األسس الحقيقية للبنان المعاصر جواد بولس
أنطونيو السرعلي مكتب األبحاث | دائرة اإلعداد والتدريب
ُيحدد ُكثر نشأة لبنان بالعودة إلى عهد األمير فخر الدين المعني الكبير (.)1635-1572 فعلى الرغم من أهمية تلك الفترة الزمنية ،تبقى فترة حكم األمير فخر الدين حديثة نسبيا بالمقارنة مع ِقدم تاريخ نشأة لبنان الفعلية ،والتي تمتد جذورها إلى العصور القديمة. ُيعد لبنان من أقدم البلدان في العالم ،و يعود ذلك إلى فرادة طابعه ودوره التاريخي مر عليه العديد من األديان والجغرافي ،فضل عن تعدديته اإلثنية والطائفية .لقد ّ واللغات ،وحتى األسماء ،كما ّ شكل ملجا آمنا لمختلف الجماعات المضطهدة لتطوير معتقداتها .واألهم من ذلك ،كان لبنان مرتعا للقضية األسمى :الحرية. هناك اعتقاد خاطئ بأن تطلع لبنان واللبنانيين للغرب هو بدافع العاطفة الدينية ،بيد أن السبب األساس يعود ،فعل ،إلى موقعه الجغرافي وتضاريسه و مناخه المتوسطي الذي يجعله قريبا من بلدان البحر المتوسط ،مهما كان دين الشعوب التي سكنته .إن لبنان ،شأنه شأن البلدان المهددة بمختلف األخطار ،يبحث عن الدعم والعون المحتملين تفاديا لطامع قريب أو غريب .أبرز مثال على ذلك األمير فخر الدين الذي لجأ إلى إيطاليا بهدف التخلص من الوصاية العثمانية .وحتى في العصور القديمة ،لجأت فينيقيا (لبنان القديم) إلى مصر الفراعنة لمواجهة الساميين في بلد آرام (سوريا اليوم). تتعدد الطروحات والنظريات حول وجوب ووجود "الفكرة اللبنانية" وتتلخص الطروحات المعارضة لها كاآلتي: ّ يشكل منطقة طبيعية مستقلة بل هو جزء من دولة -1طابع لبنان الجغرافي ال مجاورة (سورية الكبرى) تمثل الكيان الطبيعي األفضل لهذه األرض"َ .يستدل أصحاب هذه النظرية بعدم تمكن لبنان من المحافظة على سيادة واستقلل حدوده عبر العصور ،فيما مساحته تمددت أو تقلصت تباعا ،متناسين المصائب والكوارث التي تحل بالشعوب البشرية .إن الشعوب التي تتمكن من الحفاظ على شخصيتها التاريخية تحد بالكيلوميترات أو تقاس بالمساحة ،وإن تقلصت هذه األخيرة بفعل ووجدانها ،ال َ 1
إحتلل من هنا أو توسعت بفعل ازدهار من هناك .يبقى التاريخ وجوهر وجود الفرد وهويته األسس األهم في تحديد البلدان. -2إن لبنان مؤلف من جماعات دينية وطائفية مختلفة ،فيما عدم تجانسها يدحض فكرة لبنان والبلد الواحد" .لقد توقف الزمن لمؤيدي هذا الطرح عند مفهوم القبيلة/المدينة القديمة وأهملوا مبدأ األمة الحديثة المشكلة من إتحاد أسر روحية ومزيج من األعراق واألديان وحتى اللغات أحيانا .باإلضافة إلى أن هذه الجماعات قد اختارت العيش معا طوعا بفعل إرادة العيش المشترك وليس بسبب أي ضغط داخلي أو خارجي. قصرت المسافات -3إن دور لبنان قد تجاوزه الزمن بفعل التطور وصعود اآللة التي ّ على مساحة الكوكب وبات باطل إلزامية وجود لبنان كممر طبيعي ووسيط بين الشرق و الغرب" .إن هذا الطرح ساقط بفعل عدة عوامل أبرزها نسبية األهمية العددية، كما أن تأييده يعطي حق الوجود فقط للدول الكبيرة واالمبراطوريات .بالمقابل ،ما زالت األرض تحتضن بلدانا كثيرة على اختلف أحجامها وجغرافياتها ،ولكل منها دوره المميز وال يستوجب ذلك إلغاءها وذوبانها في كيانات أخرى. التاريخي والوجودي ّ باإلضافة إلى عامل آخر وهو بطء تقدم ذهنية البشر مقارنة مع تقدم العلم .إن معظم الشعوب واألفراد حافظت على غرائزها وموروثاتها ولم تصل البشرية بعد إلى مرحلة الوحدة العالمية حتى ولو كانت تسير في هذا االتجاه. إن لبنان المعاصر هو حقيقة جغرافية و تاريخية وذو وجود مستمر .وقد طبع جميع الشعوب التي لجأت اليه على اختلف منشأها بطابع فريد و متميز هو "الطابع اللبناني".
2
الدعائم الجغرافية تتكون ليست أرض الوطن مجرد مأوى أو إطار يعيش فيه الفرد أو الشعب ،بل هو قالب ّ فيه طبائع هذا الشعب ومميزاته .إن نظرية العرق الخالص غير واقعية إن لم تكن وتحددت بناء وتكونت األعراق مستحيلة .فمنذ فجر التاريخ ،كان التنقل واالختلط سائدا ّ ّ على هذا اإلختلط ضمن البيئة الجغرافية التي تواجدت فيها .إن هذه البيئة لها التأثير األكبر في إضفاء الطابع الخاص على ساكنيها مهما اختلفت أو تشابكت أعراقهم .إن إتحاد اإلنسان باألرض له الفضل األكبر في خلق المجتمعات البشرية دون إغفال أصولها اإلثنية والوراثية. إن عوامل المناخ والتضاريس والغذاء والموقع الجغرافي هي التي تقود أطباع هذه فتميزه عن مجتمع تكيف جميع الخصائص في المجتمع ّ الشعوب وعاداتها ،وتفرض ّ غربي أوروبا ،تختلف طبائعه آخر .العرق اآلري مثل ،الذي امتد تواجده من الهند إلى ّ طبقا للمناطق التي توزّ ع فيها .أما الساميين القدامى ،الذين كان لهم امتداد جغرافي العربية ،عاشوا حياة البدو ،بيد أنهم التنوع .ففي شبه الجزيرة واسع ،أبرزوا أيضا ذات ّ ّ في سوريا كانت لهم الحياة الزراعية والمساكن المستقرة دون التنقل الدائم .أما في بابل ،فقد بنوا إحدى أروع المدن في التاريخ القديم ،وصوال إلى فينيقيا حيث غزوا البحر باألساطيل التجارية. ومحركاتها ،وما هي إال دليل إضافي على مدى تأثير البيئة تكثر األمثال عن الشعوب ِّ الجغرافية في ّ كل جوانب المجموعات اإلجتماعية .كما تبرز أيضا نظرية عدم الثبات ّ أن الجغرافيا ،وعلى المدى الطويل غير الملحوظ ،هي التي تحدد الشكل في العرق بل ّ يتكيف طبقا لعوامل ومناخ الجغرافيا. النهائي للعرق الذي ّ يؤدي مع مرور الوقت إلى تجانس إثني وثقافي. إن التجانس الطبيعي والجغرافيّ ، بسمات التفرد الطبيعي للبقعة الجغرافية تطبع كما أن التجمعات التي تسكنها ِ ّ ّ مشتركة ونمط حياتي متجانس .من هنا ،يمكن تمييز المناطق الجغرافية كوحدات
3
برية طبيعية ومتفاوتة المساحة وتتمتّ ع بملمح متشابهة .إنها عبارة عن جزر جغرافيةّ ، ّ لتكون تجمعات بشرية حتى تشكل إطارا بحرية ،في الجبال أو في األودية، كانت أو ّ ّ ّ تشكلت فيها ولو اختلفت أعراق هذه األخيرة حيث نجد قبائل وشعوبا وحتى أمما قد وتجانست وانتظمت في سبيل تحسين وسائل العيش. المنطقة التاريخية هي مناطق طبيعية ،وتكون في أغلب األحيان متناقضة وال تجانس تكون إن بفعل إرادة بشرية أو تجمعت في وحدة إدارية وسياسية .هذا التجمع ّ ّ بينهاّ ، بفعل ضغط خارجي .هذه الوحدة السياسية إن كانت مقبولة ،فعندها تتمثل ببلدان موحدة كفرنسا أو تركيا ،أو ببلدان إتحادية كالواليات المتحدة األميركية وسويسرا .أما ّ إذا انعدم هذا القبول ،فتندثر هذه البلدان واإلمبراطوريات كما حصل مع اإلمبراطورية الرومانية والبريطانية وغيرها. أخيرا ،عندما تتمتع عدة مناطق طبيعية ،من دون اإلجتماع في وحدة سياسية ،بملمح يسمى تؤدي في الغالب إلى وحدة روحية و ثقافية أو ما ِ ّ وسمات مناخية واقتصاديةّ ، "مجتمع حضارة" (أو عالم) .مثال على ذلك ،أوروبا الغربية ،والشرق العربي والعالم االنكلوسكسوني .إن مجتمع الحضارة ال يعني بالضرورة وحدة سياسية أو تنظيما إجتماعيا. في الخلصة ،تبقى المنطقة الجغرافية هي الوحدة األمتن كونها ترتكز على وحدة متميزا. عضوية وهي المنطقة الطبيعية .إن لبنان يندرج تحت هذه الخانة التي جعلته ّ
التعقيدات الجغرافية في "سورية الكبرى" محددة المعالم بين البحر المتوسط غربا ،الصحراء جنوبا قد تبدو سورية منطقة طبيعية ّ طيات جغرافيتها تناقضات هائلة وشرقا وجبال طوروس شماال .بيد أنها تختزن في ّ تحددها تؤدي إلى تقسيمها مناطق عدة ،وهي نفسها كذلك تنقسم إلى مقاطعات ّ الطبيعة و ّ تتجلى أبرزها بين المناطق الداخلية والساحلية .وبحكم موقعها ،فإنها
4
ّ تشكل واجهة القارة على البحر المتوسط و باب الشرق على أوروبا .كما أن الشعوب التي سكنت هذه المناطق تتمتع بشخصية نشيطة على إختلف أديانها. لقد اجتمع الباحثون على تقسيم معظم مناطق الكرة األرضية بين شمال وجنوب .لكن قسما سوريا إلى شطرين، في حالة سوريا فإن الوضع مغاير ،إذ أن التضاريس والمناخ ّ أحداهما شرقي قاري واآلخر غربي بحري .بذلك ينتقل المرء من مناخ صحراوي حاد إلى آخر متوسطي ،وتختلف معهما البيئة والنظام اإلقتصادي واإلجتماعي وصوال إلى ذهنية الفرد بحد ذاتها. إن التناقضات الطبيعية في جغرافية سوريا انعكست إجتماعيا وحضاريا على شعوبها. يتقبل الوارد أولهما منفتح، ميز الباحثون بين نوعين من المجتمعات والحضاراتّ : ّ لقد ّ من خارجه ويشتهر بتجارته وتخالطه مع اآلخر ،كما تغلب فيه الطبقة المثقفة والرأسمالية ،وتشجع الجهد الفردي .إنه النوع البحري .أما اآلخر فهو البري ،منغلق ّ ومتصلب ولديه مقاومة شديدة للتغيير وتحكمه قوانين نظام القبيلة وغيرها .مثال على النوع األول هي الحضارة اإلغريقية ،أما الثاني فاألشورية .إذا ما أسقط هذا التصنيف على سوريا ،فنرى سوريا الشرقية أكثر وطنية وإقطاعية وإنطواء على نفسها وال يعود ذلك إلى الدين أو العرق بل إلى الصحراء التي تفرض اإلنزواء .أما منطقة الشواطئ ،فهي أكثر إنفتاحا ونشاطا. تختلف سوريا عن مصر وبلد ما بين النهرين بافتقادها إلى األنهر الكبيرة التي حددت طبيعيا تلك البلد ،مما يؤدي إلى افتقادها للمياه؛ العامل األساس في الزراعة والري. ّ فشكلت المناطق السورية وإن كانت كما أن الحواجز الطبيعية أعاقت التنقل البشري، شعوبها متقاربة ،دوال صغيرة غالبا ما كانت في صراع ،ولوال السيطرة الخارجية ،لما ُج ِمعت في دولة واحدة .إن موقع سوريا بين القارات الثلث في العالم القديم فرض عليها أن تكون منطقة عبور وحقل صراع أزلي وقد عجزت عن الحفاظ على وحدتها
5
السياسية والجغرافية خلل تاريخها الطويل على عكس جيرانها في النيل والفرات حيث ّ تشكلت إمبراطوريات قوية ،بالرغم من أن شعوب كل هذه البلدان من أصل واحد. لقد استوطن فرع من الكنعانيين بلد ما بين النهرين ونجحوا أن يقيموا اإلمبراطورية يتوصل إلى بناء دولة وحدوية. األكادية .أما الفرع اآلخر الذي إستقر في سوريا ،فلم ّ أما الفينيقيون ،فقد آثروا بناء إمبراطورية بحرية إمتدت إلى أفريقيا الشمالية وابتعدوا عن الشرق القاري و الخليط البحري-البري قدر اإلمكان. وقد إنطبق األمر نفسه على األموريين والعبرانيين الذين ،وبالرغم من إيمانهم بأن ّ يتمكنوا من توحيد فلسطين نفسها ،فيما أرضهم ممتدة من النيل إلى الفرات ،لم انقسمت مملكتهم إلى دولتين .أما األراميون فلم ينجحوا إال بتكوين ممالك صغيرة ومتصارعة .باإلنتقال إلى اآلشوريين والكلدانيين والفرس والرومان والعرب والعثمانيين ،الذين توالوا تباعا على العالم الشرقي ،كانت المناطق السورية تتبع الحكم المركزي تحت عنوان مناطق إدارية. في الخلصة ،إن سوريا خلل العصور القديمة لم تعرف الوحدة العضوية والسياسية، فيما لم يكن السبب في ذلك العرق أو الدين بل التأثير األكبر لألحوال الطبيعية والواقع الجغرافي للقطر السوري.
لبنان الجغرافي لبنان هو أرض مستطيلة ،نصفها شاطئ واآلخر جبل ،وتقع غرب سوريا الوسطى .يميل صح ذلك ،ال يعود هناك مبرر مبرر جغرافي لوجود لبنان .وإن ّ البعض إلى االعتقاد بأن ال ّ ّ حدودا جغرافية مشابهة للبنان :كالبرتغال بالنسبة ألغلب الدول الصغيرة أو التي تملك إلسبانيا ،أو ألبانيا ليوغوسلفيا واليونان ،أو سويسرا واللوكسمبورغ وبوليفيا وغيرها. ماض وتراث تاريخيين ،أغلبهم إن تكوين هذه البلدان لم يكن إعتباطيا ،بل يستند إلى ٍ أقصر زمنا من ماضي وتراث لبنان الحالي.
6
يحده إن لبنان الحالي هو منطقة طبيعية ووحدة جغرافية واضحة المعالم والتفردّ . ّ البحر غربا ،و تفصله عن سوريا وفلسطين جبال ومنخفضات في الجهات الثلث الباقية. ّ يشكل جبل لبنان عموده الفقري ووسطه الجغرافي وخط الدفاع األصلب بوجه الغزاة. أما شماال ،فتوجد أعلى قمم هذا البلد والمناخ الصحي األمثل ،وصوال إلى الشاطئ ّالذي ينحدر بشدة إلى البحر ويحتضن مدنا متتالية من طرابلس شماال وصوال إلى صور جنوبا .لقد ّ شكل هذا الشاطىء مصدر اإلزدهار مع ملجئه الطبيعية الملئمة للملحة القديمة التي إستطاع الفينيقيون من خللها السيطرة على تجارة البحر المتوسط .يبقى ّ يشكل جزءا من وحدة سوريا الوسطى وامتدادا للغور الفلسطيني. أخيرا البقاع الذي توسعه اإلقتصادي والتجاري وحتى إن موقع لبنان الشرقي على المتوسط جعل من ّ الديمغرافي نحو الغرب المتوسطي ممكنا .أما نشاطه البحريّ ، فولد ذهنية وعادات المتحرر جعله بلدا للمبادرة والحرية الفردية خاصة لسكانه .هذا المجتمع البحري ّ والتجارة فأضحى بلد "ترانزيت" وإستقبال وضيافة. فوجدت على عكس الشرق الرازح تحت الطغيان ،كانت فينيقيا ،ومن ثم لبنان ،مختلفا، ِ سباقين إلى مجالس تشارك الحاكم السلطة وأحيانا تعارضه .لقد كان الفينيقيون ّ إطلق فكرة الجمهوريات األولى التي حكمها ّ حكام منتخبون (القضاة) .هذا وعاش لبنان فترات طويلة من التاريخ باستقلل ،أو شبه استقلل ،جعل اللبناني متميزا عن التواقة إلى الحرية واإلنفتاح فهي بسبب نشاطه البحري وجباله محيطه .أما روحه ّ المنيعة ،وبفعل موقعه الجغرافي.
البيئة اإلثنية اللبنانية :العرق ،اللغة والدين لطالما كان تعبير "العرق" موضع التباس مع مفاهيم أخرى .مثل ،ونقل عن مارسوالن بول ،يقول" :ال يوجد عرق بروطوني بل شعب بروطوني .ال يوجد عرق فرنسي بل أمة فرنسية .ال يوجد عرق التيني بل حضارة التينية ."...ال توجد األعراق إال نظريا ،وال يهتم 7
تطبق في السياسة أبدا ،وذلك ألن العرق هو بها إال األنثروبولوجييون ،ونظرياتهم ال ّ تجمع "ألفراد متشابهين" من دم واحد وتجمعهم عوامل مثل طول الجسم ،لون ّ العينين ،والشعر ،شكل الجمجمة والوجه .هذا ويرفض العلم ،في أيامنا ،هذه الصيغة، ذاك أن اختلط المجموعات البشرية والتزاوج قد قضيا على األعراق النقية. التجمعات ،فهي مزيج مستقر بفعل أما القبائل أو الشعوب أو األمم وبقية أشكال ّ الوراثة والبيئة الخارجية التي جعلتها ،نسبيا ،دائمة حتى وإن كانت معقدة .هذه البيئة هي التي تؤثر ،مع الوقت ،على المظاهر الخارجية والنفسية ،وهذا ما يمكن التحدث التجمعات بمظاهر مادية واجتماعية وثقافية تتميز هذه عنه طوال فترات التاريخ .كما ّ ّ تقرب قرابة الدم وحدها في التجمعات الواسعة الناس المتحدرين ومعنوية .بينما ،ال ّ جد واحد ،ألن القرابة بعيدة عن أن ّ تؤلف رابطا اجتماعيا ،وما يدعم هذه النظرية من ّ فعل ،هو البغض بين األقارب والمنافسة بين اإلخوة األلداء. إن قوة القرابة باللغة ،هي أقوى من قرابة العرق كرابط اجتماعي ،ذلك ألن اللغة ّ هي عامل توحيد وعامل تقارب ثقافي لكن في الوقت عينه ليست عامل حاسما في الوحدة الوطنية .يمكن أن نرى أمما متعددة اللغات ومتّ حدة (سويسرا ،بلجيكا ،كندا)... ويمكن أن نرى في الوقت عينه شعوبا تتخاطب بلغة واحدة لكن ال تؤلف أمة واحدة. في العالم العربي مثل ،نرى لغة وثقافة وايديولوجية مشتركة لكن لكل شعب شخصيته الخاصة به .وجود لغة مشتركة هي أفضل من عدة لغات متقاربة للوصول إلى "وحدة روحية" ،كالهند مثل التي تستعمل أكثر من لغة رسمية للجمع بين المجموعات المتباينة ،لكن في الوقت عينه ،اللغة المشتركة ال تعني أبدا أن اللغة الواحدة هي التي يجب أن تكون سائدة. إن إغفال البحث الموضوعي لتأثير العامل الديني في التكوين السياسي للمجموعات البشرية ،من جانب الشرقيين وخصوصا اللبنانيين ،هو تجاهل خاطئ .في الوقت عينه، إن الدين وحده ليس مقررا للوحدة الوطنية كما هو حال العرق واللغة .نادرا ما قامت 8
حروب من أجل "فوارق دينية" بينما سالت دماء من أجل خصومات دينية .في المجتمعات البدائية ،كان الشعور الجماعي أو التضامن في الصراع من أجل الحياة، بأغلبه ،طابع ديني .سابقا ،كان لكل أسرة أو قبيلة إلهها الخاص واألمم الشرقية ضمتها إلى آلهتها المركزية .حتّ ى بعد ظهور الديانات تجمعاتها بل ّ تلغ آلهة ّ األولى لم ِ السماوية ،لم تفرض السلطة السياسية العليا عقيدة واحدة على األفراد إجماال ،طالما ّ منوعة تحت وصايتها. ظلوا يؤلفون مجتمعات دينية ّ عند معارضة السلطات الحاكمة تتحول الطوائف غير الموالية إلى جماعات معادية للحكم وهنا تولد الثورة .الدين الرسمي المفروض فرضا هو عنصر تفتيت ال توحيد ولو إن التجمع المتنوع بحاجة إلى عنصر توحيد ،ألن كل ضغط في هذا المجال يؤدي إلى تعدد طوائفه .إذا افترضنا، العنف .ال يجب أن نعتقد أن تفكك العالم الشرقي يعود إلى ّ مثل ،أن المسيحية انقرضت من الشرق ،فإن الوحدة الروحية المسلمة لن تكون أقوى، الشيع فيما بينها" .كل أمة تهيمن تقود هيمنتها بل ستواجه بعضها بعض وستتنافس َ إلى هلكها" على حد قول العالم العارف. إن الدين يظهر أحيانا فاقعا في ردة الفعل ضد هيمنة دين مختلف ،وهناك أمثلة عدة في هذا الخصوص :حال الشرق المسيحي القديم الذي يعترف بطبيعة واحدة في المسيح ضد البيزنطيين القائلين بالطبيعتين ،كما حال الشرق المسلم ضد أوروبا ّ المتسلحة الصليبية ،وحال شيعة بغداد ضد سنة دمشق .يوم قابل الشرق المسلم أوروبا بالصليب ،وإثر إخراج الصليبيين وتدمير بيزنطيا ،لم يعد لردة الفعل الدينية اإلسلمية أي غرض ،وما حصل بعدها هو أن الشرق اإلسلمي وقع من جديد تحت حكم الدكتاتورية العثمانية المسلمة. الدين في السياسة هو عنصر توحيد مؤقت .عندما حاولت الشعوب اإلسلمية التحرر من وصاية األتراك ،لم تستطع استخدام المفهوم الديني فاستبدلته بعنصر اللغة ،ومن هنا نشأت العروبة وهي قوة لغوية في أساسها .حرية المعتقد تميل إلى التمييز بين 9
الدين والدولة ،والتجربة التركية انطلقت بحزم في هذه الطريق ،فيما عجز العالم العربي ،عبر اللغة والدين ،عن إيجاد مجتمع كبير ومتماسك. أفلح التاريخ أكثر من العرق واللغة والدين ،تحت سيطرة سلطة مشتركة ،في تحويل المتفرقة إلى مجتمع متماسك ووطني .في الوقت عينه ،إن االتحادات المجموعات ّ التاريخية والسياسية لم تلد ،دوما ،وحدات عضوية قابلة للحياة ،خصوصا إن ُجمعت بالقوة مع بعضها البعض. في الخلصة ،ال يمكن للعرق أو اللغة أو الدين أو التاريخ أن تكون أساسا لوحدة وطنية حقيقية .صحيح أن هذه العناصر تجعل التجمعات تتماسك لكن يجب البحث عن عناصر تجمع واحد ،وعن العناصر التي تؤلف وحدة أكثر فاعلية وأولها المصلحة واإلرادة في ّ إرادة العيش المشترك.
األمة الحديثة ومكوناتها األساسية األمة ناتجة عن مزج الشعوب والحاجة إلى التضامن والتعاون ،وهي سلسلة من التحوالت بدءا من األسرة والقبيلة والعشيرة وصوال إلى المدينة والشعب واألمة. تحددها إرادة التعاون والعيش األمة أيضا هي شراكة شعوب ،متجانسة نوعا ما، ّ المشترك .هناك عناصر تساهم في خلق هذه اإلرادة المشتركة ومنها :تشابه في الشكل الخارجي ،عادات ،تقاليد ،وحدة مصالح وثقافة وذكريات ،قرابة إثنية باللغة أو الدين. األمة ليست فقط شراكة ،بل "مبدأ روحي" يأتي على رأسه الشعور الوطني .إن الوطن هو ما ّ حل مكان االنتماء اإلثني أو الديني أو السللة المالكة قديما" :الناس تموت من أجل وطنها كما كانت تموت في الماضي من أجل ملكها أو دينها".
10
يجب أن تكون إرادة العيش المشترك في األمة مستدامة ،ولو جمعت شعوبها ماضيا عناصر ظرفية ،يكفي أن تجمعها في الحاضر المصلحة العليا .إن "نزاعات الماضي ليست حاجزا أمام العيش المشترك إذا كانت لدينا إرادة نسيانها" وهذا كان شأن أميركا بعد حرب اإلنفصال. إن انعدام المشاركة المرتضاة ،التي ّ تولد الشعور الوطني ،هو سبب ضعف بلدان الشرق قديما ،بينما مثل ،المدن اليونانية الصغيرة التي اتّ حدت ،صمدت في وجه اإلمبراطورية الفارسية وجيوشها. أما لبنان ،فهو حقيقة اجتماعية مك ّونة بفعل الجغرافيا والتاريخ وملتحمة بفضل إرادة سكانها .في لبنان شعوب متقاربة نسبيا ،لكن لكل منها طابع خاص وسمات مشتركة بعيدة عن العرق أو اإليمان الديني .يضاف إلى كل ذلك ،إرادة العيش المشترك ،وهذه ال نجدها لدى الشعوب األكثر تجانسا من حيث القرابة اإلثنية ،اللغوية ،الثقافية والنشاط االقتصادي معا.
جواد بولس ،األسس الحقيقية للبنان المعاصر ،مؤسسة جواد بولس ،لبنان.
الفكر والمعرفة ،نضع بين أيديكم ملخصا لكتاب بما أن التثقيف السياسي هو زوادة ِ المؤرخ جواد بولس بعنوان "أهمية التاريخ والجغرافيا في نشوء األمم والشعوب" ليكون مادة للمعرفة والنقاش والتفاعل.
11