ‫ويزدحم اجلَس بفرسان وأفراس‪ ،‬وطبول افتخار وصبابات‬ ‫األمري املتأنق‪ ،‬يعتيل فرسته املكحولة‪ ،‬ا ُملطهمة ُبزخر ٍ‬ ‫ف له سمت‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫الد ِم والشمس الغاربة وزرقة السامء‪ ،‬يسعى يف ُخ َيالء َذك ٍَر إىل‬ ‫فس‬ ‫طلب أمرية‪ُ ،‬يمنِّي القلب باألفراح املحتملة‪ ،‬و ُيمنِّي الن َ‬ ‫وض ِش ِ‬ ‫عره‪ ،‬ويداعب مقبض سيفه‪،‬‬ ‫باتساع إمارته‪،‬‬ ‫يشح ُذ َع ُر َ‬ ‫َ‬ ‫ويراجع معارفه بالكون واألشياء وتفانني اإلغواء‪ ،‬يذكر بشارة‬ ‫ِ‬ ‫ُرج ُحه‪.‬‬ ‫عرافه األعمى‪ ،‬ويبحث يف عينيه عن نظرة سابية ت ِّ‬ ‫وخلف األمري و‪،‬ي‪ ،‬وخلف الو‪،‬ي أمري‪ ،‬فخليفة يتبعه طائفي‪،‬‬ ‫موحد‪ ،‬فسلطان من ساللة الد ِم‪ُ ،‬اغتيل ذات مرة‪،‬‬ ‫فمرابط‪ ،‬ثم ِّ‬ ‫ُ‬ ‫فعقد العزم عىل أن حيوز السلطنة‪ ،‬وال ُيبقى يف أرض غرناطة‬ ‫‪58‬‬


‫سواه ‪ ،‬وأن يدخل باألمرية يف ظل أجساد مغتاليه‪ ،‬عىل ُممل‬ ‫رسيره األزرق‪ ،‬فيام تترشب هدباته قطرات دمهم‪.‬‬ ‫فتفزع من بني حشايا احلرير‪ ،‬تقوم إىل ٌشباكها‪ ،‬حتيطها‬ ‫صوت ُمبهم املصدر‪ ،‬ل َقين ٍَة تشدو‪:‬‬ ‫وصيفاهتا‪ ،‬ويف سمعها َ​َي ِمي‬ ‫ٌ‬ ‫ُ‬ ‫لو أن الزُرقة جمرد ُحلم‬ ‫ماذا سيكون من أمر الرباءة؟‬ ‫ماذا سيكون من أمر القلب‬ ‫لو أجدبت ينابيع احلب؟‬ ‫ولو أن املوت هو موت‬ ‫ماذا سيكون من أمر الشعراء‬ ‫ومن أمر األشياء النائمة‬ ‫التي مل يعد يتذكرها احد؟‬ ‫آه يا شمس اآلمال‬ ‫أيتها املياه الرقراقة‬ ‫والقمر اجلديد‬ ‫‪59‬‬


‫يا أفئدة األطفال‬ ‫الصلبة‬ ‫يا أرواح األحجار ُ‬ ‫اليوم أشعر يف فؤادي‬ ‫باختالجات غامضة للنجوم‬ ‫وكل الورود‬ ‫بيضاء كأحزاين‪.‬‬

‫(‪)4‬‬

‫حللم إىل حزن أبيض؟"‬ ‫ـ "هل ُحييل‬ ‫ُ‬ ‫الفزع زرق َة ا ُ‬ ‫ترفرف عن جملسها ترو ُم مصدر‬ ‫تتساءل األمرية وهي‬ ‫ُ‬ ‫ف إىل فضاءات األ َهباء‪ُّ ،‬‬ ‫حتط يف هبو العذارى‪ ،‬تدور‬ ‫الصوت‪َ ،‬خت ُّ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ظالل أعمدهتا الرخامية عىل جسدها املنساب‬ ‫حتتمل‬ ‫يف األروقة‪،‬‬ ‫ذخر برائحة ال َق ِ‬ ‫إىل َهب ٍو َي َ‬ ‫صيد والشجن‪ ،‬وصدى ترديد ملا َيزل‬ ‫ينتفض بشهوة احلزن لرتانيم حبيب‪ ،‬وأطياف حتكيها الشمس‬ ‫عىل نافذة املكان‪ ،‬إىل الالئذة باوخفاء‪ ،‬ووجع مطمور‪ ،‬وأغنية‬ ‫خريفية‪.‬‬

‫(‪ )4‬قصيدة للشاعر اإلبسااني لوكاا من ررةمة اؤملل عن اإلبساانية‪.‬‬ ‫‪60‬‬


‫هتبط إليها َرندُ ‪ ،‬ك َ​َمن إىل كِن َِّها‪ ،‬جتلس أمامها يف سكون‪،‬‬ ‫يرتاح إىل سكوهنا الفرس املشغول يف زجاج النافذة‪ ،‬ويثري يف‬ ‫ِ‬ ‫األمرية السؤال‪:‬‬ ‫نُطق‬ ‫ـ "أي روعة هلذا الشجن األندليس‪ ،‬ملن هو؟"‬ ‫تومئ َرندُ بأهداهبا جهة النافذة‪ ،‬وجتيب‪:‬‬ ‫ـ "حلبيب من مملكة غرناطة‪ ،‬كان يزرع احلقول والفصول‬ ‫بأشجار الزيتون والقصائد"‪.‬‬ ‫ـ "أي اسم كان له؟"‬ ‫ـ "اسم ُييضء برتداده ُ‬ ‫الليل ‪ ،‬ملسامع حروفه القدرة عىل أن‬ ‫ُخت ِّثر الدم النازف من جسد الفارس املطعون‪ ،‬أن ُحتيل زنزانات‬ ‫املقبوضني من ال ُعشاق إىل لفحة عطر يف حرير امرأة تسكن‬ ‫َخت َي َاهلم‪ ،‬أما له‪ ،‬فلم يكن سوى "لوركا"‪ .‬لوركا الذي أجاد‬ ‫احلب بمثل ما برع يف املوت وصوغ القصائد"‪.‬‬ ‫ـ "لو أن املوت هو موت‬ ‫‪61‬‬


‫ماذا سيصي من أمر الشعراء‬ ‫وما الذي صار إليه؟"‬ ‫ـ "حتى أنه مل يدع لنا جسدا نلمسه يف ليالينا املوحشة‪ ،‬وكأنه‬ ‫روح خالصة‪ ،‬أو ضوء نجم َفنَى"‪.‬‬ ‫ـ "وعالم تضعني زهورك يف ذكراه؟"‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬ ‫صخور‬ ‫األطفال‪،‬‬ ‫قلوب‬ ‫رسومه‪،‬‬ ‫قصائده‪،‬‬ ‫ـ "عىل صدري‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬ ‫رصاصة مرت به‪ ،‬أو حتى يف حذائه"‪.‬‬ ‫دروب مر هبا‪،‬‬ ‫قذف هبا‪،‬‬ ‫وتقوم األمرية إىل نافذهتا‪ ،‬تتبعها َرندُ ‪َ ،‬تران ببرصمها عرب‬ ‫زهرة برتقالية نابتة يف زجاج النافذة‪ ،‬وترن ُِّم َرندُ ‪:‬‬ ‫ـ "يف ذلك احلقل البعيد‪ ،‬هناك‪ ،‬يقف رجل نحيل مثل وردة‪،‬‬ ‫حلب‪ ،‬يف شجن أغنية عميقة‪ ،‬إنه هو‪ ،‬وتلك الساعية خلفه‬ ‫يبذر ا َ‬ ‫نحر ُ‬ ‫ونبذر ونروي حتى ترحل شمس‬ ‫ث‬ ‫ُ‬ ‫مثل رائحته‪ ،‬ماريانا؛ ُ‬ ‫يرتاقص ظِالنا خلفنا‪ ،‬حتى‬ ‫نجلس‪،‬‬ ‫اليوم‪ ،‬وحول نار املساء‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ٍ‬ ‫قصيدة جديدة ُيسمعني إياها لننام‪،‬‬ ‫يصريا ظال واحدا‪ ،‬و َن َغ َم‬ ‫‪62‬‬


‫ب مثل نور هنار جديد‪ ،‬وتسو ُد اوخُرض ُة‬ ‫ويف احلُل ِم‪ ،‬يبز ُغ احلَ ُّ‬ ‫مساحة ال َب ِ‬ ‫رص‪ ،‬ونصحو عىل أرض شاحبة جمدبة‪ ،‬وفضاء من‬ ‫ُصفرة جافة‪ ،‬وال صوت‪ ،‬لرقرقة ماء‪ ،‬وخفقات أجنحة طائر‪،‬‬ ‫ليس سوى دبيب رمل يصعد يف العروق املهشمة‪ ،‬لشجريات‬ ‫مستغرقة يف موهتا‪.‬‬ ‫وجو ُد ِك عىل‬ ‫كانت األرض مجيعها مثل كلمة ُم َبهمة‪ ،‬يتوقف ُ‬ ‫ِ‬ ‫برصك‪ ،‬ال تدركني هلا معنى‪ ،‬سنوات امتألت‬ ‫فهمها ‪ ،‬معلقة أمام‬ ‫بالصالبة والفناء‪ ،‬حتى كنا نأكل قصائدَ نا‪ ،‬واألرغف َة اليابس َة يف‬ ‫حكاياتِنا القديمة‪ ،‬وال جدوى‪ ،‬وال صوت‪ ،‬غري أن ٍ‬ ‫ات مؤرقة‬ ‫جائعة‪ ،‬تتضور برنات أنني ال يكَل‪ ،‬وأمل ُ ينفضونه‪ ،‬عساه يسقط‬ ‫مثل زغب اللقاح يف أرض ندية ترويه‪ ،‬تردده صلصلة أجراس‪،‬‬ ‫تتساقط رن ُاهتا عىل أوجاعنا‪ ،‬وعىل خوذات سادة يتصنعون‬ ‫األفراس الضامرة‪ ،‬وما بقي من فرسان‪ ،‬وأتبا ٍع‬ ‫السؤ ُد َد‪ ،‬هت ِّي ُج‬ ‫َ‬ ‫ومح ِل ُصلباهنم اوخشبية‪َ ،‬‬ ‫فخا ُطوها عىل‬ ‫َر َه ُقوا من إطعام املوتى‪َ ،‬‬

‫صدورهم‪ ،‬ويف دروعهم‪ ،‬ومحلوا عىل َم ِ‬ ‫رش ِق الدنيا؛ قلبها‬ ‫‪63‬‬


‫املقدس‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫وآالمهم الربانية‪ ،‬تتبعهم‬ ‫جوعهم‬ ‫ساد ٌة امتطوا شهوات‬ ‫أرساب من فقراء انتعلوا حفاءهم‪ ،‬وما بقي من رغبة األرض‬ ‫ِ‬ ‫عىل محلهم‪ ،‬وقبضوا عىل سيوف ِ‬ ‫موها‪،‬‬ ‫ورماح و ُّدوا لو َطع َ‬ ‫أحلم بأرض اوخالص‪ ،‬وأمحل يف َر ِمحي‬ ‫ومعهم كانت‪ ،‬ماريانا؛‬ ‫ُ‬ ‫بعضا من روح لوركا‪ ،‬وخطوطا من أغانيه‪ ،‬ونظرة أخرية حطها‬ ‫يف عيني"‪.‬‬ ‫وبعينيها‪َ ،‬تر َرندُ ‪ ،‬عرب عينني هلام لون سامء شتوية لفارس‬ ‫يسكن يف زجاج النافذة‪ ،‬إىل فضاء يصل إىل حيث حيل نون‪ ،‬يف‬ ‫حجرته القريبة من مدارات الطري والنجوم‪ ،‬ترا ُه‪ُّ ،‬‬ ‫خيط بريشتها‬ ‫وتشم للمكان رائحة نعناع غمسه يف َش ِايه الدافئ‪،‬‬ ‫خطا َبه إليها‪،‬‬ ‫ُّ‬ ‫يرشفه ويطوف بني أشيائها؛ سيفها املعلق يف جدار اجلري‪ ،‬طريط‬ ‫احلرير‪ ،‬وسهم منزوع من دم قديم‪ ،‬وخطو ‪ ،‬وهناية قصيدة‬ ‫لشاعر من خريف غرناطة‪ ،‬حفرها بمسامر يف جري احلائط ‪..‬‬ ‫اليوم أشعر يف فؤادي‬ ‫‪64‬‬


‫باختالجات غامضة للنجوم‬ ‫وكل الورود‬ ‫بيضاء كأحزان‬ ‫ِ‬ ‫وبمثل اإليقاع يرقب احلاممات السابحة يف فضاء نافذته‪،‬‬ ‫حتو ُم مثل وردات بيضاء‪ ،‬مثل ُحزن يتقاطر من زمان بعيد‪ ،‬مثل‬ ‫ِّ‬ ‫ِ‬ ‫ارصة‪ ،‬أو حبات نار شهق هبا‬ ‫أرواح تنَسب من جراحِ مدينة ُحم َ َ‬ ‫منجنيق‪.‬‬ ‫ويكون إىل مدينة معلقة يف طرف نافذته‪ ،‬وشارع صغري‬ ‫يستقبل الغروب بظالل خي ُل ُقها اللهب الكامن يف َر ِحم اللمبات‬ ‫الرقيقة‪ ،‬ونور شمعات تتأرجح نارها عىل ُشباك ا َمل َقام‪ ،‬تُنري‬ ‫تاريخ بيت ا َمل ِ‬ ‫َ‬ ‫قدس‪ ،‬وحيسب‬ ‫يدون‬ ‫للشيخ اجلالس أمام أوراقه‪ِّ ،‬‬ ‫الشهداء‪ ،‬و َينظِ ُم تواريخ الرايات واألسامء‪ ،‬ويرنو إىل َس َ‬ ‫لخة‬ ‫املو َارب لدكان أم اوخري‪ ،‬اجلائلة يف‬ ‫النور اوخارجة من الباب َ‬ ‫حجرة أرسارها‪َُ ،‬ت ِّلس عىل صندوق يؤوي حبيبا‪ ،‬وأسفارا‪،‬‬ ‫َتاثيل ُأ ٍ‬ ‫َ‬ ‫سد‪ ،‬هبو َع َذارى‪ ،‬عقودا مقرنصة‬ ‫ورسام لقلعة مأسورة‪،‬‬ ‫‪65‬‬


‫أرحا ُمها‪ ،‬وحمرابا‪ ،‬وأمرية خلف نافذة ملونة بأطياف شمس‪،‬‬ ‫تصعد إليها أم اوخري‪ ،‬حيملها شدو ينفطر حزنا‪ ،‬وأمل منظوم بلغة‬ ‫ال تعرفها‪ ،‬فتكون بني يدي األمرية‪ ،‬وقبلها سؤاهلا‪:‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫تلفحني"‪.‬‬ ‫ـ "أمرييت‪ ،‬ترنيم ال َقينَة يرشح حا َلك‪ ،‬ومجرة هواك ُ‬ ‫ـ "إن هلا صوت ًا تبثه أحزاهنا‪ ،‬أما ‪،‬ي فليس سوى املوت‪ ،‬أو‬ ‫وهم احللم"‪.‬‬ ‫ـ "حاشا سيديت"‪.‬‬ ‫ختلص من اجلسد املأسور باحلدائق‪،‬‬ ‫ـ "سأدع لروحي أن‬ ‫َ‬ ‫وأرحل"‪.‬‬ ‫املوت حال ٌة يف حلظة‪ ،‬ال ندري ما يكون‬ ‫ـ "لكن أمرييت‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫حا ُلنا بعدها‪ ،‬ربام كان للروح أش َقى"‬ ‫ـ"إذن‪ ،‬سأدع هلم مادة وجودي‪ ،‬وأصعد يف مقامات الشوق‬ ‫لم"‪.‬‬ ‫حل َ‬ ‫إىل منتهى الغيب‪ ،‬وأمتطي ا ُ‬ ‫لم‪ ،‬واليقظة ال ريب حاصلة بعده‪ ،‬األمر‬ ‫لم ُح ُ‬ ‫حل َ‬ ‫ـ "ولكن ا ُ‬ ‫‪66‬‬


‫مرهون بزمن‪ ،‬ولكل زمن هناية‪ ،‬وبإطراق صباحك التا‪،‬ي‬ ‫ستعودين‪ ،‬بعدما ُذ ِ‬ ‫قت متعة التحويم يف رؤيا األبد‪ ،‬وَتتعت بلذة‬ ‫الرتحال يف الكون‪ ،‬فأي أمل سيكون ما يمأل صباح ِ‬ ‫ك‪ ،‬وأي‬ ‫َ‬ ‫عذاب تشعرين‪ ،‬وكيف لتلك الروح التي المست األبدَ‬ ‫َ‬ ‫ديمو َم ِته‪ ،‬أن تستقر يف‬ ‫وأسباب الوجود‪ ،‬وعاينت‬ ‫َ‬ ‫الكون يف جتيل ُ‬ ‫جسد أمرييت بعدما تؤوب من رؤياها؟"‬ ‫أخف من عذابات احلرمان مع‬ ‫ـ "ولكن عذابات الفقد‬ ‫ُّ‬ ‫الشوق"‪.‬‬ ‫أقدر عىل أن يضنيك بأكثر من أن‬ ‫لم ُ‬ ‫ـ "حقا أمرييت‪ ،‬لكن احلُ َ‬ ‫ُحي ِّو َل لون عذابك‪ ،‬أن ُي ِنه َك وجو َد ِك‪ ،‬بني النوم واليقظة‪ ،‬بأعظم‬ ‫من أن يتيح ِ‬ ‫لك مستقرا"‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫الش ِ‬ ‫رض ِّ‬ ‫عر‪ ،‬فلم أجد ‪،‬ي‬ ‫ـ "لقد تعلمت احلكمة‪ ،‬والنِّزال‪ ،‬و َق َ‬ ‫مهربا سوى احلُل ِم"‪.‬‬ ‫ـ "بل هناك سواه‪ ،‬إن للعقل حدودا‪ ،‬وللقلب طوقا‪ ،‬واجلامل‬ ‫‪67‬‬


‫هائم بني ذوائق البرش‪ ،‬وبني الذات والوجود ثم أبدٌ من املعرفة‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫قلب مواليت عند‬ ‫ٌ‬ ‫فيض ال نقدر عىل اإلحاطة به‪ ،‬هكذا َره َق ُ‬ ‫درجة من درجات هذا الزمن‪ ،‬الذي ال زمن له‪ ،‬أو ربام َهب َطت‬ ‫بينام كان هلا أن تصعدَ ‪ ،‬أو َس َارت فيام عليها أن ُحت ِّل َق"‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫القلب رغبة ورهبة‪ ،‬أرسعي ببيانك وانبئيني‬ ‫مألت‬ ‫ـ "‬ ‫َ‬ ‫بالسبيل‪ ،‬أيتها املعرفة املتجسدة يف صورة امرأة‪ ،‬أظنك من كانت‬ ‫حتوز يوما حكمة ِ‬ ‫دلفي‪ ،‬وانحنى أمامها سقرا الشاب يسأهلا‬ ‫رس فلسفته"‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫قرصك و َم ِنزل ِ ِه مسافة ضئيلة باملكان‪ ،‬سحيقة‬ ‫ـ "ما بني‬ ‫بالزمن‪ ،‬حتد ُدها عالمات منظومة يف أشجار‪ ،‬وأودية‪ ،‬وتواريخ‪،‬‬ ‫ٌ‬ ‫وأحداث َص َ‬ ‫اغها أمرا ٌء ووال ٌة وخلفا ُء‪ ،‬اجتيازها‬ ‫وبحريات‪،‬‬ ‫الوصول‪ ،‬اجتيازها بالبرص ُيسلِ ُم ِك إىل الظ ِ‬ ‫َ‬ ‫اهر ال‬ ‫نجز‬ ‫بالفهم ُي ُ‬ ‫سواه"‪.‬‬ ‫ـ "ها ِ‬ ‫أنت ترسمني أمام خيا‪،‬ي متاه ًة‪ ،‬كمثل مرايا تأخذ يب إىل‬ ‫مرايا‪ ،‬وليس غري الوهم"‪.‬‬ ‫‪68‬‬


‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫رست‬ ‫حس ِك‪ ،‬أو‬ ‫ـ "هذا ما ستصريين إليه إن بقيت يف ِّ‬ ‫حسب ما تشعرين به من لذة"‪.‬‬ ‫حرف وخط‪،‬‬ ‫هم‪ ،‬وهواي بالعامل‬ ‫ٌ‬ ‫ـ "عشقي معرف ٌة‪ ،‬ولذيت َف ٌ‬ ‫السور احلائل مثل زمن ال‬ ‫واحلرف ِعلم‪ ،‬أأقدر هبذا أن أجتاز‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫املنبسط مثل ُفلك وال بحر؟"‬ ‫واجلَس‬ ‫ُيستعاد‪،‬‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫متاهتك إليه"‪.‬‬ ‫ـ "تقدرين‪ ،‬طر أن جتتازي‬

‫‪69‬‬


70


‫‪ِ​ِ6 ‬‬

‫جربةَ‬ ‫ُخ َ‬ ‫لو ُة َّ‬ ‫ِاتل ُ‬

‫‪71‬‬


72


‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫يب َرند‬ ‫يتضوع يف َف َلك املدائن ط ُ‬ ‫يقبس نون من روحه نفح ٌة‬ ‫ُ‬ ‫يصوغ من أسبابه رساجا‬ ‫يع ِّل ُقه مثل ثمرة يف ِحن َية مشكاة تنبت يف مكانه‪ ،‬ف ُيرشق‬ ‫رميم قصيدة غابت يف جدار اجلري‪،‬‬ ‫حمراهبا بنفحات نور‪ُ ،‬حتيي‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫وصلبانا‬ ‫وترفع رماد الصدأ عن ُطغراء سيف تغمد دروعا ُ‬ ‫فأضناها‪ ،‬وتدفع بالغبار عن صدفات عاج‪ ،‬وتواريق ُنحاس‪،‬‬ ‫ٌ‬ ‫صندوق مصف ُح اجلنَ َبات برموز‬ ‫ورصائ ٍع من هباء النجم‪ ،‬حتىل هبا‬ ‫رتف الظاهر‪ ،‬زاهدُ القلب إال عن حروف احلبيبة‪.‬‬ ‫ورسوم‪ُ ،‬م ُ‬ ‫يمر ببنانِه املتيم عىل رموز اجلوانب‪ ،‬ويرتن ُم‬ ‫حيمله ُنون‪ُّ ،‬‬ ‫ٍ‬ ‫بأسامء الرسوم‪ ،‬ينفتح له الصندوق‪ُّ ،‬‬ ‫لفائف‬ ‫حيط بكفه عىل‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬ ‫برشائط من حرير‬ ‫اوخرص‬ ‫مصنوعة من ورق َشاطِ َبة‪ ،‬حمكومة‬ ‫املرية‪ ،‬ذاخرة املتن بآيات ُهيام َرند‪ ،‬تصطيل حواشيها بتواريخ‬ ‫‪73‬‬


‫ويروج يف أنحائها َبخور عطر ينفر ُد مثل‬ ‫من أحوال متاهتها‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ويتسع‬ ‫زغب نور رهيف‪ ،‬خيفق خفقان التائه بني مراتب العشق‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫وئيدا يف لوعة‪ ،‬حتى حيوي أرواح األشياء املنثورة‪ ،‬وأبدان احلامم‬ ‫وشوق العاشق للسالكة إىل ِع ِ‬ ‫َ‬ ‫رفاهنا‪ ،‬تطلب‬ ‫اآليب من ُحلمه‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫وترتل‪:‬‬ ‫املعشوق معرف ًة‪ ،‬وتستضئ بَساجه‪،‬‬ ‫أي زمن ألج اآلن‬ ‫األزل واألبد آن‬ ‫واآلن حرضة الديمومة‬ ‫وسفر آبد‬ ‫ٌ‬ ‫أي ترنيمة تصلح‬ ‫أن أستهل هبا سفري‬ ‫أي سبيل يفي‬ ‫باوخروج من مقام التيه واللوعة‬ ‫وياهلا من لوعة‬ ‫َ‬ ‫اوخيول أمتطي‬ ‫األخيل َة أم‬ ‫‪74‬‬


‫عرب متاهتي املنصوبة أمامي‬ ‫كتجليات املرايا يف املرايا‬ ‫باملعرفة أم بالفراسة أستيضء‬ ‫يف سبييل املشكول من َطف َل ِة أرواح‬ ‫مسفوكة بالعروش والنزال‬ ‫فرتم َلت عهودها‬ ‫ٍ‬ ‫نمته‬ ‫املرصعة بنفائس‬ ‫جوهر َغ َ‬ ‫ف َغدَ َرها‬ ‫ُ‬ ‫أستدل‬ ‫بلوام ِع السامء‬ ‫ِ‬ ‫باحلروف اآلبدة‬ ‫أم‬ ‫ِ‬ ‫الرمل‬ ‫يف طوايا‬ ‫ليس من يشء ٍ‬ ‫سافر‬ ‫وال يقني سوى املتاهة‬ ‫دوام ال ُّ‬ ‫يكل‬ ‫زمن ال ُّ‬ ‫يدل‬ ‫‪75‬‬


‫وأماكن ال هتدي‬ ‫السيف أجدى من كتاب‬ ‫كتاب أجدى من ِرفقة طائر‬ ‫ٌ‬ ‫أم الوحي أجدى‬ ‫أم ملحة‬ ‫من شغاف اهلادي املنتظِر‬ ‫يصنع ‪،‬ي رساجا‬ ‫من معدن روحه‬ ‫لييضء ‪،‬ي بنور ال يغيم‬ ‫فأفوت به‬ ‫عرب ساحات الوغى والوحشة‬ ‫من غري أن أفنى‬ ‫وآن تنتهي من ِو ِ‬ ‫ردها تكون إىل بستان التجربة‪َ ،‬تيض مثل‬ ‫ٍ‬ ‫يغمر‬ ‫ألف مضيئة تنشدُ تع ُّينها وكامهلا‪ ،‬تسري إىل بستان األرسار‪ُ ،‬‬ ‫بحر من حليب الضوء‪ ،‬يف قلبه ال ترى سوى قب ًة‪ ،‬تصعد‬ ‫برصها ٌ‬ ‫َ‬ ‫‪76‬‬


‫مثل موجة‪ ،‬هلا لون احلجر‪ ،‬وملمس هنار‪ ،‬ومن حتتها بنا ٌء صغري‪،‬‬ ‫وجدران أربعة‪ ،‬تواجه جهات األرض‪.‬‬ ‫تعاين‬ ‫يف اجلدار اجلنويب‪ ،‬تلمح قوس باب‪ ،‬تدفعه وتدخل‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫وحدهتا‪ ،‬وشيخا عىل بِساطِه‬ ‫َتارس‬ ‫وجالل نفس‬ ‫هباء السكون‪،‬‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫يصيل‪ ،‬وفوقه‪ ،‬يف ُرسة القبة‪ ،‬طاقة مفتوحة عىل السامء‪.‬‬ ‫وصوت الباب املسكوك‪ ،‬خيدش رمل‬ ‫مت‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ُيرجف قل َبها الص ُ‬ ‫أرض ال تراها‪ ،‬ومالء من وجد املتهجد‪ ،‬يوحي إليها أن َق ِّري‪،‬‬ ‫تقعد عىل طرف البسا ‪ ،‬خلفه‪ ،‬يفرغ من صالته‪ ،‬ويتجه نحوها‪،‬‬ ‫تبادره بلهف الضال‪:‬‬ ‫ـ "أين يف بستان أرسي يكون هذا املكان؟"‬ ‫يقف أمامها‪ ،‬حتت الطاقة املفتوحة عىل السامء‪ ،‬يومئ بعينيه‬ ‫للنجم الساري عربها‪.‬‬ ‫ـ "ما بني قلبك وعقلك تكون ُخلوة التجربة‪ ،‬بساط ُة الوجودِ‬ ‫َ‬ ‫وعناؤه‪ ،‬بني جدران تذهب إىل أقطاب الكون األربعة‪ ،‬وحتت‬ ‫ٍ‬ ‫ُ‬ ‫لنفس تسعى يف مداركها‪،‬‬ ‫نكون‪ ،‬وبراح‬ ‫قبة حتمل سامء‪ ،‬حتتها‬ ‫‪77‬‬


‫وطاقة َتن عىل رس ُخ ِ‬ ‫لوتك بنور وظلمة‪ ،‬وأرض حتم ُل ِك‪ ،‬جسدا‬ ‫ُّ‬ ‫ِّ‬ ‫ِ‬ ‫النافذ عرب الطاقة‪ُ ،‬‬ ‫حيوي عقال وقلبا‪ ،‬حيمالن عمو َد الروحِ‬ ‫يصل‬ ‫بني نقطة وجود تتعلق يف فضاء نون‪ ،‬وبني ِ‬ ‫ألف ِّ‬ ‫الكل يف ال ُعىل‪،‬‬ ‫حيم ُلنا بسا ٌ ‪ ،‬يأتيه الزمن من كل صوب‪ ،‬ويميض يف خيو‬ ‫ينكشف‬ ‫نسيجه حتى يبليه‪ ،‬فال يعود له وجود‪ ،‬وال لنا حياة‪ ،‬ل‬ ‫َ‬ ‫مرقدنا األخري‪ ،‬فراغ من ُحلكة‪ ،‬حييل البسا بيننا وبينه"‪.‬‬ ‫ينفذ ضو ُء َنج ٍم بعيد عرب الطاقة املفتوحة للسامء‪ ،‬ينفر ُد مثل‬ ‫ألق فضة‪ ،‬فيرتاءيان‪ ،‬تتجه إليه َرندُ ‪:‬‬ ‫شاشة ضوء‪ ،‬تنرش يف املكان َ‬ ‫َتر؟"‬ ‫ـ "أي متاهة جتتاز‪ ،‬وبأي جتربة ُّ‬ ‫ِ‬ ‫مجالك ‪،‬ي‪ ،‬يف هذا الكون‪ ،‬جتربة" جييبها‪.‬‬ ‫ـ "إن كامل‬ ‫ُ‬ ‫ثغره عن ابتسامة‬ ‫جتفل‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ينم ُ‬ ‫وترجع بظهرها خطوة عنه‪ُّ ،‬‬ ‫تطمئن إىل‬ ‫هادئة‪ ،‬تعكس ثناياه نسمة من فضة النور إىل عينيها‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫بساطه‪ ،‬وتقعدُ ‪ ،‬ويقعد إىل جوارها‪ ،‬ويشري إىل أعىل احلائط‬ ‫الغريب‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫جتربتك‪ ،‬فإىل حيث‬ ‫ـ "سيبزغ بعد قليل نور هنار جديد‪ ،‬يوم‬ ‫‪78‬‬


‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫عليك‪ ،‬ال تأهبي‬ ‫سفرك املقدر‬ ‫رحلتك‪،‬‬ ‫أطرت انظري‪ ،‬وستبدأ‬ ‫ُ‬ ‫ِ‬ ‫متاهتك"‪.‬‬ ‫للدم بل باحلكمة‪ ،‬حتى جتتازي‬ ‫ضباب‬ ‫وكانت فضة النور تستحيل إىل رمادية‪ ،‬فيغشى املكان‬ ‫ُ‬ ‫ُص ٍ‬ ‫ص من ليله بعد‪ ،‬يمر عرب رسة القبة‪ ،‬من جهة‬ ‫ونور ملا خي َل ٌ‬ ‫بح ٌ‬ ‫املرشق‪ ،‬إىل حيث أشار هلا‪ ،‬ترنو إىل شاشة الضوء اوخفيفة عىل‬ ‫اجلدار الغريب‪.‬‬ ‫أصم ينغرز يف الرمال‬ ‫ريح‪ ،‬وتأوه رمح َ‬ ‫تناغش سم َعها ٌ‬ ‫ويأسى‪ ،‬تتبع صوت أساه حتى جتيئه‪ ،‬ترى قناته مائلة جهة‬ ‫الغروب من أثر هوانه‪ ،‬وإىل جواره خوذة موسومة األنحاء‬ ‫عدهنا‪ ،‬فانفصل عن قبتها هالل‪ ،‬تضمه يف‬ ‫بخرائط دم‪ُ ،‬شج َم ُ‬ ‫تلمح يف غضون ِّ‬ ‫التل جسدا‬ ‫يقبضها‪،‬‬ ‫ك ِّفها‪ ،‬وتتبع وجعا‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫مطروحا‪ ،‬مطعون األنحاء بالنصال‪َ ،‬تيل عليه بطرفها‪ ،‬فال جتود‬ ‫نفسه بأكثر من ٍ‬ ‫موت حال‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫ِ‬ ‫بدمه‪ ،‬وتقرأ آية من‬ ‫ُريق عىل جسده بعضا من رمل حتنى‬ ‫ت ُ‬ ‫تيهها بصوت أذان له سحر نبوءة ترتاد‬ ‫كتاب شهادته‪ ،‬فيعبق ُ‬ ‫‪79‬‬


‫ختياهلا‪ ،‬ويرتدد يف أسامع العابرين‪ ،‬يرتدُّ صدا ُه إىل جبل ك َع ِ‬ ‫رش‬ ‫ٍ‬ ‫ملك غافقي‪ ،‬حاشي ُة بالطِه الشهداء‪.‬‬ ‫ٌ‬ ‫يطوف بني جنده‪ُ ،‬يصيل بفرسانه‪،‬‬ ‫ملك رأته يتفقدُّ مواقعه‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ح‬ ‫فتلحق بركبِ ِه‪،‬‬ ‫الغال‪،‬‬ ‫ويسعى بفتوحاته عرب أندلسه‪ ،‬إىل مملكة‬ ‫ُ‬ ‫وتذهب والذاهبني إىل غزوهم‪ ،‬يفتحون املدائن العامرة‪ ،‬يغنمون‬ ‫ُ‬ ‫ٍ‬ ‫وهنا يف خيمة غنائمهم‪ ،‬وحيملون‬ ‫وجوهر‪،‬‬ ‫نفائس أيقون‬ ‫يراكم َ‬ ‫ُ‬ ‫بتدبري ٍ‬ ‫ِ‬ ‫قائد‪ ،‬دنياه‬ ‫عىل اإلفرنج‪ ،‬يأخذوهنم أخذ املتاهة للضال ِني‪،‬‬ ‫سوى سيف سهل السجايا موسوم ب ُطغرائه‪ ،‬وروحه سوى‬ ‫حرف حيرث أزمانا بائرة‪ ،‬ليغرسه يف معارفها‪ ،‬يتقدم مثل راية‪،‬‬ ‫ومثل ريح يتبعه جماهدوه‪ ،‬ينفذون يف اهلول املحيط‪ ،‬فتغشى‬ ‫ات دروع هلعت ُصلباهنا‪،‬‬ ‫الساحات صلصل ٌة ولغ ُة موت‪ ،‬وأن ُ‬ ‫ِ‬ ‫تسلب خيمة‬ ‫املهزومة رسي ٌة‬ ‫ُختادع بفرارها‪ ،‬لتنسل من فلوهلا‬ ‫ُ‬ ‫النفائس املغنومة‪ ،‬فتتبدل َسكرة أعراب وبربر يرتدون عن نرصة‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫أمري ُهم‬ ‫ملكهم ليدفعوا السالبني عن مادة كنوزهم‪ ،‬تاركني َ‬ ‫لسيفه‪ ،‬واختالل يسود صفوف جماهديه‪.‬‬ ‫‪80‬‬


‫يلم شتات جند ال يأبه بغري غنائمه‪،‬‬ ‫حيو ُم‬ ‫ُ‬ ‫ِّ‬ ‫وبضع زاهدين‪ُّ ،‬‬ ‫ويواجه نصاال آيبة من موهتا‪ ،‬وقوسا تراه َرندُ يزفر من وتره سهام‬ ‫يقر يف حتف ملكها‪ ،‬يرمي به عن فرسه‪ ،‬إىل بال ِ شهادته‪ ،‬ويف‬ ‫ُّ‬ ‫جنبه غمدٌ ‪ ،‬ترنوه خاليا‪ ،‬تبتحث سي َف ُه‪ ،‬فال أثر‪.‬‬ ‫ويف سامئه‪ ،‬كانت غيمة من طيور‪ ،‬تطوف فوقه‪ُّ ،‬‬ ‫هتش شهوة‬ ‫ِ‬ ‫باملطروح يف دمه جمردا‪.‬‬ ‫عقبان ترتبص‬ ‫ويف براح اوخُلوة تتحول رمادية الضوء إىل لون ُص ٍ‬ ‫بح يرشع يف‬ ‫مالمح اجلسد املغدور حتت هنار‬ ‫بسط نوره خالصا‪ ،‬فتغيب‬ ‫ُ‬ ‫شمس تصعد وئيدة‪.‬‬ ‫هتبط شاشة الضوء عىل اجلدار‪ ،‬وَتيل َرندُ إىل شيخها‬ ‫ِ‬ ‫منطقها سؤاال‪:‬‬ ‫بشجنها‪ ،‬وأمل يتخل ُق يف‬ ‫ـ "أيشرتون مقدار خيمة من معادن أرضية بنفائس أزمان‬ ‫ونفوس؟!"‬ ‫ف ُيجيبها‪" :‬وقعوا يف ِّ‬ ‫فخ ِح ِّسهم‪ ،‬آثروا متع ًة عىل تاريخ‬ ‫ٍ‬ ‫سيف مفقود‪.‬‬ ‫مالمح‬ ‫وجود"‪ .‬ويف ذاكرهتا ترتسم‬ ‫ُ‬ ‫‪81‬‬


‫ٌ‬ ‫مسفوك‬ ‫ارص ُهم برمحتِه وعدل ِه‪،‬‬ ‫فرتدف‪" :‬و ُغ ِد َر‬ ‫أمري‪َ ،‬ن َ َ‬ ‫ٌ‬ ‫ٍ‬ ‫ُ‬ ‫معرفة‪ ،‬وقاد ُة نزال!"‬ ‫شيوخ‬ ‫وه َل َك‬ ‫سيفه‪َ ،‬‬ ‫فيذك ُِّرها "باحلكمة ال للدم نأ َب ُه"‪.‬‬ ‫وينحو بطرفه إىل شاشة النور عىل اجلدار‪ ،‬يرسمها الصبح‬ ‫الطالع‪ ،‬تكون بعينيها إليها‪ ،‬تنظر إىل رجل يرفرف بشمع‬ ‫َيل من ِ‬ ‫جناحيه‪ُّ ،‬‬ ‫جهة الشمس‪ ،‬ينفذ مثل خيال‪ ،‬وينزلق يف خفة‬ ‫عىل خيو النور الكثيفة إىل فضاء اوخُلوة‪ ،‬تفيض عليهام ريح‬ ‫ويذهب إىل ِ‬ ‫بئر الضوء املرتكز‬ ‫وتالحني وجع شفيف‪،‬‬ ‫حدائقه‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ولرفيفه إيقاع شعر قرطبي‬ ‫يف القبة‪ ،‬فرتى لظ ِّله سمت الزجاج‪َ ،‬‬ ‫يأخذه إىل منفاه‪ ،‬ومثل طائر مملوء بالسامء‪ ،‬ينغمر يف السامء‪.‬‬ ‫ـ "أي رجل كان‪ ،‬من له هذا البهاء؟" تسأله‪.‬‬ ‫مالك َرندَ ة‪ ،‬حارس طِ ِ‬ ‫ُ‬ ‫يب األندلس‪ ،‬صانع‬ ‫ـ "ابن فرناس‪،‬‬ ‫امليقاتة‪ ،‬وساحر الزجاج"‪.‬‬ ‫ـ "مل أر لطائر مثل رفيف أجنحته و ُحزنه"‬ ‫‪82‬‬


‫قوارير‬ ‫ـ "رموه بحجارة من جهلهم‪ ،‬فصا َغ من رملها‬ ‫َ‬ ‫عطرهم"‪.‬‬ ‫وعىل اجلدار كانت قطرات شمع تسيل من جناحي العابر إىل‬ ‫ِّ‬ ‫جيتاز شاشة الضوء‪ ،‬ومعه تصعدُ شمس اليوم إىل‬ ‫الظل البعيد‪ُ ،‬‬ ‫منزل اإلطراق‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫جارية تنجيل وخالفتها‪ ،‬تتأرجح‬ ‫ويف اوخُلوة يَسي عطر‬ ‫صورهتا عىل موجيات هنر قرطبي‪َ ،‬يدأ املاء‪ ،‬فيتجىل وجهها‪ ،‬مثل‬ ‫ُص ٍ‬ ‫بح ال ريب فيه‪ ،‬تسبح يف طراوة النهر‪ ،‬ليس عليها غري خات ٍم‪،‬‬ ‫رة َع ِ‬ ‫يف ُمح ِ‬ ‫قيقه نُقش وج ُه صبي‪ ،‬يلهو يف ُعزلة ِصباه بحكايات‬ ‫والة وأمراء‪ ،‬ينظر من نافذته إىل الوصية عىل خالفته‪ ،‬خترج من‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫املنتصب عىل ِضف ِة‬ ‫احلاجب‬ ‫وشهوة‬ ‫هنرها‪ ،‬تتحمم بالشمس‬ ‫ِ‬ ‫ص ِ‬ ‫األرواح احلائلة بينهام‪،‬‬ ‫ويسف ُك‬ ‫عودها‪ ،‬يفر ُد عىل ُعرَيا ظ ُّله‪،‬‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫منطق ِ‬ ‫ٍ‬ ‫وعل ٍم‪ ،‬واجتهاد‬ ‫ذبائح من‬ ‫ويقر ُب لصمت الناظرين‬ ‫َ‬ ‫ِّ‬ ‫فالسفة سودوا بأعامرهم سالالت ٍ‬ ‫ورق‪ ،‬أودعها هنر ُج ِ‬ ‫لوهتا‬ ‫َ‬ ‫ونار َ ِ‬ ‫رس َيرتِه‪.‬‬ ‫َ‬ ‫‪83‬‬


‫تدمع عينا رند من قسوة ريح احل ِ‬ ‫رق السارية يف فضاء اوخُلوة‪.‬‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ب‪.‬‬ ‫تعج ُ‬ ‫يب العطر إىل ريح احرتاق؟" َ‬ ‫ـ "أي علة ُحتيل ط َ‬ ‫يمد هلا الشيخ يده بزجاجة ماء‪ ،‬ترشف رشفة صغرية‪ ،‬تشعر‬ ‫نور اليقني يَسي‪ ،‬فيخربها‪:‬‬ ‫لروحها هبجة‪ ،‬ويف جسدها ُّ‬ ‫حتس َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫بعض من ماء ٍ‬ ‫معارف"‪.‬‬ ‫ورماد‬ ‫هنر َع َم َر بأجساد كتب‪،‬‬ ‫ـ "هو ٌ‬ ‫رع إليه الشيخ‬ ‫وكان ماء النهر يصعد بخارا من حروف‪َُ ،‬ي ُ‬ ‫تنسم بفمها يف فضاء النهر فيصري‬ ‫يلمها يف عباءته‪ ،‬وتتبعه َرند‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ُّ‬ ‫ويؤوب‪،‬‬ ‫تلم ُه يف وشاحها‪ ،‬وتؤوب إىل اوخُلوة‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫البخار سحابا‪ُّ ،‬‬ ‫ُ‬ ‫يراكامن ما مجعا يف ب ِ‬ ‫رد ُر ٍ‬ ‫كن ظليل‪.‬‬ ‫َ‬ ‫وكانت الشمس تصعد بأوارها إىل كبد السامء‪ ،‬تسكب قيظها‬ ‫عىل القبة‪ ،‬فيهبط النور بثقل صهد اهل ِ‬ ‫اج َرة‪ ،‬يبتعدان عن شاشة‬ ‫ُ‬ ‫النار اجلاثمة عىل بساطهام‪َُ ،‬ت ِّز ُع نسائ َله املرتاكِ َبة‪ ،‬وتفر ُقها يف‬ ‫طبول َعن ٍ‬ ‫ُ‬ ‫َت‪،‬‬ ‫هتدر حتتها‬ ‫فردة‪ ،‬تتشك ُل رايات‪ُ ،‬‬ ‫األنحاء ألوانا ُم َ‬ ‫ويف نسيجها رموز أمية‪ ،‬وبربر‪ ،‬وعرب‪ ،‬وصقالبة‪ ،‬وعامريني‪.‬‬ ‫‪84‬‬


‫متون ٍ‬ ‫ِ‬ ‫نساء وغلامن‪ ،‬وعىل خالفة‬ ‫تتشاكس عىل‬ ‫طوائف شتى‪،‬‬ ‫ٌ‬ ‫ُ‬ ‫تتشظى إىل ممالك مسفوكة احلدود‪ ،‬ورايات ُصلبة‪ ،‬طرائح من‬ ‫رص َر‬ ‫طني حمروق‪ ،‬يتخفى أصحاهبا يف ظلها‪ ،‬بعباءات ُختفي ُ َ‬ ‫ِجز َيتِهم‪.‬‬ ‫تراهم َرندُ ‪ ،‬يصط ُّفون أمام املدخل اوخلفي وخيمة القشتا‪،‬ي‪،‬‬ ‫ُيك ِّل ُل سوا َدهم ضو ُء ٍ‬ ‫نار َتتب ُعهم‪ ،‬يقدِّ ُمون ُطليطِ َلة قربانا‪،‬‬ ‫ويمضون إىل ممالكهم‪ ،‬يصعدون بأرواحهم عرب حاالت ٍ‬ ‫ِخر‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫نشوهتم‪ ،‬يتطاعنون‪،‬‬ ‫أروقة‬ ‫أعمدة الرخام يف‬ ‫خلف‬ ‫يرتبصون‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫هتب عىل طراذمهم‪،‬‬ ‫يسيل الد ُم عىل الد ِم‪ ،‬يبرت ُد بريح شامل ُّ‬ ‫تنحت طني الرايات‪ ،‬وتذروها ترابا ال يبني‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫وبطرف عينها ترى‬ ‫طرف وشاحها‪،‬‬ ‫تسدل َرندُ عىل عينيها‬ ‫َ‬ ‫ظل ٍ‬ ‫طائر يأيت من جهة السامء‪ ،‬وشمسا تزول بقيظها عن طاقة‬ ‫يفوت‪ ،‬تبرص ُه من خلف حجاهبا؛‬ ‫مساره‪،‬‬ ‫اوخُلوة‪ ،‬لتهيئ له‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫سم ٍع يفتَديه‪ ،‬حي ِّلق فوق‬ ‫طري َها أسري‪ ،‬لتحط يف َم َ‬ ‫شهقة أخرية َ‬ ‫وسكنا ُه‪.‬‬ ‫رأسيهام كاألمل الضال‪ ،‬يرو ُم فدي َت ُه ُ‬ ‫‪85‬‬


‫ِ‬ ‫ٍ‬ ‫شاسعة الريح‪ ،‬هواؤها رمال‪،‬‬ ‫ساحة‬ ‫عرب الطاقة تنظر َرندُ إىل‬ ‫يسحق ماد َة األبدان‪ ،‬و َي ُ‬ ‫احلروف‬ ‫نذ ُر‬ ‫أ ُف ُقها من ُغبار السمو ِم‪،‬‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫فتستحيل خيوال‪ ،‬تعدو يف مسالكها برجال َيتمن َط ُقون‬ ‫للسفر‪،‬‬ ‫البداوة‪ ،‬يفوتون يف َع ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫بالز ِ‬ ‫صف الضباب كأطياف‬ ‫وسيوف‬ ‫هد‪،‬‬ ‫ُّ‬ ‫أبصارها‪ ،‬تتقو ُت بخبز‬ ‫تلث َمت بالتوحيد‪ ،‬فام ِزي َغت بالنفائس‬ ‫ُ‬ ‫األرض َتلكُها‪ ،‬وتنفي من‬ ‫الشعري‪ ،‬تريدُ البحر تعرب ُه‪ ،‬ترو ُم‬ ‫َ‬ ‫ممالكها ملوكا أترفوا فيها‪.‬‬ ‫شذرات استنجاد‪،‬‬ ‫ويف َسم ِع املستورة بوشاحها‪ ،‬هتمي‬ ‫ُ‬ ‫وهدير عجالت فرنجة‪ ،‬حتمل أبراجها‪ ،‬وتتكئ عىل أسوار‬ ‫ُ‬ ‫رسقسطة‪ ،‬فتُهرع من ُخلوهتا‪ ،‬تدور حول املدينة‪ ،‬تبتحث ُثغرة‬ ‫ختلخل هبا احلصار‪ ،‬فال‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫بنطاقها وتشدُّ ها‪،‬‬ ‫فتعود كالطيف إىل األبراج‪ ،‬تربط أجرا َمه‬ ‫فال‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫ألمري يقبع يف لثامه‪،‬‬ ‫ُطريها‬ ‫ُ‬ ‫تزفر بعضا من روحها برسالة ت ِّ ُ‬ ‫وحيجم عن نجدة أن ُف ٍ‬ ‫س ترجتيه‪ ،‬وملا‪ ،‬فيجيب بسه ٍم َخي ُّز به‬ ‫ُ‬ ‫‪86‬‬


‫زفر َهتا‪ ،‬فتساقط هشيام صامتا‪ ،‬ينغرز يف أرض مدينة تذوب بقايا‬ ‫َ‬ ‫العزم يف طرقاهتا‪ ،‬و ُتزيح عن أبواهبا املغاليق‪ ،‬وتتجرد للداخلني‪.‬‬ ‫وتنشج‪ ،‬فيكون إىل‬ ‫تنزع من جنبها سهام‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫وعند الباب تقعدُ ‪ُ ،‬‬ ‫ُ‬ ‫وهشيم الد ِم‪ ،‬ترا ُه‬ ‫الغبار‬ ‫ينفض عن وشاحها‬ ‫موضعها‬ ‫الشيخ‪ُ ،‬‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫كاحللم الساري يف صفرة شمس تأنس ألصيل كامد‪.‬‬ ‫نسائم هلا برودة رخام رواق‪ ،‬ورائحة شمع‬ ‫تفيض عىل اوخُلوة‬ ‫ُ‬ ‫ٌ‬ ‫يذوي يف فضاء وه ٍم من تراتيل ِأرسطِية‪ ،‬تتغنى باألرض مركزا‬ ‫ِ‬ ‫للكون‪ ،‬وصالة د ٍم‪ ،‬جليوش ترتى عىل شاشة الضوء املنزاحة‬ ‫بمسوح بِ ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫يض مذهبة األطراف‪،‬‬ ‫جهة الرشق‪ ،‬يتشح جنو ُدها‬ ‫ٍ‬ ‫مذبح يداري‬ ‫كف املصلوب فوق‬ ‫حمالة بنقوش هلا لون الدم يف ِّ‬ ‫حمرابا‪ ،‬وخيفي آيات تتلوها‪.‬‬ ‫وترتقب‬ ‫تنظر إليهم َرندُ من خلف حبات دمع تسكن مآقيها‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫املوحدين اجلائني من بداوهتم‪َ ،‬ير ُفون ِم َزق أندلس تشظت‪،‬‬ ‫ينسمون املوت يف مسالك جتربتهم‪ ،‬ويتهيأون‪ ،‬ويف أعقاهبم ُجندٌ‬ ‫حازوا صكوك غفران ملا أثموه‪ ،‬وخطايا دم سيسفكون‪ ،‬حيفرون‬ ‫‪87‬‬


‫لباهنم‪ ،‬وحيوزون جمد الر ِّب‪ ،‬وأساقف ٌة تتقدم‬ ‫يف دروعهم ُص َ‬

‫ِ‬ ‫وأرواح فقراء قشتالة‪،‬‬ ‫مجاعاهتم شهو ُة ملوك‪،‬‬ ‫تتبع‬ ‫ُ‬ ‫كاهلَامة‪ُ ،‬‬ ‫ُ‬ ‫وفرسان‬ ‫ونافار‪ ،‬ورسية‪ ،‬وآبلة‪ ،‬وشقوبية‪ ،‬وجليقية‪ ،‬وأراجون‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫الرب الساكن قلب األرض‪ ،‬الساكنة مركز الكون‪،‬‬ ‫معبد‬ ‫ِّ‬ ‫منح‬ ‫الساري يف مدار الروح ال ُقدُ س‪ ،‬الساهر يف سامء املوقعة‪ ،‬ي ُ‬ ‫ا ُملعدَ ِمني املمنوحني للموت بركاته والغفران‪ ،‬ويدفئ خيم َة‬

‫مطارنة وملوك ينعمون بلذائذ دنياهم‪ ،‬ويتدرعون بالرتوس‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ويدَ َ‬ ‫عون ملِ ِ‬ ‫وصكوك ُسكنى الروح‬ ‫اوخالص‪،‬‬ ‫أسامل‬ ‫األرض‬ ‫لح‬ ‫يف مدن السامء‪.‬‬ ‫طالئع الر ِّب‪ ،‬تنوش أجنحة‬ ‫وتنهمر‬ ‫تنفرد مائدة النِّزال‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫اجليش البدوي‪ ،‬املرتدِّ إىل فراره‪ ،‬وجيثم جيش الفرنجة عىل‬ ‫ُ‬ ‫املشكول خيم ًة تتدرع بالسالسل ورماح‬ ‫أرجوان اوخالفة‪،‬‬ ‫حرس أسود‪ ،‬تنزل عىل دائرهتم رسايا قشتالة‪ ،‬ونافار‪ ،‬وأراجون‪،‬‬ ‫وتدع ُهم أشالء‪ ،‬تتناثر طراذمها‪.‬‬ ‫مصارعهم‪،‬‬ ‫ف ُتدرك‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُّ‬ ‫ينسل اوخليف ُة املهدور فارا من عقابه‪ ،‬يمتطي لي َله وفرسا‬ ‫‪88‬‬


‫شاهق احلُلكة‪ ،‬يعدو فوق َد ِم ِ ِ‬ ‫أرواح‬ ‫يدوس بحوافره‬ ‫نارصيه‪،‬‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫كتائب قشتالة السارية إىل‬ ‫قرطبة‪ ،‬وبلنسية‪ ،‬و ُمرسية‪ ،‬جتمعها‬ ‫ُ‬ ‫إشبيلية‪ ،‬تع ِّل ُق أبراجها عىل األسوار‪ ،‬وتنصب حول أزمان املدينة‬ ‫حصارها‪ ،‬وتصو ُغ عهدَ تسليم أهلها‪ ،‬املتأهبني هلجرهتم‪،‬‬ ‫يضعون عىل العهد خاَتَهم ويرحلون‪.‬‬ ‫ويف خالء إشبيلية يمر فرناندو‪ ،‬تطأ حاشيته ظالل تواريخ‬ ‫يلج‬ ‫تقوم عىل جانبي الدرب اآلخذ هبم إىل قرص خليفة ضل‪ُ ،‬‬ ‫القرص‪ ،‬يف أصيل يفر ُد ُصفر َته الكامدة عىل أرابيسك‬ ‫امللك‬ ‫َ‬ ‫ور واملعان املرسومة يف زجاجها عىل‬ ‫النوافذ الشاهقة‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫تسكب النُّ َ‬ ‫رخام أهباء يدوسها الداخلون‪.‬‬ ‫ت ُ‬ ‫تسلل َرندُ من بني مجوع الواجلني‪ ،‬مثل ِعطر تفوح يف أرجاء‬ ‫القرص املأسور‪ ،‬تسعى إىل صحائف املعارف املجموعة‪ ،‬ترتاص‬ ‫فتجمع يف وشاحها تصانيف ابن رشد‪،‬‬ ‫وُمطوطاهتا‪،‬‬ ‫خطو ُطها‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫وأرسار ابن طفيل‪ ،‬وحكمة "ابن يقظان"‪ ،‬وبراعة ابن ميمون‪،‬‬ ‫بقي من ريحِ الذاهبني‪،‬‬ ‫َ‬ ‫وتواريق تنبعث يف حوايش األوراق‪ ،‬وما َ‬ ‫‪89‬‬


‫وَتر يف ِ‬ ‫برص‬ ‫َ‬ ‫وصوت أذان أخري تعلق بمنارة هتذي بالرنني‪ُّ ،‬‬ ‫حر ٍ‬ ‫اس كالنو ِم ساكنني‪ ،‬وتكون إىل ُخلوهتا‪.‬‬ ‫تنظم ما أتت به‪ ،‬وتعود إىل بساطها‪ ،‬ترنو إىل عيني‬ ‫يف الركن‬ ‫ُ‬ ‫شيخها‪ ،‬ويرنو‪ ،‬يوحي إليها أن ليس سوى ميقات‪ ،‬تنحو‬ ‫ِ‬ ‫الوه َجة بحمرة غروب قاَتة‪ ،‬وإىل فضاء‬ ‫ببرصها إىل السامء‬ ‫وخلوة املغبش بضباب الدم املسفوح عرب متاهتها‪ ،‬وإىل شاشة‬ ‫ا ُ‬ ‫الضوء القانية‪ ،‬وإىل البحر حيمل سفنا تعود بفرسان ر ِ‬ ‫اجلة‬ ‫َ‬ ‫طرقاهتا بمنايا اهلاربني إىل هناياهتم‪،‬‬ ‫جمردة‪ ،‬وإىل غرناطة تكتيس‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫وإىل اوخليفة َيجر مفاتيح خالفته‪ ،‬وينزوي فوق ٍ‬ ‫تل ُّ‬ ‫يطل عىل‬ ‫قرص حَسته‪ ،‬ويزفر زفرته األخرية شجنا يكون إىل احلبيبة يف‬ ‫سيف مطر ٌّز ب ُطغراء فارسه‪َ ،‬‬ ‫وخات ٌَم‬ ‫ُخلوهتا‪ ،‬تتنفسه‪ ،‬ويف ختياهلا‬ ‫ٌ‬ ‫منقوش يف عقيقه مالمح احلبيب‪ ،‬وراي ٌة منسوجة باملدائن‪،‬‬ ‫وفارس شاكي النفس‬ ‫وح واجلسدَ يف آن‪،‬‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫الر َ‬ ‫وحرف جيمع ُّ‬ ‫وفرس مطهمة بالتعاشيق املوهوبة للشمس الراحلة‬ ‫باملعارف‪،‬‬ ‫ٌ‬ ‫عاملها ل ِل ِ‬ ‫يل الصاعد‪ ،‬حيمل بضع نجوم‬ ‫اآلن عن غروهبا‪ ،‬تارك ًة َ‬ ‫‪90‬‬


‫نوره عىل ال َق ِ‬ ‫بفضة ِ‬ ‫ِ‬ ‫اعدة إىل بسا ُخلوهتا‪ ،‬تَنظِ ُم يف‬ ‫وقمر ًا جيود‬ ‫جتربتِها‪ُ ،‬‬ ‫وَتيل إىل الشيخ القائم حتت طاقة النور‬ ‫نفسها‬ ‫َ‬ ‫معارف ُ‬ ‫كجسد من وحي‪ ،‬ترفرف عباءته بنسيم نبوءة‪ ،‬وينطق‪:‬‬ ‫مدارك ِ‬ ‫ِ‬ ‫ُك يكون‬ ‫ـ " حان آن خروجك‪ ،‬وبقدر ما حازت‬ ‫وصو ُل ِك"‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫وتنطق‪:‬‬ ‫تطرق وتقوم إىل خروجها‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ود أو ٍ‬ ‫ـ "أما لنا من َع ٍ‬ ‫تراء؟"‬ ‫ك‪ ،‬إن ِ‬ ‫رصت يف ذاتِ ِ‬ ‫شئت ففيها تريني"‪.‬‬ ‫فينبئ‪" :‬لقد‬ ‫ُ‬ ‫فتسأل‪ُّ " :‬‬ ‫وتظل؟"‬ ‫فيجيبها‪" :‬هنا آن ومكان‪ ،‬دليل السالكني عرب متاهتهم‪،‬‬ ‫أسقي العابرين إىل دنياهم أو حتفهم‪ ،‬واملارقني من ظمأٍ إىل‬ ‫ظمأ"‪.‬‬ ‫فتكون إىل الباب‪ ،‬تفتحه‪ ،‬وتنفذ من ُخلوهتا إىل سبيلها‪،‬‬ ‫تغمرها سبيكة الليل‪ ،‬وتنحو إىل بستاهنا‪ ،‬ويف رسو ِم َخ ِ‬ ‫طوها‬ ‫ينبت الرحيان‪.‬‬ ‫‪91‬‬


92


‫‪ِ​ِ7 ‬‬

‫َُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫أندلسِالوـجدِ‬

‫‪93‬‬


94


‫كوخ من ِش ِ‬ ‫غاف األرض مقدود‬ ‫حوائط من جذوع أشجار نُسغها ساري‬ ‫سقف من هشيم فروع وأعشاش طيور وطيور‬ ‫وفضاء يعبق بوجود لوركا وترانيم ماريانا‬ ‫وعطر يفوح من صدره‪ ،‬وأسى‪ ،‬وشمعة ملموسة برجفتها‪،‬‬ ‫تشعلها ماريانا عند قدمي املادونا اآلسية‪ ،‬املعمولة من خشب‬ ‫زيتونة غرسها لوركا ذات قمر‪ ،‬تركع يف ركن صالهتا الفقري‪،‬‬ ‫وترشع يف الرت ُّن ِم ببعض آيات وأشعار احلبيب‪.‬‬ ‫يصعدُ نور الشمعة املص َفر عن بدن املا ُدونا املرشقة يف خفوت‬ ‫ِ‬ ‫ضوء الفجر‪ ،‬يمر عرب شقوق السقف إىل السامء‪ ،‬يطوف ِ‬ ‫وسحر‬ ‫ُّ‬ ‫يفيض هبا لوركا عىل ملكوت ماريانا‪ ،‬الغائبة يف‬ ‫أغنية شجية‪ُ ،‬‬ ‫صالهتا‪ ،‬تنهمر املعان عىل قلب السامهة‪ ،‬فتقوم من حتت نور‬ ‫‪95‬‬


‫شمعتها‪َ ،‬ت ُ‬ ‫نش ُج‪ ،‬فيام يبدأ النهار يصعد‪ ،‬رمادي اإليقاع‪ ،‬متسارع‬ ‫النَس ِم‪ ،‬خافق‪ ،‬ويرقى العاشق بمعانيه‪ ،‬فتخطو إىل حيث جيلس‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫شجن‪،‬‬ ‫ينصهر يف حاالت عينيها‪ ،‬ويذهب بالقصيد إىل مقام‬ ‫نصت إىل موسيقى عينيه‪ُ ،‬‬ ‫َتيل إليه‪ ،‬جيذهبا املُقام‪ ،‬ويف النفس‬ ‫و ُت ُ‬ ‫جزع الرحيل‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫دموعه‪،‬‬ ‫َتيل إىل شفتيه‪ ،‬تضع قبلتها‪ ،‬ودمعة دافئة‪َ ،‬تتزج بِ َح ِّر‬ ‫ودون أن تلتفت عنه تكون إىل الباب‪ ،‬تفتحه‪ ،‬يتدفق الفجر إىل‬ ‫يسطر آال َمه عىل مسامع الكون‪ ،‬وخترج املهاجرة‪ ،‬إىل‬ ‫اجلالس‬ ‫ُ‬ ‫احلقل املجدب تكون‪ ،‬وتعرب درب الرمال إىل املدينة‪.‬‬ ‫ومن األكواخ املنثورة يف غري إيقاع‪ ،‬عىل مدى احلقول‬ ‫املفتوحة للبرص‪ ،‬تتبدى أشباح اوخارجني يف أسامهلم‪ ،‬حيملون‬ ‫ِ‬ ‫الزخارف ُت ُ‬ ‫كلل رحي َلهم إىل مدينة‬ ‫جوعهم‪ ،‬وأحالما ذهبي َة‬ ‫السامء‪ ،‬ومعانا َة سفر‪ ،‬وما بقي من فؤوس ومناجل‪ ،‬حيرثون هبا‬ ‫الرب الساخط عليهم‪ ،‬يف مدينته املقدسة‪،‬‬ ‫مسريهتم إىل عرش‬ ‫ِّ‬ ‫عله يعفو‪ ،‬أو علهم يدركون فضل ًة من فيض ثروته‪.‬‬ ‫‪96‬‬


‫وريشاهتا‪ ،‬ويمضون إىل‬ ‫حيها‬ ‫ُ‬ ‫يمرون حتت طواحني حتطمت ر ُ‬

‫َحمفلِهم‪ ،‬ويف مجعهم تسري ماريانا‪ ،‬وليس معها غري ُرصة من نسج‬

‫يدَيا‪ ،‬حتوي رغيفا وحبات زيتون‪ ،‬وبضعة أوراق‪ ،‬وما يف قلبها‬ ‫الرب ووجه شاعر‪ ،‬وما يف برصها إال ُسبل رحيل‪،‬‬ ‫سوى مدينة ِّ‬ ‫ويف النفس ظمأ‪ ،‬يروم ُسقياه يف قلب كوخٍ فقري يف أندلس‬ ‫الروح‪ ،‬املرتوكة للجوع‪.‬‬ ‫ترتدد أصداء هدير يف أرض الذاهبني‪ ،‬يصحبه رنني أجراس‬ ‫نائية‪ ،‬رن ٍ‬ ‫ات خافتة يف وقار‪ ،‬هتبط عىل أسامع العابرين مثل وحي‪،‬‬ ‫فيذخر املدى بأذرع تدور عىل أنحاء اجلسم ترسم ُصلباهنا‪ ،‬ويف‬ ‫األبصار يتجىل زحام من املرائي‪ ،‬أحال ُم هنار‪ ،‬ويأخذ الرنني يف‬ ‫الوضوح‪ ،‬متجسدا كرؤى يقظة يف خياالت السائرين‪ ،‬كأن‬ ‫بِشارة حتملها املادونا املح ِّل َقة ترشدهم جهة الرشق‪ ،‬كأن فارسا‬ ‫يقاتل بصليبه ويظفر بالنرص‪ ،‬وترتفع أصوات جوقة تُنشد قداسا‬ ‫احتفاليا‪ ،‬يسمعها املنذورون للرحيل كإنشاد مالئكة تدهلم إىل‬ ‫سبيلهم‪ ،‬يتجهون إىل حيث تصدر الرتانيم‪ ،‬من كاتدرائية املدينة‪،‬‬ ‫‪97‬‬


‫إىل حيث يركع مطراهنم يصيل‪ ،‬داعيا حلملة املخ ِّلصني ملدينة‬ ‫السامء باملغفرة وعفو اآلخرة‪.‬‬ ‫وفوق تراب احلقول اجلافة‪ ،‬كانت الفراشات الذهبية تسبح‬ ‫يف الفضاء القريب‪ ،‬فوق رؤوس الراحلني‪ ،‬حتى يوهنها السفر‪،‬‬ ‫فتحط عىل حواف األهنار اجلافة‪ ،‬وحتت أقدام السائرين‪ ،‬وعىل‬ ‫مالئكة املدينة املنصوبة عىل حواف أفريز الكاتدرائية‪ ،‬ينتصبون‬ ‫يف شموخ حجري نحو السامء‪ ،‬وبثقل مادهتم يتمسكون‬ ‫باألرض‪ ،‬ويتهيأون لقداس وداع‪.‬‬ ‫صوت ِغناء تعرفه ماريانا‪ ،‬يصري إىل مداه‪،‬‬ ‫يف األفق ينساب‬ ‫ُ‬ ‫َور ٍ‬ ‫ُ‬ ‫يدف متجها إىل حيث‬ ‫س صادق البياض‪،‬‬ ‫ُّ‬ ‫يستحيل إىل ن َ‬ ‫تكون‪ ،‬ويعود ثم يعاود‪ ،‬حائرا‪ .‬يبتعد إىل جهة البحر‪ ،‬حترقه‬ ‫اللوعة‪ ،‬يقف عىل هناية طراع شاهق‪ ،‬ويف حزن يرقب بحارة‬ ‫صناديق غنموها ذات نِ ٍ‬ ‫زال‪ ،‬يعرف زخار َفها‬ ‫حيملون إىل سفنهم‬ ‫َ‬ ‫املوشومة يف جنباهتا‪ ،‬ويلمح يف قلوهبا سيوفا رآها تتألأل حتت‬ ‫شمس قرطبة‪ ،‬وغرناطة‪ ،‬واملرية‪ ،‬ومالقة‪ ،‬وإشبيلية‪ ،‬وجبل‬ ‫‪98‬‬


‫طارق‪ ،‬و ُمرسية‪ ،‬وبلنسية‪ ،‬وطليطلة‪ ،‬ورسقسطة‪ ،‬وقشتالة‪ ،‬فوق‬ ‫تح وصلصل َة النصال‪ ،‬وصناديق أخرى‬ ‫خيول عربية تشتهي ال َف َ‬ ‫حتوي كنوزا كانت لفرسان حازوا قلوبا هلا براح الصحراء‬ ‫وج َل ِد َها‪.‬‬ ‫َ‬ ‫خيطر عىل‬ ‫يرقب القائد املنذور الكتشاف العامل اجلديد‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫سيف موسوم عىل غمده‬ ‫سفينته "سانتا ماريا"‪ ،‬يتعلق بجنبه‬ ‫ٌ‬ ‫حكاية حبيبة مأسورة‪ ،‬وعىل املقبض نبوءة التيه واوخالص‪ ،‬وعىل‬ ‫صدره كان رنني خافت‪ ،‬بفعل خت ُّبط صليب من ذهب بمفتاح‬ ‫غرناطة‪ ،‬ومن قلب السفينة يصدر غناء بحارته‪:‬‬ ‫عىل صدر سانتا ماريا‬ ‫يصيل احلبيب كوملبس‬ ‫ويتأهب للرحيل‬ ‫إىل ما وراء األفق‬ ‫إىل موطن السحر‬ ‫دون أن َياب املجهول‬ ‫‪99‬‬


‫فعىل صدره تعويذته‬ ‫وخلفه رجال شجعان‬ ‫وحتته اجلميلة‬ ‫سانتا ماريا‬ ‫سيذهب هبا إىل عامل جديد‬ ‫ويعود بأحالم خالبة‬ ‫لينثرها عىل اجلميع‬ ‫الرب‬ ‫فليحمه ُّ‬ ‫النورس كإيقاع خافت لقصيدة‬ ‫ومثل عطر يذوي‪ ،‬يتالشى‬ ‫ُ‬ ‫بعيدة‪ ،‬خفوت أغنية ال تنتهي‪ ،‬تكون إىل روح ماريانا الذائبة يف‬ ‫جيش الفقراء املرتاكم عىل جنبات الطريق امللكي‪ ،‬املؤدي إىل‬ ‫السلم الرخامي املهيب للكاتدرائية‪ ،‬املهيأ الستقبال فارس‬ ‫الرب‪ ،‬يتمتمون بصلواهتم‪ ،‬ويقضمون من‬ ‫محلتهم إىل ختليص‬ ‫ِّ‬ ‫كَسات اوخبز اجلاف يف رصرهم‪.‬‬ ‫وعند أبواب املدينة‪ ،‬يف ركن خفي‪ ،‬كان "رسفانتس"‪ ،‬مثل‬ ‫‪100‬‬


‫كهل َُيرع بريشته عىل صحائف ورق مذهب األطراف‪ُّ ،‬‬ ‫خيط‬ ‫ِسامت فارس اوخالص يف رسعة ودقة‪ ،‬وأمامه يتخلق وَتام‬ ‫احلروف الفارس عىل فرسه املطهمة‪ ،‬ودرع حتىل بتطريزات‬ ‫ُ‬ ‫حتول دون‬ ‫يقدر عىل مناوشة اهلواء‪ ،‬وخوذة‬ ‫قوطية‪ ،‬ورمح‬ ‫ُ‬ ‫تشتت األحالم‪ ،‬أو خروج األفكار‪.‬‬ ‫الرب‪ ،‬تصدح اجلوقة‬ ‫عند صعود اإلنشاد إىل مقام َتجيد‬ ‫ِّ‬ ‫حروف رسفانتس إىل‬ ‫مرددة "هللويا‪ ،‬هللويا‪ ،‬هللويا"‪ ،‬تتحول‬ ‫ُ‬ ‫جسد متعني‪ ،‬جيمع الفارس وفرسه‪ ،‬ويمنحه اسم "دون‬ ‫كيخوتة"‪ ،‬فيتقدم باسمه وفرسه إىل أول البسا البابوي املفرود‬ ‫اجلموع املرتاكم ُة عىل جانبي الطريق‪ ،‬جنو ُده‬ ‫له‪ ،‬تنحني ملروره‬ ‫ُ‬ ‫الرب‪ ،‬فال ينظر إليهم‪ ،‬ويميض إىل‬ ‫الفقراء‪ ،‬قربان خالص معبد ِّ‬ ‫حيث تنتظم مجاعة فرسان املعبد‪ ،‬يف احتشادهم املتأنق‪ ،‬يرفلون‬ ‫يف عباءات املخمل‪ ،‬قانية اوخوايف بيضاء الظاهر‪ ،‬يرفعون‬ ‫للفارس سيو َفهم‪ ،‬فيام ترتدد حتتهم اوخيول بني هلفة السري وسطوة‬ ‫اللجام القابض عىل فورهتا املوروثة‪.‬‬ ‫‪101‬‬


‫ختفت يف إيقاع رحيل كون‪ ،‬فال تسمع‬ ‫كانت شمس اليوم‬ ‫ُ‬ ‫النواقيس املعلق وجودها بدوام رنينها االحتفا‪،‬ي‪ ،‬أو اإلنشاد‬ ‫املدوي للجوقة املختبئة يف تفاصيل الكاتدرائية‪ ،‬تارك ًة للمالئكة‬ ‫ِّ‬ ‫ِ‬ ‫والر ِ‬ ‫والشهداء املبعوثني حجرا يف اجلدران املحيطة متعة‬ ‫سل‬ ‫ُّ‬ ‫بَس‬ ‫الدفء‪ ،‬واإلطالل عىل املتأهبني حلملتهم‪ ،‬وال يبوحون ِّ‬ ‫الفارس املخطو توا‪ .‬و‬ ‫ومن عليائهم‪ ،‬ترقب األجساد احلجرية روعة اجلامل الدنيوي‬ ‫ُ‬ ‫َتسك يف ك ِّفها أوراقا تقرأها‪ ،‬ويف‬ ‫البادي من مزق رداء ماريانا‪،‬‬ ‫الكلامت أطيافا من لدن حبيب‪ ،‬هتيم حروفها‬ ‫برصها تتشكل‬ ‫ُ‬ ‫فوق هدير احلشد‪ ،‬موش ُح وجعٍ‪ ،‬فال يكون سوى صمت من‬ ‫دون سكون‪ ،‬يتواصل عىل إيقاعه وجدُ احلبيبة هنا‪ ،‬واحلبيب‬ ‫هناك‪.‬‬ ‫يمر حتت رصائع من آيات قرآن يناغش‬ ‫خيرج املطران‪ُّ ،‬‬ ‫ٌ‬ ‫ظالل ملون ٌة تسكبها نوافذ رومانسكية‪ ،‬يفوت حتت‬ ‫حرو َفها‬ ‫سطوهتا إىل أعىل السلم الرخامي البارد يف مهابة‪ ،‬مطوقا‬ ‫‪102‬‬


‫بالرشائط الذهبية‪ ،‬وتاج الكهنوت املمهور بلون اوخمر املقدسة‪،‬‬ ‫يتكئ عىل صوجلانه‪ ،‬وخلفه‪ ،‬عىل عصا فقرية‪ ،‬يتكئ أرسطو‪،‬‬ ‫ال َف ِزع من هول الزحام‪ ،‬ترتبك خطوا ُته‪ ،‬ويتقدم املطران نحو‬ ‫الفارس "دون كيخوتة" ليباركه‪ ،‬فال يرتجل عن فرسه أو‬ ‫ينحني‪ ،‬وبدا مثل نقش أنيق‪ ،‬مجيل التكوين‪ ،‬ال يصدر عنه سوى‬ ‫ما يدل عىل وجوده‪ ،‬مثل شخصية روائية ُتدرك أهنا ستبقى‬ ‫خالدة‪ ،‬وأن ال معنى لفعل بذاته‪.‬‬ ‫سار إليه أرسطو‪ ،‬متقلقل اوخطو مثل عصاه اهلزيلة‪ ،‬وقال له‪:‬‬ ‫األرض بأن جعلها مقر ًا لنا وألرواحنا يف‬ ‫اوخالق‬ ‫"لقد كرم‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫غري النقص‪ ،‬أما اوخري‬ ‫دنيانا‪ ،‬ولكنها إىل فساد‪ ،‬ال ُ‬ ‫يثمر فيها َ‬ ‫ُن له يف‬ ‫والكامل‪ ،‬فهناك‪ ،‬فيام وراء القمر امليضء بنور الرحيم‪ ،‬فك ح‬ ‫َخ ِ‬ ‫نوره يف العامل اآلخر‪ ،‬كُن مثل الرتاب العالق‬ ‫طو َك‪ ،‬يكن لك ُ‬ ‫بأجساد وأسامل جنودك الفقراء‪ ،‬ف َت َق ُّر يف قلب الكون اإلهلي‪ ،‬وال‬ ‫تكُن نارا حتملها ِخفتَها إىل أعىل‪ ،‬حيث إال اوخواء‪ ،‬وعامء ما قبل‬ ‫الرب"‪.‬‬ ‫الكون‪ ،‬ما قبل الروح احلاملة لغبار ِّ‬ ‫‪103‬‬


‫خرجت الكلامت من فِ ِيه خافتة‪ ،‬مثل روح وحيدة تغادر‬ ‫ُسكناها إىل ال ُعىل وهي تعلم أن لن يفتقدها أحد‪ ،‬مرت إىل أذن‬ ‫الفارس الصامت مثل أيقونة‪ ،‬متجها ببرصه إىل املطران املتخم‬ ‫بثراء املخمل ونور الراحة‪ ،‬جيلس عىل هباء كرس ِّي ِه‪ ،‬يرفع كفه‬ ‫البيضاء‪ ،‬املرقومة بشامات آخر ال ُعمر‪ ،‬يرسم الصليب يف الفراغ‬ ‫بينه وبني الفارس‪ ،‬الذي يشدُّ غطاء خوذته عىل وجهه ويميض‪،‬‬ ‫الرح ِل‪" :‬ليحمه الر ُّب"‪.‬‬ ‫تتبعه اهلتافات شعب من ٌّ‬ ‫طواهتم‬ ‫تتناثر بقايا أصوات الراحلني عىل ذرات غبار تثريه ُخ ُ‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬ ‫اجلوقة خطوات اوخيل ال َف ِرحة بفرساهنا‪ .‬ويف‬ ‫تراتيل‬ ‫وتنظم‬ ‫قلوب احل َفاة‪ ،‬الذين حيملون املناجل املثلومة وعيص اتكائهم‪،‬‬ ‫كان رحيق غناء ينبض مثل َو َجل غامض يعرتَيم‪ ،‬ال يعلمون له‬ ‫مصدرا‪ ،‬أما هي فكانت تعلم‪.‬‬ ‫ال يبقى يف الساحة سوى الغبار‪ ،‬يغادره املطران الئذا بخلوته‬ ‫ِ‬ ‫املورسة‪ ،‬ويغادر أرسطو إىل هناية امليدان‪ ،‬حيث يقف شيخ مهيب‬ ‫َ‬ ‫ينتظره‪ ،‬جيمع الشيخ صحائ َفه وريشاتِه يف كيسه‪ ،‬ويمشيان معا‪،‬‬ ‫‪104‬‬


‫يستند أرسطو إىل ذراع رفيقه وحيدِّ ُ‬ ‫ث‪:‬‬ ‫مجيع طروحك ونقدَ ك لكتبي‪ ،‬هال‬ ‫ـ "واآلن‪ ،‬بعدما قرأت َ‬ ‫ٍ‬ ‫ببعض من نور فلسفتك" ثم يردف‪:‬‬ ‫تفضلت عيل‬ ‫ـ "هل تظن أن ذلك الفارس قد سمعني؟"‬ ‫كانت الشمس تتأهب للرحيل‪ ،‬ويف املدينة‪ ،‬كان الغبار قد‬ ‫سكن األرض‪ ،‬ويف ركنه املنزوي‪ ،‬كان "رسفانتس" قابعا‪ ،‬يشعل‬ ‫شمعة الدُّ هن السميكة‪ ،‬ويكمل عىل صحائفه َ‬ ‫َ‬ ‫تاريخ‬ ‫املذهبة‬ ‫فارسه‪.‬‬ ‫نسامت أول الليل‪ ،‬تلهو بورقة تنضوي عىل‬ ‫هتب‬ ‫ُ‬ ‫يف امليدان‪ُّ ،‬‬ ‫وبعض ِ ٍ‬ ‫ِ‬ ‫سيم إىل ماريانا‪ ،‬تنحني‬ ‫بعض ضوء‪،‬‬ ‫أنني ُبعد‪ ،‬يدف ُعها الن ُ‬ ‫إليها‪ ،‬تلتقطها‪ ،‬جتد هلا رائحة البساتني البعيدة‪ ،‬وملمس الو ِ‬ ‫جد‪،‬‬ ‫َ‬ ‫تفر ُدها يف برصها‪ ،‬تشعر منها نبض روحٍ تروم اللقاء‪ ،‬وتقرأ‬ ‫فيها‪:‬‬ ‫آه يا لطول الطريق‬ ‫آه يا فريس الشجاع‬ ‫‪105‬‬


‫آه يا للموت املنتظرين‬ ‫قبل أن أدرك قرطبة‬ ‫قرطبة‬ ‫قاصية ووحيدة‬

‫(‪)5‬‬

‫تبتل خطو القصيدة بطِ ِ‬ ‫يب دمعها‪ ،‬ويأخذ املعنَى املن ُظوم‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫امض إىل جمازات املتاهة‬ ‫الصعود بأملِه‪ ،‬يوحي إليها أن‬ ‫ِشعر ًا يف‬ ‫عليك‪ ،‬فهي ُقربان ِ‬ ‫ِ‬ ‫ُك ألجل ال َعود‪.‬‬ ‫املقدرة‬ ‫ومثل َب ٍ‬ ‫خور له َع َبق الالهوت َتيض احلملة‪ ،‬تدفعها ريح‬ ‫ٍ‬ ‫وأريج عطور‬ ‫طرق ال يعرف إال الدفء‪،‬‬ ‫الشامل الباردة إىل‬ ‫َ‬ ‫فوح املاملك املبسوطة بقدر الرغبة الراحلة إليها‪.‬‬ ‫الذهب‪ ،‬و َ‬ ‫ومثل زهرة‪ ،‬تكون ماريانا يف وهج نريان معسكر احلصار‪،‬‬ ‫ُخترج أوراقا‪ ،‬حتوي أشعار احلبيب النائي‪ ،‬لتتأمل روحه املنطوقة‬ ‫أبياتا ترتدد يف وجودها‪ ،‬جتد األوراق إال ورق ًة‪ ،‬تفتش يف أشيائها‬ ‫املتاحة يف رص ِهتا‪ ،‬ال جتدها‪ ،‬وال تأسى‪ ،‬وترنو إىل النَج ِم السابحة‬ ‫(‪ )5‬قصيدة "" للشاعر األبسااني لوكاا‪.‬‬ ‫‪106‬‬


‫يف ملكوت ظلمتها العالية‪ ،‬تدرك أن ما تفتقد من روح احلبيب‬ ‫قد الذ بروح حتفظه‪.‬‬ ‫السبل املفرودة يف التالل املحيطة‪ ،‬تنظر إىل خيمة‬ ‫تقوم إىل ُ‬ ‫القائد الزاهية‪ ،‬تصبغها النار اهلائلة أمامها بوهج دنيوي‪ ،‬يتألق‬ ‫عىل ُمح ِ‬ ‫رة الصليب املرفرف يف بياض رايته‪ ،‬وعىل وجوه الفرسان‬ ‫املحيطني بقائدهم‪ ،‬يمرحون عىل موائدهم‪ ،‬وفوق نساء‪،‬‬ ‫تلمحهن يمرقن مطأطأت عرب الفروج اوخلفية وخيامهم‪ ،‬كانت‬ ‫تعرفهن‪ ،‬وتعرف اللون الوحيد ألسامهلن‪ ،‬وأجسادهن املحنية‪،‬‬ ‫وتفكر يف رغباهتن يف اوخالص من ال َع َو ِز‪ ،‬وارتقاء ملكوت الرب‬ ‫بتقديم أنفسهن قربانا ُلر ُسلِه‪ ،‬الذين ال خيلعون هاالهتم‬ ‫النورانية‪ ،‬حتى وهم فوق نسائهم الفقريات‪ ،‬أو وهم حيرقون‬ ‫األرض التي جيوزوهنا‪ ،‬يدوسون رجاهلا بحوافر خيوهلم‪،‬‬ ‫َ‬ ‫املدن‬ ‫ويدَ عون الدم املنهوب ُيروي مسارات زحفهم‪ُ ،‬ينهكون‬ ‫التي يمرون هبا أو َتر هبم‪ ،‬ينكأون النساء بثقل دروعهم‪،‬‬ ‫حليب حياهتم‪ ،‬ويف‬ ‫هلو ُهم‪ ،‬ومن الرضع‬ ‫َ‬ ‫ويسلبون من األطفال َ‬ ‫‪107‬‬


‫مرح زحفهم ترتى املدائن؛ القسطنطينية‪ ،‬بيزنطية‪ ،‬نيقية‪،‬‬ ‫انطاكية‪ ،‬طرابلس‪ ،‬الرها‪ ،‬بيت املقدس‪ ،‬وإىل فتوحاهتم ت َِر ُد ُ‬ ‫مؤن‬ ‫ون ِ‬ ‫َع َر ٍ‬ ‫ب يأمنون هبا منهم‪ ،‬ويدفعون هبا خوفهم‪ ،‬و َيد ُع َ‬ ‫مقد ِسهم‬ ‫للغازين ثمرةً‪.‬‬ ‫يف صالة الناسكني تصيل ماريانا‪ ،‬وترسل للبعيد بشجوها‪،‬‬ ‫العيل بنُ ِ‬ ‫وللواحد ِّ‬ ‫طقها‪" :‬ألي بيع يدفع املذبوحون دمهم؟"‬ ‫العنف؟"‬ ‫وتنطق‪" :‬ألي مقد ًس يكون‬ ‫ُ‬ ‫رب؟"‬ ‫وتنطق‪" :‬أي سبيل َُيدر كل هذه األرواح‪ ،‬وأي ٍّ‬ ‫وتنطق‪" :‬بأي غفران نلوذ؟"‬ ‫وخترج عن َف َلك النار املُو َقدة حتت أسوار املدائن‪ ،‬وخترج عن‬ ‫ُ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫وِخر املدائن‪ ،‬وخترج عن‬ ‫والنساء‬ ‫رؤيا الفرسان الالهني بالغزو‬ ‫حشود التابعني‪ ،‬يلغطون‪ ،‬ويسفحون الدنَس املرتوك هلم‪ ،‬تردد‬ ‫أنفاس العاشق‪ ،‬فتستحيل طائرا‪ ،‬تتبع وحيه إىل أرضها‪ ،‬ويف‬ ‫رفات جناحيها يعبق اآلس‪.‬‬ ‫‪108‬‬


‫‪ِ​ِ8 ‬‬

‫َّ َ‬ ‫الزاـجلة‬

‫‪109‬‬


110


‫يكون املسا ُء‪ ،‬يبدأ الصبي يف سطوحه الصغري يلملم‬ ‫خيطان طائرة ورق‪.‬‬ ‫خفق بدهنا الرهيف‪ ،‬تتجاذبه‬ ‫يف نافذته‪ ،‬يراها نون و َ‬ ‫ِ‬ ‫اوخالص من تع ُّل ِقها‬ ‫يد الصبي والريح‪ .‬ترغب يف الصعود‪،‬‬ ‫بالرتاب‪ُ ،‬‬ ‫تنحدر‪ ،‬أن تصري نفس ًا خالص ًة‬ ‫حتلم بطريان ُح ٍّر‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫هتبط‪ُ ،‬‬ ‫من خيط عودهتا إىل نقطة بعينها‪ ،‬يزداد انجذاهبا إىل األسفل‪،‬‬ ‫كف الصبي‪ ،‬يميض‬ ‫حتى ختتفي من إطار نافذته‪ ،‬يقوم‪ ،‬يراها يف ِّ‬ ‫ترسم طريق عودهتا إىل حجرة‬ ‫ات ُحل ٍم‬ ‫هبا‪ ،‬وخلفها كانت ذر ُ‬ ‫ُ‬ ‫رط َبة صغرية‪ ،‬حتت سطوح كهل‪.‬‬ ‫ات أما َمه عائدة إىل ِ‬ ‫بعضها عرب‬ ‫يمر ُ‬ ‫احلام َم ُ‬ ‫ليل أكناهنا‪ُّ ،‬‬ ‫َتر َ‬ ‫ُّ‬ ‫نافذته والباب املفتوحني‪ ،‬تبقى إحداها‪ ،‬تقف‪ ،‬غري خائفة‪ ،‬فوق‬ ‫رسم مفرود عىل منضدته‪ ،‬يصور "كوملبس" جاثيا أمام‬ ‫"إيزابيال"‪ ،‬اجلالسة عىل عرشها‪ ،‬وخلفه ركام من صناديق‪،‬‬ ‫‪111‬‬


‫ٍ‬ ‫ثروات جلبها من العامل اجلديد‪ ،‬ألجل استعادة بيت‬ ‫حتوي‬ ‫املقدس‪.‬‬ ‫ختشخش الورقة حتت قدمي احلاممة‪ ،‬الساكنة إىل املكان‪،‬‬ ‫تدور بعينيها إىل حيث يقف "دون كيخوتة" فوق جبل الفرح‪،‬‬ ‫زخارف عىل اهليكل‪ ،‬تطري إىل‬ ‫ينظر إىل ُحل ِم "كوملبس" املنقوش‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫القبة املرسومة يف أفق اللوحة‪ ،‬املعلقة عىل اجلدار‪ ،‬حتاول أن حتط‬ ‫عليها بقدميها الرقيقتني‪ُ ،‬هتوي‪ ،‬تعاود‪ ،‬حتاول مرة أخرى‪،‬‬ ‫ترضب بجناحيها بشدة‪ ،‬تنزلق قدماها‪ ،‬تدرك االستحالة‪ ،‬تدور‬ ‫يف فراغ الغرفة دورة تامة‪ ،‬وتنفذ عرب الباب إىل كنِّها‪.‬‬ ‫وجيتاز نون الباب خارجا‪ ،‬يميض إىل الطريق‪ ،‬حتت مساء‬ ‫ينفرد عىل ما بقي من ضوء هنار غارب‪ ،‬ف ُيحي ُله ليال‪ ،‬يميش يف‬ ‫املش ِ‬ ‫الشارع الصغري‪ ،‬يتبع َ‬ ‫اع ِيل وهو يفوت عىل فوانيس الزيت‬ ‫املعلقة يف جنبات البيوت‪ُّ ،‬‬ ‫يسو ُد‬ ‫حيط النار نورا يف فتائلها‪ ،‬ف ُ‬ ‫ِ‬ ‫الصفرة الدافئة والعتمة‪ ،‬يمر بدكان أم اوخري‪،‬‬ ‫زاج من ُّ‬ ‫الشارع م ٌ‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫رجس‪ ،‬ويف فمها مضغة‬ ‫ريح رحيان وعينا الن‬ ‫يراها خترج‪ ،‬هلا ُ‬ ‫‪112‬‬


‫ِمستِكَة‪ ،‬جيتازها بخطوه‪ ،‬وبنفسه يصري إىل َرند‪ ،‬املاضية يف‬ ‫ِعر َفا ِهنا‪ ،‬تسعى للخالص من ِ‬ ‫تيه َها لتأت َي ُه‪.‬‬ ‫ختلع نعليها حتت‬ ‫َتيض أم اوخري إىل املَ َقا ِم عند ناصية الشارع‪ُ ،‬‬ ‫قوس بابه‪ ،‬تنحو بطرفها نحو شمعتها املحطوطة عىل إفريز‬ ‫ُشباكه‪ ،‬مل تنطفئ‪ ،‬تدخل حتت نور ِ‬ ‫الَساج‪ ،‬املعلق فوق الشيخ‬ ‫اجلالس إىل صحائفه وريشات كتابته‪ ،‬أمامه قارورة من زجاج‬ ‫عتمت شفافيته بسواد املِداد‪ ،‬تقعد إىل يمينه‪ ،‬ال تتفوه بكلمة أو‬ ‫َ‬ ‫حتر ُك سوى فيض اهلوى من طِ ِ‬ ‫ترقب الكف الكهلة‬ ‫يب رحياهنا‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ِّ‬ ‫ِ‬ ‫يسو ُد‬ ‫كتابة‪،‬‬ ‫حتنو عىل ريشة‬ ‫يغمس َطر َفها يف املداد‪ ،‬وباملعنَى ِّ‬ ‫ُ‬ ‫يضع ريش َته‪ ،‬ويصري إىل احلارضة يف‬ ‫صحائفه املفرودة أمامه‪ ،‬ثم‬ ‫ُ‬ ‫للكف‪ ،‬وحينو عىل وجودها بنظرة من قلبه‪،‬‬ ‫جواره‪ ،‬يمدُّ الكف‬ ‫ِّ‬ ‫ُ‬ ‫تنفذ إىل روحها‪ ،‬وتردها بنظرة حتمل شوق الوهلانة‪ ،‬من دون‬ ‫ثغرها‪ ،‬حتت رساج‬ ‫كالم‪ ،‬و ُ‬ ‫تضع له يف عينيه ابتسامة‪ ،‬يتألأل هبا ُ‬ ‫يشهدُ حلظة اهلوى يف سكون العارف‪ ،‬وتقوم‪ ،‬يتابع الشيخ‬ ‫خطو َها‪ ،‬تعود إىل الباب‪ ،‬تضع نعليها‪ ،‬وَتيض إىل دكاهنا‪ ،‬وهو‬ ‫َ‬ ‫‪113‬‬


‫إىل معارفه‪.‬‬ ‫يميض نون إىل ُط ُرقات مدينة ختلع يف الليل أردية أزماهنا‪،‬‬ ‫وَتنح الواجلني لذ َة ال َت ِ‬ ‫حوي ِم يف‬ ‫أسباب يو ٍم جديد‪،‬‬ ‫لتجذب‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫فراغات هيأهتا هلم‪.‬‬ ‫تنُ ُ‬ ‫متوح ِد‪ ،‬يدور يف َه َرج امليادين‪ ،‬وزمحة أضواء‬ ‫وشه غرب ُة‬ ‫ِّ‬ ‫ُختفي زخارف أزمان حفرها يف جدران مساجدَ ‪ ،‬ومدنا كانت له‪،‬‬ ‫وأه َل َها‪ ،‬فأسلموها إىل حتفها‪ ،‬ومل تعد سوى تاريخ‪ ،‬يمر حتت‬ ‫ذكراه‪ ،‬ويعود إىل شارعه الصغري‪ ،‬حتت سامئه الصغرية‪ ،‬ودكاكني‬ ‫أبواهبا واستسلمت هلجعة الليل‪ ،‬ودفء ُصفرة نور‬ ‫غل َقت‬ ‫َ‬ ‫يمتزج بعتمة أليفة‪ ،‬وتألق شمعة وحيدة تد ُّله عىل املقام‪ ،‬يتجه‬ ‫براح ِ‬ ‫خيلع نعليه حتت قوس الباب‪ ،‬يدخل إىل ِ‬ ‫نور رساج‪،‬‬ ‫إليه‪ُ ،‬‬ ‫حتته ُّ‬ ‫الشيخ توا َ‬ ‫ُ‬ ‫ريخ من بادوا وأبادوا‪ ،‬وحظ من ِبق َي‪ ،‬و َقدح َر‬ ‫خيط‬ ‫األحال ِم يف نفوس الواهلني‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫حرف‬ ‫َيمس نون بالسالم‪ُ ،‬يكمل الشيخ عبارته‪ ،‬خي ُّطها يف‬ ‫أندليس مجيل‪ ،‬يضع نقطة هنايتها‪ ،‬وينظر إىل الواقف بني يديه‪،‬‬ ‫‪114‬‬


‫يقعد‪ ،‬يناوله الشيخ ما خط من صحائف‪ ،‬ودواة مداد‪ ،‬وريشة‬ ‫يعرف ملمسها بني أصابعه‪ ،‬يقعد نون إىل لوح كتابته‪ ،‬يضع‬ ‫أشياءه‪ ،‬وجيهز صحائفه‪ ،‬ويرشع يف نسخ املخطو ‪ ،‬وبني‬ ‫فتنبت يف آثار‬ ‫العبارات يرى حبيبته تدنو من مرادها‪ ،‬ختطو‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ِ‬ ‫وهنا يف‬ ‫خطو َها حب ُ‬ ‫يلمها جنو ٌد يتبعون تيهها‪ ،‬يكدِّ ُس َ‬ ‫ات ذهب‪ُّ ،‬‬ ‫حلم‬ ‫سفائن غزوهم‪ ،‬ويبحرون إىل أرض رغبتهم‪ ،‬يتبعون‬ ‫َ‬ ‫قائدهم "كوملبس"‪ ،‬الذي يضع منظاره عىل عينيه‪ ،‬ويمر ببرصه‬ ‫عىل طول الشاطئ‪ ،‬يد ِّبر ألرض امليعاد زمنها اآليت‪.‬‬ ‫طواطم منصوبة‪ ،‬لتمنع‪،‬‬ ‫يرى "كوملبس" خرض ًة املمدودة ‪،‬‬ ‫َ‬ ‫عن بكارة األرض‪ ،‬غزاة ملا يصلوا بعد‪ ،‬أهل َها شعب يامرس‬ ‫أفراس ِّبرية وطيور‪،‬‬ ‫حضارة البقاء‪ ،‬وبساطة وجود تشغله‬ ‫ٌ‬ ‫َ‬ ‫ووسائل العيش الكافية‪ ،‬حيجبون‬ ‫َتنح ساكنيها احلكم َة‬ ‫ٌ‬ ‫وأرض ُ‬ ‫عوراهتم الفطرية‪ ،‬وحييون بحسب عقائد الطبيعة وفضائل‬ ‫اإلدراك البدائي‪.‬‬ ‫تدنو السفائن من ُمرساها‪ ،‬حتمل بحارة تبد َلت أرواحهم‬ ‫‪115‬‬


‫ٍ‬ ‫كمنَت يف أبداهنم زمن‬ ‫بربيق ذهب ُ‬ ‫يرجو َنه‪ ،‬وفضائ ُلهم بشهوات َ‬ ‫رحلتهم‪ ،‬تراودهم أحال ٌم بمالمس نساء ختمرن هلم‪ ،‬ويتتابعون‬ ‫عىل احلجر املهيأ لشحذ سيوفهم‪ ،‬التي وهبوها لفناء َد ٍّم يستوطن‬ ‫شب حضارته‪ ،‬وال يملك لنصاهلم دفعا‪.‬‬ ‫ُع َ‬ ‫شعب ال ُع ِ‬ ‫شب‬ ‫عىل مذبح الر ِّب يضع جنو ُد "كوملبس"‬ ‫َ‬ ‫الغنائم‪ ،‬فيجثو يف حمرابه املتواضع‪،‬‬ ‫قربانا‪ ،‬وجيمعون لقائدهم‬ ‫َ‬ ‫يكتب إىل ُمطرانه‪:‬‬ ‫يصيل‪ ،‬ويقوم إىل أوراقه‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫"لقد جرى االضطالع بهذه املهمة لننفق ما سوف نكسبه‬ ‫(‪)6‬‬ ‫منها يف ردِّ الديار املقدسة إىل الكنيسة املقدسة"‬ ‫ويكتب إىل ملكيه فرناندو وإيزابيال‪:‬‬ ‫"عندما بدأت االستعدادات الكتشاف جزر اهلند الغربية‪،‬‬ ‫كان ذلك بقصد مناشدة امللك وامللكة عاهلينا‪ ،‬اختاذ قرار‬ ‫بإنفاق املوارد اليت ميكن أن ترد إليهما يف اسرتداد‬ ‫(‪)7‬‬ ‫القُدس"‬

‫(‪ )6‬من خطاب أكبسله اوؤماس (عام ‪1492‬م) إىل الاابا‪.‬‬ ‫(‪ )7‬من خطاب أكبسله اوؤماس (عام ‪1501‬م) إىل ملكيه فرناندو وإيزابيال‪.‬‬ ‫‪116‬‬


‫ثم يمأل صفحة يومياته‪ ،‬وخيرج إىل األرض اجلديدة‪ ،‬ينتهك‬ ‫وأسباب حضارة ُخيضعها لالهوته‪ ،‬ويمنح أهلها‬ ‫عراياها‪،‬‬ ‫َ‬ ‫واملوت‪ ،‬ليجني من فِر َدوسها أحالم‬ ‫الكساء‪ ،‬واوخَ َر َز امللون‪،‬‬ ‫َ‬ ‫غزو ُق ٍ‬ ‫وترقب حوافر أفراس "دون كيخوتة"‬ ‫دس تل َغط باهل َ ِّم‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫تنثر خلفها ِم َز َق‬ ‫َتر عىل أبدان أنطاكية‪ ،‬وطرابلس‪ ،‬والر َها‪ُ ،‬‬ ‫وهي ُّ‬ ‫اآلهبني بأرضهم‪ ،‬ود َم املنافحني عنها‪ ،‬وبقايا من دافعوا عن‬ ‫َ‬ ‫وهول من رجفوا‪ ،‬فقدموا مفاتيح‬ ‫األسوار‪ ،‬وماتوا حتتها‪،‬‬ ‫الولوج إىل مدائنهم قربانا‪ ،‬وهلكوا‪.‬‬ ‫احلر تُبرص ماريانا َ‬ ‫سبل الد ِم‪ ،‬وتأسى إليامهنا‪،‬‬ ‫ومن حوماهنا ِّ‬ ‫ف بوجعها وج ِ‬ ‫ٍ‬ ‫أرض ُ‬ ‫تنثر‬ ‫وعها إىل‬ ‫تَدُ ُّ‬ ‫ُ‬ ‫تقبل هبا‪ ،‬ويف مسار طرياهنا ُ‬ ‫خوافيها‪ ،‬رسائل ٍ‬ ‫حمبة وسالم‪ ،‬وَتر يف سامء "دون كيخوتة" فال‬ ‫حي ُ‬ ‫إملاحها إىل قلبه دون أن يكيل الطعن لآلهلني‪،‬‬ ‫ول ُ‬ ‫يراها‪ ،‬وال ُ‬ ‫أو أن خيوض برحمه يف دروب مدينة الر ِّب‪ ،‬القابع عىل جبل‬ ‫َ‬ ‫ووصول‬ ‫التجربة يبكي‪ ،‬ويرقب من عليائه سقو َ "بيت حلم"‪،‬‬ ‫محلة الغزاة إىل مشارف املدينة املقدسة‪ ،‬يرقبون أسوار املدينة‪،‬‬ ‫‪117‬‬


‫يئ هلم من حدودها نارا‪ ،‬فينصبون احلصار‪ ،‬أبراجا من‬ ‫التي ُهت ُ‬ ‫َ‬ ‫العرش املقدس‪.‬‬ ‫خشب‪ ،‬ويتنازعون يف نفوسهم‬ ‫َحت ُ‬ ‫مل عليهم املدين ُة بأحجار بيوهتا‪ ،‬وسها ٍم تعرف مصارعها‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫وشذرات نار‪ ،‬وافتخار بصمود مل يلبث أن حتطم حتت فيض‬ ‫محلة الصليب‪ ،‬يد ُّك َ‬ ‫املوت عىل طرقات‬ ‫ون األسوار‪ ،‬ويبسطون‬ ‫َ‬ ‫ٍ‬ ‫مسجد أقىص‪ ،‬ويفخرون بمفاتيح "يافا"‪ ،‬ويأخذون‬ ‫مرورهم إىل‬ ‫َتر بطائر‬ ‫أهلها أخذ الفناء‪ ،‬لتصعد األرواح املغدورة إىل سامئها‪ُّ ،‬‬ ‫حيوم فوق مواقع شهادهتا‪.‬‬ ‫ِّ‬ ‫َتيض ماريانا يف سفرها حم ِّلقة‪ ،‬جتذهبا ملح ٌة من ريح لوركا‪،‬‬ ‫الكف‬ ‫ختطر َرندُ عرب بستان أرسها‪ ،‬حتمل يف‬ ‫تصري إىل حيث‬ ‫ِّ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ِ‬ ‫بقصيدها‪ ،‬وتصري إىل دار‬ ‫ورق ًة وجدهتا حتت الريح‪ ،‬تستدفئ‬ ‫يغمر َسم َع َها‬ ‫خالصها يف أطراف البستان‪ ،‬تدنو من نبوءهتا‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫تدهش لروعة زخارف عىل‬ ‫صوت‪ ،‬يأخذها إىل باب دخوهلا‪،‬‬ ‫ٌ‬ ‫ف ُرست قبل اآلن‪ ،‬وطيورا‪ ،‬وتواريق‪،‬‬ ‫ضلفتيه‪،‬‬ ‫تصو ُر معار َ‬ ‫ِّ‬ ‫وقبضة من نُحاس‪َ ،‬تدُّ إليها كفها‪ ،‬تطرق هبا‪ ،‬فال أحد‪.‬‬ ‫‪118‬‬


‫تذكر ما كان من جتر َب َتها فرتدد اسم احلبيب‪ ،‬ينفتح لدخوهلا‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫تشم رائحة زهر الربتقال‪ ،‬وتسمع ترنيام مبهم احلروف يأتيها من‬ ‫ُّ‬ ‫ِ‬ ‫ربها‪،‬‬ ‫األنحاء‪ ،‬وترى نوافذ شاهقة‪ ،‬مرسومة بالنور النافذ ع َ‬ ‫وألوان ملكوت بعيد‪ ،‬ينثال الضوء منها إىل بس ٍ‬ ‫ط معلقة‪ ،‬حتوي‬ ‫ُ​ُ‬ ‫رموزا منقوشة باليد‪َ ،‬ت ِّل ُس عليها بيدها‪ ،‬تصري لألنسجة لون‬ ‫الروح‪ ،‬وخيفت النور‪ ،‬ويكون شعاع له طعم اللوعة وهدوء‬ ‫نفس استقرت‪ ،‬تتبع رند وجهته‪ ،‬فيأخذها إىل حمراب بآيات‬ ‫تعلمها‪ ،‬وخطو تقرأها‪:‬‬ ‫"فلو مل يكن ملوجود فعل ُ‬ ‫ختصه‪،‬‬ ‫خي ُّصه‪ ،‬مل يكن له طبيعة ُّ‬ ‫خيصه‪ ،‬وال‬ ‫ختصه‪ ،‬ملا كان له اسم ُّ‬ ‫ولو مل يكن له طبيعة ُّ‬ ‫حدٌّ ‪ ،‬وكانت األشياء ُك ّلها واحدا‪ ،‬وال شيئا واحدا"‬

‫(‪)8‬‬

‫ما إن تنتهي من قراءهتا‪ ،‬تبدأ النوافذ يف إرسال نورها‪ُّ ،‬‬ ‫تدهلا‬ ‫ِ‬ ‫مسارها‪ ،‬إىل ُسل ٍم من خشب زيتون له ملعة‬ ‫إىل األشياء‪ ،‬وإىل‬ ‫ِرساج ورائحة سالم‪ ،‬تصعده إىل باب مكفت بتواريق نُحاس‪،‬‬

‫(‪ )8‬الفيلسوف األندلسي ابن كشد (‪" )1198-1126‬رهافت التهافت"‪.‬‬ ‫‪119‬‬


‫تأنس إىل نقوش هلا جالل الكون‬ ‫ومورق بأسامء من مروا به‪ُ ،‬‬ ‫ِ‬ ‫رص حيث زهرة اسمها‪ ،‬وتدفع‬ ‫َُس ُه يف قلبها‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫فتضع ال َب َ‬ ‫التي ت ُّ‬ ‫الباب‪ ،‬فتكون إىل قبة يتدىل رساجها خافتا‪ ،‬يرشع يف والدة نوره‬ ‫للداخلة‪ ،‬تنمحي العتمة املوصود عليها‪ ،‬وترى صندوقا موشحا‬ ‫بتشاكيل أرابيسك‪ ،‬وخزائ َن من أشجار ُمدن تعر ُفها‪ ،‬ويف‬ ‫تتفحص َها ببصرية املشتاق‪َ ،‬تر‬ ‫كتب مذهبة اجلنبات ‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫أرحامها ٌ‬

‫طرح كتاب السامء والعامل"‪" ،‬جوامع اوخطابة‬ ‫عىل األسامء‪ُ " :‬‬ ‫ِّ‬ ‫والشعر"‪" ،‬مقالة يف العقل"‪" ،‬رسالة يف التوحيد والفلسفة"‪،‬‬ ‫"مسألة يف الزمان"‪" ،‬تلخيص كتاب الكون والفساد"‪ " ،‬فصل‬ ‫املقال يف ما بني احلكمة والرشيعة من االتصال" ويف أحدها تقرأ‪:‬‬ ‫فبني أنه جيب علينا أن نستعني عىل ما نحن يف سبيله بام‬ ‫" ِّ‬ ‫الغي مشاركاً لنا أو‬ ‫قاله َمن تقدمنا يف ذلك‪ ،‬وسواء كان‬ ‫ُ‬ ‫تصح هبا التزكية‪ ،‬ليس‬ ‫غي مشارك يف امل ِ َّلة‪ ،‬فإن اآللة التي‬ ‫ُّ‬ ‫ُيعترب يف صحة التزكية هبا كوهنا آلة ملشارك لنا يف امل ِ َّلة أو‬ ‫غي مشارك‪ ،‬إذا كانت فيها رشوط الصحة‪ ،‬وأعني بغي‬ ‫‪120‬‬


‫املشارك‪َ ،‬من نظر يف هذه األشياء من القدماء وقبل ِم َّلة‬ ‫اإلسالم"‬

‫(‪)9‬‬

‫تؤوب من كتاهبا إىل زمن وجودها‪ ،‬تنفتح النوافذ إىل‬ ‫ِ‬ ‫براح َها‪ ،‬تفيض عليها السامء ِّ‬ ‫بكل نورها‪،‬‬ ‫أقصاها‪ ،‬خترج إىل‬ ‫ُ‬ ‫تلمح يف فضائها رفرفات‬ ‫فتستحيل زاجل ًة‪ ،‬تطري فوق املدائن‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ُحزن تتجه إىل أرض غادرهتا‪ ،‬تقرتب من الطائر الوحيد‪ ،‬تتناظر‬ ‫األعني‪ ،‬ويف مجيعها بريق أمل مكتوم‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫تنطلق ماريانا إىل حيث غادرت احلبيب‪ ،‬وتنطلق َرندُ ‪،‬‬ ‫حيترض حتت زيتونة جافة‪ُ ،‬هترع‬ ‫تكونان إىل حيث اجلسد املهدور‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ماريانا إىل حيث الروح اوخارجة من اجلسد املغدور‪ ،‬تنتفض‬ ‫تلمها بني‬ ‫نفسها باألسى‪ ،‬تتلقى‬ ‫َ‬ ‫الروح السارية إىل ُعالها‪ُّ ،‬‬ ‫روح شاعر وطائر‪ ،‬روحان تتشابكان‬ ‫جناحيها‪ ،‬وتلمحهام َرندُ ؛ َ‬ ‫اها معا‪ ،‬ينثراهنا من سامئهام‬ ‫يف صعودمها‪ ،‬تكمالن قصيد ًة خل َق َ‬

‫(‪ )9‬الفيلسوف األندلسي ابن كشد (‪" )1198-1126‬فصل اؤمقال يف ما بني‬ ‫احلكمة والشريعة من االرصال"‪.‬‬ ‫‪121‬‬


‫عىل اآلتني‪.‬‬ ‫هتبط َرندُ إىل الزيتونة‪ ،‬تلتقط غصنا مازال به بعض ُخرضة‪،‬‬ ‫وحت ِّل ُق‪ ،‬تعرب أند ُل َسها‪ ،‬يلمحها "بيكاسو" الالهي عىل شاطئ‬ ‫يرسم عىل الرمال خطو َ‬ ‫كانت قد التقت عنده احلبيب‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫جسدها‪ ،‬وهي تسبح يف الفضاء كالوحي‪ ،‬تعرب بحرا‪ ،‬و ُقدس ًا‬ ‫جذور‬ ‫يمرح الدُّ ون املارق عربها‪ ،‬يقاتل زخرفات النوافذ‪ ،‬و‬ ‫َ‬ ‫األشجار‪ ،‬وتواريخ ا ُملدن‪ ،‬وتعرب أزمان أملٍ‪ ،‬إىل العاشق يف َم َق ِامه‪،‬‬ ‫ُّ‬ ‫وخيط يف صحيفته‪:‬‬ ‫ينتظر احلبيب ُة‪،‬‬ ‫يقبض ريشة هلا ألق النج ِم‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬

‫"يا قَينَةَ العُبَّادِ يف سَامِرَاتِ الوَصْلِ‪ ،‬تَعَايل‪ ،‬فَالليلُ طَويل"‪.‬‬

‫‪122‬‬


123


124


Issuu converts static files into: digital portfolios, online yearbooks, online catalogs, digital photo albums and more. Sign up and create your flipbook.