الجمهورية الثالثة

Page 14

‫الثابت في الديمقراطيات الجديدة أن انقالبات املجتمع املدني تعني نزع السلطة من قائد‬ ‫منتخب من خالل احتجاجات مستمرة وعادة ما يتم ذلك بمساعدة الجيش‪ .‬في الواقع‪،‬‬ ‫إنها الشراكة بني املجتمع املدني والجيش ‪ -‬وهما طرفان ال يعرف عنهما التعاون معا‬ ‫في املعتاد ‪ -‬التي تفرق بني انقالب املجتمع املدني واالنقالب العادي‪ .‬في أغلب األحيان‪،‬‬ ‫يبرر الذين يقفون وراء االنقالب وقوعه‪ ،‬ويدعون أنهم ينوون إنقاذ الديمقراطية‪ ،‬وذلك في‬ ‫تناقض مع حقيقة أنهم يقتلعونها من جذورها‪b.‬هذا هو املجتمع املدني املارق الذي تحدث‬ ‫وترو نحو تحسني الديمقراطية‪،‬‬ ‫عنه املفكر الفرنسي توكفيل؛ بدال من العمل بصبر ٍ‬ ‫يتحول املجتمع املدني إلى الغضب والضيق ويخطط إلحداث تغييرات سياسية مفاجئة‬ ‫وراديكالية‪ .‬في مقالي األصلي الذي كتبته عن عزل شافيز من منصبه‪ ،‬حددت ثالثة‬ ‫شروط مسبقة لوقوع انقالب املجتمع املدني‪ .‬األول هو صعود قائد للسلطة يبدو التزامه‬ ‫بالديمقراطية في أحسن األحوال مشكوكا فيه‪ .‬والشرط الثاني عجز املؤسسة السياسية‬ ‫عن تلبية تطلعات الشعب في النمو االقتصادي واالستقرار‪ ،‬وذلك عادة بسبب الفساد‬ ‫وعدم الكفاءة وإهمال الدولة لالحتياجات األساسية‪ .‬والشرط الثالث هو ظهور ممثلي‬ ‫املجتمع املدني ‪ -‬من االتحادات التجارية‪ ،‬واملؤسسات الدينية واملنظمات املدنية ‪ -‬بصورة‬ ‫أكبر من القوى السياسية املنظمة رسميا‪ ،‬والتي إما تفككت أو التي لم تتطور بالكامل في‬ ‫املقام األول‪ ،‬مثل املعارضة الرئيسة للحكومة‪.‬‬ ‫تظهر النتيجة املجتمعة لهذه األوضاع في نشوء عالقة عدائية بني املجتمع املدني النشيط‬ ‫ونظام سياسي منزوع الشرعية على خلفية استياء مجتمعي واسع النطاق وانهيار‬ ‫سيادة القانون‪ .‬في ظل هذه األوضاع‪ ،‬يتم حل النزاعات واألزمات السياسية في الشارع‬ ‫وليس في السلطة التشريعية‪ .‬جميع هذه الشروط تحققت في مصر‪ .‬بمجرد أن أصبح‬ ‫مرسي رئيسا للبالد‪ ،‬لم يضيع وقتا لكي يظهر املمانع ضد الديمقراطية‪ .‬في نوفمبر‬ ‫(تشرين الثاني) املاضي‪ ،‬حاول أن يمنح نفسه سلطات غير قابلة للطعن أمام القضاء‬ ‫من شأنها أن تضعه فوق القانون‪ .‬وزعم أنه في حاجة إلى هذه الصالحيات لاللتفاف‬ ‫على القضاء املعادي الذي ال يزال يضم في األساس مسؤولني باقني من النظام السابق‪.‬‬ ‫لكن اعتبر املصريون هذه الخطوة مجرد وسيلة إلحكام قبضته على السلطة‪ .‬في الشهر‬ ‫التالي‪ ،‬شعر كثير من املصريني بالخيانة عندما دفع مرسي بدستور جديد ينتقص من‬ ‫حقوق املرأة ويعزز من نفوذ الجيش باإلضافة إلى نقاط خالف أخرى‪ .‬شابت أيضا الفترة‬ ‫الرئاسية القصيرة ملرسي اضطرابات اقتصادية‪ .‬وأصبحت الظروف املعيشية في مصر‬ ‫اآلن أسوأ مما كانت عليه في عهد مبارك‪ .‬وفقا لصندوق النقد الدولي‪ ،‬بلغت نسبة من‬ ‫يعيشون في خط الفقر قبل الثورة ‪ 40‬في املائة‪.‬‬ ‫أما اآلن فقد وصلت النسبة إلى ‪ 50‬في املائة‪ .‬وفي األسابيع التي سبقت االنقالب‪،‬‬ ‫كان هناك نقص حاد في املواد الغذائية والوقود وغيرها من الضروريات األساسية‪.‬‬ ‫من املؤكد أن مرسي تحمل إرث اقتصاد متعثر للغاية‪ .‬ووفقا ملا ذكره إبراهيم سيف‪،‬‬ ‫الخبير االقتصادي في مؤسسة كارنيغي‪ ،‬خلقت الثورة «بيئة معادية الستثمارات‬ ‫القطاع الخاص»‪ ،‬تسبب فيها إدراك «مخاطر املصادرة»‪ ،‬فضال عن األضرار الناجمة‬ ‫عن «الضرائب‪ ،‬واللوائح الصارمة‪ ،‬ودعم التصدير واإلنتاج‪ ،‬وارتفاع تكاليف الصفقات‬ ‫املرتبطة بالروتني»‪ .‬ولكن في الوقت ذاته‪ ،‬فاقمت سياسات مرسي من حالة عدم االستقرار‬ ‫السياسي وعدم الوضوح‪ .‬وبدوره‪ ،‬جعل ذلك من املستحيل تقريبا عودة قطاع السياحة‬ ‫إلى نشاطه السابق‪ ،‬أو دعم ثقة املستثمرين‪ ،‬أو إقناع الجهات الدولية املانحة مثل صندوق‬ ‫النقد الدولي والبنك الدولي بأن الديمقراطية الجديدة تقف على قاعدة ثابتة‪ .‬وأخيرا‪ ،‬على‬ ‫مدار السنة ونصف املاضية‪ ،‬كان من الصعب تمييز من يشكلون املعارضة تحديدا‪ .‬هذا‬ ‫هو القاسم املشترك بني التحوالت الديمقراطية التي تتم من أسفل‪ ،‬والتي ال تميل إلى إقامة‬ ‫معارضة سياسية موحدة‪ ،‬بل كوكبة من جماعات املعارضة التي تكون انقساماتها أكبر‬ ‫من أي اختالف بينها وبني الحكومة‪ .‬يؤدي ذلك إلى صعوبة الوصول إلى تسويات بني‬ ‫الحكومة والساخطني عليها‪ ،‬ويجعل األكثر صعوبة إقامة معارضة مخلصة تحقق توازنا‬ ‫أمام الحزب الحاكم‪ ،‬بل وتعبر عن مظالم الناس من خالل النظام السياسي‪ .‬يتساوى‬ ‫في األهمية تشكيل معارضة مخلصة مع وجود قائد ديمقراطي فعال من أجل تعزيز‬ ‫الديمقراطية‪ .‬ظهرت الطبيعة غير املنظمة للمعارضة املصرية بوضوح خالل االحتجاجات‬ ‫التي أدت إلى تدخل الجيش‪ ،‬حيث خرجت مجموعات مختلفة مؤيدة للديمقراطية معا‬ ‫متفقة على هدف واحد هو اإلطاحة باإلخوان املسلمني من السلطة‪.‬‬ ‫عادة ما تميل النزعة الفطرية إلى اعتبار انقالب املجتمع املدني انقالبا جيدا (في مقابل‬ ‫االنقالبات السيئة التي يخططها الجيش دون تأييد الجماهير)‪ .‬ولكن تحمل انقالبات‬

‫املجتمع املدني وعد جذاب بإعادة البدء في عملية التحول الديمقراطي من خالل إزالة‬ ‫آثار تجربة انحرفت فيها االنتخابات عن مسارها وفتح صفحة جديدة إلقامة نظام‬ ‫ديمقراطي جديد‪ .‬هذه هي رؤية الليبراليني املصريني‪ ،‬الذين يجتهدون لتجنب استخدام‬ ‫كلمة «انقالب»‪ .‬صرح محمد البرادعي‪ ،‬الدبلوماسي الحائز جائزة نوبل واملدير السابق‬ ‫للوكالة الدولية للطاقة الذرية وأبرز الليبراليني املصريني‪ ،‬لصحيفة «نيويورك تايمز»‬ ‫بأن «مرسي أفسد تحول البالد إلى الديمقراطية الشاملة»‪ ،‬مضيفا‪« :‬كما قال يوغي‬ ‫بيرا‪ ،‬إنها ديجافو مرة أخرى‪ ،‬ولكن نأمل أن نصيب في هذه املرة»‪ .‬ولكن تظل فكرة أن‬ ‫انقالب املجتمع املدني يستطيع إعادة البدء في التحول الديمقراطي مفرطة في التفاؤل‪.‬‬ ‫تقدم كل من فنزويال والفلبني نوعني من السيناريوهات املرجحة‪ .‬في فنزويال‪ ،‬خرجت‬ ‫موجات من اإلضرابات بعد اقتراحات بتأميم شركة النفط الوطنية الفنزويلية‪ .‬واتخذ‬ ‫الجيش شافيز رهينة ملدة ‪ 48‬ساعة قبل أن يسحب الجيش مخططه بتنصيب رئيس‬ ‫مؤقت والدعوة إلجراء انتخابات جديدة وقبل بإعادة شافيز إلى منصبه‪ .‬ما أجبر‬ ‫الجيش على تغيير خططه هو إدراكه أنه ال يستطيع احتواء أنصار شافيز الذين‬ ‫يشكلون أفضل قوة سياسية تنظيما في البالد‪ ،‬والذين يخلصون بشدة لقائدهم‪،‬‬ ‫وهو ما اتضح من خالل املظاهرات العنيفة املعارضة لالنقالب التي أسفرت عن مصرع‬ ‫نحو ‪ 20‬شخصا‪ .‬حكم شافيز فنزويال ملدة عقد آخر بعد ذلك‪ ،‬حتى وفاته في مطلع‬ ‫هذا العام‪ ،‬كان فيها أكثر رغبة في االنتقام واالستبداد‪ .‬وتزايد عداؤه للواليات املتحدة‪،‬‬ ‫حيث اتهمها بالتواطؤ من أجل عزله‪ .‬وعلى الرغم من الخالف حول دليل املشاركة‬ ‫األميركية في االنقالب الفنزويلي‪ ،‬فإن إدارة بوش اعتبرت اإلطاحة بشافيز «انتصارا‬ ‫للديمقراطية» قبل أن تصحح مسارها بعد أن نددت معظم حكومات أميركا الالتينية‬ ‫بالتطورات في فنزويال واعتبرتها‬ ‫انقالبا‪ .‬تجدر املقارنة بني انقالب‬ ‫فنزويال وما حدث في مصر‪.‬‬ ‫كما في فنزويال‪ ،‬انتزع االنقالب‬ ‫في مصر السلطة من أفضل‬ ‫قوة سياسية منظمة في البالد‪،‬‬ ‫جماعة اإلخوان املسلمني‪ .‬على‬ ‫عكس شافيز‪ ،‬ال يعتبر أعضاء‬ ‫اإلخوان من قيادات وقواعد أنه‬ ‫يجسد الجماعة‪ .‬ولكن حتى اآلن‬ ‫تصمم قيادة الجماعة على إعادة‬ ‫مرسي إلى السلطة‪ ،‬مشيرين إلى‬ ‫أنه ال يمكن استبعاد عودته‪ .‬وصرح املتحدث باسم الجماعة لشبكة «إيه بي سي»‬ ‫اإلخبارية‪« :‬ال توجد خطة بديلة‪ ،‬إما أن نعيد الرئيس إلى مكانه املناسب أو سيكون‬ ‫عليهم إطالق النار علينا في الشارع»‪ .‬في الفلبني في عام ‪ ،2001‬أطاح الجيش بالرئيس‬ ‫جوزيف استرادا بعد أربعة أيام من االحتجاجات الشعبية العنيفة أثناء ثورة سلطة‬ ‫الشعب الثانية‪ ،‬التي سميت بذلك احتفاء بثورة سلطة الشعب التي أطاحت بالرئيس‬ ‫القوي فرديناند ماركوس عام ‪ .1986‬بعد عزل استرادا‪ ،‬عني الجيش نائبة الرئيس‬ ‫غلوريا أرويو رئيسة للبالد‪ .‬كانت فترة رئاسة أرويو‪ ،‬التي استمرت حتى عام ‪،2010‬‬ ‫مضطربة‪ .‬يرجع السبب إلى حد كبير إلى تحملها عار الوسيلة غير الشرعية التي‬ ‫أطاحت بسلفها من منصبه‪.‬‬

‫�صرح حممد الربادعي‬ ‫ل�صحيفة «نيويورك تاميز» ب�أن‬ ‫«مر�سي �أف�سد حتول البالد �إىل‬ ‫الدميقراطية ال�شاملة»‬

‫حاولت أرويو التماسك في ظل املظاهرات املعارضة العنيفة التي خرج فيها مؤيدو‬ ‫استرادا (الذي تحول إلى ظل يخيم على أرويو طوال فترة رئاستها)‪ ،‬من بينها‬ ‫اقتحام ثالثة ماليني متظاهر القصر الجمهوري في عام ‪ 2001‬مدعني أنهم يمثلون‬ ‫ثورة سلطة الشعب الثالثة‪ .‬وفي مصر‪ ،‬يشكل العثور على بديل مقبول ملرسي‬ ‫تحديا‪ ،‬كما يمكننا أن نرى من خالل صعود وهبوط اسم البرادعي كمرشح‬ ‫ملنصب رئيس الوزراء املؤقت‪ .‬نادرا ما تكون انقالبات املجتمع املدني جيدة لتحقيق‬ ‫الديمقراطية‪ .‬في الواقع‪ ،‬ربما كان من األفضل للمصريني أن يتركوا مرسي يكمل‬ ‫مدته في السلطة بدال من إجهاض فترة رئاسته غير البارعة ولكنها ديمقراطية‪.‬‬ ‫حتى اآلن ربما يكون من حسن حظ مصر أن تصبح مثل فنزويال أو الفلبني‪ ،‬ألنها‬ ‫قد تسلك مسارا مأساويا بوقوع حرب أهلية‪ ،‬وهو االحتمال األقرب حيث يستمر‬ ‫العنف ضد مؤيدي مرسي‪ .‬إذا كانت هناك دروس مستفادة من العقود القليلة‬ ‫املاضية‪ ،‬فهي أن الديمقراطية تعتمد بدرجة كبيرة على أشخاص ينتظرون هزيمة‬ ‫الحكومات القائمة عبر صناديق االقتراع وليس في الشوارع‬

‫فورن أفيرز‪ /‬أغسطس ‪ -‬آب ‪55 - 2013 /‬‬


Turn static files into dynamic content formats.

Create a flipbook
Issuu converts static files into: digital portfolios, online yearbooks, online catalogs, digital photo albums and more. Sign up and create your flipbook.