رواية
َم َط ِ ار ُح َح ِّط ال َّط ِي نارص احللواين 1
مجيع احلقوق حمفوظة للمؤلف الطبعة األوىل 1996
سلسلة "كتابات جديدة" اهليئة املرصية العامة للكتاب رقم اإليداع بدار الكتب 1996/5318 ISBN 977-01-4780-x ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ اإلصدار الثاين (2019 )PDF
نسخة معدَّ لة تصميم الغالف واإلعداد الفني للمؤلف nasserhilwani@gmail.com Nasser El Halawani
صورة الغالف األمامي :قرص احلمراء لوحة الغالف اخللفي :خروج املوريسكيني من األندلس
2
3
4
يُدركنا حُلم الطريان ،فنُرانا طيورا ،ذاهلني عن حقيقة أن التحليق إرادة ،أن الطائر جمرب على الطريان ،أما حنن ،فنفعل مبشيئتنا ،وحبرية نادرة .وتبقى املغالطة يف فهمنا أن الفضاء الطبيعي هو اجملال األوحد ملمارسة نشوة احلومان ،إنه متاما مثل البيئة الطينية للدودة العمياء .فضاء طرياننا ليس هناك ،بل هنا، ميتد إىل ما ال هناية ،إىل أبد الروح ،إىل أفق اخليال ،إن حتليقا يف مثل هذا الفضاء ليحسدنا عليه الطري.
5
6
َُ َ ْ غِوايةِابلدءِ
7
8
بينام جيتاز أبو عبد اهلل بابا جانبيا صغريا يف سور احلمراء، خير جاثيا لربه ،ليقوم وقلبه يطعن كوملبس بوابة عامل جديد ،ثم ُّ مفعم بالفرح ،ليرشع بطمأنينة الفوز يف إبادة شعب بدائي وحيد، نفذت فيه سيوف ِصي َغت من معدن مفاتيح غرناطة. لتحو ِل املادة، هكذا صارت كف إيزابيال املوطن السحري ُّ وبدَ ت تلك اللحظة؛ التي حتول عربها املفتاح املنهزم إىل سيف ِ ٍ الطريق إىل اجلانب غاز ،وكأهنا أول النظرات إىل أسفل ،وبدء ِ اآلخر من اجلَبَل. نقطة ،مل يعد بعدها ابن زياد ،وابن حزم ،والغافقي، ٍ حروف َبا َد وجو ُدهاَ ، وغدَ ت والنارص ،وابن رشد ،سوى الزهراء ،وبيت املقدس ،ومحراء غرناطة ،مزارات سياحية، واستحالت املحاريب إىل هياكل ،ومات الفرسان ،والذ اإلبداع بنفوس نجت بنفسها ،فوق أطواف بسيطة تتمسك هبا فوق 9
ِ اجلنوب املفتوحِ ب من جهة الشامل اجلديد ،إىل فيض جارف َ َُي ُّ إىل أقصاه. أتساءل ...هل كان أليب عبد اهلل أن حيول بني بوابات غرناطة وخيل فرناندو وإيزابيال؟ ٍ بقادر؟ وتزداد قسوة السؤال ...هل كان هل أستطيع االمتالء بقدر احلزن واألمل اللذين احتشدا يف قلب غرناطة ،من دون أن أفنى ،دون أن أستحيل ترا ًبا يتعلق ب ُقبة قرطبية ،وأبقى هناك إىل األبد ،أرقب أرسابا عربية تلو ُذ ِ ِ باملوت أو التعميد. باجلبال القاسية، ِِ بالبحر، صهر ِن اوخوف من جنود َختَموا ُعهو َد ت حَر َحا،ي ،طر أو ربام َي ُ أزحف فوق شفرات سيوفهم حتى البحر. أن َ ِ ِ الفضاء ،و ُأح ِّل ُق التحليق ،فأقذف بنفيس إىل فتنتابني أسطور ُة ِ ِ السفرَ ، فأخا َلني ُصوف ًيا يملك أزمان أخرى ،فيستبد يب َر َه ُق إىل ِ وو حجدً ا بقدح ِر اهلوى يف ِ فأح ُّط يف إرادة قلب املجنونُ ، الوصولَِ ، 10
زمن ٍ يمتطيه ثائر ،ف ُأ ِ وق ُن باستعادة املفقود. ُ ٌ ولكنه يموت ،قبل أن يموت ،وقبل أن أبدأ رحلتي عرب مت ِ أشجار ُثمر َ ُ َاهة اإلبداعِ ،قبل أن ين ُب َت الق َل ُم يف َك ِّفي ،أو ت َ ٍ ٍ هزيمة غائرة ،ويستعيد رب حروفها ،فأصري إىل وجودي َ وطن يع ُ ستأج َرة ،ويفقد أبناءه عرب مضايق ً أرضا ملكناها وإن بدت كا ُمل َ ٍ ِ وتبعية مبتدعة ،وإبدا ٍع ُمستعار، واجلهل، اهلجرة ،واحلاجة، ٍ ٍ شجرة يف إشبيلية ظللت عىل غرب الدنيا، وحتوالت ترتى؛ من ٍ جذ ِ ٍ غربية ،وتنفص ُل عن ُ ورها ،وال أشجار ذوع إىل نبتة تتس َل ُق ُج َ ٍ فيلسوف عل َم َغوغاء حماكم التفتيش َت حل َح ُق إال بالظاهر ،من احلكمة واإلنسانية ،إىل َهوى ال يتجاوز األعضا َء ،ومن تفانني ٍ ٍ ِع ٍ لبناءات مالبسات مبهمة األصل اها خلفا ٌء سادوا ،إىل أرس َ امرة َ َ شعب ي ِ ٍ يستدين شعب بد ُع وجو َد ُه ،إىل ال ََت َ ُّس إال املؤقت ،ومن ُ ٍ ُ َيو َم ُه. كف هل كان عليك أبا عبد اهلل أن تُلقي بمفاتيح غرناطتنا إىل ِّ إيزابيال الالهية. 11
وهل كان عيل سوى منازلة أفالطون يف ساحة ُم ُثلِ ِه املتعالية
بم ُث ِيل املتحققة بالفعل ! ُ
ُ حيمل يف كِيانِ ِه هذا التاريخ ،وتلك سوى أن أرسم إنسانًا احلضارة ،فيام حييا هذه احلياة النقيضة ! إنسان معل ٌق بني عاملِه الذي ال يدر ُكه إال ِ ٌ باحل ِّس ،وع َا َملٍ ُ ُ اغرتايب ال يمسه ،أيضا ،إال ِ باحل ِّس ! َ ُّ ُ ٍ ِ لقرون يف بِنية هذا ُثري ما استقر هل كان ُ للحروف أن ت َ الوجود اإلنسان؛ من ُق ٍ درة عىل اإلبدا ِع والعقالنية ،وإنشاء فكره اوخاص ،وتأسيس فلسفته ،وأن أستعيد بعض مبادئ حضارة ٍ ٍ ِ العقل عىل وعبقرية واضحة ،بني قدرة بعربية راقية، وازنَت َ ِ ِ جتس ِ ِ أفكاره ،ووضعها موضع ال َق حب ِ احلس عىل يد ض ،وبني قدرة ِّ ِ ٍ ِ ِ ِ ٍ ومراتب والو حج ِد، راقية يف مدارك بخياله إىل االرتقاء األفكار َ ِ والزهد. ُعال يف اإليامن لم ال َ التأِّس ،بل بكونه اعرتا ًفا أخا ُله يتسم باإلحيائية أو ِّ ُ ُح ٌ 12
ٍ ومعارف مطمورة فيها ،ربام كان للذات بقدر ما تتضمن ُه من قي ٍم استحضارا لعشق ابن زيدون ،حلروف ابن رشد املحروقة، ً ِ ولشقوة أيب عبد اهلل. لزهراء النارص، حلم أران فيه مثل رؤيا ال َ ِ ِ خيال صاحبها ،أو ٍ طائر حت ُّل إال يف َ ُ ُ ِ مطارحه. حي ُّط إال يف ال َ ُ
13
14
ِ1ِ
َ ُ ْ أن َدلوسياَّ
15
16
يف مثل الظهرية ،يكون َم َقا ُم الشيخ األنصاري خاليا إال من خادم املقام ،غافيا يف ركن رطيب ،وإال من بضع شمعات حمطوطة يف قاعدة ُشباكِه ،تُص ِّعدُ نورها ونارها إىل النهار ال َف ِرح بشمسه التي تدفئ فضاء املقام اوخا،ي إال من الكسوة اوخرضاء الباهتة ،واملزينة بالقصيدة ا ُملحاكَة بخيو الفضة ،وتنعكس عىل زجاج شجرة النبوة ،يف بروازها العتيق ،يف صدر احلائط املواجه للباب ،وتُلقي بظالل قضبان الشباك عىل جسد اوخادم ،النائم، حيلم بإنسية تؤنسه. ويف مثل الظهرية ،يكون يف سطوحه ،جالسا يف ظل التكعيبة احلر ،فيكون الصغرية ،فوقها أوراق الياسمينة ،حتمل عنه َدفق ِّ الحرتاقها عطر نشوة خفيفة ،تذكِّره باملساء ،وبع ِ رف فرس ُ بحر لوهنا وعميقة جمدولة شعراته الصهبة ،ملضومة بخرزاتٌ ، وبَس ِجه املوشى بتفاصيل حكاية شعبية ،وبفارس الزرقةَ ، 17
مطهم ،شاكي املعارف ،مزج ٌج مقبض سيفه بتواريق أرابيسك، ومكحل بقراءات من فضة بيضاء ،تنأى بقابضه عن ِخزي التجر ِد من النصل ،وعىل مضاربه ،تركت دماء ال قاها عالماهتا، ُّ وهنايات حلوهلا. ويف مثل الوقت ،يصخب الشارع بعياله العائدين من مدارسهم وكتاتيبهم ،أو مشاويرهم إىل األسواق القريبة ،أو غاراهتم عىل احلارات املجاورة ،ويرجع الرجال من أعامهلم وتصعلكهم ،والنسوان بلوازم يوم ،ومشاغل حياهتن. وأمام باب املقام ،يمر اجلميع ،حييونه بالفاحتة أو بالسالم عليكم ،أو بنظرة خاشعة أو متجاهلة. وأمام البحر ،يقف الفرس بفارسه ،يداعب بحافريه َز َبد موجيات تلهو ،ثم ترجع إىل بحرها مغسولة برائحة صهيله. وأمام كِنِّه ،يقف ذكر احلامم املرقش ،ينفض عن ريشاته رائحة مكانه ،وجواره الفارس ،خيتال يف سطوحه ،أمام بحر ينتظره، 18
وحتت صهد ينهمر إليه ،وإىل تراب الشارع الصغري ،ورؤوس العيال احلليقة ،وأقدامهم احلافية ،يزعقون ،تتالشى خياالته، ويعود لألشياء وضوحها ،فيتجه إىل غرفته يف زاوية السطوح. يطري ذكر احلامم ،يد ِّو ُم ،يناوش الَسب املح ِّلق فوق مطرحه، وهتيج رائحة املُخل ِل احلادة ،املخلوطة بالتَابِ ِل وال ُب َهار ،تصنعه أم اوخري يف ُد َجى دكاهنا ،وتتداخل محامات الَسب يف حوماهنا، كر إىل حب ٌ ات بيضاء فائرة ،تتحمم بنور هنار صابح ،ويرجع الذ ُ كِن ِِّه ،تتبعه النتاية الذاهلة عن رسهباُّ ، حيط هبا عىل سور السطوح، فتحط ،ال يفزعها صوت عصفور اوخشب يرضبه الصبي إىل أقىص احلارة ،أو خبطات طيارة الورق يف جدار البيت ،حتاول أن ص خي َطها من ِّ فخه ،أو األشياء من حوهلا؛ املنضدة الصغرية خت ِّل َ املعمولة من خشب صناديق ،والكرِّس املغزول بالقش الكِتان، يغفو ظلهام عىل جدار الغرفة ،ترتدد يف أنحائه القريبة من السقف خروم مل يصنعها طائر أو عش َش فيها ،فبانت مهجورة ومعتمة. وعىل املنضدة املائلة قليال ،كان كتاب ،وعىل الكرِّس الوحيد 19
جيلس ،يدع للوجد سطوة االنفراد إىل فراغات القلب ،يمد كفه الكف احلبيبة ،يقبض الكتاب ،يفتحه حيث التائقة إىل ملمس ِّ زهرة ال تُنبِ ُت إال يف جبلِها ،حتمل أريج أرضها ،تفوح بزهوها القديم ،ويقرأ : "وأما العلة التي توقع احلب أبد ًا يف أكثر األمر عىل الصورة احلسنة ،فالظاهر أن النفس تولع بكل يشء حسن ومتيل إىل التصاوير املتقنة ،فهي إذا رأت بعضها تثبتت فيه ،فإن ميزت وراءها شيئاً من أشكاهلا اتصلت وصحت املحبة احلقيقية ،وإن مل متيز وراءها شيئ ًا من أشكاهلا مل يتجاوز حبها الصورة ،وذلك هو الشهوة؛ وإن للصور لتوصي ً ال عجيب ًا بني أجزاء النفوس النائية"
()1
وتفور املعان ،لتبدأ َتأل الفراغات بني األشياء ،تضيئ بعض بذ ٍ ظالل الكِ ِّن املشغول َ كر ونِتَا َية جيربان التحليق يف الداخل. ابة معت ٍ ٍ قة، وكانت الكلامت تفيض عىل املنضدة واألشياء َ بص َب ُ (" )1طوق احلمامة" ابن حزم. 20
اوخرو ِم املعتمة ،تظل معتم ًة يف دفء، تصعد بالغ ُتها رائق ًة إىل ُ اج ِ امله ِ َ يرسمها رة، َتازج جمازات، وخت ُطر يف األنحاء ُ مالمح وجه َ َ ُ ُ اآلن يف أوراقه املحفوظة هلا ،وتذوب يف حروف القصيدة املوش ِ ومة يف َق ِ ُ وس باب حجرته ،وجتتاز املسافة ،إىل املدينة املحفورة يف خشب الباب ،إليها كانت املهاجرة ،وإليها كان هرِ ، الفارس ،بألوانه وأوتاره ،وسيمياء معارفه بأرسار الز ِ وعامرة ٍ ِ ِّ وشبق بقدر املدائن ،وبسيف والظل ،برتاويح صالة، النور ُُمت ََرب ،وفرس حمنى بامللح و َذ ِ هب النار ،إليها كان ،يتجول يف برشا َف ِ ول يف ُب ِ حور ِش ِ دروهبا املبلطة ،و َي ُص ُ ات األعا،ي يمر ُ عرهاُّ ، املمزوجة بالسامء ،وبأبواب اجلوز ،وحتت تعاشيق من املالء ٍ َ صبية تفوت أبصارها يف نور نوافذ ،وأمام عيون والفراغ ،ترسم املرشبيات مثل تواشيح أندلسية ،ويف حروف كتاب عن "األُلفة أقواسها واألُالف" ،ويف صلوات ليلية بني أعمدة بلقاء ،تُراوح ُ ِ أرساب احلمرة والبياض ،ويف رحاب قباب تصعد أهل ُتها إىل بني َ لتحط طري َصا َفات ،تعرب املدائن ،وفوق أسطح البيوت ،وتعودُ ، 21
يف جتاويف أعىل األبواب ،وعىل شبابيك األصحاب ،ويف الس ِ بل ،إىل اجلالس أكناهنا، ُ تنفض عن نفسها عناء خوض ُ وخياالت وصخب املارين، وحده ،تأتيه روائح الشوارع، ُ ُ فارس ،يدَ ُع رسومه عىل مقعده ،ويقوم إىل مدينته ،إىل بابه املحطو
بني السطوح املفتوح عىل ممالك وخلفاء كانوا،
وحجرته الصغرية اململوكة ألرسار ما كان وما سيكون ،يرنو إىل قوس الباب ،ويرتل: تناوشينِ َُ ُ األندِلسِِ افِ ِ أطيَ ِ ِ َ َ َ َ يتِهوىِ ادِذاكِ َِر ِ في ِت ِ ِ
ُ بِ َّ ِإىلِطوق َ َ َ َِحامةِِ اللب يسل ُ ِ َ ُ َ َ امةِِ اإلق َِ حِمزنِناوياِِ ِ ِ َِعِا أنزِل ِ ُ َ ُ ُ رط ِبَةِ يبِإىلِأنَاءِِ ِق ُِ ِ أخ ِذِ ِي ِ َ ُ َ َ قِ وعشِ َِ شِ َِ ع ِ يثِ ِ م ِ ِ ُُ َّ ِعليهِِعِشق ِهِ وشق َِ َ اتِ ّتِ َِم ِ م َّ ِ َِ 22
ِ كرى تصعدُ به إىل كَبِد اللحظة ،وسامء ويعود إىل أشيائه ،وذ َ تتهادى بزرقتها ،ومفتاح قديم ،وتساؤل" :أي زمن ينسكب اآلن؟" ،وتساؤل" :كم من األزمان حيوَيا اآلن؟". يعود إىل أوراقه ،ويعود إىل تاريخ ص ِ بية ،تعدو خلف ظ ِّلها َ اآلخذ يف الذ ِ وب ،وشيخ ُّ يرتل أوراده اليومية ،ألجل أن يرى شمسا أخرى ،وطيارة ورق تتخبط بني حيطان البيوت ،وكوب ممزوجة قهوته بالنهار الدافئ ،يرشفها ،و ُيمسك بريشته ،وينتظر ٍ بلون له وهج حاب ،و ُيبحر يف أنحاء ورقة بيضاء ،مرشب ٌة الص َ ِّ النار الفائرة من خشب ُس ُف ٍن َعدت به البحر إىل أندلسه ،ينثني إليها ،وإليها ينثني ،وله تتبدى ،فيَ ُش ُّم هلا رائحة الفرس املغسول بامء البحر ،وفيها ،يرى مالمح السيف املرص ِع ب ُغ ِ بار َخ ِ طو ِه إليها، مرفرفة ِ ٍ بغاللة ت َ َنشدُّ إىل َفت حلقا ُه ،تتألق يف نور األطرعة املحرتقة، ِ ترحال ِ ِه ،وتوحي له" :أن إ،ي" ،فيمتطي قوادمها ،ت ُ ُريق له خرائط َ صهوة الظل املخلوق من و ِق ِ يد خشب السفن الراحلة إىل أزمنة َ أريج َغ ٍار، شم لسفرها البحرَ ، َ وخيُب إىل موقع هجرهتاَ ،ي ُّ 23
ف ُيسميها " َرنحد" وترنو إىل نقطة عينه ،تلمح ذاهتا ،فتناديه "ن ح ُون" ُ يدندن: وتنأى ،وإليها َْ ُ بابِالوـجـودِِعلـقةِِِ*ِِ و َصالِنونِملـويلِ رائكِِ ياِرن ُِدِأسـ ُ ِ َ ُ فأناِهلِعنيِاحلصول َ ِاتلائقِِ إنِاكنَِغ ُركِيفِاألـجيجِزاهراِِ*ِِ و َيغمس الريشة يف بقايا القهوة ،يمر هبا عىل شطآن املدائن تقبض قبضاهتم عىل مقابض املرتقبة، تذخر بقوارب الفاحتنيُ ، ُ كنائن سهامهم ،يرسمون سيوفهم ،وعىل الظهور تتأرجح ُ أماكن ،هلا لوعة الن ِ ِ صل ،وروعة التاريخ خطواهتم يف الرمل ،ويف َ ِ وو َر ِع الوحي الزاحف إىل الش ِّط ،يسكن أسامء البالد، القصيدَ ، خرها وأجساد حمارات ،تُغي ُبها حوافر اوخيل يف قلب الرمال ،وتد ُ ِ اللهب نوارس هلا لون السحائب العذراء ،تُدَ ِّو ُم حول أطراف ُ ِ حل حر ِق. الصاعد يف تناغم إىل السامء ،تستَدف ُئ با َ وفوق األطرعة ا ُمل َرشعة لألجيج الذاهب إىل مواطن حوم ِ ان َ َ َ كر الزاجل ،مرقشا ،حيمل حول ساقه أخبار رب الذ ُ الط ِري ،يع ُ ِ الوصول ،ومفاتيح ُقر ُطبة. 24
ِِ2
َ ْ َّ ُ وْحِالراء
25
26
جلدِّ ِه ،نٌحاسيا ُمصفر ًا ،تكتنف ضخامته كان املفتاح َ نقرات ُسود ،وعىل حلقته حمفور اسمه "نون" ،وضعه يف ثقبه، ٌ ورص ِر وأغلق سطوحه عىل سامئه اوخاصة ،ومحائمه املسافرةُ ، السلم اوخشبي ،يتأمل درجاتَه ،لرائحته صوت أرساره ،وهبط ُّ بحر ،ولث َقلِه عليها أريج نِ ٍ اضه قبل اآلن ،عىل مشارف زال َخ َ اص ،صىل يف سهله ،وفيه رآها ،جمبولة من َص ِ جبل َق ٍ خرهُ ،رحمية القدِّ ،ول َل ِ وز عينيها عطر مدينة فتحها ،فأسامها " َرنحد". بالَس ِج املضيئةَُ ،ت ِّل ُس بنورها وكان الشارع الصغري ،حمفوفا ُ ُ ِ قباب البالطات املصفوفة حتى آخر الضوء ،حي ِّل ُق ومئذنة عىل ويسكن إىل حافة األهلة يف ساموات القباب. سامقة، ُ َن يف مداخلها ،وحتت احلروف والبيوت عتامهتا دفء َسك َ املو َاربة ،تتعلق يف البارزة لقصائد منحوتة يف أعىل األبواب َ 27
صدورها وجوه ُأ حس ٍد من معدن صلد ،ل ِ َبدُ ها مصقولة ،وحتتها قطع احلديد املحطوطة بيوت ًا لد ِّق َها. وكانت ال َعشية حتمل ناسها إىل مقاصدهم الليلية ،وتعود َبرحلِهم إىل ُسكناها ،إىل مصابيح الزيت تنتظر يف أول البيت، القاعدَ ة تنتظر اجلائي ِمن كدِّ ِ ِ يوم ِه، يرتاح نورها إىل شوق ِ اجها لدخوله إىل راحته. مَسجة رس َ ِّ ُ السكون بعدما َسكت الدكاكني الباقية ُض َل َفها ،ويصري يشيع ُ والشارع مملك ًة للمزاليج املعلقة يف جنبات األبواب، الليل ُ وللمفاتيح العائدة إىل سياالت أصحاهبا ،مطرزة يف نواحيها أسامؤهم وحرو ُفهم األوىل ،وللعارفة اآليبة من باديتها ،حتمل ِ شوشات الرمل ،وخبايا الريح ،ومغاليق األرسار، يف َغلقها َو َ ُحت ُّط مثل وحي يف جسد العتمة الصغرية الصاحية ،تستدفئ بشحيح النور ،وقوارير قهوة صهباء ،مصهللة بفضل الضحكة الغانية ألم اوخري ،تُشعل هبا كل ما سكن بني ِ قدح وقدح. كان املساء مزاجا من البكاء املنتهي وصهد لقاء األصحاب، 28
للفر َدانِية ُ أنسب ما يكون الحتامل رسالة ،وأصعب ما يكون َ واحتبال وحي ،يف مثل مساء تدوس فيه احلوافر الصليبية طرقات القدس ،يف مثل مساء حيلم فيه "النارص" باملرية ،يف مثل مساء تدق فيه األجراس ،املمهور عليها أسامء ُصناعها ،يف منارات املآذن ،يف مثل مساء سيكون ذات مساء. هكذا كان املساء الذي سامر فيه األصحاب ،حول أقداح القهوة ،وقطع املخلل امللحية ،مثل حمارات َع َلقت بجنبات ُسفن حفرها يف خشب املنضدة الصغرية ،يلت َُّمون حوهلا ويتحاكون، ويرنون إىل الداخل ِة ،تتدثر بالسواد املشغول بِ َخرجِ الن َجف، هبِ ، ومالليم الذ ِ والرتتِر امللون ،واوخيو ِ املغزولة بتموجات شعرها الفاحم ،املنسدل يف غري عناية ،وحيدثون : ـ "تُرى ما اسمها الليلة؟" ـ "أزمريالدا". ـ " َع ِريب". ـ "كارمن". 29
ـ " ُب َثينَة". ـ " ُلبنَى". ـ "هي الليلة َرنحد". قال دون أن يسمعهم ،دون أن يروه داخال خلفها ،حتمل نبوءاهتا يف َغ َل ِق َها ،املغطى بوشاح غري بال ،مشغول احلوايش برسوم ونقوش ،وحدها تعرف معانيها ،ومجيعهم يدركون أسباب َو ِ ُ حي َها ،ومعارفِ َها، تبسط سحرها .ينادوهنا ،تصري إليهم، َ فيسود َصمت ،يتكئ إىل جمالسهم ،ويرتاكم حتت املنضدة الصغرية ،ويعو ُد مثل صدى إىل منطقها ،فت َُحدِّ ُ ث: أنت ُنون". ـ" َ فيعود بذاكرته إىل املساءات املاضية ،حني رآها ،تسبقه عرب طرقات هلا رائحة اآلس ،ونور هنار مشغول باليد ،ينادَيا ،ال َتر ُّد ،وَتيض يف طريقها ،تلتف بإزار له لون النبيذ املطعون ف ِو َش ِ بالشمس ،تدور ودوران الدروب ،تُلمح له ب َطر ِ احها، ح ِ تبع خطوها ،يف نعلها اجللدي املرفرف خلفها حيث تصري ،ي ُ 30
احلن ِ اء ،وعىل س ِ املرسوم بصباغ ِ معها يتلو: َ كسيت أأسلب ،من وصال ِ ِك ،ما ُ ُ سبيل ه ِ واك طوع ًا وكيف ،ويف َ ِ َ ِ فأسـ ُلو َفدَ ي ُتـك ليس ،ي قلــ ٌ ب ح ن اهلــ َوى دا ًء ممــيت ًا فـإن ي ُكــ ِ ح
عز ُل َ ،عن ِر َض ِ ليت اك َ ،وقد َو ُ َو ُأ َ ح يت ِمـ َن املَــك ِ يت َار ِه َما َل ِق ُ َلقـــِ ُ يت وال ن حفــ ٌس فـآنــ ُ ف إن ُجـ ِف ُ
يت ملـَ حن ََيــ َوى فـإن ُمـستَــ ِمـ ُ
()2
ط مثل ملعة يف عيون كانت ُحت ِّو ُم خفيفة ،تسابق النهار ،و ُحت َ ُ العيال يلعبون بِنَح ِ الت اوخشب ،وطائرات ورق الكُراسات، ح يدوسون بحفائهم يف مسارات َم ِ وتروح َُتل ُس عىل شي َها، ُ األجساد املطروحة جنب احليطان الباردة ،يتكلفتون بجالبيبهم البسيطة ،وحيلمون باألرصفة.
( )2قصيدة للشاعر القرطيب ابن زيدون. 31
ِ ُّ كف َتر بك ِّفها عىل ِّ مر ،فتكون إىل َو َس َعا َية الليلُّ ، وحيل َق ٌ يلم بقايا اليومِ ،م َزق ورق ،بقايا اوخطوات ،ووهالت كناس ُّ اهلوى والتعب ،وتغادر إىل نور ٍ نار بعيدة. نب امرأة تقعد أمام َرك َي ِة نار ،تكَس عيدان َي ُشو ُفها هتبط َج َ حت ُّطها يف اجلمر ،وتكلم نفسها عن سنني عمرها اجلَريد الناشفةُ َ ،
رجلِ َها التي كانت تنتظره عند التي مرت من غري َو َلد ،وعن ُ
ُشباكها ،ألجل أن تسعد برؤياه وهو َِيِ ُّل عليها من أول الزقاق، ِ جتمع َك حَسات اوخشب واوخبز، قعدهتا يف الشوارع سنني، وعن ُ ألجل الدفء واللقمة ،وعن حكاياهتا ألُناس ال تراهم عن الذي كان وما صار ،والذي صار وما كان. ص عليها من بعيد وال خيطو إليها. وكان ي ُب ُّ ربام استطاع أن يغادر نومه ،أن يستسلم للرؤيا و ُيعان ال ُبعدَ ، أن يبقى يف حال احلُلم ،أو يصحو ،ولكن ما كان له أن يبدِّ َل يغري أسباب احللم. مسارات املنام ،أو أن ِّ
32
وكان يدرك أن املستحيل قابل للنفاذ؛ طر أن يكون ال ُق ُ ربان مناسبا ،فيعود إىل العارفة بأحواله ،جتوس بِب ِ ناهنا يف َر ِ مل ُ َ املفرود عىل منديلها ،يف أطرافه تعاويذ مرسومة بِ ِصباغ صحرائها ُ ترمز إىل مالمح خروج ،وأشباه لالستحالة ،حتوي دوائر ال يبىلُ ، مقسومة ،وتفاصيل وجوه ،ونقطة نور مثل نجمة يف فضاء "ن". يسأهلا" :أتعرفني؟" ـ "مثلام يعرف احللم قلب صاحبه" .تقول. وتلمع عيناها ،وتطرق ،فتفرح روحه ،ويرنو إىل صبابة عشقه تَسي يف أنحائها.
33
34
ِِ3
َ َُ َ ْ مدَ َللةِالو ة
35
36
كشف َل ُه رس عز الليل ل ِ َي َ وما كان لتخيال ابن حزم يف ِّ
ِح ِ جاب البدوية.
وكان الليل حالكا. وا ُمل ُ لك َل حك َل حك َل حك يا صاحب ا ُمللك. ترف مثل ضوء ينبعث وكان كروان ،يؤنس ليله بتسابيحُّ ، حادا ،ثم ال يعود سوى ظل ،وتعتم الظلمة ،و ُيرشق قلب ِ ِ جل ِ ائل وحدَ ه يف ِع ِّز الليل. َ الواجد ا َ كان حيمل ريش َتهِ ، راب أرساره ،وأوراقا صنعها ملثل وج َ املساء. ُ روح جيول يف أحوال الليل ،يف األزقة واحلارات ،يقتفي َ ِ اها، يلم حكاياهتا، وأرواح َرص َع َ َ امل َهاجرة ،الساكنة يف القلوبُّ ، َ وأشجان األصحاب. 37
الفضاءات املق ُفول عليها، يمر يف ليل الشارع الصغريُ ،تتابعه ُ ُ واألبواب ،ورؤى واألقفال املبسوطة برسومها، وأحال ُم العيال، ُ من كانوا يف نومهم ،وملا ،ورسابات من كانوا يف النهار ،وملح. ُ تنسدل طعنة ضوء ،تنفر ُد مثل ِغال َلة ويف صدر الليل، الور َبة الضيقة لباب أم اوخري واحلائط املقابل للباب، مشدودة بني َ ٍ ستار شفيف من حليب الضوء ،مثل ملعب لغبار الليل مثل الالهي يف ملكوته ،دليال إىل حيث تصدر أصوات شهية احلزن، الهية ،يف مقامات وجد ،حتكيها العارفة بالدواخل ،ترتى من بني ضلفتي الباب ،إىل ملكوت النورُ ، فيخ ُّطها ابن حزم ،دون سهو ،يف أوراقه. فيضه ،تتألق حوافه وإىل صندوق َمغنَاه يميل ،وباحلركة ُي ُ الدائرة حتت بوق النحاس ،يرنِّم عىل الليل وشاشة الضوء أمامه بصوهتا املرسوم عىل ِغاللة النور املفرودة للشيخ الوحيد. ِ نرجس عينيها ،وتشدو، وكانت يف ِِخ ِارها ،تكشف عن السام ُع الو َل ِه كؤوسا ،ينه ُل َها، وأمامها ُنونُ ،يريق من َ وينسى ٌّ َ 38
ِ السكُون ،فال َس َ مت الصوت ،إال صوتا ،ويلوذون بأسباب ُّ يكون سوى أرواح ليس هلا هسيس ،وتصري هلا ولصوهتا كل فضاءات السكون القادرة عىل بذل وجودها ،ألجل أن حتتشد برتنيمها ،فت ِّ ُوش ُح: ِ ِ اهلـوى فــي ليــال َكــت ََمت س َّـر َ ُـرر بــالدُّ جى لــوال ُشــموس الغ َ نجــم ال َكـأ ِ َم َ ـوى ــال س َ وه َ فيهـا َ ُ الس ِ ــي َســعدَ األَ َث ِ ــر ُم ســـتقيم ّ َ
و َطـر مـا فيـه ِمـن َعيـب ِسـوى
البص ِ ــر َأنّـــه مـــر كــلمح َ ّ حــني ّ لــذ األُنس شــيئًا َأو كمـا احلـر ِ س الص ُ هجــم ّ بــح هجــو َم َ ب بِنَــا َأو ر ّبمـا ــارت الشــه ُ غَ َ يــون النَّ ِ رج ِ ـس َأ ّثــرت فينــا ُع ُ
( )3موشح للشاعر األندلسي لسان الدين اخلطيب. 39
()3
فيقبض ابن حزم كتا َبه ب ُيمناه ،ويقوم إليها ،خيطو إىل حديقة ِ إنشاد َها ،ويف القلب كالم ،يقرتب منها ،فتنأى ،عارف ًة باهلوى الصادر عنه. للقلب من َط ٍ ِ وق عىل اهلجر" ،ويدنو. ينطق" :ما أنت ،ومثل َور َقاء َحتا َمت ،أكون" ،وتنأى. تنطق" :سيدي َ ينطق" :وما للوصل! هل حال بني احلامم وح ِ ومه؟" وَيفو. َ ٍ ٍ وصوت!" حرف تنطق" :وما للوصل بني ُ فيخ ُّط يف أول كتابه: ِ عل ح ِ ِ ومها يف قلبي" "إىل الورقاء ،ما كان من ف ِ َ وحيدِّ ثِ " : هاك َح ِ ريف". ُ فتجيء بصندوق إنشادها ،و َحت ُّط فيه ما كان من روحها له، ثَ " : و ُحتدِّ ُ هاك صويت". وتدنو بلِ َحاظِها إليه ،وتكون إليه بصوهتا ،ورفات أناملها، 40
ِ عشق منفرد. ينأى عن املحيطني به إليها ،ويف فؤاده يرتدد ٌ وخطوات ُجند ،وصيحات وجع لصل ٌة بعيدة، ُ وتكون َص َ صوهتا ،وعاشق وموت ،و ُبستان مرتوس بالرببر ،وحبيبة غاب ُ يف وحدته القرطبية مسجون ًا ،يسود أوراق و ِ وحيلم جده، َ ِّ ُ ُ بالبعيدة ،أين؟ ُّ ترن ضحك ٌة صاحية ألم اوخري ،تُعيد الشيخ القرطبي إىل حيث هو ،فيقعدُ ،يكمل رؤياه ملا يكون ،ويف القلب وجع ،ينظر إىل حجري عينيها الرطبتني بالدمعَ ،تيل بوجهها عنهَ ،تد يدها بقنديل من زجاج شاطبة ،يأخذه ،ويف زجاجه كانت عيناه تلمعان برطابة ماحلة ،ال تلمحها. ينساب وتعود إىل مكاهنا خلف الباب ا ُمل َو َارب ،ومعها ُ الضو ُء إىل الداخل ،وال يبقى منه غري نسيج شفيف أمام القاعد، يقر ُأ تارخي ًا يف زجاج القنديل ،ويرقب ،عىل شاشة النور ،الداخل َة إىل َصه َل َلتِهاُ ،ت ِ ترتسم حبيبا َكان، شجنا قديام ،وذاكر ًة داري َ ُ طريها فوق قصور اإلمارة واوخالفة، ورايات كان يصن ُعهاُ ،ي ِّ ُ 41
ويع ِّل ُقها عىل أعواد ِرماحَ ،دا َنت هلا بلدان ِصالبَ ، رسها يف وغ َ َجنبات الطرقات أريج للمواكب. حبيب ًا كان ،يراه ابن حزم مشبوحا ،عىل صاريه كالراية ،له قدما مهاجر ،وعينا ثائر عاشق. تعلق مثل راية لألرض املرتوكة ،وللبحر حيمل ما تَل ُف ُظه، وللباقني كاوخبايا. محى "باب الرشيعة" ،وحتته بقايا خيل معل ٌق مثل راية ،يف ِ َ وريح فرناندو املعطر. إيزابيال، ُ تعلق مثل راية ،يتكئ ظ ُّلها عىل املارين بهَ ، يتخ ٌّفون ،وينثرون وقطع خبز ،لتهبط إليه الطري ،تؤنس من حوله حبات قمح وأرز َ ب له برفرفاهتا. موته ،ولرت ِّط َ رج من جرابه قارورة من ماء هنر غرناطة، يمر به شيخُ ،خي ُ روحه ،ويميض إىل يضعها حتت قدمي املشبوح ،علها ُتروي َ عابر سيفه، منفاه ،ويف ظ ِّله املفرود عىل أرضه ،يغرس فارس ٌ 42
ويصيل ،فال يكون إال نورا ،ويميض جمردا إىل سفائن جاءت للرحيل. وح إىل املنفيني ،وإىل "احلمراء" كرة موته ،ينظر املش ُب ُ ويف َس َ يف ربوته ،وإىل راياته التي كمدت ألواهنا ،وهتدلت حبا ُهلا، بعض تنس ُّل ورطابتها ُ وَتزقت نسائجها ،فيذرف دمعة سخينةَ ، ُّ وتظل. روحه ،ترفرف ،وتراوح بني اهلجرة واحللول، وَتسح أم اوخري نبيذ عينيها بك ِّفها ،وتنسل إىل حجرهتا تصو ُر باهبا بحشوات ذات حفور، ِّ اجلانبية الوحيدة ،املشغول ُ طيورا ،وتواريق نبات ،مطعمة بفضة نقية وريح و ٍ رد ،تضع كفها َ حيث ُّ حيط طائر ،ينفتح الباب ،فال يكون صوت ،وتُغلق عىل نفسها ،تطوف باملالء املكدس برايات حتمل ألوانا كامدة ،وآثار َط ٍ عن واحرتاقَُ ،ت ِّل ُس عليها ،وَتر بكفها يف حنني صالة فوق ألوان ،وخيو ،وقطع نسيج من تصانيف املرية ،وغرناطة، اعتِه ،وجتوس يف أوراق ومالقه ،وإشبيلية ،كان جيلبُها لصنَ َ قديمة ،عليها رسوم ُأ ٍ سد ،وخيول ،وسيوف مرشعة ،كان َي ِس ُم 43
هبا راياته ،وجتلس إىل كِليم معلق يف زاوية املكان ،ويف نسائل ف صاغها من وشيج احلرير والذهب، صوفه تتعلق أحر ٌ ُ تقرؤها ،وتعود إىل ذاكرة سنوات ،عرب ليال َهبي ٌة أقامرها ،تؤنسه، ويف نورها ينسج عىل الكِليم ،خرب ِ عشقهام. ُ َ لسو ِ ِ ِ اك، رس ال يبني َ ت َُرن ُِّم ببعض كالمه إليها" :حلرضة الكليم ٌّ ِ هبائك ،أن نرتاءى". القمر يف مثل آيت ُه حني يكون ُ املنحوت فيه جهة القارب غري بعيد ،تدفع َ َ تصري إىل صندوق َ الربوة احلمراء ،فيتجىل هلا ،جسدٌ خالص ،ح ُّز ِ احل ِ بال ما زال ٌ َ موشوما يف معصميه وساقيه ،لعينيه الربيق ذاته ،وبقايا أصباغ عالقة بأصابعه ،وبعض روح فيه ساجية ،تُق ِّب ُله ،وتغلق عليه. تتحس ُس حرفا مطبوعا يف كر َت ُه، تعود إىل البابُ ، َ تقبض ُأ َ َتر بالعارفة باألحوال متكئة إىل تفتح، قلبها، خترج ،ت ُ ُ ُ ُغلقُّ ، غرس ُه يف وَتر بنُون حيفر يف خشب املنضدة سيفا َ وسادة منزويةُّ ، ً تذهب إىل القاعد ظل جسد مشبوح ينفرد عىل أرض بعيدة ،و ُ الشارع ،وهي يف قلب فيغمر الضو ُء باهبا، َ ُ وحده ،تفتح إليه َ 44
البابٌ ، ظل تام النقاء. حتدِّ ُثه" :أذكر يومها أنك أرقت قارورة ِ مائ َك حتت قدميه" ُ فال َي ُرد ،وينظر إىل الزجاجة بني يديه. فرتدف ،وهي تشري إىل قلبه" :كان ُيشبِ ُه َك". وكان كروان وا ُمل ُ صاحب ا ُمللك. لك َل حك َل حك َل حك يا َ قمر يف مثل َهب ِائ َها. وكان ٌ ِ سمت املوصولة توا ،وكان إىل وكانت إىل ُدكاهنا ،تدخل يف ِجرابِهُ ،خيرج قدحا من زجاج ٍ أزرق ُمم َوه باملِينَا ،وقطع ًة من نسيج وجه َها ،وحتت الوجهُ ،مطو : ا َملرية ،مرسوم فيها ُ ِ اآليات بالعـناء تُقـد ُر وإال ُ
مالمات املحبة للمعنى لـذ ٌة ِ آثرت َص َ رايات هـواك مجــرة وفوق هواي حلقت ـون ُ ُ ِ ُ يرحل يف النور املفرود أمامه. بروح ِه يقرأ الرتنيم َة ،وبعينيه
45
46
ِِ4
َ َ ُ ِالمتَ َومِّ ُ فارسة د
47
48
الفرس يف ظ ِّل ِه يتأو ُه ُ ُ مثل ُر ٍ خيرتق بدنا مح ال يعرف ُه َبعد ويف األنحاء تتناثر جريونيكا والعيون املفتوحة عىل املوت وأجسا ٌد مل تربح ُ ترصخ ببعض روحٍ وببعض موت وأكف َتتد ٌ إىل هناية األذر ِع تتعلق باألعا،ي 49
وببقايا نور يصبغ وجع املذهولة عن موهتا بوليدها وما كانت اللمبة الوحيدة يف سقف اللوحة بقادرة عىل أن الكف ُختفي ما بقي من قبضة حية ،أو شذرة النصل املكسور يف ِّ الصلبة ،أو ورد ًة هلا لون البدن ،أو ثديا يمتلئ بحليب الضوء. ُّ ويف هباء حيتمي الثور املبتور بأنني امرأة ،تتشكل مثل طائر، يرشع يف التحليق بفرخه املغتال إىل سامئه ،وال ... ويف وجل ،يدور نون بعينيه يف أنحاء اللوحة ،ويف األنحاء تنساب ترنيمة موتسارت اجلنائزية ،ويف املكان حيل صفاء املوت. ويف اوخارج ،تتواتر اوخطوات إىل الباب الوحيد بني السامء وبني الغرفة املبتهجة الليلة باملوت املتاح. يفكر إن كان موتسارت قد أحال يسمع نون خبطات خافتةُ ، 50
ترنيمته اجلنائزية األخرية إىل احتضار حي. تتواىل اوخبطات رسيعة ،يف رقة املشغوف باجتياز رسوم املدينة املحطوطة يف جسد الباب ،إىل شاغل الفراغ املتواري، فيجدها يف هلفتها ،وجتده يف ذهوله ووحدته ،وتدخل ،وليس سوى مصباح وحيد ،وذاكرة تندَ س يف القلب ،فال يكون كالم. بش ِ تُسائ ُله" :سميتَني باسم مدينتِ َك" ،وتتهيأ َ دوها. تُساء ُله" :أهي احلبيبة؟" وتومئ إىل طريط حرير معل ٌق يف غمده. ينطق" :أنت العارفة بالدواخل ،أنبئيني" ويراوح بني ظل الفرس ونور حروف احلبيبة ،يف جسد احلرير املدىل من غمده. تاريخ بحر عربته ،أو حبيبة ِ ُ عشقتُها، ويردف" :وهل غادرن َ أو صانع رايات مشبوح ،يرمق يف احتضاره راياته املتهدلة حتت صوارَيا". ِ ويسائل" :وهل ج ِ تنفست بت بني الطوائف يف ممالكها ،أو ُ 51
املعارف املحروقة ،أو ُأ ِرست حبيبت ِ ِ ُك". ريح َ َ َ فترشع يف دندنة خافتة: ُ جريونيكا يا تِيه املوت عن مواقيته ِ اس يف ٍ زمن جا َبك احلر ُ فام ُع ِ دت سوى زمن ويف التاريخ عاد مشهدُ ِك َي ِس ُم األرحا َم بالوجع الليل ب ِ صل َ وي ُ الليل ِ باألرس املحبوب ويكلل َ فال نوم وال لوم سوى نصل ِ بالعشق يرن ُِّم يف الساحات ِ مقابضه وحيمل يف 52
األرس نسيجا غادر َ بالو ِ صل ووحيا ُينبي َ وبصوهتا ،تؤرخ العارفة ل ُع ِ مر احلبيب. ورنيم الصوت ُيشجي ،والنطق عاص. ويسود حزن له سطوة النار ،ويف ب ِ راح ِه النهاري ،يطوف نون َ يف أزمان ُغرفته ،ويف ليل احلبيبة. وكانت يف ب ِ عدها ،أسرية يف ملكوت من حرير ،والليل سادر، ُ َتر عىل مالحمها ال ُغالمية، وصحراء ممزوجة باهلدوء ،وريحُّ ، تلهو بشعراهتا القصرية ،وبع ِ رف الفرس املتأهب هلا ،يرنو إىل أفق ُ مشيئتها ،فتمتطي ،تقبض بأصابعها الدقيقة عىل اللجام اللدن، تشده يف رفق ،وتضغط بساقيها عىل بدن الفرس ،فيتقدم ،رائق اوخطوَ ،ول ِ ٌع بفارسته ،يلج َ ب العاشق ُب َخ َب َ الليل املفرود هلاَ ،خي ُّ بض َغ َطات تذو ُد هبا عن ِ ذاهتا الش ُغو َفة طعمه َ اهلائم يف صحرائهُ ،ت ُ تدفع عنها ريح الليل ،تل َق َ اهاُ ، باحلبيب ،فيبدأ الفرس يعدو ،تنتبه ُ ِ الكامن ،حتمل عنها ُخصالت َش ِ وأطراف عرها، ثِ َقل الوج ِع َ 53
املم ُسوس بحكايات الفارس ،وجتوز هبا وبفرسها البيدا َء، الثوب ح وبرغبتها يف اوخروج من ح ِّيز الزمن املتاح لوجودها. َ وتواريخ ما عادت ينطلق الفرس عابرا اللحظات املهملة، وحبات الصخر دليال إىل حيث مالت دربا، ُ ُجتدي ،وتصري الر ُ ٍ ُهتوي الفارس ُة ب َف ِ صالبة ل ِّينة ،تُطلق رس َها ،تفور الريح يف شعرات الع ِ ِ وروح الراكبة إىل عنان سامء غري التي والذيل رف َ ُ بدن ال َف ِ بسا َق َيها َ املدوي يف ليل وحدهتا ،فال رس ِّ غادرتَ ،هت ُرص َ ُ يرشخ الزمن املحيط ،فال يملك هلا َعنَتا ،ويَسي مثل ِشهاب، وولع االختفاء يف حيس السادرة يف غي امتطائهاَ ،تلك الوجد، َ ُّ اللحظات املارقة من حوهلا ،تفوت ُبرب ِاقها يف جمازات الليل والريح ،واملفازة ،ووجع الشوقَ ، وهلف لقاء حبيب ينتظر ،تصري إليه ،طائر ًاُّ ، قر يف قلبه. حيل يف مكانه ،وحرفا َي ُّ
54
ِِ5
اء َ ِالم َراياَ َز ْرقَ ُ
55
56
يف تلك الليلة ،رأت ،ومل ِ حتك. السهدَ . يف الليلة التالية ،آثرت ُّ وبعد ٍ ليال عديدةَ ،د َ وهن َُها ،ومل تعد قادرة عىل أن تواصل ان َ حلم رأته تلك الليلة. القبض عىل احلُل ِمٌ ، ومل ِ حتك: احلراس إىل البوابة املترتسة بالسور حتت سامء زرقاءَُ ،يرع َ احلجري ،يقرتب صوت نفري زاه ،فتعدو هي إىل أمجة قريبة لتختبئ يف كثافتهاُ ،يدير احلراس دوالب اجلَسَ ،يبط بطيئا، كإيقاع حبات ساعة رملية ،يمتد بني ملكوته الذي جيري بحسب اشتهاءات خليفة صبي ،وبني ٍ كون من والة وأمراء ،يتنازعون السامء املهدَ رة حتت أقدامهم. عىل أخشاب اجلَس املعمول من أبدان أشجار ِحيكَت يف فيض من دبات حواف خيل ترتى، ظلها غزوات ،كان ٌ 57
وأصوات أبواق صقيلة ،تنتصب يف وجه اليوم الراجف بفعل ِ للحلم ،مثل ُزرقة ساجية تنوش األحداث املنهمرة ،هجائ ِّي ٌة ُ سالما ساكناِ ، كح ٍ ارصة تلوذ برشفها إىل َمقاتِل أجساد راب ُحم َ منثورة ،فيسقط سكون اجلَس إىل املاء املعتم ،غائصا دون جلبة إىل فراغه اجلديد. ويزدحم اجلَس بفرسان وأفراس ،وطبول افتخار وصبابات األمري املتأنق ،يعتيل فرسته املكحولة ،ا ُملطهمة ُبزخر ٍ ف له سمت ُ َ الد ِم والشمس الغاربة وزرقة السامء ،يسعى يف ُخ َيالء َذك ٍَر إىل فس طلب أمريةُ ،يمنِّي القلب باألفراح املحتملة ،و ُيمنِّي الن َ وض ِش ِ عره ،ويداعب مقبض سيفه، باتساع إمارته، يشح ُذ َع ُر َ َ ويراجع معارفه بالكون واألشياء وتفانني اإلغواء ،يذكر بشارة ِ ُرج ُحه. عرافه األعمى ،ويبحث يف عينيه عن نظرة سابية ت ِّ وخلف األمري و،ي ،وخلف الو،ي أمري ،فخليفة يتبعه طائفي، موحد ،فسلطان من ساللة الد ِمُ ،اغتيل ذات مرة، فمرابط ،ثم ِّ ُ فعقد العزم عىل أن حيوز السلطنة ،وال ُيبقى يف أرض غرناطة 58
سواه ،وأن يدخل باألمرية يف ظل أجساد مغتاليه ،عىل ُممل رسيره األزرق ،فيام تترشب هدباته قطرات دمهم. فتفزع من بني حشايا احلرير ،تقوم إىل ٌشباكها ،حتيطها صوت ُمبهم املصدر ،ل َقين ٍَة تشدو: وصيفاهتا ،ويف سمعها ََي ِمي ٌ ُ لو أن الزُرقة جمرد ُحلم ماذا سيكون من أمر الرباءة؟ ماذا سيكون من أمر القلب لو أجدبت ينابيع احلب؟ ولو أن املوت هو موت ماذا سيكون من أمر الشعراء ومن أمر األشياء النائمة التي مل يعد يتذكرها احد؟ آه يا شمس اآلمال أيتها املياه الرقراقة والقمر اجلديد 59
يا أفئدة األطفال الصلبة يا أرواح األحجار ُ اليوم أشعر يف فؤادي باختالجات غامضة للنجوم وكل الورود بيضاء كأحزاين.
()4
حللم إىل حزن أبيض؟" ـ "هل ُحييل ُ الفزع زرق َة ا ُ ترفرف عن جملسها ترو ُم مصدر تتساءل األمرية وهي ُ ف إىل فضاءات األ َهباءُّ ، حتط يف هبو العذارى ،تدور الصوتَ ،خت ُّ ُ َ ُ ظالل أعمدهتا الرخامية عىل جسدها املنساب حتتمل يف األروقة، ذخر برائحة ال َق ِ إىل َهب ٍو َي َ صيد والشجن ،وصدى ترديد ملا َيزل ينتفض بشهوة احلزن لرتانيم حبيب ،وأطياف حتكيها الشمس عىل نافذة املكان ،إىل الالئذة باوخفاء ،ووجع مطمور ،وأغنية خريفية.
( )4قصيدة للشاعر اإلبسااني لوكاا من ررةمة اؤملل عن اإلبساانية. 60
هتبط إليها َرندُ ،ك ََمن إىل كِن َِّها ،جتلس أمامها يف سكون، يرتاح إىل سكوهنا الفرس املشغول يف زجاج النافذة ،ويثري يف ِ األمرية السؤال: نُطق ـ "أي روعة هلذا الشجن األندليس ،ملن هو؟" تومئ َرندُ بأهداهبا جهة النافذة ،وجتيب: ـ "حلبيب من مملكة غرناطة ،كان يزرع احلقول والفصول بأشجار الزيتون والقصائد". ـ "أي اسم كان له؟" ـ "اسم ُييضء برتداده ُ الليل ،ملسامع حروفه القدرة عىل أن ُخت ِّثر الدم النازف من جسد الفارس املطعون ،أن ُحتيل زنزانات املقبوضني من ال ُعشاق إىل لفحة عطر يف حرير امرأة تسكن َخت َي َاهلم ،أما له ،فلم يكن سوى "لوركا" .لوركا الذي أجاد احلب بمثل ما برع يف املوت وصوغ القصائد". ـ "لو أن املوت هو موت 61
ماذا سيصي من أمر الشعراء وما الذي صار إليه؟" ـ "حتى أنه مل يدع لنا جسدا نلمسه يف ليالينا املوحشة ،وكأنه روح خالصة ،أو ضوء نجم َفنَى". ـ "وعالم تضعني زهورك يف ذكراه؟" ِ ِ ِ ٍ ِ صخور األطفال، قلوب رسومه، قصائده، ـ "عىل صدري، ِ ٍ رصاصة مرت به ،أو حتى يف حذائه". دروب مر هبا، قذف هبا، وتقوم األمرية إىل نافذهتا ،تتبعها َرندُ َ ،تران ببرصمها عرب زهرة برتقالية نابتة يف زجاج النافذة ،وترن ُِّم َرندُ : ـ "يف ذلك احلقل البعيد ،هناك ،يقف رجل نحيل مثل وردة، حلب ،يف شجن أغنية عميقة ،إنه هو ،وتلك الساعية خلفه يبذر ا َ نحر ُ ونبذر ونروي حتى ترحل شمس ث ُ مثل رائحته ،ماريانا؛ ُ يرتاقص ظِالنا خلفنا ،حتى نجلس، اليوم ،وحول نار املساء ُ ُ ٍ قصيدة جديدة ُيسمعني إياها لننام، يصريا ظال واحدا ،و َن َغ َم 62
ب مثل نور هنار جديد ،وتسو ُد اوخُرض ُة ويف احلُل ِم ،يبز ُغ احلَ ُّ مساحة ال َب ِ رص ،ونصحو عىل أرض شاحبة جمدبة ،وفضاء من ُصفرة جافة ،وال صوت ،لرقرقة ماء ،وخفقات أجنحة طائر، ليس سوى دبيب رمل يصعد يف العروق املهشمة ،لشجريات مستغرقة يف موهتا. وجو ُد ِك عىل كانت األرض مجيعها مثل كلمة ُم َبهمة ،يتوقف ُ ِ برصك ،ال تدركني هلا معنى ،سنوات امتألت فهمها ،معلقة أمام بالصالبة والفناء ،حتى كنا نأكل قصائدَ نا ،واألرغف َة اليابس َة يف حكاياتِنا القديمة ،وال جدوى ،وال صوت ،غري أن ٍ ات مؤرقة جائعة ،تتضور برنات أنني ال يكَل ،وأمل ُ ينفضونه ،عساه يسقط مثل زغب اللقاح يف أرض ندية ترويه ،تردده صلصلة أجراس، تتساقط رن ُاهتا عىل أوجاعنا ،وعىل خوذات سادة يتصنعون األفراس الضامرة ،وما بقي من فرسان ،وأتبا ٍع السؤ ُد َد ،هت ِّي ُج َ ومح ِل ُصلباهنم اوخشبيةَ ، فخا ُطوها عىل َر َه ُقوا من إطعام املوتىَ ،
صدورهم ،ويف دروعهم ،ومحلوا عىل َم ِ رش ِق الدنيا؛ قلبها 63
املقدس. ِ ِ وآالمهم الربانية ،تتبعهم جوعهم ساد ٌة امتطوا شهوات أرساب من فقراء انتعلوا حفاءهم ،وما بقي من رغبة األرض ِ عىل محلهم ،وقبضوا عىل سيوف ِ موها، ورماح و ُّدوا لو َطع َ أحلم بأرض اوخالص ،وأمحل يف َر ِمحي ومعهم كانت ،ماريانا؛ ُ بعضا من روح لوركا ،وخطوطا من أغانيه ،ونظرة أخرية حطها يف عيني". وبعينيهاَ ،تر َرندُ ،عرب عينني هلام لون سامء شتوية لفارس يسكن يف زجاج النافذة ،إىل فضاء يصل إىل حيث حيل نون ،يف حجرته القريبة من مدارات الطري والنجوم ،ترا ُهُّ ، خيط بريشتها وتشم للمكان رائحة نعناع غمسه يف َش ِايه الدافئ، خطا َبه إليها، ُّ يرشفه ويطوف بني أشيائها؛ سيفها املعلق يف جدار اجلري ،طريط احلرير ،وسهم منزوع من دم قديم ،وخطو ،وهناية قصيدة لشاعر من خريف غرناطة ،حفرها بمسامر يف جري احلائط .. اليوم أشعر يف فؤادي 64
باختالجات غامضة للنجوم وكل الورود بيضاء كأحزان ِ وبمثل اإليقاع يرقب احلاممات السابحة يف فضاء نافذته، حتو ُم مثل وردات بيضاء ،مثل ُحزن يتقاطر من زمان بعيد ،مثل ِّ ِ ارصة ،أو حبات نار شهق هبا أرواح تنَسب من جراحِ مدينة ُحم َ َ منجنيق. ويكون إىل مدينة معلقة يف طرف نافذته ،وشارع صغري يستقبل الغروب بظالل خي ُل ُقها اللهب الكامن يف َر ِحم اللمبات الرقيقة ،ونور شمعات تتأرجح نارها عىل ُشباك ا َمل َقام ،تُنري تاريخ بيت ا َمل ِ َ قدس ،وحيسب يدون للشيخ اجلالس أمام أوراقهِّ ، الشهداء ،و َينظِ ُم تواريخ الرايات واألسامء ،ويرنو إىل َس َ لخة املو َارب لدكان أم اوخري ،اجلائلة يف النور اوخارجة من الباب َ حجرة أرسارهاَُ ،ت ِّلس عىل صندوق يؤوي حبيبا ،وأسفارا، َتاثيل ُأ ٍ َ سد ،هبو َع َذارى ،عقودا مقرنصة ورسام لقلعة مأسورة، 65
أرحا ُمها ،وحمرابا ،وأمرية خلف نافذة ملونة بأطياف شمس، تصعد إليها أم اوخري ،حيملها شدو ينفطر حزنا ،وأمل منظوم بلغة ال تعرفها ،فتكون بني يدي األمرية ،وقبلها سؤاهلا: ِ ِ تلفحني". ـ "أمرييت ،ترنيم ال َقينَة يرشح حا َلك ،ومجرة هواك ُ ـ "إن هلا صوت ًا تبثه أحزاهنا ،أما ،ي فليس سوى املوت ،أو وهم احللم". ـ "حاشا سيديت". ختلص من اجلسد املأسور باحلدائق، ـ "سأدع لروحي أن َ وأرحل". املوت حال ٌة يف حلظة ،ال ندري ما يكون ـ "لكن أمرييت، ُ حا ُلنا بعدها ،ربام كان للروح أش َقى" ـ"إذن ،سأدع هلم مادة وجودي ،وأصعد يف مقامات الشوق لم". حل َ إىل منتهى الغيب ،وأمتطي ا ُ لم ،واليقظة ال ريب حاصلة بعده ،األمر لم ُح ُ حل َ ـ "ولكن ا ُ 66
مرهون بزمن ،ولكل زمن هناية ،وبإطراق صباحك التا،ي ستعودين ،بعدما ُذ ِ قت متعة التحويم يف رؤيا األبد ،وَتتعت بلذة الرتحال يف الكون ،فأي أمل سيكون ما يمأل صباح ِ ك ،وأي َ عذاب تشعرين ،وكيف لتلك الروح التي المست األبدَ َ ديمو َم ِته ،أن تستقر يف وأسباب الوجود ،وعاينت َ الكون يف جتيل ُ جسد أمرييت بعدما تؤوب من رؤياها؟" أخف من عذابات احلرمان مع ـ "ولكن عذابات الفقد ُّ الشوق". أقدر عىل أن يضنيك بأكثر من أن لم ُ ـ "حقا أمرييت ،لكن احلُ َ ُحي ِّو َل لون عذابك ،أن ُي ِنه َك وجو َد ِك ،بني النوم واليقظة ،بأعظم من أن يتيح ِ لك مستقرا". ُ الش ِ رض ِّ عر ،فلم أجد ،ي ـ "لقد تعلمت احلكمة ،والنِّزال ،و َق َ مهربا سوى احلُل ِم". ـ "بل هناك سواه ،إن للعقل حدودا ،وللقلب طوقا ،واجلامل 67
هائم بني ذوائق البرش ،وبني الذات والوجود ثم أبدٌ من املعرفة، ِ قلب مواليت عند ٌ فيض ال نقدر عىل اإلحاطة به ،هكذا َره َق ُ درجة من درجات هذا الزمن ،الذي ال زمن له ،أو ربام َهب َطت بينام كان هلا أن تصعدَ ،أو َس َارت فيام عليها أن ُحت ِّل َق". ِ القلب رغبة ورهبة ،أرسعي ببيانك وانبئيني مألت ـ " َ بالسبيل ،أيتها املعرفة املتجسدة يف صورة امرأة ،أظنك من كانت حتوز يوما حكمة ِ دلفي ،وانحنى أمامها سقرا الشاب يسأهلا رس فلسفته". ِ قرصك و َم ِنزل ِ ِه مسافة ضئيلة باملكان ،سحيقة ـ "ما بني بالزمن ،حتد ُدها عالمات منظومة يف أشجار ،وأودية ،وتواريخ، ٌ وأحداث َص َ اغها أمرا ٌء ووال ٌة وخلفا ُء ،اجتيازها وبحريات، الوصول ،اجتيازها بالبرص ُيسلِ ُم ِك إىل الظ ِ َ اهر ال نجز بالفهم ُي ُ سواه". ـ "ها ِ أنت ترسمني أمام خيا،ي متاه ًة ،كمثل مرايا تأخذ يب إىل مرايا ،وليس غري الوهم". 68
ِ ِ رست حس ِك ،أو ـ "هذا ما ستصريين إليه إن بقيت يف ِّ حسب ما تشعرين به من لذة". حرف وخط، هم ،وهواي بالعامل ٌ ـ "عشقي معرف ٌة ،ولذيت َف ٌ السور احلائل مثل زمن ال واحلرف ِعلم ،أأقدر هبذا أن أجتاز َ َ املنبسط مثل ُفلك وال بحر؟" واجلَس ُيستعاد، َ ِ متاهتك إليه". ـ "تقدرين ،طر أن جتتازي
69
70
ِِ6
جربةَ ُخ َ لو ُة َّ ِاتل ُ
71
72
ِ ِ يب َرند يتضوع يف َف َلك املدائن ط ُ يقبس نون من روحه نفح ٌة ُ يصوغ من أسبابه رساجا يع ِّل ُقه مثل ثمرة يف ِحن َية مشكاة تنبت يف مكانه ،ف ُيرشق رميم قصيدة غابت يف جدار اجلري، حمراهبا بنفحات نورُ ،حتيي َ ُ وصلبانا وترفع رماد الصدأ عن ُطغراء سيف تغمد دروعا ُ فأضناها ،وتدفع بالغبار عن صدفات عاج ،وتواريق ُنحاس، ٌ صندوق مصف ُح اجلنَ َبات برموز ورصائ ٍع من هباء النجم ،حتىل هبا رتف الظاهر ،زاهدُ القلب إال عن حروف احلبيبة. ورسومُ ،م ُ يمر ببنانِه املتيم عىل رموز اجلوانب ،ويرتن ُم حيمله ُنونُّ ، ٍ بأسامء الرسوم ،ينفتح له الصندوقُّ ، لفائف حيط بكفه عىل ٍ ِ برشائط من حرير اوخرص مصنوعة من ورق َشاطِ َبة ،حمكومة املرية ،ذاخرة املتن بآيات ُهيام َرند ،تصطيل حواشيها بتواريخ 73
ويروج يف أنحائها َبخور عطر ينفر ُد مثل من أحوال متاهتها، ُ ويتسع زغب نور رهيف ،خيفق خفقان التائه بني مراتب العشق، ُ وئيدا يف لوعة ،حتى حيوي أرواح األشياء املنثورة ،وأبدان احلامم وشوق العاشق للسالكة إىل ِع ِ َ رفاهنا ،تطلب اآليب من ُحلمه، ُ َ وترتل: املعشوق معرف ًة ،وتستضئ بَساجه، أي زمن ألج اآلن األزل واألبد آن واآلن حرضة الديمومة وسفر آبد ٌ أي ترنيمة تصلح أن أستهل هبا سفري أي سبيل يفي باوخروج من مقام التيه واللوعة وياهلا من لوعة َ اوخيول أمتطي األخيل َة أم 74
عرب متاهتي املنصوبة أمامي كتجليات املرايا يف املرايا باملعرفة أم بالفراسة أستيضء يف سبييل املشكول من َطف َل ِة أرواح مسفوكة بالعروش والنزال فرتم َلت عهودها ٍ نمته املرصعة بنفائس جوهر َغ َ ف َغدَ َرها ُ أستدل بلوام ِع السامء ِ باحلروف اآلبدة أم ِ الرمل يف طوايا ليس من يشء ٍ سافر وال يقني سوى املتاهة دوام ال ُّ يكل زمن ال ُّ يدل 75
وأماكن ال هتدي السيف أجدى من كتاب كتاب أجدى من ِرفقة طائر ٌ أم الوحي أجدى أم ملحة من شغاف اهلادي املنتظِر يصنع ،ي رساجا من معدن روحه لييضء ،ي بنور ال يغيم فأفوت به عرب ساحات الوغى والوحشة من غري أن أفنى وآن تنتهي من ِو ِ ردها تكون إىل بستان التجربةَ ،تيض مثل ٍ يغمر ألف مضيئة تنشدُ تع ُّينها وكامهلا ،تسري إىل بستان األرسارُ ، بحر من حليب الضوء ،يف قلبه ال ترى سوى قب ًة ،تصعد برصها ٌ َ 76
مثل موجة ،هلا لون احلجر ،وملمس هنار ،ومن حتتها بنا ٌء صغري، وجدران أربعة ،تواجه جهات األرض. تعاين يف اجلدار اجلنويب ،تلمح قوس باب ،تدفعه وتدخل، ُ َ وحدهتا ،وشيخا عىل بِساطِه َتارس وجالل نفس هباء السكون، َ ُ يصيل ،وفوقه ،يف ُرسة القبة ،طاقة مفتوحة عىل السامء. وصوت الباب املسكوك ،خيدش رمل مت، ُ ُيرجف قل َبها الص ُ أرض ال تراها ،ومالء من وجد املتهجد ،يوحي إليها أن َق ِّري، تقعد عىل طرف البسا ،خلفه ،يفرغ من صالته ،ويتجه نحوها، تبادره بلهف الضال: ـ "أين يف بستان أرسي يكون هذا املكان؟" يقف أمامها ،حتت الطاقة املفتوحة عىل السامء ،يومئ بعينيه للنجم الساري عربها. ـ "ما بني قلبك وعقلك تكون ُخلوة التجربة ،بساط ُة الوجودِ َ وعناؤه ،بني جدران تذهب إىل أقطاب الكون األربعة ،وحتت ٍ ُ لنفس تسعى يف مداركها، نكون ،وبراح قبة حتمل سامء ،حتتها 77
وطاقة َتن عىل رس ُخ ِ لوتك بنور وظلمة ،وأرض حتم ُل ِك ،جسدا ُّ ِّ ِ النافذ عرب الطاقةُ ، حيوي عقال وقلبا ،حيمالن عمو َد الروحِ يصل بني نقطة وجود تتعلق يف فضاء نون ،وبني ِ ألف ِّ الكل يف ال ُعىل، حيم ُلنا بسا ٌ ،يأتيه الزمن من كل صوب ،ويميض يف خيو ينكشف نسيجه حتى يبليه ،فال يعود له وجود ،وال لنا حياة ،ل َ مرقدنا األخري ،فراغ من ُحلكة ،حييل البسا بيننا وبينه". ينفذ ضو ُء َنج ٍم بعيد عرب الطاقة املفتوحة للسامء ،ينفر ُد مثل ألق فضة ،فيرتاءيان ،تتجه إليه َرندُ : شاشة ضوء ،تنرش يف املكان َ َتر؟" ـ "أي متاهة جتتاز ،وبأي جتربة ُّ ِ مجالك ،ي ،يف هذا الكون ،جتربة" جييبها. ـ "إن كامل ُ ثغره عن ابتسامة جتفل، ُ ينم ُ وترجع بظهرها خطوة عنهُّ ، تطمئن إىل هادئة ،تعكس ثناياه نسمة من فضة النور إىل عينيها، ُ بساطه ،وتقعدُ ،ويقعد إىل جوارها ،ويشري إىل أعىل احلائط الغريب. ِ جتربتك ،فإىل حيث ـ "سيبزغ بعد قليل نور هنار جديد ،يوم 78
ِ ِ ِ عليك ،ال تأهبي سفرك املقدر رحلتك، أطرت انظري ،وستبدأ ُ ِ متاهتك". للدم بل باحلكمة ،حتى جتتازي ضباب وكانت فضة النور تستحيل إىل رمادية ،فيغشى املكان ُ ُص ٍ ص من ليله بعد ،يمر عرب رسة القبة ،من جهة ونور ملا خي َل ٌ بح ٌ املرشق ،إىل حيث أشار هلا ،ترنو إىل شاشة الضوء اوخفيفة عىل اجلدار الغريب. أصم ينغرز يف الرمال ريح ،وتأوه رمح َ تناغش سم َعها ٌ ويأسى ،تتبع صوت أساه حتى جتيئه ،ترى قناته مائلة جهة الغروب من أثر هوانه ،وإىل جواره خوذة موسومة األنحاء عدهنا ،فانفصل عن قبتها هالل ،تضمه يف بخرائط دمُ ،شج َم ُ تلمح يف غضون ِّ التل جسدا يقبضها، ك ِّفها ،وتتبع وجعا ُ ُ مطروحا ،مطعون األنحاء بالنصالَ ،تيل عليه بطرفها ،فال جتود نفسه بأكثر من ٍ موت حال. ُ ِ بدمه ،وتقرأ آية من ُريق عىل جسده بعضا من رمل حتنى ت ُ تيهها بصوت أذان له سحر نبوءة ترتاد كتاب شهادته ،فيعبق ُ 79
ختياهلا ،ويرتدد يف أسامع العابرين ،يرتدُّ صدا ُه إىل جبل ك َع ِ رش ٍ ملك غافقي ،حاشي ُة بالطِه الشهداء. ٌ يطوف بني جندهُ ،يصيل بفرسانه، ملك رأته يتفقدُّ مواقعه، ُ ح فتلحق بركبِ ِه، الغال، ويسعى بفتوحاته عرب أندلسه ،إىل مملكة ُ وتذهب والذاهبني إىل غزوهم ،يفتحون املدائن العامرة ،يغنمون ُ ٍ وهنا يف خيمة غنائمهم ،وحيملون وجوهر، نفائس أيقون يراكم َ ُ بتدبري ٍ ِ قائد ،دنياه عىل اإلفرنج ،يأخذوهنم أخذ املتاهة للضال ِني، سوى سيف سهل السجايا موسوم ب ُطغرائه ،وروحه سوى حرف حيرث أزمانا بائرة ،ليغرسه يف معارفها ،يتقدم مثل راية، ومثل ريح يتبعه جماهدوه ،ينفذون يف اهلول املحيط ،فتغشى ات دروع هلعت ُصلباهنا، الساحات صلصل ٌة ولغ ُة موت ،وأن ُ ِ تسلب خيمة املهزومة رسي ٌة ُختادع بفرارها ،لتنسل من فلوهلا ُ النفائس املغنومة ،فتتبدل َسكرة أعراب وبربر يرتدون عن نرصة ِ ِ أمري ُهم ملكهم ليدفعوا السالبني عن مادة كنوزهم ،تاركني َ لسيفه ،واختالل يسود صفوف جماهديه. 80
يلم شتات جند ال يأبه بغري غنائمه، حيو ُم ُ ِّ وبضع زاهدينُّ ، ويواجه نصاال آيبة من موهتا ،وقوسا تراه َرندُ يزفر من وتره سهام يقر يف حتف ملكها ،يرمي به عن فرسه ،إىل بال ِ شهادته ،ويف ُّ جنبه غمدٌ ،ترنوه خاليا ،تبتحث سي َف ُه ،فال أثر. ويف سامئه ،كانت غيمة من طيور ،تطوف فوقهُّ ، هتش شهوة ِ باملطروح يف دمه جمردا. عقبان ترتبص ويف براح اوخُلوة تتحول رمادية الضوء إىل لون ُص ٍ بح يرشع يف مالمح اجلسد املغدور حتت هنار بسط نوره خالصا ،فتغيب ُ شمس تصعد وئيدة. هتبط شاشة الضوء عىل اجلدار ،وَتيل َرندُ إىل شيخها ِ منطقها سؤاال: بشجنها ،وأمل يتخل ُق يف ـ "أيشرتون مقدار خيمة من معادن أرضية بنفائس أزمان ونفوس؟!" ف ُيجيبها" :وقعوا يف ِّ فخ ِح ِّسهم ،آثروا متع ًة عىل تاريخ ٍ سيف مفقود. مالمح وجود" .ويف ذاكرهتا ترتسم ُ 81
ٌ مسفوك ارص ُهم برمحتِه وعدل ِه، فرتدف" :و ُغ ِد َر أمريَ ،ن َ َ ٌ ٍ ُ معرفة ،وقاد ُة نزال!" شيوخ وه َل َك سيفهَ ، فيذك ُِّرها "باحلكمة ال للدم نأ َب ُه". وينحو بطرفه إىل شاشة النور عىل اجلدار ،يرسمها الصبح الطالع ،تكون بعينيها إليها ،تنظر إىل رجل يرفرف بشمع َيل من ِ جناحيهُّ ، جهة الشمس ،ينفذ مثل خيال ،وينزلق يف خفة عىل خيو النور الكثيفة إىل فضاء اوخُلوة ،تفيض عليهام ريح ويذهب إىل ِ بئر الضوء املرتكز وتالحني وجع شفيف، حدائقه، ُ ُ ولرفيفه إيقاع شعر قرطبي يف القبة ،فرتى لظ ِّله سمت الزجاجَ ، يأخذه إىل منفاه ،ومثل طائر مملوء بالسامء ،ينغمر يف السامء. ـ "أي رجل كان ،من له هذا البهاء؟" تسأله. مالك َرندَ ة ،حارس طِ ِ ُ يب األندلس ،صانع ـ "ابن فرناس، امليقاتة ،وساحر الزجاج". ـ "مل أر لطائر مثل رفيف أجنحته و ُحزنه" 82
قوارير ـ "رموه بحجارة من جهلهم ،فصا َغ من رملها َ عطرهم". وعىل اجلدار كانت قطرات شمع تسيل من جناحي العابر إىل ِّ جيتاز شاشة الضوء ،ومعه تصعدُ شمس اليوم إىل الظل البعيدُ ، منزل اإلطراق. ٍ جارية تنجيل وخالفتها ،تتأرجح ويف اوخُلوة يَسي عطر صورهتا عىل موجيات هنر قرطبيَ ،يدأ املاء ،فيتجىل وجهها ،مثل ُص ٍ بح ال ريب فيه ،تسبح يف طراوة النهر ،ليس عليها غري خات ٍم، رة َع ِ يف ُمح ِ قيقه نُقش وج ُه صبي ،يلهو يف ُعزلة ِصباه بحكايات والة وأمراء ،ينظر من نافذته إىل الوصية عىل خالفته ،خترج من ِ ِ ِ املنتصب عىل ِضف ِة احلاجب وشهوة هنرها ،تتحمم بالشمس ِ ص ِ األرواح احلائلة بينهام، ويسف ُك عودها ،يفر ُد عىل ُعرَيا ظ ُّله، َ ُ منطق ِ ٍ وعل ٍم ،واجتهاد ذبائح من ويقر ُب لصمت الناظرين َ ِّ فالسفة سودوا بأعامرهم سالالت ٍ ورق ،أودعها هنر ُج ِ لوهتا َ ونار َ ِ رس َيرتِه. َ 83
تدمع عينا رند من قسوة ريح احل ِ رق السارية يف فضاء اوخُلوة. َ َ ِ ِ ب. تعج ُ يب العطر إىل ريح احرتاق؟" َ ـ "أي علة ُحتيل ط َ يمد هلا الشيخ يده بزجاجة ماء ،ترشف رشفة صغرية ،تشعر نور اليقني يَسي ،فيخربها: لروحها هبجة ،ويف جسدها ُّ حتس َ ِ ِ بعض من ماء ٍ معارف". ورماد هنر َع َم َر بأجساد كتب، ـ "هو ٌ رع إليه الشيخ وكان ماء النهر يصعد بخارا من حروفَُ ،ي ُ تنسم بفمها يف فضاء النهر فيصري يلمها يف عباءته ،وتتبعه َرند، ُ ُّ ويؤوب، تلم ُه يف وشاحها ،وتؤوب إىل اوخُلوة، ُ البخار سحاباُّ ، ُ يراكامن ما مجعا يف ب ِ رد ُر ٍ كن ظليل. َ وكانت الشمس تصعد بأوارها إىل كبد السامء ،تسكب قيظها عىل القبة ،فيهبط النور بثقل صهد اهل ِ اج َرة ،يبتعدان عن شاشة ُ النار اجلاثمة عىل بساطهامَُ ،ت ِّز ُع نسائ َله املرتاكِ َبة ،وتفر ُقها يف طبول َعن ٍ ُ َت، هتدر حتتها فردة ،تتشك ُل راياتُ ، األنحاء ألوانا ُم َ ويف نسيجها رموز أمية ،وبربر ،وعرب ،وصقالبة ،وعامريني. 84
متون ٍ ِ نساء وغلامن ،وعىل خالفة تتشاكس عىل طوائف شتى، ٌ ُ تتشظى إىل ممالك مسفوكة احلدود ،ورايات ُصلبة ،طرائح من رص َر طني حمروق ،يتخفى أصحاهبا يف ظلها ،بعباءات ُختفي ُ َ ِجز َيتِهم. تراهم َرندُ ،يصط ُّفون أمام املدخل اوخلفي وخيمة القشتا،ي، ُيك ِّل ُل سوا َدهم ضو ُء ٍ نار َتتب ُعهم ،يقدِّ ُمون ُطليطِ َلة قربانا، ويمضون إىل ممالكهم ،يصعدون بأرواحهم عرب حاالت ٍ ِخر، ِ ِ ِ نشوهتم ،يتطاعنون، أروقة أعمدة الرخام يف خلف يرتبصون َ ُ هتب عىل طراذمهم، يسيل الد ُم عىل الد ِم ،يبرت ُد بريح شامل ُّ تنحت طني الرايات ،وتذروها ترابا ال يبني. ِ وبطرف عينها ترى طرف وشاحها، تسدل َرندُ عىل عينيها َ ظل ٍ طائر يأيت من جهة السامء ،وشمسا تزول بقيظها عن طاقة يفوت ،تبرص ُه من خلف حجاهبا؛ مساره، اوخُلوة ،لتهيئ له ُ َ سم ٍع يفتَديه ،حي ِّلق فوق طري َها أسري ،لتحط يف َم َ شهقة أخرية َ وسكنا ُه. رأسيهام كاألمل الضال ،يرو ُم فدي َت ُه ُ 85
ِ ٍ شاسعة الريح ،هواؤها رمال، ساحة عرب الطاقة تنظر َرندُ إىل يسحق ماد َة األبدان ،و َي ُ احلروف نذ ُر أ ُف ُقها من ُغبار السمو ِم، َ ُ ُ فتستحيل خيوال ،تعدو يف مسالكها برجال َيتمن َط ُقون للسفر، البداوة ،يفوتون يف َع ِ ِ ِ بالز ِ صف الضباب كأطياف وسيوف هد، ُّ أبصارها ،تتقو ُت بخبز تلث َمت بالتوحيد ،فام ِزي َغت بالنفائس ُ األرض َتلكُها ،وتنفي من الشعري ،تريدُ البحر تعرب ُه ،ترو ُم َ ممالكها ملوكا أترفوا فيها. شذرات استنجاد، ويف َسم ِع املستورة بوشاحها ،هتمي ُ وهدير عجالت فرنجة ،حتمل أبراجها ،وتتكئ عىل أسوار ُ رسقسطة ،فتُهرع من ُخلوهتا ،تدور حول املدينة ،تبتحث ُثغرة ختلخل هبا احلصار ،فال. ِ بنطاقها وتشدُّ ها، فتعود كالطيف إىل األبراج ،تربط أجرا َمه فال. ٍ ألمري يقبع يف لثامه، ُطريها ُ تزفر بعضا من روحها برسالة ت ِّ ُ وحيجم عن نجدة أن ُف ٍ س ترجتيه ،وملا ،فيجيب بسه ٍم َخي ُّز به ُ 86
زفر َهتا ،فتساقط هشيام صامتا ،ينغرز يف أرض مدينة تذوب بقايا َ العزم يف طرقاهتا ،و ُتزيح عن أبواهبا املغاليق ،وتتجرد للداخلني. وتنشج ،فيكون إىل تنزع من جنبها سهام، ُ وعند الباب تقعدُ ُ ، ُ وهشيم الد ِم ،ترا ُه الغبار ينفض عن وشاحها موضعها الشيخُ ، َ َ كاحللم الساري يف صفرة شمس تأنس ألصيل كامد. نسائم هلا برودة رخام رواق ،ورائحة شمع تفيض عىل اوخُلوة ُ ٌ يذوي يف فضاء وه ٍم من تراتيل ِأرسطِية ،تتغنى باألرض مركزا ِ للكون ،وصالة د ٍم ،جليوش ترتى عىل شاشة الضوء املنزاحة بمسوح بِ ٍ ٍ يض مذهبة األطراف، جهة الرشق ،يتشح جنو ُدها ٍ مذبح يداري كف املصلوب فوق حمالة بنقوش هلا لون الدم يف ِّ حمرابا ،وخيفي آيات تتلوها. وترتقب تنظر إليهم َرندُ من خلف حبات دمع تسكن مآقيها، ُ املوحدين اجلائني من بداوهتمَ ،ير ُفون ِم َزق أندلس تشظت، ينسمون املوت يف مسالك جتربتهم ،ويتهيأون ،ويف أعقاهبم ُجندٌ حازوا صكوك غفران ملا أثموه ،وخطايا دم سيسفكون ،حيفرون 87
لباهنم ،وحيوزون جمد الر ِّب ،وأساقف ٌة تتقدم يف دروعهم ُص َ
ِ وأرواح فقراء قشتالة، مجاعاهتم شهو ُة ملوك، تتبع ُ كاهلَامةُ ، ُ وفرسان ونافار ،ورسية ،وآبلة ،وشقوبية ،وجليقية ،وأراجون، ِ الرب الساكن قلب األرض ،الساكنة مركز الكون، معبد ِّ منح الساري يف مدار الروح ال ُقدُ س ،الساهر يف سامء املوقعة ،ي ُ ا ُملعدَ ِمني املمنوحني للموت بركاته والغفران ،ويدفئ خيم َة
مطارنة وملوك ينعمون بلذائذ دنياهم ،ويتدرعون بالرتوس، ِ ِ َ َ ويدَ َ عون ملِ ِ وصكوك ُسكنى الروح اوخالص، أسامل األرض لح يف مدن السامء. طالئع الر ِّب ،تنوش أجنحة وتنهمر تنفرد مائدة النِّزال، ُ ُ اجليش البدوي ،املرتدِّ إىل فراره ،وجيثم جيش الفرنجة عىل ُ املشكول خيم ًة تتدرع بالسالسل ورماح أرجوان اوخالفة، حرس أسود ،تنزل عىل دائرهتم رسايا قشتالة ،ونافار ،وأراجون، وتدع ُهم أشالء ،تتناثر طراذمها. مصارعهم، ف ُتدرك َ َ ُّ ينسل اوخليف ُة املهدور فارا من عقابه ،يمتطي لي َله وفرسا 88
شاهق احلُلكة ،يعدو فوق َد ِم ِ ِ أرواح يدوس بحوافره نارصيه، َ ُ كتائب قشتالة السارية إىل قرطبة ،وبلنسية ،و ُمرسية ،جتمعها ُ إشبيلية ،تع ِّل ُق أبراجها عىل األسوار ،وتنصب حول أزمان املدينة حصارها ،وتصو ُغ عهدَ تسليم أهلها ،املتأهبني هلجرهتم، يضعون عىل العهد خاَتَهم ويرحلون. ويف خالء إشبيلية يمر فرناندو ،تطأ حاشيته ظالل تواريخ يلج تقوم عىل جانبي الدرب اآلخذ هبم إىل قرص خليفة ضلُ ، القرص ،يف أصيل يفر ُد ُصفر َته الكامدة عىل أرابيسك امللك َ ور واملعان املرسومة يف زجاجها عىل النوافذ الشاهقة، ُ تسكب النُّ َ رخام أهباء يدوسها الداخلون. ت ُ تسلل َرندُ من بني مجوع الواجلني ،مثل ِعطر تفوح يف أرجاء القرص املأسور ،تسعى إىل صحائف املعارف املجموعة ،ترتاص فتجمع يف وشاحها تصانيف ابن رشد، وُمطوطاهتا، خطو ُطها ُ ُ وأرسار ابن طفيل ،وحكمة "ابن يقظان" ،وبراعة ابن ميمون، بقي من ريحِ الذاهبني، َ وتواريق تنبعث يف حوايش األوراق ،وما َ 89
وَتر يف ِ برص َ وصوت أذان أخري تعلق بمنارة هتذي بالرننيُّ ، حر ٍ اس كالنو ِم ساكنني ،وتكون إىل ُخلوهتا. تنظم ما أتت به ،وتعود إىل بساطها ،ترنو إىل عيني يف الركن ُ شيخها ،ويرنو ،يوحي إليها أن ليس سوى ميقات ،تنحو ِ الوه َجة بحمرة غروب قاَتة ،وإىل فضاء ببرصها إىل السامء وخلوة املغبش بضباب الدم املسفوح عرب متاهتها ،وإىل شاشة ا ُ الضوء القانية ،وإىل البحر حيمل سفنا تعود بفرسان ر ِ اجلة َ طرقاهتا بمنايا اهلاربني إىل هناياهتم، جمردة ،وإىل غرناطة تكتيس ُ َ وإىل اوخليفة َيجر مفاتيح خالفته ،وينزوي فوق ٍ تل ُّ يطل عىل قرص حَسته ،ويزفر زفرته األخرية شجنا يكون إىل احلبيبة يف سيف مطر ٌّز ب ُطغراء فارسهَ ، وخات ٌَم ُخلوهتا ،تتنفسه ،ويف ختياهلا ٌ منقوش يف عقيقه مالمح احلبيب ،وراي ٌة منسوجة باملدائن، وفارس شاكي النفس وح واجلسدَ يف آن، ٌ ٌ الر َ وحرف جيمع ُّ وفرس مطهمة بالتعاشيق املوهوبة للشمس الراحلة باملعارف، ٌ عاملها ل ِل ِ يل الصاعد ،حيمل بضع نجوم اآلن عن غروهبا ،تارك ًة َ 90
نوره عىل ال َق ِ بفضة ِ ِ اعدة إىل بسا ُخلوهتا ،تَنظِ ُم يف وقمر ًا جيود جتربتِهاُ ، وَتيل إىل الشيخ القائم حتت طاقة النور نفسها َ معارف ُ كجسد من وحي ،ترفرف عباءته بنسيم نبوءة ،وينطق: مدارك ِ ِ ُك يكون ـ " حان آن خروجك ،وبقدر ما حازت وصو ُل ِك". ُ وتنطق: تطرق وتقوم إىل خروجها، ُ ود أو ٍ ـ "أما لنا من َع ٍ تراء؟" ك ،إن ِ رصت يف ذاتِ ِ شئت ففيها تريني". فينبئ" :لقد ُ فتسألُّ " : وتظل؟" فيجيبها" :هنا آن ومكان ،دليل السالكني عرب متاهتهم، أسقي العابرين إىل دنياهم أو حتفهم ،واملارقني من ظمأٍ إىل ظمأ". فتكون إىل الباب ،تفتحه ،وتنفذ من ُخلوهتا إىل سبيلها، تغمرها سبيكة الليل ،وتنحو إىل بستاهنا ،ويف رسو ِم َخ ِ طوها ينبت الرحيان. 91
92
ِِ7
َُ ُ َ أندلسِالوـجدِ
93
94
كوخ من ِش ِ غاف األرض مقدود حوائط من جذوع أشجار نُسغها ساري سقف من هشيم فروع وأعشاش طيور وطيور وفضاء يعبق بوجود لوركا وترانيم ماريانا وعطر يفوح من صدره ،وأسى ،وشمعة ملموسة برجفتها، تشعلها ماريانا عند قدمي املادونا اآلسية ،املعمولة من خشب زيتونة غرسها لوركا ذات قمر ،تركع يف ركن صالهتا الفقري، وترشع يف الرت ُّن ِم ببعض آيات وأشعار احلبيب. يصعدُ نور الشمعة املص َفر عن بدن املا ُدونا املرشقة يف خفوت ِ ضوء الفجر ،يمر عرب شقوق السقف إىل السامء ،يطوف ِ وسحر ُّ يفيض هبا لوركا عىل ملكوت ماريانا ،الغائبة يف أغنية شجيةُ ، صالهتا ،تنهمر املعان عىل قلب السامهة ،فتقوم من حتت نور 95
شمعتهاَ ،ت ُ نش ُج ،فيام يبدأ النهار يصعد ،رمادي اإليقاع ،متسارع النَس ِم ،خافق ،ويرقى العاشق بمعانيه ،فتخطو إىل حيث جيلس، ٍ شجن، ينصهر يف حاالت عينيها ،ويذهب بالقصيد إىل مقام نصت إىل موسيقى عينيهُ ، َتيل إليه ،جيذهبا املُقام ،ويف النفس و ُت ُ جزع الرحيل. ِ دموعه، َتيل إىل شفتيه ،تضع قبلتها ،ودمعة دافئةَ ،تتزج بِ َح ِّر ودون أن تلتفت عنه تكون إىل الباب ،تفتحه ،يتدفق الفجر إىل يسطر آال َمه عىل مسامع الكون ،وخترج املهاجرة ،إىل اجلالس ُ احلقل املجدب تكون ،وتعرب درب الرمال إىل املدينة. ومن األكواخ املنثورة يف غري إيقاع ،عىل مدى احلقول املفتوحة للبرص ،تتبدى أشباح اوخارجني يف أسامهلم ،حيملون ِ الزخارف ُت ُ كلل رحي َلهم إىل مدينة جوعهم ،وأحالما ذهبي َة السامء ،ومعانا َة سفر ،وما بقي من فؤوس ومناجل ،حيرثون هبا الرب الساخط عليهم ،يف مدينته املقدسة، مسريهتم إىل عرش ِّ عله يعفو ،أو علهم يدركون فضل ًة من فيض ثروته. 96
وريشاهتا ،ويمضون إىل حيها ُ يمرون حتت طواحني حتطمت ر ُ
َحمفلِهم ،ويف مجعهم تسري ماريانا ،وليس معها غري ُرصة من نسج
يدَيا ،حتوي رغيفا وحبات زيتون ،وبضعة أوراق ،وما يف قلبها الرب ووجه شاعر ،وما يف برصها إال ُسبل رحيل، سوى مدينة ِّ ويف النفس ظمأ ،يروم ُسقياه يف قلب كوخٍ فقري يف أندلس الروح ،املرتوكة للجوع. ترتدد أصداء هدير يف أرض الذاهبني ،يصحبه رنني أجراس نائية ،رن ٍ ات خافتة يف وقار ،هتبط عىل أسامع العابرين مثل وحي، فيذخر املدى بأذرع تدور عىل أنحاء اجلسم ترسم ُصلباهنا ،ويف األبصار يتجىل زحام من املرائي ،أحال ُم هنار ،ويأخذ الرنني يف الوضوح ،متجسدا كرؤى يقظة يف خياالت السائرين ،كأن بِشارة حتملها املادونا املح ِّل َقة ترشدهم جهة الرشق ،كأن فارسا يقاتل بصليبه ويظفر بالنرص ،وترتفع أصوات جوقة تُنشد قداسا احتفاليا ،يسمعها املنذورون للرحيل كإنشاد مالئكة تدهلم إىل سبيلهم ،يتجهون إىل حيث تصدر الرتانيم ،من كاتدرائية املدينة، 97
إىل حيث يركع مطراهنم يصيل ،داعيا حلملة املخ ِّلصني ملدينة السامء باملغفرة وعفو اآلخرة. وفوق تراب احلقول اجلافة ،كانت الفراشات الذهبية تسبح يف الفضاء القريب ،فوق رؤوس الراحلني ،حتى يوهنها السفر، فتحط عىل حواف األهنار اجلافة ،وحتت أقدام السائرين ،وعىل مالئكة املدينة املنصوبة عىل حواف أفريز الكاتدرائية ،ينتصبون يف شموخ حجري نحو السامء ،وبثقل مادهتم يتمسكون باألرض ،ويتهيأون لقداس وداع. صوت ِغناء تعرفه ماريانا ،يصري إىل مداه، يف األفق ينساب ُ َور ٍ ُ يدف متجها إىل حيث س صادق البياض، ُّ يستحيل إىل ن َ تكون ،ويعود ثم يعاود ،حائرا .يبتعد إىل جهة البحر ،حترقه اللوعة ،يقف عىل هناية طراع شاهق ،ويف حزن يرقب بحارة صناديق غنموها ذات نِ ٍ زال ،يعرف زخار َفها حيملون إىل سفنهم َ املوشومة يف جنباهتا ،ويلمح يف قلوهبا سيوفا رآها تتألأل حتت شمس قرطبة ،وغرناطة ،واملرية ،ومالقة ،وإشبيلية ،وجبل 98
طارق ،و ُمرسية ،وبلنسية ،وطليطلة ،ورسقسطة ،وقشتالة ،فوق تح وصلصل َة النصال ،وصناديق أخرى خيول عربية تشتهي ال َف َ حتوي كنوزا كانت لفرسان حازوا قلوبا هلا براح الصحراء وج َل ِد َها. َ خيطر عىل يرقب القائد املنذور الكتشاف العامل اجلديد، ُ ُ سيف موسوم عىل غمده سفينته "سانتا ماريا" ،يتعلق بجنبه ٌ حكاية حبيبة مأسورة ،وعىل املقبض نبوءة التيه واوخالص ،وعىل صدره كان رنني خافت ،بفعل خت ُّبط صليب من ذهب بمفتاح غرناطة ،ومن قلب السفينة يصدر غناء بحارته: عىل صدر سانتا ماريا يصيل احلبيب كوملبس ويتأهب للرحيل إىل ما وراء األفق إىل موطن السحر دون أن َياب املجهول 99
فعىل صدره تعويذته وخلفه رجال شجعان وحتته اجلميلة سانتا ماريا سيذهب هبا إىل عامل جديد ويعود بأحالم خالبة لينثرها عىل اجلميع الرب فليحمه ُّ النورس كإيقاع خافت لقصيدة ومثل عطر يذوي ،يتالشى ُ بعيدة ،خفوت أغنية ال تنتهي ،تكون إىل روح ماريانا الذائبة يف جيش الفقراء املرتاكم عىل جنبات الطريق امللكي ،املؤدي إىل السلم الرخامي املهيب للكاتدرائية ،املهيأ الستقبال فارس الرب ،يتمتمون بصلواهتم ،ويقضمون من محلتهم إىل ختليص ِّ كَسات اوخبز اجلاف يف رصرهم. وعند أبواب املدينة ،يف ركن خفي ،كان "رسفانتس" ،مثل 100
كهل َُيرع بريشته عىل صحائف ورق مذهب األطرافُّ ، خيط ِسامت فارس اوخالص يف رسعة ودقة ،وأمامه يتخلق وَتام احلروف الفارس عىل فرسه املطهمة ،ودرع حتىل بتطريزات ُ حتول دون يقدر عىل مناوشة اهلواء ،وخوذة قوطية ،ورمح ُ تشتت األحالم ،أو خروج األفكار. الرب ،تصدح اجلوقة عند صعود اإلنشاد إىل مقام َتجيد ِّ حروف رسفانتس إىل مرددة "هللويا ،هللويا ،هللويا" ،تتحول ُ جسد متعني ،جيمع الفارس وفرسه ،ويمنحه اسم "دون كيخوتة" ،فيتقدم باسمه وفرسه إىل أول البسا البابوي املفرود اجلموع املرتاكم ُة عىل جانبي الطريق ،جنو ُده له ،تنحني ملروره ُ الرب ،فال ينظر إليهم ،ويميض إىل الفقراء ،قربان خالص معبد ِّ حيث تنتظم مجاعة فرسان املعبد ،يف احتشادهم املتأنق ،يرفلون يف عباءات املخمل ،قانية اوخوايف بيضاء الظاهر ،يرفعون للفارس سيو َفهم ،فيام ترتدد حتتهم اوخيول بني هلفة السري وسطوة اللجام القابض عىل فورهتا املوروثة. 101
ختفت يف إيقاع رحيل كون ،فال تسمع كانت شمس اليوم ُ النواقيس املعلق وجودها بدوام رنينها االحتفا،ي ،أو اإلنشاد املدوي للجوقة املختبئة يف تفاصيل الكاتدرائية ،تارك ًة للمالئكة ِّ ِ والر ِ والشهداء املبعوثني حجرا يف اجلدران املحيطة متعة سل ُّ بَس الدفء ،واإلطالل عىل املتأهبني حلملتهم ،وال يبوحون ِّ الفارس املخطو توا .و ومن عليائهم ،ترقب األجساد احلجرية روعة اجلامل الدنيوي ُ َتسك يف ك ِّفها أوراقا تقرأها ،ويف البادي من مزق رداء ماريانا، الكلامت أطيافا من لدن حبيب ،هتيم حروفها برصها تتشكل ُ فوق هدير احلشد ،موش ُح وجعٍ ،فال يكون سوى صمت من دون سكون ،يتواصل عىل إيقاعه وجدُ احلبيبة هنا ،واحلبيب هناك. يمر حتت رصائع من آيات قرآن يناغش خيرج املطرانُّ ، ٌ ظالل ملون ٌة تسكبها نوافذ رومانسكية ،يفوت حتت حرو َفها سطوهتا إىل أعىل السلم الرخامي البارد يف مهابة ،مطوقا 102
بالرشائط الذهبية ،وتاج الكهنوت املمهور بلون اوخمر املقدسة، يتكئ عىل صوجلانه ،وخلفه ،عىل عصا فقرية ،يتكئ أرسطو، ال َف ِزع من هول الزحام ،ترتبك خطوا ُته ،ويتقدم املطران نحو الفارس "دون كيخوتة" ليباركه ،فال يرتجل عن فرسه أو ينحني ،وبدا مثل نقش أنيق ،مجيل التكوين ،ال يصدر عنه سوى ما يدل عىل وجوده ،مثل شخصية روائية ُتدرك أهنا ستبقى خالدة ،وأن ال معنى لفعل بذاته. سار إليه أرسطو ،متقلقل اوخطو مثل عصاه اهلزيلة ،وقال له: األرض بأن جعلها مقر ًا لنا وألرواحنا يف اوخالق "لقد كرم ُ َ غري النقص ،أما اوخري دنيانا ،ولكنها إىل فساد ،ال ُ يثمر فيها َ ُن له يف والكامل ،فهناك ،فيام وراء القمر امليضء بنور الرحيم ،فك ح َخ ِ نوره يف العامل اآلخر ،كُن مثل الرتاب العالق طو َك ،يكن لك ُ بأجساد وأسامل جنودك الفقراء ،ف َت َق ُّر يف قلب الكون اإلهلي ،وال تكُن نارا حتملها ِخفتَها إىل أعىل ،حيث إال اوخواء ،وعامء ما قبل الرب". الكون ،ما قبل الروح احلاملة لغبار ِّ 103
خرجت الكلامت من فِ ِيه خافتة ،مثل روح وحيدة تغادر ُسكناها إىل ال ُعىل وهي تعلم أن لن يفتقدها أحد ،مرت إىل أذن الفارس الصامت مثل أيقونة ،متجها ببرصه إىل املطران املتخم بثراء املخمل ونور الراحة ،جيلس عىل هباء كرس ِّي ِه ،يرفع كفه البيضاء ،املرقومة بشامات آخر ال ُعمر ،يرسم الصليب يف الفراغ بينه وبني الفارس ،الذي يشدُّ غطاء خوذته عىل وجهه ويميض، الرح ِل" :ليحمه الر ُّب". تتبعه اهلتافات شعب من ٌّ طواهتم تتناثر بقايا أصوات الراحلني عىل ذرات غبار تثريه ُخ ُ ِ ُ اجلوقة خطوات اوخيل ال َف ِرحة بفرساهنا .ويف تراتيل وتنظم قلوب احل َفاة ،الذين حيملون املناجل املثلومة وعيص اتكائهم، كان رحيق غناء ينبض مثل َو َجل غامض يعرتَيم ،ال يعلمون له مصدرا ،أما هي فكانت تعلم. ال يبقى يف الساحة سوى الغبار ،يغادره املطران الئذا بخلوته ِ املورسة ،ويغادر أرسطو إىل هناية امليدان ،حيث يقف شيخ مهيب َ ينتظره ،جيمع الشيخ صحائ َفه وريشاتِه يف كيسه ،ويمشيان معا، 104
يستند أرسطو إىل ذراع رفيقه وحيدِّ ُ ث: مجيع طروحك ونقدَ ك لكتبي ،هال ـ "واآلن ،بعدما قرأت َ ٍ ببعض من نور فلسفتك" ثم يردف: تفضلت عيل ـ "هل تظن أن ذلك الفارس قد سمعني؟" كانت الشمس تتأهب للرحيل ،ويف املدينة ،كان الغبار قد سكن األرض ،ويف ركنه املنزوي ،كان "رسفانتس" قابعا ،يشعل شمعة الدُّ هن السميكة ،ويكمل عىل صحائفه َ َ تاريخ املذهبة فارسه. نسامت أول الليل ،تلهو بورقة تنضوي عىل هتب ُ يف امليدانُّ ، وبعض ِ ٍ ِ سيم إىل ماريانا ،تنحني بعض ضوء، أنني ُبعد ،يدف ُعها الن ُ إليها ،تلتقطها ،جتد هلا رائحة البساتني البعيدة ،وملمس الو ِ جد، َ تفر ُدها يف برصها ،تشعر منها نبض روحٍ تروم اللقاء ،وتقرأ فيها: آه يا لطول الطريق آه يا فريس الشجاع 105
آه يا للموت املنتظرين قبل أن أدرك قرطبة قرطبة قاصية ووحيدة
()5
تبتل خطو القصيدة بطِ ِ يب دمعها ،ويأخذ املعنَى املن ُظوم ِ ِ امض إىل جمازات املتاهة الصعود بأملِه ،يوحي إليها أن ِشعر ًا يف عليك ،فهي ُقربان ِ ِ ُك ألجل ال َعود. املقدرة ومثل َب ٍ خور له َع َبق الالهوت َتيض احلملة ،تدفعها ريح ٍ وأريج عطور طرق ال يعرف إال الدفء، الشامل الباردة إىل َ فوح املاملك املبسوطة بقدر الرغبة الراحلة إليها. الذهب ،و َ ومثل زهرة ،تكون ماريانا يف وهج نريان معسكر احلصار، ُخترج أوراقا ،حتوي أشعار احلبيب النائي ،لتتأمل روحه املنطوقة أبياتا ترتدد يف وجودها ،جتد األوراق إال ورق ًة ،تفتش يف أشيائها املتاحة يف رص ِهتا ،ال جتدها ،وال تأسى ،وترنو إىل النَج ِم السابحة ( )5قصيدة "" للشاعر األبسااني لوكاا. 106
يف ملكوت ظلمتها العالية ،تدرك أن ما تفتقد من روح احلبيب قد الذ بروح حتفظه. السبل املفرودة يف التالل املحيطة ،تنظر إىل خيمة تقوم إىل ُ القائد الزاهية ،تصبغها النار اهلائلة أمامها بوهج دنيوي ،يتألق عىل ُمح ِ رة الصليب املرفرف يف بياض رايته ،وعىل وجوه الفرسان املحيطني بقائدهم ،يمرحون عىل موائدهم ،وفوق نساء، تلمحهن يمرقن مطأطأت عرب الفروج اوخلفية وخيامهم ،كانت تعرفهن ،وتعرف اللون الوحيد ألسامهلن ،وأجسادهن املحنية، وتفكر يف رغباهتن يف اوخالص من ال َع َو ِز ،وارتقاء ملكوت الرب بتقديم أنفسهن قربانا ُلر ُسلِه ،الذين ال خيلعون هاالهتم النورانية ،حتى وهم فوق نسائهم الفقريات ،أو وهم حيرقون األرض التي جيوزوهنا ،يدوسون رجاهلا بحوافر خيوهلم، َ املدن ويدَ عون الدم املنهوب ُيروي مسارات زحفهمُ ،ينهكون التي يمرون هبا أو َتر هبم ،ينكأون النساء بثقل دروعهم، حليب حياهتم ،ويف هلو ُهم ،ومن الرضع َ ويسلبون من األطفال َ 107
مرح زحفهم ترتى املدائن؛ القسطنطينية ،بيزنطية ،نيقية، انطاكية ،طرابلس ،الرها ،بيت املقدس ،وإىل فتوحاهتم ت َِر ُد ُ مؤن ون ِ َع َر ٍ ب يأمنون هبا منهم ،ويدفعون هبا خوفهم ،و َيد ُع َ مقد ِسهم للغازين ثمرةً. يف صالة الناسكني تصيل ماريانا ،وترسل للبعيد بشجوها، العيل بنُ ِ وللواحد ِّ طقها" :ألي بيع يدفع املذبوحون دمهم؟" العنف؟" وتنطق" :ألي مقد ًس يكون ُ رب؟" وتنطق" :أي سبيل َُيدر كل هذه األرواح ،وأي ٍّ وتنطق" :بأي غفران نلوذ؟" وخترج عن َف َلك النار املُو َقدة حتت أسوار املدائن ،وخترج عن ُ ِ ِ وِخر املدائن ،وخترج عن والنساء رؤيا الفرسان الالهني بالغزو حشود التابعني ،يلغطون ،ويسفحون الدنَس املرتوك هلم ،تردد أنفاس العاشق ،فتستحيل طائرا ،تتبع وحيه إىل أرضها ،ويف رفات جناحيها يعبق اآلس. 108
ِِ8
َّ َ الزاـجلة
109
110
يكون املسا ُء ،يبدأ الصبي يف سطوحه الصغري يلملم خيطان طائرة ورق. خفق بدهنا الرهيف ،تتجاذبه يف نافذته ،يراها نون و َ ِ اوخالص من تع ُّل ِقها يد الصبي والريح .ترغب يف الصعود، بالرتابُ ، تنحدر ،أن تصري نفس ًا خالص ًة حتلم بطريان ُح ٍّر، ُ هتبطُ ، من خيط عودهتا إىل نقطة بعينها ،يزداد انجذاهبا إىل األسفل، كف الصبي ،يميض حتى ختتفي من إطار نافذته ،يقوم ،يراها يف ِّ ترسم طريق عودهتا إىل حجرة ات ُحل ٍم هبا ،وخلفها كانت ذر ُ ُ رط َبة صغرية ،حتت سطوح كهل. ات أما َمه عائدة إىل ِ بعضها عرب يمر ُ احلام َم ُ ليل أكناهناُّ ، َتر َ ُّ نافذته والباب املفتوحني ،تبقى إحداها ،تقف ،غري خائفة ،فوق رسم مفرود عىل منضدته ،يصور "كوملبس" جاثيا أمام "إيزابيال" ،اجلالسة عىل عرشها ،وخلفه ركام من صناديق، 111
ٍ ثروات جلبها من العامل اجلديد ،ألجل استعادة بيت حتوي املقدس. ختشخش الورقة حتت قدمي احلاممة ،الساكنة إىل املكان، تدور بعينيها إىل حيث يقف "دون كيخوتة" فوق جبل الفرح، زخارف عىل اهليكل ،تطري إىل ينظر إىل ُحل ِم "كوملبس" املنقوش َ ُ القبة املرسومة يف أفق اللوحة ،املعلقة عىل اجلدار ،حتاول أن حتط عليها بقدميها الرقيقتنيُ ،هتوي ،تعاود ،حتاول مرة أخرى، ترضب بجناحيها بشدة ،تنزلق قدماها ،تدرك االستحالة ،تدور يف فراغ الغرفة دورة تامة ،وتنفذ عرب الباب إىل كنِّها. وجيتاز نون الباب خارجا ،يميض إىل الطريق ،حتت مساء ينفرد عىل ما بقي من ضوء هنار غارب ،ف ُيحي ُله ليال ،يميش يف املش ِ الشارع الصغري ،يتبع َ اع ِيل وهو يفوت عىل فوانيس الزيت املعلقة يف جنبات البيوتُّ ، يسو ُد حيط النار نورا يف فتائلها ،ف ُ ِ الصفرة الدافئة والعتمة ،يمر بدكان أم اوخري، زاج من ُّ الشارع م ٌ َ ِ رجس ،ويف فمها مضغة ريح رحيان وعينا الن يراها خترج ،هلا ُ 112
ِمستِكَة ،جيتازها بخطوه ،وبنفسه يصري إىل َرند ،املاضية يف ِعر َفا ِهنا ،تسعى للخالص من ِ تيه َها لتأت َي ُه. ختلع نعليها حتت َتيض أم اوخري إىل املَ َقا ِم عند ناصية الشارعُ ، قوس بابه ،تنحو بطرفها نحو شمعتها املحطوطة عىل إفريز ُشباكه ،مل تنطفئ ،تدخل حتت نور ِ الَساج ،املعلق فوق الشيخ اجلالس إىل صحائفه وريشات كتابته ،أمامه قارورة من زجاج عتمت شفافيته بسواد املِداد ،تقعد إىل يمينه ،ال تتفوه بكلمة أو َ حتر ُك سوى فيض اهلوى من طِ ِ ترقب الكف الكهلة يب رحياهنا، ُ ِّ ِ يسو ُد كتابة، حتنو عىل ريشة يغمس َطر َفها يف املداد ،وباملعنَى ِّ ُ يضع ريش َته ،ويصري إىل احلارضة يف صحائفه املفرودة أمامه ،ثم ُ للكف ،وحينو عىل وجودها بنظرة من قلبه، جواره ،يمدُّ الكف ِّ ُ تنفذ إىل روحها ،وتردها بنظرة حتمل شوق الوهلانة ،من دون ثغرها ،حتت رساج كالم ،و ُ تضع له يف عينيه ابتسامة ،يتألأل هبا ُ يشهدُ حلظة اهلوى يف سكون العارف ،وتقوم ،يتابع الشيخ خطو َها ،تعود إىل الباب ،تضع نعليها ،وَتيض إىل دكاهنا ،وهو َ 113
إىل معارفه. يميض نون إىل ُط ُرقات مدينة ختلع يف الليل أردية أزماهنا، وَتنح الواجلني لذ َة ال َت ِ حوي ِم يف أسباب يو ٍم جديد، لتجذب ُ َ َ فراغات هيأهتا هلم. تنُ ُ متوح ِد ،يدور يف َه َرج امليادين ،وزمحة أضواء وشه غرب ُة ِّ ُختفي زخارف أزمان حفرها يف جدران مساجدَ ،ومدنا كانت له، وأه َل َها ،فأسلموها إىل حتفها ،ومل تعد سوى تاريخ ،يمر حتت ذكراه ،ويعود إىل شارعه الصغري ،حتت سامئه الصغرية ،ودكاكني أبواهبا واستسلمت هلجعة الليل ،ودفء ُصفرة نور غل َقت َ يمتزج بعتمة أليفة ،وتألق شمعة وحيدة تد ُّله عىل املقام ،يتجه براح ِ خيلع نعليه حتت قوس الباب ،يدخل إىل ِ نور رساج، إليهُ ، حتته ُّ الشيخ توا َ ُ ريخ من بادوا وأبادوا ،وحظ من ِبق َي ،و َقدح َر خيط األحال ِم يف نفوس الواهلني. ٍ حرف َيمس نون بالسالمُ ،يكمل الشيخ عبارته ،خي ُّطها يف أندليس مجيل ،يضع نقطة هنايتها ،وينظر إىل الواقف بني يديه، 114
يقعد ،يناوله الشيخ ما خط من صحائف ،ودواة مداد ،وريشة يعرف ملمسها بني أصابعه ،يقعد نون إىل لوح كتابته ،يضع أشياءه ،وجيهز صحائفه ،ويرشع يف نسخ املخطو ،وبني فتنبت يف آثار العبارات يرى حبيبته تدنو من مرادها ،ختطو، ُ ِ وهنا يف خطو َها حب ُ يلمها جنو ٌد يتبعون تيهها ،يكدِّ ُس َ ات ذهبُّ ، حلم سفائن غزوهم ،ويبحرون إىل أرض رغبتهم ،يتبعون َ قائدهم "كوملبس" ،الذي يضع منظاره عىل عينيه ،ويمر ببرصه عىل طول الشاطئ ،يد ِّبر ألرض امليعاد زمنها اآليت. طواطم منصوبة ،لتمنع، يرى "كوملبس" خرض ًة املمدودة ، َ عن بكارة األرض ،غزاة ملا يصلوا بعد ،أهل َها شعب يامرس أفراس ِّبرية وطيور، حضارة البقاء ،وبساطة وجود تشغله ٌ َ ووسائل العيش الكافية ،حيجبون َتنح ساكنيها احلكم َة ٌ وأرض ُ عوراهتم الفطرية ،وحييون بحسب عقائد الطبيعة وفضائل اإلدراك البدائي. تدنو السفائن من ُمرساها ،حتمل بحارة تبد َلت أرواحهم 115
ٍ كمنَت يف أبداهنم زمن بربيق ذهب ُ يرجو َنه ،وفضائ ُلهم بشهوات َ رحلتهم ،تراودهم أحال ٌم بمالمس نساء ختمرن هلم ،ويتتابعون عىل احلجر املهيأ لشحذ سيوفهم ،التي وهبوها لفناء َد ٍّم يستوطن شب حضارته ،وال يملك لنصاهلم دفعا. ُع َ شعب ال ُع ِ شب عىل مذبح الر ِّب يضع جنو ُد "كوملبس" َ الغنائم ،فيجثو يف حمرابه املتواضع، قربانا ،وجيمعون لقائدهم َ يكتب إىل ُمطرانه: يصيل ،ويقوم إىل أوراقه، ُ "لقد جرى االضطالع بهذه املهمة لننفق ما سوف نكسبه ()6 منها يف ردِّ الديار املقدسة إىل الكنيسة املقدسة" ويكتب إىل ملكيه فرناندو وإيزابيال: "عندما بدأت االستعدادات الكتشاف جزر اهلند الغربية، كان ذلك بقصد مناشدة امللك وامللكة عاهلينا ،اختاذ قرار بإنفاق املوارد اليت ميكن أن ترد إليهما يف اسرتداد ()7 القُدس"
( )6من خطاب أكبسله اوؤماس (عام 1492م) إىل الاابا. ( )7من خطاب أكبسله اوؤماس (عام 1501م) إىل ملكيه فرناندو وإيزابيال. 116
ثم يمأل صفحة يومياته ،وخيرج إىل األرض اجلديدة ،ينتهك وأسباب حضارة ُخيضعها لالهوته ،ويمنح أهلها عراياها، َ واملوت ،ليجني من فِر َدوسها أحالم الكساء ،واوخَ َر َز امللون، َ غزو ُق ٍ وترقب حوافر أفراس "دون كيخوتة" دس تل َغط باهل َ ِّم، ُ تنثر خلفها ِم َز َق َتر عىل أبدان أنطاكية ،وطرابلس ،والر َهاُ ، وهي ُّ اآلهبني بأرضهم ،ود َم املنافحني عنها ،وبقايا من دافعوا عن َ وهول من رجفوا ،فقدموا مفاتيح األسوار ،وماتوا حتتها، الولوج إىل مدائنهم قربانا ،وهلكوا. احلر تُبرص ماريانا َ سبل الد ِم ،وتأسى إليامهنا، ومن حوماهنا ِّ ف بوجعها وج ِ ٍ أرض ُ تنثر وعها إىل تَدُ ُّ ُ تقبل هبا ،ويف مسار طرياهنا ُ خوافيها ،رسائل ٍ حمبة وسالم ،وَتر يف سامء "دون كيخوتة" فال حي ُ إملاحها إىل قلبه دون أن يكيل الطعن لآلهلني، ول ُ يراها ،وال ُ أو أن خيوض برحمه يف دروب مدينة الر ِّب ،القابع عىل جبل َ ووصول التجربة يبكي ،ويرقب من عليائه سقو َ "بيت حلم"، محلة الغزاة إىل مشارف املدينة املقدسة ،يرقبون أسوار املدينة، 117
يئ هلم من حدودها نارا ،فينصبون احلصار ،أبراجا من التي ُهت ُ َ العرش املقدس. خشب ،ويتنازعون يف نفوسهم َحت ُ مل عليهم املدين ُة بأحجار بيوهتا ،وسها ٍم تعرف مصارعها، ِ وشذرات نار ،وافتخار بصمود مل يلبث أن حتطم حتت فيض محلة الصليب ،يد ُّك َ املوت عىل طرقات ون األسوار ،ويبسطون َ ٍ مسجد أقىص ،ويفخرون بمفاتيح "يافا" ،ويأخذون مرورهم إىل َتر بطائر أهلها أخذ الفناء ،لتصعد األرواح املغدورة إىل سامئهاُّ ، حيوم فوق مواقع شهادهتا. ِّ َتيض ماريانا يف سفرها حم ِّلقة ،جتذهبا ملح ٌة من ريح لوركا، الكف ختطر َرندُ عرب بستان أرسها ،حتمل يف تصري إىل حيث ِّ ُ ُ ِ بقصيدها ،وتصري إىل دار ورق ًة وجدهتا حتت الريح ،تستدفئ يغمر َسم َع َها خالصها يف أطراف البستان ،تدنو من نبوءهتا، ُ ُ تدهش لروعة زخارف عىل صوت ،يأخذها إىل باب دخوهلا، ٌ ف ُرست قبل اآلن ،وطيورا ،وتواريق، ضلفتيه، تصو ُر معار َ ِّ وقبضة من نُحاسَ ،تدُّ إليها كفها ،تطرق هبا ،فال أحد. 118
تذكر ما كان من جتر َب َتها فرتدد اسم احلبيب ،ينفتح لدخوهلا، ُ تشم رائحة زهر الربتقال ،وتسمع ترنيام مبهم احلروف يأتيها من ُّ ِ ربها، األنحاء ،وترى نوافذ شاهقة ،مرسومة بالنور النافذ ع َ وألوان ملكوت بعيد ،ينثال الضوء منها إىل بس ٍ ط معلقة ،حتوي ُُ رموزا منقوشة باليدَ ،ت ِّل ُس عليها بيدها ،تصري لألنسجة لون الروح ،وخيفت النور ،ويكون شعاع له طعم اللوعة وهدوء نفس استقرت ،تتبع رند وجهته ،فيأخذها إىل حمراب بآيات تعلمها ،وخطو تقرأها: "فلو مل يكن ملوجود فعل ُ ختصه، خي ُّصه ،مل يكن له طبيعة ُّ خيصه ،وال ختصه ،ملا كان له اسم ُّ ولو مل يكن له طبيعة ُّ حدٌّ ،وكانت األشياء ُك ّلها واحدا ،وال شيئا واحدا"
()8
ما إن تنتهي من قراءهتا ،تبدأ النوافذ يف إرسال نورهاُّ ، تدهلا ِ مسارها ،إىل ُسل ٍم من خشب زيتون له ملعة إىل األشياء ،وإىل ِرساج ورائحة سالم ،تصعده إىل باب مكفت بتواريق نُحاس،
( )8الفيلسوف األندلسي ابن كشد (" )1198-1126رهافت التهافت". 119
تأنس إىل نقوش هلا جالل الكون ومورق بأسامء من مروا بهُ ، ِ رص حيث زهرة اسمها ،وتدفع َُس ُه يف قلبها، ُ فتضع ال َب َ التي ت ُّ الباب ،فتكون إىل قبة يتدىل رساجها خافتا ،يرشع يف والدة نوره للداخلة ،تنمحي العتمة املوصود عليها ،وترى صندوقا موشحا بتشاكيل أرابيسك ،وخزائ َن من أشجار ُمدن تعر ُفها ،ويف تتفحص َها ببصرية املشتاقَ ،تر كتب مذهبة اجلنبات ، ُ أرحامها ٌ
طرح كتاب السامء والعامل"" ،جوامع اوخطابة عىل األسامءُ " : ِّ والشعر"" ،مقالة يف العقل"" ،رسالة يف التوحيد والفلسفة"، "مسألة يف الزمان"" ،تلخيص كتاب الكون والفساد" " ،فصل املقال يف ما بني احلكمة والرشيعة من االتصال" ويف أحدها تقرأ: فبني أنه جيب علينا أن نستعني عىل ما نحن يف سبيله بام " ِّ الغي مشاركاً لنا أو قاله َمن تقدمنا يف ذلك ،وسواء كان ُ تصح هبا التزكية ،ليس غي مشارك يف امل ِ َّلة ،فإن اآللة التي ُّ ُيعترب يف صحة التزكية هبا كوهنا آلة ملشارك لنا يف امل ِ َّلة أو غي مشارك ،إذا كانت فيها رشوط الصحة ،وأعني بغي 120
املشاركَ ،من نظر يف هذه األشياء من القدماء وقبل ِم َّلة اإلسالم"
()9
تؤوب من كتاهبا إىل زمن وجودها ،تنفتح النوافذ إىل ِ براح َها ،تفيض عليها السامء ِّ بكل نورها، أقصاها ،خترج إىل ُ تلمح يف فضائها رفرفات فتستحيل زاجل ًة ،تطري فوق املدائن، ُ ُحزن تتجه إىل أرض غادرهتا ،تقرتب من الطائر الوحيد ،تتناظر األعني ،ويف مجيعها بريق أمل مكتوم. ُ تنطلق ماريانا إىل حيث غادرت احلبيب ،وتنطلق َرندُ ، حيترض حتت زيتونة جافةُ ،هترع تكونان إىل حيث اجلسد املهدور، ُ ماريانا إىل حيث الروح اوخارجة من اجلسد املغدور ،تنتفض تلمها بني نفسها باألسى ،تتلقى َ الروح السارية إىل ُعالهاُّ ، روح شاعر وطائر ،روحان تتشابكان جناحيها ،وتلمحهام َرندُ ؛ َ اها معا ،ينثراهنا من سامئهام يف صعودمها ،تكمالن قصيد ًة خل َق َ
( )9الفيلسوف األندلسي ابن كشد (" )1198-1126فصل اؤمقال يف ما بني احلكمة والشريعة من االرصال". 121
عىل اآلتني. هتبط َرندُ إىل الزيتونة ،تلتقط غصنا مازال به بعض ُخرضة، وحت ِّل ُق ،تعرب أند ُل َسها ،يلمحها "بيكاسو" الالهي عىل شاطئ يرسم عىل الرمال خطو َ كانت قد التقت عنده احلبيب، ُ جسدها ،وهي تسبح يف الفضاء كالوحي ،تعرب بحرا ،و ُقدس ًا جذور يمرح الدُّ ون املارق عربها ،يقاتل زخرفات النوافذ ،و َ األشجار ،وتواريخ ا ُملدن ،وتعرب أزمان أملٍ ،إىل العاشق يف َم َق ِامه، ُّ وخيط يف صحيفته: ينتظر احلبيب ُة، يقبض ريشة هلا ألق النج ِم، ُ ُ
"يا قَينَةَ العُبَّادِ يف سَامِرَاتِ الوَصْلِ ،تَعَايل ،فَالليلُ طَويل".
122
123
124