الثابت في الديمقراطيات الجديدة أن انقالبات املجتمع املدني تعني نزع السلطة من قائد منتخب من خالل احتجاجات مستمرة وعادة ما يتم ذلك بمساعدة الجيش .في الواقع، إنها الشراكة بني املجتمع املدني والجيش -وهما طرفان ال يعرف عنهما التعاون معا في املعتاد -التي تفرق بني انقالب املجتمع املدني واالنقالب العادي .في أغلب األحيان، يبرر الذين يقفون وراء االنقالب وقوعه ،ويدعون أنهم ينوون إنقاذ الديمقراطية ،وذلك في تناقض مع حقيقة أنهم يقتلعونها من جذورهاb.هذا هو املجتمع املدني املارق الذي تحدث وترو نحو تحسني الديمقراطية، عنه املفكر الفرنسي توكفيل؛ بدال من العمل بصبر ٍ يتحول املجتمع املدني إلى الغضب والضيق ويخطط إلحداث تغييرات سياسية مفاجئة وراديكالية .في مقالي األصلي الذي كتبته عن عزل شافيز من منصبه ،حددت ثالثة شروط مسبقة لوقوع انقالب املجتمع املدني .األول هو صعود قائد للسلطة يبدو التزامه بالديمقراطية في أحسن األحوال مشكوكا فيه .والشرط الثاني عجز املؤسسة السياسية عن تلبية تطلعات الشعب في النمو االقتصادي واالستقرار ،وذلك عادة بسبب الفساد وعدم الكفاءة وإهمال الدولة لالحتياجات األساسية .والشرط الثالث هو ظهور ممثلي املجتمع املدني -من االتحادات التجارية ،واملؤسسات الدينية واملنظمات املدنية -بصورة أكبر من القوى السياسية املنظمة رسميا ،والتي إما تفككت أو التي لم تتطور بالكامل في املقام األول ،مثل املعارضة الرئيسة للحكومة. تظهر النتيجة املجتمعة لهذه األوضاع في نشوء عالقة عدائية بني املجتمع املدني النشيط ونظام سياسي منزوع الشرعية على خلفية استياء مجتمعي واسع النطاق وانهيار سيادة القانون .في ظل هذه األوضاع ،يتم حل النزاعات واألزمات السياسية في الشارع وليس في السلطة التشريعية .جميع هذه الشروط تحققت في مصر .بمجرد أن أصبح مرسي رئيسا للبالد ،لم يضيع وقتا لكي يظهر املمانع ضد الديمقراطية .في نوفمبر (تشرين الثاني) املاضي ،حاول أن يمنح نفسه سلطات غير قابلة للطعن أمام القضاء من شأنها أن تضعه فوق القانون .وزعم أنه في حاجة إلى هذه الصالحيات لاللتفاف على القضاء املعادي الذي ال يزال يضم في األساس مسؤولني باقني من النظام السابق. لكن اعتبر املصريون هذه الخطوة مجرد وسيلة إلحكام قبضته على السلطة .في الشهر التالي ،شعر كثير من املصريني بالخيانة عندما دفع مرسي بدستور جديد ينتقص من حقوق املرأة ويعزز من نفوذ الجيش باإلضافة إلى نقاط خالف أخرى .شابت أيضا الفترة الرئاسية القصيرة ملرسي اضطرابات اقتصادية .وأصبحت الظروف املعيشية في مصر اآلن أسوأ مما كانت عليه في عهد مبارك .وفقا لصندوق النقد الدولي ،بلغت نسبة من يعيشون في خط الفقر قبل الثورة 40في املائة. أما اآلن فقد وصلت النسبة إلى 50في املائة .وفي األسابيع التي سبقت االنقالب، كان هناك نقص حاد في املواد الغذائية والوقود وغيرها من الضروريات األساسية. من املؤكد أن مرسي تحمل إرث اقتصاد متعثر للغاية .ووفقا ملا ذكره إبراهيم سيف، الخبير االقتصادي في مؤسسة كارنيغي ،خلقت الثورة «بيئة معادية الستثمارات القطاع الخاص» ،تسبب فيها إدراك «مخاطر املصادرة» ،فضال عن األضرار الناجمة عن «الضرائب ،واللوائح الصارمة ،ودعم التصدير واإلنتاج ،وارتفاع تكاليف الصفقات املرتبطة بالروتني» .ولكن في الوقت ذاته ،فاقمت سياسات مرسي من حالة عدم االستقرار السياسي وعدم الوضوح .وبدوره ،جعل ذلك من املستحيل تقريبا عودة قطاع السياحة إلى نشاطه السابق ،أو دعم ثقة املستثمرين ،أو إقناع الجهات الدولية املانحة مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي بأن الديمقراطية الجديدة تقف على قاعدة ثابتة .وأخيرا ،على مدار السنة ونصف املاضية ،كان من الصعب تمييز من يشكلون املعارضة تحديدا .هذا هو القاسم املشترك بني التحوالت الديمقراطية التي تتم من أسفل ،والتي ال تميل إلى إقامة معارضة سياسية موحدة ،بل كوكبة من جماعات املعارضة التي تكون انقساماتها أكبر من أي اختالف بينها وبني الحكومة .يؤدي ذلك إلى صعوبة الوصول إلى تسويات بني الحكومة والساخطني عليها ،ويجعل األكثر صعوبة إقامة معارضة مخلصة تحقق توازنا أمام الحزب الحاكم ،بل وتعبر عن مظالم الناس من خالل النظام السياسي .يتساوى في األهمية تشكيل معارضة مخلصة مع وجود قائد ديمقراطي فعال من أجل تعزيز الديمقراطية .ظهرت الطبيعة غير املنظمة للمعارضة املصرية بوضوح خالل االحتجاجات التي أدت إلى تدخل الجيش ،حيث خرجت مجموعات مختلفة مؤيدة للديمقراطية معا متفقة على هدف واحد هو اإلطاحة باإلخوان املسلمني من السلطة. عادة ما تميل النزعة الفطرية إلى اعتبار انقالب املجتمع املدني انقالبا جيدا (في مقابل االنقالبات السيئة التي يخططها الجيش دون تأييد الجماهير) .ولكن تحمل انقالبات
املجتمع املدني وعد جذاب بإعادة البدء في عملية التحول الديمقراطي من خالل إزالة آثار تجربة انحرفت فيها االنتخابات عن مسارها وفتح صفحة جديدة إلقامة نظام ديمقراطي جديد .هذه هي رؤية الليبراليني املصريني ،الذين يجتهدون لتجنب استخدام كلمة «انقالب» .صرح محمد البرادعي ،الدبلوماسي الحائز جائزة نوبل واملدير السابق للوكالة الدولية للطاقة الذرية وأبرز الليبراليني املصريني ،لصحيفة «نيويورك تايمز» بأن «مرسي أفسد تحول البالد إلى الديمقراطية الشاملة» ،مضيفا« :كما قال يوغي بيرا ،إنها ديجافو مرة أخرى ،ولكن نأمل أن نصيب في هذه املرة» .ولكن تظل فكرة أن انقالب املجتمع املدني يستطيع إعادة البدء في التحول الديمقراطي مفرطة في التفاؤل. تقدم كل من فنزويال والفلبني نوعني من السيناريوهات املرجحة .في فنزويال ،خرجت موجات من اإلضرابات بعد اقتراحات بتأميم شركة النفط الوطنية الفنزويلية .واتخذ الجيش شافيز رهينة ملدة 48ساعة قبل أن يسحب الجيش مخططه بتنصيب رئيس مؤقت والدعوة إلجراء انتخابات جديدة وقبل بإعادة شافيز إلى منصبه .ما أجبر الجيش على تغيير خططه هو إدراكه أنه ال يستطيع احتواء أنصار شافيز الذين يشكلون أفضل قوة سياسية تنظيما في البالد ،والذين يخلصون بشدة لقائدهم، وهو ما اتضح من خالل املظاهرات العنيفة املعارضة لالنقالب التي أسفرت عن مصرع نحو 20شخصا .حكم شافيز فنزويال ملدة عقد آخر بعد ذلك ،حتى وفاته في مطلع هذا العام ،كان فيها أكثر رغبة في االنتقام واالستبداد .وتزايد عداؤه للواليات املتحدة، حيث اتهمها بالتواطؤ من أجل عزله .وعلى الرغم من الخالف حول دليل املشاركة األميركية في االنقالب الفنزويلي ،فإن إدارة بوش اعتبرت اإلطاحة بشافيز «انتصارا للديمقراطية» قبل أن تصحح مسارها بعد أن نددت معظم حكومات أميركا الالتينية بالتطورات في فنزويال واعتبرتها انقالبا .تجدر املقارنة بني انقالب فنزويال وما حدث في مصر. كما في فنزويال ،انتزع االنقالب في مصر السلطة من أفضل قوة سياسية منظمة في البالد، جماعة اإلخوان املسلمني .على عكس شافيز ،ال يعتبر أعضاء اإلخوان من قيادات وقواعد أنه يجسد الجماعة .ولكن حتى اآلن تصمم قيادة الجماعة على إعادة مرسي إلى السلطة ،مشيرين إلى أنه ال يمكن استبعاد عودته .وصرح املتحدث باسم الجماعة لشبكة «إيه بي سي» اإلخبارية« :ال توجد خطة بديلة ،إما أن نعيد الرئيس إلى مكانه املناسب أو سيكون عليهم إطالق النار علينا في الشارع» .في الفلبني في عام ،2001أطاح الجيش بالرئيس جوزيف استرادا بعد أربعة أيام من االحتجاجات الشعبية العنيفة أثناء ثورة سلطة الشعب الثانية ،التي سميت بذلك احتفاء بثورة سلطة الشعب التي أطاحت بالرئيس القوي فرديناند ماركوس عام .1986بعد عزل استرادا ،عني الجيش نائبة الرئيس غلوريا أرويو رئيسة للبالد .كانت فترة رئاسة أرويو ،التي استمرت حتى عام ،2010 مضطربة .يرجع السبب إلى حد كبير إلى تحملها عار الوسيلة غير الشرعية التي أطاحت بسلفها من منصبه.
�صرح حممد الربادعي ل�صحيفة «نيويورك تاميز» ب�أن «مر�سي �أف�سد حتول البالد �إىل الدميقراطية ال�شاملة»
حاولت أرويو التماسك في ظل املظاهرات املعارضة العنيفة التي خرج فيها مؤيدو استرادا (الذي تحول إلى ظل يخيم على أرويو طوال فترة رئاستها) ،من بينها اقتحام ثالثة ماليني متظاهر القصر الجمهوري في عام 2001مدعني أنهم يمثلون ثورة سلطة الشعب الثالثة .وفي مصر ،يشكل العثور على بديل مقبول ملرسي تحديا ،كما يمكننا أن نرى من خالل صعود وهبوط اسم البرادعي كمرشح ملنصب رئيس الوزراء املؤقت .نادرا ما تكون انقالبات املجتمع املدني جيدة لتحقيق الديمقراطية .في الواقع ،ربما كان من األفضل للمصريني أن يتركوا مرسي يكمل مدته في السلطة بدال من إجهاض فترة رئاسته غير البارعة ولكنها ديمقراطية. حتى اآلن ربما يكون من حسن حظ مصر أن تصبح مثل فنزويال أو الفلبني ،ألنها قد تسلك مسارا مأساويا بوقوع حرب أهلية ،وهو االحتمال األقرب حيث يستمر العنف ضد مؤيدي مرسي .إذا كانت هناك دروس مستفادة من العقود القليلة املاضية ،فهي أن الديمقراطية تعتمد بدرجة كبيرة على أشخاص ينتظرون هزيمة الحكومات القائمة عبر صناديق االقتراع وليس في الشوارع
فورن أفيرز /أغسطس -آب 55 - 2013 /