قصة تحرير العبيد والرقيق والجواري في الحجاز

Page 1

‫ ‬ ‫* أھالي مكة تنادوا بالجھاد عندما قرر العثمانيون تحرير الرقيق بحجة‬ ‫أن القرار مخالف لشرع ‪..‬‬ ‫* كانت الجارية الجميلة تباع في نجد بـ ‪ ١٧‬ألف ‪ +‬ومتوسطة الجمال‬ ‫بـ ‪ ٨‬آالف‪..‬‬ ‫* البحث كشف أسماء أشھر تجار الجواري الذين كانوا مطلوبين للعدالة‬ ‫ومنھم "ابن غراب‪"..‬‬ ‫* عام ‪ ١٩٢٢‬وصلت أعداد كبيرة من األطفال المخطوفين من أثيوبيا‬ ‫إلى جدة لبيعھم‪..‬‬ ‫* إحصاء عام ‪ ١٩٣١‬م ب ّين أن عدد الرقيق في السعودية حوالي ‪٤٠‬‬ ‫ألف عبد وجارية‪..‬‬

‫‪1‬‬


‫رصد الباحث السعودي محمود صباغ مايمكن وصفه بـ"المسكوت عنه" من حكايات‬ ‫تجارة الجواري والعبيد في الحجاز خالل الفترة األخيرة السابقة لصدور قرار‬ ‫تحرير الرقيق في المملكة العربية السعودية رسميا والممتدة بين عامي ‪١٨٥٥‬م‬ ‫و‪١٩٦٢‬م‪.‬‬ ‫تبدأ قصة تحرير العبيد والجواري في السعودية من عام ‪١٨٥٥‬م حين أصدرت‬ ‫الدولة العثمانية مرسوما ً يقضي بمنع بيع الرقيق في جميع األراضي الخاضعة‬ ‫لسيادتھا‪ .‬وطلب كامل باشا والي الحجاز العُثماني المقيم في جدة‪ ،‬من قائم مقامه في‬ ‫مكة‪ ،‬أن يجمع ّ‬ ‫داللي الرقيق‪ ،‬ويخبرھم باالجراءات الجديدة‪ ،‬بمقتضى أوامر الباب‬ ‫العالي‪.‬‬

‫ويصف أحمد زيني دحالن‪ ،‬مؤرخ مكة المعاصر لتلك الفترة‪ ،‬في )خالصة الكالم‬ ‫في بيان أمراء البلد الحرام( تسلسل األحداث بعد ذلك االجتماع بشئ من االيجاز‬ ‫فيقول ‪ :‬لما علم األھالي في مكة بالقرار صاروا من ذلك في انزعاج واضطراب‪،‬‬ ‫وصاروا يقولون‪“ :‬كيف يمنع بيع الرقيق الذي أجازه الشارع؟” ‪ ..‬وتنادوا للجھاد‪،‬‬ ‫واجتمع طلبة العلم في بيت رئيس العلماء ومفتي األحناف‪ ،‬الشيخ جمال شيخ وطلبوا‬ ‫اليه أال يرضخ لما يخالف الشرع ‪ ،‬وان ينتقل معھم الى دار القاضي ليمنع صدور‬ ‫ذلك األمر‪ ،‬فلما مشت جموعھم في الشوارع انضم اليھا الجمھور ونادوا بالثورة‬ ‫واشتبكوا مع االتراك في قتال عنيف وامتد القتال الى المسجد الحرام‪ ،‬فقُتل فيه عدة‬ ‫أشخاص من الفريقين‪ ،‬فلما انتھت االخبار الى الشريف عبد المطلب بالطائف‬ ‫‪2‬‬


‫غضب لألمر وجمع جموعه من القبائل إلعانة األھالي في مكة ضد الترك‪ ،‬فخف‬ ‫االتراك الى جدة وتحصّنوا بھا‪ ،‬واعلن كامل باشا ان المراسيم السلطانية قد وصلت‬ ‫اليه بعزل عبد المطلب وتولية الشريف محمد بن عبدالمعين بن عون‪.‬‬ ‫وكانت الدولة العثمانية خارجة لتوھا من حرب القرم مع روسيا انذاك ‪ ،‬يقف الى‬ ‫جانبھا حلفاؤھا الجُدد البريطانيون والفرنسيون‪ ،‬الذين ضغطوا عليھا اللغاء تجارة‬ ‫الرقيق على أراضيھا والتخاذ بعض االصالحات فيما يخص حقوق األقليّات‪.‬‬ ‫والذت النخبة العثمانية التي كانت تميل نفوسھا الى االصالح بتلك التوجّ ھات‬ ‫الدولية‪ ،‬فبلورت شروطھا في فرامانات اصالحيّة أبطلت في احداھا ممارسة‬ ‫الرقيق‪.‬‬ ‫وكان النفوذ االوروبي في الحجاز والبحر األحمر يشھد تصاعداً منذ توقيع اتفاقية‬ ‫التجارة العثمانية‪ -‬البريطانية عام ‪١٨٣٨‬م‪ ..‬وما صاحبھا من تنامي لمشاعر العداء‬ ‫المحلية ضد التجار والرعايا االنجليز القادمين حديثا ً لمزاحمتھم في ميناء جدة‪.‬‬ ‫وتزامن ذلك أيضا ً مع نفوذ شركة الھند البريطانية وارھاصات شروق شمس التاج‬ ‫البريطاني على شبه القارة الھنديّة واخضاع عدن للسيطرة البريطانية عام ‪١٨٣٩‬م‪،‬‬ ‫وما رافقه من بدء ترتيبات منح امتيازات للحجاج الھنود الذين باتوا يحملون‬ ‫الرعويّة البريطانية‪ ،‬ويحظون اثر ذلك بعناية غير مسبوقة من قبل القنصلية‬ ‫البريطانية في جدة‪ ..‬وھي امتيازات خاصة شملت مجاالت الصحة والرسوم‬ ‫الجمركيّة والكورنتينات والتنقل‪ .‬وھذا خدش مشاعر الوطنيين وكراماتھم في مدن‬ ‫الحجاز وبواديھا‪.‬‬ ‫ھكذا كانت نغمة التوجس من األوروبيين في أوجھا لدى المحليين‪ .‬ولما كان كامل‬ ‫باشا‪ ،‬والي الحجاز‪ ،‬اقرب ألفكار النخبة العثمانية المستنيرة‪ ،‬أشاع ضده أمير مكة‬ ‫موال للنصارى‪ ،‬يريد بذلك الطعن في ھيبته‬ ‫العشائري‪ ،‬الشريف عبد المطلب‪ ،‬بأنه‬ ‫ٍ‬ ‫والتقليل من شعبيته‪.‬‬ ‫كان عبد المطلب – قبيل اندالع فتنة منع الرقيق في مكة – قد تورط في حادثة‬ ‫مقتل نقيب السادة العلويين في مكة السيّد اسحاق بن عقيل بصورة بشعة – كون‬ ‫األخير كان حليفا ً لرجال السلطنة‪ ،‬خصوم الشريف في مكة‪ ،‬في صراعه الدائم‬ ‫والمفتوح على السلطة‪.‬‬ ‫وأدرك عبد المطلب‪ ،‬الذي تحصّن في اطراف الطائف‪ ،‬حضن الحجاز العشائري‪،‬‬ ‫فاراً من مواجھة جنود الوالي‪ ،‬دنو صدور مرسوم اعفائه من شرافة الحجاز‪ ،‬فوثب‬

‫‪3‬‬


‫الى استغالل موجة العداء الشعبية التي انفلتت من عقالھا مع صدور قرار منع بيع‬ ‫الرقيق‪ ،‬وتماھى مع غارات المضار‪ ،‬فأجج في نيران الفتنة بما اتفق مع مصالحه‪.‬‬ ‫لم يكن عبد المطلب مدفوعا ً بايمان أيديولوجي في تبنيه لمطالب الغوغاء بالشارع‬ ‫الم ّكي قدر ما ُنظر دوما ً لموقفه على انه استغالل سياسي وتوظيف ذرائعي‪.‬‬ ‫وبالمثل‪ ،‬لم تكن عوامل اندالع الفتنة في الشارع بريئة خالصا ً‪.‬‬ ‫لقد أجبر عبد المطلب‪ ،‬بإيعاز من دالّلي الرقيق في مكة وتجار جدة‪ ،‬علماء مكة الى‬ ‫اصدار فتوى تناھض قرار الغاء تجارة العبيد‪ .‬ثم قاد مناوشات عسكرية ضد‬ ‫الحامية العسكرية التركيّة‪ ،‬قبل ان يتقھقر ويتحصّن في صفوف المقاومة طيلة سبع‬ ‫أشھر‪.‬‬ ‫انتھت األزمة الحقا ً بالقاء القبض على عبد المطلب من قبل السلطات العثمانية ونفيه‬ ‫الى سالونيك باليونان‪ ،‬لكن قرار الغاء الرقيق في والية الحجاز كان قد ُجمّد الى‬ ‫أجل غير معلوم‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫كان الحجاز يخضع حينھا لفضاء المحيط الھندي الكبير‪ ،‬وھو فضاء ثقافي‬ ‫وحضاري ممتد جغرافياً‪ ،‬تشد أطرافه المتباعدة حركة التجارة البحرية المنطلقة من‬ ‫البحر األحمر الى تخوم الصين‪ .‬وقبل صعود أفكار الدولة القومية عالمياً‪ ،‬اشترك‬ ‫الحجاز‪ ،‬مع مصر وسواحل السودان والقرن االفريقي وتنزانيا وكيبتاون‪ ،‬وسواحل‬ ‫تھامة واليمن وحضرموت ومسقط مع غرب القارة الھندية وسنغافورة وأرخبيل‬ ‫مالوي )أندونسيا وماليزيا( وأجزاء من تايالند والصين‪ ،‬في وحدة ثقافية وبشرية‬ ‫كان ابرز معالمھا االنتماء للمذھب الشافعي‪ ،‬األشد في التأصيل الفقھي – واألكثر‬ ‫تساھالً – مع عادة شراء العبيد‪ ،‬وفي “اجتھادات” ورُخص التسرّي بالجواري‪.‬‬ ‫الحجاز‪ ،‬الفقير يومھا ومنعدم الموارد الذاتية‪ ،‬والذي كان يلمّلم شظايا شخصيته‬ ‫الحضارية‪ ،‬يريد استئناف دوره وإعالن موقفه من جديد في حركة التاريخ‪ ..‬كانت‬ ‫سموم العوائد القديمة قد اجتاحت بنيته الذھنية فيما ال يزال ھو يقاوم للخروج من‬ ‫وھنه الناتج من رزوحه تحت وطأة غفالت األبويّة وأوھام التقليد‪.‬‬ ‫لقد سوّ رت متاعب الزمان وتوابع المحن بسورھا السميك على العقول التي َتلِفت‬ ‫ازاء التقاط اي حجة او شرعة ضداً على الواقع السائد للعوائد الكسيفة‪.‬‬ ‫وم ّر عقدان ساكنان ويزيد منذ تمرد عبد المطلب‪ ،‬واحداثه لفتنة مكة‪.‬‬ ‫وفي العاشر من يناير ‪١٨٧٧‬م‪ ،‬نشرت التايمز اللندنية خبراً من جدة عن رجل أسود‬ ‫عشريني سبح الى البارجة فاون المرابطة على ساحل جدة طالبا ً تخليصه من ربقة‬ ‫‪4‬‬


‫العمل مع النوخذة الذي يملكه‪ ..‬فما كان من قائد البارجة‪ ،‬الكوماندور وارتن‪ ،‬اال‬ ‫تسليمه الى القائم باألعمال في قنصلية جدة‪ ،‬السيّد أوزوالد‪ ،‬الذي سلّمه بدوره الى‬ ‫الوالي التركي‪ ،‬ممثل السلطات العثمانية المحلية في جدة‪.‬‬ ‫واستشاط غضبا ً من مضمون الخبر المنشور في التايمز كال من السادة جوزف‬ ‫كووبر وادموند ستورج من جمعية مكافحة العبيد‪ ،‬وارسال برقية عاجلة من مقر‬ ‫الجمعية في ‪ ٢٧‬نيو‪ -‬بورد ستريت بلندن الى قنصلية جدة‪ ،‬يخبرانھما بأنه كان‬ ‫األدعى االلتزام من قبلھم بقوانين اتفاقية العاشر من اغسطس ‪١٨٧٦‬م الخاصة بعدم‬ ‫تسليم العبيد الالجئين لسلطات بلدانھم‪[٢] .‬‬ ‫واضطر السيّد أوزوالد ازاء التساؤالت الحقوقية والصحافية الى فتح تحقيق رسمي‬ ‫خلص الى اآلتي‪ :‬الرجل الالجئ الى البارجة‪ ،‬اسمه مرجان‪ ،‬وھو نوبي‪ ،‬اُختطف‬ ‫عن طريق البربر عبر مجرى النيل الى ميناء القصير ومنھا ھُرّ ب مع مجموعة‬ ‫أخرى من العبيد الى جدة‪ ،‬حتى بيع الى احد مالّك القوارب الشراعية في جدة؛ اسمه‬ ‫ابراھيم عجالن‪ ،‬الذي س ّخره ألعمال التحميل ومساعدة الركاب في سنبوكه‪.‬‬ ‫واعترف مرجان ان مالكه كان يُحسن معاملته ولم يكن يضربه قط‪ .‬ولكنه كان‬ ‫يشتكي من تعرض جسده للبرودة حيث ال تكفيه مالبسه الخفيفة‪ .‬وألجل ذلك لجأ ‪-‬‬ ‫عفويا ً‪ -‬للبارجة‪.‬‬ ‫واعتبر اوزوالد‪ ،‬في تقريره المرفوع‪ ،‬انه حيث لم تكن ھناك اتفاقية بيّنية ملزمة فيما‬ ‫يخص العبيد الالجئين فقد تم تسليمه للوالي التركي‪ ،‬الذي اعاده بدوره لمالكه بعد‬ ‫انتفاء دعوى اساءة المعاملة‪.[٣] .‬‬ ‫كانت محاولة مرجان أولى حوادث لجوء العبيد الى الجھات القنصلية البريطانية في‬ ‫جدة‪ ..‬وھي وان مرت دون تدخل جوھري‪ ،‬فانھا ستش ّكل نقطة تحوّ ل في طريقة‬ ‫عمل الجھات القنصلية األجنبية ازاء العبيد الالجئين فيما بعد كما سنرى‪.‬‬ ‫تجارة مزدھرة‬ ‫كانت تجارة العبيد مزدھرة بين ض ّفتي البحر االحمر‪ :‬في انطالقھا من موانئ‬ ‫تاجورة )جيبوتي( وزيلع )الصومال( وبربرة ومصوّ ع )ارتريا( الى موانئ البحر‬ ‫االحمر اآلسيوية‪.‬‬ ‫وضمت تجارة العبيد الى جزيرة العرب عناصر افريقية عدة من ارتريا والصومال‬ ‫وجيبوتي واثيوبيا يدخلون عبر موانئ جدة والحُديدة والمخا‪ ،‬وقوقاز وجاويين يأتون‬ ‫في مواسم الحج‪ ،‬ونساء ھندوس من بومباي ونساء من فارس وزنجبار يأتون عبر‬ ‫‪5‬‬


‫قنطرة جُزر كمران )بالبحر االحمر(‪ ..‬بعضھم لالحتياج المحلي واآلخر يجري‬ ‫اعادة تصديره شماالً الى تركيا ومصر‪.‬‬ ‫وبدت تجارة العبيد متجذرة حينھا بشكل يتعذر معھا مجرد التفكير في اجتثاثھا‪ ،‬حتى‬ ‫ان نائب القنصل البريطاني في جدة‪ ،‬مستر وايلد كتب في مذكرته التوضيحية الى‬ ‫الخارجية البريطانية في ‪١٨٧٧‬م بان “ممارسة الرق في الحجاز غدت مؤسسة‬ ‫تمارس منذ عھد النبّوة‪ ،‬وان التدخل بين العبيد ومالّكھم انما ھو‬ ‫معقدة حيث انھا‬ ‫َ‬ ‫مسألة شديدة الصعوبة”‪ ..‬لكنه عاد واستدرك بأن عبيد جدة يجري معاملتھم بشكل‬ ‫انساني وخال من االھانات ونادرا ما تسجل ضد ّ‬ ‫مالكھم اي شكاوي‪[٤] .‬‬ ‫وصير الى مبادرات تنظيمية كان مُلھمھا األول الحد من نشاط تھريب الرقيق‬ ‫المتفاقم‪.‬‬ ‫وفي األول من ابريل ‪١٨٧٧‬م‪ ،‬رُصد على قارب “قونيه” الذي يملكه عيسى بن‬ ‫خليفة من تجار سواحل الخليج‪ ،‬ستة عبيد كان يجري تھريبھم للحجاز من قِبل وكيله‬ ‫سلطان بن حارب‪ .‬وفطنت حينھا السلطات البريطانية‪ ،‬الى ِح َيل التھريب عند تجار‬ ‫ورأى ماكدونالد‪ ،‬نائب االدميرال‪“ ،‬ان غياب‬ ‫الخليج ومتعھدي النقل البحري فيه‪.‬‬ ‫َ‬ ‫قوائم المسافرين الھنود للحج وعدم طباعة اسم الراكب على التذكرة سبب في رواج‬ ‫تجارة العبيد بين رعايا الھند والحجاز”‪]٥] .‬‬ ‫وفي الحادي والعشرين من مارس ‪١٨٧٧‬م اصدر الكوماندور كاليتون المقيم في‬ ‫مسقط الى نائب االدميرال ماكدونالد‪ ،‬يخبره ان عدداً كبيراً من العبيد يجري تھريبھم‬ ‫سنويا ً من سواحل الخليج العربي الى الحجاز في مواسم الحج‪]٦] .‬‬ ‫وشرعت القنصلية البريطانية في الزام وكالء شركات البواخر والقوارب في جدة‪،‬‬ ‫التي تتعامل مع حجاج الھنود وسواحل الخليج‪ ،‬على كتابة اسماء الركاب على‬ ‫التذاكر وتقييدھم في قوائم دخول‪.‬‬ ‫وظلّت اكبر مسارات جلب العبيد لجدة تلك التي تأتي بالمخطوفين من اثيوبيا عبر‬ ‫وكالء عرب مستقرون في موانئ تاجورة وزيلع ومصوّ ع ومنھا عبر البحر االحمر‬ ‫الى ميناء الحُديدة ومنھا الى جدة واسواق مكة في مواسم الحج‪.‬‬ ‫وق ّدر الكوماندور بويز في السويس في ‪ ٣‬يوليو ‪١٨٧٧‬م عدد من جرى تھريبه من‬ ‫اثيوبيا ‪-‬وحدھا‪ -‬الى ميناء الحديدة بثالثين ألف عبد فقط في عام ‪١٨٧٦‬م‪ .‬كان العبيد‬ ‫يصلون للميناء ويباعون عبر وكالء ومن يفيض يجري نقله الى مكة والطائف وينبع‬

‫‪6‬‬


‫والمدينة دون اعتراض من السلطات التركية‪ .‬ويق ّدر عدد الذين يستھلكھم او يُعيد‬ ‫تصديرھم سوق جدة سنويا ً من عشر آالف الى خمسة عشر ألف عبد‪.‬‬ ‫وكانت جدة‪ ،‬د ّرة موانئ اقليم الحجاز‪ ،‬مركز ًا رئيسيا ً لوصول العبيد‪ ،‬فيما كانت‬ ‫مكة‪ ،‬عاصمة االقليم‪ ،‬مركزاً العادة تصديره‪ ،‬اضطراداً مع حركة مواسم الحج‪.‬‬ ‫كان العبيد ينزلون على موانئ الحديدة وجدة وينبع على التوالي‪ ..‬وحين سأل‬ ‫الكوماندور باوليت‪ ،‬الذي زار جدة لتفقد احوالھا في يناير ‪١٨٧٨‬م الوالي التركي في‬ ‫جدة‪ ،‬ان كان مينائيّ الليث والقنفذة يُستخدمان ايضا ً لتھريب العبيد‪ ،‬اجاب بالنفي الن‬ ‫البدو سيسرقونھم فور رسوّ ھم‪ [٧] .‬وكان البدو يقتنون عبيدھم من جدة بالشراء‪.‬‬ ‫ولم يخلو بيت في مكة والمدينة وجدة من العبيد والجواري‪ ،‬الذين يُستخدمون للعمل‬ ‫كسقائيين للمياه وعمال يدويين وقراريّة )عمال بناء( ومرافقين وباعة في الدكاكين‬ ‫ومديرين ومحاسبين وصيادين‪ ،‬ناھيك عن القيام باألعباء المنزلية‪ .‬والنساء ھن‬ ‫جاريات وسريات للمُالك الذين ال يستطيعون تحمل تكلفة الزواج الرسمي‪ ،‬بحسب‬ ‫تعاليم المذھب الشافعي‪ ،‬وھن ايضا سراري لألثرياء والمترفين الباحثين عن‬ ‫التسليّة‪.‬‬ ‫وكان كثير من العبيد في سوق مكة يعودون لرعويّة بريطانيا او رعويّة الھند‬ ‫الشرقية الھولندية‪ .‬وأغلب الرق الھولنديون ينتمون لجماعات‪ :‬البورنيو‪ ،‬والسيليبس‬ ‫او من جزر نياز‪ -‬وكلھا في اندونوسيا الحالية‪ -‬وھم يُرسلون اول م ّرة الى مصر‪،‬‬ ‫ومنھا في مواسم الحج الى الحجاز‪ .‬وكثير منھم يُسترقون في قصور أمراء مصر‪.‬‬ ‫وكان من ضمن العبيد االثيوبيين المجلوبين للحجاز مسيحيون بالوالدة‪ ،‬كما رُصد‬ ‫جواري في مكة من ھندوستان‪.‬‬ ‫وعقدت مصر مع بريطانيا اتفاقية في الرابع من اغسطس ‪١٨٧٧‬م اللغاء االسترقاق‬ ‫والنخاسة في جميع انحاء القطر المصري‪ ،‬ومنحت االتفاقية البريطانيين حق توقيف‬ ‫السفن المصرية للتفتيش عن العبيد‪.‬‬ ‫وتأثرت تجارة الرقيق في ميناء الحديدة مع القوانين الجديدة‪ ،‬وتفاعلت السلطات‬ ‫التركية في البحر االحمر ببطء‪ ،‬وشرعت الى توفير قارب تجديف صغير في ميناء‬ ‫جدة للمراقبة اال انه لم يكن ذي اي تأثير‪]٨] .‬‬ ‫وشرعت القنصليات االجنبية في جدة في تحرير العبيد الالجئين اليھا وترحيلھم الى‬ ‫ديارھم األصليّة – لكن ھذا تسبب في اندالع فتنة بين اوساط القبائل‪.‬‬ ‫‪7‬‬


‫وحدثت فتنة في اطراف مكة‪ ،‬واختل األمن في الطرقات خصوصا ً في طريق جدة‪-‬‬ ‫المدينة المنورة‪ ،‬ومع شھر رمضان‪ ،‬الموافق يوليو ‪١٨٨٣‬م‪ ،‬خرج بعض المتمردين‬ ‫من قبائل زبيد وبشر ومعبد وسليم‪ ،‬والثالث االوائل بطون مسروحية تنتمي لقبيلة‬ ‫حرب‪“ ،‬خرجوا في طريق جدة‪ ،‬وصاروا ينھبون الحمل الذي يمر بھم” بحسب‬ ‫احمد زيني دحالن في خالصة الكالم‪]٩] .‬‬ ‫وحين ھمّوا الى االعتداء على القنصليات األجنبية في جدة‪ ،‬تص ّدى لھم الشريف‬ ‫عون الرفيق‪ ،‬وقاتلھم حتى تقھقروا الى عسفان‪ ،‬فأدركھم وأوقع بھم حتى اطاعوا له‪،‬‬ ‫وساقوا جملة من المبررات التي دعتھم الى اشعال الفتنة‪ ،‬كان في صدارتھا “أن‬ ‫النصارى يأخذون رقيقھم‪ ،‬ويطلقونھم من أيديھم ويرفعون الرق عنه‪ ،‬حتى عصي‬ ‫عليھم عبيدھم” – بحسب دحالن‪.‬‬ ‫وبات ظاھراً ان يلجأ الرقيق الھارب الى القنصليات االجنبية في جدة ويحتمون بھا‬ ‫للحصول على شھادات الحرية‪ .‬وكانت القنصليات تمنحھم شھادات حرية دون‬ ‫الرجوع الى والية الحجاز او انتظار اوراقھا الرسمية‪ .‬ويحتوي االرشيف العثماني‬ ‫تفاصيل قصة عبد ھارب توجه الى استانبول في اغسطس ‪١٨٨٩‬م مع افراد اسرته‬ ‫بعد حصوله على ورقة الحرية من القنصلية االيطالية في جدة دون موافقة‬ ‫الوالية‪]١٠] .‬‬ ‫ونادى القنصل االنجليزي في جدة األھالي صراحة باطالق سراح عبيدھم في‬ ‫نوفمبر ‪١٨٩١‬م‪.‬‬ ‫وكانت السلطات العثمانية تشعر بالضيق ازاء ذلك التدخل السافر في شئونھا‬ ‫الداخليّة‪ .‬وتوجست اسطانبول من اھتمام بريطانيا المتزايد بالحجاز‪ ،‬كونه كان‬ ‫يخالف مصالحھا اقليميا ً‪.‬‬ ‫وعاد عثمان نوري باشا واليا للحجاز في فترة ثانية في منتصف ‪١٨٩٢‬م‪ ..‬لكن‬ ‫عداؤه الشخصي القديم مع الشريف عون الرفيق لم يلبث االّ واندلع من جديد‪،‬‬ ‫محوره السيطرة على الحكم‪ ،‬وظاھره قضية الرقيق‪.‬‬ ‫واُنتدب احمد راتب باشا من قبل السلطان عبدالحميد للتحقيق حامالً معه تعليمات‬ ‫تتلخص في اربع مھام‪ ،‬أولھا‪ :‬التحقيق في تمرد القبائل في الحجاز بسبب اعتراضھم‬ ‫على فرار عبيدھم‪.‬‬ ‫ورشا عون الرفيق‪ ،‬راتب باشا بستة آالف جنيه ذھبا ً وضِ عت في ص ّرة وسلمّت له‬ ‫لحظة وصوله في ميناء جدة‪ ،‬يؤكد األفندي محمد نصيف ان األخير قام بعدھا جنيھا ً‬ ‫‪8‬‬


‫جنيھا ً‪ .‬وكتب راتب باشا تقريرا يؤيد فيه الشريف‪ ،‬ويبرئ ساحته ضداً على الوالي‪،‬‬ ‫الذي حمّل الالئمة عليه‪]١١] .‬‬ ‫واجتمع راتب باشا ببعض شيوخ القبائل بوساطة من الشريف عون بن ناصر الذي‬ ‫انتدبه ألجل ذلك‪ ،‬ولما التئموا احتموا باسم جناب السلطان ورموا بعقلھم واشمغتھم‬ ‫على األرض حسب العادات العربية مطالبين بالعفو‪ ،‬واعتبروا ان تمردھم كان‬ ‫احتجاجا ً على فرار عبيدھم‪ ،‬وتراخي عثمان نوري المنحاز لالجئين والمدفوع الى‬ ‫رفع الرق عنھم‪.‬‬ ‫‪...................................................‬‬

‫ دكة الرقيق‪ -‬مؤسسة تجارة العبيد المكيّة‪:‬‬‫ولما استفحل امر الدراويش المھديون واستولوا على األقطار السودانية في مطلع‬ ‫‪١٨٨٥‬م‪ ،‬الغوا قرارات غوردن باشا واعادوا تجارة الرق الى افظع ما كانت عليه‪،‬‬ ‫فتدفق الى الحجاز‪ ،‬عبر عصابات سودانية محليّة‪ ،‬موجات ضخمة من الرقيق‬

‫‪9‬‬


‫السوداني‪ .‬وبات نشاط تھريب الرقيق من ميناء سواكن يجري في العلن‪ ،‬وعبر‬ ‫مجموعات ضخمة تتجاوز األلفيّ شخص مع كل حمولة بحرية‪{١٢} .‬‬ ‫وكما ازدھرت تجارة الرقيق والجواري في الحجاز‪ ،‬ازدھر معھا نشاط شراء‬ ‫الحجاج العبيد العتاقھم‪ ،‬واعادة حرياتھم اليھم‪ .‬وغصت مدن الحجاز باألرقاء‬ ‫العتقاء‪ ،‬بل ان مدينة كاملة في جوار المدينة المنورة‪ ،‬وھي خيبر‪ ،‬قد تألّفت حصراً‬ ‫من االرقاء السابقين‪.‬‬ ‫وبرزت في مكة مؤسسة د ّكة الرقيق‪ ،‬وكانت سوقا ً للعبيد في اطراف سوق سويقة‪،‬‬ ‫على مقربة من باب الدريبة‪ ،‬يقوم عليھا شيوخ التجارة‪ ،‬وملحقة بأحواش مفتوحة‬ ‫غير كبيرة يحبس فيھا الرقيق في المساء‪.‬‬ ‫وكانت مراسم البيع تجري بحضور شاھديّن‪ ،‬و ُتسجّل في اوراق مجلوبة ومُصدقة‬ ‫من المحكمة الشرعية‪.‬‬ ‫ويصف المستشرق الھولندي سنوك ھوروخرنيه الذي مكث في مكة عام ‪١٨٨٤‬م‪،‬‬ ‫أجواء ومناخات بيع العبيد والجواري في د ّكة الرقيق‪“ ..‬ازاء الجدار تقف الفتيات‬ ‫والنساء من الجواري على الد ّكة‪ ،‬والكبار منھن ال يرتدين سوى حجاب خفيف‪،‬‬ ‫ويقف أمامھن على األرضيّة الرقيق الذكور‪ ،‬وفي بھو القاعة يلعب مجموعة من‬ ‫العبيد الصبيّة‪ .‬ويجلّس الداللون على مركازھم ويتبادلون أطراف الحديث سوية او‬ ‫مع بضاعتھم من الرقيق”‪[١٣] .‬‬ ‫فيما يصف طقوس الشراء‪“ ..‬واذا اھ ّتم زبون بصبي أسود صغير‪ ،‬يقوم الدالّل‬ ‫المخصص بمناداته‪ ،‬ويطلب منه الكشف للزبون عن شعره‪ ،‬واقدامه‪ ،‬وبقية أطرافه؛‬ ‫ويجبّر الصبي على فتح فمه واستعراض لسانه واسنانه‪ ،‬فيما يقوم ّ‬ ‫الدالل باستعراض‬ ‫مواھبه للزبون المھ ّتم”‪[١٤] .‬‬ ‫واذا جاء المشتري البتياع جارية فحصھا فحصا ً دقيقا ً من قمة رأسھا الى أخمص‬ ‫قدميھا كما ُتفحص البھائم‪ .‬فاذا تحقق من لباقتھا ولياقتھا سامھا من البائع‪.‬‬ ‫ويقوم المشترون عادة بعدة اختبارات للرقيق قبل اتمام عملية الشراء‪ .‬فيسألونھم ان‬ ‫كانوا يتحدثون العربية‪ ،‬ويسألونھم بعض األسئلة الشخصيّة‪ ..‬ثم يقومون بالكشف‬ ‫عن عالمات االصابة بالجدري‪ ،‬ويبحثون في اجسادھم عن ختم “جدرّ ي خالص”‬ ‫تنويھا ً عن تلقيحھم ضد الجدري – واللقاح كان يُمنح في الحجاز‪ ،‬مشفوعا ً بشھادات‬ ‫اعتماد مختومة من مفتي الشافعيّة في مكة‪ ،‬ولكن قلّما كانت تمنح ھذه الشھادات‬ ‫للعبيد‪.‬‬ ‫‪10‬‬


‫واذا ظ ّل في نفس الزبون قليل من الشك‪ ،‬فانه يصطحب العبد الذي ينوي شراؤه‬ ‫لفحصه عند طبيب مقابل عائد مادي‪ ،‬او يقوم بصالة “االستخارة”‪ ..‬اما اذا كان‬ ‫يعمل بالرمل والندر‪ ،‬فھو يذھب لشيخ الرمل ليقرأ طالعه قبل اتمام صفقة الشراء‪.‬‬ ‫]‪[١٥‬‬ ‫راض؟”‪ ..‬ومن خالل االجابة‪ ،‬حتى لو‬ ‫وأخيراً يسأل السيّد الجديد عبده‪“ :‬ھل انت‬ ‫ٍ‬ ‫جاءت بالسلب‪ ،‬يدرك الرجال بفراستھم فرص نجاح العالقة الجديدة من عدمھا‪.‬‬ ‫ووقف الضابط الروسي عبدالعزيز دولتشين الذي زار مكة متخفيا ً في عام ‪١٨٩٨‬م‬ ‫على اجواء د ّكة الرقيق‪ ،‬ووصفھا بالمحفل الرھيب‪.‬‬ ‫يقول دولتشين‪“ :‬وعندما زرت ھذا السوق‪ ،‬كان ھناك زھاء ‪ ٨٠‬شخصا ً معظمھم‬ ‫شابات حبشيّات مع اثنتين او ثالث منھم اطفال رضع‪ ،‬وجميعھن مزيّنات‬ ‫ومصفوفات فرقا ً على دواوين طويلة؛ وكان ھناك مقعدان يجلس عليھما كادحون‬ ‫راشدون من الزنوج‪ ،‬البسون بعناية ومقصوصو الشعر‪ ..‬يشرف على البيع تاجر‬ ‫عربي نشيط راح يمدح بصوت مدو مزايا بضاعته”‪]١٦] .‬‬ ‫لقد خلص دولتشين الى ان ما رأه قد ترك في نفسه انطباعا ً كئيبا ً ومُرھقا ً جداً‪.‬‬ ‫لكن المستشرق ھوروخرونيّه‪ ،‬االعتذاري للشرق وممارساته وأخالقه‪ ،‬اعتبر ان‬ ‫الر ّحالة األوروبيين الذين يحكمون على تجارة العبيد في الحجاز باستعالء وبفرض‬ ‫تام لقيّمھم انما يجافون الواقع ويغلّبون نظرتھم السطحية والمستعجلة لألمور‪“ .‬وأسفا ً‬ ‫فإن غالب المستشرقين ينقلون لنا مالحظات سطحيّة عن ممارسات الرقيق في‬ ‫مكة”‪ ،‬يقول ھوروخرونيه‪]١٧] .‬‬ ‫ويرى ھوروخرونيه انه ال يمكن ان يشتري احد في اسواق مكة أي عبد ذكر دون‬ ‫ارادته‪ ،‬لكن ھذا الشرط يجري التسامح معه مع الرقيق االناث والجواري‪ .‬وان‬ ‫الرقيق اذا استشعر سوء المعاملة فانه يصرّ على بيعه حتى يرضخ مالكه‪ ،‬فيعيد‬ ‫تسليمه الى د ّكة الرقيق‪ .‬لكن ذلك كان يجري دون غطاء قانوني‪.‬‬ ‫ويقول ھوروخرونيه‪“ :‬ال تبدو على الرقيق في البيوت أي عالئم للحزن او السخط‪،‬‬ ‫وھم ال يسكبون دمعة واحدة على تقييد حرياتھم‪ .‬لكنھم يبدأون في االعتراض اذا ما‬ ‫تم اساءة معاملتھم حتى ينالون فرصة أخرى للبيع لمالك آخر”‪[١٨] .‬‬ ‫واذا اخطأ العبد فان عقوبة الضرب على أسفل قدميه في انتظاره‪ .‬يصف‬ ‫ھوروخرونيّه ذلك المشھد كما شاھده في احد حارات جدة‪“ :‬يضجع العبد على بطنه‪،‬‬ ‫ويرفع قدميه للسماء‪ ،‬فيما ينزل المالك او احد رجاله بعصا “ال َف َل َكة” على اسفل‬ ‫‪11‬‬


‫قدميّه‪ ،‬فيما يصرخ العبد معلنا ً التوبة‪ ،‬وطالبا ً العفو بإسم الرسول” ]‪ .. [١٩‬لكن‬ ‫ھوروخرونيه يعود ويستدرك ان ھذه العقوبة ھي نفسھا التي يستخدمھا أھالي‬ ‫الحجاز ازاء ابنائھم المشاغبين‪ ،‬نافيا ً أي شبھة تمييز‪.‬‬ ‫ويخلص المستشرق ھوروخرونيه الى تسامح المجتمع الم ّكي واحترامه للعبيد‪ ..‬كون‬ ‫العديد من الجواري‪ ،‬انما يصبحن أمھات لمكيين‪ ،‬فيما يعقب العبيد الذكور أسيادھم‬ ‫في مھنھم ومكاناتھم االجتماعية‪ ،‬بل ويحملون ألقابھم العائليّة‪[٢٠] .‬‬ ‫وھو يضرب مثالً بأحد “ ُكباريّة” مكة‪ ،‬ممن ينحدر من عائلة أرستقراطية مكيّة‬ ‫عملت في االفتاء‪ ،‬في وصف المعاملة فائقة االحسان التي يتعامل بھا العبيد في‬ ‫الحجاز‪ ،‬فيشير الى تعامله شديد التھذيب حد التدليل لمرافقه المملوك‪ ،‬في احد‬ ‫الغدوات التي كان يحرص على لقائه فيھا بشكل دوري ابّان مكوثه في مكة –‬ ‫واغلب الظن ان المقصود ھو صديقه الحميم السيّد عبد‪ r‬الزواوي‪ ،‬مفتي الشافعية‬ ‫في مكة‪.‬‬ ‫ويذھب ھوروخرونيه‪ ،‬الذي كان يحكم على المظاھر بشكل نسبي‪ ،‬ان “عبيد” مكة‬ ‫ھم في حقيقة األمر الموازون للخدم والمساعدين الشخصيين في اوروبا‬ ‫“المتحضّرة”‪ .‬ويكاد يُفرط في اعجابه بالتعامل األفضل الذي يحظى به العبيد في‬ ‫بيوت مكة‪ .‬فھو يعلن رفضه لألحكام القاسيّة التي يُصدرھا بعض المستشرقين‬ ‫االوروبيين في عجالة ضد ظاھرة العبيد في الشرق‪ ،‬معتبراً انھا مؤسسة متجذرة‬ ‫اجتماعياً‪ ،‬ولھا أصولھا القرآنية‪ ،‬التي يصعب الغاءھا بجرّة قلم‪ ،‬او بمطالب نزقة من‬ ‫الغربيين‪[٢١] .‬‬ ‫لكنه اعتبر ان اسوء الممارسات البغيضة التي تترافق مع تجارة العبيد‪ ،‬والتي ال‬ ‫يمكن التسامح ازاءھا اطالقاً‪ ،‬ھي ظاھرة “الخصي” لفئة األغوات الذين يحق لھم‬ ‫الدخول في مجالس النساء االرستقراطيّات‪ ،‬او اؤلئك الذين يعملون في فِراشة الحرم‬ ‫الم ّكي الشريف‪.‬‬ ‫ولم يُخفي ھوروخرونيه بغضه لممارسات اختطاف األطفال في افريقيا وبيعھم في‬ ‫اسواق الجزيرة العربية‪ ،‬لكنه اعتبر ان السؤال الجوھري يتعلق بنوعية الخطاب‬ ‫المعقول الذي يجدر بالغربيين استخدامه بما يساعد على القضاء على الظاھرة من‬ ‫جذورھا‪ ،‬ال مفاقمتھا من خالل اعالن العداء لھا اعالميا وسياسيا والترصد‬ ‫لممارسيھا‪[٢٢] .‬‬ ‫وھو يضرب مثاالً بالسياسات األوروبية المتخذة في القرن االفريقي لمكافحة تھريب‬ ‫الرقيق‪“ .‬لقد اجبرت “الجالّبين” ]أي مھربي العبيد[ على اتخاد مسارات أبعد وأكثر‬ ‫‪12‬‬


‫وعورة‪ ،‬تصل الى اثني عشر ساعة من المشي على األقدام للوصول الى الشاطئ‪،‬‬ ‫وھو ما يعزز من فرص الوفيات بين االطفال‪“ .‬ان سياسات محاربة الرقيق‪ ،‬لم‬ ‫تقلّص من اعداد المھربّين‪ ،‬لكنھا فاقمت من اعداد الوفيّات”‪ ،‬يقول ھوروخرونيه‪،‬‬ ‫الذي وجد في المقابل السياسات العربية في الحجاز اكثر انسانيّة‪.‬‬ ‫ھوروخرونيه خلص الى ان تجارة العبيد ستنتفي بالتنميّة البشريّة الحقيقية‬ ‫للمجتمعات االفريقية الفقيرة والمعوزة‪“ ،‬ألنھا ستعلي وقتھا من قيمة الحياة لألفراد”‬ ‫]‪ .[٢٣‬وھو ما كان يراه مفقوداً في أبجديات الخطاب االوروبي الذي اعتبر انه يريد‬ ‫معالجة المسألة باالرجاف والتھمة وفرض سياقاته المختلفة بشكل متعسف‪.‬‬

‫ الدستور العثماني الحديث‪ ،‬انتصار مؤقت للحريّات‪:‬‬‫وبعد اعادة صدور الدستور العثماني في عام ‪١٩٠٨‬م‪ ،‬وصعود االتحاديين للحكم في‬ ‫االستانة )اسطانبول(‪ ،‬تشددت السلطات ازاء تجارة العبيد في والية الحجاز‪ ،‬امتثاال‬ ‫لبنود الدستور‪.‬‬ ‫وصدر فرمان‪ُ ،‬نشر في صحيفة تقويم الوقائع )‪ (Taqvim-I Veqayi‬في الثالثين‬ ‫من اكتوبر ‪١٩٠٩‬م بالتأكيد على منع تجارة العبيد والتأكيد على حريتھم ايا ً كان‬ ‫لونھم او جنسھم – بحسب الدستور – وان أي مخالفة لذلك يُعد بمثابة جريمة يُعاقب‬ ‫عليھا القانون‪.‬‬ ‫لكن مع عام ‪١٩١٠‬م يفيد تقرير للخارجية البريطانية بأن تجارة العبيد في الحجاز‬ ‫كانت ال تزال رائجة – وان بإستتار‪ -‬خوفا ً من التشديد الحكومي األخير‪ .‬ويسمّي‬ ‫التقرير اسماء التجار الذين يعملون في تجارة العبيد في ميناء جدة‪ ،‬كان أبرزھم؛‬ ‫سعيد قاسم الصعيدي‪ ،‬ووكالئه‪ :‬باسودان الحضرمي‪ ،‬والصافي الحضرمي‪]٢٤] .‬‬ ‫ ما بعد الثورة العربية؛ الشريف وتجارة العبيد‪:‬‬‫وعادت التجارة لالزدھار من جديد مع قيام الثورة العربية الكبرى التي انطلقت من‬ ‫مكة في ‪١٩١٦‬م ضد االتحاديين‪ .‬لكن الشريف حسين‪ ،‬ملك الحجاز وقائد الثورة‪،‬‬ ‫سيقوم بعد اقل من ثالث سنوات – في عام ‪١٩١٩‬م‪ -‬باغالق سوق العبيد الشھير في‬ ‫مكة الذي يحمل اسم “دكة الرقيق”‪ ،‬وفي البدء في التضييق على نشاط التھريب‪.‬‬ ‫وبزغت ازاء الترتيبات المحلية واغالق اسواق ودكك الرقيق بدائل مبتكرة لبيع‬ ‫وتسويق العبيد في مدن الحجاز‪ .‬كان العبيد بعد ھبوطھم ألرض الميناء َ‬ ‫يوزعون‬ ‫‪13‬‬


‫على منازل الداللين في جدة الذين يقومون بدورھم ببيعھم سراً‪ ،‬ال في سوق او مزاد‬ ‫علني‪ ،‬وانما بالداللة المباشرة‪[٢٥] .‬‬ ‫وارتفع سعر العبد الذكر مع حلول عام ‪١٩٢١‬م في جدة الى ستين جنيھا ً استرلينيا ً‪.‬‬ ‫اما العبدة المؤھلة بالقيام بأعباء المنزل فوصل سعرھا الى مائة جنيه استرليني‪.‬‬ ‫]‪]٢٦‬‬ ‫ومع ديسمبر ‪١٩٢١‬م عادت تجارة العبيد لسابق عھدھا مع تراخي السلطات‪ .‬ويفيد‬ ‫تقرير المايجور مارشال‪ ،‬قُنصل بريطانيا‪ ،‬الذي بعثه الى قيادة البحر االحمر في‬ ‫بورسودان‪ ،‬بأنه لم تعد للحكومة الحجازية الھاشمية القُدرة على السيطرة على تجارة‬ ‫العبيد‪ ،‬وال مُالحقة المھربين‪ ،‬حد ان بعض رجال الجُمرك الفاسدين يُقدِمون بين فينة‬ ‫وأخرى على تلقي رسوم جمركيّة رسمية على شحنات العبيد‪ ،‬وآخرھا شحنة قادمة‬ ‫من اليمن محمّلة بعشرين جارية حبشية – تماما ً مثل االيام الخوالي قبل الدستور‬ ‫العثماني!‬ ‫وبيع الشاب عثمان آدم ‪ ١٦-‬سنة‪ -‬من قِبل آدم عبد‪ r‬البرناوي في جدة الذي كان قد‬ ‫احضره من سواكن للعمل معه ثم حينما تقاعس باعه بـ‪ ٤٤‬جنيھا ً‪ .‬وتم البيع بواسطة‬ ‫الشيخ محمد جبركاني احد شيوخ البرنو‪ ،‬فيما كان ّ‬ ‫الدالل الشيخ ادريس مالك الذي‬ ‫تحصّل على عمولة البيع ومقدارھا أربع جنيھات‪.‬‬ ‫كان من وجھاء الجاليات االفارقية المستق ّرة في مكة من يتوسط ويعمل دالالً في بيع‬ ‫العبيد المجلوبين من افريقية‪ ،‬وكثيراً ما كانوا يتخذون اساليب المراوغة والحيلة‪.‬‬ ‫وفي موسم حج عام ‪١٩٢١‬م‪ ،‬اُختطف عبد مرافق ألحد ميسورات السودان وتدعى‬ ‫عيشة يوسف‪ .‬اختطفه منھا في جدة احمد محمد ابوبكر‪ .‬وحين ارادت استعادته‬ ‫توسطت لدى شيخ البرنو في مكة محمد فونتامي الذي افادھا بوفاة مالِك العبد‪ ،‬وان‬ ‫العبد اصبح من اآلن ملكا للشريف ودفع لھا تعويضا‪ .‬وذھبت عيشة الى المدينة‬ ‫المنورة وتزوجت فيھا‪ ،‬وحين عادت الى جدة وجدت عبدھا السابق قد ُسلّم من‬ ‫الفونتامي الى شيخ آخر للبرنو تمھيدا لبيعه لمصلحة األول‪[٢٧] .‬‬ ‫وفي رسالة من نائب القنصل في جدة للقيادة في بورتسودان بتاريخ ‪ ١٠‬يناير‬ ‫‪١٩٢٢‬م‪ ،‬تفيد بوصول اعداد كبيرة من االطفال االثيوبيين المخطوفين للحجاز‪،‬‬ ‫وبشكل يومي‪ .‬ورُصد في األول من يناير وصول ‪ ٣٧‬طفل‪ ،‬وفي الثاني من يناير‬ ‫‪ ٤٥‬طفل‪ ،‬وفي الرابع من يناير ‪ ٥‬اطفال‪ .‬وصلوا جميعا من ميناء تاجورة في‬ ‫الصومال الفرنسية )جيبوتي(‪ ،‬حيث تم شحنھم بالسنابيك الى ميدي في اليمن عبر‬ ‫‪14‬‬


‫شيخ ميناء ميدي الشيخ عبدالمطلق‪ ،‬وفي ميناء حبل عبر الشيخ سعيد بن مساعد‪،‬‬ ‫احد وسطاء تجار عبيد الدنقلة بين سواحل ارتريا وتجار الحجاز‪[٢٨] .‬‬ ‫وفي جدة كان يستقبل االطفال المھربين السيد عبدالحميد ابن عبدالمطلوب بعد ان‬ ‫ترسو سنابيكھم في الرويس او جنوب جدة حيث مقبرة النصارى‪ ،‬خارج السور‪.‬‬ ‫وكان تھريب العبيد ممنوع رسميا لكن يجري غض البصر عنه مقابل رشوة‬ ‫مقدارھا ‪ ٣‬جنيھات ونصف عن العبد‪[٢٩] .‬‬ ‫وفي الحاالت القليلة التي يجري اخطار السلطات بالعمليات وتقوم بمداھمتھا‪ ،‬يجري‬ ‫اعتقال المتورطين عبر شرطة جدة المحلية‪.‬‬ ‫وكان شيوخ تجارة العبيد في ميناء تاجورة – وھي احد مقاطعات جيبوتي الست‪:‬‬ ‫علي احمد‪ ،‬حسن محمد‪ ،‬داود خنبشي وج ّرات العبلي‪[٣٠] .‬‬ ‫وفزع الصحفي العربي‪/‬االمريكي أمين الريحاني ابان زيارته للحجاز وعسير في‬ ‫انحاء عام ‪١٩٢٢‬م من تفشي داء العبودية‪ ..‬فكتب وھو في تھامة تغلفه مشاعر‬ ‫االحباط‪“ :‬كنت أؤمل‪ ،‬على فرض وجود الرقيق والنخاسة‪ ،‬ان تكون الحكومة‬ ‫ناھضة لألمر متعقبة المجرمين‪ ،‬ساعية في محق ھذه التجارة المستنكرة‪ ،‬األثيمة‪،‬‬ ‫فوجدتھا في الحجاز وعسير نائمة –وا اسفآه‪ -‬او متناومة‪ ،‬او عاجزة‪ .‬بل وجدت‬ ‫الحكومة أحيانا حليفة الرعاع”‪[٣١] .‬‬ ‫والى جانب د ّكة الرقيق في سويقة‪ ،‬كان ھناك دكك للرقيق في كل من المدينة‬ ‫والطائف‪ ،‬وسوق للرقيق في جدة على بعد خمسين مترا من دار القنصلية‬ ‫البريطانية‪ .‬فيما كان سوق عرد في تھامة احد اعظم اسواق الرقيق‪ ،‬وكان سوق‬ ‫ميدي مركزاً لتصدير العبيد الى عقبة اليمن والعسير وجدة‪ .‬يقول امين الريحاني‪:‬‬ ‫“واذا اراد أحد السادة األدارسة شراء جارية حسناء يجئ الى ميدي فال تضل خطاه‬ ‫ومناه‪”.‬‬ ‫ووجد الريحاني بشئ من األسف‪“ ،‬ان في الحجاز من يحللون ويحبذون النخاسة‬ ‫ومنھم من يأسف انھا غير مستمرة ويلعن المراقبة البريطانية”‪[٣٢] .‬‬ ‫وفي التاسع من مايو ‪١٩٢٢‬م اخبر السير اوليفانت من الخارجية البريطانية الشريف‬ ‫حسين ان حكومة الملكة لن تدخل في اتفاقية ثنائية مع دولته ما لم تشدد القبضة ضد‬ ‫تجارة العبيد‪[٣٣] .‬‬ ‫وفي رسالة من قائد البارجة كورنفالور الى الشريف الحسين في ‪ ٢٢‬يونيو‬ ‫‪١٩٢٢‬م‪ ،‬نجده يدعوه للتعاون في الغاء العبيد من جديد‪[٣٤] .‬‬ ‫‪15‬‬


‫الحسين ابدى امتعاضه من النظام الحالي للرق ولكنه كان يبرر بأنه كزعيم اسالمي‬ ‫يصعب عليه الغاء ما تجذر في الثقافة االجتماعية للحجاز من شيوخ البادية وأعيان‬ ‫الحضر – فھو يكتفي بأال يُنكر وال يؤيد‪ .‬يقول المايجور مارشال‪ ،‬قنصل بريطانيا‪،‬‬ ‫انسجاما ً مع تبريرات الحسين‪ ،‬بأنه يجب ان تكتفي حكومة بريطانيا بانتزاع ادانة‬ ‫أخالقية من الحسين للرق‪.‬‬ ‫واعتبر المايجور مارشال في رسالة الى الخارجية البريطانية في ‪ ٢٩‬مايو ‪١٩٢٢‬م‪،‬‬ ‫انه ليس من الموضوعية الحكم األخالقي ضد الشريف ازاء ثقافة تجذرت في التربة‬ ‫الحجازية والعربية لقرون‪[٣٥] .‬‬ ‫وكان من االوروبيين في جدة من تورط في تلك الممارسة‪ .‬فالقنصل االيطالي‬ ‫استقدم عبدة من ارتريا‪ ،‬وطبيب ھولندي معروف يقيم في جدة اشترى جارية حبشية‬ ‫في نوفمبر ‪١٩٢١‬م مقابل سبعين جنيھا ً ذھبيا ً استرلينيا ً‪]٣٦] .‬‬ ‫وتعاونت السلطات المحلية في الحجاز مع الطلبات البريطانية لتحرير رعاياھا –‬ ‫يعود ذلك لنشاط وزير خارجية الحجاز‪ ،‬الشيخ فؤاد الخطيب‪.‬‬ ‫وكان القنصل البريطاني يرسل بأسماء وجوازات من يعتقد انھم تجار للعبيد‪،‬‬ ‫للخارجية الحجازية التي كانت ترد على االستفسارات بشكل فوري‪.‬‬ ‫في السادس والعشرين من ديسمبر ‪١٩٢٢‬م‪ ،‬اشتبه القنصل بخمس تجار يحملون‬ ‫الجواز الحجازي من اصول حبشية كانوا في اتجاھھم عبر ميناء جدة الى عدن‪:‬‬ ‫سراج بن بكر‪ ،‬عربو بن محمد‪ ،‬محمد وحمزة بن ثاني‪ ،‬وعلي بن عبد‪ – r‬وكلھم‬ ‫في عقد الثالثينات‪ ،‬ولكنه عاد وأكد انه ال يملك أي دليل ادانة ضدھم‪[٣٧] .‬‬ ‫وكان كثير من مھربي العبيد في تلك الفترة أحباش يحملون جوازات سفر حجازية‬ ‫يحصلون عليھا بالحيلة او بالرشوة‪ ،‬مثل علي بن عبد‪ r‬الحبشي‪ ،‬حامل جواز‬ ‫حجازي رقم ‪ ١٠٦٠/١١‬بتاريخ ‪١٣٤١-٦-٢٦‬ھـ‪[٣٨] .‬‬ ‫وصالح بن ابراھيم الح َبشي‪ ،‬حامل جواز حجازي رقم ‪ ٢٣٧/٣‬بتاريخ‬ ‫‪١٣٤٢/١/١٤‬ھـ‪ .‬واسمه األصلي صالح ابراھيم تراب‪ ،‬والده ابراھيم تراب‪ ،‬حبشي‬ ‫يحمل الجنسية الفرنسية‪ ،‬من كبار تجار العبيد في تاجورة‪ .‬كان صالح قد ھرّب الى‬ ‫جدة في يونيو‪/‬يوليو ‪١٩٢٣‬م‪ ،‬مائة وثالثين عبداً‪ ،‬منھم ستون امرأة‪ ،‬تتراوح‬ ‫اعمارھم ما بين ‪ ١٠‬و ‪ ٢٥‬سنة‪ ،‬عبر سنبوك “فتح الخير” الذي يملكه علي محمد‬ ‫من خوخة اليمانية‪ ،‬حيث استلم ُ‬ ‫شحنتھم احد اخوته الصغار في جبل الشِ حر باليمن‪،‬‬ ‫وانتقل بھا صعوداً على ظھور الجمال الى جدة حيث التقاه اخوه صالح ووالده‬ ‫‪16‬‬


‫ابراھيم الذي التحق بھما من ميناء مصوّ ع‪ .‬وقد بيع عبيد ابراھيم تراب المجلوبون‬ ‫الى جدة بأربعين الى سبعين جنيه للفرد‪[٣٩] .‬‬ ‫كانت السلطات الفرنسية تحاول الحد من التجارة البغيضة المنطلقة من سواحلھا‪.‬‬ ‫وقبض على المُھرب ادريس بن عبدو الحبشي‪ ،‬حامل جواز حجازي رقم ‪٢٠٠/٢‬‬ ‫بتاريخ ‪ ١١‬المحرم ‪١٣٤٢‬ھـ‪ ،‬حال وصوله الى ميناء جيبوتي‪ ،‬وحُكم عليه بالسجن‬ ‫خمس سنوات مع خمسة تجار حبوش آخرون يحملون جوازات حجازية كان من‬ ‫ضمنھم صالح تراب الذي تلقى حكما ً بالحبس مدته ثالث سنوات‪.‬‬ ‫وفي مايو ‪١٩٢٣‬م‪ ،‬الذ آدم بن يحيى من أھل الفاشر الى القنصلية البريطانية‪.‬‬ ‫جاء آدم لمكة في ‪١٩١٧‬م وھو اليزال طفل حر تم خطفه من بالده‪ ،‬وبيع الى رئيس‬ ‫شرطة مكة منصور بن زاھر‪ ،‬وظل يعمل في خدمته ست سنوات‪ ،‬وحينما طلب منه‬ ‫اعتاقه او بيعه‪ ،‬باعه على احد شيوخ حجاج الجاوا من المكيين‪ ،‬ثم استرده واخبره‬ ‫بانه سيبيعه لشخص اكثر وجاھة على أمل اعتاقه‪ .‬وفي غضون ذلك التحق به في‬ ‫مكة عمه عبد‪ r‬بن محمد‪ ،‬والشيخ جبريل وكالھما من وجھاء الفاشر‪ ،‬سعيا ً منھما‬ ‫لضمانه واثبات أصوله الحرة‪.‬‬ ‫في السادس والعشرين من مايو ‪١٩٢٣‬م‪ ،‬ق ّدم وزير خارجية الحجاز فؤاد الخطيب‬ ‫اعتذاره للحكومة البريطانية واعتمد اخالء سبيآلدم للسودان على الفور‪]٤٠] .‬‬ ‫‪..........................................‬‬

‫‪17‬‬


‫ القنصل البريطاني بوالرد ‪ -‬عھد من الترصد لمقتني العبيد‪:‬‬‫ُعيّن ريدر بوالرد قنصالً ومعتمداً بريطانيا ً في جدة في يونيو ‪١٩٢٣‬م وبقي معتمداً‬ ‫حتى حصار السعوديين لجدة‪ ،‬قبل ان يترك منصبه لنائبه المستر جوردان‪ ،‬قبل‬ ‫سقوط جدة بأشھر معدودة في يد جيوش ابن سعود‪.‬‬ ‫كان بوالرد سادس معتمد قنصلي رفيع يجري تعيينه في الحجاز بعيد اندالع الثورة‬ ‫العربية الكبرى التي تحالف فيھا شريف مكة مع البريطانيين‪ ..‬ولم يكن بوالرد مثل‬ ‫القناصل المخضرمين الذين جرى تعيينھم عقب الثورة مباشرة‪ ،‬من امثال الكولونيل‬ ‫سيريل ويلسون‪ ،‬الذين عبّروا عن تجربة طويلة وعميقة في فھم الذھنية الشرقية‬ ‫واحترام مطامح العرب وتطلعاتھم‪ .‬بوالرد‪ ،‬على النقيض‪ ،‬كشف عن موقف عدائي‬ ‫اتسم دوما ً بالصلف والتكبر االستعماري‪.‬‬ ‫اشتھر بوالرد بمعاندته لمطامح الشريف السياسية حتى اتسعت الھوة بينھما‪ ،‬واتخذ‬ ‫من حوادث اقتناء وانتھاك معاملة العبيد مدخالً واسعا ً لمالحقة الشريف واعوانه‬ ‫وكبار التجار في الحجاز‪ ،‬وان كان من االنصاف ان نذكر ان كثيراً من مواقفه‬ ‫اتسمت ‪-‬ولو ظاھريا ً‪ -‬باإلنسانية‪ .‬بوالرد الحقا ً في مذكراته التي حملت عنوان‪:‬‬ ‫“ال ِجمال يجب ان ترحل” )‪ ،(The Camels Must Go‬اعترف بأن الوضع بين‬ ‫الحسين وبريطانيا “كان مثاالً من امثلة العداء بين الشرق والغرب‪ .‬وھو عداء كثيرا‬ ‫ما ينشأ بسبب ان كل طرف من الطرفين ينظر الى األمور من وجھة نظر مختلفة”‪.‬‬ ‫]‪[٤١‬‬ ‫و ُتظھر وثائق الخارجية البريطانيّة‪ ،‬ان بوالرد انتظر عاما ً كامالً قبل ان يتبنى النبرة‬ ‫الضارية ضد اقتناء الحجازيين للعبيد‪ ..‬يعود ذلك لموقف الشريف حسين المتع ّنت‬ ‫ازاء توقيع االتفاقية البريطانية‪-‬الحجازية الذي كان يتطور بشكل طردي‪.‬‬ ‫كان الشريف حسين‪ ،‬يشعر بابتزاز البريطانيين له في تسييسھم لموضوع الرقيق‬ ‫على اراضيه‪ .‬واضطر الحسين الى مواجھة ما لمس بأنه استغالل سياسي لموضوع‬ ‫الرقيق من قبل البريطانيين‪ ،‬بتسييس مُضاد‪.‬‬ ‫وفي حادثة شھيرة‪ ،‬أمر فوراً باعتاق عبد سوداني فقط حينما كان بائعه المتورط‬ ‫سوداني آخر يحمل الرعويّة البريطانية‪ ،‬يريد بذلك خلق انطباع للبريطانيين بأن‬ ‫ممن يمارس تجارة العبيد أيضا ممن ينضوون تحت رعويتھم‪ ،‬وان ذلك ال يقف‬ ‫على رعايا الحجاز‪[٤٢] .‬‬

‫‪18‬‬


‫ولربما نجح الشريف في خلق ذلك االنطباع‪ ،‬حد ان القنصل بوالرد في رسالة منه‬ ‫الى رمزي ماكدونالد‪ ،‬وزير الخارجية البريطاني)ورئيس الوزراء البريطاني فيما‬ ‫بعد( في الحادي عشر من يونيو ‪ ،١٩٢٤‬أق ّر بأن الرعايا البريطانيون من ھنود مكة‬ ‫يمارسون بيع وشراء العبيد في مكة وجدة مثل الرعايا الحجازيين تماماً‪ ،‬وھو‬ ‫يستأذن منه استدعائھم جميعا من مكة فرداً فرداً للتبيّن ما ان كان من يعمل في‬ ‫دورھم عبيد ارقاء حقا ً ام مجرد عمال أحرار يعملون باألجرة‪.‬‬ ‫بوالرد اقترح بدوره ان تمنح التابعيات الحجازية‪ ،‬للمطالبين بھا‬ ‫من المھاجرين الھنود القدامى في مكة‪ ،‬دون ندم او تردد‪ ،‬كونھم قد استعرقوا في‬ ‫الحجاز بما يكفي‪ ،‬وانصھروا في تركيبة المجتمع الحجازي حتى انھم باتوا‬ ‫يمارسون أغاليظھم االجتماعية ذاتھا‪ ،‬بحسب تعبيره‪[٤٣] .‬‬ ‫وبدأ الحسين‪ ،‬مع معاندة البريطانيين له في مطالبه بتسويات عادلة في كل من‬ ‫سورية وفلسطين‪ ،‬بالتعنت ازاء قبول القنصليات األجنبية ألي الجئين من العبيد‪.‬‬ ‫وفي احد المراسالت بين حكومتيّ الحجاز والخارجية البريطانية كانت تعترض‬ ‫األخيرة على الرسوم الجمركية المفروضة على العبيد في ميناء جدة‪ ،‬فجاء الرد في‬ ‫جھة أخرى تماما ً حول ضرورة تقديم تسوية عادلة في سورية ضد االنتداب‬ ‫الفرنسي‪[٤٤] .‬‬ ‫وخفت نشاط لجوء العبيد الفاريّن من مالّكھم الى القنصليات األجنبية‪ ،‬لتعنت‬ ‫السلطات الحجازية ازاء ذلك‪.‬‬ ‫لكن في الخامس من اغسطس ‪١٩٢٤‬م لجأت امرأة تدعى “مؤمنة” مع ابنتھا‬ ‫الصغيرة وھي من اھل السودان االنجليزية الى دار االعتماد البريطاني )القنصلية(‬ ‫في جدة تطلب تحريرھا وترحيلھا الى وطنھا – خارقة بذلك السكون الطويل‪.‬‬ ‫ومؤمنة كانت قد وصلت الى مكة قبل عام عن طريق بائعھا في جدة محمد باعقومة‬ ‫وھو سوداني‪ .‬فارسل بوالرد الى الشريف حسين في مكة في ‪ ١٣‬اغسطس الصدار‬ ‫اوامره الى قائم مقامه في جدة لتحريرھا‪[٤٥] .‬‬ ‫باعقومة كان قد فلت من االعتقال في جيبوتي الفرنسية وعاد الى جدة من جديد‬ ‫حيث قبض عليه في قضية بيع امرأة اخرى حتى ان القنصل البريطاني عبر عن‬ ‫استيائه من تراخي الفرنسيين عن ضبط سواحلھم في رسالة امعتاض وجّ ھھا الى‬ ‫القنصل المؤقت الفرنسي في جدة السيد كالل وھو من اصل جزائري‪ .‬فارسلت‬ ‫الخارجية الفرنسية من باريس رسالة الى السفير البريطاني في باريس في ‪٢٣‬‬ ‫‪19‬‬


‫سبتمبر ‪١٩٢٤‬م للتفاھم المشترك حول التعاون بين قنصلية البلدين في جدة للحد من‬ ‫تجارة العبيد‪[٤٦] .‬‬ ‫كان الحسين في أواخر عھده حاسما ً في منع قبول القنصليّات األجنبية في جدة ألي‬ ‫حالة لجوء من الرقيق‪ ،‬مع وعود صارمة منه بمالحقة المھربّين‪ .‬ونحن كلما اقتربنا‬ ‫من لحظة تنحي الحسين عن العرش ورحيله الى المنفى نلمس ازدياد حساسيته ازاء‬ ‫القضايا “السيادية”‪ .‬يقول بوالرد الذي عاصر آخر ستة عشر شھراً للشريف حسين‬ ‫وھو في العرش‪ ،‬كمعتمد قنصلي في جدة‪“ :‬طيلة ستة عشر شھراً قبل تنحي‬ ‫الشريف حسين‪ ،‬فقط امرأة واحدة لجأت للقنصلية بطفلھا ]وھي مؤمنة السودانية[ –‬ ‫البقية كانوا يرتعبون من الحسين ومن قبضته الحديدية وكانوا اليجرؤون على‬ ‫االقتراب منا”‪[٤٧] .‬‬ ‫واخذت قضية اختطاف فتاتين جاويّتين مسيحيتين وتھريبھما لمكة أبعاداً دولية‪.‬‬ ‫الفتاتان كانتا في طريقھما الروتيني ألحد جزائر ارخبيل الماليو‪ ،‬لكن سمساراً‬ ‫حضرميا ً اعترض طريقھما واختطفھما الى سنغافورة ومنھا الى مكة‪ ،‬حيث بيعتا‬ ‫بمقابل ‪ ٥٠٠‬جنيه استرليني للفتاة‪ ،‬لندرة الجاريات الجاوّ يات آنذاك وشدة الطلب‬ ‫عليھن‪ .‬ووصلت الفتاتان‪ ،‬كما تشير وثائق الخارجية البريطانية‪ ،‬الى نفر من آل‬ ‫شيبي‪ ،‬وان ك ّنا ال نعلم بالبيع ام باالھداء – وآل الشيبي من اقدم عائالت مكة‬ ‫وأكثرھا وجاھة بعد عائلة الشريف‪ .‬وحينما وصل األمر للسفارة الھولندية اخطرت‬ ‫بدورھا فؤاد الخطيب‪ ،‬وزير الخارجية الحجازي‪ ،‬الذي اصيب بانھيار عصبي ج ّراء‬ ‫ذلك الخبر‪ ،‬كونه يأتي في وقت حرج على الدبلوماسية الحجازية التي كانت تواجه‬ ‫خطراً حدوديا ً عسكريا ً محدقا ً يشي بزوال دولتھا‪ .‬ومرر الخطيب الخبر بطريقته‬ ‫للشريف حسين‪ ،‬وكان الخطيب يريد تخفيض الخسائر الدولية‪ ،‬فاستشاط الشريف‬ ‫غضبا ً واعتذر بحرارة للھولنديين وامر باطالق الفتاتين وبتوبيخ المتورط من آل‬ ‫الشيبي بشكل معلن وصارم‪ ،‬لرغبته في اظھار ان عدالته تنسحب على الجميع‪.‬‬ ‫]‪[٤٨‬‬ ‫وبعد تنازل الشريف حسين‪ ،‬ورحيله الى المنفى‪ ،‬تقاطر العبيد الى مبنى القنصلية‬ ‫البريطانية في جدة طلبا ً للعتق والترحيل الى بالدھم األصلية‪ .‬يؤكد بوالرد في وثيقته‬ ‫التي حررھا من ‪ ١٦‬صفحة الى وزير الخارجية البريطاني‪“ :‬لحظة رحيل الحسين‬ ‫الى منفاه بميناء العقبة تقاطر العبيد على القنصلية البريطانية‪ ،‬مع أقلية ارترية لجأت‬ ‫للقنصلية االيطالية”‪[٤٩] .‬‬ ‫وفي الثامن عشر من ديسمبر ‪١٩٢٤‬م حررت القنصلية البريطانية فردين لجئا اليھا‪،‬‬ ‫بعثتھما الى ارتريا عبر جيبوتي‪ ،‬وكانا‪ :‬بشير )واسمه الحقيقي ارصوره( عمره ‪١٢‬‬ ‫‪20‬‬


‫سنة‪ ،‬ومالكه السابق‪ :‬الشريف عبد‪ r‬مھ ّنا‪ ،‬وفرج )واسمه الحقيقي عنبر عبد‪ (r‬من‬ ‫اھل الفاشر في الطرف البريطاني‪-‬المصري ومالكه السابق‪ :‬احمد الصبحي من‬ ‫عربان قبيلة حرب‪ ،‬وقد وصل الى سواكن في ‪ ٢٥‬ديسمبر ‪١٩٢٤‬م‪ ،‬بعد عشرين‬ ‫عاما قضاھا في إسار العبودية‪[٥٠] .‬‬ ‫واذا كان الشريف حسين‪ ،‬في آخر سنواته‪ ،‬قد تعامل مع دعاوي اطالق العبيد‬ ‫ولجوءھم للقنصليات األجنبية بجدة بحساسية شديدة‪ ،‬فاننا نلمس في المقابل نبرة‬ ‫اعتذارية من افراد طاقمه الوزاري واالداري المقرب‪.‬‬ ‫ونالحظ وجود محاوالت نبيلة من فؤاد باشا الخطيب وزير خارجية الحجاز‪،‬‬ ‫وعبدالملك الخطيب سفير )مُعتمد( الحجاز بمصر‪ ،‬وناجي األصيل‪ ،‬سفير )مندوب(‬ ‫الحجاز في لندن‪ ،‬وأبناء الحسين؛ علي وفيصل وعبد‪ ،r‬لطي ملف الرق في‬ ‫الحجاز‪ ..‬لكن جھودھم بعثرتھا أولويات أخرى منھا القضية الحدودية مع ابن سعود‬ ‫وشبح الحرب الذي كان يخيّم على األجواء‪ ،‬وتضعضع االوضاع األمنية في نواحي‬ ‫القبائل الحجازية الساخطة على سلطة الھاشميين خارج المدن المركزية‪ ،‬وتأجيل‬ ‫توقيع االتفاقيات بين البريطانيين والحكومة العربية الھاشمية في الحجاز نتيجة‬ ‫تصلّب الحسين حول بعض البنود التي كان يراھا تخدش سيادته على االراضي‬ ‫العربية وتخل بوعوده ألھالي فلسطين وسورية‪.‬‬ ‫وفي اغسطس ‪١٩٢٤‬م تورطت امرأة مكيّة في قضية تھريب للرقيق تناولتھا‬ ‫الصحافة الدولية بشئ من االثارة‪ .‬كانت تلك السيّدة المكيّة تمكث في جاوى‪ ،‬عند‬ ‫احد عائالتھا المحلية الميسورة التي استعانت بھا لتعليم بناتھا اللغة العربية وتعاليم‬ ‫اإلسالم‪ ،‬وحينما ھمّت للعودة لمكة طلبت منھا العائلة ان تصطحب معھا احدى‬ ‫بناتھا لتقضي فريضة الحج معھا‪ ،‬لكن السيدة عند وصولھا الى مكة ادعت ان الفتاة‬ ‫من أمالكھا وعاملتھا على ھذا االساس‪ .‬ووصل اخو الفتاة المخت َطفة للحج‪ ،‬وحاول‬ ‫سراً تھريبھا لكن السلطات اوقفته في بحرة )في الطريق بين مكة وجدة( واعادت‬ ‫الفتاة لمنزل سيدتھا التي تمسّكت بھا‪.‬‬ ‫كانت صحيفة الديلي كرونكل البريطانية قد نشرت في السادس من نوفمبر ‪١٩٢٤‬م‪،‬‬ ‫عبر مراسلھا الجديد في البحر األحمر – ومقره السويس‪ ،‬مستر جورج رينويك‪،‬‬ ‫تقريراً الفتا ً تحت عنوان ساخط‪“ :‬رعايا بريطانيون عبيداً للعرب” ‪ ..‬كشف فيه عن‬ ‫ممارسات الخطف التي تجري في االراضي البريطانية في آسيا وافريقيا لعبيد‬ ‫يُباعون في الجزيرة العربية‪ .‬وذھب التقرير الى ان تلك التجارة انما “تحظى بتشجيع‬ ‫ملكي من الحسين‪ ..‬حيث ان احد وزراء حكومته يملك وحده ‪ ١٤‬عبداً‪ ..‬بل ان‬ ‫الحسين‪ ،‬نفسه‪ ،‬وھو في طريقه الى منفاه اصطحب معه عبيده األفارقة”‪.‬‬ ‫‪21‬‬


‫وارسل السيّد ناجي األصيل الى السيد ماليت في الخارجية البريطانية‪ ،‬رسالة يعبّر‬ ‫فيھا عن استيائه عما قرأه في صحيفة الدايلي كرونكل عن تجارة العبيد في الحجاز‪..‬‬ ‫مؤكداً موقفه الشخصي المناھض لتجارة العبيد ومعلنا ترحيبه للتعاون مع وزير‬ ‫الخارجية الجديد في اضافة بند في اتفاقية الحجاز وبريطانيا ُتبطل ممارسة العبودية‪.‬‬ ‫]‪[٥١‬‬ ‫لكن مكة كانت اثناء ذلك قد سقطت في يد جيوش اإلخوان ضداً على حكامھا‬ ‫الھاشميين الذين تراجعوا الى حصون جدة‪ .‬وتواصلت القنصلية الھولندية مع‬ ‫الخارجية السعودية وممثلھا آنذاك الشيخ فؤاد حمزة‪ ،‬الذي كان يواجه امتحانه‬ ‫الدولي األول في قضية الرقيق الحجازي‪ ،‬فوافق على الفور على اطالق سراح الفتاة‬ ‫الجاويّة لكنه امر بتسوية لمصاريف سكن ومعيشة الفتاة في مكة ُتدفع لسيّدتھا‪.‬‬ ‫وفي عام ‪ ١٩٢٤‬صعد نجما‪ :‬المنشي احسان اله وھو مسؤول قنصلية بريطانيا في‬ ‫مكة‪ ،‬والسيد يوسف خان من وجھاء مكة من أصول ھندية‪ ،‬وكانا يقاومان‪ ،‬بكل‬ ‫استنارة‪ ،‬ممارسة الرق في مكة‪.‬‬ ‫ومع انتقال الحكومة الھاشمية من مكة الى جدة‪ ،‬وانتقال العرش من الحسين الى ابنه‬ ‫ُ‬ ‫تأخذ أبعاداً دولية‪.‬‬ ‫علي‪ ،‬بدأت مساعي بوالرد لمالحقة مالّك العبيد في الحجاز‬ ‫ومع بدايات حصار جدة ارسل بوالرد رسالة الى الحاكم المدني لوالية البحر‬ ‫االحمر ھاويل اسك‪ ،‬في ‪ ٢٠‬يناير ‪١٩٢٥‬م‪ ،‬يخبره انه لن يقوم باستقبال اي من‬ ‫العبيد الالجئين الى دار القنصلية على الفور كونه اليريد ان تمتأل القنصلية بالعبيد‬ ‫الفارين في وقت حرب مما سيعقد المساعي الدبلوماسية‪ ،‬لكنه في المقابل سيتقيد بما‬ ‫نصت عليه اتفاقية بروكسل األخيرة في الغاء الرق‪ ،‬باعتاقھم واطالقھم احراراً في‬ ‫جدة – ولكنه اعترف بعدم جدوى ذلك كون العبيد المعاتيق يعودون الى مالكھم‬ ‫السابقين تحينا ألفضل فرصة لترك الحجاز الـى بالدنھم األصليّة‪[٥٢] .‬‬ ‫واعلن بوالرد بأن اول مسألة سيفاتح فيھا ابن سعود عند سقوط جدة ھي ّ‬ ‫حثه على‬ ‫الغاء العبودية‪ .‬لكن بوالرد اعترف بضعف موقفه التفاوضي‪ ،‬كون التقارير‬ ‫الصادرة مؤخرا من جنوب افريقيا تفيد بمھازل يقيمھا ابناء جلدته البيض ضداً على‬ ‫السود‪ ،‬لكنه قرر انه سير ّكز علـى قضية الغاء الرق في الحجاز من منطلقات انسانية‬ ‫صرفة ال مُسيّسة‪]٥٣] .‬‬ ‫وكان بوالرد يتنبأ بسقوط جدة الحتمي في يد جيش االخوان‪ ،‬وھو لم يكن يخفي‬ ‫بغضه للعائلة الھاشمية في الحجاز‪]٥٤] .‬‬ ‫‪22‬‬


‫واعترف بوالرد بأن الملك الجديد علي بن الحسين‪ ،‬كان نظريا ً اكثر تحررا وانفتاحا‬ ‫من والده‪ ،‬وبانه ضد تجارة العبيد‪.‬‬ ‫وكان علي‪ ،‬قد استھل واليته الدستورية على ما تبقى من اراضي الحجاز‪ ،‬باعطاء‬ ‫وعود للقنصلية البريطانية تقضي بتحرير كل الرق الموجودين في الحجاز‪ ،‬وإبطال‬ ‫تجارة العبيد ومعاقبة ممارسيھا‪ ،‬حال انتھاء األزمة القائمة واسترداد سلطاته‬ ‫لعافيتھا‪ .‬ثم اصدر قراراً نافذاً من حكومة الحجاز الدستورية يمنح العبيد حق الجوء‬ ‫للقنصلية البريطانية من جديد‪ ،‬خالف التصلّب الذي ابداه والده‪[٥٥] .‬‬ ‫ومع مارس ‪١٩٢٥‬م واشتداد أزمة حصار جدة‪ ،‬لجأت بعض عوائل الحجاز‬ ‫الميسورة الى مصر طلبا ً للسالمة واعالنا ً للحياد‪ .‬وارسل بوالرد القنصل البريطاني‬ ‫في جدة الى المعتمد السامي البريطاني بالقاھرة في العاشر من ابريل يناشده بايقاف‬ ‫كل من يصطحب عبيده معه وبأن يرغمه بقوة القانون على اطالق سراحھم‪.‬‬ ‫كان الفارون من الحجاز يذھبون الى موانئ مصر والسودان كمجموعات عائلية‬ ‫تضم عشرين فرداً في المع ّدل يرافقھا خدم شخصيّون يدخلون مصر بجوازات‬ ‫“خدم” – لكن بوالرد كان يصّر على ان ھؤالء رقيق تم شراؤھم‪.‬‬ ‫واخبر القنصل الھولندي في جدة‪ ،‬بوالرد‪ ،‬بأن المطوّ ف الحجازي المعروف‪ ،‬السيّد‬ ‫محمد نور جوخدار يصطحب معه جارية جاوية اسمھا “موار” اعيد تسميتھا بنعيمة‬ ‫وانھا تعمل عنده كجارية‪ ،‬وأن نور جوخدار في طريقه للسويس مع عائلته‪ .‬فطالب‬ ‫بوالرد من حاكم السويس تعقبّه ومعاقبته‪[٥٦] .‬‬ ‫وفي رد من حاكم السويس في الثاني والعشرين من ابريل ‪١٩٢٥‬م‬ ‫الى قنصلية جدة‪ ..‬أفاد بانه جرى تعقب الشيخ محمد نور جوخدار وتحديد مقر‬ ‫اقامته بفندق الحميدية بالسويس حيث كان يقطن مؤقتا ً كالجئ سياسي مع عائلته‬ ‫وخدمه ومن ضمنھم نعيمة‪ ،‬منذ الخامس من مارس ‪١٩٢٥‬م قادمين علـى متن‬ ‫الباخرة االيطالية إلتريسو‪ .‬لكنھم وجدوا بعد اجراء التحقيقات سالمة موقفه‪ ،‬ورضا‬ ‫نعيمة التام بأوضاعھا‪.‬‬ ‫وأق ّر الشيخ الجوخدار في سير التحقيقات‪ ،‬بأنه اشترى نعيمة كجارية قبل عامين‪،‬‬ ‫من تاجر الحبوب الج ّداوي مصطفى اسالم مقابل خمسين جنيه استرليني‪ ،‬ثم منحھا‬ ‫حريتھا‪ ،‬وقام بتوظيفھا لديه للخدمة المنزلية بناء على طلبھا ومقابل راتب شھري‬ ‫قوامه ‪ ٣‬رياالت مجيدية‪ ،‬وانه ال يعرف والديھا وان كان يظن انھما يقطنان في‬ ‫جاوى‪ .‬واقرّت نعيمة‪ ،‬وھي شابة في الخامسة والعشرين‪ ،‬بأن اسمھا الفِعلي موار‪،‬‬ ‫وانھا ولدت في جزر الھند الھولندية وانھا حينما كانت في الخامسة اختطفت عبر‬ ‫‪23‬‬


‫امرأة اسمھا رحمة وھي التي قامت بتھريبھا الى مكة حيث مكثت معھا اثني عشر‬ ‫عاما ثم بيعت ألخت الشريف حسين التي باعتھا بدورھا للتاجر مصطفى إسالم‬ ‫ومنه لمحمد نور جوخدار‪ .‬وان اسم والدھا محمد طاھر من بوقس‪ ،‬وھو من رعايا‬ ‫ھولندا‪ .‬وان ابن مالكھا السابق كان يتسرى بھا‪ .‬أما محمد نور جوخدار فقد اعتقھا‬ ‫لوجه ‪ r‬وان معاملته لھا انسانية ونبيلة‪ .‬وأك ّدت بانھا حرة بشكل تام وانھا ال تريد‬ ‫ان ترفع اي دعوى وانھا ترغب في االستمرار كعاملة مع بيت جوخدار‪[٥٧] .‬‬ ‫وأرسل بوالرد الى مُفوّ ض الشرطة في بومباي في ‪ ٢٩‬يونيو ‪١٩٢٥‬م يطالبه بتعقب‬ ‫أسرة الحاج عبد‪ r‬علي رضا‪ ،‬قائمقام جدة‪ ،‬ووكيل شركتيّ البواخر‪ :‬ترنر‬ ‫مورسون وخطوط ناسا للمالحة البحرية في جدة – التي رحلت بحراً الى بومباي‪،‬‬ ‫يرافقھا سودانيتان وامرأة يمنية اسمھا “صفرار”‪ ،‬وحبشيّان ھما‪ :‬ريحان وتحسين –‬ ‫يعتقد بوالرد بأنھم رقيق‪ .‬كما طالب بوالرد في ذات الرسالة بتشديد الرقابة على‬ ‫عوائل التجار الحجازيين القادمين الى كراتشي وبومباي ھربا ً من الحرب العامة‪،‬‬ ‫وضرورة التأكد من ان مرافقيھم االفارقة مجرد خدم يعملون مقابل أجرة متفق عليھا‬ ‫ال رقيق‪.‬‬ ‫وفي رد من شرطة بومباي في ‪ ٢٦‬اغسطس ‪١٩٢٥‬م أفادت بتح ّريھا الواقعة‪ ،‬لكنھا‬ ‫برأت ساحة عائلة علي رضا كون الجوازات التي حملھا الخمسة المذكورون تشير‬ ‫الى ان وظائفھم “عمال منزل” والى اقرارھم الشخصي بذلك‪ ،‬كما أكد مأمور‬ ‫الشرطة الى صعوبة اثبات عكس ذلك في اي محكمة ھندية‪[٥٨] .‬‬ ‫وحاول سكرتير المستعمرات في سنغافورة مالحقة تاجر األخشاب الشھير ومتعدد‬ ‫الجنسيات السيّد ابراھيم عمر السقاف على خلفية بالغات من شرطة بنانغ حول‬ ‫تھريبه لفتيات صينيات صغيرات من سنغافورة الى مكة‪.‬‬ ‫كان السيّد )الداتو( ابراھيم‪ ،‬اكبر ابناء السيّد عمر السقاف‪ ،‬يتحدر من عائلة‬ ‫حضرمية األصل استعرقت بين مكة وسنغافورة‪ ،‬ولھا اعمال تمتد على طول امتداد‬ ‫فضاء المحيط الھندي الكبير‪ .‬والس ّقاف على امتداد ثروته وجاھه كان محسنا ً كبيراً‪،‬‬ ‫ينشط في مجال تبني الفتيات الصينيات الفقيرات لتحسين شروط معيشتھن‪.‬‬ ‫وفي ‪ ١٧‬مايو ‪١٩٢٤‬م‪ ،‬تابع سكرتير المستعمرات بالغ اختطاف فتاتان صينيتان‬ ‫اسمھما مھجة ووھبة واعمارھن ‪ ١٦‬و‪ ١٧‬على التوالي‪ ،‬عبر السيد سالم بن شيخ‬ ‫السقاف‪ ،‬وثبت مع التحقيقات انھما كانتا ابنتان له وزوجه نور بنت طاھر السقاف‬ ‫بالتبني وانھما انتقلتا للعيش في قصر ابراھيم السقاف في المعابدة في مكة‪ .‬وعبثا ً‬

‫‪24‬‬


‫حاول السكرتير اثبات انھما مسترقتان – اال انه عاد واعترف انه ال يملك اي دليل‬ ‫ادانة ضد السيد السقاف‪[٥٩] .‬‬ ‫وكان الصينيات مرغوبات للتسري عند العرب حيث تصل اسعارھن الى مائتي‬ ‫جنيه كما في عمريّ مھجة ووھبة‪.‬‬ ‫وفي الثاني من يونيو ‪١٩٢٥‬م ارسل القنصل بوالرد من داخل سور جدة رسالة الى‬ ‫سلطان نجد‪ ،‬عبدالعزيز ال سعود يطلب منه تحرير مجموعة من الحجاج النيجيرين‬ ‫من رعايا بريطانيا الذين كانوا في طريقھم من المدينة الى جدة سيراً على األقدام‬ ‫عندما أغارت عليھم جماعة من البدو وخطفتھم واستعملتھم كعبيد في ميناء‬ ‫القضيمة‪ ،‬وانھم محتجزون اآلن في قصر بين رابغ وجدة في منطقة اسمھا الخريبة‬ ‫]بئر مبيريك[ من امالك شخص اسمه عبد‪ .r‬فابدى الطرف السعودي تعاونا ً في‬ ‫ذلك‪.‬‬ ‫وھربت “زھرة” من منزل آمنة بنت محمد الفضل في ‪ ٢٣‬يوليو ‪١٩٢٥‬م ولجأت‬ ‫الى القنصلية البريطانية في جدة وطلبت اللجوء السياسي وارسالھا الى وطنھا‬ ‫السودان‪/‬فاشر‪ .‬وقد ارسل المعتمد البريطاني رسالة بذلك في اليوم التالي الى الشيخ‬ ‫فؤاد الخطيب‪[٦٠] .‬‬ ‫وتسببت حادثة “زھرة” في احتجاج بعض األھالي النافذين ضد تراخي حكومة‬ ‫الشريف علي‪.‬‬ ‫‪.......................‬‬

‫‪25‬‬


‫وفي السادس والعشرين من اغسطس ‪١٩٢٥‬م‪ ،‬في أوج حصار جدة‪ ،‬طلب الملك‬ ‫علي من نائب القنصل البريطاني المستر جوردان التوقف عن استقبال ألالجئين غير‬ ‫انه وعد بابطال العبودية تماما ً بعد انتھاء الحرب‪ ،‬بيد انه ال يريد اضعاف موقفه مع‬ ‫التجار والمحليين في الوقت الحالي‪ .‬وارسل المستر جوردان‪ ،‬وكان اكثر تفھما ً من‬ ‫بوالرد لوجھة نظر الملك علي‪ ،‬الى القيادة البريطانية في السودان مؤكداً موقف‬ ‫الملك علي المناھض للعبودية‪ ،‬انما المشروط بنظرة واقعية‪“ .‬الملك علي ال تروقه‬ ‫ّ‬ ‫لتجذر‬ ‫مظاھر العبودية المنتشرة‪ ،‬لكنه ايضا اق ّر بصعوبة الغاء ذلك بشكل قاطع‬ ‫الممارسة لقرون‪ ،‬فيما المسألة ينبغي مباشرتھا برفق وتدريج‪ ،‬وانه نظرا‬ ‫لخصوصية المسألة‪ ،‬فانه يريد تجّ نب اصدار اي قرارات قد تضعف من شعبيته اثناء‬ ‫األزمة السياسية المندلعة ‪ ..‬لكنه وعد بالغاء الرقيق فور استقرار الحجاز وانجالء‬ ‫أزمته”‪]٦١] .‬‬ ‫لكن الخارجية البريطانية التي كانت قد ر ّجحت موقفھا في الحرب لصالح ابن‬ ‫سعود‪ ،‬لم تعطي باالً لمطالب الملك علي‪ .‬وفي تلغرام من الخارجية البريطانية‪ ،‬الى‬ ‫نائب القنصل أبدت الخارجية عدم اقتناعھا بالمبررات التي ساقھا الملك علي‪،‬‬ ‫وأفادت بأن القنصلية يجب ان تستمر في استقبال الالجئين وفي ارسالھم الـى ميناء‬ ‫سواكن بعد تحريرھم‪[٦٢] .‬‬ ‫وفي سبتمبر ‪١٩٢٥‬م لجأ السوداني “بالل” الى القنصلية البريطانية ھاربا ً من مالكه‬ ‫الشيخ دخيل ‪ ،r‬واألخير تاجر مواد غذائية بشارع قابل التجاري‪ ،‬فوضعت‬ ‫القنصلية بالل في احد البواخر الراحلة لسواكن‪ ،‬غير ان دخيل اتھم بالالً بسرقة‬ ‫صندوق جواھر منه‪ ،‬فطالبت الخارجية الحجازية عبر فؤاد الخطيب باعادته من‬ ‫الباخرة للمثول امام قاضي المحكمة الشرعية‪ ،‬ولكن لمماطلة المحكمة‪ ،‬بعد احدى‬ ‫عشر يوماً‪ ،‬من اصدار اي حكم‪ ،‬قام جوردان بتحدي السلطات الحجازية وترحيله‬ ‫الى السودان‪.‬‬ ‫وكتب جوردان في ‪ ١٤‬سبتمبر شارحا ً الى الخارجية البريطانية‪“ :‬لقد اضحى من‬ ‫عادات مالك العبيد اتھامھم بالسرقة عند فرارھم والحصول على احكام في صالحھم‬ ‫من المحكمة الشرعية‪ ،‬التي تنحاز دوما للمالّك”‪[٦٣] .‬‬ ‫كان ذلك التضعضع واالرتباك المتصاعد من طرف القيادات والمؤسسات واألھالي‬ ‫كناية صريحة عن أفول عھد على الحجاز‪ ،‬وبداية عھد سياسي جديد‪.‬‬

‫‪26‬‬


‫في ‪ ٢١‬ديسمبر ‪١٩٢٥‬م سُلمت مفاتيح جدة سِ لما ً الى السلطان ابن سعود‪ ،‬وبعدھا‬ ‫بأيام اُعلن عن تأسيس الكيان الجديد “مملكة الحجاز ونجد وملحقاتھا” وھو بداية‬ ‫العھد السعودي على كامل أراضي الحجاز‪.‬‬ ‫ الحجاز تحت الراية السعودية‪:‬‬‫وتسارع نشاط االعتاق بين اھالي مكة‪ ،‬وھناك من باع جواريه بنصف اسعارھن‪،‬‬ ‫حينما نزحوا الى جدة في جماعات قبيل دخول جيش االخوان الى مكة‪ .‬وھبط سعر‬ ‫الجاريات في دكة الرقيق في مكة من سبعين جنيھا ً الى ثالثين‪[٦٤] .‬‬ ‫وكان المطوفون يقنعون اغنياء الجاوا باعتاق العبيد المملوكين في مكة كونھا مثل‬ ‫الصدقة الجارية‪[٦٥] .‬‬ ‫وتكرر ھذا النمط قبيل سقوط جدة‪ .‬ونالحظ في نوفمبر ‪١٩٢٥‬م في اوراق المحكمة‬ ‫الشرعية في جدة تسارع في نشاط اعتاق العبيد‪.‬‬ ‫واعتق السيّد علي بن عثمان شطا‪ ،‬الذي لجأ كباقي أھل مكة الى جدة عند دخول‬ ‫جيوش االخوان‪ ،‬في ‪١٩٢٥‬م‪ ،‬زھرة عبد‪ r‬التي كان قد اشتراھا من محامي الملك‬ ‫حسين في مكة الشيخ عمر‪ ،‬واصدر لھا حجة صادرة من محكمة جدة الشرعية‪،‬‬ ‫لكنھا آثرت البقاء معه والعودة الى مكة مع آل شطا حينما تستقر االوضاع فيھا‪.‬‬ ‫وتحرر كثير من العبيد بعد سفر اھل الحجاز ذعرا الـى موانئ مصر والسودان‪.‬‬ ‫واعتق الشيخ احمد بن محمد سعيد تاج )اخو جمال وعبدالغني تاج الدين‪ ،‬وآل تاج‬ ‫الدين من اثرياء مكة الذين يتاجرون مع سنغافوره وبتافيا(‪ ،‬جاريته زھرة عبد‪r‬‬ ‫السوداني وابنتھا القاصر فريدة سالم‪ ،‬ودجد عبد‪ r‬من بتافيا وعبدالقاھر السوداني‬ ‫واثنتين أخرتين‪ ،‬كما تفيد صكوك المحكمة الشرعية‪.‬‬ ‫وكان يمكن اتالف الصكوك الشرعية او مصادرتھا بكل سھولة‪ .‬وبمقابل مبلغ بسيط‬ ‫من الرشوة كان يمكن اتالف اي ارشيف في المحكمة الشرعية بجدة‪[٦٦] .‬‬ ‫ونشطت القنصلية البريطانية في ارسال المعاتيق الى بلدانھم‪ .‬وفي رسالة من‬ ‫القنصل في ‪ ٢٤‬ديسمبر ‪١٩٢٥‬م‪ ،‬الى السادة جالتلي ھنكي في جدة وكالء الشركة‬ ‫الخديوية للمالحة‪ ،‬يطالبھم بتوفير تذاكر لنقل معاتيق الى سواكن‪ ٢٦ :‬شخص منھم‪:‬‬ ‫بخيتة ام مسعود‪ ،‬عبدالمولى بن سالم‪ ،‬عبد‪ r‬القصيمي‪ ،‬فرج لحياني‪ ،‬فرج ‪،r‬‬ ‫بالل‪ ،‬مبارك بن علي‪ ،‬ابراھيم تكروني وآخرون‪[٦٧] .‬‬

‫‪27‬‬


‫ورحب ابن سعود في حوار مع القنصل البريطاني بجدة بالتشدد ازاء منع دخول‬ ‫العبيد الى االراضي الحجازية ولكنه في المقابل اعتقد ان المنع يجب ان يجري‬ ‫بالتدريج كون اي خطوة استفزاز قد تؤلب ضده قبائل الحجاز التي ال تزال تعتمد‬ ‫على العبيد‪.‬‬ ‫وأشار القنصل البريطاني للملك برصدھم لوكالء نجديين ينشطون في تجارة العبيد‬ ‫في عمان واالطراف الشمالية من الخليج العربي وتوريدھم لنجد‪ ،‬وأبدى الملك تفھمه‬ ‫وتعاونه‪.‬‬ ‫وفي رسالة من السير اورفالنت من الخارجية البريطانية الى القنصل البريطاني في‬ ‫جدة في ‪ ٢٢‬ابريل ‪١٩٢٦‬م‪ ،‬أملى عليه سياسة بريطانيا الجديدة مع ابن سعود‪.‬‬ ‫وطالبه باستصدار قرارات منه بتشديد الحدود لمنع دخول العبيد المھربين للحجاز‬ ‫وعسير‪ ،‬اضافة الى منح القنصلية حق تحرير وتسفير من يلجأ اليھا ‪ ..‬ثم كخطوة‬ ‫تالية اعالنه اللغاء العبيد مستعينا ً ربما بفتوى من علماء مكة‪ ،‬وعلى نھج ما فعلت‬ ‫قبرص في قراراتھا اللغاء الخدم المرغمين في ‪١٨٧٩‬م‪.‬‬ ‫على اثر رسالة اورفالنت قام جوردان نائب القنصل ببعث خطاب الى الملك‬ ‫عبدالعزيز في ‪ ١١‬مايو ‪١٩٢٦‬م‪ ،‬بذلك االمر‪.‬‬ ‫وكانت سياسة ابن سعود ھي عدم حرق المراحل والحرص على معاملة العبيد‬ ‫معاملة انسانية‪[٦٨] .‬‬ ‫وفي اول طلب رسمي للحكومة السعودية بالحجاز تقدم به نائب القنصل جوردان في‬ ‫‪ ٢٥‬مايو ‪١٩٢٦‬م‪ ،‬باعتاق المدعو عثمان موسى من اھل سواكن الذي اُختطف عام‬ ‫‪١٩١٨‬م عبر الريّس عبدالخير بن الحسين‪ ،‬مالك السنبوك “خضرا” وبيع في ساحل‬ ‫ينبع لمازن بن عمر من اھل ينبع‪ .‬وان عم عثمان‪ :‬حسن عبدالفرج قد وصل ينبع‬ ‫لبحث سبل اعتاقه انما دون فائدة‪.‬‬ ‫وجاء في جواب الملك عبدالعزيز بعد اربع ايام انه اصدر اوامره للسلطة المحلية في‬ ‫ينبع لتسليمه لعمه على الفور‪[٦٩] .‬‬ ‫وتفيد احصائات القنصلية البريطانية انه خالل شھريّ سبتمبر واغسطس من عام‬ ‫‪١٩٢٦‬م تم تحرير ‪ ٩٧‬شخص عبر قنصليةجدة‪.‬‬

‫‪28‬‬


‫ معاناة مزدوجة‪:‬‬‫وليس كل من تحررھم القنصلية في جدة وتعيدھم الى ميناء سواكن تنتھي معاناتھم‬ ‫عند ذلك الحد‪.‬‬ ‫واُعتق سعيد أمان واطلق سراحه واُعيد للسودان في السابق لكنه عاد ادراجه الى‬ ‫القنصلية البريطانية في جدة بعد ستة اشھر يطلب اللجوء مجدداً!‬ ‫حين وصل سعيد الى سواكن‪ ،‬بعد تحريره في المرة األولى‪ ،‬عمِل معاونا ً للناخوذة‬ ‫احمد مبارك الجھني على متن السنبوك “خضرا” من امالك محمد البربري من اھل‬ ‫سواكن‪ .‬وفي رحلة تحمِل شحنة فحم متجھة الى جدة وبدال من العودة مباشرة الى‬ ‫بورتسودان كما كان مجدوالً‪ ،‬انعطف السنبوك الى رابغ لتحميل بضائع ليجري‬ ‫تصريفھا في جدة وبورتسودان على التوالي‪ .‬ولكنه في الطريق توقف في قرية‬ ‫الرويس على مقربة من جدة فركب منھا مصادفة مالك سعيد الذي ف ّر منه في‬ ‫السابق‪ ،‬واسمه حامد بن قريب الجدعاني ومعه ثالث عُربان ھم‪ :‬ضيف ‪ r‬وحميد‬ ‫وحمدان‪ ،‬وكلھم من الجداعين‪ .‬وحينما رأى الجدعاني عبده السابق‪ ،‬قام بارشاء‬ ‫النوخذة بـ ‪ ٦‬جنيھات استرليني مقابل تمكينه من مصير سعيد‪ ،‬رغم اعتراض ركاب‬ ‫السنبوك‪ .‬وقام الجدعاني ببيعه بعيد ذلك في مكة الى مالك جديد اسمه حسن أبو‬ ‫النجا‪ ،‬من اھل مكة‪،‬الذي ف ّر سعيد منه بدوره من جديد الى دار القنصلية البريطانية‬ ‫التي وضعته للمرة الثانية في غضون ستة أشھر على متن الباخرة المنصورة التابعة‬ ‫للشركة الخديوية في طريق حريته الى بورتسودان‪[٧٠] .‬‬ ‫ أفارقة الحجاز‪:‬‬‫وتوزع أفارقة مكة على جماعات اثنية منغلقة على نفسھا منذ القرن الميالدي التاسع‬ ‫عشر‪ ،‬لكل جماعة منھا شيوخھا وشبكتھا االجتماعية الخاصة – تمركزت غالبيتھا‬ ‫في منطقة البير المالح امام المنشيّة بحارة المسفلة او في حارة جرول‪ .‬كان لكل‬ ‫جالية افريقية في مكة شيخھا )كبيرھا( الذي يفصل في خالفاتھا بأحكام قضائية‬ ‫موازية‪ ،‬يعاضده نقيب مدجج بعصا‪ ،‬يقوم مقام السلطة التنفيذية‪.‬‬ ‫ونحن نعلم ان من شيوخ البرنو في مكة في العشرينات الميالدية من القرن الماضي‬ ‫الشيخ محمد فونتامي )أو‪ :‬فوالني( والشيخ محمد جبركاني‪ ،‬فيما كان شيخ الفالتة‪:‬‬ ‫الشيخ سمبو‪.‬‬ ‫وساھم الرقيق من افريقيا الشرقية والسودان واثيوبيا وافريقيا الغربية )التكارنة( في‬ ‫اغناء التنوع الثقافي واإلثني لمكة والحجاز‪.‬‬ ‫‪29‬‬


‫ومنذ عام ‪١٨٨٥‬م وصف المستشرق الھولندي سنوك ھوروخرونيه مالمح الحياة‬ ‫االجتماعية للجاليات االفريقية‪/‬المكيّة وكشف شيئا ً من مظاھر ثقافتھم الفرعية‬ ‫الھجينة‪.‬‬ ‫فھم يقومون باحتفاالت شعبية اسبوعية تبدأ من ظھيرة يوم الخميس وتمتد الى‬ ‫تباشير صباح الجمعة‪ .‬وكان لھم في مكة ما اسماه ھوروخرونيه بـ”االوركسترا‬ ‫االفارقية“‪ :‬فيلعب الزنوج في مكة بآلة العود “الطنبورة” المكيّة‪ ،‬مرفقة بآالت‬ ‫خرج قرقعة أثناء‬ ‫الطبل‪ ،‬فيما يرتدي الراقصون أحزمة مشغولة بحوافر الغنم ُت ِ‬ ‫الرقص واالحتكاك‪ x‬ثم يرقصون رقصة المزمار البلدي‪ .‬وبين دورات الجوش‬ ‫يحتسي العبو العصا من شراب محلي مُسكر يسمّى البوظة‪ .‬ثم يعودون ادراجھم‬ ‫للعمل مع ظھيرة يوم الجمعة‪[٧١] .‬‬ ‫ويقول ھوروخرنيه‪ :‬ومأكلھم متوفر والبأس به‪ .‬وھم بعد تحريرھم يسعى الفرد منھم‬ ‫للعمل باألجرة كعمال بناء او سقائي مياه‪ ،‬الخ‪ .‬فيما اغلبھم يفضلون البقاء تحت‬ ‫وصاية األسر التي خدموا فيھا خصوصا اذا قرروا الزواج‪.‬‬ ‫ويتصدى الزنوج ذو المواھب األكثر بروزاً لألعمال المنزلية او يعملون كأمناء‬ ‫متاجر ومحاسبي دكاكين تجارية‪.‬‬ ‫ان اثرياء مكة يحبذون ملء منازلھم بالعبيد‪ ،‬وھؤالء العبيد بدورھم يعيشون حياة‬ ‫مترفة مقارنة بغيرھم ويجري التعامل معھم كأفراد من العائلة‪ .‬اما الكفؤين منھم‬ ‫فيتحولون تلقائيا ً الى مسيّري شئون التجارة لألسر التي يعملون فيھا حتى يغدو‬ ‫خال من اي مدلول‪.‬‬ ‫“العبد” في كثير من الحاالت مجرد لفظ ٍ‬ ‫وأغلب عبيد المنازل يجري اطالق سراحھم حال تجاوزھم سن العشرين‪ ،‬نظراً‬ ‫لخوف مالّكھم من استمرار اختالطھم كبالغين مع نساء األسرة وجواريھا‪ ،‬ثم ان‬ ‫التحرير يبقي العالقة مستمرة انما يمنح المّالك فسحة من الثقة مع األفراد‬ ‫المُحررين‪[٧٢] .‬‬ ‫ويتنافس المعاتيق مع الرجال المكيين في كافة مجاالت الحياة بنديّة متساوية‪.‬‬ ‫ولم تفرّق لوثة االسترقاق بين أي طرف‪ ،‬كما انھا لم تقف حكراً على اجناس‬ ‫األفارقة والجاوى‪.‬‬ ‫وارسل عيد بن سالم احد عُربان المدينة المنورة الذين تم أسرھم في احد معارك‬ ‫االخوان وتم بيعھم‪ ،‬برسالة “نداء” بعثھا في الحادي عشر من ابريل ‪١٩٢٦‬م الى‬ ‫الوكيل القنصلي البريطاني في لنجا )على سواحل فارس( يخبره بمالبسات اختطافه‪.‬‬ ‫‪30‬‬


‫حينما حاصر جيش السلطان بن سعود المدينة كان عيد يخدم في حامية مدائن صالح‬ ‫ومع سقوطھا تم تسليمه لجيش ابن سعود ف ُنفي الى قطر وھناك تملكه محمد بن‬ ‫فضال لمدة شھر ثم اخذه في قارب لثالث اشھر بين جزر اللؤلؤ‪ ،‬وھناك حاول بيعه‬ ‫في جزيرة الشيخ )وھي جزيرة فارسية( لكنه ھرب قبل ان يوقف في ساحل فارس‬ ‫ليعود ويمكث مع مالكه في نخيلو‪ ،‬حتى ھروبه الثاني االن الى لنجا حيث يريد حسم‬ ‫امر حريته واثبات ھويته‪]٧٣] .‬‬ ‫و خدم عيد بن سالم في جيش الشريف حسين النظامي منذ ‪١٩١٥‬م حين كان في‬ ‫سن الخامسة عشر‪ ،‬وأك ّد في رسالته الى انه شخصية معروفة يمكن ان يضمنھا‬ ‫ھؤالء السادة من اعيان المدينة‪ :‬الشريف شحات‪ ،‬والشريف ناصر‪ ،‬واسعد بن طاھر‬ ‫سنبل وعبدالمحسن بن طاھر سنبل‪ .‬وان عمّه ھو جمعة بن شليّه واخوه ھو عايض‬ ‫بن سالم‪.‬‬ ‫وسمّت وثائق الخارجية البريطانية‪ ،‬في مايو ‪١٩٢٦‬م‪ ،‬في رسالة للكولونيل بريدو‪،‬‬ ‫المعتمد السياسي في الخليج‪ ،‬اسماء تجار نجديون وحساويون يتاجرون في تھريب‬ ‫العبيد من سواحل االمارات الى دواخل نجد‪ :‬عجيل النجدي في دبي‪ ،‬ومحمد القفيدي‬ ‫في دبي والشارقة والبريمي‪ ،‬وبن عتيق في الشارقة وعجمان‪ ،‬وعبد‪ r‬الطويل في‬ ‫الشارقة‪ ،‬ومحمد بن عبد‪ r‬النصيبي في عجمان‪[٧٤] .‬‬ ‫وو ّقعت حكومة الحجاز‪ ،‬تحت االدارة السعودية الجديدة‪ ،‬اتفاقية الغاء الرق في‬ ‫جنيف في سبتمبر ‪١٩٢٦‬م‪ ..‬لكن لحداثتھا في الحجاز الذي كان يدخل مرحلة‬ ‫سياسية انتقالية‪ ،‬لم تعطى االتفاقية اي عناية‪ ،‬فاُھملت‪.‬‬ ‫وفي عام ‪١٩٢٦‬م استخدمت حكومة التاج البريطاني اسطولھا الرابض في مالطا‬ ‫لمراقبة تجارة العبيد في البحر االحمر‪ .‬كانت بريطانيا ال تزال ُتحكم السيطرة على‬ ‫البحر االحمر‪ ،‬الشريان االمبريالي االكثر اھمية لھا‪.‬‬ ‫ومخرت البارجة كورنفالور )العنبر( القادمة من مالطا العباب بين عدن وجدة‬ ‫وبورتسودان‪ .‬اما البارجة داھيال )زھرة األضاليا( تركت مالطا للبحر االحمر في‬ ‫‪١٩٢٧‬م‪ ..‬وآبت البارجة كليماتس )الياسمينة( من ميناء بورتسودان الى مالطا عبر‬ ‫جزر كمران اليمانية‪.‬‬ ‫وكان متعھدو نقل العبيد بين ضفتي البحر االحمر متى ما صادفوا بارجة حربية‬ ‫بريطانية‪ ،‬فانھم يوعزون في فورھم للعبيد بسرعة االختباء‪ ،‬بعد ايھامھم بأن ھؤالء‬ ‫الرجال “البيض” انما ھم من فصيل “أكلة لحوم بشر”‪[٧٥] .‬‬ ‫‪31‬‬


‫ومن سخرية األقدار ان البارجة كورنفالور التي كانت ُتستخدم للتفتيش عن العبيد‬ ‫المھ ّربين في سنابيك البحر االحمر‪ ،‬كانت ھي من تولى نقل الشريف علي بن‬ ‫الحسين‪ ،‬آخر ملوك الحجاز الھاشميين الى منفاه األخير في ‪ ٢٥‬ديسمبر ‪١٩٢٥‬م‪.‬‬ ‫وفي مايو ‪١٩٢٧‬م اعترفت بريطانيا رسميا ً بالحكم السعودي لمملكة الحجاز ونجد‪.‬‬ ‫وأصبح السير اندرو رايان‪ ،‬ممثلھا في قنصلية جدة‪ ،‬أول مسؤل دبلوماسي رفيع بعد‬ ‫التحوالت السياسية األخيرة وصعود ابن سعود على عرش الحجاز‪.‬‬ ‫وتم توقيع االتفاقية البريطانية‪-‬السعودية‪ ،‬فيما يعرف بـ”اتفاقية جدة“‪ .‬وجاء في‬ ‫مادتھا السابعة ان “يتعھد صاحب الجاللة ملك الحجاز ونجد وملحقاتھا بأن يتعاون‬ ‫بكل مالديه من الوسائل مع صاحب الجاللة البريطانية في القضاء على االتجار‬ ‫بالرقيق”‪.‬‬ ‫لكن في السابع من يوليو ‪١٩٢٧‬م قام السنبوك الشراعي “سلك الھوا”‪ ،‬الذي يملكه‬ ‫حاجي محمد‪ ،‬ويقوده الناخوذة محمد صالح الدنقلي‪ ،‬بنقل ‪ ٧٥‬عبد اثيوبي من أمالك‬ ‫التاجر احمد عمر‪ ،‬الذي جلبھم من جيبوتي‪ ،‬بالقرب من تاجورة‪ ،‬مورّداً اياھم الى‬ ‫موانئ زيلع )الصومال(‪ ،‬وأوبخ )جيبوتي( ومنھا الى المخا )اليمن( ومن األخيرة‬ ‫الى الحجاز بالتھريب‪[٧٦] .‬‬ ‫وقدرت الوثائق البريطانية انه في عام ‪١٩٢٧‬م وحده تم تھريب ما بين ثالثمائة الى‬ ‫اربعمائة عبد بين اثيوبيا وحدھا الى موانئ الجزيرة العربية‪.‬‬ ‫وكانت آلية تھريب العبيد االثيوبيين تجري كالتالي‪:‬‬ ‫يُخ َطف العبيد االثيوبيون وخاصة البنات الصغار من انحاء أديس أبابا الغربية‪ :‬من‬ ‫جماعات كافا وولغا وبني شنقول )وھؤالء مقرّ ھم غرب اثيوبيا وھي منطقة تتبع‬ ‫شيخ الخوجلي الذي كان يفرض رسوم ضريبية على تجار العبيد فيھا( – وكلھم من‬ ‫اصول عرقية زنجية ي َُسمون باللغة األمھرية بجماعة الشنقيلة – وھم ليسوا حاميين‬ ‫مثل جماعات الجالس‪ ،‬فالجاالس واألمھريين ھم من يخطف العبيد الزنوج ويتاجر‬ ‫بھم – ثم يعبر العبيد المخطوفون في مسارات سريّة الى شمال اديس أبابا حيث‬ ‫اسواق العبيد في باتيس وداوا )مناطق تابعة للعيسى( ومنھا يساقون الى تاجورة من‬ ‫خالل ال ُتجار الدانقلة‪.‬‬ ‫في تاجورة يجري تنظيم العبيد في جبل الغواد – ويفرض عليھم سلطان راھيتا‬ ‫ضرائب تجبى عبر شيوخ قبيلة العيسى الصومالية‪ ..‬ثم يباع العبيد الى التجار‬ ‫العرب في جيبوتي مقابل ‪ ١٦٠‬دوالر للرأس‪ .‬ثم ال يبعثون من موانئ تاجورة‬ ‫‪32‬‬


‫الرئيسية مباشرة توجسا ً من الرقابة البحرية‪ ،‬فيرحلون بدال من ذلك الى رأس دمار‬ ‫حيث يفرض سلطانھا المحلي ضريبة اضافية عليھم‪ .‬وحينما تھب الرياح الجنوبية‬ ‫على البحر األحمر بين شھري نوفمبر ومارس‪ ،‬تنشط السنابيك وترفد سواحل‬ ‫جيبوتي موانئ الجزيرة العربية بأسراب العبيد والجواري صغيرات السن‪.‬‬ ‫وكان سالطين الدناقلة في ساحل جيبوتي يتقنون صناعة النعل والسِ كافة بشكل‬ ‫ماھر‪ ،‬لكنھم تورطوا الى جانب ذلك في تجارة وتسويق الجواري البغيضة‪ .‬وكانت‬ ‫الحكومة الفرنسية في جيبوتي في فترة من الفترات تقاسم السلطان الدنقلي ارباحه‬ ‫من تجارة العبيد‪.‬‬ ‫وتحمل السنابيك في البحر األحمر الكثير من الحصى الصغير )الصابورة( التي‬ ‫تستعمل كثقل الموازنة‪ ،‬وكانت تستخدم لتقييد ايدي العبيد‪.‬‬ ‫في الحجاز تكون اقرب الموانئ لھم‪ :‬القنفذة والليث وراس األسود جنوب جدة‪،‬‬ ‫ويرسون بأعداد أكثر في االخير‪ ،‬ومنھا يجري تھريبھم الى اسواق جدة‪ .‬وتصل‬ ‫اسعارھم في جدة الى ستمائة دوالر‪ .‬ويباع أعداد منھم للسوق المحلي‪ ،‬وجزء آخر‬ ‫يشتريه ح ّجاج اسطنبول والقاھرة وينقلونھم معھم الى ديارھم‪ .‬أما من يبقى يُعاد‬ ‫توزيعه الى المخا‪.‬‬ ‫وفي ھذه الفترة كانت قبيلة الزرانيق البحرية جنوب الحُديدة من اكثر القبائل‬ ‫استھالكا ً للعبيد في الجزيرة العربية‪.‬‬ ‫وال تقف طرق التھريب على ما سبق‪ .‬ومن طرق تھريب العبيد الذين يجري‬ ‫شراؤھم بشكل فردي‪ :‬رشوة القضاة في تاجورة بخمس او عشر دوالرات مقابل ان‬ ‫يصك لھم ورق زواج مع الفتيات فيتم تھريبھن بأوراق رسمية‪[٧٧] .‬‬ ‫وفي الضفة البحرية المقابلة من الجزيرة العربية كان يُخطف صغار الھنود والبلوش‬ ‫الستخدامھم في العمل في قوارب صيد اللؤلؤ بالبحرين والكويت‪ .‬وفي ‪١٩٢٨‬م كان‬ ‫عبد‪ r‬بن محمد دوار‪ ،‬في دبي‪ ،‬ھو أكبر وكيل لبيع العبيد المجلوبين من كراتشي‪.‬‬ ‫ سنابيك البحر األحمر ‪ -‬المتاجرة في كل شئ‪:‬‬‫كانت السنابيك في البحر االحمر تنقل بين موانئ راس المدر وعدن والحديدة والمخا‬ ‫وجدة وعصب وجيبوتي – كل من السكر والتبغ والكيروسين )الجاز( والقھوة‬ ‫والحبوب والتمور‪ ،‬الى جانب العبيد‪ .‬وترفرف على صواريھا اعالم‪ :‬مملكة الحجاز‬ ‫او ايطاليا اوالحكومة العربية او دولة اإلمام‪.‬‬ ‫‪33‬‬


‫وفي ميناء جزيرة بريم في مدخل باب المندب كان وكالء تجارة العبيد‪ :‬شيخ سعيد‬ ‫وھو وكيل السنبوك “متساھل” لمالكه محمد ھادي في تاجورة‪ ،‬ينقل الخشب والفحم‪.‬‬ ‫وعبيد علوي الذي اقلع الحقا ً عن تھريب العبيد وبات يعمل في صيد االسماك‬ ‫بالقرب من جزر كمران‪ .‬وفي جيبوتي الشيخ ابراھيم صالح ومعه عشرون رجالً‬ ‫مسلّحا ً‪.‬‬ ‫وكان يسيطر على ساحل تاجورة‪ :‬الشيخ محمد قاسم الدنقلي والشيخ عبده داود‬ ‫الدنقلي‪.‬‬ ‫وفي عام ‪١٩٢٨‬م تن ّقل وكيل بريطاني سري بين مقاھي جيبوتي المرصوصة على‬ ‫الميناء واعطانا صورة عن الحياة االجتماعية لنواخذة السنابيك فيھا‪ ..‬وذكر من كبار‬ ‫النواخذة في حينه‪:‬‬ ‫ابوخليل‪ ،‬وھو مالك وناخوذة سنبوك “صاح ‪ ”r‬في جيبوتي وعليه علم ايطالي‪..‬‬ ‫ومثله محمد شحيم‪ ،‬وھو دنقلي‪ ،‬كان ناخوذة ألحد السفن الفرنسية لكنه يملك االن‬ ‫سنبوكا ً اسمه “زاحف” وعليه علم عربي – وھو ينقل عبيد احيانا‪ ..‬وعلوي حكمي‬ ‫وسنبوكه اسمه “الھبوب” وعلمه عربي‪ ..‬وأحمد سيموح كان وكيالً تجاريا ً في‬ ‫الميناء‪ ،‬يعمل لصالح الشيخ العيسى الثاني والشيخ ابوبكر الثالث وھما رجالن‬ ‫مُسلحان يعمالن في تجارة السالح والعبيد‪ ،‬يحتكران التجارة الذاھبة لميناء الطائف‬ ‫اليمني التاريخي )في حدود الحديدة وھو غير مدينة الطائف الحجازية(‪ ،‬عند رجل‬ ‫محلي ھناك اسمه احمد فتياني وھو شيخ الطائف‪.‬‬ ‫وھناك سنبوك “المايل” للناخوذة عمر سعيد الوحيش ويعمل مع تجار تاجورة‬ ‫وزعماء العفر )الدناقلة(‪.‬‬ ‫ الثالثينات الميالدية ‪ ..‬انقالب في الوعي وتبدل قيمي‪:‬‬‫وتشير احصائات لجوء العبيد لدار االعتماد البريطاني في جدة الى تناقصھا الحاد‬ ‫بعد حصار جدة وصعود الفترة السعودية في الحجاز‪ .‬ومن لجوء اربعين رجالً‬ ‫وامرأة في عام ‪١٩٢٦‬م الى دار القنصلية‪ ،‬لم يلجأ سوى سبع عشر رجالً وامرأة في‬ ‫عام ‪١٩٣١‬م‪ ،‬بقي منھم خمسة في الحجاز بعد تحريرھم‪ .‬وان لم تنتفي تجارة العبيد‬ ‫بعد‪ ،‬فإنھا خفتت بشكل ملحوظ‪]٧٨] .‬‬ ‫وحملت الثالثينات للحجاز – والتي سبقھا عقدان دراميّان شھد فيھما الحجاز؛‬ ‫انقالبين في دار الخالفة وثورة كبرى في مكة وحربا ً عالمية وأخرى حدودية‬ ‫وفترتيّ حصار وجوائح وبائية وتمردات قبائلية ش ّتى – حملت‪ ،‬عكس كل ذلك‪،‬‬ ‫‪34‬‬


‫استقراراً مطلقاً‪ ،‬انتعش فيه الميناء‪ ،‬وتماسك فيه موسم الحج‪ ،‬فانفتح األھليون بشكل‬ ‫ھائل على العالم وروح العصر‪.‬‬ ‫يقول بوند‪ ،‬السفير البريطاني في جدة في رسالة للخارجية البريطانية في السادس‬ ‫من مارس ‪١٩٣٠‬م‪“ :‬لقد تقلّصت نسبة العبيد في جدة في السنوات األخيرة بشكل‬ ‫مطرد‪ ،‬ھذا يعود الى كون كثير من التجار المعروفين انفتحوا على روح العصر‬ ‫وباتوا يمارسون أشكال تجارة اكثر عصرية ومالئمة قانونيا وقطعوا مع االشكال‬ ‫التقليدية”‪[٧٩] .‬‬ ‫وضعف ارسال العبيد المھربين الى الحجاز عبر ميناء جدة وموانئھا القريبة كما‬ ‫سبق‪ ..‬مقابل ازدياد نشاط التھريب عن طريق البر من بالد الشحر والمكال في‬ ‫اليمن‪ ..‬او من يجري اختطافه او بيعه أصالة في موسم الحج‪[٨٠] .‬‬ ‫وسجّ ل شيخ الداللّين‪ ،‬القيّم على دكة الرقيق بأطراف سوق سويقة‪ ،‬في مكة ألف‬ ‫عملية بيع في عام ‪١٩٣٠‬م‪ ،‬لكنه عاد وسجّ ل مائة عملية بيع فقط بعد ثالث سنوات‬ ‫في عام ‪١٩٣٣‬م‪ .‬وفي المدينة المنورة اُغلقت الد ّكة‪ ،‬وخرجت عن الخدمة‪ ،‬حيث لم‬ ‫تس ّجل سوى عشر عمليات بيع في عام ‪١٩٣٣‬م‪[٨١] .‬‬ ‫وشھدت الثالثينات‪ ،‬اقتحاما ً مُفاجئا ً للتقنيات الحديثة )التكنولوجيا( – ما ادى الى‬ ‫انقالب في الوعي وتبدل قيّمي حاد خصوصا ً في ذھنيّة وعادات البادية الحجازية‪.‬‬ ‫ان احد االسباب الجوھرية لتقلّص استھالك العبيد بشكل كاسح في البادية الحجازية‪،‬‬ ‫ھو إدخال النقل بالسيارات في موسم الحج والغاء نظام “الكوشان” – وھي رسوم‬ ‫الطريق التي كان يدفعھا الجمّالة للشريف كنوع من الضريبة المحليّة )ويدفع‬ ‫األھليون‪ ،‬مُمثلون في طبقات المطوفين ضريبة مماثلة(‪.‬‬ ‫لقد ضرب ذلك التحوّ ل‪ ،‬الھيكل االقتصادي للبادية الحجازية‪ ،‬خصوصا ً لدى قبيلتيّ‬ ‫الحوازم واألحامدة‪ ،‬في صميمه وقوّ ض مراكز قوته وشبكة عالقاته القديمة‪.‬‬ ‫وأدى انخفاض الطلب في النقل التقليدي على الجمال والشقادف الى تقليص الطلب‬ ‫بين شيوخ الجمّالة والمخ ّرجين للعبيد الذين كانوا يستعينون بھم سابقا ً في اعباء‬ ‫وتجھيزات قوافل الحجيج وتسييرھا‪.‬‬

‫‪35‬‬


‫ أزمة دبلوماسية حا ّدة بين حكومتي بريطانيا والسعودية‪:‬‬‫وفي الرابع والعشرين من ديسمبر ‪١٩٣١‬م سلّم احد العبيد‪ ،‬ويُدعى بخيت‪ ،‬نفسه‬ ‫لدار السفارة البريطانية في جدة طالبا ً تحريره وارساله الى بالده في بورتسودان‪.‬‬ ‫لكن ھذا تسبب في اندالع فتيل أزمة دبلوماسية بين البلدين‪ .‬كان بخيت قد اُھدي‪ ،‬كما‬ ‫جرت العادة العشائرية حينھا‪ ،‬من ابن مساعد )امير حائل( الى الملك‪ .‬لكنه لم‬ ‫ً‬ ‫حقيقة في القصر الملكي‪ ،‬وظل في مقابل ذلك يخدم في دار الوزير عبد‪r‬‬ ‫ينخرط‬ ‫السليمان في مكة‪.‬‬ ‫واجاب الشيخ حافظ وھبة‪ ،‬من الطرف السعودي‪ ،‬في التاسع عشر من يناير ‪١٩٣٢‬م‬ ‫ان بخيت ھو احد عبيد القصر الملكي الذين ال تشملھم اتفاقية جدة‪]٨٢] .‬‬ ‫كان وھبة يشير الى الفقرة )أ( من المادة السابعة من اتفاقية عام ‪١٩٢٧‬م‪ .‬وكان في‬ ‫مفاوضات اتفاقية جدة مع السير جلبرت كاليتون ان اُستثني عبيد القصر الملكي‬ ‫كونھم في حقيقة األمر اما جنود او خدم خاصين‪.‬‬ ‫وكان بخيت قد ف ّر مع عبد آخر يدعى ھارون‪ ،‬من بيت عبد‪ r‬السليمان للسفارة‬ ‫البريطانية مطالبان بتسفيرھما الى بورتسودان‪ .‬كان ھارون قد خطف في موسم‬ ‫حج العام الماضي وتم بيعه‪ .‬اما بخيت فقد ا ّدعى انه خطف وھو طفل من جيبوتي‬ ‫وتم بيعه صغيرا في الحجاز عبر سوداني اسمه محمد وھو في السادسة‪ .‬ثم خطف‬ ‫من جماعة من البدو فيما كان يلعب خارج سور جدة في الكندرة‪ ،‬واخذوه الى اليمن‬ ‫حيث بيع من جديد ألحمد بن غصين الذي عاد به الى مكة وبيع مجدداً الى سيّد‬ ‫جديد ھو شاكر ابوجمال )من أشراف مكة( حيث مكث معه خمس سنوات ثم بعث‬ ‫به مع عائلته للمدينة فيما بقي ھو في مكة وحينما سقطت المدينة في يد السعوديين‬ ‫أخذه ابن مساعد في حائل وبعد سنوات من ذلك بعث به الى بن سليمان حيث امضى‬ ‫‪ ١٨‬شھرا قبل ان يھرب من بيت اخيه حمد السليمان الى السفارة البريطانية‪.‬‬ ‫وفي ‪ ٢٦‬ديسمبر طالبت النيابة العامة في الحجاز باعادة السفارة البريطانية في جدة‬ ‫لبخيت وتسليمه الى نائب قائمقام جدة السيد علي طه رضوان‪.‬‬ ‫وأرسل فؤاد حمزة‪ ،‬من الخارجية السعودية‪ ،‬رسالة في ‪ ٢٩‬يناير‪ ،‬الى السفير اندرو‬ ‫رايان يخبره بأن المسألة باتت مسألة مبدأ‪ ،‬وان الحكومة السعودية ال ترضخ من‬ ‫منطلق سيادي لرغبة البريطانيين في اي شأن خارج عن اتفاقية جدة ‪١٩٢٧‬م‪.‬‬ ‫لكن في ذات اليوم كان اندرو رايان قد بعث ببخيت على متن السفينة بينزانس‪.‬‬

‫‪36‬‬


‫ومن بعدھا‪ ،‬في الثالث من فبراير‪ ،‬اصدرت السلطات السعودية قرارا مشدداً بأنه ال‬ ‫يحق للسفارة البريطانية تسفير اي شخص على اي قارب سوى بموافقة مسبقة من‬ ‫أمير جدة الذي يصدر وحده تأشيرات الخروج‪ ،‬اما ان كان عبداً الجئا ً تم تحريره‬ ‫فيستلزم موافقة خطية من امير جدة قبل ترحيله‪.‬‬ ‫كان من العويص شرح كنه العالقة بين جاللة الملك ووزيره األول الشيخ السليمان‬ ‫أليٍ من الغربيين‪ ،‬كما كان يتعذر للغربيين فھم نفسيات عبيد القصور الملكيّة حينھا‬ ‫– او بشكل ادق غالبيتھم‪.‬‬ ‫كان بعض اؤلئك العبيد يحظون بامتيازات تفوق تلك الممنوحة لدى األعيان‬ ‫واألھليين‪ .‬وكان الملك يقرّب اليه افراداً منھم‪.‬‬ ‫وكان “مواليد” القصور يحظون برعاية كبيرة‪ ،‬بل ان بعضھم يتك ّبر على المواطنين‬ ‫ويمارس اضطھاداً ممنھجا ً ضدھم مدعوما ً بما يتوھمه من نفوذ خاص‪ .‬حد ان نكتة‬ ‫محلية شاعت في العشرينات الميالدية في الدوائر القنصليّة بجدة وصلت الى نائب‬ ‫القنصل البريطاني تقول بأنه يجب نقل جميع التكارنة للجزيرة العربية لتتحسن‬ ‫احوالھم المعيشية – لكن القنصل‪ ،‬في تقاريره‪ ،‬استھجنھا وأنكرھا‪ ،‬وان لم ينكر‬ ‫أصلھا!‬ ‫وتمتع حِلوان‪ ،‬احد عبيد القصر الملكي بحظوة وثقة ھائلة وكان قائداً عسكريا ً الحد‬ ‫ألوية جيش جاللة الملك التي شاركت في تأديب عصيان ابن رفادة عام ‪١٩٣١‬م‪.‬‬ ‫ولوجود أفارقة ملحقون بالحراسة األميرية الخاصة جذور عشائرية قديمة في‬ ‫الجزيرة العربية‪ .‬لقد م َنح قانون الواليات العثماني أمير مكة حق تشكيل حرسه‬ ‫النظامي الخاص فكوّ نه في عام ‪١٨٧٢‬م من مجموعتين‪ :‬البياشة‪ ،‬وھم من اھل وادي‬ ‫بيشة بعسير‪ ،‬ومن التكارنة‪ ،‬واغلبھم من العبيد المعتقين القاطنين في مكة من اصول‬ ‫نيجيرية وكونغولية‪ ..‬وقد انحصرت مھتھم اول االمر في تأمين سالمة القوافل بين‬ ‫جدة ومكة‪ ،‬وبين مكة والطائف‪ ،‬ثم شكلّوا نواة جيش الشريف النظامي‪.‬‬ ‫ومحمد عبدالقادر محمد فالتة‪ ،‬تم بيعه صغيراً على كذا بيت في مكة ثم امتلكه‬ ‫األمير سعود ولي العھد الذي اعتقه في يونيو ‪١٩٣٨‬م‪ ،‬لكنه آثر البقاء عنده‪ ،‬فتزوج‬ ‫وتسلّك في الحرس الخاص لقصر ولي العھد‪[٨٣] .‬‬ ‫وفي عام ‪١٩٤٤‬م اصيب القيّمين على فندق وولدورف استوريا في نييورك بصدمة‬ ‫كبيرة عندما أحضر األمير فيصل معه مرافقه االفريقي مرزوق‪ ،‬اثناء زيارته‬ ‫الرسمية‪ ،‬وكانت صدمتھم اكبر عندما أص ّر األمير على أن يأكل مرزوق معه‪ ،‬كما‬ ‫‪37‬‬


‫ھي عادته‪ ،‬ذلك ألن ھذا كان يقتضي السماح له بدخول قاعة المآدب الشھيرة‬ ‫“ويدجوود روم” التي لم يكن يسمح لزنجي أبداً ان يدخلھا‪[٨٤] .‬‬ ‫وبرز في االربعينات الميالدية نفر قليل من اعيان جدة‪ ،‬كانوا رقيقا ً في اصولھم‪..‬‬ ‫حتى انه كان من النادر ان تجد اي عائلة تجارية دون ان تجد تميز احد افرداھا‬ ‫بلون اسمر‪ ،‬يحمل اسمھا ويعمل في ادارة بيتھا التجاري‪.‬‬ ‫وكان المعتنون بالكعبة واعمال المسجد النبوي عبيداً “أغوات” طائلي الثراء والمتانة‬ ‫الوقفية وواسعي الوجاھة االجتماعية في الحرمين الشريفين‪.‬‬ ‫وقدر السير رايان‪ ،‬قنصل بريطانيا في جدة‪ ،‬عدد عبيد القصر الملكي بحوالي ثالث‬ ‫َ‬ ‫آالف نفر؛ القليل منھم باالقتناء‪ ،‬فيما غالبيتھم باالھداء او مولدون‪.‬‬ ‫كان تجار الرق‪ ،‬انطالقا ً من صالل العوائد العشائرية البالية‪ ،‬يھدون الملك العبيد‬ ‫بكثير من الحماسة طمعا ً في التعويضات الملكية السخية‪ ..‬ولكن قبضة الوزير‬ ‫عبد‪ r‬السليمان الصارمة‪ ،‬وسياسته المتقشفة والحريصة على المال العام وعلى عدم‬ ‫تكبيد الموازنة اية مصاريف اضافية في سنوات التقشف‪ ،‬ر ّ‬ ‫شدت الكثير من‬ ‫حماستھم فيما بعد‪ ،‬وساھمت في ابطال تلك العادة‪.‬‬ ‫ آخر ُتجار ووكالء العبيد في جدة‪:‬‬‫وكان من اشھر دالّلي الجواري في جدة‪ :‬باسترة أفندي‪ ،‬وأبوالسعود ]‪.[٨٥‬‬ ‫وفي رسالة من اسماعيل افندي حول العبيد في التاسع من مارس ‪١٩٣٣‬م من‬ ‫مقتنيات الخارجية البريطانية‪ ،‬ع ّدد اسماء كبار وكالء العبيد في جدة‪ ،‬مزودة‬ ‫بھويّاتھم الجھوية‪:‬‬ ‫“كبار وكالء العبيد في جدة‪ :‬حسن العمودي )حضرمي( وأحمد بن سيف )من بدو‬ ‫الحجاز( وشمعون بن عمر )صومالي‪/‬ايطالي( واحمد الحنبولي )ج ّداوي( وأبو‬ ‫زيدان )جّداوي( والليّاتي )ج ّداوي(”‪[٨٦] .‬‬ ‫وبات العبيد يرسون مباشرة في ميناء جدة‪ ،‬عكس السابق حينما كانوا ينزلون في‬ ‫النزلة اليمانية حيث يقيم الوكيل ابن سيف‪.‬‬ ‫وتقمّص اسماعيل افندي مع صديق ج ّداوي دور الراغب في الشراء ليراقب‬ ‫اوضاعھم‪“ :‬كانوا في اقبية احد البيوت‪ ،‬حيث الجو خانقا ً والروائح ال تكاد تطاق‬ ‫والد ّكة كان فيھا رجال ونساء مختلطون”‪.‬‬

‫‪38‬‬


‫وآخر مقر لبيع العبيد في جدة كان في منطقة حوش الھواشم – داخل سور المدينة‬ ‫القديم‪.‬‬ ‫واحد مكافحي تجارة العبيد في ساحل جيبوتي ھو السيّد علي العطاس‪ ،‬وھو أخ‬ ‫السيّد حسين العطاس من تجار وأعيان جدة‪.‬‬ ‫كان العطاس قد اخبر نائب القنصل البريطاني في جيبوتي بتحركات تجارة العبيد‬ ‫األخيرة‪ ،‬وكان يعتبر ان من ال يُخطئه ضميره بحمل العبيد والمتاجرة بالبشر سيقع‬ ‫في كل محظور آخر‪.‬‬ ‫وكان الشيخ محمد بابو احد شيوخ دنقلة ومحتكر تجارة العبيد في ساحل جيبوتي في‬ ‫عام ‪١٩٣٤‬م‪ ،‬قد فرض على جميع السنابيك المغادرة مينائي تاجورة و أوبخ‬ ‫بحموالت العبيد الى ميدي او جيزان ان تجلب معھا في ايابھا حموالت سالح‪.‬‬ ‫ً‬ ‫حقيقة العبيد‬ ‫فكانت السنابيك تتظاھر بنقل الخشب والفحم لكنھا تقايض‬ ‫بالسالح‪[٨٧] .‬‬ ‫وفي احصاء لعام ‪١٩٣١‬م‪ ..‬قُدر عدد العبيد في السعودية بأربعين ألفا‪ ،‬وُ زعت‬ ‫جغرافيا كالتالي‪:‬‬ ‫مكة‪ :‬ثالث االف‪.‬‬ ‫جدة‪ :‬ألف‪.‬‬ ‫رابغ‪ :‬خمسمائة‪.‬‬ ‫الوجه وينبع والطائف والمدينة وشمال الحجاز‪ :‬خمسمائة‪.‬‬ ‫القنفذة‪ ،‬ميناء البرك‪ ،‬جيزان وعسير‪ :‬عشر آالف‪.‬‬ ‫بادية الحجاز‪ :‬خمس آالف‪.‬‬ ‫الرياض وبادية نجد وخصوصا واحات االحساء والبريمي‪ :‬عشرون ألفا ً‪[٨٨] .‬‬

‫‪39‬‬


‫‪...................................‬‬

‫وانحصرت اجناس العبيد في ھذه الفترة بين سودانيين او اثيوبيين حاميين او‬ ‫تكارنة‪ ..‬ونساء يمنيات‪ .‬وعند اھالي الحجاز كان يوجد نفر قليل من جواري وعبيد‬ ‫جاويين وھنود وسوريين وماليزيين‪.‬‬ ‫‪40‬‬


‫قاض من محكمة مكة الشرعية منح صك اعتاق لعبد تم‬ ‫في عام ‪١٩٣٢‬م رفض ٍ‬ ‫تحريره كون الحكومة قد اخطرته بعدم القيام بذلك ألي عبد عمره يزيد عن العشرين‬ ‫عاما‪.‬‬ ‫وفي ‪ ٢٢‬فبراير ‪١٩٣٤‬م‪ ..‬اُرسل السير ماكسويل من قِبل لجنة الرقيق بعصبة األمم‬ ‫واصدر تقريرا عن حالة العبيد بين افريقيا والجزيرة العربية‪.‬‬ ‫ونشطت البوارج الحربية البريطانية في تفتيش السنابيك في المياة الدولية بالبحر‬ ‫االحمر بحثا ً عن العبيد‪ .‬وقبضت على ‪ ٥٦‬عبداً في ‪١٩٣١‬م‪ ،‬و‪ ٣٥‬عبداً في‬ ‫‪١٩٣٢‬م‪ ،‬و‪ ٣٥‬عبداً في ‪١٩٣٣‬م‪[٨٩] .‬‬ ‫وفي اكتوبر ‪١٩٣٦‬م خطت السلطات السعودية أكبر خطوة فيما يخص الحد من‬ ‫االتجار بالرقيق في الجزيرة العربية‪.‬‬ ‫فصدر في الثاني من اكتوبر ‪١٩٣٦‬م‪ ،‬المرسوم المعروف بـ‪ :‬تعليمات بشأن االتجار‬ ‫بالرقيق‪ ،‬من ستة عشر مادة‪ .‬وحظر المرسوم ادخال االرقاء الى السعودية عبر‬ ‫البحر او البر )مالم يبرز جالب الرقيق وثيقة حكومية رسمية تخوّ له بذلك(‪ ..‬كما‬ ‫حظر استرقاق األحرار‪ .‬والمرسوم‪ -‬وان لم يلغ ممارسة الرقيق‪ ،‬اال انه اعترف بھا‬ ‫كظاھرة ونظمھا وجعل للعمل فيھا وكيالً او سمساراً برخصة رسمية‪ .‬اما من‬ ‫يخالف تلك التعليمات تنذره الحكومة بعقوبة حبس لمدة ال تزيد عن سنة‪.‬‬ ‫لكن ھذه القرارات وماجلبت من محاسن على نفسيات الرقيق اال انه ترتب عليھا‬ ‫مساوئ جديدة – اذ ازداد اصرار المالك على ابقاء عبيدھم للندرة الحاصلة في‬ ‫األسواق فنتج عن ذلك تقلص مطرد لنشاط العتق‪.‬‬ ‫واستمرت الممارسات بشكل مُستتر‪.‬‬ ‫وكان جابر احمد من اھل كسال في السودان في أسر العبودية في الحجاز حتى حرر‬ ‫في عام ‪١٩٢٧‬م‪ ..‬وحينما عاد للحج بعد عشر سنوات في ‪١٩٣٧‬م رصده مالكه‬ ‫السابق الحسين بن علي الحارثي من أشراف المضيق‪ ،‬واثر مشادة وقعت بينھما‬ ‫أصر األخير على استعادته فعصى لكنه ألحقه بحاشيته بالقوة‪ .‬فارسلت القنصلية‬ ‫البريطانية من السفير بوالرد لألمير فيصل نائب الملك تطالبه باطالق سراحه في‬ ‫الثاني عشر من يونيو ‪١٩٣٨‬م‪ ،‬فنال حريته ورحل ادراجه على احد سفن شركة‬ ‫جاللتي ھنكي الى ميناء سواكن‪[٩٠] .‬‬ ‫وفي يونيو ‪١٩٣٦‬م باع علي بريمة ياسين وزوجته ست األھل في مكة‪ ،‬آمنة التي‬ ‫ادعيا انھا ابنتھما‪ ،‬ثم رحال برا لليمن ومنھا للفاشر‪ُ .‬تركت آمنة عند الشيخ حسن‬ ‫‪41‬‬


‫زيني وھو رجل طاعن في السن‪ ،‬الذي سلمھا بدوره البن ناصر تاجر الرقيق‬ ‫النجدي في مكة الذي عرضھا على كذا منزل فنزلت عند بيت السادة آل المرغني‬ ‫الذي كان يخلو من الذكور‪ ،‬واشترتھا سيدة ومكثت معھا عاما ً كامالً ولكنھا مرضت‬ ‫فاضطرت الى بيعھا لتذھب للعالج في مصر‪ ،‬فاشتراھا محمد الشيبي بـ ‪ ٣٥‬جنيھا ً‬ ‫ذھبيا ً استرلينياً‪ ،‬وقبل شراءھا عرضھا على سيدة قابلة اكدت انھا لم تنجب من قبل‪،‬‬ ‫وظلت عنده ثالث سنوات دون ان يُعاشرھا‪ .‬ثم عادت لسيدتھا القديمة في بيت‬ ‫الميرغني النھا كانت تحسن معاملتھا وھناك وجدھا القنصل البريطاني واستدعاھا‬ ‫وارسلھا الى السودان‪[٩١] .‬‬ ‫ومع عام ‪١٩٤٣‬م خفت نشاط شراء الجواري‪ ،‬واصبح التسري يمارس بعيداً عن‬ ‫أعين الزوجات الالتي ِبتن مع االنفتاح على العالم يرفضن على أزواجھن ذلك النمط‬ ‫الشاذ من الممارسة الجنسيّة‪[٩٢] .‬‬ ‫وكان آخر ثالثة وكالء للعبيد في مكة في يدھم كل التجارة‪ :‬وكان آخر المسيّطرين‬ ‫عليھا بحسب وثائق الخارجية البريطانية‪ :‬ميمش‪ ،‬والقرّعا‪ ،‬وبن ناصر‪ ،‬واألخيران‬ ‫نجديّان‪ [٩٣] .‬وصعد افراد من نجد في داللة العبيد في مكة‪ ،‬كون بوصلة جلب‬ ‫الجواري الى مكة باتت تتجه شرقاً‪ ،‬حيث تجلب الجواري من التجار النجديين عبر‬ ‫واحة البريمي والساحل الغربي للخليج‪ :‬بلوشيات وفارسيات بدالً من األجناس‬ ‫المعتادة االفارقة واالحباش والجاوا‪[٩٤] .‬‬ ‫ومن ابرز التجار النجديين في سواحل الخليج‪ :‬عبد‪ r‬بن سالم بن غراب‪ ،‬ومبارك‬ ‫وعبدالعزيز الدليمي‪ ،‬وعلي بن موفي الودعاني‪ ،‬وسليمان بن موسى‪ ،‬وعبد‪ r‬بن‬ ‫خفره‪ ،‬وعبد‪ r‬بن غانم العوار وھذا االخير كان اصبعه االوسط في يده اليمنى‬ ‫مقطوعا وكان يبيع الجاريات في الدوحة‪ .‬وحينما قُبض عليه في سبتمبر ‪١٩٥٢‬م‬ ‫حلف أيمانا مغلظة انه ترك التجارة منذ خمسة عشر عاما وانه يعمل االن في‬ ‫الزراعة وان المشتبه به ھو عبد‪ r‬بن غانم القطري وھو شخص آخر ولكن تبين‬ ‫الحقا ان كالھما يعمل في تلك التجارة‪.‬‬ ‫ونحن ال يمكن ان نجزم ان جميعھم كان يتاجر بشكل حصري في العبيد‪ ،‬لكن‬ ‫اسماؤھم وردت في الوثائق البريطانية مرة واحدة على األقل‪.‬‬ ‫وطالب السفير السير تروت في ديسمبر ‪١٩٤٧‬م‪ ،‬من يوسف ياسين من الخارجية‬ ‫السعودية‪ ،‬بمالحقة المتورطين في تجارة الرق في البحر االحمر‪ ،‬وانزال اشد‬ ‫العقوبات عليھم‪ ،‬وكانوا‪ :‬احمد ابوصالحه في ميناء البرك )عسير(‪ ،‬بن سيف في‬ ‫الرويس‪ ،‬وحسن العمودي في جدة‪[٩٥] .‬‬ ‫‪42‬‬


‫وفي ‪ ١٩٤٨‬قبضت السلطات السعودية على احمد علي ابوصالحة وھو يُھ ّرب العبيد‬ ‫سراً من مصوّ ع الى ميناء البرك في عسير‪[٩٦] .‬‬ ‫ومن تجار العبيد في الرياض حينھا بحسب الوثائق البريطانية‪ :‬ابن غراب المري‪،‬‬ ‫وجابو بن حضفه وبن عبدربه‪ ،‬وھم يحضرون الجواري عبر حمد البوشامس من‬ ‫دبي او مسقط الى كبار المستھلكين في االحساء والرياض‪ .‬وكان كبير التجار في‬ ‫سوق الرياض اسمه عبد‪ r‬بن مروان‪[٩٧] .‬‬ ‫في الرياض كانت الجارية الجميلة تباع بسبعة عشر الف ‪ ،y‬والمتوسطة الجمال‬ ‫تباع بسبع الى ثماني آالف‪.‬‬ ‫ومع عام ‪١٩٤٨‬م خفت اھتمام السعوديين باقتناء العبيد الذكور‪]٩٨] .‬‬ ‫وفي الخمسينات الميالدية تالشت تجارة العبيد‪ ،‬وانقشعت مظاھر العبودية تقريبا عن‬ ‫جدة‪ ،‬فيما بقيت في الرياض ومكة والمدينة‪ ،‬وان حُصرت في الجاريات المجلوبات‬ ‫من حضرموت واليمن والبلوشيات المجلوبات من السواحل المسقطية والسواحل‬ ‫المتصالحة‪ .‬فلم تعد تأتي االفريقيات‪ ،‬من موانئ جيبوتي والصومال‪ ،‬كما في‬ ‫السابق‪.‬‬ ‫وفي السادس والعشرين من نوفمبر ‪١٩٥٢‬م ارسل يوسف ياسين‪ ،‬من الخارجية‬ ‫السعودية‪ ،‬خطابا ً لبيلھام يخبره ان الحكومة السعودية ترغب في اخطارھا عن أي‬ ‫رعايا سعوديين يرحلون الى امارات الخليج بحثا ً عن عبيدھم الفارين‪ .‬وان الحكومة‬ ‫السعودية ال تريد التھاون في ھذا‪]٩٩] .‬‬ ‫وفي نوفمبر ‪١٩٥٣‬م ارسل السفير الفرنسي في جدة قائمة بمن يشتبه بھم بنقل العبيد‬ ‫الى ساحل جدة وذكر منھم‪:‬‬ ‫أحمدو بوبوي وھو سنغالي مقيم في جدة‪ ،‬والشيخ عبدو بجني من النيجر يقيم في‬ ‫جدة‪ ،‬والشيخ عبد‪ r‬البحيري من كبار حارة اليمن في جدة وھو من شيوخ الداللين‪.‬‬ ‫]‪[١٠٠‬‬ ‫واتبعھا بقائمة لداللين اقسم يقينا ً بأنھم يبيعون الجواري مباشرة للقصور والمتنفذين‬ ‫والميسورين‪ ،‬وھم‪ :‬عمر كِندي – سنغالي في مكة‪ ،‬حاج محمد عمر فتاي – سنغالي‬ ‫في جدة‪ ،‬تيرنو يوروبا – سنغالي في جدة‪٤٣ ،‬حمد وتديان ديو في جدة‪ ،‬حاج بلي –‬ ‫سنغالي في مكة‪ ،‬محمد طاھر – من الطوارق يقيم في السودان ويتاجر في جدة‪،‬‬ ‫ومحسن – وھو نيجيري موظف في شركة باكر االمريكية في جدة‪]١٠١] .‬‬ ‫‪43‬‬


‫وقُبض على محمد حسين وھو يتاجر في الكربالء والنجف وكان يجمع خمسين فتاة‬ ‫صغيرة ليحضرھن للرياض وقد حكم عليه في العراق عام ‪١٩٥٥‬م بالسجن عشر‬ ‫اعوام‪]١٠٢] .‬‬ ‫وضرب الكساد سوق الرياض حيث كان يتعيّن على كل تاجر عبيد ربط سبع الى‬ ‫ثماني من العبيد خلفه والمشي بھم‪ ،‬فيما كانت دكة الرقيق في مكة تحتضر وتعيش‬ ‫آخر أيامھا‪]١٠٣] .‬‬

‫ضغوط دوليّة ومحلية يتوّ جھا قرار الفيصل التاريخي‪:‬‬‫لم يكن عقد الخمسينات رحيما ً على سمعة وصورة السعودية دولياً‪ ،‬كما كانت مھمة‬ ‫الدبلوماسية السعودية لترطيب االجواء وتحسين صورة البالد مُضاعفة‪ .‬وفي عام‬ ‫‪١٩٥٣‬م قامت حملة تلفزيونية وصحافية كبرى في فرنسا على قانون الرقيق في‬ ‫السعودية‪ .‬كما اشت ّدت ضرواة دعوات الخارج – والداخل‪ -‬على الحكومة لحسم‬ ‫ملف العبيد وطي صفحته لألبد‪.‬‬ ‫واستوعبت الحكومة المعاتيق الحديثين في مكة او المستقرين فيھا بعد موسم الحج‬ ‫من جاليات التكارنة وفرضت عليھم دفع رسوم اقامة سنوية‪ ..‬وقام األمن العام منذ‬ ‫‪ ٢٥‬ابريل ‪١٩٥٢‬م بتنظيم المسألة بشكل أكثر مرونة‪.‬‬ ‫وصعد مطلب الغاء نظام الرق منذ الخمسينات الميالدية عند الحركات القومية‬ ‫والوطنية الشعبية الداخلية‪ .‬وفي ميثاق جبھة التحرير الوطني العربية الصادر عام‬ ‫‪١٩٦١‬م‪ ،‬نالحظ حضوراً مركزيا ً لمسألة الغاء نظام الرقيق وتحرير االرقاء كأحد‬ ‫مطالب برنامج االصالح – كان ذلك ذروة حراك وطني سابق امتد ألكثر من عشر‬ ‫سنوات اجتر ذات المطلب‪.‬‬ ‫وفي السادس من نوفمبر ‪١٩٦٢‬م اصدر األمير فيصل بن عبدالعزيز‪ ،‬ولي العھد‬ ‫ورئيس مجلس الوزراء السعودي‪ ،‬برنامجه االصالحي المعروف بـ ) النقاط العشر (‬ ‫‪..‬الذي قضت نقطته العاشرة بالغاء الرق مطلقاً‪ ،‬وتحرير جميع األرقاء وتعويض‬ ‫مُالكھم‪.‬‬ ‫وصار الناس في ارتباك‪ .‬فالقرار كان يكتنف طرق تطبيقه الكثير من الغموض –‬ ‫والنقاط العشر كانت مُغلفة بلغة عمومية غير حاسمة‪.‬‬

‫‪44‬‬


‫وكتب صالح محمد جمال في جريدة الندوة المكيّة في السادس والعشرين من نوفمبر‬ ‫‪١٩٦٢‬م مُنتقداً‪“ :‬كثير من االرقاء ينتظرون ان يُبادر مسترقوھم بتحريرھم واعالن‬ ‫ذلك لھم تنفيذا لقرار الحكومة اال ان احدا لم يحرك ساكنا‪ ،‬ويبدو انھم ينتظرون ان‬ ‫تاتي اليھم الحكومة لتدفع لھم التعويض سلفا ‪ x‬ان تلك الفقرة الموجزة في البيان‬ ‫الوزاري عن الغاء الرق اصبحت في حاجة الى مذكرة ايضاحية مستعجلة يجري‬ ‫اعالنھا للطريقة التي يجب ان يتم تنفيذ التحرير”‪[١٠٤] .‬‬ ‫واستجاب مجلس الوزراء للتساؤالت التي انطوى عليھا مقال جمال وغيره‪ ،‬وأصدر‬ ‫قراره رقم )‪ (4305‬الصادر في التاسع من يناير من عام ‪١٩٦٣‬م‪ ،‬مبينا ً الطريقة‬ ‫التي سيتم بھا التعويض‪ ،‬مفوضا ً وزارة الداخلية الى اشعار المواطنين الذين كانوا‬ ‫يمتلكون رقيقا ً بالتقدم بطلبات التعويض مصحوبة بالوثائق والصكوك الشرعية الى‬ ‫اللجان المختصة‪.‬‬ ‫واعتمد مجلس الوزراء السعودي مبلغ خمسة ماليين ‪ y‬سعودي‪ ،‬كدفعة أولى‬ ‫لتعويضات الرقيق‪.‬‬ ‫و ُ‬ ‫ش ّكلت لجان تعويض المّالك الشھر التالي في ‪ ٢٦‬مدينة سعودية‪ :‬من جدة ومكة‬ ‫والقنفذة الى الدمام والحساء‪ ،‬ومن الجوف والقريّات الى بيشة وجيزان‪ ،‬مروراً‬ ‫بالرياض والحوطة وبريدة وشقراء!‬ ‫وكان الرقيق قبل البيان االيضاحي ينفرون اجتھاداً الى الديوان الملكي في الرياض‬ ‫يطلبون اوراق تحريرھم ومن ثم يعودون الى مالّكھم يقدمونھا لھم ويخيّرونھم بين‬ ‫اطالق سراحھم لوجه ‪ r‬وبين رغبتھم في طلب تعويض من الحكومة‪.‬‬ ‫وبادر الشيخ علي طايع – من أثرياء محلة شِ عب عامر في مكة‪ ،‬وھو جد الشاعر‬ ‫محمد حسن فقي ألمه‪ ،‬فاعتق وحده مائة رقبة ما بين جارية وعبد‪ .‬وقام سعادة‬ ‫الشيخ مساعد السديري بعتق جميع عبيده البالغ عددھم ‪ ١٧‬شخصا ً بين ذكر وانثى‪،‬‬ ‫وسجّ ل ذلك في محكمة تبوك‪ .‬وحرر سمو وزير الداخلية فھد بن عبدالعزيز جميع‬ ‫االرقاء التابعين له وقدم لكل منھم صكا ً بتحريره‪ ،‬واعلن ذلك في برقية عامة‬ ‫لتشجيع غيره ]‪ .[١٠٥‬كما قام سعادة اللواء علي جميل‪ ،‬وحرمه في مكة‪ ،‬بتحرير‬ ‫كافة االرقاء لديھم‪.‬‬ ‫انطوت الصفحة رغما ً عن ممانعة أعداد من مالّك العبيد في بعض القصور‬ ‫والمزارع والحقول والنجوع والبيوت‪ ..‬ورغما ً عن صرخات السُفھاء المضللين‬ ‫وقوارص المتحذلقين‪.‬‬ ‫‪45‬‬


‫وارسل كيندي رسائل تھنئة الى االمير فيصل ولي العھد ورئيس مجلس الوزراء‬ ‫ووزير الخارجية‪ ،‬يشكره ضمنا على الغاء الرق‪ ،‬ويعلن عن عصر جديد في‬ ‫العالقات االمريكية والسعودية‪ .‬فرد عليه األمير فيصل في الحادي عشر من يناير‬ ‫‪١٩٦٣‬م قائالً‪“ :‬ان القضايا األصلية لشعوب ھذه المنطقة‪ :‬رفع مستوى السكان‬ ‫واستغالل كافة طاقاتھم وزيادة دخلھم القومي وتزويدھم بمؤسسات ديموقراطية‬ ‫للحكم يستطيعون في ظلھا التعبير عن ذاتھم وأمانيھم وآمالھم في حرّ ية بناءة”‪.‬‬ ‫منذ بيان كامل باشا الذي تاله قائمقامه بالنيابة في سوق مكة عام ‪١٨٥٥‬م‪ ،‬وقوبل‬ ‫بممانعة رھيبة‪ ،‬دارت األرحاء ألكثر من قرن من الزمان‪ ،‬حتى استجابت الذھنيّة‬ ‫المحلية‪.‬‬ ‫ھكذا تجلّت شمس الكرامة االنسانية فأنارت من دياجي الجزيرة العربية من جديد‪..‬‬ ‫للباطل جولة ثم يضّمحل‪.‬‬ ‫وكما قيل‪ :‬ان‬ ‫ِ‬ ‫الھوامش‪:‬‬‫قمت باخفاء الھوامش من التدوينة عمداً‪ ،‬على ان تظھر مع أصل الدراسة التي‬ ‫س ُتنشر قريبا ً في اضمامة أبحاث مُتفرقة تتناول تواريخ مھمّشة في الحجاز الحديث‪.‬‬

‫‪...............................‬‬

‫‪46‬‬


‫يعتمد البحث في مصادره‪ ،‬وبشكل ريادي في ھذا الباب‪ ،‬على أرشيف وزارة الخارجية البريطاني‬ ‫في المقام األول‪ ،‬فھو يمسح بشكل شامل ومتفحص ونقدي جميع المراسالت الرسمية لدار‬ ‫االعتماد البريطاني )القنصلية( في جدة فيما يخص مسألة العبيد‪ ،‬كما يستعين بوثائق متناثرة تم‬ ‫جمعھا من أرشيفات أخرى كأرشيف وزارة الھند البريطانية‪ ،‬وأرشيف وزارة المستعمرات‬ ‫البريطانية‪ ،‬وأوراق قليلة من األرشيف العثماني )لصعوبة توفره(‪ ،‬ومواد أرشيفية صحفية تعود‬ ‫لبعض وكاالت االخبار العالمية والصحف المحلية‪ ،‬ومؤل َفات لمؤرخين محليين مثل أحمد زيني‬ ‫رحالة مكثوا بالحجاز مثل المستشرق الھولندي سنوك ھوروخرنيه‬ ‫دحالن وعبد غازي أو ّ‬ ‫والضابط الروسي عبدالعزيز دولتشين أو عرب مھجريين مثل أمين الريحاني‪ ،‬وبعض مذكرات‬ ‫القناصل المتعاقبين على جدة – ناھيك عن توضيحات وشروحات الباحث التي تعتمد على مصادر‬ ‫وقراءات وروايات مكتوبة او شفھ ّية متفرقة عن تاريخ المنطقة‬

‫توزيع ‪ :‬االعالم الجديد‬ ‫اصدار ‪٢٣٦ :‬‬

‫‪47‬‬


Issuu converts static files into: digital portfolios, online yearbooks, online catalogs, digital photo albums and more. Sign up and create your flipbook.