Phoenician Bird Winter Vol.1

Page 1

‫طائر الفينيق‬

‫‪Winter 2018 Vol. 1‬‬

‫نبض‬ ‫ٌ‬ ‫د‪.‬حسن فرحات‬ ‫سيديت أمتي‬ ‫عمر شبيل‬

‫الضاد‬ ‫لغة َّ‬ ‫د‪.‬هويدا رشيف‬

‫ترتيلة يف محراب الوالية‬ ‫د‪.‬فاطمة البزال‬ ‫الفلسفة واقع ومرتجى‬ ‫د‪.‬ماغي عبيد‬

‫الجنيس يف الرواية العرب َّية‬ ‫األدب ‪ ...‬واإليحاء‬ ‫ِّ‬ ‫سليمة مليزي‬


‫‪Table of‬‬ ‫‪Contents‬‬ ‫لبنى صقر‬

‫ﻗﺮاءة ﻓﻲ ﻛﺘﺎب اﻟﻌﻠﻤﻨﺔ واﻟﺄﺳﻠﻤﺔ‬

‫افتتاحية‬

‫‪ ‬ﻧﺪوة ﺛﻘﺎﻓﻴﺔ‬ ‫ﻟﺠﻨﺔ ﻟﺒﻨﺎن‬

‫أدب‬

‫ﻧﻌﻢ ‪ ...‬وﻟﻜﻦ ‪ ‬ﻟﻠﺪﻛﺘﻮر‪ :‬ﺳﻌﺪ ﻛﻤﻮﻧﻲ‬ ‫ﻋﻤﺮ ﺷﺒﻠﻲ‬ ‫ﻫﺬه ﻟﻐﺘﻜﻢ ﺣﺎﻓﻈﻮا ﻋﻠﻴﻬﺎ‬ ‫د‪.‬ﻣﻴﺮاي أﺑﻮ ﺣﻤﺪان‬ ‫اﻟﺮاوي واﻟﺰﻣﻦ واﻟﻤﺴﺘﻮى اﻟﺄﻳﺪﻟﻮﺟﻲ ﻓﻲ‬ ‫ّ‬ ‫رواﻳﺔ ﻗﻮاﻋﺪ اﻟﻌﺸﻖ اﻟﺄرﺑﻌﻮن‬ ‫د‪ .‬درﻳّﺔ ﻓﺮﺣﺎت‬

‫ﻛﻮﻧﻴﺔ اﻟﺨﺎﻟﻖ وﺗﻌﺼﺐ اﻟﻤﺨﻠﻮق‬ ‫ﺳﻴﺪﺗﻲ أﻣﺘﻲ‬

‫شعر‬ ‫ﺾ‬ ‫‪//‬ﻧﺒ ٌ‬

‫ﺑﻘﻠﻢ ﻋﻤﺮ ﺷﺒﻠﻲ‬

‫رﺋﻴﺲ اﻟﺘﺤﺮﻳﺮ د‪.‬ﺣﺴﻦ ﻓﺮﺣﺎت‬

‫ﻋﻤﺮ ﺷﺒﻠﻲ‬

‫ﻀﺎد‬ ‫ﻟﻐﺔ اﻟ �‬ ‫د‪.‬ﻫﻮﻳﺪا ﺷﺮﻳﻒ‬ ‫ﺷﺎﻋﺮة ﻣﻦ ﺑﻼدي‬ ‫ﻋﻤﺮ ﺷﺒﻠﻲ‬ ‫‪ ‬اﻻدب ‪ ..‬واﻻﻳﺤﺎء اﻟﺠﻨﺴﻲ ﻓﻲ اﻟﺮواﻳﺔ اﻟﻌﺮﺑﻴﺔ‬ ‫ﺳﻠﻴﻤﺔ ﻣﻠّﻴﺰي‬ ‫ﻫﺎﺷﺘﺎك ‪ ###‬رﺳﺎﺋﻞ ﻣﺘﺮوﻛﺔ ﻓﻲ ﺣﻘﻴﺒﺔ‬ ‫ﻣﺠﻬﻮﻟﺔ‬

‫ﺧﻤﺮة اﻟﻘﻤﺮ ﺳﻔﺮ اﻟﺜﻮرة واﻟﻔﻘﺮ ‪2###‬‬ ‫رﺑﻴﻊ ‪ /1986‬ﻧﺺ‬ ‫ﻋﺰﻳﺰﺗﻲ ﻣﺮﻳﻢ‬ ‫د‪ .‬رﻳﺎض اﻟﺪﻟﻴﻤﻲ‪ /‬اﻟﻌﺮاق‬ ‫ﺗﺠﻠ�ﻴﺎت أﺧﻼق اﻟﻌﺮب ﻓﻲ اﻟﺸﻌﺮ‬ ‫‪:‬اﻟﺠﺎﻫﻠﻲ‬ ‫ﻋﻤﺮ ﺷﺒﻠﻲ‬ ‫اﻟﻌﻨﻒ ﺿﺪ اﻟﻤﺮأة‬

‫ﻗﺼﻴﺪة اﻟﺤﺞ‬ ‫اﻟﺸﺎﻋﺮ ﺣﺎﻣﺪ ﻣﻌﻴﻮف‪ /‬اﻟﻌﺮاق‬ ‫وﻋﺪ اﻟﻬﻮى‬ ‫د‪.‬ﻫﻮﻳﺪا ﺷﺮﻳﻒ‬ ‫ﺻﻔﻬﺎ ﻟﻨﻔﺴﻚ‬ ‫ﺑﻘﻠﻢ ﻓﻮاز اﻟﺤﻤﻔﻴﺶ ‪ /‬اﻟﻌﺮاق‬ ‫ﺗﺮﺗﻴﻠﺔ ﻓﻲ ﻣﺤﺮاب اﻟﻮﻻﻳﺔ‬ ‫ﻓﺎﻃﻤﺔ اﻟﺒﺰال‬ ‫ﻳﺴﺘﻮﻃﻦ ﻟﻴﻠﻲ‬ ‫ﺑﻠﻮر‬ ‫ُ‬ ‫ٌ‬ ‫د‪ .‬رﻳﺎض اﻟﺪﻟﻴﻤﻲ‬ ‫ﻗﻮل اﻟﺤﻤﺎم‬ ‫ﺣﺴﻴﻦ ﺷﺎﻛﺮ اﻟﺨﻔﺎﺟﻲ ‪/‬اﻟﻌﺮاق‬ ‫ﻗﺴﺎوة اﻟﺨﺮاب‬ ‫اﻟﺸﺎﻋﺮة ﻟﻴﻠﻰ اﻟﺴﻴﺪ‪ /‬اﻟﺒﺤﺮﻳﻦ‬ ‫ﺟﺬوري ‪..‬وﺳﺘﺒﻘﻰ‬ ‫د‪.‬ﻏﻴﺜﺎء ﻋﻠﻲ ﻗﺎدرة ‪ /‬ﺳﻮرﻳﺎ‬


‫فلسفة‬

)‫التصوير الفني للقصة القرآنية»(قصة سيّدنا نوح(ع‬ ) ‫(دراسة رسدية‬ ***‫ حمريا حميدی‬/**‫ عبدالحميد احمدي‬/*‫مظهر مقدمي فر‬ )‫بناء الشخصيات يف قصة يوسف (ع‬ ‫محمود فرحات‬ )‫بناء الشخصيات يف قصة يوسف (ع‬ ‫محمود فرحات‬

All rights reserved. Copyright held by HSF Media Inc. 2018. No reproduction, copying or pasting without expressed consent from HSF Media Inc. For permission or writing oppurtunities please contact: submissions@ ya7elweenmagazine.com Magazine Founder: Dr. Hassan A Farhat MD Co-Founder: April Khan Chief Content Manager: Dinah Rashid Senior Arts Director: Saood Mukhtar

‫ الدكتور حسن فرحات‬: ‫رئيس التحرير‬



‫ندوة ثقافية‬ ‫حملته سفينة فينيقية لبنانية إلى العالم‪،‬‬ ‫في بيروت‪ ،‬وعلى شاطئها الجميل الذي يحكي حكاية الحرف الذي‬ ‫ْ‬ ‫المحملة باألرجوان تقول لإلنسان الغربي تعال وتعّل ْم‬ ‫كان التاريخ يحكي‪ ،‬وما زالت أصوات تلك السفن‬ ‫ّ‬ ‫مني الحرف وصناعة األلوان‪ .‬كان طائر الفينيق يحلم بتكرار الرحلة والمحاولة عبر مجلة «طائر الفينيق”‬ ‫ووصولها إلى أقاصي أحالم السندباد‪ .‬مجدداً وقف صاحب مجلة «طائر الفينيق” الدكتور حسن فرحات‬ ‫حالماً برحلة الشرق إلى الغرب في مجلته التي تحمل كل عطور الشرق في أردانها‪ .‬وطالب المثقفين‬ ‫الشرقيين أحفاد قدموس أن يلتقوا به على ساحل الفينيق‪ ،‬وفي مطعم الروضة بالذات‪ .‬كان اللقاء حميماً‬ ‫قصتهما عاديات الدهر‪ .‬كان الدكتور‬ ‫ومترعاً باألحالم التي تحاول أن تعيد لطائر الفينيق جناحيه ْ‬ ‫اللذين ّ‬ ‫حسن فرحات بحسه الثقافي المترع بروح الشرق يعتقد أننا نستطيع أن نقنع الغرب بأننا أحفاد ثقافة عظيمة‬ ‫استطاعت أن تعلم الغرب الحرف بقدرة الذي عّل َم بالقلم‪ ،‬والذي عّل َم اإلنسان ما لم يعلم‪ .‬كانت أحالم د‬ ‫حسن فرحات أبعد من كل المجاذيف‪.‬‬ ‫تحدث لنا جميعاً عن مشروعه الثقافي وكيف يمكن أن نتعاون لنقل المعرفة إلى كل أنحاء العالم‪ ،‬وشرح لنا‬ ‫دور مؤسسة «أمازون» في جعل الكتاب متوفر عند كل إنسان بأسلوب علمي مذهل‪ .‬لقد شرح لنا د حسن‬ ‫فرحات مشاركته في نشر المعرفة عبر هذه المؤسسة العجيبة‪.‬‬ ‫واستمر الدكتور حسن فرحات صاحب مجلة طائر الفينيق بشرح مشروعه الثقافي رغم انشغاله بالطب‬ ‫ومداواة الناس‪ .‬وهو يعتقد أن مداواة العقول يجب أن تسبق مداواة الجسد‪.‬‬ ‫وتكلم الحاضرون حول استم اررية هذا المشروع الثقافي وتطويره وتنمية إمكانياته الفكرية والمادية لكي يخرج‬ ‫‘إنساننا» الشرقي من الظلمات إلى النور‪.‬‬ ‫اللجنة الثقافية في مجلة طائر الفينيق‬ ‫لجنة لبنان‬

















‫كونية الخالق وتعصب المخلوق‬

‫عمر شبلي‬

‫فــي هــذه االفتتاحيــة أريــد أن أؤكــد أن التعصــب الدينــي هــو ضــد الديــن نفســه‪ ،‬التعصــب يجعــل أتباعــه مقتنعيــن‬ ‫ـص ديــن أو هــو قطعــة مــن حطــب جهنــم ألنــه ليــس مــن فئتهــم‪ ،‬هــم‬ ‫أن هللا لهــم وحدهــم‪ ،‬ومــا عداهــم إمــا ناقـ ُ‬ ‫يعتقــدون أنهــم الفئــة الناجيــة‪ ،‬ولهــم وحدهــم حــق الدخــول إلــى النعيــم‪ ،‬ولغيرهــم الجحيــم‪ .‬وهــذا يفضــي إلــى رفــض‬ ‫كل مــن ال ينتمــي إلــى فئتهــم الناجيــة‪ ،‬ويعنــي أيضــا أن علــى أتبــاع هــذه الفئــة أن يحارب ـوا اآلخريــن‪ ،‬ألن‬ ‫محاربتهــم تضمــن لهــم النجــاة‪.‬‬ ‫رب المســلمين وحدهــم‪،‬‬ ‫هللا فــي العقيــدة اإلســامية هــو “رب العالميــن” كمــا جــاء فــي فاتحــة الكتــاب‪ .‬وليــس ّ‬ ‫ـال هللا‪ ،‬وأقربهــم إليــه أنفعهــم لعيالــه‪ ،‬وهكــذا يجــب أن نعــي جوهــر الرســالة‬ ‫وهــذا يعنــي أن الخلــق جميعهــم عيـ ُ‬ ‫َ‬ ‫اإليمانيــة اإلســامية الرابطــة بيــن اإليمــان والســام بتعميــم مطلــق‪“ :‬يــا أيهــا الذيــن آمن ـوا أدخل ـوا فــي الســلم‬ ‫كا ّفــة” «البقـرة‪ .‬إن اســتخدام لفظــة «كافــة» هــي إلغــاء لمفهــوم العــداء بيــن النــاس‪ .‬إن غايــة الديــن هــي صنــع‬ ‫الســام الكونــي قبــل كل شــيء‪ .‬فاإليمــان والســلم الكونــي همــا هــدف الديــن وتحويــل اإليمــان فــي أعمــق م ارحــل‬ ‫وجــوده فــي الــذات المؤمنــة إلــى ســلوك تمارســه النفــس المؤمنــة‪ .‬ويعنــي أيض ـاً أن الذيــن يحصــرون هللا فــي‬ ‫كونيتــه التــي تواجــد فيهــا وبهــا فــي كل عقـ ٍـل‪ ،‬وفــي كل قلـ ٍ‬ ‫إن بم اريــا مختلفــة‪.‬‬ ‫ضِّيقونــه‪ ،‬ويلغــون َّ‬ ‫ـب‪ ،‬و ْ‬ ‫عقيدتهــم ُي َ‬ ‫ومتفه ٌم‬ ‫ـتمع لنجاوى كل القلوب‪،‬‬ ‫فاهلل هو المطلق المتواجد في كل ما خلق بدراية ورحمة واتســاع ومغفرة ومسـ ٌ‬ ‫ِّ‬ ‫ألحقيــة كل العقــول فــي الســلوك إلــى ذاتــه علــى ُسـُـب ٍل تتبايــن ظاهريـاً‪ ،‬وتتحــد فــي عموميـ ِـة وجوهريـ ِـة البحــث عنــه‬ ‫بكونيتـ ِـه‪ ،‬ومتعــدد فــي ذوات مخلوقاتــه‪ .‬وقــد تبــدو تعدديــة الســبل متناقضــة فــي‬ ‫فــي كل مــا خلــق‪ .‬وهــو منفــرد‬ ‫َّ‬ ‫العق��ول المحاص�رـة بج�دـران الفه��م المحدــود والتفســير الظاهــري للنـ ّ ِ‬ ‫الملغــي مــا‬ ‫ـص الدينــي المأخــوذ بظاه ـره‪ .‬و ُ‬ ‫َ‬ ‫عــداه بتصـ ّـوٍر يــرى فيــه ذوو الفكــر المحــدود حصريــة عقيديــة‪ .‬وهــذا عجــز عــن إدراك معنــى اإليمــان المترفــع‬ ‫ـب الالمحــدود ويضــع لــه حــدوداً‪.‬‬ ‫عــن كل تحديــد‪ .‬فــإذا كان العقــل محــدوداً فكيــف يحــق لــه أن يقولـ َ‬ ‫دت فــي كل شــيء‪ .‬وكل‬ ‫فــي هــذا الفهــم عجــز عــن إدراك َّ‬ ‫كونيــة الخالــق المطلقــة التــي وســعت كل شــيء وتعـ ّـد ْ‬ ‫مــا ُو ِجـ َـد هــو تجـ ٍّـل مــن تجلياتــه‪ ،‬وفــي كل ذرة كونيــة «انط��وى العال ُ��م األكب ُ��ر»‪ .‬وهــذا يعنــي أن اإليمــان يضــيء‬ ‫الــروح فتحــب أخاهــا فــي الخلــق‪ ،‬وتلغــي العــداوة ‪ ،‬فالعــداوة ظلـ ٌـم‪ ،‬وهللا جعــل العــدل صفــة مــن صفاتــه‪.‬‬

‫ـارس بمنــأى عــن توهــج الــروح المطلقــة المتعاليــة علــى كل مــا يكبلهــا بقيــود خارجيــة‪،‬‬ ‫الديــن ليــس طقوس ـاً تُمـ َ‬ ‫ـارس‬ ‫يمارســها النــاس أحيان ـاً كثي ـرة طمع ـاً بنعيــم مــادي يغــري الح ـواس ويوقظهــا‪ ،‬ويحاصــر الــروح ويغلقهــا‪ .‬تُمـ َ‬ ‫الطقــوس بمنــأى عــن الشــعاع المنبثــق مــن حضــور اإليمــان الــذي هــو أبعــد مــن الطقــوس‪ ،‬وأنــأى مــن أن تســتفرد‬ ‫ذات ّتدعــي ملكيــة هللا وملكيــة ملكوتــه‪ .‬الطقــوس الحقيقيــة هــي حركــة الــذات الذاهبــة إلــى مالقــاة ربهــا خــارج‬ ‫بــه ٌ‬ ‫ـكأن ثوابــه عقــارات نقتســمها قبــل الوصــول إليهــا عبــر طقــوس ال‬ ‫محدوديــة محتكــري نعيــم هللا وحدهــم‪ ،‬حتــى لـ ّ‬ ‫يحركهــا حضــور هللا فيهــا‪.‬‬

‫ـدرك كل شـ ٍ‬ ‫ـيء‪،‬‬ ‫ـادي النظـرة والســلوك هــي تحديـٌـد لــه‪ ،‬وهــي إســاءة لكونيتــه التــي تـ ِ ُ‬ ‫إن حصريــة هللا فــي ديــن أُحـ ِّ‬ ‫ك مــن كل شــيء‪ ،‬ألن هللا موجــود فــي األشــياء كلهــا وغيــر محــدود بعقـ ٍ‬ ‫ـكل‪ .‬أي كل مــا‬ ‫ـول ال تــدرك أنــه الـ ُّ‬ ‫ـدر ُ‬ ‫وتُـ َ‬ ‫عــداه هــو منــه وفيــه‪ .‬فأبعــد مخلوقاتــه عــن إد اركــه هــم الحصرّيــون‪ ،‬والذيــن يــرون اآلخــر منفصـاً عنــه‪ .‬إن المنقــذ‬ ‫مــن هــذه المحدوديــة هــو اإليمــان‪ ،‬واإليمــان موجــود فــي كل ماخلــق‪ .‬حتــى المشــرك هــو مــدرك كونيتَــه بفط ـرة‬ ‫هللا فيــه‪ .‬وفــي القـرآن الكريــم‪ “ :‬ولئــن ســألتهم مــن خلــق الســماوات واألرض ليقوُلــن هللا‪ ،‬قــل الحمــد ِ‬ ‫هلل بــل‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫ّ‬ ‫أكثرهــم ال يعلمــون” ســورة لقمــان‪ .‬حصريــة اإليمــان فــي جهــة واحــدة هــو إســاءة للديــن‪ ،‬وجهــل بكونيــة الخالــق‪.‬‬


‫ـدت فــي ظــروف تاريخيــة‬ ‫يناقــض روح الديــن الــذي يتســم بالثــورة علــى كل مــا هــو ثابــت‪ .‬هنــاك حــاالت ُوجـ ْ‬ ‫محــددة تجاوزهــا الزمــن‪ ،‬وألغتهــا الســيرورة التاريخيــة كظاه ـرة الــرق وغيرهــا‪ .‬لقــد تجاوزتهــا العصــور الالحقــة‬ ‫بحكــم الحتميــة التاريخيــة وتطــور الحيــاة‪.‬‬ ‫وكونيــة التفكيــر اإليمانــي فــي جوهرهــا تأمرنــا بعــدم التمتــرس وراء أحــداث تاريخيــة َخَلــت‪ ،‬وهــذا ال يعنــي عــدم‬ ‫تنبهنــا لهــا‪ ،‬وإنمــا مــا جــدوى الخالفــات المذهبيــة القائمــة اليــوم والمرتبطــة بصـراع انتهــى‪ ،‬ونحــن نــدري أن العــودة‬ ‫إليــه بشــكل تعصبــي جعلــت مجتمعنــا متناحـ اًر‪ ،‬وجعلـ ْـت ص ارعــه مــع أحــداث التاريــخ الغابــر يلغــي صراعنــا مــع‬ ‫عدونــا الجاثــم علــى صدورنــا وأرزاقنــا وحــركات وعينــا‪ ،‬منطــق األشــياء يقــول‪ :‬ال يمكــن للماضــي أن يصبـ َـح‬ ‫حاض ـ اًر‪ .‬وإذا غرقنــا فــي اســتحضاره ديني ـاً فقــد خس ـرنا وجودنــا‪ ،‬وصرنــا خــارج الزمــن‪ .‬علــى المؤمــن الحقيقــي‬ ‫أفانيــن‬ ‫أن يســعى لــزوال فتنــة التاريــخ مهمــا كانــت م ـرة وقاســية‪ .‬إن إثارتهــا اليــوم مزقــت وحدتنــا «وأورثتنــا‬ ‫َ‬ ‫العــداوات” كمــا يقــول المعــري‪ .‬لقــد أورثتنــا االنقســام والتشــتت والص ارعــات التــي ن ارهــا بيــن أتبــاع الديــن الواحــد‪،‬‬ ‫وأصحـ�اب القضي��ة الواح��دة الت��ي تنتظرن��ا جميع�اـً للدفاــع عنهــا‪ ،‬وعــن وجودنــا المرهــون ضريبــة عنــد سماس ـرة‬ ‫صرفــة الذهــب‪ .‬الصـراع المذهبــي حـِّـول اإليمــان إلــى عــدوان‪ .‬وحـّـو َل هللا رئيسـاً لحــزب‪ ،‬بينمــا‬ ‫التاريــخ ومرابيــه ّا‬ ‫هــو بكونيتــه العظيمــة رب العالميــن‪.‬‬ ‫اإليمــان قــوة‪ ،‬والمنهــزم تاريخيـاً هــو الــذي ال يملــك قــوة إيمـ ٍ‬ ‫ـان تــذود عــن القضيــة التــي يؤمــن بهــا‪ .‬فــكل إيمــان‬ ‫قــوة‪ .‬وكل قــوة نابعــة عــن إيمــان‪ .‬إيمـ ٍ‬ ‫ـان يجعــل اإلنســان ســيد الطبيعــة‪ ،‬وحام ـاً روح ـاً مملــوءة بضــوء المعرفــة‬ ‫ويعلــي إنســانية اإلنســان‪.‬‬ ‫واليقيــن‪ ،‬وبهــذا نســتطيع الدخــول فــي ملكــوت اإليمــان الــذي يدحــر الشــر ُ‬


‫ـق علــى عقـ ٍ‬ ‫ـاج جهـ ٍـل مطِبـ ٍ‬ ‫ـول مغلفـ ٍـة بجــدران ســميكة‪ ،‬وهــذه‬ ‫إن حصريــة معرفــة هللا فــي جهــة واحــدة هــي نتـ‬ ‫ُ‬ ‫الجــدران الســميكة تــؤدي إلــى إلغــاء اآلخــر ودعــوة للعــدوان عليــه‪ .‬وهنــا تكمــن مأســاةُ حصرّيـ ِـة اإليمــان فــي ملــة‬ ‫واحــدة‪ ،‬حيــث تنمــو البغضــاء وتغطــي العمــق اإليمانــي الــذي يجــب أن يكــون َّ‬ ‫منزه ـاً عــن الخلــل والعــدوان‪.‬‬ ‫واإليمــان بالعــدوان يصبــح فــي العقــول المغلقــة هــو اإليمــان نفســه‪ .‬والجهــل هــو ألـ ُّـد أعــداء اإليمــان‪ .‬واإليمــان‬ ‫ينهــى عــن الفحشــاء والمنكــر والبغــي‪ .‬إن الــذي يؤمــن بالعــدوان علــى اآلخــر ألنــه ليــس مســلماً إنمــا يعتــدي‬ ‫علــى اإلســام نفســه‪ .‬اإليمــان والعــدوان ال يلتقيــان أبــداً‪ .‬وإذا كان اإليمــان موجــوداً فــي الغ ارئــز فواجــب المؤمــن‬ ‫أن يســاعد اآلخــر بنــزع الصــدأ وبقــع الظــام عــن الجوهــر اإليمانــي الموجــود فــي الموجــودات كلهــا‪ .‬ال يجتمــع‬ ‫اإليمــان والظلــم فــي ممارســة تجعــل القتــل مفتــاح بــاب الجنــة‪ .‬ولشــدة نفــور الــذات اإلنســانية ونفــور هللا مــن‬ ‫ـك مــع الكفـ ِـر يــدوم‪ ،‬ومــع الظلــم ال يــدوم»‪ .‬والقـرآن الكريــم ربــط اإليمــان بخلــع الظلــم‬ ‫«مْلـ ٌ‬ ‫الظلــم كتــب ُ‬ ‫أحدهــم‪ُ :‬‬ ‫ورفضــه‪« :‬الذيــن آمن ـوا ولــم يلبس ـوا إيمانهــم بظلــم‪ ،‬أولئــك لهــم األمــن وهــم مهتــدون» ســورة األنعــام آيــة‬ ‫‪. 82‬‬ ‫اإليمــان موقــف يحـّـو ُل العمــق اإلنســاني مــدى ال يســكن فيــه إال الضــوء ومعرفــة هللا خــارج محصوريــة التعصــب‪.‬‬ ‫والتعصــب جهــل وضيــق أفــق‪ ،‬وكل متعصــب يكــون فهمــه الجوهـ َـر اإللهــي الموجــود فيــه ناقص ـاً‪ .‬الجوهــر‬ ‫اإللهــي مقتــرن باإلشــعاع‪ ،‬والتعصــب مقتــرن بالظلمــة وانطفــاء البصي ـرة‪ .‬والنــور فضــاء متسـ ٌـع ال ُي َحــد‪ ،‬وهــو‬ ‫أنــأى وأفضــى مــن الجهــات التــي تخضــع للمقاييــس الماديــة‪ ..‬أمــا التعصــب فهــو انحســار اإليمــان وتقوقعــه فــي‬ ‫منطقــة ال نــور فيهــا‪ ،‬وهللا فــي حقيقتــه “نــور الســماوات واألرض”‪ .‬فــا يمكــن لإليمــان أن يقتــرن أو يكتمــل‬ ‫بالتعصب ألنه مناقض لســعة روح هللا الموجودة في اإلنســان‪ ،‬ومناقض لقدرة الضوء على الســطوع واالمتداد‪.‬‬ ‫والتعصبــ ينتق��ل م��ن االنغ�لاق إل��ى الرف��ض والعــداء‪ .‬فالمتعصــب أعمــى‪ ،‬وينقصــه بصـ ٌـر وبصيـرة‪ .‬ومــن كان‬ ‫متعصبـاً فهــو أعمــى أضـ ُّـل ســبيالً‪ .‬والتعصــب فــي حقيقتــه مــرض‪ ،‬ودواؤه االنفتــاح وســعة الــروح وفتــح مغالــق‬ ‫الــذات أمــام النــور الوافــد مــن الــذات الكبــرى‪.‬‬ ‫الغائية قد يوقع في فهم‬ ‫إن ظاهر النص واالبتعاد عن مراميه‬ ‫سكوني محدود‪ ،‬وقد يتغطى الجوهر بالمظهر‪.‬‬ ‫َّ‬ ‫ٍّ‬ ‫وظاهــر النــص يجــب أن ال يكــون حاج ـ اًز أمــام محاولــة تطويــر فهمــه بالتناســق والتكامــل مــع ســيرورة الزمــن‬ ‫الــذي هــو متحــرك باســتمرار ومتحـ ّـو ٌل مــن حــال إلــى حــال‪ .‬ولــذا ال بــد مــن انســجام الفقــه مــع الوعــي المتطــور‬ ‫ـس فيهــا وال غمــوض‪،‬‬ ‫الــذي أثبتتــه العلــوم واإلنجــازات البشـرية الواضحــة بــكل مــا تعنيــه وتقدمــه مــن حقائــق ال َل ْبـ َ‬ ‫ونخــص بالذكــر اإلنجــازات التــي خدمــت اإلنســان ورفعتــه‪ ،‬وأنقذتــه مــن األم ـراض والجهــل والتخلــف والظــام‪.‬‬ ‫وقــد يكــون فهــم المقــدس مرتبط ـاً بمرحلــة زمنيــة محــددة‪ ،‬وإذا كان الزمــن كالنهــر فــإن اإليمــان يقــر التطــور‬ ‫اإلنســاني وعــدم التقوقــع فــي الماضــي مهمــا كان مجيــداً‪ .‬لقــد تحاملــت الكنيســة فــي أوروبــة علــى «ماج ـاّن»‬ ‫ألنــه اكتشــف أرضـاً ليســت مذكــورة فــي العهــد القديــم‪ ،‬وحوكــم «غاليلــه» ألنــه قــال‪ :‬إن األرض تــدور‪ ،‬وحــورب‬ ‫ابــن رشــد ألنــه عقــد صلحـاً بيــن النقــل والعقــل‪ .‬وُقضــي علــى الفكــر المعتزلــي الــذي كان مرتكـ اًز لتطــور الفكــر‬ ‫َ‬ ‫ـام الجميــع‪ .‬ال بــد مــن فهــم الزمــن‬ ‫ـ‬ ‫م‬ ‫إ‬ ‫ـه‬ ‫ـ‬ ‫ل‬ ‫ويجع‬ ‫ـع‬ ‫ـ‬ ‫ي‬ ‫الجم‬ ‫ـام‬ ‫ـ‬ ‫م‬ ‫العربــي وانتمائــه لفكــر تنويــري اخت ارقـ ٍـي يضــع العقـ َـل أ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫المتجــدد وأحوالــه‪ ،‬وإضافاتــه التنويريــة التــي تؤهلنــا لدخــول القــرن الــذي نحــن فيــه‪ ،‬ولألســف إننــا موجــودون مجــا اًز‬ ‫فــي القــرن الواحــد والعش ـرين‪ ،‬وحقيقــة فــي القــرن ال اربــع الهجــري‪ .‬ال بــد مــن فتــح بــاب االجتهــاد بقــوة‪ ،‬والمبنــي‬ ‫وعينــا بالشــلل والكســاح‪ .‬وصــار الزمــن‬ ‫علــى الضــرورة الحياتيــة المفروضــة علينــا‪ ،‬شــئنا أم ْ‬ ‫أبينــا‪ .‬وإال أصيــب ُ‬ ‫ـات‬ ‫يمشــي ونحــن واقفــون‪ .‬ال يجــوز أن يقــود الماضــي الحاضـ َـر‪ ،‬مهمــا كان الماضــي رائعـاً‪ ،‬فلــكل زمـ ٍـن مكونـ ُ‬ ‫روعتــه‪ .‬إن أبناءنــا هــم أبنــاء الحيــاة أكثــر مــن كونهــم أبناءنــا‪ ،‬وقــد ُخلقـوا لزمـ ٍـن غيـ ِـر زمننــا‪ ،‬ومــا تنتجــه الثــورة‬ ‫المعلوماتيــة الجديــدة ال يمكــن الوقــوف أمامــه منكريــن ورافضيــن‪ .‬إن النهــر يتغيــر كل لحظــة‪ ،‬وكذلــك الحيــاة‪،‬‬ ‫ومــن يقــف فــي وجههــا تتركــه غيــر عابئــة بــه‪ .‬وال بــد مــن الج ـرأة الواعيــة أمــام الفهــم الجامــد للنــص‪ .‬لقــد منــع‬ ‫عمــر بــن الخطــاب قطــع اليــد فــي عــام الرمــادة بســبب الفاقــة والجــوع‪ ،‬رغــم وجــود نــص قرآنــي بقطــع يــد الســارق‪.‬‬ ‫ونحــن اليــوم نعيــش فــي عالــم ال يمكــن إيقــاف ســرعته المذهلــة‪ .‬علــى العقــل الدينــي أن يعــي تطــور الحيــاة وعــدم‬ ‫الجليــة‪ .‬الديــن فــي حقيقتــه هــو ثــورة روحيــة اجتماعيــة‪ ،‬وتحنيطــه اليــوم فــي فقــه متجمــد‬ ‫التنكــر لحقائقهــا الجديــدة ّ‬



‫سيديت أمتي‬ ‫بقلم عمر شبيل‬ ‫ــ ‪ 1‬ــ‬ ‫العروبــة يف وجــدان الشــاعر العــريب محمــد توفيــق صــادق وشــعره ترقــى إىل مســتوى الديــن نفســه‪،‬‬ ‫وكي��ف ال ترق��ى عروبت��ه إىل ه��ذا العم�قـ اإلمي�اـين‪ ،‬وه��ي الت��ي بِلغ ِته��ا وصلــت الســا َء بــاألرض وبلســان‬ ‫ـم حيــث‬ ‫عــر ٍّيب مبــن‪ ،‬وكان اختيــار العربيــة لغ ـ ًة خامت ـ ًة للرســاالت الســاوية دلي ـاُ عــى أ ّن «اللــه أعلـ ُ‬ ‫يجعــل رســالته» ك�ما ج�اـء يف محكمــ التنزيـ�ل‪ .‬كانــت معجــزة العروبــة قرآنهــا‪ ،‬بإيحــاء تصاعــدي يجعــل‬ ‫اللغــة العربيــة باب ـاً التصــال الواجــد باملوجــود‪ .‬وهــذا التصاعــد القائــم عــى إعجــاز أم اللغــات‪ ،‬لغــة‬ ‫الضــاد ال يرقــى إليــه شـ ٌّـك ألنــه ربــط اإلميــان بقــرآن عــريب‪ ،‬وكان هــذا الكتــاب العــريب معجــزة الرســول‬ ‫للعــرب وللعاملــن كافـ ًة‪ ،‬وقــد أكــد الرســول هــذا بقولــه‪« :‬ال تنســبوا يل معجــزة غــر القــرآن»‪ .‬كان ال بـ ّد‬ ‫مــن العربيــة حيــث ارتبــط وضــوح عروبــة الرســالة مبــا جــاء يف القــرآن الكريــم‪« :‬لســانُ الــذي ُيل ِحــدون‬ ‫ـي‪ ،‬وهــذا لســان عــر ٌّيب مبــن»‪ ،‬والتفاضــل إىل حــد التناقــض واضــح يف اآليــة الكرميــة‪ ،‬إنهــا‬ ‫إليــه أعجمـ ٌّ‬ ‫ســيدة اللغــات املعــرة عــن قدرتهــا باســتيعاب رســالة الســاء‪ .‬كان ال بــد مــن لغــة لتخاطــب بهــا الســاء‬ ‫األرض فكان��ت العربي��ة‪.‬‬ ‫ــ ‪ 2‬ــ‬ ‫��ت عقلنـ� ُة الرسـ�الة بروحاني��ة الخ ّ‬ ‫�طـ املتص��ل م��ن غاــر موح��ش ع�لى األرض بــوا ٍد غــر ذي زر ٍع وصــوالً‬ ‫ومنَ ْ‬ ‫إىل ســدرة النتهــى‪ ،‬حيــث أوحــى لعبــده مــا أوحــى‪ ،‬وارتبطــت لغــة العــرب بالعقــل يف التعليــل اإللهــي‬ ‫الختيــار العربيــة لغــة ورحمــة وعقلنـ ًة للفكــر اإلنســاين الغــارق يف جاهليــات مظلمــة‪“ :‬إنّــا أنزلنــاه قرآنـاً‬ ‫عرب ّي��اً لعلك��م تعقل��ون»‪ .‬هنــا ال بـ ّد مــن التأكيــد عــى عامل ّيــة رســالة اإلســام‪“ :‬ومــا أرســلناك إال رحمــة‬ ‫للعاملـين”‪ ،‬فــإذا كانــت الرســالة اإلســامية عامليــة املحتــوى والغايــة والتوجــه وعربيــة اللســان فــإن عقالنية‬ ‫الرســالة ارتبطــت بالعربيــة‪ .‬فاألســباب واضحــة الداللــة يف كلمــة «لعلكــم» يف اآليــة الســابقة‪ ،‬لقــد ربــط‬ ‫الق��رآن عقلن��ة الفك��ر اإلنسـ�اين باللغ��ة العربي��ة «لعلك��م تعقلوــن» يف رساــلة التوحي��د‪ .‬إن فهــم الرســالة‬ ‫وعقلنتهــا ارتبــط باللغــة العربيــة التــي أكّــد اللــه أهميتهــا بجعلهــا حيــث اختــار علمــه املــكا َن والزمــان‪.‬‬ ‫ــ ‪ 3‬ــ‬ ‫ملــاذا كانــت العربيــة لغــة الســاء ولغــة العقــل يف آن؟ هــذا ســؤال تطرحــه حاجــات اإلنســانية نفســها‪،‬‬ ‫وأنــا أرى أن اللغــة العربيــة كانــت مه ّيــأة ببالغتهــا ورمزيتهــا وعبقريتهــا ودالئــل اإلعجــاز فيهــا وقدرتهــا‬ ‫علـى املج��از والحقيق��ة وأرسار صياغةــ األفــكار‪ ،‬نع��م كانــت مه ّيـ�أ ًة لحمــل رســالة جــاءت لتكــون دســتور‬ ‫الكــون وروحــه وفكــره‪ .‬لقــد كانــت املعلقــات التــي أنتجهــا الفكــر العــريب قبــل بــزوغ الرســالة املحمديــة‬ ‫كنــوزا ً فكريــة عاليــة جعلــت العــرب يعلِّقونهــا يف أذهانهــم‪ ،‬وقيــل كانــت مكتوبــة مبــاء الذهــب ومعلقـ ًة‬ ‫عــى أســتار الكعبــة‪ ،‬وكان اســتقبال العــرب لهــا قــد وصــل إىل حــد اإلميــان‪ ،‬ألنهــا كانــت تاريخهــم الداخــي‬ ‫والخارجــي‪ ،‬وكانــت الكلمــة عنــد العــرب تثــر حربـاً وتنجــز صلحـاً‪ .‬معلقــة زهــر بــن أيب ســلمى شــاركت‬ ‫يف إنهــاء حــرب داحــس والغـراء‪ ،‬وكانــت حنفيــة املذهــب والعقيــدة‪“ :‬ومهــا ُيكْ َتـ ِـم اللــهُ يعلـ ِـم”‪ .‬وكانــت‬ ‫معلقــة عمــر بــن كلثــوم صــدى لصليــل ســيفه‪ ،‬وهــو يقطــع عنــق ملــك أرادت أمــه أن تهــن أم الشــاعر‪:‬‬ ‫«متــى ك ّنــا ألمــك مقتوينــا”‪ .‬أمــا معلقــة عنــرة بــن شــداد فكانــت معلقــة الحــب والحريــة والحلــم‪ ،‬كان‬ ‫يــود تقبيــل الســيوف التــي تلمــع كثغــر عبلــة بنــت مالــك”‪:‬‬


‫إق��رأْ‪ /‬باس��م اللـ�ه الواح��د وحدــ ْه‪ /‬ســقطت أصنــا ُم الجهــل أمــام التوحيــد‪ ./‬واضــح يف هــذا الشــعر ارتبــاط‬ ‫النهضــة اإلنســانية باإلميــان واملعرفــة‪.‬‬ ‫ــ ‪ 6‬ــ‬ ‫شاعرنــا محمــد توفيــق صــادق ممتلــئ بأمتــه إىل حــد الفيضــان‪ .‬وســبب هــذا االمتــاء الشـ ِّيق أن أمتــه‪،‬‬ ‫كــا يراهــا‪ ،‬ســكنت أبـراج النــور مبــا قدمــت مــن أفــكار مضيئــة للبرشيــة بأرسهــا‪ ،‬والنــور هنــا يف شــعره‬ ‫ناب��ع م��ن العروب��ة واإلس�لام مع��اً حت��ى ليغ�� ُد َوا ش��يئاً واح��دا يف بن��اء الحض��ارة‪.‬‬ ‫والن��ور يف ملحم�ةـ الشــاعر محمــد توفيقــ ص��ادق أنت��ج الحري��ة‪ ،‬وجعــل العبوديــات “ ِم َزق ـاً عــى قــدم‬ ‫الصبــاح السـ�افر”‪ .‬ويف كل شــعر هــذه امللحمــة تجــد ترابطـاً عميقـاً بــن الضــوء والحريــة‪ ،‬حيــث ال مــكان‬ ‫للحريــة إال حيــث يوجــد الضــوء‪.‬‬ ‫ــ ‪ 7‬ــ‬ ‫ـت منحــى تاريخيـاً‪ ،‬وتاريخيـ ُة صياغـ ِة هــذه امللحمــة‬ ‫وامللحمــة منــذ إطاللتهــا عــى وجــدان الشــاعر ن َحـ ْ‬ ‫ال تســلك أســلوباً رسدي ـاً إلب ـراز خــر‪ ،‬بــل كانــت إلب ـراز حــا ٍل َوضــوء وحريــة‪ .‬إن الرسديــة تقتــل الشــعر‬ ‫إذا خلــت مــن الوهــج واإلحســاس والغايــة الهادفــة‪ ،‬وكانــت أعــى الغايــات يف هــذه امللحمــة رســالة‬ ‫اإلميــان‪ ،‬وهــذا جعــل شــاعرنا ينطلــق منــذ بدايــة امللحمــة بالرســل ابتــداء بــآدم ونــوح ومــوىس عــى‬ ‫الطــور ويف الــوادي املقــدس طــوى‪ ،‬وعيــى بــن مريــم كلمــة اللــه‪ ،‬وصــوالً إىل النبــي العــريب الــذي عــرف‬ ‫مــن جربيــل أن اللغــة العربيــة هــي لغــة الســاء‪ ،‬وبهــا نــزل الهــدى إىل هــذا الكوكــب الـرايب‪/ :‬والنــاس‬ ‫سواســية يف كتــب الديــان‪ .../‬وحقــوق اإلنســان‪ ./‬وواضــح يف شــعر محمــد توفيــق صــادق أن اإلســام ليس‬ ‫دين ـاً إلغائي ـاً‪ ،‬والدليــل هــو ابتــداء امللحمــة بــأويل العــزم مــن األنبيــاء‪ ،‬والــكالم عــى مــوىس واملســيح يف‬ ‫ملحمــة شــاعرنا يـ ّ‬ ‫ـدل عــى ك ْون ّيـ ِة الرســالة اإلســامية‪ ،‬فالنبــي إبراهيــم كان حنيفـاً مســلامً‪ ،‬والذيــن كانــوا‬ ‫يُســألون قبــل بعثــة الرســول العــريب كانــوا يقولــون‪ :‬إنــا قبلــه مســلمون‪ .‬إن االمتــاء باإلســام هــو االمتــاء‬ ‫بالعروبــة‪ .‬وهــا كالنــاي ولحنــه‪.‬‬ ‫ــ ‪ 8‬ــ‬ ‫وهــذا االمتــاء الفكــري والروحــي يف شــعر الشــاعر محمــد توفيــق صــادق جعــل مللحمتــه دورا ً رســولياً‪،‬‬ ‫وشاــعرنا نفســه يؤك��د ذل��ك‪ ،‬فهــو يقـ�ول‪ :‬إن باع��ث كتابـ�ة ه��ذه امللحم��ة كان يقظــ ًة روحيــة مــأت‬ ‫كيانــه بعــد نقــاش مط ـ َّول مــع اآلخــر املتنكــر لل ـراث وإنجازاتــه عــر تاريخنــا املديــد‪ .‬وبلهــب اإلميــان‬ ‫وقــوة العقــل كانــت هــذه امللحمــة تحمــل فك ـرا ً دفاعي ـاً مقاوم ـاً‪ ،‬فالدفــاع القــوي ال يختلــف أبــدا ً عــن‬ ‫الهجــوم‪ .‬وتعلــو قيمــة هــذه امللحمــة حــن نــدرك أنهــا كُتبــت يف بــاد االغ ـراب حيــث الســهام تو َّجــه‬ ‫ـرت نهضــة أوروبــة‬ ‫ـرب مــن التاريــخ لتأخـ ْ‬ ‫دامئـاً لحضارتنــا التــي قــال فيهــا املســترشقون‪“ :‬لــو ُحـ َ‬ ‫ـذف العـ ُ‬ ‫ألــف ســنة”‪ ،‬ويقــول مســترشق آخــر‪“ :‬ماعــرف التاريــخ فاتح ـاً أرحــم مــن العــرب”‪ .‬هــذه الشــهادات‬ ‫�دـ ِل به�اـ أصحابهــا إال بع��د أن ق��رأوا تاريخنـ�ا الع��ريب وو َع�� ْو ُه‪ ،‬وباملعرف��ة وحده��ا انتــر املنطــق‪،‬‬ ‫مل يُ ْ‬ ‫واإلنســان‪ ،‬منــذ ف ُِطـ َر‪ ،‬عــد ُّو مــا يجهــل‪ .‬عندمــا قــرأ الغــرب عقلنــة ابــن رشــد اعتــروه أســتاذا لديــكارت‬ ‫الــذي ل ّخــص فلســفته العقليــة بقولــه‪« :‬أنــا أفكّــر فأنــا موجــود”‪ ،‬والــذي تعتــره الحضــارة الغربيــة أحــد‬ ‫كبـ�ار العقالنيـ�ة فيهـ�ا‪.‬‬ ‫ونقــاش شــاعرنا مــع اآلخــر كان هادئـاً وهادفـاً وقامئـاً عــى الجــة والعقــل‪ ،‬وليــس عــى النقــل وحــده‪ .‬ويف‬


‫ِ‬ ‫السيوف ألنها ملعت كبارق ثغرك املتبسم»‪.‬‬ ‫تقبيل‬ ‫فوددت َ‬ ‫ُ‬ ‫وكانــت تبــدو يف معلقــة الشــاب طرفــة بــن العبــد أفــكار وجوديــة إىل اآلن مل يتجاوزهــا أقطــاب الفكــر‬ ‫الوجــودي‪« :‬ســتعلم إن متنــا غــداً أينــا الصــدي”‪ ،‬وكانــت معلقــة امــرئ القيــس أغنيــة العــرب وشــجن‬ ‫النفــس التــي قتــل الزمــن لهوهــا وعبثهــا “أال أيهــا الليــل الطويــل أال انجــلِ ”‪ .‬وكانــت معلقــة لبيــد‬ ‫مقدم��ة إلميانــه مل��ا سكــب فيهـ�ا ع��ن األمان�ةـ وحقوق��ها‪ .‬وكان شــعر الحطيئــة يجــر الخليفــة الفــاروق أن‬ ‫يبــي عندمــا ذكَّــره الحطيئــة بأطفالــه الصغــار الجائعــن‪“ :‬زغــب الحواصــل ال مــا ٌء وال شــج ُر” لقــد كان‬ ‫العــرب قــد بلغــوا مرحلــة متقدمــة مــن النضــج اإلنســاين والروحــي‪ ،‬وقــد أ َّهلَهــم هــذا النضــج ال قتبــال‬ ‫لغ��ة الس�ماء ع�لى األرض‪ ،‬وكان الرس��ول الع��ريب يق��ول‪« :‬أن��ا أفص��ح الع��رب ب ْي�� َد أين رضع��ت يف ُهذيْ��ل»‪.‬‬ ‫وله��ذا السبــب كان الق��رآن ه��و معج��زة الرس��ول‪ ،‬ويقـ�ول ال تنســبوا يل معج�زـة غ�ير الق��رآن‪ .‬وهذا الــكالم‬ ‫هــو شــهادة للغــة العربيــة التــي نقلــت فكــرة التوحيــد مــن الســاء إىل األرض‪.‬‬ ‫ــ ‪ 4‬ــ‬ ‫بهــذا االمتــاء الروحــي والثقــايف أقبــل الشــاعر العــرويب محمــد توفيــق صــادق عىل تجربــة أمتــه الحضارية‬ ‫نــارشا ً وعيهــا وذائــدا ً عنهــا وشــاهرا ً ســيف موهبتــه يف وجــه مــن أرادوا تشــويه هــذه الحضــارة العظيمــة‬ ‫معتمديــن عــى الو َهــنِ العــريب الحــايل الــذي مل يــرك وراءه وراء‪ .‬وبهــذا املعنــى نســتطيع أن نطلــق عــى‬ ‫شــاعرنا اســم الشــاعر املجاهــد محمــد توفيــق صــادق‪ .‬إنــك حــن تســتمع لصوتــه العــريب تحســه‪ ،‬وكأنــه‬ ‫ٍ‬ ‫آت ت ـ ّوا ً مــن مؤتــة والريمــوك وحطــن‪ ،‬تحــس أن كلامتــه تخــرج مــن فمــه مغ ّمســة بلوعــة وأىس وفخــر‬ ‫وانجــذاب حتــى لكأنــك مــع صــو ٍّيف يعــاين حالــة الجــذب القصــوى القامئــة بــن الواجــد واملوجــود‪ .‬تحســه‬ ‫ٍ‬ ‫ب��كأس‪ ،‬وقـ�د س��كر منه��ا‪« :‬م��ن قب��ل أن يُخلَ��ق الكرـ ْـ ُم»‪ .‬عنــد الصــويف الداخــل يف‬ ‫وكأن��ه يتن�اـول خم�رـة‬ ‫الح�ضرة ال تج�دـ حاج��زا ً بينـ�ه وب�ين ال�ذـات الك�برى الت��ي ي��ذوب فيه��ا وجدــا ً ويتو ّحــد بهــا‪ ،‬وقتهــا ينطبــق‬ ‫علي��ه ق��ول الح�لاّج‪:‬‬ ‫أنا من أهوى ومن أهوى أنا نحن روحانِ حللْنا بدَ نا‬ ‫فالعالقــة بــن والوعــاء واملحتــوى تــزول‪ ،‬وقتهــا تكــون الخمــرة روحـاً‪ ،‬وتــذوب الــكأس‪ ،‬حتــى لــكأن الخمرة‬ ‫قامئــة بغــر إنــاء‪ .‬وهكــذا انعكســت العروبــة يف شــعر محمــد توفيــق صــادق‪ ،‬فلــم تعــد هنــاك مســافة‬ ‫بــن قلبــه ولســانه‪ ،‬وبــدأت عروبتــه تنحــو منحــى طقوســياً شــديد الحضــور يف شــعره‪.‬‬ ‫ــ ‪ 5‬ــ‬ ‫العروبــة يف شــعر محمــد توفيــق صــادق تغــوص يف حضــوره حتــى تصبــح أمـاً وحبيبــة‪ ،‬والبــد أن تكــون‬ ‫اللغــة العربيــة يف اعتقــاده هــي لبــاس التقــوى لألمــة ولبــاس املجــد‪ ،‬وبعبقريــة هــذه اللغــة اســتطاع‬ ‫العــرب إنجــاز حضــارة عربيــة اللغــة والجوهــر إنســانية الهــوى واملنــى‪/ :‬وأنــا أمي‪/‬أهــي أريض علَمــي‪/‬‬ ‫لغتـ�ي العربيـ�ة‪ /‬وجـ�دودي الصيـ�د‪ /‬نسـ�ور وصقـ�ور‪ /‬سـ�كنوا أبـ�راج النور‪/‬وبنـ�وا أعشـ�اش الحريـ�ة‪ ./‬نالحــظ‬ ‫يف هــذا املقطــع حضــور اللســان العــريب املبــن وســيل ًة وغايــة‪ ،‬وهــذا رضوري جــدا ً يف صياغــة ملحمــة‬ ‫األمــة‪ .‬فــا ميكــن أن يبــدع اإلنســان يف بنــاء رصح عــايل الحضــور‪ ،‬واإلســهام يف صنــع حضــارة عظيمــة‪،‬‬ ‫وه��و أمامه��ا “غريــب الوجــه واليــد واللســان”‪ .‬اللغــة العربيــة هــي معشــوقة شــاعرنا إىل حــد أنهــا ليــى‬ ‫وهــو قيســها‪ .‬فالحــرف العــريب يف شــعره يفــوح مســكاً عــى الكلــات‪ /:‬وعبـراً مــن ســور الرحــان‪ /‬ويــرى‬ ‫ش��اعرنا محم��د توفيـ�ق ص�اـدق أن الكلم��ة كان��ت يف البـ�دء‪ ،‬والعربيــة تحديــدا ً‪ ،‬ولــذا كانــت العربيــة بداية‬ ‫الفتــح اإلرشاقــي الــذي غمــر األرض بأنــوار النبــوة وم َّه ـ َد لظهــور إنســانية اإلنســان بالق ـراءة واملعرفــة‪/ :‬‬


‫كل مراحــل النقــاش والحــوار يف هــذه امللحمــة مل يتعــارض العقــل مــع النقــل كــا يــرى شــاعرنا العــرويب‬ ‫محمــد توفيــق صــادق‪ .‬أمــا صاحبــه فيجــادل بخلفيــة انفعاليــة تتســم بالتهجــم‪ ،‬وتعميــم خطــأ الجــزء‬ ‫عــى الــكل‪ ،‬لقــد كان صاحبــه ال يــرى يف العــرب إال الرمــال وال ِجــال‪ ،‬والعيــش عــى أصــداء مجـ ٍـد متخ َّيــل‬ ‫ومفتعــل‪ ،‬كالتباهــي بقصــص عنــر والزيــر‪ ،‬والغــوص يف أنقــاض املــايض اململــوء غبــارا ً‪ .‬ويعــود صاحبــه‬ ‫للتباهــي بالغــرب وإنجازاتــه‪ .‬ويعــود شــاعرنا محمــد توفيــق صــادق لــرد عــى صاحبــه‪ ،‬ويقــول لــه‪ :‬نعــم‬ ‫إن الغــرب أنجــز حضــارة ماديــة عاليــة جــدا ً ولكنهــا تفتقــر إىل الــروح‪ ،‬لقــد بنــى الغــريب املصنــع ولكنــه‬ ‫صنــع فيــه أيض ـاً القنابــل الذريــة والفوســفورية التــي مــأت العــامل دمــارا ً‪ ،‬فالحضــارة مهــا عــا شــأنها‬ ‫متــوت وتندثــر إذا مل ت ُـ َن عــى اإلميــان وســعادة اإلنســان الداخليــة قبــل الخارجيــة‪ .‬وشــاعرنا يظــل عــى‬ ‫اعتقــاده أن اإلميــان هــو بــاين الحضــارة وبــاين ســعادة اإلنســان‪ ،‬وال معنــى لحضــارة ال تهتــم إال مبــا هــو‬ ‫نــا ٍء عــن وجــدان اإلنســان‪.‬‬ ‫ــ ‪ 9‬ــ‬ ‫وسـخِّرتْ للسياســة‬ ‫وقــد وعــى شــاعرنا صعوبــة املرحلــة التــي تعيشــها أمتنا اليــوم‪ ،‬وكيــف ُزيِّفــت املبادئ‪ُ ،‬‬ ‫مــا عكــس صــورة مشـ َّوهة عــن الديــن‪ .‬فــكان اإلرهــاب آفــة العــر‪ ،‬وكانــت الســلوكيات التــي تناقــض‬ ‫جوهــر الديــن‪ ،‬وتناقــض مبــادئ العروبــة الســامية التــي قامــت عــى ثقافــة إنســانية عاليــة شــارك يف‬ ‫ـاس مل يكونــوا عربـاً‪ ،‬ومــن يســتعرض التاريــخ العــريب اإلنســاين فســوف يــرى أســاء‬ ‫تكملــة بنــاء رصحهــا أنـ ٌ‬ ‫المعــة يف مختلــف مناحــي العلــوم واآلداب‪ ،‬وعــى ســبيل املثــال ال الحــر ابــن ســينا والفــارايب وابــن‬ ‫املقفــع وســيبويه وال ـرازي والبخــاري ومســلم وعمــر الخيــام والبــروين‪ ،‬وغريهــم الكثــر الكثــر‪ .‬كانــت‬ ‫الحضــارة العربيــة إنســانية الفكــر واألداة‪ ،‬ويف حضارتنــا العربيــة كان أقــرب اللــه إليــه أنفعهــم للنــاس‪ .‬أمــا‬ ‫اليــوم فقــد نخرتنــا املذهبيــات والطائفيــات والجهــل الــذي هــو الدليــل األســود إىل الظــام وتعــر املســرة‪.‬‬ ‫ـت بيننــا إ َحن ـاً «وأورثتنــا‬ ‫لقــد وقــف شــاعرنا محمــد توفيــق صــادق ضــد هــذه الظالميــات التــي ألقـ ْ‬ ‫أفانـ َن العــداوات» كــا يقــول أبــو العــاء املعري‪.‬ويــرى شــاعرنا محمــد توفيــق صــادق أن الجهــل ال يقــود‬ ‫ـعب‪ /‬يحيــا‬ ‫إىل اإلرهــاب فقــط‪ ،‬بــل يقــود إىل ردم إنســانية اإلنســان وطمرهــا‪ .‬يقــول‪/ :‬الجــدوى مــن شـ ٍ‬ ‫ـي يف ِّجـ ُر أنهاراً‪/‬تجــري يف األرض‪ /‬دمـاً فـ ّواراً‪ /‬ومصائــب تــرى‬ ‫يف بحــر خنــوع‪ /‬ودمــوع‪ /‬فاإلرهــاب الدينـ ُّ‬ ‫ـيحي راهــب‪./‬‬ ‫ومصائ��ب‪ /‬والتحريـ�ض نت��اج‪ /‬طوائفــ ش ّ�تـى‬ ‫ْ‬ ‫��يعي‪ /‬وذاك مسـ ٌّ‬ ‫��ني وذا ش ٌّ‬ ‫ومذاه�بـ‪ /‬ه��ذا س ٌّ‬ ‫كل هــذا ال يخالــف الديــن فحســب‪ ،‬بــل يخالــف ويناقــض العروبــة التــي كانــت إنســانية املبنــى واملعنــى‪.‬‬ ‫ــ ‪ 10‬ــ‬ ‫والجيــد بــل والرائــع يف هــذه املعالجــة الفكريــة التــي تنتهجهــا ملحمــة الشــاعر محمــد توفيــق صــادق‬ ‫ه��و الدع��وة إىل اإلخاــء واملحب��ة ونب��ذ كل م��ا يحـ�ول بيـن اإلنس�اـن وأخيــه اإلنسـ�ان‪ .‬الســاح املــيء الــذي‬ ‫يزيـ�ل الظــام ه��و التآخ��ي يف الس�لـوك اإلنس�اـين وامل�آـل اإلنساــين‪ .‬يقــول الشــاعر املهجــري إليــاس فرحــات‪:‬‬ ‫ُ‬ ‫آمنت بالح َج ِر‬ ‫آمنت بالل ِه أم َ‬ ‫َ‬ ‫تحفظ ح ّقاً يل فأنت أخي‬ ‫دمت‬ ‫ما َ‬

‫بالحــب وحــده ينتــر الحــب عــى الحقــد األســود‪ ،‬وبالتثاقــف نجتــاز كل مــا يحــول بيننــا‪ ،‬وبــن اآلخــر‬ ‫ـح قلبــي‬ ‫يقـ�ول شـ�اعرنا محمـ�د توفيـ�ق صـ�ادق‪ ،‬وهـ�و محـ ٌّ�ق فيـما يقـ�ول‪ / :‬رحمـاك أخــي‪ /‬دعنــي أفتـ ْ‬ ‫راء‪ ./‬إن رحلــة الحــق تحتــاج مكابــدة وص ـرا ً‬ ‫راء ويف ال ـ ّ‬ ‫حب ـاً‪ /‬ووفــاء‪ /‬اإلنســانُ أخــو اإلنســان‪ /‬يف ال ـ ّ‬ ‫وتح ُّمـ َـل ج ـراح لتنتــر‪ ،‬فالنــر الحقيقــي يبنــى عــى املعانــاة بالحــق وللحــق‪ ،‬ويظــل الفعــل اإلميــاين‬ ‫هــو املحــرك الفاعــل يف وجــدان شــاعرنا‪ ،‬ومــا وضــع مــوىس يف الصنــدوق ســوى تجربــة العبــد املأمــول‬


‫واملوعــود باالنتصــار‪ ،‬وحــن يكــون اإلميــان خبــز الرحلــة يكــون النــر نبيـاً‪ ،‬فــا معنــى لنــر يبنــى عــى‬ ‫جامجــم النــاس‪ ،‬النــر هــو فعـ ٌـل إنقــاذي‪ ،‬وحــن ال يكــون النــر إنقاذيـاً يكــون نـرا ً وغــدا ً‪ ،‬وال يــدوم‪،‬‬ ‫فالدميومــة دامئـاً للتســامي فــوق مــا هــو مرتاكــم مــن فســا ٍد وظــام‪ .‬ومل ينتــر محمــد بــن عبــد اللــه إال‬ ‫بعــد معانــاة ومكابــدة وهجــرة‪ ،‬وجــاءت الهجــرة لتصنـ َع حضــارة واســتقرارا ً قامئـاً عــى العــدل‪ ،‬ورائـ ٌع قول‬ ‫الخليفــة الراشــدي عثــان بــن عفــان‪« :‬ال ت َ َب ِّديـاً بعــد هجــرة»‪ .‬ألن الهجــرة متنــع الباديــة والتبـ ّدي‪ .‬عــاىن‬ ‫محمــد يف ســبيل مــا يدعــو إليــه‪ ،‬ودفــع مثنـاً‪ ،‬والقرابــن تكــون دامئـاً بحجــم الغايــة والهــدف‪.‬‬ ‫ــ ‪ 11‬ــ‬ ‫شــاعرنا محمــد توفيــق صــادق مملــو ٌء بالتاريــخ‪ ،‬والتاريــخ يف شــعره مرايــا‪ ،‬ومرايــاه تصــل املــايض بالحارض‪،‬‬ ‫رصافــة‬ ‫ولــذا يحــاور صاحبــه بعكســه مرايــا التاريــخ عــى واقعنــا املنهــار‪ ،‬ويتســاءل محتجـاً ومعرتضـاً عــى ّ‬ ‫الذهب‪،‬‬


‫املحكــوم بشــعبه‪ .‬ويســتمر شــاعرنا يف تبيــان فضائــل أمتنــا عــى الغــرب مســتعيناً بأحــداث التاريــخ التــي‬ ‫ـرب نفســه‪ .‬وكان يشــر بذلــك إىل األثــر الفينيقــي يف نقــل الحــرف إىل الغــرب الجاهــل‪ ،‬ويشــر‬ ‫يؤكدهــا الغـ ُ‬ ‫إىل دور األندلــس يف إخصــاب الحضــارة الغربيــة وتنميتهــا‪ ،‬لقــد كانــت آثــار العــرب إىل اآلن ماثلــة يف عقــر‬ ‫ديـ�ار حضـ�ارة الغـ�رب‪ ،‬الـ�ذي يتباهـ�ى اليـ�وم بتفوقـ�ه املـ�ادي الجشـ�ع‪.‬‬ ‫ــ ‪ 13‬ــ‬ ‫ويظــل شــاعرنا محمــد توفيــق صــادق منطلق ـاً يف حــواره مــن الفكــر اإلنســاين النظيــف الــذي ســكبته‬ ‫يف صــدره ثقافــة أمتــه القامئــة عــى إنســانية اإلنســان قبــل كل يشء‪ ،‬وتظــل هــذه الــروح مســيطرة عــى‬ ‫حــواره رغــم محــاوالت االســتفزاز التــي ص ّعدهــا صاحبــه أحمــد‪ ،‬وظــل يــرح لــه كيــف اعتنــى العــريب‬ ‫املســلم بصهيــب الرومــي وبــال الحبــي وســلامن الفــاريس‪ .‬ورغــم أنهــم يتحــدرون مــن أصــول غــر‬ ‫عربيــة فقــد رفعتهــم أخــاق العروبــة واإلســام إىل مســتوى صحابــة رســول اللــه‪ .‬ويعجــب شــاعرنا مــن‬ ‫انحيــاز صاحبــه «أحمــد» للباطــل‪ ،‬ففــي فلســطني ظهــرت الصليبيــة بأبشــع صورهــا‪ ،‬وكان ال ـراع بــن‬ ‫قاتــل معتـ ٍـد وقتيــلِ قضيــة ووطــن‪ ،‬ويخاطــب الشــاعر محمــد توفيــق صــادق صاحبــه‪/ :‬يــا أحمدُ ‪/‬كيــف‬ ‫تلــوم املقتــول‪ /‬ومتــدح ســكني القاتــل!‪./‬‬ ‫ــ ‪ 14‬ــ‬ ‫ومــع ذلــك يعــرف شــاعرنا بــأن التخلــف ينخــر كيــان هــذه األمــة التــي مـ ّرتْ عــى الدنيــا مــرور الغيمــة‬ ‫الســكوب بحقــول ظــأى‪ ،‬فأيــن نحــن مــن هــذا املجــد الغابــر الــذي أخصــب الدنيــا بالصهيــل األخــر‬ ‫الــذي أمــرع القلــوب واألرواح قبــل اليبــاب‪ .‬يقــول شــاعرنا بلوعــة العاشــق امللتــاع‪ ،‬ولكــن ببصــرة املفتــش‬ ‫عــن حــلٍ ألزمــات هــذه األمــة‪ ،‬فيقــول‪/ :‬نحتــاج ســفينة إنقــا ٍذ عظمــى‪ /‬تنقلنــا‪ /‬مــن بحــر الظلــات‪/‬‬ ‫تزرعن��ا يف ٍ‬ ‫أرض يابسـ�ة أخــرى‪ /‬ال تنمــو فيهــا اآلفــات‪ ./‬مل يكــن االستســام ســجية يف طبــع شــاعرنا محمــد‬ ‫توفيــق صــادق‪ ،‬وإمنــا يقــرن عنــده فعــل االســتجابة اإليجابيــة لحتميــة تاريخنــا العــريب بالعــودة إىل أرض‬ ‫يابســة لنزرعهــا ونخصبهــا‪ ،‬كــا كانــت االســتجابة األوىل بــوا ٍد غـرِ ذي زرع‪ .‬إن شــاعرنا بهــذه االســتجابة‬ ‫اإليجابيةــ للتحــدي يذكرنــا بقــول الشــاعر عمــر أيب ريشــة وهــو يشــكو أرض العــرب التــي أصبحــت‬ ‫قاحلـ�ة مـ�ن الرجـ�ال‪:‬‬ ‫شئت و َم ِّو ْجــهـا رمـــاال‬ ‫ُر َّدها قـفـرا َء إنْ َ‬ ‫أعطت رجاال‬ ‫ْ‬ ‫نحن نهواها عىل ال َجدْ ب إذا‬ ‫يلتقــي الشــاعران عــى قبــول ومامرســة االســتجابة اإليجابيــة للتحــدي التــي ميارســها أح ـرار هــذه األمــة‬ ‫ومثقفوهــا وشــعراؤها وكل أصحــاب الدرايــة والدربــة فيهــا‪ .‬ويــرى شــاعرنا أن هنــاك عالقــة تكوينيــة بــن‬ ‫األرض العربيــة وأهلهــا‪ ،‬إن األرض التــي تنبــت نخـاً ضــارب الجــذور يف األرض لهــي أرض صلبــة معطــاء‪،‬‬ ‫والنخلــة هــذه صــورة عــن إنســان هــذه الصحـراء التــي تنبــت رجــاالً كــا تنبــت نخيـاً‪ ،‬يقــول شــاعرنا‪/ :‬‬ ‫ال زلــت أبــارك‪ /‬عمتنــا النخلــة‪ /‬قمتهــا رفعتهــا عفتهــا‪ /‬وجوانحهــا ‪ /‬فــوق تخــوم الصحـراء مظلــة‪./‬‬ ‫ــ ‪ 15‬ــ‬ ‫وتـ ُّ‬ ‫ـرق لغــة الشــاعر عذبــة حــن يتخلــص مــن فرائــض صياغــة الحــدث التاريخــي ليــذوب يف كلامتــه‬ ‫ودفاتــر حبــه التــي مألهــا يف «شــحيم» حيــث الــرؤى‪ ،‬وحيــث مالعــب الصبــا وذكريــات الزمــن الــذي ال‬ ‫ميــوت‪ ،‬وكيــف ميــوت ذلــك الزمــن «والذكريــات صــدى الســنني الحــايك” كــا يقــول أحمــد شــوقي‪ .‬وعــامل‬


‫ســارقي دم الشــعوب‪ ،‬فهــل مــن العــدل أن يهــدم وطــن لتبنــى عنرصيــة! فهــل نحــن هابيــل املجنــي‬ ‫عليــه لنكــون جنــاة؟‪ ،‬و‪/‬هــل نحــن بقايــا حملــة أصحــاب الفيــل‪ /‬حتــى ترجمنــا طــر أبابيل‪/‬بحجــا ٍر مــن‬ ‫سـ�جيل‪./‬‬ ‫الفعــل االســتعامري لــن يكــون حضاريـاً مهــا لبــس مــن أقنعــة‪ ،‬حتــى ولــو جلــب نابليــون بونابــرت معــه‬ ‫لــواء مــن العلــاء يــوم غـزا مـرا ً‪ ،‬فاالســتعامر يبقــى اســتعامرا ً‪ ،‬ولــو ســموه رســالة األبيــض إىل األســود‪،‬‬ ‫وإذا كانــت الحضــارة الغربيــة قــد بلغــت أ ْو َجهــا‪ ،‬كــا تدعــي فلــاذا قتلــت الشــيخ الثائــر التســعيني‬ ‫عمــر املختــار‪ ،‬يتســاءل شــاعرنا‪ ،‬وملــاذا يدعمــون ظاملـاً ضــد مظلــوم‪ ،‬وملــاذا يقتلــون الفتــاة الفلســطينية‬ ‫دالل املغــريب؟ وملــاذا يســجنون جميلــة بوحــرد الجزائريــة الثائــرة مــن أجــل حريــة شــعبها‪ /‬وملــاذا‪ ،‬وملــاذا‪،‬‬ ‫أســئلة يطرحهــا شــاعرنا محمــد توفيــق صــادق عــى صاحبــه‪ .‬إذ كيــف تســتقيم حضــارة مبنيــة عــى‬ ‫البغــي والعــدوان؟ ومــا نفــع اآللــة العظيمــة إذا مل تتحكــم يف عملهــا روح عظيمــة‪ .‬تلــك أســئلة ال يجيــب‬ ‫عليهــا ســوى العــدل وانتصــار الحــق عــى الباطــل‪ .‬إن الظلــم مهــا اشــتدت شــوكته يجــب أن تهزمــه‬ ‫عدالـ�ة القضي��ة التـ�ي اعتـ�دى عليه��ا‪ .‬يقــول شــاعرنا ناســخاً قــوة املعتــدي بقــوة هدالــة قضيــة املعتــدى‬ ‫عليــه‪/ :‬لكــن الظلــم الهــواليك املمقــوت‪ /‬خـ ّر رصيعـاً يف عــن جالــوت‪ ./‬وتســتمر أدلــة الشــاعر عــى ظلــم‬ ‫الغــريب الــذي ينتمــي ألبنــاء حضــارة جــاؤوا «مــن الغــرب املســعو ْر‪ُ /‬ه ّدا َم قصــو ْر‪ ،‬وبُنــا َة قبــو ْر» كــا يقــول‬ ‫شــاعرنا عمــر أبــو ريشــة‪ .‬إن كــرة األدلــة التــي ق ّدمهــا شــاعرنا لصاحبــه املنتــر ل ُبنــا ِة الحضــارة الغربيــة‬ ‫تثبــت حتميــة انتصــار معســكر اإلميــان عــى الحضــارة القويــة التــي ال تحمــل روحـاً‪ .‬إن قضيــة فلســطني‬ ‫تنغــرز بعمــق يف ثقافــة شــاعرنا محمــد توفيــق صــادق ويف وجدانــه حتــى لــكأن غــزة املطمــورة تحــت مــا‬ ‫يهدمــه العــدوان هــي نفســها بلدتــه اللبنانيــة شــحيم‪ ،‬يقــول‪ ،‬وهــو غــارق يف الجــرح الفلســطيني حتــى‬ ‫الشــهادة‪/ :‬وأنــا مل أدف ـ ْن غــزةْ‪ /‬تحــت األنقــاض رمــاد‪ /‬مل أقتــل أطفــاالً كانــت تحلــم‪ /‬يف عيــد امليــاد‪/‬‬ ‫كانـ�ت تشــعل أضوــاء وش��موعاً‪ /‬يف مولـ�د عيــى الن��ور‪ /‬مل أبقـ�ر بطنــ الحب�لى‪ /‬يف أرض يس��وع‪ ./‬وكان‬ ‫وجــع الشــاعر محمــد توفيــق صــادق مــن أجــل بغــداد كبـرا ً‪ ،‬ويف رصخــات تحمــل مــا يف أعامقــه مــن أىس‬ ‫وتفجــع راح يقــول‪/ :‬وأنــا مل أزحــف بجيـ ٍ‬ ‫ـوش جـرارة‪ /‬بـرا ً بحـرا ً جــوا ً‪ /‬يك أشــنق يف بغــداد‪ /‬رئيسـاً رشعيـاً‪/‬‬ ‫رمزــا ً قوميـ�اً عربي�اـً‪./‬ويف غ ـزارة معلوماتيــة ذكيــة وكاشــفة وصادقــة يعــدد مــا فعلتــه الحضــارة الغربيــة‬ ‫باإلنســان‪ .‬لقــد جعلــت اإلنســان آلــة يف مركبــة تتحــرك للدمــار‪.‬‬ ‫ــ ‪ 12‬ــ‬ ‫وبعدهــا يزدحــم الحــوار بــن الشــاعر وصديــق مغــرب‪ ،‬ويكــون الشــاعر محامــي الحــق‪ ،‬ومحــاوره محامي‬ ‫الشــيطان‪ .‬ويتجــى ذلــك يف طروحــات كل منهــا‪ ،‬فالشــاعر محمــد توفيــق صــادق يقــف يف خنــدق أمتــه‬ ‫ذائــدا ً ومدافغ ـاً ومب ِّين ـاً فضائــل أمتــه عــى ســائر أمــم األرض مبــا حملتــه مــن إميــان‪ ،‬ومــا اختزنتــه مــن‬ ‫كــرم األخــاق‪ .‬أمــا صاحبــه فهــو ميثــل الطــرف املنحــاز املتحامــل‪ ،‬الــذي يســتغل الوضــع العــريب لتشــويه‬ ‫صــورة األمــة‪ ،‬وإعالنهــا أمــة غــر جديــرة بالحيــاة‪ ،‬تدعــم األرهــاب‪ ،‬وتقتــل النــاس‪ .‬وإليضــاح الفكــرة التــي‬ ‫ميثلهــا كاره األمــة يصفــه الشــاعر مبــا يطفــح خارجــه لينقــل داخلــه‪ .‬ويلخــص شــاعرنا رأي خصمــه بقولــه‬ ‫عــى لســانه‪/ :‬فالشــعب الع��ريب غب��ي‪ /‬يف كل م��كان‪ ./‬ويحــاول جاهــدا ً تبيــان مزايــا الغــرب املتقــدم‬ ‫مباهي ـاً بهــا‪/ :‬فالغــرب مشــاعل نــور‪ ./‬إن الواقــع املأســاوي الــذي تعــاين منــه أمتنــا اليــوم كان يســاعده‬ ‫يف كيــل التهــم لواقعنــا العــريب املــردي‪ .‬ويركــز هــذا الخصيــم املبــن عــى املتكلمــن باســم اإلســام‪ ،‬وقــد‬ ‫وقت�لـ أبريــا ٍء‪ .‬ويركــز عــى ظاهــرة الظلــم والســجون‪ ،‬ومــا يفعلــه الحاكــم العــريب‬ ‫مــأوا األرض إرهاباــً َ‬


‫األع�لى دامئـاً‪ ،‬وارتبــاط العروبــة باإلميــان هــو الــذي صانهــا مــن الــزوال وألبســها ثيــاب الخلــود‪ ،‬وإذا كانــت‬ ‫للحضــارات أعــا ٌر كالبــر‪ ،‬فــإن الحضــارة التــي تقــوم عــى اإلميــان عمرهــا يكــون بطــول عمــر الزمــان‪.‬‬ ‫وهــذه هــي العروبــة الخالــدة بقيمهــا ورســالتها التــي جعلــت األرض مرتبطــة بالســاء عــى صــدى صــوت‬ ‫صــدح عاليـاً مــن عــى ســطح بيــت ابــن األرقــم «أللــه أكــر»‪ .‬ال بــد مــن اســتجالء العروبــة مــن قلــوب‬ ‫صادقــة كقلــب صديقنــا الشــاعر محمــد توفيــق صــادق‪.‬‬ ‫وإذا كان ال بــد مــن تســجيل مالحظــة ســيتوقف النقــاد حولهــا حــن يقــرأون هــذه امللحمــة فهــي انشــغال‬ ‫الشــاعر بالحــدث التاريخــي عــن رضورات الــرف الصياغــي‪ ،‬وعــذر الشــاعر هنــا هــو أن إخالصــه ألمتــه‬ ‫جعلــه يغــوص يف بريــق الحــدث التاريخــي وملعانــه وتعاليــه عــى الشــعر نفســه أحيانـاً‪ .‬لقــد ض ّحــى بكثري‬ ‫ـهل النقــد‪ ،‬ومــا‬ ‫ـي التاريــخ حقــه‪ .‬وكــم هــو رائــع والفــت قــول الناقــد الفرنــي ‪“ :‬مــا أسـ َ‬ ‫مــن ذاتــه ليفـ َ‬ ‫أصعــب الفــن”‪ .‬إن الــكالم الــذي نستســهل قراءتــه يوجــب علينــا أن نتذكــر كــم عــاىن صاحبــه لخلقــه‬ ‫وســكب ذاتــه فيــه‪.‬‬


‫القري�ةـ ب��كل أبجديات��ه يح�ضر قويـ�اً يف ه��ذه امللحم�ةـ مرتديـ�اً لغـ�ة أخــرى‪ ،‬وهــي لغــة مأخــوذة مــن‬ ‫أروقــة الزمــن الجميــل وحكايــاه وأعراســه وتنانــر خبــزه الــذي ال تـزال روائحــه اللذيــذة يف آنافنــا حتــى‬ ‫اليــوم‪ .‬وأزقــة القريــة التــي كان طينهــا أكــر حضــورا ً يف وجــدان شــاعرنا محمــد توفيــق صــادق أكــر مــن‬ ‫ناطحــات الســحاب تحــر غــر ممحــو ٍة مــن تكويــن شــاعرنا ابــن الجبــل األشــم وابــن القريــة التــي ال‬ ‫ت��زال غ��ذاء روح��ه الده��ري‪.‬‬ ‫واملــايض مل يحــر بصــوره املاديــة وحدهــا‪ ،‬بــل حــر أيض ـاً بأصواتــه الشــجية‪ ،‬وحــن يظــل الصــوت‬ ‫الشــجي حــارضا ً بعــد ســنوات طويلــة‪ ،‬فإنــه يعنــي امتــاء شــاعرنا بالحنــن للعــودة إىل ذلــك العــامل الخالّب‬ ‫اململــوء بالشــجى والحنــن والغربــة‪ .‬ولعــل حضــور الصــوت هــو مــن أكــر عنــارص التكويــن حضــورا ً يف‬ ‫الــذات اإلنســانية‪ ،‬ألن للصــوت ارتجــاج حميــم اليــرح‪ ،‬ويظــل يوقــظ مــا نــام مــن الذكريــات عــى أرصفــة‬ ‫الغربــة ومــدن اإلســفلت‪ .‬إن كثافــة الغربــة بحضورهــا املوجــع جعلــت شــاعرنا القــروي رشــيد ســليم‬ ‫الخــوري يقــول يف ســكان مــدن اإلســفلت‪:‬‬ ‫أنيس به ْم ومدين ٌة لكنها ق ْف ُر‬ ‫ناس ولك ْن ال َ‬ ‫ٌ‬ ‫وقبلــه قــال لــوركا شــاكياً مــن غربــة الــروح يف املــكان املزدحــم‪ ،‬والخــايل إال مــن الذكــرى التــي توقــظ‬ ‫ـن قلوب ـاً‬ ‫األشــياء وتبعثهــا مــن خفايــا الزمــن الخــايل‪ ،‬يقــول لــوركا‪“ :‬الشــوارع مقفــرة‪ ،‬ويف أعامقهــا نتبـ ّ ُ‬ ‫أندلســية”‪ ،‬فالحيــاة الحقيقيــة هــي مــا تخلعــه الــروح عليهــا مــن منابعهــا هــي‪.‬‬ ‫معــه ســننصت للغــة القريــة الحميمــة التــي مــا زالــت مســجلة عــى أرشطــة روح شــاعرنا محمــد توفيــق‬ ‫ـت دفاتــر أشعــاري‪ /‬وحكاي��ا قريتن��ا األح�لى‪/‬‬ ‫صــادق‪ / :‬يف باــيل الريـ�ف‪ /‬وأح�لام الجـ�رد األع�لى‪ /‬ج ّمعـ ُ‬ ‫والن��اي ومزم��ا ُر الغج��رِ‪/‬‬ ‫ورباه��ا الغض��ة‪ /‬وش��باب الدبك��ة والصهج��ة‪ /‬والري�سـ قاس��م والط ّب��ال شـ�فيق‪/‬‬ ‫ُ‬ ‫وأغـ�اين الفرحــة والبهجـ�ة‪ /‬وبديع��ة ترقصــ يف الحلبـ�ة‪ /‬وتـ�رش العطـ�ر‪ /‬ومـ�اء الزهـ�ر‪ /‬والضيعــة يف أبهــى‬ ‫حلـ ٍـم‪/‬‬ ‫والشــاعر يف بنائــه القــروي الداخــي مل يتهــدم منــه يشء‪ ،‬وإذا جــال القريــة ظـ ّـل مهيمنـاً عــى وجدانــه‬ ‫فإنــه مل ينــس عــادات القريــة املرتبطــة بأهلــه وبانتامئــه ألمــة تحمــل ســجايا وفضائــل ال ينكرهــا حتــى‬ ‫أعــداء األمــة‪ .‬فهــو حــن رحــل مغرتبـاً مل يرحــل وحــده‪ ،‬بــل حمــل معــه تلــك العــادات التــي رشبهــا مــن‬ ‫ـت املفتــوح‪/‬‬ ‫ـت الريــف عــى كتفــي‪ /‬البيـ َ‬ ‫مـ�اء القريـ�ة وأكلهـ�ا مـ�ن خبـ�ز تنانريهـ�ا‪ .‬يقـ�ول شـ�اعرنا‪/ :‬أرسجـ ُ‬ ‫ّأن نذهــب‪ /‬وأوان نعــود‪ /‬ووصايــا أمــي وأيب امللهــوف‪./‬‬ ‫وإزاء هــذ الغمــر القــروي املســطر عــى وجــدان الشــاعر وســلوكه يتــرم بالغربــة شــاكياً معذبـاً مــن مــن‬ ‫وطــن ضائع‪/‬ممتــد يف غــاب مصانــع‪ /‬ومعامــل‪ ./‬والغربــة لشــدة قســوتها تجعــل كل مــا يف الوطــن جميــا‬ ‫حتــى ولــو كان مؤذي ـاً أحيان ـاً «وبضدهــا تتاميــز األشــياء»‪ .‬والغربــة يف ملحمــة الشــاعر محمــد توفيــق‬ ‫كأس الغربــة‪ /‬يــزد ْد للوطــن األم مح ّبــة‪./‬‬ ‫صــادق تدنيــك مــن الوطــن بقســاوتها‪:‬من يــرب َ‬ ‫ــ ‪ 16‬ــ‬ ‫ـي شــاعرنا الصديــق الحبيــب‪ ،‬وأُكـ ِـر فيــه إخالصــه لعروبتــه اإلنســانية ذات‬ ‫يف هــذه املقدمــة أريــد أن أح ّيـ َ‬ ‫الحضــارة املمتــدة كالشــمس‪ ،‬والوارفــة كالظــال‪ .‬إنــه يؤكــد حبــه لعروبتــه يف زمــن أصبحــت فيــه العروبــة‬ ‫تهمــة‪ .‬وأجمــل مــا يف عروبــة الشــاعر محمــد توفيــق صــادق أنهــا عروبــة وفيــة خالصــة مــن الزيــغ‬ ‫والنفعي��ة إنه��ا عروب��ة س��محاء كالن�وـر ال مكرـ ٌـ وال ُعقَ��د‪ .‬إنهــا عروبــة اإلميــان الــذي يوجــه اإلنســان باتجــاه‬



‫لغة الضَّ اد‬ ‫د‪.‬هويدا رشيف‬ ‫لغــة القــرآن ‪،‬لغــة الضــاد هــو اإلســم الــذي يُطلقــه العــرب عــى لغتهم‪ ،‬فالضاد‪ ‬حــرف‬ ‫يختـ�ص ب��ه العرــب‪،‬وال يوج��د يف كالم العج��م إال يف القليل‪ .‬ولذلــك قيــل يف قــول‪ ‬أَيب الطيــب‬ ‫املتنبـ�ي‪:‬‬ ‫نطق الضَّ ا َد وع ْو ُذ ال َج ِان و َغ ْو ُث الطَّرِي ِد‬ ‫وبه ِْم فخ ُر ِّ‬ ‫كل م ْن َ‬ ‫إ َّن اللغــة العربية‪،‬لغــة الضــاد ‪،‬لغــة مفخــرة العــرب تشــكو جهــل أبنائهــا بها‪،‬وعــدم وقوفهــم عىل‬ ‫مواطــن الجــال فيهــا‪ ،‬فتجــد يف قراءتهــم لهــا لحن ـاً‪ ،‬ويف صياغتهــم لهــا ركاكــة وضعفاً‪ ،‬فكيــف‬ ‫يجــب أن نفهمهـ�ا ونتدبَّــر معانيهــا ؟ وكيــف نســتطيع إدراك قــوة أســلوبها البيــاين‪ ،‬وعذوبــة‬ ‫ألفاظهــا‪ ،‬وغـزارة معانيهــا وجزالتهــا ؟‪ ‬‬ ‫ألن مــن أغــرب املدهشــات أن تنبــت اللغــة العربيــة ‪ ،‬اللغــة القوميــة وتصــل إىل درجــة الكــال‬ ‫وســط الصحــارى عنــد أمــة مــن الرحــل ‪ ،‬تلــك اللغــة التــي فاقــت أخواتهــا بكــرة مفرداتهــا‬ ‫ودقــة معانيهــا ونظــام مبانيهــا ‪،‬ومل يعــرف لهــا يف كل أطــوار حياتهــا طفولــة وال شــيخوخة وال‬ ‫نــكاد نعلــم مــن شــأنها إال فتوحاتهــا وانتصاراتهــا التــي ال تبــارى وال تعــرف شــبيها بهــذه اللغــة‬ ‫التــي ظهــرت للباحثــن كاملــة مــن غــر تــدرج وبقيــت حافظــة لكيانهــا مــن كل شــائبة‪.‬‬ ‫ويكفينــا رشفـاً عــن العــرب ‪ ،‬أنهــا الوســيلة التــي اختــرت لتحمــل رســالة اللــه النهائيــة ‪،‬وليســت‬ ‫منزلتهــا الروحيــة هــي وحدهــا التــي تســمو بهــا عــى مــا أودع اللــه يف ســائر اللغــات مــن‬ ‫قــوة وبيــان ‪،‬أمــا الســعة فاالمــر فيهــا واضــح ومــن يتبــع جميــع اللغــات ال يجــد فيهــا عــى مــا‬ ‫ســمعته لغــة تضاهــي اللغــة العربيــة ويضــاف جــال الصــوت اىل ثروتهــا املدهشــة يف املرتادفات‬ ‫وخصائصهــا الجمــة ال تختــر يف االســلوب والنحــو فحســب بــل مــن ناحيــة ايصــال املعنــى وانها‬ ‫لتديــن حتــى يومنــا هــذا مبركزهــا العاملــي لهــذه الحقيقــة الثابتــة‪.‬‬ ‫فالعبــارة العربيــة كالعــود ‪،‬اذا نقــرت عــى أحــد اوتــاره رنــت لديــك جميــع االوتــار وخفقــت ثــم‬ ‫تحـ ّرك اللغــة يف اعــاق النفــس مــن وراء حــدود املعنــى املبــارش موكبـاً مــن العواطــف والصــور‬ ‫‪ ،‬فقــد أدخلــت يف الغــرب طريقــة التعبــر العلمــي والفنــي ‪.‬‬


‫ولذلــك فإننــا نلقــي اللــوم عــى املثقفــن العــرب الذيــن مل يتقنــوا لغتهــم فهــم ليســوا ناقــي‬ ‫الثقافــة فحســب بــل يف قوميتهــم العربيــة ‪،‬الن اعتيــاد اللغــة يؤثــر يف العقــل والخلــق والديــن‬ ‫تأثـرا ً بينـاً وإن كان فهــم الكتــاب فــرض وال يفهــم اال بفهــم اللغــة العربيــة ومــا ال يتــم الواجــب‬ ‫اال بــه فهــو واجــب وبالتــايل فــإن هــؤالء العــرب الذيــن يدعــون الثقافــة فهــم بعيــدون كل‬ ‫البعــد عــن الثقافــة ألن مــا مــن ثقافــة تنبــت وتوجــد إال بفعــل اتقــان اللغــة وليســت اي لغــة‬ ‫فإنهــا لغــة الضــاد لغــة القــرآن الكريــم ‪،‬فإمنــا يعــرف فضــل القــرآن مــن عــرف كالم العــرب‬ ‫فعــرف علــم اللغــة وعلــم العربيــة وعلــم البيــان ونظــر يف أشــعار العــرب وخطبهــا ومقاوالتهــا‬ ‫يف مواطــن افتخارهــا ورســائلها ‪ ...‬فــا ذلــت لغــة شــعب إال ّ‬ ‫ذل وال انحطــت إال كان أمــره يف‬ ‫ذهـ�اب وإدبـ�ار ‪.‬‬ ‫خالصــة القــول ‪ ،‬إن اللغــة العربيــة خــر اللغــات وااللســنة وال بــد مــن اإلقبــال عــى فهمهــا ولو مل‬ ‫يكــن اإلحاطــة بخصائصهــا والوقــوف عــى مجاريهــا وتصاريفهــا والتبحــر يف جالئلهــا وصغائرهــا‬ ‫اال قــوة اليقــن يف معرفــة اإلعجــاز القــرآين وزيــادة البصــرة بأهميتهــا فكيــف يســتطيع اإلنســان‬ ‫أن يقــاوم جــال اللغــة ومنطقهــا الســليم وســحرها الفريــد؟ فجـران العــرب أنفســهم يف البلــدان‬ ‫التـ�ي فتحوهـ�ا س��قطوا رصع�ىـ س��حرها‪.‬وإن الــذي مــأ اللغــات محاســن ‪ ...‬جعــل الجــال ورسه‬ ‫يف الضاد‪.‬فهــل ســيربهن جــروت الـراث العــريب الخالــد عــى أنــه أقــوى مــن كل محاولــة يقصــد‬ ‫بهـ�ا رحرحـ�ة العربيـ�ة الفصحـ�ى عـ�ن مقامهـ�ا املسـ�يطر؟ وكيــف سنســاهم يف محــاوالت إنقــاذ‬ ‫اللغــة العربيــة مــن الضعــف‪ ،‬وحاميتهــا مــن الــردي يف التغريــب وطمــس الهويــة؟‪ ‬‬ ‫وهل ستصدق البوادر وتخطئ الدالئل وستحتفظ العربية بهذا املقام العتيد؟‬




‫شاعرة من بالدي‬ ‫عمر شبيل‬ ‫ــ ‪ 1‬ــ‬ ‫هيــام حيــدر شــاعرة تســكن يف الشــعر‪ ،‬ويســكنها‪ ،‬حتــى لكأنــه بيتهــا الــذي تــأوي إليــه كلــا شــعرتْ بــأن‬ ‫قلقـاً يالحقهــا أو هـ ّـاً يطاردهــا أو حلـاً يراودهــا ليــرق وميضـاً ينــدر أن تنالــه أدوات البحــث املجــردة‬ ‫مــن اللهــب القــديس الــذي يحــق لــه وحــده أن تنــام عــن شــوارده وهــو غــاف عــى أوراق مبعــرة قــرب‬ ‫وس�اـدتها املبلل�ةـ بدم��وع قلبهــا الحـ�اين عـلى الدني��ا هذــه هيــ هي��ام س��ليامن‪ .‬إن��ها شــاعرة بســلوكها‬ ‫وكلامتهــا‪ ،‬وهــذا تـراه واضحـاً يف كل انفعاالتهــا الوجدانيــة املهيمنــة عــى ديوانهــا مــن ألفــه إىل يائه‪ .‬وحني‬ ‫يكــون الصــدق حـ َر الشــعر املكتــوب فإنــك ســتغفر للشــاعر مــا عــداه‪ .‬ألن الشــعر رســالة كــا تـراه هيــام‬ ‫حيــدر‪ ،‬وكــا يـراه كل الرائــن الذيــن تعاملــوا مــع الكلمــة باعتبارهــا كانــت يف البــدء وســتبقى يف النهايــة‪،‬‬ ‫وهــي بهــذا املعنــى تنتمــي إىل اللــه‪ .‬فالكلمــة يف الشــعر كــا يف الوحــي هــي النــور الكاشــف لــكل يشء‬ ‫وهــي املدخــل إىل وجــدان اللــه املتســع لنــا جميعــا‪ .‬واللــه يف كتــاب العــرب واإلنســانية جعــل الكلم ـ َة‬ ‫ـم ربُّــه بكلـ ٍ‬ ‫ـات فأمتّهــن‪ ،‬قــال إين جاعلــك للنــاس إمام ـاً‪ ،‬قــال ومــن‬ ‫نفســه‪“ :‬وإذِ ابتــى إبراهيـ َ‬ ‫اإلميــا َن َ‬ ‫ذريتــي‪ ،‬قــال ال ينــال عهــدي الظاملــن» ســورة البقــرة ‪ ./124‬مل تكتمــل نب ـ َّوة إبراهيــم إال بعــد املــرور‬ ‫ع�لى التجرب��ة‪ ،‬وه��ي الكلم��ة الت��ي تح ّول��ت إىل عه��د يف آخرــ اآليـ�ة‪ .‬وبهــذا التحــول كان الكلمــة بــدء‬ ‫اإلميــان‪ ،‬أي بــدء الوجــود‪ ،‬ويف البــدء كانــت الكلمــة‪ ،‬ألن اإلميــان هــو املوجــود األول يف اإلنســان‪ ،‬والتألُّـ ُه‬ ‫موجــود يف الغرائــز كــا يقــول أبــو العــاء املعــري‪ .‬مــن هنــا نصــل إىل الرتابــط والتواصــل بــن الكلمــة‬ ‫ودورهــا الرســايل يف حيــاة البــر‪ ،‬فــإذا كانــت الكلمــة هــي البــدء فهــذا يعنــي أن اإلميــان هــو املوجــود‬ ‫ـذب اإلنســان وهــو‬ ‫األول‪ ،‬واالنزيــاح عــن صــدق الكلمــة هــو انزيــاح عــن اإلميــان نفســه‪ .‬فــا ميكــن أن يكـ َ‬ ‫مؤمـ�ن‪ ،.‬فالصـ�دق هـ�و املدخـ�ل الحقيقـ�ي إىل اللـ�ه وملكوتـ�ه‪.‬‬ ‫ــ ‪ 2‬ــ‬ ‫كلــات هيــام حيــدر صادقــة‪ ،‬صادقــة يف أدائهــا‪ ،‬وصادقــة يف كل تفرعاتهــا الدالليــة‪ ،‬وهــذا يعنــي أنهــا‬ ‫تحم��ل قيـماً جامليـ�ة‪ ،‬وقيمـاً إبداعي��ة حيــث اإلبــداع مدخـ ُـل مــكارم األخــاق يف الــذات اإلنســانية‪ ،‬إذ ال‬ ‫إبــداع مبنــأى عــن الجــال الكامــن يف الصــورة والحــس وااللتـزام‪ ،‬واللــه سـ ّمى نفســه «بديــع الســاوات‬ ‫درب مــن دروب اإلميــان‪ ،‬وكل بدي ـعٍ يـ ُّ‬ ‫ـدل عــى املبــدعِ‪،‬‬ ‫واألرض» يف محكــم تنزيلــه‪ ،‬فــكل إبــداع هــو ٌ‬ ‫وبهــذا يغــدو اإلبــداع عمـاً أخالقيـاً‪ ،‬ورشطــه الصــدق النابــع مــن الوجــدان‪ .‬إذ ال إبــداع يف حقــول الكذب‪،‬‬ ‫ففــي حقــول الكــذب ال ينبــت إال الشــوك والغرقــد‪ .1‬صــدق هيــام حيــدر يعيــدك إىل عــامل القريــة اململــوء‬ ‫صفــاء ووضوحـاً‪ ،‬وألن الكــذب أشــبه بالغيــم الخــايل مــن املطــر حــن ميــر يف األجــواء النقيــة فــإن إحســاس‬ ‫هيــام حيــدر القــروي النقــي واضــح يف أدائهــا الوجــداين املســتجيب لنزعــات الداخــل بــا أقنعــة وكــذب‪،‬‬ ‫هــي شــعرها‪ ،‬وشــعرها هــي‪ .‬وكــم هــو جميــل أن يكــون اإلنســان كلمتــه‪ .‬ووضــوح األداء يجعــل الكلمــة‬ ‫�ير البس�� ٍة أقنع��ة‪ ،‬وغ�ير مطلي��ة بزبـ�د القــول وســاقطه‪ .‬إنهــا جريئــة بإظهــار مكنــون عشــقها‬ ‫جريئ��ة وغ َ‬


‫والـ�روح يف آن‪ .‬القـ�رى التـ�ي هـ�ي أتـ�راب لهـ�ا غبطتهـ�ا‪ ،‬وحسـ�دتْها “وقدمي ـاً كان يف النــاس الحســد” كــا‬ ‫يقــول عمــر بــن أيب ربيعــة‪ .‬ولكــن هــذه الغبطــة جعلــت القــرى األخــرى تواكــب بدنايــل يف رحلــة‬ ‫الوعــي والفكــر والجــال‪ .‬إن شــمس البقــاع دامئ ـاً تدنــو لتدخــل قرانــا ذات الدفــق املعطــاء‪ ،‬وعــى كل‬ ‫املســتويات‪ .‬واألعــى يف هــذه القريــة البقاعيــة هــو انتامؤهــا لثقافــة ممتــدة يف تكوينهــا االجتامعــي‬ ‫والفكــري‪ ،‬ويأخــذك اإلعجــاب أكــر باتجــاه تلــك النزعــة العروبيــة التــي هــي يف بدنايــل موجــودة يف‬ ‫أصــول البــاد والعبــاد‪ .‬لقــد ســبق الوعــي القومــي العــريب يف بدنايــل قــرى كثــرة فعرفــت شــعراء عروبيــن‬ ‫ومنتمــن ألحـزاب قوميــة قبــل تفتــح الوعــي يف كثــر مــن قرانــا البقاعيــة الحبيبــة‪ .‬كنــا يف مطلــع أعامرنــا‬ ‫التــي ُهـ ِـدرتْ نذهــب إىل بدنايــل لرؤيــة الجــال‪ ،‬فيأخذنــا الوعــي الثقــايف واالجتامعــي والســلويك إىل‬ ‫مــا هــو أبعــد بكثــر مــن الجــال املســتبد مبشــاعرنا يف مراحــل تفتحهــا‪ ،‬فنغــرق يف نش ـ َو ْتي كــا يــرى‬ ‫شــاعرنا الحســن بــن هانــئ‪ .‬ويــروق يل أن أقــرأ معكــم هــذه األبيــات الصادقــة والجميلــة للشــاعرة هيــام‬ ‫ـس بشــدة انجــذاب هيــام‬ ‫حيــدر‪ ،‬وهــي تخاطــب قريتهــا األثــرة «بدنايــل»‪ ،‬وحــن تقــرأ هــذه األبيــات تحـ ُّ‬ ‫ـس النواهــد واملَــاب‪:‬‬ ‫لبدنايلهــا وانصهارهــا يف ُمك ِّوناتهــا‪ ،‬وكأنــك فيهــا تــرى وتش ـ ّم لَ ْعـ َ‬ ‫ِ‬ ‫ألنك خري من يلهو بقلبي‬

‫فليست جار َة الوادي ِ‬ ‫سواك‬

‫قلب أن ير ِ‬ ‫خصال ُِك منذ أن س ّو ِ‬ ‫اك‬ ‫رب تُ َح ِّر ُض َّ‬ ‫كل ٍ‬ ‫اك ّ‬ ‫العواصف يف ذر ِ‬ ‫ِ‬ ‫اك‬ ‫وتقتتل‬ ‫ُ‬ ‫بحضنك الوادي ويصحو‬ ‫ينا ُم‬ ‫ُ‬ ‫الجامل فال ٌ‬ ‫ُ‬ ‫جامل‬ ‫ويسك ُن ِك‬

‫امت ِ‬ ‫فاك‬ ‫النس ُ‬ ‫إذا مل ِ‬ ‫تلثم َ‬

‫الرشفات تلهو‬ ‫ُ‬ ‫«بدنايل»‬ ‫َ‬ ‫ويف‬

‫ٍ‬ ‫بنس ٍ‬ ‫رقيقات حوايك‬ ‫امت‬ ‫ْ‬

‫بدنايل األحال ُم تغدو‬ ‫ُ‬ ‫ويا‬

‫ِ‬ ‫حامك‬ ‫حقائق حني ندخل يف‬ ‫َ‬

‫ـت عليــه‪ ،‬يشــتد أىس هيــام حــن‬ ‫بدنايــل حــارضة الجــال والوعــي يف البقــاع‪ ،‬وال ت ـزال متفــردة فيــا منَـ ْ‬ ‫تبتعـ�د عـ�ن قريتهـ�ا‪ ،‬فتناجيهـ�ا مناجـ�اة الشـ�اعر الطَلَـلي القديـ�م املسـ�فوح يف مغـ�اين ديـ�ار مـ�ن يحـ�ب‪،‬‬ ‫وطلليـ�ة هيـ�ام سـ�ليامن ليسـ�ت طلليـ�ة دارسـ�ة‪ ،‬وإمنـ�ا هـ�ي طلليـ�ة الغيـ�اب املسـ�تبد بالعـ�ودة والحـ�اين عليها‪.‬‬ ‫ـي عــى الحــي‪/ :‬فعمـ�ي صباحـ�اً واسـ�لمي يـ�ا داري‪ ،/‬وتعــي‬ ‫هيــام ســليامن ت َُسـلِّ ُم عــى قريتهــا ســا َم الحـ ِّ‬ ‫هيــام معنــى حبهــا لحجــارة قريتهــا وجدرانهــا كــا وعاهــا قيــس بــن امللـ َّوح‪:‬‬ ‫حب الديار شغف َن قلبي‬ ‫وما ُّ‬

‫حب من سكن الديارا‬ ‫ولك ْن ُّ‬

‫إن أنســنة الديــار تنقذهــا مــن كينونــة األحجــار‪ ،‬واســتطاع ابــن الرومــي الشــاعر العبــايس أن يــدرك‬ ‫الحقيقــة الوجدانيــة بــن املــكان واإلنســان‪ ،‬يقــول ابــن الرومــي‪:‬‬ ‫ِ‬ ‫الشباب هنالكا‬ ‫مآرب قضَّ اها‬ ‫إليهم‬ ‫وح َّب َب أوطانَ‬ ‫الرجال ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ْهم عهو َد ِ‬ ‫الصبا فيها فح ّنوا لذلكا‬ ‫َهم ذكَّرت ُ‬ ‫إذا ذكروا أوطان ْ‬


‫وعاطفته��ا يف أزمن��ة صعب��ة‪ .‬تق�رـأ يف ش�عـر هي��ام س��ليامن ش��عرا ً يخــرق امل�كـان‪ /‬القريـ�ة‪ ،/‬ويخــرق الزمــن‬ ‫االجتامعــي يف آن‪ .‬وهــذه الجــرأة لهــا بعـ ٌد حضــاري يحتاجــه مجتمعنــا املصــاب بوبــاء األقنعــة املُسـ َدلة‬ ‫عــى املشــاعر‪ ،‬وليــس عــى الجســد‪ .‬يف شــعر هيــام انكشـ ٌ‬ ‫ـاف واضــح وكشــف أكــر وضوح ـاً‪ ،‬فالكشــف‬ ‫يفــي إىل االنكشــاف‪ ،‬ويفــي إىل متزيــق األقتعة‪.‬وهــذا هــو دور الشــعر مــذ خلِـ َـق الشــعر‪ ،‬فــا قيمــة‬ ‫للش��عر م��ا مل يك�سر القي�دـ‪ ،‬ويتجـ�رأ ع�لى الظل�مـ‪ ،‬وع�لى جفــاف الفكــر وعقمـ�ه ‪ .‬إن جفــاف الفكــر يعنــي‬ ‫ت َ​َص ُّح�� َر الحض��ارة‪ ،‬وجف��اف عطائهـ�ا الناب��ع مــن فعــل االقتح��ام مل��ا هــو ثابــت‪ .‬مهمةــ الشــعر أن ميـ َّر عــى‬ ‫الحواجـ�ز غ�ير عابئــ برشط ِّيهـ�ا االجتامع��ي املوظَّـ�ف م��ن ِق َبــلِ السلــطة‪ ،‬والعــادة والتقاليــد املمغطــاة‬ ‫بالغب��ار‪ .‬يف شــعر هيــام جــرأة واعيــة‪ ،‬يتم ّناهــا التقليديــون‪ ،‬ولكنهــم يخافونهــا‪ ،‬ويســبونها بأفــوا ٍه مملــوء ٍة‬ ‫بالغبــار والكــذب‪ ،‬وبــا خــوف أو وجــل تســطع نفســية هيــام ســليامن يف نتاجهــا‪ ،‬كأوضــح مــا يكــون‬ ‫الســطوع‪ .‬تق��ول ابن ُ�ةـ القريـ ِة الجميلـ� ٍة يف قصي��دة الك��وخ الج�� ّواين خارق��ة ق�شرة الخ��وف الجمع��ي‪/ :‬مــا‬ ‫كأس‪ /‬وتتعتـ ُـع يف النخــب الثــاين‪/‬‬ ‫أجمـ َـل ليــي‪ ،‬مــا أبهى‪/‬مــع مــن أهــوا ُه ويهــواين‪ /‬وشــفا ٌه تــرب مــن ٍ‬ ‫ـانـ‪ /‬يف الخــارج‬ ‫وبقــريب َدنٌّ م��ن خمـ�رٍ‪ /‬يتع َّهـ�دُ خمرتَ�هـ اثنانِ ‪/‬وبقاي�اـ جم��ر س��جائرنا‪ /‬وقن��انٍ تش��كو لقنـ ِ‬ ‫وريــاح‪ /‬يف الداخــل جمــ ٌر جــ ّواين‪ ./‬هــذا الشــعر يســر حــارسا ً يف مجتمــع ينتظــر جــرأة تنقــذه‬ ‫بــر ٌد‬ ‫ٌ‬ ‫مــن كوابيــس التقاليــد املهيمنــة عــى الفكــر والســلوك يف آن‪ .‬املــرأة يف شــعر هيــام ســليامن ذات قــدرة‬ ‫اقتحاميــة‪ ،‬وتــرى فيهــا الطبيعــة متكاملــة مــع العــامل الجــواين كتكامــل الســالب واملوجــب‪ .‬يف األبيــات‬ ‫الســابقة ســفور وجــداين جــريء‪ ،‬ولكنــه ال يهبــط بشــاعرتنا‪ ،‬فــاألرواح الكبــرة كالشــمس تدخــل إىل كل‬ ‫األماكــن‪ ،‬ولكنهــا تظـ ُّـل شمس ـاً‪ .‬ال بــد مــن الشــمس يف ظلــات رشقنــا املعتــم‪ ،‬والشــمس حــن تســطع‬ ‫تكشــف جــال املوجــودات عــر ريشــة مبدعــة تعــي معنــى الجــال‪ ،‬وتعــي أن الحــب يرفــع اإلنســان وال‬ ‫يهبــط بــه أبــدا ً‪ .‬فالحبيــب هــو رشط الوجــود األول يف األبيــات الســابقة‪ ،‬والخمــرة مضيئــة رغــم أنهــا ابنــة‬ ‫الكــرم‪ .‬ألن الســكر مل يصــل إىل جــال التعبــر وإرشاقاتــه اإليحائيــة العاليــة‪ ،‬فالبقــاء مــع الحبيــب مصــون‬ ‫بالحـ�ب الـ�ذي هـ�و أعـلى املقدسـ�ات‪ ،‬والـ�ذي رفعـ�ه شـ�اعرنا بـ�دوي الجبـ�ل إىل مسـ�توى األلوهـ�ة‪:‬‬ ‫الخافقانِ وفوق‬ ‫الحب واللهُ‬ ‫ِ‬ ‫س ُهام كالهام للخلود ُّ‬ ‫الخلق ِ ُّ‬ ‫انسكبت فيه رسائ ُرنا وما شَ هِدْ نا ُه‪ ،‬لك ّنا عبدنا ُه‬ ‫ْ‬ ‫كالهام‬ ‫ــ ‪ 3‬ــ‬ ‫ولعــل انتــاء شــاعرتنا لتلــك القريــة الجميلــة «بدنايــل» جعلهــا أك ـرَ وضوح ـاً‪ .‬إن بدنايــل تعيــش عــى‬ ‫الســفح الرشقــي لسلســلة جبــال لبنــان الغربيــة‪ .‬وهــذا يعنــي أنهــا تســتقبل الشــمس قبــل املناطــق‬ ‫الغربيــة مــن السلســلة الغربيــة‪ ،‬الشــمس تطــل بــا جغرافيــة تص ُّدهــا‪ ،‬وهــذا االســتقبال يجعلهــا واضحــة‬ ‫وأهلَهــا أيض ـاً‪ ،‬وانعكــس هــذا الوضــوح عــى الوعــي والجســد يف آن‪ .‬فالــذي يأخــذ مــن الشــمس حصــة‬ ‫أكــر يكــون أوعــى‪ ،‬والوعــي يؤاخــي بــن الجســد والــروح‪ ،‬وبهــذا اكتســت بدنايــل بجــال متميــز يف‬ ‫وعيهــا ِ‬ ‫وحســانها‪ ،‬مــا ســبب لهــا حســدا ً مــن أترابهــا القــرى األخــرى‪ ،‬فــإذا كانــت الجغرافيــة قــد جعلــت‬ ‫بدنايــل تشــارك قــرى الســفح الرشقــي مــن السلســلة الغربيــة فــإ ّن الوعــي الوافــد إىل بدنايــل مــن مصــادر‬ ‫ش ـتّى‪ ،‬جعــل أهلهــا يف مرتبــة عاليــة مــن مراتــب الوعــي التاريخــي‪ ،‬الــذي يجمــع بــن الجــال والعقــل‬


‫إجم ْع وسي ُم ِ‬ ‫بفيض ح ِّب َك شملنا‬

‫قبل هشا ُم‬ ‫مثل الذي َس ّوا ُه ُ‬ ‫َ‬

‫ــ ‪ 5‬ــ‬ ‫القــرىب تتســع يف شــعر هيــام ســليامن‪ ،‬لتغــدو عشــقاً وطن ّي ـاً قومي ـاً متص ـاً مبنابــع فكــر عــرويب آمنــت‬ ‫بــه هيــام ســليامن‪ ،‬حتــى غــدت عروبتهــا دينـاً لهــا‪ ،‬والوفــاء لهــذه العروبــة صــار َديْنــا عــى ابنــة بدنايــل‬ ‫املتحــدرة مــن أرسة عروبيــة الهــوى واملنــى‪ .‬كانــت تنظــر إىل املقــاوم يف الجنــوب الصامــد‪ ،‬وهــو يدحــر‬ ‫جيــش االحتــال الصهيــوين نظــرة املؤمــن بامل ُ َخلــص الــذي ال ب ـ ّد أنــه ســيقوم‪ ،‬بــل قــد قــام يف بندقيــة‬ ‫مقاوم�ةـ وإرادة التكرسه��ا آلـ�ة الحرــب العاتيـ�ة الظامل��ة الباغيـ�ة ‪ .‬كانــت مقاومــة العــدوان الصهيــوين‬ ‫ُم َبكِّ��ر ًة يف الوع��ي الوطن�يـ اللبنــاين‪ ،‬والــذي احتضــن عروب ـ ًة رو ُحهــا اإلســام‪ ،‬اإلســام مبعنــاه املقــاوم‬ ‫الــذي يدعــو إىل ردع املعتــدي‪ .‬ألن الحيــاة ال تتخــذ معناهــا الحقيقــي إال باســتقامة مســرتها القامئــة عــى‬ ‫ردع الظلــم‪ ،‬ونــر قيــم الحـ ِّـق والعدالــة‪ .‬يف شــعر هيــام ســليامن ول ـ ٌع بالبندقيــة املقا ِومــة‪ .‬والبدقيــة‬ ‫املقاومــة التــي تؤمــن بهــا هيــام ســليامن تنتمــي لذلــك التاريــخ الــذي دافــع عــن إنســانية اإلنســان وقيمــه‬ ‫العليــا‪ ،‬والتــي هــي وحدهــا ســتبقى رم ـزا ً لتحقيــق إنســانية اإلنســان‪ .‬نحــن نعيــش يف عــامل ال معنــى‬ ‫فيــه لغــر القــوة‪ ،‬القــوة العادلــة التــي تقيــم التــوازن بــن اإلنســان وأخيــه اإلنســان‪ .‬أمــا الضعيــف فــا‬ ‫معنــى الحتجاجــه ومنطقــه‪ ،‬ألن الحــق الضعيــف ال ميكــن أن ينتــر أبــدا ً‪ ،‬ولــو دعمتــه أفــواه املصلحــن‬ ‫وال ُو ّعــاظ وخطبــاء املنابــر‪ .‬النــر تنجــزه القــوة العاقلــة العادلــة الحكيمــة‪ .‬هــذه حتميــة كونيــة‪ ،‬وحدهــا‬ ‫انتــرت يف التاريــخ‪ ،‬ووح َدهــا ســتنترص‪ .‬وال ب ـ ّد مــن التأكيــد عــى أن القضيــة الفلســطينية هــي قضيــة‬ ‫وجدانيــة حميمــة يف شــعر هيــام ســليامن‪ .‬واالنتــاء لفلســطني يف شــعرها يصــل إىل مرحلــة الفــداء‬ ‫والبــذل الســخي‪ .‬لقــد أخــرين الرفيــق املناضــل أ ّن أختــه هيــام هــي مرجعيتــه الروحيــة‪ ،‬ومــن مدرســة‬ ‫حبهــا أحــب فلســطني‪ ،‬واصـاً إىل تخــوم الشــهادة وهــو يقــاوم العــدو الصهيــوين عــى مــن ســفينة مرمــرة‪.‬‬ ‫لقــد تخــرج هــاين مــن املدرســة النضاليــة التــي آمنــت بهــا هيــام ســليامن‪.‬‬ ‫تحيــة للشــاعرة هيــام حيــدر وهــي تنحــاز لقيــم أهلهــا ووطنهــا وقومهــا‪ ،‬وال بــد لشــعرها أن يجــد فســحة‬ ‫لــه يف قلــوب النــاس وأرواحــه‪ ،‬ألنــه ناتــج مــن رو ٍح مضيئــة اســتطاع بريقهــا أن يتجمــع يف كلـ ٍ‬ ‫ـات مضيئــة‪.‬‬


‫املــكان هنــا هــو جغرافيــة الداخــل‪ ،‬بــل هــو الزمــن الداخــي الــذي ال يربحنــا حتــى ونحــن نــاؤون عنــه‪،‬‬ ‫إنــه الحــارض املســتبد‪ ،‬ولــو ظامل ـاً‪ ،‬وكــم هــو أليـ ٌـف ظل ـ ُم الوطــن يف وجــدان مــن ذاقــوا لوعــة الغربــة‬ ‫ـب‬ ‫رس حب��ه‪“ ،‬وأُغْلي ـ ِه أنْ ُيدْ عــى عــى ال َذنْـ ِ‬ ‫رس ظلم��ه‪ ،‬و ُّ‬ ‫وذكري��ات الوط��ن البعي��د‪ ،‬إن��ه نح��ن‪ .‬وه��ذا ُّ‬ ‫رس التعلـ�ق بـ�ه ظاملـ�اً ومظلومـ�اً‪ ،‬عامـ�را ً أو ُم َه َّدمـ�اً‪:‬‬ ‫ُمذنِبــا” يقـ�ول أبـ�و متـ�ام معلنـ�اً أنسـ�نة املـ�كان‪ ،‬و َّ‬ ‫الحب إالّ للحبيب األ َّو ِل‬ ‫نق ِّْل فؤا َد َك حيث َ‬ ‫شئت من الهوى ما ُّ‬ ‫منزل يف األرض يألفُه الفتى وحني ُنه أبداً أل ّو ِل ِ‬ ‫كم ٍ‬ ‫منزل‬ ‫ــ ‪ 4‬ــ‬ ‫واملــكان‪ ،‬وأعنــي بدنايــل يف شــعر هيــام هــو األخ واالبــن والعــم واألهــل والجـران وأصــداء أعاملهــم التــي‬ ‫كتبــت لبدنايــل تاريخــا ال ميكــن أن ميّحــي‪ .‬والــذي يقــرأ شــعرها يجــده مزدحـاً بأهلهــا‪ ،‬فــرى ابنهــا حيـاً‬ ‫نصــاره‪ ،‬وتــرى زوجهــا الحــارض يف وجدانهــا رغــم أن دونــه‪« :‬نق ـاً هائـ ٌـل‬ ‫وفقيــدا ً‪ ،‬وتــرى أخاهــا حيّ ـاً يف ّ‬ ‫ـح” ك�ما يق��ول الشـ�اعر الجاه�لي‪ .‬هي��ام أهله��ا فيهــا‪ ،‬مل يربحوه��ا مقيم�� ًة ومغرتبــة‪.‬‬ ‫َج ْعــدُ الــرى وصفيـ ُ‬ ‫وهــذا الحلــول اإلنســاين العــايل يــدل عــى إنســانة مســكونة بحنــن شــديد الحضــور‪ ،‬وحــب مــيء ال‬ ‫تدنــو منــه ظلــات الكراهيــة‪ ،‬وحــن ميتلــئ القلــب بالحــب يصبــح مؤهـاً لدخــول امللكــوت األعــى الــذي‬ ‫ننتمـ�ي إليـ�ه منـ�ذ البـ�دء ومنـ�ذ التنشـ�ئة األوىل‪.‬‬ ‫واعتـزاز هيــام ســليامن بأهلهــا ال ميكــن إالّ أن يكــون تعبـرا ً عــن أصالــة روحيــة ورثتهــا كابـرا ً عــن كابـرٍ‪،‬‬ ‫�ب الوطـ�ن مـ�ن اإلميـ�ان»‪ .‬وينمــو‬ ‫�ب أهلـ� ِه» و «حـ ُّ‬ ‫واإلنســان كــا يقــول الرســول العــريب‪« :‬ال يُـلا ُم عـلى حـ ِّ‬ ‫هـ�ذا الحـ�ب إىل مرحلـ�ة الفخـ�ار االجتامعـ�ي الرتباطـ�ه باملزايـ�ا التـ�ي ذكرتْهـ�ا يف أهلهـ�ا‪ ،‬لقـ�د اعتـ�زت مبـ�ا نـ�ال‬ ‫ـب‬ ‫مــن معــارف وعلــوم وحضور‪.‬تقــول متباهيــة مبــدارج ابــن أخيهــا «نصــار» العلميــة‪ ،‬رابطـ ًة ســم َّو الحـ ّ‬ ‫بالســم ِّو الفكــري‪:‬‬ ‫تفتح يداكا‬ ‫ْ‬ ‫وساهرت الليايل حيث‬ ‫َ‬ ‫صارت كتابك حني ُ‬ ‫تطلب ِفكاكا‬ ‫رسها ومل‬ ‫وطاردت‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫املعارف‪ ،‬وهي تنأى فتأ ُ‬ ‫ْت الفك َر حتى صار خبزاً‬ ‫وصغ َ‬ ‫ُ‬

‫وكان الخب ُز جزءاً من نُهاكا‬

‫وميتد فخارها ليشمل أخاها أبا نصار‪ ،‬فتقول له‪:‬‬ ‫لقد أورثْ َتنا ما ليس يفنى‬

‫وبعض ِ‬ ‫يصل الهالكا‬ ‫اإلرث ال ُ‬ ‫ُ‬

‫والعلــم يف رأي شــاعرتنا هيــام ســليامن يعلــو ويثمــر حــن يقــرن بالحــب وصلــة الرحــم‪ ،‬وإصــاح ذات‬ ‫البــن‪ ،‬فاملعرفــة رســالة والرســالة ســلوك‪ ،‬وبهــذا يغــدو وعــي اإلنســان خب ـزا ً روحي ـاً واجتامعي ـاً وثقافي ـاً‪،‬‬ ‫ولشــدة تأثرهــا مبــا تدعــو إليــه ت ُ َح ِّمــل ابــن أخيهــا رســالة والدهــا لينجزهــا‪ .‬إنهــا شــاعرة دافئــة اإلحســاس‬ ‫تجعــل القــرىب وليمــة روحيــة يلتقــي عليهــا الجميــع‪ ،‬وتقــول البــن أخيهــا وســيم‪:‬‬



‫االدب ‪ ..‬وااليحاء الجنيس يف الرواية العربية ‪...‬‬ ‫سليمة ملّيزي‬ ‫حني نصف كلمة االدب يف خانات الفنون فهذا يعني أنه من أسمى االعامل االبداعية يف وصف‬ ‫االخالق االنسانية يف الحكايات اليومية لألديب املبدع سواء أكان شاعرا ٌ أم قاصاٌ أم روائياٌ ‪،‬‬ ‫لذلك ال بد من تصنيفه من أنبل االعامل الفكرية التي تؤرخ حقبة معينة من الزمن وتبقى‬ ‫راسخة يف اذهان القراء وخالدة عرب التاريخ تروى ألجيال وأجيال ‪ ،‬وصف الجنس يف االعامل‬ ‫االبداعية تيمة اساسية منذ بد ء التاريخ سوا ًء عند االغريق أو العرب ‪ ،‬لكنه تراجع بعد ظهور‬ ‫الديانات الساموية لحرمة وقداسة الدين عند االنسان ‪ ، ،‬كام تن ّو َعت التأويالت وتحسني النسل‬ ‫مام جعل الزواج هو االمثل من أجل انشاء عائلة سليمة من كل الفوارق الخارجة عن قانون‬ ‫البرشية ‪ ،‬واصبح وصف الجنس عند الروائيني االيحاء اىل جامليات الحب أكرث منه مامرسة‬ ‫حيوانية ‪،‬رغم ان قصص الف ليلة وليلة االصلية التي رمبا تعد اىل اصلها من الهند ‪ ،‬ال تخلوا‬ ‫حكايتها من الوصف للجنس ‪.‬‬ ‫غري ان العرب عدلوا فيها حتى تبقى قصة تتداول عرب االجيال‪ ،‬من أجل احرتام القارئ ‪ ،‬الرواية‬ ‫العربية عىل حداثتها مل تكن مبنأى عن التعبري عن الجنس خاصة الكالسيكية عالجت الجنس‬ ‫بالرتكيز عىل الثيامت املألوفة املرتبطة بالزواج‪ ،‬الخيانة ‪ ،‬الفحولة ‪ ،‬من أشهر كتاب الرواية‬ ‫الذين عالجوا الحب املثايل أكرث من الغوص يف لقطات جنسية مخلة باألخالق العربية املحافظة‬ ‫‪ ،‬نجد هذا جليا عند الروايئ نجيب محفوظ وأبو القصة العربية يوسف ادريس ‪ ،‬واحسان عبد‬ ‫القدوس وغريهم ‪ ،‬اال أننا وجدنا أن تلك االيحاءات التي ترمز اىل الحب او الجنس بطريقة‬ ‫غري مبارشة انها تجاوزت بعض اليشء أحد املحرمات يف املجتمع العريب املحافظ ‪.‬‬ ‫بعد هذه النهضة االدبية ‪،‬اتت فرتة الحداثة التي تجاوز فيها الروايئ وصف الجنس بجرأة كبرية‬ ‫جدا ‪،‬انتهكت حرمة املوروث الحكايئ العريب يف مقاربة الجنس وتجاوزت التلميح إىل الترصيح‪.‬‬ ‫حيث نجد هذه الجرأة الروايئ املغريب محمد شكري يف (الخبز الحايف} والروايئ الجزائري‬ ‫رشيد بوجدرة ‪ ،‬يف اكرث من رواية ‪ ،‬قد كان األقرب إىل تيار الرواية الجديدة‪ ،‬كام ظهر يف فرنسا‬ ‫مع كلود سيمون‪ ،‬وصاحب جرأة يف تناول املستور‪ ،‬واالعرتاف بتفاصيل الحياة الحميمة ألبطاله‪،‬‬ ‫مثلام هو الحال يف روايته الثانية {الرعن}‪ ،‬ثم يف رواية {املرث } التي ُم ِنعت من النرش يف مرص‬ ‫سنة ‪.2012‬‬

‫اريد هنا ان اتناول بعض الروائيني الجزائريني بغض النظر عن روائيني عرب يف االدب املعارص‬ ‫تجرؤوا عىل وصف الجنس بكل مواصفاتها الجريئة ‪ ،‬حيث تجاوزت الروائية الكويتية فوزية‬ ‫شويش املعهود لرمي األبطال نحو الحدود القصوى للمامرسة الجنسية ‪ ،‬رغم املجتمع املحافظ‬


‫الذي تعيش فيه ‪.‬‬ ‫اردت التطرق اىل الرواية الحديثة يف الجزائر وبعض الروائيني الذين اخرتقوا حدود وصف الجنس يف‬ ‫الرواية ومنهم من يحيك حتى تجربته الشخصية يف عالقته مع الجنس االخر أو الحبيب بوصف الجنس‬ ‫بكل تفاصيله واخرتاق حدود يف وصف الحب الحامل كام قراناه يف الرواية الكالسيكية ‪ ،‬حيث تجاوزت‬ ‫حدود املعقول ‪.‬‬ ‫من أكرث الروائيني الذين كرسوا طابوهات الجنس هو الروايئ أمني الزاوي يف رواية «شارع إبليس»‬ ‫تروي هذه الرواية حكاية قائد ثوري يتزوج والدة إسحاق {بطل الرواية} بعد أن دبّر كميناً لزوجها أثناء‬ ‫الثورة الجزائرية‪ .‬فيكرب إسحاق ويكرب يف داخله الشعور باالنتقام تجاه هذا الرجل الذي حرمه والده‪،‬‬ ‫ويجد الفرصة املناسبة لالنتقام من خالل زوجته الثانية زبيدة‪ ،‬الشابة الجميلة فيغريها وتستجيب له‪،‬‬ ‫ويعيشان عالقة ملتهبة‪ .‬بعد ذلك تخربه زبيدة أنها حامل منه‪ ،‬فيقرر الفرار إىل دمشق حيث سيقيم يف‬ ‫فندق تقيم فيه فتيات الهوى املغربيات‪ ،‬ليعيش فصوالً أخرى من املتع الجسدية‪ ،‬تنتقل معه إىل بريوت‬ ‫التي يغادر إليها ليعمل مع شاب جزائري يف «مؤسسة الرحمة واإلميان لحفظ الجثث»‪.‬‬ ‫فيامرس الجنس مع عشيقاته وظهره مسنود إىل ب ّراد حفظ املوىت‪ ،‬وفجأة تبدأ األرسار باالنكشاف‪،‬‬ ‫وتتهاوى أمامه شخصية صديقه املتسرت وراء بطوالته يف حرب التحرير الجزائرية‪ .‬وهناك روايات اخرى‬ ‫ُو ِصف فيها الجنس ‪ ،‬وتجاوز كل حدود العفة والرسية لهذه العالقة التي تعترب حميمة اكرث عندما‬ ‫متارس وليس عندما يشهر بها الروايئ ‪ ،‬يف غياب الرقابة االخالقية ملنع مثل هذه الكتب من الصدور‬ ‫‪ ،‬كام حدث للكاتب االمرييك الشهري «هرني ميلر» ‪ Henry Miller‬وروايته «مدار الرسطان» ‪،‬‬ ‫واحدة من أشهر الروايات التي تم حظرها عامل ًيا‪ ،‬حيث وصفت بأنها «سيئة السمعة ملحتواها الجنيس‬ ‫الرصيح»‪ ،‬حتى تم رفع الحظر عنها يف النهاية عام ‪ ،1961‬واآلن تصنف كرواية رومانسية كالسيكية‪.‬؟‬ ‫يبقى السؤال مطروحا ‪ ،‬هل االديب الذي يوصف الجنس بكل تفاصيله ‪ ،‬وتقديم روايات مغايرة‬ ‫لطبيعة مجتمع ُمنغلق‪ ،‬محافظ عىل قيمه من الذوبان يف ثقافة اآلخر‪ ،‬يعترب روائيا ناجحا ؟‬ ‫‪ 4‬سبتمرب ‪ /‬ايلول ‪2018‬‬




‫هاشتاك ‪ ###‬رسائل مرتوكة يف حقيبة مجهولة‬ ‫‪ ###2‬خمرة القمر سفر الثورة والفقر‬ ‫ربيع ‪ /1986‬نص‬ ‫عزيزيت مريم‬ ‫د‪ .‬رياض الدليمي‪ /‬العراق‬ ‫أرى ( شمــس الدينــ التربي��زي ) يتخفـ�ى بـين صخـ�ور الجبـ�ل نـسي ان ضـ�وء القمـ�ر قـ�ادرا‬ ‫عــى فضحــه ‪ ،‬هــو ماثــل أمامــي يحمــل سـلّة مــن الخــوص وجِعــة مقدســة ونايــا متهالكا‬ ‫تشــققت ثقوبــه ‪ ،‬ال أعــرف ماهيــة قدومــه يف ســاعات لقائنــا هــل شــدته قصتنــا ؟ أم‬ ‫اشــتاق لض��وء القم��ر ؟ أم يري��د ان يتح��دى س��نام الجب��ل بعزف�هـ ع�لى الن��اي ؟‬ ‫قد يفكر أن يعلو صوت نايه شهقة الجبل ؟ ‪.‬‬ ‫وق�دـ يك��ون ت��اه ببحثهــ ع��ن ( ج�لال الدي��ن ) ‪ ،‬ال أظ��ن لدي��ه العزمي��ة أن يلتقي��ه ‪،‬‬ ‫لكنــه أراد التنصــت عــى هذيانــه ويتعلــم كيــف يرقــص تحــت ضيــاء القمــر ‪.‬‬ ‫الدرويــش يخــاف العتم��ة لهـ�ذا يدمنهـ�ا ‪ ،‬يــرب مــن جعــة النــار يثمــل مــن صــوت‬ ‫النـ�اي والـ�دف ولـ�ذة الـشرب ‪.‬‬ ‫( ش��مس الدي��ن ) تــرك شمس��ه وج��اء اىل قمرناــ ‪ ،‬ســرى كي��ف نرق��ص ونتعان��ق ‪،‬‬ ‫نح��ن دراوي��ش الحـ�ب مجان�ين الش��عر ‪ ،‬ال نك�ترث ل( شــمس الديــن ) ول( جـلال الديـ�ن‬ ‫) لهــم دينهــم ولنــا ديننــا ‪.‬‬


‫حبيبتي مريم‬ ‫صيفــي اكتــظ باللهــب وحصــاد القمــح الوفري فيشــجع املتمردون عىل الســلطة ليتســللوا‬ ‫اىل داخــل املــدن ‪ ،‬ليعلنــوا وجودهــم ويســتعرضون حقهــم الوجــودي ‪ ،‬ال ألومهــم ‪ ،‬لكــن‬ ‫أخـ�اف مـ�ن قتلهـ�م يل ‪.‬‬ ‫ملج�أـي تناث�رـت يف جوف��ه كتبــ جلبتهــا مع��ي وخاص��ة روايـ�ة ( خريــف البطريريــك‬ ‫لغارس��يا ماركي��ز ) ه��ذا الكات��ب الغامـ�ض ‪ ،‬هـ�ل تعرف�ين ي��ا مري��م ‪:‬غمــوض ( ماركيـ�ز‬ ‫) أح��ب اىل نفـسي م��ن جه��ر السياس��يني وغضاض��ة الش��عراء الس��كارى ( بـ�ايب ن��ؤاس ) ؟ ‪..‬‬ ‫ديـ�وان ( س��فر الفق��ر والث��ورة لعبدــ الوهـ�اب البي��ايت) أخــذ حيــزا مــن ملجــأي‪،‬‬ ‫يريــدون صنــع مجدهــم هــؤالء الثــوار بلقمــة وأحــام الفقـراء ليصبــح الثــوار ســارسة‬ ‫للفقــر والتعســاء مــن أجــل مــلء جيوبهــم بالــدوالرات ‪ ،‬يــي الــدوالر اِلههــم ونحــن‬ ‫الفقـ�راء عبيدهـ�م ‪ ،‬سـ�يهدون لنـ�ا كسـ�وة كل عيـ�د مـ�ن أجـ�ل ان تـ�دوم الثـ�ورة ‪.‬‬ ‫الكســوة والثــورة وخمــرة الدراويــش هــي نشــوة النــر ‪ ،‬يتقربــون بهــا اىل اللــه ‪ ،‬وأنــا‬ ‫أتقــرب ِبــك للقمــر عندمــا تتشــابك أصابعنــا وتذبــل أجســادنا ونصهــر حتــى يوقظنــا‬ ‫الفجـ�ر والثــوار وصيحـ�ات الجيــاع وزعي��ق البطري��ك مــن خمرتن��ا ‪ ،‬نصحــو عاشــقني‬ ‫فدي��ا القم��ر ونغن�يـ ( مــن غيـر لي��ه ‪ ...‬خاي��ف ال بك��رى يجين��ا ياخذنــا م��ن ليالين��ا ‪)...‬‬




‫تجِّليات أخالق العرب في الشعر الجاهلي‪:‬‬

‫عمر شبلي‬

‫الشــعر دي ـوان العــرب‪ ،‬وتاريخهــم وملحمــة اســتمرارهم فــي وجــدان التاريــخ العربــي علــى امتــداد عصــوره‪ ،‬فهــو‬ ‫إلــى اآلن يحتـ ُّـل مســاحات شاســعة فــي النفســية العربيــة رغــم ضمــور معالــم كثي ـرة كانــت متجــذرة فيهــا‪ ،‬ولشــدة‬ ‫حضــور الشــعر كاد يلغــي مــا عــداه‪ ،‬واتخــذت البطولــة معناهــا مــن ســطوعها فــي الشــعر‪ ،‬ألنــه لــم يكــن صحافــة‬ ‫العــرب ومالــئ دواوينهــم فحســب‪ ،‬بــل كانــت لــه قداســة تصعــد بــه إلــى درجــة يقينيــة التنزيــل واإللهــام‪ ،‬ولهــذا‬ ‫ِ‬ ‫فل�كـل ش��اعر شـ�يطان يوح��ي لـ�ه بالش�عـر‪ ،‬وقـ�د أدرك القـرآن أثــر الشــعر وإقامتــه فــي‬ ‫نس��بت الموهب��ة لق�وـى غيبيةــ‪ّ ،‬‬ ‫الــروح العربيــة‪ ،‬حيــن نســبت قريــش إعجــاز القـرآن إلــى الشــاعر‪ ،‬ومــا َنْفــي القـرآن صفـ َة الشــاعر عــن الرســول‬ ‫ُ‬ ‫العربــي إال إثبــات لحضــور الشــعر فــي وجــدان اإلنســان العربــي‪ ،‬فقــد جــاء فــي الق ـرآن الكريــم ‪/‬اآليــة ‪ 69‬مــن‬ ‫ذك�رـ وقـرـآن مبيــن»‪ .‬كان تأثيــر الشــعر فــي النفــس‬ ‫��عر وم�اـ ينبغ��ي ل��ه إن ه��و إال ٌ‬ ‫ســورة ياسـ�ين‪« :‬وم��ا عّلمن�اـه الش َ‬ ‫العربي��ة يصـ�ل إلىــ مرتبـ�ة اليقي��ن‪ ،‬ومزاحم��ة المق��دس ف��ي حض��وره‪.‬‬ ‫ـور أخالقــي‪ ،‬حتــى رفعــه العــرب إلــى مســتوى القداســة واليقيــن؟‪ .‬نعــم ألن األخــاق‬ ‫ولكــن هــل كان للشــعر حضـ ٌ‬ ‫الحميــدة والســامية كانــت موجــودة فــي تركيبــة اإلنســان العربــي‪ ،‬حتــى وهــو جائــع فــي الصح ـراء قبــل البعثــة‬ ‫النبويــة رغــم قســاوة الصحـراء وصعوبــة العيــش فيهــا‪ ،‬ورغــم الــدم الــذي كان يســيل فيهــا الســتمرار الحيــاة‪ .‬وحيــن‬ ‫ـت ألتمـ َـم مــكارم األخــاق» نقــف بدقــة عنــد كلمــة «ألتمــم”‪ ،‬الكلم��ة هن��ا تقــول‬ ‫نقـ أر الحديــث الشـريف‪« :‬إنمــا ُبعثـ ُ‬ ‫ِ‬ ‫بوضــوح ال تأويــل فيــه‪ :‬إن الرســول ُبعــث ليتمــم مــكارم األخــاق التــي كانــت موجــودة قبلــه‪ .‬إن وضــوح معنــى‬ ‫الحديــث ال يتــرك مجــاالً للشــك فــي وجــود مــكارم األخــاق فــي اإلنســان العربــي حتــى قبــل مجــيء الرســل‬ ‫والمصلحيــن‪.‬‬ ‫هذا الحضور جعل الشــعر دســتو اًر‪ ،‬وكانت قوة هذا الدســتور تنبع من قوة الشــعر نفســه‪ ،‬ولهذا كانت المعلقات‬ ‫ِ‬ ‫وح ِفظــت‪،‬‬ ‫تحمــل صفــة القداســة إلــى درجــة تعليقهــا علــى أســتار الكعبــة‪ ،‬أو ألنهــا ُعّلقــت فــي الوجــدان العربــي‪ُ ،‬‬ ‫ورِّددت فــي دواويــن العــرب كالمقــدس نفســه‪ .‬وفــي كلتــا الحالتيــن كانــت المعلقــات صــورة عــن قــوة تأثيــر الشــعر‬ ‫ُ‬ ‫وقداس��ته الت��ي لمــ يس�تـطع اإلسـلام نفس��ه نسخــها‪ .‬فمــا هــو ســبب خلــود الشــعر وصمــوده فــي وجــه تحـوالت الزمــن‬ ‫الكبرى؟‪.‬‬ ‫فــي أريــي هنــاك أســباب عــدة لخلــود الشــعر‪ ،‬وتأتــي وجدانيتــه فــي الدرجــة األولــى‪ ،‬وفيــض النبــع الوجدانــي فــي‬ ‫الــذات العربيــة علــى مـ ِّـر عناصــر تكوينها‪.‬إنــه يخاطــب الوجــدان خــارج صالبــة العقــل‪ ،‬وهــو لغــة الــروح التــي‬ ‫هــي أبعــد مــن الكلمــات بمعناهــا القاموســي الرتيــب‪ .‬وهــو بــرق اإلحســاس ودهشــته وقدرتــه علــى اختـراق الحجــب‬ ‫واإلشاــرات الحمـ�راء الت��ي يضعه��ا العق��ل عل��ى مداخ��ل النف��س المشــحونة بال�رـؤى واألحاس��يس الحاــدة‪ .‬وتأتــي‬ ‫ـداوة كمــا للحضــارة‪ ،‬وبــداوة الــروح‬ ‫روعتــه مــن كونــه‬ ‫المعبــر عــن بــداوة الحضــارة والــروح والمعتقــد‪ .‬إن للــروح بـ ً‬ ‫ّ‬ ‫هــي انســجام عميــق بيــن ال ارئــي والمرئــي بيــن عــري الــذات وعــري الطبيعــة نفســها‪ ،‬وخــارَج األصبــاغ والتبــرج‪،‬‬ ‫وهجــوم المــادة علــى ممتلــكات الــروح‪ .‬وكل لبــوس هــو فــي النهايــة غطــاء وحجــاب‪ ،‬لقــد كان عــري الحضــارة‬ ‫يقابل��ه اخت��راق روحـ�ي مقـ�دس‪ ،‬وهي�اـكل يبنيهاــ ال�رـاؤون الكباــر‪ ،‬والش�عـر أبرــز معابده��ا كان‪ .‬لقــد آمــن العــرب فــي‬ ‫جاهليتهــم بالشــعر إلــى درجــة العبــادة‪ ،‬ومــا آيــات هــذه العبــادة إالّ أخــاق العــرب نفســها‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫قدم ـوا لــه‬ ‫التوُّلــه‪ ،‬وخافــوه حتــى ّ‬ ‫خلــد الشــعر إذن ألنــه كتــاب أخــاق العــرب المقــدس‪ ،‬لقــد أحب ـوا الشـ َ‬ ‫ـعر حتــى َ‬ ‫اإلبـ ُـر»‪ .‬فمــا هــي‬ ‫القرابيــن‪ .‬لقــد اشــترى الفــاروق ســكوت الحطيئــة خوف ـاً مــن شــعره الــذي «ينفــذ مــا ال تنفــذ َ‬ ‫الجاهليــة‪ ،‬وكيــف تجّلــت فــي الشــعر الجاهلــي‬ ‫األخــاق العربيــة فــي مرحلــة مــا قبــل اإلســام‪ ،‬أو مــا يســمونه‬ ‫ّ‬ ‫ال��ذي لــم يكـ�ن جاهلي��اً بقيم��ه‪ .‬وســوف أحــاول ذكــر بعــض أخالقيــات العــرب التــي حفظهــا فــي أشــعارهم لكــي ال‬ ‫تضيــع‪.‬‬


‫العربــي‪« :‬ويؤثــرون علــى أنفســهم ولــو كان بهــم خصاصــة»‪ .‬وكانــت الحميــة فــي الجاهلــي ترفعــه عــن‬ ‫السـؤال‪ ،‬ألنهــا مــن كــرم حمايــة النفــس مــن الســقوط‪ ،‬ومــن جميــل الشــعر فــي هــذا المجــال قــول الشــنفرى الجائــع‬ ‫المتصعلــك‪:‬‬ ‫أ ِ‬ ‫فأذهل‬ ‫طال الجوِع حتى أميتَ ُه‬ ‫الذك َر صفحاً‬ ‫أضرب عنه ْ‬ ‫و ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُديم م َ‬ ‫ُ‬ ‫ِّ‬ ‫متطو ُل‬ ‫امرؤ‬ ‫ف تُْر َب األرض كي ال يرى له‬ ‫أستَ ُّ‬ ‫علي من ال َ‬ ‫َّ‬ ‫ط ْو ِل ٌ‬ ‫وْ‬

‫ـتف الت ـراب لكــي اليــرى ألحـ ٍـد فض ـاً عليــه‪ ،‬فمــن الكــرم‬ ‫ذل س ـؤاله‪ ،‬ويسـ ُّ‬ ‫إنــه يماطــل الجــوع ليصــرف عنــه َّ‬ ‫التســامي‪ ،‬والجــوع المقيــم فــي نفـ ٍ‬ ‫ـب لهــا خبـ اًز مــن نــوع آخــر‪ ،‬ال يوجــد إال حيــث يوجــد كــرم األخــاق‪.‬‬ ‫ـس نبيلــة يهـ ُ‬ ‫وكان الع��رب يحمل��ون غري��زة اإليم��ان‪ ،‬حت��ى وه��م يتقرب��ون إل��ى هللا بأصنامه��م والتمس��ح ب��أركان الكعب��ة‪ “ ،‬ولئــن‬ ‫ســألتهم مــن خلــق الســماوت واألرض ليقوُلـ َّـن هللا» ولعــل نضــج أرواحهــم كان طريق ـاً لظهــور اإلســام فيهــم‬ ‫ـل رســالته»‪ .‬لقــد وصــل اإليمــان بهــم إلــى مســتوى قناعــة وإيمــان زهيــر بــن أبــي ســلمى‬ ‫«هللا أعلـ ُـم حيــث يجعـ ُ‬ ‫فــي معلقتــه‪:‬‬ ‫نفوسكم ليخفى ومهما ُيكتَ ِم هللاُ يعل ِم‬ ‫فال ت ْكتُ ُم َّن هللاَ ما في‬ ‫ْ‬ ‫يؤ َخ ْر فيوضع في ٍ‬ ‫كتاب َّ‬ ‫فينَق ِم‬ ‫َ‬ ‫فيد ْ‬ ‫خر ليوم الحساب أو ُي َع َّج ْل ُ‬ ‫ْ‬

‫وكان شــعر أميــة بــن أبــي الصلــت يتنبــأ ببعثــة نبــي عربــي يربــط اإلنســان بالســماء‪ ،‬وكان يؤمــن بالحنفيــة‪ ،‬ولكنــه‬ ‫لــم يؤمــن ببعثــة الرســول محمــد‪ .‬كان يقــول‪:‬‬ ‫عد غايتنا من رأس مجرانا!‬ ‫فيخبرنا‬ ‫نبي لنا منا‬ ‫أال ٌّ‬ ‫ما ُب َ‬ ‫َ‬ ‫كان العربــي فــي تلــك العصــور يؤمــن بالدفــاع عــن أرضــه وعرضــه‪ ،‬وكان يعتبــر صــون المحــارم والدفــاع عنهــا‬ ‫أغلــى مــن الحيــاة نفســها‪ ،‬لقــد كان زهيــر بــن أبــي ســلمى يدعــو للــذود عــن الوطــن بالقــوة‪ ،‬وكان يســمي الوطــن‬ ‫حوض ـاً‪ ،‬وذلــك لــورود أنعــام القــوم علــى مائــه ضمان ـاً الســتمرار الحيــاة‪ ،‬وبهــذا كان الوطــن بهــذا المعنــى عنــد‬ ‫العرب��ي ف��ي العص��ر الجاهل��ي ه��و اإلنس��ان نفس��ه‪ ،‬ف��إذا ته َّ��د َم حوض��ه ته َّ��دم ه��و‪ ،‬يق��ول زهي��ر‪:‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫بسالحه ُي َّ‬ ‫الناس ُيظَل ِم‬ ‫حوضه‬ ‫ومن لم ي ُذ ْد عن‬ ‫هد ْم ومن ال يظل ِم َ‬ ‫الظلــم هنــا هــو الدفــاع عــن الوطــن بمعنــى تأويلــي‪ ،‬ألنــه مرتبــط عنــد زهيــر بالدفــاع عــن الوطــن‪ ،.‬وقــد تُســتخدم‬ ‫تأويلياً‪ ،‬كما في قوله تعالى في سورة األنفال”‪...‬ويمكرون ويمكر هللا وهللا خير الماكرين» ‪.‬‬ ‫اللفظة استخداماً‬ ‫ّ‬ ‫ـرف الــذي ال يمكــن التخلــي عنــه‪ ،‬ألن التخلــي عــن حمايــة النســاء عنــد‬ ‫كانــت حمايــة النســاء والــذود عنهــن الشـ َ‬ ‫العربــي تعنــي التخلــي عــن الشــرف والحيــاة نفســها‪ ،‬يقــول عمــرو بــن كلثــوم فــي معلقتــه‪:‬‬

‫نحاذر أن تَُق ّس َم أو تهونا‬ ‫حسان‬ ‫بيض‬ ‫ٌ‬ ‫على آثارنا ٌ‬ ‫ُ‬ ‫بعولتَنا إذا لم تمنعونا‬ ‫لستم‬ ‫جيادنا‬ ‫َيُق ْت َن َ‬ ‫َ‬ ‫ويقلن ْ‬ ‫وقصتــه مــع ملــك المنــاذرة معروفــة‪ ،‬عندمــا أرادت ُّأم الملــك عمــرو بــن هنــد إهانــة أمــه ليلــى بنــت المنهــال‪ .‬ومــا‬ ‫زلنــا نذكــر معركــة ذي قــار ودور المـرأة فيهــا‪ .‬وكان عنتـرة مملــوءاً باألســى حيــن ســبيت عبلــة بنــت مالــك‪ ،‬وهــو‬ ‫بعيـ�د عنهـ�ا‪:‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫بعيد‬ ‫عنتر وهو عنك ُ‬ ‫لهفي عليك إذا بقيت ّ‬ ‫سبي ًة تدعين َ‬ ‫وكانــت إغاثــة الملهــوف والدفــاع عــن المســتجير مــن األســباب التــي ربــط طرفــة بــن العبــد حرصــه علــى الحيــاة‬


‫الشــجاعة كانــت ُخُلقـاً فطريـاً فــي الــذات العربيــة‪ ،‬وســبب ذلــك أن صعوبــة الحيــاة كانــت تتطلــب قــوة لحمايتهــا‪،‬‬ ‫وكانــت حقيقــة المــوت وحتميتــه واســتحالة تجنبــه تدعــو عنتـرة ليقــول‪:‬‬ ‫بكر ْت تُ ِّ‬ ‫ِ‬ ‫أصبحت عن غرض الحتوف بمعزل‬ ‫الحتوف كأنني‬ ‫خوفني‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ال َّبد أن أسقى بكأس المنهل‬ ‫منهل‬ ‫فأجبتها إن المنية‬ ‫ٌ‬ ‫ِ‬ ‫ُقت ِل‬ ‫امرؤ سأموت إن لم أ َ‬ ‫فاقني حياءك ال أبا لك واعلمي أني ٌ‬

‫وكان مــن العيــب أن يمــوت اإلنســان حتــف أنفــه فــي تلــك الصحـراء ‪ ،‬كان مــن الفخــر أن يمــوت اإلنســان قتـاً‪،‬‬ ‫ألن قتلــه كان دفاعـاً عــن مكرمــة كمــا يــرون‪ .‬يقــول الســموءل‪:‬‬ ‫وما مات منا سيد حتف ِ‬ ‫قتيل‬ ‫أنفه وال ُ‬ ‫منا ُ‬ ‫ّ ٌّ‬ ‫ط َّل ّ‬ ‫َ‬ ‫حيث كان ُ‬ ‫ِ‬ ‫ظ ِ‬ ‫حد ال ُ ِ‬ ‫وليست على ِ‬ ‫تسيل‬ ‫بات‬ ‫نفوسنا‬ ‫غير ال ُ‬ ‫ْ‬ ‫تسيل على ّ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ظبات ُ‬ ‫وسلول‬ ‫عامر‬ ‫القتل ُسّب ًة‬ ‫إذا ما ر ْأته ٌ‬ ‫ونحن ٌ‬ ‫ُ‬ ‫أناس ال نرى َ‬ ‫والكــرم كان مــن محاســن األخــاق‪ ،‬باعت ـراف الرســول نفســه حيــن أطلــق س ـراح بنــت حاتــم الطائــي الجاهلــي‪.‬‬ ‫حمــل الشــعر العربــي فضيلــة الكــرم التــي كانــت مــن ألصــق الصفــات بنفســية اإلنســان العربــي‪ ،‬وروعــة الكــرم‬ ‫كانــت تتجلــى فــي صح ـراء قاحلــة‪ ،‬يقــل فيهــا الطعــام والمــاء‪ ،‬وفــي حيــاة قاســية كهــذه نمــا الكــرم وترعــرع فــي‬ ‫نف�وـس ال ت��زال درج��ة كرمه�اـ تذه��ل قاــرئ معن�ىـ كرمهـ�ا‪ .‬إن حاتــم الطائــي كان يعــد عبــده بالحريــة إذا جلــب لــه‬ ‫ضيفـاً فــي ليلــة عاصفــة‪ ،‬ال زاد فيهــا وال مــأوى‪ .‬وكان يــرى أن المــال يصبــح مــاالً حقيقيـاً حيــن يتحــول إلــى مآثــر‪:‬‬ ‫ٍ‬ ‫ويبقى من ِ‬ ‫الذكر‬ ‫المال‬ ‫ائح‬ ‫أماوي إن‬ ‫َّ‬ ‫ُ‬ ‫المال غاد ور ٌ‬ ‫األحاديث و ُ‬ ‫َ‬ ‫إن روعــة الكريــم تتجلــى حيــن يكــون «كثيــر الرمــاد إذا مــا شــتا»‪ ،‬وكانــت ســعادة عــروة بــن الــورد المعــروف‬ ‫بعــروة الصعاليــك تبلــغ أقصاهــا وهــو يحــادث ضيوفــه علــى مأدبــة طعامــه‪:‬‬ ‫وأكثر ما يل ُذ به فؤادي‬

‫منادمة الضيوف على الطعا ِم‬

‫وقصيــدة الحطيئــة المشــهورة يعرفهــا النــاس جميع ـاً‪ ،‬وهــي تحكــي قصــة بــدوي جائـ ٍـع هــو وزوجتــه وأطفالـ ُـه فــي‬ ‫صحـراء قاحلــة‪ .‬لقــد أمضــى هــذا البــدوي ثــاث ليـ ٍ‬ ‫ـف‪ ،‬وال طعــام عنــده‪َّ ،‬‬ ‫فكــر أن‬ ‫ـال بــا طعــام‪ ،‬وحيــن جــاءه ضيـ ٌ‬ ‫يذبـ�ح ابنـ�ه ليـ�د أر عنـ�ه صفـ�ة البخـ�ل‪:‬‬ ‫وطاوي ٍ‬ ‫ِ‬ ‫البطن ُمرِم ٍل‬ ‫ثالث عاصب‬

‫أفرد في ِش ْع ٍب عجو اًز إزاءها‬ ‫و َ‬ ‫خبز ُمّل ٍة‬ ‫ُحفاةٌ ُعراةٌ ما اغت َذوا َ‬ ‫اع ُه‬ ‫رأى شبحاً وس َ‬ ‫ط الظال ِم فر َ‬ ‫ضيف وال ِقرى‬ ‫ٌ‬ ‫فقال‪ :‬هيا رّباهُ‬ ‫وقال ابنه لما رآهُ بحيرٍة‬

‫رسما‬ ‫يعرف بها‬ ‫ببيداء لم‬ ‫ٌ‬ ‫ْ‬ ‫ساكن ْ‬ ‫َ‬ ‫هم َبهما‬ ‫ثالث ُة‬ ‫ٍ‬ ‫أشباح تخاُل ُ‬ ‫للب ِّر مذ ُخِلقوا طعما‬ ‫وال عرفوا ُ‬ ‫اهتما‬ ‫فلما بدا ضيفاً َّ‬ ‫تشم َر و ّ‬

‫تحرم ُه تالليل َة اللحما‬ ‫بحِّق َك ال‬ ‫ْ‬ ‫ِ‬ ‫ويس ْر له طعما‬ ‫أيا أبتي اذبحني ّ‬ ‫هما‬ ‫وْ‬ ‫إن هو لم ْ‬ ‫يذبح فتاهُ فقد ّ‬

‫فروى قليالً ثم أحجم بره ًة‬ ‫ّ‬ ‫لقــد ارتبــط الكــرم باإليثــار عنــد العــرب‪ ،‬أن تطعــم غيــرك‪ ،‬وأنــت جائــع مأث ـرة عليــا أقرهــا الق ـرآن فــي اإلنســان‬


‫بهــا‪:‬‬

‫ِ ِ‬ ‫ِّ‬ ‫وكري إذا نادى المضاف ُم َّ‬ ‫المتورِد‬ ‫الس ْورِة‬ ‫ّ‬ ‫حنباً كسيد الغضا ذي َ‬ ‫ـذف لمعنــى أن‬ ‫وكان العربــي يأبــى أن ينــام علــى الضي ـمِ‪ ،‬ويــرى أن ســكوته عــن الثــأر والدفــاع عــن وجــوده حـ ٌ‬ ‫عيــر قومــه حيــن قبل ـوا نياقــا ديـ ٍ‬ ‫ـات لقتالهــم‪ ،‬فكأنهــم يش ـربون دم قتالهــم األحمــر حيــن‬ ‫يكوــن‪ ،‬أحــد الشــعراء َّ َ‬ ‫يش ـربون حليــب النــوق األبيــض‪:‬‬ ‫غير أن اللون ليس بأحم ار‬ ‫أصبحتم تشربونه‬ ‫إن الذي‬ ‫وّ‬ ‫دم َ‬ ‫ٌ‬ ‫ُ‬ ‫لقــد تأثــرت أخــاق العــرب بقســاوة الصحـراء‪ ،‬إالّ أن أخالقهــم ظلــت متعلقــة باألســمى تنشــده فــي ظــروف حياتيــة‬ ‫صعبــة‪ .‬وحيــن يحافــظ اإلنســان علــى خلــق قويــم فــي ظــروف صعبــة يصبــح هــذا الخلــق ت ارثـاً وجــزءاً مــن بنيتــه‬ ‫الروحيــة‪ .‬يقــول لبيــد مبينـاً حــرص أهلــه علــى األمانــة بــكل تجلياتهــا العاليــة‪:‬‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬ ‫امها‬ ‫مت في‬ ‫معشر أوفى بأوفر ح ّ‬ ‫وإذا األمان ُة ُق ّس ْ‬ ‫ظنا ّ‬ ‫قس ُ‬ ‫إن أمــة تختــزن فــي عناصــر تكوينهــا هــذه القيــم العليــا لهــي أمــة جديـرة بالبقــاء‪ ،‬لقــد حملــت فــي وجدانهــا وســلوكها‬ ‫هــذه القيــم فــي صحـراء قاحلــة ال ينبــت فيهــا غيــر الجــوع والظمــأ‪.‬‬ ‫إننــا نســتطيع أن نــرث هــذه القيــم لــو نبذنــا و َأب ْدنــا م ـزارع الطائفيــة والمذهبيــة واالعتمــاد علــى غيرنــا‪ ،‬ممخطــئٌ‬ ‫مــن يظـ ُّـن أن غيـره يصنــع مصيـره‪ ،‬األمــم تجــدد شــبابها بقيمهــا وأصالتهــا وانفتاحهــا علــى ثقافــة إنســانية تغربلهــا‬ ‫الحيــاة‪ ،‬وتســقط منهــا مــا يناقــض إنســانية اإلنســان‪.‬‬




‫العنف ضد المرأة‬ ‫لبنى صقر‬ ‫المقدمة‬

‫المـرأة انعــكاس لرجلهــا‪ ,‬وســتكون مدهشــة‪ ,‬وعالقتــك معهــا مدهشــة‪ ,‬أنظــر إلــى ام أرتــك وســتفهم‬ ‫مــن أنــت‪ ،‬علــى الرغــم مــن التقــدم الهائــل الــذي حققــه اإلنســان فــي مجــاالت الحيــاة كافــة‪ ,‬ومــع مــا‬ ‫يعيشــه إنســان اليــوم مــن تطــور وتقــدم لــم يســتطيعا أن يهديــا الســام والمحبــة إلــى البش ـرية ‪ .‬وال‬ ‫تـزال الهمجيــة عالقــة ومترســخة فــي النفــس البشـرية وكأنهــا تأبــى أن تنفــض عنــا ذلــك الغبــار‪ .‬وعلــى‬ ‫الرغــم مــن تأكيــد األديــان جميعـاً والمذاهــب اإلنســانية علــى الرحمــة والرفــق بيــن بنــي البشــر‪ ،‬وحجــم‬ ‫األض ـرار التــي تتكبدهــا اإلنســانية مــن ج ـراء اعتمــاد العنــف أداة للتخاطــب‪ ,‬وعلــى الرغــم مــن أي‬ ‫إنجــاز بشــري يتوقــف علــى ركائــز االســتقرار واإللفــة والســام‪.....‬إال أن اإلنســانية ال ت ـزال تدفــع‬ ‫ضريبــة باهظــة مــن أمنهــا واســتقرارها جـراء اعتمادهــا العنــف وســيلة للحيــاة والتخاطــب‪.‬‬ ‫يعــد العنــف ضــد الم ـرأة مــن أبــرز المشــكالت العالميــة التــي يــكاد ال يخلــو منهــا مجتمــع س ـواء‬ ‫وصــف بالتقــدم أو بالتخلــف‪ ,‬كونــه يشــكل انتهــاكاً لحقوقهــا اإلنســانية والحريــات األساســية التــي‬ ‫يجــب أن تتمتــع بهــا‪ ،‬وهــو ُيمــارس عبــر التاريــخ بأوجــه وأشــكال مختلفــة وكمظهــر لعالقــات قــوى‬ ‫غيــر متكافئــة بيــن الرجــل والم ـرأة وممارســته ضدهــا‪.‬‬

‫فالعنــف ضــد المـراة أضحــى مــن القواعــد االجتماعيــة الحاســمة التــي تفــرض عليهــا التبعيــة للرجــل‬ ‫ومــا ينجــم عــن ذلــك مــن تداعيــات وانعكاســات خطيـرة علــى األسـرة والمـرأة معـاً‪ ،‬فهــي فــي كل بقــاع‬ ‫األرض‪ ,‬تعيــش يوميـاً خطــر التعــرض للعنف‪,‬مــا ليــس لــه مثيــل الرجــال‪ ,‬ففــي كل دولــة مــن الــدول‬ ‫يشــكل العنــف أو التهديــد بالعنــف عائقـاً أمــام الخيــارات المتاحــة للفتيــات والنســاء فــي شــتى مجــاالت‬ ‫الحيــاة‪ ,‬سـواء العامــة منهــا أو الخاصــة‪ ,‬فــي المنــزل وفــي المدرســة وفــي مــكان العمــل وفــي جميــع‬ ‫أرجــاء المجتمــع‪.‬‬ ‫يحــدد العنــف الخيــارات المتاحــة للم ـرأة مباش ـرة عــن طريــق تدميــر صحتهــا وتشــويش حياتهــا‪,‬‬ ‫وتضييــق مجــاالت نشــاطاتها وتحطيــم ثقتهــا بنفســها وتقديرهــا لذاتهــا بهــذه الطــرق جميع ـاً‪ ،‬يعيــق‬ ‫العنــف مشــاركة الم ـرأة الكاملــة فــي مجتمعنــا‪ ،‬وتمكينهــا ويحــول مــن دون تنميتهــا وتطورهــا‪.‬‬

‫أوالَ ‪ :‬تحديد مفهوم العنف‬ ‫العنــف بمعنــاه الشــامل هــو ممارســة الســلطة بشــكل غيــر إنســاني ليصــل إلــى حــد اإليــذاء الكبيــر‬ ‫علــى المســتوى الجســدي واللفظــي مع ـاً‪ ,‬وغالب ـاً مــا تكــون الم ـرأة هــي الضحيــة‪,‬إذ نــاد اًر مــا تأتــي‬ ‫حــاالت العنــف تجــاه الرجــل‪ ,‬وفــق مــا تشــير إليــه الوقائــع أو الد ارســات العلميــة‪ .‬ويدخــل مفهــوم‬ ‫العنــف ضمــن النطــاق المؤسســاتي حيــث تبيــن مظاهــر العنــف غيــر المباشــر تجــاه الم ـرأة علــى‬ ‫مســتويات العمــل والتميــز فــي األجــور والمناصــب الوظيفيــة والمهنيــة والسياســية وعلــى الصعيــد‬ ‫االجتماعــي والثقافــي وغي ـره‪.‬‬ ‫عـ ّـرف اإلعــان العالمــي العنــف بهــدف *القضــاء علــى العنــف ضــد الم ـرأة والــذي وقعتــه االمــم‬ ‫المتحــدة ســنة ‪ 1993‬م أنــه‪:‬أي فعــل عنيــف قائــم علــى أســاس الجنــس ينجــم عنــه أو يحتمــل أن‬ ‫ينجــم عنــه أذى أو معانــاة جســمية أو جســمية أو جنســية أو نفســية للم ـرأة‪ ,‬بمــا فــي ذلــك التهديــد‬ ‫باقتـراف مثــل هــذا الفعــل أو اإلكـراه أو الحرمــان التعســفي مــن الحريــة ‪,‬سـواء أوقــع ذلــك فــي الحيــاة‬ ‫العامــة أو الخاصــة»(‪.)1‬‬


‫كافــة‪ ,‬وتصنفهــا علــى أســاس الجنــس والتركيبــة الجســمانية البيولوجيــة التــي تســم الرجــل بصفــة‬ ‫العدائيــة والســلطوية‪ ,‬والم ـرأة بالحكمــة واالحت ـواء مســتمدة دعائمهــا وتبريراتهــا مــن الثقافــة الذكوريــة‬ ‫كبيئــة حاضنــة وراعيــة للنظــام التمايــزي المعنــف‪.‬‬

‫تخضــع الم ـرأة بدورهــا إلــى نظــام طبيعــي بيولوجــي يحتــوي ويســتوعب منظومــة الخاليــا المتفاعلــة‬ ‫ليعيــد إنتاجهــا بشــكل صامــت ‪,‬مــن هنــا ســادت بعــض المفاهيــم الشــعبية التــي تعطــي الــدور الخفــي‬ ‫الفاعــل للمـرأة ‪,‬علــى غـرار نابليــون بونابــرت ‪,‬األم التــي تهــز السـرير بيمينهــا تهــز العالــم بيســارها‪,‬‬ ‫أن التطــور وانتشــار‬ ‫وتــؤدي بالتالــي الــدور الســالب والمتلقــي لــكل األع ـراف والمنظومــات‪ ,‬غيــر ّ‬ ‫مســألة العنــف ضــد المـرأة علــى نطــاق واســع ‪ ,‬وفــرق علــم االجتمــاع بيــن مظاهــر العنــف المختلفــة‪.‬‬

‫لقــد تطــورت األبحــاث الجندريــة التــي طالبــت بحقــوق المـرأة المســاوتية مــع الرجــل‪ ,‬وتنــاول الباحثــون‬ ‫أيض ـاً مظاهــر العنــف ضدهــا ضمــن إطــار الجنــس الواحــد‪ ،‬وانتقــدوا كيفيــة تعاطــي المجتمــع مــع‬ ‫مظاهــر العنــف لجهــة التدخــات السياســية والقوانيــن الرســمية التــي تســهم فــي تطويــر الواقــع األنثــوي‬ ‫علــى المســتوى المطلــوب‪.‬‬

‫كذلــك اهتــم بعــض الدارســين بواقــع العنــف ضــد األنثــى خــال فت ـرات الحــرب ومــا يتــم ممارســته‬ ‫مــن إجحــاف بحقهــا وبالصـراع السياســي‪ ,‬بهــدف بنــاء أفــكار وطروحــات عامــة ‪,‬حاولـوا دمجهــا فــي‬ ‫نظريــات اجتماعيــة متخصصــة فــي العلــوم المتفرعــة‪.‬‬ ‫لــم تؤثــر المطالبــة بحقــوق الم ـرأة منــذ منتصــف القــرن الماضــي فــي تغييــر واقعهــا االجتماعــي‬ ‫والمهنــي والسياســي فــي المجتمــع المعاصــر خاصــة فــي مــا يطــال مظاهــر العنــف الممــارس ضدهــا‪.‬‬ ‫وتشــير األرقــام اإلحصائيــة التــي ذكرناهــا فــي ســياق هــذه الورقــة البحثيــة إلــى الواقــع التمييــزي وغيــر‬ ‫العــادل ‪,‬الــذي ال تـزال تعانــي منــه المـرأة فــي مجتمــع يعتبــر مــن أكثــر البلــدان تطــو اًر‪.‬‬ ‫إن المفاهيــم المعاص ـرة لــدور كل مــن الرجــل والم ـرأة فــي الحيــاة اإلنتاجيــة لألس ـرة‪,‬جعلت منزلــة‬ ‫الم ـرأة دون منزلــة الرجل‪.‬وقــد أخــذت هــذه المفاهيــم التــي تولــدت منــذ عهــود اإلقطــاع فــي الشــرق‬ ‫والغــرب تســود فــي المجتمعــات وكان مــن تبعاتهــا الضغــط النفســي الجســدي الــذي عانتــه فــي‬ ‫المجتمعــات المعاصـرة ‪ ,‬وغلبــة الســعي إلــى الكســب المــادي ووضــع كل اإلمكانــات الجســدية فــي‬ ‫ســبيل تحصيلــه‪ ,‬لمــا لــه مــن دور فــي إنشــاء األسـرة والعائلــة جعــل المـرأة تســتكين وتقبــل‪ ,‬ولــو علــى‬ ‫مضــض بالتســلط الذكــوري فــي مجتمعــات تعتمــد فــي بناهــا االجتماعــي علــى التفــوق الجســدي عنــد‬ ‫الذكــور ‪ ,‬فغــاب المنظــور التكاملــي بيــن الرجــل والم ـرأة ‪ ،‬وافقدهــا الكثيــر مــن مقومــات اســتقاللها‬ ‫الشــخصي‪ .‬فــي األول مــن نيســان ‪ 2014‬م أقــرت الهيئــة العامــة لمجلــس الن ـواب قانــون حمايــة‬ ‫النســاء وســائر أفـراد األسـرة مــن العنــف األســري وقــد صيغــت بنــوده باالســتناد إلــى مشــروع قانــون‬ ‫حمايــة المـرأة مــن العنــف األســري الــذي يقــوم بــه التحالــف الوطنــي لتشـريع حمايــة المـرأة مــن العنــف‬ ‫(‪)5‬‬ ‫األســري والــذي خضــع لد ارســة امتــدت ســنين مــن قبــل لجنــة نيابيــة خاصــة‬

‫رابعاً‪ :‬طرح مسألة العنف ضد المرأة في المجتمع الدولي‬ ‫وكأنهــا‬ ‫فــي القــرن العشـرين ال تـزال مظاهــر الهمجيــة والتســلط والظلــم مترســخة فــي النفــس البشـرية ّ‬ ‫ترفــض التنــازل عــن قيــم القســوة والعنــف فعلــى الرغــم مــن أن النســاء يشــكلن نصــف ســكان األرض‬ ‫أن الم ـرأة عانــت مــن التمييــز فــي معظــم المجتمعــات منــذ اآلف الســنين ففــي الماضــي كانــت‬ ‫إال ّ‬ ‫النســاء يعاملــن بوصفهــن ممتلــكات للرجــال ويتعرضــن للعــذاب واالعتــداء مــن دون أن يفعلــن شــيئاً‬ ‫حيــال ذلــك وعلــى مــدى الســنوات الماضيــة فقــد قفــذت المجتمعــات فــي جميــع أنحــاء العالــم قف ـزة‬ ‫نوعيــة فــي مجــال حصــول المـرأة علــى حقوقهــا ولكــن الكثيـرات مــن النســاء ال يزلــن محرومــات مــن‬ ‫أبســط حقوقهــن‪.‬‬


‫فكلمــة عنــف مقتبســة اصطالحيــا مــن الكلمــة الالتينيــة ‪ violoents‬التــي تعنــي إظهــار عفــوي‬ ‫تلقائــي للقــوة كــرد علــى اســتخدام القــوة المعتمــدة‪.‬‬

‫أمــا سوســيولوجيا فهــي تشــير إلــى فعــل ايــذاء معنــوي أو مــادي‪ ,‬لســاني‪ ,‬يــدوي‪ ,‬يمــارس فردي ـاً أو‬ ‫جماعيـاً‪ ,‬منتظمـاً أم غيــر منتظــم وهــو بشــكليه النفســي واالجتماعــي وبهدفيــه المعنــوي (النيــل مــن‬ ‫ســمعة االخــر) والمادي(النيــل مــن وجــود االخــر) يضعــا فــي مواجهــة فاعــل (فــرداً أو جماعــة أو‬ ‫مؤسســة) يتقصــد العنــف‪ .‬وعليــه يشــير البعــض إلــى أن العنــف االجتماعــي هــو أي فعــل مقصــود‬ ‫أو غبــر مقصــود يســبب إيالمــا جســدياً أو نفســياً لشــخص آخــر‪.‬‬ ‫وفــي اللغــة العربيــة كلمــة عنــف تقتصــر علــى نــوع واحــد مــن أنـواع العنــف المتعــارف عليهــا اليــوم‪,‬‬ ‫وهــو العنــف الجســدي‪ ,‬فقــد جــاء فــي القامــوس»إن لفظــة عنــف مشــتقة مــن مــادة عنــف ويقــال عنــف‬ ‫(‪)2‬‬ ‫ب هــأو عليــه أي أخــذه بشــدة وقســوة‪,‬فهو عنيــف»‬

‫فــي اللغــة اإلنكليزيــة فقــد حــدد قامــوس وبســتر‪« 1997webster‬ســبعة معــان علــى األقــل لمعنــى‬ ‫العنــف‪ ,‬تت ـراوح بيــن المعنــى الدقيــق نســبياً والعــام المرتبــط بالحرمــان مــن الحقــوق عــن طريــق‬ ‫االســتخدام غيــر العــادل للســلطة أو القــوة ‪ ,‬مــرو اًر بمعــان أخــرى تشــير جميعهــا إلــى الهجــوم أو‬ ‫(‪)3‬‬ ‫العــدوان اســتخدام الطاقــة الجســدية ورفــض االخريــن بصــورة مختلفــة‬

‫ثانياَ‪:‬تحديد مفهوم العنف ضد المرأة‬ ‫إن مفهــوم العنــف ضــد الم ـرأة ‪ violence against women‬عـ ّـرف دولي ـاً مــن قبــل هيئــة األمــم‬ ‫المتحــدة ســنة ‪ 1993‬م أنــه أي فعــل عنيــف قائــم علــى أســاس الجنــس ينجــم عنــه أذى أو معانــاة‬ ‫جســمية أو جســدية أو نفســية للمـرأة‪ .‬بمــا فــي ذلــك التهديــد باقتـراف مثــل هــذا الفعــل أو اإلكـراه أو‬ ‫الحرمــان التعســفي مــن الحريــة سـواء أوقــع ذلــك فــي الحيــاة العامــة أو الخاصــة‪.‬‬ ‫كمــا وتشــير الوثيقــة الصــادرة عــن المؤتمــر ال اربــع للم ـرأة فــي بكيــن عــام ‪1995‬م إلــى أن العنــف‬ ‫ضــد النســاء ‪,‬هــو أي عنــف مرتبــط بنــوع الجنــس ‪ ,‬يــؤدي علــى األرجــح إلــى وقــوع ضــرر جســدي‬ ‫أو جنســي أو نفســي أو معانــاة للم ـرأة‪.‬‬

‫والجديربالذكــر انطالق ـاً مــن التعريفــات ال ـواردة أن العنــف الــذي يمــارس ضــد الم ـرأة فــي مجتمعنــا‬ ‫يتميــز بأشــكال متعــددة قــد يكــون لفظيـاً كفعــل منظــور أو رمــزي موجــه ضــد المـرأة يؤثــر أو يحتمــل‬ ‫ـب والشــتم أو الســخرية‪ ,‬قــد يكــون نفســياً أو ذهنيـاً لفعــل منظــور‬ ‫أن يؤثــر ســلباً عليهــا باســتخدام السـ ّ‬ ‫أو رمــزي يؤثــر ســلباً علــى الم ـرأة مــن خــال جعلهــا تشــعر أنهــا كائــن ضعيــف مخطــىء‪ ,‬ومعيــب‬ ‫يحتــاج للتقويــم والعقوبــة فــي حالــة الخطــأ‪ .‬وذلــك باســتخدام االزدراء واألحــكام الدونيــة والحرمــان‬ ‫العاطفــي والتمييــز والجنــدر والتجريــح‪ .‬كمــا وقــد يكــون العنــف جســدياً كفعــل أو امتنــاع عــن فعــل‬ ‫موجــه ضــد الم ـرأة يؤثــر أو يحتمــل أن يؤثــر علــى ســامتها الجســدية متمثــا بالضــرب بأشــكاله‬ ‫ّ‬ ‫المختلفــة وبأدواتــه المتنوعــة باإلضافــة إلــى االعتــداءات الجنســية أو االغتصــاب والختــان والقتــل‪.‬‬ ‫موجــه إليهــا يقــوم علــى القــوة والشــدة واإلك ـراه‪ ,‬ويتســم‬ ‫فالعنــف ضــد الم ـرأة هــو «ســلوك أو فعــل ّ‬ ‫بدرجــات متفاوتــة مــن التمييــز واالضطهــاد والقهــر والعدوانيــة ‪ ,‬ناجــم عــن عالقــات القــوة غيــر‬ ‫المتكافئــة بيــن الرجــل والمـرأة فــي المجتمــع واألسـرة علــى السـواء والــذي يتخــذ اشــكاال نفســية وجســدية‬ ‫(‪)4‬‬ ‫ومتنوعــة فــي االض ـرار‪».‬‬ ‫ثالثاً‪ :‬واقع العنف ضد المرأة‬ ‫يشــير الواقــع وفــق إحصائيــات أن حالــة العنــف الممــارس ضــد الم ـرأة تعــود جــذوره إلــى األصــول‬ ‫اإلنســانية األولــى التــي تخضــع إلــى ثقافــة كونيــة كليــة تحكــم الســلوكيات الخصوصيــة للمجتمعــات‬


‫ب‪-‬األســباب الثقافية‪:‬التــي تكمــن فــي عــدم معرفــة كيفيــة التعامــل مــع االخــر وعــدم احت ارمــه ومــا‬ ‫يتمتــع بــه مــن حقــوق وواجبــات تعــد عام ـاً أساســياً للعنــف‪.‬‬

‫وهــذا الجهــل قــد يكــون مــن الطرفيــن الم ـرأة والشــخص الــذي يمــارس العنــف ضدهــا‪ .‬فجهــل ام ـرأة‬ ‫لحقوقهــا وواحباتهــا مــن جهــة‪ ,‬وجهــل اآلخــر لهــذه الحقــوق مــن جهــة أخــرى قــد يــؤدي إلــى التجــاوز‬ ‫وتعــدي الحدود‪.‬إضافــة إلــى تدنــي المســتوى الثقافــي لألســر ولألفـراد واالختــاف الثقافــي الكبيــر بيــن‬ ‫الزوجيــن باألخــص إذا كانــت الزوجــة هــي األعلــى مســتوى ثقافي ـاً‪ ,‬مــا يولــد التوتــر وعــدم الت ـوازن‬ ‫لــدى الــزوج كــردة فعــل لــه فيحــاول تعويــض هــذا النــص باحثـاً عــن المناســبات التــي يمكــن انتقاصهــا‬ ‫واســتصغارها بالشــتم واإلهانــة أو الضــرب‪.‬‬ ‫ج‪-‬األســباب التربويــة‪ :‬قــد تكــون أســس التربيــة العنيفــة التــي نشــأ عليهــا الفــرد هــي التــي تولــد لديــه‬ ‫العنــف وتجعلــه ضحيــة لــه ‪,‬حيــث تشــكل لديــه شــخصية تائهــة وغيــر واثقــة مــا يــؤدي إلــى جبــر هــذا‬ ‫الضعــف فــي المســتقبل بالعنــف‪ ,‬حيــث يســتقوي علــى األضعــف منــه ‪,‬وهــي الم ـرأة‪ .‬فالعنــف يولــد‬ ‫العنــف ‪.‬‬

‫د‪-‬العــادات والتقاليد‪:‬هنــاك أفــكار وتقاليــد متجــذرة فــي ثقافــات الكثيريــن والتــي تحمــل فــي طياتهــا‬ ‫الرؤيــة الجاهليــة لتمييــز الذكــر علــى األنثــى‪ ,‬مــا يــؤدي إلــى تصغيرهــا وتضئيــل ودورهــا‪ ،‬وفــي‬ ‫المقابــل تكبيــر دور الذكــر حيــث يعطــي الحــق دائمـاً للمجتمــع الذكــوري لهيمنــة والســلطنة وممارســة‬ ‫العنــف عليهــا منــذ الصغــر‪ ,‬وتعويدهــا علــى تقبــل ذلــك وتحملــه‪ ,‬والرضــوخ لــه إذ إنهــا ال تحمــل ذنبـاً‬ ‫ســوى إنهــا ولــدت أنثــى‪.‬‬

‫وال يخفــى مــا لوســائل اإلعــام مــن دور يســهم فــي تدعيــم هــذا التمييــز وتقبــل أنمــاط مــن العنــف‬ ‫ضــد المـرأة فــي الب ارمــج التــي تبــث‪ ,‬واالســتفادة منهــا بشــكل ســليم‪.‬إن النظـرة الخاطئــة التــي ال تــرى‬ ‫أهليــة حقيقيــة وكاملــة للمـرأة كإنســان كامــل اإلنســانية حقـاً وواجباً‪,‬هــو مــا يؤســس لحيــاة تقــوم علــى‬ ‫التهميــش واالحتقــار للمـرأة وبالتالــي للعنــف ضدهــا‪.‬‬ ‫ه‪-‬األسباب البيئية‪:‬إن المشكالت البيئية التي تضغط على اإلنسان كاالزدحام وضعف الخدمات‬ ‫ومشــكلة الســكن وزيــادة عــدد الســكان‪.‬وفضالً عمــا تســببه البيئــة مــن احباطــات للفــرد إذ ال تســاعده‬ ‫علــى تحقيــق ذاتــه والنجــاح فيهــا كتوفيــر العمــل المناســب للشــباب ‪ ,‬كل ذلــك يدفعــه دفع ـاً نحــو‬ ‫العنــف ليــؤدي إلــى انفجــاره علــى مــن هــو أضعــف منــه أال وهــي المـرأة‪.‬‬

‫األســباب االقتصادية‪:‬الخلــل المــادي الــذي تواجهــه األس ـرة والتضخــم االقتصــادي الــذي ينعكــس‬ ‫علــى المســتوى المعيشــي لــكل مــن الفــرد أو الجماعــة حيــث مــن الصعــب الحصــول علــى لقمــة‬ ‫العيــش والحيــاة الكريمــة التــي تحفــظ للفــرد كرامتــه إنســانية تعــد مــن المشــكالت االقتصاديــة التــي‬ ‫تضغــط علــى اآلخــر ألن يكــون عنيف ـاً ويصــب جــام غضبــه علــى الم ـرأة ‪ .‬فض ـاً عــن ذلــك فــإن‬ ‫مفهــوم النفقــة االقتصاديــة التــي تكــون للرجــل علــى المـرأة وأنــه يعــول لــذا فإنــه يعطــي لنفســه الحــق‬ ‫بتصنيفهــا وذلــك فــي إذاللهــا وتصغيرهــا مــن هــذه الناحيــة ومــن جهــة أخــرى تقبــل المـرأة ذاتهــا لهــذا‬ ‫العنــف ألنهــا ال تتمكــن مــن إعالــة نفســها أو إعالــة أوالدهــا‪،‬أن ثقــل األزمــات االقتصاديــة الخانقــة‬ ‫ومــا تفــرزه مــن عنــف عــام بســبب التضخــم والفقــر والطالــة والحاجــة جعلــت مــن العامــل االقتصــادي‬ ‫(‪)9‬‬ ‫يحتــل ‪45‬بالمئــة مــن حــاالت العنــف ضــد الم ـرأة‪.‬‬

‫عنــف الحكومــات والســلطات‪ :‬عندمــا تقــوم الســلطات العليــا الحاكمــة بســن قوانيــن تعنــف المـرأة أو‬ ‫تأييــد القوانيــن وحمايتهــا أمــن يقــوم بالعنــف ضدهــا أو عــدم نصرتهــا عندمــا تمــد يدهــا لطلــب العــون‬ ‫( ‪)10‬‬ ‫منهــم وإنصافهــا ضــد مــن يمــارس العنــف ضدهــا‪.‬‬ ‫االســتبداد السياســي‪:‬إن االســتبداد السياســي الــذي يدعــو إلــى تطــور المجتمــع ككل والــذي يقــف‬


‫لقــد بــدأ اهتمــام المجتمــع الدولــي بقضيــة العنــف منــذ صــدور اإلعــان العالمــي لحقــوق اإلنســان‬ ‫حيث دعت المادة الخامسة منه إلى عدم تعريض أي إنسان للتعذيب وال للعقوبات أو المعامالت‬ ‫القاســية أو الوحشــية أو الخاصة بالكرامة‪.‬‬

‫أمــا االهتمــام الخــاص بقضايــا العنــف ضــد المـرأة فقــد ت ارفــق مــع اتفاقيــة القضــاء علــى جميــع أشــكال‬ ‫التمييــز ضدهــا فالعنــف ضــد المـرأة مــن األمــور التــي تجلــب االنتبــاه كمــا أنهــا ظاهـرة عامــة ال تتمثــل‬ ‫بفئــة معينــة أوثقافــة خاصــة إنمــا تشــمل الثقافــات والــدول والمجتمعــات كافــة‪ ،‬فالعنــف يمــارس علــى‬ ‫أســاس نــوع الجنــس قائــم علــى نطــاق العالــم وال يختلــف مــن مجتمــع ألخــر فالمشــهد ذاتــه والصــورة‬ ‫ذاتهــا إنمــا تتغيــر وتتبــدل األســماء واألمكنــة عنــف يرتكــب مــن األزواج واألبــاء واألبنــاء الذكــور قــد اًر‬ ‫كبيـ اًر مــن هــذا العنــف بحــق النســاء‬ ‫ويعتبــر العنــف الوجــه ضــد الم ـرأة مــن أبــرز المشــكالت التــي ال يــكاد يخلــو منهــا مجتمــع‪ ,‬كونــه‬ ‫يشــكل انتهــاكاً لحقوقهــا الغنســانية والحريــات األساســية التــي يجــب أن تتمتــع بهــا‪ ,‬وهــو يمــارس عبــر‬ ‫التاريــخ بأوجــه واشــكال مختلفــة‪.‬‬ ‫وضعــت اتفاقيــة ســيداو قضيــة العنــف ضــد المـرأة فــي قلــب شــرعة حقــوق اإلنســان وقــد ســاهمت فــي‬ ‫خلــق إطــار معيــاري تســتند إليــه الحكومــات وقادتهــا فــي مكافحــة العنــف ضــد النســاء حيــث هــي‬ ‫(‪)6‬‬ ‫مســؤولة وعرضــة للمحاســبة فــي هــذا المجــال‬

‫أمــا علــى الصعيــد المباشــر فقــد بــدأ االهتمــام بقضيــة العنــف ضــد المـرأة عــام م ‪1985‬فــي مؤتمــر‬ ‫الم ـرأة الــذي أقيــم فــي نيروبــي بعــد اإلشــارة إلــى تللــك الظاه ـرة فــي مؤتمــر المكســيك ‪ 1975‬م‬ ‫كوبنهاجــن ‪ 1980‬م وقــد نتــج عــن وثيقــة مؤتمــر نيروبــي وجــود خطــة عمــل علــى المســتويات‬ ‫المحليــة واإلقليمــة والدوليــة‪ .‬وقــد اشــارت الوثيقــة إلــى العنــف ضــد المـرأة باعتبــاره مــن أهــم المعوقــات‬ ‫ضــد الســام والتنميــة والمســاوة‪.‬‬

‫إضافــة إلــى وثيقــة قمــة األرض التــي تضمنــت فــي ري ودي جينــرو‪ 1992‬م إشــارة واحــدة للعنــف‬ ‫ضــد المـرأة فــي الفقـرة ‪\252‬ه فــي أجنــدة للعنــف والتــي تقتــرح أنــه علــى الحكومــات اتخــاذ إجـراءات‬ ‫قويــة ومشــددة تنــص علــى منــع العنــف ضــد الم ـرأة واتخاذاإلج ـراءات اإلداريــة والتعليميــة كافــة‬ ‫لمكافحــة العنــف ضــد الم ـرأة بشــتى صوره‪.‬كمــا وأكــد مؤتمــر فينيــا ‪ 1993‬م علــى ضــرورة العمــل‬ ‫مــن أجــل إ ازلــة العنــف ضــد الم ـرأة فــي الحيــاة الخاصــة والعامــة و»قــد تــم تعيــن مقــررة خاصــة‬ ‫فــي أعقــاب المؤتمــر لتبحــث فــي طــرق ومســببات العنــف والوســائل للقضــاء عليــه»(‪ )7‬إضافــة لمــا‬ ‫نــص عليــه اإلعــان العالمــي للقضــاء علــى العنــف ضــد المـرأة» الــذي تبنتــه الجمعيــة العامــة لالمــم‬ ‫(‪)8‬‬ ‫المتحــدة ‪1993‬م‪».‬‬ ‫كمــا وأدان مؤتمــر الســكان والتنميــة العنــف الموجــه ضــد المـرأة وبشــكل خــاص حــدوث االغتصــاب‬ ‫وتجارة الرقيق وتجارة األطفال من أجل الدعارة والعنف الجنســي‪ ،‬ونص مؤتمر القمة االجتماعية‬ ‫فــي كوبنهاجــن علــى إدانــة للعنــف ضــد المـرأة وتبنــى اســتراتجيات مســتقبلية‪.‬‬

‫خامساً‪ :‬أسباب العنف ضد المرأة‬ ‫أ‪-‬الم ـرأة نفســها‪:‬المرأة نفســها مــن أحــد العوامــل الرئيســة لبعــض أشــكال العنــف وذلــك لتقبلهــا‬ ‫وتســامحها والخضــوع والســكوت عليــه مــا يجعــل اآلخــر يتمــادى أكثــر‪ .‬وغالب ـاً مــا يكــون هــذا‬ ‫الســبب مفعــل عندمــا ال تجــد المـرأة المعنفــة مــن تلجــأ إليــه ومــن يقــوم بحمايتهــا‪ .‬كمــا أن ضعــف‬ ‫المـرأة نفســها فــي المطلبــة حقوقهــا اإلنســانية والعمــل لتفعيــل وتنامــي دورهــا االجتماعــي والسياســي‬ ‫واالقتصــادي والثقافــي‪.‬‬


‫المكتــب اإلحصائــي لألمــم المتحــدة حــول العنــف األســري» إن ام ـرأة واحــدة مــن بيــن كل أربــع‬ ‫(‪)17‬‬ ‫نســاء فــي البلــدان الصناعيــة قــد تعرضــت للضــرب مــن قبــل شـريك حياتهــا‪.‬‬ ‫ب‪-‬العنــف االجتماعــي‪ :‬يتجســد هــذا النــوع مــن العنــف بفــرض حصــار علــى الفتــاة وتضييــق‬ ‫الخنــاق علــى فــرص تواصلهــا وتفاعلهــا مــع العالــم االجتماعــي الخارجــي ‪,‬وهــو أيض ـاً محاولــة‬ ‫الحــد مــن انخراطهــا فــي المجتمــع ‪,‬وممارســتها الدوارهــا ‪,‬تقييــد الحركــة ‪,‬التدخــل فــي الشــؤون‬ ‫الخاصــة ‪ ,‬تحديــد أدوارهــا وعــدم الســماح لهــا بزيــارة األصدقــاء‪ ,‬وبإتخــاذ القـ اررات ‪,‬عــدم تحقيــق‬ ‫أهدافهــا فــي الحياة‪.‬ويتجلــى هــذا العنــف ب‪:‬‬ ‫عــدم إتاحــة فرصــة العمــل للمـرأة ‪,‬انخفــاض نســبة مســاهمتها بقــوة العمــل‪ ,‬وعــدم توفيــر البدائــل‬‫لممارســة دورهــا كربــة منــزل وكأم‪.‬‬ ‫‪-‬انتشار األمية عند النساء وتدني نسبة الملتحقات بالتعليم العالي ‪.‬‬

‫‪-‬سوء التغذية واعتالل الصحة والنقص الموجود في الخدمات الصحية في حسابها الوقائي‪.‬‬

‫عــدم إتاحــة الفــرص أمامهــا كــي تحــرك جماهيــر النســاء للقيــام بحركــة اجتماعيــة حقيقيــة‬‫كتغييــر جــذري للــدور الــذي تلعبــه‪ ,‬ولتحررهــا مــن الحــذف والتبعيــة المطلقــة للمعتقــدات الموروثــة‬ ‫لمفهومهــا المشــوه‪.‬‬

‫‪-‬تحجيم قدرات المرأة وإبعادها عن المشاركة في صنع المستقبل‪.‬‬

‫لقــد ضمــن اإلعــان العالمــي للقضــاء علــى التمييــز ضــد الم ـرأة هــذا النــوع كل عنــف جــدي‬ ‫وجنســي ونفســي «يقــع فــي اإلطــار العــام للمجتمــع بمــا ذلــك االغتصــاب واإلســاءة الجنســية‬ ‫والتحــرش والترهيــب الجنســي فــي العمــل وفــي المؤسســات التعليميــة وس ـواها االتجــار بالم ـرأة‬ ‫(‪)18‬‬ ‫والبغــاء القســري‪».‬‬

‫ج‪ -‬العنــف القانونــي‪ :‬يشــمل هــذا النــوع مــن العنــف‪ ,‬العنــف المدنــي والجنســي والنفســي الــذي‬ ‫ترتكبــه الدولــة أو تتغاضــى عنــه إنمــا وقــع ذلــك ألن للمـرأة الحــق فــي التمتــع علــى قــدم المســاواة‬ ‫مــع الرجــل ‪ ,‬بــكل حــوق اإلنســان وحرياتــه األساســية‪ ,‬وفــي حمايــة هــذه الحقــوق والحريــات وذلــك‬ ‫فــي المياديــن السياســية واالقتصاديــة واالجتماعيــة والثقافيــة والمدنيــة أو أي ميــدان آخــر‪.‬‬

‫ومــن بيــن القوانيــن التــي تدعــو األمــم المتحــدة إلــى إقرارهــا فــي هــذا المجــال‪ ,‬قانــون لعــاج ظاهـرة‬ ‫العنــف المنزلــي‪ ,‬قانــون يجيــز للم ـرأة حــق إعطــاء جنســيتها ألطفالهــا فــي حــاالت الــزواج مــن‬ ‫شــخص يحمــل جنســية أخــرى ‪ ,‬قانــون يحــرم الختــان‪ ,‬إيجــاد قانــون األحـوال الشــخصية جديــد ‪,‬يــؤدي‬ ‫إلــى إعطــاء حــق الطــاق للمـرأة ‪ ,‬ورفــع الواليــة عــن المــال والنفــس عنــد بلــوغ الرشــد ‪.‬إضافــة إلــى‬ ‫رفــع ســن الحضانــة‪ ,‬ومنــع تعــدد الزوجــات‪ ,‬وإنشــاء محكمــة واحــدة وخاصــة بجميــع قضايــا األسـرة‬ ‫‪ ,‬وتطبيــق الشـراكة بيــن الزوجيــن فــي ثــروة األسـرة وضمــان وصــول النفقة‪.....‬إيجــاد قانــون يحمــي‬ ‫النســاء المعتقــات فــي الســجون ومــا تتعــرض لــه مــن االغتصــاب ‪ ,‬إدخــال أدوات فــي الجســم‪,‬‬ ‫الضــرب بــأدوات صلبــة‪ ,‬اإلجبــار علــى التعــري ‪....‬عبــارات تنطــوي علــى إيــذاء جنســي ‪,‬التعذيــب‬ ‫النفســي‪.....‬‬ ‫العنف الجنســي‪:‬هو إجبار المرأة على ممارســة جنســية ضد رغبتها ويشــمل هذا النوع االغتصاب‪,‬‬ ‫حتــى ولــو كان فــي حالــة الــزواج والتحــرش الجنســي ‪ ,‬سـواء اقتــرن باســتخدام القــوة أو التهديــد بهــا‬ ‫والمضايقــات الجنســية‪,‬خاصة أثنــاء العمل‪.‬وحســب االحصــاءات إن نســبة التعــرض الغتصــاب‬ ‫متقاربــة جــداً فــي كل البلــدان الصناعيــة والناميــة وقــد بينــت أن امـرأة واحــدة مــن بيــن كل خمــس أو‬ ‫ســبع نســاء تتعــرض لالغتصــاب فــي حياتهــا‪ .‬وأشــارت اإلحصــاءات التــي جمعــت مــن ثمانــي دول‬


‫حجــر عثـرة ‪,‬أمــام البنــاء العصــري للدولــة والســلطة ‪ .‬فضـاً عــن انتقــاء الديمقراطيــة بمــا تعينــه مــن‬ ‫حكــم القانــون والمؤسســات والتعدديــة واحت ـرام وقبــول اآلخــر‪.‬‬ ‫تداعيــات الحــروب الكارثيــة‪ :‬تولــد الحــروب الكارثيــة مــن ثقافــة عنــف وشــيوع القتــل والســبي وكل‬ ‫مظاهــر العنــف الموجــه ضــد الم ـرأة‪.‬‬

‫*إن العنــف ضــد الم ـرأة انتهــاك لحقــوق اإلنســان للم ـرأة ويمنعهــا مــن التمتــع بحقوقهــا اإلنســانية‬ ‫وحرياتهــا األساســية مثــل الحــق فــي الحيــاة واألمــن الشــخصي والحــق فــي التعليــم والحــق فــي الصحــة‬ ‫والســكن والمشــاركة فــي الحيــاة العامة‪.‬هــذا االنتهــاك يبقــي المـرأة فــي وضــع التبعيــة ويســاعد علــى‬ ‫اســتمرار التفــاوت فــي توزيــع القــوى بيــن الرجــل والمـرأة‪.‬‬ ‫سادساً ‪ :‬أنواع العنف‬ ‫أ‪-‬العنــف الجســدي‪ :‬وهــو مــن أشــد وأبــرز أن ـواع العنــف حيــث يتعلــق بــاألذى الجســدي واســتخدام‬ ‫( ‪)11‬‬ ‫القــوة‪ ,‬و»يت ـراوح مــن أبســط األشــكال إلــى أخطرهــا واشــدها الضرب‪,‬الخنق‪,‬الدهــس‪».‬‬

‫وبحســب التقاريــر واإلحصــاءات حــول مــدى انتشــار هــذا النــوع مــن العنــف بيــن النســاء منهــا التقريــر‬ ‫الــذي أصدرتــه األمــم المتحــدة عــام ‪ 2001‬م حيــث تبيــن فيــه أن واحــدة مــن بيــن كل ثــاث نســاء‬ ‫فــي العالــم تعرضــت للضــرب أو اإلكـراه علــى ممارســة الجنــس أو إســاءة المعاملــة بصــورة أو بأخــرى‬ ‫وغالبـاً مــا تتــم هــذه االنتهــاكات لحقــوق المـرأة بواســطة إنســان يعرفــه جيــداً‪ .‬كمــا ويشــير برنامــج األمــم‬ ‫المتحــدة للتنميــة «إن ثلثــي النســاء علــى األقــل تعرضــن خــال حياتهــن لصــورة مــن صــور العنــف‬ ‫(‪)12‬‬ ‫المنزلــي‪».‬‬ ‫خامسـاً‪:‬مظاهر العنــف‪:‬إن العنــف ضــد النســاء يعــد مصــد اًر لمعانــاة اآلالف مــن النســاء اللواتــي تتــم‬ ‫إهانتهــن بقوانيــن تمييزيــة وممارســات تعســفية مؤسســة علــى اســتضعافهن كجنــس‪,‬كأن يتــم ضربهــن‬ ‫أو اغتصابهــن والتحــرش الجنســي بهــن وهتــك عرضهــن‪.‬‬ ‫ ‪ -‬أالعنــف األســري‪ :‬هــو أحــد أنمــاط الســلوك العدوانــي الناتــج عــن وجــود عالقــات قــوة غيــر‬ ‫متكافئــة بيــن الرجــل والمـرأة داخــل األسـرة ‪ ,‬سـواء فــي إطــار العائلــة‪,‬أم الشــارع ‪,‬أم فــي مــكان‬ ‫العمــل أو توجيــه اإلهانــة والســب والشــتم وحتــى‬

‫ ‪ -‬باالختطــاف‪ ,‬ومــا ي ارفــق ذلــك مــن تحديــد األدوار والمكانــة لــكل فــرد مــن أفـراد األسـرة «وفقـاً‬ ‫(‪)13‬‬ ‫لمــا يمليــه النظــام االقتصــادي واالجتماعــي الســائد فــي المجتمــع‪».‬‬ ‫وقــد أشــار اإلعــان العالمــي للقضــاء علــى العنــف األســري تفســي اًر مفص ـاً حيــث إن»العنــف‬ ‫الجســدي والنفســي الذي يقع في إطار األسـرة ‪ ,‬بما في ذلك الضرب المبرح واإلســاءة الجنســية‬ ‫لألطفــال اإلنــاث فــي األسـرة‪ ,‬والعنــف المتصــل بالمهــر واالغتصــاب فــي إطــار الحيــاة الزوجيــة‪,‬‬ ‫وبتــر األعضــاء التناســلية لإلناث‪....‬والعنــف خــارج نطــاق الحيــاة الزوجيــة والعنــف المتصــل‬ ‫(‪)14‬‬ ‫باالســتغالل‪.‬‬

‫وهــذا العنــف يمــارس أيض ـاً علــى» الطفلــة التــي تعانــي مــن مشــاكل نفســية وجســدية وتشــويه‬ ‫األعضــاء التناســلية التــي تتعــرض لهــا بيــن ‪ 85‬و ‪ 114‬مليــون فتــاة وامـرأة» (‪ )15‬كمــا ويشــمل‬ ‫الفتــاة التــي تتــزوج باكـ اًر أو مــا يعــرف بتزويــج القاصـرات باعتبــار أن ‪:‬اإلكـراه علــى الــزواج يحــرم‬ ‫الطفلــة مــن حقوقهــا فــي التعليــم ويحملهــا أعبــاء نفســية واجتماعيــة وصحيــة ‪ ,‬ويصيبهــا أو يحتمــل‬ ‫ان يصيبهــا بســببه ضــرر نفســي و صحــي أو جنســي» (‪ )16‬وتشــير المعلومــات التــي جمعهــا‬


‫تحجيــم قــدرات الم ـرأة وإبعادهــا عــن المشــاركة فــي صنــع المســتقبل‪ .‬لقــد ضمــن اإلعــان‬‫العالمــي للقضــاء علــى التمييــز ضــد المـرأة هــذا النــوع كل عنــف جــدي وجنســي ونفســي «يقــع فــي‬ ‫االطــار العــام للمجتمــع بمــا ذلــك االغتصــاب واالســاءة الجنســية والتحــرش والترهيــب الجنســي‬ ‫فــي العمــل وفــي المؤسســات التعليميــة وس ـواها االتجــار بالم ـرأة والبغــاء القســري‪7 ».‬‬ ‫ج‪ -‬العنــف القانوني‪:‬يشــمل هــذا النــوع مــن العنــف ‪,‬العنــف المدنــي والجنســي والنفســي الــذي‬ ‫ترتكبــه الدولــة أو تتغاضــى عنــه انمــا وقــع وذلــك ألن للمـرأة الحــق فــي التمتــع علــى دم المســأواة‬ ‫مــع الرجــل ‪,‬بــكل حــوق االنســان وحرياتــه االساســية وفــي حمايــة هــذه الحقــوق والحريــات وذلــك‬ ‫فــي المياديــن السياســية واالقتاديــة واالجتماعيــة والثقافيــة والمدنيــة أو اي ميــدان اخــر‪.‬‬

‫ومــن بيــن القوانيــن التــي تدعواالمــم المتحــدة إلــى اقرارهــا فــي هــذا المجــال ‪,‬قانــون لعــاج ظاهـرة‬ ‫العنــف المنزلــي ‪,‬قانــون يجيــز للمـرأة حــق اعطــاء جنســيتها الطفالهــا فــي حــاالت الــزواج مــن‬ ‫شــخص يحمــل جنســية اخــرى ‪,‬قانــون يحــرم الختان‪,‬ايجــاد قانــون االحـوال الشــخصية جديــد يــؤدي‬ ‫إلــى اعطــاء حــق الطــاق للمـرأة ورفــع الواليــة عــن المــال والنفــس عنــد بلــوغ الرشــد اضافــة إلــى‬ ‫رفــع ســن الحضانــة ومنــع تعــدد الزوجــات وانشــاء محكمــة واحــدة وخاصــة بجميــع قضايااالسـرة‬ ‫وتطبيــق الشـراكة بيــن الزوجيــن فــي ثــروة االسـرة وضمــان وصــول النفقة‪.....‬ايجــاد قانــون يحمــي‬ ‫النســاء المعتقــات فــي الســجون ومــا تتعــرض لــه مــن االغتصــاب ‪,‬ادخــال ادوات فــي الجســم‬ ‫‪,‬الضــرب بــأدوات صلبة‪,‬االجبــار علــى التعــري ‪....‬عبــارات تنطــوي علــى ايــذاء جنســي ‪,‬التعذيــب‬ ‫النفسي‪.....‬‬

‫ثامناً‪ :‬دور الجمعيات المناهضة للعنف ضد المرأة‬ ‫تهــدف الجمعيــات إلــى اقامــة حمــات مناص ـرة لتحقيــق التغييــر االيجابــي المســتدام وإلــى وضــع‬ ‫ب ارمــج للمســأواة بيــن الجنســين ‪.‬وقــد ادى تنــوع برنامــج عمــل هــذه الجمعيــات إلــى وجــود جمعيــات‬ ‫متخصصــة بشــؤون المرأة‪,‬وقــد احصــت و ازرة الداخليــة ‪ 78‬جمعيــة مــن هــذا النوع‪.‬امــا التقريــر‬ ‫الرســمي األول حــول اتفاقيــة الغــاء كافــة اشــكال التمييــز ضــد المـرأة عــام ‪« 2000‬فقــد قــدم تقريـ ار‬ ‫مقتضبــا عــن الهيئــات النســائية االهــم والتــي يتصدرهــا المجلــس النســائي اللبنانــي ‪,‬اللجنــة االهليــة‬ ‫لقضايــا المرأة‪,‬الجمعيــة اللبنانيــة لحقــوق االنســان ‪,‬اللقــاء الوطنــي مــن اجــل قانــون مدنــي اختيــاري‬ ‫لالح ـوال الشــخصية ‪,‬وبعــض هــذه الجمعيــات غيــر متخصصــة بالم ـرأة حصرا‪,‬لكنهــا تنفــذ برنامجــا‬ ‫يهــدف إلــى تمكيــن الم ـرأة»‪1.‬‬ ‫وفــي لبنــان العديــد مــن الجمعيــات التــي تهتــم بقضايــا المـرأة وهــذه الجمعيــات ســعت مؤخـ ار إلــى توحيد‬ ‫ملهــا واالئتــاف فــي اطــار شــبكة عامــة اطلــق عليهــا اســم الشــبكة النســائية تضــم هيئــات نســائية‬ ‫‪,‬ومنظمــات حقوقيــة وم اركــز ابحــاث ‪,‬وقطاعــات نقابيــة نســائية تؤمــن بالمســأواة بيــن الجنســين‪.‬‬

‫ومــن ابــرز واهــم هــذه الجمعيــات والتــي تتعلــق ببحثنــا هــذا هــي الهيئــة اللبنانيــة لمناهضــة العنــف‬ ‫ضــد المـرأة التــي انشــئت فــي اذار عــام ‪ 1997‬علــى ضــوء مــا عــرف بمحكمــة النســاء العربيــة التــي‬ ‫عقــدت فــي بيــروت عــام ‪ 1995‬تحضي ـ ار لمؤتمــر بيجين‪,‬وقــد تكونــت هــذه الهيئــة مــن جمعيــات‬ ‫نســائية ومختلطــة وشــخصيات اجتماعيــة مــن الجنســين‪.‬‬

‫وقــد تهــدف هــذه الهيئــة إلــى التوعيــة االجتماعيــة حــول هــذه الظاه ـرة والضغــط مــن اجــل احــداث‬ ‫اصالحــات قانونيــة واالرشــاد لضحايــا العنــف ‪,‬والتنســيق مــع الجمعيــات االهليــة والفئــات المتوافقــة‬ ‫مــع اهــداف الهيئــة‪.‬‬ ‫اضافــة إلــى جمعيــة» كفى»التــي تســعى إلــى القضــاء علــى جميــع اشــكال العنــف واالســتغالل‬ ‫الممارســة علــى النســاء واحقــاق المســأواة الفعليــة بيــن الجنســين عبــر اعتمــاد وســائل عــدة‪ ,‬منهــا‬


‫أن مرتكبــي حــوداث االغتصــاب معرفــون لــدى الضحايــا فــي‬ ‫«تمثــل الــدول‬ ‫الصناعيــة والناميــة إلــى ّ‬ ‫(‪)19‬‬ ‫«وفــي لبنــان يشــير التقريــر الوطنــي الموحــد فــي تنفيــذ منهــاج عمــل بيكيــن للعــام‬ ‫أغلــب األحيــان‬ ‫‪1999‬م وبنــاء علــى إحصائيــات قــوى األمــن الداخلــي للعــام ‪ 1997‬م أن وقــوع ‪ 1302‬فعــل عنــف‬ ‫ضــد النســاء‪ .‬كمــا ذكــرت الهيئــة الوطنيــة لشــؤون المـرأة ‪2000‬م بــأن هنــاك ‪ 114‬حالــة اغتصــاب‬ ‫و‪ 281‬حالــة اعتــداء ومضايقــات جنســية تــم إبــاغ قــوى األمــن الداخلــي عنهــا‪.‬‬ ‫ســابعاً‪:‬مظاهر العنــف‪ :‬إن العنــف ضــد النســاء يعــد مصــد اًر لمعانــاة اآلالف مــن النســاء اللواتــي تتــم‬ ‫إهانتهــن بقوانيــن تمييزيــة وممارســات تعســفية مؤسســة علــى اســتضعافهن كجنــس‪,‬كأن يتــم ضربهــن‬ ‫أو اغتصابهــن والتحــرش الجنســي بهــن وهتــك عرضهــن‪.‬‬ ‫ ‪ -‬أالعنــف األســري‪:‬هو أحــد أنمــاط الســلوك العدوانــي الناتــج عــن وجــود عالقــات قــوة غيــر‬ ‫متكافئــة بيــن الرجــل والمـرأة داخــل األسـرة ‪ ,‬سـواء فــي إطــار العائلــة‪,‬أم الشــارع ‪,‬أم فــي مــكان‬ ‫العمــل أو توجيــه اإلهانــة والســب والشــتم وحتــى االختطــاف‪ ,‬ومــا ي ارفــق ذلــك مــن تحديــد‬ ‫األدوار والمكانــة لــكل فــرد مــن أفـراد األسـرة «وفقـاً لمــا يمليــه النظــام االقتصــادي واالجتماعــي‬ ‫(‪)24‬‬ ‫الســائد فــي المجتمــع‪».‬‬

‫وقــد أشــار اإلعــان العالمــي للقضــاء علــى العنــف األســري تفســي اًر مفص ـاً حيــث إن»العنــف‬ ‫الجســدي والنفســي الــذي يقــع فــي إطــار األسـرة ‪ ,‬بمافــي ذلــك الضــرب المبــرح واإلســاءة الجنســية‬ ‫لألطفــال اإلنــاث فــي األسـرة‪ ,‬والعنــف المتصــل بالمهــر واالغتصــاب فــي إطــار الحيلــة الزوجيــة‪,‬‬ ‫وبتــر األعضــاء التناســلية لالناث‪....‬والعنــف خــارج نطــاق الحيــاة الزوجيــة والعنــف المتصــل‬ ‫( ‪)25‬‬ ‫باالســتغالل‪».‬‬

‫وهــذا العنــف يمــارس أيض ـاً علــى» الطفلــة التــي تعانــي مــن مشــاكل نفســية وجســدية وتشــويه‬ ‫(‪)26‬‬ ‫األعضــاء التناســلية التــي تتعــرض لهــا بيــن ‪ 85‬و ‪ 114‬مليــون فتــاة وام ـرأة»‬

‫كمــا ويشــمل الفتــاة التــي تتــزوج باكـ اًر أو مــا يعــرف بتزويــج القاصـرات باعتبــار أن ‪:‬اإلكـراه علــى‬ ‫الزواج يحرم الطفلة من حقوقها في التعليم ويحملها أعباء نفسية واجتماعية وصحية ويصيبها‬ ‫أو يحتمــل أن يصيبهــا بســببه ضــرر نفســي و صحــي أو جنســي» (‪ )27‬وتشــير المعلومــات التــي‬ ‫جمعهــا المكتــب اإلحصائــي لألمــم المتحــدة حــول العنــف األســري» أن امـرأة واحــدة مــن بيــن كل‬ ‫أربــع نســاء فــي البلــدن الصناعيــة قــد تعرضــت للضــرب مــن قبــل شـريك حياتهــا‪.)27( ».‬‬ ‫ب‪-‬العنــف االجتماعــي‪ :‬يتجســد هــذا النــوع مــن العنــف بفــرض حصــار علــى الفتــاة وتضييــق‬ ‫الخنــاق عليهــا وتفاعلهــا مــع العالــم االجتماعــي الخارجــي ‪ ,‬وهــو أيض ـاً محاولــة الحــد مــن‬ ‫انخراطهــا فــي المجتمــع وممارســتها ألدوارهــا ‪ ,‬تقييــد الحركــة ‪,‬التدخــل فــي الشــؤون الخاصــة ‪,‬‬ ‫تحديــد أدوار المـرأة ‪ ,‬عــدم الســماح لهــا بزيــارة األصدقــاء‪ ,‬باتخــاذ القـ اررات ‪,‬عــدم تحقيــق أهدافهــا‬ ‫فــي الحياة‪.‬ويتجلــى هــذا العنــف ب‪:‬‬ ‫عــدم إتاحــة فرصــة العمــل للمـرأة ‪ ,‬انخفــاض نســبة مســاهمتها بقــوة العمــل وعــدم توفيــر البدائــل‬‫لممارســة دورهــا كربــة منــزل وكأم‪.‬‬ ‫‪-‬انتشار األمية عند النساء وتدني نسبة الملتحقات بالتعليم العالي ‪.‬‬

‫‪-‬سوء التغذية واعتالل الصحة والنقص الموجود في الخدمات الصحية في حسابها الوقائي‪.‬‬

‫عــدم إتاحــة الفــرص أمامهــا لكــي تحــرك جماهيــر النســاء وللقيــام بحركــة اجتماعيــة حقيقيــة‬‫كتغييــر جــري للــدور الــذي تلعبــه‪ ,‬ولتحرهــا مــن الحــذف والتبعيــة المطلقــة للمعتقــدات الموروثــة‬ ‫لمفهومهــا المشــوه‪.‬‬


‫يرتكــب بحقهــا اي عنــف ‪,‬فلــن يكــون هنــاك اي قيمــة ألي تدبيــر مــا لــم يكــن مقترنــا بقانــون يحمــي‬ ‫حقوقهــا‪ .‬وانطالقــا ممــا ورد فــي هــذه الســطور ال بــد مــن وضــع بعــض التوصيــات ومنهــا‪:‬‬ ‫‪-1‬ضمــان احتـرام حقــوق االنســان وحرياتــه االساســية كافــة وحمايتهــا‪ ,‬إلــى وهــذا يقودنــا إلــى الدعــوة‬ ‫التصديــق ومــن دون تحفظــات علــى المواثيــق الخاصــة بحقــوق االنســان كافــة الســيما المتعلقــة‬ ‫بحقــوق الم ـرأة‪.‬‬ ‫‪-2‬العمــل الهــادف والجــاد علــى ضمــان معرفــة النســاء كافــة حقوقهــن وتمكينهــن مــن المطالبــة‬ ‫بتوفيرهــا وتعزيزهــا وممارســتها لهــا ‪,‬ومــن هــذا المنطلــق يجــب تثقيــف الجميــع علــى موضــوع حقــوق‬ ‫الم ـرأة وحقــوق االنســان ‪,‬‬

‫‪ -3‬تعزيــز ونشــر ثقافــة الجنــدر علــى كافــة المســتويات وفــي مؤسســات الدولــة كافــة لكــي ال تــؤدي‬ ‫السياســات االجتماعيــة واالقتصاديــة والســيما التخطيــط االنمائــي إلــى ادامــة العنــف ضــد الم ـرأة‬ ‫وزيــادة حدتــه‪.‬‬ ‫‪-4‬وضع خطط انمائية للنهوض بالمرأة وتنميها وتطويرها‪.‬‬

‫‪-5‬التوعيــة والتثقيــف بحقــوق االنســان عامــة وحقــوق الم ـرأة خاصــة ‪,‬لهــدف معرفــة الم ـرأة لحقوقهــا‬ ‫وكيفيــة الدفــاع عنهــا وايصــال صوتهــا وشــكواها إلــى الجهــات المختصة‪,‬وعــدم الســكوت أو التســاهل‬ ‫عــن حقوقهــا والهــدف مــن كل ذلــك هــو صنــع كيــان مســتقل وواع لوجودهــا فــي المجتمــع وليــس‬ ‫مجــرد تابــع‪.‬‬ ‫‪-6‬توفير مؤسسات تأهيل وايواء للنساء المعنفات وتقديم خدمات طبية ونفسية وقانونية مجانا‪.‬‬

‫‪-7‬الدعــوة إلــى تشـريع القوانيــن التــي تحمــي المـرأة المعنفــة وتحفــظ حقوقهــا وتشــجيع الضحيــة علــى‬ ‫االبــاغ عــن الجــرم واالهتمــام بهــا ومحأولــة اعــادة تأهيلهــا فــي الحيــاة االجتماعيــة بعــد حــدوث‬ ‫الجــرم وتخفيــف المعانــاة عنها‪,‬والرقابــة علــى االعــام الــذي يبــث لمشــاهد العنــف ممــا يســاهم فــي‬ ‫انتشــاره وتطبيقــه‪.‬‬

‫اخيرا‪,‬ان المرأة اليوم قد حققت انجازات مهمة على مستوى االدوار التي تقوم بها واصبحت تشكل‬ ‫نصــف المجتمــع كقــوة عاملــة ويتجلــى دورهــا فــي كافــة مجــاالت الحيــاة االجتماعيــة واالقتصاديــة‬ ‫والثقافيــة وان كانــت تعانــي مــن اجحــاف فــي دورهــا السياســي ‪.‬اال اننــا ال نســتطيع ان نخفــي بــأن‬ ‫مجتمعنــا ينظــر اليهــا كمواطنــة درجــة ثانيــة ويبــرر حــاالت العنــف الموجــه ضدهــا مــن جهــة وبعجــز‬ ‫الســلطة وعــدم جديتهــا فــي الوقــوف إلــى جانــب قضاياهامــن جهــة اخــرى‪.‬‬ ‫ان الم ـرأة بحاجــة إلــى عمــل دؤوب وجهــد كبيــر ووعــي بذاتهــا وقدراتهــا للحصــول علــى حقوقهــا‬ ‫بالتعــأون مــع الجهــات المحليــة والدوليــة فــي هــذا الشــأن‪.‬‬

‫المراجع والمصادر‬

‫‪-1‬القاطرجــي ‪,‬نهــى‪ ,‬الم ـرأة فــي منظومــة األمــم المتحدة‪,‬العنــف ضــد الم ـرأة‪ ,‬الفصــل ال اربــع‪ .‬ص‬ ‫‪366‬‬ ‫‪-2‬ابراهيم أنيس‪,‬الصوالحي عطية واخرون‪,‬المعجم الوسيط ج ‪,2‬مجمع اللغة العربية ‪,‬القاهرة‪,‬مصر‬ ‫‪,‬بدون تاريخ ص ‪631‬‬

‫‪-3‬نصــر ســميحة‪,‬العنف والمشــقة‪,‬المركز القومــي للبحــوث االجتماعيــة والجنائيــة ‪,‬القاه ـرة مصــر‬ ‫‪1996‬ص‪43‬‬


‫المدافعة لتعديل واستحداث القوانين وتغيير السياسات والتأثير على األي العام وتغيير الممارسات‬ ‫والذهنيــات والمفاهيــم الذكوريــة الســائدة ‪,‬واعــداد البحــوث والتدريــب وتمكيــن لنســاء واالطفــال ضحايــا‬ ‫العنــف وتقديــم الدعــم النفســي واالجتماعــي والقانونــي لهم‪.‬ويتركــز عمــل» كفــى» فــي مكافحــة‬ ‫العنف واالســغالل في ‪ 3‬مجاالت ‪:‬العنف االسري‪,‬اســتغالل النســاء واالتجار بهن‪,‬تحديد عامالت‬ ‫المنــازل ‪,‬حمــاة االطفــال مــن العنــف‪.‬‬

‫اضافــة إلــى التمكيــن والدعــم النفســي واالجتماعــي والقانونــي للنســاء واالطفــال ضحايــا العنــف مــن‬ ‫خــال مركــز االســتماع واالرشــاد الــذي يؤمــن المســاندة الالزمــة للضحيــة مــن العنــف‪.‬‬

‫ان العنــف الموجــه ضــد الم ـرأة ليــس علــى مســتوى واحــد فــي جميــع البلــدان وان هنــاك اختالفــا‬ ‫فــي اشــكال العنــف الجســدي ضــد الم ـرأة بإختــاف المجتمــع والبيئــة والعــادات والتقاليــد وحتــى فــي‬ ‫اختــاف القوانيــن ‪,‬ومــن ان ـواع العنــف يمكــن ذكــر مــا يلــي‪:‬‬

‫العنــف الناتــج عــن العــادات والتقاليــد كمــا ســائد فــي الهند‪,‬العنــف الناتــج عــن القوانيــن وخصــة فــي‬ ‫الــدول التــي تعانــي مــن ت ازيــد الســكان كالصيــن والهند‪,‬حيــث تمــارس عــادة «وأد البنــات وهــي مــا‬ ‫ت ـزال جنينــا فــي بطــن أمهــا»‪ ,9‬والعنــف الناتــج عــن العــرق أو الجنــس أو الوضــع االجتماعــي‬ ‫أو الســن (الخادمات‪,‬النســاءالالتي يقتلــن بج ارئــم الشرف‪,‬النســاء الالتــي تجبــرن علــى العمــل فــي‬ ‫مجــال الدعــارة ‪»,‬النســاء المســتهدفات فــي الص ارعــات المســلحة لدورهــن التعليمــي أو لكونهــن رمــو از‬ ‫لمجتمعاتهــن»‪10.‬‬

‫إن القوانيــن وجــدت اصــا لحمايــة حقــوق افـراد المجتمــع والنســاء مواطنــات فــي هــذا المجتمــع‪ ,‬ولكــن‬ ‫ممــا يؤســف لــه ان القانــون بــدال مــن ان يكــون منصفــا للحقــوق وحاميــا لهــا ‪,‬نجــده منتهــك لهــا وهــو‬ ‫مــا يعتمــد فــي الــدول التــي تنتهــج الديقراطيــة بــدال مــن ان تكــون دولــة قانــون يتمتــع افرادهــا بالمســأواة‬ ‫والعدالة‪.‬‬ ‫تاســعا‪:‬الصعوبات التــي تعيــق عمــل المنظمــات غيرالحكوميــة العاملــة علــى مناهضــة العنــف ضــد‬ ‫المـرأة ‪:‬‬

‫أ‪-‬النظــام الثقافــي االجتماعي‪:‬يتمثــل بالقواعــد الطائفيــة التــي تحكــم احوالهــم الشــخصية تقــوض‬ ‫الركــن االساســي لمواطنيهــم وللمســأواة المكفولــة فــي الدســتور الجمهوريــة اللبنانيــة ‪.‬وقــد عنــرض‬ ‫رجتــا الديــن ومــن مؤسســات دينيــة اهمهــا دار االفتــاء للتشـريع ال ارمــي إلــى حمايــة المـرأة مــن العنــف‬ ‫االســري بحجــة انــه يقــوض اســس العائلــة اللبنانيــة ‪,‬هــذه المنظمــات تبــدو وكأنهــا تمــد التيــار الدينــي‬ ‫بمشــروعية نســائية‪.‬‬ ‫ب‪-‬صعوبات عملية‪:‬تتلخص بالوضع االمني في بعض المناطق ‪,‬الروتين االداري في مؤسسات‬ ‫الدولــة المعيــق للعمــل معها‪,‬قصــور االعــام فــي تبنــي قضايــا المـرأة ‪,‬عــدم وجــود مالجــىء ‪,‬النقــص‬ ‫فــي الدعــم المــادي لتســديد كافــة االحتياجات‪,‬تفــأوت مســتوى المســتفيدات فــي التحصيــل العلمــي‬ ‫وتبايــن مشــكالتهن ممــا يعيــق تنفيــذ ب ارمــج مشــتركة‪.‬‬ ‫ج‪-‬الديناميــة الداخليــة للمنظمات‪:‬حيــث تتصــف هــذه المنظمــات دعأويــة الخيريــة ااســا ‪,‬وخدماتيــة‬ ‫بدرجــة الحقــة ‪,‬فــا تأخــذ الخدمــات التــي تقدمهــا الحيــز االساســي مــن نشــاطها‪.‬وان المهمــات الملقــاة‬ ‫علــى عاتــق المنظمــات ال توفرخي ـ ار كافيــا للتأمــل المنهجــي فــي الديناميــات التــي تســير نشــاطها‬ ‫الداخلــي‪.‬‬

‫عاش اًر‪:‬التوصيات‬ ‫ال يمكــن حمايــة المـرأة دون وضــع قانــون يحمــي المـرأة مــن العنــف ‪,‬ويضــع عقابــا مناســبا لــكل مــن‬


‫‪-4‬بلهوي ابراهيم‪,‬العنف ضد المرأة‪,‬مظاهره ونتائجه ‪,‬منشور على موقع‪www>alnoor.se/article‬‬ ‫‪-5‬بيضون ‪,‬عزة ش اررة مواطنة ال انثى ‪.‬دار الساقي ‪ 2015‬ص‪215‬‬

‫‪-6‬اتفاقية القضاء على جميع اشكال التمييز ضد المرأة ‪,‬موقع اليونيفيم على الشبكة العنكوبتية‪.‬‬

‫‪-7‬تادريــس مارليــن ‪,‬نســاء بــا حقوق‪.‬رجــال بــا قلــوب ‪.‬العنــف ضــد الم ـرأة فــي مصر‪,‬مركــز الد ارســات‬ ‫والمعلومــات القانونيــة لحقــوق االنســان ‪.‬القاه ـرة مصــر‪,‬ص‪4‬‬ ‫‪-8‬مغيزل لور‪,‬حقوق المرأة االنسان في لبنان ص‪33‬‬

‫‪-9‬راشد‪,‬أســماء جميل‪,‬الصــورة االجتماعيــة وصــورة الــذات للم ـرأة فــي المجتمــع الع ارقــي ‪.‬اطروحــة‬ ‫بحــث ‪2006‬ص ‪31‬‬

‫‪-10‬المصدر السابق‪.‬‬

‫‪-11‬أبــو شــامة عبــد المحمــود ‪’,‬عبــاس ‪,‬ج ارئــم العنــف ‪,‬اســاليب مواجهتهــا فــي الــدول العربيــة –اكاديمــة نايــف‬ ‫العربية‪-‬الريــاض ط‪2013‬ص‪39‬‬ ‫‪-12‬عبد الغني غانم‪,‬ص‪18‬‬

‫‪ -13‬المنصوري ‪,‬زينات‪,‬العنف ضد المرأة ‪,‬البحرين حالة تطبيقية موقع امان على السبكة العنكبوتية‪.‬‬ ‫‪-14‬محمود هادي‪,‬العنف ضد النساء ‪,‬موقع الحزب الشيوعي ‪,‬على الشبكة العنكبوتية‪.‬‬ ‫‪ -15‬المصدر نفسه‪.‬‬

‫‪-16‬تادريس مارلين‪,‬مصدر سابق‪,‬ص ‪.4‬‬

‫‪-17‬ضرب النساء حول العالم ‪,‬ارقام واحصاءات دولية ‪,‬موقع امان على االنترنت‪.‬‬ ‫‪-18‬اتفاقية القضاء على التمييز ضد المرأة‪....‬م‪.‬س‪.‬‬ ‫‪-18‬إدماج قضايا المرأة‪....‬م‪.‬س‪.‬ص‪.16‬‬ ‫‪-19‬تادريس ‪,‬مارلين‪.‬م‪.‬س ‪ -‬ص‪.7‬‬

‫‪-20‬الحامــدي‪ ,‬ورود‪ ,‬مظاهــر العنــف ضــد الم ـرأة ‪,‬مواقــف حــول قضايــا الم ـرأة فــي لبنــان ‪ ,‬توثيــق لبعــض‬ ‫المداخــات واالنشــطة تنظيــم األس ـرة ‪,‬بيــروت لبنــان ‪-1996‬ص‪.47‬‬ ‫‪-21‬النش ـرة حــول لجندر‪.‬برنامــج االمــم المتحــدة االنمائــي ‪,‬مكتــب الربــاط المغــرب ت‪2001, 2‬عــدد خــاص‬ ‫كاليــوم العالمــي للقــاء ضــد الم ـرأة ‪25‬ت‪2‬ص‪4‬‬ ‫‪-22‬قاموس مصطلحات حول العنف ضد المرأة ‪.‬موقع امان على الشبكة العنكبوتية‪.‬‬ ‫‪-23‬تادريس‪,‬مارلين م‪.‬س‪.‬ص‪.7‬‬

‫‪-24‬االعالن العالمي لحقوق االنسان‪.‬‬

‫‪-25‬ش اررة عزة بيضون‪.‬نساء وجمعيات ‪.‬م‪.‬س ص‪.121-120‬‬ ‫‪-26‬شعبان‪,‬بثينة المرأة العربية في القرن العشرين ‪ /‬م‪.‬س ص ‪.204‬‬

‫‪-27‬العوجــي ‪,‬مصطفــى‪ .‬دروس فــي العلــم الجنائــي ج ‪,2‬الجريمــة والمجــرم مؤسســة نوفــل ‪,‬بيــروت لبنــان ط‪2‬‬ ‫‪1987‬ص‪.126‬‬




‫عمر شبلي‬

‫قراءة في كتاب العلمنة واألسلمة‬ ‫نعم ‪ ...‬ولكن للدكتور‪ :‬سعد كموني‬ ‫ـ‪1‬ـ‬

‫الحجــاج‪ ،‬وهــذا يســتدعي‬ ‫قـرأت الكتــاب المقــدم لــي مــن الدكتــور الصديــق ســعد كمونــي بتـ ٍّ‬ ‫ـأن‪ ،‬ألنــه يقــوم علــى ُ‬ ‫حضــور العقــل دون إعطائــه أيــة إجــازة للغيــاب‪ ،‬وكان الكتــاب ثرّيــا بمادتــه‪ ،‬عنيــداً وصلبـاً فــي مناقشــة مــا أراد‬ ‫الدكتــور ســعد إيصالــه لنا‪،‬وهــو يتصــدى لعلــم مــن أعــام الفكــر العربــي‪ ،‬وبصــدق لــم يكــن الدكتــور ســعد فــي‬ ‫حجاجــه ونقاشــه أقصــر قامــة مــن الدكتــور جــور طرابيشــي فــي كتابه‪»:‬هرطقــات‪ 2‬عــن العلمانيــة كإشــكالية‬ ‫إس�لامية ـ�ـ إس�لامية»‪ .‬ويحــاول الدكتــور ســعد فــي مقدمتــه المختصـرة ذكــر الحجــج التــي ســيناقش بهــا الدكتــور‬ ‫طرابيشــي‪ ،‬ويــرى أبرزهــا مقـوالت ثمانيــة‪ ،‬وأبرزهــا فــي نظـره النظريــات العلميــة والمفاهيــم الفلســفية‪ ،‬وشـواهد مــن‬ ‫الكت��ب المقدس��ة ‪ ،‬والبرهــان‪.‬‬ ‫الدكتــور طرابيشــي يــرى أن أوربــة وصلــت إلــى علمنتهــا التــي أنجــزت حضارتهــا بالقطيعــة مــع الفكــر الدينــي‪،‬‬ ‫ويدعــو العــرب إلــى اتبــاع العلمنــة للخــاص مــن التخلــف‪ ،‬وذلــك باتبــاع المنهــج الغربــي فــي الخــروج الكلــي علــى‬ ‫فكــر القــرون الوســطى‪ .‬هــذا هوجوهــر فكـرة الطرابيشــي إلنتــاج حضــارة عربيــة تنتمــي إلــى عصرهــا‪.‬‬ ‫أمــا جوهــر مــا يرمــي إليــه الدكتــور ســعد فــي كتابــه فهــو الحــذر مــن الطمــس الكلــي لتجربــة اإلســام الحضاريــة‬ ‫الممتــدة علــى مســاحة زمنيــة تقــارب خمســة عشــر قرن ـاً‪ ،‬إن االســتفادة مــن تجربــة الغــرب الخالقــة ال يرفضهــا‬ ‫الدكتــور ســعد كمونــي ‪ ،‬وإنمــا هــو مرتــاب بانحيــاز الدكتــور الدكتــور طرابيشــي للعلمانيــة الغربيــة‪ ،‬ودعوتــه أيضـاً‬ ‫إلــى «إنجــاز فطــام بيــن العربيــة واإلســام» لخــروج العــرب مــن تخلفهــم دون د ارســة وتبيــان مافــي الحضــارة‬ ‫اإلســامية مــن إنجــازات حضاريــة‪.‬‬ ‫هــذه المســألة قديمــة‪ ،‬فقــد طــرح محمــد عبــده وجمــال الديــن األفغانــي فــي مجلــة العــروة الوثقــى الس ـؤال الــذي‬ ‫لــن ينتهــي الجــدال فيــه‪ :‬لمــاذا تقــدم الغــرب وتأخــر المســلمون‪ .‬ويــرى الدكتــور ســعد أن ماديــة الغــرب ال تصلــح‬ ‫نظام ـاً خلقي ـاً لإلنســانية‪ ،‬وأن العــرب يســتطيعون إنجــاز حضــارة إذا اســتفادوا مــن الفتوحــات العلميــة‪ ،‬وطالــب‬ ‫بفهــم جديــد لإلســام وذلــك بإتقــان اللغــة العربيــة لفهــم واســتخراج كنوزهــا الدفينــة‪ .‬ويــرى أن العــرب أحبـوا لغتهــم‬ ‫فأتقنـ�وا فعـلاً حضاريـ�اً‪.‬‬ ‫ـ‪2‬ـ‬

‫يدعــو الدكتــور جــورج طرابيشــي أننــا يجــب أن نتبــع مبــدأ العلمنــة باعتبــاره جهــاداً فــي ســبيل الدنيــا بدي ـاً عــن‬ ‫الجهــاد فــي ســبيل اآلخـرة‪ ،‬ويــرى الدكتــور ســعد أن هــذا متوفــر فــي رســالة اإلســام‪ ،‬ويــورد اآليــة القرآنية‪»:‬تلــك‬ ‫الـ�دار اآلخـ�رة نجعله��ا للذي��ن ال يريدــون عل��واً فــي األرض وال فس��ادا‪ ،‬والعاقبـ�ة للمتقيـ�ن»‪ .‬ويــرى العلــة فــي كــون‬ ‫رجــال الديــن المســلمين هــم اليــوم كرجــال الكنيســة فــي العصــور الوســطى رغــم أن الديــن اإلســامي لــم يعطهــم‬ ‫أي امتيــاز‪ ،‬وإنمــا نصبـوا أنفســهم قضــاة علــى عقــول النــاس‪ ،‬والــذي يخالفهــم يتهمونــه بالهرطقــة والخــروج علــى‬ ‫الدين‪ .‬وإذا كان الدكتور طرابيشــي يعتقد أن األســلوب اللوثري الذي قضى على األمية في أوربة هو األصلح‬ ‫فــإن الدكتــور ســعد كمونــي يــرى أن الخــاص «يكــون فــي إطــار إصــاح اجتماعــي شــامل يعطــي للعلــم قيمتــه‪،‬‬ ‫وللديـ�ن منزلتـ�ه‪ ،‬ولألخـلاق مكانتهـ�ا»‪.‬‬ ‫ــ ‪ 3‬ــ‬


‫يــرى الدكتــور ســعد أن تأويــل النــص الدينــي يجــب أن يتوافــق مــع الحاجــة‪« ،‬عندهــا ســيختلف تأويــل الق ـرآن‬ ‫أو تفســيره‪ ،‬بــل ســيختلف فهمــه‪ ،‬وعندهــا سيســتنبط الفقهــاء أحكامــه مــن جديــد فــي ضــوء الحاجــة‪ ،‬ال فــي‬ ‫ضــوء المــوروث مــن الفقــه»‪ ،‬ولــذا يجــب فتــح بــاب االجتهــاد ألن مــا كان معقـوالً باألمــس هــو متغيــر مــع مســيرة‬ ‫الزمــن ‪ ،‬فالزمــن ال يتوقــف‪ ،‬هــذه ســنة الكــون‪ ،‬وأنــت ال تســتطيع أن تدخــل فــي ميــاه النهــر مرتيــن‪ ،‬والمهــم فــي‬ ‫هــذا التوجــه أن يكــون لمصلحــة العبــاد هــذا هــو الهــدف األســمى أليــة رســالة سـواء أكانــت وضعيــة أم إلهيــة‪.‬‬ ‫وتأسيسـاً علــى هــذا يرفــض الدكتــور ســعد نظريــة الشــيخ القرضــاوي القائمــة علــى دعــوة صريحــة إلقامــة الدولــة‬ ‫اإلســامية‪ .‬بحجــة الريبــة القائمــة بيــن رجــال الديــن وبيــن مختلــف فــروع العلــم‪ .‬إذن يــرى الدكتــور ســعد أن‬ ‫تحديــث المجتمــع يجــب أن يرافقــه تحديــث الديــن نفســه‪.‬‬ ‫ـ‪4‬ـ‬ ‫أمــا فــي مســألة العلمنــة الثقافيــة التــي تطــورت فــي الغــرب مــن حــال إلــى حــال فــإن خصوصيــة الثقافــة عنــد أي‬ ‫أمــة مــن األمــم ال يمكــن أن ت ـُـلغى بعولمـ ٍـة جعلــت جميــع القــارات علــى ســعتها وتنوعهــا قريــة كونيــة‪ ،‬فــإذا كانــت‬ ‫العلمنــة ســبيل تنويــر عنــد أمــة مــن األمــم‪ ،‬فــإن خصوصيــة الثقافــة التتنافــى مــع عالميــة العلمنــة‪ ،‬وهــذا اســتنتاج‬ ‫صحيــح‪« :‬ســتبقى الخصوصيــة القوميــة مهمــا بلغــت شراســة العولمــة مــن جهــة‪ ،‬وفداحــة الوهــن القومــي‬ ‫مــن جهـ ٍة أخــرى» هــذا كالم ذو قيمــة عاليــة‪ ،‬وإن كنــت أعتــرض علــى كلمــة “ش ارس��ة”‪ ،‬ألنهــا توحــي بالفتــك‪،‬‬ ‫وال توحــي بالتثاقــف‪ ،‬وألن قــوة الثقافــة مهمــا كانــت مؤث ـرة ومهمــا علــت درجــة اندفاعهــا‪ ،‬فإنهــا مدعــاة للــرد‬ ‫المتثاقــف معهــا وضدهــا لخلــق حالــة متقدمــة‪ ،‬وأنــا ضــد كلمــة «غــزو ثقافــي»‪ ،‬ألنهــا إهانــة لثقافتنــا أن ت ـُـغزى»‪،‬‬ ‫ـوم فــي عقــر دارهــم إال ذلـّـوا»‪ ،‬الثقافــة الوافــدة مــن بــاد فــارس والهنــد‬ ‫وكمــا قــال اإلمــام علي‪”:‬فــوهللا مــا غــزَي قـ ٌ‬ ‫واليونــان لــم تســتطع أن تقضــي علــى ثقافتنــا العربيــة اإلســامية فــي عصــر المأمــون تحديــداً‪ ،‬ألن التثاقــف بلــغ‬ ‫مــداه فــي تلــك الفتـرة بيــن العــرب واألمــم األخــرى‪ ،‬بــل أخصبتهــا وتفاعلــت معهــا بنديــة‪ ،‬وتفــوق‪ ،‬وفــي ترجمتــي‬ ‫للشــاعر الكبيــر «حافــظ الشــيرازي» كنــت أرى مــدى اإلخصــاب الــذي نــال الثقافــة الفارســية مــن ثقافتنــا العربيــة‬ ‫فدتْــها ثقافتنــا العربيــة بروحانيــة اإلســام فكتــب شــع اًر خالــداً بثقافــة فارســيةـ عربيــة تســيل منــه‬ ‫اإلســامية‪ ،‬لقــد ر َ‬ ‫ط الدكتــور ســعد كمونــي بيــن‬ ‫عطــور ثقافــة جديــدة لــن‬ ‫يمحوهــا تعاقــب الحقــب‪ .‬ومــن النقــاط الالفتــة والممتــازة رْبـ ُ‬ ‫َ‬ ‫إنجــاز بنــاء الدولــة القوميــة والثقافــة العربيــة الســليمة‪ ،‬فماديــة القــوة القوميــة تصبــح قــوة ثقافيــة‪ ،‬وتجربتنــا التاريخيــة‬ ‫تثبـ�ت ذلـ�ك بامتيـ�از‪.‬‬ ‫ويعــود الدكتــور ســعد للربــط بيــن العلمانيــة والبعــد الروحــي الــذي نــادت بــه األديــان لكــي ال يتـَشـَيـّـاَ‪ ،‬مستشــهداً‬ ‫بقــول الســيد المســيح‪« :‬التعب��دوا ربي��ن‪ :‬هللا والم��ال”‪ .‬وهنــا أرى عــن قناعــة أن روحانيــة اإلســام هــي تطــور‬ ‫لتــوق العربــي للتخلــص مــن ماديــة الجاهليــة‪ ،‬وأريــد مــن هــذا أن أؤكــد أن الديــن اإلســامي هــو ثقافــة عربيــة قبــل‬ ‫كل شــيء‪ ،‬ومــن منطلقاتــه العربيــة غــدا رســالة كونيــة‪ ،‬ألن تركيبــة النفــس العربيــة غيــر مغلقــة‪ ،‬إنهــا باســتمرار‬ ‫قـ�ادرة علـ�ى االتسـ�اع واالسـ�تيعاب‪.‬‬




‫هذه لغتكم حافظوا عليها‬ ‫د‪.‬م�اي أبو حمدان‬ ‫ي‬ ‫(محـ ض‬ ‫ـا�ة ألقيتهــا أمــام طــاب كليــة الحقــوق ف� الجامعــة اللبنانيــة المؤسســة الـ ت‬ ‫ـ� أحــب وأنتمــي‬ ‫ي‬ ‫ي‬ ‫إليهــا)‬ ‫ض‬ ‫محــا� ت� ف� إبــراز مفهــوم اللغــة والهويــة ي ن‬ ‫اللتــ� تنقــان مفاهيــم وروابــط‬ ‫أردت أن أبــدأ‬ ‫ي‬ ‫ي‬ ‫أ‬ ‫الشــارة هنــا أنـن تناولــت هذاالمقــال ألبـ ي ّ ن‬ ‫التصــال بـ ي ن‬ ‫ـ� العالقــة‬ ‫ـ� أبنــاء المــة الواحــدة‪.‬وال بــد مــن إ‬ ‫إ‬ ‫ي‬ ‫بـ ي ن‬ ‫ـ� اللغــة والهويــة وأثرهمــا‪ ،‬قناعــة م ـن ي أن كل إنســان مثقــف ينتمــي إىل ذاتــه يجــب أن يــدرك أن‬ ‫ال�ســانة الثقافيــة الـ تـ� تب ـن أ‬ ‫اللغــة هــي ت‬ ‫المــة وتحمــي كيانها‪.‬فاللغــة فكــر ناطــق‪ ،‬والتفكـ يـر لغــة‬ ‫ي ي‬ ‫صامتــة‪ .‬واللغــة هــي معجــزة الفكــر الكـ بـرى‪.‬‬ ‫ن‬ ‫ـا� ناشــئة عــن‬ ‫فاللغــة مصطلحـاً هــي عبــارة المتكلــم عــن مقصــوده‪ ،‬وتلــك العبــارة فعــل لسـ ي‬ ‫يعدهــا ابــن خلــدون‪ .‬أمــا الهويــة مصطلحـاً هــي الذاتيــة والموضوعيــة‬ ‫القصــد إلفــادة الــكالم كمــا ّ‬ ‫ت‬ ‫للنســان أم للمجتمــع وهــي عقيدتــه ولغتــه وثقافتــه وحضارتــه‪،‬‬ ‫ـ� تشــكل الشــخصية الفرديــة إ‬ ‫الـ ي‬ ‫ومعتقداتــه‪.‬‬ ‫ـ� غريفــوار‪ :‬إن مبــدأ المســاواة الــذي أقرتــه الثــورة يقـض ي بفتــح أبــواب‬ ‫ويقــول الراهــب الفرنـ ي‬ ‫ين‬ ‫الدارة إىل أشــخاص ال يحســنون اللغــة‬ ‫التوظيــف أمــام جميــع‬ ‫المواطنــ�‪ .‬ولكــن تســليم زمــام إ‬ ‫ف‬ ‫ت‬ ‫ـ� تجمــع أبنــاء الشــعب الواحــد ي� أتــون واحــد‪،‬‬ ‫القوميــة يــؤدي إىل محاذيــر كبـ يـرة‪ .‬وهــذه الهويــة الـ ي‬ ‫ـال (مــن‬ ‫لتكويــن قناعاتــه ضمــن المحيــط إ‬ ‫الجتماعــي‪ .‬لــذا كل فــرد يواجــه ذاتــه فيطــرح الســؤال التـ ي‬ ‫أكــون أنــا)‪( ،‬مــن أيــن جئــت)‪ ،‬و(مــاذا أريــد أن أكون)‪.‬فالهويــة ليســت جاهــزة وحـ ض‬ ‫ـا�ة ومنجــزة‪ ،‬بــل‬ ‫ـ� مــن أجــل بلورتهــا وصقلها‪.‬وللهويــة شـ ي ن‬ ‫هــي بحاجــة إىل عمــل وجهــد متواصلـ ي ن‬ ‫ـق�‪ ،‬أحدهمــا يعــود‬ ‫النــا) آ‬ ‫إىل النســان نفســه (هويــة أ‬ ‫والخــر يعــود إىل مجتمعــه وبيئتــه (هويــة الذات)‪.‬والهويــة كمــا‬ ‫إ‬ ‫النســان وحـ ض‬ ‫ض‬ ‫ـا�ه ومســتقبله‪ ،‬ويتضمــن‬ ‫ـا� إ‬ ‫يذكــر إيريــك أركســون تعكــس وضعـاً داخليـاً مرتبطـاً بمـ ي‬ ‫والســتمرارية‪.‬‬ ‫ـ�‪ ،‬والتماثــل إ‬ ‫شــعور إ‬ ‫النســان بالتفــرد‪ ،‬والتكامــل والتآلــف الداخـ ي‬ ‫إذن ال يمكــن فصــل اللغــة عــن الهويــة‪ ،‬فاللغــة هــي الوعــاء الداعــم لهــا‪ ،‬والحافــظ لحيويتهــا‬ ‫واســتمرارها‪ ،‬فاندمــاج اللغــة مــع ثقافــة الهويــة تحافــظ عــى ات ـزان التاريــخ وديمومتــه‪.‬وال تختلــف‬ ‫أ‬ ‫والنتاجيــة‬ ‫البداعيــة إ‬ ‫اللغــة مــع الهويــة إال بالمصطلحــات المعجميــة‪ ،‬لن اللغــة أداة تحفــز ال�نز عــة إ‬ ‫أ‬ ‫والخالقيــة ف ي� مســار يؤســس لخلــق مفاهيــم إنســانية تحافــظ عــى حقــوق الفــرد وتصــوره ومفاهيمــه‪.‬‬ ‫أ ن‬ ‫ن‬ ‫ت‬ ‫ـك�‪ ،‬وهــي موطـن ي ومســتقري‪،‬‬ ‫ويقــول الفيلســوف اللمـ ي‬ ‫ـ� هــي مسـ ي‬ ‫ـا� مارتــن هيدغــر‪« :‬إن لغـ ي‬ ‫وهــي حــدود عالمــي الحميــم ومعالمــه وتضاريســه‪ ،‬ومــن نوافذهــا‪ ،‬ومــن خــال عيونهــا أنظـ ُـر إىل‬ ‫والنتمــاء‪ ،‬ألنهــا‬ ‫بقيــة أرجــاء الكــون الواســع»‪،‬فاللغة هــي الصــوت الــذي تفــوح منــه رائحــة الهويــة إ‬ ‫ت‬ ‫النســان‪ ،‬فيعـ بـر عــن ذاتــه برمــوز مفهومــه ترتقــي بــه إىل لغــة‬ ‫ـ� تعكــس جوهــر إ‬ ‫البــؤرة الدالليــة الـ ي‬


‫إنســانية ترســم حــدود مواطنيهــا وانتماءاتهــا‪.‬‬ ‫ف‬ ‫ف‬ ‫التصــال الحديثــة (مثــل‬ ‫ونالحــظ أن ي� اللغــة العربيــة إســقاطات لغويــة متمثلــة ي� وســائل إ‬ ‫الفضائيــات وال تن�نــت)‪ ،‬لــذا تســمح للفــرد التصــال مــع آ‬ ‫الخرين مهمــا كان البعــد الجغـر ف يا�‪ ،‬فيتفاعل‬ ‫إ‬ ‫إ‬ ‫الفــرد معهــم مــن خــال لغــة مشـ تـركة‪.‬‬ ‫حينئذ يفرض الواقع اللغوي الجديد سلطان هذه اللغات فتصل إىل الهيمنة اللغوية والقوة‬ ‫ٍ‬ ‫أ‬ ‫الثقافية بفعل حاجة التواصل‪ .‬هذا جيد ولكن ال بد من الحفاظ عىل كينونة لغتنا الم وهي العربية‪،‬‬ ‫وتنت� كالوباء ف‬ ‫ت‬ ‫ح� ال تبقى هذه اللغات قاتلة ش‬ ‫الثقا� والحضاري ف ي� مواجهة هوياتنا العربية‪.‬فال‬ ‫ي‬ ‫يعقل أن نخوض مجاالت العلم الحديث ونواكب تقنياته‪ ،‬وتبقى لغتنا غريبة عن أجواء العلم‬ ‫وديناميكيته وتقنياته وإبداعه‪.‬‬ ‫لقد آن أ‬ ‫الوان أن تصبح اللغة العربية جزءاً من حياتنا اليومية ف ي� المدرسة والبيت والجامعة‬ ‫والصحا� أ‬ ‫ف‬ ‫والديب‬ ‫والمصنع‪ ،‬وأن تغدو الثقافة العلمية محور ثقافة الصانع والطالب والمعلم‬ ‫ي‬ ‫وصاحب أي اختصاص علمي‪ ،‬فأفكارنا وقناعاتنا لن تصل إال من خالل لغتنا وهويتنا‪.‬‬ ‫المعبد نحو التطلع إىل مستقبل أمة تخلو من االنهيار والشذوذ‬ ‫لذا فالتعلق باللغة‪ ،‬هو الطريق‬ ‫ّ‬ ‫والتفتت‪ ،‬أ‬ ‫ال ن‬ ‫نسا�‪ ،‬وتلملم شظايا التململ الفكري الناتج عن التبعية الفكرية‬ ‫الفكر‬ ‫منابع‬ ‫ت‬ ‫تثب‬ ‫نها‬ ‫ل‬ ‫إ‬ ‫ّ‬ ‫آي‬ ‫ف‬ ‫والثقافية والذوبان ي� عادات وتقاليد الخرين‪ ،‬من دون إثبات الذات وتساميها‪.‬‬ ‫لذلك إن التوجه ف ي� إدارة اللغة العربية واجب مقدس للحفاظ عىل كينونتها ونضارتها ف ي� عرص‬ ‫يز‬ ‫الكب� ف ي� سائر العلوم والثقافات والمعلومات‪ ،‬فال بد من الحفاظ عىل مكونات اللغة‬ ‫تم� بالتسارع ي‬ ‫ين‬ ‫والتلق� من حيث أساليبها ومفرداتها‬ ‫العربية‪ ،‬من خالل خطة سهلة وبسيطة ف ي� عملية التعليم‬ ‫اللفاظ‪ ،‬وترابط صورها مع أ‬ ‫ودالالت أ‬ ‫الفكار العميقة‪ ،‬يك نرتقي إىل المستوى الذي نتمكن فيه من‬ ‫التعامل اليجا� مع تحديات اللغات أ‬ ‫الخرى‪.‬‬ ‫إ بي‬ ‫فاللغة ليست ظاهرة ثقافية واجتماعية فحسب‪ ،‬بل هي الوجه الذي يظهر درجة الوعي‬ ‫للمة‪ ،‬وهي تحمل ف� ذاتها أساليب تطورها وتفاعلها مع اللغات أ‬ ‫الحضاري واليديولوجي أ‬ ‫الخرى‬ ‫إ‬ ‫ي‬ ‫الغالبة عىل الواقع المعارص‪ ،‬فتحدد ثمار لغتنا وتفقدنا هويتنا وانتماءنا‪.‬‬ ‫الشارة إىل الحاجة الملحة الستصدار قرارت مهمة من الجهات المسؤولة أو وضع‬ ‫وال بد من إ‬ ‫أ‬ ‫قوان� ف� المؤسسات ت‬ ‫ين‬ ‫ال�بوية والثقافية إلتقان اللغة العربية والتعامل معها لنها قضية وجودية‬ ‫ي‬ ‫ت‬ ‫الفكرية‪.‬فاح�ام اللغة هو االرتقاء بها لتكون ف ي� مستوى‬ ‫النسانية وتبلسم إمكانياتها‬ ‫تمس الروح إ‬ ‫عندئذ تغدو اللغة منتجة جامعة ب ّناءة‪ ،‬وال تبقى لغة مستهلكة‬ ‫تطور الفكر والبيئة والمجتمع‬ ‫ٍ‬ ‫وهشة‪.‬‬




‫اليدلوجي ف� رواية قواعد العشق أ‬ ‫الراوي والزمن والمستوى أ‬ ‫الربعون‬ ‫ّ‬ ‫ي‬

‫د‪ .‬دريّة فرحات‬

‫بالرواية‪:‬‬ ‫تعريف ّ‬

‫أ‬ ‫ـ� الحـ ض‬ ‫ت‬ ‫ال� ّكيــة إليـ�ف شافــاق‪ ،‬روايــة تمــزج بـ ي ن‬ ‫ـا� والتاريــخ‪ ،‬هــي روايــة داخــل راويــة‪ ،‬تــروي‬ ‫ ‬ ‫“قواعــد العش��ق الربعوــن” أللكاتب��ة ّ‬ ‫ن‬ ‫ن‬ ‫ن‬ ‫ن‬ ‫الروايــة باســتهالل تقـ ّـدم فيهــا‬ ‫قصتـ يـ� متوازيتـ يـ� تعكــس إحداهمــا الخــرى عـ بـر ثقافتـ يـ� مختلفتـ يـ� جــدا وســبعة قــرون متداخلــة‪ ،‬تنفتــح ّ‬ ‫ض‬ ‫ت‬ ‫ش‬ ‫ع�يــن ســنة عــى زواجهــا‪ ،‬فــكان هــذا الطلــب هــو الحجــر الــذي أُلقــي‬ ‫ـ� تطلــب الطــاق بعــد م ـ ي‬ ‫فالكاتبــة لمحــة عــن بطلــة روايتهــا الـ ي‬ ‫ف‬ ‫ف‬ ‫ـيعت�ه مجــرد حركــة أخــرى مــن الفـ ض‬ ‫ـو� ي� مج ـراه‬ ‫ـإن « ال ّنهــر سـ ب‬ ‫ي� بحـ يـرة حياتهــا‪ ،‬هــذا الحجــر – كمــا تذكــر الكاتبــة‪ ،-‬إذا ألقينــاه ي� ال ّنهــر فـ ّ‬ ‫ّ‬ ‫ف‬ ‫ش‬ ‫ش‬ ‫�ء ال يمكــن الســيطرة عليــه ّأمــا إذا ســقط الحجــر ي� بحـ يـرة‪ ،‬فلــن تعــود البحـ يـرة ذاتهــا مــرة‬ ‫ّ‬ ‫�ء غـ يـر عــادي‪ .‬ال ي‬ ‫الصاخــب المضطــرب ال ي‬ ‫‪1‬‬ ‫ً‬ ‫ـرا‪.‬‬ ‫ـ‬ ‫كب‬ ‫ـا‬ ‫ـ‬ ‫ف‬ ‫اختال‬ ‫ـا‬ ‫ـ‬ ‫معه‬ ‫ـف‬ ‫ـ‬ ‫مختل‬ ‫ـل‬ ‫ـ‬ ‫لرج‬ ‫ـب‬ ‫ـ‬ ‫ح‬ ‫ـتاين‪،‬‬ ‫ـ‬ ‫روبنش‬ ‫ـا‬ ‫ـ‬ ‫إي‬ ‫ـت‬ ‫ـ‬ ‫بغ‬ ‫ـذي‬ ‫ـ‬ ‫ال‬ ‫ـب‬ ‫ـ‬ ‫الح‬ ‫ال‬ ‫إ‬ ‫ـر‬ ‫ـ‬ ‫الحج‬ ‫ـذا‬ ‫ـ‬ ‫ه‬ ‫ـن‬ ‫ـ‬ ‫يك‬ ‫ـم‬ ‫ـ‬ ‫ول‬ ‫‪.‬‬ ‫ـرى»‬ ‫ـ‬ ‫أخ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫يً‬ ‫الجــازة ف� االدب االنجلـ ي ز‬ ‫ـري‪ ،‬تعيــش ف ي�‬ ‫واســتطاع هــذا الحجــر أن يع ّكــر حيــاة إيــا الرتيبــة‪ ،‬فهــي ربــة م ـنز ل كانــت قــد حــازت عــى إ‬ ‫ي‬ ‫ـ�‪ ،‬وهــي زوجــة لطبيــب يدعــى ديفيــد‪ ،‬لهــا مــن أ‬ ‫الوىل مــع عمــر أ‬ ‫نورثامبتــون‪ ،‬أصبحــت ف� عقدهــا الرابــع‪ ،‬وبــدأت تخطــو خطواتهــا أ‬ ‫الربعـ ي ن‬ ‫الوالد‬ ‫ي‬ ‫فتــاه جامعيــة تدعــى جانيــت‪ ،‬ومراهقــان تــوأم أورل ف‬ ‫فالســعادة لــم تســكن قلــب إيــا‪ ،‬فهــي تعـ تـرض عــى عالقــة ابنتهــا بزميلهــا‬ ‫ـك‬ ‫ـ‬ ‫ذل‬ ‫ـع‬ ‫ـ‬ ‫وم‬ ‫‪.‬‬ ‫وآ�‬ ‫ّ‬ ‫ي ي‬ ‫ف‬ ‫ف‬ ‫ن‬ ‫ض‬ ‫ّ‬ ‫ـا� بعالقتهــا مــع زوجهــا‪ ،‬وتــرى أنّــه بعــد ســنوات مــن الــزواج فــا �ورة أن يحتــل االرتبــاط العاطفــي أوليــة ي� حيــاة‬ ‫ي� الجامعــة‪ ،‬وهــي تعـ ي‬ ‫الم�وجـ ي ن‬ ‫تز‬ ‫خصوصــا أنّهــا تعــرف مـ تـى يخونهــا زوجهــا لك ّنهــا تتجاهــل ذلــك‪.‬‬ ‫ـ�‪،‬‬ ‫ً‬ ‫أ‬ ‫الروايــة‬ ‫لكـ ّ‬ ‫الروايــة ال تقتــر عــى رسد مــا يحــدث مــع إيــا وعائلتهــا‪ ،‬إنّمــا تنقلنــا إىل عالــم تاريخـ ّـي حافــل بالحــداث‪ ،‬مــن خــال ّ‬ ‫ـن ّ‬ ‫ت‬ ‫ت‬ ‫ـ� ُطلــب مــن إيــا أن تقـ ّـدم مطالعــة عنهــا‬ ‫ـ� تحمــل اســم «الكفــر الحلــو» لكاتبهــا عزيــز أ‪.‬ز زاهــار‪ ،‬ومــا هــذه ّ‬ ‫الروايــة ســوى الروايــة الـ ي‬ ‫الثانيــة الـ أ ي‬ ‫ف‬ ‫للوكالــة الدبيــة الـ تـ� تقــع � بوســطن وذلــك ضمــن عملهــا كقارئــة غـ يـر متفرغــة‪ ،‬هــذا العمــل الــذي وجدتــه قبــل أسـ ي ن‬ ‫ـبوع� مــن عيــد ميالدهــا‬ ‫ي‬ ‫ي‬ ‫أ‬ ‫الربعـ ي ن‬ ‫ـ�‪.‬‬ ‫بالصاعــات‬ ‫الروايــة أو الحبكــة الثانيــة‪ ،‬تشـكّل وثيقــة تاريخيــة عــن فـ تـرة تعــود إىل القــرن الثالــث عـ شـر المفعــم ّ‬ ‫هــذه الروايــة داخــل ّ‬ ‫أ‬ ‫ف‬ ‫ف‬ ‫ف‬ ‫ش‬ ‫ش‬ ‫ـرق انتــرت جيــوش‬ ‫الصليبيــون القسـ‬ ‫و� الـ ّ‬ ‫ّ‬ ‫و� فـ تـرة مضطربــة ي� منطقــة الناضــول ففــي الغــرب احتــل ّ‬ ‫ّ‬ ‫الد ّ‬ ‫ـطنطينية وعاثــوا فيهــا فســا ًدا ي‬ ‫ينيــة‪ ،‬ي‬ ‫ض‬ ‫ت‬ ‫ـلم�‪،‬ن‬ ‫ن‬ ‫ز‬ ‫ـيحي� والمســيحيون يقاتلــون المسـ ي‬ ‫المغــول بقيــادة العســكري جانكـ يـر خــان‪ ،‬فــرة مــن الفــو� حيــث « كان المســيحيون يقاتلــون المسـ ي‬ ‫والمســلمون يقاتلــون المسـ ن ‪ 2‬ف‬ ‫الرومـ ّـي ويلقــب بموالنــا يُحيــط بــه‬ ‫ي‬ ‫ـلم�» ‪ ،‬ي‬ ‫ـامي جليــل يعــرف باســم جــال الديــن ّ‬ ‫و� وســط ذلــك عــاش عالــم إسـ ّ‬ ‫�ور العالقـ�ة بينهمـ�ا وتتغـ ي ّير حياتهمـ�ا‪.‬‬ ‫آالف المريديـ�ن‪ ،‬ويلتقـ�ي بشـ�مس ب‬ ‫الت�يـ�زي الدرويـ�ش الجـ�وال‪ ،‬فتتطـ ّ‬ ‫ـ�‪ ،‬ومــا هــو القاســم المشـ تـرك بـ ي ن‬ ‫ـ� أحــداث الحبكتـ ي ن‬ ‫والســؤال المطــروح مــا هــو الرابــط بـ ي ن‬ ‫ـ� زمــن القــرن الثالــث عـ شـر وقــرن الواحــد‬ ‫ّ‬ ‫ش‬ ‫والع�يــن؟‬ ‫الروايــة رسديًّــا‪ ،‬والبحــث بالـ ّـراوي موقعــه وعالقاتــه‪ ،‬ودراســة مســتوى ال ّزمــان‬ ‫الجابــة عــى هــذه إ‬ ‫إن إ‬ ‫ّ‬ ‫الشـ ّ‬ ‫ـكالية تقودنــا إىل مقاربــة ّ‬ ‫أ‬ ‫للروايــة‪.‬‬ ‫يدلوجــي‬ ‫وال‬ ‫ّ ّ‬ ‫الرواي‪ :‬موقعه وعالقاته‬ ‫ّ‬

‫تتأ ّلــف روايــة «قواعــد العشــق أ‬ ‫الربعــون» مــن خمســمائة صفحــة يتنــاوب عــى روايتهــا رواة عـ ّـدة‪ ،‬بنقســمون إىل فئتـ ي ن‬ ‫ـ�‪ :‬فئــة تم ّثــل‬ ‫ـا� عــى راو خــارج أ‬ ‫ـا�‪ ،‬والفئــة ال ّثانيــة تم ّثــل زمــن التاريــخ‪ .‬والمالحــظ اقتصــار رواة ال ّزمــن الحـ ض‬ ‫زمــن الحـ ض‬ ‫الحــداث يتحـ ّـدث عــن إيــا وعــن‬ ‫ٍ‬ ‫ف‬ ‫الكاتــب عزيــز‪ّ ،‬أمــا رواة زمــن ال ّتاريــخ فقــد وصــل العــدد إىل خمســة ش‬ ‫الروايــة المشــاركة ي� صنــع‬ ‫عــر ر ٍاو‪ ،‬وهــم رواة يم ّثلــون شــخصيات ّ‬ ‫أ‬ ‫الحــداث‪.‬‬ ‫أ‬ ‫ت‬ ‫ت‬ ‫ـ�‬ ‫ويتــم توزيــع الـ ّـرواة كمــا يـ ي‬ ‫ـأ�‪ :‬الـراوي مــن خــارج الحــداث ينقــل لنــا حيــاة إيــاأ وعالقتهــا بزوجهــا وأوالدهــا‪ ،‬إضافــة إىل عالقتهــا الـ ي‬ ‫أ‬ ‫ت‬ ‫الشــخصية‬ ‫ونيــة‪ .‬ويقــوم شــمس ال ّت ب�يــزي وهــو ّ‬ ‫الروايــة الخــرى أي عزيــز‪ ،‬وقــد بــدأ ال ّتواصــل بينهمــا عـ بـر الرســائل اللك� ّ‬ ‫بــدأت مــع كاتــب ّ‬ ‫أ‬ ‫ف‬ ‫ف‬ ‫الديــن‪ ،‬وابنتــه‬ ‫الرومــي وعائلتــه أي زوجــه كـ يـرا وابنيــه ســلطان ولــد وعــاء ّ‬ ‫الرئيســة ي� روايــة عزيــز بنقــل الحــداث‪ ،‬يســاعده ي� ذلـ أـك ّكل مــن ّ‬ ‫ف‬ ‫ن‬ ‫الســكران والبغــي ورد‬ ‫الســيد‪ /‬وال ّتلميــذ‪ ،‬وحســن المتسـ ّـول وســليمان ّ‬ ‫بالتبـ ي كيميــا‪ ،‬إضافــة إىل شــخصيات تســهم ي� رســم الحــداث‪ ،‬وهــي ‪ّ :‬‬ ‫ ‪1‬‬ ‫‪ 2‬‬

‫الننشر واإلعالم‪ ،‬ط ‪ ،2012 ،1‬ص ‪.7‬‬ ‫إليف شافاق‪ ،‬قواعد العشق األربعون‪ ،‬تر‪ .‬خالد الجبيلي‪ ،‬ال م‪ ،‬طوى للثقافة و ّ‬ ‫مصدر نفسه‪ ،‬ص ‪.31‬‬


‫يمثــل الزمــن عن ـرا مــن العنــارص أ‬ ‫الساســية الـ ت‬ ‫ـري الــذي يشـ ّـد‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ـ� يقــوم عليهــا فـ ّ‬ ‫ـن القصــة‪ ،‬فهــو محــور الروايــة وعمودهــا الفقـ ّ‬ ‫ّ‬ ‫ي‬ ‫ف‬ ‫ف‬ ‫ئ‬ ‫ـروا�‪ ،‬تكشــف تشــكيل بنيــة النــص والتقنيــات المســتخدمة ي� البنــاء‪ ،‬وتاليــا يرتبــط شــكل النــص‬ ‫أجزاءهــا‪ّ .‬‬ ‫إن طريقــة بنــاء الزمــن ي� النــص الـ ي‬ ‫ف‬ ‫ث‬ ‫ـ� ي� الروايــة‪.‬‬ ‫ارتبا ًطــا وثي ًقــا بمعالجــة عنــر الزمــن‪ ،‬لذلــك يمكــن عـ ّـد القــص أكــر الفنــون التصا ًقــا بالزمــن‪ ،‬فلــو انتفــى ّ‬ ‫الزمــن‪ ،‬أنتفــى الحـ ي‬ ‫وتبــدو عالقــة الزمــن بالــرد واضحــة ف ي� معـىن كلمــة الــرد نفســها‪ ،‬وبتضمــن مفهــوم الــرد كمــا يقــول عبدالمجيــد زراقــط‪ :‬أربعــة‬ ‫الحــداث وتنظيمهــا‪ ،‬وثانيهــا تتابــع هــذه أ‬ ‫عنــارص أولهــا ترتيــب أ‬ ‫الحــداث م ّتســقة جيــدة الســياق‪ ،‬وثالثهــا تشــكيل الزمــن إ ن‬ ‫ـا�‪/‬‬ ‫النسـ ي‬ ‫النســان الداخليــة وهــذا البنــاء هــو نظــام خــاص تتمـ ي ز‬ ‫ـر بــه روايــة مــا مــن‬ ‫مخص ًصــا لتنظيــم تجربــة إ‬ ‫ديموماتــه‪ ،‬ورابعهــا يم ّثــل بنــاء ّ‬ ‫ئ‬ ‫ـروا�‪ ،‬آليــة الــرد‪.‬‬ ‫يغ�هــا وهــو مــا ينبغــي أن تتـ ّـم دراســته تحــت عنــوان ‪ :‬بنــاء الزمــن الـ ي‬ ‫يمكن تحديد ي ن‬ ‫نوع� للزمن هما‪:‬‬

‫الحــداث حســب وقوعهــا وفــق تسلســلها الزمـن ‪ ،‬فالحــدث أ‬ ‫زمــن القصــة ‪ :‬يعـن ف� بعــض مــا يعنيــه‪ ،‬أ‬ ‫القــدم هــو الــذي وقــع ّأو ًل‪ ،‬هــو الــذي‬ ‫ي ي‬ ‫يّ‬ ‫أ‬ ‫ت‬ ‫ـال‪ ،‬فــا تأخـ يـر لحــدث‬ ‫يــؤ ّدي إىل نتائــج تنجــم عنــه‪ّ .‬‬ ‫إن زمــن أالقصــة محكــوم بالمنطــق‪ ،‬أي بالســباب والنتائــج‪ ،‬وهــو مقيــد بال�تيــب المتتـ ي‬ ‫ف‬ ‫إن الحــداث ي� زمــن القصــة مرهونــة بأوقاتهــا‪.‬‬ ‫الحــق وال تقديــم لحــدث ســابق‪ّ ،‬‬ ‫زمــن الــرد‪ :‬فقابــل للخــال بــه‪ ،‬إنــه ال يخضــع أصـ ًـا لمبــدأ التعاقــب والتسلســل المنطقــي‪ ،‬أ‬ ‫والحــداث فيــه يُمكــن أن تذكــر غـ يـر متتابعــة‬ ‫إ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫مقيــد بينمــا زمــن الــرد حـ ّـر‪.‬‬ ‫حســب وقوعهــان فقــد يتك ّلــم المؤ ّلــف عــى حــدث قديــم ثـ ّـم ينتقــل بعــد ذلــك إىل حــدث قريــب‪ّ ،‬‬ ‫إن زمــن القصــة ّ‬ ‫وينـ ش ئ‬ ‫الزمــن مفارقــات رسديّــة مــن اسـ تـرجاع ألحــداث ماضيــة واســتباق ألحــداث الحقــة‪ ،‬ومــن اســتغراق زم ـن ي ّ ‪ :‬ديمومــة‪،‬‬ ‫ ‬ ‫ـ� انزيــاح ّ‬ ‫أ‬ ‫ض‬ ‫ض‬ ‫المــا� والحــا� والمســتقبل‪.13‬‬ ‫وديمومــات أحيانًــا فتتقاطــع الزمنــة‪:‬‬ ‫ي‬ ‫أ‬ ‫ف‬ ‫ت‬ ‫ـ� سـ ّـجلتها الكاتبــة‬ ‫وعنــد دراســة زمــن القصــة ي� روايــة «قواعــد العشــق الربعــون»‪ ،‬نلحــظ ّ‬ ‫أن ّ‬ ‫الروايــة تنفتــح عــى اللحظــة الراهنــة الـ ي‬ ‫أ‬ ‫ف‬ ‫ز ن‬ ‫ـا� يمتـ ّـد إىل ثالثــة أشــهر أي مــن أيــار إىل آب‪ ،‬لكنهــا‬ ‫بتاريــخ ‪ 17‬أيــار ‪ ،2008‬وتتــواىل اليــام مــع إيــا لنــدرك ّ‬ ‫أن أحــداث ّ‬ ‫الروايــة تــدور ي� حـ ي ّـر زمـ ي ّ‬ ‫أ‬ ‫ف‬ ‫أن الزمــن قــد قطــع ســنة كاملــة فنصــل إىل الســابع مــن أيلــول مــن عــام ‪ .2009‬ويتداخــل مــع زمــن القصــة هــذا‬ ‫تنطلــق ي� الفصــل الخـ يـر لـ نـرى ّ‬ ‫ت‬ ‫االس�ترجاع وهــي تقنيــة مــن تقنيــات المفارقــة السديّــة الـ تـ� يسـ ي ن‬ ‫الســارد لكــر‬ ‫لجـ�وء الكاتبــة إىل انزياح��ات ف يـ ال ّزم��ن فتعتمـ�د ع�لى‬ ‫ـتع� بهــا ّ‬ ‫ّ‬ ‫ي‬ ‫ن آت‬ ‫ـا�‪ ،‬مــا ســبق أن حــدث‪ ،‬فاالسـ ت‬ ‫زمانيــا نحــو أحــداث ماضيــة‪ ،14‬أي اســتعادة مــا حــدث ي ف� المـ ي ض‬ ‫ـرجاع يتـ ّـم‬ ‫ال ّتواتــر ال ّزمـ ي ّ ال ي ّ�‪ ،‬بق ْطعــه وال ّنكــوص ًّ‬ ‫ـا� والمـ ض‬ ‫ـ� الحـ ض‬ ‫بوســاطة ال ّتفاعــل بـ ي ن‬ ‫والرجعــات هــي عــودات إىل أحــداث ســابقة يقتضيهــا‬ ‫ـا�‪ ،‬فتنصهــر المســافتان ال ّزمنيتــان ف ي� إيقــاع واحــد‪.15‬‬ ‫ّ‬ ‫ي‬ ‫الحـ�داث الراهن��ة أو إكمـ�ال رس��م ش�خـصيات الروايــة‪ ،‬بعدــ إث��ارة فض��ول القاــرئ‪ ،‬وليهام�هـ بحقيقــة وج�وـد تل��ك الش��خصيات‪ ،‬أ‬ ‫إيض��اح أ‬ ‫والمثلــة‬ ‫إ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫عــى ذلــك كثـ يـرة ومنهــا‪:‬‬ ‫ف‬ ‫الســابعة مــن عمرهــا‪ ،‬ومــن خاللهــا تتذ ّكــر إيــا كيــف أنّهــا وعــدت نفســها بأنّهــا‬ ‫ ‪-‬رجعــة تعــود فيهــا البطلــة إىل مرحلــة الطفولــة وهــي ي� ّ‬ ‫ف‬ ‫عندمــا تـ ت ز‬ ‫ـروج فإنّهــا ستســعد زوجهــا‪ّ ،‬‬ ‫حملــت ّأمهــا مســؤولية انتحــار أبيهــا‪.16‬‬ ‫وأل تفشــل ي� زواجهــا مثــل ّأمهــا‪ ،‬ونــدرك أنّهــا ّ‬ ‫أ‬ ‫ف‬ ‫ـرت بالهــدوء واالبتعــاد عــن العالقــات الجنســية كالفتيــات الخريــات‪ ،‬فهــي لــم تعــرف ال ّتمــرد � ض‬ ‫ت‬ ‫حا�هــا‬ ‫ ‪-‬رجعــة إىل مر‬ ‫ـ� تمـ ي ز ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ ي‬ ‫اهقتهــا الـ ي‬ ‫ف‬ ‫‪17‬‬ ‫كمــا لــم تتمـ ّـرد ي� مراهقتهــا ‪.‬‬ ‫‪18‬‬ ‫ش‬ ‫ال� ّقية وقرأت عن البوذية وال ّطاويّة ‪.‬‬ ‫الروحانيات ّ‬ ‫ ‪ -‬رجعة تعود فيها إىل مرحلة الجامعة وكيف أدمنت فيها عىل ّ‬ ‫‪19‬‬ ‫تحولــه مــن المســيحية‬ ‫تعرفنــا الكاتبــة عــى عزيــز زهــارا وعــى ّ‬ ‫الرجعــات عليهــا‪ ،‬إنّمــا مــن خــال رســائل عزيــز إىل إيــا ّ‬ ‫ولــم تقتــر ّ‬ ‫ت‬ ‫ال�حــال‪.‬‬ ‫الســام وكيــف أصبــح‬ ‫صوفيــا وعــن عالقتــه ً‬ ‫إىل إ‬ ‫ـب ّ‬ ‫أيضــا بمحبوبتــه وتأثـ يـر وفاتهــا عليــه مــا دفعــه إىل حـ ّ‬ ‫ًّ‬ ‫ف‬ ‫الرجعــات اعتمــدت الكاتبــة ف ي� تقنيــات زمــن الــرد عــى االســتباق‪ ،‬ويعـن اسـ ش‬ ‫الروايــة‪،‬‬ ‫ي‬ ‫ـت�اف أحــداث الحقــة لبــدء زمــن ّ‬ ‫و� مقابــل ّ‬ ‫ّ‬ ‫ي‬ ‫لتقبــل مــا ســوف يقــع‪،‬‬ ‫وزمــن الحــدث‪ ،‬واالســتباقات قوامهــا إ‬ ‫الخبــار مســبقًا بأحــداث ســوف تقــع الح ًقــا‪ّ ،‬أمــا وظيفتهــا فتحضـ يـر القــارئ ّ‬ ‫ف‬ ‫ت‬ ‫أن‬ ‫ـ� تســيطر عــى شــخصية البطــل‪ ،‬أو غـ يـره مــن شــخصيات‪ ،‬ومــن ذلــك مــا ورد ي� االســتهالل عندمــا أشــارت الكاتبــة إىل ّ‬ ‫وإظهــار الهواجــس الـ ي‬

‫‪1 3‬‬ ‫‪ 14‬‬ ‫‪ 15‬‬ ‫‪ 16‬‬ ‫‪ 17‬‬ ‫‪ 18‬‬ ‫‪ 19‬‬

‫اللبنانية‪ ،‬ط ‪ ،1991 ،1‬ص ‪.21‬‬ ‫بنانية‪ ،‬بيروت‪ ،‬منشورات الجامعة‬ ‫عبد المجيد زراقط‪ ،‬في بناء الرواية الّل ّ‬ ‫ّ‬

‫المتحدة‪ ،‬دائرة الثقافة واإلعالم‪ ،‬ط‪ ،2001 ،1‬ص ‪.39‬‬ ‫الشارقة‪/‬اإلمارات العر ّبية‬ ‫مشتاق عباس معن‪ ،‬حركية الفضاء ّ‬ ‫الرواية‪ّ ،‬‬ ‫ّ‬ ‫الزمني في جسد ّ‬ ‫األدبية‪ ،‬العدد ‪ ،4‬مج ‪1426 ،1‬هـ ‪ ،2005،‬ص ‪.43‬‬ ‫الزمان من الفلسفة إلى األدب‪ ،‬مجلة الفيصل‬ ‫أحمد طالب‪ّ ،‬‬ ‫ّ‬

‫إليف شافاق‪ ،‬قواعد العشق األربعون‪ ،‬ص ‪. 138‬‬ ‫مصدر نفسه‪ ،‬ص ‪.194- 193‬‬ ‫مصدر نفسه‪ ،‬ص ‪.215‬‬ ‫مصدر نفسه‪ ،‬ص ‪.341-338 /334-331 /311‬‬


‫وعمــه‪.‬‬ ‫الصح ـراء‪ ،‬وبيـ بـرس المحــارب ّ‬ ‫ّ‬

‫ئ‬ ‫روا� يم ّثــل وجهــات نظــر متعـ ّـددة متشــابهة ومتعارضــة‪ ،‬منتظمــة ف ي� ســياق ينشــئه ر ٍاو مــن‬ ‫ويهــدف هــذا ال ّتعـ ّـدد إىل تقديــم عالــم ي‬ ‫ّ‬ ‫ف‬ ‫ت‬ ‫النســان راب ًطــا بينهــا وبـ ي ن‬ ‫الملقــى ف ي�‬ ‫ـ� يمكــن أن تحصــل ي� حيــاة إ‬ ‫ـ� الحجــر ُ‬ ‫الخــارج يفتتــح ّ‬ ‫الروايــة باســتهالل يرســم فيــه معالــم ال ّتغيـ يـر الـ ي‬ ‫ف‬ ‫ف‬ ‫للروايّــة‪ ،‬ونــرى هــذا الـ ّـراواي يعــود ي� بدايــة روايــة عزيــز إىل‬ ‫بحـ يـرة فتتأثــر ّ‬ ‫تموجاتــه وتتمـ ّـدد‪ ،‬وهــذا االســتهالل يضــع القــارئ ي� الجــو العــام ّ‬ ‫ت‬ ‫ت‬ ‫والت�يــزي‪.‬‬ ‫الرومــي ب‬ ‫ـ� عــاش فيهــا ّ‬ ‫تقديــم يعــرض فيــه الوضــع ال ّتاريخــي للفــرة الـ ي‬ ‫وربمــا شــعر الــراوي‪ /‬الكاتبــة بعــدم قــدرة القــارئ لتميـ ي ز‬ ‫ـر الـ ّـرواة‪ ،‬فــكان ذكــر الســم كل ر ٍاو ف ي� بدايــة مــا سـ يـرويه‪ ،‬ولــم يكــن تقســيم‬ ‫ّ‬ ‫آ‬ ‫روايــة أ‬ ‫إن ّكل مشــهد أو فصــل يرويــه أحــد الـ ّـرواة‪ ،‬يكمــل لنــا مــا بــدأه الخــر فيكتمــل الحــدث مــن خــال‬ ‫ـ‬ ‫عش‬ ‫واة‬ ‫الحــداث عــى الـ ّـر‬ ‫ـوائيا‪ ،‬إذ ّ‬ ‫ًّ‬ ‫ـال الفصــول‪ ،‬فتعـ ّـدد الـ ّـرواة جــاء متشــابكًا متماس ـكًا ّ‬ ‫جانبــا مــن الحكايــة أو يُضيــف إليهــا وجهــة نظــر جديــدة‪ ،‬فتتـ ّـم‬ ‫وكل ر ٍاو يكمــل حكايــة ً‬ ‫تتـ ي‬ ‫الرؤيــة مــن عــدة زوايــا أو وجهــات نظــر‪.‬‬ ‫ت‬ ‫تتذمــر‪ .‬فهــي‬ ‫وقــد يســتعمل الـ ّـراوي ضمـ يـر الغائــب وهــذا مــا رأينــاه‬ ‫ـ� ُعنونــت باســم إيــا ‪ « :‬لــم تكــن ّ‬ ‫ً‬ ‫خصوصــا مــع الفصــول الـ ي‬ ‫أ‬ ‫�نز ‪ 3‬ف‬ ‫ف‬ ‫ـإن العشــق ليــس مجـ ّـرد شــعور‬ ‫الرغــم ممــا يقولــه البعــض‪ ،‬فـ ّ‬ ‫ال ّزوجــة المنهمكــة ً‬ ‫غالبــا ي� أعمالهــا الم ّليــة» ‪ ،‬ي‬ ‫و� موضــع آخــر « لنّــه عــى ّ‬ ‫ـأ� ويذهــب برسعــة‪ .‬فغــرت إيــا فمهــا عندمــا أدركــت أن هــذه العبــارة نقيــض العبــارة الـ تـ� قالتهــا البنتهــا ف� المطبــخ �ف‬ ‫ت‬ ‫ّ‬ ‫حلــو مقـ ّـدر لــه أن يـ ي‬ ‫ي‬ ‫ي‬ ‫ي‬ ‫ف‬ ‫تتوجــه إىل المطبــخ‪ ،‬وكانــت تقــول‬ ‫ذلــك اليــوم»‪ ،4‬ومنهــا أيضـاً « ّأمــا ي� هــذا اليــوم مــن شــهر أيــار فقــد كانــت واثقــة مــن نفســها»‪ ،5‬أو « كانــت ّ‬ ‫إن وجبــة الفطــور الجيــدة تحـ ّـدد مســار بقيــة اليــوم»‪.6‬‬ ‫لتفســها ّ‬ ‫ت‬ ‫ـ� تواتــرت بينهمــا واســتطاعت أن تقربهمــا إىل بعضهمــا‬ ‫وقــد يســمح الــرواي إليــا أو عزيــز إىل تبــادل الــكالم بينهمــا عـ بـر‬ ‫الرســائل الـ ي‬ ‫ف‬ ‫ف‬ ‫ت‬ ‫البعــض‪ ،‬وهــو مــا أ ّكــده الـ ّـراوي‪ /‬الكاتبــة ف ي� االســتهالل‪ »:‬لــم يكونــا يعيشــان ي� المدينــة نفســها‪ ،‬وال حــى ي� القــارة ذاتهــا‪ .‬ولــم تكــن تفصلهمــا‬ ‫ـ� اختــاف ال ّليــل وال ّنهــار‪ .‬وكان أســلوبا حياتهمــا مختلفـ ي ن‬ ‫أميــال كثـ يـرة فقــط بــل كانــا كذلــك مختلفـ ي ن‬ ‫ـ� إىل درجــة اســتحالة أن يتحمــل أحدهمــا‬ ‫آ‬ ‫آ‬ ‫ـن ذلــك حــدث فعـ ًـا‪ .‬وقــد حــدث ذلــك برسعــة كبـ يـرة لــم يتــح إليــا فيــه وقــت لتــدرك‬ ‫ـب أحدهمــا الخــر‪ ،‬لكـ ّ‬ ‫وجــود الخــر‪ ،‬فمــا بالــك بــأن يحـ ّ‬ ‫ـب»‪.7‬‬ ‫ـ� تحــذر مــن الحـ ّ‬ ‫حقيقــة مــا يجــري‪ ،‬ولـ ي‬ ‫ف‬ ‫ت‬ ‫الروايــة‪،‬‬ ‫وإذا كان الـ ّـرواي يســتعمل الغائــب ّإل أنّــه يتيــح لشــخصياته بــأن تتحـ ّـدث‪،‬‬ ‫ً‬ ‫ـ� بــرزت ي� ّ‬ ‫وخصوصــا مــن خــال الحــوارات الـ ي‬ ‫أ‬ ‫أ‬ ‫‪8‬‬ ‫ن‬ ‫ن‬ ‫ـل� مســؤولة الوكالــة‬ ‫فنســتطيع أن نكتشــف نفســية البطــال ومشــاعرهم‪ ،‬ومــن المثلــة عــى ذلــك الحــوار الطويــل الــذي دار بـ يـ� إيــا وميشـ ي‬ ‫أ‬ ‫ف‬ ‫ـن الحقيقــة هــي‬ ‫و� خــال هــذا الحــوار نــرى الـراوي أحيانًــا يأخــذ مــكان الشــخصية ويعـ بـر عــن مشــاعرها‪ ،‬فيكشــف لنــا تــردد إيــا « لكـ ّ‬ ‫ال ّ‬ ‫دبيــة‪ ،‬ي‬ ‫أن إيــا لــم تكــن واثقــة مــن رغبتهــا ف ي� تقييــم هــذا المخطــوط؛ فقــد كانــت ف ي� البدايــة شــديدة الحماســة وال ّثقــة‪ .‬وكانــت ســعيدة ألنّهــا ّأول‬ ‫ّ‬ ‫ف‬ ‫ش‬ ‫ـرا‪ ،‬ي� تقريــر مصـ يـر هــذا الكاتــب‪ .‬لك ّنهــا لــم تعــد واثقــة‬ ‫شــخص يقـرأ روايــة لكاتــب مغمــور لــم تنــر بعــد‪ ،‬وأن يكــون لهــا دور‪ ،‬مهمــا كان صغـ ي ً‬ ‫آ‬ ‫ف‬ ‫ال�كـ ي ز‬ ‫وفيــة‪ ،‬تــدور أحداثــه ي� زمــن يعــود إىل القــرن الثالــث‬ ‫الن مــن أنّهــا ســتتمكّن مــن ت ّ‬ ‫ـر عــى موضــوع ال عالقــة لــه بحياتهــا مثــل موضــوع ّ‬ ‫الص ّ‬ ‫يتدخــل بشــكل مبـ ش‬ ‫ـا�‬ ‫تبينــت تر ّددهــا»‪ .10‬أو ن ـراه ي ف� موقــف آخــر ّ‬ ‫عـ شـر»‪ .9‬لـ�نراه يكشــف عــن موقــف ميشــيل‪ ،‬فيقــول «ال بـ ّـد ّ‬ ‫أن ميشــيل قــد ّ‬ ‫الرومـ ّـي‪ ،‬فإنّــه يقــرع أبــواب الجميــع‪ ،‬بمــن فيهــم‬ ‫ـب “ ّ‬ ‫ليعلــن موق ًفــا يرتبــط بالحـ ّ‬ ‫ولمــا كان العشــق جوهــر الحيــاة وهدفهــا ّ‬ ‫الســامي‪ ،‬كمــا يذ ّكرنــا ّ‬ ‫‪11‬‬ ‫ت‬ ‫ف‬ ‫الرفــض واالســتهجان” ‪ ،‬أو ي� موضــع آخــر يذكــر « هكــذا هــي‬ ‫الذيــن يتحاشــون الحـ ّ‬ ‫ـب – حـ ّـى الذيــن يســتخدمون كلمــة رومانسـ ّـية كإشــارة إىل ّ‬ ‫‪12‬‬ ‫ـب‪ ،‬ازدادت كراهيتــه لــك» ‪.‬‬ ‫الحيــاة‪ .‬فعندمــا تخـ بـر أحدهــم الحقيقــة‪ ،‬فإنّــه يكرهــك وك ّلمــا ّ‬ ‫تحدثــت عــن الحـ ّ‬ ‫وإضافــة إىل الــراوي مــن الخــارج فهنــاك الــرواة أ‬ ‫الخــرون مــن داخــل روايــة «الكفــر الحلــو» فـ ّ‬ ‫ـكل ر ٍاو منهــم يــروي مــا مـ ّـر بــه‪ ،‬ومــا‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫أ‬ ‫ـتخدما ضمـ يـر المتك ّلــم‪ ،‬فـ ّ‬ ‫ـخص‪ ،‬وقــد ســاهم ذلــك‬ ‫وتأمــل الحــداث مــن منظــوره ّ‬ ‫ـكل واحــد يقــوم بــرد ووصــف ّ‬ ‫يتصـ ّـور حدوثــه‪ ،‬مسـ ً‬ ‫الشـ ي‬ ‫بتطــور أ‬ ‫الحــداث وتنامــي الحبكــة‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫ف‬ ‫الرواية‪:‬‬ ‫زمن الرسد ي� ّ‬ ‫ ‪3‬‬ ‫‪ 4‬‬ ‫‪ 5‬‬ ‫‪ 6‬‬ ‫‪ 7‬‬ ‫‪ 8‬‬ ‫‪ 9‬‬ ‫‪ 10‬‬ ‫‪ 11‬‬ ‫‪ 12‬‬

‫مصدر‬ ‫مصدر‬ ‫مصدر‬ ‫مصدر‬ ‫مصدر‬ ‫مصدر‬ ‫مصدر‬ ‫مصدر‬ ‫مصدر‬ ‫مصدر‬

‫نفسه‪،‬‬ ‫نفسه‪،‬‬ ‫نفسه‪،‬‬ ‫نفسه‪،‬‬ ‫نفسه‪،‬‬ ‫نفسه‪،‬‬ ‫نفسه‪،‬‬ ‫نفسه‪،‬‬ ‫نفسه‪،‬‬ ‫نفسه‪،‬‬

‫ص‬ ‫ص‬ ‫ص‬ ‫ص‬ ‫ص‬ ‫ص‬ ‫ص‬ ‫ص‬ ‫ص‬ ‫ص‬

‫‪.12‬‬ ‫‪.26‬‬ ‫‪.53‬‬ ‫‪.135‬‬ ‫‪.10‬‬ ‫‪ 21‬إلى ‪.23‬‬ ‫‪.22‬‬ ‫‪.22‬‬ ‫‪. 27‬‬ ‫‪. 52‬‬


‫ف‬ ‫ـب وم ّهــدت لتبيــان االختــاف بينهــا وبـ ي ن‬ ‫ـتحب‪.20‬‬ ‫ـ� مــن سـ ّ‬ ‫االنقــاب الــذي ســيحدث ي� حيــاة إيــا كان بســبب الحـ ّ‬ ‫وإذا بحثنــا ف� زمــن رسد روايــة «الكفــر الحلــو» الـ ت‬ ‫ـإن الكاتبــة بــدأت القــص ف ي� زمــن يبــدأ مــن ســنة ‪،1252‬‬ ‫ـ� كان عــى إيــا تقييمهــا‪ ،‬فـ ّ‬ ‫ي‬ ‫ي‬ ‫أ‬ ‫ف‬ ‫‪21‬‬ ‫و� اللحظــة الـ ت‬ ‫ف‬ ‫ف‬ ‫ـ� يقتــل فيهــا ال ّت ب�يــزي عــى يــد قاتــل مأجــور ‪ ،‬وكان القاتــل هــو الـ ّـراوي ي� هــذا المشــهد‪ ،‬وي� المشــاهد الخــرى تعــود‬ ‫ي‬ ‫ي‬ ‫أ‬ ‫ـوال الســنوات وصـ ً‬ ‫ـرد يفــارق‬ ‫ـول إىل ‪ ،1248‬ومــن المالحــظ ّ‬ ‫الكاتبــة أ إىل تسلســل ال ّزمــن والعــودة إىل ســنة ‪ 1242‬لتسـ يـر الحــداث بتـ ي‬ ‫أن زمــن الـ ّ‬ ‫لولبيــا‬ ‫ـر أو يتق ّطــع أو يســتدير أو ي ّتخــذ مسـ ً‬ ‫ـارا ًّ‬ ‫زمــن الحــداث‪ ،‬فيعـ ّـدل الزمــن مســاره‪ ،‬فيبطــئ أو يــرع‪ ،‬يقفــز أو يقــف يمتـ ّـد أو يقــر‪ ،‬يتكـ ّ‬ ‫‪22‬‬ ‫وفيــة‬ ‫الرغــم مــن فقــده شــمس ّإل أنّــه يعلــن اســتمرار ّ‬ ‫الص ّ‬ ‫ًّ‬ ‫الرومــي شــاعريته وأنّــه عــى ّ‬ ‫حلزونيــا ‪ ،‬لتنتهــي الكاتبــة إىل عــام ‪ 1260‬وفيهــا يعلــن ّ‬ ‫أ‬ ‫ف‬ ‫ف‬ ‫ف‬ ‫ف‬ ‫ش‬ ‫ّ‬ ‫إن ديننــا هــو ديــن العشــق وجميــع البــر مرتبطــون بسلســلة مــن‬ ‫ـو� آخــر ي� مــكان مــا ي� العالــم‪ّ .‬‬ ‫« لّنــه مقابــل كل صـ ي‬ ‫ـو� يمــوت‪ ،‬يولــد صـ ي‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ف‬ ‫ـزي‪ ،‬يظهــر شــمس جديــد ف ي� عــر مختلفــن‬ ‫القلوبــز فــإذا انفصلــت حلقــة منهــا ‪ ،‬ح ّلــت حلقــة أخــرى ي� مــكان آخــر‪ ،‬ومــع مــوت ّكل شــمس بت�يـ ّ‬ ‫أ‬ ‫ت‬ ‫ـأ� وتذهـ ب ن‬ ‫ـن الجوهــر يبقــى ذاتــه»‪.23‬‬ ‫باســم مختلــف‪ّ .‬‬ ‫ـ� لكـ ّ‬ ‫إن الســماء تتغـ ّـي‪ ،‬تـ ي‬ ‫الت�يزي ومن حوله‪ ،‬ومن ذلك‪:‬‬ ‫وتم االعتماد ً‬ ‫للتعرف عىل ب‬ ‫ّ‬ ‫الرجعات ّ‬ ‫أيضا عىل ّ‬ ‫ ‪-‬رجعــة تتع ّلــق بشــمس ال ّت ب�يــزي وفيهــا تعرفنــا عــى طفولتــه وإىل عالقتــه المتبادلــة مــع هللا وكيــف كان يك ّلمــه‪ ،‬وصـ ً‬ ‫تحولــه إىل‬ ‫ـول اىل ّ‬ ‫أ‬ ‫ف‬ ‫ت‬ ‫ت‬ ‫ـ� ال يمكــن تحقيقهــا ّإل مــن خــال‬ ‫ـ� ســاهمت ي� تشــكيل مدونــة « القواعــد الربعــون لديــن العشــق» الـ ي‬ ‫درويــش‪ ،‬وإىل رحالتــه الـ ي‬ ‫العشــق وحــده‪.24‬‬ ‫أ‬ ‫الحقيقيــة‪ ،‬والتنبــؤ لهــا بأنّهــا ســتصبح عالمــة‪ ،‬وانتقالهــا للعيــش‬ ‫ ‪-‬رجعتــان تتع ّلقــان بكيمــا الوىل منهــا تــرد فيهــا حكايتهــا مــع أرستهــا‬ ‫ّ‬ ‫‪26‬‬ ‫الرومــي وتبنيــه لهــا‪ .25‬وي ف� الثانيــة تعــود بذكرياتهــا اىل طفولتهــا ‪.‬‬ ‫بيــت ّ‬ ‫ف‬ ‫الرجعــة زواجهــا وعالقتهــا بــه مــن خــال اهتمامهــا بمكتبتــه ورفضــه ذلــك‪ ،‬فأدركــت‬ ‫الرومــي‪ ،‬وتنقــل ي� هــذه ّ‬ ‫ ‪-‬رجعــة تتع ّلــق بكـ يـرا زوجــة ّ‬ ‫‪27‬‬ ‫ـأن عالــم الكتــب لــم يكــن ولــن يكــون لهــا‬ ‫بـ ّ‬ ‫‪28‬‬ ‫ت‬ ‫ال� قادتها إىل ممارسة البغاء ‪.‬‬ ‫ ‪-‬رجعة تتع ّلق بالبغي وردة ّ‬ ‫الصحراء تنقل لنا فيها مأساتها ي‬ ‫ت‬ ‫«إن‬ ‫ـ� ّ‬ ‫قدمهــا ال ّت ب�يــزي‪ ،‬ويذكــر فيهــا‪ّ ،‬‬ ‫ّ‬ ‫إن شــخصيات ّ‬ ‫الروايــة لــم تتخ ّلــص مــن ماضيهــا‪ ،‬فــكان ال ّزمــن قاعــدة مــن قواعــد العشــق الـ ي‬ ‫ض‬ ‫ض‬ ‫المـ ض‬ ‫الزمــن‬ ‫ـا� إىل المســتقبل‪ .‬بــل ّ‬ ‫ـا� تفسـ يـر‪ /‬والمســتقبل وهــم‪ّ ،‬‬ ‫إن ّ‬ ‫إن العالــم ال يتحـ ّـرك عـ بـر ّ‬ ‫الزمــن وكأنّــه خـ ّط مســتقيمن يمـ ي مــن المـ ي‬ ‫ي‬ ‫ف‬ ‫ف‬ ‫و� لوالــب ال نهايــة لهــا»‪.29‬‬ ‫و� داخلنــا‪ ،‬ي‬ ‫يتحـ ّـرك مــن خاللنــا ي‬

‫‪2 0‬‬ ‫‪ 21‬‬ ‫‪ 22‬‬ ‫‪ 23‬‬ ‫‪ 24‬‬ ‫‪ 25‬‬ ‫‪ 26‬‬ ‫‪ 27‬‬ ‫‪ 28‬‬ ‫‪ 29‬‬

‫مصدر نفسه‪ ،‬ص ‪.10‬‬ ‫مصدر نفسه‪ ،‬ص ‪. 39 -33‬‬

‫اللبنانية‪ .‬ص ‪.21‬‬ ‫عبد المجيد زراقط‪ .‬في بناء الرواية‬ ‫ّ‬

‫إليف شافاق‪ ،‬قواعد العشق األربعون‪ ،‬ص ‪. 492‬‬ ‫مصدر نفسه‪ ،‬ص ‪. 61 -58‬‬ ‫مصدر نفسه‪ ،‬ص ‪. 250‬‬ ‫مصدر نفسه‪ ،‬ص ‪.288‬‬ ‫مصدر نفسه‪ ،‬ص ‪.249-247‬‬ ‫مصدر نفسه‪ ،‬ص ‪.230‬‬ ‫مصدر نفسه‪ ،‬ص ‪. 317‬‬




‫نبض‪//‬‬ ‫ٌ‬

‫رئيس التحرير د‪.‬حسن فرحات‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫القداسة والكو ْن‬ ‫ارث‬ ‫النبض و‬ ‫إمام‬ ‫اإلنسان ‪ ‬وو ُ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ارث الصفوة‪ِ،‬والنو ِح ‪ ،‬و ِ‬ ‫الخليل‪ ،‬والكلي ِْم‬ ‫وو ُ‬ ‫ِ‬ ‫األمير‪...‬‬ ‫والرو ِح و‬ ‫الحبيب‪،‬و ْ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫سماء الطهر و ْ ِ‬ ‫األرض‬ ‫يغ من د ِم‬ ‫الكو ُن ص َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫الشاهد األزِلي‬ ‫الشهيد‬ ‫ضَب ْت بد ِم‬ ‫األرض ُخ ّ‬ ‫و ُ‬ ‫واألزل وأيام ِ‬ ‫ِ‬ ‫شاهدان على جرأة القرِار‬ ‫الق ًد ِم‬ ‫ُ ُ‬ ‫قادم‬ ‫والقرُار‬ ‫صائب و ُ‬ ‫ٌ‬ ‫الموت ٌ‬ ‫علينا‬ ‫األكبر‪»،‬ال نبالي وقع الموت علينا أو وقعنا عليه»‪.‬‬ ‫وخيرالقائلين ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ِ‬ ‫الخلود‬ ‫مسار‬ ‫يسلك‬ ‫الحق ْأولى أن‬ ‫حق و ُّ‬ ‫الموت ٌّ‬ ‫و ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫سواها‬ ‫و ُ‬ ‫الخلود فلسف ُة اإلله العال ِم بالنفس وما ّ‬ ‫ِ‬ ‫األعمام‬ ‫رك وبنو‬ ‫حيدر‪ ‬تعرُفه‬ ‫العجم والتُ ُ‬ ‫ُ‬ ‫إمام اإلقدام من وْلد َ‬ ‫ْ‬ ‫العرب ‪ ‬و ُ‬ ‫ُ‬


‫كسبت أيديهم‪..‬‬ ‫اللعن يرافُقهم دوماً بما‬ ‫ْ‬ ‫و ُ‬ ‫ٍ‬ ‫شهيد‬ ‫ودمعت عينا أ ِم‬ ‫غيث‬ ‫كّلما نزل ٌ‬ ‫ْ‬ ‫ِ‬ ‫دمار ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ومبايعة غر ٍ‬ ‫ِ‬ ‫كل ِ‬ ‫يب‬ ‫وتهجير قو ِم‬ ‫بلد‬ ‫وعند ّ‬ ‫ِ‬ ‫ن‬ ‫الجمر يدعوهم ِاختبا اًر‬ ‫اء‬ ‫ِّ‬ ‫الحق على عاتقهم و ُ‬ ‫أتباعٌ يحملو لو َ‬ ‫تبدل الوالء وال هم في و ِ‬ ‫ارد التغيير‬ ‫نهج الشهيد سائرون ‪ ،‬فال‬ ‫ات على ِ‬ ‫أمو ٌ‬ ‫األيام ّ ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫مأسور اإلر ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫الحال‬ ‫ضعيف‬ ‫ادة ‪،‬‬ ‫لكل مظلو ٍم‬ ‫ّ‬ ‫يمدون ّيد العو ِن ّ‬ ‫يقيمون عزاء الو ِ‬ ‫اجب حفاظاً على األجيال واألوطان من الضياع‬ ‫َ‬

‫عند العرش‬ ‫ُيحيون الذكرى في الميدان تخليداً للروح ‪ ..‬والرو ُح شاهدةٌ َ‬ ‫منعاً للنسيان‬ ‫والنسيان مسلك ِ‬ ‫الخذالن عقيدةُ المنافقِي َن‬ ‫الخذالن‪ ،‬و‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫المسير‬ ‫أكملت هي‬ ‫تعثرنا في السير‬ ‫ْ‬ ‫الم َه ُج فإذا ّ‬ ‫َ‬ ‫نسير ُ‬ ‫ُ‬ ‫وتسير معنا ُ‬


‫دون ُه‬ ‫الم َه ُج على‬ ‫ِ‬ ‫بذل َ‬ ‫النهج تُ ُ‬ ‫يمضي و ُ‬ ‫ِ‬ ‫ورث شجاع َة ِ‬ ‫الجد(ص)‬ ‫األب َّ‬ ‫وسر ‪ ‬األم ‪ ‬وحكم َة ِ‬ ‫َ‬ ‫األخ ‪ ‬وبصيرَة ّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫نبض ٍ‬ ‫منير‬ ‫النبض‬ ‫دمك ٌ‬ ‫‪ ‬باق و ُ‬ ‫‪ ‬عشق اإلله طر ٌ‬ ‫يق فينا ُمش ٌع ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ِ‬ ‫مضيت على ِ‬ ‫تنهيدة اعتر ٍ‬ ‫ِ‬ ‫‪ ‬القدر دون‬ ‫اض‬ ‫رمال‬ ‫َ‬ ‫فخضبت ِ‬ ‫ِ‬ ‫الطاهر ‪ ‬فأصبحت ِقبل َة المؤمنين‬ ‫بدمك‬ ‫ُ َ‬ ‫ِ‬ ‫الء‬ ‫انقطع ‪ ‬وال‬ ‫الذكر‬ ‫فال‬ ‫الرمال ّ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫‪ ‬غي َرت الو َ‬ ‫ِ‬ ‫الرسالة بسها ِم ِ‬ ‫ورماح ِ‬ ‫بغضهم‬ ‫حقدهم‬ ‫وتين‬ ‫ِ‬ ‫طعنوا َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫العلوي‬ ‫بالنسب‬ ‫دية‬ ‫التوحيد‬ ‫وبرسالة‬ ‫الهاشمي‪ ‬وبالمرتضى‬ ‫ًّ‬ ‫ٌكرهاً‬ ‫المحم ّ‬ ‫ِّ‬ ‫ِّ‬ ‫ِ‬ ‫الوصل ‪ ‬ولم يراعوا قراب َة الد ِم‬ ‫حزوا ور َيد‬ ‫ّ‬ ‫ِ‬ ‫السماء على ِس ْب ِط ِ‬ ‫فدمعت عيو ُن‬ ‫خير البرّي ْة‬ ‫ْ‬ ‫ٍ‬ ‫اآلن‬ ‫مضاجع‬ ‫ض‬ ‫حرب‬ ‫الرحمن منذ‬ ‫فأعلنها‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫األتباع ‪ ‬إلى َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫وجود تُق ُ‬ ‫آنذاك َ‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫للعهد‬ ‫ووفاء‬ ‫ْ‬ ‫انتصا اًر للد ِم الطاهر ً‬


‫ِ‬ ‫والتسع من وْل ِ‬ ‫ِ‬ ‫ترد ٍد‬ ‫صيحة‬ ‫نداء‬ ‫دك‬ ‫األمين دو َن ّ‬ ‫ٌ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫حاضر فينا ُنلبي َ‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬ ‫بآيات من الذكر‬ ‫السحاب‬ ‫أصحابه‬ ‫و‬ ‫ُ‬ ‫الثالث مائة والثالثة َ‬ ‫ُ‬ ‫عش ٍريأتون سي اًر في ّ‬ ‫ق‬ ‫الخلق في المسجد األقصى‪...‬‬ ‫يؤم‬ ‫ً‬ ‫هناك في الشر ‪ ...‬هناك‪ُ ...‬‬ ‫ِ‬ ‫وتثبيت ِ‬ ‫غدير الوالية‪.‬‬ ‫وح ِي الرسالة‪،‬‬ ‫معلناً‬ ‫َ‬ ‫إحياء ْ‬ ‫َ‬ ‫انتصار الد ِم على السيف‪ ،‬و َ‬ ‫نبض‪..‬‬ ‫ٌ‬




‫قصيدة الحج‬ ‫الشاعر حامد معيوف‪ /‬العراق‬ ‫لبيت ابغي من الرحمن غفرانا‬ ‫وخافق القلب رام الحج ولهانا‬ ‫ودعت من هذه الدنيا ملذتها‬ ‫كانها لم تعد يل مطمعا زانا‬ ‫العاص لحجته‬ ‫سبحان من ارشد‬ ‫ي‬ ‫وجاء يسعى بذنب شال عيانا‬ ‫قل� يهيم بعشق قلما حملت‬ ‫بي‬ ‫منه الجوانح انواعا والوانا‬ ‫صوت الحجيج يهز الكفر هادره‬ ‫كانه ثار ف ي� الجحدان بركانا‬ ‫طو� لمن شم اطيابا بها عبقت‬ ‫ب‬ ‫الن� الذي للهدي نادانا‬ ‫ريح ب ي‬ ‫ف‬ ‫يح� ن ي�‬ ‫اطوف والعقل ي� سكر ي‬ ‫اصح من يعبد الرحمن سكرانا‬

‫من حب احمد واالصحاب اغبقه‬ ‫كاسا دهاقا به اصبحت ثمالنا‬ ‫مال ارى النفس قد تاهت وما فطنت‬ ‫ي‬ ‫وراءها عافت الولدان صبيانا‬ ‫هذي هي القبلة المنشود زورتها‬ ‫كيما اشم بها طيبا وريحانا‬ ‫يا ي ن‬ ‫عنت‬ ‫حامل� وكم سعي به ٌ‬


‫اال بذا السعي قد خضناه عجالنا‬ ‫ناظري قفا قرا برؤيتها‬ ‫يا‬ ‫َّ‬ ‫وكحل الطرف ف ي� حراء جذالنا‬ ‫ي‬ ‫واستلهمي العهد اذ كانت رسالته‬ ‫نورا انار بها االنسان والجانا‬ ‫كانها الغيث قد اسقت ظوامئها‬ ‫ال�اري سهالنا ووديانا‬ ‫من ب‬ ‫واخ�ض من بعد جدب سامها ومحا‬ ‫من الجهالة امعانا وايمانا‬ ‫ف ي� موجة الشوق عامت ف ي� لجاجتها‬ ‫روحي كان بها ف ي� اليم قبطانا‬ ‫ت‬ ‫حامل�‬ ‫لم ادر كيف مشت اقدام‬ ‫ي‬ ‫تطوف سبعا بها تق�ض ي سجايانا‬ ‫وهادر الصوت ف ي� قول يردده‬ ‫حشد الحجيج بها لبيك سبحانا‬

‫والسعي ي ن‬ ‫ب� الصفا والمرو ياخذنا‬ ‫ذكر الم سعت تسقيه ظمانا‬ ‫وصادق ف ي� رؤاه هم يذبحه‬ ‫لوال االله الذي افداه قربانا‬ ‫ما ارتاب من ذبحه بل قال قائله‬ ‫افعل بما شهدت رؤياك يقظانا‬ ‫ف‬ ‫و� طياتهادفنت‬ ‫ازىك البقاع ي‬ ‫ازىك االنام بها روحا وابدانا‬




‫وعد الهوى‬ ‫د‪.‬هويدا شريف‬ ‫خذني نحو كالم‬ ‫خلف حدود الشعر‬ ‫قلبي تائه النبضات‬ ‫في درب الحنين‬ ‫تمر هوادج الماضي‬ ‫ّ‬ ‫في الشارع أمامنا‬ ‫وتتعانق أنفسنا الحيرى‬ ‫التي أمطرناها بالياسمين‬ ‫كم مزقت دمعة‬ ‫نامت على مقلتانا‬ ‫وتفتت لحن الصوت‬ ‫وابتهاله وتحول إلى‬ ‫شرود وأنين‬ ‫تخّلد وعد الهوى في دمانا‬ ‫فهل سيصبح حبنا‬ ‫مأهوالً بأشباح من طين‬ ‫يا ملهم أفكاري‬

‫ضمني ‪..‬واطفىء‪..‬بالعشق‬ ‫الوتر الحزين وقلبي‬ ‫المصاب بشيزوفرينيا الحروف‬



‫صفها لنفسك‬ ‫بقلم فواز الحمفيش ‪ /‬العراق‬

‫ِ‬ ‫الالتوصف‬ ‫صفها لنفسك إنها‬ ‫ُ‬

‫نافت على الخمسين خيلك ُنَّفٌر‬

‫المسير على الظما‬ ‫تعبت و أضناها‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬

‫أفنيتها في(من)و(ماذا)أو(متى)‬

‫وتظن جدك في ِ‬ ‫الط ِ‬ ‫الب وراءها‬ ‫ُ َ​َ َ‬

‫حتى إذا ما جئتها بعد العنا‬ ‫قفارها فلمثلها‬ ‫إن‬ ‫َ‬ ‫أسلمتك ُ‬

‫رت‬ ‫تك‬ ‫شعابها إذ َخَّي ْ‬ ‫ما َخَّير َ‬ ‫ُ‬

‫شتاتك فالربيع قد آنقضى‬ ‫لملم‬ ‫َ‬ ‫ْ‬

‫ناديت هل من ناصرين فلم تُ َج ْب‬ ‫َ‬ ‫رغم آنطفائك لم تزل بك جذوةٌ‬ ‫ِ‬ ‫للصرخةاالولى وانت خديجها‬

‫كو ٌن من األضداد كنت ولم تزل‬ ‫تنزف حزَن ال ال ينتهي‬ ‫تظل ُ‬ ‫و ُ‬

‫انتهت‬ ‫طافت على كل المو ِ‬ ‫اجع و ْ‬ ‫ْ‬

‫ترسف‬ ‫وكفاك في أغالل وهمك‬ ‫ُ‬ ‫ف‬ ‫مستوحشات موحشات ُع َّج ُ‬

‫َّ‬ ‫ف‬ ‫لكن ُه َّن شو ٌ‬ ‫عس ُ‬ ‫ارد ال تُ َ‬

‫ف‬ ‫ومداك في تلك الحجى ُي َ‬ ‫ستنز ُ‬ ‫األشرف‬ ‫أن الذي تصبو إليه‬ ‫ُ‬

‫تنكف‬ ‫نفسك البتدائك‬ ‫ألفيت‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬ ‫تزحف‬ ‫كالليل نحوك‬ ‫مهامه‬ ‫و‬ ‫ُ‬ ‫غيب ٍ‬ ‫فأراك من ٍ‬ ‫ف‬ ‫لغيب تُْق َذ ُ‬

‫ف‬ ‫لم ْيب َق في روض ِ‬ ‫المنى ما ُيق َ‬ ‫طُ‬ ‫األحرف‬ ‫بت على شفتيك تلك‬ ‫صِل ْ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َّ‬ ‫ِ‬ ‫ف‬ ‫في جانحيك الى الصبا تتعط ُ‬ ‫ِ‬ ‫ف‬ ‫عر ُ‬ ‫أعرفت منها الخاف َي ُ‬ ‫الالي َ‬ ‫ف‬ ‫في‬ ‫منتهاك المبتدا ّ‬ ‫َ‬ ‫يتكن ُ‬ ‫َابدي ُة األحز ِ‬ ‫فزف‬ ‫يحك ز ُ‬ ‫ان ر ُ‬ ‫أن المو ِ‬ ‫ف‬ ‫اج َع في حماها ُ‬ ‫طَّو ُ‬


‫ترتيلة يف محراب الوالية‬ ‫فاطمة البزال‬

‫الس ُ‬ ‫َ‬ ‫ؤال عىل مرايا ص ْحويت‬ ‫طاف ّ‬ ‫ألف صباب ٍة‬ ‫عندي من األشواقِ ُ‬ ‫هو ذا حس ٌني للفدا ِء وعش ُق ُه‬ ‫خيل الشّ هادة ُممر ٌع بفنائ ِه‬ ‫ُ‬ ‫ق ْد كان يف سفْريْ ِه رؤيا للمدى‬ ‫ُ‬ ‫تتزلزل األقدا ُر وه ًنا ‪ ،‬واس ُم ُه‬ ‫للحق مذ كان الهوى‬ ‫هو من ٌرب ِّ‬

‫م ْن أي َن يأتيني القصي ُد ويَعذ ُ​ُب‬ ‫رقب‬ ‫رسا يَ ُ‬ ‫وكتا َيب املحفو ُظ ًّ‬ ‫ِ‬ ‫كالبند يَرك ُز يف الحشا ال يَغ ُر ُب‬ ‫وال ّدي ُن يف أطام ِر ِه ُمتهيَّ ُب‬ ‫ِب‬ ‫وجام ُر ع ْين ْي ِه الغواي َة تُله ُ‬ ‫لب الضّ حى يتقل ُّب‬ ‫كال ّنو ِر يف ُص ِ‬ ‫يتعشَّ ُق البد َر املن َري ويق ُر ُب‬

‫بعض مثال ٍة‬ ‫ُديس ُ‬ ‫يف حبّ ِه الق ِّ‬

‫ُسكب‬ ‫ظأمى‬ ‫ٌ‬ ‫كؤوس ليس فيها ت ُ‬

‫كُ ّنا إذا ج ّن ال ّربي ُع وشاق ُه‬

‫لكل ري ٍح نرق ُ​ُب‬ ‫السحاب ‪ّ ،‬‬ ‫ُّ‬ ‫ري ّ‬

‫غرس ُه‬ ‫ما ه ّمنا باملاء يُسقى ُ‬

‫إن كان من ِ‬ ‫فيض ال ّدما يتوث ُّب‬

‫نسغِ الفدا‬ ‫ذا فج ُر ُه‬ ‫ُّ‬ ‫املروي من ْ‬

‫نجب‬ ‫والفج ُر من غريِ الفدا ال يُ ُ‬

‫السام ِء تو ّردتْ‬ ‫أقام ُر ُه مل َء ّ‬

‫تحجب‬ ‫وسوا َد ليلِ البغي صارتْ‬ ‫ُ‬

‫ما ِ‬ ‫كانت الثّوراتُ حقًّا يُرتجى‬

‫إن مل يك ْن من ُج ِ‬ ‫رحها ما يح ُد ُب‬

‫َ‬ ‫سال ال ّنجي ُع برقّ ٍة فوق ّ‬ ‫الثى‬

‫واعشوشب ال ّزم ُن القدي ُم امل ِ‬ ‫ُجد ُب‬

‫روضً ا يص ُري القف ُر إن ُمدّتْ ي ُدك‬ ‫الصحو ُة الغ ّرا ُء أمل َْت ِسف َرها‬ ‫ّ‬

‫تنضب‬ ‫كغامم ٍة مهراق ٍة ال‬ ‫ُ‬ ‫األنجب‬ ‫الكمي‬ ‫والس ْف ُر يتلو ُه‬ ‫ِّ‬ ‫ُ‬ ‫ُّ‬




‫جذوري ‪..‬وستبقى‬ ‫د‪.‬غيثاء علي قادرة ‪ /‬سوريا‬ ‫ويسألون‪...‬؟‬ ‫ِ‬ ‫الغيث ترقصين‪...‬؟؟‬ ‫أإليقاع‬ ‫ِ‬

‫ِ‬ ‫لهمس َّ‬ ‫الفلوات؟؟‬ ‫أم‬ ‫الد ِم في َ‬ ‫أال َيعلمون‪..‬؟!!‬

‫المدى‪..‬‬ ‫ُيحاكي ُجرحي َ‬ ‫َنوء ُّ‬ ‫بالزحام‪..‬‬ ‫فأ ُ‬ ‫بالرؤى ‪..‬‬ ‫ُّ‬

‫بالص َور‪..‬‬ ‫ِب َخ ٍ‬ ‫‪..‬ارَتَّد ْت ُّ‬ ‫ياالت ْ‬ ‫********‬ ‫ِ‬ ‫أرصفة الغياب‬ ‫على‬ ‫الح َفر‪..‬‬ ‫َزَرعوا ُ‬ ‫‪..‬استُّلوا ِ‬ ‫الف َكر‪..‬‬ ‫الزمان‬ ‫ومن صدى ّ‬ ‫َ‬ ‫َِ‬ ‫ان‪..‬‬ ‫الجدر ُ‬ ‫صاخت ُ‬ ‫عال‬ ‫الو ِ‬ ‫جع ٍ‬ ‫ُ‬ ‫صوت َ‬ ‫يب‬ ‫َي‬ ‫ُ‬ ‫حتضرال َغ ُ‬ ‫الق َدر‬ ‫في سكو ِن َّ‬ ‫تاق َ‬ ‫الص ْمت َ‬ ‫‪..‬وي ْش ُ‬ ‫*******‬ ‫ِ‬ ‫ياباع َث ُّ‬ ‫النور ‪..‬‬ ‫ِ‬ ‫ياباع َث النور‪..‬‬

‫عا َث ْت مراكبي‪..‬‬ ‫الطير في دربي َتحوم‪...‬‬ ‫و ُ‬


‫في مطاوي أسرار‪..‬‬

‫‪..‬‬

‫‪..‬أبحث‬ ‫عن والدات جديدة‬ ‫ُ‬ ‫عن بدايات‪...‬‬

‫أُنهي فيها القصيدة‬ ‫ألعلن الياسمين فرعاً ‪..‬‬ ‫َ‬ ‫وغمام ًة مديدة‬


‫ِ‬ ‫الساحات خطر‪..‬‬ ‫تملُ‬ ‫َ‬

‫غربان َّ‬ ‫الزمان‪...‬‬ ‫ُ‬ ‫المحار‪..‬‬ ‫أشعلوا َ‬

‫تفيأوا الجمر‪َ ..‬قَّلموا األفنان‪....‬‬ ‫َّ‬ ‫َحيرى هي الفيافي‪!...‬‬ ‫حجم الدماء!!‬ ‫رماُلها ُ‬ ‫ماعاد المدى وليدا‬ ‫َ‬ ‫العصيان نشيدا‬ ‫أعلن‬ ‫َ‬ ‫َ‬

‫اشتد في َّ‬ ‫الل ِ‬ ‫و َّ‬ ‫يل الظالم‪..‬‬ ‫الجذر‪..‬‬ ‫ال‪ ..‬لن‬ ‫أحتطب َ‬ ‫َ‬ ‫الجمر‪...‬‬ ‫وإن تفيأت ذاك‬ ‫َ‬ ‫زبد البحر‬ ‫والك لظاه َ‬ ‫المحار‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫ووصل َ‬

‫سأوِق ُد من جذوة ِ‬ ‫الليل نارا‪..‬‬ ‫ليخضَّر ال ُغصن‪..‬‬ ‫َ‬ ‫اك ِ‬ ‫الجدار‪..‬‬ ‫ويعُلو َّ‬ ‫ذي َ‬ ‫******‬ ‫الصحائف‬ ‫لن أطو َي َّ‬ ‫ُؤر ُخ ال ُخطا‪..‬‬ ‫َسأ َّ‬ ‫وأعلن النداء‬

‫في صوِتي ُكل ُّ‬ ‫اللغات‪..‬‬ ‫ّ‬ ‫*****‬ ‫ولدت‬ ‫فأنا ‪..‬مذ ُ‬ ‫في خفايا َّ‬ ‫الن ِار‪ً ...‬أتَلظى‬


‫بلو ٌر يستوط ُن لييل‬


‫د‪ .‬رياض الدليمي‬

‫ِ‬ ‫كنت تقول َني ال صال َة تريض الله‬ ‫ان مل ت ُعفّر برتاب االوطان‬ ‫ار ِ‬ ‫اك تبحث َني عن مسي ٍح تفتين ُه‬ ‫بصالة مبلولة وغيوم ملبدة بروح املطر‬ ‫من خلف الخلجان واقايص البحار‬ ‫تش ّيدين َ‬ ‫ماملك وترسمني حدودها الزرقاء‬ ‫بلونِ ا َورديت‬ ‫ومسبحتي الفريوز‬ ‫ترتل َني الدعا َء ومتجدي َن االسام َء‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫الشمس عىل ُسمريت‬ ‫للفحات‬ ‫كنت تتوق َني‬ ‫ح َني ا َرف ُع االذان‬ ‫بع َد عتقي من ِ‬ ‫جلد السنني‬ ‫اتو ُه يف الوادي الرساب‬ ‫بني ٍ‬ ‫تلبس ردا َء التوت‬ ‫شمس ُ‬ ‫وقمر ت َ َحم َر بِفصا ِل التوت‬ ‫ٍ‬ ‫بأكتاف مل تهشمها النريان‬ ‫َعلق‬ ‫ت َ‬ ‫ِ‬ ‫بخيوط القمر ‪،‬‬ ‫مشدود ٌة‬ ‫يدي يف مواسم الجني‬ ‫أَم ُد ّ‬ ‫ترتعش من ِ‬ ‫بياض القهر‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫تشابك الوا َن الكرز والتوت‬ ‫فيعىش النظر‬ ‫ويجف فمي‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫بت مشلوالً من توبة البوح‬ ‫ُ‬ ‫ِ‬ ‫تسحق النظر‬ ‫يدي‪ .‬الوا ٌن‬ ‫ُ‬ ‫وطيش ّ‬ ‫وصوت ينادي يف الوادي الرساب‬ ‫لصالة ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ونو ِر قم ٍر ٍ‬ ‫وخيوط ٍ‬ ‫شمس‬ ‫هالك‬ ‫تش ُد اذرعي‬ ‫ثقل الحجا ُر عىل صدري‬ ‫َ‬ ‫فتختنق الشهقاتُ‬ ‫ُ‬ ‫وبياض يش ُع زهرا ً‬ ‫ٌ‬


‫يفتح فمي املعتصم ‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫دعيني يا نو ُن الخطيئ ِة‬ ‫لصال ٍة يف العراء‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫مملكاتك الزرق‪.‬‬ ‫ولك صالة يف‬ ‫صب الشم َع يف السمع ‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ادمنت َّ‬ ‫تثقب جدا ُر الشمع‬ ‫مل تع ْد ( َ‬ ‫هيت – َلك ) ُ‬ ‫وال تهلل لزوا ِل الشمس‪.‬‬ ‫ادير ٌة تش ّي ُد ( بسكراب ) االمس‬ ‫مساجد تع ّم ُر روحي املقبوضة بعطر النأي‬ ‫انا الوحيد بتوبتي‬ ‫الليل اكتب ُه تعويذ َة شع ٍر‬ ‫ُ‬ ‫ِ‬ ‫احالم ‪،‬‬ ‫وتهجد ٍ‬ ‫يل‬ ‫يغمى ع ّ‬ ‫من َج ِلد االلوان‬ ‫وحالو ِة االضغاث‬ ‫بلو ٌر يستوط ُن لييل‬ ‫ابيض ( السنت )‬ ‫ينا ُم عىل َ‬ ‫ٍ‬ ‫عاريات‬ ‫والظهو ِر‬ ‫يف عصور القتلِ والفنت‬ ‫من يحميها من طامعٍ ومتسللٍ ؟‬ ‫ك ٌّر وف ٌّر يف معارك االرجلِ‬ ‫بني ٍ‬ ‫ترف وتوبتي‬ ‫تسنهض َني غبارا ً وصهيال ً‬ ‫وقوائ َم َهدها الوه ُن‪.‬‬ ‫انا املنشط ُر بني دجل ٍة وفرات‬ ‫اال يُلمل ُم اجزايئ شط العرب ؟‬



‫قول الحامم‬ ‫حسني شاكر الخفاجي ‪/‬العراق‬ ‫سأعود ويف فمي‬ ‫بقايا عش هجرته األحرف‬ ‫يتعكز عىل جذع شجرة‬ ‫تفصله جثث املارة‬ ‫سأعود‬ ‫مع انفالت الفجر األول‬ ‫قبل ان يحتطب البرش بيتي‬ ‫واترك عىل أرصفة الكناسني‬ ‫اتقيء ارساري‬ ‫سأعود‬ ‫رغم الترشد‬ ‫رغم األصوات الصافية‬ ‫املنبعثة من أبواق املحرومني‬ ‫أتركني هكذا اتسكع‬ ‫عىل القبور الرثة‬ ‫اتقد كشمعة امام رضيح الكلامت‬ ‫نحتيس نخب املوت معا‬ ‫مع بقايا الذاكرة واألفراح الصدئة‬ ‫عىل مقصلة الجزارين‬ ‫☆☆☆☆☆☆☆‬ ‫سأعود‬ ‫ك شحاذ اعاين من غيابات العذاب‬ ‫ك طفل عانق الليل امانيه الضباب‬ ‫سأعود‬ ‫مثلام كنا صغارا‬ ‫نرتدي الجوع شعارا‬ ‫ثم منيض‬ ‫دون شك نرسم الشمس‬ ‫عىل أحالم الرساب‬



‫قساوة الخراب‬ ‫الشاعرة ليىل السيد‪ /‬البحرين‬ ‫كثري ما أمتنى أين التقيتك‬ ‫أوالتقيتني منذ حنيت اىل رفيق أول‬ ‫اشفق عىل وحديت به‬ ‫وأسكن قصور وحدته‬ ‫أحدق يف أنهاره كام أشاء‬ ‫يف الشاعر أعامق الغريب‬ ‫واملنبوذ‬ ‫يف الشاعر ‪ ‬تزهر الوردة‬ ‫ويقطفها آخرون منه‬ ‫ما يتبقى قساوة الخراب‬ ‫لن تعرف الصالبة إال بالشعر‬ ‫أشجار الشاعر فوالذية‬ ‫متفرعة البياض والسواد‬ ‫إقطع تصل‬ ‫تقبض عىل جمرة حب وغضب‬ ‫خارج منه وداخل يف سالسله‬ ‫أنت الوحيد‬ ‫وإن ترسبلت وردا‬ ‫وص َّوتَّ ذئبا‬ ‫َ‬ ‫طعامك الجوع أن ّـى رزقت‬ ‫وشوقك التيه‬ ‫أنت الوحيد‬ ‫تعامل كالقطط الضالة‬ ‫يبهرهم أزرقك و كرزك‬ ‫وتدفق ضحكتك‬



‫سيرسقونها منك‬ ‫وتفيض عيونهم امتنانا‬ ‫وعيونك غربة‬ ‫وترقبا‬ ‫نصيبك من صاحبك‬ ‫نصف ضحكة‬ ‫وبحر دمع‬ ‫وستقرتب بجانب الطريق‬ ‫لن تقاوم‬ ‫أنت الوحيد‬ ‫مقاومتك يف الغرق أكرث‬ ‫لن ترفض الخديعة‬ ‫وال ارتعاشة القمر‬ ‫تقلب أطراف حلمك‬ ‫يف لحظتك‬ ‫وتركب مركبك وحيدا ً‬ ‫وبني مسافة وأخرى‬ ‫تجلو عن العابرين الغبار‬ ‫وتدلهم عىل نبضك‬ ‫فيبحرون يف اتجاهك‬ ‫ووتتيه أنت‬




‫الفلسفة واقع ومرتجى‬ ‫د‪ .‬ماغي عبيد‬

‫باســم هللا فيلســوف هــذا الكــون المبــدع؛ وباســم الفلســفة التــي هــي لغــة الخلــق واإلبــداع‪ ،‬وهــذا مــا يجعلهــا فــي مرتبــة‬ ‫توســط بيــن الخالــق والمخلــوق‪ ،‬هــي دون الخلــق مرتبــة لكونهــا لغــة ابتــداع األفاهيــم وابتــكار المصطلحــات‪ .‬فالمفاهيــم الفلســفية‬ ‫تســاعد علــى تحليــل الواقــع فــي ســبيل فهمــه‪ ،‬مــا يضفــي عليهــا ســمة النخبويــة إذ ال يبلغهــا إال القليــل مــن النــاس‪ ،‬وهــي فــوق‬

‫الخلــق مرتبــة لكونهــا المــكان الــذي تلتقــي فيــه كل العلــوم‪ ،‬لذلــك وبفضلهــا ُتلغــى الحواجــز أمــام مختلــف المعــارف لتتضافــر‬ ‫باتجــاه جعــل الفكــر أكثــر انفتاحـاً‪ ،‬فالفلســفة ال تأتــي اإلنســان بفعــل التطــور التاريخــي أو اســتجابة لحاجــات إجتماعيــة اقتضتهــا‬ ‫الظــروف‪ ،‬بــل إن فعــل التفلســف خاصيــة إنســانية طبيعيــة وليســت مجــرد أســلوب للحيــاة أو لقيــادة المجتمــع؛ لــذا تقــع علــى‬ ‫عاتقهــا وحدهــا مســؤولية معالجــة المســائل الكبــرى‪ ،‬إنطالقـاً مــن إشــكالية عالقــة الــذات واإلنســان بالعالــم‪ ،‬إلــى عالقــة اإلنســان‬ ‫باآلخريــن‪ ،‬مــا يجعــل مهمتهــا صعبــة‪ .‬إذ مــا مــن علــم قــادر علــى منافســتها‪ ،‬وبالتالــي ال يمكــن اإلســتغناء عنهــا السـ ّـيما أنهــا‬ ‫ترتبــط بقلــق اإلنســان الحائــر أمــام مســائل الــذات والكــون والوجــود‪ .‬هــذه األســئلة التــي تكمــن أصالتهــا وجوهريتهــا فــي طرحهــا ال‬ ‫فــي اإلجابــة عليهــا‪ ،‬إنهــا أســئلة اإلنســان فــي كل زمــان ومــكان‪ ،‬وبخاصــة اإلنســان المعاصــر وريــث التاريــخ والفكــر والحضــارة‪،‬‬ ‫وريــث الحداثــة‪ ،‬سـّـيد الطبيعــة‪ ،‬مختــرع القيــم وهادمهــا‪ ،‬إنــه إنســان المفارقــات‪ ،‬إنســان الوحــدة واإلختــاف‪ ،‬التركيــب والتفكيــك‪ ،‬إنــه‬ ‫ـاءل عــن فائــدة وجــوده كمفهــوم وكــذات طالمــا أنــه يســاهم بيديــه فــي بســط ســيطرة كينونــة البنيــات الالشــعورية‬ ‫اإلنســان الــذي يتسـ َ‬ ‫والمفاهيــم المجــردة ولغــة الرمــوز وأشــكال التقنيــة‪.‬‬ ‫تكمـ�ن فائ��دة الفلس��فة فــي كونه��ا تعل��م الوع��ي بـ�اهلل والــذات والوجوــد‪ ،‬إذ إن فــي حضورهــا حضــور للعقــل والمقاومــة‬ ‫ ‬ ‫ـاءل متســائل ِلـ َـم تغــزو حــركات اإلرهــاب عالمنــا العربــي‬ ‫والحريــة؛ وفــي غيابهــا حضــور للتخلــف والهمجيــة واإلرهــاب؛ قــد يتسـ َ‬ ‫اليــوم؟ لعــل الســبب فــي ذلــك يرجــع إلــى أن بعض ـاً مــن الــدول العربيــة كانــت قــد عمــدت إلــى إلغــاء تعليــم مــادة الفلســفة مــن‬ ‫مناهجهــا التعليميــة التربويــة علــى اعتبــار أن الفلســفة زندقــة‪ ،‬والزندقــة كفــر‪ ،‬وكل كفــر ضــال‪ ،‬وكل ضــال إلــى النــار؛ متناســين‬ ‫أن الشــعب الــذي ال يتفلســف هــو شــعب إلــى المــوت أقــرب‪ ،‬واألمــة التــي ال تنتــج فالســفة مصيرهــا الــزوال والفنــاء‪ .‬ونحــن فــي‬ ‫عالمنــا العربــي ‪ ،‬مــا أحوجنــا اليــوم إلــى فلســفة نتخــذ فيهــا العقــل هاديـاً ومرشــداً ليخلصنــا مــن العنــف والعبوديــة‪ ،‬الجهــل واألميــة‪،‬‬ ‫التعصــب والطائفيــة! فنعمــل بوحــي التفكيــر الفلســفي الــذي يحررنــا مــن المذهبيــة والقبليــة والعشــائرية‪ ،‬وينقذنــا مــن الذهنيــة‬ ‫الميليشــيوية بحيــث نصبــح أســياد أنفســنا ال عبيــداً مســتزلمين لقائــد أو زعيــم‪.‬‬ ‫مــا أحوجنــا لفلســفة تنقذنــا مــن حروبنــا وتعيــد إلينــا ســامنا‪ ،‬ومــا أحوجنــا لفالســفة يعيــدون للبنــان مظهـره الحضــاري‪،‬‬ ‫ـدي‬ ‫ولألمــة العربيــة حضورهــا المنتــج والفاعــل‪ .‬مــن هنــا‪ ،‬وإيمانـاً منــي بأهميــة الفلســفة كضــرورة حتميــة فــي مجتمعاتنــا‪ ،‬توّلــد لـ ّ‬ ‫التســاؤل اآلتي ‪ِ :‬ل َم الفلســفة في ما بين الواقع والمرتجى؟ لعل الباعث على تقديم هذا البحث هو نعي الفيزيائي اإلنكليزي‬ ‫ســتيفن هوكينغ‪ Steven Howking‬للفلســفة في كتابه التصميم العظيم‪ The grand design‬مطلقاً عبارته الشــهيرة ‪The‬‬ ‫‪ .)1( Philosophy Is dead‬فهــل فع ـاً ماتــت الفلســفة؟ أم أنهــا حيــة دائم ـاً وأبــدا؟ وهــل حــدود الفلســفة تقــع ضمــن حــدود‬ ‫الفيزيــاء فقــط؟ أم أن مشــكلتها تقــع اليــوم فــي افتقادهــا للميتافيزيــاء؟ وهــل مشــكلة الفلســفة تكمــن فــي العقــل القاصــر عــن اإلجابــة‬ ‫على تســاؤالت اإلنســان المعاصر؟ أم في الفلســفة ذاتها؟ وما موقع الفلســفة في ما بين الثابت والمتحول؟ إزاء ذلك ســيتمحور‬


‫أ_هــل ماتــت الفلســفة فعـاً؟ وبــأي معنــى؟ يذهــب هوكينــغ إلــى اإلدعــاء بمــوت الفلســفة علــى اعتبــار أنهــا لــم تســتطع‬ ‫المحافظــة علــى صمودهــا فــي مواجهــة تحديــات وتطــورات العلــم الحديثــة‪ ،‬وبخاصــة فــي ميــدان الفيزيــاء؛ حيــث أن العلمــاء‬ ‫اليــوم‪ ،‬والســيما الفيزيائييــن‪ ،‬هــم مــن يحملــون مشــاعل المعرفــة‪ ،‬محاوليــن اإلجابــة عــن تســاؤالت اإلنســان المعاصــر‪ ،‬والتــي‬ ‫تتمحــور حــول الكــون والعالــم وهللا‪ ،‬متناســياً أن مــا قــام بــه هوكينــغ مــن إجابــات ال يعــدو كونــه فلســفة‪ ،‬وهــل مــن فكــر سـواء أكان‬ ‫«أم‬ ‫علميـاً أم أدبيـاً أم فنيـاً يقــع خــارج الفلســفة؟ توهــم هوكينــغ بــأن إجاباتــه الفيزيائيــة تقــع خــارج الفلســفة‪ ،‬أوليســت الفلســفة هــي ّ‬ ‫العلــوم وصناعــة الصناعــات»‪ ،‬أوليســت تبحــث فــي «اإلنســان والكــون وهللا»‪ ،‬وبالتالــي إجابــات هوكينــغ عــن تســاؤالت اإلنســان‬ ‫فــي ميــدان الفيزيــاء ال تعــدو كونهــا تســاؤالت فلســفية فيزيائيــة‪ .‬إذ إنــه ينطلــق مــن أســئلة‪ :‬كيــف يمكننــا فهــم العالــم الــذي وجدنــا‬ ‫أنفســنا فيــه؟ كيــف يتصــرف الكــون؟ مــا حقيقــة الواقــع؟ مــن أيــن أتــى ذلــك؟ هــل الكــون بحاجــة لخالــق؟ معظمنــا يمضــي وقتــه فــي‬ ‫قلــق بشــأن تلــك األســئلة‪ ،‬لكننــا جميعـاً قلقــون بشــأنها بعــض الوقــت(‪ .)3‬جميــع أســئلة هوكينــغ الـواردة الذكــر هــي أســئلة فلســفية‬ ‫بامتيــاز‪ ،‬وإن كان قــد تصــور بأنهــا خــارج الفلســفة ظنـاً منــه بفصــل الفلســفة عــن شــموليتها وعموميتهــا‪ ،‬معتقــداً بتجزئتهــا وبأنهــا‬ ‫ال تحيــط بالعلــم؛ هــو اعتقــاد خاطــىء ألنــه مــا مــن علــم يقــع خارجهــا‪ ،‬وهــو فــي محاولتــه الــرد علــى هــذه األســئلة إنمــا يســعى‬ ‫ألن يدخــل ضمــن الفكــر الفلســفي‪ .‬وهــو يقـ ّـر بذلــك بلســانه عندمــا يقــول ‪ »:‬كانــت تلــك هــي األســئلة التقليديــة للفلســفة‪ ،‬لكــن الفلســفة‬

‫قــد ماتــت ولــم تحافــظ علــى صمودهــا أمــام تطــورات العلــم الحديثــة‪ ،‬وخصوصـاً فــي مجــال الفيزيــاء‪ .‬وأضحــى العلمــاء هــم مــن يحملــون مصابيــح‬ ‫اإلكتشــاف فــي رحلــة التنقيــب وراء المعرفــة‪ .‬يهــدف هــذا الكتــاب إلــى تقديــم اإلجابــات التــي تفرضهــا اإلكتشــافات العصريــة والنظريــات العلميــة‬ ‫الحديثــة‪ .‬كمــا يوصلنــا لصــورة جديــدة عــن الكــون وعــن موقفنــا فيــه بشــكل يختلــف كليـاً عــن تلــك الصــور التقليديــة‪ ،‬ويختلــف حتــى عــن الصــورة‬

‫التــي قــد نكــون رســمناها منــذ عقــد أو عقديــن فقــط‪ .)4(»...‬مــن خــال هــذا الــكالم يتبــادر إلــى ذهنــي التســاؤل اآلتــي‪ :‬هــل خــرج‬ ‫هوكينــغ مــن دائـرة الفلســفة؟ أم أنــه توهــم ذلــك؟ ومــن قــال أن إمكانــات الفلســفة تقــع فقــط فــي العلــوم الماديــة فحســب؟ وهــل أن‬ ‫يتنبــه لــه هوكينــغ أن الفلســفة تحتــوي‬ ‫مــا ّ‬ ‫قدمــه مــن أجوبــة علــى كيفيــة تصــوره للكــون وفيزيائــه خــارج عــن حــدود الفلســفة؟ مــا لــم ّ‬

‫كل العلــوم‪ ،‬حيــث أنهــا تطــرح التســاؤالت‪ ،‬وعلــى المفكريــن إلــى أي ميــدان انتمـوا أن يجيبـوا‪ ،‬ومــن إجاباتهــم ســتتولد أســئلة جديــدة‬ ‫وهكــذا دواليــك‪ .‬وهنــا تتولــد فاعليتهــا فــي أســئلتها التــي ال تكــف عــن طرحهــا‪ ،‬والتــي تقــع فــي جوهــر طبيعتهــا وكينونتهــا‪ ،‬مــا‬ ‫وتميـ اًز‪ ،‬ويجعــل إمكانيــة اإلســتغناء عنهــا أمـ اًر فــي غايــة الخطــورة‪ ،‬ال ســيما وأن أســئلتها تعبــر دائمـاً عــن‬ ‫يضفــي عليهــا فـرادة ّ‬ ‫قلــق االنســان الحائــر أمــام مســائل وأزمــات وإشــكاليات كبــرى تســتعصي علــى الفهــم والحــل فتقــع علــى الفلســفة وحدهــا مســؤولية‬ ‫معالجتهــا ألنهــا وحدهــا التــي تطــرح قضايــا الــذات والكــون والعالــم‪َ .‬أوَلــم تبحــث الفلســفة فــي عالقــة االنســان بالكــون وهللا وحتــى‬ ‫فــي عالقتــه باآلخريــن‪ .‬وعلــى هــذا‪ ،‬فالوقائــع اإلنســانية ال تقــع جلهــا فــي العلــم وحــده كمــا إعتقــد العلمــاء ‪ ،‬وكمــا صـ ّـرح أحدهــم‬ ‫بالقــول ‪ »:‬وفــي نهايــة األمــر‪ ،‬مــا معنــى أن نعــرف الطبيعــة؟ كان جــورج ســانتايانا (‪ )Georges Santayana‬يتســاءل هــذا «الذرائعــي»‬ ‫األوروبــي فــي أميــركا الــذي كان يربــط الريبيــة باإليمــان المعتــاد‪ ،‬وســيتمكن جوابــه مــن جمــع الذرائعييــن‪ ،‬س ـواء أكان ـوا أوروبييــن أو أمركييــن‬

‫مــع أو ضــد الفلســفة المعرفيــة؟ حيــث كان يقــول بــأن معرفــة الطبيعــة‪ ،‬هــي المجــاز األكبــر الــذي علــى العالــم تفســيره»(‪ .)5‬فعالــم اإلنســان‬ ‫الداخلــي حيــث التســاؤل عــن معنــى الــذات والمصيــر والوجــود هــي مــن إختصــاص الفيلســوف وحــده‪ ،‬ألنهــا إختبــارات داخليــة‬ ‫يتفكــر فيهــا ويســعى إلــى فهمهــا رغــم صعوبتهــا؛ متناســين أن أهميــة الفلســفة‬ ‫تحتــاج التأمــل الذاتــي الــذي يعتمــده الفيلســوف‪ّ ،‬‬ ‫تكمـ�ن فـ�ي كونهـ�ا تريـ�د الحقيقـ�ة كاملـ�ة غيـ�ر منقوصـ�ة‪ ،‬بينمـ�ا العلـ�م ال يريدهـ�ا كذلـ�ك‪ .‬ولعـ�ل هـ�ذا مـ�ا جعـ�ل وليـ�م جيمـ�س �‪Wil‬‬ ‫‪ liam James‬يطلــق صرختــه رافض ـاً اإلســتنجاد بنفــوذ العلمــاء‪ ،‬واصف ـاً واقعهــم بالقــول ‪ »:‬إن حقــل فعلهــم محــدود جداً‪...‬إنهــم‬ ‫ال يشــكلون ســلطة عامــة‪ ،‬إال مــا خــص المنهــج‪ .)6(»...‬وعلــى هــذا‪ ،‬فتســاؤل الفلســفة حــول الحقيقــة ال بقصــد إمتالكهــا وحيازتهــا‪،‬‬ ‫إنمــا اإلطمئنــان عليهــا بواســطة معنــى أن الكــون حقيقي ـاً متعــدداً دونمــا الدخــول فــي مضمونــه؛ الحقيقــة وكمــا ت ارهــا الفلســفة‬ ‫نجــز أبــداً‪ .‬هــي فــي هــذا العالــم وفــي صـراع تقــوده الفلســفة حتــى النهايــة‪ ،‬علــى أن ُيســتبعد‬ ‫هــي الحركــة الالمتناهيــة التــي لــن تُ َ‬ ‫العنــف منــه‪ ،‬وهــذا مــا دفــع جــون ديــوي ‪ John Dewey‬للنظــر إلــى الفلســفة علــى أنهــا «النظريــة العامــة للتربيــة»(‪ .)7‬علــى اعتبــار‬ ‫أنهــا إعــادة بنــاء وتنظيــم مســتمر للتجربــة‪ ،‬مــن خــال توســيع مدلوالتهــا ومحتواهــا اإلجتماعــي‪ ،‬وعبــر قــدرات األفـراد المحركيــن‬ ‫والضامنيــن لتنظيمهــا‪ ،‬وفلســفة التجربــة عنــد ديــوي ترتكــز علــى مبــدأي‪ :‬اإلســتم اررية والتعامليــة‪ ،‬وصـوالً إلــى تربيــة ديمقراطيــة‪،‬‬


‫البحــث حــول الفلســفة واقــع ومرتجــى‪ ،‬وســنحاول ولــوج هــذه اإلشــكالية مــن خــال العناويــن اآلتيــة‪:‬‬ ‫أوالً‪ :‬مســوغات البحــث‪ :‬تكمــن أهميــة هــذا البحــث فــي كونــه يتنــاول قضيــة أحــوج مــا نكــون إلــى طرحهــا فــي واقعنــا‬ ‫ألمــت بعالمنــا المعاصــر وســيطرة‬ ‫المعاصــر إن علــى الصعيــد الثقافــي‪ ،‬أو األكاديمــي؛ حيــث أنــه بعــد التحـوالت المتنوعــة التــي َّ‬ ‫اإلرهاب والقتل واإلجرام‪ ،‬واإلبتعاد عن اإلنســان واإلنســانية‪ ،‬تجدنا مدفوعين للتســاؤل ‪ :‬كيف ســيكون واقع الفلســفة المســتقبلي‬ ‫ـاء علــى واقعهــا الحالــي ؟ ومــا المرتجــى مــن مســتقبلها فــي ســيرورتها وإمكانهــا؟ فــي ثباتهــا وتحوالتهــا؟ مــا دور المفكــر فــي‬ ‫بنـ ً‬ ‫عالمنــا المعاصــر؟ وأي مســتقبل منتظــر لألجيــال القادمــة؟ ومــا شــكل الفلســفة ووجههــا المســتقبلي بعدمــا عمــدت وتعمــد األجهـزة‬ ‫السياســية والتكنولوجيــة إلــى تشــيئة اإلنســان واســتالبه‪ ،‬بحيــث توهمــه بعج ـزه عــن المشــاركة فــي صناعــة المســتقبل‪ ،‬فيســهل‬ ‫الســيطرة عليــه‪ ،‬وبالتالــي تدجينــه وتطويعــه وتوظيفــه بمــا يخــدم أغراضهــا ومصالحهــا؟‪.‬‬ ‫ولجــأت فــي هــذا البحــث إلــى المنهــج الجدلــي الهيغلــي فــي عــرض النظريــات واألفــكار التــي نــادت بمــوت الفلســفة‪،‬‬ ‫كمعطــى(‪ ،)Thèse‬وتلــك التــي وقفــت علــى نقيضهــا(‪ ،)Antithèse‬والتــي أثبتــت حضورهــا‪ ،‬ضرورتهــا وحتميتهــا‪ ،‬وصـوالً إلــى‬ ‫التوليفــة( ‪ )Synthèse‬التــي تــرى فيهــا أنهــا حيــة دائمـاً وأبــدا‪ ،‬كذلــك هــو الحــال فــي تســليط الضــوء علــى الفلســفة فــي مــا بيــن‬ ‫الثابــت والمتحــول‪ ،‬الواقــع والمرتجــى‪ ،‬وصـوالً إلــى تصوراتهــا المســتقبلية‪.‬‬ ‫ثانيـاً‪ :‬الفلســفة بيــن الواقــع والمرتجــى‪ :‬يظهــر الحضــور الفلســفي المتــأزم حينـاً‪ ،‬وغيــر الثابــت أحيانـاً أخــرى‪ ،‬إشــكالية‬ ‫تواجــه الفلســفة‪ ،‬ال فــي ســعيها ألن تكــون بــل فــي كونهــا ذاتــه‪ ،‬ألنهــا كائنــة‪ .‬فمــا أن ظهــر نشــاطها العقلــي بــدا وكأنــه قــدر‬ ‫وجودهــا اإلنســاني‪ ،‬وقــدر الفلســفة كامــن فــي أزمتهــا‪ .‬ولعــل لهــذه األســباب وغيرهــا‪ ،‬صلــة بعــدم تمكــن أعدائهــا منهــا‪ ،‬لكــن فــي‬ ‫الوقــت عينــه لــم تتمكــن مــن حســم انتصارهــا الــذي أوحــى وكأنــه يتضمــن موتهــا أو نهايتهــا‪.‬‬ ‫لعل أكثر ما يتبادر إلى الذهن التساؤل اآلتي‪َ :‬لم نركز على الحاضر والحضور الفلسفي الذي ينافي الغياب‪ ،‬وكيف‬ ‫الســبيل إلــى تواصليــة اللحظــات الزمنيــة بوجــود الحاضــر بيــن عدميــن؟ حيــث أن اللحظــة الحاضـرة هــي المركــز المســتقطب لــكل‬ ‫مــا يقــع ماضيـاً ومســتقبالً مــع نفيهمــا أو إثباتهمــا‪ .‬ولعلــه متوهــم ذاك الــذي يعتقــد بــأن الفكــر بحاضـره قــد ينســلخ عــن ماضيــه‪،‬‬ ‫أو مــا قــد يرســمه مســتقبله‪ .‬فكيــف يكــون جمــع فــي حاضــر واقــع يصــل غيــاب الماضــي بمســتقبل منتظــر؟ هــذا الحاضــر اآلن‬ ‫والبارحــة وفــي الغــد؟ حيــث الروافــد تتالقــى ال فــي اســتقرار بثبــات‪ ،‬وال انعدامـاً بالتالشــي‪ .‬وهــل فــي الثــورة الحاليــة تمهيــد لفلســفة‬ ‫جديــدة أم أن الفلســفة هــي التــي تولــد الثــورات؟ ومــا الــذي نبتغيــه‪ :‬النقــد الهـ َّـدام للواقــع‪ ،‬أم النقــد َّ‬ ‫البنــاء للمســتقبل؟ جميــع هــذه‬ ‫األســئلة تســتلزم مراجعــة ماضينــا المعرفــي فــي تاريخانيتــه‪ ،‬فيتــم انتقــاء مــا يصلــح للمســتقبل فــي عمليتــي‪ :‬قطــع مــا هــو رديء‪،‬‬ ‫ووصــل مــا هــو نافــع ويلبــي الطموحــات المســتقبلية‪ .‬مــع العلــم بأنــه مــن الواجــب تســليط الضــوء علــى األســباب التــي جعلــت‬ ‫تطلعــات مفكرينــا مصابــة بالفشــل‪ ،‬وبالتالــي مــا هــي اآلليــة لتصويــر أزماتنــا؟ وماهــي الوســائل لمعالجــة إشــكالياتنا؟ إن لــم تتوافــر‬ ‫جميــع هــذه العناصــر فلــن ُيكتــب لنــا النجــاح فــي إبـراز وتظهيــر أي مشــروع فلســفي مســتقبلي معرفــي فاعــل ومنتــج‪ .‬مــن هنــا‪،‬‬ ‫تضاربــت وجهــات النظــر لــدى الفالســفة والمفكريــن بيــن‪ :‬مــن نــادى بخـراب الفلســفة(‪ ،)2‬وبيــن مــن أعلــن موتهــا؛ وبيــن مــن وصفهــا‬ ‫بأنهــا غيــر ذات موضــوع‪ ،‬وبــأن العامليــن فيهــا متخصصــون فــي عــدم التخصــص‪ ،‬علــى اعتبــار أنهــا ليســت مــن العلــم فــي‬ ‫شــيء‪ ،‬مــن هنــا كان ال بــد مــن التســاؤل‪:‬‬


‫العلــوم الوضعيــة‪ .)11(».‬لعــل إشــكالية الفلســفة تكمــن فــي كونهــا الكمــال الــذي هــو أكثــر مــن ضــرورة‪ ،‬وبالتالــي تاريــخ البش ـرية‬ ‫أكبــر شــاهد علــى أن دأب النــاس التعلــم فــي كل زمــان ومــكان‪ ،‬وديدنهــم الحكمــة؛ وبالتالــي ال يســتغني عنهــا إال مــن يعانــي‬ ‫اإلرتــكاس واإلنتــكاس واإلرتــداد نحــو الحيوانيــة‪ .‬الفلســفة هــي مطلــب اإلنســان فــي كل زمــان ومــكان‪ ،‬إنهــا الحكمــة والغايــة‬ ‫والمرتجــى؛ فقــد يحيــا اإلنســان دون علــم ودون فــن‪ ،‬لكنــه لــن يحيــا دون فلســفة؛ قــد يتعاطــى مــع المعــارف العلميــة والنتاجــات‬ ‫الفنيــة بالتهميــش وعــدم اإلكتـرات‪ ،‬لكنــه كيــف ســيواجه نــداء الوجــود وقلقــه الميتافيزيقــي؟ وكيــف سيشــيد عقيدتــه الخاصــة علــى‬ ‫ـح أن عصرنــا هــو عصــر ســيادة العلــم‪ ،‬ولعلــه الســبب فــي ازديــاد الحاجــة للطلــب علــى‬ ‫أســس علميــة ودعائــم وضعيــة؟ صحيـ ٌ‬ ‫الفلســفة وضرورتهــا وحتميتهــا‪ ،‬لهــذا ال يتوانــى المفكــر اإلميركــي إمرســون عــن إب ـراز ضرورتهــا وأهميتهــا مــردداً ‪ »:‬إذا كان‬ ‫رفائيــل قــد رســم الحكمــة‪ ،‬فقــد غناهــا هنــدل‪ ، Hendel‬ونحتهــا فيديــاس‪ ،‬وكتبهــا شكســبير‪ ،‬وشــيدها رن‪ ، Wren‬ونشــر قالعهــا كولمبــس‪،‬‬

‫وســلحها واشــنجطن‪ ،‬ونطــق لهــا لوثــر آيــات بينــات‪ ،‬وركبهــا وات‪ Watt‬آالت محكمــات‪ .)12(».‬فهــل فع ـاً أن الفلســفة هــي نتــاج العلــم‬ ‫واألخــاق والديــن وخاضعــة لهــا؟ أم علــى العكــس مــن ذلــك هــي إثبــات لتعالــي الفكــر البشــري علــى الطبيعــة‪ ،‬وخروجــه علــى‬ ‫التاريــخ ونزوعــه باتجــاه المطلــق؟ حيــث أن البعــض مــن المفكريــن يرفــض رفضـاً قاطعـاً الــكالم عــن مجتمــع مــا بعــد الفلســفة‪،‬‬ ‫مؤكــداً القــول ‪ »:‬علــى الرغــم مــن أننــا قــد نكــون علــى أعتــاب مجتمــع مــا بعــد الحداثــة‪ ،‬إال أننــا بالتأكيــد لســنا علــى أعتــاب مجتمــع مــا بعــد‬ ‫الفلســفة‪ .‬فقــد كانــت هنــاك فتـرات فــي الماضــي بــدا فيهــا أن الطريــق الوحيــد الــذي يمكــن أن تبقــى فيــه الفلســفة علــى قيــد الحيــاة هــو تطابقهــا‬ ‫مــع العلــوم أو تماثلهــا معهــا‪ ،‬بيــد أنــه مــن المحتمــل فــي المســتقبل أن يتحقــق التقــدم مــن خــال التركيــز علــى التفرقــة بيــن الفلســفة والعلــوم‪...‬‬ ‫يجــدر بنــا أن نتذكــر أن مجتمعــات المســتقبل فــي ســبيلها إلــى زيــادة ثقافتهــا‪ ،‬ومــن ثــم ســوف تكــون أكثــر اســتعداداً لفهــم البراهيــن والنظريــات‬

‫الخاصــة بالفكــر الفلســفي األكاديمــي‪ .)13(».‬صحيــح أن الحداثــة ونقدهــا فككــت المقـوالت والمفاهيــم‪ ،‬البنــى والقيــم‪ ،‬األطــر والمعانــي‪،‬‬ ‫المعتقــدات والفلســفات‪ ،‬اآلداب والفنــون؛ لــذا كيــف لنــا أن نأتــي بفلســفة هيغليــة أو علــم مطلــق يوحــد مــا اختلــف‪ ،‬يجمــع مــا‬ ‫ســبق ويمهــد لمــا لحــق‪ ،‬كخاتمــة لــكل الفلســفات؟ وعلــى هــذا‪ ،‬فالفلســفة باقيــة مــا بقــي اإلنســان يســأل‪ ،‬ويبحــث‪ ،‬وينتظــر جوابـاً؛‬ ‫لهــذا ال يتوانــى أحــد المفكريــن عــن التســاؤل عــن الفلســفة قائ ـاً ‪ »:‬فــي حيــن أن الفلســفة فعــل متــرف كالوجــود الــذي تقولــه‪ .‬فمــاذا‬

‫بقــي لهــا إذن؟ ال شــيء‪ .‬وكل شــيء‪ .‬إذ إنهــا كانــت‪ ،‬ومات ـزال‪ ،‬وســتبقى طالمــا أن هنــاك فيلســوفاً أو باحث ـاً فلســفياً‪ ،‬صــورة تحــاول أن تقــول‬ ‫مــا يقصــر القــول عنــه‪ ،‬وأن تقولــه علمـاً محكــم البرهنــة‪ :‬أن تقــول فائــض الوجــود عــن ذاتــه‪ .‬فالتفكيــك‪ ،‬ولــو بعثرهــا كلهــا‪ ،‬طلــب‪ ،‬ومــا طلبــه‬ ‫أفالطــون مــن فلســفته‪ :‬أن تكــون صــورة تكافــئ الوجــود وتقــول موجوداتــه كالً منها»هــو كمــا هــو»‪ .‬والفلســفة أيضـاً هــي مــا هــي‪ :‬سـؤال ينتظــر‬

‫دومـاً الجـواب عنــه‪ .‬إنهــا فعــل انتظــار‪ .‬والبحــث انتظــار‪ .‬واإلنســان انتظــار‪ :‬انتظــار الوجــود‪ .)14(».‬لهــذا ال بــد مــن تبديــل العالــم وتفســيره‪،‬‬ ‫وبالتالــي نهايــة الفلســفة ال تعنــي إلغاءهــا‪ ،‬بــل علــى العكــس مــن ذلــك هــي حلــم اإلنســانية فــي أن تصــل تحققهــا وكمالهــا‪ ،‬مــع‬ ‫أن الفيلســوف األلمانــي هيدغــر ‪ Heidegger‬يؤكــد اســتحالة القيــادة اإلنســانوية بســبب الضــال الكامــن فــي لقــاء اإلنســان‬ ‫بجوهــر التقنيــة‪ ،‬مطلقـاً الحــل فــي مقولتــه ‪ »:‬وحــده إلــه يمكــن أن ينقذنــا‪ .)15(».‬علــى اعتبــار أن مــا هــو مطلــوب اليــوم هــو العنايــة‬ ‫بالتفكيــر مــع القليــل مــن الفلســفة ربمــا‪...‬‬ ‫ـاءل متســائل ِلـ َـم التركيــز علــى حاضــر أو واقــع الفلســفة الــذي يتأرجــح‬ ‫ثالثـاً‪ :‬الفلســفة بيــن الثابــت والمتحــول‪ :‬قــد يتسـ َ‬ ‫ٍ‬ ‫بيــن مـ ٍ‬ ‫غرق فــي الماضــي علــى حســاب الحاضــر؟‬ ‫ـاض معلــوم ثابــت‪ ،‬وغــد مجهــول متحــول؟ وهــل واقعنــا اليــوم ُمســتَ َ‬ ‫بداي ـ ًة‪ ،‬ال بــد مــن التعريــف بمعانــي الثابــت والمتحــول فــي الفلســفة‪ ،‬ومــن ثــم ال بــد مــن تســليط الضــوء علــى موقــع‬ ‫الفلســفة بينهمــا‪.‬‬ ‫يذهــب البعــض مــن المفكريــن إلــى أن المقصــود بالثابــت هــو الفكــر الــذي ينهــض علــى النــص‪ ،‬لهــذا يعرفــه المفكــر‬


‫تعلــم كيفيــة التفكيــر‪.‬‬ ‫ولعــل فــي دعــوة كنــط مــا يشــكل رداً علــى هوكينــغ إذ دعــا إلــى إنشــاء كليــة فلســفية هدفهــا لعــب دور الوصايــة الفكريــة‬ ‫علــى الكليــات األخــرى‪ ،‬باعتبارهــا تمثــل العقــل الــذي هــو حاجــة عقليــة محــض ال بديــل عنــه‪ ،‬وعليهــا أن تهتــم بالكليــات األخــرى‬ ‫التــي ســتعمل علــى تخريــج العلمــاء‪ ،‬فقانــون الفلســفة هــو الوحيــد الــذي يجــب أن تخضــع لــه الكليــات األخــرى‪ ،‬وحتــى الحكومــة‬ ‫ألنــه القانــون الكلــي‪ ،‬قانــون القــول الــذي يخضــع لــه كل كالم آخــر يعبــر عــن الـرأي الطــارئ أو الوجــدان العشـوائي بمصلحــة أو‬

‫ـاءل دائمـاً‪ ،‬وتســاؤالتها‬ ‫رغبــة أنانيــة(‪ .)8‬تكمــن أهميــة الفلســفة إذاً‪ ،‬فــي خصوصيتهــا حيــث أنهــا تريــد الحقيقــة كاملــة؛ لــذا هــي تتسـ َ‬ ‫ال تنتهــي عنــد حـ ّـد‪ .‬وهــذا سـ ّـر عظمتهــا وديمومتهــا‪ ،‬ألن الحقيقــة مــن منظــار الفلســفة هــي حركــة ال متناهيــة فــي هــذا العالــم وفــي‬ ‫صراعاتــه‪ ،‬لــذا تعمــل الفلســفة علــى قيــادة هــذا الص ـراع حتــى نهايتــه شــرط إســتبعاد العنــف‪ .‬والفلســفة بمــا هــي التفكيــر بالكلــي‬ ‫والشــمولي تمثــل أســمى المــدارك اإلنســانية وأرقــى األدوات الوجوديــة‪ ،‬فبهــذا العقــل الكلــي إســتطاع اإلنســان أن يســتدل ويــدرك‬ ‫ويميــز وبــه إســتطاع تحقيــق ذاتــه وإنســانيته‪ .‬وعلــى الرغــم مــن التطــور العلمــي الهائــل والتقــدم التقنــي المتواصــل يشــعر اإلنســان‬ ‫وكأنــه أســير مــا صنــع‪ ،‬فاألشــياء تتفلــت مــن ســيطرته‪ ،‬تتمــرد عليــه وترفــض الخضــوع إلســتراتيجياته وخططــه فتضعــه فــي‬ ‫ممــا صنــع؟ هــل حقــق‬ ‫موضــع التســاؤل حــول مصيـره‪ .‬فهــو لــم يعــد سـّـيد مصيـره‪ ،‬بــل علــى العكــس مــن ذلــك هــو يتســاءل أيــن هــو َ‬ ‫إنســانيته؟ هــذه األزمــة الحضاريــة ترجعــه إلــى التأمــل فــي مفهــوم اإلنســان ذاتــه‪ ،‬لكونهــا تفتــرض إرتــداده نحــو ذاتــه لمعرفتهــا حــق‬ ‫المعرف��ة عب�رـ العق�لـ ال��ذي ب��ه نعق��ل ذاتن��ا والعالـ�م‪ .‬ولعــل إطــاق فكـرة «مــوت هللا» عنــد نيتشــه حملــت معهــا أيضـاً فكـرة «مــوت‬ ‫اإلنســان» التــي نــادى بهــا ميشــال فوكــو ‪ Michel Foucauld‬الفيلســوف الفرنســي المعاصــر الــذي فــرض أســلوباً جديــداً فــي‬ ‫ف منهجــه بالحفــري أو األركيولوجــي‪ .‬هــذا المنهــج الــذي أتــى ضمــن ســياق‬ ‫فعـ ِـر َ‬ ‫التفلســف‪ ،‬وحتــى فــي التأريــخ للوقائــع اإلنســانية؛ ُ‬ ‫التحــول المنهجــي الــذي لحــق بالفكــر األوروبــي المعاصــر‪ ،‬وبــدأت بـوادره تظهــر مــا بيــن نهايــة القــرن التاســع عشــر وبدايــة القــرن‬

‫العشـرين‪ ،‬بــدءاً بثــورة اللغــة مــع سوسـّـير ‪ ،Saussure‬وثــورة باشــار ‪ Bachelard‬المعرفيــة والتيــار الوضعــي الجديــد‪ ،‬وثــورة‬ ‫التحليل النفســي المتمثلة بفرويد ‪ Freud‬والكان ‪ ،Lacan‬إضاف ًة إلى البنيوية لدى ســتراوس ‪ Strauss‬والثورة التاريخية لدى‬ ‫بروديــل ‪Braudel‬؛ مــع مــا ارفــق ذلــك مــن زعزعــة لمفهــوم البداهــة العقليــة فــي ميدانــي الرياضيــات والفيزيــاء المعاصـرة‪ .‬وأدى‬ ‫التنقيــب فــي حفريــات اللغــة عنــد نيتشــه إلــى إبـراز الوهــم والتزييــف الــذي صنعــه الوعــي الغربــي وعــاش ضمنــه‪ ،‬كذلــك أظهــرت‬ ‫حفريــات فوكــو المعرفيــة مــدى النفــي الــذي إعتمدتــه الــذات بإســتبعادها كل ذات أخــرى‪ ،‬وهــذا مــا دفــع بالمفكــر الفرنســي جــاك‬ ‫أعداءهــا هــم مــن‬ ‫دريــدا‪ Jacques Derrida‬إلــى المشــاركة فــي النقــاش الدائــر حــول قيمــة حضــور الفلســفة‪ ،‬ليكشــف أن‬ ‫َ‬ ‫يمنحونهــا مشــروعية الحضــور؛ مبــر اًز أن الفلســفة تختلــط بأســئلتها(‪ )9‬وأن اآلليــة التــي بهــا تمســك زمــام الســلطة‪ ،‬حيــث أنهــا‬ ‫بطبيعتهــا تتفلــت مــن كل معيــار خارجــي‪ ،‬وبالتالــي مهمــا كانــت القيــود الخارجيــة كبيـرة‪ ،‬فهــي ال تســتطيع التأثيــر عليهــا‪ ،‬كمــا‬ ‫أنــه ال يتوانــى عــن إطــاق مقولتــه ‪...»:‬ليــس اإلنســان ســيد الكائــن‪ ،‬إنمــا اإلنســان هــو راعــي الكينونــة‪ ،)10(».‬وبالتالــي‪ ،‬فنفــي الــذات‬ ‫الداخلــي هــو وجــه إمتــداد لنفــي الــذات الخارجــي‪ ،‬حيــث النفــي لآلخــر المغايــر والمختلــف‪.‬‬ ‫ولــم ينتـ ِـه الوضــع عنــد هــذا الحــد‪ ،‬بــل عمــد البعــض مــن المفكريــن إلــى اإلدعــاء بــأن د ارســة الفلســفة غيــر ذات موضــوع‪،‬‬ ‫وبالتالــي يصفــون المشــتغلين بهــا وبد ارســتها بأنهــم متخصصــون فــي عــدم التخصــص‪ ،‬ويحكمــون علــى الفلســفة بالمــوت‪ ،‬حيــث‬ ‫ينظــرون إليهــا علــى أنهــا ليســت مــن العلــم فــي شــيء‪ ،‬وبالتالــي هــذا دليــل رســمي علــى وفاتهــا‪ .‬ولعــل موقــف الفيلســوف الفرنســي‬ ‫فالديميــر جنغلفيتــش ‪ V. Jankélévitch‬يتمحــور حــول هــذا الموضــوع قائـاً ‪ »:‬إن الفلســفة ال تتمتــع إال بقســط ضئيــل مــن الوجــود‪،‬‬ ‫حتــى أنهــا ال تــكاد توجــد إال علــى ســبيل المفاجــأة‪ ،‬أو بمجــرد مــا نحـ ِّـول عنهــا أنظارنــا‪ .‬ولكننــا مــا نــكاد نتطلــع إليهــا بانتبــاه وإمعــان‪ ،‬حتــى‬ ‫نراهــا قــد تحولــت إلــى شــيء آخــر‪ :‬علــم نفــس أو علــم اجتمــاع أو تاريــخ فلســفة اآلخريــن‪ ،‬وكأن الفلســفة ال تعيــش إال علــى فتــات موائــد‬


‫والتــدرج المنطقــي يتطلــب منــا البحــث فــي واقــع الفلســفة مــا بيــن الثابــت والمتحــول‪ ،‬علــى اعتبــار أن الثابــت هــو الفكــر‬ ‫الــذي ينهــض مــن داخــل العقــل البشــري بوصفــه الفكــر الوحيــد النابــع مــن وضعيــة الــذات‪ ،‬واســتناداً لذلــك هــو ســلطة معرفيــة‪:‬‬ ‫إنــه الثابــت المقــدس‪ .‬أمــا المتحــول فهــو الفكــر الــذي ينهــض داخــل العقــل البشــري رابط ـاً اإلنســان بالمجتمــع‪ ،‬جاع ـاً نفســه‬ ‫المتغيــر بيــن‬ ‫بتكيفــه مــع الواقــع وتجــدده وثورتــه علــى ذاتــه‪ .‬نحــن أمــام عالقــة ثنائيــة تختصــر العالقــة مــن خــال الثابــت و ّ‬ ‫مقدسـاً ّ‬ ‫المتغيــر‪ ،‬وبيــن الــذات المتغيـرة والخــارج الثابــت‪ .‬تبــدو كمــا يتضــح لنــا أنهــا عالقــة عكســية و ّإنّيــة داخــل‬ ‫الــذات الثابتــة والخــارج‬ ‫ّ‬ ‫الــذات‪ ،‬فالــذات ثابتــة ومتغيـرة‪ ،‬والخــارج ثابــت ومتغيــر‪ .‬الــذات ثابتــة بجوهرهــا ومتغيـرة بحاالتهــا‪ .‬والخــارج ثابــت بقانونــه الطبيعــي‬ ‫ومتغيــر فــي أح ـوال هــذا القانــون‪ .‬ولهــذا فالمعرفــة هــي «اشــتراك إمكانــات الكائــن البشــري فــي صياغــة تحديــدات للكــون مصوغــة مــن‬ ‫ي‬ ‫فمــن هــو قبــل اآلخــر؟‬ ‫تركيبيــة تحــو قطبــي الثنائيــة»(‪ .)22‬لعــل السـؤال الفلســفي حــول الثابــت والمتحــول يحكــم ســيرورة الرؤيــة‪َ :‬‬ ‫ـابق اآلخــر‪ ،‬فيحســم األمــر ويفصــل‬ ‫ومــن نـراه قبــل اآلخــر؟ والجــدل الــذي بيــن المتحــرك والســاكن ال علــى أســاس أن أحدهمــا سـ ٌ‬ ‫القــول‪ ،‬بــل يكمــن فــي كيفيــة التجــاذب الدائــم بيــن هذيــن اإلمكانيــن‪ .‬والــذي هــو الســبب فــي ظهــور الشــيء للعيــن ســاكناً فــي حــالٍ‬ ‫ـرك‪ .‬فالمــكان والزمــان فيــه ثابتــان وعلــى‬ ‫ومتحــركاً فــي أخــرى‪ .‬تمام ـاً كرؤيــة الظــل‪ ،‬فالظــل يبــدو للعيــن ثابت ـاً والواقــع أنــه متحـ ٌ‬ ‫الت ارخــي همــا متح ـوالن‪ ،‬ومــن هــذا االمتــداد للثابــت والمتحــول بيــن العــرض والجوهــر‪ ،‬بيــن المــكان والزمــان تظهــر مجــاالت‬ ‫واســعة للتصــادم والمفاجــأة والفعــل واإلنفعــال فــي آن‪ ،‬ذلــك أن وجــود اإلنســان فــي مجتمــع يفــرض التواصــل‪ ،‬والتواصــل ليــس‬ ‫ســوى التلقــي الدائــم للمعلومــات واإلرســال الدائــم لهــا‪ ،‬بحيــث ينشــأ التفاعــل الحقيقــي بيــن اإلنســان والمحيــط‪.‬‬ ‫رابعاً‪ :‬مستقبل الفلسفة‪ .‬وعن أي إنسان نبحث؟‬ ‫بدايــة‪ ،‬ال بــد مــن التمييــز مــا بيــن مســتقبل الفلســفة وفلســفة المســتقبل‪ ،‬علــى اعتبــار أن فــي د ارســة المســتقبل امتــداد‬ ‫لممكنــات الحاضــر الــذي لــم يتحقــق بعــد؛ ففيــه تحليــل وتمحيــص للحاضــر‪ ،‬بغيــة الكشــف عــن صــورة المســتقبل فيــه‪ ،‬إنــه‬ ‫اســتطالع حــول مســتقبل هــذا التفكيــر فــي مختلــف أبعــاده وفروعــه القديمــة والحديثــة‪ ،‬المعاصـرة والمســتقبلية؛ وحيــث أن التفكيــر‬ ‫فــي المســتقبل هــو فــي مجملــه تفكيــر فــي الحاضــر الممتــد مــن الماضــي‪ ،‬والمنســحب نحــو المســتقبل‪ .‬إذ إنــه يســاعدنا علــى‬ ‫معرفــة وإدراك أيــن نحــن اآلن؟ مســتندين فــي ذلــك إلــى األدلــة والبراهيــن الفلســفية التــي تدعونــا إلــى التفكيــر فــي اإلتجاهــات التــي‬ ‫نســير أو نــؤول إليهــا‪.‬‬ ‫أمــا فلســفة المســتقبل فتتضمــن التصــورات المختلفــة والمتنوعــة عــن المســتقبل‪ ،‬وهــي ليســت تصــورات خياليــة لواقــع‬ ‫لــم يتحقــق بعــد‪ ،‬كمــا أنهــا ليســت رجمـاً بالغيــب وتنجيمـاً؛ بــل هــي علــى العكــس مــن ذلــك‪ ،‬انشــغال وانهمــاك بد ارســة المبــادئ‬ ‫التــي يقــوم عليهــا تصورنــا للمســتقبل‪ ،‬مــرو اًر بتمحيــص مناهــج التفكيــر ونقدهــا‪ ،‬وص ـوالً إلــى التوليفــات القيميــة الناجمــة عــن‬ ‫تصــورات المســتقبل‪ .‬وهــذا مــا حــدا ببعــض المفكريــن إلــى التســاؤل عــن ‪ »:‬مــا الــذي ســيحصل فــي مطلــع القــرن الحــادي والعشــرين؟‬

‫هــل ستســتمر العالقــات بيــن مختلــف حقــول المعرفــة‪ ،‬بيــن التجريبــي والفلســفي‪ ،‬فــي أن تبقــى نزاعيــة؟ أو أنــه بإمكاننــا أن نواجــه األمــر بالعــودة‬ ‫إلــى انفتــاح موســوعي كالــذي قــام بــه أرســطو الــذي كان معلمـاً فــي كل العلــوم وكل الفلســفات‪ ،‬حتــى ال نقــول إنــه كان مبدعـاً لعــدد منهــا‪ .‬لــم‬ ‫يســتطع أحــد‪ ،‬علــى مــدى القــرن العشــرين‪ ،‬أن يجســد‪ ،‬حتــى علــى وجــه التقريــب‪ ،‬موســوعة المعرفــة‪ .‬هــل يمكننــا أن نتخيــل القــرن الحــادي‬ ‫والعشــرين حيــث أشــخاص لهــم مــن العمــر ربــع عمرنــا‪ ،‬أو أنهــم حتــى لمــا يولــدوا‪ ،‬ســوف يتقاســمون حيــاة موســوعية بحيــث الميتافيزيقــا‬ ‫وعلــم النفــس يتعاونــان ويتســاعدان؟ هــل مــن المحتمــل أن كــون حكمــة العالــم وكل غبــاوة العالــم الموصولتيــن فــي مــا بينهمــا‪ ،‬فــي متنــاول‬ ‫أيدينــا‪ ،‬يســهل هــذا التبــادل وهــذا التكامــل؟‪ .)23(»...‬إن العقالنيــة الفلســفية التــي بلغــت ذروتهــا مــع أرســطو فــي صياغتــه للمنطــق‬

‫كانــت فــي الوقــت عينــه تنبــئ بالت ارجــع والركــود‪ ،‬حيــث أنهــا بالرغــم مــن احتوائهــا لمقولــة الكائــن‪ ،‬وانســجام الماهيــة ضــد الواقــع‪،‬‬ ‫واختصــار القيــاس الذهنــي للموجــودات العينيــة‪ ،‬إضافــة إلــى وجــوه النفــي األخــرى‪ ،‬حيــث ُنظــر إلــى غيــر اليونانــي علــى أنــه‬ ‫بربــري ومتوحــش؛ كذلــك اعتبــار المشــتغلين باإلنتــاج المــادي فــي قائمــة العبيــد‪ ،‬حيــث النظـرة الدونيــة للعمــل اليــدوي واحتقــاره‪،‬‬ ‫ولعــل لهــذه والعوامــل وغيرهــا‪ ،‬يرجــع الســبب فــي انهيــار المدنيــة اليونانيــة‪ ،‬حيــث الغيــاب عــن الوجــود‪ .‬وهــذا مــا جعــل الفكــر‬ ‫اليونانــي فــي طــوره األخيــر ينحــو باتجــاه الشــك وتعليــق الحكــم إزاء الص ارمــة المنطقيــة التــي اتســم بهــا خطــاب أرســطو لهــذا نجــد‬ ‫إيــان هاكينــغ ‪ Ian Haking‬يضيــف مــا بــدأه قائـاً ‪...»:‬بالحقيقــة‪ ،‬إنــي أشــك فــي ذلــك‪ ،‬إنــي متخــوف جــداً مــن أن نســتمر فــي العيــوب‬

‫القديمــة ذاتهــا‪ ،‬أوفيــاء للمبــدأ العقلــي «فــرق تســد» المناهــض كليـاً لمبــادئ أرســطو‪ .‬لألســف‪ ،‬إن ذلــك لــم يوذنــا فــي الماضــي القريــب‪ ،‬وأعتقــد‬ ‫أنــه ســيقدم بعــض الخدمــات أيض ـاً فــي مســتقبل قريــب‪ ،‬بالمقابــل‪ ،‬وكمــا أظهــر ذلــك المثــل األخيــر الــذي اعطيتــه‪ ،‬ليــس مســتحيالً أن يفهــم‬ ‫الميتافيزيقــي عالــم النفــس‪ ،‬وال عالــم النفــس الميتافيزيقــي‪ .‬لنتمـ َّـن علــى التقــارب بيــن المقـوالت األرســطية والعلــوم المعرفيــة أال يجعــل ذلــك إال‬ ‫أكثــر احتمــاالً أيض ـاً‪ .)24(».‬مــن هنــا علينــا أن نوجــد مــن أجــل موجــود‪ ،‬وهــذا مــا يجعلنــا نبتعــد عــن الوجــود ونســتبعده‪ ،‬حيــث أن‬


‫العربــي أدونيــس بالقــول ‪ »:‬أعـِّـرف الثابــت‪ ،‬فــي إطــار الثقافــة العربيــة‪ ،‬بأنــه الفكــر الــذي ينهــض علــى النــص‪ ،‬ويتخــذ مــن ثباتــه حجــة لثباتــه‬

‫هــو‪ ،‬فهمـاً وثقويمـاً‪ ،‬ويفــرض نفســه بوصفــه المعنــى الصحيــح لهــذا النــص‪ ،‬وبوصفــه‪ ،‬اســتناداً إلــى ذلــك‪ ،‬ســلطة معرفيــة‪ .)16(».‬فهــل الفلســفة‬ ‫بهــذا المعنــى ثابتــة ثباتـاً‬ ‫دائمـاً‪ ،‬أم أنهــا متحولــة تحـوالً دائمـاً؟ أم أن بعضهــا متحـوالً فــي ذاتــه كمعــارض وخــارج عــن ســلطتها؟ وهــل ثقافــة الثابــت فيهــا‬ ‫تطغــى عليهــا صفــة المقــدس أم أن فــي ممارســتها تمفصــات الدينــي والسياســي والثقافــي مــا أضفــى عليهــا صفــة المعياريــة‬ ‫المعرفيــة؟‬ ‫يبقــى أن المتحــول أيض ـاً كمــا الثابــت مــن المصطلحــات اإلجرائيــة حيــث يســمحان مع ـاً بإمــكان التعــرف علــى الحركــة‬ ‫الفاعلــة للفلســفة بطريقــة موضوعيــة ودقيقــة لهــذا ال يتوانــى أدونيــس عــن التعريــف بــه قائـاً ‪ »:‬وأعــرف المتحــول بأنــه‪ ،‬إمــا الفكــر‬ ‫الــذي ينهــض‪ ،‬هــو أيضـاً‪ ،‬علــى النــص‪ ،‬لكــن بتأويــل يجعــل النــص قابـاً للتكيــف مــع الواقــع وتجــدده‪ ،‬وإمــا أنــه الفكــر الــذي ال يــرى فــي النــص‬

‫أيــة مرجعيــة‪ ،‬ويعتمــد أساسـاً علــى العقــل ال علــى النقــل‪ .)17(».‬وكأن الحداثــة شــكلت منعطفـاً لمــا ُيســمى بالتحــول‪ ،‬مفترضــة الغيــاب‬ ‫المعرفــي فــي الماضــي‪ ،‬والقبــول بالنهائيــة المعرفــة‪ ،‬وقــول المجهــول أو مــا لــم تعرفــه الموروثــات‪ ،‬فــي حيــن أن الثبــات هــو ســمة‬ ‫الســلفية المســتغرقة بالنقــل‪ ،‬المنطلقــة مــن افتـراض الكمــال فــي المعرفــة بالنــص‪ ،‬الــذي ال يمكــن تجــاوزه‪ ،‬وبالتالــي جعــل الماضــي‬ ‫حاض ـ اًر أبــداً‪ ،‬بحيــث تنتفــي الحاجــة ألي فكــر آخــر‪ ،‬وألي ابــداع أو ابتــداع مســتقبلي‪ .‬وهنــا يبــرز التناقــض بيــن تصوريــن‪:‬‬ ‫أحدهمــا يذهــب فــي التماهــي بالماضــي وبالمعرفــة القديمــة لدرجــة تصبــح هويتــه الحاض ـرة والمســتقبلية موســومة بالماضــي‪،‬‬ ‫ومســتغرقة بمعرفتــه القديمــة‪ ،‬وبلغتــه التــي أفصحــت عنــه؛ فــي حيــن أن التصــور اآلخــر ينفــي هــذا التماهــي جملــة وتفصيـاً‪.‬‬ ‫الحاضــر لحظــة اإلتصــال فــي انفصالهــا‪ ،‬والتاريــخ فــي مــا كان وســيكون‪ ،‬هــو تجســيد للتجــاوز والتهيئــة لمــا ســيؤول‬ ‫إليــه الحــال‪ ،‬اللحظــة المفعمــة بالمتوقــع‪ ،‬والمفاجــئ والممكــن‪ ،‬الممتلــئ وجــوداً ال عدمـاً‪ ،‬المثقــل براهنيــة الــذات المتصلــة بســيرورة‬ ‫رهــا ســارتر‪ ،‬وحيــث ‪... »:‬اإلنســان‬ ‫التاريــخ وخصوبــة المســتقبل‪ ،‬وبهــذا المعنــى تصبــح الذاكـرة بماضيهــا مشــروعاً مســتقبلياً كمــا ي ا‬ ‫بيــن النــاس وفــي النهايــة أنــا ذاتــي فــي مقابــل األنــا»‪ .)18(.‬ولعــل قبــول ســارتر بالكوجيتــو الديكارتــي جعلــه ينحــو منحــى التمكــن مــن‬ ‫الفهــم للقــدرات التــي تخولــه اإلفــات مــن الــذات‪ ،‬وإمكانيــة تلقــي الوعــي مــن الخــارج‪ ،‬علــى اعتبــار أن مســار الهويــة ينشــد تحققــه‬ ‫مــن خــال العالــم واآلخريــن‪ .‬لهــذا ال يتوانــى ســارتر عــن التصريــح بتوصيــف الوعــي قائـاً ‪ »:‬وعيـاً تلقائيـاً إلدراكــي مؤسسـاً لوعــي‬ ‫اإلدراكــي‪ .)19(».‬هــذا الوعــي قــد يتناســى مــا يفعلــه‪ ،‬إذ إن المعرفــة هــي أن نعــرف بكوننــا‪ ،‬بمعنــى التركيــز علــى ‪ ... »:‬التفكيــر‬ ‫المحــض كحضــور بســيط للــذات المفكــرة فــي عالقتهــا بالــذات المفكــر فيهــا هــو فــي الوقــت ذاتــه صيغــة أصليــة للتفكيــر وصيغتــه المثاليــة‪ ،‬تلــك‬

‫التــي علــى أساســها يظهــر التفكيــر غيــر النقــي والتــي يعطــي مســبقاً‪ ،‬وتلــك التــي يجــب امتالكهــا علــى نحــو مــن التطهــر‪ .)20(».‬وهــذا مــا‬ ‫نجــده عنــد ميرلــو بونتــي الــذي يربــط التفكيــر بالوعــي‪ ،‬علــى اعتبــار أن مــا بيــن الــذات التــي فكــرت للتــو‪ ،‬والــذات المفكـرة فــي مــا‬ ‫تــم التفكيــر فيــه‪ ،‬تتوســط الكثافــة الزمانيــة‪ ،‬حتــى لينتابــه الشــك حــول إمكانيــة أن تكــون الفكـرة الســابقة ال تـزال كمــا هــي اآلن‪،‬‬ ‫لهــذا تجــده ال يتوانــى عــن القــول ‪ »:‬كل وعــي يولــد فــي العالــم‪ ،‬وكل إدراك هــو ميــاد جديــد للوعــي‪ .)21(».‬فالحضــور العقلــي الفاعــل‪،‬‬ ‫والوجــود بواقــع الهويــة والماهيــة‪ ،‬هــو حضــور األنــا العالمــة والعاملــة‪ ،‬الواعيــة لماضيهــا والمســتكملة لمســتقبلها‪ ،‬حيــث أن أفاهيــم‬ ‫الفلســفة بتصوراتهــا وأســاليبها وغاياتهــا‪ ،‬تتبــدل وتتطــور؛ قــد يتهافــت منهــا بعــض أقســامها‪ ،‬ويصيــب التعديــل البعــض اآلخــر‪،‬‬ ‫ويلحــق اإلبتــكار بالجديــد والمســتحدث؛ وهــذا مــا أورث التماســك واإلنســجام فــي المق ـوالت األرســطية‪ ،‬ومــن بعدهــا الكنطيــة؛‬ ‫كذلــك هــي الحــال فــي الجمهوريــة األفالطونيــة والمجتمــع الماركســي‪ ،‬وفــي مجمــل المفاهيــم الحياتيــة التــي تتحــول وتتولــد مــن‬ ‫اإلتباعيــة باتجــاه اإلبداعيــة‪ ،‬ومــن النقليــة التقليديــة باتجــاه التأويليــة‪.‬‬


‫ويبقى السـؤال عن أي إنســان نبحث؟ اإلنســان المعاصر المأزوم الذي تتفاقم يوماً بعد يوم عوارض دماره‪ ،‬ال ســيما‬ ‫وأنــه أُفــرغ مــن محتـواه اإلنســاني بســبب اســتغراقه الوجــودي فــي قيــم حضــارة ماديــة خالصــة‪ ،‬جعلتــه يعانــي القلــق فــي وضعيتــه‬ ‫الوجوديــة‪ ،‬بيــن أن ينــادي باإللحــاد الصريــح دين ـاً وعقيــدة‪ ،‬أو أن يعتــرف بإيمــان شــكلي باهــت ال دور لــه فــي توجيــه مصيــر‬ ‫اإلنســانية‪ ،‬أو أن ُي َّ‬ ‫ويقطــع أرســه‪.‬‬ ‫تخــذ مــن الديــن ملجــأ للقتــل والذبــح؛ فباســم هللا ُيقتــل اإلنســان فــي وطنــي‪ ،‬وعلــى اســمه ُيذبــح ُ‬

‫إنهــا مأســاة اإلنســانية فــي واقعنــا المعاصــر التــي جعلــت اإلنســان يستشــعر وجعــه الوجــودي المتمثــل بوعيــه لهــذا الخلــل‬ ‫ ‬ ‫ِ‬ ‫العميــق فــي وضعيتــه الوجوديــة‪ ،‬حيــث أن جدليــة القاتــل والمقتــول التــي يعيشــها اإلنســان المعاصــر واقــع حضــارة لــم تأتــه إال‬ ‫صحيح أنها أمنت له ل ّذات زائفة‪ ،‬لكنها لم تســتطع أن تؤمن له الســعادة‪ ،‬وّفرت له الســرعة في التواصل واإلتصال‪،‬‬ ‫بالبؤس‪.‬‬ ‫ٌ‬ ‫لكنهــا فشــلت فــي أن توفــر لــه الســام الداخلــي والســام العالمــي‪ ،‬بــل هــي أوهمتــه بســام ت ـوازن الرعــب بيــن األقويــاء‪ ،‬حيــث‬ ‫مئــات المالييــن مــن أبنــاء العالــم الثالــث يئنــون تحــت وطأتــه‪ ،‬كراماتهــم مهــدورة‪ ،‬ثرواتهــم منهوبــة‪ ،‬أوطانهــم مســلوبة وذواتهــم‬ ‫مســتَلبة‪.‬‬ ‫إنســاننا المعاصــر يعيــش علــى الصعيــد اإلجتماعــي والدولــي وهــو يتأرجــح بيــن حــروب ثــاث‪ :‬حــرب يخوضهــا‪ ،‬وأخــرى‬ ‫ ‬ ‫يطفــئ ذيولهــا‪ ،‬وثالثــة يتأهــب إلشــعالها‪ ،‬وحتــى علــى الصعيــد الفــردي هــو فــي حــرب داخــل ذاتــه دائمــة اإلشــتعال؛ لــذا‬

‫هــو يســعى إلــى تخفيــف وطأتهــا بالهــروب إلــى الخــارج واإلســتغراق فــي ملــذات لــن تطفــئ ظمــأه‪ ،‬ولــن تشــفي‬ ‫غليلــه وتعيــد إليــه توازنــه‪.‬‬

‫علــى الرغــم مــن أن هــذا اإلنســان هــو نتــاج ثــورات عــدة‪ :‬لغويــة‪ ،‬إبســتمولوجية‪ ،‬تحليــل نفســي‪ ،‬أنتربولوجيــا‪ ،‬جدليــة‬ ‫ ‬ ‫تاريخيــة‪ ،‬وعلميــة تقنيــة مواكبــة لحركــة الفكــر‪ ،‬لكــن جميــع هــذه الثــورات تنتــج الواقــع فــي غليانــه وتعــدده(‪ .)29‬مــن هنــا يتبــادر‬ ‫إلــى الذهــن التســاؤل اآلتــي‪ :‬عــن أي إنســان نبحــث؟ هــل نبحــث عــن إنســان الخطيئــة؟ أم عــن اإلنســان األخيــر المنــذر بنهايــة‬ ‫التاريــخ(‪)30‬؟ أم اإلنســان العالمــي(‪)31‬؟ أم البــدوي الرحــال الحديــث(‪ )32‬الحاضــر جســدياً والغائــب روحي ـاً؟‬ ‫وفــي الختــام‪ ،‬ال بــد مــن القــول بــأن الفلســفة باقيــة حيــة أبــداً مــا بقــي إنســان يبحــث عــن ذاتــه ووجــوده‪ ،‬وهــي لــن‬ ‫تركــع أبــداً‪ ،‬قــد تصمــت علــى مضــض فــي وجــه أعدائهــا مــن أنصــاف المثقفيــن الذيــن يبتغــون اإلحاطــة بالمعــارف الكونيــة‪،‬‬ ‫فــي الوقــت الــذي يجهلــون فيــه كينونتهــم الشــخصية‪ .‬ولعــل فــي تســاؤل المفكــر العربــي علــي حــرب مــا يؤكــد علــى هــذا الــكالم‪،‬‬ ‫إذ يذهــب إلــى القــول ‪ »:‬فهــل يعنــي ذلــك نهايــة الفلســفة؟ قــد ال تكــون الفلســفة أبديــة كمــا يقــول البعــض‪ .‬وليــس مــن الضــروري أن‬

‫تظهــر وتوجــد علــى الــدوام‪ .‬ولعلــه مــن األصــح القــول إن النتــاج الفكــري الحالــي محتــاج إلــى أن ُتعــاد قراءتــه‪ ،‬أي إلــى أن يتــأول ويكتســب‬ ‫معــان مختلفــة لحياتــه ولصلتــه بعالمــه وأشــيائه‪،‬‬ ‫داللتــه الوجودية(األنطولوجيــة)‪ .‬وبذلــك يقــ أر اإلنســان وجــوده مــن جديــد ويقــف علــى‬ ‫ٍ‬ ‫فيجــدد صلتــه بالفلســفة نفســها ويعيــد تعريفهــا وفهمهــا‪ .‬قــد ال تكــون الفلســفة ضروريــة حقــاً‪ ،‬ولكــن إذا كانــت الفلســفة‪ ،‬كمــا عرفــت فــي‬ ‫البــدء‪ ،‬هــي البحــث عــن الوجــود الحــق‪ ،‬وقــول الوجــود الحــق‪ ،‬فإنــه ال يمكــن الحديــث عــن خطــاب فلســفي حقيقــي‪ ،‬إال إذا أفلــح اإلنســان‬ ‫بتأمــل وجــوده مــن جديــد بحيــث يقــوم بتأويلــه وإعــادة القــول فيه‪...‬فالفلســفة هــي فــي أصلهــا لحظــة كشــف وإشــراق‪ .‬ومــا المنهــج أو‬ ‫المذهــب إال ســعي للقبــض علــى ذلــك الكشــف‪ ،‬بصوغــه فــي نظــام مقالــي‪ ،‬أو قولبتــه فــي ترتيــب منطقــي علــى صــورة قضايــا واســتدالالت‬ ‫ونظريــات‪ .)33(».‬ولعــل مــا يميــز الفلســفة عــن غيرهــا فرادتهــا واســتقاللها‪ ،‬وهــي بمــا هــي نافــذة علــى الوجــود‪ ،‬وفتــح فكــري‪،‬‬

‫وانفتــاح علــى الحقائــق‪ .‬وتبقــى الفلســفة التــي ن ارهــن عليهــا فــي المســتقبل‪ ،‬هــي تلــك التــي ستشــارك كل العلــوم اإلنســانية فــي‬ ‫تشــكيلها وصياغــة منطلقاتهــا وأهدافهــا‪ ،‬مناهجهــا وأبعادهــا واتجاهاتهــا‪ ،‬مفاهيمهــا ومصطلحاتهــا‪ .‬ومــع أن مخاطــر جمــة‬ ‫ســتهدد كيانهــا‪ ،‬لكنهــا ســتصمد فــي وجــه الريــاح العاتيــة‪ ،‬حاملــة ل ـواء اإلنســانية المعبــة بغيــة إعــادة الت ـوازن واإلت ـزان إليهــا‪.‬‬ ‫والفلســفة المســتقبلية هــي ال بــد ســتحمل فــي طياتهــا المنطــق والمعرفــة والعلــوم‪ ،‬مســتمدة مــن التاريــخ ماضيهــا‪ ،‬مــن‬ ‫األنـوار حاضرهــا‪ ،‬ومــن المســتقبل حكمتهــا التــي تخولهــا القــدرة علــى معالجــة كل التحديــات‪ ،‬ومســتقبل الفلســفة المرتجــى رهــن‬ ‫بالمثقفيــن والعلمــاء والسياســيين وأصحــاب الـرأي والحكمــة الذيــن يتســلحون بالــروح العلميــة الموضوعيــة‪ ،‬وبالحــس النقــدي َّ‬ ‫البنــاء‬ ‫الــذي يخولهــم القــدرة علــى التغييــر والتجديــد‪ ،‬التحديــث والتطويــر‪ ،‬الخلــق واإلبــداع‪.‬‬

‫مــع أن الفلســفة كانــت وما ازلــت تصــارع‪ ،‬ما ازلــت كائنــة‪ ،‬نحتــاج إليهــا فــي ظروفنــا العربيــة الراهنــة لتخلصنــا مــن‬ ‫حروبنــا‪ ،‬الســيما وأنهــا المجــال الــذي تلتقــي فيــه كل العلــوم‪ ،‬وبفضلهــا ُتلعــى الحواجــز أمــام مختلــف المعــارف‪ ،‬فتتضافــر باتجــاه‬ ‫جعــل الفكــر أكثــر انفتاحـاً(‪ .)34‬حيــث أن للتـراث الفلســفي الــدور ال ارئــد والفعــال فــي فهــم التغيـرات الحاصلــة‪ ،‬كمــا أن للفالســفة‬ ‫مســاهمات جوهريــة فــي فهــم الحاضــر وبنــاء المســتقبل‪.‬‬ ‫يبقــى علــى الفلســفة المســتقبلية أن تؤســس لمعــارف جدليــة تتســم بالمرونــة واإلنفتــاح علــى كل العلــوم واللغــات بغيــة‬ ‫تحــدي واقعهــا‪ ،‬كمــا أنــه ال بــد مــن إيجــاد طــرق ومناهــج‪ ،‬وســائل وآليــات معرفيــة تنهــل مــن كل معيــن‪ ،‬وتعمــد إلــى تطبيقهــا‪.‬‬ ‫حيــث أن الفكــر الحــق ســيظل حي ـاً‪ ،‬متجــاو اًز لحــدود الزمــان والمــكان‪.‬‬


‫البعــض مــن المفكريــن ينحــو باتجــاه الغائــب ويحــل فــي األصــل‪ ،‬ويعيــش بالرمــز‪ ،‬والبعــض اآلخــر يتجــه باتجــاه الشــاهد يحــل‬ ‫فــي الواقــع‪ ،‬ويعيــش العصــر؛ وهكــذا هــو انقســام المفكريــن بيــن مــن يســتغرقه الوجــود بالنــص‪ ،‬ومــن يســتغرقه الوجــود بالعقــل‪،‬‬ ‫وكل موجــود يســتغرق الوجــود؛ لهــذا ال بــد مــن الفنــاء عــن شــيء موجــود كــي يتـ َّـم الوجــود مــن أجــل شــيء آخــر‪ ،‬وكأن الخيــار‬ ‫هــو الغيــاب فــي الحضــور والفنــاء فــي البقــاء‪.‬‬ ‫مــن هنــا‪ ،‬نجــد بــأن والدة الفلســفة وإبداعاتهــا‪ ،‬قــد مــرت بتجــارب سـ ٍ‬ ‫ـابغة علــى كل مرحلــة نمــط تحقــق وجودهــا؛ لكونهــا‬ ‫أنموذجـاً ثقافيـاً لــه طابعــه الكونــي وأثـره فــي العالــم بــدءاً مــن اليونــان حيــث والدة الفلســفة‪ ،‬وحيــث البعــض مــن المفكريــن يذهــب‬ ‫إلــى أن الجنــون هــو مصــدر الحكمــة مــردداً ‪ »:‬إن جــذور الفلســفة اليونانيــة وتاليـاً الفكــر الغربــي بجملتــه‪ ،‬تبــدو غامضــة‪ .‬فوفقـاً للتـراث (أو‬

‫التقليــد) المتعمــق فــي البحــث‪ ،‬ولــدت الفلســفة مــع طالــس وأنكســيمندر‪ ،‬وجــرى تقصــي جذورهــا األبعــد فــي اإلحتــكاكات األســطورية مــع الثقافــات‬ ‫الشــرقية‪ ،‬مــع الفكــر المصــري والفكــر الهنــدي‪ .‬وال شــيء يمكــن إثباتــه فــي هــذه الوجهــة‪ ،‬وجــرى اإلكتفــاء بإقامــة مماثــات ومقايســات‪ .‬وفــي‬ ‫الواقــع‪ ،‬فــإن العصــر الــذي يتوافــق مــع جــذور الفلســفة اليونانيــة قريــب منــا كثيـ اًر‪ .‬يطلــق افالطــون اســم «فلســفة» أو حــب الحكمــة علــى بحثــه‬ ‫الخــاص بــه أي نشــاطه التربــوي المرتبــط بالتعبيــر المكتــوب‪ ،‬والشــكل األدبــي للحـوار‪ .‬وقــد اســتدار أفالطــون نحــو الماضــي بتبجيــل‪ ،‬نحــو هــذا‬ ‫العالــم حيــث عــاش «الحكمــاء» حقيقــة‪ .‬وعلــى هــذا‪ ،‬فــإن الفلســفة الالحقــة‪ ،‬أي فلســفتنا‪ ،‬ليســت ســوى اســتمرار وتطويــر للشــكل األدبــي الــذي‬ ‫أدخلــه أفالطــون‪ ،‬وقــد بــرز هــذا األخيــر كظاهــرة انحطــاط‪ ،‬ألن «حــب الحكمــة» هــو مــا دون «الحكمــة»‪ .‬فحــب الحكمــة ال يعنــي عنــد أفالطــون‬ ‫توقـاً إلــى شــيء لــم يتــم بلوغــه فقــط‪ ،‬بــل بالحــري ميــل إلــى اســتعادة مــا ســبق وتحقــق وجــرى عيشــه‪ .)25(».‬إنمــا تفســير الوقائــع ال يمكــن‬

‫تجنــب أن تكــون فلســفية‪ ،‬كذلــك أوليــس عنــد اليونــان انتمــاء لمعرفــة مســتقبل اإلنســان والعالــم إلــى الحكمــة؟ وبالتالــي فالفلســفة‬ ‫ُفهمــت فــي التـراث الفلســفي اليونانــي بمعناهــا األخالقــي‪ ،‬كحكمــة حيــاة‪ ،‬والفيلســوف هــو الــذي يوجــه حياتــه بمقتضــى العقــل‪.‬‬ ‫والفلســفة بهــذا المعنــى ال تعلمنــا كيفيــة التفكيــر بــل أيضـاً كيفيــة الحيــاة‪ ،‬والفلســفة هــي فــن الحيــاة‪ ،‬هــي علــم وعمــل‪،‬‬ ‫والمعرفــة شــرط جوهــري للحكمــة‪ ،‬والتفلســف لــن يقــوم مــا لــم يتــم البحــث عــن معنــى الحيــاة والعالــم‪ ،‬والمعرفــة العقليــة هــي‬ ‫الموصلــة إلــى الســعادة‪ ،‬حيــث أن الحكمــة هــي نــور العقــل؛ وهــذا مــا حــدا ببعــض المفكريــن إلــى اإلعجــاب بهــا قائـاً ‪ »:‬ومــا حــدث‬

‫لــدى اإلغريــق يومئـ ٍـذ‪ ،‬هــو إبــداع حقيقــي كان لهــم بــه وجــود فــي الزمــان وفــي المــكان لــم يكــن مــن قبــل‪ .‬إنــه تحقــق للــذات اليونانيــة تجلــى فــي‬ ‫قياــم المدينة\الدولــة‪ ،‬وابتــكار الديموقراطيــة‪ ،‬ووالدة الفلســفة‪ ،‬واعتبــار الفكــر أعلــى أشــكال ممارســة الــذات‪ .‬مــا حــدث ليــس ســوى الحداثــة التــي‬ ‫حضــر بهــا اإلغريــق علــى مســرح العالــم‪ ،‬والبدايــة العظيمــة التــي مانـزال حتــى اليــوم نســترجعها ونحــاول تفســيرها‪ .‬إنهــا الظاهــرة «األعجوبــة»‬ ‫كمــا وصفــت‪ .‬ومعنــى كونهــا أعجوبــة أنهــا تســتعصي علــى التعريــف وتفلــت مــن قبضــة المفهــوم‪ ،‬فــا يمكــن للمنطــق أن يحدهــا أو يختزلهــا‪.‬‬ ‫هكــذا فهــي أعجوبــة أو معجــزة‪ ،‬بقــدر مــا نعجــز عــن تعييــن أســبابها وحصــر وجوههــا واكتنــاه ماهيتهــا‪ .‬مــن هنــا فنحــن ال ننفــك نســتعيدها ونعيــد‬ ‫قراءتهــا وتفســيرها‪ ،‬تمامـاً كمــا أن تغيــر رؤيتنــا للعالــم واألشــياء تحملنــا علــى قراءتهــا قـراءة جديــدة مغايــرة‪ .‬وعلــى األقــل فإنــه ال غنــى لمشــتغل‬ ‫بالفلســفة عــن العــودة إلــى البدايــة اإلغريقيــة بوصفهــا افتتاحـاً وتأسيسـاً فــي مجــال مــن مجــاالت الفكــر والثقافــة‪ .‬وبهــذا المعنــى‪ ،‬وحــده‪ ،‬نســتطيع‬ ‫القــول بــأن الفلســفة تتكلــم اللغــة اليونانيــة‪ .)26(».‬الفلســفة بهــذا المعنــى كمــا هــي الحــال عنــد أفالطــون‪ ،‬أو الرواقييــن‪ ،‬أو ديــكارت‬

‫وحتــى البراغماتييــن هــي محاولــة أو مســاهمة لبنــاء إنســان جديــد‪ ،‬إذ إنهــم يســلطون الضــوء علــى الــدور الحيــوي للفلســفة فــي‬ ‫تنظيــم الخبـرات البشـرية‪ ،‬حيــث أن الجهــد الفلســفي يتمثــل فــي المعرفــة النظريــة الباحثــة عــن الحقيقــة اليقينيــة‪ ،‬وفــي الحــل العملــي‬ ‫إلشــكالية المصيــر اإلنســاني‪ ،‬الســيما وأن الفلســفة تشــكل قاعــدة الحيــاة والخلــق‪ ،‬الملتجــىء إلــى يقيــن عقلــي‪ .‬لعــل هــذا مــا دفــع‬ ‫بالفيلســوف الفرنســي المعاصــر موريــس بلونديــل‪ Maurice Blondel‬إلــى وصفهــا بالقــول ‪... »:‬تشــبع حاجــة مزدوجــة‪ :‬حاجــة إلــى‬ ‫التنظيــم المنهجــي والتسلســل العقلــي‪ ،‬تمليهــا علينــا الرغبــة فــي تكويــن نظــرة شــاملة اســتيعابية إلــى الوجــود؛ وحاجــة إلــى تحديــد مكانــة الموجــود‬ ‫المفكــر والكشــف عــن ســر وجــوده فــي الكــون‪ ،‬تمليهــا علينــا الرغبــة فــي إزاحــة النقــاب عــن أحجيــة المصيــر البشــري‪ ،‬والعمــل علــى تحقيــق‬ ‫«النجــاة» (أو الخــاص) لــه فــي هــذه الحيــاة الدنيــا‪ .)27(».‬تبــدو الفلســفة فــي واقعهــا ال ارهــن‪ ،‬وكأنهــا تكـرار للماضــي بشــكليه القريــب‬

‫ـح عليهــم لقــب الباحثيــن ال الفالســفة إذ يؤلفــون بيــن خطــوط فلســفية وعلميــة‪ ،‬وهــم يتطلعــون إلــى‬ ‫والبعيــد‪ ،‬وفالســفة اليــوم يصـ ّ‬ ‫الخــط األكثــر مســتقبلية‪ ،‬وبعدمــا كانــت فــي المرتبــة األولــى هــا هــي ترجــع إلــى المرتبــة الثانيــة‪ ،‬لدرجــة نجدهــم يصنفــون الفالســفة‬ ‫بيــن ‪ :‬الماركســي‪ ،‬والنيتشــوي‪ ،‬الفرويــدي‪ ،‬والفينومينولوجــي أو الوضعــي المنطقــي‪ ،‬وبالتالــي فــا وجــود فعليـاً لفلســفة علــى غـرار‬ ‫الحداثــة‪ ،‬لدرجــة أن الفعــل الفلســفي يعانــي اإلنكفــاء إال مــن النقــد الكنطــي‪ ،‬وهــذا مــا حــدا بالبعــض إلــى القــول‪ »:‬لــن يكــون التفكيــر‬

‫المقبــل فلســفة‪ ،‬وذلــك أنــه َّ‬ ‫يفكــر فيمــا أبعــد مــن أصــل الميافيزيقــا‪ ،‬التــي يقــول اســمها الشــيء نفســه‪ .‬كذلــك لــن يمكــن للتفكيــر المقبــل أن يخلــع‬ ‫عنــه‪ ،‬كمــا يشــترط هيغــل‪ ،‬اســم «حــب الحكمــة» وأن يصيــر فــي هيئــة المعرفــة المطلقــة هــو الحكمــة ذاتهــا‪ ،‬إنمــا الفكــر فــي نــزول إلــى خصاصــة‬ ‫ماهيتــه المؤقتــة‪ ،‬وأن الفكــر ليجمــع اللغــة فــي الكلــم البســيط؛ فــإذا اللغــة هــي لغــة الكينونــة كمــا تكــون الغيــوم غيــوم الســماء‪ .‬إن الفكــر يــودع‬ ‫بقولــه فــي اللغــة أخاديــد ال تظهــر‪ .‬وأنهــا ألكثــر خفــاء مــن األخاديــد التــي يخطهــا الفــاح خــال الحقــل بخطــوة تطــول علــى ُتــؤدة‪ . )28(».‬لعــل‬

‫تفاقــم األزمــات وتزايدهــا وتســارعها‪ ،‬هــو الــذي َّ‬ ‫ولــد قيــام علــم جديــد‪ ،‬أصبــح مــدار بحــث هــو «علــم استش ـراف المســتقبل» أو‬ ‫التوقــع العلمــي الــذي بــات واقع ـاً وحــل محــل الــرؤى الفلســفية والعلميــة والطوباويــة القديمــة؛ وبــدأت توقعاتــه بالتمــدد إلــى قــرن‬ ‫أو قرنيــن بنــاء علــى مــا توفـره التقنيــة مــن أجهـزة دقيقــة وحساســة‪ ،‬تمكــن أصحــاب اإلختصــاص مــن إحصــاء موجــودات العالــم‬ ‫اإلنســاني‪ ،‬والتفكــر فــي إمكاناتهــا القريبــة والبعيــدة التحقيــق‪ ،‬ومــن ثــم وضــع الخطــط الالزمــة لإلفــادة منهــا‪.‬‬

‫وفي النهاية‪ ،‬ال بد من التأكيد على أنه ال خوف على الفلســفة في المســتقبل‪ ،‬الســيما وأنها تتســلح بثوابتها القائمة‬ ‫متخذة من الشــك طريقاً إليقاظ األســئلة المكبوتة‪ ،‬وإيجاد الحلول للقضايا المعاصرة‪.‬‬ ‫على النقد ومســاءلة القيم اإلنســانية‪،‬‬ ‫ً‬


‫(‪)17‬المصدر نفسه‪ ،‬الصفحة نفسها‪.‬‬

‫(‪.Sartre, Éxplication de l’étranger in essais critiques, Stations, Paris, Gallimard, 1974, P95-96)18‬‬

‫(‪.Sartre, L’Être et le néant, Paris, Gallimard, 1992, P19 )19‬‬

‫(‪.Op Cit, Loc Cit, P194 )20‬‬ ‫(‪.Merleau-Ponty, La Phénoménologie de la Perception, Éditions Gallimard, Paris, P13)21‬‬ ‫(‪ )22‬خالد سعد كموني‪ ،‬فلسفة الصرف العربي‪ ،‬دراسة في المظهر الشيمي للكينونة‪ ،‬بيروت‪ ،‬المركز الثقافي العربي‪ ،2016 ،‬ص‪.46‬‬ ‫(‪ )23‬مجموعــة مــن المؤلفيــن‪ ،‬أي فلســفة للقــرن الحــادي والعشــرين؟‪ ،‬مقــال بعن ـوان الكيفيــة‪ ،‬بقلــم «إيــان هاكينــغ‪ ،‬ترجمــة انط ـوان ســيف‪ ،‬ط‪،1‬‬ ‫لبنــان‪ ،‬بيــروت‪ ،‬المنظمــة العربيــة للترجمــة‪2011 ،‬م‪ ،‬ص‪.207‬‬ ‫(‪)24‬المصدر نفسه‪ ،‬الصفحة نفسها‪.‬‬ ‫(‪)25‬جيورجيو كولي‪ ،‬والدة الفلسفة‪ ،‬ترجمة عفيف عثمان‪ ،‬ط‪ ،1‬لبنان‪ ،‬دار المعارف الحكمية‪2016 ،‬م‪ ،‬ص‪.25‬‬ ‫(‪)26‬علي حرب‪ ،‬أسئلة الحقيقة ورهانات الفكر‪ ،‬ط‪ ،1‬بيروت‪ ،‬دار الطليعة‪1994 ،‬م‪ ،‬ص‪.54‬‬ ‫(‪.Maurice Blondel,” La Pensée”, Vol !!,Paris, F,Alcan, P192-193)27‬‬ ‫(‪ )28‬فتحــي المســكيني‪ ،‬التفكيــر بعــد هيدغــر أو كيــف الخــروج مــن العصــر التأويلــي للعقــل؟‪ ،‬ط‪ ،1‬لبنــان‪ ،‬جــداول للنشــر والتوزيــع‪2011 ،‬م‪،‬‬ ‫ص‪.208‬‬ ‫(‪)29‬عبد السالم بنعبدالعالي‪ ،‬ثقافة األذن والعين‪،‬الدار البيضاء‪ ،‬دار توبقال للنشر‪ ،1994 ،‬ص‪.54‬‬ ‫(‪.Francis,Fukuyama, La fin de l’histoire et le dernier homme, Paris, Editions Flammarion, 1994,)30‬‬ ‫(‪ )31‬فتحي المسكيني‪ ،‬الهوية والزمان‪ ،‬بيروت‪ ،‬دار الطليعة‪ ،2001 ،‬ص‪.118‬‬ ‫(‪.Jacques Attali, Lignes d’horizon,Paris, Publication Fayard Publié dans Essais, 1990)23‬‬ ‫(‪ )33‬علي حرب‪ ،‬أسئلة الحقيقة ورهانات الفكر‪ ،‬مصدر سابق ذكره‪ ،‬ص‪.67‬‬ ‫(‪Roger-Pol Droit: Philosophie et démocratie dans le monde, Préface de Frédérico Mayor, Le livre de)34‬‬ ‫‪.Poche, Paris, 1995, P5‬‬


،‫ ثابتــة أو متحولــة‬،‫ حالمــة أو واقعيــة‬،‫ أكانــت عالمــة أو عاملــة‬:‫والفلســفة المســتقبلية مهمــا تعــددت أشــكالها وأبعادهــا‬ .‫ وتعيــد لإلنســان إنســانيته‬،‫ ستســعى جاهــدة ألن تحقــق الســام‬.‫ميتــة أو حيــة‬ :‫المصادر والمراجع‬ .Stephen Hawking and Leonard Mlodinow, The Grand Design, New York, Bantam Books, 2010, P6)1( .7‫ ص‬،‫م‬2009 ،‫ دار الهادي‬،‫ بيروت‬،1‫ ط‬،‫ بعد خراب الفلسفة‬،‫)مدني صالح‬2( )Stephen Hawking and Leonard Mlodinow, The Grand Design, P13.

(4

)3( .Ibid

.470‫ ص‬،‫م‬2009،‫ المنظمة العربية للترجمة‬،‫ لبنان‬،‫ ترجمة جورج كتورة والهام الشعراني‬،1‫ ط‬،‫ الفلسفة األميركية‬،‫)جيرار ديلودال‬5( William James, Extraits de sa Correspondance, Traduction Floris Delattre et Maurice Le Breton, Paris,)6( .Payot, 1924, P283 John Dewey, Démocratie et éducation: Introduction à la Philosophie de l’éducation, Présentation et)7( .Traduction de Gérard Deledalle, Paris: Albin Collin, 1975, P392 .Emmanuel Kant, Le Conflit des facultés, Paris, Vrin, 1988, P75)8( .Jacques Derrida, Du Droit à la Philosophie, Paris, Galilée, 1999, P20)9( .Jacques Derrida, Politiques de l’amitié, Paris, Galilé 1994, P106-108)10( .V. Jankélévitch, Philosophie Première, Paris, P.U.F, 1954, P261)11( .Cf. M. Rosenberg, Introduction To Philosophy, New York, Philosophical Librairy, 1955, P 18)12(

،‫ عالــم المعرفــة‬،‫ ترجمــة مصطفــى محمــود محمــد‬،‫ آفــاق جديــدة للفكــر اإلنســاني‬،‫ مســتقبل الفلســفة فــي القــرن الواحــد والعشــرين‬،‫)أوليفــر ليمــان‬13( .40‫ ص‬،‫م‬2004 ‫ مارس‬،301‫العدد‬

.118_117 ،‫م‬1979 ،‫ منشورات اتحاد الكتاب العرب‬،‫ دمشق‬،‫ط‬.‫ د‬،‫ الفلسفة تبحث‬،‫)إبراهيم فاضل‬14(

Martin Heidegger, Écrits Politiques.1933-1966, Présentation, Traduction et notes par François Fédi�)15( .er, Paris, Gallimard, 1995, P41

.13‫ ص‬،‫م‬2011 ،‫ دار الساقي‬،‫ لبنان‬،10‫ ط‬،‫_ األصول‬1‫ ج‬،‫ بحث في اإلبداع واإلتباع عند العرب‬،‫ الثابت والمتحول‬،‫)أدونيس‬16(



‫المواطنة عند فقهاء اإلمامية‪/‬‬ ‫«من ابن مّلي البعلبكي إلى الشهيدين»‬

‫محمد نبها‬ ‫خضر ّ‬

‫‪1‬‬

‫طة أكبر‪ ،‬أريد من خاللها استيفاء نقاط الفكر وفواصله‪ ،‬حركاته وسكناته‪ ،‬ليس‬ ‫عد هذا البحث جزءا من خ ّ‬ ‫ُي ّ‬ ‫أن أختمه نهائياً‪ ،‬ولكن ألمارس شرط تحرير الفكر األسير في اتجاه واحد‪ ،‬ال في اتجاهات عديدة‪ .‬ومن‬ ‫هذه الممارسات تبيان موقف فقهاء اإلمامية من المواطنة‪ ،‬وتحديداً الفقهاء اللبنانيين منهم‪.‬‬ ‫و لقد حاولت ضغط هذا البحث ضمن العناوين اآلتية‪:‬‬ ‫‪1 -1‬مدخل سؤالي‪ ،‬وإطار البحث‪.‬‬ ‫‪2 -2‬المواطنة والفقهاء‪ :‬ضرورة العمل على نظرية فقهية معاصرة‪.‬‬ ‫‪3 -3‬مفهوم «المواطنة» في بحثنا‪.‬‬ ‫‪4 -4‬اإلمامية‪ ،‬والمجتمع‪ ،‬والهجرة‪.‬‬ ‫‪5 -5‬مواطنية ابن مّلي ومحاربة االحتالل‪.‬‬ ‫‪6 -6‬ابن مّلي والمقاومة في لبنان‪ :‬مقاربة وتأمالّت‪.‬‬ ‫‪7 -7‬مواطنة «الشهيدين» والدعوة لالنتماء والتعايش‪.‬‬ ‫‪8 -8‬اإلمامية والعمالة‪ :‬مقالة ممّلة‪.‬‬ ‫‪9 -9‬الشهيد الثاني وَقُبول اآلخر‪.‬‬ ‫و»الهم الوطني»‪.‬‬ ‫‪1010‬اإلمامية و»األرشيف» و»النبذ»‬ ‫ّ‬ ‫في حركة هذه العناوين تدور ورقتي ومقاربتي‪.‬‬

‫‪ -1‬مدخل سؤالي وإطار البحث‪:‬‬ ‫ماعالقة فقهاء اإلمامية اللبنانيين بالوطن؟ هل هي عالقة َع َرضية وزائلة‪ ،‬أم أنها جوهرية ودائمة؟ وبلفظ آخر‪ ،‬هل أن‬ ‫انتماء حقيقياً‪ ،‬أم أن صفة المواطنة غائبة عنه‪ ،‬وبعيدة المنال؟‬ ‫الشيعي اإلمامي اللبناني ينتمي إلى الوطن‬ ‫ً‬

‫وباألحرى‪ ،‬هل أن المواطنة واالنتماء للوطن هو شعور راسخ عند الشيعة اإلمامية‪ ،‬أم أنه شعور على َد َخن‪ ،‬وتالياً‪،‬‬ ‫يتجاوز الوطن إلى أوطان أخرى؟‬

‫ونتساءل أكثر‪ ،‬هل نجد عند فقهاء اإلمامية القدامى ما ُيشير إلى (حب الوطن) (والتعلق به)‪( ،‬والدفاع عنه)؟ أم أنه ال‬ ‫نفسر ما أصاب هؤالء الفقهاء من اضطهاد وتشريد‪ ،‬بل‬ ‫أثر لذلك في سيرهم العمالنية ومقاالتهم الفكرية؟ ويا تُرى‪ ،‬بماذا ّ‬ ‫‪ 1‬‬


‫‪ -4‬اإلمامية‪ ،‬والمجتمع‪ ،‬والهجرة‪:‬‬ ‫نعــم‪ ،‬لــم يؤمــن علمــاء اإلماميــة بـ»المجتمــع المنغلــق» ‪ ،Fermeé‬أو بتعبيــر برغســون‪ ،‬بعالــم محــدود‪ ،‬صغيــر‪ ،‬و اركــد‪ .‬بــل‬ ‫الضيقــة‪ ،‬وفتح ـوا نوافــذه بوجــه المجتمعــات واألديــان األخــرى‪ ،‬لذلــك‬ ‫هدم ـوا فيــه العوائــق‬ ‫آمن ـوا «بمجتمــع منفتــح» ‪ّ ،Ouverte‬‬ ‫ّ‬ ‫آمنـوا بـ»الهجـرة»‪ ،6‬ألن وراء بــزوغ كل حضــارة «هجـرة»‪ .‬لــذا‪ ،‬نجــد تاريــخ اإلســام هــو تاريــخ (الهجـرة)‪ .‬ونــرى فــي القـرآن أن‬ ‫مقدســة‪.7‬‬ ‫عمليــا ووظيفــة إنســانية ّ‬ ‫المهاجــر فــي طريــق الحقيقــة يتقـ ّـدم علــى المجاهــد‪ ،‬وبعــد اإليمــان تأتــي الهجـرة‪ ،‬بوصفهــا أصــا ّ‬ ‫ـب اإلنســان‪ ،‬ومبــدأ التعايــش‪،‬‬ ‫لذلــك نجــد هجـرة علمــاء اإلماميــة قديمـاً قــد أنتجــت حضــارات‪ ،‬بــل وجدناهــم ّأينمــا حّلـوا أشــاعوا حـ ّ‬ ‫والدفــاع عــن األوطــان‪ ،‬وورقتــي هــذه غايتهــا توضيــح هــذا المطلــب‪ .‬وأبــدأ بالبطــل المجاهــد ابــن مّلــي البعلبكــي‪.‬‬

‫‪ -5‬مواطنة ابن مّلي البعلبكي ومحاربة االحتالل (شهيد الوطن)‪:‬‬ ‫نســمي المدافــع عــن وطنــه بالشــهيد‪،‬‬ ‫أود أن أطلــق علــى هــذا الفقيــه اســم (شــهيد الوطــن) بوصفــه مصطلحــا معاصـرا؛ ّ‬ ‫ّ‬ ‫ألننــا اليــوم ّ‬ ‫‪8‬‬ ‫ـب‬ ‫ـ‬ ‫ح‬ ‫و‬ ‫ـة‪،‬‬ ‫ـ‬ ‫الهوي‬ ‫و‬ ‫ـة‬ ‫ـ‬ ‫ن‬ ‫اط‬ ‫و‬ ‫الم‬ ‫ـي‬ ‫ـ‬ ‫ف‬ ‫ا‬ ‫ـ‬ ‫س‬ ‫در‬ ‫ـا‬ ‫ـ‬ ‫ن‬ ‫أعطا‬ ‫ـنة‬ ‫ـ‬ ‫س‬ ‫ـبعمئة‬ ‫ـ‬ ‫س‬ ‫ـن‬ ‫ـ‬ ‫ع‬ ‫ـد‬ ‫ـ‬ ‫ي‬ ‫ز‬ ‫ي‬ ‫ـا‬ ‫ـ‬ ‫م‬ ‫ـذ‬ ‫ـ‬ ‫ن‬ ‫وم‬ ‫‪،‬‬ ‫‪1299‬م)‬ ‫‬‫ـ‬ ‫ه‬ ‫(ت‪699‬‬ ‫ـي‬ ‫ـ‬ ‫ك‬ ‫البعلب‬ ‫ـي‬ ‫ـ‬ ‫ل‬ ‫م‬ ‫ـن‬ ‫ـ‬ ‫فاب‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫األوطان‪.‬‬ ‫ابــن مّلــي أو (شــهيد الوطــن)‪ ،9‬هــو أول فقيــه إمامــي أنجبتــه بعلبــك‪ .‬تلّقــى علومــه فــي دمشــق‪ ،‬وحلــب‪ ،‬وبغــداد‪ ،‬وخصوصـاً مــن‬ ‫ابــن معقــل الحمصــي (ت‪644‬ه ـ ‪1246 /‬م)‪ ،‬الــذي يعـ ّـد آخــر فقيــه إمامــي فــي حمــص وقــد ســكن بعلبــك‪.‬‬

‫كان شــجاعاً وثائـ اًر‪ ،‬فسـ ّـماه اليونينــي فــي كتابــه «ذيــل مـرآة الزمــان» بـ»الملــك األقــرع»‪ ،‬وكأن ابــن مّلــي بهــذه الصفــة قــد أزال‬ ‫وعززتــه أنظمــة الحكــم المتواليــة لمصطلــح الفقيــه‪ ،‬هــذا النمــط الــذي لــم يعـ ِـط الفقيــه إالّ هامش ـاً‬ ‫النمــط الثقافــي الــذي زرعتــه ّ‬ ‫ضئيـاً ينحصــر بالشــؤون األخرويــة الصرفــة‪ ،‬وبتغطيــة نظــام الحكــم‪ ،‬وتقديــم التســويغات لــه عنــد الطلــب‪ ،‬فكيــف بفقيــه يخــرج‬ ‫مــن مص ـاّه‪ ،‬وحلقــة‬ ‫ويقاتــل؟! فجــاء هــذا الفقيــه المجاهــد مخترقـاً كل المرتكـزات‪ ،‬متجــاو اًز‬ ‫درســه‪ ،‬حامـاً ســيفه ليقــود حــرب عصابــات شــعبية‪ ،‬ويقتــل ُ‬ ‫إياّهــا بخبطــة عبقريــة واحــدة‪ ،‬نقلتــه مــن موقعــه الهالمــي الهامشــي‪ ،‬إلــى موقــع أشــد صالبــة بمــا ال ُيقــاس‪ .‬مــن موقــع (الفقيــه)‬ ‫إلــى موقــع (الملــك)‪.10‬‬ ‫ـإن صفــة (األقــرع) المســتعادة مــن منظــر‬ ‫فــإن يكــن اتخــاذ اســم الملــك قــد حـ ّـرره مــن أثقــال المفهــوم الــذي زرعتــه الســلطة للفقيــه‪ ،‬فـ ّ‬ ‫التتــري‪ ،‬ذلــك المقاتــل الشــرس القاســي الــذي لــم يغلبــه أحــد حتــى اآلن‪ ،‬تســتحضر عنــد الســامع صفــة المقاتــل الشــرس الــذي ال‬ ‫ـب االســم والصفــة كالهمــا فــي االتجــاه نفســه‪.‬‬ ‫ُيدافــع‪ .‬وهكــذا‪ ،‬يصـ ُّ‬

‫ولكــن مــن هــي الجهــة التــي قاتلهــا ابــن مّلــي وجاهدهــا؟ هــل هــم مواطنــوه‪ ،‬أو باألحــرى مخالفــوه فــي الـرأي؟ بالطبــع ال‪ ،‬ألن ابــن‬ ‫‪11‬‬ ‫ـت بهــم جيــش هوالكــو (أي المغــول)‪،‬‬ ‫مّلــي جمــع كل مواطنيــه‪،‬‬ ‫الجباريــن الذيــن ال ُيهزمــون ‪ ،‬عنيـ ُ‬ ‫ّ‬ ‫ووحدهــم لقتــال المحتليــن و ّ‬ ‫لألمــة والمقاتــل الشــرس‪.‬‬ ‫العــدو الجديــد ّ‬ ‫يقــول اليونينــي فــي «ذيــل مـرآة الزمــان‪« :‬فــي ســنة ثمــان وخمســين وســتمئة عنــد مجــيء التتــر علــى الشــام‪ ،‬كان هــو بجبــال‬

‫لنالحظ هنا‪ ،‬هجرة علماء اإلمامية القديمة إلى إيران وغيرها‪ ،‬مقاربة مع هجرة «شيعة لبنان» التجارية إلى بلدان العالم في يومنا‬ ‫‪ 6‬‬ ‫مكونات فكرهم‪ .‬وطبعاً‪ ،‬لن ننسى عامل االحتالل الصهيوني للبنان‪.‬‬ ‫من‬ ‫الهجرة‬ ‫وكأن‬ ‫المعاصر‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫للاُ َ‬ ‫ـور َّر ِحي ـ ٌم}‬ ‫‪ 7‬‬ ‫س ـبِي ِل ّ‬ ‫للاِ أ ُ ْولَئِــكَ يَ ْر ُجــونَ َرحْ َمــتَ ّ‬ ‫للاِ َو ّ‬ ‫غفُـ ٌ‬ ‫وذلــك فــي قولــه تعالــى‪{ :‬إِ َّن الَّذِيــنَ آ َمنُــواْ َوالَّذِيــنَ هَا َجـ ُ‬ ‫ـرواْ َو َجا َه ـدُواْ فِــي َ‬ ‫(ســورة البقــرة‪ .)18 :‬راجــع عــن اإليمــان والهجــرة والجهــاد د‪ .‬شــريعتي – محمــد خاتــم النبييّــن‪ .‬دار األميــر‪ ،‬لبنــان‪ ،‬ط‪ ،2002 ،1‬ص‪ 31‬ومــا‬ ‫بعدهــا‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫ســن (بضــم الميــم وتشــديد الســين المكســورة) بــن ملــي األنصــاري البعلبكــي (‪699-617‬هـــ)‪ .‬أول فقيــه‬ ‫‪ 8‬‬ ‫إنــه نجــم الديــن‪ ،‬أحمــد بــن ُمح ِ ّ‬ ‫شــيعي إمامــي أنجبتــه بعلبــك‪ ،‬أصولــي‪ ،‬ومتكلّــم‪ .‬ولــد فــي بعلبــك عــام ‪617‬هـــ‪ .‬كان متبحــرا ً فــي العلــوم‪ ،‬كثيــر الفضائــل‪ ،‬أســدا ً فــي المناظــرة‪،‬‬ ‫فصيــح العبــارة‪ ،‬ذكيـاً‪ ،‬حاضــر الح ّجــة‪ ،‬حــاد القريحــة‪ ،‬فارهـاً‪ ،‬مقدامـاً‪ .‬توفــي عــام (‪699‬هـــ ‪1299 -‬م) راجــع موســى اليونينــي – مــرآة الزمان‪.‬‬ ‫وراجــع الدراســة التــي وضعهــا عنــه الشــيخ جعفــر المهاجــر‪ ،‬ســتة فقهــاء أبطــال‪ ،‬مركــز الدراســات والتوثيــق والنشــر‪ ،‬ط‪ ،1994 ،1‬مــن‬ ‫ص‪.77-46‬‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫منذ اآلن وصاعدا اعتمد مصطلح (شهيد الوطن) للداللة على ابن ملي‪.‬‬ ‫‪ 9‬‬ ‫الشيخ جعفر المهاجر‪ :‬ستة فقهاء أبطال‪ ،‬ص‪.67‬‬ ‫‪ 10‬‬ ‫لنتذكر اليوم ما كان يُقال عن الصهاينة‪ّ .‬‬ ‫إن التاريخ عبرة لمن يعتبر‪.‬‬ ‫‪ 11‬‬


‫من قتل واستشهاد على يد السلطات الحاكمة‪ ،‬هل هو نتيجة «العمالة» و»الخيانة» ألوطانهم‪ ،‬أم ألسباب وعوامل أكثر‬ ‫تعقيداً وخطورة؟‬ ‫أبينــه فــي بحثــي هــذا‪ ،‬مبتــدأ بالفقيــه المجاهــد ابــن مّلــي البعلبكــي (ت‪699‬ه ـ ‪1299 /‬م)‪ ،‬مــرو اًر بالفقيــه‬ ‫هــذا مــا ســوف أحــاول أن ّ‬ ‫المؤســس الشــهيد محمــد بــن مكــي الجزينــي (ت‪784‬ه ـ ‪1382 /‬م)‪ ،‬والمشــهور بـ»الشــهيد األول»‪ ،‬وانتهــاء بالفقيــه الوحــدوي‪،‬‬ ‫عنيــت بــه زيــن الديــن بــن علــي الجباعــي (ت‪965‬ه ـ ‪1558 /‬م)‪ ،‬واألكثــر شــهرة بـ»الشــهيد الثانــي»‪ .‬وهــذه المحاولــة تســتغرق مــا‬ ‫يقــرب مــن ثالثــة قــرون مــن الزمــن‪ ،‬إذ تبــدأ مــن أواخــر القــرن الســابع الهجــري‪ ،‬مــع مطــاردة ابــن مّلــي وموتــه بعيــداً عــن منبــت‬ ‫والدتــه‪ ،‬وتنتهــي أواخــر القــرن العاشــر الهجــري‪ ،‬باستشــهاد الشــهيد الثانــي خــارج وطنــه أيضـاً‪.‬‬

‫‪ -2‬المواطنة والفقهاء‪ :‬ضرورة العمل على نظرية فقهية معاصرة‪:‬‬ ‫‪2‬‬ ‫محددات كل واحد منهما‪.‬‬ ‫وبينوا ّ‬ ‫أشار الفقهاء إلى نوعين من األوطان‪ :‬الوطن العرفي والوطن الشرعي ‪ّ .‬‬

‫ولكــن‪ ،‬مــن المهــم اليــوم‪ ،‬بيــان الرؤيــة الفقهيــة تجــاه هــذه المقولــة (الوطــن والمواطنــة)‪ ،‬والتــي هــي ليســت عالقــة عاطفيــة فحســب‪،‬‬ ‫بــل هــي عالقــة قانونيــة‪ ،‬دســتورية‪ ،‬سياســية‪ ،‬اقتصاديــة‪ ،‬اجتماعيــة‪ ،‬ثقافيــة‪ ،‬تتطلــب صياغــة «نظريــة فقهيــة معاصـرة» تجــاه هــذا‬ ‫الموضــوع أو الظاهـرة اإلنســانية المعاصـرة‪ ،‬ألن الشــعور الوطنــي أضحــى اليــوم مــن الحقائــق الدســتورية‪ ،‬والقانونيــة‪ ،‬والسياســية‬ ‫مكونــات متعــددة‪ ،‬وقوانيــن مختلفــة‪ ،‬واإلنســان‬ ‫الهامــة‪ .‬واألمــة اإلســامية اليــوم‪ ،‬موزعــة فــي أوطــان متعـ ّـددة‪ ،‬وفــي كل وطــن ّ‬ ‫عــادة‪ ،‬ينتمــي إلــى دوائــر إنســانية عديــدة‪ ،‬ومنهــا دائـرة الوطــن‪ ،‬فكيــف الســبيل إلــى التوفيــق بيــن هــذه الدوائــر (األسـرة‪ ،‬القبيلــة‪،‬‬ ‫المذهــب‪ ،‬الوطــن‪ ،‬اإلنســانية‪ )...‬وإمكانيــة انفتــاح االنتمــاء الوطنــي علــى اإلنســانية‪ ،‬لتصبــح اإلنســانية أكثــر نب ـاً‪ ،‬بــدالً مــن‬ ‫التصحــر اإلنســاني‪.‬‬ ‫االنغــاق و‬ ‫ّ‬

‫‪ -3‬مفهوم المواطنة في بحثنا‪:‬‬ ‫لــن أدخــل هنــا بعمــل معهــود ومشــهور‪ ،‬أي الحديــث عــن تعريــف الوطــن‪ ،‬والمواطنــة‪ ،‬ألن فــي ذلــك بســاطة ورتابــة‪ ،‬وهــو فــي‬ ‫أن مصطلــح (المواطنــة) ال‬ ‫موســع فــي الد ارســات‬ ‫المختصــة‪ ،‬والقواميــس‪ ،‬والموســوعات‪ ،‬خصوصــا ّ‬ ‫األخيــر ّ‬ ‫ِّ‬ ‫متوفــر وبشــكل ّ‬ ‫‪3‬‬ ‫فضلــت فــي ورقتــي هــذه‪ ،‬أن أتــرك هــذا‬ ‫بالو َ‬ ‫الموطــن ‪ ،‬والحقــوق والواجبــات‪ ،‬فلذلــك‪ّ ،‬‬ ‫ينفــك فــي يومنــا‪ ،‬وببداهــة‪ ،‬مــن ربطــه َ‬ ‫طــن و َ‬ ‫الجانــب‪ ،‬والغــوص أرس ـاً‪ ،‬فــي المقصــود مــن (المواطنــة) عنــد فقهائنــا الثالثــة؛ ألن مفهــوم (الوطــن) (والمواطنــة) فــي عصــر‬ ‫هـؤالء‪ ،‬ال يعنــي بالتمــام مــا هــو مقصــود منــه فــي عصرنــا الحاضــر‪ ،‬فقديمـاً عـ ّـد بهــاء الديــن العاملــي (ت ‪1030‬ه ـ ‪1621 /‬م)‬ ‫«أن الوطــن هــو ذلــك المــكان الــذي ال اســم لــه»‪ .4‬فلذلــك‪ ،‬ومنــذ البدايــة‪ ،‬أعنــي ب ـ «المواطنــة والوطــن» عنــد فقهائنــا الثالثــة هــو‬ ‫«الكيــان الثقافــي»‪ ،‬وليــس «الكيــان السياســي المعــروف» لعدمــه فــي حينــه‪ ،5‬أعنــي بذلــك‪ ،‬أن المواطنــة عندهــم تعنــي النشــأة‪،‬‬ ‫والمولــد‪ ،‬واالنتمــاء لــأرض والنــاس‪ ،‬والدفــاع عنهــم‪ ،‬والتشــديد علــى رابطــة التعايــش الســلمي بيــن أفـراد يتشــاركون أرضـاً واحــدة‪،‬‬ ‫ألن «الهويــة المذهبيــة» عنــد فقهائنــا الثالثــة‪ ،‬وغيرهــم طبع ـاً‪ ،‬لــم تكــن قاعــدة أو منطلق ـاً للص ـراع بيــن األف ـراد والجماعــات‪،‬‬ ‫بــل َغـ َـدت وعي ـاً عميق ـاً فــي المســؤولية تجــاه انتماءاتهــم‪ ،‬فلذلــك‪ ،‬قاتل ـوا‪ ،‬وجاهــدوا بــل واستشــهدوا فــي ســبيل هــذا الوعــي‪ .‬ومــن‬ ‫ـث الفرقــة بيــن أبنــاء الوطــن‬ ‫المؤســف حق ـاً‪ ،‬أن مــا يحصــل اليــوم هــو تمزيــق «للذاك ـرة الجمعيــة» أو إعــدام وجودهــا‪ ،‬فنــرى بـ ّ‬ ‫الواحــد‪ ،‬بــل األمــة الواحــدة‪ ،‬علــى قاعــدة االنتمــاء الحقيقــي أو العمالــة‪.‬‬

‫راجــع‪ :‬حســين مرعــي‪ :‬القامــوس الفقهــي‪ ،‬دار المجتبــى‪ ،‬لبنــان‪ ،‬ط‪ ،1‬ســنة ‪1922‬م‪ ،‬ص‪ 222‬و‪ 223‬و‪ .224‬وأيضــا ً آيــة هللا‬ ‫‪ 2‬‬ ‫المشــكيني‪ ،‬مصطلحــات الفقــه‪ ،‬دفتــر نشــر الهــادي‪ ،‬قــم‪ ،‬ط‪ 1377 ،1‬هـــ‪.‬ق‪ ،‬ص‪ 561‬و‪ .562‬مــع اإلشــارة إلــى أن آيــة هللا المشــكيني ذهــب فــي‬ ‫كتابــه إلــى أن الفقهــاء قسّــموا األوطــان إلــى ثالثــة أقســام‪ :‬الوطــن األصلــي‪ ،‬والوطــن المســتجد‪ ،‬والوطــن الشــرعي‪ ...‬الــخ‪.‬‬ ‫صــار‪:‬‬ ‫ن‬ ‫ـف‬ ‫ـ‬ ‫ناصي‬ ‫راجــع تفريــق د‪ .‬نصــار بيــن المواطــن والمواطنيــة علــى أســاس الوطــن والموطــن‪ ،‬وتعريفاتــه للوطــن وغيرهــا‪.‬‬ ‫‪ 3‬‬ ‫ّ‬ ‫فــي التربيــة والسياســة‪ ،‬دار الطليعــة البنيــان‪ ،‬ط‪ ،1‬ســنة ‪2000‬م‪ ،‬ص‪ 14‬ومــا بعدهــا‪.‬‬ ‫صه‪ :‬ليس الوطن هو مصر والعراق والشام‪ ،‬بل الوطن هو ذلك‬ ‫‪ 4‬‬ ‫يقول الشيخ البهائي في ديوانه الفارسي (مثنوي نان وحلوا) ما ن ّ‬ ‫المكان الذي ال اسم له‪ .‬راجع الدين والعلم‪ :‬مطارحات في ديننة العلم‪ ،‬مجموعة من الباحثين؛ تعريب الشيخ محمد زراقط‪ ،‬مركز الحضارة‬ ‫لتنمية الفكر اإلسالمي‪ ،‬لبنان‪ ،‬ط‪ ،1‬سنة ‪ ،2008‬ص‪.206‬‬ ‫راجع عن هوية لبنان وتشكله ككيان سياسي دراسة د‪ .‬غسان طه‪ :‬هوية لبنان‪ ،‬المركز اإلسالمي للدراسات الفكرية‪ ،‬لبنان‪ ،‬ط‪ ،1‬سنة‬ ‫‪ 5‬‬ ‫‪2009‬م‪.‬‬


‫بن علي الجباعي (ت‪965‬هـ ‪1558 /‬م)‪ ،18‬والمعروف ب «الشهيد الثاني»‪ ،‬واختصا اًر‪ ،‬أسميتهما «الشهيدين»‪.‬‬ ‫إن العقــل العاملــي يبتعــد عــن صيغــة التجزئــة كمــا يبتعــد عــن منطــق األحاديــة فــي التفكيــر‪ ،‬هــو عقــل تركيبــي تعـ ّـددي يهتــم‬ ‫ـوزع‪ ،‬وفــي توزيعــه وحــدة‪ ،‬كمــا ينشــد وحــدة متكاملــة فــي المعرفــة‪ ،‬فــا تتجــدد‬ ‫بالكليــات وكذلــك بالجزئيــات‪ .‬والعقــل العاملــي عقــل مـ ّ‬ ‫أفــكاره داخــل حقولهــا الخاصــة المنتجــة فيهــا‪ ،‬بــل أيضـاً مــن حركــة االنفتــاح المــزدوج علــى بقيــة الحقــول المعرفيــة‪ ،‬والقطاعــات‬ ‫المجتمعيــة‪ ،‬وبالتالــي تســاهم فــي صنــع األحــداث وتفاعــل األفــكار‪.19‬‬ ‫ويعي‪ ،‬فإنه يكشف العالقات وأسباب االنبثاق‪.20‬‬ ‫وألن اإلنسان في جوهره له عقل ُيدرك ويرتّب َ‬ ‫ـي عامــة‪ ،‬عم ـاً تأسيســياً «لوحــدة العقــل المختلــف‬ ‫هــذا مــا اشــتغل عليــه الشــهيدان‪ ،‬إذ نجــد فــي أثنــاء قراءتنــا الفكـ َـر العاملـ َّ‬ ‫المؤتلــف»‪ ،‬الــذي يعمــل علــى خلخلــة مــا هــو مســتوطن فــي الســاحات الثقافيــة‪ ،‬ثــم يعمــل علــى ترتيبهــا وتنســيقها ضمــن أفــق‬ ‫معرفــي خــاص‪.‬‬ ‫توســع نشــاطهما خــارج ُجبــع‪ ،‬وجزيــن‪ ،‬فانتقــا إلــى دمشــق والقاه ـرة والحجــاز‪ ،‬واآلســتانة‪،‬‬ ‫هــذا مــا ّ‬ ‫تميــز بــه الشــهيدان‪،‬إذ « ّ‬ ‫مطيــة لــأذى‬ ‫والقــدس‪ ،‬والحّلــة والنجــف‪ ..‬يســتجمعان أوصــال مــا تق ّ‬ ‫طــع بيــن الشــيعة والسـّـنة‪ ،‬ولكــن الصـراع علــى األفــكار كان ّ‬ ‫الــذي لحقهمــا فيمــا بعــد‪ ،‬وهــو مــا أدى إلــى إعدامهمــا‪.‬‬ ‫وصيــة كتبهــا‬ ‫وكمثــال حيــوي عــن منظومــة الشــهيد األولــى فــي التعايــش والح ـوار‪ ،‬نجــده يســتخلص تجربتــه الشــخصية فــي‬ ‫ّ‬ ‫نصــه‪ :‬وأوصيهــم (أي‬ ‫إلخوانــه‪ ،‬وفيهــا التركيــز علــى الوحــدة‪ ،‬والتعايــش‪ ،‬واالنتمــاء‪ ،‬وَقُبــول اآلخــر‪ .‬يقــول الشــهيد األول مــا ّ‬ ‫إلخوانــه) أن ال يذكــروا أحــداً مــن المســلمين إال بخيــر علــى مــا ُيعتقــد فيــه مــن بدعــة أو شــبهة وال يفتحـوا علــى أنفســهم‬ ‫بــاب التأويــل للوقيعــة فــي المســلمين‪ .21‬ولقــد ســئل الشــهيد األول يومـاً عــن اآلخــر غيــر المســلم أوغيــر الكتابــي إذا وجــد تاجـ اًر‬ ‫فــي بــاد اإلســام‪ ،‬هــل يحـ ّـل مالــه أم ال؟‬ ‫نصــه‪« :‬ال ريــب فــي حرمــة مــال حربــي دخــل بأمــان‬ ‫فأجــاب الشــهيد األول بالنفــي‪ ،‬وحـ ّـرم االعتــداء عليــه‪ ،‬وأخــذ مالــه‪ .‬وقــال مــا ّ‬ ‫ّ‬ ‫الذمــي وكل كافــر حـرام‪.‬‬ ‫إلــى بــاد اإلســام‪ ،‬وإن كان المؤمـ ّـن ســلطاناً متغّلبـاً‪22،‬ألنــه شــبهة‪ .‬ويثبــت فــي الذمــة مالــه‪ .‬ومــال ّ‬ ‫ويكــون المطالــب بــه يــوم القيامــة ذلــك المأخــوذ منــه ‪ .»...‬فهــل هنــاك دعــوة للتعايــش‪ ،‬واحتـرام اآلخــر أكثــر مــن ذلــك؟‬ ‫وإذا مــا تركنــا نصــوص الشــهيد األول‪ ،‬وتأملنــا ســيرته العمليــة‪ ،‬وجدناهــا مثــاالً ُيحتــذى بــه فــي الصــدق واإلخــاص واالنتمــاء‬ ‫وفضــل الـوالء لســلطان دمشــق َبي ْدمــر‪،‬‬ ‫أي تعامــل أو تآمــر مــع الســلطة المملوكيــة المصريــة الناشــئة حديثـاً‪ّ ،‬‬ ‫الوطني‪.‬فقــد رفــض ّ‬ ‫بــل أظــن أن حربــه مــع تلميــذه «اليالــوش» الــذي خــرج عليــه‪ ،‬ووقعــت بينهمــا معركــة حاميــة فــي مدينــة النبطيــة‪ ،‬وســقط فيهــا‬ ‫العديــد مــن الشــهداء‪ ،‬حتــى عرفــت بمعركــة الشــهداء‪ .‬أعتقــد أن هــذه المعركــة كانــت مــن ضمــن هــذا الســياق‪ ،‬أي رفــض التآمــر‬ ‫علــى الســلطة الحاكمــة مــع ســلطة أجنبيــة فــي طــور التكويــن والنشــوء‪.‬‬ ‫أن هــذا اإلخــاص للســلطة الحاكمــة فــي دمشــق لــم يشــفع لــه‪ ،‬بــل وجدنــا «بيدمــر» نفســه‪ ،‬ســلطان‬ ‫ولكـ ّـن‪ ،‬مــن المؤســف حقـاً‪ّ ،‬‬ ‫دمشــق‪ ،‬وبعد أن أدرك والدة ســلطة جديدة حاكمة في مصر‪ ،‬نعني بها الســلطة‬ ‫المملوكية ‪ ،‬أســرع الخطى نحوها‪ ،‬وأقام حلفاً‬ ‫ّ‬ ‫معهــا وتفاهمــات سياســية علــى أرســها «صفقــة دنيئــة» تقضــي بإعــدام الشــهيد األول‪ ،‬القائــد والفقيــه الــذي يشـ ّـكل إزعاجـاً وحرجـاً‬ ‫للســلطة الجديــدة‪ .‬وبالفعــل وبعــد شــهرين مــن عــودة «بيدمــر» ســلطان دمشــق مــن مصــر‪ ،‬وجدنــاه ينفــذ حكــم اإلعــدام فــي صديقــه‬ ‫القديــم‪ ،‬دون أن تشــفع عنــده تجربــة الشــهيد المخلصــة‪ ،‬وال والؤه الحقيقــي لــه‪ ،‬فضـاً عــن رفضــه التحـوالت السـريعة مــع تبــدالت‬ ‫أن الشــهيد نفســه رفــض عرضـاً جــاءه مــن األميــر علــي بــن مؤيــد الخ ارســاني للذهــاب إلــى إيـران‪ ،‬ومســاعدة‬ ‫الحـ ّـكام‪ ،‬خصوصــا ّ‬ ‫يفضــل المكــوث فــي وطنــه‪ ،‬والعمــل ألجــل أهلــه‪ ،‬مكتفيــا بتســطير كتــاب «اللمعــة الدمشــقية»‪،‬‬ ‫أميرهــا فــي حكمــه‪ .‬رأينــا الشــهيد ّ‬ ‫الجزينــي‪ ،‬النبطــي األصــل‪ ،‬المعــروف بالشــهيد‪ .‬ولــد فــي جزيــن ســنة ‪ 734‬هـــ علــى المشــهور‪ .‬روى عــن الكثيــر مــن فقهــاء أهــل السـنّة‪ ،‬وأقــام‬ ‫فــي الحلّــة فتــرة‪ ،‬وأتقــن الفقــه وغيــره‪ ،‬وصنّــف فيهــا‪ ،‬وعــاد إلــى بلدتــه جزيــن‪ ،‬وأســس بهــا مدرســة‪ ،‬ونشــر علمــه بهــا‪ .‬قُتــل شــهيدا ً فــي دمشــق‬ ‫ســنة ‪786‬هـــ‪ ،‬ثــم صلــب ثــم أحــرق‪ ،‬وذلــك فــي عهــد الســلطان برقــوق‪ ،‬ونائبــه بالشــام بيدمــر‪ .‬راجــع‪ :‬الشــيخ جعفــر الســبحاني‪ :‬موســوعة‬ ‫طبقــات الفقهــاء‪ ،‬دار األضــواء‪ ،‬لبنــان‪ ،‬ط‪ ،1‬ســنة ‪1999‬م‪ ،‬ج‪ 231 / 9‬ومــا بعدهــا‪ ،‬رقــم ‪.2835‬‬ ‫هو‪ :‬زين الدين بن علي بن أحمد بن جمال الدين الجبعي العاملي‪ ،‬المعروف بالشهيد الثاني‪ .‬أحد أعيان اإلمامية وكبار مجتهديهم‪ .‬ولد‬ ‫‪ 18‬‬ ‫في جبع‪ ،‬سنة ‪911‬هـ‪ .‬تنقل بين قريته‪ ،‬وميس‪ ،‬وكرك نوح‪ ،‬ودمشق‪ ،‬ومصر وغيرها‪ .‬قرأ على كثير من شيوخ أهل السنّة‪ .‬صنّف كتبا ً ورسائل‬ ‫عديدة‪ .‬مات شهيدا ً سنة ‪965‬هـ على يد السلطان العثماني‪ .‬راجع‪ :‬الشيخ جعفر السبحاني‪ :‬موسوعة طبقات الفقهاء‪ ،‬ج‪ 201 /10‬وما بعدها‪ ،‬رقم‬ ‫‪( 3145‬م‪.‬س)‪.‬‬ ‫علي حرب‪ :‬تواطئ األضداد‪ ،‬الدار العربية للعلوم ناشرون‪ ،‬مؤسسة االختالف‪ ،‬ط‪ ،1‬سنة ‪ ،2008‬ص‪.61‬‬ ‫‪ 19‬‬ ‫كمال البكاري‪ :‬ميتافيزيقا اإلرادة‪ ،‬دار الفكر العربي‪ ،‬لبنان‪ ،‬ط‪ ،1‬سنة ‪ ،2000‬ص‪.41‬‬ ‫‪ 20‬‬ ‫رسائل الشهيد األول‪ ،‬مركز األبحاث والدراسات اإلسالمية‪ ،‬قم‪ ،‬ط‪ ،1‬سنة ‪1423‬ق‪ ،‬ص‪( 300‬الوصية)‪.‬‬ ‫‪ 21‬‬ ‫رسائل الشهيد األول‪ ،‬ص‪( 275-274‬م‪.‬س)‪.‬‬ ‫‪ 22‬‬


‫بعلبــك‪ ،‬وأّنــه جمــع لــه جماعــة نحــو عشــرة آالف نفــر‪ ،‬وأّنــه تسـ ّـمى بالملــك األقــرع‪ ،‬وأنهــم كان ـوا يتخط ّفــون التتــر فــي‬ ‫الطرقــات‪ ،‬خصوص ـاً فــي الليــل‪ ،‬ألن التتــر مــا يركبــون فــي الليــل‪.12‬‬ ‫اســتطاع ابــن مّلــي بإيمانــه وعقيدتــه الثوريــة والجهاديــة ضــد المغــول‪ ،‬العــدو المشــترك الــذي احتــل البــاد‪ ،‬مــن ســمرقند‪ ،‬إلــى‬ ‫ـيعيا ُيقتــدى بــه‪ ،‬فأعلــن الجهــاد‪ ،‬بعــد أن انقســمت‬ ‫فــارس‪ ،‬والعـراق‪ ،‬وبــاد الشــام‪ ...‬اســتطاع أن يؤثــر‬ ‫بجماهيـره بصفتــه فقيهــا شـ ّ‬ ‫‪13‬‬ ‫مدينــة بعلبــك بيــن مستســلم وخائــف‪ ،‬التجــأ إلــى القلعــة ‪ ،‬وقـ ّـرر التصـ ّـدي والمقاومــة‪ ،‬فأعلــن الجهــاد‪.‬‬

‫وأزعــج التتــر‪ ،‬متخــذاً أســلوب حــرب العصابــات؛ فــي جبــال تكســوها الغابــات‪ ،‬صعبــة المســالك والمم ـرات‪ ،‬يعرفهــا جيــداً هــو‬ ‫ِ‬ ‫المقاومــة‪ ،‬شــكّلت فيمــا بعــد مــاذاً للثـوار البعلبكييــن ضــد األتـراك‬ ‫عصيــة علــى العــدو‪ .‬هــذه الطبيعــة‬ ‫ورجالــه‪ ،‬فــي حيــن كانــت‬ ‫ّ‬ ‫والفرنســيين‪.14‬‬ ‫و نســأل هنــا‪ ،‬يــا تــرى مــا كان مصيــر ابــن مّلــي بعــد هزيمــة التتــار‪ ،‬واندحــار دولتهــم علــى يــد المماليــك؟ مــن المؤســف حقـاً أن‬ ‫ُيالحــق ابــن مّلــي‪ ،‬بعــد قتــال دام مــا يقــرب مــن ســبعة شــهور‪ ،‬فبــدالً مــن المكافــأة والتقديــر ‪،‬طُــورد ولوحــق مــن الســلطة الحاكمــة‬ ‫«ولمــا ازلــت دولــة التتــر اختفــى»‪ ،15‬نعــم اختفــى‪ ،‬ألن الدولــة حشــدت جيشـاً للقضــاء علــى‬ ‫الجديــدة‪ .‬يقــول اليونينــي مــا نصــه‪ّ :‬‬ ‫ـتقر فيهــا ســنين طويلــة‪ ،‬ثــم عــاد إلــى‬ ‫فودعهــم‪ ،‬وســافر‬ ‫الملــك األقــرع الــذي خشــي علــى أتباعــه‪ّ ،‬‬ ‫ّ‬ ‫متخفي ـاً إلــى مصــر التــي اسـ ّ‬ ‫‪16‬‬ ‫الضنيــة‪ ،‬وفيهــا مــات (‪699‬ه ـ ‪1299 /‬م) ‪.‬‬ ‫لبنــان‪ ،‬ولــم يتجـ أر علــى العــودة إلــى موطنــه بعلبــك‪ ،‬فأقــام فــي بخعــون مــن منطقــة‬ ‫ّ‬

‫وتأمالت‪:‬‬ ‫‪ -6‬ابن مّلي والمقاومة في لبنان‪ :‬مقاربة ّ‬

‫يذكرنــا جهــاد ابــن مّلــي وموقفــه‪ ،‬بجهــاد رجــال المقاومــة ومواقفهــم فــي لبنــان اليــوم ضــد العــدو اإلسـرائيلي‪ ،‬فمــا اســتكانوا‪ ،‬ومــا‬ ‫ّ‬ ‫هادن ـوا‪ ،‬ومــا خاف ـوا أو الذوا‪ ،‬بــل فضّل ـوا القتــال واالستشــهاد‪ ،‬والدفــاع عــن أرضهــم وشــعبهم‪ ،‬بــدالً مــن االستســام‪ ،‬وبعبــارة‬ ‫أخــرى‪ ،‬اختــاروا الك ارمــة علــى الســامة‪.‬‬ ‫وممــا يجــدر ذكـره هنــا هــو ّأننــي حيــن أذكــر ابــن مّلــي ينتابنــي شــعور غريــب وتســاؤل مريــب هــو‪ :‬هــل ســيكون مصيــر أبطــال‬ ‫ّ‬ ‫المقاومــة فــي لبنــان كمصيــر ابــن مّلــي؟ بمعنــى آخــر‪ ،‬هــل أن مجاهــدات شـّـبان اإلماميــة وبطوالتهــم فــي لبنــان ســتذهب ُســدى‪،‬‬ ‫وســتكون نهايتهــم الغربــة والقلــق والتخّفــي؟! لســت أدري – ولــو أننــي أدري أن قيــادة المقاومــة الحكيمــة وهــي األمينــة علــى هــذه‬ ‫الدمــاء التــي أُريقــت‪ ،‬وأنهــا أمانــة بيــن يديهــا‪ ،‬وقــد أضحــت اليــوم ملــك التاريــخ‪ ،‬فلــن تهــدر ولــن تضيــع إن شــاء هللا تعالــى‪ ،‬بــل‬ ‫إن تاريــخ لبنــان واســتقالله‪ ،‬وحقيقــة المواطنــة فيــه‪ ،‬بــدأت مــع هــذه الدمــاء والبطـوالت‪ .‬والعجــب أن المحكمــة الدوليــة الخاصــة‬ ‫بمحاكمــة قتلــة الرئيــس رفيــق الحريــري‪ ،‬طلبــت مــن المقاومــة اإلســامية فــي لبنــان أن تمثــل أمامهــا قيــادات وأف ـراد ومحبــون‬ ‫ـام المقاوميــن مطاردتَهــم الحقـاً‪ ،‬فيصبــح‬ ‫لالســتماع إلــى شــهاداتهم‪ ،‬ويرتــاب المــرء‪ ،‬هــل وراء األكمــة مــا وراءهــا‪ ،‬هــل يعنــى اتهـ ُ‬ ‫مصيــر مــن قهــر الصهيونيــة كمصيــر ابــن مّلــي البعلبكــي!! وبــدالً مــن مكافأتهــم علــى بطوالتهــم وتقديــر جهادهــم ونضالهــم‪ ،‬وهــم‬ ‫أصـاً ال يطلبــون ذلــك‪ ،‬تكــون حالهــم مــع الحـ ّـكام المعاصريــن‪ ،‬كحــال ابــن مّلــي مــع المماليــك‪ ،‬أعنــي الخــوف والقلــق والتخّفــي؟‬ ‫وأكثــر مــا يخشــاه المــرء أن ُيخــدش «البعــد المعنــوي لمقاومتهــم»‪ ،‬ويتحولـوا مســتقبالً فــي العقــل الجمعــي‪ ،‬إلــى مرتزقــة وعمــاء‬ ‫ومجرميــن‪ ،‬بــدالً مــن مقاوميــن وأبطــال‪ .‬أظــن‪ ،‬أن األيــام حبلــى فلننتظــر!؟‬ ‫أفضل تسميته بـ (شهيد الوطن)‪.‬‬ ‫هذه مسيرة أول فقيه إمامي بعلبكي وهو ابن مّلي‪ ،‬و ّ‬

‫‪ -7‬مواطنة الشهيدين و»الدعوة لالنتماء والتعايش»‪:‬‬ ‫أقصد بالشــهيدين‪ :‬األول محمد بن مكي الجزيني (ت‪784‬هـ ‪1382 /‬م)‪ ،17‬واألكثر شــهرة بالشــهيد األول‪ ،‬والثاني زين الدين‬ ‫ّ‬

‫اليونيي‪ ،‬ذيل مرآة الزمان (حوادث سنة ‪.)700‬‬ ‫‪ 12‬‬ ‫م‪.‬ن‪.‬‬ ‫‪ 13‬‬ ‫من المؤسف له حقاً‪ ،‬إن هذه الجبال اليوم هي جرداء قاحلة‪ ،‬وكم تمنينا أن تشجر وتكسوها الغابات‪ ،‬وال سيما أن وزير الزراعة‬ ‫‪ 14‬‬ ‫اليوم‪ ،‬الصديق والحبيب‪ ،‬هو من منطقة بعلبك‪.‬‬ ‫اليونيني‪ :‬ذيل مرآة الزمان (حوادث سنة ‪700‬هـ)‪.‬‬ ‫‪ 15‬‬ ‫يا حبذا لو أن حكومتنا الكريمة‪ ،‬تحاول البحث عن قبر هذا البطل‪ ،‬وتحدّد مكانه‪ ،‬لتكريمه في مماته‪ ،‬بعد المظلمة التي عاناها في‬ ‫‪ 16‬‬ ‫حياته‪ ،‬مما دعاه للموت متخفياً‪.‬‬ ‫هــو‪ :‬محمــد بــن مكــي بــن محمــد بــن حامــد بــن أحمــد المطلّبــي‪ ،‬المجتهــد اإلمامــي العلــم‪ ،‬شــمس الديــن‪ ،‬أبــو عبــد هللا العاملــي‬ ‫‪ 17‬‬


‫آرائهم أحســن صحبة وعاشــرهم أحســن عشـرة»‪.31‬‬ ‫ـاء مبني ـاً علــى التعــارف والمعرفــة‪،‬‬ ‫إذن عمــل الشــهيد الثانــي علــى بنــاء مجتمــع علــى صورتــه‪ ،‬تلتقــي فيــه المذاهــب واآلراء لقـ ً‬ ‫فــي مقابــل التناكــر واإلنــكار‪.‬‬ ‫ولكــن‪ ،‬لــم يشــفع منهــج الشــهيد التقريبــي هــذا لــه‪ ،‬بــل نجــد الســلطة العثمانيــة الحاكمــة‪ ،‬تلقــي القبــض عليــه‪ ،‬وتعدمــه‪ ،‬بــل تجعــل‬ ‫نعبــر اليــوم‪.‬‬ ‫موتــه لغـ اًز‪ ،‬فــا قبــر لــه وال مدفــن‪ ،‬وال ذنــب لــه إالّ العمــل علــى التقريــب‪ ،‬والدعــوة إلــى التعايــش‪ ،‬والســلم األهلــي‪ ،‬كمــا ّ‬

‫فيطــاردون‪،‬‬ ‫هــذه هــي خالصــة ســيرة فقهــاء ثالثــة مــن اإلماميــة‪ ،‬مــع الســلطات الحاكمــة فــي حينــه‪ .‬يعملــون علــى المقاومــة ُ‬ ‫ويســعون إلــى التعايــش والتقريــب وترســيخ االنتمــاء‪ ،‬فيعدمــون‬ ‫ويحرقــون‪ .‬وبعــد كل ذلــك‪ ،‬يتهمــون بالعمالــة والخيانــة؟!‬ ‫ّ‬

‫في نهاية المطاف‪:‬‬ ‫إذا كان ال بد من خاتمة موجزة لهذا البحث فإن لي فيها أمنيتين‪:‬‬ ‫‪-1‬‬

‫‪1‬أن تتسع صدور المخالفين‪ ،‬فيتعاملوا مع هذه اآلراء بشفافية وشعور ٍ‬ ‫عال بالمسؤولية‪.‬‬

‫‪-2‬‬

‫الم ّهــم أن‬ ‫ـق فقهــاء اإلماميــة والطائفــة الشــيعية عامــة‪ّ ،‬‬ ‫ـق بعضنــا‪ ،‬وبحـ ّ‬ ‫‪2‬أن نتخلــى عــن األحــكام المســبقة بحـ ّ‬ ‫ألنــه ليــس ُ‬ ‫لعقــد‪ ،‬أو عقديــن مــن الســنين‪ ،‬ثــم ينتهــي بعدهــا إلــى مزبلــة التاريــخ تالحقــه لعنــة‬ ‫يترّبــع حاكـ ٌـم علــى كرســي ُح ْكـ ٍم بائــس َ‬ ‫األجيــال واألمــم‪ ،‬إنمــا المهـ ّـم أن تبقــى كلمــات‪ ،‬ومواقــف رجــل لــم يتســن لــه أن يمــارس الحكــم‪ ،‬أو مــارس الحكــم حقبــة‬ ‫الروحيــة‪ ،‬ويســتنهضهم دائمـاً وأبــداً للثــورة‬ ‫محــدودة‪ ،‬ولكنــه ظـ ّـل ّ‬ ‫حيـاً فــي ضمائــر النــاس‪ُ ،‬يمــارس عليهــم ســلطته الفكريــة و ّ‬ ‫ـي لــم يمــت مــع مــرور عقــود‪ ،‬بــل قــرون طويلــة علــى رحيلــه أو استشــهاده‪.‬‬ ‫ضــد الجبابـرة والطغــاة‪ ،‬وكأنــه حـ ٌّ‬

‫هذا هي حالنا مع فقهائنا الثالثة مع عدم استالمهم السلطة‪ ،‬ولكنهم بقوا أحياء في قلوبنا‪ ،‬وما زالوا مصدر الثورة فينا‪.‬‬

‫و»الهم الوطني»‪:‬‬ ‫‪ -10‬اإلمامية و»األرشيف» و»النبذ»‬ ‫ّ‬ ‫أعتقــد أن المذهــب اإلمامــي‪ ،‬وفــي لبنــان تحديــداً‪ ،‬لــن يجنــح نحــو التخّلــي بصمـ ٍ‬ ‫ـت عــن إرادة أن يكــون ذاتـاً فاعلــة‪ .‬ولــن ُيدمــن‬ ‫َ َْ‬ ‫َ ْ‬ ‫ِ‬ ‫دريــدا «مــرض األرشــيف»‪ ،‬أي العيــش علــى ذكريــات النضــال القديــم‪ ،‬فيتحـ ّـول الماضــي إلــى‬ ‫إلــى حـ ّـد الهــوس‪ ،‬بمــا أسـ َـماه ّ‬ ‫مــأوى ألحالمــه المجهضــة أو المعــذورة‪.‬‬ ‫نعــم‪ ،‬فــي معركــة التغييــر‪ ،‬تعـ ّـرض اإلماميــة إلــى مــا أســماه فوكــو (بعمليــة النبــذ) بأشــكال شــتى‪ ،‬فــكان مــن غيــر المســموح لهــا‬ ‫تعبــر عــن نفســها فــي أي شــكل‪ ،‬وبقيــت‪ ،‬ومــا ازلــت‪ ،‬تناضــل كيمــا تطابــق بيــن‪ :‬وعيهــا‪،‬‬ ‫بالبــوح بمــا تريــده أو بــأي شــيء‪ ،‬وال ّ‬ ‫مذهبيــا‪،‬‬ ‫وهويتهــا‪ ،‬ووظيفتهــا‪ .‬وهــذا ال يعنــي‪ ،‬إننــا ننظــر إلــى المواطنــة عنــد فقهــاء اإلماميــة بوصفهــا حــاال مذهبيــة أو ســجاال‬ ‫ّ‬ ‫إنمــا ننظــر إليهــا بحســبانها «مشــكلة وطنيــة»‪ ،‬ألن الســجال المذهبــي إن ُفتــح لــن ُيغلــق بســهولة أبــداً‪ ،‬فأرجــو أن نرتقــي علــى‬ ‫المذهبية‪ ،‬وال نجعل أعداء الوطن ينتهزون هذه الفرصة‪ ،‬ويجعلون‬ ‫حل مشكالتهم‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫المذهبية أو الطائفية عالّقة يعّلقون عليها ّ‬ ‫التوجــه نحــو اإلصــاح السياســي الشــامل فــي الوطــن‪ ،‬ألن اإلصــاح الشــامل يحتــاج‬ ‫إن معالجــة هــذا المشــكل الوطنــي‪ ،‬هــو فــي ّ‬ ‫إلــى ت اركــم الجهــود‪ ،‬وينبغــي للشــعب وللمجتمــع األهلــي‪ ،‬أن يكــون لــه الــدور الكبيــر‪.‬‬

‫يتضخــم لدينــا «المشــكل الطائفــي»‪ ،‬و»الهـ ّـم الطائفــي الخــاص»‪ ،‬علــى حســاب «الهـ ّـم الوطنــي العــام»‪ ،‬ألننــا‬ ‫نحــن ال نريــد أن‬ ‫ّ‬ ‫‪32‬‬ ‫نــرى ميـاً لــدى الشــعوب العربيــة إلــى التدافــع الطائفــي ‪.‬‬ ‫فقدم ـوا أرواحهــم فــداء لذلــك‪ .‬ويظهــر أن التشـ ّـيع‬ ‫أعتقــد أن هــذا مــا تشـ ّـك َل فــي عقــول فقهائنــا الثالثــة‪ ،‬وعمل ـوا علــى تحقيقــه‪ّ ،‬‬ ‫عنــد فقهائنــا الثالثــة‪ ،‬وكمــا قــال اإلمــام المغيــب موســى الصــدر هــو «رؤيــة وســلوك» و»اجتهــادات ومواقــف»‪ ،‬وليــس مشــروع‬ ‫‪33‬‬ ‫ـدل علــى ذلــك أكثــر‪ ،‬وثيقــة حــزب هللا األخي ـرة‪ .‬فلنعمــل ســوياً‬ ‫ســلطة أو دولــة مســتقلة‪ ،‬عــن منظومــة األمــة أو الوطــن ‪ .‬وتـ ّ‬ ‫‪3 1‬‬ ‫‪ 32‬‬ ‫‪ 33‬‬

‫م‪.‬ن‪.‬‬ ‫مجلة المستقبل العربي‪ ،‬عدد ‪ ،364‬حزيران ‪ ،2006‬بحث نيفين مسعد‪ ،‬ص‪.76‬‬ ‫راجع الشيخ حسن الصفّار‪ :‬المشكل الطائفي والمسؤولية الوطنية‪ ،‬دار االنتشار العربي‪ ،‬ط‪ ،2‬سنة ‪ ،2009‬ص‪.32‬‬


‫وإرســاله إلــى األميــر لالســتعانة علــى نشــر الشـريعة بيــن أتباعــه‪ .23‬فهــل هنــاك أكثــر انتمــاء ووطنيــة مــن هــذا الموقــف؟‬

‫‪ -8‬اإلمامية والعمالة‪ :‬مقالة ممّلة‪:‬‬ ‫مــا أشــبه اليــوم بالبارحة‪،‬هــل يعيــد التاريــخ نفســه؟ فهــذه الطائفــة اإلماميــة اليــوم فــي لبنــان‪ ،‬تقاتــل وتستشــهد مــن أجــل الوطــن‪،‬‬ ‫وحرصـاً منهــا علــى انتمائهــا الوطنــي‪ ،‬ومــع ذلــك نجــد أصواتــا عاليــة تتهمهــا بالخيانــة والعمالــة إليـران وســوريا‪ ،‬وتخــدش انتماءهــا‬ ‫المغيــب موســى الصــدر قــد ُعرضــت عليــه ســابقاً‪ ،‬صفقــة التعامــل مــع‬ ‫وممــا يجــدر ذكـره فــي هــذا المقــام ‪ ،‬أن اإلمــام‬ ‫ّ‬ ‫الوطنــي‪ّ .‬‬ ‫صــد بذلــك تعــاون الموارنــة‪ ،‬والشــيعة‪ ،‬وإس ـرائيل باعتبارهــم مــن األقليــات فــي الوطــن‬ ‫إس ـرائيل‪ ،‬علــى قاعــدة ّ‬ ‫توحــد األقليــات ُ‬ ‫(يْق َ‬ ‫العربــي)‪ ،‬والصفقــة تقتضــي أن تعيــش الطائفــة الشــيعية بأمــن وســام‪ ،‬مقابــل هــذا التعــاون‪ .‬ولقــد وجدنــا اإلمــام الصــدر يرفــض‬ ‫يتشــدق اليــوم بالوطنيــة واالســتقالل)‪ ،‬ويجيــب الســائل‪ ،‬أن اإلمــام الحســين(ع) منــذ مــا‬ ‫هــذه الصفقــة (علــى عكــس غي ـره ممــن ّ‬ ‫وفضــل اإلمــام(ع) طريــق الك ارمــة‬ ‫يقــرب مــن ‪ 1400‬ســنة‪ ،‬عّلمنــا أن فــي الحيــاة طريقيــن‪ :‬طريــق الســامة وطريــق الك ارمــة‪ّ .‬‬ ‫علــى الســامة‪ ،‬ونحــن نســير علــى خطــاه‪.24‬‬

‫‪ -9‬الشهيد الثاني وَقُبول اآلخر‪:‬‬

‫ومهمــا يكــن مــن أمر‪،‬وباالنتقــال ألــى ســيرة الشــهيد الثانــي (ت‪965‬هــ)‪ ،‬وبعــد مــرور مــا يقــارب مــن القرنيــن مــن الزمــن‪ ،‬نجــد‬ ‫الســيرة ذاتهــا فــي التعاطــي مــع قضايــا الوطــن وهمــوم النــاس‪ .‬فالشــهيد الثانــي‪ ،‬ورداً علــى سـؤال مــن أحــد أتباعــه يتعّلــق بالصــاة‬ ‫نصــه‪« :‬وأمــا الصــاة خلــف المخالــف ففيهــا ثــواب عظيــم‪ ،‬بــل هــي أفضــل‬ ‫خلــف المخالــف لــه فــي المذهــب‪ ،‬أجا‪25‬بــه مــا ّ‬ ‫وأكثــر ثوابـاً مــن جماعــة المؤمنيــن» ! هــذه دعــوة إلــى التعايــش وَقُبــول اآلخــر‪ .‬ونجــد الشــهيد الثانــي ورداً علــى سـؤال‪ ،‬يجيــز‬ ‫المقاضــاة عنــد قاضــي الجــور‪ .26‬فليســت هــذه األجوبــة وغيرهــا ّإال دعــوة إلــى االنتمــاء والعيــش بســام مــع أفـراد الوطــن الواحــد‪،‬‬ ‫العقديــة الخاصــة بمذهبــه‪ ،‬يحــاول تخفيــف مدلوالتهــا للتناســب مــع العيــش المشــترك‪.‬‬ ‫بــل نــرى الشــهيد الثانــي‪ ،‬حتــى فــي المســائل‬ ‫ّ‬ ‫‪27‬‬ ‫نـراه عندمــا ُيســأل عــن الناصبــي‪ ،‬فيحصـره الشــهيد بمــن أعلــن العــداوة ألحــد األئمــة(ع)‪ ،‬ال مــن يجحــد إمامتهــم ‪ .‬ويعلــق بعــد‬ ‫نصــه‪« :‬وعلــى هــذا فالناصبــي قليــل الوجــود فــي الدنيــا»‪.28‬‬ ‫ذلــك مــا ّ‬ ‫هــذا درس عملــي فــي التقريــب والتعايــش الســلمي وَقُبــول اآلخــر والوفــاق‪ .‬فتفريــق الشــهيد بيــن «عــداوة األئمــة»‪ ،‬و»االعتـراف‬ ‫ّ‬ ‫بإمامتهــم»‪ ،‬وتقري ـره بــأن المعــادي لألئمــة(ع) – قليــل الوجــود فــي دنيــاه‪ ،‬لهــو «نهــج تأسيســي للعيــش المشــترك‪ ،‬والوفــاق‬ ‫الوطنــي»‪.‬‬ ‫ف عنــه التدريــس فــي المدرســة النورّيــة فــي بعلبــك‪ ،29‬الفقــه علــى‬ ‫وليــس هــذا بالغريــب عــن نهــج الشــهيد الثانــي‪ ،‬وهــو ممــن ُعـ ِـر َ‬ ‫المذاهــب الخمســة‪ ،‬فــكان ُيفتــي لــكل مذهــب علــى مذهبــه‪.‬‬ ‫ـب أهَلهــا علــى اختــاف‬ ‫نفســه هــذه المرحلـ َة مــن حياتــه بأنهــا ّأيــام « ميمونــة وأوقــات بهجــة»‪ ،30‬وأنــه‬ ‫بــل وصــف الشـ ُ‬ ‫«صاحـ َ‬ ‫َ‬ ‫ـهيد ُ‬

‫هــذا التحليــل ال يقبلــه البعــض‪ ،‬بــل يذهــب إلــى أن الشــهيد األول لــم يكــن علــى عالقــة بالســلطة‪ ،‬بمعنــى أن عملــه كان فرديـا ً وخــارج‬ ‫‪ 23‬‬ ‫ســياق الســلطة الحاكمــة‪ .‬وأظــن أن هــذا الميــل هــو جنــوح فــي الحكــم‪ ،‬وبعيــد عــن واقعيــة األحــداث‪ .‬راجــع حــول هــذا الموضــوع وســيرة الشــهيد‬ ‫عامــة‪ :‬ســتة فقهــاء أبطــال للشــيخ جعفــر المهاجــر؛ وأيض ـا ً كتــاب المؤسســة الدينيــة الشــيعية للدكتــور جــودت القزوينــي؛ ومجموعــة مقــاالت‬ ‫المؤتمــر العالمــي للشــهيدين وتحديــدا ً مقــال الصديــق الدكتــور يوســف طباجــة‪ .‬الصــادر عــن مركــز العلــوم والثقافــة اإلســامية‪ ،‬قــم‪ ،‬ط‪ ،1‬ســنة‬ ‫‪ ،2009‬وغيرهــا الكثيــر مــن الدراســات‪.‬‬ ‫ـا عــن أن اإلمــام الصــدر يبيــن للســائل الهــدف مــن هــذا العــرض‪ ،‬وهــو إشــعال فتنــة ســنيّة وشــيعية ً‬ ‫فضـ ً‬ ‫أوال‪ ،‬ومــن ثــم االســتعانة‬ ‫‪ 24‬‬ ‫ُ‬ ‫بالشــباب الشــيعي للقضــاء علــى الســاح الفلســطيني فــي وقتــه‪ .‬راجــع نــص الســؤال الــذي طــرح علــى اإلمــام فــي ليبيــا وفــي آخــر مؤتمــر‬ ‫صحفــي لــه قبــل غيابــه واختطافــه مــن النظــام الليبــي‪ .‬والحــظ جــواب اإلمــام الصــدر عليــه‪ .‬راجــع موســوعة اإلمــام موســى الصــدر‪ ،‬ســنة‬ ‫‪.1978‬‬ ‫رسائل الشهيد الثاني‪ ،‬صادرة عن مركز األبحاث والدراسات اإلسالمية‪ ،‬قم‪ ،‬ط‪ ،1‬سنة ‪1421‬ق‪ ،‬ج‪.585 /1‬‬ ‫‪ 25‬‬ ‫م‪.‬ن‪.589/1 .‬‬ ‫‪ 26‬‬ ‫م‪.‬ن‪.592/1 .‬‬ ‫‪ 27‬‬ ‫م‪.‬ن‪.‬‬ ‫‪ 28‬‬ ‫ومــا زالــت آثــار هــذه المدرســة فــي مدينــة بعلبــك‪ ،‬وهــي خربــة‪ ،‬ولطالمــا تمنينــا أن يعــاد ترميــم هــذه المدرســة‪ ،‬وأن تحمــل اســم‬ ‫‪ 29‬‬ ‫الشــهيد الثانــي عليهــا‪ ،‬بــل تحمــل نهجــه التقريبــي‪ ،‬آمــاً فــي المســتقبل القريــب ترميــم هــذه المدرســة وتحقيــق حلــم الشــهيد فــي التقريــب‪.‬‬ ‫علي بن محمد العاملي‪ :‬الدر المنثور‪ ،‬ج‪.182/2‬‬ ‫‪ 30‬‬


‫همــه‬ ‫وبهمــه‪ ،‬أصبــح فــي موقعيــة ّ‬ ‫متقدمــة‪ ،‬واســتطاع أن يخــدم ّ‬ ‫علــى ترســيخ الهـ ّـم الوطنـ‪34‬ـي‪ ،‬ألنــه كلمــا ارتقــى اإلنســان بطرحــه‪ّ ،‬‬ ‫الخــاص خدمــة أفضــل ‪.‬‬ ‫الوراق دولته»‪.‬‬ ‫ولقد صدق من قال‪« :‬إذا كان المدفع قد انتزع من سيف البطل صولته‪ ،‬فإن المطبعة انتزعت من قلم ّ‬ ‫رب العالمين‪.‬‬ ‫والحمد هلل ّ‬ ‫أستاذ في الجامعة اللبنانية‪.‬‬

‫‪ 34‬‬

‫موسوعة اإلمام موسى الصدر‪ ،‬محاضرات في العقيدة‪ ،‬ج‪ ،11‬ص‪.155‬‬




‫«التصوير الفني للقصة القرآنية»(قصة س ّيدنا نوح(ع)‬ ‫( دراسة رسدية )‬

‫مظهر مقدمي فر‪ /1‬عبدالحميد احمدي‪ /2‬حمريا حميدی‬

‫‪3‬‬

‫امللخص‬ ‫يقــص القــرآن الكريــم علينــا القصــص ألغــراض دين ّيــة‪ ،‬وذلــك ال مينــع وجــود الخصائــص الفن ّيــة التــي ينبغــي توافرهــا يف تلــك القصــص‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫القصــة‪ ،‬إذ ال وجــود‬ ‫ـاء‬ ‫ـ‬ ‫بن‬ ‫يف‬ ‫ـه‬ ‫ـ‬ ‫ّي‬ ‫د‬ ‫تؤ‬ ‫ـذي‬ ‫ـ‬ ‫ال‬ ‫ـوي‬ ‫ـ‬ ‫والحي‬ ‫ـر‬ ‫ـ‬ ‫الكب‬ ‫ـدور‬ ‫ـ‬ ‫ال‬ ‫إىل‬ ‫ً‬ ‫ا‬ ‫ر‬ ‫ـ‬ ‫نظ‬ ‫ـي‪،‬‬ ‫ـ‬ ‫القص‬ ‫ـاء‬ ‫ـ‬ ‫البن‬ ‫ـا‬ ‫ـ‬ ‫عليه‬ ‫ـض‬ ‫ـ‬ ‫ينه‬ ‫ـي‬ ‫ـ‬ ‫الت‬ ‫ـارص‬ ‫ـ‬ ‫العن‬ ‫ـم‬ ‫ـ‬ ‫أه‬ ‫ـن‬ ‫ـ‬ ‫م‬ ‫ة‬ ‫ي‬ ‫ـخص‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫فالشـ ّ‬ ‫القصــة وتطويــر شــخص ّياتها صلــة وثيقــة مبــا يســمي بالفضــاء‬ ‫للقصــة مــن غــر شــخص ّيات تتحـ ّرك ومتــارس الــدور املرســوم لهــا؛ ولتصويــر أحــداث ّ‬ ‫ّ‬ ‫القصــة هــو املســاحة‬ ‫بشــقيه‪ :‬الزمــان واملــكان؛ فمــن خــال دراســة املــكان تتكشّ ــف أوضــاع املجتمعــات وأوضــاع البــر ونفس ـ ّياتهم‪ .‬فاملــكان يف ّ‬ ‫التــي تفصــل الشــخص ّيات بعضهــا عــن بعــض‪ ،‬وهــو الــذي يفصــل بــن القــارىء وعــامل الروايــة‪ ،‬هــذه املســاحة هــي التــي تنتقــل بالقــارىء إىل عــوامل‬ ‫ـم الرتکيــز يف دراســته علــی عالقــات الرتتيــب و عالقــات الدميومــة؛‬ ‫القصــة وقــد تـ ّ‬ ‫مختلفــة وأماكنــ متن ّوعــة‪ .‬والزمنــ کذلـ�ك مــن املک ّونــات األساســية يف ّ‬ ‫وهنـ�اك عناــرص أخــری کالحــوار والـراع والحبکــة بحيــث الميکــن أن تســتعرض جميعهــا يف مقالــة واحــدة وعــى هــذا االســاس اقترصنــا علــی ثنائيــة‬ ‫للقصــة القرآنيــة التــي طاملــا وصفــت‬ ‫ـم مــن القيمــة األدبيــة ّ‬ ‫ـم الکشــف عــن جانــب مهـ ّ‬ ‫(الشــخص ّية‪ ،‬والفضــاء أي الزمــان‪ ،‬واملــکان)؛ فمــن خاللهــا يتـ ّ‬ ‫بأنهــا ق ّمــة يف البيــان واإلبــداع األديب‪ ،‬تث ّقــف العقــل بالحکمــة وتــر ّوح عــن النفــس بجاملهــا‪.‬‬ ‫الكلامت الرئيسة‪ :‬القصة القرآنية‪ ،‬قصة نوح (ع)‪ ،‬الشخصيات‪ ،‬املکان‪ ،‬الزمن‪ ،‬عالقات الرتتيب‪ ،‬عالقات الدميومة‪.‬‬

‫‪ -1‬املقدمة‬ ‫إنّ منهــج الق َ​َصـ ِ‬ ‫ـص القــرآين قائــم عــى الحـ ّـق‪ ،‬ودراســة تلــك القصــص تصلــح ألن تکــون منطلقـاً صحيحـاً إىل دراســات إســام ّية‪ .‬ومــن القصــص‬ ‫قص��ة سـ� ّيدنا نــوح فه�وـ أول م��ن سـ�لك يف طري��ق الدعـ�وة إىل الل��ه مختل��ف األساــليب والوســائل الدعويــة يف اإلقنـ�اع‬ ‫الت��ي اعتن�یـ به��ا القرــآن ّ‬ ‫والتأث�ير ع�لى دح��ض شُ بـ َـ ِه قومـ�ه‪ ،‬ودفــع افرتاءاته��م باألدل��ة القاطعــة‪.‬‬ ‫بالقصـ�ة‪ ،‬ويتح ّقـ�ق ذلك مــن خــال‬ ‫القصـ�ة البـ�دّ مـ�ن االعتـماد علـ�ی الرسديّـ�ة (ناراتولوجـ�ي) منهجـ�اً أي املنهـ�ج البنيـ�وي الخـ�اص ّ‬ ‫ويف دراسـ�ة ّ‬ ‫للقصــة‪ ،‬ومثالهــا الوظائفــي‪ ،‬وأمنــاط الشــخص ّيات فيهــا‪ ،‬وبنيــة الزمــان‪ ،‬وبنيــة املــکان‪.‬‬ ‫فحــص مک ّونــات البنيــة الرسديّــة ّ‬ ‫املفسيــن والعلــاء توافقــوا‬ ‫القصـ�ة القرآني��ة تج��در اإلشـ�ارة إلــی أنّ الذي��ن ألّفــوا يف موضــوع ّ‬ ‫وفي�ما يتعلّ��ق بالدراس��ات الس��ابقة ع��ن ّ‬ ‫القصــة مــن ّ‬ ‫عــى منهــج واحــد‪ ،‬واعتمــدوا طريقــة واحــدة هــي اتّبــاع ترتيــب املصحــف دون مراعــاة خصائصهــا وطبيعتهــا ومم ّيزاتهــا‪ .‬وهــذا املنهــج ال يفــي‬ ‫القصــة حقّهــا لجهــة املبنــى واملعنــى‪ ،‬وعســی أن يكــون وصفنــا للــرد القــرآين منطلقـاً يوضّ ــح جانبـاً مــن جامل ّيــات أســلوبه‪ .‬وأ ّمــا عملنــا هــذا يف‬ ‫ّ‬ ‫القصــة القرآن ّيــة‪ ،‬فهــو ليــس بدع ـاً‪ ،‬بــل مســاي ٌر ألطروحــات جامع ّيــة ‪ ،‬وملؤلّفــات مشــهورة‪ ،‬منهــا كتــاب التصويــر الف ّنــي يف القــرآن لس ـ ّيد‬ ‫مجــال ّ‬ ‫القصــة يف القــرآن للتهامــي نقــرة؛ إال أنّ مــا ميِ ّيــز هــذه الدراســة هــو‬ ‫قطــب‪ ،‬والتعبــر الف ّنــي يف القــرآن لبكــري شــيخ أمــن‪ ،‬ثــم كتــاب ســيكولوج ّية ّ‬ ‫قصــة نــوح‪ ،‬عليــه الســام‪ ،‬مــن خــال التمرکــز علــی دراســة ثنائيــة (الشــخصية‪ ،‬والفضــاء) بأبعادهــا الف ّنيــة‬ ‫ـم الرتکيــز علــی ّ‬ ‫التخصيــص‪ ،‬حيــث تـ ّ‬ ‫ـم العنــارص يف دراســة القصــة‪.‬‬ ‫املختلفــة‪ ،‬وهــا مــن أهـ ّ‬

‫القصة القرآن ّية‪:‬‬ ‫‪ - 2‬خصائص ّ‬ ‫القصــة عمــل فنــي قائــم عــى بنــاء خــاص‪ ،‬يخلــق كاتبهــا حدث ـاً أو أكــر‪ ،‬وقــد يكــون مــن الواقــع أو مــن نســج خيالــه‪ ،‬وقــد يكشــف عــن‬ ‫إن ّ‬ ‫آثــار مضــت وأحــداث حصلــت‪ ،‬والغايــة مــن ذلــك إعــادة عرضهــا مــن جديــد لتذكــر النــاس بهــا ولفــت أنظارهــم اليهــا‪ ،‬لتكــون العــرة والعظــة‪.‬‬ ‫(الشــعراوي‪2000 ،‬م‪ )5 :‬وهــي تتنــاول حادثــة أو حــوادث تتعلّــق بشــخص ّيات إنســان ّية‪ ،‬تُقــدّ م عــر لغــة تعتمــد الــرد أو الحــوار أو الوصــف‬ ‫القــاص؛ إنّهــا عــامل جميــل بلغتهــا وشــخص ّياتها وأزمانهــا وأمکنتهــا‬ ‫أو عــر هــذه األســس مجتمعــة‪ ،‬متض ّمنــة هدفــاً فكريّــاً يكشــف عــن فكــر‬ ‫ّ‬ ‫وأحداثها(مرتــاض‪1998 ،‬م‪.)7 :‬‬ ‫فالقصــة القرآن ّيــة کغريهــا مــن القصــص تعتمــد علــی املک ّونــات الف ّنيــة للقصــة إال أن ّهــا تتم ّيــز عنهــا بخل ّوهــا مــن الخيــال واألســطورة يف تكوينهــا؛‬ ‫ّ‬ ‫ـم الكثــر مــن مبــادىء الصــر والعطــاء واملح ّبــة والثبــات عــى الحــق‪( .‬الشــعراوي‪2000 ،‬م‪:‬‬ ‫فأخبــار القــرآن وثائــق تحمــل العــر واملواعــظ‪ .‬وهــي تُ َعلِّـ ُ‬ ‫قصــة إال ليواجــه بهــا حــاالً‪ ،‬وال يقـ ّرر حقيقــة إال ليغـ ّـر بهــا باطـاً‪ ،‬فهــو يتحـ ّرك حركــة واقع ّيــة ح ّيــة يف وســط واقعــي حــي‪ ،‬إنــه‬ ‫ـص ّ‬ ‫‪ )5‬فالقــرآن ال يقـ ّ‬

‫ ‪1‬‬ ‫‪ 2‬‬ ‫‪ 3‬‬

‫الربيد االلكرتوين‪mazhar_2007_m@yahoo.com:‬‬

‫∗ ‪ .‬خريج مرحلة الدکتوراه من اجلامعة اإلسالمية بلبنان‪.‬‬ ‫∗∗ ‪ .‬استاذ مساعد جبامعة زابل‪.‬‬ ‫∗∗∗ ‪ .‬طالبة املاجستري يف اللغة العربية ابجلامعة احلرة اإلسالمية‪.‬‬


‫ـم أَ َرا ِذ ُل َنــا بَــا ِد َي الـ َّرأْ ِي ﴾( هــود‪ .)27 /‬يظهــر أنّ هــؤالء الك ّفــار أنــاس متكـ ّـرون متشـ ّبثون برأيهــم‪ ،‬يرفضــون ح ّتــى‬ ‫َو َمــا نَـ َراكَ اتَّ َب َعــكَ ِإالَّ ا َّل ِذيـ َن ُهـ ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫صوا َو ْاسـ َتك َ ُْبوا ْاسـ ِتكْ َباراً ﴾ (‬ ‫ـم َو ْاس َتغْشَ ـ ْوا ثِ َيابَ ُهـ ْ‬ ‫ـم ِف آ َذانِ ِهـ ْ‬ ‫ـم َج َعلُواأ َصا ِب َع ُهـ ْ‬ ‫ـم لِ َت ْغ ِفـ َر لَ ُهـ ْ‬ ‫حــوار نــوح‪ ،‬وأيّــة محاولــة لإلقنــاع ﴿ َوإِ ِّن كُلَّـ َـا َد َع ْوتُ ُهـ ْ‬ ‫ـم َوأ َ ُّ‬ ‫تكبهــم ‪ ،‬وهــذا مــا ال يتوافــق مــع رغباتهــم التــي يحرصــون عليهــا‪.‬‬ ‫نــوح‪ .)7 /‬إنّ إميانهــم باللــه يلغــي اســتضعافهم للنــاس‪ ،‬ويقــي عــى ّ‬ ‫قصة نوح(ع)‪:‬‬ ‫‪ -2- 3‬االشتغال العاميل يف ّ‬ ‫املقصــود مــن االشــتغال العامــي توظيــف العوامــل التــي تشــكل األدوار العامليــة ملســار رسدي؛ فــاألدوار العامليــة ســتة‪ :‬ذات‪ ،‬وموضــوع‪ ،‬ومرســل‪،‬‬ ‫ومرســل إليــه‪ ،‬ومســاعد‪ ،‬ومعيــق أو منــاوئ‪ .‬والــذات الفاعلــة تتحــدد يف عالقتهــا باملوضــوع مــن خــال محــور الرغبــة‪ ،‬الــذي يــدل علــی توفــر جهــة‬ ‫اإلرادة عنــد العامــل بالــذات‪ ،‬وعــى رغبــة الــذات يف االتصــال باملوضــوع‪ .‬هــذه الرغبــة يف قصــة نــوح والتــي تجلّــت يف الدعــوة إلــی اللــه اصطدمــت‬ ‫بقـ ّوة كبــار القــوم وبــزوج ســيدنا نــوح(ع) وولــده الــذي قــال اللــه فيــه إنــه ليــس مــن أهلــه‪ ،‬وكذلــك بقدرتهــم عــى التأثــر يف اآلخريــن‪ ،‬لذلــك مل‬ ‫يســتطع ســيدنا نــوح(ع) نــر دعوتــه كــا كان يطمــح؛ فــكان هــؤالء هــم العامــل املنــاوئ أو املعيــق‪ .‬وهــذا مــا اقرتحــه غرميــاس (‪ )Greimas‬يف‬ ‫تصنيفــه للشــخص ّية بحســب مــا تفعــل ( زراقــط‪1999 ،‬م‪ .)271 /1 :‬وباملقابــل‪ ،‬تح ّقــق الرغبــة حاجــة لــدى عامــل آخــر يســميه غرميــاس« العامــل‬ ‫املرســل اليــه»( املصــدر الســابق‪ .)271 :‬وعالقــة ِ‬ ‫باملرســل اليــه متـ ّر عــر عالقــة اإلبــاغ (أيــوب‪1997 ،‬م‪ .)116 :‬ظهــر العامــل املرســل يف إميــان‬ ‫املرســل َ‬ ‫َ‬ ‫ـكل مــا أويت مــن قـ ّوة لتبليــغ هــذه الرســالة‪ .‬باملقابــل كان املرســل اليــه وهــم قومــه الذيــن‬ ‫نــوح(ع) بالرســالة التــي كلّفــه اللــه القيــام بهــا‪ ،‬وســعيه بـ ّ‬ ‫رصفاتهــم معــه العامــل املنــاوئ الــذي يعمــل دامئ ـاً عــى عرقلــة الــذات الســاعية (أيــوب‪1997 ،‬م‪:‬‬ ‫رفضــوا دعوتــه ووقفــوا يف وجهــه‪ ،‬فكانــوا يف ت ّ‬ ‫‪ .)116‬يقابــل هــذا العنــر املنــاوئ العنــر املســاعد وهــو نبــوة نــوح(ع) ووحــي اللــه لــه وهــذا مــا جعلــه مســتقيام وثابــت الجنــان يف مواجهتهــم‪،‬‬ ‫والعالقــة بــن العنــر املســاعد واملعيــق متـ ّر عــر عالقــة الـراع‪..‬‬ ‫أه��م الرغباــت الت�يـ تجلّتــ يف قصةــ ن��وح‪ :‬أ‪ -‬الرغبــة يف الثــورة عــى الفســاد‪ .‬ب‪-‬‬ ‫‪ -3 -3‬مصاديقــ الرغب��ات يف عالق��ة الــذات باملوض��وع م��ن ّ‬ ‫رغبــة الطاعــة واالنصيــاع ألوامــر اللــه‪ .‬ج‪ -‬الرغبــة يف إعــادة املجتمــع إىل أصالتــه‪.‬‬ ‫‪ -1-3-3‬الرغبــة يف الث�وـرة ع�لى الفس�اـد‪ :‬الجديــر بالتأ ّمــل أنّ نوحـاً(ع) كان عنــده رغبــة يف الثــورة عــى الفســاد واالنقــاب عــى مــا اعتــاد عليــه‬ ‫النــاس مــن عــادات سـ ّيئة تتنــاىف مــع القيــم اإلنســان ّية‪ ،‬فقــد كان نــوح يرغــب يف تكويــن عقيــدة تقــف عائقـاً بــن النــاس وبــن الطغيــان والظلــم‬ ‫واالنحــال الخلقــي والكفــر باللــه‪ .‬هــذه الرغبــة ســاعدتها شــخص ّية نــوح(ع) وإميانــه ورغبتــه يف طاعــة ر ّبــه وتنفيــذ أوامــره‪ ،‬فاتّحــدت الرغبتــان‬ ‫معـاً‪ ،‬رغبــة الثــورة عــى الفســاد والرغبــة يف الطاعــة لتأديــة أمــل وهــدف تســعى اليــه الشــخص ّية الريئســة يف القصــة‪ .‬ونــوح(ع) كان رجـاً طاهــر‬ ‫القلــب مؤمنـاً‪ ،‬لذلــك اختــاره اللــه لرســالته‪ ،‬ليهــدي قومــه إىل عبــادة ر ّبــه‪ ،‬ألنّــه وجــد فيــه مق ّومــات الهدايــة مــن شــخص ّية قو ّيــة وح ّجــة دامغــة‬ ‫ـم﴾‬ ‫ـم ِمـ ْن ُذنُو ِبكُـ ْ‬ ‫لإلقنــاع وقــدرة عــى الحــوار‪ ،‬فــكان دامئـاً يربــط بــن مــا يدعوهــم اليــه‪ ،‬يقــول تعــاىل ﴿أَنِ ا ْع ُبــدُ وا اللَّــهَ َواتَّ ُقــو ُه َوأَ ِطي ُعــونِ َي ْغ ِفـ ْر لَكُـ ْ‬ ‫ـم نَ ِذيـ ٌر ُم ِبـ ٌن أَنْ َل تَ ْع ُبــدُ وا إِ َّل اللَّــهَ إِ ِّن‬ ‫( نــوح‪ .)4-3/ ،‬وقــد تكــون النتيجــة عــدم االســتجابة أحيانـاً أخــرى ﴿ َولَ َقــدْ أَ ْر َسـلْ َنا نوحـاً إىل َق ْو ِمـ ِه إِ ِّن لَكُـ ْ‬ ‫اب َيـ ْو ٍم اليــم﴾( هــود‪ .)26-25/‬هــذه الرغبــة دفعــت بنــو ٍح إىل التفــاين يف محاولــة هدايــة قومــه‪ ،‬فــكان يدعوهــم ليـاً ونهــاراً‬ ‫أَ َخـ ُ‬ ‫ـاف عليكُـ ْ‬ ‫ـم َعـ َذ َ‬ ‫رساً وعالنيــة ﴿ َقـ َ‬ ‫ـال َر ِّب إِ ِّن َد َعـ ْو ُت َق ْو ِمــي لَ ْيـ ًـا َونَ َهــاراً﴾( نــوح‪ .)5/‬وكان يلقــى العــذاب يف ســبيل دعوتــه وال يرتاجــع‪ .‬ويف هــذا يقــول ابــن اســحق‪:‬‬ ‫و ّ‬ ‫«إنّ قــوم نــوح(ع) كانــو يبطشــون بــه فيحتنقونــه فــإذا أفــاق قــال‪ :‬اللهــم اغفــر يل ولقومي»(كامــل‪1970 ،‬م‪ .)47 :‬فموضــوع الرغبــة يف التغيــر عنــد‬ ‫ســيدنا نــوح(ع) جعــل الفق ـراء وصغــار القــوم يقفــون إىل جانبــه ويؤمنــون معــه‪ ،‬فكانــوا عام ـاً مســاعداً للشــخص ّية األساس ـ ّية؛ نقــل اللــه تعــاىل‬ ‫ـم أَ َرا ِذلُ َنــا بَــا ِد َي ال ـ َّرأْ ِي ﴾ ( هــود ‪ .)27 /‬وشــخص ّية ســيدنا نــوح(ع)‬ ‫قولــه لكبــار قومه﴿مــا نَ ـ َراكَ إِالَّ بَـ َ‬ ‫ـراً ِّم ْثلَ َنــا َو َمــا نَ ـ َراكَ اتَّ َب َعــكَ إِالَّ الَّ ِذي ـ َن ُهـ ْ‬ ‫كانــت الشــخص ّية املثال ّيــة‪ ،‬ألنــه تجــاوز نفســه إىل املجتمــع‪ ،‬فقضايــا املجتمــع وهمومــه هــي قضايــاه‪ ،‬وأحالمــه يف التغيــر كانــت مــن أجــل املجتمــع‬ ‫وخالص��ه م��ن الفس��اد‪.‬‬ ‫قصــة ســيدنا نــوح(ع) مــع بدايــة بعثتــه نب ّي ـاً‪ ،‬فــإذا بــه أمــام جامعــة مــن قومــه‬ ‫‪ -2-3-3‬الرغب��ة يف الطاعــة والحص��ول عـلى رىض اللهــ‪ :‬تبــدأ ّ‬ ‫ينكــرون مــا أىت بــه‪ ،‬وهــذا اإلنــكار كان دافعـاً كبـراً لــه يك يتفــاىن يف ســبيل دعوتــه‪ .‬فنــوح(ع) كان يقــوم مبــا يقــوي بــه ســبيل تلــك الدعــوة‪ ،‬ويتح ّمــل‬ ‫ر والعالنيــة‬ ‫الكثــر مــن الشــقاء والعــذاب إرضــاء للــه ع ـ ّز وجــل‪ ،‬فحــاول باإلقنــاع والرتغيــب فلــم يســتجيبوا‪ ،‬ثــم ج ـ ّرب بطــرق أخــرى منهــا ال ـ ّ‬ ‫ِ‬ ‫ـف َخلَـ َـق اللَّــهُ َسـ ْب َع َسـ َـا َو ٍ‬ ‫ات ِط َبا ًقــا َو َج َعـ َـل الْ َق َمـ َر في ِهـ َّن‬ ‫وجـ ّرب يف ّ‬ ‫ـم تَـ َر ْوا كَ ْيـ َ‬ ‫كل األوقــات ليـاً ونهــاراً واعتمــد العقــل واملنطــق يف دعوتــه‪ ﴿،‬أَلَـ ْ‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫سا ًجــا﴾( نــوح‪ .)15-14/‬وبعدمــا يئــس لجــأ إىل اللــه ودعــاه﴿ َو َقـ َ‬ ‫ـال نــوح َر ِّب َل تَ ـ َذ ْر عــى ْال ْر ِض م ـ َن الْكَافرِي ـ َن َديَّــا ًرا﴾(‬ ‫نُــو ًرا َو َج َعـ َـل الشَّ ـ ْم َس َ‬ ‫نــوح‪ .)26/‬وهــذا تحـ ّول يف شــخصية نــوح(ع)؛ ســاعده يف ذلــك شــخص ّيته القويّــة‪ ،‬وصــره ورباطــة جأشــه وقدرتــه عــى التح ّمــل‪ ،‬وتوجيــه اللــه لــه‬ ‫ووحيــه اليــه‪.‬‬ ‫قصــة الطوفــان أنّ ســيدنا نــوح(ع) كان صاحــب نظــرة إنســان ّية‪ ،‬فلـ ّـا رأى مــا رآه مــن‬ ‫‪ -3-3-3‬الرغبــة يف إع��ادة املجتم�عـ إىل أصالتـ�ه‪ :‬الالفــت يف ّ‬ ‫فســاد وتحـ ّول يف املجتمــع‪ ،‬اندفــع بأمــر مــن اللــه إىل التغيــر‪ ،‬وملّــا رأى أنّ األصــل يف اإلنســان أن يكــون مخلوقـاً ذا بعــد إنســاين بعيــد مــن الفســاد‬ ‫والظلــم‪ ،‬وقــف وحيــداً يطالــب رجــال القــوم بالعــودة إىل الفطــرة الســليمة ومحاربــة الفســاد‪ ،‬ومــع أنّــه يعلــم أن كبــار القــوم ســرفضونه ويرفضــون‬ ‫فكــره‪ ،‬وأنّ قلّــة مــن الفقـراء يقفــون إىل جانبــه‪ ،‬إال أنــه اســتم ّر يف دعوتــه يســاعده يف ذلــك إميانــه بــأنّ اللــه ســينرصه يف آخــر األمــر وإميانــه بــأنّ‬ ‫ـتحق كل العــذاب والتنكيــل يف ســبيله‪ ،‬ح ّتــى ولــو كلّفــه ذلــك حياتــه وخســارة األقربــن اليــه؛ ولذلــك فقــد خــر ولــده الــذي‬ ‫مــا يدعــو اليــه يسـ ّ‬ ‫وكل َمــن مل يؤمــن مــن أهلــه‪ .‬وال بــدّ مــن اإلشــارة إىل أنّ نوحـاً(ع) مل يلجــأ يف دعوتــه إىل القـ ّوة ودعــا قومــه بالتــي هــي‬ ‫مل يؤمــن‪ ،‬وخــر زوجــه ّ‬


‫ـص قصصــه ملجــرد االمتــاع الفنــي‪ (.‬قطــب‪1995 ،‬م‪ )1247 /3 :‬ب��ل قصص��ه هادف��ة تجم��ع إىل جـلال‬ ‫ال يق ـ ّرر حقائقــه ملج ـ ّرد النظــر املجــرد وال يقـ ّ‬ ‫املوضــوع صــدق الهــدف و روعـ�ة املعنــى‪ ،‬وجــال التعبــر‪ ،‬وق�وـة التأثــر‪ ،‬إنهـ�ا تأخـ�ذ مبجامـ�ع القلوــب‪ ،‬وتستــويل عـلى األلبــاب والعقـ�ول؛ فهـ�ي‬ ‫القصــة لجميــع أنــواع الرتبيــة‬ ‫ليسـ�ت ملجــرد التسلــية واالســتمتاع‪ ،‬وإمنـ�ا لتحقيـ�ق أهدــاف علميـ�ة وفكريـ�ة وتربويـ�ة ودعويـ�ة‪« .‬فالقــرآن يســتخدم ّ‬ ‫والتوجيـ�ه الت��ي يش��ملها منهجــه الرتب�وـي »( قطــب‪2002 ،‬م‪.)193 :‬‬ ‫وكل الوقائــع واألحــداث التــي حدثــت وجــاءت فيهــا صحيحــة تاريخي ـاً‪ ،‬ال‬ ‫فالقصــص القرآنيــة لهــا أبعادهــا الخاصــة فهــي حافلــة بالتاريــخ‪ّ ،‬‬ ‫يداخلهــا شــكّ أو وهــم‪ .‬والقــرآن يــروي أحداثــا ليــس لــدى التاريخــي علــم بهــا‪ .‬وقــد وعــى التاريــخ بعــض األحــداث‪ ،‬إال أنّــه عمــل مــن أعــال البــر‬ ‫يصيبــه مــا يصيــب جميــع أعــال البــر مــن القصــور والتحريــف‪.‬‬ ‫تجســم مبــدأ يتعلّــق‬ ‫وقــد ج��اءت بعـ�ض قصـ�ص الق�رـآن لتص ـ ّور أمنوذج ـاً مــن الســلوك اإلنســاين بقصــد التأديــب أو التمثيــل والتوضيــح‪ ،‬أو ّ‬ ‫مبلكــوت اللــه ومخلوقاتــه (عابديــن‪1956 ،‬م‪ .)158 :‬فهــي کاملثــل تــرز املعقــول يف صــورة املحســوس‪ ،‬وتكشــف عــن الحقائــق‪ ،‬وتق ـ ّرب املعــاين إىل‬ ‫اإلفهــام وتعــرض الغائــب يف معــرض الحــارض وتجمــع الغنــي الرائــع يف العبــارة املوجــزة الســهلة‪ ،‬وتث ّبــت املعنــى يف الذهــن وتسـ ّهل طريــق الوعــظ‬ ‫ـأس وتدفــع إىل االقنــاع بأوجــز سبيل(شــيخ امــن‪1994 ،‬م‪.)239 :‬‬ ‫والتـ ّ‬ ‫قصة نوح‪ ،‬عليه السالم‪ ،‬يف القرآن ومظاهرها الف ّنية‪:‬‬ ‫‪ّ -3‬‬ ‫قصــة نــوح‪ ،‬عليــه الســام‪ ،‬موزّعــة يف عــر ســور مــن القــرآن الکريــم علــی النســق التــايل‪ :‬ســورة األعـراف يف آياتهــا‪ ،]64-59[ :‬وســورة‬ ‫جــاءت ّ‬ ‫يونــس يف آياتهــا‪ ،]73- 7[ :‬وســورة هــود يف آياتهــا‪ ،]49-25[ :‬وســورة األنبيــاء يف آيتــن [‪ ،]77-76‬وســورة املؤمنــون يف اآليــات‪ ،]30-23[ :‬وســورة‬ ‫الشــعراء يف اآليــات مــا بــن [‪ ،]22 -5‬وســورة العنكبــوت يف آيتــن [ ‪ ،]5 -4‬وســورة الصافــات يف اآليــات [‪ ،]82-75‬وســورة القمــريف اآليــات [‪،]7 -9‬‬ ‫وســورة نــوح بأکملهــا‪.‬‬ ‫ولتحديدجانب من املظاهر الفنية لقصة نوح وجامل ّياتها يف القرآن اعتمدت الدراسة علی املحاور التالية‪:‬‬ ‫القصــة مجموعــة مــن الشــخص ّيات‪ ،‬بعضهــا أدّى دوراً رئيس ـاً يف تط ـ ّور األحــداث وتناميهــا‪ ،‬وبعضهــا‬ ‫القصــة‪ :‬تض ّمنــت هــذه ّ‬ ‫‪ -1- 3‬شــخص ّيات ّ‬ ‫اآلخــر نهــض بــأدوار ثانو ّيــة‪ ،‬منهــا‪:‬‬ ‫قصــة س��يدنا ن��وح(ع) يف س��ورة ن��وح بقول��ه تعال�یـ‪ ﴿:‬إن��ا أرس��لنا نوحاــً إل��ی قوم�هـ أن أنــذر قــومك مــن قبــل‬ ‫‪ - 1-1- 3‬شخــص ّية نـ�وح(ع)‪ :‬بدــأت ّ‬ ‫أن يأتيهــم عــذاب أليــم﴾( نــوح‪ .)1/‬واتّضحــت مالمــح شــخص ّيته مــن خــال الحــوار الــذي َقــدّ م فيــه مــا قالــه لقومــه يف دعوتــه‪ ،‬ومل تظهــر شــخص ّية‬ ‫نــوح(ع) مبالمحهــا الخارج ّيــة‪ ،‬إذ إن الهــدف كان منصبـاً عــى إظهــار مــا يخــدم الدعــوة إىل اللــه‪ .‬حــر نــوح(ع) بشــخص ّيته الرئيســة‪ ،‬ظهــر الرجــل‬ ‫القــوي الصابــر الــذي يحظــى بنفس ـ ّية قو ّيــة‪ ،‬اســتطاع بهــا أن يواجــه الظلــم‪ ،‬ويصــر‪ ،‬وأن يتحــدى األذى الــذي و ّجهــه اليــه الكافــرون عندمــا كان‬ ‫يدعوهــم إىل عبــادة اللــه‪،‬‬ ‫ومــع ذلــك مل ييــأس ويرتاجــع‪ ،‬وهــذا مــا يؤكّــد نفسـ ّي َته القو ّيــة التــي أســهمت ثقتــه بنفســه وقناعتــه يف بنائهــا‪ ،‬كــا أنّــه بــدا إنســاناً متواضعـاً‪ ،‬وظـ ّـل‬ ‫يقوــل‪َ ﴿:‬والَ أَ ُقـ ُ‬ ‫ـول إِ ِّن َملَــكٌ ﴾( هــود‪ .)31/‬أ ّمــا عــى املســتوى الثقــايف فيظهــر أن نوح ـاً كان صاحــب عقــل ومنطــق يف كالمــه‪ ،‬وهــذا ي ّتضــح مــن‬ ‫خــال حــواره مــع قومــه ومحاولتــه اقناعهــم بطــرق اعتمــد فيهــا املنطــق والحجــة والربهــان‪ ،‬ولجــأ إىل أســلوب الرتغيــب والرتهيــب‪ ،‬وبــدأ بالرتغيــب‬ ‫ـم َج َّنـ ٍ‬ ‫ـم أَنْ َهــاراً﴾ (نــوح‪ .)12 /‬ثــم انتقــل إىل مســألة الخلــق الكتشــاف عظمــة الخالــق لعـ ّـل‬ ‫ـات َويَ ْج َعــل لَّكُـ ْ‬ ‫ـم ِبأَ ْمـ َوالٍ َوبَ ِنـ َن َويَ ْج َعــل لَّكُـ ْ‬ ‫أوالً﴿ َو ُيْ ِد ْدكُـ ْ‬ ‫قومــه يقتنعــون‪ ،‬وملّــا مل يجــد نتيجــة أخــذ يحدّ ثهــم عــن العقــاب والعــذاب‪ ،‬وهــذا كلّــه يؤكــد املســتوى الثقــايف املتم ّيــز عنــد نــوح(ع) الــذي جعــل‬ ‫منــه شــخصاً ذا قــدرة عــى املحاجــة واإلقنــاع‪.‬‬ ‫رصت عــى مــا هــي عليــه‪ ،‬ووقفــت مــع‬ ‫‪ -2-1- 3‬زوج ن�وـح‪ :‬هنــاك زوج نــوح يف ّ‬ ‫قصــة هــذا النبــي‪ ،‬وهــي التــي رفضــت دعوتــه مــن البدايــة‪ ،‬وأ ّ‬ ‫كبــار القــوم الكافريــن تنرصهــم عليــه‪ ،‬فكانــت شــخص ّيتها جاهــرة مل تتغــر‪ ،‬إذ ظلّــت عــى مــا كانــت عليــه قبــل الدعــوة‪ ،‬ومل تتحـ ّول مــن الكفــر إىل‬ ‫اإلميــان كــا فعــل املؤمنــون‪ ،‬مــع أنّهــا مــن أقــرب املقربــن إىل نــوح‪ .‬وهــذا التــرف املعــادي لســيدنا نــوح(ع) تضافــر مــع العوامــل األخــرى (عــدم‬ ‫االســتجابة‪ -‬انتشــار الفســاد‪ -‬النفــور مــن الدعــوة) ليقـ ّوي مــن كــره نــوح(ع) لهــؤالء القــوم‪ ،‬ومــن بينهــم الــزوج التــي مل تؤمــن‪ .‬ويدفعــه إىل الطلــب‬ ‫ـم يُ ِضلُّــوا ِع َبــادَكَ َو َل يَلِــدُ وا‬ ‫مــن اللــه أن ال يبقــي منهــم أحــداً‪ ،‬مــع معرفتــه أنّ بقاءهــم ســيدفعهم إىل إفســاد اآلخريــن‪ .‬يقــول تعاىل‪﴿:‬إِنَّــكَ إِن تَ َذ ْر ُهـ ْ‬ ‫إِ َّل فَاجِ ـراً كَ َّفــارا﴾( نــوح ‪.)27/‬‬ ‫‪ -3-1- 3‬الش��خص ّيات األخ�رـى‪ :‬نجــد أنّ شــخص ّية ســيدنا نــوح(ع) تقــف موقــف املدافــع عــن الحــق‪ ،‬الداعــي إىل الصــاح مــن خــال مواقفهــا‬ ‫اب يَـ ْو ٍم اليــم﴾ ( هــود‪/‬‬ ‫الثابتــة الرافضــة لـ ّ‬ ‫ـكل مظاهــر الظلــم والفســاد‪ ،‬والســاعي إىل خــاص قومــه ﴿ أَن الَّ تَ ْع ُبــدُ واْ إِالَّ اللّــهَ إِ ِّ َن أَ َخـ ُ‬ ‫ـاف عليكُـ ْ‬ ‫ـم َعـ َذ َ‬ ‫‪ .)26‬كذلــك نجــد باملقابــل شــخص ّيات أخــرى تقــف موقــف النقيــض وترفــض اإلصــاح وترفــض دعــوة نــوح(ع) بأكملهــا‪ ،‬وتســتم ّر يف الفحــش والغــي‪،‬‬ ‫ـراً ِّم ْثلَ َنــا‬ ‫مـ ّـا أدّى إىل االنحــال الخلقــي والكيــد للنبــي وأنصــاره القلــة املســتضعفني الذيــن آمنــوا معــه‪ ،‬وكانــوا مــن صغــار القــوم ﴿ مــا نَـ َراكَ إِالَّ بَـ َ‬


‫ـم‬ ‫وللكافريــن عقابهــم ومصريهــم‪ .‬وكذلــك حــن طلــب منــه أن يطــرد املؤمنــن الذيــن وصفــوا بــأراذل القــوم قال‪َ ﴿:‬و َمــا أَنَــا ِبطَــا ِر ِد الَّ ِذيـ َن آ َم ُنــوا إِنَّ ُهـ ْ‬ ‫ـم َق ْو ًمــا تَ ْج َهلُــونَ ﴾( هــود‪ .)29 /‬إنّ االســتباق هنــا يف تحديــد مصــر املؤمنــن الذيــن ســيلقون ربهــم‪ .‬نجــد االســتباق أيضـاً‬ ‫ـم َولَ ِك ِّنــي أَ َراكُـ ْ‬ ‫ُم َل ُقــو َربِّ ِهـ ْ‬ ‫ٌ‬ ‫يف تو ّقــع نــوح لعقــاب الكافريــن الذيــن كانــوا يســخرون منــه‪َ ﴿ :‬ويَ ْص َنـ ُـع الْ ُفلْــكَ َوكُلَّـ َـا َمـ َّر عليــه َمـ َـأ ِمـ ْن َق ْو ِمـ ِه َسـ ِخ ُروا ِم ْنــهُ َقـ َ‬ ‫ـال إِنْ ت َْسـ َخ ُروا ِم َّنــا‬ ‫ـم ﴾(هــود‪. )39/‬‬ ‫اب ُم ِقيـ ٌ‬ ‫َفإِنَّــا ن َْسـ َخ ُر ِم ْنكُـ ْ‬ ‫ـم كَـ َـا ت َْسـ َخ ُرونَ ‪...‬يُ ْخزِيـ ِه َويَ ِحـ ُّـل عليــه َعـ َذ ٌ‬ ‫‪ -2-1-4-3‬االس�ترجاع‪ :‬واالســرجاع عــودة مــن ال ـراوي إىل حــدث ســابق‪ ،‬وهــو إ ّمــا خارجــي يفيــد اســتعادة مــا قبــل زمــن الروايــة‪ ،‬أو داخــي‬ ‫يفيــد اســتعادة مــا حــدث بعــد بــدء الزمــن الــروايئ (زراقــط‪1999 ،‬م‪ .)704/2 :‬والقصــة القرآنيــة تخضــع لزمنــن مختلفــن‪ :‬منهــا مــا يتعلّــق بزمــن‬ ‫القصــة‬ ‫القصــة يبــدأ بالدخــول الفعــي يف عاملهــا‪ ،‬وزمــن النــص القــرآين يحيــط بزمــن ّ‬ ‫القصــة القرآن ّيــة‪ ،‬ومنهــا مــا يتعلــق بزمــن النــص القــرآين‪ .‬وزمــن ّ‬ ‫ّ‬ ‫ويحتويــه‪ ،‬وهــو الزمــن الحــارض للــرد‪ .‬فالقصــة القرآن ّيــة تكــون اســرجاعاً أو اســتباقاً حــن تتعلّــق بهــذا الزمــن أو بهــذا الحــارض الزمنــي للنــص‪.‬‬ ‫ـم َقـ ْو ُم نــوح َفكَ َّذبُــوا َع ْبدَ نَــا َوقَالُــوا َم ْج ُنــونٌ َوا ْز ُدجِ ـ َر﴾( القمــر‪ .)9/54‬يــأيت هنــا االســرجاع بصيغــة الخطــاب‬ ‫وهــذا مــا يؤكّــده بقوله‪﴿:‬كَ َّذبَـ ْ‬ ‫ـت َق ْبلَ ُهـ ْ‬ ‫ـم التحضــر لــه﴿ َقــدْ أَ ْر َسـلْ َنا نو َحـاً إىل َق ْو ِمـ ِه َف َقـ َ‬ ‫ـال يَــا َقـ ْو ِم ا ْع ُبــدُ وا اللَّــهَ َمــا‬ ‫املــرود‪ .‬وقــد نجــده أحيانـاً يــأيت بصيغــة املنقــول املبــارش بعــد أن يتـ ّ‬ ‫اب يَ ـ ْو ٍم َع ِظيـ ٍـم ﴾( األع ـراف ‪ .)59/‬وهــذه الصيغــة تك ـ ّررت يف القصــص القــرآين عندمــا كان الغــرض‬ ‫ـر ُه إِ ِّن أَ َخـ ُ‬ ‫ـاف عليكُـ ْ‬ ‫لَكُـ ْ‬ ‫ـم َع ـ َذ َ‬ ‫ـم ِم ـ ْن إِلَ ـ ٍه َغـ ْ ُ‬ ‫ـم ُهــودًا َقـ َ‬ ‫ـر ُه أَ َفـ َـا تَ َّتقُونَ (ســورة األعـراف‪.)65 /7،‬‬ ‫ـال يَــا َقـ ْو ِم ا ْع ُبــدُ وا اللَّــهَ َمــا لَكُـ ْ‬ ‫والوظيفــة نفســيهام‪ ،‬ومــن أمثلتــه﴿ َوإىل َعــا ٍد أَخَا ُهـ ْ‬ ‫ـم ِمـ ْن إِلَـ ٍه َغـ ْ ُ‬ ‫ـم َصالِ ًحــا َقـ َ‬ ‫ـال يَــا َقـ ْو ِم ا ْع ُبــدُ وا اللَّــهَ ‪ (﴾.‬االعـراف ‪ .)73 /‬و‬ ‫وكذلــك ﴿ َوإىل َثُــو َد أَخَا ُهـ ْ‬ ‫االســرجاع يف قصــة نــوح بــارز‪ ،‬وهــو للتذكــر بــأنّ مــا حـ ّـل بقومــه إمنــا كان ج ـزاء وختام ـاً ملــا قابلــوا بــه دعوتــه إيّاهــم وإنــذاره إياهــم مــن‬ ‫التجاهــل والكــذب؛ فالبدايــة يف ســورة نــوح تعــود بقــارىء النــص القــرآين إىل زمــن ســيدنا نــوح(ع)‪ ،‬وقولــه لقومــه الذيــن عصــوا ربهم‪َ ﴿:‬قـ َ‬ ‫ـال َيــا‬ ‫القصــة‪ ،‬عندمــا حــدّ د اللــه عــز وجــل الهــدف مــن إرســال نــوح إىل قومــه‪ ،‬ليكــون‬ ‫ـم نَ ِذيـ ٌر ُم ِبـ ٌن﴾( نــوح‪ .)3 /‬يبــدأ االســرجاع مــن بدايــة ّ‬ ‫َقـ ْو ِم إِ ِّن لَكُـ ْ‬ ‫القصــة بنتائجهــا‬ ‫لقــارىء الن��ص الق��رآين ع�وـدة إىل زمنــ ن��وح(ع) وردة فعــل قومــه‪ ،‬والخيــار الــذي ســلكوه والعقــاب الــذي حـ ّـل بهــم‪ ،‬لعـ ّـل هــذه ّ‬ ‫رف املطابــق أو املشــابه لــردّة فعــل قــوم نــوح(ع)‪ ،‬وخصوصـاً عنــد معرفتــه بالعقــاب الــذي‬ ‫تذكّــر قــاريء النــص‪ ،‬وتكــون ســبباً بإبعــاده مــن التـ ّ‬ ‫وربــا يدفــع هــذا االســرجاع« فاغرقــوا» بالقــارىء إىل التأ ّمــل مل ّيـاً بحقيقــة الديــن واإلميــان‪ .‬وجــاء فيهــا‬ ‫رف واملســلك‪ّ .‬‬ ‫اســتحقّوه بنتيجــة هــذا التـ ّ‬ ‫قصــة نــوح(ع) نجــد أنّ االســرجاع يــأيت مـ ّرات متعــدّ دة‪ ،‬للتذكــر بــأن مــا حـ ّـل بقــوم نــوح(ع) يجــب أن يكــون عــرة ملــن‬ ‫ذكــر بعــض املشــاهد مــن ّ‬ ‫يعتــر‪ ،‬فبعــد مــا كان اللــه يدعــو يف ســورة االعـراف إىل االصــاح وعــدم الفســاد يف االرض﴿ َو َل تُف ِْســدُ وا ِف ْالَ ْر ِض َب ْعــدَ إِ ْص َل ِح َهــا َوا ْد ُعــو ُه َخ ْو ًفــا َوطَ َم ًعــا‬ ‫بقصــة نــوح(ع) مــع قومــه وبعاقبــة عــدم اســتجابتهم‪ ،‬فــكان االســرجاع بهــدف‬ ‫ـب ِم ـ َن الْ ُم ْح ِس ـ ِن َني﴾(االعراف‪ ،)56/‬ذکّرهــم ّ‬ ‫إِنَّ َر ْح َم ـ َة اللَّ ـ ِه َقرِيـ ٌ‬ ‫التذكــر‪ .‬وكذلــك يف ســورة هــود عندمــا كان االســرجاع بعــد حديــث اللــه عــن الذيــن يفــرون عــى الرســول وال يصدقــون كالم اللــه وآياتــه‪ ،‬ويصــدّ ون‬ ‫عــن ســبيل اللــه ويبغونهــا عوجـاً‪ ،‬فوعدهــم بعــذاب اآلخــرة‪ ،‬فــرب مثـاً يـ ّ‬ ‫ـدل عــى قــدرة اللــه عــى عبــاده‪ ،‬يرتكهــم يتــادون يف غ ّيهــم ولكــن يف‬ ‫رصفهــم وســوء تعاطيهــم مــع الرســول‪.‬‬ ‫نهايــة املطــاف يحـ ّـق عليهــم عذابــه‪ ،‬فــأىت االســرجاع للتنبيــه‪ ،‬ولــردع أولئــك عــن ســوء ت ّ‬ ‫‪ -2-4-3‬عالقات الدميومة‪ :‬تتض ّممن عالقات الدميومة مجموعة من التقن ّيات‪ ،‬نقف عىل بعضها‪ ،‬ومنها‪:‬‬ ‫‪ -1-2-4-3‬التلخيــص‪:‬إن مراجعــة رسيعــة للبنيــة الزمن ّيــة يف القصــص القــرآين املتمثّلــة يف حركــة زمــن الــرد الــروايئ‪ ،‬مــن تلخيــص ومشــهد ووقفــة‬ ‫ترينــا مــدى هيمنــة املشــهد الحــواري عــى الــرد القصــي القــرآين‪ ،‬إذ يتنــاوب املشــهد والتلخيــص والوقفــة‪ .‬فالتلخيــص يســهم يف ترسيــع عمليــة‬ ‫الــرد ويتخطّــى أحداث ـاً ال يحتاجهــا املوقــف القصــي‪ ،‬ولــه وظائــف متعــدّ دة‪ ،‬ولكــن الوظيفــة األكــر شــيوعاً هــي العــرض الرسيــع لحقبــة مــن‬ ‫املايض(زيتــوين‪ 2002 ،‬م‪ .)159 :‬ومــن خــال التلخيــص ميكننــا دراســة رسعــة النــص وبطئــه‪ ،‬ألنّ التلخيــص هــو أداء أحــداث مرحلــة يف مقطــع رسدي‬ ‫قصــر يلخّــص ماحــدث ويقــدم املشــاهد والشــخص ّيات واالســرجاع‪ ،‬فتكــون مســاحة النــص أصغرمــن رسعــة الحدث(زراقــط‪1999 ،‬م‪.)708/2 :‬‬ ‫وهــذا التلخيــص قــد يكــون غــر محــدود املــدّ ة‪ ،‬وقــد يكــون عكــس ذلــك كــا يف قوله﴿ َولَ َقــدْ أَ ْر َس ـلْ َنا نوحـاً إىل َق ْو ِم ـ ِه َفلَ ِبـ َ‬ ‫ـف َسـ َن ٍة إِ َّل‬ ‫ـم أَلْـ َ‬ ‫ـث ِفي ِهـ ْ‬ ‫القصــة‬ ‫قصــة نــوح‪ ،‬ألنّ الهــدف كان ذكــر بعــض أحــداث ّ‬ ‫ـم ظَالِ ُمــونَ ﴾( العنكبــوت‪ .)14/‬ظهــر التلخيــص يف ّ‬ ‫ـم الطُّو َفــانُ َو ُهـ ْ‬ ‫َخ ْم ِس ـ َن َعا ًمــا َفأَ َخ َذ ُهـ ُ‬ ‫مــن أجــل الوعــظ والتنبيــه واإلشــارة إىل هــاك ّمــن ك ّذبــوا وعصــوا‪ ،‬فاكتفــى يف ســورة األع ـراف‪ ،‬بعــد حــوار رسيــع بــن نــوح(ع) وقومــه‪ ،‬بذكــر‬ ‫ردّة فعــل قومه﴿ َفكَ َّذبُــو ُه َفأَنْ َج ْي َنــا ُه َوالَّ ِذيـ َن َم َعــهُ ِف الْ ُفلْـ ِ‬ ‫ـم كَانُــوا َق ْو ًمــا َع ِمـ َن﴾( األعـراف‪ .)64/‬وكذلــك عندمــا‬ ‫ـك َوأَ ْغ َر ْق َنــا الَّ ِذيـ َن كَ َّذبُــوا بِآيَاتِ َنــا إِنَّ ُهـ ْ‬ ‫واص َنـعِ الْ ُفلْــكَ ِبأَ ْع ُي ِن َنــا‬ ‫أشــار اللــه تعــاىل إىل وحيــه إىل نــوح بصنــع الفلــك‪ ،‬واملعــروف أن صنعــه اســتغرق وقتـاً طويـاً‪ ،‬فاختــر املشــهد بآيتــن‪ْ ﴿:‬‬ ‫َو َو ْح ِي َنــا َوالَ تُخ ِ‬ ‫ـم كَـ َـا ت َْسـ َخ ُرونَ ﴾( هــود‪.)38-37/‬‬ ‫َاط ْب ِنــي ِف الَّ ِذيـ َن ظَلَ ُمــواْ إِنَّ ُهــم ُّم ْغ َر ُقــونَ ‪َ .‬ويَ ْص َنـ ُـع الْ ُفلْــكَ َوكُلَّـ َـا َمـ َّر عليــه َمـأٌ ‪َ ...‬فإِنَّــا ن َْسـ َخ ُر ِمنكُـ ْ‬ ‫عبتــا عــن عمليــة صنــع الفلــك والصعوبــات التــي تعـ ّرض لهــا نــوح(ع) مــن قومــه خــال مــدّ ة صنعــه الطويلــة‪ .‬هكــذا كان التلخيــص‬ ‫هاتــان اآليتــان ّ‬ ‫ـدل عــى قــدرة اللــه املطلقــة يف تحقيــق وعــوده‪ ،‬وتـ ّ‬ ‫يعــرض لألحــداث عرضـاً رسيعـاً ألهم ّيــة ذكرهــا يف الســياق‪ ،‬ولكــن مــن غــر تفصيــل‪ ،‬لتـ ّ‬ ‫ـدل مــن‬ ‫ناحيــة أخــرى عــى هــوان الهالكــن عــى اللــه‪ .‬فالتلخيــص يف قصــة نــوح(ع) أمــر طبيعــي‪ ،‬ألنّــه يوجــز املراحــل التــي ال وظيفــة لهــا يف حمــل الرســالة‪،‬‬ ‫والهــدف مــن الرتكيــز عــى مــا يســاعد الرســول يف إقنــاع قومــه وتحذيرهــم‪.‬‬ ‫‪ -2-2-4-3‬املش�هـد‪ :‬يف املشــهد تكــون مســاحة النــص أكــر مــن رسعــة الحــدث أو تســاويه‪ ،‬فيمثــل آونــة زمنيــة قصــرة يف مقطــع نــي طويــل‬


‫أحســن‪ ،‬وهــذا دليــل عــى أنّــه ال ميكــن إجبــار أحــد عــى االلتـزام بفكــر مــا مل يقتنــع بــه‪ ،‬وأنّ األب يف العائلــة يجــب أالّ يتسـلّط عــى عائلتــه بفكــره‬ ‫وال يســلبهم رأيهــم يف مــا يؤمنــون بــه‪ .‬هــذه هــي شــخص ّية نــوح(ع) الــذي يقــدّ ر األمــور وعواقبهــا ويحــرص عــى نجــاح دعوتــه‪.‬‬ ‫‪ -4-3-3‬التح ّ�وـالت التيــ م�� ّرت به��ا ش�خـص ّية ن��وح‪ :‬مـ ّرت الشــخص ّية الرئيســة بتحـ ّوالت كبــرة‪ ،‬ففــي البدايــة كان ســيدنا نــوح(ع) مي ّثــل شــخص ّية‬ ‫الداعــي إىل قومــه يك يهديهــم إىل ســبيل الرشــاد‪ ،‬إالّ أنّ عامـاً مناوئـاً جعلــه يتحـ ّول مــن الداعــي لهــم إىل الداعــي عليهــم‪ ،‬فدعــا ربّــه أين مغلــوب‬ ‫فانتــر‪ ،‬ودعــا عــى قومــه بالغــرق؛ وهــذا العامــل املنــاوىء هــو بســبب عــدم اســتجابة قومــه لدعوتــه ورفضهــم االعتــدال واالبتعــاد مــن الفســاد‪،‬‬ ‫واســتكربوا أن يأتيهــم رســول منهــم‪ ،‬وال يكــون مــن أكابرهــم‪.‬‬ ‫قصة س ّيدنا نوح(ع) علی النسق التايل‪:‬‬ ‫وميکن تصنيف العوامل الوظيفية يف ّ‬ ‫ ‪-‬الذات‪ :‬سيدنا نوح‪.‬‬ ‫ ‪-‬املوضوع‪ :‬الدعوة إلی الله‪.‬‬ ‫ ‪-‬املرسل‪ :‬الله – اإلميان بالله‪.‬‬ ‫ ‪-‬املرسل إليه‪ :‬قوم نوح‪.‬‬ ‫ ‪-‬العامل املساعد‪ :‬نبوة نوح ووحي الله‪.‬‬ ‫ ‪-‬العامل املناوئ أو املعيق‪ :‬زوج نوح‪ ،‬وابنه‪ ،‬واستکبار قوم نوح‪ ،‬استهزاؤهم به‪ ،‬وتحدّ يهم إياه‪ ،‬وتعذيبهم له‪.‬‬ ‫فکانت النتيجة عدم استجابة قوم نوح للدعوة‪ ،‬و َغ ْرقَ الکافرين ونجا َة نوح ومن معه‪.‬‬ ‫عم كبار القوم وصغارهم‪.‬‬ ‫أ ّما الدافع إىل هذه الرغبة فهو الفساد املسترشي يف املجتمع وعبادة األصنام والضالل‪ ،‬والكفر الذي ّ‬ ‫قصة نوح(ع)‬ ‫‪ -4-3‬بناء الزمان يف ّ‬ ‫يخضــع الزمــن يف العمــل القصــي ملشــيئة الكاتــب‪ ،‬فيلجــأ إىل التالعــب بــه فيؤ ّخــر ويقــدّ م‪ ،‬ويعيــد ترتيــب الوقائــع التــي حدثــت يف زمــن واحــد‬ ‫ترتيب ـاً تصاعدي ـاً‪ .‬والزمــان عــى حــد قــول عبــد امللــك مرتــاض أنــواع مختلفــة‪ ،‬منهــا الزمــن املتواصــل والزمــن الغائــب والزمــن املتشــظي والزمــن‬ ‫الــذايت أو النفــي الــذي يتناقــض فيــه الــذايت مــع املوضوعــي‪ ،‬فتح ّولــه الــذات إىل زمــن غــر عــادي يعكــس الحــال النفسـ ّية التــي تعيشــها الــذات‬ ‫يف القصــة‪ .‬والزمــن يف العمــل القصــي زمنــان‪« :‬أولهــا زمــن املــادة الروائيــة أو زمــن الوقائع»(زراقــط‪1999 ،‬م‪ ،)704/2 :‬وهــو زمــن األحــداث كــا‬ ‫جــرت‪ ،‬وثانيهــا زمــن الروايــة أو الزمــن النــي وهــو الزمــن التــايل لزمــن الحدث(دعكــور‪1986 ،‬م‪ )101 :‬أو زمــن الــرد الــذي يرتبــط بالقــاص‬ ‫والـراوي‪ ،‬وهــذا مــا يسـ ّمى بالحبكــة أي إجــادة إحــكام البناء(زراقــط‪1999 ،‬م‪ .)704/2 :‬ومــن خــال مــا ســبق‪ ،‬ميكننــا أن نحــدّ د عنــارص البحــث التــي‬ ‫قصــة نــوح(ع)‪ ،‬انطالقـاً مــن النــص الــذي «يفــارق فيــه زمــن الــرد الــروايئ املحبــوك زمــن االحــداث‪ ،‬فيعــدّ ل‬ ‫تتمحــور حــول التقن ّيــات الرسد ّيــة يف ّ‬ ‫ألي مســار زمنــي أن يكــون‬ ‫الزمــن مســاره ويـراوح فيبطــىء أو يــرع‪ ،‬يقــف أو يقفــز‪ ،‬وميتــد أو يقــر»(م س‪1999 ،‬م‪ .)705 :‬والتمثيــل الطبيعــي ّ‬ ‫عــى هــذا النحــو‪ :‬مــايض‪ -‬حــارض‪ -‬مســتقبل‪ .‬لكـ ّن مقتضيــات الــرد كثـراً مــا تتطلّــب أن يقــع التبــادل فيــا بــن املواقــع الزمن ّيــة‪ .‬فــإذا بالحــارض‬ ‫قــد يحـ ّـل محـ ّـل املــايض‪ ،‬وباملســتقبل مــكان الحــارض وكل ذلــك عــى ســبيل التعتيــم الــردي او التضليــل الحــكايئ (زراقــط‪1999 ،‬م‪ .)706/2 :‬فزمــن‬ ‫الــرد الــروايئ يـراوح فــا ُيــرى يف تسلســل‪ ،‬لذلــك ســنتناول مــن التقن ّيــات الرسد ّيــة مــا لــه صلــة بعالقــات الرتتيــب مــن اســتباق واســرجاع‪ ،‬ومــا لــه‬ ‫صلــة بعالقــات الدميومــة مــن تلخيــص ومشــهد ووقفــة‪.‬‬ ‫‪ -1-4-3‬عالقــات الرتتيــب‪ :‬تتض ّمــن عالقــات الرتتيــب مجموعــة مــن التقن ّيــات‪ ،‬إالّ أنّنــا نقتــر الحديــث عــن تقن ّيتــن اثنتــن توضحــان دور‬ ‫القصــة القرآن ّيــة‪ ،‬وهــا‪:‬‬ ‫عالقــات الرتتيــب يف بنــاء ّ‬ ‫‪ -1-1-4-3‬االس�تـباق‪ :‬هــو اســترشاف أحــداث الحقــة لبــدء زمــن الروايــة( مرتــاض‪1998 ،‬م‪ .)220 :‬ومــن خاللــه يذكــر الكاتــب مــا ســيحصل مــن‬ ‫أحــداث مــع الشــخص ّيات يف املســتقبل قبــل وقوعهــا‪ ،‬وذلــك يكــون بهــدف تحفيــز القــاريء عــى اإلســهام يف بنــاء الــرد‪ ،‬ومــن أجــل املتعــة الروائيــة‬ ‫قصــة نــوح(ع)‪ ،‬مــن خــال دعــوة ســيدنا نــوح(ع) قومــه إىل عبــادة اللــه‪ ،‬بقولــه﴿ أَنِ‬ ‫القصــة‪ .‬واالســتباق يــرد يف ّ‬ ‫وعمل ّيــة جــذب القــارىء إىل أجــواء ّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬ ‫ـم تَ ْعلَ ُمــونَ ﴾( نــوح‬ ‫ـم إىل أ َجــلٍ ُم َسـ ًّمى إنَّ أ َجـ َـل اللَّـه إذا َجــا َء َل يُ َؤ َّخ ـ ُر لَـ ْو كُ ْن ُتـ ْ‬ ‫ـم َويُ َؤ ِّخ ْركُـ ْ‬ ‫ـم مـ ْن ذنُو ِبكُـ ْ‬ ‫ا ْع ُبــدُ وا اللَّــهَ َواتَّ ُقــو ُه َوأَ ِطي ُعــونِ يَ ْغ ِفـ ْر لَكُـ ْ‬ ‫‪ .)4-3‬وكان ســيدنا نــوح(ع) يربــط بــن االســتجابة وبــن مــا يســتبقه يف كالمــه‪ ،‬فــا يعــدّ بــه قومــه مرهــون باالســتجابة‪ .‬وورد االســتباق أيضـاً يف ر ّد‬ ‫ـال َســآوِي إىل َج َبــلٍ يَ ْع ِص ُم ِنــي ِمـ َن الْـ َـا ِء َقـ َ‬ ‫نــوح(ع) عــى ابنــه عندمــا قــال لــه بأنــه ســيأوي مــن الطوفــان إىل جبــل يعصمــه مــن أمــر اللــه ﴿ َقـ َ‬ ‫ـال َل‬ ‫َع ِ‬ ‫ـم َو َحـ َ‬ ‫ـال بَ ْي َن ُهـ َـا الْ َمـ ْو ُج َفـكَانَ ِمـ َن الْ ُم ْغ َر ِقـ َن ﴾( هــود‪ .)44 /‬ظهــر االســتباق هنــا مــن خــال الحــوار‪ ،‬ألنّ ر ّد‬ ‫ـم اليــوم ِمـ ْن أَ ْمـ ِر اللَّـ ِه إِ َّل َمـ ْن َر ِحـ َ‬ ‫اصـ َ‬ ‫نــوح(ع) تح ّقــق وقطــع املــوج الحــوار وكان ابنــه مــن املغرقــن‪ .‬وانطالقـاً مــن ذلــك نلحــظ أنّ االســتباق يف قصــة نــوح(ع) مرتبــط بعمليــة الثــواب‬ ‫والعقــاب‪ ،‬إذ حــدّ د للمؤمنــن ثوابهــم وجزاءهــم‬


‫الس ـ ِفي َن ِة َو َج َعلْ َنا َهــا آيَ ـ ًة لِلْ َعالَ ِم َني﴾(العنکبــوت‪.)15 /‬‬ ‫َفأَنْ َج ْي َنــا ُه َوأَ ْص َحـ َ‬ ‫ـاب َّ‬ ‫‪ - 4 -1-5-3‬جب��ل الجوــدي‪ :‬قبــل الحديــث عــن رمزيّــة هــذا املــكان نشــر إىل مــا جــاء بــه بعــض املؤرخــن عــن هــذا الجبــل‪ ،‬فبعضهــم عــدّ ه‬ ‫جبـاً يقــع رشقــي جبــل ســنجار ويطــل عــى جزيــرة اســمها « جزيــرة ابــن عمــرو»‪ .‬وبعضهــم يقــول إنــه جبــل بــن دجلــة والفـرات ولك ّنــه قريــب‬ ‫ـم هــو داللــة هــذا الجبــل‪ ،‬فهــو جبــل مرتفــع‪ ،‬ألنّ الجبــال األخــرى ال‬ ‫جــداً مــن نهــر دجلــة ومــن مدينــة املوصــل ( املحامــي‪1970 ،‬م‪ .)87 :‬واملهـ ّ‬ ‫ميكنهــا أن تعصــم مــن هــذا الطوفــان‪ ،‬وهــذا مــا أكّــده نــوح(ع) يف رده عــى ابنــه الــذي قــال يف حــواره مــع أبيــه خــال الطوفــان﴿ َقـ َ‬ ‫ـال َســآوِي إىل‬ ‫ـال َل َع ِ‬ ‫َج َبــلٍ يَ ْع ِص ُم ِنــي ِمـ َن الْـ َـا ِء َقـ َ‬ ‫ـم ‪َ ...‬فـكَانَ ِمـ َن الْ ُم ْغ َر ِقـ َن ﴾(هــود‪.)43 /‬جبــل الجــودي كان املــكان اآلمــن للســفينة ورمــز النجــاة والخــاص‬ ‫اصـ َ‬ ‫للمؤمنــن والجبــال االخــرى كانــت مكانـاً لعــذاب الكافريــن بالغــرق‪ .‬أ ّمــا املــوج فقــد كان يف مــكان مــا فاصـاً بــن الحــق والباطــل‪ ،‬وكان حائـاً دون‬ ‫حواره�ما‪ ،‬ألنّ الباط��ل املتمثّ��ل باب��ن ن��وح مل يك��ن منطق ّي��اً‪ ،‬خصوص��اً بعدم��ا أدرك س��بب بن��اء ن��وح(ع) للس��فينة يف قل��ب الصح��راء‪.‬‬ ‫ـن َوأَ ْه َلــكَ إِ َّل َمـ ْن َسـ َب َق عليــه‬ ‫ـن اثْ َنـ ْ ِ‬ ‫‪ -5 -1-5-3‬الت ّنــور‪ :‬ورد ذكــر الت ّنــور يف اآليــة ﴿ ِإ َذا َجــا َء أَ ْم ُرنَــا َو َفــا َر ال َّت ُّنــو ُر ُق ْل َنــا ا ْح ِمـ ْـل ِفي َهــا ِمـ ْن ك ٍُّل َز ْو َجـ ْ ِ‬ ‫الْ َقـ ْو ُل َو َمـ ْن آ َمـ َن ﴾(هــود‪ .)40‬إنّ فــوران التنــور عالمــة م ّتفــق عليهــا بــن اللــه ونبيــه نــوح إذ كان تنــوراً عاديّـاً للخبــز‪ ،‬وإنّــه كان آلدم‪ ،‬فــإذا رأى‬ ‫نــوح(ع) املــاء يفــور مــن ذلــك الت ّنــور أدرك أنّ أمــر اللــه بالطوفــان قــد جــاء‪ .‬وبعضهــم رأى ذلــك مبعنــى «حمــي الوطيــس»أي اشــتدّ غضــب اللــه‪.‬‬ ‫وبعضهــم عــدّ ذلــك داللــة عــن وجــه األرض (املحامــي‪1970 ،‬م‪.)72 :‬‬ ‫ـاص الــذي يضــع يف إطــاره الشــخص ّيات ثــم يســقط عليــه‬ ‫‪ -2-5-3‬متثي��ل امل��كان يف القصــة إنّ املــكان يف العــامل القصــي هــو عالَـ ُ‬ ‫ـم الـراوي الخـ ُّ‬ ‫الزمــن الــذي ال يكــون مســتقالً عــن املــكان‪ ،‬وهــذا العــامل املصنــوع يتكـ ّون مــن الكلــات‪ ،‬وهــذه الكلــات تشـكّل عاملـاً خاصـاً خياليـاً قــد يشــبه‬ ‫وكل را ٍو قــد يخلــق عاملــه ومرسحــه الــذي يتناســب مــع وجهــة نظــره‪ ،‬فيأخــذ املــكان انطالقـاً‬ ‫عــامل الواقــع وقــد يختلــف عنه(قاســم‪1985 ،‬م‪ّ .)104 :‬‬ ‫مــن ذلــك دالالت تتناســب ووجهــة النظــر هــذه‪ ،‬وهــذه مســألة أساسـ ّية يف العمــل القصــي‪ ،‬وهنــا تكمــن قــدرة الـراوي وإبداعــه يف أن يوصــل إىل‬ ‫قصــة نــوح(ع) مــن نقطتــن‪-1 :‬‬ ‫القــارىء أحاسيســه ومشــاعره مــن خــال األمكنــة واالشــياء‪ .‬وبنــاء عــى ذلــك ميكــن دراســة املــكان ووصفــه يف ّ‬ ‫املــكان الواقعــي واملــكان املتخ ّيــل ‪ -2‬املــكان األليــف واملــكان املعــادي؛ ومل نــأت عــى دراســة مســتوى الرؤيــة‪ ،‬ألنّ ذلــك يتعلــق بالـراوي‪ ،‬والـراوي يف‬ ‫قصــص القــرآن هــو الخالــق عـ ّز وجــل الــذي يــروي قصــص األنبيــاء لنب ّيــه محمــد لغايــات وأهــداف تخــدم الدعــوة والديــن‪ .‬وال شــكّ يف أنّ وصــف‬ ‫كل مقطــع مــن مقاطعــه يخــدم بنــاء الشــخص ّية‪ ،‬ولــه أثــر مبــارش أو غــر مبــارش يف تطـ ّور الحــدث (املصــدر‬ ‫املــكان ومتثيلــه ال يــأيت بــا مـ ّرر‪ ،‬بــل إنّ ّ‬ ‫القصــة القرآن ّيــة‪.‬‬ ‫الســابق‪ .)111 :‬و هنــا تظهــر عالقــة هــذه املســتويات باألهــداف املتو ّخــاة مــن ّ‬ ‫قصــة نــوح(ع) يف عــامل الواقــع‪ ،‬مــع أنــاس واقع ّيــن‪ ،‬فاألماكــن يف هــذه القصــة‬ ‫‪ -1-2-5-3‬امل�كـان الواقعيــ واملكــان املتخ ّيل‪:‬جــرت أحــداث ّ‬ ‫توزّعــت بــن دوائــر (الســفينة‪ -‬التنــور‪ -‬جبــل الجــودي)‪ ،‬ومل تــرد فيهــا أماكــن تحــدّ د مــكان الحــوار الــذي كان يــدور بــن نــوح(ع) وقومــه‪ ،‬فبقيــت‬ ‫القصــة تتوزّعهــا الصح ـراء‪ ،‬حيــث بنــى نــوح(ع) الســفينة‪ .‬أخــذت الســفينة‬ ‫غامئــة تتــوزّع بــن داره وأماكــن كان يرتادهــا أهلــه وقومــه‪ .‬فأماكــن ّ‬ ‫بعــداً واقع ّيـاً وأخــذت بعــداً متخيـ ّـاً يف الوقــت نفســه‪ ،‬فهــي املــكان الواقعــي الــذي ســيلجأ اليهــا نــوح(ع) ومــن معــه للنجــاة والخــاص مــن الهــاك‪،‬‬ ‫وكانــت املــكان الوهمــي بالنســبة إىل الكافريــن وكذلــك املــكان املشــكوك يف أمــره ويف حقيقــة هدفــه‪ ،‬وهــذه الســفينة تجــري دون قبطــان يقودهــا‬ ‫إىل هــدف أو مــكان‪ ،‬فاللــه تك ّفــل بجريانهــا ووصولهــا إىل ب ـ ّر األمــان‪َ ﴿ ،‬و َقـ َ‬ ‫ـم ‪O‬‬ ‫ـال ا ْركَ ُبــوا ِفي َهــا ب ِْسـ ِـم اللَّ ـ ِه َم ْج َرا َهــا َو ُم ْر َســاهَا إِنَّ َر ِّب لَ َغ ُفــو ٌر َر ِحيـ ٌ‬ ‫ـب َم َع َنــا َو َل تَكُـ ْن َمـ َـع الْكَا ِفرِيـ َن ﴾( هــود ‪.)42-41/‬وملّــا كان بـ ّر‬ ‫ـي تَ ْجـرِي ِب ِهـ ْ‬ ‫ـي ا ْركَـ ْ‬ ‫ـم ِف َمـ ْوجٍ كَالْجِ َبــالِ َونَــادَي نــوح ابْ َنــهُ َوكَانَ ِف َم ْعـ ِزلٍ يَــا بُ َنـ َّ‬ ‫َو ِهـ َ‬ ‫األمــان يف عــامل الواقــع بالنســبة إىل الســفينة وركّابهــا هــو الشــاطيء‪ ،‬فــإنّ بـ ّر األمــان لهــذه الســفينة كان الجبــل‪ ،‬وهنــا املفارقــة وهنــا تتفــاوت اآلراء‬ ‫يف حقيقــة املــكان وإمكانيــة تصنيفــه بــن عــامل الواقــع وعــامل الخيــال‪ .‬فاملــكان يف هــذه القصــة أخــذ بعديــن يف نفــس الوقت‪:‬بعــداً واقع ّيـاً وبعــداً‬ ‫تخ ّيلي ـاً‪ .‬فالســفينة تعــود إىل عــامل الواقــع عندمــا تبنــى يف مــكان تح ّقــق فيــه الهــدف مــن وجودهــا وهــو خــوض البحــار‪ ،‬وتعــود إىل عــامل الخيــال‬ ‫والوهــم عندمــا تبنــى يف مــكان ال يتح ّقــق الهــدف مــن بنائهــا‪ .‬أ ّمــا الج ّنــة والنــار اللتــان آمــن بوجودهــا املؤمنــون عــن يقــن‪ ،‬فهــا املــكان الواقعــي‬ ‫ملــن آمــن واملــكان الوهمــي للكافريــن‪ ،‬ألنّهــم رفضــوا تصديــق ذلــك‪ ،‬واعتقــدوا أنّ نوح ـاَ(ع) يقــول كالم ـاً خارج ـاً عــن نطــاق واقعهــم ونطــاق مــا‬ ‫ورثــوه عــن آبائهــم‪ ،‬ثــم يــأيت الطوفــان الــذي هدّ دهــم بــه نــوح(ع)‪ ،‬فــكان الطوفــان املــكان الوهمــي للكافريــن‪ ،‬ويف الوقــت نفســه كان املــكان‬ ‫الواقعــي للمؤمنــن‪ .‬م ّثــل جبــل الجــودي ب ـ ّر األمــان مــن الطوفــان‪ ،‬وهــذا أمــر طبيعــي‪ ،‬فعنــد الطوفــان يكــون امللجــأ املــكان املرتفــع‪ ،‬وكأنّ هــذا‬ ‫الجبــل ارتفــع يف مكانــه ومكانتــه‪ ،‬فارتفاعــه ســبب الخــاص مــن الطوفــان‪ ،‬وإشــارة إىل أنّ للمؤمنــن مكانــة عاليــة ســامية‪ ،‬كــا ّ‬ ‫دل عــى عالقتــه‬ ‫باالماكــن املقدّ ســة‪ ،‬ألنّــه كان رم ـزاً للنجــاة ولثــواب مــن آمنــوا عــى إميانهــم‪ .‬إنّ كالًّ مــن الســفينة والجبــل اكتســبا بعــداً واقع ّي ـاً ال وهــم فيــه وال‬ ‫القصــة‪ ،‬إذ م ّثــل هــو والســفينة‬ ‫مجــال للخيــال عندمــا حصــل الطوفــان وتحقّقــت الغايــة مــن بنــاء الســفينة‪ .‬وظهــرت قيمــة الجبــل ودوره يف أحــداث ّ‬ ‫مكانــن لهــدف واحــد وحقيقــة واحــدة‪ .‬أ ّمــا الت ّنــور فهــو مــكان واقعــي حقيقــي بحســب بعــض التفس ـرات‪ ،‬ســواء أعــاد إىل آدم أم نــوح (ع) كــا‬ ‫ذكرنــا ســابقاً‪ ،‬إالّ أنّــه يأخــذ بعــداً مختلفـاً بالنســبة إىل نــوح (ع)‪ ،‬فهــو إشــارة ورمــز يرشــدان إىل حقيقــة العقــاب والثــواب‪ .‬أ ّمــا بالنســبة إىل قومــه‬ ‫كأي تّنــور آخــر لجهــة وظيفتــه‪ ،‬ولك ّنــه مــع نــوح(ع) اكتســب وظيفــة جديــدة‪ ،‬إذ غــدا رضورة ألنّــه خــدم تحقّيــق وعــد اللــه‪.‬‬ ‫فهــو مــكان عــادي ّ‬ ‫القصــة‪ ،‬إذ بوســاطة األمكنــة‬ ‫وهكــذا فــإنّ أماكــن قصــة نــوح(ع) أماكــن واقعيــة‪ ،‬ودراســة املــكان الواقعــي واملتخيــل أكّــدت دور الهــدف اإللهــي مــن ّ‬ ‫وصلــت الرســالة إىل محمــد‪ ،‬صلــی اللــه عليــه وآلــه وسـلّم‪ ،‬وعــرف كــم عــاىن مــن قبــل غــره مــن األنبيــاء مــع أقوامهــم‪ ،‬وأدرك قــارىء القرآن الرســالة‬ ‫القصــة؛ فالجبــال مل تعصــم مــن الغــرق مهــا ارتفعــت‪ .‬هــذه األماكــن الواقع ّيــة يف النــص القــرآين اكتســبت خلف ّيــة أخــرى‪ ،‬فالســفينة التــي‬ ‫مــن هــذه ّ‬ ‫تســتعمل للســفر والتنقــل عــر البحــار غــدت مكانـاً للخــاص والنجــاة مــن غضــب اللــه عــى القــوم الكافريــن‪ ،‬وأصبحــت رمـزاً الســتمراريّة الحيــاة‬


‫يقــدم لحظــات مشــحونة ويدفــع األمــور إىل الــذروة (زراقــط‪1999 ،‬م‪ .)708/2 :‬ففــي املشــهد تظهــر الشــخص ّيات أمــام القــارىء وكأنهــا عــى املــرح‬ ‫تتحـ ّرك وتتنافــس وتحكــم‪« ،‬فيشــعر القــارىء أنــه يشــارك عــن طريــق الحــوار يف رؤيــة الشــخص ّيات وهــي تتحـ ّرك ومتــي وتتكلّــم‪ ،‬واملشــهد يقــع‬ ‫يف ف ـرات زمنيــة محــدّ دة كثيفــة مشــحونة خاصــة والفــارق بــن املشــهد والتلخيــص أن القــارئ يف التلخيــص يتجــه إىل ال ـراوي وكأنــه يســتمع إىل‬ ‫قصــة نــوح﴿ َولَ َقــدْ أَ ْر َسـلْ َنا نوحـاً إىل َق ْو ِمـ ِه َفلَ ِبـ َ‬ ‫ـم الطُّو َفــانُ ﴾‬ ‫ـم أَلْـ َ‬ ‫ـف َسـ َن ٍة إِ َّل َخ ْم ِسـ َن َعا ًمــا َفأَ َخ َذ ُهـ ُ‬ ‫ـث ِفي ِهـ ْ‬ ‫صوتــه»( قاســم‪1985 ،‬م‪ .)65 :‬جــاء يف ّ‬ ‫القصــة وكأنّهــا مــرح عليــه الشــخص ّيات هــي تتحــرك( قاســم‪1985 ،‬م‪ .)65 :‬مــن أمثلــة ذلــك الحــوار‬ ‫( العنكبــوت‪ ،)14/‬بينــا يف املشــهد تُشــاهد ّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫الــذي دار بــن نــوح(ع) وقومــه وجدالهــم له﴿ َويَــا َقـ ْو ِم َل أ ْسـألُك ُْم عليــه َمـ ً‬ ‫ـال إِنْ أ ْجـر َِي إِ َّل عــى اللَّـ ِه َو َمــا أنَــا ِبطَا ِر ِد‪ُ ...‬قـ ْـل إِنِ اف َ َْتيْ ُتــهُ فَعــى إِ ْج َرا ِمــي‬ ‫َوأَنَــا بَ ـرِي ٌء ِمـ َّـا تُ ْج ِر ُمونَ ﴾(هــود‪ .)38 -27/‬وينتقــل مــن املشــهد إىل التلخيــص‪ ،‬ومــن خــال هــذا املشــهد تنكشــف خصائــص الشــخص ّيات ويتبـ ّـن‬ ‫حساســة وشــائكة‪ ،‬هــي موضــوع الخــاف بــن الطرفــن املتحاربــن‪.‬‬ ‫موقــف ّ‬ ‫كل منهــا مــن قضيــة ّ‬ ‫‪ -3-2-4-3‬الوقفة‪:‬تحــدث الوقفــة عندمــا يتو ّقــف الكاتــب عــن الــرد‪ ،‬ويلجــأ إىل الوصــف فيتح ـ ّرك النــص مــن دون أيّــة حركــة زمن ّيــة‪ ،‬وهــذا‬ ‫يحــدث يف مقاطــع الوصف(زراقــط‪1999 ،‬م‪ .)708/2 :‬والوقفــة هــي أبطــأ رسعــات الــرد‪ ،‬لذلــك تس ـ ّمى باالس ـراحة ( بح ـراوي‪1990 ،‬م‪ .)76 :‬ويف‬ ‫قصــة نــوح مل نعــر عــى مثــل هــذه التد ّخــات يف عمل ّيــة الوصــف‪ ،‬ومل نعــر عــى اس ـراحات توقــف الــرد‪ ،‬ألنّ الهــدف إيصــال رســالة وتقديــم‬ ‫ّ‬ ‫حــدث يقنــع ويث ّبــت قلــب النبــي محمــد (ص) وقلــوب أتباعــه مــن املؤمنــن‪.‬‬ ‫قصة نوح(ع)‬ ‫‪ -5-3‬بناء املكان يف ّ‬ ‫‪ -1-5-3‬الدوائر واملک ّونات‪:‬‬ ‫القصــة حامـاً غــر داللــة‪ ،‬فهنــاك املــكان الــذي كان يســتخدمه نــوح(ع) دليـاً وبرهانـاً يســاعده‬ ‫‪-1-1-5-3‬الجنــة والنـ�ار‪ :‬ظهــر املــكان يف هــذه ّ‬ ‫يف الإقنــاع؛ وهنــاك املــكان املوعــود (الج ّنــة)‪ ،‬وهنــاك املــكان الــذي اســتخدمه نــوح(ع) للرتهيــب (النــار)‪ .‬وهــذان مكانــان غــر منظوريــن وغــر‬ ‫مدركــن باالحســاس؛ هــا مكانــان ال يعــرف بهــا الكافــرون بينــا يعــرف بهــا املؤمنــون‪ ،‬وهــؤالء ينظــرون إىل الجنــة عــى أنّهــا املــكان املشــتهى‪،‬‬ ‫وإىل النــار عــى أنــه املــكان املكــروه‪ ،‬وأ ّمــا الكافــرون فينظــرون إىل املكانــن نظــرة الرافــض‪ .‬وقــد ربــط اللــه هذيــن املكانــن مبــا هــو محســوس يف‬ ‫ـم إِنَّــهُ كَانَ َغ َّفــا ًرا﴾ (نــوح‪ ،)10/‬وأ ّمــا النــار‬ ‫الحيــاة الدنيــا ليقـ ّرب الفكــرة إىل عقــل اإلنســان‪ ،‬فجــاءت الجنــة بعــد االســتغفار‪َ ﴿:‬ف ُقل ُْت ْاسـ َت ْغ ِف ُروا َر َّبكُـ ْ‬ ‫ـم ِم ـ ْن دُونِ اللَّـ ِه أَن َْصــا ًرا﴾ (نــوح‪ .)25/‬وهــذا املــكان‬ ‫ـم َيجِ ــدُ وا لَ ُهـ ْ‬ ‫ـم أُ ْغ ِر ُقــوا َفأُ ْد ِخلُــوا نَــا ًرا َفلَـ ْ‬ ‫فقــد جــاءت بعــد الخطيئــة والضــال﴿ ِمـ َّـا خ َِطي َئاتِ ِهـ ْ‬ ‫(النــار) و(مــكان الغــرق) يــدالّن عــى عــذاب الكافريــن الــذي تــوزّع عــى مكانــن مي ّثــان عــذاب الدنيــا وعــذاب اآلخــرة‪ .‬فمــن هنــا نــرى أن املــكان‬ ‫ـاص يف الحيــاة الدنيــا وهــو االســتغفار‪ ،‬ولذلــك أصبــح املــكان مح ّببـاً ومرغوبـاً فيــه ومشــتهى؛ وأ ّمــا املــكان الثــاين‬ ‫االول (الج ّنــة) مرتبــط مبوضــوع خـ ّ‬ ‫(النــار) فقــد ارتبــط بالفســاد والخطيئــة والرذيلــة‪ ،‬انطالقـاً مــن كــون هــذه األماكــن مكروهــة لــدى البــر األســوياء‪ ،‬فقــد ربطهــا اللــه مبالــه عالقــة‬ ‫بنتيجــة الضــال وهــو العــذاب يف النــار‪ .‬ويبقــي الهــدف مــن ذكــر هذيــن املكانــن وهــو إيضــاح عاقبــة مــن آمــن ومــن كفــر‪.‬‬ ‫‪ -2-1-5-3‬الس�ماء واألرض‪ :‬جــاء ذكــر الســاء واألرض والقمــر‪ ،‬مــن بــاب الح ّجــة والربهــان عــى عظمــة الخالــق؛ وقــد اســتعملها نــوح(ع) خــال‬ ‫ـف َخلَـ َـق اللَّــهُ َسـ ْب َع َسـ َـا َو ٍ‬ ‫ات‬ ‫ـم تَـ َر ْوا كَ ْيـ َ‬ ‫دعوتــه‪ ،‬فلفــت نظــر قومــه إىل التأ ّمــل يف خلقهــا‪ ،‬فأشــار اليهــا مســتخدماً أســلوب االســتفهام االنــكاري ﴿أَلَـ ْ‬ ‫سا ًجــا ﴾(نــوح ‪ .)16-15/‬ولكـ ّن قــوم نــوح ص ّمــوا آذانهــم عــن ســاع الحــق‪ ،‬وحجبــوا عيونهــم عــن‬ ‫ِط َبا ًقــا َو َج َعـ َـل الْ َق َمـ َر ِفي ِهـ َّن نُــو ًرا َو َج َعـ َـل الشَّ ـ ْم َس ِ َ‬ ‫النظــر يف األدلــة الواضحــة ( شــحاتة‪1998 ،‬م‪ .)74/3 :‬وهــذا النكـران وإبعــاد العقــل ودوره أدّى إىل مــكان آخــر مرتبــط باإلمعــان يف الكفــر والكربيــاء‪.‬‬ ‫ـم أَنْ َهــا ًرا ﴾( نــوح‪ ،)12/‬وهــو مــن األماكــن املوعــودة‪ ،‬فمــن يصــدق يف توبتــه يغمــره اللــه بالنعــم‪ ،‬وينــزل عليــه‬ ‫وقــد ورد ذكــر النهــر ﴿ َويَ ْج َعـ ْـل لَكُـ ْ‬ ‫املطــر نعمــة ال نقمــة‪ ،‬ألنّ املطــر ربــط بالنعمــة عنــد املؤمنــن‪ ،‬وبالنقمــة عنــد َمــن ضلّــوا وعصــوا فــكان ســبب هالكهــم‪.‬‬ ‫‪ -3 -1-5-3‬الصحـ�راء والبح��ر والس��فينة‪ :‬فمــن دوائــر املــكان الصحـرا ُء التــي بنــى فيهــا نــوح الســفينة‪ ،‬وراح قومــه يســخرون منــه‪ ،‬ألنّــه يقــوم‬ ‫بعمــل غــر مألــوف بالنســبة إليهــم‪ ،‬وهــو بنــاء الســفينة يف الصحـراء التــي تح ّولــت فيــا بعــد مــن صحـراء إىل بحــر هائــج‪ ،‬وبذلــك تكــون الصحـراء‬ ‫القصــة‪ ،‬وأصبحــت الســفينة هــي املكـ ّون األســايس لهــذا املــكان وشــعار النجــاة فيــه ورمــز‬ ‫والبحــر مكانـاً واحــداً شـكّل الدائــرة األساسـ ّية ألحــداث ّ‬ ‫ِ‬ ‫ـم ِف َمـ ْوجٍ كَالْجِ َبــالِ َونَــادَي نــوح‬ ‫ـي تَ ْجـرِي ِب ِهـ ْ‬ ‫االميــان‪ .‬إنّ مــرح األحــداث كان الصحـراء‪ ،‬إالّ أنّ هــذا املــرح تحـ ّول إىل بحــر هائــج األمــواج ﴿ َوهـ َ‬ ‫القصــة‪ ،‬ولك ـ ّن اإلشــارة الدالّــة عليهــا‬ ‫ـب َم َع َنــا َو َل تَكُ ـ ْن َمـ َـع الْكَا ِفرِينَ﴾(هــود‪ ،)42 /‬فالصح ـراء مل يــرد ذكرهــا يف ّ‬ ‫ـي ا ْركَـ ْ‬ ‫ابْ َنــهُ َوكَانَ ِف َم ْع ـ ِزلٍ يَــا بُ َنـ َّ‬ ‫كانــت مــن خــال ســخرية قــوم نــوح(ع) منــه‪ ،‬فلــو كان نــوح(ع) يســكن يف مــكان قريــب مــن البحــر ملــا ســخر منــه قومــه‪ ،‬فســخريتهم منــه دليــل‬ ‫عــى قيامــه بأمــر مخالــف للأملــوف وهــو صناعــة ســفينة يف صح ـراء ال وظيفــة للســفينة فيهــا‪ ،‬ولك ـ ّن نوح ـاَ(ع) كان عــى يقــن مــن أنّ الســفينة‬ ‫ســتجد وظيفــة لهــا يف هــذا املــكان الــذي تحـ ّول إىل بحــر تجــري فيــه الســفينة‪ ،‬ولذلــك فقــد كان هــذا التحــول يف املــكان مرتبطـاً بوعيــد نــوح(ع)‬ ‫لقومــه‪.‬‬ ‫وقــد وردت الســفينة تحــت هــذه االســاء‪« :‬الجاريــة‪ -‬ذات ألــواح‪ -‬الفلــك»‪ .‬ومل يــرد ذكرهــا يف ســورة نــوح(ع) بــل جــاء الحديــث عنهــا يف قصــة‬ ‫نــوح(ع) مــن ســورة هــود‪ .‬فنــوح(ع) بــدأ بصناعــة الفلــك‪ ،‬وكان يعيــش يف الصح ـراء‪ ،‬ولذلــك كانــت الســفينة مكان ـاً لالســتغالل مــن قبــل جامعــة‬ ‫الكافريــن فأصبحــت الســفينة رم ـزاً لجنــون نــوح حســب زعمهــم‪ ،‬إذ ال ميكــن أن يتوافــق وجــود ســفينة يف الصح ـراء‪ .‬فــا وظيفتهــا هنــاك ؟ لقــد‬ ‫كانــت تحمــل داللتــن متناقضتني‪:‬كانــت رم ـزاً لنجــاة نــوح(ع) ومــن آمــن معــه‪ ،‬وكانــت رم ـزاً لهــاك الكافريــن‪ ،‬وللحيــاة واســتمراريّتها بقولــه ﴿‬


‫وهــم يركبــون فيهــا للنجــاة‪.‬‬ ‫وقــد نظــر الكافــرون مــن قــوم نــوح إىل الجبــال عــى أنّهــا املــكان العاصــم مــن الغــرق‪ ،‬ولذلــك فــإنّ ابــن نــوح مل يحــدد اســم جبــل يعصمــه بــل‬ ‫أي جبــل ومــكان مرتفــع‪ ،‬ولكــن بالنســبة إىل نــوح(ع) واملؤمنــن فــإن العصمــة‬ ‫قــال ســآوي إىل جبــل يعصمنــي؛ فكلمــة جبــل بصيغــة النكــرة تعنــي ّ‬ ‫مــن الغــرق والنجــاة مرتبطــة مبــكان معــن حــدّ ده لهــم الخالــق وحــدد للســفينة وو ّجههــا اليــه‪ ،‬وليســت كل الجبــال املرتفعــة تــؤدّي الغــرض نفســه‪،‬‬ ‫ألنّ النجــاة مرتبطــة بالعمــل ومبــا يف القلــوب‪.‬‬ ‫القصــة مرتبــط بــه وحــده‪ ،‬وهــو ال يعنــي شــيئاً لغــره مــن قومــه إالّ الوظيفــة الحقيق ّيــة‬ ‫أ ّمــا الت ّنــور ففيــه إشــارة إىل نــوح(ع) فقــط‪ ،‬وذكــره يف ّ‬ ‫ـكل النــاس‪ ،‬قبــل كونــه إشــارة إىل العــذاب‪ّ ،‬إل أنّــه رمــز العيــش لفئــة املؤمنــن فقــط‪ ،‬وإشــارة إىل هــاك الكافريــن‬ ‫املرتبطــة بالخبــز مصــدر العيــش لـ ّ‬ ‫لحظــة رؤيتــه وهــو يفــور‪ .‬بنــاء عــى هــذا‪ ،‬فــإن دراســة العالقــة بــن الشــخص ّيات واملــكان تبـ ّـن أهم ّيــة الفضــاء الــذي تح ّركــت فيــه الشــخص ّيات‬ ‫عــى أرض الواقــع‪ ،‬مــن خــال طموحاتهــا‪.‬‬ ‫‪-4‬النتيجة‬ ‫لقــد التــزم األدب القصــي القــرآين قضايــا الدعــوة إىل اللــه وتســليط الضــوء عــى مــا جــاء بــه األنبيــاء؛ ومــن خــال دراســتنا لقصــة نــوح‬ ‫ ‬ ‫أي تركيــز عــى املظهــر الخارجــي للشــخص ّية‪ ،‬وإنّ ــا الرتكيــز كلّــه عــى الناحيــة الداخل ّيــة لهــا‪ ،‬وهــذا مــا بــدا واضحــا‬ ‫تبـ ّـن لنــا أنّــه اليوجــد يف ّ‬ ‫القصــة ّ‬ ‫يف أفعــال الشــخص ّيات وتفكريهــا وعالقاتهــا االجتامع ّيــة وحواراتهــا مــع االخريــن‪ ،‬ســواء يف مــا يتعلّــق بالنبــي وأتباعــه‪ ،‬أو يف مــا يتعلّــق بالشــخص ّيات‬ ‫املناوئــة واملعيقــة؛ ولهــذا قــد تعــدّ دت الشــخص ّيات وتن ّوعــت‪ ،‬ودلّــت بهــذا عــى تنـ ّوع املجتمعــات عــر العصــور‪ ،‬وأبــرز أســباب الـراع اإلنســاين‬ ‫�م بالنسـ�بة إىل الشـ�خص ّيات القرآن ّيـ�ة أنّهـ�ا مت ّيـ�زت بالواقع ّيـ�ة‪ ،‬وعـ ّبرت عـ�ن لسـ�ان حالهـ�م وعـ�ن املجتمـ�ع إنطالقـ�اً مـ�ن رغبـ�ات‬ ‫عـبر األزمـ�ان‪ .‬واألهـ ّ‬ ‫ونــوازع تدفعهــا إىل ذلــك‪.‬‬ ‫قصــة نــوح(ع) ‪ ،‬الحظنــا كيــف أفــادت تقن ّيــات الرتتيــب مــن اســتباق واســرجاع يف الكشــف عــن مضمــون الدعــوة التــي‬ ‫وأ ّمــا بالنســبة للزمــان يف ّ‬ ‫نهــض بهــا هــذا النبــي‪ .‬أ ّمــا تقن ّيــات الدميومــة مــن تلخيــص ومشــهد ووقفــة فقــد أظهــرت بتكاملهــا وانســجامها الــدروس الكثــرة والعــر البليغــة‬ ‫القصــة‪ ،‬كــا كشــفت عــن الطريقــة التــي تعاطــى بهــا النبــي نــوح(ع) مــع قومــه يف ســبيل إنجــاح دعوتــه‪ ،‬واكتســاب‬ ‫التــي تنطــوي عليهــا تلــك ّ‬ ‫رضــوان اللــه تعــاىل‪.‬‬ ‫القصــة‪ ،‬مــن خــال عالقتــه بالشــخص ّيات‬ ‫القصــة ويف ّ‬ ‫کل قصــص القــرآن تج ـ ّرد مــن حياد ّيتــه‪ ،‬لِ ُيســهم بشــكل ف ّعــال يف بنــاء ّ‬ ‫واملــکان يف هــذه ّ‬ ‫القصــة تُظهــر أن كالًّ مــن الســفينة وجبــل‬ ‫التــي تفعــل وتنفعــل مــن جهــة‪ ،‬وتؤثّــر يف األحــداث املتنام ّيــة مــن جهــة أخــرى‪ .‬إنّ العــودة إىل تفاصيــل ّ‬ ‫القصــة املذكــورة‪ ،‬متحــورت تلــك الوظائــف‬ ‫قصــة النبــي نــوح(ع)‪ ،‬وقــد نهــض هــذان املكانــان بغــر وظيفــة يف ّ‬ ‫الجــودي قــد أدّى دوراً مهـ ّـاً يف بنــاء ّ‬ ‫حــول موضــوع االميــان باللــه ورضورة هــذا االميــان‪ ،‬وعقــاب الكافريــن الذيــن أنكــروا هــذا االميــان وســخروا منــه‪/.‬‬

‫املصادر واملراجع‬ ‫‪1 1‬القرآن الكريم‪.‬‬‫‪2 2‬ابن كثري‪ ،‬ابو الفداء‪2003 .‬م‪ .‬قصص األنبياء‪ .‬بريوت‪ :‬دار الفكر‪.‬‬‫‪3 3‬ابن كثري ‪،‬عامد الدين أيب الفداء إسامعيل‪1981 .‬م‪ .‬تفسري القرآن العظيم ‪ .‬بريوت‪ :‬دار الفكر‪.‬‬‫‪4 4‬أيوب‪،‬نبيل‪1997 .‬م‪ .‬الطرائق إىل نص القارىء املختلف‪ .‬الطبعة األولی‪ .‬بريوت‪ :‬دار املکتبة األهلية‪.‬‬‫‪5 5‬بحراوي‪ ،‬حسن‪1990 .‬م‪ .‬بنية الشكل الروائ‪ .‬بريوت‪ :‬املركز الثقايف العريب‪.‬‬‫‪6 6‬البستاين‪ ،‬بطرس‪ .‬د‪.‬ت‪ .‬أدباء العرب يف األندلس وعرص االنبعاث‪ .‬بريوت‪ :‬دار نظري عبود‪.‬‬‫‪7 7‬بستاين‪ ،‬محمود‪ 1382 .‬ش‪ .‬البالغية الحديثة‪ .‬الطبعة األولی‪ .‬قم‪ :‬دار الفقه‪.‬‬‫‪8 8‬بكر‪ ،‬أمين‪1998 :‬م‪ .‬الرسد يف مقامات الهمذاين‪ ،‬القاهرة‪ ،‬الهيئة املرصية العامة للكتاب ‪.‬‬‫‪9 9-‬الجزائري ‪،‬أبو بكر‪ 1418،‬هـ‪.‬ق‪ .‬أيرس التفاسري‪ ،‬املدينة املن ّورة‪ ،‬مكتبة العلوم والحكم‪ ،‬ال طبعة ‪.‬‬


‫ـكل مخلوقاتهــا‪.‬‬ ‫بـ ّ‬ ‫‪-2-2-5-3‬امل��كان األلي��ف (املحب��ب) واملـ�كان املعـ�ادي (املك��روه)‪:‬إنّ الح ّيــز الــروايئ يعكــس الشــخص ّية‪ ،‬ومــا كان لهــذه أن تــرب ّإل يف ح ّيــز‬ ‫القصــة يُقــدَّ م مــن خــال الشــخص ّيات ومواقفهــا ورؤيتهــا‪ .‬وبنــاء‬ ‫جغـرايف أو يف مــكان (مرتــاض‪1998 ،‬م‪ .)143 :‬ومــن املعــروف أيضـاً أنّ املــكان يف ّ‬ ‫عــى ذلــك فــإنّ األماكــن تتــوزّع بــن أماكــن أليفــة محبوبــة بالنســبة إىل الشــخص ّية وأماكــن معاديــة مكروهــة‪ .‬األماكــن املحبوبــة تبعــث عــى الرضــا‪،‬‬ ‫انطالقـاً مــن مجموعــة عوامــل‪ ،‬منهــا اإلميــا ّين واملــادّي واالجتامعــي والنفــي وكذلــك األماكــن املعاديــة التــي تكرههــا الشــخص ّية ألســباب كثــرة‪ .‬ويف‬ ‫كل‬ ‫ـم ِمــدْ َرا ًرا﴾( نــوح‪ .)11/‬كذلــك يظهــر ّ‬ ‫السـ َـا َء عليكُـ ْ‬ ‫ّ‬ ‫قصــة نــوح(ع) تظهــر الســاء مكانـاً أليفـاً ملــن يؤمــن‪ ،‬فتكــون ســبباً للحيــاة واملطــر﴿ يُ ْر ِســلِ َّ‬ ‫مــن القمــر والشــمس كونهــا مصــدراً مــن مصــادر الحيــاة‪ ،‬ثــم تظهــر األرض مكانـاً يســتق ّر فيــه االنســان ويســلكه ويتخـ ّـر منــه مــا يشــاء ﴿ َواللَّــهُ‬ ‫ـم ْالَ ْر َض ب َِســاطًا﴾( نــوح‪ .)19/‬ثــم تظهــر الســفينة التــي صنعهــا نــوح بوحــي مــن اللــه‪ ،‬فــإذا هــي املــكان األليــف بالنســبة إىل نــوح(ع)‬ ‫َج َعـ َـل لَكُـ ُ‬ ‫ومــن معــه‪ ،‬ألنّــه مــكان النجــاة والخــاص مــن عــذاب الكافريــن ومكرهــم‪ .‬وكذلــك ظهــر جبــل الجــودي الــذي غــدا ب ـ ّر األمــان وانطالقــة حيــاة‬ ‫جديــدة بالنســبة إىل نــوح واملؤمنــن‪ ،‬بعيــداً مــن الفســاد والضــال‪ .‬هــذه األماكــن ظهــرت بغالب ّيتهــا أماكــن أليفــة مــن وجهــة نظــر شــخص ّيات‬ ‫مع ّينــة وهــي نــوح(ع) واملؤمنــون معــه‪ ،‬ولذلــك ارتبطــت األلفــة بالظــروف اإلميان ّيــة الدين ّيــة؛ ولك ّنهــا مل تكــن عــى مســتوى واحــد‪ ،‬فاملــكان بــدا‬ ‫محبوبـاً أليفـاً مــن زاويــة رؤيــة مع ّينــة ومــن وجهــة نظــر محــدّ دة‪ ،‬وبــدا مكروهـاً مــن زاويــة أخــرى بحســب مواقــف الشــخص ّيات األخــرى‪ .‬واملــكان‬ ‫الــذي بــدا أليف ـاً محبوب ـاً لنــوح(ع) ومــن معــه‪ ،‬بــدا مكروه ـاً معادي ـاً ألعــداء نــوح(ع) ومــن كفــروا بدعوته‪.‬وهكــذا فاألماكــن قــد تعــدّ أليفــة أو‬ ‫معاديــة وذلــك بحســب الشــخصية وعالقتهــا بهــا‪ ،‬فالســاء أصبحــت معاديــة ألنّهــا إحــدى مس ـ ّببات الطوفــان للظاملــن‪ ،‬والســفينة بــدت موضــع‬ ‫ســخرية للكافريــن واســتغاللها للهــزء بنــوح(ع) ودعوتــه‪ ،‬وكذلــك جبــل الجــودي الــذي غــدا بـ ّر األمــان مل يكــن كذلــك بالنســبة إىل الظاملــن‪.‬‬ ‫القصــة وظائــف متعــدّ دة‪ ،‬تتحــدّ د انطالق ـاً مــن دالالت املــكان وعالقتــه‬ ‫قصــة نــوح(ع)‪ :‬للمــكان يف ّ‬ ‫‪ -3-5-3‬الوظيفــة التفســرية للمــكان يف ّ‬ ‫القصــة قــد يســاعد يف الكشــف عــن نفس ـ ّية الشــخص ّية وطبيعــة حياتهــا ومزاجهــا وطبعهــا وغناهــا‬ ‫بالش��خص ّية‪ .‬إنّ مــا يــرد ذكــره مــن أمكنــة يف ّ‬ ‫وفقرهــا‪ ،‬ذلــك ألنّ مظاهــر الحيــاة الخارج ّيــة مــن مــدن ومنــازل وأثــاث وأدوات ومالبــس تذكــر ألنّهــا تكشــف عــن حيــاة الشــخص ّية النفس ـ ّية‬ ‫وتشــر إىل مزاجهــا( قاســم‪1985 ،‬م‪ .)111 :‬لذلــك فاملــكان يوضــح هــذه الظواهــر‪ ،‬ويعطــي القــارىء فكــرة عــن الشــخص ّية ومــا يحيــط بهــا‪ ،‬ومــن‬ ‫هنــا جــاءت أهم ّيــة دراســة هــذه الوظيفــة للمــكان يف العــامل القصــي‪ .‬فاملــكان خشــبة مــرح واســعة تعــرض الشــخص ّيات مــن خاللهــا أهواءهــا‬ ‫ـب أن أحبــت عليــه‪ ،‬وتكــره إن كرهــت مــن خالله(مرتــاض ‪1998‬م ‪،‬ص‪.)158‬‬ ‫وهواجســها ونوازعهــا وعواطفهــا وآمالهــا وآالمها‪...‬تحـ ّ‬ ‫قصــة النبــي نــوح(ع)‪ ،‬والتــي تنتمــي إىل القصــص الواقعــي‪ ،‬عــن حيــاة الشــخص ّية ونفسـ ّيتها وأشــار إىل مزاجهــا وطبعهــا‪،‬‬ ‫وقــد کشــف املــكان يف ّ‬ ‫وبالتــايل فاملــكان فيهــا ليــس حياد ّيـاً‪ ،‬بــل أدّى وظيفــة تفســر ّية تتعلّــق باألهــداف التــي يريــد اللــه أن يوصلهــا إىل نب ّيــه محمــد (ص)‪ ،‬وإىل قــارىء‬ ‫القــرآن مــن بعــده‪ .‬فالجاريــة مــكان يحمــل داللــة كبــرة‪ ،‬إذ إنّ وجودهــا مرتبــط بوعــد اللــه لنــوح (ع) بالنجــاة‪ ،‬وهــي ترمــز إىل اســتمرار ّية الحيــاة‬ ‫بإنســانها وحيوانهــا‪ ،‬وهــي مــكان يحفــظ حــق اإلنســان املؤمــن بالعيــش ومــكان يحمــل دعــوة إىل االهتــام بالحيــوان والرفــق والعنايــة بــه ألنّــه‬ ‫مخلــوق أســايس يف الحيــاة‪ .‬هــذه الســفينة أخــذت بعــداً رمزيـاً‪ ،‬عندمــا حملــت داللــة انقســام املجتمــع يف عــر نــوح(ع) إىل قســمني وطبقتــن مــن‬ ‫الناحيــة االميان ّيــة‪ ،‬قســم املؤمنــن الذيــن جعلــوا الســفينة مقرهــم وســبب نجاتهــم‪ ،‬وقســم الكافريــن الذيــن ســيكون ال ـ ّر والجبــال مأواهــم مــن‬ ‫الطوفــان‪ ،‬ليكــون غرقهــم‪ .‬أ ّمــا جبــل الجــودي الــذي مل يصلــه الطوفــان ورســت عليــه الســفينة فــكان انطالقــة الحيــاة الجديــدة الطاهــرة‪ ،‬وهــو الجبــل‬ ‫خصــه اللــه بهــذه الصفــات عــن بق ّيــة األماكــن والجبــال االخــرى‪ .‬وقــد أبــرز هــذا الجبــل قــدرة اللــه يف تســيري الســفينة‪ ،‬مــن دون أن يو ّجههــا‬ ‫الــذي ّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ـم﴾( هــود‪.)41/‬‬ ‫أحــد ﴿ ا ْركَ ُبــوا في َهــا ب ِْسـ ِـم اللَّـه َم ْج َرا َهــا َو ُم ْر َســاهَا إنَّ َر ِّب لَ َغ ُفــو ٌر َرحيـ ٌ‬ ‫القصــة مرتبــط بوجــود املــكان‪ ،‬فاملــدن واملنــازل والشــوارع واملســاجد‪ ...‬ومــن‬ ‫‪ -4 -5-3‬عالقـ�ة امل��كان بالش��خص ّيات‪ :‬إنّ وجــود الشــخص ّيات يف ّ‬ ‫الطبيعــي وجــود عالقــة بــن الشــخص ّيات واملــكان‪ ،‬وهــذه العالقــة الوثيقــة قــد تعكــس أحــوال الشــخص ّيات ونفسـ ّياتها‪ ،‬ومــن هنــا فــإنّ لألماكــن دوراً‬ ‫كبـراً يف فهــم العمــل القصــي وتحديــد الهــدف منــه‪ .‬وهــذا املــكان قــد يصبــح مســاحات خرســاء ال تحمــل شــيئاً مــن الحيــاة والجــال مبعــزل عــن‬ ‫الشــخص ّيات الفاعلــة فيــه‪ .‬والحيــز يخمــد ويخــرس إذا مل تســكنه هــذه الكائنــات الورق ّيــة العجيبــة‪ :‬الشــخص ّية‪ ،‬ألنّهــا هــي التــي تعمــر املــكان ومتــأ‬ ‫الوجــود صياحـاً وضجيجـاً وحركـ ًة وعجيجاً(مرتــاض‪1998 ،‬م‪.)104 :‬‬ ‫قصــة نــوح(ع) شــديد االرتبــاط بالشــخص ّيات‪ ،‬إذ ال معنــى للســفينة بعيــداً مــن النبــي نــوح(ع) والرســالة التــي بعــث ألجلهــا‪ .‬هــذه‬ ‫فاملــكان يف ّ‬ ‫الســفينة كانــت مصــدر فــرح لنــوح(ع) ومــن معــه‪ ،‬وكانــت مصــدر ســخرية يف البدايــة للشــخص ّيات االخــرى‪ .‬ويف النهايــة رمبــا صــارت املــكان‬ ‫املشــتهى الــذي يتم ّنــون اللجــوء اليــه‪ ،‬ألنهــا غــدت املــكان الوحيــد للخــاص؛ وهــذه طبيعــة النفــس البرشيــة عندمــا تــرى املــوت أمامهــا‪ ،‬وتجــد‬ ‫بــاب نــور واحــداً مي ّثــل النجــاة‪ ،‬فمــن الطبيعــي أن تتغـ ّـر نظــرة هــؤالء القــوم اليهــا‪ .‬كانــت الصحـراء مح ّببــة لــدى نــوح(ع) والذيــن آمنــوا يف كلتــا‬ ‫الحالــن‪ ،‬كونهــا املــكان الــذي يعيشــون فيــه قبــل العــذاب وبعــد الطوفــان‪ .‬يف املرحلــة األوىل كانــت املــكانَ الــذي يُدعــى النــاس فيــه إىل الهدايــة‪،‬‬ ‫ومهــا حصــل لهــم يف هــذه املرحلــة مــن عــذاب وتنكيــل يبقــى مح ّببـاً ألنــه يف ســبيل الدعــوة‪ ،‬ويف املرحلــة الثانيــة باتــت املــكانَ الــذي يخلّصهــم‬ ‫مــن عــذاب املفســدين وكيدهــم‪ .‬أ ّمــا بالنســبة إىل الكافريــن فإنّهــا مــكان مح ّبــب‪ ،‬ألنّهــا مصــدر عيشــهم ومــكان قدرتهــم عــى التحكّــم بالحيــاة‬ ‫والفــوز عــى نــوح(ع) وقومــه‪ ،‬ولك ّنهــا تح ّولــت عنــد الطوفــان إىل مــكان ينظــرون اليــه نظــرة الكراهيــة‪ ،‬ألنّهــم فقــدوا القــدرة عــى التحكّــم‪ ،‬وفقــدوا‬ ‫كل مق ّومــات الســلطان والفــوز والحيــاة‪ ،‬وألنّهــم عرفــوا أنهــم املعن ّيــون بهــذا الطوفــان والعــذاب‪ ،‬وهــذا واضــح مــن خــال رؤيتهــم نوحـاً واملؤمنــن‬ ‫ّ‬


‫‪110‬رضوان فتحي ‪ ،‬د‪/‬ت ‪.‬اإلسالم واملذاهب الحديثة ‪،‬القاهرة ‪ ،‬سلسلة اقرأ ‪ ،‬العدد ‪. 415‬‬‫‪111‬زراقط‪ ،‬عبد املجيد‪1 999 :‬م ‪.‬يف بناء الرواية اللبنانية ‪ ،‬بريوت‪ ،‬منشورات الجامعة اللبنانية ‪.‬‬‫‪112‬زيتوين‪ ،‬لطيف‪. 2002،‬معجم مصطلحات نقد الرواية‪ ،‬بريوت‪ ،‬مكتبة لبنان نارشون ودار النهار للنرش‪ ،‬ط ‪. 1‬‬‫‪113‬الســيوطي واملحــي‪ ،‬جــال الديــن‪1385 ،‬هـــ‪ .‬ق تفســر الجاللــن ‪ ،‬بــارشاف وتصحيــح محمــد كريــم راجــح وحســن خطــاب‪ ،‬دمشــق ‪،‬املكتبــة‬‫الهاشــمية ‪.‬‬ ‫‪114‬شحاته‪ ،‬عبدالله‪.1998 ،‬أهداف كل سورة ومقاصدها يف القرآن الكريم‪ ،‬القاهرة ‪ ،‬الهيئة املرصية العامة للكتاب‪ ،‬ط ‪.1‬‬‫‪115‬الشعراوي‪ ،‬محمد متويل‪. 2000 ،‬قصص االنبياء ‪ ،‬القاهرة‪ ،‬التوفيقة ‪ ،‬ط ‪. 1‬‬‫‪116‬شيخ أمني‪ ،‬بکري‪. 1994 ،‬التعبري الفني يف القرآن‪ ،‬بريوت‪ ،‬دار العلم للماليني ‪.‬‬‫‪117‬الطربي‪ ،‬أبو جعفر محمد بن جرير‪ 1997 .،‬تاريخ الطربي تاريخ األمم وامللوك‪ ،‬بريوت‪ ،‬دار الكتب العلمية‪.‬‬‫‪118‬عابدين‪ ،‬عبد املجيد‪ .1956 ،‬األمثال يف النرث العريب القديم ‪ ،‬القاهرة‪ ،‬ط ‪ ،1‬دار نهضة مرص ‪.‬‬‫‪119‬عباس‪ ،‬حسن‪.2004 ،‬قصص القرآن الكريم ‪ ،‬عامن‪ ،‬دار الفرقان ‪.‬‬‫‪220‬عطية عيل‪ ،‬سعيد‪ .2006 ،‬االعجاز القصيص يف القرآن ‪ ،‬القاهرة ‪ ،‬دار االفاق العربية ‪.‬‬‫‪221‬فتوح ‪ ،‬أحمد محمد‪. 1977 ،‬الرمز والرمزية يف الشعر املعارص ‪ ،‬القاهرة‪ ،‬دار املعارف مبرص ‪.‬‬‫‪222‬قاسم‪ ،‬سيزا‪. 1985 ،‬بناء الرواية ‪ ،‬القاهرة ‪ ،‬الهيئة املرصية العامة للكتاب ‪.‬‬‫‪223‬قطب‪ ،‬سيد‪ .1966 ،‬التصوير الفني يف القرآن ‪ ،‬القاهرة ‪ ،‬دار الرشوق ‪.‬‬‫‪224‬قطب‪ ،‬سيد‪. 1995 ،‬يف ظالل القرآن ‪ ،‬القاهرة‪ ،‬دار الرشوق‪ ،‬ال طبعة ‪.‬‬‫‪225‬قطب‪ ،‬محمد‪. 2002 ،‬القصة يف القرآن مقاصد الدين وقيم الفن‪ ،‬القاهرة‪ ،‬دار قباء ‪.‬‬‫‪226‬قطب‪ ،‬محمد‪. 1993 ،‬منهج الرتبية االسالمية‪ ،‬القاهرة‪ ،‬دار الرشوق ‪.‬‬‫‪227‬كامل حسن‪ ،‬محمد ‪. 1970 ،‬القرآن والقصة الحديثة ‪ ،‬بريوت‪ ،‬دار البحوث العلمية ‪.‬‬‫‪228‬محمد جامل ‪ ،‬احمد ‪ 1405‬هـ‪.‬ق‪.‬القصص الرمزي يف القرآن‪ ،‬بريوت‪ :‬دارالكتب العريب‪ ،‬ط‪. 4،‬‬‫‪229‬مرتاض‪ ،‬عبد امللك‪1998‬م‪ .‬يف نظرية الرواية‪ ،‬الکويت‪ ،‬عامل املعرفة‪ ،‬العدد(‪.)240‬‬‫‪330‬مجموعة من املولفني‪ .2010،‬املعجم الرسديات‪ ،‬إرشاف‪:‬محمد القايض‪،‬بريوت ‪،‬دار الفارايب‪.،‬‬‫‪331‬نجم‪ ،‬محمد يوسف‪. 196 1 ،‬القصة يف االدب العريب الحديث‪ ،‬القاهرة‪ ،‬املکتبة األهلية‪ ،‬ال طبعة ‪.‬‬‫‪332‬نجم‪ ،‬محمد يوسف‪1977 ،‬م‪ .‬فن القصة‪ ،‬بريوت‪ ،‬دارالثقافة‪ ،‬ال طبعة ‪.‬‬‫‪333‬نديم‪ ،‬دعکور‪ .1986 ،‬تنقية الرواية‪ ،‬بريوت‪ ،‬جامعة القديس يوسف‪ ،‬ال طبعة‪.‬‬‫‪334‬نواب الدين‪ ،‬عبد الرب‪.1990 ،‬الدعوة اىل الله تعالى‪ ،‬دمشق‪ ،‬دار القلم‪ ،‬م‪.‬‬‫‪335-‬يقطني‪ ،‬سعيد‪.1997 ،‬تحليل الخطاب الروايئ‪ ،‬بريوت‪ ،‬املرکز الثقايف العريب‪ ،‬ط ‪. 3‬‬




‫بناء الشخصيات في قصة يوسف (ع)‬ ‫محمود فرحات‬ ‫وتحوالتها‪:‬‬ ‫ هوية الشخصيات‬‫ّ‬

‫إن الشــخصية عنصــر أســاس فــي عمليــة القــص‪ ،‬وهــي التــي تقــوم بــدور كبيــر فــي حركــة الســرد القصصــي‪ ،‬وهــي يمكــن‬ ‫أن تكــون شــخصية محوريــة أساســية لهــا حضورهــا القــوي الفعــال ويمكــن أن تكــون شــخصية ثانويــة تــؤدي دو اًر مــن خــال‬ ‫حــدث مــا وفــي حيــز زمكانــي‪ ،‬فتعكــس علــى هــذا المــكان بعـ ّـداً مــا وداللــة معينــة تكتســب خصوصيتهــا مــن خــال أحــداث‬ ‫تتعلــق بالشــخصية أو مواقــف وتصرفــات وحـوارات‪ .‬فلذلــك يمكــن أن تتفــاوت الشــخصية مــن» حيــث مركزيتهــا وهامشــيتها‪...‬‬ ‫ومــن حيــث حركتهــا ‪ ...‬أو ثباتهــا ‪ ...‬وكذلــك مــن حيــث تجانســها الذاتــي‪ ..‬أو عــدم تجانســها»‪ .1‬والشــخصية األساســية فــي‬ ‫قصــة يوســف(ع) هــي النبــي يوســف ســاعدتها شــخصيات ثانويــة ســنحاول اإلضــاءة علــى هويتهــا وعلــى التح ـوالت التــي‬ ‫طـرأت عليهــا‪.‬‬

‫أ‪ -‬شخصيـة يوسـف(ع)‪:‬‬ ‫تمثــل شــخصية يوســف (ع) الشــخصية الرئيســة‪ ،‬وهــي شــخصية تتميــز عــن غيرهــا بصفــات كثي ـرة‪ ،‬وإذا كانــت د ارســة‬ ‫شــخصية كل مــن ســيدنا نــوح(ع) وســيدنا إبراهيــم (ع) بعيــدة عــن الهويــة الجســدية فذلــك أن الق ـران الكريــم أراد مــن خــال‬ ‫قصــة كل منهمــا إظهــار مــا لــه عالقــة بالناحيــة الدعويــة والتركيــز علــى الهويــة األخالقيــة والهويــة النفســية انطالقـاً مــن عالقــة‬ ‫ذلــك بالمجتمــع وبأحــداث القصــة‪ .‬اال أن ليوســف قضيــة إنســانية أخــرى تعــرض لهــا الق ـران الكريــم فــي قصتــه التــي أطلــق‬ ‫عليهــا « أجمــل القصــص»‪ ،‬ليشــير إلــى فتنــة الجمــال وإلــى كيفيــة التعامــل مــع هــذه الفتنــة كنعمــة ال كنقمــة تبعــد االنســان‬ ‫عــن أخالقياتــه وعــن إيمانــه أحيانــا‪.‬‬ ‫أوال‪ :‬الهويــة الخلقيــة‪ :‬إن يوســف ظهــر بقمــة األخــاق وهــذا مــا أكدتــه أفعالــه وردات فعلــه‪ ،‬فيوســف الــذي رمــي فــي الجــب مــن‬ ‫خــال أفعــال إخوتــه وانتقــل إلــى قصــر العزيــز مملــوكاً‪ ،‬كان رجـاً أمينـاً ابتعــد عــن خيانــة ســيده‪ ،‬وحافــظ علــى عرضــه‪ ،‬ولــم‬ ‫يســتغل جمــال شــكله وإعجــاب زوج الملــك بــه ليســير وراء شــهواته ويخــون ســيده فــي عرضــه‪ ،‬بــل ترفــع عــن غ ارئـزه وشــهواته‬ ‫وكبــح جمــاح نفســه ورفــض االســتجابة لذلــك بقولــه‪ »:‬معــاذ هللا إنــه ربــي أحســن مث ـواي»‪ ،‬فظــل شــخصية محافظــة علــى‬ ‫كرامتهــا معتبـ اًر ذلــك خطـاً ال يســمح ألحــد أن يتجــاوزه‪ ،‬وإن كان الثمــن حريتــه‪ ،‬فهــو قبــل أن يلقــى فــي الســجن ُهـ ّـدد وعــرف‬ ‫أن الســجن ســيكون مصيـره إن لــم يســتجب لهــذه الرغبــات التــي يســتجيب لهــا الكثيــرون مــن عالــم البشــر ويســتغلونها فرصــة‪،‬‬ ‫ومــع ذلــك رفــض التنــازل عــن أخالقياتــه مقابــل ذلــك‪ ،‬فهــو شــخصية قابلــت بيــن الســجن والحرمــان مــن الحريــة وبيــن التمتــع‬ ‫والملــذات الشــهوانية التــي يتبعهــا معصيــة للخالــق ‪ ،‬وفضــل الســجن علــى الوقــوع فــي هــذه الخطيئــة‪.‬‬ ‫ثانيــا‪ :‬الهويــة الثقافيــة‪ :‬إن النبــي يوســف(ع) تمتــع بالكثيــر مــن العلــم والثقافــة‪ ،‬واســتطاع بعلمــه وثقافتــه ‪-‬التــي ابتــدأت‬ ‫عالماتهــا مــع الســجن مــن خــال تأويلــه أحــام رفيقيــه ثــم تأويلــه حلــم العزيــز‪ -‬أن يتحــول مــن إنســان مملــوك معاقــب علــى‬ ‫تهمــة لــم يرتكبهــا إلــى إنســان متحــرر مــن تلــك القيــود القاه ـرة ليســتلم زمــام الحكــم ويســير البــاد فــي اقتصادهــا مــن خــال‬ ‫تحولــت شــخصية يوســف مــن إنســان مملــوك مأمــور‬ ‫خطــة اقتصاديــة وضعهــا لتخليــص مجتمعــه مــن الفقــر والمجاعــة‪ ،‬وهكــذا ّ‬ ‫ينظــر إليــه نظـرة عبــد مســجون بتهمــة التعــدي علــى العــرض والخيانــة األخالقيــة إلــى إنســان فــي مركــز القـرار يحكــم بالعــدل‬ ‫ويــوزع ثــروات البــاد علــى مســتحقيها دون تمييــز‪ ،‬حتــى إخوتــه الذيــن كادوا لــه كيــداً كبيـ اًر ورمــوه فــي الجــب بهــدف التخلــص‬ ‫منــه لــم يمنــع عنهــم المســاعدة‪.‬‬ ‫ثالثــا‪ :‬الهويــة النفســية‪ :‬لقــد شــغلت شــخصية يوســف نفســية راقيــة مترفعــة عــن كل الدنايــا وعــن كل المصالــح الشــخصية‪،‬‬ ‫وبعيــدة عــن كل المــآرب الخاصــة‪ ،‬والمتعاليــة علــى األحقــاد‪ ،‬فيوســف صفــح عــن إخوتــه الذيــن أرادوا الخــاص منــه وســعوا‬ ‫لذلــك‪ ،‬وصفــح عــن زوج الملــك التــي رمتــه فــي الســجن ســنين وســنين ظلمـاً وعدوانــا‪ ،‬وترفــع عــن أحقــاده‪ ،‬فعندمــا صــار فــي‬ ‫مركــز الحكــم لــم ينتقــم لنفســه مــن إخوتــه الذيــن كان ـوا ســبباً فــي غربتــه وبعــده عــن أبيــه وموطنــه‪ ،‬والذيــن كان ـوا ســبباً غيــر‬ ‫مباشــر فــي ســجنه‪ ،‬وكذلــك لــم ينتقــم لنفســه مــن زوج العزيــز التــي كانــت الســبب المباشــر فــي ســجنه وفقــده حريتــه‪ ،‬ويوســف‬ ‫‪ 1‬‬

‫‪ -‬أمين بكر‪ ،‬السرد يف مقامات اهلمذاين‪ ،‬ص ‪( 50‬الكالم مرجعه)‪price Gerald: “a dictionary of Natratology” p22‬‬


‫وقــد مثــل إخــوة يوســف المكــر والخــداع واالحتيــال حيــث اجتمع ـوا علــى خــداع يوســف(ع)‪ ،‬مــن ناحيــة وخــداع أبيهــم مــن‬ ‫ناحيــة ثانيــة مــع علمهــم بمــا ســيتركه تغييــب يوســف عــن أبيــه مــن حــزن وكمــد نظـ اًر لمعرفتهــم المســبقة بتعلــق يعقــوب بابنــه‬ ‫يوســف‪ ،‬وهــذا يؤكــد طمعهــم وأنانيتهــم وتفكيرهــم األنانــي ‪ ،‬وحبهــم ألنفســهم وادعاءهــم الــكاذب بعالقتهــم بأبيهــم يعقــوب وعــدم‬ ‫حبهــم لــه‪ ،‬وإال لمــا أقدمـوا علــى مــا يحزنــه ويؤذيــه فــي إبعــاد يوســف عنــه بدعــوى أن الذئــب أكلــه وهــم فــي غفلــة عنــه‪.‬‬ ‫كمــا أن إخــوة يوســف أدوا دوريــن أساســيين س ـواء بالنســبة ليوســف أم بالنســبة ليعقــوب والــد يوســف‪ ،‬فبأنانيتهــم أفقــدوا‬ ‫غيبــوه عنــه ‪ ،‬ومــن خاللهــم عــاد إليــه بص ـره عندمــا رجع ـوا بقميــص‬ ‫والدهــم بص ـره بســبب حزنــه الشــديد علــى يوســف الــذي ّ‬ ‫يوســف واشــتم رائحتــه وكانــت المعج ـزة اإللهيــة‪ ،‬وقــد تحولــت شــخصية ه ـؤالء بيــن أول القصــة وآخرهــا مــن الماســك بزمــام‬ ‫األمــور والمتحكــم بشــخصية البطــل والمتصــرف بأمورهــا‪ ،‬فرمــوه فــي الجــب وأبعــدوه ونفــذوا مــا قــرروا فعلــه ومــا خططـوا لــه‪،‬‬ ‫إلــى المســتجدي أمــام يوســف الضعيــف أمامهــم المســتضعف فــي نظرهــم‪ ،‬والــذي بــات مصــدر رزقهــم وعيشــهم‪ ،‬وهــذا مــا فعلــوه‬ ‫عندمــا كان عــام المجاعــة والقحــط حيــث توجهـوا إليــه طالبيــن المســاعدة منــه‪.‬‬ ‫وهكــذا نــرى األمــور قــد انقلبــت‪ ،‬فيوســف المســتضعف الــذي ال حيلــة لــه أمــام كيــد إخوتــه يتحــول إلــى صاحــب الق ـرار‬ ‫ومصــدر اإلغاثــة والعــون‪ ،‬وإخوتــه يتحولــون بالعكــس مــن أصحــاب القــوة والقــدرة علــى التحكــم بمصيـره إلــى مجموعــة ضعيفــة‬ ‫أمامــه تســتجدي طالبــة العــون‪ .‬لكــن المفارقــة أن يوســف عندمــا كان قــاد اًر علــى التشــفي لــم يفعــل ذلــك بــل ســاعدهم ولــم‬ ‫يرجعهــم خائبيــن مــع معرفتــه ويقينــه بمــا فعلــوه بــه مــن إبعــاد وبمــا فعلــوه بوالــده مــن هـ ّـم وحــزن‪.‬‬ ‫وهكذا من خالل هذه الدراسة تمثلت لنا جوانب كثيرة من شخصية إخوة يوسف كان لألحداث دور في تكوينها‪.‬‬

‫ج‪ -‬امرأة العزيز‪:‬‬ ‫هــي الم ـرأة التــي أوصاهــا زوجهــا عزيــز مصــر أن تكــرم مثــوى يوســف بعدمــا اشــتراه مــن الجماعــة الذيــن أخرجــوه مــن‬ ‫ﮜ ﮝﮞ ﮟ ﮠﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﭼ يوســف‪ ١٩ :‬وقــد أشــار هللا فــي قولــه‬ ‫البئــر‪ :‬ﭽ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘﮙ ﮚ ﮛ‬ ‫أسـ ّـروه بضاعــة الــى الس ـرية والخــوف مــن تملكــه مــا دفعهــم إلــى بيعــه كــي ال يظــل عبئ ـاً عليهــم‪.‬‬

‫غير أن امرأة العزيز تجاوزت ذلك الى حد العشــق فرغبت به وراودته عن نفســه وغّلقت األبواب‪ ،‬فقال تعالى‪ :‬ﭽ ﭑ ﭒ ﭓ‬ ‫ﮖ‬ ‫ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭼ يوسف‪ ٢٣ :‬ثم قال‪ :‬ﭽ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ‬ ‫ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﭼ يوسف‪.« ٢٥ :‬‬ ‫ﮗ‬

‫ففــي هاتيــن اآليتيــن تظهــر صفــات عديــدة الم ـرأة العزيز‪،‬فقــد بــدت ام ـرأة عاشــقة‪ ،‬تمتلكهــا عواطفهــا ونزواتهــا‪ ،‬فتنازلــت عــن‬ ‫مكانتهــا وضربــت الفــارق بيــن مقامهــا كســيدة وبيــن يوســف كعبــد لهــا عــرض الحائــط‪ ،‬وكل ذلــك مقابــل نزواتهــا وعواطفهــا‪.‬‬ ‫وبــدت ام ـرأة ذات عزيمــة وإص ـرار علــى ارتــكاب الفاحشــة والخيانــة الزوجيــة‪ ،‬دون أن يثنيهــا عــن ذلــك أي مانــع حتــى ولــو‬ ‫كان إص ـرار يوســف المعشــوق علــى الرفــض‪.‬‬ ‫أمــا مــن الناحيــة الفكريــة‪ ،‬فــان مــا فعلتــه أمــام زوجهــا يوحــي بذكائهــا وســرعة بديهتهــا مــن خــال تصرفهــا أمــام زوجهــا‬ ‫بشــكل طبيعي إلبعاد الشــك عن نفســها‪ ،‬فرمت الكرة في مرمى يوســف طالبة له من الملك عقاباً من اثنين‪ -‬بســبب إســاءته‬ ‫حســبما زعمــت‪ -‬فإمــا الســجن وإمــا العــذاب األليــم‪ .‬فشــخصية ام ـرأة العزيــز تحولــت الــى ام ـرأة شــرهة عاطفيــة تريــد تحقيــق‬ ‫نزواتهــا حتــى ولــو كان عــن طريــق الخيانــة الزوجيــة‪ ،‬فهــي قبــل يوســف كانــت محــط ثقــة زوجهــا الــذي طلــب إليهــا أن تكــرم‬ ‫مثـواه‪ ،‬ولــم يظهــر قبــل هــذه الحادثــة أي شــك مــن زوجهــا بهــا‪ ،‬ولــم يظهــر أي نفــور بينهــا وبيــن العزيــز‪ ،‬إال أن وجــود يوســف‬ ‫فــي القصــر دفعهــا إلــى هــذا التحــول فظهــرت عليهــا عالمــات الخيانــة وعالمــات المكــر والخــداع‪ ،‬والكــذب علــى زوجهــا واتهــام‬ ‫اآلخريــن (يوســف) زو اًر وبهتان ـاً‪ ،‬وهــذا مــا يظهــر أنانيتهــا‪ .‬كمــا تحولــت مــن ام ـرأة كاذبــة مخادعــة مراوغــة الــى ام ـرأة جريئــة‬ ‫وذلــك مــن خــال اعترافهــا بأنهــا هــي الجانيــة وأن يوســف بــريء‪ ،‬وأنهــا هــي التــي راودتــه عــن نفســه‪ .‬بقولهــا‪ :‬ﭽ ﯸ ﯹ ﯺ‬ ‫ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﭼ يوســف‪. ٥١ :‬‬ ‫كمــا أنهــا تبــدو امـرأة منطقيــة تلجــأ دائمـاً الــى المنطــق للدفــاع عــن نفســها‪ ،‬وهــذا مــا حاولــت فعلــه عندمــا رفــض يوســف‬ ‫االســتجابة لرغباتهــا‪ ،‬وهــرب أمامهــا ورآهمــا الملــك‪ .‬وكذلــك عندمــا أرادت أن تثبــت للنســوة اللواتــي يتكلمــن عــن قصتهــا‬ ‫ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ‬ ‫وعالقتهــا بفتاهــا حيــث أثبتــت لهــن أن مــن تعلــق قلبهــا فيــه يفــوق تصوراتهــن بكثيــر‪ .‬ولذلــك ﭽ ﭢ ﭣ ﭤ‬ ‫ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ‬ ‫ﭰ ﭱ‬ ‫ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ‬ ‫ﮇ ﮈ ﭼ يوســف‪ ٣٢ - ٣١ :‬وهــي كانــت قــد أعــدت لــكل واحــدة منهــن ســكيناً ومتــكأً وقالــت لــه اخــرج عليهــن‪ ،‬وهــي واثقــة‬


‫(ع) وإن وضــع فــي الســجن وظلــم أكثــر مــن مـرة فــي حياتــه فهــو صابــر علــى كل هــذا‪ ،‬والحقيقــة عنــده أهــم مــن الخــروج مــن‬ ‫الســجن دون إعالنها ‪ ،‬فصبر على ســجنه ظلماً وصبر على اتهاماته زو اًر‪ ،‬ورفض الخروج من الســجن قبل إعالن الحقيقة‬ ‫وجديتهــا فــي الحيــاة‪ ،‬كمــا أنــه صبــر علــى إغـراءات امـرأة العزيــز لــه ليثبــت أن الســيد‬ ‫أمــام المــأ‪ ،‬وهنــا تظهــر قــوة شــخصيته‬ ‫ّ‬ ‫ال يمكنــه التحكــم بمملوكــه بــكل مــا يملــك وخاصــة فــي رغباتــه‪ ،‬وهــذه طبيعــة النفــس البشـرية ‪.‬‬ ‫رابعــا‪ :‬الهويــة الجســدية‪ :‬يتــم التركيــز فــي هــذه القصــة علــى الشــكل الخارجــي ليوســف(ع) والــذي ظهــر مــن خــال تصرفــات‬ ‫النســاء معــه‪ ،‬فــكان كمــا يقــال عنــه أجمــل أهــل زمانــه‪ ،‬وقــد اكتســب جمــاالً دفــع ســيدات الطبقــة الراقيــة أن يراودنــه عــن نفســه‪،‬‬ ‫ﭚ ﭛ ﭼ يوســف‪:‬‬ ‫حتــى ام ـرأة العزيــز التــي غلقــت األب ـواب وقالــت هيــت لــك‪ »:‬ﭽ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ‬ ‫‪ ٢٣‬ولكنــه كان أرفــع مــن غ ارئــز الجســد وشــهواته فترفــع عــن االنغمــاس فــي ذلــك وعــاد إلــى ربــه ويقينــه قائـاًﭽ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠﭡ‬ ‫متحدثـ ًة عنهــا وعــن عالقتهــا بيوســف‬ ‫ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭼ يوســف‪ ٢٣ :‬ولمــا المتهــا نســوة المدينــة‬ ‫ﭢ ﭣ ﭤ ﭥﭦ ﭧ‬ ‫ّ‬ ‫وشــغفها بــه أرادت امـرأة العزيــز أن تثبــت لهــن أن شــخصية يوســف التــي أغرمــت بهــا أعظــم ممــا يتصورنــه وأن جمالــه يفــوق‬ ‫كل تصــور فأعــدت لــكل واحــدة منهــن ســكيناً وقالــت لــه أخــرج عليهــن فكانــت ردة فعلهــن دهشــة كبيـرة أدت الــى تقطيــع أيديهــن‬ ‫ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠﭡ ﭢ ﭣ ﭤ‬ ‫ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ‬ ‫من شــدة إعجابهن بجماله وحســن منظره‪ .‬ﭽ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ‬ ‫ﭲ ﭼ يوســف‪ ٣١ :‬عندهــا قــال يوســف (ع)‪ :‬ﭽ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ‬ ‫ﭰ ﭱ‬ ‫ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ‬ ‫ﮐﮑ ﭼ يوســف‪٣٣ :‬‬ ‫ﮍ ﮎ ﮏ‬ ‫إال أن التركيــز علــى الناحيــة الجســدية الشــكلية عنــد يوســف كان لغايــات حيــث يحمــل دالالت تؤكــد وجــود نوعيــن مــن‬ ‫البشــر‪ ،‬نــوع شــهواني يتعلــق بالشــكل والظاهــر‪ ،‬ومــا بالــك بامـرأة الملــك تغــرم بمملــوك لديهــا وتتخلــى عــن كل مظاهــر األبهــة‬ ‫والكبريــاء عندهــا‪ ،‬وتســقط فــي فــخ الجمــال رغــم الفــارق الزمنــي بينهــا وبيــن مملوكهــا ورغــم الفــارق فــي المكانــة وفــارق العالقــة‬ ‫التــي تربطهــا بــه‪ .‬ونــوع روحانــي مؤمــن يترفــع عــن مغريــات الجســد ويترفــع عــن االنجـرار وراء غ ارئـزه وشــهواته ألن إيمانــه‬ ‫يمنعــه مــن ذلــك‪ ،‬ويبتعــد عــن االســتغالل وهــذا مــا أكدتــه شــخصية يوســف‪ .‬فالحكمــة مــن هــذا المشــهد تقتضــي عــدم االســتغالل‬ ‫وعــدم االنج ـرار وراء الشــهوات والغ ارئــز‪ ،‬واالبتعــاد عــن المعصيــة وخاصــة التــي يتبعهــا مصلحــة شــخصية‪ ،‬فيوســف لــو‬ ‫اســتجاب لرغبــة امـرأة العزيــز لــكان حصــل علــى مــا يريــد‪ ،‬ولكنــه فضــل الســجن علــى ارتــكاب المعصيــة‪.‬‬ ‫وأخي ـ اًر انتهــت قصــة يوســف بدعــاء أثبــت فيــه أدبــه الكبيــر فــي خطابــه لربــه‪ ،‬فبــدأ باالعت ـراف بفضــل هللا عليــه‪ ،‬ذاك ـ اًر‬ ‫أمريــن نالهمــا فــي الدنيــا وهمــا الملــك والعلــم‪ ،‬ملحقـاً ذلــك بطلــب يتعلــق بآخرتــه‪« :‬رب قــد آتيتنــي مــن الملــك وعلمتنــي مــن تأويــل‬ ‫األحاديــث فاطــر الســموات واألرض أنــت وليــي فــي الدنيــا واآلخـرة توفنــي مســلماً وألحقنــي بالصالحين»(ســورة يوســف – اآليــة‬ ‫‪ ،)101‬وهــذا الدعــاء يؤكــد زهــد يوســف بالدنيــا وعــدم دنيويتــه‪ ،‬وتخليــه عــن الدنيــا أمــام األخـرة‪ .‬وهكــذا تظهــر لنــا شــخصية‬ ‫يوســف الشــخصية المحوريــة التــي تــدور حولهــا كل أحــداث القصــة‪ ،‬فقــد كان دوره تحريــر االنســان مــن نوازعــه الذاتيــة الضيقــة‬ ‫والوقــوف فــي وجــه الحســد ودوافعــه‪ ،‬ومواجهــة الدعــوة إلشــباع الشــهوات خــارج النطــاق األخالقــي واالجتماعــي‪ ،‬وتوجيــه الملــك‬ ‫إلــى نظــام اقتصــادي ارئــع‪.‬‬

‫ب‪ -‬إخوة يوسف(ع)‪:‬‬ ‫لقــد ظهــر إخــوة يوســف(ع) فــي موقفيــن‪ ،‬الموقــف األول عندمــا فكــروا بطريقــة للتخلــص مــن يوســف‪ ،‬ليخلــو لهــم وجــه‬ ‫ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ‬ ‫أبيهــمﭽ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ‬ ‫ﯕ ﯖ ﭼ يوسف‪ . ١٠ - ٩ :‬وفي هذه اآلية تظهر شخصية هؤالء اإلخوة الحاقدين‪ ،‬ويظهر اتحادهم على الباطل والقتل‪،‬‬ ‫ويظهــر بوضــوح تصميمهــم علــى الظلــم مقابــل المصلحــة الشــخصية لــكل منهــم‪ ،‬فربــط دعوتهــم للقتــل بتحقيــق مصلحتهــم‬ ‫الشــخصية‪ :‬اقتلـوا – يخــل لكــم وجــه أبيكــم – تكونـوا مــن بعــده قوماًصالحيــن‪ .‬ووجــود ثالثــة آراء فــي التعامــل مــع يوســف دليــل‬ ‫علــى طريقــة تفكيرهــم وأخذهــم بالنصيحــة وديمقراطيتهــم فــي أخــذ القـرار حتــى فــي مــا لــه عالقــة باالعتــداء علــى اآلخريــن‪،‬‬ ‫ولكــن هــذه المشــورة وتلــك الديمقراطيــة كانــت للمصلحــة الشــخصية ليــس إالّ ‪ ،‬فهــم يتشــاورون فــي كيفيــة التخلــص منــه ليخلــو‬ ‫لهــم وجــه أبيهــم‪ ،‬ولكــي ال يكــون الخــاص منــه وبــاالً عليهــم وهــذا مــا ال يريدونــه‪.‬‬ ‫ولجــأ هـؤالء إلــى الحيلــة لالســتفراد بيوســف ‪ ،‬ألن أباهــم ال يأمنهــم عليــه‪ ،‬ولذلــك عليهــم االحتيــال بطريقــة أخــذه وعليهــم‬ ‫التفكيــر بمــا بعــد التخلــص منــه‪ ،‬فكيــف يقنــع هـؤالء أباهــم بصحبتــه؟ وكيــف يقنعونــه بمــا ســيفعلونه معــه؟ فقوله»مــا لــك ال‬ ‫تأمنــا علــى يوســف»‪ ،‬دليــل وإشــارة إلــى طبيعــة العالقــة بيــن األب وأبنائــه فيمــا يتعلــق بشــأن أخيهــم يوســف‪ ،‬وإشــارة إلــى عــدم‬ ‫الثقــة لجهــة تعاملهــم مــع أخيهــم يوســف(ع) الــذي أروا فيــه األحــب الــى أبيهــم منهــم‪ ،‬وهــذا مــا دفعهــم للتخلــص منــه بشــتى‬ ‫الوســائل‪.‬‬


‫يؤكــد عقالنيــة يعقــوب واعتمــاده مبــدأ التربيــة الصحيحــة القائمــة علــى إبعــاد الحقــد مــن بيــن اإلخــوة‪ .‬ولكــن الســبب فــي التحذيــر‬ ‫ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﭼ يوســف‪٨ :‬‬ ‫ظهــر بعــد ذلــك علــى لســان إخوتــه‪ :‬ﭽ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ‬ ‫و‪ -‬الـفتـيـان‪:‬‬ ‫صاحبــا يوســف فــي الســجن‪ ،‬لــم يعــرف مــن خــال ســورة يوســف ســبب ســجنهما‪ »،‬فقــد بــدوا يمثــان الحيــاة اليوميــة‪ ،‬فأحدهمــا‬ ‫بائــع للخبــز واآلخــر عاصــر للخمــر»‪ .3‬ويبــدو أن عالقتهمــا بيوســف كانــت عالقــة طيبــة وظهــر ذلــك مــن خــال خطابــه‬ ‫لهمــاﭽ ﮜ ﮝ ﭼ يوســف‪ ٤١ :‬ولكــن العالقــة لــم تتعــد ذلــك‪ ،‬إال أن يوســف جعــل منهمــا بدايــة لدعوتــه‪ ،‬وكان توقيــت الســجن‬ ‫لــه إعالنـاً لنشــر دعوتــه بــدءاً مــن صاحبــي الســجن كمــا خاطبهمــا‪ ،‬فهاتــان الشــخصيتان تمثــان بدايــة نشــر الدعــوة‪ ،‬كمــا يمثــل‬ ‫الســجن مــكان البــدء بالدعــوة واإلعــان عــن المبــادىء التــي يدعــو إليهــا يوســف‪.‬‬ ‫كمــا يمثــل هــذان الشــخصان الحيــاة ومــا فيهــا مــن عــدل وظلــم‪ ،‬فيوســف أظهــر ألحدهمــا براءتــه ولألخــر صلبــه‪ ،‬وهكــذا‬ ‫فــإن عاقبــة هاتيــن الشــخصيتين كمــا حددهــا يوســف تحمــل أكثــر مــن مؤشــر‪ ،‬فقــد تــدل علــى االستنســابية فــي الحكــم أو تــدل‬ ‫علــى العقــاب العــادل الــذي يأمــر بــه الملــك‪ ،‬فــكل نــال جـزاءه حســب أعمالــه‪ ،‬فأحدهمــا بــريء‪ ،‬واآلخــر مجــرم عقابــه الصلــب‬ ‫والمــوت‪ ،‬كمــا يــدل علــى الحيــاة اليوميــة ومــا فيهــا مــن أن ـواع للبشــر‪ ،‬فمنهــم البــريء المظلــوم‪ ،‬ومنهــم المتهــم المجــرم‪ ...‬إال‬ ‫أن مــا حـ ّـل بيوســف مــن ســجن لســنوات بســبب الظلــم ال يــدل علــى عــدل الملــك فــي حكمــه‪ ،‬إنمــا يؤكــد استنســابيته فــي ذلــك‪.‬‬ ‫كمــا أن نســيان الرجــل الــذي نجــا تنفيــذ وصيــة يوســف وذكـره عنــد ربــه لخيــر دليــل علــى العالقــة التــي كانــت بيــن يوســف‬ ‫وهــذه الشــخصية‪ ،‬حيــث لــم تكــن عالقــة قويــة وإال لمــا نســيه ذلــك الفتــى الــذي ال يهتــم إال لنفســه ولمصالحــه الشــخصية وإال‬ ‫لــكان ذكــر يوســف عنــد ســيده‪.‬‬

‫وهكــذا فــإن هاتيــن الشــخصيتين مّثلتــا الحيــاة اليوميــة ومــا فيهــا مــن تنــوع سـواء فــي الشــخصيات أم فــي التصرفــات والطبــاع‬ ‫المختلفة‪.‬‬

‫ز‪ -‬الشــاهـد‪:‬‬ ‫إن المشــهد الــذي ظهــر فيــه الشــاهد‪ ،‬هــو رؤيــة يوســف وامـرأة العزيــز عندمــا اســتبقا البــاب وألفيــا ســيدها هنــاك‪ ،‬وبــدأت‬ ‫ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ‬ ‫ﮥ ﮦ ﮧ‬ ‫امـرأة العزيــز تشــير إلــى يوســف واعتدائــه عليهــا‪ ،‬حيــث شــهد هنــاك شــهادةﭽ ﮢ ﮣ ﮤ‬ ‫ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﭼ يوســف‪٢٧ - ٢٦ :‬‬ ‫ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ‬ ‫هــذا المشــهد يؤكــد عقالنيــة هــذا الشــاهد وتفكيـره المنطقــي ويظهــر فــي الوقــت نفســه ج أرتــه وقــوة شــخصيته‪ ،‬فعندمــا رأى‬ ‫الشــاهد أدلــى بشــهادة فيهــا الكثيــر مــن الجـرأة‪ ،‬حيــث أثــار الشــكوك حــول امـرأة العزيــز وأكــد أن مــا تقولــه قــد ال يكــون صحيحـاً‪،‬‬ ‫والعقــل والمنطــق هــو الــذي يؤكــد ذلــك‪ ،‬فمجــرد قولــه إن كان قميصــه قــد‪ ...‬لخيــر دليــل علــى شـ ّـكه بمــا تقولــه امـرأة العزيــز‪،‬‬ ‫وهــو مــن أهلهــا‪ ،‬فهــو الشــخص الــذي ال يتزلــف وال يمالــق‪ ،‬فكلمــة الحــق عنــده يجــب أن تقــال حتــى ولــو كانــت علــى حســاب‬ ‫ســيدته أو مــن هــو مــن أهلهــا‪ ،‬وحتــى ولــو كان المتهــم هــو ذاك الشــخص المملــوك‪ .‬فكلمــة الحــق يجــب أن تقــال بعيــدا عــن‬ ‫الممالقــة والمصالــح الشــخصية ‪.‬‬ ‫ومــا تصديــق الملــك واقتناعــه بمــا عرضــه ذاك الشــاهد إال دليــل كبيــر علــى عقالنيتــه وقدرتــه علــى اإلقنــاع‪ ،‬ودليــل علــى‬ ‫ﯪ ﯫ‬ ‫ﯥ ﯦﯧ ﯨ ﯩ‬ ‫قــوة حجتــه‪ ،‬ولذلــك أكــد الملــك كالمــه‪ ،‬فقــال تعالــى‪ :‬ﭽ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ‬ ‫ﯬ ﯭ ﯮ ﯯﯰ ﯱ ﯲﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﭼ يوســف‪٢٩ - ٢٨ :‬‬ ‫فالمحكمــة تألفــت مــن الملــك كحاكــم وقــاض‪ ،‬ومــن شــاهد هــو مــن أهــل البيــت‪ ،‬ولكنــه يتحلــى بالعقالنيــة والمنطــق‪ ،‬والحــدث‬ ‫فــي قاعــة مــن قاعــات القصــر‪ ،‬والمتهمــان ام ـرأة الملــك ومملوكها‪،‬وهكــذا فقــد مثــل الشــاهد الصــدق والعقالنيــة والبعــد عــن‬ ‫ـاء علــى مصالحــه‪ ،‬فــكان حكمــه تأكيــداً‬ ‫الزيــف‪ ،‬لكــن بالمقابــل مثــل الملــك القاضــي الــذي يقتنــع بالحقيقــة‪ ،‬ويحكــم بغيرهــا بنـ ً‬ ‫لســلطة المـرأة عليــه رغــم قناعتــه واعت ارفــه بالحقيقــة‪.‬‬

‫ح – النســوة‪:‬‬ ‫هــن نســوة بالمدينــة لــم يظهــرن إال فــي مشــهدين اثنيــن‪ ،‬وهــذان المشــهدان يتعلقــان بحــدث امـرأة العزيــز ويوســف (ع) ‪،‬‬ ‫فبعدمــا انتشــرت قصــة امـرأة العزيــز مــع يوســف‪ ،‬جــاء دور النســوة فــي الحديــث ونثــر االشــاعات علــى امـرأة العزيــز‪ ،‬فالفرصــة‬ ‫باتــت ســانحة لذلــك‪ ،‬فتصــرف هـؤالء النســوة يؤكــد فطـرة النســاء والغيـرة مــن بعضهــن ‪ ،‬وخاصــة مــن ذوات المســتوى والرفعــة‬ ‫‪ 3‬‬

‫‪ -‬شبكة االنرتنت(شخصيات قصة يوسف)‪ ،‬الشيخ حسن املريسي‪.‬‬


‫‪Endnotes‬‬

‫‪1‬مــن أنــه ســيأخذ عقولهــن وهــذا مــا حصــل‪ .‬وهكــذا‪ ،‬فمــن خــال هــذه الد ارســة لشــخصية امـرأة العزيــز تمثلــت لنــا جوانــب مــن‬ ‫شــخصيتها جاه ـزة‪ ،‬وجوانــب أخــرى غيــر جاه ـزة ســاهمت األحــداث فــي إنتاجهــا‬

‫د‪ -‬عزيز مصر‪:‬‬ ‫تطالعنــا فــي ســورة يوســف شــخصية العزيــز التــي تظهــر مــع بدايــة األحــداث وذلــك عندمــا اشــترى يوســف بد ارهــم معــدودات‪،‬‬ ‫إال أنــه كان رج ـاً عاق ـ اًر ليــس لديــه ولــد ولذلــك قــال لزوجــه ﭽ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟﯠ ﭼ‬ ‫يوســف‪٢١ :‬‬ ‫وفــي هــذه اآليــة تظهــر بعــض صفــات العزيــز الــذي لــم يظهــر عليــه مالمــح الشــفقة علــى يوســف ولــم يكــن يطلــب مــن‬ ‫زوجــه إك ارمــه إال لســبب واحــد فيــه مصلحتــه الشــخصية التــي تتمثــل فــي نقطتيــن‪ :‬أولهمــا أن ينفعنــا‪ ،‬وثانيهمــا نتخــذه ولــداً‪،‬‬ ‫وبمــا أن العزيــز لــم يتكلــم مــع ام أرتــه إال بصيغــة الجمــع فهــذا يــدل علــى حســن العالقــة التــي تربطــه بهــا‪ ،‬أو أقلــه يــدل علــى‬ ‫طريقــة تفكيـره فــي التعاطــي مــع زوجــه التــي يحتــرم‪ ،‬والتــي يــرى أن أي نفــع يعــود إليــه‪ ،‬ســيعود إليهمــا معـاً‪.‬‬ ‫ثــم إن هــذا الرجــل أظهرتــه عالقــة ام أرتــه بيوســف علــى أنــه انســان يســكت عــن الحــق‪ ،‬رغــم معرفتــه بــه‪ ،‬ويتغاضــى عــن‬ ‫خيانــة زوجــه أو محاولــة خيانتهــا لــه مــع تأكــده مــن ذلــك‪ ،‬والســبب أن ال تنتشــر الفضيحــة خــارج القصــر ‪ ،‬واكتفــى مــن ذلــك‬ ‫ﯪ ﯫ ﭼ يوســف‪:‬‬ ‫ﯥ ﯦﯧ ﯨ ﯩ‬ ‫باالقـرار بالحقيقــة أمــام زوجــه وأمــام يوســف بقولــه‪ :‬ﭽ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ‬ ‫‪ ٢٨‬وهــذا الــكالم دليــل علــى اقتناعــه أن زوجــه هــي التــي راودت فتاهــا عــن نفســه‪ ،‬ومــع ذلــك فــإن ردة فعلــه لــم تتجــاوز‬ ‫الطلــب مــن يوســف اإلعـراض عــن ذلــك وعــدم الــكالم بهــذه الفضيحــة‪ ،‬والطلــب إلــى زوجــه أن تســتغفر ربهــا ألنهــا المذنبــة‪.‬‬ ‫فقــال‪ »:‬يوســف أعــرض عــن هــذا واســتغفري لذنبــك إنــك كنــت مــن الخاطئيــن»‪.‬‬ ‫فمــن الناحيــة النفســية بــدا العزيــز فــي هــذا المشــهد رجـاً صبــو اًر علــى الخيانــة ‪ ،‬فلــم يدفعــه مشــهد الخيانــة إلــى الغضــب‪،‬‬ ‫وبــدا إنســاناً عقالني ـاً لجهــة مصلحتــه الشــخصية فقــط‪ ،‬فكتــم غضبــه وتوجــه إليهمــا‪ ،‬للجانــي بــأن يســتغفر ربــه‪ ،‬وللمظلــوم‬ ‫الســكوت عمــا حصــل وعــدم البــوح بــه خوف ـاً مــن الفضيحــة‪ .‬أمــا مــن الناحيــة الفكريــة الثقافيــة فإنــه يظهــر انســاناً عقالني ـاً‬ ‫يأخــذ بحكــم المنطــق فتحليــل الشــاهد المنطقــي‪ :‬ﭽ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﭼ يوســف‪ ٢٧ :‬خيــر دليــل علــى‬ ‫أخــذه بالمنطــق وحكــم العقــل بعيــداً عــن العواطــف‪ ،‬وقبولــه بهــذا الحكــم وإقـ ارره بــأن زوجــه المذنبــة ‪ ،‬ولكــن حكمــه لــم يكــن علــى‬ ‫أســاس مــا اقتنــع بــه!!‬ ‫كمــا أن هــذا الملــك ظهــرت عقالنيتــه ومنطقيتــه وحــس تفكيـره وأخــذه بالمنطــق عندمــا ســمع إلــى يوســف واقتنــع بتأويلــه‪،‬‬ ‫وعندمــا ســمع مــن النســوة خبــر تقطيــع أيديهــن وعندمــا ســمع الحقيقــة مــن زوجــه‪ ،‬إال أنــه ســخر منطقــه وعقالنيتــه لمصلحتــه‬ ‫الشــخصية‪ ،‬فحكــم علــى يوســف بالســجن خوفـاً مــن الفضيحــة والعــار الــذي ســببته زوجــه‪ ،‬وطلــب أن يســتخلص يوســف لنفســه‬ ‫عندمــا بــدا لــه حســن تفكيـره‪ ،‬وعندمــا اكتشــف ذكاءه وقدرتــه الفكريــة االقتصاديــة‪ ،‬حيــث رأى فــي يوســف الشــخص المناســب‬ ‫ليســاعده فــي حكــم البــاد ويقودهــا إلــى بـ ّـر األمــان مــن الناحيــة االقتصاديــة‪ ،‬وينجــي أهلهــا مــن المجاعــة‪ .‬ولكــن يبقــى أن‬ ‫نشــير إلــى أن الرجــل الــذي اشــترى يوســف‪ ،‬وظلمــه وســجنه رغــم تأكــده مــن براءتــه رجــل ال يتحلــى بالعــدل بيــن الرعيــة‪ ،‬وال‬ ‫يســاوي فــي الحقــوق‪ ،‬وليــس أهـاً للحكــم‪.‬‬

‫هـ – يـعـقـوب‪:‬‬ ‫هــو ذلــك اإلنســان الحكيــم الــذي ظهــر فــي بدايــة القصــة وفــي نهايتهــا‪ .‬وقــد بــدا ذلــك الــذي يتمتــع ببعــد النظــر ويســتطيع‬ ‫أن يستشــعر مــا ســيحدث ببصيرتــه‪ ،‬وذلــك مــن خــال تحليلــه لألمــور ومــن خــال معرفتــه للعالقــة التــي تجمــع يوســف بإخوتــه‪.‬‬ ‫فقــال تعالــى‪ »:‬قــال ألــم أقــل لكــم إنــي أعلــم مــن هللا مــا ال تعلمــون»‪ .2‬وقــد ظهــر مــن خــال عالقتــه بيوســف مثــال األب الــذي‬ ‫يخــاف علــى ولــده ويحــرص علــى حمايتــه مــن أي‬ ‫ســوء‪ ،‬فيوســف عندمــا أبلغــه بالرؤيــا اســتطاع أن يفســرها ويأخــذ الحيطــة والحــذر بقولــهﭽ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ‬ ‫ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭼ يوســف‪ ٥ :‬فهــو بكالمــه يؤكــد دور الشــيطان فــي الوسوســة إلخوتــه للكيــد بأخيهــم‪ ،‬فأســباب‬ ‫ﭚﭛ ﭜ‬ ‫الكيــد حســب أريــه منســوبة إلــى الشــيطان عــدو اإلنســان‪ ،‬وهــو بحديثــه عــن كيــد إخوتــه وإتباعــه ذلــك بــدور الشــيطان كان درًءا‬ ‫للفهــم الخاطــىء عنــد يوســف‪ ،‬ومحاولــة مــن يعقــوب ‪-‬العالــم بأسـرار نفــوس أبنائــه‪ -‬لدفــع مــا قــد يتحــرك فــي نفــس يوســف‬ ‫مــن حقــد علــى إخوتــه‪ ،‬فلذلــك تــازم تحذيـره مــن إخوتــه وكيدهــم وذكــر عــداوة الشــيطان لإلنســان فــي ســياق واحــد‪ .‬وهــذا مــا‬ ‫‪ 2‬‬

‫‪ -‬سورة يوسف‪56/12 ،‬‬


‫نفســه الســبب فــي وصولــه إلــى الحكــم وحكــم البــاد ووضــع سياســتها االقتصاديــة ونشـره لدعوتــه مــن خــال موقعــه وســلطانه‪.‬‬ ‫ثــم إن إخوتــه الذيــن كانـوا الســبب فــي إبعــاده عــن أبيــه‪ ،‬قــدر لهــم أن يكونـوا العنصــر المســاعد فــي جمــع أبيــه بــه وإعــادة‬ ‫بصـره إليــه‪ ،‬فالعائلــة التــي تفككــت علــى أيــدي إخوتــه عندمــا كان صغيـ اًر غيــر قــادر علــى المواجهــة‪ ،‬اجتمــع شــملها علــى يــد‬ ‫يوســف عندمــا اســتطاع أن يســتلم مقاليــد الحكــم بعيــداً عــن روح االنتقــام تجــاه إخوتــه‪.‬‬ ‫تحصــل ليوســف مــن ثقافــة وعلــم وثقــة بالنفــس‪ ،‬وفكــر اقتصــادي وبعــد عــن األحقــاد اســتطاع أن‬ ‫وهكــذا ‪ ،‬اعتمــاداً علــى مــا ّ‬ ‫يواجــه ويحقــق مــا كان يصبــو إليــه بعيــداً عــن المصالــح الشــخصية والرغبــات اآلنيــة فــي مجتمــع متنــوع األنمــاط والطبقــات‬ ‫االجتماعيــة والفكريــة والدينيــة‪.‬‬

‫‪.4‬ب‪ -‬آلية الصراع التي حكمت سلوكية إخوة يوسف(ع)‪:‬‬ ‫كان إخــوة يوســف يشــعرون بتفضيــل والدهــم يعقــوب ألخيهــم يوســف عليهــم وتميي ـزه عنهــم‪ ،‬وهــذا األمــر دفعهــم إلــى‬ ‫الدخــول فــي دوامــة التخلــص مــن أخيهــم يوســف أو إبعــاده عــن وجــه أبيهــم ليخلــو لهــم وجــه أبيهــم‪ ،‬وال يكــون بينهــم مــن هــو‬ ‫مميــز عنهــم عنــده‪ ،‬وهكــذا وجــدوا أنفســهم فــي دوامــة صـراع بقــي فــي إطــار الســلبية‪ ،‬فصحيــح أنهــم اســتطاعوا أن يتخلصـوا‬ ‫مــن يوســف ويبعــدوه عــن وجــه أبيهــم ويحتالـوا ويكذبـوا عليــه فــي حقيقــة مصيـره‪ ،‬إال أن ذلــك لــم يجعــل حياتهــم أفضــل ممــا‬ ‫كانــت عليــه ‪ ،‬فمــا فعلــوه نكـ ّـد حياتهــم وجعــل الحــزن والهــم رفيــق أبيهــم‪ ،‬وجعلهــم يشــعرون دائمـاً بعــدم قناعــة أبيهــم بمــا قالـوا‪،‬‬ ‫ويشــعرون كذلــك بــأن التهمــة لــم تبتعــد عنهــم بالنســبة ألبيهــم ألن مــا قالــه لهــم يؤكــد ذلــك عندمــا قــال‪ :‬ﭽ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈﮉ‬ ‫ﮊ ﮋﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﭼ يوســف‪ .١٨ :‬ففــي قولــه بــل ســولت لكــم أنفســكم تأكيــد علــى إلصــاق التهمــة بهــم وعــدم‬ ‫تصديقــه لكالمهــم‪ ،‬وفــي قولــه كذلــك» وهللا المســتعان علــى مــا تصفــون» لتأكيــد علــى أن فــي كالمهــم ووصفهــم لمــا حــدث‬ ‫شــكا كبيـرا‪ ،‬ولذلــك فــا حــول وال قـ ّـوة االّ بــاهلل‪.‬‬ ‫وهكــذا واجــه ه ـؤالء ص ارع ـاً داخلي ـاً كان ســببه عــدم قناعــة األب بمــا حــدث وعــدم تصديقــه لمــا يقولــون‪ ،‬ومــا زاد فــي‬ ‫صراعهــم هــذا أن فعلتهــم هــذه بإبعادهــم ليوســف عــن أبيــه ومحاولــة التخلــص منــه مــا كانــت إالّ لســبب واحــد‪ ،‬هــو رضــا أبيهــم‬ ‫عليهــم وتقربهــم منــه بعيــداً عــن االبــن المفضــل لديــه يوســف(ع)‪.‬‬ ‫ومــا فعلــه هـؤالء اإلخــوة لــم يكــن عالمــة قــوة فــي شــخصيتهم بقــدر مــا كان عالمــة ضعــف‪ ،‬ودليـاً علــى وجــود الكثيــر مــن‬ ‫الصفــات التــي تميــز يوســف عنهــم‪ ،‬وتجعــل األب يمييـزه ويفضلــه‪.‬‬ ‫فعــدم قدرتهــم علــى أن يكونـوا مثلــه وعــدم قدرتهــم علــى احتــال مكانتــه عنــد أبيهــم بوجــوده معهــم فــي الحيــاة لخيــر دليــل‬ ‫علــى ضعفهــم أمــام يوســف وشــعورهم بافضليتــه عليهــم كشــخصية تتســم بمــا ال يســتطيعون أن يتحلـوا بــه‪.‬‬ ‫مــن هنــا يتضــح لنــا أن صـراع اإلخــوة فــي هــذه القصــة كان متشــعباً‪ ،‬فمــن جهــة يريــدون أخــذ عطــف أبيهــم‪ ،‬واســتمالته‬ ‫إليهم ظناً منهم أن العطف الذي ســلبه وجود يوســف‪ ،‬ســيعاد إليهم بإخفائه وإبعاده‪ ،‬متوهمين أن عدم وجوده سينســي األب‬ ‫محبتــه ليوســف‪ ،‬وينســى كذلــك حقــد إخوتــه عليــه‪ ،‬إال أن األمــر كان خــاف ذلــك‪ ،‬فوجــود يوســف فــي حيــاة يعقــوب تمكــن‬ ‫أكثــر‪ ،‬والبعــد العاطفــي ألبنائــه اآلخريــن ترســخ أكثــر‪ ،‬ألنــه كان علــى قناعــة بــأن ضيــاع يوســف وغربتــه كانــت بســبب إخوتــه‪.‬‬ ‫ومــن جهــة أخــرى يريــدون االنتقــام مــن يوســف‪ ،‬يدفعهــم إلــى ذلــك الغي ـرة والحســد‪ ،‬حيــث أنهــم كان ـوا يعتقــدون أنــه ســبب‬ ‫بعــد أبيهــم عنهــم‪ .‬ثــم انهــم كانـوا يريــدون المكانــة والرفعــة التــي ظنـوا أنهــا تتحقــق لهــم بغيــاب أخيهــم يوســف عــن عالمهــم‪ ،‬إالّ‬ ‫أن مــا حصــل أن رؤوس هـؤالء المرفوعــة ‪ ،‬وكبرياءهــم وادعاءاتهــم تبــددت و ازلــت فــي الموقــف األخيــر عندمــا تحققــت رؤيــا‬ ‫ـجداً وقــال‪ :‬ﭽ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜﮝ ﮞ ﮟ ﮠ‬ ‫يوســف وعــادوا إليــه مــع أهلهــم أجمعيــن وخــروا لــه سـ ّ‬ ‫ﭼ يوســف‪١٠٠ :‬‬

‫‪.4‬ج‪ -‬آلية الصراع التي حكمت سلوكية امرأة العزيز‪:‬‬ ‫مشــهدان اثنــان فــي قصــة يوســف كشــفا عــن شــخصية ام ـرأة العزيــز وحــددا آليــة الص ـراع التــي حكمــت ســلوكيتها‪ ،‬فهــي‬ ‫تســعى إلــى اإليقــاع بيوســف بعــد تعلــق قلبهــا بــه‪ ،‬وبالتالــي لــم تســتطع التحكــم برغباتهــا‪ ،‬فعاشــت ص ارعـاً داخليـاً يأخــذ أكثــر‬ ‫مــن بعــد‪ ،‬وهــي لذلــك ال تســتطيع إظهــار هــذا الصـراع إلــى العلــن‪ ،‬فهــي امـرأة العزيــز ويوســف هــذا الفتــى المملــوك لديهــا‪ ،‬فــا‬


‫فــي المجتمــع‪ ،‬وحديثهــن عــن امـرأة العزيــز بذلــك يؤكــد غيرتهــن منهــا وســعيهن للنيــل منهــا والحــط مــن قدرهــا وذلــك ظهــر مــن‬ ‫ﰀ ﰁ ﰂ ﰃﰄ ﰅ ﰆ ﰇﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﭼ يوسف‪:‬‬ ‫خالل قولهن‪ :‬ﭽ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ‬ ‫‪ ٣٠‬وقــد حرصــن فــي حديثهــن علــى ذكــر اســم امـرأة العزيــز وربــط عشــقها بفتاهــا‪ ،‬وتأكيدهــن علــى كلمــة فتاهــا‪ ،‬وعــدم ذكرهــن‬ ‫لــه باسمه»يوســف» وذلــك للعمــل علــى الحــط مــن شــأنها‪ ،‬ذلــك أن الغريــب أن يكــون هنــاك عالقــة حــب بيــن ام ـرأة العزيــز‬ ‫صاحبــة القصــر بفتــى مملــوك عندهــا‪ .‬ومــا كالم امـرأة العزيــز واســتخدامها لكلمتــي‪ :‬مكرهــن – وذلــك الــذي لمتنــي فيــه‪ ،‬إال‬ ‫إشــارة إلــى قصــد هـؤالء النســوة مــن حديثهــن‪ .‬هــذا المشــهد األول الــذي ظهــرن فيــه‪.‬‬ ‫أمــا المشــهد الثانــي فــكان عندمــا ســألهن الملــك عــن يوســف‪ ،‬وكانــت ردة فعلهــن اعت ارف ـاً بالحقيقــة وبالواقــع‪ ،‬وتبرئــة‬ ‫ليوســف مــن الشــكوك التــي تحــوم حولــه‪ ،‬واعالنــا بالب ـراءة أمــام العلــن‪.‬‬ ‫وهكــذا فــإن قصــة يوســف تتكــون مــن عــدة مشــاهد‪ ،‬حيــث يتــوزع كل مشــهد مجموعــة مــن الشــخصيات‪ ،‬محورهــا‬ ‫النبــي يوســف (ع) الــذي ظهــر فــي كل مشــاهدها مــن البدايــة حتــى النهايــة كمحــرك أساســي ألحــداث القصــة‪ ،‬وقــد شــكلت‬ ‫الشــخصيات جزئيــات القصــة وأظهــرت أنماط ـاً مختلفــة مــن النفــس البش ـرية‪ ،‬وأظهــرت التفــاوت الطبقــي والرتــب والطبقــات‬ ‫االجتماعيــة والحيــاة الدينيــة والنزعــات المختلفــة فــي المجتمــع‪ ،‬وأبــرزت النفــس البشـرية ومــا يتنازعهــا مــن همــوم ومــن صفــات‬ ‫متنوعــة ضمــن العائلــة الواحــدة‪ ،‬وضمــن العوائــل المختلفــة فــي المجتمــع‪ ،‬فــكل شــخصية مأســورة بحالــة نفســية معينــة وتتنازعهــا‬ ‫همــوم‪ ،‬إال أنهــا تتفــاوت قيمــة لتعبــر عــن تنــوع النفســيات ومشــاغلها‪ ،‬وتنــوع المجتمــع وطبقاتــه وهمومــه‪.‬‬ ‫وقــد كانــت شــخصيات حقيقيــة تتحــرك علــى أرض الواقــع‪ ،‬متناولــة همــوم النــاس فــي كل زمــان ومــكان ناقلــة واقــع‬ ‫المجتمعــات بعيــداً عــن الخيــال والخ ارفــات‪ ،‬فبــدت وكأنهــا تحاكــي الواقــع بعيــداً عــن األطــر الزمانيــة والمكانيــة‪ ،‬وهــذا مــا جعلهــا‬ ‫شــخصيات غنيــة بالــدالالت التــي جعلتهــا تقــدم صــورة عــن المجتمــع بــكل تنوعاتــه‪.‬‬

‫‪ -4‬آليـة الصـراع‪:‬‬ ‫يبحــث هــذا المبحــث فــي بنــاء شــخصيات قصــة يوســف وهدفــه معرفــة الــذات فــي زمــن ســيدنا يوســف(ع) ودوافعهــا إلــى‬ ‫هــذا الســعي وآليــة الصـراع التــي تتحكــم بســلوك الشــخصية‪ ،‬وهــذه اآلليــة تتعلــق بهويــة الشــخصية الثقافيــة والفكريــة وخلفيتهــا‬ ‫النفســية التــي تدفعهــا إلــى أي ســلوك تســلكه لتحقيــق هــدف مــا‪.‬‬ ‫فمــا اآلليــة التــي حكمــت ســلوكيات شــخصيات قصــة يوســف؟ وإلــى أي مــدى اســتطاعت أن تحقــق مــا كانــت تصبــو اليــه‬ ‫مــن خــال صراعاتهــا؟؟‬

‫‪.4‬أ‪ -‬آلية الصراع التي حكمت سلوكية يوسف (ع)‪:‬‬ ‫تبــدأ قصــة يوســف بســرد رؤيــة يحــدد فيهــا يوســف (ع) بعض ـاً مــن مكانتــه التــي أوحــي بهــا إليــه‪ ،‬ويستشــعر األب مــا‬ ‫ســيحدث‪ ،‬فيحــذر ابنــه ويأمـره بكتــم رؤيــاه عــن إخوته‪،‬ويبــدو الخــاف واضحـاً‪ ،‬وتبــدو الغيـرة واضحــة مــن إخــوة يوســف تجاهــه‪،‬‬ ‫فــي اعترافهــم أن يوســف أحــب الــى أبيــه منهــم‪ ،‬وهــذا االعت ـراف يوضــح حقيقــة الص ـراع بيــن يوســف وإخوتــه‪ ،‬فقــد حاول ـوا‬ ‫التخلــص منــه وإخفــاءه مــن حيــاة أبيــه‪ ،‬ليخلــو لهــم وجــه أبيهــم‪ ،‬وال يعــود هنــاك مــن ينافســهم فــي محبــة أبيهــم‪ .‬ويوســف فــي‬ ‫هــذه المرحلــة فــي غفلــة عمــا يدبــر لــه مــن مكائــد‪ ،‬فإخوتــه يســتعجلون موتــه أو الخــاص منــه‪ ،‬وهــم إذ يســتعجلون الخــاص‬ ‫منــه يحاولــون إقصــاءه عــن عالمهــم وعالــم أبيهــم ظنـاً منهــم أنهــا فتـرة قصيـرة وينســى األب ذلــك‪ ،‬ويقتنــع بمــا ســيقولونه لــه‪.‬‬ ‫ويحــاول والــده أن يبعــد الخطــر عنــه ولكــن الوســائل ال تتوافــر وحيلــة أبنائــه أقــوى‪.‬‬ ‫ثــم تكــون المواجهــة الثانيــة التــي تقــف عائقـاً فــي وجــه يوســف وتمنعــه مــن تحقيــق رغباتــه والوصــول إلــى هدفــه بنشــر دعــوة‬ ‫ربــه واتبــاع إبراهيــم‪ ،‬فتكشــف امـرأة العزيــز عــن رغباتهــا وتحــاول اإليقــاع بــه‪ ،‬ولكنــه يظهــر أمامهــا واثقـاً مــن نفســه أرفــع ممــا‬ ‫تدعــوه إليــه مــن نــزوات ورغبــات متمســكاً بإيمانــه بربــه‪.‬‬ ‫ثــم يظهــر عائــق آخــر أمامــه يؤخـره عــن الوصــول إلــى مــا يصبــو إليــه‪ ،‬فيبــدو الملــك الخائــف علــى ســمعة القصــر فيظلمــه‬ ‫فــي حكمــه ويســجنه رغــم قناعتــه ببراءتــه‪ ،‬ولكــن هــذا الســجن الــذي هيــىء ليكــون عائقـاً أمامــه يمنعــه عــن التواصــل مــع العالــم‬ ‫الخارجــي كعقــاب لــه‪ ،‬كان هــو بالــذات الســبب فــي بــدء تحقيــق أهدافــه‪ ،‬ففيــه ظهــرت نبوغاتــه وتكشــفت جوانــب ذكائــه فــي‬ ‫عالــم األحــام‪ ،‬األمــر الــذي ســاعده علــى الخــروج مــن الســجن‪ ،‬وأكثــر مــن ذلــك الخــروج مــن الســجن الــى عالــم الحكــم‪ .‬فمــا‬ ‫كان الســبب فــي الوقــوف بوجــه رغباتــه ومنعــه مــن نشــر دعوتــه وتحقيــق هدفــه (أي الملــك بحكمــه الظالــم عليــه)‪ ،‬كان هــو‬


‫العــادات تســمح لهــا بالبــوح بمكنوناتهــا‪ ،‬وال المكانــة االجتماعيــة تخولهــا االعتـراف بحبهــا أمــام االخريــن‪ ،‬وال قدرهــا كــزوج للملــك‬ ‫يســمح لهــا بــأن تطلــب مــا تريــد وفــق القوانيــن والشـرائع‪ ،‬كل هــذه األمــور وقفــت حائـاً فــي وجــه امـرأة العزيــز‪ ،‬وفــي وجــه قلبهــا‬ ‫ورغباتــه‪ ،‬فلــم تجــد إال طريقـاً واحــداً لتحقيــق رغباتهــا وإشــباع حاجاتهــا ونزواتهــا‪ ،‬فحاولــت أن تختلــي بيوســف ظنـاً منهــا أنــه‬ ‫ســينقاد إلــى مــا تقولــه وســيتمنى ذلــك شــأن أي عبــد مملــوك مــع ســيدته‪ ،‬فتوهمــت أنــه ســيرضى بمــا تتمنــى‪ ،‬فكانــت المفاجــأة‬ ‫برفضــه خشــية مــن هللا ‪ ،‬وحاولــت وحاولــت لكنهــا لــم تفلــح ومــا وقــف فــي طريــق تحقيــق رغبتهــا هــو شــخصية يوســف وإيمانــه‬ ‫وات ازنــه وخوفــه مــن هللا وتصميمــه علــى عــدم الخيانــة لمــن أحســن اليــه‪ .‬وحاولــت هــذه الم ـرأة كــف األلســنة عنهــا ‪ ،‬وعاشــت‬ ‫ص ارعـاً اخــر ســببه ألســنة نســوة المدينــة التــي بــدأت تقلــل مــن شــأن امـرأة العزيــز‪ ،‬فلجــأت الــى الحيلــة وأرادت أن تثبــت لهــن‬ ‫أن مــن لمنهــا فيــه ليــس شــخصاً عاديـاً ‪ ،‬وتحقــق لهــا ذلــك عندمــا أبــدت النســوة دهشــتها لرؤيتــه‪ ،‬وقلــن‪ :‬ﭽ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ‬ ‫ﭲ ﭼ يوســف‪٣١ :‬‬ ‫ﭰ ﭱ‬ ‫ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ‬ ‫ولكــن هــذه المـرأة بــدت أنهــا كانــت تعيــش نــزوة عابـرة عندمــا راودت فتاهــا عــن نفســه‪ ،‬واتهمتــه وطلبــت لــه العقــاب‪ .‬ألنهــا‬ ‫ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ‬ ‫بعدمــا هــدأت وعــادت إلــى صوابهــا اعترفــت بالحقيقــة وقالــتﭽ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ‬ ‫ﭼ يوســف‪٥١ :‬‬ ‫وهكــذا بــدت امـرأة العزيــز منقــادة لرغباتهــا فــي البدايــة ال تهتــم إال لمصالحهــا الشــخصية‪ ،‬تظلــم مقابــل خالصهــا وإبعــاد‬ ‫التهمــة عنهــا‪ ،‬تـراوغ وتـراوغ مــن أجــل الحفــاظ علــى مكانتهــا‪ ،‬إال أن ذلــك كلــه لــم يمنعهــا فــي النهايــة مــن التحـّـول لتعــود وتشــهد‬ ‫لصالــح يوســف(ع) بعــد ســجنه‪ ،‬وتبرئــه مــن التهمــة التــي كانــت ســبباً فــي ســجنه ألعـوام عديــدة‪.‬‬

‫خاتمة آلية الصراع‪:‬‬ ‫انطالقــا ممــا ســبق‪ ،‬فإننــا نجــد فــي شــخصيات قصــة يوســف تنوع ـاً فــي الهويــات‪ ،‬وهــذا التنــوع يعبــر عــن تنــوع النفــس‬ ‫البشـرية‪ ،‬وتنــوع رغباتهــا وطموحاتهــا فــي الحيــاة‪ ،‬فمنهــا صاحبــة طموحــات إنســانية شــاملة تهــدف إلــى خــاص البشـرية مــن‬ ‫مصاعــب الحيــاة األرضيــة والســير بهــا نحــو النجــاة فــي الدنيــا واآلخ ـرة‪ ،‬ومنهــا صاحبــة رغبــات آنيــة أو طموحــات فرديــة‬ ‫وأهــداف خاصــة ‪ ..‬ولذلــك فــان آليــة الص ـراع التــي تحكــم كل مــن هــذه الشــخصيات تختلــف عــن األخــرى‪ ،‬فمنهــا مــا يتعلــق‬ ‫بالروحانيــات‪ ،‬ومنهــا مــا يتعلــق بالماديــات‪ ،‬وكل ذلــك فــي ســبيل عــرض تناقضــات المجتمــع‪ ،‬وهــذه الشــخصيات صارعــت وقــد‬ ‫حقــق بعضهــا طموحاتــه‪ ،‬كشــخصية يوســف‪ ،‬وبعضهــا صــارع وأخفــق كامـرأة العزيــز‪ ،‬والبعــض اآلخــر صــارع وحقــق بعــض‬ ‫أهدافــه بشــكل آنــي‪ ،‬ثــم مــا لبــث أن انقلــب عليــه عملــه وســعيه‪ ،‬كإخــوة يوســف الذيــن تحققــت فيهــم رؤيــا يوســف(ع) ‪ ،‬وبعــض‬ ‫هــذه الشــخصيات عــاش ص ارعـاً عنيفـاً بيــن كونــه ملــكاً يجــب أن يحكــم بالعــدل ويســوس النــاس باالنصــاف‪ ،‬وبيــن كونــه زوجـاً‬ ‫ويغيــر فــي قناعاتــه‪ ،‬وبالتالــي‬ ‫يجــب أن يســير وفــق رغبــات زوجــه خوفـاً مــن الفضيحــة ومــن اهتـزاز عرشــه‪ ،‬فيكتــم علــى ج ارحــه ّ‬ ‫يسـّـير قضــاءه وفــق حاجــات ومصالــح خاصــة‪.‬‬

‫ ‬




‫فلسفة اللغة‬ ‫« نموذج كمال يوسف الحاج»‬

‫د‪ .‬ماغي عبيد‬ ‫مقدمــة‪ :‬تتســم الحضــارة العربيــة بكونهــا حضــارة اللغــة والفصاحــة‪ ،‬وتتميــز بفــن الشــعر والبالغــة‪ ،‬حتــى ليصــل األمــر‬ ‫ّ‬ ‫بالبعــض مــن المفكريــن المتعصبيــن لهــذه اللغــة حـ ّـد التباهــي علــى الحضــارات األخــرى بغنــى مفرداتهــا ومصطلحاتهــا التــي تُعـ ّـد‬ ‫دل علــى شــيء إنمــا يــدل علــى أهميــة هــذه اللغــة‪ ،‬والتــي‬ ‫بالمالييــن‪ ،‬فــي حيــن أن مفــردات اإلنكليزيــة تُعـ ّـد بــاالآلف‪ ،‬وهــذا إن ّ‬ ‫بالرغــم مــن معاناتهــا فــي عــدم دقــة المصطلــح الــذي يتصــف بالهالميــة تبع ـاً الســتخدام دالالتــه فــي مدل ـوالت عـ ّـدة‪ ،‬قــد تكــون‬ ‫متداخلــة ومتقاربــة‪ ،‬أو متباعــدة ومتباينــة‪ ،‬ممــا يــؤدي إلــى عجــز فــي ربــط اإلســم بمســماه‪ ،‬فيبــدو وكأن هنــاك فقـ اًر فــي اللغــة‪ ،‬فــي‬ ‫حيــن أن المشــكلة ال تعــدو كونهــا «أزمــة مصطلــح» قــد يــدل علــى أشــياء كثيـرة ال علــى شــيء محــدد‪.‬‬ ‫لعلــه مــن الجلــي للعيــان الفروقــات فــي مــا بيــن الميــل والنزعــة اللغويــة فــي الفلســفة المعاصـرة‪ ،‬وبيــن فلســفة اللغــة‪ ،‬علــى‬ ‫اعتبــار أن فلســفة اللغــة شــكلت بديالًعــن الميــل اللغــوي وانغالقـاً علــى اللغــة‪ ،‬فــي محاولــة قــد يكــون الهــدف منهــا القضــاء علــى‬ ‫الفلســفة‪ ،‬متمثلـ ًة بفالســفة التحليــل اللغــوي مــع جــورج مــور‪ ،G.Moore‬برت ارنــد رســل‪ B.Russell‬وفتغنشــتاين‪ L.Wittegenstein‬وغيرهــم‬ ‫مــن المفكريــن الذيــن بحثـوا فــي إشــكاليات اللغــة المطروحــة علــى بســاط الفلســفة المعاصـرة فــي شــتى تياراتهــا‪.‬‬ ‫اختلفت اآلراء حول بدايات فلسفة اللغة وتباينت بين مذاهب وفرق‪ ،‬فمنهم ‪:‬‬ ‫أوالً‪ :‬مــن يرجعهــا إلــى الفلســفة القديمــة بــدءاً بأفالطــون وأرســطو‪ ،‬مــرو اًر بالفا اربــي‪ ،‬ديــكارت‪ ،‬لــوك‪ ،‬نيتشــه‪ ،‬وصـوالً إلــى‬ ‫فتغنشــتاين‪ ،‬غادامــر‪ ،‬دريــدا‪ ،‬فوكــو‪ ،‬أوســتين وكوايــن‪ ،‬علــى اعتبــار أن جميــع الفالســفة الذيــن تـ ّـم ذكرهــم‪ ،‬كان لهــم آراء ومواقــف‬ ‫فــي فلســفة اللغــة‪ ،‬التــي اقتصــرت علــى تشــكيل جــزء مــن الفلســفة العامــة للفيلســوف‪ ،‬ال أن تحتــل اللغــة وفلســفتها تلــك المســاحة‬ ‫التــي حصلــت عليهــا فــي الد ارســات الفلســفية المعاصـرة‪.‬‬ ‫يحدهــا البعــض اآلخــر بفالســفة التحليــل اللغــوي مــن أمثــال‪ :‬جــورج مــور‪ ،‬برت ارنــد ارســل‪ ،‬فتغنشــتاين‪ ،‬والتيــار‬ ‫ثاني ـاً‪ّ :‬‬ ‫الوضعــي المنطقــي‪ ،‬وتيــار مدرســة أوكســفورد‪.‬‬ ‫ثالثـاً‪ :‬يذهــب فريــق إلــى حصرهــا بالتيــار التأويلــي‪ :‬بــدءاً بمؤســس الهرمنيوطيقــا الحديثــة شــايرماخر‪ ،‬مــرو اًر بدلتــاي‪،‬‬ ‫هوســرل‪ ،‬هيدغــر‪ ،‬غادامــر‪ ،‬بــول ريكــور ودريــدا‪ ،‬معتبـ اًر أن مهمتهــا تقتصــر علــى عمليــات التأويــل والمعنــى‪ ،‬الفهــم والشــرح‪.‬‬ ‫رابع ـاً‪ :‬وفريــق يجعلهــا مقتص ـرة علــى اللســانيات‪ :‬بــدءاً مــن فردينــان دو سوســير‪ ،‬بنفنيســت‪ ،‬ونعــوم تشومســكي مــع‬ ‫تســليط الضــوء علــى مناهــج ومفاهيــم األلســنية‪.‬‬ ‫لعــل اإلنهمــام باللغــة فــي الفلســفة المعاصـرة كموضــوع نظــر فلســفي يشــكل أحــد أهــم منعطفاتهــا األساســية‪ ،‬حيــث أنهــا‬ ‫لــم تتخــذ صيغــة واحــدة‪ ،‬بــل تمثلــت باتجاهــات‪ :‬تحليليــة‪ ،‬تأويليــة‪ ،‬ألســنية‪ ،‬تفكيكيــة وتواصليــة‪.‬‬ ‫يشتمل مصطلح فلسفة اللغة على ٍ‬ ‫معان‪:‬‬ ‫بالمعنــى الخارجــي‪ :‬باعتبــاره موضوعـاً معروفـاً لــذا؛ مــن الواجــب د ارســة اللغــة فــي عالقاتهــا بالموضوعــات األخــرى‪:‬‬ ‫كالفكــر‪ ،‬الواقــع‪ ،‬الوجــود‪ ،‬المجتمــع‪ ،‬الســلطة والديــن‪...‬‬ ‫أما بالمعنى الداخلي‪ :‬فيتم بتحويلها إلى مجال للبحث أو موضوع للدراسة‪.‬‬ ‫مــن هنــا‪ ،‬وجــب علينــا التمييــز مــا بيــن اللغــة واللســان‪ ،‬علــى اعتبــار أن اللســان بحســب البعــض ممــن يعرفونــه‪ ،‬هــو‬ ‫ذاك العضــو العضلــي الموجــود داخــل الفــم‪ ،‬فــي حيــن أن اللغــة هــي نســق مــن اإلشــارات والرمــوز‪ ،‬لكــن هــذه التعريفــات علــى‬ ‫بســاطتها وبديهيتهــا ال تفــي بالغــرض‪ ،‬حيــث أن مفهــوم اللســان أعـ ّـم وأشــمل‪ ،‬هــو لغــة األمــة‪ ،‬أو الــكالم والوعــاء القــادر علــى‬ ‫احتـواء مجموعــة مــن اللغــات قــد تكــون متجانســة‪ ،‬متعارفــة ومتقاربــة لــدى الشــعوب‪ ،‬وبالتالــي هــو طريقــة اإلنســان فــي الــكالم‪،‬‬


‫فــي محــاورة كراتيــل‪ Cratyle‬يحــاول أفالطــون اإلجابــة عــن التســاؤل اآلتــي‪ :‬هــل بإمــكان األســماء التعبيــر عــن حقيقيــة‬ ‫األشــياء؟‪ ،‬علــى الرغــم مــن أن هيراقليطــس وديمقريطــس كانــا قــد تناوالهــا مــن قبلــه‪ ،‬إنمــا ليــس كمــدار بحــث مســتقل كمــا هــو‬ ‫الحــال عنــد أفالطــون‪ ،‬الــذي اســتعان بهمــا وجعــل نظريــة الهيراقليطييــن تجــري علــى لســان كراتيــل‪ ،‬ونظريــة الديمقريطييــن تجــري‬ ‫علــى لســان هرموجينــس‪.‬‬ ‫اهتــم هيراقليطــس بتحليــل األســماء‪ ،‬ألنهــا تعبــر عــن ماهيــة األشــياء‪ .‬لــذا‪ ،‬يــردد كراتيــل ‪ »:‬يوجــد بالطبيعــة إســم صحيــح لــكل‬ ‫كائــن فــي الحيــاة‪ ،‬إذ الكلمــة ليســت تســمية يطلقهــا البعــض علــى الشــيء بعــد التواطــؤ‪ ،‬لكــن ثمــة بالطبيعــة‪ ،‬لليونانييــن والبرابــرة‪ ،‬طريقــة صحيحــة للتدليــل‬ ‫علــى األشــياء‪ ،‬هــي ذاتهــا عنــد النــاس‪ .)4(».‬يتضــح لنــا مــن خــال هــذا النــص كيفيــة ظهــور الكلمــات مــن الطبيعــة‪ ،‬حيــث التوقيفيــة‬ ‫التــي تــرى بــأن األســماء تُعطــى مــن قــوة إلهيــة وقفـاً علــى المســميات‪ ،‬وكيــف أن ‪ »:‬علــم األســماء يقودنــا إلــى علــم األشــياء‪ ،‬وهكــذا ننتقــل‬ ‫مــن دائــرة اللغــة إلــى دائــرة الفلســفة‪ ،‬مــن الكلمــات إلــى الماهيــة‪ ،‬وتوســعاً بهــذا المبــدأ انتهــى هيراقليطــس إلــى القــول بــأن األســماء ُتعطــى مــن قــوة إلهيــة‪ ،‬لقــد‬

‫جــاءت وقفـاً علــى المســميات‪ ،‬تلــك هــي التوقيفيــة فــي اللغــة‪ ، )5(».‬فــي مقابــل ذلــك تقــوم التواطؤيــة فــي اللغــة‪ ،‬تلــك التــي تعتبــر أن الشــيء‬ ‫الواحــد يقبــل عــدة أســماء‪ ،‬وأن الشــخص الواحــد يبقــى هــو هــو‪ ،‬علــى الرغــم مــن تنازلــه عــن اســمه أو تطــوره‪ ،‬لهــذا يتوجــه ســقراط‬ ‫إلــى هرموجينــس متســائالً ‪ »:‬ولكــن‪ ،‬هــل تقــول يــا هرموجينــس بــأن األشــياء تختلــف باختــاف األســماء؟ وهــل هــي نســبية إلــى األف ـراد‪ ،‬كمــا أخبرنــا‬ ‫بروتوجــوراس؟ ذلــك أنــه قــال بــأن اإلنســان معيــار األشــياء جميعـاً‪ ،‬وأن األشــياء تكــون بالنســبة لــي كمــا يبــدو لــي‪ ،‬وأنهــا بالنســبة لــك كمــا تبــدو لــك‪ .‬هــل‬ ‫توافقــه أم أنــك تقــول بــأن لألشــياء ماهيــة ثابتــة خاصــة بهــا؟»(‪ .)6‬لعــل هــذا الـرأي يبــرز لنــا بــأن علــم األســماء ال يدلنــا علــى علــم األشــياء‬

‫أو الماهيــات‪ ،‬فاألســماء تُعطــى مــن لــدن اإلنســان ال مــن لــدن قــوة إلهيــة‪.‬‬

‫التوفيــق‬ ‫نلمــس مــن كل ذلــك أن عالقــة اللغــة بالفلســفة قديمــة ترجــع علــى األقــل إلــى أفالطــون‪ ،‬الــذي حــاول‬ ‫فــي مــا بيــن التوقيفيــة والتواطؤيــة‪ ،‬مبــر اًز بــأن اإلســم يعكــس المســمى وينبثــق مــن طبيعته‪،‬حتــى وإن اختلفــت الحــروف والمقاطــع‬ ‫التــي يلجــأ النــاس الــى اســتعمالها مــن لغـ ٍـة إلــى أخــرى‪ ،‬وهــذا يعنــي أن الـ َّـدال لديــه القــدرة علــى محــاكاة المدلــول وبالتالــي التعبيــر‬ ‫عنــه‪ ،‬وعلــى هــذا‪ ،‬فالعالقــة عضويــة فــي مــا بيــن األســماء واألشــياء‪ ،‬هــي ليســت عالقــة توافــق وعــادة وعــرف‪ ،‬وحتــى الحــروف‬ ‫والمقاطــع تعبــر عــن صــورة األشــياء‪ ،‬وتبعـاً لذلــك أســماء األشــياء تنبثــق مــن طبيعته(‪ .)7‬وهــو بذلــك يتفــق والمفكــر اللبنانــي كمــال‬ ‫يوســف الحــاج الــذي يعــرض لهــذه القضيــة بالقــول ‪... »:‬نحــن نؤمــن بــأن التفكيــر والتعبيــر شــيء واحــد‪ .‬بــأن اللغــة تســتولي علــى الوجــدان‬

‫اســتيالء كام ـاً‪ .‬نؤمــن بــأن اللغــة وجــدان ناطــق‪ .‬وبــأن الوجــدان لغــة صامتــة‪ .‬ال فــرق بينهمــا إطالق ـاً عندنــا‪ .‬ولتبيــان ذلــك يجــب علينــا أن نندفــع فــي‬ ‫تحديــد اللغــة فالوجــدان وأخيـ اًر المعنــى‪ .)8(».‬مبــر اًز بذلــك‪ ،‬تلــك العالقــة التــي تراوحــت بيــن التوقيفيــة والتواطؤيــة‪ ،‬حاســماً الجــدل بينهمــا‪،‬‬

‫ومعتبـ اًر بــأن العالقــة بينهمــا جدليــة لدرجــة‪ ،‬أننــا باللغــة نقــف أمــام ذواتنــا‪.‬‬

‫ـدل‬ ‫دل علــى شــيء إنمــا يـ ّ‬ ‫وناقــش أفالطــون أيضـاً قضايــا البالغــة والشــعر والخطابــة فــي محــاورات أخــرى‪ ،‬وهــذا إن ّ‬ ‫علــى مــدى اهتمامــه بقضيــة اللغــة‪ ،‬هــذا اإلهتمــام الــذي سيشــغل تلميــذه أرســطو‪ ،‬وســيحتل حيـ اًز كبيـ اًر مــن تفكيـره‪ ،‬إال أننــا لــن‬ ‫نســتطيع تســليط الضــوء عليــه لضيــق الوقــت وحجــم البحــث‪.‬‬ ‫ب_اللغــة فــي العصــر الوســيط‪ :‬وينتقــل كمــال يوســف الحــاج إلــى العصــر الوســيط‪ ،‬مبــر اًز أن منشــأ اللغــة فــي الغــرب‬ ‫المســيحي اتســم بالتوقيفيــة‪ ،‬علــى اعتبــار أن منشــأ اللغــة مــن لــدن هللا‪ ،‬هــذا مــا أكــده إنجيــل يوحنــا « فــي البــدء كانــت الكلمــة» كذلــك‬ ‫ســار عليــه القديســين‪ :‬أغســطينوس وتومــا اإلكوينــي‪ ،‬فــي حيــن أن القديــس غريغوريــوس حــاول التوفيــق فــي مــا بيــن التوقيفيــة‬ ‫والتواطؤيــة‪.‬‬ ‫هــذه القضيــة التــي أُثيــرت تحــت اســم مشــكلة الكليــات كان قــد تصــدى لهــا وليــم األوكامــي‪ William Of Occam‬والــذي‬ ‫لــم يـ ِ‬ ‫ـأت كمــال الحــاج علــى ذكـره فــي مؤلفــه فــي فلســفة اللغــة‪ ،‬إذ أنكــرت إســمية األوكامــي أي وجــود للكليــات‪ ،‬أكان فــي الذهــن‬ ‫علــى شــكل مفاهيــم‪ ،‬أم فــي الطبيعــة‪ ،‬مســتخدماً مفهــوم اإلقتصــاد فــي الفكــر ضــد أرســطو إذ يذهــب الــى القــول ‪ »:‬بأنــه ال يجــب‬ ‫التكثيــر مــن األشــياء دون ضــرورة»(‪ .)9‬هــذا التشــذيب المفهومــي أو بمعنــى آخــر‪ ،‬حصــر الفرضيــات واقتصــاد األفــكار نجــده عنــد‬ ‫أرســطو‪ ،‬الــذي أهمــل فكـرة المثــال عنــد أســتاذه أفالطــون‪ ،‬مؤكــداً علــى حصــر فكـرة الحقيقــة فــي نطــاق تفكيـره األنطولوجــي القائــم‬ ‫علــى الموجــود بمــا هــو موجــود‪.‬‬ ‫لكــن اللغــة ســتبلغ ذروتهــا علــى مــا ذكــر كمــال يوســف الحــاج‪ ،‬فــي القـرآن الكريــم الــذي رأى فيــه معجـزًة‪ ،‬حيــث تحــدى‬ ‫العــرب انقســموا فــي‬ ‫الق ـرآن أهــل البالغــة والبيــان‪ ،‬علــى أن يأت ـوا بســورة لمــا اســتطاعوا إلــى ذلــك ســبيال‪ ،‬وحتــى المفكريــن‬ ‫مــا بيــن التوقيــف (صاحــب كتــاب شــرح األســماء)‪ ،‬والتواطــؤ (إبــن جنــي)‪ ،‬وفريــق ثالــث عمــد إلــى التوفيــق فــي مــا بيــن التوقيفيــة‬ ‫والتواطؤيــة (القاضــي أبــو بكــر)‪.‬‬ ‫كان لفقهاء اللغة العربية أن انقسموا في مسائل أصل اللغة فريقين‪:‬‬ ‫فريــق يقــول بالضــرورة والطبيعــة‪ ،‬ويتزعمهــم إبــن فــارس الــذي ال يتوانــى عــن القــول‬

‫‪ »:‬إن لغــة العــرب توقيــف‪ .‬ودليــل ذلــك‬


‫المخزَنــة لديــه‪ ،‬لهــذا ال يتوانــى أندريــه مارتينيــه‪ André Martinet‬عــن التعريــف بــه‬ ‫وفــي ترجمــة وإبـراز الــدالالت وإظهــار المعانــي‬ ‫ّ‬ ‫بالقــول ‪»:‬إن أي لســان هــو أداة تواصــل‪ ،‬تتحلــل وفق ـاً للتجربــة اإلنســانية‪ ،‬بشــكل مختلــف فــي كل وحــدة جماعيــة‪ ،‬إلــى وحــدات متميــزة بحقــل معجمــي‬

‫وصوتــي‪ ،‬المونيــم‪ ،‬هــذا المقطــع الصوتــي يتجـ أز بــدوره إلــى وحــدات متمايــزة ومتتابعــة‪ ،‬والفونيــم‪ ،‬إلــى عــدد محــدد فــي كل لســان‪ ،‬حيــث الطبيعــة والعالقــات‬ ‫التبادليــة المختلفــة فــي مــا بينهــا‪ ،‬وحتــى بيــن لســان وآخر»(‪.)1‬إنطالقـاً مــن هــذا التعريــف‪ ،‬ومنعـاً للبــس الحاصــل فــي هــذه الثنائيــة بيــن‬

‫اللغــة واللســان‪ ،‬يبــدو مــن األنســب االنطــاق مــن اللغــة باعتبارهــا المعيــار للظواهــر اللغويــة‪ ،‬هــي أكثــر مــن ظاه ـرة لغويــة‬ ‫ولســانية‪ ،‬ولديهــا القابليــة لتحقيــق مســتقل‪ ،‬تعمــل مــن خاللــه علــى تزويــد الفكــر بنقطــة االنطــاق‪ ،‬حتــى ليمكــن القــول فيهــا‬ ‫وعنهــا‪ ،‬وكمــا وصفهــا المفكــر اللبنانــي كمــال يوســف الحــاج إنهــا «تجربــة فلســفية»(‪ .)2‬واللغــة بهــذا المعنــى تعبيــر عمــا يســكن فــي‬ ‫الذاك ـرة‪ ،‬متفاع ـاً مــع الوجــدان‪ ،‬هــي تجســيد لــروح حيــث أن وظيفتهــا التواصليــة تكمــن فــي قدرتهــا علــى اســتحضار المعانــي‬ ‫التــي تكمــن أو تقبــع فــي تجربــة معاشــة‪ ،‬قبــل أن ترتــدي مــع البنيويــة نظامـاً ألســنياً‪ ،‬يعتمــد التأويــل‪ ،‬ويــرى فــي اللغــة مــادة وشــكل‪،‬‬ ‫روح وجســد‪.‬‬ ‫فالســفة‬ ‫وإن كانــت اللغــة فــي الفلســفة الحديثــة قــد شــهدت تطــورات فــي العلــوم الطبيعيــة والفيزيائيــة‪ ،‬لدرجــة أن‬ ‫العصــر الحديــث مــن أمثــال فرنســيس بيكــون‪ F.Bacon‬الــذي كان قــد دعــا الســتخدام المنهــج التجريبــي اإلســتقرائي‪ ،‬بهــدف تأســيس‬ ‫العل�وـم اإلنس�اـنية علـ�ى أس�سـ يقينيةــ و ارســخة رس�وـخ العل��م الرياض��ي والطبيعيــ‪ ،‬كذلــك فعــل ديــكارت‪ Descartes‬الــذي آمــن‬ ‫بالرياضيــات‪ ،‬فبنــى فلســفته عليهــا‪ ،‬علــى اعتبــار أنهــا المعرفــة اليقينيــة الوحيــدة‪،‬‬ ‫وتبعــه فــي ذلــك الفيلســوف األلمانــي كنــط ‪ Kant‬فــي إقامــة مشــروعية الفلســفة والميتافيزيقــا‪ ،‬إال أن مــا يميــز الفلســفة المعاصـرة‪،‬‬ ‫اتســامها بتشــكيل إنتاجهــا الفلســفي علــى فرضيــات ومبــادىء علــم اللغــة واللســانيات‪ ،‬علــم العالمــات والســيميولوجيا‪ ،‬فلســفة‬ ‫التأويــل والهرمنيوتيقــا‪ ،‬وبالتالــي لــم يعــد هـ ّـم هــذه الفلســفة اليقيــن العلمــي‪ ،‬بقــدر مــا بــات االعتقــاد ارســخاً مــن فالســفتها بنســبية‬ ‫الحقيقــة واحتمــال الوصــول إليهــا‪.‬‬ ‫فهــل التــازم فــي مــا بيــن الفلســفة المعاصـرة وفلســفة اللغــة جعــل مــن األخيـرة الجســر المســاعد للتعمــق فــي فهــم التيــارات‬ ‫الفلســفية المعاص ـرة؟ حيــث أنــه لــم يكــن باإلمــكان اســتيعاب المشــروع الحداثــي‪ ،‬ومــا بعــد الحداثــي دون فهــم وتمثــل المفاهيــم‬ ‫والنقــد الــذي زودتنــا بــه فلســفة اللغــة‪ .‬وهــل يمكــن للمفكــر اللبنانــي كمــال يوســف الحــاج فــي كتابــه «فــي فلســفة اللغــة» مــن أن‬ ‫يجيــب علــى تســاؤالت اللغــة المطروحــة‪ ،‬والتــي تشــكل تحديـاً لعصرنــا وواقعنــا اللغــوي‪ ،‬الفكــري والوجــودي؟‪.‬‬

‫لعــل أهميــة هــذا البحــث تكمــن فــي تســليط الضــوء علــى مفكــر لبنانــي أصيــل‪ ،‬طــرق بــاب الفلســفة بشــكل عــام فأبــدع‪،‬‬ ‫ـأل جهــداً فــي طــرح‬ ‫وفلســفة اللغــة بشــكل خــاص‪ ،‬مبــر اًز أبعادهــا وتجلياتهــا‪ ،‬وهــو بذلــك ُيعـ ّـد ارئــداً مــن رواد الفكــر الــذي لــم يـ ُ‬ ‫الموضوعــات الفلســفية بجـرأة‪ ،‬ومحاولــة إيجــاد حلــول للتحديــات واألزمــات التــي واجهتــه‪ .‬إضافــة إلــى أنــه فــي ظــل الهــدم والتفكيــك‬ ‫شــكل‪ ،‬ولــم يــزل‪ ،‬مرجعـاً وملجــأ لتســاؤالت قــد نطرحهــا فــي اللغــة‪ .‬لــذا‪ ،‬ال بــد مــن التركيــز علــى فلســفة اللغــة عنــد المفكــر اللبنانــي‬ ‫كمــال يوســف الحــاج‪ ،‬باإلســتناد إلــى المنهجيــن التحليلــي والجدلــي‪ ،‬بغيــة تفكيــك اللغــة وإخضاعهــا للد ارســة التفصيليــة‪ ،‬وعــدم‬ ‫إهمــال أي مكـِّـون مــن مكوناتهــا‪.‬‬ ‫وإن كانــت اللغــة‪ ،‬فــي ظــل المنهــج العلمــي المســيطر علــى العلــوم الطبيعيــة والوصفيــة‪ ،‬تعانــي أزمــة وجوديــة‪ ،‬لدرجــة‬ ‫أن الشــاعر أو المفكــر واألديــب الــذي كان لتاريــخ طويــل مــن حيــاة األمــم والمجتمعــات يكتســب صفــة العالــم‪ ،‬بنــاء علــى قد ارتــه‬ ‫فــي اســتحضار المشــاعر والخيــال‪ ،‬والتالعــب باللغــة وأســاليبها‪ ،‬بــات فــي ظــل البنيويــة فاقــد المرجعيــة‪ ،‬وفــي موقــع المدافــع عــن‬ ‫حقــه فــي البقــاء‪ ،‬ال ســيما وأن البنيويــة آلــت علــى نفســها الحكــم علــى أي مقاربــة أدبيــة‪ ،‬فكريــة أو لغويــة‪.‬‬ ‫وكأن مــا نعيشــه اليــوم فــي واقعنــا المعاصــر‪ ،‬ومنــذ بدايــة القــرن الحــادي والعشـرين‪ ،‬مــن ثــورة معرفيــة لطفـرة تقــدم العلــوم‬ ‫اآلليــة‪ ،‬كعلــم المنطــق‪ ،‬ومناهــج البحــث‪ ،‬والعلــوم التكنولوجيــة (كالكمبيوتــر والمعلوماتيــة)‪ ،‬وعلــم اللغــة العــام‪ ،‬حيــث مؤش ـرات‬ ‫هــذه الثــورة التــي تزيــح الفيزيــاء عــن عرشــها‪ ،‬لتحــل محلهــا البيولوجيــا والو ارثــة‪ ،‬بالتــآزر مــع العلــوم اآلليــة فــي منظومــة جديــدة‬ ‫كل الجـ ّـدة‪ ،‬قــادرة علــى اســتغالل كل اإلمكانــات المعرفيــة‪ ،‬وتشــفيرها بغيــة االســتفادة مــن القــوة المولــدة للنســق االســتنباطي‪.‬‬ ‫ـادة‪ .‬لــذا‪،‬‬ ‫أوالً‪:‬هــل اللغــة جوهــر؟‪ :‬تُعتبــر إشــكالية اللغــة مــن المعضــات الفلســفية التــي اتســمت بالتجاذبــات الجدليــة الحـ ّ‬ ‫ال بــد مــن تســليط الضــوء علــى تاريخهــا الــذي نتلمــس بداياتــه عنــد الفالســفة اليونــان‪ ،‬حيــث أن أفالطــون‪ Platon‬كان قــد أدرك‬ ‫أن مــا مــن أحـ ٍـد قـ ٍ‬ ‫أهميــة َّ‬ ‫ـادر علــى كشــف حقائــق األشــياء‪ .‬لــذا‪ ،‬هــو ال يتوانــى عــن مقابلــة أشــياء الواقــع بتصــورات لهــا‪ ،‬علــى‬ ‫اعتبــار أن هــذه التصــورات التــي هــي المثــل‪ ،‬خالــدة فــي كينونتهــا األنطولوجيــة‪.‬‬

‫أ_مفهــوم اللغــة فــي الفكــر األفالطونــي‪ :‬يبــدأ المفكــر اللبنانــي كمــال يوســف الحــاج عرضــه التاريخــي فــي كتابــه «فــي‬ ‫فلســفة اللغــة» بالفيلســوف اليونانــي أفالطــون الــذي ُنظــر إليــه علــى أنــه ‪ »:‬أول مــن بحــث إمكانيــة القواعــد»(‪ ،)3‬ومــن ثــم‬ ‫أتبعــه بالمتوســطيين غربـاً وشـرقاً‪ ،‬وصـوالً إلــى العصــر الحديــث‪.‬‬


‫ومشــكالً لنفســه منهجـاً خاصـاً فــي اللغــة‪ ،‬ســاعياً إلــى تحويلهــا لعلــم‪ ،‬كعلــم الرياضيــات والفيزيــاء والكيميــاء‪ .‬فاللغــات بالنســبة لــه‬ ‫أشــبه بكتــاب ينبغــي أن نحســن القـراءة فيــه‪ ،‬ومــن الواجــب أن نقـ أر أوالً‪ ،‬لنفهــم ثانيـاً‪ ،‬وأن نقبــل علــى القـراءة بأذهــان خاليــة مــن‬ ‫األفــكار المســبقة‪ ،‬واللغــات أقــدم تركــة نرثهــا مــن التاريــخ اإلنســاني‪ ،‬وأقــدم شــاهد علــى حقيقــة البشــر‪.‬‬ ‫ويحســم كمــال يوســف الحــاج الجــدل فــي مــا بيــن التواطؤيــة والتوقيفيــة معلنـاً‪ ...»:‬مــن هنــا تنطلــق اللغــة‪ .‬مــن هــذه األقبيــة فــي‬ ‫الغ‪ .‬مهمــا غورنــا فــي أعماقــه‪ ،‬وفــي أعمــاق أعماقــه‪،‬‬ ‫اللطيفــة البشــرية‪ .‬يعنــي أن اإلنســان ُركــب تركيبـاً يقــوم علــى أســاس اللغــة‪ .‬لقــد وضــع أصـاً كمخلــوق ٍ‬ ‫فإننــا عاجــزون عــن إدراكــه بذاتــه‪ ,‬بينــه وبيــن نفســه آخــر‪ ،‬قــد يكــون هــو عينــه‪ ،‬وقــد يكــون مــن الخــارج‪ .‬علــى كل حــال إنــه إثنــان دائم ـاً وأبــداً‪ .‬إثنــان‬ ‫حيــان يتخاطبــان‪ ،‬ويتراســان المعانــي‪ .‬هنــاك العانــي‪ ،‬وهنــاك المعنــي‪ ،‬وهنــاك المعنــى‪ ،‬الــذي يربــط بينهمــا‪ .‬أليــس هــذا كيانـاً لغويـاً؟(‪ . )17‬يتضــح مــن‬

‫هــذا القــول بــأن اللغــة هــي فعــل إنســاني بامتيــاز‪ ،‬وبالتالــي المعنــى داللــة إلــى شــيء‪ ،‬والداللــة هــي واجــب وجــود للوجــدان‪ ،‬ففــي‬ ‫الوجــدان آخــر يشــاركه وجــوده‪ ،‬وهــذا إن دل علــى شــيء‪ ،‬إنمــا يــدل علــى اجتماعيــة اإلنســان بالطبــع‪ ،‬ومشــاركة اآلخــر لغتــه‪.‬‬

‫‪_2‬اللغــة فــي فكــر ليبنتــز‪ :Leibniz‬يذهــب ليبنتــز إلــى أنــه ينبغــي أن نجيــد ســماع هــذا الشــاهد الناطــق‪ ،‬مــن خــال‬ ‫القيــام بعمليــة إحصــاء لعــدد اللغــات الكائنــة فــي العالــم‪ ،‬باإلســتناد إلــى المقابلــة فــي مــا بينهــا ماضيـاً وحاضـ اًر‪ ،‬بغيــة استشـرافها‬ ‫مســتقبالً‪ ،‬فاللغــات كائنــات حيــة‪ ،‬قابلــة للتطــور وفــق قواعــد وقوانيــن‪ ،‬ال يمكــن تلمســها إال بعدي ـاً ال قبلي ـاً كمــا هــو الحــال فــي‬ ‫العلــوم الطبيعيــة‪ ،‬وبذلــك يمكــن تحويــل اللغــة إلــى علــم مــن خــال إحصائهــا‪ ،‬ومــن ثــم د ارســة كل لغــة ومقارنتهــا بغيرهــا مــن‬ ‫اللغــات األخــرى‪ .‬لــذا ال يتوانــى ليبنتــز عــن القــول ‪ »:‬وهكــذا يفعــل الرياضيــون حيــن يــردون‪ ،‬بواســطة التحليــل‪ ،‬النظريــات والقوانيــن العمليــة إلــى‬ ‫تعاريــف وأوليــات وبديهيــات‪ .)18(».‬هكــذا حــاول ليبنتــز تحويــل اللغــة إلــى علــم مــن خــال جمــع الوثائــق‪ ،‬واســتقراء الوقائــع اللغويــة‪،‬‬ ‫ولعلــه بذلــك كان أول مــن حولهــا إلــى علــم باســتخراج القوانيــن الشــاملة‪ ،‬بطريقــة إســتقرائية وصفيــة‪ ،‬وص ـوالً ل ــتأسيسها علــى‬ ‫معطيــات إيجابيــة‪ ،‬محــاوالً الخــروج بهــا مــن النظريــة إلــى الواقــع‪ ،‬ومــن الذاتيــة إلــى علــم اختبــاري يخضــع للمالحظــة والتدويــن‬ ‫واإلســتقراء‪ ،‬وهــذا المنحــى العلمــي والكمــي الــذي ســتتخذه اللغــة بعــد ليبنتــز‪.‬‬ ‫اتســم القــرن الثامــن عشــر بالمقابــات اللغويــة‪ ،‬وتــاه القــرن التاســع عشــر بخضــوع اللغــة للــروح اإلجتماعيــة‪ ،‬وصـوالً‬ ‫إلــى القــرن العشـرين عصــر علــم اللغــة التــي تركــزت علــى أســس علميــة متينــة‪ ،‬مــن خــال تحريرهــا مــن الغيبيــات واعتبارهــا‬ ‫علمـاً قائمـاً بذاتهــا‪ ،‬بعدمــا كانــت ملحقــة بالنظريــات اإلجتماعيــة‪ ،‬والنفســية‪ ،‬التاريخيــة والفلســفية‪ .‬هــذه الثــورة التــي عرفتهــا اللغــة‬ ‫شــبيهة إلــى حــد مــا بثــورة علــم الفيزيــاء فــي القــرن الثامــن عشــر‪ ،‬حيــث درس المــادة وفــق مــا هــي ومــن ثــم وصــف مظاهرهــا‪،‬‬ ‫وبذلــك ســيتم درس اللغــة مــن جهاتهــا الثــاث‪ :‬الصــوت والشــكل والتركيــب‪ ،‬علــى الرغــم مــن أن األزمــة انتهــت بفشــل اللغــة‬ ‫حيــال الفكــر‪ ،‬الســيما وأنهــا عاجـزة عــن إظهــار مكنونــات الفكــر والوجــدان‪ ،‬ولعــل الســبب فــي ذلــك يرجــع بـرأي كمــال يوســف‬ ‫الحــاج إلــى أنــه ‪ »:‬كان اإلعتقــاد ســائداً أن اللغــة تخضــع للنواميــس التــي تخضــع لهــا باقــي مظاهــر الطبيعــة‪ .‬أي أنهــا علــم كمــي‪ ،‬قابــل لالختبــار‪،‬‬ ‫علــى غـرار العلــوم الفيزيائيــة‪ .‬ال غرابــة‪ .‬لقــد اتســم العصــر الفائــت بالنزعــة الماديــة‪ .‬حــاول علمــاؤه أن ُيخضعـوا الجســم والنفــس واإلجتمــاع لمقاييــس الكــم‪.‬‬ ‫ولمــا كانــت اللغــة مظهـ اًر مــن المظاهــر البيولوجيــة‪ ،‬النفســية‪ ،‬االجتماعيــة‪ ،‬فــا شــيء يمنــع مــن إناختهــا للنهــج اإلختبــاري‪ ،‬الــذي يطبــق فــي جميــع العلــوم‬ ‫الطبيعيــة‪ .)19(».‬لهــذا أتــى تســاؤل الحــاج عــن « كيفيــة تكلــم اإلنســان؟»‪ ،‬ال عــن « ِلــم يتكلــم؟» علــى اعتبــار أن األول غيبــي‪ ،‬فــي‬

‫َ‬ ‫تمــت د ارســة‬ ‫ـا‬ ‫ـ‬ ‫م‬ ‫إذا‬ ‫ـه‬ ‫ـ‬ ‫ن‬ ‫أ‬ ‫ـث‬ ‫ـ‬ ‫ي‬ ‫بح‬ ‫ـا‪.‬‬ ‫ـ‬ ‫ي‬ ‫الفيلولوج‬ ‫و‬ ‫حيــن أن الثانــي يمكــن اإلجابــة عليــه بالرجــوع إلــى علــم الفزيولوجيــا‪ ،‬الســيكولوجيا‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫األلســنة وتصنيفهــا أنواعـاً وأجناسـاً‪ ،‬ومــن ثــم اســتخراج القوانيــن الشــاملة‪ ،‬بالطــرق اإلســتقرائية الوصفيــة‪ ،‬عندهــا يمكــن تأســيس‬ ‫علــم اللغــة علــى معطيــات إيجابيــة‪.‬‬

‫‪ -3‬اللغــة بالمعنــى البرغســوني ‪ :Bergson‬يــرى برغســون بأنــه علــى الفيلســوف أن يتخــذ موقــف المعارضــة مــن‬ ‫األفــكار المقـ ّـرة‪ ،‬والمقــاالت البينــة‪ ،‬والتوكيــدات العلميــة‪ ،‬وكأنــه بذلــك يبــدي إنــكاره لمجمــل التيــارات الســائدة‪ ،‬الســيما كنــط‪،‬‬ ‫سبنســر‪ ،‬وكل فلســفة تفســر الحيــاة ميكانيكيـاً باســم الفلســفة الروحيــة‪ ،‬والنزعــة الماديــة فــي تفســير األحــداث النفســية‪ ،‬لهــذا أتــى‬ ‫بــآراء ومفاهيــم جديــدة تقاطــع فــي بعضهــا مــع دريــدا‪ ،‬ولعــل مــن أبرزهــا‪ :‬المبــادىء الكليــة‪ ،‬العقــل واللغــة‪.‬‬ ‫قاصــر عــن‬ ‫بــدأ برغســون بهجومــه علــى اللغــة‪ ،‬مؤكــداً عجزهــا فــي التعبيــر عــن الوجــدان‪ ،‬حيــث أن مركــب اللغــة‬ ‫حيــازة مبســوط المعانــي‪ ،‬علــى اعتبــار أن المعانــي بســيطة‪ ،‬ومتصلــة ببعضهــا البعــض‪ ،‬لكــن الفضــاءات الموجــودة بينهــا تجعــل‬ ‫اللغــة عاجـزة عــن اإلحاطــة بفــرش معانيهــا‪ ،‬وبالتالــي فاأللفــاظ تجلــب الفســاد الــذي يــؤدي إلــى حصــول ســوء تفاهــم فــي مــا بيــن‬ ‫اإلنســان وأخيــه اإلنســان‪ ،‬فتتحــور المشــاعر بعكــس منطوقهــا‪ .‬مــن هنــا أتــى تركيــز برغســون علــى اللغــة والفضــاء‪ ،‬مســلطاً‬ ‫الضــوء علــى الوجــدان ببعديــه‪ :‬الداخلــي‪ ،‬بمعنــى األنــا الباطنيــة‪ .‬والخارجــي‪ ،‬الــذي يــدل علــى األنــا الظاهريــة؛ إلدراك األول ال‬ ‫بــد مــن فــرز الوجــدان الباطنــي عــن الفضــاء المتجانــس‪ ،‬وعــن اللغــة العاجـزة عــن ترجمتــه ترجمــة صحيحــة‪ ،‬حيــث اللغــة قاصـرة‬ ‫عــن القبــض علــى توقــف ســيالن الوجــدان أو ديمومتــه فــي تحوالتــه المســتمرة‪ ،‬الكيفيــة والزمنيــة‪ ،‬وحيــث أن الحالــة النفســية ال‬ ‫ترجــع متــى أصبحــت ماضيـاً‪ ،‬وبالتالــي ديمومــة المــادة تحــدث بدوافــع خارجيــة‪ ،‬وهــي كميــة فــي حيــن أن ديمومــة النفــس كيفيــة‬ ‫خداعــة‪ ،‬الســيما وأن مجــرد بســط‬ ‫يجمــد الديمومــة ويشــلها‪ ،‬اللغــة ّ‬ ‫تتغيــر تبعـاً إلبداعيــة الحيــاة الباطنيــة‪ .‬غيــر أن ســلطان اللغــة ّ‬ ‫العاطفــة فــي فضــاء متجانــس‪ ،‬والتعبيــر عنهــا بألفــاظ يخنقــان جــزءاً كبيـ اًر مــن حـ اررة العاطفــة‪ ،‬هكــذا تعمــل األلفــاظ علــى إفســاد‬


‫ـل ثنــاؤه « وعّلــم آدم األســماء كلهــا»‪ .‬فــكان إبــن عبــاس يقــول‪ :‬عّلمــه األســماء كلهــا‪ ،‬وهــي هــذه التــي يتعارفهــا النــاس مــن ‪ :‬دابــة وأرض‪ ،‬ســهل‪،‬‬ ‫قولــه جـ ّ‬ ‫وجبــل‪ ،‬وحمــار‪ ،‬وأشــباه ذلــك مــن األمــم وغيرهــا‪ ، )10(.‬فــي حيــن أن الفريــق الثانــي‪ :‬يقــر باإلتفــاق واإلصطــاح والمواضعــة‪ ،‬وعلــى أرســهم‬ ‫جنــي الــذي يذهــب إلــى ‪ »:‬أن أصــل اللغــة ال بــد فيــه مــن المواضعــة‪ ...،‬كأن يجتمــع حكيمــان أو ثالثــة فصاعــداً‪ ،‬فيحتاجــون إلــى اإلبانــة عــن‬ ‫إبــن ّ‬ ‫األشــياء المعلومــات‪ ،‬فيضع ـوا لــكل واحــد منهــا ســمة ولفظ ـاً‪ ،‬إذ ذكــر ُعــرف بــه مســماه ليمتــاز عــن غيــره‪ ،‬وليغنــي بذكــره عــن إحضــاره إلــى م ـرآة العيــن‪،‬‬ ‫فيكــون ذلــك أقــرب وأخــف وأســهل مــن تكلــف إحضــاره‪ ،‬لبلــوغ الغــرض فــي إبانــة حالــه‪ ،‬بــل قــد يحتــاج فــي كثيــر مــن األحـوال إلــى ذكــر مــا ال يمكــن إحضــاره‬ ‫وال ادنــاؤه‪ ،‬كالفانــي‪ ،...‬وغيــر هــذا ممــا هــو جــار فــي اإلســتحالة والبعــد مجـراه‪ ،‬فكأنهــم جــاءوا إلــى واحــد مــن بنــي آدم‪ ،‬فأومــأوا إليــه‪ ،‬وقالـوا‪ :‬إنســان إنســان‬ ‫إنســان‪ .‬فــأي وقــت ســمع هــذا اللفــظ علــم أن الم ـراد بــه هــذا الضــرب مــن المخلــوق‪ ،‬وإن أرادوا ســمة عينــه أو يــده أشــاروا إلــى ذلــك‪ ،‬فقال ـوا‪ :‬يــد‪ ،‬عيــن‪،‬‬ ‫رأس‪ ،‬قــدم‪ ،‬أو نحــو ذلــك‪ .)11(».‬يتبيــن مــن هــذا التفســير لنشــوء اللغــة التــي ســيركز بحثــه فيهــا علــى شــرح العالقــة الطبيعيــة فــي مــا‬

‫بيــن المعنــى واللفــظ‪ ،‬أو بيــن الحــروف ومعانيهــا‪.‬‬

‫ولــو رجعن��ا إلىــ أص��ول هــذه القضي��ة لوجدن�اـ ح�لاً له��ا عن��د المفكــر اللبنانــي كمــال يوســف الحــاج الــذي يقــول ‪... »:‬ليســت‬ ‫اللغــة مجــرد تأليــف بيــن الحــروف‪ ،‬والكلمــات‪ ،‬لكنهــا نظــم علــى المعانــي‪ ،‬يصيــب موضعـاً فــي النفــس‪ ،‬فتدخــل إذ ذاك فــي أصــول النحــو‪ ،‬وتتصــل بأحــد أبوابــه‪.‬‬ ‫الداللــة إلــى معنــى واجــب وجــود اللغــة‪ .‬واســتواء تأليفهــا ال يكــون إال فــي تســاوق نظمهــا‪ .‬أي فــي الداللــة التــي يتســلل بهــا الــكالم إلــى القلــب‪ .)12(».‬لعــل‬

‫ِ‬ ‫ومخاطــب‪ ،‬مرســل ِ‬ ‫ومرســل‪ ،‬ذلــك هــو المجتمــع‪.‬‬ ‫طــب‬ ‫الهــدف مــن اللغــة يكمــن فــي إصابــة المعنــى‪ ،‬وهــذا مــا يتطلــب وجــود مخا َ‬ ‫َ‬ ‫إذ حيــث تكــون اللغــة‪ ،‬تكــون الحيــاة اإلجتماعيــة‪ ،‬وبالتالــي هــي مرادفــة للداللــة إلــى معنــى‪ ،‬أو أنهــا معنــى‪.‬‬

‫ج_اللغــة فــي العصــر الحديــث‪ :‬يــرى كمــال يوســف الحــاج بــأن إشــكالية اللغــة اتخــذت مــع فالســفة العصــر الحديــث‬ ‫بعــداً تمحــور حــول أهميــة العالــم الباطنــي‪ ،‬وبالتالــي تمحــور الس ـؤال حــول هــل لأللفــاظ أن تــدل داللــة كاملــة علــى المعانــي‬ ‫الداخليــة‪ ،‬أم أنهــا عاجـزة عــن التعبيــر عمــا فــي الوجــدان؟ وهــل للكلمــة أن تعبــر عــن جوهــر الحالــة النفســية لإلنســان؟ هكــذا‪،‬‬ ‫إذاً‪ ،‬شــغلت قضيــة أصــول الوجــدان وإمكانيــة اللغــة أو قصورهــا فــي التعبيــر عــن الوجــدان حــق التعبيــر بعــض مفكــري العصــر‬ ‫ممــا جعلهــم ينقســمون فئــات‪ :‬بيــن مــن يــرى فــي اللغــة واســطة ال غايــة (لــوك‪ ،)Locke‬وبيــن مــن يجــد فيهــا غايــة ال واســطة (‬ ‫دي بونالـ�د ‪ ،)De Bonald‬وفريــق ثالــث وســطي يقــف بيــن الفريقيــن (ليبنتــز‪.)Leibniz‬‬ ‫‪-1‬موقــف لــوك‪ Locke‬مــن اللغــة‪ُ :‬يعتبــر جــون لــوك مــن الفالســفة التجريبييــن اإلنكليــز الذيــن أولـوا اللغــة اهتمامـاً‬ ‫ضمنهــا فــي كتابــه « بحــث فــي المــدارك البشــرية « متبنيـاً طريــق التجريبييــن‪ ،‬ومؤكــداً علــى مــا أســماه « المعرفــة الحدســية «‬ ‫بــار اًز ّ‬ ‫التــي يقصــد بهــا أن مــا ندركــه بعقولنــا مباشـرة دونمــا الرجــوع إلــى أيــة فكـرة تجريبيــة أو اإلســتعانة بهــا‪ ،‬وأن كل مــا نصــل إليــه‬ ‫مــن خــال هــذا الطريــق ال شــك فيــه‪ ،‬بــل هــو يقيــن مطلــق‪ ،‬مــن مثــل أن الدائـرة ليســت مثلثـاً‪ ،‬وان األبيــض ليــس أســود‪ ،‬كذلــك‬ ‫ـح أنهــا ال تمدنــا بمعــارف مكتســبة جديــدة عــن العالــم‪،‬‬ ‫ركــز لــوك علــى « القضايــا التك ارريــة « ‪ ،‬وهــي قضايــا صادقــة‪ ،‬صحيـ ٌ‬ ‫التعريفــات التوضيحيــة لمعانــي األلفــاظ‪ ،‬مــن مثــل « الرصــاص معــدن‬ ‫إنمــا هــي يقينيــة‪ ،‬كقضايــا الهويــة ( أ هــو أ )‪ ،‬وكل‬ ‫« أو «اإلنســان حيـوان» أو نحــو ذلــك(‪ .)13‬وكان لــوك قــد أدرك عمــق العالقــة الداخليــة فــي مــا بيــن اللغــة والفكــر‪ ،‬هــذه العالقــة‬ ‫ليســت احتــكاكاً برانيـاً‪ ،‬بــل هــي متينــة وداخليــة‪ ،‬مبــر اًز الحبــك فــي مــا بيــن التعبيــر والتفكيــر‪ ،‬ومــع ذلــك فهــو مــن أنصــار التواطــؤ‪،‬‬ ‫مرجعـاً الســبب فــي ذلــك إلــى أن طبيعــة اإلنســان اإلجتماعيــة تفــرض عليــه التخاطــب والتفاهــم مــع اآلخريــن‪ ،‬لهــذا فاألعضــاء‬ ‫الصوتيــة عنــد اإلنســان هــي التــي تدفعــه للتعبيــر عــن أفــكاره‪ ،‬وهنــا مكمــن اللغــة البشـرية‪ ،‬فهــل اللغــة توقيفيــة؟‬ ‫يذهــب لــوك إلــى أن اإلنســان هــو مــن يعطــي المعانــي للكلمــات‪ ،‬وبالتالــي هــي تعنــي مــا نريــد نحــن أن تعنيــه‪ ،‬لــذا‬ ‫هــي وليــدة التواطــؤ‪ .‬فالكلمــات تتطــور مــن الحــس إلــى المجــرد‪ ،‬مــن المنظــور إلــى الالمنظــور‪ ،‬مــن الخــاص إلــى العــام‪ ،‬فلــو‬ ‫عمدنــا إلــى تحليــل المفاهيــم المجــردة لوجدنــا معانيهــا ترجــع إلــى أوضــاع حســية‪ ،‬حتــى تلــك التــي تأتــي علــى جميــع المفاهيــم‬ ‫المجــردة(‪ .)14‬كمــا أنــه اليمكــن إغفــال موقــف هيــوم الــذي يميــز فــي مــا بيــن «أمــور الواقــع» و»العالقــات بيــن األفــكار» مبــر اًز‬ ‫الف ـوارق فــي مــا بيــن القضايــا التجريبيــة والقضايــا القبليــة‪ ،‬حيــث أن األولــى يأتــي صدقهــا بنــاء علــى اشــتقاق الخب ـرة وإمكانيــة‬ ‫تحقيقهــا تجريبيـاً‪ ،‬علــى اعتبــار أن القضايــا التجريبيــة حادثــة واحتماليــة إذ ال يقيــن فيهــا‪ ،‬وبالتالــي يمكــن قبولهــا أو رفضهــا علــى‬ ‫أســاس الشـواهد التجريبيــة بموجبهــا وســالبها‪ ،‬فــي حيــن أن القضايــا القبليــة تقتصــر علــى الرياضيــات البحتــة وقواعــد المنطــق‪،‬‬ ‫وبالتالــي هــي صادقــة ويقينيــة‪ ،‬وال يمكــن إنكارهــا دون الوقــوع فــي التناقــض‪ ،‬وصدقهــا ويقينهــا ال يقــوم علــى الخبـرات الحســية‪،‬‬ ‫إنمــا علــى معانــي الكلمــات الـواردة‪ ،‬ومعانــي ألفــاظ العالقــات التــي تقــوم فــي قضاياهــا(‪ .)15‬فــي مقابــل وجهــات النظــر هــذه تقــوم‬ ‫نزعــة توقيفيــة لــدى دي بونالــد ‪ DeBonald‬الالهوتــي الفرنســي الــذي اعتبــر بــأن عالقــة اللغــة بالفكــر هــي قلــب الفلســفة كلــه‪.‬‬ ‫معتبـ اًر أن اللغــة هبــة مــن لــدن هللا‪ ،‬وأنهــا واجــب وجــود لمنشــأ اللغــة ذاتهــا‪ ،‬وأن عالقــة الفكــر بالكلمــة صميميــة كجســم واحــد‪ ،‬إذ‬ ‫ال فكــر دون لغــة‪ ،‬وال لغــة دون فكــر‪ ،‬والفكــر ليــس بســابق علــى الكلمــة‪ ،‬وقبــل أن منــح هللا اإلنســان اللغــة لــم يكــن غيــر الخـواء‪،‬‬ ‫حدثــت المعرفــة باللغــة فتولــدت الحقيقــة(‪ .)16‬فــكل مــا يعرفــه اإلنســان مــن علــوم‪ ،‬وسياســة‪ ،‬وأخــاق‪ ،‬وآداب وسياســة وغيرهــا مــن‬ ‫العلــوم تلقفهــا بعدمــا أُعطــي اللغــة مــن لــدن هللا‪.‬‬ ‫بيــن هذيــن النقيضيــن‪ ،‬التواطؤيــة مــع لــوك‪ ،‬والتوقيفيــة مــع دي بونالــد‪ ،‬وقــف ليبنتــز موقفـاً حياديـاً‪ ،‬رافضـاً الطرفيــن‪،‬‬


‫لــم يكــن هــدف نيتشــه انتقــاد الفلســفة كــي ال يبقــى ضمنهــا ويشــيد ميتافيزيقــا جديــدة‪ ،‬بــل تمركــز هدفــه حــول كشــف‬ ‫القنــاع عــن الخطــاب الفلســفي لجــاء أعـراض أم ارضــه الظاهـرة علــى وجهــه الحقيقــي‪ ،‬يشــكل الخطــاب مــدار البحــث‪ .‬وبمــا أن‬ ‫الفلســفة هــي دائمـاً أنطولوجيــة ومشــكلتها األساســية الوجــود والكينونــة‪ ،‬ادعــى الخطــاب الفلســفي فــي بداياتــه التأويليــة‪ ،‬إســتناده‬ ‫إلــى العقــل‪ ،‬لكــن مــع نيتشــه كل مــا فــي العالــم هــو تأويــل‪ ،‬وهــذا وارد فــي أكثــر نصوصــه(‪ .)27‬وعمليــة كشــفه للقنــاع تبــرز بــأن‬ ‫الــدور الرئيســي لعبتــه اإلســتعارة ال العقالنيــة‪ ،‬واألنســاق الفلســفية بعيــدة كل البعــد عــن األنظمــة العقليــة‪ ،‬وبالتالــي هــي مجــرد‬ ‫اســتعارات تــم اقتباســها مــن النمــاذج الدينيــة واألخالقيــة‪ ،‬وبالتالــي فخطــاب الفلســفات المثاليــة افتتــن بالنحــو ومثاليتــه فعــاش أســير‬ ‫اللغــة‪ .‬النحــو يشــيد قواعــد ثابتــة ألشــياء متغيـرة هــي اللغــة‪ ،‬وعمــل بعــض الفالســفة فــي بحثهــم األنطولوجــي علــى إيجــاد ثابــت‬ ‫هــو الوجــود أو الكينونــة‪ ،‬وجعلــوه فــوق العالــم الحســي‪ .‬الوجــود بالتالــي هــو اســتعارة ميتــة‪ ،‬ال نتيجــة أو محصلــة لبحــث عقلــي‪،‬‬ ‫وبفرضيــة وجــود عالــم ثابــت مســتقر‪ ،‬وحيــاة أخــرى‪ ،‬تبــدأ والدة المعنــى والقيــم‪.‬‬ ‫شــدد نيتشــه علــى بالغــة اللغــة التــي تغــوص فــي اإلســتعارة والتصويــر‪ ،‬التــي تحيــد بنــا عــن الحقيقــة‪ ،‬والتــي هــي أوهــام‪،‬‬ ‫هــذه اللغــة بحســب نيتشــه هــي غوغائيــة الطابــع‪ ،‬متناقضــة‪ ،‬ولعــل هــذه األســباب هــي التــي حــدت بنيتشــه ألن يصبــح ارئــد‬ ‫التفكيكيــة التــي تبناهــا دريــدا‪ .‬وهــذا إن دل علــى شــيء إنمــا يــدل علــى أن نيتشــه ســبق دريــدا إلــى إعــان قطيعتــه مــع الت ـراث‬ ‫الميتافيزيقــي الغربــي‪ ،‬إذ عمــل علــى إنـزال األفــكار المطلقــة مــن عليائهــا‪ ،‬ولعــل ثــورة نيتشــه مســاوية لثــورة دريــدا علــى الموضــوع‬ ‫ذاتــه(‪ .)28‬وعلــى هــذا فالفلســفة عيــب مــن عيــوب الفيلولوجيــا‪ ،‬عيــب البحــث عــن الحقيقــة فــي اســتعارات اللغــة‪ ،‬وفــي متاهاتهــا‪،‬‬ ‫هكــذا عمــد نيتشــه ومــن بعــده دريــدا إلــى إحــال مفهــوم لعبــة الــدالالت المتعــددة المعانــي فــي مفاهيــم الكــون والحقيقــة الماورائييــن‪.‬‬ ‫فــي مقابــل ذلــك‪ ،‬يذهــب كمــال يوســف الحــاج إلــى القــول ‪... »:‬نحــن نؤمــن بــأن التفكيــر والتعبيــر شــيء واحــد‪ .‬بــأن اللغــة تســتولي‬ ‫علــى الوجــدان اســتيالء كامـاً‪ .‬نؤمــن بــأن اللغــة وجــدان ناطــق‪ .‬وبــأن الوجــدان لغــة صامتــة‪ .‬ال فــرق بينهمــا إطالقـاً عندنــا‪ .‬ولتبيــان ذلــك يجــب علينــا أن‬ ‫نندفــع فــي تحديــد اللغــة فالوجــدان وأخي ـ اًر المعنى‪.)29(».‬علــى الرغــم مــن أن البعــض مــن المفكريــن يذهــب إلــى القــول بأمانــة اللغــة فــي‬

‫تأديــة التعبيــر‪ ،‬فــإن فريقـاً آخــر يعيــب عليهــا أمانتهــا وبالتالــي يعتقــد بخيانتهــا‪.‬‬

‫بقــي نيتشــه أمينـاً للغــة‪ ،‬عندمــا نــدد باللغــة وعمــل علــى تفكيكهــا كمجموعــة اســتعارات ميتــة مــن داخــل اللغــة وباســمها‪،‬‬ ‫اإلســتعارات الميتــة تظهــر خوفـاً حقيقيـاً مــن الحيــاة‪ ،‬والحــل ليــس باللجــوء إلــى عــدم اإلســتعارة‪ ،‬بــل باإلســتغناء عــن اإلســتعارات‬ ‫الهزيلــة الشــاحبة واســتبدالها بأخــرى حيــة‪ ،‬والمتمثلــة بــإرادة القــوة‪ ،‬العــودة الدائمــة وبـراءة الصيــرورة‪ ،‬وذلــك برجــوع األشــكال ذاتهــا‬ ‫مئــات المـرات‪ ،‬فــي حركــة تغييــر مســتمر‪ ،‬ال يعــرف الخيــر وال الشــر لتخطيــه إياهمــا بنشــوة مأســاة الوجــود‪.‬‬ ‫بحســب كمــال يوســف الحــاج‪ ،‬مــا مــن شــيء كاللغــة يــازم اإلنســان مــن المهــد إلــى اللحــد‪ ،‬ومــا اإلنســان بــا لســان‪ ،‬إال‬ ‫صــورة ممثلــة وبهيمــة مهملــة‪ ،‬بنــاء علــى هــذا الواقــع اللغــة فعــل إنســاني لــذا؛ هــو ال يتوانــى عــن الترديــد ‪ ...»:‬ليســت اللغــة مجــرد‬

‫تأليــف بيــن الحــروف‪ ،‬والكلمــات‪ ،‬لكنهــا نظــم علــى المعانــي‪ ،‬يصيــب موضعـاً فــي النفــس‪ ،‬فتدخــل إذ ذاك فــي أصــول النحــو‪ ،‬وتتصــل بأحــد أبوابــه‪ .‬الداللــة‬ ‫إلــى معنــى واجــب وجــود للغــة‪ .‬واســتواء تأليفهــا ال يكــون إال فــي تســاوق نظمهــا‪ .‬أي فــي الداللــة التــي يتســلل بهــا الــكالم إلــى القلــب‪ .)30(».‬اللغــة فعــل‬

‫إنســاني‪ ،‬ونشــاط وجدانــي يحمــل فيــه داللــة لمعنــى‪ ،‬وهــي ليســت مجــرد تأليــف بيــن حــروف وكلمــات‪ ،‬إنمــا نظــم معانــي‪ ،‬يصيــب‬ ‫موقعـاً فــي النفــس فتدخــل فــي أصــول النحــو‪ ،‬وتطــرق أحــد أبوابــه وصـوالً إلــى معنــى واجــب وجــود اللغــة‪ ،‬فيســتوي تأليفهــا فــي‬ ‫تســاوق نظمهــا بمعنــى دالالت يتســلل مــن خاللهــا الــكالم إلــى القلــب‪ .‬وعــن عالقــة البالغــة باللغــة‪ ،‬يعتقــد نيتشــه بــأن الخطــاب‬ ‫فــي اللغــات القديمــة كان مصنوعـاً ال فطريـاً شــفهياً‪ ،‬بعكــس الخطــاب المعاصــر الــذي يتأســس بالكتابــة(‪ .)31‬محــاوالً إقامــة الفــرق‬ ‫بيــن خطــاب تتلقفــه اآلذان‪ ،‬وآخــر تتلقفــه العيــن‪ ،‬وكأنــه دريــدا الــذي يفــرق بيــن األصـوات التــي تــدل علــى معنــى‪ ،‬والكتابــة التــي‬ ‫حــاول البحــث معهــا عــن جــذور توراتيــة‪ .‬ويــرى نيتشــه بــأن البالغــة هــي المثلــث القائــم بزوايــا‪ :‬المرســل والمتلقــي ولوغــوس‬ ‫الخطــاب‪ ،‬فــي الوقــت عينــه نجــد المفكــر اللبنانــي كمــال يوســف الحــاج يؤكــد ‪ »:‬إذن الغايــة مــن اللغــة إصابــة معنــى‪ .‬وهــذا يقتضــي وجــود‬ ‫ِ‬ ‫يخاطــب ومــن يخا َطــب‪ .‬مــن يرســل المعنــى ومــن يتلقــاه‪ .‬ذلــك هــو المجتمــع‪ .)32(».‬اللغــة تقــوم حيــث الحيــاة‬ ‫اثنيــن‪ ،‬علــى أقــل تعديــل‪ ،‬وجــود مــن‬ ‫اإلجتماعيــة‪ ،‬وبالتالــي وجــود الغيــر ُيعتبــر مــن أهــم عناويــن الوجوديــة الحديثــة‪ ،‬التــي حــددت اإلنســان بالكائــن المجتمعــي‪.‬‬ ‫‪:Derrida‬يعتبــر جــاك دريــدا مــن أكبــر تالمــذة نيتشــه فــي فرنســا‪ ،‬وهــو إذ يديــن لــه‬ ‫ب_ اللغـ�ة فـ�ي الفكـ�ر الدريـ�دي‬ ‫ُ‬ ‫بغـ ازرة إنتاجــه‪ ،‬محــاوالً جريـاً علــى لســان نيتشــه‪ ،‬اعتبــار اللغــة الغارقــة فــي التصويــر واإلســتعارة‪ ،‬تحيــد بنــا عمــا نعتقــده حقيقــة‪،‬‬ ‫إن هــي فــي الواقــع إال أوهــام‪ ،‬وهــو يتشــابه مــع قــول دريــدا فــي أن الكتابــة‪ ،‬لغــة وهــي اللبــاس التنكــري األكثــر قــذارة(‪ .)33‬لهــذا دعــا‬ ‫فــي كتابــه فــي علــم الكتابــة «فــي الغراماتولوجيــا» إلــى إســقاط فلســفة الــذات والحضــور‪ ،‬التــي شــغلت الفكــر الغربــي منــذ ديــكارت‪،‬‬ ‫منطلقـاً مــن اعتبــارات لغويــة وردت عنــد فردينــان دو سوســير‪ ،‬ليبــدأ بعــد ذلــك بعمليــة تفكيــك‪ déconstruction‬شــاملة للفلســفة‬ ‫بهــدف تقويــض الــذات الفاعلــة‪ ،‬ومــن ورائهــا العقالنيــة‪.‬‬ ‫يذهــب دريــدا إلــى أن نزعــة العقــل المركزيــة هــي نزعــة الصــوت المركزيــة(‪ )34‬بمعنــى التقــارب المطلــق فــي مــا بيــن‬ ‫الصــوت والوجــود‪ ،‬أو بيــن الصــوت ومعنــى الوجــود‪ ،‬أو بيــن الصــوت ومثاليــة المعنــى‪ .‬فكمــا أن األذن تتلقــى الصــوت‪ ،‬كذلــك‬


‫عفــاف الوجــدان‪ ،‬وبالتالــي فالمعانــي تُعتبــر الخطــر األكبــر الــذي شــهدته الميتافيزيقــا‪ ،‬حيــث أن الميتافيزيقــي كان قــد عمــل فــي‬ ‫تصــورات مودعــة فــي اللغــة ســلفاً(‪ .)20‬وعملــه علــى هــذه التصــورات ســابق للتجربــة‪ ،‬وكأن هــذه التصــورات هابطــة مــن الســماء‬ ‫كاشــف ًة للفكــر عــن واقــع فــوق الحــس‪ .‬والمشــكلة ال تكمــن فــي المعانــي المودعــة فــي اللغــة فحســب‪ ،‬إذ إن الميتافيزيقــا الحديثــة‬ ‫تناولــت موضوعـاً شــبيها بموضــوع الديــن‪ ،‬طامحـ ًة أن تنشــيء عقيــدة‪ ،‬تقــوم علــى العقــل وتطمئــن إليــه اطمئنــان الالهوتــي الــذي‬ ‫اســتمده مــن التنزيــل(‪ .)21‬فهــي كانــت تعمــل فــي تصــورات محضــة خــارج التجربــة‪ .‬لــذا‪ ،‬ال بــد مــن التعلــق بتصــور تســتخرج منــه‬ ‫كل شــيء‪ .‬يحتــوي علــى كل شــيء‪ ،‬تلــك هــي الفكـرة التــي شــكلتها عــن اإللــه «العقــل الكلــي» الــذي يعلــل كل شــيء‪ ،‬هــو المبــدأ‪،‬‬ ‫وهنــا مكمــن الخلــط بيــن معنــى يعلــل ومعنــى يعمــل‪ ،‬حيــث أن األشــياء ُردت إلــى تصوراتهــا‪ ،‬وبمــا أن التصــورات يدخــل بعضهــا‬ ‫فــي بعــض‪ ،‬انتهـوا إلــى تصــور معنــى المعانــي‪ ،‬واعتقــدوا بأنــه يعلــل كل شــيء‪ ،‬لكنــه فــي الحقيقــة ال يعلــل كثيـ اًر ولعــل الســبب‬ ‫فــي ذلــك يرجــع بـرأي برغســون إلــى عامليــن‪:‬‬ ‫أوالً‪ ،‬عــدم قبولــه تقســيم الواقــع إلــى تصــورات‪ ،‬وبالتالــي توزيعــه علــى تصــورات تقســيماً وتوزيع ـاً أودعهمــا المجتمــع‬ ‫فــي اللغــة‪ ،‬وقــام بهمــا ابتغــاء الســهولة‪.‬‬ ‫ثانيـاً‪ ،‬ألن المركــب الــذي ينشــئه مــن التصــورات خـ ٍ‬ ‫ـال مــن المــادة(‪ )22‬لفظــي فحســب‪ ،‬فتبــدو اللغــة والحــال هــذه مبدعــة‬ ‫كل شــيء‪ ،‬وهــي ال تنحصــر فــي لفــظ خـ ٍ‬ ‫ـال مــن الداللــة‪ ،‬وهــذا مــا يثيــر اســتغراب برغســون حــول كيفيــة اعتقــاد الفالســفة بأنهــم‬ ‫يميــزون المبــدأ الــذي نصبــوه تعليـاً للعالــم‪ ،‬مــع العلــم بأنهــم لــم يضيفـوا شــيئاً علــى تصويـره كرمــز اصطالحــي‪ ،‬فلــو أطلقنــا عليــه‬ ‫أي تســمية «الجوهــر» كمــا عنــد اســبينوزا‪ ،‬أو «الــذات» كمــا رأى فيختــه‪ ،‬أو «المطلــق» عنــد شــلنج‪ ،‬أو «المعنــى» عنــد هيغــل‪،‬‬ ‫أو «اإلرادة» عنــد شــوبنهاور‪ ،‬وعلــى هــذا‪ ،‬فالكلمــة مهمــا بــدت تشــتمل علــى معنــى محــدد‪ ،‬هــي ال تلبــث أن تفقــد هــذا المعنــى‪،‬‬ ‫وبالتالــي ال تلبــث أن تخلــو مــن أيــة داللــة‪.‬‬ ‫المعاني إذاً‪ ،‬ال داللة حقيقية لها‪ ،‬تتشــظى إلى ما ال نهاية‪ ،‬لعلها آفة المذاهب الفلســفية التي منحت للمطلق اســماً‪،‬‬ ‫وزادت فــي مــا صــدق اإلســم حتــى فقــد مضمونــه‪ .‬وبالتالــي‪ ،‬هــي تضعنــا فــي التصــور الــذي ال محتــوى متعيــن لــه‪ ،‬والتصــورات‬ ‫تركيــب الصــور‪ ،‬لعبــة ألفــاظ مصطنعــة‪،‬‬ ‫مودعــة فــي كلمــات ال تعبــر عــن الشــيء‪ .‬وبنــاء عليــه‪ ،‬الفلســفة لعبــة مــن لعــب‬ ‫صنعتهــا الهيئــة اإلجتماعيــة بغيــة تقطيــع الواقــع بمــا يتفــق وحاجاتــه(‪ . )23‬والكلمــة تهــيء للتصــور اإلطــار الــذي يدخــل فيــه‪،‬‬ ‫وبالتالــي القســم األعظــم مــن المعانــي التــي هيأهــا المجتمــع للغــة هــو مــن أجــل الــكالم‪ .‬وعلــى الرغــم مــن إعجــاب كمــال يوســف‬ ‫الحــاج ببرغســون لكنــه فــي موضــوع العالقــة فــي مــا بيــن التوقيفيــة (إلهاميــة اللغــة) والتواطؤيــة (إصطالحيــة اللغــة)‪ ،‬بيــن الفريــق‬ ‫األول الــذي يؤمــن بأمانــة اللغــة‪ ،‬والفريــق الثانــي‪ ،‬الــذي يعتقــد بخيانتهــا‪ ،‬وعلــى أرســهم برغســون لــذا‪ ،‬توجــه إليــه الحــاج بالقــول‬

‫‪ »:‬األول يقــول بأمانــة اللغــة فــي تأديــة التعبيــر‪ .‬الثانــي يقــول بخيانــة اللغــة فــي تلــك التأديــة‪ .‬الخــط الثانــي وجــد فيلســوفه األكبــر‪ ،‬فــي برغســون‪ ،‬الــذي‬ ‫خرجــه نظــرة فلســفية بــه لــم يعــد مجــرد تذمــر أدبــي‪ .‬لقــد أصبحــت هــذه الخيانــة إحــدى المحجــات التــي صـ َّـوب إليهــا برغســون ســهام نقــده الميتافيزيقــي‪.‬‬ ‫َّ‬ ‫نحــن ملنــا إلــى المذهــب التوقيفــي بطريقــة خاصــة ســنحوم عليهــا فــي الصفحــات التاليــة‪ .‬إنطلقنــا مــن البرغســونية‪ .‬وانتهينــا إلــى عكــس مــا تقــول‪.)24(»...‬‬

‫اللغــة إذاً هــي كالم مفيــد يــدل إلــى معنــى‪ ،‬هــي تتألــف مــن ألفــاظ وتراكيــب إذا أُســندت إحداهــا إلــى األخــرى أصــدرت معنــى‪.‬‬

‫يتنكـ�ر برغسـ�ون لتاريـ�خ البشـ�رية الـ�ذي يـ�رى فيـ�ه تاريخـ�اً تافهـ�اً صنعـ�ه العقـ�ل‪ ،‬وهـ�و بذلـ�ك يتقاطـ�ع مـ�ع دريـ�دا�‪Derri‬‬ ‫‪ da‬فــي إنــكاره للعقــل مختــرع اللغــة‪ .‬وهــذا مــا حــدا بالمفكــر اللبنانــي كمــال يوســف الحــاج إلــى إطــاق صفــة «زعيــم المدرســة‬ ‫وهدامــة‪.‬‬ ‫اإلرهابيــة»(‪ )25‬علــى برغســون الــذي ضــرب الحــرم علــى اللغــة وأضحــت وســيلة لغايــة‪ ،‬أو بمعنــى آخــر وســيلة مخربــة ّ‬

‫بعــد هــذا العــرض لموقــف الجوهرييــن‪ ،‬تــرى كمــال يوســف الحــاج ينتقدهــم‪ ،‬ويعتبرهــم علــى خطــأ مــردداً ‪ »:‬يتبيــن لنــا‪ ،‬ممــا‬ ‫تقــدم‪ ،‬أن الجوهرييــن علــى خطــأ‪ ،‬عندمــا يفصلــون الوجــدان عــن اللغــة‪ ،‬ليحلــوه مركـ اًز أســمى‪ ،‬علــى اعتبــار أنــه الــروح‪ ،‬وليحطـوا مــن كرامــة اللغــة‪ ،‬علــى‬ ‫اعتبــار أنهــا مــن الجســد‪ .‬هــل يســتطيعون أن يقولـوا لنــا أيــن ينتهــي الوجــدان وأيــن تبــدأ اللغــة؟ هــل يســتطيعون أن يفصلـوا‪ ،‬بتأكيــد إيجابــي‪ ،‬بيــن الحالــة‬ ‫الوجدانيــة والعبــارة اللغويــة؟ ال أعتقــد أن فيلســوفاً واحــداً يجــرؤ علــى القيــام بهــذا الفصــل بينهمــا‪ .‬لكننــا تعودنــا أن نميــز بيــن اللغــة والوجــدان‪ .‬وقــد ســرى‬ ‫بيننــا هــذا التمييــز بقــوة‪ .‬ومــا زال ســائ اًر‪ .‬إال أنــه ال يصمــد كثيـ اًر فــي وجــه التقصــي‪ .‬اإلنســان تـواق إلــى أن ُيظهــر أفــكاره أصواتـاً يســمعها وسـواداً يـراه علــى‬ ‫بيــاض القرطــاس‪ .)26(»...‬فــي مقابــل موقــف الجوهرييــن‪ ،‬قامــت فلســفة تنــادي باللغــة كأنطولوجيــا ووجــود‪.‬‬

‫ثانيـاً‪ :‬اللغــة فــي مــا بيــن األنطولوجيــا والوجــود‪ :‬فكـرة هــدم الفلســفة قديمــة قــدم الفلســفة‪ ،‬وهــي ترجــع بأصولهــا إلــى‬ ‫أرســطو الــذي اعتبــر أن مــن يحــاول هــدم الفلســفة هــو فــي الواقــع يســعى إلقامــة فلســفة جديــدة‪ ،‬كذلــك هــو الحــال عنــد الكنــدي‪،‬‬ ‫وابــن رشــد فــي رده علــى الغ ازلــي‪ ،‬لكــن مــا يحصــل فــي عصرنــا هــو نقــد يهــدم الفلســفة مــن الداخــل‪ ،‬يفــكك بناءهــا الــذي قامــت‬ ‫عليــه‪ ،‬ولعــل محاولــة نيتشــه كانــت األكثــر جذريــة وراديكاليــة وشــكلت نهجـاً ســار عليــه العديــد مــن المفكريــن‪.‬‬

‫النظــام‬ ‫أ‪-‬اللغــة فــي الفكــر النيتشــوي‪ :Nietzche‬ينطلــق نيتشــه كأول فيلســوف معاصــر يعمــل علــى تدميــر‬ ‫الــذي بنــاه هيغــل‪ ،‬وعلــى هــدم جــذري للفلســفة مــن بــاب فقــه اللغــة‪ ،‬حيــث قــام بعمليــة قلــب كامــل للميتافيزيقــا التــي كان أفالطــون‬ ‫قــد شــيدها‪.‬‬


‫هــذا الوجــود الــذي يجــب أن ُيفهــم مــن خــال نقلــه إلــى اللغــة‪ .‬وهــو بذلــك قريــب جــداً مــن المفكــر اللبنانــي كمــال يوســف الحــاج‬ ‫الــذي يجــد فــي اللغــة قـوام الوجــود مــردداً ‪ »:‬قلنــا إن اللغــة غايــة ال واســطة‪ .‬وقــد عنينــا بذلــك أنهــا جوهــر مــن الجواهــر التــي يقــوم عليهــا محــض‬ ‫اإلنســان‪ .‬والجوهــر عــام‪ .‬لكــن اإلنســان ال يشــرف علــى الجوهــر إال ابتــداء مــن الوجــود‪ .‬والوجــود خــاص‪ .‬الذيــن يريــدون أن يثبــوا تــواً إلــى الجوهــر‬ ‫العــام‪ ،‬بــدون اإلســتناد إلــى الوجــود الخــاص‪ ،‬ال يصيبهــم إال الفشــل‪ .‬وال يدركــون إال الف ـراغ‪ .‬اإلنســان‪ ،‬شــاء أو أبــى‪ ،‬هــو فــي ســبيل الجوهــر مبتــدءاً مــن‬ ‫الوجــود‪. )39(».‬فاللغــة بمفهــوم كمــال الحــاج هــي ليســت فك ـرة مثاليــة بالمعنــى األفالطونــي‪ ،‬عاريــة مــن كل وجــود مظهــري‪ ،‬بــل‬

‫حيـزه الخــاص‪ ،‬بهــا يبرهــن عــن انتمائــه لإلنســانية‪ ،‬الســيما‬ ‫علــى العكــس مــن ذلــك‪ ،‬هــي مضمــون حياتــي‪ ،‬يعيشــه اإلنســان فــي ِّ‬ ‫وأنهــا تفصــح عــن شــخصيته وقوميتــه‪.‬‬

‫أتــى طــرح هيدغــر مــن منظــور أنطولوجــي للغــة والــذي ســيوازي المنظــور الوضعــي لهــا‪ ،‬علــى الرغــم مــن التبايــن‬ ‫والتنافــس والص ـراع القائــم بينهمــا‪ ،‬هــذا المنظــور الوجــودي للغــة سيشــكل أحــد محــاور اللقــاء الــذي ُعقــد فــي دافــوس بسويس ـ ار‬ ‫تحــت عنـوان « ماهيــة اإلنســان» فــي‪ 17‬آذار‪ 1923‬بحضــور شــخصيات ثقافيــة وعلميــة مرموقــة‪ ،‬وفيــه ســيعلن هيدغــر الحــرب‬ ‫علــى الفكــر التنويــري‪ ،‬وممثــل الكنطيــة الجديــدة كاســيرر‪ .)40( Cassirer‬وتمخــض عــن هــذه المواجهــة طروحــات حــول طبيعــة‬ ‫العقــل ووظيفتــه‪ ،‬وحــول اللغــة ومقاربتهــا‪ ،‬فهــل ينبغــي اعتمــاد الطــرح األنطولوجــي الوجــودي الــذي يت أرســه هيدغــر‪ ،‬ويمثلــه تيــار‬ ‫الفلســفة اللغويــة‪ ،‬أم ينبغــي مقاربتهــا بالجانــب الرمــزي الوظيفــي الــذي تتبنــاه نظريــات فــي فلســفة اللغــة؟(‪ .)41‬هــذا مــع العلــم بــأن‬ ‫اللغــة الهيدغيريــة هــي بيــت الوجــود الــذي يتطلــب حارسـاً هــو اإلنســان‪ ،‬القــادر علــى الح ارســة والتأويــل‪ ،‬وبالتالــي فهــو حــارس‬ ‫الوجــود ومؤولــه‪ ،‬والحــارس القــادر علــى إظهــار الوجــود أو إخفائــه‪ ،‬يخلــق لديــه الوهــم بكونــه مبــدع اللغــة‪ ،‬لكــن الواقــع يثبــت‬ ‫أن الكلمــة ال تبــرز إال تحــت دفــع الوجــود‪ ،‬وبالتالــي فــي طــرح إشــكالية اللغــة طــرح لمشــكلة الوجــود‪ .‬وهــو فــي ذلــك يتقاطــع مــع‬ ‫كمــال الحــاج الــذي يــرى بأنــه ‪ »:‬يظــن البعــض أن الجوهــر والوجــود يتنافيــان ضــرورًة‪ .‬والحقيقــة أن التعاضــد قائــم بينهمــا‪ .‬تلــك هــي جدليــة الحيــاة‪.‬‬ ‫إن الجوهــر بحاجــة إلــى وجــود‪ ،‬يتجســد فيــه‪ ،‬وإال مــا كان جوهـ اًر‪.‬‬

‫والوجــود بحاجــة إلــى جوهــر‪ ،‬يصعــد نحــوه‪ ،‬وإال مــا كان موجــوداً‪ .‬إذا ُف ِصـ َـل الجوهــر عــن الوجــود‪ ،‬قطعـاً‪ ،‬تهافــت اإلثنــان معـاً‪ .‬إذ ال يعــود الجوهــر منســكباً فــي‬ ‫وجــود وال الوجــود مســدداً إلــى جوهــر‪ .‬اإلنســان عاجــز عــن أن يرفــع الجوهــر العــام إالَ بحفــر أســس لــه فــي الوجــود الخــاص‪ .‬إن جوهـ اًر ال ينوجــد‪ ،‬ووجــوداً‬ ‫ال يتجوهــر‪ ،‬تنتفــي عنهمــا صفــة الجوهــر والوجــود‪ .‬لــذا كان علــى اإلنســان‪ ،‬كــي يســتبقي حياتــه‪ ،‬أن يـراوح فيمــا بينهمــا‪ .)42(».‬فالحيــاة ال تســتمر إال‬

‫بهــذا التناقــض القائــم فــي مــا بيــن الجوهــر والوجــود‪ ،‬فــا كيــان لجوهــر عــام إال فــي وجــود خــاص‪ ،‬بمعنــى وجــود واحــد‪ .‬فاللغــة‬ ‫جوهــر واحــد وال تتحقــق إال فــي وجــود واحــد‪ ،‬هــو اللســان‪.‬‬

‫‪-2‬مفهوم اللغة عند بول ريكور‪ :‬لعل التأمل باللغة وبما قدمته األلســنية ومدارســها الحديثة‪ ،‬شــكلت منطلقاً تحولياً‬ ‫فــي مســار فلســفة ريكــور‪ ،‬ال ســيما وأنــه أتــى اللغــة والتأمــل فــي النــص وتأويلــه متأخ ـ اًر بعــض الشــيء‪ ،‬حيــث تمثــل مشــروعه‬ ‫األساســي فــي الفينومينولوجيــا كمنهــج لد ارســة « فلســفة اإلرادة «‪ ،‬ومــن ثــم كان قــد عــرج علــى التحليــل النفســي باعتبــاره نصـاً‬ ‫فلســفياً‪ ،‬وصـوالً إلــى اإلنشــغال باأللســنية ومــا تحمــل مــن قضايــا‪ ،‬قــد تحمــل إشــارات لتفســير جديــد لإلنســان ومعنــى وجــوده‪ ،‬لــذا‬ ‫هـ�و ال يتوانـ�ى عـ�ن انتقـ�اد ديلتـ�ي ‪Deltay‬ألنــه لــم يربــط بوضــوح إشــكالية الفهــم بإشــكالية اللغــة(‪ . )43‬معتبـ اًر ان الفلســفة التفكريــة‬ ‫ينبغــي أن تأخــذ باعتبارهــا النتائــج التــي أفضــت إليهــا مختلــف العلــوم التــي عملــت علــى تأويــل إشــارات اإلنســان‪ ،‬وبالتالــي‬ ‫مــن الواجــب العمــل علــى كشــف الــذات الفاعلــة وراء األنقــاض التــي أخفاهــا أســياد فلســفة الريبــة‪ ،‬قبــل القيــام بأيــة أنطولوجيــا‪.‬‬ ‫واألنطولوجيــا المعاص ـرة لــن تقــوم إال بتوســط إشــارات علــم الداللــة‪ ،‬ويعيــب ريكــور علــى هيدغــر إقامتــه أنطولوجيــا مباش ـرة‪،‬‬ ‫متوجهـاً إليــه بالقــول ‪ »:‬شـ ّـيد فلســفة لغويــة تقــوم علــى معجميــة التــرك والتخلــي‪ ،‬اإلنتمــاء الحــر‪ ،‬وال تنتمــي ال إلــى األلســنية وال إلــى التحليــل اللغــوي‬ ‫وال إلــى الفينومينولوجــي وال حتــى إلــى التحليــل الوجــودي المبيــن فــي الوجــود والزمــان‪ .)44(».‬يعتبــر ريكــور أنــه لــم يعــد جائـ اًز إقامــة أنطولوجيــا‬ ‫مباشـرة‪ ،‬ال ســيما وأن الفيلســوف المعاصــر الــذي يعيــش وســط عالــم مــن اإلشــارات اآلتيــة إليــه مــن العلــوم اإلنســانية‪ ،‬وحيــث أنــه‬ ‫ينبغــي علــى كل كوجيتــو أن يســتجيب لــكل التحديــات التــي تطرحهــا هــذه اإلشــارات‪.‬‬ ‫هكــذا كانــت بدايــة دخــول بــول ريكــور لعلــم األلســنية مــن بــاب التحــدي الــذي رأى بأنــه ال بــد مــن قبــول مواجهتــه‪ ،‬مؤكــداً‬ ‫فــي أطروحتــه األساســية فــي األلســنية علــى أنــه ال بــد مــن التمييــز بيــن مســتويات ثالثــة ‪ :‬مســتوى الكلمــة وهــذا هــو مســتوى‬ ‫المبنــى‪ ،‬إذ الكلمــة جــزء مــن قامــوس كبيــر إنمــا ال معنــى لهــا فــي حـ ّـد ذاتهــا إن لــم يتــم وضعهــا فــي جملــة تبــرز مســتوى المعنــى‪،‬‬ ‫وتصبــح الجملــة الحامــل للحــد األدنــى مــن الداللــة الكاملــة‪ ،‬لكــن الكلمــة ال تعطــي كل دالالتهــا إال علــى مســتوى الخطــاب أو‬ ‫النــص الــذي يشــكل المســتوى الثالــث‪.‬‬ ‫والتقســيم الثالثــي عنــد ريكــور يشــبه إلــى حــد مــا التقســيم الــذي اعتمــده كمــال يوســف الحــاج الــذي ذهــب فــي تقســيمه‬ ‫اللغــة قائـاً ‪ »:‬نعلــم أن اللغــة تقــوم علــى عناصــر ثالثــة‪ :‬األصـوات‪ ،‬ثــم األلفــاظ‪ ،‬فالجمــل‪ .‬وهــي المراحــل ذاتهــا‪ ،‬التــي يعبــر فيهــا الطفــل‪ ،‬صعــداً‪ ،‬نحــو‬

‫اإلنســان الراشــد‪ .‬المرحلــة الصوتيــة‪ ،‬ثــم المرحلــة اللفظيــة‪ ،‬فالمرحلــة المنطقيــة‪ ،‬التــي يســتعمل فيهــا جمـاً مفيــدة‪ .‬ونعلــم أن الــذي يحــدد الجملــة كــون يمســك‬ ‫ألفاظهــا بعضهــا برقــاب بعــض‪ .‬هــذا المســك هــو النحــو الــذي فيــه يقــوم الفــارق األخيــر بيــن العاميــة والفصحــى‪ .‬أعنــي فــي أن ترتــب األلفــاظ بعضهــا مــع‬


‫تتلقــى العيــن اللــون أو الشــكل‪ ،‬فــإن كان تلقــي الصــوت واحــداً‪ ،‬فالكتابــة ليســت واحــدة عنــد متلقيهــا‪ .‬وعلــى هــذا كل مدلــول‬ ‫يخضــع لمفهوميــن‪ :‬األول محســوس يتمثــل بالصــوت‪ ،‬والثانــي معقــول نتــاج اللوغــوس‪ ،‬وهــذا يعنــي أن اللوغــوس هــو الســقطة‬ ‫مــن الفونيــم الصوتــي إلــى اإلدراك المتجــه نحــو الكلمــة‪ ،‬أي هللا الــذي يصيــر بــه زمــن العالمــات أو اإلشــارات زمن ـاً الهوتي ـاً‬ ‫بامتيــاز‪ ،‬هــذا الزمــن الالهوتــي الــذي لــن تكــون لــه نهايــة‪ .‬ويــرى دريــدا أن امتيــاز الصــوت وحضــوره ينطلــق مــن تفكيــك آليــات‬ ‫الكتابــة لينتهــي ثانيــة إلــى الصــوت الــذي بــه ّتدعــي الكلمــات امتالءهــا‪ ،‬وهــو امتــاء يغيــب مــن دونــه تحققهــا وحضورهــا‪.‬‬ ‫موقــف دريــدا هــذا يتقاطــع وموقــف كمــال يوســف الحــاج الــذي يقــول ‪ »:‬واضــح مــن هــذا الــكالم أن اللغــة هــي أكثــر مــن تصويــت‬ ‫أو قــرع شــفاه‪ .‬وإال تســاوت عناصرهــا بيــن اإلنســان والحيـوان‪ .‬إذ إن أرقــى الحيوانــات ال يســتطيع هنــا أن يماشــي أغبــى األطفــال‪ ,‬أو أبلــد البلهــاء‪ .‬يكمــن‬ ‫ســر هــذا فــي أنطولوجيــة اإلنســان الــذي يعــي مــاذا يقــول‪ .‬الحيـوان ال يعــي‪ .‬قــد يكــون للحيـوان وعــي خــاص بــه أكبــر أو أصغــر مــن وعــي اإلنســان‪ .‬لكنــه‬ ‫علــى كل حــال ال يشــبه مطلقـاً وعــي اإلنســان‪ .‬إذن جبلــة نفســه مغايــرة‪ ،‬فــي الطبيعــة‪ ،‬لجبلــة النفــس البشــرية‪ .‬مــن هنــا كــون لغتنــا ال سـواها تــدل إلــى معـ ِ‬ ‫ـان‬ ‫ِ‬ ‫يمعــن بيــن الكائنــات‪ .‬ال لغــة بــدون معنــى يكشــف بــه اإلنســان عمــا فــي نفســه مــن أهــداف وجدانيــة‪ .‬لــو‬ ‫بالنســبة إلــى اإلنســان الــذي أُعطــي وحــده أن ّ‬ ‫لــم يكــن اإلنســان لمــا ُوجــدت اللغــة‪ .)35(».‬اللغــة إذاً‪ ،‬ال تقتصــر علــى تحريــك الشــفاه وإصــدار األصـوات‪ ،‬بــل هــي بإجمــاع الفالســفة‬

‫خصيصــة مــن خصائــص اإلنســان وحــده‪ ،‬وبحســب ديــكارت الحيوانــات تصـّـوت لكنهــا ال تتكلــم‪ ،‬حيــث أنــه ال عقــل للحيوانــات‪،‬‬ ‫وألن معرفــة الــكالم تســتلزم العقــل‪.‬‬ ‫يلجــأ دريــدا إلــى البحــث عــن وضــع جديــد للكلمــة بغيــة إســقاطها‪ ،‬وبالتالــي انتـزاع تســلطها كأصــل ومركــز للغــة لــذا؛ ال‬ ‫بــد مــن التفكيــر بوضــع جديــد لهــا‪ ،‬وإخضاعهــا فــي بنيــة بحيــث ال تعــود فيهــا الســيد المطلــق‪ ،‬هــذه البنيــة موجــودة فــي مفهــوم‬ ‫اإلختــاف‪ ،‬أو لعبــة التمايــز‪ ،‬وتســمى هــذه اللعبــة باألثــر الــذي كان سوســير‪ Saussure‬قــد ألمــح إلــى أنــه ليــس فــي اللغــة‬ ‫ســوى مجموعــة إختالفــات تحــدد المبنــى والمعنــى‪ ،‬الــدال والمدلــول وتعينهمــا‪.‬‬

‫لعبــة اإلختــاف هــذه تســبق كل مفهــوم عقالنــي‪ ،‬واألثــر هــو النبــع واألصــل لــكل داللــة‪ ،‬والحفــر العامــودي الــذي‬ ‫يعتمده دريدا للوصول إلى جذور الميتافيزيقا والماوراء يجعله يدرك بأن مســائل الفلســفة الغربية من مثل اإلله روح‪ ،‬واإلنســان‬ ‫كائــن مفكــر‪ ،‬قضايــا قابلــة للتســاؤل والنقــاش‪ ،‬وبالتالــي ســيتم مســاءلتها‪ ،‬ألنهــا لــم تتمثــل فــي نســيان الــدال واحتقــار المــادة‪،‬‬ ‫وإبعــاد الجســد‪ ،‬واإلقـرار بنبــل التذكــر أي الكتابــة ال بنبــل الذاكـرة(‪ .)36‬وهــذا إن دل علــى شــيء إنمــا يــدل علــى أنــه ليــس هنــاك‬ ‫مــن مرجــع تســتند إليــه الفلســفة‪ ،‬هــذا المرجــع الــذي كان العقــل أو اللوغــوس أو الكلمــة‪ ،‬أصبــح مــع دريــدا تفكيــكاً لنســق الفلســفة‬ ‫الغربيــة التــي كانــت ترجــع للعقــل كمركــز جوهــري لضمــان حقيقــة مــا تؤكــد‪ ،‬وبالتالــي تتهافــت مخلفــة رمــاد األوهــام الغربيــة‪ .‬هكــذا‬ ‫إذاً‪ ،‬بــدأت مــع دريــدا تتداعــى الفلســفة وتتهــاوى قضايــا المعرفــة والحقيقــة واألصــل‪ ،‬ليقــوم بــدالً عنهــا‪ ،‬عالمـاً بــا مركــز‪ ،‬عالــم‬ ‫غيــاب الــذات‪ ،‬ومــوت الفاعــل وانتفــاء الحضــور‪ ،‬ليحــل محلــه عالــم الصيــرورة البريئــة الــذي دعــا إليــه نيتشــه‪.‬‬ ‫فــي حيــن أن كمــال يوســف الحــاج يذهــب إلــى أن‪ »:‬األفــكار كاألمومــة تميــل إلــى أن تتحقــق لحم ـاً ودم ـاً‪ .‬إن األمومــة‪ ،‬التــي تظــل‬ ‫ويلمــس‪ ...‬هــذه األمومــة التــي تــود لــو تكــون بالفعــل ثــم تبقــى بالقــوة شــيئاً غائباً‪...‬هــذه‬ ‫ويســمع‪ُ ،‬‬ ‫معلقــة فــي عالــم الشــوق‪ ،‬دون أن تتجســد طفـاً ُيــرى‪ُ ،‬‬ ‫األمومــة تتجمــر‪ ،‬وتترمــد فــي األحشــاء‪ ،‬وتخنــق النفــس التــي تختلــج بهــا‪ .‬إن انطــاق النزعــات‪ ،‬مــن القــوة إلــى الفعــل‪ ،‬إنخفــاض ظنــه النــاس انحــدا اًر إلــى‬ ‫أســفل‪ ،‬ولــم يعلم ـوا أنــه ســقوط إلــى فــوق‪ .‬وهكــذا الفكــرة‪ ،‬التــي تظــل فكــرة ال ُتلفــظ‪ ،‬وال ُتخــط‪ .‬هــذه الفكــرة حركــة ســلبية نحــو االنعــدام‪ .‬أمــا إذا انحــدرت‬ ‫مــن الغيــب‪ ،‬رعشــات حساســة‪ ،‬إلــى األنامــل‪ ،‬فالقلــم‪ ،‬ثــم القرطــاس‪ ،‬نائمــة عليــه‪ ،‬فإنهــا تعبــر إذ ذاك إلــى كمالهــا لترتــاح وتريــح‪ .‬باللغــة وفــي اللغــة تســتقر‬ ‫معانينــا‪ .‬باللغــة نقــف أمــام ذواتنــا‪ .)37(».‬لعــل اســتنزال الفكـرة ككلمــة مســموعة ومنظــورة‪ ،‬هــو عالقــة جدليــة تــؤدي إلــى أنســنة اإللــه‬

‫الكامــن فينــا‪ ،‬وإلــى تأليــه اإلنســان‪ .‬إنــه اســتنزال صاعــد حيــث الحيــاة ذاتهــا فــي حركتهــا‪ ،‬وحيــث الواقــع فــي جدليتــه‪ ،‬إذ مــا مــن‬ ‫فكـرة إال وتتجســد فــي كلمــة‪ ،‬وبذلــك نســبر أغـوار المجهــول ونصــل إلــى المعرفــة‪.‬‬

‫ج_ آفــاق فلســفية بتأمــات لغويــة‪ :‬ممــا ال ريــب فيــه أن الفلســفة تهتــم باآلفــاق الجديــدة التــي تفتحهــا العلــوم‬ ‫واإلكتشــافات‪ ،‬وبما أن األلســنية تجتاح عصرنا بغية اكتســاب صفة علمية‪ ،‬أصبح من الطبيعي أن تؤثر في الفلســفة وبالتالي‬ ‫أن تحــاول هــذه األخيـرة التفكيــر فــي اللغــة‪ ،‬بقصــد إعطــاء معنــى جديــد لإلنســان لــذا ســنكتفي بعــرض شــخصيتي هيدغــر وبــول‬ ‫ريكــور‪ ،‬مــع العلــم بــأن هنــاك العديــد مــن المفكريــن إنمــا ضيــق الوقــت وضــرورات البحــث لــن تســمح لنــا بذلــك‪.‬‬ ‫‪-1‬هيدغــر واللغــة‪ :‬لعــل التفكيــر فــي اللغــة ومســاهمتها فــي حــل مســألة الوجــود‪ ،‬مــن أبــرز القضايــا التــي اهتــم بهــا‬ ‫الفيلســوف الكبيــر مارتــن هيدغــر‪ Martin Heidegger‬بعــد الحــرب العالميــة الثانيــة‪ ،‬حيــث بــدت جليــة وواضحــة فــي كتبــه‬ ‫ومقاالتــه‪ .‬إذ إن هيدغــر أتــى اللغــة حام ـاً إليهــا إشــكالياته التــي كان قــد طرحهــا فــي كتابــه «الوجــود والزمــن» لدرجــة أن‬ ‫المهتميــن بد ارســة فلســفته ينقســمون بيــن إن كان هنــاك قطيعــة بيــن فلســفتين مختلفتيــن ال اربــط بينهمــا‪ ،‬أو أن اتصــاالً بيــن‬ ‫المرحلتيــن مــن تفكي ـره‪.‬‬ ‫ســعى هيدغــر إلــى اإلســتعاضة عــن الفلســفة التحليليــة للكينونــة بفلســفة تتأمــل فــي اللغــة‪ ،‬محــاوالً اإلجابــة عــن السـؤال‬ ‫رتــه بالقــول ‪ »:‬ماهيــة اللغــة هــي لغــة الماهيــة‪ ،‬ألنهــا تزودنــا بالدليــل األول علــى ماهيــة‬ ‫حــول مــا هــي اللغــة؟ معرفـاً إياهــا فــي إحــدى محاض ا‬ ‫اللغــة‪ ،‬اســتناداً إلــى التفكيــر فــي الوجــود معنــاه اإلنشــغال «بماهيــة اللغــة»(‪ .)38‬اللغــة بحســب هــذا القــول هــي بيــت حقيقــة الوجــود والكينونــة‪،‬‬


‫ولعــل أهــم مــا فــي فلســفة كمــال يوســف الحــاج اللغويــة دعوتــه إلــى التمســك باللغــة علــى اعتبــار أنهــا الوطــن‪ ،‬والهويــة‬ ‫القوميــة والعروبيــة‪ ،‬فمــا اإلنســان بــا لغــة؟ يصبــح جســداً بــا روح‪ ،‬ومــادة بــا عقــل‪.‬‬ ‫ويبقى السؤال األهم ما هي اللغة التي ستحكم مجتمعاتنا مستقبالً؟ أهي لغة السالم والمحبة؟ أم أن خطاب العنف‬ ‫المســيطر حاليـاً هــو الباقــي دائمـاً وأبــدا؟ وهــل ســيكون لدينــا مفكريــن وفالســفة قادريــن علــى مواجهــة لغــة التفكيــك والتأويــل التــي‬ ‫تتطلــب ضــرورة حــل المعضــات العصريــة والفلســفية العقليــة؟‪.‬‬ ‫مصادر ومراجع البحث‪.‬‬ ‫(‪éA.Martinet, El)1‬‬

‫‪ments de linguistique générale, Paris, Colin, 1960, 233p, P20.‬‬

‫(‪ )2‬كمال يوسف الحاج‪ ،‬في فلسفة اللغة‪ ،‬ط‪ ،2‬بيروت‪ ،‬دار النهار للنشر‪1978 ،‬م‪ ،‬ص‪.10‬‬ ‫(‪)3‬روبنز‪ ،‬موجز تاريخ علم اللغة في الغرب‪ ،‬ترجمة أحمد عوض‪ ،‬الكويت‪ ،‬سلسلة عالم المعرفة‪1997 ،‬م‪ ،‬ص‪.40‬‬ ‫(‪)4‬المرجع نفسه‪ ،‬ص‪.45‬‬ ‫(‪.Platon, Cratyle, Trad Notice et Notes Par EMILE CHAMBY, Paris, Flammarion, 1867, P394)5‬‬ ‫عمان‪ ،‬و ازرة الثقافة األردنية‪1995 ،‬م‪ ،‬ص‪.95‬‬ ‫(‪ )6‬أفالطون‪ ،‬محاورة كراتيليوس‪ ،‬ترجمة عزمي طه السيد أحمد‪ّ ،‬‬ ‫(‪.Platon, Cratyle, Paris, Ed Garnier, Collection GF, 1967, P391-404)7‬‬ ‫(‪)8‬كمال يوسف الحاج‪ ،‬في فلسفة اللغة‪ ،‬مصدر سابق ذكره‪ ،‬ص‪.61‬‬ ‫(‪ )9‬عبدالرحمن بدوي‪ ،‬فلسفة العصور الوسطى‪ ،‬الكويت‪ ،‬وكالة المطبوعات‪ ،‬ط‪1979 ،3‬م‪ ،‬ص‪.183‬‬ ‫(‪)10‬أحمد بن فارس‪ ،‬الصاحبي في فقه اللغة العربية ومسائلها وسنن العرب في كالمها‪ ،‬بيروت‪ ،‬دار الكتب العلمية‪1997 ،‬‬ ‫ص‪.13‬‬

‫م‪،‬‬

‫جني‪ ،‬الخصائص‪ ،‬تحقيق علي النجار‪ ،‬بيروت‪ ،‬دار المعرفة‪2000 ،‬م‪ ،‬ص‪.44‬‬ ‫(‪)11‬إبن ّ‬ ‫(‪ )12‬كمال يوسف الحاج‪ ،‬في فلسفة اللغة‪ ،‬مصدر سابق ذكره‪ ،‬ص‪.64‬‬ ‫(‪Locke, An Essay Concerning Human Understanding, BK !V ch. II, S1, !V,8 S.3)13‬‬ ‫(‪.Op, Cit, Loc Cit, Ch 3 )14‬‬ ‫(‪.Hume, A Treatise On Human Nature, Oxford, Ed By Selby-Bigge, 1955)15‬‬ ‫(‪L.G.A. DEBONALD, LĖGISLATION PRIMITIVE, Considérée dans les derniers temps, par les seules lumières de)16‬‬ ‫‪.la Raison, Tome Premier, Paris, Chez Le Clere, 1802, Ch 3‬‬ ‫(‪ )17‬كمال يوسف الحاج‪ ،‬في فلسفة اللغة‪ ،‬ص‪.70-69‬‬ ‫(‪)18‬ليبنتــز‪ ،‬المونادولوجيــا‪ ،‬أو مبــادىء الفلســفة وبذيلــه المبــادىء العقليــة للطبيعــة والنعمــة‪ ،‬ترجمــة ألبيــر نصــري نــادر‪ ،‬بيــروت‪ ،‬اللجنــة الدوليــة لترجمــة الروائــع‬ ‫اإلنسانية‪1956 ،‬م‪ ،‬ص‪.42‬‬ ‫(‪)19‬كمال يوسف الحاج‪ ،‬في فلسفة اللغة‪ ،‬مصدر سابق ذكره‪ ،‬ص‪.30‬‬ ‫(‪)20‬برغسون‪ ،‬التطور المبدع‪ ،‬ترجمة جميل صليبا‪ ،‬د‪.‬ط‪ ،‬بيروت‪ ،‬اللجنة اللبنانية لترجمة الروائع‪1981 ،‬م‪ ،‬ص‪.271-261‬‬ ‫(‪.Henri Bergson, Les deux sources de la morale et de la religion, 5 éd, Paris, Quadrige,PUF, 1992, P137-140 )21‬‬ ‫(‪.247-P207 ,1941 ,Bergson, L’évolution créatrice, 1 éd, Paris, Quadrige, PUF)22‬‬ ‫(‪)23‬حبيب الشاروني‪ ،‬بين برغسون وسارتر_أزمة الحرية‪ ،‬القاهرة‪ ،‬دار المعارف‪1963 ،‬م‪ ،‬ص‪.45-17‬‬ ‫(‪ )24‬كمال يوسف الحاج‪ ،‬في فلسفة اللغة‪ ،‬مصدر سابق ذكره‪ ،‬ص‪.62-61‬‬


‫بعــض ترتيب ـاً يتجــه نحــو اإلســتقرار‪ :‬إمــا بــأن يفــرض النحــو نمط ـاً ال يتغيــر‪ ،‬وإمــا بــأن تكــون العــادة قــد جــرت باتخــاذ ترتيــب معيــن‪ ،‬فــي كل الجمــل التــي‬ ‫تتشــابه‪ .)45(».‬تكمــن أهميــة اللغــة بحســب هــذا القــول فــي أنهــا ســر أنطولوجيــة اإلنســان الــذي يعــي مــا يقــول‪ ،‬وبالتالــي هــي غايــة‬ ‫ال واســطة لــذا يؤكــد بقولــه ‪ »:‬لكــن اللغــة أكثــر مــن واســطة‪ .‬إنهــا غايــة شــرط أن نفهمهــا فهمـاً ديناميـاً‪ .‬هــي ليســت أجـزاء تتركــب‪ ،‬فيمــا بينهــا‪ ،‬بصــورة‬ ‫إصطالحيــة‪ .‬هــذا فهــم موميائــي لهــا وتحديــد جامــد لحياتهــا‪ .‬اللغــة أصـوات فــي حــروف‪ ،‬وحــروف فــي كلمــات‪ ،‬وكلمــات فــي جمــل‪ ،‬وجمــل فــي نحــو‪ ،‬ونحــو‬ ‫فــي بيــان‪ .‬البيــان وحــدة ال تتجـزأ‪ .‬هــو اإلنســان‪ ،‬رمـةً‪ ،‬فــي أفــكاره ومشــاعره‪ .‬واإلنســان كائــن مجتمعــي‪ .‬واللغــة تعكــس هــذا اإلنســان‪ .‬عليهــا إذن أن تعكــس‬ ‫حيــاة أمتــه فــي مظهريهــا النفســي والمــادي‪ .‬هــي وحدهــا المؤتمنــة علــى تاريخــه البعيــد ألنهــا ليســت كـ ّـم ألفــاظ قاموســية‪ ...‬القضيــة فــي وحــدة الكلمــة‪...‬‬ ‫وفــي مــا تجــره خلفهــا مــن صــور شــعرية‪ ،‬وآمــال نفســية‪ ،‬ومجـ ٍـار فكريــة‪ .)46(».‬وبحســب هــذا المفكــر اللبنانــي األصيــل اإلنســان وحــده يعــي‬

‫أنــه إنســان‪ ،‬بلغتــه التــي تخولــه اإلنتقــال مــن الالوعــي إلــى الوعــي‪ ،‬مــن الالمعنــى إلــى المعنــى‪ ،‬وبالتالــي هــو ال يحقــق إنســانيته‬ ‫إال بفهــم ذاتــي‪ ،‬مؤتم ـ اًر بأوامــر العقــل ونواهيــه‪ ،‬حيــث أنــه إن بقــي فــي ديجــور الالمعنــى أو شــاب عقلــه تشــويهاً أعــاده إلــى‬ ‫الالمعنــى‪ ،‬كمــا هــو الحــال فــي الغيبوبــة‪ ،‬والبلــه‪ ،‬والمــرض‪ ،‬فإنســانيته ال بــد تتحــور وتــزول‪ .‬والمعنــى هــو الــذي يمنحــه شــرف‬ ‫الوجــود العاقــل‪.‬‬ ‫والنــص متنــوع بطبيعتــه بحســب ريكــور‪ ،‬وهــو قــد يكــون مقالــة أو قصيــدة‪ ،‬بحثـاً علميـاً أو فلســفة‪ ،‬لــذا ينبغــي اإلنتبــاه‬ ‫إلــى تعدديــة أشــكال الخطــاب‪ ،‬وإن كان المعنــى هــو المســتوى الثانــي‪ ،‬فالهرمينوتيــكا‪ herméneutique‬أي علــم التأويــل هــو‬ ‫المســتوى الثالــث‪ .‬واإلســتعارة ال تعطــي معناهــا إال علــى المســتوى الثالــث‪ ،‬مســتوى الخطــاب‪ ،‬الــذي قــد يكــون قصيــدة‪ ،‬بحثـاً أو‬ ‫مقــاالً‪ ،‬تتجلــى كل معانــي اإلســتعارة‪ ،‬فــي حيــن أنهــا علــى مســتوى الكلمــة تبــدو وكأنهــا مجــرد انتقــال مــن معنــى إلــى آخــر‪ ،‬أو‬ ‫مجــرد تحريــف للمعنــى األصلــي‪ ،‬وحيــن نضعهــا فــي الجملــة‪ ،‬أي نعالجهــا علــى مســتوى المعنــى تبــدو وكأنهــا أمــر فــي غيــر‬ ‫محلــه وغيــر متوقــع لــذا؛ هــي ليســت تحريفـاً وال معنــى غيــر متوقــع‪ ،‬بــل أنهــا تســتعيد كل علــم التأويــل مــن خــال تعبيرهــا عــن‬ ‫تــوق اإلنســان إلعطــاء الوجــود معنــى جديــد‪ ،‬بحيــث يتقــن اإلنســان التأويــل ويصبــح قــاد اًر علــى إعــادة تركيــب الحقيقــة والواقــع‪،‬‬ ‫وبالتالــي العيــش كشــاعر بفضــل العمليــة هــذه‪.‬‬ ‫ـح أن التأمــل فــي اللغــة كان قــد شــغل العديــد مــن الفالســفة الكبــار‪ ،‬الذيــن توصلـوا إلــى نتائــج مختلفــة‬ ‫الخاتمــة‪ :‬صحيـ ٌ‬ ‫ومتناقضــة‪ ،‬تناقــض هــذا الفكــر الــذي يثبــت يومـاً بعــد يــوم أن التقــدم بتحقيــق الســعادة الكاملــة ال يـزال يشــغل اإلنســان فــي كل‬ ‫زمــان ومــكان‪ ،‬ويطــرح تســاؤالت حــول البشـرية إلــى أيــن؟‬ ‫نبيــن أهميــة المفكــر اللبنانــي كمــال يوســف الحــاج‪ ،‬الــذي انطلــق مــن دائ ـرة اللغــة‬ ‫حاولنــا مــن خــال هــذا البحــث أن ّ‬ ‫ليثبــت أهميــة انفتاحهــا وتواصلهــا مــع حقــول الفلســفة وميادينهــا وقضاياهــا وإشــكالياتها المختلفــة‪ .‬كمــا أننــي ســعيت جاهــدة لتبيــان‬ ‫مجمــل أفــكاره فــي جوهريــة اللغــة ووجوديتهــا وأنطولوجيتهــا‪ ،‬بطريقــة تاريخيــة‪ ،‬وتحليليــة نقديــة‪ ،‬مــن خــال مناقشــة آراء الفالســفة‬ ‫عبــر التاريــخ‪ ،‬بــدءاً بأفالطــون‪ ،‬مــرو اًر بالعصــور الوســطى‪ ،‬وصـوالً إلــى العصــور الحديثــة والمعاصـرة‪ ،‬فــي قـراءة نقديــة تحليليــة‪.‬‬ ‫طرحــت فــي البحــث أيضـاً عمليــة التحــول التــي حدثــت للفلســفة مــع نهايــة القــرن التاســع عشــر‪ ،‬وبدايــة القــرن العشـرين‪،‬‬ ‫إذ إن موضوعاتهــا التــي كانــت تــدور حــول الوجــود والمعرفــة والقيــم أصبحــت تتمحــور حــول د ارســة اللغــة فــي ذاتهــا‪ .‬ولــم يغفــل‬ ‫البحــث وظيفــة اللغــة وتحليالتهــا الفلســفية‪.‬‬

‫لعــل أهــم مــا فــي فلســفة اللغــة فــي فكــر كمــال يوســف الحــاج أنهــا الهويــة والتاريــخ والحضــارة‪ ،‬وهــي عن ـوان تقــدم‬ ‫المجتمعــات والحضــارات أو تخّلفهــا‪ ،‬والدليــل علــى ذلــك عقــدة النقــص والشــعور بالدونيــة التــي تدفــع بالشــخص ألن يتحــدث بلغــة‬ ‫أو لســان غيــر لســانه أو لغتــه األصليــة ظنـاً منــه أن لغتــة العربيــة قاصـرة أو عاجـزة عــن اإليفــاء بالمقصــود‪ ،‬متناســياً أنــه عندمــا‬ ‫يتخلــى عــن لغتــه األم إنمــا يتخلــى عــن هويتــه ووجــوده‪ ،‬وبالتالــي عبقريتــه؛ إذ إن العبقريــة ال تنســاق إال فــي عفويــة اللغــة األم‪،‬‬ ‫واإلنســان عندمــا يتخلــى عــن لغتــه كأنمــا يتخلــى عــن تاريخــه وكينونتــه ووجــوده‪.‬‬ ‫مــن هنــا‪ ،‬ال بــد مــن الرجــوع إلــى لغتنــا األم‪ ،‬وهــي اللغــة العربيــة‪ ،‬لغــة اإلبــداع والفــن‪ ،‬التاريــخ والديــن والفلســفة‪ ،‬لغــة‬ ‫اإلنســان والكــون وهللا‪.‬‬ ‫كمــا أنــه ال بــد مــن الرجــوع إلــى مفكرينــا الكبــار أمثــال كمــال يوســف الحــاج المفكــر اللبنانــي األصيــل‪ ،‬الــذي يشــكل‬ ‫مرجع ـاً فلســفياً للغــة فــي زمــن التشــتت العربــي‪ ،‬والضيــاع الوجــودي‪ ،‬ففــي حيــن أننــا نلمــس د ارســات لغويــة أوروبيــة وأجنبيــة‬ ‫عالميــة فإننــا فــي عالمنــا العربــي قلمــا نقــع علــى مــن يفلســف اللغــة وإن وجــدوا فهــم ليسـوا بكثــر‪ .‬صحيــح أن هنــاك علمــاء فــي‬ ‫اللغــة إنمــا كتاباتهــم اقتصــرت علــى األبعــاد اللغويــة والنفســية واإلجتماعيــة‪ ،‬لكــن تنــاول اللغــة بطريقــة فلســفية فــي العالــم العربــي‬ ‫اليـزال ينقصــه الكثيــر لــذا؛ كانــت محاولــة المفكــر اللبنانــي كمــال يوســف الحــاج محاولــة ناجحــة أغنــت المكتبــة العربيــة واللبنانيــة‬ ‫بد ارســة فلســفية علميــة تحليليــة موضوعيــة‪ ،‬تتســم بالقيــاس واإلســتقراء‪ ،‬اإلســتنباط والتســاؤل‪ ،‬شــكلت ولــم تــزل مرجعـاً ّقيمـاً لــكل‬ ‫ِ‬ ‫ومقدمــة فــي عمليــة التحــول‪.‬‬ ‫مــن يريــد البحــث فــي هــذا الموضــوع‪ّ ،‬‬


‫(‪ )25‬كمال يوسف الحاج‪ ،‬في فلسفة اللغة‪ ،‬مصدر سابق ذكره‪ ،‬ص‪.38‬‬ ‫(‪ )26‬المصدر نفسه‪ ،‬ص‪.77‬‬ ‫(‪Frédéric Nietzche, Par delà le bien et le mal, 10-18, Paris, Union générale d’éditions, 1973, $9,22, 36, 108,)27‬‬ ‫‪.204, 291‬‬ ‫(‪)28‬عادل عبدهللا‪ ،‬إرادة اإلختالف وسلطة العقل‪ ،‬ط‪ ،1‬سوريا‪ ،‬دار الحصاد‪ ،‬د‪.‬ت‪ ،‬ص‪.151‬‬ ‫(‪)29‬كمال يوسف الحاج‪ ،‬في فلسفة اللغة‪ ،‬مصدر سابق ذكره‪ ،‬ص‪.61‬‬ ‫(‪)30‬كمال يوسف الحاج‪ ،‬في فلسفة اللغة‪ ،‬مصدر سابق ذكره‪ ،‬ص‪.64‬‬ ‫(‪.Pierre V. Zima, La déconstruction,Une Critique, 1ère édition, Paris, PUF, 1994, P46-49)31‬‬ ‫(‪ )32‬كمال يوسف الحاج‪ ،‬في فلسفة اللغة‪ ،‬مصدر سابق ذكره‪ ،‬ص‪.64‬‬ ‫(‪)33‬أمينة غصن‪ ،‬جاك دريدا في العقل‪ ،‬والكتابة‪ ،‬والختان‪ ،‬ط‪ ،1‬سوريا‪ ،‬دار المدى للثقافة والنشر‪2002 ،‬م‪ ،‬ص‪.52‬‬ ‫(‪.Derrida, La voix et le phénomène, Paris, PUF, éd Quadrige, 1967, P90-91)34‬‬ ‫فــي فلســفة اللغــة‪ ،‬مصــدر ســابق ذكـره‪ ،‬ص‪.63-62‬‬

‫(‪ )35‬كمال يوســف الحاج‪،‬‬

‫(‪)36‬أمينة غصن‪ ،‬جاك دريدا في العقل والكتابة والختان‪ ،‬مرجع سابق ذكره‪ ،‬ص‪.53‬‬ ‫(‪ )37‬كمال يوسف الحاج‪ ،‬في فلسفة اللغة‪ ،‬مصدر سابق ذكره‪ ،‬ص‪.76‬‬ ‫(‪)38‬صفاء عبد السالم جعفر‪ ،‬المفهوم األنطولوجي للغة عند هيدغر‪ ،‬مصر‪ ،‬منشورات جامعة اإلسكندرية‪ ،‬د‪.‬ت‪ ،‬ص‪.51‬‬ ‫(‪)39‬كمال يوسف الحاج‪ ،‬في فلسفة اللغة‪ ،‬مصدر سابق ذكره‪ ،‬ص‪.120‬‬ ‫(‪.Christian Delacampagne, Histoire de la Philosophie au xx siècle, Paris, Seuil, 2001, P108)40‬‬ ‫(‪Pierre Aubenque, Ernest Cassirer, Martin Heidegger, Débat Sur Le Kantienne, et La Philosophie. Davos, Mars,)41‬‬ ‫‪.1929‬‬ ‫(‪)42‬كمال يوسف الحاج‪ ،‬في فلسفة اللغة‪ ،‬مصدر سابق ذكره‪ ،‬ص‪.120‬‬ ‫(‪)43‬بول ريكور‪« ،‬فلسفة اللغة» ‪ ،‬ترجمة علي مقلد‪ ،‬في ‪ :‬العرب والفكر العالمي‪ ،‬العدد الثامن‪ ،‬خريف ‪1989‬م‪ ،‬ص‪.28‬‬ ‫(‪)44‬المرجع نفسه‪ ،‬ص‪.29‬‬ ‫(‪)45‬كمال يوسف الحاج‪ ،‬في فلسفة اللغة‪ ،‬مصدر سابق ذكره‪ ،‬ص‪.224‬‬ ‫(‪)46‬المصدر نفسه‪ ،‬ص‪.172‬‬



‫سبب تع ِّرثه املُبكِّر ‪،‬‬ ‫" عنجه ّي ُة املر ِء ُ‬ ‫أساس نجا ِحه املُؤ َّجل"‬ ‫وتواضُ عه ُ‬ ‫د‪.‬حسن فرحات‬


Issuu converts static files into: digital portfolios, online yearbooks, online catalogs, digital photo albums and more. Sign up and create your flipbook.