نساء فى حياة الرسول صلى الله عليه وسلم ـ السيد إبراهيم أحمد

Page 1

‫نساء فى حياة‬ ‫الرســـــــــــول‬

‫صلى ال عليه وسلم‬

‫السيد إبراهيم أحمد‬


‫إهـــداء‬ ‫إلى أمي ‪ ..‬التى قبست من نور أمهات المؤمنين ‪..‬‬ ‫وإلى زوجــتي ‪ ..‬التى تحاول السير على دربهــّن‪..‬‬ ‫وإلى بنات ونساء المسلمين ‪ ..‬والعالمين ‪..‬‬ ‫أهدي هذا العمل ‪...‬‬

‫المؤلف‬

‫‪2‬‬


‫﴿﴾‬

‫مقدمة‬ ‫أينما يممنا وجوهنا قبل المشرق أو المغرب نستطلع تاريخ البشرية إل‬ ‫وجدنا للمرأة فيها باع‪ ،‬فلم يكد يتم ا ـ عز وجل ـ خلق آدم حتى أحس آدم‬ ‫بالوحدة تنتاب جنبات نفسه؛ فقد جاء خلقه وتكوينه فريًدا ل هو من عالم‬ ‫الملكئكة ول ينتمي بالطبع إلى عالم الجن‪ ،‬وكان قدر ا المقدور أن يخلق‬ ‫حواء منه ليأنس بها ويسكن إليها‪ ،‬وتسكن إليه‪.‬‬ ‫ثم كان المر من ا بالهبوط للزوجين ليبدأ مًعا رحلة الحياة التي خلق‬ ‫ا الجنس البشري من لدن آدم وإلى أن يرث ا الرض ومن عليها لعبادته‬ ‫فيها سبحانه‪ ،‬والتزام أوامره بتعميرها‪ ،‬وجاء أمر ا ابتداًء ﴿إِّنج ي َج عالِع ٌلل ِفج ي‬ ‫اْلَْر ِ‬ ‫ض َخ لِلفيَف ًةل﴾ وانتهاًء بأمره جل وعل ﴿اْه بِلُطاوا ِم ْنلَْه عال َج ِملفيلًععا﴾ لينفي السلم ذلك‬ ‫‪3‬‬


‫العار الذي جلل المرأة في الديانات السابقة واتهامها بأنها أصل كل خطيكئة‪،‬‬ ‫وأنه لولها لبقّي الجنس البشري مخلًدا في الجنة‪ ،‬وهذا فهٌم ل يستقيم ل مع‬ ‫ظاهر اليات فحسب وإنما ل يستقيم كذلك مع إرادة المولى ـ سبحانه ـ من‬ ‫الهدف والمهمة التي خلق من أجلها آدم عليه السلم‪.‬‬ ‫ومثلما صاحبت المرأة تاريخ البشر بعد خلق آدم عليه السلم صاحبت‬ ‫المرأة تاريخ النبياء عليهم وعلى نبينا جميًعا الصلة والسلم ‪ ،‬فحيثما قلبنا‬ ‫صفحات السفار بحًثا عن تاريخ كل نبي ودعوته لن نعدم أن نجد اسًما أو‬ ‫أسماء لنساء هنا وهناك تتردد في جنبات سيرته سواًء بالسلب أو باليجاب‪.‬‬ ‫وبالتبعية كان في سيرة المبعوث رحمًة للعالمين سيدنا محمد ــ صلى ا‬ ‫عليه وسلم ــ للمرأة مكاًنا ومكانة بدت لنساء ترددت أسماكئهّن هنا وهناك‬ ‫أكثرهّن الصالحات‪ ،‬وأما من ورد ذكرهّن بالسلب فهّن قلة تأتي على رأسهّن‬ ‫أم جميل ﴿َح ّملعاللَ​َة الَْح طَل ِ‬ ‫ب﴾ كما ورد نعتها في القرآن الكريم‪.‬‬ ‫غير أن قاربنا في رحلتنا العاطرة في سيرة بعض النساء في حياة‬ ‫الرسول ــ صلى ا عليه وسلم ــ لن ُيسمح له بالوقوف إل عند مرافيء‬ ‫النساء اللتي أحطّن الرسول بالود والرعاية وحسن العيش؛ لنتزود منهّن‬ ‫رجالً ونساًء على السواء بمكارم الخلق وعظيم الصفات‪.‬‬ ‫والحق يقال أن المرأة في ديننا الحنيف قد نالت أسمى آيات التكريم‪،‬‬ ‫وتبوأت قمة الهرم على مستوى حقوق النسان منذ أرسل ا نبيه ــ صلى‬ ‫ا عليه وسلم ــ وأنزل كتابه الكريم‪ ،‬كحقها في الزواج والطلق والميراث‬ ‫التي كانت محرومة منه في العصور التي خلت من قبل‪ ،‬كما أصبح لها دور‬ ‫بارز في الحياة الجتماعية‪ ،‬والعسكرية كمشاركتها الرجال فى عدد من‬ ‫الغزوات‪ ،‬والفكرية والعلمية كتصدرها لمجالس العلم والفكر في مختلف‬ ‫ميادينهما وأغراضهما‪.‬‬ ‫لهذا حظيت الحضارة السلمية على مر العصور بذكر نساء أسهمّن في‬ ‫بناء تلك الحضارة جنًبا إلى جنب مع الرجال‪ ،‬وما كان هذا ليتأتى لول أن‬ ‫القواعد المَؤسةِسة لحسن التعامل مع المرأة أثبتها وأسسها القرآن الكريم‬ ‫‪4‬‬


‫بالتوازي مع أقوال وأفعال صاحب الخلق العظيم سيدنا محمد صلى ا عليه‬ ‫وسلم‪ ،‬ولعل نظرة سريعة على مكانة المرأة في الحضارات والديانات‬ ‫السابقة لتنبيء عن ذلك أشد وأغنى بيان‪.‬‬ ‫غير أن منهجنا لن يقترب من سرد الوقاكئع والتاريخ وحسب وإنما قد‬ ‫يمتد المر لذكر شبهات ألقيت حول سيرة كل سيد ٍة جليلة منهن‪ ،‬مع ذكر‬ ‫الرد حول ما أثير من تلك الشبهات أو سوء الفهم أو اللتباس‪ ،‬وذلك حتى‬ ‫تكتمل الفاكئدة المرجوة من ذلك التناول ‪.‬‬ ‫وأرجو من ا أن يجعل هذا العمل في ميزان الحسنات لكاتبه وزوجه‪،‬‬ ‫ومن أشارت علّي به‪ ،‬وناشره وقاركئه وسادتنا العلماء من الذين نقلنا عنهم‬ ‫العلم والفهم‪ ،‬وأن يفتح للقاريء العزيز به باًبا من التواصل مع جانب من‬ ‫جوانب سيرة رسولنا الكريم ــ صلى ا عليه وسلم ــ العظيمة الجوانب‪.‬‬ ‫السيد إبراهيم‬

‫الفصل الول‬

‫السيدة آمنة ‪ :‬المينة أم المين‬ ‫‪5‬‬


‫)‪(1‬‬ ‫اهتم العرب أيما اهتمام بعلم النسب سواء في جاهليتهم أو بعد أن دخلوا‬ ‫فى دين السلم أفواًجا‪ ،‬فكانت لهم فيه مدارس‪ ،‬مثل‪ :‬مدرسة المدينة‬ ‫والشام‪ ،‬والمدرسة العراقية )في البصرة والكوفة(‪ ،‬والمدرسة اليمنية‪ ،‬ولن‬ ‫هذا العلم من أَجل العلوم قدرًا فقد وضع له النسابون مصطلحات يتداولونها‬ ‫بينهم بحيث تخفى عمن ليس منهم‪ ،‬مثل ‪):‬صحيح النسب(‪ ،‬فيمن ثبت نسبه‬ ‫في ديوانهم وقوبل بنسخة الصل فوجدوه منصوصًا عليه وثابت بإجماع‬ ‫النسابين من العلماء المشهورين بالعلم والمانة والصل ح وكمال العقل‪،‬‬ ‫وطهارة المولد‪ ،‬و)مقبول النسب(‪ ،‬فيمن أنكره بعضهم وثبت نسبه بشهادة‬ ‫صا عليه من طرف‬ ‫عدلين فصار نسبه مقبولً عندهم‪ ،‬فإن لم يوجد منصو ً‬ ‫مشاكئخ النسابين‪ ،‬فل تتساوى مرتبته بمرتبة من اتفق عليه بإجماع‬ ‫النسابين‪ ،‬و)مردود النسب(‪ :‬فيمن ادعى إلى قبيلة أي عاكئلة ولم يكن منهم‬ ‫فعلم به النسابون وأعلموا به تلك القبيلة وثبت بطلنه‪ ،‬فوجب منعه من‬ ‫دعوة الشرف فيصبح مردود النسب وخارج عن البيت الشريف‪.‬‬ ‫وأما السباب التى دعت أهل العلم إلى الهتمام بعلم النساب كونه من‬ ‫المور المطلوبة والمعارف المندوبة لما يترتب عليها من الحكام الشرعية‬ ‫والمعالم الدينية‪ ،‬منها‪ :‬العلم بنسب النبي ــ صلى ا عليه وسلم ــ وأنه‬ ‫النبي القرشي الهاشمي الذي كان بمكة وهاجر منها إلى المدينة‪ ،‬وهذا العلم‬ ‫لبد منه لصحة اليمان‪ ،‬ول يعذر مسلم في الجهل به‪.‬‬ ‫ومنها‪ :‬التعارف بين الناس حتى ل ينتسب أحد إلى غير آباكئه ول ينتسب‬ ‫ضا‬ ‫إلى سوى أجداده‪ ،‬وعلى ذلك تترتب أحكام الورثة فيحجب بعضهم بع ً‬ ‫وأحكام الولياء في النكا ح فيقدم بعضهم على بعض‪ ،‬وأحكام الوقف إذا خص‬ ‫الواقف بعض القارب أوبعض الطبقات دون بعض‪ ،‬وأحكام العاقلة في الدية‬ ‫‪6‬‬


‫حتى تضرب الدية على بعض العصبة دون بعض وما يجري مجرى ذلك‬ ‫فلول معرفة النساب لفات إدراك هذه المور وتعذر الوصول إليها‪.‬‬ ‫ومنها اعتبار النسب في المامة التي هي الزعامة العظمى؛ فلول المعرفة‬ ‫بعلم النسب لفاتت معرفة هذه القباكئل وتعذر حكم المامة العظمى التي بها‬ ‫عموم صل ح المة وحماية البيضة وكف الفتنة وغير ذلك من المصالح )‪.(1‬‬ ‫ولقد كان من أصحاب النبي ــ صلى ا عليه وسلم ــ من له باٌع طويل ٌ‬ ‫بالنسب وأشهرهم فى هذا أبو بكر الصديق ولهذا فقد أمر الرسول ــ صلى‬ ‫ا عليه وسلم ــ الشاعر حسان بن ثابت النصاري أن يستعين بأبي بكر‬ ‫ليرد على كفار قريش لعلمه بأنسابهم؛ إذ كان لبي بكر الصديق ـ رضي ا‬ ‫عنه ـ في علم النسب المقام الرفع والجانب العلى وذلك أول دليل وأعظم‬ ‫شاهد على شرف هذا العلم وجللة قدره‪ ،‬ولعل ما يؤكد هذا ما رواه صاحب‬ ‫الريحان والريعان عن أبي سليمان الخطابي أنه قال ‪ :‬كان أبو بكر ـ رضي‬ ‫ا عنه ـ نسابة فخرج مع رسول ا ــ صلى ا عليه وسلم ــ ذات ليلة‬ ‫فوقف على قوم من ربيعة فقال‪ :‬ممن القوم؟‪ ،‬قالوا‪ :‬من ربيعة‪ ،‬قال‪ :‬وأي‬ ‫ربيعة أنتم أمن هامتها أم من لهازمها؟‪ ،‬قالوا‪ :‬بل من هامتها العظمى‪ ،‬قال‬ ‫أبو بكر‪ :‬ومن أيها؟‪ ،‬قالوا‪ :‬من ذهل الكبر‪ .‬قال أبو بكر‪ :‬فمنكم عوف الذي‬ ‫يقال له ل حر بوادي عوف؟‪ ،‬قالوا‪ :‬ل‪ ،‬قال‪ :‬أفمنكم بسطام بن قيس ذو‬ ‫اللواء أبو القرى ومنتهى الحياء؟‪ ،‬قالوا‪ :‬ل‪ ،‬قال‪ :‬أفمنكم الحوفزان‬ ‫"الحارث بن كئريك " قاتل الملوك وسالبها نعمها وأنفسها؟‪ ،‬قالوا‪ :‬ل‪ ،‬قال‪:‬‬ ‫أفمنكم المزدلف "ابن أبي ربيعة ابن ذهل بن شيبان " الحر صاحب العمامة‬ ‫الفردة؟‪ ،‬قالوا‪ :‬ل‪ ،‬قال‪ :‬أفمنكم الملوك من كندة؟ قالوا‪ :‬ل‪ ،‬قال‪ :‬أفمنكم‬ ‫أصهار الملوك من لخم؟‪ ،‬قالوا‪ :‬ل‪ ،‬قال‪ :‬فلستم بذهل الكبر بل ذهل الصغر‪.‬‬ ‫فقام إليه غلم من شيبان يقال له دغفل وقد بقل وجهه؟‪ ،‬فقال‪ :‬إن على‬ ‫ساكئلنا أن نسأله‪ ..‬والعبء ل تعرفه أو تحمله يا هذا إنك قد سألت فأخبرناك‬ ‫ولم نكتمك شيًكئا من خبرنا فممن الرجل؟‪ ،‬قال أبو بكر‪ :‬أنا من قريش‪ ،‬قال ‪:‬‬ ‫بخ بخ أهل الشرف والركئاسة‪ ،‬فمن أي القرشيين أنت؟‪ ،‬قال‪ :‬من ولد تيم بن‬ ‫مرة‪ ،‬قال الفتى‪ :‬أمكنت وا الرامي من صفاء الثغرة‪،‬أفمنكم قصي بن كلب‬ ‫الذي جمع القباكئل من فهر وكان يدعى مجمًعا؟‪ ،‬قال‪ :‬ل‪ ،‬قال‪ :‬أفمنكم هاشم‬ ‫الذي هشم الثريد لقومه؟‪ ،‬قال‪ :‬ل‪ ،‬قال‪ :‬أفمنكم شيبة الحمد مطعم طير‬ ‫‪7‬‬


‫السماء الذي كأن وجهه قمر يضيء في الليلة الظلماء؟ قال‪ :‬ل‪ ،‬قال‪ :‬أفمن‬ ‫المفيضين بالناس أنت؟‪ ،‬قال‪ :‬ل‪ ،‬قال‪ :‬أفمن أهل الندوة أنت؟ قال‪ :‬ل‪ ،‬قال‪:‬‬ ‫أفمن أهل السقاية أنت؟ قال‪ :‬ل‪،‬قال‪ :‬أفمن أهل الرفادة أنت؟ قال‪ :‬ل‪ ،‬قال‪:‬‬ ‫أفمن أهل الحجاجة أنت؟! قال‪ :‬ل‪.‬‬ ‫واجتذب أبو بكر ــ رضي ا عنه ــ زمام ناقته فرجع إلى رسول ا ــ صلى‬ ‫ا عليه وسلم ــ فقال الفتى‪ :‬صادف درأ السيل درأ يدفعه يهيضه حيًنا‬ ‫وحيًنا يصدعه أما وا يا أخا قريش لو ثبت لخبرتك أنك من زمعات قريش‬ ‫ولست من الذؤاكئب أو ما أنا بدغفل‪.‬‬ ‫قال‪ :‬فأخبر رسول ا ــ صلى ا عليه وسلم ــ فتبسم‪ .‬فقال علي ــ رضي‬ ‫ا عنه ــ‪ :‬يا أبا بكر لقد وقعت من الغلم العرابي على باقعة ‪ ،‬قال‪ :‬أجل يا‬ ‫أبا الحسن‪ ،‬ما من طامة إل وفوقها طامة وإن البلء مَوكل بالمنطق‪.‬‬ ‫ودغفل هذا هو دغفل بن حنظلة النسابة الذي يضرب به المثل في النسب‬ ‫ضا من علوم العرب‪ ،‬قال الجاحظ عنه‬ ‫وقد كان له معرفة بالنجوم وغيرها أي ً‬ ‫‪" :‬لم يدرك الناس مثله لساًنا وعلًما وحفًظا وقد ضرب به المثل‪) :‬فلن‬ ‫أنسب من دغفل( كان أعلم أهل زمانه بالنساب"‪.‬‬ ‫ولعل أول ما ُكةِتَب في صدر السلم إنما كان في علم النسب‪ ،‬فقد تزامن‬ ‫مع بداية التدوين فى عهد الفاروق وكان على يد أولكئك الذين أتى بهم‬ ‫الخليفة عمر بن الخطاب‪ ،‬فعهد إليهم بوضع سجلت النساب التي أنشأها‬ ‫وهم‪ :‬جبير بن مطعم بن عدي القرشي‪ ،‬عقيل بن أبي طالب عبد مناف‬ ‫الهاشمي‪ ،‬مخرمة بن نوف بن أهيب الزهيري القرشي‪.‬‬ ‫وكانت توجيهات الخليفة عمرالصادرة إليهم في هذا الشأن ـ كما روى ابن‬ ‫سعد)‪(2‬ـ أن يدونوا ثبًتا بأنساب العرب على قباكئلهم حسب قربهم من الرسول‬ ‫ــ صلى ا عليه وسلم ــ لجل تنظيم ديوان العطاء‪.‬‬ ‫والمدهش أن كل من ورد ذكرهم سابًقا قد أوردهم الشيخ أبو بكر بن زيد‬ ‫في الطبقة الولى من النسابين الصحابة في كتابه‪ ) :‬طبقات النسابين( ‪..‬‬ ‫ف يسير‪:‬‬ ‫وسأوردهم مع غيرهم بتصر ٍ‬ ‫‪8‬‬


‫‪1‬ـ خليفة رسول ا أبو بكر الصديق ‪:‬‬ ‫قال ابن إسحاق‪ :‬كان أنسب العرب‪ ،‬وقال العجلي‪ :‬كان أعلم قرشي بأنسابها‪.‬‬ ‫ضا‪ :‬كان أنسب قريش لقريش‪ ،‬وقد أخذ النسب عنه‪:‬‬ ‫وقال أبن أسحاق أي ً‬ ‫جبير بن مطعم‪ ،‬وحسان بن ثابت‪ ،‬وحكيم بن حزام‪.‬‬ ‫‪2‬ـ أمير المؤمنين عمر بن الخطاب بن نفيل القرشي العدوي ‪:‬كان ــ رضى‬ ‫ا عنه ــ نسابة‪.‬‬ ‫‪3‬ـ حسان بن ثابت الخزرجي النصاري‪.‬‬ ‫‪ 4‬ـ مخرمة بن نوفل بن ُأهيب بن عبد مناف بن زهرة بن كلب بن مرة‬ ‫القرشي الزهري‪ .‬أمه رقيقة بنت بن أبي صيفي بن هاشم بن عبد مناف‪،‬‬ ‫وكنيته‪ :‬أبو صفوان‪ ،‬وهو والد المسور بن مخرمة‪ ،‬وابن عم سعد بن أبي‬ ‫وقاص بن أهيب ‪ ،‬كما كان من مسلمة الفتح‪ ،‬من المؤلفة قلوبهم‪ ،‬وحسن‬ ‫إسلمه‪ ،‬وكان له علم بأيام الناس‪ ،‬وبقريش خاصة‪ ،‬وكان يؤخذ عنه‬ ‫النسب‪.‬‬ ‫‪5‬ـ أم المؤمنين الصديقة بنت الصديق عاكئشة بنت أبي بكر رضي ا عنها‬ ‫وعن أبيها وجدها ‪ .‬قال عروة بن الزبير بن العوام حواري رسول ا صلى‬ ‫ا عليه وسلم ‪’’ :‬ما رأيت أحدا أعلم بالحلل والحرام والعلم والشعر والطب‬ ‫من عاكئشة أم المؤمنين’’‪ .‬وفي رواية أخرى‪’’ :‬ما رأيت أحًدا أعلم بالقرآن‬ ‫ول بفريضة ول بحرام ول بحلل ولبفقه ول بشعر ول بطب ول بحديث‬ ‫العرب ول نسب من عاكئشة’’‪.‬‬ ‫‪6‬ـ حكيم بن حزام بن خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي السد‬ ‫ابن أخي خديجة زوج النبي صلى ا عليه و سلم قال الذهبي‪ :‬كان حكيم‬ ‫علمة بالنسب‪ ،‬فقيه النفس‪ ،‬كبير الشأن‪.‬‬ ‫‪7‬ـ جبير بن مطعم القرشي النوفلي كان أنسب العرب للعرب‪ ،‬وكان يقول‪:‬‬ ‫إنما أخذت النسب من أبي بكر الصديق‪ ،‬وقد عده كاتبوا سيرته من مشاهير‬ ‫علماء النسب فى عصره‪.‬‬ ‫‪8‬ـ عقيل بن أبي طالب بن عبد مناف القرشي الهاشمي‪ :‬أخو علي وجعفر‬ ‫رضى ا عنهم ‪ .‬وكان عالما ً بأنساب قريش ومآثرها ومثالبها‪ ،‬علمة‬ ‫بالنسب وأيام العرب‪ ،‬ومن أنسب قريش وأعلمهم بأيامه‪.‬‬

‫‪9‬‬


‫‪9‬ـ دغفل بن حنظلة بن زيد بن شيبان بن ذهل الشيباني الذهلي النسابة‪.‬‬ ‫وبعد ماتقدم‪ ..‬فهل هناك من تسول له نفسه وهو مجهول النسب أو‬ ‫الهوية أن يجاهر متفاخًرا بنسبه‪ ،‬أو يغامر بأن يعرض نفسه على قومه‬ ‫وفيهم من فيهم ممن ذكرنا من النسابة العلم؟!‬ ‫سؤال لبد من طرحه على ذلك الذي جاء من دين مطعون في نسب إلهه‬ ‫ت جلية بين أسفاره المقدسة‪ ،‬ومع هذا يتجرأ فيتطاول على نسب‬ ‫من تناقضا ٍ‬ ‫سيده وسيد أجداده ويلمز بالقول هنا وهناك‪ ،‬وكل ما استطاع فعله هو‬ ‫السقوط على بعض الحاديث الضعيفة في كتب التاريخ ل في الكتب المعتبرة‬ ‫لدى المسلمين‪ ،‬ناهيك عن كتابه المقدس الذى يروي المتناقضات وهنا‬ ‫مكمن الطامة الكبرى لي دين ‪ ..‬فما بالكم بنسب إلهي كما يزعمون‪.‬‬ ‫أخبرنا الحسن بن سفيان قال حدثنا هدبة بن خالد قال حدثنا حماد بن سلمة‬ ‫عن ثابت عن أنس بن مالك أن رسول ا صلى ا عليه وسلم لما صالح‬ ‫قري ً‬ ‫شا يوم الحديبية‪ ،‬قال لعلي‪ :‬اكتب بسم ا الرحمن الرحيم‪ ،‬فقال سهيل‬ ‫بن عمرو‪ :‬ل نعرف الرحمن الرحيم اكتب باسمك اللهم‪ ،‬فقال صلى ا عليه‬ ‫وسلم لعلي ‪’’ :‬اكتب هذا ما صالح عليه محمد رسول ا صلى ا‬ ‫عليه وسلم’’‪ ،‬فقال سهيل بن عمرو‪ :‬لو نعلم أنك رسول ا لتبعناك ولم‬ ‫نكذبك اكتب بنسبك من أبيك‪ ،‬فقال رسول ا صلى ا عليه وسلم لعلي ‪:‬‬ ‫’’أكتب محمد بن عبد ا فكتب’’)‪.(3‬‬ ‫نعم ‪ ..‬أكتب محمد بن عبد ا‪ ،‬وكتبها علي‪ ،‬ولم ينتهزها سهيل مطعًنا‬ ‫في نفي اسم النبي ونسبه أبًدا ول يجرؤ سهيل ول غيره على قول ذلك‪.‬‬ ‫هل طعن أبو سفيان في نسب الرسول ــ صلى ا عليه وسلم ــ أمام ملك‬ ‫الروم هرقل ولو فعلها لنهى الجدال لصالحه وانخسأ أتباع النبي صاغرين؟!‬ ‫هل تخاذل عمرو بن العاص وعبد ا بن أبي ربيعة أن يواجها جعفًرا ابن‬ ‫عم الرسول في حضرة النجاشي ملك الحبشة وأمام هذا الحشد الوافر من‬ ‫‪10‬‬


‫البطارقة والحاشية بالطعن والقد ح في نسب محمد بن عبدا ــ صلى ا‬ ‫عليه وسلم ــ برغم الهدايا المجلوبة للنجاشي‪ ،‬وبالرغم مما اتصف به‬ ‫عمرو من ذكاء‪ ،‬وكانت صداقته للنجاشي تعينه على فعل وقول ما يريد؟!‬ ‫ولو فعلها جميعهم لما كان لمحم ٍد ول لدينه ول لتباعه شأن يذكر ولقامت‬ ‫الدنيا حتى عهدنا هذا على ساقين فقط من الديانات السماوية هما اليهودية‬ ‫والمسيحية!!‬ ‫ولو فعلوها فكيف خدعوا أنفسهم ودخلوا فيما بعد في دين نبي ٍ مكذوب‬ ‫ش ل ـ؟!‬ ‫النسب ـ حا َ‬ ‫من ذا الذى لَم شمل الفوارس الفارة يوم حنين حين جاهر ــ صلى ا‬ ‫ب’’ ‪...‬‬ ‫عليه وسلم ــ يناديهم بنسبه‪’’ :‬أَ​َنا الّنةِبّي َل َكةِذْب أَ​َنا اْبُن َعْبةِد اْلُمّطلةِ ْ‬ ‫قال النووي رحمه ا‪َ" :‬فإةِْن ةِقيَل‪َ :‬كْيف َقالَ الّنةِبّي صلى ا عليه وسلم‪ :‬أَ​َنا‬ ‫سَب إةَِلى َجّده ُدون أَةِبيةِه َواْفَتَخَر ةِبَذلةَِك َمَع أَّن اةِلْفةِتَخار‬ ‫ةِاْبن َعْبد اْلُمّطةِلب’’ َفاْنَت َ‬ ‫ةِفي َحّق أَْكَثر الّناس ةِمْن َعَمل اْلَجاةِهلةِّية؟ ‪َ ،‬فاْلَجَواب ‪ :‬أَّنُه صلى ا عليه‬ ‫شْهَرته ةِبَجّدةِه أَْكَثر؛ ةِلَّن أَ​َباُه َعْبد ّ‬ ‫ا ُتُوّفَي َ‬ ‫وسلم َكاَنْت ُ‬ ‫شاًّبا ةِفي َحَياة أَةِبيةِه َعْبد‬ ‫شةِتَهار َعْبد ّ‬ ‫شُهوًرا ُ‬ ‫ا‪َ ،‬وَكاَن َعْبد اْلُمّطةِلب َم ْ‬ ‫اْلُمّطةِلب َقْبل ةِا ْ‬ ‫شْهَرة َظاةِهَرة‬ ‫َ‬ ‫سّيد أَْهل َمّكة‪َ ،‬وَكاَن َكةِثيٌر ةِمْن الّناس َيْدُعوَن الّنةِبّي صلى ا‬ ‫شاةِكئَعة‪َ ،‬وَكاَن َ‬ ‫سُبوَنُه إةَِلى َجّده لةِ ُ‬ ‫شْهَرةِتةِه"‪.‬‬ ‫عليه وسلم ابن َعْبد اْلُمّطةِلب َيْن ُ‬ ‫فالعرب من أهل الحجاز‪ ،‬ومن بطون قريش وكذلك جميع القباكئل العدنانية‬ ‫يلتقون مع سيد ولد آدم ـ صلى ا عليه وسلم ـ في النسب‪ ،‬كما قال ابُن‬ ‫سب؛ كما قال ابُن‬ ‫كثير )‪ :(4‬فجميُع قباكئةِل عر ةِ‬ ‫ب الحجاز َينَتُهون إلى هذا الّن َ‬ ‫عباس وغيُره في قوله تعالى‪﴿ :‬قُْل َل أَْس أَلُ​ُك ْمل َعلَْفيِه أَْج ًرللا إِّل الَْم َاولّدلَة ِفج ي‬ ‫ش إل ولةِرسوةِل ا صلى ا عليه وسلم‬ ‫الُْقْرلبَل﴾ى﴾‪ :‬لم يُكْن َبطٌن من ُبطوةِن قري ٍ‬ ‫صل ُ بهم‪ .‬وذلك أّن جميَع قباكئةِل العرب العدنانية تنتهي إليه بالباء‪،‬‬ ‫ب يت ةِ‬ ‫س ٌ‬ ‫َن َ‬ ‫ضا‪ .‬كما ذكَره محمد بُن إسحاق وغيُره في أمهاته‬ ‫وكثيٌر منهم بالمهات أي ً‬ ‫وأمهات آباكئه وأمهاتهم ما يطول ُ ذكره‪.‬‬

‫‪11‬‬


‫كيف رضيت خديجة بنت خويلد القرشية السدية‪ ،‬الطاهرة‪ ،‬سيدة قريش‪،‬‬ ‫وهّي من أوسط قريش نسًبا وأعظمهم شرًفا وأكثرهم مالً وأحسنهم جمالً‬ ‫وفضاكئل نفس‪ ،‬أن تسعى للزواج من شاب مجهول النسب ـ بزعمهم ـ قاكئلة‬ ‫له‪" :‬يا ابن عم إني قد رغبت فيك لقرابتك وسماحتك في قومك وأمانتك‬ ‫وحسن خلقك وصدق حديثك"؟!‪..‬بل كيف يجرؤ أبو طالب عم الرسول ـ‬ ‫صلى ا عليه وسلم ـ أن يقول في خطبة عقد القرآن أمام رؤساء مضر‪،‬‬ ‫ووجهاء قريش‪ " :‬الحمد ل الذي جعلنا من ذرّية إبراهيم‪ ،‬وزرةِع إسماعيل‪،‬‬ ‫سّواس حرمه‪ ،‬وجعله‬ ‫و ةِ‬ ‫ضْكئضئ معد‪ ،‬وعنصر مضر‪ ،‬وجعلنا حضنة بيته‪ ،‬و ُ‬ ‫لنا بيًتا محجوًجا‪ ،‬وحرًما آمًنا‪ ،‬وجعلنا حكام الناس ثم إّن ابَن أخي هذا محمُد‬ ‫بن عبد ا ل يوزن به رجل ٌ إل َرَجح به شرًفا وُنْبلً وفضلً وعقلً"؟!‬ ‫لماذا لم يعترض ورقة بن نوفل ـ ابن عم خديجة ــ الــذي خطــب فــي‬ ‫ضلنا على ما عددت‬ ‫نفس المجلس فقال‪" :‬الحمد ل الذي جعلنا كما ذكرت وف ّ‬ ‫‪ ،‬فنحن سادة العرب وقادتها‪ ،‬وأنتم أهل لذلك كله‪ ،‬ل ينكر العرب فضــلكم ول‬ ‫يرد أحد من الناس فخركم وشــرفكم‪ ،‬فاشــهدوا علـّي معاشــر قريــش أنــي قــد‬ ‫أنكحــت محمــد بــن عبــدا خديجـَة بنــت خويلــد"؟! بــل أردف عمهــا بقــوله‪:‬‬ ‫"اشهدوا علّي معاشر قريش أني قد زوجت خديجة بنت خويلد من محمد بــن‬ ‫عبدا"‪.‬‬ ‫وكان هند بن أبي هالة‪ ،‬ابن خديجة‪ ،‬وربيــب الرســول‪ ،‬يقــول‪" :‬أنــا أكــرم‬ ‫الناس أًما وأًبا وأًخا وأخًتا‪ :‬أبي رسول ا رسول ا صلى ا عليــه وســلم‪،‬‬ ‫وأمي خديجة‪ ،‬وأخي القاسم‪ ،‬وأختي فاطمة"‪.‬‬ ‫إنه محمد النبي ــ صلى ا عليه وسلم ــ أشرف الناس نسًبا‪ ،‬وأكملهم‬ ‫َخْلًقا وُخلًُقا‪ ،‬فعن واثلة بن السقع رضي ا عنه أّن رسولَ ا صلى ا‬ ‫عليه وسلم قال‪’’ :‬إّن ا اصطفى ةِمن َوَلةِد إبراهيَم إسماعيَل‪ ،‬واصطفى من‬ ‫بني إسماعيل بني كنانة‪ ،‬واصطفى من بني كنانة قريشًا‪ ،‬واصطفى من‬ ‫قريش بني هاشم‪ ،‬واصطفاني من بني هاشم’’)‪.(5‬‬ ‫وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي ا عنه قال‪ :‬قال ُ رسول ا‬ ‫ت من خيةِر ُقروةِن بةِني آدم قرنا ً فَقْرنا ً حتى ُبةِعث ُ‬ ‫صلى ا عليه وسلم‪ُ’’ :‬بةِعْث ُ‬ ‫ت‬ ‫من الَقرةِن الذي كن ُ‬ ‫ت فيه’’‪.‬‬

‫‪12‬‬


‫وقال المام أحمد‪ :‬حدثنا أبو نعيم عن سفيان عن يزيد بن أبي زياد عن‬ ‫عبد ا بن الحارث بن نوفل عن المطلب بن أبي وداعة قال‪ :‬قال العباس‪:‬‬ ‫بلغه صلى ا عليه وسلم بعض ما يقول الناس فصعد المنبر فقال‪’’ :‬من‬ ‫أنا؟’’ ‪ ،‬قالوا‪ :‬أنَت رسول ُ ا صلى ا عليه وسلم‪ ،‬فقال‪’’ :‬أنا محمد بن‬ ‫عبد ا بن عبد المطلب‪ ،‬إّن ا َخَلَق الخلَق فَجعَلةِني في خيةِر َخلةِقه‪ ،‬وجعَلهم‬ ‫فريَقْين‪ ،‬فَجَعلةِني في خيةِر ةِفرقة‪ ،‬وخلَق القباكئلَ فجعَلةِني في خيةِر قبيلة‪،‬‬ ‫سا’’‪.‬‬ ‫وجعَلهم ُبيوتا ً فجعلةِني في خيةِرهم بيتًا؛ فأنا خيُركم بيتا ً وخيُركم نف ً‬ ‫وفي الحديث أيضا المرو ّ‬ ‫ي عن عاكئشة رضي ا عنها قالت‪ َ :‬قال رسول ُ‬ ‫ا صلى ا عليه وسلم ‪’’ :‬قال لي جبريل‪ :‬قَلْب ُ‬ ‫ض َمشاةِرقها‬ ‫ت الر َ‬ ‫وَمغاةِرَبها؛ فلم أةِجْد رجل أفضلَ من محم ٍد‪ ،‬وَقَلْب ُ‬ ‫ض َمشاةِرَقها وَمغاةِرَبها‬ ‫ت الر َ‬ ‫ب أفضل َ من بني هاشم’’)‪.(6‬‬ ‫فلم أةِجْد بةِني أ ٍ‬ ‫فكيف إذن لمحمدنا الكرم ـ صلى ا عليه وسلم ـ أن يقول ‪’’ :‬أنا ابن‬ ‫الذبيحين’’ إل إذا كانت قصة انتسابه للذبيح الول مشتهرة فيهم ـ رغم بعد‬ ‫زمانها ـ وحقيقة انتسابه للذبيح الثاني عبدا بن عبد المطلب على ُبعد‬ ‫فراسخ من وقاكئع أيامهم زمانا ً ومكانا ً يعلمونها ويحفظون ما جرى فيها‪.‬‬

‫‪13‬‬


‫)‪(2‬‬ ‫إنه محمد بن عبد ا‪ ،‬وعبدا كان أحب ولد أبيه عبد المطلب إليه‪،‬‬ ‫وذبيح قريش وفتاها بل أجمل شبابها‪ ،‬وحديث نواديها ومطمع بعض نساكئها‬ ‫للنورالذى كان يشع من وجهه‪ ،‬ومرادهن وغاية المنَى لفتيات قريش في‬ ‫ضا كانت ذاكئعة فزمزم كانت قد‬ ‫القتران به‪ ،‬وقصته مع زمزم وحفرها أي ً‬ ‫طمرتها قبيلة ُجرهم قبيل مغادرتها مكة لظلمها وانهزامها‪ ،‬وكان ذلك منها‬ ‫نقمة على أهلها الذين حاربوها وطردوها‪ .‬وظلت زمزم مطمورة إلى عهد‬ ‫أبيه عبد المطلب الذى أ ُ ٍري في المنام مكانها‪ ،‬فحاول إعادة حفرها‪ ،‬ومنعته‬ ‫قريش‪ ،‬ولم يكن له يومكئذ من ولد يعينه على تحقيق مراده إل الحارث فنذر‬ ‫ل تعالى إن رزقه عشرة من الولد يحمونه ويعينونه ليذبحن أحدهم‪ ،‬ولما‬ ‫رزقه ا عشرة من الولد أراد أن يفي بنذره لربه فاقترع على أيهم يكون‬ ‫الذبح‪ ،‬فكانت القرعة على عبد ا‪ ،‬وهّم أن يذبحه عند الكعبة فمنعته‬ ‫قريش‪ ،‬وطلبوا إليه أن يرجع في أمره إلى عرافة خيبر لتفتيه في أمر ذبح‬ ‫ولده ‪ ،‬فأرشدته إلى أن يضع عشًرا من البل وهي دية الفرد عندهم‪ ،‬وأن‬ ‫يضرب بالقدا ح على عبد ا وعلى البل‪ ،‬فإن خرجت على عبد ا الذبيح‬ ‫زاد عشًرا من البل‪" ،‬وإن خرجت على البل فانحرها عنه فقد رضيها ربكم‪،‬‬ ‫ونجا صاحبكم!!"‪ ..‬فوصلوا إلى مكة وجيء بالبل وصاحب القدا ح‪ ،‬وقام‬ ‫عبد المطلب عند هبل داخل مكة يدعو ا ‪ -‬عز وجل‪ ،-‬وأخذ صاحب القدا ح‬ ‫يضربها‪ ،‬وكلما خرجت على عبد ا زادوا عشًرا من البل حتى بلغت ماكئة‪،‬‬ ‫كل ذلك وعبد المطلب قاكئم يدعو ا ‪ -‬عز وجل ‪ -‬عند هبل‪ ،‬فقال رجال‬ ‫قريش‪ :‬قد انتهى رضا ربك يا عبد المطلب‪ .‬فأبى إل أن يضرب عنها القدا ح‬ ‫ثلث مرات‪ ،‬ففعل فكانت في كل مرة تخرج على البل‪ ،‬وعندها رضي عبد‬ ‫المطلب ونحر البل‪ ،‬وتركها ل ُيصّد عنها إنسان ول حيوان‪ ،‬ونّجى ا‬ ‫تعالى عبد ا‪.‬‬ ‫وكانت المكافأة لعبدا بعد نجاته أن يتزوج "فتاة ُزهرة" آمنة بنت وهب‬ ‫َزهرة بنات قريش وبنت سيد بنى ُزهرة" وهب بن كلب بن مرة بن كعب بن‬ ‫ف وأى حسب ‪ ،‬وأما أمها فهّي برة بنت عبد العزي بن‬ ‫لؤي" فأى شر ٍ‬ ‫عثمان بن عبد الدار بن قصي بن كلب‪ ،‬وجدها عبد مناف بن زهرة الذي‬ ‫‪14‬‬


‫ُيقرن اسمه بابن عمه عبد مناف بن قصي‪ ،‬فيقال‪) :‬المنافان( تعظيًما‬ ‫وتكريًما فهّي كما حكى ابن هشام في سيرته‪" :‬أفضل فتاة في قريش نسًبا‬ ‫وموضعا"‪.‬‬ ‫وهكذا قدر ا أن تعرف آمنة أن عبدا ابن عمها التي التقته في‬ ‫صغرها كما يلتقي أقارب العاكئلة الواحدة حيث كانا يسكنان في جهة واحدة‬ ‫من مكة أن يكون هو زوجها‪.‬‬ ‫كما قدرا أن يكون نبينا ـ صلى ا عليه وسلم ـ سليل عشيرتين‬ ‫كبيرتين من قريش بل أكبر القباكئل التى عرفها العرب‪.‬‬ ‫أما الذى يعنينا هنا ليس أمر زواج آمنة وحسب ولكن الوقوف على أمر‬ ‫تلك الفتاة التي حسدتها صويحباتها ولداتها لنيل هذا الشرف العظيم بالفوز‬ ‫بفتى مكة الذى كان حلم معظمهن‪ ،‬ثم مالبثت أن جنت بعد تلك الفرحة‬ ‫ضا؛ فقد‬ ‫الغامرة القصيرة حزًنا وهًما طويلً بعد حياة زوجية قصيرة أي ً‬ ‫فارقها زوجها فراًقا أبدًيا وهّي التى ودعته على أمل اللقاء به بعد رحلة‬ ‫تجارية فإذا بها بعد النتظار المضني تفجع بأن الغربة صارت غربتان غربة‬ ‫السفر ثم أعقبها غربة الفراق الذي ل لقاء بعده‪ ،‬وكيف للحياة أن تحلو وفي‬ ‫أحشاكئها يسكن جنين سيخرج للدنيا يتيًما‪ ،‬فمن لها ومعها وهّي تصارع‬ ‫وحدها أهوال وشداكئد الحياة التي عصفت بكل أحلمها وآمالها دفعًة واحدة؟‬ ‫مات عبدا ولم يكن عمر الجنين عند فقده إل شهران‪ ،‬وهذا هو الرأي الذى‬ ‫ذكره ابن إسحاق‪ ،‬وتابعه عليه ابن هشام‪ ،‬وهو الرأي المشهور بين كتاب‬ ‫السير والمؤرخين وكان عمر عبد ا حينذاك ثماني عشرة سنة‪.‬‬ ‫شاءت إرادة ا أن يطل على الدنيا الجنين يتيًما في صبيحة يوم الثنين‬ ‫التاسع من شهر ربيع الول لينطلق نوره من شعب بني هاشم بمكة ل‬ ‫ليضيء قصور الشام وحسب بل ليضيء كل جنبات الدنيا عندما يصبح‬ ‫رسول ا للناس كافة‪.‬‬ ‫سمى عبد المطلب جد الرسول ـ صلى ا عليه وسلم ـ حفيده )محمد(‪،‬‬ ‫ودخل به الكعبة‪ ،‬ودعا له‪ .‬يقول البروفيسور عبد الحد داود )‪) :(7‬إنها‬ ‫‪15‬‬


‫لمعجزة فريدة حًقا في تاريخ الديان‪ ،‬أن ُيطلق اسم محمد من جميع أبناء‬ ‫آدم على نجل عبدا وآمنة في مدينة مكة لول مرة‪ ،‬وليمكن أن تكون‬ ‫هناك حيلة زاكئفة أو محاولة ما أو تزوير ما فى هذا المجال‪ ،‬لن والديه‬ ‫وأقرباءه كانوا وثنيين ولم يعلموا شيًكئا مطلًقا عن التنبؤات العبرية‪ ،‬وأن‬ ‫اختيارهم لسم محمد أو أحمد ليمكن تفسيره بأنه كان على سبيل‬ ‫المصادفة‪ ،‬أو حدًثا عرضًيا(‪.‬‬ ‫قال البعض أن من سماه بهذا السم أمه آمنة وقال بعضهم بل ا‬ ‫سبحانه وتعالى وإن كان المشهور أن الذي سماه جده عبد المطلب‪ ،‬ولن‬ ‫"عبد الحد" ل يتصور أن يكون هذا السم ـ محمد ـ جاء مصادفة أو‬ ‫ضا‪ ،‬يقول الدكتورمحمد شيخاني )‪ (8‬موةِفًقا بين أنه إلهام من ا وأن‬ ‫َعَر ً‬ ‫الذى سماه جده ‪) :‬ومن الموافقات الجميلة أن ًيْلَهم عبد المطلب تسمية‬ ‫حفيده محمًدا‪ ،‬وأنها تسميٌة أ ُةِعيَن عليها ولم يكن العرب يألفون هذه‬ ‫العلم‪ ،‬لذلك سألوه ‪ :‬لم رغبت عن أسماء آباكئه وأجداده؟ فأجاب ‪ :‬أرد ُ‬ ‫ت‬ ‫أن يحمده ا فى السماء‪ ،‬وأن يحمده الخلق فى الرض فكانت هذه‬ ‫استشفاًفا لغيب‪ ،‬فإنه ليوجد فى النسانية من يستحق ازجاء الشكر‬ ‫والثناء كما يستحق المحّمد ـ صلى ا عليه وسلم ـ ةِلما أسدى للنسانية‬ ‫من خي ٍر عميم(‪.‬‬ ‫سّم قبله‬ ‫قال ابن قتيبة‪ :‬من أعلم نبّوته ـ صلى ا عليه وسلم ـ أّنه لم ُي َ‬ ‫صيانة من ا لهذا السم‪ ،‬كما فعل مع َيحيى حيث لم يجعل‬ ‫أحد باسم محمد‪ ،‬ةِ‬ ‫سةِمًّيا‪ ،‬قال تعالى‪﴿ :‬يا َزكرَيا إنا ُنب ّ‬ ‫شُرَك بُغل ٍم اسُمه َيْحيى َلم َنْجَعل‬ ‫له من قبل َ‬ ‫سةِمًّيا﴾)‪ (9‬ولما َقُرَب زمنُه وب ّ‬ ‫سّمَى قوم‬ ‫شر أهل الكتاب بقرةِبه َ‬ ‫له من َقْبل ُ َ‬ ‫ضي عياض ستة فقط‪ ،‬وقال‬ ‫أولَدهم بذلك رجاء أن يكون هو‪ ،‬وعّدهم القا ةِ‬ ‫ابن حجر الذي جمع أسماء من تسّمى باسمه في جزء مفرد‪" :‬إّنهم حوالي‬ ‫العشرين مع تكرير في البعض ووْهم في البعض‪ ،‬وانتهى منهم إلى خمسة‬ ‫سا‪ ،‬ذكر أسماء المشهورين منهم وقال‪ :‬لم يدةِرك السلم منهم إل‬ ‫عشر نف ً‬ ‫محمد بن عدي التميمي السعدي‪ ،‬ومحمد بن البراء البكري؛ لنه صحابّي‬ ‫سّمَي بمحمد في الجاهلّية إل ثلثة‬ ‫جزما‪ ،‬وذكر ابن َخّلكان أّنه ل يعرف أحد ُ‬

‫‪16‬‬


‫سفيان بن مجاشع جّد الفرزدق‪ ،‬ومحمد بن أ َُحْيحة بن الُجل ح أخو‬ ‫محمد بن ُ‬ ‫عبدالمطلب لّمه‪ ،‬ومحمد بن حمران بن ربيعة"‪.‬‬ ‫أما اسم أحمد فلم يتسم أحد به قبل الرسول ا صلى ا عليه وسلم‪.‬‬ ‫قال الحافظ العراقي‪":‬وفي الصحيحين من حديث جبير بن مطعم عن النبي‬ ‫صلى ا عليه وسلم ‪’’ :‬إن لي خمس أسماء‪ :‬أنا محمد وأنا أحمد’’‪" ...‬‬ ‫الحديث‪.‬‬ ‫ولم يتسم بأحمد قبله ـ صلى ا عليه وسلم ـ أحٌد ول في زمنه ول في‬ ‫زمن أصحابه‪ ،‬حماية لهذا السم الذي بشر به النبياء‪ ،‬وأول من ُ‬ ‫سّميةِ‬ ‫أحمد في السلم‪ :‬أحمد بن عمر بن تميم والد الخليل بن أحمد العروضي‪.‬‬ ‫حدثنا عبد ا حدثني أبي ثنا عبد ا حدثني أبي ثنا عبد الرحمن ثنا‬ ‫زهير عن عبد ا يعنى بن محمد بن عقيل عن محمد بن على أنه سمع‬ ‫علي بن أبي طالب ـ رضي ا عنه ـ يقول‪ :‬قال رسول ا صلى ا عليه‬ ‫و سلم ‪’’ :‬أعطيت ما لم يعط أحد من النبياء’’‪ ،‬فقلنا‪ :‬يا رسول ا ما‬ ‫هو؟ قال‪’’ :‬نصرت بالرعب وأعطيت مفاتيح الرض وسميت أحمد وجعل‬ ‫التراب لي طهور وجعلت أمتي خير المم’’)‪.(10‬‬ ‫كما أنه ـ صلى ا عليه وسلم ـ لم يأمر المسلمين بالتسمي باسمه‬ ‫ولم يرغبهم فى ذلك ‪ ،‬ولو أراد لجابوه فقد كانوا يحبون التأسي به فى‬ ‫كل شىء‪ .‬والحديث الذي رواه أبو هريرة ـ رضي ا عنه ـ عن الرسول ـ‬ ‫صلى ا عليه وسلم ـ أنه قال‪’’ :‬تسموا باسمي ولتكنوا بكنيتي’’‪ .‬فله‬ ‫واقعة مخصوصة وهي النهى عن اتخاذ كنيته "أبا القاسم" في حياته‬ ‫وجواز التسمي باسمه يؤيد هذا الحديث الوارد بمسند أحمد )‪(3/385‬‬ ‫حدثنا أبو معاوية عن العمش عن سالم عن جابر قال ‪ :‬قال رسول ا‬ ‫صلى ا عليه وسلم‪’’ :‬سموا باسمي ول تكنوا بكنيتي‪ ،‬فإنما جعلت‬ ‫قاسما أقسم بينكم’’‪.‬‬

‫‪17‬‬


‫يقول ر‪.‬ف‪ُ .‬بودلى )‪) :(11‬فقد أصبح اسم الطفل محمًدا ‪ .‬وتسمى به‬ ‫مليين الطفال الذين ولدوا بعد الدين الجديد الذى قُّدَر أن ينشره على‬ ‫العالمين ابن آمنة من عبدا(‪.‬‬ ‫ولهذا تبارت معظم السرالمسلمة من عصر المبعث وحتى الن في‬ ‫تسمية بعض مواليدها من الذكور بأسماء محمد أو أحمد حتى أصبح اسم‬ ‫محمد هو السم الكثر انتشاًراً في العالم يليه اسم أحمد‪.‬‬

‫‪18‬‬


‫)‪(3‬‬ ‫مات عبدا وكل ماتركه لمنة وابنها خمسة أجمال‪ ،‬وقطعة غنم‪،‬‬ ‫وجارية حبشية اسمها بركة وكنيتها أم أيمن‪ ،‬وهّي حاضنة الرسول ـ‬ ‫صلى ا عليها وسلم ـ حتى اللبن في ثدي آمنة قد جف فلم تقو على‬ ‫إرضاع وليدها وذلك بعد أسبوع من ولدته ـ صلى ا عليه وسلم ـ فأول‬ ‫امرأة أرضعت رسول ا هي ثويبة كما في تاريخ الطبري‪ ،‬حيث قال‪:‬‬ ‫"أول من أرضع رسول ا ـ صلى عليه وسلم ـ ثويبة بلبن ابن لها يقال‬ ‫له مسرو ح أياًما قبل أن تقدم حليمة‪ ،‬وكانت قد أرضعت قبله حمزة بن‬ ‫عبد المطلب وأرضعت بعده أبا سلمة بن عبد السد المخزومي" ‪ .‬وثويبة‬ ‫هذه مولة لبي لهب عم النبي صلى ا عليه وسلم‪.‬‬ ‫ها قد بلغ النبّي ـ صلى ا عليه وسلم ـ السادسة من عمره غاب فيها‬ ‫عن عينّي آمنة قرابة العامين في مضارب بني سعد ابن بكر مسترضًعا عند‬ ‫حليمة بنت أبى ذؤيب‪ ،‬وذلك جرًيا على عادة أهل الحضر من العرب من‬ ‫التماس المراضع لولدهم من نساء البادية‪ ،‬فارتأت أن تذهب بطفلها وهو‬ ‫فى هذه السن إلى أخوال جده عبد المطلب بالمدينة من بني عدي بن‬ ‫النجار؛ لن أم عبد المطلب هى ‪ :‬سلمى بنت عمرو النجارية‪ ،‬وقد كان هدف‬ ‫ى ابنها بقية أهله فى المدينة وماهم عليه من عز ومنعة وجا ٍه‬ ‫آمنة أن ُتر ّ‬ ‫وشرف‪ ،‬وكذلك ليزور قبر أبيه هناك‪ ،‬وكأنها أرادت أن تصل ابنها برحمه‬ ‫سواء بمكة أو المدينة‪ ،‬وكأنها استشعرت دنو الجل فكانت الرحلة محملة‬ ‫بكل تلك القيم الصيلة لمرأ ٍة عربية تعي وتخبر التقاليد العربية الصيلة‪.‬‬ ‫خرجت آمنة وطفلها ومعهما أم أيمن بركة الحبشية جارية أبيه‪ ،‬ووصل‬ ‫الركب إلى المدينة‪ ،‬وكان المقام في دار النابغة من بني النجار‪ ،‬ومكثوا‬ ‫عندهم شهًرا‪ ،‬لم تملْ الزوجة الثكلَى من زيارة قبر زوجها الذي واراه‬ ‫التراب سريًعا‪ ،‬وعند قبره أدرك البن أن الميت ل يعود فأدرك معنى فقد‬ ‫الب‪ ،‬وكانت آمنة الحزينة ترقب تصرفاته فيعتصر قلبها حزًنا عليه‪ ،‬وتخرج‬ ‫الكلمات والجابات الملتاعة من صدرها وهي تنتزع من شفتيها ابتسامة‬ ‫‪19‬‬


‫لتخفف آلم وأحزان وأسكئلة الطفل اليتيم عن معنى الموت‪ ،‬وفراق الب‪ ،‬ولم‬ ‫تحتمل آمنة المقام أكثر من هذا وكأن دا ٍع دعاها فأعلنت القوم بنيتها في‬ ‫العودة إلى مكة‪.‬‬ ‫وفي "الْبَواء" بين مكة والمدينة قضى ا أمًرا كان مفعوًل‪ ،‬حيث لم‬ ‫تحتمل آمنة مشقة البعد عن قبر الحبيب‪ ،‬وربما مشقة السفر في ج ٍو قاكئظ ل‬ ‫ترحم فيه شمس تلك البلد ماشًيا ول راكًبا تحتها فمرضت‪ ،‬وزاد المرض‬ ‫ف وذبول بدا واضحين‬ ‫عليها والطفل يرى التغيرات التي تصيب أمه من ضع ٍ‬ ‫على محياها‪ ،‬وهو ل يملك غير مواساتها والتخفيف عنها‪ ،‬وبينما كانت أم‬ ‫أيمن تقوم على رعايتها كان محمًدا يرقب المشهد في صمت وحزن واشفاق‬ ‫والم رغم أناتها تنظر إليه طويلً وتهدأ من روعه كثيًرا حتى فرت بقايا‬ ‫مقاومتها وعافيتها أمام جحافل الموت الذي اختطفها أمام عينيه وهو ل‬ ‫يملك لها شيًكئا‪.‬‬ ‫وكأن ا قد رسم لنبينا قبل المبعث مسيرة حياته فهو سيبدأ الدعوة من‬ ‫مكة ثم يهاجر ويعيش ويدفن بالمدينة في نفس البلدة التي تضم رفات أبيه‪،‬‬ ‫وليكون قبر أمه بالْبَواء التي تبعد عن المدينة حوالي خمسة وعشرين ميلً‬ ‫ترعاه في مسيره‪ ،‬وبالرغم من كون الْبَواء تقع على الطريق الجانبى ل‬ ‫طريق الجادة وهما الطريقان الركئيسيان بين مكة والمدينة إل أن الرسول ـ‬ ‫صلى ا عليه وسلم ـ بعد الهجرة كان يفضل الطريق الجانبى كثيًرا لمرورها‬ ‫بقبر أمه ) ‪ ،(12‬فكان كلما مّر بقبرها زاره‪ ،‬ويبكي وُيبكي من حوله‪ ،‬ففي‬ ‫صحيح مسلم عن أبي هريرة ـ رضي ا عنه ـ قال‪ :‬زار النبّي صلى ا‬ ‫عليه وسلم قبر أمه‪ ،‬فبكى وأبكى من حوله‪ ،‬ثم قال ‪’’ :‬استأذن ُ‬ ‫ت ربي في‬ ‫زيارة قبر أمي فأذن لي‪ ،‬واستأذنته في الستغفار لها فلم يأذْن لي‪ ،‬فزوروا‬ ‫القبور تذكركم الموت’’) ‪.(13‬‬ ‫أصبح الطفل نبًيا ولم تغب عن باله آثار تلك الرحلة الثقيلة‪ ،‬وكيف لرحل ٍة‬ ‫مثل هذه أل تكون ثقيلة على نفس طفل ما كاد يعلم معنى اليتم عند قبر أبيه‪،‬‬ ‫حتى عرف معنى الموت مجسًدا أمامه فى فقد الم‪ ،‬ولهذا كان النبّي ـ صلى‬ ‫ا عليه وسلم ـ ينظرإلى دار بني النجار بعد الهجرة قاكئ ً‬ ‫ل‪’’ :‬هنا نزلت بي‬ ‫أمي‪ ،‬وفي هذه الدار قبر أبي عبد ا‪ ،‬وأحسنت العوم في بكئر عدي بن‬ ‫النجار’’‪.‬‬ ‫‪20‬‬


‫جاء إعلن الرسول الصادق المين ـ صلى ا عليه وسلم ـ بإعلن كفر‬ ‫والديه في زمن بعثته ولم يأبه له أحد من الصحابة‪ ،‬ولم يمتشقوا عصا‬ ‫ضا على انتساب الرسول لبوين كافرين‪ ،‬ولننا في زمن غلب‬ ‫التمرد اعترا ً‬ ‫فيه الهتمام بسفاسف المور على النظر إلى أشرافها في الهتمام بمثل تلك‬ ‫الموضوعات فأفرغ أهله فيه جل الطاقة ما بين مدافع ومهاجم‪ ،‬وانقسمت‬ ‫المة وكالعادة تكاتف الشيعة والصوفية ومن يسمون أنفسهم بالقرآنيين‬ ‫صًفا واحًدا ضد أهل السلف أو معتنقي الوهابية كما ينعتونهم‪ ،‬وتابعهم في‬ ‫العزف على نفس الوتيرة بعض أذناب النصارى‪.‬‬ ‫وغاب عن الجميع أن هذه الحاديث وهذا العلن دليل صدق على نبوة‬ ‫محمد ـ صلى ا عليه وسلم ـ كما جاء القرآن الكريم كذلك دليل صدق له‬ ‫حيث جاء من بين سوره بسورة المسد وفيها ما فيها من ذ ٍم لعم الرسول‬ ‫نفسه أبا لهب ولو كان القرآن من صنع محمد لزالها‪ ،‬وكذك لم يخن‬ ‫الرسول أمته فقد كان أميًنا فى التبليغ فما كتم شيكئا َ علمه من ا مما أوحى‬ ‫به إليه صلى ا عليه وسلم ‪.‬‬ ‫يقول الدكتور محمد سيد أحمد المسير) ‪) :(14‬إن الصدق ـ يقصد صدق‬ ‫الرسول عليه الصلة والسلم ـ هو المعجزة الولى التى دفعت الناس إلى‬ ‫اليمان بالرسالة لسيدنا محمد صلى ا عليه وسلم(‪.‬‬ ‫كما يقول المام أبي حامد الغزالى ) ‪) :(15‬اعلم أن من شاهد أحواله ـ‬ ‫صلى ا عليه وسلم ـ وأصغى إلى سماع أخباره المشتملة على أخلقه‬ ‫وأفعاله وأحواله وعاداته وسجاياه ‪ ،‬وسياسته لصناف الخلق‪ ،‬وهدايته إلى‬ ‫ضبطهم‪ ،‬وتألفه أصناف الخلق‪ ،‬وقودهم إياهم إلى طاعته مع ما ُيحَكى من‬ ‫عجاكئب أجوبته فى مضايق السكئلة‪ ،‬وبداكئع تدبيراته فب مصالح الخلق‪،‬‬ ‫ومحاسن إشاراته فى تفصيل ظاهر الشرع الذب يعجز الفقهاء والعقلء عن‬ ‫إدراك أواكئل دقاكئقها فى طول أعمارهم‪ ،‬لم يبق له ريب ولشك فب أن ذلك لم‬ ‫يكن مكتسبا ً بحيلة تقوم بها القوة البشرية‪ ،‬بل ل يتصور ذلك إل بالستمداد‬ ‫س‪ ،‬بل‬ ‫من تأييد سماوب وقوة إلهية‪ ،‬وأن ذلك كله ليتصور لكذاب ول ُمَلةِب ْ‬ ‫كانت شماكئله وأحواله شواهد قاطعة بصدقه حتى أن العربى الُقح كان يراه‬ ‫فيقول‪ :‬وا ما هذا وجه كذاب‪ ،‬فكان يشهد له بالصدق بمجرد شماكئله‪،‬‬ ‫‪21‬‬


‫فكيف من شاهد أخلقه ومارس أحواله في جميع مصادره؟!‪ ،‬فأ َْعةِظْم بغباوة‬ ‫من ينظر في أحواله‪ ،‬ثم في أفعاله‪ ،‬ثم في أخلقه‪ ،‬ثم في معجزاته‪ ،‬ثم في‬ ‫استمرار شرعه إلى الن‪ ،‬ثم في انتشاره في أقطار العالم‪ ،‬ثم في إذعان‬ ‫ملوك الرض له في عصره وبعد عصره مع ضعفه ويتمه‪ ،‬ثم يتمارى بعد‬ ‫ذلك فى صدقه(‪.‬‬ ‫نعم أنه الصدق وهو ماتنبه له بعقله الديب البريطانى هـ ‪ .‬جـ ‪ .‬ويلز‬ ‫س إليه‬ ‫فيقول‪) :‬إن من أرفةِع الدلةِة على صدةِق محم ٍد كوَن أهةِله وأقر ةِ‬ ‫ب النا ةِ‬ ‫يؤمنون به فقد كانوا مّطلعيَن على أسراةِره‪ ،‬ولو شّكوا في صدةِقه لما آمنوا‬ ‫به(‪.‬‬ ‫وربما السؤال هنا لماذا حكم الرسول ـ صلى ا عليه وسلم ـ بحكم ا‬ ‫عز وجل وأعلن ذلك ولم يضمرها في نفسه ليس عن شجاعة وحسب بل‬ ‫لنه كرسول من عند ا مكلف بأمانة التبليغ‪ ،‬يوضح ذلك البيهقي ‪:‬‬ ‫)‪ ( 16‬بعد تخريجه لحديث‪’’ :‬أبي وأباك في النار’’ ‪" :‬وكيف ل يكون أبواه‬ ‫وجّده بهذه الصفة في الخرة‪ ،‬وكانوا يعبدون الوثن حتى ماتوا‪ ،‬ولم يدينوا‬ ‫دين عيسى ابن مريم عليه السلم"‪.‬‬ ‫وكون النصرانية بلغت العرب‪ ،‬فنعم ‪ ..‬ومنهم بعض أهل مكة بالطبع فقد‬ ‫كان فيهم من تنصر كورقة بن نوفل‪ ،‬كما أن المبشرين توغلوا في أماكن‬ ‫ناكئية من جزيرة العرب‪ ،‬ومنهم من رافقوا العراب وعاشوا عيشتهم‪ ،‬حتى‬ ‫عرفوا بـ )أساقفة الخيام( و )أساقفة أهل الوبر(‪ ،‬ومنهم )أساقفة القباكئل‬ ‫الشرقية المتحالفة(‪ ،‬و)أساقفة العرب البادية( وقد أفلحوا فى إبعاد كثير من‬ ‫العرب عن الوثنية ) ‪.(17‬‬ ‫وربما كان عذر أهل مكة وغيرها من العرب ممن لم يدينوا بالنصرانية أن‬ ‫النصرانية قد عادت وثنية عسرة الفهم‪ ،‬وأوجدت خلًطا عجيًبا بين ا‬ ‫والنسان‪ ،‬ولم يكن لها في نفوس العرب المتدينين بهذا الدين تأثيًرا حقيقًيا؛‬ ‫لبعد تعاليمها عن طراز المعيشة التي ألفوها‪ ،‬ولم يكونوا يستطيعون البتعاد‬ ‫عنها) ‪ ،(18‬كما شهد علماء النصرانية في عصور متأخرة بذلك فقال الدكتور‬ ‫بارنز‪) :‬إن معظم الشعاكئر الدينية المسيحية قد اقتبست من الوثنية() ‪،(19‬‬

‫‪22‬‬


‫وبالتالي فقد وجد فيها العرب مشابهة لما هم عليه من الشرك‪ ،‬وعبادة‬ ‫الصنام فاكتفوا بما عندهم أو ما هم عليه‪.‬‬ ‫كما أننا يجب أل نبالغ في تصور من تنصروا من العرب فى الجاهلية‪،‬‬ ‫وحًقا ذكر كثير من شعراكئهم في أشعارهم الكناكئس والبيع والرهبان‬ ‫والساقفة‪ ،‬غير أنهم ظلوا ل يتعمقون فى المسيحية )‪، (20‬بل كانت‬ ‫مسيحيتهم مسيحية سطحية )‪ ، (21‬وفي شبه الجزيرة العربية لم يكن‬ ‫للمسيحية من أثر يذكر‪ ،‬فقد كان اهتمام بيزنطة بعرب شبه الجزيرة ينحصر‬ ‫في كونهم تجاًرا ونقلة بضاكئع من أقاصي آسيا وأفريقيا‪ ،‬وكانت الرو ح‬ ‫التنصيرية في بيزنطة ضعيفة أو معدومة )‪ ،( 22‬وهذا ما يؤكده المستشرق‬ ‫اليطالي اغناطيوس غويدي حين يقول ) ‪) : (23‬أن جمهرة البدو من أعراب‬ ‫شبه الجزيرة لم يتميزوا مطلًقا بفكرة دينية راسخة‪ ،‬فاللهة والصنام كانت‬ ‫معروفة وساكئدة‪ ،‬ولم يكن للدين لدى البدو حافز من طبيعة عميقة الصول(‪.‬‬ ‫فكيف لمنة الزهرة الناشكئة في بيت يحفه السؤدد والغنى‪ ،‬يحوطها حنان‬ ‫أب ينتمي لقوم يقومون بوظاكئف دينية هامة وضخمة لخدمة الكعبة‬ ‫وسدانتها أن تفكر في اعتناق دين ل يتحدث عنه أحد أمامها‪ ،‬وإذا افترضنا‬ ‫أنه تناهى إلى مسامعها عنه شيء فل يكاد عقلها يستسيغه خاصًة وأن‬ ‫المسيحية عندما وصلت بلد العرب كانت قد أغرقت نفسها في خلفات‬ ‫وتعقيدات لهوتية ل يسيغ فهمها إل كبار المتخصصين في علم اللهوت‪،‬‬ ‫الذين وقفوا حياتهم لشر ح وتفسير هذه المعميات والطلسم )‪ ،( 24‬فكيف لها‬ ‫حتى عندما كبرت وصارت زوجة وعقلت المور أكثر أن تخالف قومها‬ ‫وتعتنق دين حاول أحد أتباعه أن يهدم الكعبة التى لها المكانة العليا‬ ‫والقداسة العظمى في قلب كل عربي ناهيك عن كل قرشي وذلك هو أبرهة‬ ‫الحبشي حاكم اليمن بالنيابة عن النجاشي عندما وجه أفياله تجاه الكعبة‬ ‫ليهدمها وذلك لكي يصرف العرب عنها فيحجون إلى كنيسته التى بناها فى‬ ‫صنعاء‪ ،‬وما تعرفه من لقاكئه بعبد المطلب والد زوجها‪ ،‬وما خلفه ذلك‬ ‫الحبشي وجيشه من الخوف والذعر والتوجس الذي فجر فى نفوس المكيين‬ ‫مقًتا شديًدا على هذا الطاغية الغازي ودينه مما ل تستطيع معه آمنة ول‬ ‫غيرها مجرد التفكير في الخروج على ما يؤمن به قومها واعتناق دين‬

‫‪23‬‬


‫العداء‪ ،‬خاصة وهى تحيا في كنف وعطف عبد المطلب جد حفيدها المنتظر‬ ‫والقاكئم بتبعات السقاية والرفادة وسيد قومه‪.‬‬ ‫وإذا كان هذا هو قول الرسول ـ صلى ا عليه وسلم ـ على أبويه نزولً‬ ‫على حكم ا بكفرهما لنهما قد أظلهما دين سماوي لم يتبعاه فعلى غيرهما‬ ‫ضا نفس الحكم العادل‬ ‫ممن أظلهم دين السلم ولم يدخلوا فيه أن يتقبلوا أي ً‬ ‫الذي أنزله ا على أحب الناس إلى قلب رسوله ـ صلى ا عليه وسلم ـ‬ ‫ضا جزاًء وفاقا‪.‬‬ ‫دون مواربة فال ل يحابي أحًدا‪ ،‬وهو الحكم عليهم بالكفر أي ً‬ ‫قال صلى ا عليه وسلم ‪’’:‬والذى نفسى بيده‪ ،‬ل يسمع بي أحد من هؤلء‬ ‫يهودي ول نصراني‪ ،‬ثم ل يؤمن بالذى أرسلت به إل أدخله ا النار’’‪.‬‬ ‫يقول محمد فتح ا كولن)‪) :(25‬يبين القرآن الكريم ضلل أبي إبراهيم‬ ‫عليه السلم‪ ،‬وهذا الضلل لم يشكل نقيصًة في حق إبراهيم عليه السلم إذ‬ ‫يمكن القول بوجود أناس لم يصلوا إلى نور التوحيد من بين أجداد رسول‬ ‫ا ـ صلى ا عليه وسلم ـ كذلك‪ ،‬ول يدري أحد ماذا كان موقف عبد‬ ‫ي من عقيدة التوحيد‪ ،‬ولكننا نستطيع أن نقول بكل‬ ‫المطلب أو هاشم أو لٌَؤ َ‬ ‫اطمكئنان أنهم عاشوا في عهد )الفترة( وأنهم سيعاملون على هذا الساس‪،‬‬ ‫ومع ذلك فإن احتمال وجود أي قصور منهم ل يمكن أن يشكل مانًعا من‬ ‫تكليف رسولنا ـ صلى ا عليه وسلم ـ بالرسالة اللهية إلى البشرية(‪.‬‬ ‫وقال البيهقي)‪" : ( 26‬وكفُرهم ل يقد ح في نسب رسول ا صلى ا عليه‬ ‫وسلم؛ لن أنكحة الكفار صحيحة‪ ،‬أل تراهم يسلمون مع زوجاتهم‪ ،‬فل‬ ‫يلزمهم تجديد العقد‪ ،‬ول مفارقتهن؛ إذ كان مثله يجوز في السلم"‪.‬‬ ‫كما قال ابن كثير في )سيرة الرسول وذكر أيامه( ‪" :‬وإخباره صلى ا‬ ‫عليه وسلم عن أبويه وجده عبد المطلب بأنهم من أهل النار ل ينافي الحديث‬ ‫الوارد من طرق متعددة أن أهل الفترة والطفال والمجانين والصم يمتحنون‬ ‫في العرصات يوم القيامة‪ .‬لنه سيكون منهم من يجيب‪ ،‬ومنهم من ل يجيب‪،‬‬ ‫فيكون هؤلء ‪ -‬أي الذين أخبر عنهم النبي ‪ -‬من جملة من ل يجيب‪ ،‬فل‬ ‫منافاة"‪.‬‬

‫‪24‬‬


‫أما المام النووي فقال في شرحه لصحيح مسلم عند حديث‪’’ :‬أبي وأباك‬ ‫في النار’’ ‪" :‬وفيه أن من مات في الفترة على ما كانت عليه العرب من‬ ‫عبادة الوثان فهو في النار‪ ،‬وليس هذا مؤاخذة قبل بلوغ الدعوة؛ فإن‬ ‫الدعوة كانت قد بلغتهم دعوة إبراهيم وغيره من النبياء صلوات ا تعالى‬ ‫وسلمه عليهم"‪.‬‬ ‫وكما أصطفى ا رسول ا ـ صلى ا عليه وسلم ـ لرسالته اختار له‬ ‫أصحابه وأزواجه رضوان ا عليهم أجمعين‪ ،‬وبالحرى اختار له والديه‬ ‫ولو شاء ا اختيارهم مؤمنين لكان‪ ،‬ولوكان كفرهما قادًحا في اختيار‬ ‫الرسول لما أختارهما أو رضيهما لرسوله‪ .‬قال صلى ا عليه وآله وسلم‪:‬‬ ‫ت’’‪.‬‬ ‫ب الّطاةِهةِريَن إلى َأرحاةِم الّطاةِهرا ةِ‬ ‫’’َلم أَ​َزل ُأنَقل ُ ةِمن َأصل ةِ‬ ‫وقد رفضت دار الفتاء المصرية الفتاوى التى خرجت بأن والدي الرسول‬ ‫صلى ا عليه وسلم من المشركين وأنهما فى النار‪ ،‬حيث قالت الدار في‬ ‫بحث لمانة الفتوى برقم )‪ (2623‬أن الحكم في أبَوي النبي ـ صلى ا عليه‬ ‫وسلم ـ أنهما ناجيان وليسا من أهل النار‪ ،‬وقد صر ح بذلك جمع من العلماء‪،‬‬ ‫وصنف العلماء المصنفات فى بيان ذلك‪ ،‬منها‪ :‬رسالتا المام السيوطي‬ ‫"مسالك الحنفا في نجاة والَدى المصطفى" و"التعظيم والةِمّنة بأّن والَدي‬ ‫المصطفى في الجنة"‪.‬‬ ‫وقالت الدار‪) :‬إن العلماء استدلوا على ذلك بأنهما ةِمن أهل "الَفترة"‪،‬‬ ‫لنهما ماتا قبل البعثة ول تعذيب قبلها‪ ،‬لن َمن مات ولم تبلغه الدعوة يموت‬ ‫ناجًيا‪ ،‬لتأخر زمانهما وُبعةِده عن زمان آخر النبياء‪ ،‬وهوسيدنا عيسى عليه‬ ‫السلم‪ ،‬ولطباق الجهل في عصرهما‪ ،‬فلم يبلغ أحًدا دعوةُ نبي من أنبياء ا‬ ‫إل النفر اليسير من أحبار أهل الكتاب فى أقطار الرض كالشام وغيرها‪ ،‬ولم‬ ‫يعهد لهما التقلب في السفار ول عّمرا عمًرا يمكن معه البحث عن أخبار‬ ‫النبياء‪ ،‬وهما ليسا من ذرية عيسى عليه السلم ول من قومه‪ ،‬فبان أنهما‬ ‫ةِمن أهل الفترة بل شك‪ .‬وَمن قال‪ :‬إن أهل الفترة ُيمَتَحُنون على الصراط فإن‬ ‫صوا على أن الوالدين‬ ‫أطاعوا دخلوا الجنة وإل كانت الخرى‪ ،‬فإن العلماء ن ّ‬ ‫الشريفين لو قيل بامتحانهما فإنهما من أهل الطاعة‪ ،‬قال الحافظ ابن حجر‪:‬‬ ‫‪25‬‬


‫"إن الظن بهما أن يطيعا عند المتحان"‪.‬‬ ‫وأضافت أمانة الفتوى‪) :‬أن الطبري أورد في تفسيره عن ابن عباس –‬ ‫ك‬ ‫س ْاول َ‬ ‫ك َربّ َ‬ ‫فليلُْع ِطلفيل َ‬ ‫رضى ا عنهما ‪ -‬أنه قال في تفسير قوله تعالى‪َ﴿ :‬و لَل َ‬ ‫ضل﴾ىل﴾ )‪ ،(27‬قال‪" :‬ةِمن ةِرضا محمد صلى ا عليه وآله وسلم أن ل َيدُخل‬ ‫فلَ​َتلَْر َ‬ ‫أحٌد ةِمن أهل بيته النار"‪.‬‬ ‫وقالت الفتوى الطريق الثاني الذي سلكه القاكئلون بنجاة أبَوي النبي‬ ‫صلى ا عليه وآله وسلم‪ :‬أنهما ناجيان؛ لنهما لم يثبت عنهما شرك‪ ،‬بل‬ ‫كانا على الحنيفية ةِدين جدهما إبراهيم عليه السلم‪ ،‬ولقد ذهب إلى هذا‬ ‫القول جمٌع من العلماء منهم الفخر الرازى في كتابه‪" :‬أسرار التنزيل"‪.‬‬ ‫واستدل أهل هذا الطريق بقوله تعالى‪﴿ :‬الِّذ يل يلَراَك ِح فيلَن تلَُقاوُم )‪(218‬‬ ‫س عالِج ِد ليلَن﴾ )‪ ،(28‬أى أنه ‪ -‬صلى ا عليه وآله وسلم ‪ -‬كان‬ ‫ك ِفج ي ال ّ‬ ‫َو تلَق لّلبَ َ‬ ‫يتقلب في أصلب الساجدين المؤمنين مما يدل على أن آباءه لم يكونوا‬ ‫مشركين‪ ،‬قال الرازى‪ :‬قال صلى ا عليه وآله وسلم‪َ’’ :‬لم أَ​َزل ُأنَقل ُ ةِمن‬ ‫ت’’‪ ،‬وقال تعالى‪﴿ :‬إِنَّم عال الُْم ْشلِرلُك اولَن‬ ‫ب الّطاةِهةِريَن إلى َأرحاةِم الّطاةِهرا ةِ‬ ‫َأصل ةِ‬ ‫سل﴾ )‪ ،(29‬فوجب أل يكون أحٌد ةِمن أجداده صلى ا عليه وآله وسلم‬ ‫نَ​َج ٌ‬ ‫مشرًكا‪.‬‬ ‫كما رفضت أمانة الفتوى قول من قال إنهما خير من المؤمنين مع‬ ‫كفرهما‪ ،‬لن هذا يعني القول بتفضيل الكافرين على المؤمنين؛ وأضافت‪:‬‬ ‫ولكى نخرج من هذا المحظور وجب أن نقول بأنهما مؤمنان‪.‬‬ ‫أما الرواية الثالثة التى استندت إليها أمانة الفتوى في قولها بنجاة‬ ‫والدي الرسول‪ ،‬بأن ا تعالى أحياهما له ـ صلى ا عليه وآله وسلم ـ‬ ‫حتى آَمنا به‪ ،‬وأضافت أن هذا المسلك مال إليه طاكئفة كثيرة ةِمن حفاظ‬ ‫المحّدثين وغيرهم‪ ،‬منهم‪ :‬الخطيب البغدادي وابن شاهين وابن الُمَنّير‬ ‫‪26‬‬


‫والمحب الطبري والقرطبى‪ ،‬واحتجوا لمسلكهم بأحاديث ضعيفة‪ ،‬ولكنها‬ ‫ترقى إلى الحسن بمجموع طرقها‪.‬‬ ‫وينحو منحى دار الفتاء ركئيس الجمعية الشرعية بمصر الدكتور محمد‬ ‫المختار المهدي)‪ (30‬في تبركئة وتنزيه أبوي الرسول الكريمين من الكفر‬ ‫حيث يقول‪) :‬لم يمنع النبي من الستغفار ل ُّمه لّنها مشركة‪ ،‬بل لنها من‬ ‫ث‬ ‫كّلعا ُمَعّذ بِلفيَن َ َت‬ ‫أهل الفترة الذين لم تبلغهم الدعوة‪ ،‬لقوله تعالى‪َ﴿ :‬و َملعال ُ ْن‬ ‫حّل﴾ى نَلبلَْع َ‬ ‫َرُس اولًل﴾)الرسراء‪ ،(15:‬وقد صر ح القرآن أكثر من مرة أن قوم النبي لم يرسل‬ ‫ك لَ​َعلُّه ْمل يلَْه َتَلُد ولَن﴾)الرسجدة‪:‬‬ ‫إليهم قبله رسول ﴿لَِتلْ​ْنُِذ َرل قلَْاو ًملعال َمعال أَتَعاُه ْمل ِم ْنل نَِذ يلٍر ِم ْنل قلَْبلِ َ‬

‫ب ارتكبته أمه حتى يسغفر لها‪ ،‬وقد توفيت وهو ابن ست‬ ‫ي ذن ٍ‬ ‫‪ ،(3‬فأ ّ‬ ‫سنين؟!‪ ..‬أما بكاؤه ـ صلى ا عليه وسلم ـ عند قبرها فلتذكره إياها‬ ‫وحزنه على فراقها‪ ،‬وما قيل هنا في أمه ـ رضّي ا عنها ـ يقال في أبيه‬ ‫في حديث أنس أن رجلً قال ‪ :‬يارسول ا‪ ،‬أين أبي؟‪ ،‬قال ‪’’ :‬في النار’’‪،‬‬ ‫قال‪ :‬فلما َقّفى دعاُه‪ ،‬فقال‪’’ :‬أبي وأباك في النار’’ )أخرجه مرسلم(‪ ،‬ومع أن‬ ‫هذا الحديث قد ُتُكّلَم فيه!!‪ ..‬ولو صْح!!‪..‬كان المقصود بأبيه في الحديث‬ ‫هو عمه أبو طالب‪ ،‬لنه هو الذي بلغته الدعوة‪ ،‬والعرب تطلق على العم‬ ‫لفظ الب كما ورد في القرآن الكريم عن قول يعقوب لبنيه حين حضره‬ ‫ك ِإبلَْراِه فيلَم َو إِلْس َملعالِع فيلَل‬ ‫كل َو إِللَ​َه َآبَعائِ َ‬ ‫الموت ورد أبناكئه عليه بقولهم‪﴿ :‬نلَْعبُلُد إِلَ​َه َ‬ ‫َو إِلْس َحلعالَقإِلًَه عال َوالِح ًد لالَو نلَْح ُنللَهُ ُمْس ِللُم اولَن﴾)البقرة‪.(133:‬‬ ‫وأعجب من قول الدكتور المهدي أن الحديث تكلم فيه أو لقوله ولو صح‪،‬‬ ‫مع كون هذا الحديث لم ينفرد به المام مسلم وحده‪ ،‬بل هو عند عدد كبير‬ ‫من أهل الحديث كأبي داود‪ ،‬وأحمد وابن حبان والبيهقي وأبي‬ ‫يعلى والبزار وغيرهم‪ ...‬وهو حديث صحيح‪ ..‬كما أقر ذلك أهل العلم‬ ‫بالحديث فقد صححه كل من مسلم وابن حبان والجوزجاني والبيهقي وابن‬ ‫كثير واللباني والحويني‪ ..‬كما يزداد عجبي من صحفي مختص بالشكئون‬ ‫الدينية في صحيفة قاهرية يفتي بلعن من قال بأن أبوي الرسول ـ صلى‬ ‫ا عليه وسلم ـ في النار!!‪ ..‬فما هكذا يدور الخلف كما تعلمناه من‬ ‫سادتنا العلماء‪.‬‬ ‫‪27‬‬


‫تقول الدكتورة عاكئشة عبد الرحمن) ‪) :(31‬ولم ُيقدر أحٌد مما شهدوا‬ ‫رقدتها في مضجعها الخير بالبواء‪ ،‬أن سوف يأتى حيٌن من الدهر‬ ‫ُتبعث فيه الراقدة‪ ،‬ثم ل يموت لها ذكٌر من بعد ذلك أبًدا‪ ،‬بل نظل‬ ‫صورتها تنتقل عبر الجيال باهرة السنا والبهاء‪ ،‬ويظل اسمها خالًدا‬ ‫على مر العصور والدهار ‪ ،‬يحف بها جلل أمومتها العظمى التي لبثت‬ ‫ـ وسوف تلبث داكئًما ـ تستثير أنبل ما في وجدان المؤمنين من انفعال‪،‬‬ ‫وُتلهم شعراءهم رواكئع القصيد‪ ،‬وهذه الدنيا تصغي فى الليلة المباركة‬ ‫من ربيع كل عام هجري‪ ،‬إلى هتاف المحتفلين بذكرى الساعة الغراء‬ ‫التي قامت فيها ’’آمنة’’ عن ولدها سيد البشر‪ ،‬سلٌم على ’’آمنة’’‬ ‫سيدة المهات’’‪ ،‬ووالدة النبي المبعوث بآخر رسالت السماء(‪.‬‬ ‫وبعد أن أنهى الدكتور محمد أبو زهرة تصفح تاريخ السيدة آمنة‬ ‫بنت وهب قال‪) :‬لننظر إلى تلك المجاهدة الصبور‪ ،‬فإذا قلنا أنها عاشت‬ ‫كالعذراء إذ لم يكن إل أنها حملت سر هذا الوجود‪ ،‬وكأنها أودعت‬ ‫أمانة النبوة لتحتفظ بها‪ ،‬وكأنها كالبتول العذراء‪ ،‬بيد أن هذه لم‬ ‫تصطفها الملكئكة‪ ،‬عزاء من رب العالمين إذ اختارها وتعهدها نبي‬ ‫وأقامها في المحراب وكانت في رعاية ظاهرة‪ ،‬وأما آمنة بنت وهب‬ ‫فقد خوطبت بلسان الفطرة المستقيمة‪ ،‬وعلمت بحكم الباعث في نفس‬ ‫طاهرة أنها حملت أمانة‪ ،‬واستمرت المانة معها في رعاية ا تعالى‬ ‫وهى حملت ما حملت غير وانية ول مقصرة‪ ،‬ول هادي يهديها إل ما‬ ‫انبعث في نفسها من نور الفطرة‪ ،‬والحساس بعبء المانة( )‪.(32‬‬ ‫وسواء اختلف من اختلف مع فتوى الديار المصرية أو اتفق معها‪،‬‬ ‫وسواء اختلف أو اتفق من رأى فى السيدة آمنة بنت وهب اليمان أو‬ ‫خلفه‪ ،‬لكننا ل نملك إل أن نحترم وُنجل هذا العبء الذي تحملته‬ ‫وأعانها ا عليه‪ ،‬فقد تحملت المانة في سن صغيرة وهى الحسيبة‬ ‫النسيبة‪ ،‬السيدة المخدومة‪ ،‬بنت السادات وأكابر قومها‪ ،‬ومع هذا فلم‬ ‫تلن لها قناة‪ ،‬ولم تفر من قدرها‪ ،‬أو ألقت رضيعها إلى أهله وفرت إلى‬ ‫ج آخر وحياة جديدة‪ ،‬بل قامت برسالتها بكل‬ ‫أهلها تبحث لها عن زو ٍ‬ ‫أمانة وتحملت فى سبيلها ما تحملت‪ ،‬ثم ماتت وهي في سفرها‬ ‫وغربتها من أجل أن تصل ابنها برحمه‪ ،‬ويقف على قبر والده‪ ،‬فكانت‬ ‫‪28‬‬


‫بحق مثال ُيحكَى في القيام بأداء المانة‪ ،‬فرضع منها وليدها المانة‬ ‫سّمّي قبل مبعثه "المين"‪ ،‬فكان أهلً عندما اصطفاه ا أن يقوم‬ ‫حتى ُ‬ ‫بأمانة الرسالة والتبليغ بل يتحمل المشاق في سبيل اعلء دين ا‪،‬‬ ‫وكأنها بحياتها ومماتها رسمت لبنها طريق الهجرة‪ ،‬لتبقى هي على‬ ‫طريق حله وترحاله ملك حارس يرعى خطواته‪ ،‬وماتت وقد كانت آخر‬ ‫نظراتها تحتضن وجهه ـ صلى ا عليه وسلم ـ مبللة بدموع الفراق‬ ‫والخوف عليه‪.‬‬

‫نساء فى حياة الرسول‬

‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ هامش الفصل‬

‫الأول ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ السيد إبراهيم‬

‫‪ ).‬أحمد بن علي القلقشندي ‪ :‬نهاية الرب بمعرفة أنرساب العرب ) ‪2‬ـ ‪(1) 19‬‬

‫‪29‬‬


‫‪) .‬طبقات ابن رسعد ‪ ، 295 /3‬الطبري‪ :‬تاريخ ‪(2) (5/22‬‬ ‫‪).‬صحيح ابن حبان‪:‬ج ‪/11‬ص ‪ 214‬ح ‪(3) (4870‬‬ ‫ابن كثير‪ :‬رسيرة ررسول ا صلى ا عليه ورسلم من البداية والنهاية باب ‪ :‬ذكر َنَرسِبه الشريف )‪(4‬‬ ‫ب أصِله اْلِنُمِنيف‬ ‫‪ .‬وِطي ِ‬ ‫انفرد بإخراجه مرسلم من حديث الوزاعي وهو عبد الرحمن بن عمرو إمام أهل الشام به ()‪(5‬‬ ‫‪).‬نحوه‬ ‫‪).‬رواه الحاكم والبيهقي ( )‪(6‬‬

‫‪.‬عبد الحد داود ‪ ،‬محمد في الكتاب المقدس‪ ،‬ص ‪(7) 163‬‬ ‫ي مصلح أم نبي مررسل ص ‪(8) 39‬‬ ‫‪ .‬محمد شيخاني ) دكتور( ‪ ،‬محمد عبقر ِنُ‬ ‫‪ .‬رسورة مريم ‪(9) 7 :‬‬

‫في مرسند أحمد بن حنبل ‪) -‬ج ‪ / 1‬ص ‪ 98‬ترقيم الشاملة )‪(10‬‬ ‫تعليق شعيب الرنؤوط ‪ :‬إرسناده حرسن‬ ‫‪3939)] .‬‬

‫الصحيحة ([‬

‫‪ .‬ر‪.‬ف‪.‬بودلى ‪ ،‬حياة محمد ص ‪(11) 40‬‬ ‫‪.‬دكتور حرسين مؤنس ‪ :‬أطلس تاريخ الرسلم ص ‪(12) 101‬‬ ‫صحيح مرسلم ‪ ،‬كتاب الجنائز‪ ،‬باب ارستئذان النبّي صلى ا عليه ورسلم ربه في زيارة قبر[ )‪( 13‬‬ ‫أمه )‪ (671 /2‬رقم )‪ .(976‬نقلً من حاشية الرسيرة النبوية في ضوء الكتاب والرسنة )‪-1/205‬‬ ‫‪ (206 ].‬دار القلم ‪ -‬الطبعة الولى‬ ‫الدكتور محمد أحمد المرسير ‪ ،‬النبوة المحمدية ص ‪(14) 23‬‬ ‫أبو حامد الغزالي ‪ ،‬أحياء علوم الدين جـ ‪ 3‬صـ ‪(15) 484 ، 479‬‬ ‫)البيهقي ‪ :‬دلئل النبوة )‪( 16) 193 ،1/192‬‬

‫‪.‬‬

‫لويس شيخو‪ :‬النصرانية وآدابها ج ‪1‬ص ‪(17 ) 37‬‬

‫‪ .‬صفي الرحمن المباركفوري ‪ :‬الرحيق المختوم ص ‪( 18) 54‬‬ ‫‪ .‬خواجة أفندي كمال الدين ‪ :‬ينابيع المرسيحية ص ‪( 19) 85‬‬ ‫‪ .‬شوقي ضيف ) دكتور ( ‪ :‬محمد خاتم المررسلين ص ‪( 20) 45‬‬ ‫‪ .‬حرسين مؤنس )دكتور( ‪ :‬أطلس تاريخ الرسلم ص ‪( 21) 100‬‬

‫‪30‬‬


‫دكتورإرسماعيل راجي الفاروقي والدكتورة لوس لمياء الفاروقي ‪ :‬أطلس الحضارة الرسلمية )‪(22‬‬ ‫‪ ،.‬ص ‪112‬‬ ‫‪.‬أغناطيوس غويدي ‪ :‬محاضرات في تاريخ اليمن والجزيرة العربية قبل الرسلم ص ‪(23 ) 60‬‬ ‫‪ .‬عبد الشافي محمد عبد اللطيف )دكتور( ‪ :‬تاريخ الرسلم في عصر النبوة ص ‪(24) 62‬‬ ‫‪.‬فتح ا كولن ‪ :‬محمد مفخرة النرسانية ص ‪(25) 194‬‬ ‫‪) .‬الدلئل )‪(26)193 ،1/192‬‬ ‫‪ .‬رسورة الضحى ‪(27) 5 :‬‬ ‫‪ .‬رسورة الشعراء ‪(28) 219 ،218 :‬‬

‫‪.‬‬

‫رسورة التوبة ‪(29) 28 :‬‬

‫)‪ (30‬محمد المختار محمد المهدي )دكتور( )من فقه الدين الخالص ‪ ..‬محظورات القبر( مجلة‬ ‫التبيان عدد )‪ (90‬محرم ‪ 1433‬هـ‪/‬ديسمبر ‪، 2011‬ص ‪43‬ـ ‪.44‬‬ ‫‪ .‬عائشة عبد الرحمن ) دكتورة (أم النبي ص ‪ 215‬ـ ‪(31) 216‬‬ ‫‪ .‬محمد أبو زهرة )دكتور( ‪:‬خاتم النبيين صلى ا عليه ورسلم ص ‪(32 ) 127‬‬

‫‪31‬‬


‫الفصل الثاني‬

‫‪:‬ثويبة السلمية‬ ‫أم الرسول بالرضاع‬

‫في دنيا البشر كثيًرا ما نسمع أن هناك من اختاره ا عز وجل ليسعده؛‬ ‫فيسوقه حيث نعمة تصيبه‪ ،‬أو يسوقها إليه‪ ،‬أو يقصيه عن شر لو أصابه‬ ‫لتبدلت حياته تماًما‪ ،‬ومن أولكئك السعيدات‪" :‬ثويبة" مولة أبى لهب عم‬ ‫الرسول ـ صلى ا عليه وسلم ـ التى لم تحدث نفسها بالعتق يوًما‪ ،‬وربما‬ ‫حدثت نفسها أو حادثت غيرها عن هذا الحلم والمل المشروع‪ ،‬ولكنها كانت‬ ‫تراه مستحيلً فعليها أن تعيش جارية عند سيدها وتموت كذلك‪ ،‬كما أن‬ ‫عليها أن ترضى وتقنع بهذا‪ ،‬فهذا هو المعهود والمألوف‪.‬‬ ‫غيم الحزن الكثيف فوق ديار بني هاشم؛ فزهرة شباب قومه بل مكة‬ ‫بأسرها ومطمح فتياتها‪ ،‬مات شاًبا في مقتبل حياته الجديدة‪ ،‬غريًبا‪ ،‬بعيًدا‬ ‫عن الديار‪ ،‬وترك خلفه زوجة أسيفًة عليه‪ ،‬تهدمت أحلمها الوليدة في‬

‫‪32‬‬


‫دنياها الجديدة‪ ،‬وفي أحشاكئها يتحرك جنينها هو كل مايربطها بزوجها‬ ‫الراحل‪.‬‬ ‫تعلقت أنظار بنى هاشم وآمالهم بالبقية الباقية من عبدا الذبيح الثاني‬ ‫وأحب أولد عبد المطلب إلى قلبه‪ ،‬فظلوا يترقبون مولد ذلك الجنين بالشوق‬ ‫الممزوج بالصب‪ ،‬والمل المشوب بالخوف والحذر من تصاريف القدر‪،‬‬ ‫ليزيح بنور قدومه تلك الغيمة الرابضة فوق قلوبهم‪،‬وليبدد في جنبات مكة‬ ‫ذلك الحزن الجاثم فى نفوس القوم وأسمارهم‪.‬‬ ‫لم تكد تمر خمسون يوًما بعد محاولة أبرهة الشرم بأفياله على الكعبة‬ ‫المشرفة‪ ،‬والتي كان مصيرها الخسران المبين‪ ،‬وحديث مكة لم ينقطع عن‬ ‫سرد بطولة شيخ مكة وسيدها عبد المطلب ووقوفه أمام الطاغية المعتدي‬ ‫ذلك الحبشى أبرهة‪ ،‬وكانت تلك الفرحة الوحيدة التي أظلت الجميع وتوارى‬ ‫فيها على استحياء قصة وفاة عبدا الحزينة‪ ،‬بل ربما نسوا معها ولو قليلً‬ ‫ذلك الجنين الذى يواصل نموه حتى طرق أبواب الشهر السابع أو ربما‬ ‫تجاوزه‪ ،‬لكن آمنة ما كان لها أن تنسى وهى تحس بأن بشاكئر قدومه لدنياها‬ ‫تتوالى بل اقترب زمن تحققها‪ ،‬حتى جاء إلى الوجود ابن عبدا وهّي‬ ‫الفرحة الكبر التى انتظر الجميع حدوثها‪.‬‬ ‫سرى الخبر فى مكة سريًعا وكيف ل ينتشر وعبد المطلب فور ارسال‬ ‫آمنة إليه من يخبره بالحدث السعيد أتى إليها مهرولً فرًحا فحمل حفيده بين‬ ‫ذراعيه ومضى يطوف به الكعبة ثم عاد لينحر الذباكئح‪ ،‬ويطعم أهل الحرم‪.‬‬ ‫كما طارت ثويبة السلمية كالشعاع إلى سيدها أبي لهب عم الوليد‬ ‫الهاشمي تبشره بقدوم ابن أخيه إلى الدنيا فطار الرجل فرًحا هو الخر ولم‬ ‫يدر ما يفعل مع ثويبة مكافأًة لها على بشارتها الطيبة غير أن يكافكئها بعتقها‬ ‫لتصبح حرة‪ ،‬فكان هذا الوليد خيًراعليها فتمّلك حبه قلبها‪.‬‬ ‫انقطع اللبن في صدر آمنة ربما لشعورها بالحزن والقلق وعدم الرتيا ح‬ ‫النفسي كما توصف هذه الحال المراجع الطبية في عصرنا الراهن‪ ،‬فكان من‬

‫‪33‬‬


‫حظ ثويبة أن تتولى إرضاع وليد الخير حيث أرضعت قبله ـ صلى ا عليه‬ ‫وسلم ـ ابنها مسرو ح وعم الرسول حمزة بن عبد المطلب‪.‬‬ ‫والواقع يقول أنه ببشارة ثويبة لبي لهب وعتقه إياها جلبت الخير‬ ‫ضا؛ فقد قيل أن العباس بن عبد المطلب‬ ‫لنفسها كما جلبت الخير لسيدها أي ً‬ ‫رأى أخاه أبا لهب بعد موته بعام في النوم فقال له‪" :‬ما حالك ؟ فقال‪ :‬في‬ ‫النار‪ ،‬إل أن العذاب يخّفف عني كل أسبوع يوًما واحًدا وأمص من بين‬ ‫إصبعّي هاتين ماء ـ وأشار برأس إصبعه ـ وان ذلك اليوم هو يوم إعتاقي‬ ‫ثويبة عندما ب ّ‬ ‫شرتني بولدة النبي عليه الصلة والسلم"‪.‬‬ ‫أخبرنا محمد بن عمر عن معمر عن الزهري عن عروة بن الزبير أن‬ ‫ثويبة كان أبو لهب أعتقها فأرضعت رسول ا صلى ا عليه وسلم فلما‬ ‫مات أبو لهب رآه بعض أهله في النوم بشر حيبة‪ ،‬فقال‪ :‬ماذا لقيت قال أبو‬ ‫سقيت في هذه بعتاقي ثويبة وأشار إلى‬ ‫لهب‪ :‬لم نذق بعدكم رخاء غير أني ُ‬ ‫النقيرة التي بين البهام والتي تليها من الصابع"‪.‬‬ ‫لم تكن ثويبة تحلم بأكثر من العتق‪ ،‬ولم يدر بخلدها أنها برضعاتها التي‬ ‫استمرت ليام‪ ،‬ستجعل اسمها باقًيا يتردد في مجالس أهل العلم لمكئات‬ ‫السنين وإلى أن يرث ا الرض ومن عليها‪ ،‬فيختلفون في عتقها أكان في‬ ‫حال بشارتها‪ ،‬أم بعد هجرة الرسول ـ صلى ا عليه وسلم ـ إلى المدينة‪،‬‬ ‫وهل ببشارتها وبعتقها بحديث مرسل‪ ،‬خفف ا العذاب عن أبي لهب‪،‬‬ ‫والحديث المرسل ل تثبث به عبادة أو عقيدة‪ ،‬بالضافة لكونه أتى من رؤيا‬ ‫منام والشرع ل يثبت بالمنامات‪،‬وأن الكافر ليثبت له العمل الصالح إذا مات‬ ‫على كفره )‪،(1‬غير أن كل هذا ل يعنيها في شيء أكثر من فرحتها بفوزها‬ ‫باقتران اسمها باسم نبي ا عند ذكر أيامه الولى على الرض‪.‬‬ ‫ماتت آمنة بعد هذا بعامين ثم تولى كفالة الطفل جده ولما مات أوصى‬ ‫بكفالته لبنه أبي طالب وكبر في بيته‪ ،‬ثم تزوج من السيدة خديجة ـ رضي‬ ‫ا عنها وأرضاها ـ‪ ،‬وفي كل هذه المراحل الحياتية كان الرسول ا ـ صلى‬ ‫ا عليه وسلم ـ يصلها وهو بمكة وكانت خديجة تكرمها حتى بعد مبعثه‬ ‫بمكة نبًيا‪ ،‬فلما هاجر ـ صلى ا عليه وسلم ـ إلى المدينة كان يبعث إليها‬ ‫‪34‬‬


‫بصلة وكسوة حتى جاءه خبرها أنها قد توفيت سنة سبع من الهجرة بعد‬ ‫فتح خيبر‪ ،‬فقال ‪’’ :‬ما فعل ابنها مسرو ح؟’’‪ ،‬فقيل ‪ :‬مات قبلها ولم يبق من‬ ‫قرابتها أحد)‪.(2‬‬ ‫سأل عنها ـ صلى ا عليه وسلم ـ ووصلها سواء بمكة أو بالمدينة وهو‬ ‫بعيٌد عنها‪ ،‬وسواء كان قبل مبعثه أم بعده‪ ،‬كما سأل عمن خلفها من قومها‬ ‫ليصلهم‪ .‬هكذا خلقه ا ـ صلى ا عليه وسلم ـ وفًيا أشد ما يكون الوفاء مع‬ ‫كل من تعهده أو اتصل به سواء أكان عربًيا أم غير عربي‪ ،‬مؤمًنا أم كافًرا‪،‬‬ ‫رجلً كان أم امرأة‪ ،‬حًرا كان أم عبًدا‪ ،‬وكلما توغلنا فى سيرته من الن‬ ‫فصاعًدا ستتصاعد معنى قيمة وشيمة الوفاء في خلقه ـ صلى ا عليه وسلم‬ ‫ـ وسجاياه مهما كلفه المر من عنت أو بذل وجهد‪ ،‬ورحم ا أول مرضعة‬ ‫له غير أمه ثويبة السلمية فكانت أول أم له بالرضاع‪ ،‬أصابها منه الخير‬ ‫وليًدا ورجلً ونبًيا‪.‬‬

‫نساء فى حياة الرسول‬

‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ هامش الفصل‬

‫الثاني ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ السيد إبراهيم‬

‫)‪ (1‬أنظر‪:‬الحافظ ابن عبد البر في كتاب الرستيعاب )‪ ،(12/1‬ابن رسعد في الطبقات )‬ ‫‪ ،(108/1،109‬ابن الجوزي فيكتاب الوفا بأخبار المصطفى)‪.(178/1،179‬‬ ‫)‪(2‬طبقات ابن رسعد )‪ ،(108/1‬وتاريخ الرسلم للذهبي‪.‬‬

‫‪35‬‬


‫الفصل الثالث‬

‫‪36‬‬


‫بركة بنت ثعلب‬ ‫البقيـــــة ًمن آل النبي‬

‫بمجرد نطق اسمها )بركة( حتى تحس في نفسك ومن حولك بالبركة تعم‬ ‫المكان والزمان‪ ،‬وكيف ل وقد صاحبت من كان بركًة على أهله ومن حوله‬ ‫والناس أجمعين؛ فقد صاحبت رسول ا ـ صلى ا عليه وسلم ـ من قبل‬ ‫مولده وحتى بعد أن ُوةِلد إلى أن توفاه ا ـ صلى ا عليه وسلم ـ‪ ،‬شاركته‬ ‫أفراحه وأحزانه‪ ،‬غدواته وروحاته‪ ،‬وحتى غزواته كانت معه وحوله‪ ،‬أحبته‬ ‫بالقول‪ ،‬وأحبته بالفعل فصدقت في الثنين‪.‬‬ ‫إنها بركة بنت ثعلبة بن عمرو بن حصن بن مالك بن سلمة بن عمر ابن‬ ‫النعمان الحبشية جارية عبد ا بن عبد المطلب والد الرسول ـ صلى ا‬ ‫عليه وسلم ـ الذي مات بالمدينة وولده جنيًنا لم يمر عليه في أحشاء أمه‬ ‫سوى شهرين‪ ،‬فآلت ميراًثا إلى ابنه محمد ـ صلى ا عليه وسلم ـ ‪.‬‬ ‫صاحبت بركة آمنة أم النبي ـ صلى ا عليه وسلم ـ فرحتها بزواجها من‬ ‫ذبيح مكة ابن عبد المطلب‪ ،‬كما صاحبتها قلقها على غيابه وترقب عودته‪،‬‬ ‫‪37‬‬


‫حتى فاجأهم الحزن الثقيل بنبأ وفاته غريًبا بعيًدا بيثرب التي تبعد عنهم فوق‬ ‫الخمسماكئة من الكيلو مترات‪ ،‬وكذلك صاحبتها رحلتها الخيرة من مكة إلى‬ ‫المدينة بعد أن بلغ الطفل أعوامه الستة وأدرك أن له والًدا توفى يافًعا لم‬ ‫يره‪ ،‬وكانت بحق رحلة آمنة الخيرة في الحياة لتبدأ بعدها رحلتها الولى‬ ‫إلى الخرة‪ ،‬وذلك بعد عودتهم من المدينة في منطقة الْبَواء بين مكة‬ ‫والمدينة‪.‬‬ ‫بدأت من الْبَواء رحلة بركة مع الرسول ـ صلى ا عليه وسلم ـ‬ ‫فاحتضنته بعد أن روعه فقد أمه الشابة التى ذبلت وراحت نضارتها سراًعا‬ ‫أمامه حتى طواها الثرى‪ ،‬ليمضي بعدها ميمًما وجهه ووجهته حيث مكة وقد‬ ‫خلت حياته من أهم رفيقين لكل إنسان‪ ،‬وكان من لطف ا به أن هيأ له‬ ‫رفيقا ً في هذه اللحظة معيًنا وواسًيا وحاضًنا‪ ،‬فبددت عنه الجزع والوحشة‬ ‫والحزن وهى مشاعر قاتلة للرجل الشديد الناضج من الرجال‪ ،‬فما بالنا بطفل‬ ‫لم يبرأ بعد من ألم ولوعة وقوفه بقبر أبيه‪ ،‬وفقده إلى البد‪ ،‬وربما في‬ ‫أعماقه شكر القدر أن ترك له أّما ً ثم إذا به يفاجيء برحيلها على بعد كيلوات‬ ‫من قبر أبيه‪ ،‬فأي دور وجهد صعب وأى مهمة تلك التي قامت بها بركة‬ ‫لتهّوَن على طفل هذا حاله المسافة الطويلة الباقية حتى يبلغا مشارف مكة‪.‬‬ ‫احتضن الطفل اليتيم جده عبد المطلب الذي رق له وقدمه على أولده‬ ‫ليهّوَن عليه آلم فقد أبويه‪ ،‬ولم يكن من في الدار غرباء عليه فهالُة زوج‬ ‫جده بنت عم أمه الراحلة‪ ،‬وأعمامه حمزة والعباس‪ ،‬وكانت هالة تحوطه‬ ‫بالكثير من الرعاية سواء كان ذلك بدافع منها أْم بتوصي ٍة من عبد المطلب‬ ‫ذاته‪ ،‬الذي كان رغم هيبته ووقاره ل يجلس على فراشه أحد من أبناكئه‬ ‫مهابًة له وتوقيًرا إل حفيده محمد‪ ،‬فقد كان يجلسه على فراشه حًبا فيه‪،‬‬ ‫وحدًبا عليه‪ ،‬ولطالما حاول أعمامه أن يؤخروه عن الفراش‪ ،‬فينهاهم عبد‬ ‫المطلب قاكئ ً‬ ‫ل‪" :‬دعوا ابني هذا‪ ،‬فوا إن له لشأًنا" ‪ .‬ولم تكن بركة غاكئبة‬ ‫عن المشهد فقد كانت بجواره داكئًما تخدمه وتواسيه‪ ،‬وكان جده داكئًما ما‬ ‫يوصيها به عندما يغيب عنهم في أعماله ويشّدُد عليها في العتناء به‬ ‫وحسن رعايته‪ ،‬والحق أن بركة لم تكن في حاجة لمن يوصيها به فهو‬ ‫ابنها التي لم تلده ولما ل فقد كان يناديها بكل حب البن‪’’ :‬يا أّمه’’‪ ،‬وكانت‬ ‫تجيبه وتهرع إليه بكل حنان واشفاق الم‪.‬‬ ‫‪38‬‬


‫ظن الحفيد محمًدا أن شبح الموت بعيًدا عن دار جده وكانت بركة‬ ‫وأعمامه داكئًما ما يسرقونه من أحزانه وذكريات يثرب الليمة ورحلة العودة‬ ‫المريرة منها غير أنه لثماني سنوات وشهرين من عمره ـ صلى ا عليه‬ ‫وسلم ـ داهم الموت جده عبد المطلب بمكة‪ ،‬ورأي قبل وفاته أن يعهد بكفالة‬ ‫حفيده إلى عمه أبي طالب دون غيره من العمام مع كونهم أيسر منه حالً‬ ‫وذلك لنه كان شقيًقا لعبدا والد الرسول ـ صلى ا عليه وسلم ـ؛ إذ أمهما‬ ‫فاطمة بنت عمر بن عاكئذ‪ ،‬إلى كونه القاكئم مقام المطلب في قريش‪.‬‬ ‫مضت اليام في بيت العم والطفل صار صبًيا يرعى الغنم‪ ،‬ثم عرف‬ ‫التجارة وأجادها‪ ،‬وها نحن معه في بيته مع السيدة خديجة ـ رضي ا عنها‬ ‫ـ التى أصبحت زوًجا له‪ ،‬ولم يرض أن تظل بركة جاريًة له وكيف وهو الذي‬ ‫يقول عنها ‪’’ :‬إنها أمى من بعد أمى’’ فأعتقها في يوم زواجه لتحس معه‬ ‫بالفرحة وتكون حاضرًة بوصفها أّ​ّمه بحق وهي حرة مختارة‪ ،‬ورأت خديجة‬ ‫حب زوجها لبركة فأكرمتها بل تكفلت بتجهيزها عندما تقدم إليها عبيد بن‬ ‫زيد من بني الحارث بن الخزرج الذي قدم مكة وأقام بها‪ ،‬فولدت له أيمن‪،‬‬ ‫ثم مات عنها‪ ،‬فرجعت إلى مكة‪.‬‬ ‫دخل السلم دار خديجة فأسلمت وأسلمت معها أم أيمن ـ رضي ا عنها‬ ‫ـ في أول العهد بالسلم مع من أسلم من بيت النبي ـ صلى ا عليه و سلم ـ‬ ‫فكانت من السابقين الولين وقد كانت ـ رضي ا عنها ـ من الذين هاجروا‬ ‫الهجرتين إلى الحبشة و إلى المدينة بعد ذلك‪.‬‬ ‫ومن المؤكد أنها هاجرت إلى المدينة غير أن الحافظ قال‪" :‬إّنها لم تهاجر‬ ‫إلى الحبشة‪ ،‬ماتت في أول خلفة عثمان وهي غير بركة أم أيمن الحبشية‪،‬‬ ‫التي كانت مع أم حبيبة بالحبشة"‪.‬‬ ‫فبركة الحبشية التى كانت مع السيدة أم حبيبة كانت تكنى أم يوسف‪،‬‬ ‫وفي كون أم أيمن هاجرت إلى أرض الحبشة قول فيه نظر فإنها كانت تخدم‬ ‫النبي ـ صلى ا عليه وسلم ـ وزوجها موله زيد بن حارثة والثابت أن زيًدا‬ ‫لم يهاجر إلى الحبشة ول أحد ممن كان يخدم النبي ـ صلى ا عليه وسلم ـ‬ ‫إذ ذاك فظهر أن هذه الحبشية غير أم أيمن وإن وافقتها في السم‪ ،‬قال‬ ‫البي فى السيرة الحلبية‪" :‬والمعروف أن الحبشية إنما هي بركة أخرى‬ ‫‪39‬‬


‫جارية أم حبيبة‪ ،‬قدمت معها من الحبشة‪ ،‬وكانت تكنى أم يوسف‪ ،‬كانت تخدم‬ ‫النبي أي وهي التي شربت بوله")‪.(1‬‬ ‫ولم يذكر أحد من العلماء أن بركة أم أيمن خادمة النبى ـ صلى ا عليه‬ ‫وسلم ـ هاجرت إلى الحبشة سوى ابن عبد البر وتبعه في ذلك ابن الثير‪،‬‬ ‫والقول في ذلك مع ابن حجر)‪.(2‬‬ ‫وهذا ما يؤكده عبد الرحمن كيلني ) ‪ : (3‬في رده على الكاتب السراكئيلي‬ ‫أرليتش هاغاي الذي تناول حدث هجرة المسلمين إلى الحبشة في كتابه ‪:‬‬ ‫"أثيوبيا والشرق الوسط"‪ ،‬فقال كيلني ‪) :‬لقد احتوى الفصل الول من‬ ‫كتاب إرليتش عدة أخطاء دينية وتاريخية ـ ول عجب!! فعلى سبيل المثال‬ ‫يدعى المؤلف أن أم أيمن ـ رضى ا عنها ـ وقد كانت أمة حبشية أعتقها‬ ‫النبى ـ صلى ا عليه وسلم ـ‪ ،‬كانت من ضمن الذين هاجروا إلى الحبشة في‬ ‫الدفعة الولى‪ ،‬ولم يأت المؤلف بدليل على زعمه هذا‪ .‬ومحمد بن إسحاق‬ ‫وغيره لم يدرجوها بين أسماء الذين هاجروا إلى الحبشة(‪.‬‬ ‫والمعلوم أن الذين هاجروا إلى الحبشة كانوا من القرشيين‪ ،‬ولن يجد‬ ‫من أراد أن يستقصي أسماء من هاجروا من الصحابة اسم أحد من الموالي‬ ‫مع أنهم كانوا أصحاب الحظ الوفر من التنكيل والتعذيب أكثر مما نال‬ ‫غيرهم ممن هم من أصحاب المنعة والنسب والمكانة في قريش‪.‬‬ ‫نخلص مما تقدم أن أم أيمن لزمت الرسول ـ صلى ا عليه وسلم ـ طيلة‬ ‫حياته‪ ،‬ولم تفارقه إل حين سبق ـ صلى ا عليه وسلم ـ بناته وزوجه‬ ‫سودة بنت زمعة إلى المدينة مهاجًرا‪ ،‬وأما فراقها له بعد زواجها فما كان‬ ‫ليدعها تنتقل إلى بيت الزوجية دون زيارتها‪ ،‬يدل على هذا ما رواه أنس بن‬ ‫مالك رضي ا عنه فيقول ‪ :‬ذهبت مع النبي صلى ا عليه و سلم الى أم‬ ‫أيمن نزورها فقربت له طعاًما أو شراًبا فإما كان صاكئًما و إما لم يرده‬ ‫فجعلت تخاصمه أي ُكلْ"‪.‬‬ ‫و في غير رواية مسلم‪ :‬فأقبلت تضاحكه و كان الرسول ـ صلى ا عليه‬ ‫ش لها‪.‬‬ ‫و سلم ـ يبتسم لتصرفاتها ويه ُ‬

‫‪40‬‬


‫حتى بعد زواجه من السيدة عاكئشة لم ينقطع عنها ولم تنقطع عنه ـ صلى‬ ‫ا عليه و سلم ـ وذلك فيما روته السيدة عاكئشة أم المؤمنين رضي ا‬ ‫عنها ‪ :‬شرب رسول ا صلى ا عليه و سلم يوًما و أم أيمن عنده فقالت ‪:‬‬ ‫يا رسول ا اسقني‪ ،‬فقلت لها ‪ :‬ألرسول ا صلى ا عليه و سلم تقولين‬ ‫هذا؟‪ ،‬قالت‪ :‬ما خدمته أكثر‪ ،‬فقال النبي صلى ا عليه و سلم ‪’’ :‬صدقت’’‬ ‫فسقاها‪.‬‬ ‫وهذا ول شك ينبكئنا عن مدى تلك الحميمية بين الرسول ـ صلى ا عليه‬ ‫و سلم ـ وبين حاضنته وأمه فيما كان يحب أن يناديها‪ ،‬وكانت تعلم هى مالها‬ ‫من مكانة في قلب رسول ا ـ صلى ا عليه و سلم ـ تسمح لها بأن‬ ‫تضاحكه وتمازحه‪ ،‬وتعلم بأنه لن يردها أو يعبس في وجهها‪ ،‬حتى أنها‬ ‫جاءت يوًما إلى رسول ا ـ صلى ا عليه و سلم ـ و قالت له ‪ :‬يا رسول‬ ‫ا احملني‪ ،‬فقال صلى ا عليه و سلم ‪’’ :‬أحملك على ولد الناقة’’‪ ،‬قالت ‪:‬‬ ‫إنه ل يطيقني ول أريده‪ ،‬فقال صلى ا عليه و سلم ‪’’ :‬ل أحملك إل‬ ‫عليه’’ ‪ .‬وقد كان الرسول ـ صلى ا عليه و سلم ـ يمازحها صادقًا حيث أن‬ ‫كل البل صغيرها وكبيرها ولد النوق‪.‬‬ ‫ي‬ ‫وما يدل على أنه ـ صلى ا عليه و سلم ـ ما كان يغضبها أبًدا مارو ّ‬ ‫عن أنس رضي ا عنه قال ‪ :‬كان الرجل يجعل للنبي ـ صلى ا عليه و‬ ‫سلم ـ النخلت‪ ،‬حتى افتتح قريظة والنضير‪ ،‬وإن أهلي أمروني أن آتي النبي‬ ‫ـ صلى ا عليه و سلم ـ فأسأله الذي كانوا أعطوه أو بعضه‪ ،‬وكان النبي ـ‬ ‫صلى ا عليه و سلم ـ قد أعطاه أم أيمن‪ ،‬فجاءت أم أيمن فجعلت الثوب في‬ ‫عنقي كذا‪ ،‬وتقول ‪ :‬كل وا‪ ،‬حتى أعطاها عشرة أمثاله)‪.(4‬‬ ‫ومما يستدل به من شر ح النووي أن أم أيمن فهمت أن هبة رسول ا ـ‬ ‫صلى ا عليه و سلم ـ لها مؤبدة فتملك بها أصل الرقبة أي النخلت‪ .‬فما‬ ‫كان من النبى ـ صلى ا عليه و سلم ـ إل أن استطاب قلبها فى استرداد ذلك‬ ‫فما زال يزيدها في العوض حتى رضيت‪ ،‬وكل هذا تبرع منه ـ صلى ا عليه‬ ‫و سلم ـ‪ ،‬وإكرام لها لما لها من حق الحضانة والتربية)‪ ،(5‬وفرط جود النبي‬ ‫ـ صلى ا عليه و سلم ـ‪ ،‬وكثرة حلمه وبره‪ ،‬ومنـزلة أم أيمن عند النبي ـ‬ ‫صلى ا عليه و سلم ـ كما قال الحافظ ابن حجر)‪.(6‬‬

‫‪41‬‬


‫لم يثق رسول ا ـ صلى ا عليه وسلم ـ بأحد قدر وثوقه في أمانة أم‬ ‫أيمن على الوداكئع التى استودعها عنده بعض أهل مكة‪ ،‬فقام بإعطاء الوداكئع‬ ‫لها‪ ،‬وأمر علًيا أن يرد هذه الوداكئع إلى أهلها)‪ ،(7‬وذلك قبيل خروجه إلى‬ ‫المدينة مهاجًرا‪ .‬فلما وصل الرسول ـ صلى ا عليه و سلم ـ وصاحبه إلى‬ ‫المدينة في اليوم الثاني عشر من ربيع الول من السنة الولى للهجرة‪ ،‬أقام‬ ‫بقباء أربعة أيام‪ ،‬وأسس فيها مسجًدا‪ ،‬ثم توجه إلى المدينة‪ ،‬وأدركته‬ ‫الجمعة في بني سالم بن عوف‪ ،‬فجمع بمن معه في المسجد الذي في بطن‬ ‫الوادي‪ ،‬ثم نزل ـ صلى ا عليه وسلم ـ في دار أبي أيوب النصاري‪ ،‬حتى‬ ‫تم النتهاء من بناء المسجد وغرف زوجاته‪.‬‬ ‫روى هشام بن عروة‪ ،‬عن أبيه‪ ،‬عن عاكئشة قالت‪ :‬لما هاجر‬ ‫رسول ا صّلى ا عليه وسّلم خّلفنا وخلف بناته‪ ،‬فلما استقّر بعث‬ ‫زيد بن حارثة‪ ،‬وبعث معه أبا رافع موله‪ ،‬وأعطاهما بعيرين‬ ‫وخمسماكئة درهم يشتريان بها ما يحتاجان إليه من الّظهر‪ ،‬وبعث‬ ‫أبو بكر معهما َعْبد ا بن أَريقط ببعيرين أو ثلثة‪ ،‬وكتب إلى ابنه‬ ‫َعْبد ا بن أبي بكر أن يحمل أمي أم رومان وأنا وأختي أَْسَماء‪،‬‬ ‫فخرجوا مصطحبين‪ ،‬وكان طلحة يريد الهجرة فسار معهم‪ ،‬وخرج‬ ‫زيد وأبو رافع بفاةِطَمة وأم ُكْلُثوم وسودة ةِبْنت زمعة‪ ،‬زوج الّنةِبّي‬ ‫صّلى ا عليه وسّلم ‪ ،‬وأم أيمن‪ ،‬فقدمنا المدينة و الّنةِبّي صّلى ا‬ ‫عليه وسّلم يبني مسجده وأبياتا ً حول المسجد‪ ،‬فأنزل فيها أهله ) ‪.(8‬‬ ‫وأخرج الطبراني من وجه آخر عن عاكئشة قالت ‪" :‬لما هاجر رسول‬ ‫ا صلى ا عليه وسلم وأبو بكر خلفنا بمكة فلما استقر بالمدينة‬ ‫بعث زيد بن حارثة وأبا رافع‪ ،‬وبعث أبو بكر عبد ا بن أريقط‬ ‫وكتب إلى عبد ا بن أبي بكر أن يحمل معه أم رومان وأم أبي‬ ‫بكر وأنا وأختي أسماء‪ ،‬فخرج بنا وخرج زيد وأبو رافع بفاطمة وأم‬ ‫‪42‬‬


‫كلثوم وسودة بنت زمعة‪ ،‬وأخذ زيد امرأته أم أيمن وولديها أيمن‬ ‫وأسامة‪ ،‬واصطحبنا‪ ،‬حتى قدمنا المدينة فنزلت في عيال أبى بكر‪،‬‬ ‫ونزل آل النبي صلى ا عليه وسلم‪ :‬عنده‪ ،‬وهو يومكئذ يبني المسجد‬ ‫وبيوته‪ ،‬فأدخل سودة بنت زمعة أحد تلك البيوت‪ ،‬وكان يكون‬ ‫عندها‪ ،‬فقال له أبو بكر ‪:‬ما يمنعك أن تبنى بأهلك؟ فبني بي "‬ ‫الحديث )‪.(9‬‬ ‫وفي الحديثين المتقدمين ذكرت السيدة عاكئشة من هاجر معها أو من‬ ‫هاجرت معهن وفيمن هاجر معها أم أيمن في الحديث الول وفي الحديث‬ ‫صَلْت فألحقت بأم أيمن ولديها أيمن وأسامة‪ ،‬وغنٌي عن الذكر أن‬ ‫الثاني َف ّ‬ ‫زيد بن حارثة زوج أم أيمن ُمرسل ٌ بتكليف من رسول ا ـ صلى ا عليه‬ ‫وسلم ـ بإحضار أهل بيته ‪ ..‬فهل يعقل أن يخالف زيًدا التكليف النبوي؟! وهل‬ ‫سيتخلى عن مروءته ويترك أم ابنه لتهاجر وحدها؟! وما هى الضرورة؟ ‪..‬‬ ‫بل المذكور في الحديثين أن المهاجرات الطاهرات ـ رضوان ا عليهن ـ‬ ‫بدأن الرحلة مًعا وأنهينها مًعا‪ ،‬أما ما ورد في حديث جرير بن حازم ‪ :‬حدثنا‬ ‫عثمان بن القاسم‪ ،‬قال ‪" :‬لما هاجرت أم أيمن أمست بالمنصرف دون‬ ‫الروحاء ‪ ،‬فعطشت وليس معها ماء وهي صاكئمة‪ ،‬وجهدت‪ ،‬فدلي عليها من‬ ‫السماء دلو من ماء برشاء أبيض‪ ،‬فشربت‪ ،‬وكانت تقول‪ :‬ما أصابني بعد‬ ‫ذلك عطش‪ ،‬ولقد تعرضت للعطش بالصوم في الهواجر فما عطش ُ‬ ‫ت)‪،(10‬‬ ‫فيوؤل أن أم أيمن ـ ربما ـ ضلت الطريق عن الركب حال التوقف‪ ،‬ثم عادت‬ ‫وانضمت إليهم ثانية ً‪ ،‬وذلك لنها لم تصل المدينة وحدها‪.‬‬ ‫والروحاء ـ المشار إليها فى حديث عثمان ـ بينها وبين المدينة مرحلتان‪،‬‬ ‫وفي صحيح مسلم‪ :‬بينهما ستة وثلثون ميلً‪ ،‬أى ما يعادل السبعين كيلو‬ ‫متر)‪ ،(11‬وهذا ما ينفي خروجها وحدها من مكة‪.‬‬ ‫وإذا احتج أحٌد بأن أم أيمن لم تكن وحدها التي هاجرت من‬ ‫مكة إلى المدينة وحدها فقد صنع نفس الصنيع كلً من أم سلمة وأم‬ ‫‪43‬‬


‫كلثوم بنت عقبة‪ ،‬قلنا أن لك ٍل من الصحابيتين الجليلتين ضرورة‬ ‫ُملحة في الخروج وهّي منتفية عند أم أيمن‪ ،‬فأم سلمة سبقها‬ ‫زوجها بالهجرة واحتبسها قومها وابنها عنه فأرادت اللحاق به‪ ،‬وأم‬ ‫كلثوم عزمت على الفرار بدينها خوًفا من الفتنة على دينها‪ ،‬وقومها‬ ‫أهل ُ شر ٍك عتيد‪ ،‬ثم أن كلً منهما لم تهاجرا وحدهما‪ ،‬فالولى لقيت‬ ‫بالتنعيم عثمان بن طلحة أخا بني عبد الدار فأخذ بخطام البعير‪ ،‬حتى‬ ‫أوصلها إلى قرية بني عمرو بن عوف بقباء وفيها زوجها‪ ،‬والثانية‬ ‫من نفس المكان )التنعيم( التقاها رجل ٌ من ُخزاعة فاطمأن ُ‬ ‫ت إليه‬ ‫لدخول )خزاعة( في عهد رسول ا‪ -‬صلى ا عليه وسلم‪ -‬وَعقده‪،‬‬ ‫فأوصلها للمدينة‬ ‫والملحظ أن كل من الرجلين كانا على خل ٍق قويم التزما بآداب الصحبة‬ ‫والنخوة والمروءة العربية رغم كفر عثمان وإيمان الخزاعي‪ ،‬ولم تمش كلً‬ ‫من المرأتين المسافة كلها من مكة إلى المدينة؛ فالتنعيم يبعد عن مكة ـ‬ ‫بداية هجرتهما ـ ستة كيلو مترات‪ ،‬فما بالنا بامرأة معها طفليها وزوجها‬ ‫المكلف بإحضارها ومن يضمهّن بيت النبوة ‪ ..‬أكان تاركها‪ ،‬ولو تركها‬ ‫لظروف ل نعلمها‪ ،‬أيتركها بل راحلة ول زاد؟!‬ ‫ول أدري أي صوم صامته أم أيمن وهَي في طريق هجرتها‪ ،‬إذ الصوم‬ ‫فرضه ا تعالى في السنة الثانية من الهجرة‪ ،‬وكما قال النووي ‪" :‬صام‬ ‫رسول ا صلى ا عليه وسلم رمضان تسع سنين‪ ،‬لنه فرض في شعبان‬ ‫في السنة الثانية من الهجرة وتوفي النبي صلى ا عليه وسلم في شهر‬ ‫ربيع الول سنة إحدى عشرة من الهجرة" )‪.(12‬‬ ‫لم يمتد ُحب الرسول ـ صلى ا عليه وسلم ـ ليسع أم أيمن‬ ‫فقط وزوجها زيد بل وسع حتى ولديهما أيمن وأسامة؛ فكان داكئًما‬

‫‪44‬‬


‫مايضمهما مع الحسن والحسين في المناسبات كالعيدين‪ ،‬وذلك فيما‬ ‫رواه البيهقي عن عبد ا بن عمر‪":‬أن رسول ا صلى ا عليه‬ ‫وسلم كان يخرج في العيدين مع الفضل بن عباس وعبد ا‬ ‫والعباس وعلي وجعفر والحسن والحسين وأسامة بن زيد وزيد بن‬ ‫حارثة وأيمن بن أم أيمن ـ رضي ا عنهم ـ‪،‬رافًعا صوته بالتهليل‬ ‫والتكبير‪ ،‬فيأخذ طريق الحذاكئين حتى يأتي المصلى‪ ،‬وإذا فرغ رجع‬ ‫على الحذاكئين حتى يأتي منزله")‪.(13‬‬ ‫كانت أم أيمن داكئًما بجواره ـ صلى ا عليه وسلم ـ وخلفه في السراء‬ ‫والضراء‪ ،‬أحبته حب البن‪ ،‬بل أكثر من ذلك بكثير؛ فهّي التى تولت ُغسل‬ ‫السيدة خديجة ـ رضّي ا عنها ـ ومعها أم الفضل لبابة زوج عمه العباس‪،‬‬ ‫كما عاشت مع بنتيه أم كلثوم وفاطمة بعد وفاة أمهما كالم لهما‪ ،‬حتى بعد‬ ‫أن ضم إليهما الرسول ـ صلى ا عليه وسلم ـ السيدة سودة بنت زمعة‪،‬‬ ‫وحين تزوجت فاطمة كانت ممن جهزها لعريسها وهي التي أنبأتنا عن جهاز‬ ‫الزهراء حين قالت‪" :‬وّليت جهازها‪ ،‬فكان فيما جهزتها به مرفقة من أدم ـ‬ ‫من جلد ـ حشوها ليف وبطحاء مفروش في بيتها"‪.‬‬ ‫ولما انتقلت السيدة زينب بنت النبي ـ صلى ا عليه وسلم ـ إلى جوار‬ ‫ربها كانت أم أيمن ممن غسلنها‪ ،‬ومعها السيدة سودة بنت زمعة‪ ،‬والسيدة‬ ‫أم سلمة رضوان ا عليهن جميًعا‪.‬‬ ‫وحين لكت بعض اللسن سيرة السيدة عاكئشة ـ رضوان ا عليها ـ في‬ ‫حادثة الفك‪ ،‬لم يجد الرسول ـ صلى ا عليه وسلم ـ صدًرا أحن وأحفظ من‬ ‫صدر أمه وبقية أهله‪ ،‬وفعل كما يفعل البن حين يضيق صدره ويريد أن‬ ‫يفّرج عن نفسه بما يعتمل داخله فكانت أم أيمن ملذه المن الحنون‪،‬‬ ‫فطمأنته وصدقته الحديث حين سألها صلى ا عليه و سلم ‪’’:‬أي امرأة‬ ‫تعلمين عاكئشة؟’’‪ ،‬قالت ‪" :‬حاشا سمعي و بصري أن أكون علمت أو ظننت‬ ‫بها إل خيرا"‪.‬‬ ‫‪45‬‬


‫ومثلما أضحكت رسول ا ـ صلى ا عليه وسلم ـ ‪ ،‬وأضحكها‬ ‫وضحكت معه‪ ،‬مثلما هزها بكاؤه فبكت معه ‪ ،‬فعن ابن عباس ـ رضي ا‬ ‫عنهما ـ قال أخذ رسول ا ـ صلى ا عليه وسلم ـ ابنة له تقضي فاحتضنها‬ ‫فوضعها بين يديه ‪ ،‬فماتت وهي بين يديه‪ ،‬وصاحت أم أيمن‪ ،‬فقال النبي‬ ‫صلى ا عليه وسلم‪’’:‬أتبكين عند رسول ا؟!’’ ‪ ،‬فقالت ‪ :‬ألس ُ‬ ‫ت أراك‬ ‫تبكي؟‪ ،‬قال ‪’’ :‬إني لست أبكي‪ ،‬إنما هي رحمة‪ ،‬إن المؤمن بكل خير على كل‬ ‫حال‪ ،‬إن نفسه تنزع من بين جنبيه وهو يحمد ا عز وجل’’)‪.(14‬‬ ‫هكذا كانت أم أيمن ـ رضى ا عنها ـ مع رسول ا ـ صلى ا عليه‬ ‫وسلم ـ بقلبها وعينيها؛ فلم تتخلف عن السير معه في بعض غزواته‪ ،‬ولم‬ ‫تكن تمنع ابنها الول أيمن عن الجهاد‪ ،‬ولم تمنع ابنها الثاني أسامه عنه‬ ‫مخافة القتل والفقد خاصة وقد استشهد الول منهما‪ ،‬كانت لتحب الفرار‬ ‫وتشد حملًة شعواء على من يفعل ذلك من جند المسلمين ـ وقليلً ما فعلوا ـ‬ ‫ولكن يوم أحد يشهد لها وذلك عندما خالف الّرماة أمر رسول ا ـ صلى ا‬ ‫عليه وسلم ـ واستطاع المشركون أن يقتلوا عدًدا كبيًرا من الصحابة ـ رضَي‬ ‫ا عنهم ـ وانهزم البعض الخر فقامت تحثي في وجوههم التراب وتقول‬ ‫لبعضهم‪" :‬هاك المغزل فاغزل به‪ ،‬وهلم سيفك" ‪ ..‬ثم اتجهت نحو رسول ا‬ ‫ـ صلى ا عليه وسلم ـ تستطلع أخباره في نسوة معها حتى اطمأنت على‬ ‫سلمته‪ ،‬وكان هذا دأبها فرغم تقدم السن بها لم تتخلف عن الخروج في‬ ‫غزوة خيبر‪ ،‬ولما علمت بتخلف أيمن ابنها عن تلك الغزوة وبخته وعيرته‬ ‫بالجبن والبخل‪ ،‬ولم تكن تعلم بمرض فرسه الذى كان سبًبا في منعه من‬ ‫الخروج مع رسول ا ـ صلى ا عليه وسلم ـ‪.‬‬ ‫الصابرة المحتسبة عند ربها زوجها زيد بن حارثة في سرية مؤتة‪،‬‬ ‫ثم جاء امتحان صبرها الكبر في استشهاد ابنها أيمن في غزوة حنين‪ ،‬ثم‬ ‫قصم ظهرها وناءت عن حمله فقدها لرسول ا ـ صلى ا عليه وسلم ـ‬ ‫ابنها الول‪ ،‬وحبها الكبر‪ ،‬والثير لديها‪ ،‬فبكته وبكته حتى أبكت من حولها‬ ‫حين قالت)‪:(15‬‬

‫‪46‬‬


‫ميتًـا كان ذاك كل البـــلء‬ ‫حين قالوا الرسول أمسى فقيـًدا‬ ‫وابكيا خير من رزكئناه في الدنيـا ومن خصه بوحــي السماء‬ ‫يقضي ا فيك خيـر القضـاء‬ ‫بدموع غزيــــرة منـك حتـى‬ ‫عن أنس رضى ا عنه قال ‪ :‬قال أبو بكر رضى ا عنه بعد وفاة رسول‬ ‫ا صّلى ا عليه وسّلم لعمر‪ :‬انطلق بنا إلى أم أيـمن نزورها كما كان‬ ‫رسول ا صّلى ا عليه وسّلم يزورها‪ ،‬فلما انتهينا إليها بكت ‪ ،‬فقال لها ‪:‬‬ ‫ما يبكيك ما عند ا خير لرسوله صّلى ا عليه وسّلم‪ ،‬فقالت ‪ :‬ما أبكي أن‬ ‫ل أكون أعلم أن ما عند ا خير لرسوله صّلى ا عليه وسّلم ولكن أبكي أن‬ ‫الوحي قد انقطع من السماء‪ ،‬فهيجتهما على البكاء فجعل يبكيان معها)‪.(16‬‬ ‫إنها )بركة( التي بارك ا في عمرها‪ ،‬لتنعم بالقرب من رسول ا ـ‬ ‫صلى ا عليه وسلم ـ ومعايشته بما لم تحظ به أمه التي أنجبته ‪..‬‬ ‫)بركة( الشاهد على ميلد وحياة الرسول ـ صلى ا عليه وسلم ـ‬ ‫بأفراحها وأحزانها‪ ،‬ودقاكئق أسرارها‪ ،‬كما كانت الشاهد على وفاته ـ صلى‬ ‫ا عليه وسلم ـ لتلحق به في خلفة عثمان ـ رضَي ا عنه وعنها ـ في‬ ‫أرجح القوال‪.‬‬

‫‪47‬‬


‫نساء فى حياة الرسول‬

‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ هامش الفصل‬

‫الثالث ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ السيد إبراهيم‬

‫‪.‬درارسة نقدية ‪ :‬هجرة المرسلمين إلى الحبشة ‪ ،‬هامش ص ‪(1) : 11‬‬ ‫‪) .‬الحافظ بن حجر ‪ :‬الصابة فى تمييز الصحابة ) ‪(2) 37 / 7‬‬ ‫عيرسى مصبح خلف ‪) :‬تعقبات الحافظ بن حجر فى كتابه الصابة على الحافظ ابن عبد البر فى )‪(3‬‬ ‫‪ ).‬الرستيعاب ‪ ،‬ص ‪104‬‬ ‫)‪] (4‬أخرجه البخاري برقم )‪ ، (4120‬ومرسلم برقم )‪. [(1771‬‬ ‫)‪ ] (5‬شرح النووي )‪. [(6/97‬‬ ‫)‪ ](6‬فتح الباري )‪. [ (7/475‬‬ ‫)‪ (7‬الحافظ إبن حجر رحمة ا في التلخيص الحبير) ‪.( - 1457 450‬‬ ‫)‪ ( 8‬ابن حجر ‪ ،‬فتح الباري شرح صحيح البخاري ‪ ،‬كتاب مناقب النصار « باب هجرة النبي‬ ‫صلى ا عليه ورسلم وأصحابه إلى المدينة ‪،‬المرستدرك على الصحيحين ] ‪. [ 6716‬‬ ‫ب ‪،‬باب َتْزِويِج الّنِب ِّي‬ ‫) ‪ (9‬ابن حجر ‪ ،‬فتح الباري شرح صحيح البخارى بقية ِكَتاب اْلَمَناِق ِ‬ ‫صّلى ّ‬ ‫اِنُ َعَلْيِه َوَرسلَّم َعاِئَشَة َوقِنُِنُدوِمَها اْلَمِديَنَة َوِبَناِئِه ِبَها ‪.‬‬ ‫َ‬ ‫‪.‬الصابة ‪ 77 / 4‬ودلئل النبوة )‪ ( 2372‬حرسن لغيره)‪(10‬‬ ‫صحيح البخاري « كتاب الصلة « أبواب ارستقبال القبلة « باب المرساجد التي على طرق)‪(11‬‬ ‫‪ .‬المدينة والمواضع التي صلى فيها النبي صلى ا عليه ورسلم‬ ‫)النووي ‪" ،‬المجموع" )‪(12) 6/250‬‬ ‫) ‪(13‬ورسنده حرسن كما قال العلمة اللباني في الرسلرسلة الصحيحة ‪1/279‬‬ ‫قال الشيخ اللباني في مختصر الشمائل المحمدية صـ ‪ :171‬أخرجه الّنرسائي في الجنائز)‪(14‬‬ ‫\باب في البكاء على الميت ‪11\4‬‬ ‫)‪(15‬ابن رسعد‪ :‬الطبقات الكبرى )‪. ( 2/332‬‬ ‫)‪ ] (16‬رواه مرسلم في كتاب "فضائل الصحابة"‪ ،‬باب فضائل أم أيـمن برقم )‪. [(2454‬‬ ‫‪48‬‬


‫الفصل الرابع‬

‫عاكئلة‬ ‫الرسول صلى ا عليه وسلم‬ ‫‪49‬‬


‫بالبادية‬

‫بينما كانت مكة الواقعة فى منتصف طريق القوافل العابرة بين الشام‬ ‫واليمن ل تنعم بالزروع والثمار حيث تعاونت على حصارها الجبال الصخرية‬ ‫من كل جانب مما جعل جوها شديد الحرارة قليل المطار‪ ،‬كانت غير بعيدة‬ ‫منها فى جنوبها الشرقي تنعم "الطاكئف" بطيب الهواء‪ ،‬والرض الخصبة‬ ‫الخضراء التي تموج بالحداكئق الغناء‪ ،‬والشجار والزروع‪ ،‬فكانت لهل مكة‬ ‫ريفهم وبستانهم‪ ،‬ومربى أولدهم حتى أصبحت عادة في أشرافهم كلما‬ ‫رزقهم ا أولًدا أرسلوا بهم إلى مراضع البادية‪ ،‬صوًنا لهم من الحرارة‬ ‫القاكئظة‪ ،‬وخوًفا من التهام المرض لهم‪ ،‬فتصح هناك أبدانهم‪ ،‬كما يستقيم‬ ‫لسانهم بنطق اللغة العربية الصحيحة في مهادهم؛ فقد أشتهر أهل البادية‬ ‫بالبيان والفصاحة ل سيما بني هوازن فهم من أفصح العرب‪ ،‬كما كانت بادية‬ ‫بني سعد الكاكئنة بجنوب الطاكئف مقتصرة على الجنس العربي فقط‪ ،‬فلم تكن‬ ‫مثل مكة يسكنها ويأتيها الهجين من العاجم تجاًرا وزواًرا وعبيد بقصد‬ ‫التجارة أو العمل أو زيارة البيت الحرام‪ ،‬لذلك كان أبناؤها يتكلمون العربية‬ ‫بسليقتهم وطبيعتهم وفطرتهم‪ ،‬ولما ل؟! ‪ ..‬ألم ينشأ الشعر الجاهلي في‬ ‫البوادي من نجد والحجاز وما إليهما من شمالي الجزيرة العربية‪ ،‬ولهذا فقد‬ ‫كانت البادية المدرسة التي يتعلم فيها الشعراء النابهون ‪ ..‬ومن سار على‬ ‫دربهم من شعراء العصر السلمي كالمتنبي الذ ‪ d‬أقام في بادية بني كلب‬ ‫بالشام سنتين يتعلم اللغة ويقّوم لسانه‪ ،‬وكذلك فعل أبو نواس عندما ترك‬ ‫والبة بن الُحباب ليقيم بالبادية سنة لنفس الغرض‪.‬‬

‫‪50‬‬


‫لهذا كله حظيت نساء بني سعد بامتهان الرضاعة وأشهرهّن "حليمة بنت‬ ‫أبي ذؤيب عبدا بن الحارث" التى سلكت مع زوجها الحارث بن عبد العزي‬ ‫الطريق الشمالي المؤدي إلى مكة في صحبة عشر نسوة ليفزّن بمن يطلبهن‬ ‫لرضاع صغارهّن‪.‬‬ ‫تكالبت كل الظروف السيكئة على حليمة وزوجها وطفلهما الرضيع‪،‬‬ ‫فالسنة التى مرت بهم كانت مجدبة لم يرسل ا فيها المطر‪ ،‬ولم تنبت‬ ‫الرض زرًعا‪ ،‬وحتى الناقة التى صحبتهم كانت هى الخرى ل تدر إل القليل‬ ‫من اللبن كحال ثديّي حليمة‪ ،‬والطفل يأكله الجوع فل يجد عند أمه ول ناقتهم‬ ‫ما يقيم أوده‪ ،‬وأكملت حمارتهم العجفاء البيضاء منظومة التعاسة فأبطأت‬ ‫في مسيرها لتصل النسوة قبل حليمة‪.‬‬ ‫كانت آمنة تعرف عادات نساء الشراف من قومها وطبقتها‪ ،‬وإعراضهن‬ ‫عن إرضاع صغارهن والدفع بهم إلى مراضع البادية‪ ،‬غير أنها كانت‬ ‫تستطيع أن تحارب هذه العادة من أجل الحتفاظ برضيعها معها لتأنس به‬ ‫خاصًة بعد رحيل أبيه عنها في رحلة اللعودة‪ ،‬فباتت تخشى أكثر من ُبعد‬ ‫البقية الباقية منه حيث السفر أميالً دون الماكئة إلى الطاكئف‪ ،‬غير أن عدم‬ ‫كفاية لبنها لتغذية الرضيع إلى الحد الذي دفع ثويبة أَمُة أبي لهب عمه‬ ‫ضا عن الفواكئد التى ستعود على‬ ‫لتتولى مهمة إرضاعه‪ ،‬وما كانت تعرفه أي ً‬ ‫رضيعها حين يكبر‪ ،‬جعلها تضحي بأحلى أوقاتها حين كانت تتشممه‬ ‫وتتحسسه‪ ،‬لتتجشم من جديد عناء الحزن على فقد أبيه‪ ،‬وعناء الشوق‬ ‫الذي سيبدأ رحلته عندما يغّيب الطريق فلذة كبدها عنها‪.‬‬ ‫ب حليمة وزوجها متأخًرا إلى مكة وقد فازت كل مرضعة من‬ ‫دخل رك ُ‬ ‫صويحباتها برضيع‪ ،‬وأخبرنها بأنه ل يوجد خلفهن سوى طفل يتيم آثرن أل‬ ‫يأخذنه؛ فالوالد الذى يجزل العطاء قد مات‪ ،‬وماذا عساهما يصنعان أمه‬ ‫وجده؟!‪ ،‬والمرضعات هنا يتحدثن بخبرة مهنية حياتية متراكمة استقرت فى‬ ‫وعيهن مما تعرضن له من قلة البذل من الم أو الجد‪ ،‬ولم يتحدثن عن فقر‬ ‫ول غنى‪ ،‬فالرضيع شريف من أشراف مكة‪ ،‬وجده سيد مكة‪ ،‬وما أدري‬ ‫المرضعات بما ورثه عن أبيه‪ ،‬وأنه لم يخلف له مالً ـ كما يذهب أكثر من‬ ‫كتب السيرة العطرة عن رسول ا ـ صلى ا عليه وسلم ـ وكلم النسوة‬ ‫‪51‬‬


‫واضح ‪" :‬وذلك أنا أنما كنا نرجو المعروف من أبى الصيب‪ ،‬فكنا نقول ‪:‬‬ ‫يتيم؟ ‪ ..‬وما عسى أن تصنع أمه وجده؟"‪.‬‬ ‫كيف يكون اليتيم فقيًرا وهو في كفالة جده عبد المطلب سيد مكة وكبيرها‬ ‫الذي أغتصب جيش أبرهه منه ماكئتين من البل أثناء حملته على الكعبة‪،‬‬ ‫والذي افتدى ابنه عبد ا بماكئة من البل‪ ،‬كما ذبح مجموعة كبيرة منها في‬ ‫زواجه ل يصد عنها إنسان ول حيوان‪ ،‬ويذكر اليعقوبي في كتاب البلدان‪:‬‬ ‫"أن عبد المطلب عند موته ُلف في ُحلتين من حلل اليمن قيمتها ألف مثقال‬ ‫من الذهب‪،‬وقد كانت هدية من سيف بن ذي يزن الحميري لما ظفر بالحبشة‬ ‫وذلك بعد مولد النبي ـ صلى ا عليه وسلم ـ فأتته وفود العرب وأشرافها‬ ‫وكان من جملتهم وفد قريش وفيهم عبد المطلب بن هاشم جد النبي ـ صلى‬ ‫ا عليه وسلم ـ وأمية بن عبد شمس وأسد بن عبد العزي وعبد ا بن‬ ‫ُجدعان فقدموا عليه وهو في قصر يقال له ُغمدان ‪ -‬بضم الغين ‪ -‬فطلبوا‬ ‫الذن عليه فأذن لهم وتكلم عبد المطلب مهنًئا‪ .‬ولما فرغ أدناه وقربه ثم أمر‬ ‫لكل رجل منهم بعشرة أعبد وعشر إماء سود وخمسة أرطال فضة وحلتين‬ ‫من حلل اليمن وكرش مملوءة عنبًرا‪ ،‬وأمر لعبد المطلب بعشرة أضعاف‬ ‫ذلك"‪ ..‬أكان اليتيم ـ صلى ا عليه وسلم ـ بعد كل هذا فقيًرا‪ ،‬ونسينا أهل‬ ‫آمنة من بني زهرة ويسارهم‪ ،‬أكانوا تاركين حفيدهم ترفضه المرضعات‬ ‫لفقره؟!‬ ‫أخذت حليمة بنصيحتهن في باديء المر‪ ،‬فماذا عساها أن تفعل هي‬ ‫الخرى بـ "طفل يتيم"؟‪ ..‬ربما غلبها الحساس البشري بالعزة والنفة ـ‬ ‫وهى صفة بشرية أشد ما تكون عند العربي الصيل ـ إذ كيف تقبل ما‬ ‫رفضته صويحباتها ولداتها‪ ،‬فردت اليتيم وانصرفت قافلة من حيث جاءت‪،‬‬ ‫ولكنها حين قلبت المور وجدت أن أسوأ من رفضها لهذا اليتيم هو العودة‬ ‫بل رضيع البتة‪ ،‬واحترم زوجها الحارث رغبتها في العودة فصمت‪ ،‬غير‬ ‫أنها بادرته هذه المرة وقد غلبتها طبيعتها البشرية كأنثى ـ والغيرة أشد ما‬ ‫تكون في النساء ـ ‪" :‬وا لذهبن إلى ذلك اليتيم فلخذنه"‪ ،‬فأشار عليها‬ ‫الحارث ناصحا ً ‪" :‬ل بأس عليك أن تفعلي عسى ا أن يجعل لنا فيه بركة"‪.‬‬

‫‪52‬‬


‫الظروف التي قد نظنها سيكئة في ظاهرها وهي قدرية في باطنها‪ ،‬قد‬ ‫تقودنا من حيث ل ندري إلى خير كثير نجهله‪ ،‬إنها يد ا الرحيمة التي‬ ‫ترتب لنا مسيرنا ومصاكئرنا‪ ،‬وغالًبا ما يضحك النسان ساخًرا من غباكئه‬ ‫عندما يتذكر كم كان ساخًطا على ما ظنه سيًكئا في بداية المر‪ ،‬فلّما‬ ‫استعرض ما انتهى به المآل تنهد قاكئلً بارتيا ح‪ :‬الحمد ل‪.‬‬ ‫فبمثل ما تكالبت الظروف السيكئة على حليمة وعاكئلتها‪ ،‬تضافرت‬ ‫الظروف الجيدة والجديدة التى أحاطتها وتلبثتها منذ اللحظة الولى التى‬ ‫هرولت ساعية إلى طفل قريش اليتيم وسليل البيت الهاشمي فاستلمته من‬ ‫أمه على مضض‪" :‬وما حملني على أخذه إل إني لم أجد غيره"‪ ،‬لتكون‬ ‫رحلة العودة صورة مغايرة تماًما لرحلة الذهاب‪ ،‬فإذا كل ما هو سيء قد‬ ‫تبدل؛ فثدييها قد أقبل على اليتيم كنهر ل يتوقف جريانه حتى شبع اليتيم‬ ‫وابنها وناما كما نامت حليمة وزوجها‪ ،‬فلم يكن بكاء طفلهما يدع النوم‬ ‫يتسلل إليهما ساعة من ليل‪ ،‬والناقة البخيلة بلبنها امتلت لبًنا‪ ،‬فشربا منها‬ ‫حتى شبعا وارتويا‪ ،‬أّما الحمارة العجفاء ما كادت تركبها ورضيعها اليتيم‬ ‫حتى لحقت بالركب الذى تقدمها فسبقتهم إلى الحد الذي كانوا يستمهلونها‬ ‫ليلحقوا بها وزوجها ‪.‬‬ ‫منذ تلك اللحظة التى ارتويا وشبعا الحارث وزوجته وكأن ا قد صدق‬ ‫للحارث ظنه في اليتيم "عسى ا أن يجعل لنا فيه بركة" حتى يحادث زوجه‬ ‫في هذا ‪" :‬تعلمي وا يا حليمة لقد أخذت نسمة مباركة"‪ ،‬أحس الحارث‬ ‫ببركة هذا الرضيع‪ ،‬وصفة البركة هذه ستظل ملصقة لرسول ا ـ صلى ا‬ ‫عليه وسلم ـ كما كانت منذ كان جنيًنا فرضيًعا وطفلً ثم نبًيا رسولً في‬ ‫حياته كلها وبعد مماته‪ ،‬وهى صفة كثيًرا ما سنقابلها في كل أطوار حياته‬ ‫فيما بعد‪ ،‬ليكون حديثنا التالي عنها في بيت عمه أبي طالب بعد وفاة جده‪.‬‬ ‫يقيًنا ‪ ..‬كان الرسول ـ صلى ا عليه وسلم ـ بركة على من حوله حًيا وميًتا‪،‬‬ ‫فمن أول من أصاب من بركته وهو جنيٌن بعد لم يكْد يدخل حياتنا الدنيا سوى‬ ‫دقاكئق يسيرة ثويبة جارية عمه أبا لهب التي أعتقها لما أخبرته بقدومه‪،‬‬ ‫لتتوالى البركات الطيبات على المسلمين حتى صارت معجزات‪ ،‬كما كانت‬ ‫بركاته ينعم بها من غير المسلمين وإن لم يؤمنوا به أو يتبعونه‪ ،‬وليس أدل‬ ‫‪53‬‬


‫على ذلك ما أثبتته البحوث العلمية فى العواصم العالمية من تأثير النطق‬ ‫بالبسملة على الميكروبات والفيروسات بالحيوانات والطيور عند ذبحها‪.‬‬ ‫وليس أدل على حلول البركات‪ ،‬وحدوث التغييرات أن يقر بها ويذيعها‬ ‫من عاينها وشاهدها وأصاب منها‪ ،‬ومن غير حليمة يصلح لرصد هذا؟ فقد‬ ‫عاش الرضيع حتى أصبح طفلً معها سنوات‪ ،‬والبركة التى أحستها‬ ‫وأسرتها وجيرانها ببادية بنى سعد لم تكن طفرة حدثت مرة ثم ذهبت بل كان‬ ‫لتكرار شواهدها ما وقر فى صدرها إنما كان بسبب حلول هذا الطفل اليتيم‬ ‫المبارك عليهم وبينهم‪ ،‬حتى قالت ‪" :‬قدمنا منازلنا في بلد بني سعد وما‬ ‫ضا من أرض ا أجدب منها فكانت غنمي ترو ح علّي حين قدمنا به‬ ‫أعلم أر ً‬ ‫معنا شباًعا لبًنا فنحلب ونشرب وما يحلب إنسان قطرة لبن ول يجدها في‬ ‫ضرع حتى كان الحاضرون من قومنا يقولون لرعيانهم‪ :‬ويلكم اسرحوا‬ ‫حيث يسر ح راعي بنت أبي ذؤيب فترو ح أغنامهم جياًعا وما تبض بقطرة‬ ‫لبن وترو ح غنمي شباًعا لبًنا فلم نزل نتعرف من ا الزيادة والخير"‪.‬‬ ‫وما يؤكد هذا أن الطفل ما كاد يبلغ العامين حتى قدمت به حليمة ومن‬ ‫معها إلى أمه آمنة لترده إليها بحسب العرف المتبع فيهم بينما نفسها ل‬ ‫تطاوعها إل أن تصحبه معها ثانيًة "ونحن أحرص شيء على مكثه فينا لما‬ ‫ضا شديًدا على إلحا ح‬ ‫كنا نرى من بركته"‪ ،‬و يبدو أن آمنة أبدت اعترا ً‬ ‫حليمة غير أن حليمة لم تيأس حتى ذكرتها بوباء مكة ومخافة أن يصيب‬ ‫ابنهما‪ ،‬فلم تزل بها حتى ردته معها إلى بادية بني سعد مرة أخرى"‪.‬‬ ‫كانت أسرة الطفل محمد بالبادية هي السرة الوحيدة التى سعد بها أيما‬ ‫سعادة في طفولته كلها؛ لنها كانت عاكئلة مكتملة الركان من أم وأب‬ ‫وأشقاء‪ ،‬فأسرته التى خرج منها بمكة لم يكد يعلم عنها شيًكئا؛ فلقد تركها‬ ‫رضيًعا‪ ،‬وكانت الم فقط أهم أركانها ثم جده فحاضنته‪ ،‬وهي السرة التي‬ ‫سيعود إليها آج ً‬ ‫ل‪ ،‬أما السرة الثالثة في حياته فقد كانت أسرة جده وزوجه‬ ‫وأبناكئهما أي أعمامه‪ ،‬وقد انتقل للعيش معهم بعد وفاة أمه‪ ،‬ثم تكون أسرة‬ ‫عمه أبي طالب هى السرة الخيرة التي عاش فيها قبل زواجه الول وكانت‬ ‫تتكون من العم وزوجه وأبناكئهما وكانت ملذه بعد وفاة جده‪ .‬غير أنه كان‬ ‫قد أدرك منذ عاد معنى الحزن‪ ،‬ولوعة الفراق حين أخبروه بفقد الب‪ ،‬ثم‬ ‫‪54‬‬


‫معاينته ومعايشته لفقد الم‪ ،‬فكان هم اليتم عليه قاسًيا وهو لم يزل صغيًرا‬ ‫بعد‪ ،‬لقد غمر هذا الشعور حياته كلها في عهد هاتيك السرتين‪ ،‬بخلف‬ ‫شعور السعادة والبهجة والحفاوة والتدليل واللعب فى المروج‪ ،‬الذي عاشه‬ ‫في كنف أبويه الحارث وحليمة‪ ،‬وأخوته عبد ّ‬ ‫ا‪ ،‬وأنيسة‪ ،‬وحذافة أو‬ ‫)الشيماء( كما كانوا ينادونها‪.‬‬ ‫عاد الطفل مع حليمة التى سعدت بالفوز به مرة ثانية‪ ،‬وربما سعد هو‬ ‫أكثر فقد كانت البادية ملعبه مع أخيه ورفاقهما‪ ،‬وموطن أخته الشيماء التى‬ ‫تكبره بعدة سنوات وكانت له نعم الحاضنة والراعية‪ ،‬ومدللته بعد أمهما‬ ‫حليمة‪ ،‬وهو الذي كان يأنس لصوتها العذب حين تبعده عن حر الشمس أن‬ ‫يطاله‪ ،‬وهي تقول فى ضراع ٍة ورجاء ‪:‬‬ ‫يا رّبَنـا أْبةِق َلـَنا ُمَحّمـــــــــــًدا‬ ‫حتى أَراُه َياةِفــًعا وأْمـــــــــَرَدا‬ ‫ســــــّوَدا‬ ‫سـّيـــــــًدا ُمـ َ‬ ‫ُثّم َأراُه َ‬ ‫سَدا‬ ‫واْكـةِبـْت أَعـاةِديةِه َمًعا َواْلُحـ ّ‬ ‫َوأْعةِطةِه ةِعّزا َيـُدوُم أبـــــــــــًدا‬ ‫ولم يعكر صفو تلك السعادة الغامرة على حليمة وزوجها غيرماوقع للطفل‬ ‫من حادثة شق الصدر فخافت عليه وبناًء على نصيحة من زوجها أعاداه‬ ‫لمه كي يخليان مسكئوليتهما مما جرى له إذا ظهر‪ ،‬غير أن آمنة العربية‬ ‫القرشية لم َيُرْق لها تصرف حليمة فى إلحاحها في العودة به معها فى المرة‬ ‫السابقة‪ ،‬ثم التيان به في هذه المرة وتركه على عجل من أمرها‪ ،‬فسألتها‬ ‫صًة َعَلْيةِه‪َ ،‬وَعَلى ُمْكةِثةِه ةِعْنَدَك؟‬ ‫في حزم ‪َ" :‬ما أَْقَدَمَك ةِبةِه َيا ةِظْكئُر َوَقْد ُكْن ةِ‬ ‫ت َحةِري َ‬ ‫ت ‪َ :‬قْد َبَلَغ ّ‬ ‫ت اّلةِذي َعَلّي‪َ ،‬وَتَخّوْف ُ‬ ‫ضْي ُ‬ ‫َقاَلْت ‪َ :‬فقُْل ُ‬ ‫ت اْلَْحَداَث‪،‬‬ ‫اُ ةِباْبةِني َوَق َ‬ ‫َعَلْيةِه‪َ ،‬فأ َّدْيُتُه إَلْيَك َكَما ُتةِحّبيَن‪َ ،‬قاَلْت ‪َ :‬ما َهَذا َ‬ ‫صُدةِقيةِني َخَبَرَك‪َ .‬قاَلْت ‪:‬‬ ‫شأُْنَك‪َ ،‬فا ْ‬ ‫َفَلْم َتَدْعةِني َحّتى أَْخَبْرُتَها‪َ .‬قاَلْت ‪ :‬أَ​َفَتَخّوَفْت َعَلْيةِه ال ّ‬ ‫شْيَطاَن؟ َقاَلْت ‪ :‬قُْل ُ‬ ‫ت َنَعْم‪،‬‬ ‫سةِبي ٍل)‪َ ،(1‬وإةِّن لةُِبَنّي َل َ‬ ‫ا َما ةِلل ّ‬ ‫شأًْنا‪ ،‬أَ​َفَل أ ُْخةِبُرةِك‬ ‫َقاَلْت ‪َ :‬كّل‪َ ،‬و َ ّ ةِ‬ ‫شْيَطاةِن َعَلْيةِه ةِمْن َ‬ ‫ت ةِحيَن َحَمْل ُ‬ ‫ت‪َ :‬بَلى‪َ ،‬قاَلْت ‪َ :‬رأَْي ُ‬ ‫َخَبَرُه؟‪َ ،‬قاَلْت ‪ :‬قُْل ُ‬ ‫ت ةِبةِه‪ ،‬أَّنُه َخَرَج ةِمّني ُنوٌر‬ ‫ض ال ّ‬ ‫ا َما َرأَْي ُ‬ ‫شاةِم‪ُ ،‬ثّم َحَمْل ُ‬ ‫ت ةِمْن‬ ‫ت ةِبةِه‪َ ،‬فَو َ ّ ةِ‬ ‫صَرى ةِمْن أَْر ةِ‬ ‫صوَر ُب ْ‬ ‫ضاَء ةِلي قُ ُ‬ ‫أَ َ‬

‫‪55‬‬


‫ضٌع َيَدْيةِه‬ ‫سَر ةِمْنُه‪َ ،‬وَوَقَع ةِحيَن َوَلْدُتُه َوإةِّنُه َلَوا ةِ‬ ‫ف َعَلّي َوَل أَْي َ‬ ‫َحْم ٍل َقّط َكاَن أَ​َخ ّ‬ ‫شَدًة" )‪.(2‬‬ ‫سَماةِء‪َ ،‬دةِعيةِه َعْنَك َواْنَطلةِةِقي َرا ةِ‬ ‫ةِباْلَْر ةِ‬ ‫سُه إَلى ال ّ‬ ‫ض‪َ ،‬راةِفٌع َرأَ َ‬ ‫وحادثة شق صدر رسولنا الكريم ـ صلى ا عليه وسلم ـ ثابتة في صحيح‬ ‫مسلم )‪ ،(3‬ومسند أحمد‪َ ،‬قالَ َعْبد ّ‬ ‫ا ْبن اْلةَِمام أَْحَمد َحّدَثةِني ُمَحّمد ْبن َعْبد‬ ‫الّرةِحيم أَُبو َيْحَيى اْلَفّزاز َحّدَثَنا ُيوُنس ْبن ُمَحّمد َحّدَثَنا ُمَعاذ ْبن ُمَحّمد ْبن أ َُبّي‬ ‫ْبن َكْعب َحّدَثةِني أَُبو ُمَحّمد ْبن ُمَعاذ َعْن ُمَحّمد َعْن أ َُبّي ْبن َكْعب أَّن أَ​َبا ُهَرْيَرة‬ ‫صّلى ّ‬ ‫سول ّ‬ ‫سّلَم َعْن أَ ْ‬ ‫شَياء َل َيْسَألُه‬ ‫ا َعَلْيةِه َو َ‬ ‫ا َ‬ ‫َكاَن َجةِريًكئا َعَلى أَْن َيْسَأل َر ُ‬ ‫صّلى ّ‬ ‫صّلى ّ‬ ‫سول ّ‬ ‫سّلَم َما‬ ‫ا َعَلْيةِه َو َ‬ ‫سّلَم َ‬ ‫ا َعَلْيةِه َو َ‬ ‫ا َ‬ ‫َعْنَها َغْيره َفَقالَ َيا َر ُ‬ ‫صّلى ّ‬ ‫سول ّ‬ ‫سا‬ ‫سّلَم َجالةِ ً‬ ‫ا َعَلْيةِه َو َ‬ ‫ا َ‬ ‫أَّول َما َرأَْيت ةِمْن أَْمر الّنُبّوة؟ َفاْسَتَوى َر ُ‬ ‫شر ةِسةِنيَن َوأَ ْ‬ ‫صْحَراء ةِاْبن َع ْ‬ ‫شُهر‬ ‫سأ َْلت َيا أَ​َبا ُهَرْيَرة إةِّني ةِفي ال ّ‬ ‫َوَقاَل‪َ’’ :‬لَقْد َ‬ ‫َوإةَِذا ةِبَكَل ٍم َفْوق َرْأةِسي َوإةَِذا َرُجل َيُقول لةَِرُج ٍل‪ :‬أَُهَو ُهو؟‪َ ،‬فاْسَتْقَبَلةِني ةِبُوُجو ٍه‬ ‫َلْم أَ​َرَها َقّط َوأَْرَوا ح َلْم أَةِجدَها ةِمْن َخْلق َقّط َوةِثَياب َلْم أَ​َرَها َعَلى أَ​َحد َقّط َفأ َْقَبَل‬ ‫ضةِدي َل أَةِجد ةِلَ​َحةِدةِهَما َم ًّ‬ ‫إةَِلّي َيْمةِشَياةِن َحّتى أَ​َخَذ ُكلّ َواةِحد ةِمْنُهَما ةِبَع ُ‬ ‫سا‪َ ،‬فَقالَ‬ ‫صر‪َ ،‬فَقاَل‪ :‬أَ​َحدهَما‬ ‫صر َوَل َه ْ‬ ‫ضَجَعاةِني ةِبَل َق ْ‬ ‫ضةِجْعُه َفأ َ ْ‬ ‫صاةِحةِبةِه‪ :‬أَ ْ‬ ‫أَ​َحدهَما لةِ َ‬ ‫صْدةِري َفَفَلَقُه ةِفيَما أَ​َرى ةِبَل َدم َوَل‬ ‫صْدره‪َ ،‬فَهَوى أَ​َحدهَما إةَِلى َ‬ ‫صاةِحةِبةِه ةِاْفلةِْق َ‬ ‫لةِ َ‬ ‫سد‪َ ،‬فأ َْخَرَج َ‬ ‫شْيًكئا َكَهْيَكئةِة اْلَعَلَقة ُثّم َنَبَذَها‬ ‫َوَجع‪َ ،‬فَقالَ َلُه‪ :‬أَْخةِرْج اْلةِغلّ َواْلَح َ‬ ‫ضة‬ ‫َفَطَرَحَها‪َ ،‬فَقالَ َلُه‪ :‬أَْدةِخلْ الّرْأَفة َوالّرْحَمة‪َ ،‬فإةَِذا ةِمْثل اّلةِذي أَْخَرَج ةِشْبه اْلةِف ّ‬ ‫ُثّم َهّز إةِْبَهام ةِرْجةِلي اْلُيْمَنى َفَقاَل‪ :‬ا ُْغُد َواْسَلْم‪َ ،‬فَرَجْعت ةِبَها أَْغُدو ةِرّقة َعَلى‬ ‫صةِغير َوَرْحَمة لةِْلَكةِبيرةِ’’)‪.(4‬‬ ‫ال ّ‬ ‫قال الحافظ )‪": (5‬وجميع ما ورد من شق الصدر واستخراج القلب وغير‬ ‫ذلك من المور الخارقة للعادة مما يجب التسليم له دون التعرض لصرفه‬ ‫عن حقيقته لصلحية القدرة فل يستحيل شيء من ذلك"‪.‬‬ ‫وهذا رًدا على تخرصات من أنكروا إرهاصات ميلده ـ صلى ا عليه‬ ‫وسلم ـ ‪ ،‬وحوادث شق صدره التي جاءت في الصحيحين‪ ،‬والرد عليها سهل‬ ‫يسير بالنقول الصحيحة‪ ،‬والدلة العلمية الحديثة‪ ،‬مما يضيق المقام بسرده‪،‬‬ ‫وليس هنا مكانه)‪.(6‬‬

‫‪56‬‬


‫وللوفاء مواضع كثيرة ونبيلة في حياة رسولنا الكريم ـ صلى ا عليه‬ ‫وسلم ـ ل يتسع المقام لسردها كلها‪ ،‬لكن قارىء سيرته العطرة سيقع عليها‬ ‫دون عناء‪ ،‬فمثلما كان وفًيا لمه آمنة فزار ـ صلى ا عليه وسلم ـ قبرها‬ ‫مرات‪ ،‬مثلما كان حفًيا بثويبة مرضعته بعد أمه‪ ،‬وكذلك أم أيمن حاضنته‪،‬‬ ‫كان لحليمة نصيب كبير من بساتين وفاكئه الرحبة ـ صلى ا عليه وسلم ـ‬ ‫وذلك حين قدمت عليه بمكة بعد زواجه من خديجة‪ ،‬تشكو له من جدب البلد‬ ‫وهلك الماشية‪ ،‬فكلم ـ صلى ا عليه وسلم ـ خديجة فيها فأعطتها أربعين‬ ‫شاة وبعيًرا موقًعا للظعينة‪ ،‬وانصرفت إلى أهلها‪ ،‬وكانت هذه المرة الولى‬ ‫التى رآها بعد رجوعه من الطاكئف طف ً‬ ‫ل‪ ،‬أما الثانية فبعد أن بعثه ا نبًيا يوم‬ ‫حنين حين أقبل عليه الحارث أبوه من الرضاعة‪ ،‬فوضع له ثوبه‪ ،‬فقعد‬ ‫عليه‪ُ ،‬ثم أقبلت حليمة أمه فوضع لها شق ثوبه من جانبه الخر فجلست‬ ‫عليه‪ ،‬ثم أقبل أخوه عبدا من الرضاعة‪ ،‬فقام رسول ا ـ صلى ا عليه‬ ‫وسلم ـ فأجلسه بين يديه‪.‬‬ ‫ولما جيء بالشيماء أخته من الرضاعة في سبايا هوازن عرفها رسول‬ ‫ا ـ صلى ا عليه وسلم ـ بعلمة فيها‪ ،‬فبسط لها رداءه‪ ،‬ثم قال لها‬ ‫ت إلى‬ ‫ت عندي مكرمة محبة‪ ،‬أو متعتك ورجع ةِ‬ ‫يخيرها ‪’’ :‬إن أحببت أقم ةِ‬ ‫قومك’’‪ ،‬فقالت‪ :‬بل تمتعني وتردني إلى قومي‪ .‬فأعطاها رسول ا ـ صلى‬ ‫ا عليه وسلم ـ ثلثة أعبد و جارية و أجزل لها العطاء ثم ردها إلى قومها‬ ‫ولما قدم وفد هوازن على النبي ـ صلى ا عليه وسلم ـ وهم أربعة‬ ‫صَرد ‪ ،‬وفيهم أبو ٌبْرَقان عم رسول ا من‬ ‫عشر رجلً يرأسهم زهير بن ٌ‬ ‫الرضاعة‪ ،‬وقد جاءوا مسلمين مبايعين فسألوه أن َيُمَن عليهم فيرد لهم‬ ‫أموالهم ونساكئهم وذراريهم‪ ،‬بعد أن استعطفه أبو صرد‪) :‬إنما في هذه‬ ‫الحظاكئر أخواتك وعماتك وخالتك وبنات عمك وبنات خالتك وأبعدهن قريب‬ ‫منك بأبي أنت وأمي أنهن حضنك في حجورهن وأرضعنك بثديهن‪ ،‬وتوركنك‬ ‫على أوراكهن‪ ،‬وأنت خير المكفولين(‪ ،‬فرضي رسول ا ـ صلى ا عليه‬ ‫وسلم ـ‪ ،‬ورضّي المسلمون بما رضي به رسول ا وردوا عليهم نساءهم‬ ‫وأبناءهم‪ ،‬وذكر ابن كثيرأنه عليه الصلة والسلم أطلق لهم الذرية‪ ،‬وكانت‬ ‫ستة آلف ما بين صبي وامرأة‪ ،‬وأعطاهم أنعاًما وأناسي كثيًرا‪ .‬حتى قال أبو‬ ‫الحسين بن فارس‪" :‬فكان قيمة ما أطلق لهم يومكئذ خمسماكئة ألف ألف‬ ‫‪57‬‬


‫درهم"‪ .‬فهذا كله من بركته العاجلة في الدنيا‪ ،‬فكيف ببركته على من اتبعه‬ ‫في الدار الخرة ؟!)‪ ،(7‬كما رد ـ صلى ا عليه وسلم ـ إلى مالك بن عوف‬ ‫النصري ركئيس هوازن أهله وماله وأعطاه ماكئة من البل بعدما أسلم وحسن‬ ‫إسلمه‪ ،‬واستعمله رسول ا ـ صلى ا عليه وسلم ـ على من أسلم من‬ ‫قومه‪.‬‬ ‫ت وخل ٍل كريمات‬ ‫تحلى رسولنا الكريم ـ صلى ا عليه وسلم ـ بصفا ٍ‬ ‫طيبات أكبر وأكثر من أن يحصيها العلماء المهرة بدراسة سيرته العطرة ـ‬ ‫صلى ا عليه وسلم ـ غير أن صفتا البركة والوفاء لزمتاه منذ بداية مولده‬ ‫بل قبلها وهى بالتتابع البركة ثم الوفاء‪ ،‬ول نجد هناك عاكئلة ممن عاش‬ ‫معهم وبينهم رسول ا ـ صلى ا عليه وسلم ـ إل أصابها من خيره وبركته‬ ‫ووفاكئه وبخاص ٍة عاكئلة الحارث وحليمة بالبادية‪.‬‬

‫نساء فى حياة الرسول‬

‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ هامش الفصل‬

‫الرابع ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ السيد إبراهيم‬

‫)‪ (1‬وفى دلئل النبوة لبى نعيم بلفظ "ل تخافى هذا‪ ،‬فإن ابنى هذا معصوم من الشيطان" ‪.‬‬ ‫)‪](2‬لفظ ابن إرسحاق‪ ،‬من حديث حليمة بنت الحارث الرسعدية ‪،‬الرسيرة النبوية لبن هشام « ولدة‬ ‫ررسول ا صلى ا عليه ورسلم ورضاعته ص ‪. [166‬‬ ‫)‪ (3‬والحديث في ذلك ثابت صحيح أخرجه مرسلم)‪:(162‬‬ ‫عن أنس بن مالك رضي ا تعالى عنه أن النبي صلى ا عليه ورسلم أتاه جبريل وهو يلعب مع‬ ‫الغلمان فأخذه فصرعه فشق عن قلبه فارستخرج القلب فارستخرج منه علقة فقال‪ :‬هذا حظ الشيطان‬ ‫منك ثم غرسله في طرست من ذهب بماء زمزم ثم لمه ثم أعاده في مكانه‪ ،‬وجاء الغلمان يرسعون إلى‬ ‫أمه ‪ -‬يعني ظئيره‪ -‬فقالوا إن محمداً قد قتل‪ .‬فارستقبلوه وهو منتقع اللون‪ .‬قال أنس‪ :‬أرى أثر المخيط‬ ‫في صدره"‪ .‬والظئير المرضعة وهي هنا حليمة كما هو معلوم‪ .‬وبالرجوع إلى كتب الحديث النبوي‬ ‫الشريف‪ ،‬نجد أن حديث شق الصدر جاء بأرسانيد صحيحة‪ .‬فقد رواه أبو نعيم في دلئل النبوة‪،‬‬ ‫وأخرجه مرسلم في صحيحه)‪ ،(162‬والمام أحمد في مرسنده‪ ،‬وابن رسعد في طبقات الصحابة‪ ،‬عن‬ ‫أنس رضي ّ‬ ‫ا عنه‪ ،‬أن النبي صلى ا عليه و رسلم أتاه جبريل وهو يلعب مع الغلمان فأخذه‬ ‫فصرعه‪ ،‬فشق عن قلبه وارستخرج منه علقة‪ .‬فقال ‪ :‬هذا حظ الشيطان منك‪ ،‬ثم غرسله في طرست من‬ ‫ذهب بماء زمزم‪ ،‬ثم لَ​َمِنُه‪ ،‬ثم أعاده إلى مكانه‪ .‬وجاء الغلمان يرسعون إلى أمه‪ ،‬يعني مرضعته‪ ،‬أن‬ ‫محمداً قد قتل‪ ،‬فارستقبلوه وهو منتقع اللون "‪.‬‬ ‫وللحديث شواهد كثيرة‪ ،‬فقد أخرجه الحاكم في المرستدرك‪ ،‬وصححه‪ ،‬ووافقه الذهبي‪.‬‬ ‫‪58‬‬


‫‪) .‬اللباني‪ :‬الرسلرسلة الصحيحة ‪ ،‬إرسناده جيد قوي )‪(4) 4/60‬‬ ‫‪).‬ابن حجر العرسقلنى ‪ :‬الفتح )‪15/152‬ح ‪(5) 3887‬‬ ‫‪ .‬انظر كتاب ‪ :‬نبٌى بل معجزات ‪ ..‬للمؤلف ـ تحت الطبع )‪(6‬‬ ‫‪) .‬السيرة النبوية ‪ -‬ابن كثير ج ‪(7)1/233) 1‬‬

‫الفصل الخامس‬

‫أم الرسول صلى ا عليه وسلم‬ ‫القرشية الهاشمية‬

‫‪59‬‬


‫لما بلغ عبد المطلب عشر وماكئة سنة أو يزيد وافته المنية بينما كان عمر‬ ‫حفيده محمًدا ـ صلى ا عليه وسلم ـ يتجاوز الثامنة بقليل فكان وقع الخبر‬ ‫على الطفل شديًدا؛ لنه كان البقية الباقية من ذكرى أبيه الذي لم يره‪،‬‬ ‫والراعي والمواسي له بعد وفاة أمه‪ ،‬فهوالذي ضمه إلى بيته وأولده بل‬ ‫وقدمه على كل من حوله تكرمًة وإيثاًرا‪ ،‬بل ناداه بابنه حين كان ينهر من‬ ‫يحاولون أن يبعدوه عن مجلسه بكلم ٍة ظل صداها فى قلبه وأذنيه‪":‬دعوا‬ ‫ابني فوا إن له لشأًنا"‪.‬‬ ‫لهذا فقد بكاه ـ صلى ا عليه وسلم ـ بكاًء مًرا لم يخفف عنه من شدة‬ ‫حزنه غير مواساة ومؤازرة حاضنته أم أيمن التي كانت تعلم يقيًنا أنهما‬ ‫حتًما سيغادران بيت عبد المطلب إلى بيت عمه أبي طالب الذي كان قد‬ ‫أوصاه والده عبد المطلب لما أحس بمسير الموت إليه أن يكفل ابن أخيه‪،‬‬ ‫ولم يتململ أبو طالب أو يتردد أو يتعلل بفقره وكثرة عياله‪ ،‬لنه كان يعلم‬ ‫سر اختيار عبد المطلب له؛ فهو ال خ الشقيق لوالد الطفل من جهة الم‬ ‫ضا الوارث لمقام أبيه من قريش‪ ،‬وربما‬ ‫فاطمة بنت عمرو بن عاكئذ‪ ،‬ولنه أي ً‬ ‫ب خفي أراد عبد المطلب أن يؤثر أبا طالب بهذا اليتيم لما له من بركة‬ ‫لسب ٍ‬ ‫لمسها الجد بنفسه من حال حفيده‪ ،‬فعلم في قرارة نفسه أنه لم يحمل ابنه‬ ‫فوق ما يطيق بل إنه ليهديه من سيكون سبب الخير له ولولده وبيته‪ ،‬كما‬ ‫كان أبو طالب نفسه حاضًرا حين قال قوم من بني مدلج لعبد المطلب‪" :‬احفظ‬ ‫به ـ يقصدون حفيده صلى ا عليه وسلم ـ فإنا لم نر قدًما أشبه بالقدم التي‬ ‫في المقام منه"‪ ،‬فقال عبد المطلب لبي طالب‪" :‬أسمع ما يقول هؤلء"‪.‬‬ ‫فكان أبو طالب يحتفظ به‪.‬‬ ‫ضا لم تتبرم بمقدمه لدارهم بل فرحــت بــه أّيمــا‬ ‫والحق أن زوج عمه أي ً‬ ‫فر ح وليس هذا بمستغرب؛ فهي القرشية الهاشمية فاطمة بنت أسد بن هاشم‬ ‫بن عبد مناف بن قصــي بــن كلب‪ ،‬الــتي نشــأت فــي بيــت مــن أشــرف بيــوت‬ ‫قريش وأعزها نسًبا ومجًدا‪ ،‬إذ تلتقي ـ رضي اـ عنهــا ــ مــع رســول اـ ــ‬ ‫صلى ا عليه وسلم ـ في جده هاشم‪ ،‬ولهذا فقد كان ـ صلى ا عليه وسلم ـ‬ ‫لها مثل أولدها ‪ :‬طالًبا وعقيلً وجعفًرا‪ .‬ولقد تركت معاملتها في نفس النــبي‬

‫‪60‬‬


‫ـ صلى ا عليه و سلم ‪ -‬وهو طفل أبلغ الثر الذي ظــل باقًيــا فــي قلبــه حــتى‬ ‫مماتها‪.‬‬ ‫والحديث عن بركة الرسول ـ صلى ا عليه وسلم ـ ل ينتهي فحيث انتقل‬ ‫سف ٍر أو حضر يحسها من حوله ويتحدثون‬ ‫أو رحل‪ ،‬أو حط أو استقر فى َ‬ ‫عنها ويحدثون بها إل هو صلى ا عليه وسلم‪ ،‬أحستها بنت أسد وكذلك‬ ‫زوجها؛ فقد تغير حال أولدهم بعد حضور ابن أخيه عما قبل؛ فالولد‬ ‫يأكلون ويشبعون ويفضل من طعامهم إذا أكل معهم محمداً ـ صلى ا عليه‬ ‫وسلم ـ ولم يكن هذا حالهم قبله‪ ،‬أو حالهم إذا أكلوا بدونه لم يشبعوا ولم‬ ‫يرتووا‪ ،‬بينما إذا شربوا اللبن من إناكئه بعد أن يشرب منه بفمه الشريف ـ‬ ‫صلى ا عليه وسلم ـ يدور الناء عليهم جميًعا فيروون عن آخرهم‪.‬‬ ‫في هذا البيت الهاشمي حظّي ـ صلى ا عليه وسلم ـ برعاية أ ُّمةِه‬ ‫القرشية الهاشمية فاطمة الحسيبة النسيبة القريبة‪ ،‬وأّمه الحبشية صنو‬ ‫حياته وقسيمة أحزانه وأفراحه بركة بنت ثعلب‪ ،‬وهما ممن شملتهما بركته ـ‬ ‫صلى ا عليه وسلم ـ‪ ،‬إنه البيت الذي يتميز عن ساكئر البيوت التي تربى‬ ‫فيها وتركها بميزة طول إقامته فيه‪ ،‬مع ميزة أخرى وهي بداية تكوينه‬ ‫الفكري والمجتمعي‪ ،‬والبدني‪ ،‬إنه البيت الذي شهد المرحلة النتقالية في‬ ‫حياة رسولنا الكريم ـ صلى ا عليه وسلم ـ فبعدها سيستقر في بيت‬ ‫الزوجية‪ ،‬وبعدها سيبدأ عهد جديد في حياته أل وهو عهد النبوة والدعوة‪.‬‬ ‫لم تكن فاطمة بنت أسد تدري أن بركة رسول ا ـ صلى ا عليه‬ ‫وسلم ـ ليست قاصرة فقط على الحساس بالشبع والرتواء‪ ،‬بل ستشمل‬ ‫حياتها كلها وحياة أبناكئها فيما بعد‪.‬‬ ‫ضا أن هذا اليتيم الناشيء في بيتها الذي استسقى‬ ‫كما لم تكن تدرى أي ً‬ ‫زوجها بوجهه الغمام أن ينزل مطًرا على قريتهم مكة فاستجاب ا له‪ ،‬حتى‬ ‫أقبل السحاب وأغدق واْغَدْوَدق‪ ،‬وانفجر الوادي‪ ،‬وأخصب النادي والبادي‪،‬‬ ‫والذي سافر مع عمه لما بلغ ـ صلى ا عليه وسلم ـ اثنتى عشرة سنة في‬ ‫أول رحلة تجارية له خارج حدود مكة حيث الشام‪ ،‬ولّما أتم العشرين من‬ ‫عمره حضر حرب الفجار التي انتهكت عهدهم واستمساكهم بالسلم في‬ ‫الشهر الحرم‪ ،‬وكانت بين قريش ـ ومعهم كنانة ـ وبين َقْيس َعْيلن‪،‬‬ ‫‪61‬‬


‫وميدانها سوق عكاظ‪ ،‬ثم حضر ـ صلى ا عليه وسلم ـ على إثرها توقيع‬ ‫حلف الفضول في دارعبدا بن جدعان الذي تعاهدت فيه القباكئل من قريش‬ ‫على أل يجدوا بمكة مظلوًما من أهلها وغيرهم من ساكئر الناس إلى أن‬ ‫يقوموا معه‪ ،‬ويكونوا على من ظَلَمه حتى يردوُن عليه مظلمته‪.‬‬ ‫ذلك اليتيم الذي بدأ من بيتها رحلة الكد ح والكفا ح من أجل الرزق برعي‬ ‫الغنم‪ ،‬والتجارة بالمشاركة مع الساكئب بن أبي الساكئب المخزومي‪ ،‬حتى‬ ‫خرج متاجًرا بمال خديجة لما كان في الخامسة والعشرين‪ ،‬لم تكن فاطمة‬ ‫تدري أن ا سيبعَث هذا اليتيم نبًيا يمل آفاق الرض نوًرا ورحمًة وهداية‪،‬‬ ‫وتحل بركته على كل من آمن به واتبع هديه صلى ا عليه وسلم‪.‬‬ ‫كان وفاؤه ـ صلى ا عليه وسلم ـ نادًرا ماتتلفت حولك فتجده في‬ ‫سيرة عظيم أو كبير‪ ،‬فهذه الفضيلة قد انتظمت حياته كلها؛ في فقره وفّي‪،‬‬ ‫وفى غناه وفّي‪ ،‬فى صغره وفّي‪ ،‬وفى كبره وفّي‪ ،‬قبل أن يبعث وفّي‪ ،‬وبعد‬ ‫النبوة وفّي‪ ،‬مع أزواجه وفّي‪ ،‬مع المؤمنين وفّي‪ ،‬مع الكفار وفّي‪ ،‬مع‬ ‫العداء وفّي‪ ،‬مع القارب وفّي‪ ،‬ومع الباعد ‪ ..‬كان وفاؤه ـ صلى ا عليه‬ ‫وسلم ـ إحدى معجزاته الكبرى‪.‬‬ ‫خرج ـ صلى ا عليه وسلم ـ من بيت عمه إلى بيت زوجه خديجة ـ‬ ‫رضّي ا عنها ـ ومعه بركة التي كانت حاضنته‪ ،‬فلم يأخذه الغني والجاه‬ ‫وينسى يوًما من آواه واحتضنه وكفله ورباه‪ ،‬يشهد بهذا أنه لما أصابت‬ ‫قري ً‬ ‫شا أزمة شديدة وكان أبو طالب ذا عيال كثيرة قال ـ صلى ا عليه وسلم‬ ‫ـ للعباس عمه الذي كان من أيسر بني هاشم ‪’’ :‬يا عباس‪ ،‬إن أخاك أبا‬ ‫طالب كثير العيال وقد أصاب الناس ما ترى من هذه الزمة فانطلق بنا إليه‬ ‫فلنخفف عنه من عياله‪ :‬آخذ من بنيه رجلً و تأخذ أنت رجلً فنكفلهما‬ ‫عنه’’‪ ،‬فقال العباس ‪ :‬نعم‪ .‬فانطلقا حتى أتيا أبا طالب فقال له ‪ :‬إنا نريد أن‬ ‫نخفف عنك من عيالك حتى ينكشف عن الناس ما هم فيه ‪ ،‬فقال لهما أبو‬ ‫طالب ‪ :‬إذا تركتما عقيلً فاصنعا ما شكئتما ‪.‬فأخذ رسول ا َعلًيا فضمه إليه‬ ‫وأخذ العباس جعفًرا فضمه إليه‪.‬‬ ‫وفي صبح يوم جديد أظل مكة خبر نبوة محمد‪ ،‬ورب محمد الذى يدعو‬ ‫الناس لنبذ الصنام‪ ،‬وتوحيد الواحد الديان‪ ،‬آمن مع الرسول ـ صلى ا عليه‬ ‫‪62‬‬


‫وسلم ـ من آمن‪ ،‬ومنهم أبناء عمومته يسبقهم علًيا ويأتي بعده جعفر الذي‬ ‫عقد العزم للهجرة إلى الحبشة هو وزوجه‪ ،‬فتودعه أمه فاطمة ملتاعة عليه‬ ‫ولم تحمل في نفسها شيًكئا تجاه ولدها محمد لنه أتى بدين فرق بين المرء‬ ‫وأهله‪ ،‬يشهد لها بهذا يوم أن علقت مكة صحيفتها وأوكلت إلى َبةِغيض بن‬ ‫عامر بن هاشم مهمة كتابة ما اتفقوا عليه "أل يقبلوا من بني هاشم صلًحا‬ ‫أبًدا‪ ،‬ول تأخذهم بهم رأفة حتى يسلموا محمًدا للقتل" فانحاز بنو هاشم وبنو‬ ‫المطلب‪ ،‬مؤمنهم وكافرهم ـ إل أبا لهب ـ وحبسوا في شعب أبي طالب‪ ،‬من‬ ‫السنة السابعة من البعثة الشريفة‪ ،‬فتدخل مع زوجها وأولدها لتعاني مع من‬ ‫عانى من الجوع والعطش وأكل أوراق الشجر لثلثة أعوام بين قلب سافر‬ ‫نصفه حيث أرض النجاشي‪ ،‬ونصفه الخر مع ما يعانيه أهلها في هذا‬ ‫الحصار القاسي‪ ،‬كما أنها لم تجزع ولم تعترض حين كان أبو طالب يقدم‬ ‫أولدها فداًء للرسول ـ صلى ا عليه وسلم ـ خوًفا عليه‪ ،‬فكان إذا أخذ‬ ‫الناس مضاجعهم يأمر رسول ا ـ صلى ا عليه وسلم ـ أن يضطجع على‬ ‫فراشه‪ ،‬حتى يرى ذلك من أراد اغتياله‪ ،‬فإذا نام الناس أمر أحد بنيه أو‬ ‫إخوانه أو بني عمه فاضطجع على فراش رسول ا ـ صلى ا عليه وسلم‬ ‫ـ‪ ،‬وأمره أن يأتي بعض فرشهم ‪ ،‬وهذا لن محمًدا ـ صلى ا عليه وسلم ـ‬ ‫كان لها كأولدها‪ ،‬بل كان الثير عندها‪.‬‬ ‫لم تكد ستة أشهر من الخروج من الشعب تمضي حتى أعلن الناعي خبر‬ ‫وفاة أبي طالب في رجب سنة عشر من النبوة‪ ،‬ثم لحقته خديجة‪.‬‬ ‫والراجح من الروايات التاريخية أن فاطمة بنــت أســد أســلمت وهــاجرت إلــى‬ ‫المدينة المنورة‪ ،‬فقد قال ابن سعد‪" :‬أسلمت فاطمـة بنــت أســد وكــانت امــرأة‬ ‫صــالحة‪ ،‬وكــان رســول اـ ــ صــلى اـ عليــه وســلم ــ يزورهــا ويقيــل فــي‬ ‫بيتها"‪.‬‬ ‫وفي المدينة تزوج ابنها علي ـ رضي ا عنه ـ فاطمة بنت رسول ا ـ‬ ‫صلى ا عليه وسلم ـ‪ ،‬فأسكنها في بيت أمه فاطمة بنت أسد‪ ،‬وكان علًيا‬ ‫ُيوصي أمه عليها‪" :‬قُْل ُ‬ ‫ت‬ ‫سةِد ْبةِن َهاةِش ٍم‪ :‬اْكةِفي َفاةِطَمَة ةِبْن ةِ‬ ‫ت ةِل ُّمي َفاةِطَمَة ةِبْن ةِ‬ ‫ت أَ َ‬ ‫صّلى ّ‬ ‫سّلَم ‪ -‬ةِسَقاَيَة اْلَماةِء َوالّذَهاَب ةِفي اْلَحاَجةِة ‪،‬‬ ‫سوةِل ّ ةِ‬ ‫اُ َعَلْيةِه َو َ‬ ‫ا‪َ -‬‬ ‫َر ُ‬ ‫خةِل الّطْحَن َواْلَعْجَن" )‪.(1‬‬ ‫َوَتْكةِفيةِك ةِخْدَمَة الّدا ةِ‬

‫‪63‬‬


‫ومع دخول السنة الخامسة من الهجرة كانت أنفاس الهاشمية القرشية‬ ‫الحانية قد فارقت الحية الفانية راضيًة مرضية‪ ،‬ولما علم الرسول ـ صلى ا‬ ‫عليه وسلم ـ بالنبأ ألبسها قميصه الطاهر‪ ،‬كما جاء في أقوى الروايات ـ‬ ‫حيث ورد في وفاتها عدة روايات ل تخلو من ضعف ـ وهي رواية أنس بن‬ ‫س ْبةِن َمالةِ ٍك َقالَ ‪َ :‬لّما َماَتْت َفاةِطَمُة ةِبْن ُ‬ ‫ت‬ ‫مالك رضي ا عنه‪ ،‬حيث قال‪َ :‬عْن أَ​َن ةِ‬ ‫صّلى ّ‬ ‫ضَي ّ‬ ‫سةِد ْبةِن َهاةِش ٍم أ ُّم َعلةِّي ‪َ -‬ر ةِ‬ ‫سول ُ ّ ةِ‬ ‫ا‪َ -‬‬ ‫اُ َعْنُهَما ‪َ -‬دَخلَ َعَلْيَها َر ُ‬ ‫أَ َ‬ ‫اُ‬ ‫س ةِعْنَد َرْأةِسَها ‪َ ،‬فَقالَ ‪َ’’ :‬رةِحَمةِك ّ‬ ‫ت أ ُّمي َبْعَد‬ ‫اُ َيا أ ُّمي‪ُ ،‬كْن ةِ‬ ‫سّلَم ‪َ -‬فَجَل َ‬ ‫َعَلْيةِه َو َ‬ ‫أ ُّمي‪َ ،‬تُجوةِعيَن َوُت ْ‬ ‫سةِك َطّيًبا‬ ‫شةِبةِعيةِني‪َ ،‬وَتْعَرْيَن َوَتْكةِسيةِني‪َ ،‬وَتْمَنةِعيَن َنْف َ‬ ‫سلَ َثَلًثا‪،‬‬ ‫َوُتْطةِعةِميةِني‪ُ ،‬تةِريةِديَن ةِبَذلةَِك َوْجَه ّ ةِ‬ ‫ا َوالّداَر اْلةِخَرَة ’’‪ُ .‬ثّم أَ​َمَر أَْن ُتَغ ّ‬ ‫صّلى ّ‬ ‫سّلَم ‪-‬‬ ‫سول ُ ّ ةِ‬ ‫اُ َعَلْيةِه َو َ‬ ‫ا‪َ -‬‬ ‫سَكَبُه َر ُ‬ ‫َفَلّما َبَلَغ اْلَماَء اّلةِذي ةِفيةِه اْلَكاُفوُر َ‬ ‫صّلى ّ‬ ‫سَها إةِّياُه ‪،‬‬ ‫سول ُ ّ ةِ‬ ‫صُه َفأ َْلَب ُ‬ ‫سّلَم ‪َ -‬قةِمي َ‬ ‫اُ َعَلْيةِه َو َ‬ ‫ا‪َ -‬‬ ‫ةِبَيةِدةِه ‪ُ ،‬ثّم َخَلَع َر ُ‬ ‫صّلى ّ‬ ‫ساَمَة ْبَن‬ ‫سول ُ ّ ةِ‬ ‫سّلَم ‪ -‬أ ُ َ‬ ‫اُ َعَلْيةِه َو َ‬ ‫ا‪َ -‬‬ ‫َوَكّفَنَها ةِبُبْر ٍد َفْوَقُه‪ُ ،‬ثّم َدَعا َر ُ‬ ‫ب‪َ ،‬وُغَلًما أَْسَوَد َيْحةِفُرون‪،‬‬ ‫ي‪َ ،‬وُعَمَر ْبَن اْلَخّطا ةِ‬ ‫صاةِر ّ‬ ‫َزْي ٍد‪َ ،‬وأَ​َبا أَّيوَب اْلَْن َ‬ ‫صّلى ّ‬ ‫سّلَم ‪-‬‬ ‫سول ُ ّ ةِ‬ ‫اُ َعَلْيةِه َو َ‬ ‫ا‪َ -‬‬ ‫َفَحَفُروا َقْبَرَها‪َ ،‬فَلّما َبَلُغوا الّلْحَد َحْفَرُه َر ُ‬ ‫صّلى ّ‬ ‫سّلَم ‪-‬‬ ‫سول ُ ّ ةِ‬ ‫اُ َعَلْيةِه َو َ‬ ‫ا‪َ -‬‬ ‫ةِبَيةِدةِه‪َ ،‬وأَْخَرَج ُتَراَبُه ةِبَيةِدةِه‪َ ،‬فَلّما َفَرَغ َدَخلَ َر ُ‬ ‫ضَطَجَع ةِفيةِه‪َ ،‬فَقالَ ‪ّ ’’ :‬‬ ‫ت‪َ ،‬وُهَو َحّي َل َيُمو ُ‬ ‫اُ اّلةِذي ُيْحةِيي َوُيةِمي ُ‬ ‫ت‪ ،‬اْغةِفْر‬ ‫َفا ْ‬ ‫سْع َعَلْيَها ُمْدَخَلَها ةِبَحّق َنةِبّيَك‬ ‫ةِل ُّمي َفاةِطَمَة ةِبْن ةِ‬ ‫س ٍد‪َ ،‬وَلّقْنَها ُحّجَتَها‪َ ،‬وَو ّ‬ ‫ت أَ َ‬ ‫َواْلَْنةِبَياةِء اّلةِذيَن ةِمْن َقْبةِلي; َفإةِّنَك أَْرَحُم الّراةِحةِميَن’’‪َ .‬وَكّبَر َعَلْيَها أَْرَبًعا‪،‬‬ ‫ضَي ّ‬ ‫اُ َعْنُهْم ـ )‪..(2‬‬ ‫صةِديُق ‪َ -‬ر ةِ‬ ‫َوأَْدَخُلوَها الّلْحَد ُهَو‪َ ،‬واْلَعّباس‪َ ،‬وأَُبو َبْك ٍر ال ّ‬ ‫وهي أقوى الروايات مع ضعفها جميًعا‪.‬‬ ‫اضطجع ـ صلى ا عليه وسلم ـ في اللحد أي الحفرة التي ل تتسع إل‬ ‫لواحد بالكاد‪ ،‬قبل دخول زوج عمه فيــه‪ ،‬علــى مــرأي ومســمع‪ ،‬والضــطجاع‬ ‫غير المضاجعة‪ ،‬ولو ضممنا حديث ابن عباس ـ على مافيه من جهالة ـ ـ إلــى‬ ‫الحديث السابق لعلمنا المقصد والغاية من فعل رسول ـ صلى ا عليه وســلم‬ ‫ضّطَجْع ُ‬ ‫ت َمَعَها ةِفي‬ ‫س ةِمْن ةِثَيا ةِ‬ ‫ـ الذي قال ‪’’:‬أَْلَبْسُتَها َقةِمي ةِ‬ ‫ب اْلَجّنةِة‪َ ،‬وا ْ‬ ‫صي ؛ لةَِتْلَب َ‬ ‫اـ إةَِلـّي‬ ‫سـةِن َخْلـةِق ّ ةِ‬ ‫ضـْغَطةِة اْلَقْبـةِر؛ إةِّنَهــا َكــاَنْت ةِمـْن أَْح َ‬ ‫ف َعْنَها ةِمْن َ‬ ‫َقْبةِرَها ‪ُ،‬خّف َ‬ ‫صةِنيًعا َبْعَد أَةِبي َ‬ ‫طاةِلب’’ )‪.(3‬‬ ‫َ‬

‫‪64‬‬


‫وبالجمع بين الروايتين يكون معنى "اضطجعت معها" يعني ‪ :‬معها في‬ ‫نفس المكان‪ ،‬وليس في نفس الوقت ‪.‬‬ ‫ب َخَلَع الّنةِبّي‬ ‫س َقالَ ‪َ :‬لّما َماَتْت َفاةِطَمُة أ ُّم َعلةِّي ْبةِن أَةِبي َطالةِ ٍ‬ ‫َوَعةِن اْبةِن َعّبا ٍ‬ ‫صّلى ّ‬ ‫ي‬ ‫سّو َ‬ ‫ضَطَجَع ةِفي َقْبةِرَها‪َ ،‬فَلّما ُ‬ ‫سَها إةِّياُه ‪َ ،‬وا ْ‬ ‫صُه َوأَْلَب َ‬ ‫سّلَم َقةِمي َ‬ ‫اُ َعَلْيةِه َو َ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫صَنْعَت َ‬ ‫صَنْعُه ةِبأ َ​َح ٍد! َفَقاَل‪:‬‬ ‫سولَ ةِ‬ ‫شْيًكئا َلْم َت ْ‬ ‫ا‪َ ،‬رأَْيَناَك َ‬ ‫ب َقاُلوا‪َ :‬يا َر ُ‬ ‫َعَلْيَها الّتَرا ُ‬ ‫ضّطَجْع ُ‬ ‫ت َمَعَها ةِفي َقْبةِرَها;‬ ‫س ةِمْن ةِثَيا ةِ‬ ‫’’ أَْلَبْسُتَها َقةِمي ةِ‬ ‫ب اْلَجّنةِة‪َ ،‬وا ْ‬ ‫صي؛ لةَِتْلَب َ‬ ‫صةِنيًعا َبْعَد‬ ‫سةِن َخْلةِق ّ ةِ‬ ‫ا إةَِلّي َ‬ ‫ضْغَطةِة اْلَقْبةِر؛ إةِّنَها َكاَنْت ةِمْن أَْح َ‬ ‫ف َعْنَها ةِمْن َ‬ ‫ُخّف َ‬ ‫ب’’‪.‬‬ ‫أَةِبي َطالةِ ٍ‬ ‫وأما ما قاله ابن َ‬ ‫شّبة عن عبد العزيز بن عمران ما حاصله‪" :‬أن النبي ـ‬ ‫صلى ا عليه وسلم ـ لم ينزل في قبر أح ٍد قط إل خمسة قبور‪ :‬ثلث نسوة‬ ‫و رجلين‪ ،‬منها قبر خديجة بمكة‪ ،‬و أربع بالمدينة‪ :‬قبر ابن خديجة كان في‬ ‫حجر النبي صلى ا عليه وسلم و تربيته‪ ،‬و قبر عبد ا المزني الذي يقال‬ ‫له ‪:‬ذو البجادين‪ ،‬وقبر أم رومان أم عاكئشة بنت أبي بكر الصديق‪ ،‬وقبر‬ ‫ي")‪.(4‬‬ ‫فاطمة بنت أسد‪ ،‬أ ُّم َعل ّ‬ ‫قال الذهبي رحمه ا تعالى ‪" :‬وفي ذي الحجة ماتت أم رومان بنت عامر‬ ‫بــن عــويمر الكنانيــة أم عاكئشــة رضــي اـ عنهمــا فــي الســنة السادســة مــن‬ ‫الهجرة‪ ،‬وأخرج البخاري من رواية مسروق عنها حديًثا وهو منقطع لنه لم‬ ‫يدركها‪ ،‬أو قد أدركها فيكون تاريخ موتها هذا خطأ" )‪.(5‬‬ ‫وهذا صحيح أن تاريخ موت أم رومان خطأ فهّي لم تمت‬ ‫في العام السادس من الهجرة كما ذكر الواقدي‪ ،‬لنها كانت حاضرة‬ ‫ك لإِْن ُك ْ​ْنلَتُّن تُِرْد َنل الَْح فيَلعاَة‬ ‫حين نزلت آية التخيير ‪﴿ :‬يَعا َأيلَّه عال ْن‬ ‫الّبِّج ي قُْل ِلَْزَو الِج َ‬ ‫الّد نلْفيَعا َوِزيْنَ​َتلَ​َه عال فلَ​َتلَععالَْفيَن أَُمَتلّْعُكلّنل َوأُلَس ّرلْح ُكلّنلَس َرلاًح عالَج ِملفيلًل )‪َ (28‬و إِلْن ُك ْ​ْنلَتُّن تُِرْد َنل‬ ‫تِم ْ​ْنلُك ّنل أَج رللا َع ِ‬ ‫اللَّه ورس اولَهُ واللّد الر اْلَِخ رلَة فَِإ ّنل اللَّه أَ​َعّد لِْلم ْحلِسل ْنَلعا ِ‬ ‫ظ فيلًم عال﴾)‪(6‬‬ ‫ُ‬ ‫ًْ‬ ‫َ​َُ َ َ َ‬ ‫وباتفاق كان تاريخ نزولها فى سنة تسع )‪ ،(7‬وهذا ما يؤكده ابن‬ ‫القيم )‪ (8‬عن موت أم رومان في حياة الرسول صلى ا عليه وسلم‪:‬‬ ‫‪65‬‬


‫"أنه حديث ل يصح وفيه علتان تمنعان صحته‪ ،‬إحداهما أن زيد بن‬ ‫جدعان ضعيف الحديث‪ ،‬والثانية أنه رواه القاسم بن محمد عن‬ ‫النبي وهو لم يدرك زمن رسول ا صلى ا عليه وسلم‪ ،‬وحديث‬ ‫البخاري إسناده كالشمس"‪.‬‬ ‫وعلى هذا نقول باطمكئنان أن أم الرسول ـ صلى ا عليه وسلم ـ فاطمــة‬ ‫بنت أسد هى المرأة الثانية بعد زوجه خديجة ـ رضى ا عنهما ـ ـ الــتى نــزل‬ ‫قبرها ل سواهما‪ ،‬وهذا إن دل فإنما يدل على فضيلة لم تفته ـ صلى ا عليه‬ ‫وسلم ـ فيمن أحسن إليه أن يحسن إليه بأعظم مما أحسن‪ ،‬إنه الوفــاء أعظــم‬ ‫قيمة يقابلها وسيقابلها من تفضل ا عليه بقراءة سيرته العطرة ـ صلى اــ‬ ‫عليه وسلم ـ‪ ،‬تجدها في أعظمها حين تطالع وفاؤه لخديجة ـ رضى ا عنها‬ ‫ـ‪ ،‬وتجدها بعد هذا في مستويات متفاوتة عند غيرها‪ ،‬عنـدما يبـذل المـال‪ ،‬أو‬ ‫ي زوجـه‬ ‫الحرية‪ ،‬أو العفو‪ ،‬وأعظمها عندما ينــزل بجسـده الشــريف فــي قـبر ّ‬ ‫وأّ​ّمه خديجة وفاطمة ـ رضي ا عنهما ـ ومرد هذا أنهما أطــول مــن عــايش‬ ‫من النساء عمًرا وزمًنا فى بيت واحد‪ ،‬وهما أكثر من منحــاه الحــب والمــودة‬ ‫واليثار عن رضا ودون انتظار المكافأة والثواب‪.‬‬

‫نساء فى حياة الرسول‬

‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ هامش الفصل‬

‫‪66‬‬

‫الخامس ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ السيد إبراهيم‬


‫‪ .‬الطبراني )‪ (20326‬وفيه انقطاع)‪(1‬‬ ‫‪.‬الطبراني )‪ ( 20324‬وفيه ضعف)‪(2‬‬ ‫‪.‬الّطَبَراِنّي ِفي اْلَ ْوَرسِط )‪ ( 7128‬وفيه جهالة)‪(3‬‬ ‫‪) .‬نور الدين الرسمهودي ‪ :‬وفا الوفاء بأخبار المصطفى‪)،‬ج ‪ 3‬صـ ‪(4) 275‬‬ ‫)‪ (5‬محمد بن رسعد بن منيع ‪:‬الطبقات الكبرى )‪. (8/276‬‬ ‫)‪ (6‬رسورة الحزاب ‪) :‬اليتان ‪28‬ـ ‪.(29‬‬ ‫)‪ (7‬ابن حجر ‪ :‬فتح الباري )ج ‪ 7‬ص ‪.(438‬‬ ‫)‪ (8‬ابن القيم ‪ :‬زاد المعاد ) ج ‪ 3‬ص ‪. (238‬‬

‫‪67‬‬


‫الفصل السادس‬

‫ساةِء أَْهةِل الَجّنةِة‬ ‫السيدة خديجة ‪ :‬سّيَدُة ةِن َ‬ ‫و سيدة المسلمين الولى‬

‫مضت اليام وقد جاوز النبي ـ صلى ا عليه وسلم ـ سن الفتوة حتى‬ ‫أصبح في شر خ الشباب ولم تحدثه نفسه أو من حوله بخطب ٍة أو زواج‪ ،‬مع‬ ‫كونه جميل الةِخلقة‪ ،‬قويم الخلق‪ ،‬محمود السيرة‪ ،‬رفيع النسب‪ ،‬وكان َحرًيا‬ ‫لوتقدم لخطبة من يريد لما ُرّد طلبه‪ ،‬غير أنه ـ صلى ا عليه وسلم ـ كان ل‬ ‫يهتم بشكئون البدن‪ ،‬فماله الذي يجنيه من سعيه في الرعي تارة وتارة من‬ ‫الشراكة في تجارة يكاد يقوم بأوده‪ ،‬عمه ذو عيال فمن أين له بالمال‬ ‫والوقت؟‬ ‫‪68‬‬


‫أما السيدة خديجة بنت خويلد بن أسد بن عبد العزي بن قصي فالمتفق‬ ‫عليه في حياتها أنها كانت ذات نسب طاهر‪ ،‬وجمال باهر‪ ،‬ومال وافر‪ ،‬سيدة‬ ‫قرشية لبيبة‪ ،‬جليلة‪ ،‬حازمة رشيدة‪ ،‬ولدت ونبتت في بيت مجد وسؤدد من‬ ‫نسل طيب العراق‪ ،‬عاشت عمرها مخدومة ل خادمة؛ فالخدم يملون‬ ‫دارها‪ ،‬ويقومون على رعايتها ورعاية أولدها من زيجتين سابقتين من‬ ‫سادات رجال قريش‪ ،‬أولهما هند بن النباش بن زرارة وأنجبت منه ولدين‬ ‫هند وهالة ثم مات عنها‪ ،‬أما ثانيهما فهو عتيق بن عابد بن عبدا وأنجبت‬ ‫منه بنًتا سمتها هند ثم مات عنها هو الخر‪ ،‬فعاشت بعدهما لتربية أولدها‪،‬‬ ‫ورعاية مالها الذي زاد بميراثها عنهما فاستثمرته في التجارة كعادة أهل‬ ‫قريش فكانت تستأجر الرجال فتضاربهم عليه‪.‬‬ ‫وامرأة هذا حالها هل فكر مرة النبى ـ صلى ا عليه وسلم ـ أن يتخذها‬ ‫زوجا ً له؟ ‪ ..‬والجابة بالنفى؛ لنه يعلم أنها أوسط نساء قريش نسًبا‪،‬‬ ‫وأعظمهّن شرًفا‪ ،‬وأكثرهن ماًل‪ ،‬و يعلم أن كل قومها من أشراف مكة‬ ‫يتمنون ويطلبون القتران بها‪ ،‬حتى أنه لم تحدثه نفسه بالعمل فى تجارتها‬ ‫إل حين عرض عليه عمه‪" :‬يا ابن أخي أنا رجل ٌ ل مال لي وقد اشتد الزمان‬ ‫وألّحت علينا سنون منكرة‪ ،‬وهذه عيُر قومك قد حضر خروجها إلى الشام‪،‬‬ ‫وخديجة بنت خويلد تبعث رجالً من قومك في عيرها فيّتجرون لها في مالها‬ ‫ضَلتك على غيرك لما يبلغها‬ ‫ويصيبون منافع‪ ،‬فلو جكئّتها لَْسرعْت إليك وف ّ‬ ‫عنك من طهارتك"‪ ..‬ولكن إذا أراد ا أمًرا هيأ له السباب؛ فقد ُولةَِد محمد‬ ‫يتيًمًا‪ ،‬وعاش يتيًما‪ ،‬ثم آتاه ا اليسر العامل‪ ،‬وكفاه العيش الكاد ح‪ ،‬رعى‬ ‫الغنم وَدّبر التجارة‪ ،‬ثم بسط ا له تعالى الرزق‪ ،‬وأتاه الزوج الوفية‬ ‫الرضية‪ ،‬فأكمل ا بها انسانيته‪ ،‬وأكمل لها أمومتها‪ ،‬وتوافقا في قطع فيافي‬ ‫هذا الوجود‪ ،‬وكّمل كل منهما ماينقصه بما عند الخر‪ ،‬هي امرأة شريفة‪،‬‬ ‫ذات ثراء‪ ،‬وهو رجل مكتمل عامل قوي أمين‪ ،‬فأغناها بأمانته وكفلها‬ ‫برجولته‪ ،‬ووجه مالها إلى الخير بحسن نيته وطيب طويته‪ ..‬وقد كان يعمل‬ ‫لها في المال بأجر مضاعف‪ ،‬تطيب به نفسها‪ ،‬ويكسب ماُلها على يديه‬ ‫أضعاف ما ينتج غيره‪ ،‬وكان عبداً شكوًرا‪ ،‬ولو استمر في هذه الطريق يعمل‬ ‫في مالها ومال غيرها‪،‬لَدّر ا عليه أخلف الرزق‪ ،‬ولو كان يبتغي المال‬ ‫وأعراض هذه الدنيا‪ ،‬لنال الشباب والمال مًعا‪ ..‬ولكنه ـ صلى ا عليه‬ ‫وسلم ـ رأى أن يعمل في مالها بغير أجر‪ ،‬وأن يضاعفه بغير ثمن‪ ،‬وأن‬ ‫‪69‬‬


‫تكون أم ولده‪ ،‬لطيب عرفها وشرف نفسها‪ ،‬وقد تخير لنطفته فاختار أكمل‬ ‫امرأة في قريش أعلها فى المكرمات كعًبا‪ ،‬وقد اختارها ا تعالى له لتكون‬ ‫له ردًءا في شداكئده‪ ،‬تواسيه بالكلمة والعطف والحنان‪ ،‬في وقت قد اشتد‬ ‫فيه البلء‪ ،‬وَعُظم البتلء‪ ،‬فأعَنَته المخالفون‪ ،‬وكان عزيًزا عليه أن‬ ‫ُيعةِنَتُهْم‪ ،‬فكان في حاجة إلى من يأوى إليه‪ ،‬كما هو في حاجة إلى من يذود‬ ‫عنه‪ ..‬وإذا كانت امرأة نو ح وامرأة لوط قد تخاذلتا عن معاونة النبيةِين‬ ‫الصالحةِين‪ ،‬فامرأة محمد أعلت شأن النساء قاطبة‪ ،‬فكانت الزوج الملهمة‬ ‫المواسية‪ ،‬الودود العطوف الولود‪ ،‬يلقى قريش وصدودها‪ ،‬وعداوتها‬ ‫وجفوتها‪ ،‬فاذا آوى إلى بيته وجد برداً وسلًما ‪ ..‬وإذا كان قد فقد عطف‬ ‫الم الرؤوم في صدر حياته في وقت الحاجة‪ ،‬فقد عوضه ا في خديجة‬ ‫جا وأًما ورفيقة الحياة)‪.(1‬‬ ‫زو ً‬ ‫فالرسول ـ صلى ا عليه وسلم ـ لم يسع ل للعمل ول للزواج من سيدة‬ ‫مكة خديجة‪ ،‬ولول أنها هّي التى تولت زمام المبادرة بطلبه للزواج ماتقدم‬ ‫ـ صلى ا عليه وسلم ـ خطوة واحدة‪ ،‬وهذا الحوار القصير بينه وبين‬ ‫سة بنت ُمْنَية ليدل على هذا أشد الدللة حين فاتحته‬ ‫مبعوثة خديجة َنةِفي َ‬ ‫ج ةِبةِه’’‪ ،‬قلت‪:‬‬ ‫قاكئلة‪ :‬محّمد! ما يمنعك أن تزّوج؟‪ ،‬فقال‪َ’’ :‬ما ةِبَيدي ما َأتزّو ُ‬ ‫فإن ُكةِفيَت ذلك وُدعيَت إلى الجمال والمال والشرف والكفاءة أل ُتجيب؟‪،‬‬ ‫ف لي ةِبَذلك؟’’‪ ،‬قلت‪ :‬علّي‪،‬‬ ‫قال‪َ’’ :‬فَمن هّي؟’’‪ ،‬قلت‪ :‬خديجة‪ ،‬قال‪َ’’:‬وَكي َ‬ ‫قال‪’’ :‬فأنا أَْفعل ُ’’‪ .‬وبالتالى فهو ليس نفعًيا ول متسلًقا‪ ،‬ول نهاًزا للفرص ـ‬ ‫حاشاه ـ فلم يكن من أمره بعد زواجه منها ما يـــدل علي إسرافه في مالها‬ ‫كما يفعل النفعيون الذين يتزوجون العجاكئز الثريات؛ فلم يعمد إلي البذ خ في‬ ‫مظهره‪ ،‬بل كان متواضًعا عفيًفا‪ ،‬ولم يعمد إلي القصف مع أبناء المياسير‬ ‫إظهاًرالثراكئه الطاريء)‪ ،(2‬كما لم يتمتع بتلك الثروة‪ ،‬ولم يتلذذ بها‪ ،‬بل‬ ‫قضى حياته فقيًرا)‪ ،(3‬ولو أن رجلً تزوج خديجة ـ الجميلة الغنية ـ لقبل‬ ‫علي الدنيا ولكان همه أن ينمي ثروتها ليربو حظه من الراحة المادية‪،‬‬ ‫ولغشّي مجالس مكة حيث تدور الكـؤوس الُمترعة البـاعثة للنشوة في‬ ‫الرؤوس‪ ،‬وحيث تسمع أحلى الحاديث وأجمل الدعابات‪ ،‬وأطلى‬ ‫القاصيص )‪ ،(4‬يجوز هذا على أي أحد إل محمد ـ صلى ا عليه وسلم ـ‬ ‫لنه رغم فقره‪،‬عرف قدر نفسه‪ ..‬وحفظ لها عزتها ‪ ..‬فلم تهن يوًما عليه‬ ‫‪ ..‬ولم يهنها أحد ‪ ..‬حتى صار وهو ابن الكرمين ‪ ..‬سليل سادات قريش‬ ‫‪70‬‬


‫ومجد الهاشميين المكين ‪ ..‬والمتصف بالصادق المين ‪ ..‬الزوج النسب‬ ‫للطاهرة القرشية‪ ،‬وسيدة نساء العالمين‪.‬‬ ‫عاش مع خديجة ـ رضي ا عنها ـ قصة راكئعة من الحب والوفاء‬ ‫والسعادة والمتنان‪ ،‬فسار بهما قارب الحياة في سعادة غامرة‪ ،‬وحزن‬ ‫عميق موجع؛ فليس هناك حزن في الدنيا يضارع حزن فقد الولد في حياة‬ ‫والديهم وقد ذاقاه عند موت طفلهما الول القاسم وهو دون السنتين‪ ،‬ثم ل ح‬ ‫لهما المل مجدًدا مع ميلد طفلهما الثاني عبدا غير أن يد المنون لم‬ ‫تفلته فلحق بأخيه‪ ،‬وكان عزاؤهما فى زينب ثم رقية فأم كلثوم وخاتمة‬ ‫المطاف الزهراء فاطمة‪.‬‬ ‫فكيف له ـ صلى ا عليه وسلم ـ أن يقترن بغيرها فى حياتها ـ رضى ا‬ ‫عنها ـ وهي القريبة منه بعد القلب فى النسب؛ إذ يجتمعان فى )قصي(‪،‬‬ ‫وشهد بيتها بزوغ نور السلم‪ ،‬وأول من آمنت بالرسالة من نساء‬ ‫العالمين‪ ،‬حتى صارسبق إيمانها ومن حولها من أهل البيت‪ ،‬الدليل الناصع‬ ‫والبرهان الصحيح على صدق ما جاء به ـ صلى ا عليه وسلم ـ‪ ،‬هل كان‬ ‫باستطاعة امرأًة سواها أن تأسو جرحه القديم الغاكئر الذي تركه في أعماقه‬ ‫موت أمه بين يديه؟! ‪ ..‬هل كان لنثى غيرها‪ ،‬أن تهييء له الجو المسعف‬ ‫على التأمل‪ ،‬وأن تبذل له من نفسها ـ فى إيثار نادرـ ما أعده لتلقي رسالة‬ ‫ا؟! ‪ ..‬هل كان لزوجة عداها أن تستقبل عودته التاريخية من غار حراء‬ ‫بمثل ما استقبلته هي به من حنان مستثار وعطف فياض وإيمان قوي‪ ،‬دون‬ ‫أن يساورها في صدقه أدنى ريب‪ ،‬أو يتخلى عنها يقينها في أن ا غير‬ ‫مخزيه أبًدا؟! ‪ ..‬هل كان في طاقة سيدة غير خديجة‪ ،‬غنية مترفة ُمنّعمة‪ ،‬أن‬ ‫تتخلى راضية عن كل ما ألفت من راحة ورخاء ونعمة‪ ،‬لتقف إلى جوار‬ ‫رجلها في أحلك أوقات المحنة‪ ،‬وتعينه على أفد ح ألوان الذى وصنوف‬ ‫الضطهاد‪ ،‬في سبيل ما تؤمن أنه الحق؟! ‪..‬كل ‪ ..‬بل هي وحدها التى‬ ‫أعدتها القدار لتمل حياة الرجل الموعود بالنبوة‪ ،‬وتكون لليتيم أًما وللبطل‬ ‫ملهمة‪ ،‬وللمناضل ملًذا وسكًنا‪ ،‬وللنبي المبعوث نبع ثقة وطمأنينة سلم)‪.(5‬‬

‫‪71‬‬


‫فصارت لها منزلة فوق منزلة نساء النبيين والعالمين كما جاء فى‬ ‫ساةِء‬ ‫سْول ُ ةِ‬ ‫سّلَم ‪’’ :‬سّيَدةُ ةِن َ‬ ‫صّلى اُ َعَلْيةِه َو َ‬ ‫ا َ‬ ‫س‪َ :‬قالَ َر ُ‬ ‫الحديث َعةِن اْبةِن َعّبا ٍ‬ ‫أَْهةِل الَجّنةِة َبْعَد َمةِرْيَم ‪َ :‬فاةِطَمُة‪َ ،‬وَخةِدْيَجُة‪َ ،‬واْمَرأَةُ ةِفْرَعْوَن؛ آةِسَيُة’’‪.‬‬ ‫ولّما كان بيتها بعد قلبها ـ رضّي ا عنها ـ يحوط الرسول ـ صلى ا‬ ‫عليه وسلم ـ بالهدوء والراحة والسكينة‪ ،‬من وقت ما زملته ودثرته عند‬ ‫نزوله من غارحراء‪ ،‬لحين مسحت عنه ما علق به من صخب ونصب ممن‬ ‫لحقوه بالتكذيب والتهوين والتشويش بعد أن أنذر و بشر برسالة السماء‪،‬‬ ‫أفاء ا سبحانه وتعالى عليها ببيت أحسن منه تظلله السكينة والسلم‪،‬‬ ‫صّلى اُ َعَلْيةِه‬ ‫ل‪ :‬أَ​َتى ةِجْبةِرْيل ُ الّنةِبّي َ‬ ‫فعْن أَةِبي ُزْرَعَة أنه َ‬ ‫سةِمَع أَ​َبا ُهَرْيَرَة َيقُْو ُ‬ ‫سّلَم َفَقاَل‪َ" :‬هةِذةِه َخةِدْيَجُة أَ​َتْتَك َمَعَها إةَِناٌء ةِفْيةِه إَداٌم أَْو َطَعاٌم أَْو َ‬ ‫ب‪َ ،‬فإةَِذا‬ ‫شَرا ٌ‬ ‫َو َ‬ ‫سلَ​َم ةِمْن َرّبَها َوةِمّني‪َ ،‬وَب ّ‬ ‫ت ةِفي الَجّنةِة ةِمْن‬ ‫شْرَها ةِبَبْي ٍ‬ ‫ةِهَي أَ​َتْتَك‪َ ،‬فاْقَرْأ َعَلْيَها ال ّ‬ ‫صَب‪ .‬فردت رضى ا عنها السلم قاكئلة‪ :‬ا‬ ‫ص ٍ‬ ‫صَخَب ةِفْيةِه َولَ َن َ‬ ‫ب‪ ،‬لَ َ‬ ‫َق َ‬ ‫السلم‪ ،‬ومنه السلم‪ ،‬وعلى جبريل السلم"‪.‬‬ ‫يقول شار ح المواهب اللدنية ‪" :‬هذا من وفور فقهها‪ ،‬حيث جعلت مكان‬ ‫رد السلم على ا تعالى الثناء عليه‪ ...‬لن ا الخالق سبحانه ل ُيرد عليه‬ ‫السلم كما يرد على المخلوق فالسلم يحمل معنى الدعاء بالسلمة‪،‬‬ ‫والمان له‪ ،‬فكان معنى قولها رضى ا عنها ‪ :‬ا السلم فكيف أقول‬ ‫عليه السلم ومنه سبحانه ُيستمد السلم‪ ،‬وإليه يعود السلم‪ ،‬وبه عزوجل‬ ‫يسود السلم؟"‬ ‫أقبل العام العاشر من البعثة المباركة بأحزان لم يعشها النبى ـ صلى ا‬ ‫عليه وسلم ـ مــن قبــل؛ ففــى خلل أيــام قليلت رحــل عنــه عمــه الــذي أحبــه‬ ‫وعاش فى كنفه‪ ،‬وزاد عنه‪ ،‬وأشفق وخاف عليه‪ ،‬ثم داهمـه مـرض خديجـة‬ ‫أحب الناس إلى قلبـه ثــم فراقهــا عنــه قبــل الهجــرة بثلث سـنين‪ ،‬ولهــا مــن‬ ‫العمر خمس وستون سنة‪ ،‬فدفنها بالحُجون وقد نزل ـ صلى ا عليه وســلم‬ ‫ـ في قبرها‪ ،‬لترحل من الدنيا وترحل معها سنوات من العمر قضــاها كأجمــل‬ ‫أيام حياته‪ ،‬لم يفتأ يذكرها بعدها‪.‬‬

‫‪72‬‬


‫حتى بعد زواجه الثالث من السيدة عاكئشة ـ رضّي ا عنها ـ التى عانت‬ ‫كثيًرا ‪ ،‬وصبرت كثيًرا من ذكره ـ صلى ا عليه وسلم ـ لزوجه الراحلة‬ ‫ضا التى تؤكد عن مدى حبه وتعلقه‬ ‫خديجة ـ رضّي ا عنهاـ‪ ،‬بل و أفعاله أي ً‬ ‫بأيام ذلك الزواج الول‪ ،‬وذلك حين يقدم )هالة( ابن خديجة َعَليه َوُهَو َراةِقد‬ ‫ ح وشوق وحنين‪ .‬وحين‬ ‫ضّمُه إةَِلى َ‬ ‫َفاْسَتْيَقَظ َف َ‬ ‫صْدره َوَقالَ ‪َ’’ :‬هاَلة َهاَلة’’ بفر ٍ‬ ‫ف‬ ‫ف َحالُ​ُكْم َكْي َ‬ ‫ف أَْنُتْم َكْي َ‬ ‫َجاءْت َعُجوٌز إةَِليه صلى ا عليه وسلم‪َ ،‬فَقالَ ‪َ’’ :‬كْي َ‬ ‫ا‪َ ،‬فَلّما َخَرَجْت سألته‬ ‫سولَ ّ ةِ‬ ‫ُكْنُتْم َبْعَدَنا؟’’‪َ ،‬قاَلْت‪ :‬ةِبَخْي ٍر ةِبأ َةِبي أَْنَت َوأ ُّمي َيا َر ُ‬ ‫ا ُتْقةِبل ُ َعَلى َهةِذةِه اْلَعُجوةِز َهَذا الةِْقَباَل؟‪َ ،‬فَقالَ ‪َ’’ :‬يا‬ ‫سولَ ّ ةِ‬ ‫عاكئشة ‪َ :‬يا َر ُ‬ ‫َعاةِكئ َ‬ ‫شُة إةِّنَها َكاَنْت َتأْةِتيَنا َزَماَن َخةِديَجَة َوإةِّن ُحْسَن اْلَعْهةِد ةِمْن اةِليَماةِن’’‪ .‬وما‬ ‫رأته منه ـ صلى ا عليه وسلم ـ حين َذَبَح ال ّ‬ ‫ضاًء‪ُ ،‬ثّم‬ ‫شاَة ُثّم ُيَقّطُعَها أَْع َ‬ ‫صَداةِكئةِق َخةِديَجَة‪ ،‬بل َكاَن إةَِذا أ ُةِتَي ةِبال ّ‬ ‫شْيةِء َيُقول ‪’’ :‬ةِاْذَهُبوا ةِبةِه إةَِلى‬ ‫َيْبَعُثَها ةِفي َ‬ ‫صةِديَقة لةَِخةِديَجة’’‪ .‬وذات مرة اْسَتأَْذَنْت َهاَلُة ةِبْن ُ‬ ‫ت ُخَوْيلةِ ٍد‬ ‫ُفلَنة َفإةِّنَها َكاَنْت َ‬ ‫أ ُْخ ُ‬ ‫ف اْسةِتْكئَذاَن َخةِديَجَة‬ ‫سوةِل ّ ةِ‬ ‫ا صلى ا عليه وسلم َفَعَر َ‬ ‫ت َخةِديَجَة َعَلى َر ُ‬ ‫ش‬ ‫سُروًرا و َه ّ‬ ‫َفاْرَتاَع )َفاْرَتاَ ح( لةَِذلةَِك َفَقالَ ’’الّلُهّم َهاَلَة’’ أَْي ةِاْهَتّز لةَِذلةَِك ُ‬ ‫لةَِمةِجيةِكئَها‪َ ،‬وسر بَها لةَِتَذّكةِرةِه ةِبَها َخةِديَجة َوأَّيامَها َوَقْوله‪’’ :‬الّلُهّم َهاَلة’’ أي‬ ‫ةِاْجَعْلَها َهاَلة‪.‬‬ ‫غارت عاكئشة ـ رضي ا عنها ـ وغيرتها مشروعة فقد كانت البكر‬ ‫الوحيد التي تزوجهــــا ـ صلى ا عليه وسلم ـ‪ ،‬صبيحة مليحة‪ ،‬صغيرة‪،‬‬ ‫تحيا مع زوج تحبه ويكبرها‪ ،‬ويذكر زوجة راحلة كانت أكبر منه‬ ‫وبالتبعية تكبرها بكثير فضاق صدرها حتى قالت ‪َ" :‬ما َتْذُكُر ةِمْن َعُجو ٍز‬ ‫شْدَقْيةِن َهَلَكْت ةِفي الّدْهةِر َقْد أَْبَدَلَك ّ‬ ‫ش َحْمَراةِء ال ّ‬ ‫اُ َخْيًرا ةِمْنَها‬ ‫ةِمْن َعَجاةِكئةِز قَُرْي ٍ‬ ‫)‪ ،"(6‬وفي رواية قالت‪" :‬أَْبَدَلك ّ‬ ‫سّن" )‪.(7‬فغضب‬ ‫سّن َحةِديَثة ال ّ‬ ‫ا ةِبَكةِبيَرةِة ال ّ‬ ‫صلى ا عليه وسلم غضًبا شديًدا‪ ،‬وقال ‪َ’’:‬ما أَْبَدَلةِني ّ‬ ‫اُ َعّز َوَجلّ َخْيًرا‬ ‫س‪،‬‬ ‫صّدَقْتةِني إةِْذ َكّذَبةِني الّنا ُ‬ ‫س‪َ ،‬و َ‬ ‫ةِمْنَها‪َ ،‬قْد آَمَنْت ةِبي إةِْذ َكَفَر ةِبي الّنا ُ‬ ‫س‪َ ،‬وَرَزَقةِني ّ‬ ‫اُ َعّز َوَجلّ َوَلَدَها إةِْذ َحَرَمةِني‬ ‫سْتةِني ةِبَمالةَِها إةِْذ َحَرَمةِني الّنا ُ‬ ‫َوَوا َ‬ ‫ء’’ )‪. (8‬‬ ‫سا ةِ‬ ‫أَْولَد الّن َ‬ ‫فمن ذا الذى كان محمد يصانعه وهو يفي لخديجة كل ذلك الوفاء‬ ‫الجميل الذي يستحق أن يكون مضرب المثال لساكئر الزواج‪ ،‬رجالً‬ ‫‪73‬‬


‫ونساء! ‪ ..‬أتراه كان يصانع التى ماتت ليغضب التى يعيش معها ويحبها؟‬ ‫‪ ..‬ما القول فى هذا الوفاء المعجز؟)‪.(9‬‬ ‫لم تكن تعلم عاكئشة أنه وفاء نادر معجز من رجل نادر معجز لم تسمع‬ ‫بمثله فى عالم مكة ول دنيا المدينة‪ ،‬ول رأت مثيلً له فيما حكته أشعار‬ ‫العرب وأقاصيصهم‪ ،‬لكنها حين خبرته وعرفته من هول غضبه ـ صلى ا‬ ‫عليه وسلم ـ أقسمت في نفسها ‪" :‬اللهم إن أذهبت غضب رسولك عني لم‬ ‫أعد أذكرها بسوء"‪ ..‬بل وصرحت بهذا تاكئبًة نادمة بين يديه‪َ" :‬واَّلةِذي َبَعَثك‬ ‫ةِباْلَحّق ل أَْذُكرَها َبْعد َهَذا ةِإل ةِبَخْي ٍر"‪ ،‬ولم تعد تستغرب أي مواقف تصدر عنه‬ ‫إزاء خديجة أبًدا‪ ،‬إنه الوفاء‪ ..‬تلك الفضيلة الهامة والراسخة والبارزة فى‬ ‫سيرته صلى ا عليه وسلم‪.‬‬ ‫إنه الوفاء لخديجة ‪ ..‬ذلك الوفاء الذي كان لعاكئشة لقاء معه مرة أخرى‪،‬‬ ‫فيما نقلته عنها كتب السنة حين قالت‪َ" :‬لّما َبَعَث أَْهل ُ َمّكَة ةِفي ةِفَداةِء أَْسَراُهْم‪،‬‬ ‫صـ‬ ‫ب ـ بنت رسول ا صلى ا عليه وسلم ـ ةِفي ةِفَداةِء أَةِبي اْلَعا ةِ‬ ‫َبَعَثْت َزْيَن ُ‬ ‫زوجها ـ ةِبَما ٍل‪َ ،‬وَبَعَثْت ةِفيةِه ةِبةِقلَد ٍة َلَها َكاَنْت ةِعْنَد َخةِديَجَة أَْدَخَلْتَها ةِبَها َعَلى أَةِبي‬ ‫ا صلى ا عليه وسلم َرّق َلَها ةِرّقًة‬ ‫سول ُ ّ ةِ‬ ‫اْلَعا ةِ‬ ‫ص ‪َ .‬قاَلْت ‪َ :‬فَلّما َرآَها َر ُ‬ ‫َ‬ ‫شةِديَدًة‪َ ،‬وَقاَل‪’’ :‬إةِْن َرأَْيُتْم أَْن ُتْطلةُِقوا َلَها أَةِسيَرَها َوَتُرّدوا َعَلْيَها اّلةِذي َلَها’’‪،‬‬ ‫َفَقاُلوا‪َ :‬نَعْم )‪.(10‬‬ ‫يأتي يوم فتح مكة ليجمع بين الوفاء للناس والزمان والمكان‪ ،‬إنه ذلك‬ ‫الوفاء الكوني الذى اجتمع فى معلم الكون من الثقلين مكارم الخلق‪ ،‬فرغم‬ ‫فرحته بنعمة ا أن أتم عليه نصره وفتح له مكة ساعًة من نهار فدخلها‬ ‫بتواضع المؤمنين الشاكرين‪ ،‬فجعل ـ صلى ا عليه وسلم ـ موقع قيادته‬ ‫الذي يشرف منه على مكة هو "الحجون" بجانب "المعلة" حيث ترقد‬ ‫الحبيبة‪ ،‬والزوجة التي أحسنت التجارة مع ا حين استسلمت لموعوده‬ ‫باختيارها‪ ،‬فجذبت بنفسها سفينة محمد سيد الخلق ـ صلى ا عليه وسلم ـ‬ ‫لترسو في مرفأ حياتها لتكون أول ركب المؤمنين العاملين المجاهدين معه‬ ‫حين يأذن ربه لها بإطلق أشرعتها‪ ،‬لتحمل وتتحمل معه عبء تلطم أمواج‬ ‫الشرك الهادرة في تحطيم تلك الدعوة المبحرة إلى حيث يشاء ا ‪ ..‬إنها‬ ‫خديجة أم أولده وقسيمته في عذاب بدايات الدعوة والتي بذلت وأنفقت من‬ ‫‪74‬‬


‫صحتها وراحتها ومالها فى سبيل هذا الدين ونبي هذا الدين‪ ،‬فقال صلى ا‬ ‫عليه وسلم ‪’’ :‬انصبوا لي خيمًة عند قبر خديجة’’ فليس هناك أحق منها‬ ‫في أن تقاسمه أول ليلة من ُمقامه بمكة‪ ،‬وهي الحق بهذا النصر وأن َيهدي‬ ‫إليها النصر‪ ،‬وأن ترفرف راياته فوق جبينها الوضاء‪ ،‬فهي اليوم السيدة‬ ‫الولى في استعراض جيش الفتح‪ ،‬فكما كانت المؤمن الول بال ورسوله‬ ‫الذي ذاق حلوة بشاكئر السلم وعذاب إرهاصات ميلده إلى ما قبل هجرة‬ ‫الرسول ـ صلى ا عليه وسلم ـ‪ ،‬يجب أن تكون اليوم هى الولى والّولى‬ ‫من زوجاته لتشهد معه وتحتفل معه بهذا اليوم‪ ،‬ثم نزل ـ صلى ا عليه‬ ‫وسلم ـ وروحها ـ رضي ا عنها ـ تؤنسه ثم تصحبه من بعد الفتح وهو‬ ‫يطوف بالكعبة ويحطم الصنام‪ ،‬ملتفًتا بين آونة وأخرى إلى بيتها العزيز‪،‬‬ ‫حيث رشف من نبع الحب والحنان ماتزود به لذاك الكفا ح المضنى الطويل‬ ‫)‪.(11‬‬ ‫لم تكن السيدة خديجة رضى ا عنها مجرد زوجة لنبي كما كانت زوجات‬ ‫النبياء قبلها‪ ،‬ولم تكن كذلك إمرأًة عادية مرت في حياة رجل وإل ما ذكرتها‬ ‫صحف الخباريين والمؤرخين كل هذا الذكر ‪ ..‬بل كانت الركن الركين في‬ ‫حياته قبل النبوة‪ ،‬وحجر الساس الذي ٌبّنَى فوقه بنيان هذا الدين العظيم ‪،‬‬ ‫فهي التى رزقه ا حبها‪ ،‬وهي التى واسته بمالها‪ ،‬وهي التى آمنت قبل‬ ‫نبوته بنبوته فيما أسميه مجاًزا بـ )اليمان الستباقى( حين قالت له قبل‬ ‫مبعثه صلى ا عليه وسلم ‪ :‬ةِبأ َةِبي َوأ ُّمي ‪َ ،‬و َ ّ‬ ‫ا َما أَْفَعل َهَذا لةِ َ‬ ‫شْي ٍء‪َ ،‬وَلةِكّني‬ ‫سُتْبَع ُ‬ ‫ف َحّقي َوَمْنةِزَلةِتي‬ ‫ث َفإةِْن َتُكْن ُهَو َفاْعةِر ْ‬ ‫أَْرُجو أَْن َتُكون أَْنَت الّنةِبّي اّلةِذي َ‬ ‫َواْدُع الَله اّلةِذي َيْبَعثك ةِلي ‪َ ،‬فَقالَ َلَها ‪َ’’:‬و َ ّ‬ ‫صَطَنْعت‬ ‫ا َلةِكئْن ُكْنت أنا ُهَو َقْد ةِا ْ‬ ‫صَنةِعيَن َهَذا لْجلةِةِه‬ ‫ضّيُعُه أَ​َبًدا‪َ ،‬وإةِْن َيُكْن َغْيةِري َفإةِّن الَله اّلةِذي َت ْ‬ ‫ةِعْنةِدي َما ل أ ُ َ‬ ‫ضّيُعك أَ​َبًدا’’)‪.(12‬‬ ‫ل ُي َ‬ ‫وكل ما علمناه من سيرة خديجة ـ رضى ا عنها ـ خليٌق على ةِقْلتةِه أن‬ ‫يجعلها بحق سيدة نساء قريش‪ ،‬ولكن هذا القليل الذى علمناه لو ذهب كله‬ ‫ولم يبق منه إل أيام حضانتها لبشاكئر النبوة في طلعتها لضمن لها أن تتبوأ‬ ‫مقام السيادة بين نساء العالمين ‪ ..‬وقد بقَي محمد يذكر لها تلك اليام إلى‬ ‫مختتم أيامه‪ ،‬وظل يتفقدها ويتفقد مواطن ذكراها أعواًما بعد أعوام‪ ،‬فقد كان‬ ‫منها الشغل الشاغل عن أطيب اليام وأصعب اليام‪ ،‬وأن وفاًء كهذا لهو‬ ‫‪75‬‬


‫وحده كفاية المستقصي في التعريف بحقها من زوج ٍة بارة وأم رؤوم‪ ،‬فما‬ ‫من شهادة لنسانة هى أصدق من دوام الوفاء لها فى قلب إنسان عظيم )‬ ‫‪.(13‬‬ ‫لقد أدركت ـ رضى ا عنها ـ بشواهد كثيرة من أحاديث دارت فى أجواء‬ ‫وأسمار مكة على مرآى ومسمع منها عن قرب ابتعاث نبى آخر الزمان )يا‬ ‫نساء مكة إنه سيكون في بلدكن نبي يقال له أحمد‪ ،‬فمن استطاعت منكن أن‬ ‫تكون زوًجا له فلتفعل(‪) ،‬يوشك أن يبعث فيكن نبي‪ ،‬فأيتكن استطاعت أن‬ ‫ضا يطؤها فلتفعل(‪ ..‬بل أن مشاهدات غلمها ميسرة وحديثه مع‬ ‫تكون له أر ً‬ ‫الراهب نسطوًرا لم تذهب أدراج الريا ح بل وقرت فى قلبها وعقلها زمًنا‬ ‫طوي ً‬ ‫ل‪ ،‬فصاحبته فى السنوات الولى لصعوده غار حراء أحياًنا‪ ،‬كما لم‬ ‫تتركه يقاسي وحده حصار قريش له مع بني هاشم وبني عبد المطلب في‬ ‫شعاب مكة أثناء المقاطعة ثلث سنين بل شاركته ـ رضي ا عنها ـ على‬ ‫الرغم من تقدم سنها فأنفقت خللها من مالها حتى نفد ‪ ،‬فما تضررت ول‬ ‫تأففت‪ ،‬حتى جادت بنفسها فى سبيل ا مرضيا ً عنها من ا ورسوله‪،‬‬ ‫ومرضيا ً عنها منا نحن أولدها المؤمنين ‪ ..‬نذكرها كلما ذكرنا رسولنا‬ ‫المبعوث رحمًة للعالمين ـ صلى ا عليه وسلم ـ نتأسى بها في وفاكئها‪،‬‬ ‫وجهادها‪ ،‬ومواساتها بمالها وصحتها ووقتها‪ ،‬وتضحياتها في سبيل ما‬ ‫آمنت به بكل غا ٍل ونفيس‪ ،‬وجسارتها وهى الثرية الشريفة أن تجابه‬ ‫المجتمع الجاهلي من حولها في سبيل ما اعتقدت‪ ،‬لتضرب أعظم المثلة‬ ‫للمة كلها بل للعالمين في وقتها وغير وقتها مهما امتدت السنين ليتأسى‬ ‫بها من كان من المؤمنين‪ ،‬وليوقرها من كان على غير الدين‪ ،‬فاستحقت‬ ‫بحق أن تكون أم المؤمنين وسيدة نساء العالمين إلى يوم الدين‪.‬‬

‫نساء فى حياة الرسول‬

‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ هامش الفصل‬

‫الرسادس ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ السيد إبراهيم‬

‫‪.‬المام محمد أبو زهرة ‪ ،‬خاتم النبين صلى ا عليه ورسلم ص ‪(1) 199‬‬ ‫‪ .‬نظمي لوقا ‪ ،‬محمد في حياته الخاصة ص ‪(2) 15‬‬ ‫‪.‬كليمان هوار ‪ ،‬تاريخ العرب جـ ‪(3) 1‬‬ ‫‪ .‬فتحي رضوان ‪ ،‬محمد الررسول العظم ص ‪108‬ـ ‪(4) 109‬‬ ‫‪76‬‬


‫‪ .‬دكتورة عائشة عبد الرحمن ‪ ،‬نرساء النبى ص ‪(5) 49‬‬ ‫‪ .‬رواه مرسلم ‪(6) 4467‬‬ ‫‪.‬أحمد ‪ ،23719‬وأصله في مرسلم وهو الحديث الذي قبله )‪(7‬‬ ‫‪ .‬أحمد ‪ ،23719‬وأصله في مرسلم وهو الحديث الذي قبله )‪(8‬‬ ‫‪ .‬دكتور نظمى لوقا ‪ ،‬محمد فى حياته الخاصة ص ‪(9) 62‬‬ ‫‪.‬أبو داود ‪ ، 2317‬أحمد ‪(10) 25158‬‬ ‫‪ .‬دكتورة عائشة عبد الرحمن ‪ ،‬نرساء النبى صـ ‪(11) 46‬‬ ‫ابن حجر ‪ ،‬فتح الباري ‪(12) 7/167‬‬ ‫‪.‬عباس العقاد‪ ،‬فاطمة الزهراء والفاطميون ص ‪(13) 300‬‬

‫‪77‬‬


‫الفصل السابع‬

‫زهرة الرسول ‪ ..‬الزهراء البتول‬

‫‪78‬‬


‫في بيت شهد موت الذكور من الولد في سن مبكرة‪ ،‬مما خّلف في‬ ‫حنايا القلب حزن دفين‪ ،‬لم يبدده إل صرا خ طفل جديد وإن يكن أنثى‬ ‫فالزوجان ل يأبهان لهذا فيسميانها زينب‪ ،‬ثم تتابع الفرحة بالمواليد فتأتي‬ ‫الثانية رقية وبعد عام تدركها أم كلثوم‪ ،‬حتى أصبح محمًدا ــ صلى ا عليه‬ ‫وسلم ــ حديث نوادي قريش لكونه ل ينجب إل البنات فقط‪ ،‬وكأن هذا من‬ ‫صنيعه!‬ ‫ت تحفهن رعاية أم رؤوم‪ ،‬وأب حنون‪ ،‬ممتلكئات‬ ‫شبت البنات متحابا ٍ‬ ‫بالنعمة ورغد العيش‪ ،‬جمعّن إلى جانب الثراء الظاهر‪ ،‬مجد النسب‪ ،‬وشرف‬ ‫المكانة بالنتساب لعاكئلتي والديهما‪.‬‬ ‫أتت مسك الختام في رحلة النجاب فاطمة التي أطلت على دنيا الب وقد‬ ‫بلغ الخامسة والثلثين من عمره على التقريب‪ ،‬وأدرك الم عامها الخمسين‬ ‫أو أقل‪ ،‬وقد ارتبط ميلدها بحادث مشهود محفور في ذاكرة المكيين حين‬ ‫غطى سماء مكة سحابة كبيرة من النزاع بين أشرافها دام حوالي الربع ليال‬ ‫عندما كانوا يجددون للكعبة بناكئها في من يحمل الحجر السود إلى مكانه‬ ‫منها‪ ،‬إل أن أبا أمية بن المغيرة المخزومي وكان من عقلكئهم عرض عليهم‬ ‫أن يحّكموا بينهم أول داخ ٍل عليهم من باب المسجد فقبلوا‪ ،‬وشاء ا أن‬ ‫يكون القادم محمد ــ صلى ا عليه وسلم ــ ‪ ،‬فلما رأوه هتفوا‪" :‬هذا‬ ‫المين‪ ،‬رضيناه‪ ،‬هذا محمد"‪ .‬فلما انتهى إليهم‪ ،‬وأخبروه بخلفهم طلب رداًء‬ ‫فوضع الحجر وسطه وطلب من رؤساء القباكئل المتنازعين أن يمسكوا‬ ‫جميًعا بأطراف الرداء‪ ،‬وأمرهم أن يرفعوه‪ ،‬حتى إذا ما أوصلوه إلى موضعه‬ ‫أخذه بيده الشريفة ــ صلى ا عليه وسلم ــ فوضعه في مكانه‪ ،‬فانقلب‬ ‫الخلف فرًحا وسعادة غمرت مكة كلها‪ ،‬حتى َخّلَد المناسبة شعًرا أبا وهب‬ ‫المخزومي بقصيد ٍة جاء فى آخرها ‪:‬‬

‫‪79‬‬


‫ففاجأنا هذا الميُن محمٌد فقلنا رضينا بالمين محم ٍد‬ ‫وكأنما شاء ا أن يكون لمولد هذه الطفلة الجميلة‪ ،‬الشبيهة بأبيها‪ ،‬ارتباط‬ ‫بحدث مثلما ارتبط ميلده ــ صلى ا عليه وسلم ــ بحدث عام الفيل‪ ،‬ربما‬ ‫كان في هذا دللة على عمر طويل قادم سيرتبطان خلله ببعضهما أكثر‪،‬‬ ‫ستكون له فيه رغم صغر سنها كالم في حنوها حتى كان يكنيها بأم أبيها‪،‬‬ ‫لما كان من تذكيرها له بحنان فاطمة الكبرى أمه القرشية الهاشمية فاطمة‬ ‫بنت أسد التى سماها باسمها من شدة حبه لها ــ رضى ا عنهما ــ‪ ،‬ودللة‬ ‫تحمل معنى من خصل ٍة أصيلة فيه ـ صلى ا عليه وسلم ـ عنوانها الوفاء‪.‬‬ ‫ملت الطفلة فاطمة أرجاء الــدار فرًحــا وســروًرا فلــم تكــد‬ ‫تتركها زينب لحد لشدة تعلقها بها‪ ،‬غير أنهــا تزوجــت بــأبي العــاص‬ ‫بن الربيع ابن خالتها هالة وهو من المعدودين مــن رجــال مكــة مــالً‬ ‫وأمانة وتجارة‪ ،‬فاتصــل حبــل الرعايــة والهتمــام بهــا مــن رقيــة وأم‬ ‫كلثوم وهما اللتــان نشــأتا متحــابتين متلزمــتين وجمعــت بينهمــا فــي‬ ‫الحياة والممات أحداًكئا عجيبة؛ إذ تزوجــا مًعــا مــن شــابين مــن أبنــاء‬ ‫العمام وهما )ُعتبة وُعتيبة( ولدا أبي لهب عم الرسول ــ صــلى ا ـ‬ ‫عليه وسلم ــ وعادا مًعا قبــل الــدخول بهمــا إلــى بيــت أبيهمــا بعــد أن‬ ‫أنذر الرسول ـــ صـلى اـ عليـه وسـلم ـــ عشـيرته القربيـن بـالنور‬ ‫المبين‪ ،‬فآثر أبا لهب وزوجه حمالة الحطب أن يعلنا العداوة والحرب‬ ‫على البيت النبوي بل هوادة‪.‬‬ ‫تزوجــت رقيــة مــن عثمــان بــن عفــان وتركــت قريــش إلــى‬ ‫الحبشة مهاجرة برفقة زوجها فراًرا بدينهما من أذى مشركي مكــة ‪،‬‬ ‫لتتقاسم أم كلثوم وفاطمة سنوات من العــذاب مــع والــديهما؛ فيشــهدا‬ ‫مًعا وفاة أمهما خديجة بعد خروجها بعدة أشهر منهوكــة القــوى مــن‬ ‫‪80‬‬


‫حصار قريش الظالم في شعب أبي طالب‪ ،‬ول تعلم رقية بنبــأ الوفــاة‬ ‫إل بعد عودتها من الحبشة فيلفها حزن مقيم‪.‬‬ ‫طوت يد ا صفحة مكة قليلً ليبدأ الرسول ـ صلى ا عليه‬ ‫وسلم ـ مسيرته الجديدة في نشر الرسالة من المدينة التي هاجر‬ ‫إليها سًرا مع أبي بكر ليلحق بأصحابه الذين سبقوه امتثالً لمره ـ‬ ‫صلى ا عليه وسلم ـ وذلك بعدما أنبأه ا بتدبير قريش له فى دار‬ ‫الندوة للتخلص منه‪ ،‬ومن المدينة أرسل ـ صلى ا عليه وسلم ـ من‬ ‫يحضر له بنتيه أم كلثوم وفاطمة‪ ،‬فزارتا قبر أمهما بالحجون‬ ‫مودعتين‪ ،‬تاركين أختهما زينب مع زوجها وأولدهما بمكة‪ ،‬غير أن‬ ‫هجرتهما لم تمر بسلم فما كادتا تودعان مكة حتى طاردهما اللكئام‬ ‫من مشركي قريش فنخس أحد سفهاء مكة ـ الحويرث بن نقيذ ـ‬ ‫بعيرهما فرمى بهما إلى الرض‪ ،‬فتأذت لذلك فاطمة الضعيفة النحيلة‬ ‫الجسم من أثر الحصار والجوع‪ ،‬والحزن على الم التي فارقتها‪ ،‬ثم‬ ‫القلق على الب المهاجر‪.‬‬ ‫غضب الرسول ـ صلى ا عليه وسلم ـ ممن آذى ابنتيه فهدد‬ ‫بقتله وجاريتيه فرتنى وصاحبتها؛ فقد كانتا تتغنيان بهجاكئه ـ صلى‬ ‫ا عليه وسلم ـ بمكة‪.‬‬ ‫تمضي اليام في المدينة بين شوق للهل بأم القرى‪،‬‬ ‫وصعوبة التأقلم بأجواء الوطن الجديد‪ ،‬بينما الرسول ـ صلى ا‬ ‫عليه وسلم ـ في شغل بتأسيس دولة السلم‪ ،‬وخروجه لغزوة بدر‬ ‫الكبرى يفجعه نبأ موت ابنته رقية ذات العشرين ربيعًا في السنة‬ ‫‪81‬‬


‫الثانية من الهجرة فيدفنها ملتاًعا صابًرا‪ ،‬وفي ربيع الول من العام‬ ‫الثالث الهجري يزّوج النبي ـ صلى ا عليه وسلم ـ ابنته البكر أم‬ ‫كلثوم لعثمان بن عفان المكلوم لفراق زوجه‪ ،‬وكان هذا الزواج‬ ‫بالمر اللهي وبنفس صداق رقية‪.‬‬ ‫لقد دفعت بنات النبي ـ صلى ا عليه وسلم ـ ثمًنا باهًظا في‬ ‫سبيل الدعوة إلى دين ا الحق‪ ،‬وأول من دفعتا الثمن رقية وأم‬ ‫كلثوم بطلقهما‪ ،‬ثم دفعته رقية وحدها بعد زواجها من عثمان بن‬ ‫عفان سفًرا‪ ،‬وُبعًدا‪ ،‬وغربًة؛ فقد سكنت بلًدا ل تعلم عنها شيًكئا‪ ،‬ول‬ ‫تعرف فيها أحًدا إل القلة المؤمنة التي هاجرت معهم‪ ،‬لُتْحَرم من‬ ‫حنان الم ومودتها‪ ،‬وعطف الب وزياراته‪ ،‬والنس بأخواتها‬ ‫القريبات من سنها وقلبها‪ ،‬لتعيش العمر في هجرة متصلة من مكة‬ ‫إلى الحبشة مرتين‪ ،‬ثم القرار بالمدينة في هجرتها الخيرة‪ ،‬كما تدفع‬ ‫أم كلثوم ثمًنا مكلًفا من شبابها الغض الذي مر بدون زواج‪ ،‬وبل‬ ‫بيت يضم الرجل والذرية الصالحة‪ ،‬وحتى زينب الكبرى ولكئن‬ ‫تزوجت في حياة والدتها من أبي العاص بن الربيع ابن خالتها إل‬ ‫أنها دفعت الثمن بشكل مختلف‪ ،‬وذلك حين عاشت في بيتها مع رج ٍل‬ ‫تحبه ويحبها بينما قلبها منقسم بين تعاطفها مع أسرتها المؤمنة‬ ‫وإيمانها بدي ٍن يرفضه زوجها لرفض قومه له‪ ،‬وعليها أن تحترم‬ ‫اختياره‪ ،‬لن زوجها ـ في المقابل ـ احترم اختيارها‪ ،‬ودفعت الثمن‬ ‫ثانيًة قلًقا حين أسر جيش أبيها زوجها مرتين‪ ،‬كما دفعته عذاًبا‬ ‫طويلً من السنين حين ُكةِتَب عليها مفارقة بيتها وزوجها الحبيب‬ ‫لنه على دين الشرك الذي تمسك به مخافة أن يقال َتّبَع دين زوجته‪،‬‬ ‫لتدفع زينب الثمن الكبر فى النهاية حين خرجت من مكة إلى المدينة‬ ‫‪82‬‬


‫لتلحق بأبيها‪ ،‬فأدركها هّبار بن السود‪ ،‬فلم يزل يطعن بعيرها‬ ‫برمحه حتى صرعها وألقت ما في بطنها وكانت فى شهرها الرابع‪،‬‬ ‫وتعيش في مهجرها مريضة من أثر دفعـة بن السـود لتموت ‪-‬‬ ‫رضي ا عنها‪ -‬في أّول سنة ثمان للهجرة‪ ،‬فكان رسول ا صلى‬ ‫ا عليه وسلم‪ ،‬يقول ‪’’:‬هي خير بناتي أصيبت فّي’’‪.‬‬ ‫وبقيت أصغر بناته الزهراء معه ـ صلى ا عليه وسلم ــ فكانت أطول‬ ‫أخوتها صحبة لبيها‪ ،‬إذ لم تفارقه منذ ولدتها وحتى مماته‪ ،‬وهى صحبة‬ ‫طويلة وجميلة ل تخلو من اللم والعنت‪ ،‬فقد تحملت هّي الخرى ودفعت من‬ ‫سنوات عمرها وشبابها وصحتها ثمًنا باهًظا؛ فقد كانت بحق سيدة الصابرين‬ ‫سا؛ فقد مات أخويها القاسم‬ ‫سا كأ ً‬ ‫التى تجرعت كوؤس الحزان مترعات كأ ً‬ ‫وعبد ا ثم ماتت أمها ثم تتابعت الحزان بوفاة أختيها‪ :‬رقية يوم بدر في‬ ‫العام الثامن من الهجرة وأم كلثوم فى العام التاسع من الهجرة‪ ،‬وآخر من‬ ‫شيعت إبراهيم أصغرأخوتها من السيدة مارية‪.‬‬ ‫كانت الشاهدة على ماتحمله أحب الناس إلى قلبها من أذى المشركين فى‬ ‫سبيل نشر الدعوة منذ طفولتها‪ ،‬حين كانت تصحبه إلى الحرم وترقبه وهو‬ ‫ساجد ل تعالى‪ ،‬وفي إحدى المرات رأت ُأناس من مشركي قريش يحيطون‬ ‫به وهو خاشع في سجدة طويلة وجاء عقبة بن أبي معيط بسلى جزور‬ ‫وقذفه على ظهره ـ صلى ا عليه و سلم ـ فلم يرفع رسول ا حتى تقدمت‬ ‫هّي بحنو وحب وبراءة فأزاحت السلى ودعت على من صنع ذلك بأبيها‬ ‫وعندكئذ رفع المصطفى ـ صلى ا عليه و سلم ـ رأسه قاكئلً ‪’’:‬اللهم عليك‬ ‫المل من قريش اللهم عليك أبا جهل بن هاشم وعتبة بن ربيعة و شيبة بن‬ ‫ربيعة وعقبة بن أبي معيط وأبي بن خلف’’‪ ..‬فخشع المشركون لدعاكئه‬ ‫وغضوا أبصارهم حتى انتهى من صلته وانصرف إلى بيته وفاطمة معه‪.‬‬ ‫كأن صوته ـ صلى ا عليه وسلم ـ أنغام السماء يحلو لفاطمة أن تسمعها‬ ‫خاصًة حين يذكر اسمها على المل‪ ،‬فتحس كأنها طاكئر عبقري غطى‬ ‫‪83‬‬


‫بجناحيه جبال مكة وآكامها ووديانها‪ ،‬وقر في قلبها الطفولى أن هذا النداء‬ ‫سيكتب له الخلود‪ ،‬ولن تستأثر به جنبات تلك القرية مكة وحدها بل أن‬ ‫بطون الكتب ستحويه‪ ،‬وألسنة الخلق بكافة اللسن والجنسيات ستلتذ بنطقه‪،‬‬ ‫لقد سمعته لما خرج صلى ا عليه و سلم يوًما إلى قريش وقد نزل قوله‬ ‫كاْ َ‬ ‫لقلَْربِفيَن ﴾ )‪ ‘(1‬فجعل ينادي ‪’’ :‬يا معشر قريش اشتروا‬ ‫تعالى ‪َ﴿ :‬وأَلنِْذ ْرل َعِش فيلَرتَ َ‬ ‫أنفسكم ل أغني عنكم من ا شيكئا‪ ،‬يا بني عبد مناف ل أغني عنكم من ا‬ ‫شيكئا’’‪ ،‬ثم اختص فاطمة من أولده فخاطبها ‪’’:‬ويا فاطمة بنت محمد سليني‬ ‫ما شكئت من مالي ل أغني عنك من ا شيكئا’’ )‪.(2‬‬

‫كما تحب أن تسمع صوته الحبيب ـ صلى ا عليه وسلم ـ حتى وهو يهدر‬ ‫غاضًبا مادام سيذكر اسمها‪ ،‬وتذكر ذلك حين أتاه ةِحَبُه وحبيبه وابن حبيبه‬ ‫أسامة بن زيد مستشفًعا للمرأة المخزومية السارقة لكيل يقيم عليها حد‬ ‫السرقة‪ ،‬فغضب ـ صلى ا عليه وسلم ـ من أسامة ثم جمع الناس‪ ،‬فخطب‬ ‫فيهم ‪’’ :‬ياأيها الناس إنما أهلك من كان قبلكم انهم إذا سرق فيهم الشريف‬ ‫تركوه‪ ،‬وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد‪ ،‬وأيم ا لو أن فاطمة‬ ‫بنت محمد سرقت لقطع محم ٍد يدها ’’)‪.(3‬‬ ‫مثلما صاحبته ـ صلى ا عليه و سلم ـ رحلة الحياة في السلم‪ ،‬عز‬ ‫عليها أن تتركه في الحرب فصحبته في غزوة أحد لتداوي الجرحى مع نساء‬ ‫المسلمين‪ ،‬لتراه حين تكاثر المشركون حوله وقد انكسرت رباعيته وسال‬ ‫الدم على وجهه الشريف‪ ،‬فجرت عليه واعتنقته ثم بلهفة وحنو تمسح الدم‬ ‫الذي غطى وجهه الشريف‪ ،‬فلما يكئست من توقفه حرقت حصيًرا لتمنعه به‬ ‫الدم فامتنع‪.‬‬ ‫في زحمة الحياة‪ ،‬ورفقة الب ورعايته‪ ،‬نسيت فاطمة العمر الذي شارف‬ ‫على الثمانية عشر ربيًعا‪ ،‬وبعد مرور خمسة أشهر من مقدمها الشريف‬ ‫للمدينة يزّوجها أبيها أحب الناس إلى قلبه فتى الفتيان "علي" ‪ ..‬وهل يليق‬ ‫بسليلة البيت النبوي إل أن تفوز بفتى نبوي تربى في ذات البيت‪ ،‬فشربا مًعا‬ ‫‪84‬‬


‫من نهره المغداق في كنف محمد ـ صلى ا عليه وسلم ـ وحنو الطاهرة‬ ‫الراحلة خديجة بنت خويلد ـ رضًي ا عنها ـ ليكون كل مهرها درع علي‬ ‫الحطمية الثقيلة العريضة التي كان يحارب بها ‪ ،‬وهّي فى الصل هدية من‬ ‫والد العروس الذي باعه ـ صلى ا عليه وسلم ـ بأربعة وثمانين درهًما‪،‬‬ ‫أخذها النبي ـ صلى ا عليه وسلم ـ وأعطاها بلل‪ ،‬وقال‪’’ :‬اجعلوا ثلثيها‬ ‫في الطيب‪ ،‬وثلث في المتاع’’‪ ،‬كم تساوى تلكم الدريهمات اليسيرة أمام هذا‬ ‫النسب الشريف‪ ،‬كم تساوى فلذة كبد رسولنا وسيدة نساء العالمين‪،‬‬ ‫وعصارة التربية العالية في أطهر بيت على وجه البسيطة؟!‬ ‫انتقلت فاطمة من بيت النبوة إلى بيت علي الذي أسَكنها بيت ُأمه‪ ،‬وكانت‬ ‫دارها بعيدة عن بيت الرسول ـ صلى ا عليه وسلم ـ الذي لم يتحمل بعدها‬ ‫عنه وهو الذي كان ـ صلى ا عليه وسلم ـ ينهض إذا دخلت عليه ويقوم‬ ‫بتقبيل رأسها ويدها‪ ،‬ويجلسها في مجلسه‪ ،‬كما كانت ـ رضى ا عنها ـ إذا‬ ‫دخل عليها ـ صلى ا عليه وسلم ـ قامت إليه وأخذت بيده وقبلته وأجلسته‬ ‫في مجلسها‪ ،‬كما كانت عادته ـ صلى ا عليه وسلم ـ كلما قدم من سفر أن‬ ‫يبدأ بالمسجد‪ ،‬فيصلى ركعتين‪ ،‬ثم يذهب لفاطمة‪ ،‬ثم يأتي بيوت أزواجه‪ ،‬بل‬ ‫ل ينام حتى ُيقّبل ُعْرض وجهها‪ ،‬وبين َعينيها‪ ..‬لكل هذه الحميمية بين الب‬ ‫وابنته الوحيدة الباقية جاءها النبّي ‪ -‬صلى ا عليه وسلم –‪ ،‬قال‪:‬‬ ‫’’إني أريد أن ُأحّولك إلّي’’‪ ،‬فقالت لرسول ا‪" :‬فكّلم حارثة بن النعمان أن‬ ‫يتحّول ‪ -‬ينتقل من منزله ‪ -‬وأكون إلى جوارك"‪ ،‬وكان حارثة كلما تزّوج‬ ‫رسول ا ‪ -‬صلى ا عليه وسلم ‪ -‬تحّول له حارثة عن منزل بعد منز ٍل‪،‬‬ ‫حتى صارت منازل حارثة كلها إلى رسول ا ‪ -‬صلى ا عليه وسلم ‪ -‬فقال‬ ‫رسول ا ‪ -‬صلى ا عليه وسلم ‪ -‬لها‪’’ :‬يا ُبنّية‪ ،‬قد تحّول حارثة عنا حتى‬ ‫اسَتْحَيي ُ‬ ‫ت مما يتحّول لنا عن منازله’’‪ ،‬فبلغ ذلك حارثة‪ ،‬فتحّول وجاء إلى‬ ‫النبي‪ ،‬فقال‪ :‬يا رسول ا‪ ،‬إنه بَلغني أنك تريد أن ُتحّول فاطمة إليك‪ ،‬وهذه‬ ‫ب ]أقرب[ بيوت بني النجار بك‪ ،‬وإنما أنا ومالي ل‬ ‫منازلي‪ ،‬وهي أسق ُ‬ ‫‪85‬‬


‫ب إلّي من الذي تَدع‪ ،‬فقال له‬ ‫ولرسوله‪ ،‬وا يا رسول‪َ ،‬لّلذي تأخذه مني أح ّ‬ ‫الرسول‪’’ :‬صَدقت‪ ،‬باَرك ا عليك’’‪ ،‬فحّولها رسول ا إلى بيت حارثة‪.‬‬ ‫شاءت إرادة ا تعالى أن يمد في عمر فاطمة الشبيهة بأبيها الحبيبة إلى‬ ‫فؤاده‪ ،‬حتى كان منها ـ رضّي ا عنها دون إخوتها ـ النسل المتصل برسول‬ ‫ا ـ صلى ا عليه وسلم ـ وهّي من أعظم المناسبات التى أدخلت فيها‬ ‫الزهراء الفرحة على أبيها حين كان ينادي الحسن والحسين‪ :‬ياَبنى‪ ،‬وكانا‬ ‫يدعوانه ‪ :‬يا أبت‪.‬‬ ‫وعلى قدر المزية التي حظيت بها من طول الصحبة بالوالد العظيم‬ ‫صاحب الخلق العظيم‪ ،‬على قدر اللم الذي أنهكها وأجهدها وروعها ـ وحدها‬ ‫ـ دون كل أخوتها؛ إذ خصها ا بأن مد في عمرها لتشهد رحيل أعز وأعظم‬ ‫الناس قاطبًة الب الحاني والبقية الباقية لها بعد موت الم والخوة‬ ‫والخوات‪ ..‬فزهدت في البتسام ولقاء الناس بعده إذ ليس بعده عندها إل أن‬ ‫يحين دورها في الرحيل لتلحق به ـ صلى ا عليه وسلم ـ وهو الذي بشرها‬ ‫بهذا حين أسّر إليها ‪ -‬رضي ا عنها ‪ -‬بخبر انتقاله إلى الرفيق العلى‬ ‫صراحًة ومشافهًة دون غيرها‪ ،‬ثم َأسّر إليها ثانية بعد ُحزنها على سماع‬ ‫سّرْت بذلك؛ حيث قالت‪ :‬فلّما‬ ‫خبر ةِفراقه‪ ،‬بأنها ستكون أول أهله لحوًقا به‪َ ،‬ف ُ‬ ‫رأى جَزعي‪ ،‬ساّرني الثانية‪ ،‬فقال‪’’ :‬يا فاطمة‪ ،‬أما تَرضين أن تكوني سيدة‬ ‫نساء المؤمنين‪ ,‬أو سيدة نساء هذه المة؟’’)‪ ،(4‬وفي رواية‪" :‬فأخَبرني أني‬ ‫حكت")‪.(5‬‬ ‫أّول َمن يتبعه من أهله‪ ،‬فض ةِ‬ ‫أحست ـ رضى ا عنها ـ ببوادر الرحيل تزحف على دارها‪ ،‬وما تبقى لها‬ ‫سوى أن ترتب حياة أولدها من بعدها‪ ،‬وكذلك حياة حبيب العمر‪ ،‬وابن العم‬ ‫حيث رأت أن توصيه‪ ،‬فقالت‪ ":‬يا ابن عم‪ ،‬إنه قد ُنعي ُ‬ ‫ت إلي نفسي‪ ،‬وإنني ل‬ ‫أرى حالي إل لحقة بأبي ساعة بعد ساعة‪ ،‬وأنا أوصيك بأشياء في قلبي"‪،‬‬ ‫فقال علي‪" :‬أوصيني بما أحببت يا بنت رسول ا صلى ا عليه وسلم"‬ ‫‪86‬‬


‫‪،‬فجلس عند رأسها وأخرج من كان في البيت‪ .‬فقالت رضي ا عنها ‪":‬يا‬ ‫ابن العم ما عهدتني كاذبة ول خاكئفة‪ ،‬ول خالفتك منذ عاشرتني"‪ ،‬فقال‬ ‫رضي ا عنه ‪" :‬معاذ ا ! أنت أعلم بال تعالى ‪ ،‬وأبر وأتقى وأكرم وأشد‬ ‫خوفا ً من ا تعالى‪ ،‬وقد عز علي مفارقتك وفقدك إل أنه أمر لبد منه‪ ،‬وا‬ ‫لقد جددت علي مصيبة رسول ا صلى ا عليه وسلم وجل فقدك‪ ،‬فإنا ل‬ ‫وإنا إليه راجعون"‪ ...‬ثم أوصته رضى ا عنها بثلث ‪:‬‬ ‫ـ أول‪ :‬أن يتزوج بأمامة بنت العاص بن الربيع‪ ،‬وبنت أختها زينب رضي ا‬ ‫عنها‪ .‬وفي اختيارها لمامة ـ رضي ا عنها ـ قالت ‪):‬أنها تكون لولدي‬ ‫مثلي في حنوتي ورؤومتي‪ .‬وأمامة هي التي روى أن النبي صلى ا عليه‬ ‫وسلم كان يحملها في الصلة(‪.‬‬ ‫ـ ثانيا‪ :‬أن يتخذ لها نعشا وصفته له ‪ ،‬وكانت التي أشارت عليها بهذا النعش‬ ‫أسماء بنت عميس رضي ا عنها‪ ،‬وذلك لشدة حياءها ـ رضي ا عنها ـ‬ ‫فقد استقبحْت أن تحمل على اللة الخشبية ويطر ح عيها الثوب فيصفها‪،‬‬ ‫ووصفه أن يأتي بسرير ثم بجراكئد تشد على قواكئمه‪ ،‬ثم يغطى بثوب ‪...‬‬ ‫ليل بالبقيع‪.‬‬ ‫ـ ثالثا‪ :‬أن تدفن ً‬ ‫ولقد روى المام الذهبي قصة وفاتها في السيرعن أم جعفر ‪" :‬أن فاطمة‬ ‫قالت لسماء بنت عميس ‪ :‬إني أستقبح ما ُيصنع بالنساء‪ُ ،‬يطر ح على المرأة‬ ‫الثوب فيصفها‪ .‬قالت‪ :‬يا ابنة رسول ا‪ ،‬أل أريك شيًكئا رأيته بالحبشة؟‬ ‫فدعت بجراكئد رطبة فحَنْتها‪ ،‬ثم طرحت عليها ثوًبا‪ ،‬فقالت فاطمة ‪ :‬ما أحسن‬ ‫هذا وأجمله‪ ،‬إذا مت فغسليني أنت وعلّي‪ ،‬ول يدخلن أحد علًي‪ ...‬فكانت ـ‬ ‫رضى ا عنهاـ هي أول من ُغطى نعشها في السلم على تلك الصفة كما‬ ‫قال ابن عبد البر‪ ...‬وأما أمرها أن ل يصلي عليها أبوبكر وعمر ـ رضي ا‬ ‫عنهما ـ ول أن يتوليا دفنها‪ ،‬فهذا محض كذب وافتراء‪.‬‬ ‫إنها فاطمة ‪ ..‬الزهراء‪ ..‬سيدة نساء العالمين في زمانها‪ ،‬والبضعة‬ ‫النبوية‪ ،‬والجهة المصطفوية‪ ،‬بنت سيد الخلق رسول ا ـ صلى ا عليه‬

‫‪87‬‬


‫وسلم ـ أبي القاسم محمد بن عبد ا بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف‬ ‫القرشية الهاشمية أم الحسنين رضي ا عنها وعنهما‪.‬‬ ‫بعد وفاة أبيها بستة أشهر في ليلة الثلثاء لثلث خلون من رمضان‬ ‫سنة إحدى عشرة‪،‬لحقت به فُدفَنت ـ رضى ا عنها ـ ليلً كما أوصت بعد أن‬ ‫صلى عليها علي بن أبي طالب ونزل في قبرها والعباس والفضل بن العباس‬ ‫رضى ا عنهم أجمعين ‪.‬‬

‫‪88‬‬


‫نساء فى حياة الرسول‬

‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ هامش الفصل‬

‫الرسابع ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ السيد إبراهيم‬

‫)‪) (1‬رسورة الشعراء‪.(214:‬‬ ‫)‪(2‬رواه البخاري )‪ ،(2753‬ومرسلم )‪.(206‬‬ ‫)‪(3‬صحيح مرسلم‪.(1688) ،‬‬ ‫)‪(4‬البخاري برْقم )‪ ,(4434 ,4433‬ومرسلم برقم )‪ ,(2450‬واللفظ لمرسلم‪.‬‬ ‫‪).‬البخاري برْقم )‪ ,(4434 ,4433‬ومرسلم )‪(5)2450‬‬

‫‪89‬‬


‫الفصل الثامن‬

‫سودة بنت زمعـة‬ ‫ثانى المهات وأول المهاجرات‬

‫﴾﴿‬

‫‪90‬‬


‫لم تكن تعلم ول جال بخاطرها يوًما أن تكون زوًجا للرسول ـ صلى ا‬ ‫عليه وسلم ـ فقد كانت في هذه الثناء متزوجة من الصحابي السكران بن‬ ‫عمرو الذي روت له رؤياها الولى التي فيها كأن النبي ـ صلى ا عليه‬ ‫وسلم ـ قد أقبل ماشًيا حتى وطيء عنقها‪ ،‬فقال زوجها لها‪َ" :‬وأَةِبيَك َلةِكئْن‬ ‫صّلى ّ‬ ‫سّلَم‪َ ،‬فَقاَلْت ‪:‬‬ ‫سول ُ ّ ةِ‬ ‫اُ َعَلْيةِه َو َ‬ ‫ا َ‬ ‫صَدَقْت ُرْؤَياةِك لَُموَتّن َوَلَيَتَزّوَجّنةِك َر ُ‬ ‫َ‬ ‫ةِحْجًرا َوةِسْتًرا"‪ .‬وهذا قول منها فيه من الموالة لزوجها في حضوره‪ ،‬ففي‬ ‫المر رجولة وليس دين‪ ،‬فموالتها للرسول ظاهرها وباطنها من حيث هو‬ ‫رسول ل مراء فيها‪ ،‬أما داخل البيت فالحرة ل تتمنى إل زوجها‪ ،‬ولم تكد‬ ‫سَماةِء َوةِهَي‬ ‫ض َعَلْيَها ةِمَن ال ّ‬ ‫تأتي ليلًة أخرى حتى رأت ثانيًة أَّن َقَمًرا اْنَق ّ‬ ‫صَدَقْت ُرْؤَياةِك َلْم‬ ‫ضَطةِجَعٌة‪َ ،‬فأ َْخَبَرْت بنقاكئها َزْوَجَها‪َ ،‬فَقالَ لها‪َ" :‬وأَةِبيةِك َلةِكئْن َ‬ ‫ُم ْ‬ ‫أَْلَبْث ةِإل َيةِسيًرا َحّتى أَُموَت َوَتَتَزّوةِجيَن ةِمْن َبْعةِدي" ‪.‬‬ ‫إنها الصحابية الجليلة‪ ،‬والسيدة النبيلة سودة بنت زمعة‪ ،‬ذات المكانة‬ ‫المرموقة في مجتمع نساء قريش‪ ،‬فهّي عامرية قرشية من قبيلة النبي ـ‬ ‫صلى ا عليه وسلم ـ‪ ،‬تزوجت ابن عمها السكران بن عمرو)‪ ،(1‬فأسلما ثم‬ ‫هاجرا مًعا فى الهجرة الثانية إلى الحبشة‪ ،‬وأقاما فيها دهًرا من الزمن هرًبا‬ ‫من أذى المشركين وامتثالً للمر الصادر من الرسول ـ صلى ا عليه وسلم‬ ‫ـ‪ ،‬ثم عادا مع من عاد من المهاجرين إلى أرض الوطن مكة بعد أن أنجبا‬ ‫ستة صبية‪ ،‬ولم يلبث أن يموت زوجها الصحابى المهاجر بعد وقت قصير‬ ‫من دا ٍء ألم به‪ ،‬لتحيا بعده أرملة وحيدة ذات عيال في بلد مازالت تعج بأذى‬ ‫طواغيت الكفر‪ ،‬واضطهاد أهل اليمان‪ ،‬فتصبر محتسبة ل تعالى ما ألم بها‪،‬‬ ‫معتصمًة به ـ سبحانه ـ و بإيمانها به من فتنة قريبة تحيط بها من والدها‬ ‫القابض على كفره بقوة‪ ،‬وأخوها عبد ّ‬ ‫ا بن زمعة الباقي على دين آباكئه‪،‬‬ ‫ومن شدة حاجتها لمن يعينها على أمرها ومطالب أولدها‪.‬‬ ‫سكن الحزن البيت النبوي بعد فراق الزوج الحنون‪ ،‬والم الرؤوم‪،‬‬ ‫خديجة ـ رضى ا عنها ـ ليجتمع على الرسول ـ صلى ا عليه وسلم ـ‬ ‫عبٌء فوق عبء‪ ،‬فأما عبء الدعوة فكان قد أفرغ له وقته وجهده لنه‬ ‫كانت هناك من تخفف عنه ما يقاسي فى سبيل ذلك‪ ،‬وكانت تتحمل عنه‬ ‫‪91‬‬


‫عبء السرة من بيت وتسيير تجاراتها لتفرغه لما هو فيه‪ ،‬أما الن فقد‬ ‫كان عليه أن يقوم بشكئون بيته الذى ضم بنتيه أم كلثوم وفاطمة‪ ،‬ومهام‬ ‫الدعوة التي تلتهم أعظم جهده ووقته‪.‬‬ ‫والوقاكئع تشهد بأن الرسول ـ صلى ا عليه وسلم ـ ما جال بخاطره أمر‬ ‫الزواج أبًدا فل عرضه على أحد‪ ،‬ول عرضه عليه أحد‪ ،‬بل كان الصحابة ـ‬ ‫رضّي ا عنهم ـ يطالعون حاله‪ ،‬ويعلمون كم يقاسي‪ ،‬ويتمنون لو افتدوه‬ ‫ضا‬ ‫بأرواحهم لو كان في هذا ما يخفف عنه ما هو فيه‪ ،‬غير أنهم يعلمون أي ً‬ ‫أن خديجة كانت لها المكانة العظمى في قلبه وحياته كما هّي في قلوبهم‪،‬‬ ‫فمن ذا الذي سيغامر إذن ويقتر ح بل ويطر ح الحلول على رج ٍل في غمرة‬ ‫أحزانه‪ ،‬لم يبحر قاربه بعيًدا عن شاطيء ذكرياته مع امرأ ٍة عاشها وعايشته‬ ‫قرابة الربع قرن؟!‪ ..‬كما أنها ليست كأي امرأة؛ إذ ليس هناك في قريش‬ ‫كلها من يماثلها من النساء‪ ..‬فمن يختارون؟!‬ ‫تطوعت لهذه المهمة الصحابية الجليلة خولة بنت حكيم زوج‬ ‫الصحابي الجليل عثمان بن مظعون التي استجمعت شجاعتها في‬ ‫وضع نهاية لهذا الموقف العسير‪ ،‬فاستأذنت في الدخول عليه ـ صلى‬ ‫ا عليه وسلم ـ فقالت‪ :‬يا رسول ا كأني أراك قد دخلتك خلة لفقد‬ ‫خديجة‪ ،‬فقال‪’’ :‬أجل‪ ،‬كانت أم العيال وربة البيت’’‪ .‬كان هذا مدخلً‬ ‫استهللًيا يأتي كمقدمة للخوض في صلب الموضوع الهم‪ ،‬وهذا‬ ‫الستهلل ل تفلح فيه غير النساء‪ ،‬ولهذا فقد أتت بمفاجأتها من باب‬ ‫طرق الحديد وهو ساخن حين قالت‪ :‬أفل أخطب عليك؟ وفى رواية ‪:‬‬ ‫أل تزّوج؟ ؟ قال‪’’ :‬بلى‪ ،‬فإنكن معشر النساء أرفق بذلك’’‪ .‬فخطبت‬ ‫عليه سودة بنت زمعة‪.‬‬ ‫سة‬ ‫تذكرنا عبارة خولة ‪":‬أل تزّوج؟" بعبارة مبعوثة خديجة َنةِفي َ‬ ‫بنت ُمْنَية لرسول ا ـ صلى ا عليه وسلم ـ وهو في مطالع‬ ‫الشباب‪" :‬ما يمنعك أن تزّوج؟"‪ ،‬نفس الدللة واحدة‪ :‬أن الرسول‬ ‫في شبابه وفي شيخوخته لم يكن له ـ صلى ا عليه وسلم ـ ذلك‬ ‫النهم الجنسي الذي يلصقه به أصحاب العقول المريضة‪ ،‬والقلم‬ ‫المغرضة‪ ،‬ول ننكر عليه الميل الغريزي شأنه في هذا شأن الرجال‪،‬‬ ‫‪92‬‬


‫وشأن البشر‪ ،‬غير أنه في شبابه امتنع أوًل‪ ،‬بينما هنا وافق سريًعا‬ ‫لختلف الموقفين؛ إذ كان في الول شاب ل عاكئلة حوله‪ ،‬ول دعوة‬ ‫مكلف بتبليغها‪ ،‬بينما في موقفه الخير عنده عاكئلة رحلت الم‬ ‫وخلفت وراءها بنتين تحتاجان الرعاية‪ ،‬ودعوة إلى ا في مرحلة‬ ‫التأسيس وتحتاج التفرغ الكبر في بث قيمها ومفاهيمها في قلوب‬ ‫كالجلميد‪ ،‬وفتن ودساكئس حوله تحاك له ولمن تبعه تتطلب منه‬ ‫التيقظ والحيطة والحذر‪ ..‬فكان الزواج هو الحل المثالي لما هو فيه‪،‬‬ ‫فوافق عليه‪.‬‬ ‫ل نكاد نذكر سودة حتى نذكر في التو عاكئشة ـ رضى ا عنهما‬ ‫ـ؛ فقد عرضتها خولة علي الرسول ـ صلى ا عليه وسلم ـ فخطبها‬ ‫وأّجل الدخول عليها لعدة سنوات ريثما تكبر‪ ،‬بيد أن خولة ما أن‬ ‫سمعت الموافقة من الرسول ـ صلى ا عليه وسلم ـ حتى خرجت‬ ‫مسرعًة لتبشر بها صديقتها سودة قاكئلًة ‪ :‬ماذا أدخل ا عز وجل‬ ‫عليك من الخير والبركة؟ قالت‪ :‬ما ذاك؟‪ ،‬قالت‪ :‬أرسلني رسول ا ـ‬ ‫صلى ا عليه وسلم ـ أخطبك عليه‪ ،‬قالت‪ :‬ودد ُ‬ ‫ت ذلك‪.‬‬ ‫تزوجت سودة برسول ا ـ صلى ا عليه وسلم ـ وسوا ٍء أكان‬ ‫أبوها هو الذي زّوجها أو الذي زّوجها ابن عمها الصحابي حاطب‬ ‫بن عمرو الذي كان من أواكئل المهاجرين إلى الحبشة‪ ،‬وذلك بناًء‬ ‫على طلبه ـ صلى ا عليه وسلم ـ حين جاء يخطبها‪ ،‬فقالت له‪:‬‬ ‫أمري إليك‪ ،‬فقال لها ‪ُ’’:‬مري رجلً من قومك يزوجك’’‪.‬‬ ‫شاء ا أن يتحقق لسودة مارأت فى مناميها‪ ،‬ليكون زواجها من‬ ‫رسوله ـ صلى ا عليه وسلم ـ نعمة ومنًة من ا عليها وتكريًما‬ ‫لها جزاء ما عانت من الهجرة والتغريب‪ ،‬وفقد الزوج‪ ،‬وأذى الهل‬ ‫ومشركي مكة‪ ،‬وجزاء إيمانها الصادق بال ورسوله‪ ،‬كما كان هذا‬ ‫الزواج الشاهد الكبر على أن هذا الرسول ـ صلى ا عليه وسلم ـ‬ ‫أبعد ما يكون عن التمتع بملذات الحياة الدنيا كشأن كل البشر‪ ،‬طمًعا‬ ‫منه فيما عند ا‪ ..‬ذلك أنه ـ صلى ا عليه وسلم ـ وإن عاش زمًنا‬ ‫ت وسنوات‪ ،‬ثم رحلت‪ ،‬فلَم لّما سنحت له‬ ‫طويلً مع من تكبره بسنوا ٍ‬ ‫‪93‬‬


‫الفرصة يرضى بالعيش مرة أخرى مع من تكبره سًنا وإن يكن‬ ‫خمسة أعوام‪ ،‬ويا ليتها أكبر بدون عيال ولكنها امرأة ُمصبية معيلة‬ ‫لها خمسة صبية أو ستة )‪ ،(2‬وقد يقبل بهذا لو ثّقل جمالها ةِكَفة‬ ‫ضا غير باهرة الجمال؟! ‪ ..‬أما كان له أن يرفض‬ ‫الختيار‪ ،‬ولكنها أي ً‬ ‫عرض خولة من بادىء المر‪ ،‬متعللً بأي علة مناسبة‪ ،‬وستقبلها‬ ‫خولة؟! ‪ ..‬ومن ثم يسعى إلى الزواج من شابة صغيرة ترد عليه‬ ‫ش من‬ ‫مافات من عمره ول غضاضة عليه‪ ..‬وهل نضب معين قري ٍ‬ ‫النسوة الشابات النواهد البكار؟! ‪ ..‬أهذا مسلك يسلكه الرجل المولع‬ ‫بالنساء؟!‬ ‫والواقع يشهد أن السيدة سودة كانت عاقلة حصيفة لبيبة‪ ،‬يبدو‬ ‫هذا في موقفها المتوازن بين شرف الصطفاء لها بأن تكون زوًجا‬ ‫لرسول ا ـ صلى ا عليه وسلم ـ وبين كونها ذات عيال‪ ،‬وتخشى‬ ‫أن يتسبب هذا في تفويت فرص الراحة والمودة والسكن الذي يجب‬ ‫أن يسود البيت النبوي‪ ،‬فتتمهل قلي ً‬ ‫ل‪ ،‬ليفاتحها ـ صلى ا عليه‬ ‫وسلم ـ في هذا مستفسًرا‪’’ :‬ما يمنعك مني؟’’‪ ،‬قالت‪ :‬وا يا رسول‬ ‫ا‪ ،‬ما يمنعني منك أن ل تكون أحب البرية إلّي‪ ،‬ولكن أ َُكّرُمَك أن‬ ‫يضعوا هؤلء عند رأسك بكرة وعشية‪ ،‬قال‪’’ :‬فهل منعك شيء غير‬ ‫ذلك؟’’‪ ،‬قالت‪ :‬ل وا‪ ،‬قال رسول ا صلى ا عليه وسلم‪َ’’:‬يْرَحُمةِك‬ ‫ش‪ ،‬أَْحَناُه َعَلى‬ ‫صالةُِح ةِن َ‬ ‫سا ٍء َرةِكْبَن أَْعَجاَز اْلةِةِبةِل َ‬ ‫ا‪ ،‬إةِّن َخْيَر ةِن َ‬ ‫ُّ‬ ‫ساةِء قَُرْي ٍ‬ ‫ت َي ٍد’’)‪ ،(3‬فهدأت نفسها‪.‬‬ ‫صَغ ٍر‪َ ،‬وأَْرَعاُه َعَلى َبْع ٍل ةِبَذا ةِ‬ ‫َوَل ٍد ةِفي ةِ‬ ‫كانت سودة تعلم من الوهلة الولى أن مقارنتها بخديجة ـ رضّي‬ ‫ا عنهما ـ سابقتها في فراش زوجية الرسول ـ صلى ا عليه‬ ‫وسلم ـ ليست في صالحها تماًما‪ ،‬لذا فل داعي إذن أن تشغل بالها‬ ‫بمن سيقارنون‪ ،‬ويتفاجكئون‪ ،‬ويتساءلون‪ ،‬حسبها أنها صارت أًّما‬ ‫للمؤمنين‪ ،‬والزوجة التى اختارها ـ صلى ا عليه وسلم ـ لتكون‬ ‫خلًفا لخديجة ـ رضّي ا عنهما ـ‪ ،‬وحسبها أنها اليوم في ذات الدار‬ ‫التى سكنتها خديجة‪ ،‬وأنها ستكون الم الحانية‪ ،‬الراعية لبنات النبي‬ ‫وخديجة‪ ،‬فحسمت القضية لصالحها فأراحت واستراحت؛ إذعلمت‬ ‫في قرارة نفسها أنها لن تمل ذاك الفراغ الهاكئل الذي تركته خديجة‬ ‫‪94‬‬


‫في حياة النبي ـ صلى ا عليه وسلم ـ‪ ،‬ولّما كانت ـ رضّي ا عنها‬ ‫ـ ذكية‪ ،‬لماحة‪ ،‬عفوية الطباع‪ ،‬ضاحكة السن‪ ،‬خفيفة الدم‪ ،‬أدركت‬ ‫من فورها ما هو الدور الذي تستطيع أن تضطلع به في البيت‬ ‫النبوي‪.‬‬ ‫مثلما عاشت خديجة سنوات عمرها ل يشاركها في زوجها امرأة‬ ‫أخرى‪ ،‬منح ا سودة مثل هذا الشرف وإن لم يكن بنفس طول مدة‬ ‫خديجة؛ إذ عاشت في كنف النبى ـ صلى ا عليه وسلم ـ نحًوا من‬ ‫أربع سنين حتى دخل بعاكئشة في المدينة ل تشاركها فيه أخرى‪،‬‬ ‫وهّي ماتميزت به وسابقتها السيدة خديجة عن ساكئر نساء النبي‪،‬‬ ‫وكأنما أراد ا تعويضها عما ينتظرها عندما ستتقدم في السن‪،‬‬ ‫وورود عاكئشة ثم حفصة عليها وهما شابتان صغيرتان عنها بكثير‪،‬‬ ‫المر الذي سيدفعها لكئن تضحي بليلتها في سبيل البقاء بجوار‬ ‫الرسول ـ صلى ا عليه وسلم ـ عساها تختم حياتها زوجة له‪.‬‬ ‫لم يكن يصلح بعد خديجة للعيش مع رسول ا سوى سودة؛ فقد كانت‬ ‫امرأة كبيرة وواعية‪ ،‬رزان‪ ،‬مؤمنة‪ ،‬ومن فواضل نساء عصرها‪ ،‬ولهذا فلم‬ ‫ضا أًما لزوجتيه الصغيرتين‪ ،‬وتكاد أن تكون أًما‬ ‫تكن أًما لبنتيه وحسب بل أي ً‬ ‫ضا؛ فلم تكدر للرسول ـ صلى ا عليه وسلم ـ صفو عيشه‪ ،‬إذ كانت‬ ‫له أي ً‬ ‫حريصة أن ترضيه كلما وجدت إلى ذلك سبي ً‬ ‫ل‪ ،‬فقد كانت ـ رضّي ا عنها ـ‬ ‫تحبه حًبا جًما‪ ،‬وكانت إحدى أحب زوجاته إلى قلبه‪ ،‬لصلحها وتقواها‪،‬‬ ‫ومسيرة إيمانها‪ ،‬ولعلمه بسعيها لدخال السرورعلى قلبه بما تختاره من‬ ‫كلمات تشيع في أرجاء نفسه البهجة‪ ،‬حتى لّما فطنت إلى أن مشيتها تضحكه‬ ‫ـ صلى ا عليه وسلم ـ وذلك من اكتناز جسمها‪ ،‬كانت تتعمد المشي أمامه‬ ‫لتضحكه أكثروأكثر‪ ،‬إذ كان يسرها سروره‪.‬‬ ‫لحرصها الشديد على إسعاده ـ صلى ا عليه وسلم ـ لم تفتعل المشاكل‬ ‫من غيرة بعد اقترانه بعاكئشة‪ ،‬بل عاش بينهما فى مود ٍة خلقاها حوله‬ ‫كزوجتين صالحتين على الرغم من فرق العمر الكبير بينهما‪ ..‬تتبدى هذه‬ ‫سْوَدةُ ةِبْن ُ‬ ‫المودة فيما ترويه عاكئشة ‪َ :‬دَخل ُ‬ ‫سْت َوَر ُ‬ ‫ت َزْمَعَة َفَجَل َ‬ ‫ت َعَلّي َ‬ ‫سول ُ‬ ‫صّلى ّ‬ ‫ت ةِبَها‪َ ،‬فقُْل ُ‬ ‫ت َحةِريَرًة َفةِجْكئ ُ‬ ‫صَنْع ُ‬ ‫ت‪:‬‬ ‫ّ ةِ‬ ‫سّلَم َبْيةِني َوَبْيَنَها َوَقْد َ‬ ‫اُ َعَلْيةِه َو َ‬ ‫ا َ‬ ‫‪95‬‬


‫ُكةِلي‪َ ،‬فَقاَلْت‪َ :‬ما أَ​َنا ةِبَذاةِكئَقةِتَها‪َ ،‬قاَلْت‪ :‬قُْل ُ‬ ‫ا َلَتأُْكةِليَن ةِمْنَها‪ ،‬أَْو أ َُلّطَخّن ةِمْنَها‬ ‫ت‪َ :‬و ّ ةِ‬ ‫ت ةِمْنَها َ‬ ‫ةِبَوْجةِهةِك‪َ ،‬قاَلْت‪َ :‬ما أَ​َنا ةِبَذاةِكئَقةِتَها َفَتَناَوْل ُ‬ ‫شْيًكئا َفَم َ‬ ‫سَحْت ةِبةِه َوْجةِهي‪َ ،‬فَجَعلَ‬ ‫ا‬ ‫سول ُ ّ ةِ‬ ‫سول ُ ّ ةِ‬ ‫سَح ةِبةِه َوْجةِهي‪َ ،‬فَجَعلَ َر ُ‬ ‫ضَحُك‪َ ،‬وُهَو َبْيةِني َوَبْيَنَها َفَم َ‬ ‫ا َي ْ‬ ‫َر ُ‬ ‫صّلى ّ‬ ‫ضَحُك َيْسَتةِقيُد ةِمّني‪َ ،‬فأ َ​َخَذْت‬ ‫ض َعْنَها ةِبَمّر َوُهَو َي ْ‬ ‫سّلَم َيْحةِف ُ‬ ‫اُ َعَلْيةِه َو َ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ضَحُك ‪.‬‬ ‫سول ُ ةِ‬ ‫سّلَم َي ْ‬ ‫صّلى اُ َعَلْيةِه َو َ‬ ‫ا َ‬ ‫سَحْت ةِبةِه َوْجةِهي َفَجَعلَ َر ُ‬ ‫شْيًكئا َفَم َ‬ ‫ولم تكن ـ رضى ا عنها ـ تقبل المزا ح من عاكئشة فقط بل ومن حفصة‬ ‫ضا‪ ،‬وقد علمتا عن سودة مقدار إيمانها‪ ،‬وورعها‪ ،‬وتقواها‪ ،‬ومخافة أن‬ ‫أي ً‬ ‫يظهر الدجال الذى حذر منه الرسول ـ صلى ا عليه وسلم ـ المؤمنين‪،‬‬ ‫فأخبراها بأن الدجال قد خرج‪ ،‬فما كان من سودة إل أن اختبأت في بيت‬ ‫كانوا يوقدون فيه‪ ،‬واستضحكتا‪ ،‬وجاء رسول ا فقال‪’’:‬ما شأنكما؟’’‪،‬‬ ‫فأخبرتاه بما كان من أمر سودة‪ ،‬فذهب إليها وما أن رأته ـ صلى ا عليه‬ ‫وسلم‪ ،‬حتى سألته مستفسرًة ‪ :‬يا رسول ا‪ ،‬أخرج الدجال؟‪ ،‬فقال‪’’:‬ل‪،‬‬ ‫وكأْن قد خرج’’ فاطمأّنت وخرجت من البيت‪ ،‬وجعلت تنفض عنها بيض‬ ‫العنكبوت ‪.‬‬ ‫أكرم ا السيدة سودة بنت زمعة بالسلم فالهجرة مع زوجها الول‬ ‫السكران إلى الحبشة كمؤمنة من المؤمنات فُلقبْت بالمهاجرة أرملة‬ ‫المهاجر‪ ،‬ثم أتم ا ـ عز وجل ـ عليها فاكئق كرمه حين أصطفاها من بين‬ ‫نساء المسلمين لتكون زوًجا لخاتم النبيين ـ صلى ا عليها وسلم ـ فتحظى‬ ‫بلقب أم المؤمنين‪ ،‬وتهاجر إلى المدينة بهذا اللقب ويستقبلها ـ صلى ا‬ ‫عليه وسلم ـ في بيتها الذي بناه لها‪ ،‬لتنال شرف الهجرتين‪ ،‬وتكون أم‬ ‫المؤمنين الولى بالمدينة المنورة‪ ،‬ويصبح لقبها سودة أم المؤمنين‬ ‫المهاجرة وثاني أزواج سيد العالمين صلى ا عليه وسلم‪.‬‬ ‫ضل بها‬ ‫ظلت السيدة سودة تحمد ا كثيًرا على كل هذه النعم التي تف ّ‬ ‫عليها‪ ،‬ولهذا لما تقدم بها السن وكانت تعلم فى حنايا نفسها أن الرسول ـ‬ ‫ف بها وبحالها حين اختارها زوًجا له‪ ،‬وما‬ ‫صلى ا عليه وسلم ـ إنما تلّط َ‬ ‫ضا أن الرسول ـ صلى‬ ‫كانت تريد أن تخرج من هذه المعية‪ ،‬كما كانت تعلم أي ً‬ ‫ا عليه وسلم ـ عادًل‪ ،‬ويحب أن يقيم شرع ا في بيته وبين أزواجه‪،‬‬ ‫أليس هو القاكئل صلى ا عليه وسلم‪’’ :‬من كانت له امرأتان فمال إلى‬ ‫‪96‬‬


‫إحداهما‪ ،‬جاء يوم القيامة وأحد شقيه ساقط’’ وما كان من خلقه ـ صلى ا‬ ‫عليه وسلم ـ أن يأمر أمته بأمر ول يلتزم به إل ما كان من خصوصياته‪،‬‬ ‫ا ‪ -‬صلى ا عليه وسلم ‪َ -‬ل‬ ‫سول ُ ّ ةِ‬ ‫يشهد بعدله قول عاكئشة أنها ‪َ":‬كاَن َر ُ‬ ‫ض ةِفي اْلَقْسةِم ةِمْن ُمْكةِثةِه ةِعْنَدَنا‪َ ،‬وَكاَن َقلّ َيْوٌم إةِّل َوُهَو‬ ‫ضَنا َعَلى َبْع ٍ‬ ‫ضل ُ َبْع َ‬ ‫ُيَف ّ‬ ‫س َحّتى َيْبلَُغ إةَِلى اّلةِتي‬ ‫َيُطو ُ‬ ‫ف َعَلْيَنا َجةِميًعا َفَيْدُنو ةِمْن ُكلّ اْمَرأَ ٍة ةِمْن َغْيةِر َمةِسي ٍ‬ ‫ُهَو َيْوُمَها َفَيةِبيَت ةِعْنَدَها"‪ .‬فخشيت سودة أن يطلقها ـ صلى ا عليه وسلم ـ‬ ‫فصارحُته بما في نفسها لكي تحمل من فوق كاهله مخافة ومظنة التقصير‬ ‫في حقها ‪" :‬يارسول ا‪ ،‬ل تطلقني وأمسكني واجعل يومي لعاكئشة"‪ ،‬وذلك‬ ‫لغرض نبيل أخروي‪ ،‬من حقها أن تتمسك به‪" :‬أود أن أحشر في زمرة‬ ‫أزواجك"‪.‬‬ ‫أحبتها عاكئشة‪ ،‬واحترمتها وتمنت أن تكون مثلها‪َ" :‬ما َرأَْي ُ‬ ‫ت اْمَرأًَة‬ ‫ت‬ ‫سْوَدَة ةِبْن ةِ‬ ‫أَ​َحّب إةَِلّي أَْن أَُكوَن ةِفي ةِمْسَلةِخَها ]صبرها وهديها وصلحها[ ةِمْن َ‬ ‫َزْمَعَة ةِمْن اْمَرأَ ٍة ةِفيَها ةِحّدةٌ"‪ ،‬وقصدت عاكئشة من الحدة‪ :‬قوة النفس وجودة‬ ‫القريحة‪ ،‬ولم ترد عاكئشة عيب سودة بذلك بل وصفتها‪.‬‬ ‫حج رسول ا ـ صلى ا عليه وسلم ـ بنساكئه عام حجة الوداع‪ ،‬ثم‬ ‫قال‪’’ :‬هذه الحجة ثم ظهور الحصر’’‪ ،‬أي الجلوس في البيوت‪ ،‬وكان كل‬ ‫نساء النبي ـ صلى ا عليه وسلم ـ َيْحُجْجَن إل سودة بنت زمعة‪ ،‬وزينب‬ ‫بنت جحش‪ ،‬ول يقد ح في هذا أن عاكئشة خالفت أمر الرسول ـ صلى ا‬ ‫عليه وسلم ـ ولم تكن بصنيعها هذا أقل وفاًء من سودة وزينب ـ عليهن‬ ‫جميعهن رضوان ا تعالى ـ ولكن اْلُعْذر َعْن َعاةِكئ َ‬ ‫شة أَّنَها َتأ َّوَلْت اْلَحةِديث‬ ‫صَواةِحَباتَها َعَلى أَّن اْلُمَراد ةِبَذلةَِك أَّنُه َل َيةِجب‬ ‫اْلَمْذُكور َكَما َتأ َّوَلُه َغْيرَها ةِمْن َ‬ ‫صّلى ّ‬ ‫سّلَم ‪َ’’:‬لةِكّن‬ ‫ا َعَلْيةِه َو َ‬ ‫َعَلْيةِهّن َغْير ةِتْلَك اْلَحّجة‪َ ،‬وَتأ َّيَد َذلةَِك ةِعْندَها ةِبَقْولةِةِه َ‬ ‫ضَي ّ‬ ‫ا َعْنُه ـ ُمَتَوّقًفا ةِفي‬ ‫ضل اْلةِجَهاد اْلَحّج َواْلُعْمَرة’’‪َ ،‬وَكاّن ُعَمر ـ َر ةِ‬ ‫أَْف َ‬ ‫صَحاَبة ةِمْن َغْير‬ ‫تفسير َذلةَِك ُثّم َظَهَر َلُه اْلَجَواز َفأ َةِذَن َلُهّن‪َ ،‬وَتةِبَعُه َعَلى َذلةَِك ال ّ‬ ‫َنةِكير ‪.‬‬ ‫كان إعراض سودة عن الخروج من بيتها‪ ،‬امتثالً ووفاًء وتأول منها‬ ‫يدل على مدى حزنها على وفاته ـ صلى ا عليه وسلم ـ فلم تزل كذلك حتى‬

‫‪97‬‬


‫توفيت ـ رضّي ا عنها ـ في آخر زمن عمر بن الخطاب‪ ،‬ويقال إنها توفيت‬ ‫بالمدينة المنورة في شوال سنة أربعة وخمسون‪ ،‬وفي خلفة معاوية‪.‬‬ ‫نساء فى حياة الرسول‬

‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ هامش الفصل‬

‫الثامن ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ السيد إبراهيم‬

‫)‪ (1‬الرسكران بن عمرو بن عبد شمس بن عبد ود بن نصر بن مالك بن حرسل بن عامر ابن لؤي‪،‬‬ ‫وهو أخو رسهيل بن عمرو ورسليط بن عمرو وحاطب بن عمرو وهم يلتقون في النرسب مع النبي‬ ‫صلى ا عليه ورسلم عند لؤي بن غالب‪ ،‬كذا قال ابن عبد البر في الرستيعاب‪ ،‬وابن رسعد في‬ ‫الطبقات‪ ،‬وابن حجر في الصابة‪ .‬وهو من مهاجرة الحبشة‪ ،‬هاجر إليها ومعه امرأته رسودة بنت‬ ‫زمعة‪ ،‬وتوفي هناك‪ ،‬قاله مورسى بن عقبة وأبو معشر‪ ،‬والزبير‪ .‬وقال ابن إرسحاق والواقدي‪ :‬رجع‬ ‫الرسكران إلى مكة فمات بها قبل الهجرة إلى المدينة‪..‬وهو الصح والرجح عند البلذري وغيره ‪..‬‬ ‫وهو ما أخذنا به خلًفا لمن قال أنه تنصر ومات بالحبشة ـ المؤلف ـ‬ ‫)‪ (2‬قال الرناؤوط ‪ :‬ولم نقف على تراجم أبناء رسودة ول على أرسمائهم‪.‬‬ ‫)‪ (3‬مرسند المام أحمد‪ ،‬رقم الحديث )‪ ، (2807‬والطبراني في الكبير‪ .‬وصححه اللباني في‬ ‫الرسلرسلة الصحيحة برقم )‪.(2523‬‬

‫‪98‬‬


‫الفصل التاسع‬

‫الصديقة الحبيبة زوج الحبيب‬ ‫و‬ ‫بنت الحبيب‬

‫‪99‬‬


‫مثلما رأت السيدة سودة بنت زمعة رسول ا في منامها قبل زواجها‬ ‫منه ـ صلى ا عليه وسلم ـ وكانت الرؤيا بشارة لها باقترانها منه‪ ،‬رأى‬ ‫رسول ا ـ صلى ا عليه وسلم ـ السيدة عاكئشة ثلث ليال‪ ،‬عاشت هذه‬ ‫الرؤى حبيسة صدره لم يحدث عنها أحد حتى صديقه أبا بكر والد الفتاة‪،‬‬ ‫ولكنه صار ح عاكئشة نفسها بعدها بعدة سنوات‪ ،‬بعد أن أصبحت الرؤيا‬ ‫واقًعا؛ فقال لها صلى ا عليه وسلم ‪’’ :‬أ ُةِريُتةِك ةِفى اْلَمَناةِم َثلَ​َث َلَيا ٍل َجاءَةِنى‬ ‫ف َعْن َوْجةِهةِك َفإةَِذا‬ ‫سَرَق ٍة ةِمْن َحةِري ٍر َفَيُقول ُ َهةِذةِه اْمَرأَُتَك ‪َ .‬فأ َْكةِش ُ‬ ‫ةِبةِك اْلَمَلُك ةِفى َ‬ ‫ضةِه’’‪.‬‬ ‫ا ُيْم ةِ‬ ‫أَْن ةِ‬ ‫ت ةِهَى َفأ َُقول ُ إةِْن َيُك َهَذا ةِمْن ةِعْنةِد ّ ةِ‬ ‫لم يخبر الرسول ـ صلى ا عليها وسلم ـ عاكئشة بأنه رأها بل ُأريها‪،‬‬ ‫وهذا لقطع الطريق على من يتصورون أنه ـ ربما ـ رأها يقظة فتمناها‪،‬‬ ‫سَرَق ٍة‬ ‫فظهرت له في منامه‪ ،‬وتكمن دللة "ُأريها" في أن الملك أتى بها في َ‬ ‫]قطعة جيدة من الحرير[ لم تكن ظاهرة للرسول ـ صلى ا عليها وسلم ـ‬ ‫وإنما أخبره الملك بأن تلك التي يلفها الحرير ستكون زوًجا لك‪ ،‬ولم يعرف‬ ‫ت ةِهَى’’ والخطاب‬ ‫الرسول من هّ​ّي حتى كشف بيده عن وجهها ’’َفإةَِذا أَْن ةِ‬ ‫ضةِه’’‬ ‫ا ُيْم ةِ‬ ‫لعاكئشة‪ ،‬وأما قوله صلى ا عليه وسلم‪’’ :‬إةِْن َيُك َهَذا ةِمْن ةِعْنةِد ّ ةِ‬ ‫أي‪ :‬إن كان ربنا قّدر ذلك فسيكون ما قّدر سبحانه وتعالى‪ ،‬وهذا ليس شًكا‬ ‫ضي عياض‬ ‫منه صلى ا عليه وسلم‪ ،‬وقد فسر هذا القول أبلغ تفسير اْلَقا ةِ‬ ‫صّلى ّ‬ ‫ا‬ ‫ص أَْحَلمه َ‬ ‫حين َقالَ ‪" :‬إةِْن َكاَنْت َهةِذةِه الّرْؤَيا َقْبلَ الّنُبّوةِة‪َ ,‬وةِقيلَ َتْخةِلي ُ‬ ‫ضَغاث َفَمْعَناَها إةِْن َكاَنْت ُرْؤَيا َحّق‪ .‬إةِْن َكاَنْت َبْعَد الّنُبّوة‬ ‫سّلَم ةِمْن اْلَ ْ‬ ‫َعَلْيةِه َو َ‬ ‫َفَلَها َثَلَثُة َمَعا ٍن‪ :‬أَ​َحُدَها أَّن اْلُمَراد إةِْن َتُكْن الّرْؤَيا َعَلى َوْجةِهَها َوَظاةِهةِرَها َل‬ ‫ضيةِه ّ‬ ‫ا َتَعاَلى َوُيَنّجُزُه‪َ ,‬فال ّ‬ ‫شّك َعاةِكئٌد إةَِلى أَّنَها‬ ‫سُيْم ةِ‬ ‫ج إةَِلى َتْعةِبي ٍر َوَتْفةِسي ٍر َف َ‬ ‫َتْحَتا ُ‬ ‫ف َعَلى َظاةِهةِرَها‪ .‬الّثاةِني أَّن‬ ‫صْر ٍ‬ ‫ج إةَِلى َتْعةِبي ٍر َو َ‬ ‫ُرْؤَيا َعَلى َظاةِهرَها أَْم َتْحَتا ُ‬ ‫ضَها ّ‬ ‫ا‪َ ,‬فال ّ‬ ‫شّك أَّنَها َزْوَجُتُه ةِفي‬ ‫اْلُمَراد إةِْن َكاَنْت َهةِذةِه الّزْوَجة ةِفي الّدْنَيا ُيْم ةِ‬ ‫الّدْنَيا أَْم ةِفي اْلَجّنة‪ .‬الّثالةِ ُ‬ ‫ث أَّنُه َلْم َي ُ‬ ‫شّك‪َ ,‬وَلةِكْن أ ُْخةِبَر َعَلى الّتْحةِقيق‪َ ,‬وأَ​َتى‬ ‫صوَرةِة ال ّ‬ ‫ساةِلم؟ َوُهَو َنْوع ةِمْن اْلَبةِديع ةِعْند أَْهل‬ ‫شّك َكَما َقاَل‪ :‬أَأَْن ةِ‬ ‫ت أَْم أ ُّم َ‬ ‫ةِب ُ‬ ‫ضُهْم َمْزج ال ّ‬ ‫شّك ةِباْلَيةِقيةِن")‪.(1‬‬ ‫سّماُه َبْع ُ‬ ‫سّموَنُه َتَجاُهل اْلَعاةِرف‪َ ,‬و َ‬ ‫اْلَبَلَغة ُي َ‬

‫‪100‬‬


‫دخلت عاكئشة حياة الرسول ـ صلى ا عليه وسلم ـ بعد وفاة السيدة‬ ‫خديجة‪ ،‬وذلك عندما فاتحته خولة بنت حكيم امرأةعثمان بن مظعون قاكئلة‪:‬‬ ‫يا رسول ا أل تزوج؟‪ ،‬قال‪’’ :‬من؟’’‪ ،‬قالت‪ :‬إن شكئت بكًرا وإن شكئت ثيًبا‪،‬‬ ‫قال ‪’’ :‬فمن البكر؟’’‪ ،‬قالت ‪ :‬ابنة أحب خلق ا عز وجل إليك عاكئشة بنت‬ ‫أبي بكر‪.‬‬ ‫أةِذن الرسول ـ صلى ا عليه وسلم ـ لخولة أن تبدأ مشاورات زواجه‬ ‫من الثيب وقد كانت سودة بنت زمعة‪ ،‬والبكر عاكئشة ــ وهى موضع حديثنا‬ ‫ــ فدخلت خولة بيت أبي بكر فقالت‪ :‬يا أم رومان ماذا أدخل ا عز وجل‬ ‫عليكم من الخير والبركة؟‪ ،‬قالت‪:‬وما ذاك؟‪ ،‬قالت‪ :‬أرسلني رسول ا ـ صلى‬ ‫ا عليه وسلم ـ أخطب عليه عاكئشة ‪ ،‬قالت‪ :‬انتظري أبا بكر حتى يأتي‪،‬‬ ‫فجاء أبو بكر فقالت‪ :‬يا أبا بكر ماذا أدخل ا عليكم من الخير والبركة؟‪،‬‬ ‫قال‪:‬وما ذاك؟‪ ،‬قالت‪ :‬أرسلني رسول ا ـ صلى ا عليه وسلم ـ أخطب‬ ‫عليه عاكئشة ‪ ،‬قال‪ :‬وهل تصلح له إنما هي ابنة أخيه؟!‪ ،‬فرجعت إلى رسول‬ ‫ا ـ صلى ا عليه وسلم ـ فذكرت له ذلك‪ ،‬قال‪’’:‬ارجعي إليه فقولي له أنا‬ ‫ت فذكر ُ‬ ‫أخوك وأنت أخي في السلم وابنتك تصلح لي’’‪ ،‬فرجع ُ‬ ‫ت ذلك له‬ ‫قال‪ :‬انتظري‪ ،‬وخرج‪ ،‬قالت أم رومان‪ :‬إن مطعم بن عدي قد كان ذكرها‬ ‫على ابنه فوا ما وعد موعًدا قط فأخلفه لبي بكر‪ ،‬فدخل أبو‬ ‫بكر على مطعم بن عدي وعنده امرأته أم الفتى‪ ،‬فقالت‪َ :‬يا اْبَن أَةِبي قَُحاَفَة!‬ ‫صاةِحَبَنا ]تقصد ابنها جبير[‪ُ ،‬مْدةِخلُ​ُه ةِفي ةِديةِنَك اّلةِذي أَْنَت َعَلْيةِه إةِْن‬ ‫ص ٍ‬ ‫ب َ‬ ‫َلَعّلَك ُم ْ‬ ‫َتَزّوَج إةَِلْيَك؟!‪ ،‬قال أبو بكر للمطعم بن عدي‪ :‬ماتقول هذه؟!‪ ،‬قال‪ :‬إنها تقول‬ ‫كذلك‪ ،‬فخرج من عنده وقد أذهب ا عز وجل َما َكاَن ةِفي َنْفةِسةِه ةِمْن ةِعَدةِتةِه‬ ‫اّلةِتي َوَعَدُه‪ ،‬فرجع فقال لخولة‪ :‬ادعي لي رسول ا صلى ا عليه وسلم‪.‬‬ ‫كان أبو بكر الصديق المؤمن بالسلم‪ ،‬والمصدق بما أنزل على رسول‬ ‫ا ـ صلى ا عليه وسلم ـ هو نفسه أبو بكر العالم بالعراف العربية علمه‬ ‫بأنسابها وشعرها‪ ،‬تماًما مثلما يخبرها الرسول العربي القرشي‪ ،‬ولهذا فلبد‬ ‫أن تراعى تلك التقاليد بأن ينتقل طالب الزواج إلى بيت العروس‪ ،‬أما في‬ ‫غير هذه فقد كان الصديق أول من يلبى نداء النبى ـ صلى ا عليه وسلم ـ‪،‬‬ ‫كما كان عليه أن يعود إلى من طلب ابنته من قبل‪ ،‬ولك أن تعلم لو أن مطعًما‬ ‫أنفذ وعده‪ ،‬لعتذر الصديق لرسول ا ـ صلى ا عليه وسلم ـ الذي كان‬ ‫‪101‬‬


‫سيتقبل المر بدوره برحابة صدر‪ ،‬وسماحة نفس؛ فهو من أكثر العارفين‬ ‫بعاداتهم وتقاليدهم‪ ،‬ومثلما كان قادًرا على العتذار في تلك أما كان يستطيع‬ ‫العتراض على فارق السن بين ابنته وصديقه‪ ،‬أو أن يعترض على أن النبي‬ ‫كان متزوجا ً آنذاك‪ ،‬لكن الصديق لم يعترض ل في هذه ول في تلك‪ ،‬لن هذا‬ ‫كان مألوفا ً وشاكئعا ً في مجتمعهم وبيكئتهم‪.‬‬ ‫والسؤال‪ ..‬فهل كان أبو بكر فقيًرا أو معوًزا ليزوج ابنته الصغيرة مبكًرا‪،‬‬ ‫وممن يكبرها؟! ‪ ..‬الوقاكئع تشهد بأنه كان تاجًرا محسوًبا من أغنياء مكـة‬ ‫المعروفين والمعدودين‪ ،‬بل كان من وجهاء قريش وأشرافهم وأحد‬ ‫رؤساكئهم‪ ،‬ذلك أن الشرف في قريش قد انتهى قبل ظهور السلم إلى عشرة‬ ‫رهط من عشرة أبطن‪ ،‬وأبو بكر الصديق من بني تيم كان معدوًدا من هذا‬ ‫الرهط‪ ،‬إذ آل إليه أمر الديات والمغارم‪ ،‬فكان إذا حمل شيًكئا فسأل فيه قري ً‬ ‫شا‬ ‫صدقوه‪ ،‬وامضوا حمالة من نهض معه‪ ،‬وإن احتملها غيره خذلوه‪.‬‬ ‫يتبقى إذن أن أبا بكر كان يريد التخلص من بناته مبكًرا بتزويجهن‪ ،‬لكن‬ ‫الواقع والتاريخ يكّذبان هذا الطر ح‪ ،‬إذ كانت قبيلة بني تميم من القباكئل‬ ‫العربية التي تميزت بحسن معاملتها للمرأة‪ ،‬كما أن بيت الصديق كان من‬ ‫أشد بيوت هذه القباكئل محبة للنساء وإكرامهن‪ ،‬وتعليمهن حتى القراءة‬ ‫والكتابة‪ ،‬كما تعلمت عاكئشة كل هذا في صغرها‪.‬‬ ‫كما يتبقى أن يعلم من ليعلم أن أبا بكر لم يصاهر إل من هو كفء‬ ‫لمصاهرته‪ ،‬ويليق بابنته‪ ،‬إنه جبير بن مطعم بن عدي‪ ،‬ومن هو مطعم هذا؟‬ ‫‪ ..‬إنه ُمطةِعم بن عدي بن نوفل بن عبد مناف بن قصي شيخ قريش في‬ ‫زمانه‪ ،‬وسـّيٌد من سـاداتهم‪ ،‬وركئيس بني نوفل في الجاهلّية‪ ،‬وقاكئدهم في‬ ‫حرب الةِفجار‪.‬‬ ‫أذن ا لرسوله بالهجرة إلى المدينة فهاجر وأبو بكر وقد تركا‬ ‫عاكئلتيهما بمكة‪ ،‬فلما استقرا بالمدينة بعث ـ صلى ا عليه وسلم ـ زيد بن‬ ‫حارثة وأبا رافع‪ ،‬بينما بعث أبو بكرعبد ا بن أريقط وقد كتب إلى عبدا‬ ‫ابنه أن يحمل معه أم رومان وأم أبي بكر وعاكئشة وأسماء‪.‬‬

‫‪102‬‬


‫نزل آل النبي ـ صلى ا عليه وسلم ـ عنده‪ ،‬وهو يومكئ ٍذ يبني المسجد‬ ‫وبيوته‪ ،‬فأدخل سودة بنت زمعة أحد تلك البيوت‪ ،‬وكان يكون عندها‪ ،‬فقال‬ ‫له أبو بكر‪ :‬ما يمنعك أن تبنى بأهلك؟‪ ..‬فبنى بها صلى ا عليه وسلم‪.‬‬ ‫إذن لم يبادر الرسول ـ صلى ا عليه وسلم ـ إلى التعجيل بالدخول على‬ ‫عاكئشة‪ ،‬وإنما الذى طلب هذا أبوها‪ ،‬الذي كان يراها مناسبة وصالحة‬ ‫ومهيأة لن يبنى بها الرسول صلى ا عليه وسلم‪.‬‬ ‫لم ُتْتَرك عاكئشة طيلة سنوات خطبتها هم ً‬ ‫ل‪ ،‬بل كانت فترة إعداد لها‬ ‫على قدر طاقتها حتى تصبح الزوج اللكئق للنبى ـ صلى ا عليه وسلم ـ كان‬ ‫قدوتها ومعلمها آنذاك والدها المشهود له بأنه أعلم الصحابة بكتاب ا‬ ‫تعالى‪ ،‬وأعرفهم بالسنة المطهرة‪ ،‬النسابة‪ ،‬الفصيح فى الخطابة‪ ،‬الماهر‬ ‫بتأويل الرؤى‪.‬‬ ‫مثلما ورثت عاكئشة عن أبي بكر صفاته فى الجمال؛ فقد كان قسيًما‬ ‫وسيًما‪ ،‬فكانت ـ رضّي ا عنها ـ جميلة‪ ،‬قسيمة‪ ،‬بيضاء البشرة‪ ،‬حمراء‬ ‫الشعر‪ ،‬طويلة بعض الشىء‪ ،‬ورثت عنه كذلك‪ ،‬البديهة الحاضرة‪ ،‬والذكاء‬ ‫الحاد‪ ،‬بالضافة إلى قدرتها التى ل تبارى على التحصيل‪ ،‬والذاكرة الجيدة‬ ‫التى أبانت عن نفسها في الحاطة بكل ما يدور حولها‪.‬‬ ‫تأهلت عاكئشة بهذا العداد‪ ،‬وما جبلت عليه من الطباع‪ ،‬والصفات التي‬ ‫ورثتها لن تكون ـ بحق ـ التلميذة النبوية النجيبة في بيت زوجها ومعلمها‬ ‫الكبر الرسول ـ صلى ا عليه وسلم ـ الذي حفظت عنه الكثير والكثير‬ ‫بالتلقي الطاهر المباشر‪ ،‬وشهود نزول الوحي في حجرتها المباركة‪ ،‬المر‬ ‫الذي أتا ح لها بدالة القرب الحياتي والقلبي من النبي ـ صلى ا عليه وسلم ـ‬ ‫نقل السنة الفعلية عنه‪ ،‬بل وسؤاله فيما يستشكل عليها فهمه‪ ،‬والستفسار‬ ‫عما استعجم عليها معرفته‪ ،‬فأضاف لها كل هذا فهم عميق للكتاب الكريم‬ ‫والسنة المطهرة‪ ،‬أكسبها ملكة ل تبارى فى النقد‪ ،‬والتأويل‪ ،‬والستنباط‪ ،‬مما‬ ‫أجلسها هذا بعد وفاته ـ صلى ا عليه وسلم ـ مجلس العالمة‪ ،‬المحدثة‪،‬‬ ‫الفقيهة‪ ،‬المفسرة‪ ،‬المفتية‪ ،‬المجتهدة‪ ،‬المستنبطة‪ ،‬حتى غدت حجرتها‬ ‫جامعة للعلوم السلمية‪ ،‬تقصدها نساء المؤمنين‪ ،‬كما يقصدها الصحابة‬ ‫الكرام رضوان ا عليها وعليهم جميًعا‪.‬‬ ‫‪103‬‬


‫نعم ‪ ..‬كانت أمنا السيدة عاكئشة ـ رضى ا عنها ـ بحق بركة على‬ ‫ب يتصل بها‪ ،‬وذلك حين‬ ‫المسلمين‪ ،‬ولما ل وما نزلت آية التيمم إل بسب ةِ‬ ‫أعارتها أختها أسماء قلدة‪ ،‬فضاعت منها‪ ،‬فأرسل رسول ا ـ صلى ا‬ ‫عليه وسلم ـ بعض أصحابه ليبحثوا عنها‪ ،‬فأدركتهم الصلة ولم يكن عندهم‬ ‫ماٌء فصّلوا بغير وضوء‪ ،‬فلما أتوا إلى النبي ـ صلى ا عليه وسلم ـ شكوا‬ ‫إليه ما كان من أمر صلتهم فأنزل ا آية التيمم‪ ،‬فتيمموا‪ ,‬فقال أسيد بن‬ ‫الحضير لعاكئشة‪" :‬جزاةِك ا خيًرا‪ ،‬فوا ما نزل بك أمر قط إل جعل ا لةِك‬ ‫منه مخرًجا‪ ،‬وجعل للمسلمين فيه بركة"‪ ،‬ودخل أبو بكر عليها كأنه‬ ‫يستسمحها‪" :‬إنك لمباركة نزلت فيك رخصة"‪ ،‬بعدما عاتبها سابًقا ‪:‬‬ ‫"حبست رسول ا ـ صلى ا عليه وسلم ـ والناس وليسوا على ماء وليس‬ ‫معهم ماء؟"‪ ،‬وقال ما شاء له أن يقول‪ ,‬وهو يطعن بيده في خاصرتها‪ ،‬ول‬ ‫يمنعها من التحرك إل مكان رأس رسول ا ـ صلى ا عليه وسلم ـ على‬ ‫فخذها‪ ،‬وما أن بعثوا البعير الذي كانت عليه عاشة حتى وجدوا العقد تحته‪.‬‬ ‫شهدت السيدة خديجة ـ رضّي ا عنها ـ الفترة التأسيسية للدعوة‬ ‫السلمية في مرحلتها المكية‪ ،‬وهيأ ا تعالى لعاكئشة أن تشهد بواكير‬ ‫الدولة السلمية الفتية في مرحلتها التأسيسية بالمدينة‪ ،‬ومثلما كانت‬ ‫خديجة حب الرسول الكبر في مكة‪ ،‬كانت عاكئشة حب الرسول الكبر في‬ ‫ص ـ رضي ا عنه ـ أَّن‬ ‫المدينة‪ ،‬يشهد لهذا الحب ما رواه َعْمةِرو ْبةِن اْلَعا ةِ‬ ‫صّلى ّ‬ ‫سَلةِسةِل‪َ .‬قاَل‪:‬‬ ‫ش َذا ةِ‬ ‫سولَ ّ ةِ‬ ‫ت ال ّ‬ ‫اُ َعَلْيةِه َو َ‬ ‫ا َ‬ ‫َر ُ‬ ‫سّلَم اْسَتْعَمَلُه َعَلى َجْي ةِ‬ ‫ّ‬ ‫ب إةَِلْيَك؟ َقاَل‪َ’’ :‬عاةِكئ َ‬ ‫شُة’’‪ ،‬قُْل ُ‬ ‫َفأ َ​َتْيُتُه؛ َفقُْل ُ‬ ‫ت‪ :‬ةِمْن‬ ‫سولَ ةِ‬ ‫س أَ​َح ّ‬ ‫ا‪ ,‬أَ ّ‬ ‫ت‪َ :‬يا َر ُ‬ ‫ي الّنا ةِ‬ ‫الّرَجاةِل؟ َقاَل‪’’ :‬أَُبوَها’’)‪.(2‬‬ ‫وهل هناك أبلغ من هذا الحوار الودود الذي دار بين النبي ـ صلى ا عليه‬ ‫وسلم ـ وبين زوجه عاكئشة ـ رضي ا عنها ـ التي نقلته لنا حين َقاَلْت‪َ :‬قالَ‬ ‫صّلى ّ‬ ‫ضَيًة‪َ ,‬وإةَِذا‬ ‫ت َعّني َرا ةِ‬ ‫سّلَم‪’’ :‬إةِّني َلَْعَلُم إةَِذا ُكْن ةِ‬ ‫سول ُ ّ ةِ‬ ‫اُ َعَلْيةِه َو َ‬ ‫ا َ‬ ‫ةِلي َر ُ‬ ‫ضَبى’’‪َ .‬قاَلْت‪َ :‬فقُْل ُ‬ ‫ت‬ ‫ف َذلةَِك؟ َقاَل‪’’ :‬أَّما إةَِذا ُكْن ةِ‬ ‫ُكْن ةِ‬ ‫ت َوةِمْن أَْيَن َتْعةِر ُ‬ ‫ت َعَلّي َغ ْ‬ ‫ت‪َ :‬ل َوَرّب‬ ‫ضَبى قُْل ةِ‬ ‫ضَيًة؛ َفإةِّنةِك َتُقوةِليَن‪َ :‬ل َوَرّب ُمَحّم ٍد‪َ ,‬وإةَِذا ُكْن ةِ‬ ‫َعّني َرا ةِ‬ ‫ت َغ ْ‬ ‫إةِْبَراةِهيَم’’‪َ .‬قاَلْت‪ :‬قُْل ُ‬ ‫ا َما أَْهُجُر إةِّل اْسَمك)‪.(3‬‬ ‫سولَ ّ ةِ‬ ‫ت أَ​َجْل‪َ ,‬و ّ ةِ‬ ‫ا َيا َر ُ‬

‫‪104‬‬


‫ثم يشهد بهذا أعظم شهادة مارواه ابن عساكر عن السيدة عاكئشة ـ رضي‬ ‫ا عنها ـ أن الرسول صلى ا عليه وسلم قال لها‪’’ :‬أما ترضين أن تكوني‬ ‫ت زوجتي في الدنيا‬ ‫زوجتي في الدنيا و الخرة؟’’‪ ،‬قلت‪ :‬بلى‪ ،‬قال‪’’ :‬فأن ةِ‬ ‫والخرة’’)‪.(4‬‬ ‫ولكئن اختار رسول ا ـ صلى ا عليه وسلم ـ ابنته فاطمة ـ رضي ا‬ ‫عنها ـ لينقل لها أنه مودعها حيث الرفيق العلى‪ ،‬إل أنه لحبه الكبير لعاكئشة‬ ‫سْحةِرَها‬ ‫ض ةِفْي َبْيةِتَها‪ ,‬ليموت َبْيَن َ‬ ‫سّلَم ـ أَْن ُيَمّر َ‬ ‫صّلى اُ َعَلْيةِه َو َ‬ ‫اختار ـ َ‬ ‫ضل ةِبَقاةِع اْلَْرض ةِبإةِْجَماةِع اْل ُّمةِة‬ ‫َوَنْحةِرَها‪ ,‬ثم يكون َ​َدْفُنُه ةِفْي َبْيتَها ةِبُبْقَع ٍة ةِهَي أَْف َ‬ ‫صّلى ّ‬ ‫ل‪’’ :‬أَْيَن أَ​َنا اْلَيْوَم؟ أَْيَن‬ ‫اُ َعَلْيةِه َو َ‬ ‫)‪ ,(5‬وقد كان ذلك حين َكاَن َ‬ ‫سّلَم َيُقو ُ‬ ‫أَ​َنا َغًدا؟’’ اْسةِتْبَطاًء لةَِيْوةِم َعاةِكئ َ‬ ‫شَة)‪.(6‬‬ ‫صّلى اُ َعَلْيةِه‬ ‫عاشت ـ رضى ا عنها ـ بعد انتقال زوجها الحبيب ـ َ‬ ‫سّلَم ـ إلى جوار ربه قريًبا من خمسين سنة‪ ،‬تحفها في رحلتها تلك‬ ‫َو َ‬ ‫ذكرياتها الجميلة معه التي ما فتكئت تتذكرها‪ ،‬وتذكرها عندما يسألها أحدهم‬ ‫صّلى ّ‬ ‫سّلَم ةِفي‬ ‫سوةِل ّ ةِ‬ ‫اُ َعَلْيةِه َو َ‬ ‫ا َ‬ ‫أو إحداهن‪ ،‬ومنها ‪َ ،‬قاَلْت ‪َ :‬خَرْجَنا َمَع َر ُ‬ ‫ت لةَِحاَجةِتي‪َ ،‬فَدَخْل ُ‬ ‫َغْزَوةِة َبْد ٍر َحّتى إةَِذا ُكّنَا ةِبالَةِثيةِل ةِعْنَد الَ​َراةِك‪َ ،‬قاَلْت ‪َ :‬فَذَهْب ُ‬ ‫ت‬ ‫ةِفي ةِخلةِل الَ​َراةِك‪َ ،‬فَبْيَنا أَ​َنا َكَذلةَِك إةَِذا َنْحُن ةِب َ‬ ‫ص َرُج ٍل َيَتَخّلل ُ الَ​َراَك َعَلى‬ ‫شْخ ٍ‬ ‫صّلى ّ‬ ‫َبةِعي ٍر‪َ ،‬فَذَهْب ُ‬ ‫سّلَم‪َ ،‬فأ َْقَبلَ َحّتى َنَزلَ ةِعْنةِدي‪،‬‬ ‫سول ُ ّ ةِ‬ ‫اُ َعَلْيةِه َو َ‬ ‫ا َ‬ ‫ت َفإةَِذا َر ُ‬ ‫ساةِبقُةِك’’‪َ ،‬ف َ‬ ‫شَدْد ُ‬ ‫َفَلّما َفَرْغ ُ‬ ‫ت ةِدْرةِعي َعَلى َبْطةِني‪،‬‬ ‫ت ةِمْن َحاَجةِتي‪َ ،‬قالَ ‪َ’’ :‬تَعاَلْي أ ُ َ‬ ‫سَبَقةِني‪َ ،‬فَقاَل‪َ’’ :‬هةِذةِه َمَكاُن ةِذي‬ ‫ُثّم َخَطْطَنا َخًّطا َفُعْجت َعَلْيةِه َفاْسَتَبْقَنا‪َ ،‬ف َ‬ ‫اْلَمَجاةِز’’‪َ .‬وَكاَن َجاَء َيْوًما َوَنْحُن ةِبةِذي اْلَمَجاز‪َ ،‬وأَ​َنا َجاةِرَيٌة َقْد َبَعَثةِني أَةِبي‬ ‫ةِب َ‬ ‫سَعْي ُ‬ ‫شْي ٍء‪َ ،‬فَقالَ ‪’’:‬أَْعةِطةِنيةِه’’‪َ ،‬فأ َ​َبْي ُ‬ ‫سَعى َعَلى أَ​َثةِري َفَلْم ُيْدةِرْكةِني"‪.‬‬ ‫ت َو َ‬ ‫ت‪َ ،‬ف َ‬ ‫سّلَم ـ على باب حجرتها‬ ‫صّلى اُ َعَلْيةِه َو َ‬ ‫وكيف لها أن تنسى وقوفه ـ َ‬ ‫ليسترها برداكئه وهّى تنظر من بين أذنه وعاتقه إلى لعب الحباش يلعبون‬ ‫بالحراب في المسجد)‪ ،(7‬وهم من وفدوا مسلمين مع جعفر بن أبي طالب‬ ‫من الحبشة آنذاك‪ ،‬وكيف لها أن تنسى فعل الصحابة وهم يتحرون اليوم‬ ‫سّلَم ـ عندها دون ساكئر الّيام‬ ‫صّلى اُ َعَلْيةِه َو َ‬ ‫الذي يكون فيه النبي ـ َ‬ ‫ليقّدموا هداياهم وعطاياهم‪ ،‬لعلمهم بمكانة عاكئشة منه‪.‬‬

‫‪105‬‬


‫لم تخلو ذكريات السيدة عاكئشة من المحن العاصفات‪ ،‬وأشدها محنة‬ ‫)الفك(‪ ،‬وهى المحنة المعروفة المشهورة الثابتة في عشر آيات من سورة‬ ‫النور‪ ،‬وفي الحاديث الصحا ح‪ ،‬وردت في خبر صحيح مشهور‪ ،‬أغنى‬ ‫اشتهاره عن ذكره‪ ،‬وسنورده مختصًرا‪" :‬لما خرج رسول ا صلى ا‬ ‫عليه وسلم وعاكئشة معه في غزوة بني المصطلق‪ ،‬وقفل ودنا من المدينة‬ ‫آذن ليلة بالرحيل‪ ،‬قامت ـ رضّي ا عنها ـ حين آذنوا بالرحيل فمشت حتى‬ ‫جاوزت الجيش‪ ،‬فلما فرغت من شأنها أقبلت إلى الرحل فلمست صدرها‬ ‫فإذا عقد من جزع ظفار قد انقطع‪ ،‬فرجعت فالتمسته فحبسها ابتغاؤه‪،‬‬ ‫فوجدته وانصرفت‪ ،‬وكانت شابة قليلة اللحم‪ ،‬فرفع الرجال هودجها ولم‬ ‫يشعروا بزوالها منه؛ فلما لم تجد أحًدا اضطجعت في مكانها رجاء أن‬ ‫يفتقدوها فيرجعوا إليها‪ ،‬فنامت في الموضع ولم يوقظها إل قول صفوان بن‬ ‫المعطل‪" :‬إنا ل وإنا إليه راجعون"؛ وذلك أنه كان قد تخلف وراء الجيش‬ ‫لحفظ الساقة‪ .‬وقيل‪ :‬إنها استيقظت لسترجاعه‪ ،‬ونزل عن ناقته وتنحى‬ ‫عنها حتى ركبت‪ ،‬وأخذ يقودها حتى بلغ بها الجيش في نحر الظهيرة؛ فوقع‬ ‫أهل الفك في مقالتهم‪ ،‬وكان الذي يجتمع إليه فيه ويستوشيه ويشعله‬ ‫عبدا بن أبي بن سلول المنافق‪ ،‬وهو الذي رأى صفوان آخًذا بزمام ناقة‬ ‫عاكئشة فقال‪" :‬وا ما نجت منه ول نجا منها"‪ ،‬وقال‪" :‬امرأة نبيكم باتت‬ ‫مع رجل"‪ .‬وكان من قالته حسان بن ثابت ومسطح بن أثاثة وحمنة بنت‬ ‫جحش"‪.‬‬ ‫يقول صاحب الظلل عن تلك المحنة ‪):‬لقد كانت معركة خاضها رسول‬ ‫سّلَم ـ وخاضتها الجماعة المسلمة يومذاك‪ .‬وخاضها‬ ‫صّلى اُ َعَلْيةِه َو َ‬ ‫اـ َ‬ ‫صّلى‬ ‫السلم‪ ،‬معركة ضخمة لعلها أضخم المعارك التي خاضها رسول ا ـ َ‬ ‫منتصرا كاظًما للمه الكبار‪ ,‬محتفًظا بوقار‬ ‫ً‬ ‫سّلَم ـ وخرج منها‬ ‫اُ َعَلْيةِه َو َ‬ ‫نفسه وعظمة قلبه وجميل صبره‪ .‬فلم تؤثر عنه كلمة واحدة تدل على نفاد‬ ‫صبره وضعف احتماله‪ ،‬واللم التي تناوشه لعلها أعظم اللم التي مرت به‬ ‫في حياته‪ ،‬والخطر على السلم من تلك الفرية من أشد الخطار التي‬ ‫تعرض لها في تاريخه(‪.‬‬ ‫صّلى‬ ‫لم تنس السيدة عاكئشة مواقف غيرتها الشديدة على رسول ا ـ َ‬ ‫سّلَم ـ من فرط حبها له‪ ،‬وكان تبريرها له ‪" :‬وما لي ل يغار‬ ‫اُ َعَلْيةِه َو َ‬ ‫‪106‬‬


‫مثلي على مثلك؟"‪ ،‬ولكنها بسبب الغيرة تلك وقعت منها أموًرا كثيرة‪،‬‬ ‫سّلَم ـ من مثلها ذلك الذي رواه البخاري في‬ ‫صّلى اُ َعَلْيةِه َو َ‬ ‫غفرها لها ـ َ‬ ‫سّلَم ـ عند‬ ‫صّلى اُ َعَلْيةِه َو َ‬ ‫صحيحه‪ ،‬أنه في يو ٍم من الّيام كان النبي ـ َ‬ ‫عاكئشة‪ ،‬فأرسلت إحدى أمهات المؤمنين بوعاء فيه طعام‪ ،‬فقامت عاكئشة ـ‬ ‫رضي ا عنها ـ إلى الوعاء فكسرته‪ ،‬فجعل النبي صلى ا عليه وسلم‬ ‫يجمع الطعام وهو يقول‪’’ :‬غارت أمكم’’‪.‬‬ ‫سّلَم ـ ولكن بعد أن عاتبها‬ ‫صّلى اُ َعَلْيةِه َو َ‬ ‫كما تتذكر كيف غفر لها ـ َ‬ ‫بل هاجمها مهاجمة شديدة حين تجاوزت بغيرتها منطقة "خديجة"؛ إذ ظنت‬ ‫صّلى اُ َعَلْيةِه‬ ‫لفرط حبه لها أن أولى أزواجه بوفاتها صارت في ذاكرته ـ َ‬ ‫سّلَم ـ نسًيا منسيا‪ ،‬المر الذي طمأنها هّي نفسها على مدى وفاء زوجها‬ ‫َو َ‬ ‫لها حتى وأن قضت قبله‪ ،‬فلن يسمح لمن تأتي بعدها أن تتناولها بسوء‪،‬‬ ‫وهذا لم يكن غريًبا على أخلق سيد الَخلق والٌخلق‪ ،‬فقد بعثه ا تعالى‬ ‫سّلَم ـ الوفاء‬ ‫صّلى اُ َعَلْيةِه َو َ‬ ‫ف عنه ـ َ‬ ‫ليكمل ويتمم مكارم الخلق‪ ،‬كما ُعّر َ‬ ‫لكل من قدم له معروًفا حتى قبل تكليفه بالرسالة‪ ،‬فكيف ل يكون وفًيا‬ ‫لزوجة عاشرها السنوات الطوال‪ ،‬ورأى منها الذرية التي أقرت عينيه من‬ ‫البنين والبنات؟!!‬ ‫وتذكر كتب السيرة أن السيدة عاكئشة التي كانت الزوجة الثيرة عنده ـ‬ ‫سّلَم ـ وختم حياته في بيتها‪ ،‬لم تجرؤ بعد هذا أن تذكر‬ ‫صّلى اُ َعَلْيةِه َو َ‬ ‫َ‬ ‫السيدة خديجة أبًدا‪.‬‬ ‫سّلَم ـ لعاكئشة من أمر‬ ‫صّلى اُ َعَلْيةِه َو َ‬ ‫أما الذي لم يغفره رسول ا ـ َ‬ ‫صّلى اُ َعَلْيةِه‬ ‫غيرتها فهّي ما تحكيه قاكئلة‪َ) :‬لّما َكاَنْت َلْيَلةِتي اّلةِتي َكاَن الّنةِبّي َ‬ ‫ضَعُهَما ةِعْنَد ةِرْجَلْيةِه‪،‬‬ ‫ضَع ةِرَداَءُه‪َ ،‬وَخَلَع َنْعَلْيةِه‪َ ،‬فَو َ‬ ‫سّلَم ةِفيَها ةِعْنةِدي‪ ،‬اْنَقَلَب َفَو َ‬ ‫َو َ‬ ‫ضَطَجَع‪َ ،‬فَلْم َيْلَبْث إةِّل َرْيَثَما َظّن أَْن َقْد‬ ‫ف إةَِزاةِرةِه َعَلى ةِفَراةِشةِه‪َ ،‬فا ْ‬ ‫سَط َطَر َ‬ ‫َوَب َ‬ ‫َرَقْد ُ‬ ‫ت‪َ ،‬فأ َ​َخَذ ةِرَداَءُه ُرَوْيًدا‪َ ،‬واْنَتَعلَ ُرَوْيًدا‪َ ،‬وَفَتَح اْلَباَب َفَخَرَج‪ُ ،‬ثّم أَ​َجاَفُه‬ ‫ت ]لبس ُ‬ ‫ت ةِدْرةِعي ةِفي َرْأةِسي‪َ ،‬واْخَتَمْر ُ‬ ‫]أغلقه[ ُرَوْيًدا‪َ ،‬فَجَعْل ُ‬ ‫ت خماري[‪،‬‬ ‫ت إةَِزاةِري‪ُ ،‬ثّم اْنَطَلْق ُ‬ ‫َوَتَقّنْع ُ‬ ‫ت َعَلى إةِْثةِرةِه‪َ ،‬حّتى َجاءَ اْلَبةِقيَع َفَقاَم‪َ ،‬فأ َ​َطالَ اْلةِقَياَم‪،‬‬ ‫ت‪َ ،‬فأ َْسَرَع َفأ َْسَرْع ُ‬ ‫ف َفاْنَحَرْف ُ‬ ‫ُثّم َرَفَع َيَدْيةِه َثَلَث َمّرا ٍ‬ ‫ت‪ُ ،‬ثّم اْنَحَر َ‬ ‫ت‪َ ،‬فَهْرَولَ‬ ‫سَبْقُتُه َفَدَخْل ُ‬ ‫ضْر ُ‬ ‫َفَهْرَوْل ُ‬ ‫س إةِّل أَةِن‬ ‫ت‪َ ،‬فَلْي َ‬ ‫ت‪َ ،‬ف َ‬ ‫ضَر]فركض[ َفأ َْح َ‬ ‫ت‪َ ،‬فأ َْح َ‬ ‫‪107‬‬


‫ش‪َ ،‬ح ْ‬ ‫ضَطَجْع ُ‬ ‫شَيا َراةِبَيًة؟’’ ]حشيا رابية‪ :‬هو‬ ‫ت‪َ ،‬فَدَخَل‪َ ،‬فَقال‪َ’’ :‬ما َلةِك َيا َعاةِكئ ُ‬ ‫ا ْ‬ ‫ت‪َ :‬ل َ‬ ‫مرض يسّبب ارتفاع صوت النفس مع تسارعه[‪َ ،‬قاَلْت‪ :‬قُْل ُ‬ ‫شْيءَ ‪.‬‬ ‫ف اْلَخةِبيُر’’‪َ .‬قاَلْت ‪ :‬قُْل ُ‬ ‫ا‪،‬‬ ‫سولَ ةِ‬ ‫ت ‪َ :‬يا َر ُ‬ ‫َقاَل‪َ’’ :‬لُتْخةِبةِريةِني أَْو َلُيْخةِبَرّني الّلةِطي ُ‬ ‫سَواُد اّلةِذي َرأَْي ُ‬ ‫ت أَ​َماةِمي؟’’‪،‬‬ ‫ةِبأ َةِبي أَْنَت َوأ ُّمي ‪َ ،‬فأ َْخَبْرُتُه ‪َ .‬قالَ ‪َ’’ :‬فأ َْن ةِ‬ ‫ت ال ّ‬ ‫قُْل ُ‬ ‫صْدةِري َلْهَدًة أَْوَجَعْتةِني ]اللهد ‪:‬الدفع بجميع الكف في‬ ‫ت‪َ :‬نَعْم‪َ .‬فَلَهَدةِني ةِفي َ‬ ‫سولُ​ُه؟’’ ]الحيف‪ :‬الظلم[‪،‬‬ ‫الصدر[‪ُ ،‬ثّم َقاَل‪’’ :‬أَ​َظَنْن ةِ‬ ‫ف اُ َعَلْيةِك َوَر ُ‬ ‫ت أَْن َيةِحي َ‬ ‫ت‪،‬‬ ‫ا‪َ ،‬نَعْم‪َ ،‬قاَل‪َ’’ :‬فإةِّن ةِجْبةِريلَ أَ​َتاةِني ةِحيَن َرأَْي ةِ‬ ‫َقاَلْت‪َ :‬مْهَما َيْكُتةِم الّنا ُ‬ ‫س َيْعَلْمُه ُ‬ ‫َفَناَداةِني‪َ ،‬فأ َْخَفاُه ةِمْنةِك‪َ ،‬فأ َ​َجْبُتُه‪َ ،‬فأ َْخَفْيُتُه ةِمْنةِك‪َ ،‬وَلْم َيُكْن َيْدُخل ُ َعَلْيةِك َوَقْد‬ ‫ت أَْن ُأوةِقَظةِك‪َ ،‬وَخةِشي ُ‬ ‫ت‪َ ،‬فَكةِرْه ُ‬ ‫ت ةِثَياَبةِك‪َ ،‬وَظَنْن ُ‬ ‫ت أَْن‬ ‫ت أَْن َقْد َرَقْد ةِ‬ ‫ضْع ةِ‬ ‫َو َ‬ ‫َتْسَتْوةِحةِشي’’]الوحشة‪ :‬الخوف من الوحدة[‪َ ،‬فَقاَل‪ :‬إةِّن َرّبَك َيأُْمُرَك أَْن َتأْةِتَي‬ ‫أَْهلَ اْلَبةِقيةِع َفَتْسَتْغةِفَر َلُهْم ‪َ .‬قاَلْت‪ :‬قُْل ُ‬ ‫ا؟‪َ ،‬قاَل‪:‬‬ ‫سولَ ةِ‬ ‫ف أَُقول ُ َلُهْم َيا َر ُ‬ ‫ت‪َ :‬كْي َ‬ ‫’’ُقوةِلي ‪ :‬ال ّ‬ ‫سَلُم َعَلى أَْهةِل الّدَياةِر ةِمَن اْلُمْؤةِمةِنيَن َواْلُمْسلةِةِميَن‪َ ،‬وَيْرَحُم اُ‬ ‫اْلُمْسَتْقةِدةِميَن ةِمّنا َواْلُمْسَتأْةِخةِريَن‪َ ،‬وإةِّنا إةِْن َ‬ ‫شاَء اُ ةِبُكْم َلَلةِحُقوَن’’)‪. (8‬‬ ‫كانت ـ رضي ا عنها ـ ذكية‪ ،‬واعية بأحوال زوجها‪ ،‬لم ُترد أن‬ ‫ينتهي الموقف بينها وبينه بغضب‪ ،‬فغيرت الموقف من المعاتبة بين‬ ‫زوجين إلى استفسار من طالبة علم إلى أستاذها‪ ،‬إذ كان الثابت من فعلها‬ ‫أنها لم تكن تترك رسول ا يغضب منها مدة من الزمن حتى تتحين‬ ‫سّلَم ـ وتطيب فتطلب منه‬ ‫صّلى اُ َعَلْيةِه َو َ‬ ‫الوقت الذي تصفو فيه نفسه ـ َ‬ ‫علًما أو دعاء‪ .‬فسألته كيف تدعو لهل البقيع؟‪ ،‬فكان من أدبه ورحمته ـ‬ ‫سّلَم ـ أن أجابها ولم ينهرها ـ كما يفعل بعض الرجال‬ ‫صّلى اُ َعَلْيةِه َو َ‬ ‫َ‬ ‫الغشوم في عصرنا بدعوى الكرامة ـ إيثاًرا منه لتواصل المودة بينهما‪.‬‬ ‫عن السيدة عاكئشة أنها قالت ‪ :‬لما رأيت من النبي صلى ا عليه وسّلم‬ ‫طيب نفس قلت ‪ :‬يا رسول ا‪ ،‬ادع ا لي‪ ،‬قال ‪’’ :‬اللهّم أْغةِفْر لةَِعاةِكئ َ‬ ‫شَة َما‬ ‫سّرْت وَما أَْعَلَنت’’‪ .‬فضحكت عاكئشة حتى‬ ‫َتَقّدَم ةِمْن َذْنةِبَها َوَما تأّخَر‪ ،‬وَما أَ َ‬ ‫سقط رأسها في حجرها من الضحك‪ ،‬فقال رسول ا صلى ا عليه وسّلم ‪:‬‬ ‫سّرةِك ُدَعاةِكئي؟’’‪ ،‬فقالت‪ :‬وما لي ل يسرني دعاؤك ؟! فقال ‪’’ :‬وا إّنها‬ ‫’’أَ​َي ُ‬ ‫صل ٍة’’‪.‬‬ ‫َلَدْعَوةِتي ُلّمةِتي في ُكلّ َ‬

‫‪108‬‬


‫نشأت ـ رضي ا عنها ـ في بيت كرم‪ ،‬وتزوجت أكرم أهل الرض‬ ‫سّلَم ـ فصارت مشهورة بالكرم‪ ،‬والجود‪ ،‬والسخاء‬ ‫صّلى اُ َعَلْيةِه َو َ‬ ‫جميًعا ـ َ‬ ‫يشهد بهذا ما ذكره عروة بن الزبير قال‪" :‬لقد رأيت عاكئشة ـ رضي ا‬ ‫عنها ـ تقسم سبعين ألفا‪ ,‬وإنها لترفع جيب درعها‪ .‬وعنه أيضًا فيما يرويه‬ ‫أبيه قال ‪" :‬بعث معاوية ـ رضي ا عنه ـ إلى عاكئشة ـ رضي ا عنها ـ‬ ‫بماكئة ألف‪ ,‬فوا ما غابت الشمس عن ذلك اليوم حتى فرقتها‪ ,‬قالت مولة‬ ‫لها‪ :‬لو اشتريت لنا من الدراهم بدرهم لحما‪ ,‬فقالت‪ :‬لو قلت قبل أن أفرقها‬ ‫لفعلت"‪.‬‬ ‫عانق الزهد في الدنيا وعلكئقها ومباهجها الزاكئلة‪ ،‬ذلك الكرم في إنفاق‬ ‫سّلَم ـ أزواجه وبناته‪،‬‬ ‫صّلى اُ َعَلْيةِه َو َ‬ ‫الذهب والفضة‪ ،‬هكذا علم الرسول ـ َ‬ ‫أن ما عند ا خير وأبقى‪ ،‬ومنهن عاكئشة ـ رضى ا عنها وعنهن ـ التي‬ ‫زهدت في الدنيا التى خيم عليها الُملك العضوض‪ ،‬وسقط فيها خلفاء‬ ‫الرسول الواحد تلو الخر شهيًدا‪ ،‬فماذا تبقى لها إل الشتياق إلى من رحلوا‬ ‫سّلَم ـ فكانت‬ ‫صّلى اُ َعَلْيةِه َو َ‬ ‫وأغلهم وأعلهم عندها الزوج والحبيب ـ َ‬ ‫صيةِ بأن تدفن مع أزواجه فى البقيع‪ ،‬وتقول مناجية ربها‪" :‬يا ليتني كن ُ‬ ‫ت‬ ‫ُتُو ةِ‬ ‫ت مدرة‪ .‬ياليتنى كن ُ‬ ‫ت حجًرا‪ .‬يا ليتني كن ُ‬ ‫شجرة‪ .‬يا ليتني كن ُ‬ ‫ت نسًيا منسًيا"‪.‬‬ ‫كعان حعالهعا مع القرآن الكريم القراءة بعالخشاوع حَت﴾ى البكعاء‪ ،‬ويبلغ أشده إذا قرأت‪﴿ :‬‬

‫َ ِ‬ ‫ّ ﴾ فتبكي حتى تبل خمارها‪ ،‬ثم ما لبثت أن‬ ‫ِكُن‬ ‫يتوت‬ ‫ْن‬ ‫َ​َق ر‬ ‫و‬ ‫بُ‬ ‫ف ي ُ‬ ‫أدركتها الوفاة ـ رضي ا عنها ـ سنة سبع وخمسين أو ثمان وخمسين‬ ‫للهجرة النبوية‪ ،‬ليلة الثلثاء لسبع عشرة خلت من رمضان بعد ةِوْتر تلك‬ ‫الليلة‪ ،‬فدفنوها بالبقيع‪ ،‬بعد أن صلى عليها أبو هريرة‪ ،‬وكان يومكئذ خليفة‬ ‫مروان على المدينة المنورة في أيام معاوية بن أبي سفيان‪ ,‬وهّي في سن‬ ‫الخامسة أو السادسة والستين من عمرها‪ ،‬وأَ​َمَرْت أَْن ُتْدَفَن ةِمْن َلْيَلةِتَها؛‬ ‫ليشيعها المهاجرون والنصار في موكب حزين اعتصر القلوب و العيون‪.‬‬ ‫ولكئن طوى الزمن صفحة السيدة عاكئشة ـ رضّي ا عنها ـ بقضاء ا‬ ‫وقدره مثلها في ذلك مثل كل البشر‪ ،‬إل أن صفحتها في قلوب من أحبوها لم‬ ‫تزل مفتوحة موصولة بها ومعها‪ ،‬يستعيدون سيرتها مع سيرة نبيهم ـ‬ ‫‪109‬‬


‫صلى ا عليه وسلم ـ ويستذكرونها ةِعلًما في مجالس العلم ومحافل الدب‪،‬‬ ‫كما يتدارسونها فقًها وحديًثا‪ ،‬وشعًرا‪ ،‬ورأًيا لماًحا‪ ،‬وقولً نفاًذا في كل علم‬ ‫‪ ...‬رضّي ا عن أمنا الباقية بقاء الدين في الدنيا وأرضاها وساكئر أمهات‬ ‫المؤمنين‪.‬‬

‫‪110‬‬


‫نساء فى حياة الرسول‬

‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ هامش الفصل‬

‫التارسع ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ السيد إبراهيم‬

‫ضَي ّ‬ ‫اِنُ َتَعاَلى َعْنِنُهَما‪ ,‬حديث رقم ) ‪(1) ,‬‬ ‫صَحاَبِة‪َ ,‬باب ِفي َف ْ‬ ‫ضاِئِل ال ّ‬ ‫ضِل َعاِئَشَة َر ِ‬ ‫ِكَتاب َف َ‬ ‫‪ .(4468‬المنهاج شرح صحيح مرسلم بن الحجاج‪ :‬أبو زكريا محيي الدين يحيى بن شرف‬ ‫النووي )المتوفى‪676 :‬هـ( دار إحياء التراث العربي – بيروت الطبعةالثانية‪1392 ،‬‬ ‫ضَي ّ‬ ‫اِنُ َعْنَها‪ ,‬حديث رقم )‪(2) ,(3820‬‬ ‫رسنن الترمذي‪ ,‬كتاب المناقب‪َ ,‬باب ِمْن َف ْ‬ ‫ضِل َعاِئَشَة َر ِ‬ ‫‪.‬وَقاَل أَِنُبو ِعيَرسى َهَذا َحِدي ٌ‬ ‫صِحيٌح‬ ‫ث َحَرسٌن َ‬ ‫ضَي ّ‬ ‫اِنُ َتَعاَلى َعْنِنُهَما‪ ,‬حديث رقم )‪(3‬‬ ‫صَحاَبِة‪َ ,‬باب ِفي َف ْ‬ ‫ضاِئِل ال ّ‬ ‫ضِل َعاِئَشَة َر ِ‬ ‫صحيح مرسلم‪ِ ,‬كَتاب َف َ‬ ‫‪4469)).‬‬ ‫اللباني‪ :‬الرسلرسلة الصحيحة ‪ ،‬ص ‪. (4)2255‬‬ ‫صَحاَبِة )‪(5) 1/54‬‬ ‫لْيَراِد َما اْرسَتْدَرَكْتِنُه َعاِئَشِنُة َعَلى ال ّ‬ ‫لَجاَبِنُة ِ ِ‬ ‫‪).‬انظر‪ :‬ا ْ ِ‬ ‫ضَي ّ‬ ‫اِنُ َتَعاَلى َعْنِنُهَما‪ ,‬حديث رقم )‪(6‬‬ ‫صَحاَبِة‪َ ,‬باب ِفي َف ْ‬ ‫ضاِئِل ال ّ‬ ‫ضِل َعاِئَشَة َر ِ‬ ‫صحيح مرسلم‪ِ ,‬كَتاب َف َ‬ ‫‪4473)) .‬‬ ‫‪ ،‬صحيح البخارى ‪ :‬كتاب الصلة باب أصحاب الحراب في المسجد )‪، 1 : 123 (7‬‬ ‫و ج ‪ 48 : 7‬كتاب النكاح باب نظر المرأة إلى الحبش ونحوهم من غير ريبة‬ ‫‪.‬صحيح مسلم ‪ :‬كتاب صلة العيدين باب ) ‪ ( 4‬باب الرخصة في اللعب الذي ل معصية فيه ‪،‬‬ ‫‪".‬رواه مرسلم ‪.‬وفي رواية المام أحمد ‪ " :‬فلهزني في ظهري لهزة فأوجعتني " )‪(8‬‬

‫‪111‬‬


‫الفصل العاشر‬

‫الصوامة القوامة ‪ ..‬حارسة القرآن‬

‫‪112‬‬


‫مثلما شهدت السنة الثامنة عشر قبل الهجرة مولد فاطمة بنت الرسول‬ ‫ضا ميلد حفصة بنت عمر بن‬ ‫ـ صلى ا عليه وسلم ـ شاء لها أن تشهد أي ً‬ ‫الخطاب من زوجه زينب بنت مظعون‪ ،‬إذ ولدتا قبل البعثة المحمدية بخمس‬ ‫سنوات وقريش تبني البيت‪ ،‬وإذا كانت الزهراء أصغر أخوتها‪ ،‬كانت حفصة‬ ‫أكبرهم‪.‬‬ ‫ما كادت تبلغ حفصة سن الشباب حتى تزوجت من أحد السابقين إلى‬ ‫السلم ُخنيس بن ُحذافة ُخنيس بن حذافة بن قيس بن سعد بن سهم‬ ‫القرشي السهمي؛ فقد أسلم قبل دخول الرسول ـ صلى ا عليه وسلم ـ دار‬ ‫الرقم‪ ،‬ومن الذين هاجروا إلى الحبشة‪ ،‬ثم رجع فهاجر بحفصة زوجه إلى‬ ‫المدينة‪.‬‬ ‫شهد خنيس غزوتا بدر وأحد‪ ،‬وأصيب في الخيرة بجراحات ثخينات لم‬ ‫يلبـث بعـدها إل قليل حـتى فاضـت روحـه سـنة ثلث للهجـرة‪ ،‬فصـلى عليـه‬ ‫النبي ـ صلى ا عليه وسلم ـ ثم دفن بالبقيع بجوار قبر عثمان بــن مظعــون‬ ‫ـ رضى ا عنهما ـ مخّلفا وراءه حفصة وحيدة فلم تنجب له‪.‬‬ ‫رق قلب عمر الب لحال ابنته الشابة ذات العشرين ربيًعا أو دونها‬ ‫بقليل وهى تعود إلى داره حزينة‪ ،‬كسيرة القلب‪ ،‬وحيدة‪ ،‬يجول بخاطره أسى‬ ‫على حالها‪ ،‬يتردد صداه في صمت كبركان يوشك أن ينفجر به لسانه؛ إذ لم‬ ‫تكن حفصة مطمًعا للرجال لنصيبها القليل من الجمال‪ ،‬مما يقلل فرص‬ ‫زواجها ثانيًة‪ ،‬كما أن المسلمين بالمدينة ـ آنذاك ـ مازالوا يشكلون مجتمًعا‬ ‫صغيًرا‪.‬‬ ‫بعد تفكير عميق اهتدى عمر إلى تزويج ابنته بنفسه‪ ،‬فماذا عليه لو ذهب‬ ‫يلتمس لها زوًجا من أصحابه من المهاجرين؟!‪ ،‬وماذا عليه لو بدأ بصنو‬ ‫روحه‪ ،‬وحبيبه بعد حبيبه ـ صلى ا عليه وسلم ـ أبا بكر فليذهب إليه ‪..‬‬ ‫نعم هو يكبرحفصة‪ ،‬ولكن متى كان لفارق السن اعتباًرا في المجتمع‬ ‫العربي‪ ،‬فالرجال يظلون أقوياء حتى قبيل موتهم‪ ،‬كما أن غالبيتهم من الذين‬ ‫يعمرون السنين الطوال‪.‬‬ ‫‪113‬‬


‫خرج عمر من عند الصديق وشرارات الغضب تتطاير من عينيه‪ ،‬فلم‬ ‫يكن يظن أن جواب أبو بكر عليه سيكون السكوت‪ ،‬ولو تكلم بالرفض متعللً‬ ‫حتى بأسباب واهية لربما خفف هذا على الفاروق‪ ،‬وهون عليه‪ ،‬غير أن‬ ‫عمر القوي الشديد عزعليه أن يعود لبنته وحبيبته والحزن يعلو قسمات‬ ‫وجهه‪ ،‬ومن المؤكد أن حفصة ستلحظ هذا وربما سألته السبب وألحت‬ ‫فذكر لها السبب‪ ،‬فيضاعف هذا حزنها‪.‬‬ ‫ضا عليه ما سبق أن‬ ‫يمم وجهته شطر صاحبه عثمان بن عفان عار ً‬ ‫عرضه على أبي بكر‪ ،‬غير أن موقف عثمان لم يكن بالحسن من موقف‬ ‫الصديق؛ إذ تكلم ولكن كلمه زاد غيظ عمرغيًظا‪ ،‬وحنًقا‪ ،‬ومرارًة لّما رفض‬ ‫قاكئلً الرفض إذ قال له ‪" :‬قد بدا لي أن ل أتزوج في يومي هذا"‪.‬‬ ‫طار صواب الب المكلوم‪ ،‬وأصابه الحزن على ابنته أكثر‪ ،‬ولم يجد غير‬ ‫باب رسول ا ـ صلى ا عليه وسلم ـ ورحابه‪ ،‬فحط عنده رحاله‪ ،‬والضيق‬ ‫والكرب والغضب يعلوه‪ ،‬والرسول ـ صلى ا عليه وسلم ـ يعرفه‪ ،‬فسأله‪،‬‬ ‫فأجابه الفاروق دون مواربة‪ ،‬فعاجله ـ صلى ا عليه وسلم ـ بالدواء‬ ‫الشافي الذي استل به السخيمة من قلبه المتقد ناًرا‪ ،‬ويطفىء نار الغضب‬ ‫من نفسه‪ ،‬ويذهب الحزن على ما أصاب ابنته‪ ،‬ويطرد ما يلقيه من فزع‬ ‫على مصيرها‪ ،‬فقال له صلى ا عليه وسلم‪’’ :‬يتزوج حفصة من هو خير‬ ‫من عثمان‪ ،‬ويتزوج عثمان من هي خير من حفصة’’‪.‬‬ ‫َعَز على أبي بكر أن يترك صديقه الصدوق عمر وقد وجد عليه‪ ،‬وربما‬ ‫أغلق باب قلبه على ضيق منه‪ ،‬وأشد الطعنات إيلًما هّي التي تأتيك من‬ ‫أكثر الناس قربًة ومودة‪ ،‬وما كان هذا ليخفى على أبي بكر الخبير بنفوس‬ ‫الناس وبعمر أخبر‪ ،‬فما أن تم زواج حفصة من الرسول ـ صلى ا عليه‬ ‫وسلم ـ حتى بادر الصّديُق الفاروَق الكلم بمودة وحنو كعهدهما ‪" :‬لعّلك‬ ‫َوَجْدَت عَلّي حين عرضَت عَلّي حفصة‪ ،‬فلم ُأرجع إليك شيًكئا؟‪ ،‬فإنه لم‬ ‫ت علم ُ‬ ‫يمنعني أن أرجع إليك فيما عرضَت عَلّي إلّ أّني كن ُ‬ ‫ت أن رسول ا‬ ‫صلى ا عليه وسلم قد ذكرها‪ ،‬فلم أكن لفشي سّر رسول ا صلى ا‬ ‫عليه وسلم‪ ،‬ولو تركها صلى ا عليه وسلم لقبلُتها")‪.(1‬‬ ‫‪114‬‬


‫لم يكن ـ صلى ا عليه وسلم ـ بعيًدا عما يشغل أصحابه‪ ،‬بل يدري‬ ‫السباب التي تدخل السرور على قلوبهم‪ ،‬كما يدري الشياء التي تكدر صفو‬ ‫أحوالهم‪ ،‬ولهذا كان يعلم بما يكئن منه بن الخطاب‪ ،‬وفاتح فيه أبا بكر‪،‬‬ ‫وربما لو تمهل عمر في عرض حفصة على الصحابيين الجليلين لبادر‬ ‫الرسول ـ صلى ا عليه وسلم ـ بخطبتها منه‪ ،‬غير أن قلب الرسول لم يكن‬ ‫قد برأ بعد من وفاة ابنته رقية‪ ،‬وحزيًنا من بقاء أختها أم كلثوم دون‬ ‫زواج‪ ،‬فكأنما أراد ا بسعي عمر أن يذهب الكدر عن صفوه وصفو رسول‬ ‫ا ـ صلى ا عليه وسلم ـ مًعا بزواج كريمتيهما متتابعتين‪.‬‬ ‫يسجل التاريخ دخول ثالثة الزوجات حفصة بنت عمر البيت النبوي في‬ ‫شعبان من السنة الثالثة من الهجرة )‪ ،(2‬فأحسنت سودة كما أحسنت عاكئشة‬ ‫استقبالها‪ ،‬فهّى مثلهما قرشية‪ ،‬مكية‪ ،‬مهاجرة‪ ،‬غير غريبة عنهما في هذا‬ ‫المجتمع المدنى الصغير‪ ،‬فكانت سودة لعاكئشة وحفصة بمثابة الم الرؤوم‪،‬‬ ‫كما كانت حفصة الخت الكبرى لعاكئشة‪ ،‬بينما تظل لعاكئشة الحظوة في قلب‬ ‫الرسول ـ صلى ا عليه وسلم ـ لكونها أصغرهما‪ ،‬وأجملهما‪ ،‬ولذلك لم‬ ‫يشهد بيت النبوة في تلك الثناء ما يكدر صفو الزوجات ول صفو حياة‬ ‫زوجهن‪ ،‬بل تبارين في إدخال السرور على قلبه المهموم بتثبيت دعاكئم‬ ‫الدولة السلمية في المدينة‪ ،‬غير البعيد من كيد اليهود‪ ،‬وتدبير المنافقين‪،‬‬ ‫وعداء رؤوس الشرك فى مكة‪.‬‬ ‫ل تخلو الحياة مما يكدر صفوها بسبب نزغات النفس البشرية‪ ،‬وما كان‬ ‫المجتمع ول البيت النبوي مثالًيا‪ ،‬طوباوًيا‪ ،‬بل هو بيت يسكنه نساء من‬ ‫ضا من البشر‪ ،‬أرسله ا ليقتدي به‬ ‫البشر وإن كن تزوجن من نبي فهو أي ً‬ ‫البشر فيما يفعل أو يقول‪ ،‬والغيرة من أخص الطباكئع البشرية وأكثر‬ ‫مظاهرها وتجلياتها عند النساء‪ ،‬وبالتالي لم تنج منها حفصة؛ فغارت من‬ ‫سودة كما غارت من عاكئشة‪ ،‬كما غارت من نساء الرسول ـ صلى ا عليه‬ ‫وسلم اللواتي قدمّن بعدها‪ ،‬وكان في طبع حفصة حدة طالما حذرها منها‬ ‫والدها عمر من مخاطبة الرسول بها مخافة أن يغضب ا عليها لغضب‬ ‫رسوله‪ ،‬مذكًرا إياها أن الرسول ـ صلى ا عليه وسلم ـ ما تزوجها إل‬ ‫إكراًما لبيها عمر‪ ،‬ولوله لطلقها‪.‬‬ ‫‪115‬‬


‫خالفت حفصة يوًما ما أمرها به الرسول ـ صلى ا عليه وسلم ـ أن‬ ‫تكتمه من خبر وجود مارية أم ابنه معه في بيتها‪ ،‬فأفشت السر‪ ،‬فطلقها فما‬ ‫أن علم عمر بذلك الخطب الجلل الذي طالما حذر ابنته من الوقوع فيه حتى‬ ‫حثى التراب على رأسه‪ ،‬قاكئ ً‬ ‫ل‪" :‬ما يعبأ ا بعمر وابنته بعد اليوم"‪ ،‬غير‬ ‫أن رحمة ا أدركت عمر‪ ،‬فأرسل ةِجْبةِريل ُ للنبي صلى ا عليه وسلم ‪:‬‬ ‫صّواَمٌة َقّواَمٌة‪َ ،‬وإةِّنَها َزْوَجُتَك ةِفي اْلَجّنةِة" )‪.(3‬‬ ‫صَة؛ َفإةِّنَها َ‬ ‫"َراةِجْع َحْف َ‬ ‫ف هذا الذي ناله عمر وابنته في تلك الليلة‪ ،‬حين شهد ا تعالى‬ ‫ي شر ٍ‬ ‫أ ّ‬ ‫لحفصة ـ رضي ا عنها ـ من فوق سبع سماوات بحسن عبادتها‪ ،‬بل أن‬ ‫مكانها في الجنة بنفس درجتها في الدنيا‪ ،‬زوج رسول ا ـ صلى ا عليه‬ ‫وسلم ـ‪.‬‬ ‫كان الرسول ـ صلى ا عليه وسلم ـ يعلم أن أزواجه من بعده سيحملن‬ ‫مهمة شاقة وهّي تعليم وتفقيه المسلمين فيما فاتهم من أمور دينهم في بيت‬ ‫النبوة‪ ،‬فحرص على تعليمهن‪ ،‬أو إكمال تعليمهن‪ ،‬فقد كانت حفصة مثل‬ ‫عاكئشة من القليلت في المجتمع المكي اللواتي أجدّن الكتابة والقراءة‪،‬‬ ‫يؤكد هذا ماروته الشفاء بنت عبد ا حين قالت‪ :‬دخل عَلّي رسول ا وأنا‬ ‫عند حفصة‪ ،‬فقال لي‪’’ :‬أل ُتَعّلةِميَن َهةِذةِه ُرْقَيَة الّنْمَلةِة‪َ ،‬كَما َعّلْمةِتيَها اْلةِكَتاَبَة؟’’‬ ‫)‪.(4‬‬ ‫ذلك أن الشفاء كانت ترقــي بالجاهليــة‪ ،‬فقــدمت بعــد هجرتهــا إلــى الرســول‬ ‫صلى ا عليه وسلم‪ ،‬وقالت‪" :‬يا رسول ا إنــي قــد كنــت أرقــي برقـًى فــي‬ ‫الجاهليــة‪ ،‬فقــد أرد ُ‬ ‫ت أن أعرضــها عليــك‪ ،‬فقــال‪’’:‬فاعرضــيها’’‪ ،‬فعرضــتها‬ ‫عليه"‪ .‬يأتي هذا في إطار أمر مجتمعي كان عليه العرب قبل الســلم يؤكــده‬ ‫ما رواه مسلم في صحيحه عن عبد الرحمن بن عوف ابــن مالــك الشــجعي‪،‬‬ ‫قال‪ :‬كنا نرقي في الجاهلية‪ ،‬فقلنا‪ :‬يا رسول ا كيف ترى في ذلك؟‪ ،‬فقــال‪:‬‬ ‫’’اعرضوا علّي رقاكم‪ ،‬ل بأس في الرقى ما لم يكن فيه شرك’’)‪.(5‬‬ ‫عاشت حفصة ـ رضي ا عنها ـ في كنف النبي ـ صلى ا عليه وسلم‬ ‫ـ ترتوي العلم من النبــع النبــوي الزكــي‪ ،‬وتشــهد نــزول الي الكريمــات مــن‬ ‫السماء مع أمين السماء‪ ،‬فتسمعها بكًرا طازًجا من أمين الرض ـ صلى اــ‬ ‫‪116‬‬


‫عليه وسلم ـ لتنضم إلى ركب التلميذات فــي المدرســة المحمديــة مثلهــا مثــل‬ ‫باقي أمهات المؤمنين ـ رضوان ا عليهن ـ تسأله عنــدما تجهــل‪ ،‬فيخبرهــا‬ ‫فتعلم‪ ،‬ولكنها تســتزيد الفهــم بالســؤال بعــد الجابــة للستيضــا ح وليــس لــرد‬ ‫المقالة على رسول ا ـ صلى اـ عليــه وســلم ــ ولعــل فــي هــذا مــا يعطــي‬ ‫سا عملًيا في آداب المناظرة والتلقي والمحاججة بالبرهان‪ ،‬وصــبر‬ ‫للكافة در ً‬ ‫العالم على تلميذه في الجابـة بالبرهــان القــوى‪ ،‬وأن السـلم ليضـع للعقـل‬ ‫مكانة عظمى في تشريعه وعقيدته‪ ،‬ويضع للمرأة مكانة كبرى فـي اسـتعمال‬ ‫حقها في النقاش‪ ،‬وأن القهر الفكري مرفوض في دين ا ناهيــك عــن كافــة‬ ‫أنواع القهر في المجتمع كله‪.‬‬ ‫صـّلى ّ‬ ‫اُـ َعَلْيـةِه‬ ‫سولَ ّ ةِ‬ ‫اـ َ‬ ‫سةِمْعت صفية رضي ا عنها َر ُ‬ ‫حدث أن َ‬ ‫ش ةِمْن ةِقَبةِل اْلَم ْ‬ ‫شةِرةِق ُيةِريُدوَن َرُجًل ةِمْن أَْهةِل َمّكَة َحّتى‬ ‫ل‪َ’’ :‬يأْةِتي َجْي ٌ‬ ‫َو َ‬ ‫سّلَم‪َ ،‬يُقو ُ‬ ‫ف ةِبةِهـْم َفَرَجـَع َمـْن َكـاَن أَ​َمـاَمُهْم لةَِيْنُظـَر َمـا َفَعـلَ اْلَقـْوُم‬ ‫إةَِذا َكاُنوا ةِباْلَبْيَداةِء ُخةِس َ‬ ‫صــاَبُهْم’’‪َ ،‬فقُْلـ ُ‬ ‫ف ةِبَمـْن َكـاَن ةِمْنُهـْم‬ ‫َفُي ةِ‬ ‫سـولَ ّ ةِ‬ ‫اـ َفَكْيـ َ‬ ‫ت‪َ :‬يـا َر ُ‬ ‫صيَبُهْم ةِمْثـل ُ َمـا أَ َ‬ ‫ث ّ‬ ‫صيُبُهْم ُكّلُهْم َذلةَِك ُثّم َيْبَع ُ‬ ‫ئ َعَلى ةِنّيةِتةِه’’)‪.(6‬‬ ‫ُمْسَتْكَرًها؟‪َ ،‬قاَل‪ُ’’ :‬ي ةِ‬ ‫اُ ُكلّ اْمةِر ٍ‬ ‫عاشت السيدة حفصة بعد رحيل الزوج الحبيب ـ صلى ا عليه وسلم ـ‬ ‫تنقل العلم الشريف إلى المسلمين كما عاصرته في بيت النبوة وما نقلته عن‬ ‫أبيها فروت ستين حديًثا‪ ،‬ولما عاصرت الخلفــة الراشــدة‪ ،‬والهتمــام البــالغ‬ ‫بجمع القرآن الكريم في صحف بقيت هذه الصحف ةِعْنَد أَةِبى َبْك ٍر َحّتــى َتَوّفــاهُ‬ ‫ّ‬ ‫اُ ُثّم ةِعْنَد ُعَمَر من بعــده ُثـّم أودعوهــا ةِعْنـَدها لعــدم تعييــن خليفــة مــن بعــد‬ ‫أبيها‪ ،‬ولكونها القاركئة الحافظة لكتاب ا تعالى‪.‬‬ ‫كما كانت ـ رضي ا عنهـا ــ المشـيرة علـى أبيهـا بعـد أن صـار خليفـة‬ ‫للمسلمين؛ إذ كان ـ رضي ا عنه ـ يستشيرها فــي كــثير مــن المــور الــتي‬ ‫تتعلق بحياة النبي البيتية‪ ،‬كمــا أشــارت عليــه قبيــل وفــاته أن ل يــترك المــر‬ ‫شورى في إختيار من يخلفه‪ ،‬مخافة الفرقة والختلف وكان إجتهاد منها له‬ ‫محله من العتبار‪.‬‬ ‫لم تبر ح حفصة الصيام والقيام وقراءة القرآن كلداتها من أزواج النبي‬ ‫الطاهرات ــ رضــوان اـ عليهــن جميًعاـــ‪ ،‬غيــر أنهــا كــانت تحتفــظ بصــحف‬

‫‪117‬‬


‫القرآن الكريم التي ما فتكئت تحــافظ عليهــا‪ ،‬وتســتبقيها ولتعطيهــا لحــد ولــو‬ ‫كان عامل المدينة )‪.(7‬‬ ‫توفيت ـ رضي ا عنها ـ بعد أن بلغت عقــدها الســتين فــي ظلل الدولـة‬ ‫الموية )‪ (8‬فصلى عليها مروان بن الحكم عامل المدينة في زمن معاوية‪..‬‬ ‫لتنتقل صحف القرآن الكريم من بيتها إلى مروان بعدما سألها من ابــن عمــر‬ ‫فأرسلها له‪ ..‬إذ ل ضرورة من استبقاكئها بعد وفاة الحارســة عليهــا الحافظــة‬ ‫لما فيها رضي ا عنها‪.‬‬

‫نساء فى حياة الرسول‬

‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ هامش الفصل‬

‫‪118‬‬

‫العاشر ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ السيد إبراهيم‬


‫)‪ (1‬الصالحي الشامي‪ :‬رسبل الهدى والرشاد ‪ ،11/184‬والرسمط الثمين ‪.83‬‬ ‫)‪ (2‬تاريخ الطبري‪.3/9:‬‬ ‫‪.‬طبقات ابن رسعد ‪ ،8/84‬والرستيعاب لبن عبد البر ‪ ،4/269‬والمرستدرك للحاكم ‪(3) 4/15‬‬ ‫)‪ (4‬أخرجه أبو داود كتاب الطب باب في الرقى رقم‪3869:‬ورجال إرسناده رجال صحيح إل إبراهيم بن‬ ‫مهدي وهو ثقة‪،‬وأخرجه أحمد في مرسنده )‪ (6/372‬والحاكم في المرستدرك ‪ 4/57‬وقال صحيح‪.‬‬ ‫)‪ ] (5‬أخرجه المام مسلم في صحيحه – كتاب السلم ) ‪ – ( 64‬برقم ) ‪ ، ( 2200‬وأبو داوود‬ ‫في سننه – كتاب الطب ) ‪ – ( 18‬برقم ‪.[3886‬‬ ‫)‪ (6‬رواه المام أحمد‪.‬‬ ‫)‪ ] (7‬المعجم الكبير للطبراني ‪ 17/28‬حديث ‪.[ 18831‬‬ ‫)‪ (8‬في رسنة وفاتها خلف بين من يقول رســنة ‪41‬هــ ‪ ،‬ومــن يقــول رســنة ‪45‬هــ ‪ ،‬وترجــح الــدكتورة‬ ‫عائشة عبد الرحمن رسنة وفاتها ‪47‬هـ ‪ .‬أنظر ‪ :‬تراجم رسيدات بيت النبوة الطبعة الولى‪ ،‬القاهرة دار‬ ‫الريان للتراث ‪ ،1987‬ص ‪ ،314‬والطبقات والرستيعاب والصابة‪ ،‬وعيون الثر‪.‬‬

‫‪119‬‬


‫الفصل الحادي عشر‬

‫أمنا زينب ‪ ..‬أم المساكين‬

‫كضوء الفجر الوليد الهارب من ظلمة الليل الراحل‪ ،‬دخلت بيت الرسول‬ ‫ـ صلى ا عليه وسلم ـ ‪ ،‬وكآخر شعا ٍع من الشمس حين يحتويها شفق‬ ‫المغيب‪ ،‬كان خروجها من بيت الرسول ـ صلى ا عليه وسلم ـ‪ ،‬إنها المقبلة‬ ‫المدبرة مًعا‪ ،‬والقادمة الراحلة مًعا ‪:‬السيدة زينب بنت خزيمة الحارث بن‬ ‫عبد ا بن عمرو بن عبد مناف بن هلل بن عامر بن صعصعة الهللية‪ ،‬أم‬ ‫المساكين في الجاهلية‪ ،‬وفي السلم‪ ،‬اتسع قلبها لكل المساكين قبل ظهور‬ ‫السلم وبعده؛ إذ كان قلبها ـ رضي ا عنها ـ كالواحة التي يستظل به من‬ ‫أعوزته الحاجة‪ ،‬ويهرع إليه من أكلته الفاقة‪ ،‬وهّي المعطاءة ل تمنع مالها‬ ‫عن أحد‪ ،‬ل طمًعا في شهرة‪ ،‬ول حًبا في سمعة‪ ،‬فلصدقها في العطاء بل َم ٍن‬ ‫ول ابتغاء مديح‪ ،‬توجوها على القلوب في الجاهلية كما في السلم بلقب‬ ‫‪":‬أم المساكين"‪.‬‬ ‫سبق زينب في النضمام للعيش تحت سقف البيت النبوي عاكئشة البكر‬ ‫الوحيد حين تزوجها ـ صلى ا عليه وسلم ـ‪ ،‬كما سبقها من أزواج الرسول‬ ‫ممن كّن أزواًجا لشهداء الصحابة‪ ،‬مثل‪ :‬سودة بنت زمعة‪ ،‬وحفصة بنت‬ ‫‪120‬‬


‫عمر التي لم يكد يدخل بها حتى ضم إليها زينب التي فارقها زوجها الشهيد‬ ‫القرشي ومن أواكئل المهاجرين عبيدة بن الحارث بن عبد المطلب بن عبد‬ ‫مناف الذي قتل يوم بدر‪.‬‬ ‫دخلت زينب البيت النبوي في رمضان في السنة الثالثة من الهجرة‬ ‫المباركة‪ ،‬في زواج شكلي‪ ،‬هاديء‪ ،‬لم يحس بوجودها أحد‪ ،‬ل فى حياتها‬ ‫ول بعد مماتها؛ إذ كان عمر زواجها من الرسول ـ صلى ا عليه وسلم ـ‬ ‫ف في مدته بين الثلثة إلى الثمانية أشهر‪ ،‬لذا فلم يكن هناك‬ ‫قصير ُمخَتل ٌ‬ ‫مايروى عن حياتها‪ ،‬كما لم تطلها ألسنة المنافقين‪ ،‬أو الحاقدين على رسول‬ ‫ا ـ صلى ا عليه وسلم ـ‪ ،‬ول انتبهت إليها بعد مماتها أقلم المستشرقين‬ ‫المسمومة إل من حيث احصاؤهم لها في عدد من دخل بهّن ـ صلى ا عليه‬ ‫وسلم ـ استكثاًرا للطعن في نبوته‪ ،‬كعهدهم الداكئم في إيراد الشبهات السقيمة‬ ‫للتشويش والتنقيص‪.‬‬

‫يشهد لها كل من تناول سيرتها ـ رضي ا عنها ـ بالطيبة والكرم‪ ،‬لذا‬ ‫فقد كرمها ا الكريم ـ تعالى ـ بزواجها من النبي ـ صلى ا عليه وسلم ـ‬ ‫كما كرمها بكرام ٍة أخرى تختص بها وحدها‪ ،‬لم تنلها حتى أحب أزواجه‬ ‫إليه السيدة خديجة‪ ،‬بأن صلى عليها ـ صلى ا عليه وسلم ـ صلة الجنازة‬ ‫التي لم تكن قد ُ‬ ‫شةِرَعْت في زمن خديجة‪ ،‬وشرعها ا بعد ذلك في السنة‬ ‫الولى من الهجرة لتكون السيدة زينب هّي الزوج الوحيد لرسول ا ـ صلى‬ ‫ا عليه وسلم ـ التي يصلي عليها صلة الجنازة عند موتها في ربيع الخر‬ ‫سنة أربع هجرية عن عمر ناهز الثلثين عاًما)‪.(1‬‬ ‫متعها ا تعالى بأشهر قلكئل في جوار خير خلقه عليه ـ صلى ا‬ ‫عليه وسلم ـ هّي بالعمر كله‪ ،‬وأحسن ختامها؛ إذ ماتت وهّي زوج خير‬ ‫ض عنها‪،‬‬ ‫العالمين‪ ،‬وسيد المرسلين‪ ،‬وخاتم النبيين‪ ،‬وماتت عنه وهو را ٍ‬ ‫لتكون بذلك ثاني امرأة من أزواجه بعد خديجة فراًقا له فى حياته ـ صلى ا‬ ‫عليه وسلم ـ ورضي ا عن أمنا أم المساكين‪ ،‬وعن ساكئر أمهاتنا أمهات‬ ‫المؤمنين‪.‬‬

‫‪121‬‬


‫نساء فى حياة الرسول‬

‫ــــــــــــــــــــــــــــــ هامش الفصل الحادي‬

‫)‪ (1‬كما ذكر "الواقدي" ونقل "ابن حجر" في الصابة‪.‬‬

‫‪122‬‬

‫العاشر ــــــــــــــــــــــــــــــ السيد إبراهيم‬


‫الفصل الثاني عشر‬

‫السيدة أم سلمة‬ ‫‪123‬‬


‫أول المهاجرات وآخر الراحلت‬

‫يتحير قاريء سيرتها من أين يبدأ؛ فكل فص ٍل من فصول حياتها يستحق‬ ‫التأمل والشادة؟‪ ..‬أيبدأ من اللحظة الفارقة بين الكفر واليمان حين أعلنت‬ ‫اسلمها وهجرتها الولى مع زوجها عبد ا بن عبد السد المخزومي ابن‬ ‫عمة الرسول ـ صلى ا عليه وسلم ـ وأخوه من الرضاعة إلى الحبشة فراًرا‬ ‫بدينهما‪ ،‬لتبدأ رحلة المعاناة في الغربة‪ ،‬والعيشة الصعبة‪ ،‬وهّي بنت سّيد‬ ‫ش المعدودين والمشهورين بالكرم وشّدة السخاء حتى لُّقبوه‪:‬‬ ‫من سادات قري ٍ‬ ‫"زاُد الراكب"؛ إذ كان يمنع من يرافقه في سفره من التزّود لرحلته‪ ،‬ويكفيه‬ ‫هو مؤونة ذلك؟!‬ ‫أم يبدأ معها من بداية هجرتها وزوجها إلى المدينة واقتتال قومها بنو‬ ‫المغيرة مع قوم زوجها بنو عبد السد‪ ،‬فهــؤلء يمنعــون ابنتهــم مــن الســفر‬ ‫مــع زوجهــا‪ ،‬وهــؤلء يصــرون علــى الحتفــاظ بابنهــا لنــه ابــن ابنهــم‪،‬‬ ‫فيتجاذبون الولد بينهم حتى خلعوا يده‪ ،‬ليفوز به بنــو عبــد الســد ويرحلــوا‪،‬‬ ‫لتبقى وحيدة تعاني فراق الزوج الراحل بعيًدا عنها‪ ،‬والشــوق المضــني إلــى‬ ‫الولد القريب منها والمحرومة من رؤياه؟!‬

‫‪124‬‬


‫أم يبدأ معها من حيث انطلقها إلى المدينة وابنها برفقتها بعدما رأف‬ ‫أهل زوجها بحالها بعد عام تقريًبا؛ فكانت بذلك أول امرأة تدخل المدينة‬ ‫مهاجرة ل ولرسوله ـ صلى ا عليه وسلم ـ وقد هيأ ا لها سادن الكعبة‬ ‫وحاجبها عثمان بن طلحة الذي أصر على مرافقتها وهو لم يزل بعد على‬ ‫شركه لكن أبت عليه نخوته وأرومته إل يتركها وابنها في مهب الريح حتى‬ ‫تصل إلى زوجها‪ ،‬ثم استشهاد أبو سلمة بعد شهورمن إصابته فى غزوة‬ ‫أحد بجر ح عميق)‪ ،(1‬ليفارقها وحيدة حولها أربعة من أولده وهم‪ :‬برة‪،‬‬ ‫وسلمة‪ ،‬وعمر‪ ،‬ودرة؟!‬ ‫ينتهي بوفاة أبى سلمة ـ رضي ا عنهــا ــ القســم الول مـن حيــاة أم‬ ‫المؤمنين أم سلمة واسمها هند بنت أبي أمية بــن المغيــرة بــن عبــد اـ بــن‬ ‫عمر بن مخزوم القرشية المخزومية‪ ،‬ليبدأ القسم الثاني من حياتهــا بســؤال‬ ‫صّلى ّ‬ ‫سةِمْع ُ‬ ‫سّلَم‪َ ،‬يُقول ُ ‪َ’’ :‬ما ةِم ـْن ُمْس ـلةِ ٍم‬ ‫سولَ ّ ةِ‬ ‫اُ َعَلْيةِه َو َ‬ ‫ا َ‬ ‫ت َر ُ‬ ‫كبير منها‪َ :‬‬ ‫صيَبٌة‪َ ،‬فَيُقول ُ َما أَ​َمَرُه ّ‬ ‫ل َوإةِّنا إةَِلْيةِه َراةِجُعوَن‪ ،‬الّلُهـّم أَةِجْرةِنــي‬ ‫صيُبُه ُم ةِ‬ ‫ُت ةِ‬ ‫اُ ‪ :‬إةِّنا ةِ ّ ةِ‬ ‫ف ّ‬ ‫اُـ َل ـُه َخْيـًرا ةِمْنَهــا’’‪َ ،‬قــاَلْت ‪:‬‬ ‫ةِفي ُم ةِ‬ ‫ف ةِلي َخْيًرا ةِمْنَها‪ ،‬ةِإل أَْخَل َ‬ ‫صيَبةِتي َوأَْخلةِ ْ‬ ‫سَلَمَة‪ ،‬قُْل ُ‬ ‫ت َهاَجَر‬ ‫سَلَمَة؟ أَّول ُ َبْي ٍ‬ ‫ي اْلُمْسلةِةِميَن َخْيٌر ةِمْن أَةِبي َ‬ ‫ت‪ :‬أَ ّ‬ ‫َفَلّما َماَت أَُبو َ‬ ‫صّلى ّ‬ ‫سّلَم؟!‬ ‫سوةِل ّ ةِ‬ ‫اُ َعَلْيةِه َو َ‬ ‫ا َ‬ ‫إةَِلى َر ُ‬ ‫وتأتيها الجابة بعد أن استرجعت من مصيبتها برسول يأتيها من عند‬ ‫رسول ا ـ صلى ا عليه وسلم ـ وهو الصحابي الجليل حاطب بن أبي‬ ‫بلتعة يخطبها له‪ ،‬فقالت متعللة‪" :‬إةِّن ةِلي ُبَنّيًة‪َ ،‬وأَ​َنا َغُيوٌر"‪ ،‬فيأتيها جواب‬ ‫الرسول ـ صلى ا عليه وسلم ـ يطمكئنها في حن ٍو وحسم ‪’’ :‬أَّما اْبَنُتَها‬ ‫ا أَْن َيْذَهَب ةِباْلَغْيَرةِة’’)‪.(2‬‬ ‫ا أَْن ُيْغةِنَيَها َعّنا‪َ ،‬وأَّما اْلَغْيَرةُ َفأ َْدُعو ّ َ‬ ‫َفَنْدُعو ّ َ‬ ‫فقالت‪ :‬فقد أبدلني ا بأبي سلمة خيًرا منه رسولَ ا)‪.(3‬‬ ‫والحديث عن أم سلمة متسٌع كالبحر‪ ..‬مستحيل أن تبلغ سواحله؛ فقد‬ ‫حباها ا قدًرا كبيًرا من الحكمة ورجاحة العقل‪ ،‬يبدوان في سديد رأيها إذا‬ ‫استشيرت‪ ،‬وتتبدى حكمتها أكثر حين تنتج هذه الحكمة آثارها في الزمات‬ ‫العميقة بل العاصفة كتلك التي بلغت من هولها هول وصف الرسول لها ـ‬ ‫‪125‬‬


‫صلى ا عليه وسلم ـ في قول لم يكد يصادفه قاريء سيرته حين يصر ح‬ ‫بهلك المسلمين‪ ،‬وذلك حين صحبته ـ رضّي ا عنها ـ في شهر ذي القعدة‬ ‫من العام السادس الهجري في رحلته إلى مكة المكرمة معتمًرا‪،‬ثم منعته‬ ‫قريش وأصحابه من دخول مكة‪ ،‬فعقد ـ صلى ا عليه وسلم ـ صلح‬ ‫ض عنه بعض الصحابة ـ رضوان ا‬ ‫الحديبية معهم‪ ،‬هذا الصلح الذى لم ير َ‬ ‫عليهم ـ لظنهم أنه يبخسهم حقهم‪ ،‬ورأوا في قبوله قبول الدنية على دينهم‪،‬‬ ‫وهنا أمرهم الرسول صلى ا عليه وسلم‪’’ :‬قوموا فانحروا واحلقوا‬ ‫وحّلوا’’‪ ،‬فلم يجبه أحد إلى ذلك‪ ،‬فرددها ثلث مرات فلم يفعلوا‪ ..‬فدخل على‬ ‫أم سلمة وهو شديد الغضب‪ ،‬فقالت‪ :‬ما شأنك يا رسول ا؟‪ ،‬قال‪’’ :‬هلك‬ ‫المسلمون‪،‬أمرتهم فلم يمتثلوا’’‪ ،‬فقالت‪" :‬يا رسول ا‪ ،‬ل تلمهم فإنهم قد‬ ‫دخلهم أمر عظيم مما أدخلت على نفسك من المشقة في أمر الصلح‪،‬‬ ‫ورجوعهم بغير فتح"‪ .‬ثم أشارت عليه أن يخرج ول يكلم منهم أحًدا‪ ،‬وينحر‬ ‫ُبدَنُه ويحلق رأسه‪ ،‬فخرج ـ صلى ا عليه وسلم ـ فلم يكلم أحًدا حتى قام‬ ‫فنحر ُبدَنُه ‪ ،‬ودعا حالقه فحلقه‪ ،‬فلما رأى الصحابة ذلك قاموا فنحروا‪،‬‬ ‫ضا)‪.(4‬‬ ‫وجعل بعضهم يحلق بع ً‬ ‫لعل من أهم الحكم البالغة في تعدد أزواج النبي ـ صلى ا عليه وسلم ـ‬ ‫هو أن لكل منهّن دور أديّنه بمنتهى المهارة والجسارة والخلص ل ـ‬ ‫تعالى ـ ولرسوله‪ ،‬والمتتبع لسيرتهن من السيدة الولى من أزواجه ودورها‬ ‫في مساندة الرسول ـ صلى ا عليه وسلم ـ عند بداية تأسيس هذا الدين‬ ‫وغرسه في بيكئة مكة وما حولها‪ ،‬ثم مهمة من تلها من أزواجه ـ رضوان‬ ‫ا عليهَن ـ عند تأسيس دولة السلم وإرساء قواعدها في المدينة‪،‬‬ ‫والجهاد لنشرها في العالمين‪ ،‬ثم هذه المهمة الصعبة بالغة الجسامة التي‬ ‫تقوم بها أم سلمة في حماية بيضة السلم من الهلك وحماية خير أجناد‬ ‫الرض‪ ،‬الذين بلغوا اللف وربعماكئة رجل‪ ،‬من غضبة الرسول ـ صلى ا‬ ‫عليه وسلم ـ وكان ممن الممكن أن تسترضيه بمشاركته غضبه عليهم‪،‬‬ ‫وهنا تكمن الحكمة الثانية من حكم تعدد أزواج النبي ـ صلى ا عليه وسلم‬ ‫ـ وهّي الحكمة التعليمية التي تتلقاها المرأة المسلمة عبر العصور والجيال‬ ‫حين تسترشد بهذا الصنيع في حماية بيتها وزوجها عندما تستل سخيمة‬

‫‪126‬‬


‫نفسه‪ ،‬ول تساعد في إشعال أوار غضبه‪ ..‬ولو لم تفعل ذلك بحصافة رأيها‬ ‫فما الذي كان سيؤول إليه تاريخ السلم والمسلمين؟!‬ ‫أذهَب اُ عن السيدة أم سلمة غيرتها بفضل دعاء النبي لها‪ ،‬ففّرغ قلبها‬ ‫من سفاسف المور‪ ،‬ولذا فقد كان لها القدر والمكانة عند رسول ا ـ صلى‬ ‫ا عليها وسلم ـ إذ كان يبتديء بها عند دخوله على نساكئه‪ ،‬ذلك فيما ترويه‬ ‫السيدة عاكئشة ‪":‬كان رسول ا إذا صّلى العصر دخل على نساكئه واحدة‬ ‫واحدة‪ ،‬يبدأ بأّم سلمة ـ رضَي ا عنها ـ لنها أكبرهَن‪ ،‬وكان يختم بي")‪.(5‬‬ ‫كانت ـ رضى ا عنها ـ جميلةً ُخلًقا وةِخلقًة‪ ،‬مدرسة كبيرة في شتى‬ ‫المناحي؛ فهًي المحدثة‪ ،‬المفتية‪ ،‬الفقيهة‪ ،‬السديدة والمصيبة في الرأي‬ ‫والمشورة‪ ،‬الصابرة‪ ،‬الزوجة الصالحة‪ ،‬الم الطيبة‪ ،‬الحازمة‪ ،‬القاكئمة بأمر‬ ‫وتربية أولدها‪ ،‬المتتلمذة في جامعة النبوة‪.‬‬ ‫عاشت السيدة أم سلمة حتى بلغت التسعين من عمرها )‪ (6‬وكانت قد أوصت‬ ‫أن يصلي عليها سعيد بن زيد خشية أن يصلي عليها مروان بن الحكم غير‬ ‫أنه مات قبلها‪،‬وقد انتقلت إلى جوار ربها تعالى في زمن يزيد بن معاوية‬ ‫سنة اثنتين وستين هجرية وهو الرجح إذ عاشت في العام الذي سبق‬ ‫وفاتها حزينة على مقتل الحسين سبط الرسول ـ صلى ا عليه وسلم ـ‬ ‫ودفنت ـ رضّي ا عنها ـ بالبقيع ولم ُيصةِل عليه أبا هريرة كما تذكر بعد‬ ‫المصادر إذ مات قبلها ‪ ..‬فكانت بذلك آخر الراحلت من أزواج النبي ـ صلى‬ ‫ا عليه وسلم ـ ورضّي ا عنها وعن ساكئر أمهاتنا أمهات المؤمنين‪.‬‬

‫‪127‬‬


‫نساء فى حياة الرسول‬

‫ــــــــــــــــــــــــــــــــ هامش الفصل الثاني‬

‫)‪(1‬ابن الثير‪ :‬أرسد الغابة ‪.3/190‬‬ ‫)‪(2‬صحيح مرسلم ‪.918 /631 : 2‬‬ ‫)‪ (3‬ابن كثير‪ :‬الرسيرة النبوية ‪.3/175‬‬ ‫)‪(4‬ابن كثير‪ :‬الرسيرة النبوية ‪.335 ،3/334‬‬ ‫)‪(5‬الصالحي الشامي‪ :‬رسبل الهدى والرشاد ‪.11/170‬‬ ‫)‪(6‬ابن حجر‪ :‬تهذيب التهذيب ‪.12/483‬‬

‫‪128‬‬

‫عشر ـــــــــــــــــــــــــــــــ السيد إبراهيم‬


‫الفصل الثالث عشر‬

‫السيدة زينب ‪ :‬أول اللحقات بالنبي‬ ‫صلى ا عليه وسلم‬ ‫‪129‬‬


‫يختلط ترتيب بعض المواقف التاريخية في السيرة النبوية على بعض من‬ ‫يقرأونها‪ ،‬ويتجلى هذا الخلط في ترتيب حادثة الفك وزواج الرسول ـ صلى‬ ‫ا عليه وسلم ـ من السيدة زينب بنت جحش‪ ،‬وربما كان عذرهم في هذا أن‬ ‫حادثة الفك تتضمنها غالًبا سيرة السيدة عاكئشة وهّي السبق من السيدة‬ ‫زينب من حيث ترتيب أزواج النبي ـ صلى ا عليه وسلم ـ؛ إذ تزوج‬ ‫الرسول الخيرة في ذي القعدة من العام الخامس الهجري‪ ،‬بينما وقعت‬ ‫حادثة الفك في شعبان من العام السادس الهجري‪.‬‬ ‫تأتي هذه المقدمة تأصيلً لما قد يقع فيه الظن من أن أول مواجهة للبيت‬ ‫النبوى مع أراجيف وكيد المنافقين بالمدينة كانت إبان حادثة الفك‪ ،‬وهو ما‬ ‫يصبح ـ بعد ما تقدم ـ مغلوًطا‪ ،‬فقد فتح زواج النبي ـ صلى ا عليه وسلم ـ‬ ‫من السيدة زينب بنت جحش على الرسول والسلم والمسلمين بوابة‬ ‫ضخمة من التشكيك‪ ،‬واللمز‪ ،‬ودس المنافقين ربما ما يوازي حادثة الفك‬ ‫وأكثر؛ إذ انحصرت الخيرة في التشكيك في مسلك زوج تنتسب لنبي وإن‬ ‫تركت آثارها في المجتمع السلمي الوليد‪ ،‬بينما كان زواجه من زينب حدًثا‬ ‫زلزل قواعد البنيان الجتماعي للمجتمع العربي المستقر على عاداته‬ ‫وتقاليده كعادة التبني المتجذرة في الواقع بجغرافيته والممتدة في تاريخه‪،‬‬ ‫والمتوارثة في الوعي الجمعي عند الكافة‪ ،‬بحيث كان القول بإبطالها يشكل‬ ‫صدمة لنه لم يتتبع التدرج التشريعي كما في تحريم الخمر‪ ،‬فكان بمثابة خط‬

‫‪130‬‬


‫مسار جديد لم يألفوه‪ ،‬ومحو مسار قديم محفور بل منحوت في جدران‬ ‫عقولهم ‪.‬‬ ‫إن الذين يتناولون قصة زواج النبي ـ صلى ا عليه وسلم ـ باعتبارها‬ ‫شبهة يجب الرد عليها‪ ،‬أو منقصة للخلق النبوي الكريم عياذا بال‪ ،‬يتناسون‬ ‫أن زينب كانت قريبته يعرفها ويراها وتعرفه جيًدا قبل زواجها من زيد‪،‬‬ ‫الذي خطبها الرسول ـ صلى ا عليه وسلم ـ له‪ ،‬وتململت ورفضت‪ ،‬كما‬ ‫رفض أخوها عبدا؛ إذ قالت زينب لرسول ا صلى ا عليه وسلم ‪:‬‬ ‫"لس ُ‬ ‫ت بناكحته‪ ,‬فقال رسول ا صلى ا عليه وسلم‪’’ :‬بلى فانكحيه’’‪،‬‬ ‫قالت‪ :‬يارسول ا أؤامر في نفسي؟ فبينما هما يتحدثان أنزل ا ‪َ﴿ :‬و َملعال َك عالَن‬ ‫ض ﴾ىل اللّهُ َوَرُس اولُهُ أَْم ًرلا أَْن يَُك اولَن لَُه ُمل الِْخ في لَرةُ ِم ْنل أَْم ِرلِه ْمل َو َملْنل يلَْع ِ‬ ‫صل اللَّه‬ ‫لُِم ْؤلِملٍنلَوَل ُمْؤ ِملْنَلٍة إَِذا قَ َ‬ ‫ض َلل ًل لُملبِفيْنًعا﴾‪ ،‬فقالت زينب‪ :‬قد رضيته لي يارسول ا ُمنكًحا؟‪،‬‬ ‫ضّلل َ‬ ‫َوَرُس اولَهُ فلَق ْدل َ‬ ‫قال رسول ا صلى ا عليه وسلم‪’’ :‬نعم’’‪ ،‬قالت‪ :‬إةًِذا ل أعصي رسول ا‬ ‫صلى ا عليه وسلم قد أنكحَتُه نفسي")‪.(1‬‬ ‫ضا كانت‬ ‫والواقع يشهد أنه ل الرسول ـ صلى ا عليه وسلم ـ ول زيد أي ً‬ ‫ي رغب ٍة في الزواج من زينب‪ ،‬بل معظم زيجات زيد كانت من اختيار‬ ‫لهما أ ُ‬ ‫الرسول ـ صلى ا عليه وسلم ـ‪ ،‬وليراجع من شاء قصص تزويج الرسول‬ ‫له من أم كلثوم بنت عقبة‪ ،‬وأم أيمن بركة الحبشية‪ ،‬ولهذا فلم يكن زيد يعلم‬ ‫عن أمر زواجه من زينب شيًكئا‪ ،‬وليس أدل على هذا من حديث زينب نفسها‬ ‫حين خطبها عّدة من قريش فأرسلت أختها حمنة إلى رسول ا صلى ا‬ ‫عليه وسلم تستشيره‪ ،‬فقال الرسول صلى ا عليه وسلم ‪’’:‬أين هي ممن‬ ‫ُيعّلمها كتاب رّبها وسّنة نبيها ؟’’‪ ،‬قالت حمنة‪ :‬ومن هو يا رسول ا؟‪ ،‬قال‬ ‫‪’’:‬زيد بن حارثة’’‪ ،‬فغضبت حمنة غضًبا شديًدا‪ ،‬وقالت‪ :‬يا رسول ا!‬ ‫أتزوج ابنة عّمتك مولك؟!"‪ .‬بل أن المهر الذى ساقه زيد بن حارثة إلى بني‬ ‫جحش وهو عشرة دنانير وستين درهًما‪ ،‬ودرًعا وخماًرا وملحفًة وإزاًرا‪،‬‬ ‫وخمسين ُمًدا من الطعام‪ ،‬وعشرة أمداد من التمر كان من عطاء الرسول ـ‬ ‫صلى ا عليه وسلم ـ إياه‪.‬‬

‫‪131‬‬


‫دخل زيد بزينب‪ ،‬ليعيشا مًعا قرابة العام وبعض العام‪ ،‬كثرت في رحلة‬ ‫الحياة الزوجية القصيرة المنغصات بين الزوجين‪ ،‬وانفرد زيد ببث مواجعه‬ ‫وشكاواه من استعلء زينب عليه لرسول ا ـ صلى ا عليه وسلم ـ‪ ،‬ذلك‬ ‫لما تحمله في نفسها من نظرة عربية تجعل لعراقة النسب مكاًنا ومكانة‪،‬‬ ‫فهى زينب بنت جحش بن رياب بن يعمر بن مرة بن كثير بن غنم بن دوران‬ ‫ف ونسب‪ ،‬بينما زوجها زيد غلًما‬ ‫بن أسد بن خزيمة‪ ،‬الناشكئة فى بيت شر ٍ‬ ‫معتوًقا وهّي سيدة أبناء عبد شمس‪ ،‬الفضل منه حسًبا ونسًبا‪.‬‬ ‫ما كان أهون على الرسول ـ صلى ا عليه وسلم ـ أن ينزل على رغبة‬ ‫زيد في تطليقها ولكنه كان يأمره بالتمهل وأن يمسك عليه زوجه‪ ،‬مع كون‬ ‫اليات التي نزلت على رسول ا ـ صلى ا عليه وسلم ـ تكئن الجبال من‬ ‫حملها إذ فيها يخبر ا ـ تعالى ـ رسوله بأن زينب ستكون له زوجة بعد‬ ‫طلقها من ربيبه زيد‪ ،‬وليس عليه أن يخفي هذا المر اللهي لن ا ُمبديه‪.‬‬ ‫لم يكن أمر زواج المتبني من زوجة متبنيه عند العرب بالمر الهين أو‬ ‫إذا شكئنا الدقة أمر يوصف بالخروج عن العراف والتقاليد العربية‬ ‫المستقرة؛ إذ كان التبني معروفا ً عندهم‪ ،‬وكان من تبنى غير ولده ينسب‬ ‫إليه ويرثه ويخلو بزوجته وبناته‪ ،‬ويحرم على المتبنى زوجة متبناه‪ ،‬وعادة‬ ‫التبني وإن لم يكن يقرها جيران العرب من اليهود بالمدينة لرفض توراتهم‬ ‫وشريعتهم لها‪ ،‬لكنها كانت شاكئعة بين اليونانيين والرومانيين وغيرهم من‬ ‫الشعوب آنذاك‪ ،‬ولم تحرمه المسيحية كديانة‪ ،‬ولجأ إليه العرب كحاجة‬ ‫مجتمعية وفطرية في حب الولد كحالة اليأس من النجاب والستعانة بهم‬ ‫ساعة الحرب‪ ،‬والتجارة وغيرها‪.‬‬ ‫إذن فالرسول ـ صلى ا عليه وسلم ـ لن يهدم عادة عربية مجتمعية‬ ‫متجذرة وحسب‪ ،‬بل سيأتي أمًرا عندهم منكور وهو زواجه من مطلقة ابنه‬ ‫بالتبني‪ ،‬وهذا ماتنتظره ألسنة المنافقين والمشركين واليهود ليذيعوا به‬ ‫ويؤلبوا به العرب عليه من المدينة وخارجها‪ ،‬أن رسول المسلمين أتى شيًكئا‬ ‫إدا سيهد قواعد هذا الدين هدا‪.‬‬

‫‪132‬‬


‫لما رأى اـ ــ تعــالى ــ مــن حـال رســوله ــ صـلى اـ عليــه وسـلم ــ‬ ‫كلَوالتّلِق اللّلَه‬ ‫تل َعلَْفيلِه أَْم ِس ل ْ‬ ‫ك َزْوَجل َ‬ ‫ك لَعلَْفيل َ‬ ‫عاتبه‪َ﴿ :‬و إِلْذ تلَُقاوُل لِلّلِذ يل َأنلَْع َم اللّلهُ َعلَْفيلِه َوأَلنلَْعْمل َ‬ ‫ض ﴾ىل َزيٌْد ِم ْنلَْه عال‬ ‫ك لَمعال اللّهُ ُمْبِد يلِه َو تَلْخ َشل﴾ىل ْن‬ ‫س َوالللّهُ أَ​َح ّقل أَْن تَْخ َشلعالهُ فلَلَّم عال قَ َ‬ ‫َو تلُْخ ِفلج يلِفج ي نلَْف ِسل َ‬ ‫الّعا َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ​ِ‬ ‫ضل ْاولال ِم ْنلُْهل ّنل‬ ‫جل ِفللج ي أَْزَوالِج أَْد ِعلفيَل لعائِ​ِه ْمل إَِذا قَ َ‬ ‫َو طَ لًرا َزّوْج ْنَلعاَك َهل لعالَكل ْج يل َل يَُكل اولَن َعلَلل﴾ى الُْم ل ْؤلملْنلفيَنَح ل َرل ٌ‬ ‫َو طَلًرا َوَك عالَن أَْم ُرل اللِّه َمْفلعُلاوًل﴾)‪.(2‬‬ ‫اـ صــلى اـ‬ ‫ســول ُ ّ ةِ‬ ‫ضْت ةِعّدةُ َزْيَنـَب َقــالَ َر ُ‬ ‫عن أنس بن مالك َقاَل‪َ :‬لّما اْنَق َ‬ ‫عليه وسلم لةَِزْي ٍد‪َ’’ :‬فاْذُكْرَها َعَلّى’’‪َ .‬قاَل‪َ :‬فاْنَطَلَق َزْيٌد َحّتى أَ​َتاَها َوْهـَى ُتَخّمـُر‬ ‫صْدةِري َحّتى َما أَْسَتةِطيُع أَْن أَْنُظ ـَر إةَِلْيَهــا‬ ‫َعةِجيَنَها َقاَل‪َ :‬فَلّما َرأَْيُتَها َعُظَمْت ةِفي َ‬ ‫صـ ُ‬ ‫ت َعَلــى‬ ‫سولَ ّ ةِ‬ ‫ا صلى اـ عليــه وســلم َذَكَرَهــا َفَوّلْيُتَهــا َظْهـةِري َوَنَك ْ‬ ‫أَّن َر ُ‬ ‫َعةِقةِبي َفقُْل ُ‬ ‫ا صلى ا عليه وســلم َيـْذُكُرةِك‪َ .‬قــاَلْت‪:‬‬ ‫سول ُ ّ ةِ‬ ‫سلَ َر ُ‬ ‫ب أَْر َ‬ ‫ت‪َ :‬يا َزْيَن ُ‬ ‫صاةِنَع ٍة َ‬ ‫شْيًكئا َحّتى أ َُواةِمـَر َرّبــي‪َ .‬فَقــاَمْت إةَِلــى َمْسـةِجةِدَها َوَنـَزلَ اْلقُـْرآُن‪،‬‬ ‫َما أَ​َنا ةِب َ‬ ‫ا صلى ا عليه وسلم َفَدَخلَ َعَلْيَها ةِبَغْيةِر إةِْذ ٍن")‪.(3‬‬ ‫سول ُ ّ ةِ‬ ‫َوَجاَء َر ُ‬ ‫أيكون ربيب النبى أشد حياًء من النبى نفسه الذي علمه ورباه؟! مالهم‬ ‫كيف يحكمون؟‪ ،‬وقد كان ـ صلى ا عليه وسلم ـ الشد حياًء من العذراء في‬ ‫خدرها‪ ،‬وهو الذى أمر أتباعه بغض البصر فى أحاديث مشهورة ‪َ’’:‬يا‬ ‫َعلةِّي َل ُتْتةِبْع الّنْظَرَة الّنْظَرَة َفإِّن َلَك ا ْ ُ‬ ‫سْت َلَك اْلةِخَرةُ’’)‪ (4‬و’’العينان‬ ‫لوَلى‪َ ،‬وَلْي َ‬ ‫تزنيان وزناهما النظر’’)‪ ،(5‬فيولى زيد ظهره لزينب بينما عندما يأتى رسول‬ ‫ا ليزور زيد ابنه فلم يجده ووجد زوجه فنظر إليها فأعجبه حسنها!!‬ ‫رسول ا الحيي حتى في منامه أل يكون حيًيا في يقظته؟!‪ ..‬رسول ا‬ ‫!الحيي مع أصحابه أل يكون بالحرى حيًيا مع ربيبه ومتبناه؟‬ ‫حدثنا سعيد بن عفير حدثني الليث حدثني عقيل عن ابن شهاب قال‪:‬‬ ‫ضَي ّ‬ ‫اُ َعْنُه َقالَ َبْيَنا َنْحُن ةِعْنَد‬ ‫أخبرني سعيد بن المسيب أَّن أَ​َبا ُهَرْيَرَة َر ةِ‬ ‫صّلى ّ‬ ‫سّلَم إةِْذ َقاَل‪َ’’ :‬بْيَنا أَ​َنا َناةِكئٌم َرأَْيُتةِني ةِفي اْلَجّنةِة َفإةَِذا‬ ‫سوةِل ّ ةِ‬ ‫اُ َعَلْيةِه َو َ‬ ‫ا َ‬ ‫َر ُ‬ ‫ص ٍر َفقُْل ُ‬ ‫ب‬ ‫صُر َفَقاُلوا لةُِعَمَر ْبةِن اْلَخّطا ةِ‬ ‫ضأ ُ إةَِلى َجاةِن ةِ‬ ‫ت لةَِمْن َهَذا اْلَق ْ‬ ‫ب َق ْ‬ ‫اْمَرأٌَة َتَتَو ّ‬

‫‪133‬‬


‫ت َغْيَرَتُه َفَوّلْي ُ‬ ‫َفَذَكْر ُ‬ ‫ت ُمْدةِبًرا’’‪َ ،‬فَبَكى ُعَمُر بن الخطاب ثم قال‪ :‬أَ​َعَلْيَك بأبي‬ ‫ا أَ​َغاُر ")‪.(6‬‬ ‫سولَ ّ ةِ‬ ‫أنت وأمي َيا َر ُ‬ ‫لقد كانت زينب ابنة عم رسول ا ـ صلى ا عليه وسلم ـ أمامه ويراها‬ ‫فلم يكن هناك حجاًبا بعد‪ ،‬ويعلم أنها حسناء وضيكئة فما الذي زاد عليها في‬ ‫ش ل ـ ما يأمر به أتباعه من المؤمنين‪،‬‬ ‫عام‪ ،‬وهل يخالف النبى ـ حا َ‬ ‫فيأمرهم بالغض وينظر؟! ‪ ..‬فالذى ُيروى في ذلك لم يثبت من طريق‬ ‫سا‪ ،‬وأكرم أخلًقا‪ ،‬وأعلى منزلًة‬ ‫صحيح‪ ،‬والنبياء أعظم شأنا‪ ،‬وأعف نف ً‬ ‫وشرًفا من أن يحصل منهم شيء من ذلك)‪ ، (7‬وقد اجترأ بعض المفسرين‬ ‫سَب إلى رسول ا صلى ا عليه وسلم ما ل يليق‬ ‫في تفسير هذه الية‪ ،‬وَن َ‬ ‫ف‬ ‫صَمه ا منه‪ ،‬ونّزهه عن مثله‪ ،‬أو ُمْسَتةِخ ّ‬ ‫به‪ ،‬ويستحيل عليه‪ ،‬إذ قد َع َ‬ ‫بحرمته‪ ،‬والذي عليه أهل التحقيق من المفسرين والعلماء الراسخين أن ذلك‬ ‫القول الشنيع ليس بصحيح‪ ،‬ول يليق بذوي المروءات‪ ،‬فأحرى بخير‬ ‫البريات)‪.(8‬‬ ‫ضم البيت النبوي الزوجات الخمس كل ٌ في حجرتها نسوة من البشر‬ ‫يحملن أخلق البشر من نوازع ومخاوف‪ ،‬ومثلما تغار الزوجة السابقة من‬ ‫اللحقة هكذا تحسبت السيدة عاكئشة من قدوم السيدة زينب ـ رضي ا‬ ‫عنهما ـ لجمالها ونسبها فأعلنت عن ذلك‪َ " :‬فأ َ​َخَذةِني َما َقُرَب َوَما َبُعَد لةَِما‬ ‫َيْبلُ​ُغَنا ةِمْن َجَمالةَِها‪َ ،‬وأ ُْخَرى ةِهَي أَْعَظُم ال ُ​ُموةِر َوأَ ْ‬ ‫صةِنَع َلَها‪َ ،‬زّوَجَها‬ ‫شَرفَُها َما ُ‬ ‫ّ‬ ‫سَماةِء‪َ ،‬وقُْل ُ‬ ‫ت‪ :‬ةِهَي َتْفَخُر َعَلْيَنا ةِبَهَذا ")‪ ،(9‬وصدق قول عاكئشة وكان‬ ‫اُ ةِمَن ال ّ‬ ‫هذا الزواج السماوي موضع مفاخرة زينب ومباهاتها بين لداتها ‪":‬زّوجُكّن‬ ‫أهاليكّن‪ ،‬وزّوجني ا تعالى من فوق سبع سموات" )‪ (10‬وكان أكثر تلك‬ ‫المباهاة ما يدور ما بين عاكئشة وزينب وحضرت طرًفا منه أم سلمة وروته‬ ‫لبنتها زينب حين كانت أم سلمة تتذكر بنت جحش وتترحم عليها‪ ،‬فكانت‬ ‫ساةِء‬ ‫مما نقلته قول زينب بنت جحش لعاكئشة ‪" :‬إّني َو ّ ةِ‬ ‫ا َما أَ​َنا َكأ َ​َح ٍد ةِمْن ةِن َ‬ ‫صّلى ّ‬ ‫سّلَم‪ ،‬إةِّنُهّن َزّوَجُهّن ةِباْلُمُهوةِر َوَزّوَجُهّن الَْولةَِياُء‪،‬‬ ‫سوةِل ّ ةِ‬ ‫اُ َعَلْيةِه َو َ‬ ‫ا َ‬ ‫َر ُ‬ ‫َوَزّوَجةِني ّ‬ ‫ب َيْقَرأ ُ ةِبةِه اْلُمْسلةُِموَن ل ُيَبّدل ُ َول ُيَغّيُر"‬ ‫سوَلُه‪َ ،‬وأَْنَزلَ ةِفي اْلةِكَتا ةِ‬ ‫اُ َر ُ‬ ‫فتثبت عاكئشة لزينب أنها ليست وحدها المذكورة في كتاب ا‪" :‬أَنا اّلةِذي‬ ‫ا"‪.‬‬ ‫َنَزلَ ُعْذةِري ةِفي ةِكَتا ةِ‬ ‫ب ّ ةِ‬

‫‪134‬‬


‫ولم يكن هذا هو الموقف الوحيد بينهما ـ رضـّي اـ عنهمــا ــ فقــد تله‬ ‫مواقف‪ ،‬ولقد ذكرت في موضع سابق أن البيت النبوي لم يكن بيًتا طوباوًيــا‬ ‫سـا لكـان ولكـن الغايـة‬ ‫صا‪ ،‬ولو أراده اـ مقد ً‬ ‫سا‪ ،‬بل كان بيًتا بشرًيا خال ً‬ ‫مقد ً‬ ‫من نشر ما فيه هو تعليم المسلمين والقتداء بما يدور فيه مــن مثــل أحــداث‬ ‫تلك الغيرة الفطرية المركوزة في الطبيعة البشرية‪ ،‬وكيف تعامــل الرســول ــ‬ ‫صلى ا عليه وسلم ـ في تهذيب آثارها لنــه علــم أنهــا أشــد مــا تكــون فــي‬ ‫جبلة النساء وخاصة الضراكئر‪ ،‬ولكــن كــان الفــارق الخلقــي واليمــاني فــي‬ ‫التعامل بين الزواج الصحابيات‪ ،‬أمهات المــؤمنين‪ ،‬ربيبــات الــبيت النبــوي‪،‬‬ ‫وتلمذة المدرسة المحمدية لــم يكــن البغــض أو الكــره أو العــداوة‪ ،‬أو إيقــاع‬ ‫الضرر بينهــن‪ ،‬ويتبــدى ذلــك حيــن وقعــت حادثــة الفــك فــي العــام الســادس‬ ‫الهجري وكانت لوقعها ثقل عنيف على البيت النبــوي‪ ،‬والمجتمــع الســلمي‬ ‫في المدينة‪ ،‬فماذا كان موقف زينب بنت جحش من عاكئشـة؟‪ ..‬أثنـت عليهـا‪،‬‬ ‫وذلك حين طلب الرسول ـ صلى ا عليه وســلم ــ رأيهــا فــي تلكــم الحادثــة‪،‬‬ ‫فقالت‪" :‬يا رسول ا أحمــي ســمعي وبصــري‪ ،‬واـ مــا علمـ ُ‬ ‫ت إل خيـًرا"‪،‬‬ ‫وفي المقابل لم تكن تحكي عنها عاكئشة ول تذكرها إل بكل الخيــر‪" :‬فأرســل‬ ‫أزواج النبي صلى ا عليه وسلم زينب بنــت جحــش رضــي اـ عنهــا زوج‬ ‫النبي صلى ا عليه وسلم وهي التي كانت تساميني ]تفــاخرني[ منهــن فــي‬ ‫المنزلة عند رسول ا صلى ا عليه وسلم ولم أر امرأة قط خيًرا في الدين‬ ‫من زينب‪ ،‬وأتقى ل‪ ،‬وأصدق حديًثا‪ ،‬وأوصل للرحم‪ ،‬وأعظم صــدقة‪ ،‬وأشــد‬ ‫ابتذالً لنفسها في العمل الذي تصّدق به وتقـّرب بــه إلــى اـ تعــالى مــا عــدا‬ ‫سْورة من ةِحّدة كانت فيها‪ُ ،‬تسرع منها الفيكئة")‪ ،(11‬وما تقصده عاكئشة مــن‬ ‫ســورة زينــب وســرعة فيكئهــا هــو إثبــات كمــال الوصــاف فيهــا مــع ســرعة‬ ‫الغضب والعودة عنها سريًعا دون الصرار عليه وهو ما ليعد نقيصة فيها‪.‬‬ ‫ولم تكن هذه كل مناقب أمنا زينب التي ذكرتها عنها أمنا عاكئشة ـ رضّي‬ ‫ا عنهما ـ فحينما ذكر رسول ا ـ صلى ا عليه وسلم ـ بأن أول من‬ ‫تلحق به من أزواجه الطاهرات أطولهن يًدا‪ ،‬وكانت زينب‪ ،‬عزت عاكئشة هذا‬ ‫صّدُق")‪ (12‬و "كانت امرأة صناعة اليد‬ ‫إلى أن زينب "َكاَنْت َتْعَمل ُ ةِبَيةِدَها َوَت َ‬ ‫فكانت تدبغ وتخرز وتتصدق في سبيل ا عز وجل"؛ إذ "كانت تغزل الغزل‬ ‫وتعطيه سرايا النبي – صلى ا عليه وسلم – يخيطون به ويستعينون به في‬ ‫مغازيهم")‪. (13‬‬ ‫‪135‬‬


‫عاشت بعد وفاة النبي ـ صلى ا عليه وسلم ـ كما عاشت في حياته علــى‬ ‫التعبد‪ ،‬والتصدق على اليتام‪ ،‬وأهل الرحام‪ ،‬حيــث كــانت تــوزع فيكئهــا الــذي‬ ‫يبلغ اثنى عشر ألف درهًما عليهم‪ ،‬ولم تفر ح به‪ ،‬وما ظنت أن كل هذا الفيء‬ ‫يخصها‪ ،‬بل حسبتهم يطلبون منها تقسيمه‪ ،‬ولّما علمت أنه لها‪ ،‬وزعتــه كمــا‬ ‫ذكرنا‪ ،‬ثم رفعت أكفها بالدعاء لربها أواهًة منيبــة‪" :‬اللهــم ل يــدركني عطــاء‬ ‫عمر بعد عامي هذا")‪ (14‬فبلغ عمر فقال‪" :‬هذه امرأة ُيراد بها خير"‪ .‬فوقف‬ ‫عليهــا وأرســل بالســلم وقــال‪" :‬بلغنــي مــا فّرقــت"‪ ،‬فُأرســل بــألف درهــم‬ ‫تستبقيها! أي لنفقتها اليومية في البيت‪ ،‬فسلكت به ذلــك المســلك أي فّرقتهــا‬ ‫ضا)‪.(15‬‬ ‫أي ً‬ ‫واستجاب ا حر دعاكئها‪ ،‬فلم تكــد تبلــغ الخمســين أو فوقهــا بثلث مــن‬ ‫السنة العشرين من الهجرة في خلفة الفاروق عمر بن الخطاب حتى وافتها‬ ‫صّلى ُعَمُر َعَليها‪ ،‬وُدةِفنْت بالبقيع‪.‬‬ ‫المنية ف َ‬ ‫قالت عاكئشة تنعيها ‪":‬لقد ذهبت حميدة‪ ،‬متعبدة‪ ،‬مفزع اليتامى‬ ‫‪."(16‬‬

‫والرامل)‬

‫ب ةِبْن ُ‬ ‫ش ةِديَناًرا‪،‬‬ ‫عن عثمان بن عبدا الجحشي قال‪َ ":‬ما َتَرَكْت َزْيَن ُ‬ ‫ت َجْح ٍ‬ ‫ساةِكيةِن‪،‬‬ ‫صّدُق ةِبُكلّ َما َقَدَرْت َعَلْيةِه‪َ ،‬وَكاَنْت َمأَْوى اْلَم َ‬ ‫َول ةِدْرَهًما‪َ ،‬كاَنْت َتَت َ‬ ‫َوَتَرَكْت َمْنةِزلةَِها‪َ ،‬فَباُعوُه ةِمَن اْلَوةِليةِد ْبةِن َعْبةِد اْلَملةِةِك ةِحيَن ُهةِدَم اْلَمْسةِجُد‪،‬‬ ‫ف ةِدْرَهم ")‪.(17‬‬ ‫ةِبَخْمةِسيَن أَْل َ‬ ‫رحم ا أمنا زينب ـ رضّي ا عنها ـ الحميدة‪ ،‬المتعبدة‪ ،‬الواهة‪،‬‬ ‫المتصدقة‪ ،‬النافعة‪ ،‬الصانعة‪ ،‬مفزع اليتامى‪ ،‬وواصلة الرحام‪ ،‬الزاهدة‪،‬‬ ‫المشتاقة للقاء ربها‪.‬‬

‫‪136‬‬


‫نساء فى حياة الرسول‬

‫ــــــــــــــــــــــــــــــــ هامش الفصل الثالث‬

‫عشر ـــــــــــــــــــــــــــــــ السيد إبراهيم‬

‫)‪ (1‬تفرسير ابن كثير ج‪ 3 :‬ص‪.490190:‬‬

‫)‪ (2‬رسورة الحزاب‪.(37) :‬‬ ‫)‪(3‬رواه مرسلم )النكاح‪.(2567،‬‬ ‫)‪ (4‬قال اللباني حديث حرسن رواه أحمد وغيره‪.‬‬ ‫)‪(5‬أخرجه البخاري ومرسلم وأحمد من طريق ابن عباس‬ ‫)‪ (6‬صحيح البخاري ]"كتاب التعبير" ‪" ،‬باب القصر في المنام" )‪.[(6620‬‬ ‫)‪(7‬الشيخ عبد العزيز بن باز ‪ ،‬الشيخ عبد الرزاق عفيفي ‪ ،‬الشيخ عبد ا بن غديان ‪ ،‬الشيخ عبد‬ ‫ا بن قعود فتاوى إرسلمية " ) ‪. ( 141– 137 / 18‬‬ ‫)‪(8‬أبو العباس القرطبي في "المفهم" )‪.( 1/406‬‬ ‫)‪(9‬الطبقات الكبرى لبن رسعد رقم الحديث‪.9916 :‬‬ ‫)‪(10‬أخرجه البخاري من حديث أنس‪ ،‬كتاب التوحيد ) ‪، ( 6984‬‬ ‫روى مرسلم ) ‪ ( 177‬عن عائشة رضي ا عنها مثل قول أنس رضي ا عنه‪.‬‬

‫‪137‬‬


‫)‪ (11‬متفق عليه ‪ .‬تفسير ابن كثير جـ ‪ 3‬ص ‪ ، 361‬الستيعاب ‪ ، 1850 / 4‬وأسد الغابة ‪/ 7‬‬ ‫‪. 126‬‬ ‫)‪ (12‬صحيح مرسلم )‪.(2452‬‬ ‫)‪ (13‬المعجم الورسط للطبراني)‪.(6445‬‬ ‫)‪(14‬ابن رسعد في الطبقات )‪.(3/300‬‬ ‫)‪(15‬رواه ابن سعد في الطبقات )‪.(8/110‬‬ ‫)‪(16‬الصابة‪.(7/670) :‬‬ ‫)‪ (114/8) (17‬الطبقات الكبرى‪.‬‬

‫الفصل الرابع عشر‬

‫‪:‬أم المؤمنين الخزاعية المصطلقية‬

‫‪138‬‬


‫جويرية بنت الحارث‬

‫يشغل الفاكون أذهان الناس بما يشيعون من إفكهم حول الرسول ـ صلى‬ ‫ا عليه وسلم ـ وزواجه المتعدد‪ ،‬ويصورونه كرجل ل هم له إل النتقال‬ ‫من فراش امرأة إلى امرأة أخرى ‪ ..‬وقد كذبوا ‪..‬‬ ‫لم يكد الرسول ـ صلى ا عليه وسلم ـ يأنس بزينب بنت جحش آخر‬ ‫أزواجه في العام الخامس الهجرى‪ ،‬حتى أتت الحداث عاصفة تباًعا‪ ،‬فمع‬ ‫انتصاف نفس العام داهم الحزاب المدينة وحاصروها‪ ،‬ليعيش أهلها أياًما‬ ‫قاسية‪ ،‬تتلوها أحداث حصار يهود بني قريظة‪.‬‬ ‫ومع بواكير العام السادس يغزو الرسول ـ عليه الصلة والسلم ـ بني‬ ‫لحيان في ربيع الول أو جمادى الولى مع ماكئتين من أصحابه ثم يتبعها‬ ‫غزوة ذى قرد‪ ،‬ولم يمرالشهر أو بعضه‪ ،‬حتى يبلغه ـ صلى ا عليه وسلم ـ‬ ‫أن بنى المصطلق‪ -‬وهم حٌي من خزاعة ‪ -‬يجمعون الجموع لقتاله ـ صلى ا‬ ‫‪.‬‬ ‫عليه وسلم ـ بقيادة زعيمهم الحارث بن أبى ضرار‬ ‫لم يكن غزو بني المصطلق)‪ (1‬في خطط الرسول ـ صلى ا عليه وسلم ـ بل‬ ‫ُدفع إليه دفًعا لّما علم يخروج القوم عليه‪ ،‬ولم يكن يعرف سيد المصطلقيين‬ ‫‪139‬‬


‫الحارث بن ضرار‪ ،‬ول يعلم بالتالي إن كان له ابنة‪ ،‬ويبقى أن هذه الغزوة‬ ‫على قدر هوان أمرها العسكري‪ ،‬بقدر جليل شأنها من نواحي أخرى عديدة‪.‬‬ ‫بدأ القتال وانتهى بنصر المسلمين وسيقت نساء الخزاعيين سبايا كشأن‬ ‫المهزوم في المعارك‪ ,‬ومنهن ابنة زعيمهم جويرية بنت الحارث بن أبي ضرار‬ ‫بن حبيب بن جذيمة الخزاعية المصطلقية‪ ،‬وكانت متزوجة من ابن عم لها يقال‬ ‫له مسافع بن صفوان‪ ،‬الذي ُقتل أثناء هذه الغزوة‪ ،‬فكانت من نصيب ثابت بن‬ ‫قيس فكاتبها على مبلغ من المال ثمًنا لعتقها‪ ,‬فذهبت جويرية لتجمع ثمن حريتها‬ ‫من السر وهى السيدة فى قومها‪ ،‬فكيف تقاد لتكون سبًيا لرجل لم تعرف عنه‬ ‫شيًكئا‪ ،‬وفي سعيها لجمع مال المكاتبة سمعت الكثيرعن قاكئد جيش المسلمين‪،‬‬ ‫وخلقه‪ ،‬وكرمه‪ ،‬ونسبه‪ ،‬ولّما لم تفلح في سعيها‪ ،‬حادثتها نفسها بالذهاب إليه‪،‬‬ ‫وعرض مسألتها عليه‪ ،‬لعلها تجد عنده حلً ‪.‬‬ ‫وقفت جويرية السيرة ذات العشرين ربيًعا أمام رسول ا ـ صلى ا عليه‬ ‫وسلم ـ فى حضور زوجه عاكئشة‪ ،‬تعرض مشكلتها ل لتعرض نفسها رغم‬ ‫ملمحها الجميلة‪ ،‬التى تبهر لب كل ذي عقل ونظر‪ ،‬فقالت‪ " :‬يا رسول ا‪ ،‬أنا‬ ‫ف‬ ‫جويرية بنت الحارث بن أبي ضرار سيد قومه‪ ،‬وقد أصابني من البلء ما لم يخ َ‬ ‫عليك‪ ،‬فوقع ُ‬ ‫ت في السهم لثابت بن قيس بن الشماس ‪ -‬أو لبن عّم له ‪ -‬فكاتبُته‬ ‫على نفسي‪ ،‬فجكئُتك أستعيُنك على كتابتي‪ .‬قال‪َ’’ :‬فَهلْ َلةِك ةِفي َخْي ٍر ةِمْن َذلةَِك؟’’‬ ‫ضي َعْنةِك ةِكَتاَبَتةِك َوأَ​َتَزّوُجةِك’’‪ .‬قالت‪ :‬نعم يا‬ ‫قالت‪ :‬وما هو يا رسول ا؟ قال‪’’ :‬أَْق ةِ‬ ‫رسول ا‪ .‬قال‪َ’’ :‬قْد َفَعْل ُ‬ ‫ت’’)‪.(2‬‬ ‫قد يحدث أحٌد نفسه بأن جويرية لم يكن أمامها خيار في أن ترفض‬ ‫فقبلت‪ ،‬وهذا اتهام لخلق الرسول الكريم ـ صلى ا عليه وسلم ـ‪ ،‬ولو لم‬ ‫يكن ـ صلى ا عليه وسلم ـ يعلم أنه وقع منها مثل ما وقع في نفسه‬ ‫ماعرض هذا عليها‪ ،‬وربما كان سرعة قبولها مرده تلك الرؤيا التي رأت‬ ‫فيها الرسول ـ صلى ا عليه وسلم ـ قبل قدومه بثلث ليا ٍل‪ ،‬كأّن القمر‬ ‫أقبل يسير من يثرب حتى وقع في حجرها‪ ،‬و كره ُ‬ ‫ت أن تخبر بها أحًدا من‬ ‫سةِبيَنا رجو ُ‬ ‫ت الرؤيا‪،‬‬ ‫الناس‪ ،‬حتى َقةِدم رسول ا‪ ،‬تقول جويرية‪ " :‬فلّما ُ‬ ‫فلّما أعتقني وتزّوجني‪ ،‬وا ما كّلمته في قومي حتى كان المسلمون هم‬ ‫الذين أرسلوهم‪ ،‬وما شعر ُ‬ ‫ت إّل بجارية من بنات عّمي تخبرني الخبر‪،‬‬ ‫‪140‬‬


‫فَحةِمدت ا")‪ .(3‬ثم أن جويرية اختارت‪ ،‬وذلك فيما رواه ابن سعد في‬ ‫الطبقات أنه لما وقعت جويرية بنت الحارث في السبي‪ ،‬جاء أبوها إلى النبي‬ ‫صلى ا عليه وسلم فقال ‪ :‬إةِّن اْبَنةِتي ل ُيْسَبى ةِمْثلَُها‪َ ،‬فأ َ​َنا أَْكَرُم ةِمْن َذاَك َفَخلّ‬ ‫سّنا؟’’‪َ ,‬قالَ ‪َ :‬بَلى‪َ ،‬وأَّدْيَت‬ ‫س َقْد أَْح َ‬ ‫سةِبيَلَها‪َ ،‬قاَل‪’’ :‬أَ​َرأَْيَت إةِْن َخّيْرَناَها‪ ،‬أَ​َلْي َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ضةِحيَنا‪،‬‬ ‫َما َعَلْيَك‪َ ،‬قالَ ‪َ :‬فأَتاَها أُبوَها‪َ ،‬فَقاَل‪ :‬إةِّن َهَذا الّرُجلَ َقْد َخّيَرةِك َفل َتْف َ‬ ‫صّلى ّ‬ ‫َفَقاَلْت ‪َ :‬فإةِّني َقةِد اْخَتْر ُ‬ ‫سّلَم‪.‬‬ ‫سولَ ّ ةِ‬ ‫اُ َعَلْيةِه َو َ‬ ‫ا َ‬ ‫ت َر ُ‬ ‫حين نظر رسول ا ـ صلى ا عليه وسلم ـ إلى جويرية باعتبار كونها‬ ‫أسيرة‪ ،‬ولو كانت حرة ما فعل‪ ،‬ولهذا ذهبت مخاوف عاكئشة الفقيهة بأحكام‬ ‫الدين حين قالت‪َ":‬وَكاَنْت اْمَرأًَة ُحْلَوًة ُمَلَحًة ]حسنة المنظر حسنة المنطق[‬ ‫َل َيَراَها أَ​َحٌد إةِّل أَ​َخَذْت ةِبَنْفةِسةِه"‪ .‬فأتت رسول ا صلى ا عليه وسلم‬ ‫ب‬ ‫ا َما ُهَو إةِّل أَْن َرأَْيُتَها َعَلى َبا ةِ‬ ‫لتستعينه في ةِكتابتها‪ ،‬قالت عاكئشة‪َ" :‬فَو ّ ةِ‬ ‫سَيَرى ةِمْنَها َما َرأَْي ُ‬ ‫ُحْجَرةِتي َفَكةِرْهُتَها َوَعَرْف ُ‬ ‫ت"‪ ،‬إذن فلو كانت جويرية‬ ‫ت أَّنُه َ‬ ‫سا من أن يمل الرسول عينه منها‪ ،‬إل أن تتجه نيته‬ ‫حرة لطمأنت عاكئشة نف ً‬ ‫إلى نكاحها‪.‬‬ ‫قال السهيلى‪" :‬وأما نظره عليه السلم لجويرية حتى عرف من حسنها ما‬ ‫عرف‪ ،‬فإنما كان ذلك لنها امرأة مملوكة‪ ،‬ولو كانت حرة ما مل عينه منها‬ ‫‪ ..‬وجاكئز أن يكون نظر إليها لنه أراد نكاحها ‪ ..‬وقد ثبت عنه ـ عليه السلم‬ ‫ـ الرخصة في النظر إلى المرأة عند إرادة نكاحها")‪.(4‬‬ ‫لم يدخل رسول ا ـ صلى ا عليه وسلم ـ بجويرية إل بعد أن‬ ‫أسلمت‪ ،‬وأصدقها‪ ،‬وخطبها من والدها الذي افتداها؛ إذ لّما أنصرف‬ ‫ـ صلى ا عليه وسلم ـ من الغزوة ومعه جويرية دفع بها كوديعةِة‬ ‫إلى رجل من النصار‪ ،‬وأمره بالحتفاظ بها حتى قدم رسول ا ـ‬ ‫صلى ا عليه وسلم ـ إلى المدينة‪ .‬فأقبل أبوها الحارث بن أبي‬ ‫ضرار بفداءها فأسلم وأسلم معه ابنان وناس من قومه‪ ،‬وُدةِفَعْت إليه‬ ‫ابنته جويرية فأسلمت‪ ،‬وخطبها رسول ا ـ صلى ا عليه وسلم ـ‬ ‫إلى أبيها فزوجه إياها )‪.(5‬‬

‫‪141‬‬


‫داكئًما ما نبحث عن السبب وراء كل زيجة من زيجاته ـ صلى ا عليه‬ ‫وسلم ـ وترتا ح نفوسنا كثيًرا حين يتزوج الرمل والكبر منه سًنا‪ ،‬أويقترن‬ ‫بأزواج التي استشهد رجالهن فى الحرب‪ ،‬ونقبل أن يتزوج القل جماًل‪،‬‬ ‫ونأتي بالسبب السياسي‪ ،‬والسبب الجتماعي وراء اقترانه من هذه أو تلك‪،‬‬ ‫وكأنه حراٌم عليه أن يختار لنفسه‪ ،‬أو يهز طبيعته البشرية جمال امرأة‪،‬‬ ‫وهو حق مكفول لقل رجل فى أمته‪.‬‬ ‫وقد أحسن الشهيد سيد قطب )‪ ، (6‬بعد أن استعرض قصص أمهات‬ ‫المؤمنين حين قال ‪) :‬وهكذا ترى أن لكل زوجة من أزواجه صلى ا عليه‬ ‫وسلم قصًة وسبًبا في زواجه منها‪ .‬وهن فيمن عدا زينب بنت جحش‪،‬‬ ‫وجويرية بنت الحارث‪ ,‬لم يكن شواب ول ممن يرغب فيهن الرجال لجمال‬ ‫كانت عاكئشة ـ رضي ا عنها ـ هي أحب نساكئه إليه‪ .‬وحتى هاتان اللتان‬ ‫عرف عنهما الجمال والشباب كان هناك عامل نفسي وإنساني آخر ‪ -‬إلى‬ ‫جانب جاذبيتهن ‪ -‬ولست أحاول أن أنفي عنصر الجاذبية الذي لحظته‬ ‫عاكئشة في جويرية مثل‪ ,‬ول عنصر الجمال الذي عرفت به زينب فل حاجة‬ ‫أبًدا إلى نفي مثل هذه العناصر النسانية من حياة النبي ـ صلى ا عليه‬ ‫وسلم ـ وليست هذه العناصر موضع اتهام يدفعه النصار عن نبيهم ‪ .‬إذا‬ ‫حل لعداكئه أن يتهموه! فقد اختير ليكون إنساًنا‪ .‬ولكن إنساًنا رفيعا‪ .‬وهكذا‬ ‫كان‪ .‬وهكذا كانت دوافعه في حياته وفي أزواجه ـ صلى ا عليه وسلم ـ‬ ‫على اختلف الدوافع والسباب(‪.‬‬ ‫كانت جويرية ـ رضى ا عنها ـ بركة على قومها بزواجها المبارك من سيد‬ ‫الخلق ـ صلى ا عليه وسلم ـ وما الجديد في هذا؟‪ ..‬فقد كان ـ صلى ا عليه‬ ‫وسلم ـ بركة على كل من عرفه واتصل به في كل مراحل حياته‪ ،‬مثلما هو بركة‬ ‫س أَّن‬ ‫على كل من آمن به إلى يوم الدين‪ ،‬قالت عاكئشة‪َ" :‬وَخَرَج اْلَخَبُر إةَِلى الّنا ةِ‬ ‫صّلى ّ‬ ‫صَهاُر‬ ‫سّلَم َتَزّوَج ُجَوْيةِرَيَة ةِبْنَت اْلَحاةِر ةِ‬ ‫سولَ ّ ةِ‬ ‫س أَ ْ‬ ‫ث َفَقالَ الّنا ُ‬ ‫اُ َعَلْيةِه َو َ‬ ‫ا َ‬ ‫َر ُ‬ ‫صّلى ّ‬ ‫سُلوا َما ةِبأ َْيةِديةِهْم َقاَلْت َفَلَقْد أَْعَتَق ةِبَتْزةِويةِجةِه‬ ‫سوةِل ّ ةِ‬ ‫سّلَم َفأ َْر َ‬ ‫اُ َعَلْيةِه َو َ‬ ‫ا َ‬ ‫َر ُ‬ ‫صَطلةِةِق َفَما أَْعَلُم اْمَرأًَة َكاَنْت أَْعَظَم َبَرَكًة َعَلى‬ ‫إةِّياَها ةِماَكئَة أَْهةِل َبْي ٍ‬ ‫ت ةِمْن َبةِني اْلُم ْ‬ ‫َقْوةِمَها ةِمْنَها" )‪.(7‬‬

‫‪142‬‬


‫وبرغم قلة ما نقلته كتب الحديث من مروياتها‪ ،‬إل أنه اشتهر عنها أنها‬ ‫كانت صوامة‪ ،‬ذكارة ل كثيًرا‪ ،‬تحلت بالصبر‪ ،‬وطول التعبد ل عز وجل‪،‬‬ ‫وليس أدل على هذا من الحديث الذي رواه ابن عباس ـ رضي ا عنه‬ ‫صْبَح‬ ‫صّلى ال ّ‬ ‫ـ أَّن الّنةِبّي صلى ا عليه وسلم َخَرَج ةِمْن ةِعْنةِدَها ُبْكَرًة ةِحيَن َ‬ ‫ت‬ ‫سٌة‪َ ،‬فَقاَل‪َ’’ :‬ما ةِزْل ةِ‬ ‫ضَحى َوةِهَي َجالةِ َ‬ ‫َوةِهَي ةِفي َمْسةِجةِدَها ُثّم َرَجَع َبْعَد أَْن أَ ْ‬ ‫َعَلى اْلَحاةِل اّلةِتي َفاَرْقُتةِك َعَلْيَها؟’’‪َ ،‬قاَلْت‪َ :‬نَعْم‪َ ،‬قالَ الّنةِبّي صلى ا عليه‬ ‫وسلم‪َ’’ :‬لَقْد قُْل ُ‬ ‫ت ُمْنُذ‬ ‫ت َلْو ُوةِزَنْت ةِبَما قُْل ةِ‬ ‫ت َثَلَث َمّرا ٍ‬ ‫ت َبْعَدةِك أَْرَبَع َكلةَِما ٍ‬ ‫ضا َنْفةِسةِه‪َ ،‬وةِزَنَة‬ ‫سْبَحاَن ّ ةِ‬ ‫ا َوةِبَحْمةِدةِه‪َ ،‬عَدَد َخْلةِقةِه‪َ ،‬وةِر َ‬ ‫اْلَيْوةِم َلَوَزَنْتُهّن‪ُ :‬‬ ‫َعْرةِشةِه‪َ ،‬وةِمَداَد َكلةَِماةِتةِه’’)‪.(8‬‬ ‫وهذا الحديث الذي كانت فيه أمنا جويرية بركة علينا كما كانت بركة‬ ‫على قومها بطول عبادتها التي استخرجت مثل هذه الكلمات الطيبات ـ‬ ‫الخفيفات على اللسان‪ ،‬الثقيلت في الميزان‪ ،‬الحبيبات إلى الرحمن ـ من‬ ‫الفم النبوي الشريف‪ ،‬والتي لم نزل نرددها وسترددها الفواه الطاهرة من‬ ‫أمة الحبيب ـ صلى ا عليه وسلم ـ إلى يوم الدين‪.‬‬ ‫توفيت أمنا أم المؤمنين ُجويرية في المدينة سنة خمسين‪ ،‬وقيل فى‬ ‫شهر ربيع الول سنة ست وخمسين للهجرة وهي يومكئذ ابنة خمس وستين‬ ‫سنة في إمارة معاوية‪ ،‬ودفنت بالبقيع‪ ،‬فصلى عليها مروان بن الحكم وهو‬ ‫يومكئةِذ والي المدينة‪ ،‬فرضي ا عنها‪ ،‬وعن أمهات المؤمنين أجمعين‪.‬‬

‫‪143‬‬


‫نساء فى حياة الرسول‬

‫ــــــــــــــــــــــــــــــــ هامش الفصل الرابع‬

‫عشر ــــــــــــــــــــــــــــــ السيد إبراهيم‬

‫)‪(1‬وقت الغزوة فيه خلف بين أهل العلم على أقوال فقيل رسنة رست قاله ابن ارسحاق وابن جرير‬ ‫وابن حزم وابن عبدالبر وابن العربي وابن الثير وابن خلدون‪.‬وقيل في شعبان رسنة أربع وقال به‬ ‫ابن حزم أيضا ومورسى ابن عقبه والبخاري وابن قتيبة والنووي وغيرهم‪.‬والقول الثالث ـ وهو‬ ‫أرجح ـ أنها في رسنة خمس وممن قال به ابن القيم وارسن رسعد والبلذري والذهبي وابن حجر وابن‬ ‫كثير وعامة المعاصرين‪ .‬انظر فقه الرسيرة ‪،334‬وصحيح الرسيرة ‪ 245‬وما بعدها‪.‬‬ ‫)‪ (2‬حرسن‪ ،‬رواه‪ :‬أبو داود‪ ،‬وأحمد‪ ،‬وابن جرير‪ ،‬وأبو يعلى‪ ،‬والحاكم‪ ،‬والبيهقي‪.‬‬ ‫)‪(3‬أخرجه الحاكم من طريق الواقدي عن حَزام بن هشام عن أبيه نحوه‪ ،‬والواقدي عن عروة‬ ‫)‪ (4‬الروض النف في تفرسير الرسيرة النبوية لبن هشام‪ ،‬الرسهيلي ص ‪.18،19‬‬

‫)‪ (5‬رسيرة ابن هشام ‪.4 / 246‬‬ ‫)‪ (6‬في ظلل القرآن ص ‪.3495‬‬ ‫)‪ (7‬حرسن‪ ،‬رواه‪ :‬أبو داود‪ ،‬وأحمد‪ ،‬وابن جرير‪ ،‬وأبو يعلى‪ ،‬والحاكم‪ ،‬والبيهقي‪.‬‬

‫‪144‬‬


‫)‪ (8‬رواه مرسلم ‪،‬كتاب الذكر والدعاء والتوبة والرستغفار‪ ،‬باب الترسبيح أول النهار وعند النوم )‬ ‫‪1151‬ح ‪.(2726‬‬

‫الفصل الخامس عشر‬

‫"أم المؤمنين صفية "الهارونية‬ ‫‪145‬‬


‫أقام رسول ا صلى ا عليه وسلم بالمدينة بعد عودته من الحديبية نحو‬ ‫الشهر وبعض الشهر ‪ ،‬بعد أن وقع مع قريش صلًحا أحد أهم بنوده أن‬ ‫لتقوم الحرب بين الطرفين عشر سنين‪ ،‬فوجد ـ صلى ا عليه وسلم ـ‬ ‫بثاقب فكره أن هذه الهدنة مناسبة تماًما لكي يهاجم القوى التي لم تزل‬ ‫تشكل خطًرا على السلم والمسلمين‪ ،‬ويمثل تلك القوى يهود خيبر والقباكئل‬ ‫الضاربة حولهم كبني غطفان‪.‬‬ ‫لم يكن هذا التفكير من جانب الرسول ـ صلى ا عليه وسلم ـ تفكيًرا‬ ‫عدوانًيا‪ ،‬وحًبا في سفك الدماء‪ ،‬وقتال المسالمين من الناس دون جريرة‪ ،‬أو‬ ‫لنه أراد قتال يهود خيبر لكونهم يهود يخالفونه العقيدة‪ ،‬وتأديب كفارغطفان‬ ‫لنهم لم يتبعوا الدين الجديد‪ ،‬إنما كان ذلك التفكير نتيجة لسبب أكبر أدى إلى‬ ‫هذه النتيجة‪ ،‬أل وهو تآمر يهود خيبر مع بعض زعماء بني النضير لجمع‬ ‫القباكئل العربية المختلفة لحرب المسلمين في المدينة المنورة‪ ،‬فيما ُعرف‬ ‫بغزوة الحزاب‪ ،‬باذلين المال لهم لجتثاث شأفة المسلمين عن بكرة أبيهم‪،‬‬ ‫‪146‬‬


‫وتدبير المحاولة تلو الخرى بالتضامن مع المنافقين لغتيال الرسول ـ صلى‬ ‫ا عليه وسلم ـ حتى يطفكئوا بذلك نور السلم إلى البد‪.‬‬ ‫إذن فلم يكن الرسول ـ صلى ا عليه وسلم ـ مبيتا ً النية لغزو خيبر لنه‬ ‫علم أن بينهم بنت سيد القوم امرأة جميلة ُتدعى "صفية" هو أحق بها من‬ ‫زوجها‪ ،‬فالرسول حتى بعد أن نصره ا بفضله على خيبر لم يكن يعرف من‬ ‫هّي صفية‪ ،‬بدللة إنه لما أ ُةِسَرت‪ ،‬وُجةِمَع السبي جاء ةِدْحَيُة بن خليفة الكلبي‪،‬‬ ‫فقال‪ :‬يا نبي ا‪ ،‬أعطني جارية من السبي‪ .‬فقال‪’’ :‬اذَهْب َفُخْذ َجاةِرَيًة”‪.‬‬ ‫فأخذ صفّية بنت حيي‪ ،‬فجاء رجل إلى النبي فقال‪ :‬يا نبي ا‪ ،‬أعطيَت ةِدْحَيَة‬ ‫صفية بنت حيي سّيَدَة قريظة وبني النضير‪ ،‬ل تصلح إّل لك‪ .‬قال‪’’ :‬اْدُعوهُ‬ ‫سْبيةِ َ‬ ‫غْيَرَها”)‬ ‫ةِبَها”‪ .‬فجاء بها‪ ،‬فلّما نظر إليها النبي قال‪ُ’’ :‬خْذ َجاةِرَيًة ةِمَن ال ّ‬ ‫‪.(1‬‬ ‫سا حديثة عهد بالدخول‪ ،‬فأمر‬ ‫وكانت ‪ -‬رضي ا عنها‪ -‬عرو ً‬ ‫النبي بللً أن يذهب بها في رحلة‪ ،‬فمّر بها وسط القتلى‪ ،‬فكره ذلك‬ ‫ت الّرْحَمُة ةِمْنَك َيا ةِبلل ُ؟”‪ .‬وعرض عليها‬ ‫رسول ا‪ ،‬وقال‪’’ :‬أَ​َذَهَب ةِ‬ ‫رسول ا السلم فأسلمْت‪ ،‬فاصطفاها لنفسه‪ ،‬وأعتقها وجعل عتقها‬ ‫صداقها‪.‬‬ ‫لم تكن صفية بعيدة عن الحداث التي تمر بها قبيلتها ول تلك التي‬ ‫تدور حولها‪ ،‬ولما ل فهى صفّية بنت ُحَيّي بن أخطب بن شعبة بن‬ ‫ثعلبة بن عبيد بن كعب بن الخزرج بن أبي حبيب بن النضير بن‬ ‫النحام بن تحوم من بني إسراكئيل من سبط هارون بن عمران‪ ،‬وأ ُّمها‬ ‫َبّرة بنت سموءل‪ ،‬سيدة بني قريظة والنضير‪ ،‬أبوها حيي بن أخطب‬ ‫زعيم اليهود‪ ،‬وعالم من علماكئهم‪ ،‬كان على ةِعْل ٍم بأن محمًدا نبّي‬ ‫مرسل من ةِقَبةِل ا منذ قدومه إلى المدينة‪ ،‬لكن أخذته النفة‬ ‫والعصبية لكون محمًدا من العرب ‪،‬وقد علمت صفية بيقين أن هذا‬ ‫الذي ظهر ببلد العرب هو النبي الحق الذي بشرت به الكتب‬ ‫السماوية‪ ،‬وذلك فيما ترويه قاكئلًة ‪" :‬لم يكن أحد من ولد أبي وعّمي‬ ‫ش إليهما إّل أخذاني‬ ‫أحّب إليهما مّني‪ ،‬لم ألقهما في ولد لهما قّط أه ّ‬ ‫دونه‪ ،‬فلّما قدم رسول ا ُقباء ‪ -‬قرية بني عمرو بن عوف‪ -‬غدا‬ ‫‪147‬‬


‫إليه أبي وعّمي أبو ياسر بن أخطب مغّلسين‪ ،‬فوا ما جاءانا إلّ مع‬ ‫مغيب الشمس‪ ،‬فجاءانا فاترين‪ ،‬كسلنين‪ ،‬ساقطين‪ ،‬يمشيان‬ ‫الهوينى‪ ،‬فهشش ُ‬ ‫ت إليهما كما كنت أصنع‪ ،‬فوا ما نظر إلّي واحٌد‬ ‫منهما‪ ،‬فسمعت عّمي أبا ياسر يقول لبي‪ :‬أهو هو؟ قال‪ :‬نعم‪ ،‬وا!‬ ‫صَفةِتةِه؟ قال‪ :‬نعم وا‪ .‬قال‪ :‬فماذا في نفسك منه؟‬ ‫قال‪ :‬تعرفه بَنْعةِتةِه َو ةِ‬ ‫قال‪ :‬عداوته وا ما َبةِقي ُ‬ ‫ت")‪.(2‬‬ ‫ويؤكد هذا إجابتها لرسول ا ـ صلى ا عليه وسلم ـ حين‬ ‫سألها بعد دخوله عليها لما رأى بأعلى عينها خضرة فقال‪’’ :‬ما هذه‬ ‫الخضرة؟ ’’ قالت‪ :‬كان رأسي في حجر بن أبي الحقيق ـ تعني‬ ‫زوجها‪ ،‬أي وهي عروس ـ وأنا ناكئمة‪ ،‬فرأي ُ‬ ‫ت كأن القمر وقع في‬ ‫حجري‪ ،‬فأخبرته بذلك‪ ،‬فلطمني وقال‪ :‬تتمني ملك يثرب")‪،(3‬تماًما‬ ‫مثلما رأت جويرية بنت الحارث‪ .‬وصفية في قصتها تتشابه في‬ ‫بعض تفاصيلها مع قصة جويرية‪.‬‬ ‫هل تستطيع العروس الشابة ذات السبعة عشر ربيًعا أن تنسى ما‬ ‫حل بأبيها وزوجها وقومها سريًعا؟‪ ..‬وهل يقبل المبعوث رحمة‬ ‫للعالمين ـ صلى ا عليه وسلم ـ أن يتمم زواجه منها وهي على‬ ‫هذه الحال من الحزن‪ ،‬والنفسية المتداعية‪ ،‬وكونها مازالت على‬ ‫يهوديتها‪ ،‬ويقبل أن يساكنها دون أن تعتد من زوجها السابق؟! ‪..‬‬ ‫تروي صفية أحداث ذلك اللقاء العاصف منها‪ ،‬ورد الفعل الحنون من‬ ‫النبي ـ صلى ا عليه وسلم ـ ‪":‬انتهيت إلى رسول ا وما من‬ ‫الناس أحد أكره إلّي منه قتل أبي وزوجي وقومي‪ ،‬فقال‪ :‬يا صفية‬ ‫أما إني أعتذر إليك مما صنعت بقومك‪ ،‬إنهم قالوا لي كذا وكذا‪،‬‬ ‫وقالوا فّي كذا وكذا‪ ،‬وفي رواية‪" :‬إن قومك صنعوا كذا وكذا‪ ،‬وما‬ ‫زال يعتذر إلّي حتى ذهب ذلك من نفسي‪ ،‬فما قمت من مقعدي ومن‬ ‫الناس أحد أحب إلّي منه"‪ ،‬بل قالت عنه ـ صلى ا عليه وسلم ـ‬ ‫ضا ‪" :‬ما رأي ُ‬ ‫ت قط أحسن خلًقا من رسول ا صلى ا عليه‬ ‫أي ً‬ ‫وسلم")‪.(4‬‬ ‫أعرس بها رسول ا ـ صلى ا عليه وسلم ـ بعد ما طهرت من‬ ‫‪148‬‬


‫الحيض في قبة وذلك إعمالً لقوله صلى ا عليه وسلم ‪’’:‬ول يحل‬ ‫لمرئ يؤمن بال واليوم الخر أن يقع على امرأة من السبي حتى‬ ‫يستبركئها’’)‪ ،(5‬ولهذا فقد دفعها لم سليم لتصلح من شأنها‪ ،‬وبات‬ ‫تلك الليلة أبو أيوب النصاري رضي ا تعالى متوشًحا سيفه‬ ‫يحرسه ويطوف بتلك القبة حتى أصبح رسول ا‪ ،‬فرأى مكان أبي‬ ‫أيوب‪ ،‬فقال‪’’ :‬مالك يا أبا أيوب؟’’‪ ،‬قال‪ :‬يا رسول ا خفت عليك‬ ‫من هذه المرأة‪ ،‬قتلت أباها وزوجها وقومها وهي حديثة عهد بكفر‪،‬‬ ‫فبت أحفظك‪ ،‬فقال‪’’ :‬اللهم احفظ أبا أيوب كما بات يحفظني’’‪.‬‬ ‫لم ُيكةِره الرسول صلى ا عليه وسلم أحًدا على الدخول في دين‬ ‫السلم وذلك كما علمه وأمره ربه عز وجل ‪،‬إل أن يكون عن قناعة‬ ‫منه‪ ،‬ولذا فقد سأل ـ صلى ا عليه وسلم ـ صفية عن ذلك‪ ،‬قاكئلً‬ ‫ت السلم أمسكُتك لنفسي ]أي‪ :‬تزّوجتك[‪،‬‬ ‫لها‪’’ :‬اختاري‪ ،‬فإن اختر ةِ‬ ‫وإن اخترت اليهودية فعسى أن أعتقةِك فتلحقي بقومك’’‪ ،‬فقالت‪" :‬يا‬ ‫ت السلم وصدق ُ‬ ‫رسول ا‪ ،‬لقد هوي ُ‬ ‫ت بك قبل أن تدعوني‪ ،‬حيث‬ ‫صر ُ‬ ‫ت إلى رحلك وما لي في اليهودية أرب‪ ،‬وما لي فيها والد ول‬ ‫أ خ‪ ،‬وخيرتني الكفر والسلم‪ ،‬فال ورسوله أحب إلّي من العتق وأن‬ ‫أرجع إلى قومي")‪.(6‬‬ ‫ماذا أحكي عن أمنا صفية ـ رضي ا عنها ـ التي اختارت السلم‬ ‫والرسول قبل أن ترى الرسول ـ صلى ا عليه وسلم ـ مما يدل على رجحان‬ ‫عقلها؟ ‪ ..‬أم أحكي عن صدقها‪ ،‬وحلمها؟‪ ،‬أم عن كرمها‪ ،‬وشجاعتها؟ ‪..‬أما‬ ‫إذا بدأت بصدقها فقد شهد لها به رسول ا ـ صلى ا عليه وسلم ـ وذلك‬ ‫حين سأل عاكئشة التى دخلت متنقبة على صفية لتراها بعد أن قدمت المدينة‬ ‫ونزلت في بيت الحارثة بن النعمان وتحدث نساء النصار عن جمالها ‪ ،‬فلما‬ ‫ت يا‬ ‫خرجت خرج النبي صلى ا عليه وسلم على أثرها‪ ،‬فقال ‪’’ :‬كيف رأي ةِ‬ ‫عاكئشة’’‪ ،‬قالت ‪ :‬رأي ُ‬ ‫ت يهودية‪ ،‬فقال ‪’’:‬ل تقولي ذلك‪ ..‬فإنها أسلمت وحسن‬ ‫إسلمها’’‪ ،‬كما شهد لها ًـ صلى ا عليه وسلم ـ بصدقها ثانية وهو في‬ ‫مرضه الخير‪ ،‬وذلك حين قالت‪ :‬وا يا نبي ا لودد ُ‬ ‫ت أن الذي بَك بي‪.‬‬ ‫ضَن ’’ ‪ ،‬قلن‪ :‬من أي شيء؟‪ ،‬قال‪:‬‬ ‫ضَم ْ‬ ‫فغمزها أزواجه فأبصرهّن‪ ،‬فقال‪َ ’’:‬م ْ‬ ‫’’من تغامزكن بها‪ ،‬وا إنها لصادقة’’)‪.(7‬‬ ‫‪149‬‬


‫إذن فقد شهد لها الرسول ـ صلى ا عليه وسلم ـ بصدق إيمانها ‪ ،‬وصدق‬ ‫عاطفتها نحوه ‪ ،‬أما ما يشهد بصدق صفية وحلمها مًعا فهو موقفها مع‬ ‫جاريتها التي أتت أمير المؤمنين عمر لتشي بها عنده‪ ,‬فقالت‪ :‬إن صفية‬ ‫تحب السبت وتصل اليهود‪ ،‬فبعث إليها فسألها عن ذلك‪ ،‬فقالت‪ :‬أما السبت‬ ‫فإني لم أحبه منذ أبدلني ا به الجمعة وأما اليهود فإن لي فيهم رحًما فأنا‬ ‫أصلها‪ .‬ثم قالت للجارية‪ :‬ما حملك على هذا؟‪ ،‬قالت‪ :‬الشيطان‪ ،‬قالت‪ :‬إذهبي‬ ‫فأنت حرة)‪.(8‬‬ ‫أما تلك العاطفة الجميلة النبيلة الصادقة التي نشأت بين صفية وزوجها‬ ‫رسول ا ـ صلى ا عليه وسلم ـ فل يكاد المرء يخطكئها حين يتلمسها فى‬ ‫أكثر من موضع‪ ،‬بل يكاد يجزم أنه يحس بدفء تلك المشاعر حين يقرأها‪،‬‬ ‫وذلك حين دخل عليها النبي ـ صلى ا عليه وسلم ـ وقد بلغها عن عاكئشة‬ ‫وحفصة أنهما قالتا ‪ :‬نحن أكرم على رسول ا منها نحن أزواجه وبنات‬ ‫عمه‪ ،‬فذكرت له ذلك‪ ،‬فقال‪’’:‬أل قلت وكيف تكونان خيًرا مني وزوجي‬ ‫محمد‪ ،‬وأبي هارون‪ ،‬وعمي موسى’’)‪ ..(9‬أي أن الرسول ل يهدأ خاطرها‬ ‫وحسب بل ينصرها على بنات أحب الناس إليه الصديق والفاروق‪ ،‬بل‬ ‫ويلقنها ما تقوله لهما إذا ما كررا قوليهما ‪ ..‬بل تشهد بسمو تلك العاطفة‬ ‫الحارة في نصرته لصفية على زينب بنت جحش بنت عمته إلى الحد الذى‬ ‫يقاطعها ما يقارب الثلثة أشهر وذلك حين حج ـ صلى ا عليه وسلم ـ‬ ‫بنساكئه‪ ،‬فبرك بصفية جملها فبكت وجاء رسول ا لما أخبروه‪ ،‬فجعل يمسح‬ ‫دموعها بيده‪ ،‬وهى تبكي‪ ،‬وهو ينهاها فنزل رسول ا بالناس‪ ،‬فلما كان‬ ‫عند الّرَواةِ ح‪ ،‬قال لزينب بنت جحش‪’’ :‬أَْفةِقةِري ]أى‪ :‬أعطى[ أ ُْخَتةِك صفية‬ ‫َجَملً’’ – و كانت من أكثرنساكئه ظهًرا ـ فقالت‪ :‬أَ​َنا أ ُْفةِقُر َيُهْوةِدّيَتَك‪ .‬فغضب‬ ‫رسول ا صلى ا عليه وسلم حين سمع ذلك منها‪ ،‬فهجرها‪ ،‬فلم ُيكّلْمها‬ ‫حتى قدم مكة وأيام ةِمنى من سفره حتى رجع إلى المدينة والمحّرم وصفر‪،‬‬ ‫سْت منه‪ ،‬فلّما كان شهر ربيع الول دخل عليها‬ ‫فلم يأتها ولم يقسم لها‪ ،‬فأ َةِي َ‬ ‫رسول ا صلى ا عليه وسلم‪ ،‬فرأت ظّله‪ ،‬فقالت‪ :‬إن هذا الظلّ ظل ّ رجل‪،‬‬ ‫وما يدخل عَلّي النبي صلى ا وسلم‪ ،‬فلما رأته قالت ‪ :‬رسول ا‪ ،‬ما أدري‬ ‫ما أصنع حين دخلَت عَلّي‪ .‬وكانت لها جارية تخّبكئها من رسول ا صلى ا‬ ‫عليه وسلم ‪ ،‬فقالت‪ :‬فلنة لَك)‪.(10‬‬ ‫‪150‬‬


‫وفي حديث متصل بنفس الواقعة السابقة أن الرسول ـ صلى ا عليه‬ ‫وسلم ـ لّما أخذ يكفكف دمع صفية عندما برك جملها ولم تنتةِه فزجرها‬ ‫وانتهرها وأمر الناس بالنزول فنزلوا ولم يكن ينوى نزوًل‪ ،‬وخشيْت على‬ ‫رسول ا أن يكون قد غضب عليها‪ ،‬وقد كان هذا يومها من رسول ا ـ‬ ‫صلى ا عليه وسلم ـ فتركته لعاكئشة راجيًة منها أن تجعله ـ صلى ا عليه‬ ‫وسلم ـ ليرضى عنها ‪ ..‬وذلك لمحبتها له‪ ،‬وخوفها من غضبه عليها‪.‬‬ ‫وتحكي اليام شجاعتها وشهامتها حين وقفت ترد بنفسها الثوارعن‬ ‫عثمان بن عفان أمير المؤمنين إلى أن أصابوا بغلتها‪ ،‬ولم تكف برغم هذا‬ ‫عن مؤازرته حين وضعْت خشًبا من منزلها إلى منزله لتنقل عليه الماء‬ ‫والطعام إليه بعد أن حاصروه ومنعوه عنه)‪.(11‬‬ ‫تحكى كتب السيرة عن كرم وسخاوة نفس أمنا صفية حين أهدت الزهراء‬ ‫فاطمة بنت محمد ـ صلى ا عليه وسلم ـ وبعض أخواتها من أمهات‬ ‫المؤمنين حلقات من ذهب كانت لها‪ ،‬وما أرادت أن تترك الدنيا ولها فيها أو‬ ‫منها شيء فتصدقت بثمن دارها قبيل وفاتها‪ ،‬فهكذا تعلمت من زهده ـ صلى‬ ‫ا عليه وسلم ـ الزاهد القادر)‪.(12‬‬ ‫أما الحكمة الكامنة في زواجه ـ صلى ا عليه وسلم ـ من صفية غير‬ ‫جمالها‪ ،‬كونه أراد أن يرسي في أتباعه من المؤمنين مباديء الرحمة‪ ،‬وقيم‬ ‫التسامح؛ فصفية التي أتت من بيت نبوة‪ ،‬وعلم‪ ،‬ودين سماوي سابق‪ ،‬لما‬ ‫تكشفت لها الحقاكئق عفت‪ ،‬وصفحت‪ ،‬وتسامت عن الحقاد‪ ،‬فسهل التواصل‬ ‫بينها وبين نبي آخر الزمان‪ ،‬كما أن الصل فى السلم أن يتزوج الرجل‬ ‫المرأة لدينها‪ ،‬فإذا كانت ذات جمال وخلق كان ذلك نعمة كبيرة‪ ،‬ول يعد هذا‬ ‫مطعًنا في شخص وسيرة الرسول صلى ا عليه وسلم‪.‬‬ ‫توفيت ـ رضي ا عنها ـ في رمضان سنة خمسين من الهجرة ‪ -‬في‬ ‫خلفة معاوية بن أبى سفيان رضي ا عنهما‪ -‬ودفنت بالبقيع بجوار أمهات‬ ‫المؤمنين‪ ،‬رضوان ّ‬ ‫ا عليهن أجمعين‪.‬‬

‫‪151‬‬


‫نساء فى حياة الرسول‬

‫ــــــــــــــــــــــــــــــــ هامش الفصل الخامس‬

‫عشر ــــــــــــــــــــــــــــ السيد إبراهيم‬

‫)‪ (1‬البخاري‪ :‬أبواب الصلة في الثياب‪ ،‬باب ما يذكر في الفخذ )‪.(364‬‬ ‫)‪(2‬ابن إسحاق في السيرة والبيهقي في "دللئل النبوة" ‪.‬‬ ‫)‪(3‬ابن القيم‪ :‬زاد المعاد ‪ ،3/291‬والمباركفوري‪ :‬الرحيق المختوم ص ‪.325‬‬ ‫)‪(4‬أنظر الطبراني في المعجم الوسط وأبو يعلى في مصنفه‪.‬‬ ‫)‪ (5‬حديث مرفوع ‪ ،‬السنن الكبرى للبيهقي‪.‬‬ ‫)‪(6‬الطبقات الكبرى ‪.7 / 123‬‬ ‫)‪(7‬ابن رسعد‪ :‬الطبقات الكبرى ‪ ،2/313‬وابن حجر‪ :‬الصابة في تمييز الصحابة ‪،7/741‬‬ ‫والذهبي‪ :‬رسير أعلم النبلء ‪.2/235‬‬ ‫)‪ (8‬ابن عبد البر‪ ،‬في الرستيعاب في معرفة الصحاب ص ‪.917‬‬ ‫)‪(9‬رواه الترمذي برسند صحيح )التاج الجامع ‪.(3 / 385‬‬ ‫)‪(10‬الصالحي الشامي‪ :‬رسبل الهدى والرشاد ‪.9/67‬‬

‫‪152‬‬


‫)‪(11‬ابن رسعد‪ :‬الطبقات الكبرى ‪ ،8/128‬والذهبي‪ :‬رسير أعلم النبلء ‪.2/237‬‬ ‫)‪(12‬الطبقات الكبرى ‪ ،7 / 127‬الصابة ‪.4 / 347‬‬

‫الفصل السادس عشر‬

‫أم حبيبة زوج الحبيب‬ ‫صلى ا عليه وسلم‬ ‫‪153‬‬


‫لم تكن بنت أبي سفيان؛ صخر بن حرب بن أمية بن عبد شــمس بــن عبــد‬ ‫مناف الموّية‪ ،‬بعيدة عن أحداث مكة وما يدور فيهــا عــن ظهــور نــبي يــدعو‬ ‫لدين جديد‪ ،‬بل كانت مهيأة لذلك تماًما؛ فزوجها عبيد ا بن جحــش الســدي‬ ‫كــان مــن الــذين ينكــرون وثنيــة قــومه‪ ،‬وخــرج عليهــم مــن قبــل حيــن اتخــذ‬ ‫المسيحية ديًنا‪ ،‬كما أنه ابن عمة نبي ذلك الـدين الجديـد‪ ،‬وليـس ببعيـ ٍد عنهـا‬ ‫والدها رأس الكفر الذي يشن على محمد بــن عبــدا الحــرب الضــروس مــن‬ ‫أجل اثناءه عن دعوته تلك التى فرقت قومهم‪ ،‬وجرأت العبيد عليهــم‪ ،‬وتهــدد‬ ‫مكة كلها وما حولها بتجارتها وآلهتها ومكانتهابين العرب وغيرهم‪.‬‬ ‫خاطرت حين أسلمت رملة مع زوجها في دار الرقم بن أبي الرقم فقد كــان‬ ‫الذي سينتظرها من غضب عليها شديد نظًرا لمكانتها ومكانة أبيها‪ ،‬فلم يكــن‬ ‫بـًدا بعــد اشــتداد الذى إل الهجــرة‪ ..‬هــاجرْت رملــة الــتي أصــبحت كنيتهــا)أّم‬ ‫حبيبة( مع زوجها عبيد ا بن جحش إلى أرض الحبشة في الهجــرة الثانيــة‬ ‫وهى حامل فولدت ابنتها "حبيبة" هناك‪ ،‬تاركًة خلفها رغــد العيــش‪ ،‬والعــزة‬ ‫والمنعـة‪ ،‬لتخـرج إلــى بلد ل تعـرف عنهـا شـيًكئا‪ ،‬يفصــل البحــر بينهــا وبيــن‬ ‫موطنها وهّي التى لم تعتد ركوبه‪ ،‬راضــية بكــل هــذا فــي ســبيل دينهــا‪ ،‬الــذي‬ ‫رأت كل تضحياتها في سبيله تهون‪.‬‬

‫‪154‬‬


‫لم تصفو اليام لها في غربتها؛ فزوجها تتبدل أحواله أمامها إلى السوء‪،‬‬ ‫وتحذره مغبة الخاتمة‪ ،‬ولكنه يتمادى وينهرها مكذًبا صدق إحساسها فيما‬ ‫ترى‪ ،‬إلى أن خلدت للنوم ذات ليلة فتهاجمها رؤيا أفزعتها رأت فيها كأن‬ ‫عبيد ا بن جحش بأسوأ صور ٍة وأشوهه‪ ،‬ففزعت‪ ،‬وقالت تحدث نفسها‪:‬‬ ‫)تغّيَرْت وا حالُه(‪.‬‬ ‫ما كاد الصبح يعلن عن دخول الحبشة في يو ٍم جديد من أيام ا حتى‬ ‫فاجأها عبيد ا بما لم تتوقعه‪ ،‬فكل ما حسبته من أمره فقط هو تغير في‬ ‫أخلقه ليمكن أن يقوده أبًدا إلى ترك عقيدته‪ ،‬فقال يخاطبها‪ :‬يا أّم حبيبة‪،‬‬ ‫ت قد ةِدْن ُ‬ ‫إني نظرت في الدين فلم أَ​َر ديًنا خيًرا من النصرانّية‪ ،‬وكن ُ‬ ‫ت بها ثم‬ ‫دخلت في دين محمد‪ ،‬ثم رجعت في النصرانّية‪ ،‬فقالت وهّى تنتفض من هول‬ ‫ماسمعت ‪" :‬وا ما ةِخيَر لَك")‪ ،(1‬ولكي تثنيه عن عزمه أخبرته برؤياها‬ ‫التي رأتها‪ ،‬فلم يحفلْ بها‪ ،‬حتى مات أخيًرا بعد أن انصرف في أيامه التى‬ ‫سبقت حتفه مقيًما على الخمر يمل بها جوفه ليل نهار‪ ،‬ومن قالوا أنه مات‬ ‫دون أن يفارق دينه )‪.(2‬‬ ‫هكذا انتهى الحال بأم حبيبة امرأة تركت وطنها لبل ٍد جديد عليها‪ ،‬وفارقت‬ ‫ضا‪ ،‬تواجه الدنيا وحيدة بل زوج‪ ،‬وأهل تدرك‬ ‫دين آباكئها لدين جديد عليها أي ً‬ ‫تماًما مدى ما ستلقي منهم من شماتة وسخرية إذا ما عادت وتلقت‬ ‫الوجوه‪ ،‬وكيف لها أن تعود؟‪ ..‬إنها في موقف صعب ‪ ..‬صعب جًدا؛ فقد‬ ‫أصبحت في المنطقة الخطر بحيث ل تستطيع أن تتقدم خطوة أو تتأخر‬ ‫مثلها‪ ،‬فمن ذا الذي سينقذها من تلك المحنة القاسية التي لم تحسب لها‬ ‫حساًبا من قبل؟‬ ‫لم يكن ـ صلى ا عليه وسلم ـ بعيًدا عنها آنذاك‪ ،‬فقد كان وهو يهاجر‬ ‫إلى المدينة التي أراد أن يتخذها موطًنا جديًدا بديلً للمسلمين‪ ،‬يتحسس‬ ‫ضا بالحبشة‪ ،‬فما كادت تنقضي عدتها حتى بعث‬ ‫أخبار أتباعه بمكة وأي ً‬ ‫ب إلى‬ ‫رسول ا ـ صلى ا عليه وسلم ـ عمر بن أمية الضمري بكتا ٍ‬ ‫النجاشي فى المحرم من العام السابع الهجري ليخطب عليه أم حبيبة‪.‬‬ ‫‪155‬‬


‫رأت أّم حبيبة في منامها كأّن آتًيا يقول‪ :‬يا أّم المؤمنين‪ .‬ففةِزْع ُ‬ ‫ت فأّولتها أن‬ ‫رسول ا يتزّوجها‪ ،‬ولم تشعر إلّ برسول النجاشي على بابها يستأذن‪ ،‬فإذا‬ ‫جارية له يقال لها أبرهة كانت تقوم على ثيابه ودهنه‪ ،‬فدخَلْت عَليها‪ ،‬قاكئلًة‪:‬‬ ‫إن الَملةَِك يقول لةِك‪ :‬إن رسول ا كتب إَلّي أن أ َُزّوَجكه‪،‬فقالت لها أم حبيبة‪:‬‬ ‫ب ّ‬ ‫شرةِك ا بخير‪ ،‬فقالت لها أبرهة‪ :‬يقول لك الملك وّكلي َمْن ُيَزّوجك‪.‬‬ ‫أرسلْت أم حبيبة من فورها إلى خالَد بن سعيد بن العاص‪ ،‬فوّكَلْته ‪،‬‬ ‫وأعطْت أبرهة سوارْين من فضة وَخَدمَتين ]خلخالين[ كانتا في رجليها‪،‬‬ ‫وخواتيم فضة كانت في أصابع رجليها سروًرا بما ب ّ‬ ‫شرتها به‪.‬‬ ‫فلّما كان العشّي أمر النجاشي جعفر بن أبي طالب وَمْن هناك ةِمن المسلمين‬ ‫فحضروا‪ ،‬فخطب النجاشي فقال‪ :‬الحمد ل الملك القدوس السلم المؤمن‬ ‫المهيمن العزيز الجبار‪ ،‬أشهد أْن ل إله إلّ ا وأّن محمًدا عبده ورسوله‪،‬‬ ‫وأنه الذي ب ّ‬ ‫شر به عيسى بن مريم؛ أّما بعد‪ :‬فإن رسول ا صلى ا عليه‬ ‫وسلم كتب إَلّي أن أزوجه أّم حبيبة بنت أبي سفيان‪ ،‬فأجب ُ‬ ‫ت إلى ما دعا إليه‬ ‫رسول ا صلى ا عليه وسلم وقد أصدْقُتها أربعماكئة دينار‪ .‬ثم سكب‬ ‫الدنانير بين يدي القوم‪ .‬ثم قام خالد بن سعيد متكلًما‪ ،‬فقال‪ :‬الحمد ل‪ ،‬أحمده‬ ‫وأستعينه وأستنصره‪ ،‬وأشهد أْن ل إله إلّ ا وحده ل شريك له‪ ،‬وأشهد أّن‬ ‫محمًدا عبده ورسوله‪ ،‬أرسله بالهدى ودين الحّق؛ لُيظهره على الدين كله‪،‬‬ ‫ولو كره المشركون‪ .‬أّما بعد‪ ،‬فقد أجب ُ‬ ‫ت إلى ما دعا إليه رسول ا صلى ا‬ ‫عليه وسلم وزّوجته أّم حبيبة بنت أبي سفيان‪ ،‬فبارك ا لرسوله صلى ا‬ ‫عليه وسلم ودفع الدنانير إلى خالد بن سعيد بن العاص فقبضها باعتبار‬ ‫سّنة النبياء إذا‬ ‫وكيل الزوجة‪ ،‬ثم أرادوا أن يقوموا فقال‪ :‬اجلسوا؛ فإن ُ‬ ‫تزّوجوا أن ُيؤكل طعاٌم على التزويج‪ .‬فدعا بطعام وأكلوا‪ ،‬ثم تفّرقوا‪.‬‬ ‫لم يتزوج رسول ا ـ صلى ا عليــه وســلم ــ إل الُمحســنات مــن النســاء‬ ‫المحبــات للتصــدق‪ ،‬وهكــذا كــانت أم حبيبــة فمــا أن وصــل إليهــا المــال حــتى‬ ‫أرسلت إلى أبرهة التي بشرتها‪ ،‬فقالت لها‪" :‬إّني كنـ ُ‬ ‫ت أعطيُتــك مــا أعطيُتــك‬ ‫يومكئ ٍذ ول مـال بيـدي‪ ،‬فهـذه خمســون مثقـاًل‪ ،‬فُخـذيها فاسـتعيني بهـا‪ .‬فـأبْت‬ ‫أبرهة وأخرجْت ُحًّقا فيه كل ما كانت أعطته لها أم حبيبة فردته لها‪ ،‬وقــالت‪:‬‬ ‫‪156‬‬


‫عزم علّي الملك أن ل أَْرَزأَةِك شيًكئا ]أى ل أنقص من مالــك شــيًكئا[‪ ،‬وأنــا الــتي‬ ‫أقوم على ثيابه ودهنه‪ ،‬وقــد اتبعـ ُ‬ ‫ت ديــن محمــد رســول اـ صــلى اـ عليــه‬ ‫وسلم ‪ ،‬وأسلم ُ‬ ‫ت ل عزوجل‪ ،‬فحاجتي إليك أن تقركئي على رســول ا ـ صــلى‬ ‫ا عليه وسلم مني السلم‪ ،‬وُتعلميه أّني قد اّتبع ُ‬ ‫ت دينه‪ .‬قالت‪ :‬ثم لطفـْت بــي‬ ‫سْي حاجتي إليك"‪.‬‬ ‫وكانت التي َجّهزتني‪ ،‬وكانت كّلما دخلت عَلّي تقول‪ :‬ل تن َ‬ ‫عادت أم المؤمنين رملة مع الذين عادوا مــع جعفــر بــن أبــي طــالب‪ ،‬عقــب‬ ‫س‪ ،‬وعنــبر‬ ‫فتح النبي لخيبر‪ ،‬ومعها هدايا زوجات النجاشى مــن الُعــو ٍد‪ ،‬وَوَر ٍ‬ ‫وزّبــا ٍد الكــثير‪ ،‬فَق ـةِدْم ُ‬ ‫ت بــذلك كّلــه علــى رســول ا ـ صــلى ا ـ عليــه وســلم‬ ‫ســم‪ ،‬وأقرْأتــه منهــا الســلم‪،‬‬ ‫‪،‬وأخبرته بأمر خطبتها وما فعَلْت بها أبرهة‪ ،‬فتب ّ‬ ‫ا َوَبَرَكاُتُه‪ ،‬ثم أنزلها ـ صلى ا عليه وســلم‬ ‫سلُم َوَرْحَمُة ةِ‬ ‫فقال‪َ" :‬وَعَلْيَها ال ّ‬ ‫ـ إحدى حجراته بجوار زوجاته الخريات‪ ،‬واحتفــل نســاء المدينــة بــدخول أم‬ ‫حبيبة بنت سفيان بيت رســول اـ صــلى اـ عليــه وســلم‪ ،‬وقــد أوَلــم خالهــا‬ ‫عثمان بن عفان وليمة حافلة نحر فيها الذباكئح‪ ،‬وأطعم الناس اللحم‪.‬‬ ‫وصل نبأ زواج النبى ـ صلى اـ عليــه وســلم ــ إلــى بطاكئــح مكــة وديارهــا‪،‬‬ ‫فخرج أبو سفيان مبتهًجا معجبا بصنيع محمــد قــاكئلً ‪" :‬هــذا الفحــل ل يجــدع‬ ‫ضــا‬ ‫أنفه" ‪ ..‬فهو زواج أضفى على محمد كل إكبار وإجلل بعــد أن كــان معر ً‬ ‫للسخرية لما فعله ابن عمته من الرتداد‪ ،‬وكــان أكــبر الجلل مــا شــعرت بــه‬ ‫هذه الزوجة البية ‪ ..‬فقد كان زواج نخوة ‪ ..‬وزواج كياسة ‪ ..‬وزواج حمايــة‬ ‫لسمعة الدعوة‪ ،‬زواج تم ’’على بياض’’ في أرض بعيدة‪ ،‬ول أحد يــدري هــل‬ ‫يكتب للغاكئب العودة مع ساكئر الغــاكئبين‪ ،‬أم يكــون اللقــاء فــي رحــاب اـ يــوم‬ ‫يبعثون‪ ،‬زواج يمكن أن يقال في بــواعثه أي شــيء إل أنــه زواج شــهوة‪ ،‬أو‬ ‫قضاء نـزوة ‪ ..‬هــذا مجمــل مــا حكــم بــه الــدكتور نظمــي لوقــا)‪ ،(3‬المســيحي‬ ‫العقيدة‪ ،‬وهّي في مجملها شهادة ليحتاجها رسول ا ـ صلى ا عليه وسلم‬ ‫ـ بل يحتاجها كل من يرجفون حول السيرة النبوية المطهرة‪.‬‬ ‫وبعد زواجها من رسول ا صلى ا عليه وسلم ظّلْت مخلصًة له ولدينه‬ ‫ولبيته؛ فُيروى أّن أبا سفيان بن حرب والدها قد جاء من مكة إلى المدينة‬ ‫طالًبا أن َيُمّد النبي ـ صلى ا عليه وسلم ـ هدنة الحرب التي ُعقدت في‬ ‫الحديبية‪ ،‬فلم يقبل رسول ا ـ صلى ا عليه وسلم ـ فجاء إلى ابنته أّم‬ ‫‪157‬‬


‫حبيبة‪ ،‬فأراد أن يجلس على فراش رسول ا ـ صلى ا عليه وسلم‬ ‫ـ فطوته دونه‪ ،‬فقال‪ :‬يا ُبَنّية‪ ،‬أرغبت بهذا الفراش عني‪ ،‬أو بي عنه؟ قالت‪:‬‬ ‫بل هو فراش رسول ا وأنت امرؤ مشرك نجس‪ ،‬فلم أحب أن تجلس على‬ ‫فراش رسول ا صلى ا عليه وسلم قال‪ :‬يا ُبَنّية‪ ،‬لقد أصابك بعدي شّر‪.‬‬ ‫ت ‪ -‬سّيد قريش وكبيرها‪ ،‬كيف‬ ‫فقالت‪ :‬بل هداني ا للسلم‪ ،‬وأنت ‪ -‬يا أب ةِ‬ ‫يسقط عنك الدخول في السلم‪ ،‬وأنت تعبد حجًرا ل يسمع ول يبصر؟! فقام‬ ‫من عندها ‪ ..‬غير أنها فرحت أيما فر ح بعد ذلك في فتح مكة حين أعلن أبو‬ ‫سفيان اسلمه‪ ،‬وجعل النبى ـ صلى ا عليه وسلم ـ بيته أماًنا لمن دخله‪.‬‬ ‫تبقى سيرة أمنا أم حبيبة ـ رضوان ا عليها ـ سيرة مجدولة بكل‬ ‫عناصر التضحية‪ ،‬والجهاد‪ ،‬واليثار‪ ،‬والغدر‪ ،‬والوفاء‪ ،‬والحب‪ ،‬والذي يفر ح‬ ‫من النصارى بارتداد عبيد ا بن جحش ـ إن صحت ـ فعليه أن يتعظ ويغتم‬ ‫بسيرة إيمان ملك من ملوك الحبشة بالسلم‪ ،‬ومن يفر ح بكره وحرب بعض‬ ‫قريش للرسول ـ صلى ا عليه وسلم ـ وفيهم بعض أهله‪ ،‬عليه أن يتأمل‬ ‫حب جارية النجاشي له‪.‬‬ ‫تمضي الحياة على عجل وما أسرع اليام كما يقولون ‪ ..‬ويتوفى الرسول‬ ‫ـ صلى ا عليه وسلم ـ لتعيش بعده بسنوات أم حبيبة التي تحس ببوادر‬ ‫الرحيل للحاق به‪ ،‬فأرسلت إلى عاكئشة ‪ -‬رضي ا عنهما‪ -‬لتستسمحها‬ ‫قاكئلة‪" :‬قد كان يكون بيننا ما يكون بين الضراكئر‪ ،‬فغفر ا لي ولةِك ما كان‬ ‫من ذلك"‪ ،‬فتجاوبها عاكئشة بنفس الخلق المحمدية التى ورثاها‪" :‬غفر ا‬ ‫لةِك ذلك كله‪ ،‬وتجاوز وحّلَلةِك من ذلك"‪ ،‬فقالت أم حبيبة‪" :‬سررتني سّرك‬ ‫ا"‪ .‬ثم أرسلت إلى أّم سلمة‪ ،‬فقالت لها مثل ذلك ‪ ..‬ثم غادرت الحياة‬ ‫مرضًيا عنها وعن ساكئر أزواج النبى الطاهرات ‪ ..‬أمهات المؤمنين‪ ،‬في سنة‬ ‫أرب ٍع وأربعين من الهجرة في خلفة أخيها معاوية بن أبى سفيان‪ ،‬على أصح‬ ‫القوال ‪..‬‬

‫‪158‬‬


‫نساء فى حياة الرسول‬

‫ـــــــــــــــــــــــــــــــ هامش الفصل الرسادس‬

‫عشر ــــــــــــــــــــــــــــــ السيد إبراهيم‬

‫)‪ (1‬رسير أعلم النبلء )‪ ،(2/221‬طبقات ابن رسعد )‪.)8/97‬‬ ‫)‪ (2‬أن قصة ردة عبيد ا بن جحش لم تثبت حيث لم ِنُترَو برسند صحيح متصل‪ ،‬بل أن الروايات‬ ‫الصحيحة في زواجه ‪ -‬صلى ا عليه ورسلم ‪ -‬بأم حبيبة لم تذكر ردة زوجها الرسابق‪ ،‬أنظر كتاب‪ :‬ما‬ ‫شاع ولم يثبت في الرسيرة النبوية‪ ،‬ص ‪ 38‬ـ ‪.43‬‬ ‫)‪ (3‬نظمي لوقا‪ :‬كتاب‪:‬محمد في حياته الخاصة‪ ،‬ص ‪.103‬‬

‫‪159‬‬


‫الفصل السابع عشر‬

‫آخر أمهات المؤمنين وأتقاهن‬

‫‪160‬‬


‫أهلّ ذو القعدة من العام السابع الهجري على المسلمين وهم في شوق‬ ‫لقدومه السعيد‪ ،‬ولما ل فقد جاء بعد عام مضى على توقيع صلح الحديبية‬ ‫بين المسلمين ومشركي مكة‪ ،‬وفيه نص بأن يعود المسلمون في عام قابل‬ ‫ويدخلوا مكة ليمكثوا بها ثلثة أيام ليزيدون عليها‪ ،‬فهاهو الرسول ـ صلى‬ ‫ا عليه وسلم ـ يأمر أصحابه بالعتمار ممن شهد معه الحديبية فكان‬ ‫تعدادهم ألفين رجل بدون النساء والصبيان وممن استشهدوا‪ ،‬وساق ستين‬ ‫بدنة‪ ،‬كما تقلد سلحه مخافة الغدر من قريش‪.‬‬ ‫كان هذا المشهد فى المدينة أما في مكة فقد خرج المشركون إلى جبل‬ ‫قَُعيْقَعان يرقبون دخول المسلمين يتقدم موكبهم المهيب الرسول ـ صلى ا‬ ‫عليه وسلم ـ راكًبا ناقته القصواء وعبدا بن رواحة بين يديه يقول‬ ‫الشعرمتوشًحا سيفه ‪:‬‬ ‫َخّلوا بني الكفار عن سبيله‬

‫خلوا فكل الخير في رسوله‬

‫أخذ النبهار بمرأى ومسمع ولب وقلب َبّرة بنت الحارث بن َحْزن‬ ‫الهللية‪ ،‬وهي تشاهد عن قرب الرجل الذي سبقتها أختها لمها زينب بنت‬ ‫خزيمة بالزواج منه‪ ،‬وأمنية القتران به تتردد في جنبات فؤادها ينقلها‬ ‫لسانها دعوات دامعات صادقات تمر فوق رأس ذلك الطاهر الطاكئف بالكعبة‬ ‫ملبًيا ثم تصعد إلى رب السماء حارة ساخنة أسخن وأحر من حر مكة‪.‬‬ ‫‪161‬‬


‫تهرع َبّرة عجلى إلى بيت أختها لبويها أم الفضل لبابة الكبرى لتحكي‬ ‫سُر إليها على استحياء برغبتها الكامنة العارمة‪،‬‬ ‫لها جلل ما شهدت‪ ،‬ثم ت ّ‬ ‫فتشفق عليها أختها التي هرعت هّي الخرى إلى زوجها وعم الرسول ـ‬ ‫صلى ا عليه وسلم ـ العباس بن عبد المطلب الذي خف للقاكئه بالجحفة‬ ‫ودار بينهما مادار من حديث عن َبّرة وعن سنوات عمرها السادسة‬ ‫والعشرين‪ ،‬وعن فراقها من زوجها الول مسعود بن عمرو بن عمير‬ ‫الثقفي الذي تزوجها في الجاهلية‪ ،‬ثم ترملها من أبي رهم بن عبد العزي‬ ‫العامري‪.‬‬ ‫لم تكن َبّرة بالغريبة عن رسول ا ـ صلى ا عليه وسلم ـ فهّي وثلث‬ ‫من أخواتها من قال فيهن‪’’ :‬الخوات المؤمنات’’‪ ،‬وذلك فيما رواه ابن‬ ‫ت ُمْؤةِمَنا ٌ‬ ‫عباس عنه صلى ا عليه وسلم أنه َقالَ ‪’’:‬الَ​َخَوا ُ‬ ‫ج‬ ‫ت ‪َ :‬مْيُموَنُة َزْو ُ‬ ‫صّلى ّ‬ ‫ضةِل ةِبْن ُ‬ ‫ث‪َ ،‬وأ ُْخُتَها‬ ‫ت اْلَحاةِر ةِ‬ ‫سّلَم‪َ ،‬وأ ُْخُتَها أ ُّم اْلَف ْ‬ ‫اُ َعَلْيةِه َوآَلةِةِه َو َ‬ ‫الّنةِبّي َ‬ ‫ث اْمَرأَُة َحْمَزةِة‪َ ،‬وأَْسَماُء ةِبْن ُ‬ ‫سْلَمى ةِبْن ُ‬ ‫هّن’’)‪،(1‬‬ ‫ت اْلَحاةِر ةِ‬ ‫َ‬ ‫س أ ُْخُتُهّن ل ُّم ةِ‬ ‫ت ُعَمْي ٍ‬ ‫كما أن أختها لمها السيدة زينب بنت خزيمة ـ رضّي ا عنها ـ ضمها بيت‬ ‫النبوة زوًجا كريًما للرسول ـ صلى ا عليه وسلم ـ ‪ ،‬فوافق على زواجه‬ ‫منها‪ ،‬وأصدقها)‪ ،(2‬وكان قد بعث ابن عمه جعفًرا‪ -‬زوج أختها لمها أسماء‬ ‫بنت عميس‪ -‬يخطبها‪ ،‬فلما جاءها الخاطب بالبشرى ‪ -‬وكانت على بعير‪-‬‬ ‫قالت‪ :‬البعير وماعليه لرسول ّ‬ ‫ا‪ ،‬وجعلت العباس وليها في أمر الزواج)‪.(3‬‬

‫‪162‬‬


‫كان بعيرها هدية منها لرسول ا ـ صلى ا عليه‬ ‫وسلم ـ الذي حقق أمنيتها‪ ،‬وهي التي تعلم أنه إنما‬ ‫أنعم عليها بمثل هذه الزيجة رغم نصيبها الفقير من‬ ‫الجمال‪ ،‬وعمرها الذي شارف على الدخول في مدار‬ ‫العقد الثلثيني‪ ،‬من دواعي البر وحسن الصلة وإكرام عشيرتها‬ ‫الذين آزروه ونصروه ‪ ،‬غير أنها لم تكن من الواهبات أنفسهن‬ ‫لرسول ا ـ صلى ا عليه وسلم ـ ؛ فالواهبة ل تقبض‬ ‫مه ًرا‪ ،‬بينما أمهرها صلى ا عليه وسلم أربعماكئة درهم‪ ،‬وقيل‬ ‫بخمسماكئة درهم ‪ ،‬والمحفوظ أنه لم يدخل بأحد من الواهبات‪ ،‬وإنما هي فقد‬ ‫دخل بها صلى ا عليه وسلم‪.‬‬ ‫شارفت اليام الثلثة على النتهاء ولم تكد عين رسول ا ـ صلى ا‬ ‫عليه وسلم ـ وقلبه يشبعان من مكة موطنه خير أرض ا وأحب بلد ا‬ ‫إلى ا الذى شهد ميلده‪ ،‬وشب فيه صبًيا‪ ،‬وتزوج فيه وأنجب‪ ،‬ونزلت عليه‬ ‫الرسالة في قمة من قمم جباله الشاهقات الشوامخ‪ ،‬وضم ترابه رفات زوجه‬ ‫الولى وبعض بنيه‪ ،‬فكيف بال تكفيه سويعات من عمر الزمن هّي بمثابة‬ ‫قطرات ل تروي ظمأ هذا المهاجر عن دياره قرابة السبعة أعوام‪ ،‬ولم يكن‬ ‫ضا مثله‬ ‫هذا حاله وحده بل حال أصحابه‪ ،‬وهو الذي يدرك مدى حبهم أي ً‬ ‫لمكة ولبيتها الحرام‪ ،‬فلم يجد إل مناسبة زواجه من َبّرة ليعرس بها بين‬ ‫أهلها‪ ،‬عسى أن تطول مدة القامة ويلتقى القرشيون والمسلمون فتكون‬ ‫مدعاة لكسر الحاجز النفسي بين الجانبين‪ ،‬ومحاولة للتقارب‪ ،‬وفرصة‬ ‫للمهاجرين في ةِري ظمأ شوقهم للوطن والهل‪ ،‬غير أن ُحَوْيةِطًبا ْبُن َعْبةِد‬ ‫ث‪َ ،‬فَقاُلوا َلُه‪ :‬إةِّنُه َقةِد‬ ‫ش ةِفي اْلَيْوةِم الّثالةِ ةِ‬ ‫اْلُعّزي أتى النبي ةِفي َنَف ٍر ةِمْن قَُرْي ٍ‬ ‫ضى أَ​َجلَُك َفاْخُرْج َعّنا‪ ،‬فَقال َلهم صلى ا عليه وسلم فى مودة ‪َ’’:‬وَما‬ ‫اْنَق َ‬ ‫صَنْع ُ‬ ‫َعَلْيُكْم َلْو َتَرْكُتُموةِني‪َ ،‬فأ َْعَرْس ُ‬ ‫ت َلُكْم َطَعاًما‬ ‫ت َبْيَن أَْظُهةِرُكْم‪َ ،‬ف َ‬ ‫ضْرُتُموُه؟’’‪ ،‬ولكنهم ردوا في غلظة وجفوة‪َ :‬ل َحاَجَة َلَنا ةِفي َطَعاةِمَك‪،‬‬ ‫َفَح َ‬ ‫َفاْخُرْج َعّنا)‪.(4‬‬ ‫كان ـ صلى ا عليه وسلم ـ كريم الخلق‪ ،‬وفًيا لعهوده ومواثيقه‪ ،‬فلم يشأ‬ ‫ضا أن يجعل العروس تنتظر حتى‬ ‫أن يخالفهم‪َ ،‬فَخَرَج بمن معه‪ ،‬ولم يشأ أي ً‬ ‫ف على بعد عشرة أميال‬ ‫سةِر ٍ‬ ‫يصل إلى دياره بالمدينة‪ ،‬فأمر أصحابه فنزلوا ةِب َ‬ ‫‪163‬‬


‫من مكة أو أقل‪ ،‬فأعرس بميمونة وهو السم الذى اختاره لها ـ صلى ا‬ ‫عليه وسلم ـ تيمًنا بدخوله مكة معتمًرا بعد غيبة سنوات عنها‪.‬‬ ‫عاشت ميمونة في بيت النبوة أجمل أيام عمرها في عبادة‪ ،‬وعلم‪ ،‬وتقى‪،‬‬ ‫وجهاد؛ فقد نقلت ـ رضى ا عنها ـ في غزوة تبوك الماء والزاد‪ ،‬وشاركت‬ ‫في إسعاف الجرحى‪ ،‬وتضميد جراحهم‪ ،‬حتى أصابها يومكئ ٍذ سهم من سهام‬ ‫الكفار‪ ،‬أما العلم فيشهد لها أنها كانت من الحافظات المكثرات لرواية الحديث‬ ‫النبوي الشريف فقد روت سًتا وسبعين حديًثا ولم يسبقها في ذلك من أمهات‬ ‫المؤمنين سوى عاكئشة وأم سلمة مما أْهَلَها أن تنقل سنة النبى ـ صلى ا‬ ‫عليه وسلم ـ بعد وفاته للصحابة والتابعين‪ ،‬أما تقواها فتشهد لها بها السيدة‬ ‫ل‪،‬‬ ‫عاكئشة ـ رضى ا عنهما ـ حين قالت ‪" :‬أَ​َما إةِّنَها َكاَنْت ةِمْن أَْتَقاَنا ةِ‬ ‫صلةَِنا ةِللّرةِحةِم")‪.(5‬‬ ‫َوأَْو َ‬ ‫أحبت أمنا ميمونة النبى ـ صلى ا عليه وسلم ـ حًبا عميًقا هادًكئا؛ إذ كانت‬ ‫كأختها الراحلة زينب بنت خزيمة‪ ،‬لم تسبب له عنًتا ول مشقة‪ ،‬ولم تفتعل‬ ‫خصومات ولو يسيرة مع لداتها من أمهات المؤمنين‪ ،‬بل كانت تحب له ما‬ ‫يحبه هو‪ ،‬ويبدو هذا بجلء حين اشتد به المرض وهو في بيتها‪ ،‬فاستأذنتها‬ ‫عاكئشة في أن تنقله إلى بيتها لُيمّرض عندها‪ ،‬فأذنت لها لعلمها بموقعها‬ ‫عنده‪ ،‬ولرغبته فى ذلك‪ ،‬كذلك يتجلى حبها له ـ صلى ا عليه وسلم ـ في‬ ‫كونها لتحب مال يحبه ـ صلى ا عليه وسلم ـ من الطعمة‪ ،‬مثل عزوفه‬ ‫عن أكل الضب لنه لم يكن بأرض قومه‪ ،‬ومع أنه لم يحرمه إل أنها قالت‪:‬‬ ‫"ل آكل من طعام لم يأكل منه رسول ا صلى ا عليه وسلم")‪.(6‬‬ ‫بادل رسول ا ـ صلى ا عليه وسلم ـ ميمونة نفس مشاعرها إلى حد‬ ‫الغيرة عليها‪ ،‬وذلك حين قدم شاًبا ُيدعى زياد في وفد بني هلل فدخل منزلها‬ ‫لنها كانت خالته من أختها ُغّرة بنت الحارث‪ ،‬فدخل ـ صلى ا عليه وسلم ـ‬ ‫فرآه عندها فغضب ورجع‪ ،‬فاستمهلته قاكئلة‪ :‬يا رسول ا! هذا ابن أختي‪،‬‬ ‫فدعاه فوضع يده على رأسه ثم حدرها على طرف أنفه‪ ،‬فكان بنو هلل‬ ‫يقولون ما زلنا نعرف البركة في وجه زياد)‪.(7‬‬

‫‪164‬‬


‫تمر اليام كعادتها سريعة‪ ،‬وهكذا كان شأنها مع السيدة ميمونة في‬ ‫البيت النبوي وإن كانت ثلث سنوات‪ ،‬غير أنها كانت أوفر نصيًبا‬ ‫من أختها زينب التي لم تنعم بالعيش فيه سوى ثلثة أشهر‪ ،‬كما أنها‬ ‫عاشت بعد الرسول زمًنا نفعت فيه السلم والمسلمين‪ ،‬وما أن‬ ‫أظلها العام الواحد والخمسين للهجرة حتى أحست بحنين جارف إلى‬ ‫مكة موطنها‪ ،‬وموطن البيت المعمور‪ ،‬وموطن زواجها من الرسول ـ‬ ‫صلى ا عليه وسلم ـ فشدت الرحال للحج وهّي في العقد الثامن من‬ ‫عمرها‪ ،‬وشعرت بعدها بدنو الجل فقالت لمن حولها‪" :‬أخرجوني‬ ‫من مكة فإني ل أموت بها إن رسول ا صلى ا عليه وسلم‬ ‫أخبرني أن ل أموت بمكة"‪ .‬فحملوها حتى أتوا بها سرف إلى‬ ‫الشجرة التي بنى بها رسول ا ـ صلى ا عليه وسلم ـ تحتها في‬ ‫موضع القبة فماتت‪ ،‬وصلى عليها ابن عباس ودخل قبرها معه يزيد‬ ‫بن الصم وعبد ا بن شداد وهم بنو أخواتها‪ ،‬وعبيد ا الخولني‬ ‫وكان يتيًما في حجرها )‪ ، (8‬واختلفوا في سنة وفاتها‪ ،‬فقيل سنة‬ ‫إحدى وستين‪ .‬وقيل‪ :‬سنة ست وستين‪ .‬وقال أبو عمر‪ :‬توفيت‬ ‫بسرف سنة ست وستين وكان لها يوم توفيت ثمانون أو إحدى‬ ‫وثمانون سنة )‪.(9‬‬ ‫رحم ا أمنا ميمونة بنت الحارث‪ ،‬آخرأزواجه صلى ا عليه وسلم ‪،‬‬ ‫وأول من ماتت منهن في نفس موضع عرسها‪ ،‬حنيًنا ووفاًء ونبؤة من‬ ‫زوجها ـ صلى ا عليه وسلم ـ‪ ،‬رحم ا ‪ ..‬ثانية الراحلت خارج بقيع‬ ‫المدينة لتلحق بالسيدة خديجة قريًبا منها بمكة لتكون إحداهّن بالحجون‬ ‫والخرى بسرف‪ ،‬فتكون مكة بهذا قد ضمت إلى مكانتها مكانًة أخرى‬ ‫وشرف‪ ،‬حيث ضم ترابها رفات أول أزواجه ـ صلى ا عليه وسلم ـ‬ ‫وآخرهن ‪ ..‬رضوان ا عليهن جميًعا ‪.‬‬

‫‪165‬‬


‫نساء فى حياة الرسول‬

‫ــــــــــــــــــــــــــــــــ هامش الفصل الرسابع‬

‫عشر ـــــــــــــــــــــــــــــــ السيد إبراهيم‬

‫)‪ (1‬رواه النرسائي في رسننه الكبرىـ ] المرستدرك )‪4/32‬ـ ‪(33‬وصححه الحاكم ووافقه الهبى ‪ ،‬وقال‬ ‫اللبانى صحيح ‪ ،‬كما فى صحيح الجامع الصغير )‪ ، (2763‬ورسلرسلة الحاديث الصحيحة )‬ ‫‪.(1764‬‬ ‫)‪ (2‬ابن كثير ‪ :‬الرسيرة النبوية ‪.439/3‬‬ ‫)‪ (3‬عيون الثر ‪) -‬ج ‪ / 2‬ص ‪.(392‬‬ ‫)‪ (4‬الحكم في المرستدرك )‪ (6796‬صحيح‪.‬‬ ‫)‪ (5‬الرسير ‪ 2/244‬ورسنده صحيح‪.‬‬ ‫‪166‬‬


‫)‪ (6‬حرسنه اللباني في الصحيحة] ‪.[5/411‬‬ ‫)‪ (7‬ابن كثير‪ :‬البداية والنهاية)‪.(5/108‬‬ ‫)‪ (8‬رواه أبو يعلى ح )‪ ،(7110‬والبخاري في التاريخ الكبير ح )‪ .(379‬قال الهيثمي‪" :‬رواه أبو‬ ‫يعلى ورجاله رجال الصحيح" مجمع الزوائد )‪.(9/401‬‬ ‫)‪(9‬الطبقات ‪.7 / 140‬‬

‫‪167‬‬


‫الفصل الثامن عشر‬

‫‪ :‬أم إبراهيم‬ ‫مصرية فى بيت النبــوة‬

‫رجع رسول ا ـ صلى ا عليه وسلم ـ من الحديبية في ذي القعدة من‬ ‫سنة ست من الهجرة‪ ,‬ولم يتمكن وكذلك أصحابه من أداء العمرة‪ ،‬غير أنه‬ ‫عقد مع قريش صلًحا أهم بنوده‪ :‬وضع الحرب عن الناس عشر سنين‪ ,‬يأمن‬ ‫فيهن الناس‪ ,‬ويكف بعضهم عن بعض‪ ,‬وأن من أحب أن يدخل في عقد‬ ‫محمد وعهده دخل فيه‪ ,‬ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم دخل‬ ‫فيه ‪.‬‬

‫‪168‬‬


‫جعل ا هذا الصلح فتًحا لما فيه من المصلحة التي أظهرها ا لرسوله ـ‬ ‫ك فلََْتًح عال‬ ‫صلى ا عليه وسلم ـ والتي غابت عن بعض أصحابه ‪﴿ :‬إِنّعا فلَتَْح ْنَلعا لَ َ‬ ‫ُمبِفيْنًعا﴾)‪ ،(1‬وعلمها الخرون ومنهم ابن مسعود ـ رضى ا عنه وعنهم ـ‬ ‫حين كان يخاطب أصحابه ‪" :‬إنكم تعدون الفتح فتح مكة ونحن نعد الفتح‬ ‫صلح الحديبية" )‪ ,(2‬نعم ‪ ..‬كان فتًحا جديًدا في مجال الدعوة إلى السلم؛ إذ‬ ‫فّرَغ ا رسوله ـ صلى ا عليه وسلم ـ ليهود خيبر من جهة‪ ،‬ولمراسلة‬ ‫الملوك والمراء لدعوتهم لدخول دين ا طواعية واختياًرا‪ ،‬فأرسل إلى‬ ‫كسرى ملك فارس‪ ،‬والنجاشي ملك الحبشة‪ ،‬وهرقل ملك الروم‪ ،‬وإلى‬ ‫المقوقس عظيم مصر‪.‬‬ ‫كانت سفارة مصر من نصيب حاطب بن أبي بلتعة أحد فرسان قريش‬ ‫وشعراكئها في الجاهلية‪ ،‬ومن الذين أسلموا مبكًرا‪ ،‬ولذا فقد شهد بدًرا وأحد‬ ‫والخندق والمشاهد كلها مع رسول ا ـ صلى ا عليه وسلم ـ حيث كان من‬ ‫الرماة الموصوفين‪ ،‬فضلً عن اتصافه بالعلم والحكمة‪ ،‬وحسن السمت‪،‬‬ ‫وكانت هذه خلق وصفات كل من أرسلهم ـ صلى ا عليه وسلم ـ سفراء‬ ‫عنه‪ ،‬فلما قدم حاطًبا مصر‪ ،‬نزل السكندرية حاضرة الملك‪ ،‬ومقر إقامة‬ ‫المقوقس ُجَرْيج بـن َمّتي‪ ،‬فسلمه الرسالة التي حمله إياها رسول ا ـ‬ ‫صلى ا عليه وسلم ـ‪ ،‬فأخذها وهو يخاطب حاطًبا‪ :‬ما يمنع محمًدا إن كان‬ ‫نبًيا أن يدعو علّي فيهلكني؟ ‪ ،‬فأجابه حاطب‪ :‬مامنع عيسى بن مريم أن‬ ‫يدعو على من أبى عليه أن يفعل به كذا وكذا؟‪.‬‬ ‫دار بين الرجلين حديث وسجال كانت نهايته تأثر المقوقس بما في‬ ‫الرسالة‪ ،‬كما تأثر بمنطق حاطب‪ ،‬فوضع الكتاب في ُح ٍق من عاج وختم‬ ‫عليه‪ ،‬واستدعي كاتًبا يكتب العربية فأملى عليه‪" :‬لمحمد بن عبد ا من‬ ‫ت كتابك وفهم ُ‬ ‫المقوقس عظيم القبط‪ ،‬سلم عليك‪ ..‬أما بعد‪ ،‬فقد قرأ ُ‬ ‫ت ما‬ ‫ت أن نبًيا قد بقي‪ ،‬وكن ُ‬ ‫ذكرْت وما تدعو اليه‪ ،‬وقد علم ُ‬ ‫ت أظن أنه يخرج من‬ ‫الشام‪ .‬وقد أكرمت رسولك‪ ،‬وبعث ُ‬ ‫ت إليك بجاريتين لهما مكان في القبط‬ ‫عظيم‪ ،‬وبكسو ٍة‪ ،‬وأهديت إليك بغلة لتركبها والسلم")‪.(3‬‬ ‫أخذ حاطب طريق العودة إلى مدينة رسول ا ـ صلى ا عليه وسلم ـ في‬ ‫ركب يضم مارية بنت شمعون‪ ،‬وأختها سيرين‪ ،‬وعبد خصّي ُيْدَعى مأبور‪،‬‬ ‫‪169‬‬


‫وأَْلف مثقال ذهب‪ ،‬وعشرون ثوًبا ليًنا من نسيج مصر‪ ،‬وبغلة شهباء ُتسّمى‬ ‫دلدل‪ ،‬وبعض من عسل‪ ،‬وبعض المسك‪ ،‬وبعض أعواد البخور‪.‬‬ ‫لم تكن مصر هّي "مصر الفرعونية" التي خرج منها موسى شاًبا‪،‬‬ ‫ودخلها عيسى رضيًعا‪ ،‬بل هّي مصر التي دانت مؤخًرا بالمسيحية‪ ،‬وكانت‬ ‫تحت الولية الرومانية‪ ،‬فعرفت معنى النبوة‪ ،‬والدين السماوي‪ ،‬وأخبار نبي‬ ‫آخر الزمان‪ ،‬بل أن مارية التي ولدت بقرية ُتدعَى )َحفن( تقع على شرق‬ ‫النيل في صعيد مصر‪ ،‬وقضت فيها طفولتها‪ ،‬ثم انتقلت مع أختها سيرين إلى‬ ‫قصر المقوقس بالسكندرية‪ ،‬كانت تعلم ذلك من البشارات المبثوثة بكتب‬ ‫ديانتها‪ ،‬مثلما علمت أنها تسير في ركب المصريات السابقات عليها‬ ‫واللواتي تزوجّن بأنبياء وتأتي في مقدمتهن السيدة هاجر وكانت مثلها‬ ‫سليلة ملوك‪.‬‬ ‫كما لم تكن أخبار ظهور نبي بمكة بالحدث الذي يخفى على المصريين‪ ،‬فقد‬ ‫ساهمت الطرق البرية عبر جزيرة سيناء في إقامة علقات تجارية وثيقة‬ ‫بين غرب الجزيرة العربية وشمالها الغربي وبين وادي النيل )مصر(‪ ،‬كما‬ ‫كان تجار قريش يأتون إلى مصر حاملين بضاكئع الشرق من اللبان والبخور‬ ‫والتوابل والفضة والحرير فيبيعون فيها بضاكئعهم‪ ،‬ويشترون منها الثياب‬ ‫الغالية‪ ،‬أو ما يعرف بالقباطي والمشغولت والزجاج‪ ،‬بالضافة إلى أنواع‬ ‫صا القمح والذرة‪ ،‬وكان طريق القوافل أشهر الطرق‬ ‫الطعام المختلفة وخصو ً‬ ‫البرية من مصر إلى الجزيرة والعكس‪ ،‬وبخلف الطرق البرية‪ ،‬كان هناك‬ ‫طريق بحري يربط الجزيرة بمصر مباشرة حيث ترسو المراكب البسيطة‬ ‫الصنع في ميناء القلزم ]السويس اليوم[على شاطيء البحر الحمر ‪.‬‬ ‫كان الطريق طويلً ويكفي ويزيد لن يسرد حاطًبا على الختين قصة‬ ‫السلم ‪ ،‬ونبيه الكريم‪ ،‬وذلك حتى يزيل أسباب الوحشة من نفوسهن خاصة‬ ‫وأنهما قادمتان على بل ٍد ل يعلمّن عن جغرافيتها ـ ربما ـ إل أنها حارة‪ ،‬فلما‬ ‫أحس منهما حاطًبا ارتياًحا وانشراًحا عرض عليهما السلم فأسلمتا لتوهما‪.‬‬ ‫وصل الركب إلى المدينة ونزلت منه مارية شابة اجتمع في وجهها‬ ‫الجمال الشرقي الفطري الناضر إذ كان أبوها مصرًيا‪ ،‬والجمال الرومي‬ ‫‪170‬‬


‫الُمشرب بالحمرة والبياض فقد ولدْت لم رومية‪ ،‬سارت مارية أولى‬ ‫خطواتها تأخذ العين طلتها‪ ،‬فقد كانت بحق جميلة جعدة ]أي َجْعدةُ الشعةِر‬ ‫سَر فيه ول‬ ‫سةِب ٍط وهو المنبسُط المسترسل الذي ل َتك ّ‬ ‫ومراُدُه أنه ليس ةِبال َ‬ ‫ةِبجع ٍد[ فنزلت من الرسول ـ صلى ا عليه وسلم ـ مكانة طيبة‪ ،‬فأمر بإنزالها‬ ‫وأختها سيرين على أم سليم الغميصاء بنت ملحان في أول المر‪ ،‬ثم مالبث‬ ‫أن وهب سيرين لشاعره حسان بن ثابت‪ ،‬ليحتفظ بمارية في بيت لحارثة بن‬ ‫النعمان النصاري القريب من بيت عاكئشة‪.‬‬ ‫والذين يبحثون عن الحكمة النبوية في تسري الرسول ـ صلى ا عليه‬ ‫وسلم ـ بمارية‪ ،‬بحثوا ربما عن جمالها وليس هذا هو كل السبب‪ ،‬فقد نسوا‬ ‫أنه ـ ربما ـ آنس في نفسه ـ صلى ا عليه وسلم ـ أن يحذو حذو جده خليل‬ ‫الرحمن إبراهيم ـ عليه السلم ـ عندما تسرى بمصرية هي السيدة هاجر أم‬ ‫اسماعيل وجدة العرب العدنانيين‪ ،‬وقد كان أشبه الناس به ـ عليهما الصلة‬ ‫والسلم ـ ‪ .‬وكأن التاريخ يحدثنا أن سنة إبراهيم سنة جارية استقرت في‬ ‫نهاية المطاف عند النبي الخاتم ـ صلى ا عليه وآله وسلم ـ‪ ،‬أو كأنه يقول‬ ‫أن حركة المقدمة تستقيم مع حركة الخاتمة)‪.(4‬‬ ‫كانت حياة مارية قواسم مشتركة مع سيدات بيت النبوة‪ ،‬فقد أنجبت الولد‬ ‫لرسول ا ـ صلى ا عليه وسلم ـ مثلما أنجبت له السيدة خديجة ـ رضى‬ ‫ا عنهما ـ‪ ،‬وقاست معه مرارة فقد الولد كما قاستها خديجة من قبل‪ ،‬بل‬ ‫كانت قسوة مرارة الفقد عليها أشد‪ ،‬فقد كان ابنها‪ ،‬وحيدها‪ ،‬وكانت غريبة‪،‬‬ ‫فكان أنيسها‪ ،‬وعاشت معه ـ صلى ا عليه وسلم ـ السنوات القليلت‬ ‫المتبقيات من عمره كما عاشتها السيدة ميمونة بنت الحارث ـ رضوان ا‬ ‫عليهما ـ‪ ،‬وعاشت مرارة الفك كما عاشتها السيدة عاكئشة ـ رضوان ا‬ ‫عليهما ـ؛ فقد اتهموها في ابن عمها مأبور وقد كان رفيقها في رحلة‬ ‫الخروج من مصر‪ ،‬وكان يجلب لها الماء بالعالية‪ ،‬وكان مجبوًبا ]مقطوع‬ ‫الذكر[‪ ،‬وكأن الطبيعة البشرية من قبل عهد النبوة وأثناءها وبعدها طبيعة‬ ‫لتعرف العتبار؛ فلم يكن زمن خوضهم في عرض عاكئشة‪ ،‬ونزول آيات‬ ‫براءتها غير بعيد‪ .‬ومثلما غارت سارة من هاجر فنقلها نبي ا إبراهيم ـ‬ ‫عليه السلم ـ إلى مكة‪ ،‬غارت عاكئشة من مارية فحّولها النبي ـ صلى ا‬ ‫عليه وسلم ـ إلى العالية بضواحي المدينة وكان يذهب إليها هناك‪.‬‬ ‫‪171‬‬


‫يقولون أن الرسول ـ صلى ا عليه وسلم ـ كان يكثر من التردد عليها‪،‬‬ ‫والبقاء عندها‪ ،‬وربما كان هذا منه دفًعا للوحشة عنها‪ ،‬وعدم إحساسها‬ ‫بالغربة عن الهل والديار‪ ،‬وربما يقينه بأن العمر لن يمتد به لتأنس إليه‪،‬‬ ‫وتشبع منه كالسابقات عليها من أزواجه‪.‬‬ ‫لم تكد تقبل اليام على مارية بعد أن أصبحت أم ولد‪ ،‬فصارت بولدته‬ ‫حرة‪ ،‬حتى هرولت الحزان تترى عليها؛ فقد ُتُوّفَي وحيدها إةِْبَراةِهيُم اْبُن‬ ‫شَر َ‬ ‫الّنةِبّي صلى ا عليه وسلم وهو اْبَن ةِسّتَة َع َ‬ ‫شْهًرا‪َ ،‬فَقالَ الّنةِبّي صلى ا‬ ‫جّنةِة’’)‪(5‬‬ ‫عليه وسلم ‪’’ :‬اْدةِفُنوُه ةِباْلَبةِقيةِع‪َ ،‬فإةِّن َلُه ُمْر ةِ‬ ‫ضاَعُه ةِفي اْل َ‬ ‫ضًعا ُتةِتّم َر َ‬ ‫‪،‬وكأن وفاة إبراهيم قد جلبت كل أيام الحزن البعيدة على كل أولده وبناته‪،‬‬ ‫وكأن القلب الكبير قد أنهكته سنوات الدعوة والحزان فتاق إلى الرفيق‬ ‫العلى ليتوفي ـ صلى ا عليه وسلم ـ بعد سنة واحدة من وفاة ابنه‪ ،‬فقد‬ ‫كان المصاب الجلل الذي هز المدينة بمن فيها‪ ،‬ويهد مارية‪ ،‬ويهدم الدنيا‬ ‫فوق رأسها‪ ،‬لتقضي السنوات الخمس المتبقيات من رحلة الحياة بين رؤية‬ ‫أختها‪ ،‬وهي كل ما تبقى لها من أهل‪ ،‬وزيارتها لتأنس برفيق العمر ـ صلى‬ ‫ا عليه وسلم ـ تارة‪ ،‬والستروا ح بالقرب من ابنها بالبقيع تارة أخرى‪.‬‬ ‫لم تعّمر السيدة مارية طويلً بعد وفاة رسول ا ـ صلى ا عليه وسلم‬ ‫ـ؛ حيث توفيت مرضًيا عنها من ا ورسوله سنة ست عشرة من الهجرة‪،‬‬ ‫وصلى عليها عمر بن الخطاب‪ ،‬ودفنت بالبقيع بجانب ابنها وأمهات‬ ‫المؤمنين‪.‬‬ ‫رحم ا خاتمة المصريات في الطور الخير من ختم النبوات‪ ،‬فكما ماتت‬ ‫هاجر المصرية ودفنت بمكة‪ ،‬شاءت إرادة ا أن يكون قبر ماريا المصرية‬ ‫في المدينة ‪ ..‬ماتت مارية ولها في كل عنق مصرى ومصرية دين إلى أن‬ ‫يبعث ا الرض ومن عليها‪ ،‬فبسببها أوصى رسوله المسلمين في نبوءة‬ ‫ستتحقق في عهد عمر بن الخطاب‪ ،‬بقيادة عمرو بن العاص سنة ‪21‬هـ‪،‬‬ ‫سّمى‬ ‫ض ُي َ‬ ‫صَر َوةِهَى أَْر ٌ‬ ‫سَتْفَتُحوَن ةِم ْ‬ ‫حين قال صلى ا عليه وسلم ‪’’:‬إةِّنُكْم َ‬ ‫ةِفيَها اْلةِقيَراُط َفإةَِذا َفَتْحُتُموَها َفأ َْحةِسُنوا إةَِلى أَْهلةَِها َفإةِّن َلُهْم ةِذّمًة َوَرةِحًما’’‪ .‬أَْو‬

‫‪172‬‬


‫ضةِع َلةِبَن ٍة َفاْخُرْج‬ ‫صَماةِن ةِفيَها ةِفى َمْو ةِ‬ ‫صْهًرا َفإةَِذا َرأَْيَت َرُجَلْيةِن َيْخَت ةِ‬ ‫َقاَل‪’’ :‬ةِذّمًة َو ةِ‬ ‫ةِمْنَها’’)‪.(6‬‬ ‫وإجللً وتكريًما للسيدة مارية القبطية التي أنزل ا صدر سورة‬ ‫ض عنها‪،‬‬ ‫التحريم بسببها‪ ،‬ومات الرسول ـ صلى ا عليه وسلم ـ وهو را ٍ‬ ‫اهتم الصحابة ـ رضّي ا عنهم ـ بعد الفتح السلمي لمصر بالقرية التي‬ ‫نشأت فيها السيدة ماريا القبطية‪ ،‬فأعفاها معاوية من الخراج وأرسل إليها‬ ‫الصحابي عبادة بن الصامت ليبحث عن بيتها فيها ويبني مسجًدا مكانه‪،‬‬ ‫فاهتم الصحابي الجليل بذلك المر وبنى المسجد‪ ،‬وشاع اسمه مسجد الشيخ‬ ‫عبادة نسبة إلى الصحابي الجليل عبادة الصامت ـ رضّي ا عنه ـ وعن أم‬ ‫إبراهيم وعن ساكئر أزواج النبي الطاهرات‪.‬‬

‫نساء فى حياة الرسول‬

‫ــــــــــــــــــــــــــــــــ هامش الفصل الثامن‬

‫)‪(1‬رسورة الفتح‪.1:‬‬ ‫)‪ (2‬تفرسير ابن كثير‪،‬ج ‪،4‬ص ‪.208‬‬ ‫)‪ (3‬شرح المواهب)‪ ،(348/3‬وزار المعاد )‪691‬ـ ‪.(692/3‬‬ ‫)‪ (4‬رسعيد أيوب‪:‬زوجات النبي صلى ا عليه ورسلم‪ ،‬ص ‪.113‬‬ ‫)‪ (5‬رواه عبد الرزاق)‪ (14014‬ورواه مرسلم بمعناه‪.‬‬ ‫)‪ (6‬مرسلم )‪.(6658‬‬

‫‪173‬‬

‫عشر ـــــــــــــــــــــــــــــــ السيد إبراهيم‬


‫الفصل التاسع عشر‬ ‫‪174‬‬


‫ريحانة النضرية القرظية‬

‫كان قدر ريحانة زيد بن عمرو بن خنافة بن سمعون بن زيد مع السلم‬ ‫تحيا به في أخريات أيامها وتموت عليه؛ فقد ساق ا لها النور ـ صلى ا‬ ‫عليه وسلم ـ حيث مرابع دارها وهّي قاكئمة بين قومها‪.‬‬ ‫شاء قدر ا أل ترحل ريحانة مع أهلها من بني النضير في العام الرابع من‬ ‫الهجرة امتثالً لمره صلى ا عليه وسلم لهم ‪’’ :‬اخرجوا من المدينة ول‬ ‫تساكنوني بها‪ ،‬وقد أجلتكم عشًرا‪ ،‬فمن وجدت بعد ذلك بها ضربت عنقه’’)‬ ‫‪ (1‬وذلك نتيجة غدرهم به‪ ،‬وهمهم بقتله وهو مسالمهم وفي ديارهم‪ ،‬فقد‬ ‫‪175‬‬


‫كانت آنذاك متزوجة رجلً من بني قريظة يقال له الحكم‪ .‬فنسبها بعض‬ ‫الرواة إلى قريظة)‪.(2‬‬ ‫لم يستسسلم النضريون فقد ذهبوا يؤلبون العرب على المسلمين وطافوا‬ ‫في القباكئل أمثال بني فزارة وبني مرة وبني أسد وأشجع وسليم وعرضوا‬ ‫عليهم مقترحهم في غزو المدينة‪ ،‬وافقتهم قريش وبنى غطفان‪ ،‬فتشجعوا‬ ‫ومضوا صوب المدينة المنورة في عشرة آلف مقاتل وأسندت القيادة إلى‬ ‫أبي سفيان بن حرب‪.‬‬ ‫ومثلما غدر بنو النضير‪ ،‬خان القرظيون العهد مع رسول ا ـ صلى ا‬ ‫عليه وسلم ـ وانضموا إلى الحزاب في حربهم ضد المسلمين التى انتهت‬ ‫بعودته ـ صلى ا عليه وسلم ـ منتصًرا إلى المدينة‪ ،‬ولكنه لم يكد يدخل بيت‬ ‫أم سلمة ليغتسل إذ جاءه جبريل ظهًرا يحمل له خبر ربه بزلزلة حصون‬ ‫الخونة من بني قريظة وقذف الرعب فى قلوبهم)‪.(3‬‬ ‫فرض النبي ـ صلى ا عليه وسلم ـ حصاًرا على حصون بني قريظة‪،‬‬ ‫ضا ‪" :‬يا معشر يهود‬ ‫مما حدا بزعيمهم كعب بن أسد أن يعرض عليهم عر ً‬ ‫قد نزل بكم من المر ما ترون‪ ،‬وإني عارض عليكم خللً ثلًثا‪ :‬فخذوا أيها‬ ‫شكئتم‪ ،‬قالوا‪ :‬وما هي؟‪ ،‬قال‪ :‬نتابع هذا الرجل ونصدقه؛ فو ا لقد تبين لكم‬ ‫أنه لنبٌي مرسل‪ ,‬وأنه الذي تجدونه في كتابكم‪ ،‬فتأمنون على دماكئكم‬ ‫وأموالكم وأبناكئكم ونساكئكم‪ .‬قالوا‪ :‬ل نفارق حكم التوراة أبًدا‪ ،‬ول نستبدل به‬ ‫غيره!!‬ ‫قال‪ :‬فإذا أبيتم على هذه‪ ،‬فهلُّم فلنقتل أبناءنا ونساءنا ثم نخرج إلى محمد‬ ‫وأصحابه رجالً مصةِلتي السيوف لم نترك وراءنا ثق ً‬ ‫ل‪ ,‬حتى يحكم ا بيننا‬ ‫وبين محمد‪ ,‬فإن نهلك نهلك ولم نترك وراءنا نسلً نخشى عليه‪ ,‬وإن تطهر‬ ‫فلعمري لنجدن النساء والبناء‪ ،‬قالوا‪ :‬نقتل هؤلء المساكين! فما خير‬ ‫العيش بعدهم؟!‪ ،‬قال‪ :‬فإن أبيتم علّي هذه فإن الليلة ليلة السبت‪ ،‬وإنه عسى‬ ‫أن يكون محمٌد وأصحابه قد أمنونا فيها فأنزلوا لعلنا نصيب من محم ٍد‬

‫‪176‬‬


‫وأصحابه غرة‪ ،‬قالوا‪ :‬نفسد سبتنا علينا ونحدث فيه ما لم يحدثه من كان‬ ‫قبلنا‪ ,‬إل من قد علمت فأصابه ما لم يخف عليك من المسخ!")‪.(4‬‬ ‫سبيت الذرّية‪ ،‬وقُةِتل‬ ‫وكان لعنادهم ورفضهم هذا أن أنزل ا فيهم حكمه‪ ،‬ف ُ‬ ‫المقاتلة‪ ،‬وُأجلَي الباقون عن الديار‪ ،‬أما ريحانة فقد وقعت أسيرة في السبي‪،‬‬ ‫وكانت باهرة الجمال‪ ،‬تأخذ العين حين مرآها‪ ،‬ول تعدم البصيرة أن ترى‬ ‫فيها ذكاًء وحصافة‪ ،‬وفوق كل هذا وفاء تبدت مظاهره حين علمت بمقتل‬ ‫زوجها أن قالت ‪ :‬لن أتزوج أحداً بعده‪.‬‬ ‫لم يتزوج رسول ا ـ صلى ا عليه وسلم ـ إل مسلمة‪ ،‬وإن كانت على‬ ‫غير الدين عرض عليها السلم‪ ،‬وخيرها‪ ،‬فما عهد عنه ـ صلى ا عليه‬ ‫وسلم ـ أن أكره أحد على الدخول في دين السلم‪ ،‬فلما عرضوها عليه ـ‬ ‫صلى ا عليه وسلم ـ عرض عليها السلم فأبت‪ ،‬فأرسل بها إلى بيت أم‬ ‫المنذر سلمى بنت قيس قاكئلً لها ‪’’ :‬أخبريني إن حاضت حيضة واحدة’’‪،‬‬ ‫ذلك أن المسبيات في الجهاد تستبرأ أرحامهن بحيضة واحدة‪ُ ،‬يعَلم بها خلو‬ ‫أرحامهن من الحمل‪.‬‬ ‫أما سر ارسالها إلى بيت أم المنذرـ الخزرجية النجارية المصلية للقبلتين و‬ ‫المحافظة على البيعتين ـ أنها كانت إحدى خالته ـ صلى ا عليه وسلم ـ‪،‬‬ ‫وكثيًرا ما كان يخصها بالزيارة‪ ،‬ويأكل عندها‪ ،‬ويشير إلى أّن طعامها ذو‬ ‫بركة ونفع‪ ،‬وقد اشتهر بيتها ـ رضي ا عنها ـ عند أهل المدينة بكثرة التمر‬ ‫والرطب‪.‬‬ ‫مّرت اليام بريحانة قرابة الشهر ولم تزل في بيت أم المنذر تجتر ذكريات‬ ‫اليام التي مرت بها منذ جلء قومها‪ ،‬وما نزل بقوم زوجها‪ ،‬فأدركت أن هذا‬ ‫أقل ما يستحقونه نتيجة غدرهم وخيانتهم للعهود والمواثيق‪ ،‬وربما لو أذعن‬ ‫القرظيون لزعيمهم كعب بن أسد وتابعوا محمد بن عبدا على دينه‬ ‫وأسلموا ل بعد ما علموا وأيقنوا أنه الرسول المبشر به في كتبهم‪ ،‬لربما‬ ‫عاش زوجها وظلت عزيزة في بيتها وبين قومها ؟!‪.‬‬ ‫‪177‬‬


‫أحست ريحانة أنها كقومها لزمتها الحجة بعدما علمت أنه رسول ا‬ ‫الحق بحق‪ ،‬إذن فلما لتؤمن به‪ ،‬وتصحح خطأ وخطيكئة قومها؟!‪..‬خاصًة‬ ‫وأن ما رأته من حال سلمى وصويحباتها من المسلمات من طهارة‪ ،‬وصلة‪،‬‬ ‫ومحبة لبعضهن البعض‪ ،‬وحسن معاشرتهن لزواجهن‪ ،‬وتوقير وتعظيم‬ ‫المسلمين لشخص رسولهم ـ صلى ا عليه وسلم ـ وحبهم له بمحبة تفوق‬ ‫الوصف إلى حد الفداء بوالديهم وأنفسهم وأولدهم من أجله‪ ،‬كل هذا جعلها‬ ‫تعيد تقييم المور‪ ،‬وكيف فاتها وهى المشهور عنها رجاحة العقل والفطنة‪،‬‬ ‫كيف نجاها ا من الجلء مع قومها واستبقاها فى بنى قريظة مع زوجها‪،‬‬ ‫حتى حاصرها المسلمون إل أن ا قد أراد لها الخير‪ ،‬ذلك الخير الذي فطن‬ ‫إليه من بقي من أهلها أحياء فأسلموا؟!‪ ..‬أفتظل هّي على عنادها كشأن‬ ‫اليهود حتى تخسر دنياها وآخرتها؟!‬ ‫وبينما هّي على حالها تلك إذ فاجأها الحيض‪ ،‬فبادرت وأخبرت أم المنذر‬ ‫لعلمها بأن الرسول ـ صلى ا عليه وسلم ـ ينتظر الخبر‪ ،‬وقد صدق حدسها‪،‬‬ ‫إذ جاء مع أم المنذر‪ ..‬ويدور حواًرا بينها وبين رسول ا ـ صلى ا عليه‬ ‫صّلى ّ‬ ‫سّلَم ‪َ ،‬فَتَنّحْي ُ‬ ‫ت‬ ‫سول ُ ّ ةِ‬ ‫اُ َعَلْيةِه َو َ‬ ‫ا َ‬ ‫وسلم ـ تصفه فتقول ‪َ" :‬دَخلَ َعَلّي َر ُ‬ ‫سوَلُه‬ ‫سةِني َبْيَن َيَدْيةِه‪َ ،‬فَقالَ ‪’’ :‬إةِةِن اْخَتْر ةِ‬ ‫ا َوَر ُ‬ ‫ةِمْنُه َحَياًء ‪َ ،‬فَدَعاةِني ‪َ ،‬فأ َْجَل َ‬ ‫ت َّ‬ ‫صّلى ّ‬ ‫سّلَم لةَِنْفةِسةِه’’‪َ ،‬فقُْل ُ‬ ‫ا‬ ‫سول ُ ّ ةِ‬ ‫اُ َعَلْيةِه َو َ‬ ‫ا َ‬ ‫اْخَتاَرةِك َر ُ‬ ‫ت‪ :‬إةِّني أَْخَتاُر ّ َ‬ ‫صّلى ّ‬ ‫سوَلُه َفَلّما أَْسَلْم ُ‬ ‫سّلَم َوَتَزّوَجةِني‬ ‫سول ُ ّ ةِ‬ ‫اُ َعَلْيةِه َو َ‬ ‫ا َ‬ ‫ت أَْعَتَقةِني َر ُ‬ ‫َوَر ُ‬ ‫شَرَة ُأوةِقّيًة‪َ ،‬وَن ًّ‬ ‫صَدَقةِني اْثَنَتْي َع ْ‬ ‫س ةِبي ةِفي‬ ‫ساَءُه‪َ ،‬وأَْعَر َ‬ ‫صةِدُق ةِن َ‬ ‫شا َكَما َكاَن ُي ْ‬ ‫َوأَ ْ‬ ‫ضةِرَب َعَلّي‬ ‫َبْي ةِ‬ ‫ساةِكئةِه‪َ ،‬و ُ‬ ‫ت أ ُّم اْلُمْنةِذةِر‪َ ،‬وَكاَن َيْقةِسُم ةِلي َكَما َكاَن َيْقةِسُم لةِةِن َ‬ ‫ب")‪.(5‬‬ ‫اْلةِحَجا ُ‬ ‫قال ابن سعد‪ :‬هذا ما روي لنا في عتقها وتزويجها‪ .‬وهو أثبت القاويل‬ ‫عندنا‪ .‬وهو المر عند أهل العلم‪ .‬وقد سمعت من يروي أنها كانت عند‬ ‫رسول ا صلى ا عليه وسلم لم يعتقها‪ .‬وكان يطأها بملك اليمين‪ ،‬ومن‬ ‫ذلك ما روي عن أيوب بن بشير‪ .‬أن رسول ا صلى ا عليه وسلم قال‬ ‫ت أَْن أ ُْعةِتَقةِك َوأَ​َتَزّوَجةِك َفَعْل ُ‬ ‫ت أَْن َتُكوةِني ةِفي‬ ‫ت‪َ ،‬وإةِْن أَْحَبْب ةِ‬ ‫لها‪’’ :‬إْن أَْحَبْب ةِ‬ ‫ف َعَلّي َوَعَلْيَك‪َ .‬فَكاَنْت ةِفي‬ ‫سولَ ّ ةِ‬ ‫ا‪ ،‬أَُكوُن ةِفي ةِمْلةِكَك أَ​َخ ّ‬ ‫ةِمْلةِكي’’‪َ ،‬فَقاَلْت ‪َ :‬يا َر ُ‬ ‫صّلى ّ‬ ‫سّلَم‪َ ،‬يَطُؤَها َحّتى َماَتْت)‪.(6‬‬ ‫سوةِل ّ ةِ‬ ‫اُ َعَلْيةِه َو َ‬ ‫ا َ‬ ‫ةِمْلةِك َر ُ‬ ‫‪178‬‬


‫جا للنبى ـ صلى ا‬ ‫هكذا دارت أقوال أهل العلم بين أن ريحانة كانت زو ٍ‬ ‫عليه وسلم ـ أو ملك يمين‪ ،‬والقول الخير أرجحهما وعليه دار أكثرهم‪.‬‬ ‫والمر الذى لشك فيه أن الرسول ـ صلى ا عليه وسلم ـ أحبها كما أحبته؛‬ ‫فقد كان يمكث عندها كثيًرا‪ ،‬ول يرد لها طلًبا‪ ،‬ول تسأله شيًكئا إل أجابها‬ ‫إليه‪ ,‬وهو منشر ح الصدر‪.‬‬ ‫وأما قول الناصحون لريحانة لما رأوا من حال الرسول معها‪ ":‬لو كنت‬ ‫سألت رسول ا صلى ا عليه وسلم في بني قريظة لعتقهم‪ ،‬فقالت‪ :‬لم‬ ‫يخل بي حتى فرق السبى"‪ .‬فل أعتقد أن الرسول ـ صلى ا عليه وسلم ـ‬ ‫كان سيجيبها إلى مطلبها إذا طلبت‪ ،‬خاصًة وأن اليهود حينما رضوا بحكم‬ ‫سعد بن معاذ الذي حكم به‪ ،‬أجابه ـ صلى ا عليه وسلم ـ من فوره‪َ’’ :‬لَقْد‬ ‫ت’’)‪ ،(7‬فكيف كان سيرجع عن‬ ‫سَمَوا ٍ‬ ‫َحَكْمَت ةِفيةِهْم ةِبُحْكةِم ّ ةِ‬ ‫سْبةِع َ‬ ‫ا ةِمْن َفْوةِق َ‬ ‫حكم ا مرضاة لمرأ ٍة أًيا ما كانت‪ ،‬أريحانته فاطمة بنت محمد أهون عنده‬ ‫من ريحانة بنت زيد‪ ،‬وذلك كما جاء في حديث المخزومية‪،‬عن عاكئشة رضي‬ ‫ا عنها‪ :‬أن قري ً‬ ‫شا أهمهم شأن المرأة المخزومية التي سرقت‪ ،‬فقالوا‪ :‬من‬ ‫يكلم فيها رسول ا صلى ا عليه وسلم؟ فقالوا‪ :‬من يجترئ عليه إل‬ ‫أسامة بن زيد حب رسول ا صلى ا عليه وسلم‪ .‬فكلمه أسامة‪ ،‬فقال‬ ‫رسول ا صلى ا عليه وسلم ‪’’ :‬أتشفع في حد من حدود ا تعالى؟’’‪ ،‬ثم‬ ‫قام فاختطب‪،‬ثم قال ‪’’ :‬إنما أهلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم‬ ‫الشريف تركوه‪ ،‬وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد‪ ،‬وأيم ا لو أن‬ ‫فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها’’)‪.(8‬‬ ‫أحبت ريحانة الرسول ـ صلى ا عليه وسلم ـ حًبا شديًدا تبدو آثاره في‬ ‫غيرتها الشديدة عليه‪ ،‬وكان ذلك يغضبه‪ ،‬فطلقها ـ بحسب من رأى من أهل‬ ‫العلم أنهما تزوجا ـ ثم عاد إليها بعد انقطاع يسير‪ ،‬لما علمه مما تعانيه من‬ ‫وحدة‪ ،‬وشوق إليه‪ ،‬فرق قلبه لها‪ ،‬وعاودا المسير من جديد‪.‬‬ ‫مع إطللة السنة العاشرة من الهجرة وفي شهر ذي القعدة أعلن المنادي‬ ‫ب‬ ‫بأمر من رسول ا ـ صلى ا عليه وسلم ـ أنه حاج هذه السنة‪ ،‬وقد َرّغ َ‬ ‫رسول ا أزواجه جميعهن‪ ،‬وأقاربه‪ ،‬وأصحابه في الخروج معه للحج‪ ،‬فحج‬ ‫‪179‬‬


‫معه أزواجه كلهّن ـ رضي ا عنهّن ـ وبينهن ريحانة التي أكملت عامها‬ ‫الخامس في كنف البيت النبوي‪.‬‬ ‫ما أن وطيء العائدون من الحج أرض المدينة حتى دق المرض أوصال‬ ‫ريحانة‪ ،‬فظن من حولها أنه ربما من مشقة السفر ولن تلبث أن تبرأ منه‪ ،‬أو‬ ‫ربما أتعبها وأزعجها قول الرسول لهّن ‪’’ :‬إنما هى هذه الحجة ثم الزمن‬ ‫ظهور الحصر’’)‪ ،(9‬فوقر في نفسها أنه ينعي نفسه إليهن‪ ،‬غير أنها وهّي‬ ‫تستعرض تاريخها من اليهودية إلى السلم‪ ،‬وفرحتها بما مّن ا به عليها‬ ‫بنعمة السلم‪ ،‬وختم لها بحجة مع رسول ا ـ صلى ا عليه وسلم ـ‪ ،‬لهّى‬ ‫أيام بالعمر كله‪ ،‬فأحست بحب ا لها إذ ساق لها النور في ركاب رسول ا‬ ‫يتقدمه رسول السماء جبريل‪ ،‬لينتشلها من وهدة الكفر حيث نور اليمان ‪..‬‬ ‫نظر ْت إلى السماء حامدًة ل شاكرة‪ ،‬لتتابعها روحها بالصعود إلى جوار ربها‬ ‫رضى ا عنها وأرضاها ‪.‬‬ ‫حزن الرسول صلى ا عليه وسلم لموتها حز ًنا شدي ًدا‪،‬‬ ‫وترك لم المنذر مهمة تجهيزها ففعلت وقلبها يتفطر‬ ‫حز ًنا على صحابية جليلة لزمتها بيتها وهى الن تغادرها‬ ‫حيث البقيع لتلحق بزينب بنت خزيمة وتدفن بجوارها‪،‬‬ ‫‪ .‬فيودعها الرسول والصحابة في موكب مهيب‬

‫نساء فى حياة الرسول‬

‫ــــــــــــــــــــــــــــــــ هامش الفصل التارسع‬

‫‪.‬ابن هشام ‪(1) 2/191‬‬ ‫‪.‬الطبقات الكبرى ‪ ،8 / 129‬الصابة ‪(2) 8 / 88‬‬

‫‪180‬‬

‫عشر ـــــــــــــــــــــــــــــــ السيد إبراهيم‬


‫‪).‬صحيح مرسلم )‪ ،(1769‬وحرسنه اللباني في الصحيحة )‪(3) 67‬‬ ‫‪.‬رسيرة ابن هشام ‪(4) 230/ 3‬‬ ‫‪.‬الطبقات الكبرى ‪ ،8 / 129‬الصابة ‪(5) 8 / 88‬‬ ‫)‪ (6‬الطبقات ‪ ،8 / 130‬الصابة ‪.8 / 88‬‬ ‫)‪)7‬حديث صحيح أخرجه الموي في مغازيه وأصله في الصحيحين من غير الزيادة الخيرة من‬ ‫فوق رسبع رسماوات ‪،‬وقال اللباني ‪" :‬صحيح بدون قوله‪ :‬فوق رسبع رسموات‪ ،‬كذلك هو‬ ‫فيالصحيحين والمرسند ‪ ،‬وأما هذه الزيادة فتفرد بها محمد بن صالح التمار‪.‬‬ ‫)‪ (8‬متفق عليه‪.‬‬ ‫)‪ (9‬بتحقيق اللباني‪ :‬صحيح‪ (7008) ،‬صحيح الجامع‪.‬‬

‫‪181‬‬


‫ف ل ندعيه ‪ ..‬وتهمة ل ننكرها‬ ‫شر ٌ‬

‫أجهد علماء المسلمين أنفسهم في البحث عن مشروعية تعدد الزوجات‬ ‫في السلم‪ ،‬وخاصة التعدد الذي اختص ا به رسوله ـ صلى ا عليه‬ ‫وسلم ـ‪ ،‬فراحوا يفتشون في الديانات والحضارات السابقة على السلم‪،‬‬ ‫وعن النبياء الذين عددوا عليهم وعلى نبينا الصلة والسلم‪ ،‬وكأن السلم‬

‫‪182‬‬


‫كدين‪ ،‬ومحمد بن عبدا رسول العالمين في موضع اتهام‪ ،‬ووجب عليهم‬ ‫الدفاع عنهما‪ ،‬واثبات براءتهما من ذلك الفعل المشين‪.‬‬ ‫ينسى من يقومون بهذا ـ ومقصدهم نبيل على كل حال ـ أن السلم كدين‬ ‫جاء ختاًما لرسالت السماء‪ ،‬فليس هناك دين سيأتي بعده‪ ،‬وأن الرسول ـ‬ ‫صلى ا عليه وسلم ـ هو ختام عصر النبوات‪ ،‬فل نبي بعده‪ ،‬وبالتالي فليس‬ ‫هناك كتاب سماوي بعد القرآن الكريم‪ ،‬وبداهًة ليس هناك تشريعات جديدة‬ ‫بعد شرع ا الذي أنزله ـ عز وجل ـ على نبيه الكريم صلى ا عليه وسلم‪.‬‬ ‫لهذا فقد جاء النبى ـ صلى ا عليه وسلم ـ ممثلً للطاقة البشرية كلها‪،‬‬ ‫يتمثلها في كل حالتها‪ ،‬لتستمد منه الجيال القادمة ـ على اختلف ألوانها‪،‬‬ ‫وجنسياتها‪ ،‬وجغرافيتها‪ ،‬وألسنتها ـ الدروس‪ ،‬والقدوة‪ ،‬والمثل‪ ،‬والحلول‬ ‫لمشاكلها‪ ،‬فرغم ما ذكرناه من اختلف إل أن الطبيعة البشرية ل تكاد تختلف‬ ‫في الميول والغراكئز‪ ،‬وغيرهما‪..‬‬ ‫ضرب رسول ا المثل للشاب الذي يتزوج ممن هى أسن منه‪ ،‬وأغنى‪،‬‬ ‫وكيف يتقي ا فيها وفي مالها‪ ،‬وقد تجسد هذا في قصة زواجه ـ صلى ا‬ ‫عليه وسلم ـ من السيدة خديجة ـ رضّي ا عنها ـ‪ ،‬كما ضرب المثل فى‬ ‫زواج الرجل الكبير سًنا ممن تصغره‪ ،‬وكيف يكون ليًنا في معاملتها‪ ،‬يعلمها‬ ‫دون تأنيب أو تعنيف‪ ،‬وقد تجلى هذا في زواجه ـ صلى ا عليه وسلم ـ من‬ ‫السيدة عاكئشة ـ رضى ا عنها ـ‪ ،‬ثم ضرب المثل للرجل الذي يفقد زوجه أم‬ ‫أولده وقد تركت خلفها من يحتاجون أو يحتجن لرعاية الم كفاطمة وأم‬ ‫كلثوم‪ ،‬وهو المضطلع بعبء الرسالة الثقيل‪ ،‬وكيف لم يخطب لنفسه حتى‬ ‫جاءته من تخطب له‪ ،‬ليختار من تكبره ولتماثله وربما لم َتُتْق نفسه إليها‬ ‫مؤةِثًرا بنتيه عليه‪ ،‬فيختارها أرمل لشهيد في سبيل ا‪ ،‬لُيعّلَم ـ صلى ا‬ ‫عليه وسلم ـ من يأتي بعده من الرجال كيف تكون معاملة وتربية الرجل‬ ‫الذي يتزوج امرأة ذات عيال لعيالها فيتقي ا في تربيتهم والحسان إليهم‬ ‫كأنهم أولده‪ ،‬فكان مثالً ـ صلى ا عليه وسلم ـ للخلص والتفاني حين‬ ‫كان زوًجا لزوجة واحدة‪ ،‬وأضاف إلى تلك الصفات العدل‪ ،‬والرحمة‪،‬‬ ‫والتسامح لمن عدد الزوجات‪ ،‬فيعدل بينهّن في القسمة والنفقة والبسمة‪،‬‬ ‫ويرحم ضعفهن البشري في غيرتهن‪ ،‬ويسامح حدتهن‪ ،‬ومكايدهن بينهن‪،‬‬ ‫ثم يضرب المثل في بشريته ـ صلى ا عليه وسلم ـ التي طالما تفاخر بها‬ ‫‪183‬‬


‫ولم يتبرأ منها‪ ،‬فيحركه نزوع نفسه نحو الجمال‪ ،‬فيتزوج الجميلت‪ ،‬ليعّلَم‬ ‫من يأتي بعده أن الجمال نعمة على صاحبته طالما تحلْت بقيم الدين‪،‬‬ ‫وفضاكئل الخلق‪ ،‬والصل الكريم‪ ،‬وليس الجمال هدًفا في ذاته‪ ،‬كما تجلى‬ ‫ذلك في زواجه ـ صلى ا عليه وسلم ـ من جويرية‪ ،‬وزينب بنت جحش ـ‬ ‫رضوان ا عنهما ـ ‪.‬‬ ‫وهكذا ترى أن لكل زوجة من أزواجه ـ صلى ا عليه وسلم ـ قصة‬ ‫وسبًبا في زواجه منها‪ .‬وهّن فيما عدا زينب بنت جحش‪ ،‬وجويرية بنت‬ ‫الحارث‪ ,‬لم يكن شواب ول ممن يرغب فيهن الرجال لجمال كانت عاكئشة ‪-‬‬ ‫رضي ا عنها ‪ -‬هي أحب نساكئه إليه‪ .‬وحتى هاتان اللتان عرف عنهما‬ ‫الجمال والشباب كان هناك عامل نفسي وإنساني آخر ‪ -‬إلى جانب جاذبيتهن‬ ‫ ولست أحاول أن أنفي عنصر الجاذبية الذي لحظته عاكئشة في جويرية‬‫مث ً‬ ‫ل‪ ,‬ول عنصر الجمال الذي عرفت به زينب فل حاجة أبًدا إلى نفي مثل‬ ‫هذه العناصر النسانية من حياة النبي ـ صلى ا عليه وسلم ـ وليست هذه‬ ‫العناصر موضع اتهام يدفعه النصار عن نبيهم‪ .‬إذا حل لعداكئه أن يتهموه!‬ ‫فقد اختير ليكون إنساًنا‪ ،‬ولكن إنسانا رفيعا ــ وهكذا كان ــ وهكذا كانت‬ ‫دوافعه في حياته وفي أزواجه ـ صلى ا عليه وسلم ـ على اختلف الدوافع‬ ‫والسباب)‪.(1‬‬ ‫كانت عظمة الرسول ـ صلى ا عليه وسلم ـ في حياته داخل جدران‬ ‫بيته مع أسرته كما كانت خارج بيته‪ ،‬لقد صدق فولتير)‪ (2‬حين قال في‬ ‫كلمته المشهورة ‪):‬إن الرجل ليكون عظيًما في داخل بيته‪ ،‬ولبطلً فى‬ ‫أسرته‪ ...‬وذلك لن المعايشين له يرقبونه عن قرب‪ ،‬ويعلمون تصرفاته‬ ‫الظاهرة‪ ،‬ويسمعون ويتسمعون لدواخله الباطنة‪ ،‬فل يشهدون له ل‬ ‫بالعجاز ول البطولة(‪ ،‬إل الرسول ـ صلى ا عليه وسلم ـ ويشهد بهذا‬ ‫باسورت سميث )‪) : (3‬إن ماقيل عن العظماء في مباذلهم ليصح ـ على‬ ‫القل ـ في محمد رسول السلم‪ ..‬فلم يمتحن رسول من الرسل أصحابه‬ ‫كما أمتحن محمد أصحابه‪ ،‬فأول من آمن به أهله‪ :‬زوجته وغلمه وابن‬ ‫أخيه‪ ،‬وأعظم الناس ليأذن لزوجة واحدة بأن تحدث الناس عن أحواله‪،‬‬ ‫فما بالك برج ٍل له تسع زوجات‪ ،‬ولم يصدر اليهّن أمًرا ديكتاتورًيا كهذا بل‬

‫‪184‬‬


‫أذن لهّن بأن يحدثن أصحابه ل بكل الحوال المعروفة نهاًرا فقط‪ ،‬بل‬ ‫بالمخبؤ عنهم تلفه خلوات الليل(‪.‬‬ ‫وقد عرض علماء الحديث كل ما يتعلق بالنبي صحيًحا أم سقيًما‪،‬‬ ‫حًقا أو باط ً‬ ‫ل‪ ،‬ونقلوا إلى المسلمين جيلً بعد جيل كل أحوال رسولهم‪،‬‬ ‫مما يظن الذين يثيرون الشبهات حولها أنهم قد وقعوا على كن ٍ ٍز دفين‪،‬‬ ‫ليخرجوا من مخبؤاته على أحايي ٍن من الزمن ما يظنون أنه يلوث سمعته‬ ‫ـ صلى ا عليه وسلم ـ من غم ٍز له في زواجه أو أزواجه الطاهرات‪،‬‬ ‫وكأنهم أفذاذ في ميدان البحث العلمي والتأريخ الرصين واستكناه‬ ‫السرار‪ ،‬واستخراج الشبهات‪ ،‬ولو تحروا العظمة في أوج قمتها‪،‬‬ ‫لوجدوا أن هذا إنجاز لصاحب الرسالة ـ صلى ا عليه وسلم ـ ُيحسب له‬ ‫ل عليه‪ ،‬ولو مارس الصحابة "النتقاكئية" بحسب وجهة نظرهم فيثبتوا‬ ‫ويحذفوا ماشاءوا لما وجد أحدهم ما يظن أنه شبهة‪ ،‬فنحن نعترف بكون‬ ‫رسولنا بشر ولم نرفعه لمصاف اللهة فنخفي أفعاله النسانية ونبررها‬ ‫بتبريرات خاكئبة لتنطلي على عاقل‪.‬‬ ‫فالسيرة النبوية هي جزٌء مهّم موثٌق من تاريةِخ النسانية وتراثها‬ ‫والحمد ل ليس فيه مانخجل من عرضه‪ ،‬وقد كان يعلم الرسول الكريم ـ‬ ‫ف مختلفة من الديانات‬ ‫صلى ا عليه وسلم ـ وهو الذي يعيش بين أطيا ٍ‬ ‫ص به وبكل مايخرج عنه ومنه‪ ،‬وكذلك‬ ‫والملل والنحل ومنهم من هو مترب ٌ‬ ‫كان مستشرًفا آفاق المستقبل بما أوحى إليه ربه من غيب المستقبل له‬ ‫ولمته من بعده‪ ،‬فلو أراد أن يكتم أمر بيته للزم أزواجه بهذا‪ ،‬ولكنه كان‬ ‫يعلم أنه ـ صلى ا عليه وسلم ـ ُمرسل ٌ للنسانية كلها وهو هاديها ومعلمها‬ ‫وخاتم الرسل ولن يرسل ا من سيعلم البشرية من بعده‪.‬‬ ‫ولهذا قال الدكتور مصطفى السباعى)‪) :(4‬فل تمتلك النسانية اليوم‬ ‫سيرة كاملة شاملة بهذا المعنى‪ ،‬سلطت الضواء عليها من كل مكان فكانت‬ ‫مثالية ‪ -‬مثاليَة الواقع ل مثالية الخيال ‪ ،-‬ولذا فهي ترا ُ‬ ‫ث النسانية جمعاء‪،‬‬ ‫سًيا وُحًّبا‪ ،‬ويقرؤها غير المسلم من ذوي‬ ‫يرجع إليها المسلم تدّيًنا وتأ ّ‬ ‫النصاف ليرى نفسه أمام العظمة وقد ُجةِمَعْت من أطرافها‪ ،‬ويعرف لهذا‬ ‫الرسول حّقه(‪.‬‬ ‫‪185‬‬


‫أن الذى ميز حياة الرسول الخاتم ـ صلى ا عليه وسلم ـ أن حياته‬ ‫وسيرته وشماكئله كلها قد حفظها لنا التاريخ‪ ،‬فليس ثمة غموض في أي‬ ‫ناحية من مناحي حياته الطاهرة وسيرته الشريفة‪ .‬وقد اعترف بهذه‬ ‫الحقيقة كبار المؤرخين الغربيين‪ .‬فالمؤر خ البريطاني الشهير أرنولد‬ ‫توينبي)‪ (5‬يقول‪):‬الذين يريدون أن يدرسوا السيرة النبوية العطرة يجدون‬ ‫أمامهم من السفار مما ل يتوافر مثله للباحثين في حياة أي نبي من‬ ‫أنبياء ا الكرام(‪.‬‬ ‫ومن هنا لزم التنبيه؛ فليس النبي إنسانا من العظماء يقرأ تاريخه‬ ‫بالفكر معه المنطق‪ ،‬ومع المنطق الشك‪ ،‬ثم يدرس بكل ذلك على أصول‬ ‫الطبيعة البشرية العامة؛ ولكنه إنسان نجمّي يقرأ بمثل "التلسكوب" في‬ ‫الدقة‪ ،‬معه العلم‪ ،‬ومع العلم اليمان؛ ثم يدرس بكل ذلك على أصول طبيعتةِه‬ ‫النورانية وحدها‪.‬‬ ‫والحياة تنشيء علم التاريخ‪ ،‬ولكن هذه الطريقة في درس النبياء ــ‬ ‫صلوات ا عليهم ــ‪ ،‬تجعل التاريخ هو ينشيء علم الحياة؛ فإنما النبي‬ ‫إشراٌق إلهي على النسانية‪ ،‬يقّومها في فلكها الخلقي‪ ،‬ويجذبها إلى الكمال‬ ‫في نظام هو بعينةِه صورة لقانون الجاذبية في الكواكب )‪.(6‬‬ ‫وليس توينبي وحده هو الذى يشهد بوفرة المعرفة عن حياة نبينا الكريم ـ‬ ‫صلى ا عليه وسلم ـ بل طاكئفة من المنصفين تتالى أقوالهم لتعزف وحدها‬ ‫أهزوجة الحقاكئق متتالية متناغمة‪ ،‬ومنهم غوستاف لوبون‪ ،‬والكونت‬ ‫كاتياني‪ ،‬وبودلي وغيرهم التي تشهد بالوفرة في المعلوم عن حياة رسولنا‬ ‫الكريم محمد صلى ا عليه وسلم‪.‬‬ ‫إذن ‪ ..‬كانت زيجاته ـ صلى ا عليه وسلم ـ غارقة في النفع والهمية‪،‬‬ ‫علمها الرسول ـ صلى ا عليه وسلم ـ‪ ،‬وطوت جوانحه سرها‪ ،‬وغايتها‪،‬‬ ‫ومردودها على المسلمين‪ ،‬لما فى زواجه ـ صلى ا عليه وسلم ـ من‬ ‫حكمة‪ :‬إما تعليمية أو تشريعية أو سياسية أو اجتماعية‪ ..‬ستنتهي حتًما‬ ‫بانتهاء زمانها والمراد منها‪ ..‬إل الحكمة التعليمية فبقاؤها مرهون باتصال‬ ‫‪186‬‬


‫الزمان‪ ،‬وامتداد المسلمين رقعًة وتعداًدا‪ ،‬كما عرف ـ صلى ا عليه وسلم ـ‬ ‫أن عمره القصير على سطح كوكبنا لن يفي وحده بتعليم المسلمين كل أمور‬ ‫دينهم من التفاصيل الصغيرة التي سوف يحتاجها الناس دوًما‪ ،‬فالحكام‬ ‫تتناهى وحاجات الناس لتتناهى‪ ،‬ولهذا فقد ترك لهم أزواجه ـ رضوان ا‬ ‫عليهن ـ‪ ،‬وأصحابه ـ رضّي ا عنهم ـ ينقلّن وينقلون عنه ـ صلى ا عليه‬ ‫وسلم ـ‪ ،‬ذلك الرعيل الول الذى عاصرالوحي وهو ينزل من السماء‪،‬‬ ‫والرسول المعلم والزوج والقاكئد يبلغ ويحّدث في مسجده‪ ،‬وغزواته‪،‬‬ ‫وفتاواه‪ ،‬وأقضيته‪ ،‬ومعاهداته‪ ،‬وفي بيوته‪ ،‬وبين أزواجه؛ فتبليغه وحي‪،‬‬ ‫سنة‪ ،‬وفعله قدوة ـ صلى ا عليه وسلم ـ‪ ،‬ورضّي ا عن أمهاتنا‬ ‫وكلمه ُ‬ ‫الطاهرات‪.‬‬

‫نساء فى حياة الرسول‬

‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ هامش الخاتمة‬

‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ السيد إبراهيم‬

‫)‪ (1‬في ظلل القرآن ص ‪.3495‬‬ ‫‪.‬فولتير‪ ،‬من كبار أدباء فرنرسا‪ ،‬توفى رسنة ‪1778‬م ‪(2‬‬ ‫)‪ (3‬المرستشرق النجليزي "بورسورث رسميث" ""‪Bosworth Smith (1815‬ـ ‪(1892‬الدب في‬ ‫آرسيا‪ ،‬المقدمة‪.‬‬ ‫‪187‬‬


‫)‪ (4‬مصطفى الرسباعى‪ :‬الرسيرة النبوية دروس وعبر ص ‪.5‬‬ ‫)‪ (5‬أرنولد توينبي‪ :‬مدخل تاريخي للدين‪.‬‬ ‫)‪ (6‬مصطفى صادق الرافعي الشراق اللهي وفلرسفة الرسلم )وحي القلم ( ج ‪.2‬‬

‫‪188‬‬


‫إتحاد الكتاب والمثقفين العرب‬ ‫يَُكّرم‬ ‫’’حبر التحاد’’‬ ‫الديب السيد إبراهيم أحمد‬

‫‪189‬‬


‫رائحة اللغة العربفية الفصح﴾ى تفاوح من سطاوره‪ ,‬وعبق عراقة الَتعاريخ يْنبعث‬ ‫‪..‬من ثْنعايعا كلمعاته‬

‫هاو الزمن الجمفيل من روعة الحرف ودقة الاوصف ‪..‬‬ ‫هاو الغاواص المعاهر فج ي الخلجعان والمحفيطعات لفيعاود لْنعا بصفيد ثمفين تجعاهلَته‬ ‫القلم تحت صخاور البداع ‪..‬‬

‫له نكهة خعاصة فج ي غزل ونسج وحفيعاكة وصبعاغة ماوضاوععاته ‪ ,‬وله بصمة خعاصة‬ ‫فج ي محعاكعاة الَتعاريخ السلمج ي‪..‬‬

‫)) صل﴾ى ال علفيه وسلم نسعاء حاول الرساول((‬

‫ففيه روعة الحرف‪ ,‬ورقة الاوصف‪ ,‬وتحلفيل الظرف فج ي كل عرف وعرف‪.‬‬

‫‪190‬‬


‫بفين سطاوره أنَتح﴾ى أزقة مكة ‪ ,‬وأعرج عل﴾ى ديعار بْنج ي هعاشم ‪ ,‬وأمر عل﴾ى ديعار‬ ‫عبد المطلب أرى مرضعة الرساول فج ي ديعار بْنج ي سعد‪......‬وأصغج ي إل﴾ى القاوم‬ ‫يجَتمعاون فج ي دار الْندوة ‪..‬وأتعابع خطاوات عمربن الخطعاب ‪,‬أسمع صفعَته المدوية‬ ‫عل﴾ى وجه أخَته‪.ُ.‬ثم أراه معلْنعا إسلمه فج ي قاوة بأس مَتحديعاً القاوم كلهم انه‬ ‫عل﴾ى دين )) محمد صل﴾ى ال علفيه وسلم (( وانه يقاول معا يقاول‬ ‫))السفيد إبراهفيم أحمد((‬ ‫يقدم شهعادة عل﴾ى عصر مفيلد الْنباوة من خلل رؤيَته عبر كَتعابه‬ ‫(( نسعاء حاول الرساول))‬ ‫هذا الكَتعاب الذ ي تعرض لدور المرأة فج ي نشر السلم ‪ ,‬ودورهعا فج ي‬ ‫السلم والحرب ‪ ,‬لفيدحض بهذا مزاعم الغرب الذ ي يحعاول من الَترويج‬ ‫لمزاعمه نحاو تقلفيص وتهمفيش دور المرأة فج ي المجَتمع السلمج ي‬ ‫وبعد تلك الاومضعات الْناورانفية يسعدنج ي بعالصعالة عن نفسج ي ‪,‬‬ ‫ونفيعابة عن أعضعاء اتحعاد الكَتعاب والمثقففين العرب أن نكرم جمفيععاً‬ ‫كعاتبْنعا بهذا اللقب‪:‬‬ ‫‪191‬‬


‫))حبر التحعاد))‬ ‫الكعاتب والديب الريب‬ ‫))السفيد إبراهفيم أحمد((‬ ‫وكذلك بَتكريمه بشهعادة تقدير لمعا قدمه لْنعا فج ي اثراء الحركة الثقعاففية‬ ‫فج ي بلطْنعا العريق‪.‬كمعا يسعدنعا إخَتفيعاره مراجععاً فج ي لجْنة‬

‫(( الكَتعاب الذهبج ي لتحعاد الكَتعاب والمثقففين العرب((‬ ‫مبعارك لْنعا جمفيععاً هذا الَتكريم‪.‬‬ ‫فعائق ماودتج ي وتقدير ي‬ ‫دكَتاور محمد حسن كعامل‬

‫رئفيس اتحعاد الكَتعاب والمثقففين العرب‬

‫اتحاد الكتاب والمثقفين العرب يكرم الديب السيد إبراهيم‬ ‫‪192‬‬


‫حور‪ -‬الرياض‪ :‬ك ّرم اتحاد الكتاب والمثقفيــن العــرب الكــاتب والديــب "الســيد‬ ‫إبراهيــم أحمــد" بلقــب "حــبر التحــاد"‪ ،‬كمــا كّرمــه بشــهادة تقــدير لمــا قــدمه‬ ‫للتحاد في إثراء الحركة الثقافية‪ ،‬واختاره مراجعاً في لجنــة "الكتــاب الــذهبي‬ ‫لتحاد الكتاب والمثقفين العرب"‪.‬‬ ‫أعلن ذلك رئيس اتحاد الكتاب والمثقفين العرب‪ ،‬محمد حسن كامل‪.‬‬ ‫ومن أعمال المكرم "نساء حول الرسـول"‪ ،‬وهـو الكتـاب الـذي تعـرض لـدور‬ ‫المرأة في نشر الســلم‪ ،‬ودورهــا فــي الســلم والحــرب‪ ،‬ليــدحض بهــذا مزاعــم‬ ‫الغــرب الــذي يحــاول الترويــج لمزاعمــه بتقليــص وتهميــش دور المــرأة فــي‬ ‫المجتمع السلمي‪ .‬كما تنشر له "حور" مقالت دورية على صفحاتها‪.‬‬

‫"حور" تهنئ الديب السيد إبراهيم أحمد لتكريمه المستحق‪ .‬وألف مبروك‪.‬‬

‫نساء فى حياة الرسول‬

‫ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ أهم المراجع‬

‫‪193‬‬

‫ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ السيد إبراهيم‬


‫‪ :‬أولً ‪ :‬القرآن الكريــــــــم‬ ‫‪:‬ثانًيا ‪ :‬كتب السنة الصحيحة الواردة بالهوامش والحواشي‬ ‫‪ :‬ثالثا‪ :‬كتب السير والتراجم‬ ‫الصابة في تمييز الصحابة لبن حجر ‪ -‬الطبقات الكبرى لبن رسعد‪ -‬الرسيرة‬ ‫النبوية لبن هشام ‪ -‬البداية والنهاية لبن كثير ‪ -‬صفة الصفوة لمحمد أبو الفرج‬ ‫ رسير أعلم النبلء للذهبي ـ مورسوعة حياة الصحابة ‪ -‬فضائل الصحابة لبن‬‫‪.‬حنبل ‪ -‬دلئل النبوة للصبهاني‪ -‬الرستيعاب لبن عبد البر‬ ‫‪ :‬رابًعا ‪ :‬تفاسير القرآن الكريم‬ ‫‪.‬القرطبي ـ ابن كثير ـ في ظلل القرآن‬ ‫سا ‪ :‬المصادر والمراجع التالية‬ ‫‪ :‬خام ً‬ ‫ـ ابن كثير‪ :‬الرسيرة النبوية للمام أبى الفداء ارسماعيل بن كثير تحقيق مصطفى‬ ‫عبد الواحد الجزء الول ‪ 1396‬هـ ‪ 1971 -‬م ‪ ،‬دار المعرفة للطباعة والنشر‬ ‫والتوزيع‪ ،‬بيروت – لبنان ‪.‬‬ ‫ـ أغناطيوس غويدى ‪ :‬محاضرات فى تاريخ اليمن والجزيرة العربية قبل‬ ‫الرسلم ‪ ،‬ترجمة إبراهيم الرسامرائى‪ ،‬الطبعة الولى‪ ،‬دار الحداثة للطباعة‬ ‫‪.‬والنشر‪ ،‬بيروت ‪1986‬‬ ‫ـ إرسماعيل راجى الفاروقى ) دكتور( والدكتورة لوس لمياء الفاروقى‪ :‬أطلس‬ ‫‪.‬الحضارة الرسلمية‪ ،‬مكتبة العبيكان‪ ،‬الرياض‪ ،‬الطبعة الولى‪1988 ،‬‬ ‫ـ الرسهيلي ‪ :‬الروض النف في تفرسير الرسيرة النبوية لبن هشام‪ ،‬دار المعرفة‪،‬‬ ‫بيروت ‪.1978‬‬ ‫ـ المحب الطبري ‪ :‬الرسمط الثمين فى مناقب أمهات المؤمنين‪ .‬طبعة حلب ‪.‬‬ ‫ـ القاضي عياض ‪ :‬الشفا بتعريف حقوق المصطفى‪ ،‬تحقيق أحمد فريد‬ ‫‪194‬‬


‫المزيدي‪ .‬الطبعة الولى‪ ،‬المكتبة التوفيقية‪ ،‬القاهرة ‪.‬‬ ‫ـ توماس كارليل ‪ :‬محمد المثل العلى‪ .‬ترجمة محمد الرسباعي‪ ،‬مكتبة الداب‪،‬‬ ‫مصر ‪. 1991‬‬ ‫ـ خواجة أفندى كمال الدين ‪ :‬ينابيع المرسيحية ص ‪ 85‬ترجمة إرسماعيل حلمى‬ ‫‪.‬البارودى ‪،‬منشورات لجنة المحققين ‪ ،‬لندن ‪1991‬‬ ‫ـ ر‪.‬ف‪ .‬برادلى ‪:‬الررسول ـ حياة محمد ‪ ..‬ترجمة عبد الحميد جودة الرسحار‬ ‫‪.‬الرسحار ‪،‬مكتبة مصر‬ ‫ـ عباس محمود العقاد ‪ :‬فاطمة الزهراء والفاطميون‪ .‬الطبعة الولى‪ ،‬دار‬ ‫‪.‬الكتاب اللبنانى‪ ،‬بيروت ‪1974‬‬ ‫‪.‬ـ عبد الحد داود ‪ :‬محمد فى الكتاب المقدس‪ .‬الطبعة الثانية‪ ،‬دارالضياء‬ ‫ـ عبد الشافي محمد عبد اللطيف )دكتور(‪ :‬تاريخ الرسلم في عصر النبوة‪،‬‬ ‫‪.‬المعهد العالي للدرارسات الرسلمية‪ ،‬القاهرة ‪2009‬‬ ‫ـ عائشة عبد الرحمن )دكتورة( ‪ :‬نرساء النبي‪ ،‬الطبعة الخامرسة‪ .‬دارالهلل‬ ‫‪.1971‬‬ ‫ـ عائشة عبد الرحمن )دكتورة(‪ :‬أم النبى ط ‪ 2‬الهيئة المصرية العامة للكتاب‬ ‫‪1995.‬‬ ‫ـ رسعيد أيوب‪ :‬زوجات النبي صلى ا عليه ورسلم‪،‬قراءة في تراجم أمهات‬ ‫المؤمنين فيحركة الدعوة‪ ،‬الطبعة الولى‪ ،‬دار الهادي‪ ،‬لبنان ‪.1997‬‬ ‫ـ شوقى ضيف ) دكتور( ‪ :‬محمد خاتم المررسلين‪ .‬دار المعارف‪ ،‬مصر‬ ‫‪.2000‬‬ ‫ـ صفى الرحمن المباركفورى‪:‬الرحيق المختوم‪ .‬الطبعة الولى‪ ،‬دار الوفاء‪،‬‬ ‫مصر ‪.2002‬‬ ‫ـ محمد أبو زهرة )دكتور(‪ :‬خاتم النبيين‪ .‬المؤتمر العالمى الثالث للرسيرة‬ ‫والرسنة النبوية‪.‬‬ ‫ـ محمد بن عبدا العوشن ‪ :‬ماشاع ولم يثبت في الرسيرة النبوية‪ ،‬دار طيبة‪،‬‬ ‫الرياض ‪1428‬هـ ‪.‬‬ ‫ـ محمد شيحانى )دكتور( ‪ :‬هل محمد عبقرى مصلح أم نبي مررسل؟ الطبعة‬ ‫‪195‬‬


196


197


Issuu converts static files into: digital portfolios, online yearbooks, online catalogs, digital photo albums and more. Sign up and create your flipbook.