cha5sia 2

Page 1

‫تقي الدين النبهاني‬

‫الشخصية‬ ‫السلمية‬


‫الجزء الثاني‬

‫بسم ا الرحمن الرحيم‬

‫دراسة الفقه‬ ‫معرفة المسلم الحكام الشرعية التي تلزمه في حياته‬ ‫فرض عين على كل مسلم لنه مأمور بأن يقوم بأعماله حسب‬ ‫أحكام الشرع‪ ،‬ذلك أن خطاب التكليف الذي خاطب الشارع به‬ ‫م ل تخيير فيه لحد‪،‬‬ ‫ب جز ٍ‬ ‫الناس وخاطب المؤمنين هو خطا ُ‬ ‫سواء أكان في اليمان أو كان في أعمال النسان‪ ،‬فقوله تعالى‪:‬‬ ‫)آِمنوا بالله ورسوله( كقوله‪) :‬وأحل ا البيع وحرم الربا( كلهما‬ ‫خطاب تكليف‪ ،‬وهو من حيث كونه خطابا ل من حيث الموضوع‬ ‫ب جزم‪ ،‬بدليل قوله تعالى‪) :‬ما كان لمؤمن‬ ‫الذي خاطبنا به خطا ُ‬ ‫ول مؤمنة إذا قضى ا ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من‬ ‫أمرهم(‪ ،‬وبدليل المحاسبة على كل عمل‪ ،‬قال تعالى‪) :‬فمن‬ ‫يعمل مثقال ذرة خيرا يره‪ ،‬ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره(‪،‬‬ ‫ضرا‪ ،‬وما‬ ‫وقال تعالى‪) :‬يوم تجد كل نفس ما عملت من خير ُمح َ‬ ‫عملت من سوء توّد لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا ويحذركم ا‬ ‫نفسه(‪ ،‬وقال‪) :‬وُتوفى كل نفس ما عملت(‪ .‬فالتكليف جاء بشكل‬ ‫جازم‪ ،‬والمسلم مكلف بشكل جازم أن يتقيد بأحكام الشرع عند‬ ‫القيام بأي عمل من العمال‪ .‬أّما موضوع التكليف ‪-‬أي الشيء‬ ‫الذي كلفه به ا‪ -‬فهو الذي قد يكون فرضا وقد يكون مندوبا وقد‬ ‫يكون مباحا وقد يكون حراما وقد يكون مكروها‪ .‬أّما نفس‬ ‫التكليف فهو جزم ول تخيير فيه‪ ،‬وليس له إل ّ حالة واحدة وهي‬ ‫وجوب التقيد به‪ ،‬ومن هنا كان فرضا على كل مسلم أن يعرف‬ ‫الحكام الشرعية التي تلزمه في الحياة الدنيا‪ .‬أّما معرفة ما زاد‬ ‫على ما يلزمه في حياته من الحكام الشرعية فإنه فرض على‬ ‫‪-2-‬‬


‫الكفاية‪ ،‬وليست فرض عين‪ ،‬إن قام به البعض سقط عن‬ ‫الباقين‪ ،‬ويؤيد هذا ما روي عن أنس بن مالك قال‪ :‬قال رسول‬ ‫ا صلى ا عليه وسلم‪) :‬اطلبوا العلم ولو بالصين‪ ،‬فإن طلب‬ ‫العلم فريضة على كل مسلم(‪ ،‬وإنه وإن كان المراد هنا كل علم‬ ‫يلزم المسلم في حياته بدليل قول الرسول‪) :‬ولو بالصين(‪ ،‬فإنه‬ ‫يدخل فيه الفقه من ناحية الحكام التي تلزم المسلم في حياته‪،‬‬ ‫عقائد وعبادات ومعاملت وغير ذلك‪ .‬ومن هنا كانت دراسة الفقه‬ ‫من المور اللزمة للمسلمين بل من الحكام التي فرضها ا‬ ‫عليهم سواء أكانت فرض عين أو فرض كفاية‪ .‬وقد جاءت‬ ‫الحاديث الشريفة حاثة على دراسة الفقه فإن الرسول صلى ا‬ ‫عليه وسلم قد حث على تعلم الفقه‪ ،‬فقد روى البخاري عن ابن‬ ‫عمر قال‪ :‬قال رسول ا صلى ا عليه وسلم‪) :‬من ُيِرد ا به‬ ‫خيرا يفقهه(‪ ،‬وعن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة قال‪ :‬قال‬ ‫رسول ا صلى ا عليه وسلم‪) :‬من ُيِرد ا به خيرا يفقهه في‬ ‫الدين(‪ ،‬وعن أنس قال‪ :‬قال رسول ا صلى ا عليه وسلم‪:‬‬ ‫)خير دينكم أيسره وخير العبادة الفقه(‪ ،‬وعن عزام بن حكيم عن‬ ‫عمه عن رسول ا صلى ا عليه وسلم قال‪) :‬إنكم أصبحتم‬ ‫في زمان كثير فقهاؤه قليل خطباؤه قليل سائلوه كثير معطوه‪،‬‬ ‫العمل فيه خير من العلم‪ ،‬وسيأتي على الناس زمان قليل فقهاؤه‬ ‫كثير خطباؤه قليل معطوه كثير سائلوه‪ ،‬العلم فيه خير من‬ ‫العمل(‪ ،‬وعن عطاء بن يسار عن أبي هريرة عن النبي صلى ا‬ ‫عليه وسلم قال‪) :‬لكل شيء عماد وعماد هذا الدين الفقه‪ ،‬وما‬ ‫عبد ا بشيء أفضل من الفقه في الدين‪ ،‬ولفقيٌه واحد أشد‬ ‫ُ‬ ‫على الشيطان من ألف عابد(‪ .‬فهذه الحاديث صريحة في فضل‬ ‫الفقه والحث على دراسته‪ .‬وقد روي عن عمر بن الخطاب رضي‬ ‫موت ألف عابد قائم الليل صائم النهار أهون‬ ‫ا عنه أنه قال ‪َ :‬ل" َ‬ ‫من موت العاقل البصير بحلل ا وحرامه"‪.‬‬

‫نماذج من الفقه‬ ‫كان الصحابة رضوان ا عليهم عربا فكانت العربية‬ ‫سليقتهم‪ ،‬وكانوا علماء محيطين إحاطة دقيقة باللسان العربي‪،‬‬ ‫وكانوا ملزمين لرسول ا صلى ا عليه وسلم‪ ،‬فكان القرآن‬ ‫‪-3-‬‬


‫ينزل وهم مع الرسول‪ ،‬والحوادث يبين الرسول فيها حكم ا‬ ‫على مرأى ومسمع منهم‪ ،‬فكانوا أيضا علماء بالشريعة محيطين‬ ‫بها‪ .‬فحين كانت َتِرد عليهم الواقعة التي تحتاج إلى بيان حكم ا‬ ‫بينوا فيها الحكم الشرعي ببيان رأيهم الذي استنبطوه من النص‬ ‫أو من معقول النص‪ .‬وكانوا كثيرا ما يقتصرون على إعطاء‬ ‫الحكم دون بيان الدليل‪ ،‬ولذلك ُنقلت أقضية الصحابة بشكل آراء‬ ‫لهم‪ .‬وهذا ما حمل البعض من الناس أن يفهم أن الصحابة كانوا‬ ‫يعطون رأيهم في القضايا‪ .‬والحقيقة أن الصحابة كانوا يعطون‬ ‫الحكم الشرعي الذي استنبطوه بفهمهم من النصوص الشرعية‪،‬‬ ‫ولكنهم لم يشفعوه بالدليل‪ ،‬أو يبينوا علة الحكم ولم يبينوا دليل‬ ‫العلة‪ .‬فأدى ذلك إلى إيهام أن هذا الرأي من الصحابة‪ ،‬وأنه يجوز‬ ‫أن يعطي النسان رأيه في القضية ما دام عقله مشَبعا بالسلم‬ ‫وعارفا بالعربية‪.‬‬ ‫ما جاءت العصور التي طرأ الفساد فيها على اللسان‬ ‫ول ّ‬ ‫ما تسرب‬ ‫العربي صارت العربية ُتتعلم قواعد لضبط اللسان‪ .‬ول ّ‬ ‫الكذب إلى الرواة وُرويت أحاديث عن الرسول لم يقلها صلى ا‬ ‫عليه وسلم‪ ،‬صار الحديث فنا ُيتعلم بأصول‪ .‬ولذلك صار استنباط‬ ‫الحكام يحتاج إلى معرفة باللغة العربية والنصوص الشرعية‪،‬‬ ‫فصار الحكم الشرعي ُيصحب بالدليل وقد ُيصحب بوجه‬ ‫الستدلل‪ .‬فبدأ الفقه يتكون تكوينا جديدا في البحث‪ ،‬وُيرتب ترتيبا‬ ‫خاصا في التبويب‪ .‬وعلى اختلف الساليب في تبويبه وترتيبه صار‬ ‫ل بد من بيان دليل الحكم الشرعي مع بيان الحكم‪ ،‬ول بد من‬ ‫بيان وجه الستدلل حين يكون الحكم مختَلفا فيه‪ .‬وقد عمرت‬ ‫المكتبة السلمية بمئات اللوف من المؤلفات في الفقه بأساليب‬ ‫متنوعة من التبويب والعرض‪ .‬غير أن الكفار بعد أن نجحوا في‬ ‫غزو المسلمين بعد منتصف القرن الثامن عشر الميلدي أخذوا‬ ‫يغالطونهم في العلوم السلمية فكّرهوا إليهم كتب الفقه كما‬ ‫يكّره السفسطائي الناس بالعسل حين يقل لهم عنه أنه خرء‬ ‫الذباب‪ .‬فقد وضعوا الفقه السلمي في إطار أسود حتى يعرض‬ ‫عنه المسلمون‪ .‬وإذا أعرض المسلمون عن الفقه فقد أعرضوا‬ ‫عن معرفة أحكام السلم‪ ،‬ووقعوا في الجهل في دين ا‪،‬‬ ‫وهذا ما حصل بالفعل‪ .‬ومن أجل ذلك كان ل بد من حث‬ ‫المسلمين على القبال على دراسة الفقه بعرض نماذج من‬ ‫‪-4-‬‬


‫الفقه السلمي لثارة الشوق إلى دراسته‪ .‬فكان مفيدا للناس‬ ‫عرض نماذج من الحكام الشرعية المتعلقة بالعلقات العامة‬ ‫وهي ما يطلقون عليها في هذه اليام الحكام السياسية أو الفقه‬ ‫الدستوري‪ ،‬ونماذج من الحكام الشرعية المتعلقة بعلقات‬ ‫الفراد مع بعضهم وهي ما يطلقون عليها القانون المدني‪،‬‬ ‫ونماذج من الحكام الشرعية المتعلقة بالعقوبات‪ ،‬ونماذج من‬ ‫الحكام الشرعية المتعلقة بالبينات حتى تكون الصورة الفقهية‬ ‫واضحة تمام الوضوح‪ ،‬فلعلها تثير الشوق لدراسة الفقه السلمي‬ ‫في أمهات كتب الفقه المعتَبرة‪.‬‬

‫الخلفة‬ ‫الخلفة هي رئاسة عامة للمسلمين جميعا في الدنيا لقامة‬ ‫أحكام الشرع السلمي وحمل الدعوة السلمية إلى العالم‪،‬‬ ‫وهي عينها المامة‪ ،‬فالمامة والخلفة بمعنى واحد‪ .‬وقد وردت‬ ‫الحاديث الصحيحة بهاتين الكلمتين بمعنى واحد‪ ،‬ولم َيِرد لي‬ ‫منهما معنى يخالف معنى الخرى في أي نص شرعي؛ أي ل في‬ ‫الكتاب ول في السّنة‪ ،‬لنهما وحدهما النصوص الشرعية‪ ،‬ول‬ ‫يجب أن ُيلتَزم هذا اللفظ ‪-‬أي المامة أو الخلفة‪ ،-‬وإنما ُيلتَزم‬ ‫مدلوله‪.‬‬ ‫ض على كافة المسلمين في جميع أقطار‬ ‫وإقامة خليفة فر ٌ‬ ‫العالم‪ .‬والقيام به ‪-‬كالقيام بأي فرض من الفروض التي فرضها‬ ‫ا على المسلمين‪ -‬هو أمر محّتم ل تخيير فيه ول هوادة في‬ ‫شأنه‪ ،‬والتقصير في القيام به معصية من أكبر المعاصي يعّذب‬ ‫ا عليها أشد العذاب‪.‬‬ ‫والدليل على وجوب إقامة الخليفة على المسلمين كافة‪:‬‬ ‫السّنة وإجماع الصحابة‪ .‬أّما السّنة‪ ،‬فقد ُروي عن نافع قال‪ :‬قال‬ ‫ت رسول ا صلى ا عليه وسلم يقول‪) :‬من‬ ‫لي عمر‪ :‬سمع ُ‬ ‫خلع يدا من طاعة ا لقي ا يوم القيامة ل حجة له‪ ،‬ومن مات‬ ‫وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية(‪ .‬فالنبي صلى ا عليه‬ ‫وآله وسلم فَرض على كل مسلم أن تكون في عنقه بيعة‪،‬‬ ‫ووصف من يموت وليس في عنقه بيعة بأنه مات ميتة جاهلية‪.‬‬ ‫والبيعة ل تكون إل ّ للخليفة ليس غير‪ .‬وقد أوجب الرسول على‬ ‫‪-5-‬‬


‫جب أن يباِيع‬ ‫كل مسلم أن تكون في عنقه بيعة لخليفة‪ ،‬ولم يو ِ‬ ‫كل مسلم الخليفة‪ .‬فالواجب هو وجود بيعة في عنق كل مسلم‪،‬‬ ‫أي وجود خليفة يستحق في عنق كل مسلم بيعة بوجوده‪.‬‬ ‫جد في عنق كل مسلم بيعة‪ ،‬سواء‬ ‫فوجود الخليفة هو الذي يو ِ‬ ‫بايع بالفعل أم لم يباِيع‪ ،‬ولهذا كان الحديث دليل ً على وجوب‬ ‫نصب الخليفة وليس دليل ً على وجوب البيعة‪ ،‬لن الذي ذّمه‬ ‫الرسول هو خلّو عنق المسلم من بيعة حتى يموت‪ ،‬ولم َيُذم‬ ‫عدم البيعة‪ .‬وروى هشام بن عروة عن أبي صالح عن أبي‬ ‫هريرة أن رسول ا صلى ا عليه وسلم قال‪) :‬سَيليكم بعدي‬ ‫ُولة‪ ،‬فَيليكم الَبّر ببّره والفاجر بفجوره فاسمعوا لهم وأطيعوا‬ ‫في كل ما وافق الحق‪ ،‬فإن أحسنوا فلكم وإن أساءوا فلكم‬ ‫وعليهم(‪ ،‬وروى مسلم عن العرج عن أبي هريرة عن النبي صلى‬ ‫جّنة يقاَتل ِمن ورائه وُيّتقى به(‪،‬‬ ‫ا عليه وسلم قال‪) :‬إّنما المام ُ‬ ‫ت أبا هريرة خمس سنين‬ ‫وروى مسلم عن أبي حازم قال‪ :‬قاعد ُ‬ ‫فسمعته يحّدث عن النبي صلى ا عليه وسلم قال‪) :‬كانت بنو‬ ‫خَلَفه نبي‪ ،‬وإنه ل نبي‬ ‫اسرائيل تسوسهم النبياء‪ ،‬كلما هلك نبي َ‬ ‫بعدي‪ ،‬وستكون خلفاء فَتكُثر‪ .‬قالوا‪ :‬فما تأمرنا؟ قال‪ :‬فوا ببيعة‬ ‫الول فالول‪ ،‬وأعطوهم حقهم فإن ا سائلهم عما‬ ‫استرعاهم(‪ ،‬وعن ابن عباس عن رسول ا صلى ا عليه‬ ‫وسلم قال‪) :‬من َكِره من أميره شيئا فليصبر عليه‪ ،‬فإنه ليس أحد‬ ‫من الناس خرج من السلطان شبرا فمات عليه إل ّ مات ميتة‬ ‫جاهلية(‪ .‬فهذه الحاديث فيها إخبار من الرسول بأنه سيلي‬ ‫جّنة أي وقاية‪ .‬فوصف‬ ‫ف للخليفة بأنه ُ‬ ‫المسلمين ُولة‪ ،‬وفيها وص ٌ‬ ‫جّنة هو إخبار عن فوائد وجود المام‪ ،‬فهو‬ ‫الرسول بأن المام ُ‬ ‫طلب‪ ،‬لن الخبار من ا ومن الرسول إن كان يتضمن الذم فهو‬ ‫طلب ترك أي نهي‪ ،‬وإن كان يتضمن المدح فهو طلب فعل‪ .‬فإن‬ ‫كان الفعل المطلوب يترتب على فعله إقامة الحكم الشرعي أو‬ ‫يترتب على تركه تضييعه‪ ،‬كان ذلك الطلب جازما‪ .‬وفي هذه‬ ‫الحاديث أيضا أن الذين يسوسون المسلمين هم الخلفاء‪ ،‬وهو‬ ‫يعني طلب إقامتهم‪ ،‬وفيها تحريم أن يخرج المسلم من السلطان‪،‬‬ ‫وهذا يعني أن إقامة المسلم سلطانا أي حكما له‪ ،‬أمر واجب‪.‬‬ ‫على أن الرسول صلى ا عليه وسلم أمر بطاعة الخلفاء‬ ‫وبقتال من ينازعهم في خلفتهم‪ ،‬وهذا يعني أمرا بإقامة خليفة‬ ‫‪-6-‬‬


‫والمحافظة على خلفته بقتال كل من ينازعه‪ .‬فقد روى مسلم‬ ‫أن النبي صلى ا عليه وسلم قال‪) :‬وَمن باَيع إماما فأعطاه‬ ‫طعه إن استطاع فإن جاء آخر ينازعه‬ ‫صفقة يده وثمرة قلبه فلُي ِ‬ ‫فاضربوا عنق الخر(‪ ،‬فالمر بطاعة المام أمٌر بإقامته‪ ،‬والمر‬ ‫بقتال من ينازعه قرينة على الجزم في دوام إيجاده خليفة واحدا‪.‬‬ ‫وأّما إجماع الصحابة فإنهم رضوان ا عليهم أجمعوا على‬ ‫لزوم إقامة خليفة لرسول ا صلى ا عليه وسلم بعد موته‪،‬‬ ‫وأجمعوا على إقامة خليفة لبي بكر ثم لعمر ثم لعثمان بعد‬ ‫وفاة كل منهم‪ .‬وقد ظهر تأكيد إجماع الصحابة على إقامة خليفة‬ ‫من تأخيرهم دفن رسول ا صلى ا عليه وآله وسلم عقب‬ ‫وفاته واشتغالهم بنصب خليفة له‪ ،‬مع أن دفن الميت عقب وفاته‬ ‫فرض‪ ،‬ويحرم على من يجب عليهم الشتغال في تجهيزه ودفنه‬ ‫الشتغال في شيء غيره حتى يتم دفنه‪ .‬والصحابة الذين يجب‬ ‫غل قسم منهم‬ ‫عليهم الشتغال في تجهيز الرسول ودفنه اشت َ‬ ‫بنصب الخليفة عن الشتغال بدفن الرسول وسكت قسم منهم‬ ‫عن هذا الشتغال وشاركوا في تأخير الدفن ليلتين مع قدرتهم‬ ‫على النكار وقدرتهم على الدفن‪ ،‬فكان ذلك إجماعا على‬ ‫الشتغال بنصب الخليفة عن دفن الميت‪ ،‬ول يكون ذلك إل ّ إذا‬ ‫كان نصب الخليفة أوجب من دفن الميت‪.‬‬ ‫وأيضا فإن الصحابة كلهم أجمعوا طوال أيام حياتهم على‬ ‫خب‬ ‫وجوب نصب الخليفة‪ ،‬ومع اختلفهم على الشخص الذي ُينت َ‬ ‫خليفة فإنهم لم يختلفوا مطلقا على إقامة خليفة‪ ،‬ل عند وفاة‬ ‫رسول ا ول عند وفاة أي خليفة من الخلفاء الراشدين‪ .‬فكان‬ ‫إجماع الصحابة دليل ً صريحا وقويا على وجوب نصب الخليفة‪.‬‬ ‫على أن إقامة الدين وتنفيذ أحكام الشرع في جميع شؤون‬ ‫ض على المسلمين بالدليل القطعي‬ ‫الحياة الدنيا والخرى فر ٌ‬ ‫الثبوت القطعي الدللة‪ ،‬ول يمكن أن يتم ذلك إل ّ بحاكم ذي‬ ‫سلطان‪ ،‬والقاعدة الشرعية أن "ما ل يتم الواجب إل ّ به فهو‬ ‫واجب" فكان نصب الخليفة فرضا من هذه الجهة أيضا‪.‬‬ ‫وفوق ذلك فإن ا تعالى أمر الرسول صلى ا عليه وآله‬ ‫وسلم أن يحكم بين المسلمين بما َأنزل‪ ،‬وكان أمره له بشكل‬ ‫كم بينهم‬ ‫جازم‪ ،‬قال تعالى مخاطبا الرسول عليه السلم‪) :‬فاح ُ‬ ‫بما َأنزل ا ول تّتبع أهواءهم عما جاءك من الحق(‪ ،‬وقال‪:‬‬ ‫‪-7-‬‬


‫كم بينهم بما أنزل ا ول تّتبع أهواءهم واحَذرهم أن‬ ‫ن اح ُ‬ ‫)وأ ِ‬ ‫يفتنوك عن بعض ما أنزل ا إليك(‪ ،‬وخطاب الرسول خطاب‬ ‫لّمته ما لم َيِرد دليل يخصصه به‪ ،‬وهنا لم َيِرد دليل فيكون خطابا‬ ‫للمسلمين بإقامة الحكم‪ .‬ول يعني إقامة الخليفة إل ّ إقامة الحكم‬ ‫والسلطان‪ .‬على أن ا تعالى فرض على المسلمين طاعة أولي‬ ‫المر أي الحاكم‪ ،‬مما يدل على وجوب وجود ولي المر على‬ ‫المسلمين‪ ،‬قال تعالى‪) :‬يا أيها الذين آمنوا أطيعوا ا وأطيعوا‬ ‫الرسول وأولي المر منكم(‪ ،‬ول يأمر ا بطاعة من ل وجود له‪،‬‬ ‫ل على أن إيجاد ولي‬ ‫ول َيفرض طاعة َمن وجوده مندوب‪ ،‬فد ّ‬ ‫المر واجب‪ .‬فالله تعالى حين أمر بطاعة ولي المر فإنه يكون‬ ‫قد أمر بإيجاده‪ .‬فإن وجود ولي المر يترتب عليه إقامة الحكم‬ ‫الشرعي وتْرك إيجاده يترتب عليه تضييع الحكم الشرعي‪ ،‬فيكون‬ ‫حرمة‪ ،‬وهي تضييع‬ ‫إيجاده واجبا ِلما يترتب على عدم إيجاده من ُ‬ ‫الحكم الشرعي‪.‬‬ ‫فهذه الدلة صريحة بأن إقامة الحكم والسلطان على‬ ‫المسلمين منهم فرض‪ ،‬وصريحة بأن إقامة خليفة يتولى هو‬ ‫الحكم والسلطان فرض على المسلمين‪ ،‬وذلك من أجل تنفيذ‬ ‫أحكام الشرع ل مجرد حكم وسلطان‪ .‬انظر قوله صلى ا عليه‬ ‫وسلم‪) :‬خيار أئمتكم الذين ُتحبونهم وُيحبونكم ويصّلون عليكم‬ ‫وُتصلون عليهم‪ ،‬وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم‬ ‫وتلعنونهم ويلعنونكم‪ .‬قيل‪ :‬يا رسول ا أفل ننابذهم بالسيف؟‬ ‫قال‪ :‬ل‪ ،‬ما أقاموا فيكم الصلة(‪ ،‬فهو صريح في الخبار بالئمة‬ ‫الخيار والئمة الشرار‪ ،‬وصريح بتحريم منابذتهم بالسيف ما‬ ‫أقاموا الدين‪ ،‬لن إقامة الصلة كناية عن إقامة الدين والحكم به‪.‬‬ ‫فكون إقامة الخليفة ليقيم أحكام السلم ويحمل دعوته فرضا‬ ‫شبهة في ثبوته في نصوص الشرع‬ ‫على المسلمين أمٌر ل ُ‬ ‫الصحيحة‪ ،‬فوق كونه فرضا من جهة ما يحتمه الفرض الذي‬ ‫فرضه ا على المسلمين من إقامة حكم السلم وحماية بيضة‬ ‫ن أقامه‬ ‫المسلمين‪ .‬إل ّ أن هذا الفرض فرض على الكفاية‪ ،‬فإ ْ‬ ‫البعض فقد ُوجد الفرض وسقط عن الباقين هذا الفرض‪ ،‬وإ ْ‬ ‫ن‬ ‫لم يستطع أن يقيمه البعض ولو قاموا بالعمال التي تقيمه فإنه‬ ‫يبقى فرضا على جميع المسلمين‪ ،‬ول يسقط الفرض عن أي‬ ‫مسلم ما دام المسلمون بغير خليفة‪.‬‬ ‫‪-8-‬‬


‫والقعود عن إقامة خليفة للمسلمين معصية من أكبر‬ ‫المعاصي‪ ،‬لنها قعود عن القيام بفرض من أهم فروض‬ ‫السلم‪ ،‬ويتوقف عليه إقامة أحكام الدين‪ ،‬بل يتوقف عليه وجود‬ ‫السلم في معترك الحياة‪ .‬فالمسلمون جميعا آثمون إثما كبيرا‬ ‫في قعودهم عن إقامة خليفة للمسلمين‪ .‬فإن أجمعوا على هذا‬ ‫القعود كان الثم على كل فرد منهم في جميع أقطار المعمورة‪،‬‬ ‫وإن قام بعض المسلمين بالعمل لقامة خليفة ولم يقم البعض‬ ‫الخر فإن الثم يسقط عن الذين قاموا يعملون لقامة الخليفة‬ ‫ويبقى الفرض عليهم حتى يقوم الخليفة‪ ،‬لن الشتغال بإقامة‬ ‫الفرض ُيسِقط الثم على تأخير إقامته عن وقته وعلى عدم‬ ‫القيام به‪ ،‬لتلّبسه بالقيام به‪ ،‬ولستكراهه بما يقهره عن إنجاز‬ ‫القيام به‪ .‬أّما الذين لم يتلّبسوا بالعمل لقامة الفرض فإن الثم‬ ‫بعد ثلثة أيام من ذهاب الخليفة إلى يوم نصب الخليفة‪ ،‬يبقى‬ ‫عليهم‪ ،‬لن ا قد أوجب عليهم فرضا ولم يقوموا به ولم يتلّبسوا‬ ‫بالعمال التي من شأنها أن تقيمه‪ ،‬ولذلك استحقوا الثم‬ ‫فاستحقوا عذاب ا وخزيه في الدنيا والخرة‪ .‬واستحقاقهم‬ ‫الثم على قعودهم عن إقامة خليفة أو عن العمال التي من‬ ‫شأنها أن تقيمه‪ ،‬ظاهر صريح في استحقاق المسلم العذاب على‬ ‫تركه أي فرض من الفروض التي فرضها ا عليه‪ ،‬ل سيما‬ ‫الفرض الذي به ُتنّفذ الفروض‪ ،‬وتقام أحكام الدين‪ ،‬ويعلو أمر‬ ‫السلم‪ ،‬وتصبح كلمة ا هي العليا في بلد السلم‪ ،‬وفي سائر‬ ‫أنحاء العالم‪.‬‬ ‫عزلة عن الناس‪،‬‬ ‫وأّما ما ورد في بعض الحاديث من ال ُ‬ ‫ومن القتصار على التمسك بأمور الدين في خاصته‪ ،‬فإنها ل‬ ‫تصلح دليل ً على جواز القعود عن إقامة خليفة‪ ،‬ول على إسقاط‬ ‫الثم عن هذا القعود‪ .‬والمدقق فيها يجدها في شأن التمسك‬ ‫بالدين ل في شأن الترخيص بالقعود عن إقامة خليفة للمسلمين‪.‬‬ ‫ي أنه سمع أبا‬ ‫ل‪ ،‬روى البخاري عن ُبسر بن عبيدا الحضرم ّ‬ ‫فمث ً‬ ‫إدريس الخولني أنه سمع حذيفة بن اليمان يقول‪) :‬كان الناس‬ ‫يسألون رسول ا صلى ا عليه وسلم عن الخير وكنت أسأله‬ ‫عن الشر مخافة أن يدركني‪ ،‬فقلت‪ :‬يا رسول ا‪ ،‬إنا كنا في‬ ‫جاهلية وشّر فجاءنا ا بهذا الخير‪ ،‬فهل بعد هذا الخير من شر؟‬ ‫قال‪ :‬نعم‪ .‬قلت‪ :‬وهل بعد ذلك الشر من خير؟ قال‪ :‬نعم‪ ،‬وفيه‬ ‫‪-9-‬‬


‫خُنه؟ قال‪ :‬قوم َيهدون بغير هديي َتعرف منهم‬ ‫خن‪ .‬قلت‪ :‬وما َد َ‬ ‫َد َ‬ ‫كر‪ .‬قلت‪ :‬فهل بعد ذلك الخير من شر؟ قال‪ :‬نعم‪ُ ،‬دعاة على‬ ‫وُتن ِ‬ ‫أبواب جهنم‪َ ،‬من أجابهم إليها قذفوه فيها‪ .‬قلت‪ :‬يا رسول ا‬ ‫جلدتنا‪ ،‬ويتكلمون بألسنتنا‪ .‬قلت‪ :‬فما‬ ‫صفُهم لنا‪ .‬قال‪ :‬هم من ِ‬ ‫ِ‬ ‫تأمرني إن أدركني ذلك؟ قال ‪َ:‬تلَزم جماعة المسلمين وإمامَهم‪.‬‬ ‫قلت‪ :‬فإن لم يكن لهم جماعة ول إمام‪ .‬قال‪ :‬فاعتزل تلك الِفَرق‬ ‫عض بأصل شجرة‪ ،‬حتى يدركك الموت وأنت على‬ ‫كلها‪ ،‬ولو أن َت ُ‬ ‫ذلك(‪ .‬فإن هذا الحديث صريح بأن الرسول يأمر المسلم بأن َيلزم‬ ‫جماعة المسلمين وإن َيلزم إمامهم‪ ،‬ويترك الدعاة الذين هم على‬ ‫أبواب جهنم‪ .‬فسأله السائل في حالة أن ل يكون للمسلمين إمام‬ ‫ول لهم جماعة‪ ،‬ماذا يصنع بالنسبة للدعاة الذين على أبواب‬ ‫جهنم‪ ،‬فحينئذ أمره الرسول أن يعتزل هذه الفرق‪ ،‬ل أن يعتزل‬ ‫المسلمين ول أن يقعد عن إقامة إمام‪ .‬فأْمره صريح )فاعتِزل تلك‬ ‫الفرق كلها(‪ ،‬وباَلغ في وصف اعتزاله لتلك الِفرق إلى درجة أنه‬ ‫ولو بلغ اعتزاله إلى حد أن يعض على أصل شجرة حتى يدركه‬ ‫الموت وهو على ترك تلك الِفرق التي على أبواب جهنم‪ ،‬ومعناه‬ ‫سك بدينك وبالبعد عن الدعاة المضلين الذين على أبواب‬ ‫تم ّ‬ ‫جهنم‪ .‬فهذا الحديث ليس فيه أي عذر لترك القيام بالعمل لقامة‬ ‫خليفة ول أي ترخيص في ذلك‪ ،‬وإنما هو محصور على المر‬ ‫بالتمسك بالدين واعتزال الدعاة الذين على أبواب جهنم‪ ،‬ويبقى‬ ‫الثم عليه إذا لم يعمل لقامة خليفة‪ .‬فهو مأمور بأن يبتعد عن‬ ‫الِفرق الضالة‪ ،‬لَيسَلم بدينه من دعاة الضلل ولو عض على أصل‬ ‫شجرة‪ ،‬ل أن يبتعد عن جماعة المسلمين ويقعد عن القيام‬ ‫بأحكام الدين وعن إقامة إمام للمسلمين‪.‬‬ ‫ي رضي ا عنه‬ ‫خدر ّ‬ ‫ل‪ ،‬روى البخاري عن أبي سعيد ال ُ‬ ‫ومث ً‬ ‫أنه قال‪ :‬قال رسول ا صلى ا عليه وسلم‪) :‬يوشك أن يكون‬ ‫م يتبع بها شعف الجبال ومواقع الِقطر َيفّر‬ ‫غَن ٌ‬ ‫خير مال المسلم َ‬ ‫بدينه من الِفتن(‪ ،‬فإن هذا ل يعني اعتزال جماعة المسلمين‬ ‫والقعود عن القيام بأحكام الدين وعن إقامة خليفة للمسلمين‬ ‫حين تخلو الرض من الخلفة‪ ،‬بل كل ما فيه هو بيان خير مال‬ ‫المسلم في أيام الفتن وخير ما يفعله للهروب من الفتن‪ ،‬وليس‬ ‫هو للحث على الُبعد عن المسلمين واعتزال الناس‪.‬‬ ‫وعليه‪ ،‬فإنه ل يوجد عذر لمسلم على وجه الرض في‬ ‫‪-10-‬‬


‫القعود عن القيام بما فرضه ا عليهم لقامة الدين‪ ،‬أل وهو‬ ‫العمل لقامة خليفة للمسلمين حين تخلو الرض من الخلفة‪،‬‬ ‫حُرمات ا‪ ،‬ول من‬ ‫وحين ل يوجد فيها من يقيم حدود ا لحفظ ُ‬ ‫يقيم أحكام الدين‪ ،‬ويجمع شمل جماعة المسلمين تحت راية ل‬ ‫إله إل ّ ا محمد رسول ا‪ .‬ول توجد في السلم أية رخصة في‬ ‫القعود عن القيام بهذا الفرض حتى يقوم‪.‬‬

‫المدة التي ُيم َهل فيها المسلمون لقامة خليفة‬ ‫والمدة التي ُيمَهل فيها المسلمون لقامة خليفة هي ليلتان‪،‬‬ ‫حل لمسلم أن يبيت ليلتين وليس في عنقه بيعة‪ .‬أّما تحديد‬ ‫فل َي ِ‬ ‫أعلى الحد بليلتين فلن نصب الخليفة فرض منذ اللحظة التي‬ ‫ُيتوفى فيها الخليفة السابق أو ُيعَزل‪ .‬ولكن يجوز تأخير النصب مع‬ ‫الشتغال به مدة ليلتين‪ ،‬فإذا زاد على ليلتين ولم يقيموا خليفة‬ ‫ُينظر‪ ،‬فإن كان المسلمون مشغولين بإقامة خليفة ولم يستطيعوا‬ ‫إنجاز إقامته خلل ليلتين لمور قاهرة ل ِقبل لهم بدفعها‪ ،‬فإنه‬ ‫يسقط الثم عنهم لنشغالهم بإقامة الفرض ولستكراههم على‬ ‫التأخير بما قهرهم عليه‪ ،‬قال عليه السلم ‪ُ) :‬رفع عن أّمتي الخطأ‬ ‫والنسيان وما اسُتكرهوا عليه(‪ .‬وإن لم يكونوا مشغولين بذلك‬ ‫فإنهم يأثمون جميعا حتى يقوم الخليفة‪ ،‬وحينئذ يسقط الفرض‬ ‫عنهم‪ .‬أّما الثم الذين ارتكبوه في قعودهم عن إقامة خليفة فإنه‬ ‫ل يسقط عنهم بل يبقى عليهم يحاسبهم ا عليه كمحاسبته على‬ ‫أية معصية يرتكبها المسلم في ترك القيام بالفرض‪.‬‬ ‫أّما كون المدة التي ُيمَهل فيها المسلمون للقيام بفرض‬ ‫إقامة خليفة ليلتين‪ ،‬فإن الدليل عليها هو أن الصحابة باشروا‬ ‫الجتماع بالسقيفة للبحث في نصب خليفة لرسول ا منذ بلغهم‬ ‫نبأ وفاته‪ ،‬ولكنهم ظلوا في نقاش في السقيفة‪ ،‬ثم في اليوم‬ ‫الثاني جمعوا الناس في المسجد للبيعة فاستغرق ذلك ليلتين‬ ‫عِهد لهل الشورى عند ظهور تحقق‬ ‫بثلثة أيام‪ .‬وأيضا فإن عمر َ‬ ‫وفاته من الطعنة‪ ،‬وحدد لهم ثلثة أيام ثم أوصى أنه إذا لم ُيتفق‬ ‫على الخليفة في ثلثة أيام فلُيقَتل المخاِلف بعد اليام الثلثة‪،‬‬ ‫وَوّكل خمسين رجل ً من المسلمين بتنفيذ ذلك‪ ،‬أي بقتل المخاِلف‪،‬‬ ‫مع أنهم من أهل الشورى ومن كبار الصحابة‪ ،‬وكان ذلك على‬ ‫‪-11-‬‬


‫كر ذلك‪،‬‬ ‫مرأى ومسمع من الصحابة ولم ُينَقل عنهم مخاِلف أو من ِ‬ ‫فكان إجماعا من الصحابة على أنه ل يجوز أن يخلو المسلمون‬ ‫من خليفة أكثر من ليلتين بثلثة أيام‪ ،‬وإجماع الصحابة دليل‬ ‫شرعي كالكتاب والسّنة‪.‬‬

‫انعقاد الخلفة‬ ‫الخلفة عقد مراضاة واختيار‪ ،‬لنها بيعة بالطاعة لمن له‬ ‫حق الطاعة من ولية المر‪ .‬فل بد فيها من رضا من يباَيع ليتولها‬ ‫ورضا المباِيعين له‪ .‬ولذلك إذا رفض أحد أن يكون خليفة وامتنع‬ ‫من الخلفة ل يجوز إكراهه عليها‪ ،‬فل ُيجَبر على قبولها بل ُيعَدل‬ ‫عنه إلى غيره‪ .‬وكذلك ل يجوز أخذ البيعة من الناس بالجبار‬ ‫والكراه لنه حينئذ ل يصح اعتبار العقد فيها صحيحا لمنافاة‬ ‫الجبار لها‪ ،‬لنها عقد مراضاة واختيار ل يدخله إكراه ول إجبار كأي‬ ‫عقد من العقود‪ .‬إل ّ أنه إذا تم عقد البيعة ممن ُيعَتد ببيعتهم فقد‬ ‫انعقدت البيعة‪ ،‬وأصبح المباَيع هو ولي المر‪ ،‬فوجبت طاعته‪.‬‬ ‫وتصبح البيعة له بيعة على الطاعة وليست بيعة لعقد الخلفة‪.‬‬ ‫وحينئذ يجوز له أن يجبر الناس الباقين على بيعته لنها إجبار على‬ ‫طاعته‪ ،‬وهذا واجب شرعا‪ ،‬وليست هي في هذه الحال عقد‬ ‫مبايعة بالخلفة حتى يقال ل يصح فيه الجبار‪ .‬وعلى ذلك فالبيعة‬ ‫ابتداء عقد ل يصح إل ّ بالرضا والختيار‪ .‬أّما بعد انعقاد البيعة‬ ‫للخليفة فتصبح طاعة أي انقيادا لمر الخليفة ويجوز فيها الجبار‬ ‫تنفيذا لمر ا تعالى‪.‬‬ ‫ما كانت الخلفة عقدا فإنها ل تتم إل ّ بعاقد‪ ،‬كالقضاء ل‬ ‫ول ّ‬ ‫له أحد القضاء‪ ،‬والمارة ل يكون أحد‬ ‫يكون المرء قاضيا إل ّ إذا و ّ‬ ‫له أحد المارة‪ ،‬والخلفة ل يكون أحد خليفة إل ّ إذا‬ ‫أميرا إل ّ إذا و ّ‬ ‫له أحد الخلفة‪ .‬ومن هنا يتبين أنه ل يكون أحد خليفة إل ّ إذا‬ ‫و ّ‬ ‫له المسلمون‪ ،‬ول يملك صلحيات الخلفة إل ّ إذا تم عقده لها‪،‬‬ ‫و ّ‬ ‫ول يتم هذا العقد إل ّ من عاقدْين أحدهما طالب الخلفة‬ ‫والمطلوب لها‪ ،‬والثاني المسلمون الذين رضوا به أن يكون خليفة‬ ‫لهم‪ .‬ولهذا كان ل بد لنعقاد الخلفة من بيعة المسلمين‪ .‬وعلى‬ ‫‪-12-‬‬


‫هذا فإنه إذا قام متسلط واستولى على الحكم بالقوة فإنه ل‬ ‫يصبح بذلك خليفة ولو أعلن نفسه خليفة للمسلمين‪ ،‬لنه لم تنعقد‬ ‫له خلفة ِمن ِقبل المسلمين‪ .‬ولو أخذ البيعة على الناس بالكراه‬ ‫والجبار ل يصبح خليفة ولو بويع‪ ،‬لن البيعة بالكراه والجبار ل‬ ‫تعتبر ول تنعقد بها الخلفة‪ ،‬لنها عقد مراضاة واختيار ل يتم‬ ‫بالكراه والجبار‪ ،‬فل تنعقد إل ّ بالبيعة عن رضا واختيار‪ .‬إل ّ أن‬ ‫هذا المتسلط إذا استطاع أن ُيقنع الناس بأن مصلحة المسلمين‬ ‫في بيعته وإن إقامة أحكام الشرع تحّتم بيعته وَقَنعوا بذلك‬ ‫ورضوا‪ ،‬ثم بايعوه عن رضا واختيار‪ ،‬فإنه يصبح خليفة منذ اللحظة‬ ‫خذ السلطان ابتدا ً‬ ‫ء‬ ‫التي بويع فيها عن رضا واختيار‪ ،‬ولو كان أ َ َ‬ ‫بالتسلط والقوة‪ .‬فالشرط هو حصول البيعة وأن يكون حصولها‬ ‫عن رضا واختيار‪ ،‬سواء كان من حصلت له البيعة هو الحاكم‬ ‫والسلطان أو لم يكن‪.‬‬ ‫أّما من هم الذين تنعقد الخلفة ببيعتهم‪ ،‬فإن ذلك ُيفهم‬ ‫من استعراض ما حصل في بيعة الخلفاء الراشدين وما أجمع‬ ‫عْقد من‬ ‫ل وال َ‬ ‫ح ّ‬ ‫عليه الصحابة‪ .‬ففي بيعة أبي بكر اكُتفي بأهل ال َ‬ ‫المسلمين الذين كانوا في المدينة وحدها‪ ،‬ولم يؤخذ رأي‬ ‫المسلمين في مكة وفي سائر جزيرة العرب‪ ،‬بل لم ُيسألوا‪.‬‬ ‫وكذلك الحال في بيعة عمر‪ .‬أّما بيعة عثمان فإن عبدالرحمن بن‬ ‫عوف أخذ رأي المسلمين في المدينة‪ ،‬ولم يقتصر على سؤال‬ ‫أهل الحل والعقد كما فعل أبو بكر عند ترشيح عمر‪ .‬وفي عهد‬ ‫علي اكُتفي ببيعة أكثر أهل المدينة وأهل الكوفة وُأفِرد هو‬ ‫بالبيعة واعُتبرت بيعته حتى عند الذين خالفوه وحاربوه‪ ،‬فإنهم لم‬ ‫يبايعوا غيره ولم يعترضوا على بيعته‪ ،‬وإنما طالبوا بدم عثمان‪.‬‬ ‫فكان حكمهم حكم البغاة الذين نقموا على الخليفة أمرا‪ ،‬فعليه‬ ‫أن يوضحه لهم ويقاتلهم‪ ،‬ولم يكّونوا خلفة أخرى‪.‬‬ ‫وقد حصل كل ذلك –أي بيعة الخليفة من أكثر أهل‬ ‫العاصمة فقط دون باقي القاليم‪ -‬على مرأى ومسمع من‬ ‫كر لهذا العمل‬ ‫الصحابة‪ ،‬ولم يكن هنالك مخالف في ذلك ول من ِ‬ ‫من حيث اقتصار البيعة على أكثر أهل المدينة مع مخالفتهم في‬ ‫كروا اقتصار‬ ‫شخص الخليفة وإنكارهم أعماله‪ ،‬ولكن لم ُين ِ‬ ‫مبايعته على أكثر أهل المدينة‪ ،‬فكان ذلك إجماعا من الصحابة‬ ‫على أن الخلفة تنعقد ممن يمثلون رأي المسلمين في الحكم‪،‬‬ ‫‪-13-‬‬


‫لن أهل الحل والعقد وأكثر سكان المدينة كانوا هم أكثرية‬ ‫الممثلين لرأي الّمة في الحكم في جميع رقعة الدولة السلمية‬ ‫حينئذ‪.‬‬ ‫وعلى هذا فإن الخلفة تنعقد إذا جرت البيعة من أكثر‬ ‫الممثلين لكثر الّمة السلمية ممن يدخلون تحت طاعة الخليفة‬ ‫الذي يراد انتخاب خليفة مكانه‪ ،‬كما جرى الحال في عهد الخلفاء‬ ‫الراشدين‪ .‬وتكون بيعتهم حينئذ بيعة عقد للخلفة‪ .‬أّما من عداهم‬ ‫فإنه بعد انعقاد الخلفة للخليفة تصبح بيعته بيعة طاعة‪ ،‬أي بيعة‬ ‫انقياد للخليفة ل بيعة عقد للخلفة‪.‬‬ ‫عزل ويراد إيجاد خليفة‬ ‫هذا إذا كان هنالك خليفة مات أو ُ‬ ‫مكانه‪ ،‬أّما إذا لم يكن هنالك خليفة مطلقا‪ ،‬وأصبح فرضا على‬ ‫مل‬ ‫المسلمين أن يقيموا خليفة لهم لتنفيذ أحكام الشرع وح ْ‬ ‫الدعوة السلمية إلى العالم‪ ،‬كما هي الحال منذ زوال الخلفة‬ ‫السلمية في اسطنبول سنة ‪ 1343‬هجرية الموافق سنة ‪1924‬‬ ‫ميلدية حتى يومنا هذا سنة ‪ 1379‬هجرية الموافق سنة ‪1960‬‬ ‫ميلدية‪ ،‬فإن كل ُقطر من القطار السلمية الموجودة في‬ ‫ل لن يباِيع خليفة‪ ،‬وتنعقد به الخلفة‪ .‬فإذا‬ ‫العالم السلمي أه ٌ‬ ‫بايع ُقطر ما من هذه القطار السلمية خليفة‪ ،‬وانعقدت الخلفة‬ ‫له‪ ،‬فإنه يصبح فرضا على المسلمين أن يبايعوه بيعة طاعة أي‬ ‫بيعة انقياد بعد أن انعقدت الخلفة له ببيعة أهل ُقطره‪ ،‬سواء‬ ‫أكان هذا الُقطر كبيرا كمصر أو تركيا أو اندونيسيا‪ ،‬أو كان صغيرا‬ ‫كالبانيا والكمرون ولبنان‪ ،‬على شرط أن تتوفر فيه أربعة أمور‪:‬‬ ‫أحدها‪ :‬أن يكون سلطان ذلك الُقطر سلطانا ذاتيا يستند‬ ‫إلى المسلمين وحدهم ل إلى دولة كافرة أو نفوذ كافر‪.‬‬ ‫ثانيها‪ :‬أن يكون أمان المسلمين في ذلك الُقطر بأمان‬ ‫السلم ل بأمان الكفر‪ ،‬أي أن تكون حمايته من الداخل والخارج‬ ‫حماية إسلم من قوة المسلمين باعتبارها قوة إسلمية بحتة‪.‬‬ ‫ثالثها‪ :‬أن يبدأ حال ً بمباشرة تطبيق السلم كامل ً تطبيقا‬ ‫ل‪ ،‬وأن يكون متلبسا بحمل الدعوة السلمية‪.‬‬ ‫انقلبيا شام ً‬ ‫رابعها‪ :‬أن يكون الخليفة المباَيع مستكمل ً شروط انعقاد‬ ‫الخلفة وإن لم يكن مستوفيا شروط الفضلية‪ ،‬لن العبرة‬ ‫بشروط النعقاد‪.‬‬ ‫فإذا استوفى ذلك الُقطر هذه المور الربعة فقد ُوجدت‬ ‫‪-14-‬‬


‫الخلفة بمبايعة ذلك الُقطر وحده وانعقدت به وحده‪ ،‬ولو كان ل‬ ‫يمثل أكثر أهل الحل والعقد لكثر الّمة السلمية‪ ،‬لن إقامة‬ ‫الخلفة فرض كفاية‪ ،‬والذي يقوم بذلك الفرض على وجهه‬ ‫الصحيح يكون قام بالشيء المفروض‪ .‬ولن اشتراط أكثر أهل‬ ‫الحل والعقد إذا كانت هنالك خلفة موجودة يراد إيجاد خليفة‬ ‫فيها مكان الخليفة المتوفى أو المعزول‪ .‬أّما إذا لم تكن هنالك‬ ‫خلفة مطلقا ويراد إيجاد خلفة‪ ،‬فإن مجرد وجودها على الوجه‬ ‫الشرعي تنعقد الخلفة بأي خليفة يستكمل شروط النعقاد مهما‬ ‫كان عدد المباِيعين الذين بايعوه‪ .‬لن المسألة تكون حينئذ مسألة‬ ‫صر المسلمون عن القيام به مدة تزيد على الثلثة‬ ‫قيام بفرض ق ّ‬ ‫ك لحّقهم في اختيار من يريدون‪ .‬فمن‬ ‫اليام‪ .‬فتقصيرهم هذا تر ٌ‬ ‫يقوم في الفرض يكفي لنعقاد الخلفة به‪ .‬ومتى قامت الخلفة‬ ‫في ذلك الُقطر وانعقدت لخليفة‪ ،‬يصبح فرضا على المسلمين‬ ‫جميعا النضواء تحت لواء الخلفة ومبايعة الخليفة‪ ،‬وإل ّ كانوا‬ ‫آثمين عند ا‪ ،‬ويجب على هذا الخليفة أن يدعوهم لبيعته‪ ،‬فإن‬ ‫امتنعوا كان حكمهم حكم البغاة ووجب على الخليفة محاربتهم‬ ‫حتى يدخلوا تحت طاعته‪ .‬وإذا بويع لخليفة آخر في نفس الُقطر‬ ‫أو في ُقطر آخر بعد بيعة الخليفة الول وانعقاد الخلفة له‬ ‫انعقادا شرعيا مستوفيا المور الربعة السابقة‪ ،‬وجب على‬ ‫المسلمين محاربة الخليفة الثاني حتى يباِيع الخليفة الول‪ِ ،‬لما‬ ‫ُروي عن عبدا بن عمرو بن العاص يقول‪ :‬إنه سمع رسول ا‬ ‫صلى ا عليه وسلم يقول‪) :‬وَمن باَيع إماما فأعطاه صفقة يده‬ ‫طعه إن استطاع فإن جاء آخر ينازعه فاضربوا‬ ‫وثمرة قلبه فلُي ِ‬ ‫عنق الخر(‪ ،‬ولن الذي يجمع المسلمين هو خليفة المسلمين‬ ‫براية السلم‪ .‬فإذا ُوجد الخليفة ُوجدت جماعة المسلمين ويصبح‬ ‫فرضا النضمام إليهم ويحرم الخروج عنهم‪ .‬عن ابن عباس رضي‬ ‫ا عنه عن النبي صلى ا عليه وسلم قال‪) :‬من رأى من أميره‬ ‫شيئا فلَيصِبر عليه‪ ،‬فإنه من فارق الجماعة شبرا فمات إل ّ مات‬ ‫ميتة جاهلية(‪ ،‬وروى مسلم عن ابن عباس عن النبي صلى ا‬ ‫عليه وسلم قال‪) :‬من َكِره من أميره شيئا فليصبر‪ ،‬فإنه ليس أحد‬ ‫من الناس خرج من السلطان شبرا فمات إل ّ مات ميتة جاهلية(‪.‬‬ ‫ومفهوم هذين الحديثين لزوم الجماعة ولزوم السلطان‪.‬‬ ‫ق في البيعة لغير المسلمين ول تجب عليهم‪ ،‬لنها‬ ‫ح ّ‬ ‫ول َ‬ ‫‪-15-‬‬


‫بيعة على السلم وعلى كتاب ا وسّنة رسول ا‪ ،‬وهي‬ ‫تقتضي اليمان بالسلم وبالكتاب والسّنة‪ .‬وغير المسلمين ل‬ ‫يجوز أن يكونوا في الحكم‪ ،‬ول أن ينتخبوا الحاكم‪ ،‬لنه ل سبيل‬ ‫لهم على المسلمين‪ ،‬ولنه ل محل لهم في البيعة‪.‬‬

‫البيعـة‬ ‫البيعة فرض على المسلمين جميعا‪ ،‬وهي حق لكل مسلم‬ ‫رجل ً كان أو امرأة‪ .‬أّما كونها فرضا فالدليل عليه أحاديث كثيرة‬ ‫منها قوله عليه الصلة والسلم‪) :‬من مات وليس في عنقه بيعة‬ ‫مات ميتة جاهلية(‪ .‬وأّما كونها حقا للمسلمين فإن البيعة من حيث‬ ‫هي تدل على ذلك‪ ،‬لن البيعة هي من ِقبل المسلمين للخليفة‬ ‫وليست من ِقبل الخليفة للمسلمين‪ .‬وقد ثبتت بيعة المسلمين‬ ‫عبادة بن‬ ‫للرسول في الحاديث الصحيحة‪ ،‬ففي البخاري عن ُ‬ ‫عنا رسول ا صلى ا عليه وسلم على السمع‬ ‫الصامت قال‪) :‬باَي ْ‬ ‫مكَره وأن ل ننازع المر أهله وأن نقوم‬ ‫شط وال َ‬ ‫من َ‬ ‫والطاعة في ال َ‬ ‫أو أن نقول بالحق حيثما كنا ل نخاف في ا لومة لئم(‪ ،‬وفي‬ ‫عنا رسول‬ ‫البخاري عن أيوب عن حفصة عن أم عطية قالت‪) :‬باَي ْ‬ ‫ا صلى ا عليه وسلم فقرأ )على أن ل ُيشِركن بالله شيئا(‬ ‫ضت امرأة منا يدها فقالت‪ :‬فلنة أسعدتني‬ ‫ونهانا عن النياحة‪ .‬فَقَب َ‬ ‫عت(‪ ،‬وعن أبي‬ ‫وأنا أريد أن أجزيها‪ .‬فلم َيُقل شيئا‪ ،‬فذهَبت ثم رج َ‬ ‫هريرة قال‪ :‬قال رسول ا صلى ا عليه وسلم‪) :‬ثلثة ل‬ ‫يكلمهم ا يوم القيامة ول يزكيهم ولهم عذاب أليم‪ :‬رجل على‬ ‫ل ماء بالطريق َيمَنع منه ابن السبيل‪ ،‬ورجل باَيع إماما ل‬ ‫فض ِ‬ ‫ف له‪ ،‬ورجل‬ ‫يبايعه إل ّ لدنياه إن أعطاه ما يريد وّفى له وإل ّ لم ي ِ‬ ‫يباِيع رجل ً بسلعة بعد العصر فحلف بالله لقد ُأعطي بها كذا وكذا‬ ‫ط بها(‪ ،‬وعن عبدا بن عمر رضي ا‬ ‫فصّدقه فأخذها ولم ُيع َ‬ ‫عنا رسول ا صلى ا عليه وسلم على‬ ‫عنهما قال‪) :‬كنا إذا باَي ْ‬ ‫ت(‪ ،‬وعن جرير بن عبدا‬ ‫السمع والطاعة‪ ،‬يقول لنا‪ :‬فيما استطع َ‬ ‫ت النبي صلى ا عليه وسلم على السمع والطاعة‪،‬‬ ‫قال‪) :‬بايع ُ‬ ‫ت والنصح لكل مسلم(‪ ،‬وعن جنادة بن أبي‬ ‫فلّقنني‪ :‬فيما استطع َ‬ ‫‪-16-‬‬


‫خْلنا على عبادة بن الصامت وهو مريض‪ ،‬قلنا‪:‬‬ ‫أمية قال‪) :‬د َ‬ ‫أصلحك ا حّدث بحديث ينفعك ا به سمعَته من النبي صلى‬ ‫ا عليه وسلم‪ .‬قال‪ :‬دعانا النبي صلى ا عليه وسلم فبايعناه‪.‬‬ ‫شطنا‬ ‫عنا على السمع والطاعة في َمن َ‬ ‫فقال فيما أخذ علينا أن باَي ْ‬ ‫عسرنا وُيسرنا وأَثَرة علينا وأن ل ننازع المر أهله‪ ،‬إل ّ‬ ‫وَمكَرهنا و ُ‬ ‫أن تروا كفرا بواحا عندكم من ا فيه برهان(‪.‬‬ ‫فالببيعة لخليفة هي بيد المسلمين‪ ،‬وهي حقهم‪ ،‬وهم‬ ‫الذين يباِيعون‪ ،‬وبيعتهم هي التي تجعل الخلفة تنعقد للخليفة‪.‬‬ ‫وتكون البيعة مصافحة باليد أو كتابة‪ ،‬ل فرق بين الرجال والنساء‪،‬‬ ‫ن لهن أن يصافحن الخليفة بالبيعة كما يصافحه الرجال‪ .‬وأّما‬ ‫فإ ّ‬ ‫ما ُروي عن عروة عن عائشة رضي ا عنها قالت‪) :‬كان النبي‬ ‫صلى ا عليه وسلم يبايع النساء بالكلم بهذه الية ل) ُيشركن‬ ‫ست يد رسول صلى ا عليه وسلم يد‬ ‫بالله شيئا(‪ .‬قالت‪ :‬وما م ّ‬ ‫امرأة إل ّ امرأة يملكها(‪ ،‬فإن هذه الرواية تتحدث فيها عائشة عن‬ ‫مس يده يد امرأة‪ .‬ولكن‬ ‫مبلغ علمها هي‪ ،‬فعلى حد علمنا لم َت َ‬ ‫هناك أحاديث أخرى تدل على المصافحة‪ ،‬فحديث أم عطية الذي‬ ‫تقول فيه‪) :‬فَقَبضت منا امرأة يدها( يدل على أنها كانت باسطة‬ ‫ما نهاهن عن النياحة قبضت يدها عن البيعة‪.‬‬ ‫يدها للبيعة‪ ،‬فل ّ‬ ‫ومفهوم )قبضت منا امرأة يدها( أن غيرها لم تقبض يدها‪ ،‬وهذا‬ ‫يعني أن غيرها بايع بالمصافحة‪ ،‬وهو حديث صحيح رواه‬ ‫البخاري‪ ،‬وهو نص في المصافحة في مفهومه ومنطوقه‪ ،‬فتكون‬ ‫البيعة مصافحة باليدي‪ ،‬وقد تكون بالكتابة‪ ،‬فقد حّدث عبدا بن‬ ‫ت ابن عمر حيث اجتمع الناس على عبدالملك‬ ‫دينار قال‪ :‬شهد ُ‬ ‫قال‪ :‬كتب إني أ ُِقر بالسمع والطاعة لعبدا عبدالملك أمير‬ ‫ت(‪ .‬ويصح أن‬ ‫المؤمنين على سّنة ا وسّنة رسوله ما استطع ُ‬ ‫تكون البيعة بأية وسيلة من الوسائل‪.‬‬ ‫إل ّ أنه ُيشتَرط في البيعة أن تصُدر من البالغ‪ ،‬فل تصح‬ ‫البيعة من الصغار‪ .‬فقد حّدث أبو عقيل زهرة بن معبد عن جده‬ ‫عبدا بن هشام وكان قد أدرك النبي صلى ا عليه وسلم‬ ‫وذهَبت به أّمه زينب ابنة حميد إلى رسول ا صلى ا عليه‬ ‫وسلم فقال‪ :‬يا رسول ا بايعه‪ ،‬فقال النبي صلى ا عليه‬ ‫وسلم‪) :‬هو صغير‪ .‬فمسح رأسه ودعا له(‪.‬‬ ‫أّما ألفاظ البيعة فإنها غير مقّيدة بألفاظ معينة‪ .‬ولكن ل بد‬ ‫‪-17-‬‬


‫أن تشتمل على العمل بكتاب ا وسّنة رسوله بالنسبة للخليفة‪،‬‬ ‫مكَره بالنسبة للذي‬ ‫شط وال َ‬ ‫من َ‬ ‫عسر والُيسر وال َ‬ ‫وعلى الطاعة في ال ُ‬ ‫يعطي البيعة‪ .‬ومتى أعطى المباِيع البيعة للخليفة أو انعقدت‬ ‫الخلفة للخليفة ببيعة غيره من المسلمين فقد أصبحت البيعة‬ ‫أمانة في عنق المباِيع ل يحل الرجوع عنها‪ ،‬فهي حق باعتبار‬ ‫انعقاد الخلفة حتى يعطيها‪ ،‬فإن أعطاها لزم بها‪ .‬ولو أراد أن‬ ‫يرجع عن ذلك ل يجوز‪ ،‬ففي البخاري عن جابر بن عبدا رضي‬ ‫ا عنهما أن أعرابيا بايع رسول ا صلى ا عليه وسلم على‬ ‫عك‪ ،‬فقال‪ :‬أِقْلني بيعتي‪ .‬فأبى‪ .‬ثم جاء فقال‪:‬‬ ‫السلم فأصابه َو َ‬ ‫أِقْلني بيعتي‪ .‬فأبى‪ .‬فخرج‪ .‬فقال رسول ا صلى ا عليه‬ ‫صع طيُبها(‪ ،‬وعن نافع قال‪:‬‬ ‫خَبَثها وَين َ‬ ‫وسلم‪) :‬المدينة كالكير َتنفي َ‬ ‫ت رسول ا صلى ا عليه وسلم يقول‪:‬‬ ‫قال لي عمر‪ :‬سمع ُ‬ ‫)من خلع يدا من طاعة لقي ا يوم القيامة ل حجة له(‪ ،‬ونْق ُ‬ ‫ض‬ ‫ع لليد من طاعة ا‪ .‬غير أن هذا إذا كانت بيعته‬ ‫بيعة الخليفة خل ٌ‬ ‫للخليفة بيعة انعقاد أو بيعة طاعة لخليفة رضيه المسلمون‬ ‫ء ثم لم تتم البيعة له فإن له أن‬ ‫وبايعوه‪ ،‬أّما لو بايع خليفة ابتدا ً‬ ‫يتحلل من تلك البيعة على اعتبار أن المسلمين لم َيقبلوه‬ ‫ب على الرجوع عن بيعة‬ ‫بمجموعهم‪ .‬فالنهي في الحديث ُمنص ّ‬ ‫خليفة ل عن بيعة رجل لم تتم له الخلفة‪.‬‬

‫شروط الخليفة‬ ‫يجب أن تتوفر في الخليفة ستة شروط حتى يكون أهل ً‬ ‫للخلفة‪ ،‬وحتى تنعقد البيعة له بالخلفة‪ .‬وهذه الشروط الستة‪،‬‬ ‫شروط انعقاد‪ ،‬إذا نقص شرط منها لم تنعقد الخلفة‪ ،‬وهي‪:‬‬ ‫أول ً‪ :‬أن يكون مسلما‪ .‬فل تصح الخلفة لكافر مطلقا‪ ،‬ول‬ ‫تجب طاعته‪ ،‬لن ا تعالى يقول‪) :‬ولن يجعل ا للكافرين على‬ ‫المؤمنين سبيل ً(‪ ،‬والحكم هو أقوى سبيل للحاكم على المحكوم‪.‬‬ ‫والتعبير بـ )لن( المفيدة للتأبيد قرينة للنهي الجازم على أن يتولى‬ ‫الكافر أي حكم مطلقا سواء أكان الخلفة أم دونها‪.‬‬ ‫ثانيا‪ :‬أن يكون ذكرا‪ .‬فل يجوز أن يكون الخليفة أنثى‪ ،‬أي ل‬ ‫ل‪ ،‬فل يصح أن يكون امرأة‪ِ ،‬لما ُروي عن أبي‬ ‫بد أن يكون رج ً‬ ‫كَرة قال‪ :‬لقد نفعني ا بكلمة سمعتها من رسول ا صلى ا‬ ‫َب ْ‬ ‫‪-18-‬‬


‫حق بأصحاب الجمل فأقاِتل‬ ‫ت أل َ‬ ‫عليه وسلم أيام الجمل بعد ما كد ُ‬ ‫ما بلغ رسول ا صلى ا عليه وسلم أن أهل‬ ‫معهم‪ .‬قال‪ :‬ل ّ‬ ‫فارس قد مّلكوا عليهم بنت كسرى قال‪) :‬لن ُيفلح قوم وّلوا‬ ‫أمرهم امرأة(‪ .‬فإخبار الرسول بنفي الفلح عمن ُيوّلون أمرهم‬ ‫امرأة هو نهي عن توليتها‪ ،‬إذ هو من صيغ الطلب‪ ،‬وكون هذا‬ ‫الخبار جاء إخبارا بالذم لمن يوّلون أمرهم امرأة بنفي الفلح‬ ‫عنهم‪ ،‬فإنه يكون قرينة على النهي الجازم‪ .‬فيكون النهي هنا عن‬ ‫تولية المرأة قد جاء مقرونا بقرينة تدل على طلب الترك طلبا‬ ‫جازما‪ ،‬فكانت تولية المرأة حراما‪ .‬والمراد توليتها الحكم‪ :‬الخلفة‬ ‫وما دونها من المناصب التي تعتبر من الحكم‪ ،‬لن موضوع‬ ‫الحديث ولية بنت كسرى ُملكا‪ ،‬فهو خاص بموضوع الحكم الذي‬ ‫جرى عليه الحديث‪ ،‬وليس خاصا بحادثة ولية بنت كسرى وحدها‪،‬‬ ‫كما أنه ليس عاما في كل شيء فل يشمل غير موضوع الحكم‬ ‫ول بوجه من الوجوه‪.‬‬ ‫ثالثا‪ :‬أن يكون بالغا‪ ،‬فل يجوز أن يكون صبيا‪ِ ،‬لما ُروي عن‬ ‫علي بن أبي طالب رضي ا عنه أن رسول ا صلى ا عليه‬ ‫وسلم قال ‪ُ) :‬رفع القلم عن النائم حتى يستيقظ‪ ،‬وعن الصبي‬ ‫مبتلى حتى َيعِقل(‪ ،‬ومن ُرفع القلم عنه ل يصح‬ ‫حتى َيبُلغ‪ ،‬وعن ال ُ‬ ‫أن يتصرف في أمره وهو غير مكّلف شرعا فل يصح أن يكون‬ ‫خليفة أو ما دون ذلك من الحكم لنه ل يملك التصرفات‪ .‬والدليل‬ ‫أيضا على عدم جواز كون الخليفة صبيا‪ ،‬أن رسول ا صلى ا‬ ‫عليه وسلم رفض أن يبايعه صبي‪ ،‬فقد رفض بيعة عبدا بن‬ ‫صغره فقال‪) :‬هو صغير(‪ .‬فإذا كانت البيعة ل‬ ‫هشام وعّلل ذلك ب ِ‬ ‫من باب أْولى‬ ‫صح من الصبي ول يجوز أن يباِيع غيره خليفة‪ ،‬ف ِ‬ ‫َت ِ‬ ‫أنه ل يجوز أن يكون خليفة‪.‬‬ ‫ل‪ ،‬فل يصح أن يكون مجنونا‪ ،‬لقول‬ ‫رابعا‪ :‬أن يكون عاق ً‬ ‫رسول ا صلى ا عليه وسلم ‪ُ) :‬رفع القلم عن ثلث(‪ ،‬وقال‬ ‫منها‪) :‬المجنون حتى يفيق(‪ ،‬ومن ُرفع القلم عنه فهو غير مكّلف‪.‬‬ ‫ولن العقل مناط التكليف وشرط لصحة التصرفات‪ .‬والخليفة إّنما‬ ‫يقوم بتصرفات الحكم وبتنفيذ التكاليف الشرعية‪ ،‬فل يصح أن‬ ‫يكون مجنونا‪.‬‬ ‫ل‪ ،‬فل يصح أن يكون فاسقا‪ .‬والعدالة‬ ‫خامسا‪ :‬أن يكون عد ً‬ ‫شرط لزم لنعقاد الخلفة ولستمرارها‪ ،‬لن ا تعالى اشترط‬ ‫‪-19-‬‬


‫ي عدل‬ ‫ل‪ ،‬قال تعالى‪) :‬وأشِهدوا َذَو ْ‬ ‫في الشاهد أن يكون عد ً‬ ‫من هو أعظم من الشاهد وهو الخليفة من باب أْولى‬ ‫منكم(‪ ،‬ف َ‬ ‫طها‬ ‫شرطت العدالة للشاهد فشر ُ‬ ‫ل‪ ،‬لنه إذا ُ‬ ‫أنه َيلزم أن يكون عد ً‬ ‫للخليفة أْولى‪.‬‬ ‫سادسا‪ :‬أن يكون حرا‪ ،‬لن العبد مملوك لسيده فل يملك‬ ‫التصرف بنفسه‪ ،‬ومن باب أْولى أن ل يملك التصرف بغيره‪ ،‬فل‬ ‫يملك الولية على الناس‪.‬‬ ‫هذه هي شروط انعقاد الخلفة للخليفة‪ .‬وما عدا هذه‬ ‫الشروط الستة ل يصلح أي شرط لن يكون شرط انعقاد‪ ،‬وإن‬ ‫حت النصوص فيه‪ ،‬أو‬ ‫كان يمكن أن يكون شرط أفضلية إذا ص ّ‬ ‫كان مندرجا تحت حكم َثَبت بنص صحيح‪ .‬وذلك لنه َيلزم في‬ ‫الشرط حتى يكون شرط انعقاد أن يأتي الدليل على اشتراطه‬ ‫متضمنا طلبا جازما حتى يكون قرينة على اللزوم‪ ،‬فإذا لم يكن‬ ‫الدليل متضمنا طلبا جازما كان الشرط شرط أفضلية ل شرط‬ ‫انعقاد‪ .‬ولم َيِرد دليل فيه طلب جازم إل ّ هذه الشروط الستة‪،‬‬ ‫ولذلك كانت وحدها شروط انعقاد‪ .‬أّما ما عداها مما صح فيه‬ ‫الدليل فهو شرط أفضلية فقط‪.‬‬ ‫وعلى ذلك فل ُيشترط لنعقاد الخلفة أن يكون الخليفة‬ ‫مجتهدا لنه لم يصح نص في ذلك‪ ،‬ولن عمل الخليفة الحكم‪،‬‬ ‫وهو ل يحتاج إلى اجتهاد لمكانه أن يسأل عن الحكم وأن يقّلد‬ ‫مجتهدا وأن يتبنى أحكاما بناء على تقليده‪ ،‬فل ضرورة لن يكون‬ ‫مجتهدا‪ ،‬ولكن الفضل أن يكون مجتهدا‪ ،‬فإن لم يكن كذلك‬ ‫انعقدت خلفته‪.‬‬ ‫وكذلك ل ُيشترط لنعقاد الخلفة أن يكون الخليفة شجاعا‬ ‫أو من أصحاب الرأي المفضي إلى سياسة الرعية وتدبير‬ ‫المصالح‪ ،‬لنه لم يصح حديث في ذلك‪ ،‬ول يندرج تحت حكم‬ ‫شرعي يجعل ذلك شرط انعقاد‪ ،‬وإن كان الفضل أن يكون‬ ‫شجاعا ذا رأي وبصيرة‪.‬‬ ‫وكذلك ل ُيشترط لنعقاد الخلفة أن يكون الخليفة ُقَرشيا‪.‬‬ ‫ت رسول ا صلى ا‬ ‫أّما ما ُروي عن معاوية أنه قال‪) :‬سمع ُ‬ ‫عليه وسلم يقول‪ :‬إن هذا المر في قريش ل يعاديهم أحد إل ّ كّبه‬ ‫ا على وجهه ما أقاموا الدين(‪ ،‬وما ُروي عن ابن عمر أنه قال‪:‬‬ ‫قال رسول ا صلى ا عليه وسلم ‪ :‬ل) يزال هذا المر في‬ ‫‪-20-‬‬


‫قريش ما بقي منهم اثنان(‪ ،‬فهذه الحاديث وغيرها مما صحّ‬ ‫عل ولية المر لقريش‪ ،‬فإنها وردت بصيغة‬ ‫إسناده للرسول ِمن ج ْ‬ ‫الخبار‪ ،‬ولم َيِرد ول حديث واحد بصيغة المر‪ .‬وصيغة الخبار وإن‬ ‫كانت تفيد الطلب‪ ،‬ولكنه ل يعتبر طلبا جازما ما لم يقترن بقرينة‬ ‫تدل على التأكيد‪ .‬ولم يقترن بأية قرينة تدل على التأكيد ول في‬ ‫رواية صحيحة‪ ،‬فدل على أنه للندب ل للوجوب‪ ،‬فيكون شرط‬ ‫ل يعاديهم أحد‬ ‫أفضلية ل شرط انعقاد‪ .‬وأّما قوله في الحديث ‪) :‬‬ ‫إل ّ كّبه ا( الحديث‪ ،‬فإنه معنى آخر في النهي عن عدم‬ ‫معاداتهم‪ ،‬وليس تأكيدا لقوله‪) :‬إن هذا المر في قريش(‪،‬‬ ‫فالحديث ينص على أن المر فيهم‪ ،‬وعلى النهي عن معاداتهم‪.‬‬ ‫وأيضا فإن كلمة قريش اسم وليس صفة‪ .‬ويقال له في اصطلح‬ ‫علم الصول لقب‪ .‬ومفهوم السم أي مفهوم اللقب ل ُيعمل به‬ ‫مطلقا‪ ،‬لن السم أي اللقب ل مفهوم له‪ .‬ولذلك فإن النص على‬ ‫قريش ل يعني أن ل ُيجعل في غير قريش‪ .‬فقوله عليه السلم‪:‬‬ ‫ل يزال هذا المر في قريش (ل يعني‬ ‫)إن هذا المر في قريش ( )‬ ‫أن هذا المر ل يصح أن يكون في غير قريش‪ ،‬ول أن كونه ل‬ ‫يزال فيهم أنه ل يصح أن يكون في غيرهم‪ ،‬بل فهو فيهم ويصح‬ ‫أن يكون في غيرهم‪ ،‬فيكون النص عليهم غير مانع من وجود‬ ‫غيرهم في الخلفة‪ .‬فيكون على هذا شرط أفضلية ل شرط‬ ‫انعقاد‪.‬‬ ‫وأيضا فقد أّمر رسول ا صلى ا عليه وسلم عبدا بن‬ ‫رواحة وزيد بن حارثة وأسامة بن زيد وجميعهم من غير قريش‪،‬‬ ‫فيكون الرسول قد أّمر غير قريش‪ .‬وكلمة )هذا المر( تعني ولية‬ ‫المر أي الحكم‪ ،‬وليست هي نصا في الخلفة وحدها‪ .‬فكون‬ ‫الرسول يولي الحكم غير قريش دليل على أنه غير محصور فيهم‬ ‫وغير ممنوع عن غيرهم‪ .‬فتكون الحاديث قد نصت على بعض‬ ‫َمن هم أهل للخلفة للدللة على أفضليتهم ل على حصر الخلفة‬ ‫فيهم وعدم انعقادها لغيرهم‪.‬‬ ‫وكذلك ل ُيشترط أن يكون الخليفة هاشميا أو علويا ِلما ثبت‬ ‫أن النبي صلى ا عليه وآله وسلم وّلى الحكم غير بني هاشم‬ ‫وغير بني علي‪ ،‬وأنه حين خرج إلى تبوك وّلى على المدينة محمد‬ ‫بن َمسَلمة وهو ليس هاشميا ول علويا‪ .‬وكذلك وّلى اليمن معاذ‬ ‫بن جبل وعمرو بن العاص وهما ليسا هاشميين ول علويين‪.‬‬ ‫‪-21-‬‬


‫وثبت بالدليل القاطع مبايعة المسلمين بالخلفة لبي بكر وعمر‬ ‫وعثمان‪ ،‬ومبايعة علي رضي ا عنه لكل واحد منهم مع أنهم لم‬ ‫يكونوا من بني هاشم‪ ،‬وسكوت جميع الصحابة على بيعتهم‪ ،‬ولم‬ ‫ُيرو عن أحد أنه أنكر بيعتهم لنهم ليسوا هاشميين ول علويين‪،‬‬ ‫فكان ذلك إجماعا من الصحابة بما فيهم علي وابن عباس وسائر‬ ‫بني هاشم على جواز أن يكون الخليفة غير هاشمي ول علوي‪.‬‬ ‫أّما الحاديث الواردة في فضل سيدنا علي رضي ا عنه وفي‬ ‫فضل آل البيت فإنها تدل على فضلهم ل على أن شرط انعقاد‬ ‫الخلفة أن يكون الخليفة منهم‪.‬‬ ‫ومن ذلك يتبين أنه ل يوجد أي دليل على وجود أي شرط‬ ‫لنعقاد الخلفة سوى الشروط الستة السابقة‪ ،‬وما عداها على‬ ‫فرض صحة جميع النصوص التي وردت فيه أو اندراجه تحت‬ ‫حت فيه النصوص‪ ،‬فإنه يمكن أن يكون شرط أفضلية ل‬ ‫حكم ص ّ‬ ‫شرط انعقاد‪ ،‬والمطلوب شرعا هو شرط انعقاد للخلفة للخليفة‬ ‫حتى يكون خليفة‪ .‬أّما ما عدا ذلك فهو يقال للمسلمين حين‬ ‫يعرض عليهم المرشحون للخلفة ليختاروا الفضل‪ .‬ولكن أي‬ ‫شخص اختاروه انعقدت خلفته‪ ،‬إذا كانت توفرت فيه شروط‬ ‫النعقاد وحدها‪ ،‬ولو لم يتوفر فيه غيرها‪.‬‬

‫طلب الخلفة‬ ‫طلب الخلفة والتنازع عليها جائز لجميع المسلمين وليس‬ ‫هو من المكروهات‪ ،‬ولم َيِرد أي نص في النهي عن التنازع عليها‪.‬‬ ‫وقد ثبت أن المسلمين تنازعوا عليها في سقيفة بني ساعدة‬ ‫جى على فراشه لم ُيدفن بعد‪ ،‬كما ثبت أن أهل‬ ‫والرسول مس ّ‬ ‫الشورى الستة وهم من كبار الصحابة رضوان ا عليهم تنازعوا‬ ‫كر عليهم‪،‬‬ ‫عليها على مرأى ومسمع من جميع الصحابة فلم ُين َ‬ ‫وأقّروهم على هذا التنازع‪ ،‬مما يدل على إجماع الصحابة على‬ ‫جواز التنازع على الخلفة‪ ،‬وعلى جواز طلبها والسعي لها‬ ‫حجة في سبيل الوصول إليها‪.‬‬ ‫حجة بال ُ‬ ‫ومقارعة الرأي بالرأي وال ُ‬ ‫وأّما النهي عن طلب المارة الوارد في الحاديث‪ ،‬فهو نهي‬ ‫للضعفاء أمثال أبي َذّر ممن ل يصلحون لها‪ .‬أّما الذين يصلحون‬ ‫للمارة فإنه يجوز لهم أن يطلبوها‪ ،‬فقد طلبها عمرو بن العاص‬ ‫‪-22-‬‬


‫له الرسول‪ .‬فالحاديث الواردة مخصوصة بمن ليس أهل ً لها‪،‬‬ ‫وو ّ‬ ‫سواء المارة أو الخلفة‪ .‬أّما من كان أهل ً لها فإن الرسول لم‬ ‫ما كان الرسول وّلى‬ ‫لها لمن طلبها‪ .‬فل ّ‬ ‫كر عليه طلبها وقد و ّ‬ ‫ُين ِ‬ ‫المارة لمن طلبها ونهى عن طلب المارة فإنه ُيحمل النهي على‬ ‫أنه نهي عن طلب ممن ليس أهل ً لها‪ ،‬ل النهي مطلقا‪.‬‬

‫وحدة الخلفة‬ ‫ول يجوز أن يكون في الدنيا إل ّ خليفة واحد‪ِ ،‬لما ُروي عن‬ ‫عبدا بن عمرو بن العاص يقول‪ :‬إنه سمع رسول ا صلى ا‬ ‫عليه وسلم يقول‪) :‬وَمن باَيع إماما فأعطاه صفقة يده وثمرة قلبه‬ ‫طعه إن استطاع‪ ،‬فإن جاء آخر ينازعه فاضربوا عنق الخر(‪،‬‬ ‫فلُي ِ‬ ‫وِلما ُروي عن أبي سعيد الخدري عن رسول ا صلى ا عليه‬ ‫وسلم أنه قال‪) :‬إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الخر منهما(‪ ،‬وِلما ُروي‬ ‫عن عرفجة قال‪ :‬سمعت رسول ا صلى ا عليه وسلم يقول‪:‬‬ ‫شق عصاكم‬ ‫)من أتاكم وأمركم جميعا على رجل واحد يريد أن َي ُ‬ ‫أو يفّرق جماعتكم فاقتلوه(‪ ،‬وِلما ُروي عن أبي حازم قال‪:‬‬ ‫ت أبا هريرة خمس سنين فسمعته يحّدث عن النبي صلى‬ ‫قاعد ُ‬ ‫ا عليه وسلم قال‪) :‬كانت بنو اسرائيل تسوسهم النبياء‪ ،‬كلما‬ ‫خَلَفه نبي‪ ،‬وإنه ل نبي بعدي‪ ،‬وسيكون خلفاء فَتكُثر‪،‬‬ ‫هلك نبي َ‬ ‫قالوا‪ :‬فما تأمرنا؟ قال‪ :‬فوا ببيعة الول فالول‪ ،‬وأعطوهم حقهم‬ ‫عقدت الخلفة لخليفتين‬ ‫فإن ا سائلهم عما استرعاهم(‪ .‬وإذا ُ‬ ‫في بلدين في وقت واحد لم تنعقد لهما‪ ،‬لنه ل يجوز أن يكون‬ ‫للمسلمين خليفتان‪ .‬ول يقال البيعة لسبقهما‪ ،‬لن المسألة إقامة‬ ‫خليفة وليست السبق على الخلفة‪ ،‬ولنها حق المسلمين جميعا‬ ‫وليست حقا للخليفة‪ ،‬فل بد أن يرجع المر للمسلمين مرة ثانية أن‬ ‫يقيموا خليفة واحدا إذا أقاموا خليفتين‪ .‬ول يقال ُيقَرع بينهما‪ ،‬لن‬ ‫الخلفة عقد والقرعة ل تدخل في العقود‪ .‬ول يقال إن الرسول‬ ‫يقول‪) :‬فوا ببيعة الول فالول(‪ ،‬لن ذلك إذا بويع لخلفاء مع‬ ‫وجود خليفة‪ ،‬فإنه ل تكون البيعة إل ّ للول الذي انعقدت بيعته‪،‬‬ ‫عقدت الخلفة‬ ‫ومن جاء بعده ل تنعقد له بيعة‪.‬والكلم هنا إذا ُ‬ ‫لخليفتين بأن بايع أكثر أهل الحل والعقد خليفتين في وقت واحد‪،‬‬ ‫‪-23-‬‬


‫وكانت بيعة كل منهما منعقدة شرعا فإنه ُيلغى العقدان‪ ،‬ول بد‬ ‫من الرجوع للمسلمين‪ ،‬فإن عقدوا البيعة لحدهما انعقدت جديدا‬ ‫له ل تثبيتا لحاله الولى‪ ،‬وإن عقدوها لغيرهما انعقدت‪ .‬فالمر‬ ‫للمسلمين جميعا ل لشخاص يتسابقون عليها‪ .‬وإذا بويع لخليفتين‬ ‫فكان أكثر أهل الحل والعقد في شؤون الحكم والخلفة بجانب‬ ‫واحد‪ ،‬وهم الذين بايعوه‪ ،‬وكانت القلية مع الخر‪ ،‬كانت البيعة‬ ‫لمن بايعه أكثر أهل الحل والعقد في شؤون الحكم‪ ،‬سواء كان‬ ‫الول بيعًة‪ ،‬أو الثاني‪ ،‬أو الثالث‪ ،‬لنه هو المعتَبر خليفة شرعا‬ ‫ببيعة أكثرية أهل الحل والعقد له‪ ،‬ومن عداه يجب أن يبايعه من‬ ‫أجل وحدة الخلفة‪ ،‬وإل ّ قاتله المسلمون‪ ،‬لن الخلفة تنعقد‬ ‫ببيعة أكثر المسلمين‪ .‬فإذا انعقدت لرجل من المسلمين صار‬ ‫خليفة وحرمت بيعة غيره ووجبت طاعته على الجميع‪.‬‬ ‫على أن واقع الحكم أن أكثر أهل الحل والعقد ممن‬ ‫بيدهم شؤون الحكم موجودون في العاصمة عادة‪ ،‬لن هناك‬ ‫يجري تصريف شؤون الحكم العليا‪ ،‬فإذا بايع أهل العاصمة أي‬ ‫أهل الحل والعقد هناك خليفة‪ ،‬وبايع أهل إقليم أو أقاليم خليفة‬ ‫آخر‪ ،‬فإذا سبقت بيعة الذي في العاصمة كانت الخلفة له‪ ،‬لن‬ ‫بيعة من في العاصمة قرينة دالة على أن أكثرية أهل الحل‬ ‫والعقد بجانبه‪ ،‬والبيعة في هذه الحالة للول‪ .‬أّما إذا بويع َمن‬ ‫في القاليم قبله فيجري حينئذ ترجيح من يكون بجانبه أهل الحل‬ ‫والعقد أكثر‪ ،‬لن سبق أولئك في البيعة ُيضعف كون العاصمة‬ ‫قرينة على أن الكثرية فيها‪ .‬وعلى أي حال ل يجوز أن يبقى إل ّ‬ ‫خليفة واحد‪ ،‬ولو أدى ذلك إلى محاربة من لم تنعقد له الخلفة‪.‬‬

‫الستخلف أو العهد‬ ‫ل تنعقد الخلفة بالستخلف‪ ،‬أي بالعهد‪ ،‬لنها عقد بين‬ ‫المسلمين والخليفة‪ .‬فُيشترط في انعقادها بيعة من المسلمين‬ ‫وقبول من الشخص الذي بايعوه‪ .‬والستخلف أو العهد ل يتأتى‬ ‫أن يحصل فيه ذلك‪ ،‬فل تنعقد به خلفة‪ .‬وعلى ذلك فاستخلف‬ ‫خليفة لخليفة آخر يأتي بعده ل يحصل فيه عقد الخلفة‪ ،‬لنه ل‬ ‫يملك حق عقدها‪ .‬ولن الخلفة حق للمسلمين ل للخليفة‪،‬‬ ‫فالمسلمون يعِقدونها لمن يشاؤون‪ .‬فاستخلف الخليفة غيره أي‬ ‫‪-24-‬‬


‫عهده بالخلفة لغيره ل يصح‪ ،‬لنه إعطاء لمن ل يملك‪ ،‬وإعطاء‬ ‫ما ل يملك ل يجوز شرعا‪ .‬فإذا استخلف الخليفة خليفة آخر سواء‬ ‫أكان ابنه أو قريبه أو بعيدا عنه ل يجوز‪ ،‬ول تنعقد الخلفة له‬ ‫مطلقا لنه لم يجر عقدها ممن يملك هذا العقد‪ ،‬فهي عقد‬ ‫فضولي ل يصح‪.‬‬ ‫وأّما ما ُروي أن أبا بكر استخلف عمر‪ ،‬وأن عمر استخلف‬ ‫كروا ذلك فكان سكوتهم‬ ‫الستة‪ ،‬وأن الصحابة سكتوا ولم ُين ِ‬ ‫إجماعا‪ ،‬فإن ذلك ل يدل على جواز الستخلف أي العهد‪ .‬وذلك‬ ‫لن أبا بكر لم يستخلف خليفة وإنما استشار المسلمين فيمن‬ ‫يكون خليفة لهم فرشح عليا وعمر‪ .‬ثم إن المسلمين خلل ثلثة‬ ‫أشهر في حياة أبي بكر اختاروا عمر بأكثريتهم‪ .‬ثم بعد وفاة أبي‬ ‫بكر جاء الناس وبايعوا عمر‪ ،‬وحينئذ انعقدت الخلفة لعمر‪ .‬أّما‬ ‫قبل البيعة فلم يكن خليفة‪ ،‬ولم تنعقد الخلفة له ل بترشيح أبي‬ ‫بكر ول باختيار المسلمين له‪ ،‬وإنما انعقدت حين بايعوه وَقِبل‬ ‫الخلفة‪ .‬وأّما عهد عمر للستة فهو ترشيح لهم من ِقبله بناء على‬ ‫طلب المسلمين‪ ،‬ثم حصل من عبدالرحمن بن عوف أن استشار‬ ‫المسلمين فيمن يكون منهم فاختار أكثرهم عليا إذا تقّيد بما كان‬ ‫ما رفض علي التقيد بما سار‬ ‫عليه أبو بكر وعمر‪ ،‬وإل ّ فعثمان‪ .‬فل ّ‬ ‫عليه أبو بكر وعمر بايع عبدالرحمن عثمان وبايعه الناس‪.‬‬ ‫فالخلفة انعقدت لعثمان ببيعة الناس له ل بترشيح عمر ول‬ ‫باختيار الناس‪ ،‬ولو لم يبايعه الناس ويقبل هو لم تنعقد الخلفة‪.‬‬ ‫وعلى ذلك ل بد من بيعة المسلمين للخليفة‪ .‬ول يجوز أن تكون‬ ‫بالعهد أو الستخلف‪ ،‬لنها عقد ولية‪ ،‬وينطبق عليها ما ينطبق‬ ‫على العقود‪.‬‬

‫طريقة نصب الخليفة‬ ‫حين أوجب الشرع على الّمة نصب خليفة عليها‪ ،‬حدد لها‬ ‫الطريقة التي يجري بها نصب الخليفة‪ ،‬وهذه الطريقة ثابتة‬ ‫بالكتاب والسّنة وإجماع الصحابة‪ ،‬وتلك الطريقة هي البيعة‪.‬‬ ‫فيجري نصب الخليفة ببيعة المسلمين له على كتاب ا وسّنة‬ ‫رسوله‪ .‬أّما كون هذه الطريقة هي البيعة‪ ،‬فهي ثابتة من بيعة‬ ‫المسلمين للرسول‪ ،‬ومن أمر الرسول لنا ببيعة المام‪ .‬أّما بيعة‬ ‫‪-25-‬‬


‫المسلمين للرسول فإنها ليست بيعة على النبوة وإنما هي بيعة‬ ‫على الحكم‪ ،‬إذ هي بيعة على العمل وليست بيعة على التصديق‪.‬‬ ‫فبويع صلى ا عليه وآله وسلم على اعتباره حاكما ل على‬ ‫اعتباره نبيا ورسول ً‪ .‬لن القرار بالنبوة والرسالة إيمان وليس‬ ‫بيعة‪ ،‬فلم تبق إل ّ أن تكون البيعة له باعتباره رئيس الدولة‪ .‬وقد‬ ‫وردت البيعة في القرآن والحديث‪ ،‬قال تعالى‪) :‬يا أيها النبي إذا‬ ‫جاءك المؤمنات يبايعنك على أن ل ُيشركن بالله شيئا ول يسرقن‬ ‫ول يزنين ول َيقتلن أولدهن ول يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن‬ ‫وأرجلهن ول يعصينك في معروفك فبايعُهن(‪ ،‬وقال تعالى‪) :‬إن‬ ‫الذي يبايعونك إّنما يبايعون ا يد ا فوق أيديهم(‪ ،‬وروى‬ ‫البخاري قال‪ :‬حّدثنا اسماعيل حدثني مالك عن يحيى بن سعيد‬ ‫قال‪ :‬أخبرني عبادة بن الوليد أخبرني أبي عن عبادة بن الصامت‬ ‫عنا رسول ا صلى ا عليه وسلم على السمع‬ ‫قال‪) :‬باَي ْ‬ ‫مكَره وأن ل ننازع المر أهله وأن نقوم‬ ‫شط وال َ‬ ‫من َ‬ ‫والطاعة في ال َ‬ ‫أو نقول بالحق حيثما كنا ل نخاف في ا لومة لئم(‪ ،‬وروى‬ ‫البخاري قال‪ :‬حّدثنا علي بن عبدا حّدثنا عبدا بن يزيد حّدثنا‬ ‫سعيد هو ابن أبي أيوب قال‪ :‬حّدثني أبو عقيل زهرة بن معبد‬ ‫عن جده عبدا بن هشام‪ ،‬وكان قد أدرك النبي صلى ا عليه‬ ‫حميد إلى رسول ا صلى ا‬ ‫وسلم وذهَبت به أمه زينب ابنة ُ‬ ‫عليه وسلم فقالت‪ :‬يا رسول ا بايعه‪ ،‬فقال النبي صلى ا عليه‬ ‫وسلم‪ :‬هو صغير‪) .‬فمسح رأسه ودعا له(‪ ،‬وروى البخاري قال‪:‬‬ ‫حّدثنا عبدان عن أبي حمزة عن العمش عن أبي صالح عن أبي‬ ‫هريرة قال‪ :‬قال رسول ا صلى ا عليه وسلم‪) :‬ثلثة ل‬ ‫يكلمهم ا يوم القيامة ول يزكيهم ولهم عذاب أليم‪ :‬رجل على‬ ‫فضل ماء بالطريق يمنع منه ابن السبيل‪ ،‬ورجل بايع إماما ل‬ ‫ف له‪ ،‬ورجل‬ ‫يبايعه إل ّ لدنياه إن أعطاه ما يريد وفى له وإل ّ لم ي ِ‬ ‫يبايع رجل ً بسلعة بعد العصر فحلف بالله لقد أعطي بها كذا وكذا‬ ‫ط بها(‪ .‬فهذه الحاديث الثلثة صريحة في‬ ‫فصدقه فأخذها ولم يع َ‬ ‫أن البيعة طريقة نصب الخليفة‪ .‬فحديث عبادة قد بايع الرسول‬ ‫على السمع والطاعة‪ ،‬وهذا للحاكم‪ ،‬وحديث عبدا بن هشام‬ ‫َرَفض بيعته لنه غير بالغ‪ ،‬مما يدل على أنها بيعة حكم‪ ،‬وحديث‬ ‫أبي هريرة صريح ببيعة المام‪ ،‬وجاءت كلمة )إمام( نكرة‪ ،‬أي أيّ‬ ‫إمام‪ .‬وهناك أحاديث أخرى تنص على بيعة المام‪ ،‬ففي مسلم‬ ‫‪-26-‬‬


‫أن النبي صلى ا عليه وسلم قال‪) :‬من بايع إماما فأعطاه‬ ‫طعه إن استطاع‪ ،‬فإن جاء آخر ينازعه‬ ‫صفقة يده وثمرة قلبه فلُي ِ‬ ‫خدر ّ‬ ‫ي‬ ‫فاضربوا عنق الخر(‪ ،‬وفي مسلم أيضا عن أبي سعيد ال ُ‬ ‫قال‪ :‬قال رسول ا صلى ا عليه وسلم‪) :‬إذا بويع لخليفتين‬ ‫ت أبا‬ ‫فاقتلوا الخر منهما(‪ ،‬وروى مسلم عن أبي حازم قال‪ :‬قاعد ُ‬ ‫هريرة خمس سنين فسمعته يحّدث عن النبي صلى ا عليه‬ ‫وسلم قال‪) :‬كانت بنو اسرائيل تسوسهم النبياء‪ ،‬كلما هلك نبي‬ ‫خلفه نبي‪ ،‬وإنه ل نبي بعدي‪ ،‬وستكون خلفاء فَتكُثر‪ ،‬قالوا‪ :‬فما‬ ‫تأمرنا؟ قال‪ :‬فوا ببيعة الول فالول(‪ .‬فالنصوص صريحة من‬ ‫الكتاب والسّنة بأن طريقة نصب الخليفة هي البيعة‪ .‬وقد َفِهم‬ ‫ذلك جميع الصحابة وساروا عليه‪ .‬فأبو بكر بويع بيعة خاصة في‬ ‫السقيفة وبيعة عامة في المسجد ثم بايعه َمن لم يباِيع في‬ ‫المسجد ممن ُيعتّد ببيعته كعلي بن أبي طالب رضي ا عنه‪،‬‬ ‫وعمر بويع بيعة من المسلمين‪ ،‬وعثمان بويع بيعة من المسلمين‪،‬‬ ‫وعلي بويع بيعة من المسلمين‪ .‬فالبيعة هي الطريقة الوحيدة‬ ‫لنصب خليفة للمسلمين‪.‬‬ ‫أّما التفصيلت العملية لجراء هذه البيعة‪ ،‬فإنها ظاهرة في‬ ‫نصب الخلفاء الربعة الذين جاءوا عقب وفاة الرسول صلى ا‬ ‫عليه وآله وسلم مباشرة وهم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي‬ ‫رضوان ا عليهم‪ ،‬وقد سكت عنها جميع الصحابة وأقروها مع‬ ‫كر لو كانت مخاِلفة للشرع‪ ،‬لنها تتعلق بأهم شيء‬ ‫أنها مما ُين َ‬ ‫يتوقف عليه كيان المسلمين‪ ،‬وبقاء الحكم بالسلم‪ .‬وِمن تتّبع ما‬ ‫يحصل في نصب هؤلء الخلفاء نجد أن بعض المسلمين قد‬ ‫شحون سعد وأبو‬ ‫تناقشوا في سقيفة بني ساعدة وكان المر ّ‬ ‫عبيدة وعمر وأبو بكر ليس غير‪ ،‬وبنتيجة المناقشة بويع أبو بكر‪.‬‬ ‫ثم في اليوم الثاني ُدعي المسلمون إلى المسجد فبايعوه‪ ،‬وبهذه‬ ‫البيعة الخيرة صار خليفة للمسلمين‪ .‬وحين أحس أبو بكر بأن‬ ‫مرضه مرض موت‪ ،‬دعا المسلمين يستشيرهم فيمن يكون خليفة‬ ‫للمسلمين‪ .‬وكان الرأي في هذه الستشارات يدور حول علي‬ ‫وعمر ليس غير‪ ،‬ومكث مدة ثلثة أشهر في هذه الستشارات‪.‬‬ ‫مها وعرف أكثر رأي المسلمين أعلن لهم أن عمر هو‬ ‫ما أت ّ‬ ‫ول ّ‬ ‫الخليفة بعده‪ ،‬وعقب وفاته مباشرة حضر المسلمون إلى المسجد‬ ‫وبايعوا عمر بالخلفة‪ ،‬فصار بهذه البيعة خليفة للمسلمين‪ ،‬وليس‬ ‫‪-27-‬‬


‫طعن عمر طلب منه‬ ‫بالستشارات ول بإعلن أبي بكر‪ .‬وحين ُ‬ ‫حوا عليه فجعلها في ستة‪ ،‬ثم‬ ‫المسلمون أن يستخلف فأبى‪ ،‬فأل ّ‬ ‫شحون أحدهم وهو عبدالرحمن بن عوف‬ ‫بعد وفاته أناب المر ّ‬ ‫فرجع لرأي المسلمين واستشارهم‪ ،‬ثم أعلن بيعة عثمان‪ ،‬فقام‬ ‫المسلمون فبايعوا عثمان فصار خليفة ببيعة المسلمين ل‬ ‫باستخلف عمر ول بإعلن عبدالرحمن‪ .‬ثم ُقتل عثمان‪ ،‬فبايع‬ ‫جمهرة المسلمين في المدينة والكوفة علي بن أبي طالب فصار‬ ‫خليفة ببيعة المسلمين‪.‬‬ ‫ومن ذلك يتبين أن التفصيلت العملية لجراء البيعة للخلفة‬ ‫هي أن يتناقش المسلمون فيمن يصلح للخلفة‪ ،‬حتى إذا استقر‬ ‫عرضوا على المسلمين‪ ،‬فمن اختاروه منهم‬ ‫الرأي على أشخاص‪ُ ،‬‬ ‫طلب من باقي المرشحين أن يبايعوه‪.‬‬ ‫طلب منهم أن يبايعوه‪ ،‬كما ُ‬ ‫ُ‬ ‫ففي سقيفة بني ساعدة صار النقاش في سعد وأبي عبيدة‬ ‫وعمر وأبي بكر ثم بويع أبو بكر‪ ،‬فكانت بيعته بمثابة اختيار‪،‬‬ ‫ولكنها لم ُتلِزم المسلمين‪ ،‬ثم جرت بيعته من عامة المسلمين‪.‬‬ ‫وأبو بكر تذاكر مع المسلمين في علي وعمر ثم أعلن اسم عمر‬ ‫ثم بويع‪ .‬وعمر جعلها في ستة‪ ،‬وبعد الرجوع إلى المسلمين‬ ‫ي بويع مباشرة‪ ،‬فقد‬ ‫أعلن عبدالرحمن اسم عثمان‪ ،‬ثم بويع‪ .‬وعل ّ‬ ‫كان الوضع وضع فتنة‪ ،‬وكان معروفا أنه ل يدانيه في الترشيح‬ ‫للخلفة عند المسلمين أحد حين ُقتل عثمان‪ .‬وبذلك يكون أمر‬ ‫صر المرشحون للخلفة بعد المناقشة‬ ‫البيعة جاريا على أن ُيح َ‬ ‫فيمن يصلح لها‪ ،‬ثم يجري انتخاب خليفة منهم‪ ،‬ثم تؤخذ له البيعة‬ ‫على الناس‪ .‬ولئن كان هذا واضحا في استشارات أبي بكر فإنه‬ ‫يظهر أوضح في بيعة عثمان‪ .‬روى البخاري عن الّزهري أن حميد‬ ‫سَور بن مخرمة أخبره أن الرهط‬ ‫م ْ‬ ‫بن عبدالرحمن أخبره أن ال ِ‬ ‫لهم عمر اجتمعوا فتشاوروا‪ ،‬قال لهم عبدالرحمن‪" :‬لست‬ ‫الذي و ّ‬ ‫ت لكم‬ ‫بالذي أنافسكم على هذا المر‪ ،‬ولكنكم إن شئتم اختر ُ‬ ‫ما وّلوا عبدالرحمن‬ ‫منكم"‪ ،‬فجعلوا ذلك إلى عبدالرحمن‪ ،‬فل ّ‬ ‫أمرهم فمال الناس على عبدالرحمن حتى ما أرى أحدا من‬ ‫الناس يتبع أولئك الرهط ول يطأ عقبه‪ ،‬ومال الناس على‬ ‫عبدالرحمن يشاورونه تلك الليالي حتى إذا كانت الليلة التي أصبحنا‬ ‫سَور‪ :‬طرقني عبدالرحمن بعد هجع‬ ‫م ْ‬ ‫منها فبايعنا عثمان‪ ،‬قال ال ِ‬ ‫من الليل فضرب الباب حتى استيقظت‪ ،‬فقال‪ :‬أراك نائما‪ ،‬فوا‬ ‫‪-28-‬‬


‫ع الزبير وسعدا‪،‬‬ ‫ما اكتحلتُ هذه الليلة بكبير نوم‪ ،‬انطلق فاد ُ‬ ‫ع لي عليا‪ ،‬فدعوته‬ ‫فدعوتهما له فشاورهما ثم دعاني فقال‪ :‬اد ُ‬ ‫فناجاه‪ ،‬حتى أبهار الليل‪ ،‬ثم قام علي من عنده وهو على طمع‪،‬‬ ‫ع لي‬ ‫وقد كان عبدالرحمن يخشى من علي شيئا‪ ،‬ثم قال‪ :‬اد ُ‬ ‫عثمان‪ ،‬فدعوته فناجاه‪ ،‬حتى فرق بينهما المؤذن بالصبح‪ ،‬فلما‬ ‫صلى للناس الصبح واجتمع أولئك الرهط عند المنبر فأرسل إلى‬ ‫من كان حاضرا من المهاجرين والنصار وأرسل إلى أمراء الجناد‬ ‫وكانوا وافوا تلك الحجة مع عمر‪ ،‬فلما اجتمعوا تشّهد عبدالرحمن‬ ‫ثم قال‪ :‬أّما بعد يا علي‪ ،‬إني قد نظرت في أمر الناس فلم أرهم‬ ‫ل‪ ،‬فقال‪ :‬أبايعك على‬ ‫يعدلون بعثمان‪ ،‬فل تجعلن على نفسك سبي ً‬ ‫سنة ا ورسوله والخليفتين من بعده‪ ،‬فبايعه عبدالرحمن وبايعه‬ ‫الناس والمهاجرون والنصار وأمراء الجناد والمسلمون‪.‬‬ ‫صروا في الرهط الذين سماهم‬ ‫ح ِ‬ ‫فالمرشحون للخلفة ُ‬ ‫عمر بعد أن طلب إليه المسلمون ذلك‪ ،‬وعبدالرحمن بن عوف‬ ‫بعد أن أخرج نفسه من الترشيح للخلفة أخذ رأي المسلمين‬ ‫فيمن يكون خليفة‪ ،‬ثم أعلن اسم الذي يريده المسلمون بعد أن‬ ‫شاور الناس‪ ،‬وبعد إعلن اسم من يريده الناس كانت البيعة له‪،‬‬ ‫فصار خليفة بهذه البيعة‪ .‬وعلى ذلك فالحكم الشرعي في نصب‬ ‫صر المرشحون للخلفة من ِقَبل من يمثلون‬ ‫الخليفة هو أن ُيح َ‬ ‫رأي جمهرة المسلمين‪ ،‬ثم ُتعرض أسماؤهم على المسلمين‬ ‫وُيطلب منهم أن يختاروا واحدا من هؤلء المرشحين ليكون‬ ‫ظر من تكون جمهرة المسلمين ‪-‬أي أكثريتهم‪-‬‬ ‫خليفة لهم‪ ،‬ثم ُين َ‬ ‫بجانبه فتؤخذ له البيعة على المسلمين جميعا‪ ،‬سواء من اختاره‬ ‫ه‪ ،‬لن إجماع المسلمين إجماعا سكوتيا على حصر‬ ‫أو من لم يخَتر ُ‬ ‫مر للمرشحين للخلفة في ستة أشخاص معينين وإجماع‬ ‫ع َ‬ ‫ُ‬ ‫المسلمين أيضا على أخذ عبدالرحمن لرأي المسلمين جميعا‬ ‫فيمن يكون خليفة عليهم‪ ،‬ثم إجماعهم على إجراء البيعة لمن‬ ‫أعلن عبدالرحمن اسمه بأنه هو الذي اختاره المسلمون خليفة‬ ‫لهم حين قال‪" :‬إني نظرت في أمر الناس فلم أرهم يعدلون‬ ‫بعثمان"‪ ،‬كل ذلك صريح في الحكم الشرعي في نصب الخليفة‪.‬‬ ‫بقيت مسألتان‪ :‬إحداهما من هم المسلمون الذين ينصبون‬ ‫الخليفة؟ هل هم أهل الحل والعقد أم هم عدد معين من‬ ‫المسلمين؟ أم هم جميع المسلمين؟ والمسألة الثانية هي هل‬ ‫‪-29-‬‬


‫العمال التي تجري في هذا العصر في النتخابات كالقتراع‬ ‫السري وصناديق القتراع وفرز الصوات هي ما يأمر به السلم‬ ‫أم ل؟‬ ‫أّما المسألة الولى‪ :‬فإن الشارع قد جعل السلطان للمة‬ ‫وجعل نصب الخليفة للمسلمين عامة‪ ،‬ولم يجعله لفئة دون فئة‪،‬‬ ‫ول لجماعة دون جماعة‪ ،‬فالبيعة فرض على المسلمين عامة‬ ‫)من مات وليس في عنقه بيعة فقد مات ميتة جاهلية(‪ ،‬وهذا عام‬ ‫لكل مسلم‪ .‬ولذلك ليس أهل الحل والعقد هم أصحاب الحق‬ ‫في نصب الخليفة دون باقي المسلمين‪ ،‬وكذلك ليس أصحاب‬ ‫الحق أشخاصا معينين‪ ،‬وإنما هذا الحق لجميع المسلمين دون‬ ‫استثناء أحد‪ ،‬حتى الفجار والمنافقين ما داموا مسلمين بالغين‪،‬‬ ‫لن النصوص جاءت عامة ولم َيِرد ما يخصصها سوى رفض بيعة‬ ‫الصغير الذي لم يبلغ‪ ،‬فتبقى عامة‪.‬‬ ‫إل ّ أنه ليس شرطا أن يباشر جميع المسلمين هذا الحق‪،‬‬ ‫لنه حق لهم‪ ،‬وهو وإن كان فرضا عليهم‪ ،‬لن البيعة فرض‪،‬‬ ‫ولكنه فرض على الكفاية وليس فرض عين‪ ،‬فإذا قام به البعض‬ ‫كن جميع المسلمين من‬ ‫سقط عن الباقين‪ .‬إل ّ أنه يجب أن ُيم ّ‬ ‫مباشرة حقهم في نصب الخليفة‪ ،‬بغض النظر عما إذا استعملوا‬ ‫هذا الحق أم لم يستعملوه‪ ,‬أي يجب أن يكون في قدرة كل‬ ‫مسلم التمكن من القيام بنصب الخليفة بتمكينه من ذلك تمكينا‬ ‫تاما‪ .‬فالقضية هي تمكين المسلمين من القيام بما فرضه ا‬ ‫عليهم من نصب الخليفة قياما ُيسِقط عنهم هذا الفرض‪ ،‬وليست‬ ‫المسألة قيام جميع المسلمين بهذا الفرض بالفعل‪ .‬لن الفرض‬ ‫الذي فرضه ا هو أن يجري نصب الخليفة من المسلمين‬ ‫برضاهم‪ ،‬ل أن يجريه جميع المسلمين‪ .‬ويتفرع عن هذا أمران‪:‬‬ ‫أحدهما أن يتحقق رضا جميع المسلمين بنصبه‪ ،‬والثاني أن ل‬ ‫يتحقق رضا جميع المسلمين بهذا النصب مع تحقق التمكين لهم‬ ‫في كل المرين‪.‬‬ ‫أّما بالنسبة للمر الول‪ ،‬فل ُيشترط عدد معين فيمن‬ ‫يقومون بنصب الخليفة‪ ،‬بل أي عدد بايع الخليفة وتحقق في هذه‬ ‫البيعة رضا المسلمين بسكوتهم‪ ،‬أو بإقبالهم على طاعته بناء على‬ ‫بيعته‪ ،‬أو بأي شيء يدل على رضاهم‪ ،‬يكون الخليفة المنصوب‬ ‫خليفة للمسلمين جميعا‪ ،‬ويكون هو الخليفة شرعا‪ ،‬ولو قام‬ ‫‪-30-‬‬


‫بنصبه ثلثة أشخاص‪ .‬إذ يتحقق فيهم الجمع في إجراء نصب‬ ‫الخليفة‪ ،‬ويتحقق الرضا بالسكوت والمبادرة للطاعة‪ ،‬أو ما شاكل‬ ‫ذلك‪ ،‬على شرط أن يتم هذا بمنتهى الختيار والتمكين من إبداء‬ ‫الرأي تمكينا تاما‪ .‬أّما إذا لم يتحقق رضا جميع المسلمين‪ ،‬فإنه ل‬ ‫يتم نصب الخليفة إل ّ إذا قام بنصبه جماعة يتحق في نصبهم له‬ ‫رضا جمهرة المسلمين‪ ،‬أي أكثريتهم‪ ،‬مهما كان عدد هذه‬ ‫الجماعة‪ .‬ومن هنا جاء قول بعض الفقهاء‪ :‬يجري نصب الخليفة‬ ‫عقد‬ ‫ل وال َ‬ ‫عقد له‪ ،‬إذ يعتبرون أهل الح ّ‬ ‫ل وال َ‬ ‫ببيعة أهل الح ّ‬ ‫الجماعة التي يتحقق رضا المسلمين بما تقوم به من بيعة أي‬ ‫رجل حائز على شروط انعقاد الخلفة‪ .‬وعلى ذلك فليس بيعة‬ ‫أهل الحل والعقد هي التي يجري فيها نصب الخليفة‪ ،‬وليس‬ ‫وجود بيعتهم شرطا لجعل نصب الخليفة نصبا شرعيا‪ ،‬بل بيعة‬ ‫أهل الحل والعقد أمارة من المارات الدالة على تحقق رضا‬ ‫المسلمين بهذه البيعة‪ ،‬لن أهل الحل والعقد كانوا ُيعَتبرون‬ ‫الممثلين للمسلمين‪ .‬وكل أمارة تدل على تحقق رضا المسلمين‬ ‫ببيعة الخليفة يتم بها نصب الخليفة‪ ،‬ويكون نصبه بها نصبا شرعيا‪.‬‬ ‫وعلى ذلك‪ ،‬فالحكم الشرعي هو أن يقوم بنصب الخليفة‬ ‫ع يتحقق في نصبهم له رضا المسلمين بأي أمارة من أمارات‬ ‫جم ٌ‬ ‫التحقق‪ ،‬سواء أكان ذلك بكون المباِيعين أكثر أهل الحل والعقد‪،‬‬ ‫أو بكونهم أكثر الممثلين للمسلمين‪ ،‬أو كان بسكوت المسلمين‬ ‫عن بيعتهم له‪ ،‬أو مسارعتهم بالطاعة بناء على هذه البيعة‪ ،‬أو‬ ‫بأي وسيلة من الوسائل‪ ،‬ما دام متوفرا لهم التمكين التام من‬ ‫إبداء رأيهم‪ .‬وليس من الحكم الشرعي كونهم أهل الحل والعقد‬ ‫ول كونهم أربعة أو أربعمائة أو أكثر أو أقل‪ ،‬أو كونهم أهل‬ ‫العاصمة أو أهل القاليم‪ ،‬بل الحكم الشرعي كون بيعتهم يتحقق‬ ‫فيها الرضا من ِقبل جمهرة المسلمين بأية أمارة من المارات مع‬ ‫تمكينهم من إبداء رأيهم تمكينا تاما‪.‬‬ ‫والمراد بجميع المسلمين‪ ،‬المسلمون الذين يعيشون في‬ ‫البلد الخاضعة للدولة السلمية‪ ،‬أي الذين كانوا رعايا للخليفة‬ ‫السابق إن كانت الخلفة قائمة‪ ،‬أو الذين يتم بهم قيام الدولة‬ ‫السلمية وتنعقد الخلفة بهم إن كانت الدولة السلمية غير‬ ‫قائمة من َقبِلهم‪ ،‬وقاموا هم بإيجادها واستئناف الحياة السلمية‬ ‫بواسطتها‪ .‬أّما غيرهم من المسلمين فل ُتشترط بيعتهم ول‬ ‫‪-31-‬‬


‫ُيشترط رضاهم‪ ،‬لنهم إما أن يكونوا خارجين على سلطان‬ ‫السلم‪ ،‬أو يكونوا يعيشون في دار كفر ول يتمكنون من‬ ‫النضمام إلى دار السلم‪ .‬وكلهما ل حق له في بيعة النعقاد‪،‬‬ ‫وإنما عليه بيعة الطاعة‪ ،‬لن الخارجين على سلطان السلم‬ ‫حكمهم حكم البغاة‪ .‬والذين في دار الكفر ل يتحقق فيهم قيام‬ ‫سلطان السلم حتى يقيموه بالفعل‪ ،‬أو يدخلوا فيه‪ .‬وعلى ذلك‬ ‫فالمسلمون الذين لهم حق بيعة النعقاد‪ ،‬وُيشترط تحقق‬ ‫رضاهم حتى يكون نصب الخليفة نصبا شرعيا‪ ،‬هم الذين يقوم‬ ‫بهم سلطان السلم بالفعل‪.‬‬ ‫ول يقال‪ :‬هذا الكلم بحث عقلي‪ ،‬وليس هنالك دليل‬ ‫شرعي عليه ‪.‬ل يقال ذلك‪ ،‬لنه بحث في مناط الحكم وليس في‬ ‫نفس الحكم‪ ،‬ولهذا ل يؤتى له بدليل شرعي وإنما هو ببيان‬ ‫مْيتة حرام‪ ،‬هو الحكم الشرعي‪ .‬وتحقيق ما هي‬ ‫حقيقته‪ .‬فأكل ال َ‬ ‫مْيتة هو مناط الحكم‪ ،‬أي الموضوع الذي يتعلق به الحكم‪.‬‬ ‫ال َ‬ ‫فقيام المسلمين بنصب الخليفة هو الحكم الشرعي‪ ،‬وأن يكون‬ ‫هذا النصب بالرضا والختيار هو الحكم الشرعي أيضا‪ ،‬وهذا هو‬ ‫الذي يؤتى له بالدليل‪ .‬أّما من هم المسلمون الذين يتم بهم‬ ‫النصب‪ ،‬وما هو المر الذي يتحقق فيه الرضا والختيار‪ ،‬فذلك‬ ‫مناط الحكم‪ ،‬أي الموضوع الذي جاء الحكم لمعالجته‪ ،‬وانطباق‬ ‫الحكم الشرعي عليه هو الذي يجعل الحكم الشرعي فيه‬ ‫متحققا‪ .‬وعليه ُيبحث هذا الشيء الذي جاء الحكم الشرعي له‬ ‫ببيان حقيقته‪.‬‬ ‫ول يقال إن مناط الحكم هو عّلة الحكم فل بد له من دليل‬ ‫شرعي ‪.‬ل يقال ذلك لن مناط الحكم غير عّلة الحكم‪ ،‬وهناك‬ ‫فرق كبير بين العلة والمناط‪ ،‬فالعلة هي الباعث على الحكم؛ أي‬ ‫هي الشيء الدال على مقصود الشارع من الحكم‪ ،‬وهذه ل بد‬ ‫لها من دليل شرعي يدل عليها حتى ُيفهم أنها هي مقصود‬ ‫الشارع من الحكم‪ .‬أّما مناط الحكم فهو الموضوع الذي جاء به‬ ‫الحكم؛ أي هو المسألة التي ينطبق عليها الحكم‪ ،‬وليس دليله ول‬ ‫علته‪ .‬ومعنى كونه الشيء الذي نيط به الحكم هو أنه الشيء‬ ‫عّلق به الحكم؛ أي أنه قد جيء بالحكم له ‪-‬أي لمعالجته ‪-‬ل‬ ‫الذي ُ‬ ‫أنه جيء بالحكم لجله حتى يقال إنه عّلة الحكم‪ .‬فمناط الحكم‬ ‫هو الناحية غير النقلية في الحكم الشرعي‪ ،‬وتحقيقه غير تحقيق‬ ‫‪-32-‬‬


‫ل‪،‬‬ ‫العلة‪ ،‬فإن تحقيق العلة يرجع إلى فهم النص الذي جاء معل ً‬ ‫وهذا فهم للنقليات وليس هو المناط‪ ،‬بل المناط هو ما سوى‬ ‫النقليات‪ ،‬والمراد به الواقع الذي يطّبق عليه الحكم الشرعي‪ ،‬فإذا‬ ‫قلت‪ :‬الخمر حرام‪ ،‬فإن الحكم الشرعي هو حرمة الخمر‪،‬‬ ‫فتحقيق كون الشراب المعين خمرا أم ليس بخمر ليتأتى الحكم‬ ‫عليه بأنه حرام أو ليس بحرام هو تحقيق المناط‪ ،‬فل بد من‬ ‫النظر في كون الشراب خمرا أو غير خمر حتى يقال عنه إنه‬ ‫حرام‪ ،‬وهذا النظر في حقيقة الخمر هو تحقيق المناط‪ .‬وإذا‬ ‫قلت‪ :‬الماء الذي يجوز الوضوء منه هو الماء المطلق‪ ،‬فإن الحكم‬ ‫الشرعي هو كون الماء المطلق هو الذي يجوز منه الوضوء‪،‬‬ ‫فتحقيق كون الماء مطلقا أو غير مطلق ليتأتى الحكم عليه بأنه‬ ‫يجوز الوضوء منه هو تحقيق المناط‪ ،‬فل بد من النظر في كون‬ ‫الماء مطلقا أو غير مطلق حتى يقال إنه يجوز الوضوء منه‪ ،‬وهذا‬ ‫النظر في حقيقة الماء هو تحقيق المناط‪ .‬وإذا قلت إن المحِدث‬ ‫يجب عليه الوضوء للصلة فتحقيق كون الشخص محِدثا أو ليس‬ ‫بمحِدث هو تحقيق المناط وهكذا‪ .‬وقد قال الشاطبي في‬ ‫الموافقات‪" :‬فهذه المواضع وأشباهها مما يقتضي تعيين المناط‬ ‫ل بد فيها من أخذ الدليل على وفق الواقع بالنسبة إلى كل نازلة"‪،‬‬ ‫وقال‪" :‬قد يتعلق الجتهاد بتحقيق المناط‪ ،‬فل يفتقر في ذلك إلى‬ ‫العلم بمقاصد الشارع‪ ،‬كما أنه ل يفتقر إلى معرفة علم العربية‪،‬‬ ‫لن المقصود من هذا الجتهاد إّنما هو العلم بالموضوع على ما‬ ‫هو عليه‪ ،‬وإنما يفتقر فيه إلى العلم بما ل ُيعَرف ذلك الموضوع‬ ‫صدت المعرفة به‪ ،‬فل بد أن يكون المجتهد‬ ‫إل ّ به من حيث ُق ِ‬ ‫عارفا ومجتهدا من تلك الجهة التي ينظر فيها ليتنزل الحكم‬ ‫الشرعي على وفق ذلك المقتضى"‪.‬‬ ‫ل‪،‬‬ ‫فإن تحقيق العلة يرجع إلى فهم النص الذي جاء معل ً‬ ‫وهذا فهم النقليات وليس هو المناط‪ ،‬بل المناط هو ما سوى‬ ‫النقليات‪ ،‬والمراد به الواقع الذي يطبق عليه الحكم الشرعي‪ .‬فإذا‬ ‫قلت‪ :‬الخمر حرام‪ ،‬فتحقيق كون الشيء خمرا أو ليس بخمر هو‬ ‫تحقيق المناط‪ .‬وإذا قلت‪ :‬الماء المطلق هو الذي ُيتوضأ منه‪ ،‬كان‬ ‫تحقيق كون الماء مطلقا أو غير مطلق هو تحقيق المناط‪ .‬وإذا‬ ‫قيل‪ :‬إن المحِدث يجب عليه الوضوء‪ ،‬كان تحقيق كون الشخص‬ ‫محِدثا أو ليس بمحِدث هو تحقيق المناط‪ .‬فتحقيق المناط هو‬ ‫‪-33-‬‬


‫تحقيق الشيء الذي هو موضوع الحكم‪ .‬ولذلك ل يشترط فيمن‬ ‫يحقق المناط أن يكون مجتهدا أو مسلما‪ ،‬بل يكفي أن يكون‬ ‫عالما بالشيء‪ .‬ومن هنا كان البحث فيمن هم المسلمون الذين‬ ‫تكون بيعتهم دالة على الرضا هو بحث في تحقيق المناط‪.‬‬ ‫هذا من ناحية المسألة الولى‪ .‬أّما المسألة الثانية وهي ما‬ ‫يحصل في هذه اليام من إجراء النتخابات بالقتراع السري‬ ‫واتخاذ صناديق اقتراع وفرز الصوات وما شاكل ذلك فإن هذا‬ ‫كله أساليب لداء الختيار بالرضا‪ ،‬ولذلك ل تدخل تحت الحكم‬ ‫الشرعي‪ ،‬ول في مناط الحكم الشرعي الذي هو الموضوع الذي‬ ‫جاء الحكم لمعالجته لنها ليست من أفعال العباد‪ ،‬ول هي محل‬ ‫انطباق الحكم الشرعي عليها‪ ،‬وإّنما هي وسائل لفعل العبد الذي‬ ‫جاء الحكم الشرعي له‪ ،‬أي الذي جاء خطاب الشارع متعلقا به‪،‬‬ ‫أل وهو نصب الخليفة بالرضا في حالٍة من التمكين التام من إبداء‬ ‫الرأي‪ .‬وعليه ليست هذه الساليب والوسائل مما ُيبحث فيه عن‬ ‫الحكام الشرعية‪ ،‬وهي تدخل في الشياء التي جاء النص عاما‬ ‫بإباحتها‪ ،‬ولم يرد دليل خاص بحرمتها‪ ،‬فتبقى مباحة‪ ،‬فللمسلمين‬ ‫أن يختاروا هذه الساليب ولهم أن يختاروا غيرها‪ ،‬فأي أسلوب‬ ‫يؤدي إلى تمكين المسلمين من القيام بفرض نصب الخليفة‬ ‫بالرضا والختيار يجوز للمسلمين أن يستعملوه ما لم يرد دليل‬ ‫شرعي على تحريمه‪ .‬ول يقال إن هذا السلوب فعل العبد فل‬ ‫يجري إلى وفق حكم شرعي فل بد من دليل يدل على حكمه ‪.‬ل‬ ‫يقال ذلك لن فعل العبد الذي أن يجري وفق الحكم الشرعي ول‬ ‫بد من دليل يدل على حكمه إّنما هو الفعل الذي يعتبر أصل ً أو‬ ‫ت دليل عام لصله وإنما جاء دليل أصله‬ ‫يعتبر فرعا لفعل لم يأ ِ‬ ‫خاصا‪ ،‬وذلك مثل الصلة‪ ،‬فإن دليلها خاص بالقيام بها ول يشمل‬ ‫كل فعل من أفعالها‪ ،‬أّما الفعل الذي هو فرع لفعل ورد دليل‬ ‫جّر الدليل العام على جميع فروعه‪ ،‬ويحتاج‬ ‫عام لصله فإنه ين َ‬ ‫تحريم الفعل الذي هو فرع إلى دليل يحرمه حتى يخرج عن حكم‬ ‫أصله ويأخذ حكما جديدا‪ ،‬وهكذا جميع الساليب‪.‬‬ ‫وفي مسألة النتخابات هذه الفعل الصل هو نصب الخليفة‬ ‫بالرضا والختيار‪ ،‬أّما الفعال التي تتفرع عن ذلك من مثل‬ ‫القتراع واتخاذ صناديق القتراع وفرز الصوات وما شاكل ذلك‬ ‫فإنها تدخل تحت حكم الصل ول تحتاج إلى دليل آخر‪ ،‬وإخراجها‬ ‫‪-34-‬‬


‫عن حكم الصل ‪-‬أي تحريمها‪ -‬هو الذي يحتاج إلى دليل‪ ،‬وهكذا‬ ‫جميع الساليب التي هي أفعال العباد‪.‬‬ ‫أّما الوسائل وهي الدوات مثل الصندوق الذي توضع فيه‬ ‫الوراق‪ ،‬فإنها تأخذ الحكم الذي أخذته الشياء ل الفعال‪،‬‬ ‫وتنطبق عليها قاعدة "الصل في الشياء الباحة ما لم يرد دليل‬ ‫التحريم"‪ .‬والفرق بين الطريقة والسلوب هو أن الطريقة هي‬ ‫ت دليل‬ ‫الفعل الذي يعتبر أصل ً من حيث هو أو فرعا لصل لم يأ ِ‬ ‫عام لصله‪ ،‬بل كان دليله خاصا به‪ .‬أّما السلوب فهو الفعل الذي‬ ‫يكون فرعا لفعل قد جاء له ‪-‬أي للصل‪ -‬دليل عام‪ .‬ومن هنا كان‬ ‫ل بد أن تكون الطريقة مستندة إلى دليل شرعي لنها حكم‬ ‫شرعي‪ ،‬ولذلك يجب أن ُتلتَزم ول يخّير فيها المسلم ما لم يكن‬ ‫حكمها الباحة‪ ،‬بخلف السلوب فإنه ل يستند إلى دليل شرعي‬ ‫بل يجري عليه حكم أصله‪ ،‬ولذلك ل يجب التزام أسلوب معين‪،‬‬ ‫ولو فعله الرسول صلى ا عليه وآله وسلم‪ ،‬بل كل أسلوب‬ ‫للمسلم أن يفعله ما دام يؤدي إلى القيام بالعمل فيصبح فرعا له‪،‬‬ ‫ولذلك قيل إن السلوب يعينه نوع العمل‪.‬‬

‫لم يعين الشرع شخصا معينا للخلفة‬ ‫القول بأن الرسول صلى ا عليه وآله وسلم عين شخصا‬ ‫معينا يكون خليفة بعده يناقض نصوص الشريعة‪ ،‬والقول بأن‬ ‫الرسول عليه السلم عين الشخاص الذين يكونون خلفاء بعده‬ ‫إلى يوم القيامة أكثر مناقضة لنصوص السلم‪.‬‬ ‫أّما بطلن كون الرسول عين شخصا للخلفة بعده فإنه‬ ‫ظاهر من عدة وجوه‪:‬‬ ‫أول ً‪ :‬أنه يتناقض مع البيعة‪ ،‬لن تعيين الشخص يعني‬ ‫تعريف المسلمين من يكون خليفة عليهم‪ ،‬وبذلك يكون الخليفة‬ ‫ق حاجة لتشريع البيعة‪ ،‬لن البيعة هي الطريقة‬ ‫معلوما‪ ،‬فلم تب َ‬ ‫ق حاجة لبيان طريقة نصبه‪،‬‬ ‫لنصب الخليفة‪ ،‬فإذا عين سلفا لم تب َ‬ ‫لنه ُنصب بالفعل‪ .‬ول يقال إن البيعة هي إعطاء الطاعة لهذا‬ ‫الخليفة‪ ،‬لن الشرع نص على طاعة الخليفة وأولي المر‬ ‫‪-35-‬‬


‫طِلبت من‬ ‫بنصوص أخرى كثيرة وهي غير نص البيعة‪ ،‬فالطاعة ُ‬ ‫طِلبت من المسلمين طلبا‬ ‫المسلمين طلبا صريحا‪ ،‬أّما البيعة فقد ُ‬ ‫آخر ل على اعتبارها طاعة‪ ،‬وإن كانت تتضمن معنى الطاعة‪،‬‬ ‫طِلبت على اعتبار أنها عقٌد للخلفة‪ ،‬ومعناها في جميع‬ ‫ولكنها ُ‬ ‫الحاديث التي وردت فيها هو إعطاء الرئاسة لمن يباَيع‬ ‫والستعداد للنقياد لهذه الرئاسة‪ ،‬وليس معناها الطاعة‪.‬‬ ‫فاشتراط البيعة لنصب الخليفة يناقض تعيين الرسول لشخص‬ ‫معين أن يكون خليفة من بعده‪ .‬على أن ألفاظ البيعة التي جاءت‬ ‫صص بأشخاص‪،‬‬ ‫في الحاديث الصحيحة جاءت عامة ولم تخ ّ‬ ‫ما‬ ‫ومطلقة ولم تقيد بأي قيد‪ ،‬ولو كانت تعني بيعة شخص معين ل َ‬ ‫كانت عامة ومطلقة‪ ،‬فالحاديث لفظها‪) :‬من مات وليس في عنقه‬ ‫بيعة(‪) ،‬من بايع إماما(‪) ،‬ورجل بايع إماما(‪ ،‬فالقول بأن الرسول‬ ‫نص على شخص معين يكون خليفة بعده ينقضه ويبطله عموم‬ ‫البيعة وإطلقها‪.‬‬ ‫ول يقال إن هذا يعني أن البيعة هي عين نصب الخليفة مع‬ ‫أن نصب الخليفة غير البيعة‪ ،‬فل بد أن ينصب الخليفة أول ً ثم‬ ‫يبايع ‪.‬ل يقال ذلك لن كون البيعة طريقة لنصب الخليفة ل يعني‬ ‫أنها عين نصبه‪ .‬ول يقال إنه ل بد أن ينصب الخليفة أول ً ويعرف‬ ‫نصبه ثم يباَيع ‪.‬ل يقال ذلك لن هذا يعني أن هناك طريقة أخرى‬ ‫لنصب الخليفة‪ ،‬وأن البيعة هي مجرد إعطاء الطاعة‪ ،‬مع أن‬ ‫أحاديث البيعة كلها تدل على أنها طريقة النصب للخليفة وليست‬ ‫هناك طريقة غيرها‪ .‬انظر قوله عليه السلم‪) :‬من مات وليس‬ ‫في عنقه بيعة( فإنها صريحة في أنها تعني من مات ولم ينصب‬ ‫له إمام ببيعة‪ ،‬ول تعني مطلقا من مات ولم يطع إماما‪ .‬وهذا يدل‬ ‫على أن البيعة في هذا الحديث تعني طريقة نصب الخليفة ول‬ ‫تعني الطاعة وحدها‪ .‬وانظر قوله عليه السلم‪) :‬إذا بويع‬ ‫لخليفتين فاقتلوا الخر منهما( فإنه صريح بأنه إذا نصب خليفتان‬ ‫فاقتلوا الخر منهما‪ .‬وهكذا جميع أحاديث البيعة صريحة في أنها‬ ‫طريقة نصب الخليفة‪ .‬وأحاديث البيعة تدل على أنها ل تعني‬ ‫الطاعة فقط ول الطاعة مطلقا وإنما تعني النقياد لمن ينصب‬ ‫خليفة‪ ،‬مع معناها الذي هو طريقة نصب الخليفة‪ .‬وفوق ذلك‬ ‫فإنه لم يصح عن الرسول صلى ا عليه وآله وسلم أي حديث‬ ‫رواية ودراية يبين طريقة لنصب الخليفة غير البيعة مطلقا‪.‬‬ ‫‪-36-‬‬


‫ثانيا‪ :‬وردت أحاديث من الرسول صلى ا عليه وآله وسلم‬ ‫تدل على أنه سيكون نزاع بين الناس على الخلفة وتسابق عليها‪،‬‬ ‫فلو كان هنالك نص من الرسول على شخص لما كان هناك نزاع‬ ‫ص الرسول أن أناسا سينازعون هذا‬ ‫مع وجود النص‪ ،‬أو لَن ّ‬ ‫الشخص‪ .‬ولكن النصوص جاءت بأن النزاع يكون بين الناس مع‬ ‫بعضهم‪ ،‬وبّين طريقة فض هذا النزاع والحسم في موضوع‬ ‫الخلفة‪ .‬فقد روى مسلم في صحيحه قال‪ :‬حدثني وهب بن َيِقّية‬ ‫الواسطي حدثنا خالد بن عبدا الجريري عن أبي نضرة عن أبي‬ ‫سعيد الخدري قال‪ :‬قال رسول ا صلى ا عليه وسلم‪) :‬إذا‬ ‫بويع لخليفتين فاقتلوا الخر منهما( وروى مسلم في صحيحه قال‬ ‫حدثنا زهير بن حرب واسحق بن إبراهيم قال إسحق أخبرنا‬ ‫وقال زهير حدثنا جرير عن العمش عن زيد بن وهب عن‬ ‫عبدالرحمن بن عبد رب الكعبة قال‪ :‬دخلت المسجد فإذا عبدا‬ ‫بن عمرو بن العاص جالس في ظل الكعبة والناس مجتمعون‬ ‫عليه فأتيتهم فجلست إليه فقال‪ :‬كنا مع رسول ا صلى ا عليه‬ ‫وسلم فنزلنا منزل ً‪ ...‬إذ نادى منادي رسول ا صلى ا عليه‬ ‫وسلم الصلة جامعة فاجتمعنا إلى رسول ا صلى ا عليه‬ ‫وسلم فقال‪) :‬إنه لم يكن نبي قبلي إل ّ كان حقا عليه أن يدل أمته‬ ‫على خير ما يعلمه لهم وينذرهم شر ما يعلمه لهم‪ ،‬إلى أن قال‪:‬‬ ‫طعه إن‬ ‫ومن بايع إماما فأعطاه صفقة يده وثمرة قلبه فلُي ِ‬ ‫استطاع فإن جاء آخر ينازعه فاضربوا عنق الخر( وروى مسلم‬ ‫في صحيحه قال‪ :‬حدثنا محمد بن بشاء حدثنا محمد بن جعفر‬ ‫ت أبا‬ ‫حدثنا شعبة عن فرات القزاز عن أبي حازم قال‪ :‬قاعد ُ‬ ‫هريرة خمس سنين فسمعته يحّدث عن النبي صلى ا عليه‬ ‫وسلم قال‪) :‬كانت بنو إسرائيل تسوسهم النبياء‪ ،‬كلما هلك نبي‬ ‫خلفه نبي‪ ،‬وإنه ل نبي بعدي‪ ،‬وستكون خلفاء فَتكُثر‪ ،‬قالوا‪ :‬فما‬ ‫تأمرنا؟ قال‪ :‬فوا ببيعة الول فالول(‪ /‬وروى مسلم في صحيحه‬ ‫قال‪ :‬حدثني عثمان بن أبي شيبة حدثنا يونس بن أبي يعفور عن‬ ‫أبيه عن عرفجة قال" سمعت رسول ا صلى ا عليه وسلم‬ ‫يقول‪) :‬من أتاكم وأمركم جميعا على رجل واحد يريد أن يشق‬ ‫عصاكم أو جماعتكم فاقتلوه(‪ ،‬وهذا معناه أن الخلفة حق‬ ‫لجميع المسلمين‪ ،‬ولكل واحد أن ينازع عليها‪ .‬وهذا يناقض كون‬ ‫الرسول يعين شخصا معينا يكون خليفة بعده‪.‬‬ ‫‪-37-‬‬


‫ثالثا‪ :‬ان الحاديث التي وردت فيها كلمة إمام بمعنى خليفة‬ ‫وردت هذه الكلمة نكرة‪ ،‬وحين وردت معّرفة‪ ،‬جاءت إّما معّرفة‬ ‫بأل التي للجنس‪ ،‬وإما معّرفة بالضافة بلفظ الجمع‪ .‬ففي‬ ‫المكنة التي جاءت فيها معّرفة بأل‪ ،‬جاءت فيها أل للجنس بدليل‬ ‫سياق الجملة‪ .‬فالرسول يقول ‪َ) :‬من بايع إماما(‪) ،‬قام إلى إمام‬ ‫جائر(‪) ،‬يكون بعدي أئمة(‪ ،‬ويقول‪) :‬فالمام الذي على الناس راعٍ‬ ‫جّنة يقاَتل ِمن ورائه وُيّتقى‬ ‫وهو مسؤول عن رعيته(‪) ،‬إّنما المام ُ‬ ‫به(‪ ،‬ويقول‪) :‬لئمة المسلمين(‪) ،‬خيار أئمتكم(‪) ،‬شرار أئمتكم(‪،‬‬ ‫وهذا كله يدل على أن الرسول صلى ا عليه وآله وسلم أبهم‬ ‫من يكون خليفة ولم يعّينه‪ ،‬وهو صريح في دللته على أن‬ ‫الرسول لم يعّين شخصا معينا للخلفة‪ ،‬بل جعلها حقا لجميع‬ ‫المسلمين‪ .‬وإذا أضيف إليها أن بعض النصوص وردت بصيغة‬ ‫الجمع‪ ،‬كان ذلك نصا في نفي إمامة شخص معين‪.‬‬ ‫رابعا‪ -‬ان الصحابة رضوان ا عليهم اختلفوا على‬ ‫الشخاص الذين كانوا في أيامهم َمن يكون خلفة منهم‪ .‬وهذا‬ ‫الختلف على الشخاص دليل على أن الرسول لم يعّين شخصا‬ ‫معينا للخلفة‪ .‬وِمن الشخاص الذين اختلفوا الشخاص الذي‬ ‫يقال إن الرسول نص على خلفتهم‪ ،‬وهما‪ :‬أبو بكر وعلي‪ .‬ومع‬ ‫ج أي واحد منهم بأن هناك نصا من الرسول على‬ ‫اختلفهم لم يحت ّ‬ ‫أن الخلفة له‪ ،‬ولم يحتج أحد من الصحابة عموما بوجود نص‬ ‫جوا به‪ ،‬فعدم احتجاجهم‬ ‫على أشخاص‪ ،‬فلو كان هنالك نص لحت ّ‬ ‫بأي نص معناه أنه ل يوجد نص على شخص معّين للخلفة‪.‬‬ ‫عرف ِمن‬ ‫ول يقال إنه يوجد نص ولكن لم يبلغهم و ُ‬ ‫بعدهم‪ .‬لن ديننا أخذناه عن الصحابة‪ ،‬فهم الذين نقلوا إلينا‬ ‫القرآن‪ ،‬وهم الذين رووا لنا الحديث‪ .‬فإذا لم َيِرد النص –أي نص‪-‬‬ ‫عن الصحابة‪ ،‬فإنه ل يعتبر ول بوجه من الوجوه‪ .‬فما جاء عنهم‬ ‫أخذناه وما لم يأت عنهم ضربنا به عرض الحائط‪ .‬وفي مسألة‬ ‫النص على خليفة بعد الرسول‪ ،‬نجد الصحابة جميعهم دون‬ ‫استثناء بما فيهم أبو بكر وعلي متفقين على عدم وجود أي نص‬ ‫على شخص معّين للخلفة‪ ،‬لعدم ِذكرهم لذلك‪ ،‬مع وجود‬ ‫ل ذلك على بطلن‬ ‫دواعي القول ولزوم ِذكر النص لو كان‪ .‬فد ّ‬ ‫كون الرسول عّين شخصا للخلفة‪.‬‬ ‫ول يقال إن عدم ِذكر النص كان حرصا على جمع كلمة‬ ‫‪-38-‬‬


‫المسلمين‪ .‬فإن هذا يعني كتمان حكم من أحكام ا وعدم‬ ‫سة له‪ ،‬ل سيما وهو في‬ ‫تبليغه في الوقت الذي كانت الحاجة ما ّ‬ ‫أمر من أعظم أمور المسلمين‪ .‬وهذا الكتمان لدين ا مما ل‬ ‫يجوز أن يصدر من صحابة رسول ا‪.‬‬ ‫خامسا‪ -‬وردت نصوص صريحة على أن الرسول صلى ا‬ ‫عليه وآله وسلم لم يستخلف أحدا‪ ،‬بمعنى أنه لم ينص على أن‬ ‫يكون شخص معين خليفة بعده‪ .‬فقد روى البخاري عن عبدا‬ ‫بن عمر رضي ا عنهما‪ ،‬قال‪ :‬قيل لعمر‪ :‬أل تستخِلف؟ قال‪) :‬إن‬ ‫أستخِلف فقد استخلف من هو خير مني‪ ،‬أبو بكر‪ ،‬وإن أترك فقد‬ ‫ترك من هو خير مني‪ ،‬رسول ا صلى ا عليه وسلم(‪ .‬وروى‬ ‫مسلم عن ابن عمر أن عمر بن الخطاب رضي ا عنه قال‪) :‬إن‬ ‫ا عز وجل يحفظ دينه وإني لئن ل أستخلف فإن رسول ا‬ ‫صلى ا عليه وسلم لم يستخلف‪ ،‬وإن أستخلف فإن أبا بكر قد‬ ‫استخلف(‪ .‬فهذا نص على أن الرسول لم يستخلف‪ .‬ول يقال إن‬ ‫هذا رأي لعمر‪ .‬فإن الصحابي إذا قال‪) :‬فعل رسول ا كذا‪ ،‬ولم‬ ‫يفعل كذا‪ ،‬أو كنا في عهده كذا‪ ،‬أو كان في عهده كذا‪ ،‬يكون هذا‬ ‫حديثا ُيحتج به ول يكون قول صحابي‪ .‬على أن عمر قال ذلك‬ ‫على مرأى ومسمع من الصحابة‪ ،‬وعلي رضي ا عنه كان‪،‬‬ ‫كر‪ ،‬مما يدل على‬ ‫كر على عمر من ِ‬ ‫وبلغه هذا القول‪ ،‬فلم ُين ِ‬ ‫موافقتهم على ما رواه عمر‪.‬‬ ‫هذا من حيث امتناع ورود نص معين على تعيين شخص‬ ‫معين للخلفة‪ .‬أّما من حيث النصوص التي أوردها من يقولون‬ ‫إن هناك نصا على شخص معين‪ ،‬فإن هذه النصوص‪ ،‬منها ما‬ ‫أوردوه للدللة على استخلف الرسول لبي بكر لن يكون خليفة‬ ‫بعده‪ ،‬ومنها ما أوردوه للدللة على استخلف علي لن يكون‬ ‫خليفة بعده‪ .‬ول بد من إيرادها وبيان ما فيها‪.‬‬ ‫أّما النصوص التي أوردها الذين يقولون إن الرسول‬ ‫استخلف أبا بكر فهي قسمان‪ :‬قسم َمَدح الرسول صلى ا عليه‬ ‫وسلم فيها أبا بكر‪ ،‬وليس فيها أي شيء يدل على أنه استخلفه‪.‬‬ ‫وقسم استنَبط منها بعضهم استنباطا أن الرسول استخلف أبا بكر‪.‬‬ ‫واستنبط آخرون أنه رشحه للخلفة‪ .‬أّما القسم الول الذي مدح‬ ‫فيه الرسول أبا بكر‪ ،‬فإنا نورد نموذجا منها بِذكر بعضها‪ ،‬وكلها ل‬ ‫تخرج عن معنى المدح‪.‬‬ ‫‪-39-‬‬


‫ي أن النبي صلى ا‬ ‫خدر ّ‬ ‫روى البخاري عن أبي سعيد ال ُ‬ ‫ن الناس علي في صحبته وماله أبا‬ ‫عليه وسلم قال‪) :‬إن ِمن أَم ّ‬ ‫بكر‪ ،‬ولو كنت متخذا خليل ً غير ربي لتخذت أبا بكر‪ ،‬ولكن أخوة‬ ‫سّد‪ ،‬إل ّ باب أبي‬ ‫ن في المسجد باب إل ّ ُ‬ ‫السلم وموّدته‪ ،‬ل َيبقَي ّ‬ ‫بكر(‪ .‬وقد روى هذا الحديث مسلم أيضا بألفاظ غير هذه اللفاظ‪،‬‬ ‫ولكنها قريبة منها‪ .‬وهذا الحديث ل شيء فيه يجعل المرء يقول‬ ‫ح لبي بكر من‬ ‫إنه استخلف لبي بكر‪ ،‬وكل ما فيه أنه مد ٌ‬ ‫الرسول‪ .‬والرسول صلى ا عليه وآله وسلم مدح كثيرا من‬ ‫الصحابة بأسمائهم‪ .‬فقد وردت أحاديث في مدح عمر وعثمان‬ ‫ي وسعد بن أبي وقاص وطلحة والزبير وأبي عبيدة بن‬ ‫وعل ّ‬ ‫الجراح والحسن والحسين رضي ا عنهما‪ ،‬وزيد بن حارثة‬ ‫وأسامة بن زيد وعبدا بن جعفر وخديجة وعائشة وفاطمة بنت‬ ‫سَلمة وبلل وغيرهم‪ .‬فمجرد المدح ل يدل‬ ‫النبي عليه السلم وأم َ‬ ‫على الستخلف ول بوجه من الوجوه‪.‬‬ ‫أّما الحاديث التي اسَتنبط منها بعضهم خلفة أبي بكر‪،‬‬ ‫فإنها أربعة أحاديث نوردها ونبين ما في كل منها‪ .‬وهذه الحاديث‬ ‫هي‪:‬‬ ‫أول ً‪ -‬روى البخاري عن القاسم بن محمد قال‪ :‬قالت عائشة‬ ‫رضي ا عنها‪ :‬وا رأساه‪ .‬فقال رسول ا صلى ا عليه وسلم‪:‬‬ ‫ذاك لو كان وأنا حي فأستغفر لك وأدعو لك‪ .‬فقالت عائشة‪ :‬وا‬ ‫ت آخر‬ ‫ب موتي‪ ،‬ولو كان ذاك لظلل َ‬ ‫ثكلياه‪ ،‬وا إني لظنك تح ّ‬ ‫يومك معرسا ببعض أزواجك‪ .‬فقال النبي صلى ا عليه وسلم‪:‬‬ ‫ت أو أردت أن أرسل إلى أبي بكر وابنه‬ ‫بل أنا وا رأساه‪ ،‬لقد همم ُ‬ ‫فأعهد أن يقول القائلون أو يتمنى المتمنون‪ .‬ثم قلت يأبى ا‬ ‫ويدفع المؤمنون أو يدفع ا ويأبى المؤمنون(‪ .‬وروى مسلم هذا‬ ‫الحديث عن عائشة بلفظ‪ ،‬قالت‪ :‬قال لي رسول ا صلى ا‬ ‫عليه وسلم في مرضه‪) :‬ادعي لي أبا بكر أباك وأخاك حتى أكتب‬ ‫ن ويقول قائل‪ :‬أنا أْولى‪ ،‬ويأبى‬ ‫كتابا‪ ،‬فإني أخاف أن يتمنى متم ٍ‬ ‫ا والمؤمنون إل ّ أبا بكر(‪.‬‬ ‫ثانيا‪ -‬روى البخاري عن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه‬ ‫قال‪ :‬أتت النبي صلى ا عليه وسلم امرأة فكّلمته في شيء‪،‬‬ ‫ت ولم‬ ‫فأمرها أن ترجع إليه‪ ،‬قالت‪ :‬يا رسول ا‪ ،‬أرأيت إن جئ ُ‬ ‫أجدك –كأنها تريد الموت‪ -‬قال‪ :‬فإن لم تجديني فْأتي أبا بكر(‪،‬‬ ‫‪-40-‬‬


‫وروى مسلم هذا الحديث عن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه‬ ‫بلفظ )أن امرأة سألت رسول ا صلى ا عليه وسلم شيئا‪،‬‬ ‫فأمرها أن ترجع إليه‪ ،‬فقالت‪ :‬يا رسول ا‪ ،‬أرأيت إن جئت فلم‬ ‫أجدك –قال أبي‪ :‬كأنها تعني الموت‪ -‬قال‪ :‬فإن لم تجديني فْأتي‬ ‫أبا بكر(‪.‬‬ ‫ثالثا‪ -‬روى البخاري عن عائشة أم المؤمنين )أن رسول ا‬ ‫صلى ا عليه وسلم قال في مرضه ‪ُ:‬مروا أبا بكر ُيصلي بالناس‪.‬‬ ‫قالت عائشة‪ :‬قلت‪ :‬إن أبا بكر إذا قام في مقامك لم يسمع الناس‬ ‫ل بالناس‪.‬‬ ‫ل‪ ،‬فقال ‪ُ:‬مروا أبا بكر فلُيص ّ‬ ‫مر عمر فلُيص ّ‬ ‫من البكاء‪ ،‬ف ُ‬ ‫فقالت عائشة‪ :‬فقلت لحفصة‪ :‬قولي إن أبا بكر إذا قام في‬ ‫مقامك لم يسمع الناس‪ .‬ففعلت حفصة‪ .‬فقال رسول ا صلى‬ ‫حب يوسف‪ُ ،‬مروا أبا بكر فلُيص ّ‬ ‫ل‬ ‫ن صوا ِ‬ ‫ك ّ‬ ‫ا عليه وسلم‪ :‬إن ُ‬ ‫ب منك خيرا(‪.‬‬ ‫ت لصي ُ‬ ‫بالناس‪ .‬فقالت حفصة لعائشة‪ :‬ما كن ُ‬ ‫ت عائشة‬ ‫رابعا‪ -‬روى مسلم عن ابن أبي ُملْيكة )سمع ُ‬ ‫سئلت من كان رسول ا صلى ا عليه وسلم مستخلفا لو‬ ‫و ُ‬ ‫استخلف؟ قالت‪ :‬أبو بكر‪ .‬فقيل لها‪ :‬ثم َمن بعد أبي بكر؟ قالت‪:‬‬ ‫عمر‪ .‬ثم قيل لها ‪َ:‬من بعد عمر؟ قالت‪ :‬أبو عبيدة بن الجراح‪ .‬ثم‬ ‫انتهت إلى هذا‪.‬‬ ‫وهذه الحاديث كلها ل تصلح دليل ً على استخلف الرسول‬ ‫لبي بكر‪ .‬أّما الحديث الول فُيَرد لسببين‪ ،‬أحدهما أن الرسول‬ ‫ل‪ ،‬لن‬ ‫ت( ولكنه لم يفعل‪ ،‬فل يكون دلي ً‬ ‫ت وأرد ُ‬ ‫يقول‪) :‬همم ُ‬ ‫الدليل هو قول الرسول وفعله وسكوته‪ ،‬أّما ما عدا ذلك فل يعتبر‬ ‫دليل ً شرعيا‪ .‬وثانيهما أن عائشة هي بنت أبي بكر‪ ،‬ولو كان هذا‬ ‫ج به حين ذهب إلى السقيفة‬ ‫مه أبو بكر ولحت ّ‬ ‫عِل َ‬ ‫الحديث موجودا ل َ‬ ‫يناقش النصار حين اجتمعوا لبيعة خليفة منهم‪ .‬وعليه فإن هذا‬ ‫الحديث مردود ول يصلح دليل ً على استخلف أبي بكر‪.‬‬ ‫وأّما الحديث الثاني فل يدل على استخلف أبي بكر‪ ،‬لن‬ ‫المرأة قالت‪ :‬ولم أجدك‪ .‬فَيصُدق أنها ل تجده لغيابه في غزوة‬ ‫من الغزوات‪ ،‬أو في أي شأن من الشؤون‪ ،‬ول يوجد فيه ما يدل‬ ‫ت‪ .‬وما جاء‬ ‫على أنها تريد ِمن قولها‪) :‬ولم أجدك( بأن تكون قد ُم ّ‬ ‫م‬ ‫جَبْير وفه ٌ‬ ‫في الحديث من قوله‪) :‬كأنها تريد الموت( هو قول ل ُ‬ ‫له‪ .‬فأمُر الرسول لها أن تذهب لبي بكر إذا جاءت ولم تجده‪ ،‬ل‬ ‫دللة فيه على استخلف أبي بكر في الخلفة بعد الرسول‪ .‬على‬ ‫‪-41-‬‬


‫أنه لو ُفرض أنها تريد الموت فإنه كذلك ل يعني أنه لهذا القول‬ ‫عّين أبا بكر ليكون خليفة بعده‪.‬‬ ‫وأّما الحديث الثالث فهو استخلف في الصلة ليس غير‪،‬‬ ‫والستخلف في الصلة ل يدل على الستخلف في الحكم‪ .‬وأّما‬ ‫قولهم‪) :‬رضيه رسول ا لمر ديننا‪ ،‬أفل نرضاه لمر دنيانا(‪ ،‬هو‬ ‫م لهم‪ ،‬وهو فهم خاطئ‪ ،‬لن هنالك فرقا شاسعا بين الصلة‬ ‫فه ٌ‬ ‫وبين الحكم‪ .‬فليس كل من يصلح لن يكون إماما في الصلة‬ ‫يصلح لن يكون إماما في الحكم‪ .‬على أن النص خاص بالصلة‪،‬‬ ‫مل على غيرها لخصوصية‬ ‫فل يشمل غيرها‪ ،‬ول يصح أن ُيح َ‬ ‫النص‪.‬‬ ‫وأّما الحديث الرابع فإنه ل يعتبر حديثا‪ ،‬لنه لم ُيسند إلى‬ ‫الرسول بشيء‪ ،‬وإنما هو رأي لعائشة‪ .‬ورأي الصحابة ل ُيحتج به‬ ‫ول يعتبر دليل ً شرعيا‪ ،‬ولذلك ُيَرد لنه ليس بحديث ول قيمة له‬ ‫في الحكام الشرعية‪.‬‬ ‫هذا من حيث الحاديث التي أوردها الذين يقولون‬ ‫باستخلف أبي بكر‪.‬‬ ‫أّما الحاديث التي أوردها الذين يقولون إن الرسول‬ ‫استخلف عليا‪ ،‬فهي ثلثة أقسام‪ :‬قسم َمَدح فيه الرسول سيدنا‬ ‫عليا رضي ا عنه‪ ،‬وقسم استنبط منها بعضهم استنباطا أن‬ ‫الرسول استخلف عليا‪ ،‬وقسم ورد فيها عند المحتجين نص صريح‬ ‫أن الرسول استخلف عليا‪.‬‬ ‫أّما القسم الول الذي مدح فيه الرسول عليا فإنا نورد‬ ‫نموذجا منها بِذكر بعض الحاديث‪ ،‬والباقي ل يخرج عن معنى‬ ‫المدح‪:‬‬ ‫روى البخاري عن سهل بن سعد رضي ا عنه )أن رسول‬ ‫ا صلى ا عليه وسلم قال ‪ُ :‬‬ ‫ن الراية غدا رجل ً َيفتح ا‬ ‫طَي ّ‬ ‫لع ِ‬ ‫ما‬ ‫على يديه‪ .‬قال‪ :‬فبات الناس يدوكون ليلتهم أّيُهم ُيعطاها‪ .‬فل ّ‬ ‫أصبح الناس غدوا على رسول ا صلى ا عليه وسلم كلهم‬ ‫يرجو أن ُيعطاها‪ ،‬فقال‪ :‬أين علي بن أبي طالب؟ فقالوا‪ :‬يشكتي‬ ‫صق‬ ‫سلوا إليه فْأتوني به‪ .‬فلما جاء َب َ‬ ‫عينيه يا رسول ا‪ .‬قال‪ :‬فأر ِ‬ ‫في عينيه ودعا له فَبِرأ حتى كأن لم يكن به وجع فأعطاه الراية(‪.‬‬ ‫وروى مسلم هذا الحديث عن أبي هريرة بلفظ )أن رسول ا‬ ‫صلى ا عليه وسلم قال يوم خيبر ‪ُ :‬‬ ‫ن هذه الراية رجل ً‬ ‫طَي ّ‬ ‫لع ِ‬ ‫‪-42-‬‬


‫يحب ا ورسوله‪ ،‬يفتح ا على يديه‪ .‬قال عمر بن الخطاب‪ :‬ما‬ ‫ت لها رجاء أن ُأدعى لها‪.‬‬ ‫أحببتُ المارة إل ّ يومئذ‪ .‬قال‪ :‬فتساَوْر ُ‬ ‫قال‪ :‬فدعا رسول ا صلى ا عليه وسلم علي بن أبي طالب‬ ‫ي رضي ا‬ ‫فأعطاه إياها(‪ .‬وروى البخاري في باب مناقب عل ّ‬ ‫ي‪) :‬أنت مني وأنا منك(‪.‬‬ ‫عنه‪ ،‬قال النبي صلى ا عليه وسلم لعل ّ‬ ‫وروى مسلم عن عامر بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه‪ ،‬قال‪:‬‬ ‫سب أبا‬ ‫أّمر معاوية بن أبي سفيان سعدا‪ ،‬فقال‪ :‬ما منعك أن َت ُ‬ ‫ت ثلثا قالهن له رسول ا صلى ا‬ ‫التراب؟ فقال‪ :‬أما ما َذَكر ُ‬ ‫ي من‬ ‫ب إل ّ‬ ‫ح ّ‬ ‫سّبه‪ ،‬لن تكون لي واحدة منهن أ َ َ‬ ‫عليه وسلم فلن أ ُ‬ ‫حمر النعم‪ .‬سمعت رسول ا صلى ا عليه وسلم يقول له‬ ‫ُ‬ ‫ي‪ :‬يا رسول ا‪ ،‬خلفتني مع‬ ‫خلفه في بعض مغازيه‪ ،‬فقال له عل ّ‬ ‫النساء والصبيان؟ فقال له رسول ا صلى ا عليه وسلم‪ :‬أَما‬ ‫ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى‪ ،‬إل ّ أنه ل نبّوة‬ ‫بعدي؟ وسمعته يقول يوم خيبر ‪ُ :‬‬ ‫ن الراية رجل ً يحب ا‬ ‫طَي ّ‬ ‫لع ِ‬ ‫ورسوله ويحّبه ا ورسوله‪ .‬قال‪ :‬فتطاولنا لها‪ :‬فقال ادعوا لي‬ ‫عليا‪ ،‬فُأتي به أرمد‪ ،‬فبصق في عينيه ودفع الراية إليه‪ ،‬ففتح ا‬ ‫ع أبناءنا وأبناءكم(‪ ،‬دعا‬ ‫ما نزلت هذه الية )فقل تعالوا ند ُ‬ ‫عليه‪ .‬ول ّ‬ ‫رسول ا صلى ا عليه وسلم عليا وفاطمة وحسنا وحسينا‬ ‫فقال‪) :‬اللهم هؤلء أهلي(‪ .‬وروى مسلم عن سهل بن سعد قال‪:‬‬ ‫)اسُتعمل على المدينة رجل من آل مروان‪ ،‬قال‪ :‬فدعا سهل بن‬ ‫سعد‪ ،‬فأمره أن يشُتم عليا‪ ،‬قال‪ :‬فأبى سهل‪ .‬فقال له‪ :‬أما إذا‬ ‫أبيت فُقل لعن ا أبا التراب‪ .‬فقال سهل‪ :‬ما كان لعلي اسم‬ ‫ب إليه من أبي التراب وإن كان لَيفَرح إذا دعي بها‪ .‬فقال له‬ ‫أح ّ‬ ‫مي أبا تراب؟ قال‪ :‬جاء رسول ا صلى‬ ‫س ّ‬ ‫أخِبرنا عن قصته‪ِ ،‬لم ُ‬ ‫ا عليه وسلم بيت فاطمة‪ ،‬فلم يجد عليا في البيت فقال‪ :‬أين‬ ‫ابن عمك؟ فقالت‪ :‬كان بيني وبينه شيء فغاضبني فخرج فلم‬ ‫ظر‬ ‫يِقل عندي‪ .‬فقال رسول ا صلى ا عليه وسلم لنسان‪ :‬ان ُ‬ ‫أين هو‪ .‬فجاء فقال‪ :‬يا رسول ا هو في المسجد راقد‪ .‬فجاءه‬ ‫رسول ا صلى ا عليه وسلم وهو مضطجع قد سقط رداؤه‬ ‫عن شقه فأصابه تراب‪ ،‬فجعل رسول ا صلى ا عليه وسلم‬ ‫يمسحه عنه ويقول‪) :‬قم أبا التراب‪ ،‬قم أبا التراب(‪ .‬وروى مسلم‬ ‫ي‪) :‬والذي فلق الحب وبرأ‬ ‫عن عدي بن ثابت عن زرقال‪ ،‬قال عل ّ‬ ‫ي أن ل‬ ‫ي صلى ا عليه وسلم إل ّ‬ ‫النسمة إنه َلعهُد النبي الّم ّ‬ ‫‪-43-‬‬


‫يحبني إل ّ مؤمن ول يبغضني إل ّ منافق(‪.‬‬ ‫فهذه الحاديث ل شيء فيها يجعل المرء يقول إن الرسول‬ ‫استخلف عليا أن يكون خليفة بعده‪ .‬فحديث خيبر مدح فيه‬ ‫ح من‬ ‫ي‪) :‬أنت مني وأنا منك( مد ٌ‬ ‫الرسول عليا‪ .‬وقول الرسول لعل ّ‬ ‫ي‪ .‬وحديث سعد فيه )أَما ترضى أن تكون مني بمنزل‬ ‫الرسول لعل ّ‬ ‫هارون من موسى( وسيأتي الكلم عليه في القسم الثاني من‬ ‫أحاديث هذا الموضوع‪ .‬وفيه حديث خيبر وهو مدح‪ ،‬وفيه أن عليا‬ ‫وفاطمة وحسنا وحسينا أهله وهو مدح‪ ،‬وحديث سهل بن سعد‬ ‫مدح‪ .‬والرسول صلى ا عليه وسلم كما مدح سيدنا عليا مدح‬ ‫ح الرسول لشخص ل يدل على استخلفه‬ ‫غيره من الصحابة‪ .‬ومد ُ‬ ‫ول بوجه من الوجوه‪.‬‬ ‫أّما القسم الثاني من الحاديث وهي التي استنبط منها‬ ‫ي خليفة بعده‪ ،‬فإنها‬ ‫ص على أن يكون عل ّ‬ ‫بعضهم أن الرسول ن ّ‬ ‫تتلخص في أربعة نصوص هي‪:‬‬ ‫‪ -1‬روى البخاري عن مصعب بن سعد عن أبيه )أن رسول‬ ‫ا صلى ا عليه وسلم خرج إلى تبوك واستخلف عليا وقال‪:‬‬ ‫أتخلفني في الصبيان والنساء؟ قال‪ :‬أل ترضى أن تكون مني‬ ‫بمنزلة هرون من موسى؟ إل ّ أنه ليس نبي بعدي(‪ .‬وروى مسلم‬ ‫عن عامر بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه قال‪ :‬قال رسول ا‬ ‫ي‪) :‬أنت مني بمنزلة هارون من موسى‬ ‫صلى ا عليه وسلم لعل ّ‬ ‫إل ّ أنه ل نبي بعدي(‪ .‬وروى مسلم عن إبراهيم بن سعد عن‬ ‫ي‪) :‬أَما ترضى‬ ‫سعد عن النبي صلى ا عليه وسلم أنه قال لعل ّ‬ ‫أن تكون مني بمنزلة هرون من موسى(‪ .‬وروى البخاري عن‬ ‫إبراهيم بن سعد عن أبيه قال‪ :‬قال النبي صلى ا عليه وسلم‬ ‫ي‪) :‬أَما ترضى أن تكون مني بمنزلة هرون من موسى(‪.‬‬ ‫لعل ّ‬ ‫وروى ابن اسحق قال‪ :‬خلف رسول ا صلى ا عليه وسلم‬ ‫علي بن أبي طالب رضوان ا عليه على أهله‪ ،‬وأمره بالقامة‬ ‫فيهم‪ .‬فأرجف به المنافقون‪ ،‬وقالوا‪ :‬ما خلفه إل ّ استثقال ً وتخففا‬ ‫ما قال ذلك المنافقون‪ ،‬أخذ علي بن أبي طالب رضوان‬ ‫منه‪ ،‬فل ّ‬ ‫ا عليه سلحه ثم خرج حتى أتى رسول ا صلى ا عليه‬ ‫وسلم وهو نازل بالجرف فقال‪ :‬يا نبي ا‪ ،‬زعم المنافقون إنك‬ ‫إّنما خلفتني أنك استثقلتني وتخففت مني‪ ،‬فقال‪) :‬كذبوا‪ ،‬ولكنني‬ ‫خلفتك ِلما تركتُ ورائي‪ ،‬فارجع فاخلفني في أهلي وأهلك‪ ،‬أفل‬ ‫‪-44-‬‬


‫ترضى يا علي أن تكون مني بمنزلة هرون من موسى إل ّ أنه ل‬ ‫نبي بعدي‪ ،‬فرجع علي إلى المدينة‪ ،‬ومضى رسول ا صلى ا‬ ‫عليه وسلم على سفره(‪ .‬وذكر السيد عبدالحسين شرف الدين‬ ‫جعات" ما نصه )حديث جابر بن عبدا‬ ‫الموسوي في كتاب "المرا َ‬ ‫قال‪ :‬قال رسول ا صلى ا عليه وآله وسلم‪ :‬يا علي إنه يحل‬ ‫لك في المسجد ما يحل لي‪ ،‬وإنك مني بمنزلة هرون من موسى‪،‬‬ ‫إل ّ أنه ل نبي بعدي(‪.‬‬ ‫ت أنا وحصين‬ ‫‪ -2‬روى مسلم عن يزيد بن حيان قال‪ :‬انطلق ُ‬ ‫ما جلسنا إليه قال‬ ‫بن سبرة وعمرو بن مسلم إلى زيد بن أرقم‪ ،‬فل ّ‬ ‫ت رسول ا صلى ا‬ ‫ت يا زيد خيرا كثيرا‪ ،‬رأي َ‬ ‫له حصين‪ :‬لقد لقي َ‬ ‫ت خلفه‪ ،‬لقد لقيتَ‬ ‫ت معه وصلي َ‬ ‫عليه وسلم‪ ،‬وسمعتَ حديثه وغزو َ‬ ‫ت من رسول ا صلى ا‬ ‫يا زيد خيرا كثيرا‪ ،‬حّدثنا يا زيد ما سمع َ‬ ‫عليه وسلم‪ .‬قال‪ :‬يا ابن أخي‪ ،‬وا لقد َكبرت سّني وقدم عهدي‬ ‫ونسيتُ بعض الذي كنت أعي من رسول ا صلى ا عليه‬ ‫وسلم‪ ،‬فما حّدثُتكم فاقبلوا‪ ،‬وما ل فل تكلفونيه‪ .‬ثم قال‪ :‬قام‬ ‫خما‬ ‫رسول ا صلى ا عليه وسلم يوما فينا خطيبا بما ُيدعى ُ‬ ‫مد ا وأثنى عليه ووعظ وذّكر‪ ،‬ثم قال‪:‬‬ ‫ح َ‬ ‫بين مكة والمدينة‪ ،‬ف َ‬ ‫أّما بعد أل أيها الناس فإّنما أنا بشر يوشك أن يأتي رسول ربي‬ ‫ك فيكم َثَقلْين‪ ،‬أولهما كتاب ا فيه الهدى والنور‬ ‫فأجيب‪ ،‬وأنا تار ٌ‬ ‫غب فيه‪.‬‬ ‫ث على كتاب ا ور ّ‬ ‫فخذوا بكتاب ا واستمسكوا به‪ .‬فح ّ‬ ‫ثم قال‪ :‬وأهل بيتي‪ ،‬أذكركم ا في أهل بيتي‪ ،‬أذكركم ا في‬ ‫أهل بيتي‪ ،‬أذكركم ا في أهل بيتي‪ .‬فقال له حصين‪ :‬وَمن أهل‬ ‫بيته يا زيد؟ أليس نساؤه من أهل بيته؟ قال‪ :‬نساؤه من أهل‬ ‫حِرم الصدقة بعده‪ .‬قال‪ :‬ومن هم؟‬ ‫بيته‪ ،‬ولكن أهل بيته من ُ‬ ‫قال‪ :‬هم آل علي وآل عقيل وآل جعفر وآل عباس‪ .‬قال‪ :‬كل‬ ‫حِرم الصدقة؟ قال‪ :‬نعم(‪ .‬وذكر السيد عبدالحسين شرف‬ ‫هؤلء ُ‬ ‫جعات" هذا الحديث بالرواية التية )أخرج‬ ‫الدين في كتابه "المرا َ‬ ‫مع على صحته عن زيد بن أرقم قال‪ :‬خطب‬ ‫الطبراني بسند مج َ‬ ‫رسول ا صلى ا عليه وآله وسلم بغدير خم‪ ،‬تحت شجرات‪،‬‬ ‫عى فأجيب‪ ،‬وإني مسؤول وإنكم‬ ‫فقال‪ :‬أيها الناس يوشك أن ُأد َ‬ ‫مسؤولون‪ ،‬فماذا أنتم قائلون؟ قالوا‪ :‬نشهد أنك قد بّلغ َ‬ ‫ت‬ ‫ت‪ ،‬فجزاك ا خيرا‪ .‬فقال‪ :‬أليس تشهدون أن ل‬ ‫ت ونصح َ‬ ‫وجاهد َ‬ ‫إله إل ّ ا وأن محمدا عبده ورسوله‪ ،‬وأن جّنته حق وأن ناره‬ ‫‪-45-‬‬


‫حق‪ ،‬وأن الموت حق وأن البعث حق بعد الموت‪ ،‬وأن الساعة‬ ‫آتية ل ريب فيها وأن ا يبعث َمن في القبور؟ قالوا‪ :‬بل نشهد‬ ‫بذلك‪ .‬قال‪ :‬اللهم اشهد‪ .‬ثم قال‪ :‬أيها الناس إن ا مولي‪ ،‬وأنا‬ ‫مولى المؤمنين‪ ،‬وأنا أولى بهم من أنفسهم‪َ ،‬من كنتُ موله فهذا‬ ‫ل من واله وعاِد من عاداه‪ .‬ثم قال‪:‬‬ ‫موله –يعني عليا‪ -‬اللهم وا ِ‬ ‫طكم وإنكم واردون على الحوض‪ ،‬حوض‬ ‫يا أيها الناس إني َفَر ُ‬ ‫أعرض ما بين ُبصرى إلى صنعاء‪ ،‬فيه عدد من النجوم‪َ ،‬قَدحان‬ ‫ي عن الَثَقلْين كيف‬ ‫من الفضة‪ ،‬وإني سائلكم حين َتِردون عل ّ‬ ‫تخلفوني فيهما‪ ،‬الثقل الكبر كتاب ا عز وجل‪ ،‬سبب طرفه بيد‬ ‫ا تعالى وطرفه بأيديكم‪ ،‬فاستمسكوا به ل تضلوا ول تبّدلوا‪،‬‬ ‫عتَرتي أهل بيتي‪ ،‬فإنه قد نّبأني اللطيف الخبير أنهما لن ينقضيا‬ ‫و ِ‬ ‫ي الحوض(‪ .‬انتهى ما ذكره السيد عبدالحسين شرف‬ ‫حتى َيِردا عل ّ‬ ‫الدين‪ .‬وقال الشيخ عبدالحسين أحمد الميني النجفي في كتابه‬ ‫ما قضى مناسكه –أي النبي صلى ا عليه‬ ‫"الغدير" ما نصه‪" :‬فل ّ‬ ‫وآله وسلم‪ -‬وانصرف راجعا إلى المدينة ومعه من كان من‬ ‫خم من الجحفة التي‬ ‫الجموع المذكورات ووصل إلى غدير ُ‬ ‫تتشعب فيها طرق المدنيين والمصريين والعراقيين‪ ،‬وذلك يوم‬ ‫الخميس الثامن عشر من ذي الحجة‪ ،‬نزل إليه جبرائيل المين عن‬ ‫ا بقوله‪) :‬يا أيها الرسول بّلغ ما ُأنِزل إليك من ربك( الية‪ ،‬وأمره‬ ‫عَلما للناس ويبلغهم ما نزل فيه من الولية وفرض‬ ‫أن يقيم عليا َ‬ ‫الطاعة على كل أحد‪ ،‬وكان أوائل القوم قريبا من الجحفة‪ ،‬فأمر‬ ‫رسول ا أن ُيَرد َمن َتَقّدم منهم وُيحَبس َمن تأخر عنهم في‬ ‫ذلك المكان‪ ،‬ونهى عن سمرات خمس متقاربات دوحات عظام‬ ‫م ما تحتهن‬ ‫أن ل ينزل تحتهن أحد‪ .‬حتى إذا أخذ القوم منازلهم فق ّ‬ ‫حتى إذا نودي بالصلة صلة الظهر عمد إليهن فصلى بالناس‬ ‫تحتهن‪ ،‬وكان يوما هاجرا يضع الرجل بعض ردائه على رأسه‬ ‫ظّلل لرسول ا بثوب‬ ‫وبعضه تحت قدميه من شدة الرمضاء‪ ،‬و ُ‬ ‫ما انصرف صلى ا عليه وآله‬ ‫على شجرة سمرة من الشمس‪ ،‬فل ّ‬ ‫وسلم من صلته قام خطيبا وسط القوم على أقتاب البل‪،‬‬ ‫وأسمع الجميع رافعا عقيرته فقال‪ :‬الحمد لله ونستعينه ونؤمن به‬ ‫ونتوكل عليه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا‬ ‫ضل لمن هدى‪ ،‬وأشهد أن ل إله ا‬ ‫الذي ل هادي لمن ضل ول ُم ِ‬ ‫وأن محمدا عبده ورسوله‪ ،‬أّما بعد‪ :‬أيها الناس قد نّبأني اللطيف‬ ‫‪-46-‬‬


‫مر نبي إل ّ مثل نصف عمر الذي قبله‪ ،‬وإني يوشك‬ ‫الخبير أنه لم يع ُ‬ ‫أن ُأدعى فأجبت‪ ،‬وإني مسؤول وأنتم مسؤولون فماذا أنتم‬ ‫ت وجهدتَ فجزاك ا‬ ‫ت ونصح َ‬ ‫قائلون؟ قالوا‪ :‬نشهد أنك قد بّلغ َ‬ ‫خيرا‪ .‬قال‪ :‬ألستم تشهدون أن ل إله إل ّ ا وأن محمدا عبده‬ ‫ورسوله‪ ،‬وأن جّنته حق وناره حق‪ ،‬وأن الموت حق وأن الساعة‬ ‫آتية ل ريب فيها وأن ا يبعث َمن في القبور؟ قالوا‪ :‬بلى نشهد‬ ‫بذلك‪ .‬قال‪ :‬اللهم اشهد‪ .‬ثم قال‪ :‬أيها الناس أل تسمعون؟ قالوا‪:‬‬ ‫ي الحوض‪،‬‬ ‫نعم‪ .‬قال‪ :‬فاني َفَرط على الحوض وأنتم واردون عل ّ‬ ‫وأن عرضه ما بين صنعاء وُبصرى‪ ،‬فيه أقداح عدد النجوم من‬ ‫فضة‪ ،‬فانظروا كيف تخلفوني في الَثَقلْين‪ .‬فنادى مناٍد‪ :‬وما‬ ‫ف بيد ا‬ ‫الثقلن يا رسول ا؟ قال‪ :‬الثقل الكبر كتاب ا طر ٌ‬ ‫ضلوا‪ ،‬والخر الصغر‬ ‫سكوا به ل َت ِ‬ ‫ف بأيديكم‪ ،‬فتم َ‬ ‫عز وجل وطر ٌ‬ ‫ي‬ ‫عتَرتي‪ ،‬وان اللطيف الخبير نّبأني أنهما لن يتفرقا حتى َيِردا عل ّ‬ ‫ِ‬ ‫الحوض‪ ،‬فسألت ذلك لهما ربي‪ ،‬فل تقدموهما فَتهَلكوا ول‬ ‫ي فرفعها حتى ُرؤي بياض‬ ‫تقصروا عنهما فَتهَلكوا‪ ،‬ثم أخذ بيد عل ّ‬ ‫آباطهما وعرفه القوم أجمعون‪ ،‬فقال‪ :‬أيها الناس من أْولى‬ ‫ا ورسوله أعلم‪ .‬قال‪ :‬إن‬ ‫الناس بالمؤمنين من أنفسهم؟ قالوا ‪:‬‬ ‫ا مولي وأنا مولى المؤمنين وأنا أْولى بهم من أنفسهم‪ ،‬فمن‬ ‫ي موله‪ ،‬يقولها ثلث مرات‪ ،‬وفي لفظ أحمد إمام‬ ‫ت موله فعل ّ‬ ‫كن ُ‬ ‫ل من واله وعاِد من عاداه‪،‬‬ ‫الحنابلة أربع مرات‪ ،‬ثم قال‪ :‬اللهم وا ِ‬ ‫حّبه‪ ،‬وابغض من أبغضه وانصر من نصره‪ ،‬واخُذل‬ ‫ب من أ َ‬ ‫ح ّ‬ ‫وأ ِ‬ ‫من خذله‪ ،‬وأِدر الحق معه حيث دار‪ ،‬أل فليبّلغ الشاهد الغائب(‪.‬‬ ‫ي للخلفة‪ ،‬يروون‬ ‫ص على عل ّ‬ ‫‪ -3‬من يقولون إن الرسول ن َ‬ ‫في كتبهم أحاديث‪ .‬وهذه الحاديث ل نجعل محل البحث فيها‬ ‫موضوع روايتها مع أنه لم يروها الشيخان البخاري ومسلم‬ ‫وليست مروية من طريق الثقات وأكثرها من الحاديث‬ ‫الموضوعة‪ ،‬ل نجعل محل البحث موضوع روايتها‪ ،‬حتى ل يقولوا‬ ‫إن هذه الحاديث لم يرِوها الثقات عندكم وقد رواها الثقات‬ ‫ح عنده الحديث له أن َيحتج به‪ .‬نعم ل نجعل‬ ‫ن َمن ص ّ‬ ‫عندنا‪ ،‬وأ ّ‬ ‫ذلك موضع بحث وإّنما نجعل محل البحث النصوص نفسها‬ ‫حسبما وردت في رواياتهم‪ .‬هذه النصوص التي يستنبطون منها‬ ‫أن الرسول قد استخلف عليا ليكون خليفة من بعده‪ .‬وهذه‬ ‫الحاديث يقولون لها أحاديث الولية‪ ،‬نوِرد قسما منها والباقي هو‬ ‫‪-47-‬‬


‫في نفس المعنى‪ ،‬بل في نفس اللفاظ‪.‬‬ ‫أ‪ -‬أخرج أبو داود الطيالسي بالسناد إلى ابن عباس‪ ،‬قال‪:‬‬ ‫قال رسول ا صلى ا عليه وآله وسلم لعلي بن أبي طالب‪:‬‬ ‫)أنت ولي كل مؤمن بعدي(‪.‬‬ ‫ب‪ -‬وجاء في كنز العمال عن عمران بن حصين إذ قال‪:‬‬ ‫بعث رسول ا صلى ا عليه وآله وسلم سرّية واستعمل عليهم‬ ‫خمس جارية‪ ،‬فأنكروا‬ ‫علي بن أبي طالب‪ ،‬فاصطفى لنفسه من ال ُ‬ ‫ذلك عليه‪ ،‬وتعاقد أربعة منهم على شكايته إلى النبي صلى ا‬ ‫ما َقِدموا قام أحد الربعة فقال‪ :‬يا رسول ا‪،‬‬ ‫عليه وآله وسلم‪ ،‬فل ّ‬ ‫ألم تر أن عليا صنع كذا وكذا‪ .‬فأعرض عنه‪ .‬وقام الثاني فقال‬ ‫مثل ذلك‪ ،‬فأعرض عنه‪ .‬وقام الثالث فقال مثل ما قال صاحباه‪،‬‬ ‫فأعرض عنه‪ .‬وقام الرابع فقال مثل ما قالوا‪ ،‬فأقبل عليهم‬ ‫صر في وجهه فقال‪:‬‬ ‫رسول ا صلى ا عليه وسلم والغضب ُيب َ‬ ‫ي؟ إن عليا مني وأنا منه‪ ،‬وهو ولي كل مؤمن‬ ‫ما تريدون من عل ّ‬ ‫من بعدي(‪.‬‬ ‫ج‪ -‬وفي حديث طويل عن عمرو بن ميمون عن ابن عباس‬ ‫قال‪ :‬بعث رسول ا صلى ا عليه وسلم فلنا بسورة التوبة‪،‬‬ ‫ل يذهب بها إل ّ رجل هو‬ ‫فبعث عليا خلفه فأخذها منه وقال ‪) :‬‬ ‫مني وأنا منه(‪.‬‬ ‫ت مع‬ ‫د‪ -‬وفي كنز العمال عن وهب بن حمزة قال‪ :‬سافر ُ‬ ‫كَوّنه‪ .‬فرجع ُ‬ ‫ت‬ ‫ت لش ُ‬ ‫علي فرأيت منه جفاء‪ ،‬فقلت‪ :‬لئن رجع ُ‬ ‫ت عليا لرسول ا صلى ا عليه وسلم‪ ،‬فنلت منه فقال ‪) :‬‬ ‫ل‬ ‫فذكر ُ‬ ‫ي فإنه وليكم بعدي(‪.‬‬ ‫ن هذا لعل ّ‬ ‫تقول ّ‬ ‫هـ‪ -‬وفي كنز العمال عن ابن عباس قال‪ :‬قال رسول ا‬ ‫صلى ا عليه وسلم ‪َ) :‬من سّره أن يحيا حياتي ويموت مماتي‬ ‫ل عليا بعدي وليوال ولّيه(‪.‬‬ ‫سها ربي‪ ،‬فليوا ِ‬ ‫غَر َ‬ ‫ويسكن جنة عدن َ‬ ‫و‪ -‬في منتخب الكنز عن زياد بن مطرف قال‪ :‬سمع ُ‬ ‫ت‬ ‫ب أن يحيا‬ ‫رسول ا صلى ا عليه وآله وسلم يقول ‪َ) :‬من أح ّ‬ ‫حياتي ويموت ميتتي ويدخل الجنة التي وعدني ربي وهي جنة‬ ‫ل عليا وذريته من بعدي‪ ،‬فإنهم لن يخرجونكم من‬ ‫الخلد‪ ،‬فليتو ّ‬ ‫باب هدى ولن يدخلوكم باب ضللة(‪.‬‬ ‫ز‪ -‬في كنز العمال عن عمار بن ياسر قال‪ :‬قال رسول ا‬ ‫صلى ا عليه وآله وسلم‪) :‬أوصي من آمن بي وصدقني بولية‬ ‫‪-48-‬‬


‫علي بن أبي طالب‪ ،‬فمن توله فقد تولني ومن تولني فقد‬ ‫ب ا‪ ،‬ومن‬ ‫تولى ا‪ ،‬ومن أحّبه فقد أحبني ومن أحبني فقد أح ّ‬ ‫أبغضه فقد أبغضي ومن أبغضني فقد أبغض ا(‪.‬‬ ‫ح‪ -‬وفي الكنز أيضا عن عماز مرفوعا )اللهم من آمن بي‬ ‫ل علي بن أبي طالب‪ ،‬فإن وليته وليتي ووليتي‬ ‫وصدقني فليتو ّ‬ ‫ولية ا تعالى(‪.‬‬ ‫‪ -4‬هناك أحاديث يرويها الذين يقولون إن الرسول نص‬ ‫ي‪ .‬وهذه الحاديث لم يروها أحد من الثقات‪،‬‬ ‫على الخلفة لعل ّ‬ ‫وأكثرها من الحاديث الموضوعة‪ .‬ونوردها ل لنبحثها من ناحية‬ ‫روايتها حتى ل ُيّدعى أنها صحيحة عند من رواها وإنما نوردها‬ ‫لنجعل محل بحثها النصوص التي أوردوها حسب ما وردت في‬ ‫ي وجعله‬ ‫رواياتهم‪ .‬وهذه الحاديث تتضمن مؤاخاة الرسول لعل ّ‬ ‫الوارث ِمن بعده‪ .‬ونورد قسما منها والباقي هو في نفس المعنى‬ ‫بل في نفس اللفاظ‪.‬‬ ‫أ‪ -‬أن النبي صلى ا عليه وآله وسلم آخى بين المهاجرين‬ ‫قبل الهجرة واصطفى عليا لنفسه‪ .‬ومما جاء في حديث المؤاخاة‬ ‫الولى )فقال علي‪ :‬يا رسول ا‪ ،‬لقد ذهب روحي وانقطع‬ ‫ن كان هذا‬ ‫ظهري حين رأيتك فعلتَ بأصحابك ما فعلت غيري‪ ،‬فإ ْ‬ ‫ي فلك العتبى والكرامة‪ .‬فقال رسول ا صلى ا‬ ‫ط عل ّ‬ ‫من سخ ٍ‬ ‫عليه وسلم‪ :‬والذي بعثني بالحق ما أخرجتك إل ّ لنفسي وأنت‬ ‫مني بمنزلة هرون من موسى‪ ،‬غير أنه ل نبي بعدي‪ ،‬وأنت أخي‬ ‫ث منك؟ قال‪ :‬ما ورث النبياء من َقبلي‪:‬‬ ‫ووارثي‪ .‬فقال‪ :‬وما أِر ُ‬ ‫كتاب ربهم وسنة نبيهم(‪.‬‬ ‫ب‪ -‬أن النبي صلى ا عليه وآله وسلم آخى بين المهاجرين‬ ‫والنصار بعد الهجرة بخمسة أشهر‪ ،‬ولم يؤاخ بين علي وبين أحد‬ ‫من النصار‪ ،‬ولم يؤاخ بين نفسه وبين أحد من النصار ‪ ،‬وإّنما‬ ‫اصطفاه لنفسه‪ .‬ومما جاء في حديث المؤاخاة الثانية )أن‬ ‫ي حين‬ ‫عل ّ‬ ‫ت َ‬ ‫ضب َ‬ ‫غ ِ‬ ‫ي‪ :‬أ َ‬ ‫الرسول صلى ا عليه وآله وسلم قال لعل ّ‬ ‫آخيت بين المهاجرين والنصار ولم أؤاخ بينك وبين أحد منهم‪ .‬أما‬ ‫ترضى أن تكون بمني بمنزل هرون من موسى‪ ،‬إل ّ أنه ليس‬ ‫بعدي نبي(‪.‬‬ ‫ج‪ -‬وُروي أن الرسول صلى ا عليه وآله وسلم خرج على‬ ‫أصحابه يوما ووجهه مشرق‪ ،‬فسأله عبدالرحمن بن عوف‪ ،‬فقال‪:‬‬ ‫‪-49-‬‬


‫)بشارة أتتني من ربي في أخي وابن عمي وابنتي بأن ا زّوج‬ ‫ما زُّفت سيدة النساء إلى كفئها سيد العترة‪،‬‬ ‫عليا من فاطمة(‪ ،‬ول ّ‬ ‫قال النبي صلى ا عليه وآله وسلم‪) :‬يا أم أيمن ادعي لي أخي‪.‬‬ ‫فقالت‪ :‬هو أخوك وُتنكحه؟ قال‪ :‬نعم يا أم أيمن‪ .‬فدعت عليا‬ ‫فجاء(‪ .‬وخاطبه النبي يوما في قضية كانت بينه وبين أخيه جعفر‬ ‫وزيد بن حارثة فقال له‪) :‬وأّما أنت يا علي فأخي وأبو ولدي ومني‬ ‫ي(‪.‬‬ ‫وإل ّ‬ ‫ي يوما‬ ‫عِهد الرسول صلى ا عليه وآله وسلم إلى عل ّ‬ ‫د ‪َ-‬‬ ‫فقال‪) :‬أنت أخي ووزيري تقضي دْيني وتنجز موعدي وتبرئ‬ ‫ذمتي(‪.‬‬ ‫هـ‪ -‬في كنز العمال قال صلى ا عليه وآله وسلم‪:‬‬ ‫)مكتوب على باب الجنة ل إله إل ّ ا محمد رسول ا‪ ،‬علي أخو‬ ‫رسول ا(‪.‬‬ ‫هذه النصوص الربعة‪ ،‬وهي نص جعله من الرسول‬ ‫بمنزلة هرون من موسى‪ ،‬ونص أنه عليه السلم ترك كتاب ا‬ ‫وعترته‪ ،‬ونص الولية‪ ،‬ونص المؤاخاة‪ .‬هذه هي النصوص التي‬ ‫يستنِبط منها بعض المسلمين أن الرسول صلى ا عليه وآله‬ ‫وسلم استخلف عليا من بعده‪ ،‬أي جعله هو الخليفة بعد وفاته‪.‬‬ ‫ولنأخذها نصا نصا‪:‬‬ ‫عل علي من الرسول بمنزلة‬ ‫أّما النص الول‪ ،‬وهو نص ج ْ‬ ‫هرون من موسى‪ ،‬فإنه يتبين معناه من دراسة المقام الذي قيل‬ ‫فيه ومن دراسة لفظه‪ .‬أّما المقام فإن الرسول قال هذا الحديث‬ ‫يوم غزوة تبوك‪ .‬وذلك أن الرسول صلى ا عليه وآله وسلم‬ ‫خلف على المدينة مكانه محمد بن مسلمة ليتولى رعاية شؤون‬ ‫المسلمين وإدارة شؤون الحكم‪ ،‬وخلف سيدنا عليا رضي ا عنه‬ ‫على أهله وأمره بالقامة فيهم‪ .‬فأرجف به المنافقون وقالوا‪ :‬ما‬ ‫ما قال ذلك المنافقون‪ ،‬أخذ‬ ‫خلفه إل ّ استثقال ً له وتخففا منه‪ .‬فل ّ‬ ‫علي بن أبي طالب رضوان ا عليه سلحه ثم خرج حتى أتى‬ ‫رسول ا صلى ا عليه وآله وسلم وهو نازل بالجرف فقال‪ :‬يا‬ ‫نبي ا‪ ،‬زعم المنافقون إنك إّنما خلفتني أنك استثقلتني وتخففت‬ ‫ت ورائي‪ ،‬فارجع‬ ‫مني‪ ،‬فقال‪) :‬كذبوا‪ ،‬ولكني خلفتك ِلما ترك ُ‬ ‫فاخلفني في أهلي وأهلك‪ ،‬أفل ترضى يا علي أن تكون مني‬ ‫بمنزلة هرون من موسى إل ّ أنه ل نبي بعدي( ومضى رسول ا‬ ‫‪-50-‬‬


‫صلى ا عليه وسلم على سفره‪ .‬فالحديث الوارد في جعل علي‬ ‫من الرسول بمنزلة هرون من موسى وارد باستخلفه في أهله‬ ‫بدليل قول علي نفسه‪) :‬أتخلفني في الصبيان والنساء(؟ فواقع‬ ‫الحادثة أنه خلف في أهله‪ ،‬فل يؤخذ منه أنه خلفه في الخلفة‪ ،‬ل‬ ‫عرف أنه عليه السلم خلف محمدا بن َمسلمة على‬ ‫سيما إذا ُ‬ ‫ص عليا بالستخلف على أهله‪ ،‬وقال له‪:‬‬ ‫الحكم مكانه‪ ،‬وخ ّ‬ ‫)أهلي وأهلك(‪ .‬على أن استخلف الرسول لحد أصحابه على‬ ‫الحكم حين خروجه للغزو ل يدل على أن هذا الشخص الذي‬ ‫خلفه هو خليفة مكانه‪ ،‬بدليل أن الرسول صلى ا عليه وآله‬ ‫وسلم استخلف كثيرين في الغزوات‪ .‬ففي غزوة العشيرة‬ ‫استعمل على المدينة أبا سلمة بن عبدالسد‪ .‬وفي غزوة سفوان‬ ‫استعمل على المدينة زيد بن حارثة‪ .‬وفي غزوة بني لحيان‬ ‫استعمل على المدينة ابن أم مكتوم‪ ،‬وهكذا‪ .‬فاستخلف الرسول‬ ‫لشخص على الحكم في المدينة مكانه لبينما يرجع من غزوه‪ ،‬ل‬ ‫يدل على أن ذلك يعني استخلفه في الخلفة‪ ،‬فكيف إذا‬ ‫استخلفه على أهله فقط‪ ،‬واستخلف غيره في الحكم لَبينما َيرجع‬ ‫من الغزوة؟‬ ‫هذا من حيث الستخلف‪ ،‬أّما من حيث قول الرسول صلى‬ ‫ا عليه وآله وسلم‪) :‬أل ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من‬ ‫موسى(‪ ،‬فإن معنى ألفاظه‪ :‬أل ترضى أن يكون مثلك فيما‬ ‫تخلفني فيه مثل ما يخلف هرون موسى‪ .‬فهو تشبيه لعلي بهرون‪،‬‬ ‫ووجه الشبه هو الستخلف‪ ،‬أي مثلك في استخلفي لك مثل‬ ‫هرون في استخلف موسى له‪ .‬هذا هو معنى ألفاظ الحديث‪.‬‬ ‫ول يوجد معنى غير هذا للفاظ الحديث‪ .‬ويعّين هذا المعنى‬ ‫ويجعله وحده هو المراد قول علي للرسول‪) :‬أتخلفني في‬ ‫الصبيان والنساء(‪ ،‬ومجيء قول الرسول‪) :‬أل ترضى أن تكون‬ ‫مني بمنزلة هارون من موسى( جوابا على سؤال علي هذا وردا‬ ‫على قوله‪.‬‬ ‫ولمعرفة ما يراد من هذا الحديث ُيرجع إلى القرآن الكريم‬ ‫لُيرى فيه موضوع استخلف موسى لهرون ما هو؟ وبالرجوع إلى‬ ‫القرآن الكريم نجد القصة يذكرها القرآن بالنص التالي وهو‪:‬‬ ‫م ميقات ربه‬ ‫)وواعدنا موسى ثلثين ليلة وأتممناها بعشٍر فت ّ‬ ‫أربعين ليلة‪ ،‬وقال موسى لخيه هرون اخلفني في قومي وأصِلح‬ ‫‪-51-‬‬


‫ول تّتبع سبيل المفسدين(‪ ،‬فيكون معنى الحديث‪ :‬أل ترضى أن‬ ‫تخلفني في أهلي كما خلف هرون موسى في قومه‪ ،‬فتكون‬ ‫مني بمنزلة هرون من موسى بالستخلف؟ ويكون المراد من‬ ‫الحديث تطييب خاطر سيدنا علي لنه جاء غير راض بهذا‬ ‫ي أنه هو الذي يقوم‬ ‫الستخلف‪ ،‬وهو في نفس الوقت إفهام لعل ّ‬ ‫مقامه في أهله إذا غاب‪ ،‬كما قام هرون مقام موسى في قومه‬ ‫إذا غاب‪.‬‬ ‫وأّما قوله‪) :‬إل ّ أنه ل نبي بعدي(‪ ،‬نفي للنبوة عن الشبه‪ ،‬لن‬ ‫هرون كان نبيا‪ ،‬وهو نبي خلف نبيا أثناء غيابه‪ .‬فاستثنى الرسول‬ ‫النبوة في ذلك رفعا لما قد ُيتوهم أنه بمنزلته في النبوة‪.‬‬ ‫ل نبي بعدي( أي بعد وفاتي‪ ،‬لن الكلم‬ ‫ول يقال إن قوله ‪) :‬‬ ‫في الستخلف حال الحياة‪ ،‬ذلك أن هرون كان نبيا مع موسى‬ ‫أثناء غيابه وليس بعد وفاته‪ ،‬وكان خليفته في قومه أثناء غيابه‬ ‫حال حياته وليس بعد وفاته‪ ،‬فقول الرسول‪) :‬غير أنه ل نبي‬ ‫بعدي( إّنما قاله لن هرون كان نبيا أثناء غياب موسى حال‬ ‫حياته‪ .‬فلجل أن ينفي النبوة عن علي قال هذا القول‪ ،‬فل يأتي‬ ‫هنا موضوع الستخلف بعد الوفاة لنه غير موجود في هارون‬ ‫ي الذي هو‬ ‫وموسى الذي هو المشّبه به‪ ،‬فل يوجد في النبي وعل ّ‬ ‫المشّبه‪.‬‬ ‫هذا هو معنى الحديث‪ ،‬ول توجد فيه أية إشارة للستخلف‬ ‫في الخلفة‪ ،‬ول ُيفهم منه مطلقا أن الرسول أراد بالحديث أن‬ ‫َيُنص على جعل علي خليفة على المسلمين بعد وفاة الرسول‪.‬‬ ‫فالحديث وارد في استخلف علي على أهل الرسول مدة غيابه‬ ‫في غزوة تبوك‪ .‬وأّما باقي الروايات التي وردت في هذا الحديث‬ ‫وهو قوله عليه السلم‪) :‬أل ترضى أن تكون مني بمنزلة هرون‬ ‫من موسى(‪ ،‬فمنها روايات صحيحة كرواية البخاري وكرواية‬ ‫ي سعد‪ ،‬ومنها روايات‬ ‫مسلم في حديثيه عن عامر وإبراهيم ولد ْ‬ ‫غير صحيحة‪ ،‬ولكنها كلها توِرد نفس النص‪ .‬وهذا يعني أن‬ ‫الحديث قيل في تبوك وفي غير تبوك‪ .‬والجواب على ذلك أن‬ ‫الروايات الصحيحة هي رواية جزء من القصة‪ ،‬أي رواية قول‬ ‫الرسول وحده منفصل ً عن القصة‪ ،‬وهذا ل يعني أنها حادثة غير‬ ‫حادثة تبوك‪ ،‬فإن الرواة والمحّدثين كثيرا ما يروون جزءا من‬ ‫حديث أو جزءا من قصة‪ ،‬فيقتصرون على رواية محل الشاهد‪.‬‬ ‫‪-52-‬‬


‫على أنه لو فرضنا بأن الحديث لم يكن في وقعة تبوك وحدها بل‬ ‫قيل في تبوك وفي غير تبوك‪ ،‬فإنه يعني أن الرسول استخلف‬ ‫سيدنا عليا رضي ا عنه على أهله دائما‪ ،‬في تبوك وفي غيرها‪.‬‬ ‫ول يدل على استخلفه كّرم ا وجهه في الخلفة بعد وفاة‬ ‫الرسول‪ ،‬وكل ما يدل الحديث في شرح ألفاظه وشرح معناه هو‪:‬‬ ‫ت‪،‬‬ ‫أل ترضى أن أجعلك تخلفني على أهلي أثناء غيابي‪ ،‬وكلما غب ُ‬ ‫كما خلف هرون موسى أثناء غيابه‪ ،‬إل ّ أن هرون نبي وأنت لست‬ ‫نبيا‪ ،‬لنه ل نبي بعد نبوتي‪ .‬ولذلك جاء في رواية مسلم عن عامر‬ ‫بن سعد عن أبيه )أَما ترضى أن تكون مني بمنزلة هرون من‬ ‫موسى إل ّ أنه ل نبوة بعدي( أي بعد نبوتي‪ .‬هذا هو التشبيه الذي‬ ‫شّبه به الرسول عليا بالنسبة إليه بهرون بالنسبة لموسى‪ ،‬أي‬ ‫غْيبة الرسول ل غير‪،‬‬ ‫الستخلف ليس غير‪ ،‬والستخلف أثناء َ‬ ‫والستخلف على أهله كما هو نص الحديث بكامله‪ .‬على أن‬ ‫تعّدد المرات التي قيل فيها الحديث الواحد ل ُيخرجه عن معناه‬ ‫ويجعل له معنى آخر غيره‪ ،‬فإن كون الستخلف في تبوك إّنما‬ ‫كان في أهل الرسول ليس غير‪ ،‬ثابت ل شبهة فيه‪ .‬والروايات‬ ‫التي تروي الحديث في غير تبوك إّنما تنقل كلها نفس النص الذي‬ ‫قيل في تبوك في ألفاظه ومعناه‪ ،‬ول تذُكر قيدا للستخلف غير‬ ‫القيد الذي ُذكر في حادثة تبوك وهو الهل‪ ،‬بل ل تذكر قيدا‬ ‫مطلقا‪ .‬ولذلك ُتحمل على ما وردت فيه رواية تبوك‪ ،‬وذلك لن‬ ‫رواية تبوك مقّيدة بالهل وباقي الروايات مطَلقة من أي قيد في‬ ‫الستخلف فُيحمل المطَلق على المقّيد‪.‬‬ ‫ول يقال إن الروايات الخرى عامة‪ ،‬فإن ألفاظ الحديث‬ ‫ليس من ألفاظ العموم‪ ،‬لن نص الروايات كلها سواء رواية )أل‬ ‫ترضى( أو رواية )إنك( أو رواية )أنت(‪ ،‬وما شابه ذلك‪" ،‬هو بمثابة‬ ‫هرون من موسى"‪ ،‬فهذا الكلم خاص بمنزلة معينة هي منزلة‬ ‫هرون من موسى وليست منزلة عامة‪ .‬إل ّ أن منزلة هرون من‬ ‫موسى جاءت في بعض الروايات مطَلقة ولم تقّيد بقيد وُقّيدت‬ ‫بقيد الهل في رواية من الروايات فُيحمل المطَلق على المقيد‪،‬‬ ‫وتقّيد جميع الروايات بالهل‪.‬‬ ‫وأّما باقي المور التي طلبها موسى من ا في قوله‪:‬‬ ‫)واجعل لي وزيرا من أهلي‪ ،‬هرون أخي‪ ،‬اشُدد به أزري‪،‬‬ ‫وأشركه في أمري(‪ ،‬فإنه ل محل لها في منزلة هرون من موسى‬ ‫‪-53-‬‬


‫ول في الستخلف‪ ،‬إذ هي دعاء من موسى إلى ا أن يجعل‬ ‫أخاه ُمعينا له‪ ،‬وأن يعطيه النبوة معه‪ ،‬لن أمر موسى الذي طلب‬ ‫من ا أن ُيشرك هارون فيه هو النبوة والرسالة‪ ،‬وإشراكه إّنما‬ ‫يكون في هذا المر ل في الحكم‪ ،‬إذ لم يكن موسى حاكما وإّنما‬ ‫كان نبيا‪ .‬على أن الطلب هو طلب معاونة له وطلب إشراك له في‬ ‫أمره‪ ،‬ل طلب استخلف له‪ .‬وفوق ذلك فإن هذه المور ليست‬ ‫مبّينة لمنزلة موسى من هرون بل المبّين لمنزلة موسى من‬ ‫هرون هو استخلفه على قومه أثناء غيابه‪ .‬فمنزلته منه أن يخلفه‬ ‫في قومه أثناء غيابه‪ .‬وعليه فل وجود للمعاونة والمشاركة في‬ ‫النبوة في قول الرسول‪) :‬بمنزلة هرون من موسى(‪ ،‬بل المعنى‬ ‫محصور فيها بالستخلف في القوم ول تحتمل النصوص معنى‬ ‫آخر غير هذا‪.‬‬ ‫وقد يقال إن موسى كان حاكما لنه ُأنزلت عليه شريعة‬ ‫ليحكم بها‪ ،‬إذ فيها معاَلجات وعقوبات‪ ،‬وإنه كان قائدا لجيش يريد‬ ‫أن يحتل بيت المقدس‪ ،‬وقال له قومه‪ :‬اذهب أنت وربك فقاتل‪،‬‬ ‫فيكون استخلفه لهرون في قومه هو استخلف في النبوة‬ ‫واستخلف في الحكم أيضا‪.‬‬ ‫والجواب على ذلك أن موسى لم يكن حاكما‪ ،‬ولم ُيرو عنه‬ ‫ل في القرآن ول في غيره أنه قام بتنفيذ الحكام على بني‬ ‫اسرائيل بالقوة والسلطان أو أنه كان حاكما عليهم‪ .‬والذين‬ ‫حكموا بني اسرائيل بشريعة موسى ليس موسى نفسه ول في‬ ‫حياته‪ ،‬وإّنما هم من جاء بعده من النبياء مثل داود وسليمان‬ ‫وغيرهما من الملوك‪ .‬وأّما قيادة موسى للجيوش فلم تحصل‬ ‫قط‪ ،‬واليات التي في سورة المائدة من آية ‪ 19‬إلى آية ‪ 26‬ليس‬ ‫فيها أي شيء يدل على قيادة موسى للجيش وإّنما فيها أن‬ ‫موسى طلب من قومه دخول الرض المقدسة فرفضوا وقالوا له‬ ‫إن فيها قوما جبارين وأنهم لن يدخلوها حتى يخرج هؤلء‬ ‫الجبارون منها وطلبوا أن يذهب هو وربه فيقاِتل‪ ،‬وهو لم يذهب‪.‬‬ ‫وكان من جراء ذلك أن تاهوا في الرض أربعين سنة‪ .‬وأّما نزول‬ ‫شريعة على موسى فيها معاَلجات وعقوبات‪ ،‬فإن ذلك ل يعني‬ ‫أنه حكم بها‪ ،‬بل الواقع أنه جاء بها وبّلغها لبني اسرائيل وحاول‬ ‫أخذهم إلى بيت المقدس فكان أن تاهوا في سيناء ولم يحصل‬ ‫لهم استقرار في أيام موسى حتى انتهى عهده‪ ،‬وبعد أن انتهت‬ ‫‪-54-‬‬


‫مهم بشريعة موسى ملوك‬ ‫ك َ‬ ‫ح َ‬ ‫عقوبتهم بالتيه انتقلوا بعد ذلك و َ‬ ‫وأنبياء منهم‪ ،‬وآيات القرآن تنطق بذلك في أكثر من سورة‪ .‬على‬ ‫أن اليات التي استخُلف فيها هرون صريحة في أنها استخلف‬ ‫عن موسى في النبوة حين ذهب موسى ليتلقى عن ا‪ ،‬وهي‬ ‫عْدنا موسى ثلثين ليلة‬ ‫في سورة العراف من آية ‪) 141‬ووا َ‬ ‫وأتممناها بعشر فتم ميقات ربه أربعين ليلة وقال موسى لخيه‬ ‫هرون اخُلفني في قومي وأصلح ول تّتبع سبيل المفسدين( إلى‬ ‫آخر آية ‪) 155‬واختار موسى قومه سبعين رجل ً( الية‪ .‬وكلها‬ ‫تتعلق بالنبوة والستخلف فيها وفي تلقي اللواح واتخاذ بني‬ ‫جل ونحو ذلك‪ ،‬وليس فيها أدنى صلة في الحكم‬ ‫ع ْ‬ ‫اسرائيل ال ِ‬ ‫والسلطان‪ .‬ول يحتمل أن يشتبه أحد أنها تتعلق بالحكم‬ ‫والسلطان‪ ،‬وعليه فل شبهة في أن موسى لم يكن حاكما ولم‬ ‫يستخلف هارون في الحكم مطلقا‪.‬‬ ‫منِزلة جميعها‪ ،‬سواء وردت لسبب‬ ‫هذا هو معنى أحاديث ال َ‬ ‫كحادثة تبوك أو وردت ُمطَلقة‪ ،‬فإنها تدل على أن الرسول جعل‬ ‫عليا على أهله يخلفه فيهم أثناء غيابه حال حياته مثل ما جعل‬ ‫موسى هرون على قومه يخلفه فيهم أثناء غيابه حال حياته‪.‬‬ ‫ي يكون علي من‬ ‫وبهذا العمل‪ ،‬أي الستخلف من الرسول لعل ّ‬ ‫الرسول بمنزلة هرون من موسى‪ ،‬فل توجد أي دللة في هذه‬ ‫الحاديث على أن الرسول نص على أن يكون علي خليفة على‬ ‫المسلمين في الحكم بعد وفاة الرسول صلى ا عليه وآله‬ ‫وسلم‪.‬‬ ‫خم‪ ،‬فإنه في الرواية‬ ‫وأّما النص الثاني وهو حديث غدير ُ‬ ‫الصحيحة وهي رواية مسلم‪ ،‬يوصي المسلمين بالتمسك في‬ ‫كتاب ا وفي أهل بيته لُيكِرموهم ويحترموهم ول يؤذوهم‪،‬‬ ‫وليس فيه أي دللة على أن الرسول َيستخلف أهل بيته في‬ ‫الخلفة‪ ،‬فالحديث يقول‪) :‬وأهل بيتي‪ ،‬أذّكركم ا في أهل‬ ‫بيتي(‪ ،‬وهذا ليس فيه ما يدل على أنه جعل أهل بيته خلفاء على‬ ‫الناس في الحكم من بعد وفاته‪ .‬واللفظ صريح ومنطوقه‬ ‫ومفهومه ل ُيفهم منه أبدا أنه استخلف أهل بيته أو أحدا منهم‬ ‫على حكم المسلمين في الخلفة من بعده‪ .‬وأّما الروايتان الثانية‬ ‫والثالثة وجميع الروايات التي مثلها فإنها ل تخرج عما جاء فيها‪،‬‬ ‫عل عليا مولى للمؤمنين‬ ‫فإن في هذه الروايات أمرين‪ :‬أحدهما ج ْ‬ ‫‪-55-‬‬


‫بقوله‪) :‬إن ا مولي وأنا مولى المؤمنين‪ ،‬وأنا أْولى بهم من‬ ‫ل من‬ ‫ت موله فهذا موله –يعني عليا‪ -‬اللهم وا ِ‬ ‫أنفسهم‪ ،‬من كن ُ‬ ‫واله وعاِد من عاداه(‪ .‬أّما المر الثاني فهو أنه يوصي في عترته‬ ‫خيرا فيقول‪) :‬وعترتي أهل بيتي‪ ،‬فإنه نّبأني اللطيف الخبير أنهما‬ ‫ي الحوض(‪ ،‬ول يوجد في هذه الحاديث‬ ‫لن ينقضيا حتى يِردا عل ّ‬ ‫كلها على تعددها وعلى اختلف رواياتها غير هذين المرين‪ .‬أّما‬ ‫المر الول‪ ،‬وهو الموالة‪ ،‬فسنتحدث عنه عند الكلم عن أحاديث‬ ‫الولية بعد هذا النص مباشرة‪ .‬وأّما المر الثاني فل يخرج عن‬ ‫كونه وصية للمسلمين بعترته أهل بيته خيرا‪ ،‬لُيكرموهم‬ ‫ويحترموهم ول يؤذوهم‪ ،‬فإنه سيسألهم عنهم‪ ،‬وأن أهل بيته‬ ‫وكتاب ا سيظلن مقترنين إلى يوم القيامة‪ .‬فل يوجد في هذه‬ ‫خم‪ -‬أكثر من توصية المسلمين خيرا‬ ‫الحاديث –أحاديث غدير ُ‬ ‫بعترته ول يوجد فيها أي شيء يدل على استخلف علي أبو‬ ‫استخلف آل بيته في الخلفة بعد وفاة رسول ا صلى ا عليه‬ ‫وآله وسلم‪ .‬فأين الستخلف في قول الرسول حسب جميع‬ ‫الروايات السابقة التي روت حديث غير خم )وإني سائلكم حين‬ ‫ي عن الثقلين‪ ،‬كتاب ا وعترتي أهل بيتي(‪ ،‬أو قوله‪:‬‬ ‫َتِردون عل ّ‬ ‫)وإني قد تركتُ فيكم الثقلين‪ :‬كتاب ا وعترتي(‪ ،‬أو قوله‪) :‬وإني‬ ‫تارك فيكم الثقلين‪ :‬كتاب ا وعترتي أهل بيتي(‪ ،‬أو قوله‪:‬‬ ‫)فانظروا كيف تخلفوني في الثقلين(‪ ،‬أو قوله‪) :‬فل تقدموهما‬ ‫فتهكلوا ول تقصروا عنهما فتهلكوا(‪ .‬أيوجد في هذه النصوص‬ ‫أكثر من تذكير المسلمين بعترته عليه السلم وتوصيته بهم خيرا؟‬ ‫وهل يفهم أحد من ذلك أن هذا يعني أنهم خلفاء على المسلمين‬ ‫في الحكم بعد وفاة رسول ا صلى ا عليه وآله وسلم؟ ومن‬ ‫أين يؤخذ هذا؟ أمن منطوق الكلم أم من مفهومه؟ وعليه فليس‬ ‫خم في الروايات السابقة أي دليل على استخلف‬ ‫في حديث ُ‬ ‫علي على الخلفة ول على استخلف آل البيت‪ ،‬فيسقط‬ ‫الستدلل به‪.‬‬ ‫وأّما النص الثالث وهو أحاديث الولية‪ ،‬فإن هذه الحاديث‬ ‫بهذه اللفاظ لم يخّرجها الشيخان البخاري ومسلم‪ .‬على أن هذه‬ ‫حت عند من يحتجون بها على استخلف علي‪ ،‬فإن‬ ‫الحاديث لو ص ّ‬ ‫النصوص التي أوردوها ل يمكن أن ُيستنبط منها الستخلف‪ .‬لن‬ ‫جميع ألفاظها ل تخرج عن )ولي كل مؤمن بعدي(‪) ،‬وليكم‬ ‫‪-56-‬‬


‫ي كل مؤمن بعدي(‪) ،‬ولي المؤمنين من بعدي(‪،‬‬ ‫بعدي(‪) ،‬أنت ول ّ‬ ‫)فإنه وليكم بعدي(‪) ،‬فليوال عليا بعدي(‪) ،‬فليتول عليا وذريته من‬ ‫ل من‬ ‫بعدي(‪) ،‬فمن توله فقد تولني(‪) ،‬فإن وليته وليتي(‪) ،‬وا ِ‬ ‫واله(‪ .‬فهذه اللفاظ وأمثالها من سائر الروايات ل تخرج عن لفظ‬ ‫الولي‪ ،‬والمولى‪ ،‬والموالة‪ ،‬ولذلك سموها أحاديث الولية‪.‬‬ ‫ل من‬ ‫خم )اللهم وا ِ‬ ‫وتفسرها جميعها روايتهم في حديث غدير ُ‬ ‫واله وعاِد من عاداه(‪ ،‬فالمراد منها نصرتهم‪ ،‬وأن يكونوا معهم‬ ‫وأن يحملوا لهم الولء والمحبة‪ .‬وقد وردت كلمة "ولي ووالى‬ ‫وتولى" في القرآن‪ ،‬قال تعالى‪) :‬وهو يتولى الصالحين(‪) ،‬ومن‬ ‫يتولى ا ورسوله والذين آمنوا فإن حزب ا هم الغالبون(‪،‬‬ ‫)إّنما وليكم ا ورسوله والذين آمنوا(‪) ،‬إّنما سلطانه على الذين‬ ‫يتولونه(‪ ،‬ا) ولي الذين آمنوا(‪) ،‬وا ولي المؤمنين(‪) ،‬ليس لهم‬ ‫من دون ا ولي(‪) ،‬ومن يتخذ الشيطان وليا(‪ ،‬ل) تتخذوا اليهود‬ ‫والنصارى أولياء(‪) ،‬فقد جعلنا لوليه سلطانا(‪) ،‬إن وليي ا(‪،‬‬ ‫)ذلك بأن ا مولى الذين آمنوا وأن الكافرين ل مولى لهم(‪ .‬وفي‬ ‫اللغة‪ :‬الولي ضد العدو‪ ،‬يقال منه‪ :‬توله‪ .‬والمولى الناصر‪،‬‬ ‫والسيد‪ .‬والموالة ضد المعاداة‪ .‬والولي‪ :‬من يلي أمر الصغير‬ ‫كالب والجد‪ .‬وولي النكاح وولي المال وولي اليتيم‪ :‬الذي يلي‬ ‫أمره ويقوم بكفالته‪ .‬وفي معجم لسان العرب‪" :‬الولي من‬ ‫أسماء ا تعالى هو الناصر‪ ،‬وقيل‪ :‬المتولي لمور العاَلم‬ ‫والخلئق القائم بها"‪ ،‬وقال‪" :‬والولي الصديق والنصير التابع‬ ‫المحب"‪ .‬قال أبو العباس في قوله صلى ا عليه وسلم‪) :‬من‬ ‫ي موله( أي من أحبني وتولني فليتوله‪ .‬وكلها في‬ ‫كنت موله فعل ّ‬ ‫شراح هذا الحديث ممن‬ ‫غير معنى الحكم والسلطان‪ .‬حتى أن ُ‬ ‫يقولون بأنه ينص على خلفة علي لم يستطيعوا أن يأتوا بأي‬ ‫معنى صريح من اللغة بأن كلمة مولى معناها لغة الحكم‬ ‫والسلطان‪ .‬فمثل ً يقول الشيخ عبدالحسين أحمد الميني النجفي‬ ‫في كتابه "الغدير" في شرح حديث الغدير ما نصه‪" :‬إلى هنا لم‬ ‫يبق للباحث ملتحد عن البخوع لمجيء المولى بمعنى الْولى‬ ‫بالشيء وإن تنازلنا إلى أنه أحد معانيه وأنه من المشترك‬ ‫اللفظي"‪ .‬وقد أورد لكلمة المولى سبعة وعشرين معنى ولم‬ ‫عِلمنا أن شيئا من‬ ‫يذكر منها الحكم والسلطان‪ ،‬فقال‪ :‬بعد أن َ‬ ‫معاني المولى المنتهية إلى سبعة وعشرين معنى ل يمكن إرادته‬ ‫‪-57-‬‬


‫في الحديث إل ّ ما يطابقها من المعاني أل وهي‪ -1 :‬الرب‪-2 ،‬‬ ‫العم‪ -3 ،‬ابن العم‪ -4 ،‬البن‪ -5 ،‬ابن الخت‪ -6 ،‬المعَتق‪-7 ،‬‬ ‫عم عليه‪-12 ،‬‬ ‫المعِتق‪ -8 ،‬العبد‪ -9 ،‬المالك‪ -10 ،‬التابع‪ -11 ،‬المن َ‬ ‫الشريك‪ -13 ،‬الحليف‪ -14 ،‬الصاحب‪ -15 ،‬الجار‪ -16 ،‬النزيل‪-17 ،‬‬ ‫عم‪ -20 ،‬الفقيد‪ -21 ،‬الولي‪-22 ،‬‬ ‫الصهر‪ -18 ،‬القريب‪ -19 ،‬المن َ‬ ‫الْولى بالشيء‪ -23 ،‬السيد غير المالك والمعتق‪ -24 ،‬المحب‪،‬‬ ‫‪ -25‬الناصر‪ -26 ،‬المتصرف في المر‪ -27 ،‬المتولي في المر"‪.‬‬ ‫هذه هي المعاني التي أوردها ولم يوِرد أي معنى صريح لكلمة‬ ‫مولى بمعنى الحكم والسلطان‪ .‬ولذلك فإنه حين شرح هذه‬ ‫صل إلى معنى منها اختاره فقال‪:‬‬ ‫المعاني بالنسبة للحديث تو ّ‬ ‫"على أن الذي نرتأيه في خصوص المقام بعد الخوض في غمار‬ ‫اللغة ومجاميع الدب وجوامع العربية أن الحقيقة من معاني‬ ‫المولى ليس إل ّ الْولى بالشيء‪ ،‬وهو الجامع لهاتيك المعاني‬ ‫جمعاء ومأخوذ في كل منها بنوع من العناية"‪.‬‬ ‫ومن ذلك يتبين أنه لم يِرد الولي بمعنى الحاكم‪ ،‬ولم تِرد‬ ‫الموالة بمعنى الحكم‪ ،‬ل في القرآن ول في الحديث ول في‬ ‫سر إما بمعناها اللغوي أو بمعناها الشرعي‪،‬‬ ‫اللغة‪ .‬واللفاظ تف ّ‬ ‫فمن أين يأتي تفسير هذه الحاديث بأن الولي والموالة معناها‬ ‫سرنا مع الذين‬ ‫ي ولل البيت؟ واننا لو ِ‬ ‫إعطاء الخلفة لعل ّ‬ ‫يستدلون بهذه الحاديث بكل معنى من معاني ولي ومعاني‬ ‫موالة فإنه لم يِرد لها معنى تولي الحكم مطلقا ول في نص من‬ ‫النصوص‪ .‬نعم حين نقرن كلمة ولي بكلمة أمر فحينئذ يصبح‬ ‫معناها الحاكم فيقال‪" :‬ولي المر"‪ .‬وفي الحاديث التي يسمونها‬ ‫أحاديث الولية لم تِرد كلمة المر مع كلمة ولي ل في روايات من‬ ‫رواياتهم‪ ،‬ول من روايات غيرهم‪ ،‬وحينئذ ينتفى من الحاديث‬ ‫معنى تولي الخلفة بعد رسول ا‪.‬‬ ‫نعم إن كلمة ولية فقط –ل كلمة مولى ول كلمة ولي ول‬ ‫كلمة موالة‪ -‬لفظ مشترك له عدة معان‪ ،‬منها النصرة ومنها‬ ‫السلطان أي الحكم‪ ،‬وورد في الحاديث التي يروونها حديث ذكره‬ ‫كنز العمال‪ ،‬جاءت فيه كلمة ولية‪ ،‬فقد يقال إن هذه تعني‬ ‫الحكم بحسب ما نصت عليه اللغة‪ .‬والجواب هو أن هذه الكلمة‬ ‫وردت في الحديث بمعنى تولى‪ ،‬ونص الحديث يدل عليها‪ .‬فنصه‬ ‫كما يرويه المحتجون به هو )اللهم من آمن بي وصّدقني فليتول‬ ‫‪-58-‬‬


‫علي بن أبي طالب‪ ،‬فإنّ وليته وليتي ووليتي ولية ا تعالى(‪،‬‬ ‫وهذا النص يعين أن المراد منها النصرة‪ ،‬إذ الرسول يدعو من‬ ‫آمن به ليتولى علي بن أبي طالب‪ ،‬لن من يتوله يتولى الرسول‬ ‫ومن يتولى الرسول يتولى ا‪ .‬هذا هو معنى كلمة ولية‪ ،‬ولذلك‬ ‫جاء التعبير بالفاء )فإن وليته وليتي(‪ ،‬ول يمكن أن ُيفهم "فإ ّ‬ ‫ن‬ ‫خذي"‪ ،‬بل الذي ُيفهم فقط هو أن نصرته‬ ‫خذه السلطان هو أ ْ‬ ‫أ ْ‬ ‫نصرتي‪.‬‬ ‫وبذلك يظهر أن جميع الحاديث التي ورد فيها أن عليا ولي‬ ‫المؤمنين بعد الرسول ومولهم‪ ،‬وأن عليهم موالته‪ ،‬وأن يتولوه‬ ‫لن وليته ولية للرسول‪ ،‬جميع هذه الحاديث مهما جرى‬ ‫تفسيرها حسب اللغة وحسب نصوص القرآن‪ ،‬فإنه ل يمكن أن‬ ‫تعطي تولي الحكم ل بحسب معنى الكلمة ول بحسب وضعها‬ ‫في الجمل التي وردت في الحاديث المذكورة‪ .‬فل تصلح لن‬ ‫تكون دليل ً على أن الرسول استخلف عليا بالخلفة من بعده‪،‬‬ ‫فيسقط حينئذ الحتجاج بها‪.‬‬ ‫وهنا ل بد أن ننبه إلى مسألتين‪ :‬إحداهما أن كون الكلمة‬ ‫مشتقة من مادة معّينة ل يعني أن جميع مشتقات هذه المادة‬ ‫تتحد في المعنى وأن إحداها تعطي معنى الخرى‪ .‬بل قد‬ ‫تعطي اللغة أكثر من كلمة للمعنى وقد ل تعطي للكلمة إل ّ معنى‬ ‫واحدا ُوضعت له ول يعطي هذا المعنى غيرها‪ ،‬وذلك كله حسب‬ ‫وضع العرب‪ .‬فاتحاد الكلمات بالشتقاق ل يعني التحاد في‬ ‫المعنى‪ ،‬بل تأخذ الكلمة معناها الذي وضعه لها العرب بغض‬ ‫النظر عن مادة الشتقاق‪ .‬فكلمة "جاء" وكلمة "أجاء" هما من‬ ‫مادة واحدة‪ ،‬ومع ذلك فجاء معناها أتى‪ ،‬وأجاء معناها ألجأ‪،‬‬ ‫والنضو بكسر النون معناها البعير المهزول‪ ،‬وبضم النون معناها‬ ‫خِلق‪ .‬وكلمة مولى ل يعني كون من معانيها المتصرف‬ ‫الثوب ال َ‬ ‫في المر والمتولي للمر وأْولى الناس‪ ،‬أن يكون ذلك يعني‬ ‫الحكم والسلطان‪ ،‬لن كلمة ولي المر تعني الحكم والسلطان‬ ‫لنهما من اشتقاق واحد‪ .‬فالمولى غير ولي المر في المعنى‪،‬‬ ‫والمتصرف في المر والمتولي للمر أيضا غير ولي المر في‬ ‫المعنى‪ .‬فولي المر خاصة بالحاكم‪ ،‬ومولى لها عدة معان ليس‬ ‫منها الحكم‪ .‬والمتصرف في المر تعني المتصرف في كل أمر ول‬ ‫تعني الحاكم بخصوصه‪ ،‬ول ُيفهم منها أنها تعني الحكم‪ ،‬لن‬ ‫‪-59-‬‬


‫اللغة لم تضع ذلك لها‪ .‬والمسألة مسألة توقيفية على ما وضع‬ ‫العرب للكلمة من معنى ل حسب ما َيفهم الشخص من مجموع‬ ‫الكلمات أو من مختلف المدلولت‪.‬‬ ‫وعليه فإن كلمة مولى ما دام لم يضع لها العرب معنى‬ ‫سر بها مطلقا‪ .‬هذه واحدة‪ .‬أّما‬ ‫الحكم والسلطان صراحة فل ُتف ّ‬ ‫المسألة الثانية‪ ،‬فهي أن القرائن في الجملة مهما كانت ل تعطي‬ ‫الكلمة معنى غير معناها الذي وضعها له العرب في صريح‬ ‫أقوالهم‪ .‬فالقرائن تعّين معنى من المعاني المشتركة أو‬ ‫المتضادة للكلمة وتصرفه عن غيره‪ ،‬ول تجعل هذه القرائن‬ ‫للكلمة معنى جديدا لم يضعه لها العرب‪ .‬فكلمة مولى لفظ‬ ‫مشترك‪ ،‬والجمل التي وردت فيها تعين لها معنى من هذه‬ ‫المعاني ولكنها ل تعطيها معنى جديدا‪ .‬فكون كلمة مولى جاءت‬ ‫في الحديث الذي يقال له حديث الثقلين أو حديث الغدير جاءت‬ ‫ي بناء‬ ‫قرائن من الجمل تدل على الحث على اعتبار المسلمين لعل ّ‬ ‫على اعتبارهم للرسول ل يعطيها معنى جديدا وهو أن يكون‬ ‫علي حاكما بعد الرسول‪ ،‬ما دامت اللغة لم تضع لها هذا المعنى‪.‬‬ ‫ومن هنا يظهر أن حديث الغدير وغيره مما جاءت فيه كلمة مولى‬ ‫وولي من الحاديث ل ُيستنبط منها أن عليا خليفة لعدم وضع‬ ‫العرب هذا المعنى لهذه الكلمات صراحة‪.‬‬ ‫وأّما النص الرابع وهو أحاديث المؤاخاة‪ ،‬فإن مجرد قراءتها‬ ‫ُيسقط الحتجاج بها من رؤية جملها وألفاظها‪ .‬فإن النصوص التي‬ ‫وردت فيه هي )أنت أخي وارثي(‪) ،‬أخي وابن عمي(‪) ،‬أخي وأبو‬ ‫جز وعدي‬ ‫ي(‪) ,‬أخي ووزيري تقضي دْيني وتن ِ‬ ‫ولدي(‪) ،‬ومّني وإل ّ‬ ‫وتبرئ ذّمتي(‪) ،‬علي أخو رسول ا(‪ ،‬وكلها ألفاظ وجمل ل يمكن‬ ‫لحد أن يستنبط منها الستخلف ل من قريب ول من بعيد‪ .‬لنها ل‬ ‫تزيد عن أمور خاصة بين اثنين أحدهما يعّبر عن شدة قرب الخر‬ ‫منه بأنه أخوه‪ .‬فالرسول يعّبر عن شدة قرب علي منه بأنه أخوه‬ ‫وبأنه منه وبأنه ُمعينه ويقضي ديونه‪ .‬وليس في هذا أي أمر عام‬ ‫ول علقة له بالحكم والخلفة‪ .‬ولو فرضنا أن عليا أخو الرسول‬ ‫الشقيق أو أنه ابنه‪ ،‬فإنه ل يدل على أن ذلك معناه أن يكون‬ ‫ي أنت أخي أو ابني أو وزيري أو غير ذلك‬ ‫خليفة بعده‪ ،‬فقوله لعل ّ‬ ‫ل علقة لها بالحكم ول دللة فيها على الستخلف في الخلفة‪،‬‬ ‫ل من قريب ول من بعيد‪ ،‬ل لغة ول شرعا‪ ،‬ول بأي وجه من‬ ‫‪-60-‬‬


‫عِهد إلى‬ ‫الوجوه‪ .‬فل تصلح هذه الحاديث حجة على أن الرسول َ‬ ‫علي بالخلفة من بعده‪ ،‬فيسقط الحتجاج بها‪.‬‬ ‫أّما القسم الثالث الذي ورد فيه نص صريح أن الرسول‬ ‫استخلف عليا ليكون خليفة من بعده‪ ،‬فهو حديثان‪ :‬أحدهما رواية‬ ‫من روايات حديث الغدير في رواية من روايات صاحب كتاب‬ ‫"الغدير"‪ ،‬والثاني الحديث الذي يسمونه حديث الدار‪ .‬أّما رواية‬ ‫صاحب كتاب "الغدير" فإنه ذكر رواية له في أول كتابه لم يذكر‬ ‫فيها كلمة "وصيي وخليفتي" وذكر رواية أخرى نسبها للطبري ورد‬ ‫فيها لفظ "وصيي وخليفتي" صريحا‪ ،‬فقد قال –أي الشيخ‬ ‫عبدالحسين أحمد الميني النجفي صاحب كتاب "الغدير" في كتابه‬ ‫تحت عنوان‪ :‬الغدير في كتاب العزيز‪ ،‬ما نصه "الحافظ أبو جعفر‬ ‫محمد بن جرير الطبري المتوفى سنة ‪310‬هـ أخرج بإسناده في‬ ‫ما‬ ‫كتاب الولية في طرق حديث الغدير‪ ،‬عن زيد بن أرقم قال‪ :‬ل ّ‬ ‫خم في رجوعه من حجة‬ ‫نزل النبي صلى ا عليه وسلم بغدير ُ‬ ‫مت‬ ‫الوداع‪ ،‬وكان في وقت الضحى وحّر شديد أمر بالدوحات فُق ّ‬ ‫ونادى‪ :‬الصلة جامعة‪ ،‬فاجتمعنا فخطب خطبة بالغة ثم قال‪ :‬إن‬ ‫ي )بّلغ ما ُأنِزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما‬ ‫ا تعالى أنَزل إل ّ‬ ‫بّلغتَ رسالته وا يعصمك من الناس(‪ ،‬وقد أمرني جبريل عن‬ ‫ربي أن أقوم في هذا المشهد وُأعِلم كل أبيض وأسود أن علي‬ ‫بن أبي طالب أخي ووصيي وخليفتي والمام بعدي(‪ .‬هذه إحدى‬ ‫خم‪ .‬وهذه الرواية ُتَرد دراية‪ ،‬ونصها يجعل ما‬ ‫روايات حديث غدير ُ‬ ‫قيل فيها من الوصاية والستخلف والمامة بعد الرسول باطل ً ل‬ ‫أصل له وذلك لعدة وجوه‪:‬‬ ‫أحدها‪ -‬أن هذه الية لم تنزل في حجة الوداع وإّنما نزلت‬ ‫بعد سورة الفتح عام الحديبية‪ ،‬فإن هذه الية من سورة المائدة‪،‬‬ ‫وسورة المائدة نزلت بعد سورة الفتح‪ ،‬وسورة الفتح نزلت أثناء‬ ‫رجوعه صلى ا عليه وآله وسلم من صلح الحديبية‪ .‬ونظرة‬ ‫واحدة إلى المصحف ُتري ببساطة ووضوح وقت نزول آية )يا أيها‬ ‫الرسول بّلغ ما ُأنِزل إليك( وُتري أنها نزلت بعد الفتح‪ .‬فتكون الية‬ ‫خم‬ ‫نزلت قبل حجة الوداع بأربع سنين ول علقة لها بحديث غدير ُ‬ ‫خم تقول إنه‬ ‫على جميع الروايات‪ ،‬لن جميع روايات حديث غدير ُ‬ ‫ف لرد الحديث والقطع‬ ‫حصل في حجة الوداع‪ .‬وهذا وحده كا ٍ‬ ‫ببطلن ما ُزعم فيه من الوصية والستخلف‪.‬‬ ‫‪-61-‬‬


‫ثانيها‪ -‬أن معنى الية صريح في منطوقها ومفهومها في أن‬ ‫الرسول ُأمر بتبليغ ما ُأنِزل إليه من ربه‪ ،‬وما ُأنِزل إليه من ربه هو‬ ‫الرسالة السلمية‪ .‬ويعّين ذلك ويجعله وحده المعنى المقصود‬ ‫دون غيره قوله في نفس الية‪) :‬وإن لم تفعل فما بّلغ َ‬ ‫ت‬ ‫ت رسالته‪،‬‬ ‫رسالته(‪ ،‬أي وإن لم تبّلغ ما أنِزل إليك فإنك ل تكون بّلغ َ‬ ‫وهذا نص بأن المراد بقوله‪) :‬ما أنِزل إليك( رسالة ا وليس شيئا‬ ‫آخر‪ .‬وفوق ذلك فإن كلمة )بّلغ( حيثما وردت في القرآن فالمراد‬ ‫منها تبليغ رسالة ا‪ ،‬ولم تِرد في غير هذا المعنى في القرآن‬ ‫مطلقا‪ ،‬قال تعالى‪) :‬يبّلغون رسالت ا(‪) ،‬أبّلغكم رسالت ربي(‪،‬‬ ‫ت به(‪) ،‬أبَلغوا رسالت ربهم(‪) ،‬أبّلغكم رسالة‬ ‫سل ُ‬ ‫)وأبّلغكم ما أر ِ‬ ‫ت به(‪ .‬وأيضا فإن‬ ‫سل ُ‬ ‫ربي(‪) ،‬أبلغُتكم رسالت ربي(‪) ،‬أبلغُتكم ما أر ِ‬ ‫كلمة )ما أنِزل إليك( حيثما وردت في القرآن فالمراد منها الشريعة‬ ‫ولم ترد في غير هذا المعنى في القرآن مطلقا‪ ،‬قال تعالى‪:‬‬ ‫)والذين يؤمنون بما أنِزل إليكم وما أنِزل من قبلك(‪) ،‬نؤمن بما‬ ‫أنِزل علينا(‪) ،‬آمنا بالله وما أنِزل إلينا وما أنِزل إلى إبراهيم(‪) ،‬آمن‬ ‫الرسول بما أنِزل إليه من ربه(‪) ،‬قل آمنا بالله وما أنِزل علينا وما‬ ‫من يؤمن بالله وما‬ ‫ن ِمن أهل الكتاب َل َ‬ ‫أنِزل على إبراهيم(‪) ،‬وإ ّ‬ ‫أنِزل إليكم وما أنِزل إليهم(‪) ،‬هل تنقمون مّنا إل ّ أن آمنا بالله وما‬ ‫أنِزل إلينا وما أنِزل من قبل(‪) ،‬ولو أنهم أقاموا التوراة والنجيل‬ ‫وما أنِزل إليهم من ربهم(‪) ،‬حتى تقيموا التوراة والنجيل وما أنِزل‬ ‫ن كثيرا منهم ما أنِزل إليك من ربك طغيانا‬ ‫إليكم من ربكم وليزيد ّ‬ ‫وكفرا(‪) ،‬وإذا سمعوا ما أنِزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من‬ ‫الدمع(‪ ،‬وهكذا جميع اليات في القرآن‪ .‬وآية )بّلغ ما أنِزل إليك(‬ ‫قد ذكرت في الية التي قبلها كلمة ما أنزل وفيها وفي الية التي‬ ‫بعدها بمعنى واحد وهو الشريعة‪ ،‬حتى أن اللفظ في الية التي‬ ‫بعدها هو نفس اللفظ الذي فيها )ما أنِزل إليك من ربك(‪ ،‬وهذا‬ ‫كله يعين أن معنى )ما أنِزل إليك( في قوله‪) :‬بّلغ ما أنِزل إليك(‬ ‫هو الشريعة السلمية‪ .‬وهو واضح لكل من يتتبع كل كلمة من‬ ‫هاتين الكلمتين )بّلغ( و)ما أنِزل إليك( في جميع آيات القرآن‪.‬‬ ‫ض مبني‬ ‫ثالثها‪ -‬أن )ُأنِزل( في قوله‪) :‬ما أنِزل إليك( فعل ما ٍ‬ ‫للمجهول‪ ،‬وهو يعني أن ما يريد منه أن يبلغه سبق أن أنزل إليه‬ ‫من ا‪ ،‬أي سبق أن جاء به الوحي وأنِزل على الرسول‪ ،‬فالله‬ ‫يأمر الرسول أن يبّلغ الناس ما سبق وأنزل إليه‪ .‬فيكون المعنى‬ ‫‪-62-‬‬


‫تبليغ شيء نزل قبل نزول الية‪ ،‬ل تبليغ أمر معين حاصل بنزول‬ ‫سره الرسول بأنه‬ ‫الية ونزلت الية في شأنه وُأمر بتبليغه وف ّ‬ ‫الوصية والستخلف‪ .‬لذلك ل يتأتى جعل الحديث شرحا لسبب‬ ‫نزول الية‪ ،‬لن الحديث الذي يكون سبب نزول الية‪ ،‬تكون الية‬ ‫نزلت في الحادثة التي يذكرها الحديث‪ ،‬فتكون نزلت في شيء‬ ‫وقت حصوله‪ ،‬وهذه الية صريحة بأنها تبليغ شيء حصل قبل أن‬ ‫تنزل الية‪ .‬ومن هنا ل يصح الحديث سببا للنزول‪.‬‬ ‫رابعها‪ -‬أن كلمة )ما( في قوله‪) :‬ما أنِزل إليك( اسم‬ ‫كرة مقصودة‪ ،‬وهي تصلح لن يكون ما أنزل إليه‬ ‫موصول أو ن ِ‬ ‫أمرا واحدا وحكما واحدا‪ ،‬وتصلح أن يكون ما أنزل إليه أمورا‬ ‫متعددة وأحكاما كثيرة‪ ،‬أي يصلح لن يكون معناها بّلغ الحكم‬ ‫الذي أنزل إليك‪ ،‬ويصلح أن يكون معناها بّلغ جميع ما أنزلناه إليك‬ ‫من المور والحكام‪ .‬والذي يعّين أحد المعنيين هو القرينة‪ .‬ومن‬ ‫مجرد قراءة الية فضل ً عن التدقيق فيها يتبين أن قوله‪) :‬فما‬ ‫بّلغتَ رسالته( يعين في قوله‪) :‬رسالته( أن معنى )ما( هو جميع‬ ‫ما أنزل إليك وهو رسالة ا‪ ،‬وينفي أن يكون معنى )ما( الحكم‬ ‫الذي أنزل إليك نفيا قاطعا‪ ،‬فوق كون كلمة )رسالته( قد بينت‬ ‫معنى ما أنزل إليكم بأنه رسالة ا‪.‬‬ ‫خامسها‪ -‬أن قوله تعالى في ختام الية‪) :‬وا يعصمك من‬ ‫الناس إن ا ل يهدي القوم الكافرين(‪ ،‬تطمين من ا للرسول‬ ‫وأمان له من الذى الذي يصيبه من جراء تبليغ رسالته‪ ،‬وهذا‬ ‫التطمين ل يكون من أذى يصيبه من تبليغ حكم معين وإّنما هو‬ ‫تطمين من أذى يصيبه من تبليغ الرسالة كلها للكفار ول سيما إذا‬ ‫كان تبليغها يصحبه القتال‪ .‬فمعنى ختام الية‪ :‬وا يعصمك في‬ ‫تبليغ هذه الرسالة بواسطة الجهاد من أذى الناس‪ .‬لنه حين نزلت‬ ‫هذه الية كانت طريقة تبليغ الرسالة هي الجهاد أي القتال‬ ‫ساد علي في جعل‬ ‫ح ّ‬ ‫بالسيف‪ .‬ول يمكن أن يراد يعصمك من ُ‬ ‫الخلفة له أي يعصمه على حد قولهم من أبي بكر وعمر وعثمان‬ ‫وأمثالهم‪ .‬لن العصمة في الية من الناس ل من المؤمنين‪،‬‬ ‫ويعين أن المراد بالناس هم الكفار قوله في ختام الية‪) :‬إن ا‬ ‫ل يهدي القوم الكافرين(‪ .‬وعليه يكون وعد ا للرسول في‬ ‫حمايته وحفظه من أذى الكفار في تبليغ ما أنزل إليه يعين أن‬ ‫المراد من التبليغ في الية تبليغ رسالة السلم‪.‬‬ ‫‪-63-‬‬


‫قد يقال إن الرسول سبق وبّلغ الرسالة قبل نزول هذه‬ ‫الية‪ ،‬فل معنى لقوله‪) :‬بّلغ ما أنِزل إليك( وهو قائم في التبليغ‪.‬‬ ‫والجواب على ذلك هو أن هذا المر بالتبليغ ل يخرج عن‬ ‫أحد أمرين‪ :‬إما أن يكون الرسول كتم الرسالة ولم يبّلغها‪ ،‬وإما أن‬ ‫يكون هنالك أناس لم يبّلغهم الرسالة بعد ويعتبر عدم تبلغهم‬ ‫عدم تبليغ للرسالة للعالم‪ .‬ول يمكن أن يكون هذا المر يعني‬ ‫كتمانا لحكم معين ُأنزل إليه ولم يبلغه‪ ،‬ول تبليغا لحكم معين ل‬ ‫تتم الرسالة إل ّ به‪ .‬وذلك لن كتمان حكم واحد يطعن في نبوة‬ ‫الرسول ورسالته ككتمان رسالته كلها‪ ،‬فيستحيل أن يكون كتمانا‬ ‫ت رسالته( فهي تنفي‬ ‫لحكم معين‪ .‬ولن الية تقول‪) :‬فما بّلغ َ‬ ‫التبليغ‪ .‬وهذا يعني أنه لم يبلغ الرسالة‪ ،‬ل أنه لم يبلغ حكما معينا‪،‬‬ ‫ل سيما أن تبليغ حكم واحد يعتبر تبليغا للرسالة‪ .‬والرسول من‬ ‫جما‪ ،‬وكان يعتبر تبليغه‬ ‫أول يوم كان يبّلغ الحكام حسب نزولها من ّ‬ ‫كل حكم تبليغا‪ .‬ولهذا ل يمكن أن يكون المعنى لم تبلغ حكما‬ ‫معينا‪ ،‬بل الذي تعطيه الجملة أنه لم يبلغ الرسالة‪ .‬وبما أنه‬ ‫يستحيل عليه عدم التبليغ وثبت أنه قبل نزول هذه الية كان يبّلغ‪،‬‬ ‫فيكون معنى نزول الية أن هنالك أناسا لم يبلغهم الرسالة بعد‪،‬‬ ‫ويعتبر عدم تبليغهم عدم تبليغ للرسالة للعالم‪ ،‬والتبليغ للرسالة ل‬ ‫يعتبر تبليغا لها إل ّ إذا كان تبليغا للعالم‪ .‬لذلك أمره ا بتبليغ‬ ‫الرسالة للناس الذين لم يبلغهم‪ ،‬أي بتبليغها للعالم حتى يعتبر‬ ‫تبليغا‪ ،‬وأن يكون هذا التبليغ بطريقة الجهاد‪ .‬ويؤيد هذا أن الية‬ ‫نزلت على الرسول بعد صلح الحديبية‪ ،‬وقد كان العدو الرئيسي‬ ‫الذي يحاربه الرسول لنشر الدعوة حتى ذلك التاريخ هم قريش‪،‬‬ ‫فبصلحهم ربما ُيفهم وقوف التبليغ في الجهاد‪ ،‬فأمره ا‬ ‫بالستمرار في التبليغ بطريقة الجهاد لباقي الناس الذين لم‬ ‫يبلغهم من العرب والروم والفرس والقبط وغيرهم حتى يكون‬ ‫تبليغه تبليغا للرسالة للعالم حتى يعتبر تبليغا لهذه الرسالة‬ ‫العالمية‪ .‬وهذا ما حصل بالفعل‪ ،‬فبعد نزول هذه الية قاَتل‬ ‫الرسول اليهود في خيبر‪ ،‬وجّهزة معركة مؤتة‪ ،‬وذهب في جيش‬ ‫ضخم إلى تبوك ليحارب الروم وأقام فيها‪ ،‬وفتح مكة‪ ،‬وكاتب‬ ‫ملوك فارس والقبط والروم وسائر الملوك مما يتضح منه معنى‬ ‫ت رسالته(‪،‬‬ ‫نزول قوله‪) :‬بّلغ ما أنِزل إليك(‪ ،‬وقوله‪) :‬فما بّلغ َ‬ ‫وقوله‪) :‬وا يعصمك من الناس(‪ ،‬وقوله‪) :‬إن ا ل يهدي القوم‬ ‫‪-64-‬‬


‫الكافرين(‪.‬‬ ‫هذا بالنسبة للحديث من حيث كونه جاء مبينا لية )بلغ ما‬ ‫أنِزل إليك من ربك(‪ .‬غير أنه إذا نظرنا لحديث الغدير من حيث هو‬ ‫في الروايات التي تنص على أن الرسول أخذ بيد علي‪ ،‬فإنه‬ ‫مردود لمناقضته لواقع الحادثة‪ .‬وذلك لن عليا رضي ا عنه لم‬ ‫يكن يوم الغدير مع النبي‪ ،‬فإنه كان باليمن‪ ،‬وهذا وحده كاف لرّد‬ ‫الحديث‪ .‬وأّما ما يقال بأن غيبة علي في اليمن ل ينافي صحة‬ ‫الحديث بحجة أن الرسول قد أوصى لعلي وهو غائب وذلك جائز‪.‬‬ ‫فهذا القول مردود من نص الحديث في بعض رواياته إذ جاء فيها‬ ‫)وأخذ بيد علي أو استحضره( وهي تدل على أنه كان حاضرا‪،‬‬ ‫وهو يناقض الواقع الثابت أنه كان في اليمن في الوقت الذي‬ ‫خم‪ .‬ولهذا فالحديث مردود من هذه‬ ‫تذكره روايات حديث غدير ُ‬ ‫الناحية أيضا‪.‬‬ ‫وأّما حديث الدار‪ ،‬كما يرويه كنز العمال وشرح نهج البلغة‪،‬‬ ‫ما نزلت )وأنِذر عشيرتك القربين( دعا‬ ‫فإنه يتلخص فيما يلي‪ :‬ل ّ‬ ‫الرسول عليا وكّلفه بتحضير الطعام ودعوة آل عبدالمطلب‪ ،‬فقام‬ ‫علي بتنفيذ الوامر‪ .‬وبعد أن شبع القوم وارتووا‪ ،‬وقف الرسول‬ ‫بينهم خاطبا‪ :‬يا بني عبدالمطلب إني وا ما أعلم أن شابا في‬ ‫العرب جاء قومه بأفضل مما جئتكم به‪ ،‬عن جئتكم بخير الدنيا‬ ‫والخرة‪ ،‬وقد أمرني ا أن أدعوكم إليه‪ ،‬فأيكم يؤازرني على‬ ‫هذا المر على أن يكون أخي ووصيي وخليفتي فيكم؟ أحجم‬ ‫القوم عن الدعوة إل ّ عليا وهو أحدثهم سنا‪ ،‬فقد أجاب قائل ً‪ :‬أنا‬ ‫يا رسول ا أكون وزيرك عليه‪ .‬أّما النبي فقد أعاد القول ول‬ ‫جمين‪ ،‬ول يزال علي معلنا القبول‪ ،‬وعندئد أخذ‬ ‫يزال القوم ُمح ِ‬ ‫النبي برقبة علي وقال للحاضرين‪ :‬هذا أخي ووصيي وخليفتي‬ ‫فيكم‪ ،‬فاسمعوا له وأطيعوا‪ .‬والقوم يضحكون من النبي ودعوته‪،‬‬ ‫وقد قالوا لبي طالب وهم يخرجون من دار النبي‪ :‬قد أمرك أن‬ ‫تسمع لبنك وتطيع"‪ .‬هذه خلصة حديث الدار كما يرويها‬ ‫المحتجون بها‪.‬‬ ‫وقد روى البخاري حادثة يوم نزلت )وأنذر عشيرتك‬ ‫القربين( بأن الرسول صعد على الصفا ولم ُيرَو إعداد الطعام‪.‬‬ ‫وروى أحمد بن حنبل في مسنده حديثين‪ ،‬حديثا عن صنع الطعام‬ ‫ولم يذكر فيه أنه كان يوم نزلت )وأنذر عشيرتك القربين(‪ ،‬وحديثا‬ ‫‪-65-‬‬


‫ذكر فيه أنه صنع الطعام يوم نزلت الية‪ .‬ونعرض هذه النصوص‬ ‫أول ً ثم نبين ما فيها‪:‬‬ ‫ما‬ ‫روى البخاري عن ابن عباس رضي ا عنهما قال‪ :‬ول ّ‬ ‫نزلت )وأنِذر عشيرتك القربين( صعد النبي صلى ا عليه وسلم‬ ‫عِدي‪ ،‬لبطون قريش‪،‬‬ ‫على الصفا فجعل ينادي‪ :‬يا بني فهر‪ ،‬يا بني َ‬ ‫حتى اجتمعوا‪ ،‬فجعل الرجل إذا لم يستطع أن يخرج‪ ،‬أرسل‬ ‫رسول ً لينظر ما هو‪ ،‬فجاء أبو لهب وقريش فقال‪ :‬أريتكم لو‬ ‫أخبرتكم أن خبرا بالوادي تريد أن ُتغير عليكم أكنتم ُمصدِّقي؟‬ ‫قالوا‪ :‬نعم‪ ،‬ما جّربنا عليك إل ّ صدقا‪ .‬قال‪ :‬فإني نذير لكم بين‬ ‫يدي عذاب شديد‪ .‬فقال أبو لهب‪ :‬تبا لك سائر هذا اليوم‪ ،‬ألهذا‬ ‫ب‪ ،‬ما أغنى عنه ماله وما‬ ‫معَتنا؟ فنزلت )تّبت يدا أبي لهب وت ّ‬ ‫ج َ‬ ‫َ‬ ‫كسب(‪ .‬وهذا يدل على أن حادثة صنع الطعام لم تكن يوم نزلت‬ ‫)وأنذر عشيرتك القربين( لنها ل تلتئم مع ما ورد في نص‬ ‫الحديث‪.‬‬ ‫روى أحمد بن حنبل في مسنده قال‪ :‬حدثنا عفان‪ ،‬حدثنا أبو‬ ‫عوانة عن عثمان بن المغيرة عن أبي صادق عن ربيعة بن ناجذ‬ ‫عن علي قال‪ :‬جمع رسول ا صلى ا عليه وسلم أو دعا‬ ‫رسول ا صلى ا عليه وسلم بني عبدالمطلب فيهم رهط كلهم‬ ‫يأكل الجذعة ويشرب العرق‪ ،‬قال‪ :‬فصنع لهم مدا من طعام‬ ‫مس‪ ،‬ثم‬ ‫فأكلوا حتى شبعوا‪ ،‬قال‪ :‬وبقي الطعام كما هو كأنه لم ُي َ‬ ‫غمٍر فشربوا حتى رووا وبقي الشراب كأنه لم ُيمس أو لم‬ ‫دعا ب ُ‬ ‫ت لكم خاصة وإلى‬ ‫ُيشرب‪ .‬فقال‪ :‬يا بني عبدالمطلب‪ ،‬إني ُبعث ُ‬ ‫الناس بعامة‪ ،‬وقد رأيتم من هذه الية ما رأيتم فأيكم يبايعني‬ ‫على أن يكون أخي وصاحبي؟ قال‪ :‬فلم يقم إليه أحد‪ .‬قال‪:‬‬ ‫ت إليه وكنت أصغر القوم‪ .‬قال‪ :‬فقال‪ :‬اجلس‪ .‬قال‪ :‬ثلث‬ ‫فقم ُ‬ ‫مرات‪ ،‬كل ذلك أقوم إليه فيقول لي اجلس‪ ،‬حتى كان في الثالثة‬ ‫ضرب بيده على يدي( انتهى النص‪ .‬ومنه يتبين أنه ل ِذكر لحادثة‬ ‫نزول )وأنذر عشيرتك القربين( وأن الرسول عرض عليهم‬ ‫السلم ومن ُيسِلم يكن أخا الرسول وصاحبه ولم يقل لعلي‬ ‫شيئا‪.‬‬ ‫وأّما الرواية الثانية فقد روى أحمد بن حنبا في مسنده قال‪:‬‬ ‫)حّدثنا أسود بن عامر حّدثنا شريك عن العمش عن المنهال عن‬ ‫ما نزلت هذه الية )وأنِذر‬ ‫عباد بن عبدا السدي عن علي قال‪ :‬ل ّ‬ ‫‪-66-‬‬


‫عشيرتك القربين( قال‪ :‬جمع النبي صلى ا عليه وسلم أهل‬ ‫بيته‪ ،‬فاجتمع ثلثون‪ ،‬فأكلوا وشربوا‪ ،‬قال‪ :‬فقال لهم‪ :‬من يضمن‬ ‫عني دْيني ومواعيدي ويكون معي في الجنة ويكون خليلي في‬ ‫مه شريك‪ :‬يا رسول ا أنت كنت بحرا‪،‬‬ ‫أهلي؟ فقال رجل لم ُيس ّ‬ ‫من يقوم بهذا‪ .‬قال‪ :‬ثم قال الخر‪ :‬قال‪ :‬فعرض ذلك على أهل‬ ‫بيته‪ .‬فقال علي أنا( انتهى النص‪ .‬ومنه يتبين أن الرسول طلب من‬ ‫أهله شخصا يضمن دْينه ومواعيده وجزاء ذلك يكون معه في‬ ‫الجنة ويكون خليله في أهله‪ ،‬فقال علي‪ :‬أنا‪.‬‬ ‫ول يوجد في هذين النصين كلمة وصيي‪ ،‬ول كلمة خليفتي‪.‬‬ ‫وهذه النصوص هي التي وردت في الكتب الصحاح ووردت هي‬ ‫نفسها بروايات متعددة بألفاظ متقاربة ومعان واحدة‪ ،‬ولم يِرد‬ ‫فيها جميعها كلمة وصيي ول كلمة خليفتي‪ ،‬ولم يرو أحد من‬ ‫أصحاب الصحاح جميعهم‪ ،‬ول من طريق ثقة من الثقات حديثا‬ ‫فيه كلمة وصيي أو كلمة خليفتي‪ ،‬ل بالنسبة لعلي ول بالنسبة‬ ‫لغيره‪ ،‬فتسقط الحجة لعدم وجود دليل عليها في الصحاح‪.‬‬ ‫أّما النص الذي رواه من يحتجون باستخلف علي وأطلقوا‬ ‫عليه اسم حديث الدار‪ ،‬فإن هذا النص بهذه الرواية مردود دراية‪.‬‬ ‫والحديث ُيرد دراية من حيث المعنى‪ ،‬ورواية من حيث السند‪ .‬فإذا‬ ‫ُرّد رواية أو ُرّد دراية‪ ،‬سقط اعتباره‪ ،‬وسقط الحتجاج به‪ .‬أّما رّده‬ ‫دراية فلعدة أمور منها‪:‬‬ ‫أول ً‪ -‬في هذا الحديث ُيرى أن الرسول يطلب مؤازرة آل‬ ‫عبدالمطلب له في دعوته ويشترط أن يكون لهم المر من بعده‪.‬‬ ‫وهذا باطل من وجهين‪ :‬أحدهما أن يناقض قول الرسول وفعله‬ ‫في حادثة حين رفض طلب قبيلة أن يكون لها المر من بعده إذا‬ ‫مت‪ ،‬وقال‪) :‬المر بيد ا يضعه حيث يشاء(‪ .‬فقد روى ابن‬ ‫أسَل َ‬ ‫هشام في كتابه "سيرة النبي صلى ا عليه وآله وسلم" قال‪:‬‬ ‫قال ابن اسحق وحّدثني الزهري أنه أتى عامر بن صعصعة‪،‬‬ ‫فدعاهم إلى ا عز وجل وعرض عليهم نفسه‪ ،‬فقال له رجل‬ ‫ت هذا الفتى من‬ ‫منهم يقال له بيجرة بن فراس‪ :‬وا لو أني أخذ ُ‬ ‫ت إن نحن تابعناك على‬ ‫ت به العرب‪ .‬ثم قال له‪ :‬أرأي َ‬ ‫قريش لكل ُ‬ ‫أمرك ثم أظهرك ا على من خالفك‪ ،‬أيكون لنا المر ِمن بعدك؟‬ ‫قال‪ :‬المر لله يضعه حيث يشاء‪ .‬قال‪ :‬فقال له‪ :‬أفنهدف نحورنا‬ ‫للعرب دونك‪ ،‬فإذا أظهرك ا كان المر لغيرنا؟ ل حاجة لنا‬ ‫‪-67-‬‬


‫بأمرك‪ .‬فأبوا عليه(‪ ،‬فكيف يقول الرسول )المر لله يضعه حيث‬ ‫يشاء( أي أمر الخلفة والحكم من بعده‪ ،‬ويقول لبني‬ ‫عبدالمطلب‪) :‬فأيكم يؤازرني على هذا المر على أن يكون أخي‬ ‫ووصيي وخليفتي فيكم"؟ أليس ذلك تناقضا واضحا؟ فل بد أن‬ ‫يكون أحد القولين مردودا حتما‪ .‬وبما أن حديث الدار يقال إنه‬ ‫كان حين نزلت )وأنذر عشيرتك القربين( أي في السّنة الثالثة‬ ‫للبعثة‪ ،‬وحديث )المر لله يضعه حيث يشاء( قد حصل حين عرض‬ ‫الرسول نفسه على القبائل أي في السّنة العاشرة للبعثة‪ ،‬أي بعد‬ ‫حديث الدار‪ ،‬فيكون حديث الدار هو المردود‪ .‬أّما الوجه الثاني‬ ‫فهو أن الرسول في هذا الحديث يجعل للكفار شيئا حتى يسلموا‪،‬‬ ‫بل يجعل لهم أعظم المور وهو الخلفة من بعده على‬ ‫المسلمين جميعا ثمنا لدخولهم في السلم‪ ،‬وهذا يناقض عمل‬ ‫الرسول في دعوته ويناقض أحكام الشرع‪ .‬فالرسول كان يدعو‬ ‫الناس للسلم لنه الدين الحق‪ ،‬ولم ُيرو عنه ول حديث ضعيف‪،‬‬ ‫ل أو كُثر لكافر مقابل أن يدخل في السلم‪ .‬وأّما‬ ‫أنه جعل شيئا ق ّ‬ ‫طون من الزكاة لتتقوى بهم‬ ‫المؤّلفة قلوبهم فهم مسلمون ُيع َ‬ ‫طون ليدخلوا في السلم‪ ،‬ول يجوز أن‬ ‫الدولة‪ ،‬وليسوا كفارا ُيع َ‬ ‫يعطى الكفار شيئا مقابل أن يدخلوا في السلم‪.‬‬ ‫ثانيا‪ -‬أن الحديث يذكر أن الرسول قد أولم الوليمة وأعدّ‬ ‫معهم على‬ ‫ج َ‬ ‫الطعام للكفار من أجل أن يدعوهم للسلم‪ ،‬و َ‬ ‫الطعام ليدخلوا في السلم‪ ،‬ولم يصنع الطعام لعلي المسلم‪،‬‬ ‫فإذا رفض هؤلء السلم ورفضوا أن يكون لهم المر من بعده‬ ‫مقابل أن يسلموا‪ ،‬فل شأن لعلي في ذلك حتى يتصدى للجابة‬ ‫جه له‪ ،‬فل‬ ‫لنه ليس مدعوا للسلم‪ ،‬إذ هو مسلم‪ ،‬ول الخطاب مو ّ‬ ‫شأن له في هذا الجتماع حتى يقول له‪) :‬هذا أخي ووصيي‬ ‫وخليفتي فيكم فاسمعوا له وأطيعوا(‪ ،‬إذ هو ليس محل خطاب‬ ‫ول محل مفاوضة‪.‬‬ ‫ثالثا‪ -‬أن الحديث يذكر أن القوم رفضوا السلم‪ ،‬وبالرغم‬ ‫من تكرار عرضه عليهم أصروا على الكفر وعلى رفض أن يكون‬ ‫لهم المر من بعده مقابل دخولهم في السلم‪ ،‬وظلوا كفارا‪،‬‬ ‫فكيف يقول لهم الرسول مخاطبا إياهم‪) :‬هذا خليفتي فيكم(‬ ‫ويأمرهم بالسمع والطاعة له‪ ،‬وهو يعلم أنهم كفار قد رفضوا‬ ‫السلم؟ وكيف يكون خليفة فيهم وهم كفار؟‬ ‫‪-68-‬‬


‫رابعا‪ -‬أن الرواية التي يروونها تقول‪) :‬هذا أخي ووصيي‬ ‫وخليفتي فيكم فاسمعوا له وأطيعوا(‪ ،‬فهو خطاب لل‬ ‫عبدالمطلب‪ ،‬إذ صّدر الكلم بقوله‪) :‬يا بني عبدالمطلب(‪ ،‬فهو‬ ‫خاص بهم‪ ،‬إذ قد جعله خليفة فيهم‪ ،‬أي في آل عبدالمطلب ل‬ ‫خليفة للمسلمين‪ ،‬إذ قال‪) :‬وخليفتي فيكم(‪ ،‬فل يكون حينئذ خليفة‬ ‫للمسلمين كما هو صريح النص‪ .‬ول يقال هنا‪ :‬العبرة بعموم‬ ‫اللفظ ل بخصوص السبب‪ .‬لن هذه واقعة عين‪ ،‬وليست سببا‪.‬‬ ‫فضل ً عن أن اللفظ أيضا خاص وليس بعام )يا بني عبدالمطلب(‪،‬‬ ‫)وخليفتي فيكم(‪ ،‬فتلزمه الخصوصية من حيث كون الحادثة‬ ‫واقعة عين ل سببا‪ ،‬ومن حيث عدم عمومية اللفظ‪.‬‬ ‫فهذه المور الربعة يكفي واحد منها أن ُيبِرز كذب هذا‬ ‫الحديث وتناقضه‪ ،‬وأنه واجب الرد دراية‪ .‬وبهذا يتبين أن الرسول‬ ‫صلى ا عليه وآله وسلم لم ينص على جعل علي خليفة بعده‪.‬‬ ‫ومن ذلك كله يتبين أن الحاديث التي رواها من يحتجون بأن‬ ‫الرسول صلى ا عليه وسلم قد عّين شخصا للخلفة بعده‬ ‫أحاديث مردودة ل تصلح للحتجاج فَتسقط‪ .‬فلم يبق أي دليل‬ ‫على أن الرسول عّين أحدا ليتولى الخلفة بعده‪ ،‬بل قام الدليل‬ ‫على عكس ذلك‪ ،‬أي على أن الرسول ترك المر للمسلمين من‬ ‫حيث الشخاص يختارون من يريدون ولكنه عّين لهم طريقة‬ ‫نصب الخليفة‪.‬‬ ‫وأّما خطأ القول بأن الرسول عين الشخاص الذين يكونون‬ ‫خلفاء بعده‪ ،‬فإنه ظاهر من عدم دللة الحاديث التي قالوا إنه‬ ‫عّين عليا فيها‪ .‬ومن يقولون إن الخلفة لهم إّنما يقولون ذلك لهم‬ ‫لنهم أبناء علي‪ ،‬فإذا سقطت حجتهم بالنسبة لعلي سقطت‬ ‫بالنسبة لولده تبعا لسقوط الحجة بالنسبة له‪ .‬وفوق ذلك فإن‬ ‫الحاديث التي يروونها باعتبارها دليل ً على خلفة أبناء علي‬ ‫بالنص من ا ورسوله‪ ،‬هي الحاديث المتعلقة بآل البيت‪ ،‬وكلها‬ ‫تتضمن المدح وليس أكثر من ذلك‪ ،‬ويعتبر حديث الثقلين أي‬ ‫خم نموذجا لها‪ ،‬وقد تبين بوضوح سقوط الحتجاج‬ ‫حديث غدير ُ‬ ‫به‪ ،‬وتتبعه باقي الحاديث‪.‬‬

‫المسؤوليات العامة‬ ‫‪-69-‬‬


‫حدد الشارع المسؤوليات العامة الواجبة على الحاكم‬ ‫تحديدا واضحا ل يدع أي مجال للبس أو إبهام‪ .‬فقد بّين مسؤولية‬ ‫الحاكم بالنسبة لما يجب أن يكون عليه في خاصية نفسه بوصفه‬ ‫حاكما‪ ،‬وبّين مسؤوليته بالنسبة لعلقته بالرعية‪.‬‬ ‫أّما مسؤولية الحاكم بالنسبة لما يجب أن يكون عليه بوصفه‬ ‫حاكما‪ ،‬فظاهرة في الحاديث التي بّين الرسول صلى ا عليه‬ ‫وآله وسلم فيها بعض صفات الحاكم‪ ،‬ومن أبرزها القوة والتقوى‬ ‫والرفق بالرعية وأن ل يكون منفرا‪ .‬فالرسول يرى أنه يجب أن‬ ‫يكون الحاكم قويا وأن الضعيف ل يصلح أن يكون حاكما‪ .‬روى‬ ‫مسلم عن أبي ذر أن رسول ا صلى ا عليه وسلم قال‪) :‬يا أبا‬ ‫ن على‬ ‫ب لك ما أحب لنفسي‪ ،‬ل َتَأّمَر ّ‬ ‫َذر أراك ضعيفا وإني أح ّ‬ ‫ن مال يتيم(‪ ،‬وعن أبي ذر قال‪) :‬قلت‪ :‬يا رسول ا‬ ‫اثنين ول َتَوّلَي ّ‬ ‫أل تستعملني؟ قال‪ :‬فضرب بيده على منكبي ثم قال‪ :‬يا أبا ذر‬ ‫إنك ضعيف وإنها أمانة وإنها يوم القيامة خزي وندامة إل ّ من‬ ‫أخذها بحقها وأدى الذي عليه فيها(‪ .‬والمراد بالقوة هنا قوة‬ ‫الشخصية أي قوة العقلية وقوة النفسية‪ ،‬فل بد أن تكون عقليته‬ ‫عقلية حكم يدِرك بها المور والعلقات‪ ،‬وأن تكون نفسيته نفسية‬ ‫حاكم يدِرك بها أنه أمير ويصّرف ميوله تصريف أمير‪.‬‬ ‫ما كانت قوة الشخصية فيها قابلية للسيطرة والتحكم‪،‬‬ ‫ول ّ‬ ‫كان ل بد أن تكون للحاكم صفة تقيه شر التحكم‪ ،‬فكان ل بد أن‬ ‫يكون متصفا بالتقوى في خاصة نفسه وفي رعايته للّمة‪ .‬عن‬ ‫سليمان بن بريدة عن أبيه قال‪) :‬كان رسول ا صلى ا عليه‬ ‫وسلم إذا أّمر أميرا على جيش أو سرّية أوصاه في خاصته بتقوى‬ ‫ا ومن معه من المسلمين خيرا(‪ .‬والحاكم إذا اتقى ا وخافه‬ ‫وراقبه بالسر والعلن كان ذلك زاجرا له عن الستبداد بالرعية‪.‬‬ ‫ولكن التقوى ل تمنعه من الغلظة والشدة لنه في مراقبته لله‬ ‫ما كان حاكما كان من طبيعة عمله أن‬ ‫يلتزم أوامره ونواهيه‪ .‬ول ّ‬ ‫يكون شديدا قاسيا‪ .‬ومن أجل ذلك أمره الشارع أن يكون رفيقا‬ ‫ت رسول ا‬ ‫شق على الرعية‪ .‬فعن عائشة قالت‪ :‬سمع ُ‬ ‫وأن ل َي ُ‬ ‫ي من أمر‬ ‫صلى ا عليه وسلم يقول في بيتي هذا‪) :‬اللهم َمن َوِل َ‬ ‫ق عليه‪ ،‬ومن ولي من أمر أّمتي شيئا‬ ‫ش ّ‬ ‫ق عليهم‪ ،‬ف ُ‬ ‫ش ّ‬ ‫أّمتي شيئا ف َ‬ ‫فَرَفق بهم فارُفق به(‪ .‬وأَمره كذلك أن يكون مبشرا وأن ل يكون‬ ‫سروا ول‬ ‫شروا ول تنّفروا‪ ،‬وي ّ‬ ‫منفرا‪ .‬فعن أبي موسى قال‪) :‬ب ّ‬ ‫‪-70-‬‬


‫سروا(‪.‬‬ ‫تع ّ‬ ‫هذا بالنسبة لما يجب أن يكون عليه الحاكم في خاصته‪ .‬أّما‬ ‫بالنسبة لعلقته بالرعية‪ ،‬فقد أمره الشارع بإحاطة الرعية‬ ‫بالنصيحة‪ ،‬وحذره من مس الموال العامة بشيء‪ ،‬وألزمه بأن‬ ‫يحكمهم بالسلم وحده دون أن يكون معه أي شيء‪ .‬فقد حرم‬ ‫ا الجنة على الحاكم الذي ل يحيط رعيته بنصح أو يغشها‬ ‫بشيء‪ .‬عن معقل بن يسار قال‪ :‬سمعت النبي صلى ا عليه‬ ‫حطها بنصيحة إل ّ‬ ‫وسلم يقول‪) :‬ما من عبد استرعاه ا رعية لم ُي ِ‬ ‫لم يجد رائحة الجنة(‪ ،‬وعن معقل بن يسار أيضا قال‪ :‬سمعت‬ ‫ل يلي رعية من‬ ‫رسول ا صلى ا عليه وسلم يقول‪) :‬ما من وا ٍ‬ ‫المسلمين فيموت وهو غاش لهم إل ّ حرم ا عليه الجنة(‪ ،‬وروى‬ ‫مسلم عن معقل قال‪ :‬سمعت رسول ا صلى ا عليه وسلم‬ ‫يقول‪) :‬ما من أمير يلي أمر المسلمين ثم ل َيجَهد لهم وينصح إل ّ‬ ‫لم يدخل الجنة معهم(‪ ،‬وعن أبي سعيد قال‪ :‬قال رسول ا‬ ‫صلى ا عليه وسلم‪) :‬لكل غادر لواء يوم القيامة ُيرفع بقدر‬ ‫غدره‪ ،‬أل ول غادر أعظم غدرا من أمير عامة(‪ .‬فبْذل الجهد في‬ ‫سبيل الرعية وإحاطتها بالنصيحة قد شدد عليه الرسول تشديدا‬ ‫ظم المسؤولية فيه‪ .‬أّما عدم مس الموال‬ ‫ع َ‬ ‫واضحا مما يبين ِ‬ ‫العامة فقد حّذر منه وشّدد في هذا التحذير‪ ،‬وحين رآه من وا ٍ‬ ‫ل‬ ‫من ولته عّنفه وخطب الناس في شأنه‪ .‬عن أبي حميد الساعدي‬ ‫أن النبي صلى ا عليه وسلم استعمل ابن التبية على صدقات‬ ‫سَبه‪،‬‬ ‫ما جاء إلى رسول ا صلى ا عليه وسلم حا َ‬ ‫بني سليم‪ ،‬فل ّ‬ ‫ُ‬ ‫قال‪ :‬هذا الذي لكم وهذه هدية أهِديت لي‪ .‬فقال رسول ا‬ ‫ت في بيت أبيك وبيت أمك حتى‬ ‫صلى ا عليه وسلم‪ :‬فَهل جلس َ‬ ‫تأتيك هديتك إن كنت صادقا؟ ثم قام رسول ا صلى ا عليه‬ ‫مد ا وأثنى عليه ثم قال‪) :‬أّما بعد‬ ‫ح َ‬ ‫وسلم فخطب الناس و َ‬ ‫لني ا فيأتي أحدكم‬ ‫فإني أستعمل رجال ً منكم على أمور مما و ّ‬ ‫فيقول هذا لكم وهذه هدية ُأهديت لي‪ ،‬فَهل جلس في بيت أبيه‬ ‫وبيت أمه حتى تأتيه هديته إن كان صادقا؟ فوا ل يأخذ أحدكم‬ ‫شيئا بغير حقه إل ّ جاء يحمله يوم القيامة(‪ ،‬وهذا كناية عن‬ ‫محاسبة ا له ومعاقبته على عمله‪ ،‬وهو تحذير شديد من أن‬ ‫يمس الحاكم الموال العامة ول بأي وجه من الوجوه ول تحت‬ ‫التأويل والفتوى‪.‬‬ ‫‪-71-‬‬


‫وأّما بالنسبة للحكام التي يجب أن َيحكم بها الحاكم‪ ،‬فقد‬ ‫حددها الشارع له فألزمه أن يحكم بكتاب ا وسّنة رسوله‪،‬‬ ‫وجعل له حق الجتهاد فيهما‪ ،‬ونهاه عن أن يتطلع لغير السلم‪،‬‬ ‫أو أن يأخذ من غير السلم شيئا مطلقا‪ .‬أّما تحديد الحكم بالكتاب‬ ‫والسّنة فواضح من آيات القرآن‪ ،‬قال تعالى‪) :‬وَمن لم يحكم بما‬ ‫أنزل ا فأولئك هم الكافرون(‪ ،‬وقال تعالى‪) :‬وَمن لم يحكم بما‬ ‫أنزل ا فأولئك هم الفاسقون(‪ ،‬وقال‪) :‬وَمن لم يحكم بما أنزل‬ ‫ا فأولئك هم الظالمون(‪ .‬وهذا يعني حصر الحكم بما أنزله‬ ‫ا‪ .‬والذي أنزله ا على رسوله سيدنا محمد صلى ا عليه وآله‬ ‫وسلم هو القرآن لفظا ومعنى‪ ،‬والسّنة معنى ل لفظا‪ .‬فيكون‬ ‫الحاكم مقيدا في حكمه بحدود الكتاب والسّنة‪ .‬وقد أجاز له‬ ‫الشارع الجتهاد في الكتاب والسّنة‪ ،‬أي بذل الُوسع في فهمهما‬ ‫واستنباط الحكام منهما‪ .‬فقد ُروي )أن الرسول صلى ا عليه‬ ‫وسلم أرسل معاذا إلى اليمن فقال له‪ :‬بم تحكم؟ قال‪ :‬بكتاب‬ ‫ا‪ .‬قال‪ :‬فإن لم تجد؟ قال‪ :‬بسّنة رسول ا‪ .‬قال‪ :‬فإن لم تجد‪:‬‬ ‫قال‪ :‬أجتهد رأيي‪ .‬قال‪ :‬الحمد لله الذي وفق رسول رسول ا‬ ‫لما يحبه ا ورسوله(‪ .‬وقد جعل للحاكم أجرا إذا أخطأ بالجتهاد‪،‬‬ ‫وبذلك يشجع الحاكم على الجتهاد‪ ،‬ويبعد عن الجمود عند ظاهر‬ ‫النصوص‪ .‬فقد روى البخاري عن عمرو بن العاص أنه سمع‬ ‫رسول ا صلى ا عليه وسلم يقول‪) :‬إذا حكم الحاكم فاجَتَهد‬ ‫ثم أصاب فله أجران وإذا حكم فاجَتَهد ثم أخطأ فله أجر(‪.‬‬ ‫وقد بالغ الشرع في تحديد الحكام التي يحكم بها الحاكم‬ ‫بأنها السلم ليس غير‪ .‬ومع كونه جعل للحاكم حق الجتهاد ولو‬ ‫أخطأ‪ ،‬فإنه شدد في حصر الحكم بالسلم‪ ،‬ونهى عن أن يحكم‬ ‫بغيره‪ ،‬بل عن أن َيسأل عن حكم ِمن غير السلم‪ ،‬أو أن يشرك‬ ‫مع السلم شيئا ليس منه‪ .‬قال تعالى مخاطبا الرسول‪) :‬وأ ِ‬ ‫ن‬ ‫كم بينهم بما أنزل ا ول تّتبع أهواءهم واحَذرهم أن يفتنوك‬ ‫اح ُ‬ ‫عن بعض ما أنزل ا إليك(‪ ،‬وقال‪) :‬فاحكم بينهم بما َأنزل ا‬ ‫ول تّتبع أهواءهم عما جاءك من الحق(‪ ،‬وخطاب الرسول‬ ‫خطاب لّمته‪ ،‬فهو خطاب لكل حاكم‪ .‬وروى مسلم عن عائشة‬ ‫قالت‪ :‬قال رسول ا صلى ا عليه وسلم‪) :‬وَمن أحدث في‬ ‫أمرنا هذا ما ليس منه فهو َرّد(‪ ،‬وفي رواية أخرى عنها )َمن عمل‬ ‫عمل ً ليس عليه أمرنا فهو َرّد(‪ ،‬وروى البخاري عن عبيدا بن‬ ‫‪-72-‬‬


‫عبدا أن ابن عباس رضي ا عنهما قال‪) :‬كيف تسألون أهل‬ ‫الكتاب عن شيء وكتابكم الذي ُأنزل على رسول ا صلى ا‬ ‫شب وقد حّدثكم أن أهل‬ ‫عليه وسلم أحدث‪ ،‬تقرأونه محضا لم َي ِ‬ ‫الكتاب بّدلوا كتاب ا وغّيروه وكتبوا بأيديهم الكتاب وقالوا‪ :‬هو‬ ‫ل؟ أل ينهاكم ما جاءكم من العلم‬ ‫من عند ا ليشتروا به ثمنا قلي ً‬ ‫عن مسألتهم؟(‪ .‬وبهذا يظهر تحديد ما يجب أن يحكم به‪،‬‬ ‫وحصرت مسؤوليته في الحكام بالحكم بما أنزل ا‪.‬‬ ‫فهذه المسؤوليات الواجبة على الحاكم تبين أن الشارع‬ ‫حدد المسؤوليات العامة أوضح تحديد‪ ،‬وهذه المسؤوليات على‬ ‫الحاكم من حيث هو حاكم بغض النظر عن كونه خليفة أو معاونا‬ ‫ل‪ ،‬فكلهم حاكم‪ ،‬ومقّيد بهذه المسؤوليات‪ .‬وذلك‬ ‫له‪ ،‬واليا أو عام ً‬ ‫لنها إذا كانت هذه مسؤوليات الولة والمراء وغيرهم من‬ ‫الحكام فإنها مسؤوليات الخليفة‪ ،‬لنها إذا كانت واجبا على المير‬ ‫فعلى من يحمل تبعة عامة من باب أْولى‪.‬‬ ‫على أن هنك أحاديث جاءت عامة تشمل كل من َوِلي أمرا‬ ‫من أمور المسلمين خليفة كان أو واليا‪ .‬فقول الرسول‪) :‬ما من‬ ‫عبٍد استرعاه ا رعية(‪ ،‬وقوله ‪َ) :‬من َوِلي من أمر أّمتي شيئا(‪،‬‬ ‫وقوله‪) :‬أعظم غدرا من أمير عامة(‪ ،‬وقول ا تعالى‪) :‬ومن لم‬ ‫يحكم(‪ .‬فكلها جاءت بلفظ عام يشمل الوالي ويشمل الخليفة‪.‬‬ ‫وخطاب الرسول خطاب لكل حاكم‪ ،‬خليفة كان أو واليا‪ .‬على أن‬ ‫الرسول بّين مسؤولية الخليفة عن رعيته نصا في الحديث الذي‬ ‫ملة‪ .‬روى البخاري عن عبدا بن‬ ‫بّين فيه المسؤوليات العامة مج َ‬ ‫عمر أن رسول ا صلى ا عليه وسلم قال‪) :‬أل كلكم راع‬ ‫وكلكم مسؤول عن رعيته‪ ،‬فالمام الذي على الناس راع وهو‬ ‫مسؤول عن رعيته‪ ،‬والرجل راع على أهل بيته وهو مسؤول عن‬ ‫رعيته‪ ،‬والمرأة راعية على أهل بيت زوجها وولده وهي مسؤولة‬ ‫عنهم‪ ،‬وعبُد الرجل راع على مال سيده وهو مسؤول عنه‪ ،‬أل‬ ‫فكلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته(‪ ،‬فجعل الخليفة مسؤول ً‬ ‫مسؤولية عامة عن رعيته‪ ،‬وبهذا تكون المسؤوليات العامة على‬ ‫الحاكم‪ ،‬فهي على الخليفة كما هي على المير‪.‬‬ ‫من الشارع قيام الحاكم‬ ‫ض ِ‬ ‫وهذه المسؤوليات العامة قد َ‬ ‫بأعبائها ضمانا تاما بالتوجيه والتشريع‪ .‬أّما التوجيه‪ ،‬فقد حّذر‬ ‫صر بها ولم يقم بأعبائها‪ ،‬فبّين أنها‬ ‫الحاكم من عذاب ا إذا ق ّ‬ ‫‪-73-‬‬


‫خزي وندامة يوم القيامة إذا أخذها الضعيف الذي ل يؤدي الذي‬ ‫ق على‬ ‫ق على من يش ّ‬ ‫عليه فيها‪ ،‬وطلب الرسول من ا أن يش ّ‬ ‫حط الّمة بنصيحة‪ ،‬إلى‬ ‫الّمة السلمية‪ ،‬وحّرم الجنة على من لم ُي ِ‬ ‫غير ذلك من التحذيرات التي تبين للحاكم عاقبة عدم قيامه‬ ‫بمسؤولياته‪ ،‬وهي عذاب من ا‪.‬‬ ‫ولكن الشرع لم يكتف بذلك بل جعل الّمة قّوامة على قيام‬ ‫صر بمسؤولياته أو‬ ‫الحاكم بمسؤولياته‪ ،‬فألزمها بالنكار عليه إذا ق ّ‬ ‫أساء في تصرفاته‪ ،‬وأمرها بمقاتلته بالسيف إذا حكم بغير‬ ‫السلم وصار الكفر بواحا‪ ،‬وجعل من ُيقتل في سبيل النكار‬ ‫على الحاكم سيد الشهداء‪ .‬قال عليه الصلة والسلم‪) :‬سيد‬ ‫الشهداء حمزة ورجل قام إلى إمام جائر فنصحه فقتله(‪ .‬وجعل‬ ‫من يرضى بتقصير الحاكم ويتابعه‪ ،‬مسؤول ً أمام ا ل َيسَلم من‬ ‫عقوبته‪ ،‬روى مسلم عن أم سلمة أن رسول ا صلى ا عليه‬ ‫عرف برئ‬ ‫وسلم قال‪) :‬ستكون أمراء فَتعرفون وُتنكرون فمن َ‬ ‫سِلم ولكن من رضي وتابع‪ .‬قالوا‪ :‬أفل نقاتلهم؟ قال‪:‬‬ ‫ومن أنكر َ‬ ‫ل‪ ،‬ما صّلوا(‪ ،‬وفي رواية أخرى )فمن َكِره فقد َبِرأ ومن أنكر فقد‬ ‫سر الرواية الولى‪،‬‬ ‫ي وتابع( وهذه الرواية تف ّ‬ ‫ض َ‬ ‫سِلم ولكن من َر ِ‬ ‫َ‬ ‫فقوله‪) :‬فمن عرف َبِرئ(‪ ،‬قال النووي في شرح هذا الحديث‪:‬‬ ‫كر ولم يشنه عليه فقد صارت‬ ‫"معناه وا أعلم‪ :‬فمن عرف المن َ‬ ‫له طريق البراءة من إثمه وعقوبته بأن يغيره بيده أو بلسانه‪ ،‬فإن‬ ‫سِلم‪ ،‬أي ومن لم يقدر‬ ‫عجز فليكرهه بقلبه‪ .‬وقوله‪ :‬ومن أنكر َ‬ ‫على تغييره بيده ولسانه فأنكر ذلك بقلبه وكرهه سَِلم من‬ ‫مشاركتهم في إثمه‪ ،‬ولكن من رضي وتابع أي رضي بفعلهم‬ ‫بقلبه وتابعهم عليه في العمل لم يبَرأ ولم يسَلم"‪ .‬ففي هذا‬ ‫الحديث أ َ​َمر الرسول بالنكار على الحاكم وأوجب هذا النكار بأي‬ ‫وسيلة مستطاعة باليد على شرط أن تكون دون القتال أي دون‬ ‫السيف‪ ،‬وباللسان مطلقا أي بأي قول من القوال‪ ،‬أو بالقلب إذا‬ ‫كر شريكا للحاكم في‬ ‫عجز عن اليد أو اللسان‪ .‬وقد اعتبر من لم ين ِ‬ ‫ضي بما علموه وتابع على ذلك فل يبرأ ول‬ ‫الثم‪ ،‬إذ قال فمن َر ِ‬ ‫َيسَلم من الثم‪ .‬إل ّ أن هذا النكار إّنما يكون إذا أساءوا ولكنهم‬ ‫يحكمون بالسلم‪ ،‬فإذا ما خرجوا عن تطبيق السلم وطبقوا‬ ‫أحكام الكفر فإن الشرع لم يكتف بالنكار باليد واللسان والقلب‬ ‫بل جعل طريقة التغيير عليهم أو تغييرهم هي السيف والقتال‪.‬‬ ‫‪-74-‬‬


‫ففي حديث أم سلمة الذي رواه مسلم )قالوا‪ :‬أفل نقاتلهم؟ قال‪:‬‬ ‫ل‪ ،‬ما صلوا(‪ ،‬وفي رواية )أل نقاتلهم يا رسول ا؟ قال‪ :‬ل‪ ،‬ما‬ ‫صلوا(‪ ،‬وفي حديث عوف بن مالك الذي رواه مسلم )قيل‪ :‬يا‬ ‫رسول ا أفل ننابذهم بالسيف؟ فقال‪ :‬ل‪ ،‬ما أقاموا فيكم‬ ‫الصلة(‪ ،‬وفي رواية )قالوا‪ :‬قلنا‪ :‬يا رسول ا أفل ننابذهم عند‬ ‫ذلك؟ قال‪ :‬ل‪ ،‬ما أقاموا فيكم الصلة(‪ .‬وفي البخاري عن عبادة‬ ‫بن الصامت قال‪) :‬دعانا النبي صلى ا عليه وسلم فبايعناه‪،‬‬ ‫فقال فيما أخذ علينا أن بايعناه على السمع والطاعة في منشطنا‬ ‫ة علينا وأن ل ننازع المر أهله إل ّ‬ ‫عسرنا وُيسرنا وأ َ​َثر ٍ‬ ‫ومكرهنا و ُ‬ ‫أن تروا كفرا بواحا عندكم من ا فيه برهان(‪ .‬فمفهوم هذه‬ ‫الحاديث هو أن ننازع المر أهله إذا رأينا كفرا بواحا‪ ،‬وأن‬ ‫ننابذهم بالسيف ونقاتلهم إذا لم يقيموا فينا الصلة‪ .‬وهذا بالنسبة‬ ‫للحاكم كناية عن الحكم بالسلم‪ ،‬أي ما داموا يحكمون بالسلم‬ ‫فل قتال ول منابذة ول منازعة‪ ،‬فإن حكموا بغير السلم وجب‬ ‫من‬ ‫ض ِ‬ ‫حينئذ قتالهم ومنابذتهم ومنازعتهم‪ .‬وبهذا يكون السلم قد َ‬ ‫ضمانا تاما القيام بالمسؤوليات العامة‪.‬‬

‫الدولة السلمية‬ ‫دولة بشرية وليست دولة إلهية‬ ‫الدولة السلمية هي الخلفة‪ ،‬لنها هي المنصب الذي‬ ‫يملك من يتوله جميع صلحيات الحكم والسلطان والتشريع دون‬ ‫استثناء‪ .‬وهي رئاسة عامة للمسلمين جميعا في الدنيا لقامة‬ ‫أحكام الشرع السلمي‪ ،‬بالفكار التي جاء بها والحكام التي‬ ‫شرعها‪ ،‬ولحمل الدعوة السلمية إلى العالم‪ ،‬بتعريفهم السلم‬ ‫ودعوتهم إليه‪ ،‬والجهاد في سبيل ا‪ .‬ويقال لها‪ :‬المامة وإمارة‬ ‫المؤمنين‪ .‬فهي منصب دنيوي وليست منصبا أخرويا‪ .‬وهي‬ ‫موجودة لتطبيق دين السلم على البشر ولنشره بين البشر‪.‬‬ ‫وهي غير النبوة قطعا‪ ،‬لن النبوة والرسالة منصب يتلقى في‬ ‫النبي أو الرسول الشرع عن ا بواسطة الوحي ليبلغه للناس‪،‬‬ ‫بغض النظر عن تطبيقه )وما على الرسول إل ّ البلغ المبين(‪،‬‬ ‫)فإّنما عليك البلغ(‪) ،‬ما على الرسول إل ّ البلغ(‪ .‬وهذا بخلف‬ ‫الخلفة فهي تطبيق شرع ا على البشر‪ .‬ول ُيشترط في النبي‬ ‫‪-75-‬‬


‫ل‪ ،‬بل‬ ‫والرسول أن يطبق ما أوحى ا له به حتى يكون رسو ً‬ ‫ُيشترط فيه حتى يكون رسول ً ونبيا أن يوحي ا له بشرع ويؤَمر‬ ‫بتبليغه‪ .‬ومن هنا كان سيدنا موسى وسيدنا عيسى وسيدنا‬ ‫إبراهيم عليهم السلم أنبياء ورسل ً ولم يقوموا هم بتطبيق‬ ‫الشريعة التي جاءوا بها ولم يكونوا حكاما‪.‬‬ ‫وعلى ذلك فمنصب النبوة والرسالة غير منصب الخلفة‪.‬‬ ‫فالنبوة منصب إلهي يعطيها ا لمن يشاء‪ ،‬والخلفة منصب‬ ‫بشري يباِيع فيه المسلمون من يشاؤون‪ ،‬وُيقيمون عليهم خليفة‬ ‫َمن يريدون من المسلمين‪ .‬وسيدنا محمد صلى ا عليه وآله‬ ‫وسلم كان حاكما يطبق الشريعة التي جاء بها‪ .‬فكان يتولى‬ ‫النبوة والرسالة‪ ،‬وكان في نفس الوقت يتولى منصب رئاسة‬ ‫المسلمين في إقامة أحكام السلم‪ .‬وقد أمره ا بالحكم كما‬ ‫كم بينهم بما أنزل ا(‪) ،‬إنا‬ ‫ن اح ُ‬ ‫أمره بتبليغ الرسالة‪ ،‬فقال له‪) :‬وأ ِ‬ ‫أنزلنا إليك الكتاب بالحق لَتحكم بين الناس بما أراك ا(‪ ،‬كما‬ ‫ي هذا‬ ‫قال له‪) :‬يا أيها النبي بّلغ ما ُأنِزل إليك من ربك(‪) ،‬وأوحي إل ّ‬ ‫القرآن لنذركم به وَمن بلغ(‪) ،‬يا أيها المّدّثر قم قأنِذر(‪ .‬إل ّ أنه‬ ‫لا‬ ‫حين كان يتولى تبليغ الرسالة قول ً كتبليغ قوله تعالى‪) :‬وأح ّ‬ ‫البيع وحّرم الربا( أو تبليغها عمل ً كمعاهدة الحديبية‪ ،‬فإنه كان‬ ‫يجزم بالتبليغ‪ ،‬ويأمر أمرا قاطعا بالقيام بالعمل‪ ،‬ول يستشير بل‬ ‫يرفض الرأي إذا أشير به غير ما جاء به الوحي‪ .‬وإذا سئل عن‬ ‫كت ولم ُيجب حتى ينزل الوحي‪.‬‬ ‫س َ‬ ‫حكم لم ينزل به الوحي بعُد َ‬ ‫أّما حين كان يتولى تطبيق الحكام التي أنِزلت وبّلغت للناس‪ ،‬كان‬ ‫يستشير ويعمل برأي الكثرية ولو خالف رأيه‪ .‬ول يجزم بأن ما‬ ‫حكم به هو طبق الحادثة بل يقول هو طبق ما سمع من حجج‪،‬‬ ‫فإنه عليه الصلة والسلم حين نزلت سورة براءة أردف بعلي بن‬ ‫أبي طالب لن يلحق أبا بكر وأمره أن يؤذن في الناس "ببراءة"‬ ‫ليبّلغها للناس في موسم الحج‪ ،‬فتلها عليهم في عَ​َرفة وطاف‬ ‫عليهم حتى بّلغها‪ .‬وحين عقد صلح الحديبية رفض آراء الصحابة‬ ‫جميعهم وألزمهم بما رآه لنه وحي من ا‪ .‬وحين سأله جابر‪:‬‬ ‫جبه حتى نزل الوحي بالحكم‪ .‬أخرج‬ ‫كيف أقضي بمالي؟ لم ُي ِ‬ ‫ت جابر بن عبدا يقول‪:‬‬ ‫البخاري عن ابن المنكدر قال‪) :‬سمع ُ‬ ‫ت فجاءني رسول ا صلى ا عليه وسلم يعودني وأبو‬ ‫مرض ُ‬ ‫ي فتوضأ رسول ا عليه‬ ‫بكر وهما ماشيان فأتاني وقد أغمي عل ّ‬ ‫‪-76-‬‬


‫ت‪ :‬يا رسول ا وربما‬ ‫ت فقل ُ‬ ‫ي فأفق ُ‬ ‫ب وضوءه عل ّ‬ ‫السلم ثم ص ّ‬ ‫قال سفيان‪ :‬فقلت‪ :‬أي رسول ا‪ ،‬كيف أقضي في مالي؟ كيف‬ ‫أصنع في مالي؟ قال‪ :‬فما أجابني بشيء حتى نزلت آية‬ ‫الميراث(‪.‬‬ ‫هذا في القيام بأعباء النبوة والرسالة وتبليغ الناس‪ ،‬أّما في‬ ‫حد جمع‬ ‫القيام بأعباء الحكم فقد كان يسير على غير ذلك‪ .‬ففي أ ُ ُ‬ ‫المسلمين في المسجد واستشارهم أيحاِرب في المدينة أم يخرج‬ ‫خارجها‪ ،‬فكان رأي الكثرية الخروج ورأيه عليه السلم عدم‬ ‫الخروج‪ .‬فعمل برأي الكثرية وخرج وحارب خارج المدينة‪ .‬وكذلك‬ ‫فإنه حين كان يقضي بين الناس يحذرهم من أن يكون قضى‬ ‫لهم بحق غيرهم‪ .‬أخرج البخاري عن أم سلمة عن رسول ا‬ ‫صلى ا عليه وسلم أنه سمع خصومة بباب حجرته فخرج إليهم‬ ‫ل بعضكم أن يكون‬ ‫فقال‪) :‬إّنما أنا بشر وإنه يأتيني الخصم‪ ،‬فلع ّ‬ ‫ت‬ ‫ب أنه صادق فأقضي له بذلك‪ ،‬فمن قضي ُ‬ ‫أبلغ من بعض فأحس ُ‬ ‫له بحق مسلم فإنما هي قطعة من النار فليأخذها أو ليتركها(‪.‬‬ ‫وأنه روي عنه عليه الصلة والسلم أنه قال لصحابه‪) :‬من أخذ ُ‬ ‫ت‬ ‫ت له ظهرا فهذا ظهري‬ ‫له مال ً فهذا مالي فليأخذ منه ومن جلد ُ‬ ‫ص منه(‪ .‬وكذلك روي عنه عليه الصلة والسلم أنه قال‪:‬‬ ‫فليقت ّ‬ ‫)وإني لرجو أن ألقى ا عز وجل ول يطلبني أحد بمظلمة‬ ‫ظلمُته إياها في دم ول مال(‪ ،‬مما يدل على أنه كان يتولى‬ ‫منصبين‪ :‬منصب النبوة والرسالة‪ ،‬ومنصب رئاسة المسلمين في‬ ‫الدنيا لقامة شريعة ا التي أوحى له بها‪ .‬وكان يتصرف في‬ ‫القيام بأعباء كل منصب منهما بما يقتضيه ذلك المنصب‪ ،‬ويتصرف‬ ‫في أحدهما على غير ما يتصرف في الخر‪ .‬وقد أخذ البيعة على‬ ‫الناس في الحكم‪ ،‬وأخذها على النساء والرجال ولم يأخذها‬ ‫حُلم‪ ،‬مما يؤكد أنها بيعة على‬ ‫على الصغار الذين لم َيبُلغوا ال ُ‬ ‫الحكم‪ ،‬وليست بيعة على النبوة‪.‬‬ ‫ومن هنا نجد أن ا تعالى لم يعاتبه على شيء في تبليغ‬ ‫الرسالة والقيام بأعبائها‪ ،‬بل كان يطلب منه أن ل ينزعج لعدم‬ ‫استجابة الناس له لن القيام بأعباء الرسالة هو التبليغ فقط‪ ،‬وما‬ ‫سرات(‪،‬‬ ‫ح َ‬ ‫سك عليهم َ‬ ‫هب نف ُ‬ ‫عليه إل ّ التبليغ‪ ،‬قال تعالى‪) :‬فل َتذ َ‬ ‫ن عليك إل ّ‬ ‫ك في ضيق مما يمكرون(‪) ،‬إ ْ‬ ‫)ول تحزن عليهم ول ت ُ‬ ‫البلغ(‪ .‬ولكن ا تعالى عاتبه عليه السلم عند قيامه بأعباء‬ ‫‪-77-‬‬


‫الحكم على الفعال التي فعلها تطبيقا لحكام سبق أن نزلت‬ ‫وبّلغها‪ ،‬فعاتبه ا على قيامه بها على خلف الْولى‪ ،‬قال تعالى‪:‬‬ ‫خن في الرض(‪) ،‬عفا‬ ‫)ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى ُيث ِ‬ ‫ا عنك ِلم أِذنتَ لهم(‪ .‬وهذا كله واضح فيه كون منصب رئاسة‬ ‫المسلمين في الحكم غير منصب النبوة‪ ،‬وواضح فيه أن منصب‬ ‫الخلفة منصب دنيوي ل أخروي‪ .‬ومن ذلك كله يتبين أن الخلفة‬ ‫وهي رئاسة عامة للمسلمين جميعا في الدنيا‪ ،‬منصب بشري‬ ‫وليس منصبا إلهيا‪ ،‬لنها منصب الحكم الذي كان يتوله الرسول‬ ‫ض أن يخلفه فيه مسلم‬ ‫صلى ا عليه وآله وسلم‪ ،‬وقد تركه وفر ٌ‬ ‫من المسلمين‪ ،‬فهي أن يقوم مكان رسول ا صلى ا عليه‬ ‫وآله وسلم خليفة له في الحكم وليس في النبوة‪ .‬فهي خلفة‬ ‫مل‬ ‫للرسول في رئاسة المسلمين لتطبيق أحكام السلم وح ْ‬ ‫دعوته‪ ،‬وليس في تلقي الوحي وأخذ الشرع عن ا‪.‬‬ ‫وأّما عصمة الرسول صلى ا عليه وآله وسلم فهي آتية‬ ‫من حيث كونه نبيا ل من حيث كونه حاكما‪ ،‬لن العصمة من‬ ‫الصفات التي يجب أن يتصف بها جميع النبياء والرسل‪ ،‬بغض‬ ‫النظر عن كونهم هم الذين يحكمون الناس بشريعتهم‬ ‫ويطّبقونها‪ ،‬أو كونهم يقتصرون على تبليغها ول يتولون الحكم بها‬ ‫ول تطبيقها‪ .‬فسيدنا موسى وسيدنا عيسى وسيدنا إبراهيم‬ ‫معصومون‪ ،‬كما أن سيدنا محمدا صلى ا عليه وآله وسلم‬ ‫معصوم‪ ،‬فالعصمة للنبوة والرسالة وليست للحكم‪ .‬أّما كونه صلى‬ ‫ا عليه وآله وسلم ل يفعل أثناء قيامه بأعباء الحكم فعل ً‬ ‫ت من حيث كونه‬ ‫حراما‪ ،‬ول يترك القيام بفعل واجب‪ ،‬فذلك آ ٍ‬ ‫معصوما من ناحية النبوة والرسالة ل من حيث كونه حاكما‪،‬‬ ‫فيكون قيامه عليه الصلة والسلم بالحكم ل يقتضي اتصافه‬ ‫بالعصمة‪ ،‬ولكنه عليه السلم واقعيا كان معصوما من حيث كونه‬ ‫نبيا ورسول ً‪ .‬وعلى ذلك كان يتولى الحكم بوصفه بشرا يحكم‬ ‫بشرا‪ ،‬وقد جاء القرآن صريحا بأنه بشر‪ ،‬قال تعالى‪) :‬قل إّنما أنا‬ ‫ي(‪.‬‬ ‫بشر مثلكم(‪ ،‬ثم بّين وجه تمييزه عن باقي البشر )يوحى إل ّ‬ ‫فالميزة هي بكونه يوحى إليه‪ ،‬أي في النبوة‪ ،‬وما عداها فهو بشر‬ ‫كسائر الناس‪ ،‬فهو إذا في الحكم بشر كسائر الناس‪ ،‬فمن يكون‬ ‫خليفة له فل شك أنه يكون بشرا كسائر الناس‪ ،‬لنه إّنما يكون‬ ‫خليفة له في الحكم ل في النبوة والرسالة‪ .‬ولذلك ل ُتشترط فيه‬ ‫‪-78-‬‬


‫العصمة لنها ليست مما يقتضيها الحكم وإّنما هي مما تقتضيها‬ ‫النبوة‪ .‬وهو حاكم ليس غير‪ ،‬فل محل لشتراط العصمة في من‬ ‫يتولها‪ ،‬بل ل يجوز أن ُتشترط العصمة لمن يتولها‪ .‬لن العصمة‬ ‫خاصة بالنبياء‪ ،‬فل يجوز أن تكون لغير النبياء‪ ،‬لن وجودها في‬ ‫النبي والرسول يستوجبه التبليغ‪ ،‬وهي عصمة في التبليغ‪،‬‬ ‫وحصولها في عدم ارتكاب المحرمات إّنما كان تبعا للعصمة في‬ ‫التبليغ‪ ،‬لن العصمة فيه ل تتم إل ّ بالعصمة عن ارتكاب‬ ‫المحرمات‪ ،‬فالذي اقتضاها هو تبليغ الرسالة وليس تصديق‬ ‫الناس وعدم تصديقهم‪ ،‬وليس الخطأ في العمال أو عدم الخطأ‪،‬‬ ‫بل الذي اقتضاها هو تبليغ الرسالة ليس غير‪ .‬إذ لو لم يكن‬ ‫معصوما من ا لجاز عليه أن يكتم الرسالة‪ ،‬أو يزيد عليها‪ ،‬أو‬ ‫ُينِقص منها‪ ،‬أو يكذب على ا ما لم َيُقله‪ ،‬أو يخطئ فيبّلغ غير ما‬ ‫ف لكونه رسول ً‬ ‫ف للرسالة من ا‪ ،‬ومنا ٍ‬ ‫ُأمر بتبليغه‪ ،‬وهذا كله منا ٍ‬ ‫واجب التصديق‪ .‬فكان ل بد أن يتصف الرسول بالعصمة في تبليغ‬ ‫الرسالة‪ ،‬وتبعا لذلك جاءت عصمته عن ارتكاب المحرمات‪ .‬ولذلك‬ ‫اختلف العلماء في عصمة النبياء عن ارتكاب المحرمات‪ ،‬فقال‬ ‫بعضهم‪ :‬هو معصوم عن ارتكاب الكبائر فقط ويجوز عليه أن‬ ‫يفعل الصغائر‪ ،‬وقال بعضهم‪ :‬هو معصوم عن ارتكاب الكبائر‬ ‫والصغائر‪ .‬وإّنما قالوا ذلك تبعا لكون الفعال يترتب عليها تمام‬ ‫التبليغ أم ل‪ .‬فإذا كان يترتب عليها تمام التبليغ فإن العصمة في‬ ‫التبليغ تشملها ويكون النبي معصوما منها‪ ،‬إذ ل يتم التبليغ إل ّ‬ ‫بكونه معصوما فيها‪ .‬وإذا كان ل يترتب عليها تمام التبليغ فإن‬ ‫العصمة ل تشملها ول يكون معصوما فيها لنه حينئذ يتم التبليغ‬ ‫بدونها‪ .‬ولهذا كان ل خلف بين المسلمين جميعا أن الرسول غير‬ ‫معصوم عن ارتكاب الفعال التي هي خلف الْولى‪ ،‬لكونها ل‬ ‫يترتب عليها تمام التبليغ قطعا‪ .‬وعليه فالعصمة خاصة بالتبليغ‪،‬‬ ‫ولذلك ل تكون إل ّ للنبياء والرسل‪ ،‬ول يجوز أن تكون لغيرهم‬ ‫مطلقا‪.‬‬ ‫على أن دليل العصمة دليل عقلي وليس دليل ً نقليا‪ ،‬إذ لم‬ ‫َيِرد في النصوص الشرعية ل في القرآن ول في الحديث نص‬ ‫على وجود العصمة لحد‪ ،‬ل للنبياء والرسل ول لغيرهم‪ .‬وأّما‬ ‫ب عنكم الرجس أهل البيت‬ ‫ه َ‬ ‫قوله تعالى‪) :‬إّنما يريد ا لُيذ ِ‬ ‫هب عنكم الريبة‬ ‫ويطّهركم تطهيرا( فإن معناها يريد أن ُيذ ِ‬ ‫‪-79-‬‬


‫والتهمة‪ .‬وهذه الية جزء من ثلث آيات‪ ،‬قال تعالى‪) :‬يا نساء‬ ‫ن كأحد من النساء إن اتقيُتن فل تخضعن بالقول‬ ‫النبي لسُت ّ‬ ‫ن في‬ ‫ن قول ً معروفا‪ .‬وَقْر َ‬ ‫فيطمع الذي في قلبه مرض وُقل َ‬ ‫ن الصلة وآتين‬ ‫بيوتكن ول تبّرجن تبرج الجاهلية الولى وأِقم َ‬ ‫هب عنكم الرجس‬ ‫الزكاة وأطعن ا ورسوله إّنما يريد ا لُيذ ِ‬ ‫ن ما يتلى في بيوتكن من آيات‬ ‫أهل البيت ويطّهركم تطهيرا واذُكر َ‬ ‫ا والحكمة إن ا كان لطيفا خبيرا(‪ ،‬فل علقة لهذه الية‬ ‫بالعصمة ل من قريب ول من بعيد‪ .‬ول يمكن أن ُيفهم من قوله‪:‬‬ ‫هب عنكم الرجس( أي يجعلكم معصومين‪ .‬بل إذهاب‬ ‫)لُيذ ِ‬ ‫الرجس هو إذهاب القذر‪ ،‬والمراد هنا القذر المعنوي وهو الريبة‬ ‫جمل التي قبل هذه الجملة من‬ ‫والتهمة كما هو صريح في ال ُ‬ ‫اليتين‪ .‬والطهارة هنا النقاء من الريب والتهم‪ .‬وذلك لن كلمة‬ ‫الرجس معناها القَذر المادي والقَذر المعنوي‪ ،‬ومعناها أيضا‬ ‫العذاب‪ .‬وقد جاءت في القرآن بهذه المعاني‪ ،‬قال تعالى‪:‬‬ ‫)فاجتنبوا الرجس من الوثان(‪) ،‬كذلك يجعل ا الرجس على‬ ‫الذين ل يؤمنون(‪ ،‬ففي هاتين اليتين الرجس هو القَذر المعنوي‪،‬‬ ‫وقال تعالى‪) :‬أو لحم خنزير فإنه رجس( أي نجس‪ ،‬يعني أنه قَذر‬ ‫مادي‪ ،‬وقال تعالى‪) :‬ويجعل ا الرجس على الذين ل يعقلون(‪،‬‬ ‫هب عنكم الرجس( أي ُيذهب عنكم القَذر‬ ‫فقوله في الية‪) :‬لُيذ ِ‬ ‫المعنوي وهو التهمة‪ .‬وأّما قوله‪) :‬ويطهركم تطهيرا( فإن كلمة‬ ‫)يطهركم( وكلمة )تطهيرا( لم تِرد أي منهما بمعنى العصمة مطلقا‬ ‫ل في اللغة ول في القرآن ول في الحديث‪ .‬ففي اللغة‪ ،‬طهر‬ ‫الشيء طهارة وتطهيرا‪ :‬أزال النجاسة عنه‪ ،‬والمرأة طاهر من‬ ‫الحيض وطاهرة من النجاسة ومن العيوب‪ ،‬والطهارة في الشرع‬ ‫ة بغير طهور(‪.‬‬ ‫ل يقبل ا صل ً‬ ‫ع الحدث‪ ،‬قال عليه السلم ‪) :‬‬ ‫رف ُ‬ ‫وقد وردت في القرآن بهذه المعاني‪ ،‬قال تعالى‪) :‬وثيابك فطّهر(‪،‬‬ ‫ء لُيطّهركم به(‪) ،‬ول َتقَربوهن حتى َيطُهرن( والمراد منها‬ ‫)ما ً‬ ‫الطهارة من النجاسة ومن الحيض‪ ،‬وقال تعالى‪) :‬اصطفاك‬ ‫جُنبا فاطّ​ّهروا( أي من‬ ‫وطّهرك( أي من العيوب‪ ،‬وقال‪) :‬وإن كنتم ُ‬ ‫الحدث‪ .‬وقد ورد التطهير للمؤمنين أيضا‪ ،‬قال تعالى‪) :‬ما يريد ا‬ ‫م نعمته عليكم(‪.‬‬ ‫ل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم ولُيِت ّ‬ ‫ليجع َ‬ ‫فهذه النصوص كلها تعّين أن المراد من الية أن ا نّقاهم من‬ ‫الريب والتهم‪ ،‬وتنفي أن يكون المراد منها أنه عصمهم‪ ،‬فالية ل‬ ‫‪-80-‬‬


‫تدل على العصمة‪.‬‬ ‫وعليه فل يوجد دليل نقلي على وجود العصمة لحد من‬ ‫الناس‪ ،‬وليس لها إل ّ الدليل العقلي وحده‪ .‬فالعقل هو الذي‬ ‫يحتم أن تكون العصمة في التبليغ للنبي والرسول‪ ،‬إذ كونه نبيا‬ ‫ورسول ً يقتضي أن يكون معصوما وإل ّ فليس بنبي ول برسول‪.‬‬ ‫والعقل هو الذي يحّتم أن غير المكّلف بتبليغ رسالة عن ا ل‬ ‫يجوز أن يكون معصوما لكونه بشرا‪ ،‬ومن فطرته التي فطره ا‬ ‫عليها أن يقع منه الخطأ والنسيان‪ ،‬ولكونه غير مكّلف برسالة عن‬ ‫ا ل يوجد فيه ما يقتضي أن يكون معصوما‪ ،‬فإذا اّدعي أنه‬ ‫معصوم فمعناه أنه مكّلف برسالة عن ا وهذا غير جائز‪ ،‬لنه ل‬ ‫نبي بعد محمد رسول ا صلى ا عليه وآله وسلم‪ ،‬قال تعالى‪:‬‬ ‫ن رسول ا وخاَتم النبيين(‪ .‬فادعاء العصمة يقتضي ادعاء‬ ‫)ولك ْ‬ ‫ما كان الرسول مبّلغا عن ا وكان فيه بوصفه‬ ‫الرسالة‪ ،‬لنه َل ّ‬ ‫بشرا قابلية الخطأ والضلل في التبليغ عن ا اقتضى حفظ‬ ‫رسالة ا من التبديل والتغيير في التبليغ أن يكون الرسول‬ ‫معصوما من الخطأ والضلل‪ .‬ولهذا السبب وحده كانت العصمة‬ ‫صفة من صفات الرسول‪ ،‬وهو وحده الذي تقتضيه العصمة‪ .‬فإذا‬ ‫عَيت لحد غيره –ومعلوم أن الذي يقتضيها إّنما هو تبليغ‬ ‫اّد ِ‬ ‫الرسالة عن ا‪ -‬فإنه يكون قد اّدعي لهذا الغير مقتضى العصمة‬ ‫وسببها وهو تبليغ الرسالة‪ ،‬فيكون قد اّدعي أنه مكّلف بتبليغ‬ ‫رسالة عن ا‪ .‬وعليه فإن الخليفة ل يجوز أن ُيشترط فيه‬ ‫العصمة لن اشتراطها يعني أنه مكّلف بتبليغ رسالة عن ا‪،‬‬ ‫فاقتضى أن يكون معصوما‪ ،‬وهذا ل يجوز‪.‬‬ ‫ومن ذلك كله يتبين أن الخليفة بشر يجوز أن يخطئ‬ ‫ويصيب‪ ،‬ويجوز أن يقع منه ما يقع من أي بشر من السهو‬ ‫والنسيان والكذب والخيانة والمعصية وغير ذلك‪ ،‬لنه بشر‪ ،‬ولنه‬ ‫ليس بنبي‪ ،‬ول برسول‪ .‬وقد أخبر الرسول صلى ا عليه وآله‬ ‫وسلم بأن المام يمكن أن يخطئ‪ ،‬كما أخبر بأنه يمكن أن يحصل‬ ‫منه ما يبغضه الناس‪ ،‬ويلعنونه عليه‪ ،‬من ظلم ومعصية وغير ذلك‪،‬‬ ‫بل أخبر بأنه قد يحصل منه كفر بواح‪ ،‬فقد روى مسلم قال‪:‬‬ ‫حدثني زهير بن حرب حدثنا شبابة حدثني ورقاء عن أبي الزناد‬ ‫عن العرج عن أبي هريرة عن النبي صلى ا عليه وسلم قال‪:‬‬ ‫جّنة يقاَتل ِمن ورائه وُيّتقى به‪ ،‬فإن أَمر بتقوى ا عز‬ ‫)إّنما المام ُ‬ ‫‪-81-‬‬


‫عَدل كان له بذلك أجر‪ ،‬وإن يأمر بغيره كان عليه منه(‪،‬‬ ‫وجل و َ‬ ‫وهذا يعني أن المام غير معصوم وأنه جائز عليه أن يأمر بغير‬ ‫تقوى ا‪ .‬وروى مسلم قال‪ :‬حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا‬ ‫جرير عن العمش عن زيد بن وهب عن عبدا قال‪ :‬قال رسول‬ ‫ا صلى ا عليه وسلم‪) :‬إنها ستكون بعدي أ َ​َثرة وأمور‬ ‫ُتنكرونها‪ .‬قالوا‪ :‬يا رسول ا كيف تأمر من أدرك منا ذلك؟ قال‪:‬‬ ‫تؤدون الحق الذي عليكم وتسألون ا الذي لكم(‪ .‬وروى مسلم‬ ‫قال‪ :‬حدثنا اسحق بن إبراهيم الحنظلي أخبرنا عيسى بن يونس‬ ‫حدثنا الوزاعي عن زيد بن يزيد بن جابر عن زريق بن حيان عن‬ ‫مسلم بن قرطة عن عوف بن مالك عن رسول ا صلى ا‬ ‫عليه وسلم قال‪) :‬خيار أئمتكم الذين ُتحبونهم وُيحبونكم ويصّلون‬ ‫عليكم وُتصّلون عليهم‪ ،‬وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم‬ ‫ويبغضونكم وتلعنونهم ويلعنونكم‪ .‬قيل‪ :‬يا رسول ا أفل‬ ‫ننابذهم بالسيف؟ قال‪ :‬ل‪ ،‬ما أقاموا فيكم الصلة‪ .‬وإذا رأيتم من‬ ‫ولتكم شيئا تكرهونه فاكرهوا عمله ول تنزعوا يدا من طاعة(‪.‬‬ ‫وروى البخاري قال‪ :‬حدثنا اسماعيل حدثني ابن وهب عن عمرو‬ ‫جنادة بن أبي أمية قال‪) :‬دخلنا‬ ‫كير عن ُبسر بن سعيد عن ُ‬ ‫عن ُب َ‬ ‫على عبادة بن الصامت وهو مريض‪ ،‬قلنا‪ :‬أصلحك ا‪ ،‬حدثنا‬ ‫بحديث ينفعك ا به سمعَته من النبي صلى ا عليه وسلم‪.‬‬ ‫قال‪ :‬دعانا النبي صلى ا عليه وسلم فباَيعناه‪ ،‬فقال فيما أخذ‬ ‫علينا أن بايعنا على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا‬ ‫وعسرنا ويسرنا وأثرة علينا وأن ل ننازع المر أهله إل ّ أن تروا‬ ‫كفرا بواحا عندكم من ا فيه برهان(‪ .‬وعن عائشة قالت‪ :‬قال‬ ‫رسول ا صلى ا عليه وسلم‪) :‬ادرءوا الحدود عن المسلمين‬ ‫ما استطعتم‪ ،‬فإن كان له مخرج فخلوا سبيله‪ ،‬فإن المام أن‬ ‫يخطئ في العفو خير من أن يخطئ في العقوبة(‪ .‬فهذه‬ ‫الحاديث صريحة في أنه يجوز على المام أن يخطئ وأن ينسى‬ ‫وأن يعصي‪ .‬ومع ذلك فقد أمر الرسول بلزوم طاعته ما دام‬ ‫يحكم بالسلم ولم يحصل منه كفر بواح وما لم يأمر بمعصية‪.‬‬ ‫فهل بعد إخبار الرسول صلى ا عليه وسلم عن الخلفاء بأنه‬ ‫سيكون منهم ما ينكره المسلمون ومع ذلك يأمر بطاعتهم؟ هل‬ ‫بعد هذا يمكن أن يقال إن الخليفة يجب أن يكون معصوما وأنه‬ ‫ل يجوز عليه ما يجوز على البشر؟‬ ‫‪-82-‬‬


‫هذا من حيث واقع الخلفة ومن حيث عدم اشتراط‬ ‫العصمة‪ ،‬بل عدم جواز اشتراطها‪ .‬إل ّ أن الذين يقولون إنه‬ ‫ُيشترط في الخليفة أن يكون معصوما قد أوردوا أدلة على‬ ‫قولهم‪ ،‬فل بد من عرضها وبيان ما فيها‪ .‬وهذه الدلة تتلخص في‬ ‫أربعة أدلة هي‪:‬‬ ‫‪ -1‬المام يقوم مقام النبي في حفظ الشريعة وتبليغها وتعليمها‬ ‫وتوّلي أمور الرعية وإقامة العدل بينهم والنتصاف للمظلوم‬ ‫وإقامة الحدود والتعزير وتطبيق السلم كله على الوجه‬ ‫الشرعي‪ ،‬فل بد أن يكون معصوما منزها عن القبائح والذنوب‬ ‫كبيرها وصغيرها‪ ،‬عمدا كان صدورها أم سهوا‪ ،‬من بدء حياته‬ ‫إلى آخرها‪.‬‬ ‫‪ -2‬لو جازت المعصية على المام لحتاج إلى إمام معصوم يمنعه‬ ‫من ارتكاب المعصية والوقوع في الخطأ‪ ،‬فإذا كان الثاني يجوز‬ ‫عليه الخطأ وِفعل المعصية احتاج إلى إمام معصوم يمنعه من‬ ‫ذلك‪ ،‬وهكذا فيتسلسل أو ينتهي المر إلى إمام معصوم ل يجوز‬ ‫عليه المعصية والخطأ‪ ،‬ولذلك ل بد أن يكون المام معصوما‪.‬‬ ‫‪ -3‬أن المامة منصب إلهي لحفظ قانون إلهي ُوضع لغاية النقياد‬ ‫إليه والعمل به وليست إمرة من إمارات الناس‪ ،‬ول الشريعة‬ ‫قانونا ودستورا من دساتير الحكومات ليمكن التلعب فيها‪ ،‬فل‬ ‫يقيم رب العباد تعالى شأنه وليا على شرعه إل ّ من يكون‬ ‫معصوما حتى يطمئن إليه الناس‪ ،‬ويأخذوا الحكام منه على أنها‬ ‫أحكام ا تعالى الواقعية‪ ،‬ل يتسرب إليها أي شك يمنع من‬ ‫العمل بها والنقياد إليها‪ ،‬وهذا ل يكون إل ّ مع عصمة الولي‬ ‫القائم على حفظ الشريعة‪ ،‬إذ غير المعصوم ‪-‬لجواز المعصية‬ ‫مأن إليه ول ُيقطع على ما يؤديه إلى الناس‬ ‫والخطأ عليه ‪-‬ل ُيط َ‬ ‫هو حكم ا تعالى في غير المقطوع به عند الناس‪ .‬وليس‬ ‫المقصود إقامته حافظا لبعض الحكام دون بعض‪ ،‬بل لكل ما‬ ‫جاء به النبي صلى ا عليه وآله وسلم‪ .‬فل بد أن يكون عالما‬ ‫بكل الحكام وحافظا لها أجمع ليعمل بها ما دامت الدنيا‪ ،‬فلو‬ ‫نصب من يعرف بعض الحكام أو من يجوز عليه المعصية‬ ‫والخطأ‪ ،‬كان نصبه نقضا للغرض من التكليف وهو النقياد‬ ‫والعمل بكل ما جاءت به الشريعة‪ ،‬المعلوم أنها باقية إلى يوم‬ ‫القيامة‪ ،‬ونقض الغرض محال على الحكيم‪ ،‬فنصب غير‬ ‫‪-83-‬‬


‫المعصوم أو العارف ببعض الحكام محال‪.‬‬ ‫‪ -4‬إن النصوص جاءت دالة على وجوب أن يكون الخليفة‬ ‫معصوما‪ ،‬فهناك آيات من القران جاءت معِلنة ذلك‪ ،‬وهذا واضح‬ ‫في ثلث آيات هي‪:‬‬ ‫ل ينال عهدي الظالمين(‪ ،‬وهذا القول من‬ ‫أ‪ -‬أن ا تعالى يقول ‪) :‬‬ ‫ا دليل وجوب عصمة المام الحافظ للشريعة‪ .‬فإن الية في‬ ‫مُهنّ‬ ‫م ربه بكلمات فأت ّ‬ ‫سورة البقرة‪ ،‬قال تعالى‪) :‬وإذ ابَتلى ابراهي َ‬ ‫قال إني جاعلك للناس إماما قال وِمن ذّرّيتي قال ل ينال عهدي‬ ‫الظالمين(‪ ،‬والكلمات جعُله إماما كما تفيد اليات الواردة بعد هذه‬ ‫ما سمع قوله تعالى‪) :‬إني جاعلك للناس‬ ‫الية‪ ،‬أن إبراهيم ل ّ‬ ‫إماما( ورأى عظمة هذا المنصب الشريف رجا أن يكون لذريته‬ ‫ل ينال عهدي الظالمين(‬ ‫حظ من هذا المنصب قال تعالى ‪) :‬‬ ‫ومفاده أن هذا المنصب ل يعطى لحد ممن َتلّوث أو يتلوث‬ ‫بالظلم‪ ،‬أعم من أن يكون ظالما لنفسه أو لغيره ولو وقتا قصيرا‬ ‫في حياته‪ ،‬بل يعطى لمن لم يفعل أي ظلم في حياته‪.‬‬ ‫ق أن ُيّتبع أم من ل‬ ‫ب‪ -‬قال تعالى‪) :‬أفمن يهدي إلى الحق أح ّ‬ ‫َيِهّدي إل ّ أن ُيهدى(‪ ،‬فإن هذا دليل على وجوب عصمة المام لنه‬ ‫يهدي إلى الحق‪ ،‬ومن يجوز عليه الخطأ ل يهدي إليه وإن صادف‬ ‫أن يصيب الحق‪.‬‬ ‫ج‪ -‬قال تعالى‪) :‬أطيعوا ا وأطيعوا الرسول وأولي المر منكم(‪،‬‬ ‫فهذه الية دليل على عصمة أولي المر أي على عصمة المام‪.‬‬ ‫وذلك لنه تعالى أَمر بإطاعة أولي المر على الطلق من دون‬ ‫تخصيص الطاعة بمورد خاص ول زمان خاص‪ ،‬ومقتضى ذلك‬ ‫أن يكون المطاع هو المعصوم لن غيره قد يأمر بالمعصية‬ ‫ويخطئ‪ ،‬فلو وجبت طاعته والحال هذه مع أنها تحرم لَلزم أن‬ ‫يكون المولى تعالى شأنه قد أمر بالجمع بين الضدين أو‬ ‫النقيضين وهو محال‪ ،‬فل بد أن يكون المطاع هو المعصوم‪.‬‬ ‫وأيضا فإن ا تعالى قرن طاعة أولي المر بطاعة الرسول الذي‬ ‫قرن طاعته بطاعته‪ ،‬وذلك يقتضي التعظيم‪ .‬والمراد بأولي المر‬ ‫هم الئمة المعصومون‪.‬‬ ‫هذه هي أدلة الذين يقولون بأنه ُيشترط أن يكون المام‬ ‫معصوما‪ .‬والجواب على كل منهما يتلخص فيما يلي‪:‬‬ ‫أول ً‪ -‬أن الخليفة يقوم مقام الرسول في الحكم بتطبيق‬ ‫‪-84-‬‬


‫الشريعة ل بتبليغها عن ا‪ ،‬فهو خليفته في الحكم وليس في‬ ‫التبليغ عن ا‪ ،‬وهذا ل يقتضي منه أن يكون معصوما لن وظيفة‬ ‫الحكم ل تقتضي العصمة ل عقل ً ول شرعا‪ .‬نعم قد اشترطت‬ ‫في الخليفة صفات هي‪ :‬السلم‪ ،‬والذكورة‪ ،‬والحرية‪ ،‬والبلوغ‪،‬‬ ‫والعقل‪ ،‬والعدالة‪ .‬وقد اشترطت كل صفة من هذه الصفات بناء‬ ‫على دليل شرعي ورد بها‪ .‬ولكن ليس معنى اشتراطه هذه‬ ‫الصفات أن تكون لمن يكون خليفة‪ ،‬هو أنه معصوم من‬ ‫مخالفتها‪ ،‬بل معناه أن من يتولى هذا المنصب من الناس يجب‬ ‫أن تكون له هذه الصفات حين توليه‪ ،‬وليس معناه أن يكون‬ ‫معصوما من الخروج عنها‪ .‬بل يجوز عليه أن يخرج عنها وحينئذ إما‬ ‫أن يستحق العزل‪ ،‬وإما أن يخرج عن الخلفة‪ .‬واشتراط هذه‬ ‫الصفات في الخليفة كاشتراط العدالة في الشاهد من حيث‬ ‫التصاف بها حتى ُتقبل شهادته‪ ،‬ول يعني اشتراطها فيه أن يكون‬ ‫معصوما عن مخالفتها‪ .‬وعليه فل يكون قيام الخليفة مقام النبي‬ ‫في الحكم دليل ً على أنه يجب أن يكون معصوما‪ .‬وأّما تبليغ‬ ‫الشريعة من ِقَبل المسلمين فهو ل يعني تبليغها عن ا‪ ،‬وإّنما‬ ‫يعني القيام بما أوجبه ا على المسلمين من حمل الدعوة إلى‬ ‫الناس وتعليمهم أفكار السلم وأحكامه‪ ،‬ول يعني غير ذلك‬ ‫مطلقا‪ ،‬فهو ليس تبليغا عن ا‪ ،‬بل هو تكليف من التكاليف التي‬ ‫جاء بها الرسول عليه السلم‪ ،‬وهو غير تبليغ الرسول عن ا‪،‬‬ ‫ولذلك ل يقتضي العصمة ول حاجة فيه لها‪ ،‬والقيام به كالقيام‬ ‫بسائر التكاليف الشرعية‪ ،‬وهو ليس واجبا على الخليفة بوصفه‬ ‫خليفة‪ ،‬بل هو واجب على كل مسلم يعلم الشريعة‪ ،‬والخليفة‬ ‫مأمور بتبليغ الشريعة بوصفه مسلما‪ ،‬وهذا باعتباره عالما إن كان‬ ‫كذلك‪ ،‬لن التبليغ فرض على المسلم العالم بالشريعة فيما يعلمه‬ ‫وليست العصمة فرضا على المبّلغين ول شرطا فيهم‪ .‬أّما حمل‬ ‫الدعوة السلمية الواجب على الخليفة بوصفه خليفة فإنه واجب‬ ‫عليه بوصفه حاكما بيده السلطان‪ ،‬وواجب عليه أن يحملها‬ ‫بطريقة معينة وهي الجهاد‪ ،‬وهذا ل ُتشترط فيه العصمة‪ ،‬بل ل‬ ‫محل لشتراطها‪.‬‬ ‫ثانيا‪ -‬إن الخليفة إذا عصى ل يحتاج إلى إمام يمنعه من‬ ‫ارتكاب المعصية‪ ،‬وإّنما يحتاج إلى الّمة تحاسبه فتغّير عليه أو‬ ‫تغّيره‪ ،‬وقد بّين الرسول صلى ا عليه وآله وسلم أن الّمة‬ ‫‪-85-‬‬


‫كر عليه وجعل كل من يرضى عنه‬ ‫تحاسبه وطلب منها أن ُتن ِ‬ ‫ويتابعه على معصيته مسؤول ً أمام ا‪ .‬روى مسلم قال‪ :‬حدثني‬ ‫معي ومحمد بن بشار جميعا عن معاذ )واللفظ‬ ‫أبو غسان المس َ‬ ‫لبي غسان( حدثنا معاذ )وهو ابن هشام الدستوائي( حدثني‬ ‫أبي عن قتادة حدثنا الحسن عن ضبة بن محض العنزي عن أم‬ ‫سلمة زوج النبي صلى ا عليه وسلم عن النبي صلى ا عليه‬ ‫مل عليكم أمراء فتعرفون وتنكرون‪ ،‬فمن‬ ‫وسلم قال‪) :‬إنه يستع َ‬ ‫كره فقد برئ‪ ،‬ومن أنكر فقد سلم‪ ،‬ولكن من رضي وتابع‪ .‬قالوا‪:‬‬ ‫يا رسول ا‪ ،‬أل نقاتلهم؟ قال‪ :‬ل‪ ،‬ما صلوا(‪ .‬وبهذا بين الشرع‬ ‫الطريقة التي ُيمنع فيها الخليفة من ارتكاب المعصية وهي ليست‬ ‫وجود إمام يمنعه بل هي الّمة‪ .‬والذي يقول إن الخليفة يحتاج‬ ‫إلى خليفة يمنعه من ارتكاب المعصية ل يدرك ما هو الحكم ول‬ ‫يتصور تصورا‪ ،‬لن الخليفة ل يمنع خليفة آخر وإّنما يقاتله على‬ ‫الحكم أو يكون تابعا له فيكون واليا ل خليفة فيقاتله على التمرد‪،‬‬ ‫فكيف يتصور أن يمنع خليفة خليفة آخر من ارتكاب المعصية؟‬ ‫ثالثا‪ -‬إن المامة ليست منصبا إلهيا وإّنما هي منصب بشري‪،‬‬ ‫وهي ليست موجودة لحفظ قانون إلهي وإّنما هي موجودة‬ ‫لتطبيق الشريعة التي أنزلها ا على سيدنا محمد عليه السلم‪.‬‬ ‫أّما حفظ الشريعة فإن ا قد تكفل بحفظها حين تكفل بحفظ‬ ‫القرآن‪ ،‬قال تعالى‪) :‬إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون(‪ .‬وليس‬ ‫المقصود من إقامة الخليفة إقامته حافظا لكل ما جاء به النبي‬ ‫صلى ا عليه وآله وسلم حتى يقال إنه يجب أن يكون عالما‬ ‫بكل الحكام حافظا لها أجمع‪ ،‬وإّنما المقصود من إقامته هو‬ ‫إقامة أحكام الكتاب والسّنة؛ أي تطبيق السلم وحمل دعوته إلى‬ ‫العالم‪ ،‬وهذا ل يقتضي منه أن يكون عالما بكل الحكام حافظا‬ ‫لها أجمع‪ ،‬ولذلك ل يقتضي أن يكون معصوما‪ ،‬وبالتالي ل يلزم‬ ‫من نصبه نقض الغرض الذي نصب من أجله‪ ،‬وأّما اطمئنان‬ ‫الناس إليه حتى يأخذوا الحكام منه على أنها أحكام ا تعالى‬ ‫الواقعية ل يتسرب إليها أي شك يمنع من العمل بها والنقياد إليها‬ ‫فإن هذا ل يأتي من كون الخليفة معصوما أو غير معصوم‪ ،‬وإّنما‬ ‫يأتي من دليل الحكم نفسه‪ ،‬فإن كان دليل ً شرعيا واسُتنبط‬ ‫استنباطا شرعيا اطمأن الناس إلى أن هذا الحكم حكم شرعي‪،‬‬ ‫ول يتسرب إليهم في هذه الحال أي شك يمنع من العمل به‬ ‫‪-86-‬‬


‫والنقياد له‪ ،‬بغض النظر عن الخليفة من هو‪ ،‬حتى ولو خالف‬ ‫الحكم استنباطهم هم‪ .‬لن اختلف الستنباط بين المجتهدين ل‬ ‫يجعل الحكم شرعيا عند مجتهد وغير شرعي عند آخر‪ ،‬بل هو‬ ‫حكم شرعي عند جميع المسلمين ما دام هنالك شبهة دليل من‬ ‫الدلة الشرعية لدى المستنبط للحكم‪ ،‬ويمكن حسب المعارف‬ ‫اللغوية والشرعية أن ُيستنبط مثل هذا الستنباط‪ .‬وأما كون غير‬ ‫المعصوم لجواز المعصية والخطأ عليه ل ُيطمأن إليه ول ُيقطع‬ ‫على أن ما يؤديه هو حكم ا تعالى‪ ،‬فإن المسألة في ذلك إنما‬ ‫هي حكم وحاكم‪ .‬حكم يحكم به ويؤدى‪ ،‬وحاكم يحكم ويؤدي‪.‬‬ ‫والطمئنان المطلوب إنما هو للحكم من حيث كونه حكم ا أم‬ ‫ل‪ ،‬وليس للحاكم من حيث كونه أدى حكم ا وحكم به أم ل‪.‬‬ ‫فالعبرة إنما هي في الحكم الذي ُيحكم به ويؤخذ من حيث كونه‬ ‫حكما إسلميا أو حكما غير إسلمي‪ ،‬وليست في الشخص الذي‬ ‫يعطي من حيث كونه معصوما أو غير معصوم‪ .‬والذي يجعل‬ ‫الناس يثقون في الحكم وثوقا يمنع تسرب الشك الذي يمنعهم‬ ‫من العمل به والنقياد له إنما هو اعتبارهم للحكم نفسه من‬ ‫حيث كونه شرعيا أو غير شرعي وليس كون الخليفة الذي‬ ‫يأخذون الحكم منه معصوما أو غير معصوم‪.‬‬ ‫على أن منصب الخلفة ل يقيم فيه رب العالمين خليفة عن‬ ‫رسوله ول يقيم فيه الرسول خليفة عنه‪ ،‬وإنما يقيمه المسلمون‬ ‫خليفة عليهم ويبايعونه هم على كتاب ا وسنة رسوله‪ .‬والدليل‬ ‫على ذلك أحاديث البيعة‪ ،‬وورودها بنصوص عامة‪ ،‬وإسنادها إلى‬ ‫مطلق إمام ل إلى إمام معين‪ .‬كما أن الدليل على ذلك المسؤولية‬ ‫العامة التي على الخليفة في علقته بالمة‪ ،‬وعليه فإن منصب‬ ‫الخلفة ل يقتضي العصمة ول بوجه من الوجوه‪.‬‬ ‫رابعا‪ -‬أّما النصوص التي وردت دليل ً على اشتراط العصمة‬ ‫فإنه ل يوجد فيها ول نص واحد يدل على العصمة‪ .‬أّما النص‬ ‫الول وهو آية ل) ينال عهدي الظالمين(‪ ،‬فإن كلمة إمام فيها ل‬ ‫تعني الخلفة‪ ،‬ول تعني الحكم‪ ،‬وقد وردت كلمة إمام في القرآن‬ ‫الكريم في أكثر من آية‪ ،‬قال تعالى‪) :‬وِمن قبله كتاب موسى‬ ‫إماما ورحمة(‪ ،‬وقال‪) :‬والذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا‬ ‫وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماما(‪ ،‬فكلمة إمام في اليتين‬ ‫معناها القدوة‪ .‬قال المام البخاري‪" :‬وقوله تعالى‪) :‬واجعلنا‬ ‫‪-87-‬‬


‫للمتقين إماما( قال‪ :‬أئمة نقتدي بمن قبلنا ويقتدي بنا َمن بعدنا"‪.‬‬ ‫م ربه بكلمات‬ ‫وكلمة إمام في قوله تعالى‪) :‬وإذ ابتلى إبراهي َ‬ ‫فأتمهن قال إني جاعلك للناس إماما قال ومن ذريتي قال ل ينال‬ ‫عهدي الظالمين(‪ ،‬فإن المراد منها النبوة والقدوة‪ ،‬لن اليات التي‬ ‫بعدها تتحدث عن الكعبة وعن قوم إسماعيل ثم عن إعطاء‬ ‫النبوة لبراهيم فيكون معناها جعلناك إماما ُيقتدى بك ونبيا يتبعك‬ ‫الناس‪ .‬ول يمكن أن تعني كلمة إمام هنا في هذه الية الخلفة‬ ‫أو الحكم‪ ،‬خاصة أن إبراهيم لم يتول الحكم‪ ،‬ولم يكن حاكما‪،‬‬ ‫وإنما كان نبيا ورسول ً‪ .‬فقال ا تعالى له إن هذا المنصب وهو‬ ‫القدوة والنبوة ل يكون للظالمين حين طلب منه أن يجعل ما‬ ‫جعله له لذريته‪ .‬فل دللة في الية على عصمة الخليفة‪ .‬وفوق‬ ‫ذلك فإن كلمة الظالمين يكون مفهوم المخالفة لها العادلين‪،‬‬ ‫وليس المعصومين‪ ،‬فإن غير الظالمين ل يعني المعصومين وإنما‬ ‫يعني المتصفين بعدم الظلم وهو العدل‪.‬‬ ‫وأما النص الثاني وهو آية‪) :‬أفمن يهدي إلى الحق( فإن‬ ‫المراد منها وا أعلم هو‪ :‬هل يكون متبعا للهداية أحق بالتباع‬ ‫ويعني الرسول‪ ،‬أم الذي يكون ضال ً ول يهتدي إل ّ أن يهديه‬ ‫غيره؟ والموضوع كله في الهداية واتباع الهادي‪ ،‬ول علقة له‬ ‫بالحكم والخلفة‪ .‬والمام يحكم الناس‪ ،‬وعمله هو الحكم وليس‬ ‫الهداية‪ ،‬فهو يعاقب الضالين والعصاه‪ ،‬ويقاتل الكفار‪ .‬ول تطلق‬ ‫كلمة الهادي هنا إلى على الرسول‪ .‬فهذا المعنى ل ينطبق على‬ ‫الخليفة ول علقة بين هذه الية وبين عصمة الخليفة‪ .‬وهل‬ ‫الحكم هداية أم هو تطبيق الشريعة؟‬ ‫وأّما النص الثالث وهو آية‪) :‬أطيعوا ا وأطيعوا الرسول‬ ‫وأولي المر منكم( فإنها أمٌر بطاعة أولي المر‪ ،‬واقترانها بطاعة‬ ‫ا وطاعة الرسول‪ ،‬إّنما هو للدللة على أن حكمها كحكم‬ ‫طاعته وطاعة الرسول وليس لشيء آخر‪ .‬وقد وردت بالفعل‬ ‫خصصت بآيات‬ ‫عامة من دون تخصيص في نفس الية ولكنها ُ‬ ‫أخرى وأحاديث متعددة‪ .‬فقد خصصتها تلك اليات والحاديث‬ ‫المتعلقة بالطاعة في غير المعصية وفي غير الكفر‪ ،‬فأمرت بعدم‬ ‫الطاعة في المعصية‪ ،‬ولم تكتف بذلك بل أمرت أيضا بالنكار‬ ‫على المام‪ ،‬وأمرت بعدم الطاعة في الكفر ولم تكتف بذلك بل‬ ‫أمرت بقتال المام‪ .‬واليات والحاديث المخصصة صريحة في‬ ‫‪-88-‬‬


‫طع من أغفلنا قلبه عن ِذكرنا(‪) ،‬فل تطع‬ ‫ذلك‪ ،‬قال تعالى‪) :‬ول ُت ِ‬ ‫لف َمهين(‪) ،‬ول‬ ‫طع كل ح ّ‬ ‫طع المكذبين(‪) ،‬ول ُت ِ‬ ‫الكافرين(‪) ،‬فل ُت ِ‬ ‫طع منهم آثما أو كفورا(‪ ،‬وخطاب الرسول هو خطاب لّمته ما لم‬ ‫ُت ِ‬ ‫َيِرد دليل على أنه خاص به ومن خصوصياته‪ ،‬وهنا لم َيِرد دليل‬ ‫على أنه خاص به فيكون خطابا لّمته‪ .‬وروى البخاري عن نافع‬ ‫عن عبدا رضي ا عنه عن النبي صلى ا عليه وسلم قال‪:‬‬ ‫ب وَكِره ما لم يؤمر‬ ‫)السمع والطاعة على المرء المسلم فيما أح ّ‬ ‫بمعصية‪ ،‬فإذا ُأمر بمعصية فل سمع ول طاعة(‪ ،‬وروى مسلم عن‬ ‫ابن عمر عن النبي صلى ا عليه وسلم أنه قال‪) :‬على المرء‬ ‫ب وَكِره إل ّ أن يؤمر بمعصية‪ ،‬فإن ُأمر‬ ‫ح ّ‬ ‫السمع والطاعة فيما أ َ‬ ‫بمعصية فل سمع ول طاعة(‪ ،‬وقال عليه الصلة والسلم في‬ ‫شأن طاعة الخلفاء والمراء )قالوا‪ :‬أفل نقاتلهم؟ قال‪ :‬ل‪ ،‬ما‬ ‫صلوا(‪) ،‬قيل‪ :‬يا رسول ا أفل ننابذهم بالسيف؟ فقال‪ :‬ل‪ ،‬ما‬ ‫أقاموا فيكم الصلة(‪) ،‬إل ّ أن تروا الكفر بواحا(‪) ،‬فمن َكِره فقد‬ ‫ي وتابع(‪ ،‬فهذه اليات‬ ‫ض َ‬ ‫سِلم ولكن من َر ِ‬ ‫َبِرئ ومن أنكر فقد َ‬ ‫والحاديث تخصص طاعة الخليفة في غير المعصية وغير الكفر‪،‬‬ ‫فل يأتي حينئذ القول بأن غير المعصوم قد يأمر بالمعصية‬ ‫ويخطئ فلو وجبت طاعته للزم أن يكون ا قد أمر بالجمع بين‬ ‫الضدين بالمر بطاعة الخليفة وبتحريم المعصية ‪.‬ل يأتي هذا‬ ‫القول لنه ل يوجد جمع بين الضدين‪ ،‬فهو يأمر بالطاعة في غير‬ ‫المعصية والكفر‪ ،‬ويأمر بعدم الطاعة في المعصية والكفر ويأمر‬ ‫بتحريم المعصية‪ .‬فل يوجد تضاد أو تناقض بين أوامره تعالى في‬ ‫هذا الموضوع‪ .‬وبذا يتبين أن هذه الية ل تصلح دليل ً على‬ ‫اشتراط العصمة فيسقط الستدلل بها‪.‬‬ ‫هذه هي أدلة القائلين بالعصمة وكلها ساقطة عن مرتبة‬ ‫الستدلل ول تصلح حججا‪ .‬ومن هذا كله يتبين أنه ل ُيشترط في‬ ‫الخليفة أن يكون معصوما‪ ،‬بل ل يجوز أن ُيشترط ذلك‪ .‬وأن‬ ‫الخلفة منصب بشري وليس منصبا إلهيا‪ .‬وبذلك تكون الدولة‬ ‫السلمية دولة بشرية وليست دولة إلهية‪.‬‬

‫عزل الخليفة‬ ‫ينعزل الخليفة إذا تغير حاله تغيرا ُيخرجه عن الخلفة‪.‬‬ ‫‪-89-‬‬


‫ويصبح الخليفة واجب العزل إذا تغيرت حاله تغيرا ل يخرجه عن‬ ‫الخلفة ولكن ل يجوز له شرعا الستمرار فيها‪ .‬والفرق بين الحال‬ ‫التي ُتخرج الخليفة عن الخلفة‪ ،‬والحال التي يصبح فيها واجب‬ ‫العزل‪ ،‬هو أن الحالة الولى وهي التي ُتخرجه عن الخلفة ل‬ ‫تجب فيها طاعته بمجرد حصول الحالة له‪ ،‬وأّما الحالة الثانية‬ ‫وهي التي يصبح فيها واجب العزل فإن طاعته تظل واجبة حتى‬ ‫يتم عزله بالفعل‪ .‬والذي يتغير به حاله فُيخرجه عن الخلفة ثلثة‬ ‫أمور هي‪:‬‬ ‫أحدها‪ -‬إذا ارتّد عن السلم وأصر على الرتداد‪.‬‬ ‫ن جنونا ُمطِبقا ل يصحو منه‪.‬‬ ‫ج ّ‬ ‫ثانيها‪ -‬إذا ُ‬ ‫ثالثها‪ -‬أن يصير مأسورا في يد عدو قاهر ل يقدر على‬ ‫الخلص منه وكان غير مأمول الفكاك من السر‪.‬‬ ‫ففي هذه الحوال الثلثة يخرج عن الخلفة وينعزل في‬ ‫الحال ولو لم ُيحكم بعزله‪ ،‬فل تجب طاعته ول تنفذ أوامره من‬ ‫ِقبل كل من ثبت لديه وجود واحد من هذه الصفات الثلثة في‬ ‫الخليفة‪ .‬إل ّ أنه يجب إثبات أنه حصلت له هذه الحوال‪ ،‬وأن يكون‬ ‫إثبات ذلك أمام محكمة المظالم فتحكم بأنه خرج عن الخلفة‬ ‫وتحكم بعزله حتى يعقد المسلمون الخلفة لغيره‪ .‬أّما الذي يتغير‬ ‫به حاله تغيرا ل ُيخرجه عن الخلفة‪ ،‬ولكنه ل يجوز له فيها‬ ‫الستمرار في الخلفة فخمسة أمور هي‪:‬‬ ‫أحدها‪ -‬أن ُتجرح عدالته بأن يصبح ظاهر الفسق‪.‬‬ ‫ثانيها‪ -‬أن يتحول إلى أنثى أو خنثى مشكل‪.‬‬ ‫ثالثها‪ -‬أن يجن جنونا غير مطِبق بأن يصحو أحيانا ويجن‬ ‫أحيانا‪ .‬وفي هذه الحال ل يجوز أن يقام عليه وصي أو يوجد له‬ ‫وكيل لن عقد الخلفة وقع على شخصه فل يصح أن يقوم غيره‬ ‫مقامه‪.‬‬ ‫رابعها‪ -‬العجز عن القيام بأعباء الخلفة لي سبب من‬ ‫السباب‪ ،‬سواء أكان عن نقص أعضاء جسمه أو كان عن مرض‬ ‫عضال يمنعه من القيام بالعمل ول ُيرجى ُبرؤه منه‪ .‬فالعبرة‬ ‫بعجزه عن القيام بالعمل‪ ،‬وذلك أنه بعجزه عن القيام بالعمل‬ ‫الذي ُنصب له خليفة تعطلت أمور الدين ومصالح المسلمين‪ .‬وهذا‬ ‫كر تجب إزالته ول يزول إل ّ بعزله حتى يتأتى إقامة خليفة غيره‪،‬‬ ‫من َ‬ ‫فصار عزله في هذه الحال واجبا‪.‬‬ ‫‪-90-‬‬


‫خامسها‪ -‬القهر الذي يجعله عاجزا عن التصرف بمصالح‬ ‫المسلمين برأيه وفق الشرع‪ .‬فإذا قهره قاهر إلى حد أصبح فيه‬ ‫عاجزا عن رعاية مصالح المسلمين برأيه وحده حسب أحكام‬ ‫الشرع فإنه يعتبر عاجزا حكما عن القيام بأعباء الخلفة فيجب‬ ‫عزله‪ .‬وهذا ُيتصور واقعه في حالتين‪:‬‬ ‫الحالة الولى‪ :‬أن يتسلط عليه فرد أو أفراد من حاشيته‬ ‫فيستبّدون بتنفيذ المور ويقهرونه ويسيرون برأيهم بحيث يصبح‬ ‫عاجزا عن مخالفتهم مجبورا على السير برأيهم‪ .‬ففي هذه الحال‬ ‫ُينظر‪ :‬فإن كان مأمول الخلص ِمن تسلطهم خلل مدة قصيرة‬ ‫ُيمهل هذه المدة القصيرة لبعادهم والتخلص منهم‪ ،‬فإن فعل‬ ‫زال المانع وذهب العجز‪ ،‬وإل ّ فقد وجب عزله‪.‬‬ ‫الحالة الثانية‪ :‬أن يصير في حال يشبه فيه المأسور‪ ،‬وذلك‬ ‫بوقوعه تحت تسلط عدو وتحت نفوذه يسّيره كما يشاء وُيفِقده‬ ‫إرادته في تسيير مصالح المسلمين‪ .‬ففي هذه الحال ُينظر‪ :‬فإن‬ ‫كان مأمول الِفكاك من الوقوع تحت التسلط خلل مدة قصيرة‬ ‫ُيمهل هذه المدة القصيرة‪ ،‬فإن أمكن ِفكاكه وتمكن من الخلص‬ ‫من تسلط العدو زال المانع وذهب العجز‪ ،‬وإل ّ فقد وجب عزله‪.‬‬ ‫ففي هذه الحوال الخمسة يجب عزل الخليفة عند حصول‬ ‫أية حالة منها‪ .‬إل ّ أن حصولها يحتاج إلى إثبات أنها حصلت‪ ،‬وإثباته‬ ‫يكون أمام محكمة المظالم فَتحكم بفسخ عقد الخلفة وعزل‬ ‫الخليفة‪ ،‬فُيعزل وَيعقد المسلمون الخلفة لغيره خلل ثلثة أيام‪.‬‬

‫المارة‬ ‫المارة والرئاسة والقيادة بمعنى واحد‪ ،‬والرئيس والقائد‬ ‫والمير بمعنى واحد‪ .‬إل ّ أن الخلفة وإن كانت رئاسة للمسلمين‬ ‫م والخلفة أخصّ‬ ‫جميعا في الدنيا فإنها ليست إمارة‪ .‬فالمارة أع ّ‬ ‫وكلهما رئاسة‪ .‬فكلمة خلفة خاصة بالمنصب المعروف‪ ،‬وكلمة‬ ‫إمارة عامة في كل أمير‪ .‬والمسلمون مأمورون بنصب أمير عليهم‬ ‫كما هم مأمورون بنصب خليفة‪ ،‬لن المارة من أنواع الحكم‪،‬‬ ‫فهي ولية أمر فيما ُوّلي به‪ .‬والفرق بينها وبين الخلفة أن‬ ‫الخلفة عامة على جميع المسلمين في الدنيا‪ ،‬وهذه خاصة فيمن‬ ‫وّلوه وفيما وّلوه به‪ ،‬ول تتعدى من وّلوه كما ل تتعدى ما ُوّلي به‪.‬‬ ‫‪-91-‬‬


‫والرئاسة والقيادة والمارة حكم شرعي وليست أسلوبا‪،‬‬ ‫فالمسلمون مقّيدون بها بحدود ما أمر ا به وما جاء في الشرع‪.‬‬ ‫وإقامة كل جماعة من المسلمين تقوم بأمر مشترك بينها‬ ‫ض على هذه الجماعة‪ .‬أّما إذا كان المر خاصا‬ ‫أميرا عليها‪ ،‬فر ٌ‬ ‫بكل واحد وهو غير أمر الخر‪ ،‬فل ُيطلب منها في هذه الحال أن‬ ‫تقيم أميرا عليها‪ .‬فالمارة إّنما تقوم على الجماعة في المر‬ ‫المشترك بينها حتى يكون له السلطان وتكون له كلمة الفصل‪.‬‬ ‫فواقع وجود أمر مشترك بين أي جماعة يحّتم عليهم إقامة آمر‬ ‫عليهم‪ ،‬وإل ّ فإن هذا المر سيضطرب بينهم ويحصل الفساد فيه‪.‬‬ ‫أّما كون إقامة رئيس للجماعة التي تقوم بأمر مشترك بينها فرضا‬ ‫على المسلمين فِلما روى عبدا بن عمرو أن النبي صلى ا‬ ‫ل يحل لثلثة يكونون بَفلة من الرض إل ّ‬ ‫عليه وسلم قال ‪) :‬‬ ‫أّمروا عليهم أحدهم(‪ ،‬وِلما ُروي عن أبي سعيد أن رسول ا‬ ‫صلى ا عليه وسلم قال‪) :‬إذا خرج ثلثة في سفر فلُيؤّمروا‬ ‫عليهم أحدهم(‪ ،‬وِلما أخرج البزار بإسناد صحيح من حديث عمر‬ ‫بن الخطاب بلفظ )إذا كنتم ثلثة في سفر فأّمروا أحدكم ذاك أمير‬ ‫أّمره رسول ا صلى ا عليه وسلم(‪ ،‬وِلما أخرج الطبراني من‬ ‫حديث ابن مسعود بإسناد صحيح )إذا كانوا ثلثة في سفر‬ ‫فلُيؤّمروا أحدهم(‪ ،‬ولحديث أبي هريرة )إذا خرج ثلثة في سفر‬ ‫فلُيؤّمروا أحدهم(‪ .‬فهذه الحاديث صريحة في أنه ُيشَرع لكل‬ ‫عدد بلغ ثلثة فصاعدا أن يؤّمروا عليهم أحدهم‪ .‬إل ّ أن قوله في‬ ‫الحاديث )في فلة( )في سفر( يدل على أنهم يكونون مجتمعين‬ ‫على أمر مشترك بينهم في فلة‪ ،‬أو سائرين في سفر‪ ،‬أو ما‬ ‫شاكل ذلك من العمال المشتَركة‪ ،‬فيدخل في ذلك الحزب أو‬ ‫سِرّية والجيش والحي والمدينة والُقطر وغير ذلك‪.‬‬ ‫الجمعية وال َ‬ ‫شرع هذا لثلثة يكونون في فلة من الرض أو يسافرون‬ ‫وإذا ُ‬ ‫فشرعّيته لعدد أكبر أو لعمل أعظم يكون أْولى وأحرى‪.‬‬ ‫فالحاديث تكون عامة في الفلة وفي السفر وفي غيرهما مما‬ ‫هو أكبر وأعظم منهما‪ ،‬لن مفهوم الموافقة يدل على ذلك‪.‬‬ ‫فالقاعدة الصولية أن فحوى الخطاب معمول به‪ .‬فإذا أمر بشيء‬ ‫أو نهي عن شيء فإن المفهوم من المأمور به ومن المنهي عنه‬ ‫يدخل مع المنطوق فيما أمر به أو نهي عنه ول يختص بالمنطوق‪،‬‬ ‫يعني أنه إذا أمر بشيء أو نهي عن شيء فإن المر والنهي‬ ‫‪-92-‬‬


‫يشمل ما هو أكثر منه وأكبر بالولوية‪ .‬ومثاله‪ :‬تحريم شتم‬ ‫الوالدين وضربهما من دللة قوله تعالى‪) :‬ول َتُقل لهما أ ُفّ(‪،‬‬ ‫وتحريم إتلف أموال اليتامى من دللة قوله تعالى‪) :‬إن الذين‬ ‫يأكلون أموال اليتامى ظلما(‪ ،‬وتأدية ما دون القنطار وعدم تأدية‬ ‫ما فوق الدينار من قوله تعالى‪) :‬ومن أهل الكتاب َمن إن تأمنه‬ ‫بقنطار يؤّده إليك ومنهم من إن تأمنه بدينار ل يؤّده إليك(‪ .‬وكذلك‬ ‫فإن الرسول أمر بتأمير واحد في السفر والفلة‪ ،‬فيكون هذ المر‬ ‫منسحبا على ما هو أخطر من السفر وأهم من الوجود في الفلة‬ ‫وشامل ً له من باب أْولى‪ .‬إذ كل ما يدل عليه فحوى الخطاب‬ ‫داخل في المر‪ .‬ويؤيد مفهوم الموافقة هذا المبّين في الحاديث‬ ‫السابقة عمل الرسول صلى ا عليه وسلم‪ ،‬فإنه أّمر فيما هو‬ ‫أخطر من السفر‪ ،‬فقد أّمر في الحج‪ ،‬وأّمر في الغزو‪ ،‬وأّمر في‬ ‫الولية‪.‬‬ ‫هذا من ناحية وجوب إقامة أمير على كل جماعة في مكان‬ ‫أو عمل مشتَرك بينهم‪ .‬أّما هذا المير‪ ،‬فالشرع يحتم أن يكون‬ ‫واحدا‪ ،‬ول يجوز أن يكون أكثر من واحد‪ .‬فالسلم ل يعرف‬ ‫القيادة الجماعية ول يعرف الرئاسة الجماعية‪ .‬وإّنما القيادة في‬ ‫السلم فردية محضة فيجب أن يكون الرئيس أو المير أو القائد‬ ‫واحدا‪ ،‬ول يجوز أن يكون أكثر من واحد‪ .‬والدليل على ذلك ظاهر‬ ‫في نص الحاديث السابقة‪ ،‬وفي فعل الرسول صلى ا عليه‬ ‫وسلم‪ .‬فالحاديث كلها تقول‪) :‬أحدهم(‪) ،‬أحدكم(‪ .‬وكلمة أحد‬ ‫هي كلمة واحد‪ ،‬وهي تدل على العدد‪ ،‬أي واحدا ل أكثر‪ .‬وُيفهم‬ ‫ذلك من مفهوم المخالفة‪ .‬ومفهوم المخالفة في العدد والصفة‬ ‫طل مفهوم المخالفة إل ّ في‬ ‫والغاية ُيعمل به بدون نص‪ ،‬ول ُيع ّ‬ ‫حالة واحدة وهي إذا ورد نص يلغيه‪ ،‬مثل قوله تعالى‪) :‬ول‬ ‫صنا(‪ ،‬فإن مفهوم‬ ‫ُتكرهوا فتياتكم على الِبغاء إن أردن تح ّ‬ ‫المخالفة أنه إن لم ُيِردن تحصنا ُيكَرهن‪ .‬ولكن مفهوم المخالفة‬ ‫هذا ملغى بقوله تعالى‪) :‬ول تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء‬ ‫سبيل ً(‪ .‬وإذا لم َيِرد نص يلغي مفهوم المخالفة فإنه حينئذ ُيعمل‬ ‫به‪ ،‬كقوله تعالى‪) :‬الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة‬ ‫جلدة(‪ ،‬وكقوله صلى ا عليه وسلم‪) :‬إذا بلغ الماء ُقّلتين لم‬ ‫خَبثا(‪ ،‬فالحكم في هذين النصين جرى تقييده بعدد‬ ‫َيحمل َ‬ ‫مخصوص‪ ،‬وتقييده هذا يدل على أن ما عدا ذلك العدد بخلفه‪.‬‬ ‫‪-93-‬‬


‫فإنه يدل على عدم جواز ما زاد على المائة‪ ،‬وعلى أن ما زاد على‬ ‫خَبثا‪ .‬وعلى ذلك فإن قول الرسول صلى ا عليه‬ ‫القلتين ل يحمل َ‬ ‫وسلم‪) :‬فليؤّمروا أحدهم(‪) ،‬إل ّ أّمروا أحدهم(‪) ،‬فأّمروا أحدكم(‬ ‫يدل مفهوم المخالفة في هذه المخالفة بأنه ل يجوز أن يؤّمر أكثر‬ ‫من واحد‪ .‬ومن هنا كانت المارة لواحد ول يجوز أن تكون لكثر‬ ‫من واحد مطلقا بنص الحاديث منطوقا ومفهوما‪ .‬ويؤيد ذلك‬ ‫عمل الرسول صلى ا عليه وسلم‪ ،‬فإنه في جميع الحوادث التي‬ ‫أّمر فيها كان يؤّمر واحدا ليس غير ولم يؤّمر أكثر من واحد في‬ ‫مكان واحد مطلقا‪.‬‬ ‫وأّما الحديث المروي عن الرسول صلى ا عليه وسلم أنه‬ ‫سرا‬ ‫سرا ول تع ّ‬ ‫أرسل معاذا وأبا موسى إلى اليمن وقال لهما‪) :‬ي ّ‬ ‫شرا ول تنّفرا وتطاوعا(‪ ،‬فإنه ل يدل على أنه أّمر اثنين على‬ ‫وب ّ‬ ‫مكان واحد‪ .‬فإن الحديث ورد في البخاري بنص )حّدثنا مسلم‬ ‫حّدثنا شعبة حّدثنا سعيد بن أبي بردة عن أبيه قال‪ :‬بعث النبي‬ ‫صلى ا عليه وسلم جده أبا موسى ومعاذا إلى اليمن وقال‪:‬‬ ‫شرا ول تنّفرا وتطاوعا(‪ ،‬وورد الحديث نفسه‬ ‫سرا وب ّ‬ ‫سرا ول تع ّ‬ ‫ي ّ‬ ‫في باب المغازي أيضا بنص )حّدثنا موسى حّدثنا أبو عوانة حّدثنا‬ ‫عبدالملك عن أبي بردة قال‪ :‬بعث رسول ا صلى ا عليه‬ ‫وسلم أبا موسى ومعاذا إلى اليمن قال‪ :‬وبعث كل واحد منهما‬ ‫سرا‬ ‫سرا ول تع ّ‬ ‫على مخلف‪ ،‬قال‪ :‬واليمن مخلفان‪ ،‬ثم قال‪ :‬ي ّ‬ ‫شرا ول تنّفرا‪ .‬فانطلق كل واحد منهما إلى عمله(‪ .‬فهذه الرواية‬ ‫وب ّ‬ ‫تفسر الرواية الخرى بأنه أرسل الثنين إلى اليمن وجعل كل‬ ‫واحد منهما على جهة منها‪ ،‬فلم يكونا أميرين على مكان واحد‪،‬‬ ‫وإّنما كان كل واحد منهما أميرا على مكان غير المكان الذي كان‬ ‫الخر أميرا عليه‪ .‬وعلى ذلك فل يجوز أن يكون للمر الواحد‬ ‫رئيسان اثنان ول للمكان الواحد رئيسان اثنان‪ ،‬بل يجب أن يكون‬ ‫الرئيس واحدا فقط ويحرم أن يكون أكثر من ذلك‪.‬‬ ‫إل ّ أنه ينبغي أن ُيعلم أن الرئاسة والمارة والقيادة في‬ ‫السلم ليست زعامة‪ ،‬لن الزعامات تقتضي اتباع الزعيم‪ .‬أّما‬ ‫الرئاسة في السلم فهي إّنما تجعل للرئيس حق رعاية الشؤون‬ ‫والسلطان في المر الذي كانت رئاسته له‪ ,‬والتنفيذ لكل ما دخل‬ ‫تحت رئاسته حسب الصلحيات التي ُنصب لها أميرا‪ ،‬في حدود ما‬ ‫أعطاه الشرع بالنسبة للمر الذي ُنصب رئيسا عليه‪.‬‬ ‫‪-94-‬‬


‫أّما ما تفشى في بلد المسلمين من إقامة رئاسة جماعية‬ ‫باسم مجلس أو لجنة أو هيئة إدارية أو ما شاكل ذلك‪ ،‬تكون لها‬ ‫صلحيات الرئاسة‪ ،‬فذلك يخالف الشرع إذا جعلت الرئاسة لهذه‬ ‫الهيئة أو المجلس أو اللجنة‪ ،‬لنها تكون قد جعلت المارة لجماعة‪،‬‬ ‫وذلك حرام بنص الحاديث‪ .‬أّما إذا كانت اللجنة أو المجلس أو‬ ‫الهيئة من أجل حمل العباء والمناقشة في المور والقيام‬ ‫بالشورى‪ ،‬فإن ذلك جائز وهو من السلم‪ ،‬لن مما ُيمدح به‬ ‫المسلمون أن أمرهم شورى بينهم‪ ،‬ويكون رأيها حينئذ من حيث‬ ‫العتبار ملِزما بالكثرية فيما يتعلق بالقيام بالعمال‪ ،‬ولمجرد‬ ‫الشورى فيما يتعلق بالحكام والراء التي تؤدي إلى فكر والراء‬ ‫الفنية والتعاريف‪ .‬والرئيس إذا عزم ينّفذ ما يراه فيما هو متعلق‬ ‫بغير القيام بالعمال‪ .‬وأّما ما اختلف فيه مفكرو الشيوعيين من‬ ‫كون القيادة جماعية أو فردية فل محل لبحثه في السلم‪ ،‬لن‬ ‫السلم قد عّين القيادة فردية نصا وعمل ً وجرى عليه إجماع‬ ‫الصحابة وعمل الّمة في جميع العصور‪.‬‬

‫الطاعـة‬ ‫الطاعة أمر أساسي لوجود النضباط في الدولة‪ ،‬وهي من‬ ‫أهم المظاهر التي تدل على النضباط العام في الدولة والّمة‪.‬‬ ‫ومن أجل ذلك جاء القرآن حاثا على الطاعة في آيات كثيرة‬ ‫بالرغم من وجود الوحي والمعجزات والرسالة وشخصية الرسول‬ ‫صلى ا عليه وسلم‪ ،‬وهي كلها كافية ليجاد الطاعة‪ .‬والطاعة‬ ‫التي جاء بها القرآن طاعة يقوم على أساسها كيان الدولة وكيان‬ ‫خُلق الطاعة‪ .‬وقد جاءت‬ ‫الّمة‪ ،‬وهي في نفس الوقت بيان ل ُ‬ ‫اليات آمرة بالطاعة‪ -‬حين يجب أن تكون‪ -‬أمرا يلزم بها ويجعلها‬ ‫تصبح سجّية من سجايا المسلم‪ ،‬وجاءت ناهية عن الطاعة –حين‬ ‫ل يجوز أن تكون‪ -‬نهيا يلزم عدم القيام بها واعتبارها ما ينأى عنه‬ ‫المسلم بنفسه من أن يؤديه‪ .‬فنجد القرآن حين يوجد سجية‬ ‫الطاعة يقول‪) :‬أطيعوا ا والرسول(‪) ،‬فاّتبعوني وأطيعوا‬ ‫طع ا ورسوله يدخله جنات‬ ‫أمري(‪) ،‬واسمعوا وأطيعوا(‪) ،‬ومن ُي ِ‬ ‫تجري من تحتها النهار(‪) ،‬من ُيطع الرسول فقد أطاع ا(‪) ،‬ومن‬ ‫ُيطع ا والرسول فأولئك مع الذين أنعم ا عليهم(‪ .‬فالله أمر‬ ‫‪-95-‬‬


‫بالطاعة في هذه اليات طاعة مطلقة‪ ،‬فقد جاءت طاعة غير‬ ‫مقيدة‪ .‬ونجد الرسول صلى ا عليه وسلم يأمر بالطاعة للحكام‬ ‫والولة في أي حال من الحوال‪ ،‬إل ّ أن يكون المأمور به معصية‪،‬‬ ‫فعن ابن عباس عن النبي صلى ا عليه وسلم قال‪) :‬من َكِره‬ ‫من أميره شيئا فليصبر فإنه من خرج من السلطان شبرا مات ميتة‬ ‫جاهلية(‪ .‬واعتبر الرسول عدم طاعة المير مفاَرقة للجماعة‪،‬‬ ‫حّدث أبو رجاء العطاردي قال‪ :‬سمعت ابن عباس رضي ا‬ ‫عنهما عن النبي صلى ا عليه وسلم قال‪) :‬من رأى من أميره‬ ‫شيئا يكرهه فلَيصِبر عليه‪ ،‬فإنه من فارق الجماعة شبرا فمات إل ّ‬ ‫مات ميتة جاهلية(‪ .‬وكان مما بايع المسلمون النبي عليه الطاعة‪.‬‬ ‫خلنا على عبادة بن الصامت وهو‬ ‫عن جنادة بن أبي أمية قال‪ :‬د َ‬ ‫مريض فقلنا‪ :‬أصلحك ا حّدث بحديث ينفعك ا به سمعَته من‬ ‫النبي صلى ا عليه وسلم‪ .‬قال‪) :‬دعانا النبي صلى ا عليه‬ ‫وسلم فبايعناه‪ .‬فقال فيما أخذ علينا أن بايعنا على السمع‬ ‫والطاعة في منشطنا ومكرهنا وعسرنا ويسرنا وأثرة علينا وأن ل‬ ‫ننازع المر أهله إل ّ أن تروا كفرا بواحا عندكم من ا فيه‬ ‫برهان(‪ .‬فاليات والحاديث جاءت آمرة بالطاعة‪ .‬إل ّ أن هذه‬ ‫الطاعة مقّيدة بحدود السلم‪ ،‬ولذلك جاءت الحاديث الخرى‬ ‫ناهية عن الطاعة في معصية ا‪ .‬قال صلى ا عليه وسلم ‪ :‬ل)‬ ‫طاعة لمخلوق في معصية الخالق(‪ .‬وحّدث نافع عن عبدا‬ ‫رضي ا عنه عن النبي صلى ا عليه وسلم قال‪) :‬السمع‬ ‫ب وكره ما لم يؤمر بمعصية‪،‬‬ ‫والطاعة على المرء المسلم فيما أح ّ‬ ‫فإذا ُأمر بمعصية فل سمع ول طاعة(‪.‬‬ ‫إل ّ أن هذه الطاعة أمر بها ا حين تكون من أجل‬ ‫النضباط العام‪ .‬أّما حين تكون هذه الطاعة ضد السلم أو تكون‬ ‫لسبيل غير سبيل ا‪ ،‬فقد جاء السلم ينهى عنها‪ .‬ومن أجل ذلك‬ ‫نهانا ا تعالى صراحة عن بعض الطاعات فقال‪) :‬يا أيها الذين‬ ‫آمنوا إن تطيعوا فريقا من الذين أوتوا الكتاب يرّدوكم بعد إيمانكم‬ ‫كافرين(‪) ،‬ول تطع من أغفلنا قلبه عن ِذكرنا واّتبع هواه وكان‬ ‫أمره ُفُرطا(‪) ،‬وإن ُتطع أكثر من في الرض يضلوك عن سبيل‬ ‫ا(‪) ،‬فل ُتطع الكافرين(‪) ،‬فل ُتطع المكذبين(‪) ،‬ول ُتطع منهم‬ ‫لف مهين(‪ .‬فهذه اليات كلها تنهى‬ ‫آثما أو كفورا(‪) ،‬ول ُتطع كل ح ّ‬ ‫عن طاعة أشخاص معينين بصفاتهم‪ .‬وَمن تتبعها يتبين أنها ضد‬ ‫‪-96-‬‬


‫السلم‪ ،‬ولسبيل غير سبيل السلم‪ .‬وقد بّينها ا تعالى لنا حتى‬ ‫يكون تكوين الطاعة في نفوسنا منصرفا إلى إيجاد النضباط‬ ‫عد هذا النضباط عن المواطن التي يصبح فيها‬ ‫العام‪ .‬وحتى ُنب ِ‬ ‫ضررا على الكيان إذا ُوجدت الطاعة‪ .‬ولذلك يجب على المسلم‬ ‫حين يلبي أمر ا بالطاعة أن ينتهي عن طاعة من نهى ا عن‬ ‫طاعتهم‪.‬‬

‫تبني الخليفة للحكام والساليب‬ ‫أي سن القوانين‬ ‫كلمة القوانين معناها في اللغة العربية الصول‪ ،‬الواحد‬ ‫قانون‪ .‬وهو لفظ أعجمي معّرب‪ .‬والقانون في الصطلح‬ ‫الجنبي معناه المر الذي ُيصدره السلطان ليسير عليه الناس‪.‬‬ ‫عرف القانون بأنه "مجموع القواعد التي يجِبر السلطان‬ ‫وقد ُ‬ ‫الناس على اّتباعها في علقاتهم"‪ .‬والقانون من حيث هو‬ ‫ل‪ ،‬وهذه‬ ‫قسمان‪ :‬أحدهما الحكام التي تنظم العلقات أص ً‬ ‫نوعان‪ :‬الول القانون الساسي وهو الدستور‪ ،‬والثاني سائر‬ ‫القوانين الخرى غير الدستور‪ .‬أّما القسم الثاني من القوانين فهو‬ ‫الذين ينظم الفعال الفرعية التي لصلها حكم عام وليس لها‬ ‫حكم خاص بها‪ ،‬والذي ينظم الوسائل‪ ،‬يعني هي الساليب التي‬ ‫تؤدى بها الفعال الصلية التي لها حكم عام وليس لفرعها حكم‬ ‫خاص به‪ ،‬والتي تنظم الدوات‪ ،‬ويقال لها قوانين إدارية أو أنظمة‬ ‫ما كانت أفعال العباد قد جاء خطاب‬ ‫إدارية أو ما شاكل ذلك‪ .‬ول ّ‬ ‫الشارع المتعلق بها ملِزما التقيد به‪ ،‬لذلك كان تنظيمها آتيا من‬ ‫ا‪ ،‬وجاءت الشريعة السلمية متعلقة بجميع أفعال الناس‬ ‫وجميع علقاتهم‪ ،‬سواء أكانت علقتهم مع ا أو علقتهم مع‬ ‫أنفسهم أو علقتهم مع غيرهم‪ .‬لذلك ل محل في السلم لسن‬ ‫قوانين من ِقبل الناس لتنظيم علقاتهم‪ ،‬فهم مقّيدون بالحكام‬ ‫الشرعية‪ ،‬قال ا تعالى‪) :‬ومن يتعّد حدود ا(‪) ،‬ما آتاكم‬ ‫الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا(‪ ،‬وقال‪) :‬وما كان لمؤمن‬ ‫خَيرة من‬ ‫ول مؤمنة إذا قضى ا ورسوله أمرا أن يكون لهم ال ِ‬ ‫أمرهم(‪ ،‬وقال عليه السلم‪) :‬كل عمل ليس عليه أمرنا فهو َرّد(‪.‬‬ ‫فالله هو الذي شرع للناس الحكام وليس السلطان‪ ،‬وهو الذي‬ ‫‪-97-‬‬


‫صَرهم بها‬ ‫أجبرهم وأجبر السلطان على اتباعها في علقاتهم وح َ‬ ‫عهم من اتباع غيرها‪ .‬ولهذا ل محل للبشر في وضع أحكام‬ ‫ومَن َ‬ ‫لتنظيم علقات الناس‪ ،‬ول مكان للسلطان في إجبار الناس أو‬ ‫تخييرهم على اتباع قواعد وأحكام ِمن وضع البشر في تنظيم‬ ‫علقاتهم‪.‬‬ ‫إل ّ أن الحكام الشرعية‪ ،‬وهي خطاب الشارع المتعلق‬ ‫بأفعال العباد‪ ،‬جاءت في القرآن والحديث‪ ،‬وكان فيها الكثير مما‬ ‫ن حسب اللغة العربية وحسب الشرع‪ ،‬فكان‬ ‫يحتمل عدة معا ٍ‬ ‫طبيعيا وحتميا أن يختلف الناس في فهمها وأن يصل هذا‬ ‫الختلف في الفهم إلى حد التباين والتغاير في المعنى المراد‪.‬‬ ‫ومن هنا كان ل بد أن تكون هناك أفهام متباينة وأفهام مختلفة‪.‬‬ ‫لذلك قد يكون هناك في الحكم الواحد آراء مختلفة ومتباينة‪.‬‬ ‫فالرسول صلى ا عليه وسلم حين قال في غزوة الحزاب ‪) :‬‬ ‫ل‬ ‫ُتصّلوا العصر إل ّ في بني قريظة(‪َ ،‬فِهم أشخاص أنه قصد‬ ‫الستعجال وصّلوا العصر في الطريق‪ ،‬وَفِهم أناس أنه قصد‬ ‫خروها حتى وصلوا بني قريظة‬ ‫معنى الجملة فلم ُيصّلوا العصر وأ ّ‬ ‫ما بلغ الرسول ذلك أقّر الفريقين كل ً على‬ ‫فصّلوها هناك‪ .‬ول ّ‬ ‫ل صلة إل ّ بفاتحة الكتاب(‪َ ،‬فِهم‬ ‫فهمه‪ .‬وحين قال الرسول ‪) :‬‬ ‫أناس أنه قصد ل صلة صحيحة فقالوا‪ :‬إن قراءة الفاتحة ركن‬ ‫طَلت صلته‪ .‬وَفِهم أناس‬ ‫من أركان الصلة َمن لم يقرأها ب ُ‬ ‫آخرون أنه قصد ل صلة كاملة‪ ،‬فقالوا‪ :‬إن قراءة الفاتحة ليس‬ ‫ركنا من أركان الصلة بل قراءة القرآن هي الركن‪ ،‬ولذلك إذا لم‬ ‫حت صلته‪ .‬وكذلك اختلفوا‬ ‫يقرأ الفاتحة وقرأ أي آية من القرآن ص ّ‬ ‫ل ُيقَتل مسلم بكافر ول ذو عهد بعهده(‪،‬‬ ‫في قوله عليه السلم ‪) :‬‬ ‫فَفِهم جماعة أن المسلم إذا قتل كافرا ل ُيقتل به وإّنما ُيعّزر كأن‬ ‫ل ُيقتل مسلم بكافر( صريح في‬ ‫ل‪ ،‬لن قول الرسول ‪) :‬‬ ‫ُيحبس مث ً‬ ‫عدم قتله‪ .‬وَفِهم آخرون أنه يفّرق بين الكافر الحربي والكافر‬ ‫الذمي‪ ،‬فالمسلم ُيقتل بالكافر الذمي إذا قتله‪ ،‬وكذلك الكافر‬ ‫هد والكافر المستأَمن‪ ،‬وأّما الكافر الحربي فل ُيقتل المسلم‬ ‫المعا ِ‬ ‫به إذا قتله‪ ،‬لن قول الرسول في نفس الحديث يدل على ذلك‬ ‫وهو قوله‪) :‬ول ذو عهد بعهده(‪ ،‬فإن معناه ل ُيقتل مسلم بكافر‬ ‫ما كان ذو العهد كافرا فإنه يتحتم أن‬ ‫ول ُيقتل ذو عهد بكافر‪ .‬ول ّ‬ ‫هد بكافر‬ ‫يكون كلمة كافر تعني الحربي‪ ،‬أي ل ُيقتل كافر معا ِ‬ ‫‪-98-‬‬


‫حربي‪ .‬فيكون معنى الحديث ل ُيقتل مسلم بكافر حربي ول ُيقتل‬ ‫ذو عهد بكافر حربي‪ ،‬ومفهومه أن المسلم ُيقتل بغير الكافر‬ ‫الحربي‪ ،‬وذو العهد ُيقتل بغير الكافر الحربي‪ .‬وذو العهد كافر‪،‬‬ ‫فكونه كالمسلم ل ُيقتل بكافر يدل على أن المراد من كلمة‬ ‫)كافر( في الحديث الكافر الحربي ل الذمي‪ .‬ويؤيد ذلك ما ُروي‬ ‫أنه جيء لرسول ا بمسلم قتل يهوديا فقتله‪ ،‬وقال‪) :‬نحن أحق‬ ‫من وّفى بذّمته(‪ .‬وبهذا التباين في الفهم تباَين الرأي في الحكم‬ ‫الواحد‪ .‬وهكذا كثير من اليات والحاديث‪ .‬فاختلف الراء في‬ ‫الحكم الواحد يحتم على المسلم الخذ برأي واحد منها لنها كلها‬ ‫أحكام شرعية وحكم ا في حق الشخص الواحد ل يتعدد‪،‬‬ ‫ولذلك ل بد من تعيين حكم واحد منها لخذه‪ .‬ومن هنا كان تبني‬ ‫المسلم لحكم شرعي أمرا لزما ول مناص منه بوجه من الوجوه‬ ‫شر العمل‪ .‬ومجرد وجوب العمل بالحكم الواحد فرضا‬ ‫عندما يبا ِ‬ ‫كان أو مندوبا أو حراما أو مكروها أو مباحا يحتم وجوب تبني‬ ‫حكم معين‪ .‬ولهذا كان واجبا على كل مسلم أن يتبنى حكما‬ ‫شرعيا معينا حين يأخذ الحكام للقيام بالعمل‪ ،‬سواء أكان مجتهدا‬ ‫أم مقلدا‪ ،‬خليفة أو غير خليفة‪ .‬وإذا تبنى حكما معينا صار هذا‬ ‫الحكم الشرعي هو حكم ا في حقه وصار ملَزما به يعمل‬ ‫بموجبه وحده ويعّلمه للناس ويدعو للسلم بحسبه‪ .‬لن معنى‬ ‫تبني المسلم للحكم هو العمل به وتعليمه لغيره والدعوة له حين‬ ‫يدعو لحكام السلم وأفكاره‪ .‬وإذا تبنى المسلم حكما معينا‬ ‫صار هذا الحكم بعينه هو حكم ا في حقه ول يجوز له أن‬ ‫يتركه إل ّ في ثلث‪ :‬إحداها أن يتبين له ضعف دليله وظهور دليل‬ ‫أقوى من دليله‪ ،‬ويتعين عنده أن حكم ا هو ما دل عليه الدليل‬ ‫القوي‪ ،‬وحينئذ يجب عليه ترك ما تبناه وتبني الرأي الجديد‪ ،‬لنه‬ ‫صار هو حكم ا في حقه‪ .‬ثانيها‪ :‬أن يغلب على ظنه أن الرأي‬ ‫الجديد استنبطه من هو أعلم منه بالستنباط وأدق بالستدلل أو‬ ‫أكثر إحاطة بالشرع‪ ،‬فحينئذ يجوز له أن يترك ما تبناه ويتبنى غيره‪،‬‬ ‫ِلما ثبت عن كبار الصحابة أنهم كانوا يتركون آراءهم ويأخذون‬ ‫رأي غيرهم‪ .‬فقد أخذ أبو بكر رأي علي وترك رأيه‪ ،‬وأخذ عمر‬ ‫رأي علي وترك رأيه‪ .‬وثالثها‪ :‬أن يكون المراد جمع كلمة‬ ‫المسلمين على رأي واحد‪ ،‬ففي هذه الحالة يجوز للمسلم أن‬ ‫يترك الرأي الذي تبناه ويتبنى الرأي الذي يراد جمع كلمة‬ ‫‪-99-‬‬


‫المسلمين عليه‪ ،‬وذلك ِلما ثبت عن عثمان أنه َقِبل أن يباَيع من‬ ‫الناس على كتاب ا وسّنة رسوله ورأي الشيخين من بعده أبي‬ ‫ك ِلما تبناه هو‬ ‫بكر وعمر‪ ،‬وقد أقّره الصحابة على ذلك‪ ،‬وهو تر ٌ‬ ‫وتبني ما سبق أن تبناه أبو بكر وعمر‪ .‬ففي هذه الحوال الثلثة‬ ‫يترك المسلم ما تبناه ويتبنى غيره‪ ،‬وما عداها ل يجوز أن يتركه‬ ‫طب بها كل فرد‪ ،‬ولكل مسلم أن يتبنى‬ ‫مطلقا‪ ،‬لن الشريعة مخا َ‬ ‫ُ‬ ‫ما يصل إليه بالجتهاد أو التقليد‪ .‬وإذا تبنى ألِزم بما تبناه إل ّ في‬ ‫الحوال المستثناة بالدليل الشرعي‪.‬‬ ‫هذا بالنسبة لقيام كل فرد في تنظيم علقاته بنفسه‪ .‬أّما‬ ‫بالنسبة لرعاية شؤون الّمة من ِقبل الخليفة وقيامه بأعباء‬ ‫السلطان وإقامة أحكام ا على الناس‪ ،‬فإنه ول شك ل بد أن‬ ‫شر رعاية شؤون الناس بحسبها‪ ،‬ول بد أن‬ ‫يتبنى أحكاما معينة يبا ِ‬ ‫يتبنى أحكاما معينة فيما هو عام لجميع المسلمين من شؤون‬ ‫خراج وكالعلقات‬ ‫الحكم والسلطان كالزكاة والضرائب وال َ‬ ‫الخارجية وكل ما يتعلق بوحدة الدولة ووحدة الحكم‪ .‬ويكون‬ ‫التبني في هذه الحالت من ِقبل الخليفة واجبا ل جائزا‪ ،‬لنه‬ ‫بالنسبة ِلما يباشره من أعمال أمٌر لزم باعتباره مسلما ملَزما‬ ‫بتسيير جميع أعماله حسب حكم معين هو حكم ا في حقه‪،‬‬ ‫ول فرق في ذلك بين العمال الخاصة والعمال العامة‪ .‬وبالنسبة‬ ‫ِلما هو من شؤون الحكم والسلطان فإنه داخل في العمال‬ ‫الصلية من رعاية الشؤون وهي ل بد أن تسير حسب حكم واحد‬ ‫معينة‪ .‬وبالنسبة لما يتعلق بوحدة الدولة‪ ،‬فإنه يجب أن يسير‬ ‫حسب حكم واحد‪ ،‬لن وحدة الدولة فرض‪ ،‬وكل عمل يؤدي إليها‬ ‫فهو فرض‪ .‬ولذلك كان تبني حكم واحد لكل ما يتعلق بها واجبا ل‬ ‫جائزا‪.‬‬ ‫أّما ما عدا ذلك فيجوز للخليفة أن يتبنى أحكاما معينة ُيلِزم‬ ‫الناس العمل بها‪ ،‬ويجوز له أن ل يتبنى‪ .‬يفعل في ذلك ما يراه‬ ‫أنفع لصالح المسلمين وأقوى لنشر السلم وتعليم أحكامه‪،‬‬ ‫وأصلح لعدالة الحكم وقوة السلطان‪ .‬وقد تبنى أبو بكر أحكاما‬ ‫شرعية ألَزم الناس بها‪ ،‬وتبنى من بعده عمر وعثمان وعلي‬ ‫أحكاما وألزموا الناس العمل بها‪ ،‬وقد سكت الصحابة على ذلك‬ ‫طوال عصرهم‪ ،‬ولم ُيسمع عن أحد منهم أي إنكار في تبني‬ ‫أحكام وإلزام الناس بها وتْرك العمل بما تبنوا من أحكام‪ ،‬مع أنه‬ ‫‪-100-‬‬


‫مما ُينكر إذ هو إلزام الناس بترك أحكام تبنوها وكانت أحكام ا‬ ‫في حقهم‪ .‬ولهذا كان إجماعا من الصحابة على أن للخليفة أن‬ ‫يتبنى أحكاما معينة وأن ُيلِزم الناس العمل بها‪ .‬ولهذا فإنه إذا تبنى‬ ‫الخليفة أحكاما معينة سواء أكانت مما يجب عليه أن يتبنى فيه أو‬ ‫مما يجوز له أن يتبنى فيه‪ ،‬وجب على كل مسلم من رعيته أن‬ ‫يعمل بهذا الحكم وأن يترك العمل بالحكم الذي سبق له أن تبناه‬ ‫لن ما تبناه الخليفة صار هو حكم ا في حقه من حيث العمل‬ ‫حل له أن يعمل بخلفه‪ ،‬بل يجب أن يعمل به وحده‪ ،‬ولو‬ ‫ول ي ِ‬ ‫كان خلف ما يراه‪ ،‬ولو كان في نظره ضعيف الدليل‪ .‬وذلك ِلما‬ ‫انعقد عليه إجماع الصحابة من أن للمام أن يتبنى أحكاما معينة‬ ‫ويأمر بالعمل بها‪ ،‬وعلى المسلمين طاعتها ولو خالفت اجتهادهم‪.‬‬ ‫والقواعد الشرعية المشهورة في ذلك هي‪) :‬للسلطان أن ُيحِدث‬ ‫من القضية بقدر ما َيحُدث من مشكلت(‪ ،‬و)أمر المام يرفع‬ ‫الخلف(‪ ،‬و)أمر المام نافذ ظاهرا وباطنا( أي بينه وبين الناس‬ ‫طاعة للدولة وبينه وبين ا لن ما تبناه المام صار حكم ا في‬ ‫حقه من حيث العمل‪ .‬إل ّ أن خضوع الناس لمر المام ولزوم‬ ‫عملهم بما تبناه من أحكام وتْرك العمل بآرائهم وما تبنوه ل يعتبر‬ ‫تبنيا ِلما تبناه المام‪ ،‬وإّنما هو خضوع لمره وتنفيذ لما تبناه من‬ ‫ناحية العمل وليس تبنيا لما تبناه‪ .‬ولذلك يجوز لي مسلم أن ُيعّلم‬ ‫ما تبناه من أحكام وأن يدعو إليها حين يدعو للسلم‪ ،‬ولو خالفت‬ ‫ما تبناه المام‪ .‬وذلك لن إجماع الصحابة على لزوم العمل بما‬ ‫تبناه الخليفة وليس التعليم ول الدعوة‪ ،‬فهو خاص بالعمل‪ .‬ولهذا‬ ‫نجد أنه حين كان أبو بكر يوزع المال على المسلمين بالتساوي‬ ‫من غير نظر إلى الِقَدم في السلم أو غير ذلك‪ ،‬كان عمر يرى‬ ‫غير هذا الرأي فيرى أن الرجل وِقَدَمه في السلم والرجل‬ ‫وبلؤه‪ .‬وقد ناقش أبا بكر في ذلك‪ ،‬ولكنه خضع لما تبناه أبو بكر‬ ‫وظل متبنيا رأيه‪ .‬وحين تولى الخلفة ألغى العمل برأي أبي بكر‬ ‫وعمل برأيه‪ .‬ولهذا فإن هناك فْرقا بين تبني المسلم للرأي وبين‬ ‫خضوعه لما تبناه الخليفة‪ .‬فالخضوع لتبني الخليفة لزوم العمل به‬ ‫فقط ل الدعوة له ول تعليمه‪ .‬أّما تبني الرأي فهو تعليمه والدعوة‬ ‫له والعمل به‪ .‬ولذلك ُيسمح بوجود تكتلت سياسية أي بوجود‬ ‫أحزاب تتبنى آراء على خلف ما تبناه الخليفة‪ ،‬ولكنها كلها كسائر‬ ‫المسلمين تلَزم من ناحية العمل فقط بالعمل بما تبناه الخليفة‬ ‫‪-101-‬‬


‫ليس غير‪.‬‬ ‫إل ّ أن الخليفة حين يتبنى أحكاما شرعية إّنما يختار رأيا‬ ‫حكما شرعيا مستنَبطا باجتهاد شرعي ول يشرع هو‬ ‫معينا بوصفه ُ‬ ‫حكما من عنده فإن المشرع هو ا وحده‪ .‬ولهذا فهو مقيد‬ ‫بالشرع وبالحكام الشرعية لن شرط بيعته أن تكون على الكتاب‬ ‫والسّنة‪ ،‬ولنه بوصفه مسلما ولو كان خليفة مقيد بأوامر ا‬ ‫ونواهيه وملزم بالوقوف عند حد الحكام الشرعية‪ ،‬ول يحل له‬ ‫أن يتعداها ول بوجه من الوجوه‪ ،‬فل يحل له أن يأتي بحكم ولو‬ ‫حكما واحدا من غير الشرع السلمي‪ .‬فإن قول الرسول صريح‪:‬‬ ‫)كل عمل ليس عليه أمرنا فهو َرّد(‪ .‬ولهذا ل يحل للمام أن يحرم‬ ‫حلل ً ول يحل حراما ول أن يلغي حكما أو يوقف العمل بحكم‬ ‫لن ذلك حرام على الخليفة كما هو حرام على كل مسلم من‬ ‫المسلمين‪ .‬ول يقال إن مصلحة المسلمين اقتضت تحريم كذا‬ ‫وإباحة كذا‪ .‬لن ا قد عين مصلحة المسلمين بأحكام معينة‪،‬‬ ‫فإذا جاء الخليفة ورأى المصلحة في غير هذه الحكام فإنه‬ ‫يكون قد نسخها‪ ،‬وهذا ل يجوز مطلقا‪ .‬ولذلك ل يقال إن رعاية‬ ‫شؤون المسلمين قد جعلت له أن يسّيرها كما يرى باجتهاده‪ ،‬لن‬ ‫ا جعل له رعاية شؤون المسلمين بالكتاب والسّنة أي بالحكام‬ ‫الشرعية وجعل له الجتهاد في حدودها‪ .‬فهو يجتهد في العمال‬ ‫الفرعية التي جاء النص بأصولها عاما ولم يأت نص بها‪ ،‬فإنه‬ ‫يجتهد في اختيار ما يراه أصلح وأنفع‪ ،‬أّما ما جاء حكم ا فل‬ ‫محل لجتهاد الخليفة في شأنه بل هو ملَزم بتنفيذ الحكم‬ ‫الشرعي كما هو دون أي انحراف أو تبديل‪ .‬نعم قد يرى عمل ً‬ ‫صل حتما إلى حرام جاء الشرع بتحريمه‪ ،‬مثل أن‬ ‫مباحا ولكنه يو ِ‬ ‫يرى أن تداول كتاب معين يؤدي حتما إلى فتنة الناس عن دينهم‬ ‫أو يؤدي حتما إلى تفشي الِفسق بين الناس فيأمر بمنعه‪ .‬وقد‬ ‫يرى عمل ً مباحا ولكنه يوصل حتما إلى أذى جاء الشرع بوجوب‬ ‫إزالته‪ ،‬مثل أن يرى أن وضع البضاعة أمام المخازن يمنع المرور‬ ‫من الطريق أو يؤذي المارة‪ ،‬فإنه حينئذ يمنع المباح ويعاِقب كل‬ ‫من يفعله‪ .‬إل ّ أن هذا ليس تحريما للحلل بل هو تنفيذ لحكم‬ ‫شرعي استنبطه هو من قاعدة "الوسيلة إلى الحرام محرمة"‪،‬‬ ‫وقاعدة "كل شيء معين يؤدي إلى الضرر المحقق فهو جرام"‪،‬‬ ‫أو استنبطه غيره وتبناه هو ونّفذه‪ .‬ففي هذه الحال يجب عليه‬ ‫‪-102-‬‬


‫أن يفعل ذلك لنه حكم شرعي وجب تنفيذه‪ .‬ويكون قد منع‬ ‫الحرام ولم يمنع المباح‪ .‬وكذلك إذا كان هناك أمر من المور أو‬ ‫حكم من الحكام يمكن أن يقام به بعّدة أعمال فرعية جاء دليل‬ ‫أصلها عاما وليس لها دليل خاص بها‪ ،‬فإنه في هذه الحالة تكون‬ ‫جميع العمال التي يمكن أن يقام بالحكم أو المر بواسطتها من‬ ‫المباحات‪ .‬وذلك مثل الوصول إلى معرفة رأي الناس بالخليفة‪ ،‬أو‬ ‫رأيهم فيمن يوكلون عنهم في مجلس الشورى وهو يشبه ما‬ ‫يسمى بقانون النتخاب‪ .‬فهذه العمال الفرعية كلها مباحات‪،‬‬ ‫فيجوز للخليفة أن يأمر بواحد منها دون غيره‪ ،‬وحينئذ وجبت‬ ‫طاعته‪ .‬ول يكون في هذه الحال قد أوجب مباحا وَمَنع مباحا آخر‬ ‫صلة للقيام بالحكم‪،‬‬ ‫بل يكون تبنى حكما وتبنى الوسيلة المو ِ‬ ‫صلة إليه‬ ‫وحينئذ وجبت طاعته فيما تبناه من الحكم والعمال المو ِ‬ ‫لنها تابعة للحكم والتابع يأخذ حكم متبوعه‪.‬‬ ‫ومن هذا القبيل جميع القوانين والنظمة الدارية فإنها‬ ‫إلزام بمباح لنه إلزام بتوابع حكم تبناه الخليفة‪ ،‬واللزام به يقضي‬ ‫ترك ما سواه أي منعه وهو كتبّني الحكام سواء بسواء‪ ،‬ول‬ ‫يخرج فيه عن الحكام الشرعية ول يكون قد أوجب مباحا وحرم‬ ‫عل ما جعله له الشرع من تبني الحكام وما‬ ‫مباحا آخر بل َف َ‬ ‫صل‬ ‫يوصل إلى القيام بها‪ .‬ففي هذه الحوال الثلثة َمنع ما يو ِ‬ ‫صل إلى الذى‪ ،‬واللزام بأسلوب معين من‬ ‫إلى الحرام‪ ،‬أو يو ِ‬ ‫أساليب متعددة ل يكون الخليفة قد خرج عن الحكام الشرعية‬ ‫ول عن صلحيته في التبني‪ ،‬ولكل منها دليله الشرعي‪ .‬وعليه ل‬ ‫يكون هناك أي مسوغ يجيز للخليفة أن يغّير أي حكم شرعي‬ ‫بحجة المصلحة‪ ،‬بل يجب أن يتقيد بجميع الحكام الشرعية تقيدا‬ ‫تاما في كل شيء‪.‬‬ ‫وأّما ما يقال من أن الرسول قد حّرم مباحات ومنعها رعاية‬ ‫لشؤون المسلمين‪ ،‬فل حجة فيه على جواز أن للمام أن يفعل‬ ‫ذلك رعاية لشؤون المسلمين‪ .‬وذلك لن الرسول مشّرع فإذا‬ ‫حّرم حكما مباحا أو أباح حكما محرما فإنه يكون قد نسخه‪،‬‬ ‫والنسخ خاص بالكتاب والسّنة أي بالقرآن والحديث‪ ،‬وليس لغير‬ ‫الرسول ذلك مطلقا‪ .‬وأّما منعه من أشياء معينة من شيء مباح‬ ‫صل ً إلى محرم‬ ‫صل ً لذى قد حّرمه ا أو مو ِ‬ ‫فإنه يكون إما مو ِ‬ ‫حرمه ا‪ ،‬وهذا تشريع لنا وليس من قبيل رعاية الشؤون‪ ،‬فل‬ ‫‪-103-‬‬


‫ُيتخذ دليل ً على إعطاء المام صلحية تغيير الحكام بحجة رعاية‬ ‫الشؤون أو بحجة المصلحة‪ .‬ومن استعراض بعض أعمال‬ ‫الرسول صلى ا عليه وسلم يتبين ذلك بوضوح‪ ،‬فمن ذلك‪:‬‬ ‫‪ُ- 1‬روي في غزوة تبوك أن رسول ا صلى ا عليه‬ ‫ما راحوا‬ ‫حجر نزلها واستقى الناس من بئرها‪ ،‬فل ّ‬ ‫وسلم حين مّر بال ِ‬ ‫قال رسول ا صلى ا عليه وسلم ‪ :‬ل) تشربوا من مائها شيئا‬ ‫ول تتوضأوا منه للصلة‪ ،‬وما كان من عجين عجنتموه فاعلفوه‬ ‫البل ول تأكلوا منه شيئا ول َيخُرجن أحد منكم الليلة إل ّ ومعه‬ ‫صاحب له(‪ ،‬فهذا المثال يظهر منه أن الرسول صلى ا عليه‬ ‫وسلم نهى عن استعمال شيء مباح‪ ،‬فيكون قد حّرم مباحا‪ ،‬مع‬ ‫أن واقع الحادثة ليس كذلك‪ ،‬بل واقعها أن الرسول نهى عن‬ ‫شيء معين من شيء مباح ل عن حكم مباح ول عن شيء مباح‪.‬‬ ‫صل حتما إلى ضرر ورد النص بتحريم أن‬ ‫وهذا الشيء المعّين يو ِ‬ ‫ن شرب الماء من هذه البئر قد عرف الرسول أنه‬ ‫يقع فيه‪ ،‬فإ ّ‬ ‫صل إلى ضرر محقق‪ ،‬فيكون ما فعله الرسول ليس تحريم‬ ‫يو ِ‬ ‫مباح بل تحريم ما يؤدى إلى ضرر حّرمه الشرع‪ ،‬وهو إيقاع الذى‬ ‫في الجيش‪ .‬وكذلك نهيه عن خروج أحد إل ّ ومعه صاحبه هو نهي‬ ‫صل حتما‬ ‫عن فعل معين من فعل مباح‪ ،‬وهذا الفعل المعين يو ِ‬ ‫إلى ضرر حّرمه الشرع‪ .‬والدليل على ذلك أن الناس الذين أمرهم‬ ‫الرسول فعلوا ما أمرهم به إل ّ رجلين من بني ساعدة خرج‬ ‫أحدهما لحاجته وخرج الخر في طلب بعير له‪ ،‬فأما الذي ذهب‬ ‫خنق على مذهبه‪ ،‬وأّما الذي ذهب في طلب بعيره‬ ‫لحاجته فإنه ُ‬ ‫فاحتملته الريح حتى طرحته بجبل طيء‪ ،‬فُأخبر بذلك رسول ا‬ ‫فقال‪) :‬ألم أنَهكم أن يخرج منكم أحد إل ّ ومعه صاحبه(‪ ،‬ثم دعا‬ ‫شفي‪ ،‬وأّما الخر الذي وقع‬ ‫الرسول الذي أصيب على مذهبه ف ُ‬ ‫بجبل طشء فإن طيئا أهدته لرسول ا حين َقِدم المدينة‪.‬‬ ‫ما مر رسول ا صلى ا عليه وسلم‬ ‫والدليل على ذلك أيضا أنه ل ّ‬ ‫حجر سجى ثوبه على وجهه واستحث راحلته ثم قال ‪) :‬‬ ‫ل‬ ‫بال ِ‬ ‫تدخلوا بيوت الذين ظلموا إل ّ وأنتم باكون خوفا أن يصيبكم منها‬ ‫ما أصابهم(‪.‬‬ ‫حظ الفرق بين تحريم فعل معين من‬ ‫وهنا يجب أن يل َ‬ ‫فعل مباح وبين تحريم الفعل المباح أو تحريم شيء معين من‬ ‫شيء مباح وبين تحريم الشيء المباح‪ .‬فتحريم فعل مباح هو أن‬ ‫‪-104-‬‬


‫يكون الفعل قد أباحه الشرع فيأتي الحاكم فيحرمه بحجة وجود‬ ‫الذى منه كاستيراد البضاعة من الخارج قد أباحه الشرع فيرى‬ ‫الحاكم أن إباحة الستيراد تسبب الذى للمصانع فيحرمه‪ ،‬فإن‬ ‫هذا تحريم لفعل مباح وهو ل يجوز للحاكم مطلقا‪ ،‬لن الشرع‬ ‫حين أباحه يعلم أنه نافع أو ضار‪ ،‬وقد جعل له حكم الباحة فل‬ ‫يصح تحريمه لنه يكون نسخا لحكم الشرع‪ ،‬وهو باطل على‬ ‫الطلق‪ .‬أّما تحريم فعل معين من فعل مباح فهو أن يكون أمر‬ ‫من أمور هذا المباح قد طرأ عليه أنه وصل إلى ضرر قد ورد‬ ‫الشرع بتحريمه فيرى الحاكم تحريم هذا لمر لرفع الضرر‪ ،‬وذلك‬ ‫كأن يرى الحاكم أن استيراد السكر مثل ً أدى إلى إقفال مصانع‬ ‫السكر في البلد وإفلسها وجعلها محتاجة للكفار في استيراد‬ ‫السكر فحينئذ يجوز للحاكم أن يمنع استيراد السكر دفعا للذى‬ ‫عن مجموع الّمة وهو افتقارها للكفار فيما هو من ضروراتها‬ ‫وعدم توفيره لها‪ .‬ففي هذه الحال يجوز أن يمنع هذا المر‬ ‫المباح‪ ،‬ول يكون تحريما لمباح بل المباح ظل مباحا كما هو وهو‬ ‫الستيراد‪ ،‬ولكنه تحريم لمر مباح وهو استيراد السكر‪ ،‬وذلك مثل‬ ‫تحريم الرسول لشرب الماء من بئر معّين عرف أن فيه ضررا‪،‬‬ ‫فتحريمه لم يحرم مباحا أي لم يحرم الماء وإّنما حرم أمرا معينا‬ ‫من المباح وهو الشرب من هذا البئر‪ .‬ولذلك جاز تحريم فعل‬ ‫معّين من فعل مباح‪ ،‬أّما تحريم فعل مباح فل يجوز مطلقا‪.‬‬ ‫ما رجع من‬ ‫‪ُ- 2‬روي أن الرسول صلى ا عليه وسلم ل ّ‬ ‫تبوك منع َمن وصل قبله إلى ماء في الطريق أن يشرب منه قبل‬ ‫ما جاء‬ ‫إتيانه‪ ،‬فسبق جماعة من المنافقين فشربوا منه‪ ،‬فل ّ‬ ‫ء َلعن‬ ‫الرسول ووجد الماء قد شربه الذين سبقوا ولم يجد ما ً‬ ‫ع ِمن شيء معين من‬ ‫الذين سبقوا وشربوا منه‪ .‬فهذا أيضا مْن ٌ‬ ‫شيء مباح‪ ،‬ولكن هذا الشيء يؤدي إلى ضرر وهو الستئثار‬ ‫بقسم من الماء عن باقي الجنود مع شدة الحاجة إليه في‬ ‫الصحراء‪ ،‬ولذلك ل يكون تحريما لشيء مباح بحجة رعاية‬ ‫الشؤون‪.‬‬ ‫‪ُ- 3‬روي عن عمرو بن الشريد عن أبيه قال‪ :‬كان في وفد‬ ‫ثقيف رجل مجذوم فأرسل إليه النبي صلى ا عليه وسلم )إنا قد‬ ‫بايعناك فارجع(‪ ،‬ومنعه من مخالطة الناس‪ .‬فهذا ليس تحريما‬ ‫صل إلى الذى‪ .‬ولهذا ورد في‬ ‫لمباح وإّنما هو تحريم لفعل يو ِ‬ ‫‪-105-‬‬


‫حديث آخر ِف)ّر من المجذوم فرارك من السد(‪.‬‬ ‫وهكذا يظهر ِمن تتّبع ما ُيحتج به في هذا الشأن من حديث‬ ‫الرسول‪ ،‬يتبين أنه ليس فيها تحريم شيء مباح وإّنما هي تحريم‬ ‫شيء معين من شيء مباح‪ ،‬وهذا الشيء المعين يؤدي إلى‬ ‫ضرر ورد الشرع بتحريمه‪ .‬ولهذا كان تشريعا ودليل ً على أن‬ ‫للمام أن يمنع أشياء معينة من الشياء المباحة‪ ،‬وأفعال ً معينة‬ ‫من الفعال المباحة إذا كانت تؤدي إلى ضرر قد ورد الشرع‬ ‫بمنعه‪.‬‬ ‫وأّما ما ُيروى عن الصحابة من حوادث‪ ،‬فإنها كلها يظهر ِمن‬ ‫تتّبعهها أنها تحريم لمباح يؤدي إلى حرام أو يؤدي إلى ضرر ورد‬ ‫الشرع بمنعه‪ ،‬ومنها ما هو إلزام بفعل مباح للقيام بحكم شرعي‬ ‫أو بأمر أمر به الشرع ومنع غيره من قبيل التبني في الساليب‬ ‫وهو جائز للمام وذلك كتدوين الدواوين من ِقبل عمر‪ ،‬وكاللزام‬ ‫بمصحف واحد وحرق جميع المصاحف من ِقبل عثمان‪ .‬ومن هذا‬ ‫القبيل إلزام عمر للصحابة أن ُيِقّلوا من الحديث لما اشتغلوا به‬ ‫عن القرآن‪ ،‬ومْنعه كبار الصحابة من الخروج من المدينة إلى‬ ‫البلد المفتوحة حتى ل يفتتن الناس بهم وحتى ل ُيفتنوا في‬ ‫جان‬ ‫ع ّ‬ ‫الدنيا‪ ،‬وكذلك ما فعله الولة والحكام والخلفاء من إلزام ال َ‬ ‫بأن يضع عصابة على جبهته حتى ل ينزل عرقه في العجين‪ ،‬وأن‬ ‫يضع قطعة قماش على أنفه لئل ينزل منه شيء في العجين‪،‬‬ ‫وإجباره على حلق شعر إبطه حتى ل يسقط منه شيء في‬ ‫العجين‪ ،‬وغير ذلك مما ورد في كتب الفقه‪ ،‬فإنه كله داخل تحت‬ ‫القاعدة "الوسيلة إلى الحرام محّرمة"‪ ،‬والقاعدة "كل شيء‬ ‫معين يؤدي إلى الضرر المحقق فهو حرام"‪ ،‬وليس فيها شيء‬ ‫مما يدل على أن الخليفة يجوز له أن يحرم مباحا أو يبيح حراما‬ ‫بحجة المصلحة أو بحجة رعاية الشؤون‪ .‬وعلى هذا فإن القوانين‬ ‫بالمفهوم الجنبي من حيث كون أمر السلطان مطلقا غير واجبة‬ ‫الطاعة ما لم تكن أمرا للخليفة في تبني حكم شرعي واللزام‬ ‫بهذا الحكم‪ .‬فالقوانين هي ما تبناه الخليفة من الحكام الشرعية‪.‬‬ ‫إل ّ أن للخليفة أن يأمر بما يراه من قواعد للقيام بالحكام‬ ‫الشرعية أو العمال والمور المطلوبة شرعا‪ ،‬وذلك كالقوانين‬ ‫الدارية والنظمة الدارية‪ .‬وهذا يعتبر تبنيا بالساليب وهو تابع‬ ‫لتبني الحكام‪ ،‬وتكون هذه القوانين واجبة الطاعة لنها قد تبناها‬ ‫‪-106-‬‬


‫الخليفة‪ ،‬ولنها تدخل تحت قوله تعالى‪) :‬وأطيعوا ا وأطيعوا‬ ‫الرسول وأولي المر منكم(‪ ،‬لن الطاعة جاءت عامة فتشمل كل‬ ‫شيء لم َيِرد الشرع بمنعه‪.‬‬

‫الجهـاد‬ ‫سع في القتال في سبيل ا مباشرة أو‬ ‫الجهاد هو بذل الُو ْ‬ ‫معاونة بمال أو رأي أو تكثير سواد أو غير ذلك‪ .‬فالقتال لعلء‬ ‫كلمة ا هو الجهاد‪ .‬أّما الجهاد بالرأي في سبيل ا فهو إن كان‬ ‫رأيا يتعلق مباشرة بالقتال في سبيل ا فهو جهاد‪ ,‬وإن كان ل‬ ‫يتعلق بذلك مباشرة فليس جهادا شرعا‪ ،‬ولو كانت فيه مشقات‪،‬‬ ‫ولو ترتبت عليه فوائد لعلء كلمة ا‪ .‬لن الجهاد شرعا خاص‬ ‫بالقتال‪ ،‬ويدخل فيه كل ما يتعلق مباشرة بالقتال‪ .‬ومثل الرأي‬ ‫الكتابة والخطابة إن كانت متعلقة مباشرة بالقتال كخطبة في‬ ‫الجيش لتحميسه ليباشر القتال أو مقال تحريضي لقتال العداء‬ ‫فهو جهاد وإل ّ فل‪ .‬وعلى ذلك فل يطَلق على الكفاح السياسي‬ ‫جهادا‪ ،‬ومقارعة الحكام المسلمين الظالمين جهادا‪ ،‬وإن كان‬ ‫ثوابه كبيرا‪ ،‬وفوائده للمسلمين عظيمة‪ .‬فالمسألة ليست بالمشقة‬ ‫ول بالفائدة‪ ،‬وإّنما هي بالمعنى الشرعي الذي وردت فيه هذه‬ ‫الكلمة‪ .‬والمعنى الشرعي هو القتال وكل ما يتعلق به من رأي‬ ‫وخطابة وكتابة ومكيدة وغير ذلك‪.‬‬ ‫وسبب الجهاد ليس الجزية‪ ،‬وإن كنا عند قبول الجزية نك ّ‬ ‫ف‬ ‫عنهم‪ .‬وإّنما سبب الجهاد هو كون الذين نقاتلهم كفارا امتنعوا عن‬ ‫قبول الدعوة‪ ،‬قال تعالى‪) :‬قاِتلوا الذين ل يؤمنون بالله ول باليوم‬ ‫خر ول يحّرمون ما حّرم ا ورسوله ول َيدينون دين الحق من‬ ‫ال ِ‬ ‫الذين أوتوا الكتاب حتى ُيعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون(‪،‬‬ ‫فالمر بقتالهم لوصف الكفر‪ ،‬أي قاتلوهم لنهم ل يؤمنون بالله‬ ‫خر‪ ..‬الخ‪ .‬فيكون هذا الوصف قيدا للقتال‪ ،‬وحينئذ‬ ‫ول باليوم ال ِ‬ ‫يصبح سببا‪ ،‬فيكون سبب القتال هو الكفر‪ .‬وقد جاء في آية أخرى‬ ‫)يا أيها الذين آمنوا قاِتلوا الذين يلونكم من الكفار وْلَيجدوا فيكم‬ ‫غلظة(‪ ،‬فأمر بقتالهم لوصف الكفر‪ .‬ومثل ذلك آيات كثيرة مثل‬ ‫ِ‬ ‫)فقاِتلوا أولياء الشيطان(‪) ،‬فقاِتلوا أئمة الكفر(‪) ،‬وقاِتلوا‬ ‫المشركين(‪ ،‬كلها أمر بالقتال لوصف معين هو سبب القتال وهو‬ ‫‪-107-‬‬


‫صغار سبب وقف‬ ‫الكفر‪ .‬أّما إعطاء الجزية فقد جعله القرآن مع ال َ‬ ‫القتال ل سبب القتال‪ ،‬ومن هنا كان سبب الجهاد هو الكفر‪ .‬فإذا‬ ‫َقِبل الذين نقاتلهم الدعوة صاروا مسلمين‪ ،‬وإذا امتنعوا عن‬ ‫اعتناق السلم وَقِبلوا أن يدفعوا الجزية وأن يحكموا بالسلم‬ ‫ُيقبل ذلك منهم وُيمتَنع عن قتالهم‪ ،‬لنه ل يجوز أي ُيكرهوا على‬ ‫اعتناق السلم‪ .‬وما داموا َقِبلوا الحكم به ودفع الجزية فقد‬ ‫خضعوا للدعوة ولو لم يعتنقوا السلم‪ .‬ولذلك ل يجوز قتالهم‬ ‫بعد هذا القبول للحكم به ودفع الجزية‪ .‬أّما إذا قِبلوا الجزية‬ ‫وامتنعوا عن أن يحكموا بالسلم فل يجوز للخليفة أن يقبل ذلك‬ ‫منهم لن سبب القتال وهو كونهم كفارا امتنعوا عن قبول الدعوة‬ ‫ل يزال قائما‪ ،‬فقتالهم ل يزال فرضا لم تسقط فرضيته عن‬ ‫المسلمين‪ .‬أّما المعاهدات الضطرارية التي يقبل فيها الخليفة‬ ‫الجزية لعدم موآتاة الوضاع الخارجية والداخلية له وتْركهم‬ ‫يحكمون أنفسهم بنظام الكفر‪ ،‬فتلك حالة اضطرارية رخص‬ ‫الشرع بها في حالت الضرورة‪ ،‬فل يقاس عليها‪ .‬وعلى هذا فإن‬ ‫سبب الجهاد هو كون الذين نقاتلهم كفارا امتنعوا عن قبول‬ ‫الدعوة وليس هناك أي سبب آخر للجهاد‪ .‬على أن كون الجزية‬ ‫صغار سببا لوقف القتال إّنما يكون من غير مشركي العرب‪،‬‬ ‫مع ال َ‬ ‫أّما مشركو العرب فل ُيقبل منهم إل ّ السلم أو القتل لقوله‬ ‫تعالى‪) :‬تقاتلونهم أو ُيسِلمون(‪.‬‬ ‫ض بنص القرآن والحديث‪ ،‬قال تعالى‪:‬‬ ‫والجهاد فر ٌ‬ ‫)وقاتلوهم حتى ل تكون فتنة ويكون الدين كله لله(‪ ،‬وقال‪:‬‬ ‫خر ول يحّرمون ما حّرم‬ ‫)قاِتلوا الذين ل يؤمنون بالله ول باليوم ال ِ‬ ‫ا ورسوله ول َيدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى‬ ‫ُيعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون(‪ ،‬وقال تعالى ‪)ُ :‬كتب عليكم‬ ‫القتال(‪ ،‬وقال‪) :‬إل ّ َتنِفروا يعّذبكم عذابا أليما(‪ ،‬وقال‪) :‬يا أيها‬ ‫غلظة(‪،‬‬ ‫الذين آمنوا قاِتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم ِ‬ ‫وعن أنس قال‪ :‬قال رسول ا صلى ا عليه وسلم‪) :‬جاهدوا‬ ‫المشركين بأموالكم وأيديكم وألسنتكم(‪ .‬وعن أنس أيضا أن‬ ‫غدوة أو َرْوحة في سبيل ا‬ ‫النبي صلى ا عليه وسلم قال ‪َ) :‬ل َ‬ ‫ُ‬ ‫ت أن‬ ‫خير من الدنيا وما فيها(‪ ،‬وقال صلى ا عليه وسلم ‪) :‬أمر ُ‬ ‫ض إلى‬ ‫أقاتل الناس حتى يقولوا ل إله إل ّ ا(‪ ،‬وقال‪) :‬الجهاد ما ٍ‬ ‫يوم القيامة(‪ ،‬وعن زيد بن خالد قال‪ :‬قال رسول ا صلى ا‬ ‫‪-108-‬‬


‫خَلَفه‬ ‫عليه وسلم‪) :‬من جّهز غازيا في سبيل ا فقد غزا‪ ،‬ومن َ‬ ‫في أهله بخير فقد غزا(‪ ،‬وعن عطاء بن يزيد الليثي أن أبا سعيد‬ ‫خدري رضي ا عنه حّدثه قال‪ :‬قيل‪ :‬يا رسول ا أي الناس‬ ‫ال ُ‬ ‫أفضل؟ فقال رسول ا صلى ا عليه وسلم‪) :‬مؤمن يجاهد‬ ‫في سبيل ا بنفسه وماله(‪ ،‬وقال عليه السلم‪) :‬من مات ولم‬ ‫َيغُز ولم ُيحّدث نفسه بالغزو مات على بقية من النفاق(‪ ،‬وعن‬ ‫ابن أبي أوفى أن رسول ا صلى ا عليه وسلم قال‪) :‬إن الجنة‬ ‫تحت ظلل السيوف(‪ ،‬وعن أبي هريرة قال‪) :‬مّر رجل من‬ ‫شعب فيه عيينة من ماء‬ ‫أصحاب رسول ا صلى ا عليه وسلم ب ِ‬ ‫شعب‬ ‫ت الناس في هذا ال ِ‬ ‫عذب فأعجبته ِلطيبها فقال‪ :‬لو اعتزل ُ‬ ‫ولن أفعل حتى أستأذن رسول ا صلى ا عليه وسلم‪ ،‬فذكر‬ ‫ذلك لرسول ا فقال ‪ :‬ل) تفعل‪ ،‬فإن مقام أحدكم في سبيل ا‬ ‫أفضل من صلته في بيته سبعين عاما(‪.‬‬ ‫والجهاد فرض كفاية ابتداء‪ ،‬وفرض عين إن هجم العدو‬ ‫على من هاجمهم‪ ،‬وفرض كفاية على غيرهم‪ .‬ول يسقط‬ ‫الفرض حتى ُيطرد العدو وتطهر أرض السلم من رجسه‪.‬‬ ‫ومعنى كون الجهاد فرض كفاية ابتداء هو أن نبدأ بقتال العدو‬ ‫ء أحٌد من المسلمين في‬ ‫وإن لم يبدأنا‪ ،‬وإن لم يقم بالقتال ابتدا ً‬ ‫ء إذا قام به أهل مصر سقط‬ ‫زمن ما أِثم الكل بتركه‪ .‬والقتال ابتدا ً‬ ‫عن أهل اندونيسيا إذ قد ُوجد فعل ً قتال من المسلمين للكفار‬ ‫المحاربين فحصل فرض الجهاد‪ .‬أّما إذا نشب القتال بين‬ ‫المسلمين والكفار ولم تحصل الكفاية بقتال الكفار من ِقبل أهل‬ ‫مصر وحدهم‪ ،‬فل تسقط فرضيته عن أهل الهند واندونيسيا بقيام‬ ‫أهل مصر والعراق‪ ،‬بل ُيفرض على القرب فالقرب من العدو‬ ‫إلى أن تقع الكفاية‪ ،‬فلو لم تقع الكفاية إل ّ بكل المسلمين صار‬ ‫الجهاد فرضا على كل المسلمين حتى ُيقهر العدو‪ .‬ومحل كون‬ ‫الجهاد فرض كفاية إذا لم يستنفره الخليفة‪ ،‬أّما من استنفره‬ ‫الخليفة فإن الجهاد أصبح فرضا عليه لقول ا تعالى‪) :‬يا أيها‬ ‫الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انِفروا في سبيل ا اّثاقلُتم إلى‬ ‫الرض(‪ ،‬ولقوله صلى ا عليه وسلم‪) :‬إذا اسُتنِفرُتم فانِفروا(‪.‬‬ ‫ومعنى الكفاية بالجهاد في الدولة السلمية هو أن ينهض للجهاد‬ ‫قوم يكفون في قتالهم‪ ،‬إّما أن يكونوا جندا لهم دواوين من أجل‬ ‫ذلك كما كانت الحال في أيام عمر أو يكونوا قد أعّدوا أنفسهم‬ ‫‪-109-‬‬


‫للجهاد تبرعا كما كانت الحال في أيام أبي بكر‪ ،‬ويكونون سواء‬ ‫صدهم حصلت‬ ‫كان هؤلء أو هؤلء أو هم جميعا بحيث إذا َق َ‬ ‫مَنعة بهم‬ ‫مَنعة بهم فيكون فرض كفاية عليهم‪ ،‬فإن لم تحصل ال َ‬ ‫ال َ‬ ‫جّهز الخليفة غيرهم للجهاد‪ ،‬وهكذا‪ .‬وليس معنى كون الجهاد‬ ‫ء هو أن نبدأ العدو بالقتال رأسا‪ ،‬بل ل بد من دعوته أول ً إلى‬ ‫ابتدا ً‬ ‫السلم‪.‬‬ ‫ول يحل للمسلمين أن يقاِتلوا َمن لم تبُلغه الدعوة‬ ‫السلمية‪ ،‬بل ل بد من دعوة الكفار إلى السلم‪ ،‬فإن أبوا‬ ‫فالجزية‪ ،‬فإن أبوا قاتلناهم‪ .‬فقد ُروي عن سليمان بن يزيد عن‬ ‫أبيه قال‪) :‬كان رسول ا صلى ا عليه وسلم إذا أّمر أميرا على‬ ‫سِرّية أوصاه في خاصته بتقوى ا ومن معه من‬ ‫جيش أو َ‬ ‫المسلمين خيرا ثم قال‪ :‬اغزوا باسم ا‪ ،‬قاتلوا من كفر بالله‪،‬‬ ‫اغزوا ول َتغلوا‪ ،‬ول تغدروا‪ ،‬ول تمّثلوا‪ ،‬ول تقتلوا وليدة‪ ،‬وإذا لقيت‬ ‫عُهم إلى ثلث خصال أو خلل فأيتهن‬ ‫عدوك من المشركين فاد ُ‬ ‫عُهم إلى السلم‪ ،‬فإن‬ ‫ف عنهم‪ .‬اد ُ‬ ‫ما أجابوك فاقبل منهم وُك ّ‬ ‫أجابوك فاقَبل منهم وُكف عنهم‪ ،‬ثم ادعهم إلى التحول من‬ ‫دارهم إلى دار المهاجرين‪ ،‬وأخِبرهم أنهم إن فعلوا ذلك فلهم ما‬ ‫للمهاجرين وعليهم ما على المهاجرين‪ .‬فإن أبوا أن يتحولوا منها‬ ‫فأخِبرهم أنهم يكونوا كأعراب المسلمين يجري عليهم الذي يجري‬ ‫على المسلمين ول يكون لهم في الفيء والغنيمة شيء إل ّ أن‬ ‫سْلُهم الجزية‪ ،‬فإن أجابوك‬ ‫يجاهدوا مع المسلمين‪ .‬فإن هم أبوا ف َ‬ ‫ف عنهم‪ .‬وإن أبوا فاستعن بالله عليهم وقاتلهم(‪،‬‬ ‫فاقَبل منهم وُك ّ‬ ‫وعن ابن عباس قال‪) :‬ما قاَتل رسول ا صلى ا عليه وسلم‬ ‫قوما قط إل ّ دعاهم(‪ ،‬وعن فروة بن مسيك قال‪) :‬قلت‪ :‬يا رسول‬ ‫ت دعاني‬ ‫ما وّلي ُ‬ ‫مقِبل قومي وُمدِبرهم؟ قال‪ :‬نعم‪ .‬فل ّ‬ ‫ا أقاِتل ب ُ‬ ‫فقال ‪:‬ل تقاتلهم حتى تدعوهم إلى السلم(‪.‬‬

‫الخليفة والجهاد‬ ‫الجهاد فرض مطَلق وليس مقيدا بشيء ول مشروطا‬ ‫بشيء‪ ،‬فالية فيه مطَلقة )ُكتب عليكم القتال(‪ .‬فوجود الخليفة ل‬ ‫دخل له في فرض الجهاد‪ ،‬بل الجهاد فرض سواء كان هناك‬ ‫خليفة للمسلمين أم لم يكن‪ .‬إل ّ أنه حين يكون للمسلمين خليفة‬ ‫‪-110-‬‬


‫قد انعقدت خلفته شرعا ولم يخرج عنها بسبب من أسباب‬ ‫ن أمر الجهاد موكول إلى الخليفة واجتهاده ما دام‬ ‫الخروج‪ ،‬فإ ّ‬ ‫خليفة‪ ،‬حتى لو كان فاجرا‪ ،‬ما دام باقيا في مركز الخلفة‪ ،‬ويلَزم‬ ‫الرعية طاعته فيما يرى من ذلك ولو أمر أي واحد منهم أن يغزو‬ ‫مع أمير فاجر‪ِ ،‬لما روى أبو داود بإسناده عن أبي هريرة قال‪:‬‬ ‫قال رسول ا صلى ا عليه وسلم‪) :‬الجهاد واجب عليكم مع‬ ‫كل أمير َبّرا كان أو فاجرا(‪.‬‬ ‫ويجب على خليفة المسلمين في كل وقت أن يبذل مجهوده‬ ‫في الخروج بنفسه أو يبعث الجيوش والسرايا من المسلمين‪ ،‬ثم‬ ‫يثق بجميل وعد ا له تعالى في نصرته بقوله تعالى‪) :‬يا أيها‬ ‫الذين آمنوا إن تنصروا ا ينصركم(‪ .‬وينبغي أن يبتدئ بترتيب‬ ‫جيش في أطراف البلد يكّفون من بإزائهم من الكفار‪ .‬ول يجوز‬ ‫للخليفة أن يخلي أي ثغر من الثغور من جماعة من المسلمين‬ ‫غناء وكفاية لقتال العدو‪ ،‬بل ل بد أن تكون جميع الثغور‬ ‫فيهم َ‬ ‫مشحونة بالجيش السلمي دائما‪ .‬ويجب أن يقيم كل ما يدفع‬ ‫عن المسلمين وعن بلد المسلمين أذى العدو من حصون أو‬ ‫عد ما استطاع من كل نوع من‬ ‫خنادق أو أي شيء‪ ،‬ويجب أن ُي ِ‬ ‫أنواع القوة التي تحمي الدولة السلمية والبلد السلمية من‬ ‫الكفار وكيدهم‪.‬‬ ‫ويجب أن يتولى الخليفة نفسه قيادة الجيش الفعلية في‬ ‫سياسة الجيش وإدارته‪ ،‬وحين يضع عليه قائدا له خبرة عسكرية‬ ‫إّنما يضعه نائبا عنه لن الخليفة ليس القائد العلى للجيش‪ ،‬بل‬ ‫هو القائد الفعلي له‪ .‬فقد كان الرسول صلى ا عليه وسلم‬ ‫يتولى قيادة الجيش بنفسه وحين كان يرسل السرايا يرسلهم‬ ‫باعتباره قائد الجيش‪ .‬وكان عمر يرسل التعليمات التفصيلية‬ ‫لُقّواده في فارس والشام مما يدل على أن الخليفة هو قائد‬ ‫ض على كل فرد من أفراد الجيش‬ ‫الجيش الفعلي‪ .‬وطاعته فر ٌ‬ ‫سواء أكان جنديا أم قائدا‪ ،‬كما هو فرض على كل فرد من أفراد‬ ‫الرعية‪ِ ،‬لما ُروي عن أبي هريرة أنه سمع الرسول صلى ا عليه‬ ‫وسلم يقول‪) :‬نحن الخرون السابقون(‪ ،‬وبهذا السناد )من‬ ‫طع‬ ‫أطاعني فقد أطاع ا ومن عصاني فقد عصى ا ومن ُي ِ‬ ‫المير فقد أطاعني ومن يعصي المير فقد عصاني‪ ،‬وإّنما المام‬ ‫سترة‬ ‫جنة أي ُ‬ ‫جّنة يقاَتل ِمن ورائه وُيّتقى به(‪ ،‬ومعنى كون المام ُ‬ ‫ُ‬ ‫‪-111-‬‬


‫لنه يمنع العدو من أذى المسلمين‪ .‬إل ّ أن على الخليفة أن ل يأمر‬ ‫ن عرف أنهم‬ ‫أمرا جازما ل تردد فيه إل ّ فيما يستطيعه الناس‪ ،‬فإ ْ‬ ‫ل يستطيعونه ل يأمرهم به أمرا مشددا‪ .‬وكذلك ل َيحمل‬ ‫المسلمين على مهلكة ول يأمرهم بما يخشى منه الغدر بهم‪.‬‬ ‫خر‬ ‫هذا إذا كان هنالك خليفة‪ ،‬فإذا عِدم الخليفة لم يؤ ّ‬ ‫الجهاد ول بوجه من الوجوه‪ ،‬لن مصلحته تفوت بتأخيره‪ .‬وإذا‬ ‫بعث الخليفة جيشا وأّمر عليهم أميرا فُقتل أو مات فللجيش أن‬ ‫يؤّمروا أحدهم كما فعل أصحاب النبي في جيش مؤتة وأقّرهم‬ ‫الرسول على ذلك‪ .‬وإذا كان للجيش أمير فليس لحد من الجيش‬ ‫أن يخرج من المعسكر لي غرض من الغراض إل ّ بإذن المير‪،‬‬ ‫وإذا أمر بفعل شيء أو ترك شيء وجبت طاعته وحرمت‬ ‫مخالفته لقول ا تعالى‪) :‬إّنما المؤمنون الذين آمنوا بالله‬ ‫ع لم يذهبوا حتى يستأذنوه(‪،‬‬ ‫ورسوله وإذا كانوا معه على أمر جام ٍ‬ ‫وما ينطبق هنا على النبي ينطبق على الخليفة‪ ،‬ويقاس المير‬ ‫طع المير فقد أطاعني‬ ‫على الخليفة‪ ،‬ولقوله عليه السلم‪) :‬ومن ُي ِ‬ ‫ومن يعصي المير فقد عصاني(‪.‬‬

‫معنى تو ّلي الخليفة لقيادة الجيش‬ ‫الخلفة رئاسة عامة للمسلمين جميعا لقامة أحكام الشرع‬ ‫مل الدعوة السلمية إلى العالم‪ .‬فإقامة أحكام‬ ‫السلمي وح ْ‬ ‫الشرع وحمل الدعوة إلى العالم هما المران اللذان قد ُوجد‬ ‫منصب الخلفة لجلهما‪ ،‬وهما عمل منصب الخلفة‪ .‬فل يصح أن‬ ‫يتولهما أحد غير الخليفة‪ ،‬ول يجوز للخليفة أن يقيم من يتولهما‬ ‫نيابة عنه‪ ،‬لنهما هما المران اللذان بويع عليهما ووقع عقد البيعة‬ ‫فيهما على شخصه‪ ،‬فل يجوز له أن يوكل عنه فيهما‪ ،‬لن كل عقد‬ ‫وقع على شخص العاقد كالجير والوكيل والشريك ل يجوز له أن‬ ‫يوكل غيره في القيام بالعمل الذي جرى العقد عليه‪ .‬وعقد‬ ‫الخلفة حين يجري على شخص معين ل يجوز لهذا الشخص أن‬ ‫يوكل غيره أن يقوم مقامه فيما جرى عقد الخلفة فيه على‬ ‫شخصه وهو الرئاسة العامة للمسلمين لقامة أحكام الشرع‬ ‫وحمل الدعوة‪.‬‬ ‫ومن ذلك يتبين أن حمل الدعوة هو مما قامت الخلفة‬ ‫‪-112-‬‬


‫لجله‪ ،‬أي مما كان وجود الخلفة من حيث هو من أجل القيام به‪.‬‬ ‫فل يجوز أن يتوله غير الخليفة‪ ،‬وإن كان يصح أن يقوم به كل‬ ‫شخص من المسلمين‪ .‬وعليه فإن حمل الدعوة وإن كان فرضا‬ ‫على جميع المسلمين ولكل فرد من المسلمين أن يقوم به ولكنه‬ ‫ل يجوز أن يتوله أحد سوى الخليفة‪.‬‬ ‫وتولي الخليفة حمل الدعوة له طريقة معينة وهي الجهاد‪،‬‬ ‫عد للقتال‪،‬‬ ‫والجهاد إّنما يوجد بالمجاهدين‪ ،‬وبالقوة التي ُت َ‬ ‫وبالقتال نفسه‪ .‬لذلك كان وجود الجيش وتجهيزه وعمله الذي‬ ‫يقوم به‪ ،‬هو الطريقة لحمل الدعوة إلى العالم‪ .‬ومن هنا كان‬ ‫الخليفة هو الذي يتولى قيادة الجيش لنه هو الذي يتولى حمل‬ ‫الدعوة‪ ،‬فهو الذي يتولى الجهاد‪ ،‬فيتولى هو ل غيره قيادة‬ ‫الجيش‪ ،‬ذلك أن توّلي قيادة الجيش ليس القيام بإدارته ول القيام‬ ‫ن هذه كلها أساليب‬ ‫بتدريبه ول القيام بالمور الفنية فيه‪ ،‬فإ ّ‬ ‫ووسائل‪ .‬والخليفة وإن كان يتولى شؤونها توليا عاما ولكنه ل‬ ‫يقوم بها‪ ،‬وإّنما تولي الجيش هو تولي تكوينه‪ ،‬وتولي تجهيزه‪،‬‬ ‫وتولي أمر القيام بأعماله‪ .‬وذلك لن الجندي الذي ينقطع للجهاد‬ ‫عد لرهاب العدو وللقتال تعتبر من أعمال‬ ‫مجاهد‪ ،‬والقوة التي ُت َ‬ ‫الجهاد‪ ،‬ولذلك أمر ا بها حين أمر بالجهاد‪ .‬والقتال نفسه هو‬ ‫الجهاد‪ .‬ولهذا كان توّلي أمر المجاهدين‪ ،‬وأمر إعدادهم‪ ،‬وأمر‬ ‫قيامهم بالقتال إّنما هو للخليفة ليس غير‪ .‬فيكون معنى قيادة‬ ‫الخليفة للجيش هو أن يتولى هو ل غيره رسم السياسة المتعلقة‬ ‫بتكوين الجيش‪ ،‬والسياسة المتعلقة بتجهيزه وإعداده‪ ،‬والسياسة‬ ‫المتعلقة بقيامه بعمله أي بالقتال‪ .‬وأن يتولى هو ل غيره‬ ‫الشراف المباشر على تنفيذ هذه السياسة‪ .‬ولذلك كان الخليفة‬ ‫هو الذي يتولى رسم السياسة العسكرية كلها داخليا وخارجيا‪،‬‬ ‫ورسم سياسة القتال كلها داخليا وخارجيا‪ ،‬ول يصح أن يتولها‬ ‫أحد غيره مطلقا‪ .‬صحيح أنه يجوز له أن يستعين بمن يشاء في‬ ‫رسم هذه السياسة وفي الشراف على تنفيذها ولكنه ل يجوز‬ ‫أن ُيترك لحد غير الخليفة أن يتولها مطلقا‪ .‬هذا هو معنى تولي‬ ‫الخليفة لقيادة الجيش‪ .‬ولهذا ل يجوز أن يتولى هذه القيادة غير‬ ‫الخليفة‪ ،‬ول بوجه من الوجوه‪.‬‬ ‫وهناك مسألتان ناجمتان عن وضع الجيش نفسه من حيث‬ ‫كونه هو القوة التي تقوم بالجهاد بوصفه الطريقة الوحيدة لتوّلي‬ ‫‪-113-‬‬


‫الخليفة لحمل الدعوة‪ .‬ومن حيث كونه هو القوة التي تقوم‬ ‫بحماية السلطان الذي للخليفة أي للدولة داخليا وخارجيا‪ .‬أّما‬ ‫المسألة الناجمة عن وضع الجيش من حيث كونه هو القوة التي‬ ‫تقوم بالجهاد بوصفه طريقة توّلي الخليفة لحمل الدعوة فإنها‬ ‫مسألة تتعلق بالسياسة الخارجية للدولة‪ ،‬وما للجيش والعتبارات‬ ‫العسكرية من مكان فيها‪ .‬وذلك أن السياسة الخارجية للدولة‬ ‫السلمية إّنما تقوم على حمل الدعوة إلى العالم‪ .‬وبما أن‬ ‫طريقة توّلي الخليفة لحمل الدعوة إّنما هي الجهاد‪ ،‬لذلك كانت‬ ‫الدولة السلمية في حالة جهاد دائم‪.‬‬ ‫وعلى هذا فإن الّمة السلمية كلها تؤمن بأن الحرب بينها‬ ‫ملة كل وقت‪ .‬وأن سياسة الدولة يجب‬ ‫وبين غيرها من الدول محت َ‬ ‫أن ُتبنى على العداد الدائم للجهاد‪ .‬وبما أن قتال العداء قتال ً‬ ‫فعليا ل يجوز إل ّ بعد تبليغهم الدعوة السلمية أول ً على وجه‬ ‫َيلفت النظر‪ ،‬لذلك كانت سياسة الدولة السلمية تهدف إلى إيجاد‬ ‫حالة بينها وبين غيرها من الدول يتأتى بها تبليغ السلم إلى‬ ‫الشعوب والمم على وجه َيلفت النظر‪ ،‬وأن تبني ذلك على‬ ‫العداد لخوض الحرب في كل وقت إذا اقتضى ذلك حمل‬ ‫الدعوة‪ .‬فإيجاد حالة يتأتى معها تبليغ أفكار السلم وأحكامه‬ ‫على وجه َيلفت النظر أمر ل بد منه‪ ،‬لنها حكم من أحكام الجهاد‬ ‫وشرط أساسي للبدء بالقتال الفعلي‪ .‬ولذلك يتحتم على الخليفة‬ ‫إيجاد هذه الحالة‪ ،‬ويجب عليه في سبيل إيجادها أن يبذل أقصى‬ ‫ما يستطيع من جهد وينفق ما يحتاجه إيجادها من مال‪ ،‬كما يجب‬ ‫عليه أن يخوض بعض المخاطر من أجلها تماما كما يخوض‬ ‫المخاطر من أجل الفتح أو الذود عن بيضة السلم أو حماية ِذمار‬ ‫المسلمين‪ .‬ولذلك كان توفير القوة العسكرية والعناية بالعداد‬ ‫العسكري والحاطة بالتقديرات العسكرية جزءا جوهريا في‬ ‫إيجاد هذه الحالة والمحافظة عليها‪ ،‬لن القوة العسكرية هي‬ ‫الدرع الوحيد ضد قوى الكفر وضد دول الكفر‪ .‬وهذا ما يجعل‬ ‫للجيش أو القوات العسكرية أثرا في تولي الخليفة لحمل الدعوة‪،‬‬ ‫وهذا يعني أن للجيش والقوات المسلحة أثرا في السياسة‬ ‫الخارجية لنها هي عمادها‪ .‬ومن هنا يأتي الخطر على السياسة‬ ‫الخارجية‪ ،‬أي على توّلي الخليفة لحمل الدعوة‪ .‬ولذلك ل بد من‬ ‫إدراك هذه المسألة على حقيقتها من حيث أثر الجيش في توّلي‬ ‫‪-114-‬‬


‫الخليفة لحمل الدعوة‪ ،‬أي من حيث خطر ذلك على سياسة الدولة‬ ‫الخارجية‪ .‬وإذا لم ُتدَرك هذه المسألة على حقيقتها فإنه ينتج عنها‬ ‫إما وقوف حمل الدعوة إلى العالم‪ ،‬وإما اضطراب وتدهور‬ ‫السياسة الخارجية‪.‬‬ ‫إن بناء قوة عسكرية للدولة السلمية ليس مجرد تجهيز‬ ‫دفاعي فحسب‪ ،‬وإّنما هو المر الحتمي الذي ل بد منه ليتأتى‬ ‫للخليفة القيام بما بايعه المسلمون عليه‪ .‬أي ليتأتى للدولة أن‬ ‫تقوم بما فرضه ا عليها وهو حمل الدعوة‪ .‬أو بعبارة أخرى‬ ‫ليتأتى للدولة أن تقوم بسياستها الخارجية على الوجه الذي فرضه‬ ‫ا‪ ،‬وأن تحافظ على بقاء تسيير هذه السياسة تسييرا صحيحا‬ ‫منِتجا‪ .‬ولذلك كان بناء القوة العسكرية فوق كونه الدرع الوحيد‬ ‫الذي تملكه الّمة ضد إرهاب الكفار الحربيين واحتمال غزوهم‪،‬‬ ‫هو الطريقة الوحيدة لجعل سياسة الدولة الخارجية سياسة‬ ‫إسلمية‪.‬‬ ‫إل ّ أن كون الدولة السلمية ملَزمة حتما ببناء قوة عسكرية‬ ‫بجهاز عسكري قوي‪ ،‬ليس معناه أن تسيطر العتبارات العسكرية‬ ‫على سياسة الدولة الخارجية‪ ،‬ول أن يكون للجهاز العسكري أثر‬ ‫ل أم كُثر‪ .‬وذلك أن‬ ‫في السياسة الخارجية‪ ،‬مهما كان هذا الثر‪ ،‬ق ّ‬ ‫الرأي العسكري هو رأي محترفين لحرفة معينة‪ ،‬صادر من أولئك‬ ‫الذين ِمن وظيفتهم أن يضمنوا للدولة المزايا العسكرية إذا وقعت‬ ‫الحرب بينها وبين غيرها من الدول‪ .‬ومن الطبيعي والمتوقع أن‬ ‫يشمل رأيهم جميع الحتياطات‪ .‬ولكنه ل يصح أن يتجاوز في‬ ‫اعتباره كونه نصيحة فحسب‪ ،‬ول يجوز أن يتجاوز كونه نصيحة‬ ‫أناس محترفين لحرفة معينة في حرفتهم ل يتجاوز تفكيرهم في‬ ‫الموضوع هذه الناحية المعينة‪ .‬ولذلك ل يصح اّتباع هذه النصيحة‬ ‫في كل صغيرة وكبيرة‪ ،‬ول يصح بحثها إل ّ فيما تحتله من مكان‬ ‫في البحث العام للسياسة الخارجية‪ ،‬فتؤخذ في فنها فقط وتؤخذ‬ ‫حين يكون فنها وما أعطيت فيه في محله في السياسة الخارجية‪،‬‬ ‫فهي نصيحة وليست شورى‪ ،‬أي يطلبها الخليفة حين يبحث‬ ‫السياسة الخارجية‪ ،‬ويجوز أن يسمعها إذا قيلت له مجرد سماع‪،‬‬ ‫على أن يكون في حالة وعي على السياسة الخارجية وفي حالة‬ ‫وعي على مكان هذه النصيحة في مخططات السياسة الخارجية‪،‬‬ ‫ول يصح أن يعطيها أكثر من ذلك‪ .‬لنه إذا لم يفعل هذا وأعطاها‬ ‫‪-115-‬‬


‫قدرا أكبر من كونها نصيحة‪ ،‬فإنه ول شك سيحصل الخطر على‬ ‫السياسة الخارجية‪ ،‬إما اضطرابا وتدهورا في السياسة الخارجية‬ ‫وإما وقوفا عن حمل الدعوة‪ .‬بل قد يحصل أكثر من ذلك‪ ،‬إذ قد‬ ‫يحصل تدهور في الدولة وانحسار عن الرقعة التي تبسط‬ ‫سلطانها عليها‪ .‬ولذلك ل يجوز أن يعطى للرأي العسكري أكثر من‬ ‫كونه مجرد نصيحة‪.‬‬ ‫والعسكريون حين يؤدون عملهم بصفتهم العسكرية فإنهم‬ ‫خلون في اعتباراتهم الستفادة من‬ ‫يؤدونه كأخصائيين‪ .‬إنهم ل ُيد ِ‬ ‫الرأي العام العالمي‪ ،‬ول يفكرون في كون الدعوة إلى السلم‬ ‫بلغت على وجه َيلفت النظر وأثر ذلك في لقاء العدو‪ .‬وهم ل‬ ‫يحاولون أن يأخذوا في حسبانهم المكانيات الهائلة في القوى‬ ‫ملة‬ ‫ح َ‬ ‫الروحية والقوى المعنوية‪ .‬وهم ل يهتمون بفهم أعمال َ‬ ‫الدعوة الذين يعيشون في بلد العدو أو يذهبون للدعوة فيها‪ .‬ول‬ ‫يدركون وسائل الدبلوماسية ول مقدار التأثير العظيم للعمال‬ ‫السياسية‪ .‬ومن أجل ذلك يكون تفكير العسكريين تفكيرا‬ ‫موضوعيا ل تفكيرا سياسيا شامل ً‪ .‬فإذا ُأخذت نصيحتهم كانت‬ ‫نصيحة قّيمة في موضوعها‪ ،‬ولكن إذا أعطوا صلحية العمل‬ ‫والتقرير وكان لرأيهم أي نوع من اللزام فإنه ول شك يسبب‬ ‫ضررا في القرارات السياسية والسير السياسي‪ .‬ولهذا ل يجوز أن‬ ‫ُيسمح للجهاز العسكري أن يكون له أثر في السياسة الخارجية‪،‬‬ ‫ول يجوز أن تحتل آراء العسكريين مكانا يتجاوز كونها مجرد‬ ‫نصيحة فنية ليس غير‪ ،‬ل مطلق نصيحة‪.‬‬ ‫إل ّ أنه ليس معنى حصر مكانة آراء العسكريين في كونها‬ ‫مجرد نصيحة فنية فحسب هو التفريط في التقديرات العسكرية‪،‬‬ ‫بل معناه فقط هو أن الخليفة يجب أن تسيطر تقديراته على‬ ‫التقديرات العسكرية‪ ،‬وعليه وهو يرسم الخطط النهائية أن يكون‬ ‫مل المسؤولية في تجاهل التقديرات العسكرية البحتة‬ ‫مستعدا لتح ّ‬ ‫في بعض الحيان‪ .‬ويجب أن يجعل تقديرات غيره من غير‬ ‫العسكريين كالمعاونين والولة وكأهل الحل والعقد والمفكرين‪،‬‬ ‫أكثر من تقديرات العسكريين‪ ،‬ولكنه يجب على الخليفة أن يقّدر‬ ‫مكانة العسكريين العالية في الدولة‪ ،‬سواء من حيث الدفاع عن‬ ‫البلد أو من حيث بدء الكفار بالجهاد‪ ،‬ولذلك يجب عليه وعلى‬ ‫الّمة كلها المحافظة على القوة العسكرية كما يحاِفظ الفرد على‬ ‫‪-116-‬‬


‫حّبة عينه‪ .‬ولكن يجب أن يكون السياسيون وليس العسكريين‬ ‫هم الذين يهيمنون على رسم السياسة الخارجية‪ ،‬وهم الذين‬ ‫يقررون كيفية الستعداد لمواجهة أخطار الحرب‪ ،‬وما إذا كانوا‬ ‫سيدخلون الحرب‪ ،‬وإذا كان ذلك فبأي سرعة ومتى‪ .‬ويجب أن‬ ‫يجعل الخليفة من القوة العسكرية إدارة تابعة دائما‪ ،‬وأن ل‬ ‫يسمح للجهاز العسكري ول لي فرد فيه أن يتجاوز دور التابع‬ ‫للسياسة ل دور الراسم لها‪.‬‬ ‫هذا من حيث دور الجهاز العسكري وآراؤه‪ .‬أّما من حيث‬ ‫اعتبار الخليفة للعتبارات العسكرية فإنه ل يكفي أن يأخذها‬ ‫مجرد نصيحة فنية ليس غير ثم يجعل للعتبارات العسكرية أثرا‬ ‫في تقريره السياسة الخارجية‪ ،‬بل ل بد أن تكون العتبارات‬ ‫العسكرية مجرد نصيحة في أخذها‪ ،‬ول بد أن يحال بينها وبين أن‬ ‫يكون لها أي أثر في السياسة الخارجية‪ .‬أي أنه ل يجوز أن ُتبنى‬ ‫السياسة الخارجية عليها أو أن تكون عامل ً مؤثرا فيها‪ ،‬فإن من‬ ‫الخطورة أن تتحكم العتبارات العسكرية في السياسة الخارجية‪.‬‬ ‫بل يجب إبقاء العتبارات العسكرية في مؤخرة سياسة الدولة‬ ‫الخارجية‪ ،‬ويجب أن تظل التقديرات العسكرية من حيث كونها‬ ‫تقديرات عسكرية‪ ،‬سواء صدرت عن العسكرين أم عن غير‬ ‫العسكريين‪ ،‬في منأى عن التأثير على الخليفة حين رسم‬ ‫السياسة الخارجية‪.‬‬ ‫إن المور العسكرية تأخذ شكل ً مفصل ً ملموسا‪ .‬فأنت‬ ‫تستطيع أن ترى المدافع والسفن الحربية والطائرات والقواعد‬ ‫والقنابل النووية والصواريخ‪ .‬وتستطيع أن تقتنع بسهولة وُيسر في‬ ‫آثارها على النصر أو الهزيمة‪ ،‬على الفتح أو النحسار‪ ،‬على التقدم‬ ‫أو التقهقر‪ .‬فهي أشياء مادية يمكن أن تقاس أبعادها‪ ،‬ولها آثار‬ ‫مادية يمكن أن ُتلمس نتائجها‪ .‬بخلف القوى الروحية والقوى‬ ‫المعنوية‪ ،‬وبخلف المناورات السياسية‪ ،‬وبخلف الرأي العام‬ ‫المحلي أو الرأي العام العالمي‪ ،‬فإن هذه ليست أمورا مادية‬ ‫وليس من السهل إدراك آثارها ولمس نتائجها‪ ،‬لنها أشياء غير‬ ‫ملموسة ل ُترى ول ُتحس مع أنها أعظم أهمية وأكثر حيوية في‬ ‫السياسة الخارجية‪ ،‬حتى في الحرب والفتح‪ .‬ولذلك يجب أن تظل‬ ‫العتبارات العسكرية في مؤخرة السياسة الخارجية وأن تكون‬ ‫ثانوية فيها‪ ،‬وأن يظل اعتبار القوى الروحية أول ً ثم القوى‬ ‫‪-117-‬‬


‫المعنوية هو المسيطر‪ .‬وأن يكون للمناورات السياسية وللدهاء‬ ‫معا في‬ ‫السياسي مكانة بارزة من العتبار‪ ،‬وأن يكون ذلك مجت ِ‬ ‫قوة سياسية واحدة غير قابلة للتجزئة يتولها الخليفة وحده‪ .‬ومن‬ ‫هنا نستطيع أن ندرك معنى توّلي الخليفة وحده قيادة الجيش‬ ‫الفعلية‪ ،‬وخطر جعلها له قيادة شكلية أو قائدا أعلى على حد‬ ‫بعض التعابير‪.‬‬ ‫ولقد كان لجعل العتبارات العسكرية تسيطر على السياسة‬ ‫الخارجية عند بعض الخلفاء أثر فظيع أدى إلى وقف حمل‬ ‫الدعوة إلى العالم في العصر الثاني من عصر العباسيين وفي‬ ‫أواخر عصر العثمانيين‪ .‬فقد وقفت الفتوحات السلمية في بلد‬ ‫الروم عند حدود البلد التركية من جهة بلد الشام‪ ،‬وفي بلد‬ ‫أوروبا الغربية رجعت عن فرنسا ووقفت عند حدود اسبانيا‬ ‫بالرغم من أن الطاقة الروحية كانت ل تزال قوية‪ ،‬وأن الفكار‬ ‫السلمية أخذت دور العراقة والتركيز‪ .‬ولكن حين كان‬ ‫العسكريون ُيعطون آراءهم في قوتهم وقوة العدو وُيجعل لهذه‬ ‫الراء العتبار الول في دخول الحرب أو عدم دخولها‪ ،‬كان القرار‬ ‫القتصار على حملت الصوائف والشواتي لبقاء الجهاد موجودا‬ ‫عمل ً بأحكام الشرع دون أن يتجاوز ذلك إلى أعمال سياسية أو‬ ‫إلى اعتبارات سياسية‪ .‬وفي أيام العثمانيين وصلت الجيوش‬ ‫السلمية أسوار فيينا في النمسا بعد أن اكتسحت أوروبا من‬ ‫اليونان وبلغاريا ورومانيا والبانيا وبسطت سلطان السلم على‬ ‫تلك الربوع كلها‪ .‬حتى كان الرأي العام في أوروبا أن الجيش‬ ‫السلمي ل ُيغَلب‪ .‬وحين سيطرت العتبارات العسكرية على‬ ‫السياسة الخارجية على إثر النقلب الصناعي الذي حدث في‬ ‫أوروبا في القرن الثامن عشر الميلدي‪ ،‬وقف المد السلمي وبدأ‬ ‫الجزر الذي أدى إلى التدمير الكامل لسلطان السلم‪.‬‬ ‫هذا من حيث كون الجيش هو القوة التي تقوم بالجهاد‪ .‬أّما‬ ‫من حيث كونه هو القوة التي تقوم بحماية السلطان داخليا‬ ‫وخارجيا‪ ،‬فإن هذا يتعلق بالقوة المادية من حيث كونها هي حياة‬ ‫السلطان أي الحكم‪ .‬فهي التي تحفظه وهي التي بإمكانها أن‬ ‫تهدمه وبإمكانها أن تقيمه وإن كانت إقامة مؤقتة‪ .‬ولهذا فإن مقام‬ ‫الجيش والقوات المسلحة مكان ضخم في السلطان من حيث‬ ‫هو سلطان‪ .‬وهذا يوحي بأن للجيش أثرا كبيرا في السلطان‪.‬‬ ‫‪-118-‬‬


‫ولكن الحقيقة إذا جاز أن يكون للعتبارات العسكرية وجود في‬ ‫السياسة الخارجية من حيث أخذ نصيحتها فإنه ل يجوز بحال من‬ ‫الحوال أن يكون للجهاز العسكري ول لي فرد فيه أي وجود في‬ ‫السلطان من حيث كونه عسكريا‪ ،‬لن السلطان وإن كان ُيحفظ‬ ‫بالجهاز العسكري ولكنه ل وجود للعسكرية فيه‪ .‬فالسلطان ليس‬ ‫مدا من القوة المادية‪ ،‬وإّنما هو‬ ‫قوة مادية ملموسة‪ ،‬وليس مست َ‬ ‫مد من الّمة أو‬ ‫تنفيذ التنظيم للعلقات في المجتمع‪ .‬وهو مست َ‬ ‫الشعب‪ ،‬لنه يكمن حقيقًة فيه‪ ،‬أو في الفئة القوى منه‪ .‬ول‬ ‫علقة للعسكرية ول للجهاز العسكري فيه‪ .‬نعم إن التنفيذ إّنما‬ ‫يقوم به العسكريون‪ ،‬ويستحيل أن يوجد دون قوة مادية أي دون‬ ‫العسكريين‪ .‬ولكن دورهم فيه هو دور الداة ليس غير‪ .‬ول يجوز‬ ‫أن يتجاوز دورهم في التنفيذ دور البندقية في يد الجندي ُيطِلق‬ ‫منها النار على العدو ولكنه ل إرادة لها في الطلق ول رأي لها‬ ‫فيه‪ .‬ومن الخطر على الحكم أن يكون للعسكريين في السلطان‬ ‫جد لهم‬ ‫ن أي دور يو َ‬ ‫أي الحكم أي وجود ول بحال من الحوال‪ .‬فإ ّ‬ ‫ل يجعله حكما بوليسيا كحكم الشرطي للسجين‪ ،‬ل‬ ‫فيه مهما ق ّ‬ ‫سلطانا ينفذ تنظيم العلقات‪.‬‬ ‫ل يكون‬ ‫ن أي دور يوجد للعسكريين في السلطان مهما ق ّ‬ ‫إ ّ‬ ‫خطرا على الحكم وعلى الحاكم وعلى كيان البلد‪ .‬وذلك أن‬ ‫الحكم فيه تحري الحق‪ ،‬وفيه التقيد بالشرع‪ ،‬وفيه تحقيق العدل‪.‬‬ ‫وهو ل يعطي أي اعتبار للقوة المادية حين الحكم‪ ،‬ل عند الحاكم‬ ‫ول عند المحكومين‪ .‬وقّوته تكمن في الحساس بشؤون الناس‬ ‫ورعايتها‪ ،‬ل بما لديه من أدوات تنفيذ‪ .‬فإذا ُوجدت القوة المادية‬ ‫فيه أفسدته من حيث هو حكم وحّولته إلى مجرد سيطرة‬ ‫كم‪ ،‬وانعدمت فيه حينئذ حقيقة الحكم والسلطان‪ .‬ولذلك ل‬ ‫وتح ّ‬ ‫يصح أن يكون للعسكريين ول للجهاز العسكري أي وجود فيه‪ ،‬بل‬ ‫يجب أن يظلوا بيد الحاكم أداة ل إرادة لها في الحكم ول رأي لها‬ ‫فيه مطلقا‪ ،‬بل مجرد أداة صماء خالية من كل ما يمت له بصلة‬ ‫من إرادة ورأي وغير ذلك‪.‬‬ ‫هذا من حيث خطرها على نفس الحكم‪ .‬أّما من حيث‬ ‫خطرها على الحاكم‪ ،‬فإن الجهاز العسكري أو العسكريين بشر‬ ‫وفيهم غريزة البقاء‪ ،‬ومن أهم مظاهرها السيادة‪ .‬فإذا ُترك لهم‬ ‫أن يكون لهم وجود في الحكم‪ ،‬ورأوا أنفسهم أنهم قادرون على‬ ‫‪-119-‬‬


‫هدم الحاكم‪ ،‬وأنهم هم الذين يحَفظونه ويحفظون سلطانه‬ ‫مد الحاكم سلطانه‪،‬‬ ‫هموا أنهم مصدر السلطان‪ ،‬وأن منهم يست ِ‬ ‫تو ّ‬ ‫فتتحرك فيهم أحاسيس السيادة وَيِثبون عليه –والقوة المادية‬ ‫بأيديهم‪ -‬فيغتصبون الحكم منه‪ .‬ولهذا كان من الخطر الفادح على‬ ‫الحاكم أن يجعل للجهاز العسكري أو للعسكريين أي وجود في‬ ‫السلطان‪ .‬وقد حصل ذلك في الدولة السلمية في عصر‬ ‫عفوا أمام‬ ‫ض ُ‬ ‫ن بعض الخلفاء َ‬ ‫العباسيين وفي عصر العثمانيين‪ ،‬فإ ّ‬ ‫العسكريين فما كان منهم إل ّ أن قلبوهم أو جعلوهم أداة في‬ ‫أيديهم‪ .‬وكان من جراء ذلك‪ ،‬النحدار الذي حصل في الحكم في‬ ‫الدولة السلمية أيام هؤلء الخلفاء‪.‬‬ ‫أّما خطر وجود أي دور للعسكريين في الحكم على كيان‬ ‫الّمة وكيان الدولة‪ ،‬فإن الدولة السلمية من طبيعة الفكرة التي‬ ‫تحملها تكون محاطة بالعداء‪ .‬والحكم الشرعي الذي يجب أن‬ ‫تتقيد به الدولة والّمة‪ ،‬أن العالم كله دار إسلم ودار حرب‪.‬‬ ‫فالبلد التي ُتحكم بالسلم وتظللها الراية السلمية هي دار‬ ‫إسلم‪ ،‬وما عداها من جميع بقاع العالم دار كفر أي دار حرب‪.‬‬ ‫ولذلك تكون الدولة السلمية في جميع العصور محاطة بأعداء‬ ‫يتربصون بها الدوائر‪ .‬فإذا ُترك للعسكريين وجود في الحكم مهما‬ ‫ل دورهم فيه‪ ،‬فإن إغراءهم من العداء أسهل من إغراء‬ ‫ق ّ‬ ‫السياسيين‪ ،‬لن الصل في عملهم أنه عمل عسكري مادي‬ ‫عب عليهم إدراك المناورات البعيدة والتفريعات السياسية‬ ‫فيص ُ‬ ‫الخفية‪ .‬ولذلك قد ُيغَرْون بأخذ الحكم أو بتغيير الحكام مقابل‬ ‫مكاسب للبلد حسب فهمهم‪ ،‬أو مكاسب شخصية لهم‪ .‬وهنا يقع‬ ‫الخطر ل على أشخاص الحكام ول على نفس الحكم بل على‬ ‫كيان الّمة وكيان الدولة‪ .‬لن كيان الّمة هو مجموعة الناس مع‬ ‫مجموعة من المفاهيم والمقاييس والقناعات‪ .‬وكيان الدولة هو‬ ‫مجموعة من الناس لهم صلحية الحكم مع مجموعة من‬ ‫المقاييس والمفاهيم والقناعات‪ .‬فإذا أخذ الحكم العسكريون‬ ‫بإغراء خارجي تسربت إليهم –أي إلى العسكريين‪ -‬مفاهيم‬ ‫ومقاييس وقناعات غير التي في الدولة‪ .‬وبذلك يتسرب الخلل إلى‬ ‫كيان الدولة ثم إلى كيان الّمة بل ربما يتسرب فوق ذلك نفوذ‬ ‫الدول الكافرة‪ ،‬وهنا يحصل الضمحلل والزوال‪ .‬ومن هنا كان‬ ‫السماح بأي وجود للجهاز العسكري أو للعسكريين في السلطان‬ ‫‪-120-‬‬


‫أي الحكم‪ ،‬خطرا فظيعا‪.‬‬ ‫ولقد عانت الّمة السلمية من خطر وجود دور للعسكريين‬ ‫في السلطان ما عانت من تسّرب الخلل إلى كيان الدولة والّمة‪،‬‬ ‫ثم إلى زوال كيان الدولة السلمية وكيان الّمة السلمية من‬ ‫الوجود‪ .‬ففي أواخر العثمانيين صارت سفارات الدول الكافرة‬ ‫في استانبول تؤثر على العسكريين حتى أخذت تتسرب إلى جهاز‬ ‫الدولة مفاهيم ومقاييس وقناعات غير إسلمية‪ .‬ودور مدحت‬ ‫باشا والضباط الذين معه في إيجاد هذه المفاهيم والمقاييس‬ ‫والقناعات من أبرز الدوار‪ ،‬ول سيما في النقلب الذي جاء‬ ‫بعبدالحميد خليفة‪ ،‬والنقلب الذي أطاح بعبدالحميد عن الخلفة‬ ‫وجاء بمحمد رشاد خليفة‪ .‬وقبل ذلك كان دور محمد علي الكبير‬ ‫في مصر في جعله نفسه عميل ً لفرنسا لضرب الخلفة السلمية‬ ‫في استانبول‪ .‬ثم كان دور مصطفى كمال عقب هزيمة الدولة‬ ‫العثمانية في الحرب العالمية الثانية في تآمره مع انجلترا في‬ ‫القضاء على الخلفة مقابل انسحاب الحلفاء من استانبول‬ ‫ومساعدته في مؤتمر الصلح‪ .‬فهذه الدوار التي قام بها‬ ‫العسكريون قد زعزعت كيان الدولة السلمية ثم أزالته وأزالت‬ ‫كيان الّمة السلمية من الوجود‪ .‬ولهذا ل يجوز أن ُيسمح للجهاز‬ ‫العسكري أو العسكريين أي وجود في السلطان‪.‬‬

‫الشهيـد‬ ‫الشهداء ثلثة أقسام‪ :‬شهيد في الخرة دون أحكام الدنيا‪،‬‬ ‫وشهيد في الدنيا فحسب‪ ،‬وشهيد في الدنيا والخرة‪ .‬أّما شهيد‬ ‫الخرة وحدها دون أحكام الدنيا‪ ،‬فهم المذكورون في الحاديث‬ ‫وهم في بعض الروايات سبعة وفي بعضها ثمانية وفي بعضها‬ ‫تسعة وفي بعضها أحد عشر‪ .‬والصحيح كما ورد في مسلم أنهم‬ ‫مطعون وهو الذي يموت في الطاعون أي الوباء‬ ‫خمسة وهم‪ :‬ال َ‬ ‫المعروف‪ .‬والمبطون وهو صاحب السهال‪ .‬والغرق وهو الذي‬ ‫يموت بسبب الماء‪ .‬وصاحب الهدم أي البناء المهدوم‪ .‬ومن يموت‬ ‫في سبيل إعلء كلمة ا في غير المعركة‪ .‬روى مسلم عن أبي‬ ‫هريرة أن رسول ا صلى ا عليه وسلم قال‪) :‬بينما رجل‬ ‫خره فشكر ا‬ ‫يمشي بطريق وجد غصن شوك على الطريق فأ ّ‬ ‫‪-121-‬‬


‫له وقال‪ :‬الشهداء خمسة‪ :‬المطعون والمبطون والغرق وصاحب‬ ‫ل(‪ .‬وروى مسلم عن أبي‬ ‫الهدم والشهيد في سبيل ا عز وج ّ‬ ‫عّدون‬ ‫هريرة قال‪ :‬قال رسول ا صلى ا عليه وسلم‪) :‬ما َت ُ‬ ‫الشهيد فيكم؟ قالوا‪ :‬يا رسول ا من ُقتل في سبيل ا فهو‬ ‫شهيد‪ .‬قال‪ :‬إن شهداء أّمتي إذا لقليل‪ .‬قالوا‪ :‬فمن هم يا رسول‬ ‫ا؟ قال‪ :‬من ُقتل في سبيل ا فهو شهيد‪ ،‬ومن مات في سبيل‬ ‫ا فهو شهيد‪ ،‬ومن مات في الطاعون فهو شهيد‪ ،‬ومن مات في‬ ‫البطن فهو شهيد‪ .‬قال ابن مقسم‪ :‬اشهد على أبيك في هذا‬ ‫الحديث أنه قال والغريق شهيد(‪ .‬والمراد بشهادة هؤلء كلهم‬ ‫أنهم يكون لهم في الخرة ثواب الشهداء‪ ،‬وأّما في الدنيا‬ ‫فُيغسلون وُيصلى عليهم‪ .‬وإذا قيلت كلمة شهيد في معرض‬ ‫الثواب والحديث عنه فيصح إطلقها على هؤلء‪ .‬أّما إذا ُأطلقت‬ ‫كلمة شهيد في الكلم إطلقا دون أن تكون معها أية قرينة‪ ،‬فل‬ ‫تنصرف إلى هؤلء بل تنصرف إلى الذي ُيقتل في سبيل ا ليس‬ ‫غير‪.‬‬ ‫وأّما شهيد الدنيا دون الخرة‪ ،‬فهو الذي يأخذ أحكام الشهيد‬ ‫في الدنيا من حيث أنه ل ُيغسل ول ُيصلى عليه بل ُيدفن في‬ ‫ثيابه‪ ،‬ولكنه ل يأخذ في الخرة ثواب الشهداء الذين قاتلوا لتكون‬ ‫كلمة ا هي العليا‪ .‬وهذا هو الذي يقاِتل في غير سبيل ا بأن‬ ‫قاَتل للسمعة أو من أجل الغنيمة فقط أو قاتل ُمدبرا‪ .‬وذلك لن‬ ‫الحاديث خصصت الثواب للشهيد بالشهيد الذي يقاِتل في سبيل‬ ‫ا والذي يقاِتل مقِبل ً غير مدِبر‪ .‬عن أبي موسى الشعري أن‬ ‫رجل ً أتى النبي صلى ا عليه وسلم فقال‪ :‬يا رسول ا‪ ،‬الرجل‬ ‫يقاِتل للمغَنم‪ ،‬والرجل يقاِتل لُيذَكر‪ ،‬والرجل يقاِتل لُيرى مكانه‪،‬‬ ‫من في سبيل ا؟ فقال رسول ا صلى ا عليه وسلم‪ :‬من‬ ‫ف َ‬ ‫قاتل لتكون كلمة ا أعلى فهو في سبيل ا(‪ .‬وروى مسلم عن‬ ‫أبي موسى قال‪ :‬سئل رسول ا صلى ا عليه وسلم عن‬ ‫الرجل يقاِتل شجاعة‪ ،‬ويقاِتل حمّية‪ ،‬ويقاِتل ِرياء‪ ،‬أي ذلك في‬ ‫سبيل ا؟ فقال رسول ا صلى ا عليه وسلم‪ :‬من قاتل‬ ‫لتكون كلمة ا هي العليا فهو في سبيل ا(‪ .‬وقد اشَترط‬ ‫الرسول غفران الذنوب للشهيد أن يقاِتل مقِبل ً غير مدِبر‪ ،‬عن‬ ‫عبدا بن أبي قتادة عن قتادة أنه سمعه يحّدث عن رسول ا‬ ‫صلى ا عليه وسلم أنه قام فيهم فذكر لهم أن الجهاد في سبيل‬ ‫‪-122-‬‬


‫ا واليمان بالله أفضل العمال‪ .‬فقام رجل فقال‪ :‬يا رسول ا‬ ‫أرأيتَ إن ُقتلت في سبيل ا ُتكّفر عني خطاياي؟ فقال له‬ ‫ت في سبيل ا‬ ‫رسول ا صلى ا عليه وسلم‪ :‬نعم‪ ،‬إن ُقتل َ‬ ‫سب ُمقِبل غير مدِبر‪ .‬ثم قال رسول ا صلى ا‬ ‫وأنت صابر محَت ِ‬ ‫ت إن ُقتلت في سبيل ا ُتكّفر‬ ‫عليه وسلم‪ :‬كيف قلت؟ قال‪ :‬أرأي َ‬ ‫عني خطاياي؟ فقال رسول ا صلى ا عليه وسلم‪ :‬نعم‪ ،‬إن‬ ‫سب ُمقِبل غير مدِبر‪ .‬إل ّ‬ ‫ُقتلتَ في سبيل ا وأنت صابر محَت ِ‬ ‫ن جبريل عليه السلم قال لي ذلك(‪ ،‬ومفهوم هذا أنه إن‬ ‫الدْين‪ ،‬فإ ّ‬ ‫قاتل مدِبرا ل ُتكّفر عنه ذنوبه وليس له ثواب الشهيد‪ .‬على أن‬ ‫الذي يقاِتل لجل السمعة قد بّين الرسول صلى ا عليه وسلم‬ ‫ماه شهيدا‪ .‬روى مسلم عن سليمان بن يسار قال‪:‬‬ ‫أنه ُيعّذب وس ّ‬ ‫تفّرق الناس عن أبي هريرة فقال له نائل أهل الشام‪ :‬أيها الشيخ‬ ‫حّدثنا حديثا سمعَته من رسول ا صلى ا عليه وسلم‪ .‬قال‪:‬‬ ‫نعم‪ .‬سمعتُ رسول ا صلى ا عليه وسلم يقول‪ :‬إن أول‬ ‫الناس ُيقضى يوم القيامة عليه رجل استشهد فُأتي به فعّرفه‬ ‫ل فيك حتى‬ ‫ت فيها؟ قال‪ :‬قات ُ‬ ‫نعمه فعرفها‪ .‬قال‪ :‬فما عمل َ‬ ‫ت لن يقال جريء‪ ،‬فقد قيل‪.‬‬ ‫ت‪ ،‬ولكنك قاتل َ‬ ‫اسُتشهدت‪ .‬قال‪ :‬كذب َ‬ ‫ُ‬ ‫سحب على وجهه حتى ألقي في النار( إلى آخر‬ ‫ثم ُأمر به ف ُ‬ ‫الحديث‪ .‬فهذا يدل على أن من قاتل للسمعة ولو أخذ أحكام‬ ‫الشهيد في الدنيا ولكنه يوم القيامة ل يكون له ثواب الشهيد‪ ،‬بل‬ ‫يعّذب‪.‬‬ ‫أّما شهيد الدنيا والخرة فهو من قاتل الكفار لعلء كلمة‬ ‫ا وُقتل في معركة بين المسلمين والكفار‪ ،‬سواء أكان القتال‬ ‫ن الذين ُقتلوا‬ ‫ببلد الحرب أو ببلد السلم‪ .‬قال تعالى‪) :‬ول تحسَب ّ‬ ‫في سبيل ا أمواتا بل أحياء عند ربهم ُيرزقون(‪ .‬وهذا الشهيد‬ ‫هو الذي جاءت في حقه أحكام شرعية‪ .‬وهو مختص بمن ُقتل‬ ‫جرح في المعركة ثم مات من‬ ‫في حرب مع الكفار‪ ،‬وكذلك من ُ‬ ‫جرحه الذي جرحه في المعركة يعتبر كمن ُقتل في المعركة‪ .‬أّما‬ ‫َمن عدا ذلك فل يعتبر شهيدا‪ .‬وعليه فل يعتبر شهيدا من ُقتل في‬ ‫حرب مع البغاة ول ِمن جرح في المعركة ثم شفي من جرحه ثم‬ ‫مات منه‪ .‬فالشهيد الذي له أحكام خاصة والذي أخبر عنه ا‬ ‫تعالى أنه حي‪ ،‬مختص بمن ُقتل في معركة مع الكفار لعلء‬ ‫جرح في المعركة ومات من جرحه هذا‪.‬‬ ‫كلمة ا‪ ،‬ومن ُ‬ ‫‪-123-‬‬


‫حكم الشهيد المذكور أنه ل ُيغسل ول ُيكفن بل ُيدفن في‬ ‫و ُ‬ ‫دمه وثيابه‪ .‬لن الشهيد ُيبعث يوم القيامة ورائحة دمه كالمسك‬ ‫الزفر‪ .‬أّما عدم غسل الشهيد فِلما ُروي عن جابر قال‪ :‬كان‬ ‫رسول ا صلى ا عليه وسلم يجمع بين الرجلين من قتلى ُأحد‬ ‫في الثوب الواحد ثم يقول‪ :‬أّيُهم أكثر أخذا للقرآن؟ فإذا أشير إليه‬ ‫إلى أحدهما قّدمه في اللحد‪ ،‬وأمر بدفنهم في دمائهم ولم‬ ‫ل عليهم(‪ ،‬ولحمد أن النبي صلى ا عليه وسلم‬ ‫ُيغسلوا ولم ُيص ّ‬ ‫ن كل جرح أو كل دم يفوح‬ ‫ل تغسلوهم فإ ّ‬ ‫قال في قتلى ُأحد ‪) :‬‬ ‫ل عليهم(‪ ،‬وُروي أن النبي صلى ا‬ ‫مسكا يوم القيامة‪ .‬ولم ُيص ّ‬ ‫عليه وسلم قال في شهداء ُأحد‪) :‬زّملوهم بدمائهم ول تغسلوهم‬ ‫فإنه ما من جرح ُيجرح في سبيل ا إل ّ وهو يأتي يوم القيامة‬ ‫وأوداجه تشخب دما اللون لون دم والريح ريح مسك(‪ ،‬وعن أنس‬ ‫ل على قتلى ُأحد ولم‬ ‫)أن النبي صلى ا عليه وسلم لم ُيص ّ‬ ‫يغسلهم(‪ .‬وكما لم يغسل شهداء ُأحد لم يغسل شهداء بدر‪،‬‬ ‫وكذلك لم يغسل شهداء الخندق وخيبر‪ ،‬فظهر أن الشهيد ل‬ ‫ُيغسل‪ .‬وكذلك ل ُيكفن الشهيد كما ُيكفن الميت‪ ،‬وإّنما ُيكفن‬ ‫بثيابه التي هي عليه لقول رسول ا صلى ا عليه وسلم في‬ ‫شهداء ُأحد‪) :‬زّملوهم بدمائهم وكلومهم(‪ ،‬وقوله‪) :‬ادفنوهم‬ ‫بثيابهم(‪ ،‬وِلما ُروي عن ابن عباس )أن رسول ا صلى ا عليه‬ ‫وسلم أمر بقتلى ُأحد أن ُينزع عنهم الحديد والجلود وأن ُيدفنوا‬ ‫في ثيابهم بدمائهم(‪ .‬أّما الصلة على الشهيد فجائز أن ُيصلى عليه‬ ‫وجائز أن ل ُيصلى عليه‪ .‬أّما جواز أن ُيصلى على الشهيد فلنه‬ ‫وردت روايات أن الرسول صلى ا عليه وسلم صّلى على قتلى‬ ‫ُأحد بعد دفنهم‪ ،‬وصّلى على حمزة‪ ،‬وصّلى على رجل ُقِتل في‬ ‫المعركة‪ .‬ففي البخاري عن عقبة بن عامر )أنه صلى ا عليه‬ ‫حد بعد ثماني سنين صلته على ميت‬ ‫وسلم صّلى على قتلى أ ُ ُ‬ ‫كالموّدع للحياء والموات(‪ .‬وعن أبي داود عن مالك الغفاري‬ ‫)أنه صّلى ا عليه وسلم صّلى على قتلى أحد عشرة عشرة في‬ ‫كل عشرة حمزة حتى صّلى عليه سبعين صلة(‪ .‬وروى أبو داود‬ ‫عن أبي سلم عن رجل من أصحاب النبي صلى ا عليه وسلم‬ ‫قال‪) :‬أغرنا على حي من جهينة فطلب رجل من المسلمين رجل ً‬ ‫منهم فضربه فأخطأه وأصاب نفسه‪ ،‬فقال رسول ا صلى ا‬ ‫عليه وسلم‪ :‬أخوكم يا معشر المسلمين‪ ،‬فابتدره الناس فوجدوه‬ ‫‪-124-‬‬


‫قد مات فلّفه رسول ا صلى ا عليه وسلم بثيابه ودمائه وصلى‬ ‫عليه ودفنه‪ .‬فقالوا يا رسول ا أشهيد هو؟ قال‪ :‬نعم‪ ،‬وأنا له‬ ‫شهيد(‪ .‬فهذه الحاديث الثلثة أحاديث ثابتة‪ ،‬وهي صريحة الدللة‬ ‫بأن الشهيد يصلى عليه‪ .‬وأّما جواز أن ل يصلى على الشهيد فلنه‬ ‫وردت روايات أخرى أن الرسول صلى ا عليه وسلم لم يصل‬ ‫على الشهيد‪ ،‬فقد روى أبو داود والترمذي عن أنس )أن النبي‬ ‫صّلى ا عليه وسلم لم يصل على قتلى أحد ولم يغسلهم(‪،‬‬ ‫وروى أحمد عن أنس )أن شهداء أحد لم يغسلوا ودفنوا بدمائهم‬ ‫ل عليهم(‪ ،‬وروى البخاري عن جابر بن عبدا رضي ا‬ ‫ولم يص ّ‬ ‫عنهما قال‪) :‬كان النبي صلى ا عليه وسلم يجمع بين الرجلين‬ ‫من قتلى أحد في ثوب وأحد ثم يقول أيهم أكثر أخذا للقرآن؟ فإذا‬ ‫أشير له إلى أحدهما قدمه في اللحد وقال‪ :‬أنا شهيد على هؤلء‬ ‫يوم القيامة‪ ،‬وأمر بدفنهم في دمائهم ولم يغسلوا ولم يصل‬ ‫عليهم(‪ .‬فهذه الحاديث ثابتة وهي صريحة الدللة على أن الشهيد‬ ‫ل يصلى عليه‪.‬‬ ‫وقد أجاب الشافعي عن حديث ابن عباس وما ورد في‬ ‫معناه من الصلة على قتلى ٌأحد قبل دفنهم "بأن الخبار جاءت‬ ‫كأنها عيان من وجوه متواترة أن النبي صلى ا عليه وسلم لم‬ ‫يصل على قتلى ُأحد"‪ .‬فهذه الحاديث كلها ثابتة سواء التي وردت‬ ‫أن النبي صلى ا عليه وسلم صّلى على الشهيد أو التي روت أنه‬ ‫لم يصل عليه‪ .‬ول سبيل لرد أي منها لثبوته ولنه مما ُيحتج به‬ ‫رواية ودراية‪ .‬ول سبيل لترجيح أحدهما على الخر لنه يبعد غفلة‬ ‫الصحابة عن إيقاع الصلة على أولئك الشهداء‪ ،‬كما يبعد أيضا‬ ‫غفلتهم عن الترك الواقع على خلف ما كان ثابتا عنه صّلى ا‬ ‫عليه وسلم من الصلة على الموات‪ .‬فكيف يرجح أحدهما على‬ ‫الخر؟ ول يقال إن المراد بالصلة في الحاديث التي تثِبت الصلة‬ ‫على الشهداء هو الدعاء فيكون قوله صّلى بمعنى دعا ‪.‬ل يقال‬ ‫ذلك لن الحقائق الشرعية مقدمة على اللغوية ما لم ترد قرينة‪.‬‬ ‫وهنا لم ترد قرينة فيتحتم أن يكون المراد بالصلة الصلة‬ ‫الشرعية على الميت‪ .‬ول يقال إن أحاديث الصلة على الميت‬ ‫تنسخ أحاديث عدم الصلة عليه لن أحدها وهو الصلة على‬ ‫قتلى ُأحد بعد ثمان سنين ثبت أنه متأخر عن جميع الحاديث لنه‬ ‫ورد في رواية ابن حيان )ثم دخل بيته ولم يخرج حتى قبضه ا(‪.‬‬ ‫‪-125-‬‬


‫ل يقال ذلك لن تأخر الحديث وحده ل يكفي للدللة على النسخ‬ ‫بل ل بد من قرينة أخرى يفهم منها النسخ‪ ،‬وهنا ل توجد قرينة فل‬ ‫نسخ فيه‪ ،‬فتبقى الروايات كلها معتَبرة وُتحمل على أن عدم‬ ‫الصلة على الشهيد جائز‪ ،‬ولم يرو أن الرسول صلى ا عليه‬ ‫وسلم صّلى على قتلى بدر ول على قتلى الخندق ول على قتلى‬ ‫خيبر‪ .‬كما ُتحمل على أنه إذا صّلى على الشهداء فل شيء في‬ ‫ذلك‪ ،‬ول ُيمنع الناس من الصلة عليهم‪ .‬وإّنما سمي الشهيد‬ ‫شهيدا لنه مشهود له بالجنة بنص القرآن قال ا تعالى‪) :‬إن ا‬ ‫اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في‬ ‫سبيل ا فَيقُتلون وُيقَتلون(‪ .‬وروى مسلم عن جابر قال‪ :‬قال‬ ‫رجل‪ :‬أين أنا يا رسول ا إن ُقتلت؟ قال في الجنة فألقى تمرات‬ ‫كن في يده ثم قاتل حتى ُقِتل(‪ .‬وفي حديث سويد )قال رجل‬ ‫للنبي صلى ا عليه وسلم يوم ُأحد وعن أنس بن مالك أن‬ ‫رسول ا صلى ا عليه وسلم انطلق وأصحابه حتى سبقوا‬ ‫المشركين إلى بدر وجاء المشركون فقال رسول ا صلى ا‬ ‫عليه وسلم ‪ :‬ل) يقدمن أحد منكم إلى شيء حتى أكون أنا دونه‬ ‫فدنا المشركون فقال رسول ا صلى ا عليه وسلم‪ :‬قوموا‬ ‫إلى جنة عرضها السموات والرض‪ .‬قال يقول عمير بن الحمام‬ ‫النصاري يا رسول ا جنة عرضها السموات والرض؟ قال‪:‬‬ ‫نعم‪ .‬قال‪ :‬بخ بخ‪ .‬فقال رسول ا صلى ا عليه وسلم‪ :‬ما‬ ‫يحملك على قولك بخ بخ‪ .‬قال ‪:‬ل وا يا رسول ا إل ّ رجاءة‬ ‫أن أكون من أهلها‪ .‬قال فإنك من أهلها‪ .‬فأخرج تمرات من قرنه‬ ‫فجعل يأكل منهن ثم قال‪ :‬لئن أنا حييت حتى آكل تمراتي هذه‬ ‫إنها لحياة طويلة فرمى بما كان معه من التمر ثم قاتلهم حتى‬ ‫ُقِتل(‪ .‬فالله تعالى ورسول ا صلى ا عليه وسلم قد شهد‬ ‫للشهيد بالجنة‪.‬‬ ‫وأّما حياة الشهيد فهي ثابتة بنص القرآن‪ ،‬قال تعالى‪) :‬ول‬ ‫ء عند ربهم‬ ‫ن الذين ُقتلوا في سبيل ا أمواتا بل أحيا ٌ‬ ‫سب ّ‬ ‫َتح َ‬ ‫ُيرَزقون َفِرحين بما آتاهم ا من فضله ويستبشرون بالذين لم‬ ‫َيلحقوا بهم ِمن خلفهم أن ل خوف عليهم ول هم يحزنون‪،‬‬ ‫يستبشرون بنعمة من ا وفضل وأن ا ل يضيع أجر المؤمنين(‪.‬‬ ‫وهذه الحياة للشهداء هي حياة غيبية ل ندركها نحن ول نشعر بها‬ ‫لنها في عالم الخلود‪ .‬ونحن وإن كنا ل ندرك هذه الحياة‬ ‫‪-126-‬‬


‫للشهداء ولم نشعر بها ولكننا نؤمن بوجودها ول ندرك حقيقتها‪.‬‬ ‫وإيماننا بوجودها أمر حتمي لنها ثابتة بنص القرآن القطعي‪ ،‬قال‬ ‫تعالى‪) :‬ول تقولوا لمن ُيقتل في سبيل ا أموات بل أحياء ولكن‬ ‫ل َتشعرون(‪ .‬وحياة الشهداء من المغّيبات التي يجب اليمان بها‪.‬‬ ‫أّما فضل الشهداء فهو فضل عظيم ل يعدله فضل‪ ،‬وقد بّينه صلى‬ ‫ا عليه وسلم في عدة أحاديث‪ .‬روى البخاري عن قتادة قال‪:‬‬ ‫ت أنس بن مالك رضي ا عنه عن النبي صلى ا عليه‬ ‫سمع ُ‬ ‫وسلم قال‪) :‬ما من أحد يدخل الجنة يحب أن َيرجع إلى الدنيا وله‬ ‫ما على الرض من شيء إل ّ الشهيد يتمنى أن َيرجع إلى الدنيا‬ ‫فُيقتل عشر مرات ِلما يرى من الكرامة(‪ .‬وفي البخاري )وقال‬ ‫المغيرة بن شعبة‪ :‬أخَبَرنا نبينا صلى ا عليه وسلم عن رسالة‬ ‫ربنا َمن ُقتل منا صار إلى الجنة(‪ .‬وقال عمر للنبي صلى ا عليه‬ ‫وسلم‪) :‬أليس َقتلنا في الجنة وقتلهم في النار؟ قال‪ :‬بلى(‪.‬‬ ‫وعن عبدا بن عمرو بن العاص أن رسول ا صلى ا عليه‬ ‫وسلم قال ‪ُ) :‬يغفر للشهيد كل ذنب إل ّ الدْين(‪ .‬وروى مسلم أن‬ ‫النبي صلى ا عليه وسلم قال‪) :‬القتل في سبيل ا يكّفر كل‬ ‫شيء إل ّ الدْين(‪ .‬وروى البخاري ومسلم عن أبي هريرة عن‬ ‫من جاهد في سبيله‬ ‫النبي صلى ا عليه وسلم قال‪) :‬تكّفل ا ِل َ‬ ‫ل ُيخرجه من بيته إل ّ جهاد في سبيله وتصديق كلمته بأن ُيدخله‬ ‫الجنة أو ُيرجعه إلى مسكنه الذي خرج مع ما نال من أجر وغنيمة‪.‬‬ ‫والذي نفس محمد بيده ما من َكِلم ُيكَلم في سبيل ا إل ّ جاء‬ ‫حه ريح مسك‪.‬‬ ‫يوم القيامة كهيئته حين َكِلم‪ ،‬لونه لون دم وري ُ‬ ‫والذي نفس محمد بيده لول أن رجال ً من المؤمنين ل تطيب‬ ‫ت عن‬ ‫نفوسهم أن يتخلفوا عني ول أجد ما أحملهم عليه ما تخلف ُ‬ ‫ت أن‬ ‫سرّية تغدو في سبيل ا‪ .‬والذي نفس محمد بيده لودد ُ‬ ‫ُأقتل في سبيل ا ثم أحيا ثم ُأقتل ثم أحيا ثم ُأقتل ثم أحيا ثم‬ ‫ُأقتل(‪.‬‬

‫الربـاط‬ ‫من توابع الجهاد الرباط‪ ،‬وهو القامة في الثغر ُمقّويا‬ ‫للمسلمين‪ .‬والثغر كل مكان على حدود العدو يخيف أهله العدو‬ ‫ويخيفهم‪ .‬وبعبارة أخرى هو المكان الذي ليس وراءه إسلم‪.‬‬ ‫‪-127-‬‬


‫مقام في الثغور لعزاز الدين ودفع شر‬ ‫والمراد من الرباط هو ال ُ‬ ‫الكفار عن المسلمين‪ .‬والقامة في أي مكان ُيتوقع هجوم العدو‬ ‫فيه بقصد دفعه يعتبر رباطا‪ ،‬لن أصل الرباط من رباط الخيل‬ ‫الوارد في قوله تعالى‪) :‬وأعّدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن‬ ‫هبون به عدو ا وعدّوكم(‪ ،‬لن هؤلء يربطون‬ ‫رباط الخيل ُتر ِ‬ ‫مي‬ ‫س ّ‬ ‫عد لصاحبه‪ ،‬ف ُ‬ ‫ل ُي ِ‬ ‫خيولهم وهؤلء يربطون خيولهم‪ ،‬ك ّ‬ ‫المقام بالثغر‪ ،‬أي السكنى فيه رباطا‪ ،‬وإن لم يكن فيه خيل‪.‬‬ ‫وعلى هذا فمن أقام بالثغور بنّية دفع العدو يعتبر مرابطا‪ ،‬سواء‬ ‫أكان المكان وطنه أي مسكنه الذي يسكنه عادة أم لم يكن‪ ،‬لن‬ ‫العبرة ليس بكون المكان وطنه أم ل‪ ،‬بل بنّية دفع العدو‬ ‫ع عن‬ ‫وإخافته‪ .‬وفضل الرباط عظيم وأجره كبير‪ ،‬لن الرباط دف ٌ‬ ‫المسلمين وعن حريمهم وقوة لهل الثغر ولهل الغزو‪ .‬والرباط‬ ‫أصل الجهاد وفرعه‪ ،‬وقد وردت في فضل الرباط عدة نصوص‪،‬‬ ‫فقد ورد في صحيح مسلم من حديث سلمان رضي ا عنه‪:‬‬ ‫ت رسول ا صلى ا عليه وسلم يقول‪) :‬رباط يوم في‬ ‫سمع ُ‬ ‫سبيل ا خير من صيام شهر وقيامه‪ ،‬وإن مات فيه ُأجري عليه‬ ‫ن الفتان وُبعث يوم‬ ‫عمله الذي كان يعمل وُأجري عليه رزقه وأ َِم َ‬ ‫القيامة شهيدا(‪ ،‬وروى الطبراني بسند ثقات في حديث مرفوع‬ ‫ن الفزع الكبر(‪ ،‬وعن أبي أمامة عنه عليه‬ ‫)من مات مرابطا أ َِم َ‬ ‫الصلة والسلم قال‪) :‬إن صلة المرابط تعِدل خمسمائة صلة‬ ‫ونفقته الدينار والدرهم منه أفضل من سبعمائة دينار نفقة غيره(‪،‬‬ ‫وعن فضالة بن عبيد أن رسول ا صلى ا عليه وسلم قال‪:‬‬ ‫)كل مّيت ُيختم على عمله إل ّ المرابط في سبيل ا فإنه ينمو له‬ ‫عمله إلى يوم القيامة(‪.‬‬ ‫والرباط يقل ويكثر‪ ،‬فكل مدة أقامها بنّية الرباط فهو رباط‬ ‫ل أو كُثر‪ ،‬ولهذا قال النبي صلى ا عليه وسلم‪) :‬رباط يوم(‪،‬‬ ‫َق ّ‬ ‫)رباط ليلة(‪ .‬والفضل أن يرحل المسلم إلى الثغور ليسكنها حتى‬ ‫يكون مرابطا‪ .‬ومن ثم اختار كثير من السلف سكنى الثغور‬ ‫ليكونوا مرابطين‪ .‬ويعتبر أهل الثغر وحدهم مرابطين إذا كانت‬ ‫نّيتهم من السكنى دفع العدو وإخافته وإذا كانت تحصل بهم‬ ‫وحدهم كفاية الدفع‪ ،‬وإذا كانت ل تحصل إل ّ بالثغر الذي وراءه‬ ‫أيضا فهما رباط‪ .‬ويعتبر سكنى المسلمين في بلدهم التي‬ ‫يحصل بها دفع العدو وإخافته رباطا ويكونون مرابطين‪.‬‬ ‫‪-128-‬‬


‫ومثل المرابطة في سبيل ا الحرس في سبيل ا‪ ،‬فإن‬ ‫ت رسول ا صلى ا‬ ‫فيها فضل ً كبيرا‪ .‬عن ابن عباس‪ :‬سمع ُ‬ ‫عليه وسلم يقول‪) :‬عينان ل تمسهما النار‪ :‬عين بكت من خشية‬ ‫ا‪ ،‬وعين باتت تحرس في سبيل ا(‪ ،‬وعن عثمان رضي ا‬ ‫ت رسول ا صلى ا عليه وسلم يقول‪) :‬حرس‬ ‫عنه قال‪ :‬سمع ُ‬ ‫ليلة في سبيل ا أفضل من ألف ليلة قيام ليلها وصيام نهارها(‪.‬‬

‫الجيش السلمي‬ ‫الجهاد فرض على المسلمين‪ ،‬ل فرق بين التقي والفاسق‪،‬‬ ‫ول بين الصادق اليمان والمنافق‪ .‬وحين جاءت آيات القتال‪،‬‬ ‫جاءت عامة‪ .‬والنصوص إذا جاءت عامة تبقى عامة ما لم َيِرد‬ ‫دليل خاص يخصصها‪ ،‬ولم َيِرد أي دليل يخصص الجهاد بأحد من‬ ‫المسلمين دون أحد‪ ،‬فبقيت النصوص عامة‪ .‬وعلى ذلك فإنه يجوز‬ ‫ساق ومن يقاِتلون‬ ‫أن يجّند في الجيش السلمي المنافقون والُف ّ‬ ‫حمّية‪ .‬أّما جواز وجود هؤلء مع المؤمنين الصادقين في قتال‬ ‫العداء وفي الجيش السلمي‪ ،‬فلعموم آيات الجهاد‪ ،‬ولن‬ ‫الرسول صلى ا عليه وسلم استعان برأس المنافقين عبدا‬ ‫ي في القتال وحضر معه بعض الغزوات وحضر معه‬ ‫بن ُأب ّ‬ ‫الستشارات الحربية في يوم ُأحد قبل المعركة‪ .‬وعاتب ا‬ ‫الرسول حين أِذن للمنافقين بالتخلف عن القتال في تبوك‪ ،‬فقال‬ ‫صدقوا‬ ‫ت لهم حتى يتبين لك الذين َ‬ ‫تعالى‪) :‬عفا ا عنك ِلم أِذن َ‬ ‫ساق فلعموم اليات‪ ،‬وِلما ُروي عن‬ ‫وَتعلم الكاذبين(‪ .‬وأّما الُف ّ‬ ‫سعيد بن المسيب أن أبا هريرة قال‪) :‬أمر رسول ا صلى ا‬ ‫عليه وسلم بلل ً فنادى في الناس أن ل يدخل الجنة إل ّ نفس‬ ‫مسلمة وأن ا ليؤّيد هذا الدين بالرجل الفاجر(‪ ،‬ولن الجهاد‬ ‫فرض من الفروض التي ينفذها الخليفة فإذا لم تنفذ على‬ ‫الفاسق وهو مسلم من المسلمين كان ذلك تركا لتنفيذ حكم من‬ ‫أحكام ا وهو حرام ل يجوز‪ .‬ولهذا وجب أن ينفذ الجهاد على‬ ‫ساق‪ ،‬كما ينفذ على التقياء سواء بسواء‪.‬‬ ‫الُف ّ‬

‫الستعانة بالكفار في القتال‬ ‫‪-129-‬‬


‫يجوز أن يستعان بالكفار بوصفهم أفرادا وبشرط أن يكونوا‬ ‫تحت الراية السلمية‪ ،‬بغض النظر عن كونهم ذميين أو غير‬ ‫ذميين‪ ،‬سواء أكانوا من رعايا الدولة السلمية أم لم يكونوا‪ .‬أّما‬ ‫الستعانة بهم كطائفة معينة لها كيان مستقل عن الدولة‬ ‫السلمية فل يجوز مطلقا‪ ،‬فَيحرم أن ُيستعان بهم بوصفهم دولة‬ ‫مستقلة‪.‬‬ ‫والدليل على جواز الستعانة بالكفار في القتال أفرادا )أن‬ ‫قزمان خرج مع أصحاب رسول ا صلى ا عليه وسلم يوم ُأحد‬ ‫ملة لواء المشركين‬ ‫ح َ‬ ‫وهو مشرك فقتل ثلثة من بني عبدالدار َ‬ ‫حتى قال صلى ا عليه وسلم‪ :‬إن ا لَيأزر هذا الدين بالرجل‬ ‫خزاعة خرجت مع النبي صلى ا عليه وسلم‬ ‫الفاجر(‪ ،‬وأن قبيلة ُ‬ ‫عام الفتح لمحاربة قريش‪ ،‬وكانت خزاعة حينئذ ل تزال مشركة‬ ‫حتى قال لها رسول ا صلى ا عليه وسلم‪ :‬يا معشر خزاعة‬ ‫ارفعوا أيديكم عن القتل‪ ،‬فقد كُثر القتل إن نفع لقد قتلتم قتل ً‬ ‫لدينه(‪ .‬فهذه الحاديث كلها صحيحة تدل دللة صريحة على جواز‬ ‫الستعانة بالكفار أفرادا‪ ،‬أي على جواز أن يكون الكافر في‬ ‫جيش المسلمين يقاِتل العدو مع المسلمين‪ .‬إل ّ أنه ل ُيجَبر على‬ ‫أن يكون الكافر في الجيش‪ ،‬ول ُيجَبر على القتال‪ ،‬لن الجهاد‬ ‫ضخ له‪ ،‬أي‬ ‫ليس فرضا عليه‪ ،‬ول ُيعطى من الغنيمة ولكن ُير َ‬ ‫يعطى له قدر من المال‪ .‬فإذا طلب الكافر أن يحارب مع‬ ‫المسلمين أي أن يكون في جيش المسلمين‪ ،‬يجوز ذلك في كل‬ ‫ناحية من نواحي الخدمة في الجيش‪ ،‬حتى في استخبارات‬ ‫الجيش وجاسوسيته‪ .‬أّما ما ورد عن عائشة قالت‪ :‬خرج النبي‬ ‫ما كان بحّرة الوبرة أدركه رجل‬ ‫صلى ا عليه وسلم ِقَبل بدر فل ّ‬ ‫قد كان ُتذكر منه جرأة ونجدة‪ ،‬ففرح به أصحاب الرسول صلى‬ ‫ما أدركه قال‪ :‬جئت لتبعك فأصيب‬ ‫ا عليه وسلم حين رأوه‪ ،‬فل ّ‬ ‫معك‪ .‬فقال له رسول ا صلى ا عليه وسلم‪ :‬تؤمن بالله‬ ‫ورسوله؟ قال ‪:‬ل‪ .‬قال‪ :‬فارجع فلن أستعين بمشرك(‪ ،‬قالت‪ :‬ثم‬ ‫مضى حتى إذا كان بالشجرة أدركه الرجل فقال له كما قال أول‬ ‫مرة‪ ،‬فقال له النبي صلى ا عليه وسلم كما قال أول مرة‪،‬‬ ‫فقال ‪:‬ل‪ .‬قال‪ :‬فارجع فلن أستعين بمشرك‪ .‬قالت‪ :‬فرجع فأدركه‬ ‫بالبيداء‪ ،‬قال له كما قال أول مرة‪ :‬تؤمن بالله ورسوله؟ قال‪:‬‬ ‫نعم‪ .‬فقال له‪ :‬فانطلق(‪ .‬فإن هذا الحديث ل يتعارض مع الثابت‬ ‫‪-130-‬‬


‫أنه صلى ا عليه وسلم استعان بمشركين‪ ،‬وذلك لن هذا الرجل‬ ‫اشترط أن يحارب ويأخذ الغنيمة‪ ،‬فإنه قال‪) :‬جئت لتبعك فأصيب‬ ‫معك(‪ ،‬والغنيمة ل تعطى إل ّ للمسلمين‪ ،‬فُيحمل رفض النبي‬ ‫الستعانة به على ذلك كما ُيحمل على أن الستعانة بالكفار‬ ‫أفرادا موكولة لمر الخليفة إن شاء استعان وإن شاء رفض‪ .‬وأّما‬ ‫خبيب بن عبدالرحمن عن أبيه عن جده قال‪ :‬أتي ُ‬ ‫ت‬ ‫ما ورد عن ُ‬ ‫النبي صلى ا عليه وسلم وهو يريد غزوا أنا ورجل من قومي‬ ‫ولم نسلم‪ ،‬فقلنا‪ :‬إنا نستحيي أن يشهد قومنا مشهدا ل نشهده‬ ‫معهم‪ .‬فقال‪ :‬أسلمُتما؟ فقلنا ‪:‬ل‪ .‬فقال‪ :‬إنا ل نستعين بالمشركين‬ ‫على المشركين‪ .‬فأسلمنا وشهدنا معه(‪ .‬فإن هذا الحديث ُيحمل‬ ‫على أن الستعانة بالكفار موكولة لرأي الخليفة إن شاء استعان‬ ‫وإن شاء رفض‪ .‬والرسول استعان بُأحد واستعان في فتح مكة‬ ‫خبيب والرجل الذي‬ ‫ورفض الستعانة في بدر ورفض الستعانة ب ُ‬ ‫معه حتى أسلما‪ .‬فكون الرسول ثبت عنه أنه استعان بأفراد من‬ ‫الكفار وهم على كفرهم‪ ،‬وثبت عنه أنه رفض الستعانة بأفراد‬ ‫حتى أسلموا‪ ،‬دليل على أن الستعانة بأفراد من الكفار في القتال‬ ‫جائزة وأنها موكولة لرأي الخليفة‪ ،‬إن شاء َقِبل الستعانة وإن‬ ‫شاء رفضها‪ .‬وقد ذكر البيهقي عن نص الشافعي‪ :‬أن النبي صلى‬ ‫ا عليه وسلم تفّرس الرغبة في الذين رّدهم‪ ،‬فرّدهم رجاء‬ ‫إسلمهم‪ ،‬فصدق ا ظنه‪.‬‬ ‫أّما الدليل على أنه ل يجوز أن ُيستعان بالكفار في القتال‬ ‫بوصفهم دولة مستقلة‪ ،‬فِلما رواه أحمد والنسائي عن أنس قال‪:‬‬ ‫قال رسول ا صلى ا عليه وسلم ‪ :‬ل) تستضيئوا بنار‬ ‫المشركين(‪ ،‬ونار القوم كناية عن كيانهم في الحرب كقبيلة‬ ‫مستقلة أو كدولة‪ .‬وقال البيهقي‪ :‬والصحيح ما أخَبَرنا الحافظ أبو‬ ‫عبدا فساق بسنده إلى أبي حميد الساعدي قال‪) :‬خرج رسول‬ ‫ا صلى ا عليه وسلم حتى إذا خلف ثنية الوداع إذا كتيبة قال‪:‬‬ ‫من هؤلء؟ قالوا‪ :‬بني قينقاع رهط عبدا بن سلم‪ .‬قال‪ :‬أَو‬ ‫ُتسلموا؟ قالوا ‪:‬ل‪ .‬فأمرهم أن يرجعوا وقال‪ :‬إنا ل نستعين‬ ‫بالمشركين‪ .‬فأسَلموا(‪ ،‬فإن الرسول صلى ا عليه وسلم رّد‬ ‫رهط عبدا بن سلم من بني قينقاع لنهم جاءوا طائفة‬ ‫مجتمعة في كتيبة كافرة‪ ،‬وجاءوا تحت رايتهم باعتبارهم من بني‬ ‫قينقاع التي بينها وبين الرسول معاهدات‪ ،‬وكانت كدولة‪ .‬ومن‬ ‫‪-131-‬‬


‫ضهم كان لكونهم جاءوا تحت رايتهم وفي‬ ‫أجل ذلك رفضهم‪ .‬فرْف ُ‬ ‫دولتهم بدليل قبوله صلى ا عليه وسلم الستعانة باليهود في‬ ‫خيبر حين جاءوا أفرادا‪.‬‬ ‫وحديث أبي حميد هذا يتضمن عّلة شرعية إذا ُوجدت ُوجد‬ ‫الحكم وإذا عدمت عدم الحكم‪ .‬والعّلة في الحديث ظاهرة في‬ ‫نص الحديث فإنه يقول‪) :‬إذا كتيبة‪ .‬قال‪ :‬من هؤلء؟ قالوا‪ :‬بو‬ ‫قينقاع رهط عبدا بن سلم(‪ ،‬فإن معنى كونهم كتيبة أي جيش‬ ‫مستقل له راية مستقلة‪ ،‬لن لكل كتيبة راية‪ .‬فصار كونهم كتيبة‬ ‫كافرة لها راية مستقلة ومن بني قينقاع اليهود الذين هم بمقام‬ ‫دولة بينهم وبين الرسول معاهدات هو عّلة رّدهم‪ ،‬ل كونهم كفارا‬ ‫فقط‪ ،‬بدليل أنه أَمَرهم أن يرجعوا بناء على ذلك وعلى رفضهم‬ ‫السلم‪ ،‬ل على رفضهم السلم فقط‪ .‬ويؤيد هذا حديث أنس ل)‬ ‫تستضيئوا بنار المشركين( فإنه مسّلط على الكيان كما يؤكده‬ ‫قبول الرسول الستعانة بقزمان في نفس موقعة ُأحد مع أنه‬ ‫مشرك‪ ،‬فإن معنى ذلك هو رفض الستعانة بالكافر بوصفه كيانا‪،‬‬ ‫وقبول الستعانة به بوصفه فردا‪ .‬وعلى هذا تكون الستعانة‬ ‫بالكفار كطائفة كافرة أو قبيلة كافرة أو دولة كافرة وتحت رايتهم‬ ‫وكجزء من دولتهم ل تجوز ول بوجه من الوجوه‪.‬‬ ‫وأّما كون خزاعة خرجت مع النبي صلى ا عليه وسلم‬ ‫على قريش عام الفتح وهي قبيلة مستقلة‪ ،‬فإنه ل يدل على جواز‬ ‫الستعانة بطائفة لها كيان مستقل‪ ،‬وذلك أن خزاعة في عام‬ ‫الحديبية كانت حاضرة حين ُكتبت معاهدة الصلح بين قريش وبين‬ ‫ب أن‬ ‫ح ّ‬ ‫المسلمين‪ ،‬فحين ورد في المعاهدة نص )وأنه من أ َ‬ ‫ب أن يدخل في‬ ‫ح ّ‬ ‫يدخل في عقد محمد وعهده دخل فيه‪ ،‬ومن أ َ‬ ‫عقد قريش وعهدهم دخل فيه(‪ .‬وبناء على هذا النص تواثبت‬ ‫خزاعة فقالوا‪ :‬نحن في عقد محمد وعهده‪ ،‬وتواثبت بنو بكر‬ ‫فقالوا‪ :‬نحن في عقد قريش وعهدهم‪ .‬فصارت خزاعة مع‬ ‫المسلمين في هذه المعاهدة التي بين قريش والمسلمين‪،‬‬ ‫وأدخلها الرسول في حمايته كجماعة من دولته بحسب‬ ‫المعاهدة‪ .‬ولذلك تكون حاَرَبت كقبيلة تحت راية المسلمين‬ ‫وكجزء من الدولة السلمية ل كطائفة مستقلة‪ ،‬فيكونون كالفراد‬ ‫ل كالكيان‪.‬‬ ‫وأّما ما ُيتوهم من أن خزاعة كان بينها وبين الرسول حلف‬ ‫‪-132-‬‬


‫أو معاهدة فغير صحيح‪ .‬فإن المعاهدة كانت بين الرسول وبين‬ ‫قريش ل بين الرسول وبين خزاعة‪ .‬وبناء على هذه المعاهدة‬ ‫دخلت قبيلة بني بكر مع قريش كجزء منها‪ ،‬ودخلت قبيلة خزاعة‬ ‫مع المسلمين كجزء من كيانهم‪ .‬وعليه ل تكون حرب خزاعة مع‬ ‫الرسول حرب طائفة كافرة مع المسلمين‪ ،‬بل حرب أفراد كفار‬ ‫في قبيلة كافرة مع المسلمين تحت راية المسلمين‪ ،‬وهذا جائز ل‬ ‫شيء فيه‪.‬‬ ‫وأّما ما رواه أحمد وأبو داود عن ذي مخبر قال‪ :‬سمع ُ‬ ‫ت‬ ‫رسول ا صلى ا عليه وسلم يقول‪) :‬سُتصالحون الروم صلحا‬ ‫َتغزون أنتم وهم عدّوا ِمن ورائكم(‪ ،‬فإنه ُيحمل قوله ‪َ) :‬تغزون‬ ‫أنتم وهم عدوا من ورائكم( على أفراد الروم ل على دولتهم‪،‬‬ ‫وذلك لنه قال‪) :‬ستصالحون الروم صلحا َتغزون(‪ ،‬والصلح بين‬ ‫المسلمين والكفار إّنما يكون عند قبولهم الجزية ودخولهم تحت‬ ‫حكم المسلمين‪ ،‬لن السلم قد أمر المسلمين أن يخّيروا الكفار‬ ‫الذين يحاربونهم بين ثلث‪ :‬السلم أو الجزية أو الحرب‪ ،‬فإذا‬ ‫حصل الصلح وهم كفار ل يكون إل ّ في حال دفع الجزية‬ ‫ودخولهم تحت الراية السلمية‪ ،‬فقوله‪) :‬ستصالحون( قرينة على‬ ‫أنهم تحت راية المسلمين‪ ،‬فهم حينئذ أفراد‪ ،‬ويؤيد هذا واقع ما‬ ‫حصل مع الروم‪ .‬فإن المسلمين حاربوهم وهزموهم واحتلوا‬ ‫بلدهم‪ ،‬وقد حارب الروم مع المسلمين أفرادا ولم يقع قط أن‬ ‫حارب الروم بوصفهم دولة مع الدولة السلمية عُدّوا من ورائهم‪،‬‬ ‫ولم يحصل ذلك في يوم من اليام‪ ،‬مما يؤكد أن المراد بالحديث‬ ‫الروم أفرادا ل كدولة‪ ،‬ويوجب حمله على هذا‪ .‬وبذلك يتبين أنه ل‬ ‫يوجد دليل يدل على جواز الستعانة بالمشركين كدولة‪ ،‬بل الدلة‬ ‫صريحة في عدم جواز ذلك مطلقا‪.‬‬ ‫هذا كله بالنسبة للستعانة بالكافر أن يقاِتل بنفسه مع‬ ‫المسلمين‪ .‬أّما الستعانة بالكافر بأخذ السلح منه‪ ،‬فإنه يجوز‬ ‫سواء أكان السلح من فرد أو من دولة‪ ،‬على أن يكون ذلك إعارة‬ ‫مضمونة‪ِ ،‬لما ُروي أنه لما أجمع رسول ا صلى ا عليه وسلم‬ ‫السير إلى هوازن ليلقاهم‪ُ ،‬ذكر له أن عند صفوان بن أمية أدراعا‬ ‫عرنا‬ ‫وسلحا‪ ،‬فأرسل إليه وهو يومئذ مشرك فقال‪) :‬يا أمّية أ ِ‬ ‫ق فيه عدونا غدا‪ .‬فقال صفوان‪ :‬أغصبا يا محمد؟‬ ‫سلحك هذا نل َ‬ ‫قال‪ :‬بل إعارة مضمونة حتى نؤديها لك‪ .‬فقال‪ :‬ليس بهذا بأس‪،‬‬ ‫‪-133-‬‬


‫فأعطاه مائة درع بما يكفيها من السلح‪ ،‬فسأله رسول ا صلى‬ ‫ملها ففعل(‪ .‬فهذا واضح فيه أن‬ ‫ا عليه وسلم أن يكفيهم ح ْ‬ ‫الرسول استعان بكافر بأخذ السلح منه‪ ،‬وهو وإن كان فردا إل ّ‬ ‫أنه رئيس قبيلة‪ .‬على أن مجرد أخذ السلح من كافر دليل على‬ ‫جواز الستعانة بالكافر بأخذ السلح منه مطلقا ما لم َيِرد دليل‬ ‫يخصص عدم الستعانة به كدولة كما هي الستعانة بالقتال‪.‬‬ ‫ولكنه لم َيِرد دليل يمنع أخذ السلح من دولة‪ ،‬فيظل على إطلقه‬ ‫ن أخذ‬ ‫من جواز أخذه من الكافر مطلقا إعارة أو شراء‪ .‬على أ ّ‬ ‫الدولة السلح إّنما يحصل غالبا من دولة‪ .‬وعليه يجوز الستعانة‬ ‫بأخذ السلح من دولة كافرة‪.‬‬

‫تجهيز الجيش السلمي‬ ‫يجري تجهيز الجيش السلمي من بيت المال‪ .‬لن مال بيت‬ ‫عد له تجهيز الغازين‪.‬‬ ‫عد لمصالح المسلمين‪ ،‬ومما هو ُم َ‬ ‫المال ُم َ‬ ‫ولهذا ل بد من تنظيم المقاتلين في جيس إسلمي واحد تحت‬ ‫قيادة الخليفة مهما تعددت تقسيمات الجيش ونواحي تنظيماته‪،‬‬ ‫وأن يكون كله تحت لواء واحد مهما تعددت راياته ‪ .‬ويكون‬ ‫التجهيز كله للجيش من بيت المال ل من غيره‪ ،‬وإذا أراد أحد أن‬ ‫يجهز أحدا من المجاهدين مع وجود بيت المال فإنه يدفع ذلك‬ ‫لبيت المال ويجري التجهيز منه لكل صغيرة وكبيرة من أجل‬ ‫ست الحاجة إلى‬ ‫الجيش‪ .‬فإن لم يكن في بيت المال مال وم ّ‬ ‫تجهيز الجيش ليذبوا عن المسلمين فللخليفة أن يحكم على‬ ‫المسلمين بقدر ما يحتاج ذلك لن هذا مما هو واجب على كافة‬ ‫المسلمين‪ .‬فإذا ُوجد في بيت المال له مال من موارد بيت المال‬ ‫الدائمية كان بها‪ ،‬وإل ّ فيصبح وجوبه على المة‪ ،‬وخليفة‬ ‫المسلمين يحصله من المة ليقوم بصرفه على الجيش وتجهيزه‪،‬‬ ‫وما ينَفق في تجهيز الجيش هو من المال الذي ينَفق في سبيل‬ ‫ا‪ ،‬سواء أكان الجيش في حالة حرب أم لم يكن‪ ،‬لن الجهاد‬ ‫ماض إلى يوم القيام وتجهيز الجيش ماض إلى يوم القيامة بكل‬ ‫ما يلزم للقتال‪.‬‬

‫اللوية والرايات‬ ‫‪-134-‬‬


‫ل بد أن يكون للجيش ألوية ورايات‪ .‬والَفرق بين اللواء‬ ‫والراية هو أن اللواء ما ُيعقد في طرف الرمح ويلوى عليه ويقال‬ ‫له العلم‪ .‬قيل‪ :‬سمي لواء لنه يلوى لكبره فل ينشر إل ّ عند‬ ‫الحاجة‪ .‬وهو علم ضخم وعلمة لمحل أمير الجيش يدور معه‬ ‫عَلم الجيش وتكنى "أم الحرب"‪ ،‬وتكون‬ ‫حيث دار‪ .‬أّما الراية فهي َ‬ ‫عها رايات‪ ،‬وهي –أي الراية‪ -‬ما ُيعقد في‬ ‫م ُ‬ ‫أكبر من اللواء‪ ،‬ج ْ‬ ‫الرمح وُيترك حتى تصفقه الرياح‪ .‬والراية يتولها صاحب الحرب‬ ‫فيجعل في الجيش لكل أمير من أمراء الجيوش لواء وُتجعل‬ ‫لكل جيش من الجيوش راية‪ .‬وقد كانت للجيش السلمي في‬ ‫أيام الرسول صلى ا عليه وسلم راياته وألويته‪ .‬فعن أنس‬ ‫رضي ا عنه أن النبي صلى ا عليه وسلم نعى زيدا وجعفرا‬ ‫وابن رواحة للناس قبل أن يأتيهم خبرهم فقال‪) :‬أخذ الراية زيد‬ ‫فأصيب ثم أخذ جعفر فأصيب ثم أخذ ابن رواحة فأصيب(‪ .‬وُروي‬ ‫أن النبي صلى ا عليه وسلم ندب الناس لغزو الروم في آخر‬ ‫سر إلى موقع مقتل أبيك فأوطئهم‬ ‫صفر ودعا أسامة فقال ‪ِ) :‬‬ ‫الخيل فقد وّليُتك هذا الجيش‪ ،‬واغُز صباحا على إبنى وحّرق‬ ‫عليهم وأسرع المسير تسبق الخير‪ ،‬فإن ظفرك ا بهم فأِق ّ‬ ‫ل‬ ‫اللبث(‪ .‬فبدأ برسول ا صلى ا عليه وسلم وجعه في اليوم‬ ‫ء بيده فأخذ أسامة فدفعه إلى بريده‬ ‫عَقد لسامة لوا ً‬ ‫الثالث‪ ،‬ف َ‬ ‫وعسكر بالجرف‪ .‬مما يدل على الراية كانت تستعمل أثناء الحرب‬ ‫ومع قائد المعركة‪ ،‬وأن اللواء كان يوضع فوق معسكر الجيش‬ ‫علمة عليه‪ .‬وعن ابن عباس قال‪ :‬كانت راية النبي صلى ا عليه‬ ‫وسلم سوداء ولواؤه أبيض‪ .‬وعن جابر‪ :‬أن النبي صلى ا عليه‬ ‫وسلم دخل مكة ولواؤه أبيض‪ .‬وعن الحارث بن حسان البكري‬ ‫قال ‪َ:‬قِدمنا المدينة فإذا رسول ا صلى ا عليه وسلم على‬ ‫المنبر وبلل قائم بين يديه متقلد بالسيف وإذا رايات سود‪،‬‬ ‫فسألت‪ :‬ما هذه الرايات؟ فقالوا‪ :‬عمرو بن العاص َقِدم من‬ ‫غزاة(‪ .‬وعن البراء بن عازب أنه سئل عن راية رسول ا صلى‬ ‫ا عليه وسلم ما كانت؟ قال‪ :‬كانت سوداء مرّبعة من نمرة‪،‬‬ ‫ومعنى من نمرة أي ثوب حبرة‪ ،‬أي بردة من صوف‪ .‬وفي‬ ‫الصحيحين أن النبي صلى ا عليه وسلم قال ‪ُ ) :‬‬ ‫ن الراية‬ ‫طَي ّ‬ ‫لع ِ‬ ‫رجل ً يحب ا ورسوله ويحبه ا ورسوله‪ ،‬فأعطاها عليا(‪ .‬وعن‬ ‫‪-135-‬‬


‫ع)َقد رسول ا صلى ا عليه وسلم‬ ‫يزيد بن جابر الغفري قال ‪َ :‬‬ ‫رايات للنصار وجعلُهن صفرا(‪ .‬وعن أنس عند النسائي )أن ابن‬ ‫مكتوم كانت معه رايات سوداء في بعض مشاهد النبي صلى ا‬ ‫عليه وسلم(‪ .‬ومن ذلك كله يتبين أنه ل بد أن تكون للجيش‬ ‫السلمي ألوية ورايات‪ .‬إل ّ أنه ل ُيلتَزم فيها شكل معين ول لون‬ ‫معين بل الصل وجود اللواء والراية‪ ،‬أيا كان شكلها وأيا كان‬ ‫لونها‪ ،‬وإن كان ُروي عن ابن عباس عند أبي الشيخ بلفظ )كان‬ ‫مكتوبا على راية النبي صلى ا عليه وسلم ل إله إل ّ ا محمد‬ ‫رسول ا(‪ ،‬إل ّ أن ذلك ليس بلزم لن للرسول رايات لم ُيكتب‬ ‫عليها ذلك‪ .‬ول بأس بأن ُيجعل لكل جيش راية خاصة به بالشكل‬ ‫عَلم الدولة‪.‬‬ ‫أو اللون‪ ،‬وأن ُيعقد لكل أمير جيش لواء هو َ‬

‫السـرى‬ ‫سر المسلمون من عدّوهم أسرى‪ ،‬كان أمر هؤلء‬ ‫إذا أ َ‬ ‫السرى موكول ً لمر الخليفة مباشرة‪ ،‬وليس لمن أسروهم أو‬ ‫لقائد المعركة أو أمير الجيش في ذلك أي رأي‪ .‬لنه إذا صار‬ ‫المحاِرب أسيرا فالمر فيه لرأي الخليفة‪ ،‬والخليفة يتبع في ذلك‬ ‫الحكم الشرعي في السرى‪ .‬وحكم السرى الثابت بنص القرآن‬ ‫من عليهم أو يفاديهم‪.‬‬ ‫القطعي هو أن الخليفة مخّير بين أن َي ُ‬ ‫فحكم السرى هو المنّ أو الفداء‪ ،‬لقوله تعالى‪) :‬فإذا لقيتم‬ ‫ب الرقاب حتى إذا أثخنُتموهم فشُّدوا الَوثاق‬ ‫الذين كفروا فضر َ‬ ‫فإّما َمّنا بعُد وإّما ِفداء حتى تضع الحرب أوزارها(‪ ،‬وهذا صريح‬ ‫في حكم السرى وهو الحكم المتعين لعدة وجوه‪ ،‬منها أن هذا‬ ‫النص الصريح ورد في سورة محمد وهي أول سورة نزلت في‬ ‫شأن القتال‪ ،‬وكان نزولها بعد وصول الرسول إلى المدينة من‬ ‫مَيت سورة القتال‪ ،‬وقد نزلت بعد سورة الحديد وقبل‬ ‫س ّ‬ ‫مكة‪ ،‬وقد ُ‬ ‫معركة بدر‪ ،‬فهي قد بّينت حكم السرى قبل أن تحصل أي معركة‬ ‫ويحدث أسرى‪ .‬فإذا أضيف ذلك إلى أنها الية الوحيدة التي بّينت‬ ‫صراحة ماذا ُيفعل بالسرى‪ ،‬تبين أنها نص في حكم السرى‪،‬‬ ‫وأنها الصل في ذلك‪ ،‬وإليها يرجع كل نص آخر في السرى‪ .‬ومن‬ ‫الوجوه التي تعّين هذا الحكم في السرى أن الية قد ورد فيها‬ ‫حكم السرى بصيغة "إّما" الدالة على التخيير بين شيئين ل ثالث‬ ‫‪-136-‬‬


‫لهما‪ ،‬فقالت‪) :‬فإّما َمّنا بعُد وإّما ِفداء(‪ ،‬و"إّما" إذا وردت بين‬ ‫حصرت التخيير فيهما ومنعت أن يكون غيرهما أو أن ل‬ ‫شيئين َ‬ ‫يكون واحدا منهما‪ ،‬فتعّين من حصر التخيير في "إمّا" بين شيئين‬ ‫عدم جواز أن يكون غير ما خّير القرآن فيه من حكم السرى‪.‬‬ ‫ن على ثمامة بن‬ ‫ويؤيد ذلك أن الرسول صلى ا عليه وسلم م ّ‬ ‫أثال سيد أهل اليمامة‪ ،‬وأبي عزة الشاعر‪ ،‬وأبي العاص بن‬ ‫ي حيا ثم‬ ‫ع دِ ّ‬ ‫عم بن َ‬ ‫الربيع‪ .‬وقال في أسارى بدر‪) :‬لو كان المط َ‬ ‫سألني في هؤلء لطلقتهم له(‪ .‬وفادى أسارى بدر وكانوا ثلثة‬ ‫ل‪ ،‬وفادى يوم بدر رجل ً برجلين‪ .‬وُروي عن عائشة‬ ‫وسبعين رج ً‬ ‫عَثت زينب في‬ ‫عث أهل مكة في فداء أسراهم َب َ‬ ‫ما َب َ‬ ‫أنها قالت‪ :‬ل ّ‬ ‫عَثت بقلدة كانت لها عند خديجة أدخلتها‬ ‫فداء أبي العاص بمال وَب َ‬ ‫ما رآها رسول ا صلى ا عليه‬ ‫على أبي العاص‪ ،‬قالت‪ :‬فل ّ‬ ‫ق لها ِرّقة شديدة فقال‪ :‬إن رأيتم أن ُتطِلقوا لها أسيرها‬ ‫وسلم ر ّ‬ ‫وترّدوا لها الذي لها‪ .‬قالوا‪ :‬نعم(‪ .‬وعن عمران بن حصين )أن‬ ‫رسول ا صلى ا عليه وسلم فدى رجلين من المسلمين برجل‬ ‫من المشركين من بني عقيل(‪ ،‬وعن ابن عباس قال‪) :‬كان ناس‬ ‫من السرى يوم بدر لم يكن لهم فداء‪ ،‬فجعل لهم رسول ا‬ ‫صلى ا عليه وسلم فداءهم أن يعّلموا أولد النصار الكتابة(‪.‬‬ ‫فهذه الحاديث مع الية تدل دللة صريحة أن حكم السرى هو‬ ‫حكي عن الحسن وعطاء وسعيد بن جبير‬ ‫ن أو الفداء‪ .‬و ُ‬ ‫الم ّ‬ ‫ن عليه أو فاداه كما صنع بأسرى‬ ‫كراهة قتل السرى‪ ،‬وقالوا‪ :‬لو م ّ‬ ‫شّدوا الَوثاق فإّما َمّنا بعُد وإّما‬ ‫بدر‪ ،‬ولن ا تعالى قال‪) :‬ف ُ‬ ‫ِفداء(‪ ،‬فخّير بين هذين بعد السر ل غير‪ .‬فهذا كله صريح في أن‬ ‫الخليفة مخّير في السرى بين أمرين اثنين ليس غير‪ ،‬وهما إّما‬ ‫ن أو الِفداء‪.‬‬ ‫م ّ‬ ‫ال َ‬ ‫وأّما ما ُروي أن النبي صلى ا عليه وسلم قتل رجال بني‬ ‫كم في التحكيم‪ ،‬ل‬ ‫قريظة‪ ،‬فإن ذلك كان بناء على حكم المح ّ‬ ‫على أنهم أسرى حرب‪ .‬وما ُروي من أنه عليه السلم َقَتل يوم بدر‬ ‫عْيط صبرا‪ ،‬وَقَتل أبا عزة يوم‬ ‫النضر بن الحارث وعقبة بن أبي ُم َ‬ ‫ُأحد‪ ،‬فإن ذلك ل يدل على أن هذا حكم السرى‪ ،‬لنه لم يفعله‬ ‫في جميع السرى ولم يفعله في كل معركة‪ ،‬وإّنما فعله في‬ ‫منّ والِفداء فإنه‬ ‫بعض المعارك مع بعض الشخاص‪ ،‬بخلف ال َ‬ ‫عله بالسرى كلها في كل معركة‪ .‬والذي سّبب قتل هؤلء‬ ‫َف َ‬ ‫‪-137-‬‬


‫الشخاص خاصة هو أن الرسول يرى فيهم بأشخاصهم الخطر‬ ‫ل لشخاص معينين لسبب خاص بهم‪،‬‬ ‫المحّقق للمسلمين‪ ،‬فهو قت ٌ‬ ‫ل أشخاص معينين يعّينهم الخليفة أمر‬ ‫وليس قتل ً للسرى‪ .‬وقت ُ‬ ‫عَثنا‬ ‫جائز شرعا‪ .‬فقد روى أحمد والبخاري عن أبي هريرة قال ‪َ:‬ب َ‬ ‫عث فقال‪ :‬إن وجدُتم فلنا‬ ‫رسول ا صلى ا عليه وسلم في َب ْ‬ ‫وفلنا لرجلين فاحرقوهما بالنار‪ ،‬ثم قال حين أردنا الخروج‪ :‬إني‬ ‫كنت أمرتكم أن تحرقوا فلنا وفلنا وإن النار ل يعّذب بها إل ّ ا‬ ‫ن وجدتموهما فاقتلوهما(‪ .‬وبذلك يتبين أن القتل ليس من‬ ‫فإ ْ‬ ‫أحكام الشرع في السير‪ ،‬وإّنما القتل حكم الشرع في أشخاص‬ ‫معينين يرى الخليفة الخطر منهم فيأمر بقتلهم ولو كانوا أسرى‪.‬‬ ‫وأّما ما ُروي من أن رسول ا صلى ا عليه وسلم‬ ‫ق بعد نزول هذه الية‪ ،‬فإنه كان يستِرق السبي ل السرى‪،‬‬ ‫استر ّ‬ ‫أي كان يسترق النساء والطفال الذين مع الجيش في المعركة ل‬ ‫الرجال المحاِربين‪ .‬ولو ثبت السترقاق للرجال المحاِربين لوقع‬ ‫ذلك منه صلى ا عليه وسلم‪ ،‬ولم َيِرد في وقوعه شيء على‬ ‫كثرة أسرى العرب في زمانه صلى ا عليه وسلم‪ .‬وأّما ما روته‬ ‫بعض كتب التاريخ من أن الرسول صلى ا عليه وسلم استر ّ‬ ‫ق‬ ‫بني ناجية من قريش‪ ،‬ذكورهم وإناثهم‪ ،‬وباعهم‪ ،‬فإنه لم ترِوه‬ ‫كتب الحديث حتى ول بعض كتب السيرة كسيرة ابن هشام‪ ،‬فل‬ ‫ُيحتج به‪ .‬على أنه لو صح ذلك فإن الرواية تنص على لفظ )وقد‬ ‫ق بني ناجية ذكورهم وإناثهم( فذكرت الذكور والناث ولم‬ ‫استر ّ‬ ‫َتُقل الرواية على رجالهم ونسائهم‪ ،‬فُيحمل على السبي أي‬ ‫الطفال ذكورا وإناثا‪ ،‬وهذا جائز‪ .‬وعليه فإن الرسول لم يستِر ّ‬ ‫ق‬ ‫ق السبي ذكورا وإناثا‪ .‬والوقائع الثابتة في‬ ‫رجل ً أسيرا‪ ،‬وإّنما استر ّ‬ ‫الحاديث التي تعتَبر حجة تؤيد ذلك‪ .‬فإن المتتبع لعمال الرسول‬ ‫ق رجل ً أسيرا مطلقا ل من العرب ول من‬ ‫يجد أنه لم يستر ّ‬ ‫ق السبي‪ .‬ففي معركة بدر لم‬ ‫غيرهم‪ ،‬بل المروي عنه أنه استر ّ‬ ‫يكن مع العدو نساء ولذلك لم يحصل سبي فيها وإّنما حصل‬ ‫حنين خرجت‬ ‫كم الرسول عليهم بالفداء‪ ،‬وفي معركة ُ‬ ‫ح َ‬ ‫سر‪ ،‬ف َ‬ ‫أ ْ‬ ‫ما انتصر‬ ‫هوازن تحارب الرسول وخرج معهم النساء‪ ،‬ول ّ‬ ‫المسلمون وفّرت هوازن خلفت النساء وراءها فحصل السبي‬ ‫وُوضع مع الموال غنائم‪ .‬وفي بني المصطلق خلف العدو وراءه‬ ‫النساء فحصل السبي‪ .‬وفي خيبر ُقتلوا وُفتحت الحصون وُأخذت‬ ‫‪-138-‬‬


‫النساء التي كانت مع المحاربين سبيا وُترك باقي الناس كما ُترك‬ ‫الرجال‪.‬‬ ‫فهذه الحوادث كلها تدل على أن الرسول كان يأسر الرجال‬ ‫المحاِربين ويسبي النساء اللواتي مع المحاِربين وكذلك الطفال‪،‬‬ ‫أّما غيرهم من الرجال والنساء ممن لم يكونوا في المعركة فلم‬ ‫سر ول سبي‪ .‬وهذا يدل على أن الرسول لم‬ ‫يكن يقع عليهم ل أ ْ‬ ‫ق السرى‪ .‬وبهذا تبين أن عمل الرسول صلى ا عليه‬ ‫يستر ّ‬ ‫وسلم بالنسبة للسرى قد جرى حسب منطوق الية‪ .‬فهو قد م ّ‬ ‫ن‬ ‫في بعض الحيان وأخذ الفداء في بعض الحيان‪ ،‬وأنه لم‬ ‫ق السرى ولم يقتلهم وإّنما سبى النساء والطفال‪ ،‬وقتل‬ ‫يستر ّ‬ ‫أشخاصا مخصوصين بأعيانهم‪ِ ،‬لما لهم من خطر على المسلمين‪.‬‬ ‫أّما مسألة السبي التي تشتبه على الناس بالسرى فإن‬ ‫الناس في ذلك العصر يعتبرون النساء اللواتي يخرجن مع‬ ‫المحاِربين والولد كاعتبار الموال في اصطلح الحرب‪ ،‬ل فرق‬ ‫في ذلك بين العرب وغيرهم‪ ،‬فالصطلح الحربي كان يعتِبر‬ ‫الغنائم أموال ً وسبايا‪ ،‬فجاء الرسول وأقّر ذلك الصطلح فاعتبر‬ ‫النساء اللواتي يخرجن مع المحاِربين والولد كالموال غنيمة من‬ ‫ق ويجري عليها حكم الغنائم ل حكم السرى‪ .‬ولذا‬ ‫الغنائم فُتستر ّ‬ ‫ل يكون استرقاق السبايا استرقاقا للسرى بل يكون غنيمة‬ ‫للمسلمين من غنائم المعركة‪ .‬ويبقى حكم السرى هو تخيير‬ ‫ق إلى‬ ‫ن والفداء ليس غير‪ .‬وهذا الحكم با ٍ‬ ‫الخليفة فيهم بين الم ّ‬ ‫يوم القيامة‪ ،‬فإذا حاربت الدولة السلمية أعداءها تعاِمل السرى‬ ‫ن والِفداء‪ ،‬وإذا أخرجوا معهم نساءً للمعارك فإنه‬ ‫بالتخيير بين الم ّ‬ ‫ق وتكون مثل‬ ‫عند انجلء المعركة تؤخذ النساء سبايا وُتستر ّ‬ ‫الموال غنيمة من الغنائم‪.‬‬ ‫وهذا الحكم في السرى والسبي عام لجميع الناس ل‬ ‫فرق بين العرب وغيرهم وليس هو خاصا بالعرب‪ .‬وذلك لن‬ ‫الية والحاديث عاّمة ولم َيِرد ما يخصصها بغير العرب أو يستثني‬ ‫منها العرب فتبقى على عمومها تشمل العرب وغيرهم‪.‬‬ ‫وأّما حديث معاذ الذي أخرجه الشافعي والبيهقي أن النبي‬ ‫حنين‪) :‬لو كان السترقاق جائزا‬ ‫صلى ا عليه وسلم قال يوم ُ‬ ‫على العرب لكان اليوم(‪ .‬فإنه حديث ضعيف‪ ،‬ففي إسناده‬ ‫الواقدي وهو ضعيف جدا‪ ،‬ورواه الطبراني من طريق أخرى فيها‬ ‫‪-139-‬‬


‫يزيد بن عياض وهو أشد ضعفا من الواقدي‪ .‬ومثل هذا الحديث‬ ‫ل تقوم به حجة فل يجوز أن يكون دليل ً شرعيا‪ .‬وأّما ما ُروي أن‬ ‫ق رجالهم فإنه‬ ‫ق نساء العرب وأطفالهم ولم يستر ّ‬ ‫الرسول استر ّ‬ ‫صحيح ولكنه ل يدل على عدم جواز استرقاق رجال العرب‬ ‫وجواز استرقاق غيرهم بل هو عام يشمل العرب وغيرهم‪ .‬أّما‬ ‫كون الحادثة حصلت مع العرب فإنها واقعة حال ول مفهوم لها‪،‬‬ ‫أي أن الوضع الذي حصل كان مع العرب فل يعني ذلك أنه خاص‬ ‫بهم ول يكون لغيرهم‪ .‬على أن القاعدة الشرعية أن العبرة‬ ‫بعموم اللفظ ل بخصوص السبب‪ ،‬فالحادثة وإن حصلت مع‬ ‫شخص أو جماعة فإنها ل تختص بالشخص أو الجماعة بل يكون‬ ‫حكمها عاما‪ .‬وكذلك عدم استرقاق الرجال حصل مع العرب لن‬ ‫الواقع الذي كان أن الرسول كان يحارب العرب فل يكون الحكم‬ ‫خاصا بهم بل يكون عاما لجميع الناس‪ ،‬كما لو كان يحارب قبيلة‬ ‫معينة كقريش مثل ً فل يكون الحكم خاصا بها‪.‬‬ ‫إل ّ أن هذا كله أي حكم السرى والسبي عام في حق‬ ‫جميع الناس ما عدا مشركي العرب‪ ،‬ويستثنى منه مشركو العرب‬ ‫ء من بعد أربعة أشهر من يوم التاسع من ذي الحجة سنة‬ ‫ابتدا ً‬ ‫تسع للهجرة إلى يوم القيامة‪ ،‬فإنه ل ُيقبل منهم إل ّ السلم أو‬ ‫القتال ول يؤخذ منهم أسرى ول سبي‪ .‬أّما مشركو العرب قبل هذا‬ ‫التاريخ فيشملهم هذا الحكم‪ ،‬وكذلك غير مشركي العرب من‬ ‫اليهود والنصارى فإنه يشملهم هذا الحكم منذ نزول الية إلى يوم‬ ‫القيامة‪ ،‬إذ الستثناء خاص بمشركي العرب من يوم تبليغ عل ّ‬ ‫ي‬ ‫اليات للمشركين من العرب وهو التاسع من ذي الحجة وبعدها‬ ‫أربعة أشهر‪ ،‬ول يدخل فيه غيرهم من العرب ول يدخل‬ ‫المشركون قبل هذا التاريخ‪ .‬أّما استثناء هؤلء المشركين من‬ ‫ء من التاريخ المذكور فثابت بنص القرآن‪ ،‬قال تعالى‪:‬‬ ‫العرب ابتدا ً‬ ‫عْون إلى قوم أولي بأس شديد تقاِتلونهم أو ُيسِلمون(‪،‬‬ ‫)سُتد َ‬ ‫حُرم فاقتلوا المشركين حيث‬ ‫وقال‪) :‬فإذا انسلخ الشهر ال ُ‬ ‫صد فإن‬ ‫وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل َمر َ‬ ‫تابوا وأقاموا الصلة فخّلوا سبيلهم(‪ ،‬وقال‪) :‬فسيحوا في الرض‬ ‫أربعة أشهر واعلموا أنكم غير معجزي ا(‪ ،‬فهذا صريح بأنه‬ ‫استثناء لمشركي العرب من عموم اليات‪ ،‬فإن مشركي العرب‬ ‫بعد نزول هذه اليات وانقضاء مهلة الربعة أشهر ل ُيقبل منهم‬ ‫‪-140-‬‬


‫ق من‬ ‫إل ّ السلم أو الحرب‪ .‬وأّما ما ُروي من أن الرسول استر ّ‬ ‫العرب فهو استرقاق من اليهود والنصارى واسترقاق من مشركي‬ ‫العرب قبل نزول هذه اليات‪ ،‬أّما بعدها فإنه لم يقبل من‬ ‫مشركي العرب إل ّ السلم أو القتال‪.‬‬

‫السياسة الحربية‬ ‫السياسة الحربية هي رعاية شؤون الحرب على وضع من‬ ‫شأنه أن يجعل النصر للمسلمين والخذلن لعدائهم‪ ،‬وتبرز فيها‬ ‫الناحية العملية النية‪ .‬وقد أجاز فيها الشرع أشياء حّرمها في‬ ‫غيرها‪ ،‬وحّرم فيها أشياء أجازها في غيرها‪ .‬فقد أجاز فيها‬ ‫الكذب مع العدو مع أنه حرام معه في غير الحرب‪ ،‬وحّرم اللين‬ ‫مع الجيش مع أنه مندوب في غير الحرب‪ .‬وهكذا جعلت السياسة‬ ‫الحربية للحكام اعتبارا خاصا في الحرب‪ .‬وهذه العتبارات منها‬ ‫ما يتعلق بمعاملة العدو‪ ،‬ومنها ما يتعلق بالعمال الحربية نفسها‪،‬‬ ‫ومنها ما يتعلق بالجيش السلمي‪ ،‬ومنها ما يتعلق بغير ذلك‪.‬‬ ‫عل السلم للخليفة‬ ‫ج َ‬ ‫فمما يتعلق بمعاملة العدو‪َ ،‬‬ ‫وللمسلمين أن يفعلوا بالعدو مثل ما من شأنه أن يفعله العدو‬ ‫بهم‪ ،‬وأن يستبيح من العدو مثل ما يستبيحه العدو من المسلمين‪،‬‬ ‫ولو كان من المحّرمات‪ ،‬قال ا تعالى‪) :‬وإن عاقبتم فعاِقبوا‬ ‫بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين(‪ .‬وقد ُروي أن‬ ‫سبب نزول هذه الية أن المشركين مّثلوا بالمسلمين يوم ُأحد‪:‬‬ ‫شَرموا آنافهم‪ ،‬ما تركوا أحدا‬ ‫َبَقروا بطونهم وقطعوا مذاكيرهم و َ‬ ‫إل ّ مّثلوا به‪ ،‬إل ّ حنظلة بن الراهب‪ .‬فوقف رسول ا صلى ا‬ ‫شق‬ ‫عليه وسلم على حمزة وقد ُمّثل به‪ ،‬فرأى منظرا أساءه وقد ُ‬ ‫طِلم أنفه‪ ،‬فقال‪) :‬أَما والذي أحلف به إن أظفرني ا‬ ‫بطنه واص ُ‬ ‫بهم ُ‬ ‫ن بسبعين مكانك(‪ ،‬فنزلت هذه الية‪ .‬فالية نزلت في‬ ‫لمّثَل ّ‬ ‫الحرب‪ ،‬وهي وإن كانت نهت عن الزيادة عن المثل ولكنها‬ ‫صريحة في إباحة أن يعمل المسلمون مثل ما يعمله الكفار بهم‪،‬‬ ‫حتى أن الية ُيفهم منها إباحة التمثيل بقتلى الكفار الذين مّثلوا‬ ‫بقتلى المسلمين على أن ل يزيد على مثل ما فعلوا‪ ،‬مع أن‬ ‫التمثيل حرام‪ ،‬ووردت الخبار بالنهي عنه‪ ،‬إل ّ أن هذا النهي إّنما‬ ‫يكون إذا لم يمّثل العدو بقتلى المسلمين وإل ّ فإن للمسلمين أن‬ ‫‪-141-‬‬


‫يفعلوه إذا كان العدو يمّثل في قتلى المسلمين‪ .‬ومثل ذلك الغدر‬ ‫ونقض العهد فإنه إن فعله العدو أو خيف منه أن يفعله جاز لنا‬ ‫أن نفعله‪ ،‬وإل ّ فل يجوز أن نفعله‪ .‬وإّنما جاز أن نفعله مع أنه ورد‬ ‫النهي عنه‪ ،‬عمل ً بالسياسة الحربية‪ ،‬إذ أن النهي عنه إّنما يكون إذا‬ ‫عله جاز للمسلمين أن يفعلوه‪ ،‬قال تعالى‪:‬‬ ‫ن َف َ‬ ‫لم يفعله العدو‪ ،‬فإ ْ‬ ‫سواء(‪ .‬وعلى هذا‬ ‫ن من قوم خيانة فانِبذ إليهم على َ‬ ‫)وإّما تخاف ّ‬ ‫فإن السلحة النووية يجوز للمسلمين أن يستعلموها في حربهم‬ ‫مع العدو‪ ،‬ولو كان ذلك قبل أن يستعملها العدو معهم‪ ،‬لن الدول‬ ‫كلها تستبيح استعمال السلحة النووية في الحرب‪ ،‬فيجوز‬ ‫استعمالها‪ ،‬مع أن السلحة النووية يحرم استعمالها لنها ُتهلك‬ ‫البشر‪ ،‬والجهاد هو لحياء البشر بالسلم ل لفناء النسانية‪.‬‬ ‫ومما يتعلق بالعمال الحربية أن للمسلمين تحريق أشجار‬ ‫الكفار وأطعمتهم وزرعهم ودورهم وهدمها‪ ،‬قال ا تعالى‪) :‬ما‬ ‫قطعُتم من ِلينة أو تركتموها قائمة على أصولها فبإذن ا‬ ‫ي الفاسقين(‪ .‬وقد أحرق رسول ا صلى ا عليه وسلم‬ ‫ولُيخِز َ‬ ‫نخل بني النضير مع تحققه بأنه سيؤول له‪ .‬أّما ما ُروي عن يحيى‬ ‫بن سعيد النصاري أن أبا بكر الصديق رضي ا عنه قال لمير‬ ‫ن شاة ول بعيرا إل ّ لمأكلة ول‬ ‫ل تعِقر ّ‬ ‫جيش بعثه إلى الشام ‪) :‬‬ ‫ن نخل ً ول ُتغِرقّنه( وقد أقّره الصحابة جميعا ول مخالف له‪،‬‬ ‫تحرق ّ‬ ‫فإن ذلك هو الصل في الحرب وهو عدم تخريب العامر وعدم‬ ‫سب‬ ‫قطع الشجر‪ ،‬ولكن إذا رأى الخليفة أو قائد الجيش أن ك ْ‬ ‫المعركة ل بد له من تخريب العامر وقطع الشجر‪ ،‬أو أن السراع‬ ‫في كسب المعركة يقضي بذلك‪ ،‬جاز في السياسة الحربية أن‬ ‫يقطع الشجر وأن يخرب العامر كما فعل رسول ا صلى ا‬ ‫عليه وسلم‪ .‬ومثل ذلك قتل البهائم وحرقها وكل ما يملكه العدو‪،‬‬ ‫فإنه إذا اقتضته السياسة الحربية جاز فعله‪ ،‬ولو كان محّرما‪ ،‬قال‬ ‫ا تعالى‪) :‬ول يطئون موطئا يغيظ الكفار ول ينالون من عدو‬ ‫نيل ً إل ّ ُكتب لهم به عمل صالح(‪ .‬وهذا الكلم عام في كل شيء‪،‬‬ ‫ولم َيِرد ما يخصص هذه الية بالذات ل آية أخرى ول حديث‪،‬‬ ‫فتبقى على عمومها‪ ،‬وقد وردت أحاديث صحيحة في جواز حرق‬ ‫البيوت وحرق الشجر وقطعه‪ .‬عن ابن عمر )أن النبي صلى ا‬ ‫عليه وسلم قطع نخل بني النضير وحّرق(‪ ،‬وبها يقول حسان‪:‬‬ ‫حريق بالبويرة مستطير‬ ‫وهان على سراة بني لؤي‬ ‫‪-142-‬‬


‫وفي ذلك نزلت )ما قطعُتم من ِلينة أو تركُتموها( الية‪ .‬وعن‬ ‫جرير بن عبدا قال‪ :‬قال لي رسول ا صلى ا عليه وسلم‪:‬‬ ‫ت في خمسين ومائة‬ ‫)أل تريحني من ذي الخَلصة(؟ قال‪ :‬فانطلق ُ‬ ‫س‪ ،‬وكانوا أصحاب خيل‪ ،‬وكان ذو الخلصة بيتا في‬ ‫م َ‬ ‫فارس من اح ُ‬ ‫اليمن لخثعم وبجيلة فيه نصب بعيد يقال له كعبة اليمانية‪ ،‬قال‪:‬‬ ‫فأتاها فحرقها بالنار وكسرها‪ ،‬ثم بعث رجل ً من أحمس يكنى أبا‬ ‫ما أتاه قال‪:‬‬ ‫أرطأة إلى النبي صلى ا عليه وسلم يبشره بذلك‪ ،‬فل ّ‬ ‫ت حتى تركتها كأنها جمل‬ ‫يا رسول ا‪ ،‬والذي بعثك بالحق ما جئ ُ‬ ‫مس‬ ‫أجرب‪ .‬قال‪ :‬فبّرك النبي صلى ا عليه وسلم على خيل أح ُ‬ ‫ورجالها خمس مرات‪ ،‬وبّرك أي دعا لهم بالبركة‪ .‬وروى أحمد وأبو‬ ‫داود وابن ماجه عن أسامة بن زيد قال‪) :‬بعثني رسول ا صلى‬ ‫ا عليه وسلم إلى قرية يقال لها أبنى‪ ،‬فقال‪ :‬ائتها ثم حّرق(‪،‬‬ ‫وأبنى هذه هي يبنا فلسطين‪ .‬ويظهر من وصية عمر التي رواها‬ ‫ن حرق الشجر‬ ‫مالك في الموطأ ومن مقارنتها بهذه الحاديث‪ ،‬أ ّ‬ ‫وقطعه وهدم البيوت إّنما يكون إذا اقتضاه كسب المعركة أو‬ ‫كسب الحرب‪ ،‬فهو داخل في السياسة الحربية‪.‬‬ ‫ومما يتعلق بالجيش السلمي أن للمام أو لمير الجيش‬ ‫أن يمنع من الذهاب للمعركة المنافقين أو الُفساق أو المخّذلين‬ ‫جفين ومن شاكلهم لقوله تعالى‪) :‬ولكن كِره ا انبعاثهم‬ ‫مر ِ‬ ‫وال ُ‬ ‫فثّبطهم وقيل اقعدوا مع القاعدين‪ .‬لو خرجوا فيكم ما زادوكم‬ ‫خبال ً ولوضعوا خللكم يبغونكم الفتنة(‪ ،‬مع أن الجيش‬ ‫إل ّ َ‬ ‫السلمي ل ُيمنع من الشتراك به فاسق ول منافق ولكن إذا‬ ‫اقتضت السياسة الحربية منعه من الذهاب للمعركة أو من القيام‬ ‫بعمل معين أو ِمن توّلي أمر معين‪ ،‬فإنه يجوز للخليفة ولمير‬ ‫الجيش أن يفعل ذلك‪.‬‬ ‫ومما يتعلق في غير معاملة العدو‪ ،‬وغير أعمال الحرب‪،‬‬ ‫وغير الجيش السلمي‪ ،‬ما حصل مع الرسول في رجوعه من‬ ‫غزوة بني المصطلق‪ ،‬فإنه رجع بالمسلمين بسرعة فائقة وكان‬ ‫يمشي ليل نهار على أكثر قوة يستطيعها حتى وصل المدينة وقد‬ ‫أنهك التعب الجيش مع أن الحكم هو الرفق بالجيش‪ .‬فعن جابر‬ ‫قال‪) :‬كان رسول ا صلى ا عليه وسلم يتخلف في المسير‬ ‫فيزجي الضعيف وُيرِدف ويدعو لهم(‪ .‬إل ّ أن السياسة الحربية‬ ‫ي بن سلول من إيقاع الفتنة بين‬ ‫بالنسبة ِلما كان من عبدا بن ُأب ّ‬ ‫‪-143-‬‬


‫المسلمين المهاجرين والنصار اقتضت عدم السير بسير أضعف‬ ‫الجيش والسير بسير أقواهم‪ ،‬حتى ل ُيترك مجال للحديث أو‬ ‫المناقشة‪.‬‬ ‫وهكذا تقضي السياسة الحربية أن يقوم المام بأعمال‬ ‫تقتضيها رعاية شؤون الحرب لكسب المعركة أو لكسب الحرب‬ ‫وخذلن العدو والنتصار عليه‪ .‬إل ّ أن هذا كله مقّيد بما إذا لم َيِرد‬ ‫نص على عمل معين‪ ،‬فإذا ورد نص خاص فإنه ل يجوز أن يفعل‬ ‫ذلك العمل بحجة السياسة الحربية‪ ،‬بل يجب أن يتقيد بالنص‬ ‫سحب الوضع الذي ورد فيه‪ ،‬فإن كان النص ورد قاطعا غير معلل‬ ‫فل يجوز حينئذ القيام بالعمل‪ ،‬وإذا ورد النص معلل ً بعّلة فإنه يتبع‬ ‫فيه الحكم حسب العلة‪ ،‬وإن ورد النص بالمنع وورد عن الرسول‬ ‫فعله في حالت معينة فإنه ل يقام بالعمل إل ّ في تلك الحالت‪.‬‬ ‫وقد وردت نصوص في أفعال َمَنع الشرع منها فُيتبع المنع‬ ‫حسب ما وردت‪ .‬ول يقال فيها سياسة حربية‪ ،‬لن السياسة‬ ‫الحربية عامة إل ّ أن َيِرد نص في أمر يستثنيه من العموم فيتبع‬ ‫النص فيما خصص به‪ .‬روى أحمد عن صفوان بن عسال قال‪:‬‬ ‫عثنا رسول ا صلى ا عليه وسلم في سرّية فقال‪) :‬سيروا‬ ‫َب َ‬ ‫باسم ا وفي سبيل ا‪ ،‬قاتلوا من كفر بالله‪ ،‬ول تمّثلوا ول‬ ‫تغُدروا‪ ،‬ول تقتلوا وليدا(‪ .‬وروى البخاري عن ابن عمر قال‪:‬‬ ‫)ُوجدت امرأة مقتولة في بعض مغازي النبي صلى ا عليه‬ ‫وسلم‪ ،‬فنهى رسول ا صلى ا عليه وسلم عن قتل النساء‬ ‫والصبيان(‪ .‬وروى أحمد عن السود بن سريع قال‪ :‬قال رسول‬ ‫ل تقتلوا الذّرّية في الحرب‪ .‬فقالوا‪ :‬يا‬ ‫ا صلى ا عليه وسلم ‪) :‬‬ ‫رسول ا أوليس هم أولد المشركين؟ قال‪ :‬أوليس خياركم‬ ‫أولد المشركين(‪ .‬وروى أبو داود عن أنس أن رسول ا صلى‬ ‫ا عليه وسلم قال‪) :‬انطلقوا باسم ا وبالله وعلى ملة رسول‬ ‫ا‪ ،‬ل تقتلوا شيخا فانيا ول طفل ً صغيرا ول امرأة‪ ،‬ول تغّلوا‪،‬‬ ‫وضعوا غنائمكم وأصلحوا إن ا يحب المحسنين(‪ ،‬فهذه‬ ‫الحاديث نهت عن أفعال معينة في الحرب فل يصح أن ُتفعل‬ ‫في الحرب بحجة السياسة الحربية‪ ،‬وإّنما ُتفعل على الوجه الذي‬ ‫وردت به النصوص‪ .‬وقد وردت النصوص على أنه يجوز أن ُتفعل‬ ‫هذه المور جميعها بضرب المدافع والقنابل وكل ما ُيضرب من‬ ‫بعيد بشيء ثقيل‪ ،‬وأن ُيقتل الصبيان والنساء إذا لم يمكن‬ ‫‪-144-‬‬


‫الوصول إلى الكفار إل ّ بقتلهم لختلطهم بهم‪ .‬فقد روى البخاري‬ ‫عن الصعب بن جثامة )أن رسول ا صلى ا عليه وسلم سئل‬ ‫عن أهل الدار من المشركين يبيتون فيصاب من نسائهم‬ ‫وذراريهم‪ ،‬ثم قال‪ :‬هم منهم(‪ ،‬وفي صحيح ابن حبان عن‬ ‫ت رسول ا صلى ا عليه وسلم عن أولد‬ ‫الصعب قال‪) :‬سأل ُ‬ ‫المشركين أنقتلهم معهم؟ قال‪ :‬نعم(‪ ،‬وأخرج الترمذي عن ثور بن‬ ‫يزيد )أن النبي صلى ا عليه وسلم نصب المنجنيق على أهل‬ ‫الطائف( والمنجنيق حين ُيضرب به ل يميز بين امرأة وطفل‬ ‫وشجر إلى غير ذلك‪ ،‬فدل على أن السلحة الثقيلة كالمدافع‬ ‫والقنابل إذا اسُتعملت في الحرب يجوز بها قتل وهدم وتخريب‬ ‫كل شيء‪ ،‬وكذلك إذا لم يمكن الوصول إلى الكفار إل ّ بوطء‬ ‫الذرية والنساء‪ ،‬فإذا أصيبوا لختلطهم بهم جاز قتلهم‪ .‬أّما فعل‬ ‫كل أمر من هذه المور وحده في غير المنجنيق وفي غير حالة‬ ‫عدم إمكانية التمييز بينها وبين الكفار الذين نحاربهم‪ ،‬ففيه تفصيل‬ ‫حسب ما ورد في النصوص‪.‬‬ ‫أّما الصبيان فيحرم قتلهم مطلقا في غير الحالتين‬ ‫السابقتين‪ ،‬وكذلك العسيف أي الجير الذي يكون مع القوم مجَبرا‬ ‫عفين‪ ،‬وذلك لورود النهي عن قتلهما بشكل‬ ‫لنه من المستض َ‬ ‫قاطع ولم يعلل بأية عّلة‪.‬‬ ‫وأّما النساء فإنه ُينظر فيها‪ ،‬فإن كانت تحارب جاز قتلها‪،‬‬ ‫وإن لم تكن تحارب لم يجز قتلها‪ ،‬وذلك ِلما رواه أحمد وأبو داود‬ ‫عن رباح بن ربيع أنه خرج مع رسول ا صلى ا عليه وسلم‬ ‫في غزوة غزاها وعلى مقدمته خالد بن الوليد‪ ،‬فمّر رباح‬ ‫وأصحاب رسول ا صلى ا عليه وسلم على امرأة مقتولة مما‬ ‫أصابت المقدمة‪ ،‬فوقفوا ينظرون إليها‪ ،‬يعني وهم يتعجبون من‬ ‫خلقها‪ ،‬حتى لحقهم رسول ا صلى ا عليه وسلم على راحلته‬ ‫فأفرجوا عنها‪ ،‬فوقف عليها رسول ا صلى ا عليه وسلم‬ ‫حق خالدا فقل له‪:‬‬ ‫فقال‪) :‬ما كانت هذه لتقاِتل‪ .‬فقال لحدهم ‪ِ :‬ال َ‬ ‫ل تقتلوا ذرية ول عسيفا(‪ .‬فقول الرسول‪) :‬ما كانت هذه لتقاِتل(‬ ‫يدل على أنها لو كانت تقاِتل جاز قتلها‪ ،‬فيكون الحديث قد جعل‬ ‫عّلة النهي عن قتلها كونها ل تقاِتل‪ .‬ويؤيد ذلك ما رواه أبو داود‬ ‫عن عكرمة )أن النبي صلى ا عليه وسلم مّر بامرأة مقتولة يوم‬ ‫حنين فقال‪ :‬من قتل هذه؟ فقال رجل‪ :‬أنا يا رسول ا‪ ،‬غنمُتها‬ ‫ُ‬ ‫‪-145-‬‬


‫ما رأت الهزيمة فينا أهوت إلى قائم سيفي‬ ‫فأردفُتها خلفي فل ّ‬ ‫كر عليه رسول ا صلى ا عليه وسلم(‪.‬‬ ‫لتقتلني فقتلتها‪ ،‬فلم ين ِ‬ ‫وبذلك يتبين أن المرأة إذا قاتلت جاز قتلها وإذا لم تقاتل ل يجوز‬ ‫قتلها‪.‬‬ ‫وأّما الشيخ الفاني‪ ،‬فإنه إن كان فانيا لم يبق فيه نفع‬ ‫للكفار ول مضرة على المسلمين‪ ،‬فل يجوز قتله للنهي عن قتله‪.‬‬ ‫وأّما إن كان فيه نفع للكفار أو مضرة على المسلمين فيجوز قتله‪،‬‬ ‫سمرة أن النبي صلى ا عليه‬ ‫وذلك ِلما روى أحمد والترمذي عن ُ‬ ‫وسلم قال‪) :‬اقتلوا شيوخ المشركين(‪ ،‬وِلما روى البخاري من‬ ‫ما فرغ من‬ ‫حديث أبي موسى أن النبي صلى ا عليه وسلم ل ّ‬ ‫حنين بعث أبا عامر على جيش أوطاس فلقي دريد بن الصمة‬ ‫ُ‬ ‫وقد كان نيف على المائة وقد أحضروه ليدّبر لهم الحرب‪ ،‬فقتله‬ ‫أبو عامر ولم ينكر النبي صلى ا عليه وسلم ذلك عليه‪ .‬وعلى‬ ‫ذلك ُيحمل حديث أنس على الشيخ الذي ل نفع فيه ول ضرر منه‬ ‫وهو الفاني كما ورد في نفس الحديث‪.‬‬ ‫فهذه المور التي ورد النص عن ِفعلها أل ّ ُتفعل إل ّ حسب‬ ‫ظع أي عمل‬ ‫ما ورد به النص‪ ،‬وما عدا ذلك فإنه يجوز‪ ،‬ول يستف َ‬ ‫يفعله المسلمون بعدوهم الكافر ما دام هذا العمل حصل في‬ ‫حالة الحرب‪ ،‬سواء أكان هذا العمل حلل ً أم حراما في غير‬ ‫الحرب‪ .‬ول يستثنى من ذلك إل ّ الفعل الذي ورد النص في النهي‬ ‫عنه في الحرب صراحة‪.‬‬

‫الكذب في الحرب‬ ‫الكذب كله حرام قطعا بنص القرآن القطعي‪ ،‬وتحريمه من‬ ‫الحكام المعروفة من الدين بالضرورة‪ ،‬ل فرق بين أن يكون‬ ‫لمنفعة المسلمين أو لمصلحة الدين‪ ،‬وبين أن يكون عكس ذلك‪.‬‬ ‫فقد جاءت النصوص في تحريمه عامة ومطَلقة وباّتة غير معّللة‪،‬‬ ‫قال تعالى‪) :‬إّنما يفتري الكذب الذين ل يؤمنون بآيات ا(‪ ،‬وقال‬ ‫تعالى‪) :‬لعنة ا على الكاذبين(‪ .‬وهذا البت والطلق والعموم ل‬ ‫يعلله ول يقيده ول يخصصه إل ّ نص واحد‪ ،‬ول دخل للعقل في‬ ‫ذلك إل ّ في فهم النص ليس يغر‪ .‬ولم َيِرد في الصحيح أي نص‬ ‫يفيد أي تعليل أو أي تقييد ل في الكتاب ول في السّنة‪ .‬وأّما‬ ‫‪-146-‬‬


‫تخصيص النص فقد ورد فيه نص استثنى من تحريم الكذب‬ ‫صَرها وحددها فل يجوز تعّديها بحال من الحوال‪،‬‬ ‫أشياء معينة ح َ‬ ‫صه الدليل من المور‬ ‫فل يستثنى من تحريم الكذب شيء إل ّ ما خ ّ‬ ‫المذكورة في الحاديث وهي‪ :‬حالة الحرب‪ ،‬وعلى المرأة‪،‬‬ ‫ولصلح ذات البْين‪ ،‬لورود النص عليها‪ .‬فقد روى أحمد ومسلم‬ ‫وابو داود عن أم كلثوم بنت عقبة قالت‪) :‬لم أسمع النبي صلى ا‬ ‫خص في شيء من الكذب مما تقول الناس إل ّ في‬ ‫عليه وسلم ير ّ‬ ‫الحرب‪ ،‬والصلح بين الناس‪ ،‬وحديث الرجل امرأته وحديث‬ ‫المرأة زوجها(‪ ،‬عن أسماء بنت يزيد قالت‪ :‬قال رسول ا صلى‬ ‫ا عليه وسلم‪) :‬يا أيها الناس ما يجعلكم أن َتتابعوا على الكذب‬ ‫كتتابع الَفراش في النار؟ الكذب كله على ابن آدم حرام‪ ،‬إل ّ في‬ ‫ثلث خصال‪ :‬رجل كذب على امرأته ليرضيها‪ ،‬ورجل كذب في‬ ‫الحرب فإن الحرب خدعة‪ ،‬ورجل كذب بين مسلمْين ليصلح‬ ‫بينهما(‪.‬‬ ‫فهذه الثلث من المستثَنيات من تحريم الكذب بنص صريح‪،‬‬ ‫فل يحل أن يقع الكذب في غيرها‪ ،‬إذ ل ُيستثنى من عموم النص‬ ‫إل ّ ما خصه الدليل فحسب‪ .‬وكلمة )في الحرب( الواردة في‬ ‫الحديث ليس لها إل ّ معنى واحد ليس غير‪ ،‬وهو حالة الحرب‬ ‫الفعلية في شأن الحرب‪ ،‬فل يجوز الكذب في غير حالة الحرب‬ ‫مطلقا‪ ،‬ول في حالة الحرب في غير شأن الحرب‪ .‬وأّما ما ص ّ‬ ‫ح‬ ‫عن النبي صلى ا عليه وسلم من أنه كان إذا أراد غزوة وّرى‬ ‫بغيرها‪ ،‬فإن المراد أنه كان يريد أمرا فل ُيظِهره‪ ،‬كأن يريد أن‬ ‫يغزو جهة الشرق فَيسأل عن أمر في جهة المغرب ويتجهز‬ ‫للسفر‪ ،‬فيظن من يراه ويسمعه أنه يريد جهة المغرب‪ .‬وأّما أنه‬ ‫يصّرح بإرادته المغرب ومراده المشرق فلم يحصل‪ ،‬فل يكون‬ ‫على هذا إخبارا بخلف الواقع وإّنما هو من قبيل التورية‪ ،‬علوة‬ ‫على أنه داخل في حالة الحرب الفعلية وفي شأن الحرب‪ ،‬لنه‬ ‫ل‪ ،‬وهو من الخدعة الواردة في‬ ‫ذهاب للمعركة لمحاربة العدو فع ً‬ ‫قوله عليه الصلة والسلم‪) :‬الحرب خدعة(‪.‬‬ ‫وأّما ما روي عن جابر أن رسول ا صلى ا عليه وسلم‬ ‫كعب بن الشرف فإنه قد آذى ا ورسوله؟ قال‬ ‫قال‪) :‬من ِل َ‬ ‫ب أن أقتله يا رسول ا قال‪ :‬نعم‪ .‬قال‪:‬‬ ‫محمد بن مسلمة‪ :‬أتح ّ‬ ‫ت‪ .‬قال‪ :‬فأتاه فقال‪ :‬إن هذا –‬ ‫فائذن لي فأقول‪ .‬قال‪ :‬قد فعل ُ‬ ‫‪-147-‬‬


‫يعني النبي صلى ا عليه وسلم‪ -‬قد عّنانا وسَأَلنا الصدقة‪ .‬قال‪:‬‬ ‫عه حتى ننظر إلى ما يصير إليه‬ ‫وأيضا وا قد اتبعناه فَنكَره أن نَد َ‬ ‫أمره‪ .‬قال‪ :‬فلم يزل يكلمه حتى استمكن منه فقتله(‪ ،‬فإنه أيضا‬ ‫في حالة الحرب‪ .‬وإنه وإن كانت ألفاظ الحديث نصت على أن‬ ‫اللفاظ التي قالها محمد بن مسلمة صدق وليس بكذب وإّنما هو‬ ‫تعريض‪ ،‬ولكن محمد بن مسلمة استأذن أن يقول كل شيء‬ ‫فأذن له في كل شيء‪ ،‬ويدخل فيه الذن في الكذب صريحا‬ ‫وتلويحا‪ ،‬وهو داخل في حالة الحرب‪.‬‬ ‫وأّما ما أخرجه أحمد والنسائي من حديث أنس في قصة‬ ‫الحجاج بن علط في استئذانه النبي صلى ا عليه وسلم أن‬ ‫يقول عنه ما شاء لمصلحته في استخلص ماله من أهل مكة‬ ‫ن له النبي صلى ا عليه وسلم وإخباره لهل مكة أن أهل‬ ‫وأِذ َ‬ ‫خيبر هزموا المسلمين‪ ،‬فإنه يدخل كذلك في حالة الحرب‪ ،‬لن‬ ‫أهل مكة كانوا في حالة حرب فعلية مع المسلمين‪ ،‬والحجاج بن‬ ‫علط من المسلمين وهو ذاهب عند الكفار العداء وهم في‬ ‫حالة حرب فعلية‪ ،‬فيجوز الكذب عليهم‪ ،‬إذ جواز الكذب ل يقتصر‬ ‫على المعركة ول على المحاربين بل يجوز للمسلمين أن يكذبوا‬ ‫على الكفار أعدائهم إذا كانوا في حالة حرب فعلية معهم‪.‬‬ ‫وأّما ما أخرجه الطبراني في الوسط )الكذب كله إثم إل ّ ما‬ ‫نفع به مسلم أو دفع به عن دين(‪ ،‬وهو عند البزار بلفظ )الكذب‬ ‫مكتوب إل ّ ما نفع به مسلم أو ًدفع به عنه(‪ ،‬قال في مجمع‬ ‫الزوائد‪ :‬وفي سنده رشدين وغيره من الضعفاء‪ ،‬وعليه فهو‬ ‫ل‪.‬‬ ‫حديث ضعيف فُيرد ول ُيحتج به فل يصلح دلي ً‬ ‫وعلى ذلك فإن الكذب كله حرام ول يحل إل ّ في ثلث‪ :‬في‬ ‫الحرب‪ ،‬والصلح بين الناس‪ ،‬وحديث الرجل امرأته‪ ،‬وحديث‬ ‫المرأة زوجها‪ ،‬وما عداها حرام قطعا‪ ،‬لن تحريم الكذب جاء في‬ ‫القرآن عاما يشمل كل كذب‪ ،‬فجاء الحديث وخصصه في غير‬ ‫الحرب والصلح بين الناس وحديث الرجل امرأته وحديث المرأة‬ ‫حرمة‪ ،‬فكانت هي وحدها‬ ‫زوجها‪ ،‬واستثنى هذه الثلث من ال ُ‬ ‫حل في ثلث‬ ‫حلل ً وما عداها حرام‪ ،‬ل سيما أن الحديث حصر ال ِ‬ ‫فقال‪) :‬الكذب كله على ابن آدم حرام‪ ،‬إل ّ في ثلث خصال(‪،‬‬ ‫خص في شيء من الكذب إل ّ في‬ ‫وقال‪) :‬لم أسمع النبي ير ّ‬ ‫الحرب‪ (..‬الخ‪ .‬وهذا الحصر يعني أن غيرها حرام‪ .‬والحاديث‬ ‫‪-148-‬‬


‫التي وردت كلها في حالة الحرب الفعلية وما عداها فهي أحاديث‬ ‫ضعيفة ُتَرد ول ُيحتج بها‪.‬‬ ‫وأّما التورية في غير الحرب‪ ،‬فإنها إن فهم منها السامع‬ ‫خلف الواقع‪ ،‬بأن كان اللفظ ل يدل على الواقع وغيره لغة‬ ‫حل‪ ،‬كأن‬ ‫واصطلحا عاما عند المتكلم والسامع فهي كذب ل َي ِ‬ ‫يصطلح جماعة مخصوصون على كلمة فيقولونها لمن لم يعرف‬ ‫هذا الصطلح‪ ،‬أو كأن كان اصطلحا للمتكلم ول يعرفه السامع‪،‬‬ ‫حل‪ .‬وهو وإن كان تورية عند المتكلم ولكن‬ ‫فإن ذلك كله كذب ل َي ِ‬ ‫السامع َفِهم من اللفظ خلف الواقع‪ ،‬فل يعتبر من قبيل التورية‬ ‫حل‪ .‬وأّما إن كان اللفظ ُيفهم منه الواقع وغيره فهي من‬ ‫ول َي ِ‬ ‫أنواع البلغة وهي صدق وليست بالكذب‪ ،‬كقولهم للعور "ليت‬ ‫عينيه سواء" يصح دعاء له وعليه‪ .‬والتورية هي أن يكون للكلم‬ ‫معنيان أحدهما قريب والخر بعيد‪ ،‬فيريد المتكلم المعنى البعيد‬ ‫وَيفهم السامع المعنى القريب‪ ،‬ففي مثل هذه الحال وإن َفِهم‬ ‫السامع خلف ما أراد المتكلم‪ ،‬ولكن لم يفهم خلف الواقع الذي‬ ‫تدل عليه الجملة‪ .‬وقد استعمل النبي صلى ا عليه وسلم‬ ‫التورية‪ ،‬ففي صحيح البخاري أن أنس بن مالك رضي ا عنه‬ ‫قال‪ :‬أقبل النبي صلى ا عليه وسلم إلى المدينة وهو مرِدف أبا‬ ‫خ ُيعرف‪ ،‬ونبي ا صلى ا عليه وسلم شاب ل‬ ‫بكر‪ ،‬وأبو بكر شي ٌ‬ ‫ُيعرف‪ ،‬قال‪ :‬فَيلقى الرجل أبا بكر فيقول يا أبا بكر من هذا الرجل‬ ‫الذي بين يديك؟ فيقول‪ :‬هذا رجل يهديني السبيل‪ .‬فَيحسب‬ ‫الحاسب أنه إّنما يعني الطريق‪ ،‬وإّنما يعني سبيل الخير‪.‬‬

‫التجسـس‬ ‫التجسس هو تفحص الخبار‪ ،‬يقال في الغلة‪ :‬جس الخبار‬ ‫وتجسسها تفحص عنها‪ ،‬ومنه الجاسوس‪ .‬فإذا تفحص الشخص‬ ‫الخبار فقد تجسسها وهو جاسوس‪ ،‬سواء تفحص الخبار‬ ‫الظاهرة أو المخفية‪ ،‬ل ُيشترط في تفحص الخبار أن تكون‬ ‫مخفية أي أسرارا حتى يكون تجسسا‪ ،‬بل التجسس هو تفحص‬ ‫الخبار ما يخفى منها وما يظهر‪ ،‬أي السرار وغير السرار‪ .‬أّما إذا‬ ‫حص‬ ‫رأى أشياء طبيعيا دون تفحص ودون أن يكون عمله تف ّ‬ ‫الخبار‪ ،‬أو جمع أخبار لنشرها‪ ،‬أو اهتم بالخبار‪ ،‬فإن كل ذلك ل‬ ‫‪-149-‬‬


‫يكون تجسسا ما دام لم يتفحص الخبار ولم يكن من عمله‬ ‫تفحص الخبار‪ ،‬حتى لو تتبع الخبار في مثل هذه الحالت ل‬ ‫حص الخبار الذي هو التجسس إّنما يكون‬ ‫يكون تجسسا‪ ،‬لن تف ّ‬ ‫بتتبعها والتدقيق فيها لغرض الطلع عليها‪ .‬أّما من يتتبع الخبار‬ ‫ليجمعها فهو ل يدققها لغرض الطلع عليها بل يجمعها لينشرها‬ ‫على الناس‪ .‬وعلى ذلك ل يقال لمن يتتبع الخبار ويجمعها‬ ‫كمراسلي الجرائد والوكالت النباء جاسوسا‪ ،‬إل ّ أن يكون عمله‬ ‫التجسس واتخذ مراسلة الجرائد والوكالت وسيلة‪ ،‬ففيه هذه‬ ‫الحال يكون جاسوسا ل لكونه مراسل ً يتتبع الخبار بل لكون‬ ‫عمله هو التجسس‪ ،‬واتخذ المراسلة وسيلة للتغطية كما هي‬ ‫الحال مع كثير من المراسلين‪ ،‬ول سيما الكفار الحربيين منهم‪.‬‬ ‫وأّما موظفو دائرة التحري والمكتب الثاني وَمن شاَكلهم ممن‬ ‫يتفحصون الخبار فإنهم جواسيس لن عملهم تجسس‪.‬‬ ‫هذا هو واقع التجسس وواقع الجاسوس‪ .‬أّما حكم‬ ‫التجسس فإنه يختلف باختلف من يتجسس عليهم‪ ،‬فإن كان‬ ‫التجسس على المسلمين أو على الذميين الذين هم رعايا‬ ‫كالمسلمين‪ ،‬فحرام ول يجوز‪ ،‬وإن كان التجسس على الكفار‬ ‫الحربيين سواء أكانوا حربيين حقيقة أو حكما فإنه جائز‬ ‫للمسلمين وواجب على الخليفة‪ .‬أّما كون التجسس على‬ ‫المسلمين وعلى رعايا الدولة السلمية حراما فثابت بصريح‬ ‫القرآن‪ ،‬قال تعالى‪) :‬يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن إن‬ ‫بعد الظن إثم ول تجسسوا(‪ ،‬فنهى ا في الية عن التجسس‪.‬‬ ‫وهذا النهي عام فيشمل كل تجسس‪ ،‬سواء أكان تجسسا لنفسه‬ ‫أو لغيره‪ ،‬وسواء أكان تجسسا للدولة أم للفراد أم للتكتلت‪،‬‬ ‫وسواء أكان الذي يقوم به أي بالتجسس‪ ،‬الحاكم أو المحكوم‪،‬‬ ‫فالكلم عام يشمل كل شيء ينطبق عليه أنه تجسس‪ ،‬فكله‬ ‫حرام‪.‬‬ ‫وهنا َيِرد سؤال وهو‪ :‬هل يجوز للمسلم أن يشتغل موظفا‬ ‫في دائرة التحري أو دائرة المباحث أو غيرها من الدوائر التي‬ ‫يكون عملها أو من عملها التجسس؟ والجواب على ذلك ‪ُ:‬ينظر‪،‬‬ ‫فإن كانت الوظيفة للتجسس على المسلمين أو على الذميين‬ ‫الذين هم رعايا كالمسلمين فل يجوز‪ ،‬إذ هو حرام بصريح القرآن‬ ‫وُيمنع منه الذمي كما ُيمنع المسلم‪ ،‬لن الذمي في دار السلم‬ ‫‪-150-‬‬


‫طب بتطبيق أحكام السلم على نفسه إل ّ ما يتعلق منها‬ ‫مخا َ‬ ‫بالعقائد والعبادات‪ ،‬وهذا ليس منها‪ .‬وأّما إن كانت الوظيفة‬ ‫للتجسس على الكفار الحربيين الذين يدخلون بلدنا من‬ ‫مستأَمنين ومعاهدين فإنه يجوز‪ ،‬إذ يجوز التجسس على الكفار‬ ‫الحربيين سواء أكانوا حربيين حقيقة أو حكما‪ ،‬وسواء أكان ذلك‬ ‫في بلدهم أم في بلدنا‪ .‬وعلى ذلك فإن وجود دائرة التحري أو‬ ‫المباحث أو ما شاكلها ليس بحرام بل هو واجب‪ ،‬والحرام فيها هو‬ ‫التجسس على المسلمين وعلى الذميين الذين هم رعايا‬ ‫جد دائرة للتجسس على‬ ‫كالمسلمين‪ .‬فل يجوز للدولة أن تو ِ‬ ‫المسلمين وعلى سائر الرعايا بل يحرم عليها ذلك‪ .‬ول يقال‪ :‬إن‬ ‫مصلحة الدولة تقتضي أن تعرف أخبار الرعية حتى تكشف‬ ‫المؤامرات وتهتدي إلى المجرمين‪ ،‬لن على الدولة أن تعرف ذلك‬ ‫عن طريق الشرطة والعسس‪ ،‬وليس عن طريق التجسس‪ .‬على‬ ‫أن كون العقل يرى أن ذلك الشيء مصلحة أو ليس بمصلحة ل‬ ‫يكون عّلة للتحريم أو الباحة‪ ،‬وإّنما ما يراه الشرع مصلحة فهو‬ ‫المصلحة‪.‬‬ ‫على أن آيات القرآن حين تأتي صريحة في تحريم شيء ل‬ ‫ل‪ ،‬إذ ل‬ ‫ن للحديث عما فيه مصلحة لتعليل جعله حل ً‬ ‫يبقى مكا ٌ‬ ‫قيمة لذلك إماما نص القرآن الصريح‪ ،‬والقرآن يقول‪) :‬ول‬ ‫تجسسوا( يعني النهي عن التجسس‪ ،‬ول سبيل إلى فهم غير ما‬ ‫تدل عليه الية‪ ،‬وما هو صريح في لفظها‪ .‬ولم َيِرد أي دليل‬ ‫يخصص عموم هذه الية أو يستثني منها شيئا فتبقى على‬ ‫عمومها تشمل كل تجسس‪ ،‬فيكون التجسس على الرعايا كله‬ ‫حرام‪.‬‬ ‫هذا بالنسبة للتجسس على المسلمين أو على الذميين‬ ‫الذين هم رعايا كالمسلمين‪ .‬أّما تجسس المسلمين والذميين‬ ‫على الكفار الحربيين‪ ،‬سواء أكانوا حربيين حقيقة أم حربيين‬ ‫حكما‪ ،‬فهو مستثنى من عموم الية لورود أحاديث خصصت‬ ‫ُ‬ ‫تحريم التجسس بغير الكفار الحربيين‪ .‬أّما الكفار الحربيون فإن‬ ‫التجسس عليهم جائز للمسلمين وواجب على خليفة المسلمين أي‬ ‫على الدولة‪ ،‬وذلك لن النبي صلى ا عليه وسلم بعث عبدا بن‬ ‫جحش وبعث معه ثمانية رهط من المهاجرين وكتب له كتابا‬ ‫وأمره أن ل ينظر فيه حتى يسير يومين ثم ينظر فيه فيمضي ِلما‬ ‫‪-151-‬‬


‫ما سار عبدا بن‬ ‫أمره به ول َيستكِره من أصحابه أحدا‪ .‬فل ّ‬ ‫ت في‬ ‫جحش يومين فتح الكتاب فنظر فيه فإذا فيه )إذا نظر َ‬ ‫صد بها‬ ‫ض حتى تنزل نخلة بين مكة والطائف فتر ّ‬ ‫كتابي هذا فام ِ‬ ‫قريشا وتعلم لنا من أخبارهم(‪ ،‬ففي هذا الكتاب يأمر الرسول‬ ‫صلى ا عليه وسلم عبدا بن جحش بالتجسس له على قريش‬ ‫وبأن ُيعِلمه من أخبارها‪ ،‬ولكنه يجعل التخيير لصحابه أن يسيروا‬ ‫معه أو ل‪ ،‬أّما هو فإنه يعزم عليه أن يمضي‪ ،‬فيكون الرسول قد‬ ‫طلب القيام بالتجسس من الجميع ولكنه عزم على عبدا وخّير‬ ‫الباقين‪ ،‬وهذا دليل على أن الطلب بالنسبة لمير الجماعة طلب‬ ‫جازم وبالنسبة لغيره ممن معه طلب غير جازم‪ ،‬فكان ذلك دليل ً‬ ‫على أن تجسس المسلمين على العدو جائز وليس بحرام‪ ،‬ودليل ً‬ ‫على أن التجسس واجب على الدولة‪ .‬على أن التجسس على‬ ‫العدو من المور التي ل يستغني عنها جيش المسلمين‪ ،‬فل يتم‬ ‫تكوين جيش للحرب دون أن تكون معه جاسوسية له على‬ ‫عدوه‪ ،‬فصار وجود الجاسوسية في الجيش واجبا على الدولة من‬ ‫باب "ما ل يتم الواجب إل ّ به فهو واجب" ‪.‬‬ ‫هذا حكم التجسس من حيث كونه حراما أو جائزا أو واجبا‪.‬‬ ‫أّما حكم عقوبة الجاسوس الذي يتجس للكفار الحربيين فتختلف‬ ‫باختلف تابعية الجاسوس وباختلف دينه‪ .‬أّما الكافر الحربي‬ ‫ن حكمه القتل قول ً واحدا ول حكم له‬ ‫حين يكون جاسوسا فإ ّ‬ ‫غير ذلك‪ ،‬وُيقتل بمجرد معرفة أنه جاسوس أي بمجرد ثبوت كونه‬ ‫جاسوسا‪ ،‬وذلك ِلما رواه البخاري عن سلمة بن الكوع قال‪) :‬أتى‬ ‫ن وهو في سفر‪ ،‬فجلس عند‬ ‫النبي صلى ا عليه وسلم عي ٌ‬ ‫ل‪ ،‬فقال النبي صلى ا عليه وسلم‪:‬‬ ‫بعض أصحابه يتحدث ثم انس ّ‬ ‫اطلبوه‪ .‬فاقتلوه فسبقُتُهم إليه فقتلته فنفلني سلبه(‪ ،‬وعند مسلم‬ ‫من رواية عكرمة بلفظ )فقيد الجمل ثم تقدم يتغدى مع القوم‬ ‫وجعل ينظر وفينا ضعفة وِرّقة في الظهر إذ خرج يشتد(‪ ،‬وفي‬ ‫رواية لبي نعيم في المستخرج من طريق يحيى الحماني عن‬ ‫أبي العميس )أدِركوه فإنه عين(‪ ،‬فهذا صريح بأن الرسول بمجرد‬ ‫أن ثبت عنه أنه جاسوس قال‪) :‬اطلبوه فاقتلوه(‪ ،‬مما يكون قرينة‬ ‫على أن الطلب طلب جازم‪ ،‬فيكون حكمه القتل قول ً واحدا‪ ،‬وهو‬ ‫عام في كل كافر حربي‪ ،‬سواء أكان معاهدا أو مستأمنا‪ ،‬أم غير‬ ‫معاهد ول مستأمن‪ ،‬فكله كافر حربي حكمه القتل إذا كان‬ ‫‪-152-‬‬


‫جاسوسا‪.‬‬ ‫أّما الكافر الذمي حين يكون جاسوسا فإنه ُينظر فيه‪ ،‬فإن‬ ‫ط حين دخوله في الذمة أن ل يتجسس وإن تجسس‬ ‫شِر َ‬ ‫كان قد ُ‬ ‫ُيقَتل فإنه ُيعمل بالشرط‪ ،‬فإذا صار جاسوسا ُيقتل حسب الشرط‪.‬‬ ‫وأّما إن لم ُيشَرط عليه ذلك فإن يجوز للخليفة أن يجعل عقوبته‬ ‫القتل فُيقتل إذا صار جاسوسا‪ ،‬لما رواه أحمد عن فرات بن حبان‬ ‫أن النبي صلى ا عليه وسلم أمر بقتله وكان ذميا وكان عينا لبي‬ ‫حَلقة من النصار فقال‪:‬‬ ‫سفيان وحليفا لرجل من النصار‪ ،‬فمّر ب َ‬ ‫إني مسلم‪ ،‬فقال رجل من النصار‪ :‬يا رسول ا إنه يقول إنه‬ ‫ن منكم رجال ً‬ ‫مسلم‪ ،‬فقال رسول ا صلى ا عليه وسلم‪) :‬إ ّ‬ ‫كلهم إلى إيمانهم منهم فرات بن حبان(‪ ،‬فهذا صريح في أن‬ ‫َن ِ‬ ‫ي الجاسوس‪ .‬إل ّ أن ذلك جائز للمام‬ ‫الرسول أمر بقتل الذم ّ‬ ‫وليس واجبا عليه كما هي الحال في الجاسوس حين يكون كافرا‬ ‫ي من ِقبل الدولة‬ ‫حربيا‪ .‬والدليل على أن قتل الجاسوس الذم ّ‬ ‫جائز وليس بواجب هو أن الحديث لم يقترن بقرينة تدل على‬ ‫الجزم فيكون الطلب غير جازم‪ .‬وهناك قرينة تدل على عدم‬ ‫الجزم في الطلب وهي أن نص الحديث يدل على أن الرسول لم‬ ‫يبادر بقتل فرات هذا بمجرد أن عرف أنه جاسوس مع أن الكافر‬ ‫الحربي الذي ورد ِذكره في حديث سلمة بن الكوع قد أمر النبي‬ ‫بقتله بمجرد أن ثبت لديه أنه جاسوس‪ ،‬وقال للمسلمين‪) :‬اطلبوه‬ ‫فاقتلوه(‪ .‬والدليل على أنه لم يبادر بقتله أن الرسول كان يعرفه‪،‬‬ ‫ويظهر ذلك من قول الحديث‪) :‬وكان ذميا عينا(‪ ،‬أي أنه كان‬ ‫معروفا‪ ،‬وقول الرسول‪) :‬منهم فرات بن حبان(‪ .‬ويضاف إلى ذلك‬ ‫أن الرسول قال في شأن الكافر الحربي‪) :‬اطلبوه فاقتلوه(‪ ،‬أّما‬ ‫في شأن فرات بن حبان فقد أمر بقتله ولم يطلب من المسلمين‬ ‫أن يقتلوه‪ .‬وظاهر في ذلك الفرق بينهما بأن الحربي طلب قتله‬ ‫ي طلب قتله طلبا غير جازم‪ ،‬مما يدل على‬ ‫طلبا جازما‪ ،‬والذم ّ‬ ‫ي‪ ،‬وجواز عدم قتله‪.‬‬ ‫جواز قتل الجاسوس الذم ّ‬ ‫وأّما الجاسوس المسلم الذي يتجسس للعدو على‬ ‫المسلمين والذميين فإنه ل ُيقتل‪ِ ،‬لما روى مسلم عن ابن مسعود‬ ‫حل دم امرئ‬ ‫ل َي ِ‬ ‫قال‪ :‬قال رسول ا صلى ا عليه وسلم ‪) :‬‬ ‫مسلم يشهد أن ل إله إل ّ ا وأني رسول ا إل ّ بإحدى ثلث‪:‬‬ ‫الثّيب الزاني‪ ،‬والنفس بالنفس‪ ،‬والتارك لدينه المفاِرق للجماعة(‪.‬‬ ‫‪-153-‬‬


‫فهذا الحديث حصر القتل في هذه الثلث وما عداها من الذنوب‬ ‫ل يجوز أن تكون عقوبتها القتل بالنسبة للمسلم‪ ،‬فالمسلم ل ُيقتل‬ ‫إل ّ بهذه الذنوب الثلثة‪ .‬على أن الرسول صلى ا عليه وسلم قد‬ ‫ف عنه‪ ،‬إذ‬ ‫ما ثبت له أنه أسلم وصار مسلما ك ّ‬ ‫ي‪ ،‬فل ّ‬ ‫أمر بقتل ذم ّ‬ ‫ما قال له رجل‬ ‫أمر بقتل فرات بن حبان وكان ذميا وكان عينا‪ ،‬فل ّ‬ ‫من النصار‪ :‬يا رسول ا إنه يقول إنه مسلم‪ ،‬قال الرسول‪) :‬إ ّ‬ ‫ن‬ ‫كلهم إلى إيمانهم منهم فرات بن حبان(‪ ،‬فعّلة الكف‬ ‫منكم رجال ً َن ِ‬ ‫ي رضي ا‬ ‫عن قتله كونه صار مسلما‪ .‬وروى البخاري عن عل ّ‬ ‫عنه قال‪) :‬بعثني رسول ا صلى ا عليه وسلم أنا والزبير‬ ‫والمقداد بن السود قال‪ :‬انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ فإن بها‬ ‫ظعينة ومعها كتاب فخذوه منها‪ ،‬فانطلقنا تتعادى بنا خيلنا حتى‬ ‫انتهينا إلى الروضة فإذا نحن بالظعينة‪ ،‬فقلنا‪ :‬أخِرجي الكتاب‪.‬‬ ‫ن الثياب‪.‬‬ ‫ن الكتاب أو لُتلِقَي ّ‬ ‫فقالت‪ :‬ما معي من كتاب‪ .‬فقلنا‪ :‬لُتخِرج ّ‬ ‫فأخرجته من عقاصها‪ .‬فأتينا به رسول ا صلى ا عليه وسلم‬ ‫فإذا فيه‪ :‬من حاطب بن أبي بلتعة إلى ناس من المشركين من‬ ‫أهل مكة يخبرهم ببعض أْمِر رسول ا صلى ا عليه وسلم‪.‬‬ ‫فقال رسول ا صلى ا عليه وسلم‪ :‬يا حاطب ما هذا؟ قال‪ :‬يا‬ ‫ي إني كنت امرءا ملصقا في قريش ولم‬ ‫جل عل ّ‬ ‫رسول ا ل تع َ‬ ‫سها وكان َمن معك من المهاجرين لهم قرابات بمكة‬ ‫أكن من أنف ِ‬ ‫يحمون بها أهليهم وأموالهم‪ ،‬فأحببت إذ فاتني ذلك من النسب‬ ‫ت ذلك كفرا‬ ‫فيهم أن اتخذ عندهم يدا يحمون بها قرابتي وما فعل ُ‬ ‫ول ارتدادا ول رضا بالكفر بعد السلم‪ .‬فقال رسول ا صلى‬ ‫ا عليه وسلم‪ :‬لقد صدقكم‪ .‬فقال عمر‪ :‬يا رسول ا دعني‬ ‫أضرب عنق هذا المنافق‪ .‬فقال‪ :‬إنه شهد بدرا‪ ،‬وما يدريك لعل‬ ‫طلع على أهل بدر فقال‪ :‬اعملوا ما شئتم فقد‬ ‫ا أن يكون قد ا ّ‬ ‫ت لكم(‪ .‬فهذا الحديث قد ثبت فيه على حاطب أنه تجسس‬ ‫غفر ُ‬ ‫على المسلمين‪ ،‬ولم يقتله الرسول‪ .‬فدل ذلك على أن الجاسوس‬ ‫المسلم ل ُيقتل‪ .‬ول يقال‪ :‬إن ذلك خاص بأهل بدر لن الحديث‬ ‫معّلل بكونه من أهل بدر ‪.‬ل يقال ذلك لنه وإن كان النص ورد‬ ‫بما يفيد التعليل وسيق على وجه ُتفهم منه العّلّية‪ ،‬إل ّ أن حديث‬ ‫مسلم في حصر قتل المسلم في ثلث‪ ،‬وحديث أحمد عن فرات‬ ‫بن حبان قد ُرفع عنه القتل لنه صار مسلما بعد أن كان ذميا‪،‬‬ ‫ينفي العّلّية من هذا الحديث ويجعله وصف واقع لن فرات بن‬ ‫‪-154-‬‬


‫حباس ليس من أهل بدر‪ .‬ول يقال‪ :‬حديث فرات بن حبان في‬ ‫إسناده أبو همام الدلل محمد بن محبب ول ُيحتج بحديثه وهو‬ ‫يرويه عن سفيان الثوري ‪.‬ل يقال ذلك لنه قد روي هذا الحديث‬ ‫عن سفيان بشر بن السري البصري وهو ممن اتفق البخاري‬ ‫ومسلم على الحتجاج بحديثه ورواه عن الثوري أيضا عباد بن‬ ‫موسى الزرق العباداني وكان ثقة‪ .‬فالحديث ثابت وُيحتج به وهو‬ ‫دليل على أن الجاسوس المسلم ل ُيقتل‪ ،‬وإّنما يعاَقب بالحبس‬ ‫وغيره‪ ،‬حسب ما يراه القاضي أو الخليفة‪.‬‬ ‫وهذا كله في التجسس على المسلمين والذميين للعدو‬ ‫الكافر الحربي‪ .‬أّما التجسس على المسلمين ل للعدو‪ ،‬أي ليس‬ ‫للكافر الحربي‪ ،‬بل لمجرد الجاسوسية‪ ،‬أو لمسلمين‪ ،‬أو للدولة‪،‬‬ ‫فإنه مع كونه حراما لم يرّتب الشرع لهذا الذنب عقوبة معينة‪،‬‬ ‫فتكون عقوبته التعزير‪.‬‬

‫الهدنـة‬ ‫عقد الهدنة بين المسلمين والكفار جائز لمهادنته صلى ا‬ ‫عليه وسلم قريشا عام الحديبية‪ .‬ولكن جواز الهدنة مقّيد بوجود‬ ‫مصلحة يقتضيها الجهاد أو نشر الدعوة‪ .‬وذلك أن رسول ا صلى‬ ‫ا عليه وسلم بلغه قبل مسيره إلى الحديبية أن مواطأة كانت‬ ‫بين أهل خيبر ومكة على غزو المسلمين‪ ،‬وأنه بادر بعد رجوعه‬ ‫من الحديبية مباشرة إلى غزو خيبر‪ ،‬وبادر كذلك إلى إرسال‬ ‫الرسل إلى الملوك والمراء يدعوهم إلى السلم‪ ،‬مما يدل على‬ ‫أن هدنة الحديبية كانت لمصلحة تتعلق بالجهاد ونشر الدعوة‪ ،‬إذ‬ ‫استطاع بموادعة قريش أن يتفرغ لحرب خيبر ولدعوة الملوك‬ ‫والمراء‪ .‬ول تجوز الهدنة عند عدم وجود هذه المصلحة‪ .‬إذ‬ ‫ل يقع‬ ‫ك القتال المفروض‪ ،‬وهو ل يجوز إل ّ في حا ٍ‬ ‫الهدنة تْر ُ‬ ‫وسيلًة إلى القتال لنها حينئذ تكون قتال ً معنى‪ ،‬قال تعالى‪) :‬فل‬ ‫َتِهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم العَلْون وا معكم(‪.‬‬ ‫وإذا تحققت المصلحة لعقد الهدنة يجب تقدير مدة معينة‬ ‫معلومة لها‪ .‬ول تجوز المهادنة دون تقدير مدة‪ ،‬لنها عقد مؤقت‪،‬‬ ‫‪-155-‬‬


‫وإطلقه عن ِذكر المدة يفسده لقتضائه التأبيد الممتنع في عقد‬ ‫الهدنة حتى يبقى الجهاد قائما لن تأبيدها يمنع الجهاد‪ ،‬وهو‬ ‫فرض‪ .‬وتقدير مدة معينة في الهدنة شرط من شروط صحتها‪،‬‬ ‫سد عقد الهدنة‪ ،‬لن هدنة الحديبية‬ ‫فإذا لم تقّدر مدة معينة فيها َف َ‬ ‫كانت قد ًُقدرت فيها مدة معينة‪.‬‬ ‫حت وجب علينا الكف عنهم‪ ،‬ومراعاة‬ ‫عقدت الهدنة وص ّ‬ ‫وإذا ُ‬ ‫عقد الهدنة حتى تنقضي مدتها أو ُينقضوها هم‪ ،‬ويكون نقضها‬ ‫بتصريح منهم أو بقتالنا‪ ،‬أو قتل مسلم أو ذمي بدارنا‪ ،‬أو فعل‬ ‫كر الباقون عليه بقول ول‬ ‫شيء مخالف لشروط الهدنة ولم ين ِ‬ ‫فعل‪ .‬فإذا حصل ذلك ُتنقض الهدنة فيهم جميعا‪ .‬وكذلك إذا‬ ‫خافت الدولة خيانتهم بشيء مما ُينقض إظهاره الهدنة بأن‬ ‫ظهرت أمارة بذلك‪ ،‬كان هذا نقضا للهدنة‪ .‬وإذا حصل شيء من‬ ‫ذلك جازت الغارة عليهم في كل وقت ليل ً أو نهارا‪ ،‬لن نقضهم‬ ‫للهدنة يبيح للمسلمين أن يقاتلوهم‪ ،‬وأن َينقضوا الهدنة معهم‪،‬‬ ‫ما هادن قريشا فنقضت عهده‬ ‫لن الرسول صلى ا عليه وسلم ل ّ‬ ‫ل له منهم ما كان محّرما عليه منهم‪ ،‬فقاتلهم وفتح مكة‪ ،‬لن‬ ‫ح ّ‬ ‫الهدنة عقد مؤقت ينتهي بانقضاء مدته أو بنقضه‪ ،‬قال تعالى‪:‬‬ ‫ن من قوم‬ ‫)فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم(‪ ،‬وقال‪) :‬وإما َتخاَف ّ‬ ‫خيانًة فانِبذ إليهم على سواء(‪ ،‬وقال‪) :‬وإن نكثوا أيمانهم من بعد‬ ‫عهدهم وطعنوا في دينكم فقاِتلوا أئمة الكفر إنهم ل أيمان لهم‬ ‫ل العداء بشروط الهدنة ولم يراعوا‬ ‫لعلهم ينتهون(‪ .‬وإذا أخ ّ‬ ‫اتفاقيتها في تصرفاتهم معنا فقد أحّلونا من عهدنا‪ ،‬وبذلك حّلت لنا‬ ‫دماؤهم وأموالهم ووجب علينا حربهم‪ ،‬فيجب علينا أن نقاتلهم مذ‬ ‫قاتلونا وأن ننقض الهدنة معهم مذ نقضوها‪.‬‬

‫الحلف العسكرية‬ ‫الحلف في اللغة‪ :‬العهد والصداقة‪ .‬يقال‪ :‬حالفه ِمن‬ ‫عاهده‪ .‬إل ّ أن كلمة الحلف صار الصطلح عليها بأنها أكثر ما‬ ‫ُتطلق على المعاهدات العسكرية خاصة‪ .‬والحلف العسكرية‬ ‫هي اتفاقات ُتعقد بين دولتين أو أكثر تجعل جيوشهما تقاتل مع‬ ‫بعضها عدوا مشتركا بينهما‪ ،‬أو تجعل المعلومات العسكرية‬ ‫والدوات الحربية متباَدلة بينهما‪ ،‬أو إذا وقعت إحداهما في حرب‬ ‫‪-156-‬‬


‫تتشاوران لتدخل الخرى معها أو ل تدخل حسب المصلحة التي‬ ‫يريانها‪.‬‬ ‫وهذه الحلف قد تكون معاهدات ثنائية ُتعقد بين دولتين‬ ‫أو ثلث أو أكثر‪ ،‬ولكن ل ُيعتبر فيها العتداء على إحدى الدول‬ ‫المتعاهدة اعتداء عليها جميعها‪ ،‬بل إذا حصل اعتداء على إحدى‬ ‫الدول المتعاهدة تتشاور الدولة المعتدى عليها مع الدول التي‬ ‫بينها وبينها حلف عسكري‪ ،‬وعلى ضوء مصلحتهما تعلن الحرب مع‬ ‫الدولة المعتدى عليها ضد الدولة المعتدية أو ل تعلن‪ .‬وقد تكون‬ ‫هذه الحلف معاهدات جماعية ُيعتبر فيها العتداء على أحد‬ ‫الدول المتعاهدة اعتداء عليها جميعها‪ ،‬وإذا وقعت إحداها في‬ ‫حرب مع دولة ما أصبحت جميع الدول المتعاهدة في حالة حرب‬ ‫ضد هذه الدولة‪ .‬وهذه الحلف كلها‪ ،‬سواء أكانت معاهدات‬ ‫ثنائية أو معاهدات جماعية أو غير ذلك‪ ،‬تحتم أن يحارب الجيش‬ ‫مع حليفه ليدافع عنه وعن كيانه‪ ،‬سواء أكانت لها قيادات متعددة‬ ‫أو قيادة واحدة‪.‬‬ ‫وهذه الحلف باطلة من أساسها‪ ،‬ول تنعقد شرعا ول ُتلَزم‬ ‫بها الّمة حتى لو عقدها خليفة المسلمين‪ ،‬لنها تخالف الشرع‪ ،‬إذ‬ ‫تجعل المسلم يقاتل تحت إمرة كافر‪ ،‬وتحت راية كفر‪ ،‬وتجعله‬ ‫يقاتل من أجل بقاء كيان كفر‪ ،‬وذلك كله حرام‪ .‬فل يحل لمسلم‬ ‫أن يقاتل إل ّ تحت إمرة مسلم وتحت راية السلم‪ .‬وقد ورد النهي‬ ‫في الحديث الصحيح عن القتال تحت راية الكفار وتحت إمرتهم‪،‬‬ ‫فقد روى أحمد والنسائي عن أنس قال‪ :‬قال رسول ا صلى‬ ‫ا عليه وسلم ‪ :‬ل) تستضيئوا بنار المشركين( أي ل تجعلوا نار‬ ‫المشركين ضوءا لكم‪ .‬والنار كناية عن الحرب‪ ،‬ويقال‪ :‬أوقد نار‬ ‫الحرب أي أوجد شرها وهّيجها‪ ،‬ونار التهويل نار كانت العرب في‬ ‫الجاهلية يوقدونها عند التحالف‪ .‬والحديث يكني عن الحرب مع‬ ‫المشركين وأخذ رأيهم‪ ،‬فُيفهم منه النهي عن الحرب مع‬ ‫المشركين‪.‬‬ ‫والحلف أيضا تجعل الكفار يقاتلون مع المسلمين مع‬ ‫احتفاظهم بكيانهم أي يقاتلون كدولة ل كأفراد‪ ،‬وقد نهى الرسول‬ ‫عن الستعانة بالكفار ككيان‪ ،‬فقد ورد من حديث الضحاك رضي‬ ‫ا عنه (أن رسول ا صلى ا عليه وسلم خرج يوم ُأحد فإذا‬ ‫كتيبة حسناء قال أو خشناء‪ ،‬فقال‪ :‬من هؤلء؟ قال‪ :‬يهود كذا‬ ‫‪-157-‬‬


‫وكذا‪ .‬فقال ‪:‬ل نستعين بالكفار(‪ .‬وقد أخبر الحافظ أبو عبدا‪،‬‬ ‫فساق بسنده إلى أبي حميد الساعدي قال‪) :‬خرج رسول ا‬ ‫صلى ا عليه وسلم حتى إذا خلف ثنّية الوداع إذا كتيبة قال‪ :‬من‬ ‫هؤلء؟ قال‪ :‬بنو قينقاع رهط عبدا بن سلم‪ .‬قال‪ :‬أوُتسلموا‪.‬‬ ‫قالوا ‪:‬ل‪ .‬فأَمَرهم أن يرجعوا وقال ‪:‬ل نستعين بالمشركين‪.‬‬ ‫فأسلموا(‪ .‬فالرسول رفض الستعانة باليهود وقال بصيغة‬ ‫ل نستعين بالكفار(‪ ،‬ل) نستعين بالمشركين(‪ .‬ول يقال‪:‬‬ ‫العموم ‪) :‬‬ ‫إنا نستعين بالكفار على عدونا والستعانة بالكافر جائزة لن‬ ‫الرسول أقّر قزمان على الحرب معه في ُأحد وهو كافر‪،‬‬ ‫واستعان بناس من يهود خيبر في حربه ‪.‬ل يقال ذلك لن‬ ‫الستعانة بالكفار جائزة إذا كانوا أفرادا تحت راية المسلمين‪.‬‬ ‫وهؤلء الذين استعان بهم الرسول استعان بهم وهم أفراد‪.‬‬ ‫ما جاء يهود بني قينقاع وجاءوا وهم قبيلة لهم رئيس‬ ‫ولذلك ل ّ‬ ‫وحدهم وهم كدولة عاهدوا الرسول من قبل‪ ،‬جاءوا يحاربون‬ ‫مع الرسول وهم على هذه الحال وقيل له‪ :‬رهط عبدا بن‬ ‫سلم‪ ،‬فأبى الستعانة بهم على هذا الوجه‪ .‬وعليه ل تجوز‬ ‫الستعانة بجيش كافر وهو تحت راية دولته الكافرة‪.‬‬ ‫سَير‪ :‬من‬ ‫قال المام السرخسي في المبسوط في كتاب ال ِ‬ ‫حديث الضحاك رضي ا عنه )أن رسول ا صلى ا عليه‬ ‫وسلم خرج يوم ُأحد فإذا كتيبة حسناء أو قال خشناء فقال‪ :‬من‬ ‫هؤلء؟ قالوا‪ :‬يهود كذا وكذا‪ .‬فقال ‪:‬ل نستعين بالكفار(‪ ،‬وتأويله‬ ‫أنهم كانوا متعززين في أنفسهم ل يقاِتلون تحت راية المسلمين‪،‬‬ ‫وعندنا إّنما نستعين بهم إذا كانوا يقاتلون تحت راية المسلمين‪،‬‬ ‫فأّما إذا انفردوا براية أنفسهم فل يستعان بهم‪ ،‬وهو تأويل ما‬ ‫ل تستضيئوا بنار‬ ‫ُروي عن النبي صلى ا عليه وسلم أنه قال ‪) :‬‬ ‫المشركين(‪ ،‬وقال صلى ا عليه وسلم‪) :‬أنا بريء من كل مسلم‬ ‫قاَتل مع مشرك(‪ ،‬يعني إذا كان المسلم تحت راية المشركين‪.‬‬ ‫ومن ذلك يتبين أن الحلف العسكرية مع الدول الكافرة‬ ‫حرام شرعا ول تنعقد‪ .‬على أن المسلم ل يحل له أن يسفك دمه‬ ‫في سبيل الدفاع عن كافر حربي‪ ،‬وإّنما يقاتل المسلم الناس‬ ‫ليدخلوا في السلم من الكفر‪ ،‬فأّما أن يقاتلوا الكفار ليدخلوا من‬ ‫الكفر إلى الكفر ويسفكوا في ذلك دماءهم‪ ،‬فهذا حرام‪.‬‬ ‫‪-158-‬‬


‫المعاهدات الجائزة‬ ‫حسن‬ ‫للدولة السلمية أن تعقد معاهدات الصلح والهدنة و ُ‬ ‫الجوار ومعاهدات ثقافية والمعاهدات التجارية والمالية وما شابه‬ ‫ذلك من المعاهدات التي تقتضيها مصلحة الدعوة السلمية‬ ‫بالشروط التي يقرها السلم‪ .‬وإذا تضمنت هذه المعاهدات‬ ‫شروطا ل يقرها السلم فإنه يبطل منها من الشروط ما ل يصح‬ ‫في السلم‪ ،‬وتبقى المعاهدة نافذة في باقي الشروط‪ ،‬لن كل‬ ‫شرط يخالف الشرع فهو باطل‪ ،‬ولو رضي به ووافق عليه خليفة‬ ‫المسلمين‪ .‬فإذا كانت بين الدولة السلمية وبين عدوها حالة‬ ‫حرب فإنه يجوز لها أن تعقد معه معاهدة هدنة‪ ،‬ومعاهدة صلح‪،‬‬ ‫حسب ما يقتضيه الموقف حينئذ‪ ،‬وما تتطلبه مصلحة الدعوة‪ .‬وإذا‬ ‫رأت الدولة السلمية أن تسالم وتصادق دولة مجاورة أو دولة‬ ‫بعيدة عنها لمر تقتضيه مصلحة الدعوة‪ ،‬فإنه يجوز لها أن تفعل‬ ‫ذلك‪ .‬فقد تجد الدولة في المواَدعات مع الكفار أداة لتوصيل‬ ‫الدعوة إليهم وليجاد رأي عام عندهم عن السلم‪ ،‬وقد تجد في‬ ‫المواَدعات دفع شر كبير أو التوصل إلى عدو آخر‪ .‬ولذلك يجوز‬ ‫حسن‬ ‫للدولة السلمية أن تعقد مع الدولة المجاورة معاهدة ُ‬ ‫جوار‪ ،‬كما يجوز أن تعقد مع الدول غير المجاورة معاهدات عدم‬ ‫اعتداء لمدة معينة‪ ،‬إذا رأت في ذلك طريقا للدعوة السلمية أو‬ ‫حماية للمسلمين أو أي مصلحة للمسلمين أو للسلم أو لسير‬ ‫الدعوة السلمية‪ .‬فقد عاهد الرسول صلى ا عليه وسلم بني‬ ‫مدلج وبني دمرة ليؤّمن الطرق التي يسلكها جيشه لمحاربة‬ ‫عدوه‪ ،‬وعاهد يوحنا بن رؤبة في تبوك ليؤّمن حدود الدولة من‬ ‫جهة الروم على حدود بلد الشام‪ .‬وإذا طلب قوم من أهل الحرب‬ ‫الموادعة سنين معلومة بغير شيء‪ ،‬نظر الخليفة في ذلك فإن‬ ‫عله‪ ،‬لقوله‬ ‫رآه خيرا للمسلمين لشدة شوكتهم أو لغير ذلك َف َ‬ ‫سلم فاجنح لها(‪ ،‬ولن الرسول صلى ا‬ ‫جنحوا لل َ‬ ‫تعالى‪) :‬فإن َ‬ ‫عليه وسلم صالح أهل مكة عام الحديبية على أن يضع الحرب‬ ‫بينه وبينهم مدة معلومة‪ ،‬وقد كان ذلك لن الرسول بلغه أن‬ ‫مواطأة كانت بين أهل خيبر ومكة على غزو المسلمين‪ ،‬فواَدع‬ ‫قريشا ثم ذهب لمحاربة خيبر‪.‬‬ ‫وفي المواَدعات الجائزة كلها ُيترك أمر عقدها وعدم‬ ‫‪-159-‬‬


‫عقدها إلى رأي الخليفة واجتهاده‪ ،‬لن الخليفة نصب ناظرا‪ ،‬ومن‬ ‫النظر حفظ قوة المسلمين أول ً‪ .‬فربما يكون من ذلك في‬ ‫الموادعة إذا كانت للكفار شوكة‪ ،‬أو احتاج إلى أن ُيمعن في دار‬ ‫الحرب ليتوصل إلى قوم لهم بأس شديد فل يجد بدا من أن يواِدع‬ ‫َمن على طريقه‪ .‬فالمسألة موكولة لرأي الخليفة يقدرها بحسب‬ ‫ما يرى خيرا للمسلمين‪ .‬وإن لم تكن الموادعة خيرا للمسلمين فل‬ ‫ينبغي أن يوادعهم لقوله تعالى‪) :‬ول َتِهنوا وتدعوا إلى السلم‬ ‫ك ما هو فرض من‬ ‫وأنتم العَلْون(‪ ،‬ولن قتال الكفار فرض وتر ُ‬ ‫غير عذر ل يجوز‪ .‬وإذا طلب ملك أو أمير أو دولة من أهل الحرب‬ ‫الذمة على أن ُيترك َيحكم في أهل مملكته بما شاء ِمن قْتل أو‬ ‫جب إلى ذلك‪ ،‬لن‬ ‫صلب أو غيره مما ل يصلح في دار السلم لم ُي َ‬ ‫ي من يلتِزم‬ ‫التقرير على الظلم مع إمكان المنع حرام‪ ،‬ولن الذم ّ‬ ‫أحكام السلم فيما يرجع إلى المعاملت‪ .‬فهذا الشرط الذي‬ ‫يطلبه الملك أو المير أو الدولة هو بخلف موجب العقد‪ ،‬فهو‬ ‫طل من‬ ‫شرط باطل‪ ،‬فإن ُأعطي الصلح والذمة على هذا َب ُ‬ ‫شروطه ما ل يصلح في السلم لقوله صلى ا عليه وسلم‪) :‬كل‬ ‫طَلب الصلح والذمة‬ ‫شرط ليس في كتاب ا فهو باطل(‪ ،‬وإن َ‬ ‫ورضي بحكم السلم صار ذمة للمسلمين وحكم بالسلم‬ ‫ودخلت البلد التي كان يحكمها في البلد السلمية وصار الدفاع‬ ‫عنها دفاعا عن البلد السلمية وصارت نصرتهم واجبة كنصرة‬ ‫المسلمين‪.‬‬

‫المعاهدات الضطرارية‬ ‫قد يقع المسلمون في أحوال شديدة تضطرهم إلى‬ ‫التسليم بأمور ل تجوز ولكن الضرورة تحتمها‪ .‬وقد تقع الدولة‬ ‫السلمية في أزمات داخلية أو خارجية تضطرها لن تعقد‬ ‫معاهدات ل تؤدي مباشرة إلى حمل الدعوة‪ ،‬ول إلى القتال في‬ ‫كن حملها في‬ ‫سبيل ا‪ ،‬ولكنها تسّهل إيجاد ظروف تم ّ‬ ‫المستقبل‪ ،‬أو تدفع شر وقف الدعوة أو تحفظ كيان المسلمين‪.‬‬ ‫فمثل هذه المعاهدات تجِبر الضرورة على عقدها‪ ،‬ولذلك يجوز‬ ‫للخليفة أن يعقدها وتكون نافذة على المسلمين‪ ،‬وتقع هذه‬ ‫المعاهدات في حالتين اثنتين نص عليهما الفقهاء وهما‪:‬‬ ‫‪-160-‬‬


‫الحالة الولى‪ -‬إنْ أراد قوم من أهل الحرب الموادعة مع‬ ‫المسلمين سنين معلومة على أن يؤدي أهل الحرب الخراج إليهم‬ ‫كل سنة شيئا معلوما على أن ل تجري أحكام السلم عليهم في‬ ‫بلدهم‪ ،‬لم ُيفعل ذلك لنه إقرار على الكفر‪ ،‬إل ّ إذا كانت الدولة‬ ‫غير قادرة على منع الظلم‪ ،‬ورأت في هذه الموادعة خيرا‬ ‫للمسلمين فإنه يجوز حينئذ اضطرارا عقدها‪ .‬وفي هذه الحال ل‬ ‫يكون لهم على الدولة السلمية المعونة والنصرة لنهم بهذه‬ ‫الموادعة ل يلتزمون أحكام السلم ول يخرجون من أن يكونوا‬ ‫أهل حرب حين لم ينقادوا لحكم السلم‪ ،‬فل يجب على‬ ‫المسلمين القيام بنصرتهم‪ .‬وقد عاهد رسول ا يوحنا بن رؤبة‬ ‫وهو في تبوك على حدود بلد الشام وَتَركه في منطقته على دينه‬ ‫ولم يدخل تحت راية المسلمين وحكمهم‪ .‬وهذه المعاهدة‬ ‫المحدودة المدة تجعل المان لهذه الدولة مضمونا من الدولة‬ ‫من دخلها من المسلمين يدخلها بأمان المعاهدة دون‬ ‫السلمية‪ ،‬ف َ‬ ‫أمان منفرد‪ ،‬ول يجوز له أن يتعرض لهلها‪ .‬وَمن دخل بلد‬ ‫المسلمين من رعايا هذه الدولة يدخلونها بأمان المعاهدة ول‬ ‫يحتاج إلى أمان جديد سوى الموادعة‪ ،‬ول يجوز أن يتعرض له‬ ‫أحد من المسلمين‪ .‬ول ُيمنع التجار من حمل التجار لهذه الدولة‬ ‫إل ّ الدوات التي ُتستعمل في الحرب‪ ،‬كالسلح والمواد الحربية‬ ‫وما شابه ذلك‪ ،‬لنهم أهل حرب وإن كانوا مواِدعين‪.‬‬ ‫الحالة الثانية‪ -‬عكس الحالة الولى‪ ,‬وهي أن يدفع‬ ‫المسلمون إلى عدوهم مال ً مقابل سكوته عنهم‪ .‬وقد ذكر‬ ‫الفقهاء أنه إن حاصر العدو المسلمين وطلبوا الموادعة سنين‬ ‫معلومة على أن يؤدي المسلمون للكفار شيئا معلوما كل سنة‪،‬‬ ‫فل ينبغي للخليفة أن يجيبهم إلى ذلك ِلما فيه من الدنّية والذِّلة‬ ‫بالمسلمين‪ ،‬إل ّ عند الضرورة‪ ،‬وهو أن يخاف المسلمون الهلك‬ ‫على أنفسهم‪ ،‬ويرى الخليفة أن هذا الصلح خير لهم‪ ،‬فحينئذ ل‬ ‫بأس بأن يفعله‪ِ ،‬لما ُروي أن المشركين أحاطوا بالخندق وصار‬ ‫ي المؤمنون‬ ‫المسلمون في بلء كما قال ا تعالى‪) :‬هنالك ابُتل َ‬ ‫وُزلِزلوا زلزال ً شديدا(‪ ،‬بعث رسول ا صلى ا عليه وسلم إلى‬ ‫عبيدة بن حصن وطلب منه أن يرجع بمن معه على أن يعطيه كل‬ ‫ما حضر رسله ليكتبوا‬ ‫سنة ثلث ثمار المدينة‪ ،‬فأبى إل ّ النصف‪ .‬فل ّ‬ ‫الصلح بين يدي رسول ا‪ ،‬قام سيدا النصار سعد بن معاذ‬ ‫‪-161-‬‬


‫وسعد بن عبادة رضي ا عنهما وقال‪ :‬يا رسول ا إن كان هذا‬ ‫ت به‪ ،‬وإن كان رأيا رأيت فقد كنا نحن‬ ‫ض لما ُأمر َ‬ ‫عن وحي فام ِ‬ ‫وهم في الجاهلية لم يكن لنا ول لهم دين فكانوا ل َيطمعون في‬ ‫ثمار المدينة إل ّ بشراء أو ِقرى‪ ،‬فإذا أعّزنا ا بالدين وبعث فينا‬ ‫رسوله نعطيهم الدنّية؟ ل نعطيهم إل ّ السيف‪ .‬فقال صلى ا‬ ‫كم عن قوس واحدة فأحببت أن‬ ‫عليه وسلم‪ :‬إني رأيت العرب َرَمت ُ‬ ‫أصرفهم عنكم‪ ،‬فإذا أبيُتم ذلك فأنتم وأولئك‪ .‬اذهبوا فل نعطيكم‬ ‫إل ّ السيف(‪ ،‬فهذا يدل على أن رسول ا صلى ا عليه وسلم‬ ‫ما أحس ضعف المسلمين‪ ،‬فحين‬ ‫مال إلى الصلح في البتداء ل ّ‬ ‫رأى القوة فيهم بما قاله سعد بن معاذ وسعد بن عبادة رضي‬ ‫ا عنهما‪ ،‬امتنع عن ذلك‪ ،‬فدل على أنه ل بأس من عقد معاهدة‬ ‫مع الكفار ُيدفع لهم مال عند خوف الضرر‪ .‬وهذا لنهم إن ظهروا‬ ‫ع بعض‬ ‫على المسلمين أخذوا جميع الموال وسبوا الذراري‪ ،‬فدْف ُ‬ ‫المال لَيسَلم المسلمون في ذراريهم وأموالهم أهون وأنفع‪.‬‬

‫نقض المعاهدات‬ ‫جميع المعاهدات التي تعقدها الدولة السلمية يجب أن‬ ‫تكون محددة لجل معين‪ .‬ولكن ليس معنى عقد المعاهدة‬ ‫إلزام المسلمين بها في جميع الحوال‪ ،‬كما أنه ليس معناه جواز‬ ‫الغدر بالمعاهدة ونقض المعاهدة‪ ،‬بل يجوز أن ُتنقض‬ ‫المعاهدة في أحوال معينة نص عليها الشرع‪ ،‬ول يجوز نقضها‬ ‫في غير الحوال التي نص عليها الشرع‪ .‬والحوال التي نص‬ ‫الشرع على جواز نقض المعاهدة مع العدو هي‪:‬‬ ‫أول ً‪ -‬إذا ظاهر المعاهد عدوا من أعداء المسلمين وناصره‬ ‫على المسلمين‪ ،‬وذلك كأن يكون بين الدولة السلمية وبين دولة‬ ‫أخرى حالة حرب فعلية فصارت الدولة التي بيننا وبينها معاهدة‪،‬‬ ‫تمد هذا العدو بالسلح أو المال أو الرجال وتنصره علينا‪ .‬ففي‬ ‫هذه الحال يجوز للدولة السلمية أن تنقض المعاهدة لن ا‬ ‫يقول‪) :‬إل ّ الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ُينقصوكم شيئا‬ ‫هروا عليكم أحدا(‪ ،‬فإن مفهومه إذا ظاهروا على‬ ‫ولم يظا ِ‬ ‫المسلمين أحدا جاز للمسلمين نقض المعاهدة معهم‪.‬‬ ‫ثانيا‪ -‬أن ينقض المعاهد شرطا من شروط المعاهدة‪،‬‬ ‫‪-162-‬‬


‫وذلك كما حصل مع الروسل صلى ا عليه وسلم في صلح‬ ‫الحديبية‪ ،‬فإن خزاعة دخلت في حماية الرسول وحالَفته فنقضت‬ ‫قريش هذا الشرط وحّرضت بني بكر على خزاعة ثم َنِدمت‬ ‫وحاولت إبقاء المعاهدة‪ ،‬ولكن الرسول اعتبر هذا النقض مبيحا‬ ‫له نقض المعاهدة‪ ،‬فنقضها وحاربهم وفتح مكة‪.‬‬ ‫ثالثا‪ -‬إذا خيف خيانة المعاهد وغدره يجوز نقض‬ ‫ن من قوم خيانة فانِبذ‬ ‫المعاهدة‪ ،‬قال ا تعالى‪) :‬وإّما َتخاَف ّ‬ ‫إليهم على سواء(‪ ،‬وفي هذه الحالة يجب إعلم العدو بنقض‬ ‫المعاهدة معه‪ .‬ول ُيشترط في النقض حصول الغدر بالفعل‪ ،‬بل‬ ‫يكفي مجرد الخوف من العدو لن يكون مبررا لنقض المعاهدة‪.‬‬ ‫علم الطرفين بالنقض‪.‬‬ ‫وٌيكتفى بالعلم حتى يستوي ِ‬ ‫رابعا‪ -‬أن ينقض المعاهد المعاهدة مع الدولة السلمية‬ ‫نقضا تاما‪ .‬وفي هذه الحال يجب نقض المعاهدة معهم‬ ‫وضربهم ضربات قاسية تكون درسا وعبرة لغيرهم حتى ل‬ ‫ُيقِدموا على معاملة المسلمين بمثل هذه المعاملة‪ ،‬قال تعالى‪:‬‬ ‫ب عند ا الذين كفروا فهم ل يؤمنون‪ ،‬الذين‬ ‫)إن شّر الدوا ّ‬ ‫ت منهم ثم ينقضون عهدهم في كل مرة وهم ل يّتقون‪،‬‬ ‫عاهد َ‬ ‫فإما تثَقَفّنهم في الحرب فشّرد بهم َمن خلفهم لعلهم يّذكرون(‪.‬‬ ‫هذه هي الحوال الربعة التي يجوز للمسلمين فيها أن‬ ‫ينقضوا المعاهدات المعقودة بنيهم وبين عدوهم ويجوز لهم أن‬ ‫حُرم فاقتلوا‬ ‫يقاِتلوا هذا العدو‪ ،‬قال تعالى‪) :‬فإذا انسلخ الشهر ال ُ‬ ‫المشركين حيث وجدتموهم(‪ ،‬وهي المدة التي ُذكرت قبل هذه‬ ‫الية وهي قوله‪) :‬فسيحوا في الرض أربعة أشهر(‪ ،‬وقال تعالى‪:‬‬ ‫)أل تقاِتلون قوما نكثوا أيمانهم(‪ .‬إل ّ أنه ينبغي في نقض‬ ‫المعاهدة أن ُينَبذ إليهم على سواء‪ ،‬قال تعالى‪) :‬فانِبذ إليهم على‬ ‫سواء(‪ ،‬وهذا عام في جميع المعاهدات أي على سواء منكم‬ ‫ومنهم في العلم بذلك‪ .‬ول يحل قتال العداء قبل النبذ وقبل أن‬ ‫يعلموا بذلك ليعودوا إلى ما كانوا عليه من التحصن وكان ذلك‬ ‫تحرزا من الغدر‪ .‬وهذا كله في غير من يوفون بعهدهم‪ ،‬أّما‬ ‫الذين يوفون بمعاهداتهم ويستقيمون مع الدولة السلمية فيجب‬ ‫أن يوفي المسلمون معهم بعهدهم ويستقيموا معهم كما‬ ‫استقاموا‪ ،‬قال تعالى‪) :‬إل ّ الذين عاهدتم من المشركين ثم لم‬ ‫موا إليهم عهدهم‬ ‫ُينِقصوكم شيئا ولم يظاهروا عليكم أحدا فأت ّ‬ ‫‪-163-‬‬


‫إلى مّدتهم(‪ ،‬ومفهومه أن الذين نقضوا المسلمين شيئا‪ ،‬كالحالة‬ ‫الثانية السابقة‪ ،‬أو ظاهروا عليهم أحدا‪ ،‬كالحالة الولى السابقة‪،‬‬ ‫موا إليهم‬ ‫موا إليهم عهدهم‪ .‬أّما إذا لم يفعلوا ذلك فأِت ّ‬ ‫فل ُيِت ّ‬ ‫موا إليهم‬ ‫معاهدتهم إلى نهاية مدتها‪ .‬فعلى المسلمين أن ُيِت ّ‬ ‫عهدهم إلى نهاية مدة العهد‪ .‬وقال تعالى‪) :‬كيف يكون‬ ‫للمشركين عهد عند ا وعند رسوله إل ّ الذين عاهدتم عند‬ ‫المسجد الحرام فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم(‪ ،‬ومفهومه إذا‬ ‫لم يستقيموا لكم فل تستقيموا لهم‪ .‬أّما إذا استقاموا فاستقيموا‬ ‫ووفوا لهم عهدهم‪.‬‬ ‫ومن ذلك يتبين أن الوفاء بالمعاهدات أمر واجب‪ ،‬وأنه وإن‬ ‫كانت المعاهدة إلى مدة معلومة فيجب الوفاء بها إلى مدتها‪ ،‬فإذا‬ ‫موا‬ ‫انتهت مدتها جاز عدم تجديدها وإنهاؤها‪ ،‬قال تعالى‪) :‬فأِت ّ‬ ‫عليهم عدهم إلى مدتهم(‪ ،‬كما يتبين أن القسوة على الذين‬ ‫ل العدو بشرط من‬ ‫ينقضون المعاهدات أمٌر واجب أيضا وإذا أخ ّ‬ ‫شروط المعاهدة أو نقضها كلها أو حدث منه أن ظاهر أعداء‬ ‫المسلمين على المسلمين أو خيف منه الخيانة‪ ،‬فإن كل هذا يبيح‬ ‫للمسلمين أن ينقضوا المعاهدات مع أعدائهم‪ ،‬ونقضهم هذا ليس‬ ‫غدرا‪ .‬وعليه فإن التفاقات الدولية قد حدد الشارع أنواعها وحدد‬ ‫الحالت التي ُتنقض بها أو ينتهي العمل بها فيجب التزام ما بّينه‬ ‫الشارع وحده في المعاهدات والوقوف عند حد الشرع في شأنها‬ ‫مع ترك أمر السلوب والختيار إلى رأي الخليفة واجتهاده‪.‬‬

‫الكافر الحربي‬ ‫الكافر الحربي هو كل كافر لم يدخل في ذمة المسلمين‪،‬‬ ‫سواء أكان معاهدا أو مستأمنا‪ ،‬أو كان غير معاهد ول مستأمن‪.‬‬ ‫عقدت معاهدة بين الدولة السلمية وبين أي دولة كافرة‪،‬‬ ‫فإذا ُ‬ ‫كان رعايا الدولة معاهدين يعاَملون حسب ما تنص عليه‬ ‫المعاهدة التي بيننا وبينهم‪ ،‬وينفذ كل ما تضمنته هذه المعاهدة‪.‬‬ ‫إل ّ أنه مع وجود المعاهدة لم يخرج الكفار المعاهدون عن‬ ‫كونهم كفارا حربيين حكما‪ ،‬لنه بمجرد انتهاء المعاهدة أو نقضها‬ ‫من ِقبلهم أو من ِقبلنا يرجع حكمهم حكم سائر الكفار الحربيين‪.‬‬ ‫ومن أجل ذلك ُيمنع بيعهم السلح والمواد الحربية ِلما في ذلك‬ ‫‪-164-‬‬


‫من تقوية العدو على المسلمين‪ .‬وإذا ُذكر في المعاهدة جواز‬ ‫بيعهم السلح والمواد الحربية ل ُيَوّفى بهذا الشرط لنه يخالف‬ ‫الشرع‪ ،‬وكل شرط خالف الشرع فهو باطل ل ينعقد‪.‬‬ ‫أّما إذا لم تكن بيننا وبينهم معاهدة فهم كفار حربيون‬ ‫حقيقة ل حكما‪ ،‬سواء أكانت حالة الحرب قائمة بيننا وبينهم‬ ‫كنون من دخول بلد المسلمين‬ ‫بالفعل أم لم تكن قائمة‪ ،‬فل يم ّ‬ ‫كنون من القامة في بلد‬ ‫إل ّ بأمان خاص لكل مرة‪ ،‬ول يم ّ‬ ‫المسلمين إل ّ مدة معينة محددة‪ .‬إل ّ أن الفرق بين الدولة‬ ‫الكافرة الحربية المحاِربة بالفعل وبين الدول الكافرة الحربية غير‬ ‫المحاربة بالفعل هو أن الدولة المحاربة بالفعل ل ُتعقد معها أية‬ ‫معاهدة قبل الصلح ول يعطى المان لحد من رعاياها إل ّ إذا‬ ‫جاء ليسمع كلم ا أو جاء ليكون ذميا يعيش في بلد‬ ‫المسلمين‪ ،‬بخلف الدولة الحربية غير المحاربة بالفعل فإنها تعقد‬ ‫حسن الجوار وغير ذلك‪ ،‬ويعطى‬ ‫معها المعاهدات التجارية و ُ‬ ‫رعاياها المان لدخول البلد السلمية للتجارة أو النزهة أو‬ ‫السياحة أو غير ذلك‪.‬‬

‫المستأ ِمن‬ ‫المستأِمن –بكسر الميم‪ -‬طالب المان‪ .‬وهو من يدخل دار‬ ‫غيره بأمان‪ ،‬أي من يدخل بلد غيره بأمان‪ ،‬سواء أكان مسلما أم‬ ‫حربيا‪ .‬فإذا دخل المسلم دار الحرب بأمان حرم تعرضه لشيء‬ ‫منهم‪ ،‬إذ المسلمون عند شروطهم‪ ،‬فلو خرج بشيء من أموالهم‬ ‫خلسة أو سرقة كانت حيازته له ملكا‬ ‫خَذه ِ‬ ‫لم يأخذه غصبا بأن أ َ‬ ‫حراما فُيتصدق به وجوبا‪ .‬أّما إذا غصب منهم شيئا فإنه يرّده‬ ‫عليهم لن الغصب مضمون للمغصوب منه ُيرجع إليه سواء أكان‬ ‫كافرا أم مسلما‪ .‬وكما يجيز دخول المسلم بلد الكفر بأمان يجوز‬ ‫أن يدخل الحربي بلد المسلمين بأمان‪ .‬فقد أعطى رسول ا‬ ‫صلى ا عليه وسلم المان للكفار يوم فتح مكة فقال‪) :‬من‬ ‫أغلق بابه فهو آِمن(‪ ،‬وكان صلى ا عليه وسلم يؤّمن رسل‬ ‫المشركين وحّرم الغدر فيمن أعطي المان‪ .‬فعن أبي سعيد‬ ‫ء يوم‬ ‫قال‪ :‬قال رسول ا صلى ا عليه وسلم‪) :‬لكل غادٍر لوا ٌ‬ ‫القيامة ُيرفع له بقدر غدرته‪ ،‬أل ول غادر أعظم غدرا من أمير‬ ‫‪-165-‬‬


‫عامة(‪.‬‬ ‫كن من المكث في بلد‬ ‫إل ّ أن الحربي المستأِمن ل يم ّ‬ ‫المسلمين سنة‪ ،‬فيعطى المان شهرا أو شهرين أو أكثر ول يعطى‬ ‫أكثر من سنة‪ .‬وإن أعطي أمانا مطلقا ولم تحدد المدة فالمعتَبر‬ ‫هو الحْول‪ ،‬لنه أبيح له القامة في دار السلم من غير جزية‬ ‫فيعطى سنة‪ ،‬فإن زاد عليها يخّير بين القامة والتزام الجزية‪ ،‬وبين‬ ‫الخروج من دار السلم‪ .‬فإن بقي بعد السّنة اعُتبر قابل ً للجزية‬ ‫صل منه الجزية‪ ،‬لنه ل يجوز‬ ‫ضربت عليه الذمة فأصبح ذميا وتح ّ‬ ‫و ُ‬ ‫أن يبقى كافر في بلد السلم دون جزية‪ .‬والجزية ُتستحق مرة‬ ‫في السّنة‪ ،‬فإذا بقي أكثر من سنة فقد اسُتحقت عليه الجزية‬ ‫وصار ذميا جبرا عنه‪ ،‬وإذا خرج في نهاية السّنة أو قبلها لم‬ ‫طل أمانه السابق‪ ،‬فإذا أراد‬ ‫ُتستحق عليه جزية‪ .‬وإن خرج ب ُ‬ ‫الدخول ثانية يحتاج إلى أمان جديد‪.‬‬ ‫ويجب على الخليفة نصرة المستأِمنين ما داموا في دار‬ ‫السلم‪ ،‬فكان حكمهم كأهل الذمة‪ .‬وإذا ارتكب المستأِمن ما‬ ‫يوجب عقوبة تقام عليه كل عقوبة كأهل الذمة إل ّ حد الخمر‪ ،‬لن‬ ‫دار السلم محل إجراء الحكام الشرعية فتجري الحكام‬ ‫الشرعية على كل من فيها من مسلم أو ذمي أو مستأِمن‪ .‬كتب‬ ‫رسول ا صلى ا عليه وسلم إلى أهل نجران وهم نصارى‬ ‫ن َمن بايع منكم بالربا فل ذمة له(‪ .‬والربا من أحكام السلم‪،‬‬ ‫)إ ّ‬ ‫فتطبيق الرسول على أهل الذمة عدم المبايعة بالربا دليل على‬ ‫مطالبتهم بالحكام‪ ،‬ويعاَمل المستأِمن معاملة الذمي‪.‬‬ ‫وإذا أخذ المستأِمن أمانا لنفسه كان أمانه هذا أمانا لمواله‬ ‫التي معه تبعا له ولو لم يأخذ لها أمانا‪ ،‬فتصان أمواله كما تصان‬ ‫نفسه‪ ،‬وَيضمن المسلم قيمة خمره وخنزيره إذا أتلفه‪ ،‬وتجب‬ ‫الدية عليه إذا قتله خطأ‪ ،‬وُيقتل به إذا قتله عمدا‪ .‬جيء برجل‬ ‫مسلم قتل يهوديا إلى النبي صلى ا عليه وسلم فقتله وقال‪:‬‬ ‫ق من َوّفى بذّمته(‪ .‬ويجب كف الذى عن المستأِمن‬ ‫)نحن أح ّ‬ ‫وتحرم غيبته كالمسلم لنه يعاَمل معاملة الذمي‪ .‬ولو مات‬ ‫حفظ ماله‬ ‫المستأِمن في دار السلم ووَرَثته في دار الحرب ُ‬ ‫ويأخذونه ببينة سواء من المسلمين أو من أهل الذمة‪ ،‬لنه مال‬ ‫مؤّمن فيسّلم لصحابه الذين ورثوه‪.‬‬ ‫والحاصل أن كل من طلب المان من المسلمين فإنه يجوز‬ ‫‪-166-‬‬


‫للمسلمين أن يعطوه المان لقوله تعالى‪) :‬وإن أحدٌ من‬ ‫ه حتى يسمع كلم ا ثم أبلغه مأمنه(‪،‬‬ ‫جْر ُ‬ ‫المشركين استجارك فأ ِ‬ ‫ولن المان إعطاء ذمة وعهد‪ ،‬والرسول صلى ا عليه وسلم‬ ‫يقول‪) :‬المسلمون تتكافأ دماؤهم وهم يٌد على َمن سواهم‬ ‫ويسعى بذّمتهم أدناهم(‪ ،‬إل ّ أن هذا المان مقّيد بخضوعهم‬ ‫لحكام السلم وبإعطائهم الجزية إذا اسُتحقت عليهم‪ ،‬لقوله‬ ‫تعالى‪) :‬حتى ُيعطوا الجزية عن يٍد وهم صاغرون(‪ ،‬أي ل ُيرفع‬ ‫طْون المان من القتال إل ّ إذا أعطوا الجزية‬ ‫عنهم القتال ول يع َ‬ ‫وخضوا لحكام السلم‪ .‬فقبولهم الخضوع لحكم السلم أثناء‬ ‫ف لعطائهم المان‪ ،‬فإذا مكثوا مدة‬ ‫إقامتهم في دار السلم كا ٍ‬ ‫ُتستحق عليهم فيها الجزية وهي سنة‪ ،‬طلب منهم الخروج‪ ،‬فإن‬ ‫ضربت عليهم الجزية واعُتبروا ذميين‪.‬‬ ‫أبوا ُ‬

‫أحكام الذمي‬ ‫الذمي هو كل من يتدين بغير السلم وصار من رعية‬ ‫ق على تدينه بغير السلم‪ .‬والذمي‬ ‫الدولة السلمية‪ ،‬وهو با ٍ‬ ‫مأخوذ من الذمة وهي العهد‪ ،‬فلهم في ذمتنا عهد أن نعاملهم ما‬ ‫صالحناهم عليه‪ ،‬وأن نسير في معاملتهم ورعاية شؤونهم حسب‬ ‫أحكام السلم‪ .‬وقد جاء السلم بأحكام كثيرة لهل الذمة‪ ،‬منها‬ ‫أن ل ُيفَتنوا عن دينهم‪ ،‬وعليهم الجزية فقط‪ ،‬ول يؤخذ منهم ما ٌ‬ ‫ل‬ ‫غيرها إل ّ أن يكون شرطا من شروط الصلح‪ .‬عن عروة بن الزبير‬ ‫قال‪ :‬كتب رسول ا صلى ا عليه وسلم إلى أهل اليمن‪) :‬أنه‬ ‫من كان على يهوديته أو نصرانيته فإنه ل ُيفَتن عنها وعليه الجزية(‪.‬‬ ‫ومثل اليهود والنصارى غيرهم من المشركين وسائر الكفار‪ ،‬عن‬ ‫الحسن بن محمد بن علي بن أبي طالب قال‪) :‬كتب رسول ا‬ ‫صلى ا عليه وسلم إلى مجوس هجر يدعوهم إلى السلم‪،‬‬ ‫فمن أسلم ُقِبل منه ومن ل ضربت عليه الجزية في أن ل تؤكل له‬ ‫ذبيحة ول تنكح له امرأة(‪ .‬وليس ذلك خاصا بمجوس هجر بل هو‬ ‫عام‪ .‬والحديث ل مفهوم له لن مفهوم اللقب ليس بحجة ول قيمة‬ ‫له‪ .‬ول تؤخذ الجزية إل ّ من الذكور البالغين‪ ،‬عن نافع عن أسلم‬ ‫مولى عمر )أن عمر كتب إلى أمراء الجناد أن يضربوا الجزية ول‬ ‫يضربوها على النساء والصبيان ول يضربوها إل ّ على من جرت‬ ‫‪-167-‬‬


‫كر‪ ،‬بل قال أبو عبيد‪ :‬هذا‬ ‫كر عليه من ِ‬ ‫عليه الموسى(‪ ،‬ولم ين ِ‬ ‫الحديث هو الصل فيمن تجب عليه الجزية وفيمن ل تجب‪ .‬ول‬ ‫تؤخذ الجزية إل ّ من القادر على دفعها لقوله تعالى‪) :‬عن يٍد( أي‬ ‫عن قدرة‪ ،‬فإذا عجز عن دفعها ل تؤخذ منه‪ ،‬بل إذا عجز عن‬ ‫الكسب وافتقر ل ُيكتفى بعدم أخذ الجزية‪ ،‬بل يجب أن ُينفق عليه‬ ‫من بيت المال كما ُينفق على المسلمين‪ .‬عن جسر بن أبي جعفر‬ ‫ت كتاب عمر عبدالعزيز إلى عدي بن أرطأة )أّما بعد‬ ‫قال‪ :‬شهد ُ‬ ‫فإن ا سبحانه وتعالى إّنما أمر أن تؤخذ الجزية ممن رغب عن‬ ‫السلم واختار الكفر عينا وخسرانا مبينا‪ ،‬فضع الجزية على من‬ ‫ل بينهم وبين عمارة الرض فإن في ذلك صلحا‬ ‫أطاق حملها‪ ،‬وخ ّ‬ ‫لمعاش المسلمين وقوة على عدوهم‪ ،‬وانظر من ِقبَلك من أهل‬ ‫عفت قّوته ووّلت عنه المكاسب فأجِر‬ ‫الذمة قد كُبرت سّنه وض ُ‬ ‫عليه من بيت مال المسلمين ما ُيصلحه‪ ،‬فلو أن رجل ً من‬ ‫عفت قّوته ووّلت عنه‬ ‫المسلمين كان له مملوك كُبرت سّنه وض ُ‬ ‫المكاسب‪ ،‬كان من الحق عليه أن يقوته حتى يفّرق بينهما موت‬ ‫أو عتق‪ .‬وذلك أنه بلغني أن أمير المؤمنين عمر مّر بشيخ من أهل‬ ‫الذمة يسأل على أبواب الناس فقال‪ :‬ما أنصفناك إن كنا نأخذ منك‬ ‫الجزية في شبيبتك ثم ضّيعناك في ِكبِرك‪ .‬قال‪ :‬ثم أجرى عليه من‬ ‫بيت المال ما يصلحه(‪.‬‬ ‫وعند أخذ الجزية يجب أن تؤخذ بالحسنى ل بالعنف ول‬ ‫بالتعذيب‪ ،‬وأن تؤخذ بالقدر الذي يحتملونه‪ ،‬فل ُيظلمون ول يؤخذ‬ ‫منهم فوق قدرتهم‪ .‬عن هشام بن حكيم بن حزام أنه مّر على‬ ‫قوم يعّذبون في الجزية بفلسطين فقال هشام‪ :‬سمعت رسول‬ ‫ا صلى ا عليه وسلم يقول‪ :‬إن ا يعّذب يوم القيامة الذين‬ ‫يعّذبون الناس في الدنيا(‪ .‬وعن عبدالرحمن بن جبير بن نفير عن‬ ‫أبيه أن عمر بن الخطاب ُأتي بمال كثير قال أبو عبيد‪ :‬أحسبه قال‪:‬‬ ‫من الجزية‪ .‬فقال‪ :‬إني لظنكم قد أهلكتم الناس‪ .‬قالوا ‪:‬ل وا‬ ‫ما أخذنا عفوا صفوا‪ .‬قال‪ :‬بل سوط ول نوط؟ قالوا‪ :‬نعم‪ .‬قال‪:‬‬ ‫الحمد لله الذي لم يجعل ذلك على يدي ول في سلطاني(‪ .‬ول‬ ‫يجوز أن تباع وسائل معيشة الذمي لخذ الجزية مهما بلغت‬ ‫قيمتها‪ .‬عن سفيان بن أبي حمزة قال‪ :‬كتب عمر بن عبدالعزيز‬ ‫خراجها‪،‬‬ ‫)أن ل يباع لهل الذمة آلة(‪ ،‬قال أبو عبيد‪ :‬يقول من أجل َ‬ ‫خراجه‪ ،‬ويقاس‬ ‫طل َ‬ ‫لنه إذا باع أداة الزرع لم يستطع أن يزرع فيب ُ‬ ‫‪-168-‬‬


‫على آلة الزرع آلت معيشته الخرى‪ .‬وإذا أسلم الذمي سقطت‬ ‫عنه الجزية‪ ،‬عن عبيدا بن رواحة قال‪ :‬كنت مع مسروق‬ ‫بالسلسلة فحّدثني أن رجل ً من الشعب أسلم فكانت تؤخذ منه‬ ‫الجزية‪ ،‬فأتى عمر بن الخطاب فقال‪ :‬يا أمير المؤمنين إني‬ ‫أسلمت والجزية تؤخذ مني‪ ،‬قال‪ :‬لعلك أسلمت متعوذا‪ .‬فقال‪ :‬أما‬ ‫في السلم ما يعيذني؟ قال‪ :‬بلى‪ .‬قال‪ :‬فكتب عمر أن ل تؤخذ‬ ‫منه الجزية(‪ .‬وعن قابوس بن ظبيان عن أبيه قال‪ :‬قال رسول‬ ‫ا صلى ا عليه وسلم‪) :‬ليس على مسلم جزية(‪ .‬وعن ابن‬ ‫ل تصلح‬ ‫عباس قال‪ :‬قال رسول ا صلى ا عليه وسلم ‪) :‬‬ ‫قبلتان في أرض وليس على مسلم جزية(‪ .‬كتب عمر بن عبالعزيز‬ ‫إلى عامله الذي كان يرى بقاء الجزية على من أسلم هروبا من‬ ‫الجزية‪ ،‬فقال في كتابه‪) :‬إن ا بعث محمدا صلى ا عليه‬ ‫وسلم هاديا ولم يبعثه جابيا(‪.‬‬ ‫وقد أوصى السلم بمعاملة الذمي معاملة حسنة‪ ،‬فُيرَفق‬ ‫به وُيعان على أمره ويجب أن يقوم المسلمون على حمايته‬ ‫وحماية ماله وعرضه‪ ،‬وأن ُيضمن له قوته ومسكنه وكسوته‪ .‬عن‬ ‫أبي وائل عن أبي موسى أو أحدهما بإسناده أن رسول ا صلى‬ ‫ا عليه وسلم قال‪) :‬أطعموا الجائع وعودوا المريض وفكوا‬ ‫هد من دونهم‬ ‫العاني(‪ ،‬قال أبو عبيد‪" :‬وكذلك أهل الذمة يجا َ‬ ‫وُيفَتك عناتهم فإذا اسُتنقذوا رجعوا إلى ذمتهم وعهدهم أحرارا‬ ‫وفي ذلك أحاديث"‪ .‬وعن عمرو بن ميمون عن عمر بن الخطاب‬ ‫أنه كان في وصيته عند موته )وأوصي الخليفة من بعدي بكذا‬ ‫وكذا وأوصيه بذمة ا وذمة رسوله صلى ا عليه وسلم خيرا‪،‬‬ ‫أن يقاتل من ورائهم‪ ،‬وأن ل يكّلفوا فوق طاقتهم(‪ .‬وُيترك‬ ‫الذميون وما يعتقدون وما يعبدون لقول الرسول‪) :‬من كان على‬ ‫يهوديته ونصرانيته فإنه ل ُيفَتن عنها(‪ ،‬ومعنى ل يفتن عنها أي ل‬ ‫ُيكره على تركها بل ُيترك عليها‪ .‬وتْركه عليها يعني تْركه على‬ ‫عقيدته وعبادته‪ .‬وليس هذا خاصا بأهل الكتاب بل يقاس عليهم‬ ‫غيرهم في هذا الموضوع‪ ،‬لقول الرسول صلى ا عليه وسلم‬ ‫سّنوا بهم سّنة أهل الكتاب(‪ ،‬ومثل المجوس‬ ‫عن المجوس ‪ُ) :‬‬ ‫باقي المشركين‪ .‬وأّما أكل ذبائحهم والتزوج من نسائهم‪ ،‬فإنه‬ ‫ُينظر‪ :‬فإن كانوا من أهل الكتاب أي من اليهود أو النصارى فيجوز‬ ‫للمسلمين أن يأكلوا ذبائحهم وأن يتزوجوا من نسائهم لقوله‬ ‫‪-169-‬‬


‫ل لهم‬ ‫ح ّ‬ ‫ل لكم وطعامكم ِ‬ ‫ح ّ‬ ‫تعالى‪) :‬وطعام الذين أوتوا الكتاب ِ‬ ‫صنات من الذين أوتوا الكتاب من‬ ‫صنات من المؤمنات والمح َ‬ ‫والمح َ‬ ‫قبلكم(‪ .‬وأّما إن كانوا من غير أهل الكتاب فل يجوز أكل ذبائحهم‬ ‫ول ُتزّوج نسائهم لقول الرسول صلى ا عليه وسلم في مجوس‬ ‫هجر‪) :‬في أن ل تؤكل له ذبيحة ول ُتنكح له امرأة(‪ .‬وأّما تزّوج‬ ‫الكفار من نساء المسلمين فل يجوز مطلقا وهو حرام سواء‬ ‫أكانوا من أهل الكتاب أم من غيرهم لقوله تعالى‪) :‬فإن‬ ‫حل لهم ول‬ ‫ن ِ‬ ‫جعوهن إلى الكفار ل ه ّ‬ ‫ن مؤمنات فل َتر ِ‬ ‫ه ّ‬ ‫عِلمُتمو ُ‬ ‫هم يحّلون لهن(‪ .‬ويجوز أن تجري بين الذميين وبين المسلمين‬ ‫معاملت البيع والشراء والجارة والشراكة والرهن وغير ذلك بل‬ ‫فرق بينهم وبين المسلمين‪ .‬فقد عامل رسول ا صلى ا عليه‬ ‫وسلم أهل خيبر وهم يهود بنصف ما يخرج من الرض على أن‬ ‫يعملوها بأموالهم وأنفسهم‪ .‬وقد ابتاع الرسول عليه السلم‬ ‫طعاما من يهودي بالمدينة ورهنه درعه‪ .‬وأرسل إلى يهودي‬ ‫يطلب منه ثوبين إلى الميسرة‪ .‬وهذا كله دليل على جواز إجراء‬ ‫جميع المعاملت مع الذميين‪ ،‬إل ّ أنه إذا عوملوا بإجارة أو بيع أو‬ ‫شراكة أو رهن فيجب أن تطّبق أحكام السلم وحدها‪ ،‬ول يجوز‬ ‫التعامل بغيرها مطلقا‪ .‬وهكذا يكون الذميون رعية الدولة‬ ‫السلمية كسائر الرعية لهم حق الرعوية وحق الحماية وحق‬ ‫ضمان العيش وحق المعاملة بالحسنى وحق الرفق واللين‪ ،‬ولهم‬ ‫أن يشتركوا في جيش المسلمين ويقاِتلوا معهم‪ ،‬ولكن ليس‬ ‫عليهم واجب القتال ول واجب المال سوى الجزية‪ ،‬فل ُتفرض‬ ‫عليهم الضرائب التي ُتفرض على المسلمين‪ ،‬ولهم ما للمسلمين‬ ‫من النصاف وعليهم ما على المسلمين من النتصاف‪ ،‬وُينظر‬ ‫إليهم أمام الحاكم وأمام القاضي وعند رعاية الشؤون وحين‬ ‫تطبيق المعاملت والعقوبات كما ُينظر للمسلمين دون أي تمييز‪،‬‬ ‫فواجب العدل لهم كما هو واجب للمسلمين‪.‬‬ ‫أّما ما ورد من عهد عمر معهم واشتراطه شروطا عليهم‪،‬‬ ‫فإن تلك العهود قد صولحوا عليها وُأدرجت في الصلح شروط‬ ‫ورضوا بها‪ ،‬فكان لزاما أن ينفذ عهد الصلح كما هو‪ ،‬أّما إذا لم‬ ‫يتضمن عهد الصلح معهم معاملة معينة تنص على أمور معينة‪،‬‬ ‫فإنه ل يصح أن يعاَملوا إل ّ كما يعاَمل المسلمون‪ ،‬إل ّ ما ورد‬ ‫النص على معاملتهم بغير ما يعاَمل به المسلمون مثل عدم جواز‬ ‫‪-170-‬‬


‫أن يتزوجوا المسلمات‪ .‬والدليل على أن ما فعله عمر كان بناء‬ ‫من العهد له‪ ،‬ما فعله عمر نفسه في ُمكس التجارة‪،‬‬ ‫على تض ّ‬ ‫عشر ومن الذميين‬ ‫فإنه رضي ا عنه أخذ من المسلمين ربع ال ُ‬ ‫عشر‪ ،‬مع أن الحكم الشرعي أنه ل يؤخذ من المسلم ول‬ ‫نصف ال ُ‬ ‫مكس على تجارته‪ .‬عن أبي الخير‪:‬‬ ‫من الذمي شيء من ال ُ‬ ‫ت رسول ا صلى ا عليه‬ ‫ت رويفع بن ثابت يقول‪ :‬سمع ُ‬ ‫سمع ُ‬ ‫وسلم يقول‪) :‬إن صاحب المكس في النار‪ -‬يعني العاشر(‪ ،‬وقال‬ ‫عليه السلم‪) :‬إذا لقيتم عاشرا فاقتلوه(‪ ،‬وعن إبراهيم بن مهاجر‬ ‫شر في‬ ‫ت زياد بن حدير يقول‪) :‬أنا أول عاشر ع ّ‬ ‫قال‪ :‬سمع ُ‬ ‫السلم‪ .‬قلت‪ :‬من كنتم تعشرون؟ قال‪ :‬ما كنا نعشر مسلما ول‬ ‫معاهدا‪ ،‬كنا نعشر نصارى بني تغلب(‪ ،‬فمكس التجارة ل يؤخذ ل‬ ‫من المسلم ول من الذمي‪ .‬وما أخذه عمر من المسلم زكاة ومن‬ ‫الذمي حسب شروط المعاهدة التي سّلموا بها وصاروا ذميين‪.‬‬ ‫وأّما ما كان ُيفعل في الذميين في العصور الهابطة فهو‬ ‫خطأ في الفهم وتقليد لبعض ما ورد في شروط عمر في عهده‪.‬‬ ‫ولو ُأدرك الصواب لُفهم أن عمر إّنما فعل ما تضمنته شروط‬ ‫الصلح التي قبلوا بها‪ ،‬وما عدا ذلك فإن عمر أوصى بالذميين كل‬ ‫خير‪ .‬وعليه فإن الذميين يعاَملون أحسن المعاملة ويطّبق عليهم‬ ‫ما ورد في الشرع‪ ،‬إل ّ أن يتضمن عهد صلحهم شروطا فتنّفذ‬ ‫عليهم الشروط كما وردت‪.‬‬

‫يجب تطبيق السلم على الكفار‬ ‫كل من كان في دار السلم تحت حكم الدولة السلمية‬ ‫يجب أن تطبق عليه أحكام السلم كما تطّبق على المسلمين‬ ‫سواء بسواء‪ ،‬سواء أكان ذميا أم معاهدا أم مستأمنا‪ ،‬ول يخّير‬ ‫الحاكم في ذلك‪ ،‬بل يجب تطبيق أحكام السلم دون تردد‪ ،‬لن‬ ‫ا تعالى يقول بالنسبة لهل الكتاب‪) :‬فاحكم بينهم بما َأنزل ا‬ ‫ول تّتبع أهواءهم عما جاءك من الحق(‪ ،‬ويقول أيضا بالنسبة‬ ‫لهم‪) :‬وأن احكم بينهم بما أنزل ا ول تتبع أهواءهم واحذرهم‬ ‫أن يفتنوك عن بعض ما أنزل ا إليك(‪ ،‬وقال‪) :‬إنا أنزلنا إليك‬ ‫الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك ا(‪ ،‬وهذا عام يشمل‬ ‫المسلمين وغير المسلمين‪ ،‬لن كلمة الناس عامة )لتحكم بين‬ ‫‪-171-‬‬


‫سحت فإن‬ ‫الناس(‪ .‬وأّما قوله تعالى‪) :‬سماعون للكذب أّكالون لل ّ‬ ‫جاؤوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم(‪ ،‬فإن المراد منها من جاء‬ ‫إلى الدولة السلمية من خارجها ليحتكم إلى المسلمين في‬ ‫خصومة مع كافر آخر أو كفار آخرين‪ ،‬فالمسلمون مخيرون بين‬ ‫أن يحكموا بينهم وبين أن ُيعِرضوا عنهم‪ ،‬فإن الية نزلت فيمن‬ ‫وادعه رسول ا صلى ا عليه وسلم من يهود المدينة وكانوا‬ ‫قبائل يعتبرون دول ً أخرى‪ ،‬فلم يكونوا خاضعين لحكم السلم‬ ‫بل كانوا دولة أخرى‪ ،‬ولذلك كانت بينه وبينهم معاهدات‪ .‬أّما إن‬ ‫كان الكفار خاضعين لحكم السلم بأن كانوا ذميين أو جاؤوا‬ ‫مستأمنين خاضعين لحكم السلم؛ أي راضين أن يدخلوا دار‬ ‫السلم مع الخضوع لحكم السلم كالمعاهدين والمستأمنين فل‬ ‫كم بينهم إل ّ بالسلم‪ ،‬ومن امتنع منهم عن الرجوع‬ ‫يجوز أن ُيح َ‬ ‫إلى حكم السلم أجبره الحاكم على ذلك وأخذه به‪ ،‬لنه إّنما‬ ‫دخل في العهد بشرط التزام أحكام السلم سواء أكان عهد ذمة‬ ‫أو عهد موادعة أو عهد أمان‪ ،‬ل فرق بينها ما دام في دار السلم‪.‬‬ ‫كتب رسول ا صلى ا عليه وسلم إلى أهل نجران وهم‬ ‫نصارى‪) :‬ان من بايع منكم بالربا فل ذمة له(‪ ،‬وقد روى ابن عمر‬ ‫جرا بعد إحصانهما‬ ‫)أن النبي صلى ا عليه وسلم ُأتي بيهوديين َف َ‬ ‫جما(‪ ،‬وروى أنس )أن يهوديا قتل جارية على أوضاح‬ ‫فأمر بهما فُر ِ‬ ‫لها بحجر فقتله رسول ا صلى ا عليه وسلم بين حجرين(‪.‬‬ ‫وهؤلء اليهود كانوا من رعايا المسلمين‪ .‬والظاهر أنه كان ذلك‬ ‫بعد أن انتهت كيانات اليهود وظل منهم رعايا تحت سلطان‬ ‫المسلمين‪.‬‬ ‫إل ّ أنه إذا كان الفعل مما يدخل في باب العقائد عندهم‬ ‫ولو كان عندنا ليس من باب العقائد‪ -‬فإننا ل نتعرض لهم فيه‬‫ونتركهم بالنسبة له وما يعتقدون به‪ ،‬فإن اعتقدوا إباحته كشرب‬ ‫الخمر ل يعاقبون عليه لنهم ل يعتقدون تحريمه فلم يلزمهم‬ ‫عقوبته كالكفر‪ .‬وإّنما لم نطبق عليهم ما يتعلق بالعقائد لنه يعتبر‬ ‫ل إكراه في الدين(‪،‬‬ ‫حينئذ إكراها في الدين‪ ،‬وا تعالى يقول ‪) :‬‬ ‫ولن الرسول صلى ا عليه وسلم قال‪) :‬إنه من كان على‬ ‫يهوديته أو نصرانيته فإنه ل ُيفَتن عنها(‪ .‬وتطبيق ما يناقض‬ ‫عقائدهم جبرا عنهم فتنة عن دينهم‪ ،‬ولذلك ل ُيكرهون على‬ ‫العقائد والعبادات‪ ،‬ولنهم حين َقِبلوا الجزية أقّروا على الكفر من‬ ‫‪-172-‬‬


‫حيث العقائد ولم يقروا على حكم الكفر‪ ،‬فيكون عقابهم على ما‬ ‫هو داخل العقائد عقابا على الكفر الذي يعتقدونه‪ ،‬وهو ل يجوز‪.‬‬ ‫وعليه فإنه يجب تطبيق أحكام السلم على الكفار في دار‬ ‫السلم كما ُتطّبق على المسلمين‪.‬‬

‫الجزيـة‬ ‫الجزية مال مخصوص يؤخذ من غير المسلمين من أهل‬ ‫الذمة وهم أهل الكتاب مطلقا‪ ،‬والمشركون من غير العرب‪،‬‬ ‫وسائر الكفار‪ ،‬قال ا تعالى‪) :‬قاِتلوا الذين ل يؤمنون بالله ول‬ ‫خر ول يحّرمون ما حّرم ا ورسوله ول َيدينون دين‬ ‫باليوم ال ِ‬ ‫الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى ُيعطوا الجزية عن يد وهم‬ ‫صاغرون(‪ُ ،‬روي عن قيس بن مسلم عن الحسن بن محمد قال‪:‬‬ ‫جر يدعوهم‬ ‫كتب رسول ا صلى ا عليه وسلم إلى مجوس هَ َ‬ ‫ضربت عليه الجزية في‬ ‫إلى السلم‪ ،‬فمن أسلم ُقِبل منه‪ ،‬ومن ل‪ُ ،‬‬ ‫أن ل تؤكل له ذبيحة ول ُتنكح له امرأة(‪ ،‬وعن جعفر بن محمد‬ ‫عن أبيه قال‪ :‬قال عمر‪ :‬ما أدري ما أصنع بالمجوس وليسوا أهل‬ ‫ت رسول ا صلى ا‬ ‫كتاب‪ .‬فقال عبدالرحمن بن عوف‪ :‬سمع ُ‬ ‫سّنوا بهم سّنة أهل الكتاب(‪ ،‬وعن ابن شهاب‬ ‫عليه وسلم يقول ‪ُ) :‬‬ ‫)أن رسول ا صلى ا عليه وسلم أخذ الجزية من مجوس‬ ‫كر عليه‬ ‫جر(‪ ،‬وأن عمر أخذ الجزية من مجوس فارس ولم ين ِ‬ ‫ه َ‬ ‫َ‬ ‫كر عليه‬ ‫أحد من الصحابة‪ ،‬وأن عثمان أخذ الجزية من البربر ولم ين ِ‬ ‫أحد من الصحابة‪ .‬أّما مشركو العرب فل ُيقبل منهم الصلح والذمة‬ ‫عْون إلى السلم‪ ،‬فإن أسلموا ُتركوا وإل ّ قوتلوا‪ ،‬قال‬ ‫ولكن ُيد َ‬ ‫عْون إلى قوم أولي بأس شديد تقاِتلونهم أو‬ ‫تعالى‪) :‬سُتد َ‬ ‫ُيسِلمون(‪ ،‬معناه إلى أن ُيسِلموا‪ .‬والية فيمن كان يقاتلهم رسول‬ ‫ا صلى ا عليه وسلم وهم عبدة الوثان من العرب‪ ،‬فدل‬ ‫على أنهم يقاَتلون ‘ن لم ُيسِلموا‪ .‬وعن الحسن قال‪) :‬أمر رسول‬ ‫ا صلى ا عليه وسلم أن يقاَتل العرب على السلم ول ُيقبل‬ ‫منهم غيره‪ ،‬وأمر أن يقاَتل أهل الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد‬ ‫وهم صاغرون(‪ ،‬قال أبو عبيد‪ :‬وإّنما نرى الحسن أراد بالعرب ها‬ ‫هنا أهل الوثان منهم الذين ليسوا بأهل الكتاب‪ ،‬فأّما َمن كان‬ ‫‪-173-‬‬


‫من أهل الكتاب فقد َقِبَلها رسول ا صلى ا عليه وسلم منهم‬ ‫وذلك بّين في أحاديث‪ .‬ولم يثبت أن النبي صلى ا عليه وسلم‬ ‫أخذ من أحد من عبدة الوثان من العرب الجزية ولم يقبل منهم‬ ‫بعد نزول آية الفتح وسورة التوبة سوى السلم أو الحرب‪ .‬وما‬ ‫ُروي أنه أخذ من العرب الجزية كأهل اليمن وأهل نجران‪ ،‬إّنما‬ ‫أخذها من أهل الكتاب النصارى واليهود ولم يأخذها من عبدة‬ ‫الوثان من العرب‪.‬‬ ‫وينبغي للخليفة أن يبين لمن يقبل منهم الجزية‪ ،‬مقدار‬ ‫الجزية ووقت وجوبها وُيعِلمهم أنه إّنما يأخذها منهم كل سنة‬ ‫مرة‪ ،‬وأن الذي يؤخذ من الغني كذا‪ ،‬ومن القل غنى كذا‪ ،‬ول‬ ‫يؤخذ من الفقير لقوله تعالى‪) :‬عن يٍد(‪ ،‬أي عن قدرة‪ ،‬وأنها ل‬ ‫تؤخذ على النساء والصبيان‪ ،‬ول تؤخذ الجزية منهم إل ّ من الرجل‬ ‫البالغ القادر على دفعها‪ .‬عن نافع عن أسلم مولى عمر )أن عمر‬ ‫كتب إلى أمراء الجناد أن يقاِتلوا في سبيل ا ول يقاتلوا إل ّ من‬ ‫قاتلهم ول يقتلوا النساء ول الصبيان ول يقتلوا إل ّ من جرت عليه‬ ‫الموسى‪ ،‬وكتب إلى أمراء الجناد أن يضربوا الجزية ول يضربوها‬ ‫على النساء والصبيان ول يضربوها إل ّ على من جرت عليه‬ ‫ت‪ .‬وقال‪" :‬هذا الحديث هو الصل‬ ‫الموسى(‪ .‬قال أبو عبيد‪ :‬من أنَب َ‬ ‫فيمن تجب عليه الجزية‪ ،‬ومن ل تجب عليه‪ .‬أل تراه إّنما جعلها‬ ‫كر على عمر‬ ‫على الذكور المدِركين دون الناث والطفال"‪ ،‬ولم ين ِ‬ ‫كر فكان إجماعا‪ .‬ويؤيد ذلك ما جاء في كتاب النبي عليه‬ ‫من ِ‬ ‫ص الحالم‬ ‫خ ّ‬ ‫السلم إلى معاذ باليمن )أن على كل حالم دينارا(‪ ،‬ف َ‬ ‫دون المرأة والصبي‪ .‬وأّما رواية )الحالم والحالمة( فليست من‬ ‫المحفوظ عند المحّدثين‪ .‬والمحفوظ المثَبت من ذلك هو الحديث‬ ‫الذي ل ِذكر للحالمة فيه‪ .‬وعلى فرض صحة وروده فإن ذلك كان‬ ‫في أول السلم إذ كان نساء المشركين وولدانهم ُيقتلون مع‬ ‫رجالهم‪ ،‬وقد كان ذلك ثم نسخ بعدم أخذ الرسول من النساء‬ ‫والصبيان‪ ،‬وجرى على ذلك بعده عمر‪ .‬والجزية التي تؤخذ يجب‬ ‫صغار المذكور في‬ ‫أن تكون مع خضوعهم لحكم السلم‪ .‬وال َ‬ ‫الية )حتى ُيعطوا الجزية عن يٍد وهم صاغرون( هو أن يجري‬ ‫حكم السلم عليهم وأن ل ُيظِهروا شيئا من كفرهم ول مما‬ ‫يحرم في دين السلم‪ ،‬وأن يظل السلم هو الذي يعلو في‬ ‫البلد لقوله عليه السلم‪) :‬السلم يعلو ول ُيعلى عليه(‪.‬‬ ‫‪-174-‬‬


‫خراجية‬ ‫الراضي ال َ‬ ‫قال أبو عبيد‪" :‬وجدنا الثار عن رسول ا صلى ا عليه‬ ‫وسلم والخلفاء بعده قد جاءت في افتتاح الرضين بثلثة أحكام‪:‬‬ ‫عشٍر‬ ‫أرض أسلم عليها أهلها فهي لهم ِملك أيمانهم‪ ،‬وهي أرض ُ‬ ‫خْر ٍ‬ ‫ج‬ ‫ل شيء عليهم فيها غيره‪ .‬وأرض افُتتحت صلحا على َ‬ ‫معلوم‪ ،‬فهم على ما صولحوا عليه ل يلزمهم أكثر منه‪ .‬وأرض‬ ‫ُأخذت عنوة‪ ،‬فهي التي اختلف فيها المسلمون‪ ،‬فقال بعضهم‪:‬‬ ‫سم فيكون أربعة أخماسها‬ ‫مس وُتق َ‬ ‫سبيلها سبيل الغنيمة فُتخ َ‬ ‫خمس الباقي لمن‬ ‫ططا بين الذين افتتحوها خاصة ويكون ال ُ‬ ‫خ َ‬ ‫َ‬ ‫مى ا تبارك وتعالى‪ .‬وقال بعضهم‪ :‬بل حكمها والنظر فيها‬ ‫س ّ‬ ‫إلى المام إن رأى أن يجعلها غنيمة فيخمسها ويقسمها كما فعل‬ ‫رسول ا صلى ا عليه وسلم بخيبر فذلك له‪ ،‬وإن رأى أن‬ ‫يجعلها فيئا فل يخمسها ول يقسمها ولكن تكون موقوفة على‬ ‫عل ذلك‪ .‬فهذه‬ ‫المسلمين عامة ما بقوا كما صنع عمر بالسواد َف َ‬ ‫أحكام الرض التي ُتفتح فتحا"‪ ،‬انتهى كلم أبي عبيد‪ .‬وهو واقع‬ ‫الراضي التي ُتفتح فتحا فإنها ل تخلو إما أن ُيسلم أهلها عليها أو‬ ‫يتمسكوا بدينهم‪ ،‬وإذا تمسكوا بدينهم إما أن يقبلوا الجزية‬ ‫ويصالحوا المسلمين أو ل يقبلوها وُيقَهرون وُتفتح بلدهم فتحا‪.‬‬ ‫هذه الحوال التي تقع بالفعل حين حرب الكفار ولكل حالة منها‬ ‫حكم خاص‪.‬‬ ‫أّما الحالة الولى‪ :‬فهي كل أرض أسلم أهلها عليها فهي‬ ‫عشرية لنهم بإسلمهم عصموا دماءهم وأموالهم‬ ‫أرض ُ‬ ‫وأصبحت تجري عليهم أحكام السلم‪ ،‬وبهذا ظلت أرضهم ملكا‬ ‫لهم رقبة ومنفعة‪ ،‬فل تكون غنيمة‪ ،‬كما ل يكون أي مال لهم أو‬ ‫سلح أو غير ذلك غنيمة‪ .‬وبذلك صارت الرض أرض مسلمين‪،‬‬ ‫عشر وهو يتعلق بنفس الخارج‪،‬‬ ‫وأرض المسلمين ليس عليها إل ّ ال ُ‬ ‫عشرية لن النبي‬ ‫وهو زكاة‪ .‬وأرض جزيرة العرب كلها أرض ُ‬ ‫صلى ا عليه وسلم فتح مكة عنوة وتركها لهلها ولم يوظف‬ ‫خراج‪ ،‬ولن الخراج على الرض بمنزلة الجزية على‬ ‫عليها ال َ‬ ‫الرؤوس فل َيثُبت في أرض العرب كما ل تثُبت الجزية في‬ ‫رقابهم‪ ،‬وهذا لن وضع الخراج من شرطه أن يقر أهلها على‬ ‫‪-175-‬‬


‫الكفر‪ ،‬كوضع الجزية‪ ،‬ومشركو العرب ل ُيَقّرون على الكفر بل‬ ‫ُيخّيرون بين السلم والقتل‪ ،‬قال تعالى‪) :‬تقاِتلونهم أو ُيسِلمون(‪،‬‬ ‫فل ُيقبل منهم إل ّ السلم أو السيف‪ ،‬ولذلك كانت أرضهم عشرية‪.‬‬ ‫والعشر يؤخذ على الناتج الفعلي من الرض كل سنة‪ ،‬إذا‬ ‫عشر‬ ‫عشر‪ .‬فإذا لم تنتج ما يجب فيه ال ُ‬ ‫أنتجت مقدار ما يجب فيه ال ُ‬ ‫ُ‬ ‫أو لم ُتزرع ل يؤخذ عليها‪ .‬أي إذا بلغ الناتج نصاب الزكاة أخذ منه‬ ‫وإل ّ فل‪.‬‬ ‫وأّما الحالة الثانية‪ :‬وهي الرض التي افُتتحت صلحا‪ ،‬فإنه‬ ‫خْرج معلوم فيجب أن يعاَملوا‬ ‫ُينظر فيها‪ ،‬فإن افُتتحت صلحا على َ‬ ‫على ما صولحوا عليه‪ ،‬ل يجوز أن يؤخذ منهم أكثر منه‪ ،‬ويجوز أن‬ ‫يؤخذ منهم أقل منه‪ .‬قال رسول ا صلى ا عليه وسلم‪) :‬إنكم‬ ‫لعلكم تقاِتلون قوما فيّتقونكم بأموالهم دون أنفسهم وأبنائهم‬ ‫ويصالحونكم على صلح‪ ،‬فل تأخذوا منه فوق ذلك‪ ،‬فإنه ل يحل‬ ‫لكم(‪ ،‬قال أبو عبيد‪" :‬في هذا الحديث أن السّنة في أرض الصلح‬ ‫أن ل يزاد على وظيفتها التي صولحوا وإن َقووا على أكثر من ذلك‬ ‫لقوله صلى ا عليه وسلم‪) :‬فل تأخذوا منهم فوق ذلك فإنه ل‬ ‫حل لكم(‪ ،‬فجعله حتما ولم يستثن قّوتهم على أكثر منه‪ .‬وعن‬ ‫َي ِ‬ ‫إبراهيم )أن رجل ً أتى عمر بن الخطاب فقال‪ :‬إني قد أسلم ُ‬ ‫ت‬ ‫خراج عن أرضي‪ .‬قال‪ :‬إن أرضك ُأخذت عنوة(‪ ،‬وجاءه‬ ‫فارفع ال َ‬ ‫رجل فقال‪) :‬إن أرض كذا وكذا تحتمل من الخراج أكثر مما عليها‪،‬‬ ‫ل ذلك على أنه‬ ‫فقال‪ :‬ليس على أولئك سبيل‪ ،‬إنا صالحناهم(‪ .‬فد ّ‬ ‫ُيلتزم في الرض بالمقدار الذي صولحوا عليه‪ .‬هذا إذا كانت‬ ‫ص على شروط متعلقة‬ ‫الرض قد ُذكرت في شروط الصلح وُن ّ‬ ‫بها‪ .‬أّما إذا لم ُتذكر الرض في شروط الصلح وإّنما كانت هنالك‬ ‫شروط للصلح ولم ُيذكر فيها ما يتعلق بالرض‪ ،‬فإن الرض في‬ ‫هذه الحالة يكون حكمها حكم الرض التي ُأخذت عنوة لنها‬ ‫تكون فيئا للمسلمين‪ ،‬ولو ُأخذت صلحا فإنها تكون كما ُأخذ عنوة‪.‬‬ ‫الحالة الثالثة‪ :‬وهي الرض التي ُأخذت عنوة‪ .‬وقد جرى‬ ‫الخلف فيها واستقر رأي عمر في شأنها أن تظل في يد أهلها‬ ‫خراج‪ ،‬لن الحاجة إلى‬ ‫وتبقى رقبتها ملكا للمسلمين ويؤخذ عليها ال َ‬ ‫ابتداء التوظيف على الكافر‪ ،‬والخراج أليق به‪ .‬والخراج مقدار‬ ‫مخصوص من المال يوضع على الرض بقدر احتمالها بغض‬ ‫صَبت أم أجَدَبت‪ .‬ويقدر‬ ‫النظر عما إذا ُزرعت أم لم ُتزرع‪ ،‬أخ َ‬ ‫‪-176-‬‬


‫الخراج تقديرا ويزاد وينقص حسب احتمال الرض‪.‬‬ ‫والرض الخراجية يجب فيها الخراج ول يجب في الخارج‬ ‫منها العشر‪ .‬فالعشر مع الخراج ل يجتمعان في أرض واحدة‪.‬‬ ‫فقد ُروي عن ابن مسعود عن النبي صلى ا عليه وسلم أنه‬ ‫عشر وخراج على أرض مسلم(‪ .‬ولم يأخذ أحد‬ ‫ل يجتمع ُ‬ ‫قال ‪) :‬‬ ‫عشرا‪ .‬والقول بوجوب‬ ‫من الئمة وولة الجور من أرض السواد ُ‬ ‫العشر في الرض الخراجية يخالف الحديث ويخالف الجماع‪.‬‬ ‫وإذا اشترى أرضا عشرية أو أرضا خراجية للتجارة يجب في‬ ‫الرض العشرية العشر ويجب في الرض الخراجية الخراج‪ ،‬ول‬ ‫يجب زكاة التجارة فيها‪ ،‬لن سبب الوجوب في الكل واحد وهو‬ ‫الرض‪ ،‬ولنه ل يجب حقان بسبب مال واحد كزكاة السائمة مع‬ ‫التجارة‪ .‬وعلى ذلك فل يجتمع العشر والزكاة ول الخراج والزكاة‬ ‫ول العشر والخراج‪.‬‬ ‫والخراج ل يتغير بتغير المالك‪ ،‬كما أن العشر ل يتغير بتغير‬ ‫ي أرضا عشرية من مسلم فعليه العشر‬ ‫المالك‪ .‬فلو اشترى ذّم ّ‬ ‫لن كل أرض ابتدأت بضرب حق عليها ل يتبدل الحق بتبدل‬ ‫المالك‪ .‬فلو اشترى مسلم أرضا خراجية من ذمي فعليه الخراج‪،‬‬ ‫لن كل واحد من العشر والخراج مؤونة الرض فهو الواجب على‬ ‫الرض ول تعلق له بالمالك‪.‬‬ ‫وقد كان رأي الزبير وبلل في الرض التي ُتفتح عنوة أن‬ ‫سم على المحاربين‪ .‬أّما الزبير‬ ‫تكون كالموال المنقولة غنائم ُتق َ‬ ‫فقد رأى ذلك في أرض مصر‪) ،‬فإنه لما افُتتحت مصر بغير عهد‬ ‫قام الزبير فقال‪ :‬يا عمرو بن العاص اقسمّنها‪ .‬فقال عمرو ‪:‬ل‬ ‫أقسمها‪ .‬فقال الزبير‪ :‬لتقسمّنها كما قسم رسول ا صلى ا‬ ‫عليه وسلم خيبر‪ .‬فقال عمرو ‪:‬ل أقسمها حتى أكتب إلى أمير‬ ‫المؤمنين‪ .‬فكتب إلى عمر‪ .‬فكتب إليه عمر أن دعها حتى يغزو‬ ‫منها حبل الحبلة(‪ .‬قال أبو عبيد‪ :‬أراه أراد أن تكون فيئا موقوفا‬ ‫للمسلمين ما تناسلوا‪ ،‬يرثه قرن عن قرن فتكون قوة لهم على‬ ‫عدوهم‪.‬‬ ‫وقد حصل هذا الخلف في سواد العراق‪ .‬فإن عمر كتب‬ ‫إلى سعد بن أبي وقاص يوم افتتح العراق )أّما بعد‪ ،‬فقد بلغني‬ ‫كتابك‪ .‬إن الناس قد سألوا أن نقسم بينهم غنائمهم وما أفاء ا‬ ‫عليهم‪ ،‬فانظر ما أجلبوا عليك في العسكر من كراع أو مال‬ ‫‪-177-‬‬


‫فاقسمه بين من حضر من المسلمين واترك الرضين والنهار‬ ‫لعمالها ليكون ذلك في أعطيات المسلمين فإنا لو قسمناها بين‬ ‫من بعدهم شيء(‪.‬‬ ‫ضر لم يكن ِل َ‬ ‫ح َ‬ ‫من َ‬ ‫وحديث الحجاج الذي حصل في الخراج كما رواه أبو يوسف‬ ‫في كتاب الخراج هو‪ :‬أن عمر بن الخطاب رضي ا تعالى عنه‬ ‫استشار الناس في السواد حين افُتتح‪ ،‬فرأى عامتهم أن يقسمه‪،‬‬ ‫وكان بلل بن رباح ِمن أشّدهم في ذلك‪ .‬وكان رأي عمر رضي‬ ‫ا عنه أن يتركه ول يقسمه‪ ،‬فقال‪ :‬اللهم اكفني بلل ً وأصحابه‪.‬‬ ‫ومكثوا في ذلك يومين أو ثلثة أو دون ذلك‪ .‬قال عمر‪ :‬إني‬ ‫وجدت حجة قال ا تعالى في كتابه‪) :‬وما أفاء ا على رسوله‬ ‫منهم فما أوجفتم عليه من خيل ول ِركاب ولكن ا يسلط رسله‬ ‫على من يشاء وا على كل شيء قدير( حتى فرغ من شأن‬ ‫بني النضير‪ ،‬فهذه عامة في القرى كلها ثم قال‪) :‬ما أفاء ا على‬ ‫رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى‬ ‫والمساكين وابن السبيل كيل يكون ُدولة بين الغنياء منكم وما‬ ‫آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا واتقوا ا إن ا‬ ‫شديد العقاب(‪ ،‬ثم قال‪) :‬للفقراء المهاجرين الذين ُأخرجوا من‬ ‫ديارهم وأموالهم يبتغون فضل ً من ا ورضوانا وَينصرون ا‬ ‫ورسوله أولئك هم الصادقون(‪ ،‬ثم لم يرض حتى خلط بهم‬ ‫غيرهم فقال‪) :‬والذين تبوؤوا الدار واليمان ِمن َقبلهم يحّبون من‬ ‫هاجر إليهم ول يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون‬ ‫ح نفسه فأولئك‬ ‫ش ّ‬ ‫ق ُ‬ ‫على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يو َ‬ ‫غنا وا أعلم للنصار خاصة‪ .‬ثم لم‬ ‫هم المفلحون(‪ ،‬فهذا فيما بَل َ‬ ‫يرض حتى خلط بهم غيرهم فقال‪) :‬والذين جاءوا من بعدهم‬ ‫يقولون ربنا اغفر لنا ولخواننا الذين سبقونا باليمان ول تجعل‬ ‫غل ً للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم(‪ ،‬فكانت هذه‬ ‫في قلوبنا ِ‬ ‫عامة لمن جاء ِمن بعدهم‪ .‬فقد صار الفيء بين هؤلء جميعا‪.‬‬ ‫فكيف نقسمه لهؤلء وندع َمن تخّلف بعدهم بغير قسم؟ فأجمع‬ ‫على تركه وجمع خراجه‪ .‬وقد استشار المهاجرين الّولين‬ ‫فاختلفوا‪ .‬فأما عبدالرحمن بن عوف رضي ا تعالى عنه فكان‬ ‫رأيه أن ُتقسم لهم حقوقهم‪ ،‬ورأى عثمان وعلي وطلحة وابن‬ ‫عمر رضي ا عنهم رأي عمر‪ ،‬فأرسل إلى عشرة من النصار‬ ‫خمسة من الوس وخمسة من الخزرج من كبرائهم وأشرافهم‪،‬‬ ‫‪-178-‬‬


‫ما اجتمعوا حمد ا وأثنى عليه بما هو أهله ثم قال‪ :‬إني لم‬ ‫فل ّ‬ ‫ت من أموركم‪،‬‬ ‫أزعجكم إل ّ أن تشتركوا في أمانتي فيما حمل ُ‬ ‫فإني واحد كأحدكم وأنتم اليوم تقّرون بالحق‪ ،‬خالفني من‬ ‫خالفني ووافقني من وافقني‪ ،‬ولست أريد أن تتبعوا هذا الذي هو‬ ‫هواي‪ ،‬معكم من ا كتاب ينطق بالحق‪ ،‬فوا لئن كنت نطق ُ‬ ‫ت‬ ‫بأمر أريده ما أريد به إل ّ وجه الحق‪ .‬قالوا ‪ُ:‬قل نسمع يا أمير‬ ‫المؤمنين‪ .‬قال‪ :‬قد سمعتم كلم هؤلء القوم الذين زعموا أني‬ ‫أظلمهم حقوقهم‪ ،‬وأني أعوذ بالله أن أركب ظلما‪ ،‬لئن كنت‬ ‫ظلمتهم شيئا هو لهم وأعطيته غيرهم فقد شقيت‪ .‬ولكن رأيت‬ ‫أنه لم يبق شيء ُيفتح بعد أرض كسرى وقد غنمنا ا أموالهم‬ ‫وأرضهم وعلوجهم فقسمت ما غنموا من أموال بين أهله‬ ‫ت‬ ‫وأخرجت الخمس فوجهته على وجهه وأنا في توجيهه‪ .‬وقد رأي ُ‬ ‫أن أحبس أرضين بعلوجها وأضع عليهم فيها الخراج وفي رقابهم‬ ‫الجزية يؤدونها فتكون فيئا للمسلمين المقاِتلة والذّرّية ولمن يأتي‬ ‫بعدهم‪ .‬أرأيتم هذه الثغور ل بد لها من رجال َيلَزمونها‪ ،‬أرأيتم‬ ‫هذه المدن العظام –كالشام والجزيرة والكوفة والبصرة ومصر‪-‬‬ ‫من أين‬ ‫ل بد لها أن ُتشحن بالجيوش وادوار العطاء عليهم‪ .‬ف ِ‬ ‫يعطى هؤلء إذا قسمت الرضون والعلوج؟ فقالوا جميعا‪ :‬الرأي‬ ‫رأيك‪ ،‬فِنعم ما قلت ورأيت‪ ،‬إن لم ُتشحن هذه الثغور وهذه‬ ‫المدن بالرجال وُتجرى عليهم ما يتقّوون به رجع أهل الكفر إلى‬ ‫من رجل له جزالة وعقل يضع‬ ‫مدنهم‪ .‬فقال‪ :‬بان لي المر‪ ،‬ف َ‬ ‫معوا له‬ ‫الرض مواضعها ويضع على العلوج ما يحتملون؟ فاجت َ‬ ‫صرا وعقل ً‬ ‫على عثمان بن حنيف تبعث إلى أهم ذلك فإن له بَ َ‬ ‫له مساحة أرض السواد(‪.‬‬ ‫وتجربة‪ .‬فأسرع إليه عمر فو ّ‬ ‫ومن ذلك يتبين أن عمر اتبع آية من كتاب ا فعمل بها‪،‬‬ ‫كمة‪ ،‬وهذا حكم شرعي له دليله وهو أقوى من‬ ‫وهي آية ُمح َ‬ ‫دليل بلل وصحبه لسببين اثنين‪ :‬أحدهما أن أرض خيبر لم‬ ‫يقسمها الرسول بين أصحابه حين غنمها‪ ،‬وإّنما أبقاها بيد أهلها‬ ‫وصار يأخذ نصف ناتجها ويرسل من يخرصه له سنويا –باعتباره‬ ‫رئيس دولة‪ -‬ليوضع في بيت المال ل ليعطى على المقاتلين في‬ ‫ما جاء عمر وأجلى اليهود‪ ،‬قسمها على المسلمين حينئذ‪،‬‬ ‫خيبر‪ .‬ول ّ‬ ‫فل يقوى الستدلل بأرض خيبر على هذا الوجه على الية‪ .‬وأّما‬ ‫ما رواه البخاري عن أسلم مولى عمر قال‪ :‬قال عمر‪) :‬أَما والذي‬ ‫‪-179-‬‬


‫نفسي بيده لول أن أترك آخر الناس بّبانا "أي شيئا واحدَا" ليس‬ ‫ي قرية إل ّ قسمتها كما قسم رسول‬ ‫لهم من شيء ما ُفتحت عل ّ‬ ‫ا صلى ا عليه وسلم خيبر‪ ،‬ولكن أتركها خزانة لهم‬ ‫سم أرض خيبر‪ ،‬لن الواقع أنه‬ ‫يقتسمونها(‪ ،‬فإنه ل يدل على أنه َق َ‬ ‫لم يقسمها وإّنما هو قسم غّلتها على المسلمين وليس على‬ ‫سر ذلك حديث آخر‪ ،‬فقد روى أحمد عن بشير بن‬ ‫المقاِتلين‪ ،‬وقد ف ّ‬ ‫يسار عن رجال من أصحاب النبي صلى ا عليه وسلم أدركهم‬ ‫يذكرون أن رسول ا صلى ا عليه وسلم حين ظهر على خيبر‬ ‫قسمها على ستة وثلثين سهما جمع كل سهم مائة سهم فجعل‬ ‫نصف ذلك كله للمسلمين فكان في ذلك النصف سهام المسلمين‬ ‫وسهم رسول ا صلى ا عليه وسلم معها‪ ،‬وجعل النصف‬ ‫الخر لمن ينزل به من الوفود والمور ونوائب الناس(‪ .‬وهذا‬ ‫الحديث ُيفهم منه أن الذي ُقسم هو خراج الرض وليس الرض‪،‬‬ ‫ويؤيد هذا أن الرض كانت تحت اليد هم الذين يتولون زراعتها‬ ‫ويجبي الرسول خراجها فيقسمه على النحو الذي ورد في‬ ‫الحديث‪.‬‬ ‫والسبب الثاني هو أن العلة التي أتى بها عمر‪ ،‬وهي افتراق‬ ‫الرض عن المال المنقول بأنها غلة دائمة لبيت المال لشحن‬ ‫الثغور والنفاق على الجيوش كافية لن تجعل حكم الرضين‬ ‫غير حكم الموال‪ ،‬وهو ما سار علي عمر‪ .‬وهذا هو الحكم‬ ‫الشرعي في الرض التي ُتفتح عنوة‪ ،‬ومثلها الرض التي ُفتحت‬ ‫صلحا‪ ،‬ولكن لم ينص عليها شيء يتعلق بها في شروط الصلح‬ ‫وهو فرض خراج على الرض‪ .‬وليس الحكم تْرك المر لمير‬ ‫المؤمنين‪ ،‬فإن عمر كان أمير المؤمنين ولم ُيترك المر له‪ ،‬وإّنما‬ ‫اّتبع فيه الحكم الشرعي‪ ،‬وجاء عمر بدليله كأي مجتهد ل باعتباره‬ ‫أمير المؤمنين‪.‬‬ ‫والتفريق بين الرض الخراجية والعشرية إّنما يظهر بالنسبة‬ ‫لعين ما ُيمَلك‪ ،‬وبالنسبة لما يجب عليه في الرض‪ ،‬ول يظهر في‬ ‫غير ذلك‪ .‬فبالنسبة لما يجب عليه فإنه يجب في الرض العشرية‬ ‫العشر‪ ،‬أي تجب فيها الزكاة على عين الخارج إذا بلغ نصابا‪ ،‬ويجب‬ ‫في الرض الخراجية الخراج أي المقدار الذي تعّينه الدولة سنويا‬ ‫عليها‪ ،‬سواء ُزرعت أم لم ُتزرع‪ ،‬أنبتت أم لم ُتنِبت‪ .‬وأّما بالنسبة‬ ‫لعين ما ُيمَلك فالرض العشرية يملك مالكها رقبتها ومنفعتها معا‪،‬‬ ‫‪-180-‬‬


‫والرض الخراجية يملك مالكها منفعتها فقط ول يملك رقبتها‪.‬‬ ‫ويترتب على ذلك أن مالك الرض الخراجية إذا أراد أن يوِقف‬ ‫أرضه التي يملكها ل يستطيع ذلك‪ ،‬لن الوقف ُيشترط فيه أن‬ ‫يكون الواقف مالكا لعين ما َيِقُفه‪ ،‬ومالك الرض الخراجية ل‬ ‫يملك عين الرض أي رقبتها وإّنما يملك منفعتها لن رقبتها ملك‬ ‫لبيت المال‪ .‬بخلف مالك الرض العشرية فإنه يستطيع أن يقف‬ ‫أرضه التي يملكها في أي وقت يشاء لنه يملك عينها أي رقبتها‪.‬‬ ‫أّما باقي أحكام الراضي فإنه ل فرق فيها بين الرض العشرية‬ ‫والرض الخراجية‪ ،‬فل يجوز تأجير الرض للزراعة‪ ،‬عشرية كانت‬ ‫أم خراجية‪ ،‬وإذا أهمل الشخص أرضه ثلث سنوات ُأخذت منه‬ ‫دون مقابل‪ ،‬أي من غير أن ُيدفع له شيء‪ ،‬ل فرق بين الرض‬ ‫العشرية والرض الخراجية‪ ،‬وإذا وضعت الدولة يدها على الرض‬ ‫للمراعي أو الحراش أو لنه يوجد فيها معدن ل ينقطع‪ ،‬وكذلك‬ ‫إذا أخَذتها من صاحبها برضاه بسبب من السباب الشرعية‪ ،‬فإنها‬ ‫في كلتا الحالتين تدفع له ثمنها ل فرق في ذلك بين الرض‬ ‫الخراجية والرض العشرية‪ .‬وهكذا سائر أحكام الراضي‪.‬‬

‫دار الكفر ودار السلم‬ ‫الدار في اللغة‪ :‬المحل والمسكن والبلد‪ .‬وُتطلق الدار في‬ ‫اللغة على القبيلة‪ .‬ودار الحرب أرض العدو‪ .‬ول خلف في أن‬ ‫بلد الكفار التي يسكنها الكفار ويحكمون فيها بالكفر هي دار‬ ‫حرب ودار كفر‪ .‬وكذلك ل خلف في أن أرض المعركة التي‬ ‫غنمها المسلمون ولم يقيموا بعد فيها أحكام السلم هي دار‬ ‫حرب ودار كفر ولو كانت تحت يد المسلمين‪ ،‬ولذلك يقول‬ ‫الفقهاء‪" :‬وإذا ُقسمت الغنائم في دار الحرب جاز لمن أخذ سهمه‬ ‫التصرف فيه بالبيع وغيره"‪.‬‬ ‫وكلمة دار الحرب ودار الكفر بمعنى واحد تطلقان على بلد‬ ‫العدو وعلى أرض المعركة‪ .‬وكذلك ل خلف في أن دار السلم‬ ‫هي البلد التي تخضع لحكم السلم ويحكمها المسلمون سواء‬ ‫أكان سكانها مسلمين أو كانوا ذميين‪ .‬وقال الفقهاء أيضا إن دار‬ ‫الكفر تصير دار إسلم بظهور أحكام السلم فيها‪.‬‬ ‫غير أنهم اختلفوا في دار السلم بماذا تصير دار السلم‬ ‫‪-181-‬‬


‫دار كفر‪ .‬فقال بعض المجتهدين إن دار السلم ل تصير دار كفر‬ ‫إل ّ بثلث شرائط‪ :‬أحدها ظهور أحكام الكفر فيها‪ ،‬والثاني أن‬ ‫تكون متاخمة لدار الكفر‪ ،‬والثالث أن ل يبقى فيها مسلم ول ذمي‬ ‫آمن بالمان الول‪ ،‬وهو أمان المسلمين‪ .‬وهذا القول ليس مبنيا‬ ‫على دليل وإّنما هو وصف لواقع الدار‪ .‬فالظاهر أنه حين جرى‬ ‫القتال بين المسلمين والكفار‪ ،‬وأخذ الكفار أرض المسلمين وظل‬ ‫الحرب عليها اعُتبرت هذه الحالة أن دار السلم دار كفر واقُتصر‬ ‫عليها‪ .‬وقال بعض المجتهدين إن دار السلم تصير دار كفر‬ ‫بظهور أحكام الكفر فيها‪ .‬ووجه هذا القول أن قولنا دار السلم‬ ‫ودار الكفر إضافة إلى السلم وإلى الكفر‪ ،‬وإّنما تضاف الدار إلى‬ ‫السلم أو إلى الكفر بظهور السلم أو الكفر فيها‪ ،‬كما تسمى‬ ‫الجنة دار السلم والنار دار البوار لوجود السلمة في الجنة والبوار‬ ‫في النار‪ ،‬وظهور السلم والكفر بظهور أحكامهما‪ ،‬فإذا ظهرت‬ ‫حت الضافة‪ .‬ولهذا‬ ‫أحكام الكفر في دار فقد صارت دار كفر فص ّ‬ ‫صارت الدار دار إسلم بظهور أحكام السلم فيها من غير‬ ‫شريطة أخرى‪ ،‬فكذا تصير دار الكفر بظهور أحكام الكفر فيها‪.‬‬ ‫وما دام المر يتعلق بواقع الدار فإن مسألة كون الدار‬ ‫متاخمة لدار الكفر أي دار الحرب‪ ،‬أو غير متاخمة لها فل محل له‬ ‫من العتبار لن ثغور البلد السلمية كلها متاخمة لدار الحرب أي‬ ‫دار الكفر‪ ،‬ومع ذلك فهي دار إسلم بإجماع الصحابة‪ .‬فلو كان‬ ‫ذلك شرطا لصبحت جميع الثغور دار كفر‪ .‬وأيضا فإن عدم اعتبار‬ ‫المان‪ ،‬أمان المسلمين‪ ،‬شرطا في جعل الدار دار إسلم يؤدي‬ ‫إلى اعتبار البلد السلمية الخاضعة لنفوذ الكفار وأمانهم إذا‬ ‫حكمت بالسلم دار سلم‪ ،‬مع أن المسلمين في أمان الكفار ل‬ ‫في أمان المسلمين‪ .‬ولذلك كان واقع الدار ل يؤدي إلى أن‬ ‫القتصار على ظهور أحكام السلم وحدها دون المان يجعلها‬ ‫دار إسلم‪ ،‬وإن كان يجعلها دار كفر‪.‬‬ ‫والحق أن اعتبار الدار دار إسلم أو دار كفر ل بد أن ُينظر‬ ‫فيه إلى أمرين‪ :‬أحدهما الحكم بالسلم‪ ،‬والثاني المان بأمان‬ ‫ن توّفر في الدار هذان العنصران أي‬ ‫المسلمين أي بسلطانهم‪ .‬فإ ْ‬ ‫أن ُتحكم بالسلم وأن يكون أمانها بأمان المسلمين أي‬ ‫بسلطانهم كانت دار إسلم وتحولت من دار كفر إلى دار إسلم‪.‬‬ ‫أّما إذا فقدت أحدهما فل تصير دار إسلم‪ .‬وكذلك دار السلم إذا‬ ‫‪-182-‬‬


‫حكمت‬ ‫لم ُتحكم بأحكام السلم فهي دار كفر‪ ،‬وكذلك إذا ُ‬ ‫بالسلم ولكن لم يكن أمانها بأمان المسلمين أي بسلطانهم‪ ،‬بأن‬ ‫كان أمانها بأمان الكفار أي بسلطانهم‪ ،‬فإنها تكون أيضا دار كفر‪.‬‬ ‫وعلى هذا فإن جميع بلد المسلمين اليوم هي دار كفر‪ ،‬لنها ل‬ ‫تحكم بالسلم‪ .‬وكذلك تبقى دار كفر لو أقام فيها الكفار مسلما‬ ‫يحكم بأحكام السلم ولكن يكون تحت سلطانهم ويكون أمانه‬ ‫بأمانهم‪ ،‬فإنها تظل دار كفر‪ .‬وحتى تتحول بلد المسلمين إلى دار‬ ‫إسلم يجب أن يقام فيها حكم السلم وأن يكون أمانها بأمان‬ ‫المسلمين أي بسلطانهم‪ .‬وعلى هذا فإن واقع الدار يدل على أنها‬ ‫توصف بالكفر أو السلم باعتبار الحكم وباعتبار المان لنه جزء‬ ‫من مقتضيات الحكم‪ ،‬فإذا فقدت دار السلم حكم السلم‪ ،‬أو‬ ‫فقدت المان بأمان المسلمين‪ ،‬صارت دار كفر بفقدان أي واحدة‬ ‫منهما‪ .‬فشرط بقاء الدار دار إسلم هو حكمها بالسلم‪ ،‬وأمانها‬ ‫بأمان المسلمين‪ .‬أّما دار الكفر فل تصبح دار إسلم إل ّ إذا حكمت‬ ‫بالسلم وصار أمانها بأمان المسلمين‪ ،‬فإذا لم يتوفر هذان‬ ‫المران بقيت دار كفر‪ .‬فالحكم بالسلم والمان بأمان المسلمين‬ ‫أمران متلزمان بالنسبة لوصف الدار بكونها دار إسلم‪.‬‬ ‫والحاصل أن كون الدار دار كفر أو دار إسلم تتعلق بواقع‬ ‫الدار‪ .‬والدار في اللغة تطلق على القبيلة‪ ،‬ودار الحرب أرض‬ ‫العدو‪ .‬فنقول دار الحرب ودار إسلم‪ ،‬ونقول دار كفر ودار إسلم‪،‬‬ ‫وكلهما بمعنى واحد‪ .‬وذلك أن المسلمين مأمورون بالحرب أي‬ ‫القتال حتى يقول الناس ل إله إل ّ ا‪ ،‬أو حتى يخضعوا لحكام‬ ‫السلم‪ ،‬فإن خضعوا لحكام السلم ُرفع عنهم القتال ولو ظلوا‬ ‫كفارا‪ ،‬وإن لم يدخلوا تحت حكم السلم يحاَربون‪ .‬فسبب حربهم‬ ‫كونهم كفارا لم يستجيبوا للدعوة‪ ،‬وسبب وقف القتال قبولهم‬ ‫الحكم بالسلم‪ ،‬فإذا حكموا بالسلم وظلوا كفارا‪ ،‬فقد ُوجد‬ ‫سبب وقف القتال ووجب إنهاء الحرب‪ ،‬مما يدل على أن حكمهم‬ ‫بالسلم هو الذي حّول بلدهم من دار حرب إلى دار إسلم‪،‬‬ ‫فيكون الحكم بالسلم هو الذي يتوقف عليه دوام الحرب أو‬ ‫وقفها‪ ،‬مما يدل على أن الوصف الذي يعّين كون الدار دار إسلم‬ ‫أو دار كفر هو الحكم بالسلم‪ ،‬ومعنى كونه حكما أي سلطانا‪،‬‬ ‫أن يكون المان الداخلي والخارجي به‪ ،‬أي بسلطان السلم‪ ،‬وإل ّ‬ ‫فقد ميزته بوصفه حكما‪.‬‬ ‫‪-183-‬‬


‫وعليه فالحكم بالسلم والمان الذي هو لزم من لوازمه‪،‬‬ ‫هما اللذان يعّينان وصف الدار من كونها دار إسلم أو دار حرب‪.‬‬ ‫كم‬ ‫والدليل على ذلك أيضا أن الخليفة أي رئيس الدولة إذا لم يح ّ‬ ‫كم بأحكام الكفر‪ ،‬كان فرضا على المسلمين أن‬ ‫ح َ‬ ‫السلم و َ‬ ‫يحاربوه حتى يحكم بالسلم‪ .‬وكذلك فإن المسلمين إذا تركوا‬ ‫أحكام السلم كان فرضا على المام أن يحاربهم حتى يرجعوا‬ ‫لحكام السلم‪ .‬وهذا أيضا صريح في كون الحكم بالسلم‬ ‫يترتب عليه الحرب لمن لم يحكم به ولو كانوا مسلمين‪ .‬وهو يدل‬ ‫على العلمة التي ُيعرف بها أن الدار دار حرب‪ .‬ودار الكفر ودار‬ ‫الحرب بمعنى واحد‪ ،‬على إضافة الدار إلى مضاف معين هو‬ ‫وصفها‪ ،‬فدار الكفر مضافة إلى الكفر‪ ،‬والدار ل توصف بالكفر‬ ‫فيكون وصف حكمها‪ .‬وكذلك دار السلم ل توصف بالسلم‬ ‫وإّنما يوصف حكمها‪ .‬ول يقال‪ :‬يوصف أهلها‪ ،‬لن الدار ل ُتطلق‬ ‫على الناس وإّنما تطلق على البلد التي يسكنونها‪ ،‬فُتطلق على‬ ‫القبيلة ويراد وضع القبيلة‪ ،‬وُتطلق على البلد ويراد وضع البلد‪.‬‬ ‫علوة على أن بلدا مفتوحة ل يزال كل أهلها كفارا وتحكم‬ ‫بالسلم فإنها تكون دار إسلم قطعا‪ ،‬مما يدل على أن الوصف‬ ‫ليس لهلها وإّنما لحكمها‪.‬‬

‫موالة المؤمنين للكفار‬ ‫ل يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون‬ ‫قال ا تعالى ‪) :‬‬ ‫المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من ا في شيء إل ّ أن َتّتقوا‬ ‫منهم ُتقاة ويحّذركم ا نفسه وإلى ا المصير(‪ ،‬وقرأ يعقوب‬ ‫وسهل ُتقية‪ ،‬وهو قراءة الحسن ومجاهد والباقون ُتقاه‪ .‬قال في‬ ‫القاموس المحيط‪" :‬والتوقية الكلءة والحفئ واّتقيت الشيء‬ ‫وتقيته اّتقيته وأّتقيه ُتقى وُتقية وِتقاء ككساء حذرته"‪ .‬فهذا النص‬ ‫في الية يعين موضوعها‪ ،‬وهذا المعنى اللغوي لكلمة تقية يعّين‬ ‫ما تعنيه هذه الكلمة في هذه الية من معنى لنه لم يثبت لها‬ ‫معنى شرعي فيتعين تفسيرها بالمعنى اللغوي‪ ،‬وعلى هذا‬ ‫الساس وحده ُتفهم الية جملة وتفصيل ً‪ .‬وأّما ما ورد في أسباب‬ ‫شد إلى تفصيلت ما ورد في‬ ‫حت ُتر ِ‬ ‫نزولها من أحاديث فإنها إن ص ّ‬ ‫الية‪ ،‬ولكنها ل تغير موضوعها ول معاني جملها حسب مدلولت‬ ‫‪-184-‬‬


‫اللغة والشرع‪ .‬وموضوع الية الواضح في جملها هو موالة‬ ‫المؤمنين للكافرين أي مصادقتهم‪ .‬فالنص هو ل) يتخذ المؤمنون‬ ‫الكافرين أولياء من دون المؤمنين(‪ ،‬وإذا وردت آية أو أحاديث في‬ ‫موضوع معين تكون خاصة في هذا الموضوع ول تشمل غيره‪،‬‬ ‫فالقضية قضية موالة المؤمنين للكافرين قد جاءت الية تنهى‬ ‫عنها نهيا جازما‪.‬‬ ‫وهذه ليست الية الوحيدة في هذا الموضوع‪ ،‬فقد وردت‬ ‫شر المنافقين بأن لهم عذابا‬ ‫فيه آيات عديدة كقوله تعالى‪) :‬ب ّ‬ ‫أليما‪ .‬الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين(‪ ،‬وقوله‬ ‫تعالى‪) :‬يا أيها الذين آمنوا ل تتخذوا الكافرين أولياء من دون‬ ‫خر‬ ‫ل تجد قوما يؤمنون بالله واليوم ال ِ‬ ‫المؤمنين(‪ ،‬وقوله تعالى ‪) :‬‬ ‫ل تتخذوا اليهود والنصارى‬ ‫يواّدون من حاّد ا ورسوله(‪ ،‬وقوله ‪) :‬‬ ‫ل تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء(‪ ،‬إلى غير ذلك‬ ‫أولياء(‪ ،‬وقوله ‪) :‬‬ ‫من اليات‪ .‬فالموضوع موضوع موالة المؤمنين للكافرين‪ .‬وباقي‬ ‫الية تفصيل للموضوع‪ ،‬ذلك أن ا تعالى نهى المؤمنين عن‬ ‫اتخاذ الكافرين أولياء لهم وَقَرن هذا النهي بالجزم القاطع بأن‬ ‫من يفعل ذلك فيتخذ الكافرين أولياء فإن ا بريء منه‪ ،‬ثم‬ ‫استثنى من هذا النهي الجازم حالة واحدة وهي أن يحذر المؤمن‬ ‫من الكافر أذى فإنه يجوز له موالة الكافر دفعا لهذا الذى‪ ،‬وهذا‬ ‫إذا كان المسلم تحت سلطان الكفار مغلوبا على أمره‪ .‬أي أن‬ ‫الحذر من الكافر يجيز موالته‪ ،‬فإذا ذهب الحذر حرمت الموالة‪.‬‬ ‫وعلى ذلك فإن القضية ليست إظهار الموالة وإبطان‬ ‫غيرها بل القضية استثناء حالة حذر المؤمن للكافر حين يكون‬ ‫المسلم مغلوبا على أمره من عموم تحريم موالته له‪ .‬ومعنى‬ ‫الية هو نهي جازم للمؤمنين أن يتخذوا الكافرين أولياء لهم وأن‬ ‫يستعينوا بهم ويلتجئوا إليهم وأن يصادقوهم وتكون بينهم وبينهم‬ ‫محبة‪ .‬فحرم على المؤمنين موالة الكافرين من دون المؤمنين‪،‬‬ ‫ثم استثنى من ذلك حالة واحدة وهي أنه في حالة وجود خوف‬ ‫منهم عندما يكونون تحت سلطانهم فإنه يجوز إظهار المحبة لهم‬ ‫ومصادقتهم لدفع شّرهم وأذاهم‪ .‬أي يجوز أن ُيتخذوا أولياء أي‬ ‫أصدقاء في حالة وجود خوف منهم عندما يكونون تحت حكمهم‪،‬‬ ‫وما عدا ذلك ل يجوز مطلقا‪ .‬وهذا بالنسبة للكفار فقط مع‬ ‫المؤمنين‪ ،‬فإن الية نزلت في شأن المؤمنين الذين كانت لهم‬ ‫‪-185-‬‬


‫صلت بالمشركين في مكة‪ ،‬فهي تنهى الذين في المدينة عن‬ ‫موالة المشركين في مكة وتنهى جميع المؤمنين وتستثني من‬ ‫ذلك المؤمنين الذين كانوا في مكة فإنهم كانوا مغلوبين على‬ ‫أمرهم فاستثنتهم لوجود حالة خوف لديهم من أذى الكافرين‪.‬‬ ‫هذا هو موضوع الية‪ ،‬وهذا هو معناها‪ ،‬وهذا هو الحكم‬ ‫الشرعي الذي يستنَبط منها وهو تحريم موالة المؤمنين للكفار‬ ‫بجميع أنواع الموالة من ُنصرة وصداقة واستعانة وغير ذلك‪ ،‬لن‬ ‫كلمة )أولياء( في الية جاءت عامة فتشمل جميع معانيها‪ ،‬وجواز‬ ‫موالتهم في حالة حذرهم أي خوف بطشهم وأذاهم عندما‬ ‫يكون الكفار غالبين على المسلمين ويكون المسلمون مغلوبين‬ ‫على أمرهم‪ ،‬تماما كحالة المسلمين في مكة مع المشركين‪ .‬ول‬ ‫يوجد للية معنى آخر ول ُيستنَبط منها أي حكم سوى هذا الحكم‪.‬‬ ‫وأّما ما يقوله البعض من أن التقية هي أن ُيظهر المسلم‬ ‫خلف ما يبطن أمام أي إنسان يحذر منه أذى أو يخشى منه‬ ‫معرفة حقيقته وما في نفسه سواء أكان ذلك النسان كافرا أو‬ ‫مسلما‪ ،‬فهذا القول خطأ محض‪ ،‬والية ل تدل على شيء منه‪،‬‬ ‫لن معنى )إل ّ أن تّتقوا منهم ُتقاة( أي إل ّ أن تحذروا منهم شيئا‬ ‫ت الشيء ُتقيًة حذرته‪ ،‬والتقاة والتقية‬ ‫ُيحذر منه‪ ،‬إذ معنى اّتقي ُ‬ ‫بمعنى واحد‪ .‬وهذا مستثنى من النهي عن موالة المؤمنين‬ ‫للكافرين من دون المؤمنين‪ ،‬فهو خاص بما استثني منه‪.‬‬ ‫وعلى ذلك فإن إظهار المحبة للحاكم المسلم خوفا من أذاه‬ ‫وهو ظالم فاسق يحكم بالكفر حرام‪ ،‬وكذلك إظهار المحبة‬ ‫للمسلم المخالف لك في الرأي وإبطان البغضاء له حرام‪،‬‬ ‫والتظاهر بعدم التقيد بالسلم أو عدم العناية به أمام الكافر أو‬ ‫أمام الفاسق الظالم ل يجوز‪ ،‬فإن كل ذلك وما شاكله نفاق قد‬ ‫حّرمه الشرع على المسلمين‪ .‬إذ أن موضوع )إل ّ أن تّتقوا منهم‬ ‫ُتقاة( محصور في واقعة حالة المسلمين الذين كانوا في مكة‬ ‫بين المشركين‪ ،‬أي محصور في حالة وجود المسلمين تحت‬ ‫سلطان الكفار ول ِقبل لهم بإزالة سلطانهم‪ ،‬أي مغلوبين على‬ ‫أمرهم‪ ،‬فإنه يجوز لهم موالة الكفار حذرا مما ُيحذر منه عليهم‪،‬‬ ‫سواء أكان على نفوسهم أو أموالهم أو أعراضهم أو مصالحهم‪،‬‬ ‫ففي هذه الحالة فقط يجوز اتخاذ الكافرين أولياء من دون‬ ‫المؤمنين‪ .‬فكل ما كان داخل ً تحت هذه الحالة يجوز للمسلمين‬ ‫‪-186-‬‬


‫أن يتخذوا الكافرين أولياء‪ ،‬وما عداها فل يجوز‪ .‬فالقضية هي‬ ‫بيان الحالة التي يجوز فيها للمؤمنين أن يوالوا الكافرين وهي إذا‬ ‫كان المسلمون مغلوبين على أمرهم أمام الكفار بأن كانوا تحت‬ ‫سلطانهم أو حكمهم وليست شيئا آخر مطلقا‪.‬‬ ‫قال محمد بن جرير الطبري في تفسيره‪" :‬القول في تأويل‬ ‫ل يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء( إلى قوله‪) :‬إل ّ أن تّتقوا‬ ‫قوله ‪) :‬‬ ‫ي من ا عز وجل المؤمنين‬ ‫منهم ُتقاة( قال أبو جعفر‪ :‬وهذا نه ٌ‬ ‫أن يتخذوا الكفار أعوانا وأنصارا وأظهارا‪ ،‬ولذلك كسر يتخذ لنه‬ ‫في موضع جزم بالنهي‪ ،‬ولكنه كسر الذال معه للساكن الذي لقيه‬ ‫ساكن‪ .‬ومعنى ذلك ل تتخذوا أيها المؤمنون الكفار ظهرا وأنصارا‬ ‫توالونهم على دينهم وتظاهرونهم على المسلمين من دون‬ ‫المؤمنين وتدّلونهم على عوراتهم‪ ،‬فإنه من يفعل ذلك فليس من‬ ‫ا في شيء يعني بذلك فقد برئ من ا وا بريء منه‬ ‫بارتداده عن دينه ودخوله في الكفر‪ .‬إل ّ أن تّتقوا منهم تقاة‪ ،‬إل ّ‬ ‫أن تكونوا في سلطانهم فتخافوهم على أنفسكم فُتظهروا لهم‬ ‫الولية بألسنتكم وتضمروا لهم العداوة ول تشايعوهم على ما‬ ‫هم عليه من الكفر‪ ،‬ول تعينوهم على مسلم بفعل كما‪:‬‬ ‫‪ -6825‬حدثني المثنى قال‪ :‬حدثنا عبدا بن صالح قال‪:‬‬ ‫حدثني معاوية بن صالح عن علي عن ابن عباس قوله ‪:‬ل يتخذ‬ ‫المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين إل ّ أن يكون الكفار‬ ‫ظاهرين فُيظهرون لهم اللطف ويخالفونهم في الدين‪ ،‬وذلك‬ ‫قوله‪) :‬إل أن تّتقوا منهم ُتقاة( إلى أن يقول‪ -6837 :‬حدثنا‬ ‫الحسن بن يحيى قال‪ :‬أخبرنا عبدالرازق قال‪ :‬أخبرنا معمر عن‬ ‫ل يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء(‪ .‬قال ‪:‬ل يحل‬ ‫قتادة في قوله ‪) :‬‬ ‫لمؤمن أن يتخذ كافرا وليا في دينه‪ ،‬وقوله‪) :‬إل ّ أن تّتقوا منهم‬ ‫صُله لذلك‪ ،‬قال أبو جعفر‪:‬‬ ‫ُتقاة(‪ :‬أن تكون بينك وبينه قرابة فَت ِ‬ ‫وهذا الذي قاله قتادة في تأويل له وحده وليس بالوجه الذي يدل‬ ‫عليه ظاهر الية‪ ،‬إل ّ أن تتقوا من الكافرين تقاة‪ ،‬فالغلب من‬ ‫معاني هذا الكلم إل ّ أن تخافوا منهم مخافة‪ ،‬فالتقية التي ذكرها‬ ‫جهه‬ ‫ا في هذه الية إّنما هي تقية من الكفار ل من غيرهم‪ ،‬وّو ّ‬ ‫قتادة إل ّ أن تتقوا ا من أجل القرابة التي بينكم وبينهم تقاة‬ ‫صلون رحمها‪ ،‬وليس بذلك الغالب على معنى الكلم‪ ،‬والتأويل‬ ‫فت ِ‬ ‫في القرآن على الغلب الظاهر من معروف كلم العرب‬ ‫‪-187-‬‬


‫مل فيهم"‪ ،‬انتهى كلم الطبري‪ .‬وقال أبو علي الفضل بن‬ ‫المستع َ‬ ‫الحسن الطبرسي في كتاب "مجمع البيان في تفسير القرآن"‪:‬‬ ‫ل يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون‬ ‫قوله تعالى ‪) :‬‬ ‫المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من ا في شيء إل ّ أن َتّتقوا‬ ‫منهم ُتقاة ويحّذركم ا نفسه وإلى ا المصير(‪ ،‬قرأ يعقوب‬ ‫ما بّين‬ ‫وسهل ُتقية وهو قراءة الحسن ومجاهد والباقون ُتقاة‪ ...‬ل ّ‬ ‫سبحانه أنه مالك الدنيا والخرة والقادر على العزاز والذلل نهى‬ ‫المؤمنين عن موالة من ل إعزاز عندهم ول إذلل من أعدائه‬ ‫ليكون الرغبة فيما عنده وعند أوليائه المؤمنين دون أعدائه‬ ‫الكافرين فقال ‪ :‬ل) يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء( أي ل ينبغي‬ ‫للمؤمنين أن يتخذوا الكافرين أولياء لنفوسهم وأن يستعينوا بهم‬ ‫ويلتجئوا اليوم وُيظهروا المحبة لهم كما قال في عدة مواضع من‬ ‫ل تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الخر يواّدون‬ ‫القرآن نحو قوله ‪) :‬‬ ‫ل تتخذوا اليهود والنصارى‬ ‫من حاّد ا ورسوله( الية‪ ،‬وقوله ‪) :‬‬ ‫ل تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء(‪ ،‬وقوله‪) :‬من دون‬ ‫أولياء ( )‬ ‫ي‬ ‫المؤمنين( معناه يجب أن يكون الموالة مع المؤمنين‪ ،‬وهذا نه ٌ‬ ‫ي عن‬ ‫عن موالة الكفار ومعاونتهم على المؤمنين‪ .‬وقيل نه ٌ‬ ‫ملطفة الكفار‪ .‬عن ابن عباس‪ :‬والولياء جمع الولي وهو الذي‬ ‫يأمر من ارتضى فعله بالمعونة والنصرة‪ ،‬ويجري على وجهين‪:‬‬ ‫ا ولي الذين‬ ‫معان‪ .‬فقوله ‪) :‬‬ ‫أحدهما المعين بالنصرة والخر ال ُ‬ ‫آمنوا( معناه معينهم وناصرهم بنصرته‪ ،‬ويقال المؤمن ولي ا‬ ‫أي معان بنصرته‪ ،‬وقوله‪) :‬ومن يفعل ذلك( معناه من اتخذ‬ ‫الكافرين أولياء من دون المؤمنين )فليس من ا في شيء( أي‬ ‫ليس هو من أولياء ا وا بريء منه‪ .‬وقيل ليس هو من ولية‬ ‫ا في شيء‪ .‬ثم استثنى فقال‪) :‬إل ّ أن َتّتقوا منهم ُتقاة(‬ ‫والمعنى إل ّ أن يكون الكفار غالبين والمؤمنون مغلوبين فيخافهم‬ ‫عشرة معهم‪ ،‬فعند‬ ‫المؤمن إن لم ُيظهر موافقتهم ولم يحسن ال ِ‬ ‫ذلك يجوز له إظهار موّدتهم بلسانه ومداراتهم تقية منه ودفعا عن‬ ‫نفسه من غير أن يعتقد ذلك‪ .‬وفي هذه الية دللة على أن التقية‬ ‫جائزة في الدين عند الخوف على النفس‪ .‬وقال أصحابنا جائزة‬ ‫ب من اللطف‬ ‫في المور كلها عند الضرورة وربما وجبت فيها لضر ٍ‬ ‫والستصلح‪ .‬وليس تجوز من الفعال في قتل المؤمن ول يعلم‪،‬‬ ‫أو يغلب على الظن أنه استفساد في الدين‪ .‬قال المفيد إنها قد‬ ‫‪-188-‬‬


‫تجب أحيانا ويكون فرضا‪ ،‬ويجوز أحيانا من غير وجوب‪ ،‬وتكون‬ ‫في وقت أفضل من تركها‪ ،‬وقد يكون تركها أفضل وإن كان‬ ‫فاعلها معذورا ومعفوا عنه متفضل ً عليه بترك اللوم عليها‪ .‬وقال‬ ‫الشيخ أبو جعفر الطوسي "قده"‪" :‬ظاهر الروايات تدل على أنها‬ ‫واجبة عند الخوف على النفس‪ ،‬وقد ُروي رخصة في جواز‬ ‫الفصاح بالحق عنده‪ .‬وروى الحسن )أن مسيلمة الكذاب أخذ‬ ‫رجلين من أصحاب رسول ا صلى ا عليه وآله وسلم فقال‬ ‫لحدهما‪ :‬أتشهد بأن محمدا رسول ا؟ قال‪ :‬نعم‪ .‬قال‪ :‬أفتشهد‬ ‫إني رسول ا؟ قال‪ :‬نعم‪ .‬ثم دعا بالخر فقال‪ :‬أتشهد بأن‬ ‫محمدا رسول ا؟ قال‪ :‬نعم‪ .‬قال‪ :‬أفتشهد إني رسول ا؟‬ ‫فقال‪ :‬إني أصم‪ .‬قالها ثلثا كل ذلك يجيبه بمثل الول‪ ،‬فضرب‬ ‫عنقه‪ .‬فبلغ ذلك رسول ا فقال‪ :‬أّما ذلك المقتول فمضى على‬ ‫صدقه ويقينه وأخذ بفضله فهنيئا له‪ ،‬وأّما الخر فَقِبل رخصة ا‬ ‫فل تبعة عليه(‪ .‬فعلى هذا تكون التقية رخصة والفصاح بالحق‬ ‫فضله"‪ .‬انتهى كلم الطبرسي‪.‬‬ ‫وعلى هذا يتبين من كلم المفسرْين المذكورْين الطبري‬ ‫والطبرسي وهما من مذهبين مختلفين‪ ،‬اتفاقهما على شرح‬ ‫معنى الية كما وردت من أنها نهي عن موالة المؤمنين للكافرين‬ ‫واستثناء حالة خوف المؤمنين من أذى الكافرين من هذا النهي‪.‬‬ ‫انظر قول الطبري‪)" :‬إل ّ أن تّتقوا منهم ُتقاة( إل ّ أن تكونوا في‬ ‫سلطانهم فتخافوهم على أنفسكم فُتظهروا لهم الولية‬ ‫بألسنتكم"‪ .‬وانظر قول الطبرسي‪" :‬ثم استثنى فقال‪) :‬إل ّ أن‬ ‫تّتقوا منهم ُتقاة( والمعنى إل ّ أن يكون الكفار غالبين والمؤمنون‬ ‫سن‬ ‫مغلوبين فيخافهم المؤمن إن لم ُيظهر موافقتهم ولم ُيح ِ‬ ‫عشرة معهم فعند ذلك يجوز له إظهار موّدتهم بلسانه‬ ‫ال ِ‬ ‫ومداراتهم تقية منه ودفعا عن نفسه"‪ .‬فالمفسران متفقان على‬ ‫أن الموضوع استثناء من النهي عن موالة المؤمنين للكافرين‬ ‫وأنه محصور في ذلك‪.‬‬ ‫إل ّ أن الطبرسي عقب على ذلك بما يخرج عن الموضوع‪،‬‬ ‫فجعل الية دليل ً على أن التقية جائزة في الدين عند الخوف‬ ‫على النفس‪ ،‬وهذا غير موجود في الية‪ ،‬لن موضوعها النهي عن‬ ‫موالة المؤمنين للكافرين واستثناء حالة الخوف من الكفار عند‬ ‫غلبتهم على المؤمنين بإجازة موالتهم في هذه الحالة وليست‬ ‫‪-189-‬‬


‫هي تية في الدين ول هي خاصة بالخوف على النفس‪ ،‬لن‬ ‫الستثناء عام )إل ّ أن تّتقوا منهم ُتقاة( إل ّ أن تحذروا منهم ما‬ ‫ُيحذر منه‪ ،‬قال الزمخشري في الكشاف‪" :‬إل ّ أن تخافوا منهم‬ ‫أمرا يجب اتفاؤه(‪ ،‬فكل أمر يجب اتقاؤه تجوز الموالة فيه‪ ،‬أي‬ ‫كل ما ُيحذر منه‪ ،‬وهو عام يشمل الخوف على النفس والمال‬ ‫عرض والمصالح"‪ ،‬ولذلك كان جعل الية دليل ً على التقية في‬ ‫وال ِ‬ ‫الدين خروجا عن الموضوع‪ ،‬وجعِلها خاصة في حالة الخوف‬ ‫على النفس تخصيص بل مخصص فضل ً عن كونه موضوعا آخر‬ ‫يتعلق بالكفر واليمان فقط وهو يتعلق بآية أخرى ول يتعلق‬ ‫بهذه الية‪ .‬وأّما قول الطبرسي‪ :‬وقال أصحابنا جائزة في المور‬ ‫كلها عند الضرورة‪ .‬ثم ما نقله عن المفيد من كونها قد تجب وقد‬ ‫ل تجب إلى آخر ما ذكره‪ ،‬فإنه كلم مجرد من أي دليل‪ .‬فالية ل‬ ‫تدل عليه مطلقا حتى حسب تفسير الطبرسي نفسه‪ ،‬ولم يأت له‬ ‫بدليل غيرها ل من الكتاب ول من السّنة ول من إجماع الصحابة‪،‬‬ ‫ولذلك ُيَرد ويسقط عن درجة العتبار‪.‬‬ ‫ول يقال إنه إذا كانت موالة الكافر في حالة الحذر منه‬ ‫جائزة فإن مداراة الحاكم الظالم أو الفاسق ذي القوة من باب‬ ‫أولى ‪.‬ل يقال ذلك لن الذي هو من باب أولى هو فحوى الخطاب‬ ‫مت له بصلة‪ ،‬فهو ليس من قبيل قوله تعالى‪:‬‬ ‫وهذا ليس منه ول َي ُ‬ ‫)ومنهم من إن تأمنه بدينار ل يؤّده إليك(‪ ،‬ول هو من قبيل قوله‬ ‫تعالى‪) :‬ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤّده إليك(‪ ،‬لن‬ ‫الفاسق ليس من باب الكافر ول من نوعه ولن الموالة المنهي‬ ‫عنها في هذه الية هي موالة الكفار من دون المؤمنين‪،‬‬ ‫والحاكم الظالم والفاسق ذو القوة هم من المؤمنين ول ينفي‬ ‫الظلم الذي يقع منهم والفسق الذي يتلبسون به صفة اليمان‬ ‫عنهم‪ .‬ولهذا ل يدخل هذا الموضوع في بحث من باب أولى‪ .‬ومن‬ ‫هنا ل َيِرد باب أْولى عليه حتى ُيستشهد به‪.‬‬ ‫على أن الحاكم الظالم والفاسق ذا القوة تجوز موالتهم‬ ‫في حالة المان وفي حالة الخوف سواء لنهم مؤمنون وموالة‬ ‫المؤمنين جائزة قطعا‪ ،‬لن لفظ مؤمنين في قوله‪) :‬من دون‬ ‫المؤمنين( عام يشمل جميع المؤمنين‪ ،‬ولم َيِرد نص في النهي‬ ‫عن موالة الحاكم الظالم أو الفاسق أو عن موالة الُفساق‬ ‫والفجار‪ ،‬بل النصوص خاصة بالنهي عن موالة الكفار‪ .‬وفوق‬ ‫‪-190-‬‬


‫ذلك فإن الحاكم الظالم تجب طاعته في غير معصية ويجب‬ ‫الجهاد تحت رايته‪ ،‬والمام في الصلة إذا كان فاسقا تجوز الصلة‬ ‫خلفه في جميع الحالت‪ ،‬وهذا من أعظم ما يدل على جواز‬ ‫موالتهم‪ .‬والمنهي عنه إّنما هو الرضا بظلم الحاكم وفسق‬ ‫الفاسق‪ .‬وعليه ُينتفى ما يسمونه التقية‪ ،‬وهو أن ُيظهر المؤمن‬ ‫طن أمام الحاكم الظالم أو الفاسق ذي القوة أو‬ ‫خلف ما ُيب ِ‬ ‫المخالف بالرأي أو ما شاكل ذلك‪ ،‬ويحرم فعله لنه نفاق والنفاق‬ ‫كله حرام‪.‬‬ ‫وعلوة على ذلك فإن محاسبة الحاكم الظالم على ظلمه‬ ‫فرض ل يحل تركه خوفا من الحاكم على المال أو على المصالح‬ ‫أو من الذى ول تحل التقية فيه‪ .‬وإعلن الحرب عليه إذا رؤي منه‬ ‫كفر بواح فرض يحرم القعود عن القيام به‪ ،‬والمر بالمعروف‬ ‫والنهي عن المنكر للحاكم ولغيره من أهل الفسق والظلم قد‬ ‫أوجبه ا على المسلمين‪ .‬وهذا ينافي القول بالتقية ويناقضه‬ ‫مناقضة تامة‪ ،‬لنه يحرم تحريما قاطعا السكوت على الحاكم‬ ‫الظالم وعلى الفاسق‪ ،‬والتقية توجب السكوت على ذلك في‬ ‫بعض الحيان وتجعله مندوبا في بعضها وجائزا في البعض‬ ‫الخر‪ ،‬وهذا يناقض آيات المر بالمعروف والنهي عن المنكر‪،‬‬ ‫ويناقض الحاديث الصحيحة الواردة في النكار على الئمة‬ ‫والمراء والحكام إذا كانوا ظلمة أو فسقة‪ ،‬والحاديث الواردة في‬ ‫وجوب محاسبتهم على أعمالهم‪ ،‬ويخالف وجوب الصدع بالحق‬ ‫من غير أن تأخذه في ا لومة لئم‪ .‬لذلك فإن التقية للحاكم‬ ‫الظالم أو الفاسق أو للقوي المتسلط من الفجار أو لمن يخالفك‬ ‫في الرأي قد جاءت نصوص اليات والحاديث الصحيحة تناقضها‬ ‫وتحث على وجوب العمل بعكسها مما يؤكد أنها حرام‪ ،‬فوق‬ ‫كونها نفاقا‪ ،‬فل يحل لمسلم أن يفعلها‪.‬‬ ‫بقيت مسألة آية )إل ّ من ُأكره وقلبه مطمئن باليمان(‪ ،‬فإن‬ ‫بعض المفسرين يربطها مع آية )إل ّ أن تّتقوا منهم ُتقاة( ويجعلها‬ ‫من بابها ويستدل بها على إدخال إظهار الكفار وإبطان اليمان‬ ‫في باب الموالة‪ ،‬ويجعلها داخلة فيما يسمونه التقية‪ ،‬ويستدل بها‬ ‫البعض على أن الموالة جائزة في حال الخوف من القتل فقط‪،‬‬ ‫وما عداها فل‪ .‬وهذا خطأ محض‪ ،‬لن آية )إل ّ من ُأكره وقلبه‬ ‫مطمئن باليمان( حالة أخرى وموضوع آخر‪ .‬لن موضوعها‬ ‫‪-191-‬‬


‫الرتداد عن السلم في حالة وجود القتل المحقق يقينا ل ظنا‪.‬‬ ‫وآية )إل ّ أن تّتقوا منهم ُتقاة( موضوعها النهي عن موالة الكفار‬ ‫بجميع أنواعها واستثناء جواز هذه الموالة في حالة وجود ما‬ ‫ُيحذر منه سواء أكان الخوف على النفس أو المال أو المصلحة أو‬ ‫ق بين الحالتين وبين الموضوعين‪ ،‬فل تدخل‬ ‫أي أذى‪ .‬وفر ٌ‬ ‫إحداهما في الخرى ول ُتربط بها لختلف الحالة والموضوع‪.‬‬ ‫فإن المسلم إذا كان تحت سلطان الكفار ومغلوبا على أمره‬ ‫عندهم ل يجوز له أن يرتد عن السلم ظاهرا مداراة لهم بل‬ ‫يجب عليه أن يهاجر إذا لم يستطع القيام بأحكام دينه‪ ،‬بخلف‬ ‫موالتهم فإنها تجوز‪ .‬لكن إذا خاف المسلم على نفسه من القتل‬ ‫المحقق وُأكره على الكفر فإنه يجوز له أن ُيظهر الكفر وُيبطن‬ ‫اليمان‪ ،‬وما عدا ذلك فل يجوز‪ ،‬لن نص الية هو )من كفر بالله‬ ‫من بعد إيمانه إل ّ من ُأكره وقلبه مطمئن باليمان(‪ ،‬فالموضوع‬ ‫موضوع كفر بعد اليمان‪ ،‬أي موضوع ارتداد عن السلم‪ ،‬والحالة‬ ‫هي حالة خوف الموت‪ ،‬وهو ما يطلق عليه الفقهاء الكراه‬ ‫جئ وهو وحده الكراه المعتبر شرعا في جميع الحالت التي‬ ‫مل ِ‬ ‫ال ُ‬ ‫يرتفع فيها الحكم عن المكَره‪ .‬فالكراه الذي يستثنى شرعا هو‬ ‫جئ وهو حالة خوف القتل يقينا‪ .‬ويؤيد ذلك أن الية‬ ‫مل ِ‬ ‫الكراه ال ُ‬ ‫نزلت في عمار بن ياسر‪ .‬قال الطبري‪) :‬حدثني محمد بن سعد‬ ‫قال‪ :‬حدثني أبي قال‪ :‬حدثن عمي قال‪ :‬حدثني أبي عن أبيه عن‬ ‫ابن عباس قوله‪) :‬من كفر بالله من بعد إيمانه إل ّ من ُأكره وقلبه‬ ‫مطمئن باليمان( إلى آخر الية‪ ،‬وذلك أن المشركين أصابوا عمار‬ ‫بن ياسر فعذبوه ثم تركوه فرجع إلى رسول ا صلى ا عليه‬ ‫وسلم فحّدثه بالذي لقي من قريش والذي قال‪ ،‬فأنزل ا تعالى‬ ‫عذَره من كفر بالله من بعد إيمانه إلى قوله لهم )عذاب‬ ‫ِذكره ُ‬ ‫عظيم(‪ .‬حدثنا بشر قال‪ :‬حدثنا يزيد قال‪ :‬حدثنا سعيد عن قتاده‬ ‫)من كفر بالله من بعد إيمانه إل ّ من ُأكره وقلبه مطمئن باليمان(‬ ‫قال ‪ُ:‬ذكر لنا أنها نزلت في مسلمين ارتدوا خوف القتل‪ ،‬فقد ُروي‬ ‫عن هذه الية نزلت في عمار بن ياسر‪ ،‬قال الطبري‪ :‬حدثني‬ ‫محمد بن سعد قال‪ :‬حدثني أبي قال‪ :‬حدثني عمي قال‪ :‬حدثني‬ ‫أبي عن أبيه عن ابن عباس قوله‪) :‬من كفر بالله من بعد إيمانه‬ ‫إل ّ من ُأكِره وقلبه مطمئن باليمان( إلى آخر الية وذلك أن‬ ‫المشركين أصابوا عمار بن ياسر فعذبوه ثم تركوه فرجع إلى‬ ‫‪-192-‬‬


‫رسول ا صلى ا عليه وسلم فحّدثه بالذي لقي من قريش‬ ‫والذي قال‪ ،‬فأنزل ا تعالى ِذكره وعذره ")من كفر بالله من‬ ‫بعد إيمانه( إلى قوله‪) :‬لهم عذاب عظيم(‪ .‬حدثنا بشر قال‪ :‬حدثنا‬ ‫يزيد قال‪ :‬حدثنا سعيد عن قتادة‪)" :‬من كفر بالله من بعد إيمانه‬ ‫إل ّ من ُأكِره وقلبه مطمئن باليمان( قال ‪ُ:‬ذكر لنا أنها نزلت في‬ ‫عمار بن ياسر أخذه بنو المغيرة فغطوه في بئر ميمون وقالوا‪:‬‬ ‫عهم على ذلك وقلبه كاره‪ ،‬فأنزل ا تعالى‬ ‫اكُفر بمحمد‪ ،‬فتاَب َ‬ ‫ِذكره )إل ّ من ُأكره وقلبه مطمئن باليمان("‪ .‬وقال الطبري‪ :‬حدثنا‬ ‫ابن عبدالعلى قال‪ :‬حدثنا محمد بن ثور عن معمر عن‬ ‫عبدالكريم الجزري عن أبي عبيد بن محمد بن عمار بن ياسر‬ ‫قال‪ :‬أخذ المشركون عمار بن ياسر فعذبوه حتى باراهم في‬ ‫بعض ما أرادوا‪ ،‬فذكر ذلك إلى النبي صلى ا عليه وسلم فقال‬ ‫النبي صلى ا عليه وسلم‪ :‬كيف تجد قلبك؟ قال‪ :‬مطمئنا‬ ‫عد(‪.‬‬ ‫باليمان‪ .‬قال النبي صلى ا عليه وسلم‪) :‬فإن عادوا ف ُ‬ ‫فهذه الحاديث تدل على أن سبب نزول الية حادثة عمار‬ ‫وموضوعها الرتداد عن السلم‪ ،‬والحالة الخاصة بها خوف القتل‬ ‫يقينا‪ ،‬وهذا وحده كاف لن يؤكد أنه ل علقة لها بآية )إل ّ أن تّتقوا‬ ‫منهم ُتقاة(‪ .‬على أن آية )إل ّ من ُأكره وقلبه مطمئن باليمان(‬ ‫مكية نزلت في موضوع اليمان‪ ،‬وآية )إل ّ أن تّتقوا منهم ُتقاة(‬ ‫مدنية نزلت في موضوع استثناء حالة الحذر مما ُيحذر منه من‬ ‫تحريم موالة المؤمنين للكافرين‪ ،‬ولذلك كانت هذه غير تلك‪.‬‬ ‫بقي حكم من يهّدد بالقتل المحقق‪ ،‬هل الفضل أن ُيظهر‬ ‫الكفر وُيبطن اليمان حتى َيسَلم من الموت‪ ,‬أم الفضل أن يثبت‬ ‫على إيمانه ولو أدى إلى قتله؟ والجواب على ذلك هو‪ :‬أن الثبات‬ ‫على اليمان ولو أدى إلى القتل أفضل‪ ،‬لن جواز إظهار الكفر‬ ‫رخصة ورفع حرج‪ ،‬والثبات على اليمان عزيمة وهو الصل‪ ،‬ولهذا‬ ‫كان أفضل‪ .‬روي أن مسيلمة أخذ رجلين فقال لحدهما‪ :‬ما تقول‬ ‫ي؟ قال‪ :‬أنت‬ ‫في محمد؟ قال‪ :‬رسول ا‪ .‬قال‪ :‬فما تقول ف ّ‬ ‫له‪ .‬وقال للخر‪ :‬ما تقول في محمد؟ قال‪ :‬رسول ا‪.‬‬ ‫أيضا‪ ،‬فخ ّ‬ ‫ي؟ قال‪ :‬أنا أصم‪ ،‬فأعاد عليه ثلثا‪ ،‬فأعاد‬ ‫قال‪ :‬فما تقول ف ّ‬ ‫جوابه‪ ،‬فقتله‪ .‬فبلغ ذلك رسول ا صلى ا عليه وسلم فقال‪:‬‬ ‫أّما الول فقد أخذ برخصة ا‪ ،‬وأّما الثاني فقد صدع بالحق فهنيئا‬ ‫له(‪ .‬وهذا صريح في تفضيل من يصبر ويثبت على اليمان على‬ ‫‪-193-‬‬


‫من يأخذ برخصة ا وُيظهر الكفر خوفا على نفسه من القتل‬ ‫المحقق يقينا‪.‬‬ ‫طلب منه ما هو دون‬ ‫طلب منه الكفر‪ ،‬أّما من ُ‬ ‫هذا فيمن ُ‬ ‫ذلك‪ ،‬كتْرك الدعوة السلمية أو القيام بمعصية أو ما شاكل ذلك‪،‬‬ ‫فإنه ل يؤخذ من هذه الية جوازه‪ ،‬ولذلك ل يقال إنه إذا كان‬ ‫الكفر قد أجاز ا للمسلم إظهاره فما هو دون الكفر من باب‬ ‫أْولى ‪.‬ل يقال ذلك لن المعصية ليست من جنس الكفر فل تدخل‬ ‫في بحث من باب أْولى‪ .‬وكذلك ل يقاس على الكفر لنه ل توجد‬ ‫ن من خاف على نفسه من القتل‬ ‫عّلة حتى يحصل القياس‪ .‬إل ّ أ ّ‬ ‫طلب منه ارتكاب معصية أو عمل شيء غير الكفر‬ ‫المحقق يقينا و ُ‬ ‫فإنه يجوز له أن يفعله لنجاة نفسه من القتل ول إثم عليه‪ ،‬وذلك‬ ‫لقوله عليه السلم ‪ُ) :‬رفع عن أّمتي الخطأ والنسيان وما‬ ‫اسُتكرهوا عليه( أي ُرفع الحرج والثم وُرفع الحكم‪ ،‬وهذا يعني‬ ‫جواز فعله‪ ،‬ولكن في حالة واحدة فقط وهي حال الخوف من‬ ‫الموت المحقق يقينا‪ ،‬وهذا هو ما يطلق عليه الفقهاء الكراه‬ ‫جئ وهو وحده الكراه المعتبر شرعا في جميع الحالت التي‬ ‫مل ِ‬ ‫ال ُ‬ ‫يرتفع فيها الحكم عن المكَره‪ ،‬كالطلق والزواج والبيع وغير ذلك‬ ‫من العمال والعقود‪ ،‬فقوله‪) :‬وما اسُتكرهوا عليه( أي إكراها‬ ‫جئا‪.‬‬ ‫مل ِ‬

‫الهجرة من دار الكفر إلى دار السلم‬ ‫الهجرة هي الخروج من دار الكفر إلى دار السلم‪ ،‬قال‬ ‫تعالى‪) :‬إن الذين توّفاهم الملئكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم‬ ‫كنتم قالوا كنا مستضعفين في الرض قالوا ألم تكن أرض ا‬ ‫واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا‪ ،‬إل ّ‬ ‫عفين من الرجال والنساء والولدان ل يستطيعون حيلة‬ ‫المستض َ‬ ‫ول يهتدون سبيل فأولئك عسى ا أن يعفَو عنهم وكان ا عفوا‬ ‫غفورا(‪ ،‬وُروي عن النبي صلى ا عليه وسلم أنه قال‪) :‬أنا بريء‬ ‫من كل مسلم يقيم بين مشركين‪ .‬قالوا‪ :‬يا رسول ا ولم؟ قال‪:‬‬ ‫ل تتراءى ناراهما(‪ ،‬فالهجرة من دار الكفر إلى دار السلم باقية‬ ‫ل هجرة‬ ‫لم تنقطع‪ .‬وأّما ما ُروي من قوله عليه الصلة والسلم ‪) :‬‬ ‫ل هجرة بعد الفتح(‪ ،‬وقوله‪) :‬قد انقطعت‬ ‫بعد فتح مكة(‪ ،‬وقوله ‪) :‬‬ ‫‪-194-‬‬


‫ما أسلم‬ ‫الهجرة ولكن جهاد ونّية(‪ ،‬وما ُروي أن صفوان بن أمية ل ّ‬ ‫قيل له ‪:‬ل دين لمن لم يهاجر‪ ،‬فأتى المدينة فقال له النبي صلى‬ ‫ا عليه وسلم‪) :‬ما جاء بك أبا وهب(؟ قال‪ :‬قيل إنه ل دين لمن‬ ‫لم يهاجر‪ .‬قال‪) :‬أرجع أبا وهب إلى أباطح مكة أقروا على‬ ‫مساكنكم فقد انقطعت الهجرة ولكن جهاد ونّية(‪ .‬فإن ذلك كله‬ ‫ي للهجرة بعد فتح مكة‪ .‬إل ّ أن هذا النفي معلل بعلة شرعية‬ ‫نف ٌ‬ ‫تستنَبط من الحديث نفسه‪ ،‬إذ قوله‪) :‬بعد فتح مكة( جاء على‬ ‫ل تنتبذوا التمر‬ ‫وجه يتضمن العلية‪ ،‬نظير قوله عليه السلم ‪) :‬‬ ‫والزبيب جميعا(‪ ،‬فقوله‪) :‬جميعا( جاء على وجه يتضمن العلية‪،‬‬ ‫فكان عّلة النهي عن النتباذ‪ .‬فهو يعني أن فتح مكة هو عّلة نفي‬ ‫الهجرة‪ .‬وهذا يعني أن هذه العلة تدور مع المعلول وجودا‬ ‫وعدما ول تختص بمكة بل فتح أي بلد‪ ،‬بدليل الرواية الخرى ل)‬ ‫هجرة بعد الفتح(‪ .‬ويؤيد ذلك ما رواه البخاري عن عائشة‪،‬‬ ‫ل هجرة اليوم‪ .‬كان المؤمن يفّر‬ ‫وسئلت عن الهجرة فقالت ‪) :‬‬ ‫بدينه إلى ا ورسوله مخافة أن ُيفتن‪ .‬فأّما اليوم فقد أظهر ا‬ ‫السلم‪ ،‬والمؤمن يعبد ربه حيث شاء(‪ ،‬مما يدل على أن الهجرة‬ ‫كانت من المسلم قبل الفتح فرارا بدينه مخافة أن ُيفتن وُنفيت‬ ‫بعد الفتح لنه صار قادرا على إظهار دينه والقيام بأحكام‬ ‫السلم‪ .‬فيكون الفتح الذي يترتب عليه ذلك هو عّلة نفي الهجرة‬ ‫وليس فتح مكة وحدها‪ .‬وعليه فإن ذلك يراد به ل هجرة بعد‬ ‫عت(‬ ‫ط َ‬ ‫الفتح من بلد قد ُفتح‪ .‬وقوله عليه السلم لصفوان‪) :‬قد انَق َ‬ ‫يعني من مكة بعد أن ُفتحت لن الهجرة الخروج من بلد الكفار‬ ‫ق بلد الكفار‬ ‫ومن دار الكفر‪ ،‬فإذا ُفتح البلد وصار دار إسلم لم يب َ‬ ‫ول دار كفر‪ ،‬فل تبقى فيه هجرة‪ ،‬وكذلك كل بلد ُفتح ل يبقى منه‬ ‫هجرة‪ .‬ويؤيد ذلك ما روى معاوية قال‪ :‬سمعت رسول ا صلى‬ ‫ل تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة حتى‬ ‫ا عليه وسلم يقول ‪) :‬‬ ‫تطلع الشمس من مغربها(‪ ،‬وروي عن النبي صلى ا عليه وسلم‬ ‫ل تنقطع الهجرة ما كان الجهاد(‪ ،‬وفي رواية ل) تنقطع‬ ‫أنه قال ‪) :‬‬ ‫الهجرة ما قوتل العدو(‪ ،‬فدل ذلك على أن الهجرة من دار الكفر‬ ‫إلى دار السلم باقية لم تنقطع‪ .‬أّما حكم الهجرة فإنها تكون‬ ‫بالنسبة للقادر عليها فرضا في بعض الحالت ومندوبا في الحالت‬ ‫الخرى‪ .‬أّما الذي لم يقدر عليها فإن ا عفا عنه وهو غير‬ ‫مطاَلب بها‪ ،‬وذلك لعجزه عن الهجرة إما لمرض أو إكراه على‬ ‫‪-195-‬‬


‫القامة أو ضعف‪ ،‬كالنساء والولدان وشبههم كما جاء في ختام‬ ‫آية الهجرة‪.‬‬ ‫فمن كان قادرا على الهجرة ولم يستطع إظهار دينه‪ ،‬ول‬ ‫القيام بأحكام السلم المطلوبة منه فإن الهجرة فرض عليه ِلما‬ ‫ورد في آية الهجرة‪ ،‬قال تعالى‪) :‬إن الذين توّفاهم الملئكة‬ ‫ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الرض‬ ‫قالوا ألم تكن أرض ا واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم‬ ‫جهنم وساءت مصيرا(‪ ،‬فالخبار هنا يعني المر‪ ،‬وهو من صيغ‬ ‫الطلب‪ ،‬كأنه قال‪ :‬هاجروا فيها‪ .‬والطلب هنا في هذه الية اقترن‬ ‫بالتأكيد واقترن بالوعيد الشديد على ترك الهجرة فهو طلب جازم‪،‬‬ ‫مما يدل على أن الهجرة في هذه الحالة فرض على المسلم‬ ‫يأثم إذا لم يهاجر‪ .‬أّما من كان قادرا على الهجرة ولكنه يستطيع‬ ‫إظهار دينه والقيام بأحكام الشرع المطلوبة منه فإن الهجرة في‬ ‫هذه الحال مندوبة وليست فرضا‪ .‬أّما كونها مندوبة فلن الرسول‬ ‫غب في الهجرة من مكة قبل الفتح‪،‬‬ ‫صلى ا عليه وسلم كان ير ّ‬ ‫حيث كانت دار كفر‪ ،‬وقد جاءت آيات صريحة في ذلك‪ ،‬قال‬ ‫تعالى‪) :‬إن الذين آمنوا والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل ا‬ ‫أولئك يرجون رحمة ا(‪ ،‬وقال‪) :‬الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا‬ ‫في سبيل ا بأموالهم وأنفسهم أعظم درجة عند ا(‪ ،‬وقال‪:‬‬ ‫)والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من وليتهم من شيء حتى‬ ‫يهاجروا وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر إل ّ على قوم‬ ‫بينكم وبينهم ميثاق(‪ ،‬وقال‪) :‬والذين آمنوا من بعد وهاجروا‬ ‫وجاهدوا معكم فأولئك منكم(‪ ،‬وهذا كله صريح في طلب‬ ‫الهجرة‪.‬‬ ‫وأّما كونها ليست فرضا فلن الرسول صلى ا عليه وسلم‬ ‫قد أقّر من بقي في مكة من المسلمين‪ .‬فقد ُروي أن نعيم‬ ‫عِدي فقالوا له‪ :‬أِقم‬ ‫حام حين أراد أن يهاجر جاءه قومه بنو َ‬ ‫الن ّ‬ ‫عندنا وأنت على دينك ونحن نمنعك عمن يريد أذاك واكِفنا ما كنت‬ ‫عِدي وأراملهم‪ ،‬فتخّلف عن الهجرة‬ ‫تكفينا‪ .‬وكان يقوم بيتامى بني َ‬ ‫مدة ثم هاجر بعد‪ .‬فقال له النبي صلى ا عليه وسلم‪) :‬قومك‬ ‫كانوا خيرا لك من قومي لي‪ .‬قومي أخرجوني وأرادوا قتلي‬ ‫وقومك حفظوك ومنعوك(‪ .‬فقال‪ :‬يا رسول ا بل قومك‬ ‫أخرجوك إلى طاعة ا وجهاد عدّوه‪ ،‬وقومي ثّبطوني عن‬ ‫‪-196-‬‬


‫الهجرة وطاعة ا(‪ .‬وهذا كله في دار الكفر أي دار الحرب من‬ ‫حيث هي بغض النظر عن كون سكانها مسلمين أو كفارا‪ ،‬لن‬ ‫الدار ل يختلف حكمها بالسكان‪ ،‬بل يختلف بالنظام الذي تحكم به‬ ‫وبالمان الذي يأمن أهلها به‪ .‬وعلى ذلك فل فرق بين اندونيسيا‬ ‫والقفقاس ول بين الصومال واليونان‪ .‬إل ّ أن الذي يستطيع إظهار‬ ‫دينه والقيام بأحكام الشرع المطلوبة إذا كان يملك القدرة على‬ ‫تحويل دار الكفر التي يسكنها إلى دار إسلم‪ ،‬فإنه يحرم عليه في‬ ‫هذه الحالة أن يهاجر من دار الكفر إلى دار السلم‪ ،‬سواء أكان‬ ‫يملك القدرة بذاته أو بتكتله مع المسلمين الذين في بلده‪ ،‬أو‬ ‫بالستعانة بمسلمين من خارج بلده‪ ،‬أو بالتعاون مع الدولة‬ ‫السلمية‪ ،‬أو بأي وسيلة من الوسائل‪ ،‬فإنه يجب عليه أن يعمل‬ ‫لجعل دار الكفر دار إسلم وتحرم عليه حينئذ الهجرة منها‪.‬‬ ‫والدليل على ذلك أن البلد التي يعيش فيها إن كان يسكنها كفار‬ ‫وتحكم بالكفر‪ ،‬فقد وجب على المسلمين قتال أهلها حتى‬ ‫يسلموا أو يعطوا الجزية ويحكموا بالسلم‪ ،‬ووجب عليه هو‬ ‫بوصفه مسلما من المسلمين وباعتباره ممن يليهم الكفار وممن‬ ‫هو أقرب إلى العدو‪ ،‬وإن كان يسكنها مسلمون ويحكمون بغير‬ ‫السلم أي بنظام الكفر‪ ،‬فقد وجب على المسلمين قتال حكامها‬ ‫حتى يحكموا بالسلم‪ ،‬ووجب عليه هو باعتباره واحدا من هؤلء‬ ‫المسلمين الذين ُيحكمون بالكفر‪ ،‬فهو على أي حال قد وجب‬ ‫عليه القتال والستعداد للقتال إن كان قادرا عليه‪ .‬والمسلم الذي‬ ‫يعيش في دار الكفر ل تخرج حاله عن هاتين الحالتين‪ ،‬فهو إما‬ ‫ممن وجب عليه جهاد الكفار الذين َيُلونه‪ ،‬وإما ممن وجب عليه‬ ‫قتال الحاكم الذي يحكم بالكفر‪ ،‬وفي الحالتين يعتبر خروجه من‬ ‫دار الكفر التي تحكم بغير السلم أي بالكفر‪ ،‬فرارا من الجهاد‬ ‫من مكان وجب عليه فيه‪ ،‬أو فرارا من مقاَتلة من يحكم بالكفر‪،‬‬ ‫وكلهما إثم عند ا كبير‪ ،‬ولذلك ل يجوز لمن كان قادرا على‬ ‫تحويل دار الكفر إلى دار إسلم أن يهاجر منها ما دام يملك‬ ‫القدرة على تحويلها إلى دار إسلم‪ ،‬وتستوي في ذلك تركيا‬ ‫واسبانيا ومصر والبانيا بل فرق بينها ما دامت تحكم بنظام الكفر‪.‬‬

‫ق والسترقاق‬ ‫موقف السلم من ال ِر ّ‬ ‫‪-197-‬‬


‫جاء السلم والرقيق موجود في جميع أنحاء العالم‪،‬‬ ‫والسترقاق نظام شائع في جميع أنحاء الدنيا عند جميع‬ ‫جر‬ ‫الشعوب والمم‪ .‬ول ُيعلم عن وجود ناحية في الدنيا إل ّ ويتا َ‬ ‫بها بالرقيق وُيستَرق فيها الحرار‪ .‬ولم يخبر عن وجود بلد ليس‬ ‫فيها استرقاق‪ .‬وقد رأى السلم أن هذه المشكلة تتعلق بناحيتين‬ ‫اثنتين‪ :‬إحداهما تتعلق بالرقاء الذين اسُترّقوا بالفعل والذين‬ ‫ينزل اعتبارهم عن مستوى اعتبار غيرهم من الحرار‪ ،‬وُيعتبرون‬ ‫سلعة كباقي السلع تباع وتشترى ويساَوم عليها‪ ،‬فكان ل بد من‬ ‫علج هذا الرقيق علجا يؤدي إلى عتق هؤلء الرّقاء وجعلهم‬ ‫أحرارا‪ .‬أّما الناحية الثانية فكانت تتعلق بالسترقاق‪ ،‬ول بد من‬ ‫علجهم علجا يضع حدا للسترقاق‪ .‬لذلك وردت اليات‬ ‫والحاديث تعالج هاتين الناحيتين العلج النافع للنسان المبني‬ ‫على واقع النسان واقع العلقات التي تقوم بين أفراده وبين‬ ‫أممه‪.‬‬

‫معالجة الرقيق‬ ‫عالج السلم الرقيق معالة تؤدي إلى تخفيف وضع الرق‬ ‫المضروب عليه وتؤدي إلى عتقه جبرا واختيارا‪ .‬وقد وضع أحكاما‬ ‫صلها الفقهاء أتم تفصيل‪ ،‬وتتلخص هذه‬ ‫كثيرة في هذا الشأن ف ّ‬ ‫الحكام في المسائل التالية‪:‬‬ ‫‪ -1‬وجد السلم الناس يملكون الرقاء فعالج مشاكل‬ ‫الرقيق بين المالكين معالجة تجعل للرقيق حقوقا وتحفظ عليه‬ ‫اعتبار كونه إنسانا كالحر من حيث الصفات الفطرية التي ُفطرت‬ ‫في النسان‪ .‬وقد وصى ا تعالى في القرآن الكريم كما وصى‬ ‫الرسول صلى ا عليه وسلم في الحديث الشريف بالحسان إلى‬ ‫الرّقاء وبحسن معاشرتهم‪ .‬قال تعالى‪) :‬واعبدوا ا ول تشركوا‬ ‫به شيئا وبالوالدين إحسانا وبذي القربى واليتامى والمساكين‬ ‫والجار ذي القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب وابن السبيل‬ ‫كت أيمانكم( عبيدكم الرّقاء‪.‬‬ ‫كت أيمانكم(‪ ،‬ومعنى )وما َمَل َ‬ ‫وما َمَل َ‬ ‫كت أيمانكم‪،‬‬ ‫وقال صلى ا عليه وسلم‪) :‬اتقوا ا فيما َمَل َ‬ ‫أطعموهم مما تأكلون‪ ،‬واكسوهم مما تلبسون‪ ،‬ول تكّلفوهم من‬ ‫ل يقوَل ّ‬ ‫ن‬ ‫العمل ما ل يطيقون(‪ .‬وقال عليه الصلة والسلم ‪) :‬‬ ‫‪-198-‬‬


‫أحدكم عبدي وأَمتي‪ ،‬كلكم عبيد ا وكل نسائكم إماء ا‪ ،‬ولكن‬ ‫ليقل غلمي وجاريتي وَفتاي وفتاتي(‪.‬‬ ‫وقد رفع الشرع منزلة الرقيق وجعله كالحر‪ ،‬إذ جعل دمه‬ ‫معصوما ُيقتل الحر به‪ ،‬لن ا تعالى يقول‪) :‬يا أيها الذين آمنوا‬ ‫ُكتب عليكم القصاص في القتلى(‪ ،‬والقصاص المماَثلة وعقاب‬ ‫عل‬ ‫الذنب‪ ،‬فيطلق القصاص على جزاء الذنب‪ ،‬ويطلق على أن ُف ِ‬ ‫عل‪ .‬ومعنى )ُكتب عليكم القصاص في القتلى(‬ ‫بالفاعل مثل ما َف َ‬ ‫هو ‪ُ:‬فرض عليكم جزاء الذنب في القتلى أن ُيقتل القاتل‪ ،‬وهذا‬ ‫عام يشمل الذكر والنثى والحر والعبد‪ .‬ويؤيد ذلك قوله صلى ا‬ ‫عليه وسلم‪) :‬المسلمون تتكافأ دماؤهم( وهذا عام‪ .‬فالحر والعبد‬ ‫متساويان في أن كل منهما معصوم الدم يحرم قتله وُيقتل قاتله‬ ‫أيا كان‪ .‬وعلى ذلك جعل السلم نفس العبد الرقيق كنفس الحر‬ ‫سواء بسواء‪ ،‬ودمه كدم الحر معصوما‪ ،‬قال صلى ا عليه‬ ‫وسلم‪) :‬من قتل عبده قتلناه(‪ .‬وأيضا قد جعل السلم للرقيق‬ ‫الحق في أن يتزوج ويطّلق ويتعلم ويكون شاهدا على غيره من‬ ‫حر ورقيق‪ .‬وأّما ما جعله السلم من حق لمالك الَمة من‬ ‫ُ‬ ‫الستمتاع بها فإنه يرفع منزلة الرقيق ويؤدي إلى عتقه‪ ،‬لن‬ ‫استمتاع المالك بأَمته كاستمتاع الزوج بزوجته يرفع منزلة الَمة‬ ‫إلى مرتبة الزوجة الحرة ويجعل لها منزلة عند مولها‪ .‬علوة‬ ‫على ما يترتب عليه هذا الستمتاع من حمل وولدة يهيئ لهذه‬ ‫الَمة أن ُتعتق جبرا بعد موت مولها‪.‬‬ ‫‪ -2‬حثّ السلم على عتق الرّقاء‪ .‬فقد جعل عتق الرقبة‬ ‫يساعد النسان على شكر نعم ا الجليلة ويعينه على اقتحام‬ ‫العقبة‪ ،‬قال تعالى‪) :‬فل اقتحم العقبة وما أدراك ما العقبة فك‬ ‫رقبة(‪ ،‬والقتحام الدخول والمجاوزة بشدة ومشقة‪ ،‬والعقبة‬ ‫الشدة‪ .‬فجعل العمال الصالحة عقبة وجعل عملها اقتحاما لها‬ ‫ِلما في ذلك من معاناة المشقة ومجاهدة النفس‪ .‬وفك الرقبة‬ ‫تخليصها من الرق‪ .‬فحثّ ا في الية على عتق الرّقاء‪ .‬وكذلك‬ ‫حثّ الرسول على عتق الرّقاء‪ ،‬قال صلى ا عليه وسلم‪) :‬أيما‬ ‫رجل أعتق مسلما استنقذ ا تعالى بكل عضو منه عضوا من‬ ‫غب في عتق الرّقاء وجعل له‬ ‫النار(‪ .‬وبذلك يتبين أن السلم ر ّ‬ ‫ثوابا كبيرا‪.‬‬ ‫‪ -3‬شرع السلم أحكاما عملية توجب عتق الرّقاء‪ ،‬فقد‬ ‫‪-199-‬‬


‫شرع أحكاما تجبر على العتق‪ ،‬إذ جعل عتق العبد المملوك‬ ‫للقريب محرم يتم آليا بمجرد الملك سواء رضي المالك أم لم‬ ‫يرض‪ ،‬أعتق أم لم يعتق‪ .‬فكل إنسان يملك قريبا ذا رحم محرم‬ ‫بالشراء أو الرث عتق عليه قريبه جبرا عنه بمجرد الملك دون‬ ‫حاجة إلى إعتاقه‪ .‬روى البخاري عن الحسن عن سمرة أن النبي‬ ‫صلى ا عليه وسلم قال‪) :‬من ملك ذا رحم محرم فهو حر(‪،‬‬ ‫وروى النسائي عن ابن عمر قال‪ :‬قال رسول ا صلى ا عليه‬ ‫وسلم‪) :‬من ملك ذا رحم محرم فهو حر(‪ ،‬وجعل تعذيب العبد من‬ ‫تحريق أو قطع عضو أو إفساده أو ضرب العبد ضربا مبرحا‪ ،‬جعل‬ ‫ذلك موجبا لعتقه‪ ،‬فإن لم يعتقه سيده عتقه الحاكم جبرا عن‬ ‫سيده‪ .‬قال عليه السلم‪) :‬من مّثل بعبده عتق عليه(‪ ،‬وقال‪) :‬من‬ ‫لطم مملوكه أو ضربه فكفارته أن يعتقه(‪ .‬والمراد بالضرب‬ ‫الضرب المبرح لورود أحاديث تجيز للسيد أن يضرب عبده ضرب‬ ‫تأديب‪ .‬وجعل السلم عتق الرقبة كفارة لزمة لكثير من الذنوب‪،‬‬ ‫فمن قتل مؤمنا خطأ فكفارته تحرير رقبة مؤمنة‪ ،‬قال تعالى‪:‬‬ ‫)وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إل ّ خطأ ومن قتل مؤمنا خطأ‬ ‫فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسّلمة إلى أهله إل ّ أن يصّ​ّدقوا فإن كان‬ ‫من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة وإن كان من‬ ‫قوم بينكم وبينهم ميثاق َفِدَيٌة مسّلمة إلى أهله وتحرير رقبة‬ ‫مؤمنة(‪ ،‬ومن حنث في يمينه فمما يكّفر خطيئته تحرير رقبة‪ ،‬قال‬ ‫ل يؤاخذكم ا باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما‬ ‫تعالى ‪) :‬‬ ‫عّقدتم اليمان فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما‬ ‫هر من‬ ‫تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة(‪ ،‬ومن ظا َ‬ ‫زوجته بأن قال لها‪ :‬أنت علي كظهر أمي‪ ،‬ثم عاد إليها فكفارته‬ ‫تحرير رقبة‪ ،‬قال تعالى‪) :‬والذين يظاهرون من نسائهم ثم‬ ‫يعودون لما قالوا فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا(‪ ،‬ومن أفسد‬ ‫صوم رمضان بالجماع فكفارته تحرير رقبة‪ ،‬عن أبي هريرة قال‪:‬‬ ‫ت يا رسول‬ ‫)جاء رجل إلى النبي صلى ا عليه وسلم فقال‪ :‬هلك ُ‬ ‫ا‪ ،‬قال‪ :‬وما أهلكك؟ قال‪ :‬وقعت على امرأتي في رمضان‪،‬‬ ‫قال‪ :‬هل تجد ما تعتق رقبة؟ قال‪ :‬ل‪ ،‬قال‪ :‬فهل تستطيع أن‬ ‫تصوم شهرين متتابعين؟ قال‪ :‬ل‪ ،‬قال‪ :‬فهل تجد ما تطعم ستين‬ ‫مسكينا؟ قال‪ :‬ل‪ ،‬قال‪ :‬ثم جلس فُأتي النبي صلى ا عليه وسلم‬ ‫بعرق )أي زنبيل أو قّفة( فيه تمر‪ ،‬قال‪ :‬تصدق بهذا‪ ،‬قال‪ :‬فهل‬ ‫‪-200-‬‬


‫على أفقر مني؟ فما بين لبتيها أهل بيت أحوج إليه منا‪ ،‬فضحك‬ ‫النبي صلى ا عليه وسلم حتى بدت نواجذه وقال‪ :‬اذهب‬ ‫فأطعمه أهلك(‪ ،‬فالنبي صلى ا عليه وسلم أول ما أمر به عتق‬ ‫الرقبة ولم يتحول إلى غيره إل ّ بعد أن تبين له العجز عنه‪ .‬فكل‬ ‫هذه الحكام للكفارات ُتلِزم المكّفر عتق الرقبة‪.‬‬ ‫ولم يكتف السلم بذلك بل جعل للعبد نفسه طريقة لن‬ ‫يعمل على عتق نفسه‪ ،‬كما جعل للمالك طريقة يعّوض بها عن‬ ‫غب السلم في هذا وأمر‬ ‫مكاِتب‪ .‬ور ّ‬ ‫ثمن العبد‪ ،‬وذلك في بحث ال ُ‬ ‫ا بالقرآن به فقال تعالى‪) :‬والذين يبتغون الكتاب مما ملكت‬ ‫أيمانكم فكاِتبوهم إن علمتم فيهم خيرا وآتوهم من مال ا‬ ‫الذي آتاكم(‪ .‬وإذا كاَتب المولى عبده بأن قال له‪ :‬إن أتيتني بكذا‬ ‫في مدة كذا فأنت حر‪ ،‬كان واجبا على السيد أن يطلق عبده‬ ‫ليعمل حتى يحصل على المال الذي كاتب عليه‪ .‬وكان واجبا عليه‬ ‫أن ُيعتقه إذا أحضر المال‪ ،‬ول يصح له أن يرجع عن هذه‬ ‫ل‪،‬‬ ‫المكاَتبة‪ .‬وقد عّرف الفقهاء المكاَتبة بأنها تحرير المملوك حا ً‬ ‫حت خرج العبد من يد سيده‪ .‬ومتى‬ ‫ل‪ ،‬وأن الكتابة إذا ص ّ‬ ‫ورقبته مآ ً‬ ‫أدى البدل خرج من ملك سيده‪.‬‬ ‫حظ فيها أنها قد‬ ‫فهذا الحكام كلها لعتق الرّقاء‪ .‬ويل َ‬ ‫سلكت طريقة التوجيه بالحث والترغيب‪ ،‬وطريقة التشريع‬ ‫بالحكام التي تنفذها الدولة بالقوة إذا لم ينفذها الفرد بدافع‬ ‫تقوى ا‪ .‬وهي كلها أحكام تؤدي إلى إيجاد التفكير والعمل عند‬ ‫المالكين بعتق الرّقاء وتؤدي إلى إيجاد التفكير والتعمل عند‬ ‫الرّقاء أنفسهم بأن يعملوا لعتق أنفسهم من الرق‪ ،‬وهذا يجعل‬ ‫السير متجها إلى إنهاء الرق من المجتمع‪.‬‬ ‫‪ -4‬لم يكتف السلم بالحث على العتق وإيجاد أحكام ُتجِبر‬ ‫على العتق‪ ،‬بل جعل في بيت مال المسلمين بابا خاصا لعتق‬ ‫الرّقاء‪ ،‬إذ جعل الزكاة ُتصرف لعتق الرّقاء‪ ،‬وجعله أحد البواب‬ ‫الثمانية‪ ،‬قال تعالى‪) :‬إّنما الصدقات للفقراء والمساكين‬ ‫والعاملين عليها والمؤّلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي‬ ‫سبيل ا وابن السبيل(‪ ،‬فقوله‪) :‬وفي الرقاب( يعني عتق‬ ‫الرّقاء‪ .‬ولم يعّين لهذا الباب قدرا معينا‪ ،‬فيجوز للدولة أن تجعل‬ ‫مقدارا من أموال الزكاة لعتق الرّقاء‪ ،‬بل يجوز لها أن تجعل كل‬ ‫مال الزكاة في عتق الرّقاء إذا لم تكن هنالك ضرورة لمصرف‬ ‫‪-201-‬‬


‫آخر من مصارف الزكاة‪ .‬وذلك لن صرف الزكاة ل يجب أن يكون‬ ‫للبواب الثمانية‪ ،‬بل يجوز أن يخصص في باب واحد من هذه‬ ‫البواب حسب ما يتراءى لخليفة المسلمين‪.‬‬

‫معالجة السترقاق‬ ‫كانت أبواب السترقاق في النظم القديمة التي كان معمول ً‬ ‫بها في العالم حين جاء السلم كثيرة‪ .‬فكانت تقضي باسترقاق‬ ‫سر مدينه وأفلس كان له أن‬ ‫مدين المفِلس‪ ،‬فالدائن إذا أع َ‬ ‫ال َ‬ ‫يسترّقه‪ .‬وكانت تقضي باسترقاق النسان عقوبة على بعض ما‬ ‫يرتكبه من الجرائم والخطايا‪ ،‬وكانت تتيح للحر أن يقبل الرق على‬ ‫نفسه‪ ،‬فيبيع نفسه لغيره بشرط أن ُيعتقه بعد زمن يتفقان عليه‪.‬‬ ‫وكانت القبائل القوية تبيح لنفسها استرقاق أفراد القبيلة الضعيفة‪.‬‬ ‫وكانت الحروب والغزوات بوجه عام تقضي باسترقاق السرى‬ ‫وتبيح استرقاق أهل البلد كلهم إذا استولوا عليهم‪ .‬وكان بعضها‬ ‫يحصر السترقاق بمن يؤخذون أسرى في الحروب من الرجال‬ ‫والنساء والطفال‪ ،‬فمن ُأخذ أسيرا في حرب مشروعة واسُتِر ّ‬ ‫ق‬ ‫في ذلك اعُتبر رقيقا واعترف بكونه رقيقا‪.‬‬ ‫ما جاء السلم وضع للحوال التي كان يحصل فيها‬ ‫فل ّ‬ ‫صل المر في حالة‬ ‫السترقاق أحكاما شرعية غير السترقاق‪ ،‬وف ّ‬ ‫الحرب‪ ،‬فبّين بالنسبة للمدين المفلس أن ينتظر الدائن إلى‬ ‫سرة(‪،‬‬ ‫ة إلى َمي َ‬ ‫ظر ٌ‬ ‫عسرة فَن ِ‬ ‫ميسرة‪ ،‬قال تعالى‪) :‬وإن كان ذو ُ‬ ‫صلة ول سيما عقوبة السرقة التي‬ ‫وبّين العقوبات على الذنوب مف ّ‬ ‫كان جزاؤها السترقاق والتي أشار إليها ا في القرآن )قالوا‬ ‫حِلِه فهو جزاؤه( فقد بّين السلم عقوبتها –‬ ‫جزاؤه من ُوجد في َر ْ‬ ‫أي السرقة‪ -‬قطع اليد‪ ،‬قال تعالى‪) :‬والسارق والسارقة فاقطعوا‬ ‫ء بما كسبا(‪ ،‬وجعل العقد بين العبد والمولى على‬ ‫أيديهما جزا ً‬ ‫العتق ل على السترقاق‪ .‬وحّرم استرقاق الحرار تحريما قاطعا‪،‬‬ ‫قال عليه الصلة والسلم‪) :‬قال ا عز وجل‪ :‬ثلثة أنا خصمهم‬ ‫يوم القيامة‪ :‬رجل أعطى بي ثم غدر‪ ،‬ورجل باع حرا فأكل ثمنه‪،‬‬ ‫طه(‪ ،‬فالله تعالى‬ ‫ورجل استأجر أجيرا فاستوفى منه ولم ُيع ِ‬ ‫حر‪.‬‬ ‫ع ُ‬ ‫م لبائ ِ‬ ‫خص ٌ‬ ‫صل فيها السلم‪ ،‬فمنع استرقاق‬ ‫أّما حالة الحرب فقد ف ّ‬ ‫‪-202-‬‬


‫السرى مطلقا‪ .‬ففي السّنة الثانية للهجرة بّين حكم السرى بأنه‬ ‫ن عليهم بإطلق سراحهم دون مقابل‪ ،‬وإما فداؤهم بمال‬ ‫إما م ّ‬ ‫أو بأسرى مثلهم من المسلمين أو الذميين‪ .‬وبذلك يكون قد منع‬ ‫ضْر َ‬ ‫ب‬ ‫استرقاق السرى‪ .‬قال تعالى‪) :‬فإذا لقيتم الذين كفروا ف َ‬ ‫شّدوا الَوثاق فإّما َمّنا بعُد وإّما فداء‬ ‫الرقاب حتى إذا أثخنتموهم ف ُ‬ ‫حتى تضع الحرب أوزارها(‪ ،‬فالية صريحة في هذا المعنى‪ :‬المنّ‬ ‫أو الفداء‪ ،‬ول تحتمل غيره مطلقا‪ .‬واللغة العربية تقضي بحصر‬ ‫ن أو الفداء لن "إّما"‬ ‫حكم السرى في أحد هذين المرين الم ّ‬ ‫للتخيير بين شيئين وللحصر في هذين الشيئين‪ .‬وهنا جاءت‬ ‫ن والِفداء وحاصرة الحكم بهما حين عّبرت عن‬ ‫مخّيرة بين الم ّ‬ ‫ذلك "بإّما" المفيدة للحصر فيما ُيذكر بعدها )إّما منا بعد وإّما‬ ‫ِفداء(‪.‬‬ ‫وهنا قد يعرض سؤال كان موضع شبهة عند بعض الفقهاء‬ ‫أخذوا منه أن للخليفة أن يستِرق السرى إذا رأى ذلك‪ .‬هذا‬ ‫ق بعد نزول‬ ‫السؤال هو أن النبي صلى ا عليه وسلم قد استر ّ‬ ‫هذه الية‪ .‬فإن هذه الية نزلت في السّنة الثانية عند بدء الحرب‬ ‫حنين‪ .‬وعمل‬ ‫ق في ُ‬ ‫بين الرسول وكفار قريش‪ ،‬والرسول استر ّ‬ ‫الرسول يعتبر تشريعا كما يعتبر تفسيرا ليات ا‪ ،‬فكيف ُيمنع‬ ‫ق بعد نزولها‬ ‫السترقاق للسرى بهذه الية مع أن الرسول استر ّ‬ ‫حنين؟‬ ‫في ُ‬ ‫والجواب على ذلك هو أن عمل الرسول وقوله بالنسبة‬ ‫مل أو تقييد ُمطَلق أو تخصيص عام‪،‬‬ ‫ليات القرآن إما تفصيل ُمج َ‬ ‫ول يكون عمل الرسول وقوله ناسخا للقرآن‪ .‬وآية السرى ليست‬ ‫ملة حتى ُتفصل‪ ،‬ول ألفاظها ألفاظ عموم حتى ُتخصص‪ ،‬ول‬ ‫ُمج َ‬ ‫ق بعد نزوله فإن‬ ‫ُمطَلقة حتى تقّيد‪ ،‬فإذا صح أن الرسول استر ّ‬ ‫عمله يكون ناسخا لها‪ ،‬وذلك ل يجوز‪ .‬وعلوة على ذلك فإن كون‬ ‫ق السرى خبر آحاد وهو يعارض آية )إّما مّنا‬ ‫الرسول قد استر ّ‬ ‫بعُد وإّما بعُد( وإذا عارض خبر الحاد القطعي من اليات‬ ‫والحاديث ُيرد خبر الحاد دراية‪ .‬وعلى ذلك فل اعتبار لما ُيروى‬ ‫عن أن الرسول استرقّ السرى بعد نزول آية السرى‪.‬‬ ‫حنين قد‬ ‫على أن واقع ما حصل من الرسول أنه في غزوة ُ‬ ‫اصطحب المحاِربون من المشركين معهم نساء وأطفال ً في‬ ‫ما ُكسروا في‬ ‫المعركة لتكثير سوادهم ولتحميس رجالهم‪ ،‬فل ّ‬ ‫‪-203-‬‬


‫المعركة صار النساء والطفال سبيا وَقسمهم الرسول على‬ ‫ما روجع في هذا السبي استوهب‬ ‫المحاربين من المسلمين‪ .‬فل ّ‬ ‫المسلمين ما لهم من حق في السبي عن طيب نفس ورّد السبي‬ ‫إلى أهله‪ .‬فكان هذا دال ً على جواز استرقاق السبي وهو النساء‬ ‫حبون الرجال في المعركة لتكثير السواد‬ ‫والصبيان الذين َيص َ‬ ‫ق السبي في خيبر‪.‬‬ ‫وللتحميس‪ .‬ومع ذلك فإن الرسول لم َيستر ّ‬ ‫فإنه صلى ا عليه وسلم حين غزا خيبر وانتصر على أهلها‪،‬‬ ‫تركهم أحرارا وترك الرض تحت أيديهم يزرعونها على نصف‬ ‫غلتها‪ .‬قال أبو عبيد عن السبي‪" :‬إن المام مخّير فيهم ما لم‬ ‫سموا لم يكن عليهم سبيل إل ّ باستيهاب وطيب‬ ‫سموا فإذا ُق ِ‬ ‫ُيق َ‬ ‫أنفس الذين صاروا لهم‪ ،‬كِفعل رسول ا صلى ا عليه وسلم‬ ‫حنين لم يرتجع أحد منهم شيئا من السبي إل ّ باستيهاب‬ ‫بأهل ُ‬ ‫وطيب من النفس لنه قد كان قسمهم‪ ،‬ولم يفعل ذلك بأهل‬ ‫خيبر ولكنه تركهم أحرارا ولم يستوهبهم من أحد لنه لم يكن‬ ‫جرى عليه القسم"‪ .‬وأّما غير السبي وهم الرجال المحاِربون إذا‬ ‫ق أحدا‬ ‫ُأخذوا أسرى فإن الرسول صلى ا عليه وسلم لم يستر ّ‬ ‫ق أسيرا من الذكور‬ ‫صح أنه استر ّ‬ ‫من ذكورهم مطلقا‪ ،‬ولم َي ِ‬ ‫المحاِربين ل من العرب ول من اليهود ول من النصارى‪ .‬وكلمة‬ ‫أسير إذا ُأطلقت تنصرف إلى الَذَكر المحاِرب‪ .‬وأّما المرأة والطفل‬ ‫فإنه ُيطلق عليهم في اللغة السبي وليس السرى‪.‬‬ ‫ومن ذلك يتبين أن السلم منع استرقاق السرى وخّير‬ ‫الخليفة في السبي بين السترقاق والطلق وليس فيهم فداء‪،‬‬ ‫حنين استرّقهم ثم أطلقهم‪ ،‬وكما‬ ‫كما فعل الرسول في سبي ُ‬ ‫حَبت‬ ‫ص ِ‬ ‫فعل في سبي خيبر تركهم أحرارا ولم يسترّقهم‪ .‬وهذا إذا َ‬ ‫النساء والطفال الجيش في الحرب‪ ،‬أّما إذا ظلوا في بيوتهم فل‬ ‫سر ول سبي‪ .‬وعمل الخليفة في مسألة‬ ‫شيء عليهم‪ ،‬ل أ ْ‬ ‫استرقاق السبي إّنما يسير بها حسب ما تقتضيه السياسة الحربية‬ ‫في معاملة العداء‪ ،‬وليس المقصود به السترقاق‪ ،‬وإّنما هو‬ ‫معاملة من معاملت الحرب التي ُترك المر فيها للخليفة‪ ،‬يفعل ما‬ ‫يراه وما يقتضيه الموقف بالنسبة للعدو‪.‬‬ ‫ومن ذلك يتبين أن السلم عالج السترقاق فمنع جميع‬ ‫الحالت التي يحصل فيها السترقاق‪ ،‬وترك للخليفة الخيار في‬ ‫حالة السبي تبعا للموقف بالنسبة للعدو‪ .‬وبذلك يكون قد قضى‬ ‫‪-204-‬‬


‫على السترقاق ول سيما حين تبطل عند الناس إخراج النساء‬ ‫والطفال مع الجيش لتكثير السواد والتحميس‪ ،‬كما هي الحال‬ ‫في الحروب الحديثة منذ قرون حتى اليوم‪ ،‬فإنه ل يبقى ول حالة‬ ‫واحدة يحصل فيها السترقاق مطلقا‪ ،‬وبذلك يكون السلم منع‬ ‫السترقاق‪.‬‬

‫العلقات بين الفراد‬ ‫شرحت هي نماذج من الحكام‬ ‫هذه الحكام السابقة التي ُ‬ ‫الشرعية المتعلقة بالدولة السلمية وبعلقاتها مع غيرها من‬ ‫الدول والشعوب والمم‪ .‬وقد بّين فيها بعض الحكام نموذجا‬ ‫لسائر الحكام‪ ،‬حتى يتبين المسلم منها الساس الذي تقوم عليه‬ ‫هذه العلقة العامة ونوع الحكام التي تعالج مشاكلها‪ .‬وهناك‬ ‫علقات بين الفراد تقوم عليها مصالحهم في معاشهم‪ ،‬وقد جاء‬ ‫السلم فعالج هذه العلقات بين الفراد بأحكام شرعية خاصة‬ ‫بالعلقات الفردية‪ ،‬عامة للنسان من حيث هو إنسان‪.‬‬ ‫والسلم في تشريعه كله يشّرع للنسان ل لفراد معّينين‪،‬‬ ‫ولكنه يشّرع للنسان الممّثل في أفراد‪ ،‬ويشّرع لهؤلء الفراد‬ ‫بوصفهم النساني باعتبارهم مجموعة من الناس يكّونون‬ ‫جماعة‪ ،‬ويشّرع لهؤلء الفراد ولهذه الجماعة ما يحتاجونه من‬ ‫علقات‪ ،‬ومن العلقات بين الفراد التي بوجودها يتكّون‬ ‫المجتمع‪.‬‬ ‫ما كان المقصود بالنسان‪ ،‬جنس النسان‪ ،‬بغض النظر‬ ‫ول ّ‬ ‫عن كونه خالدا أو محمدا‪ ،‬فإن التشريع جاء لهذا النسان ل لفرد‬ ‫ما كان المقصود بالفرد هو الشخص المعّين من حيث‬ ‫معّين‪ .‬ول ّ‬ ‫كونه خالدا أو محمدا المعّين‪ ،‬فإن السلم قد جعل القيام‬ ‫بتكاليف التشريع مطلوبا من الفرد باعتبار فردّيته هو‪ ،‬ومقصودا‬ ‫به معالجة مشاكل الفرد أي فرد‪ ،‬ومأمورا بالتقيد بكل ما جاء في‬ ‫طلب منه‬ ‫شرعت للنسان‪ ،‬فإن الذي ُ‬ ‫السلم‪ .‬فالحكام وإن ُ‬ ‫القيام بتكاليفها هو الفرد المعّين‪ ،‬أي خالد ومحمد‪ ،‬ولكن ل‬ ‫باعتبار فرديته الخاصة به والتي ل يشاركه فيها غيره كطوله أو‬ ‫حبه للخضار وعزوفه عن اللحوم‪ ،‬بل للفرد باعتبار كونه إنسانا‬ ‫تنطبق عليه صفات النسان الفطرية مما يكون مظهرا من‬ ‫‪-205-‬‬


‫مظاهر الطاقة الحيوية التي تظهر في أفعال هذا الفرد باعتباره‬ ‫إنسانا‪ .‬وقد جاء السلم بالحكام لتنظيم العلقات بين الفراد‬ ‫في حياتهم المعاشية العامة والخاصة‪ ،‬أي جاء بالحكام لتنظيم‬ ‫العلقات بين الناس بعضهم مع بعض‪ ،‬كما جاء بالحكام التي‬ ‫شرعت لتنظيم العلقات بين الناس وبين الدولة‪ ،‬وبين الدولة‬ ‫ُ‬ ‫وغيرها من الدول‪ ،‬أو لتنظيم الجماعة من حيث هي جماعة‪.‬‬ ‫فكلها أحكام يكّلف بها الفرد المعّين‪ ،‬محمد أو خالد أو حسن‪،‬‬ ‫ولكن من حيث كونه إنسانا‪.‬‬ ‫وِمن تتّبع الحكام الشرعية في جملتها‪ ،‬نجد أن السلم‬ ‫حين شّرع الحكام راعى مصلحة الفرد بمشخصاته الخاصة‪،‬‬ ‫ومصلحة الجماعة التي يعيش فيها باعتبارها جماعة مكّونة من‬ ‫أفراد من حيث كونها جماعة ل من حيث العلقات بين أفرادها‪.‬‬ ‫فإنه حين يشرع للجماعة بما بينها من علقات يراعي مصلحة‬ ‫الفرد‪ ،‬وحين يشرع للفرد بما بينه وبين غيره من علقات يراعي‬ ‫مصلحة الجماعة‪ ،‬ولذلك تجده حين جعل للدولة حق أخذ مال‬ ‫ف موارد بيت المال‬ ‫من المسلمين لدارة شؤون الرعية إذا لم تك ِ‬ ‫المنصوص عنها‪ ،‬قّيد الدولة بأن ل تأخذ إل ّ لما أوجبه ا على‬ ‫الجماعة‪ ،‬كأخذ مال للجهاد أو لطعام جائعين‪ ،‬وقّيدها أن ل تأخذ‬ ‫هذا إل ّ من فضول مال الغنياء‪ ،‬أي ما يزيد على حاجاتهم‬ ‫الساسية التي هي المأكل والملبس والمسكن‪ ،‬وحاجاتهم‬ ‫الكمالية التي تعتبر ضرورية حسب اصطلح مجتمعهم‪ ،‬أي حسب‬ ‫المعروف من حاجات أمثالهم‪ ،‬كالزواج وما يركبونه لقضاء‬ ‫حاجاتهم البعيدة‪ ،‬وكالخادم‪ ،‬وما شاكل ذلك‪ .‬فهذا التشريع لحفظ‬ ‫الجماعة روعيت فيه مصلحة الفرد‪ .‬ونجد الشرع أيضا حين يبيح‬ ‫للفرد أن يبني بيتا أو يزرع بستانا يجعل عليه حق الطريق للناس‬ ‫ويمنعه من البناء والغراس أو الزرع على أي وجه يعتدي به على‬ ‫حق الطريق أو على ملكية عامة‪ .‬وحين أباح للفرد بيع ما يملك‬ ‫خارج ديار السلم في تجارة‪ ،‬منعه أن يبيع السلح وكل ما يقوى‬ ‫به العدو على المسلمين‪ .‬فهذا تشريع للفرد روعيت فيه مصلحة‬ ‫الجماعة‪.‬‬ ‫وعليه فالتشريع الذي ينظم العلقات بين الفراد مع كونه‬ ‫تشريعا للعلقات الفردية‪ ،‬ولكنه ل ينفصل عن كونه تشريعا‬ ‫لنسان‪ ،‬ول عن كونه تشريعا للجماعة‪ ،‬ول عن كونه تشريعا‬ ‫‪-206-‬‬


‫للمجتمع أي للعلقات القائمة بين أفراد هذه الجماعة‪.‬‬ ‫وعلى هذا فنماذج الحكام الشرعية المتعلقة بعلقات‬ ‫الفراد هي أحكام شرعية عامة لبني النسان وإن عالجت‬ ‫علقات أفراد وكانت تنطبق على الفراد المعّينين الذين يباشرون‬ ‫ل‪ ،‬البيع أحكام شرعية لتنظيم العلقات بين الفراد‬ ‫القيام بها‪ .‬فمث ً‬ ‫الذين يطّبقون أحكام السلم تحت راية الدولة السلمية فهم‬ ‫شرون هذه الحكام‪ ،‬ولكنها تنطبق على جميع الفراد‬ ‫الذين يبا ِ‬ ‫شر البيع محمد وخالد يكونان هما‬ ‫من بني النسان‪ .‬وحين يبا ِ‬ ‫طبْين بتنفيذ أحكام البيع لنهما َتلّبسا بالبيع‪ ،‬وليس مطالبا بها‬ ‫المخا َ‬ ‫شرعت‬ ‫حسن وصالح اللذان ل يتلبسان بالبيع‪ .‬فأحكام البيع ُ‬ ‫ليطبقها الفراد‪ ،‬ولكن على اعتبار أنهم من بني النسان‬ ‫ويعيشون في جماعة‪ ،‬ويطبقونها حين تحصل المشكلة‬ ‫ما كان الفرد المسلم ل بد أن يطبق أحكام‬ ‫ويباشرونها‪ .‬ول ّ‬ ‫السلم على أعماله الفردية كان فرض عين عليه أن يعرف‬ ‫حكم الشرع في كل مسألة يريد مباشرتها‪ ،‬فكان من المفيد‬ ‫عرض نماذج من الحكام المتعلقة بعلقات الفراد مع بعضهم‬ ‫ليعرفها المسلمون ويراجعوا كتب الشريعة لمعرفة ما يحتاجون‪.‬‬

‫البيـع‬ ‫البيع لغة ُمطَلق المباَدلة‪ ،‬وهو ضد الشراء‪ .‬وُيطلق البيع‬ ‫على الشراء أيضا كما ُيطلق الشراء على البيع‪ ،‬فيقال‪ :‬باعه منه‬ ‫بمعنى اشتراه‪ ،‬شروه لهم بمعنى باعوه‪ ،‬فُيطلق كل منهما على‬ ‫الخر‪ ،‬والقرنية تعّين المراد‪ .‬وأّما البيع شرعا فهو مبادلة مال‬ ‫بمال تمليكا وتملكا على سبيل التراضي‪ .‬والبيع جائز بالكتاب‬ ‫ل ا البيع(‪ ،‬وقال‪) :‬وأشِهدوا إذا‬ ‫والسّنة‪ ،‬قال ا تعالى‪) :‬وأح ّ‬ ‫ض منكم(‪ ،‬وقال‬ ‫تبايعتم(‪ ،‬وقال‪) :‬إل ّ أن تكون تجارة عن ترا ٍ‬ ‫صلى ا عليه وسلم‪) :‬البّيعان بالخيار ما لم يتفّرقا(‪ ،‬وروى رفاعة‬ ‫أنه خرج مع النبي صلى ا عليه وسلم إلى المصلى فرأى الناس‬ ‫يتبايعون فقال‪ :‬يا معشر التجار‪ .‬فاستجابوا لرسول ا صلى ا‬ ‫عليه وسلم ورفعوا أعناقهم وأبصارهم إليه‪ ،‬فقال‪) :‬إن التجار‬ ‫صَدق(‪ ،‬وروى أبو سعيد عن‬ ‫جارا إل ّ من َ‬ ‫ُيبعثون يوم القيامة ُف ّ‬ ‫النبي صلى ا عليه وسلم أنه قال‪) :‬التاجر الصدوق المين مع‬ ‫‪-207-‬‬


‫النبيين والصديقين والشهداء(‪.‬‬ ‫وُيشترط في البيع وجود اليجاب والقبول بلفظ يدل على‬ ‫كل واحد منهما أو ما يقوم مقام اللفظ كإشارة الخرس‪ .‬والكتابة‬ ‫تعتبر من اللفظ‪ .‬أّما البيع عمليا كأن يأخذ المشتري السلعة ويدفع‬ ‫ثمنها كبيع الخبز والصحف وطوابع البريد وما شاكل ذلك‪ ،‬فإنه‬ ‫ُينظر فيها‪ :‬فإن كانت السلعة معروفة الثمن في السوق ليس فيها‬ ‫مساومة فإن العمل حينئذ يدل على اليجاب والقبول‪ ،‬فُيعتبر بيعا‬ ‫وهو ما ُيطِلق عليه الفقهاء بيع المعاطاة‪ .‬أّما إن كان ثمن‬ ‫السلعة غير محدد في السوق ويحتاج إلى مساومة فإنه ل يصح‬ ‫فيه بيع المعاطاة‪ ،‬لن العمل ل يدل على اليجاب والقبول‪ ،‬إذ‬ ‫يمكن أن تدخله المنازعات‪ ،‬وهذا خلف ما يجب أن تكون عليه‬ ‫المعاملت‪ .‬إذ يجب أن تكون المعاملت على وجه يمنع‬ ‫المنازعات‪ ،‬فل يعتبر حينئذ بيع المعاطاة بيعا لخلّوه من النص‬ ‫ما كان اليجاب‬ ‫على اليجاب والقبول‪ .‬ومن ذلك يتبين أنه ل ّ‬ ‫والقبول شرطا في صحة البيع فإنه ل بد أن يحصل بلفظ يدل‬ ‫عليهما أو بإشارة أو عمل يدل عليهما دللة قطعية ل تحتمل‬ ‫غيرهما مع عدم المنازعة‪.‬‬ ‫ويتم البيع في غير المكيل والموزون والمعدود بمجرد‬ ‫ن َتَلف‬ ‫انتهاء العقد‪ ،‬ول ُيشترط في ذلك القبض لتمام البيع‪ .‬فإ ْ‬ ‫المبيع قبل قبضه كان في ضمان المشتري ل في ضمان البائع‪،‬‬ ‫كبيع الدار والدابة والسيارة وما شاكل ذلك مما ليس بمكيل ول‬ ‫موزون ول معدود‪ ،‬لن الرسول صلى ا عليه وسلم يقول‪:‬‬ ‫خراج بالضمان(‪ .‬وهذا البيع نماؤه للمشتري فضمانه عليه‪ ،‬فلو‬ ‫)ال َ‬ ‫اشترى دابة ولم يقبضها فَوَلدت‪ ،‬فإن ولدها للمشتري وليس‬ ‫للبائع‪ ،‬وِلما روى ابن عمر أنه كان على بكٍر صعب يعني لعمر‪،‬‬ ‫فقال النبي صلى ا عليه وسلم لعمر ‪ِ:‬بعِنيه‪ .‬فقال‪ :‬هو لك يا‬ ‫رسول ا‪ .‬فقال النبي صلى ا عليه وسلم‪) :‬هو لك يا عبدا‬ ‫بن عمر‪ ،‬فاصنع به ما شئت(‪ .‬فهذا حصل فيه التصرف بالبيع قبل‬ ‫قبضه‪ ،‬فهو مستثنى لنه غير مكيل ول موزون ول معدود‪ .‬أّما إذا‬ ‫وقع البيع على مكيل أو على موزون أو على معدود فإن البيع ل‬ ‫يتم فيها إل ّ بقبض المبيع‪ ،‬فإذا تلف المبيع قبل قبضه فهو من مال‬ ‫البائع‪ ،‬لن النبي صلى ا عليه وسلم نهى عن بيع الطعام قبل‬ ‫قبضه‪ ،‬ولقوله عليه السلم‪) :‬من ابتاع طعاما فل يبيعه حتى‬ ‫‪-208-‬‬


‫يستوفيه(‪ ،‬وعن ابن عمر قال‪) :‬كنا نشتري الطعام من الركبان‬ ‫جزافا فنهانا رسول ا صلى ا عليه وسلم أن نبيعه حتى ننقله‬ ‫من مكانه(‪ .‬فهذا يدل على أن المبيع في ضمان البائع‪ ،‬ولو دخل‬ ‫في ضمان المشتري لجاز له بيعه والتصرف فيه كما بعد القبض‪.‬‬ ‫ما نهى عن بيعه قبل قبضه فقد نهى عن التصرف فيه‪ ،‬ومعناه‬ ‫فل ّ‬ ‫لم يتم ملكه له فهو في ضمان البائع وليس في ضمان المشتري‪.‬‬ ‫وإنه وإن كان قد ورد النهي عن الطعام فإن الطعام ل يخلو أن‬ ‫يكون مكيل ً أو موزونا أو معدودا‪ ،‬فيكون النهي منصّبا على‬ ‫الطعام مكيل ً وعلى الطعام موزونا وعلى الطعام معدودا‪،‬‬ ‫فيشمل النهي عن بيع كل مكيل وموزون ومعدود حتى ُيقَبض‪،‬‬ ‫سواء أكان طعاما أو غير طعام‪ ،‬لنه ورد في بعض الحاديث‬ ‫نص على الكيل وبعضها نص على السلع وفي بعضها نص على‬ ‫الشيء‪ ،‬فقد روى مسلم أن النبي صلى ا عليه وسلم قال‪) :‬من‬ ‫اشترى طعاما فل يبيعه حتى يكتاله(‪ ،‬وعن حكيم بن حزام قال‪:‬‬ ‫ل لي منها وما يحرم‬ ‫ح ّ‬ ‫قلت‪ :‬يا رسول ا إني أشتري بيوعا فما َي ِ‬ ‫ت شيئا فل تبعه حتى تقبضه(‪ ،‬وعن زيد بن‬ ‫ي؟ قال‪) :‬إذا اشتري َ‬ ‫عل ّ‬ ‫ثابت )أن النبي صلى ا عليه وسلم نهى أن ُتباع السلع حيث‬ ‫ُتبتاع حتى يحوزها التجار إلى رحالهم(‪ ،‬وُروي أن النبي صلى ا‬ ‫عليه وسلم قال‪) :‬من اشترى طعاما بكيل أو وزن فل يبيعه حتى‬ ‫يقبضه(‪ .‬فهذه الحاديث كلها دالة على عموم الشياء المكيلة‬ ‫والموزونة والمعدودة‪ ،‬بدليل استثناء غير المكيل والموزون‬ ‫والمعدود بحديث ابن عمر الذي ُذكر فيه أنه أي رسول ا اشترى‬ ‫من عمر جمل ً ووهبه لعبدا بن عمر قبل قبضه‪ ،‬فل ُيشترط فيه‬ ‫شْرط تمام البيع‬ ‫القبض بخلف المكيل والموزون والمعدود‪ ،‬ف َ‬ ‫فيها قبض المشتري للمبيع‪.‬‬ ‫والقبض المعتَبر قبضا شرعا يختلف باختلف الشياء‪،‬‬ ‫فقْبض كل شيء بحسبه‪ ،‬فإن كان مكيل ً أو موزونا فقْبضه بكيله‬ ‫أو وزنه‪ِ ،‬لما روى أبو هريرة أن رسول ا صلى ا عليه وسلم‬ ‫ت فاكَتل(‪ ،‬وعن جابر قال‪) :‬نهى‬ ‫كل وإذا ابتع َ‬ ‫تف ِ‬ ‫قال‪) :‬إذا بع َ‬ ‫النبي صلى ا عليه وسلم عن بيع الطعام حتى يجري فيه‬ ‫الصاعان صاع البائع وصاع المشتري(‪ ،‬وعن عثمان قال‪) :‬كنت‬ ‫أبتاع التمر من بطن من اليهود يقال لهم بنو قينقاع وأبيعه بربح‪،‬‬ ‫فبلغ ذلك النبي صلى ا عليه وسلم فقال‪ :‬يا عثمان إذا ابتع َ‬ ‫ت‬ ‫‪-209-‬‬


‫ضها‬ ‫كل(‪ .‬أّما إن كان المبيع دراهم ودنانير فقب ُ‬ ‫فاكَتل وإذا بعت ف ِ‬ ‫ضه تمشيته‬ ‫ضها نقلها‪ ،‬وإن كان حيوانا فقب ُ‬ ‫باليد‪ ،‬وإن كانت ثيابا فقب ُ‬ ‫ضه‬ ‫من مكانه‪ ،‬وإن كان مما ل ُينقل ويحّول كالدار والرض فقب ُ‬ ‫التخلية بينه وبين مشتريه ل حائل دونه‪ ،‬لن كلمة قبض لفظ له‬ ‫ن لم َيِرد نص شرعي عليها فيعتبر واقع ما‬ ‫مدلول اصطلحي‪ ،‬فإ ْ‬ ‫تدل عليه عند القوم‪ .‬ويجوز القبض قبل دفع الثمن وبعده‪ ،‬لن‬ ‫التسليم من مقتضيات العقد فمتى ُوجد بعد العقد فقد وقع‬ ‫موقعه‪ ،‬وكذلك قبض الثمن فل يتوقف قبض أحدهما على الخر‪.‬‬

‫ح ّرم على العباد فبيعه حرام‬ ‫كل ما ُ‬ ‫حّرم ا‬ ‫مْيتة‪ ،‬وأشياء َ‬ ‫حّرم ا أكلها كلحم ال َ‬ ‫هناك أشياء َ‬ ‫حّرم‬ ‫حّرم ا اتخاذها كالصنام‪ ،‬وأشياء َ‬ ‫شربها كالخمر‪ ،‬وأشياء َ‬ ‫حّرم صنعها كالصور‪ .‬فهذه الشياء‬ ‫ا اقتناءها كالتماثيل‪ ،‬وأشياء َ‬ ‫وردت النصوص الشرعية من آيات وأحاديث في تحريمها‪ .‬فما‬ ‫حّرمه ا على العباد من الشياء التي ورد نص شرع في‬ ‫تحريمها‪ ،‬سواء حرم أكلها أو شربها أو غير ذلك‪ ،‬فإن بيع هذه‬ ‫الشياء التي حرمها ا على العباد يكون حراما لتحريم ثمنها‪.‬‬ ‫عن جابر أنه سمع رسول ا صلى ا عليه وسلم يقول‪) :‬إن‬ ‫مْيتة والخنزير والصنام‪ .‬فقيل‪ :‬يا رسول‬ ‫ا حّرم بيع الخمر وال َ‬ ‫مْيتة فإنه ُيطلى بها السفن وُيدهن بها الجلود‬ ‫ا أرأيت شحوم ال َ‬ ‫وَيستصبح بها الناس؟ فقال‪ :‬ل‪ ،‬هو حرام‪ .‬ثم قال رسول ا‬ ‫ما حّرم‬ ‫صلى ا عليه وسلم عند ذلك‪ :‬قاتل ا اليهود‪ ،‬إن ا ل ّ‬ ‫جملوه ثم باعوه فأكلوا ثمنه(‪ ،‬وجملوه‪ :‬أذابوه‪ .‬وعن‬ ‫شحومها َ‬ ‫ابن عباس أن النبي صلى ا عليه وسلم قال‪) :‬لعن ا اليهود‪،‬‬ ‫ن ا إذا حّرم‬ ‫حّرمت عليهم الشحوم فباعوها وأكلوا أثمانها‪ ،‬وإ ّ‬ ‫ُ‬ ‫على قوم أكل شيء حّرم عليهم ثمنه(‪.‬‬ ‫وهذا النص الشرعي في التحريم غير معّلل ول يوجد نص‬ ‫شرعي آخر يعللها‪ ،‬ولذلك تبقى ُمطَلقة غير معّللة‪ .‬فل يقال العلة‬ ‫في تحريمها عدم المنفعة المباحة لُيتوصل من ذلك أنه إن كانت‬ ‫فيها منفعة مباحة جازت‪ .‬لنه نص ظاهر فيه عدم التعليل ول‬ ‫حّرم على العباد‬ ‫ُيحتمل أن ُيفهم منه أنه معّلل‪ .‬ولذلك كان بيع ما ُ‬ ‫حراما‪ ،‬سواء أكانت فيه منفعة مباحة أم لم تكن‪ .‬ومن هنا حرم‬ ‫‪-210-‬‬


‫بيع الصنام والصلبان‪ ،‬وحرم بيع التماثيل إن كانت لذي روح‬ ‫كإنسان وحيوان‪ ،‬وحرم بيع التصاوير التي ُترسم باليد إذا كانت‬ ‫تصاوير لذي روح كإنسان وحيوان‪.‬‬

‫ل يجوز بيع ما ليس عندك‬ ‫ن باعها في هذه‬ ‫ل يجوز بيع السلعة قبل تمام ملكها‪ ،‬فإ ْ‬ ‫الحال كان البيع باطل ً‪ .‬وهذا َيصُدق على حالتين‪ :‬إحداهما أن‬ ‫يبيع السلعة قبل أن يملكها‪ ،‬والثانية أن يبيعها بعد أن يشتريها‬ ‫ولكن قبل أن يتم ملكه لها بالقبض فيما ُيشترط في تمام ملكه‬ ‫القبض‪ ،‬لن عقد البيع إّنما يقع على الملك‪ ،‬وما لم ُيملك بعد أو‬ ‫اشتراه ولكن لم يتم ملكه له بعد لنه لم يقبضه ل يقع عليه عقد‬ ‫البيع لنه ل يوجد محل يقع عليه العقد شرعا‪ .‬فقد نهى رسول‬ ‫ا صلى ا عليه وسلم عن بيع ما ل يملكه البائع‪ .‬عن حكيم بن‬ ‫حزام قال‪ :‬قلت‪ :‬يا رسول ا يأتيني الرجل فيسألني عن البيع‬ ‫ل َتِبع ما‬ ‫ليس عندي ما أبيعه منه ثم أبتاعه من السوق‪ .‬فقال ‪) :‬‬ ‫ليس عندك(‪ ،‬وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال‪ :‬قال‬ ‫ف ول بيع ول‬ ‫سَل ٌ‬ ‫حل َ‬ ‫ل َي ِ‬ ‫رسول ا صلى ا عليه وسلم ‪) :‬‬ ‫شرطان في بيع ول ربح ما لم ُيضمن ول بيع ما ليس عندك(‪،‬‬ ‫فتعبير الرسول بما ليس عندك عام يدخل تحته ما ليس في ملكك‬ ‫وما ليس في قدرتك تسليمه وما لم يتم ملكك له‪ .‬ويؤيد ذلك‬ ‫الحاديث الواردة في النهي عن بيع ما لم ُيقبض مما ُيشترط في‬ ‫تمام ملكه القبض‪ ،‬فإنها تدل على أن من اشترى ما ُيحتاج إلى‬ ‫جز بيعه حتى يقبضه‪ ،‬فيكون حكمه‬ ‫قبضه حتى يتم شراؤه له لم َي ُ‬ ‫حكم بيع ما ل يملك‪ ،‬لقول النبي صلى ا عليه وسلم‪) :‬من ابتاع‬ ‫طعاما فل َيِبعه حتى يستوفيه(‪ ،‬وِلما روى أبو داود )أن النبي‬ ‫صلى ا عليه وسلم نهى عن أن تباع السلع حتى ُتبتاع حتى‬ ‫يحوزها التجار إلى رحالهم(‪ ،‬وِلما روى ابن ماجه )أن النبي صلى‬ ‫ا عليه وسلم نهى عن شراء الصدقات حتى ُتقبض(‪ ،‬وِلما ُروي‬ ‫)أن النبي صلى ا عليه وسلم لما بعث عتاب بن أسيد إلى مكة‬ ‫ع ما لم يقبضوه(‪ .‬فهذه الحاديث صريحة في‬ ‫قال‪ :‬إنَهُهم عن بي ِ‬ ‫النهي عن بيع ما لم يقبضوه لنه لم يتم ملك البائع له‪ ،‬لن ما‬ ‫يحتاج إلى قبضه ل يتم الملك عليه حتى يقبضه المشتري‪ ،‬ولنه‬ ‫‪-211-‬‬


‫من ضمان بائعه‪.‬‬ ‫ومن ذلك يتبين أنه يشترط في صحة البيع أن تكون السلعة‬ ‫قد ملكها البائع وتمت ملكيته لها‪ ،‬أّما إن كان لم يملكها أو ملكها‬ ‫كته‬ ‫ولم تتم ملكيته لها فل يجوز بيعه لها مطلقا‪ ،‬وهذا يشمل ما مل ْ‬ ‫ولم تقبضه مما يشترط فيه لتمام البيع القبض‪ ،‬وهو المكيل‬ ‫والموزون والمعدود‪ .‬أّما ما ل ُيشترط لتمام ملكه القبض وهو‬ ‫غير المكيل والموزون والمعدود مثل الحيوان والدار والرض وما‬ ‫شاكل ذلك فإنه يجوز للبائع أن يبيعه قبل قبضه‪ ،‬لن مجرد‬ ‫حصول عقد البيع باليجاب والقبول قد تم البيع سواء قبضه أم لم‬ ‫يقبضه‪ ،‬فيكون قد باع ما تم ملكه له‪ .‬فمسألة عدم البيع ليست‬ ‫متعلقة بالقبض وعدم القبض‪ ،‬وإّنما هي متعلقة بملكية البيع‬ ‫وبتمام هذه الملكية له‪.‬‬ ‫أّما جواز بيع ما لم ُيقبض من غير المكيل والموزون‬ ‫والمعدود فثابتة بالحديث الصحيح‪ .‬فقد روى ابن عمر قال‪ :‬كنا‬ ‫نبيع البل بالبقيع بالدراهم فنأخذ بدل الدراهم الدنانير ونبيعها‬ ‫سأْلنا النبي صلى ا عليه وسلم‬ ‫بالدنانير فنأخذ بدلها الدراهم‪ ،‬ف َ‬ ‫عن ذلك فقال ‪ :‬ل) بأس إذا تفّرقتما وليس بينكما شيء(‪ ،‬وهذا‬ ‫عَوضْين كالبيع‪ .‬وروى‬ ‫تصرف في الثمن قبل قبضه وهو أحد ال ِ‬ ‫ابن عمر )أنه كان على بكر صعب –يعني لعمر‪ -‬فقال رسول ا‬ ‫صلى ا عليه وسلم لعمر ‪ِ:‬بعِنيه‪ .‬فقال‪ :‬هو لك يا رسول ا‪.‬‬ ‫فقال النبي صلى ا عليه وسلم‪ :‬هو لك يا عبدا بن عمر‪،‬‬ ‫فاصنع به ما شئت(‪ ،‬وهذا تصرف في البيع بالهبة قبل قبضه مما‬ ‫يدل على تمام ملك المبيع قبل قبضه‪ ،‬ويدل على جواز بيعه لنه‬ ‫قد تم ملك البائع له‪ .‬وعليه فإن ما ملكه البائع وتم ملكه عليه جاز‬ ‫له بيعه‪ ،‬وما لم يملكه أو لم يتم ملكه عليه ل يجوز له بيعه‪.‬‬ ‫وعليه فإن ما يفعله صغار التجار من مساومة المشتري‬ ‫على السلعة ثم التفاق معه على الثمن وبيعه إياها ثم الذهاب‬ ‫إلى تاجر آخر لشرائها لمن باعوها له وإحضارها وتسليمها‬ ‫للمشتري ل يجوز لنه بيع ما لم يملك‪ ،‬فإن التاجر حين سئل عن‬ ‫السلعة لم تكن عنده ولم يكن يملكها ولكنه يعرف أنها موجودة‬ ‫في السوق عند غيره فيكذب ويخبر المشتري أنها موجودة ويبيعه‬ ‫ثم يذهب ليشتريها بعد بيعها‪ ،‬فهذا حرام ل يجوز لنه باع سلعة‬ ‫لم يملكها بعد‪ .‬وكذلك ما يفعله أصحاب دكاكين سوق الخضرة‬ ‫‪-212-‬‬


‫وسوق الحبوب من بيعهم الخضرة والقمح قبل أن يتم ملكهم‬ ‫لها‪ ،‬فإن بعض التجار يشترون الخضرة أو القمح من الفلح وقبل‬ ‫أن يقبضوها يبيعونها‪ ،‬فهذا ل يجوز لنه من الطعام الذي ل يتم‬ ‫ملكه إل ّ بقبضه‪ .‬وكذلك ما يفعله المستوِردون للبضائع من بلد‬ ‫أخرى‪ ،‬فإن بعضهم يشتري البضائع ويشترط فيها تسليم البلد‪ ،‬ثم‬ ‫يبيعها قبل أن تصل‪ ،‬أي قبل أن يتم ملكهم لها‪ ،‬فهذا بيع حرام لنه‬ ‫بيع لما لم يتم ملكه بعد‪.‬‬

‫س َلم‬ ‫بيع ال َ‬ ‫بيع ما ل يملكه وما لم يتم ملكه بعُد حرام‪ ،‬لورود الحاديث‬ ‫في ذلك‪ .‬والحاديث جاءت عامة تشمل كل بيع لم ُيملك ولم يتم‬ ‫ل َتِبع ما ليس عندك(‪ ،‬وقال لعتاب بن‬ ‫ملكه‪ ،‬قال عليه السلم ‪) :‬‬ ‫ع ما لم يقبضوه(‪ .‬إل ّ أن هذه الدلة العامة قد‬ ‫أسيد‪) :‬إنَهُهم عن بي ِ‬ ‫سَلم فقد استثناه الشرع‬ ‫سَلم‪ .‬أّما بيع ال َ‬ ‫خصصت في غير بيع ال َ‬ ‫ُ‬ ‫من النهي وأجازه‪ ،‬قال صلى ا عليه وسلم‪) :‬من أسَلم فليسل ْ‬ ‫م‬ ‫سَلف‬ ‫سَلم ال َ‬ ‫في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم(‪ .‬وال َ‬ ‫عَوض‬ ‫بفتحتين وزنا ومعنى‪ .‬وهو أن يسلم عوضا حاضرا في ِ‬ ‫سلف مال ً ثمنا لسلعة‬ ‫موصوف في الذمة إلى أجل‪ .‬أي أن ُي ْ‬ ‫سَلم نوع من البيع ينعقد بما‬ ‫يقبضها بعد مدة لجل معّين‪ .‬وال َ‬ ‫ينعقد به البيع وبلفظ السلم والسلف‪ ،‬ويقال أسَلم وأسَلف‪ ،‬وُيعتبر‬ ‫فيه من الشروط ما ُيعتبر في البيع‪.‬‬ ‫وقد جرى تعامل الناس بالسلم والتسليف لنهم في حاجة‬ ‫إليه ول سيما الفلحين والتجار‪ ،‬فإن أرباب الزروع والثمار‬ ‫يحتاجون النفقة على أنفسهم وعليها ليتمموا ما تحتاج إليه تلك‬ ‫الزروع والثمار من أعمال‪ ،‬وقد يعوزهم المال فل يجدونه‬ ‫جل يقبضونه حال ً في‬ ‫فيبيعون محاصيلهم قبل خروجها بثمن مع ّ‬ ‫مجلس العقد‪ ،‬على أن يسّلموا السلعة للمشتري عند حلول الجل‬ ‫المضروب‪ .‬وأن التجار قد يبيعون بضاعة ليست عندهم إلى أجل‬ ‫معلوم يعّينونه ويقبضون الثمن حال ً في مجلس العقد على أن‬ ‫يسّلموا البضاعة عند حلول الجل المضروب‪.‬‬ ‫وجواز المسلم ثابت بالسّنة فعن ابن عباس قال ‪َ :‬ق"ِدم‬ ‫النبي صلى ا عليه وسلم المدينة وهم يسلفون في الثمار السّنة‬ ‫‪-213-‬‬


‫والسنتين فقال‪) :‬من أسلف فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم‬ ‫إلى أجل معلوم(‪ .‬وعن عبدالرحمن بن أبي ابزى وعبدا بن أبي‬ ‫أوفى قال‪) :‬كنا نصيب المغانم مع رسول ا صلى ا عليه‬ ‫وسلم وكان يأتينا أنباط من أنباط الشام فنسلفهم في الحنطة‬ ‫والشعير والزبيب إلى أجل مسمى‪ ،‬قيل‪ :‬أكان لهم زرع أو لم‬ ‫يكن؟ قال‪ :‬ما كنا نسألهم عن ذلك(‪ .‬وفي رواية‪) :‬كنا نسلف على‬ ‫عهد النبي صلى ا عليه وسلم وأبي بكر وعمر في الحنطة‬ ‫والشعير والزبيب والتمر وما نراه عندهم(‪ .‬فهذه الحاديث كلها‬ ‫دليل واضح على جواز السلم‪.‬‬ ‫أّما ما هي الشياء التي يجوز فيها السلم وما هي الشياء‬ ‫التي ل يجوز فيها السلم فإنه واضح في الحديث والجماع‪ .‬وذلك‬ ‫أن السلم بيع ما ل يملك وبيع ما لم يتم ملكه وهما ممنوعان‪.‬‬ ‫خصص المنع في غيره‪ .‬ولذلك ل‬ ‫وقد استثني السلم منها بالنص ف ُ‬ ‫بد أن يكون الشيء الذي يصح فيه السلم منصوصا عنه‪.‬‬ ‫وبالرجوع إلى النصوص نجد أن السلم يجوز في كل ما يكال‬ ‫ويوزن كما يجوز في كل معدود‪ .‬أّما جوازه فيما يكال ويوزن‬ ‫فِلما ثبت من حديث ابن عباس قال رسول ا صلى ا عليه‬ ‫وسلم‪) :‬من أسلف فليسلف في ثمن معلوم ووزن معلوم إلى‬ ‫أجل معلموم(‪ ،‬وفي رواية أخرى لبن عباس قال‪ :‬قال رسول‬ ‫ا صلى ا عليه وسلم‪) :‬من أسلم فليسلم في كيل معلوم‬ ‫ووزن معلوم إلى أجل معلوم(‪ .‬فهذا يدل على أن المال الذي‬ ‫يسلم يكون مما يكال ويوزن‪ .‬وأّما جوازه في كل معدود فقد‬ ‫انعقد الجماع على أن السلم في الطعام جائز‪ ،‬وقد َنَقل هذا‬ ‫الجماع ابن المنذر‪ .‬وروى البخاري قال‪ :‬حدثنا شعبة قال‪:‬‬ ‫أخبرني محمد أو عبدا بن أبي المجالد قال‪" :‬اختلف عبدا بن‬ ‫شداد بن الهاد وأبو برده في السلف فبعثوني إلى ابن أبي أوفى‬ ‫رضي ا عنه فسألته فقال‪) :‬إنا كنا نسلف على عهد رسول ا‬ ‫وأبي بكر وعمر في الحنطة والشعير والزبيب والتمر(‪ ،‬فهذا يدل‬ ‫على أن السلم في الطعام جائز‪ .‬والطعام ل يخلو من كونه مكيل ً‬ ‫أو موزونا أو معدودا‪ ،‬فتعلق الحكم بكل ما يقّدر به الطعام من‬ ‫كيل أو وزن أو عدد كتعلق القبض به من كونه مما يحتاج إلى‬ ‫قبض‪ ،‬وكتعلق ربا القضل به من كونه إذا تفاضل الكيل أو الوزن‬ ‫أو العدد كان ربا‪ ،‬فتعلق به السلم أيضا من كونه يكون الطعام‬ ‫‪-214-‬‬


‫كيل ً ووزنا وعددا‪ .‬والحديث فيه نص على جواز المكيل والموزون‬ ‫ولم يذكر المعدود‪ ،‬والجماع على جواز السلم في الطعام يجعل‬ ‫المعدود داخل ً في السلم‪.‬‬ ‫إل ّ أنه ل بد أن تكون الشياء المسلم بها مضبوطة الصفة‬ ‫كقمح حوراني وتمر برني وقطن مصري وحرير هندي وتين‬ ‫تركي‪ ،‬ومضبوطة الكيل أو الوزن كصاع شامي ورطل عراقي‬ ‫وكالكيلو والليتر؛ أي ل بد أن يكون الكيل والميزان معروفين‬ ‫موصوفين‪.‬‬ ‫وكما تجب معرفة جنس المسلم به وجنس ما ُيكال وما‬ ‫يوزن كذلك يجب أن يكون البيع لجل‪ ،‬وأن يكون الجل معلوما‪،‬‬ ‫فل يصح السلم في الحال‪ ،‬بل ل بد أن يشترط الجل لقول النبي‪:‬‬ ‫)من أسلف فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل‬ ‫معلوم(‪ ،‬فدل ذلك على أن الجل شرط في صحة السلم‪ .‬على‬ ‫أنه إذا كان حال ً ولم يعين له أجل ل يسمى سلفا‪ ،‬لن الذي‬ ‫يجعله سلما وسلفا هو تعجيل أحد العوضين وتأخير العوض‬ ‫الخر‪ ،‬ول بد أن يكون الجل معلوما لقول النبي صلى ا عليه‬ ‫وسلم‪) :‬إلى أجل معلوم(‪ .‬وتعيين الجل إّنما يكون لزمان بعينه ل‬ ‫يختلف مثل إلى شهر أو سنة أو ستة أشهر أو إلى تاريخ كذا بحيث‬ ‫ل يتفاوت فيه تفاوتا كثيرا مثل إلى عيد الضحى أو إلى رمضان‪.‬‬ ‫وكذلك يصح أن يكون السلم إلى فصح النصارى وصومهم لنه‬ ‫معلوم ل يختلف‪ .‬والختلف اليسير معفو عنه‪ ،‬وكل أجل يصح‬ ‫التأجيل إليه ل فرق بين الجل القريب والجل البعيد‪ .‬إل ّ أن كلمة‬ ‫أجل لفظ "له" مدلول وُيعمل به حسب اصطلح القوم على‬ ‫مدلوله‪ .‬فإن اعتبروا أن الساعة ل يعتبر فيها أنه صار البيع لجل‬ ‫بل هو من قبيل الحال‪ ،‬وإن اعتبروها أجل ً تعتبر حينئذ الساعة‬ ‫ل‪.‬‬ ‫أج ً‬ ‫وكذلك ل بد أن يكون الثمن معلوما لقوله صّلى ا عليه‬ ‫وسلم‪) :‬فليسلف في ثمن معلوم(‪ ،‬ول يجوز أن يكون الثمن إل ّ‬ ‫مقبوضا حال ً في مجلس العقد‪ ،‬فإن تفّرق المتبايعان قبل قبض‬ ‫طَلت الصفقة كلها‪ .‬لن التسليف في اللغة العربية‬ ‫الثمن جميعه َب ُ‬ ‫التي خاطبنا بها الرسول صلى ا عليه وسلم هو أن يعطي شيئا‬ ‫في شيء‪ ،‬أي أن يدفع مال ً سلفا في سلعة يأخذها فيما بعد‪،‬‬ ‫فمن لم يدفع ما أسلف فإنه لم يسلف شيئا‪ ،‬وإّنما وعد بأن‬ ‫‪-215-‬‬


‫يسلف‪ .‬فلو دفع البعض دون البعض سواء أكان أقله أو أكثره‬ ‫فإنه يصح السلم فيما قبض ويبطل فيما لم يقبض‪ .‬فقبض البائع‬ ‫الثمن من المشتري شرط لصحة السلم‪ .‬أّما وجود السلعة‬ ‫المبيعة حين البيع فليس بشرط‪ .‬فالسلم جائز فيما ل يوجد حين‬ ‫عقد السلم وفيما يوجد‪ ،‬وإلى من عنده شيء وإلى من ليس‬ ‫عنده شيء‪ .‬لن النبي حين قدم المدينة كانوا يسلمون في الثمار‬ ‫السنة والسنتين‪ .‬ومن المعلوم أن الثمار ل تبقى هذه المدة‪.‬‬ ‫والرسول لم ينههم عن السنة والسنتين بل أقرهم على ذلك‪.‬‬ ‫وعليه يجوز أن يدفع ثمن سلع تسلم بعد مدة معينة تعتبر أجل ً‬ ‫سواء أكانت السلعة موجودة أم لم تكن‪ .‬إل ّ أنه يشترط أن ل‬ ‫يكون في الثمن غبن فاحش‪ ،‬بل يجب أن يكون الثمن حسب‬ ‫سعر السوق عند عقد البيع في مثل الجل المؤجل ل عند استلم‬ ‫السلعة‪ ،‬وذلك لن السلم بيع‪ ،‬والغبن الفاحش حرام في البيع‬ ‫كله‪ ،‬فيدخل فيه بيع السلم‪ .‬فكما أنه يحرم أن تبيع سلعة معجلة‬ ‫القبض بثمن مؤجل بغبن فاحش كذلك ل يجوز أن تبيع سلعة‬ ‫مؤجلة القبض بثمن معجل القبض بغبن فاحش‪ .‬والغبن في‬ ‫السلم حرام‪ ،‬وإذا ظهر غبن في السلم كان حكمه كحكم الغبن‬ ‫في البيع‪ ،‬للمغبون الخيار إن شاء فسخ البيع وإن شاء أمضاه‬ ‫وليس له أن يأخذ الفرق بين ثمن السلعة الحقيقي وبين الثمن‬ ‫الذي بيعت به‪ .‬إل ّ أن هذا الخيار يثبت بشرطين أحدهما عدم‬ ‫العلم وقت العقد‪ ،‬والثاني الزيادة أو النقصان الفاحش اللذين ل‬ ‫يتغابن الناس بمثلهما‪ .‬والغبن الفاحش يقدر بتقدير التجار فما‬ ‫يعتبرونه غبنا يكون غبنا‪ ،‬وما ل فل‪.‬‬

‫بيع الثمار وهي على أصولها‬ ‫من المعاملت التي درج الناس على التعامل بها ضمان‬ ‫الثمار وهي على شجرها‪ ،‬كضمان الليمون وضمان الزيتون‬ ‫والقتأة وضمان الكروم وضمان النخيل وما شاكل ذلك‪ .‬فمن‬ ‫الناس من يضمن كرم الزيتون لسنتين أو ثلث أو أكثر‪ ،‬فيحرثه‬ ‫ويثقفه وُيعنى به كل سنة ويأكل ثمره‪ .‬ومن أسباب هذا الضمان‬ ‫مر كل سنة ثمرا جيدا بل ُيثمر‬ ‫لكثر من سنة أن الزيتون مثل ً ل ُيث ِ‬ ‫ل‪ ،‬وذلك لنه ينمي‬ ‫غالبا سنة ثمرا جيدا وسنة أخرى ثمرا قلي َ‬ ‫‪-216-‬‬


‫أغصانا كل سنة وثمرا في أخرى‪ .‬وهو حتى ُيثمر ثمرا جيدا يحتاج‬ ‫إلى عناية من حرث وتثقيف وتشذيب فيأخذه الذي يضمن لعدة‬ ‫سنوات حتى يتمكن من العناية به وخدمته خدمة كافية كي‬ ‫يعطي ثمرا جيدا وكثيرا‪ .‬وكما يجري ذلك في الزيتون يجري في‬ ‫الليمون وما شاكله من الشجر‪ .‬ومن الناس من يضمن الزيتون‬ ‫والليمون والعنب كما يضمن المقثأة لسنة واحدة‪ ،‬فيقّدر ضمانه‬ ‫بتقدير ما على الشجر من ثمر بغض النظر عما إذا كان هذا الثمر‬ ‫قليل ً أو كثيرا‪ ،‬جيدا أو رديئا‪.‬‬ ‫والضمان من حيث هو شراء للثمر وهو على الشجر دون‬ ‫شراء الشجر‪ ،‬أو شراء ثمر الشجر لسنتين أو ثلث أو أكثر‪ .‬أّما‬ ‫ضمان الشجر لسنتين أو أكثر فهو شراء لثمر معدوم لنه لم يوجد‬ ‫بعد‪ .‬وبيع المعدوم ل يجوز وهو من باب بيع الغرر‪ ،‬وبيع الغرر‬ ‫حرام‪ِ ،‬لما ُروي عن أبي هريرة أن النبي صلى ا عليه وسلم‬ ‫نهى عن بيع الحصاة وعن بيع الغرر‪ .‬وبيع الغرر هو بيع‬ ‫المجهول‪ِ ،‬لما ُروي عن ابن مسعود أن النبي صلى ا عليه‬ ‫ل تشتروا السمك في الماء فإنه غرر(‪ ،‬فيكون بيع‬ ‫وسلم قال ‪) :‬‬ ‫ثمر الشجر لسنين غير جائز لنه نوع من أنواع الغرر‪.‬‬ ‫على أن بيع ثمر الشجر لسنتين أو ثلث أو أكثر هو بيع ما‬ ‫ليس عندك وهو ل يجوز‪ .‬وفوق ذلك فإن هذا النوع من البيع‬ ‫ي عنه فل‬ ‫سَلم منه ّ‬ ‫وهو بيع ثمر الشجر لسنتين أو ثلث أو أكثر َ‬ ‫يجوز‪ .‬إذ السلم الجائز هو بيع ثمر غير معين‪ ،‬وأّما هذا فبيع ثمر‬ ‫سَلم‬ ‫شجر معين‪ ،‬وقد نهى رسول ا صلى ا عليه وسلم عن ال َ‬ ‫في ثمار شجر معين‪ .‬فقد كانوا في المدينة حين قَِدم النبي صلى‬ ‫ا عليه وسلم ُيسِلمون في ثمار النخيل بأعيانهم فنهاهم عن‬ ‫ذلك‪ .‬وعلى هذا فإن ما يفعله الذين يضمنون الزيتون والليمون‬ ‫من شراء ثمر الشجر لمدة سنتين أو ثلث حرام‪ ،‬وهو من البيوع‬ ‫التي ورد الشرع صريحا في النهي عنها‪.‬‬ ‫وأّما الضمان لثمر شجر ظاهر الثمر وضمان المقثأة وما‬ ‫شابهها فإنه بيع ثمر موجود على الشجر فل يدخل في بيع ما‬ ‫سَلم على‬ ‫ليس عندك‪ ،‬لنه موجود عند بائعه‪ .‬ول يدخل في ال َ‬ ‫سَلم‪ .‬ولذلك يختلف‬ ‫ثمار نخيل بأعيانها‪ ،‬لنه بيع حال وليس ب َ‬ ‫حكمه عن حكم الضمان لسنتين أو ثلث أو أكثر‪ .‬والحكم‬ ‫الشرعي في هذا الضمان أي في شراء الثمر الموجود على‬ ‫‪-217-‬‬


‫الشجر وهو على شجره فيه تفصيل‪ .‬وذلك أنه ُينظر فيه للثمر‪:‬‬ ‫فإن كان بدا صلحه‪ ،‬أي صار يمكن الكل منه‪ ،‬فإنه يجوز‬ ‫الضمان‪ ،‬أي يجوز بيع الثمر في هذه الحالة‪ .‬وإن كان الثمر لم َيبُد‬ ‫صلحه بعد‪ ،‬بأن كان لم يبدأ بالطعام‪ ،‬فل يجوز بيعه‪ .‬وذلك ِلما‬ ‫ُروي عن جابر رضي ا عنه قال‪) :‬نهى النبي صلى ا عليه‬ ‫وسلم عن بيع الثمر حتى يطيب(‪ ،‬وِلما ُروي عنه أيضا )أن النبي‬ ‫صلى ا عليه وسلم نهى عن بيع الثمر حتى يبدو صلحه(‪ ،‬وِلما‬ ‫ُروي عنه أيضا أنه قال‪) :‬نهى النبي صلى ا عليه وسلم أن تباع‬ ‫الثمرة حتى تشقح‪ ،‬قيل‪ :‬ما تشقح؟ قال‪ :‬تحمار وتصفار ويؤكل‬ ‫منها(‪ ،‬وِلما ُروي عن أنس بن مالك عن النبي صلى ا عليه‬ ‫وسلم )أنه نهى عن بيع الثمرة حتى يبدو صلحها وعن النخل‬ ‫حتى يزهو‪ .‬قيل‪ :‬وما يزهو؟ قال‪ :‬يحمار ويصفار(‪ ،‬وِلما ُروي عن‬ ‫أنس أيضا أن رسول ا صلى ا عليه وسلم )نهى عن بيع‬ ‫الثمار حتى تزهى‪ .‬قيل‪ :‬وما تزهى؟ قال‪ :‬حتى تحمر‪ ،‬فقال‬ ‫رسول ا صّلى ا عليه وسلم‪ :‬أرأيت إذا منع ا الثمر بم يأخذ‬ ‫أحدكم مال أخيه؟(‪ ،‬وِلما ُروي عن عبدا بن عمر أن رسول ا‬ ‫صلى ا عليه وسلم )نهى عن بيع الثمار حتى يبدو صلحها‪ ،‬نهى‬ ‫البائع والمبتاع(‪ ،‬وفي رواية بلفظ )نهى عن بيع النخل حتى يزهو‪،‬‬ ‫وعن السنبل حتى َيبَيض ويأمن العاهة(‪ .‬فهذه الحاديث كلها‬ ‫صريحة في النهي عن بيع الثمرة قبل النضج‪ .‬فُيستدل بمنطوق‬ ‫هذه الحاديث على عدم جواز بيع الثمرة قبل أن يبدو صلحها‪.‬‬ ‫وُيستدل بمفهومها على جواز بيع الثمرة إذا بدا صلحها‪ .‬وعلى‬ ‫ذلك فإن ضمان الشجر الذي ظهر ثمره كالزيتون والليمون‬ ‫والنخل وغير ذلك يجوز إن بدأ يطعم‪ ،‬ول يجوز إذا لم يبدأ يطعم‪.‬‬ ‫وكون بدو الصلح في الثمر هو إطعامها‪ُ ،‬يفهم من‬ ‫الحاديث الواردة في ذلك‪ .‬فإنه من التدقيق في الحاديث‬ ‫الواردة في النهي عن بيع الثمرة قبل بدو صلحها‪ ،‬نجد أنها وردت‬ ‫فيها عدة تفاسير‪ .‬ففي حديث جابر ورد )حتى يبدو صلحه( وورد‬ ‫)حتى يطيب(‪ ،‬وفي حديث أنس )نهى عن بيع العنب حتى يسوّد‪،‬‬ ‫وعن بيع الحب حتى يشتّد(‪ ،‬وفي حديث آخر لجابر )حتى تشقح(‪،‬‬ ‫وفي حديث ابن عباس )حتى يطعم(‪ .‬وعلى ذلك فإن جميع هذه‬ ‫الحاديث متضافرة على معنى واحد هو حتى تبدأ تطعم‪.‬‬ ‫وبالنظر إلى واقع الثمار ُيرى أن بدء الطعام فيها يختلف‬ ‫‪-218-‬‬


‫باختلف الثمار‪ .‬فمنها ما يبدأ يطعم بتغير لونها تغيرا ظاهرا فيبدو‬ ‫عليها ما يدل على النضج‪ ،‬كالبلح والتين والعنب والجاص وما‬ ‫شاكلها‪ ،‬ومنها ما يتبين منه النضج بتقليبه أو بالنظر إليه من‬ ‫العارفين كالبطيخ لصعوبة إدراك تغير لونه بالنضج‪ ،‬ومنها ما يتبين‬ ‫منه الطعام ببدء تحويل الزهرة إلى ثمرة كالخيار والقثاء وما‬ ‫شابهها‪.‬‬ ‫وعلى هذا فالمراد من بدو الصلح في كل الثمر هو بدو‬ ‫صلحيتها للكل‪ ،‬ويدل على ذلك حديث ابن عباس أنه قال‪) :‬نهى‬ ‫رسول ا صلى ا عليه وسلم عن بيع النخل حتى يأكل منه أو‬ ‫يؤكل(‪ ،‬كما يدل عليه الحديث المتفق عليه من رواية جابر )حتى‬ ‫يطيب(‪ .‬ومن هذا يتبين جواز بيع ثمر القثاء والخيار وما شاكلها‪،‬‬ ‫أي جواز ضمان المقثأة بمجرد أن تبدأ تعطي ثمرة‪ ،‬أي بمجرد أن‬ ‫تبدأ تتحول الزهرة إلى خيارة فُتشرى الثمرة وهي زهرة وقبل‬ ‫أن تزهر أي ُتشرى الثمرة في هذه الحالة قبل أن توجد بمجرد‬ ‫ابتداء وجود شيء منها‪ .‬وليس هذا من باب بيع المعدوم‪ ،‬لن‬ ‫ثمرها يأتي متلحقا ول يوجد مرة واحدة‪ ،‬فيباع ثمر المقثأة كله‬ ‫عن جميع موسمها ما ُوجد وما لم يوجد بعد‪ ،‬إذ ل فرق بين أن‬ ‫يبدو صلح الثمر بالحمرار كالبلح أو بالسوداد كالعنب أو بتغير‬ ‫اللون كالجاص‪ ،‬وبين أن يبدو صلحه بظهور بعضه وتلحق‬ ‫أزهار البعض الخر واثماره‪ .‬إل ّ أن الثمر الذي ل يعتبر بدء تحول‬ ‫أزهاره أثمار‪ ،‬كالبطيخ‪ ،‬ل يجوز فيه ذلك‪ ،‬فل يجوز بيع اللوز وهو‬ ‫زهر ول بيع التين وهو عجر قبل أن يبدأ فيه النضج‪ ،‬والمراد بيعه‬ ‫وهو على الشجر‪ ،‬أي ضمان الشجر‪ ،‬لن بيع الثمر وهو على‬ ‫الشجر مقيد بأن يبدو صلحه‪ ،‬أي بظهور ما يدل على بدء نضج‬ ‫الثمرة‪.‬‬ ‫وليس المراد من بدو صلح الثمرة بدو صلح كل ثمرة‪ ،‬فإن‬ ‫هذا مستحيل‪ ،‬إذ الثمر ينضج حبة حبة أو حبات حبات ثم يتلحق‪.‬‬ ‫وليس المراد بدو الصلح في كل بستان على حدة ول بدو صلح‬ ‫جميع البساتين‪ ،‬بل المراد من بدو صلحها بدو صلح جنس‬ ‫الثمرة إن لم تختلف أنواعها بالنضج كالزيتون‪ ،‬أو بدو صلح نوعها‬ ‫إن كانت تختلف أنواعها بالنضج كالتين والعنب‪ .‬فمثل ً إذا بدا صلح‬ ‫بعض ثمر النخل في بستان فيجوز بيع ثمر النخل كله في جميع‬ ‫البساتين‪ .‬وإذا بدا صلح نوع من التفاح في بعض الشجر فيجوز‬ ‫‪-219-‬‬


‫بيع ذلك النوع من التفاح في جميع البساتين‪ .‬وإذا بدا صلح‬ ‫الزيتون في شجرات من بستان فإنه يجوز ضمان الزيتون في‬ ‫جميع البساتين‪ ،‬لن الحديث يقول‪) :‬نهى عن بيع النخل حتى‬ ‫يزهو وعن بيع السنبل حتى َيبَيض ويأمن العاهة(‪ ،‬ويقول‪) :‬نهى‬ ‫عن بيع العنب حتى يسوّد وعن بيع الحب حتى يشتد(‪ ،‬فبّين حكم‬ ‫ثمرة كل جنس بعينه وكل نوع بعينه‪ ،‬فقال‪ :‬في الحب حتى يشتد‬ ‫وفي العنب السود حتى يسوّد‪ .‬فالحكم متعلق ببدو صلح كل‬ ‫جنس بصرف النظر عن باقي الجناس‪ ،‬وكل نوع بغض النظر‬ ‫عن باقي النواع‪ .‬وكلمة بدو الصلح الواردة في الحديث في‬ ‫الجنس الواحد وفي النوع الواحد َتصُدق في بعض الثمر مهما‬ ‫قل‪ ،‬علوة على أن واقع الثمر يدل على أنه يتلحق‪.‬‬ ‫ومن ذلك يتبين أنه ل يجوز ضمان أي شجرة أي بيع ثمرة‬ ‫أي شجرة قبل بدو صلحها أي صلح الثمرة‪ .‬وأّما قوله تعالى‪:‬‬ ‫ل ا البيع( فهو عام‪ ،‬ولكن هذه الحاديث تخصصه بأنه‬ ‫)وأح ّ‬ ‫حلل في غير ما ورد النهي عنه من البيوع‪.‬‬ ‫وحرمة بيع الثمر على الشجر قبل بدو صلحه جاءت‬ ‫شَرط القطع أم لم‬ ‫مطلقة‪ ،‬ولذلك فهي غير مقيدة‪ ،‬فسواء َ‬ ‫يشرط فهو حرام‪ ،‬غير أنه إذا شرط البائع على المشتري القطع‬ ‫قبل نضوج الثمر فالشرط فاسد لنه ينافي مقتضى العقد‪ ،‬وإذا‬ ‫طع عن وقت النضج فإنه ُينظر‪ :‬فإن كان يتضرر‬ ‫خر المشتري الق ْ‬ ‫أ ّ‬ ‫البائع من التأخير كالبرتقال فإنه يؤثر على الزهار لموسم السّنة‬ ‫الثانية‪ ،‬ففي هذه الحالة ُيجبر المشتري على القطع عند النضج‪،‬‬ ‫وإن كان الشجر ل يتضرر كالتين والزيتون فإنه ل ُيجبر على ذلك‪.‬‬ ‫هذا كله إذا بيع الثمر وحده دون الشجر‪ .‬أّما إذا بيع الشجر‬ ‫والثمر معا فإنه ُيفّرق فيه بين النخل وغيره‪ .‬أّما النخل فإنه يجوز‬ ‫بيعه وثمره عليه ويدخل الثمر تبعا للنخل دون حاجة لِذكره إذا‬ ‫كان النخل لم يؤبر بعد‪ .‬وأّما إذا جرى تأبير النخل ثم بيع شجر‬ ‫النخل‪ ،‬فإن الثمر ل يدخل في البيع مع النخل إل ّ إذا ُذكر في عقد‬ ‫البيع‪ .‬فإذا لم ُيذكر بقي الثمر للبائع والنخل للمشتري‪ .‬وللبائع أن‬ ‫يبقي الثمر حتى ينضج فيقطفه هو أو يبيعه بعد أن يبدو صلحه‪،‬‬ ‫لنه ملكه‪ ،‬وذلك ِلما ُروي عن ابن عمر أن النبي صلى ا عليه‬ ‫وسلم قال‪) :‬من ابتاع نخل ً بعد أن يؤَبر فثمرتها للذي باعها إل ّ أن‬ ‫َيشترط المبتاع(‪ ،‬وِلما ُروي عن عبادة بن الصامت )أن النبي صلى‬ ‫‪-220-‬‬


‫ا عليه وسلم قضى أن ثمرة النخل لمن أبرها إل ّ أن َيشترط‬ ‫المبتاع(‪ ،‬فُيستدل بمنطوق الحديث على أن من باع نخل ً وعليها‬ ‫ثمرة مؤبرة لم تدخل الثمرة في البيع بل تستمر على ملك البائع‪.‬‬ ‫وُيستدل بمفهومه على أنها إذا كانت غير مؤبرة تدخل في البيع‬ ‫وتكون للمشتري‪ .‬والمراد بالمفهوم هنا مفهوم المخالفة وهو هنا‬ ‫مفهوم الشرط‪ .‬ويتحتم الخذ بهذا المفهوم لنه لو كان حكم غير‬ ‫المؤبر حكم المؤبر لكان تقييده بالشرط لغوا ل فائدة منه‪ .‬وعليه‬ ‫فثمر النخل قبل التأبير تابع للنخل وبعد التأبير غير تابع له‪ .‬ولكنه‬ ‫ل يجوز بيعه حتى يبدو صلحه‪.‬‬ ‫وهذا خاص بالنخل ول يقاس عليه غيره لن التأبير عمل‬ ‫معين‪ .‬والكلمة وإن كانت وصفا إل ّ أنها ليست وصفا ُمفِهما لعّلة‬ ‫الحكم فل يتضمن التعليل‪ ،‬ولذلك ل يقاس عليه لعدم وجود‬ ‫العّلّية ول يلحق به‪ ،‬لنه ل يتفرع عنه ول عما يقاس عليه‪ .‬على‬ ‫أن التأبير خاص بالنخل ول يكون في غيره‪ .‬والنخل ل يحمل إذا‬ ‫لم يؤبر‪ .‬والتأبير التشقيق والتلقيح ومعناه شق طلع النخلة النثى‬ ‫ليذر فيها من طلع النخلة للَذَكر‪ .‬ول يقال هنا إن الحكم متعلق‬ ‫بظهور الثمرة فيقاس عليه باقي الثمر وُيلحق به بحجة أن‬ ‫المقصود ليس وجود التلقيح بل ما ينتج عن التلقيح وهو ظهو‬ ‫الثمرة ‪.‬ل يقال ذلك‪ ،‬لن الواقع في النخل أن التلقيح يحصل‪ ،‬ثم‬ ‫بعد مضي مدة شهر تقريبا يحصل ظهور الثمر‪ .‬وإذا باع النخيل‬ ‫ح البيع ولو لم يظهر الثمر‪.‬‬ ‫بعد التلقيح ولو بيوم واحد مثل ً ص ّ‬ ‫فكان الحكم متعلقا بالتأبير ل بظهور الثمر فل محل للقيام لعدم‬ ‫وجود الجامع‪ ،‬ولذلك كان خاصا بالنخل فل يقاس عليه ول ُيلحق‬ ‫به‪.‬‬ ‫وأّما حكم باقي الشجر فإنه يؤخذ من مفهوم عدم جواز‬ ‫بيع الثمر قبل بدو صلحها‪ ،‬وجوازه بعد بدو صلحها‪ .‬فعدم جواز‬ ‫بيع الثمر وحده قبل بدو صلحه منصب على معنى هو أن الثمر‬ ‫يكون حينئذ تابعا للشجر ل ينفرد عنه فهو تابع له‪ .‬والتابع يدخل‬ ‫في البيع مع متبوعه ولو لم ُيذكر في العقد‪ .‬وعلى ذلك فإن غير‬ ‫النخل من جميع الشجر ُيدخل الثمر في بيع الشجر ويكون تابعا‬ ‫له إذا لم يبد صلحه‪ .‬وأّما إذا بدا صلحه فإنه ل يدخل إل ّ بِذكره‪،‬‬ ‫لورود الحاديث الدالة على جواز بيع الثمر بعد بدو صلحه‪ .‬وهذا‬ ‫يعني أنه غير تابع فل يدخل إل ّ بِذكره‪ ،‬ويجوز حينئذ بيعه وحده‬ ‫‪-221-‬‬


‫وبيع الشجرة وحدها‪ .‬إل ّ أن الشجرة إذا بيعت ثم جاءتها رياح‬ ‫قلعتها أو كسرتها‪ ،‬أي إذا جاءتها جائحة من الجوائح فإنه ل شيء‬ ‫على البائع إذ قد تم البيع‪ .‬ولم َيِرد نص على حط شيء عن‬ ‫المشتري في هذه الحالة‪ .‬بخلف الثمرة إذا بيعت على الشجرة‬ ‫فإذا أصابتها جائحة من الجائحات أي عاهة من العاهات فإنه‬ ‫يجب على البائع أن ُينِزل من ثمن الثمر ما أصابته العاهة‪ِ ،‬لما‬ ‫ُروي عن جابر أن رسول ا صلى ا عليه وسلم قال‪) :‬من باع‬ ‫ثمرا فأصابته جائحة فل يأخذ من أخيه شيئا‪ ،‬على ماذا يأخذ‬ ‫أحدكم مال أخيه(‪ ،‬والمراد بالجائحة الفة التي تصيب الثمار‬ ‫فُتهلكها‪ ،‬والمراد بالفات الفات السماوية كالبرد والعطش‬ ‫والرياح والقحط‪ .‬وأّما إذا كانت المصيبة غير سماوية كالعطش‬ ‫من خراب آلة السقي وكالسرقة والنهب وما شاكل ذلك‪ ،‬فل ُيعتبر‬ ‫حط البائع عن المشتري شيئا‪ ،‬إذ ل يدخل تحت مدلول‬ ‫جائحة ول َي ُ‬ ‫الحديث‪.‬‬

‫البيع بالدين وبالتقسيط‬ ‫قال رسول ا صلى ا عليه وسلم‪) :‬إّنما البيع عن‬ ‫ض(‪ ،‬ولصاحب السلعة أن يبيعها بالسعر الذي يرضاه وله أن‬ ‫ترا ٍ‬ ‫يمتنع عن بيعها بالسعر الذي ل يرضاه‪ .‬ولهذا يجوز لصاحب‬ ‫جل ً أجل ً‬ ‫السلعة أن يجعل لسلعته ثمنين‪ ،‬ثمنا حال ً وثمنا مؤ ّ‬ ‫واحدا معّينا‪ ،‬أو ثمنا بالتقسيط لعدة آجال‪ .‬ولذلك يجوز أن يساِوم‬ ‫البائع المشتري بأي الثمنين يقبل الشراء‪ ،‬ويجوز أن يساِوم‬ ‫المشتري البائع بأي الثمنين يقبل البيع‪ .‬وهذه كلها مساومة على‬ ‫الثمن وليست بيعا‪ ،‬فإذا اتفقا على سعر معين وباع البائع‬ ‫جل‬ ‫المشتري بالسعر الحال فَقِبل المشتري‪ ،‬أو باعه بالسعر المؤ ّ‬ ‫فَقِبل المشتري‪ ،‬فإن ذلك صحيح‪ ،‬لنه مساومة على البيع وليست‬ ‫بيعا‪ .‬والمساومة جائزة‪ ،‬فإن الرسول صلى ا عليه وسلم‬ ‫ساَوم‪ .‬فقد ُروي عن أنس )أن النبي صلى ا عليه وسلم باع‬ ‫قدحا وحلسا بثمن يزيد(‪ ،‬وبْيع المزايدة مساومة‪ .‬وثبت أن النبي‬ ‫صلى ا عليه وسلم ساَوم‪ .‬وأّما بعد انتهاء المساومة فقد انعقد‬ ‫ح البيع‪.‬‬ ‫البيع بتراضي المتبايعين على ثمن واحد معين للبيع‪ ،‬فص ّ‬ ‫هذا إذا كانت المساومة على ثمن السلعة معجل ً أو مؤجل ً‬ ‫‪-222-‬‬


‫ثم إجراء العقد على أحدهما متعينا منفردا‪ .‬وكذلك يجوز للبائع‬ ‫أن يبيع سلعته بثمنين أحدهما نقدا والخر نسيئة‪ ،‬فلو قال شخص‬ ‫لخر‪ :‬بعتك هذه السلعة نقدا بخمسين ونسيئة بستين‪ .‬فقال له‪:‬‬ ‫ح البيع‪.‬‬ ‫اشتريُتها بستين نسيئة‪ ،‬أو قال‪ :‬اشتريتها نقدا بخمسين‪ ،‬ص ّ‬ ‫وكذلك لو قال له‪ :‬بعتك هذه السلعة نسيئة بستين بزيادة عشرة‬ ‫على ثمنها الصلي نقدا لجل تأخير دفع الثمن‪ ،‬فقالك المشتري‪:‬‬ ‫ح البيع أيضا‪ .‬ومن باب أْولى لو قال له‪ :‬هذه السلعة‬ ‫َقِبلت‪ ،‬ص ّ‬ ‫ثمنها ثلثون نقدا وثمنها أربعون نسيئة فقال‪ :‬اشتريتها بثلثين‬ ‫نقدا‪ ،‬أو قال‪ :‬اشتريتها بأربعين نسيئة فقال البائع‪ :‬بعتك أو خذها‬ ‫ح البيع‪ .‬لنه في هذا المثال الخير حصلت‬ ‫أو هي لك‪ ،‬ص ّ‬ ‫المساومة على ثمنين والبيع على ثمن واحد‪ .‬أّما بالمثلة الولى‬ ‫فقد حصل البيع على ثمنين‪ .‬وإّنما جاز في عقد البيع جعل ثمنين‬ ‫للسلعة الواحدة‪ ،‬ثمن حال وثمن مؤجل‪ ،‬أي ثمن نقدا وثمن‬ ‫نسيئة دْينا‪ ،‬لعموم الدلة الواردة في جواز البيع‪ ،‬قال تعالى‪:‬‬ ‫ل ا البيع(‪ ،‬وهذا عام‪ .‬فما لم َيِرد نص شرعي على تحريم‬ ‫)وأح ّ‬ ‫ل‪ ،‬الذي ورد نص في تحريمه‪،‬‬ ‫نوع معين من البيع كبيع الغرر مث ً‬ ‫ل ا البيع(‬ ‫فإنه يكون البيع حلل ً‪ .‬فعموم قوله تعالى‪) :‬وأح ّ‬ ‫يشمل جميع أنواع البيع أنها حلل إل ّ النواع التي ورد نص في‬ ‫تحريمها‪ ،‬فإنها تصبح حراما بالنص مستثناة من العموم‪ .‬ولم َيِرد‬ ‫جل‪،‬‬ ‫جل وثمن مؤ ّ‬ ‫نص في تحريم جعل ثمنين للسلعة‪ ،‬ثمن مع ّ‬ ‫فيكون حلل ً أخذا من عموم الية‪ .‬وأيضا فقد قال صلى ا عليه‬ ‫وسلم‪) :‬إّنما البيع عن تراض(‪ ،‬والمتبايعان هنا كانا بالخيار وتم‬ ‫البيع برضاهما‪ .‬وقد نص جمهرة الفقهاء على أنه يجوز بيع‬ ‫الشيء بأكثر من سعر يومه لجل الَنساء أي لجل تأخير دفع‬ ‫الثمن‪ .‬وُروي عن طاوس والحكم وحماد أنهم قالوا ‪:‬ل بأس أن‬ ‫يقول‪ :‬أبيعك بالنقد بكذا وبالنسيئة بكذا‪ ،‬فيذهب على أحدهما‪.‬‬ ‫وقد قال علي رضي ا عنه‪) :‬من ساوم بثمنين أحدهما عاجل‬ ‫م أحدهما قبل الصفقة(‪ .‬ومن ذلك يتبين أن‬ ‫ظرة فلُيس ّ‬ ‫والخر َن ِ‬ ‫المساومة على ثمنين للسلعة الواحدة ثم إجراء العقد على‬ ‫أحدهما برضاهما جائزة‪ ،‬والبيع على هذا الوجه صحيح‪ .‬كما‬ ‫يتبين أن إجراء إيجاب العقد على ثمنين وقبول المشتري بأحد‬ ‫الثمنين مبينا تبيينا ظاهرا ومعينا تعيينا تاما‪ ،‬فهو كذلك جائز لعموم‬ ‫الدلة‪ ،‬ولعدم ورود نص على تحريم هذا النوع من البيع‪.‬‬ ‫‪-223-‬‬


‫وأّما ما رواه أحمد )نهى النبي صلى ا عليه وسلم عن‬ ‫صفقتين في صفقة( فالمراد منه وجود عقدين في عقد واحد‪،‬‬ ‫كأن يقول‪ :‬بعتك داري هذه على أن أبيعك داري الخرى بكذا‪ ،‬أو‬ ‫على أن تبيعني دارك أو على أن تزوجني بنتك‪ .‬فهذا ل يصح لن‬ ‫قوله‪" :‬بعتك داري" عقد‪ ،‬وقوله‪" :‬على أن تبيعني دارك" عقدٌ ثان‬ ‫واجتمعا في عقد واحد‪ ،‬فهذا ل يجوز‪ .‬وليس المراد النهي عن‬ ‫زيادة الثمن لجل تأخير الدفع‪ ،‬ول جعل اليجاب على ثمنين‬ ‫والقبول على أحدهما معينا‪.‬‬ ‫وأّما ما رواه أبو داود من أن رسول ا صلى ا عليه‬ ‫وسلم قال‪) :‬من باع بيعتين في بيعة واحدة فله أوكسهما أو‬ ‫الربا(‪ ،‬فإنه معناه أن يحصل بيعان في سلعة واحدة بأن يبيعه‬ ‫سلعة بثمن إلى أجل ثم عند حلول الجل وعدم دفع الثمن يؤجل‬ ‫البيع الثمن إلى أجل آخر بزيادة على الثمن المسمى‪ ،‬أي يعتبر‬ ‫ثمن السلعة ثمنا أزيد لجل آخر‪ ،‬فيكون قد باعه بيعتين في‬ ‫سلعة واحدة‪ ،‬أو بيعه سلعة بثمن معين فيشتري البائع السلعة ثم‬ ‫يطلب تأجيل دفع الثمن إلى أجل معين فيقبل البائع ويبيعه‬ ‫السلعة بيعا آخر بثمن أكثر إلى أجل مسمى‪ ،‬أي يزيد الثمن‬ ‫وينسئ الجل‪ .‬فهذا وأمثاله بيعتان في بيعة فله أوكسهما أي‬ ‫أنقصهما وهو الثمن الول‪ .‬وقد جاء في شرح السنن لبن‬ ‫رسلن في تفسير هذا الحديث‪ :‬هو أن يسلفه دينارا في قفيز‬ ‫ل الجل وطالبه بالحنطة قال ‪ِ:‬بعني‬ ‫ما ح ّ‬ ‫حنطة إلى شهر فل ّ‬ ‫ي إلى شهرين بقفيزين فصار ذلك بيعتين في‬ ‫القفيز الذي لك عل ّ‬ ‫بيعة لن البيع الثاني قد دخل على الول فُيَرد إلى أوكسهما وهو‬ ‫الول‪ .‬ومهما قيل في تفسير الحديث فإن منطوقه ومفهومه يعّين‬ ‫حصول بيعتين في بيعة أي حصول عقدي بيع في عقد بيع واحد‪،‬‬ ‫وليس هو في ثمنين في عقد ول هو في عقد واحد على ثمنين‪،‬‬ ‫فل ينطبق على بيع التقسيط ول على البيع بالدْين‪ .‬فالمنهي عنه‬ ‫ي بيع‬ ‫حصول عقدين في عقد واحد وهو ينطبق على كل عقد ْ‬ ‫يحصلن في عقد واحد أو صفقة واحدة‪ ،‬ول ينطبق على غير‬ ‫هذه الحالة مهما تعددت صورها‪.‬‬ ‫والحاصل أنه لو قال أحد المتبايعين للخر‪ :‬بعتك داري بألف‬ ‫على أن تبيعني دارك بألف فيقول‪ :‬قبلت‪ ،‬فإن هذا عقد بيع واحد‬ ‫حصل فيه بيعان فل يجوز‪ ،‬لن النبي صلى ا عليه وسلم نهى‬ ‫‪-224-‬‬


‫عن بيعتين في بيعة‪ ،‬وعن صفقتين في صفقة‪ .‬ولو قال له‪ :‬بعتك‬ ‫داري على أن تزوجني بنتك‪ ،‬فإن هذا صفقتان في صفقة‪ ،‬صفقة‬ ‫بيع‪ ،‬وصفقة زواج‪ ،‬في عقد واحد‪ ،‬وهو ل يجوز‪ ،‬لن النبي صلى‬ ‫ا عليه وسلم نهى عن صفقتين في صفقة‪ .‬ولو قال له‪ :‬بعتك‬ ‫جلني شهرا لدفع الثمن‪،‬‬ ‫هذه الدار بألف فقال‪ :‬قبلت‪ ،‬ثم قال له‪ :‬أ ّ‬ ‫فقال‪ :‬أزيد عليك الثمن‪ ،‬ثم باعه الدار نفسها إلى أجل بثمن أزيد‬ ‫سمي للبيع فإنه ل يجوز‪ ،‬لنه حصل‬ ‫من الثمن الصلي الذي ُ‬ ‫بيعتان في بيعة واحدة أو في سلعة واحدة أو في عقد واحد‬ ‫ح البيع ولكن الذي‬ ‫وأحدهما أزيد من الخر‪ ،‬ففي هذه الحال ص ّ‬ ‫يلزم هو الثمن القل‪ ،‬وأن أخذ الثمن الكثر كان ربا‪ ،‬لن الرسول‬ ‫صلى ا عليه وسلم يقول‪) :‬من باع بيعتين في بيعة فله‬ ‫أوكسهما أو الربا( أي أنقصهما أو يكون ربا‪ .‬فقوله‪ :‬له أوكسهما‬ ‫يدل على صحة البيع ولزوم الثمن القل‪ ،‬فإن الحكم بالوكس‬ ‫يستلزم صحة البيع‪.‬‬ ‫ومن ذلك يتبين أن ما يفعله التجار من بيع سلع بثمنين‪ ،‬ثمن‬ ‫معين إذا ُدفع نقدا‪ ،‬وثمن أزيد إذا دفع تقسيطا‪ ،‬فإن هذا بيع جائز‬ ‫والحكم الشرعي فيه أنه جائز‪ .‬وما يفعله بعض الفلحين‬ ‫وأصحاب البساتين من شراء قمح أو ثياب أو دابة أو آلة واشتراط‬ ‫دفع ثمنها مؤجل ً إلى خروج الموسم فيزداد عليهم الثمن عن‬ ‫ثمنها الحالي مقابل تأجيل الدفع للموسم‪ ،‬فإن ذلك أيضا جائز ولو‬ ‫ل للسلعة الواحدة ثمنين‪ ،‬ثمنا نقدا وثمنا نسيئة أي‬ ‫كان ذلك جع ُ‬ ‫دْينا‪ .‬إل ّ أنه ُيشترط في زيادة الثمن المؤجل على الثمن الحال‬ ‫للسلعة الواحدة أن ل يكون هنالك غبن فاحش كما يفعله‬ ‫المرابون المتحكمون في الناس‪ .‬فإذا كان في هذا البيع غبن‬ ‫سَلم‪.‬‬ ‫كان الغبن حراما وينطبق عليه حكم الغبن في البيع وال َ‬ ‫فالحرام هو الغبن وليس البيع مؤجل ً بثمن أزيد على الثمن الذي‬ ‫ل‪.‬‬ ‫ُيدفع حا ً‬

‫السمسـرة‬ ‫عن حكيم بن حزام عن أبيه قال‪ :‬قال رسول ا صلى ا‬ ‫عليه وسلم‪) :‬دعوا الناس يرزق ا بعضهم من بعض‪ ،‬فإذا‬ ‫استنصح الرجل أخاه فلينصح له(‪ .‬وباستعراض التجارة وأحوال‬ ‫‪-225-‬‬


‫البيع والشراء نجد الناس فيها يرزق ا بعضهم من بعض سواء‬ ‫التجارة الكبيرة أو التجارة الصغيرة‪ .‬فكثيرا ما نجد تجارا كبارا‬ ‫يقومون بشراء بضائع لصغار التجار على أن يأخذوا نسبة مئوية‬ ‫على الربح على ما يشترونه لهم‪ ،‬كواحد في المائة مثل ً‪ .‬وغالبا ما‬ ‫يكون هؤلء من تجار الجملة وُيسمون كذلك "كومسيونا"‪ .‬ويجري‬ ‫هذا في كافة البضائع‪ ،‬يجري فيما ُيكال وما يوزن وما يقاس‬ ‫وغير ذلك‪ .‬ويجري بين الشركات الكبيرة لصنع القمشة أو‬ ‫الحلويات أو الورق أو الماكنات‪ ،‬وبين بائعي الجملة‪ ،‬ويسمون‬ ‫متعهدين أو وكلء بيع‪ .‬فيتعهد هؤلء ببيع ما تنتجه تلك الشركات‬ ‫ويأخذون منها ربحا معلوما هو نسبة معينة بالمائة على ما‬ ‫يبيعون‪ .‬وتجري بين التاجر الكبير أو المصنع وبين التجار الصغار‬ ‫بيوع بواسطة أشخاص يعملون عند التاجر أو المصنع‪ .‬ويختصون‬ ‫بتاجر معين أو مصنع معين‪ .‬فهؤلء َيعرضون البضاعة على‬ ‫الناس ويبيعونها لهم‪ .‬وينفذ بيعهم‪ ،‬ولهم من التاجر الكبير أو‬ ‫المصنع الذي يعملون عنده أجرة معينة على عملية عرض‬ ‫البضاعة‪ ،‬سواء باعوا أم لم يبيعوا‪ .‬ولهم أجرة معينة على كل‬ ‫صفقة بيع يبيعونها هي نسبة مئوية معينة من الثمن الذي يبيعون‬ ‫فيه‪ .‬وهكذا تجري وساطة بين البائع والمشتري في المصانع‬ ‫والشركات ولدى التجار والزبائن في كل شيء‪ .‬وتجري في‬ ‫الخضار والفواكه كما تجري في القماش والحلويات وغيرها‪.‬‬ ‫ففي سوق الخضرة يبيع التاجر الخضرة لحساب الفلح لقاء‬ ‫عمولة معينة يأخذها من الفلح‪.‬‬ ‫وهذه العمال كلها سواء أكانت أعمال ً كبيرة بين الشركات‬ ‫أو المصانع‪ ،‬وبين التجار وبين كبار التجار وصغارهم‪ ،‬أو بين‬ ‫التجار والزبائن‪ ،‬فإنها كلها سمسرة‪ ،‬والقائمون بها سماسرة‪ .‬لن‬ ‫السمسار هو القّيم بالمر والحافظ له‪ .‬ثم اسُتعمل في متولي‬ ‫البيع والشراء‪ .‬وقد عّرف الفقهاء السمسار بأنه اسم لمن يعمل‬ ‫للغير بأجر بيعا وشراء‪ .‬وهو َيصُدق على الدلل‪ ،‬فإنه يعمل للغير‬ ‫بأجر بيعا وشراء‪ .‬والسمسرة والدللة حلل شرعا‪ ،‬وتعتبر من‬ ‫العمال التجارية‪ ،‬وهو نوع من أنواع العمال التي ُيملك بها‬ ‫المال شرعا‪ .‬فقد روى قيس بن أبي غرزة الكناني قال‪ :‬كنا نبتاع‬ ‫الوساق في المدينة ونسمي أنفسنا سماسرة‪ ،‬فخرج علينا‬ ‫مانا باسم هو أحسن من‬ ‫رسول ا صلى ا عليه وسلم فس ّ‬ ‫‪-226-‬‬


‫اسمنا قال‪) :‬يا معشر التجار‪ ،‬إن البيع يحضره اللغو والحلف‪،‬‬ ‫فشوبوه بالصدقة(‪ ،‬ومعناه أنه قد يبالغ في وصف سلعته حتى‬ ‫يتكلم بما هو لغو أي زيادة عما يجب من القول ولكن ل يصل‬ ‫إلى درجة الكذب‪ ،‬وقد يجازف في الكلف لترويج سلعته فُيندب‬ ‫إلى الصدقة ليمحو ذلك‪ .‬فمن إقرار الرسول صلى ا عليه وسلم‬ ‫للسماسرة على عملهم وقوله لهم‪) :‬يا معشر التجار( يتبين جواز‬ ‫السمسمرة وأنها من التجارة‪ .‬وهو دليل على أن السمسرة حلل‬ ‫شرعا‪ ،‬فهي من المعاملت الجائزة في الشرع‪.‬‬ ‫إل ّ أنه ل بد من أن يكون العمل الذي استؤجر عليه للبيع‬ ‫والشراء معلوما إما بالسلعة وإما بالمدة‪ .‬وأن يكون الربح أو‬ ‫العمولة أو الجرة معلومة‪ .‬فإذا استأجر تاجر شخصا ليبيع له أو‬ ‫ح البيع والشراء‪.‬‬ ‫ليشتري له الدار الفلنية أو المتاع الفلني ص ّ‬ ‫ح‪.‬‬ ‫وكذلك إذا استأجره ليبيع له أو يشتري له مياومة أو مشاهرة ص ّ‬ ‫وكذلك إذا استأجره ليبيع له أو ليشتري له مياومة أو مشاهرة‬ ‫بمبلغ معين‪ ،‬وفي نفس الوقت استأجره ليبيع له أو ليشتري له‬ ‫ح‪ ،‬لن العمل الذي‬ ‫سلعا بعمولة معينة على كل صفقة‪ ،‬ص ّ‬ ‫استؤجر عليه للبيع والشراء معلوم والجرة معلومة‪.‬‬ ‫وعلى ذلك فالسمسرة بمعناها المعروف بين التجار وبين‬ ‫الناس منذ عهد الرسول صلى ا عليه وسلم حتى اليوم حلل‪،‬‬ ‫ب أصحابها من الكسب الحلل‪ .‬وأّما السمسار الوارد في‬ ‫وكس ُ‬ ‫الحديث الصحيح نهي عنه‪ ،‬فهو خاص بالسمسار الخّداع الذي‬ ‫يغفل الناس لجهلهم بالسعر‪ ،‬أو لعدم معرفتهم بالسوق‪ ،‬أو لعدم‬ ‫خبرتهم بالبضاعة‪ ،‬أو ِلما شاكل ذلك‪ .‬فالرسول صلى ا عليه‬ ‫وسلم أقر السمسرة بشكل عام باعتبارها عمل ً من العمال‬ ‫التجارية‪ ،‬ونهى عن أنواع من السمسرة بّينها بعينها لعّلة فيها‬ ‫وهي الخداع‪ .‬كما أباح البيع بشكل عام ونهى عن أنواع معينة‬ ‫من البيع لعّلة فيها‪ .‬وإذا جرى تتبع الحاديث الواردة فيها والتدقيق‬ ‫في معناها التشريع يتبين ذلك بوضوح‪.‬‬ ‫والحاديث الواردة في النهي عن أعمال متعلقة بالبيع‬ ‫والشراء لم تذكر السمسرة ول النهي عنها‪ ،‬ولكن بعض الصحابة‬ ‫سروا النهي بأنه نهي‬ ‫سروها بالسمسرة وف ّ‬ ‫وبعض الرواة قد ف ّ‬ ‫عن أن يكون سمسارا‪ .‬وإذا ُنظر إليها في واقعها تبين أنها أنواع‬ ‫من السمسرة‪ ،‬فقد ُروي عن عبدا بن طاووس عن أبيه عن‬ ‫‪-227-‬‬


‫ابن عباس رضي ا عنه قال‪ :‬قال رسول ا صلى ا عليه‬ ‫وسلم ‪ :‬ل) َتلقوا الُركبان ول َيِبع حاضر ِلباٍد(‪ ،‬قال‪ :‬فقلت لبن‬ ‫ل َيِبع حاضر لباٍد( قال ‪:‬ل يكون له سمسارا‪.‬‬ ‫عباس‪ :‬ما قوله ‪) :‬‬ ‫وفي رواية عن طاووس أنه قال‪ :‬سألت ابن عباس رضي ا‬ ‫ن حاضر لباٍد( فقال ‪:‬ل يكون له‬ ‫ل يبيع ّ‬ ‫عنه ما معنى قوله ‪) :‬‬ ‫سمسارا‪ .‬وقال البخاري‪) :‬باب ل يشتر حاضر لباٍد بالسمسرة(‬ ‫واستعمال ل الناهية‪ .‬ثم ذكر في الباب حديثين أحدهما عن سعد‬ ‫بن المسيب أنه سمع أبا هريرة رضي ا عنه يقول‪ :‬قال رسول‬ ‫ع المرء على بيع أخيه‪ ،‬ول‬ ‫ل َيبت ِ‬ ‫ا صلى ا عليه وسلم ‪) :‬‬ ‫تناجشوا‪ ،‬ول َيِبع حاضر لباٍد(‪ .‬والحديث الثاني عن أنس بن مالك‬ ‫رضي ا عنه قال ‪)ُ :‬نهينا أن نبيع حاضر لباٍد(‪ ،‬وقال البخاري )باب‬ ‫النجش(‪ :‬ومن قال ل يجوز ذلك في البيع‪ ،‬وقال ابن أبي أوفى‪:‬‬ ‫الناجش آكل ربا خائن وهو خداع باطل ل يحل‪ ،‬قال النبي صلى‬ ‫ا عليه وسلم‪) :‬الخديعة في النار( )ومن عمل عمل ً ليس عليه‬ ‫أمرنا فهو َرّد(‪ ،‬ثم ذكر البخاري حديثا واحدا هو عن ابن عمر‬ ‫رضي ا عنهما قال‪) :‬نهى النبي صلى ا عليه وسلم عن‬ ‫النجش(‪ .‬ووردت عدة أحاديث تذكر عدة أنواع من العمال قد‬ ‫نهى الرسول صلى ا عليه وسلم عنها‪ .‬فقد ورد عن أبي هريرة‬ ‫ل َتلقوا‬ ‫رضي ا عنه أن رسول ا صلى ا عليه وسلم قال ‪) :‬‬ ‫الُركبان ول َيِبع بعضكم على بيع بعض ول تناجشوا ول َيِبع حاضر‬ ‫ل َتلقوا الجلب‬ ‫لباٍد(‪ ،‬وُروي أن النبي صلى ا عليه وسلم قال ‪) :‬‬ ‫فمن تلقى منه شيئا فاشتراه فصاحبه بالخيار إذا أتى السوق(‪.‬‬ ‫وِمن تتبع هذه الحاديث وغيرها والتدقيق فيها يتبين أنه قد‬ ‫نهى فيها عن بيع الحاضر للبادي‪ ،‬أي عن بيع أهل المدن لهل‬ ‫البدو ومثلهم أهل القرى‪ .‬وعن أن يبتاع المرء على بيع أخيه إذا‬ ‫كان قد تم البيع‪ ،‬أي نهى عن أن يأتي الرجل إلى سلعة قد‬ ‫اشتراها غيره فيزيد على السعر الذي بيعت به ويشتريها ليفسخ‬ ‫البيع الول‪ .‬ونهى عن النجش وهو أن يزيد في السلعة وليس‬ ‫مشتريا لها‪ ،‬أي أن يزيد في السلعة من ل يريد شراءها ليقتدي به‬ ‫من يسومها فيظن أنه لم يزد فيها هذا القدر إل ّ وهي تساويه‬ ‫فَيغَتر بذلك ويزيد ليشتريها‪ .‬ونهى عن تلقي الركبان وهو أن يخرج‬ ‫الحضري إلى البادي وقد جلب السلعة فيعّرفه السعر ويقول له‪:‬‬ ‫أنا أبيع لك‪ ،‬أو أن يكذب على البادي في سعر البلد ويشتري مهم‬ ‫‪-228-‬‬


‫بأقل من ثمن المثل‪ ،‬أو أن يخبرهم بكثرة المؤونة عليهم في‬ ‫الدخول إلى المدينة‪ ،‬أو يخبرهم بكساد ما معهم‪ ،‬أو بكساد‬ ‫السوق‪ .‬ونهى عن تلقي الجلب هو كتلقي الركبان‪.‬‬ ‫هذه هي العمال المنهي عنها‪ ،‬منها ما يتعلق بالسمسرة‬ ‫مباشرة ومنها ما يتعلق بالبيع‪ .‬وبالتدقيق في الحاديث الواردة‬ ‫في النهي عنها يتبين أن النهي فيها كلها منصب على وصف ُمفِهم‪،‬‬ ‫أي وصف ُيفهم منه أنه هو الذي من أجله وقع النهي‪ .‬والوصف‬ ‫مفهم إذا تسلط عليه أمر أو نهي كان المر والنهي معّللين‪ ،‬وكان‬ ‫ال ُ‬ ‫المعنى الذي تضمنه الوصف المفِهم هو عّلة المر أو عّلة النهي‪.‬‬ ‫فيكون الوجوب فيه أو التحريم مربوطا بالعّلة منوطا بها‪ ،‬فإذا‬ ‫ُوجدت العّلة ُوجد الحكم‪ ،‬وإذا عدمت العّلة عدم الحكم‪ ،‬فهو يدور‬ ‫مع العّلة وجودا وعدما‪ .‬وإذا ُوجدت العّلة في غيره انطبق الحكم‬ ‫على غيره بطريق القياس‪ .‬فالحاضر والبادي‪ ،‬والبيع على بيع‬ ‫ف ُمفِهم‪.‬‬ ‫أخيه‪ ,‬والنجش‪ ،‬وتلقي الركبان وتلقي الجلب‪ ،‬كلها وص ٌ‬ ‫فهي إذن الشيء الذي من أجله ُوجد النهي‪ .‬أي أن معناها هو‬ ‫الذي من أجله ُوجد الحكم‪ .‬فالحكم منوط بالبادي ِلما فيه من‬ ‫عّلة عدم معرفة السعر‪ ،‬ومنوط بالبيع على بيع أخيه ِلما حصل‬ ‫فيه من استقرار الثمن وركون أحدهما للخر‪ ،‬ومنوط بالنجش‬ ‫لنه ل يريد شراءها وإّنما يزيد الضرار بالمشتري‪ ،‬ومنوط بتلقي‬ ‫الركبان وتلقي الجلب لما فيه من إعلء السعر على أهل المدينة‬ ‫أو إرخاصه على الجالب‪ .‬فإذا ُوجدت هذه المعاني في هذه‬ ‫البيوع حرمت البيع فيها وحرمت السمسرة فيها‪ ،‬وإذا لم توجد فيها‬ ‫لم يحرم البيع ولم تحرم السمسمرة‪ .‬وقد فهم عمر بن الخطاب‬ ‫في النهي عن بيع الحاضر للبادي أن العّلة عدم معرفة السعر‬ ‫فقال‪) :‬دّلوهم على السوق ودّلوهم على الطريق‪ ،‬أخبروهم‬ ‫بالسعر(‪.‬‬ ‫وعلى هذا فإن السمسرة حلل كما أن البيع حلل لظهور‬ ‫الدليل‪ ،‬فإذا حصلت السمسمرة على أنواع قد ورد النهي عنها‪ ،‬أو‬ ‫ُوجدت في السمسرة العّلة التي من أجلها ُوجد النهي عنها‪،‬‬ ‫صارت هذه النواع حراما‪ ،‬ول تصير السمسرة من حيث هي‬ ‫حراما‪ ،‬بل تظل السمسرة حلل ً ويظل كسب السمسار كسبا‬ ‫ل‪.‬‬ ‫حل ً‬ ‫‪-229-‬‬


‫الجـارة‬ ‫عَوض‪ ،‬ويدخل تحتها ثلثة‬ ‫الجارة عقد على المنفعة ب ِ‬

‫أنواع‪:‬‬ ‫النوع الول‪ -‬هو ما َيِرد العقد على منافع العيان‪ ،‬كاستئجار‬ ‫الُدور والدواب والمرَكبات وما شابه ذلك‪.‬‬ ‫النوع الثاني‪ -‬هو ما َيِرد العقد فيه على منفعة العمل‪،‬‬ ‫حرف والصنائع لعمال معينة‪ ،‬فالمعقود عليه‬ ‫كاستئجار أرباب ال ِ‬ ‫هو المنفعة التي تحصل من العمل مثل استئجار الصّباغ والحّداد‬ ‫جار وما شابه ذلك‪.‬‬ ‫والن ّ‬ ‫النوع الثالث‪ -‬هو ما َيِرد العقد فيه على منفعة الشخص‪،‬‬ ‫خَدمة والعمال وما شابه ذلك‪.‬‬ ‫كاستئجار ال َ‬ ‫والجارة بجميع أنواعها جائزة شرعا‪ ،‬قال ا تعالى‪:‬‬ ‫سخِرّيا(‪،‬‬ ‫)ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا ِ‬ ‫وقال‪) :‬فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن(‪ ،‬وقال صلى ا عليه‬ ‫ف عرقه(‪ ،‬وقال‪) :‬من‬ ‫وسلم‪) :‬أعطوا الجير أجره قبل أن َيج ّ‬ ‫استأجر أجيرا فلُيعِلمه أجره(‪ ،‬وروى البخاري )أن النبي صلى ا‬ ‫عليه وسلم والصّديق استأجرا رجل ً من بني الدئل يقال له عبدا‬ ‫بن الريقط(‪.‬‬

‫الجيـر‬ ‫وعقد الجارة الذي َيِرد على منفعة العمل وعلى منفعة‬ ‫جر نفسه‪.‬‬ ‫الشخص هو الذي يتعلق بالجير‪ .‬والجير هو الذي أ ّ‬ ‫خَدمة ومن‬ ‫وقد أجاز الشرع إجارة الدمي لمنفعة تحصل منه كال َ‬ ‫شاكلهم‪ ،‬أو لمنفعة تحصل من عمله كالصباغة والقصارة‬ ‫والهندسة ونحوها‪ .‬وحتى تنعقد الجارة فإنه ُيشترط لنعقادها‬ ‫أهلية العاقدين بأن يكون كل منهما عاقل ً ممّيزا‪ .‬فل تنعقد إجارة‬ ‫المجنون ول إجارة الصبي غير الممّيز‪ .‬ولو انعقدت الجارة فإنه‬ ‫ُيشترط لصحتها رضا العاقدْين‪ ،‬وكون المعقود عليه –وهو‬ ‫المنفعة‪ -‬معلوما على وجه يمنع المنازعة‪ .‬وهذا العلم بالمنفعة‬ ‫بالنسبة للجير تارة يكون ببيان المدة‪ ،‬وتارة يكون بتحديد‬ ‫المنفعة أو وصف العمل المطلوب وصفا تفصيليا‪ ،‬وتعيين ما‬ ‫‪-230-‬‬


‫يعمل الجير أو تعيين كيفية عمله‪ .‬وعلى ذلك ل تصح إجارة‬ ‫المكَره ول تصح إجارة المنفعة المجهولة‪.‬‬

‫الجـرة‬ ‫يشترط أن يكون مال الجارة معلوما بالمشاهدة أو‬ ‫الوصف الرافع للجهالة‪ ،‬قال صلى ا عليه وسلم‪) :‬من كان يؤمن‬ ‫بالله واليوم الخر فل يستعملن أجيرا حتى يعلمه أجره(‪ .‬إل ّ أنه ل‬ ‫تشترط القيمة في الجرة كما ل تشترط القيمة في ثمن المبيع‪.‬‬ ‫والفرق بين القيمة والثمن أن القيمة هي ما توافق مقدار مالية‬ ‫الشيء وتعادله بحسب تقويم المقومين‪ ،‬وأّما الثمن فهو ما يقع‬ ‫به التراضي وفق القيمة أو أزَيد أو أنَقص‪ .‬ول يشترط أن تكون‬ ‫أجرة الجير قيمة العمل‪ ،‬لن القيمة ل تكون بدل ً في الجارة‪،‬‬ ‫فيجوز أن تكون الجرة أكثر من قيمة العمل ويجوز أن تكون أقل‬ ‫من قيمة العمل‪ .‬فلو استأجر شخص أجيرا بأجرة معلومة ليصوغ‬ ‫له قطعة ذهب أو فضة صياغة معلومة فهو جائز‪ ،‬لنه استؤجر‬ ‫لعمل معلوم فل ُتشترط المساواة بين الجرة وبين ما ُيعمل فيه‬ ‫من الفضة أو الذهب في الوزن‪ ،‬لن ما ُيشترط له من الجرة هو‬ ‫مقابل العمل ل بمقابلة محل العمل‪ .‬ول علقة بين الجرة وبين‬ ‫محل العمل الذي يعمله‪ ،‬وما صلح لن يكون بدل ً في البيع‬ ‫كالنقود ونحوها صُلح لن يكون بدل ً في الجارة‪ ،‬أي ما صُلح لن‬ ‫يكون ثمنا صُلح لن يكون أجرة‪ .‬وأّما ما ل يصلح أن يكون ثمنا‬ ‫في البيع فيجوز أن يكون بدل ً في الجارة‪ ،‬فإنه ل يجوز أن يبيع‬ ‫ل‪ ،‬ولكن يصح أن يستأجر بستانا بسكنى‬ ‫دابة بسكنى دار سنة مث ً‬ ‫دار‪ ،‬لن البيع هو مبادلة مال بمال‪ ،‬فمعادلة المال بالمنفعة ل‬ ‫عَوض‪ ،‬وهذا‬ ‫تعتبر بيعا‪ ،‬بخلف الجارة فهي عقد على المنفعة ب ِ‬ ‫عَوض ل ضرورة لن يكون مال ً بل قد يكون منفعة‪.‬‬ ‫ال ِ‬

‫تقدير الجرة‬ ‫عَوض‪ .‬وهذا العقد‬ ‫عّرفت الجارة بأنها عقد على المنفعة ب ِ‬ ‫ُ‬ ‫‪-231-‬‬


‫َيِرد على ثلثة أنواع‪:‬‬ ‫أحدها‪ -‬نوع َيِرد على منافع العيان‪ ،‬كاستئجار الُدور‬ ‫والدواب والمرَكبات وما أشبه ذلك‪ ،‬فالمعقود عليه هو منفعة‬ ‫العين‪.‬‬ ‫ثانيها‪ -‬نوع َيِرد العقد فيه على منافع العمال‪ ،‬كالصّباغ‬ ‫والمهندس والبّناء وما أشبه ذلك‪ ،‬فالمعقود عليه هو منفعة‬ ‫العمل‪.‬‬ ‫ملة وما‬ ‫ع َ‬ ‫ثالثها‪ -‬نوع َيِرد على منافع الشخاص‪ ،‬كالخدم وال َ‬ ‫أشبه ذلك‪ ،‬فالمعقود عليه هو النتفاع بجهد الشخص‪.‬‬ ‫فهذه النواع الثلثة كان المعقود عليه فيها هو المنفعة‬ ‫التي في كل واحد منها‪ ،‬فيكون الشيء الذي جرى عليه العقد هو‬ ‫المنفعة‪ .‬والمال المسمى هو مقابل هذه المنفعة‪ .‬وعليه فإن‬ ‫الساس الذي ُيبنى عليه تقدير الجرة هو المنفعة التي تعطيها‬ ‫تلك العين أو يعطيها ذلك العمل أو ذاك الشخص‪ .‬وليست هي‬ ‫بالنسبة للعمل قيمة الشيء الذي ُيعمل فيه ول ثمنه‪ ،‬وليست هي‬ ‫بالنسبة للجير إنتاجه‪ ،‬كما أنها ليست سداد حاجة الجير‪ .‬وكذلك ل‬ ‫دخل لرتفاع مستوى المعيشة أو انخفاضه في تقديرها‪ .‬فل‬ ‫يصح أن يرجع تقدير الجرة لقيمة الشيء أو ثمنه أو إنتاج العامل‬ ‫ول سداد حاجته‪ ،‬ول دخل لرتفاع مستوى المعيشة وانخفاضها‬ ‫في تقديرها‪ .‬وإّنما يرجع تقديرها لشيء واحد فقط هو المنفعة‪،‬‬ ‫عَوض‪.‬‬ ‫لنها عقد على المنفعة ب ِ‬ ‫وتقّدر الجرة بحسب تقدير المنفعة التي جرى عقد الجارة‬ ‫جة‪،‬‬ ‫عليها‪ .‬وحين الختلف على مقدار الجرة ل تقّدر بالبّينة والح ّ‬ ‫إذ ل شأن للبينة في ذلك‪ ،‬لنه ل يراد إثبات الجرة‪ ،‬وإّنما يراد‬ ‫معرفة مقدارها‪ ،‬وإّنما تقّدر بتقدير الخبيرين بالمنفعة التي جرى‬ ‫عَوضها‪.‬‬ ‫عليها عقد الجارة‪ ،‬والخبيرين بتقدير ِ‬ ‫هذا من ناحية أساس الجرة‪ ،‬أو بعبارة أخرى الوحدة التي‬ ‫يجري عليها تقدير الجرة‪ .‬أّما من ناحية تفاوتها فإنها تتفاوت‬ ‫بتفاوت المنفعة في الشخاص‪ ،‬وفي العمل الواحد‪ ،‬وفي‬ ‫ملة‬ ‫العمال المختلفة‪ ،‬وفي الزمان والمكان‪ .‬فتتفاوت أجرة الع َ‬ ‫الذين ورد العقد على منافع أشخاصهم بتفاوت الجهد الذي‬ ‫يبذلون‪ ،‬فتقدر الجرة للقوي كذا وللضعيف كذا‪ ،‬أو ساعات كذا‬ ‫من العمل كذا من الجرة‪ ،‬وللساعات الكثر أجرة أكثر‪ ،‬وللساعات‬ ‫‪-232-‬‬


‫القل أجرة أقل‪ ،‬وهكذا‪ ..‬ويجري تقدير الجرة للعمل الواحد‬ ‫الذي ورد عقد الجارة فيه على منفعة العمل بمقدار معين‪،‬‬ ‫وتتفاوت بين الشخاص الذين يعملون في هذا العمل بتفاوت‬ ‫ل‪ ،‬فتعطى للمهندس أجرة هي كذا‪،‬‬ ‫إتقانهم له كالمهندسين مث ً‬ ‫وتتفاوت بين المهندسين بتفاوت إتقانهم‪ .‬وكذلك يجري تقدير‬ ‫الجرة للعمال المختلفة بحسب المنفعة المقصودة منها عند‬ ‫الستئجار للذين يعملون فيها؛ أي للصّناع‪ .‬وتتفاوت الجرة لهذه‬ ‫العمال بتفاوت منفعتها عند المجتمع‪ ،‬فيكون أجر المهندس كذا‬ ‫وأجر البّناء كذا‪ ،‬وهكذا‪ ..‬ويجري تقدير الجرة للشخاص وللعمل‬ ‫الواحد وللعمال المختلفة في زمان غير تقديرها في زمان آخر‪،‬‬ ‫فيعطى العامل في الليل أكثر من عامل يعمل في نفس العمل‬ ‫في النهار مثل ً‪ .‬وكذلك يجري تقدير الجرة للشخاص وللعمل‬ ‫الواحد وللعمال المختلفة في مكان غير تقديرها في مكان آخر‪،‬‬ ‫فمثل ً يعطى العامل في الصحراء أكثر من عامل يعمل في‬ ‫نفس العمل في المدينة‪ ،‬وهكذا‪ ..‬ويجوز تقدير الجرة مؤقتة‬ ‫بوقت معين كالساعة واليوم الشهر والسّنة‪.‬‬

‫مقدار الجرة‬ ‫أجر الجير يكون أجرا مسمى‪ ،‬ويكون أجر المثل‪ .‬أّما الجر‬ ‫المسمى فهو الجرة التي ُذكرت وتعينت وقت العقد‪ .‬ويعتبر من‬ ‫عرفت أجرة كل منهم‬ ‫الجر المسمى أجرة العملة الذين ُ‬ ‫كالموظفين في درجة معينة أو كعمال في مصنع معين معروف‬ ‫ت عمال ً أو موظفين وسميت‬ ‫أجرة العامل فيه‪ .‬ولذلك إذا استخدم َ‬ ‫لهم أجرتهم فيكون المسمى هو أجرهم‪ .‬وإن لم تسم أجرتهم‬ ‫ينظر إن كانت معلومة فتعطى لهم وتعتبر أجرا مسمى‪ ،‬وإن لم‬ ‫تكن الجرة معلومة فيعطى لهم أجر المثل‪.‬‬ ‫وأجر المثل هو أجر مثل العمل ومثل العامل‪ ،‬أو أجر مثل‬ ‫العامل فقط‪ .‬ويلزم تقدير أجر المثل من قبل ذوي الخبرة‪ ،‬وُيلزم‬ ‫أهل الخبرة بتعيين الجرة بالنظر إلى شخص الجير‪ .‬وعند تقدير‬ ‫أجر المثل ينبغي أن ينظر إلى ثلثة أمور‪:‬‬ ‫الول‪ -‬إذا كانت الجارة واردة على المنفعة أن ينظر إلى‬ ‫الشيء الذي تساوي منفعته منفعة المأجور‪.‬‬ ‫‪-233-‬‬


‫الثاني‪ -‬إذا كانت الجارة واردة على العمل أن ينظر إلى‬ ‫الشخص المماثل للجير بذلك العمل‪ ،‬أي ينظر إلى العمل‬ ‫والعامل‪.‬‬ ‫الثالث‪ -‬أن ينظر إلى زمان اليجار ومكانه‪ ،‬لن الجرة‬ ‫تتفاوت بتفاوت المنفعة والعمل والزمان والمكان‪.‬‬ ‫وأجر المثل تتوقف معرفته على أهل الخبرة‪ ،‬فل تجوز‬ ‫إقامة البينة عليه من المدعي‪ ،‬بل يجب أن يقدره أهل الخبرة‬ ‫الخلو من الغرض فينتخبهم الخصمان بالتفاق‪ ،‬وإن لم يتفقا‬ ‫فينتخبهم الحاكم‪.‬‬

‫دفع الجرة‬ ‫يجوز تعجيل الجرة ويجوز تأجيلها‪ .‬فإذا اشترط العاقدان‬ ‫تعجيل الجرة أو تأجيلها يراعى شركهما‪ ،‬قال صلى ا عليه‬ ‫وسلم‪) :‬المسلمون عند شروطهم(‪ ،‬فيعتبر ويراعى كل ما اشترط‬ ‫العاقدان في تعجيل الجرة وتأجيلها‪ .‬أّما إن لم يكن يشترط‬ ‫العاقدان شيئا في تعجيل الجرة أو تأجيلها ينظر‪ ،‬فإذا كانت‬ ‫الجرة مؤقتة بوقت معين كالشهرية والسنوية‪ ،‬يلزم إيفاءها عند‬ ‫انقضاء ذلك الوقت‪ ،‬فلو كانت مشاهرة تؤدى عند نهاية الشهر‪،‬‬ ‫وإن كانت مسانهة ففي ختام السّنة‪ .‬أّما إذا كانت الجارة على‬ ‫عمل مثل خياطة ثوب أو حفر بئر أو تصليح سيارة أو ما شاكل‬ ‫ذلك‪ ،‬فإنه يلزم إيفاءها عند النتهاء من العمل‪ ،‬لقول رسول ا‬ ‫صلى ا عليه وسلم‪) :‬أعطوا الجير أجره قبل أن يجف عرقه(‪،‬‬ ‫ومعناه بعد أن ينتهي من عمله مباشرة لن عرقه ينزل من‬ ‫العمل‪ ،‬فدل على أنه بعد أن يعرق بالعمل وقبل أن يجف هذا‬ ‫العرق‪ .‬ويجوز ترديد الجرة على صورتين أو ثلث في العمل‬ ‫والعامل والمسافة والزمان والمكان‪ ،‬ويلزم إعطاء الجرة على‬ ‫خط َ‬ ‫ت‬ ‫موجب الصورة التي تظهر فعل ً‪ .‬فمثل ً لو قيل للخياط‪ :‬إن ِ‬ ‫ت غليظا فلك كذا‪ ،‬فأي الصورتين عمل له‬ ‫خط َ‬ ‫دقيقا فلك كذا أو ِ‬ ‫أجرتها‪.‬‬

‫أنواع الجراء‬ ‫‪-234-‬‬


‫ينقسم الجير إلى خاص ومشترك‪.‬‬ ‫فالجير الخاص هو الذي يعمل لواحد معين أو أكثر عمل ً‬ ‫مؤقتا مع التخصيص أي هو الذي يختص بالمستأجر وحده ويمنع‬ ‫من أن يعمل لغيره طوال مدة الجارة‪ .‬فلو استأجر شخص أو‬ ‫أكثر طاهيا ليطبخ لهم خاصة مع تعيين المدة‪ ،‬كان ذلك الطاهي‬ ‫أجيرا خاصا‪.‬‬ ‫والجير المشترك هو الذي يعمل لواحد عمل ً غير مؤقت أو‬ ‫عمل ً مؤقتا بل اشتراط التخصيص عليه‪ .‬أي هو الذي ل يختص‬ ‫بالمؤجر‪ .‬بل يجوز له أن يعمل لغير المؤجر‪ .‬فلو استأجرت منجدا‬ ‫للفرش غير مشترط عليه أن ل ينجد لغيرك‪ ،‬فهو أجير مشترك‪،‬‬ ‫ء أكان في منزلك أم في محله‪ ،‬وسواء عينت له مدة النجادة‬ ‫سوا ً‬ ‫أم ل‪.‬‬ ‫والجير الخاص يستحق الجرة بتسليم نفسه في المدة‬ ‫لتأدية ما ُكّلف به مع تمكنه من العمل‪ ،‬سواء قام بالعمل أم لم‬ ‫يقم‪ ،‬فاستحقاقه للجر يكون بحسب المدة ل بحسب العمل‪ .‬ولذا‬ ‫ل يجوز له أن يعمل في مدة الجارة عمل ً لغير مستأجره‪ .‬فإ ْ‬ ‫ن‬ ‫عمله لغيره نقص من الجر بقدر ما عمله‪ .‬والجير المشترك‬ ‫يستحق الجرة على نفس العمل كالخياط والنجار والصباغ‬ ‫والملح‪ ..‬الخ‪ ،‬فاستحقاقه للجر يكون بحسب العمل ل بحسب‬ ‫المدة‪.‬‬ ‫والفرق بين الجير الخاص والجير المشترك من حيث‬ ‫ن هلك الشيء في يده‬ ‫الضمان‪ ،‬هو أن الجير الخاص أمين‪ ،‬فإ ْ‬ ‫مد وبدون تقصيره وإهماله فل ضمان عليه‪ .‬والجير‬ ‫بدون تع ّ‬ ‫المشترك إما أن يهلك الشيء بفعله أو ل‪ .‬فإن هلك الشيء‬ ‫من سواء أكان هلكه بالتعدي أو لم يكن‪ .‬وإن هلك‬ ‫ض ِ‬ ‫بفعله َ‬ ‫الشيء بغير فعله ُينظر‪ ،‬فإن كان مما ل يمكن الحتراز عنه ل‬ ‫يضمن‪ ،‬أّما إن كان يمكن الحتراز عنه ولم يحترز يضمن‪ .‬وذلك‬ ‫لن الشيء الذي يعمل فيه الجير الخاص وإن كان تحت يده‬ ‫فإنه تحت تصرف المستأجر ل تحت تصرف الجير‪ .‬ومن هنا كانت‬ ‫يده يد أمانة‪ ،‬بخلف الجير العام فإن الشيء الذي يعمل فيه هو‬ ‫تحت تصرفه هو أي هو تحت تصرف الجير ل تحت تصرف‬ ‫المستأجر‪ ،‬ولذلك لم تكن يده يد أمانة بل كانت يد متصرف‪.‬‬ ‫والفرق بينهما من حيث استحقاق الجرة أن الجير الخاص‬ ‫‪-235-‬‬


‫يستحق الجرة إذا كان في مدة الجارة حاضرا للعمل ول‬ ‫ُيشترط عمله بالفعل‪ ،‬والجير المشترك ل يستحق الجرة إل ّ‬ ‫بالعمل‪ .‬ومدة الجارة للجير الخاص إما أن تكون معّينة في‬ ‫سد العقد لجهالتها‪،‬‬ ‫العقد أو غير معّينة‪ ،‬فإن كانت غير معّينة َف َ‬ ‫فلكل من العاقدْين فسخها في أي وقت أراد‪ ،‬وللجير أجرة مثله‬ ‫مدة خدمته‪ .‬وإن كانت معّينة في العقد وفسخ المستأجر الجارة‬ ‫قبل انقضاء المدة بل عذر ول عيب في الجير يوجب الفسخ‬ ‫كمرضه أو عجزه عن العمل‪ ،‬فإنه يجب على المستأجر أن يؤدي‬ ‫إلى الجير الجرة إلى تمام المدة سواء أكان الجير خادما أو‬ ‫سخ الجارة لعذر أو عيب ظهر في‬ ‫ن َف َ‬ ‫مزارعا أو غير ذلك‪ .‬أّما إ ْ‬ ‫الجير يوجب الفسخ فإنه ليس عليه أن يؤدي الجرة إل ّ إلى‬ ‫الوقت الذي ُفسخت فيه الجارة‪.‬‬

‫ل توجد في السلم مشكلة عمال‬ ‫كان النظام الرأسمالي في القتصاد مطّبقا على العالم‬ ‫الغربي وعلى روسيا‪ ،‬قبل أن يحكمها الحزب الشيوعي‪ .‬ومن‬ ‫أسس المبدأ الرأسمالي حرية الملكية‪ .‬فنتج عن ذلك استبداد‬ ‫أصحاب العمال با ُ‬ ‫لجراء أي العمال‪ ،‬ما دام التراضي قائما وما‬ ‫ُ‬ ‫دامت نظرية اللتزام هي التي تتحكم فيهم‪ .‬وقد لقى الجراء‬ ‫عَرقهم‬ ‫من المستأجرين العنت والرهاق والظلم واستغلل َ‬ ‫وجهودهم‪.‬‬ ‫وحين ظهرت الفكرة الشتراكية ونادت بإنصاف العامل‪،‬‬ ‫ظهرت على أساس معالجة مشاكل العمال وليس على أساس‬ ‫معالجة عقد الجارة‪ .‬ولذلك جاءت الشتراكية بحلول لنصاف‬ ‫العامل‪ ،‬بتحديد وقت العمل‪ ،‬وأجرة العامل‪ ،‬وضمان راحته‪..،‬‬ ‫الخ‪ ،‬فهدمت نظرية اللتزام‪ ،‬وأظهرت عدم صلحيتها لمعالجة‬ ‫المشاكل‪ .‬فاضطر فقهاء القانون الغربي لن يغّيروا نظرتهم‬ ‫لللتزام حتى تستطيع نظرية اللتزام أن َتثُبت أمام المشاكل‪،‬‬ ‫ولذلك أدخلوا تعديلت لترقيع نظريتهم‪ .‬فعْقد العمل قد ُأدخلت‬ ‫عليه قواعد وأحكام تهدف إلى حماية العمال‪ ،‬وإلى إعطائهم من‬ ‫الحقوق ما لم يكن لهم من قبل‪ ،‬كحرية الجتماع‪ ،‬وحق تكوين‬ ‫النقابات‪ ،‬وحق الضراب‪ ،‬وإعطائهم تقاعد وإكراميات أو‬ ‫‪-236-‬‬


‫تعويضات‪ ..‬الخ‪ ،‬مع أن نص نظرية اللتزام ل يبيح مثل هذه‬ ‫الحقوق‪ .‬ولكن جرى تأويل هذه النظرية لمعالجة مشاكل العمال‬ ‫التي أوجدتها الفكار الشتراكية بين العمال‪.‬‬ ‫ثم جاءت النظرية الشيوعية لتمنع ملكية العمال‪ ،‬وتعطي‬ ‫العامل ما يحتاجه مطلقا‪ .‬وِمن تباُين وجهات النظر بين المبدأين‬ ‫الشتراكي ومنه الشيوعي‪ ،‬والمبدأ الرأسمالي‪ ،‬نحو الملكية ونحو‬ ‫الجير‪ ،‬نشأت لديهم مشكلة العمال‪ ،‬وصار لكل منهما طريقة‬ ‫خاصة في حل هذه المشكلة التي أوجدتها نظرتهما المختلفة‬ ‫نحو الحياة‪.‬‬ ‫أّما في السلم فل توجد مشكلة تسمى مشكلة عمال‪ ،‬ول‬ ‫ُتقسم الّمة السلمية إلى طبقات‪ :‬عمال ورأسماليين‪ ،‬أو فلحين‬ ‫وأصحاب أراضي‪ ..‬الخ‪ .‬والقضية كلها تتعلق بالجير سواء أكان‬ ‫استئجاره على العمل كالخصائيين والفنيين‪ ،‬أو كان استئجاره‬ ‫على جهده فقط كسائر ا ُ‬ ‫لجراء‪ ،‬وسواء أكان أجيرا عند أشخاص‬ ‫أو أجيرا عند جماعات أو أجيرا عند الدولة‪ ،‬وسواء أكان أجيرا‬ ‫خاصا أم أجيرا مشتَركا‪ ،‬فكله أجير‪ .‬وهذا الجير قد وضحت‬ ‫أحكامه وُبّينت‪ ،‬فعند اتفاق ا ُ‬ ‫لجراء على أجر مسمى كان لهم‬ ‫الجر المسمى مدة الجارة ولهم أن يتركوا مستأجرهم بعد‬ ‫انتهاء مدة الجارة‪ ،‬وإن اختلفوا معه جاء دور الخبراء لتقدير أجر‬ ‫المثل‪ .‬وهؤلء الخبراء يختارهم الطرفان‪ ،‬فإن لم يتفقا عليهم‬ ‫اختارهم الحاكم وألزم الطرفين بما يقوله الخبراء جبرا‪.‬‬ ‫أّما تعيين أجرة معينة من ِقبل الحاكم فل يجوز قياسا على‬ ‫عدم جواز التسعير للسلع لن الجرة ثمن المنفعة والثمن ثمن‬ ‫السلعة‪ .‬وكما أن سوق السلع يقدر سعر السلعة تقديرا طبيعيا‪،‬‬ ‫كذلك سوق المنافع ل ُ‬ ‫لجراء تقدرها الحاجة إلى العمال‪ .‬إل ّ أن‬ ‫ع وهو مسؤول‬ ‫على الدولة أن تهيئ العمال للعمال )المام را ٍ‬ ‫عن رعيته(‪ ،‬وعلى الدولة أن ترفع ظلم أصحاب العمال عن‬ ‫العمال‪ ،‬فإن السكوت على الظلم مع القدرة على إزالته حرام‬ ‫ظَلمت هي‬ ‫صرت الدولة في رفع الظلم أو َ‬ ‫فيه إثم كبير‪ .‬وإذا ق ّ‬ ‫ا ُ‬ ‫لجراء كان على الّمة كلها أن تحاسب الدولة على هذا الظلم‬ ‫ُ‬ ‫ظلموا‬ ‫وأن تسعى لزالته‪ ،‬وليس هذا على الجراء الذين ُ‬ ‫وحدهم‪ ،‬كما هي الحال اليوم في معاَلجات مشاكل العمال‬ ‫بالضرابات والتظاهرات‪ .‬لن ظلم أي فرد من الرعية وتقصير‬ ‫‪-237-‬‬


‫الدولة في رعاية شؤون أي فرد من الرعية‪ ،‬أمر يتعلق برعاية‬ ‫شؤون الّمة كلها‪ ،‬ولو كان خاصا بشخص أو أشخاص‪ ،‬لنه تنفيذ‬ ‫حكم شرعي‪ ،‬وليس متعلقا بفئة معينة‪ ،‬وإن كان واقعا على‬ ‫جماعة معينة‪.‬‬ ‫أّما ما يحتاجه العمال من ضمان صحي لهم ولهلهم‪،‬‬ ‫وضمان نفقاتهم في حال الخروج من العمل‪ ،‬وفي حال كبرهم‪،‬‬ ‫وضمان تعليم أبنائهم وما شاكل ذلك من الضمانات التي ُيبحث‬ ‫فيها لتأمين العمال‪ ،‬فل ُيبحث فيها في السلم عند بحث الجير‬ ‫وا ُ‬ ‫لجراء‪ ،‬لن هذه ليست على المستأجر وإّنما هي على الدولة‪.‬‬ ‫وليست هي للعمال‪ ،‬وإّنما هي لكل عاجز من الرعية‪ ،‬لن الدولة‬ ‫تضمن التطبيب والتعليم مجانا للجميع‪ ،‬وتضمن للعاجز النفاق‬ ‫عليه‪ ،‬سواء أكان عامل ً أم غير عامل‪ ،‬لن هذا مما هو فرض‬ ‫على بيت المال‪ ،‬وفرض على كافة المسلمين‪.‬‬ ‫وعليه‪ ،‬فل توجد مشكلة عمال‪ ،‬ول توجد مشكلة خاصة‬ ‫بجماعة أو فئة من الّمة‪ ،‬فكل مشكلة تتعلق برعاية شؤون‬ ‫سب بها الدولة‬ ‫الرعية مسؤولة الدولة عن حلها‪ ،‬والّمة كلها تحا ِ‬ ‫لحل المشكلة ورفع الظلم‪ ،‬وليس المسؤول فقط هو صاحب‬ ‫المشكلة أو من وقع عليه الظلم‪.‬‬

‫استئجار العيان‬ ‫إذا ورد العقد على منافع العيان كاستئجار الدور والدواب‬ ‫والسيارات وما شابه ذلك‪ ،‬فإن المعقود عليه يكون منفعة العين‪،‬‬ ‫ويكون تقدير أجر المثل محتما أن ُينظر إلى الشيء الذي تساوي‬ ‫منفعته منفعة المأجور‪ .‬ومتى تم استئجار العين فقد صار‬ ‫للمستأجر أن يستوفي منفعة العين التي استأجرها‪ ،‬فإذا استأجر‬ ‫دارا فله سكناها‪ ،‬أو دابة أو سيارة فله أن يركبها‪ .‬وللمستأجر أن‬ ‫جرة إذا قبضها بمثل ما استأجرها أو بأزيد أو‬ ‫يؤجر العين المستأ َ‬ ‫جرة قام مقام قبض المنافع‪،‬‬ ‫بأنقص‪ ،‬لن قبض العين المستأ َ‬ ‫بدليل أنه يجوز التصرف فيها‪ ،‬فجاز العقد عليها‪ ،‬ولنه عقد يجوز‬ ‫برأس المال فجاز بزيادة أو بنقصان‪ .‬إل ّ أنه إذا استأجر العين‬ ‫لمنفعة فله أن يستوفي مثل تلك المنفعة وما دونها في الضرر‪،‬‬ ‫‪-238-‬‬


‫وليس له أن يستوفي أكثر من مثل تلك المنفعة‪ ،‬لنه ل يجوز له‬ ‫أن يستوفي أكثر من حقه أو غير ما يستحقه‪ ،‬فإن اكترى دابة‬ ‫ليركبها‪ ،‬ل يجوز له أن يحمل عليها لن الراكب أخف من الحمل‪،‬‬ ‫جز له أن يركبها مسافة أكثر‬ ‫وإن اكترى سيارة لمسافة كذا‪ ،‬لم َي ُ‬ ‫من المسافة التي استأجرها لها‪ ،‬وإن استأجر دارا ليسكنها‪ ،‬ليس‬ ‫له أن يجعلها مخزنا للخشب أو الحديد أو ما شاكل ذلك‪ ،‬مما‬ ‫يكون أكثر ضررا على الدار من السكنى‪.‬‬ ‫عَوض كان بيعا‪،‬‬ ‫والحاصل أن العقد إذا ورد على العين ب ِ‬ ‫عَوض كان إجارة‪ .‬وعلى هذا فإن‬ ‫وإذا ورد على منفعة العين ب ِ‬ ‫العقد قد َيِرد على العين وحدها كبيع شجر له ثمر بدا صلحه‬ ‫دون بيع ثمره‪ ،‬وقد َيِرد على العين مع منفعتها كبيع دار‪ ،‬وقد َيِرد‬ ‫على الثمرة وحدها كبيع الثمر الذي بدا صلحه‪ ،‬وقد َيِرد على‬ ‫سمة بعين كسكنى الدار‪ .‬فإذا ورد على المنفعة‬ ‫المنفعة غير المج ّ‬ ‫التي ل تعتبر عينا كان إجارة ولم يكن بيعا‪ .‬وكما أن المشتري‬ ‫للعين يملك العين ويتصرف بها سائر التصرفات‪ ،‬كذلك يملك‬ ‫المستأجر المنفعة التي ملكها بالستئجار‪ ،‬وله أن يتصرف بها سائر‬ ‫التصرفات‪ .‬فكما أن لمشتري ثمر الشجر إذا بدا صلحه أن يبيعه‬ ‫وهو على شجره‪ ،‬كذلك لمستأجر العين أن يؤجرها لنه يملك‬ ‫منفعتها كما يملك مشتري الثمر ذلك الثمر الذي اشتراه‪ .‬وعليه‪،‬‬ ‫جرة إذا قبضها‪ ،‬لن‬ ‫فإنه يجوز للمستأجر أن يؤجر العين المستأ َ‬ ‫قبض العين حين الستئجار قائم مقام قبض المنافع‪ ،‬بدليل أنه‬ ‫يجوز التصرف فيها‪ ،‬فجاز العقد عليها كبيع الثمرة على الشجرة‪.‬‬ ‫ومتى تم استئجار العين وقْبض منفعتها َمَلك المستأجر جميع‬ ‫التصرفات الشرعية في منفعة العين التي استأجرها لنها ملكه‪،‬‬ ‫فله أن يؤجرها بالجرة التي يراها مهما بلغت‪ ،‬فلو استأجرها‬ ‫جرها بخمسمائة جاز‪ ،‬لنه يملك المنفعة فيملك‬ ‫بخمسين وأ ّ‬ ‫تأجيرها بما يراه هو ل بما استأجرها‪ .‬وعلى هذا فإن ما يسمى‬ ‫خُلّو للمخازن والُدور وغيرها –وهو دفع مبلغ معين من المال‬ ‫بال ُ‬ ‫جر الول من‬ ‫زيادة على الجرة المقّدرة للبيت أو المخزن للمستأ ِ‬ ‫ِقبل من يستأجر منه‪ -‬جائز ول شيء فيه لن المستأجر يؤجر‬ ‫الدار أو المخزن الذي في استئجاره لغيره بالجرة المقّدرة‬ ‫وبمبلغ زائد عليها يدفع له‪ ،‬وهذا تأجير للعين التي استأجرها‬ ‫بزيادة على الجرة التي استأجرها بها‪ ،‬وهو أمر جائز‪ ،‬لنه يجوز‬ ‫‪-239-‬‬


‫له تأجير ما استأجره بأزيد أو بأنقص مما استأجره‪ ،‬لنه عقد‬ ‫يجوز برأس المال فيجوز بزيادة كبيع المبيع بعد قبضه بزيادة عما‬ ‫اشتراه‪.‬‬ ‫وهناك مسألة تسليم المأجور للمالك عند انتهاء العقد هل‬ ‫هي واجبة عليه أم ل؟‬ ‫والجواب على ذلك هو أن إعادة المأجور للمستأجر واجبة‬ ‫سمرة عن النبي‬ ‫عليه إن كان المأجور تحت يده‪ِ ،‬لما ُروي عن ُ‬ ‫خَذت حتى تؤديه(‪ .‬أّما‬ ‫صلى ا عليه وسلم قال‪) :‬على اليد ما أ َ‬ ‫إن لم يكن المأجور تحت يده ُينظر‪ :‬فإن اغُتصب منه غصبا فإن‬ ‫على الغاصب أن ُيرجع العين المأجورة لصاحبها وليس على‬ ‫المستأجر لن الغاصب هو المأمور برد العين‪ ،‬فقد أخرج أحمد‬ ‫عن السائب بن يزيد عن أبيه قال‪) :‬قال رسول ا صلى ا عليه‬ ‫ن أحدكم متاع أخيه جادا ول لعبا‪ ،‬وإذا أخذ أحدكم‬ ‫خَذ ّ‬ ‫وسلم ‪:‬ل يأ ُ‬ ‫عصا أخيه فلَيُرّدها عليه(‪ ،‬وهذا عام سواء أخذها من صاحبها أم‬ ‫جره له فإنه بعد انتهاء‬ ‫من غيره‪ .‬أّما إن أعار المأجور لغيره أو أ ّ‬ ‫العقد الذي بينه وبين صاحب الملك يجب عليه تسليم المأجور‬ ‫خَذت حتى تؤديه(‪ ،‬ولم‬ ‫لمالكه وذلك لعموم حديث )على اليد ما أ َ‬ ‫يأت نص آخر في الجارة أو غيرها يستثنيه كما ورد في الغصب‬ ‫ولذلك يبقى على عمومه في قوله‪) :‬حتى تؤديه(‪.‬‬ ‫ول يقال إن الحديث يشمل المستأجر الثاني أيضا لن يده‬ ‫خَذت فعليها أن تؤديه فيكون هو الذي عليه الداء ‪.‬ل يقال ذلك‬ ‫أ َ‬ ‫لن الحديث وإن انطبق على المستأجر الثاني ولكنه ل ُيسِقط‬ ‫أداء المأجور عن المستأجر الول‪ ،‬فعلى المستأجر الول أن‬ ‫يؤدي العين المأجورة لمالكها‪ ،‬وعلى المستأجر الثاني أن يؤدي‬ ‫العين المأجورة للمستأجر الول‪ .‬ووجوب أدائها على المستأجر‬ ‫الول ل ُيسِقط أداءها عن المستأجر الثاني‪ .‬وكذلك وجوب أدائها‬ ‫على المستأجر الثاني ل ُيسِقط أداءها على المستأجر الول‪ .‬إل ّ‬ ‫جره هو وسّلمه العين وهو المستأجر‬ ‫أن المالك يلحق من أ ّ‬ ‫جرها المستأجر‬ ‫جر شخص دارا لخر ثم أ ّ‬ ‫الول‪ .‬وعلى ذلك إذا أ ّ‬ ‫مونه "خلو رجل"‪ -‬فإنه إذا انتهت‬ ‫لغيره بأجرة أزيد –أي أخذ ما يس ّ‬ ‫مدة الجارة للمستأجر الول انتهى العقد وصار لزاما عليه أن‬ ‫يسّلم الدار لصاحبها‪ ،‬إل ّ أن يجدد صاحبها العقد معه فتظل تحت‬ ‫سلطانه وإن لم تكن تحت يده أو يجري صاحبها العقد مع‬ ‫‪-240-‬‬


‫المستأجر الثاني وَيعتبر نفسه قد استلم الدار‪ .‬وحينئذ يبرأ‬ ‫المستأجر الول من تسليم الدار وُيعتبر أنها سّلمها لمالكها‬ ‫وصارت علقة مالكها مع المستأجر الثاني‪.‬‬

‫استئجار الدور للسكنى‬ ‫من استأجر عقارا للسكنى فله أن يسكنه هو وله أن ُيسكنه‬ ‫غيره ممن يشاء إذا كان يقوم مقامه‪ ،‬لن له استيفاء المعقود‬ ‫عليه بنفسه وبنائبه‪ ،‬والذي يسكنه نائب عنه في استيفاء المعقود‬ ‫عليه فجاز كما لو وكل وكيل ً في قبض المبيع‪ .‬وله أن يصنع في‬ ‫العقار ما جرت عادة الساكن به من الفرش والثاث والطعام‬ ‫كن في العقار الذي‬ ‫وغير ذلك‪ .‬إل ّ أنه ليس للمستأجر أن يس ّ‬ ‫استأجره من يكون ضرره أشد من ضرره هو على العقار‪ ،‬فل‬ ‫كن فيه ما ُيضر بالعقار مثل القصارين والحدادين إن لم يكن‬ ‫ُيس ِ‬ ‫صارا أو حّدادا‪ ،‬لن ذلك ُمضر بها‪ ،‬وهو أكثر من‬ ‫المستأجر ق ّ‬ ‫المنفعة التي جرى العقد عليها‪ .‬فالعقد جرى على منفعة معروفة‬ ‫لمثل هذا العقار ولو بالتعارف‪ ،‬فل يجوز له أن يستوفي منفعة‬ ‫أكثر من المنفعة التي جرى عقد الجارة عليها‪.‬‬ ‫ول يحتاج في استئجار الدار للسكنى أن ينص على السكنى‬ ‫بل جاز إطلق العقد‪ ،‬ول يحتاج إلى ذكر السكنى ول صفتها لن‬ ‫الدار ل ُتكترى إل ّ للسكنى فاسُتغني عن ِذكرها‪ ،‬ولن التفاوت‬ ‫في السكنى يسير فلم يحتج إلى ضبطه‪ .‬وله أن يؤجر الدار لغيره‬ ‫مدة إجارته‪ .‬ومدة الجارة يختلف اعتبارها باختلف نص العقد‪.‬‬ ‫فإذا وقعت الجارة على كل شهر بشيء معلوم لم يكن لواحد‬ ‫منهما الفسخ إل ّ عند انقضاء كل شهر‪ .‬إل ّ أن الشهر الول تلزم‬ ‫الجارة فيه بإطلق العقد لنه معلوم يلي العقد وله أجر معلوم‪،‬‬ ‫وما بعده من الشهور يلزم العقد فيه بالتلبس به وهو السكنى‬ ‫ح في العقد الول‪،‬‬ ‫في الدار‪ .‬فإذا تلبس به تعّين بالدخول فيه فص ّ‬ ‫وإن لم يتلبس به أو فسخ العقد عند انقضاء الشهر الول انفسخ‪.‬‬ ‫فمتى ترك التلبس في شهر لم تثبت الجارة فيه لعدم العقد‪ .‬وإن‬ ‫جرُتك داري عشرين شهرا كل شهر بكذا‪ ،‬جاز‪ ،‬لن المدة‬ ‫قال‪ :‬أ ّ‬ ‫معلومة وأجرها معلوم‪ ،‬وليس لواحد منهما فسخ العقد بحال‬ ‫لنها مدة واحدة‪ .‬وإن استأجر دارا مدة سنة فبدا له قبل انقضاء‬ ‫‪-241-‬‬


‫السّنة نقضها فقد لزمته الجرة كاملة‪.‬‬ ‫جر إتمام ما يتمكن به‬ ‫جر أحد داره فعلى المؤ ّ‬ ‫وإذا أ ّ‬ ‫مام‪،‬‬ ‫المستأجر من النتفاع‪ ،‬كتسليم مفاتيح الدار‪ ،‬وتبليط الح ّ‬ ‫وعمل البواب‪ ،‬ومجرى الماء‪ ،‬وكل ما يحتاج إلى إصلحه أو‬ ‫إيجاده ليتمكن من النتفاع بالدار‪ .‬أّما ما كان لستيفاء المنافع‬ ‫كالسّلم المتنّقل والحبل والدلو وساعة الماء وساعة الكهرباء‬ ‫فعلى المستأجر‪ .‬أّما ما يلزم للتحسين والتزويق فل يلزم أحدا‬ ‫منهما لن النتفاع ممكن بدونه‪ .‬أّما تبييض الدار وتنقية البالوعة‬ ‫جر‪ ،‬لن ذلك‬ ‫والكنيف فإن احتيج إلى ذلك عند الكراء فعلى المؤ ّ‬ ‫مما ُيتمكن به من النتفاع‪ ،‬وإن امتلت بفعل المكتري فعليه‬ ‫جر‬ ‫تفريغها‪ .‬أّما نقل الزبالة فهو على المستأجر‪ .‬فإذا شَ​َرط المؤ ّ‬ ‫على المستأجر في عقد الجارة دفع نفقات ما أوجبه الشرع عليه‬ ‫كن به من النتفاع‪ ،‬فالشرط فاسد لمخالفته مقتضى‬ ‫مما يم ّ‬ ‫جر دفع نفقات ما‬ ‫العقد‪ .‬وكذلك لو شرط المستأجر على المؤ ّ‬ ‫جر فالشرط فاسد لمخالفته مقتضى العقد‪ .‬وإذا‬ ‫يجب على المؤ ّ‬ ‫جر والمستأجر أو أحدهما فالجارة بحالها‪ ،‬لن الجارة‬ ‫مات المؤ ّ‬ ‫عقد لزم ل ينفسخ بالموت مع سلمة المعقود عليه‪.‬‬

‫الرشوة كلها حرام‬ ‫جب عليه قضاء مصلحة من مصالح‬ ‫كل من يملك صلحية تو ِ‬ ‫الناس يكون المال الذي يؤخذ من أجل قضاء هذه المصلحة من‬ ‫ِقبله رشوة‪ ،‬ول يكون أجرة ول بحال من الحوال‪ .‬والفرق بين‬ ‫الجرة والرشوة هو أن الجرة تؤخذ مقابل القيام بعمل ل يجب‬ ‫القيام به‪ ،‬أّما الرشوة فتؤخذ مقابل القيام بعمل يجب القيام به‬ ‫بدون مقابل‪ ،‬ممن يقام بالعمل لجله‪ ،‬أو مقابل عدم القيام‬ ‫بعمل يجب عليه القيام به‪.‬‬ ‫وعلى ذلك فالرشوة هي المال الذي يعطى من أجل قضاء‬ ‫مصلحة يجب على الخذ قضاؤها أو قضاء مصلحة بعدم قيام‬ ‫الخذ بما يجب عليه من عمل سواء أكانت المصلحة جلب منفعة‬ ‫أو دفع مضرة‪ ،‬وسواء أكانت المصلحة حقا أو باطل ً‪ .‬ويقال لدافع‬ ‫الرشوة‪ :‬الراشي‪ ،‬وللقابض لها‪ :‬المرتشي‪ ،‬وللوسيط بينهما‪:‬‬ ‫الرائش‪.‬‬ ‫‪-242-‬‬


‫والرشوة حرام بصريح النصوص‪ ،‬فقد روى أحمد وأبو داود‬ ‫والترمذي وابن ماجه عن عبدا بن عمرو قال‪ :‬قال رسول ا‬ ‫صلى ا عليه وسلم‪) :‬لعنة ا على الراشي والمرتشي(‪ ،‬وروى‬ ‫أحمد عن ثوبان قال‪) :‬لعن رسول ا صلى ا عليه وسلم‬ ‫الراشي والمرتشي والرائش يعني الذي يمشي بينهما(‪ .‬وهذه‬ ‫الحاديث عامة فتشمل كل رشوة‪ ،‬سواء أكانت لطلب حق أو‬ ‫لطلب باطل‪ ،‬وسواء أكانت لدفع أذى أو لجلب منفعة‪ ،‬لرفع ظلم‬ ‫أو ليقاع ظلم‪ ،‬فكلها حرام‪.‬‬ ‫ول يقال إن الرشوة حرام لنها طلب باطل أو إضاعة حق‪،‬‬ ‫فإن كانت كذلك فهي حرام‪ ،‬أّما إن كانت لطلب حق أو رفع ظلم‬ ‫فهي حلل ‪.‬ل يقال ذلك‪ ،‬لن هذا يعني أن تحريم الرشوة جاء‬ ‫معّلل ً بعّلة‪ ،‬فإذا ُوجدت ُوجد الحكم‪ ،‬وإذا ذهبت ذهب الحكم‪،‬‬ ‫وهذا غير صحيح‪ ،‬لن جميع النصوص التي جاءت في تحريم‬ ‫الرشوة لم تعّلل تحريمها بعّلة من العلل‪ ،‬ول يوجد فيها ول في‬ ‫أي نص ما نستنبط منه عّلة لتحريم الرشوة‪ ،‬ولذلك كان تحريمها‬ ‫للنص الصريح غير المعّلل‪ ،‬فل عّلة لها مطلقا‪.‬‬ ‫خذ من صاحبه رشوة جاز لنه‬ ‫ول يقال إن قضاء الحق إذا أ ُ ِ‬ ‫أخُذ مال للقيام بعمل حلل وهو قضاء الحق ‪.‬ل يقال ذلك لن‬ ‫النصوص التي حّرمت الرشوة جاءت عامة فتبقى على عمومها‬ ‫تشمل جميع أنواع الرشوة‪ ،‬فإذا أريد تخصيصها واستثناء بعض‬ ‫أنواع الرشوة احتاج المر إلى نص آخر يخصصها‪ ،‬لن النص ل‬ ‫يخصصه إل ّ نص من كتاب أو سّنة‪ ،‬ولم َيِرد نص فتبقى عامة‬ ‫دون تخصيص‪ .‬وعليه فجميع أنواع الرشوة حرام ل فرق بين أن‬ ‫تكون طلب حق أو طلب باطل‪ ،‬رفع ظلم أو إيقاع ظلم‪ ،‬دفع أذى‬ ‫أو جلب منفعة‪ ،‬فكلها تدخل تحت عموم النص‪.‬‬ ‫وكذلك ل فرق في تحريم الرشوة بين أن تكون للحاكم أو‬ ‫للموظف أو للرئيس أو غير ذلك‪ ،‬فكلها حرام‪ .‬ول يقال قد روى‬ ‫أحمد عن أبي هريرة قال‪ :‬قال رسول ا صلى ا عليه وسلم‪:‬‬ ‫)لعنة ا على الراشي والمرتشي في الحكم(‪ ،‬وهذا مقّيد في‬ ‫الحكم فُيحمل المطَلق على المقّيد ‪.‬ل يقال ذلك لن اللفظ الذي‬ ‫ُيعتبر الوصف قيدا له هو اللفظ المطَلق ل اللفظ العام‪ ،‬أّما اللفظ‬ ‫العام فيجري فيه التخصيص ل التقييد‪ .‬وإذا ورد معه قيد فإنه‬ ‫يكون من قبيل التنصيص على فرد من افراده ل من قبيل التفييد‪،‬‬ ‫‪-243-‬‬


‫وهنا لفظ الراشي والمرتشي والرائش لفظ عام وليس لفظا‬ ‫مطَلقا ولذلك ل يكون قوله‪) :‬في الحكم( قيدا له حتى ُتحمل عليه‬ ‫باقي الحاديث بل يكون تنصيصا على فرد من أفراده وهو‬ ‫الحكم‪ ،‬فتبقى الحاديث كلها عامة وتظل على عمومها‪ .‬فكل‬ ‫رشوة حرام سواء أكانت لحاكم أو لموظف أم لغير ذلك‪ .‬فرشوة‬ ‫الشرطي لدفع الذى كرشوة الحاكم‪ ،‬ورشوة مدير الشركة‬ ‫صل الضرائب أو مبّلغ‬ ‫ليشتغل بها أو حتى ل ُيسّرح منها كرشوة مح ّ‬ ‫الدعاوى حتى ل يبّلغه‪ .‬ورشوة رئيس العمال حتى يخفف عنهم‬ ‫العمل أو لغير ذلك كرشوة العامل عند التاجر يعطيه إياها الزبون‬ ‫مقابل أن ينتقي له بضاعة جيدة من بين البضائع‪ ،‬وكرشوة عامل‬ ‫المطبعة ليتقن عمله يعطيه إياها صاحب الكتاب في غفلة عن‬ ‫صاحب المطبعة‪ ،‬فكلها رشوة وكلها حرام لنها مال يؤخذ مقابل‬ ‫القيام بعمل يجب القيام به دون مقابل ممن يقام بالعمل لجله‪.‬‬ ‫ويدخل في الرشوة ما يدفعه بعضهم لمن له وجاهة عند‬ ‫موظف ليستعمل نفوذه لديه ليقضي له حاجة ولكن الموظف‬ ‫ليس هو الذي يأخذ المال وإّنما الذي يأخذ المال هو الذي يكّلم‬ ‫الموظف‪ ،‬فيدفع له المال مقابل مكالمته‪ .‬فهذه أيضا رشوة لن‬ ‫هذا المال أعطي مقابل قضاء مصلحة ممن يجب عليه قضاؤها‬ ‫فكان رشوة سواء أخذه َمن قضى المصلحة أم لم يأخذه‪ ،‬إذ ل‬ ‫ُيشترط في تحقق كون المال رشوة أن يأخذه من باشر القيام‬ ‫بقضاء المصلحة بل الشرط في كون المال رشوة أن يؤخذ هذا‬ ‫المال مقابل القيام بالعمل‪ ،‬سواء أخذه الشخص أم صديقه أم‬ ‫من له وجاهة عنده أم قريبه أم رئيسه أم غير ذلك‪ ،‬إذ العبرة في‬ ‫تحقق كون المال رشوة أن يؤخذ مقابل قضاء المصلحة يجب‬ ‫قضاؤها دون مقابل ممن ُتقضى له‪.‬‬ ‫حرمة الهدية تهدى للحكام والعمال‬ ‫ومثل الرشوة في ال ُ‬ ‫وأمثالهم حتى عّدها بعضهم من الرشوة لنها تشبهها من حيث‬ ‫كونها مال ً يؤخذ من أجل القيام بعمل يجب القيام به دون مقابل‬ ‫مما يقام العمل لجله‪ .‬والفرق بين الرشوة وبين الهدية التي‬ ‫تهدى للحكام والعمال وأمثالهم هو أن الرشوة يعطى فيها المال‬ ‫مقابل قضاء المصلحة‪ ،‬أّما هدايا الحكام والعمال وأمثالهم فإن‬ ‫المال يهدى فيها من صاحب المصلحة ل مقابل قضاء المصلحة‪،‬‬ ‫بل لن الذي يهدى إليه يتولى فعل ً قضاء المصالح بنفسه أو‬ ‫‪-244-‬‬


‫بواسطته‪ ،‬سواء ُأهدي طمعا في قضاء مصلحة معّينة أو بعد‬ ‫قضاء مصلحة معّينة أو طمعا في قضاء المصالح حين حصولها‪.‬‬ ‫ومن هنا كانت الرشوة والهدية التى ُتهدى للحاكم ومثله متشابهين‬ ‫ويقاس أحدهما على الخر‪ ،‬ولكن واقعهما فيه شيء من‬ ‫الختلف‪ .‬وقد جاء تحريم الهدية للحاكم والعامل وأمثالهم‬ ‫صريحا في الحاديث‪ ،‬فقد روى البخاري عن أبي حميد الساعدي‬ ‫أن النبي صلى ا عليه وسلم استعمل ابن التبية على صدقات‬ ‫ما جاء إلى رسول ا صلى ا عليه وسلم قال‪:‬‬ ‫بني سليم فل ّ‬ ‫هذا الذي لكم وهذه هدية ُأهديت لي‪ .‬فقال رسول ا صلى ا‬ ‫عليه وسلم‪ :‬فَهل جلست في بيت أبيك وبيت أمك حتى تأتيك‬ ‫هديتك إن كنت صادقا‪ .‬ثم قام رسول ا صلى ا عليه وسلم‬ ‫فخطب الناس وحمد ا وأثنى عليه ثم قال‪ :‬أّما بعد فإني‬ ‫لني ا فيأتي أحدكم‬ ‫أستعمل رجال ً منكم على أمور مما و ّ‬ ‫فيقول‪ :‬هذا لكم وهذه هدية ُأهديت لي‪ .‬فَهل جلس في بيت أبيه‬ ‫وبيت أمه حتى تأتيه هدّيته إن كان صادقا‪ .‬فوا ل يأخذ أحدكم‬ ‫منها شيئا بغير حقه إل ّ جاء ا يحمله يوم القيامة(‪ .‬وعن بريدة‬ ‫عن النبي صلى ا عليه وسلم قال‪) :‬من استعملناه على عمل‬ ‫فرزقناه رزقا فما أخذه بعد ذلك فهو غلول(‪ ،‬أو قد سماها‬ ‫سحتا أي مال ً حراما‪ ،‬فقد أخرج‬ ‫الرسول صلى ا عليه وسلم ُ‬ ‫الخطيب في تلخيص المتشابه عن أنس أن النبي صلى ا عليه‬ ‫حكي عن مسروق عن ابن‬ ‫سحت (‪ُ .‬‬ ‫وسلم قال‪) :‬هدايا العمال ُ‬ ‫مسعود أنه لما سئل عن السحت أهو الرشوة؟ فقال ‪:‬ل –ومن‬ ‫لم َيحكم بما أنزل ا فأولئك فهم الكافرون والظالمون‬ ‫والفاسقون‪ -‬ولكن السحت أن يستعينك الرجل على مظلمته‬ ‫فيهدي لك‪ ،‬فل تقبل(‪ .‬وقال أبوه وائل شقيق بن سلمة أحد أئمة‬ ‫التابعين‪" :‬القاضي إذا أخذ الهدية فقد أكل السحت وإذا أخذ‬ ‫الرشوة بلغت به الكفر"‪.‬‬ ‫فهذه الحاديث حديث أبي حميد وحديث بريدة وحديث‬ ‫أنس‪ ،‬كلها صريحة في أن الهدايا التي تهدى لمن يتولون العمال‬ ‫العامة حرام‪ ،‬سواء ُأهديت بعد القيام بعمل معّين أو قبل القيام‬ ‫به‪ ،‬أو ُأهديت له لنه صاحب صلحية في أمر من المور أو ُأهديت‬ ‫له لن له وجاهة عند من بيده قضاء المصلحة‪ ،‬فهذه كلها حرام‪،‬‬ ‫وقد جاء لفظ هدايا في حديث )هدايا العمال سحت( عامة‬ ‫‪-245-‬‬


‫تشمل كل هدية للعمال‪ .‬ويقاس على العمال كل من تولى‬ ‫قضاء مصلحة للناس يجب عليه قضاؤها دون مقابل يؤخذ ممن‬ ‫ُتقضى له فإنه يحرم عليه أن يأخذ هدية أو تؤخذ هية ممن له‬ ‫هذه المصلحة طمعا في قضائها‪ .‬فالشرطي ورئيس الشركة‬ ‫ورئيس العمال ومن هو مثل هؤلء يحرم عليهم أخذ الهدايا‬ ‫وتكون الهدية لهم سحتا‪.‬‬ ‫إل ّ أن الهدية لهؤلء تكون حراما إذا لم يكن من عادة‬ ‫مهدي أن يهدي لهم‪ ،‬أّما إن كان من عادته أن يهدي لهم سواء‬ ‫ال ُ‬ ‫أكانوا يتولون قضاء مصالح أم ل‪ ،‬فإنه تجوز الهدية لهم ول شيء‬ ‫فيها‪ ،‬لن الرسول صلى ا عليه وسلم يقول في الحديث‪) :‬فَهل‬ ‫ت في بيت أبيك وأمك حتى تأتيك هديتك إن كنت صادقا(‪،‬‬ ‫جلس َ‬ ‫ومفهومه أن الهدية التي ُتهدى له وهو جالس في بيت أبيه وأمه‬ ‫دون أن يكون عامل ً جائزة‪ ،‬وهذا يعني أن الهدية التي من شأن‬ ‫ُمهديها أن ُيهديها للشخص لو لم يكن يتولى مصالح فهي جائزة‬ ‫في حال توليه قضاء المصالح‪ ،‬كما هي جائزة في حال عدم‬ ‫توليه قضاء المصالح‪ ،‬ول تنطبق عليها أحاديث النهي‪ ،‬فهي‬ ‫مستثناة منها بمفهوم الحديث‪.‬‬

‫الرهـن‬ ‫الرهن في اللغة الثبوت والدوام‪ ،‬وقيل‪ :‬هو من الحبس‪.‬‬ ‫قال تعالى‪) :‬كل امرئ بما كسب رهين(‪) ،‬كل نفس بما كسبت‬ ‫رهينة( أي مقّيدة‪ .‬والرهن شرعا المال الذي ُيجعل وثيقة بالدْين‬ ‫لُيستوفى من ثمنه إن تعّذر استيفاؤه ممن هو عليه‪ .‬وهو جائز‬ ‫ومن المعاملت التي أجازها الشرع‪ ،‬ودليله الكتاب والسّنة‪ .‬قال‬ ‫تعالى‪) :‬وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتبا فرهانٌ مقبوضة(‪،‬‬ ‫وعن عائشة أم المؤمنين )أن رسول ا صلى ا عليه وسلم‬ ‫هَنه درعه(‪ ،‬وعن ابن‬ ‫اشترى من يهودي طعاما إلى أجل وَر َ‬ ‫عباس قال‪) :‬وا لقد مات رسول ا صلى ا عليه وسلم وإنّ‬ ‫درعه لمرهونة عند رجل من اليهود بعشرين صاعا من شعير‬ ‫أخذها طعاما لهله(‪ ،‬وروى أنس )أن النبي صلى ا عليه وسلم‬ ‫هَنه درعه(‪.‬‬ ‫أخذ شعيرا من يهودي بالمدينة وَر َ‬ ‫والرهن جائز في السفر والحضر‪ ،‬لن كلمة )وإن كنتم على‬ ‫‪-246-‬‬


‫سفر( بيان واقعة حال وليس قيدا‪ ،‬بدليل )أن النبي صلى ا عليه‬ ‫هَنه درعه(‪ ،‬وكان النبي في‬ ‫وسلم اشترى من يهودي طعاما وَر َ‬ ‫المدينة ولم يكن في سفر‪ .‬ول يجوز الرهن إل ّ مقبوضا في نفس‬ ‫ن مقبوضة(‪ .‬وصفة القبض في‬ ‫العقد‪ ،‬لقوله تعالى‪) :‬فرها ٌ‬ ‫الرهن أن ُيطِلق يده عليه‪ .‬فما كان مما ُينقل ُنقل إلى نفسه‪ ،‬وما‬ ‫كان مما ل ُينقل كالدور والرضين ُأطِلقت يده على ضبطه‪ ،‬أي‬ ‫كان قبضه تخلية راهنه بينه وبين مرتهنه ل حائل دونه‪ ،‬ويجوز أن‬ ‫يوكل في قبض الرهن‪ ،‬ويقوم قبض وكيله مقام قبضه في لزوم‬ ‫الرهن وسائر أحكامه‪.‬‬ ‫والرهن جائز في كل ما يجوز بيعه‪ .‬فكل عين جاز بيعها‬ ‫جاز رهنها‪ ،‬لن مقصود الرهن الستيثاق بالدْين للتوصل إلى‬ ‫استيفائه من ثمن الرهن إن تعّذر استيفاؤه من ذمة الراهن‪ ،‬ول‬ ‫يجوز الرهن فيما ل يجوز بيعه كالخمر والصنام وكالوقف والعين‬ ‫المرهونة وما شابه ذلك مما ل يجوز بيعه‪.‬‬

‫انتفاع المرت ِهن بالرهن‬ ‫إذا تم الرهن فقد أصبحت العين تحت يد المرتِهن بعد‬ ‫قبضها‪ .‬إل ّ أنه ليس معنى ذلك أن للمرتهن أن ينتفع بالرهن‪ ،‬بل‬ ‫وجود العين المرهونة تحت يد المرتهن إّنما هو لمجرد استيثاقه‬ ‫على دْينه فقط‪ ،‬ويبقى الرهن لمالكه حتى ولو استحق المرتهن‬ ‫الدين على الراهن‪ ،‬وقد كان المرتهن في الجاهلية يتملك الرهن‬ ‫إذا لم يؤد الراهن إليه ما يستحقه في الوقت المضروب‪ ،‬فجاء‬ ‫ل يغلق الرهن من‬ ‫السلم وأبطله‪ ،‬قال عليه الصلة والسلم ‪) :‬‬ ‫ل يغلق‬ ‫غرُمه(‪ ،‬فقول الرسول ‪) :‬‬ ‫مه وعليه ُ‬ ‫غن ُ‬ ‫صاحبه إذا رهنه‪ ،‬له ُ‬ ‫كه‬ ‫الرهن من صاحبه( أي ل يستحق المرتهن الرهن إذا لم يفت ّ‬ ‫صاحبه في الوقت المشروط‪ ،‬فتبقى العين المرهونة ملكا‬ ‫مه وداخلة في قوله عليه‬ ‫غن ُ‬ ‫للراهن وتبقى منفعتها ملكا له لنها ُ‬ ‫مه(‪ .‬وعلوة على ذلك فإن المنفعة نماء للعين‬ ‫غن ُ‬ ‫السلم‪) :‬له ُ‬ ‫المرهونة‪ ،‬فقد نتجت عنها سواء أكان هذا النماء منفعة كسكنى‬ ‫الدار أو كان عينا كثمر الشجرة وولد البقرة‪ ،‬فهي ملك للراهن لم‬ ‫يقع عليها عقد الرهن فلم تكن رهنا‪ .‬إذ العقد على العين ل على‬ ‫منفعتها‪ ،‬وما دامت المنفعة ملك الراهن فإن له أن يستوفيها‪ ،‬فله‬ ‫‪-247-‬‬


‫جرها‬ ‫أن يؤجر الدار المرهونة وأن يستوفي أجرتها سواء أ ّ‬ ‫للمرتهن أو لغيره‪ ،‬ول تكون هذه الجرة رهنا بل تكون ملكا‬ ‫للراهن‪ ،‬ول تتبع الرهن لنها ليست من توابع العقار التي تدخل‬ ‫في البيع دون ِذكر كمفاتيح الدار‪ ،‬وعلى هذا فليس للمرتهن‬ ‫النتفاع بالعين المرهونة بحجة أنها مرهونة له أو أنها تحت يده‬ ‫بل منفعتها لصاحبها‪.‬‬ ‫ما كانت منفعة العين لمالكها فإن له أن يهب المنفعة كما‬ ‫ول ّ‬ ‫له أن يهب العين‪ ،‬وله أن يأذن من يشاء بالنتفاع بالعين‪ ،‬إل ّ أن‬ ‫إذن الراهن للمرتهن أن ينتفع بالعين التي ارتهنها يختلف حكمه‬ ‫عن إذن غيره‪ ،‬فإنه يجوز للراهن أن يأذن لي إنسان غير‬ ‫المرتهن أن ينتفع بالعين المرهونة‪ .‬أّما إذنه للمرتهن ففيه‬ ‫تفصيل‪ :‬وهو أنه إن كان الرهن بثمن بيع أو أجرة دار أو أي دين‬ ‫غير القرض‪ ،‬جاز للمرتهن النتفاع بالعين المرهونة بإذن الراهن‪.‬‬ ‫وذلك لنه ملكه‪ ،‬له أن يأذن لمن يشاء النتفاع به‪ ،‬ويشمل ذلك‬ ‫المرتهن وغيره‪ ،‬ول يوجد نص يمنع من ذلك‪ ،‬إذ لم َيِرد أي نص‬ ‫يستثني المرتهن فيبقى الحكم عاما‪ ،‬ولنه يجوز للبائع أن يزيد‬ ‫جل‪ ،‬فيجوز أن‬ ‫الثمن ويجوز للمؤجر أن يزيد الجرة إذا كانت ل َ‬ ‫يأذن بالنتفاع بالعين زيادة على ثمن المبيع أو زيادة على أجرة‬ ‫جرة‪ .‬ول يعتبر ذلك ربا لنه ل ينطبق عليه تعريف‬ ‫العين المستأ َ‬ ‫الربا ول واقعه ول يدخل في الشياء الربوية التي حددها النص‪،‬‬ ‫بل هو ثمن مؤجل أعلى من الثمن الحال‪ ،‬وإجارة بأجرة مؤجلة‬ ‫أكثر من الجرة نقدا‪ ،‬وهذا كله من المعاملت الجائزة شرعا‪.‬‬ ‫أّما إن كان الدْين قرضا كأن ُيقِرض إنسان لخر آلفا لسنة‬ ‫ويرهن عنده داره ويأذن له بالنتفاع بالرهن‪ ،‬فإنه ل يجوز‬ ‫للمرتهن في هذه الحال النتفاع بالعين المرهونة ولو أِذن‬ ‫الراهن‪ ،‬لورود النص في النهي عن ذلك‪ ،‬فعن أنس )وسئل‪:‬‬ ‫الرجل منا ُيقِرض أخاه المال فُيهدي إليه‪ .‬فقال‪ :‬قال رسول ا‬ ‫صلى ا عليه وسلم‪ :‬إذا أقرض أحدكم قرضا فُأهدي إليه أو‬ ‫حمله على الدابة فل يركبها ول يقبله إل ّ أن يكون جرى بينه وبينه‬ ‫قبل ذلك(‪ .‬وعن أنس عن النبي صلى ا عليه وسلم قال‪) :‬إذا‬ ‫أقرض فل يأخذ هدية(‪ ،‬وروى البخاري في صحيحه عن أبي بردة‬ ‫ت عبدا بن سلم‬ ‫ت المدينة فلقي ُ‬ ‫بن أبي موسى قال ‪َ :‬ق)ِدم ُ‬ ‫ش‪ ،‬فإذا كان لك على رجل حق‬ ‫فقال لي‪ :‬إنك بأرض فيها الربا فا ٍ‬ ‫‪-248-‬‬


‫حمل قت فل تأخذه فإنه‬ ‫حمل شعير أو ِ‬ ‫حمل ِتبن أو ِ‬ ‫فُأهدي إليك ِ‬ ‫ربا(‪ ،‬وأخرج البيهقي في المعرفة عن فضالة بن عبيد )كل قرض‬ ‫جّر منفعة فهو وجه من وجوه الربا(‪ ،‬ورواه الحارث بن أبي‬ ‫ي عليه السلم بلفظ )أن النبي صلى ا عليه‬ ‫أسامة من حديث عل ّ‬ ‫ض جّر‬ ‫ض جّر منفعة(‪ ،‬وفي رواية )كل قر ٍ‬ ‫وسلم نهى عن قر ٍ‬ ‫شِرط فيه‬ ‫منفعة فهو ربا(‪ ،‬وللجماع المنعقد على أن كل قرض ُ‬ ‫أن يزيده فهو حرام‪ ،‬فقد قال ابن المنذر‪) :‬أجمعوا على أن‬ ‫شَرط على المستسِلف زيادة أم هدية فأسلف على‬ ‫مسِلف إذا َ‬ ‫ال ُ‬ ‫ي بن كعب‬ ‫ذلك‪ ،‬إن أخذ الزيادة على ذلك ربا(‪ ،‬وقد ُروي عن ُأب ّ‬ ‫ض جّر منفعة‪.‬‬ ‫وابن عباس وابن مسعود أنهم نهوا عن قر ٍ‬ ‫ومن هذه الحاديث والثار يتبين أن القرض الذي يجّر نفعا‬ ‫إن كانت الزيادة شرطا فهو حرام بغير خلف قول ً واحدا‪ .‬وإن‬ ‫كان الشخص أقرض غيره من غير شرط فقضاه زيادة على ما‬ ‫اقترض من النقود فهو أيضا حرام‪ .‬أّما إن أهداه هدية زيادة على‬ ‫ما اقترضه منه فإنه ُينظر‪ :‬فإن كان ِمن عادته أن يهديه فل بأس‬ ‫ن كان ليس من عادته أن‬ ‫في ذلك ويجوز له أن يقبل الهدية‪ ،‬وإ ْ‬ ‫يهديه فل يجوز له أن يقبل الهدية لحديث أنس‪.‬‬ ‫وأّما ما رواه البخاري في صحيحه عن أبي هريرة )أن رجل ً‬ ‫م به‬ ‫تقاضى رسول ا صلى ا عليه وسلم فأغلظ له فه ّ‬ ‫ل‪ ،‬واشتروا له بعيرا‬ ‫أصحابه فقال‪ :‬دعوه فإن لصاحب الحق مقا ً‬ ‫فأعطوه إياه‪ .‬قالوا ‪:‬ل نجد أفضل من سنه‪ .‬قال‪ :‬اشتروه‬ ‫ن خيركم أحسنكم قضاء(‪ ،‬وما روي عن أبي‬ ‫فأعطوه إياه‪ ،‬فإ ّ‬ ‫رافع قال‪) :‬استلف النبي صلى ا عليه وسلم بكرا فجاءته إبل‬ ‫الصدقة فأمرني أن أقضي الرجل بكره‪ .‬فقلت‪ :‬إني لم أجد في‬ ‫البل إل ّ جمل ً خيارا رباعيا‪ .‬فقال‪ :‬أعطه إياه فإن من خير الناس‬ ‫أحسنهم قضاء(‪ ،‬فإن هذا ليس من باب اشتراط الزيادة بالقرض‪،‬‬ ‫ول من باب الزيادة على المبلغ أو الشيء المستقَرض‪ ،‬لنه لم‬ ‫يشترط زيادة ول توجد زيادة على الشيء الذي استقرضه وإّنما‬ ‫أوفاه مثل ما استقرضه ولكن أكبر منه بالسن أو الجسم‪ ،‬وهذا‬ ‫حسن القضاء ل من قبيل الزيادة‪،‬‬ ‫حيوان بحيوان‪ ،‬فهو من قبيل ُ‬ ‫ولذلك جاء الرسول بعّلة الزيادة بالتعبير الذي يفيد العّلّية فقال‪:‬‬ ‫ن من خير الناس أحسنهم‬ ‫ن خيركم أحسنكم قضاء( )فإ ّ‬ ‫)فإ ّ‬ ‫قضاء(‪ ،‬فالعّلّية واضحة وهو السداد الحسن ل السداد زيادة عما‬ ‫‪-249-‬‬


‫استقرض‪ ،‬وعليه فإن الرهن في حالة القرض فقط يحرم على‬ ‫المرتهن النتفاع بالعين المرهونة لنه ليس من حسن القضاء أي‬ ‫السداد الحسن بل هو من قبيل الزيادة على المبلغ أو الشيء‬ ‫طه أم لم يشرطه‪ ،‬وهو ليس من قبيل‬ ‫شَر َ‬ ‫المستقَرض سواء َ‬ ‫الهدية التي من عادته أن يهديه له‪.‬‬ ‫إل ّ أن هذا كله إذا كان النتفاع بالعين المرهونة دون‬ ‫جر‬ ‫عَوض كأن أ ّ‬ ‫عَوض‪ ،‬أّما إذا كان النتفاع بالعين المرهونة ب ِ‬ ‫ِ‬ ‫عَوض فإنه يجوز النتفاع في العين‬ ‫الراهن المرتِهن الدار ب ِ‬ ‫المرهونة في القرض وغيره‪ ،‬لنه لم ينتفع بالقرض بل بالجارة‬ ‫على شرط أن يكون ذلك بأجرة من غير محاباة‪ ،‬وإن حاباه في‬ ‫عَوض ل يجوز في القرض‬ ‫ذلك فحكمه حكم النتفاع بغير ِ‬ ‫ويجوز في غيره‪.‬‬

‫المف ِل ـس‬ ‫المفِلس لغًة هو الذي ل مال له ول ما يدفع به حاجته‪،‬‬ ‫ويراد بذلك أنه صار إلى حالة يقال فيها عنه ليس معه فلس فهو‬ ‫ما قال النبي صلى ا عليه وسلم لصحابه‪:‬‬ ‫مفِلس‪ .‬ولهذا ل ّ‬ ‫)أتدرون من المفلس؟ قالوا‪ :‬يا رسول ا‪ ،‬المفلس فينا من ل‬ ‫درهم له ول متاع‪ .‬قال‪ :‬ليس ذلك المفلس‪ ،‬ولكن المفلس من‬ ‫يأتي يوم القيامة بحسنات أمثال الجبال ويأتي وقد ظلم هذا‬ ‫عرض هذا‪ ،‬فيأخذ هذا من حسناته وهذا‬ ‫ولطم هذا وأخذ من ِ‬ ‫ُ‬ ‫ن بقي عليه شيء أخذ من سيئاتهم فُرّد عليه ثم‬ ‫من حسناته فإ ْ‬ ‫صك إلى النار(‪ .‬فقولهم ذلك إخبار عن حقيقة المفلس‪،‬‬ ‫ك له َ‬ ‫ص ّ‬ ‫ُ‬ ‫وقول النبي صلى ا عليه وسلم )ليس ذلك المفلس( تجّوز لم‬ ‫ُيِرد به نفي الحقيقة بل أراد أن َفَلس الخرة أشد وأعظم بحيث‬ ‫عرف‬ ‫يصير مفلس الدنيا بالنسبة إليه كالغنى‪ .‬والمفلس في ُ‬ ‫موه‬ ‫خله‪ .‬وس ّ‬ ‫جه أكثر من َد ْ‬ ‫خر ُ‬ ‫الفقهاء َمن دْينه أكثر من ماله و َ‬ ‫مفلسا وإن كان ذا مال لن ماله ُمستحق الصرف في جهة دْينه‬ ‫فكأنه معدوم‪.‬‬ ‫ومتى َلِزم النسان ديون حاّلة ل يفي ماله بها فسأل‬ ‫غرماؤه الحاكم الحجر عليه َلِزَمْته إجابتهم‪ ،‬وُيستحب أن ُيعَلن‬ ‫حجر عليه ثبت بذلك‬ ‫الحجر عليه ليتجنب الناس معاملته‪ .‬فإذا ُ‬ ‫‪-250-‬‬


‫أربعة أحكام‪ :‬أحدها تعّلق حقوق الغرباء بعين ماله‪ ،‬والثاني منع‬ ‫ن من َوجد عين ماله عنده فهو أحق‬ ‫تصرفه بعين ماله‪ ،‬والثالث أ ّ‬ ‫بها من سائر الغرماء إذا ُوجدت الشروط‪ ،‬والرابع أن للحاكم بيع‬ ‫ماله وإيفاء الغرماء‪ .‬والدليل على الحجر على المفلس ما روى‬ ‫جر على‬ ‫ح َ‬ ‫كعب بن مالك )أن رسول ا صلى ا عليه وسلم َ‬ ‫معاذ بن جبل وباع ماله(‪ ،‬وعن عبدالرحمن بن كعب قال‪) :‬كان‬ ‫معاذ بن جبل من أفضل شباب قومه ولم يكن يمسك شيئا‪ ،‬فلم‬ ‫يزل ُيدان حتى أغرق ماله في الدْين‪ ،‬فكّلم النبي صلى ا عليه‬ ‫وسلم غرماؤه‪ ،‬فلو ُترك أحد من أجل أحد لتركوا معاذا من أجل‬ ‫رسول ا صلى ا عليه وسلم‪ ،‬فباع لهم رسول ا صلى ا‬ ‫عليه وسلم ماله حتى قام معاذ بغير شيء(‪.‬‬ ‫جب‬ ‫والمفلس إذا ثبت للناس عليه حقوق من مال أو مما يو ِ‬ ‫غرم مال ببينة عدل أو إقرار منه صحيح‪ ،‬بيع عليه كل ما يوجد له‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ل‪ ،‬كما ل يحل أن ُيحبس‬ ‫وأنصف الغرماء‪ ،‬ول يحل أن ُيسجن أص ً‬ ‫عسرة‬ ‫سر مطلقا لقول ا تعالى‪) :‬وإن كان ذو ُ‬ ‫المدين المع ِ‬ ‫ي قال‪:‬‬ ‫خدر ّ‬ ‫سرة(‪ ،‬وِلما ُروي عن أبي سعيد ال ُ‬ ‫ظرة إلى مي َ‬ ‫فَن ِ‬ ‫)أصيب رجل في ثمار ابتاعها في عهد رسول ا صلى ا عليه‬ ‫وسلم فكُثر دْينه فقال رسول ا صلى ا عليه وسلم لغرمائه‪:‬‬ ‫خذوا ما وجدتم وليس لكم إل ّ ذلك(‪ ،‬وُروي أنه عليه السلم َقسم‬ ‫مال المفلس بين الغرماء ولم يسجنه قط‪ ،‬وعن محمد بن علي‬ ‫بن الحسين قال‪ :‬قال علي بن أبي طالب‪) :‬حْبس الرجل في‬ ‫السجن بعد ما ُيعرف عليه من دْين ظلم(‪ .‬وأّما ما ُروي عن عمر‬ ‫من طريق سعيد بن المسيب )أن عمر حبس عصبة منفوس‬ ‫ُينفقون عليه الرجال دون النساء( فإنه ل يدل على حبس المدين‬ ‫وإّنما يدل على حبس من تجب عليه النفقة إذا لم ُينِفق على‬ ‫الصغير‪ ،‬والنفقة من الموال التي ُتفرض على القادر على‬ ‫النفاق‪ .‬فذلك يدل على حبس من لم ُينفق على الصغير خاصة‬ ‫وهو المنفوس‪.‬‬ ‫والحكم في المفلس أن الحاكم يبيع للغرماء مال المدين‬ ‫وُيقسم عليهم بالحصص لنه ل سبيل لنصافهم بغير هذا‪ ،‬عن‬ ‫عمر بن عبدالرحمن بن دلف عن أبيه أن رجل ً من جهينة كان‬ ‫يشتري الرواحل إلى أجل فيغالي بها فأفلس فُرفع إلى عمر بن‬ ‫الخطاب فقال‪ :‬أّما بعد أيها الناس فإن السفع أسفع بني جهينة‬ ‫‪-251-‬‬


‫ن معرضا‬ ‫رضي من دْينه وأمانته بأن يقال سبق الحاج‪ ،‬وأنه اّدا ّ‬ ‫فأصبح قد دين به‪ ،‬فمن كان له عليه شيء فليغُد بالغداة فإّنا‬ ‫قاسمون ماله بالحصص(‪ ،‬وعن عمر بن عبدالعزيز أنه قضى في‬ ‫المفلس بأنه ُيقسم ماله بين الغرماء ثم ُيترك حتى يرزقه ا‪.‬‬ ‫وُيقسم مال المفلس الذي يوجد له بين الغرماء بالحصص‬ ‫بالقيمة على الحاضرين الطالبين الذين حّلت آجال حقوقهم فقط‪،‬‬ ‫ول يدخل فيهم حاضر ل يطلب ول غائب لم يوكل ول حاضر أو‬ ‫حل أجل‬ ‫حل أجل حقه‪ ،‬طلب أو لم يطلب‪ ،‬لن من لم َي ِ‬ ‫غائب لم َي ِ‬ ‫حقه فل حق له‪ ،‬ومن لم يطلب فل يلزم أن ُيعطى ما لم يطلب‪.‬‬ ‫هذا إن كان المفلس حيا‪ ،‬أّما الميت المفلس فإنه يقضي‬ ‫لكل من حضر أو غاب‪ ،‬طلب أو لم يطلب‪ ،‬ولكل ذي دْين كان إلى‬ ‫حل بموت الذي له الحق أو‬ ‫أجل مسمى أو حال‪ ،‬لن الجال كلها َت ِ‬ ‫الذي عليه الحق‪ .‬وإن اجتمعت على المفلس حقوق ا وحقوق‬ ‫العباد فحقوق ا تعالى مقّدمة على حقوق الناس فُيبدأ بما‬ ‫فّرط فيه من زكاة أو كفارة‪ ،‬فإن لم يعم‪ُ ،‬قسم ذلك على كل‬ ‫هذه الحقوق بالحصص ل يبّدى منها شيء على شيء‪ .‬وكذلك‬ ‫ف ماله بجميعها أخذ كل واحد بقدر ماله مما‬ ‫ديون الناس إن لم َي ِ‬ ‫ُوجد‪ .‬ودليل أن حقوق ا مقّدمة على حقوق العباد ما ثبت عن‬ ‫ق أن‬ ‫رسول ا صلى ا عليه وسلم أنه قال‪) :‬دين ا أح ّ‬ ‫ق بالقضاء(‪ .‬وحين يباع مال‬ ‫ُيقضى(‪ ،‬وقوله‪) :‬واقضوا ا فهو أح ّ‬ ‫المفلس ُينظر في نفقته ونفقة من تلزمه نفقته‪ ،‬فل تباع داره‬ ‫سكناها‪ .‬أّما إن كان له داران ُيستغنى‬ ‫غنى له عن ُ‬ ‫التي ل ِ‬ ‫بإحداهما عن الخرى فتباع التي ُيستغنى عنها‪ .‬وإن كان المفلس‬ ‫يكسب ما يمّونه ويمّون من يلزمه نفقته أو كان يقدر أن يكتسب‬ ‫ذلك بالفعل بأن يؤجر نفسه فإنه في هذه الحال يباع كل ماله ما‬ ‫عدا داره التي تلزمه لسكناها‪ ،‬وإن لم يقدر على شيء من ذلك‬ ‫ُترك له من ماله ما يكفيه وينَفق عليه وعلى من تلزمه مؤونته‬ ‫بالمعروف من ماله إلى أن ُيفَرغ من قسمته بين غرمائه‪.‬‬

‫حوالـة‬ ‫ال َ‬ ‫الحوالة مأخوذة من تحويل الحق من ذمة إلى ذمة‪ .‬وهي‬ ‫‪-252-‬‬


‫تحويل من عليه الحق من يطالبه بالحق على آخر له عنده حق‪.‬‬ ‫والحوالة ثابتة بالسّنة‪ ،‬فقد روى أبو هريرة أن رسول ا صلى‬ ‫ي ظلم وإذا تبع أحدكم على‬ ‫ل الغن ّ‬ ‫ا عليه وسلم قال ‪)َ :‬مط ُ‬ ‫مليء فليتبع(‪ ،‬وفي لفظ )من أحيل بحقه على محيل فلَيحَتل(‪،‬‬ ‫وهي جائزة في الدْين والعْين أي في الحال والمؤجل لنها إحالة‬ ‫حق لخر على آخر وهو عام يشمل كل حق‪ ،‬ولن لفظ الحديث‬ ‫)إذا ُأتِبع أحدكم على مليء( فهو عام يشمل أن يكون الحد‬ ‫والمليء عليه حق حال ويشمل أن يكون عليه حق مؤجل‪،‬‬ ‫فيبقى على عمومه‪ .‬والمليء هو القادر على الوفاء‪ ،‬جاء في‬ ‫الحديث عن النبي صلى ا عليه وسلم أنه قال‪) :‬إن ا تعالى‬ ‫يقول‪ :‬من ُيقرض المليء غير المعَدم(‪ ،‬إل ّ أن أمر الرسول باتباع‬ ‫طل‪،‬‬ ‫المليء إذا أحيل عليه يقتضي أن يكون غير جاحد ول مما ِ‬ ‫وُيفهم من ذلك من إجبار المحتال على أن يتبع المليء‪ ،‬فيكون‬ ‫المليء هو القادر على الوفاء غير الجاحد ول المماطل‪.‬‬ ‫وواقع الحوالة ومنطوق الحديث يدل على أنه ل بد في‬ ‫الحوالة من محيل ومحتال ومحال عليه‪ .‬فالذي يتبع هو المحيل‪،‬‬ ‫وكلمة أحدكم وهو المأمور بأن يتبع في دْينه‪ ،‬شخص محتال‪،‬‬ ‫والمليء‪ ،‬الذي يؤمر الشخص باتباعه‪ ،‬هو المحال عليه‪.‬‬ ‫وُيشترط في صحة الحوالة أربعة شروط‪:‬‬ ‫أحدها‪ -‬تماُثل الحّقين جنسا وحلول ً أو تأجيل ً لنها تحويل‬ ‫ل له فُينقل على صفته‪ ،‬ولذلك يصح أن يحيل من عليه‬ ‫للحق ونق ٌ‬ ‫ذهب بذهب ومن عليه فضة بفضة‪ ،‬ول يصح أن يحيل من عليه‬ ‫ذهب بفضة أو من عليه فضة بذهب‪ .‬ويصح أن يحيل من عليه‬ ‫دْين إلى شهر بدْين إلى شهر‪ ،‬ويصح أن يحيل من عليه دْين‬ ‫مستحق بدْين مستحق‪ .‬فيصح أن يحيل حال ً بحال ومؤجل ً‬ ‫بمؤجل‪ .‬أّما إن كان أحد الدينين حال ً والخر مؤجل ً أو أجل‬ ‫صح الحوالة‪.‬‬ ‫أحدهما إلى شهر والخر إلى شهرين لم َت ِ‬ ‫ثانيها‪ -‬أن تكون الحوالة على دْين مستقر‪ .‬فلو أحالت المرأة‬ ‫صح لنه غير مستقر‪ ،‬ولو‬ ‫صداقها قبل الدخول لم َي ِ‬ ‫على زوجها ب َ‬ ‫أحال الموظف بأجرته قبل النتهاء من عمله أو قبل نهاية مدة‬ ‫صح لنه دْين غير مستقر‪ .‬أّما لو أحال من ل دْين عليه‬ ‫إجارته لم َي ِ‬ ‫رجل ً على آخر له عليه دْين فليس ذلك بحوالة بل هي وكالة تثبت‬ ‫فيها أحكام الوكالة ل أحكام الحوالة‪ .‬وإن أحال َمن عليه دْين‬ ‫‪-253-‬‬


‫على من ل دْين عليه فليست حوالة أيضا فل يلزم المحال عليه‬ ‫الداء ول يلزم المحتال قبول ذلك لن الحوالة معاَوضة‪ ،‬ول‬ ‫معاوضة هنا‪ ،‬فلو قبض المحتال من المحال عليه الدْين َرجع‬ ‫على المحيل‪.‬‬ ‫ثالثها‪ -‬أن تكون بمال معلوم‪ ،‬فل تصح بمال مجهول‪.‬‬ ‫رابعها‪ -‬أن يحيل المحيل برضائه ول يجبر على الحوالة لن‬ ‫الحق عليه‪ ،‬فل يلزمه أداؤه من جهة معينة‪ ،‬إذ ل يلزمه أداؤه من‬ ‫جهة الدْين الذي على المحال عليه‪ ،‬بل له أن يؤديه من أية جهة‬ ‫أراد‪ ،‬ول يشترط رضا المحتال والمحال عليه‪ ،‬بل ل يعتبر رضاهما‬ ‫مطلقا‪ ،‬فالمحتال مجبور أن يقبل الحوالة‪ ،‬والمحال عليه مجبور‬ ‫أن يقبل الحوالة‪ .‬أّما إجبار المحتال فلقول النبي صلى ا عليه‬ ‫وسلم‪) :‬إذا ُأتبع أحدكم على مليء فليتبع(‪ ،‬ولن للمحيل أن يوفي‬ ‫الحق الذي عليه بنفسه وبوكيله‪ ،‬وقد أقام المحال عليه مقام‬ ‫نفسه في التقبيض‪ ،‬فلزم المحال القبول‪ .‬وأّما عدم رضا المحال‬ ‫عليه فلن الدائن أقام المحتال مقام نفسه في القبض فلم يفتقر‬ ‫إلى رضا من عليه الحق كالتوكيل‪.‬‬ ‫وعلى ذلك فالحوالة في السندات التي تتضمن مبالغ حالة‬ ‫كالشيكات أو مبالغ مؤجلة استحق أجلها وهو ما يسمى بحوالة‬ ‫العين جائزة برضا المحيل فقط ول يشترط فيها رضا المحتال‬ ‫والمحال عليه‪ .‬وكذلك حوالة السندات التي تتضمن مبالغ مؤجلة‬ ‫لم يستحق أجلها كالكمبيالت وهو ما يسمى بحوالة الدْين سواء‬ ‫ض‪.‬‬ ‫ض‪ ،‬رضي المحال عليه أم لم ير َ‬ ‫رضي المحتال أم لم ير َ‬ ‫والحوالة ليست عقدا حتى يشترط فيها الرضا‪ ،‬فليس فيها إيجاب‬ ‫ول قبول‪ ،‬وإّنما هي تصرف من الشخص نفسه كالضمان‬ ‫والكفالة والوصية وما شاكلها من التصرفات التي ل تعتبر عقدا‬ ‫من العقود‪.‬‬

‫التصويـر‬ ‫التصوير هو رسم صورة الشيء‪ ،‬ومن التصوير صنع‬ ‫التماثيل‪ ،‬ويشمل النحت‪ .‬والرسم نفسه أو التمثال هو الصورة‬ ‫جمعها صورا‪ ،‬ويقال لها في اللغة أيضا تصاوير‪ ،‬ويشمل التماثيل‪،‬‬ ‫ويقال في اللغة التصاوير التماثيل‪ .‬وقد حرم الشرع تصوير ما فيه‬ ‫‪-254-‬‬


‫روح من إنسان وحيوان وطير‪ ،‬سواء أكان تصويرا على الورق أو‬ ‫الجلد أو الثياب أو الواني أو الحلي أو النقود أو غير ذلك فكله‬ ‫حرام‪ ،‬إذ مجرد تصوير ما فيه روح حرام مهما كان الشيء الذي‬ ‫صور عليه‪ .‬وتصوير ما ليس فيه روح جائز ل شيء فيه‪ ،‬فقد أحل‬ ‫الشرع تصوير الشجر والجبال والزهار وغير ذلك مما ليس فيه‬ ‫روح‪.‬‬ ‫أّما تحريم ما فيه روح فثابت بالنصوص الشرعية‪ .‬أخرج‬ ‫ما رأى النبي صلى ا‬ ‫البخاري من حديث ابن العباس قال‪) :‬ل ّ‬ ‫محيت(‪.‬‬ ‫عليه وسلم الصور التي في البيت لم يدخل حتى أمر بها ف ُ‬ ‫وعن عائشة )أنها نصبت سترا وفيه تصاوير‪ ،‬فدخل رسول ا‬ ‫صلى ا عليه وسلم فنزعه‪ .‬قالت‪ :‬فقطعته وسادتين فكان‬ ‫يرتفق عليهما(‪ ،‬وفي لفظ أحمد‪) :‬فقطعته مرفقتين فلقد رأيته‬ ‫متكئا على أحدهما وفيها صورة(‪ .‬وأخرج البخاري من حديث‬ ‫عائشة قالت‪ :‬قدم رسول ا صلى ا عليه وسلم من سفر وقد‬ ‫ما رآه هتكه وتلّون وجهه‬ ‫سترت سهوة لي بقرام فيه تماثيل‪ ،‬فل ّ‬ ‫وقال‪) :‬يا عائشة‪ ،‬أشد الناس عذابا يوم القيامة الذين يضاهون‬ ‫بخلق ا(‪ ،‬والقرام الستر الرقيق الذي فيه ألوان أو ستر فيه رقم‬ ‫ونقوش‪ .‬وفي حديث مسلم )أن النبي صلى ا عليه وسلم هتك‬ ‫درنوكا لعائشة كان فيه صور الخيل ذوات الجنحة حتى اتخذت‬ ‫منه وسادتين(‪ ،‬والدرنوك نوع من الثياب‪ .‬وأخرج البخاري من‬ ‫حديث ابن عباس قال‪ :‬قال رسول ا صلى ا عليه وسلم‪:‬‬ ‫)من صور صورة عذبه ا بها يوم القيامة حتى ينفخ فيها الروح‬ ‫وما هو بنافخ(‪ .‬وعن ابن عمر أن رسول ا صلى ا عليه‬ ‫وسلم قال‪) :‬الذين يصنعون هذه الصور يعذبون يوم القيامة‪،‬‬ ‫يقال لهم‪ :‬أحيوا ما خلقتم(‪ .‬وعن ابن عباس‪ ،‬وجاءه رجل فقال‪:‬‬ ‫إني أصور هذه التصاوير فأفتني فيها‪ ،‬فقال‪ :‬سمعت رسول ا‬ ‫صلى ا عليه وسلم يقول‪) :‬كل مصور في النار ُيجعل له بكل‬ ‫صورة صورها نفسا تعذبه في جهنم‪ ،‬فإن كنت ل بد فاعل ً‬ ‫فاجعل الشجر وما ل نفس له(‪ .‬وروى أحمد عن أبي هريرة قال‪:‬‬ ‫قال رسول ا صلى ا عليه وسلم‪) :‬أتاني جبريل فقال‪ :‬إني‬ ‫كنت أتيتك الليلة فلم يمنعني أن أدخل البيت الذي أنه كان فيه‬ ‫تمثال رجل وكان في البيت قرام ستر فيه تماثيل وكان في البيت‬ ‫مر برأس التمثال الذي في باب البيت ُيقطع ليصير كهيئة‬ ‫كلب‪ ،‬ف ُ‬ ‫‪-255-‬‬


‫الشجرة‪ ،‬وأُمر بالستر ُيقطع فُيجعل وسادتين منتبذتين توطآن‪،‬‬ ‫وأُمر بالكلب يخرج‪ .‬ففعل رسول ا صلى ا عليه وسلم(‪،‬‬ ‫والقرام هو الستر الرقيق من صوف ذي ألوان‪ .‬وعن أبي جحيفة‬ ‫قال‪) :‬إن رسول ا صلى ا عليه وسلم حرم ثمن الدم‪ ،‬وفي‬ ‫نفس الحديث لعن المصورين(‪.‬‬ ‫فهذه الحاديث في جملتها تتضمن طلب ترك التصوير طلبا‬ ‫جازما‪ ،‬وهذا دليل على أن التصوير حرام‪ ،‬وهي عامة تشمل كل‬ ‫صورة‪ ،‬سواء أكان لها ظل أو لم يكن لها ظل‪ ،‬وسواء أكانت‬ ‫كاملة أو نصفية‪ ،‬فل فرق في تحريم التصوير بين ما له ظل وما ل‬ ‫ظل له‪ ،‬وبين الصورة الكاملة التي يمكن أن تعيش والصورة‬ ‫النصفية التي ل يمكن أن تعيش‪ ،‬فكله حرام لعموم الحاديث‪،‬‬ ‫ولن حديث ابن عباس عن البيت أن الصور التي كانت في الكعبة‬ ‫كانت مرسومة رسما وليس لها ظل‪ ،‬ولم يدخل الرسول حتى‬ ‫محيت‪ .‬وحديث عائشة يدل على أن الستر كان مرسوما عليه صور‬ ‫ولها ظل لها‪ .‬وروي أن النبي صلى ا عليه وسلم أرسل عليا في‬ ‫ل تذر تمثال ً إل ّ هدمته‪ ،‬ول صورة إل ّ طمستها‪،‬‬ ‫سرية فقال له ‪) :‬‬ ‫ول قبرا مشرفا إل ّ سويته(‪ ،‬فذكر كل النوعين ما له ظل وهو‬ ‫التمثال وما ل ظل له وهو الصورة التي ُتطمس‪ ،‬فالتفريق بين ما‬ ‫له ظل وما ل ظل له غير صحيح ول أصل له‪ ،‬ولن كونها تعيش أو‬ ‫ل تعيش ليس عّلة للتحريم‪ ،‬ول يوجد دليل يستثنيه من الحرمة‪.‬‬ ‫وأّما جواز تصوير ما ليس فيه روح من شجر وجبال وغير‬ ‫ذلك فلن الحاديث التي جاءت في تحريم التصوير قد قيدت فيها‬ ‫الحرمة بالصورة التي فيها روح‪ ،‬وهذا قيد معتبر له مفهوم ُيعمل‬ ‫به‪ ،‬ومفهومه أن الصورة التي ليس فيها روح ليست حراما‪ .‬نعم‬ ‫جاءت بعض الحاديث مطلقة ولكن بعضها جاءت مقيدة‪،‬‬ ‫والقاعدة الصولية "ُيحمل المطلق على المقيد"‪ ،‬ويكون التحريم‬ ‫فقط للصورة التي فيها روح وهي النسان والحيوان والطير‪ ،‬أّما‬ ‫ما عداها فل يحرم تصويرها‪ ،‬بل يجوز‪ .‬على أن إباحة تصوير ما‬ ‫ليس فيه روح من شجر ونحوه قد جاءت صريحة في الحاديث‪،‬‬ ‫مر برأس التمثال الذي في باب البيت‬ ‫ففي حديث أبي هريرة‪) :‬ف ُ‬ ‫فلُيقطع ليصير كهيئة الشجرة(‪ ،‬وهذا يعني أن تمثال الشجر ل‬ ‫شيء فيه‪ .‬وفي حديث ابن عباس‪) :‬فإن كنت ل بد فاعل ً فاجعل‬ ‫الشجر وما ل نفس له(‪.‬‬ ‫‪-256-‬‬


‫والحاديث التي جاءت بتحريم التصوير غير معّللة‪ ،‬ولم َيِرد‬ ‫تعليل التصوير بأي عّلة‪ ،‬ولذلك ل ُتلتمس له عّلة‪ .‬وأّما ما روي عن‬ ‫ابن عمر من قول الرسول‪) :‬يقال لهم أحيوا ما خلقتم(‪ ،‬وما ورد‬ ‫في حديث ابن عباس‪) :‬حتى ينفخ فيه الروح وما هو بنافخ(‪ ،‬وما‬ ‫ورد في حديث عائشة عن الصور‪) :‬أشد الناس عذابا يوم القيامة‬ ‫الذي يضاهون بخلق ا(‪ ،‬فإن ذلك كله لم َيِرد على وجه التعليل‪،‬‬ ‫واللفاظ والجمل التي في هذه الحاديث ل ُتفهم منها العّلّية‪،‬‬ ‫وكل ما في المر يشّبه الرسول التصوير بالخْلق والمصورين‬ ‫بالخالق‪ ،‬والتشبيه ل يفيد التعليل ول يكون عّلة‪ ،‬إذ تشبيه الشيء‬ ‫بشيء آخر ل يجعل المشبه به عّلة للمشبه وإنما يمكن أن يكون‬ ‫وصفا له‪ ،‬ووصف الشيء ليس عّلة له‪ .‬ولذلك ل يقال إن التصوير‬ ‫حرام لن فيه مضاهاة لخلق ا‪ .‬فالله تعالى خلق النسان‬ ‫والحيوان والطير وخلق الشجر والجبال والزهار‪ ،‬فإذا كان تصوير‬ ‫النسان والحيوان والطير حراما لعلة مضاهاة خلق ا فإن هذه‬ ‫العّلة موجودة في الشجر والجبال والزهار وغيرها‪ ،‬فإنها خلق‬ ‫ا أيضا‪ ،‬فيكون حينئذ تصويرها حراما لوجود العّلة في‬ ‫تصويرها‪ ،‬والعلة تدور مع المعلول وجودا وعدما‪ ،‬مع أن‬ ‫النصوص واردة بجواز تصوير الشجر وكل ما ليس فيه روح‪.‬‬ ‫وعليه فتصوير النسان والحيوان حرام للنصوص الواردة في‬ ‫تحريمه وليس لعّلة من العلل‪ ،‬وتصوير الشجر والجبال وكل ما‬ ‫ليس فيه روح جائز ول شيء فيه للنصوص الواردة في إباحته‪.‬‬ ‫والتصوير الذي حرمه ا تعالى إنما هو الرسم والنقش‬ ‫وغيره مما يباشره النسان بقيامه بنفسه بالتصوير‪ .‬أّما التصوير‬ ‫عن طريق اللة الفوتوغرافية فل يدخل فيه وليس من التصوير‬ ‫المحرم بل هو مباح‪ .‬وذلك لن حقيقته ليس تصويرا وإنما هو‬ ‫نقل للظل من الواقع إلى الفلم‪ ،‬وليس هو تصويرا للشخص من‬ ‫قبل المصور‪ .‬فالمصور بآلة الفوتوغراف لم يصور الشخص وإنما‬ ‫انطبع ظل الشخص على الفلم بواسطة اللة‪ ،‬فهو نقل للظل‬ ‫وليس تصويرا‪ ،‬وبواسطة اللة وليس من ِقَبل المصور‪ ،‬فل يدخل‬ ‫في النهي الوارد في الحاديث‪ .‬فالحاديث تقول‪) :‬الذين يصنعون‬ ‫هذه الصور(‪) ،‬إنني أصور هذه التصاوير(‪) ،‬كل مصور(‪،‬‬ ‫)المصورين(‪ .‬ومن يأخذ صورة الشخص أو الحيوان بآلة‬ ‫الفوتوغراف ل يصنع هذه الصورة‪ ،‬ول يقوم هو بالتصوير‪ ،‬وليس‬ ‫‪-257-‬‬


‫هو المصور‪ ،‬وإنما آلة الفوتوغراف هي التي نقلت الظل إلى‬ ‫الفلم‪ ،‬وهو لم يصنع شيئا سوى تحريك اللة‪ ،‬ولذلك ليس هو‬ ‫المصور‪ ،‬ول يمكن أن يكون هو المصور ول بوجه من الوجوه‪،‬‬ ‫ولهذا ل يشمله النهي مطلقا‪ .‬على أن التصوير الذي ورد تحريمه‬ ‫حّدد نوعه‪ ،‬وهو الذي يشبه الخلق‬ ‫في الحاديث قد ًوصف و ُ‬ ‫والذي يكون فيه المصور يشبه الخالق من حيث أنه إيجاد لشيء‪،‬‬ ‫فهو إيجاد صورة إّما برسمها من ذهنه أو برسمها عن أصلها‬ ‫الموجود أمامه‪ .‬وفي كلتا الحالتين هو إيجاد للصورة‪ ،‬لنه هو‬ ‫الذي فيه إبداع‪ .‬أّما التصوير الفوتوغرافي فليس من هذا النوع‪،‬‬ ‫لنه ليس إيجادا بالصورة ول يوجد فيه إبداع وإنما هو انطباع ظل‬ ‫الشيء الموجود على الفلم‪ .‬ولذلك ل يعتبر من نوع التصوير‬ ‫الوارد تحريمه في الحاديث‪ ،‬فل تنطبق عليه الحاديث ول يدخل‬ ‫تحتها في التحريم‪ .‬والواقع الفني للصورة التي باليد وللصورة‬ ‫الفوتوغرافية يوجد ذلك تمام التأييد فإنهما نوعان مختلفان كل‬ ‫الختلف‪ ،‬فالصورة الفنية هي التي ُترسم باليد وهي غير‬ ‫الصورة الفوتوغرافية من حيث الفن ومن حيث البداع‪ .‬فمن هنا‬ ‫أيضا يكون التصوير الفوتوغرافي مباحا ل شيء فيه‪.‬‬ ‫هذا بالنسبة للتصوير من حيث هو‪ ،‬أّما اقتناء الصور التي‬ ‫عد للعبادة كمسجد ومصلى‬ ‫صورت فإنه إن كان في مكان ُم َ‬ ‫ُ‬ ‫ونحوهما فإنه حرام قطعا‪ ،‬لما ورد في حديث ابن عباس أن‬ ‫الرسول صلى ا عليه وسلم أبى أن يدخل الكعبة حتى محيت‬ ‫الصور التي فيها‪ .‬فهذا طلب جازم للترك فيكون دليل ً على‬ ‫عد للعبادة كالبيوت‬ ‫التحريم‪ .‬وأّما اقتناؤها في مكان غير ُم َ‬ ‫والمكاتب والمدارس وغيرها ففيه تفصيل‪ ،‬وبيانه‪ :‬أنه إن كان‬ ‫اقتناء الصورة في موضع فيه تعظيم لها‪ ،‬فمكروه وليس بحرام‪،‬‬ ‫وإن كان في موضع ليس فيه تعظيم لها فجائز ول شيء فيه‪ .‬أّما‬ ‫كراهته في المكان الذي فيه تعظيم للصورة فلحديث عائشة أن‬ ‫الرسول نزع الستر الذي فيه صور‪ ،‬ولحديث أبي هريرة أن جبريل‬ ‫أبى دخول البيت لن في تماثيل وصور وكلب‪ .‬وأّما كون هذه‬ ‫الكراهة خاصة بالصور الموضوعة في مكان فيه تعظيم لها فلن‬ ‫حديث عائشة أن الرسول نزع الستر الذي فيه صور حين كان‬ ‫منصوبا واتكأ على المرفقة وفيها صورة‪ .‬ولن حديث أبي هريرة‬ ‫قد قال فيه جبريل للرسول‪" :‬وأُمر بالستر ُيقطع فُيجعل وسادتين‬ ‫‪-258-‬‬


‫منتبذتين توطآن"‪ .‬وهذا يدل على أن النهي مسلط على وضع‬ ‫الصورة في مكان فيه تعظيم لها وليس مسلطا على اقتنائها‪.‬‬ ‫وأّما كون وضع الصورة في مكان فيه تعظيم لها مكروها‬ ‫وليس بحرام فلن النهي الذي جاء في الحاديث لم يقترن بقرينة‬ ‫تدل على الجزم من مثل وعيد مقتني الصورة‪ ،‬أو ذمه أو ما شاكل‬ ‫ذلك كما ورد في التصوير بل جاء مجرد طلب ترك وجاءت‬ ‫أحاديث أخرى تنهى عن اقتناء التماثيل وتجيز اقتناء الصور‬ ‫المرقومة أي المرسومة مما يعتبر قرينة على أن النهي ليس‬ ‫للجزم‪ ،‬ففي حديث أبي طلحة عند مسلم بلفظ‪ :‬سمعت رسول‬ ‫ل تدخل الملئكة بيتا فيه كلب أو‬ ‫ا صلى ا عليه وسلم يقول ‪) :‬‬ ‫تمثال(‪ ،‬وفيه أنه قال‪) :‬إل ّ رقما في ثوب(‪ .‬فهذا يدل على استثناء‬ ‫الصورة المرقمة في الثوب مفهومه أن الملئكة تدخل البيت الذي‬ ‫ضم‬ ‫فيه تمثال مرقم في ثوب أي صورة مرسومة رسما‪ .‬فإذا ُ‬ ‫هذا الحديث إلى أحاديث النهي الخرى كان قرينة على أن طلب‬ ‫الترك غير جازم فكان اقتناء الصورة في مكان فيه تعظيم لها‬ ‫مكروها وليس بحرام‪.‬‬ ‫وأّما النظر إلى الصورة فإنه مباح ول شيء فيه‪ ،‬ول فرق‬ ‫بين صورة إنسان أو حيوان‪ ،‬ول بين صورة الرجل وصورة المرأة‪،‬‬ ‫وكذلك ل فرق بين الكاملة والصورة غير الكاملة‪ ،‬ول بين الصورة‬ ‫المسلطة عليها النوار وغيرها‪ ،‬فجميع الصور يباح النظر إليها على‬ ‫أية حالة من الحالت ما دامت صورة‪ .‬وذلك لن النظر كالمشي‬ ‫والقيام والقعود والكل والشرب والسمع والشم وغير ذلك من‬ ‫جِبّلّية فكلها جاءت الدلة على إباحتها عامة‪ ،‬فتبقى‬ ‫العمال ال ِ‬ ‫عامة ما لم َيِرد دليل التخصيص‪ ،‬وتبقى مباحة ما لم يرد دليل‬ ‫على تحريم شيء معين‪ ،‬فيصبح هذا الشيء حراما‪ ،‬ل النظر من‬ ‫حيث هو‪ .‬وإباحة النظر جاءت عامة فإذا ورد تحريم النظر إلى‬ ‫شيء كتحريم النظر إلى العورة‪ ،‬وكتحريم النظر إلى المرأة‬ ‫بشهوة‪ ،‬فيحرم ذلك الشيء الذي ورد تحريمه ويكون التحريم له‬ ‫وحده حسب دللة الدليل‪ ،‬ويبقى النظر من حيث هو مباحا‪ .‬وبما‬ ‫أنه لم َيِرد دليل على تحريم النظر إلى الصورة فيبقى النظر إليها‬ ‫مباحا لعموم إباحة النظر‪.‬‬ ‫ول يقال يحرم النظر خوف الفتنة‪ .‬لن خوف الفتنة ل يحرم‬ ‫وليس هو دليل ً على التحريم ول تنطبق عليه قاعدة‪" :‬الوسيلة‬ ‫‪-259-‬‬


‫إلى الحرام محرمة" لمخالفته لشروطها‪ .‬وعليه فإن النظر إلى‬ ‫الصور كلها مباح ول شيء فيه‪.‬‬

‫فهرست الكتاب‬ ‫رقم الصفحة‬

‫الموضوع‬ ‫رقم الصفحة‬ ‫دراسة الفقه‬ ‫نماذج من الفقه‬ ‫الخلفة‬ ‫المدة التي يمهل فيها المسلمون لقامة خليفة‬ ‫انعقاد الخلفة‬

‫‪2‬‬ ‫‪3‬‬ ‫‪4‬‬ ‫‪10‬‬ ‫‪11‬‬

‫‪11‬‬

‫البيعة‬ ‫شروط الخليفة‬

‫‪14‬‬ ‫‪16‬‬ ‫‪-260-‬‬


‫طلب الخلفة‬ ‫وحدة الخلفة‬ ‫الستخلف أو العهد‬ ‫طريقة نصب الخليفة‬ ‫لم يعين الشرع شخصا معينا للخلفة‬ ‫المسؤوليات العامة‬ ‫الدولة السلمية دولة بشرية وليست دولة إلهية‬ ‫عزل الخليفة‬ ‫المارة‬ ‫الطاعة‬ ‫تبني الخليفة للحكام والساليب‬ ‫الجهاد‬ ‫الخليفة والجهاد‬ ‫معنى تولي الخليفة لقيادة الجيش‬ ‫الشهيد‬ ‫الرباط‬ ‫الجيش السلمي‬ ‫الستعانة بالكفار في القتال‬ ‫تجهيز الجيش السلمي‬ ‫اللوية والرايات‬ ‫السرى‬ ‫السياسة الحربية‬ ‫الكذب في الحرب‬ ‫التجسس‬ ‫الهدنة‬ ‫الحلف العسكرية‬ ‫المعاهدات الجائزة‬ ‫المعاهدات الضطرارية‬ ‫نقض المعاهدات‬ ‫الكافر الحربي‬ ‫المستأَمن‬ ‫أحكام الذمي‬ ‫يجب تطبيق أحكام السلم على الكفار‬ ‫‪-261-‬‬

‫‪20‬‬ ‫‪20‬‬ ‫‪22‬‬ ‫‪23‬‬ ‫‪32‬‬ ‫‪62‬‬ ‫‪67‬‬ ‫‪80‬‬ ‫‪82‬‬ ‫‪85‬‬ ‫‪87‬‬ ‫‪95‬‬ ‫‪99‬‬ ‫‪100‬‬ ‫‪108‬‬ ‫‪114‬‬ ‫‪115‬‬ ‫‪116‬‬ ‫‪120‬‬ ‫‪120‬‬ ‫‪121‬‬ ‫‪126‬‬ ‫‪131‬‬ ‫‪133‬‬ ‫‪139‬‬ ‫‪140‬‬ ‫‪142‬‬ ‫‪143‬‬ ‫‪145‬‬ ‫‪147‬‬ ‫‪148‬‬ ‫‪149‬‬ ‫‪153‬‬


‫الجزية‬ ‫الراضي الخراجية‬ ‫دار الكفر ودار السلم‬ ‫موالة المؤمنين للكفار‬ ‫الهجرة من دار الكفر لدار السلم‬ ‫موقف السلم من الرق والسترقاق‬ ‫العلقات بين الفراد‬ ‫البيع‬ ‫كل ما حرم على العباد بيعه حرام‬ ‫ل يجوز بيع ما ليس عندك‬ ‫سَلم‬ ‫بيع ال َ‬ ‫بيع الثمار على أصولها‬ ‫البيع بالّدين والتقسيط‬ ‫السمسرة‬ ‫الجارة‬ ‫الجير‬ ‫الجرة‬ ‫تقدير الجرة‬ ‫مقدار الجرة‬ ‫دفع الجرة‬ ‫أنواع ا ُ‬ ‫لجراء‬ ‫ل توجد مشاكل عمال‬ ‫استئجار العيان‬ ‫استئجار الدور للسكنى‬ ‫الرشوة‬ ‫الرهن‬ ‫النتفاع بالرهن‬ ‫المفلس‬ ‫الحوالة‬ ‫التصوير‬

‫‪-262-‬‬

‫‪155‬‬ ‫‪156‬‬ ‫‪162‬‬ ‫‪165‬‬ ‫‪174‬‬ ‫‪177‬‬ ‫‪183‬‬ ‫‪185‬‬ ‫‪188‬‬ ‫‪189‬‬ ‫‪191‬‬ ‫‪194‬‬ ‫‪199‬‬ ‫‪202‬‬ ‫‪206‬‬ ‫‪206‬‬ ‫‪207‬‬ ‫‪208‬‬ ‫‪209‬‬ ‫‪210‬‬ ‫‪210‬‬ ‫‪212‬‬ ‫‪214‬‬ ‫‪216‬‬ ‫‪217‬‬ ‫‪221‬‬ ‫‪222‬‬ ‫‪224‬‬ ‫‪227‬‬ ‫‪228‬‬


Issuu converts static files into: digital portfolios, online yearbooks, online catalogs, digital photo albums and more. Sign up and create your flipbook.