النسيم في تفسير القرآن الكريم - 1

Page 1

‫‪١‬‬

‫َّ‬ ‫النسيم‬ ‫تفسي القرآن الكريم‬ ‫يف‬ ‫ر‬ ‫أبو أمحد املصري‬ ‫باحث يف علم تفسري القرآن الكريم‬


‫سلسلة‬

‫في تفسير القرآن الكريم‬ ‫احلزب األول‬

‫من أول سورة الفاحتة حتى سورة البقرة اآلية رقم ‪74‬‬

‫جمال حسين عبد الفتاح‬


‫‪m‬‬ ‫اسم الكتاب‪ :‬النسيم يف تفسري القرآن الكريم ‪ -‬احلزب األول‬ ‫املؤلف‪ :‬مجال حسني عبد الفتاح‪ ،‬أبو أمحد املرصي‬ ‫تاريخ النرش‪ :‬الفاتح من شهر ممجادى اآلخرة ‪ 1443‬هـ ‪ -‬املوافق ‪2022 / 1 / 4‬‬

‫© مجيع احلقوق حمفوظة للمؤلف‬ ‫‪Jamal_houssin@hotmail.com‬‬ ‫لالشرتاك بخدمة تعبري الرؤيا والدورات الدراسية يف علم التعبري ميرجى مراسلة املؤلف‬ ‫صورة الغالف ‪ :‬مكة املكرمة يف حدود عام ‪ 1304‬هـ ‪ -‬املوافق ‪1887‬‬ ‫تصوير ‪ :‬السيد عبد الغفار املكي رمحه اهلل‬ ‫املصدر‪The Atlantic :‬‬


‫مقدمة تفسري النسيم‬

‫مقدمة‬ ‫ومن سي ِ‬ ‫أنفسنا ِ‬ ‫رشور ِ‬ ‫ِ‬ ‫َّ‬ ‫ئات أعاملِنا‪َ .‬من هيده اهللم َفال‬ ‫ونستغفر مه‪ ،‬ونَعو مذ باهللِ من‬ ‫نحمدم مه ونَستعينم مه‬ ‫ِّ‬ ‫م‬ ‫إن احلمدَ هللِ َ‬

‫مم َّ‬ ‫وأشهدم َّ‬ ‫حممدً ا عبدم مه ورسو مل مه‪.‬‬ ‫وأشهدم أن ال اله اإال اهللم‪،‬‬ ‫هادي ل مه‪.‬‬ ‫ضل ل مه‪ ،‬و َمن ميضلِ ْل اهللم فال‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫أن َّ‬ ‫﴿ َيا َأ ه َهيا ا َّل ِذي َن آ َمنموا ا َّت مقوا اهللَ َح َّق مت َقاتِ ِه َو َال َ​َتمو مت َّن إِ َّال َو َأنتمم هم ْسلِ مم َ‬ ‫ون﴾ [آل عمران‪.]102:‬‬ ‫سو ِ‬ ‫ِ‬ ‫احدَ ٍة َو َخ َل َق ِمن َْها َز ْو َج َها َو َب َّث ِمن مْه َام ِر َج ًاال كَثِ ًريا َونِ َسا ًء‬ ‫َّاس ا َّت مقوا َر َّبك ممم ا َّلذي َخ َل َقكمم ِّمن َّن ْف ٍ َ‬ ‫﴿ َيا َأ ه َهيا الن م‬ ‫ون بِ ِه َو ْاألَ ْر َحا َم إِ َّن اهللَ ك َ‬ ‫َوا َّت مقوا اهللَ ا َّل ِذي ت َ​َسا َء مل َ‬ ‫َان َع َل ْيك ْمم َر ِقي ًبا﴾ [النساء‪]1:‬‬

‫﴿ َيا َأ ه َهيا ا َّل ِذي َن آ َمنموا ا َّت مقوا اهللَ َو مقو ملوا َق ْو ًال َس ِديدً ا‪ .‬مي ْصلِ ْح َلك ْمم َأ ْع َام َلك ْمم َو َي ْغ ِف ْر َلك ْمم مذنمو َبك ْمم‪َ .‬و َمن ميطِ ِع اهللَ‬ ‫َو َر مسو َل مه َف َقدْ َف َاز َف ْو ًزا َعظِ ًيام﴾ [األحزاب‪]71-70:‬‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫حمدثة بدع ٌة‪َّ ،‬‬ ‫حمدثاُتا‪َّ ،‬‬ ‫َّ‬ ‫بدعة‬ ‫وكل‬ ‫وكل‬ ‫األمور‬ ‫ورش‬ ‫اهلدي‬ ‫وخري‬ ‫كتاب اهللِ‪،‬‬ ‫احلديث‬ ‫خري‬ ‫م‬ ‫م‬ ‫م‬ ‫هدي حممد ﷺ‪َّ ،‬‬ ‫َ‬ ‫إن َ‬

‫ضالل ٌة‪َّ ،‬‬ ‫وكل ضاللة يف النار‪.‬‬ ‫بدأت قصة هذا الكتاب بأمنية منذ أن كنت ً‬ ‫طفال أستمع للقرآن ميتيل من حويل يف كل مكان وال أفهم معناه‪.‬‬ ‫فتمنيت أن أجد ممع ِّلام أو كتا ًبا يعينمني عىل الفهم‪.‬‬ ‫بدأت يف مرحلة مبكرة من العمر بقراءة كتب التفسري التقليدية املنترشة بني الناس كتفسري الطربي وابن‬ ‫ثم‬ ‫م‬ ‫كثري وغريها‪ ،‬وبعض هذه الكتب جيد من ناحية تأصيل التفسري‪ ،‬لكن فيها بعض األمور منها صعوبة اللغة‪،‬‬ ‫وابتعادها عن األسلوب العرصي‪ ،‬باإلضافة إىل التطويل الكثري والتفصيل العلمي يف قضايا بعيدة عن مصلب‬ ‫التفسري‪ ،‬وكذلك تعدد وتشعب األقوال املنقولة عن السلف الصالح‪ ،‬مما قد يؤدي لتشتيت الفهم‪.‬‬ ‫أيضا عىل بعض الكتب التقليدية املنترشة يف التفسري أخطاء يف العقيدة مُتالف ما كان عليه السلف‬ ‫ومما يؤخذ ً‬ ‫السنة واجلامعة‪ .‬ومنها تأويل أسامء اهلل وصفاته وإنكار بعض الصفات‪ .‬كقوهلم رمحة اهلل إرادة‬ ‫الصالح من أهل ه‬ ‫اخلري‪ ،‬واحلياء انكسار‪ ،‬واالستهزاء إظهار خالف الباطن‪ .‬وكذلك إنكارهم صفة اليد والوجه والساق واالستواء‬ ‫معان مُتالف ظاهرها‪ ،‬فقالوا‪ :‬اليد هي القدرة‪ ،‬والوجه هو ِ‬ ‫ٍ‬ ‫القبلة‪ ،‬والساق هي‬ ‫هلل تعاىل وغريها‪ ،‬وتأويلها عىل‬ ‫السلطان‪ ،‬واالستواء عىل العرش هو االستيالء عليه‪ .‬وهذا باب واسع يطول الكالم فيه‪ ،‬لكنه انحراف ظاهر يف‬ ‫كثري من كتب التفسري التي ما تزال تمطبع وتمباع دون أن ميصحح أحد ما فيها من البدعة‪.‬‬

‫‪3‬‬


‫أبو أمحد املصري ‪ :‬مجال حسني عبد الفتاح‬

‫ومن اإلشكاالت يف كتب التفسري التي مجعت أقوال السلف االستشهاد باألحاديث الضعيفة عن رسول اهلل‬ ‫ﷺ‪ ،‬وكذلك ضعف العديد من أسانيد األقوال وانقطاعها‪ ،‬وعدم َتييز أكثر املفرسين بني اجليد الصحيح املقبول‬ ‫منها والضعيف البعيد‪ .‬فليس كل قول وارد يف التفسري يصلح يف بيان املعنى‪ .‬فهناك أقوال دخيلة أو مدسوسة‬ ‫بطريق ناس غري ثقات‪ ،‬وهناك أمور اجتهادية من بعض السلف قد تقع فيها أخطاء ظاهرة‪ .‬ناهيك عن‬ ‫اإلرسائيليات واألوهام غري املقبولة التي تنترش يف بعض هذه الكتب‪.‬‬ ‫املفرسين تفسري اآليات بخصوص السبب الذي وردت به بعض‬ ‫ومن األخطاء التي وقع فيها العديد من ِّ‬ ‫املفرس أن هذه اآلية تشمل هؤالء الناس وتشمل‬ ‫اآلثار رغم أن لفظ اآلية عام يشمل ما سوى ذلك‪ .‬فال مي ِّبني ِّ‬ ‫حمصورا بعيدً ا عن الفهم الصحيح‪.‬‬ ‫غريهم ممن تنطبق عليه هذه األحوال‪ .‬وهذا اخلطأ من املفرسين جيعل التفسري‬ ‫ً‬ ‫وكذلك من اآلفات التي ابتمليت هبا الكثري من كتب التفسري يف القديم واحلديث االجرتاء عىل تفسري أمور‬ ‫غيب َّية بأقوال ضعيفة وخمتلف فيها عن بعض السلف‪ .‬وتفسري الغيب َّيات يف القرآن‪ ،‬سواء كانت من املايض أو من‬ ‫املستقبل‪ ،‬هو مما جيب االحرتاس فيه وعدم تفسريه إال بدليل قاطع بعيد عن التأويالت واالحتامالت‪.‬‬ ‫أما كتب التفسري بالرأي واالجتهاد ففي كثري منها من الشطحات والفلسفة ما اهلل به عليم‪ .‬ويكفي أن تقرأ‬ ‫تفسريا مثل الرازي أو اآللويس لتدرك حجم االعتداء عىل معاين كتاب اهلل تعاىل‪ .‬والعياذ باهلل‪.‬‬ ‫ً‬ ‫فالواقع أن كتب التفسري فيها الصحيح املقبول وفيها الضعيف غري املقبول‪ .‬وهي هبذه احلالة حتتاج إىل كثري من‬ ‫املراجعة والتنقية والتصحيح‪ .‬وقد قرأت العديد من هذه الكتب قراءة واعية مع دراسة أصول التفسري وقواعد‬ ‫الرتجيح بني األقوال الصحيحة والضعيفة‪ ،‬ثم رشعت يف كتابة هذا التفسري الذي استغرق سنوات يف اإلعداد‬ ‫اململ وال بالقصري املم ِ‬ ‫ودل‪ .‬فال هو بالطويل ِ‬ ‫قل َّ‬ ‫له‪ .‬وقد خططت أن يكون هذا التفسري ما َّ‬ ‫خ ال‪ ،‬مع استبعاد كل ما‬ ‫رصح به‪ .‬وقد استعملت لغة عرصية‬ ‫مل يثبت‪ ،‬وإضافة ما يكتمل به املعنى أو املفهوم ضمنًا من اآلية الكريمة‪ ،‬ومل مي َّ‬ ‫بسيطة ليسهل عىل القارئ فهم املعنى دون عناء إن شاء اهلل‪.‬‬ ‫وما أردت إال اإلصالح ما استطعت‪ ،‬وما توفيقي إال باهلل‪.‬‬ ‫الفقري إىل عفو ربه أبو أمحد املرصي ‪ /‬مجال حسني عبد الفتاح‬

‫‪4‬‬


‫تفسري النسيم ‪ :‬سورة الفاحتة ‪ :‬احلزب األول‬

‫سورة الفاحتة‬

‫ه‬ ‫ٱلرِنَٰمۡح ه‬ ‫ٱَّللِ ه‬ ‫ٱلرحِي ِم ‪١‬‬ ‫ِمۡسِب‬ ‫وتربكًا بذكره َّ‬ ‫جل وعال‪.‬‬ ‫(‪ )1‬افتتح قراءيت لكتاب اهلل باسم اهلل‬ ‫ً‬ ‫تعظيم هلل‪ ،‬واستعانة به‪ُّ ،‬‬ ‫وهو اإلله الرمحن الذي وسعت رمحته مجيع اخلالئق‪ .‬ومن آثار رمحته هبم إرسال حممد ﷺ وإنزال القرآن هلداية الناس‪.‬‬ ‫اختص برمحته عباده املؤمنني‪ .‬ومن آثار رمحته هبم هدايته هلم‪ ،‬ومنها إدخاهلم اجلنة يف اآلخرة‪.‬‬ ‫وهو اإلله الرحيم الذي‬ ‫َّ‬

‫ٱۡل حم ُد ِ هَّللِ َرب ٱلح َعَٰلَم َ‬ ‫حَ‬ ‫ني ‪٢‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬

‫وشكرا له عىل نعمته عىل عباده‪.‬‬ ‫تاما مستح ًّقا لكمل ذاته‪،‬‬ ‫ً‬ ‫ثناء ًّ‬ ‫(‪ )2‬أثني عىل اهلل ً‬ ‫رب السموات واألرض وما بينهم‪.‬‬ ‫فهو السيد واملالك والرئيس واملدبر ألمور هذا الكون بجميع خملوقاته‪ُّ :‬‬

‫ٱلرِنَٰمۡح ه‬ ‫ه‬ ‫ٱلرحِي ِم ‪٣‬‬ ‫(‪ )3‬وهو الر ُّب الرمحن الذي وسعت رمحته مجيع اخلالئق‪ .‬ومن آثار رمحته هبم طعامهم ورشاهبم ورزقهم ونعيم دنياهم‪.‬‬ ‫الرب الرحيم بعباده املؤمنني‪ .‬ومن آثار رمحته هبم ما أعطاهم من متاع الدنيا ونعيمها جزاء إيمهنم وعبادهتم هلل‪.‬‬ ‫وهو ُّ‬

‫ومن رمحته سبحانه َّ‬ ‫كل نعمة أنعمها عىل خملوقاته‪ .‬ومن رمحته سبحانه كل ختفيف وتيسري للمشقة عىل خملوقاته‪.‬‬ ‫ومن رمحته سبحانه َّ‬ ‫رش ورضر حفظ منه خملوقاته‪.‬‬ ‫كل ٍّ‬ ‫رشا أكرب‪.‬‬ ‫ومن رمحته سبحانه أن يبتيل املؤمن بالش‬ ‫تكفريا لذنوبه ورفعة لدرجاته وليكفيه ًّ‬ ‫ً‬ ‫وكل ما تنصلح به أحوال املخلوقات وتستقيم يف الدين أو الدنيا أو اآلخرة‬ ‫ما أح َّبوا منه أو كرهوا وما فهموا حكمته أو مل يفهموا داخل يف معنى رمحة اهلل‪.‬‬

‫َمَٰل ِ َ ح‬ ‫ِين ‪٤‬‬ ‫ِك يو ِم ٱل ِ‬ ‫(‪ )5‬اهلل هو صاحب األمر املترصف يف شؤون العباد يوم القيامة‪.‬‬ ‫وهو يوم احلساب واجلزاء باجلنة أو النار للناس مجي ًعا‪ .‬وهو يوم يزول كل ملك يف اإلرض وال يبقى إال ملك اهلل‪.‬‬ ‫رضا‪ ،‬وال مصالح بينهم يف ذلك اليوم كم كانوا يف الدنيا إال ما شاء اهلل‪.‬‬ ‫وهو يوم ال يملك الناس لبعضهم نف ًعا وال ًّ‬

‫‪1‬‬

‫اك َن حع ُب ُد ِإَويه َ‬ ‫إيه َ‬ ‫اك ن َ حس َتعِ ُ‬ ‫ني ‪٥‬‬ ‫ِ‬

‫(‪ )5‬نحن املسلمون ال نعبد إال اهلل وحده ال رشيك له‪ ،‬فنشهد َّأال إله إال اهلل‪ ،‬وأن حممدً ا رسول اهلل‪.‬‬

‫‪ .1‬ويف قراءة أخرى‪﴿ :‬ملِ ِ‬ ‫ك يو ِم الدِّ ين﴾‪.‬‬ ‫َ‬

‫‪5‬‬


‫أبو أمحد املصري ‪ :‬مجال حسني عبد الفتاح‬

‫ونطيع اهلل فيم أمر يف القرآن‪ ،‬ونطيع رسوله ﷺ فيم أمر يف سنَّتِه‪ .‬فهذه عبادة اهلل التي أمرنا هبا يف كتابه الكريم‪.‬‬ ‫ونحن املسلمون ال نستعني عىل أمور ديننا ودنيانا إال باهلل وحده ال رشيك له‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫فاستعن باهلل»‪.‬‬ ‫وهذا ما أمرنا به اهلل عىل لسان رسولنا حممد ﷺ‪ ،‬فقال‪« :‬وإذا استعنت‬

‫‪1‬‬

‫والعبادة واالستعانة باهلل هو التكليف اإلهلي الذي أوجبه اهلل عىل املسلمني وأساس دينهم‪ ،‬فجاء يف اآلية عىل لساهنم‪.‬‬

‫ح َ‬ ‫ٱلص َر َٰ َط ٱل ح ُم حس َت ِق َ‬ ‫يم ‪٦‬‬ ‫ٱهدِنا ِ‬ ‫(‪ )6‬قال املؤمنون داعني رهبم‪ :‬اللهم اهدنا إىل طريقك املستقيم‪ ،‬فثبتنا عىل دين اإلسالم‪ِ ،‬‬ ‫وزدنا فيه من اهلدى‪.‬‬ ‫فذلك هو الدين احلق‪ ،‬وهو طريق اهلل املستقيم‪ ،‬فال عوج فيه وال ضالل وال انحراف عن الصواب‪.‬‬ ‫من استمسك باإلسالم استقام‪ ،‬واستقامت أحواله‪ ،‬وسار عىل طريق رضوان اهلل وجنَّتِه‪...‬‬

‫َ َح ح َ​َ ه‬ ‫َ َٰ َ ه َ َ ح َ ح َ َ َ ح ح َ ح ح َ ح ُ‬ ‫َ‬ ‫وب علي ِهم وَل ٱلضٓال ِني ‪٧‬‬ ‫ِ‬ ‫ۡي ٱلمغض ِ‬ ‫صرط ٱَّلِين أنعمت علي ِهم غ ِ‬

‫(‪... )6‬اللهم ثبتنا عىل دين اإلسالم الذي استقام عليه من أنعمت عليهم به‬ ‫من النبيني والصديقني والشهداء والصاحلني‪.‬‬

‫‪2‬‬

‫اللهم إنا نعوذ بك من دين اليهود الذين غضبت عليهم‪ ،‬فال ن َّتبع سبيلهم‪ ،‬فتغضب علينا مثلهم‪.‬‬ ‫اللهم إنا نعوذ بك من دين النصارى الذين ض ُّلوا عن احلق‪ ،‬فال نتَّبع سبيلهم‪ِ ،‬‬ ‫فنض َّل مثلهم‪.‬‬ ‫‪3‬‬

‫إن الدين عند اهلل اإلسالم‪ .‬فاحلمد هلل عىل نعمة اإلسالم‪.‬‬

‫آمني‬

‫انتهى تفسري سورة الفاحتة بحمد اهلل تعاىل‬

‫ظ اهللَ حي َف ْظك ‪ ،‬اح َف ِ‬ ‫كلامت‪ :‬اح َف ِ‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ظ اهللَ ِ‬ ‫جتدْ ه‬ ‫رسول اهللِ ﷺ يو ًما قال يا غال مم ‪ ،‬إين أع ِّل ممك‬ ‫خلف‬ ‫َ‬ ‫كنت‬ ‫‪ .1‬يف احلديث الرشيف عن ابن عباس‪ ،‬قال‪ :‬م‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫الرتمذي]‬ ‫فاسأل اهللَ‪ ،‬وإذا استعن َْت فاستع ْن باهللِ‪[ .»...‬حديث صحيح رواه‬ ‫سألت‬ ‫اهك‪ ،‬إذا‬ ‫َ‬ ‫مجت َ‬ ‫ا‬ ‫الصدِّ يق هو لقب ميطلق عىل بعض من صدَّ قوا األنبياء ونرصوهم كالصحابة مثل أيب بكر الصدِّ يق أو كمريم ابنة عمران أو غري ذلك‪.‬‬ ‫‪ِّ .2‬‬ ‫ِ‬ ‫‪ .3‬الغضب صفة ثابتة هلل تعاىل‪ .‬وغضب اهلل عىل اليهود ألهنم كفروا باهلل بعد أن عرفوا احلق‪ ،‬فكان كفرهم عىل علم؛ وغضب اهلل عىل النصارى ألهنم‬ ‫كفروا باهلل‪ ،‬فقالوا عليه ما ال يعلمون‪ ،‬فعبدوه بغري ِعلم‪ .‬أما املسلمون فهم الذين عبدوا اهلل عىل ِعلم‪ ،‬فاجتنبوا سبيل اليهود والنصارى‪.‬‬

‫‪6‬‬


‫تفسري النسيم ‪ :‬سورة البقرة ‪ :‬احلزب األول‬

‫سورة البقرة‬ ‫ٓ‬ ‫ال ٓم ‪١‬‬

‫ِ‬ ‫ميم‪،‬‬ ‫فرقة مع سكون آخرها‪ :‬ألفْ ال ْم ْ‬ ‫(‪ )1‬حروف تقرأ م َّ‬ ‫وهي فواتح افتتح اهلل هبا بعض سور القرآن الكريم‪.‬‬ ‫سمى هبا السور كسورة ق‪ ،‬وسورة ص‪ ،‬وسورة يس‪ ،‬وسورة طه؛‬ ‫وهي أسمء ت َّ‬ ‫(السجدة)‪ ،‬و ﴿حم﴾ (الدُّ خان)‪.‬‬ ‫وقوهلم‪﴿ :‬امل تنزيل﴾ َّ‬ ‫وهلذه احلروف من املعاين ما اهلل به عليم‪ ،‬فنفوض ِعلمها هلل تبارك وتعاىل‪.‬‬ ‫‪1‬‬

‫ب فِيهِ ُهدى ل ِلح ُم هت ِق َ‬ ‫َ َ ح َ ُ َ َح َ‬ ‫ني ‪٢‬‬ ‫ذَٰل ِك ٱلكِتَٰب َل ري َۛ ِۛ‬

‫شك أنه احلق ِ‬ ‫(‪ )2‬هذا القرآن ال َّ‬ ‫والصدق واحل ّجة والربهان الذي أنزله اهلل عىل رسوله حممد ﷺ‪.‬‬ ‫وهو الكتاب اهلادي من الضاللة إىل البيان‪ ،‬ومن الكفر إىل اإلسالم‪ ،‬ومن الشك إىل التوحيد‪ ،‬ومن عبادة املخلوق إىل عبادة‬ ‫حرم اهلل إىل ما َّ‬ ‫أحل اهلل‪ ،‬ومن الشك إىل اليقني‪ ،‬ومن اخليبة إىل الرجاء‪ ،‬ومن‬ ‫اخلالق‪ ،‬ومما يغضب اهلل إىل ما يريض اهلل‪ ،‬ومما َّ‬ ‫اخلسارة إىل الكسب‪ ،‬ومن الفشل إىل النجاح‪ ،‬ومن اخلزي إىل الفالح‪ ،‬ومن احلزن إىل السعادة‪ ،‬ومن اليأس إىل األمل‪ ،‬من‬ ‫اجلهل إىل العلم‪ ،‬ومن الضعف إىل القوة‪ ،‬ومن الذل إىل الرفعة‪ ،‬ومن اهلزيمة إىل النرص‪ ،‬ومن عذاب النار إىل نعيم اجلنة‪.‬‬ ‫وهو مصدر اهلداية وأساسها ومنبعها وم ِعينها الذي ال ينضب يف كل زمان ومكان للمؤمنني الصاحلني الذين ي َّتقون غضب اهلل‬ ‫فخصهم‬ ‫كرمهم اهلل َّ‬ ‫حرمه‪ ،‬فال ينتفع هبذا القرآن غريهم‪ ،‬وال حيقق الغاية منه سواهم‪ ،‬ف ّ‬ ‫وعقابه بالتزام ما افرتضه واجتناب ما َّ‬ ‫باالهتداء يف هذا املقام‪.‬‬

‫ه َ ُح ُ َ حَح َُ ُ َ ه َ‬ ‫ح‬ ‫ُ َ‬ ‫ٱلصل َٰو َة َوم هِما َر َزق َنَٰ ُه حم يُن ِفقون ‪٣‬‬ ‫ب وي ِقيمون‬ ‫ٱَّلِين يؤمِنون بِٱلغي ِ‬ ‫(‪ )3‬ومن صفات هؤالء املؤمنني باهلل املتقني ملعصيته أهنم‪-:‬‬ ‫(أ) يؤمنون إيمنًا يقينًّا ال ريب فيه بأركان اإليمن التي أوحى اهلل هبا لرسوله ﷺ‪ ،‬وهذه األركان هي‪:‬‬ ‫اإليمن باهلل‪ ،‬ومالئكته‪ ،‬وكتبِ ِه‪ ،‬ورسلِ ِه‪ ،‬واليوم ِ‬ ‫اآلخر‪ ،‬والقضاء والقدر‪ِ :‬‬ ‫خريه ورشه‪ ،‬ح ِ‬ ‫لوه ومره ‪:‬‬ ‫‪2‬‬

‫ فاإليمن باهلل أن تؤمن أنه اإلله الواحد واملعبود بحق ال رشيك له‪ ،‬فال نِدَّ له وال شبيه وال مثيل‪،‬‬‫عىل اإلنْس ِ‬ ‫الس ْجدَ مة‪ ،‬و ﴿ ْ‬ ‫هل أتَى َ‬ ‫ان﴾‪[ .‬متفق عليه]‪ .‬وعن عبد اهلل‬ ‫َ‬ ‫النبي ﷺ يقرأ يف اجلمعة يف صالة الفجر ﴿امل َتن ِْز ميل﴾ َّ‬ ‫‪ .1‬يف احلديث الرشيف‪« :‬كا َن ه‬ ‫املغرب بـ ﴿حم﴾ الده ِ‬ ‫ِ‬ ‫خان‪[ .‬حديث حسن‪-‬نتائج األفكار البن َح َجر]‬ ‫بن مسعود أن رسول اهلل ﷺ قر َأ يف‬ ‫السنة واجلامعة يشمل التصديق بالقلب مع خضوعه واستسالمه هلل‪ ،‬وإقرار‬ ‫‪ .2‬اإليامن يف اللغة هو التصديق‪ .‬ويف املصطلح الرشعي لعقيدة أهل ه‬

‫باللسان بالدخول يف اإلسالم والقبول برشائعه‪ ،‬وعمل باجلوارح ملا افرتضه اهلل عليه مع ترك ما حرمه اهلل‪ .‬وأن اإليامن يزيد بالطاعة وينقص باملعصية‪.‬‬ ‫وتفسري اإليامن بالتصديق القلبي فقط باملعنى اللغوي بدعة خمالفة لعقيدة السلف‪.‬‬

‫‪7‬‬


‫أبو أمحد املصري ‪ :‬مجال حسني عبد الفتاح‬

‫الرب الواحد املالك املترصف يف مجيع املخلوقات‪ ،‬وأن تؤمن بأسمئه وصفاته وأفعاله‪ ،‬ال تنسبها ألحد غريه‪.‬‬ ‫وأن تؤمن أنه ُّ‬ ‫ واإليمن باملالئكة هو أن تؤمن بوجودهم‪ ،‬وأهنم عباد مكرمون خلقهم اهلل لعبادته‪ ،‬وهلم أسمء وأعمل وصفات نؤمن هبا كم‬‫والسنَّة‪.‬‬ ‫أخرب عنها اهلل ورسوله ﷺ يف القرآن ُّ‬ ‫ واإليمن بالكتب التي أنزهلا اهلل كالقرآن واإلنجيل والتوراة والزبور وصحف إبراهيم وغريها‪،‬‬‫وأن العقيدة فيها كلها واحدة مع اختالف رشائعها‪ ،‬مع االلتزام بم يف القرآن فقط‪ ،‬فهو آخرها‪.‬‬ ‫وقد ألغى اهلل بالقرآن العمل بشائع سائر الكتب أو اتباع ما فيها‪.‬‬ ‫حرفوها؛‬ ‫أما العقائد فاختالف عقائد القرآن مع ما عند اليهود والنصارى من الكتب دليل عىل أهنم َّ‬ ‫ألن القرآن مطابق ملا سبقه من الكتب يف العقيدة‪ ،‬فال يتَّبع يف ذلك غري القرآن‪.‬‬ ‫ واإليمن بالرسل أن نؤمن بجميع األنبياء واملرسلني‪ ،‬وأهنم مجي ًعا عباد مكرمون صاحلون‪.‬‬‫وال نفرق بني أحد منهم‪ ،‬فال نؤمن ببعض ونكفر ببعض كم فعلت اليهود والنصارى‪.‬‬ ‫ واإليمن باليوم اآلخر هو التصديق اجلازم بجميع ما يقع من أحداث يوم القيامة من لقاء اهلل واحلساب وميزان األعمل‬‫وشفاعة الرسول ﷺ للمؤمنني واجلنة والنار ورؤية املؤمنني لرهبم يوم القيامة وغريه مما أخرب اهلل ورسوله ﷺ‪.‬‬ ‫ واإليمن بالقضاء والقدر هو أن نؤمن أن اهلل قد كتب ِ‬‫بع ْل ِم ِه وعدْ لِ ِه مقادير املخلوقات كلها‪ ،‬وأن مشيئته واقعة هبم‪ ،‬وأنه قد‬ ‫أيضا مشيئة‬ ‫رفعت األقالم وج َّفت الصحف‪ .‬ومع ذلك فاهلل مل يقهر أحدً ا عىل الكفر أو اإليمن وال الش وال اخلري‪ ،‬فالإلنسان ً‬ ‫واختيار حياسبه اهلل عليه‪ ،‬لكن وما تشاؤون إال أن يشاء اهلل‪ .‬وعىل املسلم أن جيتهد يف حتصيل اخلري الذي يريض اهلل‪ ،‬واالبتعاد‬ ‫عن الش الذي يغضبه‪ ،‬وأال خيوض يف القضاء والقدر بغري ِعلم‪ ،‬ويقدر اهلل ما يشاء‪ ،‬وهو أحكم احلاكمني وأرحم الرامحني‪.‬‬ ‫وأركان اإليمن أوحاها اهلل لرسوله بالغيب‪ ،‬أي بالوحي الذي ال يراه الناس‪ ،‬وهو جربيل عليه السالم‪.‬‬ ‫وأركان اإليمن هي يف ذاهتا غيب مل يشاهدها الناس ومل يعرفوها إال بالوحي‪.‬‬ ‫فأركان اإليمن غيب وعرفناها بطريق الغيب‪ ،‬فإيمننا إيمن بالغيب‬

‫‪1‬‬

‫تطوعوا به من النوافل‪.‬‬ ‫(ب) يؤ ُّدون الصالة بشوطها وأركاهنا مع املداومة عليها سواء كانت مفروضة أو ما َّ‬ ‫(ج) ينفقون مما رزقهم اهلل من احلالل يف سبيل اهلل سواء كان زكاة مفروضة أو غريها من النفقات الواجبة واملستح َّبة‪.‬‬

‫‪2‬‬

‫َ ه َ ُح ُ َ َ ٓ ُ َ َح َ َ َ ٓ ُ َ‬ ‫َ‬ ‫َ َ‬ ‫ُ‬ ‫نزل مِن ق حبل ِك َوبِٱٓأۡلخ َِرة ِ ه حم يُوق ُِنون ‪٤‬‬ ‫نزل إَِلك وما أ ِ‬ ‫وٱَّلِين يؤمِنون بِما أ ِ‬

‫(‪ )4‬ومن صفات هؤالء املؤمنني املتقني أهنم‪-:‬‬ ‫ً‬ ‫مشموال باالتباع لتشيعاته‪.‬‬ ‫(هـ) يصدقون بالقرآن الذي أنزله اهلل إليك يا حممد ﷺ تصدي ًقا يقين ًّيا تفصيل ًّيا‬

‫والر مسل من الغيب وقد رآهم الناس؟ نقول‪ :‬غيب الرسل أن اهلل أرسلهم‪ ،‬وغيب الكتب أن اهلل أنزهلم‪.‬‬ ‫‪ .1‬فإذا قيل‪ :‬كيف يكون اإليامن بال مكتمب ه‬ ‫تعظيام هلذه األعامل وحثَّا عليها‪.‬‬ ‫‪ .2‬الصالة والزكاة جزء من اإليامن‪ ،‬فعطفهام عىل اإليامن يف اآلية الكريمة هو من عطف اخلاص عىل العام‬ ‫ً‬

‫‪8‬‬


‫تفسري النسيم ‪ :‬سورة البقرة ‪ :‬احلزب األول‬

‫(و) يؤمنون بالكتب السابقة التي أنزهلا اهلل عىل األنبياء قبلك يا حممد ﷺ تصدي ًقا إمجال ًّيا دون التزام باتباعها‪.‬‬

‫‪1‬‬

‫والسنَّة‪.‬‬ ‫(ز) يؤمنون إيمنًا يقين ًّيا ال ريب فيه بم يقع بعد املوت ويوم القيامة مما أخرب به اهلل ورسوله ﷺ يف القرآن ُّ‬

‫ُ َ َ ُ ح ح‬ ‫َ‬ ‫ُ ْ َ َ َ َ َٰ ُ‬ ‫لَع هدى مِن هرب ِ ِه حمۖۡ َوأ ْولـئِك ه ُم ٱل ُمفل ُِحون ‪٥‬‬ ‫أولـئِك‬

‫(‪ )5‬أولئك املوصوفون هبذه الصفات السابقة مجيعها هم وحدهم الذين هداهم اهلل للثبات عىل اإليمن احلق‪.‬‬ ‫فال جيوز وصف غريهم ممن ال يؤمن باهلل ورسوله ﷺ باهلداية أو الصالح أو التد ُّين‪.‬‬ ‫وكذلك فهم الفائزون برضوان اهلل وبالنرص والغنيمة والثواب والنعيم ودخول اجلنة ورؤية اهلل عز وجل يف اآلخرة‪.‬‬

‫ه ه َ َ​َ ْ ٓ َ‬ ‫َ‬ ‫َ َ َ َ َ ُ ُ َ ح‬ ‫ِين كف ُروا َس َوا ٌء َعل حي ِه حم َءأنذ حرت ُه حم أ حم ل حم تنذ حِره حم َل يُؤم ُِنون ‪٦‬‬ ‫إِن ٱَّل‬

‫(‪ )6‬إن الذين كفروا بدعوتك يا حممد ﷺ فعارضوا وعاندوا يف قبول احلق‪،‬‬ ‫خوفتهم من عقاب اهلل أم مل ختوفهم‪.‬‬ ‫لن يستجيبوا لك ولن يؤمنوا أو يدخلوا يف دين اإلسالم يف كل األحوال سواء َّ‬ ‫فال حتزن عليهم‪ ،‬فإنك قد ب َّلغت الرسالة وأديت األمانة كم أمرك اهلل عز وجل‪...‬‬

‫َ َ‬ ‫َخ َت َم ه ُ‬ ‫ِش َوة ‪َ ۡۖٞ‬ول َ ُه حم َع َذ ٌ‬ ‫اب َع ِظ ‪ٞ‬‬ ‫لَع قُلُوب ِه حم َو َ َ َٰ‬ ‫ٱَّلل َ َ َٰ‬ ‫لَع َس حمعِ ِه حمۖۡ َو َلَع أبح َص َٰ ِره حِم غ َ َٰ‬ ‫يم ‪٧‬‬ ‫ِ‬

‫(‪... )7‬ذلك أن اهلل قد علِم سل ًفا أهنم سريفضون دعوة اإليمن وأهنم سيختارون الكفر‪،‬‬ ‫فكتبه عليهم ِ‬ ‫بعلمه هبم وعدلِه معهم‪ ،‬فطبع عىل قلوهبم وأسمعهم‪،‬‬

‫فال يدخل قلوهبم إيمن‪ ،‬وال خيرج منها كفر؛ وإن استمعوا إىل القرآن أو دعوة احلق ال هيتدوا‪.‬‬ ‫وكذلك‪ ،‬فقد جعل اهلل عىل أبصارهم غطاء‪ ،‬فإن رأوا آيات اهلل ال يؤمنوا‪.‬‬ ‫وسيجازهيم اهلل بعذاب كبري يف نار جهنم بسبب رفضهم قبول دعوة اإليمن وعدم دخوهلم يف دين اإلسالم‪.‬‬ ‫خريا هلداهم ووفقهم إىل دين اإلسالم‪.‬‬ ‫ولو علم اهلل فيهم ً‬ ‫خريا فتاب عليهم من الكفر وعفا عنهم‪ ،‬فاستثناهم برمحته من الضالل والعذاب‪.‬‬ ‫ومع ذلك‪ ،‬علم اهلل يف بعضهم ً‬

‫َ َُ ُ َ َه ه َ ح‬ ‫ٱَلَ حو ِم ٱٓأۡلخِر َو َما ُهم ب ُم حؤ ِمن َ‬ ‫ِني ‪٨‬‬ ‫َوم َِن ٱنله ِ‬ ‫ِ‬ ‫اس من يقول ءامنا بِٱَّللِ وب ِ‬ ‫ِ‬

‫(‪ )8‬وبعض الناس منافقون‪ .‬يقولون‪ :‬نحن مسلمون مؤمنون باهلل وبيوم القيامة؛ ي ِ‬ ‫ظهرون اإلسالم كذ ًبا وقلوهبم كافرة به‪.‬‬

‫‪2‬‬

‫ور مسله‪ .‬بعضها نعرفه وبعضها ال نعرفه‪ .‬أما الكتب التي مع اليهود والنصارى اآلن‪ ،‬فهذه دخل عليها‬ ‫‪ .1‬نؤمن أن اهلل أنزل كمتبًا سابقة عىل أنبيائه م‬ ‫التحريف والتزييف‪ ،‬فليست هي التوراة أو اإلنجيل اللذين أنزهلام اهلل عىل موسى وعيسى عليهام السالم‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫وُيفي الكفر‪ .‬ذكر اإليامن باهلل‬ ‫‪ .2‬النفاق إظهار اخلري أمام الناس مع إرسار الرش والكراهية والرضر يف النفس‪ .‬و ميطلق هنا عىل من ميظهر اإلسالم كذ ًبا م‬ ‫وخص اإليامن باهلل واليوم اآلخر‬ ‫واليوم اآلخر من اإلجياز البالغي ‪ .‬فهم يزعمون اإليامن باهلل ومالئكته وكتبه ورسله واليوم اآلخر والقضاء والقدر‪.‬‬ ‫َّ‬ ‫تعظيام وَتمييزً ا‪.‬‬ ‫بالذكر يف اآلية‬ ‫ً‬

‫‪9‬‬


‫أبو أمحد املصري ‪ :‬مجال حسني عبد الفتاح‬

‫ْ‬ ‫َح‬ ‫ح‬ ‫َ هٓ َ ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ َ َٰ ُ َ‬ ‫ون ه َ‬ ‫ٱَّلل َو هٱَّل َ‬ ‫ِين َء َام ُنوا َو َما َي َد ُعون إَِل أنف َس ُه حم َو َما يَش ُع ُرون ‪٩‬‬ ‫يخدِع‬ ‫(‪ )9‬خيادعون اهلل بإظهار اإلسالم وإرسار الكفر وخيدعون الذين آمنوا بذلك‪.‬‬ ‫والواقع أهنم ال خيدعون بنفاقهم أال أنفسهم؛ ألن اهلل ال ينخدع فهو بكل يشء عليم‪،‬‬ ‫وألن اهلل فضحهم فكشفهم للمؤمنني يف القرآن‪ ،‬وألنه يعاقبهم يف نار جهنم خالدين فيها‪.‬‬ ‫يرضهم‪ ،‬بل ي َّ‬ ‫توَّهون أنه ينفعهم‪.‬‬ ‫ومع ذلك‪ ،‬ال يشعرون أهنم خمدوعون أو أن نفاقهم ُّ‬

‫‪1‬‬

‫ُ​ُ‬ ‫ه َ ‪ ُ ُ َ َ َ ٞ‬ه ُ َ َ َ َ ُ ح َ َ ٌ َ ُ ُۢ َ َ ُ ْ َ ح ُ َ‬ ‫ِ​ِف قلوب ِ ِهم مرض فزادهم ٱَّلل مرضاۖۡ ولهم عذاب أ َِلم بِما َكنوا يكذِبون ‪١٠‬‬

‫(‪ )10‬يف قلوهبم شك يف الدين وارتياب يف احلق الذي نزل من عند رب العاملني‪ ،‬فهي قلوب مريضة بالكفر والنفاق‪.‬‬ ‫ً‬ ‫وكفرا ونفا ًقا‪ ،‬فلم يوفقهم للهداية أو يعينهم عليها‪،‬‬ ‫وضالال‬ ‫فعاقبهم اهلل فزادهم شكًّا‬ ‫ً‬ ‫وز َّين هلم كفرهم ونفاقهم فرأوه حسنًا‪ ،‬وتركهم يتمدون يف الضالل والفساد‪،‬‬ ‫ووعدهم عذا ًبا يؤملهم يف جهنم بسبب كذهبم عىل اهلل وعىل املؤمنني وتكذيبهم هلل ورسوله ﷺ‪.‬‬ ‫ً‬ ‫ضالال‪.‬‬ ‫وهذا من سنة اهلل تعاىل يف أن من اختار الضالل بعد معرفة احلق‪ ،‬واستحب الكفر عىل اإليمن زاده اهلل‬

‫َ َ َُ ح َ ُح ُ ْ ح َ‬ ‫َ ُْٓ ه َ َح ُ ُ ح ُ َ‬ ‫ۡرض قالوا إِنما َنن مصل ِحون ‪١١‬‬ ‫ِإَوذا قِيل لهم َل تفسِدوا ِ​ِف ٱۡل ِ‬

‫(‪ )11‬وإذا ن ِصح املنافقون باالنتهاء عن الكفر أو املعايص أو حماربة الدين أو االحتكام إىل غري رشيعة اهلل؛‬ ‫ألن هذا يغضب اهلل ويفسد الدنيا واآلخرة‪ .‬قالوا‪ :‬ما فعلنا إال ما تنصلح به احلياة وما قصدنا إال اخلري واإلصالح‪.‬‬ ‫ومن يظهر اإلسالم ثم يرى أو يقول أن معصية اهلل ً‬ ‫عمال حسنًا مع علمه باحلكم بالدليل الشعي‪ ،‬فهو من عالمات النفاق‪.‬‬

‫َ​َ ٓ ه ُ ح ُ ُ حُ ح ُ َ َ َ‬ ‫ه َح ُ​ُ َ‬ ‫َٰ‬ ‫كن َل يشعرون ‪١٢‬‬ ‫أَل إِنهم هم ٱلمفسِدون ول ِ‬

‫(‪ )12‬الواقع أن املنافقني يف حكم اهلل هم املفسدون بسبب خمالفتهم رشيعة اهلل التي ال تنصلح احلياة إال هبا‪،‬‬ ‫ومع ذلك‪ ،‬ال يشعرون أهنم مفسدون رغم علمهم باألحكام الشعية من حالل وحرام‪،‬‬ ‫بل قد يظن الواحد منهم أن الدين يفسد احلياة‪ ،‬وأنه ال إصالح لألحوال إال برتكه والتخيل عنه‪.‬‬

‫ُيا ِدعمو َن إِالَّ َأن مف َس مهم﴾‪ .‬اخلداع إظهار شخص خالف باطنه بقصد اإلرضار‪ .‬وكل عمل صالح ال ميبتغى به وجه اهلل أو فيه حتايل‬ ‫‪ .1‬يف قراءة‪َ ﴿ :‬و َما َ ْ‬ ‫سمى خداعًا هلل؛ فهو عمل يف ذاته ميط َلق عليه خداع‪ ،‬وال ينطيل خداع عىل اهلل‪ .‬ومن أمثلة ذلك ما جاء عن ابن عباس موقو ًفا أنه‬ ‫عىل الدين جيوز أن مي َّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫جاء مه ٌ‬ ‫رج ٌل؟ فقال َمن ُياد ِع اهللَ ُيد ْع مه» [إسناده ثابت‪-‬إعالم املوقعني البن القيم وبيان الدليل البن‬ ‫عمي ط َّلق امرأ َت مه ثال ًثا‪ ،‬مأحي هلها له م‬ ‫رجل فقال‪« :‬إن ِّ‬ ‫تيمية] و«ُيادع» و«ُيدع» باملعنى نفسه‪.‬‬

‫‪10‬‬


‫تفسري النسيم ‪ :‬سورة البقرة ‪ :‬احلزب األول‬

‫َ َ َ ُ ح َ ُ ْ َ َ ٓ َ َ َ ه ُ َ ُ ٓ ْ َ ُ ح ُ َ َ ٓ َ َ َ ُّ َ َ ٓ ُ َ َ ٓ ه ُ ح ُ ُ ُّ َ ٓ‬ ‫ٱلسف َها ُء‬ ‫ِإَوذا قِيل لهم ءامِنوا كما ءامن ٱنلاس قالوا أنؤمِن كما ءامن ٱلسفهاء ُۗ أَل إِنهم هم‬ ‫ه‬ ‫َ‬ ‫َ َ‬ ‫كن َل َي حعل ُمون ‪١٣‬‬ ‫َول َٰ ِ‬

‫(‪ )13‬وإذا ن ِصح املنافقون أن ي َّتبعوا سبيل املؤمنني من صحابة رسول اهلل ﷺ وأن يقتدوا هبم فيلزموا اإليمن احلق‪،‬‬ ‫قالوا مستكربين مستنكرين‪ :‬هل نقتدي بمثل هؤالء اجلهالء فنكون معهم سواء؟!‬ ‫والواقع أن املنافقني يف حكم اهلل هم اجلهالء ؛ ألهنم تركوا عبادة رب الناس التي ال تنصلح الدنيا واآلخرة إال هبا‪،‬‬ ‫وفضلوا نعيم الدنيا القليل عىل نعيم اآلخرة الكثري‪ .‬فهل من جهل أكرب من ذلك؟!‬ ‫واختاروا عبادة الناس‪َّ ،‬‬ ‫ومع ذلك‪ ،‬فهم ال يعلمون أهنم بكفرهم ونفاقهم هم اجلهالء‪،‬‬ ‫بل قد يظن الواحد منهم أنه من أهل العلم والثقافة‪ ،‬وأنه أذكى وأعلم من أهل الصالح والتقوى من املؤمنني‪.‬‬ ‫وسب الصحابة واملؤمنني أو احتقارهم إليمهنم من عالمات النفاق‪.‬‬ ‫ُّ‬

‫واعتقاد من يظهر اإلسالم أن شيئًا مما عند الناس يف الفكر والعقيدة أفضل وأحكم وأعدل مما أنزل اهلل هو من عالمات النفاق‪.‬‬

‫َ‬ ‫َ ُ ْ ه‬ ‫َ َ َ ْ َ َ‬ ‫َ‬ ‫ُ ه َح‬ ‫ِين َء َام ُنوا ْ قَال ُ ٓوا ْ َء َ‬ ‫ِإَوذا لَ ُقوا ْ هٱَّل َ‬ ‫ام هنا ِإَوذا خل حوا إ ِ َٰ​َل ش َيَٰ ِطين ِ ِه حم قال ٓوا إِنا َم َعك حم إِن َما َن ُن ُم حس َت حه ِز ُءون ‪١٤‬‬ ‫(‪ )14‬وإذا التقى املنافقون مع املؤمنني‪ ،‬قالوا‪ :‬نحن مؤمنون مسلمون نشهد أال إله إال اهلل وأن حممدً ا رسول اهلل‪.‬‬ ‫فهذا هو املعلن منهم أمام عموم الناس‪.‬‬ ‫وبالعكس‪ ،‬إذا التقوا مع أصحاهبم وأمثاهلم يف الكفر‪،‬‬ ‫قالوا‪ :‬نحن معكم يف الكفر باإلسالم‪ ،‬والعداوة للمؤمنني‪ ،‬ومنارصتكم عليهم‪.‬‬ ‫لكن قلنا أمام املسلمني أننا مسلمون مثلهم استهزاء هبم‪ ،‬أي استخفا ًفا بعقوهلم؛ لكي ال ينكشف أمرنا عندهم‪ .‬واالستهزاء‬ ‫باملؤمنني إليمهنم عالمة من عالمات النفاق‪ .‬فال يستهزئ بأهل اإليمن إال من ال إيمن يف قلبه‪.‬‬

‫ح‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫هُ‬ ‫ٱَّلل ي َ حس َت حه ِزئ ب ِ ِه حم َويَ ُم ُّده حم ِ​ِف ُطغ َيَٰن ِ ِه حم َي حع َم ُهون ‪١٥‬‬ ‫(‪ )15‬اهلل يستهزئ باملنافقني استهزاء جيازهيم به عىل استهزائهم باملؤمنني‪ .‬جزاء ً‬ ‫عادال من جنس عملهم‪.‬‬

‫‪1‬‬

‫تبني هلم طريق احلق فيتبعوه‪.‬‬ ‫ويعاقبهم اهلل بعدم التوفيق للهداية‪ ،‬فيرتكهم يف كفرهم يتمدون فيه حائرين ال ي َّ‬ ‫وهذا من سنة اهلل سبحانه وتعاىل يف إعانة من أراد اهلداية وجاهد للوصول إليها وحتقيقها‪،‬‬ ‫وإضالل من أعرض عن احلق وعاند دعوة اإليمن‪ ،‬باإلمالء له يف ذلك فيتمدى فيه‪،‬‬ ‫أو بتزيني فساده له فرياه حسنًا فال يعود عنه‪ .‬ويتوب اهلل عىل من تاب‪.‬‬

‫‪ .1‬صفة االستهزاء ثابتة هلل تعاىل جزاء ملن استهزأ باملؤمنني‪ .‬واالستهزاء يف اللغة السخرية‪ .‬وللعلامء اجتهادات كثرية يف كيفية استهزاء اهلل هبؤالء لكن‬ ‫مل يثبت منه يشء حمدد عن السلف‪ .‬فنؤمن هبذه الصفة كام جاءت يف القرآن دون تأويل هلا‪ ،‬ونفوض كيفيتها ِ‬ ‫لعلم اهلل‪ .‬وهذا مذهب السلف‪.‬‬

‫‪11‬‬


‫أبو أمحد املصري ‪ :‬مجال حسني عبد الفتاح‬

‫َُْ َ ه َ ح َ​َ ُْ ه‬ ‫ى َف َما َرب َ‬ ‫حت ت َِجَٰ َر ُت ُه حم َو َما َ​َكنُوا ْ ُم حه َتد َ‬ ‫ٱلض َلَٰلَ َة بِٱل ح ُه َد َٰ‬ ‫ِين ‪١٦‬‬ ‫أولـئِك ٱَّلِين ٱشَتوا‬ ‫ِ‬ ‫فضلوا طريق الضاللة عىل طريق اهلداية‪ ،‬واستح ُّبوا الكفر فاختاروه‪ ،‬وكرهوا الدين فنبذوه‪،‬‬ ‫(‪ )16‬أولئك املنافقون قد َّ‬ ‫فعاقبهم اهلل بضياع ثواب أعمهلم فال جيازهيم هبا إال نار جهنم‪ ،‬وعاقبهم باحلرمان من اهلداية‪ ،‬فلم يوفقهم لإليمن‪.‬‬ ‫ويتوب اهلل عىل من تاب‪.‬‬

‫َُ َ َ ه‬ ‫ح َ ح َ َ َ َ َ ه ٓ َ َ ٓ َ ح َ َ ح َ ُ َ َ َ ه ُ ُ ح َ َ َ َ ُ ح ُ ُ َ َٰ ه ُ ح ُ َ‬ ‫ِصون ‪١٧‬‬ ‫َمثل ُه حم ك َمث ِل ٱَّلِي ٱستوقد نارا فلما أضاءت ما حوَلۥ ذهب ٱَّلل بِنورِهِم وتركهم ِ​ِف ظلمت َل يب ِ‬

‫(‪ )17‬هؤالء املنافقون يف حاهلم مع اإليمن الذي تركوه والكفر الذي اختاروه‬ ‫نارا له وألصحابه‪.‬‬ ‫يشبهون‬ ‫ً‬ ‫شخصا أوقد ً‬

‫فلم أضاءت النار املكان حوهلم‪ ،‬أزال اهلل نورها عنهم‪ ،‬فبقوا يف الظالم ال ي ِ‬ ‫برصون شيئًا‪.‬‬ ‫َّ‬ ‫هذا مثل رضبه اهلل للمنافق يعلن اإلسالم للناس‪ ،‬فيعرف احلق والدين ويتكلم به‪ ،‬ثم ينقض ذلك بالكفر والنفاق‪ ،‬فيعاقبه اهلل‬ ‫باحلرمان من اهلداية‪ ،‬فال ينفعه إسالمه الظاهر شيئًا‪.‬‬ ‫فنعوذ باهلل من الكفر بعد اإليمن ومن الضالل بعد اهلدى‪ .‬ويتوب اهلل عىل من تاب‪.‬‬

‫‪1‬‬

‫َ‬ ‫ُ ُّ ُۢ ُ ح‬ ‫ك ٌم ُع ح ‪ ُ َ ٞ‬ح َ َ ح‬ ‫ج ُعون ‪١٨‬‬ ‫صم ب‬ ‫ۡم فهم َل ير ِ‬ ‫األصم‬ ‫(‪ )18‬هؤالء املنافقون يف غفلتهم عن احلق والدين يشبهون‬ ‫َّ‬ ‫الذي إن سمع دعوة احلق ال يستجيب كأنه مل يسمعها؛‬ ‫خريا أو يسأل عن ِعلم ينفعه عند اهلل؛‬ ‫واألخرس الذي ال ينطق بخري أو يطلب ً‬ ‫يمر عىل آيات اهلل فرياها كأن مل يرها‪ ،‬فال يؤمن هبا وال بخالقها وال بدينه‪.‬‬ ‫واألعمى الذي ُّ‬ ‫فهؤالء املنافقون هبذه الغفلة كالبهائم ال خري فيهم‪ ،‬فكيف ملغ َّفل أن يتوب ويعود إىل طريق اهلل ودين اإلسالم؟!‬ ‫فاهلل قد عاقبهم باحلرمان من اهلداية الستحقاقهم ذلك‪ ،‬واختيارهم الكفر بعد أن عرفوا طريق اهلداية‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫ً‬ ‫خريا فهداهم‪ ،‬فأولئك‬ ‫ويستثنى من ذلك من أراد اهلداية‪ ،‬ونفض عن نفسه غفلتها‪ ،‬فتاب وآمن وعمل‬ ‫صاحلا‪ ،‬وعلم اهلل فيهم ً‬ ‫يتوب اهلل عليهم‪ ،‬ويغفر هلم ما قد سلف‪...‬‬

‫َ َ َ ح‬ ‫َح َ‬ ‫َ ه َٓ‬ ‫ُ ُ َ َٰ ‪ َ َ ٞ‬ح ‪ َ َ ٞ‬ح ‪ َ ٞ‬ح َ ُ َ َ َ َٰ َ ُ ح ٓ َ َ‬ ‫ه‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ح‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َٰ‬ ‫ت‬ ‫أو كصيِب مِن ٱلسماءِ فِيهِ ظلمت ورعد وبرق َيعلون أصبِعهم ِ​ِف ءاذان ِ ِهم مِن ٱلصوع ِ​ِق حذر ٱلمو ِ ِۚ‬ ‫ح َ‬ ‫َ هُ ُ‬ ‫ك َٰ ِفر َ‬ ‫ين ‪١٩‬‬ ‫ٱل‬ ‫ب‬ ‫ِيُۢط‬ ‫ُم‬ ‫وٱَّلل‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬

‫ناسا يقفون حتت مطر شديد يف ظلمت الليل‪،‬‬ ‫(‪... )19‬وهؤالء املنافقون يف حاهلم مع القرآن يشبهون ً‬ ‫‪ .1‬هذا نظري قول اهلل تعاىل‪َ ﴿ :‬ذلِ َك بِ َأ َّهنم ْم آ َمنموا مث َّم َك َف مروا َف مطبِـ َع ع َ​َىل مق مل ِ ِ‬ ‫وهب ْم َف مه ْم ال َي ْف َق مه َ‬ ‫ون﴾ [املنافقون‪ .]3:‬وكوهنم مجاعة أضاء هلم واحد يفيد أن‬ ‫النفاق فيه التابع واملتبوع‪ ،‬والرئيس واملرؤوس‪.‬‬

‫‪12‬‬


‫تفسري النسيم ‪ :‬سورة البقرة ‪ :‬احلزب األول‬

‫ويرضب الرعد بصواعقه فوقهم‪ ،‬وييضء الربق بومضاته حوهلم‪.‬‬ ‫فوضعوا أصابعهم يف آذاهنم خو ًفا من أن تصيبهم صاعقة فتقتلهم‪.‬‬ ‫سوءا‪ .‬وال ينجي وضع األصابع يف األذن من رضبات الصواعق‪.‬‬ ‫وال ينجيهم حذرهم من قضاء اهلل إن أراد هبم ً‬

‫‪1‬‬

‫وهذا مثل رضبه اهلل للمنافق اجلبان الذي جيتنب سمع القرآن خشية املوت‪.‬‬ ‫ذلك أن اآليات قد تنزل فتفضح املنافق وتكشفه للمسلمني‪ ،‬فكان املنافق خيشى أن يفضحه القرآن‪ ،‬فيقتله املسلمون‪،‬‬ ‫أو قد تنزل آيات تدعو املسلمني للجهاد‪ ،‬فكان املنافق خيشى أن خيرج مع املسلمني يف اجلهاد‪ ،‬فيقتل يف املعركة‪.‬‬ ‫فاملنافق حمب للدنيا كاره للموت‪ .‬وهذا حال من ال يؤمن باآلخرة‪.‬‬ ‫ورغم هذا احلذر منهم فاهلل حميط هبم بعلمه‪ ،‬فال جيهل حاهلم‪ ،‬وحميط هبم بقدرته‪،‬‬ ‫فال يعجزه أن يعاقبهم إن شاء يف الدنيا بالفضيحة واإلهالك أو يف اآلخرة بنار جهنم‪...‬‬

‫َ َ ُ ح َ ح ُ َ ح َ ُ َ ح َ َٰ َ ُ ح ُ ه َ ٓ َ َ ٓ َ َ ُ ه َ ح ْ‬ ‫َٓ َح َ َ َ َح ح َ ُ ْ َ َح َ َٓ هُ َ​َ‬ ‫َّل َهبَ‬ ‫يكاد ٱلَبق َيطف أبصرهمۖۡ ُكما أضاء لهم مشوا فِيهِ ِإَوذا أظلم علي ِهم قام ْۚوا ولو شاء ٱَّلل‬ ‫َ ح ح َ َ ح َ َٰ ح ه ه َ َ َ َٰ ُ َ ح َ‬ ‫‪ٞ‬‬ ‫ك َشء قدِير ‪٢٠‬‬ ‫بِسمعِ ِهم وأبص ِره ِْۚم إِن ٱَّلل لَع ِ‬

‫(‪ ... )20‬إذا نظر املنافقون إىل السمء‪ ،‬انبهرت أبصارهم بضوء الربق الشديد‪ ،‬فكادوا أن يفقدوا أبصارهم؛‬ ‫فإذا نظروا حتتهم فأضاء هلم األرض‪ ،‬ساروا يف أثر ضوئه؛ فإن ذهب الضوء وانطفأ‪ ،‬توقفوا عن السري‪.‬‬ ‫هذا مثل رضبه اهلل للمنافق يظهر له احلق والربهان يف القرآن ِ‬ ‫واض ًحا فتقام عليه احل َّجة الشع َّية الدامغة عىل ِصدقه‪،‬‬ ‫لكن‪ ،‬بد ًال من أن يؤمن به كله‪ ،‬ويسلم هلل ولرسوله ﷺ بالطاعة إطال ًقا‪ ،‬ويدخل يف السلم كا َّفة‪،‬‬ ‫فهو انتقائي متذبذب يف االتباع‪،‬‬ ‫فإن وافق القرآن هواه ومصاحله الدنيوية‪ ،‬فحمه من رضر أو جلب له راحة أو ً‬ ‫جاها‪،‬‬ ‫ماال أو ً‬ ‫اتَّبعه ووافقه‪ ،‬وقال‪ :‬هذا دين عظيم مبارك‪،‬‬ ‫فإن خالف هواه ومصالح دنياه‪ ،‬فطالبه بتضحية أو بذل جهد أو مال أو جاه‪ ،‬أعرض عنه أو عارضه أو حتايل عليه‪،‬‬ ‫الش واألذى إال من هذا الدين‪.‬‬ ‫أو قال‪ :‬ما جاءنا ُّ‬

‫ُ ه‬ ‫َ َ ُّ َ ه ُ ح ْ‬ ‫َ‬ ‫ُ َ ه ُ َ ُ َ‬ ‫َ َ​َ ُ‬ ‫ك حم َو هٱَّل َ‬ ‫ِين مِن ق حبل ِك حم ل َعلك حم ت هتقون ‪٢١‬‬ ‫اس ٱع ُب ُدوا َر هبك ُم ٱَّلِي خلق‬ ‫يـأيها ٱنل‬

‫(‪ )21‬يا أهيا الناس مجي ًعا اعبدوا اهلل فاختذوه ً‬ ‫إهلا وحده ال رشيك له وال مثيل وال نظري‪،‬‬

‫‪2‬‬

‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫أخربنا ِ‬ ‫َّبي ﷺ‪ ،‬فقالوا‪ :‬يا أبا القاس ِم ِ‬ ‫هو؟ َ‬ ‫موك ٌَّل‬ ‫قال‪ :‬م َل ٌك م َن املالئكة َ‬ ‫الرعد ما َ‬ ‫عن َّ‬ ‫‪ .1‬يف احلديث الرشيف عن ابن عباس‪« :‬أقب َل ْت َهيو مد إىل الن ِّ‬ ‫اريق ِمن ٍ‬ ‫بالس ِ‬ ‫بالس ِ‬ ‫وت ا َّلذي نسم مع؟ َ‬ ‫حاب َح م‬ ‫م‬ ‫َهي إىل‬ ‫نار‬ ‫حاب م َع مه َخم م‬ ‫الص م‬ ‫يث شا َء اهللم‪ .‬فقالوا‪ :‬فام هذا َّ‬ ‫الس َ‬ ‫جر مه حتَّى ينت َ‬ ‫حاب إذا زَ َ‬ ‫قال زَ ْج مر مه َّ‬ ‫يسوق ِهبا َّ‬ ‫َّ‬ ‫ِ‬ ‫م‬ ‫م‬ ‫وصححه األلباين يف صحيح سنن الرتمذي‪ ،‬والسلسلة الصحيحة]‪.‬‬ ‫قت» [رواه الرتمذي‪ ،‬وقال حديث حسن غريب‪.‬‬ ‫َحيث أم َر‪ .‬قالوا‪ .‬صدَ َ‬ ‫َّ‬ ‫أيضا كانوا‬ ‫‪ .2‬املراد بالناس هنا مجيع الناس منذ بداية بعثة رسول اهلل حممد ﷺ إىل يوم القيامة‪ .‬و َذكَر «الذين من قبلكم» للتوكيد عىل أن السابقني ً‬ ‫خمصوصا بعرص رسول اهلل ﷺ أو ما بعده فقط‪.‬‬ ‫مأمورين بعبادة اهلل تعاىل‪ ،‬فعبادة اهلل والدعوة إليها أمر ليس‬ ‫ً‬

‫‪13‬‬


‫أبو أمحد املصري ‪ :‬مجال حسني عبد الفتاح‬

‫فال تشكوا معه غريه يف عبادته؛ فادخلوا يف دينه اإلسالم مع الرباءة من كل ما سواه من ِملل الكفر؛‬ ‫فأطيعوه فيم رشع لكم من الدين وال تطيعوا من خالفه‪.‬‬ ‫مذكورا‪،‬‬ ‫فهو الذي أوجدكم يف هذه احلياة‪ ،‬ومل تكونوا من قبل شيئًا‬ ‫ً‬ ‫أيضا‪ ،‬وأمرهم بعبادته كم أمركم بعبادته‪،‬‬ ‫كم أوجد الناس الذين عاشوا قبلكم ً‬ ‫وأماهتم‪ ،‬فسريجعون إليه يوم القيامة ليحاسبهم وجيازهيم‪ ،‬كم متوتون أنتم وترجعون إليه مثلهم‪.‬‬ ‫فإن عبدتم اهلل عبادة صحيحة كم رشع لكم‪ ،‬سيكون ذلك سب ًبا تتَّقون به غضبه وعقابه يف الدنيا واآلخرة‪...‬‬

‫ه‬ ‫َ َ َ َ ُ ُ ح َ َ َ َٰ َ ه َ ٓ َ َ ٓ َ َ َ َ َ ه َ ٓ َ ٓ َ َ ح‬ ‫ح ه ُ‬ ‫ه‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫كمۖۡح‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َٰ‬ ‫ت رِزقا ل‬ ‫ٱَّلِي جعل لكم ٱۡلۡرض ف ِرشا وٱلسماء بِناء وأنزل مِن ٱلسماءِ ماء فأخرج بِهِۦ مِن ٱثلمر ِ‬ ‫َ​َ َحَ ُ ْ ه َ َ َ​َ ُ ح َ ح َُ َ‬ ‫فَل َتعلوا َِّللِ أندادا وأنتم تعلمون ‪٢٢‬‬

‫(‪... )22‬فهو اهلل الذي خلق هذه األرض‪ ،‬وسخَّ رها ملنفعتكم – أهيا الناس ‪ -‬بكل ما فيها من املادة واحليوان‪،‬‬ ‫قادرا أن خيلقها غري صاحلة حلياتكم‪.‬‬ ‫وجعلها منبسطة ممهدة صاحلة الستقراركم ومعيشتكم عليها‪ ،‬وكان ً‬ ‫وهو اهلل الذي خلق هذه السمء‪ ،‬وسخَّ رها ملنفعتكم بكل ما فيها من هواء وسحاب وشمس وقمر ونجوم‪،‬‬ ‫وبناها بنيانًا شديدً ا فال تقع عليكم وال يأتيكم منها ما يؤذيكم إال ما شاء اهلل‪،‬‬ ‫ويتنزل الوحي منها عىل أنبياء اهلل ورسله هلدايتكم‪.‬‬ ‫وهو اهلل الذي أنزل من السحاب املطر‪ ،‬فارتوت به األرض الزراعية‪،‬‬ ‫فكان ذلك سب ًبا أخرج اهلل لكم به منها ثمرات تأكلوهنا وتنتفعون هبا‪.‬‬ ‫فإن كان األمر كذلك أهيا الناس‪ ،‬فال يكون أحد عندكم ً‬ ‫مثيال هلل‪،‬‬ ‫فال تعبدوا معه غريه‪ ،‬وأطيعوه وحده‪ ،‬وال تطيعوا من خالفه‪،‬‬ ‫وال حت ُّبوا أحدً ا مثله‪ ،‬وال تدعوا معه ِسواه‪ ،‬وال تشبهوه بمخلوقاته‪،‬‬ ‫وال تساووا معه أحدً ا مطل ًقا‪ ،‬وال تنسبوا أسمئه وصفاته وأفعاله التي ال تنبغي إال له ألحد من خلقه؛‬ ‫فاجتنبوا هذا الشك باهلل‪ ،‬وأنتم تعلمون أنه ال رشيك له وال مثيل وال نظري‪،‬‬ ‫وأنه مل خيلقكم وال يرزقكم غريه‪ ،‬فهو اإلله الواحد والرب الواحد واخلالق الواحد والرازق الواحد‪.‬‬

‫ه َ ه ح َ َ َ َٰ َ ح َ َ ح ُ ْ‬ ‫ح‬ ‫ه‬ ‫ُ‬ ‫َ ح ُ ْ ُ َ ََٓ ُ‬ ‫نت حم ِف َر ح‬ ‫ِإَون ُك ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫د‬ ‫ِن‬ ‫م‬ ‫م‬ ‫ك‬ ‫ء‬ ‫ا‬ ‫د‬ ‫ه‬ ‫ش‬ ‫وا‬ ‫ع‬ ‫ٱد‬ ‫و‬ ‫ِۦ‬ ‫ه‬ ‫ل‬ ‫ِث‬ ‫م‬ ‫ِن‬ ‫م‬ ‫ة‬ ‫ور‬ ‫س‬ ‫ب‬ ‫وا‬ ‫ت‬ ‫أ‬ ‫ف‬ ‫ا‬ ‫ِن‬ ‫د‬ ‫ب‬ ‫ع‬ ‫لَع‬ ‫ا‬ ‫نل‬ ‫ز‬ ‫ن‬ ‫ا‬ ‫ِم‬ ‫م‬ ‫ب‬ ‫ي‬ ‫ون ٱَّللِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫إن ُك ُ‬ ‫نت حم َص َٰ ِدق َ‬ ‫ِني ‪٢٣‬‬ ‫ِ‬

‫(‪ )23‬وإن كان لديكم – أهيا الكفار – شك يف صدق هذا القرآن الذي أنزله اهلل عىل عبده ورسوله حممد ﷺ‪،‬‬ ‫أو كان لديكم شك يف أنه من عند اهلل‪ ،‬فهاتوا من عندكم ‪ -‬إن استطعتم ‪ -‬سورة واحده متاثله أو تساويه أو ت ِ‬ ‫عادله‬ ‫يف بعض من جوانب اإلعجاز يف األسلوب والتأثري واألخبار والبالغة والفصاحة وغري ذلك‪،‬‬

‫‪14‬‬


‫تفسري النسيم ‪ :‬سورة البقرة ‪ :‬احلزب األول‬

‫واطلبوا املعونة ممن أردتم من اخللق أو من آهلتكم التي تعبدوهنا من دون اهلل‪ ،‬إن استطاعوا أن يعينوكم‪،‬‬ ‫إن كنتم صادقني يف زعمكم أن القرآن كتبه إنس أو جان‪ ،‬وأن اخللق يستطيعون أن يأتوا بمثله‪ ،‬وأنتم كاذبون يف ذلك‪.‬‬

‫َ هح َح َُ ْ َ​َ َح َُ ْ َ هُ ْ ه َ ه َُ ُ َ ه ُ َ ح َ َُ ُ ه ح ح َ‬ ‫ك َٰ ِفر َ‬ ‫ين ‪٢٤‬‬ ‫فإِن لم تفعلوا ولن تفعلوا فٱتقوا ٱنلار ٱل ِ​ِت وقودها ٱنلاس وٱۡل ِجارة ۖۡ أعِدت ل ِل‬ ‫ِ‬

‫(‪ )24‬فإن علمتم أنكم ال تقدرون عىل أن تأتوا بمثل هذا القرآن‪ ،‬وال يقدر عىل ذلك خملوق أبدً ا‪،‬‬ ‫فاستجيبوا ألمر اهلل بعبادته وحده ال رشيك له‪،‬‬ ‫وادخلوا يف دين اإلسالم حتى تتقوا عقاب اهلل يف نار جهنم خالدين فيها‪،‬‬ ‫وخصصها لتعذيب الكافرين يف اآلخرة‪،‬‬ ‫وجهزها‬ ‫وإال فأنتم وأصنامكم املزعومة وقود هذه النار التي هيأها اهلل َّ‬ ‫َّ‬ ‫فهذا أمر ال يستهني به حريص عاقل‪ ،‬وال يغفل عن خطورته إال شقي مغ َّفل‪.‬‬

‫َ‬ ‫َ‬ ‫ٱلص َٰـل َ‬ ‫ِين َء َام ُنوا ْ َو َعملُوا ْ ه‬ ‫َوب َ ِّش هٱَّل َ‬ ‫ت أ هن ل َ ُه حم َج هن َٰـت َ​َتحري مِن َ​َتحت ِ َها حٱۡلنح َه َٰ ُر ۖۡ ُ​ُكه َما ُرز ُقوا ْ م حِن َها مِن َث َمرةَ‬ ‫َٰ‬ ‫ِح‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ ُ ْ َ َ ه‬ ‫َ ُ ُ ْ‬ ‫ح‬ ‫ُ َ َ َٰ َ َ ُ ح َ ٓ ح َ َٰ ‪ َ ُّ ٞ‬ه َ ‪ ُ َ ٞ‬ح َ َ َٰ ُ َ‬ ‫ِلون ‪٢٥‬‬ ‫رِ حزقا قالوا هَٰذا ٱَّلِي ُرزِق َنا مِن ق حبل ۖۡ َوأتوا بِهِۦ متشبِهاۖۡ ولهم فِيها أزوج مطهرة ۖۡ وهم فِيها خ ِ‬

‫(‪ )25‬وبش يا حممد ﷺ املسلمني من أ َّمتك‬ ‫ً‬ ‫رسوال‪ ،‬وآمنوا بالقرآن كتا ًبا‪،‬‬ ‫الذين آمنوا باهلل وحده ال رشيك له‪ ،‬وآمنوا بك‬ ‫عم هنى عنه‪ ،‬وأطاعوا رسول اهلل ﷺ؛‬ ‫وأطاعوا اهلل فيم أمر به‪ ،‬وانتهوا َّ‬ ‫بشهم أن اهلل سيجازهيم بذلك حدائق يف جنَّة اخللد يف اآلخرة‪،‬‬ ‫جتري من حتت قصورها وأشجارها أهنار ماء ولبن وعسل ومخر‪ ،‬وهي أهنار تسيح عىل وجه األرض بال أخدود‪.‬‬

‫‪1‬‬

‫ِ‬ ‫يستغربوها‪ ،‬ولو كانت جديدة عليهم‪.‬‬ ‫كلم رزق اهلل أهل اجلنة بيشء من ثمرها‪ ،‬عرفوها‪ ،‬ومل‬

‫‪2‬‬

‫فقالوا‪ :‬هذا الذي رزقنا اهلل به ساب ًقا‪ ،‬أي نعرفة ونألفه‪ ،‬فال نفور منه وال وحشة وال عجب‪.‬‬ ‫وجاءهم ثمر اجلنة بغري تعب منهم متشا ًهبا يف احلسن واجلودة‪ ،‬فك ُّله خيار ال عيب فيه‪.‬‬ ‫ويرزقهم اهلل يف اجلنة بزوجات طاهرات من كل ما يؤذي الرجل يف جسم املرأة‪.‬‬ ‫ويعيشون يف هذه اجلنة خالدين فيها دائـ ًم‪ ،‬فال يموتون‪ ،‬وال خيرجون منها‪.‬‬ ‫‪ .1‬عن أنس عن رسول اهلل ﷺ‪« :‬لعلكم تظنون أن أهنار اجلنة أخدود يف األرض؟ ال واهلل ‪ ،‬إهنا لسائحة عىل وجه األرض‪ ،‬إحدى حافتيها اللؤلؤ‪،‬‬ ‫م‬ ‫قلت‪ :‬ما األذ َفر؟ قال‪ :‬ا َّلذي ال خ ْل َط ل مه [أي اخلالص]»‪[ .‬صحيح الرتغيب لأللباين]‪ .‬واألخدود هو‬ ‫واألخرى الياقوت‪ ،‬وطينم مه‬ ‫املسك األَذ َفر‪ .‬قال‪ :‬م‬ ‫السكر‪.‬‬ ‫احلفرة الطولية التي جتري فيها األهنار‪ .‬ومخر اآلخرة ُتتلف عن مخر الدنيا‪ .‬فهي بيضاء لذيذة الطعم ال تسبب الصداع وال م‬ ‫‪ .2‬ذهب بعض املفرسين أن قول اهلل تعاىل‪ ﴿ :‬مك َّل َام مر ِز مقو ْا ِمنْ َها ِمن َث َم َر ٍة ِّرزْ ًقا َقا ملو ْا َه َذا ا َّل ِذي مر ِز ْقنَا ِمن َقبْ مل﴾ أن ثامر اجلنة تشبه ثامر الدنيا‪ .‬وهذا غري‬ ‫قال اهللم‪ :‬أعددت لعبادي الصاحلني ما ال عني رأت‪ ،‬وال مأ مذن ِ‬ ‫صحيح‪ .‬ففي احلديث الرشيف‪َ « :‬‬ ‫سمعت‪ ،‬وال خطر عىل قلب برش»‪ ،‬ثم قرأ [أبو هريرة]‪:‬‬ ‫ِ‬ ‫﴿ َف َال َت ْع َل مم َن ْف ٌس َما مأ ْخ ِف َي َهلم ْم ِم ْن مق َّرة َأع م ٍ‬ ‫ْني﴾ [السجدة‪ .]17 :‬وعن ابن عباس بسند صحيح‪« :‬ليس يف اجلنة يشء ميشبِه ما يف الدنيا إال األسامء» [تفسري‬ ‫القرآن العظيم ممسنَدً ا البن أيب حاتم الرازي‪-‬رقم ‪ .]260‬وذهب آخرون إىل أن الالحق من ثامر اجلنة ميشبه السابق‪ .‬قلنا‪ :‬فامذا عن الثمرة األوىل التي مل‬ ‫ِ‬ ‫اجلنَّ َة ع ََّر َف َها َهلم ْم﴾ [حممد‪ .]6:‬واهلل تعاىل أعلم‪.‬‬ ‫يسبقها يشء؟ إذن‪ ،‬فال سبيل هنا لتفسريها إال بقول اهلل تعاىل‪َ ﴿ :‬و ميدْ خ مل مه مم ْ َ‬

‫‪15‬‬


‫أبو أمحد املصري ‪ :‬مجال حسني عبد الفتاح‬

‫ه هَ َ َح َ ح ٓ َ َ ح َ َ​َ ه َُ َ َ َ َحَ​َ َ​َه ه َ َ َُ ْ َ​َح َُ َ‬ ‫ون َأنه ُه ح َ ُّ‬ ‫ۡضب مثَل ما بعوضة فما فوقها ْۚ فأما ٱَّلِين ءامنوا فيعلم‬ ‫ٱۡلق مِن هرب ِ ِه حمۖۡ‬ ‫إِن ٱَّلل َل يست ِ‬ ‫ۡحۦ أن ي ِ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ َ ه ه َ َ َ ُ ْ َ َ ُ ُ َ َ َ ٓ َ َ َ ه ُ َ َٰ َ َ َ ا ُ ُّ‬ ‫ضل بِهِۦ كثِۡيا َويَ حهدِي بِهِۦ كثِۡي ْۚا‬ ‫وأما ٱَّلِين كفروا فيقولون ماذا أراد ٱَّلل بِهذا مثَل ي ِ‬ ‫َ َ ُ ُّ‬ ‫ه حَ‬ ‫س ِق َ‬ ‫ني ‪٢٦‬‬ ‫ضل بِهِۦٓ إَِل ٱلفَٰ ِ‬ ‫وما ي ِ‬ ‫(‪ )26‬أنزل اهلل األمثال يف القرآن‪.‬‬ ‫قصة‪ ،‬ومنها ما هو موقف‪ ،‬ومنها ما هو حالة معينة‪.‬‬ ‫واألمثال بعض أحوال املخلوقات‪ ،‬فمنها ما هو َّ‬ ‫ذكرها اهلل لتقريب معنى اإليمن للقلوب‪ ،‬أو ليعترب الناس ويتعظوا‪ ،‬أو للتحدي وبيان قدرة اهلل عز وجل‪.‬‬ ‫رضب اهلل األمثال‪ ،‬بعضها بأشياء عظيمة وبعضها بأشياء ضعيفة كالذباب والعنكبوت‪.‬‬ ‫فانتهز املشكون الفرصة‪ ،‬فطعنوا يف الدين والقرآن‪.‬‬ ‫قالوا‪ :‬ال يليق باهلل أن يرضب ً‬ ‫مثال بأشياء وضيعة كالذباب والعنكبوت‪.‬‬ ‫وشككوا يف أمثال القرآن ومعناها واهلدف منها‪ ،‬فقالوا‪ :‬ال معنى هلا وال هدف منها‪ .‬ماذا أراد اهلل هبذا ً‬ ‫مثال؟! فأنزل اهلل اآلية‪.‬‬ ‫فرغم أن اهلل حيِـي‪ ،‬فاحلياء صفة من صفات اهلل تعاىل‪،‬‬

‫‪1‬‬

‫إال إنه ال يمنعه حياؤه أن يذكر يف القرآن ً‬ ‫مثال بيشء قليل كالبعوضة أو ما هو أعظم منها أو أضعف؛‬ ‫ألن هذه األمثال حق‪ ،‬واحلكمة منها إظهار احلق وإعانة الناس عىل طريق اإليمن‪ ،‬واهلل ال يستحيي من احلق‪.‬‬

‫‪2‬‬

‫فموقف املسلم واملؤمن باهلل ورسوله ﷺ من ذلك املثل هو التصديق به وأنه احلق من عند اهلل؛ ألنه يؤمن بالقرآن كله‪.‬‬ ‫وأما موقف الكافر فهو التكذيب به؛ ألنه يكذب بالقرآن كله‪ ،‬مع اجلدال وتربير الكفر بقوله‪ :‬ماذا أراد اهلل هبذا ً‬ ‫مثال؟‬ ‫وقد أراد اهلل برضب األمثال يف القرآن أن يرصف هبا عن اإليمن الكفار املستكربين عن دعوة احلق‪ ،‬وهم كثري‪،‬‬ ‫فيثبتوا عىل ضالهلم‪ ،‬ويزدادوا منه؛ ألن موقفهم العناد مع آيات اهلل‪ ،‬وعدم التف ُّكر فيها‪ ،‬وحب الدنيا عىل اآلخرة‪.‬‬ ‫وأراد اهلل هبذه األمثال أن يثبت إيمن املؤمنني اخلاشعني له‪ ،‬اخلاضعني ألمره‪ ،‬وهم كثري‪،‬‬ ‫والتبرص يف آيات اهلل وحكمته‪ ،‬وهم الذين حيبون اآلخرة‪.‬‬ ‫فيزيدهم إيمنًا وهداية؛ ألهنم أهل التف ُّكر‬ ‫ُّ‬ ‫فيميز اهلل هبذه األمثال الصالح من الفاسد‪ ،‬والعامل من اجلاهل‪ ،‬والعادل من الظامل‪ ،‬واملؤمن من الكافر‪.‬‬ ‫وال يريد اهلل إضالل العباد‪ ،‬وال حيب هلم إال اهلداية‪ ،‬لكنهم اختاروا الكفر بعد ِعلم باحلق‪ ،‬واستحبوا الباطل‪،‬‬ ‫وفضلوا متاع الدنيا القليل عىل اآلخرة‪ ،‬ففسقوا باخلروج عن طاعة اهلل‪ ،‬فأعطاهم اهلل من جنس ما اختاروا‪ ،‬فلم يوفقهم‬ ‫َّ‬ ‫لإليمن‪.‬‬

‫ِ‬ ‫الرتمذي وصححه األلباين]‪.‬‬ ‫فرا خائبتني»‪[ .‬رواه‬ ‫‪ .1‬يف احلديث الرشيف‪« :‬إ َّن اهللَ حيِ ٌّى‬ ‫ا‬ ‫كريم يستحي إذا رفع الرجل إليه يديه أن مير َّدمها ص ً‬ ‫ٌ‬ ‫‪ .2‬احلياء صفة ثابتة هلل تعاىل عىل احلقيقة‪ ،‬فنؤمن هبا‪ ،‬وهلا كيفية تليق باهلل وال تمشبه أحوال خملوقاته‪ ،‬وال نعلم الكيفية بل نفوض العلم فيها هلل‪ .‬وهذا‬ ‫مذهب السلف‪.‬‬

‫‪16‬‬


‫تفسري النسيم ‪ :‬سورة البقرة ‪ :‬احلزب األول‬

‫حَ‬ ‫َ ُ َ َ ُح ُ َ‬ ‫َ​َح َ ُ َ‬ ‫َ‬ ‫ه َ ُ ُ َ َ‬ ‫ه‬ ‫ون َما ٓ أَ َم َر ه ُ‬ ‫ۡرض‬ ‫ِين يَنقضون ع حه َد ٱَّللِ ِم ُۢن َب حع ِد مِيثَٰ ِقهِۦ ويقطع‬ ‫ٱَّل‬ ‫ٱَّلل بِهِۦٓ أن يوصل َويفسِدون ِ​ِف ٱۡل ِ ِۚ‬ ‫ُ ْ َ َ ُ ُ ح َ َٰ ُ َ‬ ‫ِسون ‪٢٧‬‬ ‫أولـئِك هم ٱلخ ِ‬ ‫(‪ )27‬هؤالء الكافرون الذين صفاهتم‪-:‬‬ ‫(‪ )1‬عدم الوفاء بعهد اإليمن والطاعة بعد أن ألزمهم اهلل به‪ .‬ويشمل ذلك كل عهد أخذه اهلل عىل عباده ومنه‪-:‬‬ ‫(أ) عهد اإليمن باهلل الذي أخذه عىل مجيع ذرية آدم وهم يف ظ ِ‬ ‫هر ِه قبل والدهتم‪.‬‬ ‫وهذا هو فطرة اإليمن التي فطر اهلل الناس عليها‪ ،‬فغفل عن هذا العهد وتلك الفطرة كثري منهم‪.‬‬

‫‪1‬‬

‫فحرفوا كتبهم‪.‬‬ ‫(ب) العهود التي أخذها اهلل عىل أهل الكتاب يف كتبهم أن يؤمنوا برسول اهلل حممد ﷺ عندما يبعث‪َّ ،‬‬

‫‪2‬‬

‫(ج) العهد الذي أخذه اهلل عىل الناس يف القرآن أن يؤمنوا باهلل ورسوله ﷺ فيدخلوا يف دين اإلسالم‪،‬‬ ‫وأن يعبدوا اهلل وحده ال رشيك له ويلزموا رشيعته بالطاعة‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫وهذا عهد ٍ‬ ‫واملصاحف‪.‬‬ ‫باق إىل أن يأذن اهلل برفع القرآن من الصدور‬

‫‪3‬‬

‫(‪ )2‬عدم إيصال احلقوق إىل أصحاهبا‪ ،‬ومنها حق اهلل يف اإليمن والعبادة والتوحيد والطاعة‪،‬‬ ‫وحق رسوله ﷺ يف التصديق واالتباع والنرصة‪ ،‬وحق األقارب يف الرب هبم ِ‬ ‫وصلة األرحام‪،‬‬ ‫وحق املؤمنني يف اإلحسان والتكافل والرتاحم‪ ،‬وحق كل الناس يف العدل وأداء األمانة وعدم الغش وغري ذلك كثري‪.‬‬ ‫فكل من ض َّيع ح ًّقا من احلقوق الالزم إيصاهلا للخالق أو للمخلوق فهو داخل يف من قطع ما أمر اهلل به أن يوصل‪.‬‬ ‫(‪ )3‬يفسدون يف األرض بارتكاب ما يغضب اهلل من الكفر والتعويق عن اإليمن وحماربة الدين ومواالة الكافرين‪ ،‬واقرتاف‬ ‫الكبائر كالقتل والرسقة والزنا ورشب اخلمر والسحر والظلم والعقوق وغريها‪.‬‬ ‫أولئك هم اخلارسون‪ ،‬فال ثواب هلم عند اهلل وال جزاء إال نار جهنم‪ ،‬وقد ينزل اهلل هبم العقوبات يف الدنيا بذنوهبم‪.‬‬

‫َ‬ ‫َ ح َ َ ح ُ ُ َ ه َ ُ ُ ح َ ح َ َٰ َ َ ح َ َٰ ُ ح ُ ه ُ ُ ُ ُ ُ ح ُ ُ َ ُ‬ ‫يتك حم ث هم ُييِيك حم ث هم إَِلحهِ ت حر َج ُعون ‪٢٨‬‬ ‫كيف تكفرون بِٱَّللِ وكنتم أموتا فأحيكمۖۡ ثم ي ِم‬

‫كيف يعقل – أهيا الكفار – أن تكفروا بعبادة اهلل‪ ،‬فرتفضوا دعوة رسوله حممد ﷺ‪ ،‬وال تدخلوا يف دين اإلسالم؛‬ ‫كيف يعقل أن تفعلوا ذلك مع أن اهلل هو الذي أحياكم بعد أن كنتم قبلها أموا ًتا ال ِذكر لكم‪،‬‬

‫‪ .1‬يقول اهلل تعاىل‪َ ﴿ :‬وإِ ْذ َأ َخ َذ َر هب َك ِمن َبنِي آ َد َم ِمن مظ مه ِ‬ ‫ور ِه ْم مذ ِّر َّيتَ مه ْم َو َأ ْش َهدَ مه ْم ع َ​َىل َأن مف ِس ِه ْم َأ َل ْس مت بِ َر ِّبك ْمم َقا ملو ْا َب َىل َش ِهدْ نَا َأن َت مقو ملو ْا َي ْو َم ا ْل ِق َيا َم ِة إِنَّا مكنَّا‬ ‫َع ْن َه َذا غَافِلِنيَ ﴾ [األعراف‪.]172:‬‬ ‫يل ي ْأمر مهم بِاملَعر ِ‬ ‫ِ‬ ‫ول النَّبِي األممي ا َّل ِذي َجيِدم و َن مه م ْكتمو ًبا ِعندَ مهم ِيف الت َّْور ِاة َوا ِ ِ‬ ‫اه ْم ع ِ‬ ‫الر مس َ‬ ‫َن املمنك َِر َو محيِ هل‬ ‫وف َو َين َْه م‬ ‫ْم‬ ‫إلنج ِ َ م م‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َّ ِّ َّ‬ ‫‪ .2‬يقول اهلل تعاىل‪﴿ :‬ا َّلذي َن َيتَّبِ معو َن َّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ات و محيرم َع َلي ِهم ْ ِ‬ ‫َهلم ال َّطيب ِ‬ ‫ِ‬ ‫ْص مه ْم َواألَغ َ‬ ‫هور ا َّل ِذ َي مأ ِنز َل َم َع مه‬ ‫ْالل ا َّلتِي كَان ْ‬ ‫َ َ ِّ م ْ م َ‬ ‫م م ِّ َ‬ ‫َرصو مه َوا َّتبَ معو ْا الن َ‬ ‫َت َع َليْ ِه ْم َفا َّلذي َن آ َمنمو ْا بِه َوعَزَّ مرو مه َون َ م‬ ‫اخلبَائ َث َو َي َض مع َعنْ مه ْم إ ْ َ‬ ‫ِ‬ ‫مأ ْو َلئِ َك مه مم املم ْفل محو َن﴾ [األعراف‪.]157:‬‬ ‫السنَّة أن اهلل تعاىل يرفع القرآن متى شاء يف آخر الزمان‪ ،‬فال يبقى منه يشء يف الصدور وال يف املصاحف‪ .‬فعن عبد اهلل بن مسعود قال‪:‬‬ ‫‪ .3‬يف عقيدة أهل ه‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫الدارم اي بسند صحيح‪.‬‬ ‫رت مك آية يف مصحف وال يف قلب أحد إال مرفعت» أخرجه‬ ‫رس َي َّن عىل القرآن ذات ليلة فال مي ْ َ‬ ‫« َليم ْ َ‬

‫‪17‬‬


‫أبو أمحد املصري ‪ :‬مجال حسني عبد الفتاح‬

‫ثم يميتكم اهلل فيقبض أرواحكم عندما تنتهي أعمركم‪،‬‬ ‫ثم يبعثكم أحياء يوم القيامة‪ ،‬فرتجعون إليه لي ِ‬ ‫حاسبكم وجيازيكم باجلنة أو النار عىل أعملكم يف الدنيا؟!‬

‫حَ‬ ‫َُ ه‬ ‫َ َ​َ َ ُ‬ ‫كم ه‬ ‫ٱلس َمآءِ فَ َس هوى َٰ ُه هن َس حب َع َس َم َٰ َ‬ ‫ۡرض َ​َجِيعا ُث هم ح‬ ‫ٱس َت َوى إ َ​َل ه‬ ‫َٰ‬ ‫ت‬ ‫و‬ ‫ِ‬ ‫ٱۡل‬ ‫ِف‬ ‫ا‬ ‫م‬ ‫ل‬ ‫ق‬ ‫ل‬ ‫خ‬ ‫ِي‬ ‫ٱَّل‬ ‫هو‬ ‫ِۚ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ََُ ُ‬ ‫َش ٍء َعل ‪ٞ‬‬ ‫كل َ ح‬ ‫ِيم ‪٢٩‬‬ ‫وهو ب ِ ِ‬

‫(‪ )29‬هو اهلل الذي خلق لكم ‪ -‬أهيا الناس ‪ -‬مجيع ما يف األرض من أشياء وسخَّ رها ملنفعتكم‪،‬‬ ‫ثم عال فوق السمء وارتفع عليها‪ ،‬فبناه َّن سبع سموات ذوات ِخلقة سو َّية بال عيب أو خلل‪.‬‬

‫‪1‬‬

‫فكيف تكفرون به‪ ،‬وهو الذي خلق لكم األرض والسموات‪ ،‬ومل خيلقه َّن غريه؟!‬ ‫وهو بكل يشء عليم‪ ،‬فال خيفى عليه يف كونه يشء‪ ،‬فهو خالِقه‪.‬‬ ‫فهو عليم بكم وبأحوالكم وبأعملكم‪ ،‬فالزموا طاعته واحذروا خمالفته‪ ،‬واطلبوا ثوابه واحذروا عقابه‪.‬‬

‫حَ‬ ‫ح َ َ‬ ‫َ ح َ َ‬ ‫‪ٞ‬‬ ‫َ َ ۖۡ َ ُ ٓ ْ َ َ ح َ ُ َ َ ُ ح ُ َ َ َ ح ُ‬ ‫ك ٱل َِمآءَ‬ ‫ۡرض خل ِيفة قالوا أَتعل فِيها من يفسِد فِيها ويس ِف‬ ‫ِإَوذ قال َر ُّبك ل ِل َملـئِكةِ إ ِ ِّن َجاعِل ِ​ِف ٱۡل ِ‬ ‫َ َح ُ َُ ُ َح َ َ َُ ُ َ َ َ َ ٓ َ ح َ ُ َ َ َ ح َُ َ‬ ‫وَنن نسبِح ِ​ِبمدِك ونقدِس لك ۖۡ قال إ ِ ِّن أعلم ما َل تعلمون ‪٣٠‬‬

‫(‪ )30‬وحني قال ر ُّبك يا حممد ﷺ للمالئكة إنه خالق يف األرض ساكِنًا هلا يعمرها ويتناسل فيها‪،‬‬

‫ً‬ ‫وجيال بعد جيل‪ ،‬وهو آدم عليه السالم وذر َّيته‪.‬‬ ‫ناسا بعد ناس‬ ‫وخيلف بعضهم ً‬ ‫بعضا يف احلياة عليها ً‬

‫‪2‬‬

‫بعضا ظ ًلم وعدوانًا؛‬ ‫وبعد أن أخربهم اهلل إن ذر َّية آدم سيكون فيهم من يفسد يف األرض بالكفر واملعايص ويقتل بعضهم ً‬ ‫سألوا اهلل – بعد أن ِ‬ ‫استفسارا عن حكمته سبحانه يف أن خيلق خل ًقا يعصيه‪ ،‬ويسكنهم األرض‪،‬‬ ‫أذن هلم يف السؤال –‬ ‫ً‬ ‫بينم املالئكة يعبدونه وال ِ‬ ‫بعضا‪،‬‬ ‫يفسدون‪ ،‬فقالوا‪ :‬هل جتعل يف األرض من يفسد فيها بالكفر واملعايص‪ ،‬ويقتل بعضهم ً‬ ‫ونحن نذكرك بالتنزيه لك عن صفات النقص والثناء عليك بصفات الكمل؟‬

‫‪3‬‬

‫‪4‬‬

‫وعلو القهر‪،‬‬ ‫وعلو الشأن‪ ،‬أي العظمة واجلالل‪،‬‬ ‫علو الذات‪ ،‬أي الفوقيَّة‪،‬‬ ‫السنَّة‬ ‫ا‬ ‫ا‬ ‫العلو فوق املخلوقات صفة ثابتة هلل تعاىل‪ .‬وهي ا‬ ‫ا‬ ‫‪( .1‬أ) يف عقيدة أهل م‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫أي الغلبة والقدرة واملشيئة‪ .‬ونعتقد أن اهلل فوق مجيع خملوقاته‪ ،‬وأنه مم ٍ‬ ‫ستو عىل عرشه‪ ،‬بائن من خلقة غري ٍّ‬ ‫حال فيهم‪ ،‬ومع ذلك يقدر عليهم مجي ًعا َتام‬ ‫فسواها‪.‬‬ ‫فسو ماهن‪ ،‬وليس َّ‬ ‫القدرة ويعلم أمورهم كلها َتام العلم‪ .‬السامء اسم جنس‪ ،‬فهو ممفرد ميراد به مجيع أنحاء أو أجزاء السامء‪ .‬وهلذا قيل بعدها‪َّ ،‬‬ ‫(ب) ذهب بعض املفرسين إىل تفسري االستواء بالقصد واإلرادة (انظر تفسري ابن كثري والعثيمني)‪ ،‬فقالوا‪َ :‬ق َصد أو ع َ​َمد إىل السامء‪ .‬يقول البغوي يف‬ ‫ِ‬ ‫اس َو َأ ْكثَ مر مم َف ِّ ِ‬ ‫معامل التنزيل‪َ « :‬ق َال ا ْب من َعبَّ ٍ‬ ‫الس َام ِء»‪ .‬وقد نقل ابن أيب حاتم الرازي بإسناده احلسن عن أيب العالية تفسريها‬ ‫الس َلف‪َ :‬أ ِي ْار َت َف َع إِ َىل َّ‬ ‫رسي َّ‬

‫باالرتفاع إىل السامء‪ .‬وأبو العالية‪ ،‬رفيع بن مهران الرياحي‪ ،‬من كبار التابعني‪ .‬وقد سمع من ابن عباس ريض اهلل عنهام‪.‬‬

‫‪ .2‬املراد باخلليفة آدم وذريته‪ .‬ألن آدم نفسه لن يفسد يف األرض ولن يسفك الدماء‪ .‬وبالتايل‪ ،‬فـ«خليفة» اسم جنس يراد به مجيع البرش‪ .‬وهم الذين‬ ‫ف األَ ْر ِ‬ ‫ض﴾ [األنعام‪.]165:‬‬ ‫بعضا يف احلياة عىل األرض‪ .‬يقول اهلل تعاىل‪َ ﴿ :‬و مه َو ا َّل ِذي َج َع َلك ْمم َخالئِ َ‬ ‫ُيلف بعضهم ً‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫يها َو َي ْسف مك الدِّ َماء﴾ هو من باب عطف اخلاص عىل العام‪ .‬فسفك الدماء هو من مجلة‬ ‫‪ .3‬عطف سفك الدماء عىل الفساد يف قول اهلل تعاىل‪ ﴿ :‬مي ْفسدم ف َ‬ ‫تعظيام لقبح الذنب وشناعته وتنبيها عىل خطورته‪.‬‬ ‫خص سفك الدماء هنا‬ ‫الفساد ً‬ ‫أيضا‪ .‬لكن َّ‬ ‫ً‬ ‫ِ‬ ‫ول اهللِ ﷺ مسئ َل َأ هي الك َ​َال ِم َأ ْف َض مل‪َ .‬‬ ‫أن َر مس َ‬ ‫‪ .4‬تسبيح املالئكة هو قوهلم‪ :‬سبحان اهلل وبحمده‪ .‬ففي احلديث الرشيف عن أيب هريرة َّ‬ ‫اص َط َفى‬ ‫قال‪« :‬ما ْ‬ ‫اهللم ملَِ َالئِكَتِ ِه‪َ ،‬أو لِ ِعب ِ‬ ‫اد ِه‪ :‬مسبْ َح َ‬ ‫ان اهللِ َوبِ َح ْم ِد ِه» [رواه مسلم]‪ .‬والتسبيح والتقديس بمعنى تنزيه اهلل بالقول عام ال يليق به من الصفات‪ .‬لكن التسيبيح ال‬ ‫ْ َ‬

‫‪18‬‬


‫تفسري النسيم ‪ :‬سورة البقرة ‪ :‬احلزب األول‬

‫قال اهلل جوا ًبا هلم‪ :‬إين أعلم ما ال تعلمون؛ فلله يف ذلك حكمة ال يعلمها املالئكة‪.‬‬ ‫ظن املالئكة‪.‬‬ ‫فهؤالء الناس فيهم األنبياء والصاحلون ممن هم أفضل من املالئكة وأعلم‪ ،‬وليسوا كلهم مفسدين كم َّ‬ ‫ظن املالئكة‪.‬‬ ‫وكذلك فبني املالئكة يوجد إبليس‪ ،‬وهو فاسد القلب مستكرب عاص هلل تعاىل‪ ،‬وليسوا كلهم صاحلني كم َّ‬ ‫وأيضا وجود الشوالفساد بني الناس يف حياهتم عىل األرض أمر اقتضته حكمة اهلل تعاىل ومشيئته؛‬ ‫ً‬ ‫ألن اإليمن والعمل الصالح باالختيار وليس باإلكراه ؛ ليحاسبهم اهلل فيدخل الصالح اجلنة والفاسد النار‪،‬‬ ‫فوجود الش والفساد من لوازم هذا االختيار الذي أعطاه اهلل هلم‪ ،‬وهذا االختيار هو أساس احلساب يف اآلخرة‪.‬‬ ‫وعىل املسلم أال يمتدح نفسه فيقول‪ :‬أنا صالح عند اهلل‪ ،‬أو اهلل يرىض عني‪ ،‬أو أنا أصلح من غريي من املسلمني‪،‬‬ ‫وإنم جيتهد يف عبادة اهلل ويسأله اهلداية يف حياته والثبات عىل اإليمن والعمل الصالح حتى املمت‪.‬‬

‫َ َ ه َ َ َ َ ح َح َ َٓ ُهَ ُ ه َ َ َ ُ ح َ​َ حَ َ َ‬ ‫ۢنبوِن بأَ حس َمآءِ َهـ ُؤ َ​َلٓ ِء إن ُك ُ‬ ‫نت حم َص َٰ ِدق َ‬ ‫كةِ َف َق َال أَ ُ‬ ‫ِني ‪٣١‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ ِ‬ ‫وعلم ءادم ٱۡلسماء ُكها ثم عرضهم لَع ٱلملـئ ِ‬

‫األول‪ ،‬عىل املالئكة‪،‬‬ ‫(‪َّ )31‬‬ ‫فضل اهلل آدم‪ ،‬أبو البش‪ ،‬واإلنسان َّ‬ ‫فع َّلمه األسمء ك َّلها سواء أسمء األشياء يف األرض والسمء‪ ،‬وأسمء األمم كالناس واجلن واملالئكة‪.‬‬ ‫ثم عرض اهلل ما ع َّلمه آلدم عىل املالئكة‪ ،‬وأمرهم أن خيربوه بأسمئها‪ ،‬إن كانوا صادقني يف ظنهم أهنم أفضل وأعلم من آدم‪.‬‬

‫َ ُ ْ ُ ح َ َ َ َ ح َ َ​َٓ ه َ َ هحَ​َٓ ه َ َ َ حَ ُ ح‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫قالوا سبحَٰنك َل عِلم نلا إَِل ما علمتنا ۖۡ إِنك أنت ٱلعل ِيم ٱۡلكِيم ‪٣٢‬‬

‫(‪ )32‬عجز املالئكة عن معرفة أسمء األشياء‪،‬‬ ‫فقالوا‪ :‬سبحانك‪ ،‬أي ننزهك يا رب أن نحيط بيشء من علمك إال بم شئت؛‬ ‫ال ِعلم لنا إال ما ع َّلمتنا‪ ،‬أي ليس من بني ما تع َّلمناه منك هذه األشياء‪.‬‬ ‫إنك أنت العليم‪ ،‬فلك بكل يشء ِعلم‪ ،‬بم فيها هذه األسمء؛‬ ‫واحلكيم‪ ،‬فلك يف كل تقدير ِحكمة‪ ،‬بم فيها حكمتك يف أال تعلمنا أسمء هذه األشياء‪.‬‬

‫حَ‬ ‫َ َ َ َ َ ُ َ حُ َ ح َ ٓ ح َ​َه ٓ َ َ​َ ُ َ ح َ ٓ ح َ َ َ​َح َُ ه ُ‬ ‫ب ه َ‬ ‫ّن أَ حعلَ ُم َغ حي َ‬ ‫ك حم إ ِ ِ ٓ‬ ‫ۡرض‬ ‫ت َوٱۡل ِ‬ ‫قال يــادم أۢنبِئهم بِأسمائ ِ ِهمۖۡ فلما أۢنبأهم بِأسمائ ِ ِهم قال ألم أقل ل‬ ‫ٱلسم َٰ َو َٰ ِ‬ ‫َ‬ ‫َ​َ ح َ ُ َ ُح ُ َ َ َ ُ ُ َ ح‬ ‫نت حم تك ُت ُمون ‪٣٣‬‬ ‫وأعلم ما تبدون وما ك‬

‫(‪ )33‬أمر اهلل آدم أن خيرب املالئكة بأسمء هذه األشياء واألشخاص‬ ‫الذين ع َّلمهم له‪ ،‬ومل يعرفهم املالئكة‪ ،‬فأخربهم آدم بأسمئهم‪،‬‬ ‫ينبغي إال هلل وحده‪ ،‬فهو تنزيه اهلل عن صفات اخللق وأحواهلم‪ .‬أما التقديس فقد ميطلق عىل املخلوق‪ ،‬وبالتايل فهو تنزيه اهلل عن صفات َّ‬ ‫الذ ام‪ .‬والتسبيح‬ ‫ِ‬ ‫كر مهم‬ ‫باحلمد هو تنزيه اهلل عن صفات اخللق بالثناء عليه بصفات الكامل‪ .‬ومنه قول‪ :‬سبحان اهلل وبحمده‪ .‬ونمقدِّ س لك‪ ،‬أي نقدسك وحدك‪ .‬وذ م‬ ‫وخص التسبيح‬ ‫التسبيح والتقديس هنا من باب اإلجياز‪ ،‬فهم يذ مك مرون جز ًءا من عبادُتم‪ ،‬ويريدون بذلك معنى الصالح الكامل وعدم اإلفساد التام‪.‬‬ ‫َّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ْرب﴾ [العنكبوت‪.]45:‬‬ ‫والتقديس دون غريه من عباداُتم وطاعتهم هنا‬ ‫تعظيام لذكر اهلل‪ .‬يقول اهلل تعاىل‪َ ﴿ :‬و َلذك مْر اهللِ َأك َ م‬ ‫ً‬

‫‪19‬‬


‫أبو أمحد املصري ‪ :‬مجال حسني عبد الفتاح‬

‫قال اهلل للمالئكة‪ :‬أمل أقل لكم أين أعلم غيب السموات واألرض‪...‬؟‬ ‫أي أن هذا املوقف هو تفسري وتوضيح وبيان ملا قاله اهلل هلم سابقا‪ :‬إين أعلم ما ال تعلمون‪.‬‬ ‫فآدم عليه السالم أعلم من املالئكة وأفضل‪ ،‬ويف ذريته من هو مثله‪ ،‬وعلِم اهلل ذلك‪ ،‬ومل تعل ْمه املالئكة‪،‬‬ ‫حتى أراهم اهلل جتربة عملية بأعينهم‪ .‬وقال تعاىل هلم‪ ... :‬وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون؟‬ ‫أي أن هذا املوقف فيه إجابة شافية عىل ما سألتم عنه رصاحة وما ظننتموه يف نفوسكم دون ترصيح به‪.‬‬ ‫وما سألوا عنه رصاحة هو قوهلم‪ :‬أجتعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك؟‬ ‫وما ظنُّوه يف نفوسهم مفهوم من فحوى سؤاهلم‪ ،‬وهو أهنم أفضل من آدم وأعلم منه‪ ،‬وبالتايل‪ ،‬فهم أحق منه بعمرة األرض‪.‬‬ ‫وهكذا عرف املالئكة أهنم ليسوا أفضل وال أعلم من آدم‪ ،‬وأنه أصلح منهم للحياة عىل األرض وتعمريها‪.‬‬

‫‪1‬‬

‫ح ُ ح َ ح َ َ َ ح ُ ُ ْ َ َ َ َ َ ُ ٓ ْ ه ٓ ح َ َ َ َٰ َ ح َ ح َ َ َ َ َ َ ح َ‬ ‫ك َٰ ِفر َ‬ ‫ين ‪٣٤‬‬ ‫ِإَوذ قلنا ل ِلملـئِكةِ ٱسجدوا ٓأِلدم فسجدوا إَِل إِبل ِيس أَب وٱستكَب وَكن مِن ٱل‬ ‫ِ‬

‫(‪ )34‬وحني أمر اهلل املالئكة بالسجود آلدم سجود حتية وتكريم ملا خلق اهلل بيديه الشيفتني‪،‬‬ ‫سجدوا له مجي ًعا ً‬ ‫مأمورا بالسجود آلدم مع املالئكة‪.‬‬ ‫تنفيذا ألمر اهلل‪ ،‬إال إبليس‪ ،‬وكان من اجلن‪ ،‬وكان‬ ‫ً‬ ‫استكبارا عليه‪ ،‬وظنًّا منه أنه أفضل منه ؛ ألنه خملوق من نار وآدم خملوق من طني‪،‬‬ ‫امتنع إبليس عن السجود آلدم‬ ‫ً‬ ‫وتوهم إبليس أنه ال ينبغي أن يأمره اهلل بالسجود ملن هو أقل منه يف ِ‬ ‫اخللقة‪ ،‬فر َّد األمر عىل اهلل‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫فكان إبليس هبذا املوقف من الكافرين املكذبني بأمر اهلل‪ ،‬املطرودين من رمحته‪ ،‬املستحقني لعذابه‪.‬‬

‫‪2‬‬

‫َ ُ ح َ َ َ َ ُ ح ُ ح َ َ َ َ ح ُ َ حَ َ ُ َ‬ ‫َ‬ ‫ُ ح‬ ‫َ َح‬ ‫ه‬ ‫َ‬ ‫ٱلش َ‬ ‫ج َر َة‬ ‫ٱۡل هنة َولُك م حِن َها َرغ ًدا َح حيث شِئ ُت َما َوَل تق َربَا هَٰ ِذه ِ‬ ‫وقلنا يــادم ٱسكن أنت وزوجك‬ ‫َ​َ ُ َ َ ه‬ ‫ٱلظ َٰـلِم َ‬ ‫ني ‪٣٥‬‬ ‫فتكونا مِن‬ ‫ِ‬

‫حواء أن يسكنا جنة اخللد التي يف السمء‪،‬‬ ‫(‪ )35‬وأمر اهلل آدم وزوجته َّ‬

‫‪1‬‬

‫‪ .1‬السؤال يف قول اهلل تعاىل‪﴿ :‬أمل أقل لكم إين أعلم غيب الساموات واألرض وأعلم ما تمبدون وما كنتم تكتمون﴾ ليس معناه أن املالئكة لدهيم شك‬ ‫يف علم اهلل‪ ،‬أو أهنم حيتاجون إلثبات ذلك‪ ،‬كام قد يظن بعض الناس‪ِ .‬‬ ‫فعلم اهلل بكل يشء معلوم للمالئكة بدليل قوهلم قبلها‪﴿ :‬إنك أنت العليم‬ ‫وبني‬ ‫احلكيم﴾‪ .‬ولكن صيغة هذا السؤال من اهلل تعاىل لتوكيد املمستفاد من املوقف واملوعظة املأخوذة منه‪ .‬فمعنى السؤال أن اهلل قد أجاب عىل سؤاهلم َّ‬ ‫هلم احلكمة من ذلك‪ .‬وقد ذهب بعض املفرسين أنه سؤال توبيخ للمالئكة وهذا خطأ‪ ،‬فالتوبيخ معناه صدور اخلطأ من املالئكة‪ ،‬بينام هم معصومون‪.‬‬ ‫يقول اهلل تعاىل‪﴿ :‬ال َي ْسبِ مقو َن مه بِا ْل َق ْو ِل َو مهم بِ َأ ْم ِر ِه َي ْع َم ملو َن﴾ [األنبياء‪.]27:‬‬

‫‪ .2‬كفر إبليس هو نوع من الكفر ميسميه علامء العقيدة كفر اإلباء واالستكبار‪ .‬ومعناه أن يعتقد الكافر أن اهلل قد أمر بيشء غري صحيح‪ ،‬أو أنه ال جيب‬ ‫عىل اهلل أن يأمر بذلك‪ ،‬أو أن أمر اهلل ال جيب عىل الشخص وال يلزمه القيام به أو تنفيذه ً‬ ‫أصال‪ .‬والعياذ باهلل‪ .‬كل ذلك من الكفر والتكذيب بأمر اهلل‪.‬‬ ‫يقر معها باألمر اإلهلي وأنه مم ِ‬ ‫لزم جلميع الناس‪ .‬فمعصية إبليس كفر ؛ ألنه استكرب عىل أمر اهلل ور َّد األمر عىل اهلل‪،‬‬ ‫وهذا ُيتلف عن معصية املسلم التي ا‬ ‫أيضا حتريم ما َّ‬ ‫حرم اهلل واعتقاد‬ ‫كفرا‪ .‬ومن هذا الكفر ً‬ ‫أحل اهلل أو استحالل ما َّ‬ ‫أما معصية املسلم‪ ،‬فهي ضعف نفس مع إقرار بالذنب‪ .‬وهذا ليس ً‬ ‫أيضا والعياذ باهلل‪.‬‬ ‫ذلك‪ .‬فهذا كفر يلحق هبذا النوع ً‬

‫‪20‬‬


‫تفسري النسيم ‪ :‬سورة البقرة ‪ :‬احلزب األول‬

‫حرم اهلل عليهم األكل منها‪،‬‬ ‫وأباح هلم األكل منها كم شاءا وأينم شاءا دون تقييد إال شجرة واحدة‪َّ ،‬‬ ‫أرضا هبا بتعريضها للعقاب اإلهلي‪.‬‬ ‫فإن أكال منها فقد وقعا يف معصية اهلل‪ ،‬فظلم أنفسهم بمخالفة أمر اهلل‪ ،‬ف َّ‬

‫‪2‬‬

‫َ​َ ه‬ ‫َ ‪ٞ‬‬ ‫ه‬ ‫َ َ‬ ‫َح َ​َ ح‬ ‫ُح ح ْ ُ ُ‬ ‫فأ َزل ُه َما ٱلش حي َطَٰ ُن عن َها فأخ َر َج ُه َما م هِما َكنا فِيهِِۖ َوقل َنا ٱهب ِ ُطوا َب حعضك حم ِلِ َ حع ٍض ع ُدو ۖۡ‬ ‫حَ‬ ‫ُ ح َ​َ ‪َ ٌ َ​َ​َ ٞ‬‬ ‫َ ُ‬ ‫َٰ‬ ‫َٰ‬ ‫ۡرض مستقر ومتع إَِل حِني ‪٣٦‬‬ ‫َولك حم ِ​ِف ٱۡل ِ‬

‫حرمة‪ ،‬فأكال منها‪،‬‬ ‫(‪ )36‬فوسوس هلم الشيطان باألكل من الشجرة امل َّ‬ ‫فكان الشيطان سب ًبا يف أن أبعدَّها اهلل عن اجلنة عقا ًبا هلم عىل ذلك‪.‬‬ ‫وبالتايل‪ ،‬إخراجهم وحرماهنم من حياة النعيم التي كانا يعيشان فيها‪.‬‬ ‫فأمر اهلل هببوط آدم وحواء وإبليس من اجلنة يف السمء إىل األرض‪،‬‬ ‫وحكم بالعداوة بني آدم وذريته وإبليس وذريته إىل يوم القيامة‪.‬‬ ‫ومنذ ذلك احلني‪ ،‬أصبحت األرض مكانًا يعيش عليه اإلنسان‪،‬‬ ‫ويرتزق منه إىل حني حضور أجلِه وانتهاء حياته عليها باملوت‪.‬‬

‫‪3‬‬

‫َ​َ​َه َ َ‬ ‫اد ُم مِن هربهِۦ َُك َِمَٰت َف َت َ‬ ‫اب َعلَ حيهِ إنه ُهۥ ُه َو ٱتله هو ُ‬ ‫ٱلرح ُ‬ ‫اب ه‬ ‫ِيم ‪٣٧‬‬ ‫فتلَّق ء‬ ‫ِۚ ِ‬ ‫ِ‬

‫(‪ )37‬علِم اهلل من آدم الندم واالنكسار عىل ما اقرتف من املعصية‪ ،‬فأنعم عليه‪ ،‬وع َّلمه كيف يتوب من الذنب‪.‬‬ ‫فأوحى إليه بكلمت يقوهلا إعالنًا للندم وعدم العزم عىل التكرار‪ ،‬وطل ًبا للعفو واملغفرة من اهلل‪.‬‬ ‫لنكونن من اخلارسين‪.‬‬ ‫وحواء‪ :‬ربنا ظلمنا أنفسنا‪ ،‬وإن مل تغفر لنا وترمحنا‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫فقال آدم َّ‬ ‫وحواء‪ ،‬فغفر هلم ما كان منهم‪.‬‬ ‫فقبِل اهلل توبته هو َّ‬ ‫فهو التواب‪ ،‬الذي ييرس لعباده أسباب التوبة‪ ،‬ثم يقبلها منهم‪ ،‬فيجعلها سب ًبا ملغفرة ذنوهبم والعفو عنهم‪.‬‬ ‫وهو الرحيم بعباده التائبني‪ ،‬فيصلح شأهنم وال يعاقبهم عىل ما كان منهم من الذنوب قبل توبتهم‪.‬‬

‫َ َ َ َ ُ َ َ َ​َ َ حٌ َ َح ح َ​َ ُ ح َحَُ َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ ح َ ح ُ ْ ح َ َ اۖۡ َ ه َ ح َ ه ُ‬ ‫قلنا ٱهبِطوا مِنها َجِيع فإِما يأت ِينكم م ِ​ِّن هدى فمن تبِع هداي فَل خوف علي ِهم وَل هم ُيزنون ‪٣٨‬‬

‫(‪ )38‬حكم اهلل عىل آدم وحواء وإبليس باهلبوط من اجلنة إىل األرض‪،‬‬

‫‪ .1‬ذهب بعض املفرسين أهنا جنة عىل األرض‪ ،‬وليست جنة اخلملد التي يف السامء‪ .‬وهذا خطأ‪ .‬والثابت باحلديث الصحيح أهنا جنة اخلملد التي يف‬ ‫السامء‪ .‬ففي احلديث الرشيف عن رسول اهلل ﷺ‪« :‬جيمع اهلل تبارك وتعاىل الناس‪ ،‬فيقوم املؤمنون حتى تمزلف هلم اجلنة‪ ،‬فيأتون آدم‪ ،‬فيقولون‪:‬يا أبانا‪،‬‬ ‫استفتِح لنا اجلنة‪ ،‬فيقول‪ :‬وهل أخرجكم من اجلنة إال خطيئة أبيكم آدم‪[ »...‬وللحديث بقية‪ ،‬ورواه مسلم عن أيب هريرة]‪.‬‬ ‫وعرضها للرضر بالعقاب‬ ‫‪ .2‬خلق اهلل اإلنسان ليطيعه وليعبده‪ ،‬فإن عصا اهلل فقد وضع نفسه يف غري موضعها‪ ،‬واستعملها يف غري ما مخلقت له‪َّ ،‬‬ ‫سمى القرآن ال معصاة الظاملني‪ ،‬أي الظاملني ألنفسهم‪.‬‬ ‫اإلهلي‪ .‬وهذا هو مظلم النفس‪ .‬وقد َّ‬ ‫‪ .3‬يف قراءة‪﴿ :‬فأزاهلام الشيطان عنها﴾‪.‬‬

‫‪21‬‬


‫أبو أمحد املصري ‪ :‬مجال حسني عبد الفتاح‬

‫ثم َّبني هلم – ولذر َّيتهم من بعدهم – أنه سريسل إليهم دينًا وتشي ًعا واجب االتباع‪،‬‬ ‫وفيه بيان للحق من الباطل ومتييز للصواب من اخلطأ‪.‬‬ ‫فمن أطاع اهلل فيم أمر‪ ،‬وانتهى عم هنى عنه‪ ،‬فقد ريض اهلل عنه‪،‬‬ ‫ووعده بزوال كل كرب عنه بعد موته‪ ،‬وحسن عاقبته يف احلياة اآلخرة‪،‬‬ ‫فال خيشى عليه يف اآلخرة رضر عذاب من اهلل ؛ ألن اهلل ينجيه منه ويدخله اجلنة‪،‬‬ ‫وال حيزن عىل ما فاته من نعيم الدنيا ؛ ألن يف نعيم اجلنة عوض أعظم من ذلك‪.‬‬ ‫والسنَّة‪.‬‬ ‫وال هدى اآلن إال دين اإلسالم ورسالة حممد ﷺ‪ .‬وال طاعة واجبة إال ما أمر اهلل ورسوله ﷺ به يف القرآن ُّ‬

‫َ ه َ َ َ ُ ْ َ َ ه ُ ْ َ َٰ َ ٓ ُ ْ َ َ َ ح َ َٰ ُ ه ُ ح َ َ َٰ ُ َ‬ ‫ِلون ‪٣٩‬‬ ‫وٱَّلِين كفروا وكذبوا َٔ‍ِبيتِنا أولـئِك أصحب ٱنلارِِۖ هم فِيها خ ِ‬

‫يتمرد عىل دينه‪ ،‬وال يدخل فيه‪ ،‬وال يكون عابدً ا هلل كم أمر اهلل‪،‬‬ ‫(‪ )39‬أما هذا الذي يكفر باهلل‪ ،‬ف َّ‬ ‫وأما هذا الذي ينكر صدق آيات اهلل التي أرسلها مع أنبيائه ورسله‪ ،‬فيكذب هبا‪،‬‬ ‫فال يطيع اهلل‪ ،‬وال يمتثل هلداه‪ ،‬ويستكرب عىل أمره‪ ،‬ويستحب احلياة الدنيا عىل اآلخرة؛‬ ‫فهذا يغضب اهلل عليه‪ ،‬ويعذبه يوم القيامة‪ ،‬في ِ‬ ‫دخله نار جهنم خالدً ا فيها‪ ،‬بال موت أو خروج‪ ،‬والعياذ باهلل‪.‬‬ ‫وال كفر اآلن إال الكفر بدين اإلسالم‪ ،‬وال تكذيب اآلن إال التكذيب بآيات القرآن وبسنَّة رسول اهلل ﷺ‪.‬‬

‫َ ح ُ ْ ح َ ه َح َ ح ُ َ َح ُ ح َ​َح ُ ْ َ ح ٓ ُ‬ ‫َ ح ُ ح ه َٰ َ َ ح َ‬ ‫ُ‬ ‫ّن إ ِ ح َ‬ ‫ِت ٱل ِ ٓ‬ ‫ۡس ءِيل ٱذك ُروا ن ِعم ِ َ‬ ‫َي َٰ َب ِ ٓ‬ ‫ون ‪٤٠‬‬ ‫ِت أنعمت عليكم وأوفوا بِعهدِي أ ِ‬ ‫وف بِعهدِكم ِإَويـي فٱرهب ِ‬

‫(‪ )40‬يا أهيا اليهود من أحفاد النبي يعقوب عليه السالم‪:‬‬

‫‪1‬‬

‫اذكروا اهلل بم أعطاكم أنتم وأسالفكم من النعم الكثرية العظيمة يف الدين والدنيا‪ ،‬فاشكروه وأطيعوه عىل ذلك‪.‬‬ ‫وأوفوا بم ألزمكم اهلل به من العهد يف التوراة أن تؤمنوا بمحمد ﷺ ورسالته وعندكم صفاته مكتوبة يف التوراة‪.‬‬ ‫فإن و َّفيتم العهد مع اهلل ودخلتم يف دين اإلسالم وأطعتم اهلل ورسوله ﷺ‪،‬‬ ‫يوف اهلل إليكم ما عاهدكم عليه يف التوراة بأن يغفر لكم ويدخلكم اجلنة‪.‬‬ ‫وخافوا من اهلل ‪ -‬إن مل تشكروا نعمته وتوفوا بعهده فتؤمنوا بمحمد ﷺ ودين اإلسالم – أن يعذبكم يف الدنيا واآلخرة‪...‬‬

‫‪2‬‬

‫‪ .1‬اخلطاب ليهود املدينة يف عرص الرسول ﷺ‪ .‬وبني إرسائيل هم أبناء يعقوب عليه السالم اإلثنا عرش‪ ،‬ومنهم يوسف عليه السالم وبنيامني‪ ،‬والذين‬ ‫أيضا‪ .‬فبني إرسائيل جنس واليهودية ِم َّلة‪.‬‬ ‫هم رؤساء أسباط أو شعوب بني إرسائيل‪ .‬أما اليهود فهم أتباع موسى عليه السالم‪ ،‬وهو من بني إرسائيل ً‬ ‫فكل هيودي من جنس بني إرسائيل وليس كل أبناء إرسائيل هيود‪ .‬واملراد ببني إرسائيل يف اآلية الكريمة اليهود الذين عاشوا مع الرسول ﷺ‬ ‫واملسلمني يف بداية اهلجرة إىل املدينة املنورة‪ .‬وخماطبة اهلل تعاىل هلم يف بداية دعوُتم لإلسالم بـ يا بني إرسائيل تلطف يف الدعوة بالقول اللني وتذكري‬ ‫هلم أهنم من نسل األنبياء لتأليف قلوهبم لدعوة اإلسالم‪ .‬فال تمبدأ معهم الدعوة بقول غليظ‪ .‬واهلل أعلم‪.‬‬ ‫‪ .2‬من حكمة اهلل يف احلديث عن بني إرسائيل معرفة حقيقتهم وعداوُتم للمسلمني‪ ،‬وكذلك أن جيتنب املسلمون األقوال واألفعال التي أغضبت اهلل‬ ‫عىل اليهود‪ ،‬فال تتكرر منهم‪ .‬ومع ذلك فقد جاء يف احلديث الرشيف أن املسلمون سيخرج منهم من يكرر هذه املصائب‪ .‬فقد روي عن الرسول ﷺ‪:‬‬

‫‪22‬‬


‫تفسري النسيم ‪ :‬سورة البقرة ‪ :‬احلزب األول‬

‫َ​َ ُ ْ ََٓ َح‬ ‫َ َ َ ُ ح َ َ َ ُ ُ ْٓ َه َ َ‬ ‫َ َ َ ح َ ُ ْ َ َٰ َ َ َ‬ ‫ه َٰ َ َ ه ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ون ‪٤١‬‬ ‫وءامِنوا بِما أنزلت مصدِقا ل ِما معكم وَل تكونوا أول َكف ِر ِۢ بِهِۖۡۦ وَل تشَتوا َٔ‍ِبي ِ​ِت ثمنا قل ِيَل ِإَويـي فٱتق ِ‬

‫(‪ِ ... )41‬‬ ‫وآمنوا بالقرآن الذي أنزل اهلل عىل رسوله حممد ﷺ‪،‬‬

‫وهو الكتاب املوافق ملا عندكم يف التوراة من بيان صفة رسول اهلل حممد ﷺ واألمر اإلهلي باإليمن به واتباعه‪.‬‬ ‫وال تكونوا أول هيود يكفرون بالقرآن‪ ،‬وعندكم من ِ‬ ‫العلم بالتوراة وبصفة الرسول حممد ﷺ ما ليس عند غريكم من الناس‬ ‫‪1‬‬

‫تتحملوا أوزار اليهود الذين سيكفروا بعدكم ويقتدون بكم يف ذلك‪.‬‬ ‫ومن املشكني الوثنيني عابدي األصنام‪ ،‬وحتى ال‬ ‫َّ‬

‫‪2‬‬

‫وال تبيعوا دين اهلل وكتابه واإليمن به بالقليل من متاع الدنيا‪.‬‬ ‫وهو قليل ‪ -‬ولو كثر ‪ -‬باملقارنة بمتاع اآلخرة‪ .‬وهو قليل باملقارنة بجريمة الكفر بدين اهلل‪.‬‬ ‫واتقوا اهلل أن يعاقبكم يف الدنيا واآلخرة إن مل تستجيبوا لدعوة رسول اهلل حممد ﷺ وتدخلوا يف دين اإلسالم‪...‬‬

‫ح‬ ‫َ َ ح ُ ُ ْ حَ ه َ َ ُ ح َ ح َ ُ َ‬ ‫َو َ​َل تَلحب ِ ُسوا ْ ح َ‬ ‫ٱۡل هق بِٱل َبَٰ ِط ِل وتكتموا ٱۡلق وأنتم تعلمون ‪٤٢‬‬

‫(‪... )42‬وال ختلِطوا احلق الذي نزل من عند اهلل يف التوراة بالكذب الذي افرتيتموه بأنفسكم‪ ،‬فت ِ‬ ‫ظهروا الباطل يف صورة احلق‪.‬‬ ‫حرفوا التوراة‪ ،‬فكتبوها بأيدهيم ثم قالوا إهنا من عند اهلل‪ .‬فخلطوا بني احلق من اهلل وباطلهم‪.‬‬ ‫وذلك أهنم َّ‬ ‫وال تكتموا احلق وتتك َّتموا عليه‪ ،‬وهو ما عندكم يف التوراة من صفة رسول اهلل حممد ﷺ‪،‬‬ ‫فأعلِنوها‪ ،‬وال ختفوها عن الناس؛ وأنتم تعلمون أنه حق‪ ،‬وأن إعالنه واجب‪،‬‬ ‫وأن إخفاءه جريمة منكرة يف حق اهلل وحق عباده‪.‬‬

‫‪3‬‬

‫ِيموا ْ ه‬ ‫ٱلر َٰكِعِ َ‬ ‫ٱلز َك َٰو َة َو ح‬ ‫ٱلصلَ َٰو َة َو َءاتُوا ْ ه‬ ‫َوأَق ُ‬ ‫ٱر َك ُعوا ْ َم َع ه‬ ‫ني ‪٤٣‬‬

‫(‪... )43‬وادخلوا يف دين اإلسالم‪ ،‬فالزموا رشيعته‪ ،‬ويأمركم اهلل فيه بالصالة والزكاة كم أمركم ساب ًقا يف التوراة‪،‬‬ ‫َّعل بالن ِ‬ ‫ذو الن ِ‬ ‫يصنع ذلِ َك‪َّ .‬‬ ‫وإن َبني إرسائيل‬ ‫َّعل‪ ،‬حتَّى إن كا َن ِمنهم من أتى مأ َّم مه عالنيَ ًة َلكا َن يف أ َّمتي من‬ ‫م‬ ‫«ليأتنيَّ عىل مأ َّمتي ما أتى عىل بني إرسائيل َح َ‬ ‫قال‪ :‬ما َأنا ع َل ِ‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬ ‫تفرقت عىل ثِ ِ‬ ‫ثالث وسبعنيَ م َّل ًة ‪ ،‬ك هلهم يف الن ِ‬ ‫رسول اهللِ؟ َ‬ ‫َ‬ ‫م‬ ‫يه‬ ‫هي يا‬ ‫وتفرتق أ َّمتي عىل‬ ‫نتني وسبعنيَ م َّل ًة‪،‬‬ ‫َّار َّإال م َّل ًة واحد ًة ‪ ،‬قالوا ‪َ :‬من َ‬ ‫َّ‬ ‫األلباين]‪.‬‬ ‫وحسنه‬ ‫الرتمذي‬ ‫و َأصحايب» [رواه‬ ‫ا‬ ‫َّ‬ ‫ا‬ ‫‪ .1‬كانت صفة رسول اهلل حممد ﷺ مكتوبة يف منسخة التوراة واإلنجيل يف عرص الرسول ﷺ عند نزول هذه السورة‪ .‬وقد مح ِّرفت هذه الكتب بعدها‪،‬‬ ‫مستمرا حتى اآلن‪ .‬م‬ ‫لو هذه الكتب حاليًا من صفة رسول اهلل ﷺ دليل عىل حتريفها‪ .‬وهذا متوقع أال يرتك هؤالء يف كتبهم ‪-‬‬ ‫وما زال التحريف فيها‬ ‫وخ ا‬ ‫ً‬ ‫بعد نزول هذه اآليات ‪ -‬أي أثر من قريب أو بعيد يشري لرسول اهلل حممد ﷺ‪.‬‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫وهنم بِغ ْ ِ‬ ‫َري ِع ْل ٍم َأالَ َساء َما َي ِز مرو َن﴾ [النحل‪ .]25:‬ويف قوله تعاىل ﴿وال‬ ‫‪ .2‬يقول اهلل تعاىل‪﴿ :‬ليَ ْحم ملو ْا َأ ْوزَ َار مه ْم كَام َل ًة َي ْو َم ا ْلقيَا َمة َوم ْن َأ ْوزَ ار ا َّلذي َن ميض هل َ م‬

‫موجه لليهود يف عرص الرسول حممد ﷺ‪.‬‬ ‫تكونوا َّأول كافر به﴾ دليل عىل أن الكالم َّ‬ ‫ول اهللِ َوا َّل ِذي َن َم َع مه َأ ِشدَّ اء ع َ​َىل ا ْل مك َّفارِ‬ ‫‪ .3‬قام اليهود بإخفاء صفات رسول اهلل ﷺ املذكورة يف التوراة‪ .‬ومما يدل عىل ذلك قول اهلل تعاىل‪ ﴿ :‬هحم ََّمدٌ َّر مس م‬ ‫ِ‬ ‫وه ِهم من َأ َث ِر السج ِ‬ ‫ر َمحَاء بينَهم تَر ماهم ر َّكعا سجدً ا يبتَغمو َن َف ْضال من اهللِ و ِر ْضوانًا ِسيام مهم ِيف وج ِ‬ ‫ود َذلِ َك َمثَ مل مه ْم ِيف الت َّْو َراة‪[ ﴾...‬الفتح‪ .]29:‬فهل‬ ‫ه م‬ ‫ِّ ْ‬ ‫َ ْ م م‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ِّ َ‬ ‫َ ْ م ْ َ ْ م ً م َّ َ ْ‬ ‫م‬ ‫يوجد أي أثر هلذا املثل فيام عند اليهود من الكتب اآلن؟ ال يوجد‪ .‬وهل يوجد كالم عن رسول اهلل حممد ﷺ فيام عند اليهود من الكتب اآلن‪ .‬ال يوجد‪.‬‬

‫وهذا دليل عىل أهنم أخفوا ذلك من التوراة منذ بعثة الرسول ﷺ وإيقاهنم أنه هو النبي املذكور عندهم يف التوراة‪.‬‬

‫‪23‬‬


‫أبو أمحد املصري ‪ :‬مجال حسني عبد الفتاح‬

‫فأقيموا الصالة املفروضة يف رشيعة اإلسالم‪ ،‬وداوموا عليها بشوطها وأركاهنا الشعية‪،‬‬ ‫وأعطوا الزكاة املفروضة ملستحقيها يف رشيعة اإلسالم‪ ،‬وأقيموا صالتكم هلل مع مجاعة املسلمني من أمة حممد ﷺ‪...‬‬

‫‪1‬‬

‫َ َ ح ُ ُ َ ه َ ح َ َ َ ح َ َ ُ َ ُ ح َ َ ُ ح َ ح ُ َ ح َ َٰ َ َ َ َ َ ُ َ‬ ‫ب أفَل ت حع ِقلون ‪٤٤‬‬ ‫َب وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون ٱلكِت ْۚ‬ ‫أتأمرون ٱنلاس بِٱل ِ ِ‬

‫(‪... )44‬هل يعقل أو يقبل عند أهل الفطرة السليمة والطباع املستقيمة أن تأمروا الناس باإليمن وبمكارم األخالق‪،‬‬ ‫وأال تأمروا أنفسكم بذلك‪ ،‬فيكون لكم نصيب منه ومن العمل به؛‬ ‫رغم أنكم تقرأون التوراة التي فيها األمر باإليمن برسول اهلل حممد ﷺ وبالتزام األخالق الكريمة؟!‬ ‫أفال تعقلون أن األمر باملعروف مع عدم فِعله‪ ،‬والنهي عن املنكر مع فِعله‪ ،‬حالة تقام هبا عليكم احل َّجة الشعية‪،‬‬ ‫فال يكون لكم عند اهلل عذر يوم القيامة‪ ،‬وال جيازيكم بذلك إال نار جهنم يف اآلخرة؟!‬ ‫ال ينهاهم اهلل أو يلومهم عىل األمر باملعروف‪ ،‬فهذا عمل طيب‪ ،‬لكن يلومهم عىل أهنم ال يفعلون ما يأمرون به الناس‪...‬‬

‫َ ح َ ُ ْ ه ح َ ه َ َٰ ه َ َ َ َ ٌ ه َ َ ح َ‬ ‫خَٰشِ عِ َ‬ ‫ني ‪٤٥‬‬ ‫َب وٱلصلوة ِِۚ ِإَونها لكبِۡية إَِل لَع ٱل‬ ‫وٱستعِينوا بِٱلص ِ‬ ‫(‪... )45‬واستعينوا عىل القيام بم يريض اهلل‪ ،‬وعىل اجتناب ما يغضبه‪ ،‬وعىل طلب اجلنة‪ ،‬والنجاة من النار‪،‬‬ ‫بالصرب‪ ،‬وهو احتمل املكاره ومحل النفس عىل مشقة العبادات واجتناب املعايص‪،‬‬ ‫وبالصالة‪ ،‬وهي أساس الصلة بني العبد وبني اهلل‪ ،‬وفيها الراحة والسلوان لنفس املؤمن‪.‬‬ ‫وإن االلتزام بالصالة واملداومة عليها أمر ثقيل عىل اإلنسان بطبيعة احلال‪ ،‬ألن النفس تستثقل االلزام وبذل اجلهد‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫إال عىل املؤمنني اخلاشعني هلل ولطاعته‪ ،‬ييرس اهلل عليهم أمر الصالة ومش َّقتها‪ ،‬وهيون اهلل عليهم اجلهد يف سبيل رضوانه واجلنة‪،‬‬ ‫طوعوا أنفسهم ألمره‪ ،‬وأخضعوا أنفسهم لشعه‪ ،‬فجعلوا هواهم تاب ًعا ملا يرضيه‪...‬‬ ‫وهؤالء هم اخلاضعون هلل الذين َّ‬

‫ه َ َ ُ ُّ َ َ ه ُ ُّ َ َٰ ُ ْ َ ح َ َ ه ُ ح َ ح َ َٰ ُ َ‬ ‫جعون ‪٤٦‬‬ ‫ٱَّلِين يظنون أنهم ملقوا رب ِ ِهم وأنهم إَِلهِ ر ِ‬

‫(‪... )46‬وهؤالء اخلاشعون هلل هم الذين يومنون يقينًا أهنم سيلقون اهلل يوم القيامة‪ ،‬فيسأهلم وحياسبهم عىل أعمهلم‪،‬‬ ‫مرة ليجازهيم باجلنة أو النار‪.‬‬ ‫ويؤمنون أهنم مهم طالت هبم احلياة راجعون إىل اهلل يوم القيامة كم خلقهم َّأول َّ‬ ‫وبالتايل‪ ،‬فهم يستعدُّ ون باألعمل الصاحلة للقاء اهلل والسؤال واحلساب‬ ‫طم ًعا يف الفوز باجلنة والنجاة من النار يف هذا اليوم العظيم‪.‬‬

‫‪2‬‬

‫‪ .1‬يف هذه اآلية دعوة ضمنيَّة هلم بدخول اإلسالم ؛ إذ ال تمقبل هذه األعامل إال من مسلم‪ .‬وفيها األمر بصالة اجلامعة‪.‬‬ ‫‪ .2‬عطف الرجوع إىل اهلل عىل لقاء اهلل هو من عطف العام عىل اخلاص مع تقديم اخلاص‪ .‬فالرجوع إىل اهلل يكون يوم القيامة‪ .‬ولقاء اهلل جزء من‬ ‫وتعظيام للقاء اهلل تعاىل‪.‬‬ ‫وخص لقاء اهلل بالذكر وقدَّ مه عىل الرجوع َتييزً ا‬ ‫أحداث يوم القيامة‪.‬‬ ‫َّ‬ ‫ً‬

‫‪24‬‬


‫تفسري النسيم ‪ :‬سورة البقرة ‪ :‬احلزب األول‬

‫ح َ َ ح ُ ُ ْ ح َ ه َح َ ح ُ َ َح ُ ح َ​َ َ ه حُ ُ ح َ​َ‬ ‫لَع ٱلح َعَٰلَم َ‬ ‫ِت ٱل ِ ٓ‬ ‫ّن إِۡس ءِيل ٱذكروا ن ِعم ِ َ‬ ‫َي َٰ َب ِ ٓ‬ ‫ني ‪٤٧‬‬ ‫ِت أنعمت عليكم وأ ِّن فضلتكم‬ ‫ِ‬ ‫(‪ )47‬يا أهيا اليهود من أحفاد النبي يعقوب عليه السالم‪-:‬‬ ‫اذكروا اهلل بم أعطاكم أنتم وأسالفكم من النعم الكثرية العظيمة التي سيأيت ذكرها يف اآليات التالية‪،‬‬ ‫فضل اهلل أسالفكم يف زمان موسى عليه السالم هبذه النعم عىل مجيع الناس يف عرصه‪،‬‬ ‫واذكروا كيف َّ‬ ‫فضلكم اهلل عىل أكثر الناس بمجاورة رسول اهلل ﷺ يف املدينة املنورة‪،‬‬ ‫واذكروا كيف َّ‬ ‫فضلكم اهلل عىل العرب املشكني بالتوراة املكتوب فيها صفة رسول اهلل ﷺ‪،‬‬ ‫واذكروا كيف َّ‬ ‫فضلكم عىل كثري من الناس باألموال واحلصون واألمن والرخاء‪.‬‬ ‫واذكروا كيف أنعم اهلل عليكم و َّ‬ ‫فاشكروه عىل هذه النعمة‪ ،‬باإليمن برسالة حممد ﷺ‪ ،‬وطاعة اهلل فيم أمر به يف القرآن الكريم‪...‬‬

‫هُ ْ‬ ‫هح‬ ‫َح‬ ‫َ ح َ َ ُ ح َ ُ ح َ َ َ َٰ َ ‪ ُ َ َ ٞ‬ح َ ُ ح َ َ ح ‪ ُ َ َ ٞ‬ح ُ َ ُ َ‬ ‫ه َح‬ ‫نِصون ‪٤٨‬‬ ‫َوٱتقوا يَ حوما َل َت ِزي نف ٌس َعن نفس شيا وَل يقبل مِنها شفعة وَل يؤخذ مِنها عدل وَل هم ي‬ ‫(‪... )48‬واتقوا عذاب اهلل يوم القيامة باإليمن برسالة حممد ﷺ والدخول يف دين اإلسالم‪.‬‬ ‫يتحمله عنكم أحد غريكم‪ ،‬فلن يعاقب واحد ً‬ ‫بدال منكم عىل كفركم‪ ،‬ولكن كل كافر يعاقب بذنبه‪،‬‬ ‫ذلك العذاب لن‬ ‫َّ‬ ‫تغرتوا بمن يزينون لكم الكفر ويعينونكم عليه‪ ،‬فلن يغنوا عنكم من عذاب اهلل شيئًا يوم القيامة‪.‬‬ ‫فال ُّ‬ ‫ذلك العذاب لن ينجيكم منه اعتذار منكم أو من غريكم‪ ،‬فلن يشفع لكم يف ذنب الكفر شافع وال يقبل اهلل شفاعتهم‪،‬‬ ‫تغرتوا برؤسائكم يف الكفر الذين يزينون لكم الباطل وي ِعدونكم ويمنُّونكم باألوهام‪.‬‬ ‫فال ُّ‬ ‫‪1‬‬

‫ذلك العذاب ال خيرجكم منه فدية مال أو ذهب تفتدوا هبا أنفسكم‪ ،‬وال يقبلها اهلل منكم‪،‬‬ ‫تغرتوا بأموالكم‪ ،‬فلن تنجيكم من عذاب اهلل يوم القيامة مهم كثرت‪.‬‬ ‫فال ُّ‬ ‫وال ينجيكم من عذاب اهلل سبب يوم القيامة‪ ،‬وال ينرصكم منه نارص كم كنتم تنرصون بعضكم ضد املسلمني يف الدنيا‪.‬‬ ‫وال يعينكم عىل اخلروج منه أي يشء أو شخص‪ ،‬إن كفرتم بدين اإلسالم ومتُّم عىل الكفر‪ .‬فاستمعوا للنصيحة وآمنوا‪.‬‬

‫ح َح َ َُ ُ َ ُ ح ُ َٓ حَ َ َُ ُ َ َحََٓ ُ ح َ​َح َ ح ُ َ َ َٓ ُ‬ ‫ح َ ه ح َ َٰ ُ‬ ‫كمح‬ ‫كم م حِن َ‬ ‫ذ‬ ‫ع‬ ‫ٱل‬ ‫ء‬ ‫و‬ ‫س‬ ‫م‬ ‫ك‬ ‫ون‬ ‫وم‬ ‫س‬ ‫ي‬ ‫ن‬ ‫و‬ ‫ع‬ ‫ِر‬ ‫ف‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ء‬ ‫ِإَوذ َنين‬ ‫اب يذ ِ​ِبون أبناءكم ويستحيون ن ِساء ْۚ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ه ُ‬ ‫ك حم َع ِظ ‪ٞ‬‬ ‫َ َ ُ َ​َٓ‪ٞ‬‬ ‫يم ‪٤٩‬‬ ‫و ِ​ِف ذَٰل ِكم بَلء مِن رب ِ‬

‫نجى اهلل أسالفكم من بطش فرعون وقومه‬ ‫(‪ )49‬واذكروا – يا بني إرسائيل – حني َّ‬ ‫الذين أذاقوهم أسوأ العذاب‪ ،‬فكانوا يقتلون ذكورهم ويرتكون النساء عىل قيد احلياة‪.‬‬

‫‪1‬‬

‫‪ .1‬ال يقبل اهلل شفاعة يف كافر يوم القيامة‪ .‬و ميستثنى من ذلك فقط شفاعة الرسول ﷺ لعمه أيب طالب‪ ،‬فخفف اهلل عنه هبا العذاب يف نار جهنم‪ .‬ففي‬ ‫ب َ ٍ‬ ‫هل َن َف ْع َت أ َبا َطالِ ٍ‬ ‫ب َل َك‪َ « .‬‬ ‫احلديث الرشيف عن العباس بن عبد املطلب قال‪ :‬يا رسول اهلل‪ْ ،‬‬ ‫قال‪َ :‬ن َع ْم‪ ،‬هو يف‬ ‫حيو مط َك و َيغ َْض م‬ ‫بيشء؟ فإنَّه كا َن َ م‬ ‫َّار»‪ .‬ويف رواية مسلم‪َ « :‬لع َّله َتنْ َفعه َشفاعَتي يوم ِ‬ ‫ِ‬ ‫ضاح ِمن ٍ‬ ‫األس َف ِل ِم َن الن ِ‬ ‫َض ْح َضاحٍ ِمن ن ٍ‬ ‫القيا َم ِة‪ ،‬فيم ْج َع مل يف َض ْح ٍ‬ ‫نار َيبْ مل مغ‬ ‫َ م مم‬ ‫َ َ‬ ‫َار‪َ ،‬ل ْو َال أنا َلكا َن يف الدَّ ْرك ْ‬ ‫حضاح هو اليشء السطحي أو غري العميق‪.‬‬ ‫والض َ‬ ‫َك ْعبَيْ ِه‪َ ،‬يغ ِْيل منه ِدما مغ مه»‪[ .‬رواه البخاري ومسلم]‪َّ .‬‬

‫‪25‬‬


‫أبو أمحد املصري ‪ :‬مجال حسني عبد الفتاح‬

‫واختبارا لصربهم وإيمهنم‪،‬‬ ‫عظيم من اهلل ألسالفكم‪،‬‬ ‫وهذا العذاب كان‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ابتالءا ً‬ ‫واختبارا لشكرهم وإحساهنم‪،‬‬ ‫وهذه النجاة كانت كذلك نعمة عظيمة هلم‪،‬‬ ‫ً‬ ‫أيضا واختبار مثلهم لشكركم وطاعتكم هلل‪...‬‬ ‫وهي نعمة لكم ً‬

‫ح َ ح‬ ‫ُ ُ ح َ ح َ َ َ َ ح َ َٰ ُ ح َ َ ح َ ح َ ٓ َ َ ح َ ح َ َ َ ُ ح َ ُ ُ َ‬ ‫ِإَوذ ف َرق َنا بِكم ٱِلحر فأَنينكم وأغرقنا ءال ف ِرعون وأنتم تنظرون ‪٥٠‬‬

‫(‪... )50‬واذكروا ‪ -‬أهيا اليهود ‪ -‬حني هرب أسالفكم من مالحقة فرعون وجنوده بمرص يف اجتاه البحر‪،‬‬ ‫يابسا عربوا منه ساملني إىل الشاطئ اآلخر‪،‬‬ ‫فقسمه اهلل هلم‪َّ ،‬‬ ‫فشق هلم يف البحر طري ًقا ً‬ ‫حتى إذا عربه فرعون وجنوده خلفهم ليلحق هبم ويؤذهيم‪ ،‬انطبق عليهم البحر فغرق هو وجنوده‪.‬‬ ‫وقد رأى أسالفكم هذه املعجزة بأعينهم‪ ،‬وأنتم تعلموهنا يقينًا‪ ،‬فال جمال إلنكارها‪.‬‬ ‫فاشكروا اهلل عىل نعمته وفضله‪ .‬وأساس شكر النعمة هو اإليمن باهلل ورسوله ﷺ‪ ،‬وطاعتهم بالدخول يف دين اإلسالم‪.‬‬ ‫وتذكري اهلل لليهود يف عهد رسول اهلل بنعمة النجاة من فرعون التي كانت يف أسالفهم قبل قرون طويلة من الزمان ؛‬ ‫ألن هذه نعمة لكل اليهود يف كل العصور‪ ،‬فلو كان فرعون قد أدرك السابقني من اليهود يف ذلك الوقت‪ ،‬ومل يغرق‪،‬‬ ‫لكان قد قتلهم مجي ًعا عىل الراجح‪ ،‬وملا بقى هيودي واحد عىل ظهر األرض بعد ذلك أبدً ا وحتى يومنا هذا‪،‬‬ ‫أثرا بعد عني كأقوام هود وصالح ولوط وأمثاهلم من اهلالكني‪.‬‬ ‫ولكانوا قد أصبحوا يف الدنيا ً‬ ‫وكذلك فهي نعمة عظيمة ألن اهلل نجاهم من فرعون وقومه بدون حرب وال رصاع‪،‬‬ ‫بل جاءت النجاة ِمنَّة من اهلل تعاىل عليهم دون جهد منهم ً‬ ‫أصال‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫عدوك املجرم من عنده دون أن تفعل له شيئًا؟‬ ‫فأي نعمة يف الدنيا أعظم من ذلك‪ :‬أن هيلك اهلل َّ‬ ‫ُّ‬

‫ح َ َٰ َ ح َ ُ َ َ ح َ َ َ َ ُ ه َ ح ُ ح َ‬ ‫َ‬ ‫َ​َ ُ َ‬ ‫نت حم ظَٰل ُِمون ‪٥١‬‬ ‫ني َلحلة ث هم ٱَّتذت ُم ٱل ِع حجل ِم ُۢن َب حع ِده ِۦ وأ‬ ‫ِإَوذ وعدنا موَس أرب ِع‬

‫(‪ )51‬واذكروا – أهيا اليهود ‪ -‬حني أعطى اهلل موسى ِ‬ ‫موعدً ا عند جبل الطور؛‬

‫لينزل عليه ألواح التوراة يف أربعني ليلة‪ ،‬فيكون كتاب اهلل هداية لكم وبيان ملا فيه صالح دينكم ودنياكم‪.‬‬ ‫صنم عىل شكل ِعجل‪.‬‬ ‫فلم ترككم موسى وذهب إىل ميقات اهلل‪ ،‬انتهزتم غيابه‪ ،‬فعبدتم من دون اهلل ً‬ ‫َّ‬ ‫تحمل إثمه غريكم‪ ،‬فأنتم وحدكم الظاملون ألنفسكم بذلك‪،‬‬ ‫وهذا الكفر ال يالم عليه وال ي َّ‬ ‫فلم يقرص نب ُّيـكم معكم من قبل يف بيان سبيل احلق من الباطل واإليمن من الكفر‪،‬‬

‫‪2‬‬

‫لكن ً‬ ‫بدال من شكر نعمة اهلل بأن أنجاهم من فرعون بأن يلزموا توحيد اهلل وطاعته‪ ،‬قابل بنو إرسائيل نعمة اهلل بالكفر‪...‬‬ ‫أيضا‪.‬‬ ‫‪ . 1‬ترك النساء عىل قيد احلياة بدون رجال مصيبة قد تعرضهن لكافة أشكال الرضر واخلطر واإلذالل‪ ،‬فهذا من البالء ً‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫رسائ َيل ا ْلبَ ْح َر‬ ‫‪ . 2‬يقول اهلل تعاىل يف كيف أن موسى قد بني لقومه حكم عبادة األصنام بعد نجاُتم من فرعون وغرقه‪ ،‬يقول اهلل تعاىل‪َ ﴿ :‬و َج َ‬ ‫اوزْ نَا بِبَني إ ْ َ‬ ‫ِ‬ ‫آهل ٌة َق َال إِ َّنكمم َقوم َ ْجته ملو َن‪ .‬إِ َّن َهؤم الء متَرب ما مهم فِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫يه َو َباط ٌل َّما كَانمو ْا َي ْع َم ملو َن‪.‬‬ ‫ْ ْ ٌ َ‬ ‫وسى ْ‬ ‫م َّ ٌ َّ ْ‬ ‫َف َأت َْوا ع َ​َىل َق ْو ٍم َي ْع مك مفو َن ع َ​َىل َأ ْصنَا ٍم َّهلم ْم َقا ملو ْا َيا مم َ‬ ‫اج َعل َّلنَا إِ َهلًا َك َام َهلم ْم َ‬ ‫ِ‬ ‫َري اهللِ َأ ْب ِغيك ْمم إِ َهلًا َو مه َو َف َّض َلك ْمم ع َ​َىل ا ْل َعاملَِنيَ ﴾ [األعراف‪ .]140-138:‬ومعنى مم َّترب‪ :‬هالك‪.‬‬ ‫َق َال َأغ ْ َ‬

‫‪26‬‬


‫تفسري النسيم ‪ :‬سورة البقرة ‪ :‬احلزب األول‬

‫َ َ َ ه ُ َح ُ َ‬ ‫ُ َ​َ َ‬ ‫ُ‬ ‫ث هم عف حونا َعنكم ِم ُۢن َب حع ِد ذَٰل ِك ل َعلك حم تشك ُرون ‪٥٢‬‬

‫قادرا أن يعجل لكم بعقوبة‪،‬‬ ‫(‪... )52‬ثم تاب اهلل عليكم من هذا الذنب‪ ،‬وقبِل منكم التوبة‪ ،‬فغفره لكم‪ ،‬وكان ً‬ ‫فيهلككم هبذا الذنب كم أهلك أمم ًـا سابقة بكفرهم‪.‬‬ ‫فهذا العفو منه نعمة عظيمة تستوجب شكركم هلل عز وجل عليها باالمتثال لطاعته وترك املعايص‪.‬‬

‫وذكَّرهم اهلل بكفر أسالفهم ؛ ألهنم سائرون عىل طريق العناد نفسه بكفرهم برسالة حممد ﷺ‪.‬‬

‫َ‬ ‫ح َ َ ح َ ُ َ ح َ َٰ َ ح ُ َ َ َ ه ُ َ‬ ‫ب َوٱلف حرقان ل َعلك حم ت حه َت ُدون ‪٥٣‬‬ ‫ِإَوذ ءاتينا موَس ٱلكِت‬ ‫(‪ )53‬واذكروا – أهيا اليهود ‪ -‬حني أنزل اهلل التوراة عىل موسى‪،‬‬ ‫شاف ٍ‬ ‫وفيها بيان فاصل ٍ‬ ‫واف َّفرق اهلل لكم به بني احلق والباطل‪.‬‬ ‫عرفكم اهلل به يف الكتاب‪.‬‬ ‫وكان هذا سب ًبـا يستوجب هدايتكم للحق‪ ،‬بعد أن َّ‬ ‫فال اهتدى أسالفكم بالتوراة‪ ،‬فأطاعوا اهلل‪ ،‬وال اهتديتم بم فيها من صفة رسول اهلل ﷺ‪ ،‬فآمنتم برسالته‪،‬‬ ‫وال آمنتم بالقرآن الكريم‪ ،‬فدخلتم يف دين اإلسالم‪.‬‬

‫‪1‬‬

‫ْ َ‬ ‫ُ ح َ ح ُ ُ ْٓ‬ ‫َ ُ ح َ َ‬ ‫ح َ َ ُ َ َٰ َ‬ ‫َ َٰ َ ح ِ ه ُ ح َ َ ح ُ ح َ ُ َ ُ‬ ‫كم ب ِ ِ‬ ‫ٱَّتاذِك ُم ٱلعِ حجل ف ُتوبُ ٓوا إ ِ َٰ​َل بَارِئِكم فٱقتلوا‬ ‫وَس ل ِق حو ِمهِۦ يقوم إِنكم ظلمتم أنفس‬ ‫ِإَوذ قال م‬ ‫ُ ح َ​َ َ َ َح ُ‬ ‫َ ُ َ ُ ح َ َٰ ُ ح َ ح ‪ ٞ‬ه ُ‬ ‫ك حم ع َ‬ ‫ِند بَ‬ ‫ك حم إنه ُهۥ ُه َو ٱتله هو ُ‬ ‫ٱلرح ُ‬ ‫اب ه‬ ‫ِيم ‪٥٤‬‬ ‫ي‬ ‫ل‬ ‫ع‬ ‫اب‬ ‫ت‬ ‫ف‬ ‫م‬ ‫ك‬ ‫ئ‬ ‫ار‬ ‫أنفسكم ذل ِكم خۡي ل‬ ‫ْۚ ِ‬ ‫ِ​ِ‬

‫(‪ )54‬واذكروا – أهيا اليهود – حني قال موسى عليه السالم ألسالفكم ممن عبدوا صنم ِ‬ ‫العجل من دون اهلل ‪:‬‬ ‫يا قوم إنكم قد أخطأتم يف حق أنفسكم‪ ،‬فظلمتموها بمعصية اهلل‪ ،‬وآذيتموها بتعريضها لغضب اهلل وعقابه‪،‬‬ ‫بعضا‪ ،‬فهذا ك َّفارة لذنبكم العظيم‪.‬‬ ‫فإن أردتم التوبة من هذا الذنب‪ ،‬فليقتل بعضكم ً‬ ‫هذه الكفارة الشديدة أفضل لكم عند اهلل‪ ،‬فيتوب عليكم ويغفر لكم هذا الذنب يف الدنيا‪،‬‬ ‫ً‬ ‫بدال من أن متوتوا‪ ،‬فتلقوا اهلل عىل هذا الذنب الشنيع‪ ،‬فيعذبكم يف نار جهنم خالدين فيها أبدً ا‪.‬‬ ‫فبهذه الكفارة يقبل اهلل منكم التوبة ويعفو عنكم‪ ،‬فهو التواب الذي يعني عباده عىل التوبة ويقبلها منهم‪،‬‬ ‫وهو الرحيم الذي يغفر هلم بتوبتهم ما قد سلف فال يعاقبهم به‪.‬‬

‫وعىل املؤمن االبتعاد عن الذنوب وعدم االتكال عىل مغفرة اهلل للتمدي فيها‪ ،‬فقد تكون هلا عواقب مؤملة وإن غفرها اهلل‪،‬‬ ‫كم غفر اهلل لبني إرسائيل لكن بعد هذه الكفارة األليمة‪ ،‬وكم غفر آلدم لكن بعد أن خرج من نعيم اجلنة إىل شقاء األرض‪.‬‬

‫‪2‬‬

‫‪ .1‬الكتاب هنا هو التوراة‪ .‬والفرقان صفة له بمعنى أن فيه من األحكام ما فرق اهلل هبا بني احلق والباطل‪ .‬وعطف الفرقان عىل الكتاب هو يف اللغة‬ ‫تفسريي‪ ،‬أي يكون املعطوف صفة للمعطوف عليه‪ ،‬وليس شيئًا خمتل ًفا عنه‪.‬‬ ‫عطف‬ ‫ا‬ ‫ِ‬ ‫إْصا كام محله عىل الذين من قبلنا من األمم‪.‬‬ ‫‪ .2‬احلمد هلل الذي جعل التوبة يف أمة حممد ﷺ بكلمة يقوهلا املسلم‪ .‬ومل حيمل علينا ً‬

‫‪27‬‬


‫أبو أمحد املصري ‪ :‬مجال حسني عبد الفتاح‬

‫ه َ َ ح َ َ َ َ َ ح ُ ُ ه َٰ َ ُ َ َ ُ َ ُ َ‬ ‫ح ُ ح ُ ح َ َٰ ُ َ َٰ َ ُّ ح َ َ َ َ ه َٰ َ‬ ‫نت حم تنظ ُرون ‪٥٥‬‬ ‫ِت ن َرى ٱَّلل جهرة فأخذتكم ٱلصـعِقة وأ‬ ‫ِإَوذ قلتم يموَس لن نؤمِن لك ح‬ ‫(‪ )55‬واذكروا ‪ -‬أهيا اليهود ‪ -‬حني قالت طائفة من أسالفكم ملوسى عليه السالم‪-:‬‬ ‫لن نصدقك فيم ب َّلغتنا به عن اهلل إال أن تدعو اهلل أن يرينا ذاته عيانًا بيانًا بغري حجاب‪.‬‬

‫‪1‬‬

‫فاشرتطوا عىل رب العاملني رش ًطا لإليمن بالدين‪ ،‬فقالوا‪ :‬إما أن نرى اهلل فنؤمن‪ ،‬أو ال نراه فنكفر‪ ،‬والعياذ باهلل‪.‬‬ ‫فاشرتطوا عىل اهلل‪ ،‬فتجاوزوا احلدود‪ ،‬واقرتفوا كبرية عظيمة‪.‬‬ ‫وطلبوا ما ال ينبغي لبش‪ ،‬فرؤية اهلل يف الدنيا ممنوعة‪.‬‬ ‫وكفروا باهلل وآياته عندما مل يتحقق ما أرادوا‪.‬‬ ‫فعاقبهم اهلل بصاعقة رضبتهم‪ ،‬فأرجفتهم‪ ،‬فقتلتهم مجي ًعا‪.‬‬ ‫وكانوا ينظرون إىل هذه العقوبة تصيبهم بال حول هلم وال قوة أو حيلة يستطيعون هبا ر َّد عقاب اهلل عن أنفسهم‬ ‫فهؤالء أرادوا أن يروا اهلل‪ ،‬فأراهم صاعقة العذاب‪...‬‬

‫‪2‬‬

‫ُ‬ ‫ُ َ ه ُ َح ُ َ‬ ‫ح ُ‬ ‫ث هم َب َعث َنَٰكم ِم ُۢن َب حع ِد َم حوت ِك حم ل َعلك حم تشك ُرون ‪٥٦‬‬ ‫(‪... )56‬ثم أعاد اهلل من ماتوا إىل احلياة مرة أخرى بعد أن قتلتهم الصاعقة‪،‬‬ ‫فهذه نعمة تستوجب شكر اهلل عليها باإليمن والطاعة‪.‬‬ ‫فاعتربوا أهيا اليهود‪ ،‬وال تتجاوزوا يف حق اهلل ورسوله ﷺ‪ِ ،‬‬ ‫وآمنوا فال يعاقبكم كم عاقب أسالفكم‪.‬‬ ‫وقد ذكَّرهم اهلل هبذا الذنب والعقاب رغم أنه كان يف أسالفهم؛ ألهنم ساروا يف الطريق نفسه‪ ،‬فسألوا رسول اهلل حممدً ا ﷺ‬ ‫أن ينزل عليهم كتا ًبا من السمء مجلة واحدة كم نزلت التوراة يف ألواح عىل موسى‪ ،‬وجعلوا ذلك رش ًطا لإليمن‪.‬‬

‫‪3‬‬

‫َ َ ه ح َ َ َ ح ُ ُ ح َ َ َ َ َ َ ح َ َ َ ح ُ ُ ح َ ه َ ه ح َ َٰ ُ ُ ْ‬ ‫َ َ َٰ َ َ َ ح َ َٰ ُ‬ ‫كمح‬ ‫وظللنا عليكم ٱلغمام وأنزنلا عليكم ٱلمن وٱلسلوىۖۡ ُكوا مِن طيِب ِ‬ ‫ت ما رزقن ْۚ‬ ‫َ َ َ َ‬ ‫ح‬ ‫َ ُ َْ ُ‬ ‫َ‬ ‫كن َكن ٓوا أنف َس ُه حم َيظل ُِمون ‪٥٧‬‬ ‫َو َما ظل ُمونا َول َٰ ِ‬

‫(‪ )57‬بعد أن نجى اهلل بني إرسائيل من فرعون‪ ،‬فعربوا منطقة البحر األمحر إىل صحراء سيناء‪،‬‬ ‫أنعم اهلل عليهم فأرسل فوقهم السحاب يظللهم من حرارة الشمس‪،‬‬

‫‪ .1‬هذا مثال عىل كمفرهم بآيات اهلل واجرتائهم عىل مقام رب العزَّ ة سبحانه‪ .‬نعوذ باهلل منهم ومن أعامهلم‪.‬‬ ‫‪ .2‬ال جيوز لإلنسان أن يرى اهلل يف الدنيا فهذا غري ممكن ومل يقع حتى لألنبياء‪ .‬وال جيوز لإلنسان أن يضع رشو ًطا لإليامن باهلل‪ ،‬وكفى ما وعد اهلل به‬ ‫عباده املؤمنني من دخول اجلنة ورؤيته بغري حجاب يوم القيامة‪ .‬وعندما طلب موسى من اهلل أن يراه قال له تعاىل‪َ ﴿ :‬لن ت َ​َر ِاين﴾ [األعراف‪.]143:‬‬ ‫أن حمم ََّمدً ا ﷺ َر َأى َر َّب مه‪ ،‬ف َقدْ ك َ​َذ َب‪ ،‬وهو م‬ ‫وعن عائشة ريض اهلل عنها‪َ « :‬من َحدَّ َث َك َّ‬ ‫يقول‪َ ﴿ :‬ال تمدْ ِر مك مه األ ْب َص مار﴾ [األنعام‪[ ]103 :‬رواه البخاري]‪.‬‬ ‫َاب َأن متنَزِّ َل َع َلي ِهم كِتَابا من السامء َف َقدْ س َأ ملو ْا موسى َأكْرب ِمن َذلِ َك َف َقا ملو ْا َأ ِرنَا اهللَ جهر ًة َف َأ َخ َذ ُْتم الص ِ‬ ‫‪ .3‬يقول اهلل تعاىل‪َ ﴿ :‬ي ْس َأ مل َك َأ ْه مل ا ْلكِت ِ‬ ‫اع َق مة‬ ‫م م َّ‬ ‫َ َْ‬ ‫َ​َ‬ ‫م َ‬ ‫َ‬ ‫ْ ْ ً ِّ َ َّ َ‬ ‫بِ مظ ْل ِم ِه ْم‪[ ﴾...‬النساء‪.]153:‬‬

‫‪28‬‬


‫تفسري النسيم ‪ :‬سورة البقرة ‪ :‬احلزب األول‬

‫طعاما ً‬ ‫اختصهم به‪ ،‬فكان يأتيهم يف مكاهنم بال تعب منهم‪،‬‬ ‫مجيال‪،‬‬ ‫وأنزل عليهم‬ ‫َّ‬ ‫ً‬ ‫املن‪ ،‬وهو يشبه العسل‪ ،‬وينزل عىل األشجار‪ ،‬فيجمعونه ويأكلونه؛ والسلوى‪ ،‬وهو طائر الس َّمن لذيذ الطعم‪.‬‬ ‫وهو ُّ‬

‫‪1‬‬

‫ورغم أن اهلل قد رزقهم هبذا الطعام اجلميل‪ ،‬وأباح هلم األكل منه‪ ،‬وأمرهم بعدم اإلفساد يف األرض باملعايص‪،‬‬ ‫فقد عصوا اهلل‪ ،‬فلم يتقوه‪ ،‬رغم ما أنعم عليهم‪ ،‬فأكلوا النعمة‪ ،‬وعصوا املنعم‪ ،‬ومل يؤ ُّدوا حقه فيها‪،‬‬ ‫وكم أنعم اهلل عىل سلف اليهود من عظيم النعمة‪ ،‬أنعم عىل اخللف من اليهود يف عرص الرسول حممد ﷺ‪،‬‬ ‫فرزقهم األموال واملساكن واحلصون‪ ،‬فكفروا بنعمة اهلل مثل السابقني‪.‬‬ ‫أيضا‪.‬‬ ‫وهلذا ذكَّرهم اهلل بم أنعم عىل أسالفهم‪ ،‬ألن النعمة من اهلل عليهم‬ ‫مستمرة‪ ،‬والكفر بالنعمة مستمر ً‬ ‫َّ‬ ‫وكذلك فهذه النعمة التي أنعمها اهلل عىل السابقني من اليهود هي نعمة لليهود يف كل العصور‪،‬‬ ‫فلو كان هؤالء السابقني قد هلكوا يف الصحراء من احلر الشديد أو اجلوع‪ ،‬ملا بقي هيودي واحد منهم حتى يومنا هذا‪.‬‬ ‫ومع ذلك‪ ،‬ورغم ما أنعم اهلل عليهم مجي ًعا من النعمة العظيمة‪،‬‬ ‫ترضه ذنوب الناس‪،‬‬ ‫ورغم أهنم مل يؤدوا حق اهلل يف شكرها‪ ،‬فاهلل ال تؤذيه املعايص وال ُّ‬ ‫وما آذى هؤالء بذنوهبم وخمالفتهم أمر اهلل إال أنفسهم بتعريضها لغضب اهلل وعقابه‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫فاعتربوا ‪ -‬أهيا اليهود ‪ -‬فإن رضر كفركم برسالة حممد ﷺ ومعصية اهلل‪ ،‬رغم ما أنعم به عليكم‪،‬‬ ‫أرض أسالفكم‪ ،‬فاتعظوا بذلك وآمنوا باهلل ورسوله ﷺ‪ ،‬فتنجوا من عذاب اهلل‪.‬‬ ‫عائد عليكم بالرضر كم َّ‬

‫ح ُ ح َ ح ُ ُ ْ َ َٰ ح َ ح َ َ َ ُ ُ ْ ح َ َ ح ُ ح ُ ح َ َ َ ح‬ ‫ٱد ُخلُوا ْ حٱِلَ َ‬ ‫اب ُس هجدا‬ ‫ِإَوذ قلنا ٱدخلوا ه ِذه ِ ٱلقرية فُكوا مِنها حيث شِئتم رغدا و‬ ‫َ ُ ُ ْ ه ‪ ٞ‬ه ح ح َ ُ ح َ َ َٰ َ َٰ ُ‬ ‫ك حم َو َس َ​َن ُ ح ح‬ ‫سن َ‬ ‫ِني ‪٥٨‬‬ ‫يد ٱل ُمح ِ‬ ‫وقولوا حِطة نغ ِفر لكم خطي ْۚ‬ ‫ِ‬

‫نجى اهلل بني إرسائيل من فرعون فعربوا منطقة البحر األمحر وخرجوا إىل صحراء سيناء‪،‬‬ ‫(‪ )58‬بعد أن َّ‬ ‫أمرهم اهلل أن يذهبوا إىل بيت املقدس‪ ،‬أي مدينة القدس‪ ،‬فيتخذوا من أرض فلسطني وطنًا هلم‪،‬‬ ‫يعيشون فيها حياة كريمة‪ ،‬ويأكلون منها بال عناء ً‬ ‫التشد والعذاب يف صحراء سيناء القاحلة‪،‬‬ ‫بدال من حياة ُّ‬ ‫قوما جبارين من العمليق‪،‬‬ ‫ولكن كان يف أرض فلسطني ً‬ ‫وكان جيب عىل بني إرسائيل أن يقاتلوهم‪ ،‬وأن ينترصوا عليهم‪ ،‬ليستوطنوا هذه األرض‪،‬‬ ‫لكن امتنع بنو إرسائيل عن دخول أرض فلسطني‪ ،‬وتقاعسوا عن اجلهاد‪ ،‬وقالوا مقولتهم الشهرية ملوسى‪:‬‬ ‫اذهب أنت ور ُّبك فقاتِال إنا هاهنا قاعدون‪.‬‬ ‫وسى‪ .‬وماؤم ها ِشفا ٌء لِ ْل َع ْ ِ‬ ‫‪ .1‬قال رسول اهلل ﷺ‪« :‬الك َْم َأ مة ِم َن املَ ِّن الذي أنْزَ َل اهللم َ‬ ‫ني» [رواه البخاري ومسلم]‪ .‬الكمأة هي نبات ال َفقع‪ .‬وهو نبات‬ ‫عىل مم َ‬ ‫صحراوي‪ .‬واحلديث هنا حممول يف معناه عىل املجاز أو التشبيه‪ .‬وهو أن الكمأة نعمة عظيمة من نعم اهلل تعاىل مثل ما أنعم اهلل عىل بني إرسائيل بنعمة‬ ‫املن‪ .‬وذلك ألن الكمأة هي مما تنبت األرض‪ ،‬والثابت أن املن الذي أنزله اهلل عىل بني إرسائيل ليس مما تنبت األرض بدليل أهنم سيطلبوا من موسى‬ ‫بعد ذلك أن يدعو هلم أن يبدهلم اهلل عن املن والسلوى بام تنبت األرض‪ .‬واهلل تعاىل أعلم‪.‬‬

‫‪29‬‬


‫أبو أمحد املصري ‪ :‬مجال حسني عبد الفتاح‬

‫فحرمها عليهم أربعني سنة عقا ًبا هلم‪،‬‬ ‫فحكم اهلل عليهم باحلرمان من دخول أرض فلسطني‪َّ ،‬‬ ‫يظلون هكذا تائهني يف الصحراء بال وطن‪ .‬وهذا ما يعرف تارخي ًّيا باسم «التيِه»‪ .‬وقد مات موسى يف هذه الفرتة‪.‬‬ ‫ثم جاء بعد موسى النبي يوشع بن نون‪ ،‬وهو فتى موسى الذي صاحبه يف رحلته للقاء العبد الصالح‪.‬‬

‫‪1‬‬

‫ومضت األربعون سنة‪ ،‬وانتهت فرتة العقوبة اإلهلية بالتيه‪.‬‬ ‫فقاد يوشع النبي جنود بني إرسائيل‪ ،‬ليدخلوا إىل بيت املقدس‪ ،‬ويقاتلوا وينترصوا‪.‬‬ ‫فاذكروا ‪ -‬أهيا اليهود ‪ -‬عندما أمر اهلل أسالفكم أن يدخلوا مدينة القدس‪ ،‬فيستوطنوا هذه األرض‪،‬‬ ‫ويأكلوا منها ً‬ ‫أكال رغيدً ا واس ًعا من ثمرها اجلميلة‪ ،‬فيعيشوا فيها حياة كريمة‪،‬‬ ‫شكرا عىل هذه النعمة العظيمة‪،‬‬ ‫وأمرهم اهلل عندما يدخلوها أن يسجدوا له ً‬ ‫نعمة الوطن ِ‬ ‫اآلمن بعد التشد يف الصحراء‪ ،‬ونعمة احلياة الكريمة الرغدة بعد الضنك وشظف العيش‪،‬‬ ‫وأمرهم اهلل أن يستغفروه‪ ،‬فيقولوا‪ِ :‬ح َّطة‪ ،‬أي ح ّط عنا خطايانًا السابقة‪ ،‬فاغفرها لنا‪.‬‬ ‫وتقرب إليه بم افرتضه عليهم‪...‬‬ ‫ووعدهم اهلل بالزيادة من فضله ملن أحسن منهم العمل‪ ،‬فأطاع اهلل‪ ،‬واتقاه‪َّ ،‬‬

‫َ​َهَ ه َ َ َُ ْ َحً َحَ ه‬ ‫َ َُ ح َ​َ َحَ َ​َ ه َ َ َ ُ ْ‬ ‫َ ه َٓ َ َ ُ ْ َح ُ ُ َ‬ ‫ح‬ ‫ۡي ٱَّلِي قِيل لهم فأنزنلا لَع ٱَّلِين ظلموا رِجزا مِن ٱلسماءِ بِما َكنوا يفسقون ‪٥٩‬‬ ‫فبدل ٱَّلِين ظلموا قوَل غ‬

‫(‪ ... )59‬ودخل بنو إرسائيل إىل بيت املقدس بعد أربعني سنة من التيه‪ ،‬وانترصوا يف املعركة بقيادة النبي يوشع‪،‬‬ ‫وأعاهنم اهلل عىل النرص بأن حبس هلم شمس يوم اجلمعة‪ ،‬فال تغرب عليهم قبل دخول املدينة‪.‬‬

‫‪2‬‬

‫ورغم كل ذلك‪ ،‬مل يسجدوا عند دخوهلا ومل يستغفروا‪ ،‬بل استبدلوا ما أمرهم اهلل به بقول خمتلف وعمل خمتلف‪،‬‬ ‫فدخلوها زح ًفا عىل أدبارهم‪ ،‬وقالوا‪ :‬ح َّبة يف شعرة!‬

‫‪3‬‬

‫وهذا عمل وقول عجيب‪ ،‬ال معنى له وال تفسري إال االستعباط‪ ،‬واملزاح يف الدين‪ ،‬واالستهانة بأمر اهلل‪.‬‬ ‫لكن الدين ليس باألمر الذي يمزح فيه أو يستهزأ به‪ ،‬فأصاهبم اهلل بعقاب‪،‬‬ ‫فأنزل عىل هؤالء العصاة من السمء ً‬ ‫مرضا طاعونًا قتلهم بسبب ما فعلوه من عدم االلتزام بم أمرهم اهلل به‪.‬‬ ‫وقد ذكَّرهم اهلل هبذه النعمة عىل أسالفهم‪ ،‬ألن اهلل كم أنعم عىل السابقني بنعمة الوطن واالستقرار الرغيد يف بيت املقدس‪،‬‬ ‫فإنه سبحانه قد أنعم عىل اليهود يف عرص الرسول ﷺ باالستقرار والعيش الرغيد يف املدينة املنورة‪.‬‬ ‫وستكون نتيجة عدم إيمهنم برسول اهلل حممد ﷺ التشيد وإخراجهم من املدينة ومن جزيرة العرب كم وقع التيه ألسالفهم‪.‬‬ ‫‪ .1‬قصة موسى عليه السالم وفتا مه مذكورة يف سورة الكهف‪.‬‬ ‫‪ .2‬يف رشيعة اليهود حيرم القتال يف السبت‪ .‬فكانوا يف طريقهم إىل مدينة القدس يوم اجلمعة واقرتبت شمس اجلمعة من الغروب‪ .‬ولو غربت عليهم لن‬ ‫حيل هلم دخول مدينة القدس‪ .‬فدعا يوشع اهلل‪ ،‬فحبس هلم اهلل الشمس ساعة ال تغرب حتى يدخلوا مدينة القدس قبل الغروب‪ .‬ويف احلديث الرشيف‬ ‫ِ‬ ‫عن رسول اهلل ﷺ‪« :‬ما حبِس ِ‬ ‫يوشع ِ ٍ‬ ‫الشمس عىل َ ٍ‬ ‫البيت املم َقدَّ ِ‬ ‫برش ا‬ ‫س» [رواه أمحد‪-‬صحيح]‪.‬‬ ‫سار إىل‬ ‫ت‬ ‫قط َّإال عىل َ َ‬ ‫م‬ ‫ليايل َ‬ ‫بن نون ِ َ‬ ‫م َ‬ ‫ِ‬ ‫اهم‪َ .‬وقالوا‪:‬‬ ‫أستَ م‬ ‫‪ .3‬يف احلديث الرشيف عن رسول اهلل ﷺ‪« :‬قيل لبني إرسائيل‪﴿ :‬ا ْد مخ ملوا البَ َ‬ ‫اب مس َّجدً ا َو مقولوا ح َّط ٌة﴾‪ ،‬فبدَّ لوا‪ ،‬فدخلوا يزحفون عىل ْ‬ ‫َحبَّ ٌة يف َش ْع َر ٍة» [رواه البخاري‪.]3403/‬‬

‫‪30‬‬


‫تفسري النسيم ‪ :‬سورة البقرة ‪ :‬احلزب األول‬

‫َُ حَ ح‬ ‫َ َ َ حَ َ َ َ َ َ َ ح ح ُ ح َ َ َ ح َ َ‬ ‫ِإَوذِ ح‬ ‫َّق ُم َ َٰ َ ح‬ ‫ٱستَ حس َ َٰ‬ ‫ّش َة ع حيناۖۡ‬ ‫ٱۡضب بِعصاك ٱۡلجر ۖۡ فٱنفجرت مِنه ٱثنتا ع‬ ‫وَس ل ِقو ِمهِۦ فقلنا ِ‬ ‫ه َ​َ َ حَحْ ح َ‬ ‫ه ح َ َُ ح ُ​ُ ْ َ ح َ ُ ْ‬ ‫ُح‬ ‫َ ح َ َ ُ ُّ ُ َ‬ ‫ح‬ ‫َ‬ ‫سدِين ‪٦٠‬‬ ‫قد عل ِم ك أناس مّشبهمۖۡ ُكوا وٱۡشبوا مِن رِز ِق ٱَّللِ وَل تعثوا ِ​ِف ٱۡل ِ‬ ‫ۡرض مف ِ‬ ‫نجى اهلل أسالفكم من فرعون وقومه‪،‬‬ ‫(‪ )60‬واذكروا ‪ -‬أهيا اليهود ‪ -‬بعد أن َّ‬ ‫فعربوا منطقة البحر األمحر إىل صحراء سيناء‪،‬‬ ‫فأصاهبم العطش‪ ،‬فدعا موسى اهلل أن يسقيهم حتى ال هيلكوا‪ ،‬فأوحى اهلل إليه أن يرضب بعصاه حج ًرا‪،‬‬ ‫فانفجرت من احلجر اثنتا عشة عينًا من عيون املاء‪ ،‬بعدد أسباط بني إرسائيل‪.‬‬

‫‪1‬‬

‫فشب كل منهم من مكان خمصص له من هذه العيون‪ ،‬وانتظموا مجي ًعا يف الشب‪ ،‬وارتووا مجي ًعا بفضل اهلل‪.‬‬ ‫رزقهم اهلل الطعام والشاب‪ ،‬فأباح اهلل هلم األكل من املن والسلوى الذي أنزله عليهم‪ ،‬وأباح هلم الشب من هذه العيون‪،‬‬ ‫وأمرهم أن ينتهوا عن اإلفساد الشديد يف األرض وعدم ارتكاب كبائر الذنوب‪.‬‬ ‫فمن شكر النعمة استعمهلا يف طاعة اهلل‪ ،‬واالنتهاء هبا عن معاصيه‪ .‬فتكون النعمة عونًا عىل طاعة اهلل‪ ،‬وليس عىل الذنوب‪.‬‬

‫ح ُ ح ُ ح َ ُ َ َٰ َ ه ح َ َ َ‬ ‫َ ح ُ َ​َ َه َ ُح ح َ​َ ه ُ ُ ح َ ُ‬ ‫ۡرض ِم ُۢن َب حقل َِها َوق هِثآئهاَ‬ ‫لَع َط َعام َ‬ ‫َٰ‬ ‫َٰ‬ ‫ٱۡل‬ ‫ت‬ ‫ب‬ ‫ۢن‬ ‫ت‬ ‫ا‬ ‫ِم‬ ‫م‬ ‫ا‬ ‫نل‬ ‫ج‬ ‫ر‬ ‫َي‬ ‫ك‬ ‫ب‬ ‫ر‬ ‫ا‬ ‫نل‬ ‫ع‬ ‫ٱد‬ ‫ف‬ ‫ِد‬ ‫ح‬ ‫و‬ ‫ِإَوذ قلتم يَٰموَس لن نص َِب‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َُ َحَ ه‬ ‫َُ َ َ َ َ َ َ​َ َ َ َ َ َ​َح َح ُ َ ه‬ ‫َُ َ حٌ ح ُ ْ ح َ ه َ ُ‬ ‫كم هما َس َأ حتلُمُۗح‬ ‫َٰ‬ ‫وفومِها وعدسِها وبصل ِهاۖۡ قال أتستبدِلون ٱَّلِي هو أدّن بِٱَّلِي هو خۡيْۚ ٱهبِطوا مِ​ِصا فإِن ل‬ ‫َ ُ َ ح َ​َ‬ ‫هُ ح َ​َُ ٓ‬ ‫ه َ​َح ُ​ُ َ‬ ‫َ ه َ َٰ َ َ ه ُ ح َ ُ ْ َ ح ُ ُ َ َ‬ ‫َ َ‬ ‫َٰ‬ ‫ت ٱَّللِ ويقتلون‬ ‫ۡضب‬ ‫ت عل حي ِه ُم ٱَّلِلة َوٱل َم حسكنة َوبَا ُءو بِغضب مِن ٱَّللُِۗ ذل ِك بِأنهم َكنوا يكفرون َٔ‍ِبي ِ‬ ‫و ِ‬ ‫ْ َ ُ ْ‬ ‫َ‬ ‫ه َ َ ح حَ َ َ‬ ‫ٱۡل ِقِّۗ ذَٰل ِك ب ِ َما َع َصوا هوَكنوا َي حع َت ُدون ‪٦١‬‬ ‫ۡي‬ ‫ٱنلب ِ ِيۧن بِغ ِ‬

‫(‪ )61‬واذكروا – أهيا اليهود – حني كفر أسالفكم بم أنعم اهلل عليهم من طعام املن والسلوى الذي أنزله عليهم‪،‬‬ ‫واختصهم به‪ ،‬ففضلهم عىل العاملني‪ ،‬فكرهوا النعمة‪ ،‬ونبذوها‪ ،‬وعدُّ وها بالء ال يستطيعون الصرب عليه‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫فطلبوا من موسى أن يدعو اهلل أن يبدهلا هلم بطعام من نباتات األرض املأكولة‪ ،‬فقالوا‪:‬‬ ‫ادع لنا ربك خيرج لنا ما يؤكل من النبات مثل اخلرضوات والثوم والعدس والبصل‪.‬‬ ‫فو َّبخهم موسى عىل ذلك؛ إذ ال يعقل أن يرفض اإلنسان النعمة العظيمة األفضل ويطلب ما هو أقل منها‪،‬‬ ‫ستنكرا‪ :‬كيف تطلبون الطعام األقل يف اجلودة ً‬ ‫بدال من األفضل؟!‬ ‫فقال هلم م‬ ‫ً‬ ‫ثم قال هلم‪ :‬إن أردتم النبات فاخرجوا إىل بلد من البلدان غري هذا املكان‪ ،‬جتدون فيه ما طلبتم من الطعام‪.‬‬ ‫وقد يكون هذا البلد مرص التي كانوا فيها‪ ،‬أو الشام‪ ،‬أو غري ذلك من البالد الزراعية القريبة‪.‬‬ ‫فبعد أن كان يأتيهم طعامهم من أفضل األنواع يف مكاهنم‪ ،‬بغري تعب منهم‪،‬‬ ‫وبعد أن أغناهم اهلل به‪ ،‬وحفظ هلم كرامتهم‪ ،‬فال يسألون الناس‪،‬‬

‫‪ .1‬أسباط بني إرسائيل هي قبائل أو شعوب بني إرسائيل وعددها اثنا عرش‪ .‬وتنتسب كل قبيلة منهم إىل ابن من أبناء يعقوب عليه السالم‪.‬‬

‫‪31‬‬


‫أبو أمحد املصري ‪ :‬مجال حسني عبد الفتاح‬

‫أصبحوا اآلن مضطرين للسفر والتعب والتذلل للناس والتسول منهم للحصول عىل الطعام اجلديد‪.‬‬ ‫فعاقبهم اهلل بكفرهم نعمته‪ ،‬فأنزل هبم الذل واإلهانة بني الناس والفقر واحلاجة للناس‪ ،‬وأدامه عليهم فال َّ‬ ‫ينفك عنهم‪.‬‬ ‫أيضا ألهنم كفروا بآيات اهلل البينات التي أنزهلا عىل موسى عليه السالم هلدايتهم‪،‬‬ ‫ذلك العقاب ً‬ ‫وألهنم كانوا يقتلون األنبياء عمدً ا إن خالفوا هواهم مع علمهم أهنا جريمة شنعاء ال حق هلم يف ارتكاهبا‪.‬‬ ‫ذلك العقاب من اهلل هو جزاء معاصيهم وخمالفتهم أوامر اهلل‪ ،‬وذلك العقاب هو جزاء اعتدائهم عىل عباد اهلل بالظلم واألذى‪.‬‬ ‫فاعتربوا أهيا اليهود فاشكروا نعمة اهلل عليكم‪ ،‬وتوقفوا عن معصية اهلل وإيذاء العباد‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫وآمنوا باهلل ورسوله حممد ﷺ‪ ،‬فال يعاقبكم اهلل كم عاقب أسالفكم‪.‬‬

‫ه ح‬ ‫َ َ‬ ‫ه ه َ َ َُ ْ َ ه َ َ ُ‬ ‫ى َو ه‬ ‫ني َم حن َء َ‬ ‫ب َ‬ ‫ادوا ْ َوٱنله َص َٰ َر َٰ‬ ‫ام َن بِٱَّللِ َوٱَلَ حو ِم ٱٓأۡلخ ِ​ِر َو َع ِمل صَٰل ِحا‬ ‫ٱلص َٰـ ِ ِ‬ ‫إِن ٱَّلِين ءامنوا وٱَّلِين ه‬ ‫َ​َُ ح َ ح ُ ُ ح َ َ ح َ​َ َ حٌ َ َح ح َ​َ ُ ح َحَُ َ‬ ‫فلهم أجرهم عِند رب ِ ِهم وَل خوف علي ِهم وَل هم ُيزنون ‪٦٢‬‬ ‫(‪ )62‬إن الذين آمنوا بمحمد ﷺ ورسالته من املسلمني‪ ،‬وعملوا ما افرتضه اهلل عليهم من العمل الصالح‪.‬‬ ‫واليهود الذين آمنوا بموسى ورسالته ومل يسمعوا بعيسى وحممد ﷺ‪ ،‬وعملوا ما افرتضه اهلل عليهم من العمل الصالح‪.‬‬ ‫والنصارى الذين آمنوا بعيسى ورسالته ومل يسمعوا بمحمد ﷺ‪ ،‬وعملوا ما افرتضه اهلل عليهم من العمل الصالح‪.‬‬

‫‪1‬‬

‫بنبي بعده‪ ،‬وعملوا ما افرتضه اهلل عليهم من العمل الصالح‪.‬‬ ‫واملؤمنني الذين آمنوا بنبيهم ورسالته ومل يسمعوا ٍّ‬ ‫كل هؤالء إن مجعوا بني اإليمن الصحيح بأنبيائهم وعملوا ما افرتضه اهلل عليهم من العمل ِوفق رشائعهم‪،‬‬ ‫فثواهبم عىل صدق إيمهنم وأعمهلم الصاحلة حمفوظ عند اهلل يوم القيامة‪،‬‬ ‫فال خوف عليهم من عقاب اهلل ألهنم يدخلون اجلنة‪،‬‬ ‫وال حيزنون عىل فوات نعمة يف الدنيا؛ ألن يف اجلنة من النعيم العظيم ما يعوضهم اهلل به‪.‬‬

‫‪2‬‬

‫ح َ َ ح َ َ َ ُ ح َ َ َ ح َ َ ح َ ُ ُ ُّ َ ُ ُ ْ َ ٓ َ َ ح َ ُ ُ ه َ ح ُ ُ ْ‬ ‫َ​َه ُ ح َهُ َ‬ ‫َ‬ ‫ِإَوذ أخذنا مِيثَٰقكم ورفعنا فوقكم ٱلطور خذوا ما ءاتينَٰكم بِقوة وٱذكروا ما فِيهِ لعلكم تتقون ‪٦٣‬‬

‫(‪ )63‬واذكروا ‪ -‬أهيا اليهود ‪ -‬حني ‪:‬‬ ‫(أ) ألزمكم اهلل يف التوراة باإليمن به وطاعة رشيعته وأخذ عليكم العهد املؤكَّد بذلك‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ٍ ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫وت َ‬ ‫ومل ْ ميؤْ ِم ْن با َّل ِذي‬ ‫اين‪ ،‬مث َّم َي مم م‬ ‫‪ .1‬يف احلديث الرشيف عن أيب هريرة‪« :‬والذي َن ْف مس محم ََّمد ب َيده‪ ،‬ال َي ْس َم مع يب َ‬ ‫أحدٌ من هذه األم َّمة َ مهيود ٌّي وال ن َْرص ٌّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫حاب الن ِ‬ ‫أص ِ‬ ‫َّار» [رواه مسلم]‪.‬‬ ‫مأ ْرس ْل مت به‪َّ ،‬إال كا َن من ْ‬ ‫ِ ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫اخل ِ ِ‬ ‫َري ا ِ‬ ‫ارسي َن﴾ [آل عمران‪ ،]85:‬فال ميقبل من أي إنسان‬ ‫إل ْسال ِم دينًا َف َلن مي ْقبَ َل منْ مه َو مه َو ِيف اآلخ َرة م َن ْ َ‬ ‫‪ .2‬نزل بعد ذلك قول اهلل تعاىل‪َ ﴿ :‬و َمن َيبْتَ ِغ غ ْ َ‬

‫فحكم اآلية خمصص باليهود والنصارى وأتباع األنبياء الذين عاشوا قبل اإلسالم وآمنوا برساالت‬ ‫غري دين اإلسالم بعد بعثة رسول اهلل حممد ﷺ‪ .‬م‬ ‫أنبيائهم‪ .‬وقوله تعاىل‪﴿ :‬من آمن بِاهللِ وا ْليو ِم ِ‬ ‫اآلخ ِر﴾ من اإلجياز البالغي‪ ،‬واملراد‪ :‬آمنوا بالدين ً‬ ‫كامال بكل ما فيه من عقائد وترشيعات‪ .‬الصابئون يف‬ ‫َ َْ‬ ‫َ ْ َ َ‬ ‫صحيحا وال يعمل‬ ‫اللغة هم التاركون للدين‪ .‬والظاهر أهنم هنا من ليس هلم دين حمدد‪ ،‬ولكن جيب أن يكونوا من أتباع األنبياء؛ ألنه ال يؤمن إيامنًا‬ ‫ً‬

‫صاحلًا ميثاب عليه يف اآلخرة إال من كان تاب ًعا لنبي من األنبياء ممتَّب ًعا لرشيعته‪.‬‬

‫‪32‬‬


‫تفسري النسيم ‪ :‬سورة البقرة ‪ :‬احلزب األول‬

‫(ب) وشدَّ د عليكم يف هذا االلتزام تشديدً ا عمل َّيا‪،‬‬ ‫فرفع فوق رؤوسكم جبل الطور‪ ،‬لتذكريكم بعقاب اهلل إن مل تستجيبوا‪،‬‬ ‫فظننتم أن اجلبل يمكن أن يسقط عليكم إن أعرضتم عن اإليمن باهلل وطاعته‪.‬‬

‫‪1‬‬

‫(ج) وأكَّد عليكم هذا العهد مرة أخرى فأمركم بااللتزام القوي به وبعدم التهاون أو الرتاخي يف طاعة أوامره يف التوراة‪.‬‬ ‫(د) وعزَّز هذا العهد فأمركم باملداومة عىل ِذكر ما يف التوراة فال هتملوها وال تنسوا ما فيها‪.‬‬

‫(هـ) وجعل هذا اإليمن والطاعة سب ًبا يف اتقاء غضبه وعقابه لكم يف الدنيا واآلخرة‪...‬‬

‫ُۢ َ ح َ َٰ َ َ َ ح َ َ ح ُ ه َ َ ح ُ ح َ َ ح َ ُ ُ َ ُ ُ َ ح َ‬ ‫ُث هم تَ َو هَلح ُ‬ ‫خَٰ ِ​ِس َ‬ ‫ين ‪٦٤‬‬ ‫ٱل‬ ‫ِن‬ ‫م‬ ‫م‬ ‫نت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ۥ‬ ‫ه‬ ‫ت‬ ‫ۡح‬ ‫ر‬ ‫و‬ ‫م‬ ‫ك‬ ‫ي‬ ‫ل‬ ‫ع‬ ‫ٱَّلل‬ ‫ل‬ ‫ض‬ ‫ف‬ ‫َل‬ ‫و‬ ‫ل‬ ‫ف‬ ‫ِك‬ ‫ل‬ ‫ذ‬ ‫د‬ ‫ع‬ ‫ب‬ ‫ن‬ ‫م‬ ‫ِ‬ ‫م‬ ‫ت‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ۖۡ‬ ‫ِ‬ ‫(‪... )64‬ورغم كل هذا اإللزام والتشديد والتأكيد عىل اإليمن باهلل وطاعته كفرتم‪ ،‬فلم تلتزموا ال بإيمن وال طاعة‪،‬‬ ‫ولوال فضل اهلل عليكم بإمهاله لكم‪ ،‬وعدم تعجيل العقوبة‪،‬‬ ‫ألهلككم بعذاب يستأصلكم به مثل األمم السابقة‪ ،‬فكان مصريكم جهنم خالدين فيها أبدً ا‪.‬‬ ‫تغرتوا بإمهال اهلل لكم وال ألسالفكم‪،‬‬ ‫فتوبوا إىل اهلل وآمنوا باهلل ورسوله ﷺ‪ ،‬وال ُّ‬ ‫مفر من العذاب والعقاب اإلهلي‪.‬‬ ‫فمهم طال اإلمهال‪ ،‬فال َّ‬

‫َ​َ​َ ح َ حُ​ُ ه َ ح َ​َ حْ‬ ‫ُ‬ ‫ت َف ُقلح َنا ل َ ُه حم ُكونُوا ْ ق َِر َدةً َخ َٰ ِسِ َ‬ ‫ح‬ ‫ه‬ ‫ح‬ ‫ني ‪٦٥‬‬ ‫ب‬ ‫ٱلس‬ ‫ِف‬ ‫م‬ ‫ِنك‬ ‫م‬ ‫ولقد عل ِمتم ٱَّلِين ٱعتدوا‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬

‫(‪ )65‬وأنتم – أهيا اليهود – تعلمون أصحاب القرية من أسالفكم الذين عصوا اهلل بصيد األسمك يوم السبت‪،‬‬ ‫وكان صيد السمك فيه عليهم حرام‪،‬‬ ‫فعاقبهم اهلل عقا ًبا أهاهنم به َّ‬ ‫وأذهلم بأن مسخهم قرو ًدا‪.‬‬ ‫فاحذروا إن عصيتم اهلل أن يعاقبكم بم يسؤكم مثلم عاقب أسالفكم‪...‬‬

‫َ َ َ ح َ َٰ َ َ َ‬ ‫ني يَ َد حي َها َو َما َخلح َف َها َو َم حوع َِظة ل ِلح ُم هت ِق َ‬ ‫كَٰ​َل ل َِما بَ ح َ‬ ‫ني ‪٦٦‬‬ ‫فجعلنها ن‬ ‫(‪... )66‬هذه القرية التي عاقب اهلل أهلها‪ ،‬فنكَّل هبم‪،‬‬ ‫فجعلها عربة رادعة للقريب والبعيد من عموم الناس‪ ،‬ليحذروا من معصية اهلل‪،‬‬ ‫تذكريا للمؤمنني بعقاب اهلل‪ ،‬ليتَّعظوا‪ ،‬وليثبتوا عىل إيمهنم‪ ،‬وليحمدوا اهلل الذي عافاهم‪،‬‬ ‫وجعلها‬ ‫ً‬ ‫فكونوا – أهيا اليهود ‪ -‬من املتقني الذين تنفعهم هذه املواعظ‪ ،‬فأطيعوا اهلل‪ ،‬وآمنوا باهلل ورسوله حممد ﷺ‪،‬‬ ‫وال تكونوا ممن يعاقبهم اهلل فيعترب الناس هبم‪.‬‬

‫‪ .1‬جعل اهلل جبل الطور يميل فوق رؤوسهم يف املكان الذي كانوا يعيشون فيه ُتوي ًفا هلم أن يعاقبهم اهلل بإسقاطه عليهم إن مل يلتزموا‪ .‬فلم ينفع معهم‬ ‫التخويف وال الوعظ‪ ،‬ومل يرصفهم أي يشء عن الكفر واملعصية‪.‬‬

‫‪33‬‬


‫أبو أمحد املصري ‪ :‬مجال حسني عبد الفتاح‬

‫ح َ َ ُ َ َٰ َ ح ٓ ه ه َ َ ح ُ ُ ُ ح َ َ ح َ ُ ْ َ َ َ َ ُ ٓ ْ َ َ ه ُ َ ُ‬ ‫ُ‬ ‫خذنا هزواۖۡ‬ ‫ِإَوذ قال موَس ل ِقو ِمهِۦ إِن ٱَّلل يأمركم أن تذِبوا بقرة ۖۡ قالوا أتت ِ‬ ‫َ َ َ ُ ُ ه َح َ ُ َ َ ح‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َٰ‬ ‫قال أعوذ بِٱَّللِ أن أكون مِن ٱلج ِهل ِني ‪٦٧‬‬

‫(‪ )67‬قتل إنسان من بني إرسائيل يف عهد موسى عليه السالم‪ ،‬فتنازعوا فيه‪ ،‬وتبادلوا االهتام بقتله‪ ،‬ومل يعرف قاتِله‪،‬‬ ‫فأراد اهلل أن يكشف هلم القاتل بمعجزة تكون هلم برهانًا؛ لعلهم إىل طريق رهبم هيتدون‪ ،‬ولشيعته يمتثلون‪.‬‬ ‫فقال هلم موسى‪ :‬إن اهلل يأمركم أن تذبحوا بقرة‪ ،‬ومل حيدد هلم رشو ًطا أو مواصفات هلا‪.‬‬ ‫تعجبوا من األمر اإلهلي أو مل يفهموا ما هو االرتباط بني التنازع حول دم القتيل وذبح البقرة‪.‬‬ ‫فيظهر أهنم َّ‬ ‫فأساؤوا الظن بنبيهم‪ ،‬واهتموه باالستهزاء هبم‪ .‬وهذا من جهلهم وسوء أدهبم‪.‬‬ ‫فاهلل ال يستهزئ بالناس فيم يأمرهم به‪ ،‬وال األنبياء‪ .‬والواجب طاعة اهلل ورسوله وإن مل تظهر لنا احلكمة مما أمر به‪.‬‬ ‫فأجاهبم موسى ناف ًيا عن نفسه االستهزاء هبم وسوء ظنهم فيه‪ ،‬فقال‪ :‬أعوذ باهلل أن أكون من اجلاهلني‪،‬‬ ‫رهبم‪.‬‬ ‫أي أعوذ باهلل أن أكون من الذين يمزحون يف أمور الدين أو يستهزؤون بعباد اهلل فيم أمرهم به ُّ‬

‫َ ُ ْ ح ُ َ​َ َه َ َُ هَ َ َ َ َ هُ َُ ُ هَ َ​َ ‪ ٞ‬ه َ ‪َ ٞ‬‬ ‫ح َ ُ ُۢ َ ح َ َ َ‬ ‫قالوا ٱدع نلا ربك يب ِني نلا ما ِ‬ ‫هْۚ قال إِنهۥ يقول إِنها بق َرة َل فارِض َوَل بِك ٌر ع َوان بني ذَٰل ِك ۖۡ‬ ‫َ‬ ‫َ ح ُ ْ ُح‬ ‫فٱف َعلوا َما تؤ َم ُرون ‪٦٨‬‬

‫أي بقرة‪ ،‬ودون حتديد لبقرة مع َّينة‪ .‬وما أسهل ذلك وما أيرسه‪.‬‬ ‫(‪ )68‬كان املطلوب من بني إرسائيل ذبح بقرة‪ّ ،‬‬ ‫لكن بدأوا بالتشديد عىل أنفسهم والسؤال عن صفات البقرة املطلوبة‪ ،‬وال داعي للسؤال عن ذلك‪.‬‬ ‫فتك َّلفوا ما مل يكلفهم اهلل به‪ ،‬واستجلبوا عىل أنفسهم املشقة‪.‬‬ ‫قالوا لنبيهم‪ :‬ادع لنا ر َّبك أن خيربنا ما هي‪ ،‬أي ما هي صفات البقرة املطلوبة‪.‬‬

‫‪1‬‬

‫فأجاهبم اهلل إىل ما طلبوا‪ ،‬فشدَّ د عليهم؛ ألهنم أرادوا ذلك التشديد وطلبوه‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫كرا‪ ،‬بل متوسطة العمر بني ذلك‪.‬‬ ‫فقال هلم موسى‪ :‬إن اهلل يقول إهنا بقرة‪ ،‬ال كبرية يف العمر هرمة‪ ،‬وال صغرية بِ ً‬ ‫ثم أمرهم نب ُّيهم‪ :‬فافعلوا ما تؤمرون‪ ،‬أي افعلوا ما أمركم اهلل به‪ ،‬وال تشددوا عىل أنفسكم بأسئلة أخرى ال داعي هلا‪.‬‬

‫َ ُ ْ ح ُ َ​َ َ ه َ ُ َ هَ َ َح ُ َ َ َ هُ َ ُ ُ‬ ‫ِس ٱنله َٰـ ِظر َ‬ ‫ول إ هن َها َب َق َرة ‪َ ٞ‬ص حف َرا ٓ ُء فَاق ‪ِٞ‬ع ل ه حو ُن َها ت َ ُ ُّ‬ ‫ين ‪٦٩‬‬ ‫قالوا ٱدع نلا ربك يب ِني نلا ما لونها ْۚ قال إِنهۥ يق‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬

‫(‪ )69‬مع ذلك‪ ،‬ورغم ما نصحهم به نب ُّيهم‪ ،‬زادوا يف التشديد عىل أنفسهم بكثرة السؤال عن مزيد من صفات البقرة‪.‬‬ ‫فقالوا ملوسى عليه السالم‪ :‬ادع لنا ر َّبك أن خيربنا ما لوهنا‪.‬‬ ‫فازدادوا تشديدً ا عىل أنفسهم بسؤال ال داعي له‪ ،‬فزادهم اهلل تشديدً ا‪.‬‬

‫‪ .1‬يف قوهلم ‪ :‬ادع لنا ر َّبك أسلوب فيه جفاء مع اهلل‪ً .‬‬ ‫فبدال من أن يقولوا ادع لنا ر َّبنا‪ ،‬قالوا‪ :‬ر َّبك‪.‬‬

‫‪34‬‬


‫تفسري النسيم ‪ :‬سورة البقرة ‪ :‬احلزب األول‬

‫فأجاهبم اهلل عىل لسان موسى‪ :‬إهنا بقرة صفراء فاقع لوهنا‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫وترس من ينظر إليها من مجال لوهنا‪.‬‬ ‫أي ناصعة ُّ‬ ‫الصفرة‪ ،‬ال تشوب صفرهتا شائبة‪ُّ ،‬‬

‫َ ُ ْ ح ُ َ َ َ ه َ ُ َ ه َ َ َ ه ح َ َ َ َ َ َٰ َ َ َ َ ح َ ه ٓ َ ٓ َ ه ُ َ‬ ‫َ‬ ‫ٱَّلل ل ُم حه َت ُدون ‪٧٠‬‬ ‫قالوا ٱدع نلا ربك يب ِني نلا ما ِه إِن ٱِلقر تشبه علينا ِإَونا إِن شاء‬

‫(‪ )70‬ثم كرروا السؤال األول مرة أخرى عىل نبيهم إىل درجة أصبحت غري مفهومة ويظهر منها اجلدال العقيم‪.‬‬ ‫فقالوا ملوسى عليه السالم‪ :‬ادع لنا ر َّبك أن خيربنا ما هي‪ ،‬أي ما هي مواصفاهتا غري ما ذكِر ساب ًقا‪.‬‬

‫‪1‬‬

‫ثم بدأوا بتعليل ذلك السؤال ً‬ ‫تعليال عجي ًبا ال يستقيم‪ .‬ولعلهم أدركوا أهنم جتاوزوا حدَّ املعقول بالتشديد يف السؤال‪.‬‬ ‫لكن مل يمنعهم ذلك اإلدراك من التمدي يف اخلطأ‪.‬‬ ‫قالوا‪ :‬إن البقر تشابه علينا‪ ،‬أي كثري من البقر يتشابه يف أنه متوسط العمر وأصفر اللون‪،‬‬ ‫وبالتايل‪ ،‬فنحن حائرون ال نعرف أي بقرة منها نختار بسبب كثرهتا وتشاهبها يف هذه الصفات‪.‬‬ ‫يرس هلم ذلك دون تك ُّلف‪.‬‬ ‫وهذا منطق معكوس‪ ،‬فكان يمكنهم بسهولة اختيار أي بقرة منها‪ ،‬وأن حيمدوا اهلل أن َّ‬ ‫لكنهم فكروا بالعكس‪ ،‬أن هذا أمر مشكل وصعب وحمري أن يكون الكثري من البقر هبذه الصفات‪،‬‬ ‫فطلبوا املزيد من التشديد والتحديد ملواصفات البقرة املطلوب ذبحها‪.‬‬ ‫ثم سألوا اهلل أن هيدهيم ملواصفات البقرة‪ ،‬ففوضوا األمر هلل ومشيئته‪.‬‬ ‫فقالوا‪ :‬وإنَّا إن شاء اهلل ملهتدون‪ ،‬أي نسأل اهلل أن هيدينا لصفات البقرة املطلوبة‪ ،‬ونحسن الظن به يف ذلك‪.‬‬ ‫وهذا أمر طيب منهم فيه توكل عىل اهلل وتفويض األمر هلل‪ ،‬رغم ما ارتكبوه من أخطاء بكثرة السؤال‪.‬‬

‫َ َ هُ َ ُ ُ ه َ َ​َ َ ‪ ٞ‬ه َُ ‪ ُ ُ ٞ‬ح َ َ َ​َ َ‬ ‫حَ ح َ‬ ‫ح‬ ‫ث ُم َسله َمة‪ ٞ‬هَل ش َِي َة فِيها َْۚ‬ ‫قال إِنهۥ يقول إِنها بقرة َل ذلول تثِۡي ٱۡلۡرض وَل تس َِّق ٱۡلر‬ ‫َ ُ ْ ح ُ َ‬ ‫َ ُ ْ ح َ ح َ حَ َ َ َ َ‬ ‫ق فذِبُوها َو َما َكدوا َيف َعلون ‪٧١‬‬ ‫جئت بِٱۡل ِ ِۚ‬ ‫قالوا ٱلَٰٔـن ِ‬

‫(‪ )71‬أجاهبم اهلل إىل ماطلبوا من صفات البقرة‪ ،‬فشدَّ د عليهم ألهنم أرادوا التشديد عىل أنفسهم وطلبوه‪.‬‬ ‫فقال هلم موسى عليه السالم‪ :‬إهنا بقرة ليست مذللة يف حرث األرض الزراعية‪ ،‬أي ال تستعمل يف الزراعة‪،‬‬ ‫أيضا‪ .‬وهي بقرة ساملة من كل عيب من العيوب التي تكون يف احليوان‪.‬‬ ‫وهي ليست بقرة مما يستعمل يف سقاية الزرع ً‬ ‫ٍ‬ ‫صاف‪ ،‬ال يعكره أي يشء غريه‪.‬‬ ‫وكذلك ليس يف جلدها أية عالمة أو لون خيالف اللون األصفر‪ ،‬أي أن لوهنا‬ ‫قالوا ملوسى‪ :‬اآلن جئت باحلق‪ ،‬أي اآلن عرفنا منك صفات البقرة‪ِ ،‬‬ ‫وفهمنا‪ ،‬ولن نسألك غري ذلك‪.‬‬ ‫ثم ذبحوا البقرة بالكاد‪ ،‬أي بعد أن وجدوها هبذه املواصفات اخلاصة بمشقة شديدة‪.‬‬ ‫احلج‪َ ،‬ف مح هجوا‪ ،‬فقال رجل‪ :‬ه‬ ‫أكل‬ ‫‪ .1‬هنى رسول اهلل ﷺ عن كثرة السؤال‪ .‬فعن أيب هريرة‪َ « :‬خ َطبنا رسول ﷺ‪ ،‬فقال‪ :‬أهيا الناس قد فرض اهلل عليكم َّ‬ ‫لوجبَت‪ ،‬وملا استطعتم‪ ،‬مث َّم َ‬ ‫قال‪َ :‬ذروين ما تركتمكمم‪ ،‬فإنام هلك من كان‬ ‫عام يا رسول اهلل؟ فسكت حتى قاهلا ثال ًثا‪ ،‬فقال رسول اهلل ﷺ‪ :‬لو م‬ ‫قلت نعم‪َ ،‬‬ ‫قبلكم بكثرة سؤاهلم‪ ،‬واختالفهم عىل أنبيائهم‪ ،‬فإذا أمرتكم بيشء‪ ،‬فأتوا منه ما استطعتم‪ ،‬وإذا هنيتمكمم عن يشء‪ ،‬فدَ عوه» [رواه مسلم]‪.‬‬

‫‪35‬‬


‫أبو أمحد املصري ‪ :‬مجال حسني عبد الفتاح‬

‫فمن فرط صعوبة إجياد بقرة هبذه الصفات‪ ،‬كادوا َّأال جيدوها‪َّ ،‬‬ ‫وأال يذبحوها‪.‬‬ ‫ول َّ‬ ‫عل اهلل قد و َّفقهم يف النهاية أن جيدوها ويذبحوها بتفويضهم األمر هلل بقوهلم‪ :‬وإنَّا إن شاء اهلل ملهتدون‪.‬‬

‫َ‬ ‫ح َ​َحُح َح َ ه ُ ح َ َ هُ ُح ‪ ٞ‬ه ُ ُ َ ح‬ ‫نت حم تك ُت ُمون ‪٧٢‬‬ ‫ِإَوذ قتلتم نفسا فٱد ََٰٰٔرتم فِيهاۖۡ وٱَّلل ُم ِرج ما ك‬ ‫(‪ )72‬تنكشف اآلن احلكمة اإلهلية من األمر بذبح البقرة‪ ،‬وأن موسى عليه السالم مل يكن يستهزئ هبم‪.‬‬ ‫وبم أنكم ‪ -‬يا بني إرسائيل – قد قتل فيكم إنسان‪ ،‬والقاتل واحد منكم‪،‬‬ ‫وبم أنكم قد تنازعتم بشأن القاتل املجهول‪ ،‬وتبادلتهم االهتام بقتله‪،‬‬ ‫وبم أن اهلل قد حكم بكشف هذا الرس املكتوم بينكم‪ ،‬وإظهار حقيقة القاتل ‪...‬‬

‫َ ُ ح َ ح ُ ُ َ ح َ َ َ َٰ َ ُ ح ه ُ ح َ‬ ‫َ ه ُ َ ُ َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ٱَّلل ٱل َم حو َٰ‬ ‫َت َويُ ِريك حم َءايَٰتِهِۦ ل َعلك حم ت حع ِقلون ‪٧٣‬‬ ‫ۡح‬ ‫ٱۡضبوه بِبع ِ‬ ‫ضها ْۚ كذل ِك ي ِ‬ ‫فقلنا ِ‬ ‫(‪ ... )73‬فيأمركم اهلل بعد أن تذبحوا البقرة‪ ،‬أن ترضبوا ج َّثة القتيل بقطعة منها‪،‬‬ ‫فإن فعلتم ذلك‪ ،‬سيعود للحياة‪ ،‬وخيربكم بمن هو القاتل‪.‬‬ ‫فرضبوه بقطعة من البقرة‪ ،‬فعاد للحياة وأخربهم عن القاتل‪.‬‬ ‫كذلك‪ ،‬كم رأيتم – يا بني إرسائيل – هذا اإلنسان املقتول يعود للحياة أمامكم‪،‬‬ ‫سيحيي اهلل املوتى يوم القيامة‪ ،‬فيبعثهم من قبورهم أحياء بعد موهتم‪.‬‬ ‫وهذا املوقف العجيب الذي رأيتموه بعيونكم هو معجزة من معجزات اهلل‬ ‫التي تدل عىل قدرته عىل إحياء الناس يوم القيامة وأنه سبحانه وتعاىل ف َّعال ملا يريد‪.‬‬ ‫فهذا املوقف الرهيب جيب أن يكون سب ًبا يف هداية كل إنسان عاقل منكم إىل الدين‪ ،‬يا بني إرسائيل‪،‬‬ ‫وإىل عبادة اهلل وطاعته واالعتصام به واالستعداد لآلخرة‪.‬‬

‫َ ح َ َٰ َ َ َ َ ح َ َ َ ح َ َ ُّ َ ح َ ه َ ح َ َ َ‬ ‫ُه َ َ ح ُ​ُ‬ ‫ح َح‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ارة ِ ل َما َي َتف هج ُر م حِن ُه ٱۡلن َه َٰ ُ ْۚر‬ ‫ت قلوبُكم ِم ُۢن بع ِد ذل ِك ف ِ​ِه كٱۡل ِجارة ِ أو أشد قسوة ْۚ ِإَون مِن ٱۡل ِج‬ ‫ثم ق س‬ ‫َ َ ُ َ‬ ‫ه حَ َ​َ َه ه ُ َ​َ ح ُ ُ حُ حَُٓ ه حَ َ​َ َح ُ ح َ ح َ ه َ​َ هُ َ‬ ‫ٱَّلل بِغ َٰ ِف ٍل ع هما ت حع َملون ‪٧٤‬‬ ‫ِإَون مِنها لما يشقق فيخرج مِنه ٱلماء ْۚ ِإَون مِنها لما يهبِط مِن خشيةِ ٱَّللُِۗ وما‬

‫(‪ )74‬ثم هذه قلوبكم قاسية عن قبول اإليمن باهلل وطاعته – يا بني إرسائيل – بعد أن أراكم اهلل معجزة إحياء امليت‪.‬‬ ‫فال أسالفكم يف عرص موسى عليه السالم أو بعده النت قلوهبم لإليمن باهلل ورساالته‪،‬‬ ‫وال من جاؤوا بعدهم من اليهود يف عرص الرسول ﷺ النت قلوهبم لإليمن برسالته‪.‬‬ ‫فقلوبكم يف قسوهتا عن قبول اإليمن ومعارضتها له كاحلجارة الصلبة التي ال تلني‪،‬‬ ‫بل إن قلوبكم يف كفرها وعنادها عن قبول احلق أشد قسوة من احلجارة نفسها‪،‬‬ ‫فبعض احلجارة قد يلني‪ ،‬فتنفجر منه األهنار التي تنفع الناس‪ ،‬فيشبون منها وتروي األرض‪،‬‬ ‫وبعض احلجارة قد يلني بالتشقق فيخرج منه املاء‪ ،‬كم خرجت منها عيون املاء ملوسى عندما استسقى لقومه‪،‬‬

‫‪36‬‬


‫تفسري النسيم ‪ :‬سورة البقرة ‪ :‬احلزب األول‬

‫علو من خشيته هلل‪ ،‬كم اهنار اجلبل عندما َّ‬ ‫وخر موسى مصعو ًقا‪.‬‬ ‫وبعض احلجارة يسقط من ّ‬ ‫جتىل اهلل له َّ‬ ‫أما أنتم ‪ -‬أهيا اليهود ‪ -‬فال تلني قلوبكم لإليمن‪ ،‬وال خشية هلل فيها‪.‬‬ ‫فاحلجارة الشديدة فيها خري ومنفعة وتقوى هلل ما ليس يف قلوبكم‪.‬‬ ‫فإن كانت نفوسكم الضالة وشياطينكم أوَّهوكم أن اهلل ال يعلم عن أعملكم الفاسدة شيئًا‪ ،‬فتمديتم فيها‪،‬‬ ‫وجتربتم‪،‬‬ ‫غركم فنسيتم أنه بأعملكم عليم‪ ،‬أو ظننتم أنه سبحانه قد ترككم أو نسيكم‪ ،‬فطغيتم َّ‬ ‫وإن كان إمهال اهلل قد َّ‬ ‫عسريا إن مل تتوبوا منها‪.‬‬ ‫فاعلموا أن اهلل ليس بغافل عن أعملكم الفاسدة‪ ،‬وسيحاسبكم عليها حسا ًبا‬ ‫ً‬

‫انتهى الكتاب األول بحمد اهلل ويليه الكتاب الثاين بمشيئة اهلل‬

‫‪37‬‬


Issuu converts static files into: digital portfolios, online yearbooks, online catalogs, digital photo albums and more. Sign up and create your flipbook.