تصدّع ركائز المنتظم الدولي والحرب العظمى القادمة

Page 1

‫لزيارة الموقع اإللكتروني‪www.elsiyasa-online.com:‬‬ ‫صفحتنا على الفايسبوك‪https://www.facebook.com/elsiyasa / :‬‬

‫تصدّع ركائز المنتظم الدولي والحرب العظمى القادمة‬

‫تصدّع ركائز المنتظم الدولي والحرب العظمى القادمة‬ ‫جوزيف السخن‬

‫كثيرا ما يُقال ّ‬ ‫عظيم للقوى القائمة هناك فترة من السالم‪ ،‬وقبل‬ ‫انهيار‬ ‫إن قبل كل‬ ‫ٍ‬ ‫ً‬ ‫ٍ‬ ‫كل صعود عظيم لقوى جديدة هناك فترة ٌ من االضطرابات‪ .‬حاليًا‪ ،‬تواجه بنية‬ ‫المنتظم الوستفالي أزمة منهجية إلى حد ما‪ ،‬تخضع ركائزه باستمرار لضغوطات‬ ‫من القوى التي لم تعد تتّفق على قواعد اللعبة أو قواعد التفاعل السياسي بداخله‪.‬‬ ‫صل إلى بديل متّفق عليه‪ ،‬وبخاصة بين القوة القائمة أي‬ ‫وعلى الرغم من عدم التو ّ‬ ‫الواليات المتحدة األميركية‪ ،‬والقوى الصاعدة كالصين وروسيا‪ ،‬بدأت ركيزة‬ ‫الدولة القومية التاريخية‪ ،‬صاحبة السيادة المطلقة تشهد تحدّيًا من قبل فاعلين ال‬ ‫يمتلكون عنصر السيادة‪ ،‬ولكن يمتلكون قدرات موازية لقدرات الدول‪ .‬ففي السنين‬ ‫العشر القادمة‪ ،‬لم تعد بنية المنتظم متجانسة‪ّ ،‬‬ ‫ألن من كان يحتكر الساحة الدَولية في‬ ‫السابق‪ ،‬سيتشاركها مع عدد آخر من الفاعلين من غير الدول‪ ،‬بعضها يمتلك‬ ‫قدرات اقتصاديةً هائلةً‪ ،‬كالشركات العابرة لحدود الدول‪ ،‬وبعضها يمتلك قدرات‬ ‫المتطرفة‪.‬‬ ‫عسكرية نوعية‪ ،‬كالتنظيمات اإلرهابية‬ ‫ّ‬


‫التحوالت البنيوية إلى الدور الجوهري الذي تؤدّيه االبتكارات‬ ‫وتعود هذه‬ ‫ّ‬ ‫التكنولوجية في مسار توازن القوى العالمي‪ ،‬أي في استقرار المنتظمات الدولية‪،‬‬ ‫سواء من حيث تأثيرها على نمط ّ‬ ‫القوة أو على طبيعة الفاعلين في بنية‬ ‫توزع ّ‬ ‫المنتظم الدولي‪ .‬فال فرق بين منتظم وآخر‪ّ ،‬إال في نمط ّ‬ ‫القوة‪ ،‬وطبيعة‬ ‫توزع ّ‬ ‫الفاعلين أو القوى الرئيسة في بنيته الفوضوية‪ّ ،‬‬ ‫ألن االبتكارات التكنولوجية تع ّزز‬ ‫القدرات االقتصادية والعسكرية ووضعية القوى في المنتظم الدولي‪ ،‬وهذا سيؤدّي‬ ‫إلى تغيّر في ّ‬ ‫القوة أي في نمط توازن القوى العالمي‪ .‬أما الذي ميّز الحربين‬ ‫توزع ّ‬ ‫العالميتين األولى والثانية‪ ،‬فهو محاولة ألمانيا تغيير مسار توازن القوى مرتين‪ ،‬أي‬ ‫تغيير نمط ّ‬ ‫القوة في بنية المنتظم التي تتالءم مع رؤيتها للسالم أو االستقرار‬ ‫توزع ّ‬ ‫قوتها الصناعية واالقتصادية والعسكرية‪ ،‬ما دفعها إلى‬ ‫العالمي‪ ،‬بعد أن ارتفعت ّ‬ ‫سع إقليميًا بحثًا عن أسواق اقتصادية‪ ،‬وأدّى في المحاولتين إلى نشوب حرب‬ ‫التو ّ‬ ‫ستقرا‬ ‫ى بين قطبين‪ ،‬وكان الوضع م ً‬ ‫عظمى‪ .‬بعدها أتت الحرب الباردة كتوازن قو ً‬ ‫نسبيًا إلى أن اتّسعت الفجوات اإلنتاجية واالقتصادية والعسكرية والتكنولوجية‬ ‫بينهما‪ ،‬وانتهت بصمود القطب الليبرالي بقيادة واشنطن‪ ،‬وسقوط القطب‬ ‫االشتراكي بقيادة موسكو‪ .‬وظ ّل دور االبتكارات التكنولوجية وتأثيرها يرتفعان‪ ،‬مع‬ ‫دخول عالمنا في القرن الحادي والعشرين مسار التوازن العالمي بين القوى‬ ‫العظمى‪ ،‬مع صعود بكين وموسكو اقتصاد ًيا وعسكريًا وتكنولوجيًا‪ ،‬وبشك ٍل أكبر‬ ‫على حجم االختالفات الثقافيّة بينها وبين القوى القائمة كواشنطن من جهة‪،‬‬ ‫المتطرفة العابرة للحدود من جهة أخرى‪ ،‬التي يمتلك كل‬ ‫والتنظيمات اإلرهابية‬ ‫ّ‬ ‫منها رؤية مختلفة لنمط السالم أو االستقرار العالمي في المنتظم الدولي‪ .‬من هنا‪،‬‬ ‫التحوالت التكنولوجية والجيواقتصادية‬ ‫نطرح اإلشكالية الرئيسة التالية‪ :‬هل ترفع‬ ‫ّ‬ ‫والثقافية للقوى الرئيسة في بنية المنتظم الدولي من احتمال نشوب حرب عظمى‬ ‫جديدة بينها؟‬ ‫والتطور التكنولوجي‪،‬‬ ‫سنقوم ّأو ًال بوضع إطار نظري يشرح العالقة بين االبتكار‬ ‫ّ‬ ‫وتحوالت نمط ّ‬ ‫القوة في بنية المنتظم الدولي‪ ،‬ومسار التوازن العالمي‪ ،‬مع‬ ‫توزع ّ‬ ‫ّ‬ ‫تحديد المفاهيم العلمية المطروحة باإلشكالية الرئيسة كتحديد ماهيّة السالم العالمي‪.‬‬ ‫بالتوازي مع ذلك‪ ،‬سنلجأ لمقارنة أحداث تاريخي ٍة مهمة وأخرى حالية لتحديد‬ ‫التحوالت التكنولوجية وفهمها وصعود القوى العظمى وسقوطها‬ ‫العالقة بين‬ ‫ّ‬


‫صناعيًا واقتصاديًا وعسكريًا‪ ،‬والستخالص تأثيرها العام على انهيار المنتظمات‬ ‫ً‬ ‫وصوال إلى اإلجابة عن اإلشكالية الرئيسة‪ ،‬أي‬ ‫الدولية وقواعد التفاعل السياسي‪،‬‬ ‫تحديد النتيجة المحتملة في المستقبل لتصدّع بنية المنتظم الدولي حال ًيا نتيجة بروز‬ ‫قوى تمتلك رؤى متناقضة للسالم العالمي‪ ،‬أي لنمط ّ‬ ‫القوة العالمي‪.‬‬ ‫توزع ّ‬ ‫لذلك‪ ،‬ارتأينا أن نتناول في الفقرة األولى‪ ،‬دور االبتكارات التكنولوجية الجوهري‬ ‫في تغيير ّ‬ ‫حوالت الق ّوتين‬ ‫القوة في بنية المنتظم‪ .‬من خالل اإلحاطة ّأو ًال‪ ،‬بت ّ‬ ‫توزع ّ‬ ‫األفقية والعمودية وعالقتها بالسالم العالمي‪ .‬وثانيًا‪ ،‬سنراقب أثر االبتكار‬ ‫التكنولوجي والنّمو االقتصادي في التوازن العالمي‪ .‬أ ّما في الفقرة الثانية‪ ،‬سنطرح‬ ‫مستقبل المنتظم الدولي‪ ،‬بين الحرب أو المنافسة كطريق للسالم العالمي‪ .‬وذلك‬ ‫ً‬ ‫أوال‪ ،‬من خالل دراسة مسار العولمة التكنولوجية وتأثيرها في مراكز التوازن‬ ‫العالمي في القرن الحادي والعشرين‪ ،‬وبشكل خاص بين بكين وواشنطن‪ .‬أما ثانيًا‪،‬‬ ‫سنحدّد التحدّيات الحالية التي تضغط على بنية المنتظم وهل ستكون نتيجة ذلك‬ ‫حرب عظمى أم منافسة مستمرة بين أربع رؤى متناقضة للسالم العالمي؟‬ ‫للقوة في بنية المنتظم‬ ‫االبتكارات التكنولوجية‬ ‫المحرك األساسي ّ‬ ‫ّ‬ ‫ا‬ ‫القوتين األفقية والعمودية والسالم العالمي‬ ‫تحوالت ّ‬ ‫أوال‪ّ :‬‬ ‫إن الركيزة األساسية التي يقوم عليها كل منتظم دولي ويتميّز بها هي نمط ّ‬ ‫ّ‬ ‫توزع‬ ‫القوة بين الوحدات التي تتفاعل في بنيته بشكل دائم ومتين‪ .‬لذلك‪ ،‬يفترض أن‬ ‫ّ‬ ‫ينطلق كل تحليل للتوازن العالمي أو السالم العالمي من دراسة دقيقة لنمط ّ‬ ‫توزع‬ ‫ّ‬ ‫وتحوالتها في بنية المنتظم‪ّ ،‬‬ ‫القوة والنفوذ ستلحظه بنية‬ ‫ألن كل تغيّر‬ ‫القوة‬ ‫لتوزع ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ى أخرى‪ ،‬سيغيّر مسار التوازن العالمي بين‬ ‫ى وانحدار لقو ً‬ ‫المنتظم‪ ،‬كصعود لقو ً‬ ‫القوى التي هي في حالة دائمة من الصراع أو المنافسة‪ .‬بمعنى آخر‪ّ ،‬‬ ‫إن التوازن‬ ‫مسارا جامدًا‪ ،‬بل ديناميكيًا أو متحر ًكا‪ ،‬له وظيفةٌ أساسيةٌ في تثبيت‬ ‫العالمي ليس‬ ‫ً‬ ‫االستقرار أو السالم العالمي من خالل المحافظة على فوضوية بنية المنتظم ‪ -‬أي‬ ‫عدم وجود حكومة عالمية‪ ،‬وهو أمر يترجم في استقاللية القوى العظمى‪ ،‬التي‬ ‫قوتها حتى ال تخضع لسلطة أعلى منها‪ .‬لذلك‪ّ ،‬‬ ‫فإن تحقيق‬ ‫تسعى دائ ًما لزيادة ّ‬ ‫االستقرار العالمي ال يعني إنهاء الحروب‪ ،‬إنّما قبول القوى بنمط ّ‬ ‫القوة أو‬ ‫توزع ّ‬


‫توازنها‪ ،‬وترجمة هذا الرضى بالتزامها قواعد اللعبة أو التفاعل السياسي أي النظم‬ ‫الدولية‪ ،‬ومنع تفاقم االضطرابات والنزاعات أو خروجها عن إطار معيّن‪.‬‬ ‫على سبيل المثال‪ ،‬يعلّمنا التاريخ‪ّ ،‬‬ ‫أن السبب الرئيس خلف انتهاء "سالم المئة عام"‬ ‫(‪ ) 1914-1815‬الذي أعقب الحروب النابليونية‪ ،‬وفي اندالع الحرب العالمية‬ ‫األولى بين الدول األوروبية‪ ،‬كان نتيجة التغيّرات التي طرأت على نمط ت ّ‬ ‫وزع‬ ‫القوة في بنية المنتظم الدولي أي على توازن القوى بين الدول األوروبية ‪ -‬القوى‬ ‫ّ‬ ‫الرئيسة في بنية المنتظم الدولي ‪ -‬وانتهاج ألمانيا لسياسات تغيير الوضع القائم‪.‬‬ ‫ولكن‪ ،‬ذلك ال يعني ّ‬ ‫أن تلك الفترة لم تشهد نزاعات على اإلطالق‪ ،‬إنّما حتى خالل‬ ‫السنوات المئة األخيرة من السالم‪ ،‬شاركت الدول األوروبية في حروب محدودة‬ ‫سع اإلقليمي‪ ،‬كذلك‪ ،‬دخلت في سباق التسلح بوتيرة متصاعدة‬ ‫وغزوات بهدف التو ّ‬ ‫بلغت ذروتها في الحرب العالمية األولى‪.‬‬ ‫وبعد عقدين من الزمن‪ ،‬اندلعت حرب عالمية ثانية بين القوى العظمى‪ ،‬كان أحد‬ ‫قوتين رئيستين‪ ،‬هما االتحاد السوفياتي والواليات المتحدة‬ ‫أسبابها البنيوية غياب ّ‬ ‫األميركية‪ ،‬عن مسارات توازن القوى لتثبيت االستقرار العالمي‪ ،‬ما يعني غياب‬ ‫القوى القادرة على ردع ألمانيا من إعادة انتهاجها لسياسات تغيير الوضع القائم‪،‬‬ ‫القوة واستقرارها بين عدد محدود من‬ ‫أي حاجة القوى القائمة إلى إعادة تركيز ّ‬ ‫الوحدات المتشابهة وظيفيًّا‪.‬‬ ‫وعقب انتهاء الحرب العالمية الثانية‪ّ ،‬‬ ‫القوة في بنية المنتظم بين قطبين هما‬ ‫توزعت ّ‬ ‫االتحاد السوفياتي والواليات المتحدة األميركية‪ .‬ودام نوع من "سالم بارد" بين‬ ‫اإليديولوجيتين الشيوعية والرأسمالية ألقل من نصف قرن‪ ،‬أي لم تحدث أي حرب‬ ‫مباشرة بين القطبين‪ ،‬لكن اتّسمت الحرب الباردة باإلنفاق العسكري الهائل‪،‬‬ ‫واألزمات الخطيرة‪ ،‬وحروب بالوكالة‪ ،‬وسباق التسلّح النووي‪ ،‬والتسابق الفضائي‪،‬‬ ‫قوة االتحاد السوفياتي‪ .‬من هنا‪ّ ،‬‬ ‫فإن االستقرار العالمي ينتج عن‬ ‫ما أدى إلى استنفاذ ّ‬ ‫القوة العالمي‪ ،‬ومتى تغيّر نمط ت ّ‬ ‫وزع‬ ‫المسارات الوظيفية للمحافظة على توازن ّ‬ ‫القوة العالمي‪ ،‬بالتالي‪ ،‬يدخل العالم في فترة من‬ ‫القوة في بنية المنتظم يتغيّر توازن ّ‬ ‫ّ‬ ‫االضطرابات‪ .‬ولكن‪ ،‬كيف يتغير نمط ّ‬ ‫القوة؟‬ ‫توزع ّ‬ ‫دورا مه ًما في استقرار المنتظمات الدولية وانهيارها‪.‬‬ ‫يؤدي‬ ‫التطور التكنولوجي ً‬ ‫ّ‬ ‫صحيح ّ‬ ‫أن كل منتظم دولي يُفتَرض أن يكون نظريًا مشيّدًا على أساس توازن‬


‫القوى‪ ،‬ولكن‪ ،‬يختلف هذا التوازن من منتظم آلخر‪ .‬فالتوازن بحسب توزيع األقاليم‬ ‫بين القوى العظمى كما في القرن التاسع عشر‪ ،‬يختلف عن التوازن بحسب‬ ‫القدرات العسكرية أو االقتصادية للقوى العظمى في القرن العشرين‪ .‬من هنا‪،‬‬ ‫تضطلع القدرات التكنولوجية للقوى العظمى بدور جوهري في مسارات التوازن‬ ‫العالمي في القرن الحادي والعشرين‪ّ ،‬‬ ‫ألن سرعة التواصل واالتصال‪ ،‬والقدرة‬ ‫على التعبئة والجهوزية العسكرية واالنتشار السريع حول العالم‪ ،‬والقدرة على‬ ‫دورا مه ًما في تحديد من هي الوحدات األقوى‬ ‫الهجوم االستباقي‪ ،‬جميعها تؤدي ً‬ ‫داخل بنية المنتظم‪.‬‬ ‫في القرن الحادي والعشرين‪ ،‬كان لمسار العولمة التكنولوجية واالقتصادية أثر‬ ‫القوة في ال ُمنت َ‬ ‫القوة في بنية ال ُمنت َ‬ ‫جوهري على ّ‬ ‫ظم محصورة‬ ‫ظم[‪ .]2‬فلم تعد ّ‬ ‫توزع ّ‬ ‫القوة بشكل كبير‬ ‫بيد قوة مهيمنة أو عدد محدود من القوى العظمى[‪ .]3‬إنّما انتقلت ّ‬ ‫في اتجاهين‪ :‬األول هو أفقي‪ ،‬أ ّما الثاني فهو عمودي‪.‬‬ ‫يتكرر دائ ًما بشكل أفقي‬ ‫للقوة‪ ،‬فهو نو ًعا ما تقليدي أي‬ ‫ّ‬ ‫بالنسبة إلى االتجاه األول ّ‬ ‫بين الدول‪ ،‬فبينما تصعد قوى جديدة تنحدر أخرى كانت قائمة ( ‪Power‬‬ ‫القوة‬ ‫القوة من الغرب إلى الشرق‪ ،‬مع عودة ّ‬ ‫‪ . )Transitions‬حال ًيا‪ ،‬تنتقل ّ‬ ‫االقتصادية إلى آسيا‪ ،‬وبخاصة إلى روسيا والصين‪ّ ،‬‬ ‫ألن العولمة االقتصادية‬ ‫والتكنولوجيا سمحت بتسريع عمليات اإلنتاج في أي زاوية من العالم‪ ،‬ولم تعد هذه‬ ‫للقوة جديد‬ ‫العمليات اإلنتاجية محصورة بيد الغرب‪ .‬بينما بالنسبة لالتجاه الثاني ّ‬ ‫نسبيًا في العالقات الدولية‪ ،‬ويحصل بشكل عمودي (‪ ،)Power Diffusion‬من‬ ‫األعلى إلى األسفل‪ ،‬أي من الدول إلى الفاعلين من غير الدول[‪ .]4‬فبرزت وحدات‬ ‫ض ِعف‬ ‫من غير الدول لديها قدرات مهمة موازية لقدرات الدول‪ ،‬كون العولمة ت ُ ْ‬ ‫قدرة هذه األخيرة على التح ّكم بحركة انتقال رؤوس األموال واألفراد والمعلومات‬ ‫وتس ّهل عبورها الحدود‪ .‬باإلضافة إلى ذلك‪ ،‬ساعد االنخفاض في التكلفة‬ ‫القوة إلى الفاعلين من غير الدول‪ ،‬عبر زيادة قدراتها‬ ‫التكنولوجية في انتشار ّ‬ ‫العسكرية مثل تنظيم القاعدة‪ ،‬والدولة اإلسالمية في الشرق‪ ،‬وقدراتها‬ ‫االقتصادية[‪ ]5‬كالشركات االقتصادية العابرة لحدود الدول مثل ‪General‬‬


‫نظرا المتالكها قدرات‬ ‫‪ ،Motors‬وارتفاع قدراتها التأثيرية في التفاعالت الدولية‪ً ،‬‬ ‫قوة الدول‪.‬‬ ‫توازي ّ‬ ‫من جهة‪ّ ،‬‬ ‫للقوة االقتصادية من الغرب إلى الشرق نتيجة انتشار‬ ‫إن االنتقال الكثيف ّ‬ ‫خولها اإلنتاج بكلفة أقل وكمية أكبر وبسرعة‬ ‫التكنولوجيا داخل البلدان النامية‪ّ ،‬‬ ‫قياسية‪ .‬لذلك‪ ،‬خالل العقود القادمة‪ ،‬سيستمر هذا االنتقال القوي للثقل االقتصادي‪،‬‬ ‫الذي يش ّكل سابقة نوعية على الساحة الدولية‪ .‬ومع انتقال الثقل االقتصادي إلى‬ ‫آسيا‪ ،‬ستطمح الصين وروسيا للتد ّخل عسكريًا وإقليميًا ودوليًا‪ ،‬لحماية مم ّراتها‬ ‫نموها االقتصادي‪ ،‬وتكييف‬ ‫وطرقها االقتصادية الحيوية التي تسهم في تعزيز ّ‬ ‫المنتظم الدولي وقواعده بحسب رؤيتها للسالم العالمي‪ .‬ومن جهة أخرى‪ ،‬مع‬ ‫ّ‬ ‫ستعزز التنظيمات اإلرهابية الخطيرة قدراتها‬ ‫انتشار التكنولوجيا عبر حدود الدول‪،‬‬ ‫العسكرية‪ ،‬وستستخدم أسلحة جديدة لتنفيذ هجماتها كاألسلحة الكيميائية أو‬ ‫البيولوجية أو النووية كي تسعى إلى تحقيق مصالحها عبر الحدود‪.‬‬ ‫إذًا‪ ،‬عمليًا‪ ،‬مع انتشار التكنولوجيا والمعرفة والمعلومات‪ ،‬تزايد عدد الدول القادرة‬ ‫القوة مما كان عليه الحال سابقًا‪ .‬فالصين‬ ‫على تصنيع معدات عسكرية متوسطة ّ‬ ‫متطورة وتصديرها‪ .‬كما أتاحت للدول صناعة أسلحة‬ ‫بدأت بإنتاج معدات عسكرية‬ ‫ّ‬ ‫متطورة جدًا‪ ،‬وبخاصة األسلحة النووية مثل باكستان‪ّ .‬‬ ‫إن هذا من شأنه أن يجعل‬ ‫ّ‬ ‫الدول الصغيرة والفاعلين من غير الدول أقل اعتمادًا أو أكثر استقاللية عن القوى‬ ‫العظمى‪ ،‬وأكثر قدرة على إلحاق الضرر بالقوى التي تهاجمها مهما كانت عظمة‬ ‫قوتها‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫ضا في منح الديموقراطية للخبرات والمهارات‬ ‫وقد أسهمت العولمة التكنولوجية أي ً‬ ‫العسكرية‪ ،‬مع انتشار وسائل الطباعة وإنتاج الكتب العلمية وانتشار المعلومات‬ ‫واألفكار بين الدول والفاعلين من غير الدول واألفراد‪ ،‬ما ساعدهم على تطوير‬ ‫خبراتهم العسكرية وتعزيز قدراتهم على محاربة قوى أكبر حج ًما منهم‪ .‬فانتشار‬ ‫التكنولوجيا العسكرية الرقمية لم ّ‬ ‫يعزز القدرات العسكرية للصينيين والروس‬ ‫وحدهم‪ ،‬ولكن‪ّ ،‬‬ ‫ضا قدرات دول وتنظيمات وبات بمقدورهما الوصول إلى‬ ‫عزز أي ً‬ ‫للقوة التكنولوجية‬ ‫ي ّ‬ ‫مسافات بعيدة وضرب أهداف بدقّة عالية‪ .‬وهذا االنتشار النوع ّ‬ ‫صا األميركية[‪ .]6‬لكن‪،‬‬ ‫طرحت معادلة جديدة أمام القوى العسكرية التقليدية خصو ً‬


‫ّ‬ ‫وألن الدولة ال تزال الفاعل الرئسي على الساحة الدولية‪ ،‬سنر ّكز في النقطة الثانية‬ ‫للقوة أي بين الدول‪ ،‬لتحديد عالقته باالبتكار التكنولوجي‬ ‫على االنتقال األفقي ّ‬ ‫وتداعياته على توازن القوى العالمي؟‬ ‫ثانياا‪ :‬أثر االبتكار التكنولوجي والنّمو االقتصادي في التوازن العالمي‬ ‫ّ‬ ‫الرواد والعلماء في‬ ‫إن ترجمة االختراعات واالبتكارات التكنولوجية التي تَ ْنتُج عن ّ‬ ‫المجاالت االقتصادية والعسكرية‪ ،‬تؤدّي إلى تعزيز القدرات اإلنتاجية والقدرات‬ ‫ّ‬ ‫وتعزز وضعيّتها ودورها في المنتظم وتدفعها‬ ‫العسكرية لحكومات دولهم‪،‬‬ ‫للوصول إلى مناطق جيوسياسية واقتصادية مه ّمة حول العالم‪ .‬ثانيًا‪ّ ،‬‬ ‫إن الدول التي‬ ‫قوة عسكرية ال يمكنها أن ترتقي إلى‬ ‫قوتها االقتصادية إلى ّ‬ ‫تحول جز ًءا من ّ‬ ‫ال ّ‬ ‫مستوى القوى العظمى‪ ،‬وبالتالي‪ ،‬لن تستطيع أن تغيّر نمط ّ‬ ‫القوة أو التوازن‬ ‫توزع ّ‬ ‫العالمي‪ ،‬والسياسات الدولية في بنية المنتظم الدولي‪.‬‬ ‫قبل أفول القرن الثامن عشر‪ّ ،‬‬ ‫هزت بريطانيا وشمال أميركا سلسلة من االبتكارات‬ ‫تحوالت سياسية عميقة طالت بنية المنتظم الدولي‪ ،‬فعدّلت في‬ ‫العلمية التي أدّت إلى ّ‬ ‫وقوتها كبريطانيا‪ .‬قبل حدوث الثورة‬ ‫وضعية الدول التي كانت على شفير االنحدار ّ‬ ‫كقوة‬ ‫الصناعية كانت بريطانيا في مرحلة دقيقة بين السقوط أو االستمرار ّ‬ ‫عظمى‪،‬باألخص بعد أن خسرت مستعمراتها األميركية في نهاية القرن الثامن‬ ‫عشر‪ .‬على أثر ذلك‪ ،‬رثى ‪ Horace Walpole‬رجل الدولة البريطاني‪ ،‬انحدار‬ ‫بريطانيا وشبّهها بدولة عديمة األهميّة مثل الدنمارك أو سردينيا[‪ .]7‬ولكن‪ ،‬تغيّر‬ ‫تطور مفاجئ لحلقات من الثورات الصناعية في‬ ‫كثيرا‪ ،‬بعد حدوث‬ ‫الوضع‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫رواد بريطانيين‪ )Thomas Newcomen (1664-1729 ،‬و‬ ‫بريطانيا على يد ّ‬ ‫‪ ،)1819-1736(]8[ James Watt‬عندما ابتكرا اآلالت التي تعمل على الفحم‬ ‫قوة اقتصادية‬ ‫فحولتها إلى ّ‬ ‫والبخار‪ ،‬ورفعا القدرات اإلنتاجية للحكومة البريطانية ّ‬ ‫قوة عسكرية‬ ‫قوتها االقتصادية إلى ّ‬ ‫منافسة كبيرة‪ ،‬م ّكنتها من تحويل جزء من ّ‬ ‫مه ّمة‪ ،‬دفعتها للوصول سريعًا إلى مناطق جيوسياسية واقتصادية مه ّمة حول العالم‬ ‫كالهند والصين‪ ،‬وأسواق جديدة لتصريف فائض إنتاجها[‪.]9‬‬ ‫قبل الثورة الصناعية في العام ‪ ،1750‬كانت آسيا‪ -‬التي تش ّكل نصف سكان العالم‬ ‫ونصف اإلنتاج االقتصادي العالمي‪ -‬هي مركز الصناعة حيث تستخدم اليد العاملة‬


‫الرخيصة بينما كانت أوروبا السوق االستهالكي‪ .‬ولكن‪ ،‬بعد الثورة الصناعية أي‬ ‫مع بروز اآلالت في القرن التاسع عشر‪ ،‬أصبحت أوروبا مركز الصناعة وآسيا‬ ‫السوق االستهالكي للناتج االقتصادي الفائض[‪ ،]10‬أي انكمشت حصة آسيا من‬ ‫اإلنتاج االقتصادي العالمي حوالى ‪ .%20‬مقارنة بتلك الفترة‪ ،‬وتحديدًا قبل العام‬ ‫‪ ،1800‬كان مستوى المعرفة العلمية والتكنولوجية مرتفعًا في آسيا ‪ -‬أكثر م ّما كان‬ ‫التطور التكنولوجي‪،‬‬ ‫يحصل في بعض المجاالت العلمية في أوروبا‪ .‬أما من حيث‬ ‫ّ‬ ‫كانت الصين في وضع متقدّم جدًا قبل عصر النهضة األوروبية وبعده‪ .‬على سبيل‬ ‫المثال‪ ،‬في مجال األسلحة النارية‪ ،‬والرصاص والحديد والصلب والساعات‬ ‫قوة صناعية‬ ‫الميكانيكية والهندسة‪ ،‬ومعدات الحفر العميقة[‪ .]11‬أي ً‬ ‫ضا‪ ،‬كانت آسيا ّ‬ ‫مهيمنة بشكل خاص في منتجات القطن والحرير الهندية والصينية‪ .‬هكذا‪ ،‬كانت‬ ‫للقارة اآلسيوية مكانة بارزة في الصناعة العالمية في ذلك الوقت‪.‬‬ ‫المؤرخ االقتصادي ‪ Paul Bairoch‬في العام ‪،1750‬‬ ‫من هنا‪ ،‬وفق تقديرات‬ ‫ّ‬ ‫كانت حصة الصين من الناتج الصناعي العالمي ‪ ،٪32.8‬مقارنةً مع ‪٪23.2‬‬ ‫ألوروبا‪ ،‬مع مستوى عدد سكاني من ‪ 207‬مليون نسمة للصين‪ ،‬و‪ 130‬مليون‬ ‫نسمة ألوروبا[‪ .]12‬ففي العام ‪ ،١٧٧٦‬أشار ‪ ،Adam Smith‬إلى ّ‬ ‫أن الصين هو‬ ‫بلد أكثر ثراء من أي بلد في أوروبا[‪ .]13‬ومن ناحية أخرى‪ ،‬ش ّكلت الهند والصين‬ ‫معًا ‪ ٪ 57.3‬من الناتج الصناعي العالمي‪ .‬وإذا أضيفت المساهمات اإلنتاجية لدول‬ ‫جنوب شرق آسيا‪ ،‬وبالد فارس واإلمبراطورية العثمانية‪ ،‬كانت تش ّكل حصة آسيا‬ ‫ضا‪ ،‬يقدّر‬ ‫بالمعنى األوسع (باستثناء اليابان) ‪ 70٪‬تقريبًا من اإلنتاج العالمي‪ .‬أي ً‬ ‫‪ Bairoch‬أنّه في العام ‪ 1750‬كان المستوى اإلنتاجي للصين أعلى من المتوسط‬ ‫اإلنتاجي ألوروبا‪ ،‬إذا أ ُ ِخذَ في االعتبار عدد السكان في ذلك الوقت‪ :‬في الصين‪،‬‬ ‫دوالرا أميركيًا‪ ،‬مقارنة مع‬ ‫كان نصيب الفرد من الناتج القومي اإلجمالي ‪228‬‬ ‫ً‬ ‫‪ 200-150‬دوالر أميركي في البلدان األوروبية[‪.]14‬‬ ‫هكذا‪ ،‬في العام ‪ ،1750‬ساهمت آسيا في إنتاج حوالى ‪ ٪80‬من الثروة االقتصادية‬ ‫في أنحاء العالم جمي ًعا‪ ،‬مع نسبة سكان تصل إلى ‪ ٪66‬تقريبًا‪ .‬وبعد خمسين سنة‪،‬‬ ‫كان نصيب الفرد من الناتج القومي اإلجمالي في الصين وأوروبا متقار ًبا‪ ،‬حيث‬ ‫كانت إنجلترا وفرنسا‪ ،‬الدولتين األوروبيتين الوحيدتين‪ ،‬اللتين كان فيهما درجة‬


‫الناتج الصناعي للفرد أعلى ً‬ ‫قليال من درجة الناتج الصناعي للفرد في الصين‪ .‬وكما‬ ‫أشار ‪ ،Andre Gunder Frank‬كانت الصين والهند المنطقتين الكبيرتين األكثر‬ ‫دورا‬ ‫مركزيةً في االقتصاد العالمي‪ ،‬بينما أدّت القارتان األوروبية واألميركية‬ ‫ً‬ ‫تجاريًا محدودًا جدًا في تلك الحقبة‪.‬‬

‫ولكن‪ ،‬مع الثورة الصناعية‪ ،‬تغيّرت المعادلة الدولية‪ ،‬فبدأ األوروبيون بالبحث عن‬ ‫سرعت وكثّفت عملية‬ ‫ق لتصريف فائض إنتاجهم[‪ ،]15‬بفضل اآلالت التي ّ‬ ‫أسوا ٍ‬ ‫قوتها‬ ‫اإلنتاج المحلي‪ .‬فس ّخرت القوى األوروبية‪ ،‬وبشكل خاص بريطانيا‪ّ ،‬‬ ‫صلت إلى احتالل ‪ %35‬من‬ ‫العسكرية للتو ّ‬ ‫سع االستعماري لتصريف إنتاجها‪ ،‬فتو ّ‬ ‫العالم بفضل هذه الثورة الصناعية[‪ .]16‬كما اشتدّت المنافسة االقتصادية‬ ‫والعسكرية بين الدول الصناعية العظمى حول األسواق الخارجية‪-‬المستعمرات‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫النمو االقتصادي وزيادة اإلنتاج‪ ،‬اللذين نتجا عن الثورة الصناعية‪ ،‬رفعا نسبة‬ ‫ألن‬ ‫ّ‬ ‫الطلب على المواد األولية وعلى األسواق الخارجية لتصريف منتجاتهم‪ .‬وكانت‬ ‫التطور التكنولوجي للصناعات الحربية‬ ‫حرب القرم ‪ 1856-1853‬أول دليل على‬ ‫ّ‬ ‫المحترفة[‪.]17‬‬ ‫نتيجةً لذلك‪ ،‬أدّت هذه العملية إلى انتقال الثقل االقتصادي العالمي من آسيا إلى‬ ‫أوروبا‪ .‬فبعد أن كانت تش ّكل الهند والصين أكثر من ‪ ٪٥٣‬من االقتصاد العالمي في‬ ‫العام ‪ ،١٨٠٠‬أصبحتا تمثّالن ‪ ٪٧.٩‬فقط في العام ‪ .]18[ ١٩٠٠‬كما ّ‬ ‫أن تحويل‬ ‫قوتها‬ ‫القوى األوروبية لجزء من قدراتها التكنولوجية واالقتصادية لصالح ّ‬ ‫العسكرية رفع وضعيتها الدولية‪ ،‬ما أدّى إلى تغيّر نمط ّ‬ ‫القوة أو التوازن‬ ‫توزع ّ‬ ‫العالمي‪ ،‬والسياسات الدولية أي الوضع القائم في بنية المنتظم الدولي‪.‬‬ ‫تطور تكنولوجي ‪ -‬صناعي حصل‬ ‫ولكن‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫استمر التوازن العالمي بالتغيّر مع كل ّ‬ ‫داخل أقاليم القوى الدولية‪ّ ،‬‬ ‫صة الدول من االقتصاد العالمي غير متساوية‬ ‫ألن ح ّ‬ ‫تطورها تكنولوج ًيا‪ ،‬باإلضافة إلى عوامل أخرى‪ّ .‬‬ ‫فإن ارتفاع حصة‬ ‫تب ًعا لمدى ّ‬ ‫القوى من مجموع االقتصاد العالمي سيكون دائ ًما على حساب قوى أخرى‪ .‬فكلّما‬ ‫قوتها ومساحة تح ّكمها اإلقليمي‪،‬‬ ‫نمو الدولة االقتصادي‪ ،‬كلّما ازدادت ّ‬ ‫ارتفع ّ‬


‫ونفوذها السياسي وموقعها داخل المنتظم الدولي‪ ،‬وذلك ال يكون ّإال على حساب‬ ‫ضا‪ ،‬تسعى القوى تلقائيًا إلى التوسع إقليميًا لتصريف الفائض‬ ‫قوى أخرى‪ .‬أي ً‬ ‫االقتصادي الناتج عن ارتفاع قدراتها اإلنتاجية‪ ،‬للوصول إلى أسواق جديدة‬ ‫وحمايتها مع الممرات الجيو‪-‬اقتصادية المؤدّية إليها من المنافسين المحتملين‪ً .‬‬ ‫مثال‪،‬‬ ‫بعد العام ‪ ، ١٨٩٥‬بدت النخبة السياسية الحاكمة في ألمانيا مقتنعة بالحاجة إلى‬ ‫سع إقليميًا والتمدّد عسكريًا وسياسيًا واقتصاديًا على نطاق أوسع‪ ،‬فالمسألة لم‬ ‫التو ّ‬ ‫ّ‬ ‫النمو االقتصادي والتقدّم الصناعي كانا‬ ‫وأن‬ ‫تعد خيارية‪ ،‬إنّما حيوية‪ ،‬السيما‬ ‫ّ‬ ‫النمو االقتصادي األلماني الدولة القدرات‬ ‫بأوجهما في ألمانيا‪ .‬من هنا‪ ،‬أعطى‬ ‫ّ‬ ‫العسكرية الالزمة لتغيير الوضع القائم‪ .‬على الرغم من ّ‬ ‫القوة البحرية أللمانيا لم‬ ‫أن ّ‬ ‫ّ‬ ‫تخطت القوة البحرية لفرنسا وروسيا[‪.]19‬‬ ‫قوة بريطانيا‪ّ ،‬إال أنّها قد‬ ‫تتساو مع ّ‬ ‫َ‬ ‫من هنا‪ ،‬يعود أحد األسباب الجوهريةفي اندالع الحربين العالميتين األولى والثانية‪،‬‬ ‫كقوة اقتصادية ذات قدرات إنتاجية منافسة لفرنسا وقريبة جدًا‬ ‫إلى صعود ألمانيا‪ّ ،‬‬ ‫من قدرات بريطانيا العسكرية‪ ،‬ومحاولتها لتغيير الوضع القائم في المنتظم الدولي‬ ‫القائم على توازن معيّن للقوى ‪ -‬تقاسم معيّن لألقاليم ‪ -‬التي لم تكن ألمانيا راضية‬ ‫عنه‪ ،‬وعبّرت عن ذلك بسياسة خارجية ثورية‪ .‬لذلك‪ ،‬اندلعت الحرب بين القوى‬ ‫الصاعدة والقوى التقليدية‪.‬‬ ‫التحوالت في مثل آخر أقرب تاريخيًا لحقبتنا‪ ،‬ويجمع بين‬ ‫ولكن‪ ،‬يمكن تلخيص هذه‬ ‫ّ‬ ‫نمو الدولة‬ ‫ما حصل في آسيا وأوروبا من حيث تأثير‬ ‫التطور التكنولوجي على ّ‬ ‫ّ‬ ‫اقتصاديًا وعسكريًا من جهةٍ‪ ،‬وعلى نمط ّ‬ ‫القوة في بنية المنتظم والسياسات‬ ‫توزع ّ‬ ‫الدولية بشكل عام من جهة أخرى‪ .‬قبل انهيار جدار برلين في العام ‪ ،١٩٨٩‬الحظ‬ ‫االتحاد السوفياتي ّ‬ ‫أن الفجوة التكنولوجية ‪ -‬العسكرية واالقتصادية بينه وبين‬ ‫سع بشكل ملحوظ وباألخص في مجال‬ ‫الواليات المتحدة األميركية بدأت تتو ّ‬ ‫التكنولوجيا الرقمية‪ ،‬ال سيّما ّ‬ ‫وأن إمكانات األخيرة العسكرية التدميرية تساوي‬ ‫قدرته في مجال األسلحة النووية التكتيكية‪ ،‬ما دفع به إلى االعتراف بعدم قدرته‬ ‫على منافسة واشنطن في هذا المجال‪ ،‬لذلك‪ ،‬بدأ البحث في إمكانية التقارب‬ ‫السياسي معها ليتم ّكن من اللحاق بها في مجال حاسم للمنافسة العسكرية[‪.]20‬‬


‫نستنتج ّ‬ ‫أن ما وصلنا إليه اليوم ليس نتيجة بضع سنوات من التغيرات الدولية‪ ،‬إنّما‬ ‫نتيجة عدة قرون من االبتكارات والثورات الصناعية والتكنولوجية التي أحدثت‬ ‫تغيّرات عميقة في بنية المنتظم السياسي الدولي والتوازن العالمي‪ ،‬دفعت بدورها‬ ‫القوة في بنية‬ ‫تحوالت مه ّمة تعيد توزيع ّ‬ ‫إلى بروز توازن جديد في كل مرة تطرأ ّ‬ ‫المنتظم‪ .‬كما ّ‬ ‫نمو االقتصاد الدولي‪ ،‬والقدرات اإلنتاجية التي رفعتها الثورة‬ ‫أن ّ‬ ‫الصناعية والتكنولوجية‪ ،‬والتي تركت أثرها في مجال التكنولوجيا العسكرية‬ ‫والبحرية مع مرور الزمن‪ ،‬أدّت إلى تغيير توازن القوى العالمي بشكل ملحوظ‪.‬‬ ‫والتحوالت التكنولوجية على التوازن‬ ‫لذلك‪ ،‬ال يمكن تجاهل دور ابتكارات األفراد‬ ‫ّ‬ ‫العالمي والتي ال زالت حتى يومنا هذا‪ ،‬وبخاصة عندما أصبح تعزيز القدرات‬ ‫نمو قدراتها االقتصادية والتكنولوجية‪ ،‬أي‬ ‫العسكرية للقوى يعتمد بشكل كبير على ّ‬ ‫قوتها‬ ‫قوتها االقتصادية لصالح تعزيز ّ‬ ‫قدرتها على تخصيص جزء من ّ‬ ‫القوة االقتصادية لحكومتهم‪،‬‬ ‫العسكرية[‪ .]21‬فكلّما ازدادت ابتكارات األفراد تنمو ّ‬ ‫قوة تأثير هذه األخيرة على التفاعالت الدولية‪ ،‬وبالتالي تتغيّر حسابات‬ ‫فترتفع ّ‬ ‫القوى األخرى لها‪.‬‬ ‫كذلك‪ّ ،‬‬ ‫إن استخدام عدد من المؤشرات لقياس قوة الدول‪ ،‬بشكل خاص مؤشرات‬ ‫لقياس قدرتها على االبتكار وق ّوتها التكنولوجية واالقتصادية‪ ،‬على فترة تاريخية‬ ‫التحوالت في موازين القوى العالمية وديناميكية التفاعالت‬ ‫محددة‪ ،‬تم ّكننا من رؤية‬ ‫ّ‬ ‫الدولية بين القوى – الصاعدة والمنحدرة – داخل بنية المنتظم الدولي‪ .‬لذلك‪،‬‬ ‫والنمو االقتصادي بين القوى‬ ‫سيؤدي اختالل التوازن في االبتكار التكنولوجي‬ ‫ّ‬ ‫العظمى سيغيّران في ّ‬ ‫توزع القدرات في ما بينها على المدى الطويل‪ .‬مث ًال‪ ،‬في‬ ‫حال تراجعت القدرة على االبتكار التكنولوجي للواليات المتحدة األميركية‬ ‫قوتها االقتصادية وقدرتها التنافسية‪ ،‬وبالتالي سوف تنخفض النسبة‬ ‫ستتضاءل ّ‬ ‫المخصصة لإلنفاق العسكري‪ ،‬ما سيؤدي إلى تراجع وضعيتها ودورها وهيبتها‬ ‫عالميًا‪ ،‬مقابل صعود لقوى أخرى منافسة أكثر قدرةً على االبتكار التكنولوجي‬ ‫وذات قدرات اقتصادية وعسكرية مهمة‪ .‬إذًا‪ ،‬هل يمكن لهذه المقاربة النظرية التي‬ ‫مطولة ألهم األحداث العالمية من أن تشرح لنا المسار‬ ‫تلتها مناقشة تاريخية ليست‬ ‫ّ‬ ‫المستقبلي للسياسات الدولية‪ ،‬ونمط السلوك العام للقوى القائمة والصاعدة في‬ ‫العقود الثالثة القادمة؟‬


‫مستقبل المنتظم الدولي‪ :‬الحرب أم المنافسة كطريق للسالم العالمي؟‬ ‫ا‬ ‫أوال‪ :‬العولمة التكنولوجية ّ‬ ‫تعزز وضعية بكين مقابل واشنطن‬ ‫ّ‬ ‫للقوة أو الثقل االقتصادي العالمي في بنية المنتظم‪ ،‬الذي س ّهلته‬ ‫إن االنتقال األفقي ّ‬ ‫وش ّجعته ّ‬ ‫ونظمته قواعد المنتظم الليبرالي‪ ،‬مستمد من مصدر مهم‪ :‬انخفاض تكاليف‬ ‫اإلنتاج في الدول اآلسيوية التي تمتلك يدًا عاملة ذات حجم كبير ورخيصة‪ ،‬والتي‬ ‫جذبت المستثمرين في الدول الصناعية الغربية‪ ،‬مثل الواليات المتحدة األميركية‪،‬‬ ‫إلى االستثمار مباشرةً في األسواق الوطنية للدول النامية‪ ،‬وبشكل خاص في‬ ‫الصين والهند‪ ،‬ونقل مراكز التصنيع الخدماتية والتكنولوجية إليها‪ ،‬ما سمح بتراكم‬ ‫قوتها االقتصادية بشكل هائل على المدى الطويل‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫ومع انتقال مركز اإلنتاج إلى آسيا‪ ،‬نجحت دول شمال شرق آسيا في تحديث‬ ‫أنشطتها االقتصادية خالل الفترة الممتدة بين العامين ‪ ١٩٧٠‬و‪ .١٩٨٠‬بدأت‬ ‫سا في االقتصاد العالمي‪ ،‬بعد أن حافظت‬ ‫دورا رئي ً‬ ‫الصين تنمو اقتصاديًا وتؤدي ً‬ ‫القوة‬ ‫على ‪ ٢٠‬عا ًما من‬ ‫النمو االقتصادي المستمر في الداخل‪ ،‬ما أدّى إلى تراكم ّ‬ ‫ّ‬ ‫لنمو االقتصاد‬ ‫وتحول هذا البلد الشاسع إلى نواة جوهرية‬ ‫االقتصادية لديها‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫اإلقليمي والعالمي ومركز محوري للتجارة اإلقليمية والدولية‪ .‬ولكن‪ّ ،‬‬ ‫إن حجم‬ ‫صا‪ ،‬أعاد طرح الكثير من‬ ‫اإلنتاج االقتصادي في آسيا عمو ًما والصين خصو ً‬ ‫التساؤالت المقلقة عن مستقبل االقتصاد الليبرالي العالمي المتمركز في الغرب‪،‬‬ ‫وعن انتقال الثقل الجيواقتصادي نحو آسيا‪ ،‬وما سيرتّب على المدى الطويل من‬ ‫تحوالت في توازن القوى العالمي بشكل جوهري‪ ،‬وتداعيات ذلك على مستقبل‬ ‫ّ‬ ‫القوة االقتصادية‬ ‫المنتظم والنظم والقواعد والمبادئ الليبرالية الدولية‪ .‬فمع انتقال ّ‬ ‫من الغرب إلى الشرق‪ ،‬كنتيجة تلقائية النتقال مصادر اإلنتاج والتكنولوجيا‬ ‫قوة سياسية مهمة في بنية المنتظم تدريجيًا[‪ ،]22‬ما‬ ‫العالمية‪ ،‬ستمتلك بكين ّ‬ ‫سيخولها ثني مبادئ التفاعل السياسي وقواعده التي وضعتها واشنطن بعد انتهاء‬ ‫ّ‬ ‫الحرب العالمية الثانية تدريجيًا‪ّ ،‬‬ ‫ألن القوى العظمى هي َمن تحدّد قواعد السلوك‬ ‫تقرر َمن يجلس على طاولة المفاوضات الدولية‪ ،‬و َمن يدير‬ ‫الدولية‪ ،‬وهي َمن ّ‬ ‫الشؤون الدولية عبر استخدام قوتها ونفوذها في صياغة قواعد اللعبة أو قواعد‬ ‫التفاعل السياسي بين الدول[‪ .]23‬لذلك‪ّ ،‬‬ ‫فإن صعود الصين سيؤدي إلى البحث عن‬


‫نفوذ أكبر داخل نُ ُ‬ ‫ظم اإلدارة الدولية‪ ،‬لصياغة األجندة الدولية وآلية اتخاذ القرارات‪،‬‬ ‫ووضع مبادئ التفاعالت وقواعدها‪ ،‬وإعادة توجيه مسار السياسات الدولية‪،‬‬ ‫وبالتالي يتغير نمط المنتظم الدولي تدريج ًيا‪.‬‬ ‫على الرغم من ذلك‪ ،‬انقسمت اإلدارة األميركية حيال مسألة صعود الصين‪ ،‬إلى‬ ‫كقوة اقتصادية‬ ‫فئتين‪ :‬األولى‪ ،‬فئة المتفائلين‪ ،‬كانت ترى في صعود الصين ّ‬ ‫رأسمالية قادمة ذات سوق اقتصادي ضخم ومزدهر‪ ،‬سوف يؤدي إلى جعل‬ ‫مؤسساتها السياسية ديموقراطية وتخلّيها عن المبادئ الشيوعية لالنضمام إلى نادي‬ ‫الدول الليبرالية ‪ -‬الديمقراطية‪ .‬أما الثانية‪ ،‬فئة المتشائمين‪ ،‬فكانت تشبّه صعود‬ ‫الصين بالتنّين الشيوعي العظيم األخير الذي يهدّد االستقرار في آسيا والعالم‪ ،‬أي‬ ‫يحاول أن يغيّر الوضع القائم في بنية المنتظم الدولي‪.‬‬ ‫لكن واشنطن اصطدمت في الواقع مع بكين‪ ،‬التي ال تتبع األنموذج الليبرالي‬ ‫الغربي للتنمية السياسية واالقتصادية بحذافيره‪ ،‬إنّما أنموذج هجين يعرف بـ ‪State‬‬ ‫‪ Capitalism‬الذي يجمع بين الليبرالية االقتصادية والسلطوية السياسية‪ ،‬فحاولت‬ ‫قوتها االقتصادية‬ ‫ضع منافسيها الرأسماليين وتستميلهم من خالل استخدام ّ‬ ‫أن ت ُ ْخ ِ‬ ‫الضخمة وأسواقها الواسعة‪ ،‬لثَ ْني قواعد التفاعل السياسي أو قواعد اللعبة وكسرها‪،‬‬ ‫وصياغة نظم وقواعد دولية جديدة من أجل تنظيم التفاعالت الدولية‬ ‫وتوجيهها[‪ .]24‬فبكين ترفض دائ ًما االلتزام بقواعد السلوك الدولية ألنّها صيغت‬ ‫في حقبة كانت غائبة عن الساحة الدولية[‪ .]25‬لذلك‪ ،‬واصلت بكين تحقيق‬ ‫مصالحها القومية من دمبالغة لقواعد اللعبة والمعايير العالمية‪ ،‬كبناء جزر في‬ ‫المياه الدولية المتنازع عليها ومضايقة الطائرات األميركية في بحر الصين‬ ‫الجنوبي[‪ ،]26‬ودفع واشنطن إلى أقصى أطراف آسيا والمحيط الهادئ‪ ،‬من خالل‬ ‫قوتها العسكرية إلعادة ترسيم الحدود في البحر الصيني‬ ‫إظهار نيّتها في نشر ّ‬ ‫الجنوبي‪.‬‬ ‫كما اقتنصت بكين من األزمة المالية العالمية‪ ،‬في العام ‪ ،2008‬فرصة مهمة لتبرز‬ ‫كقوة سياسي ة اقتصادية نموذجية عالمية بديلة لواشنطن والدول الغربية التي لم تعد‬ ‫ّ‬ ‫الدول النامية تحتذي بها‪ ،‬بعد أن أظهرت ّ‬ ‫يتفوق‬ ‫أن االقتصاد المو ّجه من الدولة ّ‬ ‫قررت التخلّي عن سياسة العزلة التي انتهجتها لعدة‬ ‫على االقتصاد الحر‪ .‬لذلك‪ّ ،‬‬


‫عقود‪ ،‬والبدء بالخطوات األولى للدخول مباشرةً في تكوين مسار التفاعالت الدولية‬ ‫فقوت صوتها في المؤسسات الدولية‪ ،‬بما في ذلك‬ ‫وإدارته وتصويب اتجاهه‪ّ .‬‬ ‫صندوق النقد الدولي والبنك الدولي‪ ،‬تمهيدًا لتعزيز وضعيتها مقابل واشنطن في‬ ‫بنية المنتظم الدولي ‪ .‬وعلى الرغم من ّ‬ ‫أن القدرات التأثيرية لهذه األخيرة وحلفائها‬ ‫ما زالت قوية داخل تلك المؤسسات‪ ،‬واآلليات واألهداف التي تعمل على أساسها‬ ‫تقوض سلوك الصين وأمنها‪ ،‬لم تخرج‬ ‫في النظم الدولية‪ ،‬كالديمقراطية والشفافية‪ّ ،‬‬ ‫الصين من هذه المؤسسات الدولية الليبرالية مثل منظمة التجارة العالمية والبنك‬ ‫الدولي وصندوق النقد الدولي ومجلس األمن‪ّ ،‬إال ّ‬ ‫أن عدم اكتفائها بالتغييرات التي‬ ‫طالبت بها داخل المؤسسات الدولية‪ ،‬دفعتها إلى إنشاء نظم ومؤسسات دولية‬ ‫رسمية وغير رسمية بديلة‪ ،‬مثل بنك التنمية الجديد (‪ )BRICs/NDB‬والبنك‬ ‫اآلسيوي لالستثمار في البنية التحتية (‪ ،)AIIB‬الذي ينوي بوضوح منافسة‬ ‫صندوق النقد الدولي والبنك الدولي‪ ،‬وكسب المزيد من التأثير في المنتظم الدولي‬ ‫الحالي‪ ،‬من خالل زيادة مساعداتها اإلنمائية وتطويق أوراسيا بالعقود التجارية‬ ‫وقواعد التفاعل الجديدة التي تبرز بالتوازي مع الطرق التجارية‪ ،‬و ِسكك الحديد‬ ‫وأنابيب النفط والغاز وخطوط الطاقة الكهربائية‪ ،‬وكابالت األلياف الضوئية‪،‬‬ ‫ومختلف البُنى التحتية‪ ،‬التي يمكن اختصارها بمبادرة الحزام والطريق الصينية‪.‬‬ ‫ضا‪ ،‬ما يميّز هذه المؤسسات الدولية هو أنّها تتض ّمن قيم ومبادئ آسيوية‪ّ ،‬إال أنّها‬ ‫أي ً‬ ‫ّ‬ ‫تخطط لبناء آليات تحكيم جديدة لتسوية المنازعات الدولية جميعها التي قد تنشأ عن‬ ‫يمر عبر ‪ ٦٩‬دولة‪ ،‬سواء‬ ‫خطط تمويل مبادرة الحزام والطريق (‪ )BRICs‬الذي ّ‬ ‫لألطراف الصينية أو الخارجية‪ ،‬من خالل النظام القضائي الخاص في الصين‪،‬‬ ‫وفي ثالث محاكم أُنشئت تحت سلطة المحكمة الشعبية العليا‪.‬‬ ‫بنا ًء على ذلك‪ّ ،‬‬ ‫إن اهتمام واشنطن وبخاصة في السنوات األخيرة في المحافظة‬ ‫على المنتظم الليبرالي العالمي الذي تقوده بنفسها‪ ،‬من خالل المحافظة على قواعده‬ ‫وتوسيع نطاقه الجغرافي‪ ،‬دفعها إلى قلب هذا المسار عبر اتّخاذ سياسات حمائية‬ ‫وإغالق حدودها أحاديًا‪ ،‬وفي بعض األحيان بالتعاون مع دول أخرى‪ ،‬إلضعاف‬ ‫بكين اقتصاد ًيا تمهيدًا إلجبارها على اللعب بحسب القواعد السياسية الليبرالية‪ّ .‬إال‬ ‫ّ‬ ‫كقوة اقتصادية بقدر ما هي مع سلوكها‬ ‫أن مشكلة واشنطن ليست مع صعود الصين ّ‬


‫كقوة غير ليبراليّة تسعى للزعامة في منتظم ليبرالي‪ .‬لذلك‪ ،‬تنظر األولى إلى سلوك‬ ‫ّ‬ ‫األخيرة كتهديد ألمنها القومي‪ ،‬وباألخص لناحية منافستها اقتصاديًا‬ ‫وعسكر ًيا[‪ ]27‬ومؤسسات ًيا‪ .‬فما تريده واشنطن هو رؤية بكين تتفاعل داخل المنتظم‬ ‫الليبرالي بحسب قواعد اللعبة التي وضعتها بنفسها بعد انتهاء الحرب العالمية‬ ‫الثانية‪.‬‬ ‫القوة التكنولوجية إلى آسيا بشكل رئيسي‪.‬‬ ‫من هنا‪ّ ،‬‬ ‫قررت واشنطن منع انتقال ّ‬ ‫فعمليًا‪ ،‬إذا استمرت الصين باستقدام االبتكارات التكنولوجية الغربية إلى أقاليمها‪،‬‬ ‫من دون أي عقبات خطيرة‪ ،‬ستتم ّكن في العام ‪ ٢٠٢٥‬من أن تصبح رائدة عالمية‬ ‫في مجال الذكاء االصطناعي‪ ،‬والروبوتات‪ ،‬واالتصاالت السلكية والالسلكية‪،‬‬ ‫واستعمار الفضاء‪ ،‬والتكنولوجيات اإلحيائية ‪ -‬بما في ذلك خطة لبناء أكبر شبكة‬ ‫‪ G5‬في العالم‪ ،‬كما ستستعيد في العام ‪ ٢٠٥٠‬وضعيّتها التاريخية في اإلنتاج ّ‬ ‫ألن‬ ‫التقدّم التكنولوجي السريع سيزيد من وتيرتها اإلنتاجية‪ ،‬بتكلفة قليلة وأسعار وجودة‬ ‫التطور الذي يشهده مجال الذكاء‬ ‫تنافسية في األسواق العالمية‪ ،‬وبشكل خاص مع‬ ‫ّ‬ ‫االصطناعي الذي سيدفع إلى منافسة اليد العاملة‪ ،‬في اإلنتاج والتكلفة والجودة‬ ‫عالم ًيا‪ .‬بكلمات أخرى‪ ،‬إذا استمرت الصين في استقدام االبتكارات التكنولوجية‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫تخطي واشنطن اقتصاديًا وعسكريًا‪ّ ،‬‬ ‫ألن التقدّم التكنولوجي السريع‬ ‫ستتمكن من‬ ‫سيزيد من وتيرة التغيير في ّ‬ ‫القوة االقتصادية والعسكرية بين القوى الرئيسة‬ ‫توزع ّ‬ ‫في بنية المنتظم الدولي‪.‬‬ ‫سس الصيني وسرقة الملكية‬ ‫قررت واشنطن فرض قيود صارمة على التج ّ‬ ‫لذلك‪ّ ،‬‬ ‫ابتكارا‪ ،‬وزيادة التعريفات على‬ ‫صا من الشركات األميركية األكثر‬ ‫ً‬ ‫الفكرية‪ ،‬خصو ً‬ ‫رقائق األلومنيوم وفرض تعريفات جمركية صارمة على واردات الصلب‪/‬الفوالذ‬ ‫النمو االقتصادي بين بكين‬ ‫النمو االقتصادي لبكين‪ .‬فالتفاوت في وتيرة‬ ‫لتقويض‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫وواشنطن‪ ،‬في ظل استمرار استقدام االبتكارات التكنولوجية إلى آسيا‪ ،‬يعني ّ‬ ‫أن‬ ‫تحول جوهري في‬ ‫األولى ستصعد بينما األخرى ستنحدر نسبيًا‪ .‬لذلك‪ ،‬استباقًا ألي ّ‬ ‫توازن القوى العالمي‪ ،‬فتحت واشنطن تحقيقًا رسميًا في الممارسات المتعلّقة‬ ‫بالملكية الفكرية األميركية في بكين‪ ،‬بعد أن قدّرت الخسارة السنوية لالقتصاد‬ ‫ي من السلع المقلّدة والبرمجيات المقرصنة وسرقة األسرار التجارية بنحو‬ ‫األميرك ّ‬


‫‪ 600‬مليار دوالر أميركي[‪ .]28‬إضافة إلى ذلك‪ ،‬قدّمت واشنطن شكوى أمام‬ ‫منظمة التجارة العالمية لمعاقبة الصين على النقل القسري للتكنولوجيا من‬ ‫ً‬ ‫إجماال تقدّر بتريليون دوالر‬ ‫الشركات األميركية إلى مصانعها؛ ما سبب خسارة‬ ‫أميركي‪.‬‬ ‫عي الصناعة والتكنولوجيا‪ّ .‬إال ّ‬ ‫أن‪ ،‬تنفيذ‬ ‫هكذا‪ ،‬تطال أغلب الرسوم المفروضة قطا َ‬ ‫هذه الحماية الشديدة سيؤدّي إلى تدهور صادرات الصين للواليات المتحدة‬ ‫األميركية‪ ،‬وهي تبلغ ‪ ٥٠٥‬مليار دوالر أميركي[‪ ،]29‬وت ُ َك ِبّدها خسائر مالية‬ ‫نموها االقتصادي‪ ،‬وإجبارها على القبول بقواعد المنتظم‬ ‫فادحة‪ ،‬بهدف استنزاف ّ‬ ‫الليبرالي الدولي دون تغييرها أو صياغة قواعد بديلة‪.‬‬ ‫ثانياا‪ :‬المنافسة المستمرة بين أربع رؤى متناقضة للسالم العالمي‬ ‫بحلول العام ‪ ،2025‬على أثر عولمة االبتكارات التكنولوجية‪ ،‬هناك الكثير من‬ ‫التغيّرات القادمة داخل بنية المنتظم الدولي‪ ،‬وبشكل خاص في نمط ّ‬ ‫القوة‬ ‫توزع ّ‬ ‫على المستوى العالمي والذي سيتمثل تدريجيًا ببروز عالم متعدّد األقطاب[‪ ]30‬ما‬ ‫يعني ّ‬ ‫أن حقبة األحادية القطبية في طور االختفاء حاليًا ‪ -‬كما لن يكون هناك مجتمع‬ ‫يتكون من دول قومية ذات سيادة فقط‪ ،‬مع بروز فاعلين‬ ‫دولي متجانس نسب ًيا‪ ،‬أي ّ‬ ‫جدد من غير الدول في بنية المنتظم يمتلكون قدرات تأثيرية موازية لقدرات الدول‪،‬‬ ‫كالشركات والجماعات العرقية والتنظيمات الدينية المتطرفة والشبكات اإلجرامية‬ ‫الدولية‪ ،‬بالتالي ستتغيّر طبيعة ّ‬ ‫القوة في بنية المنتظم على المدى الطويل‪،‬‬ ‫توزع ّ‬ ‫وألن البحث عن نمط ّ‬ ‫ّ‬ ‫تصور‬ ‫القوة في بنية المنتظم الصاعد يساعدنا على‬ ‫ّ‬ ‫توزع ّ‬ ‫ي الذي‬ ‫تداعيات هذه‬ ‫ّ‬ ‫التحوالت على السياسات الدولية‪ ،‬وتحديد السلوك السياس ّ‬ ‫يمكن توقّعه للقوى الرئيسة في المنتظم‪ .‬لذلك‪ ،‬نطرح السؤال التالي‪ :‬ما هي‬ ‫التحدّيات التي تضغط على ركائز المنتظم الدولي؟ وهل تشير التغيرات البنيوية في‬ ‫ّ‬ ‫القوة داخل بنية المنتظم الدولي في القرن الحادي والعشرين‪ ،‬إلى احتمال‬ ‫توزع ّ‬ ‫نشوب نزاع دولي جدي ٍد في عالم غير مستعد أن يتح ّمل تكلفته؟‬ ‫ّ‬ ‫إن التعبير األكثر خطورة لرفض المنتظم الدولي القائم على ركيزة سيادة الدولة‪،‬‬ ‫والذي يشير إلى تغيّر جوهري في نمط ّ‬ ‫القوة أو التوازن العالمي‪ ،‬يمكن‬ ‫توزع ّ‬ ‫متطرفة تستخدم اإلرهاب والعنف لتبرير‬ ‫رؤيته في بروز قوى إيديولوجية دينية‬ ‫ّ‬


‫سعيها الستبدال ركيزة الدولة‪ ،‬الركيزة األساسية للمنتظم الدولي‪ ،‬بركيزة أحادية‬ ‫مختلفة تعرف بـالخالفة اإلسالمية العالمية‪ .‬وتجلّى ذلك عندما توقّفت أربع دول في‬ ‫الشرق األوسط وشمالي أفريقيا‪ ،‬ليبيا واليمن وسوريا والعراق‪ ،‬عن العمل كدول‬ ‫سيادية بعد أن أصبحت هدفًا لفاعلين من غير الدول أبرزها مجموعات إسالمية‬ ‫تسعى لفرض حكمها‪ .‬من بين هذه المجموعات هناك ما يعرف بالدولة اإلسالمية‬ ‫في العراق والشام التي أعلنت نفسها كخالفة بديلة عن مبدأ الدولة الذي هو نتاج‬ ‫غربي ‪ -‬وتسعى إلى استبداله – أي الركيزة األساسية للمنتظم الدولي ‪ -‬بخالفة أو‬ ‫إمبراطورية إسالمية واحدة تحكمها الشريعة اإلسالمية‪ .‬عمليًا‪ ،‬في حزيران‬ ‫‪ ، 20١4‬أعاد تنظيم الدولة اإلسالمية رسم خريطة الشرق األوسط وألغى الحدود‬ ‫ً‬ ‫مزيال الحدود السياسية بين العراق‬ ‫التي رسمتها القوى األوروبية في العام ‪،١٩١٦‬‬ ‫ومنتشرا في ليبيا ومصر‪ ،‬كجزء من خطة التنظيم الستعادة الخالفة‬ ‫وسوريا‪،‬‬ ‫ً‬ ‫اإلسالمية على أنقاض حدود "سايكس‪-‬بيكو‪".‬‬ ‫وفي مناطق أخرى من العالم‪ ،‬كآسيا‪ ،‬تنظر القوى الصاعدة إلى المنتظم الدولي‬ ‫كمنتظم قائم على قواعد غربية يتم فرضها عليها‪ ،‬بالتالي ال يمكن القبول بها‪.‬‬ ‫ً‬ ‫فمثال‪ ،‬وانطالقًا من موقع موسكو الجيوسياسي الذي يشرف على العالم األوروبي‬ ‫وا آلسيوي واإلسالمي‪ .‬تعتبر موسكو نفسها وسط أمبراطورية قائمة بحكم الواقع‪.‬‬ ‫دورا مه ًما في المحافظة على التوازن العالمي‪ .‬ويمكن رؤية ذلك في‬ ‫بالتالي‪ ،‬تمتلك ً‬ ‫خطاب الرئيس بوتين عندما أعلن ّ‬ ‫أن‪ :‬زوال االتحاد السوفياتي كان أكبر كارثة‬ ‫جيوسياسية في القرن العشرين‪ .‬أما بكين‪ ،‬فهي حضارة قديمة ودولة وإمبراطورية‬ ‫آن م ًعا‪ .‬لذلك‪ ،‬من المحتّم أن تسعى الصين إلى تكييف‬ ‫ذات اقتصا ٍد معولم في ٍ‬ ‫قوتها‪ ،‬ورؤيتها‬ ‫المنتظم الدولي بما يتّفق مع خبرتها التاريخية‪ ،‬وتراكم ّ‬ ‫االستراتيجية للسالم العالمي‪ .‬بينما‪ ،‬على القارة األميركية‪ ،‬فتعتبر واشنطن نفسها‬ ‫متفوقة في المجاالت جميعها ال سيّما في المجال العسكري‪ ،‬لذلك‪ ،‬تحاول أن‬ ‫أ ّمة ّ‬ ‫التفوق حتى ال تبرز أي قوى منافسة لها‪ ،‬كما تعتبر ّ‬ ‫أن على‬ ‫تستمر بهذا‬ ‫ّ‬ ‫المجتمعات األخرى التمثّل بها واستيعاب قيمها ومبادئها وتطبيقها‪ .‬في حين تعتبر‬ ‫بكين نفسها محور حضارات األرض وكل ما هو خارج هذا المحور هو بربري‪،‬‬ ‫بالتالي‪ ،‬على المجتمعات األخرى اتّباعها أو الخضوع لها‪ .‬كما شدّد الرئيس‬


‫تفوق الحضارة الصينية في خطابه في العام ‪ّ ٢٠١٢‬‬ ‫"إن األ ّمة‬ ‫الصيني على ّ‬ ‫الصينية هي أ ّمة عظيمة" وأضاف الحقًا في كتابه ّ‬ ‫"أن ليس هناك حضارة على‬ ‫وجه األرض مساوية للحضارة الصينية"‪ .‬إذًا‪ّ ،‬‬ ‫إن القوى األميركية والصينية‬ ‫التفوق والعظمة[‪ ،]31‬باإلضافة إلى التنظيمات اإلرهابية‪،‬‬ ‫والموسكوية لديها عقدة ّ‬ ‫والتي تمتلك كل منها رؤيتها الخاصة للسالم العالمي المرتبطة بخبرتها التاريخية‪.‬‬ ‫من هنا‪ ،‬ترمز حالة الالاستقرار في المنتظم إلى المنافسة الكامنة بين أربع رؤى‬ ‫للسالم أو التوازن العالمي‪ .‬وعلى الرغم من ّ‬ ‫سس‬ ‫أن هذه الرؤى تحاول أن تؤ ّ‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫لتوزع القوى بينها في بنية المنتظم‪ّ ،‬إال‬ ‫مقبوال‬ ‫إطارا‬ ‫أنموذ ًجا عالميًا للسالم‪ ،‬أي‬ ‫ً‬ ‫أنّها ال تتمتّع بشرعية عالمية ألنّها ال تمتلك خاصية مشتركة يمكن أن تجمع عليها‬ ‫أطراف المنتظم الدولي جميعها أو على األقل األطراف األقوى فيه‪ .‬فما من أمر‬ ‫مشترك بين هذه الرؤى‪ ،‬وبالتالي ال تتمتّع بشرعية عالمية‪ .‬إذًا‪ّ ،‬‬ ‫إن العالم ال يواجه‬ ‫تحو ًال جوهريًا في ّ‬ ‫القوة بين قوى تميل إلى تكييف بنية‬ ‫توزع ّ‬ ‫أزمة دولية فقط‪ ،‬إنّما ّ‬ ‫المنتظم الدولي بحسب رؤيتها وخبرتها التاريخية للسالم العالمي‪ ،‬من هنا تنتج‬ ‫حالة الالاستقرار الدولية‪ .‬فهل يمكن أن يؤدي ذلك إلى اندالع حرب عظمى بينها؟‬ ‫ً‬ ‫أوال‪ :‬ال يوجد منتظم بديل ف ّعال أو شرعي على حدّ سواء عن المنتظم الدولي‬ ‫الوستفالي‪ ،‬أي القائم على ركيزة الدولة‪ .‬من هنا‪ّ ،‬‬ ‫إن التحدّي األعمق الذي يواجه‬ ‫عصرنا هو التكيّف مع هذا المنتظم أو تجديد قواعد اللعبة‪ّ ،‬‬ ‫ألن على الجانب اآلخر‬ ‫من البنية القائمة‪ ،‬تلوح مخاطر أ كبر في األفق‪ .‬لذلك‪ ،‬على الرغم من أ ّن واشنطن‬ ‫لقوتها ومصالحها ونفوذها‪ ،‬لمحاولتهما‬ ‫تنظر إلى كل من روسيا والصين كتحدّ ّ‬ ‫تقويض أمنها وازدهارها‪ّ ،‬إال ّ‬ ‫أن هذه القوى أشارت في عدّة مناسبات إلى التعاون‬ ‫غير العلني بينها – على مستوى مشاركة المعلومات بين أجهزتها االستخباراتية –‬ ‫لمحاربة الدولة اإلسالمية ومكافحة التنظيمات المتطرفة واإلرهابية العابرة‬ ‫للحدود‪ ،‬وإن كانت في نزاع غير مباشر مع واشنطن حاليًا‪ .‬فتاريخيًا‪ ،‬لدى القوى‬ ‫صا موسكو – التي تقع على‬ ‫الثالثة عالقة سيئة مع الجماعات اإلسالمية‪ ،‬خصو ً‬ ‫حدودها الجنوبية أكثرية إسالمية والمحاطة بجمهوريات إسالمية – وبكين التي‬ ‫واجهت حركات انفصالية إسالمية في منطقة ‪ ،Xinjinag‬التي تعتبر الباب‬ ‫الرئيس إلى العالم اإلسالمي‪.‬‬


‫ثانيًا‪ :‬في ظل البيئة االقتصادية العالمية المترابطة والمعقّدة التي نعيشها اليوم‪،‬‬ ‫ونظرا للتبعات االقتصادية‬ ‫والتي ال يمكن مقارنتها مع أي حقبة تاريخية أخرى‪،‬‬ ‫ً‬ ‫المد ّمرة للحروب الدولية[‪ ،]32‬من غير الممكن أن تلجأ واشنطن وموسكو وبكين‬ ‫نظرا لتوازي قدراتها العسكرية التدميرية نسب ًيا‬ ‫إلى تدمير بعضها البعض‪،‬‬ ‫ً‬ ‫تتطور اقتصاديًا وعسكريًا‪،‬‬ ‫وتداعياتها العالمية‪ .‬كما ال يمكن لبكين أو موسكو‪ ،‬أن‬ ‫ّ‬ ‫دون الوصول إلى األسواق األميركية‪ّ .‬‬ ‫النمو االقتصادي ألي قوى‪،‬‬ ‫ألن تراجع‬ ‫ّ‬ ‫سيؤدّي على المدى الطويل‪ ،‬إلى انخفاض في حصة الناتج المحلي اإلجمالي‬ ‫صصة لإلنفاق العسكري‪ .‬بالتالي‪ ،‬كي تستطيع بكين أو موسكو أن تنفق‬ ‫المخ ّ‬ ‫مستقر ال يمكن حصوله دون االستمرار في‬ ‫لنمو اقتصادي‬ ‫ّ‬ ‫عسكريًا‪ ،‬هي بحاجة ّ‬ ‫التبادل التجاري مع واشنطن‪.‬‬ ‫تحول بنية‬ ‫ثالثًا‪ :‬باإلضافة إلى البيئة االقتصادية الدولية المترابطة والمعقّدة‪ ،‬مع ّ‬ ‫المنتظم تدريجيًا نحو التعدّدية القطبية‪ ،‬سيتغيّر تلقائيًا السلوك العام للقوى العظمى‬ ‫قوة البعض اآلخر‬ ‫من هجومي إلى دفاعي‪ .‬بذلك‪ ،‬ستلجأ بعض القوى إلى قياس ّ‬ ‫بطرق مختلفة تعرف بسياسة االستنزاف‪ ،‬أي زيادة الكلفة على أقرانها إلضعافها‬ ‫تدول النزاعات الداخلية‪،‬‬ ‫على المدى الطويل‪ .‬وتبرز هذه السياسة عمليًا عندما ّ‬ ‫الستدراج القوى اإلقليمية والدولية إلى التد ّخل عسكر ًيا فيها‪ ،‬أو عندما تستدرج‬ ‫القوى نحو سباق إلى التسلّح‪ ،‬أو سباق الفضاء‪ ،‬من أجل استنزاف قدراتها‬ ‫االقتصادية ومواردها وثرواتها بشكل تدريجي وكبير‪ ،‬ما سيؤثر سلبًا على وضعيّة‬ ‫الدولة داخل المنتظم على المدى الطويل‪ ،‬أي سيؤدّي إلى انحدار حرج في‬ ‫قوتها[‪ً .]33‬‬ ‫مثال‪ ،‬إذا دخلت دولة ما في سباق تسلّحي مع دولة أخرى‪ ،‬وقامت‬ ‫ّ‬ ‫الدولة األولى بزيادة إنفاقها العسكري بنسبة ‪ %1‬فقط من إجمالي ناتجها المحلي‪،‬‬ ‫يمكن أن يؤدّي ذلك خالل خم س سنوات إلى تراجع قدراتها االقتصادية بنسبة‬ ‫‪ .%٠.٧‬لذلك‪ ،‬لتجنّب هذا المصير‪ ،‬ستبحث القوى عن حلفاء لها لتشارك الكلفة‬ ‫بينها‪.‬‬


‫نستنتج أنّه من المحتمل أن تشتد المنافسة بين موسكو وبكين وواشنطن‪ ،‬إلى حدّ ال‬ ‫يمكن التنبّؤ بدرجتها‪ .‬ولكن‪ ،‬من غير المحتمل أن تدخل في حرب عظمى فيما‬ ‫بينها‪ّ ،‬‬ ‫سيتفوق في عالم اليوم ليس ذلك القادر أن ينتصر في الحرب‪ ،‬إنّما‬ ‫ألن الذي‬ ‫ّ‬ ‫التفوق العسكري التكنولوجي والصناعي واالقتصادي‬ ‫القادر على االستمرار في‬ ‫ّ‬ ‫والثقافي‪ ،‬ليتم ّكن من مواكبة نمط ّ‬ ‫القوة في بنية المنتظم الذي هو في تغيّر‬ ‫توزع ّ‬ ‫القوة‪ ،‬أي االنتقال من‬ ‫مستمر‪ ،‬واالنتصار في هذا الصراع العالمي الدائم من أجل ّ‬ ‫التطور االقتصادي والعسكري والتكنولوجي‪ .‬لذلك‪،‬‬ ‫حالة األقوى إلى األسرع في‬ ‫ّ‬ ‫سنشهد في السنوات العشرين القادمة منافسات استراتيجية مه ّمة في المجاالت‬ ‫سع‬ ‫التجارية واالستثمارية واالبتكار التكنولوجي‪ ،‬والسباق إلى التسلّح والتو ّ‬ ‫اإلقليمي والتنافسات العسكرية في مناطق جيواقتصادية حيوية‪ .‬من هنا‪ ،‬إ ّن مسألة‬ ‫ّ‬ ‫ولكن القوى الدولية التي ستنتصر اليوم هي األسرع واألكثر‬ ‫الحرب هي خيارية‪،‬‬ ‫التطورات الجديدة في التكنولوجيا العسكرية‬ ‫قدرة على االستمرار في مواكبة‬ ‫ّ‬ ‫واالقتصادية والصناعية واألمنية‪ّ ،‬‬ ‫ألن المستقبل يكمن بين أيدي القوى التي ستعتمد‬ ‫بشكل كبير على التكنولوجيا الحديثة واإلنتاج االقتصادي الضخم‪.‬‬ ‫الخاتمة‬ ‫حاليًا‪ ،‬نحن في مرحلة بناء ل ُمنت َ‬ ‫ظم دولي ‪ -‬عالمي (‪ ،)Sui generis‬ما يعني‬ ‫مرحلة إعادة النظر في نمط ّ‬ ‫القوة ومسار التوازن العالمي وقواعد اللعبة‪،‬‬ ‫توزع ّ‬ ‫القوة الجوهرية في العالم‪ ،‬وما يعنيه من صعود لقوى عظمى‬ ‫تحوالت ّ‬ ‫نتيجة ّ‬ ‫ووحدات جديدة من غير الدول تبحث عن دور ووضعية أقوى في بنية ال ُمنت َ‬ ‫ظم‬ ‫الدولي‪ .‬وما يحدث اليوم لم يحدث سابقًا في تاريخ العالقات الدولية‪ ،‬من حيث‬ ‫طبيعة الوحدات وقدرتها على التفاعل التي ّ‬ ‫عززتها االبتكارات التكنولوجية‪ .‬ومتى‬ ‫القوة‪ ،‬وطبيعة الوحدات في بنية ال ُمنت َ‬ ‫تغيّر نمط ّ‬ ‫ظم الدولي‪ ،‬يعقب ذلك حت ًما‬ ‫توزع ّ‬ ‫حقبة من االضطرابات‪ .‬وضمن هذا المسار النظري‪ ،‬نستنتج عمليًا‪:‬‬ ‫على الرغم من ّ‬ ‫أن الواليات المتحدة األميركية ستظل على األرجح الدولة األقوى‬ ‫في بنية المنتظم‪ّ ،‬إال ّ‬ ‫قوتها العسكرية‪ ،‬ستصبح نسبية مقارنةً بالقدرات العسكرية‬ ‫أن ّ‬ ‫التصرف أحاد ًيا بل ستلجأ إلى‬ ‫للقوى الصاعدة مثل الصين‪ .‬لذلك‪ ،‬لن تستطيع‬ ‫ّ‬ ‫قوة‬ ‫التحالف مع دول أخرى‪ .‬أما على المدى الطويل‪ ،‬من المحتمل أن تنحدر ّ‬


‫موسكو االقتصادية والعسكرية والسياسية‪ ،‬نتيجة سياسة االستنزاف‪ ،‬إحدى سمات‬ ‫ً‬ ‫وانعزاال في المثلّث‬ ‫المنتظم المتعدّد األقطاب‪ ،‬بالتالي ستصبح النقطة األكثر ضعفًا‬ ‫األميركي ‪ -‬الصيني ‪ -‬الروسي‪ .‬على خالف ذلك‪ ،‬ستصبح واشنطن وبكين‪ ،‬أكثر‬ ‫قوتين في العالم تمتلكان قدرات تأثيرية من الناحية االقتصادية والعسكرية‬ ‫ّ‬ ‫والجيوسياسية على حدّ سواء‪ .‬ولكن‪ ،‬عندما تأتي تلك اللحظة‪ ،‬ستضطر روسيا إلى‬ ‫تغيير سلوكها العام‪ ،‬وأن تتّخذ موقفًا أكثر تعاونًا مع الغرب‪ .‬هكذا‪ ،‬بعد أن نشهد‬ ‫تكونًا لمسار أو نمط متعدّد القوى في بنية المنتظم الدولي‪ ،‬الذي سيستمر لفترة‬ ‫ّ‬ ‫طويلة نسبيًا‪ ،‬ستعود بنية المنتظم الدولي‪ ،‬بشكل تدريجي‪ ،‬إلى نمط ثنائي القطبية‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫تتخطى الصين الواليات المتحدة األميركية‬ ‫خالل العقود القادمة‪ ،‬من المتوقّع أن‬ ‫لتش ّكل أكبر اقتصاد عالمي‪ّ ،‬إال أنّها لن تتم ّكن من أن تحكم العالم بنفسها أو أحاديًا‪،‬‬ ‫على األقل ليس على المدى القريب‪ّ .‬‬ ‫ألن العولمة التكنولوجية‪ ،‬تضعف الهيمنة من‬ ‫جهة‪ ،‬وترفع درجة المنافسة بين الفاعلين من جهة أخرى في بنية المنتظم‪.‬‬ ‫باإلضافة إلى ذلك‪ ،‬تواجه الصين قضايا داخلية مهمة‪ ،‬عليها أن تعالجها‪ ،‬بالتعاون‬ ‫مع الغرب‪ ،‬حتى ال تؤثّر على استقرار نظامها السياسي‪ .‬كما ّ‬ ‫أن البيئة االقتصادية‬ ‫الدولية الحالية معقّدة جدًا ومليئة بالقضايا الدولية المشتركة التي ال يمكن حلّها ّإال‬ ‫عبر تعاون إقليمي ودولي‪ .‬من هنا‪ ،‬ليس للصين مصلحة في التحالف الرسمي مع‬ ‫روسيا‪ ،‬وال في تشكيل تحالف معاد للواليات المتحدة األميركية بشكل خاص‪ ،‬أو‬ ‫أن تش ّكل كتلة معادية للغرب بشكل عام‪ّ .‬‬ ‫مو الصين يعتمد بشكل أساسي على‬ ‫ألن ن ّ‬ ‫الهدوء وضبط النفس‪ ،‬حتى تتم ّكن من إعادة تثبيت توازن القوى العالمي بشكل‬ ‫سلمي‪ ،‬وهو‪ ،‬حال ًيا التحدي األكبر لها‪ ،‬حتى ال يقع خطأ في الحسابات قد تو ّرطها‬ ‫في حرب تدميرية عظمى‪.‬‬ ‫وأخيرا‪ ،‬يمكن القول ّ‬ ‫التحوالت التكنولوجية‬ ‫إن هذا البحث إذ يعالج عالقة‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫بالتغيّرات التي تطال طبيعة الوحدات ونمط ّ‬ ‫القوة في بنية المنتظم‪ ،‬ويفتح‬ ‫توزع ّ‬ ‫الباب واس ًعا في الوقت نفسه على تساؤل مهم حول مستقبل العالقات الدولية‪،‬‬ ‫صا بين روسيا والصين مع إشراف الحرب على الدولة اإلسالمية في الشرق‬ ‫خصو ً‬ ‫على االنتهاء‪ ،‬وغزو بكين للشرق األقصى الروسي‪ ،‬وتمدّد نفوذها نحو أوروبا‬ ‫على الرغم من التسويات المؤقتة بين موسكو وبكين‪ .‬فمتى سيحصل االنفصال بين‬ ‫القوتين اآلسيويتين؟ وعلى أي قضية؟ ومتى ستعيد موسكو توحيد حساباتها‬ ‫هاتين ّ‬


‫القومية مع الغرب‪ ،‬وباألخص واشنطن حليفتها التقليدية في الحربين العالميتين‬ ‫ضد محاوالت الهيمنة على المنتظم الدولي ‪-‬الوستفالي‪ ،‬الحتواء صعود بكين؟‬ ‫لتحميل قائمة المراجع هنا‬


Issuu converts static files into: digital portfolios, online yearbooks, online catalogs, digital photo albums and more. Sign up and create your flipbook.