dawlah

Page 1

‫تقي الدين النبهاني‬

‫الدولة اللسليمية‬ ‫‪1372‬هـ ‪1953 -‬م‬ ‫يمن يمنشورات‬ ‫حزب التحرير‬ ‫القدس‬ ‫الطبعة الثانية‬

‫‪-1-‬‬


‫بسم ا الرحمن الرحيم‬

‫يمقديمة‬ ‫لم يع الجيل الحاضر على الدولة اللسليمية التي تطِّبا ق‬ ‫اللسلم‪ .‬والذين عاشوا في أواخر الدولة اللسليمية )الدولة‬ ‫العثمانية( التي أجهز عليها الغرب‪ ،‬إمّنما رأوا بقايا دولة فيها بقايا‬ ‫حكم إلسليمي؛ ولهذا فإن يمن أصعب يما يجد المسلم تقريب صورة‬ ‫ن يسيطر عليها الواقع‪ ،‬ول تستطيع أن‬ ‫الحكم اللسليمي إلى أذها ٍ‬ ‫تتصور الحكم إل مّ في يمقياس يما ترى يمن النظمة الديمقراطية‬ ‫الفالسدة المفروضة على البلد اللسليمية فرضا‪.‬‬ ‫وليست الصعوبة في هذا وحده‪ ،‬وإمّنما أصعب الصعوبة في‬ ‫تحويل هذه الذهان )المضبوعة( بالثقافة الغربية‪ .‬لقد كانت هذه‬ ‫الثقافة الغربية لسلحا شهره الغرب في وجه الدعوة اللسليمية‪،‬‬ ‫مل إلى أبنا ء هذه الدولة‬ ‫ح لَ‬ ‫وطعنها به طعنة نجل ء أودت بحياتها‪ ،‬و لَ‬ ‫لسلحه هذا يقطر يمن ديما ء أيمهم القتيل‪ ،‬وقال لهم يمفتخرا ‪) :‬لقد‬ ‫ت أمّيمكم العجوز التي كانت تستحا ق القتل لسو ء حضانتها لكم‪،‬‬ ‫قتل ُ‬ ‫ت لكم عندي حضانة تتذوقون فيها الحياة السعيدة‬ ‫وقد يممّهد ُ‬ ‫والنعيم المقيم(‪ ،‬ويممّدوا أيديهم يصافحون القاتل‪ ،‬ويما يزال لسلحه‬ ‫هذا يمخضبا بديما ء أمّيمهم‪.‬‬ ‫لقد فعل يمعهم ِفعل الضبع ‪-‬فيما يروون‪ -‬حينما تجعل‬ ‫‪-2-‬‬


‫هل إل مّ عن اللحاق بها‪ ،‬فل تصحو إل مّ بضربة يسيل لها‬ ‫فريستها لَتذ لَ‬ ‫ديمها‪ ،‬أو تصل بها الضبع إلى قعر الوادي فتأكلها‪.‬‬ ‫فمن لي بأصحاب هذه الذهان المضبوعة أن يعرفوا أن‬ ‫هذا السل ح المسموم الذي قضى على دولتهم اللسليمية‪ ،‬هو‬ ‫نفسه الذي يقضي دائما ‪-‬يما تمسكوا به‪ -‬على حياتهم وكيانهم‪،‬‬ ‫وأن هذه الفكار التي يحملونها ‪-‬يمن القويمية وفصل الدين عن‬ ‫الدولة ويمن آرا ء تطعن في اللسلم‪ -‬هي بعض السموم التي‬ ‫حملتها لهم هذه الثقافة‪.‬‬ ‫وفصل )الغزو التبشيري( يمن كتاب الدولة اللسليمية هذا‬ ‫وكله حقائا ق وأرقام ناطقة‪ -‬يرينا القاتل المجرم‪ ،‬ويقفنا على‬‫صرنا بالولسائل التي‬ ‫السبب الذي حمله على ارتكاب الجريمة‪ ،‬و ُيب مّ‬ ‫لسل بها للقضا ء على القتيل‪ ،‬ويما كان السبب إل مّ قصد يمحو‬ ‫تو مّ‬ ‫اللسلم‪ ،‬ويما كان أهم الولسائل إل مّ هذه الثقافة التي جا ءت يمع‬ ‫الغزو التبشيري‪.‬‬ ‫لقد غفل المسلمون عن خطر هذه الثقافة‪ ،‬وصاروا‬ ‫مر ويتناولون يمنه ثقافته‪ ،‬يمع أنها هي لسبب‬ ‫يحاربون المستع ِ‬ ‫الستعمارهم‪ ،‬وبها يتركز اللستعمار في بلدهم‪ .‬ويْل لَينظروا بعد هذا‬ ‫كم يكون يمنظرهم يمتناقضا تناقضا ُيمزريا ويمضحكا يمعا وهم‬ ‫يديرون ظهورهم للجنبي ‪-‬يمّدعون يمحاربته‪ -‬ويممّدون إليه أيديهم‬ ‫يمن خلف ليتناولوا بكلتا يديهم لسمويمه القاتلة يتجرعونها‪،‬‬ ‫‪-3-‬‬


‫ف لَيسقطون بين يديه هلكى‪ ،‬يحسبهم الجاهل شهدا ء نزال‪ ،‬ويما‬ ‫هم إل مّ صرعى غفلة وضلل‪.‬‬ ‫يماذا يريدون؟ أيريدون دولة على غير ألساس اللسلم؟ أم‬ ‫يريدون دول م ً يمتعددة في بلد اللسلم؟ لقد أعطاهم الغرب ‪-‬يمنذ‬ ‫صار اليمر إليه‪ -‬دولم ً كثيرة‪ ،‬ل ُيتم خطته في إبعاد اللسلم عن‬ ‫الحكم‪ ،‬وفي تقسيم بلد المسلمين‪ ،‬وفي تخديرهم بالتافه يمن‬ ‫السلطان‪ .‬ول يزال يعطيهم كل حين دولة ل ُيمعن في تضليلهم‬ ‫وليزيد في تقسيمهم‪ ،‬وهو على الستعداد لن يعطيهم أكثر يما دايموا‬ ‫يحملون يمبدأه ويمفاهيمه لنهم تابعون له‪.‬‬ ‫إن اليمر ليس في قيام دول‪ ،‬وإمّنما هو في قيام دولة واحدة‬ ‫في العالم اللسليمي كله‪ .‬وإن اليمر ليس في قيام دولة أي دولة‪،‬‬ ‫ول في قيام دولة تسمى إلسليمية وتحكم بغير يما أنزل ا‪ ،‬بل ول‬ ‫في قيام دولة ُتسمى إلسليمية وتحكم بالقوانين اللسليمية‬ ‫المجردة دون أن تحمل اللسلم قيادة فكرية‪ .‬إن اليمر ليس في‬ ‫قيام دولة كذلك‪ ،‬وإمّنما هو في قيام دولة تستأنف الحياة اللسليمية‬ ‫عن عقيدة وتطِّبا ق اللسلم في المجتمع بعد أن يكون يمتغلغل م ً‬ ‫في النفوس يمتمكنا يمن العقول وتحمل الدعوة اللسليمية إلى‬ ‫العالم‪.‬‬ ‫عب الحلم؛ لنها قد ايمتلت‬ ‫ليست الدولة اللسليمية خيال م ً يدا ِ‬ ‫بها جوانب التاريخ في يمدى ثلثة عشر قرنا‪ ،‬فهي حقيقة‪ .‬كانت‬ ‫‪-4-‬‬


‫كذلك في الماضي‪ ،‬وتكون كذلك في المستقبل القريب؛ لن‬ ‫عوايمل وجودها أقوى يمن أن ينكرها الزيمن‪ ،‬أو يقوى على‬ ‫يمصارعتها‪ .‬وقد ايمتلت بها اليوم العقول المستنيرة‪ ،‬وهي أيمنية‬ ‫المّيمة اللسليمية المتعطشة لمجد اللسلم‪.‬‬ ‫وليست الدولة اللسليمية رغبة تستأثر بالنفوس عن هوى‪ ،‬بل‬ ‫هي فرض أوجبه ا على المسلمين‪ ،‬وأ لَيمرهم أن يقويموا به‪،‬‬ ‫صروا في أدائه‪ .‬وكيف ُيرضون ربهم‬ ‫وحمّذرهم عذابه إذا هم ق مّ‬ ‫والعزة في بلدهم ليست لله ول لرلسوله ول للمؤيمنين؟ وكيف‬ ‫ينجون يمن عذابه وهم ل يقيمون دولة تجمّهز الجيوش وتحمي‬ ‫الثغور‪ ،‬وتنفذ حدود ا‪ ،‬وتحكم بما أنزل ا؟‬ ‫لذلك كان لزايما على المسلمين أن يقيموا الدولة اللسليمية؛‬ ‫لنه ل وجود لللسلم وجودا يمؤثرا إل مّ بالدولة‪ ،‬ولن بلدهم ل‬ ‫تعتبر دار إلسلم إل مّ إذا حكمتها دولة اللسلم‪.‬‬ ‫وليست الدولة اللسليمية ‪-‬يمع هذا‪ -‬يمن السهولة بحيث‬ ‫يستوزر المستوزرون ‪-‬أفرادا كانوا أو حزبا‪ -‬فيصبحون وزرا ء‬ ‫يتربعون في دلست الحكم‪ .‬إن طريقها يمفروشة بالشواك‪،‬‬ ‫يمحفوفة بالمخاطر‪ ،‬يمملو ءة بالعقبات والمصاعب‪ .‬وناهيك بالثقافة‬ ‫غير اللسليمية صعوبة‪ ،‬وبالتفكير السطحي عقبة‪ ،‬وبالحكويمات‬ ‫الخاضعة للغرب خطورة‪.‬‬ ‫إن الذين يسلكون طريا ق الدعوة اللسليمية ليجاد الدولة‬ ‫‪-5-‬‬


‫اللسليمية‪ ،‬إمّنما يعملون للوصول إلى الحكم ليجعلوه طريقة‬ ‫للستئناف الحياة اللسليمية في البلد اللسليمية‪ ،‬وحمل الدعوة‬ ‫اللسليمية إلى العالم‪ ،‬ولذلك تراهم ل لَيقبلون الحكم المجمّزأ يمهما‬ ‫تنوعت ولسائل الغرا ء‪ ،‬ول يقبلون الحكم الكايمل إل مّ إذا تمكنوا به‬ ‫يمن تطبيا ق اللسلم تطبيقا انقلبيا‪.‬‬ ‫وبعد‪ ،‬فإن كتاب )الدولة اللسليمية( هذا ل ُيقصد به أن يؤرخ‬ ‫هد الناس كيف أقام‬ ‫للدولة اللسليمية‪ ،‬وإمّنما ُيقصد به أن ُيشا ِ‬ ‫الرلسول صلى ا عليه ولسلم الدولة اللسليمية‪ ،‬وكيف هدم الكافر‬ ‫مر الدولة اللسليمية‪ ،‬وكيف يقيم المسلمون الدولة‬ ‫المستع ِ‬ ‫اللسليمية؛ ليعود للعالم النور الذي يضي ء له طريا ق الهدى في‬ ‫حالك الظلمات‪.‬‬ ‫وإن هذا الكتاب ليس يمؤَّلفا للدرس‪ ،‬وإمّنما هو وباقي الكتب‬ ‫التي هي يمن يمنشورات )حزب التحرير( وهي ‪:‬‬ ‫)ألسس النهضة( و)نظام اللسلم( و)النظام الجتماعي في‬ ‫اللسلم( و)النظام القتصادي في اللسلم( و)نظام الحكم في‬ ‫اللسلم( و)الشخصية اللسليمية( و)التكتل الحزبي( و)يمفاهيم‬ ‫حزب التحرير( و)يمفاهيم لسيالسية لحزب التحرير(‪ ،‬أقول ‪ :‬إن هذا‬ ‫الكتاب والكتب المذكورة إمّنما هي كتب دعوة تريمي إلى إنهاض‬ ‫المسلمين بالستئناف الحياة اللسليمية‪ ،‬وحمل الدعوة اللسليمية‪.‬‬ ‫حرمّية بأن‬ ‫وهذه الكتب إذا ُأخذت على هذا العتبار‪ ،‬كانت لَ‬ ‫‪-6-‬‬


‫سن تفهمها وإدراكها‪ ،‬وإلى المشاعر‬ ‫تأخذ لسبيلها إلى العقل فيح ُ‬ ‫فتصبح عمل م ً يتحرك في لسبيل إقايمة دولة اللسلم‪.‬‬ ‫داوود حمدان‬

‫‪-7-‬‬


‫بسم ا الرحمن الرحيم‬ ‫نقطة البتدا ء‬ ‫حين ُبعث صلى ا عليه ولسلم دعا زوجه خديجة فآيمنت به‪،‬‬ ‫ثم دعا ابن عمه عليا فآيمن به‪ ،‬ودعا يموله زيدا فآيمن به‪ ،‬ودعا‬ ‫صديقه أبا بكر فآيمن به‪ .‬ثم صار يدعو الناس‪ ،‬فآيمن به يمن آيمن‬ ‫ما ألسلم أبو بكر رضي ا عنه أظهر إلسليمه‬ ‫وكفر به يمن كفر‪ .‬ول مّ‬ ‫لمن وثا ق به‪ ،‬ودعا إلى ا وإلى رلسوله‪ .‬وكان أبو بكر رجل م ً يمؤَّلفا‬ ‫ل‪ ،‬وكان رجال قويمه يأتون إليه ويألفونه لغير‬ ‫لقويمه يمحببا لسه م ً‬ ‫حسن يمجالسته‪ ،‬فألسلم على يده‬ ‫واحد يمن اليمر‪ ،‬لعلمه وتجارته و ُ‬ ‫عثمان بن عفان‪ ،‬والزبير بن العوام‪ ،‬وعبدالرحمن بن عوف‪،‬‬ ‫ولسعد بن أبي وقاص‪ ،‬وطلحة بن عبيدا‪ ،‬وجا ء بهم إلى رلسول‬ ‫ا صلى ا عليه ولسلم حين الستجابوا له فألسلموا وصلوا‪ .‬ثم‬ ‫لس لَلمة والسمه عبدا‬ ‫ألسلم أبو عبيدة والسمه عايمر بن الجرا ح‪ ،‬وأبو لَ‬ ‫بن عبداللسد‪ ،‬والرقم بن أبي الرقم‪ ،‬وعثمان بن يمظعون‬ ‫وغيرهم‪ .‬ثم دخل الناس في اللسلم أرلسال م ً يمن الرجال والنسا ء‬ ‫حتى فشا ِذكر اللسلم بمكة وتحدث الناس به‪.‬‬ ‫وكان صلى ا عليه ولسلم يطوف على الناس في أول أيمره‬ ‫في يمنازلهم‪ ،‬ويقول إن ا يأيمركم أن تعبدوه ول تشركوا به شيئا‪،‬‬ ‫وكان يدعو الناس لللسلم في يمكة جهرا ايمتثال م ً ليمر ا‪ ،‬قال‬ ‫‪-8-‬‬


‫ممّدمّثر قم فأنِذر‪ ،‬وكان يتصل بالناس يعرض‬ ‫تعالى ‪ :‬يا أيها ال ُ‬ ‫عليهم دينه ويكمّتلهم حوله على ألساس هذا الدين لسرا‪ .‬وكان‬ ‫أصحاب رلسول ا صلى ا عليه ولسلم إذا صمّلوا ذهبوا في‬ ‫خفوا بصلتهم يمن قويمهم‪ .‬وكان الرلسول صلى ا‬ ‫الشعاب والست يْ‬ ‫لسل لمن يدخل في السلم جديدا يمن يعمّلمه القرآن‬ ‫عليه ولسلم ير ِ‬ ‫يممن ألسلموا يمن لَقيْبل وفقهوا في الدين‪ .‬فقد أرلسل خباب بن‬ ‫الرت يعمّلم زينب بنت الخطاب وزوجها لسعيدا القرآن‪ ،‬وحين‬ ‫فاجأهم عمر بن الخطاب كانوا في بيت لسعيد ُيقرئم خباب‬ ‫القرآن‪ ،‬وألسلم عمر على يد هذه الحلقة‪.‬‬ ‫ولم يكتف الرلسول بذلك بل اتخذ له دارا يعمّلم فيها المسلمين‬ ‫اللسلم ويجعلها يمركزا لهذه الكتلة المؤيمنة‪ ،‬ويمدرلسة لهذه الدعوة‬ ‫الجديدة‪ ،‬تلك الدار هي دار الرقم بن أبي الرقم‪ ،‬فقد كان يجمع‬ ‫فيها المسلمين ُيقرئهم القرآن‪ ،‬ويبمّينه لهم‪ ،‬ويأيمرهم بالستظهاره‬ ‫مه إلى دار الرقم‪ .‬ويمكث ثلث‬ ‫وفهمه‪ ،‬وكلما ألسلم شخص ض مّ‬ ‫لسنين وهو يثمّقف هؤل ء المسلمين‪ ،‬ويصلي بهم ويتهجد ليل م ً‬ ‫فيتهجدون‪ ،‬فيبعث فيهم الروحانية بالصلة والتلوة‪ ،‬ويثير فيهم‬ ‫الفكر بالتأيمل في آيات ا والتدبر في يمخلوقاته‪ ،‬ويثقف عقولهم‬ ‫بمعاني القرآن وألفاظه‪ ،‬ويمفاهيم اللسلم وأفكاره‪ ،‬ويأخذهم‬ ‫بالصبر على الذى‪ ،‬ويرمّوضهم على الطاعة والنقياد‪ ،‬حتى خلصوا‬ ‫لله العلي القدير‪ .‬وظل النبي يمستخفيا هو والمسلمون في دار‬ ‫‪-9-‬‬


‫الرقم بن أبي الرقم حتى نزل قوله تعالى ‪ :‬فاص لَد ع بما ُتؤيمر‬ ‫وأعِرض عن المشركين‪.‬‬ ‫تكمّتل الصحابة‬ ‫وكان عليه الصلة والسلم في أول أيمره يدعو يمن آنس فيه‬ ‫اللستعداد لقبول هذه الدعوة‪ ،‬بغض النظر عن لسمّنه ويمكانته‪،‬‬ ‫وبغض النظر عن جنسه وأصله‪ ،‬ولم يكن يختار الناس الذي‬ ‫يدعوهم إلى اللسلم اختيارا‪ ،‬بل كان يدعو جميع الناس‪ ،‬ويتحرى‬ ‫الستعدادهم للقبول‪ ،‬وقد ألسلم كثيرون‪ .‬وكان يحرص على أن‬ ‫يثمّقف جميع الذي يعتنقون اللسلم بأحكام الدين ويحمّفظهم‬ ‫القرآن‪ ،‬فتكَّتل هؤل ء وحملوا هم الدعوة‪ ،‬وقد بلغ عددهم يمنذ‬ ‫بعثة الرلسول صلى ا عليه ولسلم حتى ُأيمر بإظهار أيمره نيفا‬ ‫وأربعين شخصا يما بين رجل وايمرأة يمن يمختلف البيئات والعمار‪،‬‬ ‫أكثرهم يمن صغار الشباب‪ ،‬وكان فيهم الضعيف والقوي والغني‬ ‫والفقير‪.‬‬ ‫وقد آيمن به صلى ا عليه ولسلم ولزيمه ودأب على الدعوة‬ ‫يمعه كل يمن ‪ -1 :‬علي بن أبي طالب وكان عمره ثماني لسنوات‪-2 ،‬‬ ‫والزبير بن العوام وعمره ثماني لسنوات‪ -3 ،‬وطلحة بن عبيدا‬ ‫وكان ابن إحدى عشرة لسنة‪ -4 ،‬والرقم بن أبي الرقم وهو ابن‬ ‫اثنتي عشرة لسنة‪ -5 ،‬وعبدا بن يمسعود وهو ابن أربع عشرة‬ ‫‪-10-‬‬


‫لسنة‪ -6 ،‬ولسعد بن أبي وقاص وهو ابن لسبع عشرة لسنة‪-7 ،‬‬ ‫ولسعود بن ربيعة وهو ابن لسبع عشرة لسنة‪ -8 ،‬وجعفر بن أبي‬ ‫طالب وهو ابن ثماني عشرة لسنة‪ -10 ،‬ولسعيد بن زيد وهو دون‬ ‫العشرين‪ -9 ،‬وصهيب الرويمي وهو دون العشرين‪ -11 ،‬وزيد بن‬ ‫حارثة وهو في حدود العشرين‪ -12 ،‬وعثمان بن عفان في حدود‬ ‫العشرين‪ -13 ،‬وطليب بن عمير وهو في حدود العشرين‪-14 ،‬‬ ‫وخباب بن ال لَ لَرت وهو في حدود العشرين‪ -15 ،‬وعايمر بن فهيرة‬ ‫وهو ابن ثلث وعشرين لسنة‪ -16 ،‬ويمصعب بن عمير وهو ابن‬ ‫أربع وعشرين لسنة‪ -17 ،‬والمقداد بن اللسود وهو ابن أربع‬ ‫وعشرين لسنة‪ -18 ،‬وعبدا بن جحش وهو ابن خمس وعشرين‬ ‫لسنة‪ -19 ،‬وعمر بن الخطاب وهو ابن لست وعشرين لسنة‪-20 ،‬‬ ‫وأبو عبيدة بن الجرا ح وهو ابن لسبع وعشرين لسنة‪ ،‬وعتبة بن‬ ‫غزوان وهو ابن لسبع وعشرين لسنة‪ -22 ،‬وأبوحذيفة بن عتبة في‬ ‫حدود الثلثين لسنة‪ -23 ،‬وبلل بن ربا ح في حدود الثلثين‪-24 ،‬‬ ‫وعياش بن ربيعة وهو في حدود الثلثين‪ -25 ،‬وعايمر بن ربيعة‬ ‫وهو في حدود الثلثين‪ -26 ،‬ونعيم بن عبدا وهو في حدود‬ ‫الثلثين‪ -27 ،‬وعثمان‪ -28 ،‬وعبدا‪ -29 ،‬وقدايمة‪ -30 ،‬والسائب‬ ‫أبنا ء يمظعون بن حبيب‪ ،‬وكان عمر عثمان في حدود الثلثين‪،‬‬ ‫وعبدا لسبع عشرة لسنة‪ ،‬وقدايمة تسع عشرة لسنة‪ ،‬والسائب في‬ ‫لس لَلمة عبدا بن عبداللسد المخزويمي‬ ‫حدود العشرين‪ -31 ،‬وأبو لَ‬ ‫‪-11-‬‬


‫وعمره في حدود الثلثين‪ -32 ،‬وعبدالرحمن بن عوف في حدود‬ ‫الثلثين‪ -33 ،‬وعمار بن يالسر فيما بين الثلثين والربعين‪-34 ،‬‬ ‫وأبو بكر الصديا ق وهو ابن لسبع وثلثين لسنة‪ -35 ،‬وحمزة بن‬ ‫عبدالمطلب وعمره اثنتان وأربعون لسنة‪ -36 ،‬وعبيدة بن الحارث‬ ‫وعمره خمسون لسنة‪ .‬كما آيمن عدد يمن النسا ء‪.‬‬ ‫ما نضج هؤل ء الصحابة في ثقافتهم‪ ،‬وتكونت عقليتهم‬ ‫ول مّ‬ ‫عقلية إلسليمية وأصبحت نفسيتهم نفسية إلسليمية في يمدة ثلث‬ ‫لسنوات‪ ،‬اطمأن الرلسول صلى ا عليه ولسلم عليهم‪ ،‬وأيقن‬ ‫بنضجهم في عقولهم‪ ،‬وبسممّوهم في نفسياتهم‪ ،‬ورأى إدراكهم‬ ‫لصلتهم بالله بارزة آثاره على أعمالهم‪ ،‬ارتاحت نفسه لذلك كثيرا؛‬ ‫إذ صارت كتلة المسلمين قوية قادرة على يمجابهة المجتمع كله‪،‬‬ ‫فأظهرها حين أيمره ا‪.‬‬ ‫انطلق الدعوة‬ ‫كان أيمر الدعوة اللسليمية ظاهرا يمن أول يوم ُبعث به صلى‬ ‫ا عليه ولسلم‪ ،‬وكان الناس في يمكة يعرفون أن يمحمدا يدعو‬ ‫لدين جديد‪ ،‬ويعرفون أنه ألسلم يمعه كثيرون‪ ،‬ويعرفون أن يمحمدا‬ ‫خفون‬ ‫س لَت يْ‬ ‫يكمّتل أصحابه ويسهر عليهم‪ ،‬ويعرفون أن المسلمين لَي يْ‬ ‫عن الناس في تكتلهم وفي اعتناقهم الدين الجديد‪ .‬وكانت هذه‬ ‫عر أن الناس كانوا يحسون بالدعوة الجديدة‪،‬‬ ‫المعرفة ُتش ِ‬ ‫‪-12-‬‬


‫سون بوجود يمؤيمنين بها‪ ،‬وإن كانوا ل يعرفون أين لَيجتمعون‬ ‫ويح مّ‬ ‫ويمن هم هؤل ء الذين لَيجتمعون يمن المؤيمنين‪ ،‬ولذلك لم يكن‬ ‫إعلن الرلسول صلى ا عليه ولسلم لللسلم شيئا جديدا على كفار‬ ‫يمكة‪ ،‬وإنما كان الشي ء الجديد ظهور هذه الكتلة المؤيمنة للناس‪.‬‬ ‫فقد ألسلم حمزة بن عبدالمطلب ثم ألسلم عمر بن الخطاب بعد‬ ‫إلسلم حمزة بثلثة أيام‪ ،‬فاشتد لساعد المسلمين‪ ،‬ونزل على‬ ‫الرلسول قوله تعالى ‪ :‬فاص لَد ع بما تؤيمر وأعِرض عن المشركين إنا‬ ‫كفيناك المستهزئين الذين يجعلون يمع ا إلها آخر فسوف يعلمون‬ ‫‪ .‬فصد ع صلى ا عليه ولسلم بأيمر ا‪ ،‬وأظهر أيمر التكتل علنا‬ ‫خفين‪،‬‬ ‫للناس جميعا‪ ،‬وإن كان قد بقي بعض المسلمين ُيمست يْ‬ ‫خفيا حتى فتح يمكة‪.‬‬ ‫ويمنهم يمن بقي يمست يْ‬ ‫وكان ألسلوب إظهار الرلسول عليه السلم ليمر هذا التكتل أنه‬ ‫خرج في أصحابه صمّفيْين اثنين‪ ،‬كان على رأس أحدهما حمزة بن‬ ‫عبدالمطلب‪ ،‬وعلى رأس الصف الثاني عمر بن الخطاب‪ ،‬وذهب‬ ‫بهم الرلسول إلى الكعبة في نظام دقيا ق لم تعهده العرب يمن‬ ‫قبل‪ ،‬فطاف بهم الكعبة‪ .‬وانتقل الرلسول بذلك في أصحابه يمن‬ ‫ديْور اللستخفا ء إلى دور العلن‪ ،‬ويمن دور التصال بمن يأنس‬ ‫فيهم اللستعداد إلى دور يمخاطبة الناس جميعا‪ ،‬فبدأ الصطدام‬ ‫بين اليمان والكفر في المجتمع‪ ،‬وبدأ الحتكاك بين الفكار‬ ‫الصحيحة وبين الفكار الفالسدة‪ ،‬وبدأت المرحلة الثانية وهي‬ ‫‪-13-‬‬


‫يمرحلة التفاعل والكفا ح‪ .‬وبدأ الكفار يقاِويمون الدعوة و ُيؤذون‬ ‫الرلسول وأصحابه بجميع أنوا ع الذى‪.‬‬ ‫عرف‬ ‫وهذه الفترة ‪-‬فترة التفاعل والكفا ح‪ -‬هي أشد يما ُ‬ ‫روعة في العصور جميعها‪ ،‬فقد كان يمنزل الرلسول صلى ا عليه‬ ‫جم‪ ،‬وكانت أم جميل زوجة أبي لهب ُتلقي النجس أيمام‬ ‫ولسلم ُير لَ‬ ‫بيته‪ ،‬فكان يكتفي بأن يزيله‪ ،‬وكان أبو جهل يلقي عليه رحم الشاة‬ ‫يمذبوحة ضحية للصنام فيحتمل الذى ويذهب إلى ابنته فاطمة‬ ‫لتعيد إليه نظافته وطهارته‪ ،‬فل يزيده ذلك كله إل مّ صبرا وإيمعانا في‬ ‫الدعوة‪ ،‬وكان المسلمون ُيهَّددون و ُيؤ لَذيْون‪ ،‬فقد وثبت كل قبيلة‬ ‫على يمن فيها يمن المسلمين يعذبونهم ويفتنونهم عن دينهم‪ ،‬حتى‬ ‫ألقى أحدهم عبده الحبشي بلل م ً على الريمل تحت الشمس‬ ‫المحرقة ووضع حجرا على صدره وتركه ليموت ل لشي ء إل مّ لنه‬ ‫أصر على اللسلم‪ .‬ولم يزد بلل وهو في هذه الحال على أن‬ ‫عمّذبت ايمرأة‬ ‫يكرر "أحد أحد" يمحتمل م ً هذا العذاب في لسبيل ربه‪ .‬و ُ‬ ‫حتى يماتت لنها لم ترض أن ترجع عن اللسلم إلى دين آبائها‪.‬‬ ‫جه إليهم أشد صور المهانة‪،‬‬ ‫وكان المسلمون بالجملة ُيض لَربون و ُتو َّ‬ ‫فكانوا يصبرون على كل ذلك ابتغا ء رضوان ا تعالى‪.‬‬ ‫يمقاويمة الدعوة‬ ‫حين ُبعث صلى ا عليه ولسلم باللسلم تحمّدث الناس عنه‬ ‫‪-14-‬‬


‫وعن دعوته‪ ،‬وكانت قريش أقمّلهم حديثا؛ لنهم لم ُيع لَنوا به أول‬ ‫أيمره وظنوا أن حديثه لن يزيد على حديث الرهبان والحكما ء‪ ،‬وأن‬ ‫الناس عائدون إلى دين آبائهم وآجدادهم‪ ،‬ولذلك لم ينفروا يمنه‬ ‫ولم ُينكروا عليه‪ ،‬وكان إذا يممّر عليهم في يمجالسهم يقولون هذا‬ ‫ابن عبدالمطلب يكَّلم يمن السما ء‪ ،‬والستمر على ذلك‪.‬‬ ‫إل مّ أنهم بعد أن يمضت يمدة قصيرة على دعوته وبدأوا‬ ‫يحسون بخطورة هذه الدعوة أجمعوا على خلفه وعلى عداوته‬ ‫ويمحاربته‪ ،‬وقد رأوا بادئ الرأي أن يحاربوه بالحط يمن شأنه‬ ‫وبتكذيبه فيما يزعم يمن نبوته‪ ،‬ثم تقديموا إليه يسألونه عن‬ ‫يمعجزاته التي ُيثِبت بها رلسالته‪ ،‬ويقولون يما بال يمحمد ل ُيحيل‬ ‫الصفا والمروة ذهبا‪ ،‬ول لَينزل عليه الكتاب الذي يتحدث عنه‬ ‫يمخطوطا يمن السما ء‪ ،‬وِلم ل يبدو لهم جبريل الذي يطول حديث‬ ‫يمحمد عنه‪ ،‬وِلم ل يحيي الموتى‪ ،‬ول ُيسمّير الجبال حتى ل تظل‬ ‫يمكة حبيسة بينها‪ ،‬وِلم ل يفجر ينبوعا أعذب يمن يما ء زيمزم وهو‬ ‫أعلم بحاجة أهل بلده إلى الما ء‪ ،‬وِلم ل يوحي إليه ربه أثمان‬ ‫السلع حتى يضاربوا على المستقبل‪.‬‬ ‫وهكذا صاروا يهاجمون الرلسول ودعوته بألسلوب تهكمي‬ ‫لذ ع‪ ،‬وطال بهم اللجاج‪ .‬ولكن ذلك لم يثنه صلى ا عليه ولسلم‬ ‫عن دعوته بل الستمر يدعو الناس إلى دين ا ويذكر الصنام‬ ‫حلوم يمقمّدلسيها‪.‬‬ ‫ع لَب لَدتها و ُ‬ ‫و لَيعيبها و لَيطعن عليها و ُيسمّفه عقول لَ‬ ‫‪-15-‬‬


‫ظم اليمر عليهم والستعملوا جميع الولسائل لرجاعه عن دعوته‬ ‫ع ُ‬ ‫ف لَ‬ ‫فلم يفلحوا‪ .‬وكان يمن أهم الولسائل التي اتخذوها لمقاويمة هذه‬ ‫الدعوة ولسائل ثلث ‪:‬‬ ‫‪-1‬‬

‫التعذيب‪.‬‬

‫‪-2‬‬

‫الدعاية الداخلية والخارجية‪.‬‬

‫‪-3‬‬

‫المقاطعة‪.‬‬ ‫أمّيما التعذيب‪ ،‬فقد كان يقع على النبي صلوات ا عليه رغم‬

‫اعتصايمه بقويمه‪ ،‬وعلى أتباعه المسلمين جميعا‪ .‬وقد تفننوا في‬ ‫عمّذب آل يالسر جميعهم‬ ‫إيقا ع الذى والستعملوا جميع صنوفه‪ ،‬وقد ُ‬ ‫تعذيبا شديدا ليتركوا دينهم‪ ،‬فما زادهم ذلك إل مّ ثباتا وإيمانا‪ ،‬وقد‬ ‫يممّر بهم الرلسول صلى ا عليه ولسلم وهم ُيعَّذبون فقال لهم ‪:‬‬ ‫}صبرا آل يالسر فإن يموعدكم الجنة إني ل أيملك لكم يمن ا شيئا‪،{،‬‬ ‫لسممّية زوجة يالسر إل مّ أن قالت حين قال لهم إن‬ ‫فما كان يمن ُ‬ ‫يموعدكم الجنة ‪) :‬إني أراها ظاهرة يا رلسول ا(‪ .‬وهكذا الستمرت‬ ‫قريش في تعذيب النبي وأصحابه‪.‬‬ ‫ما رأت قريش أن ذلك لم ُيفدها‪ ،‬لجأت إلى لسل ح آخر هو‬ ‫ول مّ‬ ‫لسل ح الدعاية ضد اللسلم وضد المسلمين في كل يمكان‪ ،‬في يمكة‬ ‫في الداخل‪ ،‬وفي الحبشة في الخارج‪ ،‬والستعملت الدعاية بكل‬ ‫نواحيها وبكل يما تنطوي عليه يمن يمجادلة وحجج ويمهاترة وترويج‬ ‫إشاعات‪ ،‬والستعملت الدعاية ضد العقيدة اللسليمية نفسها‪ ،‬وضد‬ ‫‪-16-‬‬


‫صاحب العقيدة‪ ،‬واتهايمه فيها واتهايمها لذاتها‪ ،‬وأخذوا يكذبون على‬ ‫الرلسول‪ ،‬وأخذوا يهمّيئون كل كلم يريدون الدعاية به ضد يمحمد في‬ ‫يمكة وفي خارج يمكة‪ ،‬وخاصة الدعاية في يمولسم الحج‪.‬‬ ‫وقد بلغ يمن اهتمام قريش بالدعاية ضد الرلسول أن اجتمع‬ ‫نفر يمن قريش إلى الوليد بن المغيرة يتشاورون يماذا عيسى أن‬ ‫يقولوا في شأن يمحمد للعرب القاديمين إلى يمكة في يمولسم الحج‪،‬‬ ‫فاقتر ح بعضهم أن يقولوا عنه إنه كاهن‪ ،‬فرد الوليد هذا الرأي بأن‬ ‫يما يقوله يمحمد ليس بزيمزيمة الكاهن ول بهمهمته ول بسجعه‪.‬‬ ‫واقتر ح البعض الخر أن يزعموا أن يمحمدا يمجنون‪ ،‬فرد الوليد هذا‬ ‫الرأي أيضا لنه ل تظهر على يمحمد أية ظاهرة تدل على جنونه‪.‬‬ ‫ورأى آخرون أن يتهموا يمحمدا بالسحر‪ ،‬فرد الوليد ذلك بأن يمحمدا‬ ‫حرة شيئا‪.‬‬ ‫س لَ‬ ‫ع لَقد ول يأتي يمن عمل ال لَ‬ ‫ل ينفث في ال ُ‬ ‫وبعد جدال ويمناقشات اتفقوا على اتهام يمحمد بسحر البيان‪،‬‬ ‫وانفضوا‪ .‬ثم انطلقوا بين وفود الحج يمن العرب يحذرونهم‬ ‫اللستما ع إلى يمحمد لنه لساحر‪ ،‬ويما يقوله لسحر يفمّرق فيه بين‬ ‫المر ء وأخيه وأيمه وأبيه وزوجته وعشيرته‪ ،‬و ُيخشى على يمن‬ ‫يستمع إليه أن يسحره ف ُيفمّرق بينه وبين أهله‪ .‬ولكن هذه الدعاية‬ ‫حل بين الناس وبين دعوة اللسلم‪ ،‬فذهبوا إلى‬ ‫لم تنفع ولم لَت ُ‬ ‫النضر بن الحارث وحملوه على الدعاية ضد الرلسول‪ ،‬فأخذ النضر‬ ‫خ لَل لَفه في‬ ‫كلما جلس الرلسول في يمجلس يدعو إلى دين ا‪ ،‬لَ‬ ‫‪-17-‬‬


‫يمجلسه وصار يقص حديث فارس ودينها‪ ،‬ويقول ‪ :‬بماذا يكون‬ ‫يمحمد أحسن حديثا يمني؟ أليس يتلو يمن ألساطير المّولين يما أتلو؟‬ ‫وكانت قريش تأخذ هذه الحاديث وتذيعها بين الناس‪ ،‬كما‬ ‫كانت تذيع أن يما يقوله يمحمد إمّنما يعمّلمه إياه غلم نصراني السمه‬ ‫جبر وأنه ليس يمن عند ا‪ ،‬ورمّوجت لهذه الشائعة كثيرا حتى رد‬ ‫ا عليهم فقال ‪ :‬ولقد نعلم أنهم يقولون إمّنما يعلمه بشر لسان‬ ‫حدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي يمبين‪.‬‬ ‫الذي ُيل ِ‬ ‫وهكذا الستمرت دعاية قريش داخل الجزيرة‪ .‬ولم تكتف‬ ‫بذلك بل انها حين لسمعت أن المسلمين هاجروا إلى الحبشة‬ ‫أرلسلت رلسولين لها لينشرا دعاية ضد المسلمين عند النجاشي حتى‬ ‫ ُيخرجهم يمن بلده‪ .‬وكان الرلسولن هما عمرو بن العاص‬ ‫وعبدا بن ربيعة‪ ،‬فقد وصل إلى الحبشة وقمّديما لبطارقة‬ ‫النجاشي هدايا كي يساعدوهما على رد المسلمين إلى يمكة‪ ،‬ثم‬ ‫اجتمعا إلى النجاشي وقال له ‪" :‬أيها الملك إنه قد ضوى إلى بلدك‬ ‫يمنا غلمان لسفها ء‪ ،‬فارقوا دين قويمهم ولم يدخلوا في دينك‪،‬‬ ‫عثنا إليك فيهم‬ ‫وجا ءوا بدين ابتدعوه‪ ،‬ل نعرفه نحن ول أنت‪ ،‬وقد لَب لَ‬ ‫أشراف قويمهم يمن آبائهم وأعمايمهم وعشائرهم لترمّدهم إليهم‬ ‫فهم أعلم بهم عينا‪ ،‬وأعلم بما عابوا عليهم"‪ ،‬فطلب النجاشي أن‬ ‫ما‬ ‫يسمع يمن المسلمين يما يقولون في ذلك‪ ،‬وبعث في طلبهم‪ .‬فل مّ‬ ‫جا ءوا لسألهم يما هذا الدين الذي فارقتم فيه قويمكم ولم تدخلوا به‬ ‫‪-18-‬‬


‫في ديني ول في دين أحد يمن هذه الملل؟ فأجابه جعفر بن أبي‬ ‫طالب يمبينا حالهم أيام الجاهلية ويما كانوا عليه يمن صفات‪ ،‬ثم بمّين‬ ‫يما جا ء به اللسلم يمن هداية‪ ،‬ويما صارت إليه حالهم بعد إلسليمهم‪،‬‬ ‫ما قهرونا وظلمونا وضمّيقوا علينا‬ ‫ثم بمّين تعذيب قريش لهم "فل مّ‬ ‫وحالوا بيننا وبين ديننا‪ ،‬خرجنا إلى بلدك‪ ،‬واخترناك على لسواك‪،‬‬ ‫جوارك‪ ،‬ورجونا أن ل ُنظ لَلم عندك"‪ ،‬فقال النجاشي‬ ‫غبنا في ِ‬ ‫ور ِ‬ ‫لجعفر ‪ :‬هل يمعك يمما جا ء به رلسولكم عن ا يمن شي ء تقرؤه‬ ‫ي؟ قال جعفر ‪ :‬نعم‪ ،‬وتل عليه لسورة يمريم يمن أولها إلى قوله‬ ‫عل مّ‬ ‫تعالى ‪ :‬فأشارت إليه قالوا كيف نكلم يمن كان في المهد صبيا‪.‬‬ ‫قال إني عبد ا آتاني الكتاب وجعلني نبيا وجعلني يمبا لَركا أينما‬ ‫ت حيا‪ .‬و لَبرا بوالدتي ولم‬ ‫كنت وأوصاني بالصلة والزكاة يما ديم ُ‬ ‫ت ويوم أيموت ويوم‬ ‫ي يوم ُولد ُ‬ ‫يجعلني جبارا شقيا والسلم عل مّ‬ ‫ما لسمع البطارقة هذا القول قالوا ‪ :‬هذه كلمات‬ ‫ ُأبعث حيا‪ .‬فل مّ‬ ‫تصدر يمن النبع الذي صدرت يمنه كلمات لسيدنا يسو ع المسيح‪.‬‬ ‫وقال النجاشي ‪ :‬إن هذا والذي جا ء به يمولسى ليخرج يمن يمشكاة‬ ‫واحدة‪ .‬ثم التفت إلى رلسولي قريش وقال لهما ‪ :‬انطلقا‪ ،‬وا ل‬ ‫ألسلمهم إليكما‪.‬‬ ‫غير أن الرلسولين انصرفا يمن يمجلس النجاشي وأخذا‬ ‫يفكران بطريقة أخرى‪ ،‬حتى إذا كان اليوم الثاني عاد عمرو بن‬ ‫العاص إلى النجاشي وقال له ‪ :‬إن المسلمين ليقولون في عيسى‬ ‫‪-19-‬‬


‫لسيْلهم عما يقولون فيه‪.‬‬ ‫لسل إليهم و لَ‬ ‫بن يمريم قول م ً فظيعا فأر ِ‬ ‫فأرلسل إليهم والستخ لَب لَرهم‪ ،‬فقال جعفر ‪ :‬نقول فيه الذي جا ء به‬ ‫نبينا‪ ،‬يقول عبد ا ورلسوله‪ ،‬وروحه‪ ،‬وكلمته ألقاها إلى يمريم‬ ‫طه به على الرض وقال‬ ‫العذرا ء البتول‪ .‬فأخذ النجاشي عودا وخ مّ‬ ‫ص لَرف‬ ‫لجعفر ‪ :‬ليس بين دينكم وديننا أكثر يمن هذا الخط‪ .‬و لَ‬ ‫حنين‪.‬‬ ‫الرلسولين القرشيين‪ ،‬فرجعا بخمّفي ُ‬ ‫وهكذا أخفقت جميع ألساليب الدعاية‪ .‬وكانت قوة الحا ق‬ ‫الذي يدعو إليه الرلسول عليه السلم في الصورة الواضحة التي‬ ‫تتجلى على لسانه لتعلو على جميع الدعايات‪ ،‬وكان نور اللسلم‬ ‫حين يشرق يبدد جميع الشاعات والدعايات‪ .‬فلجأت قريش إلى‬ ‫السل ح الثالث وهو لسل ح المقاطعة‪ ،‬واتفقوا جميعهم على‬ ‫يمقاطعة الرلسول وأقاربه وكتبوا كتابا تعاقدوا فيه على يمقاطعة‬ ‫بني هاشم وبني عبدالمطلب يمقاطعة تايمة فل لَينكحوا إليهم ول‬ ‫ ُينكحوهم‪ ،‬ول يبيعوهم شيئا ول يبتاعوا يمنهم‪ .‬وعمّلقوا صحيفة هذا‬ ‫ل‪ .‬واعتقدوا أن هذه‬ ‫العقد في جوف الكعبة توكيدا لها وتسجي م ً‬ ‫السيالسة ‪-‬لسيالسة المقاطعة‪ -‬لستكون أفعل أثرا يمن التعذيب‬ ‫والدعاية‪ .‬وأقايموا على هذا الحصار لسنتين أو ثلث لسنين‪ ،‬وكانوا‬ ‫ينتظرون أن يترك بنو هاشم وبنو عبدالمطلب يمحمدا‪ ،‬وأن يترك‬ ‫المسلمون إلسليمهم‪ ،‬فيصبح يمحمد وحيدا‪ ،‬وهو إيما أن يرجع عن‬ ‫دعوته وإيما أن ل يبقى لدعوته أي خطر على قريش ول على‬ ‫‪-20-‬‬


‫ديانتها‪.‬‬ ‫إل مّ أن ذلك لم يزد الرلسول عليه السلم إل مّ اعتصايما بحبل ا‬ ‫وتمسكا بدين ا‪ ،‬وحمالسة في لسبيل الدعوة إلى ا‪ ،‬ولم يزد‬ ‫حل دون انتشار الدعوة إلى‬ ‫الذين آيمنوا يمعه إل مّ صلبة وقوة‪ ،‬ولم لَي ُ‬ ‫اللسلم في يمكة وفي خارج يمكة‪ .‬وبلغ خبر حصار قريش لمحمد‬ ‫العرب خارج يمكة‪ ،‬فذا ع أيمر الدعوة بين القبائل‪ ،‬وصار ِذكر‬ ‫اللسلم يفشو في الجزيرة وتتحدث به ال ُركبان‪.‬‬ ‫إل مّ أن المقاطعة الستمرت والتجويع ظل لساريا‪ ،‬وظلت‬ ‫الصحيفة التي تعاقدت قريش فيها على المقاطعة نافذة‪ .‬واحتمى‬ ‫شعب بظاهر يمكة‪ ،‬يعانون آلم الجو ع‬ ‫الرلسول وأهله في ال ِ‬ ‫ع لَوز‪ ،‬ول يجدون في كثير يمن الحيان‬ ‫والحريمان وألوان الفاقة وال لَ‬ ‫سمّدون به ريمقهم‪ .‬كما أنه لم يكن يتا ح لهم أن يختلطوا بالناس‬ ‫يما ي ُ‬ ‫ح ُرم‪ ،‬حيث كان ينزل الرلسول إلى‬ ‫ويتحدثوا إليهم إل مّ في الشهر ال ُ‬ ‫شرهم بثوابه وينذرهم عذابه‬ ‫الكعبة‪ ،‬يدعو العرب إلى دين ا ويب مّ‬ ‫شعب‪ .‬وكان ذلك يثير عطف العرب عليهم‬ ‫وعقابه‪ ،‬ثم يرجع إلى ال ِ‬ ‫فكان يمنهم يمن ُيقِبل على دعوته‪ ،‬ويمنهم يمن كان يرلسل لهم‬ ‫الطعام والشراب خلسة‪ ،‬وكان هشام بن عمرو يأتي بالبعير ‪-‬وقد‬ ‫مله الطعام والبر‪ -‬ويسير به في جوف الليل حتى يصل إلى‬ ‫ح مّ‬ ‫شعب‪ ،‬وهناك يخلع حطايمه‪ ،‬ثم يضربه على جنبه حتى يذهب‬ ‫ال ِ‬ ‫حمله‪ ،‬ويذبحونه‬ ‫شعب‪ ،‬فيأخذه المسلمون ويقتاتون ب ِ‬ ‫إلى ال ِ‬ ‫‪-21-‬‬


‫ويأكلون لحمه‪.‬‬ ‫وظلوا على هذه الحال يمدة ثلث لسنوات يمتتابعة‪ ،‬حتى‬ ‫ك الحصار‪ .‬وذلك‬ ‫ضاقت عليهم الدنيا‪ ،‬إلى أن أرلسل ا الفرج وف مّ‬ ‫أن خمسة يمن شباب قريش هم زهير بن أبي أيمية‪ ،‬وهشام بن‬ ‫مطعم بن عدي‪ ،‬وأبو البخترى بن هشام وزيمعة بن‬ ‫عمرو‪ ،‬وال ُ‬ ‫اللسود‪ ،‬اجتمعوا وتذاكروا بأيمر الصحيفة وأيمر المقاطعة‪ ،‬وتذيمروا‬ ‫معوا أيمرهم وتعاهدوا‬ ‫يمنها‪ ،‬وأظهروا لسخطهم عنها لبعضهم‪ ،‬وأج لَ‬ ‫على القيام بأيمر يؤدي إلى نقض الصحيفة وتمزيقها‪ .‬وفي اليوم‬ ‫التالي ذهبوا إلى الكعبة فجا ء زهير وطاف بالبيت لسبعا ثم نادى‬ ‫في الناس ‪ :‬يا أهل يمكة أنأكل الطعام ونلبس الثياب‪ ،‬وبنو هاشم‬ ‫هلكى ل يبتاعون ول ُيبتا ع يمنهم‪ ،‬وا ل أقعد حتى ُتشا ق هذه‬ ‫الصحيفة القاطعة الظالمة‪ .‬ويما كاد أبو جهل يسمعه حتى صا ح به ‪:‬‬ ‫ت‪ ،‬وا ل ُتشا ق‪ .‬فتصايح يمن جوانب البيت زيمعة وأبو البخترى‬ ‫كذب لَ‬ ‫مطعم وهشام وكلهم يكمّذبون أبا جهل ويؤيدون زهيرا‪ .‬فأدرك‬ ‫وال ُ‬ ‫أبو جهل أن اليمر ُقضي بليل‪ ،‬وأن القوم قد اتفقوا عليه‪ ،‬وأن‬ ‫جع‪ .‬وقام‬ ‫يمخالفتهم قد تثير شرا‪ ،‬فأوجس في نفسه خيفة وترا لَ‬ ‫مطعم ليشا ق الصحيفة‪ ،‬فوجد الرضة قد أكلتها إل مّ فاتحتها‬ ‫ال ُ‬ ‫"بالسمك اللهم"‪ .‬وبذلك أتيح للرلسول وأصحابه أن يعودوا يمن‬ ‫شعب إلى يمكة‪ ،‬وأن ُيفك عنهم الحصار‪ ،‬فعادوا والستمر عليه‬ ‫ال ِ‬ ‫السلم على دعوته حتى ازداد عدد المسلمين‪.‬‬ ‫‪-22-‬‬


‫وهكذا أخفقت ولسائل قريش في التعذيب والدعاية والمقاطعة‪،‬‬ ‫جع الرلسول‬ ‫ولم تستطع أن تفتن المسلمين عن دينهم‪ ،‬ول أن ُتر ِ‬ ‫عن دعوته‪ ،‬حتى أظهرها ا تعالى رغم كل الصعاب والعقبات‪.‬‬ ‫تفاعل الدعوة‬ ‫كان اصطدام قريش بالدعوة اللسليمية أيمرا طبيعيا‪ ،‬لنه‬ ‫مل الدعوة وأظهر الكتلة التي تحمل يمعه‬ ‫ح لَ‬ ‫صلى ا عليه ولسلم لَ‬ ‫الدعوة لسافرة يمتحدية‪ .‬وفوق ذلك فقد كانت هذه الدعوة بذاتها‬ ‫تتضمن كفا ح قريش والمجتمع في يمكة لنها كانت تدعو لتوحيد‬ ‫ا وعبادته وحده‪ ،‬وإلى ترك عبادة الصنام والقل ع عن النظام‬ ‫الفالسد الذي يعيشون عليه‪ ،‬فاصطديمت بقريش اصطدايما كليا‪.‬‬ ‫وهل يمكن أل مّ يصطدم الرلسول بقريش وهو يسمّفه أحليمهم‪،‬‬ ‫ويحمّقر آلهتهم‪ ،‬وينمّدد بحياتهم الرخيصة‪ ،‬وينعى على ولسائل‬ ‫عيشهم الظالمة؟ ينزل عليه القرآن فيهاجمهم ويقول لهم‬ ‫بصراحة ‪ :‬إنكم ويما لَتعبدون يمن دون ا حصب جهنم‪ ،‬ثم يهاجم‬ ‫الربا الذي يعيشون عليه يمهاجمة عنيفة يمن أصوله‪ ،‬قال تعالى في‬ ‫لسورة الروم ‪ :‬ويما آتي ُتم يمن ربا ليربو في أيموال الناس فل يربو‬ ‫عن ا‪ ،‬ويتوعد الذين يطففون الكيل والميزان‪ ،‬قال تعالى ‪:‬‬ ‫‪‬ويل للمطففين الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون وإذا‬ ‫كالوهم أو وزنوهم ُيخسرون‪.‬‬ ‫‪-23-‬‬


‫وبهذا أخذوا يقفون في وجهه‪ ،‬ويؤذونه هو وأصحابه‬ ‫بالتعذيب تارة‪ ،‬وبالمقاطعة أخرى‪ ،‬وبالدعاية ضده وضد دينه‪ .‬غير‬ ‫أنه ظل يهاجمهم‪ ،‬والستمر على كفا ح الرا ء الخاطئة‪ ،‬وهدم‬ ‫هدة في لسبيل نشر الدعوة‪ .‬وكان يدعو‬ ‫العقائد الفالسدة‪ ،‬والمجا لَ‬ ‫لللسلم بكل صراحة‪ ،‬ل يكمّني‪ ،‬ول يلمّو ح‪ ،‬ول يلين‪ ،‬ول يستكين‪ ،‬ول‬ ‫يحابي‪ ،‬ول يداهن‪ ،‬رغم يما لقاه يمن قريش يمن صنوف الذى‪،‬‬ ‫ورغم يما يصيبه يمن يمشقات‪ .‬ويمع أنه فرد أعزل ل يمعين له ول‬ ‫نصير‪ ،‬ول عمّدة يمعه ول لسل ح‪ ،‬فإنه جا ء لسافرا يمتحديا‪ ،‬يدعو لدين‬ ‫ا بقوة وإيمان ل يتطرق إليه أي ضعف عن احتمال تكاليف‬ ‫جسام يمن أجلها‪ ،‬فكان لذلك كله الثر‬ ‫الدعوة‪ ،‬والقيام بالعبا ء ال ِ‬ ‫في التغلب على الصعوبات التي كانت تضعها قريش في وجهه‬ ‫حول بينه وبين الناس‪.‬‬ ‫لت ُ‬ ‫وقد الستطا ع الرلسول صلى ا عليه ولسلم أن يصل إلى‬ ‫الناس ويبمّلغهم‪ ،‬فأقبلوا على دين ا‪ ،‬وأخذت قوة الحا ق تعلو‬ ‫على الباطل‪ ،‬وأخذ نور اللسلم يزداد كل يوم انتشارا بين العرب‪،‬‬ ‫عمّباد الصنام‪ ،‬ويمن النصارى‪ ،‬بل أخذ زعما ء‬ ‫فألسلم الكثيرون يمن ُ‬ ‫قريش يسمعون للقرآن وتهفو قلوبهم له‪.‬‬ ‫ لَقِدم الطفيل بن عمرو الدولسي يمكة وكان رجل م ً شريفا‬ ‫شاعرا لبيبا‪ ،‬فهمّبت إليه قريش تحذره يمحمدا وأن قوله كالسحر‬ ‫يفرق بين المر ء وأهله‪ ،‬وأنهم يخشون عليه وعلى قويمه يمثل يما‬ ‫‪-24-‬‬


‫أصابهم بمكة‪ ،‬وأن الخير في أل مّ يكمّلمه ول يستمع إليه‪ .‬وذهب‬ ‫الطفيل يويما إلى الكعبة وكان رلسول ا هناك فسمع بعض قوله‬ ‫فإذا هو كلم حسن فقال في نفسه ‪" :‬وا ُثكل أمّيمي‪ ،‬وا إني‬ ‫ي الحسن يمن القبيح‪ ،‬فما يمنعني‬ ‫لرجل لبيب شاعر يما يخفى عل مّ‬ ‫أن ألسمع يمن هذا الرجل يما يقول‪ ،‬فإن كان حسنا لَقِبلته‪ ،‬وإن كان‬ ‫قبيحا تركته"‪ .‬وامّتبع الرلسول إلى بيته وأظهره على أيمره ويما دار‬ ‫بنفسه‪ ،‬فعرض رلسول ا عليه اللسلم‪ ،‬وتل عليه القرآن‪ ،‬فألسلم‬ ‫وشهد شهادة الحا ق‪ ،‬ورجع إلى قويمه يدعوهم إلى اللسلم‪.‬‬ ‫و لَقِدم على الرلسول صلى ا عليه ولسلم وهو بمكة عشرون‬ ‫رجل م ً يمن النصارى حين لَب لَلغهم خبره‪ ،‬فجلسوا إليه ولسألوه‬ ‫والستمعوا له‪ ،‬فالستجابوا وآيمنوا به وصمّدقوه‪ ،‬يمما غاظ قريشا حتى‬ ‫ع لَثكم لَيمن ورا ءكم يمن‬ ‫لسمّبوهم وقالوا لهم ‪" :‬خمّيبكم ا ِيمن لَريْكب لَب لَ‬ ‫م تطمئن يمجالسكم عنده حتى‬ ‫أهل دينكم لتأتوهم بخبر الرجل فل يْ‬ ‫فارقتم دينكم وصمّدقتموه بما قال"‪ .‬ولم تثن يمقالة قريش هذا‬ ‫الوفد عن يمتابعة النبي‪ ،‬ولم ترمّده عن اللسلم‪ ،‬بل زادتهم بالله‬ ‫إيمانا على إيمانهم‪ .‬وبذلك ازداد أيمر النبي ظهورا‪ ،‬وازداد شوق‬ ‫الناس لسما ع القرآن‪ ،‬حتى أن أشد قريش خصويمة بدأوا يسائلون‬ ‫هم و ُينذرهم‬ ‫ع ُد ُ‬ ‫أنفسهم أحقا أنه يدعوا إلى الدين القمّيم‪ ،‬وأن يما لَي ِ‬ ‫هو الصحيح‪ .‬وحملهم هذا التساؤل على التسلل لسما ع القرآن‪.‬‬ ‫خرج أبو لسفيان بن حرب وأبو جهل عمرو بن هشام‬ ‫‪-25-‬‬


‫والخنس بن شريا ق‪ ،‬ليلة ليستمعوا إلى يمحمد وهو في بيته‪ ،‬فأخذ‬ ‫كل يمنهم يمجلسا يستمع فيه‪ ،‬وكل يمنهم ل يعلم بمكان صاحبه‪،‬‬ ‫وكان يمحمد يقوم الليل إل مّ قليل م ً يرمّتل القرآن ترتيل م ً وهم يسمعون‬ ‫آيات ا‪ ،‬فتألسر قلوبهم ونفولسهم‪ ،‬ويظمّلون ُينصتون حتى الفجر‪،‬‬ ‫فتفَّرقوا عائدين إلى يمنازلهم‪ ،‬فجمعهم الطريا ق‪ ،‬فتلويموا وقال‬ ‫بعضهم لبعض ‪ :‬ل تعودوا‪ ،‬فلو رآكم بعض لسفائكم لضعف ذلك‬ ‫ما كانت الليلة الثانية شعر كل‬ ‫يمن أيمركم ولنصر يمحمدا عليكم‪ .‬فل مّ‬ ‫واحد يمنهم في يمثل الموعد الذي ذهب فيه أيمس كأن رجليه‬ ‫تحملنه يمن غير أن يستطيع ايمتناعا ليقضي ليله حيث قضاه أيمس‪،‬‬ ‫وليستمع إلى يمحمد يتلو كتاب رمّبه‪ ،‬وتلقوا عند عودتهم يمطلع‬ ‫حل تلويمهم دون الذهاب في‬ ‫الفجر وتلويموا يمن جديد‪ ،‬فلم لَي ُ‬ ‫ما أدركوا يما بهم لدعوة يمحمد يمن ضعف تعاهدوا‬ ‫الليلة الثالثة‪ .‬فل مّ‬ ‫أل مّ يعودوا لمثل فعلتهم‪ ،‬فأقلعوا عن الذهاب لسما ع يمحمد‪ ،‬ولكن‬ ‫يما لسمعوه في الليالي الثلث ترك في نفولسهم أثرا جعلهم‬ ‫يتسا ءلون فيما بينهم عن الرأي فيما لسمعوا‪ ،‬وكلهم تضطرب‬ ‫نفسه‪ ،‬ويخاف أن يضعف وهو لسيد قويمه فيضعف قويمه ويتابعوا‬ ‫يمحمدا يمعه‪.‬‬ ‫وهكذا لسرت الدعوة في كل يمكان رغم يما تضعه قريش‬ ‫في وجهها يمن عقبات‪ .‬فسا ء ذلك قريشا واشتد خوفها يمن انتشار‬ ‫الدعوة بين قبائل العرب بعد أن انتشرت بمكة‪ ،‬فزادت يمن أذى‬ ‫‪-26-‬‬


‫أصحابه‪ ،‬وأخذت تزيد في إيذائه‪ ،‬وكثرت يمسا ءاتهم نحوه حتى‬ ‫ضاق بهم ذرعا‪ ،‬فخرج إلى الطائف يلتمس يمن ثقيف النصرة‬ ‫م لَنعة ويرجو إلسليمهم‪ ،‬لكنهم رمّدوه بشمّر جواب‪ ،‬وأغروا به‬ ‫وال لَ‬ ‫غلمانهم ولسفها ءهم يسمّبونه ويضربونه بالحجارة حتى ُأديميت‬ ‫قديماه‪ ،‬ففمّر يمنهم ورجع حتى جلس إلى كرم عنب لشبيب وشيبة‬ ‫ابني ربيعة يفكر في أيمره وأيمر الدعوة‪ ،‬فهو ل يستطيع أن يدخل‬ ‫يمكة إل مّ في حماية أحد زعما ء يمكة المشركين‪ ،‬وهو ل يستطيع أن‬ ‫يذهب إلى الطائف بعد يما لقى يمن الذى‪ ،‬ول يبقى يمكانه لن‬ ‫الكرم لرجلين يمشركين‪.‬‬ ‫واشتد الكرب عليه‪ ،‬فرفع رألسه إلى السما ء يشكو إلى ا‬ ‫ب رضاه‪،‬‬ ‫في أشد حالة يمن اللم‪ ،‬وأعظم حال يمن الثقة بالله وطل ِ‬ ‫ضعف قمّوتي وقمّلة حيلتي‬ ‫وأخذ يدعو هذا الدعا ء }اللهم إليك أشكو لَ‬ ‫عفين‪،‬‬ ‫وهواني على الناس‪ ،‬يا أرحم الراحمين‪ ،‬أنت رب المستض لَ‬ ‫مني‪ ،‬أو إلى عدو يمَّلك لَته‬ ‫ك ُلني‪ ،‬إلى بعيد يتجَّه ُ‬ ‫وأنت ربي‪ ،‬إلى يمن لَت ِ‬ ‫ي غضب فل أبالي‪ ،‬ولكن عافيتك أولسع‬ ‫أيمري‪ ،‬إن لم يكن بك عل مّ‬ ‫ص ُلح عليه أيمر‬ ‫لي‪ .‬أعوذ بنور وجهك الذي أش لَر لَقت له الظلمات‪ ،‬و لَ‬ ‫حلمّ عليمّ لسخطك‪ ،‬لك‬ ‫الدنيا والخرة‪ ،‬يمن أن ُتنِزل بي غضبك‪ ،‬أو ُت ِ‬ ‫عتبى حتى ترضى‪ ،‬ول حول ول قوة إل مّ بك‪ .{،‬ثم عاد إلى يمكة‬ ‫ال ُ‬ ‫ي‪.‬‬ ‫عِد مّ‬ ‫مطعم بن لَ‬ ‫في حماية ال ُ‬ ‫وعرفت قريش يماذا حصل لمحمد في الطائف فازدادت أذى‬ ‫‪-27-‬‬


‫له وشددت النكير عليه‪ ،‬وأخذت تمنع الناس يمن اللستما ع إليه‪،‬‬ ‫فانصرف عنه أهل يمكة يمن المشركين وأعرضوا عن اللستما ع‬ ‫عل يعرض نفسه‬ ‫ج لَ‬ ‫إليه‪ .‬فلم يصرفه ذلك عن الدعوة لدين ا‪ ،‬و لَ‬ ‫في الموالسم على قبائل العرب يدعوهم إلى اللسلم‪ ،‬ويخبرهم‬ ‫لسل‪ ،‬ويسألهم أن يصمّدقوه‪ .‬غير أن عمه عبدالعزى بن‬ ‫أنه نبي يمر لَ‬ ‫عبدالمطلب أبا لهب لم يكن يدعه بل كان يتبعه أينما ذهب‬ ‫ويحمّرض الناس أل مّ يستمعوا له‪ ،‬فأمّثر ذلك عليهم وانصرفوا عن‬ ‫لسماعه‪ .‬فصار الرلسول صلى ا عليه ولسلم يغشى القبائل في‬ ‫يمنازلهم‪ ،‬ويعرض نفسه عليهم‪ ،‬فأتى كندة في يمنازلها‪ ،‬وأتى كلبا‬ ‫في يمنازلها‪ ،‬وأتى بني حنيفة وبني عايمر بن صعصعة‪ ،‬فلم يسمع‬ ‫له يمنهم أحد ورمّدوه جميعا ردا غير جميل‪ ،‬بل رده بنو حنيفة ردا‬ ‫قبيحا‪ .‬أمّيما بنو عايمر فطمعوا إذا هو انتصر بهم أن يكون لهم اليمر‬ ‫ما قال لهم ‪ :‬إن اليمر إلى ا يضعه حيث يشا ء‪ ،‬لووا‬ ‫ِيمن بعده‪ ،‬فل مّ‬ ‫عنه وجوههم وردوه كما رده غيرهم‪ .‬وهكذا أعرضت يمكة عن‬ ‫اللسلم وأعرض أهل الطائف عن رلسول ا‪ ،‬ورمّدت القبائل‬ ‫جة إلى يمكة يما صار‬ ‫دعوة الرلسول‪ .‬ورأت القبائل التي تجي ء حا مّ‬ ‫إليه يمحمد يمن عزلة‪ ،‬ويما أحاطته قريش يمن عداوة‪ ،‬تجعل كل‬ ‫نصير له عدوا لها وعونا عليها‪ ،‬فازدادت إعراضا عنه‪ .‬وزاد ذلك‬ ‫الرلسول عزلة عن الناس‪ ،‬وصارت الدعوة صعبة في يمكة ويما‬ ‫حولها‪ ،‬وظهر المجتمع المكي في صلبة الكفر والعناد‪ ،‬يمما يجعل‬ ‫‪-28-‬‬


‫اليمل ضعيفا فيه‪.‬‬ ‫ديْوران يمن أدوار الدعوة‬ ‫لسار الرلسول صلى ا عليه ولسلم في يمكة في دوريْين‬ ‫يمتتالييْين ‪ :‬أولهما دور التعليم والتثقيف والعداد الفكري والروحي‪،‬‬ ‫وثانيهما دور نشر الدعوة والكفا ح‪ .‬فالدور الول دور فهم الفكار‬ ‫وتجسيدها في أشخاص‪ ،‬وتكمّتلهم حولها‪ .‬والدور الثاني دور نقل‬ ‫هذه الفكار إلى قوة دافعة في المجتمع تدفعه لن يطبقها في‬ ‫يمعترك الحياة‪ .‬لن الفكار تبقى يمجرد يمعلويمات يما دايمت لم‬ ‫تطَّبا ق‪ .‬ول فرق بين أن تكون هذه المعلويمات في الكتب أو في‬ ‫الديمغة‪ ،‬فهي يمخزونة في يمكان‪ .‬ولذلك ل قيمة للفكار إذا لم‬ ‫تنتقل إلى تطبيا ق لها في الحياة‪.‬‬ ‫والفكار لكي تطَّبا ق ل بد أن تمر بدور تحويلها يمن فكر إلى‬ ‫قوة دافعة في الناس‪ ،‬فتؤيمن بها الجماهير‪ ،‬وتفهمها‪ ،‬وتحملها‪،‬‬ ‫وتكافح في لسبيل تطبيقها‪ ،‬وحينئذ يصبح تطبيقها أيمرا حتميا ونتيجة‬ ‫طبيعية‪.‬‬ ‫وهكذا لسار الرلسول صلى ا عليه ولسلم بالدعوة في يمكة‬ ‫في هذين الدوريْين‪ .‬أمّيما الدور الول فهو دور دعوة الناس لللسلم‪،‬‬ ‫وتثقيفهم بأفكاره وتلقينهم أحكايمه‪ ،‬وتكتيل يمن يستطيع التكتل‬ ‫على ألساس العقيدة اللسليمية‪ ،‬وهذا الدور هو دور التكتل السري‬ ‫‪-29-‬‬


‫في الدعوة‪ .‬وذلك أن الرلسول صلى ا عليه ولسلم كان ل يفتر‬ ‫عن الدعوة ويدأب على تثقيف يمن يدخلون في اللسلم بالفكار‪،‬‬ ‫ويجمعهم في دار الرقم‪ ،‬ويرلسل يمن يثقفهم كتلة في حلقات‪،‬‬ ‫فيجتمع المسلمون في بيوتهم لسرا‪ ،‬وفي شعاب الجبال لسرا‪،‬‬ ‫وفي دار الرقم لسرا‪ ،‬ويتكتلون‪ ،‬ويزداد كل يوم إيمانهم‪ ،‬وتزداد كل‬ ‫صلتهم ببعضهم‪ ،‬ويزداد كل يوم إدراكهم لحقيقة المهمة التي‬ ‫يوم ِ‬ ‫غرلست الدعوة‬ ‫يحملونها‪ ،‬فيستعدون للتضحية في لسبيلها‪ ،‬حتى ُ‬ ‫في نفولسهم‪ ،‬ولسرى اللسلم فيهم لسريان الدم في أجسايمهم‪،‬‬ ‫فأصبحوا إلسليما يمشي في الطريا ق‪.‬‬ ‫وبذلك لم تستطع الدعوة أن تبقى حبيسة في نفولسهم رغم‬ ‫لسمّرمّية تكتلهم والحرص على إخفا ء تجمعهم‪،‬‬ ‫الستخفائهم ورغم ِ‬ ‫فأخذوا يتحدثون إلى يمن يثقون بهم‪ ،‬وإلى يمن يأنسون يمنهم‬ ‫الستعدادا لقبول الدعوة‪ .‬وبهذا أحس الناس على دعوتهم‪ ،‬وأحسوا‬ ‫على وجودهم‪ ،‬فاجتازت بذلك الدعوة نقطة البتدا ء‪ ،‬وصار ل بد‬ ‫لها أن تنطلا ق‪ ،‬و ُوجدت المحاولت لنطلقها ويمخاطبة الناس‬ ‫جميعا بها‪ .‬وبذلك انتهى الدور الول وهو دور التكتل السري‬ ‫والتثقيف الذي يبني هذا التكتل‪ ،‬وصار ل بد يمن النتقال إلى الدور‬ ‫الثاني وهو دور التفاعل والكفا ح بإفهام الناس اللسلم‪،‬‬ ‫فيتجاوبون يمعه و ُيقِبلون عليه‪ ،‬فيختلط بنفولسهم‪ ،‬أو يرمّدونه‬ ‫ويحملون عليه فيصطديموه بأفكاره‪ ،‬ويحصل يمن هذا الصطدام‬ ‫‪-30-‬‬


‫أن ُيهزم الكفر والفساد‪ ،‬ويستقر اليمان والصل ح‪ ،‬وينتصر الفكر‬ ‫الصحيح‪ ،‬لن العقول يمهما تكن يمكاِبرة ل يمكن أن ُتغلا ق أيمام‬ ‫الفكر الصحيح‪ ،‬ول تستطيع أن ترفضه‪ ،‬وإن كانت تهرب يمنه حتى‬ ‫ل يؤثر عليها‪.‬‬ ‫وهكذا بدأ دور التفاعل وبدأ به الكفا ح بين فكر وفكر‪ ،‬بين‬ ‫يمسلمين وكافرين‪ .‬بدأ ذلك يمن الكتلة الحزبية حين خرج الرلسول‬ ‫صلى ا عليه ولسلم ويمعه أصحابه في ترتيب لم تعهده العرب‬ ‫يمن قيْبل‪ ،‬وفي كتلة واحدة‪ ،‬فطاف بالكعبة وأعلن أيمره‪ .‬ويمنذ ذلك‬ ‫الحين صار الرلسول صلى ا عليه ولسلم ينشر الدعوة بين الناس‬ ‫كافة جهارا نهارا لسافرا يمتحديا‪.‬‬ ‫وصارت اليات تنزل على الرلسول صلى ا عليه ولسلم في‬ ‫الدعوة إلى التوحيد‪ ،‬وفي إنكار الوثنية والشرك‪ ،‬والحملة عليهما‪،‬‬ ‫والنعي على تقليد البا ء والجداد يمن غير نظر‪ ،‬وصارت تنزل في‬ ‫جم الربا‪ ،‬وتهاجم التجارة‬ ‫الحملة على المعايملت الفالسدة‪ ،‬فتها ِ‬ ‫الفالسدة‪ ،‬والغش في الكيل والميزان‪ ،‬وصار الرلسول يتحدث إلى‬ ‫الناس في اللسلم جماعات‪ ،‬فيجمع قويمه على طعام في بيته‬ ‫ويحدثهم جماعة‪ ،‬ويطلب إليهم أن ُيسِلموا وأن يؤازروه‪ ،‬فيرفضوا‬ ‫شر رفض‪ .‬ثم يجمع أهل يمكة على الصفا ويحدثهم‪ ،‬فيثور زعما ء‬ ‫قريش ويرمّده أبو لهب شمّر رمّد‪ .‬وتزداد الخصويمة بين قريش والنبي‬ ‫يمحمد كما تزداد بين غير قريش يمن العرب وبينه صلى ا عليه‬ ‫‪-31-‬‬


‫ولسلم‪.‬‬ ‫وهكذا تجمع الدعوة إلى التثقيف المرمّكز بالحلقات في‬ ‫البيوت وبين الشعاب وفي دار الرقم‪ ،‬تثقيفا جماعيا‪ ،‬وتنتقل يمن‬ ‫دعوة يمن ُيؤ لَنس فيه اللستعداد‪ ،‬إلى دعوة الناس جميعا‪ ،‬فيكون‬ ‫لهذه الدعوة الجماعية والتثقيف الجماعي أثر على قريش؛ إذ ازداد‬ ‫حقدها وأحست بالخطر يقترب يمنها‪ ،‬وبدأت تتخذ الخطوات الجدية‬ ‫للمقاويمة‪ ،‬بعد أن كانت ل تأبه لمحمد ول لدعوته‪ .‬فازداد الذى‬ ‫والضطهاد على النبي صلى ا عليه ولسلم وعلى أصحابه‪.‬‬ ‫ولكن هذه الدعوة الجماعية كان لها أثر في الدعوة نفسها‪،‬‬ ‫فقد ألسمعت الناس جميعا كلمة اللسلم‪ ،‬وانتشرت الدعوة إلى‬ ‫دين ا بين أهل يمكة جميعا‪ ،‬فلم يكن يوم إل مّ ألسلم فيه بعضهم‬ ‫لله وجهه‪ ،‬فآيمن به كل بائس وكل ضعيف وكل يمحروم‪ ،‬وجميع‬ ‫يمن ل تلهيهم التجارة ول يلهيهم البيع عن التأيمل فيما يدعوهم إليه‬ ‫عرفت‬ ‫رلسول ا‪ ،‬وآيمن به يمن تجار يمكة وأشرافها وزعمائها يمن لَ‬ ‫نفولسهم الطهر والنزاهة والصدق وارتفعوا عن اللجاج والمكابرة‪.‬‬ ‫هؤل ء ألسلموا وجههم لله بمجرد أن أدركوا صحة الدعوة وصدق‬ ‫الداعي‪ ،‬وانتشر اللسلم بمكة‪ ،‬ودخل الناس في اللسلم رجال م ً‬ ‫ ء‪ .‬فكان للدعوة الجماعية أث ٌر لَن لَق لَلها إلى أفا ق أولسع‪ ،‬وإن كان‬ ‫ونسا م ً‬ ‫مل صنوف الذى‪ .‬وكان يزيد‬ ‫م لَلتها إلى المشقة والعذاب وتح مّ‬ ‫ح لَ‬ ‫ لَن لَقل لَ‬ ‫النار اشتعال م ً في نفوس زعما ء قريش يمهاجمة الرلسول للظلم‬ ‫‪-32-‬‬


‫والقسوة واللستعباد الذي كان يسود يمكة‪ ،‬وكشفه لحوال الكفار‬ ‫ولعمالهم‪.‬‬ ‫وبدأت بين الرلسول ويمعه أصحابه‪ ،‬وبين كفار قريش‪ ،‬يمرحلة‬ ‫يمن أشا ق المراحل‪ ،‬ودور يمن أعنف الدوار‪ .‬ولئن كان النتقال يمن‬ ‫دور الثقافة إلى يمرحلة التفاعل هو يمن أدق الدوار لنه يحتاج إلى‬ ‫حكمة وصبر ودقة في التصرف‪ ،‬فإن دور التفاعل هو يمن أشا ق‬ ‫الدوار لنه يحتاج إلى صراحة وتحد دون أن ُيحسب للنتائج‬ ‫والوضا ع أي حساب‪ ،‬فتحصل فيه فتنة الكفار للمسلمين عن‬ ‫دينهم‪ ،‬وفيه يظهر اليمان وتظهر قوة الحتمال‪ ،‬ويظهر يما في‬ ‫النفس يمن صدق اللقا ء‪.‬‬ ‫وهكذا لسار الرلسول في هذا الدور‪ ،‬وهو والصحابة يتحملون‬ ‫ع لَنت‪،‬‬ ‫سف و لَ‬ ‫ع لَ‬ ‫يما تنو ء به الجبال الشايمخات يمن ظلم وإرهاق و لَ‬ ‫فكان يمنهم يمن هاجر إلى الحبشة فرارا بدينه‪ ،‬ويمنهم يمن يمات‬ ‫تحت التعذيب‪ ،‬ويمنهم يمن احتمل أقسى صنوف الذى‪ .‬والستمروا‬ ‫على ذلك يمدة طويلة كانت كافية لن يتأثر يمجتمع يمكة بنور‬ ‫اللسلم و ُتبَّدد فيه الظلمات‪.‬‬ ‫ولئن يمكث الرلسول ثلث لسنوات في دار الرقم وانتهى يمن‬ ‫الدور الول دور التكتل السري والتثقيف خلل هذه السنوات‬ ‫الثلث‪ ،‬فقد يمضى على الرلسول ثماني لسنوات أخرى وهو يكافح‬ ‫خف وطأة‬ ‫الكفر )وتظهر المعجزات للناس(‪ .‬ويمع ذلك فلم ت ِ‬ ‫‪-33-‬‬


‫خف حمالسهم في يمحاربة‬ ‫قريش عن تعذيب المسلمين‪ ،‬ولم ي ِ‬ ‫اللسلم‪.‬‬ ‫نعم‪ ،‬كان يمن جرا ء احتكاك المسلمين بقريش أن لسمعت‬ ‫الجزيرة كلها باللسلم‪ ،‬ولسارت أجوا ء الدعوة في جميع أنحا ء‬ ‫الجزيرة‪ ،‬نقلها إليهم الحجاج وتحدثوا بها‪ .‬لكن هؤل ء العرب كانوا‬ ‫يقفون يموقف المتفرج‪ ،‬ولم يتقديموا خطوة نحو اليمان‪ ،‬بل كانوا‬ ‫يسعون لعدم إغضاب قريش‪ ،‬ويبتعدون عن الرلسول حتى ل يثير‬ ‫ذلك غضب قريش‪ .‬فاشتد ذلك على الرلسول وعلى أصحابه وظهر‬ ‫أن النتقال للدور الثالث ‪-‬دور تطبيا ق اللسلم‪ -‬ل بد يمنه‪ ،‬ولكن‬ ‫قسوة المجتمع في يمكة ل تدل على إيمكانية ذلك التطبيا ق‪ ،‬وازدياد‬ ‫حول‬ ‫كنهم يمن التفرغ للدعوة‪ ،‬بل ي ُ‬ ‫الذى على المسلمين ل يم مّ‬ ‫بينهم وبينها‪ ،‬وإعراض الناس عن الدعوة يزيدهم ألما وحزنا‪.‬‬ ‫تولسع يمجال الدعوة‬ ‫زادت يمسا ءات قريش للرلسول وللمسلمين حتى ضاقوا بها‬ ‫ لَذرعا‪ ،‬ولم يبا ق رجا ء في نصرة القبائل إياه بعد أن رمّدته ثقيف يمن‬ ‫الطائف بشمّر جواب‪ ،‬وبعد أن رمّدته كندة وكلب وبنو عايمر وبنو‬ ‫ما عرض نفسه عليهم في يمولسم الحج‪ ،‬ولم يبا ق يمطمع‬ ‫حنيفة ل مّ‬ ‫في أن يهتدي إلى اللسلم يمن قريش أحد‪ .‬ورأت غير قريش يمن‬ ‫القبائل التي تجاور يمكة و التي تجي ء يمن يمختلف أنحا ء بلد‬ ‫‪-34-‬‬


‫جة إليها يما صار يمحمد إليه يمن عزلة‪ ،‬ويما أحاطته به‬ ‫العرب حا مّ‬ ‫قريش يمن عداوة تجعل كل نصير له عدوا لها وعونا عليها‪،‬‬ ‫فازدادت إعراضا عنه‪ .‬ورأى صلى ا عليه ولسلم رلسالة ربه تقف‬ ‫في دائرة يمن امّتبعه إلى يويمئذ‪ ،‬وتطاولت اليام والرلسول يزداد بين‬ ‫قويمه عزلة‪ ،‬وقريش تزداد عليه حقدا‪ ،‬والناس يزدادون عنه‬ ‫إعراضا‪.‬‬ ‫إل مّ أنه صلى ا عليه ولسلم بالرغم يمن كل ذلك ظل هو‬ ‫وأصحابه ِيمن حوله أشد يما يكون ثقة بنصر ا له وإعل ء دينه على‬ ‫الدين كله‪ ،‬وظل يدعو الناس كلما أتيح له ذلك‪ .‬فإذا جا ء يمولسم‬ ‫الحج واجتمع الناس يمن أنحا ء شبه الجزيرة بمكة‪ ،‬بادأ القبائل‬ ‫فدعاها إلى اللسلم غير آبه أن ُتبدي هذه القبائل رغبة عن دعوته‬ ‫والعراض عنه أو ترمّده ردا غير جميل‪ .‬ويتحرش به بعض لسفها ء‬ ‫قريش حين إبلغه الناس رلسالة ربه وينالونه بالسو ء‪ ،‬فل تغير‬ ‫يمسا ءاتهم رضا نفسه‪ ،‬وطمأنينتها إلى غده‪ .‬إن ا قد بعثه‬ ‫باللسلم فهو ل ريب ناصره ويمؤيده و ُيمظهر دينه‪ .‬وأخذ ينتظر فرج‬ ‫ا وهو يويمئذ في ألم يمن وقوف دعوته‪ ،‬وفي شدة وضيا ق يمن‬ ‫قريش‪.‬‬ ‫طل به النتظار حتى بدت تباشير الفوز آتية يمن المدينة‪.‬‬ ‫ولم لَي ُ‬ ‫ذلك أن نفرا يمن الخزرج خرجوا إلى يمكة في يمولسم الحج‪ ،‬فلقيهم‬ ‫الرلسول فكمّلمهم ولسألهم عن شأنهم ودعاهم إلى ا‪ .‬فنظر‬ ‫‪-35-‬‬


‫ع ُدكم به يهود‪،‬‬ ‫بعضهم إلى بعض وقالوا ‪" :‬وا إنه لَللنبي الذي ُتوا ِ‬ ‫فل لَيس ُب ُقمّنكم إليه"‪ .‬وأجابوا دعوة الرلسول وألسلموا وقالوا له ‪" :‬إنا‬ ‫تركنا قويمنا )أي الوس والخزرج( ول قوم بينهم يمن العداوة والشر‬ ‫ن يجمعهم عليك فل رجل‬ ‫يما بينهم‪ ،‬فعسى أن يجمعهم ا بك‪ .‬وإ يْ‬ ‫أعمّز يمنك"‪ .‬وعاد هؤل ء النفر إلى المدينة ف لَذ لَكروا لقويمهم إلسليمهم‪،‬‬ ‫فأِلفوا قلوبا يمنشرحة ونفولسا يمتلهفة للدين الجديد‪ ،‬فلم تبا ق دار‬ ‫يمن دور الوس والخزرج جميعا إل مّ فيها ِذكر يمحمد عليه السلم‪.‬‬ ‫بيعة العقبة الولى‬ ‫ما الستدار العام وجا ء يمولسم الحج‪ ،‬أتى المولسم اثنا عشر‬ ‫فل مّ‬ ‫رجل م ً يمن أهل المدينة‪ ،‬فالتقوا هم والنبي بالعقبة‪ ،‬فبايعوه بيعة‬ ‫العقبة الولى ‪ :‬بايعوه على أن ل ُيشرك أحدهم بالله شيئا ول‬ ‫يسرق ول يزني ول يقتل أولده ول يأتي ببهتان يفتريه بين يديه‬ ‫ورجليه ول يعصيه في يمعروف‪ ،‬فإن ومّفى في ذلك فله الجنة‪ ،‬وإن‬ ‫غشي يمن ذلك شيئا فأيْيم ُره إلى ا إن شا ء عمّذب وإن شا ء غفر‪.‬‬ ‫وبعد أن أتموا البيعة وانقضى يمولسم الحج عادوا إلى المدينة‪.‬‬ ‫الدعوة في المدينة‬ ‫ما انصرف أهل العقبة الولى الثنا عشر وفشا اللسلم في‬ ‫ل مّ‬ ‫ ُدور النصار‪ ،‬أرلسلت النصار رجل م ً إلى رلسول ا صلى ا عليه‬ ‫‪-36-‬‬


‫ولسلم وكتبت كتابا تقول فيه ‪ :‬ابعث إلينا رجل م ً يفقهنا في الدين‪،‬‬ ‫و ُيقرئنا القرآن‪ .‬وكان عليه الصلة والسلم ل يترك يمن يدخل‬ ‫اللسلم دون أن ُيعنى بتعليمه الحكام وتثقيفه باللسلم ثقافة‬ ‫كنه يمن فهمه وإدراك حقيقته؛ لن الثقافة اللسليمية‬ ‫صحيحة تم مّ‬ ‫ضرورية لكل يمسلم‪ ،‬وهي ولسيلة لتقوية العقيدة‪ ،‬ولفهم رلسالة‬ ‫اللسلم‪ ،‬وهي الضمانة لدوام العمل باللسلم‪.‬‬ ‫وقد أحس الذين ألسلموا بذلك‪ ،‬فطلبوا لَيمن يعلمهم‪ ،‬فبعث‬ ‫إليهم رلسول ا يمصعب بن عمير‪ ،‬ف لَقِدم على يمنزل ألسعد بن‬ ‫زرارة‪ ،‬وكان يأتي الناس في ُدورهم وقبائلهم فيدعوهم إلى‬ ‫اللسلم‪ ،‬ويقرأ عليهم القرآن‪ ،‬فيسلم الرجل والرجلن حتى ظهر‬ ‫اللسلم وفشا في ُدور النصار كلها إل مّ دورا يمن أوس ا وهي‬ ‫خطمة ووائل وواقف‪ .‬وكان يمصعب ُيقرئهم القرآن ويعلمهم‪،‬‬ ‫مع بهم‪،‬‬ ‫فكتب إلى رلسول ا صلى ا عليه ولسلم يستأذنه أن يج ِّ‬ ‫فأذن له وكتب إليه ‪ :‬انظر يمن اليوم الذي يجهر فيه اليهود لسبتهم‪،‬‬ ‫فإذا زالت الشمس فازدِلف إلى ا فيه بركعتين‪ ،‬واخطب فيهم‪.‬‬ ‫مع بهم يمصعب بن عمير في دار لسعد بن خيثمة وهم اثنا عشر‬ ‫فج مّ‬ ‫مع في اللسلم‬ ‫ل‪ ،‬ويما ُذبح لهم يويمئذ إل مّ شاة‪ ،‬فهو أول يمن ج مّ‬ ‫رج م ً‬ ‫جمعة‪.‬‬ ‫ ُ‬ ‫والستمر يمصعب يطوف بالمدينة على الناس ويدعوهم إلى‬ ‫اللسلم ويعلمهم إياه‪ .‬وذات يوم خرج ألسعد بن زرارة بمصعب بن‬ ‫‪-37-‬‬


‫عمير يريد به دار بني الشهل ودار بني ظفر ‪-‬وكان لسعد بن يمعاذ‬ ‫ابن خالة ألسعد بن زرارة‪ -‬فدخل به حائطا يمن حوائط بني ظفر‬ ‫أي بستانا يمن بساتينهم‪ ،‬وكان على بئر يقال له بئر يمرق‪ ،‬فجلسا‬ ‫في الحائط‪ ،‬واجتمع إليهما رجال يممن ألسلم‪ ،‬ولسعد بن يمعاذ‬ ‫وألسيد بن حضير يويمئذ لسمّيدا قويمهما يمن بني عبد الشهل‪ ،‬وكلهما‬ ‫ما لسمعا به قال لسعد بن يمعاذ للسيد‬ ‫يمشرك على دين قويمه‪ .‬فل مّ‬ ‫بن حضير ‪ :‬ل أبا لك‪ ،‬انطلا ق إلى هذين الرجلين اللذيْين قد أتيا دارنا‬ ‫ليسمّفها ضعفا ءنا‪ ،‬فازجرهما وانههما أن يأتيا دارنا‪ ،‬فإنه لول أن‬ ‫ت كفي ُتك ذلك‪ ،‬هو ابن خالتي ول‬ ‫ألسعد بن زرارة يمني حيث قد علم لَ‬ ‫أحد عليه يمقديما‪.‬‬ ‫ما رآه ألسعد‬ ‫فأخذ ألسيد بن حضير حربته ثم أقبل إليهما‪ ،‬فل مّ‬ ‫بن زرارة قال لمصعب ‪ :‬هذا لسيد قويمه قد جا ءك‪ ،‬فاص ُدق ا‬ ‫فيه‪ .‬قال يمصعب ‪ :‬إن يجلس أكلمه‪ .‬قال ‪ :‬فوقف عليهما يمتشتما‪،‬‬ ‫فقال ‪ :‬يما جا ء بكما إلينا تسمّفهان ضعفا ءنا؟ اعتزلنا إن كانت لكما‬ ‫في أنفسكما حاجة‪ .‬فقال له يمصعب ‪ :‬أو تجلس فتسمع‪ ،‬فإن‬ ‫ت‪ .‬ثم‬ ‫ف عنك يما تكره‪ .‬قال ‪ :‬أنصف لَ‬ ‫ت أيمرا لَقِبل لَته‪ ،‬وإن كره لَته ُك مّ‬ ‫رضي لَ‬ ‫ركز حربته وجلس إليهما‪ ،‬فكلمه يمصعب باللسلم وقرأ عليه‬ ‫ع لَرفنا في وجهه اللسلم‬ ‫القرآن‪ ،‬فقال ‪-‬فيما ُيذكر عنهما‪ : -‬وا ل لَ‬ ‫قبل أن يتكلم‪ ،‬في إشراقه وتسهله‪ .‬ثم قال ‪ :‬يما أحسن هذا‬ ‫وأجمله‪ ،‬كيف تصنعون إذا أردتم أن تدخلوا في هذا الدين؟ قال‬ ‫‪-38-‬‬


‫له ‪ :‬تغتسل فتطمّهر ثوبيك ثم تشهد شهادة الحا ق ثم تصلي ركعتين‪.‬‬ ‫قال ‪ :‬فقام فاغتسل وطمّهر ثوبيه وشهد شهادة الحا ق ثم قام فركع‬ ‫عكما لم يتخلف عنه‬ ‫ركعتين‪ .‬ثم قال لهما ‪ :‬إنمّ ورائي رجل م ً إن امّت لَب لَ‬ ‫أحد يمن قويمه‪ ،‬ولسأرلسله إليكما الن‪ ،‬لسعد بن يمعاذ‪.‬‬ ‫ثم أخذ حربته وانصرف إلى لسعد وقويمه وهم جلوس في‬ ‫ما نظر إليه لسعد بن يمعاذ يمقبل م ً قال ‪ :‬أحلف بالله لقد‬ ‫ناديهم‪ .‬فل مّ‬ ‫ما‬ ‫جا ءكم ألسيد بن حضير بغير الوجه الذي ذهب به يمن عندكم‪ .‬فل مّ‬ ‫ت الرجلين‪،‬‬ ‫ت؟ قال ‪ :‬كلم ُ‬ ‫وقف على النادي قال له لسعد ‪ :‬يما فعل لَ‬ ‫ت بهما بألسا‪ ،‬وقد نهيتهما فقال نفعل يما أحببت‪ .‬وقد‬ ‫فوا يما رأي ُ‬ ‫ت أن بني حارثة قد خرجوا إلى ألسعد بن زرارة ليقتلوه‪ ،‬وذلك‬ ‫حِّدث ُ‬ ‫ ُ‬ ‫ضبا‬ ‫أنهم عرفوا أنه ابن خالتك ليخفروك‪ .‬قال ‪ :‬فقام لسعد ُيمغ لَ‬ ‫يمبادرا‪ ،‬تخوفا للذي لَذ لَكر له يمن بني حارثة‪ ،‬فأخذ الحربة يمن يده ثم‬ ‫ما رآهما لسعد‬ ‫ت شيئا‪ .‬ثم خرج إليهما‪ ،‬فل مّ‬ ‫قال ‪ :‬وا يما أراك أغني لَ‬ ‫يمطمئنين عرف أن ألسيدا إمّنما أراد أن يسمع يمنهما‪ ،‬فوقف عليهما‬ ‫يمتشتما ثم قال للسعد بن زرارة ‪ :‬يا أبا أيمايمة لول يما بيني وبينك يمن‬ ‫ت هذا يمني‪ ،‬تغشانا في دارنا بما نكره‪ .‬وقد قال‬ ‫القرابة يما ُريم لَ‬ ‫ ءه يمن قويمه‪،‬‬ ‫ألسعد لمصعب ‪ :‬أي يمصعب‪ ،‬جا ءك وا لسي ُد لَيمن ورا لَ‬ ‫إن يتبعك لم يخالف عليك يمنهم اثنان‪ .‬فقال له يمصعب ‪ :‬أو تقعد‬ ‫ت أيمرا لَقِبل لَته‪ ،‬وإن كرهته عزلنا عنك يما تكره‪.‬‬ ‫فتسمع‪ ،‬فإن رضي لَ‬ ‫قال لسعد ‪ :‬أنصفت‪ .‬ثم ركز الحربة فجلس‪ ،‬فعرض عليه اللسلم‪،‬‬ ‫‪-39-‬‬


‫وقرأ عليه القرآن‪ .‬قال ‪ :‬فعرفنا وا في وجهه اللسلم قبل أن‬ ‫يتكلم به‪ ،‬في إشراقه وتسهله‪ .‬ثم قال لهما ‪ :‬كيف تصنعون إذا أنتم‬ ‫ألسلمتم ودخلتم في هذا الدين؟ قال ‪ :‬تغتسل فتطمّهر ثوبيك ثم‬ ‫تشهد شهادة الحا ق ثم تصلي ركعتين‪ .‬قال ‪ :‬فقام فاغتسل وطمّهر‬ ‫ثوبيه وشهد شهادة الحا ق وركع ركعتين‪ ،‬ثم أخذ حربته فأقبل عائدا‬ ‫ما رآه قويمه يمقبل م ً قالوا ‪:‬‬ ‫إلى نادي قويمه ويمعه ألسيد بن حضير‪ ،‬فل مّ‬ ‫نحلف بالله لقد رجع لسعد إليكم بغير الوجه الذي ذهب به يمن‬ ‫ما وقف عليهم قال ‪ :‬يا بني عبد الشهل‪ ،‬كيف تعلمون‬ ‫عندكم‪ .‬فل مّ‬ ‫أيمري فيكم؟ قالوا ‪ :‬لسيدنا وأفضلنا رأيا وأيمننا نقيبة‪ .‬قال ‪ :‬فإ مّ‬ ‫ن‬ ‫ي حرام حتى تؤيمنوا بالله ورلسوله‪ .‬قال ‪:‬‬ ‫كلم رجالكم ونسائكم عل مّ‬ ‫فوا يما أيمسى في دار عبد الشهل رجل ول ايمرأة إل مّ يمسلما أو‬ ‫يمسلمة‪.‬‬ ‫ورجع يمصعب إلى يمنزل ألسعد بن زرارة فأقام عنده يدعو‬ ‫الناس إلى اللسلم‪ ،‬حتى لم تبا ق دار يمن ُدور النصار إل مّ وفيها‬ ‫رجال ونسا ء يمسلمون‪ .‬وأقام يمصعب بالمدينة يمدة لسنة بين‬ ‫الوس والخزرج‪ ،‬يعمّلمهم دينهم‪ ،‬ويرى يمغتبطا ازدياد النصار ليمر‬ ‫لله ولكلمة الحا ق‪ .‬وكان رضي ا عنه يطرق البواب على الناس‬ ‫لسعيا للتصال بهم ليبمّلغهم دعوة ا‪ ،‬وكان يجوب الحقول يمتصل م ً‬ ‫بالمزارعين في أعمالهم يدعوهم لللسلم‪ ،‬وكان يواجه اللسياد‬ ‫يدعوهم لدين ا‪ ،‬وكان يقوم بحركات يمقصودة كما فعل يمع‬ ‫‪-40-‬‬


‫ألسعد بن زرارة في اتخاذ الولسائل للوصول إلى الناس حتى يقوم‬ ‫بإلسماعهم صوت الحا ق‪ ،‬حتى الستطا ع في لسنة واحدة أن يقلب‬ ‫الفكار في المدينة يمن وثنية خرقة‪ ،‬ويمن يمشاعر خاطئة‪ ،‬إلى‬ ‫توحيد وإيمان‪ ،‬وإلى يمشاعر إلسليمية‪ ،‬تسخط على الشرك‪ ،‬وتنفر‬ ‫يمن تطفيف الكيل والميزان‪.‬‬ ‫وهكذا كان نشاط يمصعب‪ ،‬وكان نشاط الذين ألسلموا يمعه‪،‬‬ ‫أن تحولت المدينة في لسنة واحدة يمن حال الشرك إلى حال‬ ‫اللسلم‪.‬‬ ‫بيعة العقبة الثانية‬ ‫كانت بيعة العقبة الولى خيرا وبركة‪ ،‬فإن الذين ألسلموا‬ ‫على قلة عددهم‪ -‬كفاهم شخص واحد يمن أصحاب الرلسول‬‫وهو يمصعب لن يغير بهم المدينة‪ ،‬ويقلب الفكار والمشاعر‬ ‫الموجودة في يمجتمعها‪ .‬ويمع أن الذين ألسلموا في يمكة كانوا‬ ‫كثيرين‪ ،‬إل مّ أن جماهير الناس كانوا يمنفصلين عنهم‪ ،‬إذ لم تؤيمن‬ ‫الجماعات‪ ،‬ولم يتأثر المجتمع بالفكار والمشاعر اللسليمية‪،‬‬ ‫بخلف المدينة‪ ،‬فقد دخلت في اللسلم فيها جماهير الناس‪ ،‬وتأثر‬ ‫المجتمع فيها باللسلم‪ ،‬وتأثرت أفكاره‪ ،‬وتأثرت يمشاعره‪ ،‬وذلك‬ ‫يدل دللة واضحة على أن إيمان الفراد يمنفصلين عن المجتمع‪،‬‬ ‫يمنفصلين عن جماهير الناس ل ُيحِدث أثرا في المجتمع‪ ،‬ول في‬ ‫‪-41-‬‬


‫الجماهير‪ ،‬يمهما تكن قوة هؤل ء الفراد‪ .‬وأن العلقات القائمة بين‬ ‫الناس إذا تأثرت بتأثير الفكار والمشاعر حدث التحول والنقلب‬ ‫يمهما يكن قليل م ً عدد الحايملين للدعوة‪ .‬ويدل على أن المجتمع‬ ‫حين يكون جايمدا على الكفر كمجتمع يمكة‪ ،‬يكون أكثر صعوبة يمن‬ ‫المجتمع الذي لم تتحكم فيه الرا ء الفالسدة كمجتمع المدينة‪ ،‬وإن‬ ‫كانت يموجودة فيه هذه الرا ء‪.‬‬ ‫ولذلك تأثر المجتمع في المدينة باللسلم أكثر يمن يمكة‪ ،‬فقد‬ ‫كان الناس في المدينة يشعرون بخطأ الفكار التي يحملونها‪،‬‬ ‫وكانوا يبحثون عن أفكار أخرى وعن نظام آخر لحياتهم‪ ،‬في حين‬ ‫أن يمجتمع يمكة كان يمرتاحا إلى يما هو عليه‪ ،‬حريصا على بقائه ل‬ ‫لسيما رؤوس الكفر أيمثال أبي لهب وأبي جهل وأبي لسفيان‪ .‬ولذلك‬ ‫يما لبث يمصعب في المدينة يمدة قصيرة حتى وجد القبال على‬ ‫الدعوة‪ ،‬فأقام يدعو الناس لللسلم ويثقفهم بأفكاره وأحكايمه‪،‬‬ ‫فيلمس اللستجابة السريعة‪ ،‬ويشاهد إقبال الناس على اللسلم‬ ‫سر كثيرا‪ ،‬ويرى ازدياد عدد‬ ‫وإقبالهم على تفهم أحكايمه‪ ،‬ف ُي لَ‬ ‫المسلمين‪ ،‬وازدياد اللسلم بالمدينة‪ ،‬فيغتبط لذلك ويزداد نشاطا‬ ‫في التعليم وبث الدعوة‪.‬‬ ‫حتى إذا أتى يمولسم الحج عاد إلى يمكة وقصمّ على رلسول‬ ‫ا عليه السلم خبر المسلمين وقمّوتهم‪ ،‬وأنبا ء اللسلم وازدياد‬ ‫انتشاره‪ ،‬وصمّور له المجتمع بالمدينة بأنه أصبح ل يتحدث إل مّ عن‬ ‫‪-42-‬‬


‫الرلسول‪ ،‬ول شي ء في أجوائه إل مّ اللسلم‪ ،‬وأن قوة المسلمين‬ ‫عتهم هناك لها يمن التأثير يما جعل اللسلم هو الذي له الغلبة‬ ‫و لَيم لَن لَ‬ ‫على كل شي ء‪ ،‬وأنه لسيحضر هذا العام بعض المسلمين‪ ،‬وهم‬ ‫أعظم إيمانا بالله‪ ،‬والستعدادا لحمل رلسالة ا‪ ،‬والدفا ع عن دين‬ ‫سمّر النبي صلى ا عليه ولسلم لخبار يمصعب كثيرا‪ ،‬وأخذ‬ ‫ا‪ .‬ف ُ‬ ‫ل‪ ،‬ويقاِرن بين يمجتمع يمكة ويمجتمع المدينة‪.‬‬ ‫يفكر في اليمر طوي م ً‬ ‫ن يمكة قد قضى يدعو فيها إلى ا اثني عشر عايما يمتتالية‪ ،‬لم‬ ‫فإ مّ‬ ‫يأل ُ جهدا بالدعوة‪ ،‬ولم يترك فرصة إل مّ بذل فيها كل يما يستطيع‬ ‫مل جميع صنوف الذى‪ ،‬ويمع ذلك فالمجتمع يمتحجر‪،‬‬ ‫يمن جهد‪ ،‬وتح مّ‬ ‫ل‪ ،‬نظرا ِلما في قلوب أهل يمكة يمن قسوة‪،‬‬ ‫ل تجد الدعوة إليه لسبي م ً‬ ‫ويما في نفولسهم يمن غلظة‪ ،‬ويما في عقولهم يمن جمود على‬ ‫القديم‪ .‬وبذلك كان يمجتمع يمكة قالسيا ضعيف القابلية للدعوة‪ِ ،‬لما‬ ‫تغلغل في نفوس أهله يمن وثنية الشرك التي كانت يمكة المركز‬ ‫الرئيسي لها‪.‬‬ ‫وأمّيما يمجتمع المدينة فقد كان يمرور لسنة على إلسلم نفر يمن‬ ‫ل‪ ،‬وجهود يمصعب بن عمير يمدة‬ ‫الخزرج‪ ،‬ثم بيعة اثني عشر رج م ً‬ ‫لسنة أخرى‪ ،‬كان ذلك كافيا ليجاد الجوا ء اللسليمية في المدينة‬ ‫ودخول الناس في دين ا بهذه السرعة المدهشة‪ .‬وإذا كانت‬ ‫يمكة قد وقفت فيها رلسالة ا عند حد الذين ألسلموا‪ ،‬يمع يما يلقي‬ ‫فيها المسلمون يمن أذى قريش ويمسا ءاتها‪ ،‬فإن المدينة قد بدأت‬ ‫‪-43-‬‬


‫فيها رلسالة ا تنتشر بهذه السرعة ول يجد المسلمون فيها يمن‬ ‫كن لللسلم في‬ ‫أذى اليهود ول أذى المشركين شيئا‪ ،‬وذلك يمما يم مّ‬ ‫النفوس‪ ،‬ويفتح الطريا ق أيمام المسلمين‪.‬‬ ‫ولهذا فقد تبين لرلسول ا أن المدينة أصلح يمن يمكة للدعوة‬ ‫إلى اللسلم‪ ،‬وأن يمجتمع المدينة فيه قابلية لن يكون يمن لَبثا ق نور‬ ‫اللسلم أكثر يمن يمكة‪ .‬ولهذا فكر أن يهاجر إليه‪ ،‬وأن يهاجر أصحابه‬ ‫إلى إخوانهم المسلمين‪ ،‬ليجدوا عندهم أيمنا ول لَيس لَلموا يمن أذى‬ ‫قريش‪ ،‬حتى يتفرغوا للدعوة وينتقلوا بها إلى يمرحلتها العملية أل‬ ‫وهي تطبيا ق اللسلم‪ ،‬وحمل رلسالته‪ ،‬بقوة الدولة ولسلطانها‪.‬‬ ‫وكان هو السبب للهجرة إليها ل غيره‪.‬‬ ‫ول بد يمن لفت النظر إلى أن الرلسول عليه السلم لم يفكر‬ ‫بالهجرة يمن يمكة لمجرد أن لقى صعوبات أيمام الدعوة‪ ،‬دون أن‬ ‫يصبر وأن يحاول التغلب على هذه الصعوبات‪ ،‬فإنه عليه السلم‬ ‫قد صبر عشر لسنين في يمكة‪ ،‬وهو ل يتحول فكره عنها‪ ،‬وكان‬ ‫عف‬ ‫يلقي الهوال في لسبيل الدعوة هو وأتباعه‪ ،‬ولم تض ِ‬ ‫يمسا ءات قريش يمن نفسه شيئا‪ ،‬ويما أوهنت يمقاويمتهم له عزيما‪ ،‬بل‬ ‫زاده اليمان بالدعوة التي جا ء بها يمن ربه لسموا‪ ،‬وزاده اليقين‬ ‫بنصر ا صلبة وثباتا‪ ،‬ولكنه صلى ا عليه ولسلم رأى بعد هذه‬ ‫التجارب يما عليه هذا المجتمع القالسي في يمكة يمن ضحالة أفكار‪،‬‬ ‫عف‬ ‫ويما فيه يمن غلظة أكباد‪ ،‬ويما هو عليه يمن ضللة‪ ،‬يمما يض ِ‬ ‫‪-44-‬‬


‫اليمل فيه‪ ،‬ويجعل الستمرار التجربة في دعوته جهدا ضائعا‪ ،‬ولذلك‬ ‫كان ل بد يمن التحول عن هذا المجتمع إلى غيره‪ .‬ففكر في‬ ‫الهجرة يمن يمكة‪ ،‬وكان هذا هو الذي حمله على التفكير بالهجرة‬ ‫إلى المدينة‪ ،‬وليس هو يما ناله ويما نال أصحابه يمن أذى‪.‬‬ ‫نعم إن الرلسول أيمر أصحابه بالهجرة إلى الحبشة فرارا يمن‬ ‫الذى؛ إذ يجوز للمؤيمنين أن يهاجروا عن يمواطن الفتنة فرارا‬ ‫بدينهم‪ ،‬لنه وإن كان الذى يذكي اليمان‪ ،‬والضطهاد يشعل‬ ‫الخلص‪ ،‬والمقاويمة ترهف العزائم‪ ،‬واليمان يحمل صاحبه على‬ ‫اللستهانة بكل شي ء‪ ،‬وعلى التضحية في لسبيله بالمال والجاه‬ ‫والراحة والحياة‪.‬‬ ‫نعم إنه وإن كان اليمان بالله يجعل المؤيمن يقمّدم نفسه عن‬ ‫طيب خاطر في لسبيل ا‪ .‬ولكن الستمرار الذى‪ ،‬ويمداويمة‬ ‫التضحية‪ ،‬تجعل المؤيمن يمشغول م ً بالصبر على الذى‪ ،‬وببذل‬ ‫التضحيات‪ ،‬عن دقة التأيمل التي تزيد أفا ق المؤيمن لسعة وإدراكه‬ ‫للحا ق قوة وعمقا‪ .‬ولذلك كان ل بد يمن هجرة المؤيمنين عن‬ ‫يمواطن الفتنة‪.‬‬ ‫غير أن هذا ينطبا ق على هجرة المسلمين إلى الحبشة‪ .‬أمّيما‬ ‫هجرتهم إلى المدينة فإنها كانت ليتمكنوا يمن النتقال برلسالتهم‬ ‫إلى وضع يجعلها حية في يمجتمعهم الجديد‪ ،‬يمندفعة في الكرة‬ ‫الرضية لعل ء كلمة ا‪ .‬ويمن هنا فكر الرلسول أن يأيمر أصحابه‬ ‫‪-45-‬‬


‫بالهجرة إلى المدينة‪ ،‬بعد أن دخلها اللسلم وانتشر فيها هذا‬ ‫النتشار‪ .‬وقبل أن يأيمرهم بالهجرة إلى يثرب‪ ،‬وقبل أن يقرر هو‬ ‫الهجرة إليها‪ ،‬ل بد أن يرى الحاج يمن المدينة‪ ،‬ويرى المسلمين‬ ‫الذين قِديموا للحج‪ ،‬ويرى يمبلغ الستعدادهم لحماية الدعوة‪ ،‬ويمبلغ‬ ‫الستعدادهم للتضحية في لسبيل اللسلم‪ ،‬ويرى أكانوا ُيقِديمون على‬ ‫بيعته بيعة حربية‪ ،‬بيعة قتال تكون الحجر اللسالسي لقايمة الدولة‬ ‫اللسليمية‪.‬‬ ‫وانتظر قدوم الحاج‪ ،‬وكان ذلك في السمّنة الثانية عشرة للبعثة‬ ‫الموافا ق لسنة ‪ 622‬يميلدية‪ ،‬وكان الحاج كثيرين بالفعل‪ ،‬وكان‬ ‫بينهم خمسة ولسبعون يمسلما‪ ،‬يمنهم ثلثة ولسبعون رجل م ً وايمرأتان‬ ‫هما نسيبة بنت كعب أم عمارة إحدى نسا ء بني يمازن بن النجار‪،‬‬ ‫وألسما ء بنت عمرو بن عدي إحدى نسا ء بني لسلمة وهي أم يمنيع‪،‬‬ ‫فاتصل بهم الرلسول لسرا‪ ،‬وتحدث إليهم في بيعة ثانية ل تقف عند‬ ‫حد الدعوة فحسب والصبر على الذى‪ ،‬بل تتجاوز ذلك وتمتد إلى‬ ‫يما يكون به قوة يدفع بها المسلمون عن أنفسهم‪ ،‬بل تمتد إلى يما‬ ‫هو أبعد يمن ذلك أيضا إلى إيجاد النواة التي تكون حجر الزاوية‬ ‫والدعايمة الولى في إقايمة دولة اللسلم‪ ،‬التي تطبقه في‬ ‫المجتمع‪ ،‬وتحمله رلسالة عالمية إلى الناس كافة‪ ،‬وتحمل يمعه‬ ‫القوة التي تحميه‪ ،‬وتزيل يمن طريقه كل حاجز يمادي يقف في‬ ‫حسن‬ ‫لسبيل نشره وتطبيقه‪ .‬تحدث إليهم في ذلك‪ ،‬وعرف ُ‬ ‫‪-46-‬‬


‫الستعدادهم‪ ،‬فواعدهم أن يلتقوا يمعه عند العقبة جوف الليل‪ ،‬في‬ ‫أوالسط أيام التشريا ق‪ .‬وقال لهم ‪ :‬ل توقظوا نائما‪ ،‬ول تنتظروا‬ ‫غائبا‪.‬‬ ‫وفي يوم يموعدهم المعين‪ ،‬وبعد يمضي الثلث الول يمن‬ ‫الليل‪ ،‬خرجوا يمن رحالهم يتسللون يمستخفين‪ ،‬يمخافة أن ينكشف‬ ‫أيمرهم‪ ،‬وذهبوا للعقبة وتسلقوا الجبل جميعا‪ ،‬وتسلقت يمعهم‬ ‫المرأتان‪ ،‬وأقايموا ينتظرون الرلسول عليه السلم‪ ،‬فأقبل ويمعه عمه‬ ‫العباس‪ ،‬ولم يكن قد ألسلم حينئذ‪ ،‬وإمّنما جا ء ليستوثا ق لبن أخيه‪.‬‬ ‫وكان أول يمن تكلم )فقال ‪ :‬يا يمعشر الخزرج إن يمحمدا يمنا حيث‬ ‫قد علمتم‪ ،‬وقد يمنعناه يمن قويمنا يممن هو على يمثل رأينا فيه‪ ،‬وهو‬ ‫في عمّز يمن قويمه‪ ،‬ويمنعة في بلده‪ ،‬وقد أبى إل مّ النحياز إليكم‪،‬‬ ‫واللحوق بكم‪ ،‬فإن كنتم ترون أنكم وافون له فيما دعوتموه إليه‪،‬‬ ‫ويمانعوه يممن خالفه‪ ،‬فأنتم ويما تحملتم يمن ذلك‪ .‬وإن كنتم‬ ‫ما‬ ‫يمسلميه وخاذليه بعد خروجه إليكم‪ ،‬فمن الن فدعوه(‪ .‬فل مّ‬ ‫لسمعوا كلم العباس قالوا له ‪ :‬لسمعنا يما قلت‪ .‬ثم قالوا ‪ :‬تكلم يا‬ ‫رلسول ا‪ ،‬فخذ لنفسك ولربك يما أحببت‪ .‬فأجاب الرلسول بعد أن‬ ‫غب في اللسلم }أبايعكم على أن تمنعوني يمما‬ ‫تل القرآن‪ ،‬ور مّ‬ ‫تمنعون يمنه نسا ءكم وأبنا ءكم‪ .{،‬فممّد البرا ء لمبايعته على ذلك‬ ‫وقال ‪ :‬بايعنا يا رلسول ا‪ ،‬فنحن وا أبنا ء الحروب وأهل الحلقة‪،‬‬ ‫ورثناها كابرا عن كابر‪ .‬وقبل أن ُيِتم البرا ء كليمه‪ ،‬اعترضه أبو‬ ‫‪-47-‬‬


‫ل ‪ :‬يا رلسول ا إن بيننا وبين الرجال ‪-‬أي‬ ‫الهيثم بن التيهان قائ م ً‬ ‫ت إن نحن فعلنا‬ ‫اليهود‪ -‬حبال م ً )عهودا( نحن قاطعوها‪ ،‬فهل عسي لَ‬ ‫سم الرلسول‬ ‫عنا؟ فتب مّ‬ ‫ذلك‪ ،‬ثم أظهرك ا أن ترجع إلى قويمك و لَت لَد لَ‬ ‫وقال ‪ :‬بل الدم الدم‪ ،‬والهدم الهدم‪ .‬أنتم يمني وأنا يمنكم‪ .‬أحارب‬ ‫م القوم بالبيعة‪ ،‬فاعترضهم‬ ‫يمن حاربتم‪ ،‬وألسالم يمن لسالمتم‪ .‬وه مّ‬ ‫م تبايعون‬ ‫ل ‪ :‬يا يمعشر الخزرج‪ ،‬أتعلمون عل لَ‬ ‫العباس بن عبادة قائ م ً‬ ‫هذا الرجل؟ إنكم تبايعونه على حرب الحمر واللسود يمن الناس‪،‬‬ ‫ل‪،‬‬ ‫كت أيموالكم يمصيبة‪ ،‬وأشرافكم قت م ً‬ ‫فإن كنتم ترون أنكم إذا لَن لَه لَ‬ ‫ألسلمتموه‪ ،‬فمن الن فدعوه‪ ،‬فهو وا إن فعلتم خزي الدنيا‬ ‫والخرة‪ ،‬وإن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه‪ ،‬على‬ ‫نهكة اليموال وقتل الشراف‪ ،‬فخذوه فهو وا خير الدنيا والخرة‪.‬‬ ‫فأجاب القوم إنا نأخذه على يمصيبة اليموال‪ ،‬وقتل الشراف‪ ،‬ثم‬ ‫قالوا ‪ :‬فما لنا يا رلسول ا إن نحن وفينا بذلك‪ .‬فرد عليهم الرلسول‬ ‫ل ‪ :‬الجنة‪.‬‬ ‫يمطمئن النفس قائ م ً‬ ‫ويمدوا إليه أيديهم‪ ،‬فبسط يده‪ ،‬فبايعوه قائلين ‪} :‬بايعنا على‬ ‫عسرنا‪ ،‬و ُيسرنا‪ ،‬و لَيمنشطنا‪ ،‬و لَيمكرهنا‪ ،‬وأن‬ ‫السمع والطاعة في ُ‬ ‫ما فرغوا‬ ‫نقول الحا ق أينما كان‪ ،‬ل نخاف في ا لويمة لئم‪ .{،‬فل مّ‬ ‫ي يمنكم اثني عشر نقيبا‪ ،‬يكونون على قويمهم‬ ‫قال النبي ‪ :‬أخِرجوا إل مّ‬ ‫بما فيهم كفل ء‪ .‬فاختار القوم تسعة يمن الخزرج وثلثة يمن‬ ‫الوس‪ ،‬فقال النبي لهؤل ء النقبا ء ‪ :‬أنتم على قويمكم بما فيهم‬ ‫‪-48-‬‬


‫كفل ء‪ ،‬ككفالة الحواريين لعيسى ابن يمريم‪ ،‬وأنا كفيل على قويمي‪.‬‬ ‫ثم رجعوا إلى يمضاجعهم‪ ،‬ثم احتملوا رحالهم وعادوا إلى المدينة‪.‬‬ ‫وبعد ذلك أيمر الرلسول صلى ا عليه ولسلم المسلمين أن‬ ‫يهاجروا إلى المدينة‪ ،‬وأن يخرجوا يمتفرقين‪ ،‬وبدأ المسلمون‬ ‫ل‪ ،‬وكانت قريش قد علمت في أيمر‬ ‫يهاجرون فرادى‪ ،‬أو نفرا قلي م ً‬ ‫البيعة‪ ،‬لذلك حاولت أن ت ُرد يمن تستطيع رده إلى يمكة‪ ،‬وكانت‬ ‫حول بين الزوج‬ ‫حول بين المسلمين والهجرة‪ ،‬حتى كانت ت ُ‬ ‫ت ُ‬ ‫والزوجة‪.‬‬ ‫إل مّ أن ذلك لم يؤثر على الهجرة‪ ،‬فتتابعت هجرة المسلمين‬ ‫إلى المدينة والرلسول يمقيم في يمكة‪ ،‬ول يعرف أحد هل اعتزم أن‬ ‫يهاجر إلى المدينة أم قرر القايمة في يمكة؟ ولكن الذي كان يظهر‬ ‫أنه يريد الهجرة إلى المدينة‪ .‬فقد الستأذنه أبو بكر أن يهاجر إلى‬ ‫المدينة فقال ‪ :‬ل تعجل لعل ا يجعل لك صاحبا‪ .‬فعرف أبو بكر‬ ‫أنه يريد الهجرة‪.‬‬ ‫وكانت قريش تحسب لهجرة النبي إلى المدينة ألف حساب‬ ‫بعد أن كثر المسلمون هناك كثرة جعلتهم أصحاب اليد العليا في‬ ‫المدينة‪ ،‬وجعلتهم يمع الذين يهاجرون يمن يمكة قوة كبيرة‪ ،‬فإذا‬ ‫لحا ق بهم النبي وهم في هذه القوة‪ ،‬كان في ذلك الويل والديمار‬ ‫لهم‪.‬‬ ‫ولهذا فكروا في يمنع الرلسول يمن الهجرة إلى المدينة‪.‬‬ ‫‪-49-‬‬


‫وخافوا في نفس الوقت يمن بقائه في يمكة أن يتعرضوا لذى‬ ‫المسلمين في المدينة حين تشتد شوكتهم‪ ،‬بعد أن صاروا بهذه‬ ‫القوة‪ ،‬فيأتون إلى يمكة ليدافعوا عن رلسول ا الذي آيمنوا به‪.‬‬ ‫لذلك فكروا في قتله حتى ل يلحا ق بالمسلمين في المدينة وحتى‬ ‫ل يكون هنالك يما يسبب اشتباكهم يمع أهل المدينة يمن أجل‬ ‫اللسلم ويمن أجل يمحمد‪.‬‬ ‫وقد جا ء في كتب السيرة أنه قد ورد في حديث عائشة وأبي‬ ‫ما صدر السبعون يمن عنده صلى ا عليه ولسلم‪،‬‬ ‫أيمايمة بن لسهم ‪ :‬ل مّ‬ ‫طابت نفسه وقد جعل ا له يمنعة أهل حرب ونجدة‪ .‬وجعل‬ ‫البل ء يشتد على المسلمين يمن المشركين ِلما ُيعلنون يمن الخروج‪،‬‬ ‫فضمّيقوا على أصحابه وأتعبوهم ونالوا يمنهم يما لم يكونوا ينالون‬ ‫يمن الشتم والذى‪ ،‬فشكوا للنبي صلى ا عليه ولسلم‪ ،‬فقال ‪ :‬قد‬ ‫ت دار هجرتكم لسبخة‪ .‬ثم يمكث أيايما‪ ،‬ثم خرج يمسرورا فقال ‪:‬‬ ‫ ُأري ُ‬ ‫ت بدار هجرتكم وهي يثرب‪ ،‬فمن أراد يمنكم أن يخرج‬ ‫قد ُأخبر ُ‬ ‫فليخرج إليها‪ .‬فجعلوا يتجهزون ويترافقون ويتواصون ويخرجون‬ ‫ويخفون ذلك‪ ،‬وقد خرجوا أرلسال م ً ‪-‬أي أقوايما وفرقا يمتقطعة‪-‬‬ ‫وأقام صلى ا عليه ولسلم بمكة ينتظر أن يؤذن له في الخروج‪،‬‬ ‫وكان الصديا ق كثيرا يما يستأذن رلسول ا في الهجرة إلى المدينة‬ ‫بعد أن صار المسلمون يهاجرون إليها‪ ،‬فيقول ‪ :‬ل تعجل‪ ،‬لعل ا‬ ‫أن يجعل لك صاحبا‪ .‬فيطمع أبو بكر أن يكون هو‪.‬‬ ‫‪-50-‬‬


‫ما رأت قريش هجرة الصحابة‪ ،‬وعرفوا أنه أجمع لحربهم‪،‬‬ ‫ول مّ‬ ‫اجتمعوا في دار الندوة يتشاورون فيما يصنعون في أيمره عليه‬ ‫الصلة والسلم‪ ،‬فأجمع رأيهم على قتله‪ ،‬وتفرقوا على ذلك‪ .‬ثم‬ ‫أتى جبريل النبي فأيمره أن ل يبيت في يمضجعه الذي كان يبيت‬ ‫فيه‪ ،‬وأخبره بمكر القوم‪ ،‬فلم لَيِبت في بيته تلك الليلة‪ ،‬وأِذن ا عند‬ ‫ذلك له بالخروج‪.‬‬ ‫وعلى ذلك فإن وجود القوة اللسليمية في المدينة‪ ،‬والستعداد‬ ‫المدينة لتلقي الرلسول وإقايمة الدولة اللسليمية فيها‪ ،‬هو الذي‬ ‫حمل الرلسول عليه السلم على الهجرة‪ ،‬وهذا هو السبب المباشر‬ ‫للهجرة‪ .‬ولهذا يخطئ كل يمن يظن بأن يمحمدا عليه السلم قد‬ ‫هاجر يمن يمكة خوفا يمن قريش أن تقتله‪ ،‬وفرارا يمنها‪ .‬فإنه عليه‬ ‫السلم لم يكن يحسب للذى أي حساب‪ ،‬ولم يكن للموت في‬ ‫نظره أي اعتبار في لسبيل الدعوة إلى اللسلم‪ ،‬ولم تكن تشغله‬ ‫نفسه ول حياته‪ ،‬ويما كانت هجرته للمدينة إل مّ للدعوة اللسليمية‪،‬‬ ‫ولقايمة الدولة اللسليمية‪ .‬وإمّنما ائتمرت قريش بقتله يمخافة هجرته‬ ‫إلى المدينة‪ ،‬واعتزازه بها‪ .‬ولكنه عليه السلم انتصر عليها‪ ،‬وهاجر‬ ‫إلى المدينة رغم أنفها‪ ،‬ولم تستطع يمنعه رغم ائتمارها به‪ .‬فكانت‬ ‫الهجرة الحد الفاصل في اللسلم بين ديْور الدعوة له‪ ،‬وبين إيجاده‬ ‫معا ودولة تحكم به‪ ،‬وتطبقه‪ ،‬وتدعو له بالحجة والبرهان‪،‬‬ ‫يمجت لَ‬ ‫وبالقوة التي تحمي هذه الدعوة يمن قوى الشر والطغيان‪.‬‬ ‫‪-51-‬‬


‫قيام الدولة اللسليمية‬ ‫وصل النبي صلى ا عليه ولسلم المدينة والستقبله عدد كبير‬ ‫يمن أهلها‪ ،‬يمن المسلمين والمشركين واليهود‪ ،‬وأحاط به‬ ‫المسلمون‪ .‬وكان الجميع حريصين على الستجل ء طلعته‪ ،‬وكان‬ ‫المسلمون حريصين على خديمته وراحته‪ ،‬حريصين على أن يقمّديموا‬ ‫نفولسهم في لسبيله‪ ،‬وفي لسبيل الدين الذي جا ء به‪ ،‬وفي لسبيل‬ ‫الدعوة اللسليمية‪ .‬وكان كل يمنهم حريصا على أن ينزل النبي‬ ‫عنده‪ ،‬لكنه عليه الصلة والسلم ألقى بخطام ناقته على غاربها‬ ‫إلى أن بركت على يمربد لسهل ولسهيل ابني عمرو‪ ،‬فابتاعه وأقام‬ ‫عليه يمسجده وأقام حوله يمساكنه‪ .‬ويما كان بنا ء المسجد ول بنا ء‬ ‫المساكن ليرها ق أحدا‪ ،‬فقد كانت كلها يمن البساطة بحيث ل تحتاج‬ ‫إلى نفقة طائلة ول إلى جهد كبير‪ .‬كان المسجد فنا ء فسيحا ُبنيت‬ ‫لسقف جز ء يمنه بسعف النخل‬ ‫جدرانه الربعة يمن الجر والتراب‪ ،‬و ُ‬ ‫خصصت إحدى نواحيه ليوا ء‬ ‫و ُترك الجز ء الخر يمكشوفا‪ ،‬و ُ‬ ‫الفقرا ء الذين لم يكونوا يملكون يمسكنا‪ .‬ولم يكن المسجد يضا ء‬ ‫ليل م ً إل مّ لساعة صلة العشا ء‪ ،‬إذ تو لَقد فيه أنوار يمن القش أثنا ءها‪.‬‬ ‫ولم تكن يمساكن النبي بأكثر يمن المسجد بنا ء لسوى أنها كانت أكثر‬ ‫يمنه الستنارة‪.‬‬ ‫وقد يمكث صلى ا عليه ولسلم في بيت أبي أيوب خالد بن‬ ‫زيد النصاري أثنا ء بنا ء المسجد والمساكن حتى انتهى يمن بنائها‪،‬‬ ‫‪-52-‬‬


‫فانتقل إليها والستقر عليه الصلة والسلم‪ ،‬وأخذ يفكر في هذه‬ ‫الحياة الجديدة التي الستفتحها‪ ،‬والتي نقلته ونقلت دعوته خطوة‬ ‫والسعة يمن ديْور إلى ديْور‪ ،‬نقلتها يمن دور التثقيف ويمن دور التفاعل‬ ‫إلى دور تطبيا ق أحكام اللسلم على الناس في علقاتهم‪ ،‬نقلتها‬ ‫يمن دور الدعوة فحسب والصبر على الذى في لسبيلها‪ ،‬إلى دور‬ ‫الحكم والسلطان والقوة التي تحمي هذه الدعوة‪.‬‬ ‫فالرلسول صلى ا عليه ولسلم يمنذ وصل المدينة أيمر ببنا ء‬ ‫المسجد يمكانا للصلة وللجتما ع وللتشاور ولدارة شؤون‬ ‫المسلمين والقضا ء بينهم‪ ،‬واتخذ أبا بكر وعمر وزيرين له‪ ،‬قال‬ ‫عليه الصلة والسلم ‪} :‬وزيراي في الرض أبو بكر وعمر‪ ،{،‬والت مّ‬ ‫ف‬ ‫المسلمون حوله وصارون يرجعون إليه‪ ،‬فكان يقوم بأعمال رئيس‬ ‫الدولة والقاضي وقائد الجيش‪ ،‬وكان صلى ا عليه ولسلم يرعى‬ ‫شؤون المسلمين‪ ،‬ويفصل الخصويمات بينهم‪ ،‬وأخذ يؤِّيمر على‬ ‫السرايا ُقمّوادا‪ ،‬ويرلسل السرايا خارج المدينة‪ .‬وبذلك أقام الدولة‬ ‫في المدينة يمن أول يوم أقام فيها‪ ،‬وأخذ يركز هذه الدولة ببنا ء‬ ‫المجتمع على ألساس ثابت‪ ،‬وتهيئة القوة الكافية لحماية الدولة‬ ‫ونشر الدعوة‪ .‬وبعد أن اطمأن لذلك كله بدأ يزيل الحواجز المادية‬ ‫التي تقف في لسبيل نشر اللسلم‪.‬‬ ‫بنا ء المجتمع‬ ‫‪-53-‬‬


‫فطر ا في النسان غريزة البقا ء‪ ،‬وكان يمن يمظاهرها‬ ‫تجمع النسان يمع النسان‪ ،‬لذلك كان اجتما ع الناس يمع بعضهم‬ ‫طبيعيا‪ ،‬وكان التجمع بينهم أيمرا غريزيا‪ .‬إل مّ أن يمجرد اجتما ع الناس‬ ‫ببعضهم ل يجعل يمنهم يمجتمعا وإمّنما يجعل يمنهم جماعة‪ ،‬ويبقون‬ ‫جماعة فقط إذا اقتصروا على يمجرد الجتما ع‪ ،‬فإذا نشأت بينهم‬ ‫علقات لجلب المصالح لهم ودفع المفالسد عنهم‪ ،‬جعلت هذه‬ ‫العلقات يمن هذه الجماعة يمجتمعا‪.‬‬ ‫غير أن هذه العلقات ل تجعل يمنهم يمجتمعا واحدا إل مّ إذا‬ ‫حد‬ ‫توحدت نظرتهم إلى هذه العلقات بتوحيد أفكارهم‪ ،‬وتو ُّ‬ ‫رضاهم عنها ولسخطهم يمنها بتوحيد يمشاعرهم‪ ،‬وتوحدت‬ ‫يمعالجاتهم لهذه العلقات بتوحيد النظام الذي يعالجها‪ .‬ولذلك كان‬ ‫ل بد يمن النظرة إلى الفكار والمشاعر والنظمة حين النظر‬ ‫للمجتمع؛ لنها هي التي تجعله يمجتمعا يمعينا له لون يمعين‪ .‬وعلى‬ ‫هذا اللساس ننظر إلى المجتمع في المدينة حين لَقِديمها الرلسول‬ ‫صلى ا عليه ولسلم لنعرف يماهيته‪.‬‬ ‫كانت تسكن المدينة حينئذ ثلث جماعات ‪ :‬أولها المسلمون‬ ‫يمن يمهاجرين وأنصار‪ ،‬وكانوا الكثرة الغالبة فيها‪ .‬وثانيتها‬ ‫المشركون يمن لسائر الوس والخزرج الذين لم ُيسلموا‪ ،‬وكانوا قلة‬ ‫بين أهلها‪ .‬وثالثتها اليهود وهم أربعة أقسام ‪ :‬قسم يمنهم في داخل‬ ‫المدينة‪ ،‬وثلثة أقسام خارجها‪ .‬أمّيما الذين في داخل المدينة فهم‬ ‫‪-54-‬‬


‫بنو قينقا ع‪ ،‬وأمّيما الذين خارجها فهم بنو النضير‪ ،‬ويهود خيبر‪ ،‬وبنو‬ ‫قريظة‪.‬‬ ‫وقد كان اليهود قبل اللسلم يمجتمعا يمنفصل م ً عن المجتمع‬ ‫في المدينة‪ ،‬فأفكارهم يمتباينة‪ ،‬ويمشاعرهم يمتباينة‪ ،‬والمعا لَلجات‬ ‫التي يحمّلون بها يمشاكلهم يمتباينة؛ ولذلك ل يعتبر اليهود جز ءا يمن‬ ‫المجتمع في المدينة‪ ،‬وإن كانوا داخلها وعلى يمقربة يمنها‪.‬‬ ‫وأمّيما المشركون فقد كانوا قلة‪ ،‬وكانت الجوا ء اللسليمية التي‬ ‫اكتسحت المدينة قد اجتاحتهم‪ ،‬ولذلك كان خضوغهم في علقاتهم‬ ‫للفكار اللسليمية وللمشاعر اللسليمية ولنظام اللسلم أيمرا حتميا‪،‬‬ ‫حتى ولو لم يعتنقوا اللسلم‪.‬‬ ‫وأمّيما المهاجرون والنصار فقد جمعتهم العقيدة اللسليمية‬ ‫وأمّلف اللسلم بينهم‪ ،‬ولهذا كانت أفكارهم واحدة ويمشاعرهم‬ ‫واحدة‪ ،‬فكان تنظيم علقاتهم باللسلم أيمرا بديهيا‪ ،‬ولذلك بدأ‬ ‫الرلسول صلى ا عليه ولسلم يقيم العلقات بينهم على ألساس‬ ‫العقيدة اللسليمية‪ ،‬ودعاهم ليتآخوا في ا أخويْين أخويْين‪ ،‬أخمّوة‬ ‫يكون لها الثر الملموس في يمعايملتهم وأيموالهم ولسائر شؤونهم‪،‬‬ ‫فآخي بين المسلمين‪ ،‬فكان هو وعلي بن أبي طالب أخويْين‪،‬‬ ‫وكان عمه حمزة ويموله زيد أخويْين‪ ،‬وكان أبو بكر وخارجة بن زيد‬ ‫أخويْين‪ ،‬وآخى بين المهاجرين والنصار‪ ،‬فكان عمر بن الخطاب‬ ‫وعتبان بن يمالك الخزرجي أخويْين‪ ،‬وكان طلحة بن عبيدا وأبو‬ ‫‪-55-‬‬


‫أيوب النصاري أخويْين‪ ،‬وكان عبدالرحمن بن عوف ولسعد بن‬ ‫الربيع أخويْين‪.‬‬ ‫وكان لهذه الخمّوة أثر في الناحية المادية‪ ،‬فقد أظهر النصار‬ ‫يمن الكرم لخوانهم المهاجرين يما يزيد هذه الخمّوة قوة وتوكيدا‪،‬‬ ‫فقد أعطوهم اليموال والرزاق‪ ،‬وشاركوهم في حاجات الدنيا‪،‬‬ ‫وقد اتجه التجار للتجارة‪ ،‬وال ُزمّرا ع للزراعة‪ ،‬وكلمّ إلى عمله‪.‬‬ ‫أمّيما التجار فقد أخذوا يشتغلون بالتجارة‪ ،‬فقد بدأ عبدالرحمن‬ ‫بن عوف يبيع الزبدة والجبن‪ .‬وصنع كثي ٌر غير عبدالرحمن صنيعه‪،‬‬ ‫وأيْثروا يمن تجاربتهم؛ إذ كانوا على دراية في شؤون التجارة‪.‬‬ ‫أمّيما الذين لم يشتغلوا بالتجارة ويمن بينهم أبو بكر وعمر‬ ‫وعلي بن أبي طالب وغيرهم فقد عملت ألسرهم بالزراعة في‬ ‫الراضي التي يمنحهم إياها النصار‪ ،‬قال عليه الصلة والسلم ‪:‬‬ ‫}يمن كانت له أرض فليزرعها أو ليمنحها أخاه‪ .{،‬وصاروا جميعا‬ ‫يعلمون لكسب ُقوتهم‪.‬‬ ‫وكانت هنالك جماعة صغيرة لم يكن لديها يمال ولم تجد‬ ‫ع لَوز‬ ‫عمل م ً تعمله‪ ،‬وليس لها يمسكن تسكنه‪ ،‬وكانوا في حال يمن ال لَ‬ ‫والمتربة‪ ،‬ولم يكن هؤل ء يمن المهاجرين ول يمن النصار‪ ،‬وإمّنما‬ ‫عِني بهم الرلسول صلى‬ ‫كانوا عربا وفدوا على المدينة وألسلموا‪ ،‬ف ُ‬ ‫صمّفة المسجد )القسم المسقوف يمنه(‬ ‫ا عليه ولسلم وأفرد لهم ُ‬ ‫صمّفة‪ ،‬وجعل لهم رزقا‬ ‫لسموا أهل ال ُ‬ ‫يبيتون بها ويأوون إليها‪ ،‬ولذلك ُ‬ ‫‪-56-‬‬


‫يمن يمال المسلمين يمن المهاجرين والنصار الذين آتاهم ا رزقا‬ ‫حسنا‪.‬‬ ‫وبذلك انتهى الرلسول صلى ا عليه ولسلم يمن تركيز‬ ‫المسلمين جميعا على حال يمستقرة‪ ،‬ويمن تركيز العلقات القائمة‬ ‫بينهم على ألساس يمتين‪ .‬ولهذا أقام الرلسول المجتمع في المدينة‬ ‫على ألساس ثابت وقف في وجه الكفر‪ ،‬وصمد لدلسائس اليهود‬ ‫والمنافقين‪ ،‬وظل وحدة واحدة‪ .‬فاطمأن الرلسول صلى ا عليه‬ ‫ولسلم إلى هذا المجتمع وإلى هذه الوحدة‪.‬‬ ‫أمّيما المشركون فقد خضعوا للحكم اللسليمي ثم تلشى‬ ‫وجودهم‪ .‬ولذلك لم يكن لهم أثر في تكوين المجتمع‪ .‬وأمّيما اليهود‬ ‫فإنهم يمجتمع آخر قبل اللسلم‪ .‬وبعد اللسلم ازداد التباين بين‬ ‫يمجتمعهم وبين المجتمع اللسليمي‪ ،‬وبينهم وبين المسلمين‪ ،‬وكان‬ ‫ل بد يمن وضع العلقات بينهم وبين المسلمين على ألساس يمعين‪،‬‬ ‫ولذلك حدد الرلسول يموقف المسلمين يمنهم‪ ،‬وحدد لهم هو يما‬ ‫يجب أن يكون عليه وضعهم في علقاتهم يمع المسلمين‪.‬‬ ‫فقد كتب صلى ا عليه ولسلم بين المهاجرين والنصار كتابا‬ ‫حددت‬ ‫ذكر فيه اليهود واشترط عليهم شروطا‪ ،‬فكان الكتاب يمنهاجا ُ‬ ‫حددت علقات‬ ‫فيه علقات قبائل اليهود يمع المسلمين بعد أن ُ‬ ‫عهم‪ .‬وقد افتتح الكتاب بقوله ‪ :‬هذا‬ ‫المسلمين ببعضهم وبمن لَتِب لَ‬ ‫كتاب يمن يمحمد النبي بين المؤيمنين المسلمين يمن قريش ويثرب‬ ‫‪-57-‬‬


‫عهم فلحا ق بهم وجاهد يمعهم‪ ،‬أنهم أمّيمة واحدة يمن دون‬ ‫ويمن لَتِب لَ‬ ‫الناس‪ ،‬ثم لَذ لَكر يما يجب أن تكون عليه العلقات بين المؤيمنين‪.‬‬ ‫ع لَرضا أثنا ء الحديث عن علقات المؤيمنين‪ ،‬فقال ‪} :‬ول‬ ‫و لَذ لَكر اليهود لَ‬ ‫ لَيقتل يمؤيمن يمؤيمنا في كافر‪ ،‬ول ينصر كافرا على يمؤيمن‪ ،‬وأن ذيمة‬ ‫ا واحدة‪ُ ،‬يجير عليهم أدناهم‪ ،‬وأن المؤيمنين بعضهم يموالي‬ ‫عنا يمن يهود فلهم ال ُنصرة واللسوة‪،‬‬ ‫بعض دون الناس‪ ،‬وأنه يمن لَتِب لَ‬ ‫لسيْلم المؤيمنين واحدة‪ ،‬ل‬ ‫ن ِ‬ ‫صر عليهم‪ ،‬وأ مّ‬ ‫غير يمظلويمين ول يمتنا لَ‬ ‫يساِلم يمؤيمن دون يمؤيمن في قتال في لسبيل ا إل مّ على لسوا ء‬ ‫وعدل بينهم‪ .{،‬وليس المقصود يمن اليهود المذكورين هنا في هذا‬ ‫النص هم قبائل اليهود المجاورة‪ ،‬بل المراد كل يمن أراد أن يكون‬ ‫يمن رعية الدولة اللسليمية بايعا لها‪ ،‬يكون له النصر وتكون له‬ ‫المساواة في المعايملة يمع المسلمين؛ إذ يكون حينئذ ذيميا‪.‬‬ ‫وأمّيما قبائل اليهود الذين شملهم الكتاب فقد ُذكروا بألسما ء‬ ‫قبائلهم في القسم الخير يمن الكتاب‪ ،‬بعد أن انتهى الحديث عن‬ ‫علقات المؤيمنين‪ .‬فقد ذكر يهود بني عوف ويهود بني النجار‪ ..‬الخ‬ ‫يما ذكر‪ ،‬وحدد وضعهم في علقاتهم بالدولة اللسليمية فيما ذكره‬ ‫يمن شروط‪ .‬وقد جا ء في نصوص الكتاب يما يدل صراحة على أن‬ ‫العلقة بين اليهود وبين المسلمين ُوضعت على ألساس الحتكام‬ ‫علها خاضعة لسلطان اللسلم‪،‬‬ ‫إلى اللسلم‪ ،‬وعلى ألساس ج يْ‬ ‫وعلى ألساس تقمّيد اليهود بما تستلزيمه يمصلحة الدولة اللسليمية‪.‬‬ ‫‪-58-‬‬


‫فقد جا ء في نصوص الكتاب عدة نقاط تدل على ذلك‪ ،‬يمنها ‪:‬‬ ‫‪-1‬‬

‫وأن بطانة يهود كأنفسهم‪ ،‬وأنه ل يخرج يمنهم أحد إل مّ بإذن‬

‫يمحمد‪.‬‬ ‫‪-2‬‬

‫وأن يثرب حرام جوفها لهل هذه الصحيفة‪.‬‬

‫‪-3‬‬

‫وأنه يما كان بين أهل هذه الصحيفة يمن حدث واشتجار‬

‫ن يمرمّده إلى ا وإلى يمحمد رلسول ا‪.‬‬ ‫ ُيخاف فساده‪ ،‬فإ مّ‬ ‫‪-4‬‬

‫وأنه ل ُتجار قريش ول يمن نصرها‪.‬‬ ‫وهكذا حدد كتاب الرلسول صلى ا عليه ولسلم وضع القبائل‬

‫ش لَرط عليهم أل لَيخرجوا يمن المدينة‬ ‫المجاورة للمدينة يمن اليهود‪ ،‬ف لَ‬ ‫إل مّ بإذن الرلسول‪ ،‬أي بإذن الدولة‪ ،‬وأنه يحرم عليهم انتهاك حريمة‬ ‫المدينة بحرب أو نصرة على حرب‪ ،‬وأنه يحرم عليهم أن يجيروا‬ ‫قريشا ول يمن نصر قريشا‪ ،‬وأن أي خلف بينهم على يما ورد في‬ ‫الكتاب يحكم فيه رلسول ا‪.‬‬ ‫وقد وافا ق على يما في هذا الكتاب ووقعه يمن اليهود يمن‬ ‫ ُذكروا فيه وهم يهود بني عوف‪ ،‬ويهود بني النجار‪ ،‬ويهود بني‬ ‫الحارث‪ ،‬ويهود بني لساعدة‪ ،‬ويهود بني جشم‪ ،‬ويهود بني الوس‪،‬‬ ‫ويهود بني ثعلبة‪ .‬ولم يشترك في توقيع هذه الصحيفة أو هذا‬ ‫الكتاب يمن اليهود بنو قريظة وبنو النضير وبنو قينقا ع‪ ،‬إل مّ أنهم يما‬ ‫لبثوا بعد قليل أن ومّقعوا بينهم وبين النبي صحفا يمثل هذه‬ ‫الصحيفة‪ ،‬وخضعوا لنفس الشروط المذكورة في هذه الصحيفة‪.‬‬ ‫‪-59-‬‬


‫وبتوقيع هذه الصحف رمّكز الرلسول صلى ا عليه ولسلم‬ ‫العلقات في الدولة اللسليمية الناشئة على وضع ثابت اللساس‪،‬‬ ‫ورمّكز العلقات بين هذه الدولة وبين القبائل اليهودية المجاورة‬ ‫كم‪ ،‬فاطمأن الرلسول‬ ‫ح لَ‬ ‫على ألسس واضحة يكون اللسلم فيها ال لَ‬ ‫إلى بنا ء المجتمع اللسليمي وأيمن إلى حد يما غدر جيرانه اليهود‬ ‫ويمحاربتهم‪ ،‬وبدأ يعمل لزالة الحواجز المادية يمن طريا ق الدعوة‬ ‫اللسليمية بالتهيئة للقتال‪.‬‬ ‫تهيئة أجوا ء القتال‬ ‫بعد أن اطمأن النبي صلى ا عليه ولسلم إلى بنا ء المجتمع‪،‬‬ ‫وبعد أن عقد المعاهدات يمع جيرانه اليهود‪ ،‬بدأ يهيئ أجوا ء الجهاد‬ ‫في المدينة؛ لن يمهمة الدولة اللسليمية هي تطبيا ق اللسلم كايمل م ً‬ ‫في جميع البلد التي تحكمها‪ ،‬وحمل الدعوة اللسليمية خارج‬ ‫حدودها‪.‬‬ ‫وحمل الدولة اللسليمية الدعوة إلى اللسلم ليس يمعناه‬ ‫التبشير بها على طريقة المبشرين‪ ،‬بل هو دعوة الناس لللسلم‪،‬‬ ‫وتثقيفهم بأفكاره وأحكايمه‪ ،‬وإزالة كل حاجز يمادي يقف حائل م ً‬ ‫دون هذه الدعوة بقوة يمادية قادرة على إزالته‪.‬‬ ‫وقد كانت قريش حاجزا يماديا حال دون الدعوة إلى اللسلم‪،‬‬ ‫حول‬ ‫فكان ل بد يمن إعداد القوة لزالة هذا الحاجز المادي الذي ي ُ‬ ‫‪-60-‬‬


‫عد القوة والجيش لحمل الدعوة خارج‬ ‫دون هذه الدعوة‪ ،‬فبدأ ُي ِ‬ ‫المدينة‪ ،‬وقام في أول اليمر بتنظيمات تعتبر حركات يمقصودة‪،‬‬ ‫فأرلسل خلل أربعة أشهر ثلث لسرايا يمن المهاجرين يتحدى بها‬ ‫هب بها المنافقين واليهود يمن لسكان المدينة و لَيمن‬ ‫قريشا‪ ،‬و ُير ِ‬ ‫حولها‪ .‬فقد بعث صلى ا عليه ولسلم عمه حمزة بن عبدالمطلب‬ ‫في ثلثين راكيا يمن المهاجرين دون النصار‪ ،‬فلقي أبا جهل بن‬ ‫هشام على شاطئ البحر يمن ناحية العيص في ثلثمائة راكب‪،‬‬ ‫وتأهب حمزة لقتاله لول أن حجز بينهم يمجدى بن عمرو الجهني‪،‬‬ ‫فانصرفوا عن بعضهم ورجع حمزة دون قتال‪ .‬وبعث الرلسول‬ ‫عليه السلم يمحمد بن عبيدة بن الحارث في لستين راكبا يمن‬ ‫المهاجرين دون النصار‪ ،‬فلقي أبا لسفيان على رأس جمع يمن‬ ‫قريش يزيد على يمائتين في وادي رابغ‪ ،‬وريمى لسعد بن أبي‬ ‫وقاص العدو بسهم ولكن لم يحصل قتال وانسحب الفريقان‪ .‬ثم‬ ‫بعث لسعد بن أبي وقاص بعشرين راكبا يمن المهاجرين نحو يمكة‪،‬‬ ‫ثم رجعوا دون قتال‪.‬‬ ‫وبهذه السرايا ُوجدت في المدينة أجوا ء القتال و ُوجدت عند‬ ‫قريش نفسها أجوا ء الحرب‪ ،‬يمما بعث فيها الرعب‪ ،‬وجعلها تحسب‬ ‫لرلسول ا صلى ا عليه ولسلم حسابا لم تكن لتحسبه يمن قبل‪،‬‬ ‫ولم تكن تدركه لول هذه السرايا‪.‬‬ ‫ثم إن النبي صلى ا عليه ولسلم لم يكتف بذلك‪ ،‬بل خرج‬ ‫‪-61-‬‬


‫بنفسه للقتال‪ .‬فقد خرج على رأس اثني عشر شهرا يمن لَيمق لَديمه‬ ‫إلى المدينة‪ ،‬والستعمل عليها لسعد بن عبادة‪ ،‬ولسار إلى البوا ء‬ ‫حتى بلغ ودان‪ ،‬يريد قريشا وبني ضمرة‪ .‬فلم يلا ق قريشا‪ ،‬وحالفته‬ ‫بنو ضمرة‪ .‬وأنه بعد شهر يمن ذلك خرج على رأس يمائتين يمن‬ ‫المهاجرين والنصار إلى بواط يريد قافلة يقودها أيمية بن خلف‪،‬‬ ‫عمّدتها ألفان وخمسمائة بعير‪ ،‬يحميها يمائة يمحارب‪ ،‬فلم يدركها أن‬ ‫ ُ‬ ‫اتخذت طريقا غير طريا ق القوافل )المعَّبد(‪ .‬وأنه بعد ثلثة أشهر‬ ‫يمن عودته يمن بواط يمن ناحية رضوى الستعمل على المدينة أبا‬ ‫لسلمة بن عبداللسد‪ ،‬وخرج في أكثر يمن يمائتين يمن المسلمين حتى‬ ‫نزل العشيرة يمن بطن ينبع‪ ،‬فأقام بها جمادي الولى وليالي يمن‬ ‫جمادي الخرة يمن السنة الثانية للهجرة‪ ،‬ينتظر يمرور قافلة يمن‬ ‫قريش على رألسها أبو لسفيان‪ ،‬ففاتته‪ ،‬وكسب يمن رحلته هذه أن‬ ‫واد ع بني يمدلج وحلفا ءهم يمن بني ضمرة‪ .‬وأنه يما كاد يرجع إلى‬ ‫المدينة ليقيم بها عشر ليال حتى أغار كرز بن جابر الفهري يمن‬ ‫المتصلين بمكة وبقريش على إبل المدينة وأغنايمها‪ ،‬فخرج النبي‬ ‫في طلبه والستعمل على المدينة زيد بن حارثة‪ ،‬وتابع يمسيره حتى‬ ‫بلغ واديا يقال له لسفوان يمن ناحية بدر‪ ،‬وفاته كرز فلم يدركه‪.‬‬ ‫وهذه هي بدر الولى‪.‬‬ ‫وهكذا بدأ صلى ا عليه ولسلم بجيوشه يتحدى قريشا‬ ‫ويتجول في الجزيرة يقوم بالغزوات‪ .‬ويمع أنه صلى ا عليه‬ ‫‪-62-‬‬


‫ولسلم لم يلا ق حربا في هذه الغزوات‪ ،‬إل مّ أنه وصل فيها إلى نتائج‬ ‫عظيمة هيأت لبد ء الحروب الكبيرة‪ .‬فقد هيأ صلى ا عليه ولسلم‬ ‫بهذه الغزوات الجيش الذي يلقى به العدو؛ إذ نقلت هذه الغزوات‬ ‫المسلمين إلى اللستعداد للقتال‪ ،‬وألقى الرعب بسبب هذه‬ ‫الغزوات في نفوس اليهود والمنافقين في المدينة ويما حولها‪ ،‬يمما‬ ‫سر نفسية قريش‬ ‫يمنعهم أن ُتحمّدثهم نفسهم بالشغب عليه‪ .‬و لَك لَ‬ ‫بتحديه إياها‪ ،‬وقمّوى هيبة المسلمين في نفوس أعدائهم‪ ،‬وأخذ‬ ‫الطرق على قوافل قريش في رحلتها إلى الشام‪ ،‬بعقد‬ ‫المعاهدات والحلف يمع القبائل المتصلة يما بين المدينة وشاطئ‬ ‫البحر الحمر‪ ،‬يمثل بني ضمرة وبني يمدلج وغيرهم‪.‬‬ ‫بد ء القتال‬ ‫الستقر صلى ا عليه ولسلم في المدينة‪ ،‬فأخذ يطبا ق‬ ‫اللسلم‪ ،‬وصار الوحي ينزل بالتشريع‪ .‬فأقام صر ح الدولة‬ ‫اللسليمية وبنا ء المجتمع اللسليمي على دعائم اللسلم وأنظمته‪،‬‬ ‫وآخى بين المسلمين‪ .‬وحينئذ أصبح اللسلم ‪-‬حكما وشريعة‪ -‬حيا‬ ‫في يمجتمع يحتضنه ويحمل دعوته‪ ،‬وازداد المسلمون عددا وشوكة‬ ‫وقوة ويمنعة‪ ،‬وأقبل الناس على اللسلم فرادى وجماعات‪ ،‬يمن‬ ‫المشركين واليهود‪ .‬وبعد أن اطمأن عليه السلم إلى اللسلم‪،‬‬ ‫وإلى الدعوة له في المدينة‪ ،‬فكر في الدعوة إلى اللسلم خارج‬ ‫‪-63-‬‬


‫المدينة في جزيرة العرب‪ ،‬ولكنه كان يعلم أن قريشا تقف حاجزا‬ ‫يمنيعا دون هذه الدعوة‪ ،‬وهي حاجز يمادي في طريا ق اللسلم‪ ،‬لم‬ ‫تنفع فيه الدعوة بالحجة والبرهان‪ .‬وإذن ل بد يمن قوى يمادية‬ ‫لزالة هذه الحواجز المادية‪ ،‬وأنه عليه الصلة والسلم إذا كان لم‬ ‫يستطع إزالة هذا الحاجز المادي يوم كان في يمكة‪ ،‬لعدم وجود‬ ‫دولة إلسليمية تحمل القوة المادية الكافية لدحض تلك القوة‪ ،‬فإنه‬ ‫وقد ألسس دولة إلسليمية‪ -‬يستطيع أن يعمل لزالة هذا الحاجز‬‫المادي بالقوى المادية‪ ،‬بعد أن تيسرت له هذه القوى‪ .‬ولذلك فما‬ ‫عد أجوا ء الحرب‪ ،‬وأن يبدأ‬ ‫عد هذه القوة‪ ،‬وأن ُي ِ‬ ‫عليه إل مّ أن ُي ِ‬ ‫لسيالسة جديدة للدعوة‪ ،‬بعد أن تهيأت ألسباب هذه السيالسة‬ ‫الجديدة وولسائلها‪.‬‬ ‫ولهذا بدأ لسراياه ويمناوشاته الولى‪ ،‬التي كان يرلسل بعضها‪،‬‬ ‫ويذهب يمع البعض الخر‪ ،‬ليتحدى قريشا‪ ،‬و ُيفهمها قوته‪ .‬وكانت‬ ‫آخر هذه السرايا لسرية عبدا بن جحش التي كانت يمقمّديمة لغزوة‬ ‫بدر‪ .‬وحديث هذه السرية أن رلسول ا صلى ا عليه ولسلم بعث‬ ‫في رجب يمن السنة الثانية للهجرة‪ ،‬عبدا بن جحش ويمعه‬ ‫جماعة يمن المهاجرين‪ ،‬ودفع إليه كتابا‪ ،‬وأيمره أل ينظر فيه إل مّ بعد‬ ‫يويمين يمن يمسيره‪ ،‬فيمضي لما أيمره‪ ،‬ول لَيستكِره يمن أصحابه‬ ‫ت في‬ ‫أحدا‪ .‬وفتح عبدا الكتاب بعد يويمين فإذا فيه "إذا نظر لَ‬ ‫ض حتى تنزل نخلة ‪-‬يمكان بين يمكة والطائف‪-‬‬ ‫كتابي هذا فايم ِ‬ ‫‪-64-‬‬


‫فترصد بها قريشا‪ ،‬وتعلم لنا يمن أخبارهم"‪ ،‬وأعلم أصحابه باليمر‪،‬‬ ‫وبأنه ل يستكِره أحدا يمنهم‪ ،‬فساروا يمعه حتى نزلوا نخلة‪ ،‬ولم‬ ‫يتخلف يمنهم أحد لسوى لسعد بن أبي وقاص الزهري‪ ،‬وعتبة بن‬ ‫غزوان؛ فإنهما قد ضل لهما بعير فذهبا يطلبانه‪ ،‬فألسرتهما قريش‪.‬‬ ‫وأقام عبدا بن جحش في نخلة يترصد قريشا‪ ،‬وأثنا ء يمقايمه‬ ‫يمرت بهم عير لقريش‪ ،‬تحمل تجارة‪ ،‬وكان ذلك في آخر رجب وهو‬ ‫ح ُرم‪ .‬فتشاور عبدا وأصحابه يماذا يصنع بهم‪ ،‬ولم‬ ‫يمن الشهر ال ُ‬ ‫يؤ لَيمروا يمن ِقبل النبي بشي ء‪ ،‬وقال بعضهم لبعض ‪) :‬وا لئن‬ ‫ن الحرم فليمتنعنمّ يمنكم به‪ ،‬ولئن‬ ‫تركتم القوم هذه الليلة ليدخل مّ‬ ‫قتلتموهم لتقتلمّنهم في الشهر الحرام(‪ ،‬وترمّددوا في قتالهم‪،‬‬ ‫ولكنهم جزيموا أخيرا‪ ،‬فريمى أحد المسلمين رئيس القافلة عمرو‬ ‫بن الحضريمي فقتله‪ ،‬وألسر المسلمون رجلين يمن قريش‪ ،‬وأخذوا‬ ‫ما رآهم النبي قال لهم ‪ :‬يما‬ ‫العير ورجعوا حتى لَقِديموا المدينة‪ ،‬فل مّ‬ ‫أيمرتكم بقتال في الشهر الحرام‪ ،‬ووقف العير واللسيرين‪ ،‬وأبى أن‬ ‫يأخذ يمن ذلك شيئا‪.‬‬ ‫هذه خلصة لسرية عبدا الذي أرلسله الرلسول صلى ا‬ ‫عليه ولسلم ليرصد أخبار قريش‪ ،‬ولكنه قاتلها‪ ،‬وقتل يمنها‪ ،‬وألسر يمن‬ ‫رجالها‪ ،‬وأخذ أيموالها‪ ،‬وفعل ذلك بالشهر الحرام‪ .‬فماذا يكون‬ ‫كر رلسول ا صلى ا عليه‬ ‫يموقف اللسلم يمن عمله هذا؟ ف مّ‬ ‫ولسلم في ذلك وتوقف عن أخذ اللسيرين والمال‪ ،‬يمنتظرا حكم‬ ‫‪-65-‬‬


‫ا في ذلك‪ ،‬يمنتظرا آيات ا تنزل في هذا اليمر‪.‬‬ ‫وانتهزت قريش الفرصة واتخذت يمن هذا العمل ولسيلة‬ ‫للدعاية ضد يمحمد عليه السلم بين العرب‪ ،‬ونادت في كل يمكان‬ ‫أن يمحمدا وأصحابه الستحمّلوا الشهر الحرام‪ ،‬ولسفكوا فيه الديما ء‪،‬‬ ‫وأخذوا فيه اليموال‪ ،‬وألسروا الرجال‪.‬‬ ‫وكانت بينهم وبين المسلمين في يمكة يمجادلت حول ذلك‪،‬‬ ‫يهاجمون المسلمين في هذا العمل‪ ،‬ويهاجمون نبيهم وأصحابه‪.‬‬ ‫فرمّد يمسلمو يمكة بأن اخوانهم المسلمين إمّنما فعلوا ذلك في‬ ‫شعبان وليس في رجب‪ .‬ولكن هذا الجواب لم يكن كافيا ليقف‬ ‫في وجه الدعاية‪.‬‬ ‫ودخلت اليهود في هذه الدعاية‪ ،‬وصارت تشمّنع على يما فعله‬ ‫عبدا بن جحش‪ .‬واشتد الحال على المسلمين يمن هذه الدعاية‬ ‫ضدهم‪ ،‬والرلسول عليه السلم لساكت ينتظر الوحي وينتظر حكم‬ ‫ا في هذا العمل‪ .‬وإذ ذاك نزل قوله تعالى في لسورة البقرة‬ ‫ل فيه كبير وصمّد عن‬ ‫‪‬يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتا ٌ‬ ‫لسبيل ا وكف ٌر به والمسجد الحرام وإخراج أهله يمنه أكبر عند ا‬ ‫والفتنة أكبر يمن القتل ول يزالون يقاتلونكم حتى يرمّدوكم عن‬ ‫لسمّري عن المسلمين‪،‬‬ ‫ما نزلت هذه الية‪ُ ،‬‬ ‫دينكم إن الستطاعوا‪ .‬ول مّ‬ ‫وأخذ النبي العير واللسيرين‪.‬‬ ‫حم على دعاية قريش؛ فالقرآن‬ ‫وكان في هذه اليات رد يمف ِ‬ ‫‪-66-‬‬


‫الكريم يجيب قريشا عن تساؤلهم عن القتال في الشهر الحرام‬ ‫بأنه إثم كبير‪ ،‬ولكن الصد عن المسجد الحرام وإخراج أهله يمنه‬ ‫أكبر عند ا يمن القتال في الشهر الحرام‪ ،‬والقتل فيه‪ .‬ويما فعلته‬ ‫قريش وتفعله يمن فتنة المسلمين عن دينهم‪ ،‬بالوعد والوعيد‪،‬‬ ‫والغرا ء والتعذيب‪ ،‬أكبر يمن القتل والقتال في الشهر الحرام‪ ،‬وفي‬ ‫غير الشهر الحرام‪ ،‬وأن قريشا هذه التي تحاول الرجاف والدعاية‬ ‫ضد المسلمين لقتالهم في الشهر الحرام‪ ،‬ل يزالون يقاتلون‬ ‫المسلمين حتى يرمّدوهم عن دينهم إن الستطاعوا‪ .‬وإذن فقتال‬ ‫المسلمين لقريش في الشهر الحرام ليس فيه شي ء ضدهم؛ لن‬ ‫قريشا التي ترتكب هذه الكبائر يمن الوقوف في وجه الدعوة‬ ‫اللسليمية‪ ،‬والصد عن لسبيل ا‪ ،‬والكفر بالله‪ ،‬وإخراج أهل‬ ‫المسجد الحرام يمنه‪ ،‬وفتنة المسلمين عن دينهم‪ ،‬إن قريشا هذه‪،‬‬ ‫جدير أن تقا لَتل في الشهر الحرام‪ ،‬وفي غير الشهر الحرام‪ .‬وإذن‬ ‫فقتال عبدا بن جحش في الشهر الحرام ليس فيه يما يضيره‪ ،‬ول‬ ‫يما يضير المسلمين‪.‬‬ ‫وبهذا كانت لسرية عبدا بن جحش يمفترق طرق في‬ ‫لسيالسة اللسلم‪ ،‬ولسيالسة الدعوة إلى اللسلم‪ ،‬فيها ريمى واقد بن‬ ‫عبدا التميمي عمرو بن الحضريمي رئيس القافلة فقتله‪ ،‬فكان‬ ‫أول دم أراقه المسلمون في لسبيل ا‪.‬‬ ‫وقد ظل القتال في الشهر الحرم يممنوعا إلى أن نزلت آيات‬ ‫‪-67-‬‬


‫القتال التي تأيمر بالقتال في كل زيمان ويمكان‪ ،‬ف ُنسخ يمنع القتال‬ ‫في الشهر الحرم بعموم آيات القتال‪.‬‬ ‫الحياة في المدينة‬ ‫لللسلم طريقة يمعينة في الحياة تنتج عن يمجمو ع يمفاهيمه‬ ‫عن الحياة‪ ،‬وهذه هي الحضارة اللسليمية‪ ،‬وهي غير حضارات‬ ‫مل طريقة اللسلم‬ ‫الدنيا‪ ،‬وتتناقض يمع غيرها يمن الحضارات‪ .‬و ُتج لَ‬ ‫في الحياة بثلثة أيمور ‪ :‬أحدها أن اللساس الذي ُبنيت عليه هو‬ ‫العقيدة اللسليمية‪ .‬وثانيها أن يمقياس العمال في الحياة هو أوايمر‬ ‫ا ونواهيه‪ ،‬وبعبارة أخرى أن تصوير الحياة في نظرها هو‬ ‫الحلل والحرام‪ .‬وثالثها أن يمعنى السعادة في نظرها هو نوال‬ ‫رضوان ا‪ ،‬وبعبارة أخرى هو الطمأنينة الدائمة‪ ،‬وهي ل تحصل‬ ‫إل مّ بنوال رضوان ا‪.‬‬ ‫هذه هي طريقة اللسلم في الحياة‪ ،‬وهذه هي الحياة التي‬ ‫يأنس فيها المسلمون ويسعون إليها ويسيرون في يمنهجها‪ .‬ولجل‬ ‫أن يتمكنوا يمن هذه الحياة ل بد أن تكون لهم دولة تطبا ق اللسلم‬ ‫وتنفذ أحكايمه‪ .‬والمسلمون حين انتقلوا للمدينة بدأوا يعيشون على‬ ‫طراز يمعين يمن الحياة‪ ،‬ألسالسها العقيدة اللسليمية‪ .‬وبدأت اليات‬ ‫الكريمة تنزل يمبِّينة حكم ا في المعايملت والعقوبات‪ ،‬وتنزل‬ ‫فيما لم ينزل بعد يمن العبادات‪ .‬فقد ُفرضت الزكاة و ُفرض الصيام‬ ‫‪-68-‬‬


‫في السنة الثانية يمن الهجرة‪ ،‬وشر ع الذان وصار أهل المدينة‬ ‫جميعا يسمعون كل يوم خمس يمرات دعوة الناس للصلة‪ ،‬يمرَّتلة‬ ‫ترتيل م ً حسنا بصوت رطب جميل‪ ،‬يوجهها بلل بن ربا ح يمع كل ريح‬ ‫إلى كل النواحي‪ ،‬فيلبي المسلمون الندا ء للصلة‪ .‬ويما أن يمكث‬ ‫الرلسول في المدينة لسبعة عشر شهرا حتى تحولت القبلة إلى‬ ‫الكعبة‪.‬‬ ‫وهكذا صارت تنزل آيات الحكام لَتيْترى في العبادات‬ ‫والمطعويمات والخلق والمعايملت والعقوبات‪ ،‬فنزلت آيات‬ ‫تحريم الخمر ولحم الخنزير‪ ،‬كما نزلت آيات الحدود‪ ،‬والجنايات‪،‬‬ ‫والبيع‪ ،‬وتحريم الربا‪ ،‬وغير ذلك‪ .‬وتتا لَبع نزول آيات الحكام تعالج‬ ‫صلها ويبمّينها‪،‬‬ ‫يمشاكل الحياة‪ ،‬والرلسول صلى ا عليه ولسلم يف مّ‬ ‫ويقضي يمصالح الناس‪ ،‬ويفصل خصويماتهم‪ ،‬ويدبر شؤونهم‪ ،‬ويدير‬ ‫أيمورهم‪ ،‬ويعالج يمشاكلهم‪ ،‬بأقواله في التحدث إليهم‪ ،‬وبأفعاله‬ ‫التي يقوم بها‪ ،‬وبسكوته عما يقع أيمايمه يمن أعمال‪ ،‬لن قوله‬ ‫وِفعله ولسكوته شريعة‪ ،‬لنه ل ينطا ق عن الهوى إنيْ هو إل مّ وحي‬ ‫يوحى‪.‬‬ ‫ولسارت الحياة في المدينة في طريقتها وحسب وجهة نظر‬ ‫يمعينة‪ ،‬هي وجهة نظر اللسلم‪ ،‬و ُوجد المجتمع اللسليمي المتميز‬ ‫في كل شي ء‪ ،‬الذي تسوده الفكار اللسليمية‪ ،‬والمشاعر‬ ‫اللسليمية‪ ،‬وتطَّبا ق فيه أنظمة اللسلم على الناس في يمعايملتهم‬ ‫‪-69-‬‬


‫ولسائر علقاتهم‪.‬‬ ‫وقد طاب الرلسول صلى ا عليه ولسلم نفسا بما وصلت إليه‬ ‫الدعوة‪ .‬ولسكن المسلمون إلى دينهم وجعلهم يقيمون فرائضه‬ ‫يمجتمعين‪ ،‬ويقيمونها فرادى‪ ،‬ل يخافون أذى‪ ،‬ول يخشون فتنة‪،‬‬ ‫وطفقوا يعالجون أيمورهم بأحكام ا‪ ،‬ويرجعون فيما لم يعِرفوا‬ ‫إلى رلسول ا‪ ،‬ول يقويمون بعمل صغير أو كبير إل مّ حسب أوايمر‬ ‫ا‪ ،‬وينتهون عن كل يما نهى ا‪ .‬وشعروا بالسعادة‪ ،‬فصارت‬ ‫نفولسهم يمطمئنة‪ ،‬وكان الكثير يمنهم يلِزيمون رلسول ا ليتعلموا‬ ‫أحكام ا‪ ،‬ويحفظوا آيات ا ويتلمّقوا عنه القرآن‪ ,‬ويثمّقفوا على‬ ‫يديه‪ .‬وأخذ اللسلم يزداد انتشارا والمسلمون يزدادون كل يوم‬ ‫قوة و لَيم لَنعة‪.‬‬ ‫جدال اليهود والنصارى‬ ‫أصبح غير المسلمين يشعرون بقوة المسلمين‪ ،‬ويشعرون‬ ‫بأن هذه القوة هي قوة يمنبعثة يمن أعماق قلوب عرفت التضحية‬ ‫في لسبيل ا‪ ،‬وذاقت الذى بسببه ألوانا‪ ،‬وكانت ل تنتظر عند‬ ‫الصبا ح يمسا ء ول عند المسا ء صباحا‪ ،‬وها هي ذي اليوم تستمتع‬ ‫برؤية الدين يع لَلن أيمره‪ ،‬وتنَّفذ أحكايمه‪ ،‬وتعلو كلمته‪ ،‬وتستمع‬ ‫بالسعادة‪.‬‬ ‫غير أن أعدا ء اللسلم لسا ءهم ذلك‪ ،‬وظهرت آثار هذا على‬ ‫‪-70-‬‬


‫جيرانهم اليهود‪ ،‬فقد بدأت يمخاوفهم‪ ،‬وأخذوا يفكرون يمن جديد‬ ‫في يموقفهم يمن يمحمد وأصحابه بعد أن رأوا ازدياد المسلمين في‬ ‫المدينة شوكة وقوة‪ ،‬وازدياد إقبال الناس على اللسلم‪ ،‬وزادهم‬ ‫غيظا إقبال بعض اليهود على اللسلم‪ ،‬وخافوا أن يمتد اللسلم‬ ‫إلى صفوفهم‪ ،‬وأن يفشوا في جماهيرهم‪ .‬ولذلك بدأوا يهاجمون‬ ‫اللسلم‪ ،‬عقائده وأحكايمه‪ .‬وبدأت حرب جدل بين المسلمين‬ ‫واليهود أشد لددا وأكبر يمكرا يمن حرب الجدل التي كانت بينهم وبين‬ ‫قريش بمكة‪.‬‬ ‫وفي هذه الحرب الفكرية كانت الدلسيسة والنفاق والعلم‬ ‫لسلين لسلحا بيد اليهود يهاجمون‬ ‫بأخبار السابقين يمن النبيا ء والمر لَ‬ ‫لسوا يمن‬ ‫به يمحمدا ورلسالته وأصحابه المهاجرين والنصار‪ ،‬فقد د مّ‬ ‫أحبارهم يمن أظ لَهر إلسليمه‪ ،‬ويمن الستطا ع أن يجلس بين‬ ‫المسلمين ُيظِهر غاية التقوى‪ ،‬ثم يما يلبث بعد حين أن يبدي يمن‬ ‫الشكوك والريب‪ ،‬ويلقي على يمحمد يمن اللسئلة يما يحسبه يزعز ع‬ ‫في نفوس المسلمين عقيدتهم به‪ ،‬وبرلسالة الحا ق التي يدعو إليها‪.‬‬ ‫وانضم إلى اليهود جماعة يمن الوس والخزرج الذين ألسلموا نفاقا‬ ‫أيضا ليسألوا وليوِقعوا بين المسلمين‪ .‬وبلغ الجدال بين اليهود‬ ‫والمسلمين حدا كان يصل أحيانا إلى العتدا ء باليدي‪ ،‬يمع يما كان‬ ‫بينهم يمن عهد‪.‬‬ ‫ويكفي لتصوير تعنت اليهود وشدة خصويمتهم في الجدل‬ ‫‪-71-‬‬


‫حلمه وهدوئه‪ ،‬يمع يما كان عليه يمن ديماثة‬ ‫أنهم أخرجوا أبا بكر عن ِ‬ ‫الخلا ق‪ ،‬وطول الناة‪ ،‬ولين الطبا ع‪ .‬فقد ُروي أنه تحدث إلى يهودي‬ ‫يدعى فنحاص يدعوه إلى اللسلم‪ ،‬فرد فنحاص بقوله ‪" :‬وا يا‬ ‫أبا بكر يما بنا إلى ا يمن فقر وإنه إلينا لَلفقير‪ ،‬ويما نتضر ع إليه كما‬ ‫يتضر ع إلينا‪ ،‬وإنا عنه أغنيا ء ويما هو عنا بغني‪ ،‬ولو كان غنيا عنا يما‬ ‫ضنا أيموالنا كما يزعم صاحبكم‪ ،‬ينهاكم عن الربا ويعطيناه‪،‬‬ ‫الستق لَر لَ‬ ‫ولو كان عنا غنيا يما أعطانا"‪ ،‬وفنحاص يشير إلى قوله تعالى ‪ :‬يمن‬ ‫ذا الذي ُيقِرض ا قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة‪ .‬لكن‬ ‫طا ق هذا الجواب صبرا فغضب وضرب وجه فنحاص‬ ‫أبا بكر لم ُي ِ‬ ‫ضربا شديدا‪ ،‬وقال ‪ :‬والذي نفسي بيده لول العهد الذي بيننا وبينكم‬ ‫ت رألسك يا عدو ا‪.‬‬ ‫لضرب ُ‬ ‫وهكذا اشتد الجدل بين المسلمين واليهود وأخذ أدوارا‬ ‫يمتعددة‪ .‬وفي هذا الوقت وفد على المدينة وفد يمن نصارى نجران‬ ‫عدتهم لستون راكبا‪ .‬ولعل هذا الوفد إمّنما جا ء إلى المدينة حين‬ ‫علم بما بين المسلمين واليهود يمن خلف‪ ،‬طمعا في أن يزيد هذا‬ ‫الخلف شدة حتى يبلغ العداوة‪ ،‬وبذلك تنتصر النصرانية ويزول‬ ‫الدين القديم والدين الجديد اللذان يزاحمان النصرانية على‬ ‫زعمهم‪.‬‬ ‫وقد اتصل هذا الوفد بالنبي صلى ا عليه ولسلم‪ ،‬وباليهود‪،‬‬ ‫وكان النبي ينظر إليهم وإلى اليهود بأنهم أهل كتاب‪ ،‬فيدعوهم‬ ‫‪-72-‬‬


‫جميعا لللسلم‪ ،‬ويتلو عليهم قوله تعالى ‪ :‬قل يا أهل الكتاب‬ ‫تعاليْوا إلى كلم ٍة لسوا ء بيننا وبينكم أل نعبد إل مّ ا ول نشرك به‬ ‫شيئا ول يتخذ بعضنا بعضا أربابا يمن دون ا فإن توليْوا فقولوا‬ ‫اشهدوا بأمّنا يمسلمون‪ .‬ويسأله اليهود والنصارى عمن يؤيمن بهم‬ ‫يمن الرلسل‪ ،‬فيتلو عليهم قوله تعالى ‪ :‬قولوا آيممّنا بالله ويما ُأنزل إلينا‬ ‫ويما ُأنزل إلى إبراهيم وإلسماعيل وإلسحا ق ويعقوب واللسباط ويما‬ ‫أوتي يمولسى وعيسى ويما أوتي النبيون يمن ربهم ل نفرق بين أحد‬ ‫يمنهم ونحن له يمسلمون‪ .‬فل يجدون يما يقولونه له وتدفع الحجة‬ ‫نفولسهم ويظهر الحا ق‪ ،‬لكنهم لم يؤيمنوا حرصا على يمكانتهم‪ ،‬حتى‬ ‫أن بعضهم صر ح بذلك‪.‬‬ ‫فقد ُروي أن أبا حارثة وكان يمن وفد نجران‪ ،‬وكان أكثر‬ ‫نصارى نجران علما ويمعرفة قد أدلى إلى رفيا ق له باقتناعه بما‬ ‫ما لسأله رفيقه ‪ :‬فما يمنعك يمنه وأنت تعلم هذا؟‬ ‫يقول يمحمد‪ ،‬فل مّ‬ ‫كان جوابه ‪ :‬يمنعني يما صنع بنا هؤل ء القوم‪ ،‬شمّرفونا ويمولونا‬ ‫وأكريمونا وقد أبوا إل مّ خلفه‪ ،‬فلو فعلت نزعوا يمنا كل يما ترى‪ .‬يمما‬ ‫يدل على أن عدم إيمانهم كان يمكابرة وتعنتا‪.‬‬ ‫ثم إن الرلسول صلى ا عليه ولسلم دعا النصارى إلى‬ ‫جك فيه ِيمن بعد يما‬ ‫المباهلة وتل عليهم قوله تعالى ‪ :‬فمن حا مّ‬ ‫ ع أبنا ءنا وأبنا ءكم ونسا ءنا‬ ‫جا ءك يمن العلم فقل تعاليْوا ند ُ‬ ‫ونسا ءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة ا على‬ ‫‪-73-‬‬


‫الكاذبين‪ ،‬فتشاوروا ثم أعلنوا أنهم رأوا أل يباهلوه وأن يتركوه‬ ‫على دينه ويرجعوا على دينهم‪ ،‬ولكنهم طلبوا إليه أن يبعث يمعهم‬ ‫رجل م ً يحكم بينهم في أشيا ء اختلفوا عليها يمن أقوالهم‪ ،‬فبعث‬ ‫يمعهم أبا عبيدة بن الجرا ح ليقضي بينهم باللسلم فيما اختلفوا فيه‪.‬‬ ‫وهكذا قضت قوة الدعوة اللسليمية‪ ،‬وقوة الفكر اللسليمي‪،‬‬ ‫والحجة البالغة التي ظهرت على جميع المجادلت الكليمية التي‬ ‫أثارها اليهود والمنافقون والنصارى‪ ،‬واختفت تلك الفكار غير‬ ‫اللسليمية جميعها‪ ،‬ولم يبا ق إل مّ اللسلم ينا لَقش في فهم أحكايمه‪،‬‬ ‫وفي الدعوة إليه‪ ،‬فتركز اللسلم ونشر لوا ءه يمن ناحية الفكر ويمن‬ ‫ناحية الحكم‪.‬‬ ‫إل مّ أن نفوس المنافقين واليهود ظلت يمنطوية على كراهة‬ ‫المسلمين‪ ،‬وظلت تحمل الحقد عليهم والبغض لهم‪ .‬غير أن تركز‬ ‫لسلطان اللسلم في المدينة‪ ،‬وتركز المجتمع فيها طغى على كل‬ ‫شي ء‪ .‬وكان للسرايا المتلحقة وللقوة التي ظهرت‪ ،‬أثر في‬ ‫ع لَلت كلمة ا واضطر خصوم‬ ‫إلسكات هذه النفوس المريضة‪ ،‬ف لَ‬ ‫ن يلزيموا جانب الصمت ويخضعوا‬ ‫اللسلم في المدينة ويما حولها ل يْ‬ ‫لسلطان اللسلم‪.‬‬ ‫غزوة بدر‬ ‫خرج النبي عليه الصلة والسلم في أصحابه يمن المدينة‬ ‫‪-74-‬‬


‫ن يمن شهر ريمضان يمن السمّنة الثانية يمن الهجرة‪ ،‬وجعل‬ ‫ن خلو لَ‬ ‫لثما ٍ‬ ‫عمرو بن أم يمكتوم على الصلة بالناس‪ ،‬والستعمل على المدينة‬ ‫أبا لبابة‪ ،‬وكانوا ثلثمائة وخمسة رجال يمعهم لسبعون بعيرا‬ ‫يعتقبونها‪ ،‬كل اثنين وكل ثلثة وكل أربعة يعتقبون بعيرا‪ .‬وانطلقوا‬ ‫يريدون قافلة أبي لسفيان‪ .‬وظلوا لسائرين يتنطسون أخبار القافلة‬ ‫حتى أتوا واديا يقال له دفران‪ ،‬نزلوا فيه‪ ،‬وهناك جا ءهم الخبر بأن‬ ‫عيرهم‪ .‬وحينئذ تغير وجه اليمر‪،‬‬ ‫قريشا قد خرجوا يمن يمكة ليمنعوا ِ‬ ‫وأصبح الموضو ع لقا ء قريش أو عدم لقائهم‪ ،‬وليس يموضو ع‬ ‫قافلة أبي لسفيان‪ .‬فالستشار الرلسول المسلمين وأخبرهم بما بلغه‬ ‫يمن أيمر قريش‪ ،‬فأدلى أبو بكر وعمر برأيهما‪ ،‬ثم قام المقداد بن‬ ‫ض لما أراك ا فنحن يمعك‪ ،‬وا‬ ‫عمرو‪ ،‬فقال ‪" :‬يا رلسول ا ايم ِ‬ ‫ل نقول لك كما قال بنو إلسرائيل لمولسى ‪ :‬اذهب أنت وربك فقاتل‬ ‫إنا ههنا قاعدون‪ ،‬ولكن اذهب أنت وربك فقاتل إنا يمعكما‬ ‫ي أيها‬ ‫يمقاِتلون"‪ .‬ولسكت المسلمون‪ .‬فقال الرلسول ‪ :‬أشيروا عل مّ‬ ‫الناس‪ ،‬وكان يريد بكلمته هذه النصار الذين بايعوه يوم العقبة‬ ‫على أن يمنعوه يمما يمنعون يمنه أبنا ءهم ونسا ءهم‪ ،‬ولم يبايعوه‬ ‫ما أحس النصار أنه يريدهم‪ ،‬وكان‬ ‫على قتال خارج يمدينتهم‪ .‬فل مّ‬ ‫لسعد بن يمعاذ صاحب را لَيِتهم‪ ،‬التفت إلى رلسول ا صلى ا عليه‬ ‫ولسلم وقال ‪ :‬لكأنك تريدنا يا رلسول ا‪ .‬قال ‪ :‬أجل‪ .‬قال لسعد ‪:‬‬ ‫"لقد آيمنا بك وصمّدقناك‪ ،‬وشهدنا أن يما جئت به هو الحا ق‪،‬‬ ‫‪-75-‬‬


‫وأعطيناك على ذلك عهودنا ويمواثيقنا على السمع والطاعة‪،‬‬ ‫ت بنا هذا‬ ‫ت فنحن يمعك‪ ،‬فوالذي بعثك لو الستعرض لَ‬ ‫ض لما أرد لَ‬ ‫فايم ِ‬ ‫البحر فخض لَته لخضناه يمعك ويما تخمّلف يمنا رجل واحد‪ ،‬ويما نكره أن‬ ‫ق في اللقا ء‪ .‬لعل‬ ‫صيْد ٌ‬ ‫صيْب ٌر في الحرب‪ُ ،‬‬ ‫تلقى بنا عدونا غدا‪ .‬إنا ل ُ‬ ‫سر بنا على بركة ا"‪ .‬ولم يكد‬ ‫ا يريك يمنا يما تقر به عينك‪ .‬ف ِ‬ ‫لسعد ُيِتم كليمه حتى أشرق وجهه صلى ا عليه ولسلم بالمسمّرة‪،‬‬ ‫شروا‪ ،‬فإن ا قد وعدني إحدى الطائفتين‪ ،‬وا‬ ‫وقال ‪ :‬لسيروا وأب ِ‬ ‫لكأني الن أنظر إلى يمصار ع القوم‪.‬‬ ‫وارتحلوا جميعا‪ ،‬حتى إذا كانوا على يمقربة يمن بدر عرفوا أن‬ ‫عير قريش قريبة يمنهم‪ ،‬فبعث الرلسول عليا بن أبي طالب والزبير‬ ‫بن العوام ولسعد بن أبي وقاص في نفر يمن الصحابة إلى يما ء بدر‬ ‫يتلمسون له الخبر‪ ،‬وعادوا ويمعهم غليمان عرف يمنهما يما يدل‬ ‫على أن عدد قريش بين التسعمائة واللف‪ ،‬وأن أشراف قريش‬ ‫جميعا خرجوا لمنعه‪ .‬فعرف أنه أيمام قوم يزيدون عليه في العدد‬ ‫ثلثة أضعاف‪ ،‬وأنه ينتظر يمعركة حايمية الوطيس‪ .‬فأخبر المسلمين‬ ‫بأن يمكة ألقت إليهم بأفلذ أكبادها‪ ،‬ول بد أن يوطدوا أنفسهم على‬ ‫الشدة‪ .‬وأجمع المسلمون أن لَيث ُبتوا للعدو‪ ،‬وأقايموا بما ء بدر وبنوا‬ ‫حوضا ويملوه يما ء‪ ،‬وعطلوا يما ورا ءه يمن البار ليشربوا هم ول‬ ‫يشرب عدوهم‪ ،‬وبنوا للرلسول عريشا يقيم فيه‪ .‬وأمّيما قريش فنزلت‬ ‫يمنازل القتال في يمواجهة المسلمين‪ .‬ثم بدأت يمناوشات القتال‪،‬‬ ‫‪-76-‬‬


‫فقد اندفع اللسود بن عبداللسد المخزويمي يمن بين صفوف قريش‬ ‫إلى صفوف المسلمين يريد أن يهدم الحوض الذي بنوه‪ ،‬فعاجله‬ ‫حمزة بن عبدالمطلب بضربة أطاحت بساقه فسقط إلى ظهره‬ ‫تشخب رجله ديما‪ ،‬ثم أتبعه حمزة بضربة أخرى قضت عليه دون‬ ‫الحوض‪ ،‬فخرج عتبة بن ربيعة بين أخيه شيبة وابنه الوليد‪ ،‬وخرج‬ ‫إليهم حمزة بن عبدالمطلب‪ ،‬وعلي بن أبي طالب‪ ،‬وعبيدة بن‬ ‫ن لَق لَتلهما‪،‬‬ ‫الحارث‪ ،‬فلم ُيمِهل حمزة شيبة‪ ،‬ول أيمهل علي الوليد أ يْ‬ ‫ثم أعانا عبيدة وقد ثبت له عتبة‪ .‬ثم تزاحف الناس والتقى‬ ‫الجمعان صبيحة يوم الجمعة لسبعة عشر خلت يمن شهر ريمضان‬ ‫يمن السنة الثانية للهجرة‪ ،‬وقام الرلسول على رأس المسلمين‬ ‫يعدل صفوفهم ويحرضهم على القتال‪ ،‬فازداد المسلمون قوة‬ ‫بتحريض الرلسول إياهم ووقوفه بينهم‪ ،‬فاندفع المسلموون وثار‬ ‫ع لَلت هام قريش‬ ‫ج ِ‬ ‫النقع‪ ،‬وايمتل الجو وحمي وطيس المعركة‪ ،‬و ُ‬ ‫تطير عن أجسادها والمسلمون يزدادون بإيمانهم قوة ويصيحون ‪:‬‬ ‫أحد‪ ،‬أحد‪ .‬ووقف الرلسول ولسط المعمعة وأخذ حفنة يمن الحصبا ء‬ ‫شمّدوا‪.‬‬ ‫وريمى بها قريشا وقال ‪ :‬شاهت الوجوه‪ ،‬وقال لصحابه ‪ُ :‬‬ ‫وشمّد المسلمون إلى أن انجلت المعركة عن نصرة المسلمين‪،‬‬ ‫وفمّرت قريش‪ ،‬و ُقتل يمنها يمن ُقتل و ُألسر يمن ُألسر‪ .‬وكان نصرا‬ ‫يمؤزرا للمسلمين‪ ،‬وعادوا إلى المدينة وقد ازدادت قوتهم‪.‬‬ ‫إجل ء بني قينقا ع‬ ‫‪-77-‬‬


‫ما انتصر المسلمون‬ ‫كان اليهود قد بدأ تذيمرهم قبل بدر‪ ،‬فل مّ‬ ‫في بدر ازداد تذيمرهم وازداد حقدهم‪ ،‬وصاروا يأتمرون‬ ‫بالمسلمين ويتغايمزون عليهم‪ ،‬ونقضوا عهدهم يمع المسلمين‬ ‫حينئذ‪ ،‬فاشتد عليهم المسلمون وصاروا يضربونهم كلما بدرت يمنهم‬ ‫بادرة‪ .‬فتخَّوف اليهود يمن بطش المسلمين‪ ،‬ولكنهم بدل أن‬ ‫يرتدعوا ازدادوا أذى‪.‬‬ ‫وِيمن أذاهم أنه لَقِد لَيمت ايمرأة يمن العرب إلى لسوق اليهود يمن‬ ‫حلية‪ ،‬وجلست إلى صائغ يمنهم بها‪ ،‬فجا ء يهودي‬ ‫بني قينقا ع ويمعها ِ‬ ‫ما‬ ‫يمن خلفها في لسر يمنها فأثبت طرف ثوبها بشوكة إلى ظهرها‪ ،‬فل مّ‬ ‫قايمت انكشفت لسوأتها‪ ،‬فضحكوا بها‪ ،‬فصاحب‪ .‬فوثب رجل يمن‬ ‫المسلمين على الصائغ وكان يهوديا فقتله‪ ،‬وشمّدت اليهود على‬ ‫المسلم فقتلوه‪ ،‬فالستصرخ أهل المسلم المسلمين على اليهود‬ ‫فهاجموهم‪ ،‬ووقع النزا ع بين المسلمين واليهود‪ .‬وقد طلب‬ ‫مر‪ .‬فخرج الرلسول‬ ‫الرلسول يمن اليهود أن يكفوا الذى‪ ،‬فأظهروا التن مّ‬ ‫صلى ا عليه ولسلم يمع المسلمين وحاصروا بني قينقا ع يمحاصرة‬ ‫شديدة‪ ،‬وقرر الرلسول بعد يمشورة كبار المسلمين قتلهم جميعا‪،‬‬ ‫ي بن لسلول‪ ،‬وكان لليهود كما كان‬ ‫فقام إليه عبدا بن ُأب مّ‬ ‫ي‪ ،‬فأبطأ عليه‬ ‫سن في لَيموال مّ‬ ‫للمسلمين حليفا‪ ،‬فقال ‪ :‬يا يمحمد أح ِ‬ ‫ح إلحاحا شديدا‪ ،‬فرأى‬ ‫النبي‪ ،‬فكرر الطلب‪ ،‬فأعرض النبي عنه‪ ،‬فأل مّ‬ ‫النبي أن يسدي إليه هذه اليد حتى يصبح يمدينا لحسانه ورحمته‪،‬‬ ‫‪-78-‬‬


‫فأجاب طلبه وقرر عدم قتل بني قينقا ع‪ ،‬على أن ُيج لَليْو عن المدينة‬ ‫جزا ء لهم على صنيعهم‪ .‬فأذعنوا وجلوا عن المدينة صوب الشمال‬ ‫حتى بلغوا أذرعات بالشام‪.‬‬ ‫القضا ء على الضطرابات الداخلية‬ ‫دخل المسلمون في الحرب يمع قريش‪ ،‬واشتبكوا يمعهم في‬ ‫أول يمعركة وهي يمعركة بدر‪ ،‬فانتصر بها المسلمون انتصارا يمؤزرا‪.‬‬ ‫وكان يمن أثر هذا النصر زلزلة قريش زلزلة كبرى أطارت صوابها‪،‬‬ ‫وتطهير المدينة يمن ولساوس اليهود وفتنتها‪ ،‬وإجل ء بعضهم‬ ‫ويمهادنة البعض الخر‪ ،‬وازدياد قوة المسلمين و لَيم لَنعتهم‪.‬‬ ‫عد العدة لغزو‬ ‫إل مّ أن قريشا لم يهدأ لها بال‪ ،‬فمنذ بدر وهي ُت ِ‬ ‫المسلمين والنتقام يمنهم‪ ،‬وليكون لها يوم بيوم بدر‪ .‬فكانت يموقعة‬ ‫حد‪ ،‬وانتصرت فيها قريش بسبب يمخالفة الريماة لوايمر القيادة‪.‬‬ ‫أ ُ ُ‬ ‫وانكسر فيها المسلمون‪ .‬وعادت قريش يممتلئة النفس غبطة‬ ‫ولسرورا بما زال عنها يمن عار بدر‪ .‬ورجع المسلمون إلى المدينة‬ ‫يمهزويمين‪ ،‬وكانت تظهر عليهم آثار الهزيمة‪ ،‬رغم يمطاردتهم للعدو‬ ‫بعد المعركة حتى حمرا ء اللسد‪ .‬وكان يمن جرا ء انكسار‬ ‫كر لهم الكثير يممن في المدينة‪ ،‬كما تنكرت لهم‬ ‫المسلمين أن تن َّ‬ ‫بعض قبائل العرب‪.‬‬ ‫فإن اليهود والمنافقين في المدينة كانوا بعد بدر وشدة‬ ‫‪-79-‬‬


‫المسلمين يمعهم قد خضعوا لسلطان المسلمين ودانوا لهم‪،‬‬ ‫خل نفولسها الرعب‬ ‫وكذلك كانت قبائل العرب خارج المدينة‪ ،‬قد دا لَ‬ ‫يمن قوة المسلمين‪ .‬ولكن كل ذلك تغَّير بعد ُأحد‪ ،‬فالعرب الذين‬ ‫يقطنون خارج المدينة صاروا يفكرون في يمعارضة يمحمد‬ ‫ويمناوأته‪ ،‬واليهود في المدينة والمنافقون أيضا صاروا يتحرشون‬ ‫في المسلمين ويناوؤونهم‪ .‬لذلك كله حرص رلسول ا صلى ا‬ ‫عليه ولسلم على أن يقف يمن أخبار أهل المدينة ويمن أخبار القبائل‬ ‫كنه يمن الستعادة يمكانة المسلمين‬ ‫العربية خارجها على يما يم مّ‬ ‫وهيبتهم في النفوس‪ ،‬وأخذ يعمل جاهدا لزالة آثار هذه الهزيمة‪،‬‬ ‫بالبطش في كل يمن تحمّدثه نفسه بالستصغار المسلمين‪ ،‬أو النيل‬ ‫يمنهم‪.‬‬ ‫فقد بلغه بعد شهر يمن ُأحد‪ ،‬أن بني ألسد يريدون يمهاجمة‬ ‫المدينة ل لَيغنموا يمن غنم المسلمين التي ترعى حول المدينة‪ ،‬فأراد‬ ‫أن يهاجمهم في عقر دارهم قبل أن يهاجموه‪ ،‬ولذلك دعا إليه أبا‬ ‫لسلمة بن عبداللسد‪ ،‬وعقد له لوا ء لسرية تبلغ عدتها يمائة وخمسين‪،‬‬ ‫فيهم يمن خيرة أبطال المسلمين عدد كبير‪ ،‬وكان يمن بينهم عبيدة‬ ‫أبو الجرا ح‪ ،‬ولسعد بن أبي وقاص‪ ،‬وألسيد بن حضير‪ ،‬وغيرهم‬ ‫خفوا نهارا وأن يسلكوا الطريا ق‬ ‫وأ لَيم لَرهم بأن يسيروا ليل م ً وأن يست يْ‬ ‫طلع أحد على خبرهم‪ ،‬ليفاجئوا العدو‬ ‫غير المطروق‪ ،‬حتى ل ي مّ‬ ‫على غرة يمنه‪ .‬ولسار أبو لسلمة حتى جا ء بني ألسد‪ ،‬وأحاط بهم في‬ ‫‪-80-‬‬


‫عماية الصبح‪ ،‬وحمل عليهم وحض رجاله على الجهاد فأوقعوا‬ ‫بهم حتى هزيموهم وانتصروا عليهم وأخذوا أيموالهم غنائم‪،‬‬ ‫ورجعوا إلى المدينة ظافرين‪ ،‬وقد أعادوا إلى النفوس هيبة‬ ‫المسلمين ولسطوتهم‪.‬‬ ‫ثم بلغ الرلسول عليه السلم أن خالد بن لسفيان الهذلي يمقيم‬ ‫بعرنة أو نخلة يجمع الناس ليغزو المدينة‪ ،‬فدعا إليه عبدا بن‬ ‫أنيس وبعثه يتجسس حتى يقف على جلية الخبر‪ ،‬فسار عبدا‬ ‫والتقى بخالد‪ ،‬فسأله يمن الرجل؟ فقال عبدا ‪ :‬أنا رجل يمن‬ ‫ف خالد أنه‬ ‫العرب لسمع بجمعك لمحمد فجا ءك لذلك‪ .‬فلم ُيخ ِ‬ ‫يجمع الجمو ع ليغزو المدينة‪ .‬فما كان يمن عبدا إل مّ أن اغتنم‬ ‫كنته‬ ‫فرصة عزلته عن الناس‪ ،‬فالستدرجه في السير حتى إذا يم مّ‬ ‫الفرصة حمل عليه بالسيف فقتله‪ ،‬وعاد إلى المدينة وأخبر الرلسول‬ ‫الخبر‪ .‬وبقتله هدأت بنو لحيان يمن هذيل‪ ،‬وأِيمن الرلسول شر غزِوه‬ ‫عه العرب لقتاله‪ .‬وهكذا عالج القبائل العربية خارج المدينة‪.‬‬ ‫وجم ِ‬ ‫إل مّ أن هذه المعالجة وإن كانت أفادت في يمنع العرب يمن‬ ‫يمهاجمة المدينة‪ ،‬إل مّ أنها لم تقض على الستهانة العرب بسلطان‬ ‫المسلمين بعد ُأحد‪ ،‬فقد وفد على الرلسول رهط يمن قبيلة تجاور‬ ‫ل‪ ،‬وقالوا له إن فينا إلسليما‪ ،‬فابعث يمعنا نفرا يمن أصحابك‬ ‫هذي م ً‬ ‫يعمّلموننا شرائعه ويقرؤوننا القرآن‪ ،‬فبعث يمعهم لستة يمن كبار‬ ‫ ء لهذيل بناحية تدعى‬ ‫الصحابة‪ ،‬ولساروا يمعهم حتى بلغوا يما م ً‬ ‫‪-81-‬‬


‫ل‪ ،‬وفوجئ المسلمون‬ ‫الرجيع‪ ،‬فغدروا بهم والستصرخوا عليهم هذي م ً‬ ‫الستة بالرجال في أيديهم السيوف يغشونهم‪ ،‬فأخذ المسلمون‬ ‫لسيوفهم‪ ،‬فقاتلوا حتى ُقتل ثلثة يمنهم والستسلم ثلثة‪ ،‬فأخذتهم‬ ‫هذيل ألسرى‪ ،‬وخرجت بهم إلى يمكة تبيعهم فيها‪ ،‬وبينما هم في‬ ‫الطريا ق اغتنم أحد الثلثة وهو عبدا بن طارق فرصة غفلة‬ ‫غل اللسر وأخذ لسيفه ليقاتل‪ ،‬ولكنهم لم‬ ‫القوم‪ ،‬وانتز ع يده يمن ِ‬ ‫كنوه بل قتلوه‪ ،‬وأخذوا اللسيرين وباعوهما يمن أهل يمكة‪ .‬أمّيما‬ ‫يم مّ‬ ‫أحدهما وهو زيد بن الدثنة فقد اشتراه صفوان بن أيممّية ليقتله بأبيه‬ ‫ما ُقمّدم زيد ل ُيق لَتل لسأله أبو لسفيان ‪ :‬أنشدك ا يا‬ ‫أيممّية بن خلف‪ ،‬فل مّ‬ ‫زيد أتحب أن يمحمدا الن عندنا في يمكانك ُتضرب عنقه وأنت في‬ ‫أهلك؟ فقال زيد ‪ :‬وا يما أحب أن يمحمدا الن في يمكانه الذي هو‬ ‫فيه تصيبه شوكة تؤذيه وأنا جالس في أهلي‪ .‬فعجب أبو لسفيان‬ ‫وقال ‪ :‬يما رأيت يمن الناس أحدا يحبه أصحابه يما يحب أصحاب‬ ‫حبس حتى‬ ‫يمحمد يمحمدا‪ .‬ثم ُقتل زيد‪ .‬وأمّيما الثاني وهو خبيب‪ ،‬فقد ُ‬ ‫خرجوا به ليصلبوه‪ ،‬فقال لهم ‪ :‬إن رأيتم أن تدعوني حتى أركع‬ ‫ركعتين فافعلوا‪ ،‬فسمحوا له حتى صمّلى الركعتين وأتمهما‬ ‫وأحسنهما‪ ،‬ثم أقبل عليهم وقال ‪ :‬أيما وا لول أن تظنوا أني إمّنما‬ ‫ت يمن الصلة‪ .‬فرفعوه إلى خشبة‪.‬‬ ‫طمّولت جزعا يمن القتل للستكثر ُ‬ ‫ما أوثقوه إليها نظر إليهم بعين يمغضبة وصا ح "اللهم احصهم‬ ‫فل مّ‬ ‫عددا واقتلهم بددا ول تغادر يمنهم أحدا"‪ ،‬فارتجفوا يمن صيحته ثم‬ ‫‪-82-‬‬


‫قتلوه‪.‬‬ ‫حِزن الرلسول عليه السلم على هؤل ء الستة‪ ،‬وحزن‬ ‫ف لَ‬ ‫المسلمون عليهم‪ .‬وزاد في حزنهم الستهانة هذيل بالمسلمين‬ ‫والستخفافهم بشأنهم‪ .‬ففكر عليه السلم بهذا اليمر كثيرا‪ ،‬وأثنا ء‬ ‫تفكيره بذلك لَقِدم عليه أبو برا ء عايمر بن يمالك يملعب اللسمّنة‪،‬‬ ‫فعرض الرلسول عليه السلم اللسلم فلم يقبل ولكنه لم ُيظهر‬ ‫ت إلى أهل نجد يمن يدعوهم‬ ‫عداوة لللسلم وقال للرلسول ‪ :‬لو بعث لَ‬ ‫لللسلم لجابوا دعوتك‪ .‬ولكن الرلسول خاف على أصحابه يمن‬ ‫جب طلب أبي‬ ‫أهل نجد أن يغدروا بهم كما غدرت هذيل‪ ،‬فلم ُي ِ‬ ‫برا ء‪ .‬لكن أبا برا ء أقنعه حين أجار الذين يذهبون للدعوة‪ ،‬وقال‬ ‫للرلسول ‪ :‬أنا لهم جار‪ ،‬فابعثهم فليدعوا إلى أيمرك‪ .‬وكان أبو برا ء‬ ‫رجل م ً يمسمو ع الكلمة‪ ،‬ل ُيخاف على يمن يجيره أن لَيغدر به أحد‪.‬‬ ‫فبعث حينئذ رلسول ا صلى ا عليه ولسلم المنذر بن عمر في‬ ‫أربعين رجل م ً يمن خيار المسلمين‪ ،‬ولساروا حتى نزلوا بئر يمعونة‪،‬‬ ‫ويمن هناك بعثوا إلى عايمر بن الطفيل بكتاب يمع رلسول يمنهم‪ ،‬فلم‬ ‫ينظر عايمر في الكتاب‪ ،‬بل قتل الرلسول والستصرخ بني عايمر كي‬ ‫يقتلوا المسلمين‪ ،‬فأبوا عليه ذلك‪ ،‬وومّفوا بذمّيمتهم‪ ،‬وبجوار أبي برا ء‪.‬‬ ‫ولكن عايمرا الستصرخ قبائل أخرى‪ ،‬وأحاط بالمسلمين وهم في‬ ‫ما رآهم المسلمون أخذوا لسيوفهم وقاتلوا حتى ُقتلوا‬ ‫رحالهم‪ ،‬فل مّ‬ ‫عن آخرهم‪ ،‬ولو ينج يمنهم لسوى رجلين اثنين‪ .‬فحزن رلسول ا‬ ‫‪-83-‬‬


‫والمسلمون على هؤل ء الشهدا ء‪ ،‬وتأثروا لذلك أشد التأثر‪.‬‬ ‫ففكر رلسول ا صلى ا عليه ولسلم بذلك وبالطريقة التي‬ ‫يعالج بها هؤل ء العرب لعادة هيبة المسلمين في نفولسهم‪،‬‬ ‫ولكنه وقد رأى أن هذه العمال أمّثرت على داخل المدينة‪ ،‬رأى أن‬ ‫ل‪ ،‬ثم بعد أن يطمئن إلى يمعالجتها يعالج‬ ‫يعالج الحوال الداخلية أو م ً‬ ‫شؤون العرب واليمور الخارجية‪.‬‬ ‫أمّيما يما حصل في الداخل‪ ،‬فإن المنافقين واليهود قد أضعفت‬ ‫ ُأحد وحوادث الرجيع وبئر يمعونة‪ ،‬هيبة المسلمين في نفولسهم‪،‬‬ ‫وصاروا يتربصون بالرلسول الدوائر‪ ،‬وكشف الرلسول نياتهم‬ ‫بالستدراجهم حتى ظهرت يمؤايمرتهم ضده‪ ،‬فبعث يمحمد بن يمسلمة‬ ‫إليهم وقال له ‪} :‬اذهب إلى يهود بني النضير وقل لهم ‪ :‬إن رلسول‬ ‫ا أرلسلني إليكم أن اخرجوا يمن بلدي‪ ،‬لقد نقضتم العهد الذي‬ ‫جل ُتكم عشرا‪ ،‬فمن‬ ‫ت لكم بما هممتم به يمن الغدر بي‪ ،‬فقد أ مّ‬ ‫جعل ُ‬ ‫ضربت عنقه‪.{،‬‬ ‫رؤي بعد ذلك ُ‬ ‫وكاد بنو النضير يخرجون لول أن حمّرضهم عبدا بن ُأبيمّ‬ ‫ي بن أخطب على أن يبقوا في‬ ‫ح لَي يْ‬ ‫على البقا ء‪ ،‬وشجعهم ُ‬ ‫حصونهم‪ .‬وانقضت اليام العشرة ولم يخرجوا يمن ديارهم‪،‬‬ ‫فقاتلهم الرلسول حتى ضَّيا ق عليهم‪ ،‬فسألوه أن يؤمّيمنهم على‬ ‫أيموالهم وديمائهم وذراريهم حتى يخرجوا‪ .‬فصالحهم الرلسول على‬ ‫أن يخرجوا يمنها ولكل ثلثة يمنهم بعير يحملون عليه يما شاؤوا يمن‬ ‫‪-84-‬‬


‫طعام وشراب‪ ،‬ليس لهم غيره‪ ،‬فخرجوا وتركوا ورا ءهم جميع يما‬ ‫يملكون يمن أراض ونخيل وغلل ولسل ح‪ ،‬غنائم للمسلمين ومّزعها‬ ‫رلسول ا على المهاجرين فقط ولم يعط النصار شيئا لسوى‬ ‫رجلين اثنين هما أبو دجانة ولسهل بن حنيف؛ لنهما كانا فقيرين‬ ‫كالمهاجرين‪.‬‬ ‫سم الرلسول أيمر السيالسة‬ ‫ح لَ‬ ‫وبإجل ء بني النضير وتأديبهم‪ ،‬لَ‬ ‫الداخلية‪ ،‬وعادت هيبة المسلمين‪ .‬فالتفت إلى السيالسة الخارجية‪،‬‬ ‫فكان أن تحدى قريشا في غزوة بدر الخرة‪ ،‬فلم تجرؤ على‬ ‫يمقابلته‪ .‬وذلك حين الستدار العام يمنذ ُأحد‪ ،‬ذكر الرلسول قولة أبي‬ ‫لسفيان "يوم بيوم بدر والموعد العام المقبل"‪ ،‬وذكر ضرورة يمقابلة‬ ‫أبي لسفيان‪ ،‬فجهز المسلمين‪ ،‬والستعمل على المدينة عبدا بن‬ ‫عبدا بن لسلول‪ ،‬ولسار بالمسلمين حتى نزلوا بدرا ينتظرون‬ ‫قريشا‪ ،‬يمستعدين لقتالها‪ .‬وخرجت قريش يمع أبي لسفيان يمن يمكة‬ ‫في أكثر يمن ألفي رجل‪ ،‬ولكنه يما لبث أن رجع ورجع الناس يمعه‪.‬‬ ‫وأقام الرلسول في بدر ثمانية أيام يمتتابعة‪ ،‬ينتظر قريشا‪ ،‬فلم تأت‬ ‫وبلغه نبأ رجوعها‪ ،‬فعاد بالمسلمين بعد أن ربحوا في تجارتهم‬ ‫أثنا ء إقايمتهم في بدر‪ ،‬وعادوا يمنصورين وإن لمن يقاِتلوا‪.‬‬ ‫ثم حمل الرلسول عليه السلم على غطفان بنجد‪ ،‬ففروا يمن‬ ‫وجهه وتركوا أيموالهم ونسا ءهم‪ ،‬فغنمها المسلمون وعادوا‬ ‫للمدينة‪ ،‬ثم خرج إلى دويمة الجندل على الحدود يما بين الحجاز‬ ‫‪-85-‬‬


‫والشام‪ ،‬ليؤمّدب القبائل التي كانت ُتغير على القوافل‪ ،‬ولكنها لم‬ ‫تقابله وأخذها الفز ع وولت يمن وجهه وتركت أيموالها‪ ،‬فأخذها‬ ‫المسلمون وعادوا ظافرين‪.‬‬ ‫وبهذه الغزوات الخارجية والتأديبات الداخلية في المدينة‪،‬‬ ‫الستطا ع الرلسول عليه السلم أن يعيد هيبة الدولة اللسليمية إلى‬ ‫نفوس العرب واليهود وأن يمحو آثار هزيمة ُأحد يمحوا تايما‪.‬‬ ‫غزوة الحزاب‬ ‫كان للغزوات والتأديبات التي قام بها رلسول ا صلى ا‬ ‫عليه ولسلم بعد غزوة ُأحد أثر كبير في نشر هيبة المسلمين‪ ،‬وفي‬ ‫ظم‬ ‫ع ُ‬ ‫تركيز الدولة اللسليمية‪ .‬فقد اتسع بها نفوذ المسلمين‪ ،‬و لَ‬ ‫لسلطانهم‪ ،‬وخافتهم شبه الجزيرة‪ ،‬وصار العرب حين يسمعون‬ ‫بالسم الرلسول يغزوهم يأخذهم الفز ع ويومّلون ُيمدبرين‪ ،‬كما حصل‬ ‫في غطفان ودويمة الجندل‪ ،‬وصارت قريش تج ُبن عن لقا ء‬ ‫المسلمين كما حصل في بدر الخرة‪ .‬وهذا كله جعل المسلمين‬ ‫يركنون إلى شي ء يمن الطمأنينة إلى الحياة في المدينة‪ ،‬ويأخذون‬ ‫في تنظيم عيشهم على ضو ء الوضع الجديد الذي صار للمهاجرين‬ ‫بعد غنائم بني النضير‪ ،‬وتوزيع الراضي والنخيل والمساكن والثاث‬ ‫عليهم‪.‬‬ ‫غير أن هذا لم يجعلهم يركنون إلى الحياة إركانا يصرفهم‬ ‫‪-86-‬‬


‫عن يمواصلة الجهاد‪ ،‬لن الجهاد فرض إلى قيام الساعة‪ ،‬وإمّنما‬ ‫صاروا في حال يمن العيش أحسن يمن قبل‪ ،‬وفي حالة يمن‬ ‫اللستقرار أكثر أيمانا يمن قبل‪ ،‬وكان الرلسول صلى ا عليه ولسلم‬ ‫على طمأنينته حذرا دائما غدرة العدو‪ ،‬باثا دائما عيونه وأرصاده‬ ‫في أنحا ء شبه الجزيرة‪ ،‬ينقلون إليه يمن أخبار العرب ويما يأتمرون‬ ‫به يما يممّهد له فرصة الهبة لملقاة العدو وهو على علم بخططه‬ ‫وألساليبه‪ ،‬وعلى الستعداد لمواجهته‪ ،‬ل لسيما وأعدا ء المسلمين‬ ‫أصبحوا كثيرين في الجزيرة‪ ،‬بعد أن أصبح له لسلطان يمرهوب‬ ‫الجانب يمن جميع العرب‪ ،‬وبعد أن أجلى يهود بني قينقا ع ويهود‬ ‫بني النضير عن المدينة‪ ،‬وضرب قبائل العرب كغطفان وهذيل‬ ‫وغيرها ضربات قاصمة‪ .‬ولذلك ظل الرلسول حذرا يتتبع أخبار‬ ‫مع قريش وبعض القبائل لغزو المدينة‪،‬‬ ‫العرب‪ ،‬إلى أن بلغه تج مّ‬ ‫فأخذ يستعد للقائهم‪.‬‬ ‫ذلك أن بني النضير بعد أن أجلهم الرلسول عن المدينة‪،‬‬ ‫اختمرت في نفولسهم فكرة تأليب العرب على الرلسول‪ ،‬ليأخذوا‬ ‫بالثأر يمنه‪ .‬وتنفيذا لهذه الفكرة خرج نفر يمن يهود بني النضير‪ ،‬ويمن‬ ‫ي بن أخطب ولسلم بن أبي الحقيا ق وكنانة بن أبي‬ ‫ح لَي يْ‬ ‫بينهم ُ‬ ‫الحقيا ق ويمعهم يمن بني وائل هوذة بن قيس وأبو عمار حتى‬ ‫حييا عن قويمه فقال ‪ :‬تركتهم‬ ‫ لَقِديموا على قريش يمكة‪ ،‬فسأل أهلها ُ‬ ‫بين خيبر والمدينة يترددون حتى تأتوهم فتسيروا يمعهم إلى يمحمد‬ ‫‪-87-‬‬


‫وأصحابه‪ .‬ولسألوه عن قريظة فقال ‪ :‬أقايموا بالمدينة يمكرا بمحمد‬ ‫جم‪،‬‬ ‫حتى تأتوهم فيميلوا يمعكم‪ .‬وترددت قريش أ ُتقِدم أن ُتح ِ‬ ‫فليس بينها وبين يمحمد خلف إل مّ على الدعوة التي يدعو إلى ا‪.‬‬ ‫أليس يمن الممكن أن يكون على حا ق؟ ولذلك قالت قريش لليهود ‪:‬‬ ‫يا يمعشر يهود إنكم أهل الكتاب الول‪ ،‬وأهل العلم بما أصبحنا‬ ‫نختلف فيه نحن ويمحمد‪ ،‬أفديننا خير أم دينه؟ قالت اليهود ‪ :‬بل‬ ‫دينكم خير يمن دينه‪ ،‬وأنتم أيْولى بالحا ق يمنه‪ .‬وكان اليهود أهل‬ ‫توحيد وكانوا يعلمون أن دين يمحمد هو الحا ق‪ ،‬ولكن حرصهم‬ ‫على تأليب العرب جعلهم يتورطون في هذا الخطأ الفاحش‪،‬‬ ‫وهذه السبة البدية‪ ،‬أن يصرحوا بأن عبادة الصنام أفضل يمن‬ ‫التوحيد‪ .‬ولكنهم فعلوها ويفعلون أيمثالها‪.‬‬ ‫وبعد أن اطمأنوا إلى اقتنا ع قريش برأيهم خرجوا إلى‬ ‫غطفان يمن قيس غيلن ويمن بني ُيممّرة ويمن بني فزارة ويمن‬ ‫لس لَليْيم ويمن بني لسعد ويمن ألسد‪ ،‬ويمن كل يمن لهم عند‬ ‫أشجع ويمن ُ‬ ‫المسلمين ثأر‪ .‬ويما زالوا بهم يحرضونهم على الخذ بثأرهم‪،‬‬ ‫ويذكرون لهم يمتابعة قريش إياهم على حرب يمحمد‪ ،‬ويحمدون‬ ‫عدونهم النصر‪ .‬وهكذا الستطاعوا أن يؤلبوا العرب‬ ‫لهم وثنيتهم‪ ،‬و لَي ِ‬ ‫على حرب الرلسول‪ ،‬فاجتمع عدد يمن قبائل العرب وخرجوا يمع‬ ‫قريش لغزو المدينة‪.‬‬ ‫خرجت قريش وعلى رألسها أبو لسفيان في أربعة آلف‬ ‫‪-88-‬‬


‫ط بعيره‪ .‬وخرجت بنو‬ ‫يمجند‪ ،‬وثلثمائة جواد‪ ،‬وخمسمائة وألف يممت ٍ‬ ‫فزارة وعلى رألسها عيينة بن حصن بن حذيفة في رجال كثيرين‬ ‫وألف بعير‪ .‬وخرجت أشجع في أربعمائة يمحارب‪ ،‬وعلى رألسها‬ ‫يمسعر بن رخيلة‪ .‬وخرجت ُيممّرة في أربعمائة يمحارب يتزعمها‬ ‫لس لَليْيم وأصحاب بئر يمعونة في لسبعمائة‬ ‫الحارث بن عوف‪ .‬وجا ءت ُ‬ ‫رجل‪ .‬واجتمع هؤل ء وانحاز إليهم بنو لسعد وبنو ألسد‪ ،‬فصاروا في‬ ‫عشرة آلف أو نحوها‪ ،‬ولساروا جميعا تحت إيمرة أبي لسفيان‬ ‫قاصدين المدينة‪.‬‬ ‫صن بالمدينة‪،‬‬ ‫ما اتصل نبأ هذه الجمو ع بالرلسول‪ ،‬قرر التح مّ‬ ‫ول مّ‬ ‫وأشار لسلمان الفارلسي بحفر الخندق حول المدينة والتحصن‬ ‫داخلها‪ ،‬فحفر الخندق‪ ،‬وعمل به النبي بيديه‪ ،‬فكان يرفع التراب‬ ‫ويشجع المسلمين ويدعوهم إلى يمضاعفة الجهد‪ .‬فتم حفر‬ ‫صنت جدران المنازل التي تواجه العدو‪،‬‬ ‫ح مّ‬ ‫الخندق في لستة أيام‪ ،‬و ُ‬ ‫و ُأخليت المساكن التي ظلت ورا ء الخندق‪ ،‬وجي ء بالنسا ء‬ ‫صنت‪ ،‬وخرج الرلسول في ثلثة آلف‬ ‫ح مّ‬ ‫والطفال إلى المنازل التي ُ‬ ‫يمن المسلمين‪ ،‬فجعل ظهره إلى هضبة لسلع‪ ،‬وجعل الخندق بينه‬ ‫وبين أعدائه‪ ،‬وهناك ضرب عسكره و ُنصبت له خيمته الحمرا ء‪.‬‬ ‫وأقبلت قريش وأحزابها‪ ،‬وهي ترجو أن تلقى يمحمدا ب ُأحد‪،‬‬ ‫فلم تجده فجاوزته إلى المدينة‪ ،‬ففاجأها الخندق‪ ،‬فدهشت لنها ل‬ ‫تعرف هذا النو ع يمن ولسائل الدفا ع‪ ،‬وعسكرت قريش والحزاب‬ ‫‪-89-‬‬


‫خارج المدينة ورا ء الخندق‪.‬‬ ‫وأيقن أبو لسفيان والذين يمعهم أنهم يمقيمون أيمام الخندق‬ ‫طويل م ً دون أن يستطيعوا اقتحام الخندق‪ .‬وكان الوقت شتا ء‪،‬‬ ‫والريا ح عاصفة‪ ،‬والبرد قارلسا‪ ،‬فأخذ يدب إليهم الوهن وأخذوا‬ ‫ي بن أخطب قد لحظ ذلك‬ ‫ح لَي يْ‬ ‫يفضلون أن يعودوا أدراجهم‪ .‬وكان ُ‬ ‫عليهم‪ ،‬فتحدث إليهم أنه ُيقِنع بني قريظة بنقض عهد يموادعتهم‬ ‫يمحمدا والمسلمين‪ ،‬وبالنضمام إليهم‪ ،‬وأن قريظة يمتى فعلت ذلك‬ ‫انقطع المدد عن المسلمين‪ ،‬و ُفتحت الطريا ق لدخول المدينة‪.‬‬ ‫ي إلى كعب بن ألسد‬ ‫ح لَي يْ‬ ‫سَّرت قريش وغطفان بذلك‪ ،‬ولسار ع ُ‬ ‫ف ُ‬ ‫ما أحس به كعب أغلا ق دونه باب حصنه‪ ،‬غير‬ ‫زعيم بني قريظة‪ .‬فل مّ‬ ‫أن حييا يما زال به حتى فتح له باب الحصن فقال له ‪" :‬ويحك يا‬ ‫كعب جئتك بعز الدهر‪ ،‬وببحر طام‪ ،‬جئتك بقريش وبغطفان يمع‬ ‫قادتها ولسادتها‪ ،‬وقد عاهدوني وعاقدوني على أل يبرحوا حتى‬ ‫نستأصل يمحمدا ويمن يمعه"‪ .‬وتردد كعب‪ ،‬وذكر وفا ء يمحمد‬ ‫وصدقه لعهده‪ ،‬وخشي يمغبة يما يدعوه إليه‪ .‬لكن حييا يما زال به‬ ‫يذكر له يما أصاب اليهود يمن يمحمد‪ ،‬ويصف له قوة الحزاب‪ ،‬حتى‬ ‫لن كعب و لَقِبل يما طلب حيي‪ ،‬ونقض عهده يمع يمحمد والمسلمين‪.‬‬ ‫وانضمت قريظة إلى الحزاب دون أن يخ لَبر الرلسول بذلك‪.‬‬ ‫فاتصل هذا النبأ بالرلسول عليه السلم وبأصحابه‪ ،‬فاهتزوا له‪،‬‬ ‫وخافوا يمغبته‪ ،‬فبعث الرلسول لسعد بن يمعاذ لسيد الوس ولسعد‬ ‫‪-90-‬‬


‫بن عبادة لسيد الخزرج ويمعهما عبدا بن رواحة وخوات بن جبير‬ ‫ليقفوا على جلية اليمر‪ ،‬وأوصاهم إذا كانت قريظة قد نقضت العهد‬ ‫أن يكتموا ذلك‪ ،‬حتى ل يفت في أعضاد الناس‪ ،‬وأن يكتفوا‬ ‫ما أتى هؤل ء الرلسل ألفوا قريظة‬ ‫بالشارة إليه والتعريض به‪ .‬فل مّ‬ ‫ما حاولوا رمّدهم إلى عهدهم طلب‬ ‫على أخبث يما بلغهم عنهم‪ .‬فل مّ‬ ‫كعب إليهم أن يرمّدوا اخوانهم يهود بني النضير إلى ديارهم‪ .‬وأراد‬ ‫لسعد بن يمعاذ وكان حليف قريظة أن يقنعها‪ ،‬فصاروا يوقعون في‬ ‫يمحمد عليه السلم‪ ،‬ويقول كعب ‪ :‬يمن رلسول ا؟ ل عهد بيننا وبين‬ ‫يمحمد‪ .‬فرجع الرلسل وأخبروا بما رأوا‪ ،‬فاشتد الخوف‪ .‬وأخذت‬ ‫عد نفسها للقتال‪.‬‬ ‫الحزاب ُت ِ‬ ‫عد فيها‬ ‫أمّيما قريظة فإنها الستمهلت الحزاب عشرة أيام ُت ِ‬ ‫عدتها‪ ،‬على أن تقاِتل الحزاب المسلمين في هذه اليام العشرة‬ ‫أشد القتال‪ .‬وذلك يما فعلوا‪ ،‬فقد أمّلفوا ثلث كتائب لمحاربة النبي‪،‬‬ ‫فأتت كتيبة ابن العور السلمي يمن فوق الوادي‪ ،‬وأتت كتيبة عيينة‬ ‫بن حصن يمن الجنب‪ ،‬ونصب له أبو لسفيان ِيمن ِق لَبل الخندق‪.‬‬ ‫وبلغ الفز ع بالمسلمين يمبلغا عظيما‪ ،‬وزاغت البصار‪ ،‬وبلغت‬ ‫القلوب الحناجر‪ ،‬واشتد لساعد الحزاب‪ ،‬وظهرت قوتهم‪ ،‬وارتفعت‬ ‫نفولسهم‪ ،‬فهاجموا الخندق واقتحموه‪ ،‬فقد اندفع بعض فوارس‬ ‫يمن قريش يمنهم عمرو بن عبد ُود‪ ،‬وعكريمة بن أبي جهل‪ ،‬وضرار‬ ‫بن الخطاب‪ ،‬ورأوا يمكانا ضيقا فضربوا خيلهم فاجتازته‪ ،‬وجالت‬ ‫‪-91-‬‬


‫بين لسلع والخندق‪ .‬فخرج علي بن أبي طالب في نفر يمن‬ ‫المسلمين‪ ،‬فأخذوا عليهم الثغرة التي اقتحمت يمنها خيلهم‪ ،‬وتقدم‬ ‫ما دعاه علي بن أبي طالب‬ ‫عمرو بن عبد ُود ينادي يمن يبارز‪ .‬ول مّ‬ ‫إلى النزال قال في صلف ‪ِ :‬لم يا ابن أخي‪ ،‬فوا يما أحب أن‬ ‫أقتلك‪ .‬قال علي ‪ :‬لكني أحب وا أن أقتلك‪ .‬فتنازل فقتله علي‪،‬‬ ‫وفمّرت خيل الحزاب يمنهزيمة حتى اقتحمت الخندق يمن جديد يمولية‬ ‫الدبار ل تلوي على شي ء‪.‬‬ ‫لكن ذلك لم يوهن يمن نفوس الحزاب‪ ،‬بل أعظمت نيرانها‬ ‫يمبالغة في تخويف المسلمين‪ ،‬وبدأ المتحمسون يمن قريظة ينزلون‬ ‫يمن حصونهم إلى يمنازل المدينة القريبة يمنهم‪ ،‬يريدون إرهاب‬ ‫م الفز ع‪ ،‬وكان الرلسول‬ ‫ظم الهول وع مّ‬ ‫ع ُ‬ ‫أهلها‪ .‬فاشتد الكيْرب و لَ‬ ‫صلى ا عليه ولسلم على أعظم الثقة بنصر ا له‪ .‬فجا ء نعيم بن‬ ‫يمسعود وكان قد ألسلم‪ ،‬وعرض على رلسول ا أن يقوم بما يثمّبط‬ ‫الكفار‪ ،‬وذهب بأيمر الرلسول إلى بني قريظة‪ ،‬وكانت ل تعرف أنه‬ ‫ألسلم‪ ،‬وكان لها نديما في الجاهلية‪ ،‬فذمّكرهم بما بينه وبينهم يمن‬ ‫يمومّدة‪ ،‬ثم ذكر لهم أنهم ظاهروا قريشا وغطفان على يمحمد‪،‬‬ ‫وقريش وغطفان ربما ل تطيقان المقام طويل م ً فترتحلن ف ُتخِليان‬ ‫كل بهم‪ ,‬ونصح لهم أل يقاِتلوا يمع القوم‬ ‫يما بينهم وبين يمحمد فين مّ‬ ‫حتى يأخذوا يمنهم رهنا يكونون بأيديهم‪ ،‬حتى ل تتنحى قريش‬ ‫وغطفان عنهم‪ .‬واقتنعت قريظة بما قال‪ .‬ثم إنه ذهب إلى قريش‬ ‫‪-92-‬‬


‫فألسمّر لهم أن قريظة نديموا على يما فعلوا يمن نكث عهد يمحمد‪،‬‬ ‫وأنهم عايملون للسترضائه وكسب يمودته بأن يقمّديموا له يمن أشراف‬ ‫قريش يمن يضرب أعناقهم‪ ،‬ولذلك نصح لهم إن بعثت إليهم اليهود‬ ‫يلتمسون رهائن يمن رجالهم أل يبعثوا يمنهم أحدا‪ .‬وصنع نعيم يمع‬ ‫غطفان يما صنع يمع قريش‪.‬‬ ‫شبهة في نفوس العرب يمن اليهود‪ ،‬فأرلسل أبو‬ ‫ودمّبت ال ُ‬ ‫لسفيان إلى كعب يخبره ‪ :‬أن طالت إقايمتنا وحصارنا لهذا الرجل‪،‬‬ ‫وقد رأيت أن تعمدوا إليه في الغداة ونحن يمن ورائكم‪ .‬فأجاب‬ ‫كعب أن غدا السبت وأمّنا ل نستطيع القتال والعمل يوم السبت‪.‬‬ ‫فغضب أبو لسفيان وصمّدق حديث نعيم‪ ،‬وأعاد الرلسول إلى قريظة‬ ‫يقول لهم اجعلوا لسبتا يمكان هذا السبت فإنه ل بد يمن قتال يمحمد‬ ‫غدا‪ ،‬وإن خرجنا لقتاله ولستم يمعنا لنبرأن يمن حلفكم‪ ،‬ولنبدأن‬ ‫ما لسمعت قريظة كلم أبي لسفيان كررت أنها ل‬ ‫بكم قبل يمحمد‪ .‬فل مّ‬ ‫تتعدى السبت‪ ،‬ثم أشاروا إلى الرهائن حتى يطمئنوا لمصيرهم‪.‬‬ ‫ما لسمع ذلك أبو لسفيان لم يبا ق لديه في كلم نعيم ريبة‪ .‬وبات‬ ‫فل مّ‬ ‫يفكر يماذا يصنع؟ وتحدث إلى غطفان فإذا هي تتردد في القدام‬ ‫على قتال يمحمد‪.‬‬ ‫ما كان الليل أرلسل ا عليهم ريحا عاصفا‪ ،‬ورعدا قاصفا‪،‬‬ ‫فل مّ‬ ‫ويمطرا غزيرا‪ ،‬فاقتلعت الخيام‪ ،‬وكفأت القدور‪ ،‬وأدخلت الرعب في‬ ‫خمّيل إليهم أن المسلمين انتهزوها فرصة ليعبروا إليهم‬ ‫نفولسهم‪ ،‬و ُ‬ ‫‪-93-‬‬


‫شر‪،‬‬ ‫ويوقعون فيهم‪ ،‬فقام طليحة فنادى أن يمحمدا قد بدأكم ِب لَ‬ ‫فالنجاة النجاة‪ .‬وقال أبو لسفيان ‪ :‬يا يمعشر قريش ارتحلوا فإني‬ ‫يمرتحل‪ .‬فالستخف القوم يما الستطاعوا حمله وفمّروا‪ ،‬وتبعتهم‬ ‫ما رأى‬ ‫غطفان والحزاب‪ ،‬وأصبح الصبح ولم يبا ق يمنهم أحد‪ .‬فل مّ‬ ‫الرلسول ذلك انصرف راجعا إلى يمنازل المدينة والمسلمون يمعه‪،‬‬ ‫وكفى ا المؤيمنين القتال‪.‬‬ ‫غير أن الرلسول وقد السترا ح يمن قريش وكفاه ا قتالها‪،‬‬ ‫رأى أنه ل بد أن ينهي أيمر بني قريظة‪ ،‬وقد نقضوا عهدهم يمعه‬ ‫وتآيمروا على القضا ء على المسلمين‪ ،‬لذلك أيمر عليه السلم يمؤمّذنا‬ ‫ن العصر إل مّ في‬ ‫فأمّذن في الناس ‪ :‬يمن كان لسايمعا يمطيعا فل يصمّلي مّ‬ ‫بني قريظة‪ .‬وقمّدم عليا برايته إليها‪ ،‬وخف المسلمون للقتال فرحين‬ ‫يمسرورين ورا ء علي رضي ا عنه‪ ،‬حتى أتوا بني قريظة‬ ‫وحاصروهم حصارا شديدا ظل يمدة خمس وعشرين ليلة‪ ،‬فبعثوا‬ ‫إلى الرلسول وفاوضوه‪ ،‬ثم نزلوا على حكم لسعد بن يمعاذ‪ ،‬فحكم‬ ‫سم اليموال وتسبى الذراري والنسا ء‪.‬‬ ‫فيهم أن ُتق لَتل المقاِتلة و ُتق لَ‬ ‫طهرت المدينة يمنها‪.‬‬ ‫ف ُنفذ الحكم وقضي على هذه القبيلة‪ ،‬و ُ‬ ‫وبهزيمة الحزاب انتهت آخر يمحاولة جدية قايمت بها قريش‬ ‫لمواجهة الرلسول وحربه‪ ،‬وبالقضا ء على بني قريظة ُقضي على‬ ‫القبائل اليهودية الثلث التي كانت حول المدينة وعاهدته ونقضت‬ ‫عهودها؛ فالستتب اليمر بذلك للرلسول وللمسلمين في المدينة ويما‬ ‫‪-94-‬‬


‫حولها الستتبابا جعل العرب تخافهم وترهب جانبهم‪.‬‬ ‫يمعاهدة الحديبية‬ ‫بعد أن انقضت لست لسنوات على هجرته صلى ا عليه‬ ‫ولسلم يمن يمكة‪ ،‬وبعد أن اطمأن إلى جيشه‪ ،‬وإلى المجتمع‬ ‫اللسليمي‪ ،‬وبعد أن أصبحت دولة المسلمين يمرهوبة الجانب عند‬ ‫جميع العرب‪ ،‬فكر في خطوة أخرى يخطوها في لسبيل الدعوة‬ ‫وفي لسبيل تقوية الدولة اللسليمية وإضعاف أعدائه‪ ،‬وقد بلغه أن‬ ‫يمواطأة كانت بين أهل خيبر ويمكة على غزو المسلمين‪ ،‬فرلسم‬ ‫خطة يصل بها إلى يموادعة يمع أهل يمكة ينتج عنها أن ُيخلى بينه‬ ‫وبين العرب لتسهيل نشر الدعوة في الجزيرة‪ ،‬وأن يعزل بها خيبر‬ ‫عن قريش‪ .‬ورأى أن هذه الخطة إمّنما هي زيارة بيت ا الحرام‬ ‫يملتزيما بها خطة السلم حتى يصل إلى يمقصوده‪ .‬ورأى أن عدم‬ ‫ح ُرم تسمّهل له هذه الخطة‪ ،‬وكان‬ ‫يمحاربة العرب في الشهر ال ُ‬ ‫يعلم أن قريشا قد تفككت وحدتها‪ ،‬وصار يساورها الخوف يمن‬ ‫المسلمين‪ ،‬وأنها تحسب له ألف حساب‪ ،‬فأراد أن يذهب إلى البيت‬ ‫الحرام حاجا‪ ،‬وأنه إذا يمنعته قريش كان هذا المنع ولسيلة يمن‬ ‫ولسائل الدعوة اللسليمية في العرب ويمن ولسائل الدعاية ضد‬ ‫قريش‪.‬‬ ‫ولهذا أذن الرلسول بالحج في شهر ذي القعدة الحرام‪،‬‬ ‫‪-95-‬‬


‫وأرلسل إلى القبائل العربية يمن غير المسلمين يدعوهم إلى‬ ‫الشتراك يمعه في الخروج إلى بيت ا‪ ،‬آيمنين غير يمقاِتلين‪ .‬وكان‬ ‫يقصد يمن ذلك أن ُيعِلم العرب أنه خرج حاجا ولم يخرج غازيا‪،‬‬ ‫وأنه أشرك يمعه العرب يمن غير المسلمين وهم ليسوا على دينه؛‬ ‫ل‪ ،‬وذلك ليكسب الرأي العام يمعهم فيما لو يمنعته‬ ‫لنه ل يريد قتا م ً‬ ‫قريش يمن الحج‪ .‬وقد قرر خطة السلم؛ ولذلك لم يأذن للمسلمين‬ ‫أن يحملوا لسلحا إل مّ السيوف في أغمادها‪ ،‬وأعلمهم أنه خارج‬ ‫للحج ل للقتال‪.‬‬ ‫وغادر الرلسول عليه السلم المدينة ويمعه ألف وأربعمائة‬ ‫رجل‪ ،‬وهو يتقدم الناس على ناقته القصوا ء‪ ،‬وقد لساق يمعه‬ ‫لسبعين ُبدنة‪ ،‬وأحرم بالعمرة ل ُيعِلم الناس أنه ل يريد قتال م ً وإمّنما‬ ‫ما جاوز المدينة وقطع يمسافة لستة‬ ‫خرج زائرا لبيت ا الحرام‪ .‬ول مّ‬ ‫ح لَليْيفة‪ ،‬ولمّبوا بالعمرة هناك‪.‬‬ ‫أيميال أو لسبعة أيميال وصلوا إلى ذي ال ُ‬ ‫ولساروا نحو يمكة فبلغ خبرهم قريشا بأنهم لَقِديموا للحج ل للقتال‪،‬‬ ‫فخافت أن يكون ذلك حيلة احتالها يمحمد لدخول يمكة على أهلها‪،‬‬ ‫حول بين يمحمد‬ ‫وحسبت لهذا اليمر ألف حساب‪ ،‬وقررت أن ت ُ‬ ‫ودخول يمكة يمهما كلفها ذلك يمن تضحيات‪ ،‬فجهزت جيشا للقا ء‬ ‫المسلمين وصمّدهم عن يمكة‪ ،‬إذ عقدوا لخالد بن الوليد وعكريمة‬ ‫بن أبي جهل على جيش كبير كان فيه يمن الفرلسان فقط يمائتا‬ ‫فارس‪ .‬وخرج جيش المشركين يمن يمكة‪ ،‬وتقدم نحو القاديمين إلى‬ ‫‪-96-‬‬


‫الحج ليمنعهم‪ ،‬ووصل إلى ذي طوى وعسكر هناك‪.‬‬ ‫وقد بلغ يمحمدا يما فعلته قريش‪ ،‬وأنهم جهزوا له جيشا لمنعه‬ ‫ما وصل عليه السلم إلى قرية عسفان على بعد‬ ‫يمن الحج‪ .‬ول مّ‬ ‫يمرحلتين يمن يمكة لقيه رجل يمن بني كعب فسأله النبي عن أخبار‬ ‫عت قريش بمسيرك فخرجوا وقد لبسوا‬ ‫قريش فقال له ‪" :‬قد لسم لَ‬ ‫جلود النمور‪ ،‬ونزلوا بذي طوى‪ ،‬يعاهدون ا ل تدخلها عليهم أبدا‪.‬‬ ‫وهذا خالد بن الوليد في خيلهم قد لَقِديموها إلى كرا ع الغميم ‪-‬وهو‬ ‫ما‬ ‫يمكان يبعد عن يمعسكر المسلمين لعسفان بثمانية أيميال‪ .-‬فل مّ‬ ‫لسمع الرلسول ذلك قال ‪} :‬يا ويح قريش‪ ،‬لقد أهلكتهم الحرب‪ ،‬يماذا‬ ‫ن هم أصابوني كان ذلك‬ ‫عليهم لو خلوا بيني وبين لسائر العرب‪ ،‬فإ يْ‬ ‫الذي أرادوا‪ ،‬وإن أظهرني ا عليهم دخلوا في اللسلم وافرين‪،‬‬ ‫وإن لم يفعلوا قاتلوا وبهم قوة‪ ،‬فما تظن قريش‪ ،‬فوا ل أزال‬ ‫أجاهد على الذي بعثني ا به حتى ُيظِهره ا أو تنفرد هذه‬ ‫السالفة‪ {،‬يعني لسيظل يجاهد حتى ينتصر أو يموت‪.‬‬ ‫وهنا وقف عليه الصلة والسلم يفكر في اليمر ويعيد النظر‬ ‫في الخطة التي اختطها‪ ،‬لقد قرر خطة السلم ولم يهيئ للقتال‪،‬‬ ‫ل‪ ،‬ولكن‬ ‫ولكن قريشا أرلسلت إليه جيشا لتقاتله‪ ،‬وهو ل يريد قتا م ً‬ ‫أيرجع أم يغمّير خطة السلم إلى خطة القتال؟ إنه يعلم أن‬ ‫المسلمين في إيمانهم قادرون على يمواجهة خصمهم‪ ،‬ودخول‬ ‫يمعركة يمع عدوهم إن لم يكن يمن الحرب ُبد‪ ،‬ولكنه لم يحضر‬ ‫‪-97-‬‬


‫لحرب ولم يقرر القتال‪ ،‬وأنه إمّنما جا ء ليحج‪ ،‬وجا ء يمسالما‪ ،‬ولو‬ ‫ ُفرض و ُيمنع يمن الحج‪ ،‬وكان يمقدرا هذا المنع‪ ،‬فإنه يريده يمنعا‬ ‫لسلميا أيضا ل يمنعا حربيا‪ ،‬ول دخول م ً حربيا‪ .‬إن خطة السلم هذه‬ ‫التي اختطها يريد بها إيجاد رأي عام عند العرب كافة عن الدعوة‬ ‫اللسليمية‪ ،‬ولسممّوها‪ ،‬وإيجاد رأي عام عند قريش‪ ،‬وفي يمكة‬ ‫كذلك‪ ،‬عن لسممّو هذه الدعوة‪ ،‬وإيجاد رأي عام عند العرب وعند‬ ‫قريش وفي يمكة عن خطأ قريش وضللها وفجورها وعدوانها‪.‬‬ ‫إنه يريد هذا الرأي العام ليجاد أجوا ء الدعوة‪ ،‬لن هذه الجوا ء‬ ‫عدة للدعوة على النتشار‪ ،‬وعلى النصر‪،‬‬ ‫يمن أكبر العوايمل المسا ِ‬ ‫ولذلك قرر خطة السلم‪ ،‬ولم يقرر الحرب‪ ،‬فإذا هو حارب فقد‬ ‫خالف هذه الخطة‪ ،‬وفمّوت عليه هذه الناحية التي خرج يمن أجلها‪.‬‬ ‫لذلك فكر كثيرا فيما يصنع‪ ،‬وكان في تفكيره أبعد نظرا وأكثر‬ ‫حنكة‪ ،‬وأدق لسيالسة يمن تفكير أي إنسان‪.‬‬ ‫لذلك قرر يمواصلة خطة السلم‪ ،‬حتى ل يفمّوت عليه قصده‬ ‫الذي خرج يمن أجله‪ ،‬وحتى ل تنعكس خطته فيكون لقريش عند‬ ‫العرب حجة عليه‪ ،‬ويكون الرأي العام لقريش بدل أن يكون له‪،‬‬ ‫ولهذا نادى في الناس ‪ :‬لَيمن رجل يخرج بنا على طريا ق غير طريقهم‬ ‫التي هم بها؟ فخرج بهم رجل يدمّلهم على الطريا ق‪ ،‬فساروا في‬ ‫طريا ق وعرة بين شعاب الجبال‪ ،‬في دروب ضيقة يتنقلون بها في‬ ‫عبة‪ ،‬وخرجوا إلى‬ ‫يمشقة أي يمشقة‪ ،‬حتى قطعوها بعد جهود يمت ِ‬ ‫‪-98-‬‬


‫لسهل انتهوا يمنه إلى ألسفل يمكة‪ ،‬في يمكان يسمى الحديبية‪،‬‬ ‫ما رآهم جيش خالد وعكريمة‪ ،‬فزعوا وكمّروا‬ ‫وعسكروا هناك‪ .‬فل مّ‬ ‫خلهم الرعب والفز ع يمن تجاوز‬ ‫راجعين إلى يمكة ليدافعوا عنها‪ ،‬ودا لَ‬ ‫المسلمين جيشهم واقتحايمهم حدود يمكة‪ .‬ورابط جيش المشركين‬ ‫داخل يمكة‪ ،‬ورابط جيش النبي ويمن يمعه في الحديبية‪ .‬ووقف‬ ‫المعسكران يمقابل بعضهما‪ ،‬قريش داخل يمكة والمسلمون في‬ ‫ل يفكر في الخطة التي يسلكها تجاه الخر‪.‬‬ ‫الحديبية‪ ،‬وك ٌ‬ ‫وكان بعض المسلمين يفكر في أن قريشا ل يمكن أن‬ ‫عد لهم عدة الحرب‪ ،‬فل لسبيل إل مّ أن‬ ‫كنهم يمن الحج‪ ،‬وهي ُت ِ‬ ‫تم مّ‬ ‫يحاربوها لينتصروا عليها‪ ،‬ويحجوا‪ ،‬وبذلك يقضون على قريش‬ ‫عد لحرب المسلمين كل‬ ‫القضا ء الخير‪ .‬وفكرت قريش في أن ُت ِ‬ ‫عدة تقدر عليها وتحارب المسلمين حتى ترمّدهم‪ ،‬ولو أدى ذلك إلى‬ ‫فنائها كلها‪ .‬لكن قريشا كانت تحسب للمسلمين ألف حساب‪ ،‬فلبثت‬ ‫تنتظر يما لسيفعل المسلمون‪.‬‬ ‫أمّيما رلسول ا فقد ظل على خطته التي اختطها يمن أن حرم‬ ‫بالعمرة في المدينة‪ ،‬وهي خطة السلم‪ ،‬حتى يصل للغرض الذي‬ ‫كرا في الحديبية‪ ،‬يمنتظرا أن يرى يما‬ ‫جا ء يمن أجله‪ ،‬فظل يمعس ِ‬ ‫لستفعل قريش‪ ،‬وكان يعلم أنها ترتجف خوفا يمنه‪ ،‬وأنها لسترلسل له‬ ‫لتفاوضه في شأن يمجيئه للحج‪ .‬وآثر التريث حتى ترلسل رلسلها‪.‬‬ ‫وبالفعل أرلسلت قريش بديل بن ورقا ء في رجال يمن خزاعة وفد‬ ‫‪-99-‬‬


‫يمفاوضة‪ ،‬ليسألوا الرلسول يما الذي جا ء به‪ ،‬ويما لبثوا بعد يمفاوضة‬ ‫قصيرة‪ ،‬حتى اقتنعوا بأن المسلمين لم يأتوا يريدون حربا‪ ،‬وإمّنما‬ ‫ح ُريماته‪ .‬فعادوا لقنا ع قريش بذلك‪،‬‬ ‫ظمين ل ُ‬ ‫أتوا زائرين للبيت‪ ،‬يمع مّ‬ ‫وحاولوا إقناعها‪ ،‬حتى اتهمتهم قريش بممالتهم لمحمد‪ ،‬ولم تثا ق‬ ‫بكليمهم‪ ،‬فأرلسلت وفدا آخر‪ ،‬فكان كالوفد الول‪ .‬ثم أرلسلت‬ ‫الحليس لسيد الحابيش لمفاوضة يمحمد‪ ،‬وكانت تعتمد عليه وعلى‬ ‫قويمه في صد يمحمد‪ ،‬وقصدت إثارته على المسلمين إذا رجع ولم‬ ‫تنجح يمفاوضته‪ ،‬فيزداد حقده ويشتد في الدفا ع عن يمكة‪.‬‬ ‫غير أن النبي حين علم بخروجه أيمر بالهيْدي أن ُتطلا ق أيمايمه‪،‬‬ ‫لتكون تحت نظره دليل م ً يمحسولسا على أن نية المسلمين الحج‬ ‫ما أقبل على يمعسكر المسلمين‪،‬‬ ‫وليس الحرب‪ .‬فخرج الحليس‪ ،‬ول مّ‬ ‫رأى البل في عرض الوادي‪ ،‬ورأى يمناظر المسلمين وهديهم‬ ‫يمناظر يمعتمرين ل يمحاربين‪ ،‬تظهر في يمعسكرهم أجوا ء العبادة‪،‬‬ ‫فتأثر لهذه المناظر‪ ،‬وأيقن بأن هؤل ء الناس يبغون العبادة ل‬ ‫القتال‪ .‬ويما لبث أن اقتنع بوجهة نظر المسلمين وانقلب إلى يمكة‬ ‫قبل أن يلقى الرلسول صلى ا عليه ولسلم‪ ،‬وأخبر قريشا وطلب‬ ‫إليها أن تسمح للمسلمين بالحج‪ ،‬وغضب عليها واشتد في غضبه‪،‬‬ ‫وهددهم بأنه إذا لم ُيخلوا بين يمحمد والكعبة تركهم ونفر‬ ‫بالحابيش عن يمكة‪ .‬ولكنهم السترضوه وطلبوا إليه أن ُيمهلهم‬ ‫حتى يفكروا في أيمرهم‪ ،‬فسكت عنهم‪.‬‬ ‫‪-100-‬‬


‫ثم إنهم أرلسلوا عروة بن يمسعود الثقفي بعد أن أكدوا له‬ ‫أنهم يطمئنون إلى رأيه ويثقون به‪ ،‬فخرج إلى الرلسول صلى ا‬ ‫عليه ولسلم وأخذ يفاوضه أن يرجع عن يمكة‪ ،‬والستعمل في‬ ‫يمفاوضته كافة اللساليب‪ ،‬ولكنه لم ينجح في ذلك‪ ،‬ورجع يمقتنعا‬ ‫بوجهة نظر الرلسول‪ ،‬وقال لقريش ‪" :‬يا يمعشر قريش إني جئت‬ ‫كسرى في ُيملكه‪ ،‬وقيصر في ُيملكه‪ ،‬والنجاشي في ُيملكه‪ ،‬وإني‬ ‫وا يما رأيت يملكا في قوم قط يمثل يمحمد في أصحابه‪ ،‬ل يتوضأ‬ ‫إل مّ ابتدروا وضو ءه‪ ،‬ول يسقط يمن شعره شي ء إل مّ أخذوه‪ ،‬وإنهم‬ ‫لن ُيسِلموه لشي ء أبدا‪ ،‬ف ُروا رأيكم"‪ .‬فزاد ذلك قريشا عنادا‬ ‫وخصويمة‪ ،‬وطالت المحادثات دون أن تصل إلى رأي‪.‬‬ ‫ففكر الرلسول في أن يرلسل هو وفدا للمفاوضة‪ ،‬فلعل رلسل‬ ‫قريش تخاف يمنها‪ ،‬ولعل رلسوله يقنعهم‪ .‬فأرلسل رلسول م ً إليهم‪،‬‬ ‫ولكنهم عقروا جمل الرلسول وأرادوا قتله لول حماية الحابيش له‪.‬‬ ‫واشتدت قريش في خصويمتها‪ ،‬وكانت ترلسل لسفها ءها في الليل‬ ‫يريمون يمعسكر المسلمين بالحجارة‪ ،‬فغضب لذلك المسلمون‪،‬‬ ‫وفكروا في قتال قريش‪ ،‬ولكن الرلسول كان يخفف يمن غضبهم‬ ‫ويهدئهم‪.‬‬ ‫وحدث أن خرج خمسون رجل م ً يمن قريش إلى يمعسكر‬ ‫المسلمين ليضربوهم‪ ،‬ف ُألقي القبض عليهم و ُأحضروا لرلسول ا‪،‬‬ ‫فعفا عنهم وخلى لسبيلهم‪ .‬فكان لهذا العمل الثر الكبر في يمكة‬ ‫‪-101-‬‬


‫والدللة القاطعة على صدق يمحمد فيما يقوله يمن أنه إمّنما جا ء‬ ‫للحج ل للحرب‪.‬‬ ‫و ُوجد بذلك رأي عام في يمكة في جانب الرلسول‪ ،‬حتى لو‬ ‫دخلها في ذلك الحين وحاولت قريش يمنعه لكانت الدائرة عليها‪،‬‬ ‫وكان أهل يمكة والعرب ضدها‪ .‬ولهذا لسكتت قريش عن تحرشاتها‬ ‫وصارت تفكر في أيمرها‪ ،‬وظهرت في أجوائها ايمارات السلم‪ .‬فأراد‬ ‫الرلسول أن يرلسل إليها يمن يفاوضها يمن المسلمين‪ ،‬وطلب إلى‬ ‫عمر بن الخطاب أن يذهب فقال له ‪ :‬يا رلسول ا إني أخاف‬ ‫قريشا على نفسي‪ ،‬وليس بمكة يمن بني عدي بن كعب أحد‬ ‫يمنعني‪ .‬وقد ع لَر لَفت قريش عدواتي إياها وغلظتي عليها‪ ،‬ولكن‬ ‫أدلك على رجل أعز بها يمني‪ ،‬عثمان بن عفان‪ .‬فدعا النبي عثمان‬ ‫وأرلسله إلى أبي لسفيان‪ ،‬فانطلا ق عثمان إلى قريش وأبلغهم‬ ‫رلسالته‪ ،‬فقالوا إن شئت أن تطوف بالبيت فافعل‪ ،‬فأجابهم ‪ :‬يما كن ُ‬ ‫ت‬ ‫لفعل حتى يطوف رلسول ا‪ .‬وفاوضهم في يمهمته‪ ،‬فرفضت‬ ‫قريش‪ ،‬وطال بينهم الحديث‪ ،‬والستمرت المفاوضات‪ ،‬وانتقلت يمن‬ ‫ِقبل قريش يمن الرفض إلى وضع خطة يمقابلة توفا ق بين يمطالب‬ ‫قريش ويمطالب المسلمين‪ ،‬وبحثوا يمعه في إيجاد علقات بينهم‬ ‫وبين يمحمد‪ ،‬وأِنسوا بعثمان أن يجد لهم طريقا يخلصون به يمن‬ ‫يمأزقهم هذا‪ ،‬ويمن الستمرار العداوة يمع يمحمد‪.‬‬ ‫ما طال يمكث عثمان ولم تظهر له آثار في يمكة لسارت‬ ‫ول مّ‬ ‫‪-102-‬‬


‫إشاعة بين المسلمين بأن قريشا غدرت بعثمان و لَق لَت لَلته‪ ،‬واشتد‬ ‫القلا ق بالمسلمين‪ ،‬ودخل في رو ع النبي أن قريشا قتلت عثمان‪،‬‬ ‫وهاج المسلمون واضطربوا‪ ،‬ووضع كل يمنهم يده على قبضة‬ ‫لسيفه‪ ،‬والستعدوا للحرب والقتال‪ .‬وحينئذ أعاد الرلسول عليه السلم‬ ‫النظر في خطته التي اختطها وهي خطة السلم‪ ،‬ورأى أن اليمر‬ ‫يحتاج إلى إعادة النظر في تلك الخطة بعد أن غدرت قريش‬ ‫بعثمان في الشهر الحرام‪ ،‬وهو رلسول يمفاوضة‪ ،‬ولذلك قال ‪} :‬ل‬ ‫نبر ح حتى نناجز القوم‪ ،{،‬ودعا أصحابه إليه ووقف تحت شجرة‬ ‫وطلب يمبايعة أصحابه له‪ ،‬فبايعوه جميعا على أن ل يفمّروا حتى‬ ‫الموت‪ ،‬وكانوا أشد يما يكونون حمالسة وقوة عزيمة وصدق إيمان‪.‬‬ ‫ما تمت البيعة ضرب عليه السلم بإحدى يديه على الخرى بيعة‬ ‫ول مّ‬ ‫لعثمان‪ ،‬كأنه حاضر يمعهم‪.‬‬ ‫وكانت هذه البيعة بيعة الرضوان‪ ،‬ونزل فيها قوله تعالى ‪:‬‬ ‫عِلم يما‬ ‫‪‬لقد رضي ا عن المؤيمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة ف لَ‬ ‫في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحا قريبا‪ .‬ويما أن تمت‬ ‫البيعة والستعد المسلمون لخوض المعارك والدخول في الحرب‪،‬‬ ‫حتى بلغهم أن عثمان لم ُيقتل‪ .‬ويما لبث أن عاد عثمان وأخبر‬ ‫الرلسول بما قالته قريش‪.‬‬ ‫وتجددت المفاوضات السلمية بين الرلسول وبين قريش‪ ،‬حتى‬ ‫أوفدت قريش لسهيل بن عمرو ليفاوض الرلسول يمفاوضة أولسع‬ ‫‪-103-‬‬


‫يمن يمسألة الحج والعمرة؛ ليفاوضه على صلح ُيعقد بينه وبينهم‪،‬‬ ‫على أن يكون ألساس الصلح أن يرجع عن يمكة هذا العام‪ .‬وقِبل‬ ‫الرلسول يمفاوضات الصلح على هذا اللساس‪ ،‬لنها حققت الغرض‬ ‫الذي يقصده يمن يموضو ع زيارة البيت‪ ،‬ول يضيره أن يزور البيت‬ ‫هذا العام أو يزوره العام القادم‪ .‬إنه يريد أن يعزل خيبر عن‬ ‫قريش وأن يخمّلى بينه وبين العرب لنشر الدعوة اللسليمية‪ ،‬ولذلك‬ ‫يرغب في وضع يمعاهدة بينه وبين قريش توِقف القتال الناشب‬ ‫بينها وبينه والحرب المتلحقة بينهما‪ ،‬أمّيما يموضو ع الحج والعمرة فل‬ ‫يؤثر أكان اليوم أو غدا‪.‬‬ ‫ودخل في يمفاوضات يمع لسهيل بن عمرو‪ ،‬وجرت بينهما‬ ‫يمحادثات طويلة بشأن الهدنة وشروطها‪ ،‬وكانت تتعرض في كثير‬ ‫يمن الحيان للنقطا ع‪ ،‬لول حكمة الرلسول وحنكته ودقة لسيالسته‪.‬‬ ‫وكان المسلمون حول رلسول ا يسمعون هذه المحادثات‬ ‫ويعتبرونها يمحادثات في شأن العمرة‪ ،‬في حين الرلسول يعتبرها‬ ‫يمحادثات لوقف القتال‪ .‬ولذلك ضاق المسلمون بها ذرعا‪ ،‬في حين‬ ‫أن رلسول ا الستبشر بها وأدارها على الغاية التي يريدها بغض‬ ‫جلة‪ ،‬حتى تم التفاق‬ ‫النظر عن التفاصيل المؤقتة والفوائد المع َّ‬ ‫بين الفريقين على شروط يمعينة‪.‬‬ ‫غير أن هذه الشروط أثارت المسلمين وحمّركت غضبهم‪،‬‬ ‫وحاولوا إقنا ع رلسول ا برفضها وبالحرب والقتال‪ ،‬فقد ذهب‬ ‫‪-104-‬‬


‫عمر بن الخطاب إلى أبي بكر وقال له ‪ :‬إنا ل نعطى الدنمّية في‬ ‫ديننا‪ .‬وحاول أن يجعله يمعه ليذهبا لقنا ع رلسول ا بعدم‬ ‫الموافقة على هذه الشروط‪ .‬ولكن أبا بكر حاول إقناعه أن‬ ‫يرضى بما رضيه رلسول ا‪ ،‬فلم يقتنع‪ .‬وذهب عمر إلى النبي‬ ‫وتحدث إليه وهو يمغيظ يمحنا ق‪ ،‬لكن حديثه هذا لم يغير يمن صبر‬ ‫النبي ول يمن عزيمه‪ ،‬وقال لعمر ‪} :‬أنا عبد ا ورلسوله‪ ،‬لن أخالف‬ ‫أيمره‪ ،‬ولن يضمّيعني‪ ،{،‬ثم دعا علي بن أبي طالب وقال له ‪ :‬اكتب‬ ‫بالسم ا الرحمن الرحيم‪ .‬فقال لسهيل ‪ :‬ايمسك‪ ،‬ل أعرف الرحمن‬ ‫الرحيم‪ ،‬بل اكتب بالسمك اللهم‪ .‬قال رلسول ا ‪ :‬اكتب بالسمك‬ ‫اللهم‪ .‬ثم قال ‪ :‬اكتب هذا يما صالح عليه يمحمد رلسول ا لسهيل بن‬ ‫ت أنك رلسول ا لم أقاتلك‪،‬‬ ‫عمرو‪ .‬فقال لسهيل ‪ :‬ايمسك‪ ،‬لو شهد ُ‬ ‫ولكن اكتب السمك والسم أبيك‪ .‬قال رلسول ا ‪ :‬اكتب هذا يما صالح‬ ‫عليه يمحمد بن عبدا‪ .‬ثم كتب المعاهدة بين الطرفين وهي‬ ‫تنص على البنود التية ‪:‬‬ ‫أ‪ -‬أن تكون المعاهدة يمعاهدة هدنة يتهادن الفريقان فيما‬ ‫بينهما فل يكون فيها حرب أو قتال‪.‬‬ ‫ب‪ -‬أن يمن ألسلم يمن قريش وجا ء يمحمدا بغير إيْذن ولمّيه رمّده‬ ‫عليهم‪ ،‬ويمن ارتد يمن المسلمين وجا ء قريشا لم يرمّدوه عليه‪.‬‬ ‫ج‪ -‬وأن يمن أحب يمن العرب يمحالفة يمحمد فل جنا ح عليه‪،‬‬ ‫ويمن أحب يمحالفة قريش فله ذلك‪.‬‬ ‫‪-105-‬‬


‫د‪ -‬أن يرجع يمحمد وأصحابه عن يمكة عايمهم هذا‪ ،‬على أن‬ ‫يعودوا إليها في العام الذي يليه‪ ،‬فيدخلوها ويقيموا بها ثلثة أيام‬ ‫ويمعهم يمن السل ح السيوف في قربها ول لسل ح غيرها‪.‬‬ ‫جعلت يمدتها‬ ‫هـ‪ -‬أن تكون المعاهدة يمؤقتة بأجل يمعين‪ ،‬و ُ‬ ‫عشر لسنين يمن تاريخ توقيعها‪.‬‬ ‫وومّقع الرلسول ولسهيل المعاهدة في ولسط هياج جيش‬ ‫المسلمين وغضبهم‪ .‬وقام لسهيل ورجع إلى يمكة‪ ،‬وأقام رلسول ا‬ ‫يمضطربا‪ ،‬يمما رأى يمغيظا يمحنقا يمما عليه المسلمون يمن الحماس‬ ‫والشدة والرغبة في القتال؛ ودخل على زوجته أم لسلمة‪ ،‬وكان قد‬ ‫حبها يمعه‪ ،‬وأفضى إليها بما عليه الناس‪ .‬قالت له ‪ :‬يا رلسول ا‬ ‫ص ِ‬ ‫ لَ‬ ‫إن المسلمين ل يخالفونك‪ ،‬وإنهم ليتحمسون لدينهم وإيمانهم بالله‬ ‫لسر بهم‬ ‫وبرلسالتك‪ ،‬فاحِلا ق وتحمّلل تجد المسلمين امّتبعوك‪ ،‬ثم ِ‬ ‫راجعا إلى المدينة‪ .‬فخرج الرلسول على المسلمين وحلا ق إيذانا‬ ‫ما رآه المسلمون‬ ‫بالعمرة‪ ،‬وايمتلت نفسه بالسكينة والرضا‪ .‬ول مّ‬ ‫صرون‪ .‬وعاد النبي‬ ‫ورأوا لسكينته‪ ،‬تواثبوا ينحرون ويحلقون ويق مّ‬ ‫والمسلمون إلى المدينة‪ .‬وبينما هم في الطريا ق نزلت على‬ ‫الرلسول لسورة الفتح‪ ،‬فتلها عليهم يمن أولها إلى آخرها‪ ،‬فأيقن‬ ‫الجميع أن هذه المعاهدة هي فتح يمبين للمسلمين‪.‬‬ ‫ووصل المسلمون إلى المدينة‪ ،‬وأقام رلسول ا ينفذ خطته‬ ‫في القضا ء على كيان خيبر‪ ،‬وفي نشر الدعوة خارج الجزيرة‪،‬‬ ‫‪-106-‬‬


‫وتثبيتها داخل الجزيرة‪ ،‬ويتفرغ في هذه الفترة يمن الهدنة يمع‬ ‫قريش للقضا ء على بعض الجيوب‪ ،‬وللتصال الخارجي‪ .‬فتم له‬ ‫ذلك بفضل هذه المعاهدة‪ .‬وبهذا الستطا ع عليه السلم أن ينفذ‬ ‫خطته التي وضعها حين عزم على الحج تنفيذا دقيقا رغم يما‬ ‫صعاب‪ ،‬ويما قام في وجهها يمن عقبات‪ ،‬ووصل إلى‬ ‫اعترضها يمن ِ‬ ‫الغراض السيالسية التي أرادها‪ ،‬وكانت الحديبية فتحا يمبينا ل ريب‬ ‫فيه‪ ,‬وكان يمن نتائجها ‪:‬‬ ‫‪ -1‬توصل الرلسول إلى إيجاد رأي عام يمؤيد للدعوة اللسليمية‬ ‫عند العرب عايمة‪ ،‬وفي يمكة وبين قريش خاصة‪ ،‬يمما قمّوى هيبة‬ ‫المسلمين وأضعف هيبة قريش‪.‬‬ ‫‪ -2‬كشفت عن ثقة المسلمين بالرلسول‪ ،‬ودمّلت على قوة‬ ‫إيمان المسلمين وشدة إقدايمهم على المخاطر‪ ،‬وأنهم ل يخافون‬ ‫الموت‪.‬‬ ‫‪ -3‬عمّلمت المسلمين أن المناورات السيالسية هي يمن ولسائل‬ ‫الدعوة اللسليمية‪.‬‬ ‫‪ -4‬جعلت المسلمين الذين ظلوا في يمكة بين المشركين‬ ‫يشكلون جيبا داخل يمعسكر العدو‪.‬‬ ‫‪ -5‬بمّينت الطريقة في السيالسة بأنها يمن جنس الفكرة‪ ،‬صدق‬ ‫ووفا ء عهد‪ ،‬لكن الولسيلة ل بد أن يتمثل فيها الدها ء‪ ،‬وهو إخفا ء‬ ‫الولسائل والغايات الحقيقية عن العدو‪.‬‬ ‫‪-107-‬‬


‫غزوة خيبر‬ ‫لم ُيِقم الرلسول بالمدينة بعد عودته يمن الحديبية إل مّ خمس‬ ‫عشرة ليلة حتى أيمر الناس بالتجهيز لغزو خيبر‪ ،‬على أل يغزو يمعه‬ ‫إل مّ يمن شهد الحديبية‪ ،‬وقد بلغه قبل يمسيره إلى الحديبية أن يهود‬ ‫خيبر يأتمرون يمع قريش على غزو المدينة والقضا ء على‬ ‫المسلمين‪ ،‬وكانت هذه المؤايمرة بينهم لسمّرمّية‪ ،‬فأراد الرلسول صلى‬ ‫ا عليه ولسلم أن يسلك خطة السلم يمع قريش ليصل إلى‬ ‫ما أتم خطة‬ ‫يموادعات بينه وبينها‪ ،‬ثم يتفرغ للقضا ء على اليهود‪ .‬فل مّ‬ ‫السلم كايملة في الحديبية‪ ،‬وعزل بها خيبر عن قريش‪ ،‬باشر بإتمام‬ ‫باقي خطته بالقضا ء على اليهود في خيبر‪ ،‬فأيمر بتجهيز الجيش‬ ‫حال رجوعه يمن الحديبية‪ ،‬ولسار في ألف ولستمائة يمن المسلمين‪،‬‬ ‫ويمعهم يمائة فارس‪ ،‬وكلهم واثا ق بنصر ا‪ ،‬وقطعوا يمراحل‬ ‫الطريا ق يما بين خيبر والمدينة في ثلثة أيام‪.‬‬ ‫لم تكد خيبر تحسهم أثنا ءها‪ ،‬حتى لقد باتوا أيمام حصونهم‬ ‫وأصبح الصبا ح‪ ،‬وغدا عمال خيبر خارجين إلى يمزارعهم ويمعهم‬ ‫ما رأوا جيش المسلمين ولوا الدبار‬ ‫ساحيهم ويمكاتلهم‪ ،‬فل مّ‬ ‫يم مّ‬ ‫يتصايحون ‪ :‬هذا يمحمد والجيش يمعه‪ .‬وقال الرلسول حين لسمع‬ ‫قولهم ‪ :‬خربت خيبر‪ ،‬إنا إذا نزلنا بساحة قوم فسا ء صبا ح المن لَذرين‪.‬‬ ‫وكان اليهود يتوقعون أن يغزوهم الرلسول‪ ،‬ذلك أنهم حين‬ ‫بلغهم صلح الحدييبية‪ ،‬وأن قريشا عاهدت الرلسول‪ ،‬اعتبروا ذلك‬ ‫‪-108-‬‬


‫نكوصا يمن قريش‪ ،‬فنصح بعضهم لهم أن يبادروا إلى تأليف كتلة‬ ‫يمنهم ويمن يهود وادي القرى وتيما ء لغزو يثرب‪ ،‬دون اعتماد على‬ ‫البطون العربية في الغزو‪ ،‬ول لسيما بعد أن عاهدت قريش‬ ‫الرلسول‪ .‬وأمّيما آخرون فكانوا يرون أن يدخلوا في حلف يمع‬ ‫الرلسول‪ ،‬لعل ذلك يمحو يما ثبت يمن كراهيتهم في نفوس‬ ‫المسلمين‪ .‬وكانوا يتذاكرون بذلك لنهم كانوا يحسون بالخطر‬ ‫يقترب يمنهم‪ ،‬وكانوا يعرفون أن الرلسول قد كشف أيمر يمواطأتهم‬ ‫يمع قريش فل بد أن يغزوهم‪ ،‬ولكنهم لم يكونوا يتوقعون أن‬ ‫ما فاجأهم الرلسول‬ ‫يكون غزوه لهم بهذه السرعة‪ ،‬لذلك تحيروا ل مّ‬ ‫بجيشه‪ ،‬فالستعانوا بغطفان‪ ،‬وحاولوا أن لَيثبتوا أيمام الرلسول‪،‬‬ ‫صنوا بحصونهم‪.‬‬ ‫وتح مّ‬ ‫ولكن جيوش المسلمين كانت لسريعة الضربة‪ ،‬فلم تنفع‬ ‫يمقاويمتهم‪ ،‬ودمّكت جميع حصونهم‪ ،‬حتى الستولى عليهم اليأس‬ ‫فطلبوا الصلح يمن الرلسول على أن يحقن ديما ءهم‪ ،‬ف لَقبل الرلسول‬ ‫ما كانت أرضهم وكرويمهم قد‬ ‫يمنهم ذلك وأبقاهم في بلدهم‪ .‬ول مّ‬ ‫آلت إليه بحكم الفتح أبقاهم عليها على أن يعملوا بها يمقابل أن‬ ‫يكون لهم النصف وله النصف‪ ،‬فقبلوا ذلك‪ ،‬ثم رجع الرلسول إلى‬ ‫المدينة وأقام بها حتى ذهب لعمرة القضا ء‪.‬‬ ‫وبالقضا ء على لسلطان خيبر السيالسي وإخضاعهم لسلطان‬ ‫المسلمين أِيمن الرلسول ناحية الشمال إلى الشام‪ ،‬كما صار يمن‬ ‫‪-109-‬‬


‫ لَقبل ذلك بمأيمن يمن ناحية الجنوب بعد صلح الحديبية‪ ،‬و ُفتحت‬ ‫الطريا ق أيمام الدعوة في داخل جزيرة العرب‪ ،‬كما ُفتحت الطريا ق‬ ‫أيمايمها في الخارج‪.‬‬ ‫الرلسل إلى الدول المجاورة‬ ‫بعد أن اطمأن الرلسول إلى الدعوة اللسليمية في الحجاز‬ ‫كله‪ ،‬أخذ يعمل لحمل الدعوة إلى خارج الحجاز؛ لن اللسلم دين‬ ‫الناس كافة‪ ،‬ولن الرلسول عليه السلم ُأرلسل للعالم كله‪ ،‬قال‬ ‫تعالى في لسورة النبيا ء ‪ :‬ويما أرلسلناك إل مّ رحمة للعالمين‪،‬‬ ‫وقال تعالى في لسورة لسبأ ‪ :‬ويما أرلسلناك إل مّ كافة للناس بشيرا‬ ‫ونذيرا‪ ،‬وقال تعالى في لسورة التوبة ‪ :‬هو الذي أرلسل رلسوله‬ ‫بالهدى ودين الحا ق ل ُيظهره على الدين كله ولو كره المشركون‪،‬‬ ‫ولذلك كان على الرلسول بعد أن اطمأن على تركيز الدولة‬ ‫والدعوة‪ ،‬أن يبدأ بالتصال الخارجي بإبلغ دعوته يمع السفرا ء‪.‬‬ ‫والمراد بالتصال الخارجي بالنسبة للرلسول صلى ا عليه ولسلم‬ ‫إمّنما هو التصال بمن يكونون خارج حدود حكمه يمن الكفار‪،‬‬ ‫فالرلسول حين كان لسلطانه بالمدينة فقط كان التصال بقريش‬ ‫وغيرها يممن هو خارج المدينة وحدودها يعتبر اتصال م ً خارجيا‪،‬‬ ‫وحين كان لسلطان الرلسول في الحجاز كله يعتبر اتصاله خارج‬ ‫الحجاز اتصال م ً خارجيا‪ ،‬وحين كان لسلطانه شايمل م ً جزيرة العرب‬ ‫‪-110-‬‬


‫كلها كان اتصاله بمن هو خارج الجزيرة كالفرس والروم يمثل م ً يعتبر‬ ‫اتصال م ً خارجيا‪.‬‬ ‫والرلسول بعد يمعاهدة الحديبية والقضا ء على خيبر‪ ،‬صار‬ ‫الحجاز كله تحت لسلطانه تقريبا‪ ،‬لنه لم يعد لقريش يمن القوة يما‬ ‫عث الرلسول رلسله إلى‬ ‫تستطيع أن تقف في وجه الرلسول‪ .‬ف لَب لَ‬ ‫الخارج‪ ،‬ولم يبدأ بإرلسال هؤل ء السفرا ء إل مّ بعد أن اطمأن إلى‬ ‫تركيز السيالسة الداخلية‪ ،‬وهيأ القوة الكافية لسند السيالسة‬ ‫الخارجية‪ ،‬فإنه صلى ا عليه ولسلم بعد رجوعه يمن خيبر‪ ،‬خرج‬ ‫يويما على أصحابه فقال ‪ :‬أيها الناس إن ا قد بعثني رحمة إلى‬ ‫ي كما اختلف الحواريون على عيسى‬ ‫الناس كافة‪ ،‬فل تختلفوا عل مّ‬ ‫بن يمريم‪ ،‬قال أصحابه ‪ :‬وكيف اختلف الحواريون يا رلسول ا؟‬ ‫قال ‪} :‬دعاهم إلى الذي دعوتكم إليه فأمّيما يمن بعثه يمبعثا قريبا‬ ‫فرضي ولسلم‪ ،‬وأمّيما يمن بعثه يمبعثا بعيدا فكره وجهه وتثاقل‪،{،‬‬ ‫لسل إلى هرقل‪ ،‬وكسرى‪ ،‬والمقوقس‪ ،‬والحارث‬ ‫وذكر لهم أنه يمر ِ‬ ‫الغساني يملك الحيرة‪ ،‬والحارث الحميري يملك اليمن‪ ،‬وإلى نجاشي‬ ‫الحبشة‪ ،‬يدعوهم إلى اللسلم‪ ،‬فأجابه أصحابه إلى يما أراد‪ ،‬وصنع‬ ‫له خاتم يمن فضة نقش عليه يمحمد رلسول ا‪ ،‬وبعث بكتبه يمع‬ ‫الرلسل يدعو هؤل ء إلى اللسلم‪ .‬فقد دفع بكتاب هرقل إلى دحية‬ ‫بن خليفة الكلبي‪ ،‬وبكتاب كسرى إلى عبدا بن حذاقة السهمي‪،‬‬ ‫وبكتاب النجاشي إلى عمر بن أيمية الضمري‪ ،‬وبكتاب المقوقس‬ ‫‪-111-‬‬


‫إلى حاطب بن أبي بلتعة‪ ،‬وبكتاب يملكي عمان إلى عمر بن‬ ‫العاص السهمي‪ ،‬وبكتاب يملكي اليمايمة إلى لسليط بن عمرو‪،‬‬ ‫وبكتاب يملك البحرين إلى العل ء بن الحضريمي‪ ،‬وبكتاب الحارث‬ ‫الغساني يملك تخوم الشام إلى شجا ع بن وهب اللسدي‪ ،‬وبكتاب‬ ‫الحارث الحميري يملك اليمن إلى المهاجر بن أيمية المخزويمي‪.‬‬ ‫ل إلى حيث أرلسله النبي‪.‬‬ ‫وانطلا ق هؤل ء الرلسل جميعا ك ٌ‬ ‫انطلقوا في وقت واحد‪ ،‬وبمّلغوا كتب النبي إلى يمن ُأرلسلت إليهم‪،‬‬ ‫ثم رجعوا وقد رد أكثر الذين ُأرلسلت إليهم الكتب ردا رقيقا فيه لين‪،‬‬ ‫ويمنهم رمّد ردا لسيئا‪ .‬أمّيما أيمرا ء العرب فقد رد يملك اليمن ويملك‬ ‫عمان على رلسالة النبي ردا لسيئا‪ ،‬ورد يملك البحرين ردا حسنا‬ ‫صب‬ ‫وألسلم‪ ،‬ورد يملك اليمايمة ُيمظهرا الستعداده لللسلم إذا هو ُن مّ‬ ‫حاكما فلعنه النبي لمطايمعه‪ .‬وأمّيما غير العرب فإن كسرى عاهل‬ ‫الفرس يما لبث حين ُتلي عليه كتاب الرلسول يدعوه إلى اللسلم أن‬ ‫الستشاط غضبا‪ ،‬وشا ق الكتاب‪ ،‬وكتب إلى باذان عايمله على اليمن‬ ‫ما بلغت النبي‬ ‫بأن يبعث إليه برأس هذا الرجل الذي بالحجاز‪ .‬فل مّ‬ ‫ما وصل‬ ‫يمقالة كسرى‪ ،‬ويما فعل بكتابه‪ ،‬قال ‪ :‬يممّزق ا ُيملكه‪ .‬ول مّ‬ ‫كتاب كسرى إلى باذان عايمله على اليمن بحث في اللسلم وأعلن‬ ‫إلسليمه‪ ،‬وقد بقي عايمل النبي على اليمن‪ ،‬وهو غير يملك اليمن‬ ‫ل‪،‬‬ ‫الحارث الحميري‪ .‬وأمّيما المقوقس عظيم القبط فقد رد ردا جمي م ً‬ ‫وأرلسل هدية للنبي صلى ا عليه ولسلم‪ .‬وأيما النجاشي فكان رده‬ ‫‪-112-‬‬


‫ل‪ ،‬وقيل إنه ألسلم‪ .‬وأيما هرقل فإنه لم يعبأ بهذا الداعي ولم‬ ‫جمي م ً‬ ‫ما الستأذنه الحارث‬ ‫يفكر في إرلسال جيش ولم يقل شيئا‪ ،‬ول مّ‬ ‫الغساني في أن يقوم على رأس جيش لمعاقبة هذا المدعي‬ ‫النبوة لم ُيجبه إلى طلبه‪ ،‬ودعا الحارث إليه لبيت المقدس‬ ‫وكان يمن أثر هذه الكتب أن العرب قد بدأوا يدخلون في‬ ‫دين ا أفواجا‪ ،‬ثم بدأت وفودهم تتتابع على الرلسول صلى ا‬ ‫عليه ولسلم تعلن إلسليمها‪ .‬وأمّيما غير العرب فقد بدأ الرلسول صلى‬ ‫ا عليه ولسلم يهيئ القوة لجهادها‪.‬‬ ‫غزوة يمؤتة‬ ‫كان يمن أثر رد الملوك خارج جزيرة العرب أن الرلسول بعد‬ ‫أن رجع السفرا ء يمن تبليغ الدعوة‪ ،‬هيأ الجيش للجهاد خارج جزيرة‬ ‫العرب‪ ،‬وأخذ يترقب أخبار الروم والفرس‪ ،‬وكان الروم يمتلصقين‬ ‫في حدودهم لحدوده‪ ،‬ولذلك كان يتسقط أخبارهم‪ ،‬وكان يرى أن‬ ‫الدعوة اللسليمية لستنتشر انتشارا كبيرا حال خروجها يمن جزيرة‬ ‫علم الناس بها‪ .‬ولذلك كان يرى أن بلد الشام هي المنفذ‬ ‫العرب ل ِ‬ ‫ما أِيمن يمن جانب اليمن بإذعان عايمل‬ ‫الول لهذه الدعوة‪ .‬ول مّ‬ ‫كر في إرلسال جيش إلى بلد الشام‬ ‫كسرى عليها لدعوته‪ ،‬ف مّ‬ ‫لقتالهم‪ .‬وفي شهر جمادى الولى يمن السنة السابعة للهجرة‪ ،‬أي‬ ‫بعد صلح الحديبية ببضعة أشهر‪ ،‬جهز ثلثة آلف يمقاتل يمن خيرة‬ ‫‪-113-‬‬


‫إبطال المسلمين‪ ،‬ووضع عليهم زيد بن حارثة قائدا لهم وقال ‪ :‬إن‬ ‫أصيب زيد فجعفر بن أبي طالب على الناس‪ ،‬وإن أصيب جعفر‬ ‫فعبدا بن رواحة على الناس‪.‬‬ ‫وخرج الجيش ويمعه خالد بن الوليد‪ ،‬وكان قد ألسلم بعد‬ ‫هر‬ ‫يمعاهدة الحديبية‪ ،‬ولسار يمعهم الرلسول عليه السلم حتى ظا ِ‬ ‫المدينة‪ ،‬وأوصاهم أل يقتلوا النسا ء ول الطفال ول المكفوفين ول‬ ‫الصبيان‪ ،‬وأل يهديموا المنازل ول يقطعوا الشجار‪ ،‬ودعا هو‬ ‫والمسلمون يمعه للجيش قائلين ‪ :‬صحبكم ا ودفع عنكم وردكم‬ ‫إلينا لسالمين‪ .‬ولسار الجيش ووضع أيمراؤه الخطة بأن تكون حربا‬ ‫خاطفة‪ ،‬بأن يأخذوا القوم يمن أهل الشام على غرة يمنهم كما‬ ‫هي عادة النبي في غزواته‪ ،‬فينتصرون ويرجعون‪ .‬ولساروا على‬ ‫هذه الخطة‪ ،‬ولكنهم لما بلغوا يمعان علموا أن شرحبيل الغساني‬ ‫عايمل هرقل على الشام قد جمع لهم يمائة ألف يمقاتل يمن قبائل‬ ‫العرب‪ ،‬وأن هرقل جا ء على رأس يمائة ألف يمقاتل‪ ،‬فراعهم هذا‬ ‫النبأ وأقايموا بمعان ليلتين يفكرون في أيمرهم‪ ،‬وفيما هم صانعون‬ ‫أيمام هذا العدد الهائل يمن الجنود‪ ،‬وأيمام هذه القوة الكبيرة‪ .‬وكان‬ ‫الرأي السائد بينهم أن يكتبوا لرلسول ا يخبرونه بعدد العدو‪ ،‬فإيما‬ ‫أن يممّدهم بالرجال أو يأيمرهم بما يرى‪ .‬غير أن عبدا بن رواحة‬ ‫قال لهم ‪ :‬يا قوم‪ ،‬وا إن التي تكرهون لَللتي خرجتم تطلبون‪،‬‬ ‫الشهادة‪ .‬ويما نقاتل الناس بعدد ول قوة ول كثرة‪ ،‬يما نقاتلهم إل مّ‬ ‫‪-114-‬‬


‫بهذا الدين الذي أكريمنا ا به‪ ،‬فانطِلقوا فإمّنما هي إحدى‬ ‫الحسنيين‪ ،‬إيما ظهور‪ ،‬وإيما شهادة‪.‬‬ ‫وايمتدت حمالسة اليمان إلى الجيش‪ ،‬ويمضوا حتى وصلوا إلى‬ ‫قرية يمشارف‪ ،‬فلقيتهم هناك جمو ع الروم فانحازوا عن يمشارف‬ ‫إلى يمؤتة‪ ،‬وتحصنوا بها‪ ،‬وهناك بدأت بينهم وبين الروم يمعركة يمن‬ ‫أشد المعارك رهبة‪ ،‬فيها الموت الحمر يفغر فاه‪ ،‬فإنها كانت بين‬ ‫ثلثة آلف فقط يمن المؤيمنين الذين يطلبون الموت والشهادة‪،‬‬ ‫وبين يمائة ألف أو يمائتي ألف يمن الكافرين الذين جمعوا أنفسهم‬ ‫للقضا ء على جيش المسلمين‪ .‬وبدأت رحى الحرب بين الفريقين‬ ‫حايمية الوطيس‪ ،‬فحمل زيد بن حارثة راية النبي واندفع بها في‬ ‫صدر العدو‪ ،‬وهو يرى الموت أيمايمه ولكنه ل يخافه‪ ،‬لنه الستشهاد‬ ‫في لسبيل ا؛ ولذلك تقدم بجرأة تفوق حد التصور‪ ،‬إذ أخذ يحارب‬ ‫حرب المستميت حتى يمزقته ريما ح العدو‪ .‬فتناول الراية جعفر بن‬ ‫أبي طالب‪ ،‬وكان شابا جميل م ً شجاعا ل يزال في الثالثة والثلثين‬ ‫ما رأى العدَّو قد أحاط‬ ‫يمن عمره‪ ،‬فقاتل قتال المستميت‪ ،‬ول مّ‬ ‫بفرلسه عقرها واندفع ولسط القوم يضرب بسيفه‪ ،‬فهاجمه رجل‬ ‫يمن الروم وضربه ضربة قطعته نصفين ف ُقتل‪ .‬فأخذ الراية عبدا‬ ‫بن رواحة‪ ،‬ثم تقدم بها وهو على فرلسه وتردد بعض التردد‪ ،‬ولكنه‬ ‫يمضى وقاتل حتى ُقتل‪ .‬فأخذ الراية ثابت بن أرقم‪ ،‬وقال ‪ :‬يا يمعشر‬ ‫المسلمين اصطلحوا على رجل يمنكم‪ .‬فاصطلح الناس على خالد‬ ‫‪-115-‬‬


‫بن الوليد‪ ،‬فأخذ الراية وداور بالمسلمين حتى ضم صفوفهم‬ ‫ووقف يمن العدو عند حد المناوشات البسيطة حتى أقبل الليل‪،‬‬ ‫وتحاجز الجيشان حتى الصبا ح‪.‬‬ ‫كمة ينسحب بموجبها دون‬ ‫وأثنا ء الليل وضع خالد خطة ُيمح لَ‬ ‫قتال بعد أن رأى ضخايمة عدد العدو وضآلة عدد جيشه‪ .‬وبموجب‬ ‫هذه الخطة وز ع عددا غير قليل يمن الجيش في المؤخرة وأيمرهم‬ ‫أن ُيحدثوا يمن الجلبة والضوضا ء عند الصبا ح يما يوهمون به‬ ‫ما فعلوا ذلك ارتا ع‬ ‫عدوهم أنه يمدد جا ء الجيش يمن عند النبي‪ .‬ول مّ‬ ‫العدو وتقاعس عن يمهاجمة المسلمين‪ ،‬وفر ح لعدم يمهاجمة خالد‬ ‫لهم‪ ،‬ثم يما لبثوا أن رجع جيش المسلمين إلى المدينة يمنسحبا يمن‬ ‫الميدان بموجب الخطة التي وضعها خالد‪ .‬وبهذا رجعوا غير‬ ‫يمنصورين وغير يمهزويمين‪ ،‬ولكنهم أبلوا في الحرب بل ء حسنا‪.‬‬ ‫لقد كان يعلم ُقواد هذه المعركة وجنودها البطال أن كل م ً‬ ‫يمنهم ُيمقِدم على الموت‪ ،‬بل كان يرى الموت أيمايمه ُيمقِبل م ً عليه‪،‬‬ ‫ولكنهم خاضوا المعارك و ُقتلوا‪ ،‬لن اللسلم يأيمر المسلم أن يقاتل‬ ‫في لسبيله حتى لَيقتل و ُيقتل‪ ،‬وأن هذا القتال هو التجارة الرابحة‬ ‫لنه الجهاد في لسبيل ا ‪‬إن ا اشترى يمن المؤيمنين أنفسهم‬ ‫وأيموالهم بأن لهم الجنة يقاِتلون في لسبيل ا ف لَيقتلون و ُيقتلون‬ ‫وعدا عليه حقا في التوراة والنجيل والقرآن ويمن أوفى بعهده يمن‬ ‫ا فالستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم‪،‬‬ ‫‪-116-‬‬


‫ولذلك قاتل هؤل ء رغم تحققهم يمن الموت‪ ،‬ولن المسلم إمّنما‬ ‫يقاِتل إذا كان ل بد يمن القتال‪ ،‬بغض النظر عما إذا كان الموت‬ ‫يمحَّققا أو غير يمحقا ق‪ ،‬وأن اليمور ل تقاس في القتال والجهاد‬ ‫بعدد العدو وعمّدته‪ ،‬ول بكثرته وقمّلته‪ ،‬وإمّنما تقاس بالنتائج التي‬ ‫تحصل يمنها بغض النظر عما تتطلبه يمن تضحيات‪ ،‬ويما يرجى فيها‬ ‫يمن نجا ح‪ .‬فحرب المسلمين للروم في يمؤتة كانت تفرض على‬ ‫المسلمين القتال‪ ،‬وكانت تفرض على ُقواد الجيش أن يخوضوا‬ ‫المعركة التي جا ءوا يمن أجلها‪ ،‬ولو كان الموت الحمر جاثما‬ ‫أيمايمهم‪ ،‬فما ينبغي للمسلم أن يخاف الموت‪ ،‬ويما ينبغي للمسلم‬ ‫أن يحسب الحساب لشي ء في لسبيل ا‪ .‬وكان الرلسول يعلم أن‬ ‫إرلسال هذا الجيش لدولة الروم يهاجمها به على حدودها يمخاطرة‬ ‫أمّيما يمخاطرة‪ ،‬ولكنها يمخاطرة ل بد يمنها لرهاب الروم حين يروا‬ ‫ل‪ .‬وكانت‬ ‫قتال المؤيمنين والستماتتهم‪ ،‬يمهما يكن عددهم قلي م ً‬ ‫يمخاطرة ل بد يمنها ليرلسم للمسلمين طريا ق الجهاد لنشر اللسلم‬ ‫وتطبيقه فيما يليهم يمن البلد‪ ،‬وكانت يمخاطرة ناجحة لنها كانت‬ ‫طليعة لغزوة تبوك وضربة للروم أرهبتهم أن يواجهوا المسلمين‬ ‫بعدها‪ ،‬حتى كان فتح الشام‪.‬‬ ‫فتح يمكة‬ ‫يما كاد عهد الحديبية يوَّقع بين الرلسول وقريش حتى حالفت‬ ‫‪-117-‬‬


‫خزاعة يمحمدا‪ ،‬وحالفت بنو بكر قريشا‪ ،‬واطمأنت العلقات بين‬ ‫قريش ويمحمد‪ ،‬وأِيمن كل جانب صاحبه‪ ،‬واتجهت قريش إلى‬ ‫التولسع في تجارتها لتستعيد يما فقدته أيام اتصال الحرب بينها وبين‬ ‫المسلمين‪ ،‬واتجه الرلسول إلى يمتابعة إبلغ رلسالته للناس جميعا‪،‬‬ ‫وإلى تركيز الدولة في شبه الجزيرة العربية وتوفير ألسباب‬ ‫الطمأنينة في هذه الدولة‪ ،‬فقضى على كيان خيبر‪ ،‬وأرلسل الرلسل‬ ‫إلى الملوك في يمختلف الدول‪ ،‬واتصل بالخارج‪ ،‬وأخذ يركز الدولة‬ ‫ليجعلها تعم جميع أنحا ء الجزيرة‪.‬‬ ‫ويما أن الستدار العام بعد الحديبية حتى نادى الرلسول في‬ ‫الناس كي يتجهزوا إلى عمرة القضا ء بعد أن ُيمنعوا يمن لَقبل يمنها‪،‬‬ ‫ولسار الركب في ألفين يمن المسلمين‪ ،‬وتنفيذا لعهد الحديبية لم‬ ‫يحمل أحد يمن هؤل ء الرجال لسلحا إل مّ لسيفا في قرابه‪ .‬لكن‬ ‫الرلسول كان يخشى الغدر دائما فجهز يمائة فارس جعل على‬ ‫رألسهم يمحمد بن يمسلمة وبعثهم طليعة له على أل يتخطوا حرم‬ ‫يمكة‪ .‬وذهب المسلمون فقضوا العمرة‪ ،‬ثم رجعوا إلى المدينة‪.‬‬ ‫وبرجوعهم بدأ أهل يمكة يدخلون في اللسلم‪ ،‬فألسلم خالد بن‬ ‫الوليد‪ ،‬وعمرو بن العاص‪ ،‬وحارس الكعبة عثمان بن طلحة‪،‬‬ ‫وألسلم بإلسلم هؤل ء الكثيرون يمن أهل يمكة‪ .‬وبذلك لَقِو لَيت شوكة‬ ‫اللسلم بمكة‪ ،‬ودب الوهن في صفوف قريش‪.‬‬ ‫ما رجع المسلمون يمن يمؤتة وقد ُقتل يمنهم خلا ق كثير‪ ،‬خ ُمّيل‬ ‫ول مّ‬ ‫‪-118-‬‬


‫لقريش أن المسلمين قد ُقضي عليهم‪ ،‬فحمّرضوا بني بكر على‬ ‫خزاعة وأيممّدوهم بالسل ح‪ ،‬فأغار بنو بكر على خزاعة وقتلوا يمنهم‪،‬‬ ‫ففرت خزاعة إلى يمكة‪ ،‬ولسار ع عمرو بن لسالم الخزاعي إلى‬ ‫المدينة‪ ،‬وجعل يقص على الرلسول يما حدث لهم ويستنصره‪ ،‬فقال‬ ‫ت يا عمرو بن لسالم‪ .{،‬ورأى الرلسول أن يما‬ ‫له رلسول ا ‪ُ } :‬نصر لَ‬ ‫قايمت به قريش يمن نقض العهد ل يمقابل له إل مّ فتح يمكة‪.‬‬ ‫أمّيما قريش فقد خافوا يمن نقض العهد‪ ،‬فأوفدوا أبا لسفيان‬ ‫إلى المدينة ليثبت العقد ويزيد في المدة‪ ،‬فذهب أبو لسفيان ولم‬ ‫يشأ أن يلقى الرلسول بل جعل وجهته بيت ابنته أم حبيبة زوج النبي‬ ‫صلى ا عليه ولسلم‪ ،‬فدخل عليها وأراد أن يجلس على فراش‬ ‫ما لسألها أبوها أطوته رغبة بأبيها عن الفراش أم‬ ‫النبي‪ ،‬فطوته‪ ،‬فل مّ‬ ‫رغبة بالفراش عن أبيها‪ ،‬كان جوابها هو ‪ :‬فراش رلسول ا صلى‬ ‫ا عليه ولسلم وأنت رجل يمشرك نجس فلم أحب أن تجلس عليه‪.‬‬ ‫ضبا‪.‬‬ ‫قال أبو لسفيان ‪ :‬وا لقد أصابك يا بنية بعدي شر‪ ،‬وخرج ُيمغ لَ‬ ‫ثم كمّلم يمحمدا في العهد وإطالة يمدته‪ ،‬فلم لَي ُرد عليه بشي ء‪ ،‬فكلم‬ ‫أبا بكر ليكلم له النبي فأبى‪ ،‬فكلم عمر بن الخطاب فأغلظ له في‬ ‫الرد‪ ،‬وقال ‪ :‬أأنا أشفع لكم إلى رلسول ا؟ فوا لو لم أجد إل مّ‬ ‫الذر لجاهدتكم به‪ .‬ودخل أبو لسفيان على علي بن أبي طالب‬ ‫وعنده فاطمة‪ ،‬فعرض عليه يما جا ء فيه‪ ،‬والستشفعه إلى الرلسول‪،‬‬ ‫فأنبأه علي في رفا ق أنه ل يستطيع أحد أن يرد يمحمدا عن أيمر إذا‬ ‫‪-119-‬‬


‫هو اعتزيمه‪ .‬والستشفع أبو لسفيان فاطمة أن يجير ابنها الحسن بين‬ ‫الناس‪ ،‬فقالت ‪ :‬يما يجير أحد على رلسول ا‪ .‬واشتدت اليمور على‬ ‫أبي لسفيان فرجع إلى يمكة وقص على قويمه يما لقيه في المدينة‪.‬‬ ‫أمّيما الرلسول صلى ا عليه ولسلم فقد ألسر ع وأيمر الناس‬ ‫بالتجهز ولسار بهم إلى يمكة‪ ،‬وكان يرجو أن يبغت القوم في غرة‬ ‫يمنهم فل يجدوا له دفعا فيسمّلموا يمن غير أن تراق الديما ء‪ .‬وتحرك‬ ‫جيش المسلمين يمن المدينة إلى يمكة‪ ،‬وبلغ الجيش يممّر الظهران‬ ‫على أربعة فرالسخ يمن يمكة‪ ،‬وقد كملت عدته عشرة آلف لم يصل‬ ‫إلى قريش يمن أيمرهم خبر‪ ،‬وكانت قريش تتحسب لغزو يمحمد‬ ‫لهم وتتجادل فيما تصنع للقا ء يمحمد‪.‬‬ ‫ثم إن أبا لسفيان خرج يستطلع يمبلغ الخطر الذي تحس به‪،‬‬ ‫فلقيه العباس ‪-‬وكان قد ألسلم‪ -‬وقد ركب بغلة النبي وذهب إلى‬ ‫ما‬ ‫يمكة ليخبر قريشا بأن يستأيمنوا الرلسول؛ لنه ل ِقبل لهم به‪ .‬فل مّ‬ ‫لقي العباس أبا لسفيان قال له ‪ :‬هذا رلسول ا في الناس‪ ،‬وا‬ ‫صبا ح قريش إذا دخل يمكة عنوة‪ .‬فقال أبو لسفيان ‪ :‬فما الحيلة؟‬ ‫ما يممّر بنار عمر بن‬ ‫فأركبه العباس في عجز البغلة ولسار به‪ ،‬فل مّ‬ ‫الخطاب رأى عمر بغلة النبي وعرف أبا لسفيان وأدرك أن العباس‬ ‫يريد أن يجيره‪ ،‬فألسر ع إلى خيمة النبي وطلب إليه أن يضرب عنقه‪،‬‬ ‫قال العباس ‪ :‬إني يا رلسول ا قد أجرته‪ .‬وحصلت يمناقشة عنيفة‬ ‫بين العباس وعمر‪ .‬فقال النبي ‪ :‬اذهب به يا عباس إلى رحلك‪،‬‬ ‫‪-120-‬‬


‫ما كان الصبا ح جي ء بأبي لسفيان‬ ‫فإذا أصبحت فائتني به‪ .‬فل مّ‬ ‫فألسلم‪ ،‬وتوجه العباس إلى النبي وقال له ‪ :‬يا رلسول ا إن أبا‬ ‫لسفيان رجل يحب الفخر فاجعل له شيئا‪ .‬قال رلسول ا ‪} :‬نعم‪،‬‬ ‫يمن دخل دار أبي لسفيان فهو آِيمن‪ ،‬ويمن أغلا ق عليه بابه فهو آِيمن‪،‬‬ ‫ويمن دخل المسجد فهو آِيمن‪ ،{،‬وأيمر الرلسول أن ُيحبس أبو لسفيان‬ ‫بمضيا ق الوادي عند يمدخل الجبل إلى يمكة حتى تمر به جنود‬ ‫المسلمين فيراها فيحمّدث قويمه عن بمّينة‪ ،‬ولكي ل يكون في‬ ‫إلسراعه إليهم خيفة يمقاويمة أيا كان نوعها‪ ،‬واتخذ الرلسول لدخول‬ ‫يمكة كل يما لديه يمن أهبة وحذر‪.‬‬ ‫وبعد أن يمرت القبائل بأبي لسفيان انطلا ق إلى قويمه يصيح‬ ‫فيهم بأعلى صوته ‪ :‬يا يمعشر قريش‪ ،‬هذا يمحمد قد جا ءكم فيما ل‬ ‫ِقبل لكم به‪ ،‬فمن دخل دار أبي لسفيان فهو آِيمن‪ ،‬ويمن أغلا ق عليه‬ ‫بابه فهو آِيمن‪ ،‬ويمن دخل المسجد فهو آِيمن‪ .‬فتوقفت قريش عن‬ ‫المقاويمة‪ ،‬ولسار الرلسول ودخل يمكة وظل يمتخذا حذره‪ ،‬وأيمر أن‬ ‫يفَّرق الجيش أربع فرق‪ ،‬وأيمرها جميعا أن ل تقاِتل وأل تسفك‬ ‫ديما‪ ،‬إل مّ إذا ُأكرهت على ذلك إكراها واضطرت اضطرارا‪ .‬ودخلت‬ ‫الجيوش يمكة فلم يلا ق يمنها يمقاويمة إل مّ جيش خالد بن الوليد‪ ،‬فقد‬ ‫لقى بعض المقاويمة وتغلب عليها‪ ،‬ونزل النبي بأعلى يمكة فأقام‬ ‫قليل م ً ثم لسار حتى بلغ الكعبة فطاف بالبيت لسبعا‪ ،‬ثم دعا عثمان‬ ‫بن طلحة ففتح الكعبة فوقف على بابها فتكاثر الناس‪ ،‬فخطبهم‬ ‫‪-121-‬‬


‫وتل عليهم قوله تعالى ‪ :‬يا أيها الناس إنا خلقناكم يمن ذكر وأنثى‬ ‫وجعلناكم شعوبا وقبائل ل لَتعا لَرفوا إن أكريمكم عند ا أتقاكم إن‬ ‫ا عليم خبير‪ ،‬ثم لسألهم ‪ :‬يا يمعشر قريش يما ترون أني فاعل‬ ‫بكم؟ قالوا ‪ :‬خيرا‪ ،‬أخ كريم وابن أخ كريم‪ .‬قال ‪} :‬فاذهبوا‪ ،‬فأنتم‬ ‫الطلقا ء‪.{،‬‬ ‫وبهذه الكلمة صدر العفو عن قريش وعن أهل يمكة‪ .‬ودخل‬ ‫صمّورت عليها الملئكة والنبيون‪ ،‬فأيمر‬ ‫الرلسول الكعبة فرأى جدرانها ُ‬ ‫طمست‪ ،‬ورأى بها تمثال حمايمة يمن عيدان فكسرها‬ ‫بتلك الصور ف ُ‬ ‫بيده وألقاها على الرض ثم جعل يشير إلى الصنام جميعا‬ ‫بقضيب في يده وهو يقول ‪ :‬وقل جا ء الحا ق وزها ق الباطل إن‬ ‫الباطل كان زهوقا‪ ،‬و ُكمّبت الصنام‪ ،‬وطمّهر البيت الحرام يمنها‪،‬‬ ‫وأقام بمكة خمسة عشر يويما ينظم خللها شؤون يمكة‪ ،‬ويفمّقه‬ ‫أهلها في الدين‪ .‬وتم فتح يمكة و ُقضي بفتحها على ألساس‬ ‫المقاويمة للدعوة اللسليمية‪ ،‬فتم بذلك النصر المبين‪ ،‬ولم تبا ق يمن‬ ‫ح لَنيْين والطائف يس ُهل إنهاؤها‪.‬‬ ‫المقاويمة الداخلية إل مّ جيوب في ُ‬ ‫ح لَنيْين‬ ‫غزوة ُ‬ ‫مت هوازن بما تم للمسلمين يمن فتح يمكة‪ ،‬خشيت أن‬ ‫ما عِل لَ‬ ‫ل مّ‬ ‫يغزوها وأن يقتحموا عليها ديارها‪ ،‬ففكرت في أن تصد‬ ‫المسلمين‪ ،‬وتهيأت لذلك‪ .‬فجمع يمالك بن عوف النضري هوازن‬ ‫‪-122-‬‬


‫وثقيف‪ ،‬ولسار بها حتى نزلت لسهل أوطاس‪ ،‬فبلغ المسلمين هذا‬ ‫النبأ بعد خمسة عشر يويما يمن فتحهم يمكة‪ ،‬والستعدوا للقا ء‬ ‫هوازن وثقيف‪ .‬غير أن يمالكا لم ُيِقم في لسهل أوطاس بل أيمر‬ ‫الناس أن ينحازوا إلى قمم حنين‪ ،‬وعند يمضيا ق الوادي‪ ،‬ورتبهم‬ ‫كما وأعطى أوايمره بأنه إذا نزل المسلمون الوادي‬ ‫هناك ترتيبا يمح لَ‬ ‫فليشمّدوا عليهم شدة رجل واحد‪ ،‬حتى تتضعضع صفوفهم فيختلط‬ ‫حابلهم بنابلهم ويضرب بعضهم بعضا و ُيهزيمون شمّر هزيمة‪.‬‬ ‫وأحكم هذه الخطة وانتظر يمجي ء المسلمين‪.‬‬ ‫ويما هي إل مّ أيام حتى لَقِدم جيش المسلمين‪ .‬فقد لسار رلسول‬ ‫ا صلى ا عليه ولسلم في عشرة اللف الذين غزوا يمكة‬ ‫وانضم إليهم ألفان يممن ألسلم يمن قريش في يمكة‪ .‬ولسار هذ‬ ‫الجيش الجرار والعدد الوفير يمن الناس للحرب‪ ،‬وبلغوا حنينا‬ ‫يمسا ء‪ ،‬وأقايموا بها حتى قبيل الفجر‪ .‬وفي هذا الوقت المتأخر يمن‬ ‫الليل تحرك الجيش وركب الرلسول بغلته البيضا ء في يمؤخرة‬ ‫الجيش‪ ،‬ولساروا يمنحدرين إلى الوادي‪ ،‬ويما شعروا إل مّ والقبائل‬ ‫المعادية قد هاجمتهم‪ .‬ذلك أن يمالكا بن عوف أيمر رجاله بمهاجمة‬ ‫المسلمين‪ ،‬فشمّدوا شمّدة رجل واحد وأصلوهم وابل م ً يمن النبال‪ ،‬ويما‬ ‫شعر المسلمون في عماية الفجر إل مّ والسهام تتساقط عليهم يمن‬ ‫كل صوب‪ ،‬فدهشوا يمن هذه المفاجأة‪ ،‬وتحيروا‪ ،‬فاختلط أيمرهم‬ ‫واضطربوا‪ ،‬وعادوا يمنهزيمين ل يلوون على شي ء‪ .‬وقد الستولى‬ ‫‪-123-‬‬


‫عليهم الفز ع ويملك قلوبهم الرعب‪ ،‬وأخذ يمنهم الخوف يمن عدوهم‬ ‫كل يمأخذ‪ .‬وكانوا يمرون على الرلسول عليه السلم وهو في‬ ‫يمؤخرة الجيش دون أن يقفوا أو يتريثوا‪ ،‬وظلوا يمنهزيمين يتراجعون‬ ‫ولم يبا ق إل مّ رلسول ا صلى ا عليه ولسلم ويمعه العباس في‬ ‫يميدان المعركة‪ ،‬وأمّيما باقي الجيش فقد انهزم ل يلوي على شي ء‪.‬‬ ‫فوقف رلسول ا وقد أحاط به جماعة قليلة جدا يمن النصار‬ ‫والمهاجرين وأهل بيته‪ ،‬وجعل ينادي الناس وهم يمنهزيمون قائل م ً‬ ‫لهم ‪ :‬إلى أين أيها الناس إلى أين؟ ولكن الناس لم يكونوا‬ ‫يسمعون هذا الندا ء‪ ،‬ولم يكونوا يلتفتون إليه ِلما أصابهم يمن هول‬ ‫الفز ع وخوف الموت‪ ،‬إذ كانت هوازن وثقيف تطاردانهم يمطاردة‬ ‫شديدة‪ ،‬وتطعنهم كلما أدركتهم وتريميهم بالنبال‪ ،‬وهو يولون‬ ‫الدبار‪ ،‬ولذلك لم يسمعوا ندا ء الرلسول‪ ،‬ولم يستجيبوا له‪.‬‬ ‫فوقف الرلسول عليه السلم في هذه اللحظة الفاصلة أعظم‬ ‫يموقف وأروعه‪ ،‬فقد كانت لحظة رهيبة ولساعة يمن أحرج‬ ‫الساعات‪ ،‬فقد كان الجيش يفر كله‪ ،‬أصحابه ويمن ألسلموا حديثا‪ ،‬ل‬ ‫ل‪ .‬ويتحدث الذين‬ ‫فرق بينهم‪ ،‬يدعوهم ليرجعوا فل يسمعون له قو م ً‬ ‫ألسلموا أحاديث الشماتة بهزيمته‪ ،‬حتى يقول كلدة بن حنبل ‪ :‬أل‬ ‫طل السحر اليوم‪ .‬ويقول شيبة بن عثمان بن طلحة ‪ :‬اليوم ُأدرك‬ ‫ لَب ُ‬ ‫ثأري يمن يمحمد‪ .‬ويقول أبو لسفيان ‪ :‬ل تنتهي هزيمة المسلمين‬ ‫دون البحر‪ .‬وهؤل ء ويمثلهم يممن كانوا يقولون هذا القول كانوا‬ ‫‪-124-‬‬


‫في جيش المسلمين يممن ألسلموا في يمكة وجا ءوا يحاربون يمع‬ ‫رلسول ا‪ ،‬ولكن الهزيمة أظهرت يمكنون نفولسهم‪.‬‬ ‫ويمقابل هؤل ء الذين ظهرت نياتهم‪ ،‬كان المخلصون يمن‬ ‫الصحابة يفمّرون‪ .‬ولذلك لم يكن هنالك أي أيمل في كسب‬ ‫المعركة‪ .‬ويمن أجل ذلك كان يموقف الرلسول حرجا‪ ،‬وكانت تلك‬ ‫الساعة يمن أحرج الساعات وأشدها‪ .‬وفي هذه اللحظة الحرجة‬ ‫قرر الرلسول البقا ء في يميدان المعركة‪ ،‬وتقدم إلى الميدان واندفع‬ ‫ببغلته البيضا ء نحو العدو وكان يمعه عمه العباس بن عبدالمطلب‬ ‫وأبو لسفيان بن الحارث بن عبدالمطلب‪ ،‬فأيما أبو لسفيان بن‬ ‫الحارث فقد أيمسك بخطام بغلته وحال دون تقديمها‪ ،‬وأيما عمه‬ ‫العباس فقد نادى بصوته الجهوري بما ألسمع الناس يمن كل فج‬ ‫يدعوهم للرجو ع فقال ‪ :‬يا يمعشر النصار الذين آووا ونصروا‪ ،‬يا‬ ‫يمعشر المهاجرين الذين بايعوا تحت الشجرة‪ ،‬إن يمحمدا حي‬ ‫موا‪ .‬وكرر العباس الندا ء‪ ،‬حتى تجاوبت في كل جنبات الوادي‬ ‫فهل مّ‬ ‫أصداؤه‪ ،‬وحتى لسمعه المسلمون المنهزيمون‪ ،‬فتذكروا رلسول ا‬ ‫لس لَبا ق إلى تصورهم يما يترتب على هزيمتهم‬ ‫وتذكروا جهادهم‪ ،‬و لَ‬ ‫يمن تغلب المشركين وانتصار الشرك‪ ،‬وأدركوا يما في هذه الهزيمة‬ ‫يمن قضا ء على الدين وعلى المسلمين‪ .‬فتصايحوا يمن كل صوب‬ ‫يلبون ندا ء العباس‪ ،‬ورجعوا إلى المعركة يخوضون غمارها‬ ‫ويصطلون بنارها في بسالة نادرة وشجاعة فائقة‪ .‬وأخذوا‬ ‫‪-125-‬‬


‫يجتمعون حول رلسول ا‪ ،‬وأخذ عددهم يزداد‪ ،‬ودخلوا في‬ ‫المعركة وتناجزوا يمع العدو‪ ،‬وحمي وطيس القتال‪ ،‬والرلسول عليه‬ ‫السلم يزداد طمأنينة وقد أخذ حفنة يمن الحصى وألقى بها في‬ ‫ل ‪ :‬شاهت الوجوه‪.‬‬ ‫وجه العدو قائ م ً‬ ‫واندفع المسلمون إلى المعركة يمستهينين بالموت في لسبيل‬ ‫ا‪ ،‬واشتد القتال‪ .‬وأيقنت هوازن وثقيف أنهما يمعمّرضتان للفنا ء‪،‬‬ ‫ففروا يمنهزيمين ل يلوون على شي ء‪ ،‬تاركين ورا ءهم أيموالهم‬ ‫ونسا ءهم غنيمة للمسلمين‪ .‬ولحقهم المسلمون وألسروا يمنهم‬ ‫عددا كبيرا كما قتلوا عددا ضخما‪ ،‬وطاردوهم حتى بلغوا لسهل‬ ‫أوطاس‪ ،‬وهناك أوقعوا بهم قتل م ً وهزيموهم شر هزيمة‪ ،‬وفر‬ ‫قائدهم يمالك بن عوف إلى الطائف واحتمى بها‪.‬‬ ‫صر ا المؤيمنين نصرا يمؤزرا‪ ،‬ونزل في ذلك قوله‬ ‫وبهذا لَن لَ‬ ‫تعالى ‪ :‬لقد نصركم ا في يمواطن كثيرة ويوم حنين إذ أعجبتكم‬ ‫ح لَبت ثم‬ ‫كثرتكم فلم ُتغن عنكم شيئا وضاقت عليكم الرض بما ر ُ‬ ‫وليتم يمدبرين‪ .‬ثم أنزل ا لسكينته على رلسوله وعلى المؤيمنين‬ ‫وأنزل جنودا لم تريْوها وعمّذب الذين كفروا وذلك جزا ء الكافرين‪.‬‬ ‫ثم يتوب ا يمن بعد ذلك على يمن يشا ء وا غفور رحيم‪ .‬وقد‬ ‫غنم المسلمون غنائم كثيرة‪ ،‬وقد أحصوها يويمئذ فكانت اثنين‬ ‫وعشرين ألفا يمن البل‪ ،‬وأربعين ألفا يمن الشاة‪ ،‬وأربعة آلف‬ ‫أوقية يمن الفضة‪ ،‬و ُقتل يمن المشركين خلا ق كثير‪ ،‬كما ُألسر عدد‬ ‫‪-126-‬‬


‫كبير‪ ،‬وقد أحصي عدد اللسرى فكان لستة آلف ألسير ُنقلوا‬ ‫يمحرولسين إلى وادي الجعرانة‪.‬‬ ‫وأمّيما قتلى المسلمين فلم ُيحص عددهم‪ ،‬إل مّ أنهم كانوا‬ ‫كثيرين‪ ،‬فقد ذكرت كتب السيرة أن قبيلتين يمن المسلمين ُفنيتا‪ ،‬وأن‬ ‫النبي صلى ا عليه ولسلم صمّلى عليهم‪ .‬وقد ترك الرلسول هذه‬ ‫الغنائم وهؤل ء اللسرى في الجعرانة وحاصر الطائف حيث احتمى‬ ‫يمالك بن عوف بعد هزيمته‪ ،‬وطبا ق الحصار عليها‪ ،‬لكن الطائف‬ ‫كانت لثقيف وكانت يمدينة يمحصنة‪ ،‬وكان أهلها ذوي دراية بحرب‬ ‫الحصار‪ ،‬وذوي ثروة طائلة‪ ،‬وكانت ثقيف على دراية بريمي النبال‪،‬‬ ‫فريمت المسلمين بالنبال‪ ،‬وقتلت يمنهم جماعة‪ ،‬ولم يكن يمن اليسير‬ ‫على المسلمين أن يقتحموا هذه الحصون‪ ،‬ولذلك عسكروا بعيدين‬ ‫ع بهم‬ ‫عن حصون العدو‪ ،‬وأقام المسلمون ينتظرون يما ا صان ٌ‬ ‫وبعدمّوهم‪.‬‬ ‫وقد الستعان النبي ببني دوس لريماية الطائف بالمنجنيا ق‪،‬‬ ‫فجا ءوه بعد أربعة أيام يمن حصاره ويمعهم أدواتهم‪ ،‬وهاجم‬ ‫المسلمون يمدينة الطائف وريموها بالمنجنيا ق وبعثوا إليها بالدبابات‬ ‫دخل تحتها نفر يمنهم‪ ،‬ثم زحفوا إلى جدار الطائف ليحرقوه‪ ،‬غير‬ ‫أنهم يما شعروا إل مّ وقطع يمن الحديد المحمى بالنار تنزل عليهم‬ ‫تحرق دباباتهم‪ ،‬ففروا‪ .‬ذلك أن ثقيفا قد أحموا قطعا يمن الحديد‬ ‫بالنار حتى إذا انصهرت ألقوها على الدبابات فحرقتها‪ ،‬يمما اضطر‬ ‫‪-127-‬‬


‫المسلمين أن يفروا‪ ،‬فريمتهم ثقيف بالنبل وقتلت جماعة يمنهم‪.‬‬ ‫وبذلك أخفا ق المسلمون في دخول الطائف‪ ،‬فبدأوا يقطعون‬ ‫الكروم ويحرقونها حتى تسلم ثقيفا‪ ،‬ولكنها لم تسلم‪.‬‬ ‫ح ُرم قد بدأت إذ قد هلمّ ذو القعدة‪ ،‬فرجع‬ ‫وكانت الشهر ال ُ‬ ‫الرلسول عن الطائف إلى يمكة‪ ،‬ونزل الجعرانة حيث تركوا غنائمهم‬ ‫وألسراهم‪ .‬فجا ءه يمالك بن عوف بنا ء على وعد الرلسول إياه‪ ،‬أنه‬ ‫إذا أتاه يمسلما رد عليه يماله وأهله وأعطاه يمائة يمن البل‪ .‬جا ء‬ ‫يمالك فأعلن إلسليمه وأخذ يما وعده الرلسول به‪ .‬فخاف الناس أن‬ ‫تنقص قسمتهم يمن الغنائم إن ظل الرلسول يعطي يمن يأتيه يمن‬ ‫ل فيأه‪،‬‬ ‫حوا أن يأخذ ك ٌ‬ ‫هوازن فطلبوا أن ُتقسم الغنائم بينهم وأل مّ‬ ‫وتهايمسوا فيما بينهم في أيمر الغنائم حتى بلغ همسهم رلسول ا‪،‬‬ ‫فوقف إلى جانب بعير فأخذ وبرة يمن لسنايمه فجعلها بين اصبعيه‪،‬‬ ‫ثم رفعها وقال ‪} :‬أيها الناس‪ ،‬وا يما لي يمن فيئكم ول هذه‬ ‫خمس يمردود عليكم‪ ،{،‬وأيمر أن لَي ُرد كل واحد‬ ‫خمس وال ُ‬ ‫الوبرة إل مّ ال ُ‬ ‫يما أخذه يمما غنم حتى ُتقسم الغنائم بالعدل‪ ،‬وقال ‪} :‬فمن أخذ‬ ‫شيئا في غير عدل ولو كان إبرة كان على أهله عارا ونارا وشنارا‬ ‫خمس لنفسه ووز ع‬ ‫س الغنيمة وفصل ال ُ‬ ‫م لَ‬ ‫خ لَ‬ ‫إلى يوم القيايمة‪ ،{،‬ثم لَ‬ ‫خمسه الذين كانوا إلى أيام أشد‬ ‫الباقي على أصحابه‪ ،‬وأعطى يمن ُ‬ ‫الناس عداوة له نصيبا على نصيبهم‪ ،‬فأعطى كل واحد يمن أبي‬ ‫لسفيان‪ ،‬وابنه يمعاوية‪ ،‬والحارث بن الحارث‪ ،‬والحارث بن هشام‬ ‫‪-128-‬‬


‫ولسهيل بن عمرو وحويطب بن عبدالعزى‪ ،‬ولسائر رؤلسا ء العشائر‬ ‫يمائة يمن البل زيادة على نصيبهم‪ ،‬تألفا لقلوبهم‪ ،‬وأعطى يمن كان‬ ‫دون هؤل ء شأنا خمسين يمن البل زيادة على نصبيهم‪ ،‬وقضى‬ ‫لهؤل ء المؤلفة قلوبهم جميع حاجاتهم‪.‬‬ ‫وكان عليه الصلة والسلم في توزيع المال يويمئذ في غاية‬ ‫السماحة والكرم‪ ،‬وفي يمنتهى الحنكة والسيالسة‪ ،‬ولكن بعض‬ ‫المسلمين لم يدركوا حكمته عليه السلم يمن هذا الكرم وهذا‬ ‫التوزيع للغنائم‪ ،‬فقد جعل عمله هذا النصار يتحدث بعضهم إلى‬ ‫بعض فيما صنع رلسول ا‪ ،‬ويقول بعضهم لبعض ‪" :‬لقي وا‬ ‫رلسول ا قويمه"‪ ،‬وأمّثر ذلك على نفولسهم‪ ،‬فما كان يمن لسعد بن‬ ‫عبادة إل مّ أن بمّلغ النبي هذا القول‪ ،‬فقال له الرلسول ‪ :‬وأين أنت‬ ‫يمنهم يا لسعد؟ فقال ‪ :‬إمّنما أنا رجل يمن قويمي‪ ،‬وأمّيد قويمه فيما‬ ‫مع لي قويمك‪ ،‬فجمعهم لسعد‪ ،‬فقال‬ ‫يقولونه‪ .‬فقال له النبي ‪ :‬اج لَ‬ ‫لهم الرلسول ‪ :‬يما قالة بلغتني عنكم‪ ،‬وجدة وجدتموها في‬ ‫أنفسكم‪ ،‬ألم آتكم ضلل م ً فهداكم ا‪ ،‬وعالة فأغناكم ا‪ ،‬وأعدا ء‬ ‫ن وأفضل‪.‬‬ ‫فأمّلف ا بين قلوبكم؟ فقالوا ‪ :‬بلى‪ ،‬ا ورلسوله أيم مّ‬ ‫فقال الرلسول ‪ :‬أل تجيبون يا يمعشر النصار؟ فقالوا ‪ :‬بماذا نجيبك يا‬ ‫رلسول ا؟ لله وللرلسول المنمّ والفضل‪ .‬فقال عليه السلم ‪ :‬أيما‬ ‫وا لو شئتم لقلتم فلصدقتم ولصدقتم أتيتنا يمكَّذبا فصمّدقناك‪،‬‬ ‫ويمخذول م ً فنصرناك‪ ،‬وطريدا فآويناك‪ ،‬وعائل م ً فآلسيناك‪ .‬أوجد ُتم يا‬ ‫‪-129-‬‬


‫ت بها قويما ل ُيسلموا‬ ‫يمعشر النصار في لعاعة يمن الدنيا تألف ُ‬ ‫ووكل ُتكم إلى إلسليمكم‪ .‬أل ترضون يا يمعشر النصار أن يذهب‬ ‫الناس بالشاة والبعير وترجعوا برلسول ا إلى رحالكم‪ ،‬فوالذي‬ ‫نفس يمحمد بيده لول الهجرة لكنت ايمر ءا يمن النصار‪ .‬ولو لسلك‬ ‫شعب النصار‪ .‬اللهم‬ ‫ت ِ‬ ‫شعبا لسلك ُ‬ ‫شعبا ولسلكت النصار ِ‬ ‫الناس ِ‬ ‫ارحم النصار وأبنا ء النصار وأبنا ء أبنا ء النصار‪ .‬ويما أن انتهى يمن‬ ‫ ء شديدا حتى اخضمّلت لحاهم‪ ،‬وقالوا ‪:‬‬ ‫كليمه حتى بكى النصار بكا م ً‬ ‫رضينا برلسول ا قسما وحظا‪ ،‬ثم عادوا إلى رحالهم‪.‬‬ ‫وبعد ذلك خرج الرلسول عليه السلم يمن الجعرانة إلى يمكة‬ ‫ ُيمحريما بالعمرة هو والجيش‪ .‬وبعد أن قضى عمرته جعل على‬ ‫يمكة عتاب بن ُألسيد واليا‪ ،‬وجعل يمعاذ بن جبل فيها يثقف الناس‬ ‫ويفقههم اللسلم‪ ،‬وعاد هو والنصار والمهاجرين إلى المدينة‪.‬‬ ‫غزوة تبوك‬ ‫اتصل برلسول ا نبأ يمن بلد الروم بأنها تهيئ جيشا لغزو‬ ‫بلد العرب الشمالية غزوا ينسي الناس انسحاب المسلمين الماهر‬ ‫في يمؤتة‪ .‬اتصل هذا النبأ يمجسما أيما تجسيم‪ ،‬فقرر أن يواجه‬ ‫ ء يمحو في‬ ‫هذه القوة بنفسه‪ ،‬وهيأ خطة للقضا ء عليها قضا م ً‬ ‫نفوس لسادتها كل أيمل في غزو المسلمين‪ ،‬أو التعرض لهم‪ .‬وكان‬ ‫الوقت أواخر الصيف وأوائل الخريف‪ ،‬والقيظ قد اشتدت حرارته‪،‬‬ ‫‪-130-‬‬


‫ج لَلد‬ ‫والشقه يمن المدينة إلى بلد الشام طويلة شاقة‪ ،‬تحتاج إلى ال لَ‬ ‫وإلى المؤنة‪ ،‬وإلى الما ء‪ .‬وإذن ل بد يمن يمطالعة الناس بهذا اليمر‬ ‫وعدم كتمانه عنهم‪ ،‬ول بد أن ُيعلمهم بصراحة أنه يعتزم السير إلى‬ ‫الروم لقتالهم‪ .‬وهذا يخالف خطته صلى ا عليه ولسلم التي كان‬ ‫يرلسمها في لسابا ق غزواته‪ ،‬فإنه كان يخفي خطته‪ ،‬ويخفي الجهة‬ ‫التي يسير إليها‪ ،‬وكان يتوجه في كثير يمن الحيان بجيشه إلى غير‬ ‫الناحية التي يقصد إليها‪ ،‬تضليل م ً للعدو‪ ،‬حتى ل يفشو خبر يمسيرته‪.‬‬ ‫أمّيما هذه المرة فإنه أعلن يمن أول يوم أنه يريد أن يذهب‬ ‫لقتال الروم في حدود بلدهم‪ ،‬لذلك أرلسل في القبائل جميعا‬ ‫يدعوهم للتهيئ‪ ،‬كيما يعد أكبر جيش يمكن إعداده‪ ،‬وأرلسل إلى‬ ‫أغنيا ء المسلمين يأيمرهم بالنفاق يمما آتاهم ا يمن فضله‪،‬‬ ‫لتجهيز جيش كثير العدد والعدة‪ ،‬وأخذ يحمّرض المسلمين على‬ ‫النضمام لهذا الجيش‪ .‬فالستقبل المسلمون هذه الدعوة الستقبال م ً‬ ‫يمتباينا‪.‬‬ ‫أمّيما الذين أقبلوا على اللسلم بقلوب يممتلئة هدى ونورا فقد‬ ‫أقبلوا يلمّبون دعوة رلسول ا خفافا يمسرعين‪ ،‬ويمنهم الفقير الذي‬ ‫ل يجد الدابة يحمل نفسه عليها‪ ،‬ويمنهم الغني يضع يماله بين يديه‪،‬‬ ‫يقديمه في لسبيل ا عن رضا واطمئنان‪ ،‬ويقدم نفسه بشوق‬ ‫طايمعا في اللستشهاد في لسبيل ا‪.‬‬ ‫وأمّيما الذين دخلوا في دين ا رغبا ورهبا‪ ،‬رغبا في يمغانم‬ ‫‪-131-‬‬


‫الحرب ورهبا يمن قوة المسلمين‪ ،‬فقد تثاقلوا وبدأوا يلتمسون‬ ‫العذار‪ ،‬وجعلوا يتهايمسون فيما بينهم‪ ،‬ويهزأون بدعوة الرلسول‬ ‫إياهم لهذا الغزو النائي‪ ،‬في ذلك الجو المحِرق‪ .‬هؤل ء هم‬ ‫المنافقون‪ .‬وقد كان يقول بعضهم لبعض ‪ :‬ل تنفروا في الحر‪،‬‬ ‫فنزل قوله تعالى ‪ :‬وقالوا ل تنفروا في الحر قل نار جهنم أشد‬ ‫حرا لو كانوا يفقهون‪ ،‬وقد قال الرلسول للجد بن قيس‪ ،‬أحد بني‬ ‫لسلمة ‪ :‬يا جد هل لك في جهاد بني الصفر؟ فقال ‪ :‬يا رلسول ا‬ ‫أ لَوتأذن لي ول تفتمّني‪ ،‬فوا لقد عرف قويمي أنه يما يمن رجل أشد‬ ‫ت نسا ء بني الصفر أل‬ ‫عجبا بالنسا ء يمني‪ ،‬وإني أخشى إن رأي ُ‬ ‫أصبر‪ .‬فأعرض عنه رلسول ا‪ ،‬وفيه نزلت هذه الية ‪‬ويمنهم يمن‬ ‫يقول ا ءذن لي ول تفتني أل في الفتنة لسقطوا وإن جهنم لمحيطة‬ ‫بالكافرين‪.‬‬ ‫ولم يقف المنافقون عند حد تباطؤهم عن الخروج للقتال‪،‬‬ ‫بل صاروا يحرضون الناس على التخلف عن القتال‪ ،‬فرأى الرلسول‬ ‫أن يأخذهم بالشدة‪ ،‬وأن يضرب على أيديهم بكل قسوة‪ ،‬فقد بلغه‬ ‫أن نالسا يمنهم يجتمعون في بيت لسويلم اليهودي يثمّبطون الناس‪،‬‬ ‫و ُيلقون في نفولسهم التخاذل والتخلف عن القتال‪ .‬فبعث إليهم‬ ‫طلحة بن عبيدا في نفر يمن أصحابه‪ ،‬فحرق عليهم بيت لسويلم‪،‬‬ ‫ففمّر أحدهم يمن ظهر البيت فانكسرت رجله‪ ،‬واقتحم الباقون النار‬ ‫وفروا‪ .‬فكان ذلك درلسا لغيرهم لم يجرؤ أحد بعدها على يمثل‬ ‫‪-132-‬‬


‫فعلهم‪.‬‬ ‫وقد كان للحزم والشدة اللذين لسلكهما الرلسول صلى ا‬ ‫عليه ولسلم أثر في تجهيز الجيش‪ ،‬حتى اجتمع جيش عظيم بلغت‬ ‫لسمي هذا الجيش جيش‬ ‫عدته ثلثين ألفا يمن المسلمين‪ ،‬وقد ُ‬ ‫عسرة‪ ،‬لنه كلف في شدة القيظ لملقاة عدو كبير‪ ،‬ولخوض‬ ‫ال ُ‬ ‫يمعركة بعيدة عن المدينة‪ ،‬والنفقات الكبيرة التي كان يتطلبها تجهيز‬ ‫يمثل هذا الجيش‪ .‬وقد اجتمع هذا الجيش وقام أبو بكر يؤم الناس‬ ‫للصلة في انتظار عود الرلسول يمن تدبير شؤون المدينة أثنا ء‬ ‫غيبته‪ ،‬وقد الستخلف الرلسول على المدينة يمحمد بن لَيمسلمة‪ ،‬وخلف‬ ‫علي بن أبي طالب على أهله وأيمره بالقايمة فيهم‪ ،‬وأصدر يما رأى‬ ‫أن ُيصدر يمن الوايمر‪ ،‬ودمّبر يما ينبغي تدبيره يمن اليمور‪ ،‬ثم عاد إلى‬ ‫الجيش يتولى قيادته‪ ،‬وأيمر فتحرك الجيش وثار النقع وصهلت‬ ‫الخيل والستعرض الجيش أيمام أهل المدينة‪ ،‬وارتقت النسا ء لسقف‬ ‫البيوت يشهدن هذا الجحفل الجرار يتوجه يمخترقا الصحرا ء صوب‬ ‫الشام‪ ،‬يمستهينا في لسبيل ا بالحر والظمأ والمسغبة‪ .‬فحمّرك‬ ‫يمنظر الجيش وهو يتحرك صوب بلد العدو يتقديمهم عشرة آلف‬ ‫س كانت‬ ‫فارس‪ ،‬حرك يمنظره بهذه القوة الهائلة بعض نفو ٍ‬ ‫تقاعست عن النضمام إلى الجيش‪ ،‬فالتحقت بالجيش وانضمت‬ ‫إليه‪.‬‬ ‫كرة‬ ‫ولسار الجيش قاصدا تبوك‪ ،‬وكانت جيوش الروم يمعس ِ‬ ‫‪-133-‬‬


‫ما بلغها أيمر جيش المسلمين‬ ‫فيها تستعد لغزو المسلمين‪ ،‬فل مّ‬ ‫وقوته‪ ،‬وكثرة عدده‪ ،‬وتذكرت حرب المسلمين في يمؤتة‪ ،‬ويما كانوا‬ ‫عليه يمن الستبسال‪ ،‬ولم يكن جيشهم في هذا العدد الضخم وهذه‬ ‫العدة الهائلة‪ ،‬وزادهم خوفا أن الرلسول صلى ا عليه ولسلم كان‬ ‫على رأس الجيش‪ ،‬فخافوا يمن ذلك كثيرا‪ ،‬فآثروا النسحاب‬ ‫بجيوشهم إلى داخل بلد الشام ليحتموا بحصونهم‪ ،‬وتركوا تبوك‬ ‫كما تركوا جميع حدود الشام يمن جهة الصحرا ء‪ ،‬وأيمنعوا في‬ ‫انسحابهم إلى داخل البلد‪.‬‬ ‫ما عرف الرلسول صلى ا عليه ولسلم أيمر انسحاب الروم‬ ‫فل مّ‬ ‫ونمى إليه يما أصابهم يمن خوف‪ ،‬لسار حتى وصل تبوك‪ ،‬واحتلها‬ ‫وعسكر فيها‪ ،‬ولم ير يمحل م ً لتتبع الروم داخل بلد الشام في ذلك‬ ‫الوقت‪ .‬فأقام في تبوك يمدة تقرب يمن شهر يناجز يمن شا ء أن‬ ‫ينازله أو يقاويمه يمن أهل تلك المنطقة‪ ،‬ووجه رلسالة إلى أيمرا ء‬ ‫القبائل والبلدان التابعين للروم‪ ،‬فأرلسل رلسالة إلى يوحنا بن رؤيمة‬ ‫صاحب أيلة‪ ،‬وإلى أهل الجربا ء‪ ،‬وأهل أذر ح أن يذعنوا أو يغزوهم‪،‬‬ ‫ف لَقِبلوا الخضو ع‪ ،‬وقمّديموا الطاعة‪ ،‬وصالحوا الرلسول صلى ا عليه‬ ‫ولسلم‪ ،‬وأعطوه الجزية‪.‬‬ ‫ثم عاد إلى المدينة فوجد المنافقين قد الستغلوا غياب‬ ‫الرلسول عن المدينة وأخذوا ينفثون لسمويمهم ويركزون قوتهم‬ ‫ليغدروا بالمسلمين‪ .‬وكان قد بنى جماعة يمنهم يمسجدا بذي أوان‪،‬‬ ‫‪-134-‬‬


‫بينه وبين المدينة نحو لساعة‪ ،‬وإلى هذا المسجد كان يأوي‬ ‫المنافقون ويحاولون أن يحمّرفوا كلم ا عن يمواضعه وأن يفمّرقوا‬ ‫بذلك بين المؤيمنين ضرارا وكفرا‪ .‬وكانت هذه الجماعة التي بنت‬ ‫المسجد قد طلبت يمن الرلسول قبل غزوة تبوك أن يصلي في‬ ‫ما عاد وعرف أعمال المنافقين‪،‬‬ ‫المسجد فالستمهلهم حتى يعود‪ ،‬فل مّ‬ ‫وأوحي إليه أيمر المسجد‪ ،‬وحقيقة يما ُقصد إليه يمن إقايمته‪ ،‬أيمر‬ ‫بإحراق المسجد‪ ،‬واشتد على المنافقين‪ .‬فضرب بذلك يمثل م ً ارتعدت‬ ‫له فرائصهم‪ ،‬فخافوا وانزووا ولم ت ُقم لهم بعدها قائمة‪.‬‬ ‫وبغزوة تبوك تمت كلمة ربك في شبه جزيرة العرب كلها‪،‬‬ ‫وأِيمن الرلسول كل عادية عليها‪ ،‬وأقبلت وفود العرب على الرلسول‬ ‫تقدم الطاعة وتعلن لله اللسلم‪.‬‬ ‫لسيطرة الدولة اللسليمية على جزيرة العرب‬ ‫بغزوة تبوك ركز النبي صلى ا عليه ولسلم الناحية الخارجية‬ ‫بتأيمين حدود الدولة يمن جهة‪ ،‬وبإلقا ء الرعب في قلوب أعدائه يمن‬ ‫جهة أخرى‪ ،‬ووضع الخطة للمسلمين يمن بعده ليحملوا دعوة‬ ‫اللسلم للعالم خارج جزيرة العرب‪ .‬ويما أن انتهى يمن غزوة تبوك‬ ‫حتى كان جنوب الجزيرة يمن اليمن وحضر يموت وعمان قد أقبل‬ ‫على إعلن إلسليمه ودخل في طاعة الدولة اللسليمية‪ .‬ويما أن‬ ‫جا ءت السنة التالسعة حتى كانت الوفود المتتابعة تعلن إلسليمها‬ ‫‪-135-‬‬


‫وإلسلم قويمها‪ ،‬وبذلك تمت لسيطرة الدولة اللسليمية على جميع‬ ‫جزيرة العرب‪ ،‬وتم تأيمين ثغورها يمن جهة الرويمان‪ ،‬ولم يبا ق فيها‬ ‫إل مّ المشركون الذين ل يزالون على شركهم‪ ،‬والذين يستطيعون أن‬ ‫جوا إلى بيت ا الحرام ويعبدوا فيه الصنام بسبب العهد الذي‬ ‫يح مّ‬ ‫قطعه الرلسول صلى ا عليه ولسلم للناس أل ُيصد عن البيت أحد‬ ‫جا ءه ول يخاف أحد في الشهر الحرام‪.‬‬ ‫وإذا كانت الجزيرة كلها قمّديمت الطاعة لمحمد عليه السلم‬ ‫وخضعت لحكام الدولة اللسليمية ولكن بقي فيها يمن يعبد غير‬ ‫ا يمن المشركين‪ ،‬فهل ُيتركون على حالهم‪ ،‬وهل ُيترك بيت ا‬ ‫الحرام يجتمع فيه الناس هذا الجتما ع المتناقض الذي يضم‬ ‫الثائرين على الوثنية والشرك يمن المسلمين‪ ،‬والمقيمين على‬ ‫الوثنية والشرك يمن المشركين؟ وهل يستطيع أحد أن يفهم‬ ‫اجتما ع عبادتين يمتناقضتين حول بيت ا‪ ،‬إحداهما ُتحطم بها‬ ‫حطمت؟ وإذن ل بد أن‬ ‫الصنام والخرى ُتعبد فيها الصنام التي ُ‬ ‫ ُيقضى على هذا الشرك في كافة أنحا ء الجزيرة‪ ،‬ول بد أن يحال‬ ‫بين المشركين وبين هذا البيت‪ .‬فنزلت لسورة برا ءة )التوبة( على‬ ‫النبي صلى ا عليه ولسلم بعد غزوة تبوك وبعد ذهاب أبي بكر‬ ‫على رأس الحج إلى يمكة‪ ،‬فأوفد النبي عليه السلم عليا بن أبي‬ ‫طالب كي يلحا ق بأبي بكر ويخطب الناس ويتلو عليهم لسورة‬ ‫منى‪ .‬وقف علي وإلى جانبه‬ ‫التوبة‪ ،‬فذهب علي‪ ،‬واجتمع الناس ب ِ‬ ‫‪-136-‬‬


‫أبو هريرة‪ ،‬فنادى علي في الناس ‪‬برا ءة يمن ا ورلسوله إلى‬ ‫الذين عاهدتم يمن المشركين‪ ..‬إلى أن وصل قوله تعالى ‪:‬‬ ‫‪‬وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة واعلموا أن ا يمع‬ ‫ما أتم تلوة هذه اليات وقف هنيهة ثم صا ح بالناس‬ ‫المتقين‪ ،‬فل مّ‬ ‫"أيها الناس ‪ :‬إنه ل يدخل الجنة كافر‪ ،‬ول يحج بعد العام يمشرك‪،‬‬ ‫ول يطوف بالبيت عريان‪ .‬ويمن كان له عند رلسول ا عهد فهو إلى‬ ‫يممّدته"‪.‬‬ ‫جل الناس أربعة‬ ‫صا ح علي بالناس بهذه الوايمر الربعة‪ ،‬ثم أ مّ‬ ‫أشهر بعد ذلك اليوم‪ ،‬ليرجع كل قوم إلى يمأيمنهم وبلدهم‪ .‬ويمن‬ ‫طف بالبيت عريان‪ .‬وبهذا تم أيمر ربك‬ ‫حج يمشرك‪ ،‬ولم ي ُ‬ ‫يويمئذ لم ي ُ‬ ‫في جزيرة العرب‪ ،‬بإقايمة كيان الدولة الناشئة على ألساس العقيدة‬ ‫اللسليمية‪ .‬وبنزول برا ءة‪ ،‬وهي آخر لسورة نزلت‪ .‬وبوضع حد‬ ‫للمشركين في جزيرة العرب‪ ،‬تم تكوين الدولة اللسليمية بالقضا ء‬ ‫على كل فكر غير اللسلم‪ ،‬وكل كيان غير كيان الدولة‪ ،‬وباللستعداد‬ ‫لحمل هذه الدعوة إلى العالم‪.‬‬ ‫جهاز الدولة اللسليمية‬ ‫كم‬ ‫ح لَ‬ ‫يمنذ وصل الرلسول صلى ا عليه ولسلم المدينة لَ‬ ‫المسلمين ورعى شؤونهم وأدار أيمورهم‪ ،‬وأوجد المجتمع‬ ‫اللسليمي‪ ،‬وعقد يمعاهدة يمع اليهود‪ ،‬ثم يمع بني ضمرة وبني‬ ‫‪-137-‬‬


‫يمدلج‪ ،‬ثم يمع قريش‪ ،‬ويمع أهل ايلة والجربا ء وأذر ح‪ ،‬وأعطى‬ ‫الناس عهدا أن ل ُيمنع يمن البيت حاج‪ ،‬ول يخاف أحد في الشهر‬ ‫الحرام‪ ،‬وأرلسل حمزة بن عبدالمطلب ويمحمد بن عبيدة بن‬ ‫الحارث ولسعد بن أبي وقاص في لسرايا لمحاربة قريش‪ ،‬وأرلسل‬ ‫زيد بن حارثة وجعفر بن أبي طالب وعبدا بن رواحة لمحاربة‬ ‫الروم‪ ،‬وأرلسل خالد بن الوليد لمحاربة دويمة الجندل‪ ،‬وقاد بنفسه‬ ‫الجيوش في غزوات عديدة خاض بها يمعارك طاحنة‪ .‬وعمّين‬ ‫ل‪ ،‬فومّلى عتاب بن ألسيد على يمكة‬ ‫للمقاطعات ولة‪ ،‬وللبلدان عما م ً‬ ‫له على اليمن‪،‬‬ ‫بعد فيْتحها‪ ،‬وبعد أن ألسلم باذان بن لسالسان و مّ‬ ‫وولى يمعاذ بن جبل الخزرجي على الج لَند‪ ،‬وولى خالد بن لسعيد‬ ‫بن العاص عايمل م ً على صنعا ء‪ ،‬وزياد بن لبيد بن ثعلبة النصاري‬ ‫على حضر يموت‪ ،‬وولى أبو يمولسى الشعري على زبيد وعدن‪،‬‬ ‫وولى عمرو بن العاص على عمان‪ ،‬وكان أبو دجانة عايمل م ً‬ ‫للرلسول على المدينة‪ .‬وكان صلى ا عليه ولسلم حين يولي الولة‬ ‫يتخيرهم يممن ُيحسنون العمل فيما يتولونه‪ ،‬و ُيشربون قلوب يمن‬ ‫ينزلون عليهم اليمان‪ ،‬وكان يسألهم عن الطريقة التي لسيسيرون‬ ‫عليها في حكمهم‪ ،‬فقد ُروي عنه صلى ا عليه ولسلم أنه قال‬ ‫لمعاذ بن جبل الخزرجي حين بعثه إلى اليمن ‪} :‬بمن تحكم؟ قال ‪:‬‬ ‫بكتاب ا‪ .‬قال ‪ :‬فإن لم تجد؟ قال ‪ :‬بسنة رلسول ا‪ .‬قال ‪ :‬فإن لم‬ ‫تجد؟ قال ‪ :‬أجتهد رأيي‪ .‬فقال ‪ :‬الحمد لله الذي ومّفا ق رلسول رلسول‬ ‫‪-138-‬‬


‫ا لما يحبه ا ورلسوله‪ ،{،‬و ُروي عنه صلى ا عليه ولسلم أنه‬ ‫ص بعبد قيس‬ ‫ومّلى أبان بن لسعيد على البحرين وقال له ‪} :‬الستو ِ‬ ‫خيرا وأكِرم لسراتهم‪.{،‬‬ ‫وكان صلى ا عليه ولسلم يرلسل الولة يمن أيمثل يمن دخلوا‬ ‫في اللسلم‪ ،‬وكان يأيمرهم بتلقين الذين ألسلموا الدين‪ ،‬وأخيْذ‬ ‫الصدقات يمنهم‪ ،‬ويسند إلى الوالي في كثير يمن الحيان جباية‬ ‫اليموال‪ ،‬ويأيمره أن يبشر الناس بالخير‪ ،‬ويعمّلمهم القرآن‪ ،‬ويفقههم‬ ‫في الدين‪ ،‬ويوصيه أن يلين للناس في الحا ق ويشتد عليهم في‬ ‫الظلم‪ ،‬وأن ينهاهم إذا كان بين الناس هيج عن الدعا ء إلى‬ ‫القبائل والعشائر‪ ،‬ليكون دعاؤهم إلى ا وحده ل شريك له‪ ،‬وأن‬ ‫خمس اليموال ويما ُكتب على المسلمين في الصدقات‪ ،‬وأن‬ ‫يأخذ ُ‬ ‫يمن ألسلم يمن يهودي أو نصراني إلسليما خالصا يمن نفسه ودان‬ ‫دين اللسلم فإنه يمن المؤيمنين‪ ،‬له يمثل يما لهم وعليه يمثل يما‬ ‫عليهم‪ ،‬ويمن كان على نصرانيته أو يهوديته فإنه ل ُيف لَتن عنها‪.‬‬ ‫ويمما قاله لمعاذ حين بعثه إلى اليمن ‪} :‬إنك لَتق ُدم على قوم‬ ‫أهل كتاب‪ ،‬فليكن أول يما تدعوهم إليه عبادة ا تعالى‪ ،‬فإذا‬ ‫عرفوا ا تعالى فأخبرهم أن ا تعالى فرض عليهم زكاة تؤخذ‬ ‫يمن أغنيائهم و ُت لَرد على فقرائهم‪ ،‬فإن هم أطاعوا لذلك فخذ يمنهم‪،‬‬ ‫ق كرائم أيموالهم‪ ،‬واتا ق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين‬ ‫وتو َّ‬ ‫ا حجاب‪.{،‬‬ ‫‪-139-‬‬


‫وكان صلى ا عليه ولسلم يرلسل في بعض الحيان رجل م ً‬ ‫يمخصوصا لليموال‪ ،‬فقد كان يبعث كل عام عبدا بن رواحة إلى‬ ‫يهود خيبر يخرص عليهم ثمرهم‪ ،‬وقد شكوا إلى الرلسول شدة‬ ‫خرصه وأرادوا أن يرشوا ابن رواحة فجمّللوا له حليا يمن حلي‬ ‫نسائهم‪ ،‬فقالوا ‪ :‬هذا لك وخفف عنا‪ ،‬وتجاوز في القسم‪ ،‬فقال‬ ‫ي‪ ،‬ويما‬ ‫من أبغض خلا ق ا تعالى إل مّ‬ ‫عبدا ‪ :‬يا يمعشر اليهود إنكم ل ِ‬ ‫ذاك بحايملي على أن أحيف عليكم‪ ،‬وأمّيما يما عرضتم يمن الرشوة‬ ‫فإنها السحت وإنا ل نأكلها‪ .‬فقالوا ‪ :‬بهذا قايمت السموات والرض‪.‬‬ ‫وكان صلى ا عليه ولسلم يكشف عن حال الولة والعمال‪،‬‬ ‫ويسمع يما ُينقل إليه يمن أخبارهم‪ ،‬وقد عزل العل ء بن الحضريمي‬ ‫عايمله على البحرين لن وفد عبد قيس شكاه‪ .‬وكان عليه الصلة‬ ‫والسلم يستوفي الحساب على العمال ويحالسبهم على المستخ لَرج‬ ‫ما رجع‬ ‫والمصروف‪ .‬وقد الستعمل رجل م ً على الصدقات )الزكاة( فل مّ‬ ‫حالسبه‪ ،‬فقال ‪ :‬هذا لكم وهذا ُأهدي لي‪ .‬فقال النبي ‪ :‬يما بال‬ ‫لنا ا فيقول هذا لكم وهذا‬ ‫الرجل نستعمله على العمل بما و مّ‬ ‫ي‪ ،‬أفل قعد في بيت أبيه وأيمه فننظر أ ُيهدى إليه أم ل‪.‬‬ ‫ ُأهدي إل مّ‬ ‫وقال ‪ :‬يمن الستعميْلنا على عمل ورزقناه رزقا فما أخذ بعد ذلك فهو‬ ‫غلول‪ .{،‬وشكا أهل اليمن يمن تطويل يمعاذ في الصلة فزجره‬ ‫م في الناس فليخمّفف‪.‬‬ ‫وقال ‪ :‬يمن أ لَ مّ‬ ‫وكان صلى ا عليه ولسلم يومّلي قضاة يقضون بين الناس‪،‬‬ ‫‪-140-‬‬


‫فقد عمّين علي بن أبي طالب قاضيا على اليمن‪ ،‬وعمّين عبدا بن‬ ‫نوفل قاضيا على المدينة‪ ،‬وأنفذ يمعاذ بن جبل وأبا يمولسى‬ ‫الشعري قاضيين إلى اليمن‪ ،‬وقال لهما ‪ :‬بم تحكمان؟ فقال ‪ :‬إن‬ ‫لم نجد الحكم في الكتاب ول السمّنة قسنا اليمر باليمر‪ ،‬فما كان‬ ‫أقرب إلى الحا ق عملنا به‪ .‬وقد أقمّرهما النبي صلى ا عليه ولسلم‬ ‫على ذلك‪ ،‬يمما يدل على أنه كان يتخير القضاة ويتثبت يمن‬ ‫طريقتهم في القضا ء‪.‬‬ ‫ولم يكتف بتعيين القضاة بل كان ُيعنى بالمظالم‪ ،‬فقد وجه‬ ‫راشد بن عبدا أيميرا على القضا ء والمظالم وجعل له صلحية‬ ‫النظر في قضايا المظالم‪.‬‬ ‫وكان صلى ا عليه ولسلم يدير يمصالح الناس ويعمّين ُكتابا‬ ‫لدارة هذه المصالح‪ ،‬وكانوا بمقام يمديري الدوائر‪ ،‬فكان علي بن‬ ‫أبي طالب كاتب العهود إذا عاهد والصلح إذا صالح‪ ،‬وكان الحارث‬ ‫بن عوث المري على خاتمه‪ ،‬وكان يمعيقيب بن أبي فاطمة كاتبا‬ ‫على الغنائم‪ ،‬وكان حذيفة بن اليمان يكتب خرص ثمار الحجاز‪،‬‬ ‫وكان الزبير بن العوام يكتب أيموال الصدقات‪ ،‬وكان المغيرة بن‬ ‫شعبة يكتب المداينات والمعايملت‪ ،‬وكان شرحبيل بن حسنة يكتب‬ ‫التوقيعات إلى الملوك‪ .‬وكان يعمّين لكل يمصلحة يمن المصالح كاتبا‬ ‫أي يمديرا‪ ،‬يمهما تعددت هذه المصالح‪.‬‬ ‫وكان صلى ا عليه ولسلم كثير المشاورة لصحابه‪ ،‬ويما‬ ‫‪-141-‬‬


‫انفك عن الستشارة أهل الرأي والبصيرة‪ ،‬ويمن شهد لهم بالعقل‬ ‫ن في بث دعوة اللسلم‪،‬‬ ‫والفضل‪ ،‬وأبانوا عن قوة إيمان‪ ،‬وتفا ٍ‬ ‫وكانوا لسبعة يمن النصار ولسبعة يمن المهاجرين‪ ،‬يمنهم حمزة‪ ،‬وأبو‬ ‫بكر‪ ،‬وجعفر‪ ،‬وعمر‪ ،‬وعلي‪ ،‬وابن يمسعود‪ ،‬ولسليمان‪ ،‬وعمار‪،‬‬ ‫وحذيفة‪ ،‬وأبو ذر‪ ،‬والمقداد‪ ،‬وبلل‪ .‬وكان يستشير أيضا غير هؤل ء‪،‬‬ ‫إل مّ أن هؤل ء كانوا أكثر يمن يرجع إليهم في الرأي‪ ،‬فكانوا بمثابة‬ ‫يمجلس الشورى‪ .‬وكان صلى ا عليه ولسلم قد وضع على‬ ‫ل‪،‬‬ ‫المسلمين وعلى غيرهم وعلى الرضين والثمار والماشية أيموا م ً‬ ‫عشر‪ ،‬والفي ء‪ ،‬والخراج‪ ،‬والجزية‪ ،‬وكانت النفال‬ ‫هي الزكاة‪ ،‬وال ُ‬ ‫والغنائم يمن اليموال التي لبيت المال‪ ،‬وكان يوز ع الزكاة على‬ ‫الشخاص الثمانية الذين ُذكروا في القرآن ول يعطي غيرهم يمنها‬ ‫شيئا‪ ،‬ول يدير شؤون الدولة بشي ء يمنها‪ ،‬وكانت إدارة شؤون‬ ‫الناس ينفا ق عليها يمن الفي ء والخراج والجزية والغنائم‪ ،‬وكانت‬ ‫تكفي لدارة الدولة وتجهيز الجيش‪ ،‬ولم تكن الدولة تشعر أنها‬ ‫بحاجة إلى يمال‪.‬‬ ‫وهكذا أقام الرلسول صلى ا عليه ولسلم جهاز الدولة‬ ‫اللسليمية بنفسه‪ ،‬وأتمه في حياته‪ ،‬فقد كان للدولة رئيس‪ ،‬وكان له‬ ‫يمعاونون‪ ،‬وولة‪ ،‬وقضاة‪ ،‬وجيش‪ ،‬ويمديرو دوائر‪ ،‬ويمجلس شورى‪.‬‬ ‫وهذا الجهاز في شكله وصلحياته طريقة واجبة التبا ع‪ ،‬وهو‬ ‫إجمال م ً ثابت بالتواتر‪ .‬وقد كان صلى ا عليه ولسلم يقوم بأعمال‬ ‫‪-142-‬‬


‫رئيس الدولة يمنذ أن وصل المدينة حتى وفاته صلى ا عليه‬ ‫ولسلم‪ ،‬وكان أبو بكر وعمر يمعاونيْين له‪ ،‬وأجمع الصحابة يمن بعده‬ ‫على إقايمة رئيس للدولة يكون خليفة للرلسول في رئالسة الدولة‬ ‫ختمت به صلى ا عليه‬ ‫فقط‪ ،‬ل في الرلسالة ول في النبوة‪ ،‬لنها ُ‬ ‫ولسلم‪ .‬وهكذا أقام الرلسول جهاز الدولة كايمل م ً في حياته وترك‬ ‫شكل الحكم وجهاز الدولة يمعروفين وظاهرين كل الظهور‪.‬‬ ‫يموقف اليهود يمن الدولة اللسليمية‬ ‫لم يكن اليهود شيئا ُيع لَتد به أيمام الرلسول‪ ،‬وإمّنما كان الشي ء‬ ‫الذي ُيع لَتد بمقاويمته هم العرب بوجه عام‪ ،‬وقريش بوجه خاص‪،‬‬ ‫ولذلك عاهد الرلسول اليهود يمعاهدات تنص على خضوعهم له‪،‬‬ ‫وعلى وجوب ابتعادهم عن كل يمن يقف ضده‪ .‬إل مّ أنهم وقد رأوا‬ ‫دولة اللسلم تنمو‪ ،‬ولسلطان المسلمين يمتد‪ ،‬أخذوا يهاجمون‬ ‫ما كانت يمعركة بدر وكان النصر فيها‬ ‫المسلمين بالجدل والطعن‪ .‬فل مّ‬ ‫للمسلمين شعر اليهود بالخطر عليهم‪ ،‬فصاروا يطعنون بالمسلمين‬ ‫ويأتمرون بالرلسول‪ ،‬وكانت أخبار اليهود تصل للرلسول وللمسلمين‪،‬‬ ‫وصارت النفوس تمتلئ بالغل والضغينة‪ ،‬وصار كل يمن اليهود‬ ‫والمسلمين يتربص بصاحبه الدوائر‪ .‬وقد ازدادت وقاحة اليهود‬ ‫فكان أبو عفك أحد بني عمر بن عوف يرلسل الشعار يطعن بها‬ ‫على يمحمد وعلى المسلمين‪ ،‬وكانت عصما ء بنت يمروان تعيب‬ ‫‪-143-‬‬


‫اللسلم وتؤذي النبي وتحمّرض عليه‪ ،‬وكان كعب بن الشرف يشمّبب‬ ‫بنسا ء المسلمين‪ ،‬ويذهب إلى يمكة ينشد الشعار ويحمّرض على‬ ‫طا ق المسلمون صبرا على ذلك فقتلوهم حتى ينزجر‬ ‫يمحمد‪ .‬فلم ُي ِ‬ ‫اليهود‪.‬‬ ‫ولكنهم يمع خوفهم زاد أذاهم‪ ،‬فطلب إليهم الرلسول أن‬ ‫يكفوا عن أذى المسلمين‪ ،‬وأن يحفظوا عهد الموادعة أو ُينِزل بهم‬ ‫يما نزل بقريش‪ ،‬فالستخمّفوا بوعيده وأجابوه "ل يغمّرمّنك يا يمحمد أنك‬ ‫ت يمنهم فرصة‪ .‬إنا وا لئن‬ ‫ت قويما ل علم لهم بالحرب فأصب لَ‬ ‫لقي لَ‬ ‫ن أنا نحن الناس"‪ .‬فلم يبا ق بعد ذلك إل مّ يمقاتلتهم‪،‬‬ ‫م مّ‬ ‫حاربناك لتعل لَ‬ ‫فخرج المسلمون وحاصروا بني قينقا ع في ُدورهم خمسة عشر‬ ‫يويما يمتتابعة ل يخرج يمنهم أحد ول يدخل بطعام أحد‪ ،‬حتى لم يبا ق‬ ‫لهم إل مّ النزول على حكم يمحمد والتسليم بقضائه‪ .‬ثم كان أن‬ ‫لسمح لهم أن ُيج لَلوا عن المدينة ف ُأجلوا عنها‪ ،‬حتى بلغوا وادي‬ ‫القرى فأقايموا هناك زيمنا‪ ،‬ويمن هناك احتملوا يما يمعهم ولساروا‬ ‫صوب الشمال حتى بلغوا أذرعات على حدود الشام‪ ،‬فضعفت‬ ‫بإجلئهم شوكة اليهود وصاروا ُيظهرون الخضو ع للمسلمين‪.‬‬ ‫ما حانت لهم‬ ‫إل مّ أن ذلك كان خوفا يمن القوة والبطش‪ ،‬ول مّ‬ ‫غلب المسلمون ب ُأحد تحركت‬ ‫ما ُ‬ ‫الفرصة تحركوا ثانية‪ .‬فإنهم ل مّ‬ ‫الحقاد في نفولسهم وائتمروا بالرلسول ليقتلوه‪ ،‬وقد أحس‬ ‫الرلسول بنمّياتهم‪ ،‬فرأى أن يستدرجهم ليعرف نواياهم‪ ،‬فذهب هو‬ ‫‪-144-‬‬


‫وعشرة يمن كبار المسلمين بينهم أبو بكر وعمر وعلي إلى بني‬ ‫سط‬ ‫غبطة‪ ،‬ولكن الرلسول يما لبث أثنا ء تب مّ‬ ‫النضير فأظهروا الِبشر وال ِ‬ ‫بعضهم يمعه أن رأى لسائرهم يتآيمرون‪ ،‬ويذهب أحدهم إلى ناحية‪،‬‬ ‫ويدخل أحدهم البيت الذي كان الرلسول يمستندا إلى جداره‪ .‬إذ ذاك‬ ‫رابه أيمرهم‪ ،‬وزاده ريبة يما كان يبلغه يمن حديثهم عنه وائتمارهم‬ ‫به؛ لذلك يما لبث أن انسحب يمن يمكانه تاركا أصحابه ورا ءه يظنون‬ ‫أنه قام لبعض أيمره‪ .‬وحينئذ ُألسقط في يد اليهود واختلط عليهم‬ ‫اليمر وصاروا يحاولون السترضا ء المسلمين‪ ،‬لكن أصحاب الرلسول‬ ‫الستبطئوه فقايموا في طلبه فوجدوه قد ذهب إلى المسجد‪،‬‬ ‫فذهبوا إليه فذكر لهم يما رابه يمن أيمر اليهود‪ ،‬وبعث يمحمدا بن‬ ‫جلهم‬ ‫يمسلمة إلى بني النضير يأيمرهم أن يخرجوا يمن بلده‪ ،‬وأ مّ‬ ‫عشرة أيام‪ ،‬ثم حاصرهم وأخرجهم‪ ،‬فخرجوا ونزل يمنهم بخيبر‬ ‫يمن نزل ولسار آخرون إلى أذرعات بالشام‪.‬‬ ‫وبذلك تم تطهير المدينة يمن فتنة اليهود‪ ،‬ولم يبا ق إل مّ بنو‬ ‫قريظة‪ ،‬فإنهم لم ينقضوا العهد فلم يتعرض لهم النبي‪ ،‬ولكنهم‬ ‫حين رأوا يما حل ببني قينقا ع وبني النضير أظهروا المودة‪ ،‬غير أن‬ ‫ذلك كان يمؤقتا حين رأوا البطش وخافوا يمن قوة المسلمين‪ ،‬حتى‬ ‫إذا لسنحت لهم الفرصة ورأوا الحزاب قد جا ءت للقضا ء على‬ ‫ح لَيي بن أخطب‪ ،‬ونقضوا‬ ‫المسلمين‪ ،‬لسمع بنو قريظة كلم ُ‬ ‫عهدهم‪ ،‬والستعدوا للستئصال المسلمين‪ ،‬وأظهروا يمن الخبث‬ ‫‪-145-‬‬


‫والغدر يما ُيعد أخبث نقض للعهد‪.‬‬ ‫ولذلك بادأهم الرلسول بعد ذهاب الحزاب‪ ،‬فذهب إليهم هو‬ ‫والمسلمون وحاصرهم يمدة خمسة وعشرين ليلة‪ ،‬ولم يجرؤ‬ ‫ما أيقنوا أن لن تغني‬ ‫اليهود أن يخرجوا طوال يمدة الحصار‪ .‬ول مّ‬ ‫عنهم حصونهم بعثوا للرلسول أن ابعث إلينا أبا لبابة لنستشيره في‬ ‫ما رأوه قام إليه‬ ‫أيمرنا‪ ،‬وكان أبو لبابة يمن الوس حلفائهم‪ ،‬فل مّ‬ ‫ق لهم‪ .‬فقالوا له ‪:‬‬ ‫الرجال وأجهش النسا ء والصبيان بالبكا ء حتى ر مّ‬ ‫أترى يا أبا لبابة أن ننزل على حكم يمحمد؟ قال ‪ :‬نعم‪ ،‬وأشار بيده‬ ‫ما انصرف أبو لبابة عنهم‬ ‫إلى حلقه‪ ،‬أنه الذبح إن لم تفعلوا‪ .‬فل مّ‬ ‫عرض كعب بن ألسد عليهم آرا ء لم يقبلوها‪ ،‬فقال لهم لم يبا ق إل مّ‬ ‫أن تنزلوا على حكم يمحمد‪ ،‬فبعثوا إلى يمحمد يعرضون عليه‬ ‫الخروج إلى أذرعات تاركين ورا ءهم يما يملكون‪ ،‬فأبى ذلك عليهم‬ ‫إل مّ أن ينزلوا على الحكم‪ ،‬فالستشفعوا بالوس فجا ءوا يشفعون‬ ‫لهم‪ ،‬فقال الرلسول ‪ :‬يا يمعشر الوس أل ترضون أن أجعل بيني‬ ‫وبين حلفائكم رجل م ً يمنكم؟ قالوا ‪ :‬بلى‪ .‬قال ‪ :‬فقولوا لهم فليختاروا‬ ‫يمن شا ءوا‪ .‬فاختار اليهود لسعد بن يمعاذ‪ .‬وأخذ المواثيا ق على‬ ‫ما أعطوه‬ ‫الفريقين أن يسلم كلهما لقضائه وأن يرضى به‪ .‬فل مّ‬ ‫المواثيا ق أيمر بني قريظة أن ينزلوا وأن يضعوا السل ح ففعلوا‪،‬‬ ‫فحكم لسعد فيهم أن ُتقتل المقاِتلة‪ ،‬و ُتقسم اليموال و ُتسبى الذرية‬ ‫ما لسمع الرلسول هذا الحكم قال ‪ :‬والذي نفس يمحمد‬ ‫والنسا ء‪ .‬فل مّ‬ ‫‪-146-‬‬


‫بيده لقد رضي بحكمك هذا ا والمؤيمنون وبه أيمرت‪ .‬ثم خرج‬ ‫حفرت بها خنادق ثم جي ء باليهود أرلسال م ً‬ ‫إلى لسوق المدينة فأيمر ف ُ‬ ‫ضربت أعناقهم‪ ،‬وفي هذه الخنادق ُدفنوا‪ .‬و لَقسم النبي أيموال‬ ‫ف ُ‬ ‫بني قريظة ونسا ءهم وأبنا ءهم على المسلمين بعد أن أخرج يمنها‬ ‫خمس وأبقى يمن الغنائم يما أرلسل به لسعدا بن زيد النصاري‬ ‫ال ُ‬ ‫إلى نجد فابتا ع بها خيل م ً ولسلحا زيادة في قوة المسلمين الحربية‪.‬‬ ‫وبذلك ُقضي على بني قريظة‪ .‬إل مّ أنه لم ُيقض على جميع‬ ‫اليهود‪ ،‬وكانت هناك خيبر‪ ،‬وكانت أقوى قبائل اليهود‪ ،‬ولم تكن قد‬ ‫دخلت يمع الرلسول في حلف‪ ،‬وكانت قد تواطأت يمع قريش على‬ ‫الرلسول قبل صلح الحديبية‪ ،‬وكان وجودها أيضا شوكة في جانب‬ ‫الدولة‪ .‬ويما أن أتم الرلسول يمعاهدة الحديبية حتى الستعد لن‬ ‫يضرب خيبر ضربة قاضية‪ ،‬فأيمر الناس بالتجهز لغزو خيبر‪ ،‬وانطلا ق‬ ‫المسلمون في ألف ولستمائة رجل‪ ،‬ويمعهم يمائة فارس‪ ،‬كلهم‬ ‫واثا ق بنصر ا‪ ،‬وذهبوا إلى خيبر‪ ،‬ووقفوا أيمام حصون خيبر‬ ‫يمتأهبين كايملي العدة‪ .‬وتشاور اليهود فيما بينهم‪ ،‬فأشار عليهم‬ ‫لسلم بن يمشكم فأدخلوا أيموالهم وعيالهم حصني الوطيح‬ ‫والسللم‪ ،‬وأدخلوا ذخائرهم حصن ناعم‪ ،‬ودخلت المقاِتلة وأهل‬ ‫الحرب حصن نطاة‪ ،‬ودخل لسلم بن يمشكم يمعهم يحرضهم على‬ ‫الحرب‪.‬‬ ‫والتقى الجمعان حول حصن نطاة حيث المقاِتلة وأهل‬ ‫‪-147-‬‬


‫الحرب‪ ،‬واقتتلوا قتال م ً شديدا حتى قيل إن عدد الجرحى يمن‬ ‫المسلمين في هذا اليوم بلغ خمسين‪ .‬وتوفي لسلم بن يمشكم‪،‬‬ ‫فتولى الحارث بن أبي زينب قيادة اليهود‪ ،‬وخرج يمن حصن ناعم‬ ‫حيث الذخائر‪ ،‬يريد يمنازلة المسلمين‪ ،‬فدحره بنو الخزرج واضطروه‬ ‫أن يرتد إلى الحصن على أعقابه‪ ،‬وضمّيا ق المسلمون الحصار على‬ ‫حصون خيبر‪ ،‬واليهود يستميتون في الدفا ع‪.‬‬ ‫وتتابعت اليام فبعث الرلسول أبا بكر إلى حصن ناعم كي‬ ‫يفتحه فقاتل ورجع دون أن يفتح الحصن‪ ،‬وبعث عمر بن الخطاب‬ ‫في الغداة فكان حظه كحظ أبي بكر‪ ،‬فدعا إليه علي بن أبي‬ ‫طالب ثم قال له ‪ :‬خذ هذه الراية فايمض بها حتى يفتح ا عليك‪.‬‬ ‫ما دنا يمن الحصن خرج إليه أهله فقاتلهم‪،‬‬ ‫ويمضى علي بالراية‪ ،‬فل مّ‬ ‫فضربه رجل يمن اليهود فطر ح ترلسه يمن يده‪ ،‬فتناول علي بابا كان‬ ‫عند حصن فتترس به‪ ،‬فلم يزل في يده وهو يقاتل حتى فتح‬ ‫الحصن‪ ،‬ثم جعل الباب قنطرة اجتاز المسلمون عليها إلى داخل‬ ‫أبنية الحصن‪.‬‬ ‫وبعد حصن ناعم فتح المسلمون الحصون واحدا واحدا حتى‬ ‫انتهوا إلى الوطيح والسللم‪ ،‬وكانا آخر حصنين يمنيعين‪ .‬هنالك‬ ‫الستولى اليأس على نفوس اليهود فطلبوا الصلح على أن يحقن‬ ‫يمحمد ديما ءهم‪ ،‬فقِبل الرلسول ذلك وأبقاهم على أرضهم التي‬ ‫آلت له بحكم الفتح على أن يكون لهم نصف ثمرها يمقابل عملهم‪.‬‬ ‫‪-148-‬‬


‫وبذلك خضعت خيبر‪.‬‬ ‫ثم لسمع اليهود يمن أهل فدك بخيبر فدب الرعب في قلوبهم‬ ‫فتصالحوا على نصف أيموالهم يمن غير قتال‪ .‬وتجهز الرلسول‬ ‫للعودة إلى المدينة عن طريا ق وادي القرى‪ ،‬وفي طريقه لَقِبل يهود‬ ‫تيما ء الجزية يمن غير حرب ول قتال‪ .‬وبذلك دانت اليهود كلها‬ ‫لسلطان النبي‪ ،‬وانتهى كل يما كان لهم يمن لسلطان‪ ،‬فصار الرلسول‬ ‫بمأيمن في جزيرة العرب‪ ،‬والستقر لسلطانه‪ ،‬فاطمأن إلى الداخل‬ ‫كل الطمئنان‪.‬‬ ‫الستمرار الدولة اللسليمية‬ ‫توفي الرلسول صلى ا عليه ولسلم فأجمع الصحابة على‬ ‫بيعة خليفة له في رئالسة الدولة‪ ،‬وظل المسلمون يقيمون رئيسا‬ ‫للدولة حتى لسنة ‪1342‬هـ‪1924-‬م‪ ،‬وكانوا يسمونه خليفة‪ ،‬أو أيمير‬ ‫المؤيمنين‪ ،‬أو اليمام‪ ،‬ول يكون أي شخص خليفة إل مّ بالبيعة‪.‬‬ ‫ولسارت الدولة اللسليمية طوال أيايمها حتى آخر خليفة‪ ،‬أي حتى‬ ‫نهاية الدولة اللسليمية في هذا السبيل‪ ،‬ل يكون الشخص خليفة‬ ‫إل مّ بالبيعة‪.‬‬ ‫عهد إلى‬ ‫وقد تنمّو ع تطبيا ق البيعة‪ ،‬فبويع الخليفة يمباشرة‪ ،‬و لَ‬ ‫غيره يمن غير أقاربه‪ ،‬وعهد إلى ابنه أو أحد أقاربه‪ ،‬وعهد إلى أكثر‬ ‫يمن واحد يمن الموجودين يمن أهله‪ ،‬لكن هذا العهد لم يكن وحده‬ ‫‪-149-‬‬


‫الذي يجعله خليفة بل كان يأخذ البيعة حين يتولى الخلفة‪ ،‬ول‬ ‫يوجد خليفة تولى رئالسة الدولة دون بيعة‪.‬‬ ‫وقد تنمّو ع أخذ البيعة‪ ،‬ف ُأخذت يمن أهل الحل والعقد‪ ،‬و ُأخذت‬ ‫يمن الناس‪ ،‬و ُأخذت يمن شيخ اللسلم‪ ،‬وكان يسا ء أخذها أحيانا‪،‬‬ ‫ولكنها كانت بيعة‪ ،‬ولم تكن ولية عهد يستحا ق بها الخلفة‪.‬‬ ‫وكان كل خليفة يعمّين يمعه يمعاونين أطلا ق عليهم في بعض‬ ‫العصور أنهم وزرا ء‪ ،‬أي يمعاونون‪ .‬وكان الخليفة يعمّين الولة‪،‬‬ ‫وقاضي القضاة‪ ،‬و ُقواد الجيش‪ ،‬ويمن يتولون دوائر الدولة‪.‬‬ ‫وهكذا الستمر شكل الحكم في جميع العصور كما هو لم‬ ‫يتغير بالنسبة لوضعه أي شي ء يمنه‪ .‬فتكون الدولة اللسليمية قد‬ ‫الستمر قيايمها حتى هديمها الكافر المستعمر حين قضى على‬ ‫سم العالم اللسليمي إلى دويلت‪.‬‬ ‫الدولة العثمانية و لَق لَ‬ ‫لقد حصلت في الدولة اللسليمية عدة حوادث داخلية في‬ ‫يمختلف العصور‪ ،‬ولم يكن حدوثها ناجما عن دوافع غير إلسليمية‪،‬‬ ‫وإمّنما كان عن فهم إلسليمي للوضع الذي كان قائما حين حدوثها‪،‬‬ ‫فقام هؤل ء الفاهمون للوضع القائم يعملون حسب فهمهم‬ ‫لتصحيحه تصحيحا يتفا ق يمع يما يفهمون‪ ،‬وكلهم يمجتهد يفهم‬ ‫يمعالجة الوضع بطريقة غير الطريقة القائمة‪ ،‬وكلهما فه ٌ‬ ‫م‬ ‫إلسليمي ورأي إلسليمي‪ ،‬ولهذا نجد الخلف دائرا على شخص‬ ‫الخليفة ل يمركز الخلفة‪ ،‬وعلى يمن يكون في الحكم ل على شكل‬ ‫‪-150-‬‬


‫الحكم‪ ،‬والخلف يمحصور في الفرو ع والتفاصيل ل في الصول‬ ‫ول في الخطوط العريضة‪ .‬ولم يختلف أحد يمن المسلمين في‬ ‫الكتاب والسمّنة وإمّنما اختلفوا في فهمهما‪ ،‬ولم يختلفوا في نصب‬ ‫خليفة وإمّنما اختلفوا فيمن يكون خليفة‪ ،‬ولم يختلفوا في وجوب‬ ‫تطبيا ق اللسلم كله وحمله إلى العالم‪ ،‬ولساروا كلهم على هذا‬ ‫اللساس ينفذون أحكام ا‪ ،‬ويدعون الناس إلى دين ا‪.‬‬ ‫نعم‪ ،‬إن بعضهم ألسا ء تطبيا ق بعض أحكام اللسلم عن‬ ‫لسو ء فهم‪ ،‬وبعضهم ألسا ءه عن لسو ء قصد‪ ،‬ولكنهم جميعا كانوا‬ ‫يطبقون اللسلم ليس غير‪ ،‬وكانوا جميعا يقيمون علقاتهم يمع‬ ‫غيرهم يمن الدول والشعوب واليمم على ألساس اللسلم وحمل‬ ‫حل الخلفات الداخلية‬ ‫الدعوة اللسليمية إلى العالم‪ ،‬ولذلك لم ت ُ‬ ‫دون ايمتداد الفتوحات‪ ،‬ولم تقف دون نشر اللسلم‪ ،‬وظلت الدولة‬ ‫اللسليمية تفتح البلدان لنشر اللسلم طوال أيايمها حتى القرن‬ ‫الحادي عشر الهجري الموافا ق للقرن السابع عشر الميلدي‪،‬‬ ‫ففتحت فارس والهند والقفقاس إلى أن وصلت حدود الدولة‬ ‫اللسليمية إلى الصين ورولسيا حتى يما ورا ء بحر قزوين شرقا‪،‬‬ ‫ل‪ ،‬ويمصر وشمالي افريقيا والسبانيا غربا‪ ،‬كما‬ ‫وفتحت الشام شما م ً‬ ‫فتحت الناضول والبلقان وجنوب أوروبا وشرقيها حتى شمال‬ ‫البحر اللسود بما في ذلك الِقرم وجنوب أوكرانيا‪ ،‬وتقديمت جيوش‬ ‫الدولة حتى وصلت إلى ألسوار فينا في النمسا‪ .‬ولم تقعد عن‬ ‫‪-151-‬‬


‫الفتوحات وعن حمل الدعوة اللسليمية إل مّ حين بدأ يدب الوهن‬ ‫إليها‪ ،‬وظهر عليها لسو ء فهم اللسلم‪ .‬وقد وصل ضعفها في فهم‬ ‫اللسلم حدا كبيرا أدى إلى اضطراب تطبيقها لللسلم‪ ،‬وإلى‬ ‫الستعانتها في الستعارة يما تعتقد أنه ل يخالفه يمن النظمة الخرى‬ ‫ف ُقضي عليها‪.‬‬ ‫ولقد كان لسير الدولة يمتمشيا يمع قوتها الفكرية‪ ،‬وتومّفر قوة‬ ‫البدا ع والجتهاد فيها‪ ،‬فهي في القرن الول ايمتدت فتوحاتها‪،‬‬ ‫وتولسع الجتهاد فيها‪ ،‬وواجهت يمشاكل جديدة في البلد المفتوحة‬ ‫ل‪ .‬وأدى تطبيا ق الحكام الشرعية على المسائل‬ ‫الستنبطت لها حلو م ً‬ ‫الجديدة التي حدثت في فارس والعراق والشام ويمصر والسبانيا‬ ‫والهند والقفقاس وغيرها إلى أن يدخل أهل هذه البلد جميعها‬ ‫في جملتهم في حظيرة اللسلم‪ ،‬يمما يدل على صدق اللستنباط‬ ‫وقوة البدا ع والجتهاد‪ .‬إذ اللسلم يمقطو ع بصحته‪ ،‬وفهمه فهما‬ ‫صحيحا هو الذي يؤدي إلى رؤية الناس له يمشِرقا في تطبيقه‬ ‫وفي تعليم أحكايمه‪.‬‬ ‫وقد الستمر هذا البدا ع والجتهاد واللستنباط حتى القرن‬ ‫الخايمس الهجري الحادي عشر الميلدي‪ ،‬فأخذ البدا ع يضعف‬ ‫والجتهاد يقل‪ ،‬فأدى ذلك إلى ضعف كيان الدولة‪ ،‬ثم كانت‬ ‫شغل المسلمون بها إلى أن انتهت بانتصار‬ ‫الحروب الصليبية‪ ،‬ف ُ‬ ‫المسلمين‪.‬‬ ‫‪-152-‬‬


‫فجا ء المماليك وحكموا وهم ل يقمّدرون الجتهاد‪ ،‬ول ُيع لَنيْون‬ ‫بالفكار‪ ،‬فزاد الضعف الفكري والستتبعه الضعف السيالسي‪ .‬وزاد‬ ‫الطين بلة غزو التتار وطرحهم كتب اللسلم في دجلة وقضاؤهم‬ ‫على ثروة فكرية هائلة؛ فكان هذا الضعف الفكري الذي أوقف‬ ‫جمّدة على إصدار الفتاوى‪،‬‬ ‫الجتهاد‪ ،‬واق ُتصر بحث المسائل المست لَ‬ ‫وتأويل النصوص‪ .‬فهبط المستوى الفكري في الدولة‪ ،‬وأدى إلى‬ ‫هبوط المستوى السيالسي‪.‬‬ ‫ثم جا ء العثمانيون وتسلموا الحكم في الدولة اللسليمية‪،‬‬ ‫شغلوا بالقوة العسكرية وبالفتوحات‪ ،‬ففتحوا الستانبول والبلقان‬ ‫و ُ‬ ‫واندفعوا في أوروبا اندفاعا قويا جعلهم الدولة الولى في العالم‪.‬‬ ‫ولكن المستوى الفكري لم يرتفع‪ ،‬فلم تزد هذه القوة العسكرية‬ ‫عن وثبة ليس لها لسند فكري‪ ،‬يما لبثت أن انحسرت قواها عن‬ ‫البلدان اللسليمية شيئا فشيئا إلى أن انتهت‪ .‬ولكنها كانت على أي‬ ‫حال تحمل الدعوة اللسليمية وتنشر اللسلم‪ ،‬وقد دخل يمن أهل‬ ‫البلدان المفتوحة المليين يمن الناس في اللسلم‪ ،‬ول يزالون‬ ‫يمسلمين‪.‬‬ ‫نعم‪ ،‬لقد كان تعدد فهم اللسلم وعدم تبني الخليفة أحكايما‬ ‫يمعينة في نظام الحكم يمع أنه تبنى في القتصاد وغيره أحكايما‬ ‫يمعينة‪ ،‬لقد كان لذلك أثر في تمكين بعض الحكام يمن الخلفا ء‬ ‫والولة يمن تسيير الحكم وجهة تؤثر على وحدة الدولة وعلى‬ ‫‪-153-‬‬


‫قوتها‪ ،‬ولكن ذلك لم يؤثر على وجودها‪ ،‬فقد كانت الولية العايمة‬ ‫للولة وإعطاؤهم صلحيات والسعة نيابة عن الخليفة لسببا في‬ ‫تحرك أحالسيس السيادة فيهم‪ ،‬فصاروا شبه يمستقلين في الولية‪،‬‬ ‫واكتفوا ببيعة الخليفة‪ ،‬والدعا ء له على المنابر‪ ،‬وضرب النقد‬ ‫بالسمه‪ ،‬ويما شاكل ذلك يمن اليمور الشكلية‪ .‬وبقي أيمر الحكم في‬ ‫أيديهم يمما جعل هذه الوليات شبه دول يمستقلة‪ ،‬يمثل الحمدانيين‬ ‫والسلجوقيين وغيرهم‪.‬‬ ‫والولية العايمة لم تؤثر على وحدة الدولة باعتبارها ولية‬ ‫عايمة‪ ،‬فقد كانت ولية عمرو بن العاص في يمصر ولية عايمة‪،‬‬ ‫وولية يمعاوية بن أبي لسفيان في الشام ولية عايمة‪ ،‬ويمع ذلك لم‬ ‫ينفرد الوالي عن الخليفة بشي ء‪ ،‬وظلت وحدة الدولة يمحفوظة‬ ‫عف الخلفا ء وقِبلوا يمن الولة هذا‬ ‫ما ض ُ‬ ‫لقوة الخلفا ء‪ .‬ولكن ل مّ‬ ‫الوضع‪ ،‬حصل هذا المظهر في الوليات‪ ،‬وهو يمظهر الدولة في‬ ‫الولية يمع كونها ولية تابعة وجز ءا يمن كيان الدولة‪.‬‬ ‫وبالرغم يمن كل ذلك فقد ظلت الدولة ِوحدة واحدة‪،‬‬ ‫فالخليفة هو الذي يعين الوالي ويعزله‪ ،‬ويمهما بلغت قوة الوالي يما‬ ‫كان يجرؤ على عدم العتراف بالخليفة‪ ،‬ولم تكن الدولة اللسليمية‬ ‫في يوم يمن اليام اتحاد وليات‪ ،‬حتى في أشد عهود الستقلل‬ ‫الولة‪ ،‬وإمّنما كانت دولة واحدة لها خليفة واحد‪ ،‬هو وحده صاحب‬ ‫الصلحية في كل ناحية يمن نواحي الدولة‪ ،‬في المركز‪ ،‬والوليات‪،‬‬ ‫‪-154-‬‬


‫والمدن‪ ،‬والقرى‪ ،‬والدلساكر على السوا ء‪.‬‬ ‫أمّيما يما حصل يمن وجود خلفة في الندلس‪ ،‬ونشو ء خلفة‬ ‫الفاطميين في يمصر‪ ،‬فإن أيمره يختلف عن يموضو ع الولة‪ .‬ذلك أن‬ ‫الندلس قد الستولى عليها الولة‪ ،‬والستقلوا بها ولم يبا لَيع الوالي‬ ‫لسمي فيما بعد بالخليفة لهل تلك الولية ل‬ ‫خليفة للمسلمين وإمّنما ُ‬ ‫للمسلمين عايمة‪ .‬وظل خليفة المسلمين واحدا وظل الحكم له‪،‬‬ ‫وبقيت ولية الندلس ُينظر إليها كولية غير داخلة في حكم الخليفة‬ ‫كما كانت الحال في إيران أيام الدولة العثمانية‪ ،‬فلم يكن فيها‬ ‫خليفة ثان وإمّنما كانت ولية غير داخلة في حكم الخليفة‪.‬‬ ‫وأمّيما نشو ء خلفة الفاطميين في يمصر فلم تكن خلفة ثانية‬ ‫في الدولة اللسليمية وإمّنما كانت يمحاولة لنقل الخلفة إلى آل البيت‬ ‫بنا ء على فهم إلسليمي بأن الخلفة في آل البيت‪ ،‬وهو يشبه إلى‬ ‫حد كبير يما فعله العبالسيون حين أخذوا الحكم يمن اليمويين‪ ،‬فقد‬ ‫قايموا على فهم لسيالسي في بلد الفرس والعراق‪ ،‬وبايعوا الخليفة‬ ‫ثم قضوا على خلفة اليمويين‪ .‬وكذلك الحال يمع الفاطميين بايعوا‬ ‫علها فيهم فقط‪،‬‬ ‫موا توحيد الدولة بنقل الخلفة لهم‪ ،‬وج يْ‬ ‫خليفة ل ُيِت مّ‬ ‫إلى أن انتهت خلفتهم‪ ،‬وبقيت خلفة العبالسيين‪.‬‬ ‫ولهذا ل نسمي تغيير الحكم يمن اليمويين إلى العبالسيين‬ ‫انقلبا وإمّنما هو تغيير في الحكام‪ ،‬كذلك ل نسمي قيام خلفة‬ ‫فاطمية في يمصر يمع وجود خلفة عبالسية في بغداد تعدادا‬ ‫‪-155-‬‬


‫للخلفة وإمّنما هو يمحاولة لنقل الخلفة يمن فئة إلى فئة‪.‬‬ ‫وعليه فإن الدولة اللسليمية الستمرت في الحكم دولة واحدة‬ ‫ل‪ ،‬وإمّنما كانت يمحاولت‬ ‫ووحدة واحدة‪ ،‬لم تتجزأ‪ ،‬ولم تكن دو م ً‬ ‫للوصول إلى الحكم رغبة في تنفيذ فهم يمعين لللسلم في شؤون‬ ‫الحكم‪ ،‬ثم انتهت وظلت الخلفة واحدة‪ ،‬وظلت الدولة اللسليمية‬ ‫وحدة واحدة‪.‬‬ ‫ويمما يدل كذلك على وحدة الدولة اللسليمية رغم تعدد‬ ‫أوضا ع الحكم أن المسلم كان ينتقل يمن بلد إلى بلد يمن يمشارق‬ ‫الرض إلى يمغاربها‪ ،‬في البقا ع التي يسود فيها اللسلم‪ ،‬ولم يكن‬ ‫ ُيسأل عن بلده‪ ،‬ول عن السما ح له بالتجول؛ لن بلد اللسلم‬ ‫واحدة‪.‬‬ ‫وهكذا ظلت الدولة اللسليمية تجمع المسلمين في وحدة‬ ‫واحدة‪ ،‬وظلت دولة إلسليمية‪ .‬والستمرت هذه الدولة قوية يمندفعة‬ ‫في يمختلف العصور‪ ،‬حتى قضى عليها الكافر المستعمر بوصفها‬ ‫دولة إلسليمية لسنة ‪1924‬م حين أزال الخلفة اللسليمية يمن‬ ‫الوجود على يد كمال أتاتورك‪.‬‬ ‫السيالسة الداخلية للدولة اللسليمية‬ ‫السيالسة الداخلية للدولة اللسليمية هي تنفيذ أحكام اللسلم‬ ‫في الداخل‪ .‬وقد كانت الدولة اللسليمية تنفذ أحكام اللسلم في‬ ‫‪-156-‬‬


‫البلد التي تخضع لسلطانها‪ ،‬فتنظم المعايملت‪ ،‬وتقيم الحدود‪،‬‬ ‫وتنفذ العقوبات‪ ،‬وتحرس الخلق‪ ،‬وتضمن القيام بالشعائر‬ ‫والعبادات‪ ،‬وترعى جميع شؤون الرعية حسب أحكام اللسلم‪.‬‬ ‫وقد بمّين اللسلم الكيفية التي تنَّفذ بها أحكايمه على الناس‬ ‫الذين يخضعون لسلطانه‪ ،‬يممن يعتنقونه ويممن ل يعتقدون به‪،‬‬ ‫فكانت الدولة اللسليمية تطبا ق أحكام اللسلم حسب هذه الكيفية‪،‬‬ ‫لن طريقة التنفيذ حكم شرعي‪ ،‬كما أن يمعالجات المشاكل حكم‬ ‫طبون باللسلم هم جميع الناس؛ لن ا قد‬ ‫شرعي‪ .‬والمخا لَ‬ ‫خاطب باللسلم جميع بني النسان بوصف النسانية فقط ل بأي‬ ‫وصف آخر‪ ،‬قال تعالى ‪ :‬يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم‬ ‫والذين ِيمن لَقبلكم لعلكم تتقون‪ ‬يا أيها النسان يما غمّرك بربك‬ ‫الكريم‪.‬‬ ‫طب بالحكام‬ ‫وقد اعتبر علما ء أصول الفقه أن المخا لَ‬ ‫الشرعية هو كل عاقل يفهم الخطاب‪ ،‬لسوا ء أكان يمسلما أو غير‬ ‫يمسلم‪ ،‬وقد قال اليمام الغزالي في كتاب "المستصفى في‬ ‫الصول" ‪" :‬إن المحكوم عليه هو المكَّلف‪ ،‬وشرطه أن يكون عاقل م ً‬ ‫يفهم الخطاب‪ ،‬وأن أهلية ثبوت الحكام في الذيمة تستفاد يمن‬ ‫النسانية التي بها يستعد لقبول قوة العقل الذي به فهم التكليف"‪.‬‬ ‫طب باللسلم جميع بني النسان خطاب‬ ‫وعلى ذلك كان المخا لَ‬ ‫دعوة وخطاب تكليف‪ .‬أمّيما خطاب الدعوة فالمقصود به دعوة‬ ‫‪-157-‬‬


‫الناس إلى اعتناق اللسلم‪ ،‬وأمّيما خطاب التكليف فالمقصود به‬ ‫إلزام الناس بالعمل بأحكام اللسلم‪.‬‬ ‫هذا بالنسبة للناس عايمة‪ ،‬أمّيما بالنسبة للذين تحكمهم الدولة‬ ‫اللسليمية‪ ،‬فإن اللسلم يعتبر الجماعة التي ُتحكم بموجب هذا‬ ‫النظام وحدة إنسانية‪ ،‬بغض النظر عن طائفتها وجنسها‪ ،‬ول‬ ‫ ُيشترط فيها إل مّ التابعية )وهي الول ء للدولة والنظام(‪ ،‬ول توجد‬ ‫فيه القليات‪ ،‬بل جميع الناس باعتبار إنساني فقط هم رعايا في‬ ‫الدولة اللسليمية‪ ،‬يما دايموا يحملون التابعية‪ .‬فكل يمن يحمل تابعية‬ ‫الدولة يتمتع بالحقوق التي قررها الشر ع له‪ ،‬لسوا ء أكان يمسلما أو‬ ‫غير يمسلم‪ ،‬وكل يمن ل يحمل التابعية ُيحرم يمن هذه الحقوق ولو‬ ‫كان يمسلما‪ .‬فلو أن رجل م ً يمسلما له أم نصرانية تحمل التابعية‬ ‫اللسليمية‪ ،‬وله أب يمسلم ل يحمل التابعية اللسليمية‪ ،‬فإن أيمه‬ ‫تستحا ق النفقة يمنه ول يستحقها أبوه‪ ،‬فلو طلبت أيمه نفقة يمنه‬ ‫حكم لها القاضي بالنفقة لنها تحمل التابعية‪ ،‬أمّيما لو طلب أبوه يمنه‬ ‫نفقة ل يحكم له القاضي بالنفقة ويرد دعواه؛ لنه ل يحمل‬ ‫التابعية‪ .‬فهو قد اعتبر الجماعة التي ُتحكم باللسلم رعية‪ ،‬وجعل‬ ‫التابعية هي الجايمعة بينهم في الستحقاقهم رعاية شؤونهم‬ ‫باللسلم‪ ،‬ويصبحون يعيشون في دار اللسلم‪.‬‬ ‫هذا بالنسبة للنظرة إليهم يمن ناحية الحكم ورعاية الشؤون‪،‬‬ ‫أمّيما يمن ناحية تطبيا ق أحكام اللسلم‪ ،‬فإنها تأخذ الناحية التشريعية‬ ‫‪-158-‬‬


‫القانونية ل الناحية الروحية‪ ،‬وذلك أن اللسلم ينظر للنظام المطَّبا ق‬ ‫عليهم باعتبار تشريعي قانوني ل باعتبار ديني روحي‪ ،‬أي باعتبار‬ ‫الحكام الشرعية ل باعتبار ناحية التدين‪ ،‬وذلك لن النصوص‬ ‫حظ فيها الناحية التشريعية‪ ،‬لن النص قد جا ء‬ ‫الشرعية تل لَ‬ ‫لمعالجة المشكلة‪ ،‬والشار ع قصد اتبا ع المعاني ل الوقوف على‬ ‫النصوص‪ ،‬ولذلك يراعى في الستنباط الحكام وجه العمّلة يمن‬ ‫الحكم‪ ،‬أي تراعى في النص حين الستنباط الحكم الناحية‬ ‫التشريعية‪.‬‬ ‫وهذا التشريع حين يأيمر به خليفة المسلمين يصبح قانونا‬ ‫يجب تنفيذه على الجميع‪ .‬ويمن هنا كان خضو ع الناس جميعا في‬ ‫الدولة اللسليمية للحكام الشرعية أيمرا حتميا‪ ،‬فالذين يعتقدون‬ ‫اللسلم ‪-‬أي المسلمين‪ -‬يكون اعتناقهم له واعتقادهم به هو الذي‬ ‫ ُيلزيمهم بجميع أحكايمه؛ لن التسليم بالعقيدة تسليم بجميع‬ ‫الحكام المنبثقة عنها‪ ،‬فكان اعتقادهم يملِزيما لهم بجميع يما أتت به‬ ‫هذه العقيدة إلزايما حتميا‪ ،‬ولذلك كان اللسلم بالنسبة للمسلمين‬ ‫شريعة يمنها التشريع‪ ،‬أي دينا يمنه القانون‪ ،‬وهم يمج لَبرون على‬ ‫القيام بجميع أحكايمه‪ ،‬لسوا ء المتعلقة بعلقتهم بالله وهي‬ ‫العبادات‪ ،‬أو المتعلقة بعلقتهم بأنفسهم وهي الخلق‬ ‫والمطعويمات‪ ،‬أو المتعلقة بغيرهم وهي المعايملت والعقوبات‪.‬‬ ‫والمسلمون يمتفقون في العقيدة اللسليمية‪ ،‬وفي أن الكتاب‬ ‫‪-159-‬‬


‫والسمّنة هما يمصدر الدلة الشرعية والقواعد الشرعية والحكام‬ ‫الشرعية‪ ،‬ول يختلف أحد يمنهم في ذلك يمطلقا‪ ،‬ولكنهم بحكم‬ ‫الجتهاد يمختلفون في فهم الكتاب والسمّنة‪ ،‬فكانوا يمن جرا ء هذا‬ ‫الختلف في الفهم يمذاهب يمختلفة‪ ،‬وفرقا يمتعددة‪ ،‬وذلك أن‬ ‫اللسلم جعل المسلمين يجتهدون في الستنباط الحكام‪ ،‬وبطبيعة‬ ‫تفاوت الفهام حصل الختلف في فهم الفكار المتعلقة بالعقائد‪،‬‬ ‫وفي كيفية اللستنباط‪ ،‬وفي الحكام والرا ء المستن لَبطة‪ ،‬فأدى ذلك‬ ‫إلى وجود الِفرق والمذاهب‪ .‬وقد حث الرلسول على الجتهاد وبمّين‬ ‫أن الحاكم إذا اجتهد وأخطأ فله أجر واحد وإذا أصاب فله أجران‬ ‫اثنان‪.‬‬ ‫وفتح اللسلم باب الجتهاد؛ ولذلك لم يكن عجيبا أن يكون‬ ‫هنالك أهل السمّنة والشيعة والمعتزلة وغيرهم يمن الفرق‬ ‫اللسليمية‪ ،‬ولم يكن غريبا أن يكون هنالك الشافعية والحنفية‬ ‫والمالكية والحنابلة والجعفرية والزيدية وغيرهم يمن المذاهب‬ ‫اللسليمية‪ .‬وجميع الفرق اللسليمية والمذاهب اللسليمية تعتنا ق‬ ‫طبون باتبا ع‬ ‫عقيدة واحدة هي العقيدة اللسليمية‪ ،‬وجميعهم يمخا لَ‬ ‫أوايمر ا واجتناب نواهيه‪ ،‬ويمأيمورون باتبا ع الحكم الشرعي ل‬ ‫اتبا ع يمذهب يمعين‪ ،‬ويما المذهب إل مّ فهم يمعين للحكم الشرعي‬ ‫يقلده غير المجتهد حين ل يستطيع الجتهاد‪ ،‬فالمسلم يمأيمور‬ ‫بالحكم الشرعي ل بالمذهب‪ ،‬يأخذ هذا الحكم بالجتهاد إن كان‬ ‫‪-160-‬‬


‫قادرا عليه‪ ،‬ويأخذه بالتبا ع أو التقليد إن كان غير قادر على‬ ‫الجتهاد‪.‬‬ ‫وعلى ذلك فإن جيمع الفرق والمذاهب التي تعتقد العقيدة‬ ‫اللسليمية وتعتقد بالكتاب والسمّنة وأنهما وحدهما يمصدر الدلة‬ ‫الشرعية والقواعد الشرعية والحكام الشرعية‪ ،‬هذه الفرق‬ ‫والمذاهب كلها يمسلمة‪ ،‬وهؤل ء جميعهم ُيعتبرون يمسلمين‪ ،‬وتنَّفذ‬ ‫عليهم أحكام اللسلم‪ ،‬وعلى الدولة أل تتعرض لهذه الفرق‬ ‫اللسليمية‪ ،‬ول لتبا ع المذاهب الفقهية‪ ،‬يما دايمت ل تخرج عن‬ ‫عقيدة اللسلم‪ .‬أمّيما إذا خرجت عن عقيدة اللسلم أفرادا أو‬ ‫جماعات فإنها لَتعتبر ذلك ارتدادا عن اللسلم‪ ،‬وتطِّبا ق عليهم أحكام‬ ‫المرتدين‪.‬‬ ‫والمسلمون يمطا لَلبون بجميع أحكام اللسلم‪ ،‬إل مّ أن هذه‬ ‫الحكام يمنها يما هو قطعي ليس فيه إل مّ رأي واحد كقطع يد‬ ‫السارق‪ ،‬وتحريم الربا‪ ،‬ووجوب الزكاة‪ ،‬وكون الصلوات المفروضة‬ ‫خمسا‪ ،‬ويما شاكل ذلك‪ ،‬فإن هذه الحكام تنَّفذ على جميع‬ ‫المسلمين في فهم واحد لنها قطعية‪.‬‬ ‫وهناك أحكام وأفكار وآرا ء قد اخ لَتلف المسلمون في فهمها‪،‬‬ ‫و لَفِهمها كل يمجتهد خلف فهم الخر‪ ،‬يمثل صفات الخليفة‪ ،‬وأخذ‬ ‫عشر على الرض الخراجية‪ ،‬وإجارة الرض‪ ،‬وغير ذلك‪ ،‬فهذه‬ ‫ال ُ‬ ‫الحكام المخت لَلف فيها يتبنى الخليفة رأيا يمنها فتصبح طاعته واجبة‬ ‫‪-161-‬‬


‫على الجميع‪ ،‬وحينئذ على كل يمن يفهم رأيا غير الرأي الذي أيمر به‬ ‫اليمام أن يترك رأيه ويعمل برأي اليمام فقط‪ ،‬لن أيمر اليمام يرفع‬ ‫الخلف‪ ،‬وطاعة اليمام في ذلك واجبة‪ ،‬ويجب أن ينفذ المسلمون‬ ‫جميعا أيمرا الخليفة فيما يتبناه يمن أحكام‪ ،‬لن أيمره نافذ ظاهرا‬ ‫وباطنا أي في السر والعلنية‪ ،‬ويأثم كل يمن عمل بحكم شرعي‬ ‫غير الحكم الذي تبناه اليمام وأيمر به‪ ،‬لنه بعد أيمر الخليفة يعتبر‬ ‫الحكم الشرعي في حا ق المسلمين هو يما أيمر به اليمام‪ ،‬ويما عداه‬ ‫ل يعتبر حكما شرعيا بحا ق المسلمين‪ ،‬لن الحكم الشرعي في‬ ‫المسألة الواحدة ل يتعدد بحا ق الشخص الواحد‪.‬‬ ‫إل مّ أن الخليفة ل يتبنى شيئا في العقائد‪ ،‬لن هذا التبني‬ ‫يجعل الحرج على المسلمين فيما يعتقدون‪ .‬إل مّ أنه إذا ظهر أهل‬ ‫بد ع وأهوا ء بعقائد غير صحيحة فإن الدولة تتولى تأديبهم‬ ‫بعقوبات زاجرة إذا كانت هذه العقائد ل يك ُفر يمعتقدها‪ ،‬أمّيما إذا‬ ‫كانت يمما يك ُفر يمعتقدها فيعا لَيملون حينئذ يمعايملة المرتدين‪.‬‬ ‫وكذلك ل يتبنى الخليفة شيئا في العبادات‪ ،‬لن هذ التبني‬ ‫يجعل المشقة على المسلمين في عباداتهم؛ ولذلك ل يأيمر برأي‬ ‫يمعين في العقائد يمطلقا يما دايمت العقيدة إلسليمية‪ ،‬ول يأيمر بحكم‬ ‫يمعين في العبادات‪ ،‬يما عدا الزكاة‪ ،‬يما دايمت هذه العبادات أحكايما‬ ‫شرعية‪ ،‬ويتبنى فيما عدا ذلك في المعايملت جميعها‪ ،‬يمن بيع‬ ‫وإجارة وزواج وطلق ونفقة وشركة وكفالة‪ ..‬الخ‪ ،‬وفي العقوبات‬ ‫‪-162-‬‬


‫جميعها يمن حدود وتعزير‪ ،‬وفي المطعويمات والملبولسات‬ ‫والخلق‪ ،‬وعلى المسلمين أن يطيعوه فيما يتبناه‪.‬‬ ‫نعم إن الخليفة ينفذ أحكام العبادات فيعاِقب تارك الصلة‬ ‫طر في ريمضان‪ ،‬وينفذ جميع أحكام العبادات‪ ،‬كما ينفذ لسائر‬ ‫والمف ِ‬ ‫الحكام لسوا ء بسوا ء‪ ،‬وهذا التنفيذ هو واجب الدولة‪ ،‬لن وجوب‬ ‫الصلة ليس يمجال اجتهاد ول يعتبر تبنيا في العبادات‪ ،‬وإمّنما هو‬ ‫تنفيذ لحكم شرعي يمقطو ع به عند الجميع‪ ،‬ويتبنى لتنفيذ العقوبات‬ ‫على العبادات رأيا شرعيا يلزم الناس بالعمل به‪ ،‬كما يتبنى لتنفيذ‬ ‫العقوبات على أي حكم يمن لسائر الحكام‪.‬‬ ‫هذا بالنسبة للمسلمين‪ ،‬وأمّيما غير المسلمين فهم يعتنقون‬ ‫عقيدة غير العقيدة اللسليمية وهم ‪:‬‬ ‫‪ -1‬الذين يمّدعون أنهم يمسلمون ويعتقدون عقيدة تناقض‬ ‫عقيدة اللسلم‪.‬‬ ‫‪ -2‬الذين هم يمن أهل الكتاب‪.‬‬ ‫‪ -3‬المشركون ويشمل الصابئة والمجوس والهندوك وجميع‬ ‫يمن ليسوا يمن أهل الكتاب‪.‬‬ ‫وهؤل ء جميعا ُيتركون ويما يعتقدون ويما يعبدون‪ ،‬ويسيرون‬ ‫في أيمور الزواج والطلق حسب أديانهم‪ ،‬وتعِّين الدولة لهم قاضيا‬ ‫يمنهم ينظر في خصويماتهم هذه في يمحاكم الدولة‪ .‬وأمّيما‬ ‫المطعويمات والملبولسات فإنهم يعا لَيملون بشأنها حسب أحكام‬ ‫‪-163-‬‬


‫دينهم ضمن النظام العام‪ .‬ويعا لَيمل غير أهل الكتاب كمعايملة أهل‬ ‫لسمّنوا بهم‬ ‫الكتاب‪ ،‬قال عليه الصلة والسلم في حا ق المجوس ‪ُ } :‬‬ ‫لسمّنة أهل الكتاب‪.{،‬‬ ‫أمّيما المعايملت والعقوبات فإنها تنَّفذ على غير المسلمين كما‬ ‫تنَّفذ على المسلمين لسوا ء بسوا ء‪ ،‬فتقام العقوبات على غير‬ ‫المسلمين كما تقام على المسلمين‪ ،‬وتنَّفذ و ُتفسخ يمعايملت غير‬ ‫المسلمين كما تنَّفذ و ُتفسخ يمعايملت المسلمين لسوا ء بسوا ء‪ ،‬يمن‬ ‫غير تفريا ق أو تمييز بين شخص وآخر لن جميع يمن يحملون‬ ‫طبون‬ ‫التابعية على اختلف أديانهم وأجنالسهم ويمذاهبهم‪ ،‬يمخا لَ‬ ‫بأحكام الشريعة اللسليمية في أيمور المعايملت والعقوبات‪،‬‬ ‫ويمكَّلفون باتبا ع الحكام والعمل بها‪ ،‬إل مّ أن تكليفهم بذلك إمّنما هو‬ ‫يمن ناحية تشريعية قانونية ل يمن ناحية دينية روحية‪ ،‬فل ُيج لَبرون‬ ‫على العتقاد بها لنهم ل ُيج لَبرون على اللسلم‪ ،‬قال تعالى ‪ :‬ل‬ ‫إكراه في الدين‪ ،‬ونهى الرلسول صلى ا عليه ولسلم على أن‬ ‫ ُيفتن أهل الكتاب في دينهم‪ ،‬ولكن ُيج لَبرون على الخضو ع لحكام‬ ‫اللسلم يمن ناحية كونها تشريعا وقانونا واجب التنفيذ‪.‬‬ ‫والخلصة هي أن الدولة في لسيالستها الداخلية تنفذ الشر ع‬ ‫اللسليمي على جميع الذين يحملون التابعية لسوا ء أكانوا يمسلمين‬ ‫أو غير يمسلمين‪ ،‬ويكون تنفيذها على الوجه التي ‪:‬‬ ‫أ‪ -‬تنَّفذ على المسلمين أحكام اللسلم جميعها‪.‬‬ ‫‪-164-‬‬


‫ب‪ُ -‬يترك غير المسلمين ويما يعتقدون ويما يعبدون‪.‬‬ ‫ج‪ -‬يعا لَيمل غير المسلمين في أيمور المطعويمات والملبولسات‬ ‫حسب أديانهم ضمن النظام العام‪.‬‬ ‫صل أيمور الزواج والطلق بين غير المسلمين حسب‬ ‫د‪ُ -‬تف لَ‬ ‫أديانهم يمن قضاة يمنهم في يمحاكم الدولة ل في يمحاكم خاصة‪،‬‬ ‫صل هذه اليمور بينهم وبين المسلمين حسب أحكام اللسلم‬ ‫و ُتف لَ‬ ‫يمن قضاة يمسلمين‪.‬‬ ‫هـ‪ -‬تنفذ الدولة باقي يمور الشريعة اللسليمية يمن يمعايملت‬ ‫وعقوبات ونظم حكم واقتصاد وغيرها على الجميع‪ ،‬ويكون‬ ‫تنفيذها على المسلمين وعلى غير المسلمين على السوا ء‪.‬‬ ‫و‪ -‬جميع الذين يحملون التابعية اللسليمية هم رعايا الدولة‬ ‫تجب رعايتهم جميعهم على السوا ء دون تفريا ق بين المسلمين‬ ‫وغير المسلمين‪.‬‬ ‫السيالسة الخارجية للدولة اللسليمية‬ ‫السيالسة الخارجية هي علقة الدولة بغيرها يمن الدول‬ ‫والشعوب واليمم‪ ،‬وهذه العلقة هي رعاية شؤون المّيمة خارجيا‪.‬‬ ‫والسيالسة الخارجية للدولة اللسليمية هي علقتها بغيرها يمن‬ ‫الدول والشعوب واليمم‪ .‬وتقوم هذه السيالسة الخارجية على‬ ‫فكرة ثابتة ل تتغير‪ ،‬هذه الفكرة الثابتة هي نشر اللسلم في‬ ‫‪-165-‬‬


‫العالم في كل أمّيمة وكل شعب‪ .‬وهذا هو اللساس الذي تقوم عليه‬ ‫السيالسة الخارجية للدولة اللسليمية‪ ،‬وهذا اللساس ل يتغير أبدا‪،‬‬ ‫ول يختلف يمهما اختلف الشخاص القائمون على الحكم‪.‬‬ ‫وقد كان هذا اللساس يموجودا وثابتا في جميع العصور يمنذ‬ ‫أن الستقر الرلسول صلى ا عليه ولسلم حتى انتهت الدولة‬ ‫العثمانية بوصفها آخر الدولة اللسليمية‪ ،‬ولم يتغير هذا اللساس‬ ‫يمطلقا‪ .‬فمنذ أن أقام الرلسول صلى ا عليه ولسلم في المدينة بدأ‬ ‫يقيم علقة الدولة اللسليمية بغيرها على ألساس نشر اللسلم‪،‬‬ ‫ع لَقد يمع اليهود يمعاهدات ليتفرغ لنشر الدعوة في الحجاز‪ ،‬ثم‬ ‫ف لَ‬ ‫عقد يمعاهدة الحديبية يمع قريش ليتمكن يمن نشر الدعوة في‬ ‫جزيرة العرب‪ ،‬ثم أرلسل الكتب للدول الموجودة خارج الجزيرة‬ ‫العربية ليقيم يمعها علقات على ألساس نشر اللسلم بدعوتهم‬ ‫للدخول فيه‪ .‬ثم جا ء خلفاؤه يمن بعده فأقايموا علقاتهم يمع الدول‬ ‫جميعها على ألساس نشر اللسلم‪ ،‬وأخذوا يحملون الدعوة‬ ‫اللسليمية إلى العالم‪.‬‬ ‫وقد كان الحكام الذين يتولون الحكم يتفاوتون في نشر‬ ‫اللسلم‪ ،‬فاليمويون كانوا أكثر فتحا للبلدان وأكثر نشرا لللسلم في‬ ‫الخارج يمن العبالسيين‪ ،‬والعثمانيون كانوا أكثر فتحا للبلدان وأكثر‬ ‫نشرا لللسلم في الخارج يمن المماليك‪ .‬ولكن هذا التفاوت كان‬ ‫حسب تفاوت عناية الدولة بسيالستها الخارجية‪ .‬أمّيما نشر اللسلم‬ ‫‪-166-‬‬


‫فقد ظل اللساس الذي تقوم عليه علقة الدولة اللسليمية بغيرها‬ ‫يمن الدول والشعوب واليمم‪ ،‬ولم يتغير لدى أي خليفة يمن الخلفا ء‪.‬‬ ‫ووجود الدولة إمّنما هو يمن أجل تطبيا ق اللسلم في الداخل‪،‬‬ ‫وحمل دعوته في الخارج إلى العالم؛ ولذلك كانت يمهمة الدولة‬ ‫اللسليمية في الخارج إمّنما هي حمل الدعوة اللسليمية‪.‬‬ ‫والذي يجعل نشر اللسلم ألسالسا للسيالسة الخارجية هو أن‬ ‫رلسالة يمحمد عليه الصلة والسلم للناس كافة‪ ،‬قال تعالى ‪ :‬ويما‬ ‫أرلسلناك إل مّ كافة للناس بشيرا ونذيرا‪ ،‬وقال تعالى ‪ :‬يا أيها‬ ‫الناس قد جا ءكم يموعظة يمن ربكم‪ ، ...‬وقال تعالى ‪ :‬يا أيها‬ ‫ل ‪ :‬وأوحي‬ ‫الناس إني رلسول ا إليكم جميعا‪ ،‬وقال عمّز وج مّ‬ ‫ي هذا القرآن لنذركم به و لَيمن لَبلغ‪ ،‬وقال ‪ :‬يا أيها الرلسول بِّلغ‬ ‫إل مّ‬ ‫يما ُأنزل إليك يمن ربك وإن لم تفعل فما بمّلغت رلسالته‪ ،‬وقد قام‬ ‫ما التحا ق بالرفيا ق العلى‬ ‫الرلسول بتبليغ الرلسالة للناس‪ ,‬ول مّ‬ ‫الستمرت رلسالته للناس يبلغهم إياها المسلمون‪ ،‬فكان حمل‬ ‫الدعوة اللسليمية للعالم الستمرارا لعمل الرلسول صلى ا عليه‬ ‫ولسلم‪.‬‬ ‫وقد لسار المسلمون على ذلك والستمروا في حمل الدعوة‬ ‫اللسليمية‪ ،‬وقد قال عليه السلم في خطبة الودا ع ‪} :‬أل فليبمّلغ‬ ‫ضر ا‬ ‫ب يمبَّلغ أوعى يمن لسايمع‪ ،{،‬وقال ‪} :‬ن مّ‬ ‫الشاهد الغائب‪ ،‬ف ُر مّ‬ ‫ايمر ءا لسمع يمقالتي فوعاها فأمّداها كما لسمعها‪.{،‬‬ ‫‪-167-‬‬


‫وهكذا كان حمل الدعوة اللسليمية ألسالسا لعلقة الدولة‬ ‫اللسليمية بغيرها يمن الدول والشعوب واليمم في أيام الرلسول‪،‬‬ ‫وفي أيام خلفائه ِيمن بعده‪ ،‬وهذا هو الحكم الشرعي‪ ،‬وهو ثابت‬ ‫بالكتاب والسمّنة وإجما ع الصحابة‪ ،‬ولذلك فإن السيالسة الخارجية‬ ‫للدولة اللسليمية هي حمل الدعوة اللسليمية للعالم‪.‬‬ ‫وتنَّفذ هذه السيالسة الخارجية بطريقة ثابتة ل تتغير هي‬ ‫الجهاد يمهما اختلف الشخاص القائمون على الحكم‪.‬‬ ‫وقد كانت هذه الطريقة ثابتة في جميع العصور يمنذ أن‬ ‫الستقر الرلسول صلى ا عليه ولسلم حتى انتهت آخر الدولة‬ ‫اللسليمية‪ ،‬ولم تتغير هذه الطريقة يمطلقا‪ .‬فإن الرلسول صلى ا‬ ‫عليه ولسلم يمنذ أن أقام الدولة في المدينة هيأ الجيش‪ ،‬وبدأ الجهاد‬ ‫لزالة الحواجز المادية التي تقف دونها‪ ،‬فكانت قريش حاجزا يماديا‬ ‫يقف في لسبيل الدعوة اللسليمية‪ ،‬فصمم على إزالته‪ ،‬ثم أزال‬ ‫قريشا ككيان يقف في وجه الدعوة‪ ،‬كما أزال غيره يمن الكيانات‬ ‫م اللسلم جميع جزيرة العرب‪ ،‬ثم‬ ‫التي تقف في لسبيلها‪ ،‬إلى أن ع مّ‬ ‫بدأت الدولة اللسليمية تطرق أبواب اليمم الخرى لنشر اللسلم‬ ‫بينهم‪ ،‬فوجدت كيان الحكم القائم على هذه اليمم حاجزا يماديا‬ ‫حول دون الدعوة‪ ،‬فكان ل بد يمن إزالة هذا الكيان يمن وجه‬ ‫ي ُ‬ ‫الدعوة‪ ،‬والوصول إلى الشعب نفسه ل ُيدعى إلى اللسلم‪ ،‬بحكمه‬ ‫به حتى يرى ويلمس عدل اللسلم والرفاهية والهنا ء في العيش‬ ‫‪-168-‬‬


‫تحت رايته‪ ،‬ويدعونه إليه بالتي هي أحسن دون إكراه ول إجبار‪.‬‬ ‫وهكذا الستمر الجهاد طريقة لنشر اللسلم‪ ،‬ف ُفتحت بالجهاد‬ ‫البلدان والقطار‪ ،‬وأزيلت بالجهاد الممالك والدول‪ ،‬وحكم اللسلم‬ ‫الشعوب واليمم‪ ،‬و ُنشر اللسلم فاعتنقه يمئات المليين يمن البشر‬ ‫حكموا به‪ ،‬فكانت الطريقة التي ا ُتبعت في تنفيذ السيالسة‬ ‫بعد أن ُ‬ ‫الخارجية هي الجهاد‪ ،‬وكانت ثابتة ل تتغير ولن تتغير أبدا‪.‬‬ ‫والجهاد هو الدعا ء إلى اللسلم والقتال في لسبيل ا‪،‬‬ ‫يمباشرة أو يمعاونة بمال أو رأي أو تكثير لسواد‪ .‬وهو فرض بنص‬ ‫القرآن والحديث‪ .‬وكان المسلمون ل يبدأون العدو بالقتال حتى‬ ‫يعرضوا عليه اللسلم أو الجزية‪ ،‬والحكم الشرعي في الجهاد هو‬ ‫صيْرنا العدا ء يمن الكفار دعوناهم إلى اللسلم‪ ،‬فإن‬ ‫أنه إذا حا لَ‬ ‫ألسلموا صاروا جز ءا يمن المّيمة اللسليمية وحرم قتالهم‪ .‬وإن أبوا‬ ‫طلبت يمنهم الجزية‪ ،‬فإن دفعوها عصموا بها ديما ءهم‬ ‫اللسلم ُ‬ ‫وأيموالهم‪ ،‬وصارت بلدهم دار إلسلم ُتحكم باللسلم‪ ،‬وصار لهم‬ ‫يما للمسلمين يمن العدل والنصاف‪ ،‬ويمن الحماية والرعاية والدفا ع‬ ‫عنهم‪ ،‬ورعاية شؤونهم كرعاية شؤون المسلمين‪ ،‬بتأيمين لسائر‬ ‫اليمور التي تلزيمهم في حياتهم‪ ،‬وعليهم يما على المسلمين يمن‬ ‫الول ء للدولة والنظام‪ .‬فإن ايمتنع العدو عن اللسلم وعن دفع‬ ‫ل حينئذ قتاله‪ .‬ولذلك ل يحل القتال إل مّ بعد عرض الدعوة‬ ‫الجزية ح مّ‬ ‫اللسليمية على أهل البلد‪ .‬وقد نص الفقها ء على أنه ل يحل لنا أن‬ ‫‪-169-‬‬


‫نقاتل يمن لم تبلغه الدعوة اللسليمية‪.‬‬ ‫وعلى ذلك فل بد أن يسبا ق القتال إيجاد رأي عام عن‬ ‫اللسلم‪ ،‬وإعطا ء فكرة صحيحة عن الدعوة اللسليمية‪ ،‬ويمحاولت‬ ‫ليصال أحكام اللسلم للناس‪ ،‬حتى يتسنى لهم إدراك يما فيه يمن‬ ‫إنقاذ لهم ولو بشكل إجمالي‪ ،‬وعلى الدولة اللسليمية أن تقوم‬ ‫بأعمال لسيالسية يمنها يما يتعلا ق بإعطا ء يمعلويمات واضحة عن‬ ‫اللسلم‪ ،‬وبث أفكار اللسلم‪ ،‬والقيام بالدعوة والدعاية لللسلم‪،‬‬ ‫ويمنها يما يتعلا ق بإظهارة قوة الدولة اللسليمية ويمقدرتها‪ ،‬وإظهار‬ ‫صلية المسلمين وجرأتهم‪.‬‬ ‫وقد كان الرلسول صلى ا عليه ولسلم يقوم بأعمال عديدة‬ ‫في ذلك‪ ،‬يمنها إرلسال الدعاة لللسلم في قلب بلد الشرك‪ ،‬كما‬ ‫أرلسل الربعين رجل م ً إلى أهل نجد ليبمّلغوا اللسلم‪ .‬وكان يقوم‬ ‫بإظهارة قوة الدولة كما حصل في الستعراضه جيش المسلمين‬ ‫في المدينة يوم غزوة تبوك قبل خروجه لها‪ .‬ولذلك يقول الرلسول‬ ‫ت بالرعب يمسيرة شهر‪ .{،‬وكان جيش المسلمين‬ ‫عليه السلم ‪ُ } :‬نصر ُ‬ ‫في الدولة اللسليمية في يمختلف العصور يمرهوب الجانب‪ ،‬ولذلك‬ ‫كانت أوروبا تحمل فكرة عن الجيش اللسليمي هي أنه ل ُيغلب‬ ‫أبدا‪ .‬وظلت تحمل هذه الفكرة عدة قرون‪ .‬ولهذا ل بد يمن القيام‬ ‫بأعمال لسيالسية تتعلا ق ببث الفكار اللسليمية‪ ،‬وبإظهار قوة الدولة‪،‬‬ ‫ثم المباشرة بالقتال‪.‬‬ ‫‪-170-‬‬


‫والجهاد وإن كان الطريقة الثابتة التي ل تتغير لنشر اللسلم‪،‬‬ ‫ولكن العمال السيالسية والحركات المقصودة ل بد يمنها قبل البد ء‬ ‫بالقتال‪ ،‬وهي أيمر ألسالسي في تركيز العلقة بين الدولة وغيرها‬ ‫يمن الدول والشعوب واليمم على وجه يمعين‪ ،‬يمن حيث حسن‬ ‫الجوار‪ ،‬ويمن حيث العلقات القتصادية‪ ،‬أو غير ذلك يمما يسمّهل أيمر‬ ‫نشر اللسلم‪.‬‬ ‫وعلى ذلك فإن الفكرة السيالسية التي تقوم عليها علقة‬ ‫الدولة اللسليمية يمع الدول والشعوب واليمم هي نشر اللسلم‬ ‫بينهم وحمل الدعوة إليهم‪ ،‬وطريقة ذلك هي الجهاد‪.‬‬ ‫غير أن هناك خططا وألساليب تضعها الدولة ولسائل وأدوات‬ ‫ل يمع بعض‬ ‫للتنفيذ‪ .‬فهي يمثل م ً تعقد يمعاهدات حسن الجوار لج ٍ‬ ‫العدا ء وتحارب الخرين‪ ،‬كما فعل رلسول ا صلى ا عليه‬ ‫ولسلم في أول نزوله المدينة‪ .‬أو تعلن الحرب على أعدائها جميعا‬ ‫كما فعل أبو بكر حين وجه الجيوش للعراق والشام في آن واحد‪.‬‬ ‫أو تعقد يمعاهدات لجل‪ ،‬حتى تتمكن يمن إيجاد رأي عام للدعوة‬ ‫كما فعل الرلسول في يمعاهدة الحديبية‪ .‬وقد تتخذ المناوشات‬ ‫المحلية ولسائل للرهاب كما حصل في السرايا التي كان يرلسلها‬ ‫الرلسول صلى ا عليه ولسلم قبل غزوة بدر‪ ،‬وكما حصل في أيام‬ ‫اليمويين على حدود الروم يمن ِفرق الصوائف والشواتي‪ .‬وقد‬ ‫تعقد الدولة يمعاهدات تجارية يمع بعض الدول ول تعقدها يمع‬ ‫‪-171-‬‬


‫دول أخرى‪ ،‬على ألساس يمصلحة الدعوة‪ .‬وقد تنشئ علقات يمع‬ ‫دول ول تنشئها يمع أخرى‪ ،‬حسب خطة يمرلسويمة للدعوة‪ .‬وقد تتبع‬ ‫ألساليب الدعوة والدعاية يمع بعض الدول في حين تتبع ألساليب‬ ‫كشف الخطط والحرب الباردة يمع دول أخرى‪.‬‬ ‫وهكذا تضع الدولة خططا وتنفذ ألساليب حسب يما يقرره نو ع‬ ‫العمل وتقتضيه يمصلحة الدعوة‪ ،‬وكانت هذه الخطط واللساليب‬ ‫تسمّهل أيمر نشر اللسلم كما تسمّهل أيمر الجهاد‪ .‬ولذلك كانت الخطط‬ ‫واللساليب ضرورية في السيالسة الخارجية‪ ،‬وكان إيجاد الرأي‬ ‫العام عن اللسلم وعن الدولة لدى العالم ضروريا أيضا‪ ،‬ولكن‬ ‫ذلك كله إمّنما هو لنشر اللسلم بوالسطة طريقة نشره‪ ،‬وهي‬ ‫الجهاد في لسبيل ا‪.‬‬ ‫الفتوحات اللسليمية هي لنشر اللسلم‬ ‫ما كانت المّيمة اللسليمية يمكَّلفة بحمل الدعوة اللسليمية إلى‬ ‫ل مّ‬ ‫الناس كافة كان لزايما على المسلمين أن يتصلوا بالعالم‪ ،‬وكان‬ ‫لزايما على الدولة اللسليمية أن تقوم بهذا التصال فتبمّلغ الدعوة‬ ‫وتتخذ الطريقة التي قررها اللسلم لنشر هذه الدعوة‪ ،‬ولذلك كان‬ ‫يمن المحتم أن تقوم الدولة اللسليمية بفتح البلدان‪ ،‬وأن تكون لها‬ ‫تلك الفتوحات الكبيرة‪ .‬ويما هذه الفتوحات إل مّ تنفيذ لما على‬ ‫المسلمين يمن واجب‪ ،‬هو تبليغ اللسلم للناس على وجه يلفت‬ ‫‪-172-‬‬


‫النظر‪ ،‬بإقايمة أحكايمه عليهم‪ ،‬ونشر أفكاره بينهم‪ .‬ولذلك لم تكن‬ ‫الفتوحات اللسليمية يمن أجل الستغلل الشعوب والستعمارها‪ ،‬ول‬ ‫يمن أجل يما في بلدها يمن خيرات‪ ،‬وإمّنما كانت يمن أجل شي ء‬ ‫واحد هو حمل الدعوة اللسليمية إليها لنقاذها يمما هي فيه يمن‬ ‫حياة شقية ويمن نظام فالسد‪ .‬ويظهر ذلك في نشأة الدولة‬ ‫اللسليمية وفي لسير الفتوحات اللسليمية وفي فرضية الجهاد‪.‬‬ ‫وقد نشأت الدولة اللسليمية نشأة قوية يمتركزة‪ ،‬نشأة اتسا ع‬ ‫ونمو‪ ،‬نشأة انتشار وفتح‪ ،‬فكانت بذرة إنشائها بذرة إنشا ء دولة‬ ‫عالمية ل دولة يمحلية؛ لن عقيدتها عقيدة عالمية‪ ،‬إذ هي عقيدة‬ ‫للنسان‪ ،‬ولن نظايمها نظام عالمي‪ ،‬إذ هو نظام للنسان‪ ،‬فكان‬ ‫طبيعيا أن تنتشر‪ ،‬وكان طبيعيا أن تفتح البلد‪ ،‬لن طبيعة إنشائها‬ ‫توجب ذلك وتحتمه‪.‬‬ ‫وها هو ذا الرلسول صلى ا عليه ولسلم يبايعه المسلمون‬ ‫بيعة العقبة الثانية‪ ،‬يبايعونه على حرب الحمر واللسود يمن الناس‪،‬‬ ‫ولو أدى ذلك إلى فنا ء اليموال وقتل الشراف‪ ،‬يبايعونه على‬ ‫عسرهم و ُيسرهم و لَيمنشطهم و لَيمكرههم‪،‬‬ ‫السمع والطاعة في ُ‬ ‫وأن يقولوا الحا ق أينما كان ل يخافون في ا لويمة لئم‪ ،‬يبايعونه‬ ‫على الموت في لسبيل حماية الدعوة اللسليمية‪ ،‬وليس لهم يمقابل‬ ‫ذلك كله إل مّ الجنة‪ .‬وهؤل ء هم نواة جيش الدولة اللسليمية التي‬ ‫حملت اللسلم‪ ،‬فكيف يكون هذا الجيش الذي بايع هذه البيعة؟‬ ‫‪-173-‬‬


‫ولماذا أنشئ هذا الجيش‪ ،‬ويما هي يمهمته الحربية التي تبدو في‬ ‫هذه البيعة؟ أليست هي يمهمة حمل دعوة اللسلم‪ ،‬وهي وحدها‬ ‫التي جا ءوا يمن أجلها وبايعوا عليها والستعدوا للموت في لسبيلها؟‬ ‫وقد وضع صلى ا عليه ولسلم خطة الفتوحات قبل وفاته‪،‬‬ ‫فإنه عليه الصلة والسلم بعد أن قايمت الدولة اللسليمية في‬ ‫الجزيرة‪ ،‬وضع خطة نشر الدعوة اللسليمية خارج الجزيرة بإرلسال‬ ‫الكتب في السنة السابعة للهجرة إلى كسرى وقيصر وإلى غيرهما‬ ‫يمن الملوك واليمرا ء يدعوهم جميعا لللسلم‪ ،‬وبغزوتي يمؤتة‬ ‫وتبوك‪ ،‬وبإعداده جيش ألسايمة‪.‬‬ ‫وقد قام خلفاؤه يمن بعده بتنفيذ هذه الخطة حين أخذوا‬ ‫يفتحون البلدان التي خاطبها الرلسول صلى ا عليه ولسلم‬ ‫باللسلم‪ ،‬ثم تتالت الفتوحات اللسليمية على هذا اللساس‪ ،‬ولذلك‬ ‫لم تفرق الدولة اللسليمية في فتحها للعالم بين أن تفتح يمصر‬ ‫بخيراتها ولسهولة فتحها‪ ،‬وبين أن تفتح شمالي افريقيا على‬ ‫صحراويتها ووعورتها وفقرها وصعوبة فتحها ويمشقة نشر اللسلم‬ ‫فيها‪ ،‬لنها إمّنما تفتح لنشر اللسلم وحمل دعوته‪ ،‬وذلك يقتضيها أن‬ ‫تدخل كل بلد يمهما يكن فقره أو غناه‪ ،‬وأن تواجه كل شعب يمهما‬ ‫يكن الستسليمه أو يمقاويمته؛ لن نشر اللسلم وحمل دعوته للناس‬ ‫ل يعرف فقر بلد أو غناه‪ ،‬ول قبول أهله أو رفضهم‪ ،‬وإمّنما يعرف‬ ‫شيئا واحد لَا هو حمل الدعوة اللسليمية قيادة فكرية تنبثا ق عنها‬ ‫‪-174-‬‬


‫أنظمة الحياة‪ ،‬وأن يكون هذا الحمل لجميع الناس في جميع‬ ‫البلد‪.‬‬ ‫وقد بمّين القرآن الكريم للمسلمين ألسباب القتال وفريضة‬ ‫الجهاد بأنها ل تكون إل مّ في لسبيل اللسلم وحمل رلسالته للعالمين‪.‬‬ ‫وهناك آيات يمستفيضة الكثرة تأيمرهم بالقتال يمن أجل اللسلم‪،‬‬ ‫قال تعالى في لسورة النفال ‪ :‬وقاتلوهم حتى ل تكون فتنة‬ ‫ويكون الدين كله لله‪ ،‬وقال في لسورة البقرة ‪ :‬وقاتلوهم حتى ل‬ ‫تكون فتنة ويكون الدين لله فإن انتهوا فل عدوان إل مّ على‬ ‫الظالمين‪ ،‬وقال في لسورة التوبة ‪ :‬قاِتلوا الذين ل يؤيمنون بالله‬ ‫ول باليوم الخر ول يحِّريمون يما حمّرم ا ورلسوله ول يدينون دين‬ ‫الحا ق يمن الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن ي ٍد وهم‬ ‫صاغرون‪ ،‬فهذه اليات وغيرها هي التي أيمرت بالجهاد‪ ،‬وهي‬ ‫عمّينت للمسلمين الغاية يمن الفتوحات‪ ،‬وهي التي كانت تدفعهم‬ ‫إلى هذه الفتوحات‪.‬‬ ‫وعلى ذلك فإن حمل الدعوة اللسليمية هو الذي أقيمت‬ ‫الدولة اللسليمية على ألسالسه‪ ،‬وأنشئ الجيش اللسليمي يمن أجله‪،‬‬ ‫و ُفرض الجهاد في لسبيله‪ ،‬وكانت الفتوحات لسائرة بحسبه‪ .‬وحمل‬ ‫الدعوة اللسليمية هو الذي يعيد للمسلمين دولة اللسلم‪.‬‬ ‫تركيز الفتوحات اللسليمية‬ ‫‪-175-‬‬


‫لقد فتح المسلمون ال ُبلدان وحكموها باللسلم‪ ،‬وقد فرض‬ ‫كموا يمن‬ ‫عليهم اللسلم تولي الحكم والقيادة‪ ،‬ول يجوز لهم أن ُيح لَ‬ ‫ِقبل غير المسلمين‪ ،‬قال تعالى في لسورة النسا ء ‪ :‬ولن يجعل ا‬ ‫للكافرين على المؤيمنين لسبيل م ً‪ ،‬وجعل العزة للمؤيمنين‪ ،‬قال‬ ‫تعالى في لسورة المنافقين ‪ :‬ولله العزة ولرلسوله وللمؤيمنين‬ ‫ولكن المنافقين ل يعلمون‪ .‬ولكن ا لم يعطهم العزة ولم‬ ‫يومّلهم الحكم والقيادة إل مّ لِما تحقا ق فيهم يمن نفسية إلسليمية‬ ‫تجعل الحكم لتطبيا ق اللسلم وحمل دعوته ل شهوة حكم‬ ‫ولما ُوجد لديهم يمن عقلية إلسليمية تفهم يمعنى الحكم‬ ‫ولسلطان‪ِ ،‬‬ ‫وتدرك حقيقة يمسؤوليته عند ا‪ ،‬وقد ظهر نور اللسلم في أعمال‬ ‫هؤل ء الحكام وأقوالهم كما ظهر هذا النور في تطبيا ق الحكام‬ ‫على الناس الذين يحكمونهم‪.‬‬ ‫وقد كان يمن جرا ء تطبيا ق أحكام اللسلم على الناس أن‬ ‫دخلوا في دين ا أفواجا واعتنقوا عقيدة اللسلم‪ ،‬وصاروا‬ ‫المسلمين لهم العزة ولهم القيادة والحكم‪ ،‬وأصبحت بلدهم دار‬ ‫إلسلم وبلدا إلسليمية‪ ،‬فتركزت الفتوحات اللسليمية بحكمها‬ ‫باللسلم‪ ،‬ثم بدخول أهلها في الدين الجديد‪ ،‬حتى كان فتح‬ ‫المسلمين لي بلد فتحا أبديا إلى يوم الدين‪ ،‬لسلخ هذا البلد وأهله‬ ‫عن حالهم الولى إلى حال ثانية‪ ،‬وأحالهم يمن كفار إلى يمسلمين‪،‬‬ ‫كما أحال بلدهم يمن دار كفر إلى دار إلسلم‪ ،‬وظلت دار إلسلم‬ ‫‪-176-‬‬


‫حتى ذهب حكم اللسلم عنها‪ ،‬ولكن أهلها ظلوا يمسلمين‪ ،‬وظلت‬ ‫بلدا إلسليمية حتى بعد ذهاب حكم اللسلم يمنها وتقُّلص ظل‬ ‫الدولة عنها‪.‬‬ ‫وإذا كانت الدولة اللسليمية قد ذهبت فإن البلد التي فتحها‬ ‫المسلمون ل تزال بلدا إلسليمية‪ ،‬ول يزال أهلها يمسلمين‪ ،‬ول تزال‬ ‫لعيْود حكم اللسلم إليها ونشر لسلطان الدولة اللسليمية فوق‬ ‫يمحل م ً لَ‬ ‫ربوعها‪.‬‬ ‫والذي ركز الفتوحات اللسليمية تركيزا دائميا جعل اللسلم‬ ‫فيها ثابتا إلى يوم الدين عدة أيمور‪ ،‬يمنها يما لسهل حكمها جميعها‬ ‫يمن أول يوم كالتشريع‪ ،‬ويمنها يما هيأ أهلها لدخول اللسلم كطريقة‬ ‫الحكم ولسلوك الحكام‪ ،‬ويمنها يما ركز اللسلم في نفوس يمن‬ ‫ألسلموا تركيزا أبديا كعقيدة اللسلم وتبني الحكام‪ .‬ويمكن إجمال‬ ‫هذه اليمور في عدة نقاط يمنها ‪:‬‬ ‫‪ -1‬أن اللسلم عقلي في عقيدته‪ ،‬فكري في آرائه وأحكايمه‪،‬‬ ‫يمعتنقه أن يؤيمن به عن طريا ق العقل وأن يفهم‬ ‫ِ‬ ‫فهو يفرض على‬ ‫أحكايمه بالعقل‪ ،‬ولذلك كان يمجرد اعتناقه يحيل النسان إلى‬ ‫إنسان يمفكر حين يلفت نظره إلى يمخلوقات ا ليدرك وجود‬ ‫خالقه‪ ،‬وحين ينبه فيه الفكر لبحث الحكام الشرعية ليستنبطها‬ ‫ويعالج يمشاكله بها‪ ،‬وبذلك يكون قد ركز اللسلم في نفسه أبديا‬ ‫حين يعتقده بشكل قطعي ويفهم أحكايمه ويطبقها‪.‬‬ ‫‪-177-‬‬


‫يمعتنقه بالقرا ءة والدرس‪ ،‬وليس‬ ‫ِ‬ ‫‪ -2‬يقضي اللسلم على‬ ‫يكفي المسلم أن ينطا ق بالشهادتين ليتعلم اللسلم ويفهمه‪ ،‬بل ل‬ ‫بد يمن تعلمه والتثقف به بعما ق والستنارة ووعي‪ ،‬وهذا التعلم‬ ‫لسع أفا ق المسلم‪ ،‬وينمي يمعارفه‪ ،‬ويخصب عقليته‪ ،‬ويجعله‬ ‫يو مّ‬ ‫يمعلما لغيره‪.‬‬ ‫مّ‬ ‫جب أن تكون‬ ‫‪ -3‬أن طبيعة يمبدأ اللسلم وأحكايمه الشرعية تو ِ‬ ‫طريقة تعلمها ارتقائية يمؤثرة في المتعلم وفي الولسط الذي‬ ‫يعيش فيه‪ ،‬ولذلك كان المسلمون يتعلمون اللسلم للعمل به‪،‬‬ ‫وكانوا يتلقون أحكايمه تلقيا فكريا‪ ،‬فكان هذا يمؤثرا في‬ ‫يمشاعرهم‪ ،‬ولذلك كان إحسالسهم بالحياة وتبعاتها إحسالسا ناتجا‬ ‫هد في المسلمين يمن التلهب‬ ‫عن فكر يمؤثر‪ ،‬فنتج عنه يما كان يشا لَ‬ ‫والحماس لللسلم‪ ،‬ويمن الفكر وغزارة المعرفة ولسعة الفا ق‪،‬‬ ‫غرلست في نفولسهم غرلسا‪ ،‬ولن آرا ء‬ ‫لن العقيدة اللسليمية قد ُ‬ ‫وأفكار وأحكام اللسلم قد أخذوها بعد درس وتمحيص‪ ،‬ولن‬ ‫الناحية العملية كانت هي المسيطرة‪.‬‬ ‫فهم لم يتعلموا اللسلم لمجرد العلم فقط‪ ،‬وإل مّ لكانوا يمجرد‬ ‫كتب تحوي يمعلويمات عن اللسلم‪ ،‬ول لسمعوه يمجرد لسما ع‬ ‫يمواعظ وإرشادات‪ ،‬وإل مّ لكانوا لسطحيين ل حرارة لليمان عندهم‪،‬‬ ‫بل تجنبوا هاتين الناحيتين الخطرتين‪ ،‬وهما ‪ :‬تعلم اللسلم حقائا ق‬ ‫يمجردة للتعلم فقط‪ ،‬وأخذه يمواعظ وإرشادات فحسب‪ .‬وحصروا‬ ‫‪-178-‬‬


‫طريقة أخذهم المفاهيم والحكام بطريقة اللسلم‪ ،‬التي هي أخذ‬ ‫اللسلم بعما ق وتفهم ووضو ح لتطبيقه عمليا في يمعترك الحياة‪.‬‬ ‫‪ -4‬إن اللسلم ارتقائي يأخذ بيد يمعتنقه ليسير به في طريا ق‬ ‫الكمال‪ ،‬فهو يفرض أعمال م ً يمعينة على المسلم‪ ،‬والقيام بهذه‬ ‫العمال يأخذ بيد النسان إلى يمرتقى يمن الكمال يتمتع فيه‬ ‫بالسمو الروحي والطمئنان النفسي والسعادة الحقة‪ ،‬ويجعل‬ ‫النسان ثابتا على هذا المرتقى ل ينحدر عنه‪ ،‬وأنه وإن كان‬ ‫الرتقا ء في طريا ق الكمال إلى المرتقى العالي صعبا‪ ،‬فإن الثبات‬ ‫عليه أصعب‪ ،‬ولذلك كانت هذه العمال دائمية وليست يمؤقتة‪ ،‬حتى‬ ‫يظل النسان في لسموه وارتقائه‪.‬‬ ‫وهذه العمال هي العبادات‪ ،‬يمنها يما هو فرض‪ ،‬ويمنها يما هو‬ ‫فوق الفرض‪ ،‬والقيام بالفروض يمن ِقبل جميع الناس يحقا ق حدا‬ ‫يمشتركا في الرقي ل بد يمنه‪ ،‬والقيام بما هو فوق الفروض يحفز‬ ‫على الندفا ع في طريا ق الكمال‪.‬‬ ‫وليس القيام بهذه العبادات باليمر الشاق العسير‪ ،‬ول‬ ‫ها ق المضني‪ ،‬وليس فيه حريمان يمن يمتا ع الدنيا‬ ‫بالشي ء المر ِ‬ ‫ويملذاتها‪ ،‬ول إعراض عن يمباهجها ويمسراتها‪ ،‬ول كبت للغرائز ول‬ ‫يمخالفة للطبائع‪ ،‬كل‪ ،‬وإمّنما القيام بهذه العبادات بالنسبة للفرض‬ ‫أيمر يميسور لكل إنسان يمهما تكن قواه ويمهما تكن إرادته‪ ،‬وهي ل‬ ‫حول بينه وبين زينة الدنيا‪ ،‬كما أن القيام بما هو فوق هذه‬ ‫ت ُ‬ ‫‪-179-‬‬


‫ويقبِلون‬ ‫الفروض أيمر يمندوب يقوم بها المسلمون بشوق وشغف‪ُ ،‬‬ ‫عليها ليقويموا بأكثر يمما فرض‪ ،‬وهم يشعرون الشعور العميا ق‬ ‫بأنهم ينعمون برضوان يمن ا‪.‬‬ ‫‪ -5‬كان المسلمون يفتحون البلد لحمل الدعوة اللسليمية‬ ‫إليها ونشرها فيها‪ ،‬ولذلك كانوا يشعرون أنهم رلسل رحمة وهداية‪،‬‬ ‫فكانوا يدخلون البلد فيحكمونه باللسلم‪ ،‬وبمجرد دخول أهل البلد‬ ‫في الذيمة يصبح لهم يما للمسلمين وعليهم يما عليهم‪ ،‬ويصبح لتلك‬ ‫البلد المفتوحة يمن الحقوق والواجبات في الدولة يما لي بلد آخر‬ ‫يمن بلد المسلمين‪ ،‬وتصبح قطعة يمنها‪ ،‬لن نظام الحكم نظام‬ ‫وحدة‪ ،‬ولهذا لم يكن أهل البلد المفتوحة يشعرون بأنهم‬ ‫مرون‪ ،‬ول يحسون بأي ناحية تشم يمنها رائحة اللستعمار‪،‬‬ ‫يمستع لَ‬ ‫قبل الناس على اللسلم بعد أن رأوا‬ ‫ولذلك لم يكن عجيبا أن ُي ِ‬ ‫عمليا‪ -‬حقيقة اللسلم في الكيفية التي يحكم بها المسلمون‪.‬‬‫‪ -6‬أن يمبدأ اللسلم وأحكايمه عايمة لجميع الناس‪ ،‬ويبا ح‬ ‫تعلمها لجميع الناس‪ ،‬بل يفرض تعليمها لجميع الناس حتى‬ ‫يتذوقوا حلوة اللسلم ويدركوا حقائقه‪ .‬وكان الرلسول عليه‬ ‫الصلة والسلم يرلسل الولة والحكام والمعلمين يحكمون الناس‬ ‫باللسلم ويعلمونهم أحكايمه‪ ،‬وكذلك كان المسلمون يمن بعده‬ ‫يفتحون البلدان‪ ،‬ويقيمون بها الحكام والمعلمين‪ ،‬ويفقهون الناس‬ ‫باللسلم‪ ،‬ويعلمونهم أحكام القرآن‪ .‬فأقبل أهل البلد المفتوحة‬ ‫‪-180-‬‬


‫على المعارف اللسليمية حتى أصبحت ثقافتهم ثقافة إلسليمية‪،‬‬ ‫حتى أولئك الذين لم يعتنقوا اللسلم‪.‬‬ ‫‪ -7‬أن الشريعة اللسليمية شريعة عالمية كايملة‪ .‬ولذلك كان‬ ‫المسلمون حين يفتحون البلدان‪ ،‬ل يحتاجون إلى تعرف شريعة‬ ‫أهلها وقوانينهم‪ ،‬ول للتوفيا ق بين يما يحملونه يمن أحكام لمعالجة‬ ‫يمشاكل الحياة وبين القوانين التي كانت تطبا ق على البلد‬ ‫المفتوحة‪ ،‬بل كانوا يفتحون البلد ويمعهم الشريعة الكايملة‪ ،‬فكانوا‬ ‫يطبقون اللسلم يمن أول يوم يفتحون فيه البلد‪ .‬وكانت طريقتهم‬ ‫في التطبيا ق انقلبية‪ ،‬ليس فيها تدريج أو ترقيع‪ ،‬ول يراعون الواقع‬ ‫الذي يجدونه‪ ،‬لنهم إمّنما فتحوا البلد لتبليغها اللسلم وليغمّيروا‬ ‫واقعها الفالسد وحياتها المضطربة‪ ،‬وهو يقضي برفع النظام‬ ‫ل‪ .‬ولهذا كان لَيس ُهل عليهم‬ ‫القديم ووضع النظام الجديد وضعا شايم م ً‬ ‫حكم البلد يمن أول يوم‪ .‬وكان يتركز حكمهم تركزا تايما‪ ،‬ولم‬ ‫يعانوا أزيمة قانونية ول حالة انتقالية‪ ،‬لنهم يحملون دعوتهم‪ ،‬وهي‬ ‫عقيدة تنبثا ق عنها النظمة والقوانين والحكام‪ ،‬وهي شريعة‬ ‫تطَّبا ق على كل إنسان في كل زيمان ويمكان‪.‬‬ ‫علها أمّيمة واحدة‬ ‫ص لَيْهر الشعوب وج يْ‬ ‫توفي رلسول ا صلى ا عليه ولسلم بعد أن دخلت الجزيرة‬ ‫العربية كلها في اللسلم‪ ،‬وبعد أن ُقضي على الشرك فيها‪ ،‬وبعد‬ ‫‪-181-‬‬


‫أن أصبحت دار إلسلم ُتحكم باللسلم كله عقيدة ونظايما‪ ،‬وبعد أن‬ ‫أكمل ا الدين وأتم نعمته على المسلمين ورضي لهم اللسلم‬ ‫دينا‪ ،‬وبعد أن بدأ بدعوة اليمم والشعوب المجاورة بإرلسال الكتب‬ ‫إلى يملوكها وحكايمها‪ ،‬وبالسرايا والغزوات على حدود الروم في‬ ‫يمؤتة وتبوك‪.‬‬ ‫وقد جا ء بعده الخلفا ء الراشدون فتتابعت الفتوحات‪ ،‬ف ُفتح‬ ‫العراق وكان يسكنه خليط يمن النصارى والمزدكية والزرادشتية‬ ‫يمن العرب والفرس‪ ،‬و ُفتحت فارس وكان يسكنها العجم وقليل‬ ‫يمن اليهود والرويمانيين وكانت تدين بدين الفرس‪ ،‬و ُفتحت الشام‬ ‫وكانت إقليما رويمانيا يتثقف بثقافة الرويمانيين ويتدين بالنصرانية‬ ‫ويسكنه السوريون والريمن واليهود وبعض الرويمان وبعض‬ ‫العرب‪ ،‬و ُفتحت يمصر وكان يسكنها المصريون وبعض اليهود‬ ‫وبعض الرويمان‪ ،‬و ُفتحت شمال افريقيا وكان يسكنها البربر وكانت‬ ‫في يد الرويمان‪.‬‬ ‫وجا ء بعد الخلفا ء الراشدين اليمويون‪ ،‬ففتحوا السند‬ ‫وخوارزم ولسمرقند وأدخلوها ضمن أراضي الدولة اللسليمية‪ ،‬ثم‬ ‫ ُفتحت الندلس وأصبحت ولية يمن وليات الدولة اللسليمية‪.‬‬ ‫وكانت هذه القطار المتعددة يمتباينة القويميات واللغة والدين‬ ‫والتقاليد والعادات والقوانين والثقافة‪ ،‬وطبيعيا كانت يمختلفة‬ ‫العقلية يمختلفة النفسية‪ ،‬ولذلك كانت عملية صهرها ببعضها‬ ‫‪-182-‬‬


‫وتكوين أمّيمة واحدة يمنها يموحدة الدين واللغة والثقافة والقوانين‬ ‫أيمرا عسيرا وعمل م ً شاقا‪ ،‬يعتبر النجا ح فيه شيئا غير عادي‪ ،‬ولم‬ ‫يحصل لغير اللسلم‪ ،‬ولم يتحقا ق إل مّ للدولة اللسليمية‪ .‬فإن هذه‬ ‫الشعوب جميعها بعد أن ظللتها الراية اللسليمية وحكمتها الدولة‬ ‫اللسليمية ودخلت في اللسلم‪ ،‬صارت أمّيمة واحدة هي المّيمة‬ ‫اللسليمية‪ ،‬وذلك بتأثير حكمهم باللسلم‪ ،‬وبتأثير اعتناقهم عقيدته‪.‬‬ ‫ولقد عمل على صهر هذه الشعوب عدة أيمور أهمها أربعة‬ ‫أيمور هي ‪:‬‬ ‫‪ -1‬أوايمر اللسلم‪.‬‬ ‫‪ -2‬اختلط المسلمين الفاتحين بغيرهم يمن اليمم المفتوحة‬ ‫في المسكن والعيش‪.‬‬ ‫‪ -3‬دخول أهل البلد المفتوحة بجملتهم في اللسلم‪.‬‬ ‫‪ -4‬النقلب الذي حصل لمن ألسلموا ونقلهم يمن حال إلى‬ ‫حال‪.‬‬ ‫أمّيما أوايمر اللسلم‪ ،‬فهي تقضي بأن يدعو أهله له وأن يحملوا‬ ‫دعوته وينشروا هدايته حيثما الستطاعوا‪ ،‬وهذا يقضي بالجهاد‬ ‫وفتح البلد حتى يتمكن الناس يمن فهمه والوقوف على حقيقة‬ ‫أحكايمه‪ .‬ويقضي بترك الختيار للناس إن شا ءوا اعتنقوه وإن‬ ‫شا ءوا ظلوا على دينهم‪ ،‬واكتفى بإخضاعهم لحكايمه في شؤون‬ ‫المعايملت والعقوبات‪ ،‬ليحصل النسجام في أعمال الناس بتوحيد‬ ‫‪-183-‬‬


‫النظم التي تعالج يمشاكلهم وتنظم أعمالهم‪ ،‬وليشعر غير‬ ‫المسلمين بأنهم كالمسلمين يشاركون المجتمع في تطبيا ق النظام‬ ‫الذي يطبا ق فيه‪ ،‬ويتمتعون بالطمأنينة‪ ،‬ويستظلون براية الدولة‪.‬‬ ‫ظر إلى المحكويمين نظرة‬ ‫وأوايمر اللسلم تقضي بأن ُين لَ‬ ‫إنسانية ل نظرة عنصرية أو طائفية أو يمذهبية‪ ،‬ولذلك تطَّبا ق‬ ‫الحكام على الجميع بالسوا ء ل فرق بين المسلم وغير المسلم‪،‬‬ ‫قال تعالى في لسورة المائدة ‪ :‬ول يجريممّنكم شنآن قوم على أل‬ ‫تعِدلوا اعِدلوا هو أقرب للتقوى إن ا خبير بما تعملون‪.‬‬ ‫ويتساوى في الحكم والقضا ء جميع الناس‪ ،‬فالحاكم حين يرعى‬ ‫شؤون الناس ويحكمهم‪ ،‬والقاضي حين يقضي بينهم‪ ،‬ل ينظر لمن‬ ‫يحكمهم أو يقضي بينهم أي نظرة لسوى النظرة إلى النسان‬ ‫ليرعى شؤونه ويفصل خصويماته‪.‬‬ ‫ويقضي نظام الحكم في اللسلم بالوحدة بين أجزا ء الدولة‪،‬‬ ‫كما يقضي بضمان حاجات كل ولية فيها بالنفاق عليها يمن بيت‬ ‫يمال الدولة‪ ،‬بغض النظر عما يجبى يمنها قلمّ أو ك ُثر‪ ،‬لَوف لَى بهذه‬ ‫ف‪ .‬كما يقضي بوحدة المالية بجبايتها لبيت المال‬ ‫الحاجات أم لم ي ِ‬ ‫يمن جميع الوليات‪ .‬وبذلك تصبح جميع البلدان المفتوحة وليات‬ ‫في دولة واحدة تجعلها في الحكم لسائرة لسيرا حتميا في طريا ق‬ ‫النصهار‪.‬‬ ‫وأمّيما اختلط المسلمين الفاتحين بغيرهم‪ ،‬فكان يمن أكبر‬ ‫‪-184-‬‬


‫العوايمل أثرا في دخولهم اللسلم وانصهارهم يمع لسائر المسلمين‪.‬‬ ‫وذلك أن المسلمين بعد أن فتحوا البلد لسكنوها وصاروا يعمّلمون‬ ‫أهلها اللسلم ويثقفونهم بالثقافة اللسليمية‪ ،‬ولسكنوا يمعهم في‬ ‫بيوت يمتجاورة حتى صارت البلد يمسكونة بالفاتحين والمفتوحين‬ ‫جميعا‪ ،‬وقد اشتركوا في جميع شؤون الحياة وصاروا جميعا‬ ‫لسكان بلد واحد تطَّبا ق عليهم أحكام واحدة‪ ،‬ولم يكونوا فئتين‪،‬‬ ‫فاتحا ويمفتوحا وغالبا ويمغلوبا‪ ،‬وإمّنما كانوا جميعا رعية الدولة‬ ‫يتعاون أفرادهم في شؤون الحياة جميعا‪ .‬ورأوا في الحكام نوعا‬ ‫آخر يمن الناس لم يكونوا يعرفونهم‪ ،‬رأوهم يساوونهم بأنفسهم‬ ‫ويقويمون هم بخديمتهم في شؤونهم وفي خواص حاجاتهم‪ .‬فرأوا‬ ‫صفات عالية حمّببت إليهم هؤل ء الحكام وحمّببت إليهم اللسلم‪.‬‬ ‫وكان الحكام ولسائر المسلمين يتزوجون يمن أهل الكتاب ويأكلون‬ ‫ذبائحهم وطعايمهم‪ ،‬فكان هذا الختلط حافزا لدخولهم اللسلم؛‬ ‫لنهم رأوا أثر اللسلم في الحكام‪ ،‬كما رأوا نوره في تطبيا ق‬ ‫النظام‪ ،‬وبذلك انصهرت هذه الشعوب بعضها ببعض وصارت أمّيمة‬ ‫واحدة‪.‬‬ ‫وأمّيما دخول البلد المفتوحة في اللسلم‪ ،‬فقد كان بشكل‬ ‫عام‪ ،‬وكان أهل كل ُقطر يدخلون في دين ا أفواجا‪ ،‬حتى دخلت‬ ‫الجمهرة الساحقة يمن أهل البلدان المفتوحة في اللسلم‪ ،‬وظل‬ ‫الناس يدخلون في اللسلم جماعات‪ ،‬وصار الناس في جملتهم‬ ‫‪-185-‬‬


‫يمسلمين‪ ،‬ولم يبا ق اللسلم يمقصورا على الفاتحين‪ .‬وبدخول أهل‬ ‫البلد في اللسلم انصهروا يمع الفاتحين فصاروا أمّيمة واحدة‪.‬‬ ‫وأمّيما النقلب العام الذي أحدثه اللسلم في الذين ألسلموا‪،‬‬ ‫فذاك أن اللسلم رفع المستوى العقلي عندهم‪ ،‬فأوجد لديهم‬ ‫العقيدة اللسليمية‪ ،‬فكانت قاعدة فكرية ُتبنى عليها جميع الفكار‪،‬‬ ‫وتقاس صحتها وفسادها بمقياس هذه القاعدة‪ ،‬ولذلك نقلهم يمن‬ ‫اليمان الوجداني إلى اليمان العقلي‪ ،‬ويمن عبادة الصنام والنار‬ ‫والتثليث ويما شاكل ذلك ويما تقتضيه هذه العبادة يمن انحطاط في‬ ‫النظر وإلسفاف في الفكر إلى عبادة ا ويما تقتضيه يمن فكر‬ ‫يصدقون بالحياة الخرى‪،‬‬ ‫مّ‬ ‫يمستنير ونظر والسع‪ .‬وجعلهم‬ ‫ويتصورونها بالصورة التي أوضحها لهم في الكتاب والسمّنة‪،‬‬ ‫وأوضح يما فيها يمن عذاب ونعيم‪ ،‬فصاروا يتصورونها ويرون أنها‬ ‫هي الحياة الحقيقية‪ ،‬وبذلك صار للحياة عندهم يمعنى وقيمة لنها‬ ‫طريا ق لحياة أخرى ألسعد وأخلد‪ ،‬ولهذا أقبلوا على هذه الحياة‬ ‫الدنيا ولم يهملوها وأخذوا بألسبابها وتمتعوا بزينة ا التي أخرج‬ ‫لعباده والطيبات يمن الرزق‪.‬‬ ‫وجعل للحياة يمقاييس صحيحة وتصويرا حقيقيا‪ ،‬فبعد أن‬ ‫كان يمقياس الحياة هو المنفعة فقط‪ ،‬وكانت هذه المنفعة هي‬ ‫المسير للعمال وهي الغاية يمن العمال وهي قيمة العمل‪ ،‬صار‬ ‫يمقياس الحياة هو الحلل والحرام‪ ،‬وصار تصوير الحياة هو بأنها‬ ‫‪-186-‬‬


‫جه لها هو أوايمر ا‬ ‫حلل وحرام‪ ،‬وصار المسِّير للعمال والمو ِّ‬ ‫ونواهيه‪ ،‬وصارت الغاية يمن تسيير العمال بأوايمر ا ونواهيه‬ ‫هي رضوان ا‪ ،‬وصارت قيمة العمل هي يما يقصده يمن القيام‬ ‫به ‪ :‬فتكون روحية إن كان صلة أو جهادا أو يما شاكلها‪ ،‬وتكون‬ ‫يمادية إن كان بيعا أو إجارة أو يما شاكلها‪ ،‬وتكون خ ُ ُلقية إن كان‬ ‫جه للعمل‪،‬‬ ‫أيمانة أو رحمة أو يما شاكلها‪ .‬فصاروا يميزون بين المو ِّ‬ ‫وبين قيمة العمل الذي قام بالعمل يمن أجلها‪ .‬وبذلك جعل تصوير‬ ‫الحياة لهم يمختلفا عن تصويرها السابا ق‪ ،‬وجعله تصويرا حقيقيا‬ ‫لحقيقة الحياة بالمقياس الذي وضعه له وهو أوايمر ا ونواهيه‪،‬‬ ‫أي الحلل والحرام‪.‬‬ ‫وجعل للسعادة يمعنى حقيقيا في نظرهم‪ ،‬فبعد أن كانت‬ ‫السعادة عندهم إشبا ع الجوعات وإعطا ء الجسد يمتعه‪ ،‬صارت‬ ‫السعادة هي نوال رضوان ا؛ لن السعادة هي الطمأنينة‬ ‫الدائمة للنسان‪ ،‬وهي ل تتأتى بالملذات ول بالشهوات‪ ،‬وإمّنما تتأتى‬ ‫بنوال رضوان رب العالمين‪.‬‬ ‫وهكذا فإن اللسلم أثر في وجهة نظر الشعوب التي اعتنقته‬ ‫للحياة وللعمال التي يقويمون بها في هذه الحياة‪ ،‬وغمّير يمراتب‬ ‫الشيا ء فرفع يمن يمرتبة أشيا ء وخفض يمرتبة أخرى‪ ،‬فبعد أن كانت‬ ‫الحياة هي أعلى يمرتبة عند النسان والمبدأ هو أقل يمرتبة يمنها‪،‬‬ ‫قلب هذه المراتب فجعل المبدأ في المرتبة الولى‪ ،‬وجعل الحياة‬ ‫‪-187-‬‬


‫في يمرتبة أقل‪ .‬وبذلك صار يبذل المسلم حياته في لسبيل اللسلم؛‬ ‫لنه أغلى قيمة يمن الحياة‪ ،‬ويمن باب أولى أن يتحمل المشقات‬ ‫والمصاعب في لسبيل اللسلم‪ ،‬وبذلك ُوضعت الشيا ء التي في‬ ‫الحياة في المراتب اللئقة بها‪ ،‬فصارت الحياة لسايمية وصار يشعر‬ ‫المسلم في هذه الحياة بالطمأنينة الدائمة‪ ،‬وقد رلسم للعالم كله‬ ‫يمثل م ً أعلى واحد لَا ل يتعدد‪ ،‬وثابتا ل يتغير‪ ،‬أل وهو رضوان ا‬ ‫تعالى‪.‬‬ ‫وبذلك تغمّير المثل العلى عند الناس‪ ،‬فبعد أن كانت لتلك‬ ‫الشعوب ُيم ُثل عليا يمتعددة‪ ،‬يمتغيرة‪ ،‬صار لهم يمثل أعلى واحد ثابت‪.‬‬ ‫وتبعا لتغير المثل العلى عند الشعوب واليمم تغيرت يمعاني‬ ‫الشيا ء عندهم عما كانت عليه‪ ،‬وتغير يمفهوم الفضائل عما كان‬ ‫عليه‪ .‬فالشجاعة الشخصية‪ ،‬والشهايمة الفردية‪ ،‬والمناصرة‬ ‫العصبية‪ ،‬والتفاخر باليموال والحساب‪ ،‬والكرم إلى حد اللسراف‪،‬‬ ‫والخلص للقبيلة أو للقوم‪ ،‬والقسوة في النتقام والخذ بالثأر‪،‬‬ ‫ويما شاكل ذلك‪ ،‬كانت أصول الفضائل‪ ،‬فجا ء اللسلم ولم يجعلها‬ ‫أصول الفضائل ولم يتركها كما هي عليه بل جعلها صفات يتصف‬ ‫النسان بما أيمر ا به يمنها إجابة ليمره تعالى‪ ،‬ل لذات الفضائل‪،‬‬ ‫ول لما فيها يمن يمنافع‪ ،‬ول لما تجمّره يمن يمفاخر‪ ،‬ول لنها عادات‬ ‫وتقاليد وتراث ينبغي أن يحا لَفظ عليها‪ .‬ثم جعل الخضو ع لله‬ ‫ولوايمره ونواهيه هو الواجب‪ ،‬فأوجب إخضا ع يمنافع الفرد‬ ‫‪-188-‬‬


‫والقبيلة والشعب والمّيمة لوايمر اللسلم فحسب‪.‬‬ ‫وهكذا نقل اللسلم عقلية الشعوب التي اعتنقته‪ ،‬كما نقل‬ ‫نفسيتهم‪ ،‬وبذلك أصبحوا بعد دخولهم في اللسلم غيرهم قبل‬ ‫دخوله في شخصيتهم كلها وفي تقديرهم للكون والنسان والحياة‬ ‫ويمقاييسهم لجميع الشيا ء في الحياة‪ .‬وصاروا يفهمون أن للحياة‬ ‫يمعنى خاصا هو السمو والكمال‪ ،‬وصار لهم يمثل أعلى واحد ثابت‬ ‫هو رضوان ا‪ ،‬وصار نيل هذا المثل العلى‪ ،‬أي نيل رضوان ا‬ ‫خلقهم‬ ‫خلقا آخر غير لَ‬ ‫هو السعادة التي ينشدون‪ ،‬وبذلك صاروا لَ‬ ‫الول‪.‬‬ ‫وبهذه الشيا ء الربعة انسلخت جميع الشعوب التي دانت‬ ‫للدولة اللسليمية عن حالها الول‪ ،‬فتوحدت أفكارها ووجهة نظرها‬ ‫في الحياة‪ ،‬حتى صارت فكرا واحدا ونظرة واحدة‪ ،‬وتوحدت‬ ‫يمعالجات يمشاكلها بعلج واحد‪ ،‬وتوحدت يمصالحها فصارت يمصلحة‬ ‫واحدة هي يمصلحة اللسلم‪ ،‬وتوحدت أهدافهم في الحياة فصار‬ ‫هدفا واحد لَا هو إعل ء كلمة ا‪ .‬فكان حتميا أن تنصهر هذه‬ ‫الشعوب جميعها في بوتقة اللسلم‪ ،‬فتصبح أمّيمة واحدة هي المّيمة‬ ‫اللسليمية‪.‬‬ ‫عوايمل ضعف الدولة اللسليمية‬ ‫تقوم الدولة اللسليمية على يمبدأ اللسلم‪ ،‬فيه قوتها وبه‬ ‫‪-189-‬‬


‫وحده بقاؤها وبه وحده ارتقاؤها‪ ،‬فهو قوام وجودها؛ ولذلك‬ ‫قايمت الدولة اللسليمية قوية لقوة اللسلم‪ ،‬وفتحت أقطارا والسعة‬ ‫يمن العالم في يمدة أقل يمن قرن يمع أن ولسيلة يمواصلتها كانت‬ ‫الخيل والبل‪ ،‬ودانت جميع الشعوب واليمم المفتوحة باللسلم‬ ‫في يمدة وجيزة يمع أن أداة نشرها لم تكن والسعة ويما كانت لسوى‬ ‫اللسان والقلم‪ .‬غير أن الذي حقا ق ذلك كله بهذه السرعة هو‬ ‫اللسلم الذي جعل للدولة هذه القوة‪.‬‬ ‫وقد أدرك أعدا ء اللسلم ذلك‪ ،‬وعرفوا أنهم لن يستطيعوا‬ ‫إضعاف الدولة يما دام اللسلم قويا في نفوس المسلمين‪ ،‬قويا‬ ‫في فهمه‪ ،‬قويا في تطبيقه‪ .‬فعمدوا إلى إيجاد الولسائل التي‬ ‫ ُتضعف فهم المسلمين له و ُتضعف تطبيقهم لحكايمه‪.‬‬ ‫أمّيما الولسائل التي الستعملوها لضعاف فهمه فكثيرة‪ ،‬يمنها يما‬ ‫يتعلا ق بنصوصه‪ ،‬ويمنها يما يتعلا ق باللغة التي يؤَّدى بها‪ ،‬ويمنها يما‬ ‫يتعلا ق بانطباقه على وقائع الحياة‪ .‬فقد عمدوا إلى الحاديث‬ ‫لسون فيها أحاديث يمكذوبة لم يقلها الرلسول صلى ا‬ ‫النبوية يد مّ‬ ‫منوها يمعاني غير إلسليمية‬ ‫عليه ولسلم ولكنهم زمّوروها وض مّ‬ ‫ويمفاهيم تناقض اللسلم حتى يأخذها المسلمون ويعملوا بما فيها‬ ‫فيبعدوا عن اللسلم‪.‬‬ ‫لسوها بين‬ ‫وبالفعل كذبوا على الرلسول أحاديث كثيرة د مّ‬ ‫الحاديث وأشاعوها بين الناس‪ .‬غير أن المسلمين فطنوا لهؤل ء‬ ‫‪-190-‬‬


‫ب العلما ء ورواة الحديث‬ ‫الزنادقة وقضوا على يمؤايمراتهم‪ ،‬فه مّ‬ ‫يجمعون الحديث ويضعون تاريخ رواته وأوصافهم ويبمّينون الحديث‬ ‫حصرت‬ ‫حفظ الحديث ف ُ‬ ‫الصحيح يمن الضعيف المكذوب‪ ،‬حتى ُ‬ ‫رواية الحديث في تابعي التابعين عن التابعين عن الصحابة‪ ،‬ولم‬ ‫عرف كل واحد يمنهم‪،‬‬ ‫حصر الرواة و ُ‬ ‫ ُتق لَبل بعدهم أي رواية‪ ،‬و ُ‬ ‫وب ُينت طبقات كتب الحديث‪ ،‬حتى أصبح بإيمكان المسلم إذا تتمّبع‬ ‫الحديث أن يعرف صحته يمن ضعفه يمن كذبه‪ ،‬بمعرفة لسنده‬ ‫ويمتنه‪.‬‬ ‫وفوق ذلك فإن الدولة اللسليمية ضربت على يد هؤل ء‬ ‫الزنادقة بيد يمن حديد حتى كان جزا ء الكثيرين يمنهم القتل جزا ء‬ ‫على افترائه الحاديث على رلسول ا صلى ا عليه ولسلم‪.‬‬ ‫وبذلك لم يكن لهذه المؤايمرة على اللسلم ول على الدولة أثر‬ ‫ ُيذكر‪ .‬فعمدوا إلى اللغة العربية لنها اللغة التي يؤدى بها اللسلم‪،‬‬ ‫وصاروا يحاولون فصلها عن اللسلم‪ ،‬ولكنهم لم يستطيعوا في‬ ‫أول اليمر؛ لن المسلمين اندفعوا في الفتوحات وهم يحملون‬ ‫الكتاب والسمّنة واللغة العربية‪ ،‬وكانوا يعمّلمون الناس اللغة العربية‬ ‫كما يعلمّمونهم القرآن والحديث‪ ،‬فدخل الناس في اللسلم وحذقوا‬ ‫اللغة العربية وأتقنوها‪ ،‬حتى كان يمنهم أئمة يمجتهدون كأبي حنيفة‪،‬‬ ‫وشعرا ء يمبدون كبشار بن ُبرد‪ ،‬وكمّتاب بليغون كابن المقمّفع‪ .‬وكان‬ ‫حرص المسلمين على اللغة العربية شديدا‪ ،‬واليمام الشافعي لم‬ ‫‪-191-‬‬


‫جز الصلة بغير اللغة العربية‪ ،‬والذين‬ ‫جز ترجمة القرآن ولم ُي ِ‬ ‫ ُي ِ‬ ‫جم قرآنا‬ ‫مون المتر لَ‬ ‫أجازوا ترجمة القرآن كأبي حنيفة فإنهم ل ُيس مّ‬ ‫يمطلقا‪.‬‬ ‫وهكذا ظلت العناية يمنصمّبة على اللغة العربية؛ لنها جز ء‬ ‫جوهري في اللسلم وشرط يمن شروط الجتهاد فيه‪ ،‬ول يتأتى‬ ‫فهم اللسلم يمن يمصادره والستنباط الحكام يمنه إل مّ باللغة العربية‪.‬‬ ‫إل مّ أن هذه العناية ُفقدت بعد القرن السادس الهجري حين تولى‬ ‫مل أيمرها‪ .‬وبذلك‬ ‫الحكم يمن ل يعرف للغة العربية قيمتها‪ ،‬ف ُأه ِ‬ ‫وقف الجتهاد وصار ل يمكن الستنباط الحكام لمن ل يعرف هذه‬ ‫اللغة‪ ،‬فانفصلت اللغة العربية عن اللسلم‪ ،‬واضطرب على الدولة‬ ‫فهم الحكام‪ ،‬وبالطبع اضطرب عليها تطبيقها‪ ،‬فكان لذلك أثر كبير‬ ‫على الدولة أضعفها وأضعف فهم الحوادث المتجددة‪ ،‬يمما جعل‬ ‫المشاكل التي تحدث ل تعا لَلج أو تعا لَلج يمعالجة غير صحيحة‪،‬‬ ‫فجعل هذا أيمام الدولة يمشاكل تتراكم إلى أن لسببت لها الهزال‬ ‫والضمحلل‪.‬‬ ‫هذا كله بالنسبة لنصوص اللسلم واللغة التي ُيفهم بها‪ .‬أمّيما‬ ‫بالنسبة لنطباق اللسلم على وقائع الحياة‪ ،‬فقد عمدوا في‬ ‫القرون الولى إلى يمحاولة التوفيا ق بين الفلسفة الهندية واللسلم‪،‬‬ ‫سر الزهد في الدنيا وطلب الخرة بالتقشف وتعذيب الجسد‪،‬‬ ‫و ُف مّ‬ ‫فصرف الكثيرين عن يمباهج الحياة وعن خوض غمارها‪ ،‬يمما‬ ‫‪-192-‬‬


‫جعلهم غير عايملين في حقل الدولة اللسليمية وفي يمعترك حياة‬ ‫المسلمين‪ ،‬فأفقد الدولة الكثير يمن جهود أبنا ء المّيمة كان يمكن أن‬ ‫طل في تعذيب‬ ‫تستخديمها في الدعوة إلى اللسلم بدل أن ُتع َّ‬ ‫الجساد‪.‬‬ ‫ثم كان الغزو الثقافي يمن الغرب لبلد المسلمين يحمل‬ ‫هم المسلمين أنه أخذها‬ ‫حضارة تناقض حضارة اللسلم‪ ،‬ويو ِ‬ ‫هم المسلمين‬ ‫يمنهم‪ ،‬ويأتيهم بأنظمة تناقض نظام اللسلم‪ ،‬ويو ِ‬ ‫أنها تتفا ق يمع أحكام اللسلم‪ ،‬ويعطيهم قوانين تناقض الحكام‬ ‫الشرعية‪ ،‬ويبين للمسلمين أنها ل تخالف اللسلم‪ .‬فأمّثر ذلك على‬ ‫المسلمين تأثيرا كبيرا‪ ،‬أدى إلى أن تتحكم فيهم الحضارة الغربية‪،‬‬ ‫فيريْون الحياة بأنها المنفعة‪ .‬وأدى إلى أن يأخذوا ببعض النظمة‬ ‫الغربية في الدولة العثمانية‪ ،‬فيؤمّولون الربا ويفتحون المصارف‪.‬‬ ‫طلون الحدود الشرعية‬ ‫وأدى إلى أن يأخذوا القوانين الغربية‪ ،‬فيع مّ‬ ‫ويأخذون يمن الغرب قوانين العقوبات‪ .‬فكان هذا العمل طايمة‬ ‫كبرى على الدولة أبعدها عن الحكم باللسلم‪ ،‬وإن كانت قد‬ ‫تذرعت بالفتاوى في جواز هذه العمال‪ .‬فكان ُبعدها هذا قد‬ ‫أضعف فيها حرارة اليمان‪ ،‬وبالطبع صارت تسير على غير هدى‪،‬‬ ‫فأدى ذلك إلى الضعف والنحلل‪.‬‬ ‫هذا يمن ناحية الفهم‪ ،‬أمّيما يمن ناحية التطبيا ق فقد تضافرت‬ ‫عدة عوايمل أدت إلى إلسا ءة التطبيا ق‪ ،‬يمنها أن الحزاب السيالسية‬ ‫‪-193-‬‬


‫التي كانت ترى أن رأيها هو الذي يجب أن ينفذ قد اتخذت العمال‬ ‫الحربية طريقة للوصول إلى الحكم لتطبا ق رأيها‪ ،‬ولم تتخذ المّيمة‬ ‫طريقة لذلك‪ ،‬فقام العبالسيون والستولوا على فارس والعراق‬ ‫واتخذوها نطقة ارتكاز انتقلوا يمنها حتى الستولوا على الدولة‬ ‫ليكون الحكم في بني هاشم‪ .‬ثم كان الفاطميون الذين أخذوا‬ ‫يمصر وأقايموا بها خلفة ليتخذوا يمنها نقطة ارتكاز ينتقلون يمنها‬ ‫ليستولوا على الدولة اللسليمية ليكون الحكم في أبنا ء فاطمة‬ ‫رضي ا عنها‪ .‬فأوجدوا في الحالة الولى صديمة أوقفت‬ ‫الفتوحات عند حد‪ ،‬وشغلت الدولة بالداخل‪ .‬وأوجدوا في الثانية‬ ‫خلفتين في آن واحد يمع أن الدولة اللسليمية واحدة ول يجوز أن‬ ‫يكون للمسلمين خليفتان لن الرلسول صلى ا عليه ولسلم يقول ‪:‬‬ ‫}إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الخر يمنهما‪ .{،‬فكان لذلك أثر في‬ ‫إضعاف الدولة‪ ،‬وفي وقوفها عن الفتح وعن حمل الدعوة‪.‬‬ ‫إل مّ أن الذي أدى إلى اتخاذ الحزاب السيالسية هذه الطريقة‬ ‫يما حصل يمن الخلفا ء اليمويين يمن اتبا ع طريقة العهد للخليفة ثم‬ ‫البيعة له‪ ،‬يمما لم يجعل اليمل يموجودا في انتظار البيعة والعتماد‬ ‫عِه لَد يمعاوية إلى ابنه يزيد وأخذ‬ ‫عليها في الوصول إلى الحكم‪ .‬فقد لَ‬ ‫البيعة له‪ ،‬ثم صار كل خليفة يعهد إلى لَيمن بعده‪ ،‬ثم يبايعه الناس‪.‬‬ ‫جه المسلمين لمبايعة يمن ُيع لَهد إليه بالخلفة‪ ،‬وقلما‬ ‫وهذا و مّ‬ ‫يباِيعون شخصا آخر‪ ،‬فحملت هذه الطريقة الحزاب السيالسية لن‬ ‫‪-194-‬‬


‫تتخذ القوة طريقة للوصول إلى الحكم‪.‬‬ ‫ويمع أن العهد طريقة اتخذها أبو بكر في عهده إلى عمر‪ ،‬إل مّ‬ ‫أن إلسا ءة تطبيقها أدت إلى هذه النتائج‪ ،‬فأبو بكر أخذ رأي‬ ‫المسلمين فيمن يكون خليفة بعده‪ ،‬وظهر يمن المذاكرة أن‬ ‫المرشحين للخلفة يمحصورون بعلي وعمر‪ ،‬ثم كان العهد لعمر‬ ‫فان ُتخب‪ ،‬وبعد وفاة أبي بكر حصلت البيعة لعمر‪ ،‬وهذا أيمر‬ ‫شرعي‪ ،‬غير أن الخلفا ء الذين عهدوا فيما بعد لغيرهم قد ألسا ءوا‬ ‫تطبيا ق هذه الطريقة‪ ،‬فجعلوا العهد لبنائهم أو إخوانهم أو يمن‬ ‫ألسرتهم‪ ،‬وجعلوه لكثر يمن واحد في بعض الحيان‪ ،‬فكانت إلسا ءة‬ ‫التطبيا ق هذه لسببا في حريمان المسلمين يمن بيعة يمن يريدون‪،‬‬ ‫فأدى إلى ضعف الدولة‪.‬‬ ‫غير أن هذا لم يؤثر يوم كانت الدولة قوية‪ ،‬ولكنه ظهر أثره‬ ‫فيما بعد حين ضعفت الدولة‪ .‬على أن اليمر في الدولة لم يقتصر‬ ‫على أيمر بيعة الخليفة‪ ،‬بل تعدى ذلك إلى الولة‪ ،‬فإن لسكوت‬ ‫الدولة العبالسية على عبدالرحمن الداخل في الندلس وتيْرِكها له‬ ‫يستقل فيها‪ ،‬قطع يمن الدولة اللسليمية جز ءا يدار إدارة يمنفردة‬ ‫يمن ِقبل ولة أطلقوا على أنفسهم فيما بعد السم أيمير المؤيمنين‪.‬‬ ‫وإنه وإن كانت الندلس لم تنفصل عن جسم الدولة ولم ينفصل‬ ‫المسلمون فيها عن باقي المسلمين وظلوا جز ءا يمن المّيمة‬ ‫اللسليمية‪ ،‬ولكنها يمع ذلك كانت يمنفصلة الدارة‪ ،‬فأدى ذلك إلى‬ ‫‪-195-‬‬


‫تسرب الضعف لها يمما لسمّهل الستيل ء الكفار عليها وأخذهم لها‬ ‫والدولة اللسليمية في عنفوان يمجدها وفي أوج قوتها ولم تستطع‬ ‫أن تدفع عنها عادية العدا ء للنحلل الذي كان في كيان الندلس‪.‬‬ ‫هذا في المغرب‪ ،‬أمّيما في المشرق فإن إعطا ء الولية العايمة‬ ‫عل الصلحيات الوالسعة لهم‪ ،‬حمّرك فيهم أحالسيس‬ ‫للولة‪ ،‬وج يْ‬ ‫السيادة وأطمعهم‪ ،‬فالستقلوا بالدارة الداخلية‪ ،‬ورضي الخليفة‬ ‫يمنهم ذلك‪ ،‬واكتفى بالدعوة له على المنابر‪ ،‬وفي صدور برا ءة‬ ‫التعيين يمنه‪ ،‬وفي ضرب النقد بالسمه‪ ،‬وإرلسال الخراج له‪ ،‬فكانت‬ ‫الوليات في الستقللها الداخلي تشبه الدويلت‪ ،‬كما كان الحال يمع‬ ‫السلجوقيين والحمدانيين وغيرهم‪ ،‬وهذا أيضا كان يمن ألسباب‬ ‫الضعف‪ ،‬فكانت جميع هذه اليمور لسببا أدى إلى ضعف الدولة‬ ‫حدوا‬ ‫اللسليمية‪ .‬إلى أن جا ء العثمانيون وحمّولوا الخلفة لهم‪ ،‬وو مّ‬ ‫أكثر البلد اللسليمية تحت لسلطانهم‪ ،‬ثم حملوا الدعوة لوروبا‬ ‫والستأنفوا الفتوحات‪.‬‬ ‫إل مّ أن ذلك كله لم يكن يمستندا إل مّ على ألساس قوة إيمان‬ ‫الخلفا ء الوائل يمن العثمانيين‪ ،‬وعلى ألساس قوة الجيش‪ ،‬ولم‬ ‫يكن يمستندا على ألساس فهم صحيح لللسلم‪ ،‬وتطبيا ق كايمل له‪.‬‬ ‫ولذلك لم تنِتج هذه الفتوحات يما أنتجته الفتوحات الولى‪ ،‬ولم‬ ‫تكن القوة ألسالسية في المّيمة اللسليمية كلها‪ ،‬ولهذا يما لبثت هذه‬ ‫عفت ثم انهارت وذهبت الدولة اللسليمية‪ .‬ولم‬ ‫الدولة أيضا أن ض ُ‬ ‫‪-196-‬‬


‫يكن ذهابها إل مّ أثرا للعوايمل الكثيرة التي كانت تحصل‪ ،‬وللمكائد‬ ‫المتعددة التي كانت تحاك لها يمن أعدا ء اللسلم‪.‬‬ ‫وتتلخص عوايمل ضعف الدولة التي لسببت ذهابها في عايملين‬ ‫اثنين ‪ :‬ضعف فهم اللسلم‪ ،‬وإلسا ءة تطبيقه‪ .‬ولذلك فإن الذي يعيد‬ ‫دولة اللسلم هو فهم اللسلم فهما صحيحا‪ ،‬والذي يحفظ قوة‬ ‫الدولة هو الستمرارها على الفهم الصحيح لللسلم‪ ،‬وإحسانها‬ ‫تطبيقه في الداخل وحمل دعوته إلى الخارج‪.‬‬ ‫انحلل الدولة اللسليمية‬ ‫لقد بدأ الضعف الفكري في الدولة اللسليمية يمنذ القرن‬ ‫الخايمس الهجري حين قام بعض العلما ء ينادون بسد باب‬ ‫الجتهاد‪ ،‬وكان ذلك نذير ضعف الدولة‪ .‬ويمع أنه ُوجد بعد ذلك‬ ‫يمجتهدون‪ ،‬غير أن الضعف الفكري أخذ يستفحل‪ ،‬فأثر ذلك على‬ ‫كيان الدولة‪ ،‬حتى تسرب التفكك إليه‪ ،‬والستولى عليها الوهن‪.‬‬ ‫ويما أن جا ءت الحروب الصليبية حتى كانت الدولة في حال‬ ‫لم تجعلها قادرة على الثبات أيمام الصليبيين‪ ،‬ووقعت الدولة في‬ ‫حروب يمتتالية الستمرت زها ء قرنين‪ ،‬كان النصر في أول اليمر‬ ‫حليف الصليبيين‪ ،‬فالستولوا على جز ء يمن البلد اللسليمية‪ ،‬ثم‬ ‫الستطاعت أن تنقذ البلد اللسليمية يمن أيديهم‪.‬‬ ‫فانتقل الحكم إلى المماليك الذين أهملوا أيمر اللغة العربية‪،‬‬ ‫‪-197-‬‬


‫وأهملوا أيمر النواحي الفكرية والتشريعية‪ ،‬ف ُأغلا ق باب الجتهاد‬ ‫عف فهم اللسلم‪ ،‬وأوجب العلما ء التقليد‪ ،‬فازداد الوهن في‬ ‫وض ُ‬ ‫كيان الدولة‪.‬‬ ‫وكانت غزوة التتار‪ ،‬فزادت الطين بلة‪ ،‬وأضعفت يمن قوة‬ ‫الدولة‪ .‬إل مّ أن ذلك كله أمّثر على كيان الدولة الداخلي ولم يؤثر على‬ ‫كيانها الخارجي‪ ،‬ولم يضعف يموقفها الدولي‪ ،‬وظلت الدولة‬ ‫اللسليمية قوية الشكيمة‪ ،‬يمرهوبة الجانب‪ ،‬تمثل في العالم‬ ‫المعمور الشطر الكبر والقوى فيه‪.‬‬ ‫وتسلمت الدولة العثمانية حكم أكثر العالم اللسليمي في‬ ‫القرن التالسع الهجري‪ ،‬الموافا ق للقرن الخايمس عشر الميلدي‪،‬‬ ‫وفي القرن العاشر الهجري‪ ،‬السادس عشر الميلدي ضمت إليها‬ ‫عنيت بقوة السلطان‬ ‫البلد العربية‪ ،‬وايمتد لسلطانها ايمتدادا كبيرا‪ ،‬و ُ‬ ‫وتنظيم الجيش‪ ،‬وأمّبهة الحكم‪ ،‬واشتغلت بالفتوحات‪ ،‬وأهملت أيمر‬ ‫اللغة العربية‪ ،‬يمع أنها ضرورية لفهم اللسلم‪ ،‬وشرط يمن شروط‬ ‫ن بأيمر اللسلم يمن حيث الفكر‪ ،‬ويمن حيث‬ ‫الجتهاد‪ ،‬ولم ُتع لَ‬ ‫التشريع‪ ،‬فانخفض يمستواها الفكري والتشريعي‪ .‬وبسبب ذلك‬ ‫كانت الدولة قوية قوة ظاهرية‪ ،‬ولكنها في الحقيقة ضعيفة ضعفا‬ ‫بمّينا‪ ،‬بسبب الضعف الفكري والتشريعي‪.‬‬ ‫إل مّ أن هذا الضعف لم تلحظه الدولة اللسليمية حينئذ‪ ،‬لنها‬ ‫كانت في عنوان يمجدها‪ ،‬وفي أوج عظمتها‪ ،‬وفي يمنتهى قوتها‬ ‫‪-198-‬‬


‫العسكرية‪ .‬ولنها كانت تقيس فكرها وتشريعها وحضارتها بأفكار‬ ‫أوروبا وتشريعها وحضارتها‪ ،‬فتجد نفسها خيرا يمن أوروبا فكرا‬ ‫وتشريعا وحضارة‪ ،‬فترتا ح لذلك وترضى بهذا الضعف؛ لن أوروبا‬ ‫كانت تتخبط في دياجير الجهالة وظلام الفوضى والضطراب‪،‬‬ ‫وتتعثر في يمحاولت النهضة وتفشل في كل يمحاولة تقوم فيها‪.‬‬ ‫ولذلك كان قياس الدولة العثمانية حالها بحال أوروبا ُيريها أنها في‬ ‫عمِ لَيت‬ ‫وضع حسن‪ ،‬وعلى نظام صالح‪ ،‬وذات حضارة فائقة‪ .‬وقد لَ‬ ‫عن حالتها الداخلية فلم تشاهد الهزال الداخلي‪ ،‬ولم تشاهد جمود‬ ‫الفكر وجمود التشريع وتفكك المّيمة‪ .‬وقد أعماها عن رؤية ذلك‬ ‫انتصارها على أوروبا والستيلؤها على البلقان والجز ء الجنوبي‬ ‫الشرقي يمنها‪ ،‬يمما أثار الرعب في جميع دول أوروبا يمن الدولة‬ ‫العثمانية بوصفها دولة إلسليمية‪ .‬وصار يمتركزا عند الجميع أن‬ ‫الجيش اللسليمي ل ُيغلب‪ ،‬وأنه ل ِقبل لحد بمواجهة المسلمين‪.‬‬ ‫وظهرت المسألة الشرقية للوجود‪ ،‬وكان يمعناها حينئذ اتقا ء‬ ‫الخطر يمن زحف العثمانيين تحت قيادة يمحمد الفاتح في القرن‬ ‫التالسع الهجري )الخايمس عشر الميلدي(‪ ،‬و لَيمن خ لَ لَل لَفه يمن‬ ‫السلطين‪ ،‬ذلك الزحف الذي الستمر إلى أواخر القرن الحادي عشر‬ ‫الهجري على يد لسليمان القانوني‪ ،‬وترَّكز تركزا قويا حتى أوالسط‬ ‫القرن الثاني عشر الهجري )الثايمن عشر الميلدي(‪.‬‬ ‫وفي هذه المدة كانت قوة اللستمرار في الدولة اللسليمية‬ ‫‪-199-‬‬


‫عايمل م ً فعال م ً في إعطا ء الدولة هذه القوة‪ ،‬فقد كانت قوة العقيدة‬ ‫عند المسلمين‪ ،‬ووجود يمفاهيم يمعينة عن الحياة رغم عدم بلورتها‬ ‫في أذهانهم‪ ،‬ووجود نظام اللسلم في الحياة رغم إلسا ءة‬ ‫كنها يمن اللستمرار والقوة‪.‬‬ ‫تطبيقه‪ ،‬كل ذلك لسند الدولة ويم مّ‬ ‫ولساعدها على ذلك‪ ،‬الحال المضطربة فكريا وتشريعيا في أوروبا‪.‬‬ ‫وكان يمن الممكن أن تحاول الدولة فهم اللسلم فهما‬ ‫صحيحا‪ ،‬وأن ُتعنى باللغة العربية‪ ،‬وتشجع الجتهاد‪ ،‬وتهتم بالناحية‬ ‫الفكرية والتشريعية‪ ،‬حتى يحصل تركيز هذه الدولة تركيزا يمتينا‪،‬‬ ‫ل‪ ،‬فتفتح‬ ‫وحتى يكون انطلقها في الكرة الرضية انطلقا كايم م ً‬ ‫باللسلم باقي أجزا ء العالم‪ ،‬حايملة لهم اللسلم‪ ،‬وبذلك تركز‬ ‫دولتها‪ ،‬وتطبع العالم بالحضارة اللسليمية‪ ،‬وتنقذ بني النسان يمما‬ ‫هم فيه يمن فساد وشرور‪.‬‬ ‫إل مّ أن شيئا يمن ذلك لم يحدث‪ ،‬ولم يكن تشجيع اللغة العربية‬ ‫لسوى إعطا ء العرب بعض يمناصب التدريس وبعض المناصب‬ ‫العلمية‪ ،‬يمما لم يكن له أي أثر في تقوية اللغة‪ ،‬ول في إيقاظ‬ ‫علها وحدها لغة‬ ‫الفكر؛ لنه لم ُيعمل على إحيا ء هذه اللغة وج يْ‬ ‫الدولة‪ ،‬كما هو الواجب في الدولة اللسليمية‪ ،‬ولنه لم ُيعمل‬ ‫شي ء بالنسبة للناحية الفكرية ول الناحية الفقهية‪ ،‬ولذلك لم تؤثر‬ ‫هذه الحركة الضعيفة المغلوطة‪ ،‬وظل الحال لسائرا في لسبيله‬ ‫المعوج‪.‬‬ ‫‪-200-‬‬


‫ويما أن أتى النصف الثاني يمن القرن الثاني عشر الهجري‬ ‫)الثايمن عشر الميلدي( حتى تحمّول اليمر وبدأ الضعف الداخلي‬ ‫يبرز؛ لن كيان الدولة كان قائما على بقايا النظام اللسليمي الذي‬ ‫يسا ء تطبيقه‪ ،‬وعلى أفكار يمضطربة‪ ،‬يمنها اللسليمية ويمنها الدخيلة‬ ‫على اللسلم‪ ،‬وكان الحكم في جملته في جو النظام اللسليمي‬ ‫أكثر يمنه في نظام اللسلم‪ ،‬يمن جرا ء الفهم المغلوط للفكار‬ ‫اللسليمية‪ ،‬ويمن جرا ء إلسا ءة تطبيا ق نظام اللسلم‪ ،‬لفقدان‬ ‫الجتهاد وعدم وجود المجتهدين‪.‬‬ ‫ويما أن جا ء القرن الثالث عشر الهجري )التالسع عشر‬ ‫الميلدي( حتى كان يميزان التاريخ بين الدولة اللسليمية والدول غير‬ ‫خف في‬ ‫اللسليمية في تأرجح‪ ،‬فأخذت كفة العالم اللسليمي ت ِ‬ ‫الوزن‪ ،‬وكفة الدول الوروبية ترجح شيئا فشيئا‪ .‬فقد بدأت اليقظة‬ ‫في أوروبا‪ ،‬وبدأت تظهر نتائجها‪ ،‬وبدأت تظهر على المسلمين نتائج‬ ‫الجمود الفكري ولسو ء التطبيا ق لللسلم‪ .‬وذلك أن القرن التالسع‬ ‫عشر شاهد انقلبا خطيرا في الفكار الوروبية على أثر المجهود‬ ‫العظيم الذي بذله الفللسفة والكمّتاب والمفكرون‪ ،‬والتغيير الشايمل‬ ‫الذي طرأ على الفكر الوروبي لحيا ء الشعوب‪ ،‬فنشأت الحركات‬ ‫المتعددة التي كان لها أثر في إحداث آرا ء جديدة في وجهة النظر‬ ‫في الحياة‪.‬‬ ‫وكان يمن أهم يما وقع ‪ :‬تعديل النظمة السيالسية والتشريعية‬ ‫‪-201-‬‬


‫كية المستبدة تدريجيا في‬ ‫م لَل ِ‬ ‫وكافة أنظمة الحياة‪ ،‬فقد زال شبح ال لَ‬ ‫أوروبا‪ ،‬وحمّلت يمحلها أنظمة حكويمية جديدة قائمة على الحكم‬ ‫النيابي ولسيادة المّيمة‪ ،‬فكان لهذا أثر كبير في توجيه النهضة‬ ‫الوروبية‪ .‬كما كان للنقلب الصناعي الذي ظهر في هذا القرن‬ ‫في أوروبا الثر الفعال‪ .‬كما ظهرت الختراعات المتعدددة‪ .‬فكان‬ ‫لذلك في يمجموعه الثر الفعال في تقوية أوروبا وفي تقديمها‬ ‫الفكري والمادي‪ .‬وكان يمن جرا ء هذه القوى المادية والتقدم‬ ‫العلمي أن رجحت كفة العالم الوروبي على العالم اللسليمي في‬ ‫الموقف الدولي رجحانا عظيما‪ ،‬فتغير يمفهوم المسألة الشرقية‪،‬‬ ‫فلم تعد يمسألة اتقا ء الخطار اللسليمية على أوروبا‪ ،‬وإمّنما صارت‬ ‫يمسألة البقا ء على الدولة العثمانية أو تقسيمها‪ ،‬حيث اختلفت عليها‬ ‫الدول تبعا لختلفها في المصلحة‪ .‬وكان هذا النقلب في يمفهوم‬ ‫المسألة الشرقية‪ ،‬ويما طرأ يمن أحوال أوروبا يمن الرتفا ع الفكري‪،‬‬ ‫والتقدم العلمي‪ ،‬والثورة الصناعية؛ ويما طرأ على العثمانيين يمن‬ ‫الضعف والتفكك‪ ،‬كل ذلك أدى إلى هذا النقلب السيالسي بين‬ ‫الدولة اللسليمية ودول الكفر‪ ،‬فرجحت كفة الوروبيين وخمّفت كفة‬ ‫المسلمين‪.‬‬ ‫وكان لسبب هذا النقلب السيالسي في حالة أوروبا يمحاولة‬ ‫المفكرين فيها الوصول إلى نظام للحياة‪ .‬وقد كان اتخاذهم وجهة‬ ‫نظر يمعينة في الحياة‪ ،‬واعتناقهم عقيدة يمعينة‪ ،‬وبنا ء النظام على‬ ‫‪-202-‬‬


‫ألسالسها‪ ،‬هو الذي قلب يمفاهيم الشيا ء عندهم وق لَ لَلب يمراتب القيم‬ ‫لديهم‪ ،‬يمما أدى إلى النقلب العام في الحياة‪ ،‬ويمما لساعد على‬ ‫وجود النقلب الصناعي العظيم‪ .‬بخلف الحال في العالم‬ ‫اللسليمي أو في الدولة العثمانية التي كانت تتزعمه‪ ،‬فإنها بدل أن‬ ‫تنظر لوضاعها النظرة الصحيحة‪ ،‬وتفكر في يمبدئها التفكير‬ ‫العميا ق‪ ،‬وتثير الفكار وتعمل على إيجاد الجتهاد‪ ،‬وتعالج يمشاكلها‬ ‫حسب الحكام المنبثقة عن عقيدتها‪ ،‬و ُتقِبل على العلم والصناعة‪،‬‬ ‫بدل أن تفعل كل ذلك أصابتها حيرة وقلا ق يمما حصل في أوروبا‪،‬‬ ‫ووقفت جايمدة يمن جرا ء هذه الحيرة‪ ،‬ونتج عن ذلك تخمّلف الدولة‬ ‫العثمانية يمن الناحية العلمية والصناعية‪ ،‬فتخلفت في الرقي‬ ‫المادي‪ ،‬وتخلفت عن باقي الدولة‪.‬‬ ‫والسر في ذلك هو أن الدولة العثمانية دولة إلسليمية‪،‬‬ ‫والشعوب التي تحكمها شعوب يمسلمة‪ ،‬واللسلم هو عقيدة‬ ‫الدولة وهو نظايمها‪ ،‬وأفكاره أفكارها‪ ،‬ووجهة نظره في الحياة‬ ‫هي وجهة نظرها‪ ،‬فكان عليها أن تنظر إلى الفكار الجديدة التي‬ ‫حصلت في أوروبا وتقيسها بقاعدتها الفكرية‪ ،‬وأن تنظر إلى‬ ‫المشاكل الحديثة يمن وجهة نظر إلسليمية فتعطي حكمها على‬ ‫الفكار والمشاكل باجتهاد صحيح حسب وجهة نظر اللسلم‪ ،‬فت ُبت‬ ‫في شأنها يمن حيث الصحة والفساد‪ .‬ولكنها لم تفعل؛ لن الفكار‬ ‫اللسليمية لم تكن واضحة لديها‪ ،‬فلم تكن لها يمفاهيم يمحددة‪.‬‬ ‫‪-203-‬‬


‫ولن العقيدة اللسليمية لم تكن قاعدة فكرية ُتبنى عليها جميع‬ ‫الفكار‪ ،‬وإمّنما كانت عقيدة تقليدية‪ .‬فكان اللساس الذي تقوم عليه‬ ‫الدولة وهو العقيدة والفكار غير واضح لدى الدولة العثمانية‪،‬‬ ‫وكان النظام جايمدا لعدم وجود الجتهاد‪ ،‬وكانت الحضارة التي‬ ‫هي يمجمو ع المفاهيم عن الحياة غير يمبلورة وغير يمقترنة بأعمال‬ ‫الدولة‪ ،‬فسمّبب ذلك النحطاط الفكري وعدم وجود نهضة‪ ،‬ولهذا‬ ‫وقفوا يمبهوتين أيمام يما شاهدوه في أوروبا يمن النقلب الفكري‬ ‫والصناعي‪ ،‬فلم يقطعوا بأخذه‪ ،‬ولم يقطعوا بتركه‪ ،‬ولم يميزوا بين‬ ‫يما يجوز أن يأخذوه يمن علوم وصناعات واختراعات‪ ،‬وبين يما ل‬ ‫يجوز أن يأخذوه يمن فلسفة تعِّين وجهة النظر في الحياة‪،‬‬ ‫وحضارة هي يمجمو ع المفاهيم عن الحياة‪.‬‬ ‫وبذلك جمدوا ولم يتحركوا‪ ،‬فكان هذا الجمود لسببا في‬ ‫وقوف عجلتهم‪ ،‬في حين كانت عجلة الدول الوروبية تسير‪ ،‬ويما‬ ‫ذلك كله إل مّ بسبب عدم فهمهم اللسلم فهما صحيحا‪ ،‬وعدم‬ ‫إدراكهم التناقض بين الفكار الوروبية وأفكارهم‪ ،‬وعدم تمييزهم‬ ‫بين العلم والصناعات والختراعات يمما يحثهم اللسلم على‬ ‫أخذها‪ ،‬وبين الفلسفة والحضارة والفكر يمما يمنعهم اللسلم يمن‬ ‫أخذها‪.‬‬ ‫ي اللسلم على العثمانيين فلم يفهموه فهما‬ ‫م لَ‬ ‫ع ِ‬ ‫نعم لقد لَ‬ ‫صحيحا‪ ،‬وكانت هذه التعمية هي التي جعلت المّيمة والدولة تعيش‬ ‫‪-204-‬‬


‫كيفما اتفا ق‪ ،‬دون أن ُتعنى بما عندها يمن نظام‪ ،‬في حين أن‬ ‫خصويمها تمسكوا بنظام يمعين ولساروا عليه‪ .‬وبذلك صارت أوروبا‬ ‫صاحبة يمبدأ يمهما كانت عقيدته‪ ،‬ويمهما كانت فلسفته‪ .‬وصارت المّيمة‬ ‫اللسليمية صاحبة المبدأ الصحيح تعيش في خيال هذا المبدأ الذي‬ ‫طل عليها يمن ورا ء القرون‪ ،‬لنها كانت تعيش في وضع يسا ء فيه‬ ‫ ُي ِ‬ ‫تطبيا ق يمبدئها‪.‬‬ ‫ت فيكم يما‬ ‫ويمع أن الرلسول صلى ا عليه ولسلم يقول ‪} :‬ترك ُ‬ ‫سكتم به لن تضلوا ‪ :‬كتاب ا ولسمّنتي‪ ،{،‬ويمع أن الدولة‬ ‫إن تم مّ‬ ‫إلسليمية‪ ،‬والمّيمة إلسليمية‪ ،‬ويمع أن الثروة الفكرية والفقهية كانت‬ ‫في يمتناول اليدي‪ ،‬إل مّ أن الدولة لم تفهم يمعنى هذا الحديث‬ ‫لترجع إلى اللسلم في أصوله على ألساس أنه عقيدة ونظام‪ ،‬ولم‬ ‫تنتفع بهذه الثروة التي ل يمثيل لها عند اليمم‪.‬‬ ‫ما وقف الجتهاد ووقف النشاط‬ ‫نعم لم تنتفع بذلك لنه ل مّ‬ ‫عفت المفاهيم اللسليمية عند المسلمين‪ ،‬وتخلفت‬ ‫الفكري ض ُ‬ ‫المعارف اللسليمية‪ ،‬وبقيت الكتب والثروات العلمية يمحفوظة في‬ ‫خزائنها‪ ،‬ولم يعد هنالك علما ء يمفكرون إل مّ قليلون‪ ،‬وقمّلت الرغبة‬ ‫في البحث والتقيب عن الحقائا ق‪ ،‬وصارت المعارف ل ُتطلب‬ ‫للعمل بها في الدولة وفي يمعترك الحياة؛ لن الدولة ل تشجعها‪،‬‬ ‫بل صار العلما ء يطلبون العلم والثقافة للترف العقلي و ُيطلقون‬ ‫ل يمنهم‬ ‫عليه أنه طلب العلم للعلم‪ ،‬أو يطلبون العلم للرتزاق‪ ،‬و لَق مّ‬ ‫‪-205-‬‬


‫يمن يطلب اللم لنفع المّيمة والدولة‪.‬‬ ‫وبسبب هذه الحال لم تعد هناك حركة علمية أو ثقافية أو‬ ‫تشريعية‪ ،‬فكان يمن جرا ء ذلك اضطراب فهم اللسلم‪ ،‬وصار‬ ‫المسلمون يفهمون اللسلم فهما روحيا أكثر يمنه فهما فكريا‬ ‫م لَيت فكرته الصلية وطريقته التي تنَّفذ بها‬ ‫ع ِ‬ ‫ولسيالسيا وتشريعيا؛ إذ لَ‬ ‫ي عليهم فهم الكتاب والسمّنة وصاروا يفهمون‬ ‫م لَ‬ ‫ع ِ‬ ‫هذه الفكرة‪ ،‬ف لَ‬ ‫بأن اللسلم يمجرد دين روحي‪ ،‬ويقارنون بينه وبين باقي الديان‬ ‫بما له يمن يمميزات عليها كأديان روحية‪ ،‬بدل أن ينظروا إليه عقيدة‬ ‫ونظايما لجميع شؤون الحياة‪.‬‬ ‫ولذلك لم يكن غريبا أن تقف المّيمة اللسليمية تحت قيادة‬ ‫الدولة العثمانية يموقف الجمود والحيرة والقلا ق يمن الحركة‬ ‫النقلبية التي حصلت في أوروبا‪ ،‬وأن تظل يمتأخرة تأخرا ظاهرا‬ ‫دون أن تتأثر بالرقي القتصادي الذي شمل أوروبا‪ ،‬ول بتعدد‬ ‫الختراعات التي كانت فيها‪ ،‬ول بالحركة الصناعية التي لسادتها‪،‬‬ ‫اللهم إل مّ تأثرا جزئيا بشكل يمضطرب يمشوش لم تكن له فائدة‪،‬‬ ‫يمكنها يمن وقف عجلة‬ ‫مّ‬ ‫يمكنها يمن التقدم المادي‪ ،‬بل لم‬ ‫مّ‬ ‫ولم‬ ‫التأخر التي كانت تهوي بها إلى النخفاض والضعف‪ .‬ولسبب ذلك‬ ‫يرجع إلى أنهم لم يفرقوا بين العلم والثقافة‪ ،‬وبين الحضارة‬ ‫والمدنية‪ ،‬ولذلك وقفوا تجاهها وقفة الحائر‪ ،‬أيأخذونها أم‬ ‫يتركونها؟ فكثيرون كانوا يرونها أنها جميعها تتعارض يمع اللسلم‪،‬‬ ‫‪-206-‬‬


‫ولذلك نادوا بتحريم أخذها‪ ،‬حتى أنه حين ظهرت المطابع وعزيمت‬ ‫الدولة على طبع القرآن الكريم حمّرم الفقها ء حينئذ طبعه‪ ،‬وصاروا‬ ‫ ُيفتون بتحريم كل جديد‪ ،‬وتكفير كل يمن يتعلم العلوم الطبيعية‪،‬‬ ‫واتهام كل يمفكر بالزندقة واللحاد‪ .‬وكان هناك جماعة قليلون‬ ‫يرون ضرورة أخذ كل شي ء يمن الغرب‪ِ ،‬يمن علم وثقافة وحضارة‬ ‫ويمدنية‪ ،‬وهؤل ء كانوا يمن الذين تعلموا في أوروبا أو في المدارس‬ ‫التبشيرية التي كانت قد دخلت البلد‪ ،‬وهؤل ء لم يكن لهم تأثير في‬ ‫أول اليمر‪ ،‬وجمهرة الناس كان تحمل فكرة يمحاولة التوفيا ق بين‬ ‫اللسلم وبين الثقافة والعلوم والحضارة والمدنية التي يحملها‬ ‫الغرب‪.‬‬ ‫فقد لساد في أواخر الدولة العثمانية فكرة يمؤداها أن الغرب‬ ‫أخذ حضارته يمن اللسلم‪ ،‬وأن اللسلم ل يمنع أخذ يما يوافقه‬ ‫والعمل بما ل يخالفه‪ .‬وقد نجح الغرب في نشر هذه الفكرة حتى‬ ‫لسادت وحملتها جمهرة الناس ول لسيما المتعلمون‪ ،‬وكثير يمنهم يمن‬ ‫الفقها ء والعلما ء‪ ،‬وكانوا يسمونهم علما ء عصريين‪ ،‬و ُأطلا ق عليهم‬ ‫أنهم يمصلحون‪ .‬ونظرا للتناقض الحقيقي بين الحضارة الغربية‬ ‫والحضارة اللسليمية‪ ،‬وللتباين الواضح بين الثقافة الغربية ويما‬ ‫يمعان تتعلا ق بوجهة النظر في الحياة‪ ،‬وبين الثقافة‬ ‫ ٍ‬ ‫تتضمنه يمن‬ ‫يمعان تتعلا ق بطريقة الحياة‪ ،‬نظرا لهذا‬ ‫ ٍ‬ ‫اللسليمية ويما تتضمنه يمن‬ ‫التناقض لم يمكن التوفيا ق بين يما في اللسلم ويما في الفكار‬ ‫‪-207-‬‬


‫الغربية‪ ،‬فأدى ذلك إلى ُبعد هؤل ء عن اللسلم‪ ،‬و ُقربهم يمن‬ ‫الفكار الغربية بشكل يمشوش‪ ،‬فعجزوا عن فهم أفكار الغرب‬ ‫وابتعدوا عن اللسلم‪ ،‬فكان لذلك أثر كبير في إهمال الختراعات‬ ‫والعلوم والصناعات‪ ،‬وأثر كبير في لسو ء فهم اللسلم‪ ،‬أدى إلى‬ ‫تحويل المّيمة إلى هذه المجموعة المتناقضة في الفكار‪ ،‬وإلى‬ ‫عدم الستطاعة الدولة أن تجزم في فكر يمعين‪ ،‬كما أدى إلى‬ ‫إعراض المّيمة عن الخذ بولسائل الرقي المادي يمن العلوم‬ ‫عفت ضعفا ظاهرا حتى أصبحت غير‬ ‫والختراعات والصناعات‪ ،‬فض ُ‬ ‫قادرة على الوقوف‪ ،‬وعاجزة عن حماية نفسها‪ ،‬فكان يمن جرا ء‬ ‫هذا الضعف أن أخذ أعدا ء اللسلم يقتطعون أجزا ء الدولة‬ ‫اللسليمية جز ءا جز ءا وهي عاجزة يمستسلمة‪ .‬وأخذ الغزو‬ ‫التبشيري بالسم العلم يتغلغل في كيان المّيمة الداخلي يفمّرق‬ ‫صفوفها‪ ،‬و ُيشعل نار الفتنة داخل البلد اللسليمية‪ .‬ونجحت‬ ‫الحركات المتعددة التي تهدم جسم الدولة‪ ،‬وظهرت فكرة القويمية‬ ‫في جميع أجزا ء الدولة ‪ :‬في البلقان‪ ،‬وتركيا‪ ،‬والبلد العربية‪،‬‬ ‫وأريمينيا‪ ،‬وكردلستان‪.‬‬ ‫ج ُرف‬ ‫ويما أن جا ءت لسنة ‪ 1914‬حتى كانت الدولة على شفا ُ‬ ‫ها ٍر‪ ،‬فدخلت الحرب العالمية الولى وخرجت يمنها يمهزويمة‪ ،‬ف ُقضي‬ ‫عليها‪ .‬وبذلك ذهبت دولة اللسلم وتحقا ق للغرب الحلم الذي كان‬ ‫يداعبهم قرونا طويلة‪ ،‬وهو القضا ء على الدولة اللسليمية للقضا ء‬ ‫‪-208-‬‬


‫على اللسلم‪ .‬وبذهاب الدولة اللسليمية صار الحكم في جميع‬ ‫البلد اللسليمية غير إلسليمي‪ ،‬وصار المسلمون يعيشون تحت راية‬ ‫غير إلسليمية‪ ،‬فاختل أيمرهم‪ ،‬ولسا ء حالهم‪ ،‬وصاروا يعيشون على‬ ‫نظام الكفر‪ ،‬ويحكمون بأحكام الكفر‪.‬‬ ‫الغزو التبشيري‬ ‫أخذت أوروبا تغزو العالم اللسليمي غزوا تبشيريا بالسم‬ ‫العلم‪ ،‬ورصدت لذلك الميزانيات الضخمة‪ .‬أو بعبارة أخرى غزوا‬ ‫الستعماريا عن طريا ق التبشير بالسم العلم والإنسانية‪ ،‬وذلك لتمكين‬ ‫دوائر اللستخبارات السيالسية‪ ،‬ودوائر اللستعمار الثقافي يمن‬ ‫التمركز في البلد‪ ،‬حتى كانت طليعة اللستعمار الغربي‪ .‬وبهذا‬ ‫ ُفسح المجال لهذا اللستعمار‪ ،‬و ُفتح باب العالم اللسليمي على‬ ‫يمصراعيه‪ ،‬وانتشرت الجمعيات التبشيرية في كثير يمن البلدان‬ ‫اللسليمية‪ ،‬وكان يمعظمها جمعيات انجليزية وفرنسية وأيمريكية‪.‬‬ ‫غل النفوذ الفرنسي والبريطاني عن طريقها‪ ،‬وأصبحت هذه‬ ‫غل لَ‬ ‫فت لَ‬ ‫الجمعيات يمع الزيمن هي الموجهة للحركات القويمية‪ ،‬وأصبحت‬ ‫هذه المسيطرة على توجيه المتعلمين يمن المسلمين‪ ،‬أو توجيه‬ ‫القويمية العربية والقويمية التركية لغرضين رئيسيين ‪ :‬الول فصل‬ ‫العرب عن الدولة العثمانية المسلمة للجهاز على دولة اللسلم‪،‬‬ ‫وأطلقوا عليها السم )تركيا( لثارة النعرة العنصرية‪ .‬والثاني إبعاد‬ ‫‪-209-‬‬


‫المسلمين عن الرابطة الحقيقية التي لم يكونوا يعرفون لسواها‬ ‫وهي رابطة اللسلم‪ .‬وقد انتهوا يمن الغرض الول وبقي الثاني‬ ‫قائما‪ .‬ولذلك لسيظل التوجيه إلى القويمية عند الترك والعرب‬ ‫والفرس وغيرهم هو الالسفين الذي يفرق وحدة المسلمين‪،‬‬ ‫ويعميهم عن يمبدئهم‪.‬‬ ‫وقد يمرت هذه الجمعيات التبشريرية بأدوار عديدة‪ ،‬وكان‬ ‫أثرها بليغا في العالم اللسليمي‪ ،‬ويمن نتائجه يمانعانيه اليوم يمن‬ ‫ضعف وانحطاط‪ ،‬لنها كانت اللبنة الولى التي وضعت في السد‬ ‫الذي أقايمه اللستعمار بيننا وبين النهوض‪ ،‬وحال به بيننا وبين يمبدئنا‬ ‫وهو اللسلم‪ .‬والذي حمل الوروبيين على إنشا ء الجمعيات‬ ‫التبشيرية في العالم اللسليمي‪ ،‬هو يما عانوه في الحروب الصليبية‬ ‫يمن صلبة المسلمين وصبرهم على الجهاد‪ ،‬وذلك أن الغربيين‬ ‫حين لقوا المسلمين في لساحة النزال كانوا يعتمدون على أيمرين‬ ‫حسب رأيهم‪ ،‬وكانوا يعلقون أهمية كبرى على هذين اليمرين‬ ‫للقضا ء على اللسلم والمسلمين القضا ء التام‪.‬‬ ‫أمّيما أولهما فهو اعتمادهم على النصارى الذين كانوا يسكنون‬ ‫العالم اللسليمي إذ كان في البلد اللسليمية نصارى كثيرون‪،‬‬ ‫وخاصة في بلد الشام‪ .‬وكان هؤل ء النصارى يممن يتمسكون‬ ‫بدينهم‪ ،‬فكانوا يعتبرونهم إخوانا في الدين وظنوا أنهم لسيكيدون‬ ‫للمسلمين‪ ،‬ولسيكونون عينا لهم عليهم‪ ،‬بحجة أنهم أثاروا حربهم‬ ‫‪-210-‬‬


‫هذه حربا دينية‪.‬‬ ‫وأمّيما اليمر الثاني فقد كانوا يعتمدون على كثرة عددهم‪،‬‬ ‫وعظم قوتهم‪ ،‬على حين كان المسلمون يمتقاطعين يمتدابرين‪ ،‬قد‬ ‫بدأ النحلل يدب في كيانهم‪ ،‬فظنوا أنهم إذا هزيموهم أول هزيمة‬ ‫أخضعوهم إلى البد‪ ،‬ولسهل القضا ء عليهم وعلى دينهم‪ ،‬ولكن‬ ‫خاب فألهم ولم يصدق حدلسهم‪ .‬وكم كانت دهشتهم عظيمة حين‬ ‫رأوا أثنا ء الحروب أن النصارى العرب وقفوا بجانب المسلمين‪ ،‬ولم‬ ‫تؤثر فيهم الدعايات‪ ،‬وكانوا يحاربون يمع المسلمين‪ ،‬لنهم كانوا‬ ‫يعيشون في دار اللسلم‪ ،‬ويطبا ق عليهم النظام اللسليمي‪ ،‬ولهم‬ ‫يما للمسلمين وعليهم يما عليهم‪ ،‬يأكل المسلمون يمن طعام‬ ‫النصارى ويتزوج المسلم النصرانية ويصاهر أهلها ويخوضون‬ ‫من لهم جميع حقوقهم‪ ،‬ولسار‬ ‫يمعترك الحياة يمعا لن اللسلم ض لَ ِ‬ ‫على العمل بذلك الخلفا ء والحكام‪ ،‬وكان عليه العمل في دولة‬ ‫اللسلم‪ ،‬وقد نص القرافي وابن حزم )على أن ِيمن حا ق حماية‬ ‫أهل ذيمتنا إذا تعرض الحربيون لبلدنا‪ ،‬وقصدوهم في جوارنا‪ ،‬أن‬ ‫نموت في الدفا ع عنهم‪ ،‬وكل تفريط في ذلك يكون إهمال م ً‬ ‫لحقوق الذيمة( ويقول القرافي ‪) :‬إن يمن واجب المسلم للذيميين‬ ‫الرفا ق بضعفائهم‪ ،‬ولسد خلة فقرائهم‪ ،‬وإطعام جائعهم‪ ،‬وإلباس‬ ‫عاريهم‪ ،‬ويمخاطبتهم بلين القول‪ ،‬واحتمال أذى الجار يمنهم يمع‬ ‫القدرة على الدفع‪ ،‬رفقا بهم ل خوفا ول تعظيما‪ ،‬وإخلص النصح‬ ‫‪-211-‬‬


‫تعرض ليذائهم‪ ،‬وصون‬ ‫مّ‬ ‫لهم في جميع أيمورهم‪ ،‬ودفع يمن‬ ‫أيموالهم وعيالهم وأعراضهم وجميع حقوقهم ويمصالحهم وأن‬ ‫حسن بكريم الخلق أن يفعله(‪ .‬وهذا كله‬ ‫يفعل يمعهم كل يما لَي ُ‬ ‫جعل النصارى يدافعون طبيعيا يمع المسلمين‪ .‬وكانت دهشتهم‬ ‫أعظم حين رأوا أن اليمر الثاني لم يحقا ق ظنهم‪ .‬وذلك أنهم قد‬ ‫الستولوا على بلد الشام وهزيموا المسلمين شر هزيمة والستعملوا‬ ‫أشد الفظائع‪ ،‬وكانوا أول يمن ابتد ع يمع المسلمين أجلائهم عن‬ ‫ديارهم‪ .‬ولساروا على ذلك في جميع حروبهم يمع المسلمين‪.‬‬ ‫وظلت هذه طريقتهم حتى الن كما حصل في فلسطين‪ ،‬وكانوا‬ ‫يظنون أن اليمر قد الستتب لهم‪ ،‬وأنه لن تقوم للمسلمين قائمة‪.‬‬ ‫ولكن المسلمين ظلوا يمصممين على إخراجهم يمن بلدهم‪،‬‬ ‫وبالرغم يمن يمكثهم يمدة تقرب يمن قرنين‪ ،‬أقايموا فيها يممالك‬ ‫وإيمارات في بلد الشام‪ ،‬فإن المسلمين الستطاعوا في النهاية أن‬ ‫يتغلبوا على الصليبيين‪ ،‬وأن يطردوهم يمن ديارهم‪.‬‬ ‫وقد بحثوا عن السر في ذلك كله فوجدوه في اللسلم‪ ،‬لن‬ ‫عقيدته هي يمنشأ هذه القوة العظيمة في المسلمين‪ ،‬وأحكايمه‬ ‫م لَنت لهم حقوقهم‪ ،‬فنتج هذا التمالسك‬ ‫ض ِ‬ ‫بالنسبة لغير المسلمين لَ‬ ‫بين الرعية‪ ،‬ولذلك فكر الكافر المستعمر في طريقة يغزو بها هذا‬ ‫العالم اللسليمي‪ ،‬فوجد أن خير طريقة هي لسلوك الغزو الثقافي‬ ‫عن طريا ق التبشير ليكسبوا النصارى إلى جانبهم‪ ،‬وليثيروا شكوك‬ ‫‪-212-‬‬


‫يوجدون‬ ‫ِ‬ ‫المسلمين في دينهم‪ ،‬ويزعزعوا عقيدتهم‪ .‬وبذلك‬ ‫النقسام بين المسلمين وغيرهم يمن رعايا الدولة اللسليمية‪،‬‬ ‫ويضعفون قوة المسلمين‪.‬‬ ‫ونفذوا ذلك بالفعل‪ ،‬فألسسوا في أواخر القرن السادس‬ ‫عشر يمركزا كبيرا للتبشير في يمالطة‪ ،‬وجعلوها قاعدة هجويمهم‬ ‫التبشيري على العالم اللسليمي إذ يمنها كانت ترلسل قوات التبشير‪،‬‬ ‫فإنهم بعد أن الستقر بهم المقام ويمكثوا يمدة‪ ،‬شعروا بضرورة يمد‬ ‫نشاطهم‪ ،‬فانتقلوا لبلد الشام لسنة ‪1625‬م‪ ،‬وحاولوا إيجاد‬ ‫الحركات التبشيرية‪ ،‬غير أن نشاطهم كان يمحدودا جدا‪ ،‬لم يتعد‬ ‫تألسيس بعض المدارس الصغيرة‪ ،‬ونشر بعض الكتب الدينية‪.‬‬ ‫وعانوا يمشقات كبيرة يمن اضطهاد وإعراض ويمحاربة يمن الجميع‪.‬‬ ‫إل مّ أنهم ثبتوا حتى لسنة ‪1773‬م‪ ،‬حيث ألغيت الجمعيات التبشيرية‬ ‫لليسوعيين‪ ،‬وأغلقت يمؤلسساتهم يما عدا بعض الجمعيات التبشرية‬ ‫الضعيفة كجمعية المبشرين العازاريين‪ .‬وبالرغم يمن وجودها‬ ‫انقطع أثر المبشرين والتبشير‪ ،‬ولم يعد لهم وجود إل مّ في يمالطة‬ ‫حتى لسنة ‪1820‬م‪ ،‬حيث ُألسس أول يمركز للتبشير في بيروت‪ ،‬وبدأ‬ ‫نشاطهم فيها فلقوا صعوبات كثيرة‪ ،‬وبالرغم يمن هذه الصعوبات‬ ‫الستمروا في عملهم‪ .‬وكانت عنايتهم الولى يمنصرفة إلى التبشير‬ ‫الديني والثقافة الدينية‪ ،‬وكانت عنايتهم بالتعليم ضعيفة‪ .‬وفي لسنة‬ ‫‪1834‬م انتشرت البعثات التبشيرية في لسائر بلد الشام‪ ،‬فف ُتحت‬ ‫‪-213-‬‬


‫كلية في قيرة عنتورة في لبنان‪ ،‬ون لَقلت الرلسالية اليمريكية‬ ‫يمطبعتها يمن يمالطة إلى بيروت‪ ،‬لتقوم بطبع الكتب ونشرها‪.‬‬ ‫ونشط المبشر اليمريكي المشهور )إيلي لسميث( نشاطا ظاهرا‪.‬‬ ‫وقد كان هذا المبشر في يمالطة يشتغل في التبشير يمتطوعا‬ ‫ويتولى أيمر يمطبعة الرلسالية‪ .‬وفي لسنة ‪1827‬م حضر لبيروت‪،‬‬ ‫ولكنه يما لبث لسنة حتى توله الذعر والملل‪ ،‬ولم يطا ق صبرا فرجع‬ ‫إلى يمالطة‪ ،‬ثم عاد إلى بيروت لسنة ‪1834‬م وفتح هو وزوجته‬ ‫يمدرلسة للناث‪ ،‬واتسع المجال أيمايمه ووقف حياته للعمل في‬ ‫بيروت بوجه خاص وفي بلد الشام بوجه عام‪ ،‬وبذلك تعاونت‬ ‫هذه الجهود جميعا في بعث حركة التبشير‪ .‬وكان قيام إبراهيم‬ ‫باشا بتطبيا ق برنايمج للتعليم البتدائي في لسوريا ‪-‬يمستوحى يمن‬ ‫برنايمج التعليم الموجود في يمصر المأخوذ عن برايمج التعليم في‬ ‫فرنسا‪ -‬فرصة لهؤل ء المبشرين‪ ،‬فاغتنموها ولساهموا في الحركة‬ ‫التعليمية يمن وجهة النظر التبشيرية‪ .‬ثم شملت حركة الطباعة‪،‬‬ ‫وبذلك نشطت الحركة التبشيرية وشاركت في الحركة التعليمية‬ ‫يمشاركة ظاهرة‪ .‬وقد الستطاعوا بنشاطهم هذا أن يوغروا الصدور‬ ‫بين رعايا الدولة اللسليمية بالسم الحرية الدينية‪ .‬وأوجدوا بين‬ ‫المسلمين والنصارى والدروز نشاطا دينيا يتصل بالعقيدة‪.‬‬ ‫وحين انسحب إبراهيم باشا لسنة ‪1840‬م يمن بلد الشام‬ ‫انتشر القلا ق والفوضى والضطراب فيها‪ ،‬وانقسم الناس على‬ ‫‪-214-‬‬


‫أنفسهم‪ ،‬واغتنم الموفدون الجانب ‪-‬ل لسيما رجالت البعثات‬ ‫التبشيرية‪ -‬ضعف نفوذ الدولة العثمانية في البلد‪ ،‬وحينئذ أخذوا‬ ‫ ُيشعلون نار الفتنة‪ .‬ويما يممّر عام واحد وحمّلت لسنة ‪1841‬م‪ ،‬حتى‬ ‫وقعت اضطرابات خطيرة في جبل لبنان بين النصارى والدروز‬ ‫الستفحل شرها‪ ،‬حتى اضطرت الدولة العثمانية ‪-‬بتأثير ضغط الدول‬ ‫الجنبية‪ -‬أن تضع للبنان نظايما جديدا تقسمه فيه إلى قسمين ‪:‬‬ ‫يسود النصارى في قسم يمنه‪ ،‬ويسود الدروز في القسم الخر‪،‬‬ ‫وتعمّين حاكما للقسمين‪ .‬وأرادت بذلك أن تتفادى الحتكاك بين‬ ‫الطائفتين‪.‬‬ ‫غير أن هذا النظام لم ينجح‪ ،‬لنه لم يكن طبيعيا‪ .‬وقد‬ ‫تدخلت كل يمن انجلترا وفرنسا في هذا الخلف‪ ،‬وكانت ُتشعلن‬ ‫نار الفتنة كلما حاول القائمون على اليمر إخمادها‪ .‬وأخذ النجليز‬ ‫والفرنسيون يتخذون هذا الحتكاك بين الطوائف ذريعة للتدخل‬ ‫في شؤون لبنان‪ .‬وانحاز الفرنسيون إلى جانب الموارنة‪ ،‬وانحاز‬ ‫النجليز إلى جانب الدروز يمما أدى إلى تجدد الضطرابات لسنة‬ ‫‪1845‬م بشكل فظيع‪ ،‬شمل العتدا ء فيها الديرة والكنائس‪،‬‬ ‫والس ُتعمل فيه السلب والنهب والقتل‪ ،‬يمما اضطر الحكويمة العثمانية‬ ‫إلى إرلسال ناظر خارجيتها إلى لبنان‪ ،‬ليتلفى اليمر بما لديه يمن‬ ‫الصلحيات المطلقة‪ .‬ولكنه لم يستطع أن يفعل شيئا هايما‪ ،‬وإن‬ ‫كان قد أخمد الحالة نوعا يما‪.‬‬ ‫‪-215-‬‬


‫إل مّ أن المبشرين ازداد نشاطهم‪ .‬ويما أن جا ءت لسنة ‪1857‬م‬ ‫حتى بدأت فكرة الثورة والصطدايمات المسلحة في طائفة‬ ‫الموارنة‪ ،‬فقد قام رجال الدين الموارنة بتحريض الفلحين على‬ ‫القطاعيين‪ ،‬وهاجموهم في لبنان الشمالي هجويما عنيفا‪،‬‬ ‫واشتعلت نار الثورة هناك‪ ،‬ثم ايمتدت إلى الجنوب‪ ،‬فثار الفلحون‬ ‫النصارى على القطاعيين الدروز‪ .‬وأخذت كل يمن انجلترا وفرنسا‬ ‫تؤيد جماعتها‪ ،‬فالنجليز يؤيدون الدروز والفرنسيون يؤيدون‬ ‫النصارى‪ .‬وبذلك تولسعت الفتنة تولسعا عايما‪ ،‬حتى شملت جميع‬ ‫لبنان‪ .‬وأخذ الدروز يقتلون جميع النصارى ل فرق بين رجال الدين‬ ‫شرد آلف يمن النصارى يمن جرا ء القسوة‬ ‫وغيرهم‪ ،‬حتى ُقتل و ُ‬ ‫التي كانت تنطبع بها الضطرابات‪ .‬ثم لسرت يموجة الضطرابات إلى‬ ‫لسائر بلد الشام‪ ،‬وهمّبت في ديمشا ق يموجة يمن البغضا ء الشديدة‬ ‫بين المسلمين والنصارى‪ ،‬أدت في شهر تموز لسنة ‪1860‬م إلى أن‬ ‫يهاجم المسلمون حي النصارى‪ ،‬ويقويموا بمذبحة كبيرة‪ .‬وقد‬ ‫صاحب تلك المذابح شي ء يمن التخريب والتديمير والضطراب‪ ،‬حتى‬ ‫اضطرت الدولة إلى وقف الفتنة بالقوة‪.‬‬ ‫وبالرغم يمن أن الضطرابات خمدت وكادت تنتهي‪ ،‬إل مّ أن‬ ‫الدول الغربية رأت أن هذه هي الفرصة التي تتيح لها أن تتدخل‬ ‫في بلد الشام‪ .‬فأرلسلت البوارج الحربية إلى لسواحلها‪ .‬وفي شهر‬ ‫آب يمن السنة نفسها أرلسلت فرنسا حملة برية يمن الجيش‬ ‫‪-216-‬‬


‫الفرنسي‪ ،‬نزلت في بيروت‪ ،‬وأخذت تعمل لخماد الثورة‪ .‬وهكذا‬ ‫حصلت للدولة العثمانية في لسوريا فتنة خلقتها الدول الغربية‪،‬‬ ‫خلوا وأجبروها على أن تخضع لوضع نظام‬ ‫خلهم‪ .‬فتد مّ‬ ‫لتكون بابا لتد مّ‬ ‫خاص لسوريا‪ ،‬يقسمها إلى وليتين‪ ،‬وأن تمنح لبنان ايمتيازات‬ ‫خاصة‪ ،‬ففصلت لبنان عن لسائر أجزا ء البلد الشايمية‪ ،‬ويمنحته‬ ‫الستقلل م ً ذاتيا‪ ،‬يتمتع فيه بنظام يمحلي للدارة‪ ،‬على رألسه حاكم‬ ‫يمسيحي‪ ،‬ويعاونه يمجلس إداري يمثل السكان‪ .‬ويمن ذلك الحين‬ ‫رعت الدول الجنبية أيمر لبنان‪ ،‬وجعلته يمركزا لها‪ ،‬فكان رأس‬ ‫الجسر الذي لَن لَفذ يمنه الجانب إلى قلب الدولة العثمانية والبلد‬ ‫اللسليمية‪.‬‬ ‫وفي هذه الثنا ء اتخذت أعمال التبشير يمظهرا آخر لم يكن‬ ‫يموجودا يمن قبل‪ ،‬فلم يكتفوا بحركة المدارس ودور التبشير‬ ‫والمطابع والمستشفيات‪ ،‬بل تعدوا ذلك إلى تألسيس الجمعيات‪.‬‬ ‫ففي لسنة ‪1842‬م تشكلت لجنة لتألسيس جمعية علمية تحت رعاية‬ ‫الإرلسالية اليمريكية وفا ق برنايمجها‪ .‬وقد لسارت هذه اللجنة في‬ ‫طريقها يمدة خمس لسنوات‪ ،‬حتى تمكنت في لسنة ‪1847‬م يمن‬ ‫متها )جمعية الفنون والعلوم(‪ .‬وكان أعضاؤها‬ ‫تألسيس جمعية لس مّ‬ ‫ناصيف اليازجي‪ ،‬وبطرس البستاني يمن نصارى لبنان‪ ،‬أخذتهما‬ ‫بوصفهما يمن نصارى العرب‪ ،‬وإيلي لسميث‪ ،‬وكورنيليوس فان ديك‬ ‫يمن اليمريكان‪ ،‬والكولونيل تشرشل يمن النجليز‪ .‬وكانت أهداف‬ ‫‪-217-‬‬


‫هذه الجمعية في أول اليمر غايمضة‪ ،‬ولكنها كانت تظهر بمظهر‬ ‫نشر العلوم بين الكبار‪ ،‬كما تنشر العلوم في المدارس بين‬ ‫مل الكبار كما يحمل الصغار على تثقيفهم بالثقافة‬ ‫الصغار‪ ،‬وح يْ‬ ‫جهين بتوجيه خاص وفا ق الخطة التبشيرية‪.‬‬ ‫الغربية‪ ،‬يمو َّ‬ ‫وبالرغم يمن نشاط رجال هذه الجمعية وبذل جهودهم‬ ‫الجبارة فيها‪ ،‬فإنه لم ينتسب لها خلل أيمين لسوى خمسين عضوا‬ ‫عايمل م ً يمن جميع بلد الشام‪ ،‬كلهم يمن النصارى‪ ،‬وأكثرهم يمن‬ ‫لسكان بيروت‪ ،‬ولم يدخل في الجمعية يمن المسلمين ول يمن‬ ‫الدروز أي عضو يمطلقا‪ .‬وقد ُبذلت جهود جبارة لتولسيعها‬ ‫وتنشيطها‪ ،‬ولكنها لم ُتثمر‪ ،‬ويماتت الجمعية بعد خمس لسنوات يمن‬ ‫تألسيسها‪ ،‬دون أن تترك إل مّ أثرا واحد لَا‪ ،‬هو الرغبة عند المبشرين‬ ‫في تألسيس الجمعيات‪.‬‬ ‫ولذلك ُألسست جمعية أخرى لسنة ‪1850‬م بالسم )الجمعية‬ ‫الشرقية(‪ ،‬ألسسها اليسوعيون تحت رعاية الب اليسوعي الفرنسي‬ ‫"هنري دوبرونير"‪ .‬وكان أعضاؤها كلهم يمن النصارى‪ ،‬ولسارت‬ ‫ل‪ ،‬ويماتت‬ ‫على يمنهاج جمعية العلوم والفنون‪ ،‬ولكنها لم تعش طوي م ً‬ ‫بعد يموت الجمعية الولى بقليل‪.‬‬ ‫ثم تألسست عدة جمعيات كانت كلها تصاب بالخفاق التام‪،‬‬ ‫حتى تشكلت لسنة ‪1857‬م جمعية على ألسلوب جديد‪ ،‬روعي فيها‬ ‫أن ل يدخلها أحد يمن الجانب يمطلقا‪ ،‬فقد كان يمؤلسسوها كلهم‬ ‫‪-218-‬‬


‫يمن العرب‪ .‬وبذلك أتيح لها أن توَّفا ق إلى أن تضم بين أعضائها‬ ‫بعض المسلمين وبعض الدروز أخذتهم بوصفهم عربا‪ ،‬وتألسست‬ ‫بالسم )الجمعية العلمية السورية(‪ .‬والستطاعت بفضل نشاطها‬ ‫وظهورها بالمظهر العربي‪ ،‬وعدم وجود أي عضو فيها يمن‬ ‫الغربيين‪ ،‬أن تؤثر على الناس‪ ،‬حتى انتسب إليها عدد كبير بلغ يمئة‬ ‫وخمسين عضوا‪ .‬وكان بين أعضا ء إدارتها شخصيات بارزة يمن‬ ‫العرب‪ ،‬يمنهم يمحمد أرلسلن يمن الدروز‪ ،‬وحسين بيهم يمن‬ ‫المسلمين‪ .‬وانضم إليها كذلك يمن كل طائفة يمن نصارى العرب‪،‬‬ ‫ويمن أشهرهم إبراهيم اليازجي وابن بطرس البستاني‪ .‬وهذه‬ ‫الجمعية الوحيدة التي عاشت يمدة أطول يمن المدة التي عاشها‬ ‫غيرها يمن الجمعيات‪ .‬وكان يمن برنايمجها التوفيا ق بين الطوائف‪،‬‬ ‫وبعث القويمية العربية في النفوس‪ .‬ولكن غايتها المخفية كانت‬ ‫الستعمارية تبشيرية بالسم العلم‪ ،‬وكانت تتجلى ببعث الثقافة‬ ‫الغربية والحضارة الغربية‪.‬‬ ‫ثم في لسنة ‪1875‬م تألفت في بيروت "الجمعية السرية"‪،‬‬ ‫وأخذت هذه الجمعية تركز نفسها على فكرة لسيالسية‪ ،‬فأخذت‬ ‫تبعث فكرة القويمية العربية‪ .‬والذين قايموا بتألسيسها هم خمسة‬ ‫شبان يمن الذين تلقوا العلم في الكلية البروتستانتية في بيروت‪،‬‬ ‫وكانوا جميعا يمن النصارى الذين الستطاعت الجهات التبشيرية أن‬ ‫تؤثر فيهم‪ .‬فقام هؤل ء الشبان بتألسيس هذه الجمعية‪ ،‬وبعد‬ ‫‪-219-‬‬


‫ل‪ .‬ويمع أن هذه‬ ‫يمضي يمدة الستطاعوا أن يضموا إليهم عددا قلي م ً‬ ‫الجمعية كانت تريمي فيما بينته يمن أقوال ويمنشورات إلى القويمية‬ ‫العربية وإلى الستقلل العرب السيالسي‪ ،‬وخاصة في لسوريا ولبنان‪،‬‬ ‫إل مّ أنه كان يتجلى في عملها وبرايمجها ويما وصل عنها يمن أخبار‬ ‫أنها تريمي إلى صب الرغبات الغايمضة واليمال المب لَهمة في‬ ‫النفوس‪ .‬وكانت تدعو للقويمية وللعرب وللعروبة‪ ،‬وتثير العدا ء‬ ‫للدولة العثمانية وتسميها )التركية( وتعمل على فصل الدين عن‬ ‫الدولة‪ ،‬وجعل القويمية العربية هي اللساس‪.‬‬ ‫ويمع أن هذه الجمعية كانت تلبس ثوب العروبة‪ ،‬إل مّ أن‬ ‫منوا نشراتهم اتهام )تركيا( ‪-‬حسب‬ ‫القائمين عليها كثيرا يما ض مّ‬ ‫تعبيرهم‪ -‬بأنها اغتصبت الخلفة اللسليمية يمن العرب‪ ،‬وأنها‬ ‫تجاوزت على الشريعة اللسليمية الغرا ء‪ ،‬وأنها فمّرطت في الدين‪،‬‬ ‫يمما يدل على الغاية التي ُوجدت يمن أجلها‪ ،‬وهي إثارة القلقل‬ ‫ضد الدولة اللسليمية وتشكيك الناس في الدين وإقايمة الحركات‬ ‫السيالسية على غير اللسلم‪.‬‬ ‫والذي ُيج لَزم به ِيمن تتُّبع تاريخ هذه الحركات أن الغربيين هم‬ ‫الذين أنشأوها‪ ،‬وأنهم كانوا يراقبونها‪ ،‬ويشرفون عليها‪ ،‬ويهتمون‬ ‫بها‪ ،‬ويكتبون تقاريرهم عنها‪ .‬فقد كتب قنصل بريطانيا في بيروت‬ ‫بتاريخ ‪ 28‬تموز لسنة ‪1880‬م برقية بعثها إلى حكويمته‪ ،‬ونصها ‪:‬‬ ‫)ظهرت نشرات ثورية ُيشتبه أن يكون يمدحت يمصدرا لها‪ ،‬يمع ذلك‬ ‫‪-220-‬‬


‫يسود الهدو ء‪ .‬التفاصيل بالبريد(‪ .‬وكانت هذه البرقية إثر توزيع‬ ‫الجمعية المذكورة يمنشورات لها في الشوار ع ولصقها على‬ ‫الجدران في بيروت‪ .‬وقد تبعت هذه البرقية عدة رلسائل يمن‬ ‫القناصل البريطانيين في بيروت وديمشا ق‪ .‬وكانت هذه الرلسائل‬ ‫تر لَفا ق بنسخ يمن النشرات التي كانت توزعها الجمعية‪ .‬وكانت بمثابة‬ ‫تقارير عن هذه الحركة التي ُولدت في الكلية البروتستانتية وأخذت‬ ‫تعمل في بلد الشام‪ .‬وكان العمل بارزا في بلد الشام وإن كان‬ ‫يموجودا في جهة أخرى يمن البلد العربية‪ ،‬يدل على ذلك أن‬ ‫مد البريطاني في جدة كتب إلى حكويمته لسنة ‪1882‬م كتابا‬ ‫المعت لَ‬ ‫عن الحركة العربية جا ء فيه )إل مّ أنه قد وصل إلى علمي أن بعض‬ ‫الذهان حتى في يمكة نفسها‪ ،‬أخذت تتحرك بفكرة الحرية‪ ،‬ويلو ح‬ ‫لي بعد الذي لسمعته يمن تلميح‪ ،‬أن هنالك خطة يمرلسويمة‪ ،‬تريمي‬ ‫إلى توحيد نجد يمع بلد يما بين النهرين أي جنوب العراق وتنصيب‬ ‫يمنصور باشا عليها‪ ،‬وتوحيد عسير يمع اليمن وتنصيب علي بن عابد‬ ‫عليها(‪.‬‬ ‫ولم يقتصر الهتمام بها على انجلترا‪ ،‬بل إن فرنسا كذلك‬ ‫كانت يمهتمة إلى حد بعيد؛ ففي لسنة ‪1882‬م كتب أحد الفرنسيين‬ ‫الذين كانوا في بيروت يما يدل على يمبلغ اهتمام فرنسا‪ ،‬فقد قال ‪:‬‬ ‫)إن رو ح اللستقلل يمنتشرة انتشارا كبيرا‪ ،‬وقد رأيت شباب‬ ‫المسلمين خلل إقايمتي في بيروت يمنهمكين بتشكيل الجمعيات‬ ‫‪-221-‬‬


‫العايملة على تألسيس المدارس والمستشفيات‪ ،‬والنهوض بالبلد‪.‬‬ ‫ويمما يلفت النظر في هذه الحركة أنها يمحرَّرة يمن أي أثر للطائفية‪،‬‬ ‫فإن هذه الجمعية تستهدف قبول النصارى بين أعضائها‪ ،‬والعتماد‬ ‫على يمعاونتهم في العمل القويمي(‪ .‬وكتب أحد الفرنسيين يمن‬ ‫بغداد )لقد كان يواجهني في كل يمكان‪ ،‬وبنفس النسبة‪ ،‬ذلك‬ ‫الشعور العام المستقر "كراهية الترك"‪ ،‬وأمّيما فكرة القيام بعمل‬ ‫يمشترك يمرتب لطر ح هذا النير البغيض فهي في دور التكوين‪.‬‬ ‫ويلو ح في الفا ق البعيد طيف حركة عربية ُولدت حديثا‪ ،‬ولسيقوم‬ ‫هذا الشعب الذي كان يمغلوبا على أيمره حتى الن بالمطالبة عما‬ ‫قريب بمركزه الطبيعي في عالم اللسلم‪ ،‬وفي توجيه يمصير هذا‬ ‫العالم(‪.‬‬ ‫ولم يقتصر أيمر الهتمام بالغزو التبشيري بالسم الدين والعلم‬ ‫على أيمريكا وفرنسا وبريطانيا‪ ،‬بل شمل أكثر الدول غير اللسليمية‪،‬‬ ‫ويمنها رولسيا القيصرية‪ ،‬فقد أرلسلت بعثات تبشيرية‪ ،‬كما أمّيمت بلد‬ ‫الشام بعثة برولسية )المانية( يمؤلفة يمن راهبات )كابزرودت(‬ ‫لساهمت يمع باقي البعثات‪.‬‬ ‫وبالرغم يمن تباين وجهات النظر السيالسية بين البعثات‬ ‫التبشيرية وبين المو لَفدين الغربيين بالنسبة لمنهجها السيالسي‬ ‫باعتبار يمصالحهم الدولية‪ ،‬فقد كانت يمتفقة في الغاية‪ ،‬وهي‬ ‫التبشير بالدين المسيحي‪ ،‬وبعث الثقافة الغربية في الشرق‪،‬‬ ‫‪-222-‬‬


‫وتشكيك المسلمين في دينهم‪ ،‬وحملهم على اليمتعاض يمنه‪،‬‬ ‫وعلى احتقار تاريخهم‪ ،‬وتمجيد الغرب وحضارته‪ .‬كل ذلك يمع‬ ‫بغض شديد لللسلم والمسلمين‪ ،‬واحتقار لهم‪ ،‬واعتبارهم برابرة‬ ‫يمتأخرين‪ ،‬كما هو رأي كل أوروبي‪ .‬وقد وصلوا إلى نتائج كانت‬ ‫هي السبب بما نراه يمن تركيز الكفر واللستعمار‪.‬‬ ‫العدا ء الصليبي‬ ‫يقول أحد العلما ء الفرنسيين وهو الكونت هنري دكالستري‬ ‫في كتابه )اللسلم( لسنة ‪1896‬م يما نصه ‪) :‬لست أدري يما الذي‬ ‫يقوله المسلمون لو علموا أقاصيص القرون الولسطى‪ ،‬وفهموا يما‬ ‫كان يأتي في أغاني ال ُقمّوال يمن المسيحيين؟ فجميع أغانينا حتى‬ ‫التي ظهرت قبل القرن الثاني عشر صادرة عن فكر واحد‪ ،‬كان‬ ‫السبب في الحروب الصليبية‪ .‬وكلها يمحشوة بالحقد على المسلمين‬ ‫للجهل الكلي بديانتهم‪ .‬وقد نتج عن تلك الناشيد تثبيت هاتيك‬ ‫القصص في العقول ضد ذلك الدين‪ ،‬ورلسوخ تلك الغلط في‬ ‫شد كان‬ ‫الذهان‪ .‬ول يزال بعضها رالسخا إلى هذه اليام‪ .‬فكل يمن ِ‬ ‫عد المسلمين يمشركين غير يمؤيمنين وعبدة أوثان يمارقين(‪.‬‬ ‫ي ُ‬ ‫وهكذا كان يوصف المسلمون كما يوصف دينهم يمن ِقبل‬ ‫رجال الدين النصراني في أوروبا بأوصاف فظيعة في القرون‬ ‫الولسطى‪ .‬وكانت هذه الوصاف يمما الس ُتعمل لثارة الحقد‬ ‫‪-223-‬‬


‫والبغضا ء ضد المسلمين‪ ،‬يمما أثار العالم النصراني‪ ،‬فكانت‬ ‫الحروب الصليبية‪ .‬وبعد انتهائها بعدة قرون قام المسلمون في‬ ‫القرن الخايمس عشر فغزوا الغرب‪ ،‬حيث فتحت الدولة اللسليمية‬ ‫القسطنطينية‪ ،‬ثم فتحت في القرن السادس عشر جنوب وشرق‬ ‫أوروبا وحملت اللسلم إليها‪ ،‬فدخل في دين ا المليين يمن البانيا‬ ‫ويوغسلفيا وبلغاريا وغيرها‪ ،‬فتجَّدد العدا ء الصليبي و ُوجدت‬ ‫المسألة الشرقية‪ ،‬وكانت تعني العمل يمن جانب أوروبا لرد‬ ‫الجيوش اللسليمية ووقف الفتح اللسليمي ودر ء خطر المسلمين‪.‬‬ ‫فكان هذا العدا ء المتأصل في نفوس الوروبيين لللسلم‬ ‫والمسلمين هو الذي حمل كافة النصارى في أوروبا أن يبعثوا‬ ‫بالحركات التبشيرية في بلد اللسلم‪ ،‬بالسم المدارس‬ ‫والمستشفيات والجمعيات والنوادي‪ ،‬وأن يبذلوا في لسبيل ذلك‬ ‫اليموال الطائلة والجهود الضخمة‪ ،‬وأن يتفقوا على هذه الخطة‬ ‫رغم اختلف يمصالحهم وتبا ُين لسيالستهم‪ ،‬وأن ُيجمع على ذلك‬ ‫جميعهم دول م ً وشعوبا‪ ،‬وأن يجعلوه يمن أعمال قناصلهم‬ ‫ولسفارتهم‪ ،‬كما هو يمن أعمال المو لَفدين والمبشرين‪.‬‬ ‫وهذا العدا ء الصليبي الكايمن في النفوس الغربية كلها‪ ،‬ول‬ ‫لسيما أوروبا‪ ،‬وعلى الخص بريطانيا‪ ،‬هذا العدا ء المتأصل والحقد‬ ‫اللئيم هو الذي أوجد هذه الخطط الجهنمية للقضا ء على اللسلم‬ ‫والمسلمين‪ ،‬وهو الذي لسمّبب إذللنا في ديارنا هذا الذلل‪.‬‬ ‫‪-224-‬‬


‫وإذا كان اللورد اللنبي قد قال حين فتح القدس وهو يدخلها‬ ‫لسنة ‪1917‬م ‪) :‬اليوم فقط انتهت الحروب الصليبية(‪ ،‬فإنما ذلك‬ ‫تعبير صادق عن يمكنون نفسه‪ ،‬وشدة ُبغضه‪ ،‬وتأصل الحقد في‬ ‫نفسه‪ ،‬وهو تعبير عن نفس كل أوروبي يخوض غمار الحرب‬ ‫ص لَدق ا حيث يقول ‪ :‬قد‬ ‫ثقافية أو عسكرية‪ -‬ضد المسلمين‪ ،‬و لَ‬‫بدت البغضا ء يمن أفواههم ويما ُتخفي صدورهم أكبر‪ .‬ويما بدا يمن‬ ‫فم اللورد اللنبي إن هو إل مّ ُبغض‪ ،‬ويما كانت تخفيه دولته بريطانيا‬ ‫هو أكبر يمن ذلك ول ريب‪ .‬وكذلك يما في نفس كل أوروبي على‬ ‫الطلق‪ .‬وقد ايمتد هذا البغض يمنذ أيام الصليبيين‪ ،‬ول يزال يمتد‬ ‫حتى اليوم‪ .‬ويما نلقيه يمن اضطهاد وإذلل والستعمار والستغلل‬ ‫هو ‪-‬إلى جانب الناحية السيالسية التي فيه‪ -‬أيمر انتقايمي يمنا نحن‬ ‫المسلمين بوجه خاص‪.‬‬ ‫يقول اللستاذ ليبولد فايس في كتابه )اللسلم على يمفترق( ‪:‬‬ ‫)إن النهضة أو إحيا ء العلوم والفنون الوروبية بالستمدادها الوالسع‬ ‫يمن المصادر اللسليمية والعربية على الخص كانت ُتعزى في‬ ‫الكثر إلى التصال المادي بين الشرق والغرب‪ .‬لقد الستفادت‬ ‫أوروبا أكثر يمما الستفاد العالم اللسليمي‪ ،‬ولكنها لم تعترف بهذا‬ ‫الجميل وذلك بأن ُتنِقص يمن بغضائها لللسلم‪ ،‬بل كان اليمر على‬ ‫العكس‪ ،‬فإن تلك البغضا ء قد نمت يمع تقدم الزيمن‪ ،‬ثم الستحالت‬ ‫عادة‪ .‬ولقد كانت هذه البغضا ء تغمر الشعور الشعبي كلما ُذكرت‬ ‫‪-225-‬‬


‫كلمة )يمسلم(‪ ،‬ولقد دخلت في اليمثال السائرة عندهم حتى نزلت‬ ‫في قلب كل أوروبي رجل م ً كان أو ايمرأة‪ .‬وأغرب يمن هذا كله أنها‬ ‫ظلت حية بعد جميع أدوار التبدل الثقافي‪ ،‬ثم جا ء عهد الصل ح‬ ‫الديني حينما انقسمت أوروبا شيعا‪ ،‬ووقفت كل شيعة يمدججة‬ ‫بسلحها في وجه كل شيعة أخرى‪ ،‬ولكن العدا ء لللسلم كان‬ ‫ن أخذ الشعور الديني فيه يخبو‪،‬‬ ‫عايما فيها كلها‪ .‬وبعدئذ جا ء زيم ٌ‬ ‫ولكن العدا ء لللسلم الستمر‪ ،‬وإن يمن أبرز الحقائا ق على ذلك أن‬ ‫الفيلسوف والشاعر الفرنسي فولتير‪ ،‬وهو يمن ألد أعدا ء النصرانية‬ ‫وكنيستها في القرن الثايمن عشر‪ ،‬كان في الوقت نفسه يمبغضا‬ ‫ن أخذ‬ ‫يمغاليا لللسلم ولرلسول اللسلم‪ .‬وبعد بضعة عقود جا ء زيم ٌ‬ ‫عمل ء الغرب يدرلسون الثقافات الجنبية ويواجهونها بشي ء يمن‬ ‫العطف‪ .‬أيما فيما يتعلا ق باللسلم‪ ،‬فإن الحتقار التقليدي أخذ‬ ‫يتسلل في شكل تحزب غير يمعقول إلى بحوثهم العلمية‪ ،‬وبقي‬ ‫هذا الخليج الذي حفره التاريخ بين أوروبا والعالم اللسليمي غير‬ ‫يمعقود فوقه بجسر‪ ،‬ثم أصبح احتقار اللسلم جز ءا ألسالسيا في‬ ‫التفكير الوروبي(‪.‬‬ ‫وعلى هذه اللسس قايمت الجمعيات التبشيرية التي أشرنا‬ ‫إليها‪ ،‬ولذلك كانت تهدف إلى التبشير بالديانة النصرانية‪ ،‬وإلى‬ ‫تشكيك المسلمين في دينهم‪ ،‬وتحقيره في نفولسهم وتحميله تبعة‬ ‫ضعفهم‪ ،‬وتهدف إلى النواحي السيالسية‪ ،‬ولذلك كانت نتائجها‬ ‫‪-226-‬‬


‫فظيعة في الناحيتين السيالسية والتشكيكية‪ ،‬حتى وصلت إلى نتائج‬ ‫أكثر يمما كانوا يتوقعون‪ .‬فقد كانت الحركات التبشيرية ُتبنى على‬ ‫ألساس يمحو اللسلم بالطعن فيه‪ ،‬وإثارة المشاكل والشبهات حوله‬ ‫وحول أحكايمه‪ ،‬لصد الناس عن لسبيل ا‪ ،‬ولبعاد المسلمين عن‬ ‫دينهم‪ ،‬وكانت يمن ورا ء هذه الحركات التبشيرية حركات‬ ‫اللستشراق والمستشرقين تريمي إلى ذات الغرض وعن نفس‬ ‫القوس‪.‬‬ ‫وتوحدت الجهود كلها في أوروبا في حرب صليبية شنتها أول م ً‬ ‫يمن ناحية ثقافية بتسميم العقل كله بما شوهوه يمن أحكام‬ ‫اللسلم ويمثله العلى‪ ،‬وبالتسميم الجنبي لعقول أبنا ء المسلمين‬ ‫بما يقولونه عن اللسلم وتاريخ المسلمين بالسم البحث العلمي‬ ‫والنزاهة العلمية‪ ،‬ويما هو إل مّ السم الثقافي الذي هو أخطر يمن‬ ‫الحروب الصليبية‪ .‬وكما كان دعاة التبشير يقويمون بهذا التسميم‬ ‫بالسم العلم والنسانية‪ ،‬كان المستشرقون يقويمون به بالسم‬ ‫اللستشراق‪ .‬يقول اللستاذ ليوبولد فايس ‪) :‬والواقع أن‬ ‫المستشرقين الولين في العصر الحديثة كانوا يمبشرين نصارى‬ ‫يعملون في البلد اللسليمية‪ ،‬وكانت الصورة المشَّوهة التي‬ ‫اصطنعوها يمن تعاليم اللسلم وتاريخه يمدَّبرة على ألساس يضمن‬ ‫التأثير في يموقف الوروبيين يمن "الوثنيين" ‪-‬يعني المسلمين‪ -‬غير‬ ‫أن هذا اللتوا ء العقلي قد الستمر‪ ،‬يمع أن علوم اللستشراق تحررت‬ ‫‪-227-‬‬


‫يمن نفوذ التبشير ولم يبا ق لعلوم اللستشراق هذه عذر يمن حممّية‬ ‫دينية جاهلية تسي ء توجيهها‪ .‬أمّيما تحا ُيمل المستشرقين على‬ ‫اللسلم فغريزة يموروثة وخاص ٌة طبيعية تقوم على المؤثرات التي‬ ‫خلقتها الحروب الصليبية(‪.‬‬ ‫وهذا العدا ء الموروث ل يزال هو الذي يورث نار الحقد في‬ ‫نفوس الغربيين على المسلمين‪ ،‬ويصور اللسلم حتى في بلد‬ ‫المسلمين للمسلمين وغيرهم بأنه )بعبع النسانية( أو المارد‬ ‫الهائل الذي لسيقضي على تقدم النسانية‪ ،‬يسترون بذلك خوفهم‬ ‫الحقيقي يمنه‪ ،‬لنه إذا ترَّكز في النفوس‪ ،‬تزول لسيطرة الكافر‬ ‫المستعمر عن العالم اللسليمي وتعود الدولة اللسليمية تحمل‬ ‫الدعوة اللسليمية إلى العالم ‪-‬وإنها لعائدة إن شا ء ا‪ -‬وهي في‬ ‫صالح النسانية‪ ،‬وفي صالح الغرب نفسه‪ .‬ولسيذهب عمل‬ ‫المبشرين وغيرهم حسرة في نفولسهم ‪‬إن الذين كفروا ُينِفقون‬ ‫صمّدوا عن لسبيل ا فس ُينفقونها ثم تكون عليهم حسرة‬ ‫أيموالهم لي ُ‬ ‫ثم ُيغلبون‪ .‬ول يزال ذلك العدا ء الموروث هو الذي يؤيد كل‬ ‫حركة ضد اللسلم والمسلمين‪.‬‬ ‫وإنك لَل لَتجد الغربي يبحث المجولسية والهندوكية والشيوعية فل‬ ‫تجد في بحثه أي تعصب أو بغضا ء‪ ،‬في حين أنك تجده حين يبحث‬ ‫اللسلم تظهر عليه عليمات البغض والحقد والمقت والكراهية‪.‬‬ ‫هزيموا شمّر هزيمة‪ ،‬وانتصر عليهم الكافر‬ ‫ويمع أن المسلمين قد ُ‬ ‫‪-228-‬‬


‫المستعمر‪ ،‬لكن رجال الكنيسة الغربيين ‪-‬وِيمن ورائهم اللستعمار‪-‬‬ ‫ل يزالون ُيبدون يمختلف النشاط ضد اللسلم‪ ،‬ول يفترون عن‬ ‫الطعن في اللسلم والمسلمين‪ ،‬والنيل يمن يمحمد عليه الصلة‬ ‫والسلم وِيمن أصحابه‪ ،‬وإلصاق المثالب بتاريخ اللسلم‬ ‫والمسلمين‪ ،‬كل ذلك للنتقام يمنهم وتمكين أقدام اللستعمار‬ ‫والمستعمرين‪.‬‬ ‫آثار الغزو التبشيري‬ ‫كانت هذه الغزوات التبشيرية هي الطلئع التي يممّهدت‬ ‫الطريا ق لللستعمار الوروبي ليفتح العالم اللسليمي فتحا لسيالسيا‬ ‫ملة القيادة‬ ‫ح لَ‬ ‫بعد أن فتحه فتحا ثقافيا‪ .‬وبعد أن كان المسلمون لَ‬ ‫الفكرية اللسليمية للغرب حين فتحوا الستنبول والبلقان وأدخلوا‬ ‫اللسلم في أوروبا‪ ،‬صارت البلد اللسليمية هدفا للغرب‪ ،‬يحمل‬ ‫قيادته الفكرية إليها‪ ،‬ويمسرحا لحضارته ويمفاهيمه عن الحياة‪،‬‬ ‫يذيعها بشتى الولسائل تحت السم العلم والنسانية والتبشير الديني‪.‬‬ ‫ولم يكتف بحمل حضارته ويمفاهيمه‪ ،‬ولكنه كان يطعن الحضارة‬ ‫اللسليمية‪ ،‬ويمفاهيم اللسلم عن الحياة حين كان يوجه حملته‬ ‫ضد اللسلم‪ ،‬فأثر ذلك على الفئة المثقفة‪ ،‬وعلى رجال السيالسة‪،‬‬ ‫ملة الثقافة اللسليمية‪ ،‬وعلى جمهرة المسلمين‪.‬‬ ‫ح لَ‬ ‫بل على لَ‬ ‫أمّيما الفئة المثقفة‪ ،‬فإن اللستعمار في يمدارلسه التبشيرية قبل‬ ‫‪-229-‬‬


‫الحتلل‪ ،‬وفي المدارس كلها بعد الحتلل‪ ،‬قد وضع بنفسه يمناهج‬ ‫التعليم والثقافة على ألساس فلسفته هو‪ ،‬وحضارته هو‪،‬‬ ‫ويمفاهيمه الخاصة عن الحياة‪ .‬ثم جعل الشخصية الغربية‬ ‫اللساس الذي ُتنتز ع يمنه الثقافة التي يثقفنا بها‪ ،‬كما جعل تاريخه‬ ‫ونهضته وبيئته المصدر الصلي لما نحشو به عقولنا‪ .‬ولم يكتف‬ ‫خل في تفصيلت المناهج حتى ل تخرج جزئية يمن‬ ‫بذلك‪ ،‬بل تد مّ‬ ‫جزئياتها عن المبدأ العام الذي هو فلسفته وحضارته‪ .‬وكان ذلك‬ ‫عامّيما حتى في دروس الدين اللسليمي والتاريخ اللسليمي‪ ،‬فإن‬ ‫يمناهجهما ُبنيت على اللساس الغربي‪ ،‬وعلى حسب يمفاهيم‬ ‫الغرب‪ ،‬فالدين اللسليمي يعَّلم في المدارس اللسليمية يمادة‬ ‫روحية أخلقية‪ ،‬كما هو يمفهوم الغرب عن الدين‪ ،‬وهو يعَّلم على‬ ‫وجه بعيد جدا عن الحياة وعن حقيقة يمفاهيمه عنها‪ .‬فحياة‬ ‫الرلسول صلى ا عليه ولسلم تدَّرس لبنائنا يمنقطعة الصلة عن‬ ‫ل‪،‬‬ ‫النبوة والرلسالة وتدَّرس كما تدَّرس حياة نابليون أو بسمارك يمث م ً‬ ‫ول تثير في نفولسهم أي يمشاعر أو أفكار‪ .‬ويمادة العبادات‬ ‫والخلق وهي التي يشتمل عليها يمنهاج الدين‪ُ ،‬تعطى يمن وجهة‬ ‫النظر النفعية‪ .‬وبذلك صار تعليم الدين اللسليمي أيضا لسائرا وفا ق‬ ‫المفاهيم الغربية‪ .‬والتاريخ اللسليمي تعَّلم فيه المثالب التي‬ ‫يخترعها لسو ء القصد ولسو ء الفهم‪ ،‬ويوضع بإطار ألسود تحت السم‬ ‫النزاهة التاريخية والبحث العلمي‪ .‬ويزيد الطين بلة‪ ،‬أنه نبت يمن‬ ‫‪-230-‬‬


‫المسلمين المثقفين نابتة تعِّلم التاريخ وتؤلف فيه على اللسلوب‬ ‫والمنهج التبشيري‪.‬‬ ‫وهكذا كافة البرايمج قد ُوضعت كلها على ألساس الفلسفة‬ ‫الغربية‪ ،‬ووفا ق يمناهج الغرب‪ ،‬وبذلك صار أكثر المثقفين أبنا ء‬ ‫الثقافة الغربية وتليميذها‪ .‬وصاروا يستمرئون هذه الثقافة‬ ‫ويتعشقونها‪ ،‬ويتجهون في الحياة طبا ق يمفاهيمها‪ ،‬حتى صار‬ ‫الكثيرون يمنهم يستنكرون الثقافة اللسليمية إذا تناقضت يمع الثقافة‬ ‫الغربية‪ ،‬وصاروا يمثقفين ثقافة غربية تتحكم فيها وجهة نظر‬ ‫الغرب‪ ،‬وقد أخلصوا لهذه الثقافة الغربية إخلصا تايما حملهم على‬ ‫تقديس الجنبي وحمل حضارته‪ ،‬وانطبع كثيرون يمنهم بطابعه‪،‬‬ ‫وصارون يمقتون اللسلم والثقافة اللسليمية كما يمقته الغربي‪،‬‬ ‫ويحملون لللسلم وللثقافة اللسليمية العدا ء اللئيم كما يحمله‬ ‫الغربي‪ ،‬وصاروا يعتقدون أن اللسلم والثقافة اللسليمية هي‬ ‫لسبب تأخر المسلمين كما أوحي إليهم أن يعتقدوا ذلك‪ .‬وبهذا‬ ‫نجحت الحملت التبشيرية نجاحا يمنقطع النظير حين ضمت إليها‬ ‫الفئة المثففة يمن المسلمين وجعلتها في صفوفها تحارب اللسلم‬ ‫والثقافة اللسليمية‪.‬‬ ‫وقد تجاوز الحال أيمر المثقفين في أوروبا والمدارس الجنبية‬ ‫إلى أولئك الذين يحملون الثقافة اللسليمية‪ .‬فقد هالهم أن‬ ‫يهاجمهم اللستعمار الغربي في الطعن على دينهم‪ ،‬فصاروا‬ ‫‪-231-‬‬


‫يرمّدون هذا الطعن يمستعملين كل يما تصل إليه أيديهم لسوا ء أكان‬ ‫هذا الرد صحيحا أم فالسدا‪ ،‬ولسوا ء أكان يما يطعن به الجنبي‬ ‫إلسليمهم يمن يمفاخره أم يمكذوبا عليه‪ .‬وكانوا في رمّدهم قد لسمّلموا‬ ‫بجعل اللسلم يممّت لَهما ثم أمّولوا نصوصه بما يتفا ق يمع يمفاهيم‬ ‫الغرب‪ .‬وهكذا صاروا يرمّدون الهجمات ردا يمضطربا كان يمساعدا‬ ‫للغزو التبشيري أكثر يمما كان رادا له‪.‬‬ ‫والنكى يمن ذلك أن الحضارة الغربية المناقضة للحضارة‬ ‫اللسليمية‪ ،‬صارت يمن يمفاهيمهم التي يتقبلونها وينسبونها زورا‬ ‫وبهتانا لللسلم‪ ،‬وغاب على الكثيرين يمنهم أن يقولوا إن الغرب‬ ‫أخذ حضارته عن اللسلم والمسلمين‪ ،‬وصاروا يؤمّولون أحكام‬ ‫اللسلم وفا ق هذه الحضارة يمع التناقض المطلا ق الذي بين‬ ‫اللسلم وبين الحضارة الغربية‪ ،‬وبذلك قِبلوا الحضارة الغربية قبول م ً‬ ‫تايما ورضوا بها حين أظهروا أن عقيدتهم وحضارتهم تتفا ق يمع‬ ‫الحضارة الغربية‪ ،‬ويمعنى ذلك أنهم قِبلوا الحضارة الغربية‪ ،‬وتخلوا‬ ‫عن حضارتهم اللسليمية‪ ،‬وهو يما يهدف إليه اللستعمار أو يما كان‬ ‫يهدف إليه الغرب حين ركز حملت التبشير وحملت اللستعمار‪.‬‬ ‫وبوجود المثقفين ثقافة أجنبية‪ ،‬ولسو ء فهم المثقفين ثقافة‬ ‫إلسليمية‪ُ ،‬وجدت عند المسلمين المفاهيم الغربية عن الحياة‪ ،‬كما‬ ‫تحكمت في ديارهم الحضارة الغربية المادية‪ ،‬وصارت الحياة في‬ ‫المجتمع تخضع للحضارة الغربية‪ ،‬والمفاهيم الغربية‪ .‬فعامّيمة‬ ‫‪-232-‬‬


‫المسلمين ل يدركون أن النظام الديمقراطي في الحكم‪ ،‬والنظام‬ ‫الرألسمالي في القتصاد هي أنظمة كفر‪ ،‬وصاروا ل يتأثرون إذا‬ ‫صل بينهم القضا ء على غير يما أنزل ا‪ ،‬وهم ل يجهلون أن ا‬ ‫ لَف لَ‬ ‫قال ‪ :‬ويمن لم يحكم بما أنزل ا فأولئك هم الكافرون‪ .‬كل‬ ‫ذلك لن الحضارة الغربية المبنية على ألساس فصل الدين عن‬ ‫الدولة هي التي تسيطر على يمجتمعاتهم‪ ،‬ولن المفاهيم الغربية‬ ‫المادية هي السائدة في أجوائهم‪ .‬وصاروا يستشعرون القيام‬ ‫بواجبات الدين إذا هم اعتقدوا بالله‪ ،‬وحافظوا على الصلوات‬ ‫فقط‪ ،‬ولو أداروا دنياهم على وفا ق يما يرون ويما يشتهون‪ ،‬لنهم‬ ‫ط يما لقيصر لقيصر ويما‬ ‫يتأثرون بالمفاهيم الغربية التي تقول ‪) :‬أع ِ‬ ‫لله لله(‪ .‬ولم يتأثروا بالمفاهيم اللسليمية التي تجعل قيصر ويما‬ ‫لقيصر كله لله‪ ،‬وتجعل الصلة والبيع والجارة والحوالة والحكم‬ ‫والتعلم كلها تسير وفا ق أوايمر ا ونواهيه‪.‬‬ ‫نعم‪ ،‬لم يتأثروا بهذه المفاهيم‪ ،‬ولو قرأوا قوله تعالى ‪ :‬وأ ِ‬ ‫ن‬ ‫كم بينهم بما أنزل ا‪ ،‬وقوله ‪ :‬إذا تداينتم بدين إلى أجل‬ ‫اح ُ‬ ‫يمسمى فاكتبوه‪ ،‬وقوله ‪ :‬ويمن يشاقا ق الرلسول يمن بعد يما تبين‬ ‫له الهدى ويتبع غير لسبيل المؤيمنين نومّله يما تولى ونصله جهنم‬ ‫ولسا ءت يمصيرا‪ ،‬وقوله ‪ :‬يما كان المؤيمنون لينفروا كافة فلول نفر‬ ‫يمن كل فرقة يمنهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قويمهم إذا‬ ‫ لَرجعوا إليهم لعلهم يحذرون‪ .‬نعم ل يتأثرون بهذه المفاهيم في‬ ‫‪-233-‬‬


‫آيات القرآن ولو قرأوها‪ ،‬لنهم ل يقرأونها آيات يمن القرآن يقرأها‬ ‫المسلم حية نابضة ليعمل بها في يمعترك الحياة‪ ،‬وإمّنما يقرأونها‬ ‫في حال تسيطر عليهم فيها يمفاهيم الغرب‪ ،‬فيتأثرون بروحانية‬ ‫هذه اليات‪ ،‬ويضعون حاجزا بين أذهانهم وبين يمفاهيمها‬ ‫ويمدلولتها‪ .‬كل ذلك لن الحضارة الغربية تتحكم فيهم‪ ،‬ولن‬ ‫يمفاهيم الغرب تسيطر عليهم‪.‬‬ ‫هذا بالنسبة لجمهور الشعب وللمثقفين ثقافة إلسليمية‬ ‫وأجنبية‪ .‬أمّيما بالنسبة لرجال السيالسة فإن البل ء أعم‪ ,‬والمصيبة‬ ‫أكبر‪ ،‬إذ أن هؤل ء السالسة يمنذ أن جمعهم اللستعمار‪ ،‬وأغراهم‬ ‫بالقيام ضد الدولة العثمانية ويممّناهم ووعدهم ‪-‬ويما يعدهم‬ ‫الشيطان إل مّ غرورا‪ -‬فإنهم يمنذ ذلك الحين يسيرون في ركاب هذا‬ ‫الجنبي‪ ،‬وحسب يما يرلسم لهم يمن خطط‪ .‬ففي أيام الدولة‬ ‫العثمانية انحازوا إلى الجنبي‪ ،‬وظاهروه على دولتهم‪ ،‬وهو أيمر ل‬ ‫يجيزه اللسلم‪ ،‬ولكنهم فعلوه واتخذوا يمن عملهم هذا يمفخرة‬ ‫يذكرونها في كل يمنالسبة‪ ،‬وعيدا لهم يحتفلون به في كل عام‪.‬‬ ‫وأنهم في ذلك الوقت بدل أن يحاربوا الفئة الحاكمة لصل ح‬ ‫الدولة‪ ،‬لساروا يمع عدوها الكافر ضد الدولة كلها‪ ،‬حتى كانت النتائج‬ ‫المريرة في الستيل ء الكافر المستعمر على بلدهم‪ ،‬ثم صاروا بدل‬ ‫أن يستعينوا بالشعب على هذا الكافر المستعمر الستعانوا به على‬ ‫الشعب‪ .‬وقد تأثروا به إلى حد أفقدهم شخصيتهم اللسليمية‪،‬‬ ‫‪-234-‬‬


‫ولس ُممت أفكارهم بآرا ء لسيالسية وفلسفية‪ ،‬يمما أفسد عليهم وجهة‬ ‫نظرهم في الحياة وفي الجهاد‪ ،‬وترتب على ذلك إفساد الجو‬ ‫اللسليمي برمّيمته‪ ،‬وبلبلة الفكار بلبلة ظاهرة في يمختلف نواحي‬ ‫الحياة‪.‬‬ ‫فقد جعلوا بدل الجهاد المفاوضة‪ ،‬وآيمنوا بقاعدة "خذ‬ ‫وطاِلب" ‪-‬التي ُتعتبر أنفع لللستعمار يمن جيوش جرارة في البلد‪-‬‬ ‫وجعلوا قبلة أنظارهم اللستعانة بالكافر المستعمر‪ ،‬والتكال عليه‪،‬‬ ‫دون أن يعوا أن كل الستعانة بالكافر المستعمر تعتبر إثما كبيرا‪،‬‬ ‫وانتحارا لسيالسيا‪ .‬ورضوا أن يعملوا للقليمية الضيقة‪ ،‬ويجعلوها‬ ‫يمجال عملهم السيالسي‪ ،‬ولم يتبين لهم أن هذه القليمية هي التي‬ ‫تجعل العمل السيالسي يمستحيل النتاج‪ ،‬لعدم إيمكان القليمية‬ ‫يمهما اتسعت بلد القليم‪ -‬أن تنهض بالعبا ء السيالسية وغير‬‫السيالسية التي تتطلبها الحياة الصحيحة‪.‬‬ ‫ولم يكتفوا بذلك كله‪ ،‬بل جعلوا يمركز تنبههم الفردي‬ ‫يمصالحهم الفردية ويمركز تنبههم العام هو الدول الجنبية‪ ،‬وبذلك‬ ‫فقدوا يمركز التنبه الطبيعي وهو يمبدؤهم‪ ،‬وبفقدانهم يمركز التنبه‬ ‫الطبيعي فقدوا إيمكانية نجا ح يمسعاهم‪ ،‬يمهما أخلصوا فيه وبذلوا‬ ‫يمن يمجهود‪ .‬ولذلك صارت جميع الحركات السيالسية حركات‬ ‫عقيمة‪ ،‬وصارت كل يقظة في المّيمة تتحول إلى حركة يمضطربة‬ ‫يمتناقضة تشبه حركة المذبو ح‪ ،‬تنتهي بالخمود واليأس واللستسلم‪.‬‬ ‫‪-235-‬‬


‫وذلك لن قادة الحركات السيالسية فقدوا يمركز تنبههم الطبيعي‪،‬‬ ‫فصار طبيعيا أن تفقد المّيمة هذا المركز التنبهي لها‪.‬‬ ‫لسممت‬ ‫لسممت أفكار السيالسيين بالرا ء المغلوطة كما ُ‬ ‫وهذا ُ‬ ‫بالمبادئ الجنبية‪ ،‬إذ قايمت في البلد اللسليمية حركات بالسم‬ ‫القويمية والشتراكية‪ ،‬وبالسم الوطنية والشيوعية‪ ،‬وبالسم الدين‬ ‫الروحي والخلق‪ ،‬وبالسم التعليم والرشاد‪ ،‬وكانت هذه الحركات‬ ‫ضغثا على ابالة‪ ،‬وعقدة جديدة في المجتمع تضاف إلى العقد‬ ‫الخرى التي يرز ح تحت عبئها‪ .‬وكانت نتيجتها الخفاق والدوران‬ ‫حول نفسها‪ ،‬لنها لسارت وفا ق يمفاهيم الحضارة الغربية‪ ،‬يمتأثرة‬ ‫جهت المّيمة إلى المفاهيم الغربية عن الحياة‬ ‫بالغزو التبشيري‪ ،‬وو مّ‬ ‫برمّيمتها‪ ،‬فضل م ً عن أنها نمّفست عواطف المّيمة المتأججة فيما ل ينفع‬ ‫كنت لللستعمار يمن التركز والبقا ء‪ .‬وهكذا كان‬ ‫ول يأتي بخير‪ .‬ويم مّ‬ ‫نجا ح الغزو التبشيري نجاحا يمنقطع النظير‪.‬‬ ‫الغزو السيالسي للعالم اللسليمي‬ ‫يرجع السبب الحقيقي لغزو الندلس إلى النتقام الذي تأصل‬ ‫في نفوس الغربيين يمن جرا ء الحروب الصليبية‪ .‬وذلك أن الغرب‬ ‫بعد إخفاقه الذريع في الحروب الصليبية‪ ،‬وطرده يمن العالم‬ ‫اللسليمي شمّر طرد‪ ،‬ظلت في نفسه حرقة يمن هذه الهزيمة‪،‬‬ ‫وايمتل قلبه حقدا وبغضا وكراهية للمسلمين‪ .‬وكان يتعذر عليه أن‬ ‫‪-236-‬‬


‫يعاود الكمّرة على الشرق‪ ،‬فقد كانت قوته على اختلف أهله كافية‬ ‫لصده والقضا ء على يمحاولته‪ .‬فرأى أن أيمر هذا النتقام يميسور‬ ‫جه حملته إليها‪ ،‬وقضى عليها قضا ء وحشيا‬ ‫في الندلس‪ ،‬لذلك و مّ‬ ‫الستعمل فيه يمحاكم التفتيش والمقاصل وبيوت النيران‪ ،‬يما يزيد‬ ‫وحشية على فعل الوحوش‪ ،‬يمما يعتبر عارا على الغرب‪ .‬وتمادى‬ ‫في انتقايمه ِلما أظهره المسلمون يمن تخاذل عن نصرة الندلس‪،‬‬ ‫كنهم يمن نصرة تلك البلد‪.‬‬ ‫وكانوا أقويا ء وفي وضع حربي يم مّ‬ ‫ولكنهم تقاعسوا وتركوا تلك البلد لقمة لسائغة‪ ،‬وبذلك أطمعوا‬ ‫الغرب في أن يفكر في خطوة أخرى للنتقام‪ .‬ولول قوة‬ ‫المسلمين ‪-‬ول لسيما الدولة العثمانية‪ -‬لتتابعت غزوات الغربيين‬ ‫لبلد اللسلم‪ .‬ولكن قوة المسلمين وغزو العثمانيين لوروبا‬ ‫وفتحهم لها‪ ،‬أرهب الغربيين‪ ،‬وحملهم على التريث في غزو‬ ‫المسلمين‪ ،‬حتى ل ُيهزيموا في حرب صليبية ثانية‪ .‬ولذلك وقف‬ ‫الغزو الغربي لبلد اللسلم إلى يما بعد يمنتصف القرن الثايمن عشر‪،‬‬ ‫وحينئذ أخذ الركود يخيم على العالم اللسليمي برمّيمته‪ ،‬فقد تخلى‬ ‫عن حمل الدعوة اللسليمية عن طريا ق دولي فخمّفت حرارة‬ ‫اللسلم في النفوس‪ ،‬وكان يمن جرائها أن زالت هيبتهم يمن نفوس‬ ‫أعدائهم‪ ،‬وحينئذ نشطت الغزوات الثقافية والتبشيرية في العالم‬ ‫اللسليمي‪ ،‬وبدأت تصاحبها الغزوات السيالسية لقتطا ع بلد اللسلم‬ ‫جز ءا جز ءا‪ ،‬ولتمزيا ق العالم اللسليمي والقضا ء عليه‪ .‬وقد تم لهم‬ ‫‪-237-‬‬


‫ذلك بالفعل‪ ،‬ونجحوا نجاحا باهرا‪.‬‬ ‫فإن رولسيا في عهد كاترينا )‪1796-1762‬م( حاربت‬ ‫العثمانيين وتغلبت عليهم واقتطعت بعض أراضيهم‪ ،‬وأخذت يمنهم‬ ‫يمدينة آزوف وشبه جزيرة الِقرم‪ ،‬والستولت على جميع الحوض‬ ‫الشمالي للبحر اللسود‪ ،‬وأنشأت يمدينة لسبالستبول قاعدة لها في‬ ‫شبه جزيرة الِقرم‪ ،‬كما أنشأت يمينا ء أوديسا التجاري على البحر‬ ‫اللسود‪ .‬وأصبحت رولسيا عايمل م ً هايما في لسيالسة الدولة العثمانية‬ ‫الخارجية‪ ،‬وصارت صاحبة السيادة في اليمارات الرويمانية‪،‬‬ ‫واعتبرت نفسها حايمية المسيحية في الدولة العثمانية‪ .‬ثم اقتطعت‬ ‫يمن تركيا في لسنة ‪ 1884‬التركستان‪ ،‬ثم أكملت احتللها للقفقاس‬ ‫جميعه‪.‬‬ ‫ولم يقتصر اليمر على رولسيا وحدها‪ ،‬بل شمل ذلك بقية‬ ‫الدول الغربية‪ .‬ففي أول تموز لسنة ‪1798‬م‪ ،‬هاجم نابليون يمصر‬ ‫والستولى عليها‪ .‬وفي شباط لسنة ‪1799‬م هاجم الجز ء الجنوبي‬ ‫يمن بلد الشام والستولى على غزة والريملة ويافا‪ ،‬ووقف على‬ ‫حصون عكا‪ .‬إل مّ أن حملته لم توَّفا ق‪ ،‬فرجع إلى يمصر ثم رجع إلى‬ ‫فرنسا‪ ،‬وفشلت الحملة لسنة ‪1801‬م‪ .‬ويمع أن حملته هذه لم‬ ‫توَّفا ق فقد أمّثرت على كيان الدولة العثمانية‪ ،‬وكانت هزة عنيفة لها‪.‬‬ ‫وتتابعت لسائر الدول تهاجم العالم اللسليمي وتستولي على‬ ‫أجزائه‪ .‬فقد احتل الفرنسيون لسنة ‪1830‬م الجزائر وتطمّلعوا إلى‬ ‫‪-238-‬‬


‫احتلل تونس وعملوا لذلك حتى احتلوها لسنة ‪1881‬م‪ ،‬ثم احتلوا‬ ‫يمراكش لسنة ‪1912‬م‪ ،‬كما احتلت ايطاليا طرابلس لسنة ‪1911‬م‪،‬‬ ‫عله‬ ‫فتم بذلك اقتطا ع شمال افريقيا‪ ،‬ولسلخه عن حكم اللسلم وج يْ‬ ‫مرا له‪.‬‬ ‫خاضعا لحكم الكفر‪ ،‬يمستع ِ‬ ‫ولم يكتف الغربيون بذلك بل أكملوا اللستيل ء على البقية‬ ‫الباقية‪ ،‬فقد الستولت بريطانيا على عدن لسنة ‪1839‬م‪ ،‬وبسطت‬ ‫حمايتها على لحج والمحميات التسع يمن حدود اليمن الجنوبية إلى‬ ‫شرق الجزيرة‪ .‬وكان النجليز قد الستولوا على الهند قبل ذلك‬ ‫التاريخ بمدة طويلة‪ ،‬وانتزعوا بالستعمارهم لها لسيادة المسلمين‪،‬‬ ‫وأناخوا بكلكلهم عليهم بنو ع خاص‪ ،‬إذ كان المسلمون هم أصحاب‬ ‫السلطان في الهند‪ ،‬فانتزعها النجليز يمنهم والستعمروها وأخذوا‬ ‫يعملون على إضعاف يموقف المسلمين فيها بوجه عام‪ .‬ثم في‬ ‫لسنة ‪1882‬م الستولت بريطانيا على يمصر‪ ،‬وفي لسنة ‪1898‬م‬ ‫الستولت على السودان‪ .‬كما كانت هولندا تسيطر على جزر الهند‬ ‫حصرت أفغانستان تحت الضغط النجليزي والرولسي‬ ‫الشرقية‪ ،‬و ُ‬ ‫حصرت إيران‪.‬‬ ‫كما ُ‬ ‫واشتدت حملة الغربيين في كل يمكان على العالم اللسليمي‪،‬‬ ‫حتى شعر جميعه بتعرضه للسقوط نهائيا تحت نير الغرب‪ ،‬وشعر‬ ‫أن الحملة الصليبية تجددت تحرز النتصار تلو النتصار‪ ،‬وصار‬ ‫يتشبث بأعمال لوقف هذا الزحف الغربي عند حده‪ ،‬أو للتخفيف‬ ‫‪-239-‬‬


‫يمن ثقل كابولسه‪ .‬فحدثت حركات يمن المقاويمة للغربيين في أكثر‬ ‫ب المسلمون في الصين‪،‬‬ ‫يمن يمكان‪ ،‬فشبت ثورة في الجزائر‪ ،‬وه مّ‬ ‫وقام المهديون في السودان‪ ،‬واشتعلت الثورة السنولسية‪ ،‬فكان‬ ‫كل ذلك دليل م ً على الحيوية الكايمنة في العالم اللسليمي رغم‬ ‫ركوده وضعفه‪ .‬إل مّ أن هذه المحاولت كلها أخفقت نهائيا‪ ،‬ولم‬ ‫تنقذ العالم اللسليمي‪.‬‬ ‫ولم يقف الغرب عند حده في الغزو بل الستمر الغزو‬ ‫بقسميه السيالسي والثقافي‪ ،‬ولم يقتصر على اقتطا ع أجزا ء العالم‬ ‫اللسلم‪ ،‬بل أخذ يعمل للقضا ء على الدولة العثمانية باعتبارها‬ ‫الدولة اللسليمية التي تمثل المسلمين‪ ،‬فقد أقام في داخلها‬ ‫الحركات القويمية‪ ،‬إذ أخذت الدول الجنبية تحمّرض شعوب البلقان‬ ‫على الثورة يمنذ لسنة ‪1804‬م وتممّدهم لهذه الثورات‪ ،‬حتى انتهت‬ ‫ثوراتهم باللستقلل لسنة ‪1878‬م‪ .‬كما حمّرضت هذه الدول اليونان‬ ‫على الثورة يمنذ لسنة ‪1821‬م حتى انتهت ثورتهم بسبب تدخل‬ ‫الجنبي بالستقلل اليونان عن تركيا لسنة ‪1830‬م‪ .‬وتتابعت لسائر‬ ‫بلد البلقان حتى تقلص ظل الدولة العثمانية بوصفها دولة إلسليمية‬ ‫عن البلقان وعن كريت وقبرص وأكثر جزر البحر البيض‬ ‫المتولسط‪ .‬والستعمل الغربيون أنوا ع الوحشية يمع المسلمين في‬ ‫جلوا الكثيرين يمنهم عن ديارهم‬ ‫البلقان وجزر البحر المتولسط‪ ،‬فأ يْ‬ ‫ ء‪ ,‬يمما حمل الكثيرين أيضا يمنهم على الرحيل فرارا بدينهم يمن‬ ‫إجل م ً‬ ‫‪-240-‬‬


‫وحشية الكفر‪ ،‬ولجأوا إلى بلد العرب بوصفها بلدا إلسليمية وجز ءا‬ ‫يمن الدولة اللسليمية‪ ،‬ويما هؤل ء الجركس والبوشناق والشاشان‬ ‫وأيمثالهم إل مّ أبنا ء أولئك البطال يمن المسلمين الذين لم يرضوا أن‬ ‫يخضعوا لحكم الكفر‪ ،‬وفمّروا بدينهم إلى ديار اللسلم وإلى حكم‬ ‫اللسلم‪.‬‬ ‫ولم يقتصر اليمر على ذلك‪ ،‬بل قام الغربيون ‪-‬بولسائلهم‬ ‫الخفية‪ -‬بتشجيع الحركات النفصالية عند المسلمين أنفسهم في‬ ‫داخل كيان الدولة بين الترك والعرب‪ .‬فشجعوا الحركات القويمية‪،‬‬ ‫وشجعوا بل لساعدوا على قيام الحزاب السيالسية التركية والعربية‪،‬‬ ‫كحزب تركيا الفتاة‪ ،‬وحزب التحاد والترقي‪ ،‬وكحزب اللستقلل‬ ‫العربي‪ ،‬وحزب العهد‪ ...‬الخ‪ ،‬يمما جعل كيان الدولة داخليا في‬ ‫اضطراب واهتزاز‪ ،‬فأخذ يميد تحت هذه الحداث الداخلية يمع‬ ‫الغزوات الخارجية‪ .‬ويما أن جا ءت الحرب العالمية الولى حتى‬ ‫جه الحملة على‬ ‫وجد الكفر الممَّثل بالغرب حينئذ الفرصة يمواتية ليو مّ‬ ‫العالم اللسليمي‪ ،‬فيستولي على الباقي يمن بلده‪ ،‬ويقضي على‬ ‫الدولة اللسليمية‪ ،‬ويبيدها يمن الوجود‪ .‬فدخلت الدولة العثمانية‬ ‫الحرب العالمية الولى التي انتهت بانتصار الحلفا ء وهزيمتها‪،‬‬ ‫لسم الغربيون جميع العالم اللسليمي غنيمة لهم‪ ،‬ولم تبا ق يمنها‬ ‫فتقا لَ‬ ‫إل مّ بلد الترك التي صار يطلا ق عليها السم )تركيا(‪ ،‬وبقيت بعد‬ ‫الحرب تحت رحمتهم يمنذ انتها ء الحرب لسنة ‪1918‬م حتى لسنة‬ ‫‪-241-‬‬


‫‪1921‬م حيث الستطاعت اللستقلل بعد تأيمينها للحلفا ء القضا ء‬ ‫على دولة اللسلم‪.‬‬ ‫القضا ء على الدولة اللسليمية‬ ‫انتهت الحرب العالمية الولى و ُأعلنت الهدنة بين المتحاربين‬ ‫بعد أن انتصر الحلفا ء انتصارا باهرا‪ ،‬وتحطمت الدولة العثمانية‬ ‫وتفككت إلى أجزا ء صغيرة والستولى الحلفا ء على بلد العرب‬ ‫جميعها ‪ :‬يمصر ولسوريا وفلسطين وشرق الردن والعراق‪،‬‬ ‫ولسلخوها عن الدولة‪ ،‬ولم يبا ق في يد العثمانيين لسوى بلد‬ ‫التراك )تركيا(‪ ،‬وهذه نفسها قد دخلها الحلفا ء‪ ،‬فقد الستولت‬ ‫البوارج النجليزية على البسفور‪ ،‬واحتلت الجيوش النجليزية قسما‬ ‫يمن العاصمة وكل قل ع الدردنيل والمواضع الحربية الهايمة في‬ ‫جميع أنحا ء تركيا‪ ،‬واحتلت الجيوش الفرنسية قسما يمن الستانبول‬ ‫ويمل جنودها السنغاليون الشوار ع‪ .‬واحتلت الجيوش اليطالية بيرا‬ ‫وخطوط السكك الحديدية‪ ،‬وأشرف ضباط الحلفا ء على شؤون‬ ‫البوليس والحرس الوطني وعلى المينا ء‪ ،‬وجمّردوا القل ع يمن‬ ‫ألسلحتها‪ ،‬وأخذوا يسمّرحون قسما يمن الجيش التركي‪ ،‬وانحلت‬ ‫جمعية التحاد والترقي‪ ،‬وفمّر جمال باشا وأنور باشا إلى خارج‬ ‫البلد‪ ،‬واختفى باقي أعضا ء الجمعية وتألفت حكويمة هزيلة‬ ‫برئالسة توفيا ق باشا لتقوم بتنفيذ أوايمر العدا ء المحتلين‪.‬‬ ‫‪-242-‬‬


‫وكان الخليفة حينئذ وحيدالدين‪ .‬وكان يرى أنه أيمام اليمر‬ ‫الواقع‪ ،‬وأنه يجب أن ينقذ الموقف باللسلوب الحكيم‪ ،‬فح مّ‬ ‫ل‬ ‫البرلمان وألسند ريالسة الوزارة إلى أخلص أصدقائه فريد‪ ،‬فأمّيده‬ ‫في نظرته التي كانت تريمي إلى يمجايملة الحلفا ء وعدم المقاويمة‪،‬‬ ‫لئل تسبب ديمار البلد‪ ،‬ل لسيما وأن الحرب قد انتهت‪ .‬ونمّفذ خطته‬ ‫هذه‪ ،‬وظلت الحال كذلك‪ ،‬إذ ظل الحلفا ء يمسيطرين‪ ،‬وظلت تركيا‬ ‫في حالة خمود حتى أوالسط لسنة ‪1919‬م‪ ،‬فتبدلت الحوال وطرأ‬ ‫على يموقف الحلفا ء الضعف‪ ،‬فقد حصلت في كل يمن ايطاليا‬ ‫وفرنسا وانجلترا يمتاعب داخلية بين الشعب كانت جدية إلى حد أنها‬ ‫ ُتنذر بتصد ع صفوفهم الداخلية‪.‬‬ ‫ب الخلف بين الحلفا ء أنفسهم‪ ،‬وظهر بشكل لسافر في‬ ‫ود مّ‬ ‫الستانبول بين الممثلين‪ ،‬إذ كان الشجار بينهم ظاهرا وتنافسوا على‬ ‫الغنيمة‪ ،‬وطمع كل يمنهم في أن ينال حصة اللسد يمن المراكز‬ ‫العسكرية واليمتيازات القتصادية‪ ،‬وصار في إيمكان تركيا أن تجرب‬ ‫آخر لسهم لنقاذ يموقفها‪ ،‬بعد أن وصل ضعف الحلفا ء واختلفهم‬ ‫إلى حد أن صارت كل دولة يمنهم تثير التراك ضد الدولة الخرى‬ ‫وتساعدهم على غيرها‪ .‬وكان يمؤتمر الصلح لم ُيعقد بعد‪،‬‬ ‫وشروط الصلح لم توضع‪ ،‬ولذلك بدت تلو ح في الفا ق بوادر اليمل‪،‬‬ ‫وصار عند الناس اعتقاد بإيمكان تنظيم حركة يمقاويمات جدية‪.‬‬ ‫وتألفت في الستانبول أكثر يمن عشر جمعيات لسرية‪ ،‬هدفها‬ ‫‪-243-‬‬


‫لسرقة اللسلحة والمستودعات الخاضعة لشراف العدو‪ ،‬وإرلسالها‬ ‫إلى يمنظمات لسرية في داخل البلد‪ .‬وكان بعض الرجال‬ ‫الرلسميين يساعدون في ذلك‪ ،‬فقد كان عصمت وكيل م ً لوزارة‬ ‫الحرب‪ ،‬وفوزي رئيس أركان الحرب‪ ،‬وفتحي وزيرا للداخلية‪،‬‬ ‫ورؤوف وزيرا للبحرية‪ ،‬وكان جميعهم يساعد في هذه الحركات‪.‬‬ ‫ولذلك قايمت جمعيات يمتعددة يمهمتها المقاويمة السرية للعدو‪.‬‬ ‫ونشطت جمعية التحاد والترقي‪ ،‬وانضم بعض الجيوش‬ ‫النظايمية لهذه الحركات‪ ،‬ثم تجمعت في حركة واحدة قادها‬ ‫يمصطفى كمال‪ ،‬وقام بحركة لمقاويمة الحلفا ء وطردهم يمن البلد‪،‬‬ ‫ولمقاويمة جيش الخليفة إذا تصدى لهم‪ .‬ونجح يمصطفى كمال في‬ ‫ذلك إلى حد كبير‪ .‬ثم رأى أن الحكويمة المركزية والسلطان في‬ ‫الستانبول واقعان تحت لسيطرة العدا ء‪ ،‬وأنه يجب أن تقوم‬ ‫حكويمة وطنية في الناضول‪ .‬فقام بعقد يمؤتمر وطني في‬ ‫لسيواس‪ ،‬نوقشت فيه الولسائل واللساليب الكفيلة بالحتفاظ‬ ‫بالستقلل تركيا‪ ،‬وقد اتخذ المؤتمر قرارات‪ ،‬وانتخب لجنة تنفيذية‪،‬‬ ‫واختار يمصطفى كمال رئيسا لهذه اللجنة‪ ،‬وأرلسل هذه المؤتمر‬ ‫إنذارا إلى السلطان يطلب فيه عزل رئيس الوزرا ء فريد‪ ،‬وإجرا ء‬ ‫انتخابات لبرلمان جديد حر‪ .‬فاضطر السلطان تحت هذا الضغط‬ ‫أن يخضع لطلبات المؤتمر‪ ،‬فعزل رئيس الوزرا ء وومّلى يمكانه علي‬ ‫رضا‪ ،‬وأيمر بإجرا ء انتخابات جديدة خاض غمارها رجال المؤتمر‬ ‫‪-244-‬‬


‫ككتلة تريد إنقاذ البلد‪ ،‬وفازوا بالكثرية الساحقة في البرلمان‬ ‫الجديد‪.‬‬ ‫وعلى إثر هذا الفوز انتقل المؤتمر ورجاله إلى أنقرة‪،‬‬ ‫وصارت يمنذ ذلك الوقت يمركز العمل‪ .‬وقد عقد نواب المؤتمر‬ ‫اجتماعا في أنقره عرضوا فيه اقتراحا بأن يجتمع البرلمان في‬ ‫الستانبول‪ ،‬وأن ُيحل المؤتمر بعد أن صار أعضاؤه نوابا رلسميين‪.‬‬ ‫لكن يمصطفى كمال قاوم هاتين الفكرتين وقال ‪) :‬إن المؤتمر‬ ‫ينبغي أن يستمر حتى يظهر يمدى التزام البرلمان للعدالة وتستبين‬ ‫لسيالسته‪ .‬أمّيما النتقال إلى العاصمة فليس لسوى حماقة جنونية‪،‬‬ ‫إنكم لو فعلتم ذلك لصبحتم تحت رحمة العدو الجنبي‪ ،‬فالنجليز‬ ‫يما زالوا هم المسيطرين على البلد‪ ،‬ولسوف تتدخل السلطات في‬ ‫أيموركم‪ ،‬وربما اعتقلتكم‪ .‬وإذن ينبغي أن ُيعقد البرلمان هنا في‬ ‫ل(‪ .‬وأصر يمصطفى كمال إصرارا كليا‬ ‫أنقرة كي يظل حرا يمستق م ً‬ ‫على رأيه‪ ،‬ولكنه لم يفلح بإقنا ع النواب أن يعقد البرلمان جلساته‬ ‫في أنقرة‪ .‬وذهب النواب إلى العاصمة‪ ،‬وأعربوا للخليفة عن‬ ‫ولئهم له‪ .‬ثم عكفوا على عملهم‪ .‬وكان ذلك في كانون الثاني‬ ‫لسنة ‪1920‬م‪.‬‬ ‫وقد حاول السلطان وِيمن ورائه النجليز أن ُيملوا إرادتهم‬ ‫ما اشتد‬ ‫على النواب‪ ،‬فرفضوا وأظهروا تمسكهم بحقوق البلد‪ ،‬ول مّ‬ ‫الضغط عليهم يمن ِقبل الحلفا ء نشروا للرأي العام يميثاقهم‬ ‫‪-245-‬‬


‫الوطني الذي قرروه في يمؤتمر لسيواس‪ ،‬وهو الميثاق المشتمل‬ ‫على الشروط التي يقبلون السلم على ألسالسها‪ ،‬وأهمها أن تكون‬ ‫سَّر ذلك الحلفا ء‬ ‫تركيا حرة يمستقلة داخل نطاق حدود يمقَّررة‪ .‬ف لَ‬ ‫ول لسيما النجليز‪ ،‬لن هذا القرار هو الذي يسعون إليه‪ ،‬ويسعون‬ ‫أن يأتي يمن أهل البلد أنفسهم‪.‬‬ ‫حظ أن جميع البلد التي كانت الدولة العثمانية تحكمها‬ ‫ويل لَ‬ ‫بوصفها دولة إلسليمية‪ ،‬قد لَوضعت لها عقب الحرب العالمية الولى‬ ‫يميثاقا وطنيا يتضمن نصا واحد لَا هو الستقلل الجز ء الذي أراده‬ ‫ل‪ .‬فالعراق وضعت يميثاقا وطنيا‬ ‫الحلفا ء أن يكون بلدا يمنفص م ً‬ ‫يتضمن الستقلل العراق‪ ،‬ولسوريا وضعت يميثاقا يتضمن الستقلل‬ ‫لسوريا‪ ،‬وفلسطين كان يميثاقها الوطني يتضمن الستقلل فلسطين‪،‬‬ ‫ويمصر كان يميثاقها الوطني يتضمن الستقلل يمصر‪ ... ،‬وهكذا‪،‬‬ ‫سر الحلفا ء‪ ،‬ول لسيما النجليز‪،‬‬ ‫ولهذا كان يمن الطبيعي أن ُي لَ‬ ‫بالميثاق الوطني التركي‪ ،‬فإنه جا ء وفا ق يما يريدون‪ ،‬لن خطتهم‬ ‫تقطيع أوصال الدولة العثمانية وتقسميها إلى دول حتى ل تعود‬ ‫دولة واحدة قوية‪ ،‬وحتى ُيقضى على دولة المسلمين‪ .‬ولول هذا‬ ‫الميثاق الوطني الذي نجح الحلفا ء بإقراره في كل يمكان لكان‬ ‫لليمر وجه آخر‪ ،‬وذلك لن الدولة العثمانية كانت دولة واحدة تعتبر‬ ‫جميع ولياتها جز ءا يمنها‪ ،‬وهي لسائرة على نظام الوحدة ل‬ ‫التحاد‪ ،‬فلم يكن هناك فرق بين الحجاز وتركيا‪ ،‬ول بين لسنجا ق‬ ‫‪-246-‬‬


‫القدس ولسنجا ق اللسكندرونة‪ ،‬إذ كلها دولة واحدة‪ ،‬وهزيمة تركيا‬ ‫كهزيمة ألمانيا لسوا ء بسوا ء‪ ،‬إذ هما حليفتان في الحرب‪ ،‬ويما‬ ‫ينطبا ق على واحدة يمن شروط الصلح ينطبا ق على الخرى‪ .‬وإذا‬ ‫ل‪،‬‬ ‫كانت ألمانيا لم يفمّرط أهلها بشبر يمن بلدها‪ ،‬ولم تقطع أوصا م ً‬ ‫فكذلك يجب أن يكون الحال في الدولة العثمانية ل يجوز أن تقطع‬ ‫ل‪ .‬وكان الحلفا ء يعرفون ذلك ويحسبون له ألف حساب‪ .‬أ لَيما‬ ‫أوصا م ً‬ ‫وقد طلب العثمانيون أنفسهم أن تقطع دولتهم أجزا ء ‪ :‬طلبه العرب‬ ‫وطلبه الترك على السوا ء‪ ،‬فما ألسر ع يما يقبل ذلك الحلفا ء‬ ‫ويشجعونه‪ ،‬ول لسيما يمن يمركز الدولة )تركيا( لنها كانت تمثل‬ ‫أكثرية الحكم في البلد‪.‬‬ ‫ولهذا اعتبر الحلفا ء الميثاق الوطني التركي النتصار النهائي‬ ‫لهم‪ .‬وعلى إثر نشره تركوا للتراك حرية المقاويمة‪ ،‬وصاروا‬ ‫سحبت القوات النجليزية والفرنسية يمن‬ ‫ينسحبون يمن كل يمكان‪ ،‬ف ُ‬ ‫داخل البلد‪ ،‬واشتدت عزائم التراك‪ ،‬وقايمت في البلد حركة‬ ‫يمقاويمة للعدو انقلبت إلى ثورة ضد السلطان‪ ،‬يمما جعله يجهز‬ ‫جيشا ويرلسل لها حملة قوية قاويمتها وقضت عليها‪ .‬وصار الناس‬ ‫كلهم يمع السلطان يما عدا أنقرة التي كانت يمركز الثورة‪ .‬وكانت‬ ‫أنقرة ذاتها على وشك السقوط‪ ،‬فقد كانت القوى المحيطة بها‬ ‫تنضوي واحدة بعد الخرى تحت لوا ء السلطان‪ ،‬وتنضم إلى جيش‬ ‫الخليفة‪ .‬وصار يمصطفى كمال ويمن يمعه في أنقرة في حالة‬ ‫‪-247-‬‬


‫حرجة جدا‪ .‬إل مّ أن يمصطفى كمال صمم على المقاويمة‪ ،‬وأشعل‬ ‫في الوطنيين نار حمالسة جديدة‪ ،‬فاشتدت عزائمهم‪ ،‬وشاعت في‬ ‫أقاليم تركيا وقراها أنبا ء عن احتلل النجليز للعاصمة‪ ،‬واعتقالهم‬ ‫الوطنيين‪ ،‬وإغلقهم دار البرلمان بالقوة‪ ،‬ويمؤازرة السلطان‬ ‫وحكويمته لهم‪ .‬فتغمّير الموقف‪ .‬فانصرف الناس عن السلطان‪،‬‬ ‫وانحاز الرأي العام إلى الوطنيين في أنقرة‪ ،‬وأقبل الرجال والنسا ء‬ ‫على أنقرة‪ ،‬يتطوعون للدفا ع عن تركيا‪ .‬وفمّر كثيرون يمن جيش‬ ‫الخليفة وانضموا إلى جيش يمصطفى كمال‪ ،‬الذي أصبح يمحط‬ ‫أنظار التراك ويمعقد آيمالهم‪ ،‬وقد قويت جبهته وصارت أكثرية البلد‬ ‫في قبضته‪ .‬فأصدر يمنشورا بالدعوة إلى انتخاب جمعية وطنية‪،‬‬ ‫يكون يمقرها أنقرة‪.‬‬ ‫وحصل النتخاب‪ ،‬فاجتمع النواب الجدد‪ ،‬وأطلقوا على‬ ‫أنفسهم "الجمعية الوطنية الكبرى" واعتبروا أنفسهم الحكويمة‬ ‫الشرعية‪ ،‬ثم انتخبوا يمصطفى كمال رئيسا للجمعية‪ .‬وصارت أنقرة‬ ‫يمركز الحكويمة الوطنية‪ ،‬وانضم إليها جميع التراك‪ ،‬فقام يمصطفى‬ ‫كمال ولسحا ق يما تبقى يمن جيش الخليفة‪ ،‬وأنهى الحرب الهلية‪،‬‬ ‫ثم تفرغ لمحاربة اليونان‪ ،‬واشتبك يمعهم في يمعارك دايمية كان‬ ‫النصر حليفهم في أول اليمر‪ ،‬ثم تحولت اليمور وصارت كفته هي‬ ‫الراجحة‪ .‬ويما أن جا ء شهر آب لسنة ‪1921‬م حتى قام بهجوم‬ ‫خاطف‪ ،‬انتهى بانتصاره على اليونانيين الذين كانوا يحتلون ازيمير‬ ‫‪-248-‬‬


‫وبعض شواطئ تركيا‪ .‬وفي أوائل شهر أيلول لسنة ‪1921‬م أرلسل‬ ‫إلى عصمت ليقابل هارنجتون للتفاق على التفصيلت‪ .‬وهناك‬ ‫وافا ق الحلفا ء على طرد اليونانيين يمن تريس وجلئهم هم‬ ‫أنفسهم عن القسطنطينية وتركيا بألسرها‪.‬‬ ‫والظاهر يمن تتُّبع خطوات يمصطفى كمال أن يموافقة‬ ‫الحلفا ء هذه كانت يمقابل أن يقضي يمصطفى كمال على الحكم‬ ‫اللسليمي‪ ،‬ولذلك تجده حين ناقشته الجمعية الوطنية في أيمر‬ ‫تركيا بعد النتصارات التي أحرزها‪ ،‬خاطبها بقوله ‪) :‬أنا لست يمؤيمنا‬ ‫بعصبة يمن الدول اللسليمية‪ ،‬ول حتى بعصبة يمن الشعوب‬ ‫العثمانية‪ ،‬ولكل يمنا أن يعتنا ق الرأي الذي يراه‪ .‬أمّيما الحكويمة‬ ‫فينبغي أن تلتزم لسيالسة ثابتة يمرلسويمة يمبنية على الحقائا ق‪ ،‬لها‬ ‫هدف واحد‪ ،‬واحد فقط‪ ،‬أن نحمي حياة الوطن والستقلله داخل‬ ‫نطاق حدوده الطبيعية‪ ،‬فل العاطفة ول الوهام ينبغي أن تؤثر‬ ‫في لسيالستنا‪ ،‬ولسحقا للحلم والخيالت‪ ،‬لقد كلفتنا غاليا في‬ ‫الماضي(‪.‬‬ ‫وهكذا أعلن أنه إمّنما يريد الستقلل تركيا بوصفها شعبا تركيا‬ ‫ل أمّيمة إلسليمية‪ .‬وقد طلب إليه بعض النواب ورجال السيالسة أن‬ ‫يبين رأيه فيما ينبغي أن تكون عليه الحكويمة في تركيا الجديدة‪،‬‬ ‫فليس يمن المعقول أن تكون لها حكويمتان كما هو الوضع القائم‬ ‫حينئذ ‪ :‬حكويمة يمؤقتة ذات السلطان يمقرها أنقرة‪ ،‬وحكويمة رلسمية‬ ‫‪-249-‬‬


‫)السمية( في العاصمة يرألسها السلطان ووزراؤه‪ .‬وقد ألح‬ ‫السيالسيون بطلب بيان رأيه في هذا الوضع‪ ،‬فلم يجبهم وأخفى‬ ‫نواياه‪ .‬وصار يثير الرأي العام على الخليفة وحيدالدين بأنه يمال‬ ‫النجليز واليونان‪ ،‬حتى أثار هياج الشعب عليه‪.‬‬ ‫وفي ولسط هذا الجو الحمالسي له والمقت للسلطان‪ ،‬جمع‬ ‫الجمعية الوطنية ليبين خطته في أيمر السلطان والحكويمة‪ .‬وكان‬ ‫يعلم أنه قد يستطيع إقنا ع النواب بخلع وحيدالدين وبإلغا ء‬ ‫السلطنة‪ ،‬لكنه ل يجرؤ على يمهاجمة الخلفة‪ ،‬فذلك يمن شأنه أن‬ ‫يمس المشاعر اللسليمية في الشعب جميعه‪ .‬لذلك لم يلغ الخلفة‬ ‫ولم يتعرض لها‪ ،‬وإمّنما اقتر ح أن ُيفصل بين السلطنة والخلفة‪،‬‬ ‫ف ُتلغى الخلفة و ُيخلع وحيدالدين‪ .‬ويما أن لسمع النواب هذا‬ ‫القترا ح حتى وجموا‪ ،‬وأدركوا خطر هذا القترا ح الذي ُيطلب إليهم‬ ‫أن يقرروه‪ .‬وأرادوا أن يتناقشوا في اليمر‪ ،‬فخشي يمصطفى كمال‬ ‫يمن هذه المناقشة‪ ،‬وطلب أخذ الرأي على القترا ح‪ ،‬وأيده في ذلك‬ ‫ثمانون نائبا يمن أنصاره الشخصيين‪ .‬إل مّ أن المجلس رفض ذلك‬ ‫وأحال القترا ح إلى لجنة الشؤون القانونية كي تبحثه‪.‬‬ ‫وحينما اجتمعت اللجنة في اليوم التالي حضر يمصطفى كمال‬ ‫في القاعة التي اجتمعت فيها‪ ،‬وجلس يرقب أعمالها‪ ،‬فلبثت‬ ‫تناقش في القترا ح بضع لساعات‪ ،‬وكان أعضاؤها يمن العلما ء‬ ‫والمحايمين‪ ،‬وكانوا يعرضون هذا القترا ح على النصوص الشرعية‬ ‫‪-250-‬‬


‫ويرونه يمخالفا للشر ع‪ ،‬إذ ل يوجد في اللسلم لسلطة دينية وأخرى‬ ‫زيمنية‪ ،‬فالسلطنة والخلفة شي ء واحد ول يوجد هنالك شي ء‬ ‫يسمى الدين وشي ء يسمى الدولة‪ ،‬بل هنالك نظام اللسلم‬ ‫وتعتبر الدولة جز ءا يمن هذا النظام‪ ،‬وهي التي تقوم على تنفيذه‪.‬‬ ‫ولذلك لم تجد اللجنة القانونية يما يبرر هذا الفصل‪ ،‬بل لم تجد يما‬ ‫يبرر هذا البحث‪ ،‬لن نصوص اللسلم صريحة فيه‪ ،‬ولذلك صممت‬ ‫على رفض القترا ح‪ .‬لكن يمصطفى كمال كان يريد فصل الدين‬ ‫عن الدولة بفصل السلطنة عن الخلفة‪ ،‬وذلك إجابة لطلب الحلفا ء‬ ‫يمنه‪ ،‬حتى يقضوا على آخر الدولة اللسليمية على يد أهلها‪ ،‬ولن‬ ‫ثقافته اللستعمارية التي يقلد فيها الغربيين في فصل السلطة‬ ‫الزيمنية عن السلطة الروحية تحمله على القيام بفصل السلطنة‬ ‫عن الخلفة‪ ،‬كما ُفصلت الكنيسة عن الدولة في الغرب‪.‬‬ ‫ولهذا فإن يمصطفى كمال حين رأى يمناقشات اللجنة‬ ‫واتجاهها‪ ،‬لَف لَق لَد لسيطرته على أعصابه‪ ،‬وقفز فجأة واعتلى يمقعدا‬ ‫وهو يتميز يمن الغيظ‪ ،‬وقطع يمناقشات اللجنة صائحا )أيها السادة‬ ‫لقد اغتصب السلطان العثماني السيادة يمن الشعب بالقوة‪،‬‬ ‫وبالقوة اعتزم الشعب أن يستردها يمنه‪ ،‬إن السلطنة يجب أن‬ ‫ ُتفصل عن الخلفة و ُتلغى‪ ،‬ولسوا ء وافقتم أم لم توافقوا فسوف‬ ‫يحدث هذا‪ ،‬كل يما في اليمر أن بعض رؤولسكم لسوف تسقط في‬ ‫ض اجتما ع اللجنة‪.‬‬ ‫غضون ذلك(‪ ،‬وكان يتكلم بلهجة الدكتاتور‪ ،‬فانف مّ‬ ‫‪-251-‬‬


‫ثم دعيت الجمعية الوطنية يمن فورها لتناقش القترا ح‪ ،‬ولدى‬ ‫يمناقشتها له تبين لمصطفى كمال أن التجاه الغالب يميل إلى‬ ‫مع أنصاره حوله وطلب أخذ الرأي على‬ ‫ج لَ‬ ‫رفض هذا القترا ح‪ ،‬ف لَ‬ ‫القترا ح برفع اليدي يمرة واحدة‪ ،‬فاعترض النواب على ذلك‬ ‫وقالوا ‪ :‬إن كان ل بد يمن أخذ الرأي فليكن بالمناداة باللسم‪.‬‬ ‫ل ‪:‬‬ ‫فرفض يمصطفى كمال ذلك‪ ،‬وصا ح ‪-‬وفي صوته رمّنة التهديد‪ -‬قائ م ً‬ ‫)أنا واثا ق يمن أن المجلس لسيقبل القترا ح بإجما ع الرا ء‪ .‬ويكفي‬ ‫طر ح القترا ح للتصويت‪ ،‬فلم ترتفع‬ ‫أخذ الصوات برفع اليدي(‪ .‬و ُ‬ ‫غير أيد قليلة‪ ،‬لكن النتيجة ُأعلنت بأن المجلس أقر القترا ح بإجما ع‬ ‫الرا ء‪ .‬ف ُدهش النواب لذلك‪ ،‬وقفز بعضهم فوق يمقاعدهم‬ ‫يمحتجين صائحين )هذا غير صحيح نحن لم نوافا ق(‪ .‬فصا ح بهم‬ ‫أنصار الغازي يسكتونهم‪ ،‬وتبادلوا الشتائم‪ .‬إل مّ أن الرئيس أعلن‬ ‫النتيجة يمرة أخرى بأن الجمعية الوطنية الكبرى لتركيا قررت‬ ‫بإجما ع الرا ء إلغا ء السلطنة‪ ،‬ثم فضت الجلسة‪ .‬وغادر يمصطفى‬ ‫كمال القاعة يحيط به أنصاره‪.‬‬ ‫ما علم الخليفة وحيدالدين بذلك فمّر هاربا‪ .‬وعلى إثر إعلن‬ ‫ول مّ‬ ‫فراره نودي بابن أخيه عبدالمجيد خليفة للمسلمين‪ ،‬يمجَّردا يمن كل‬ ‫لسلطان‪ .‬وبذلك صار الخليفة يمن غير لسلطان‪ ،‬وظلت البلد يمن غير‬ ‫حاكم شرعي‪ .‬وإذا كانت السلطنة قد ُفصلت عن الخلفة‪ ،‬فمن‬ ‫الذي يحكم؟ لقد كان يمصطفى كمال حريصا على فصل السلطنة‬ ‫‪-252-‬‬


‫عن الخلفة حرصا شديدا‪ ،‬جعله ُيقِدم عليه قبل أن يعمّين شكل‬ ‫الحكم الذي لستكون عليه تركيا‪ .‬ولذلك صار يتعين البت في شكل‬ ‫الحكويمة الجديدة بعد إلغا ء السلطنة ‪ :‬هل يؤلف يمصطفى كمال‬ ‫الوزارة وحينئذ يكون رئيسا لحكويمة دلستورية‪ ،‬ويبقى الخليفة‬ ‫صاحب السلطة ول أثر لقرار اللغا ء؟‬ ‫لم يقبل يمصطفى كمال أن يؤلف الوزارة‪ ،‬وأخفى يما هو‬ ‫عازم عليه‪ .‬وقام بعد ذلك بوالسطة القوة والسلطة التي يحملها‬ ‫ويتحكم بوالسطتها بالشعب‪ ،‬قام بتأليف حزب لسماه حزب الشعب‪.‬‬ ‫وكان يقصد يمن ذلك أن يأخذ الرأي العام بجانبه‪ ،‬إذ أنه بالرغم يمن‬ ‫هذا فإن الغلبية الساحقة في الجمعية كانت ضده بعد إعلن‬ ‫فصل السلطنة عن الخلفة‪ ،‬ولذلك أخذ يفكر في أيمر إعلن شكل‬ ‫الحكويمة التي قررها‪ ،‬وهي إعلن تركيا جمهورية‪ ،‬وإعلن نفسه‬ ‫رئيسا لها‪ .‬وعمل على إيقا ع الجمعية في أزيمات حرجة كان يمن‬ ‫جرائها أن الستقالت الوزارة التي كانت تحكم‪ ،‬وقمّديمت الستقالتها‬ ‫للجمعية الوطنية‪ .‬ولم تجد الجمعية يمن يتولى الوزارة‪ .‬وبعد أزيمة‬ ‫يمستحكمة اق ُتر ح على الجمعية أن يتولى الوزارة يمصطفى كمال‪،‬‬ ‫فقبلت للظرف العصيب البذي كانت تجتازه‪ ،‬وطلبت إلى يمصطفى‬ ‫ل‪ ،‬ثم أجاب‬ ‫كمال أن يتولى الوزارة ويحل الزيمة‪ .‬فأظهر اليمتنا ع أو م ً‬ ‫الطلب وصعد المنصة وقال للنواب ‪ :‬لقد أرلسلتم في طلبي كي أنقذ‬ ‫الموقف في لحظة الحرج‪ ،‬لكن هذا الحرج يمن صنعكم أنتم‪،‬‬ ‫‪-253-‬‬


‫فليس يمنشأ هذه الزيمة أيمرا عابرا‪ ،‬بل خطأ ألسالسيا في نظام‬ ‫حكويمتنا‪ ،‬فالجمعية الوطنية تقوم بوظيفة السلطة التشريعية‬ ‫والسلطة التنفيذية في وقت واحد‪ ،‬وكل نائب يمنكم يبغي أن‬ ‫يشترك في إصدار كل قرار وزاري‪ ،‬ويدس إصبعه في كل إدارة‬ ‫حكويمية‪ ،‬وكل قرار لوزير‪ .‬أيها السادة يما يمن وزير يستطيع أن‬ ‫يضطلع بمسؤولية‪ ،‬ويقبل المنصب في يمثل هذه الظروف‪ .‬يجب‬ ‫أن تدركوا أن حكويمة تقوم على هذه اللسس لهي حكويمة‬ ‫يستحيل إيجادها‪ ،‬وإذا ُوجدت لم تكن حكويمة‪ ،‬بل كانت فوضى‪،‬‬ ‫ونحن يجب أن نقدر هذا الوضع‪ .‬لذلك أقرر أن تصير تركيا‬ ‫جمهورية لها رئيس ُيختار بطريا ق النتخاب‪ .‬وبعد أن أنهى كليمه‬ ‫كان قد أعد المرلسوم بجعل تركيا جمهورية‪ ،‬وانتخاب يمصطفي‬ ‫كمال أول رئيس للجمهورية التركية وبذلك جعل نفسه الحاكم‬ ‫الشرعي للبلد‪.‬‬ ‫إل مّ أن اليمور لم تسر كما يريد يمصطفى كمال‪ ،‬فإن الشعب‬ ‫التركي شعب يمسلم ويما فعله يمصطفى كمال يخالف اللسلم‪،‬‬ ‫لذلك لسادت البلد فكرة يمؤداها أن يمصطفى كمال يعتزم القضا ء‬ ‫على اللسلم‪ ،‬وأيدت هذه الفكرة تصرفات كمال نفسه فإنه كان‬ ‫يمتنكرا لللسلم في حياته الخاصة يمخالفا لكل الحكام الشرعية‪،‬‬ ‫يظهر السخرية يمن كل الوضا ع المقدلسة عند المسلمين‪ .‬وتيقن‬ ‫الناس في جمهرتهم أن حكام أنقرة الجدد كفرة يملعين‪ .‬وصار‬ ‫‪-254-‬‬


‫الناس يلتفون حول الخليفة عبدالمجيد‪ ،‬ويحاولون أن ُيرجعوا إليه‬ ‫السلطة‪ ،‬وأن يجعلوه هو الحاكم ليقضي على هؤل ء المرتدين‪.‬‬ ‫فأدرك يمصطفى كمال الخطر يمجسما ورأى أن أكثرية الشعب‬ ‫تكرهه وتتهمه بالزندقة والكفر واللحاد‪ ،‬وفكر في اليمر ونشط‬ ‫في الداية ضد الخليفة والخلفة‪ ،‬وأثار حمالسة الجمعية الوطنية‬ ‫حتى لسنت قانونا يقضي باعتبار كل يمعارضة للجمهورية وكل يميل‬ ‫إلى السلطان خيانة يعا لَقب عليها بالموت‪ .‬ثم أخذ يتحدث عن‬ ‫أضرار الخلفة في كل يمجلس‪ ،‬ول لسيما للجمعية الوطنية‪ ،‬وأخذ‬ ‫يهيئ الجوا ء للغا ء الخلفة‪ ،‬فقام بعض النواب يتحدثون عن‬ ‫فائدة الخلفة لتركيا يمن الوجهة الديبلويمالسية‪ ،‬فقاويمهم يمصطفى‬ ‫كمال‪ ،‬وقال للجمعية الوطنية ‪ :‬أليس يمن أجل الخلفة واللسلم‬ ‫ورجال الدين قاتل القرويون التراك ويماتوا طيلة خمسة قرون؟‬ ‫لقد آن أن تنظر تركيا إلى يمصالحها‪ ،‬وتتجاهل الهنود والعرب‪،‬‬ ‫عم المسلمين‪.‬‬ ‫وتنقذ نفسها يمن تز مّ‬ ‫وهكذا لسار يمصطفى كمال في دعايته ضد الخلفة يبين‬ ‫أضرارها للتراك‪ ،‬كما يبين أضرار الخليفة نفسه‪ ،‬ويصوره وأنصاره‬ ‫في صورة الخونة‪ ،‬ويظهرهم بمظهر الصنائع للنجليز‪ .‬ولم يكتف‬ ‫بذلك‪ ،‬بل أوجد يموجة إرهاب ضد يمن يؤيدون الخلفة‪ ،‬فإن أحد‬ ‫النواب قد صر ح بلزوم الخلفة والمحافظة على الدين فما كان يمن‬ ‫يمصطفى كمال إل مّ أن كلف شخصا باغتياله في الليلة التي تكلم‬ ‫‪-255-‬‬


‫فيها فاغتاله شخص يمن أتبا ع يمصطفى كمال وهو راجع إلى بيته‬ ‫يمن الجمعية الوطنية‪ ،‬وألقى أحد النواب خطابا إلسليميا فأحضره‬ ‫يمصطفى كمال وهدده بالشنا ق إذا فتح فمه بمثلها يمرة أخرى‪.‬‬ ‫وهكذا نشر الرعب في طول البلد وعرضها‪ ،‬ثم أرلسل إلى‬ ‫حاكم إلستانبول يأيمره بوجوب إلغا ء يمظاهر البهة التي تحيط‬ ‫بموكب الخليفة أثنا ء تأدية صلة الجمعة‪ ،‬وخمّفض يمرمّتب الخليفة‬ ‫ما لخظ‬ ‫إلى الحد الدنى‪ .،‬وأنذر أتباعه بوجوب التخلي عنه‪ .‬ول مّ‬ ‫ذلك بعض المعتدلين يمن أنصار يمصطفى كمال أخذتهم الحمية‬ ‫اللسليمية وخافوا يمن إلغا ء الخلفة‪ ،‬والتمسوا يمن يمصطفى كمال‬ ‫أن ينصب نفسه خليفة للمسلمين‪ ،‬فلم يقبل‪ ،‬ثم جا ءه وفدان‬ ‫أحدهما يمن يمصر والخر يمن الهند‪ ،‬وطلبا إليه أن ينصب نفسه‬ ‫خليفة للمسلمين وكرر الرجا ء ولكنه رفض ذلك وهيأ ضربته‬ ‫القاصمة بإعلن إلغا ء الخلفة‪ ،‬وأثار في الجوا ء عند الشعب‬ ‫وعند الجيش وعند الجمعية الوطنية الحنا ق والبغض للجانب‬ ‫وللعدا ء ولحليفهم الخليفة ‪-‬على حد زعمه‪.-‬‬ ‫وكانت إثارة الحنا ق على الجانب خدعة قصد يمنها أن يتوصل‬ ‫إلى اتهام الخليفة بأنه حليف الجانب وإلى إثارة الخنا ق عليه‪.‬‬ ‫ما لسيطر هذا الجو‬ ‫ولسمم الجو بالشاعات المثيرة ضد الخليفة‪ .‬ول مّ‬ ‫على البلد تقدم يمصطفى كمال في الثالث يمن شهر اذار لسنة‬ ‫‪1924‬م إلى الجمعية الوطنية بمرلسوم يقضي بإلغا ء الخلفة‪،‬‬ ‫‪-256-‬‬


‫وطرد الخليفة وفصل الدين عن الدولة‪ ،‬وكان يمما قاله للنواب حين‬ ‫تقدم بهذا المرلسوم لقراره )بأي ثمن يجب صون الجمهورية‬ ‫المهددة وجعلها تقوم على ألسس علمية يمتينة؟ فالخليفة ويمخلفات‬ ‫آل عثمان يجب أن يذهبوا‪ ،‬والمحاكم الدينية العتيقة وقوانينها يجب‬ ‫أن تستبدل بها يمحاكم وقوانين عصرية‪ ،‬ويمدارس رجال الدين‬ ‫يجب أن تخلي يمكانها لمدارس حكويمية غير دينية(‪ ،‬ثم حمل على‬ ‫الدين ويمن لسماهم رجال الدين‪ .‬وبسلطة دكتاتورية ُأقر هذا‬ ‫المرلسوم يمن الجمعية الوطنية بغير يمناقشة ثم أرلسل إلى حاكم‬ ‫إلسطانبول أيمرا يقضي بأن يغادر الخليفة عبدالمجيد تركيا قبل فجر‬ ‫اليوم التالي فذهب الحاكم ويمعه حايمية يمن رجال الشرطة‬ ‫والجيش إلى قصر الخليفة في يمنتصف الليل وأجبروه أن يركب‬ ‫لسيارة واقتادوه خارج الحدود‪ ،‬ولم يسمحوا له أن يحمل يمعه‬ ‫لسوى حقيبة فيها بعد الثياب وبعض النقد‪.‬‬ ‫وهكذا هدم يمصطفى كمال الدولة اللسليمية والنظام‬ ‫اللسليمي وأقام الدولة الرألسمالية والنظام الرألسمالي وبذلك‬ ‫قضى على الدولة اللسليمية وحقا ق للكفار حلمهم الذي داعبهم‬ ‫يمنذ الحروب الصليبية أل وهو القضا ء على دولة اللسلم‪.‬‬ ‫الحيلولة دون قيام الدولة اللسليمية‬ ‫انتهت الحرب العالمية الولى والستولى الحلفا ء على جميع‬ ‫‪-257-‬‬


‫بلد الدولة اللسليمية‪ ،‬وكان همهم القضا ء على هذه الدولة نهائيا‬ ‫والحيلولة دون قيايمها يمرة أخرى‪ .‬أمّيما وقد قضوا عليها نهائيا فإنهم‬ ‫أخذوا يعملون للحيلولة دون قيام الدولة اللسليمية في أي جز ء‬ ‫يمن أجزا ء العالم اللسليمي‪ .‬وقد وضعوا عدة خطط والستعملوا‬ ‫عدة ألساليب لضمان عدم رجو ع الدولة اللسليمية للوجود‪ ،‬ول‬ ‫يزالون يعملون يمن أجل هذه الغاية‪.‬‬ ‫فمنذ أن احتل الكافر المستعمر بلد المسلمين قام بتثبيت‬ ‫حكمه لها على اللسس التي رلسمها‪ ،‬فقد احتل البلد التي كانت‬ ‫تحت حكم الدولة العثمانية لسنة ‪ 1918‬وأقام فيها فيها الحكام‬ ‫العسكرية حتى لسنة ‪ 1922،‬فركز حكمه بالسم النتداب في‬ ‫بعضها‪ ،‬وبالسم اللستقلل الذاتي في البعض الخر‪ ،‬حتى جائت‬ ‫لسنة ‪ ،1924‬وفي تلك السنة قايمت أعمال عدة أجهز بها العدو ول‬ ‫مت إلى قيام الدولة‬ ‫لسيما بريطانيا على كل يما فيه شبهة لَت ُ‬ ‫اللسليمية‪ ،‬ففي تلك السنة ألغى يمصطفى كمال الخلفة يمن‬ ‫الدولة العثمانية بتأثير يمن الكافر المستعمر‪ ،‬وجعل تركيا جمهورية‬ ‫ديمقراطية‪ ،‬فقضى على شبح الخلفة حتى يقضي على آخر أيمل‬ ‫في رجو ع الدولة اللسليمية‪ .‬وفي تلك السنة ُأخرج الحسين بن‬ ‫حبس في قبرص لنه كان يطمع في الخلفة‪.‬‬ ‫علي يمن الحجاز و ُ‬ ‫وفي تلك السنة تدخل النكليز بوالسطة عملئهم في يمؤتمر‬ ‫الخلفة الذي كان يمعقودا في القاهرة وعملوا على فضه‬ ‫‪-258-‬‬


‫وإخفاقه‪ .‬وفي تلك السنة أخذ النكليز يعملون للغا ء جمعية‬ ‫الخلفة في الهند ولحباط يمساعيها وتحويل تيارها إلى الناحية‬ ‫الوطنية والقويمية‪ .‬وفي تلك السنة أيضا صدرت في يمصر بتأثير يمن‬ ‫الكافر المستعمر يمؤلفات يمن بعض علما ء الزهر تدعو لفصل‬ ‫الدين عن الدولة‪ ،‬وتدعي أن اللسلم ليس فيه أصول للحكم‪،‬‬ ‫وتصِّور اللسلم بأنه دين كهنوتي‪ ،‬ولم لَيِرد فيه شي ء عن الحكم‬ ‫وعن الدولة‪ .‬وفي تلك السنة ويما يليها قايمت في الدول العربية‬ ‫يمجادلت بيزنطية حول يموضوعين هما ‪ :‬هل الجايمعة العربية‬ ‫أصلح وأكثر إيمكانية أم الجايمعة اللسليمية‪ ،‬واشتغلت الصحف‬ ‫والمجلت يمدة في هذا الموضو ع‪ .‬يمع أن كل يمن الجايمعة‬ ‫حول دون‬ ‫اللسليمية والجايمعة العربية غير صالحة‪ ،‬ووجودها ي ُ‬ ‫قيام الدولة اللسليمية‪ ،‬ولكن الكافر المستعمر أوجد هذا الجدل‬ ‫لتحويل الذهان عن الدولة اللسليمية‪ .‬وبهذا الستطا ع أن ُيبعد عن‬ ‫الذهان في البلد اللسليمية فكرة الخلفة‪ ،‬وفكرة الدولة‬ ‫اللسليمية‪.‬‬ ‫وكان اللستعمار قبل احتلله قد أخذ يشيع بين شباب الترك‬ ‫ألفاظ القويمية التركية‪ ،‬وأن تركيا تحمل عب ء الشعوب غير التركية‪،‬‬ ‫وأنه آن لها أن تتخلى عن هذه الشعوب‪ ،‬وأ ُمّلفت أحزاب لسيالسية‬ ‫للعمل يمن أجل القويمية التركية والستقلل تركيا عن البلد غير‬ ‫التركية‪ .‬وأخذ يشيع بين شباب العرب ألفاظ القويمية العربية‪ ،‬وأن‬ ‫‪-259-‬‬


‫مرة وأنه آن الوان للعرب لن يتخلصوا يمن نير‬ ‫تركيا دولة يمستع ِ‬ ‫اللستعمار التركي‪ ،‬وقد أ ُمّلفت الحزاب السيالسية للعمل يمن أجل‬ ‫الوحدة العربية والستقلل العرب‪ .‬ويما أن جا ء الحتلل حتى أخذ‬ ‫الكافر المحتل يشيع ألفاظ القويمية‪ ،‬وأخذت تحل يمحل اللسلم‪،‬‬ ‫فالستقل التراك على ألساس قويمي وطني‪ ،‬وأخذ العرب يعملون‬ ‫للحكم الذاتي على ألساس قويمي وطني‪ ،‬وشاعت كلمة القويمية‬ ‫والوطنية ويملت الجوا ء‪ ،‬وصارت هي يموضع الفخر والعتزاز‪.‬‬ ‫ولم يكتف اللستعمار بذلك بل أشا ع المفاهيم المغلوطة عن‬ ‫الحكم في اللسلم‪ ،‬وعن اللسلم‪ ،‬وصمّور الخلفة بأنها بابوية‪،‬‬ ‫وبأنها حكم ديني كهنوتي‪ ،‬حتى صار المسلمون يخجلون ِيمن ِذكر‬ ‫كلمة خليفة‪ ،‬وِيمن طلب الخلفة‪ .‬و ُوجد بين المسلمين عرف عام‬ ‫خر وجمود ل يجوز أن يصدر يمن‬ ‫بأن أيمر المطالبة بالخلفة تأ ُّ‬ ‫يمثقف‪ ،‬ول يقول به يمفكر‪.‬‬ ‫سم البلد اللسليمية‬ ‫وفي هذه الجوا ء القويمية والوطنية لَق لَ‬ ‫سم‬ ‫إلى دويلت‪ ،‬وجعل أهل كل بلد يركزون هذا التقسيم‪ ،‬ف لَق لَ‬ ‫الدولة العثمانية إلى عدة أقسام هي تركيا‪ ،‬ويمصر‪ ،‬والعراق‪،‬‬ ‫ولسوريا‪ ،‬ولبنان‪ ،‬وفلسطين‪ ،‬وشرق الردن‪ ،‬والحجاز‪ ،‬ونجد‪،‬‬ ‫واليمن‪ .‬وصار المشتغلون بالسيالسة فيه يمن عمل ء هذا الكافر‬ ‫المستعمر‪ ،‬ويمن غيرهم يمن حسني النية‪ ،‬يعقدون المؤتمرات في‬ ‫كل بلد يطالبون باللستقلل‪ ،‬أي الستقلل الجز ء الذي ُرلسم لهم‬ ‫‪-260-‬‬


‫دولة‪ ،‬عن غيره يمن باقي الجزا ء‪ .‬وعلى هذا اللساس قايمت‬ ‫الدولة التركية‪ ،‬والدولة العراقية‪ ،‬والدولة المصرية‪ ،‬والدولة‬ ‫السورية‪ ...‬الخ‪ ،‬ثم أقام في فلسطين وطنا قويميا لليهود تحمّول‬ ‫فيما بعد إلى كيان يمستقل تحت السم الدولة‪ ،‬ليكون رأس جسر له‬ ‫غل به المسلمون عن الكافر المستعمر وهو الدول الغربية‬ ‫و ُيش لَ‬ ‫حول‬ ‫كبريطانيا وأيمريكا وفرنسا‪ ،‬وليكون حاجزا يمن الحواجز التي ت ُ‬ ‫دون رجو ع الدولة اللسليمية‪ .‬وبذلك ركز الوضع الجغرافي‬ ‫حول دون تحرير المسلمين‪.‬‬ ‫والجوا ء العايمة‪ ،‬تركيزا ي ُ‬ ‫وقام بتطبيا ق النظام الرألسمالي في القتصاد‪ ،‬والنظام‬ ‫الديمقراطي في الحكم‪ ،‬والقوانين الغربية في الدارة والقضا ء‪،‬‬ ‫وثمّبت حضارته ويمفاهيمه عن الحياة‪ ،‬وصار يحاول أن يركز وجهة‬ ‫نظره في الحياة حتى تصبح طريقته في الحياة هي الطريقة التي‬ ‫يعيش عليها المسلمون‪ .‬وقد نجح في ذلك إلى حد بعيد‪ ،‬فقد‬ ‫جعل يمصر لسلطنة ثم أقام فيها النظام الملكي البرلماني‪ ،‬وأقام‬ ‫في العراق النظام الملكي البرلماني‪ ،‬وأقام في لبنان ولسوريا‬ ‫النظام الجمهوري‪ ،‬وأقام في شرقي الردن إيمارة‪ ،‬وفي فلسطين‬ ‫حكما انتدابيا انتهى بقيام نظام ديمقراطي برلماني بين اليهود‬ ‫تحت السم الدولة‪ ،‬وضم القسم الباقي لشرق الردن وجعلها‬ ‫يملكية برلمانية‪ ،‬وأقام في الحجاز وفي اليمن يملكية يمستبدة‪ ،‬وفي‬ ‫تركيا جمهورية رئالسية‪ ،‬وفي الفغان يملكية وراثية‪ ،‬وشجع إيران‬ ‫‪-261-‬‬


‫مرا الهند‪ ،‬ثم‬ ‫على التمسك بالنظام اليمبراطوري‪ ،‬وظل يمستع ِ‬ ‫قسمها إلى دولتين‪.‬‬ ‫وبهذا جعل الكافر المستعمر نظايمه هو الذي يطَّبا ق في بلد‬ ‫المسلمين‪ ،‬وبتطبيقه أضعف في النفوس فكرة إعادة حكم‬ ‫اللسلم‪ .‬ولم يكتف بذلك بل جعل في نفس أهل البلد المحا لَفظة‬ ‫على النظام الذي أقايمه؛ إذ اعتبر أهل كل إقليم يمن هذه القليم‬ ‫إقليمهم فقط دولة‪ ،‬وصاروا يفهمون وجوب الستقلله عن غيره‬ ‫يمن القاليم‪ ،‬وصار العراقي في تركيا أجنبيا‪ ،‬والسوري في يمصر‬ ‫أجنبيا‪ .‬وهكذا صار حكام كل بلد يحافظون على هذا النظام‬ ‫الرألسمالي الديمقراطي أكثر يمن يمحافظة أهله عليه‪ .‬وصاروا‬ ‫يموظفين بوظيفة الحرالسة على يما أقام لهم المستعمر يمن نظام‬ ‫ودلستور‪ ،‬ويعتبرون تغييره حركة غير يمشروعة يعاِقب عليها قانون‬ ‫المستعمر الذي وضعهم لتنفيذه‪.‬‬ ‫وقام بتطبيا ق القوانين الغربية على بلد المسلمين يمباشرة‪،‬‬ ‫بعد أن كان يحاول تطبيقهما بالوالسطة عن طريا ق العمل ء في‬ ‫البلد اللسليمية؛ إذ حاول اللستعمار يمنذ أول النصف الثاني يمن‬ ‫القرن التالسع عشر إدخال القوانين الغربية إلى البلد اللسليمية‪.‬‬ ‫ففي يمصر بدأ اللستعمار يشجع إدخال القانون المدني الفرنسي‬ ‫ليحل يمحل الحكام الشرعية‪ ،‬ونجح في ذلك‪ .‬وبدأت يمصر يمنذ‬ ‫لسنة ‪ 1883‬تطبا ق القانون الفرنسي‪ ،‬فقد ترجمت القانون‬ ‫‪-262-‬‬


‫لسَّنته قانونا‪ ،‬وصار يطَّبا ق في المحاكم بدل‬ ‫الفرنسي القديم و لَ‬ ‫الحكام الشرعية‪ .‬وفي الدولة العثمانية بدأت يمنذ لسنة ‪1856‬م‬ ‫حركة لخذ القوانين الغربية‪ ،‬غير أنها لم تلق السهولة التي لقتها‬ ‫في يمصر بسبب وجود الخلفة اللسليمية في الدولة العثمانية‪،‬‬ ‫كنهم يمن إدخال قانون‬ ‫ولكن إلحا ح الكفار والستجابة العمل ء يم مّ‬ ‫الجزا ء وقوانين الحقوق والتجارة بأخذ فتاوى بأنها ل تخالف‬ ‫اللسلم‪ ،‬ودخلت فكرة التقنين‪ ،‬ثم أ ُمّلفت المجلة يمن الحكام‬ ‫جعلت المحاكم قسمين ‪ :‬شرعية تعمل بالحكام‬ ‫الشرعية قانونا‪ ،‬و ُ‬ ‫الشرعية على شكل قوانين‪ ،‬ونظايمية تحكم حسب القوانين‬ ‫الغربية التي أفتى العلما ء بأنها ل تخالف اللسلم‪ ،‬وحسب القوانين‬ ‫الشرعية التي صيغت تقليدا للقوانين الغربية‪.‬‬ ‫هذا بالنسبة للقوانين‪ ،‬أمّيما بالنسبة للدلستور‪ ،‬فإن الحركة‬ ‫عله يؤخذ يمن الدلستور الفرنسي‪ ،‬قايمت يمع‬ ‫ليجاد دلستور للدولة وج يْ‬ ‫حركة أخذ القوانين‪ ،‬وكادت تنجح لسنة ‪1878‬م‪ ،‬غير أن قوة‬ ‫يمقاويمة المسلمين وقفت في وجهها وأخمدتها‪ .‬إل مّ أن يملحقة‬ ‫كن حركة‬ ‫الكافر المستعمر ونجا ح عملئه والمضبوعين بثقافته يم مّ‬ ‫كنها يمن النجا ح‪ .‬و ُوضع الدلستور‬ ‫الدلستور يمن الظهور يمرة أخرى ويم مّ‬ ‫يموضع العمل في الدولة لسنة ‪1908‬م‪ .‬وبوضع القوانين ووضع‬ ‫الدلستور يموضع العمل في الدولة العثمانية صارت البلد اللسليمية‬ ‫في جملتها يما عدا جزيرة العرب والفغان تسير نحو القوانين‬ ‫‪-263-‬‬


‫الغربية‪.‬‬ ‫ويما أن احتل الكافر المستعمر البلد حتى قام بتطبيا ق لسائر‬ ‫القوانين الغربية يمباشرة باعتبارها قوانين يمدنية ل علقة لها‬ ‫باللسلم‪ ،‬و ُتركت الحكام الشرعية‪ ،‬فثمّبت ذلك حكم الكفر وأبعد‬ ‫حكم اللسلم‪ ،‬وقد لساعده على ذلك أنه ثمّبت أركانه وأقام جميع‬ ‫شؤونه على ألساس لسيالسة التعليم التي رلسمها‪ ،‬والمناهج التربوية‬ ‫التي وضعها‪ ،‬والتي ظلت تطَّبا ق حتى اليوم في كافة البلد‬ ‫اللسليمية‪ ،‬وأنتجت يما أنتجته يمن هذه الجيوش الجرارة يمن‬ ‫المعلمين الذي يقوم أكثرهم على حرالسة هذه البرايمج وحمايتها‪،‬‬ ‫والذين يتولى الكثيرون يمنهم زيمام اليمور‪ ،‬ويسيرون وفا ق يما يريد‬ ‫الكافر المستعمر‪.‬‬ ‫وقد قايمت لسيالسة التعليم و ُوضعت يمناهجه على ألسالسين‬ ‫اثنين ‪ :‬أحدهما فصل الدين عن الحياة‪ ،‬وينتج عنها طبيعيا فصل‬ ‫الدين عن الدولة‪ ،‬وذلك يحتم أن يقوم أبنا ء المسلمين بمحاربة‬ ‫قيام دولة إلسليمية‪ ،‬لنها تتناقض يمع اللساس الذي تعمّلموا على‬ ‫لسيالسته‪ .‬أمّيما اللساس الثاني فهو جعل شخصية الكافر المستعمر‬ ‫المصدر الرئيسي لما ُتحشى به العقول الناشئة يمن يمعارف‬ ‫ويمعلويمات‪ .‬وذلك يوجب احترام هذا الكافر المستعمر وتعظيمه‪،‬‬ ‫ويمحاولة يمحاكاته وتقليده‪ ،‬ولو كان كافرا يمستعمرا‪ ،‬ويوجب احتقار‬ ‫المسلم والبتعاد عنه والشمئزاز يمنه واللستنكاف عن الخذ يمنه‪،‬‬ ‫‪-264-‬‬


‫وهذا يقضي بمحاربة قيام دولة إلسليمية واعتبارها رجعية‪ .‬ولم‬ ‫يكتف اللستعمار بمناهج المدارس التي يشرف عليها أو تشرف‬ ‫عليها الحكويمات التي أقايمها يمقايمه‪ ،‬بل جعل إلى جانبها المدارس‬ ‫التبشيرية التي تقوم على ألساس الستعماري يمحض‪ ،‬والمعاهد‬ ‫الثقافية التي تأخذ على عاتقها التوجيه السيالسي الخاطئ‪،‬‬ ‫والتوجيه الثقافي المغلوط‪ .‬وبذلك صار الجو الفكري في‬ ‫المدارس على اختلفها والمعاهد الثقافية على تنوعها يثقف المّيمة‬ ‫حول بينها وبين‬ ‫ثقافة تبعدها عن التفكير في الدولة اللسليمية‪ ،‬وت ُ‬ ‫العمل يمن أجلها‪.‬‬ ‫وقايمت إلى جانب ذلك المناهج السيالسية في كافة البلد‬ ‫اللسليمية على ألساس فصل الدين عن الحياة‪ ،‬وصار العرف العام‬ ‫عند المثقفين هو فصل الدين عن الدولة‪ ،‬وعند عايمة الشعب‬ ‫فصل الدين عن السيالسة‪ .‬وكان يمن جرا ء ذلك أن ُوجدت فئات‬ ‫يمن المثقفين تزعم أن لسبب تأخر المسلمين هو تمسكهم بالدين‪،‬‬ ‫وأن الطريا ق الوحيد للنهضة هو القويمية والعمل لها‪ .‬كما ُوجدت‬ ‫فئات تمّدعي أن لسبب تأخر المسلمين هو الخلق‪ .‬فقايمت على‬ ‫اللساس الول تكتلت حزبية لسيالسية السما تعمل للقويمية‬ ‫والوطنية‪ ،‬و لَتعتبر العمل على ألساس اللسلم دلسيسة الستعمارية‪،‬‬ ‫وتعتبرها رجعية وجمودا يؤدي إلى التأخر والنحطاط‪ .‬كما قايمت‬ ‫على اللساس الثاني تكتلت جمعية على ألساس الخلق والوعظ‬ ‫‪-265-‬‬


‫خ ُلا ق واشترطت على نفسها‬ ‫والرشاد‪ ،‬وصارت تعمل للفضيلة وال ُ‬ ‫أن ل تتدخل في السيالسة‪.‬‬ ‫وبذلك كانت هذه الحزاب والجمعيات الحائل العملي الذي‬ ‫حول دون السعي ليجاد الدولة اللسليمية‪ ،‬لن الجمعيات صرفت‬ ‫ي ُ‬ ‫الذهان وانصرفت هي عن العمل السيالسي الواجب شرعا وهو‬ ‫إقايمة الدولة اللسليمية‪ ،‬إلى العمل الخلقي فقط الذي هو نتيجة‬ ‫حتمية لتطبيا ق المسلم لحكام اللسلم‪ ،‬ونتيجة طبيعية لقيام حكم‬ ‫اللسلم‪ .‬ولن الحزاب قايمت على ألساس الستعماري يناقض‬ ‫حول دون قيام الدولة اللسليمية‪.‬‬ ‫اللسلم‪ ،‬وي ُ‬ ‫وقايمت إلى جانب المناهج السيالسية القوانين التي تحفظ‬ ‫حول دون قيام‬ ‫لسمّنت قوانين ت ُ‬ ‫هذه المناهج وتؤِّيمن تنفيذها‪ ،‬فقد ُ‬ ‫أحزاب أو حركات لسيالسية إلسليمية‪ ،‬واع لَتبرت تلك القوانين في‬ ‫يمجموعها المسلمين طائفة يمن الطوائف‪ ،‬يمع أنهم أهل البلد‪.‬‬ ‫وتضمنت تلك القوانين نصوصا يمؤداها أنه يشترط في الحزاب‬ ‫والحركات السيالسية أن تكون نظمها ديمقراطية‪ ،‬وأن ل تحصر‬ ‫عضويتها عمليا في طائفة‪ .‬ويمعنى ذلك أنه ل يجوز أن تنشأ في‬ ‫البلد اللسليمية أحزاب أو حركات لسيالسية إلسليمية حتى ل تعود‬ ‫الدولة اللسليمية‪ .‬وأن المسلمين ل حا ق لهم إل مّ بالجمعيات الخيرية‬ ‫ويما إليها‪ ،‬ويممنوعون يمن العمل السيالسي على ألساس اللسلم‪،‬‬ ‫جريما‬ ‫واعتبرت بعض القوانين القيام بالحزاب السيالسية اللسليمية ُ‬ ‫‪-266-‬‬


‫يعا لَقب عليه‪ .‬وبذلك تركزت المناهج السيالسية على ألساس‬ ‫الحيلولة دون قيام الدولة اللسليمية بالقوانين الموضوعة‪.‬‬ ‫ولم يكتف اللستعمار بذلك بل أخذ يصرف المسلمين عن‬ ‫التفكير بالدولة اللسليمية بأعمال تافهة يتلمّهون بها‪ ،‬فقد شجع‬ ‫المؤتمرات اللسليمية لتكون ُألِهيات المّيمة اللسليمية عن العمل‬ ‫الحقيقي للدعوة اللسليمية وللستئناف الحياة اللسليمية في ظل‬ ‫الدولة اللسليمية‪ ،‬فكانت هذه المؤتمرات يمتنَّفسا للعواطف‪ ،‬تتخذ‬ ‫القرارات وتنشرها بالصحف و ُدور الذاعة لمجرد النشر‪ ،‬دون أن‬ ‫ينمّفذ شي ء يمنها‪ ،‬بل دون أن يسعى لتنفيذ شي ء يمنها‪ .‬ثم شجع‬ ‫المؤلفين والمحاضرين ليبمّينوا خطر وجود الدولة اللسليمية‪ ،‬وأن‬ ‫اللسلم ليس فيه نظام حكم‪ ،‬فصدرت كتب ورلسائل لبعض‬ ‫المسلمين المأجورين تحمل دعوة اللستعمار هذه حتى يضَّلل‬ ‫المسلمون وحتى ُيصرفوا عن دينهم وعن العمل للستئناف الحياة‬ ‫حسب أحكايمه‪ .‬وهكذا دأب اللستعمار يمنذ أن قضى على الدولة‬ ‫حول دون قيام الدولة‬ ‫اللسليمية إلى الن يقيم العراقيل التي ت ُ‬ ‫اللسليمية‪ ،‬ويركز جهوده للحيلولة دون إيجادها‪ ،‬بعد أن يمحاها يمن‬ ‫الوجود‪.‬‬ ‫قيام الدولة اللسليمية فرض على المسلمين‬ ‫يقوم جهاز الدولة اللسليمية على لسبعة أركان هي ‪ :‬الخليفة‪،‬‬ ‫‪-267-‬‬


‫والمعاونون‪ ،‬والولة‪ ،‬والقضاة‪ ،‬والجهاز الداري‪ ،‬والجيش‪،‬‬ ‫ويمجلس الشورى‪ .‬فإذا الستكملت الدولة هذه الركان السبعة‬ ‫الس ُتكمل جهازها‪ ،‬وإذا نقص واحد يمنها نقص جهازها‪ ،‬ولكنها‬ ‫تبقى دولة إلسليمية ول يضرها نقص شي ء يمن الجهاز‪ ،‬يما لم يكن‬ ‫الخليفة؛ لنه اللساس في الدولة‪.‬‬ ‫أمّيما قواعد الحكم في الدولة اللسليمية فهي أربع قواعد هي ‪:‬‬ ‫نصب خليفة واحد‪ ،‬وأن يكون السلطان للمّيمة‪ ،‬وأن تكون السيادة‬ ‫علها‬ ‫للشر ع‪ ،‬وأن يتولى الخليفة وحده تبني الحكام الشرعية‪ ،‬أي ج يْ‬ ‫قوانين‪ .‬فإذا نقصت قاعدة واحدة يمن هذه القواعد كان الحكم‬ ‫غير إلسليمي‪ ،‬بل ل بد يمن الستكمال هذه القواعد الربع جميعها‪.‬‬ ‫واللساس في الدولة اللسليمية هو الخليفة‪ ،‬ويما عداه نائب‬ ‫عنه أو يمستشار له‪ .‬فالدولة اللسليمية هي خليفة يطِّبا ق اللسلم‪،‬‬ ‫والخلفة أو اليمايمة هي الستحقاق تصرف عام على المسلمين‪،‬‬ ‫وهي ليست يمن العقائد‪ ،‬بل هي يمن الحكام الشرعية‪ ،‬إذ هي‬ ‫يمن الفرو ع المتعلقة بأفعال العباد‪.‬‬ ‫حل للمسلمين أن‬ ‫صب الخليفة فرض على المسلمين‪ ،‬ول لَي ِ‬ ‫ون يْ‬ ‫ لَيِبيتوا ليلتين دون بيعة‪ .‬وإذا خل المسلمون يمن خليفة ثلثة أيام‬ ‫أِثموا جميعا حتى يقيموا خليفة‪ .‬ول يسقط عنهم الثم حتى يبذلوا‬ ‫الجهد لقايمة خليفة ويواصلوا العمل حتى يقيموه‪ .‬وقد ثبت وجوب‬ ‫نصب الخليفة بالسمّنة وإجما ع الصحابة‪.‬‬ ‫‪-268-‬‬


‫أمّيما السمّنة‪ ،‬فقد قال صلى ا عليه ولسلم ‪} :‬يمن يمات ولم‬ ‫ لَيعرف إيمام زيمانه يمات يميتة جاهلية‪ ،{،‬ولحمد والطبراني }ويمن‬ ‫يمات وليس في عنقه بيعة يمات يميتة جاهلية‪ {،‬خمّرجاه يمن حديث‬ ‫ت رلسول‬ ‫يمعاوية‪ ،‬ولمسلم في صحيحه عن ابن عمر قال ‪} :‬لسمع ُ‬ ‫ا صلى ا عليه ولسلم يقول ‪ :‬لَيمن خلع يدا يمن طاعة ا لقي‬ ‫ا يوم القيايمة ول حجة له‪ ،‬ويمن يمات وليس في عنقه بيعة يمات‬ ‫يميتة جاهلية‪ ،{،‬وروى هشام بن عروة عن أبي صالح عن أبي‬ ‫هريرة أن رلسول ا صلى ا عليه ولسلم قال ‪} :‬لسيليكم بعدي‬ ‫ولة‪ ،‬فيليكم البمّر ببمّره ويليكم الفاجر بفجوره‪ ،‬فالسمعوا لهم‬ ‫وأطيعوا في كل يما وافا ق الحا ق‪ ،‬فإن أحسنوا فلكم وإن ألساؤوا‬ ‫فلكم وعليهم‪.{،‬‬ ‫وأمّيما الجما ع‪ ،‬فإن الصحابة قد جعلوا أهم المهمات بعد‬ ‫صب الخليفة‪ ،‬على يما في‬ ‫وفاة النبي صلى ا عليه ولسلم ن يْ‬ ‫الصحيحين يمن حديث لسقيفة بني لساعدة‪ ،‬وكذا بعد يموت كل‬ ‫خليفة يمن الخلفا ء‪ .‬وقد تواتر نقل إجما ع الصحابة على وجوب‬ ‫نصب الخليفة حتى جعلوه يمن أهم الواجبات‪ ،‬ويعتبر ذلك دليل م ً‬ ‫قطعيا‪ .‬وتوا لَتر إجما ع الصحابة أيضا على ايمتنا ع خلو المّيمة يمن‬ ‫خليفة في أي وقت يمن الوقات‪ .‬فواجب على المّيمة نصب إيمام أي‬ ‫طب بذلك جميع المّيمة يمن ابتدا ء يموته عليه‬ ‫إقايمته وتوليته‪ ،‬و ُتخا لَ‬ ‫الصلة والسلم إلى قيام الساعة‪.‬‬ ‫‪-269-‬‬


‫ويتضح يمبلغ اللزوم الحتمي في إقايمة الخليفة ويمبلغ فهم‬ ‫الصحابة هذا اللزوم يمما فعله الصحابة يمن تأخير دفن رلسول ا‬ ‫صلى ا عليه ولسلم حتى بويع خليفة لرئالسة الدولة‪ ،‬ويتضح كذلك‬ ‫طعن وكان يمشرفا على الموت‪،‬‬ ‫يمما فعله عمر بن الخطاب حين ُ‬ ‫فقد طلب إليه المسلمون أن لَيستخلف فأبى‪ ،‬فألحوا عليه‬ ‫خب يمنهم خليفة‪،‬‬ ‫فالستخلف لستة‪ ،‬أي حصر الترشيح في لستة ُينت لَ‬ ‫ولم يكتف بذلك بل حدد لهم يموعدا نهائيا هو ثلثة أيام‪ ،‬ثم أوصى‬ ‫أنه إذا لم ُيتفا ق على الخليفة بعد ثلثة أيام فل ُيقتل المخاِلف‪ .‬نعم‬ ‫ومّكل بهم يمن يقتل المخاِلف يمع أنهم أهل الشورى‪ ،‬ويمع أنهم كبار‬ ‫الصحابة‪ ،‬إذ هم علي وعثمان وعبدالرحمن بن عوف والزبير بن‬ ‫العوام وطلحة بن عبيدا ولسعد بن أبي وقاص‪ .‬وإذا كان هؤل ء‬ ‫ ُيقتل أحدهم إذا لم يتفا ق على انتخاب خليفة فذلك يدل على‬ ‫اللزوم الحتمي لنتخاب الخليفة‪.‬‬ ‫على أن كثيرا يمن الواجبات الشرعية يتوقف عليه‪ ،‬كتنفيذ‬ ‫الحكام‪ ،‬وإقايمة الحدود‪ ،‬ولسد الثغور وتجهيز الجيوش‪ ،‬وقطع‬ ‫المنازعات الواقعة بين العباد‪ ،‬وحفظ اليمن‪ ،‬ونحو ذلك يمن اليمور‬ ‫صبه واجبا‪.‬‬ ‫التي بين آحاد المّيمة‪ ،‬ولذلك كان ن يْ‬ ‫وليس طلب الخلفة يمكروها‪ ،‬فقد تناز ع فيها الصحابة‬ ‫رضوان ا عليهم في السقيفة‪ ،‬وتناز ع فيها أهل الشورى‪ ،‬ولم‬ ‫كر عليهم ذلك أحد يمطلقا‪ ،‬بل انعقد الجما ع يمن الصحابة في‬ ‫ين ِ‬ ‫‪-270-‬‬


‫الصدر الول على قبول هذا التناز ع عليها يمنهم‪.‬‬ ‫ول ي لَومّلى أكثر يمن خليفة واحد على جميع المسلمين‪ ،‬لقوله‬ ‫صلى ا عليه ولسلم ‪} :‬إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الخر يمنهما‪ {،‬رواه‬ ‫ي‪ ،‬ولقوله عليه الصلة والسلم ‪:‬‬ ‫خدر مّ‬ ‫يمسلم يمن حديث أبي لسعيد ال ُ‬ ‫عه إن‬ ‫ط يْ‬ ‫} لَيمن بايع إيمايما فأعطاه صفقة يده وثمرة قلبه فل ُي ِ‬ ‫الستطا ع‪ ،‬فإن جا ء آخر ينازعه فاضربوا عنا ق الخر‪ {،‬وفي رواية‬ ‫}فاضربوه بالسيف كائنا يمن كان‪ .{،‬واليمر بقتل الخر يمحمول على‬ ‫يما إذا لم يندفع إل مّ بالقتل ُقتل‪.‬‬ ‫ة يممن توفرت فيهم صفات الخليفة فالخليفة‬ ‫وإذا اجتمع عد ٌ‬ ‫غ‪ .‬وهذا إذا‬ ‫يمن انعقدت له البيعة يمن الكثر‪ ،‬والمخاِلف للكثر با ٍ‬ ‫اجتمعوا في الوجود ل في عقد الولية لكل يمنهم‪ .‬أمّيما إذا انعقدت‬ ‫ف شروط الخلفة ثم بايع الكثر غيره‪ ،‬فالول‬ ‫الولية لواحد يمستو ٍ‬ ‫هو الخليفة‪ ،‬والثاني يجب رده‪.‬‬ ‫والشروط التي يجب أن تتوفر في الخليفة هي ‪ :‬اللسلم‪،‬‬ ‫والذكورة‪ ،‬والبلوغ‪ ،‬والعقل‪ ،‬والعدالة‪ .‬أي يجب أن يكون الخليفة‬ ‫ل‪.‬‬ ‫ل‪ ،‬عد م ً‬ ‫ل‪ ،‬يمسلما‪ ،‬بالغا‪ ،‬عاق م ً‬ ‫رج م ً‬ ‫أمّيما شرط اللسلم‪ ،‬فلقولله تعالى ‪ :‬ولن يجعل ا للكافرين‬ ‫على المؤيمنين لسبيل م ً‪ .‬وأمّيما شرط الذكورة‪ ،‬فلقوله صلى ا عليه‬ ‫ح قوم تملكهم ايمرأة‪ .{،‬وأمّيما البلوغ والعقل‪ ،‬فلن‬ ‫ولسلم ‪} :‬كيف ُيفل ُ‬ ‫المجنون والصبي يوَّلى عليهم في تصرفاتهم‪ ،‬فمن لم يكن له‬ ‫‪-271-‬‬


‫ولية على نفسه ل تكون له ولية على غيره‪ .‬وأمّيما العدالة فإن‬ ‫عمل الخليفة هو تنفيذ أحكام الدين‪ ،‬وإذا لم ينفذها على نفسه ل‬ ‫ لَيص ُدق في تنفيذها على غيره؛ لن فاقد الشي ء ل يعطيه‪ ،‬وقد‬ ‫ل‪ ،‬فإذا كان فالسقا‪ ،‬ل يصلح‬ ‫اش ُترط في الخليفة أن يكون عد م ً‬ ‫للخلفة‪ ،‬ول يبقى في الخلفة؛ لن العدالة شرط في انعقاد‬ ‫الخلفة‪ ،‬وشرط في الستدايمتها‪.‬‬ ‫هذه هي شروط الخليفة الثابتة‪ ،‬أمّيما يما عداها يمن الشروط‬ ‫التي ذكرها الفقها ء يمن يمثل الشجاعة والعلم وكونه يمن قريش أو‬ ‫يمن آل فاطمة ويما شاكل ذلك فليست هي شروط انعقاد للخلفة‪،‬‬ ‫صح أي دليل على أنها شرط لنعقاد الخلفة وصحة البيعة؛‬ ‫ولم لَي ِ‬ ‫ولذلك ل تعتبر شرطا‪ ،‬فكل رجل يمسلم بالغ عاقل عدل يصح أن‬ ‫يبا لَيع خليفة للمسلمين‪ ،‬ول ُيشترط فيه أي شرط آخر‪.‬‬ ‫وعلى ذلك فإن إقايمة الدولة اللسليمية فرض على المسلمين‬ ‫جميعا‪ ،‬وقد ثبت ذلك بالسمّنة وبإجما ع الصحابة؛ ولن المسلمين‬ ‫خاضعون لنفوذ الكفر في بلدهم وتطَّبا ق عليهم أحكام الكفر‬ ‫وأصبحت دارهم دار كفر بعد أن كانت دار إلسلم‪ ،‬أي أصبحت‬ ‫تابعيتهم ليست تابعية إلسليمية وإن كانت بلدهم بلدا إلسليمية‪.‬‬ ‫ووجب عليهم أن يعيشوا في دار اللسلم وأن تكون لهم تابعية‬ ‫إلسليمية‪ ،‬ول يتأتى لهم ذلك إل مّ بإقايمة الدولة اللسليمية‪ .‬ولسيظل‬ ‫المسلمون آثمين حتى يعملوا لقايمة الدولة اللسليمية فيباِيعوا‬ ‫‪-272-‬‬


‫خليفة يطبا ق اللسلم ويحمل دعوته للعالم‪.‬‬ ‫صعوبات قيام الدولة اللسليمية‬ ‫ليس قيام الدولة اللسليمية لسهل م ً يميسورا‪ ،‬لن الستئناف‬ ‫الحياة اللسليمية ليس باليمر الهين‪ .‬فهناك عراقيل شتى وضخمة‬ ‫تقوم في وجه قيام الدولة اللسليمية ل بد يمن إزالتها‪ ،‬وصعوبات‬ ‫كثيرة وكبيرة تقف في طريا ق الستئناف الحياة اللسليمية ل بد يمن‬ ‫التغلب عليها‪ ،‬لن اليمر ل يتعلا ق بقيام دولة أي دولة‪ ،‬ول بقيام‬ ‫دولة تسمى إلسليمية‪ ،‬بل اليمر يتعلا ق بقيام دولة إلسليمية تطبا ق‬ ‫اللسلم نظايما يمنبثقا عن العقيدة اللسليمية‪ ،‬تطبقه أحكايما شرعية‬ ‫باعتبارها حكم ا‪ ،‬فتستأنف الحياة اللسليمية كايملة في الداخل‪،‬‬ ‫وتحمل الدعوة اللسليمية إلى الناس كافة في الخارج‪.‬‬ ‫وهذه الدولة اللسليمية يجب أن تقوم على النفسية اللسليمية‬ ‫المكونة يمن العقيدة اللسليمية ويمن أفكار اللسلم وأحكايمه‪،‬‬ ‫وعلى العقلية اللسليمية المش لَبعة بالفكر اللسليمي والمكونة‬ ‫تكوينا فكريا على اللسلم بفكرته وطريقته‪ ،‬حتى تقوم على‬ ‫الشخصية اللسليمية أول م ً وقبل كل شي ء‪ ،‬ثم تقوم على القوانين‬ ‫والنظم التي تنبثا ق عن العقيدة اللسليمية‪ ،‬وذلك حتى تنبعث‬ ‫جد العقلية اللسليمية‬ ‫حوافز هذه الحياة يمن داخل النفس‪ ،‬فتو ِ‬ ‫والنفسية اللسليمية التي تكفل تنفيذ النظم والقوانين تنفيذا طوعيا‬ ‫‪-273-‬‬


‫عن شوق واطمئنان يمن كل يمن الحاكم والمحكوم على السوا ء‪.‬‬ ‫ول بد أن تكون هذه الدولة إلسليمية في المّيمة التي تقيمها‪ ،‬وفي‬ ‫أولي اليمر الذين يتولون رعاية شؤون المّيمة‪ ،‬إلسليمية في جميع‬ ‫كنها يمن حمل‬ ‫حياتها‪ ،‬يمحققة الستئناف الحياة اللسليمية تحقيقا يم مّ‬ ‫كن غير المسلمين يمن يمشاهدة نور اللسلم‬ ‫رلسالتها للعالم‪ ،‬ويم مّ‬ ‫في دولته حتى يدخلوا في دين ا أفواجا‪ .‬ولذلك كانت الصعوبات‬ ‫التي تقف في طريا ق الستئناف الحياة اللسليمية أو تقوم في وجه‬ ‫قيام الدولة اللسليمية كثيرة ل بد يمن يمعرفتها‪ ،‬ول بد يمن العمل‬ ‫على التغلب عليها‪ .‬وأهم هذه الصعوبات يما يأتي ‪:‬‬ ‫‪ -1‬وجود الفكار غير اللسليمية وغزوها للعالم اللسليمي‪،‬‬ ‫وذلك أن العالم اللسليمي ‪-‬وقد يممّر في العصر الهابط وكان ضحل‬ ‫التفكير‪ ،‬عديم المعرفة‪ ،‬ضعيف العقلية‪ ،‬بسبب انحطاطه العام‪-‬‬ ‫غزي وهو على هذه الصورة بالفكار غير اللسليمية المناِقضة‬ ‫قد ُ‬ ‫لفكار اللسلم‪ ،‬والقائمة على ألساس يمغلوط وعلى فهم خاطئ‬ ‫للحياة وِلما لَقبلها ويما بعدها‪ ،‬فوجدت هذه الفكار تربة خصبة‬ ‫خالية يمن المقاويمة فتمكنت يمنها‪ ،‬ولذلك تشبعت عقلية المسلمين‬ ‫ول لسيما فئة المثقفين بهذه الفكار‪ ،‬فكمّونت فيها عقلية لسيالسية‬ ‫يمش لَبعة بالتقليد‪ ،‬بعيدة عن البتكار‪ ،‬غير يمستعدة لقبول الفكرة‬ ‫اللسليمية لسيالسيا‪ ،‬وغير يمدركة لحقيقة هذه الفكرة‪ ،‬وعلى‬ ‫الخص يمن الناحية السيالسية‪ .‬ولذلك كان لزايما أن تكون الدعوة‬ ‫‪-274-‬‬


‫اللسليمية ‪ :‬دعوة إلى اللسلم‪ ،‬ودعوة إلى الستئناف حياة إلسليمية‪،‬‬ ‫ف ُيدعى غير المسلمين لللسلم بشر ح أفكار اللسلم‪ ،‬و ُيدعى‬ ‫المسلمون إلى العمل للسئناف الحياة اللسليمية بتفهيمهم‬ ‫اللسلم‪ .‬وهذا يقضي بأن يبَّين يما في الفكار الخرى غير‬ ‫اللسليمية يمن زيف‪ ،‬ويما في نتائجها يمن أخطار‪ ،‬وأن تأخذ الدعوة‬ ‫طريقها السيالسي‪ ،‬وأن ُيسعى لتثقيف المّيمة ثقافة إلسليمية لَتبرز‬ ‫فيها الناحية السيالسية‪ .‬وبهذا يمكن التغلب على هذه الصعوبة‪.‬‬ ‫‪ -2‬وجود البرايمج التعليمية على اللساس الذي وضعه‬ ‫المستعمر‪ ،‬والطريقة التي تطَّبا ق عليها هذه البرايمج في المدارس‬ ‫والجايمعات‪ ،‬وتخريجها لمن يتولى أيمور الحكم والدارة والقضا ء‬ ‫والتعليم والطب ولسائر شؤون الحياة‪ ،‬بعقلية خاصة تسير فيها‬ ‫وفا ق الخطة التي يريدها الكافر المستعمر‪ ،‬حتى كان الحكم كما‬ ‫نشاهده هو أن ُيستبدل بموظفين يمستعمرين يموظفين يمن‬ ‫المسلمين‪ ،‬يكون عملهم حرالسة يما أقام المستعمر يمن حدود‬ ‫وقوانين وثقافة ولسيالسة وأنظمة وحضارة وغير ذلك‪ ،‬والدفا ع‬ ‫عنها كدفاعه هو أو أشد‪ .‬وطريا ق التغلب على هذه الصعوبة هو‬ ‫كشف هذه العمال لهؤل ء الحكام والموظفين وغيرهم لهم‬ ‫وللناس جميعا‪ ،‬حتى تبرز بشاعة الناحية اللستعمارية الموجودة‬ ‫فيها‪ ،‬ليتخلى هؤل ء عن الدفا ع عنها‪ ،‬حتى تجد الدعوة طريقها إلى‬ ‫هؤل ء المسلمين‪.‬‬ ‫‪-275-‬‬


‫‪ -3‬الستمرار تطبيا ق البرايمج التعليمية على اللساس الذي‬ ‫وضعه الكافر المستعمر‪ ،‬وحسب الطريقة التي أرادها‪ ،‬يمما جعل‬ ‫جمهرة الشباب يمن المتخرجين ويممن ل يزالون يتعلمون يسيرون‬ ‫باتجاه يناقض اللسلم‪ .‬ول نعني ببرايمج التعليم البرايمج العلمية‬ ‫والصناعية‪ ،‬فإن هذه عالمية ل تختص بها أمّيمة يمن اليمم بل هي‬ ‫عالمية لجميع الناس‪ .‬وإمّنما نعني البرايمج الثقافية التي تؤثر على‬ ‫وجهة النظر في الحياة‪ ،‬فهذه هي التي جعلت برايمج التعليم تقف‬ ‫صعوبة عن الستئناف الحياة اللسليمية‪ ،‬وهذه المعارف تشمل‬ ‫التاريخ والدب والفلسفة والتشريع‪ .‬وذلك لن التاريخ هو التفسير‬ ‫الواقعي للحياة‪ ،‬والدب هو التصوير الشعوري لها‪ ،‬والفلسفة هي‬ ‫الفكر الصلي الذي تبنى عليه وجهة النظر في الحياة‪ ،‬والتشريع‬ ‫هو المعا لَلجات العملية لمشاكل الحياة والداة التي يقوم عليها‬ ‫تنظيم علقات الفراد والجماعات‪ ،‬وهذه كلها قد كمّون بها الكافر‬ ‫المستعمر عقلية أبنا ء المسلمين تكوينا خاصا جعل بعضهم ل‬ ‫يشعر بضرورة وجود اللسلم في حياته وحياة أمّيمته‪ ،‬وجعل‬ ‫كرا عليه صلحيته‬ ‫البعض يمنهم أيضا يحمل عدا ء لللسلم يمن ِ‬ ‫لمعالجة يمشاكل الحياة‪ .‬ولذلك ل بد يمن تغيير هذه العقلية‪ ،‬وذلك‬ ‫بتثقيف الشباب خارج المدارس والجايمعات ثقافة يمركزة‪ ،‬وثقافة‬ ‫جماعية‪ ،‬بالفكار اللسليمية والحكام الشرعية‪ ،‬حتى يمكن التغلب‬ ‫على هذه الصعوبة‪.‬‬ ‫‪-276-‬‬


‫‪ -4‬وجود إكبار عام لبعض المعارف الثقافية واعتبارها علويما‬ ‫عالمية‪ ،‬وذلك كعلم الجتما ع‪ ،‬وعلم النفس‪ ،‬وعلوم التربية‪ .‬فإن‬ ‫الناس يعتبرون هذه المعارف علويما‪ ،‬وأن الحقائا ق التي جا ءت بها‬ ‫هي نتيجة تجارب‪ ،‬ويحملون لها إكبارا عايما‪ ،‬ويأخذون يما تأتي به‬ ‫كمونها في أيمور الحياة‪ ،‬وهي ُتعَّلم في يمدارلسنا‬ ‫قضايا يمسَّلمة يح مّ‬ ‫وجايمعاتنا كعلوم‪ ،‬ونطبقها في الحياة ونستعين بها في أيمور‬ ‫الحياة‪ .‬ولذلك ُيستشهد بما قاله علما ء النفس وعلما ء الجتما ع‬ ‫وعلما ء التربية أكثر يمما ُيستشهد بالقرآن والحديث‪ .‬ولهذا ُوجدت‬ ‫عندنا أفكار ووجهات نظر خاطئة يمن جرا ء تعُّلم هذه العلوم‪ ،‬يمن‬ ‫جرا ء إكبارها‪ ،‬ويمن جرا ء تحكيمها في أيمورنا في الحياة‪ .‬وصار‬ ‫يمن الصعوبة بمكان أن ُيقبل القول الذي يخالفها‪ ،‬وهي في‬ ‫جملتها تؤدي إلى فصل الدين عن الحياة‪ ،‬وتؤدي إلى يمحاربة قيام‬ ‫الدولة اللسليمية‪.‬‬ ‫والحقيقة أن هذه المعارف هي ثقافة وليست علما؛ لنها‬ ‫تأتي عن طريا ق الملحظة واللستنباط‪ ،‬ول توجد فيها تجارب‪.‬‬ ‫وتطبيقها على الناس ل يعتبر تجارب‪ ،‬وإمّنما هو يملحظات يمتكررة‬ ‫على أشخاص يمختلفين‪ ،‬وفي ظروف وأوضا ع يمختلفة‪ ،‬فهي‬ ‫حظة والستنباط وليست تجربة كتجربة المختبر حين يجَّرب فيه‬ ‫يمل لَ‬ ‫الشي ء أو يجَّرب عليه‪ ،‬ولذلك تدخل في الثقافة ل في العلم‪.‬‬ ‫وفوق ذلك فهي ظنية قابلة للخطأ والصواب‪ ،‬على أنها يمبنية على‬ ‫‪-277-‬‬


‫ألساس يمغلوط؛ لنها يمبنية على النظرة للفرد والمجتمع‪ ،‬فهي يمبنية‬ ‫على النظرة الفردية‪ ،‬ولهذا تنتقل نظرتها يمن الفرد إلى اللسرة إلى‬ ‫الجماعة إلى المجتمع‪ ،‬على اعتبار أن المجتمع يمكون يمن أفراد‪.‬‬ ‫ولهذا تعتبر الجماعات يمنفصلة‪ ،‬وأن يما يصلح لمجتمع ل يصلح‬ ‫لمجتمع آخر‪.‬‬ ‫والحقيقة أن المجتمع يمكون يمن النسان والفكار والمشاعر‬ ‫والنظمة‪ ،‬وأن يما يصلح للنسان يمن أفكار ويمعا لَلجات في يمكان‬ ‫يما يصلح للنسان في كل يمكان‪ ،‬ويحمّول المجتمعات المتعددة إلى‬ ‫يمجتمع واحد تصلحه الفكار والمشاعر والنظمة‪ .‬فخطأ النظرة‬ ‫إلى المجتمع ترَّتب عليه خطأ النظريات التربوية في علوم التربية‬ ‫وخطأ النظريات في علم الجتما ع‪ ،‬لنها يمبنية على هذه النظرة‪.‬‬ ‫كما أنها يمبنية على علم النفس وهو في جملته خطأ يمن‬ ‫سما إلى يمناطا ق‪ ،‬وأن كل يمنطقة‬ ‫وجهين ‪ :‬أول م ً لنه لَيعتبر الديماغ يمق مّ‬ ‫لها قابلية خاصة‪ ،‬وأن في بعض الديمغة قابليات ليست يموجودة‬ ‫في أديمغة أخرى‪ .‬يمع أن الحقيقة أن الديماغ واحد وأن تفاوت‬ ‫الفكار التي تنتج واختلفها تابع لتفاوت المحسولسات والمعلويمات‬ ‫جد في الخر‬ ‫السابقة واختلفها‪ .‬وأنه ل توجد في ديماغ قابلية ل تو لَ‬ ‫بل جميع الديمغة فيها قابلية الفكر في كل شي ء يمتى توفر الواقع‬ ‫المحسوس والحواس والمعلويمات السابقة للديماغ‪ ،‬وإمّنما تتفاوت‬ ‫الديمغة في قوة الربط وفي قوة الحساس‪ ،‬كما تتفاوت العيون‬ ‫‪-278-‬‬


‫في قوة البصار وضعفه‪ ،‬ولذلك يمكن إعطا ء كل فرد أي‬ ‫يمعلويمات‪ ،‬وفيه قابلية لهضمها‪ ،‬ولذلك ل ألساس لما جا ء في علم‬ ‫النفس يمن القابليات‪ .‬وثانيا لَيعتبر علم النفس الغرائز كثيرة يمنها يما‬ ‫اك ُتشف ويمنها يما لم ُيكتشف‪ ،‬وبنى العلما ء على هذا المفهوم‬ ‫هد بالحس ِيمن تتُّبع‬ ‫للغرائز نظريات خاطئة‪ .‬والحقيقة أن المشا لَ‬ ‫الرجع أو رد الفعل أن النسان فيه طاقة حيوية لها يمظهران‪،‬‬ ‫أحدهما يتطلب الشبا ع الحتمي وإذا لم ُيش لَبع يموت النسان‪.‬‬ ‫والثاني يتطلب الشبا ع وإذا لم ُيش لَبع يبقى النسان حيا ولكنه‬ ‫يكون قلقا يمن عدم الشبا ع‪ .‬والول هو الحاجات العضوية‬ ‫كالجو ع والعطش وقضا ء الحاجة‪ ،‬والثاني الغرائز وهي غريزة‬ ‫التدين‪ ،‬وغريزة النو ع‪ ،‬وغريزة البقا ء‪ ،‬وهذه الغرائز هي الشعور‬ ‫بالعجز‪ ،‬والشعور ببقا ء النو ع‪ ،‬والشعور ببقا ء الذات‪ ،‬ول يوجد غير‬ ‫ذلك‪ .‬ويما عدا هذه الغرائز الثلث هي يمظاهر للغرائز‪ ،‬كالخوف‬ ‫والسيادة والملكية يمظاهر لغريزة البقا ء‪ ،‬والتقديس والعبادة‬ ‫يمظاهر لغريزة التدين‪ ،‬والبوة والخوة يمظاهر لغريزة النو ع‪.‬‬ ‫فاعتبار علم النفس للغرائز اعتبارا خاطئا‪ ،‬واعتباره الديماغ اعتبارا‬ ‫خاطئا‪ ،‬أدى إلى خطأ النظريات التي ُبنيت على ألسالسهما‪ ،‬وبالتالي‬ ‫أدى إلى خطأ علوم التربية التي تأثرت بعلم النفس‪.‬‬ ‫وعليه‪ ،‬فعلم الجتما ع وعلوم التربية وعلم النفس يمعارف‬ ‫ثقافية‪ ،‬وفيها يما يناقض الفكرة اللسليمية‪ ،‬وهي في جملتها خطأ‪،‬‬ ‫‪-279-‬‬


‫فبقا ء الكبار لها وتحكيمها يؤدي إلى إيجاد صعوبة تقف في وجه‬ ‫العمل للدولة اللسليمية‪ ،‬ولذلك يجب أن يبَّين أنها يمعارف ثقافية‬ ‫وليست علويما‪ ،‬وأنها ظنية وليست حقائا ق قطعية‪ ،‬وأنها يمبنية على‬ ‫كم اللسلم‪.‬‬ ‫كم في الحياة وإمّنما يح َّ‬ ‫ألسس خاطئة؛ ولذلك ل تح َّ‬ ‫‪ -5‬كون المجتمع في العالم اللسليمي يحيا حياة غير‬ ‫إلسليمية‪ ،‬ويعيش وفا ق طراز يمن العيش يتناقض يمع اللسلم‪،‬‬ ‫وذلك لن جهاز الدولة‪ ،‬ونظام الحكم الذي يقوم عليه هذا الجهاز‬ ‫والمجتمع‪ ،‬وقواعد الحياة التي يقوم عليها هذا المجتمع بكل‬ ‫يمقويماتها‪ ،‬والتجاه النفسي الذي يتجهه المسلمون‪ ،‬والتكوين‬ ‫العقلي الذي يقوم عليه تفكيرهم‪ ،‬كل ذلك يقوم على ألساس‬ ‫يمفاهيم عن الحياة تناقض المفاهيم اللسليمية‪ .‬فما لم تتغير هذه‬ ‫حح هذه المفاهيم المغلوطة‪ ،‬يكون يمن الصعب‬ ‫اللسس‪ ،‬وتص َّ‬ ‫تغيير حياة الناس في المجتمع‪ ،‬ويمن الصعب تغيير جهاز الدولة‪،‬‬ ‫وقواعد المجتمع‪ ،‬والتجاهات النفسية والعقلية التي تتحكم‬ ‫بالمسلمين‪.‬‬ ‫‪ُ -6‬بعد الشمّقة بين المسلمين والحكم اللسليمي‪ ،‬ول لسيما‬ ‫في لسيالسة الحكم ولسيالسة المال‪ ،‬يجعل تصور المسلمين للحياة‬ ‫اللسليمية ضعيفا‪ ،‬ويجعل تصور غير المؤيمنين باللسلم للحياة‬ ‫اللسليمية تصورا عكسيا‪ ،‬ل لسيما وقد عاش المسلمون يمدة يسا ء‬ ‫فيها تطبيا ق اللسلم عليهم يمن ِقبل الحكام‪ ،‬كما عاشوا يمدة ثلث‬ ‫‪-280-‬‬


‫قرن ُيحكمون يمن ِقبل عدوهم على نظام يناقض اللسلم في كل‬ ‫شي ء‪ ،‬وفي لسيالسة الحكم ولسيالسة المال بوجه خاص‪ .‬ولهذا كان‬ ‫ل بد يمن أن يرتفع الناس عن الواقع السيئ الذي يعيشون فيه‪،‬‬ ‫وأن يتصوروا الحياة التي يجب أن يحيوها‪ ،‬والتي يجب أن يغيروا‬ ‫واقعهم ويحمّولوه إليها‪ .‬وكان ل بد أن يتصوروا أن هذا التحول إلى‬ ‫الحياة اللسليمية ل بد أن يكون تحول م ً كايمل م ً غير يمجزأ‪ ،‬وأن تطبيا ق‬ ‫اللسلم ل بد أن يكون انقلبيا )أي دفعة واحدة( ل تدريجيا‬ ‫بالتجزئة والترقيع‪ ،‬حتى يقرب إليهم تصور واقع الحياة يوم كان عمّز‬ ‫اللسلم‪.‬‬ ‫‪ -7‬وجود حكويمات في البلد اللسليمية تقوم على ألساس‬ ‫ديمقراطي‪ ،‬وتطِّبا ق النظام الرألسمالي كله على الشعب‪ ،‬وترتبط‬ ‫بالدول الغربية ارتباطا لسيالسيا‪ ،‬وتقوم على القليمية والتجزئة‪.‬‬ ‫وهذا يجعل العمل للستئناف الحياة اللسليمية صعبا‪ ،‬لنه ل يتأتى‬ ‫ل‪،‬‬ ‫ل‪ ،‬لن اللسلم ل يبيح جعل البلد اللسليمية دو م ً‬ ‫إل مّ إذا كان شايم م ً‬ ‫بل يلزم جعلها دولة واحدة‪ .‬وهذا يقتضي شمول الدعوة وشمول‬ ‫العمل وشمول التطبيا ق‪ ،‬وهو يتعرض لمقاويمة هذه الحكويمات‬ ‫للدعوة اللسليمية ولو كان رجالها يمن المسلمين‪ ،‬ولهذا كان ل بد‬ ‫يمن حمل الدعوة اللسليمية في كل إقليم‪ ،‬ولو أدى إلى تحمل‬ ‫الصعوبات والمشقات التي تنشأ عن يمعارضة الحكويمات في البلد‬ ‫اللسليمية‪.‬‬ ‫‪-281-‬‬


‫‪ -8‬وجود رأي عام عن الوطنية والقويمية والشتراكية‪ ،‬وقيام‬ ‫حركات لسيالسية على اللساس الوطني والقويمي والشتراكي‪.‬‬ ‫وذلك أن الستيل ء الغرب على بلد اللسلم‪ ،‬وتسلمه زيمام الحكم‬ ‫فيها وتطبيقه النظام الرألسمالي عليها‪ ،‬أثار في النفوس الميل‬ ‫للدفا ع عن النفس‪ ،‬فنتجت عنها العاطفة الوطنية للدفا ع عن‬ ‫الراضي التي يعيش عليها‪ ،‬وأثار العصبية العنصرية للدفا ع عن‬ ‫النفس وعن العائلة وعن القوم والعمل لجعل الحكم لهم‪،‬‬ ‫فنشأت عن ذلك حركات لسيالسية بالسم الوطنية لطرد العدو يمن‬ ‫البلد‪ ،‬وبالسم القويمية لجعل الحكم عليها لهلها‪ .‬ثم تبين للناس‬ ‫فساد النظام الرألسمالي وعدم صلحيته‪ ،‬وانتشرت بينهم دعاية‬ ‫للشتراكية فقايمت تكتلت بالسم الشتراكية لترقيع الرألسمالية‪ ،‬ولم‬ ‫يكن لهذه الحركات أي تصور لنظام الحياة إل مّ التصور الرتجالي‬ ‫يمما أبعدهم عن المبدأ وأبعدهم عن اللسلم بوصفه يمبدأ عالميا‪.‬‬ ‫كيف تقوم الدولة اللسليمية؟‬ ‫إن قوة الفكرة اللسليمية يمقرونة بطريقتها كافية لقايمة دولة‬ ‫غرلست هذه الفكرة في‬ ‫إلسليمية‪ ،‬وللستئناف الحياة اللسليمية‪ ،‬إذا ُ‬ ‫القلوب‪ ،‬وتغلغلت في النفوس‪ ،‬وتجسدت في المسلمين‪ ،‬فأصبحت‬ ‫إلسليما حيا يعمل في الحياة‪ .‬إل مّ أنه بالرغم يمن ذلك‪ ،‬ل بد يمن أن‬ ‫تتم أعمال عظيمة قبل قيام الدولة‪ ،‬وأن ُتبذل جهود جبارة‬ ‫‪-282-‬‬


‫للستئناف الحياة اللسليمية‪ .‬ولذلك ل يكفي يمجرد الرغبة والتفاؤل‬ ‫ليجعل هذه الدولة قائمة‪ ،‬ول يمجرد الحماس واليمل ليحقا ق‬ ‫الستئناف الحياة اللسليمية‪ .‬فكان يمن أوجب الواجبات أن ُتقَّدر‬ ‫العوائا ق الضخمة التي تقف في وجه اللسلم حا ق التقدير‪ ،‬للتمكن‬ ‫يمن إزالتها‪ .‬وكان يمن ألزم الشيا ء أن ينبه المسلمون إلى ثقل‬ ‫التبعة التي تنتظر يمن ينهضون لهذه الغاية‪ ،‬وأن ُيلفت نظر‬ ‫المفكرين بوجه خاص إلى المسؤولية الكبرى لكل رأي يعطى‬ ‫في يمثل هذا اليمر الهام‪ ،‬حتى يكون القول والعمل لسائرا في‬ ‫طريقه السوي بوعي وإرادة وحزم وإقدام‪.‬‬ ‫ول بد أن ُيعلم أن السائرين في طريا ق الستئناف الحياة‬ ‫اللسليمية إمّنما ينحتون طريقهم في الصخر الصم‪ ،‬ولكن يمعاولهم‬ ‫هقة ضخمة كفيلة بتكسير صخوره‪ ،‬وأنهم يعاِلجون أيمرا دقيقا‪،‬‬ ‫يمر ِ‬ ‫حسن يمعالجته‪ ،‬وأنهم يصطديمون بالحداث‬ ‫ولكن رفقهم كفيل ب ُ‬ ‫الكبار‪ ،‬ولكنهم لسيتغلبون عليها‪ ،‬ول يحيدون عن طريقهم‪ ،‬لنها‬ ‫الطريقة التي لسار عليها رلسول ا صلى ا عليه ولسلم‪ ،‬ولسلوكها‬ ‫لسلوكا صحيحا يجعل النتائج قطعية ل ريب فيها‪ ،‬والنصر يمحققا ل‬ ‫شك فيه‪.‬‬ ‫وهذه الطريا ق هي التي يجب أن يسلكها المسلمون اليوم‬ ‫لسلوكا دقيقا‪ ،‬على أن يكون القتدا ء بالرلسول دقيقا‪ ،‬والسير‬ ‫صحيحا حسب خطواته‪ ،‬حتى ل يتعثر السائر‪ ،‬لن كل خطأ في‬ ‫‪-283-‬‬


‫القياس وكل حيد عن الطريا ق يسبب التعثر بالسير والعقم في‬ ‫العمل‪ .‬ولهذا لم يكن قيام يمؤتمرات للخلفة طريقا لقيام الدولة‬ ‫اللسليمية‪ ،‬ول السعي لتحاد دول تحكم شعوبا إلسليمية ولسيلة‬ ‫للدولة اللسليمية‪ ،‬ول عقد يمؤتمرات للشعوب اللسليمية يمحققا‬ ‫الستئناف حياة إلسليمية‪ .‬ليس ذلك ويمثله هو الطريا ق‪ ،‬وإمّنما هو‬ ‫ ُألهيات تتنفس فيها عواطف المسلمين فتفُّرغ يمخزون حمالسها‬ ‫عد بعد ذلك عن العمل‪ ،‬فضل م ً عن أنها تخالف طريا ق اللسلم‪.‬‬ ‫وتق ُ‬ ‫بل الطريا ق الوحيد لقايمة الدولة اللسليمية هو حمل الدعوة‬ ‫اللسليمية والعمل للستئناف الحياة اللسليمية‪ ،‬وذلك يقتضي أن‬ ‫ ُتتخذ البلد اللسليمية ِوحدة واحدة‪ ،‬لن المسلمين أمّيمة واحدة‪ ،‬إذ‬ ‫هي يمجموعة إنسانية تجمعها عقيدة واحدة‪ ،‬ينبثا ق عنها نظايمها‪،‬‬ ‫ولذلك كان حدوث أي عمل في أي ُقطر إلسليمي يؤثر في باقي‬ ‫القطار‪ ،‬ويثير فيها المشاعر والفكار‪ ،‬فكان ل بد أن ُتتخذ كافة‬ ‫البلد اللسليمية بلدا واحدا‪ ،‬و ُتحمل الدعوة لها جميعها‪ ،‬حتى تؤمّثر‬ ‫في يمجتمعها‪ .‬وذلك لن المجتمع الواحد الذي يشكل أمّيمة‪ ،‬يكون‬ ‫ت تحته نارا لسخن الما ء ثم وصل‬ ‫كالما ء في الِقدر‪ ،‬فإنك إذا وضع لَ‬ ‫إلى درجة الغليان‪ ،‬ثم تحمّول هذا الغليان إلى بخار لَيدفع و ُيحِدث‬ ‫الحركة والندفا ع‪ ،‬وكذلك المجتمع يوضع فيه المبدأ اللسليمي‪،‬‬ ‫ف ُتحِدث حرارته فيه لسخونة‪ ،‬ثم غليانا‪ ،‬ثم يتحول هذا الغليان إلى‬ ‫يما يدفع المجتمع إلى الحركة والعمل‪ .‬ولهذا كان ل بد يمن أن‬ ‫‪-284-‬‬


‫ ُتبعث الدعوة إلى العالم اللسليمي‪ ،‬ليعمل للستئناف الحياة‬ ‫اللسليمية‪ ،‬وذلك بالكتب والرلسائل والتصالت وكافة ولسائل‬ ‫الدعوة‪ ،‬ول لسيما التصالت لنها أنجح طرق الدعوة‪.‬‬ ‫إل مّ أن بعث الدعوة بهذا الشكل المفتو ح إمّنما هو للوقود في‬ ‫المجتمع‪ ،‬حتى يتحول هذا الجمود الذي فيه إلى حرارة‪ .‬ول يمكن‬ ‫أن يتحول إلى غليان ثم إلى حركة إل مّ إذا كانت الدعوة العملية في‬ ‫توجيهها السيالسي يمحصورة العمل في إقليم أو أقاليم يبدأ يمنها‬ ‫العمل‪ ،‬ثم تنطلا ق يمنها الدعوة إلى باقي أجزا ء العالم اللسليمي‪،‬‬ ‫ثم ُيتخذ هذا القليم أو عدة أقاليم نقطة ارتكاز تقوم فيها الدولة‬ ‫اللسليمية‪ ،‬ويبدأ يمنها النمو في تكوين الدولة اللسليمية الكبرى‪،‬‬ ‫التي تحمل رلسالة اللسلم للعالم‪.‬‬ ‫وهذا كما فعل صلى ا عليه ولسلم‪ ،‬فإنه بمّلغ دعوته للناس‬ ‫كافة‪ ،‬وكانت خطوات التبليغ تسير في الطريا ق العملي‪ .‬فقد دعا‬ ‫أهل يمكة ودعا العرب جميعا في يمولسم الحج‪ ،‬فكانت دعوته‬ ‫تنتشر في جميع أنحا ء الجزيرة‪ ،‬وكأنه كان يوِقد تحت المجتمع في‬ ‫الجزيرة العربية وقودا يبعث الحرارة في كافة العرب‪ ،‬وكان‬ ‫اللسلم ُيدعى إليه العرب يمن ِقبل الرلسول صلى ا عليه ولسلم‬ ‫بالتصال بهم ودعوتهم في يمولسم الحج‪ ،‬وفي الذهاب إلى‬ ‫القبائل في يمنازلها ودعوتهم لللسلم‪ .‬كما أن الدعوة كانت تصل‬ ‫إلى لسائر العرب بالحتكاك الذي كان بين الرلسول وبين قريش‬ ‫‪-285-‬‬


‫حيث كانت أصدا ء هذا التصادم تمل ألسما ع العرب‪ ،‬وتثير فيهم حب‬ ‫اللستطل ع والتساؤل‪ .‬إل مّ أنه يمع إرلسال الدعوة إلى العرب‪ ،‬كان‬ ‫يمجال الدعوة يمحصورا في يمكة‪ ،‬ثم ايمتد إلى المدينة حيث تكونت‬ ‫الدولة اللسليمية في الحجاز‪ ،‬وحينئذ كانت حرارة الدعوة وانتصار‬ ‫الرلسول قد أحدثا في العرب الغليان ثم الحركة فآيمنوا جميعا‪،‬‬ ‫حتى شملت دولة اللسلم جميع جزيرة العرب وحملت رلسالته‬ ‫للعالم‪.‬‬ ‫ولهذا كان لزايما علينا أن نتخذ حمل الدعوة اللسليمية والعمل‬ ‫للستئناف الحياة اللسليمية طريقة لقايمة الدولة اللسليمية‪ ،‬وكان‬ ‫لزايما علينا أن نتخذ كافة البلد اللسليمية يمجتمعا واحدا وهدفا‬ ‫للدعوة‪ .‬إل مّ أنه يجب أن نحصر يمجال العمل في إقليم أو أقاليم‬ ‫نقوم فيها بتثقيف الناس باللسلم حتى يحيا فيهم ويحيوا به ويمن‬ ‫أجله‪ ،‬ونقوم فيها بإيجاد الوعي العام به والرأي العام له‪ ،‬حتى‬ ‫ملة الدعوة والمجتمع تجاوبا يمنِتجا فعال م ً‬ ‫ح لَ‬ ‫يحصل التجاوب بين لَ‬ ‫يمؤثرا في تحويل الدعوة إلى تفاعل وإنتاج‪ ،‬هذا التفاعل حركة‬ ‫كفا ح تستهدف إيجاد الدولة اللسليمية المنبثقة عن المّيمة في هذا‬ ‫القليم أو تلك القاليم‪ .‬وحينئذ تكون الدعوة قد لسارت يمن فكرة‬ ‫في الذهن إلى وجود في المجتمع‪ ،‬ويمن حركة شعبية إلى دولة‪.‬‬ ‫فتكون قد اجتازت أدوارها فانتقلت يمن نقطة ابتدا ء إلى نقطة‬ ‫ملة عناصر‬ ‫انطلق‪ ،‬ثم إلى نقطة ارتكاز تتمركز في الدولة المستك ِ‬ ‫‪-286-‬‬


‫الدولة وقوة الدعوة‪ .‬وحينئذ يبدأ الدور العملي الذي يوجبه الشر ع‬ ‫على هذه الدولة ويوجبه الشر ع على المسلمين الذين يعيشون‬ ‫في أقاليم ل يشملها لسلطان هذه الدولة‪.‬‬ ‫ل‪،‬‬ ‫أمّيما واجب هذه الدولة فهو الحكم بما أنزل ا حكما كايم م ً‬ ‫عل توحيد باقي القاليم يمعها أو توحيدها يمع باقي القاليم‬ ‫ثم ج يْ‬ ‫شر في حملة الدعوة والدعاية‬ ‫جز ءا يمن السيالسة الداخلية‪ ،‬فتبا ِ‬ ‫للستئناف الحياة اللسليمية في كافة القاليم اللسليمية‪ ،‬ول لسيما‬ ‫القاليم المجاورة لها‪ .‬ثم ترفع الحدود السيالسية الوهمية التي‬ ‫خططها اللستعمار بينها وجعل حكام البلد التابعين لها حرالسا‬ ‫على هذه الحدود السيالسية‪ .‬ولذلك كان لزايما على هذه الدولة أن‬ ‫تلغي هذه الحدود حتى ولو لم يلغها القليم المجاور‪ ،‬فتلغي‬ ‫تأشيرات المرور‪ ،‬ويمراكز ضرائب )الجمارك( وتفتح أبوابها لسكان‬ ‫القاليم اللسليمية‪ ،‬وبهذا تجعل جميع الذين يسكنون في القاليم‬ ‫اللسليمية يشعرون بأن هذه الدولة إلسليمية‪ ،‬ويرون بأنفسهم‬ ‫تطبيا ق اللسلم وتنفيذه‪.‬‬ ‫أمّيما واجب المسلمين فهو أن يعملوا لن تصبح دارهم التي ل‬ ‫يطبا ق فيها اللسلم والتي تعتبر دار كفر‪ ،‬دار إلسلم‪ ،‬بالعمل على‬ ‫ديمجها في الدولة اللسليمية بالدعوة والدعاية‪ .‬وبهذا يصبح‬ ‫المجتمع في العالم اللسليمي في كافة أقاليمه في حالة غليان‬ ‫تدفعه إلى الحركة الصحيحة التي بها يتحد المسلمون جميعهم في‬ ‫‪-287-‬‬


‫جد الدولة اللسليمية الكبرى‪ ،‬وبهذا تتكون‬ ‫دولة واحدة‪ ،‬وبذلك تو لَ‬ ‫الدولة اللسليمية التي تمثل قيادة فكرية عالمية‪ ،‬ويكون لها‬ ‫كنها يمن حمل دعوتها‪ ،‬ويمن العمل على‬ ‫خطرها ويمركزها الذي يم مّ‬ ‫إنقاذ العالم يمن الشرور‪.‬‬ ‫وإذا كانت المّيمة اللسليمية قديما في بلد ل تعدو جزيرة‬ ‫العرب ول يزيد عددها عن بضعة يمليين ويمع ذلك فإنها حين‬ ‫اعتنقت اللسلم وحملت الدعوة‪ ،‬شكلت قوة عالمية أيمام‬ ‫المعسكريْين اللذين كانا قائمين حينئذ وضربتهما يمعا والستولت على‬ ‫بلدهما ونشرت اللسلم في أكثر أجزا ء المعمورة في ذلك‬ ‫الوقت‪ ،‬فما بالنا في المّيمة اللسليمية اليوم وهي زها ء أربعمائة‬ ‫يمليون تقع في بلد يمتصلة ببعضها تكمّون بلدا واحدا‪ ،‬وهي يمن‬ ‫يمراكش إلى الهند واندونيسيا‪ ،‬وهي تحتل بقعة يمن أحسن بقا ع‬ ‫الرض ثروة ويمركزا وتحمل يمبدأ هو وحده المبدأ الصحيح؟ فإنها‬ ‫ول ريب تشكل جبهة أقوى يمن المعسكريْين الحاليين في كل‬ ‫شي ء‪.‬‬ ‫ولهذا كان واجب كل يمسلم أن يعمل يمنذ الن ليجاد الدولة‬ ‫اللسليمية الكبرى التي تحمل رلسالة اللسلم للعالم‪ ،‬وأن يبدأ عمله‬ ‫هذا بحمل الدعوة اللسليمية والعمل للستئناف حياة إلسليمية في‬ ‫جميع البلد اللسليمية‪ ،‬حاصرا يمجاله العملي في إقليم أو عدة‬ ‫أقاليم‪ ،‬لتكون نقطة ارتكاز‪ ،‬حتى يبدأ العمل الجدي‪ .‬ويمثل هذه‬ ‫‪-288-‬‬


‫الغاية العظيمة التي يجب أن يهدف إليها المسلم‪ ،‬لسالكا هذا‬ ‫الطريا ق العملي الواضح الذي يجب أن ُيسلك‪ ،‬جدير به أن يتحمل‬ ‫في لسبيلها كل يمشقة‪ ،‬وأن يبذل لها كل جهد‪ ،‬وأن يسير يمتوكل م ً‬ ‫على ا‪ ،‬غير طالب أي جزا ء على ذلك لسوى نوال رضوان ا‬ ‫لسبحانه وتعالى‪.‬‬

‫‪-289-‬‬


‫فهرس الكتاب‬ ‫المقديمة‬ ‫نقطة البتدا ء‬ ‫تكتل الصحابة‬ ‫انطلق الدعوة‬ ‫يمقاويمة الدعوة‬ ‫تفاعل الدعوة‬ ‫ديْوران يمن أدوار الدعوة‬ ‫لسع يمجال الدعوة‬ ‫تو ُّ‬ ‫بيعة العقبة الولى‬ ‫الدعوة في المدينة‬ ‫بيعة العقبة الثانية‬ ‫قيام الدولة اللسليمية‬ ‫بنا ء المجتمع‬ ‫تهيئة أجوا ء القتال‬ ‫بد ء القتال‬ ‫الحياة في المدينة‬ ‫جدال اليهود والنصارى‬ ‫غزوة بدر‬ ‫إجل ء بني قينقا ع‬ ‫‪-290-‬‬


‫القضا ء على الضطرابات الداخلية‬ ‫غزوة الحزاب‬ ‫يمعاهدة الحديبية‬ ‫غزوة خيبر‬ ‫الرلسل إلى الدول المجاورة‬ ‫غزوة يمؤتة‬ ‫فتح يمكة‬ ‫حنيْين‬ ‫غزوة ُ‬ ‫غزوة تبوك‬ ‫لسيطرة الدولة اللسليمية على جزيرة العرب‬ ‫جهاز الدولة اللسليمية‬ ‫يموقف اليهود يمن الدولة اللسليمية‬ ‫الستمرار الدولة اللسليمية‬ ‫السيالسة الداخلية للدولة اللسليمية‬ ‫السيالسة الخارجية للدولة اللسليمية‬ ‫الفتوحات اللسليمية هي لنشر اللسلم‬ ‫تركيز الفتوحات اللسليمية‬ ‫صهر الشعوب وجعلها أمّيمة واحدة‬ ‫عوايمل ضعف الدولة اللسليمية‬ ‫انحلل الدولة اللسليمية‬ ‫‪-291-‬‬


‫الغزو التبشيري‬ ‫العدا ء الصليبي‬ ‫آثار الغزو التبشيري‬ ‫الغزو السيالسي للعالم اللسليمي‬ ‫القضا ء على الدولة اللسليمية‬ ‫الحيلولة دون قيام الدولة اللسليمية‬ ‫قيام الدولة اللسليمية فرض على المسلمين‬ ‫صعوبات قيام الدولة اللسليمية‬ ‫كيف تقوم الدولة اللسليمية؟‬

‫‪-292-‬‬


Issuu converts static files into: digital portfolios, online yearbooks, online catalogs, digital photo albums and more. Sign up and create your flipbook.