تحولات مشــــــــــرقية نسخة الطباعة

Page 1

‫العدد رقم ‪ - 12‬كانون الثاين ‪2017‬‬

‫فـ�صـل ـيـة فـكريـة ثـقافيـة تـعنى ب�ش ـ�ؤون امل�شــرق‬

‫اليوم العالمي للغة العربية‬

‫احتضار لغة وأمة !‬ ‫ل�ؤي زيتوين ‪ -‬فرحان �صالح ‪ -‬فيفيان حنا ال�شويري‬

‫ال����ن����زوع ال���ت���اري���خ���ي لإي�����ران‬ ‫جمال واكيم‬

‫م�����������������������أزق ال��������ع��������روب��������ة‬ ‫عاطف عطيه‬

‫ال��ع��ل��م��ان��ي��ة ر�ؤي����ة م��ن زاوي����ة �أخ���رى‬ ‫جنيب ن�صري‬

‫احل����������داث����������ة ال����ت���������ش����ك����ي����ل����ي����ة‬ ‫عادل قديح‬

‫ال��������ظ��������اه��������رة ال�����رح�����ب�����ان�����ي�����ة‬ ‫ها�شم قا�سم‬

‫كتّاب العدد‪ :‬علي م�ش ّيك | مها خريبك نا�صر | ح�سن عجمي | وفيق غريزي | الأباتي انطوان �ضو‬


3

‫ ط‬- ‫ بناية ر�سامني‬- ‫ �شارع احلمرا‬- ‫ بريوت‬- ‫لبنان‬ ‫ لبنان‬- ‫ بريوت‬113 - 7179 :‫ب‬.‫�ص‬

tel: 00961 -1 - 751 541 E-mail: info@darabaad.com website: www.darabaad.com


‫العدد رقم ‪ - 12‬كانون الثاين ‪2017‬‬

‫فـ�صـل ـيـة فـكريـة ثـقافيـة تـعنى ب�ش ـ�ؤون امل�شــرق‬

‫ملف العدد " احت�ضار لغة و�أمة"‬

‫ر�أي‬ ‫ا�ستعادة اللغة‬ ‫�سليمان بختي‬

‫‪3‬‬

‫فكر‬ ‫النزوع التاريخي لإيران نحو �شرق املتو�سط‬ ‫ملاذا تدعم �إيران النظام ال�سوري والرئي�س ب�شار‬ ‫الأ�سد؟‬ ‫د‪ .‬جمال واكيم‬ ‫م�أزق العروبة‬ ‫بني املنازعات الأهلية والقومية االجتماعية‬

‫‪5‬‬

‫‪29‬‬

‫فل�سفة احلياة والكون املعلوماتي‬ ‫ح�سن عجمي‬

‫‪55‬‬

‫العلمانية ر�ؤية من زاوية �أخرى‬

‫‪59‬‬

‫جنيب ن�صري‬ ‫‪61‬‬

‫د‪.‬علي م�ش ّيك‬ ‫�سوراقيا‪ ...‬احلقيق ُة واخلال�ص‬ ‫د‪ .‬مها خريبك نا�صر‬

‫د‪.‬ل�ؤي زيتوين‬ ‫جدلية العالقة بني اللغة العربية والأمة يف التاريخ‬ ‫(من حمورابي وقدمو�س �إىل غوتنربغ)‬ ‫فرحان �صالح‬ ‫اللغة العربية‪ :‬ل�سان �أمة وعنوان ح�ضارة وهوية‬ ‫د‪ .‬فيفيان حنا ال�شويري‬

‫‪99‬‬

‫‪107‬‬

‫�أدب‬

‫د‪ .‬عاطف عط ّيه‬

‫الوعي الب�شري ظاهرة تاريخية‬

‫�أ�ضواء على "احت�ضار ال ّلغة"‬

‫‪97‬‬

‫‪87‬‬

‫الظاهرة الرحبانية‪ :‬عا�صي ومن�صور وفريوز‬ ‫النه�ضة املغ ّيبة‬ ‫ها�شم قا�سم‬ ‫�آليات دخول احلداثة الت�شكيلية �إىل لبنان‪:‬‬ ‫من املتطلبات الدينية واالجتماعية �إىل البعدين‬ ‫الأكادميي وال�سلعي‬ ‫د‪.‬عادل قديح‬ ‫�شعر الفداء واالنبعاث‬ ‫وفيق غريزي‬

‫‪117‬‬

‫‪127‬‬

‫‪145‬‬

‫منا�سبة‬ ‫النه�ضة اجلديدة‬ ‫الأباتي �أنطوان �ضو‬

‫‪157‬‬


‫حتوالت م�رشقية‬

‫ف�صلية‪ ،‬فكرية‪ ،‬ثقافية‪ ،‬تعنى ب�ش�ؤون امل�شرق واملنطقة‬ ‫هيئة التحرير‬

‫فاتن املر‬ ‫عاطف عطية‬ ‫ح�سن حماده‬ ‫ن�صري ال�صايغ‬

‫�سعاده م�صطفى �أر�شيد‬ ‫�سليمان بختي‬ ‫�سركي�س �أبو زيد‬

‫�سكرتري التحرير التنفيذي ‪ :‬هنادي �شموط‬ ‫املدير امل�س�ؤول‪� :‬سركي�س �أبو زيد‬ ‫الربيد الإلكرتوين‪abouzeid@gmail.com :‬‬ ‫هاتف‪)00961-1( 751541 :‬‬ ‫�صندوق بريد‪ 113-7179 :‬بريوت ‪ -‬لبنان‪.‬‬ ‫�شارع احلمرا‪ ،‬بناية ر�سامني ‪ ،‬الطابق الثالث‪.‬‬ ‫الإخراج الفني‪zaid mahdi :‬‬ ‫ت�صدر يف طبعتني من فل�سطني ولبنان‬ ‫مدير عام طبعة فل�سطني‪� :‬سعاده م�صطفى �أر�شيد‬ ‫هاتف‪0599305248 :‬‬ ‫�صندوق بريد‪ 41 :‬جنني ‪ -‬فل�سطني‬ ‫توزيع‪ :‬النا�رشون‬

‫بريوت ‪ -‬امل�شرفية‪� ،‬سنرت ف�ضل اهلل ‪ -‬طابق ‪4‬‬

‫هاتف وفاك�س‪:‬‬ ‫خلوي‪)00961-3( 975033 :‬‬

‫‪)00961-1( 277007 - 277088‬‬

‫ت�صدر بالتعاون مع م�ؤ�س�سة �سعاده للثقافة‬

‫بناية ر�سامني‪� ،‬شارع احلمرا‪ ،‬ر�أ�س بريوت‪،‬‬ ‫�صندوق بريد‪ 113-5557 :‬بريوت ‪ -‬لبنان‪.‬‬ ‫هاتف‪)00961-1( 753363 :‬‬ ‫فاك�س‪)00961-1( 753364 :‬‬ ‫الربيد الإلكرتوين‪saadehcf@idm.net.lb :‬‬ ‫املوقع الإلكرتوين‪www.saadehcf.org :‬‬ ‫ت�صدر مبوجب قرار رقم ‪ 82‬تاريخ ‪1981/7/6‬‬

‫�صادر عن وزارة االعالم يف لبنان‬ ‫اال�شرتاك ال�سنوي ‪ -‬لبنان‬

‫للأفراد‪ 50 :‬دوالراً �أمريكياً‬ ‫للم�ؤ�س�سات‪ 100 :‬دوالر �أمريكي‬ ‫اال�شرتاك ال�سنوي ‪ -‬خارج لبنان‬ ‫للأفراد‪ 100 :‬دوالر �أمريكي‬ ‫للم�ؤ�س�سات‪ 200 :‬دوالر �أمريكي‬

‫املواد املن�شورة تعرب عن ر�أي كاتبها‬


‫ر�أي‬

‫ا�ستعادة اللغة‬ ‫�سليمان بختي – نا�شر وباحث‬

‫ال �أزال �أذكر جواب ال�شيخ عبداهلل العاليلي حول اللغة العربية وعالقتها بالفكر‪ ،‬وكان‬ ‫ذلك يف حوار �أجريته معه يف ت�سعينيات القرن املا�ضي‪ .‬قال ال�شيخ‪ ":‬مق ّوم اللغة �أن‬ ‫تفكر‪ ،‬وفر�ض �إن�سان بال لغة يعني فر�ض �إن�سان بال تفكري"‪ .‬لغتنا العربية لغة مل تنقطع‬ ‫منذ خم�سة �آالف �سنة‪ .‬حملت �إلينا القدمي واجلديد يف �آن‪ .‬الثابت والعابر‪ .‬ال�سحر‬ ‫والطرب‪ .‬حتى جاء زمن وانهارت فيه ال ُبنى املحيطة بهويتنا احل�ضارية‪ ،‬واللغة جزءاً‬ ‫�أ�سا�سياً من هذه ال ُبنى‪.‬‬ ‫وبد�أت الإ�شارات تتواىل‪:‬‬ ‫‪� - 1‬أزمة يف �إنتاج املعنى املرتبط باللغة‪.‬‬ ‫‪ - 2‬تراجع امل�ستوى الإبداعي والأدبي‪.‬‬ ‫‪ - 3‬ق�صور يف متابعة تطورات العلم يف امل�صطلح واملنهج والداللة‪.‬‬ ‫‪ - 4‬ف�شل النظام الرتبوي يف �إنتاج قارىء ‪ -‬القراءة عنده قنطرة نحو االبداع والتغيري‪.‬‬ ‫‪ - 5‬تراجع اللغة الف�صحى ل�صالح اللهجات والعاميات واللغات امل�ستحدثة‪.‬‬ ‫اللغة حيلتنا اجلميلة �سقطنا �أمامها بال�ضربة القا�ضية من �سطوة التكنولوجيا وو�سائل‬ ‫التوا�صل االجتماعي‪ ،‬ومن تقليل احرتام هويتنا احل�ضارية وغياب امل�شروع احل�ضاري‪.‬‬ ‫وحتى اللعب باللغة ما عاد ي�ستهوي �أحد‪� .‬شبه الفيل�سوف فتجن�شتني املمار�سة‬ ‫اللغوية بالقيام بالألعاب‪ .‬وثمة قواعد للعبة وال �أحد يريد �أن يحرتم هذه القواعد‪.‬‬ ‫‪3‬‬


‫ولكن م�س�ألة اللغة �ستظل يف قلب النقا�ش لعالقتها الوثقى بالفكر واحل�ضارة واحلداثة‬ ‫والنه�ضة والتاريخ‪ .‬و�ستظل ت�ستمد قوتها من التفاعل احلياتي واملمار�سة الوجودية‬ ‫ومن التاريخ الفردي واجلماعي معاً‪.‬‬ ‫ون�س�أل‪ :‬هل اللغة و�سيلة �أم غاية؟ وما الفرق بني اللغة والفكر؟‬ ‫مييز بورديو يف كتابه "ماذا يريد �أن يقول الكالم" بني �سلطة اللغة النابعة من �سلطة فاعليها‬ ‫ولي�س من ذاتها‪ .‬وكيف تنطلق اللغة العربية لتعبرّ عن الواقع بدون تعمية �أو تزييف �أو‬ ‫لأجل الت�سويق اليديولوجية مزدوجة لتحمي ال�سلطة ال�سيا�سية والتيار الديني ال�سائد‪.‬‬ ‫والغر�ض من كل ذلك ال�سيطرة والهيمنة ال الإ�صالح �أو التنوير‪.‬‬ ‫يبقى �أن اللغة اليوم يف ذروة �أزمتها‪ ،‬وعلينا ا�ستعادتها لغة تامة �صحيحة لكي تعرب عن‬ ‫وجودنا وهويتنا وفكرنا النقدي الراف�ض لوقائع ثقافية واجتماعية و�سيا�سية‪ .‬واالنعتاق‬ ‫الفكري يف نهاية املطاف يرتبط ارتباطاً ع�ضوياً بالتحرر اللغوي‪.‬‬ ‫ر�أى ابن خلدون �أحوال اللغة والفكر‪ ،‬وعرف مو�ضع اخللل‪ ،‬وكتب يف مقدمته‪� ":‬إن اللغة‬ ‫�أحد وجهي الفكر‪ ،‬ف�إذا مل تكن لنا لغة تامة �صحيحة فلي�س يكون لنا فكر تام �صحيح"‪.‬‬

‫‪4‬‬


‫ف�����������������ك�����������������ر‬

‫النزوع التاريخي لإيران نحو �رشق املتو�سط‬

‫ملاذا تدعم �إيران النظام ال�سوري والرئي�س ب�شار الأ�سد؟‬ ‫د‪.‬جمال واكيم ‪ -‬دكتور يف التاريخ والعالقات الدولية‬

‫هذه الدرا�سة تركز على الدور التاريخي لإيران ك�صلة و�صل بني �شرق �آ�سيا و�شرق‬ ‫املتو�سط‪ ،‬و�أن �إيران لطاملا ازدهرت عندما كانت تلعب هذا الدور‪ ،‬بينما كانت تتعر�ض‬ ‫للعزلة والهيمنة عليها من قبل قوى خارجية عندما تعجز عن لعب هذا الدور‪ .‬هذا يف�سر‬ ‫ملاذا كانت �إيران دائماً ت�سعى للو�صول �إىل �شرق املتو�سط عرب �إقامة حتالفات مع قوى‬ ‫خا�صة يف �شمال بالد ال�شام و�شرق الأنا�ضول‪ .‬وهذا ما يف�سر العالقات القوية التي‬ ‫ربطت �إيران باجلمهورية العربية ال�سورية منذ العام ‪ 1980‬ودعم طهران لدم�شق �ضد‬ ‫املحاوالت اجلارية للإطاحة بالنظام القائم فيها‪.‬‬ ‫يف ت�شرين �أول‪� /‬أكتوبر مت ت�سجيل مقتل عدد من قادة احلر�س الثوري الإيراين يف القتال‬ ‫الدائر يف �سورية‪ .‬وكان �سبق ذلك ا�ستهداف طائرات �إ�سرائيلية يف ‪ 18‬كانون ثاين يناير ‪2015‬‬ ‫ملوكب لقادة من احلر�س الثوري الإيراين وحزب اهلل �أدى �إىل مقتل اجلرنال يف احلر�س الثوري‬ ‫علي اهلل دادي وجهاد مغنية ابن القيادي ال�سابق يف حزب اهلل عماد مغنية وعدد من القادة يف‬ ‫حزب اهلل‪ .‬كان هذا دلي ًال قوياً على التزام �إيران ومعها حزب اهلل يف دعم دم�شق يف احلرب‬ ‫الدائرة �ضدها‪ .‬كما كان دلي ًال قوياً على عزم �إيران للإبقاء على نافذتها املفتوحة عرب دم�شق‬ ‫على �شرق املتو�سط‪ .‬وكان هذا النزوع الإيراين �إىل �شرق املتو�سط �أحد املوا�ضيع املحورية يف‬ ‫املناظرات بني املر�شحني للرئا�سة الأمريكية يف العام ‪ 2008‬ومنها �إعالن املر�شح اجلمهوري‬ ‫ميت رومني يف مناظرة له مع املر�شح الدميقراطي باراك �أوباما ب�أن على الواليات املتحدة منع‬ ‫‪1‬‬

‫‪1 - No Author, Israel Strikes in Syria kills Mughnyeh’s son, 6 others, the Daily Star,‬‬ ‫‪Jan. 18, 2015 at‬‬ ‫‪http://www.dailystar.com.lb/News/Lebanon-News/2015/Jan-18/284494-israeli‬‬‫‪strike-on-golan-heights-targeted-hezbollah-vehicle-kills-4-source.ashx‬‬ ‫)‪(accessed on January 25, 2015‬‬ ‫‪5‬‬


‫�إيران من الو�صول �إىل �شرق املتو�سط‪ .‬واجلدير ذكره �أن �إيران ومنذ �أيام الأخمينيني يف القرن‬ ‫ال�سابع قبل امليالد وحتى يومنا هذا‪� ،‬سعت دائماً لأن يكون لها موطئ قدم على �شرق املتو�سط‪.‬‬ ‫‪1‬‬

‫العوملة الأوىل‬

‫حتى القرن ال�ساد�س قبل امليالد كانت الإمرباطوريات التي قامت حتى ذلك الزمان‬ ‫جميعها تعتمد على طرق التجارة البحرية �أو النهرية‪ ،‬لأن النقل عرب ال�سفن والقوارب‬ ‫كان �أقل كلفة و�أكرث فاعلية يف نقل �أحمال كبرية ‪� .‬إال �أن تطوراً جرى يف �أواخر الألفية‬ ‫الثانية قبل امليالد كان �سي�ؤدي �إىل ثورة يف النقل الربي‪ .‬ففي �أوائل الألف الأول قبل‬ ‫امليالد كان قد مت تطوير �سرج اجلمل مبا �سمح با�ستعماله يف عملية نقل الب�ضائع عرب‬ ‫ال�صحارى‪ ،‬ما �أدى �إىل ثورة يف النقل الربي و�إىل تو�سيع التجارة الربية مبا جعلها يف القرن‬ ‫ال�سابع قبل امليالد تناف�س طرق التجارة النهرية والبحرية من حيث الفاعلية االقت�صادية ‪.‬‬ ‫هذا �أدى �إىل تفعيل طرق التجارة الربية مع كل من الهند وال�صني لت�صبح اله�ضبة‬ ‫الإيرانية حلقة الو�صل الأ�سا�سية لهذه الطرق املتوجهة �أي�ضاً �إىل �شرق املتو�سط‪ .‬واجلدير‬ ‫ذكره �أن اله�ضبة الإيرانية كنطاق جيو�سيا�سي تتجاوز احلدود ال�سيا�سية لإيران املعا�صرة‬ ‫لت�شمل �أفغان�ستان و�أجزاء من �آ�سيا الو�سطى �شرقاً مت�صلة بالتايل ب�صحراء كزينج جيانغ‬ ‫التي ت�شكل اجلزء الأكرب من ال�صني املعا�صرة‪ .‬ومتتد غرباً �إىل مرتفعات جبال زاغرو�س‬ ‫على طول احلدود مع بالد ما بني النهرين لتت�صل �شما ًال بجبال طورو�س في�شكل �شرق‬ ‫الأنا�ضول جزءاً ال يتجز�أ من هذا النطاق اجليو�سيا�سي ‪ .‬ازدهار التجارة الربية يف ظل‬ ‫‪2‬‬

‫‪3‬‬

‫‪4‬‬

‫‪1- Saeed Kamali Dehghan, During Monday night's presidential debate, Mitt Romney‬‬ ‫‪repeated a gaffe he has already made at least five times before, the Guardian October‬‬ ‫‪23, 2012 at‬‬ ‫‪http://www.theguardian.com/world/iran-blog/2012/oct/23/romney-gaffe-syria‬‬‫‪iran-route-to-sea‬‬ ‫)‪(accessed on January 25, 2015‬‬ ‫‪2- William McNell, History Handbook of Western civilization, (Chicago: Chicago‬‬ ‫‪university Press, 1953) P 10. And Fernand braudel, Memory and The Mediterranean,‬‬ ‫‪(New York: vintage books, 2002) P75.‬‬ ‫‪3- Fernand Braudel, Memory and the Mediterranean, P. 144‬‬ ‫‪4- Pirohz Mojtahed’Zadeh, Iran: An Old Civilization and a New Nation State, Focus‬‬ ‫‪on Geography, Volunif 49, Number 4, P 21.‬‬ ‫‪6‬‬


‫ف�������������ك�������������ر‬

‫�ضمور خطوط التجارة النهرية والبحرية الذي تال انهيار الدولة الآ�شورية �أدى �إىل �صعود‬ ‫قوة جديدة على امل�سرح الدويل هي الإمرباطورية الفار�سية‪ .‬فمع حلول منت�صف القرن‬ ‫ال�ساد�س قبل امليالد كان قور�ش الكبري قد فر�ض هيمنته على جممل اله�ضبة الإيرانية‪،‬‬ ‫ما �سمح خللفه قمبيز �أن ينطلق ليفر�ض �سيطرته على بالد ما بني النهرين ثم الأنا�ضول‬ ‫ف ّرب ال�شام وم�صر‪ ،‬ولتعرب اجليو�ش الفار�سية البو�سفور وتب�سط �سيطرتها على تراقيا و�أق�سام‬ ‫من مقدونيا‪ .‬وبالتايل فقد متكن الفر�س مع قمبيز يف �إعادة توحيد طرق التجارة الدولية‬ ‫الربية والبحرية للمرة الثانية يف التاريخ بعد الآ�شوريني ويقيمون بالتايل عوملة ثانية جتلت‬ ‫يف ات�ساع امرباطوريتهم التي قاربت م�ساحتها ثمانية ماليني كيلومرت مربع وت�شمل نحو‬ ‫خم�سني مليون ن�سمة �شكلت يف وقتها ‪ 44‬باملئة من �سكان العامل �آنذاك‪ .‬وقد جتلت‬ ‫العوملة اجلديدة بنقل �أرحت�ش�شتا (‪ 465‬ق‪.‬م‪ -424‬ق‪.‬م‪ ).‬لعا�صمته من بر�سيبولي�س �إىل‬ ‫بابل وباعتماد ال�سريانية‪ ،‬لغة الآ�شوريني‪ ،‬كاللغة الر�سمية للدولة الفار�سية ‪ .‬وقد عك�س‬ ‫نقل العا�صمة �إىل بالد ما بني النهرين وعياً من قبل الأخمينيني لأهمية هذه املنطقة‬ ‫ب�سبب قربها من �سوريا‪ ،‬وهي املنطقة التي تف�صل بني بالد ما بني النهرين و�شرق املتو�سط‬ ‫ولها �أهمية خا�صة يف متكني التجارة الربية املارة من ال�صني �إىل و�سط �آ�سيا فبالد فار�س‬ ‫من االت�صال بتجارة املتو�سط‪ .‬وكان امللفت �سعي حكام فار�س منذ الأخمينيني وحتى‬ ‫ال�سا�سانيني �إىل مد نفوذهم �إىل منطقة �شمال الفرات وحتديداً مدينة حران لأهميتها‬ ‫اال�سرتاتيجية‪ .‬فهذه املدينة التي تقع على �ضفاف الفرات يف منطقة غري بعيدة عن مدينة‬ ‫حلب‪ ،‬ت�شكل �صلة الو�صل بني بالد ما بني النهرين ومنطقة ال�ساحل ال�سوري‪ .‬وبالتايل‬ ‫ف�إن من ي�سيطر عليها ميكنه من و�صل طرق التجارة الربية الآتية من الهند وال�صني مبنطقة‬ ‫�شرق املتو�سط يف منطقة غري بعيدة عن ا�سكندرون و�أنطاكية ‪ .‬ويف عهد �أرحت�ش�شتا جرت‬ ‫حماولة تدعيم وحدة الدولة املرتامية الأطراف واملتعددة ال�شعوب والثقافات باعتماد‬ ‫ديانة جامعة هي الزرد�شتية كدين ر�سمي للدولة‪.‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪2‬‬

‫كان الفر�س قوة برية بالدرجة الأوىل‪ ،‬ولذلك فلقد اتخذوا من الفينيقيني على ال�ساحل‬ ‫ال�سوري �شركاء يتولون التجارة البحرية يف املتو�سط‪ ،‬خ�صو�صاً �أنه كان له�ؤالء الأخريين باع‬ ‫طويل يف هذا املجال منذ مئات ال�سنني‪ .‬وكان الفينيقيون (كنعانيو ال�سواحل يف �سوريا)‬ ‫‪1- Kamal Salibi, A history of Arabia, P. 29.‬‬ ‫‪2- PATRICK HENRY REARDON, Haran Junction, TOUCHSTONE | OCTOBER 2OO8 P 48:‬‬

‫‪7‬‬


‫قد منوا مهاراتهم التجارية منذ الألف الثالث قبل امليالد‪ ،‬وكانوا هم وكالء التجارة امل�صرية‬ ‫يف �شرق املتو�سط‪ ،‬وبعد حتررهم من الهيك�سو�س وجد امل�صريون �أنه من ال�ضروري لأمنهم‬ ‫ب�سط الهيمنة ال�سيا�سية على املدن الفينيقية على ال�ساحل ال�سوري ‪ .‬ويف الألف الأول‬ ‫قبل امليالد كانت زعامة املدن الفينيقية قد انتقلت من جبيل �إىل �صور ‪ .‬وكان الفينيقيون‬ ‫قد �أن�ش�ؤوا م�ستعمرات يف �أنحاء خمتلفة من املتو�سط كان �أهمها قاد�ش على ال�سواحل‬ ‫اجلنوبية ال�شرقية ل�شبه اجلزيرة الإيربية‪ .‬لكن مع حلول القرن ال�سابع قبل امليالد‪ ،‬ومع‬ ‫احتالل الآ�شوريني مل�صر‪ ،‬وبروز اليونانيني يف بحر �إيجه‪ ،‬والإترو�سكيني يف �إيطاليا‪ ،‬مل يعد‬ ‫املتو�سط حكراً على الفينيقيني‪ ،‬بل باتت خطوط �إمدادهم الطويلة عرب املتو�سط مهددة‬ ‫من قبل القوتني ال�صاعدتني‪ .‬لذلك قام ال�صوريون ب�إن�شاء مدينة قرطاجة كمحطة و�سيطة‬ ‫بني �شرق املتو�سط وغربه ‪ .‬وقد انق�سمت التجارة يف املتو�سط بني خط جنوبي ينطلق من‬ ‫�صور يف موازاة ال�سواحل امل�صرية �إىل قرطاج فال�سواحل اجلزائرية �إىل قاد�ش يف �إ�سبانيا‪،‬‬ ‫يف مقابل خط �شمايل ينطلق من منطقة مر�سني يف �شمال �سوريا �إىل قرب�ص فال�سواحل‬ ‫اليونانية وبحر �إيجه والأدرياتيك يف اجتاه ال�سواحل ال�شمالية الغربية للمتو�سط ‪ .‬ومع‬ ‫ال�شراكة مع الفينيقيني فقد نال الفر�س الفر�س عداوة اليونانيني الذين كانوا يناف�سونهم‬ ‫على جتارة املتو�سط‪ .‬وكانت ال�سيطرة على املتو�سط عرب الوكالء الفينيقيني مهمة جداً‬ ‫لفار�س لتدعيم �أحاديتها القطبية يف مواجهة بروز متحدين لهذه الأحادية‪ .‬فمنذ الألفية‬ ‫الثالثة قبل امليالد كان املتو�سط قد حتول �إىل حمور رئي�سي يف طرق املوا�صالت والتجارة‬ ‫العاملية‪ ،‬ما جعل القوى العظمى ت�سعى لل�سيطرة عليه بغية فر�ض هيمنتها العاملية ‪ .‬ومبا‬ ‫�أن اليونانيني كانوا يناف�سون الفينيقيني على جتارة املتو�سط‪ ،‬وهم حلفاء الفر�س‪ ،‬فقد وجد‬ ‫داريو�س (‪ 550‬ق‪.‬م‪ -486.‬ق‪.‬م‪ ).‬نف�سه م�ضطراً لتوجيه جي�شه الجتياح اليونان �إال‬ ‫�أنه هزم يف معركة ماراتون يف العام ‪ 490‬ق‪.‬م‪ .‬بعد وفاة داريو�س خلفه ابنه �أرحت�ش�شتا‬ ‫(‪ 486‬ق‪.‬م‪ 465 -.‬ق‪.‬م‪ ).‬الذي متكن من هزم اليونانيني يف معركة ترموبيالي واجتياح‬ ‫‪1‬‬

‫‪2‬‬

‫‪3‬‬

‫‪4‬‬

‫‪5‬‬

‫‪1- Fernand Braudel, Memory and the Mediterranean, P 183.‬‬

‫‪ -2‬امل�صدر نف�سه‬ ‫‪3- Fernand Braudel, Memory of the Mediterranean, P 188-189.‬‬ ‫‪4- Fernand Braudel, Memory of the Mediterranean, PP 188-199.‬‬ ‫‪5- William Reitzel, The Importance of the Mediterranean, in Ernest jackh, background‬‬ ‫‪of the Middle East, New York: Cornell University Press, 1952, PP 189-190.‬‬ ‫‪8‬‬


‫ف�������������ك�������������ر‬

‫�أق�سام من اليونان وفر�ض �سيطرة م�ؤقتة على التجارة يف بحر �إيجه‪� ،‬إال �أن �أ�سطوله هزم يف‬ ‫معركة �سالمي�س البحرية يف العام ‪ 480‬ق‪.‬م تلتها هزميتان بريتان �أنهتا الآمال الفار�سية يف‬ ‫ال�سيطرة على اليونان ‪ .‬وقد دامت الهيمنة الفار�سية على العامل القدمي حتى القرن الرابع‬ ‫قبل امليالد‪ .‬حني وقعت يف الفو�ضى‪.‬‬ ‫حال الفو�ضى هذه يف بنية ال�سلطة الفار�سية �سمحت ملقدونيا �أن تتفلت من الهيمنة‬ ‫الفار�سية و�أن تب�سط �سيطرتها على كل املدن اليونانية يف ظل حكم فيليب املقدوين‪ .‬وبعد‬ ‫وجه �أنظاره نحو غزو الإمرباطورية‬ ‫اغتياله توىل ابنه الإ�سكندر احلكم من بعده ومن ت ّوه ّ‬ ‫الفار�سية فتمكن يف العام ‪ 334‬ق‪.‬م‪ .‬من االنت�صار على جي�ش فار�سي كبري يف معركة‬ ‫غرانيكو�س‪ ،‬ما �أتاح له ال�سيطرة على ه�ضبة الأنا�ضول‪ .‬وبعدها بعام واحد متكن الإ�سكندر‬ ‫من االنت�صار على جي�ش فار�سي �آخر يف معركة �إي�سو�س‪ ،‬ما �أتاح له ال�سيطرة على بالد‬ ‫ال�شام وم�صر‪ .‬وكان من �أبرز ما قام به يف هذه الفرتة هو تدمري مدينة �صور بعد ح�صار دام‬ ‫�ستة �أ�شهر‪ ،‬وبذلك متت له الإطاحة باملناف�س الأكرب لليونان على جتارة �شرق املتو�سط‪.‬‬ ‫وقد �أدى هذا �إىل توجيه �ضربة قا�سية لقرطاجة‪ ،‬ال�شريكة التجارية ل�صور والتي كانت‬ ‫تواجه �ضغوطاً متزايدة من قبل اليونان والأترو�سكيني منذ هزمية الفر�س وال�صوريني يف‬ ‫معركة �سالمي�س ‪ .‬كما �أدى هذا �إىل �صعود قوة روما يف غرب املتو�سط على ح�ساب‬ ‫قرطاجة والتي انتهت بتدمريها الكامل يف العام ‪ 146‬ق‪.‬م‪ .‬بعد ثالثة حروب كربى بني‬ ‫القوتني ‪ .‬وبتدمري �صور واحتالل �سوريا براً و�ساح ًال بالإ�ضافة �إىل م�صر مت للإ�سكندر عزل‬ ‫الإمرباطورية الفار�سية عن �شرق املتو�سط‪ ،‬وكانت هذه هي املرة الأخرية التي ت�صل فيها‬ ‫فار�س �إىل �شواطئ املتو�سط با�ستثناء فرتة ق�صرية يف بدايات القرن ال�سابع قبل عقدين من‬ ‫�صعود الإ�سالم‪ .‬وبعد "خنق" فار�س كان قد بقي على الإ�سكندر توجيه ال�ضربة القا�ضية‬ ‫لفار�س وهو ما مت له يف معركة كواغيميال يف العام ‪ 331‬ق‪.‬م ‪.‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪2‬‬

‫‪3‬‬

‫‪4‬‬

‫بعد وفاة الإ�سكندر اقت�سم قادة جي�شه مملكته الوا�سعة‪ .‬وبرز على �أنقا�ض هذه الإمرباطورية‬ ‫ثالث دول‪ .‬فقد ا�ستقل �صديق اال�سكندر بطليمو�س بحكم م�صر وجنوب �سوريا‪ ،‬فيما‬ ‫‪1- Fernand Braudel, Memory of the Mediterranean, P 194.‬‬ ‫‪2- Fernand Braudel, Memory of the Mediterranean, P 194.‬‬ ‫‪3- Fernand Braudel, Memory of the Mediterranean, P. 195.‬‬ ‫‪4- William McNeil, History handbook of Western Civilization, P 125.‬‬ ‫‪9‬‬


‫ا�ستقلت الأجزاء الأوروبية عن باقي املناطق لتعاود املدن اليونانية �سريتها يف االقتتال‬ ‫فيما بينها‪ .‬وكان اعتماد الدولة ال�سلوقية على طرق التجارة الربية وخ�صو�صاً الآتية من‬ ‫الهند يف اجتاه بالد ما بني النهرين يف طريقها �إىل منتهاها يف �شرق املتو�سط‪ .‬وكان على هذا‬ ‫املرف�أ �أن يكون قريباً من مدينة حران فكان �إن�شاء مدينة �أنطاكية لتكون العا�صمة الإدارية‬ ‫ل�سوريا ال�سلوقية ‪ .‬وكان هذا الطريق ي�شهد مناف�سة من طريق بحري ينطلق من الهند‬ ‫يف اجتاه البحر الأحمر نحو م�صر ف�شرق املتو�سط‪ .‬ولأن البطال�سة كانوا قريبني من املدن‬ ‫الواقعة جنوب �شرق املتو�سط‪ ،‬فقد �شكل موقع �أنطاكية البعيد ن�سبياً عن التهديد امل�صري‬ ‫املبا�شر �سبباً �آخر العتماد هذا املوقع‪.‬‬ ‫‪1‬‬

‫البارثيون وال�سا�سانيون‬

‫حكم الإ�سكندر وخلفائه ال�سلوقيني لبالد فار�س مل يدم �أكرث من قرن ون�صف من الزمن‪،‬‬ ‫�إذ �إنه كان ليواجه حتدياً من قوة �صاعدة يف و�سط �آ�سيا هي البارثيون‪ .‬ففي الن�صف الثاين‬ ‫من القرن الثالث قبل امليالد متكن زعيم قبيلة بارين �أر�سا�سي�س الأول من ال�سيطرة على‬ ‫والية باكرتيا يف و�سط �آ�سيا من واليها ال�سلوقي ليحكم قب�ضته بالتايل على ق�سم رئي�سي‬ ‫من طريق احلرير بني ال�صني �شرقاً وال�شرق الأدنى غرباً‪ .‬ووفقاً للجغرايف الروماين �سرتابو‬ ‫ف�إن البارثيني هم من القبائل ال�سكيثية وقد نزحوا بعد االحتالل اليوناين لفار�س من‬ ‫ال�سهوب الرو�سية �إىل والية بكترييا يف و�سط �آ�سيا‪ .2‬ومل تنجح حماوالت ال�سلوقيني‬ ‫من ا�ستعادة هذا اجلزء املهم‪ .‬ومع تبوئ مرتيداتي�س الأول (‪ 171‬ق‪.‬م‪ 138 -.‬ق‪.‬م‪).‬‬ ‫للحكم تو�سع نطاق ال�سيطرة البارثية �إىل ميديا وبالد ما بني النهرين لتحكم قب�ضتها على‬ ‫تقاطع الطرق الربية الوا�صل ما بني كل من الهند وال�صني �شرقاً و�شرق املتو�سط غرباً‬ ‫وتفر�ض نف�سها يف وقت الحق و�سيطاً جتارياً ال ميكن "التخل�ص" منه بني �إمرباطورية الهان‬ ‫والإمرباطورية الرومانية‪ .‬وكما �أ�سالفهم الأخمينيني فقد نقل البارثيون عا�صمتهم �إىل‬ ‫بالد ما بني النهرين يف املدائن‪ ،‬يف حماولة منهم لالقرتاب من �سوريا الذي كان منتهى ما‬ ‫‪ -1‬عبد اهلل احللو‪� ،‬صراع املمالك يف التاريخ ال�سوري القدمي ما بني الع�صر ال�سومري و�سقوط اململكة التدمرية‪،‬‬ ‫بريوت‪ :‬بي�سان‪� ،1999 ،‬ص ‪.241‬‬ ‫‪2- John Sheldon, The Ethnic and Linguistic Identity of the Parthians: A Review of the‬‬ ‫‪Evidence from Central Asia, Asian Ethnicity, Volume 7, Number 1, February 2006‬‬ ‫‪P7‬‬ ‫‪10‬‬


‫ف�������������ك�������������ر‬

‫يطمحون �إليه ليكون لهم منفذ �إىل التجارة يف البحر املتو�سط وال يكونون حتت رحمة من‬ ‫ي�سيطر على ال�ساحل ال�سوري‪.‬‬ ‫ورغم �أن البارثيني كانوا يعتربون �أنف�سهم امتداداً للأخمينيني �إال �أنهم مل ينجحوا يف مد‬ ‫نفوذهم �إىل �سوريا والأنا�ضول‪ ،‬حيث كان لهم يف املر�صاد ال�سلوقيون ثم الرومان‪ .‬وكذلك‬ ‫الأمر بالن�سبة لل�سا�سانيني الذين خلفوا البارثيني‪� ،‬إذ �إنهم مل ي�ستطيعوا توطيد �أقدامهم‬ ‫على �شاطئ املتو�سط‪ .‬ويف العام ‪ 634‬م‪ .‬بد�أ العرب‪ ،‬الذين كانوا قد توحدوا �سيا�سياً للمرة‬ ‫الأوىل يف تاريخهم يف ظل الإ�سالم‪ ،‬بتوجيه جيو�شهم لفتح �سوريا والعراق‪ .‬ويف غ�ضون‬ ‫�سنوات قليلة متكن العرب من احتالل �سوريا والعراق وم�صر‪ .‬ولثالثة قرون حكمت‬ ‫فار�س من عا�صمة الدولة �إن يف دم�شق حتى العام ‪ 750‬ميالدية �أو من بغداد حتى القرن‬ ‫العا�شر‪ .‬وخالل القرن احلادي ع�شر والثاين ع�شر ف�إن ال�سالجقة �شكلوا مرحلة �سابقة‬ ‫للع�صر املغويل الذي �سيكون لإيران خالله دور كبري‪.‬‬ ‫العوملة املغولية‬

‫كان الع�صر ال�سلجوقي يف جانب منه تفعي ًال للدور اجليو�سيا�سي لإيران ومنحاها التاريخي‬ ‫يف االندفاع نحو املتو�سط ولعب �صلة الو�صل بني ال�صني والهند من ناحية و�شرق املتو�سط‬ ‫من ناحية �أخرى‪� .‬أما يف اجلانب الآخر‪ ،‬فقد كان حماولة متعرثة من ال�صني للخروج �إىل‬ ‫العامل‪ .‬وقد �شكل هذا متهيداً ال�ستعادة �إيران لدورها اجليو�سيا�سي بعد قرن ون�صف القرن‬ ‫من الزمن يف ظل خروج ال�صني �إىل العامل بعد �سقوطها حتت حكم املغول‪ .‬وقد كان‬ ‫املغول من ال�شعوب التي تعي�ش يف املنطقة الواقعة اليوم يف جمهورية منغوليا وجنوب‬ ‫رو�سيا وغرب ال�صني‪� ،‬أي على طريق التجارة الربية التي تربط ال�صني بال�شرق الأدنى‬ ‫تعرف املغول على املذهب امل�سيحي‬ ‫مروراً بو�سط �آ�سيا و�شمال �إيران‪ .‬ونتيجة هذه الطريق ّ‬ ‫الن�سطوري منذ القرون امل�سيحية املبكرة واعتمدوا احلرف ال�سرياين لكتابة لغتهم‪ 1.‬ومنذ‬ ‫القرن العا�شر بات املغول على ات�صال وثيق ب�شمال ال�صني‪ .‬وخالل القرن الثاين ع�شر‬ ‫كانت ال�صني مق�سمة �إىل مملكتني‪� ،‬شمالية وجنوبية‪ .‬وخالل الن�صف الثاين من القرن‬ ‫الثاين ع�شر متكن تيموجني �أو جنكيز خان من توحيد املغول حتت �إمرته‪ 2،‬وقد دخل يف‬ ‫‪ -1‬كارل بروكلمان‪ ،‬تاريخ ال�شعوب الإ�سالمية‪� ،‬ص �ص ‪.391 – 387‬‬ ‫‪ -2‬فيليب حتي‪ ،‬تاريخ العرب‪� ،‬ص ‪.560 - 559‬‬ ‫‪11‬‬


‫خدمة �أباطرة ال�صني ال�شماليني و�أ�سدى لهم خدمات جليلة يف حماربة القبائل التتارية‪.‬‬ ‫لكن مع الوقت كان مقدراً له تو�سيع رقعة نطاق هيمنته‪ ،‬خ�صو�صاً �أن �سيطرته على جزء‬ ‫مهم من طريق احلرير كان قد وفر له موارد كبرية تتيح له متويل جي�ش �ضخم‪ ،‬فالتفت‬ ‫‪2‬‬ ‫للتو�سع �شرقاً لي�سيطر على اململكة ال�صينة ال�شمالية ويحتل بكني يف العام ‪.1215‬‬ ‫وجه �أنظاره غرباً �إىل و�سط �آ�سيا ليهزم حممد خوارزم�شاه وي�سيطر على مملكته‪،‬‬ ‫ومن هناك ّ‬ ‫مو�سعاً نطاق هيمنته �إىل �ضفاف بحر قزوين ال�شرقية و�إىل خرا�سان يف �شمال �شرق �إيران‪،‬‬ ‫‪3‬‬ ‫ومن �سيربيا �شما ًال �إىل التيبيت جنوباً‪.‬‬ ‫‪1‬‬

‫وقد وا�صل املغول تو�سعهم �شرقاً ليدمروا �أ�سرة �سونغ التي كانت حتكم اململكة ال�صينية‬ ‫اجلنوبية ويعيدوا يف العام ‪ 1268‬توحيد ال�صني حتت حكمهم‪� .‬أما غرباً فقد و�صل املغول‬ ‫�إىل و�سط �أوروبا عند ال�سهول الأملانية والرو�سية‪ ،‬ويف العام ‪ 1258‬دمروا بغداد بقيادة‬ ‫هوالكو واحتلوا حلب ودم�شق وباتوا يف طريقهم �إىل م�صر التي كادت على و�شك ال�سقوط‬ ‫يف �أيديهم لوال وفاة اخلان الأكرب موغكي وت�صدي املماليك يف م�صر للغزاة يف معركة عني‬ ‫جالوت بالقرب من غزة يف العام ‪ 4.1260‬ومع توقف التو�سع يف هذا العام كان املغول قد‬ ‫متكنوا من ال�سيطرة على طرق التجارة الربية الوا�صلة بني ال�صني �شرقاً و�شرق املتو�سط‬ ‫غرباً‪ .‬ونتيجة ذلك بات على املناطق التي مل تقع حتى حتت ال�سيطرة املبا�شرة للمغول‬ ‫�أن تتعامل معهم جتارياً‪ .5‬وبالتايل فقد متكن املغول من �إقامة عوملة كانت الرابعة يف التاريخ‬ ‫بعد العوملة الأوىل ال�سريانية‪ ،‬والثانية الفار�سية‪ ،‬والثالثة العربية‪ .‬وكانت الب�ضائع تنتقل من‬ ‫دون عائق عرب الطرق الربية املارة عرب �شمال ال�صني وو�سط �آ�سيا و�شمال �إيران يف اجتاه‬ ‫‪1- Bertold Spuler, The Mongol Period-History of the Muslim World, (Princeton:‬‬ ‫‪Markus Wiener Publishers, 2006) P. 3.‬‬ ‫‪2- Bertold Spuler, The Mongol Period, P.7.‬‬ ‫‪3- Bertold Spuler, The Mongol Period, P.8.‬‬ ‫‪4-The Secret History of the Mongols, edited by Urgunge Onon, (London: Routledge,‬‬ ‫‪2001), Chapter 13.‬‬ ‫‪5- See roxann prazniak, Siena on the Silk Roads: Ambrogio Lorenzetti and the‬‬ ‫‪Mongol Global Century, 1250–1350,J ournal of World History, Vol. 21, No. 2 © 2010‬‬ ‫‪by University of Hawai‘i Press P 177.‬‬ ‫تتحدث هذه الدرا�سة عن ازدهار �سيينا يف تو�سكانة بني عامي ‪ 1250‬و‪ 1350‬نتيجة عالقاتها التجارية مع االمرباطورية املغولية وكيف تراجع دورها بعد‬ ‫العام ‪ 1350‬نتيجة تراجع االقت�صاد العاملي بقيادة املغول‪.‬‬ ‫‪12‬‬


‫ف�������������ك�������������ر‬

‫�شرق الأنا�ضول وكيليكيا لت�صب يف موانئ مر�سني على ال�شاطئ ال�شرقي للمتو�سط‪ .‬وقد‬ ‫�أدى هذا �إىل حتالف وثيق بني مملكة �أرمينيا ال�صغرى يف كيليكيا و�شرق الأنا�ضول وبني‬ ‫اخلانة املغول التي �أقيمت يف �إيران‪ .‬وقد �شكلت اله�ضبة الإيرانية يف ظل اخلانة املغول‬ ‫حلقة الو�صل بني ال�صني ومملكة �أرمينيا ال�صغرى‪.‬‬ ‫بني ال�صني و�سوريا‬

‫بعد �أن ا�ستقرت الفتوحات املغولية‪ ،‬كان على الفاحتني �أن يركنوا �إىل �شبكة من امل�صالح‬ ‫املحلية يف البلدان التي فتحوها مت التعبري عنها يف الركون �إىل البريوقراطية التي ورثوها‬ ‫عن ال�سالالت التي هزموها يف �إدارة �ش�ؤون املقاطعات التي ظفروا بها‪ .‬وبطبيعة احلال‬ ‫كان لهذه البريوقراطية التي �شكلت نخب البالد املختلفة م�صلحتها اخلا�صة والتي �أثرت‬ ‫على عالقات النخب املغولية فيما بينها‪ .‬فما لبث اخلان الأكرب مونغكي �أن تويف يف العام‬ ‫‪ 1259‬حتى انتخب �أخوه �أريك بوقي خاناً �أكرب ومقره يف كراكوروم يف منغوليا‪ .‬وقد �أيده‬ ‫حاكم خانة القرن الذهبي يف جنوب غرب ال�سهوب الرو�سية و�شرق �أوروبا بريك‪� .‬إال �أن‬ ‫حاكم ال�صني قوبالي خان رف�ض االعرتاف ب�سلطة �أخيه وطالب مبن�صب اخلان الأكرب‬ ‫لنف�سه‪ .‬وقد دعمه يف م�سعاه هذا �أخوه هوالكو حاكم �إيران املغولية‪ .‬وقد كانت الغلبة‬ ‫لقوبالي خان الذي متكن من حتييد �أخيه يف كراكوروم‪ 1.‬وبذلك انتقل مركز الثقل‬ ‫املغويل �إىل ال�صني ومت حتييد منغوليا وو�سط �آ�سيا‪ .‬واختار هوالكو القبول ب�سلطة �أخيه‬ ‫قوبالي فاتخذ لنف�سه لقب �إيل خان �أو نائب امللك فيما �أعلن بريك العداء له مف�ض ًال‬ ‫االنحياز لأعدائه‪ .‬وبينما اعتنق هوالكو املذهب البوذي كعالمة لتبعيته خلان ال�صني‬ ‫الذي حتول �إىل البوذية‪ 2،‬اعتنق بريك الإ�سالم وارت�ضى بتبعية ا�سمية للخليفة العبا�سي‬ ‫الذي اتخذ من القاهرة مقراً له حتت حماية املماليك‪ .‬وقد �أر�سل بريك قوات لتقاتل يف‬ ‫عني جالوت �إىل جانب املماليك �ضد قوات �صهر �أخيه كاتبوقا وانتهت املعركة يف العام‬ ‫‪3‬‬ ‫‪ 1260‬بهزمية املغول للمرة الأوىل بعد انت�صارات دامت ل�ستة عقود متتالية‪.‬‬ ‫كان ال�صراع الذي ن�شب بني قوبالي خان و�أخيه �أريك بوقي يف جانب منه تناف�ساً بني‬ ‫‪1- Bertold Spuler, The Mongol Period, P.21.‬‬ ‫‪2- Bertold Spuler, The Mongol Period, P.30.‬‬ ‫‪3- Bertold Spuler, the Mongol Period, P. 22.‬‬ ‫‪13‬‬


‫طريقي جتارة بريني‪ ،‬الأول ينطلق من �شمال ال�صني مروراً مبنغوليا وو�سط �آ�سيا فال�سهوب‬ ‫الرو�سية لينتهي يف �شرق �أوروبا‪� ،‬أما الثاين فينطلق من �شمال ال�صني لينحرف قلي ًال‬ ‫�إىل اجلنوب مروراً ب�صحراء ك�سينج جيانغ ف�شمال �أفغان�ستان و�إيران �إىل �شرق الأنا�ضول‬ ‫لينتهي يف الآخر عند منطقة مر�سني وا�سكندرون‪ .‬هذا ما يف�سر دعم مملكة القرن الذهبي‬ ‫يف جنوب غرب رو�سيا لأريك بوقي بحكم ال�شراكة التجارية التي جمعتهما‪ ،‬يف حني‬ ‫ف�ضل هوالكو حاكم الإيل خانة يف �إيران دعم قوبالي خان بحكم ال�شراكة التجارية‬ ‫واالقت�صادية التي جمعت بينهما‪ .‬ولنحو قرن من الزمن كان اخلط املمتد من ال�صني‬ ‫مروراً ب�إيران �إىل �شرق املتو�سط هو الطريق التجاري الأ�سا�سي‪ .‬لكن هذا اخلط كان مهدداً‬ ‫من مملكة وراء النهر التي كان با�ستطاعتها ممار�سة نوع من العرقلة املتقطعة عليه‪ .‬وكان‬ ‫التحدي الأبرز قد برز من قبل اجلحافل الذهبية التي وجدت نف�سها مهم�شة يف العوملة‬ ‫االقت�صادية املغولية‪ ،‬فاجتهت يف �أنظارها نحو طرق التجارة البحرية عرب البحر الأ�سود‬ ‫يف اجتاه �شرق املتو�سط‪ .‬وقد ر�أت من م�صلحتها �إقامة �شراكة اقت�صادية وبالتايل �سيا�سية‬ ‫وا�سرتاتيجية مع مماليك م�صر‪ .‬وكان املماليك قد وجهوا �أنظارهم لتفعيل التجارة البحرية‬ ‫مع الهند وجزيرة جافا يف جنوب �شرق �آ�سيا‪ .‬فبات هنالك خط جتارة بحري ينطلق من‬ ‫جافا �إىل الهند و�سيالن فالبحر الأحمر وم�صر يف اجتاه �شرق املتو�سط‪ ،‬ليتجه بعدها نحو‬ ‫البحر الأ�سود ملتفاً على الطرق الربية للقلعة الأورا�سية‪ .‬يف املقابل كان هنالك طريق‬ ‫جتارة بري ينطلق من ال�صني �شرقاً ليمر عرب �صحراء ك�سينغ جيانغ ف�أفغان�ستان و�إيران‬ ‫و�شرق الأنا�ضول لينتهي يف كيليكيا ومر�سني‪ 1.‬وكان قطبا ال�صراع يف ال�شرق الأدنى يف‬ ‫تلك املرحلة هما م�صر اململوكية املرتبطة ع�ضوياً بطرق التجارة البحرية‪ ،‬و�إيران املغولية‬ ‫املرتبطة ع�ضوياً بطرق التجارة الربية‪ ،‬وقد كان حمور ال�صراع هو �سوريا �أو بر ال�شام ما يف�سر‬ ‫املحاوالت املتكررة من قبل حكام الإيلخانة ملد نفوذهم �إىل �سوريا‪ ،‬وت�صدي املماليك‬ ‫‪2‬‬ ‫لإف�شال هذه املحاوالت‪.‬‬ ‫�إيران بني �شقي رحى‬

‫خلم�سني عاماً بعد �إقامة الإيلخانة‪ ،‬وقعت �إيران حتت النفوذ املبا�شر لل�صني‪ .‬كان اللقب‬ ‫بحد ذاته يعك�س هذه التبعية‪ ،‬وكانت العالقات اخلارجية تدار من قبل اخلان الأكرب يف‬ ‫‪1- Bertold Spuler, The Mongol Period, P.23.‬‬ ‫‪2- Bertold Spuler, The Mongol Period, P.26-27.‬‬ ‫‪14‬‬


‫ف�������������ك�������������ر‬

‫ال�صني‪ ،‬وكان هنالك مندوب �صيني مقيم دائماً يف �إيران ي�شرف ويوجه �ش�ؤون احلكم يف‬ ‫البالد‪ .‬وكانت �إحدى عالئم الوالء ال�سيا�سي لل�صني هي اعتناق هوالكو وخلفائه للدين‬ ‫البوذي وحماولة رعايتهم ون�شرهم لهذا الدين يف �إيران‪ 1.‬وكانت �إيران مهمة جداً بالن�سبة‬ ‫لل�صني نتيجة ربطها لطرق التجارة الآتية منها ب�شرق املتو�سط‪ .‬لكن كان هنالك قوتان‬ ‫تهددان �سالمة هذه الطرق‪ ،‬الأوىل من و�سط �آ�سيا مهددة بقطع التوا�صل بني ال�صني‬ ‫والهند واملماليك الذين كانوا يحاولون التمدد �شما ًال لقطع توا�صل طرق التجارة الإيرانية‬ ‫مع �شرق املتو�سط‪ .‬وكانت الإيلخانة تعي خطورة املماليك على جتارتها مع �شرق املتو�سط‬ ‫لذلك حاولت ب�سط �سيطرتها على �سوريا لت�أمني التجارة مع �شرق املتو�سط‪ .‬فبعد الهزمية‬ ‫�أمام املماليك يف عني جالوت يف العام ‪ ،1260‬جرت حماولة مغولية ثانية ملد النفوذ على‬ ‫�سوريا يف العام ‪ 1271‬ومتكنوا من احتالل حلب �إال �أنهم ا�ضطروا لالن�سحاب حني �أتتهم‬ ‫�أنباء حترك ال�سلطان اململوكي الظاهر بيرب�س ملواجهتهم‪ .‬وكانت املحاولة الثالثة الجتياح‬ ‫�سوريا قد جرت يف العام ‪ ،1281‬ومتكن املغول وحلفا�ؤهم الأرمن من احتالل حلب‬ ‫والو�صول �إىل حم�ص‪� ،‬إال �أنهم هزموا على يد املماليك مرة �أخرى يف معركة حم�ص‬ ‫الثانية‪ .‬وكانت �أخطر املحاوالت تلك التي �شنها حممود غازان يف العام ‪ 1299‬حني‬ ‫توجه على ر�أ�س جي�ش من �ستني �ألف جندي مدعمني ب�أربعني �ألفاً من اجلنود اجلورجيني‬ ‫والأرمن ومتكن من هزمية قوة م�صرية من نحو ثالثني �ألف جندي يف معركة وادي اخلزندر‬ ‫بالقرب من حم�ص‪ .‬بعد ذلك متكن حممود غازان من احتالل دم�شق ملدة وجيزة قبل‬ ‫�أن ي�ضطر لالن�سحاب نتيجة مهاجمة مغول ال�شغاتاي يف و�سط �آ�سيا ل�شرق �إيران‪.‬‬ ‫وقد ا�ستمرت التوغالت املغولية يف بر ال�شام وتهديدهم لدم�شق حتى العام‬ ‫حني هزموا يف معركة مرج ال�صفار بالقرب من دم�شق‪ .‬وبعد هزمية غازان خان توقفت‬ ‫التوغالت املغولية حتى توقيع اتفاقية حلب بني املماليك والإيلخانة �أنهت مبوحبها ثمانية‬ ‫عقود من التهديد املغويل لرب ال�شام‪ .‬يف الوقت الذي كان مغول �إيران يواجهون خطر‬ ‫املماليك يف الغرب كانت خانة ال�شاغاتاي تهدد حدودهم من ال�شرق ومعها موا�صالتهم‬ ‫مع ال�صني‪ .‬وكان �شاغاتاي‪ ،‬االبن الثاين جلنكيز خان قد منح الأرا�ضي يف و�سط �آ�سيا‬ ‫وبالد ما وراء النهر‪ .‬وقد تويف �شاغاتي يف العام ‪ 1242‬لت�صبح بعد ذلك وملدة ع�شرين‬ ‫عاماً والية مغولية ذات دور هام�شي رمبا كان عائداً بالدرجة الأوىل لتحول طرق التجارة‬

‫‪1303‬‬

‫‪1- Bertold Spuler, The Mongol Period, PP 30-32.‬‬ ‫‪15‬‬


‫الربية جنوباً بعيداً عن �أرا�ضيها‪ .‬كان هذا هو ال�سبب الذي دفع ب�ألغو‪ ،‬حفيد �شاغاتي‬ ‫الذي حكم و�سط �آ�سيا بني عامي ‪ 1260‬و‪� ،1266‬إىل دعم اخلان الأكرب �أريغ بوكي يف‬ ‫كراكوروم يف مواجهة حاكم ال�صني قوبالي خان‪ .‬وقد ان�ضمت خانية �شاغاتي بعد ذلك‬ ‫�إىل خانية القرن الذهبي ومماليك م�صر يف حتالف �ضد ال�صني والإيلخانية الإيرانية‪ .‬وقد‬ ‫�شكل هذا التحالف مك�سباً ا�سرتاتيجياً كبرياً مل�صر‪� ،‬إذ �إنه �أتاح لها �ضرب الإيلخانة من‬ ‫اخللف وتهديد طرق موا�صالتها مع ال�صني‪.‬‬ ‫ال�صني داخل القمقم‬

‫كانت ال�صني يف ظل املغول تعي حراجة موقفها عقب ان�سالخ خانيتي �شاغاتاي والقرن‬ ‫الذهبي عنها وحتالفهما مع مماليك م�صر‪ ،‬وتعي التهديد الذي كان يتهدد طرق موا�صالتها‬ ‫الربية‪ .‬كذلك كانت تعي �أن طرق التجارة البحرية كانت تهدد تفوقها االقت�صادي‪،‬‬ ‫لذلك وعى قوبالي خان �أهمية خروج ال�صني �إىل البحار الوا�سعة‪ .‬وكان خروج ال�صني‬ ‫�إىل البحار الوا�سعة دونه جمموعة من اجلزر املمتدة من ال�شمال �إىل اجلنوب بدءاً باجلزر‬ ‫اليابانية‪ ،‬وتايوان‪ ،‬والفليبني وماليزيا و�إندوني�سيا‪ .‬وكان التجار العرب هم من مي�سك بزمام‬ ‫التجارة البحرية يف املحيط الهندي وكانت جزيرة جافا يف جنوب �شرق �آ�سيا هي �إحدى‬ ‫�أهم قواعدهم‪ .‬لذلك وجد قوبالي خان �أن و�سيلته الوحيدة هي يف حتقيق اخرتاق �شما ًال‬ ‫بعيداً عن نفوذ التجار العرب يف نقطة ظنها �إمرباطور ال�صني �ضعيفة وهي اليابان‪ .‬وقد‬ ‫جهز قوبالي خان �أ�سطو ًال من ت�سعمئة �سفينة الجتياح اليابان يف العام ‪� 1274‬إال �أن‬ ‫عدد اجلنود مل يكن كافياً للتغلب على القرا�صنة اليابانيني واجتياح جزيرتهم‪ .‬لذلك‬ ‫فقد ح�شد قوبالي خان يف العام ‪� 1281‬أ�سطولني من نحو �أربعة �آالف وخم�سمئة �سفينة‬ ‫حتمل مئة و�أربعني �ألف جندي الجتياح اليابان‪� .‬إال �أن ريحاً عاتية هبت لتدمر الأ�سطول‬ ‫وتغرق معظم اجلنود‪ .‬وكان �أحد �أ�سباب عدم مقاومة ال�سفن ال�صينية "للكاميكازي" هو‬ ‫�أنها كانت يف معظمها مهيئة للإبحار يف الأنهر ولي�س يف املحيطات‪ .‬وهذا دليل على �أن‬ ‫‪1‬‬ ‫املغول الذين كانوا �أقوى قوة برية‪ ،‬عجزوا عن التحول �إىل قوة بحرية‪.‬‬ ‫بعد وفاة قوبالي خان اجتهت ال�صني نحو العزلة وانعك�س ذلك تراجعاً يف نفوذها يف‬ ‫الإيلخانة يف �إيران‪ .‬ويف عهد اخلان حممود غازان (‪ )1304 - 1295‬ا�ستقلت الإيلخانة‬ ‫‪1-The Travels of Marco Polo the Venetian, edited by Thomas Wright, Chap XLIV‬‬ ‫‪16‬‬


‫ف�������������ك�������������ر‬

‫بالكامل عن اخلان الأكرب يف ال�صني‪ ،‬وكان �أبلغ دليل على هذا اال�ستقالل حتول خانات‬ ‫�إيران من البوذية �إىل الإ�سالم واجتاههم بعد �آخر حملة لهم على �سوريا يف العام ‪� 1304‬إىل‬ ‫مهادنة املماليك يف م�صر وخانتي ال�شاغاتاي يف �آ�سيا الو�سطى والقرن الذهبي يف جنوب‬ ‫رو�سيا‪ 1.‬ونتيجة هذه التحوالت بد�أ و�ضع املغول باالنحدار حتى انتهى �إىل فو�ضى كاملة‬ ‫يف الن�صف الثاين من القرن الرابع ع�شر‪ .‬ففي العام ‪ 1368‬متت الإطاحة ب�آخر �أباطرة‬ ‫املغول على يد ثورة فالحية جاءت ب�أ�سرة مينغ �إىل �سدة احلكم يف ال�صني‪� .‬أما يف �إيران‬ ‫و�آ�سيا الو�سطى وجنوب رو�سيا فقد انحدرت الأو�ضاع يف املمالك املغولية �إىل الفو�ضى‬ ‫التامة وانق�سام الواليات بني عدد كبري من احلكام والأمراء املحليني‪ .‬كان عهد تيمورلنك‬ ‫(‪� )1370-1405‬آخر حماولة لإنقاذ الإرث املغويل‪ .‬فقد انطلق هذا الرجل املتحدر من‬ ‫�أ�صل متوا�ضع من و�سط �آ�سيا ليعيد توحيد قبائل ال�شاغاتاي ويبد�أ بغزوات امتدت من‬ ‫حدود منغوليا و�صحراء ك�سينغ جيانغ �شرقاً �إىل �ضفاف الفولغا والقوقاز فالأنا�ضول و�سوريا‬ ‫�شرقاً‪ ،‬ومن ال�سهوب ال�سيبريية �شما ًال �إىل دلهي وال�سند وفار�س جنوباً‪ .‬ويف عهده ا�ستعيد‬ ‫الإرث املغويل بتدمري املدن و�إقامة تالل من اجلماجم يف املدن املنهوبة‪ ،‬لكن كل ذلك‬ ‫مل يتم يف �إطار بناء دولة كما كان الأمر يف عهد جنكيز خان قبل نحو قرنني من الزمن‪.‬‬ ‫وقد تويف تيمورلنك وهو يف طريقه لغزو ال�صني وا�ستعادتها من �أ�سرة مينغ التي �أطاحت‬ ‫باحلكم املغويل‪ ،‬ف�أدى ذلك �إىل ت�ضع�ضع دولته وانق�سام �أجزاء منها ووقوعها يف حالة من‬ ‫‪2‬‬ ‫الفو�ضى ميزت �إيران وو�سط �آ�سيا وجنوب رو�سيا خالل القرن اخلام�س ع�شر‪.‬‬ ‫قدر لأوائل القرن ال�ساد�س ع�شر �أن ت�شكل مرحلة جديدة حا�سمة يف تاريخ �إيران‪ ،‬مرحلة‬ ‫�ستكون مقدمة للت�أ�سي�س لإيران احلديثة‪ .‬فمن �أردبيل يف �شمال غرب �إيران‪ ،‬انطلق ال�شاه‬ ‫ا�سماعيل ال�صفوي ليجتاح �إيران وي�ؤ�س�س الدولة ال�صفوية‪ .‬كان ا�سماعيل �شيخاً لطريقة‬ ‫�صوفية ت�أ�س�ست قبل قرنني من الزمن يف �أردبيل على يد ال�شيخ �صفي الدين (‪- 1253‬‬ ‫‪ )1334‬ليتحولوا بعد نحو مئة عام من املذهب ال�سني �إىل املذهب ال�شيعي‪ .‬ويف متوز ‪1501‬‬ ‫متكن ال�شاه ا�سماعيل من انتزاع تربيز من قبائل �آكقيونلو (اخلرفا البي�ضاء)‪ ،‬لي�ستويل يف‬ ‫العام التايل على طهران ويعلن �شاهاً على �إيران‪ .‬وكان لال�ستيالء على تربيز �أهمية كبرية‬ ‫يف منح ال�شاه ذي الأربعة ع�شر ربيعاً قاعدة اقت�صادية حلكمه‪ ،‬بحكم �أنها كانت حمطة‬ ‫‪1- Bertold Spuler, The Mongol Period. PP 35-37.‬‬ ‫‪2- See Justin Marozzi, Tamerlane – Sword of Islam Conqueror of the World, (London:‬‬ ‫)‪Harper Collins, 2004‬‬ ‫‪17‬‬


‫رئي�سية على طريق احلرير الآتي من ال�صني يف اجتاه �شرق املتو�سط‪ 1.‬وقد �أم�ضى ال�شاه‬ ‫ال�صفوي �سنوات عدة لال�ستيالء على املقاطعات الإيرانية املتفرقة والتي كانت حتت‬ ‫حكم والة م�ستقلني‪ .‬ما �إن ا�ستتب الو�ضع لل�شاه ا�سماعيل يف معظم اله�ضبة الإيرانية‬ ‫حتى عاد �إىل العهد ال�سابق للحكام الإيرانيني بالتوجه غرباً للو�صول �إىل املتو�سط‪ .‬ف�إذا به‬ ‫يجتاح بغداد وو�سط العراق لت�أمني م�سريته كمقدمة الجتياح �شرق الأنا�ضول و�صو ًال �إىل‬ ‫�شمال �سوريا‪ .‬لكن طموحات ا�سماعيل كانت �ست�صطدم ب�صخرة �صلبة هي �سليم الأول‪،‬‬ ‫ال�سلطان العثماين الذي و�صل �إىل عر�ش الدولة العثمانية يف العام ‪ .1512‬ففي �آب من‬ ‫العام ‪ 1514‬التقى اجلي�ش العثماين بقيادة �سليم الأول واجلي�ش ال�صفوي بقيادة ال�شاه‬ ‫ا�سماعيل يف ت�شالديران ليحقق العثمانيون ن�صراً �ساحقاً �أدى خل�سارتهم منطقة �شرق‬ ‫الأنا�ضول و�أجزاء من �أذربيجان‪ ،‬ونتيجة الكارثة التي وقعت بال�صفويني كان عليهم نقل‬ ‫عا�صمتهم م�ؤقتاً �إىل �أ�صفهان‪ .‬وقد دخلت �إيران بعد ذلك يف حال من ال�ضعف والفو�ضى‬ ‫حتى �صعود جنم ال�شاه عبا�س الأول الذي متكن من ا�ستعادة خرا�سان يف ال�شرق وتربيز‬ ‫‪2‬‬ ‫و�أذربيجان يف ال�شرق وتوغل يف �شرق الأنا�ضول واحتل العراق‪.‬‬ ‫ويف العام ‪ 1603‬متكن ال�شاه عبا�س من االنت�صار على العثمانيني وا�ستعادة تربيز‬ ‫و�أذربيجان و�أجزاء من �شرق الأنا�ضول وبغداد ليحقق وعده با�ستعادة جميع الأرا�ضي‬ ‫التي وط�أتها خيل جده ال�شاه ا�سماعيل‪ 3.‬كان ال�شاه ا�سماعيل ي�أمل يف �أن يوا�صل‬ ‫اندفاعه غرباً للو�صول �إىل �شواطئ املتو�سط‪ .‬وهو كان ي�أمل يف �إقناع الإ�سبان يف �شن‬ ‫حرب على العثمانيني يحتلون مبوجبها قرب�ص وال�سواحل ال�سورية‪ 4،‬حتى تت�صل طرق‬ ‫جتارته الربية بطرق التجارة البحرية يف املتو�سط بعد �أن ي�سيطر عليها الإ�سبان‪� .‬إال �أن ه�ؤالء‬ ‫الأخريين مل يكونوا يف وارد االنغما�س جمدداً يف حرب مع العثمانيني‪ ،‬خ�صو�صاً �أنهم‬ ‫كانوا قد بد�ؤوا يواجهون ت�صاعد التحدي من قبل الفرن�سيني والإنكليز والهولنديني يف‬ ‫غرب �أوروبا واملتو�سط‪.‬‬ ‫‪1- David Blow, Shah Abbas-The Ruthless King who Became an Iranian Legend,‬‬ ‫‪(London: I.B. Tauris, 2009) 3‬‬ ‫‪2- David Blow, Shah Abbas, the Ruthless King Who Became an Iranian Legend,‬‬ ‫‪(London: I.B. Tauris, 2009) 47.‬‬ ‫‪ -3‬امل�صدر نف�سه‪.84 – 75 ،‬‬ ‫‪-4‬امل�صدر نف�سه‪.103 ،‬‬ ‫‪18‬‬


‫ف�������������ك�������������ر‬

‫هذا دفع بال�شاه عبا�س �إىل ال�شعور بالإحباط‪ ،‬فهو كان يراهن على تعزيز و�ضع �إيران ك�صلة‬ ‫و�صل للتجارة الربية بني الهند وال�صني من جهة‪ ،‬و�شرق املتو�سط من جهة �أخرى‪ 1.‬بعد‬ ‫ع�صر ال�شاه عبا�س �ضمرت �إيران و�صو ًال �إىل انهيار احلكم ال�صفاوي يف �أوا�سط القرن‬ ‫الثامن ع�شر‪ .‬بعد ذلك عا�شت �إيران يف ظل فو�ضى دامت لعقود عدة‪ .‬وقد ت�أثرت �إيران‬ ‫بتحويل طريق التجارة الربي �إىل �أوا�سط �آ�سيا وال�سهوب الرو�سية‪ ،‬ما �أفقدها جتارتها بني‬ ‫�شرق �آ�سيا و�شرق املتو�سط‪ .‬لذلك فقد عانت �إيران من ركود طويل خالل القرن التا�سع‬ ‫ع�شر خالل فرتة احلكم القاجاري‪.‬‬ ‫�آذن القرن التا�سع ع�شر ببداية ع�صر التفوق الأوروبي املطلق يف ال�سيا�سة الدولية‪ .‬طوال‬ ‫القرن التا�سع ع�شر كان على �إيران القاجارية �أن تعي�ش يف �أزمة‪ ،‬نتيجة اختالط م�ساعيها‬ ‫يف الإ�صالح مع تناف�س رو�سيا وبريطانيا على النفوذ فيها معرقلتني م�ساعي الإ�صالح هذه‪.‬‬ ‫فبعد ع�شر �سنوات من احلرب الرو�سية الفار�سية الأوىل‪ ،‬وقعت حرب ثانية �أدت �إىل �سيطرة‬ ‫الرو�س حتى على تربيز‪ .‬وقد ترافقت احلروب الو�سعية الرو�سية مع تزايد نفوذهم داخل‬ ‫�إيران‪ .‬فقد وقع حفيد ال�شاه فاحت علي حتت ت�أثريهم‪ .‬ويف العام ‪ 1834‬خلف حممد �شاه‬ ‫جده وحكم لأربعة ع�شر عاماً‪ ،‬وهي فرتة �شهدت وقوع �إيران حتت النفوذ الرو�سي‪ .‬وكانت‬ ‫فرتة حكم ال�شاه نا�صر الدين �أطول فرتة حكم ل�شاه قاجاري �إذ ا�ستمرت حتى اغتياله‬ ‫يف العام ‪ .1896‬خالل هذه الفرتة حاول ال�شاه والنخب الفار�سية اللعب على تناق�ض‬ ‫امل�صالح بني الرو�س والربيطانيني للحد من تدخلهما يف �ش�ؤون �إيران و�إ�ضرارهما مب�صاحلها‬ ‫الوطنية‪ .‬وكانت هذه املعادلة هي نف�سها التي جل�أ �إليها العثمانيون والأفغان‪ ،‬ما ج ّنب‬ ‫القوى الثالثة الوقوع حتت اال�ستعمار الأوروبي املبا�شر كما كان حال معظم �أقطار العامل‪.‬‬ ‫و�إن كانت هذه املعادلة قد �سمحت لإيران باحلفاظ على كيانها كدولة "م�ستقلة"‪� ،‬إال �أن‬ ‫املعادلة نف�سها هي التي منعتها يف كثري من الأحيان من النجاح يف م�ساعيها للإ�صالح‬ ‫واكت�ساب عنا�صر القوة الالزمة ملواجهة الأطماع الدولية‪ .‬وكان التو�سع الرو�سي يف �آ�سيا‬ ‫الو�سطى قد �أكمل عقده يف العام ‪ 1881‬مع احتالل توركمان�ستان و�أوزبك�ستان‪ .‬وقد‬ ‫�سبق هذا التو�سع بعام احتالل م�صر من قبل الربيطانيني وتون�س من قبل الفرن�سيني‪.‬‬ ‫وبهذا التو�سع باتت رو�سيا م�سيطرة متاماً على طرق التجارة التقليدية التي كانت متر بو�سط‬ ‫�آ�سيا وتربط بني �إيران وال�صني‪ .‬وكانت هذه الطرق قد �ضمرت منذ القرن اخلام�س ع�شر‬ ‫‪1- David Blow, Shah Abbas-The Ruthless King who Became an Iranian Legend,‬‬ ‫)‪(London: I.B. Tauris, 2009‬‬ ‫‪19‬‬


‫نتيجة اختيار �أ�سرة مينغ لعزل ال�صني خلف حدودها‪ .‬ومع بداية القرن الع�شرين كانت‬ ‫�إيران قد �أ�صبحت فري�سة ملطامع الرو�س يف �شمال البالد والربيطانيني يف جنوبها‪.‬‬ ‫وقد قام قائد قوات القوزاق الفار�سية ر�ضا خان بانقالب يف �شباط ‪� 1921‬أو�صله �إىل‬ ‫ال�سلطة‪ .‬ورغم متتعه ب�سلطات وا�سعة خولت له القيام ب�إ�صالحاته‪� ،‬إال �أن ر�ضا �شاه كان‬ ‫يعاين من عدم متتعه بقاعدة داخلية جتعله يتحدى �سلطة رجال الدين والإقطاع الزراعي‪،‬‬ ‫كما �أنه مل يكن يتمتع بقوة ع�سكرية جتعله يتحدى الربيطانيني كما كان حال �أتاتورك‬ ‫الذي ا�ستطاع �أن يواجه الفرن�سيني والربيطانيني واليونانيني و�أن يحقق اال�ستقالل‬ ‫لبالده‪ .‬وكانت �إيران قد وقعت ب�شكل �شبه كامل حتت النفوذ الربيطاين بعد تراجع‬ ‫االحتاد ال�سوفياتي خلف حدوده بعد الثورة البول�شفية‪ .‬وبغية مواجهة الربيطانيني جل�أ ر�ضا‬ ‫�شاه لتح�سني عالقاته بالأملان‪ .‬ويف العام ‪ 1931‬رف�ض ال�شاه �إعطاء امتياز لطائرات اخلطوط‬ ‫اجلوية الربيطانية للتحليق يف الأجواء الإيرانية مف�ض ًال عليها اللوفتهانزا الأملانية‪ .‬ويف العام‬ ‫التايل بادر �إىل �إلغاء االمتياز النفطي املمنوح للربيطانيني‪ .‬كذلك جل�أ ال�شاه �إىل خربات‬ ‫الأمريكي �أرثور ميل�سبو لإ�صالح مالية الدولة‪ .‬وقد وظف ال�شاه خرباء �أملاناً يف خمتلف‬ ‫املجاالت‪ ،‬ما �أثار حفيظة الربيطانيني‪ .‬وكان مقدراً لهذا التوجه �أين يطيح بر�ضا �شاه‪.‬‬ ‫فقد اندلعت احلرب العاملية الثانية يف �أيلول من العام ‪ .1939‬وبعدها بعامني هاجمت‬ ‫القوات الأملانية االحتاد ال�سوفياتي وبرزت احلاجة ال�ستخدام الأرا�ضي الإيرانية لإي�صال‬ ‫الدعم الع�سكري �إىل ال�سوفيات‪� .‬إال �أن ر�ضا �شاه �أراد �إعالن �إيران دولة حمايدة‪ ،‬فقامت‬ ‫القوات الربيطانية يف �آب ‪ 1941‬باجتياح �إيران من اجلنوب والقوات الرو�سية باجتياحها‬ ‫من ال�شمال‪ ،‬وفر�ض على ر�ضا �شاه التخلي عن العر�ش ل�صالح ابنه حممد ر�ضا بهلوي‬ ‫ومغادرة البالد‪.‬‬ ‫نحو الثورة الإ�سالمية‬

‫يف العام ‪ 1951‬انتخب الدكتور حممد م�صدق رئي�ساً للوزراء يف �إيران‪ .‬وكانت معظم‬ ‫املوارد النفطية الإيرانية تقع يف املنطقة املحاذية ملنطقة اخلليج العربي‪ -‬الفار�سي وكانت‬ ‫ال�شركات الربيطانية هي التي حتتكر �إنتاجه مقابل ح�صة �ضئيلة لإيران‪ .‬وكان املوظفون‬ ‫الربيطانيون هم الذين يديرون ال�شركة يف مقابل رواتب عالية جداً‪ ،‬بينما كان الإيرانيون‬ ‫وغريهم من العمالة الآ�سيوية وخ�صو�صاً الهندية يحتلون �أ�سفل �سلم الوظائف يف ال�شركة‬ ‫ويح�صلون على رواتب متدنية جداً‪ .‬يف العام ‪ 1950‬وقعت اململكة العربية ال�سعودية‬

‫‪20‬‬


‫ف�������������ك�������������ر‬

‫و�شركة �أرامكو التي كانت متلك احتكار �إنتاج النفط يف اململكة‪ ،‬اتفاقاً جديداً مت مبوجبه‬ ‫رفع احل�صة ال�سعودية من عائدات النفط �إىل خم�سني باملئة‪ .‬هذا �شجع الإيرانيني على‬ ‫املطالبة باملثل‪ ،‬وهو ما مل تكن بريطانيا م�ستعدة لال�ستجابة له‪ .‬فقد كانت هذه الأخرية‬ ‫بحاجة للنفط الإيراين وغريه من موارد م�ستعمراتها حول العامل‪ ،‬لإعادة بناء اقت�صادها‬ ‫الذي دمرته احلرب العاملية الثانية‪ .‬يف �آذار من العام ‪ 1951‬قام �أحد �أع�ضاء جمعية‬ ‫فدائيي الإ�سالم باغتيال رئي�س الوزراء حاج علي رازمارا الذي عينه ال�شاه قبل ذلك‬ ‫بعام‪ ،‬لأنه رف�ض النزول عند مطالب نواب الربملان بت�أميم النفط الإيراين‪ .‬بعد ذلك ب�أيام‪،‬‬ ‫يف الـ‪ 15‬من �آذار ‪� ،1951‬صوت الربملان الإيراين على ت�أميم النفط الإيراين وكان حممد‬ ‫م�صدق ال�شخ�صية الرئي�سية التي قادت عملية الت�أميم‪ .‬وقد كاف�أه املجل�س يف ‪� 28‬أبريل‬ ‫‪ 1951‬بانتخابه رئي�ساً للوزراء بغالبية ‪� 79‬صوتاً ومعار�ضة ‪ 12‬فقط‪ ،‬يف حتد كبري لرغبة‬ ‫ال�شاه‪ .‬بعد ثالثة �أيام على تبوئه �سدة الرئا�سة �صادق م�صدق على قرار الت�أميم يف �سابقة‬ ‫كان �سيكون لها الأثر الكبري على م�سار الأحداث يف �إيران وال�شرق الأو�سط‪.‬‬ ‫�أدى و�صول دوايت �أيزنهاور �إىل �سدة الرئا�سة يف العام ‪� 1953‬إىل تغيري يف ال�سيا�سة‬ ‫الأمريكية جتاه �إيران‪ .‬فقد مت تعيني جون فو�سرت داال�س وزيراً للخارجية يف الإدارة‬ ‫اجلديدة‪ ،‬وكان معروفاً بعدائه ال�شديد لل�شيوعية‪ .‬وقد متكن الربيطانيون من اللعب على‬ ‫هذا الوتر لإثارة حفيظة الأمريكيني �ضد م�صدق‪ ،‬متذرعني بدعم حزب تودة ال�شيوعي‬ ‫له‪ .‬هذا �أ ّهل �إيران لتكون جزءاً من احلرب ال�صليبية على ال�شيوعية التي �أعلنها داال�س‪.‬‬ ‫فقام بتوكيل �أخيه �آالن داال�س‪ ،‬مدير وكالة اال�ستخبارات املركزية‪ ،‬بالإطاحة بالزعيم‬ ‫الإيراين‪ ،‬ومت �صرف مبلغ مليون دوالر �أمريكي لهذا الغر�ض‪ .‬بعد ذلك بد�أ �أع�ضاء مكتب‬ ‫الـ"�سي �أي �إيه" والـ"�إم �آي ‪ "6‬يف �إيران‪ ،‬بعقد اجتماعات يف بريوت للتن�سيق للإطاحة‬ ‫مب�صدق‪ ،‬وقد توىل قيادة العملية التي �سميت ب�أجاك�س‪ ،‬كريميت روزفيلت وهو حفيد‬ ‫الرئي�س الأمريكي الأ�سبق ثيودور روزفيلت (‪ .)1900-1908‬وكانت العملية تقوم على‬ ‫تنكر عمالء للأمريكيني والربيطانيني باالدعاء ب�أنهم عنا�صر قومية و�شيوعية م�ؤيدة مل�صدق‬ ‫وبتهديد قيادات �إ�سالمية خ�صو�صاً بعد اخلالف بني كا�شاين ورئي�س الوزراء‪� .‬إ�ضافة �إىل‬ ‫ذلك ا�ستندت العملية �إىل متويل تظاهرات وقالقل �ضد م�صدق لتربير تدخل اجلي�ش‬ ‫�ضد م�صدق والإتاحة لل�شاه ب�إقالته‪ .‬ويف حماولة ملواجهة امل�ؤامرة �ضده علق م�صدق‬ ‫�أعمال املجل�س يف �آب ‪ 1953‬ومدد حالة الطوارئ ما �سمح للأمريكيني با�ستهدافه على‬ ‫�أنه ديكتاتور‪ .‬وبناء على �ضغط كريميت روزفيلت على ال�شاه‪� ،‬أ�صدر هذا الأخري مر�سوماً‬ ‫‪21‬‬


‫ب�إقالة م�صدق وتعيني اجلرنال ف�ضل اهلل زاهدي رئي�ساً للوزراء‪ .‬بعد ذلك قامت مظاهرات‬ ‫وقالقل يف املدن ممولة من ال�سي �آي �إيه‪ .‬ويف النهاية مت توقيف م�صدق واحلكم عليه‬ ‫بال�سجن ثم الإقامة اجلربية يف منزله حتى وفاته يف العام ‪.1967‬‬ ‫�شكل االنقالب على م�صدق �ضربة قوية لليرباليني الإيرانيني‪ ،‬بعد ال�ضربة التي كان‬ ‫قد تلقاها الي�سار الإيراين يف العام ‪ 1947‬والتي ا�ستكملت مع الق�ضاء على م�صدق يف‬ ‫العام ‪ 1.1953‬وبالتايل ف�إن احلياة ال�سيا�سية الإيرانية باتت مقت�صرة على حكم ديكتاتوري‬ ‫لطاغية هو ال�شاه‪ ،‬يف مواجهة م�ؤ�س�سة دينية كان نفوذها �سيت�صاعد نتيجة الفراغ الذي‬ ‫تركه الليرباليون والي�ساريون خلفهم‪ .‬كان ارتفاع عائدات �إيران من النفط خ�صو�صاً بعد‬ ‫ت�أ�سي�س منظمة الدول املنتجة للنفط �أوبيك‪ ،‬قد �أعطى ال�شاه قدرات اقت�صادية لتدعيم‬ ‫الدور الإقليمي الذي كان يزمع لعبه يف ال�شرق الأو�سط‪ .‬يف العام ‪ 1971‬ان�سحبت‬ ‫بريطانيا من منطقة اخلليج العربي بعد مئة وخم�سني عاماً على فر�ضها لهيمنتها‪ .‬كان‬ ‫املخطط الغربي هو يف �إيكال �أمن املنطقة �إىل ال�شاه وبناء عليه فقد منح ثالث جزر على‬ ‫بوابة م�ضيق هرمز هي طنب الكربى وطنب ال�صغرى و�أبو مو�سى‪ .‬يف املقابل فقد ارت�ضى‬ ‫ال�شاه التنازل عن مطالب القوميني الإيرانيني ب�ضم البحرين �إىل �إيران‪.‬‬ ‫مع حلول العام ‪ 1977‬كانت التقديرات الأمريكية تتوقع بقاء ال�شاه على العر�ش لع�شر‬ ‫�سنوات مقبلة على �أدنى تقدير‪ .‬كانت �أموال النفط تتدفق وامل�ؤ�شرات االقت�صادية ت�شري‬ ‫�إىل �أرقام منو عالية‪ .‬وكانت �إيران قد �أ�صبحت �شرطي منطقة اخلليج‪ ،‬و�إحدى القوى‬ ‫الإقليمية العظمى يف منطقة ال�شرق الأو�سط‪ .‬كل هذه امل�ؤ�شرات كانت ت�ستبعد قيام ثورة‬ ‫�ضد ال�شاه‪� .‬إال �أن ما فات املراقبني هو �أن النمو االقت�صادي مل يتوزع ب�شكل مت�ساو على‬ ‫جميع الإيرانيني‪ ،‬بل بقي معظمه حكراً على نخبة قليلة حميطة بال�شاه‪ .‬وكان مال النفط‬ ‫قد �سبب ت�ضخماً عالياً يف �إيران �أثر �سلباً على الطبقات الريفية واملدينية الفقرية‪ ،‬ما �أدى‬ ‫�إىل ت�صاعد ال�شعور بالإحباط عندها‪ .‬ومبا �أن التيارين الي�ساري والليربايل كانا قد تلقيا‬ ‫�ضربة قا�سية يف الأربعينيات واخلم�سينيات‪ ،‬فقد التف الإيرانيون ال�ساخطون على النظام‬ ‫منذ العام ‪ 1963‬حول املرجعيات الدينية‪ .‬يف ذلك العام برز جنم الإمام �آية اهلل روح اهلل‬ ‫‪1- Kenneth M. Pollack, The Persian Puzzle: The Conflict Between Iran and America,‬‬ ‫‪(New York: Random House, 2004), 63 – 71.‬‬ ‫‪22‬‬


‫ف�������������ك�������������ر‬

‫اخلميني حني قاد املعار�ضة �ضد "ثورة ال�شاه البي�ضاء"‪ 1.‬يف ت�شرين �أول ‪ 1977‬وجد جنل‬ ‫الإمام اخلميني البكر م�صطفى متوفياً يف منزله‪ ،‬وقد �سارع �أن�صار الإمام �إىل اتهام جهاز‬ ‫ال�شاباك بت�سميم م�صطفى‪ .‬بعد ذلك بد�أت االحتجاجات بالت�صاعد ب�شكل كبري و�صو ًال‬ ‫�إىل الإطاحة بال�شاه يف �شباط ‪ .1979‬ومع انت�صار الثورة الإ�سالمية كان الإمام روح اهلل‬ ‫مو�سوي اخلميني �سيبد�أ حكمه يف �إيران بعمر ال�سابعة وال�سبعني بعد م�سرية طويلة من‬ ‫‪2‬‬ ‫الكفاح‪.‬‬ ‫�صعود �إيران كقوة �إقليمية‬

‫قد يكون اجلزء غري املعلن عنه يف �صعود جنم �إيران كقوة �إقليمية هو �صعود جنم ال�صني‬ ‫كقوة دولية بدءاً من العام ‪ .1980‬ففي ذلك العام كان دينغ ك�سياو بينغ قد �أم�سك‬ ‫بزمام الأمور يف ال�صني وبد�أ يحدث حتو ًال نحو �إخراج ال�صني من عزلتها �إىل العامل‪ .‬وقد‬ ‫ترافق ذلك مع حتوالت اقت�صادية كان من املقرر لها �أن جتعل ال�صني القوة االقت�صادية‬ ‫الثانية يف العامل مع حلول العام ‪ 2013‬على �أن ت�صبح القوة الأوىل يف العامل مع حلول‬ ‫العام ‪ .2025‬ولأن �إيران كانت تاريخياً تلعب دور �صلة الو�صل بني �شرق �آ�سيا و�شرق‬ ‫املتو�سط‪ ،‬فقد ا�ستفادت من �صعود ال�صني لتعزيز دورها الإقليمي‪ .‬وامللفت للنظر �أنه يف‬ ‫نف�س ذلك العام �أر�سى الإمام اخلميني والرئي�س ال�سوري حافظ الأ�سد �أ�س�س عالقة‬ ‫متينة بني بلديهما‪ .‬لقد كانت �سورية مهمة جداً بالن�سبة لإيران لأنها كانت بوابة �إيران‬ ‫�إىل �شرق املتو�سط‪ .‬بغية احتواء هذه التحوالت الإقليمية �أوعز الأمريكيون �إىل �صدام‬ ‫ح�سني باالنقالب على �أحمد ح�سن البكر ثم بقطع العالقات بني العراق و�سورية ثم �شن‬ ‫حرب �ضد �إيران بغية احتواء الثورة الإ�سالمية‪ .‬وانتهت احلرب الإيرانية العراقية يف العام‬ ‫‪ 1988‬مع فوز ن�سبي للعراق‪ ،‬وانتهت بعدها احلرب الباردة بانت�صار الواليات املتحدة‪.‬‬ ‫وكان على �إيران �أن تبني قوتها يف ذلك الوقت دون اال�صطدام بالواليات املتحدة‪ .‬وقد‬ ‫لعبت القيادة الإيرانية على عامل الوقت من �أجل جتاوز خطر التعر�ض ل�ضربة �أمريكية‪ .‬يف‬ ‫�أيلول ‪ 2001‬اتخذت الواليات املتحدة من هجمات القاعدة يف نيويورك ذريعة الحتالل‬ ‫�أفغان�ستان ومن ثم العراق‪ .‬كان الهدف احلقيقي هو ال�سيطرة على ال�شرق الأو�سط املمتد‬ ‫من املحيط الأطل�سي غرباً �إىل حدود ال�صني �شرقاً‪ .‬كان من �ش�أن هذا �أن يحكم قب�ضة‬ ‫‪ -1‬امل�صدر نف�سه ‪.92 – 85‬‬ ‫‪-2‬امل�صدر نف�سه ‪.140 – 127‬‬ ‫‪23‬‬


‫الواليات املتحدة على طرق املوا�صالت التقليدية حت�سباً ل�صعود جنم قوى مناف�سة لها على‬ ‫ال�صعيد الدويل مثل االحتاد الأوروبي ورو�سيا وال�صني والهند والربازيل وجنوب �إفريقيا‪.‬‬ ‫وقد متكنت الواليات املتحدة يف العام ‪ 2004‬من تطويع �أوروبا وو�ضعها حتت جناحها‬ ‫عرب قبول فرن�سا– جاك �شرياك بالدخول يف فلك الهمينة الأمريكية املطلقة‪ 1.‬ويف نف�س‬ ‫الوقت بد�أ الأمريكيون بت�أهيل تركيا للعب دور الوكيل يف املنطقة العربية الإ�سالمية‪ .‬كان‬ ‫الهدف بالدرجة الأوىل حما�صرة ال�صني ورو�سيا (قلب �أورا�سيا) ومنعهما من الو�صول‬ ‫�إىل طرق املوا�صالت البحرية‪ .‬ويف �شرق �آ�سيا متكن الأمريكيون من حتقيق مبتغاهم عرب‬ ‫�إقامة حزام عازل من جزر معادية لل�صني (اليابان– كوريا اجلنوبية– تايوان– الفليبني–‬ ‫�إندوني�سيا– ماليزيا) وبالتايل منع ال�صني ورو�سيا من اخلروج بحرية �إىل املحيط الهادئ‪.‬‬ ‫وبالتايل ازدادت �أهمية �إيران بالن�سبة لل�صني ورو�سيا بحكم �أنها حلقة الو�صل مع �شرق‬ ‫املتو�سط واملحيط الهندي‪ .‬رد الأمريكيون ب�إقامة �سل�سلة قواعد ع�سكرية يف الكويت‬ ‫والبحرين وقطر و�سلطنة عمان ودبي‪ ،‬ما بات ي�شكل حزاماً عاز ًال بني �إيران واملحيط‬ ‫الهندي‪ .‬لكن �إيران متكنت من تعزيز نفوذها يف العراق و�أحدثت اخرتاقات يف جبهة‬ ‫املتو�سط– البحر الأحمر‪ .‬فعرب عالقة مع �سورية كانت �إيران تطل على �شرق املتو�سط‪،‬‬ ‫وعرب عالقة مع حزب اهلل كانت �إيران تهدد الأمن القومي الإ�سرائيلي‪ ،‬وعرب عالقة‬ ‫مع حما�س كانت �إيران تطل على قناة ال�سوي�س والأمن القومي امل�صري‪ ،‬وعرب عالقة‬ ‫مع حوثيي اليمن كانت �إيران تطل على باب املندب‪ ،‬بوابة البحر الأحمر �إىل املحيط‬ ‫الهندي‪.‬‬ ‫حاول الأمريكيون مواجهة هذا التمدد الإيراين باالعتماد على دول "االعتدال العربي"‬

‫(ال�سعودية وم�صر) لكنهما كانتا �أ�ضعف بكثري من حتقيق هذا الهدف‪ ،‬خ�صو�صاً يف ظل‬ ‫الدور ال�سوري امل�ؤثر‪ .‬من هنا كان �إدخال تركيا �إىل املعادلة العربية من بوابة العثمانية‬ ‫اجلديدة بغية �إقامة مثلث من ثالث عوا�صم "�سنية" هي �أنقرة والريا�ض والقاهرة ملواجهة‬ ‫التمدد الإيراين وبالتايل حما�صرة ال�صني ورو�سيا‪ .‬لكن كانت �سورية ت�شكل اخرتاقاً لهذا‬ ‫املثلث‪ ،‬وكان لزاماً بالتايل �إ�سقاط نظام الرئي�س ب�شار الأ�سد من �ضمن روزنامة ما ي�سمى‬ ‫بالربيع العربي‪ .‬لكن النظام يف �سورية مل ي�سقط وف�شلت املقاربات الأمريكية للمنطقة‬

‫‪1- Richard La Beviere, Al Tahawoul Al Kabir (The Great Transformation), (Baghdad‬‬‫‪Beirut: Dar Al Farabi, 2008), 92-93.‬‬ ‫‪24‬‬


‫ف�������������ك�������������ر‬

‫وبات على �إدارة �أوباما �إعادة تقييم �سيا�ساتها عرب عدد من العنا�صر‪ ،‬منها االعرتاف بالدور‬ ‫الإقليمي امل�ؤثر لإيران‪ 1.‬يف �أواخر العام ‪ 2010‬و�أوائل العام ‪ 2011‬اندلعت تظاهرات‬ ‫يف كل من تون�س وم�صر‪ ،‬تلتها تظاهرات يف ليبيا واليمن و�سورية‪ .‬ومنذ بداية الأزمة يف‬ ‫�سورية �أطلقت الواليات املتحدة وحلفا�ؤها‪ ،‬اململكة العربية ال�سعودية وقطر وتركيا‪ ،‬مواقف‬ ‫�ضد الرئي�س ال�سوري ب�شار الأ�سد‪ .‬يف املقابل �أعلنت وزارة اخلارجية الإيرانية �أن ما يجري‬ ‫‪2‬‬ ‫هو جزء من "م�ؤامرة غربية لزعزعة احلكومة ال�سورية التي تدعم املقاومة �ضد �إ�سرائيل"‪.‬‬ ‫وما لبثت احلكومة الإيرانية �أن �أعلنت معار�ضتها للتدخل الأجنبي يف ال�ش�ؤون ال�سورية‬ ‫وذلك رداً على التهديدات الغربية بالتدخل �ضد الرئي�س الأ�سد‪ 3.‬وقد عار�ض م�س�ؤولوها‬ ‫االتهامات الغربية بوجود قوات �إيرانية ت�ساعد قوات الأمن ال�سورية يف قمع املتظاهرين‬ ‫ال�سوريني‪ 4.‬وقد �ساهم املوقف الإيراين يف ت�شجيع رو�سيا وال�صني على دعم �سورية‪ .‬وقد‬ ‫متثل ذلك يف ا�ستعمالهما الفيتو مرات عدة �ضد م�شاريع قرارات دولية �ضد �سورية مقدمة‬ ‫من الغرب‪.‬‬ ‫خال�صة‬

‫يف ت�شرين �أول‪� /‬أكتوبر ‪ 2015‬عقد اتفاق فيينا حول الأزمة ال�سورية بح�ضور الواليات‬ ‫املتحدة و‪ 13‬دولة حليفة لها يف مقابل ح�ضور رو�سيا و�إيران‪ .‬وقد كان ح�ضور هذه الأخرية‬ ‫اعرتافاً بدورها الإقليمي لأول مرة بعد �أربعة عقود من الثورة الإ�سالمية وحماوالت‬ ‫الواليات املتحدة لعزلها‪ .‬وقد جاء ذلك بعد توقيع �إيران التفاق نووي مع الغرب وعدم‬ ‫متكن الواليات املتحدة وحلفائها من �إقناع طهران بوقف دعمها حلركات املقاومة يف‬ ‫لبنان وفل�سطني واليمن‪� ،‬إ�ضافة �إىل دعمها ل�سورية‪ .‬وتعترب الواليات املتحدة �أن هدفها‬ ‫اال�سرتاتيجي الأعلى هو يف منع �أورا�سيا من الو�صول �إىل �شرق املتو�سط وخ�صو�صاً �إىل‬ ‫�شرق املتو�سط والبحر الأحمر عرب �سورية و�إيران‪ .‬قد يكون هذا هو الذي دفع الغرب �إىل‬ ‫توقيع اتفاق مع �إيران ع�سى �أن ي�ؤدي ذلك �إىل �إبعادها عن رو�سيا وال�صني‪ .‬لكن الو�صول‬ ‫�إىل �شرق املتو�سط كان دائماً هو الهدف اال�سرتاتيجي لأي قوة حتكم اله�ضبة الإيرانية‪.‬‬ ‫‪ -1‬راجع موريال مرياك في�سباخ وجمال واكيم‪ ،‬ال�سيا�سة اخلارجية الرتكية جتاه القوى العظمى والبالد العربية منذ العام ‪( ،2002‬بريوت‪ :‬املطبوعات للتوزيع والن�شر‪)2014 ،‬‬ ‫‪ -2‬ال�سفري ‪ 13‬ني�سان ‪.2011‬‬ ‫‪ -3‬ال�سفري ‪ 10‬حزيران ‪.2011‬‬ ‫‪ -4‬ال�سفري ‪ 15‬حزيران ‪.2011‬‬ ‫‪25‬‬


‫فمن دون الو�صول �إىل �شرق املتو�سط ف�إن الغرب �سي�صبح ب�إمكانه عزل �إيران‪ ،‬ما قد ي�ؤدي‬ ‫�إىل انهيار النظام فيها عرب عملية تفجر داخلي ال عرب هجوم غربي خارجي‪ .‬لقد كان هذا‬ ‫هو �أحد �أهداف الغزو الأمريكي لأفغان�ستان ثم للعراق‪ .‬لكن الدعم الإيراين يبقى ثابتاً‬ ‫حتى الآن ل�سورية كما �أن عالقاتها مع ال�صني ال تزال وثيقة‪.‬‬

‫‪26‬‬


‫ف�������������ك�������������ر‬

‫املراجع‬

No Author، Israel Strikes in Syria kills Mughnyeh›s son، 6 others، the Daily Star، Jan. 18، 2015 at ■

http://www.dailystar.com.lb/News/Lebanon-News/2015/Jan18/284494-israeli-strike-on-golan-heights-targeted-hezbollahvehicle-kills-4-source.ashx (accessed on January 25، 2015) ■ Saeed Kamali Dehghan، During Monday night’s presidential debate،

Mitt Romney repeated a gaffe he has already made at least five times before، the Guardian October 23، 2012 at http://www.theguardian. com/world/iran-blog/2012/oct/23/romney-gaffe-syria-iran-routeto-sea (accessed on January 25، 2015) William McNell، History Handbook of Western civilization، (Chicago: Chicago university Press، 1953) ■

Fernand braudel، Memory and The Mediterranean، (New York: vintage books، 2002) ■

Pirohz Mojtahed’Zadeh، Iran: An Old Civilization and a New Nation State، Focus on Geography، Volunif 49، Number 4. ■

■ PATRICK

HENRY REARDON، Haran Junction، TOUCHSTONE | OCTOBER 2OO8 William Reitzel، The Importance of the Mediterranean، in Ernest jackh، background of the Middle East، New York: Cornell University Press، 1952 ■

‫ �صراع املمالك يف التاريخ ال�سوري القدمي ما بني الع�صر ال�سومري‬،‫■ عبد اهلل احللو‬ .،1999 ،‫ بي�سان‬:‫ بريوت‬،‫و�سقوط اململكة التدمرية‬ ■ John Sheldon، The Ethnic and Linguistic Identity of the Parthians: A

Review of the Evidence from Central Asia، Asian Ethnicity، Volume 27


7، Number 1، February 2006.

،‫ تاريخ ال�شعوب الإ�سالمية‬،‫■ كارل بروكلمان‬ .560 - 559 ‫ �ص‬،‫ تاريخ العرب‬،‫■ فيليب حتي‬ Bertold Spuler، The Mongol Period-History of the Muslim World، (Princeton: Markus Wiener Publishers، 2006). The Secret History of the Mongols، edited by Urgunge Onon، (London: Routledge، 2001 ■

■ roxann prazniak، Siena on the Silk Roads: Ambrogio Lorenzetti and

the Mongol Global Century، 1250–1350،J ournal of World History، Vol. 21، No. 2 © 2010 by University of Hawai‘i Press. ■ The Travels of Marco Polo the Venetian، edited by Thomas Wright.

Justin Marozzi، Tamerlane – Sword of Islam Conqueror of the World، (London: Harper Collins، 2004) ■

■ David

Blow، Shah Abbas-The Ruthless King who Became an Iranian Legend، (London: I.B. Tauris، 2009) ■ Kenneth M. Pollack، The Persian Puzzle: The Conflict Between Iran

and America، (New York: Random House، 2004). ■

Richard La Beviere، Al Tahawoul Al Kabir، (Beirut: Dar Al Farabi،

2008).

‫ ال�سيا�سة اخلارجية الرتكية جتاه القوى العظمى‬،‫■ موريال مرياك في�سباخ وجمال واكيم‬ .)2014 ،‫ املطبوعات للتوزيع والن�شر‬:‫ (بريوت‬،2002 ‫والبالد العربية منذ العام‬

28


‫ف�����������������ك�����������������ر‬

‫م�أزق العروبة‬

‫بني املنازعات الأهلية والقومية االجتماعية‬ ‫د‪ .‬عاطف عط ّيه ‪ -‬باحث و�أ�ستاذ جامعي‬

‫يتح�صل على �أر�ض العامل العربي من �أحداث‪ ،‬ح�صلت وحت�صل‬ ‫ي�شي عنوان هذه الدرا�سة مبا ّ‬ ‫من حميطه �إىل اخلليج‪ .‬وهي �أحداث ما زالت تت�صاعد بوترية مت�سارعة منذ ما قبل انهيار‬ ‫ال�سلطنة العثمانية‪ ،‬ومنذ اللحظة التي �آذنت بها الدول الأوروبية بالإفراج عن خطة التفاهم‬ ‫بني احللفاء على اقت�سام مغامن احلرب الكونية الأوىل‪ ،‬وعن كيفية التعامل مع اخلا�سرين من‬ ‫دول املحور‪ .‬وكان من �ضمن اخلطة هذه‪ ،‬كيفية الإيفاء بالوعود التي �أغدقت على املتعاملني‬ ‫معها من القوى االقليمية العربية التي ع ّولت عليها الكثري يف تنفيذ كل ما يتعلق ب�سري‬ ‫املعارك يف �أر�ض غريبة‪ .‬وهي تدرك �أن ذلك لن يتم على الوجه ال�صحيح �إال عند اقتناع‬ ‫القوى العربية‪ ،‬وعلى ر�أ�سها ال�شريف ح�سني‪ ،‬بجدوى التعامل للو�صول �إىل اال�ستقالل عن‬ ‫الدولة العثمانية �إذا خ�سرت احلرب‪ ،‬و�إن�شاء اململكة العربية الكربى بدي ًال عن ال�سلطنة‪،‬‬ ‫وعلى ر�أ�سها خادم احلرمني ال�شريفني احل�سني‪ ،‬ومن ثم �أوالده من بعده‪ .‬وكان الأمر كله‬ ‫معتمداً على الوعود والآمال لتحقيق هذا املك�سب الآين عن طريق ر�سم حدود الدولة‬ ‫العتيدة‪ ،‬دون و�ضوح يف التكتيك‪ ،‬وال يف اال�سرتاتيجية العربية‪ ،‬لكيف ّية الو�صول �إىل هذه‬ ‫املرحلة وتثبيتها‪.1‬‬ ‫اخلديعة الكربى‬

‫كانت جمريات احلرب تفر�ض على العرب واحللفاء التعاون يف �شكل مبا�شر‪ ،‬وبو�ساطة مندوبني‬ ‫�سيا�سيني يعملون على و�ضع �سيا�سة الفرن�سيني واالنكليز مو�ضع التنفيذ يف املنطقة العربية‬ ‫باحلوار مع ممثلي العرب‪ ،‬وخ�صو�صاً ال�شريف ح�سني‪ .‬وقد برز من ه�ؤالء �إثنان من الإنكليز‪.‬‬ ‫‪� . 1‬أنظر حول بدايات احلوار بني ال�شريف ح�سني واالنكليز ما كان ي�أمله الأول‪ ،‬باعتباره ميثل كل العرب‪ ،‬ونظرة امل�س�ؤولني‬ ‫الإنكليز �إليه‪:‬‬ ‫ �سليمان مو�سى‪ ،‬احلركة العربية‪ ،‬الطبعة الثانية‪ ،‬دار النهار للن�شر‪ ،1977 ،‬بريوت‪� ،‬ص �ص‪.214 - 201‬‬‫‪29‬‬


‫�إذ متثلت هذه ال�سيا�سة ع�سكرياً يف ال�ضابط الإنكليزي لورن�س‪ 1‬الذي تت ّبع املعارك عن كثب‪،‬‬ ‫وقاد بع�ضها برفقة الأمري في�صل‪ ،‬ليكون على �إطالع مبا�شر ب�سري �أمور احلرب يف اجلزيرة �ضد‬ ‫العثمانيني‪ ،‬بعد �إعالن الثورة‪ّ ،‬‬ ‫وليطلع قيادته على امل�ستجدات �أو ًال ب�أول‪� .‬أما ال�سيا�سة مبعناها‬ ‫الدبلوما�سي فقد متثلت بال�سري ماكماهون‪ ،‬الذي كان عليه‪ ،‬من خالل املرا�سالت‪� ،‬أن ي�ؤكد‬ ‫على م�ساعدة االنكليز لل�شريف ح�سني يف حتقيق اال�ستقالل‪ ،‬و�أن يقنعه يف الوقت نف�سه ب�أن‬ ‫ثمة منطقة يف امل�شرق ال تعترب عربية باملعنى ال�صحيح‪ ،‬وميكن �أن يكون لها تدبري خا�ص ال‬ ‫يدخل �ضمن الوعود االنكليزية يف ر�سم حدود الدولة العربية املوعودة‪ .2‬وقد ظهر‪ ،‬من بعد‪،‬‬ ‫�أن هذا التدبري كان يحمل يف طياته �سراً خطرياً‪ ،‬عملت الثورة البل�شفية‪ ،3‬ومن ثم ال�شيوعية‪،‬‬ ‫على ك�شفه قبل نهاية احلرب‪ ،‬يف العام ‪ ،1917‬من �ضمن لعبة الأمم‪ ،‬وللتفتي�ش عن مواقع نفوذ‬ ‫يف العامل لدولة فتية بنظامها اجلديد‪ ،‬وقبل تنفيذ �أي من الوعود املعطاة �إىل العرب‪ .‬متثل هذا‬ ‫ال�سر بوعد احلكومة الإنكليزية لليهود ب�إن�شاء وطن قومي لهم يف فل�سطني‪.4‬‬ ‫االعتبارات الأهلية‬

‫يف هذا اجلو املليء باملخادعة والرياء‪ ،‬مت االتفاق ال�شفوي غري امللزم بتعيني ال�شريف ح�سني‬ ‫ملكاً على البلدان العربية امل�ستقلة عقب انتهاء احلرب‪ .‬وكان �أن �أخلف احللفاء بوعودهم‪،‬‬ ‫و�أنهوا الدولة العربية املقامة يف امل�شرق على يد امللك في�صل‪ ،‬بعد هزمية اجلي�ش العربي يف‬ ‫مي�سلون‪ ،‬عندما تك�شّ فت اخلطة بتق�سيم البالد ال�سورية بني الفرن�سيني واالنكليز‪ ،‬ح�سب‬ ‫ما قررته اتفاقية �سايك�س بيكو (�أيار ‪ .)1916‬وقد ظهر يف خ�ضم هذه الأحداث وعد بلفور‬ ‫الذي �أعطى لغريه ما ال ميلكه (ت�شرين الثاين ‪ .)1917‬وجتلى اخلداع ب�أو�ضح معانيه‪ ،‬على‬ ‫�شكل �إذاعة �أ�سرار العالقات الدولية من قبل طرف ثالث‪ .‬وتبني �أن العرب كانوا اخلا�سرين‪،‬‬ ‫‪ . 1‬للتف�صيل حول دور لورن�س يف اجلزيرة العربية و�إ�شرافه املبا�شر على �سري املعارك �ضد القوات العثمانية‪� ،‬أنظر ‪:‬‬ ‫ ت‪� .‬أ‪ .‬لورن�س‪� ،‬أعمدة احلكمة ال�سبعة‪ ،‬دار الآفاق اجلديدة‪ ،‬الطبعة الرابعة‪ ،1980 ،‬بريوت‪� 402 ،‬ص‪.‬‬‫‪� . 2‬أنظر للتف�صيل حول تبادل الر�سائل بني ال�شريف ح�سني ومكماهون‪� ،‬إبان احلرب العاملية الأوىل‪:1916 - 1915 ،‬‬ ‫ زين نور الدين زين‪ ،‬ال�صراع الدويل يف ال�شرق الأو�سط‪ ،‬دار النهار للن�شر‪ ،1971 ،‬بريوت‪� ،‬ص �ص‪.76 - 60‬‬‫‪ . 3‬حول ظروف ك�شف بنود معاهدة �سايك�س بيكو‪ ،‬ووعد بلفور‪ ،‬وال�ضجة ال�سيا�سية التي �أثريت يف حينه‪� ،‬أنظر‪:‬‬ ‫ زين‪ ،‬ال�صراع الدويل يف ال�شرق الأو�سط‪ ،‬مذكور �سابقاً‪� ،‬ص‪.75 - 74‬‬‫‪ . 4‬حول ن�ص هذا الوعد‪ ،‬والظروف التي �أدت �إىل و�ضعه‪� ،‬أنظر‬ ‫ مو�سى‪ ،‬احلركة العربية‪ ،‬مذكور �سابقاً‪� ،‬ص �ص‪.370 364-‬‬‫‪30‬‬


‫ف�������������ك�������������ر‬

‫واليهود كانوا �أكرث الرابحني‪ ،‬وا�ستلمت فرن�سا وبريطانيا �ش�ؤون البالد ال�سورية يف ق�سمة متفق‬ ‫عليها م�سبقاً‪ .‬وكان �أن �أ�صبح لبنان "كبرياً" ب�ضم امللحقات مع �أرجحية حكم للموارنة من‬ ‫امل�سيحيني‪ .‬ووجد العرب �أنف�سهم يف موقع اخلا�سرين على كل اجلهات‪� .‬أر�ض ُ�سلبت‪ ،‬على‬ ‫تق�سمت حتت �سيطرة ا�ستعمار‬ ‫�شكل وعد‪ ،‬قبل �أن ينتزعها اليهود من �أيدي العرب؛ و�أر�ض ّ‬ ‫مبا�شر‪ .‬ومل يحز ال�شريف ح�سني و�أوالده �إال على ق�سم من الوعد بعد الهزمية املنكرة جلي�ش‬ ‫في�صل‪ .1‬وما كان تنفيذ هذا الق�سم من الوعد �إال تثبيتاً لأمر واقع يف حكم وراثي ال يقدم‬ ‫�شيئاً خارج املنطق القبلي الذي ما زال م�ستمراً منذ �أزمنة مغرقة يف القدم‪ ،‬ومل ي�صبه �شيء‬ ‫من التغري‪� ،‬إال يف تبعية القبائل ال�صغرى للقبائل الأكرب والأقوى‪ .‬فانح�سرت‪ ،‬بذلك‪ ،‬قدرة‬ ‫ال�سلطة الواحدة‪ ،‬وانق�سمت �إىل �سلطات‪ ،‬وتوزعت بني حوا�ضر العرب و�صحرائهم يف اجلزيرة‬ ‫العربية ومناطق اخلليج‪ ،‬و�إن بقيت جميعها حتت �سيطرة اقت�صادية و�سيا�سية لقوى ودول‬ ‫كربى مت�أتية من خارج املنطقة‪ ،‬ومن خارج العرب‪.‬‬ ‫كان على عموم العرب‪ ،‬يف كل �أطيافهم وحوا�ضرهم وانتماءاتهم‪ ،‬ولغياب الر�ؤيا واال�سرتتيجية‪،‬‬ ‫�أن يتعاملوا مع املتغريات الدولية‪ ،‬والتحوالت ال�سيا�سية‪ ،‬باالنفعال وردود الأفعال جتاه ما‬ ‫يح�صل من �أحداث‪ ،‬وعلى امل�ستويات كافة‪ .‬وما كان لهم �أن يدركوا بالتمام ما كان يح�صل‪،‬‬ ‫وال ما عليهم �أن يفعلوا �إال املطالبة باال�ستقالل‪ ،‬وتر�سيم احلدود‪ ،‬وتثبيت مواقع احلكم‪ ،‬وطلب‬ ‫امل�ساعدات‪ .‬ويف ظل الإحلاح على تكرار هذه املطالب‪ ،‬والأمية الثقافية‪ ،‬واالنغالق على‬ ‫الن�صي الذي ي�ستمد معارفه‬ ‫معارف الع�صر وعلومه‪ ،‬كانوا يت�صرفون مبا ميليه عليهم العقل ّ‬ ‫وتطبيقاته العملية من ن�صو�ص القر�آن‪ ،‬ومن الت�شريعات الدينية التي تو�صي ب�إطاعة �أويل‬ ‫الأمر‪ ،‬وامل�سري مبا يقت�ضيه ال�شرع‪ ،‬ومبا ميليه على امل�ؤمنني من �أمور الطاعة واالقتداء بال�سلف‬ ‫ال�صالح‪ ،‬على اعتبار �أنهم يدركون م�صالح امل�ؤمنني‪ ،‬ويعملون مبا يو�صل �إىل ن�صرة الإ�سالم‬ ‫وامل�سلمني‪.‬‬ ‫يقول زين يف هذا املجال‪� ،‬إن الق�ضية العربية مل تكن معروفة يف القرن التا�سع �شر‪ ،‬حتى �أن‬ ‫عرب الدولة العثمانية مل يكونوا معروفني بهذا الإ�سم‪ .‬وكان العرب والأتراك معروفني با�سم‬ ‫‪ . 1‬حول ال�سباق بني امللك في�صل والقوات االنكليزية لل�سيطرة على دم�شق وبريوت وغريهما لإعالن مملكة في�صل‬ ‫وت�صدي االنكليز لها‪� ،‬أنظر الرواية املمتعة لهذه املرحلة‪ ،‬يف‪:‬‬ ‫ خالد زيادة‪ ،‬حكاية في�صل‪ ،‬دار النهار للن�شر‪ ،1999 ،‬بريوت‪�208 ،‬ص‪.‬‬‫‪31‬‬


‫االخوان يف الدين‪ ،‬وباعتبارهم م�سلمني قبل �أي �شيء �آخر‪ .1‬وي�سند كالمه ب�أمثلة م�ستقاة‬ ‫من م�صادر �إ�سالمية و�أجنبية؛ منها ما يقوله عبد الرحمن ع ّزام يف هذا اخل�صو�ص‪" :‬امل�ؤمنون‬ ‫يف جميع �أطراف الأر�ض �إخوان ال تف ّرقهم الأوطان وال الع�صبيات وال املذاهب وال املنافع‬ ‫وال اخلوف وال املنعة وال العبودية وال �سبب من الأ�سباب‪ .‬للم�سلم حق الأخ ّوة على امل�سلم‬ ‫�أينما ّ‬ ‫حل و�أينما كانت الدار فال جن�سية غري اجلن�سية امل�شرتكة التي يكفي لثبوتها �شهادة �أن‬ ‫ال �إله �إال اهلل و�أن حممداً ر�سول اهلل‪ ..‬والدعوة املحمدية ال تعرف الوطنية والعن�صرية باملعنى‬ ‫احلديث‪ ،‬فوطن امل�سلم لي�س له حدود جغراف ّية‪ ،‬فهو ميتد مع العقيدة‪ ،‬بل هو يف احلقيقة‬ ‫وطن معنوي كما �أن الدين �أمر معنوي وامل�سلم �أخو امل�سلم �إينما كان‪ ،‬جاوره �أم تباعدت به‬ ‫الأر�ض‪ ،‬وامل�سلم �أينما حل يف دولة �إ�سالمية فقد ّ‬ ‫حل يف وطنه"‪.2‬‬ ‫هذا ما دعا عموم امل�سلمني �إىل ال�سكوت‪ ،‬و�إن على م�ض�ض‪ ،‬عن م�سالك ال�شريف ح�سني‬ ‫وجي�شه الذي نا�صر غري امل�سلمني �ضد اخلالفة والدولة اال�سالمية التي تعمل على ن�صرة‬ ‫اال�سالم وامل�سلمني‪ ،‬و�إن �شابها نوع من ال�ضعف واالنحالل‪ .‬وقد عبرّ عن هذه املفارقة زين‬ ‫نور الدين زين بقوله‪" :‬من املمتع �أن ن�شري �أن ثورة ال�شريف ح�سني �ضد ال�سلطان الذي هو‬ ‫�أي�ضاً خليفة امل�سلمني نزلت كال�صاعقة على كثريين من امل�سلمني ال�سنيني يف جميع �أنحاء‬ ‫العامل‪ ،‬وال�سيما بني م�سلمي الهند"‪.3‬‬ ‫و�إذا اعتمد ه�ؤالء على االجتهاد الفقهي الذي يق�ضي ب�أن ال�ضرورات تبيح املحظورات‪ ،‬ف�إن‬ ‫هذا التوجه له ما يربره �إذا كان يف �سبيل الو�صول �إىل مرحلة �أف�ضل من تلك التي �سمحت‬ ‫ب�إباحتها‪� .‬إال ان ما ح�صل‪� ،‬أظهر مدى اخل�سارة التي ُمني بها العرب‪ ،‬وعلى كل الأوجه‬ ‫واالحتماالت التي كانوا ي�أملون منها يف الو�صول �إىل اال�ستقالل والوحدة‪ ،‬حتت راية عربية‬ ‫واحدة مبا يع ّز العرب وامل�سلمني‪.‬‬ ‫االنتماء الأهلي للعرب‪ ،‬وطاعتهم لأوليائهم �أ�ضاعا عليهم حما�سبة امل�س�ؤولني عن هذه‬ ‫‪ . 1‬زين نور الدين زين‪ ،‬ن�شوء القومية العربية‪ ،‬الطبعة الثانية‪ ،‬دار النهار للن�شر‪ ،1972 ،‬بريوت‪� ،‬ص‪.43‬‬ ‫‪ . 2‬هذه الفقرة مقتب�سة من كتاب عبد الرحمن عزام‪" ،‬الر�سالة اخلالدة" الذي �صدر يف القاهرة عام ‪� ،1946‬أي بعد عام‬ ‫واحد على ن�ش�أة اجلامعة العربية‪ ،‬وكان هو نف�سه‪� ،‬أميناً عاماً لها منذ ت�أ�سي�سها العام ‪� 1945‬إىل ‪� .1952‬أنظر يف هذا اخل�صو�ص‪:‬‬ ‫بحق �أن‬ ‫ امل�صدر نف�سه‪� ،‬ص‪ .44 43-‬وكذلك يقتب�س زين عن ر�شيد ر�ضا يف املعنى نف�سه‪ ،‬وعن جب وبوون اللذين اعتربا ّ‬‫االنتماء لدى امل�سلمني ال�س ّنة وغريهم من رعايا ال�سلطنة مل يكن �إال انتماء دينياً‪ ،‬امل�صدر نف�سه‪� ،‬ص‪.44‬‬ ‫‪ . 3‬زين‪ ،‬ال�صراع الدويل يف ال�شرق الأو�سط‪ ،‬مذكور �سابقاً‪� ،‬ص‪.72 - 71‬‬ ‫‪32‬‬


‫ف�������������ك�������������ر‬

‫اخل�سارة‪ .‬والتفتوا من بعد‪� ،‬إىل تدبري �أمورهم مبا هو متوفّر‪ ،‬ومبا ميكن احل�صول عليه يف عالقاتهم‬ ‫مع قوى عظمى ال حول لهم يف مواجهتها وال قوة‪ .‬فتهافتوا على ركوب املوجة احلديثة يف‬ ‫التعاطي مع �ش�ؤون احلكم واالفادة من مغامنه‪ .‬وذلك مل يكن من �أجل �أن يعملوا على ما‬ ‫ميكن �أن يع ّو�ض اخل�سارة بعد انتهاء احلرب‪ ،‬بل من �أجل بناء مواقع �سلطة جديدة‪ ،‬ت�أخذ‬ ‫ير�سخ ال�سلطة‪ ،‬وي�ؤ ّمن‬ ‫من عنا�صر الدولة احلديثة �صورها ورموزها‪ ،‬وتعمل عليها ما ميكن �أن ّ‬ ‫اال�ستمرارية يف احلكم‪ ،‬يف �شكل ال يختلف عن الوراثة القبلية‪� ،‬أو الذهنية التي حتكم من‬ ‫خاللها الدولة‪ ،‬كما يحكم �شيخ القبيلة �أتباعه ومريديه‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫واملتعكر مبزاج ّية امل�ستعمرين‪ ،‬واحلكام املحليني‪ ،‬وامل�ستفيدين من‬ ‫يف هذا اجلو امل�شحون‪،‬‬ ‫التح ّوالت التي ح�صلت على غري ما كان ي�أمل العرب‪ ،‬وعلى غري ما كان يتوقع من يعتربون‬ ‫وعمت البلبلة‪ .‬فعمل اجلميع‪،‬‬ ‫�أنف�سهم من غري العرب‪ ،‬اختلطت الأمور وت�ضاربت امل�صالح‪ّ ،‬‬ ‫عرباً‪ ،‬وغري عرب‪ ،‬على قدر ما يعتقدون‪ ،‬يف توجهات خمتلفة‪ ،‬ومتناق�ضة‪� ،‬آخذين من االنتماء‬ ‫الديني واملذهبي والعن�صري والعرقي واملناطقي و�سائل التوجه واملطالبة‪ٌّ .‬‬ ‫وكل يريد دولة‬ ‫على مقا�سه‪ ،‬و�أر�ضاً خم�صو�صة‪ ،‬وحكاماً على �أديان رعاياهم‪ ،‬ورعايا ميتثلون حلكامهم باملَونة‬ ‫الأهلية‪ ،‬دينية كانت �أو مذهبية �أو طائفية‪� ،‬أو مناطقية‪ .‬وتزايد اجلهر باالنتماء الأهلي‪ ،‬وعمل‬ ‫اجلميع على زيادة التوتري واالنق�سام‪ ،‬و�شحن النفو�س‪ .‬وا�ستعجل اجلميع تظهري ما كان ير�سم‬ ‫يف اجلل�سات املغلقة‪ ،‬ليعرفوا على �أي وجه يقيموا �صلواتهم‪ .‬والق ّيمون على الأمور‪ٌ ،‬‬ ‫كل يف‬ ‫ميدان �سطوته‪ ،‬يرون‪ ،‬يف ذلك‪ ،‬امل ّربر الأ�سا�سي للتعمق يف هيمنتهم‪ ،‬واال�ستزادة من �شد‬ ‫قب�ضاتهم على البالد والعباد‪.‬‬ ‫ي�شد العواطف ويزيد االنفعال للتوغل �أكرث يف االنتماءات الأهلية‪،‬‬ ‫هذا اجلو العام بطبيعته‪ّ ،‬‬ ‫دون اعتبار ملا ميكن �أن يكون م�شرتكاً يف عملية االنتماء‪ .‬ذلك �أن هذا االنتماء امل�شرتك مل‬ ‫يكن متبلوراً بعد‪ ،‬كما �أن �إمكانية وجوده ّ‬ ‫تغطت بطبقة �سميكة من االعتبارات املللية التي‬ ‫�أورثتها ال�سلطنة العثمانية لرعاياها‪ ،‬على �أن تكون امل ّلة الإ�سالمية ال�سن ّية على ر�أ�س هذا‬ ‫الهرم الذي يتك ّون من �أعاله �إىل قاعدته برتاتب م ّلي‪ ،‬للعدد فيه الأولوية‪ .‬وقد �أعطى نظام‬ ‫املبجل فيها‪� -‬سلطته الروحية‪،‬‬ ‫امللل لكل ر�أ�س يف م ّلته ‪ -‬وهو بطبيعة احلال رجل الدين ّ‬ ‫والزمنية مبا يرتئيه هو بذاته ك�صاحب �سلطة‪ .‬واعتربه النظام‪ ،‬باال�ضافة �إىل ذلك‪� ،‬صلة الو�صل‬ ‫‪33‬‬


‫مع ال�سلطة احلاكمة‪ ،‬من الوايل �إىل الباب العايل‪ .1‬وعليه‪ ،‬كان ال ّبد لهذا التوجه �أن يكون‬ ‫هو ال�سائد‪� ،‬إن كان يف نظرة الراعي �إىل الرعايا‪� ،‬أو يف نظرة الرعايا �إىل الراعي‪ .‬وما كان ثمة‬ ‫توجه غري هذا التوجه‪.‬‬ ‫�إمكانية لوجود ّ‬ ‫ما يعطي لهذا الكالم �صدق ّيته وواقع ّيته هو �أن بداية ن�شوء الدول امل�شرقية‪ ،‬وعلى يد الدولة‬ ‫الفرن�سية العلمانية‪ ،‬كان على �أ�سا�س مذهبي ديني‪ ،‬بعد ت�صنيفها لهذه الدول على النهج‬ ‫الذي كان متداو ًال‪ :‬دولة للعلويني ودولة للدروز ودولة فيها �أرجحية للموارنة يف احلكم‪ ،‬مع‬ ‫تو�سعة لأرا�ضي اجلبل‪ 2‬ما لبثت �أن قلبت املعادلة‪ ،‬ودولة لليهود كانت بد�أت تت�شكل عقب‬ ‫انتهاء احلرب العاملية الأوىل وازدياد الهجرة �إىل فل�سطني‪ .‬وهي الهجرة املمنهجة مبنظماتها‬ ‫االرهابية العاملة على تو�سيع مناطق نفوذها على ح�ساب مالكيها الفل�سطينيني‪ .‬نظام دقيق‬ ‫من التربعات وعمليات ال�شراء والإ�ستيطان‪ ،‬باال�ضافة �إىل الإرهاب وبيع الأرا�ضي والتهجري‬ ‫الق�سري‪ .‬ذلك كله‪ ،‬والقادة العرب غافلون‪ .‬فكانت النتيجة ت�ضاداً ثنائياً بني هجرة يهودية‬ ‫�إىل فل�سطني من كل مكان يف العامل‪ ،‬وتهجري فل�سطيني �إىل كل بقاع العامل‪ ،‬هذا �إذا وجد‬ ‫الفل�سطينيون من ي�ستقبلهم يف بالد غري بلدهم‪.‬‬ ‫مل يكن االنتماء الأهلي �إال �إنتاجاً لواقع اجتماعي تاريخي عمل على ا�ستعمال هذا‬ ‫االنتماء ب�صيغته الأهلية‪ ،‬وبالعاطفة التي تنتجها مثل هذه ال�صيغة‪ .3‬وحت ّولت العاطفة‬ ‫العربية‪ ،‬باعتبار الدين واللغة وامل�شاعر املت�شكلة من تاريخ طويل من التك ّيف‪� ،‬أو املعاناة‪،‬‬ ‫مع احلاكمني من غري العرب‪ّ ،‬‬ ‫لت�شكل يف جمموعها رابطة عاطفية م�شرتكة‪ .‬وقد ظهرت‬ ‫�أول ما ظهرت‪ ،‬على ل�سان وحتت �أقالم رجال عرب‪ ،‬وج ّلهم من امل�سيحيني‪ ،‬لتكون‬ ‫هذه الرابطة ال�سند والدافع �إىل املطالبة باال�ستقالل عن ال�سلطنة العثمانية‪ .‬وقد تزامن‬ ‫‪ . 1‬حول نظام امللل العثماين‪ ،‬وكيفية �إدارة ال�سلطنة العثمانية لبالد مرتامية الأطراف من خالل انتماءات �أهاليها الدينية‬ ‫واملذهبية‪� ،‬أنظر‪:‬‬ ‫ م�سعود �ضاهر‪ ،‬اجلذور التاريخية للم�س�ألة الطائفية اللبنانية‪ ،‬معهد االمناء العربي‪ ،1981 ،‬بريوت‪� ،‬ص �ص‪.283 - 280‬‬‫‪ . 2‬حول تق�سيم �سوريا �إىل �أربع دويالت‪ ،‬واحدة للعلويني وواحدة للدروز و�إثنتني لل�س ّنة يف دم�شق وحلب‪ ،‬واقتطاع جزء‬ ‫منها و�إحلاقه بجبل لبنان ومن ثم احتاد ثالث منها دون دولة الدروز بناء على رغبة منهم (‪ ،)1925 - 1922‬و�إنفجار الثورة من‬ ‫جبل الدروز بقيادة �سلطان با�شا الأطر�ش (‪� ،)1925‬أنظر‪:‬‬ ‫ يو�سف احلكيم‪� ،‬سورية واالنتداب الفرن�سي‪ ،‬دار النهار للن�شر‪ ،1983 ،‬بريوت‪� ،‬ص �ص‪� .126 - 42‬أنظر �أي�ضاً‪:‬‬‫ حممد هوا�ش‪ ،‬تك ّون جمهورية‪� ،‬سورية واالنتداب‪ ،‬من�شورات ال�سائح‪ ،2005 ،‬طرابل�س‪ ،‬لبنان‪� ،‬ص �ص‪ .122 - 67‬وما بعد‪.‬‬‫‪ . 3‬للتف�صيل حول موا�صفات املجتمع الأهلي وانتماءاته‪� ،‬أنظر‪:‬‬ ‫ عاطف عطيه‪ ،‬الدولة امل�ؤجلة‪ ،‬دار �أمواج ومكتبة بيب�سان‪ ،2000 ،‬بريوت‪� ،‬ص �ص‪.130 - 123‬‬‫‪34‬‬


‫ف�������������ك�������������ر‬

‫جلي ووا�ضح من قبل املفكرين امل�سلمني بوجوب العمل على‬ ‫هذا التوجه‪ ،‬مع اهتمام ّ‬ ‫التغيري‪ ،‬دون �أن يعني ذلك التخل�ص من ال�سلطنة العثمانية‪ .‬ذلك �أن ه�ؤالء كانوا يريدون‬ ‫�إ�صالحها من خالل املطالبة بالالمركزية‪ ،‬والإلتفات �أكرث �إىل البلدان العربية‪ ،‬و�إىل تو�سيع‬ ‫م�شاركتهم يف حكم الدولة‪ ،‬وخ�صو�صاً يف الواليات العربية‪ ،‬و�إىل زيادة االعتبار لهم‪،‬‬ ‫كعرب‪ .‬ومل تتغري نظرة العرب امل�سلمني �إىل الدولة العثمانية �إال بعد �أن تغريت نظرة هذه‬ ‫�إىل نف�سها‪� ،‬أو ًال‪ ،‬ومن ثم �إىل العرب ثانياً‪ .‬ذلك �أن جمعية االحتاد والرتقي قلبت توجه‬ ‫الأتراك اال�سالمي‪ ،‬ودعت �إىل القومية الرتكية‪ ،‬و�إىل اعتبار العرب من الدرجة الثانية‬ ‫يف تبع ّيتهم‪ ،‬ويف نظرة الدولة �إليهم‪ .‬فا�ستخل�ص العرب من ذلك‪� ،‬أن الأتراك ابتعدوا‬ ‫عن اال�سالم‪ ،‬واقرتبوا من القومية الطورانية‪ .‬وهذا بحد ذاته‪ّ ،‬‬ ‫ي�شكل غربة عن اال�سالم‬ ‫وامل�سلمني‪ ،‬و�إن بقوا يف ت�أ�سي�سهم ل�سلطتهم احلديثة يتكئون على اخلالفة الإ�سالمية‬ ‫ونهجها‪ ،‬و�إن كان �صورياً‪.‬‬ ‫هذا ما دعا العرب �إىل االبتعاد عن الأتراك‪ .‬فتوغلوا يف جمافاتهم �إىل �أن و�صل الأمر �إىل‬ ‫حماربتهم من قلب اجلزيرة العربية‪ ،‬ومن بعد‪ ،‬من كل مكان يف البلدان العربية يدين‬ ‫بالوالء �إىل خادم احلرفني ال�شريفني‪ .‬هنا‪ ،‬ولأن الدعوة �إىل القومية العربية كانت �سيا�سية يف‬ ‫الأ�سا�س‪ ،‬ر�أى العرب امل�سيحيون �أن املطالبة بها مل تعد ذات �ش�أن‪ ،‬بالن�سبة �إليهم‪ ،‬عندما‬ ‫تب ّناها امل�سلمون باعتبارها ق�ضيتهم يف مواجهة الأتراك الطورانيني‪ .‬ووجد ه�ؤالء �أنف�سهم يف‬ ‫ورطة �سيا�سية‪ .‬ذلك �أنهم ا�ستنتجوا �أن مطالبتهم بالقومية العربية �ستنقلهم على يد امل�سلمني‬ ‫املطالبني بها‪� ،‬إىل موقع �آخر �أكرث ت�أثرياً على وجودهم‪ .‬ما يعني �أنهم �سيتخل�صون من الدب‬ ‫الرتكي‪ ،‬يف حال جناح الثورة العربية‪ ،‬ليقعوا يف اجلب العربي‪ ،‬ومن ثم ال�ضياع جمدداً يف‬ ‫بحر متالطم من امل�سلمني‪ ،1‬وبن�سبة عددية ال تقا�س بها ن�سبتهم‪ ،‬وحتى ن�سب الأقليات غري‬ ‫ال�س ّنية معهم‪ .‬ووجدوا �أن االنتقال من نظام يعطيهم حقوقهم وا�ستقالهم الذاتي مبوجب نظام‬ ‫امللل‪� ،‬إىل �أكرثية من العرب امل�سلمني ال�س ّنة‪ ،‬ورمبا غري العرب منهم‪ ،‬لن ُيبقي على �شي مما‬ ‫كان ب�أيديهم من النفوذ �أو ال�سلطة‪.2‬‬ ‫‪ . 1‬كمال ال�صليبي‪ ،‬تاريخ لبنان احلديث‪ ،‬الطبعة ال�سابعة‪ ،‬دار النهار للن�شر‪ ،1991 ،‬بريوت‪� ،‬ص �ص‪.203 - 201‬‬ ‫‪ . 2‬حول بدايات الت�صرف مبا يوحي بتطبيق ال�شريعة الإ�سالمية يف احلكم‪ ،‬وخوف امل�سيحيني من هذه امل�س�ألة‪� ،‬أنظر‪:‬‬ ‫ وجيه كوثراين‪ ،‬االجتاهات االجتماعية يف لبنان وامل�شرق العربي‪ ،‬معهد االمناء العربي‪ ،1976 ،‬بريوت‪� ،‬ص‪.277‬‬‫‪35‬‬


‫املنازعات الأهلية‬

‫حتول الن�ضال ال�سيا�سي‪ ،‬نتيجة لهذه االعتبارات‪ ،‬من املناداة بالقومية العربية‪� ،‬إىل املناداة‬ ‫بالقومية اللبنانية‪ .‬وحتولت الإيديولوجيا ال�سيا�سية من التفتي�ش عما يدعم العروبة باعتبارها‬ ‫حاملة لأ�صناف العرب جميعاً‪� ،‬إىل لبننة خمت�صة بامل�سيحيني‪ .‬وحتولت العروبة التي متخ�ضت‬ ‫عن العثمنة ورف�ضت الترتيك‪� ،‬إىل موقع جديد وجد اللبننة مقابله‪ ،‬وعلى الوجه النقي�ض‪ .‬ويف‬ ‫املوقعني‪ ،‬عمل املنتمون على بلورة �إيديولوجيا �سيا�سية لكل منهما‪ .‬وبقي العمل حم�صوراً يف‬ ‫توجهه ال�سيا�سي يف املوقعني‪ ،‬ومل ي�صل �أي منهما �إىل بلورة م�ضمونهما العقدي‪ ،‬وفكرهما‬ ‫احل�ضاري‪ ،‬لت�ستوعب كل املنتمني �إىل دنيا العرب‪� ،‬أو �إىل دنيا لبنان‪ .‬وعمل مفكرو املوقعني‬ ‫جهدهم لإيجاد العقيدة التي ميكن �أن جتمع‪ ،‬فلم يجدوا �إال الآمال والأماين املنتمية �إىل‬ ‫احلقل الأهلي‪� ،‬إن كان يف �أمور الدين �أو الدنيا‪ .1‬وظهر الأمر على و�ضوح �شديد ال�سطوع‪:‬‬ ‫مت ُ‬ ‫َو�ضع العروبة املحمولة من امل�سلمني‪ ،‬وال�س ّنة منهم على اخل�صو�ص‪ ،‬يف املوقع املقابل ل ّلب َن َنة‬ ‫املحمولة من امل�سيحيني اللبنانيني‪ ،‬واملوارنة منهم على اخل�صو�ص‪ ،‬وعلى �أمل �أن ين�ضم �إليها‬ ‫من يرى ذلك موجباً من امل�سيحيني يف البلدان املحيطة‪.‬‬ ‫مل يكن اخلالف على الوجه الثنائي النقي�ض بني العروبيني واللبنانيني‪� ،‬أو بني امل�سلمني‬ ‫وامل�سيحيني‪� ،‬إال باعتباره وجهاً من وجوه اخلالف بني العن�صرين املت�أتيني من ال�صراع العربي‬ ‫الرتكي املخلوق للتدليل على �أحقية العرب يف حكم �أنف�سهم باال�ستقالل الالزم‪ ،‬واحل�ضور‬ ‫املميز لدنيا العرب يف العامل‪.‬‬ ‫هذا التوجه فر�ضه تاريخ العرب وح�ضارتهم املحمولة بالل�سان العربي املبني وبالدين العربي‬ ‫الذي انطلق من اجلزيرة العربية �إىل العامل‪ ،‬ومما �أوجدته هذه احل�ضارة من �صنوف احلكم‬ ‫والتو�سع‪ ،‬ومن �أنظمة ا�ستمدت روحها من تعاليم اال�سالم‪ّ ،‬‬ ‫وتوطدت بحكم �إن�ساين ق ُرب‬ ‫‪ . 1‬ظهر من املفكرين العروبيني �إبان احتدام ال�صراع بني خمتلف القوميات العربية وال�سورية واللبنانية واالتنية والطائفية‪،‬‬ ‫زكي الأر�سوزي و�ساطع احل�صري ومن ثم مي�شال عفلق الذي ر�أى �أن العالقة بني الإ�سالم والعروبة متينة �إىل درجة جعلته‬ ‫يتحول �إىل الإ�سالم ليكون من�سجماً مع فكره ودعوته العروبية‪ .‬وكذلك ظهر ق�سطنطني زريق يف عروبته الفل�سفية قبل �أن‬ ‫يتحول الفكر العروبي �إىل ممار�سة �سيا�سية منظمة يف حزب البعث ويف حركة القوميني العرب‪� .‬إال �أن هذه املمار�سة زادت‬ ‫احلالة تخبطاً وبلبلة‪ ،‬وفتحت �أبواباً جديدة لل�صراع ال�سيا�سي ومناكفات احلكام والتهافت على ال�سلطة‪� .‬أما يف لبنان فقد ظهر‬ ‫فال�سفة للقومية اللبنانية‪ ،‬نذكر منهم على اخل�صو�ص‪ :‬مي�شال �شيحا ويو�سف ال�سودا‪ ،‬وكمال يو�سف احلاج يف فرتات زمنية‬ ‫هم ه�ؤالء ين�صب على كيفية املالءمة بني الواقع ال�سيا�سي الطائفي واالنتماء اللبناين‪ .‬وو�صل الأمر �إىل اعتبار‬ ‫متقاربة‪ ،‬وكان ّ‬ ‫الطائفية النظام الأمثل للبنان‪.‬‬ ‫‪36‬‬


‫ف�������������ك�������������ر‬

‫�أو ابتعد عما يقوله الت�شريع الديني يف ق�ضايا التعامل بني الب�شر‪ .‬وكانت دم�شق ومن ثم‬ ‫امل�ستجد‪ ،‬واملنبني على ما ّقدمه اال�سالم‪،‬‬ ‫بغداد‪ ،‬نقطتي االنطالق لهذا الرتاث احل�ضاري‬ ‫ّ‬ ‫يف تفاعله مع هذه احلوا�ضر‪ ،‬من �صنوف العالقة بني احلاكم واملحكوم‪ .‬وقد �أو�صلت هاتان‬ ‫العا�صمتان احلكم العربي املو�صول باخلالفة برباط ت�أ�سي�سي‪� ،‬إىل �أماكن ق�ص ّية يف �آ�سيا و�أوروبا‬ ‫و�أفريقية‪ ،‬ب�صرف النظر عن قربها مما �أراده اال�سالم من �صنوف احلكم الذي مور�س با�سمه‪،‬‬ ‫�أو ُبعدها عنه‪ .‬ذلك �أن الإ�سالم مل يحدد �صنفاً معيناً من �صنوف احلكم‪� ،‬إال مبا ين�ش�أ عن‬ ‫ال�شورى‪ ،‬وهي مبد�أ اال�سالم يف احلكم ودليله على �أهمية �أن يكون و�ضعياً‪ ،‬و�إال حتول �إىل‬ ‫ملك ع�ضو�ض تت�ضافر فيه �أمور ال�سيا�سة مع �أمور الدين‪.1‬‬ ‫احلقل املعريف للعروبة‬

‫يف كل هذا التو�سع واالمتداد‪ ،‬كان احلكم العربي اال�سالمي يقوم على مبد�أ اخلالفة والتوريث‬ ‫يف احلكم‪ ،‬مع ما يج ّره ذلك من �صنوف احلقد والد�سائ�س والقتل لال�ستئثار باحلكم �أو حلرمان‬ ‫من له احلق يف ذلك‪ ،‬من �أجل ح�صره يف الأبناء‪� ،‬إىل الت�سلط واال�ستبداد‪ .‬وكان من جملة‬ ‫اخل�صائ�ص يف احلكم‪ ،‬مت ّيز الع�صر ال�سيا�سي �إما باالنفتاح والت�سامح يف �أزمنة القوة وال�سيطرة‪،‬‬ ‫�أو التزمت ال�صارم يف �أزمنة ال�ضعف والتخاذل‪ .‬ويف هذه الأجواء جميعاً كان االئتالف‬ ‫واالن�سجام‪� ،‬أو االختالف والت�صادم وا�ضحاً بني �أهل ال�سلطة ال�سيا�سية وال�سلطة الدينية‪،‬‬ ‫ح�سب ما متليه �أو�ضاع اخلالفة‪� ،‬أو ال�سلطنة‪ ،‬يف عالقاتها مع اخلارج‪ ،‬املنعك�س دوماً �إيجاباً �أو‬ ‫�سلباً يف عالقاتها مع الداخل املتعدد �إتنياً ودينياً ومذهبياً‪ ،‬ومناطقياً بني احلوا�ضر والأطراف‪،‬‬ ‫وحتى يف �أحيان كثرية داخل احلوا�ضر نف�سها‪.2‬‬ ‫�أ�سوق هذا الكالم للتدليل على �أن ما�ضي العرب وحا�ضرهم مل يعرف نظاماً �سيا�سياً‪ ،‬مبنياً‬ ‫‪ . 1‬هذه امل�س�ألة على �أهميتها مدار خالف وتوجهات متناق�ضة بني املفكرين امل�سلمني واال�سالميني على ال�سواء‪� .‬أنظر يف‬ ‫هذا اخل�صو�ص‪:‬‬ ‫ علي عبد الرازق‪ ،‬اال�سالم و�أ�صول احلكم‪ ،‬الهيئة امل�صرية العامة للكتاب‪ ،1993 ،‬القاهرة‪�104 ،‬ص‪� .‬أي�ضاً‪:‬‬‫ حممد �أحمد خلف اهلل‪ ،‬القر�آن والدولة‪ ،‬الطبعة الثانية‪ ،‬امل�ؤ�س�سة العربية للدرا�سات والن�شر‪ ،1981 ،‬بريوت‪�164 ،‬ص‪.‬‬‫وم�ؤلفات الإ�سالم َّيني ح�سن البنا و�سيد قطب وغريهما يف املوقع املقابل‪.‬‬

‫‪ . 2‬يعطي كتاب ال�شطار والعيارين يف الرتاث العربي الأهمية الق�صوى لهذه الفرق يف املدن العربية واال�سالمية ومدى‬ ‫�سطوتها وت�أثريها على توجه احلكم يف عالقته بها‪� ،‬أو مع خ�صومه ال�سيا�سيني من خاللها‪� .‬أنظر للتف�صيل‪:‬‬ ‫حممد رجب النجار‪ ،‬حكايات ال�شطار والعيارين يف الرتاث العربي‪ ،‬عامل املعرفة ‪ ،45‬املجل�س الوطني للثقافة والفنون‬‫والآداب‪ ،1981 ،‬الكويت‪.‬‬ ‫‪37‬‬


‫على مبادئ معلومة يف الفكر ال�سيا�سي �إال مبا ن�ش�أ من خالل العالقة بني احلاكم ال�شرعي‬ ‫امل�ستمد ل�شرعيته من الدين‪ ،‬مع الت�أكيد الوا�ضح على التالزم املف�صلي الذي ال ميكن‬ ‫�أن ينف�صم بني الدين وال�سيا�سة‪ .‬فال�سيا�سة منبثقة مما يقوله اال�سالم يف هذا اخل�صو�ص‪.‬‬ ‫معني ب�ش�ؤون الدنيا عنايته بال�ش�ؤون الإلهية‪ ،‬فهو دين ودنيا‪ .‬وعلى امل�سلمني �أن‬ ‫واال�سالم ّ‬ ‫يديروا عواملهم على هذا الأ�سا�س‪ .‬وعليه‪� ،‬أي خروج عن هذا التوجه‪ ،‬ي�صب يف غري م�صلحة‬ ‫الإ�سالم‪ ،‬وعلى غري ما يريده امل�سلمون‪ .‬وميكن لأي خروج عن هذا التوجه �أن يتم جتاوزه‬ ‫من قبل عامة امل�سلمني وخوا�صهم‪� ،‬إذا كان يف خدمة اال�سرتاتيجية العامة التي �أوجبت‬ ‫هذا اخلروج‪� .‬أما يف حال �إذا كان لبناء �صرح فكري وثقايف مبنيني على موجبات النوامي�س‬ ‫االجتماعية والبحث العقالين القائم على علم االجتماع والفل�سفة وعلم ال�سيا�سة‪ ،‬فهي من‬ ‫املروق من الدين‪ ،‬ومن البدع التي ت�ستوجب املقاطعة والتقريع‪ ،‬باعتبار �أن كل ما هو مت�أت‬ ‫من خارج اال�سالم بدعة‪ ،‬وكل بدعة �ضاللة‪ ،‬وكل �ضاللة يف النار‪.‬‬ ‫هذا التوجه الإ�سالمي العام‪ ،‬مل ي�ستطع العروبيون جتاوزه يف �أفكارهم النيرّ ة‪� ،‬إن كان باعتبار‬ ‫توطينهم ملفهوم القومية القادم من الغرب‪ ،‬و�إن كان ذلك قد بد�أ مع امل�سيحيني؛ �أو كان‬ ‫بالن�سبة للتجديد يف الفكر اال�سالمي الذي عمل حممد عبدو على �إظهاره من داخل العقيدة‬ ‫اال�سالمية‪ ،1‬وب�إيحاءات مبا�شرة وغري مبا�شره من �إ�شارات تثاقفية ح�صلت له‪� ،‬أو و�صلت �إليه‬ ‫من �آخرين احتكوا بالغرب والحظوا مدى التقدم الذي بلغه‪ ،‬من غري �أن يكون �أهله من‬ ‫امل�سلمني‪ .‬فعمل ه�ؤالء‪ ،‬ومنهم الطهطاوي والأفغاين والكواكبي ور�ضا‪ ،‬وغريهم كثري‪ ،‬على‬ ‫االفادة مما الحظوه وعاي�شوه‪ ،‬لينه�ضوا من خالله‪ ،‬بامل�سلمني وبالبالد اال�سالمية‪ .‬ويف احلالتني‬ ‫مل تتبلور الفكرة التي ميكن �أن تف�صل بني العروبة واال�سالم‪ ،‬وال بني العرب وغري العرب‬ ‫من امل�سلمني‪ ،‬وال بني العرب امل�سلمني �أنف�سهم‪ ،‬وبني العرب غري امل�سلمني‪ .‬وكان �أن ظهرت‬ ‫العروبة على هذا الوجه امللتب�س الذي عليه �أن يغ ّيب من خارطة الوجود العلني من هم من‬ ‫غري العرب من امل�سلمني‪ ،‬ومن ه�ؤالء الأكراد والرتكمان وال�شراك�سة والرببر الأمازيغ؛ ومن‬ ‫هم من العرب غري امل�سلمني‪ ،‬ومنهم‪ ،‬الأقباط والأ�شوريني والكلدان وال�سريان؛ ومنهم من‬ ‫العرب غري امل�سلمني ال�س ّنة‪ ،‬ومنهم ال�شيعة واخلوارج والعلويني واال�سماعليني واليزيديني‬ ‫والزيديني والدروز‪ ،‬وغريهم �أي�ضاً‪.‬‬ ‫‪ .1‬حممد عبدو‪ ،‬ر�سالة التوحيد‪ ،‬مقدمة حممد عمارة‪ ،‬دار ال�شروق‪ ،1994 ،‬القاهرة‪�197 .‬ص‪.‬‬ ‫‪38‬‬


‫ف�������������ك�������������ر‬

‫احلقل املعريف املغاير‬

‫هذه املجموعات املتنافرة من حيث الوجهة الإتنية والعن�صرية والدينية واملذهبية ترى �أن‬ ‫يهم‪ ،‬من بعد‪� ،‬إذا كانوا الأكرثية لأن العدد ال ي�ض ّيع‬ ‫العرب عن�صر من هذه العنا�صر‪ ،‬وال ّ‬ ‫احلقيقة‪ .‬والأمر نف�سه بالن�سبة لل�س ّنة من العرب‪ ،‬فال يغطي حقهم بن�سبتهم �إىل العروبة‪ ،‬حق‬ ‫الآخرين بن�سبتهم �إىل العروبة‪ ،‬و�إىل جغرافية بعينها كانت ملج�أهم التاريخي �أو بيئتهم التي‬ ‫ن�ش�أوا وتكاثروا فيها‪� ،‬إذا كان ال بد من ن�سبة �شعب �إىل جن�سه‪� ،‬أو دينه �أو مذهبه‪� ،‬أو �إتنيته‬ ‫وعن�صره‪.‬‬ ‫يف ظل هذه البلبلة على امل�ستويات املذكورة �أعاله‪ ،‬باال�ضافة �إىل وجود وعاء مرجعي تعود‬ ‫�إليه كل فئة من الفئات املختلفة يف توجهها‪ ،‬كان ال بد �أن يكون احلا�صل لديها مت�أتياً من‬ ‫انتمائها الأهلي الذي هو الرابطة الأولية للإن�سان منذ ُوجد‪ .‬وهذا الوعاء ما عاد قادراً على‬ ‫الإيفاء مبتطلبات اجلماعات وعالقاتها فيما بينهما‪ ،‬بحكم التطور العام‪ ،‬والتقدم احل�ضاري‬ ‫على كل امل�ستويات‪ ،‬وبفعل التوا�صل والتثاقف الذي بد�أ يحكم املجتمعات االن�سانية يف‬ ‫كل مكان‪ ،‬منذ بدايات القرن الع�شرين‪.‬‬ ‫كان من جملة ردود الفعل على الأحداث التي كانت حت�صل يف جبل لبنان‪ ،‬على �سبيل‬ ‫املثال‪ ،‬ما ميكن ا�ستخال�صه من الأحداث التي كانت تلهبه منذ الربع الأول من القرن التا�سع‬ ‫جتمع لدى بطر�س الب�ستاين‪ ،‬وما دعاه �إىل �إ�صدار جريدته‬ ‫ع�شر‪ .‬كانت هذه اخلال�صات ما ّ‬ ‫"نفري �سورية"‪ .‬لقد ظهر لهذا امل�صلح االجتماعي �أن االقتتال الطائفي ما هو �إال الو�سيلة لدمار‬ ‫الب�شر واحلجر‪ .‬فدعا �إىل الت�آلف والت�آخي باعتبار �أن الدين هلل والوطن للجميع‪ .‬وحاول �أن‬ ‫يف�صل‪ ،‬ولو عرب مقاالته فقط‪ ،‬بني الدين وال�سيا�سة‪ ،‬وهي الفكرة التي كانت غريبة عن ذهنية‬ ‫العرب وت�صوراتهم ال�سيا�سية‪ ،‬م�سلمني كانوا �أو م�سيحيني‪ ،‬و�إن �سبق ه�ؤالء �أولئك لقدم‬ ‫توا�صلهم مع الثقافة الغربية‪� .‬إال �أن هذا التوجه َب َلعته ال�سيا�سة الدولية يف ت�شريع الطائفية يف‬ ‫نظام املت�صرفية‪.1‬‬ ‫‪ . 1‬حول حتول الطوائف �إىل م�صدر �سلطة �سيا�سية �شرعية مبوجب نظام حمدد ومكتوب �أعطى ا�ستقراراً جلبل لبنان على‬ ‫مدى ن�صف قرن‪� ،‬أنظر‪:‬‬ ‫ �أ�سامة مقد�سي‪ ،‬ثقافة الطائفية‪ ،‬ترجمة ثائر ديب‪ ،‬دار الآداب‪ ،2005 ،‬بريوت‪�312 ،‬ص‪ .‬وقد �أعطى هذا النظام للطوائف‬‫�إمكانية ا�ستمراريتها على �شكلها الثابت لدى كل طائفة مقابل الطوائف الأخرى دون �أي حماولة للتغيري‪� ،‬أو العمل على‬ ‫التطوير الداخلي لكل منها‪.‬‬ ‫‪39‬‬


‫كان من الطبيعي �أن ي�ستمد مفكرو النه�ضة العربية �أفكارهم القومية من حقول فكرية‬ ‫متعددة‪ ،‬منها احلقل الفكري الإ�سالمي يف توجهه احل�ضاري باعتباره مف�صحاً عن دين‬ ‫عاملي النظرة ولكل النا�س؛ ولكن باال�ضافة �إىل ذلك‪ ،‬كانوا يعتمدون على ح�صيلة الأفكار‬ ‫التنويرية التي �أنتجتها �أوروبا احلديثة يف االجتماع وال�سيا�سة واحلقوق االن�سانية‪ ،‬باال�ضافة �إىل‬ ‫النظرة العقالنية للدين بعد ف�صله عن �أمور ال�سيا�سة‪ ،‬واعتماد العلمنة يف ال�ش�ؤون الدنيوية‪.‬‬ ‫كان ه�ؤالء يف �أكرثيتهم ال�ساحقة من امل�سيحيني الذين عليهم �أن يبتكروا ال�صيغة احل�ضارية‬ ‫التي جتمع يف �أمور الدنيا امل�سلمني وامل�سيحيني معاً‪ ،‬ب�صرف النظر عن االنتماء الديني‬ ‫الذي هو هلل وحده‪ ،‬ومبوجب عالقة فردية روحية بني املخلوق واخلالق‪ .‬ويف الآن عينه‪ ،‬تط ّلع‬ ‫املفكرون امل�سلمون �إىل الكيفية التي مبوجبها ميكن الإفادة مما ّقدمه الغرب‪ ،‬وخ�صو�صاً �أوروبا‪،‬‬ ‫يف �ش�ؤون االجتماع وال�سيا�سة يف ال�شكل الذي يخدم التوجة الإ�سالمي املبني على الدين‬ ‫غري املف�صول عن الدنيا‪ .‬وكانت ح�صيلة امل�س�ألة �أن التقى اجلميع على وجوب العمل من‬ ‫�أجل النه�ضة العربية‪ ،‬و�إن بتوجهات خمتلفة‪� .‬إال �أنها بقيت جميعها �ضمن الإطار ال�سيا�سي‬ ‫والفل�سفي‪ ،‬ومل تتحول �إىل التطبيق العملي �إال من هاتني الوجهتني اللتني عملتا على مناه�ضة‬ ‫احلكم العثماين‪ ،‬و�إن على موجتني خمتلفتني‪ :‬اال�ستقالل التام كما طالب به امل�سيحيون مع‬ ‫�أقلية �ضئيلة من امل�سلمني‪ ،‬وكان على ر�أ�سهم عبد الرحمن الكواكبي؛ �أو اال�صالح �ضمن‬ ‫الالمركزية العثمانية مع االهتمام �أكرث بالعرب و�إعطائهم �شيئاً من اال�ستقالل الذاتي على‬ ‫�أبعد تقدير‪.‬‬ ‫بعد ا�ستقرار الأمور يف الع�شرينيات من القرن الع�شرين على دول متعددة يف امل�شرق العربي‪،‬‬ ‫من العراق �إىل لبنان‪ ،‬ظهر �أن ما �أنتجته العالقات العربية الدولية يقوم على ما �أراده احللفاء‪،‬‬ ‫�إن كان بتوريث �أبناء ال�شريف ح�سني مملكتي العراق و�شرق الأردن‪ ،‬باال�ضافة �إىل اجلزيرة‬ ‫العربية‪� ،‬أو ب�إن�شاء الدول التي تقوم على الأ�سا�س الطائفي‪ ،‬كما ب ّينا �سابق ّا‪.‬‬ ‫احلقل املعريف اجلديد‬ ‫بيكو"‬

‫مل تظهر الأمور �إىل العلن‪ ،‬على غري ما قررته فرن�سا وبريطانيا يف اتفاقية "�سايك�س‬ ‫�إال مع انطون �سعاده (‪ ،)1949 -1904‬م�ؤ�س�س احلزب ال�سوري القومي‪ ،‬والقومي االجتماعي‬ ‫‪40‬‬


‫ف�������������ك�������������ر‬

‫فيما بعد‪ ،‬يف بداية الثالثينيات من القرن الع�شرين‪ ،‬و�إن كانت �إرها�صاته الفكرية‪ 1‬قد بد�أت‬ ‫تظهر قبل ذلك بعقد من الزمن‪ .‬وقد جاءت هذه الأفكار‪ ،‬يف البداية‪ ،‬تكملة ملا كان قد ظهر‬ ‫قبل هذه الفرتة منذ منت�صف القرن التا�سع ع�شر وحتى الربع الأول من القرن الع�شرين‪،‬‬ ‫ومنها كتابات بطر�س الب�ستاين ونا�صيف اليازجي وابراهيم اليازجي و�أديب ا�سحق و�شبلي‬ ‫ال�شميل وحممد عبدو وعبد الرحمن الكواكبي وخليل �سعاده‪ ،‬وفرح �أنطون‪ ،‬وغريهم‪.‬‬ ‫�إال �أن ما م ّيز �سعاده يف هذا املجال هو بلورة �أفكاره الوطنية يف قالب عقدي نظرياً‪ .‬ومن ثم‬ ‫العمل على حتويلها �إىل واقع عملي‪ ،‬من خالل �إيجاد الأداة التي ميكن �أن حت ّول النظرية‬ ‫�إىل فعل ّ‬ ‫منظم يتجه يف م�سريته العملية املنظمة �إىل توحيد املجتمع وبناء الأمة القوية‪ ،‬وهو‬ ‫احلزب بتنظيمه وبرتاتب قيادييه وبقاعدته الواعية ملا�ضي �أمتها وحا�ضرها‪ ،‬واملتطلعة �إىل بناء‬ ‫م�ستقبلها لتكون ذات ال�ش�أن بني الأمم‪.2‬‬ ‫كان لت�أ�سي�س احلزب ذي الأفكار الب ّينة واملبن ّية على وحدة املجتمع بكل �أ�صنافه وتياراته‬ ‫وفئاته‪ ،‬املَ ْعلم الأ�سا�سي يف توجه فكري جديد‪ ،‬ال ينبني على انتماءات �أهلية من قرابية‬ ‫ومذهبية وطائفية و�إتنية‪ .‬بل جاءت لتقول بوحدة املجتمع �إنطالقاً من وحدة احلياة وت�شابكها‬ ‫يف �أ�ضيق جمتمع حملي‪� ،‬إن كان قرية �أو قبيلة �أو ع�شرية �أو مدينة‪� ،‬إىل �أو�سع جمتمع ميكن �أن‬ ‫جتري فيه دورة احلياة الواحدة وامل�صالح امل�شرتكة؛ وهو املتحد‪ ،‬يف �صغريه وكبريه‪ ،‬الذي عادة‬ ‫يتحدد يف بيئة جغرافية معينة‪ ،‬نطلق من خاللها �إ�سم هذه القرية �أو هذه البلدة‪� ،‬أو املدينة‬ ‫ما ّ‬ ‫�أو جمتمع الدولة‪ ...‬وهكذا و�صو ًال �إىل املتحد التام‪ ،‬الأمة؛ ومن ثم �إىل �أو�سع م ّتحد ميكن‬ ‫ت�ص ّوره‪ ،‬وهو م ّتحد الأر�ض‪ ،‬مقابل كواكب �أخرى �إذا كانت م�أهولة‪� ،‬أو غري ذلك‪.‬‬ ‫ا�ستمد �أفكاره من خارج احلقل املعريف العربي اال�سالمي‪� .‬إال �أنه‬ ‫ال �شك يف �أن �أنطون �سعاده ّ‬ ‫�أعطى‪ ،‬يف هذا الإطار‪ ،‬الأهمية الكربى ملا قاله ابن خلدون ( ‪ )1406 -1332‬يف جمال االجتماع‬ ‫االن�ساين‪ .‬واعتربه رائداً يف علم االجتماع‪ ،‬ويف �أطوار العمران ون�شوء الدولة ومنازع امللك‪،‬‬ ‫وهي �أمور جرى تداولها حتت قلم ابن خلدون خارج �إطار الدين وتوجيهاته‪ ،‬باعتبارها �ش�ؤونا‬ ‫‪ . 1‬حول �أفكار �سعاده يف ما يخ�ص �سورية وال�سوريني قبل ت�أ�سي�س احلزب ال�سوري القومي‪� ،‬أنظر‪:‬‬ ‫ �أنطون �سعاده‪ ،‬الأعمال الكاملة‪ ،‬اجلزء الأول‪ ،‬م�ؤ�س�سة �سعادة للثقافة‪ ،2001 ،‬بريوت‪� ،‬ص �ص‪ .45 - 1‬و�أماكن متفرقة من‬‫الكتاب‪.‬‬ ‫‪ . 2‬حول الأ�سباب التي دعت �سعاده �إىل ت�أ�سي�س احلزب‪� ،‬أنظر اجلواب على ر�سالة املحامي حميد فرجنية‪ ،‬يف‪:‬‬ ‫ �أنطون �سعاده‪ ،‬الأعمال الكاملة‪ ،‬اجلزء الثاين‪ ،‬مذكور �سابقاً‪� ،‬ص �ص‪.11 - 9‬‬‫‪41‬‬


‫دنيوية‪ ،‬وذلك قبل ن�شوء علم االجتماع الغربي ب�أربعة قرون‪ .‬وعلى هذا الأ�سا�س بنى �سعاده‬ ‫نظرته �إىل املجتمع وتطوره وكيفية انتقاله من منط عي�ش �إىل �آخر‪ ،‬انطالقاً من تلك العالقة‬ ‫اجلدلية التي تربط فكر الإن�سان مع طريقة ح�صوله على املعا�ش‪ .1‬ومن ثم الدخول يف حتديد‬ ‫املتحد واعتباره املنتج لثقافته النا�شئة عن ظروف حياة �أهله مع واقعهم االجتماعي‪.2‬‬ ‫من املهم هنا‪� ،‬أن نبينّ ما يعنيه مفهوم املتحد‪ ،‬ملركز ّيته يف الفكر القومي عند �سعاده‪ .‬فاملتحد‬ ‫عنده هو "احتاد جمموع من النا�س يف حياة واحدة على م�ساحة حمدودة يكت�سب من بيئته‬ ‫ومن حياته امل�شرتكة اخلا�صة �صفات خا�صة به‪� ،‬إىل جانب ال�صفات العامة امل�شرتكة بينه‬ ‫وبني املحيط الذي هو �أو�سع منه‪ ،‬وبينه وبني جميع الب�شر‪ ،‬وبينه وبني املتحدات الأخرى"‪.3‬‬ ‫لذلك قرر‪ ،‬بناء على �أ�س�س علم االجتماع‪� ،‬أن االختالف بني ثقافة كل متحد هو خالف‬ ‫نا�شئ عن اختالف املتحدات‪ ،‬ولي�س العك�س‪ .‬وهذا يظهر‪ ،‬على الأقل‪ ،‬لأي متتبع منا لهذه‬ ‫االختالفات مهما كانت ب�سيطة‪ .‬ف�إذا تط ّلعنا �إىل قريتني متجاورتني‪ ،‬نلحظ منذ اللحظة الأوىل‬ ‫اختالف اللهجتني‪ ،‬وعالقة �سكان كل منهما بالبيئة املحلية‪ ،‬ومن ثم اختالف العالقات‬ ‫االجتماعية بني �سكان كل منهما‪ ،‬وطرق التما�سك �أو و�سائل �إظهار االختالف �أو اخلالف‬ ‫لدى كل منهما‪ ،‬من ناحية؛ �أو لدى حماولة �إظهار عالقة كل منهما جتاه الأخرى‪ ،‬من ناحية‬ ‫ثانية‪.‬‬ ‫كل هذا الكالم‪ ،‬مل يعط لل�سيا�سة �أي فاعلية يف بناء املتحد‪ .‬ذلك �أن املتحد هو الذي‬ ‫يبني �سيا�سته‪ ،‬وبالطريقة نف�سها التي يبني فيها ثقافته واقت�صاده‪ ،‬من خالل ما ينتج عن‬ ‫ظروف املتحد من عالقات‪ ،‬وهي يف الأ�سا�س عالقات �سلطوية من نوع ما‪ ،‬متمف�صلة مع‬ ‫منط معا�ش‪ .‬و�إذا كانت ال�سلطة هي بدء ال�سيا�سة‪ ،‬لأن ال متحد بدون وجود �سلطة‪� ،‬أي‬ ‫بدون �سيا�سة ت�سو�سه‪ ،‬ف�إن املتحد يقوم وي�ستمر على حت�صيل املعا�ش‪ ،‬ونوعيته خم�صو�صة به‪،‬‬ ‫تتحدد عالقة ر�أ�س املتحد مع القاعدة‪،‬‬ ‫و�إنطالقاً من �سيا�سة خم�صو�صة �أي�ضاً‪ .‬ويف احلالتني ّ‬ ‫�إما بعامل القرابة‪� ،‬أو بعامل اال�ستتباع‪� ،‬إذا كان ثمة عدة ر�ؤو�س‪ .‬ويظهر ذلك جلياً من خالل‬ ‫انفراد �شخ�ص واحد بال�سلطة‪� ،‬أو توزعها برئا�سة القبيلة الأكرث عدداً وع�صبية‪ .‬ويف احلاالت‬ ‫‪� . 1‬سعادة‪ ،‬الأعمال الكاملة‪ ،‬اجلزء الثالث‪ ،‬مذكور �سابقاً‪� ،‬ص �ص‪.56 - 52‬‬ ‫‪ . 2‬امل�صدر نف�سه‪� ،‬ص �ص‪.124 - 119‬‬ ‫‪ . 3‬امل�صدر نف�سه‪� ،‬ص‪.124‬‬ ‫‪42‬‬


‫ف�������������ك�������������ر‬

‫جميعاً تختلف العالقات املُن�ش�أة يف املتحد‪ ،‬عن العالقات املن�ش�أة يف متحد �آخر‪ ،‬لإختالف‬ ‫املتحدين‪.‬‬ ‫لهذا يعطي �سعاده للمتحد‪ ،‬على �أي وجه كان‪� ،‬صفته االجتماعية‪ ،‬باعتباره واقعاً اجتماعياً‪،‬‬ ‫تتح�صل الأمور على الأوجه الأخرى ال�سيا�سية واالقت�صادية‬ ‫قبل �أي �شيء �آخر‪ ،‬ومن ثم ّ‬ ‫يتحدد �أو ًال بتحديد املتحد‬ ‫وغريها‪ ،‬و�إن كانت جميعها تتزامن يف الوجود‪� .‬إال �أن الوجود ّ‬ ‫اجتماعياً‪ ،‬وجغراف ّياً‪ ،‬ومن ثم ت�أتي امل�سائل الأخرى‪ ،‬باعتبارها انتاجاً جمتمعياً يف الأ�سا�س‪.‬‬ ‫ظهر هذا التوجه ال�سو�سيولوجي زمنياً مع ظهور الفكر القومي يف �أوروبا‪ ،‬ومع ن�شوء القوميات‬ ‫الكربى يف فرن�سا و�أملانيا و�إيطاليا و�إ�سبانيا وبريطانيا‪ ،‬و�إن كان ب�أ�ساليب خمتلفة‪ ،‬مع وجود‬ ‫امل�ستعمرات التي رمبا‪ ،‬كانت الدافع الأ�سا�سي لإيجاد القوة الالزمة للدفاع عن هذه‬ ‫امل�ستعمرات خارج �أوروبا‪ .‬والقوة الالزمة ال ميكن �أن تظهر �إال بتو�سل الوحدة القومية‪،‬‬ ‫والع�صبية التي عليها �أن تفعل فعلها يف احلفاظ على القوة‪ .‬وقد تبينّ ‪ ،‬من بعد‪� ،‬أن هذا التوجه‬ ‫بتو�سل الع�صبية القومية‪ ،‬كان له وجهان‪� :‬أفاد الدول وجمتمعاتها‬ ‫املبني على �إظهار القوة ّ‬ ‫من خالل متا�سكها القومي‪ ،‬وعمل على تنميتها وتقدمها‪ ،‬يف وجهه الأول؛ و�أو�صل العامل‪،‬‬ ‫وتع�صبه‪� ،‬إىل حرب كونية ثانية‪� ،‬أورثت الدمار ال�شامل ملناطق ومدن‬ ‫بانحراف العمل القومي ّ‬ ‫ب�أ�سرها‪ ،‬والقتل ملاليني النا�س من الع�سكرين واملدنيني‪ ،‬يف وجهه الثاين‪.‬‬ ‫بني القومية االجتماعية والعروبة‬

‫�ساعدت الظروف االجتماعية وال�سيا�سية بالتعجيل يف ت�أ�سي�س احلزب ال�سوري القومي‪،‬‬ ‫ومن ثم �إظهاره عالنية (‪ )1935 -1932‬يف هذه الفرتة املف�صلية من تاريخ العرب‪ ،‬والعامل �أي�ضاً‪.‬‬ ‫�إذ ال بد من العمل يف هذا اجلو امل�شحون‪ ،‬ويف ظروف تفر�ض على العرب‪ ،‬وعلى احلزب‬ ‫القومي �أن ي�أخذوا موقفاً مما يح�صل يف العامل‪ .‬ومن ثم‪ ،‬العمل على االفادة من تناق�ضات‬ ‫املرحلة‪ ،‬رمبا يو�صل هذا احلراك �إىل مرحلة اال�ستقالل والتخل�ص من الفرن�سيني والإنكليز‬ ‫معاً‪� .‬إال �أن عمل احلزب بد�أ با�ستقالل عن التوجه العروبي املبني على العاطفة واالنفعال‪.‬‬ ‫ذلك �أنه انبنى على توجه قومي ي�أخذ من العقل وال�سو�سيولوجيا وعلم ال�سيا�سة �أدوات له‪.‬‬ ‫هذا التوجه جعل العروبيني ينظرون �إىل احلزب‪ ،‬و�إىل عقيدته القومية‪ ،‬نظرة خ�صومة‪ ،‬ومن ثم‬ ‫عداوة‪ .‬وقد اعترب ه�ؤالء �أن توجهه يف ّتت القوى التي تعمل ل�صالح العرب‪ ،‬دون �أن يكون‬ ‫‪43‬‬


‫لهم �أي توجه نظري وعملي وا�ضحني يف هذا ال�سبيل؛ �إال الكالم على العمل من �أجل‬ ‫ا�ستقالل العرب ورفع �ش�أنهم‪ ،‬دون ا�سرتاتيجية وا�ضحة‪ ،‬ودون بلورة فكر قومي عربي ميكن‬ ‫االنطالق منه‪ ،‬لإيجاد الأداة الفاعلة التي حت ّول هذا القول �إىل فعل‪ .1‬وبقي الأمر على ما هو‬ ‫عليه‪ ،‬كما كان ع�شية احلرب الكونية الأوىل وما ن�ش�أ عنها‪.‬‬ ‫مكم ًال ملوقفه الفكري امل�ستمد‬ ‫كان للموقف العملي الذي وقفه �سعاده من الدعاوة العروبية‪ّ ،‬‬ ‫من خارج احلقل الفكري العروبي اال�سالمي‪ .‬وكان �أن اعترب العاملون يف هذا احلقل‬ ‫وامل�ستمدون منه �أفكارهم �أن اتهموا احلزب القومي وم�ؤ�س�سه بعداوتهما للعرب والعروبة‪.‬‬ ‫ومن ثم االتهام بالنهل من م�صادر النازية والفا�شية يف ت�أ�سي�س العقيدية القومية ال�سورية‪.‬‬ ‫وو�صل الأمر �إىل االتهام بالعن�صرية وال�صهيونية‪ ،‬وغريها من االتهامات التي تدلل على نوع‬ ‫من القطيعة مع الفكر القومي االجتماعي‪ ،‬و�صل يف عهد عبد النا�صر �إىل ذروته بعد ان‬ ‫تق ّوت احلركة القومية العربية بهذا الزعيم العربي‪ ،‬و�أعطاها من زعامته الكارزم ّية عنا�صر قوة‬ ‫مل ي�ستطع الق ّيمون على الفكر القومي العربي‪ ،‬ومفكروه‪ ،‬بلورته و�إعطاءه الزخم الذي يكفل‬ ‫اال�ستمرار‪ .‬ف�أُجه�ضت عنا�صر القوة هذه برحيل عبد النا�صر‪ ،‬وعاد العرب �أدراجهم �إىل ما‬ ‫كانوا عليه �إبان احلرب الكونية الأوىل وبعدها‪ ،‬كما �إبان احلرب الكونية الثانية وبعدها‪ .‬وا�ستمر‬ ‫الأمر على ما هو عليه‪� ،‬إىل �أن و�صل �إىل �أخطر مرحلة من تاريخ العرب‪ ،‬بقوميتهم وح�ضورهم‬ ‫وح�ضارتهم‪ ،‬و�ضعتهم على م�شارف تق�سيم جديد لبلدانهم ما كانت �سايك�س بيكو �إال مرحلة‬ ‫عابرة يف التدليل على �ضعف العرب وتخاذلهم‪.‬‬ ‫كان ملوقف �سعادة النافر واملتم ّيز يف العمل ال�سيا�سي يف منت�صف الثالثينيات �أن دفع املهتمني‬ ‫�إىل معرفة موقف احلزب من العرب والعروبة‪ ،‬وذلك بعد �أقل من �أربع �سنوات من ت�أ�سي�س‬ ‫احلزب‪ ،‬ويف �سنة �إعالن مبادئه التف�صيلية‪ .‬وكان من بني املت�سائلني قوميون و�صحافيون ورجال‬ ‫�سيا�سة‪ .‬فظهر �أول �إعالن ملوقف احلزب يف العام ‪� ،1935‬أي يف ال�سنة التي انك�شف فيها �أمر‬ ‫احلزب‪ ،‬بعد �أن كان �سرياً‪ ،‬على �شكل ر�سالة ن�شرتها �صحيفة النهار يف ‪ 22‬كانون الثاين ‪.1936‬‬ ‫يقول �سعادة يف هذه الر�سالة‪" :‬ل�ست بحاجة �إىل القول �إن امل�س�ألة القومية ال امل�س�ألة ال�ساللية‬ ‫همي وكل عنايتي‬ ‫هي التي ت�ستدعي كل اهتمامي‪ ...‬و�إذا كنت قد ر�أيت �أين �أ�صرف كل ّ‬ ‫‪� . 1‬أنظر يف هذا اخل�صو�ص للتف�صيل حول امل�سائل التي �أثارها العروبيون واالنف�صاليون وغريهم لإظهار �أفكار احلزب ومبادئه‬ ‫يف طريقة مغايرة‪:‬‬ ‫ً‬ ‫ �سعادة‪ ،‬الأعمال الكاملة‪ ،‬اجلزء الرابع‪ ،‬مذكور �سابقا‪� ،‬ص �ص‪.452 - 450‬‬‫‪44‬‬


‫ف�������������ك�������������ر‬

‫�إىل خدمة �أمة واحدة من �أمم العامل العربي‪� ،‬أعني �أمتي ال�سورية‪ ،‬فذلك لأن �أمتي �أح َوج‬ ‫�إىل عملي‪ ،‬ولأن لها احلق الأول علي‪ ،‬ولأن اال�شتغال يف ق�ضايا هذه الأمم‪ ،‬بينما �أمتي ج�سم‬ ‫م�شلول‪ ،‬يزيد بلبلة ق�ضايا العامل العربي على بلبلة"‪.1‬‬ ‫يظهر يف هذا القول �أن الأمة ال�سورية التي يعمل احلزب على نه�ضتها هي �إحدى �أمم العامل‬ ‫العربي‪ ،‬ولي�ست بخارجة عن هذا العامل‪ .‬و�إذا كان العمل من �أجلها‪ ،‬فمن املنطقي �أن يدبر‬ ‫املرء �ش�ؤون بيته قبل بيت اجلار‪ ،‬لأن ال فائدة من العمل مع اجلار قبل تدبري �ش�ؤون املنزل‬ ‫الذي هو �أبدى و�أكرث �أهمية من �أي �شيء �آخر‪ ،‬و�إال اختلطت الأمور وتبلبلت وزادت �سوءاً‪.‬‬ ‫ما ميكن فهمه من هذا الكالم �أن العرب قوميات‪ .‬وبالتايل‪ ،‬ف�إن تق�سيم العامل العربي �إىل‬ ‫قوميات تعمل كل قومية على تدبري �ش�ؤونها‪� ،‬أو ًال‪ ،‬ال ميكن �أن يكون �ضد العرب‪ ،‬وال �ضد‬ ‫العروبة‪ .‬هذه املرحلة‪ ،‬ح�سب �سعاده‪ ،‬ال�سبيل الأجنع والأف�ضل للنهو�ض بالعامل العربي‪،‬‬ ‫وذلك باالنتقال من العاطفة واالعتبارات امل�ساعدة على ن�شوء التوجه العروبي القائم على‬ ‫وحدة اللغة والدين‪ ،‬مع �إهمال كل ما عدا ذلك‪� ،‬إىل التوجه العقالين والعلمي القائم على‬ ‫ما ين�ش�أ عليه املجتمع من قوانني العمران والن�شوء‪ ،‬قبل �أن يتق ّوى بوحدة التوجه‪� ،‬أو ي�ضعف‬ ‫ب�ضعفها‪ .‬و�إذا اعرتف �سعاده ب�أن �إغراقه يف �سور ّيته �أن�ساه العامل العربي‪ ،‬ف�إن ذلك لن يبعده‬ ‫عن هذا العامل‪ ،‬بل �سيق ّربه �إليه �أكرث‪ .‬ذلك �أن �سورية القوية هي قوة للعامل العربي‪ ،‬والعاملة‬ ‫على تقويته‪ ،‬وهي امل�ؤهلة للنهو�ض بهذا العامل‪ .‬و�ضعفها يزيد العامل العربي �ضعفاً‪ .2‬وهكذا‬ ‫بالن�سبة لبقية الأمم التي يت�شكل منها العامل العربي‪ .‬و�إذا كان على القومية االجتماعية �أن‬ ‫تعمل على تقوية العامل العربي بوحدتها وقوتها‪ ،‬فهكذا ميكن �أن ين�سحب الأمر على بقية‬ ‫�أممه‪ ،‬وهي النتيجة نف�سها التي يعمل عليها العروبيون‪ ،‬و�إن اختلفت املنطلقات والو�سائل‪� .‬إال‬ ‫�أن ح�سن النوايا وحده ال يكفي‪.‬‬ ‫كانت هذه الر�سالة منطلقاً لتحديد فكرة القومية االجتماعية يف نظرتها �إىل الكيان اللبناين‪،‬‬ ‫و�إىل القومية العربية‪ ،‬يف الوقت عينه‪ .‬ذلك �أن اتهام القومية االجتماعية بالعمل على زعزعة‬ ‫لبنان وحماولة �إلغائه‪ ،‬كان على الدرجة نف�سها من قوة اتهامها بالعمل �ضد العروبة‪ .‬ويف هذا‬ ‫املجال يقول �سعاده �إن "العقيدة القومية االجتماعية �شيء اجتماعي والكيان اللبناين �شيء‬ ‫‪� . 1‬أنطون �سعاده‪ ،‬الأعمال الكاملة‪ ،‬اجلزء الثاين‪ ،‬مذكور �سابقاً‪� ،‬ص‪.12‬‬ ‫‪ . 2‬امل�صدر نف�سه‪،‬‬

‫�ص‪13‬‬ ‫‪45‬‬


‫�سيا�سي (وكذلك العروبة) ونحن ال نخلط بني الإثنني‪ ...‬واحلزب يعمل للوحدة القومية‬ ‫وجعل الأ�سا�س القومي حمل الأ�سا�س الديني ونزع فكرة احلكم على �أ�سا�س املذهب"‪.1‬‬ ‫وبالتايل ف�إن هذه العقيدة هي وحدها الكفيلة ب�إزالة النظريات اخل�صو�صية‪ ،‬وال�ضامنة لوحدة‬ ‫ال�شعور واالجتاه‪ .‬والنه�ضة قومية يف الأ�سا�س واجتماعية يف املنطلق‪ ،‬وما ال�سيا�سة �إال املمار�سة‬ ‫التي ت�ؤ ّمن حتقيق التوجه القومي‪ .2‬يف هذا الإطار �س�أل �صحايف �سعاده عن "احلقيقة" التي‬ ‫ير ّوج لها العروبيون‪ ،‬ومفادها �أن احلزب القومي مل ين�ش�أ �إال لتع�صب ديني يف نفو�س قادته‪،‬‬ ‫خلوفهم من ال�ضياع يف قومية عربية �شاملة تذوب فيها �أقلياتهم‪ .‬فيجيب �سعاده ب�أن هذا‬ ‫الكالم ال �أ�سا�س له‪ ،‬و"متى وجدت الوحدة العربية كنا نحن �أحد فروعها احلية‪ ...‬والقومية‬ ‫ال�سورية ال تت�ضارب مع التفاهم مع الأقطار العربية الأخرى على ما فيه امل�صلحة امل�شرتكة"‪.3‬‬ ‫ولأن م�س�ألة العروبة �أخذت منحى �سجالياً يف االتهام ور ّد التهم‪ ،‬فقد ن�شر �سعاده بياناً على‬ ‫�أثر احلديث الذي ن�شرته جريدة الرائد الطرابل�سية يف عددها ال�سابق املذكور �أعاله‪ ،‬ير ّد فيه‬ ‫املوجهة �إليه و�إىل حزبه‪ ،‬ب�أنه ال ي�سري يف قافلة الوحدة العربية‪ ،‬و�أنه يقف عائقاً يف‬ ‫على التهم ّ‬ ‫�سبيل حتقيق مبادئهم‪ .‬فيت�ساءل عن الفعل الذي قام به العروبيون‪ ،‬وجنحوا‪ ،‬ومل يكن احلزب‬ ‫�إىل جانبهم‪ .‬وهو الذي يعمل على �إيجاد حلف عربي‪� ،‬أو جبهة عربية خالية من الإجحاف‬ ‫بال�سيادة القومية‪ .‬والقومية ال�سورية ال تتنافى مطلقاً مع �إيجاد جبهة عربية �أو حلف عربي‪.4‬‬ ‫وين�سج �سعاده على املنوال نف�سه يف بيان الأول من �آذار‪ ،1937‬وهو ذكرى ميالده‪� ،‬أن �إن�شاء‬ ‫جبهة عربية هي الق�ضية العربية يف الأ�سا�س‪ ،‬لأن اختالط املفاهيم وبلبلتها �أوجدا الإلتبا�س‬ ‫بني الق�ضية العربية‪ ،‬والقومية العربية التي ال وجود لها �إال يف �أذهان مر ّوجيها‪ ،‬لأن القومية‬ ‫هي �شعور كل �أمة بذاتها‪ ،‬وال ميكن �أن تكون م�شرتكة بني عدد من الأمم‪ .‬وبالتايل ف�إن الق�ضية‬ ‫العربية هي ق�ضية �سيا�سية ومواجهتها يقت�ضي �إن�شاء جبهة عربية من �أمم العامل العربي "على‬ ‫‪ . 1‬من حديث �إىل جريدة النه�ضة حول الكيان اللبناين‪ ،‬العدد‪ ،1937 /10 /14 ،1‬بريوت‪� ،‬أنظر‪:‬‬ ‫ امل�صدر نف�سه‪� ،‬ص‪.146 - 145‬‬‫‪ . 2‬امل�صدر نف�سه‪� ،‬ص‪.146‬‬ ‫‪ . 3‬من حديث �إىل جريدة الرائد الطرابل�سية‪ ،‬العدد‪ ،1936 /6 /11 ،93‬طرابل�س‪� ،‬أنظر‪:‬‬ ‫ امل�صدر نف�سه‪� ،‬ص‪.29‬‬‫‪ . 4‬من البيان املن�شور يف جريدة الرائد الطرابل�سية‪ ،‬العدد‪� ،1937 /6 /18 ،94‬أنظر‪:‬‬ ‫ امل�صدر نف�سه‪� ،‬ص‪.26‬‬‫‪46‬‬


‫ف�������������ك�������������ر‬

‫�أ�سا�س امل�صالح امل�شرتكة‪ ،‬ويتم ت�أليف اجلبهة بتفاهم هذه الأمم بوا�سطة م�ؤمتر متثل فيه‪ ،‬فال‬ ‫يتف ّرد بع�ض الفئات يف بع�ض هذه الأمم بتعيني ق�ضية عربية من عند �أنف�سهم مل ينظروا من‬ ‫ورائها �إىل م�صلحة �سوى م�صلحتهم اخلا�صة"‪ .1‬وظهرت الق�ضية اللبنانية يف املقابل من باب‬ ‫ال�ضدية‪ .‬ون�ش�أ عن الق�ضيتني تثبيت للحالة كما هي‪ ،‬وال تزال حتى اليوم‪ ،‬مع م�سرية‬ ‫الثنائية ّ‬ ‫�سيا�سية واجتماعية ت�سري من �سيئ �إىل �أ�سو�أ‪.‬‬ ‫من امل�ساجلة �إىل الربهان القومي‬

‫يعترب �سعاده �أن ما ين�ش�أ عن الق�ضية العربية‪� ،‬أو الق�ضية اللبنانية‪ ،‬هي م�سائل ظرفية تتعلق‬ ‫بالأحوال الدينية والإتنية‪ ،‬وال ترقى �إىل الق�ضية العقائدية لأنها وليدة ظروف ع�صبيات‬ ‫�سيا�سية‪ .‬ولأنها كذلك‪ ،‬فكل الإرادات النا�شئة عنها هي �إرادات ظرفية لي�ست ثابتة وال‬ ‫دائمة‪" ،‬لأنها لي�ست وليدة وحدة حياة اجتماعية ووحدة م�صاحلها الدائمة"‪ .2‬ويو�ضح �سعاده‪،‬‬ ‫هنا‪ ،‬فكرته بالقول �إن م�صلحة التعاون على حترير الأقطار العربية لي�ست م�صلحة قومية لأنها‬ ‫تنتهي بح�صول احلرية‪ ،‬وتزول لترتك املجال للم�صالح القومية اخلا�صة الدائمة‪ .‬وهي النا�شئة‬ ‫بطبيعتها عن وحدة حياة دائمة؛ وهي احلياة املنتجة للعالقات املخ�صو�صة بكل جمتمع على‬ ‫حدة‪ ،‬واملتم ّيزة بتم ّيزه‪ .3‬و�أهم ما قاله �سعاده يف هذا املجال‪�" :‬إن ا�شرتاك �أمم العامل العربي‬ ‫يف طلب احلرية واال�ستقالل ال يو ّلد وحدة قومية‪ ،‬بل يو ّلد وحدة اجتاه �سيا�سي تظل قائمة ما‬ ‫دام هنالك حاجة اليها‪ .‬ف�إذا مت التحرر ال�سيا�سي عادت كل �أمة من هذه الأمم �إىل حاجاتها‬ ‫وم�صاحلها النا�شئة عن وحدة حياتها‪ .‬ونحن ال نريد �أن نكون ق�صريي النظر �إىل حد �أن تختلط‬ ‫علينا امل�صالح القومية واحلاجات ال�سيا�سية"‪.4‬‬ ‫مل يبق �سعاده حم�صوراً يف �إمكانية التعاون ال�سيا�سي يف الق�ضايا العربية‪ ،‬بل ّ‬ ‫توغل �أكرث‬ ‫من ذلك يف ر�سم عالقة احلزب مع العامل العربي‪ ،‬وخ�صو�صاً بعد �إظهار مواقف الذين‬ ‫حاربوا النه�ضة القومية من طريف النقي�ض‪ :‬ال�ضاربني على وتر اجلامعة العربية – اال�سالمية‪،‬‬ ‫‪� . 1‬سعاده‪ ،‬الأعمال الكاملة‪ ،‬اجلزء الثالث‪ ،‬مذكور �سابقاً‪� ،‬ص‪ .178‬وقد ظهر هذا اخلطاب يف كرا�س �سنة ‪.1938‬‬ ‫‪ . 2‬امل�صدر نف�سه‪� ،‬ص‪.182‬‬ ‫‪ . 3‬امل�صدر نف�سه‪� ،‬ص‪.182‬‬ ‫‪ . 4‬امل�صدر نف�سه‪� ،‬ص‪.182‬‬ ‫‪47‬‬


‫وال�ضاربني على وتر االنف�صال اللبناين املاروين‪ .‬و�إذا كان ال ّبد من �إظهار هذه العالقة �إىل‬ ‫العامل‪ ،‬وعالقة احلزب مع هذا العامل‪ ،‬فيمكن القول �إن احلزب عروبي يف موقفه قبالة العامل‬ ‫غري العربي؛ عروبي يف اعتباره �سورية �أمة من �أمم العامل العربي‪ .‬و�إذا كانت امل�س�ألة تتعلق‬ ‫مبكانة العامل العربي وكرامته‪" ،‬فنحن جبهة العامل العربي و�سيفه وتر�سه"‪ .1‬ويعود فيكرر هذا‬ ‫املوقف يف خطبة الأول من �آذار العام ‪ ،1949‬بقوله‪" :‬نحن هم العرب قبل غرينا‪ .‬نحن جبهة‬ ‫العامل العربي و�صدره و�سيفه وتر�سه‪ ،‬ونحن حماة ال�ضاد وم�صدر اال�شعاع الفكري يف العامل‬ ‫العربي كله‪ ....‬ومتى كانت م�س�ألة ال�شعب يف لبنان وحياته فنحن هم اللبنانيون احلقيقيون‬ ‫وال لبنانيني غرينا"‪� .2‬إال �أن هذا االعتبار ال يخرج عن مبادئ ن�شوء الأمم‪ ،‬و�أ�صول العالقات‬ ‫بني الأمم‪ .‬وقد اعترب �أن عدم وجود �أ�سا�س اجتماعي اقت�صادي لإن�شاء دولة يف لبنان‪ ،‬يتماثل‬ ‫مع عدم وجود هذا الأ�سا�س لإن�شاء �أمة واحدة من بلدان العامل العربي املنت�شرة يف �آ�سيا‬ ‫و�أفريقيا‪ ،‬مبا يتخللها من �صحارى وبحار‪ ،‬ومبا تختلف فيه �شعوبها‪ .‬لذلك فقد جاءت فكرة‬ ‫الوحدة العربية‪ ،‬على ما يقول �سعادة‪" ،‬تعبرياً عن هو�س ديني �أكرث منها حقيقة"‪ .3‬وقد ر�أى‬ ‫�سعاده �أن �أهم ما ميكن �أن يقوم به العرب يف �أحوالهم احلا�ضرة هو عقد امل�ؤمترات واللقاءات‬ ‫الدورية واملحالفات التي هي الطريق العملية الوحيدة حل�صول تعاون الأمم العربية‪ ،‬و�إن�شاء‬ ‫جبهة عربية ميكن �أن يكون لها وزنها يف ال�سيا�سة الدولية‪ .4‬وبعد هذا الكالم ب�سنتني ن�ش�أت‬ ‫جامعة الدول العربية التي ال تزال حتى الآن دون �أن تظهر �أي تقدم يف طريق التكامل �أو‬ ‫االحتاد‪� ،‬أو حتى التعاون الب ّناء‪ ،‬من �أجل امل�صالح العربية العليا‪ .‬وقد اعترب �سعاده �أن بدايات‬ ‫الدعوة �إىل تعاون عربي من خالل عقد م�ؤمتر للبحث يف ق�ضايا العرب‪ ،‬كانت حجر الأ�سا�س‬ ‫لبناء اجلامعة العربية‪ ،‬على الن�سق الأويل الذي دعا �إليه‪.5‬‬ ‫‪� . 1‬سعاده‪ ،‬الأعمال الكاملة‪ ،‬اجلزء الرابع‪ ،‬مذكور �سابقاً‪� ،‬ص‪ .136‬وقد جاء هذا املقال يف جريدة الزوبعة‪ ،‬العدد ‪/1 ،13‬‬ ‫‪ ،1941 /2‬بيون�س �آير�س‪.‬‬ ‫‪� . 2‬سعادة‪ ،‬الأعمال الكاملة‪ ،‬اجلزء الثالث‪ ،‬مذكور �سابقاً‪� ،‬ص‪ .25 - 24‬وهو من خطاب �سعادة يف الأول من �آذار ن�شر يف‬ ‫جريدة �سورية اجلديدة‪ ،‬العدد‪� ،1940 /4 /27 ،63‬سان باولو‪.‬‬ ‫‪� . 3‬سعاده‪ ،‬الأعمال الكاملة‪ ،‬اجلزء ال�ساد�س‪ ،‬مذكور �سابقا‪� ،‬ص‪ .552‬وقد جاء هذا الكالم يف خطاب �ألقاه �سعاده يف‬ ‫ذكرى الت�أ�سي�س يف الإرجنتني‪ ،‬ون�شر يف جريدة الزوبعة‪ ،‬العدد ‪.1944 /1 /15 ،71‬‬ ‫‪ . 4‬امل�صدر نف�سه‪� ،‬ص‪.552‬‬ ‫‪ . 5‬امل�صدر نف�سه‪� ،‬ص‪.553‬‬ ‫‪48‬‬


‫ف�������������ك�������������ر‬

‫لي�شدد على �صحة الر�ؤية القومية االجتماعية للعرب والعروبة بعد‬ ‫يف العام ‪ ،1947‬عاد �سعاده ّ‬ ‫ت�أ�سي�س اجلامعة العربية التي �أثبت �إن�شا�ؤها �صوابية النظرة �إىل الق�ضية العربية ال�سيا�سية‪ ،‬وهي‬ ‫�ضرورة وجود التعاون والتكامل بني الأقطار العربية‪� ،‬إذا مل يتحقق وجود �أممها‪ ،‬من خالل‬ ‫ميثاق اجلامعة الذي ين�ص على التعاون العربي يف كل الأوجه‪ ،‬ملا فيه م�صلحة العرب‪ .‬وقد‬ ‫دفع ذلك �سعاده �إىل القول بانت�صار احلق على الباطل‪ .‬و�أظهر من خالل املمار�سة �أن القومية‬ ‫االجتماعية ما كانت‪ ،‬ولن تكون‪ ،‬عدوة للعرب والعروبة‪ .‬و�إذا كان يف العامل عروبة حقيقية‬ ‫�صميمة‪ ،‬فهي عروبة احلزب القومي االجتماعي"‪ .1‬ويعطي �سعادة مثا ًال على ذلك‪ ،‬من خالل‬ ‫الت�سا�ؤل‪ ،‬ومن ثم الإجابة‪" :‬ما هي هذه اجلامعة العربية التي متثّل العامل العربي اليوم؟ �أهي‬ ‫فكرة العروبيني اخلياليني الوهميني الذين يريدون امرباطورية عربية‪ ،‬ووحدة قومية عربية؟ �أم‬ ‫هي تطبيق ما جاء به حزبكم من �إيجاد جبهة من الأمم العربية تكون �سداً �ضد املطامع الأجنبية‬ ‫اال�ستعمارية"‪2‬؟ وعليه‪ ،‬يظهر �أن اجلامعة العربية جاءت لتحقق ما نادى به احلزب القومي‪،‬‬ ‫وبذلك‪" ،‬كنا نحن �أ�صحاب العروبة احلقيقيني‪ ،‬وغرينا �أ�صحاب العروبة الباطلة"‪.3‬‬ ‫الطريق �إىل الإفال�س‬

‫يف �أقل من �ستة �أ�شهر من اعتقال �سعادة وحماكمته و�إعدامه يف حركة �سريعة من احلكومة‬ ‫اللبنانية‪ ،‬جعلت من تنفيذ احلكم �أقرب �إىل الإغتيال‪ ،‬ظهرت مقالة ل�سعاده يف جريدة "كل‬ ‫احلدة من قبل‪ .‬وقد ظهر يف‬ ‫�شيء" يف بريوت تف�صح عن خ�صومة �صارخة مل تكن بهذه ّ‬ ‫هذه الفرتة‪� ،‬أن العروبيني يف لبنان و�سورية اتهموا احلزب القومي ب�أنه "عدو العرب"‪ .‬وهذا‬ ‫ما دفع �سعادة �إىل كتابة هذا املقال حتت عنوان "العروبة �أفل�ست"‪ .‬لقد �أظهر يف هذا املقال‬ ‫الأ�سباب التي ال ميكن �أن جتعل من العامل العربي �أمة واحدة‪ ،‬ملخالفة ذلك لنوامي�س‬ ‫االجتماع االن�ساين‪ ،‬وللعقل العلمي‪ ،‬وللمنطق التحليلي لكيفية ن�شوء الأمم وتطورها‪ .‬ويقدم‬ ‫ما يدعم ذلك من حجج وبراهني‪� ،‬إن كان بالن�سبة المتداد العامل العربي على مدى قارتني‪،‬‬ ‫�أو الختالف �أجنا�سهم‪ ،‬وتباعد بيئاتهم‪ ،‬وتباين نف�سياتهم‪ .‬وب�سبب هذه العوامل‪ ،‬ي�صري من‬ ‫‪� . 1‬سعاده‪ ،‬الأعمال الكاملة‪ ،‬اجلزء ال�سابع‪ ،‬مذكور �سابقاً‪� ،‬ص‪ .206‬وقد جاء ذلك يف خطاب العودة �إىل الوطن يف‪/2/3‬‬ ‫‪ ،1947‬ون�شرته �صدى النه�ضة‪ ،‬العدد‪ ،1947 /3 /5 ،245‬بريوت‪.‬‬ ‫‪ . 2‬امل�صدر نف�سه‪� ،‬ص‪.206‬‬ ‫‪ . 3‬امل�صدر نف�سه‪� ،‬ص‪.206‬‬ ‫‪49‬‬


‫امل�ستحيل العمل على الوحدة العربية التي يعمل عليها العروبيون‪ .‬وبالتايل ي�صري هذا العمل‬ ‫م�ضيعة للوقت‪ ،‬وهدراً للطاقات ال�سورية التي لها مطالبها يف احلياة‪ .‬وقد ظهرت هذه املطالب‬ ‫على �شكل مبادئ وتعاليم تعمل على بعث نه�ضة قومية اجتماعية ت�شمل وعي حقيقة الأمة‬ ‫ال�سورية ووحدة حياتها وم�صريها‪.1‬‬ ‫اعترب �سعاده �أن هذه التعاليم كانت ال�سبب الذي دفع العروبيني �إىل مهاجمة عقيدة احلزب‬ ‫وتعاليمه لدرجة �أنهم اعتربوه‪ ،‬بو�ساو�سهم وهياجهم‪ ،‬على ما يقول �سعاده‪ ،‬عدواً للعرب‪ .‬وهو‬ ‫اعتبار ال ميكن �أن ي�صدر �إال عن مر�ضى نف�سيني‪ ،‬يتهي�أ لهم ما هو غري موجود �أ�ص ًال‪.2‬‬ ‫على هذا الأ�سا�س بنى �سعاده حتليله ال�صريح والوا�ضح الذي تناول فيه العالقة بني �سورية‬ ‫الطبيعية والعروبة‪ .‬وقد بد�أ يف القول �إن �سورية بالن�سبة للعروبة هي‪ ،‬ح�سب التحليل‬ ‫االقت�صادي‪�" ،‬صادر بال وارد"‪ ،‬مبعنى �أنها عملية ا�ستنزاف للموارد الب�شرية واملادية بال مقابل‪.‬‬ ‫ولأنها كذلك‪ ،‬ف�إن العمل مبوجب هذه العالقة‪ ،‬هو �إ�ضاعة للحقيقة يف خ�ضم من الأوهام‬ ‫والأ�ضاليل‪ .‬ويعمل على ن�شرها وتر�سيخها �أ�صحاب امل�صالح اخل�صو�صية ليبقوا على نفوذهم‪،‬‬ ‫وليبتعدوا عن كل ما ميكن �أن يو�صل �إىل التغيري‪.3‬‬ ‫ويعود �سعاده �إىل التذكري ب�أهمية نهو�ض الأمة ال�سورية لتكون قادرة على العمل لنهو�ض‬ ‫العامل العربي‪ ،‬ب�أممه الأربعة واحتاده ال�سيا�سي‪ .‬كما ّ‬ ‫يذكر بالتهليل الذي �أقامه عند �إن�شاء‬ ‫اجلامعة العربية التي عليها �أن تكون رافعة للنهو�ض العربي والعاملة على تقوية �أوا�صره مبا يق ّره‬ ‫العلم واملنطق و�أمور االجتماع‪� .‬إال �أن اخليبة كانت دائماً خم ّيمة عند �أي مف�صل من حياة‬ ‫العرب ال�سيا�سية واالجتماعية‪" .4‬ذهبت كيليكيا‪ ...‬قال العروبيون ال ب�أ�س‪ .‬ف�إن الوحدة‬ ‫‪� . 1‬سعاده‪ ،‬الأعمال الكاملة‪ ،‬اجلزء الثامن‪ ،‬مذكور �سابقاً‪� ،‬ص‪ .256‬وقد جاء ذلك يف مقال ن�شرته جريدة كل �شيء‬ ‫العدد ‪.1949 /1 /21 ،95‬‬ ‫‪ . 2‬امل�صدر نف�سه‪� ،‬ص‪.256‬‬ ‫‪ . 3‬امل�صدر نف�سه‪� ،‬ص‪.257 256-‬‬ ‫‪ . 4‬حول مركزية اجلامعة العربية وت�أثري مركزها على قراراتها التي ميكن �أن ت�ؤثر على �سيادة دولها القومية‪ ،‬ووجوب جعل‬ ‫مركز اجلامعة دورياً كل �سنة يف دولة‪ ،‬من �أجل �أن تبقى لكل �أمة من �أمم العامل العربي حرية العمل وحق التعاقد وتقرير‬ ‫امل�صري‪� ،‬أنظر‪:‬‬ ‫ امل�صدر نف�سه‪� ،‬ص‪ .200 199-‬وقد جاء ذلك يف مقال ن�شر يف اجليل اجلديد‪ ،‬العدد ‪ ،1948 /4 /9 ،5‬بريوت‪� ،‬أي بعد‬‫ثالث �سنوات على ت�أ�سي�س اجلامعة العربية‪.‬‬ ‫‪50‬‬


‫ف�������������ك�������������ر‬

‫العربية �ستتكفل ب�إعادة هذه الأر�ض‪ .‬ثم ذهبت الإ�سكندرونة‪ ،‬فقال العروبيون ال ب�أ�س‪،‬‬ ‫فالوحدة العربية متى متّت تعيدها‪...‬ثم جاءت �أزمة فل�سطني‪( ...‬فـ)مل يجتمع العامل العربي‬ ‫�أمة واحدة يف فل�سطني‪ ،‬كما كان يزعم ال�سوريون العروبيون‪ .‬وقد ظهرت يف فل�سطني حقيقة‬ ‫الواقع �أن العامل العربي �أمم ال �أمة"‪.1‬‬ ‫مل يكن ذلك فح�سب‪ ،‬يف نقد �سعاده للعروبة والعروبيني‪ .‬بل اعترب �أن م�س�ألة فل�سطني كانت‬ ‫الرد ال�ساطع على الوهم العروبي‪ ،‬ووهم العروبيني‪ .‬وكانت فل�سطني وما �آلت �إليه الأمور فيها‪،‬‬ ‫بعد و�ضوح الواقع ال�سيا�سي‪ ،‬واالنذارات املتكررة من خطورة ما يجري فيها؛ هي املف�صحة‬ ‫عن �إفال�س العروبة‪" .‬يف فل�سطني �أفل�ست العروبة‪ ،‬و�أفل�ست الفئة العروبية"‪ .2‬ذلك �أن‬ ‫العروبيني حاولوا �أن يواجهوا ق�ضية �سيا�سية دولية "مبقالع" الق�ضايا الوهمية واملبادئ امليتة‪.‬‬ ‫�أو�صل هذا التحليل �سعاده �إىل �إنهائه بالقول‪� ،‬إنه و ّدع العروبة‪ ،‬بل�سان الأمة ال�سورية‪� .‬إال �أن‬ ‫العروبة التي و ّدعها هي العروبة الوهمية‪ ،‬العاجزة االتكالية‪ .‬وهو وداع فاجع‪ ،‬على ما يقول‪،‬‬ ‫وذلك "لتل ّبي (الأمة ال�سورية) دعوة احلركة القومية االجتماعية �إىل قوميتها احلقيقية‪ ،‬ولرتى‬ ‫بعني حقيقتها‪ ،‬هي‪ ،‬واقع العامل العربي‪ ...‬بهذا االجتاه ت�صري الأمة ال�سورية قوة فاعلة يف‬ ‫العروبة الواقعية التي �أعلن ُتها‪ -‬عروبة التعاون بني �أمم العامل العربي"‪ .3‬بهذا القول الف�صل‪،‬‬ ‫ح�سب �سعادة‪ ،‬يتبينّ الفرق بني العروبة الوهمية والعروبة الواقعية‪.‬‬ ‫يبدو من املقاالت التي ن�شرها �سعادة حول العروبة واالنعزالية اللبنانية‪ 4‬التي جرت على‬ ‫مدى الأ�شهر القليلة التي �سبقت �إعدامه يف ‪ 8‬متوز ‪ ،1949‬قد �ساهمت يف تعريته من كل‬ ‫"عزوة" له‪� ،‬إن كانت طائفية من "انعزاليته" اللبنانية التي دفعها عنه مبواقفه املبدئية‪� ،‬أو من‬ ‫"عروبته الوهمية املفل�سة" التي ابتعد عنها بعروبته الواقعية‪ ،‬فابتعدت عنه‪ .‬ف�صار �سعاده‪،‬‬ ‫‪ . 1‬امل�صدر نف�سه‪� ،‬ص‪.257‬‬ ‫‪ . 2‬امل�صدر نف�سه‪� ،‬ص‪.258‬‬ ‫‪ . 3‬امل�صدر نف�سه‪� ،‬ص‪.258‬‬ ‫‪� . 4‬أنظر يف هذا اخل�صو�ص للتف�صيل حول م�سائل العروبة والقومية االجتماعية واالنعزالية اللبنانية التي �أفقدت �أي �إمكانية‬ ‫للتوا�صل بني احلزب القومي والأحزاب العروبية واللبنانية‪ ،‬املقاالت التالية باال�ضافة �إىل مقال "العروبة �أفل�ست"‪.‬‬ ‫ �سعاده‪ ،‬واالنعزالية اللبنانية �أفل�ست‪ ،‬كل �شيء‪ ،‬العدد ‪ ،1949 /28/1 ،96‬بريوت‪.‬‬‫ �سعاده‪ ،‬انت�صار القومية ال�سورية يحقق اجلبهة العربية القوية‪ ،‬كل �شيء‪ ،‬العدد‪ ،1949 /4/2 ،97‬بريوت‪.‬‬‫ �سعاده‪ ،‬حاربنا العروبة الوهمية لنقيم العروبة الواقعية‪ ،‬كل �شيء‪ ،‬العدد‪ .1949 /2 /11 ،98‬بريوت‪ .‬وغريها �أي�ضاً‪.‬‬‫‪51‬‬


‫لذلك‪" ،‬لقمة �سائغة" يف �أ�شداق العروبيني واملتلبننني على ال�سواء‪ .‬ومل يحتج امل�س�ؤولون يف‬ ‫�أكرث من بلد عربي �إىل �أكرث من ثالث وثالثني �ساعة ليقب�ضوا عليه ويحاكموه وينفذوا فيه‬ ‫يق�ض امل�ضاجع‪.‬‬ ‫احلكم انت�صاراً للحاكمني‪ ،‬وتخلي�صاً لهم من "م�شاك�س" ّ‬ ‫وبعد‪..‬‬

‫بقيت العروبة‪ ،‬كما بقيت القومية االجتماعية‪ ،‬والقومية اللبنانية‪ .‬و�أنتجت العروبة نظامني‬ ‫للحكم يف �سورية والعراق‪ .‬و�أنتجت العروبة قائداً فذاً يف م�صر‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬بقيت الأمور كما‬ ‫هي‪ .‬ومل ين�ش�أ ما ميكن �أن يجعل من البلدان العربية ال جمتمعاً واحداً‪ ،‬على ما تقول القومية‬ ‫العربية‪ ،‬وال جمتمعات‪� ،‬إال على قدر ما دخل منها يف اجلامعة العربية‪ ،‬وكانت على ازدياد‪.‬‬ ‫وجرت حماوالت للتوحيد بني بلدين‪� ،‬أو ثالثة‪ ،‬منذ �أيام الوحدة بني م�صر و�سورية‪ .‬ومل ي�ؤد‬ ‫الأمر �إىل نتيجة ميكن �أن تدخل يف احل�سابات الرابحة للقومية العربية‪ .‬حارب حزب عروبي‬ ‫نف�سه يف بلدين �سوريني عربيني‪ .‬و�أو�صلته هذه احلرب �إىل �إفال�س من نوع جديد �أطاح بق�سم‬ ‫َ‬ ‫منه يف العراق‪ ،‬ويعمل على الإطاحة بالق�سم الثاين‪ ،‬با�سم العروبة وب�أدوات العروبة‪ ،‬بعن�صرها‬ ‫ودينها و�أموالها‪ ،‬وبا�سم الدين من مناطق كثرية يف العامل‪ ،‬وبا�سم الإتنيات والدميوقراطة‬ ‫والتعدد ال�سيا�سي يف احلكم‪ ،‬يف البلد املق�صود بذاته‪ .‬وتعاظمت املطالبات مبا ال يتوافق مع‬ ‫العروبة‪� ،‬إن كان يف �شمايل �أفريقيا مع الرببر‪� ،‬أو يف ال�سودان بني �شماله وجنوبه‪� ،‬أو يف م�صر‬ ‫بني �أهله من م�سلمني و�أقباط‪ ،‬ويف اليمن بني حوثييه و�س ّنييه العرب‪ ،‬ويف العراق و�سورية‬ ‫بني عربه و�أكراده و�أ�شورييه وكلدانه‪ ،‬و�شراك�سته وتركمانه‪ ،‬وبني طوائف العرب �أنف�سهم؛ ويف‬ ‫لبنان بني عربه‪ ،‬على اختالفاتهم‪ ،‬وفينيقييه و�سريانييه‪ .‬فظهر الأمر لي�س فقط تهديداً للعرب‬ ‫والعروبة‪ ،‬بل تهديد لكل من هو موجود على �أر�ض العرب‪ ،‬من احلجر �إىل ال�شجر والب�شر‪.‬‬ ‫وما زاد من خطورة الأمور ما يقوم به التكفرييون ّ‬ ‫املتخطون للقوميات على اختالف توجهاتها‪،‬‬ ‫با�سم �شمولية الدين‪ .‬ويف هذه احلاالت‪ ،‬جميعاً‪ ،‬لن ي�سلم من ه�ؤالء �أحد‪ ،‬با�سم الثورة تارة‪،‬‬ ‫وبا�سم الدين تارة‪ ،‬وبا�سم الربيع طوراً‪ ،‬وبا�سم الدميوقراطية‪ ،‬وهنا املفارقة‪ ،‬تارات �أخرى‪.‬‬ ‫ولنتخيل يف الأخري‪ ،‬ما ميكن �أن تفعله القومية االجتماعية لو كانت هي املط ّبقة يف هذه‬ ‫البلدان‪ .‬تنقلب الأحوال يف املغرب العربي ووادي النيل �إىل ممار�سة �سيا�سية تنموية تتجاوز‬ ‫االختالفات الإتنية والدينية با�سم القومية دون �إلغاء فئة مل�صلحة فئة �أخرى با�سم الدميوقراطية‪.‬‬ ‫‪52‬‬


‫ف�������������ك�������������ر‬

‫وباملنهجية القومية االجتماعية تنتفي هذه االختالفات يف اجلزيرة العربية وبلدان اخلليج‬ ‫با�سم الإخاء القومي‪ ،‬وتتجه اجلهود �إىل البناء والتنمية الب�شرية واالقت�صادية‪.‬‬ ‫علي القول ما كان ميكن �أن يح�صل يف �سورية الطبيعية لو ّمت الأمر على هذا النحو؟‬ ‫وهل ّ‬ ‫من امل�ؤكد �أن هذا الأمر لو ّمت قبل �سنوات قليلة‪ ،‬ملا ر�أينا ما �أ�صابنا من قتل وتدمري‪ ،‬وتخريب‬ ‫وتهجري‪ ،‬يف احلجر وال�شجر والب�شر‪ ،‬ر ّدتنا قرنني من الزمان �إىل الوراء‪.‬‬ ‫ما ح�صل‪ ،‬ويح�صل‪ ،‬ما هو �إال االنغما�س يف عروبة مل تتحقق‪� ،‬أخرجتنا من منطق التاريخ‬ ‫واجلغرافية‪ ،‬و�أبعدتنا عن العروبة الواقعية؛ عروبة النمو والتقدم والتكامل يف عامل عربي‬ ‫ح�ضاري منفتح‪ ،‬ي�أخذ مكانه الالئق بني �أمم العامل‪.‬‬

‫‪53‬‬


‫امل�صادر واملراجع‬

‫• احلكيم‪ ،‬يو�سف‪� ،‬سورية واالنتداب الفرن�سي‪ ،‬دار النهار للن�شر‪ ،1983 ،‬بريوت‪.‬‬ ‫• خلف اهلل‪ ،‬حممد �أحمد‪ ،‬القر�آن والدولة‪ ،‬الطبعة الثانية‪ ،‬امل�ؤ�س�سة العربية للدرا�سات والن�شر‪،‬‬ ‫‪ ،1981‬بريوت‪.‬‬ ‫• زيادة‪ ،‬خالد‪ ،‬حكاية في�صل‪ ،‬دار النهار للن�شر‪ ،1999 ،‬بريوت‪.‬‬ ‫• زين‪ ،‬زين نور الدين‪ ،‬ال�صراع الدويل يف ال�شرق الأو�سط‪ ،‬دار النهار للن�شر‪ ،1971 ،‬بريوت‪.‬‬ ‫• زين نور الدين زين‪ ،‬ن�شوء القومية العربية‪ ،‬الطبعة الثانية‪ ،‬دار النهار للن�شر‪ ،1972 ،‬بريوت‪.‬‬ ‫• �سعاده‪� ،‬أنطون‪ ،‬الأعمال الكاملة‪ ،‬من اجلزء الأول �إىل اجلزء الثامن‪ ،‬م�ؤ�س�سة �سعادة للثقافة‪،‬‬ ‫‪ ،2001‬بريوت‪.‬‬ ‫• ال�صليبي‪ ،‬كمال‪ ،‬تاريخ لبنان احلديث‪ ،‬الطبعة ال�سابعة‪ ،‬دار النهار للن�شر‪ ،1991 ،‬بريوت‪.‬‬ ‫• �ضاهر‪ ،‬م�سعود‪ ،‬اجلذور التاريخية للم�س�ألة الطائفية اللبنانية‪ ،‬معهد االمناء العربي‪،1981 ،‬‬ ‫بريوت‪.‬‬ ‫• عبد الرازق‪ ،‬علي‪ ،‬اال�سالم و�أ�صول احلكم‪ ،‬الهيئة امل�صرية العامة للكتاب‪ ،1993 ،‬القاهرة‪.‬‬ ‫• عبدو‪ ،‬حممد‪ ،‬ر�سالة التوحيد‪ ،‬مقدمة حممد عمارة‪ ،‬دار ال�شروق‪ ،1994 ،‬القاهرة‪.‬‬ ‫• عطيه‪ ،‬عاطف‪ ،‬الدولة امل�ؤجلة‪ ،‬دار �أمواج ومكتبة بيب�سان‪ ،2000 ،‬بريوت‪.‬‬ ‫• كوثراين‪ ،‬وجيه‪ ،‬االجتاهات االجتماعية يف لبنان وامل�شرق العربي‪ ،‬معهد االمناء العربي‪،1976 ،‬‬ ‫بريوت‪.‬‬ ‫• لورن�س‪ ،‬ت‪� .‬أ‪� ،‬أعمدة احلكمة ال�سبعة‪ ،‬دار الآفاق اجلديدة‪ ،‬الطبعة الرابعة‪ ،1980 ،‬بريوت‪.‬‬ ‫• مو�سى‪� ،‬سليمان‪ ،‬احلركة العربية‪ ،‬الطبعة الثانية‪ ،‬دار النهار للن�شر‪ ،1977 ،‬بريوت‬ ‫• النجار‪ ،‬حممد رجب‪ ،‬حكايات ال�شطار والعيارين يف الرتاث العربي‪ ،‬عامل املعرفة ‪ ،45‬املجل�س‬ ‫الوطني للثقافة والفنون والآداب‪ ،1981 ،‬الكويت‪.‬‬ ‫• هوا�ش‪ ،‬حممد‪ ،‬تك ّون جمهورية‪� ،‬سورية واالنتداب‪ ،‬من�شورات ال�سائح‪ ،2005 ،‬طرابل�س‪ ،‬لبنان‪.‬‬ ‫‪54‬‬


‫ف�����������������ك�����������������ر‬

‫فل�سفة احلياة والكون املعلوماتي‬ ‫ح�سن عجمي ‪ -‬كاتب وباحث‬

‫من ِّيز عاد ًة بني مفاهيم احلياة والعقل واللغة والكون املادي‪ .‬لكن من املمكن بحق اجلمع‬ ‫بني هذه املفاهيم وحتليلها على �ضوء منوذج علمي معا�صر مفاده �أن املادة يف احلقيقة جمرد‬ ‫معلومات‪ .‬بالن�سبة �إىل هذا النموذج العلمي احلديث‪ ،‬الكون املادي يتك ّون من معلومات؛‬ ‫فاحلقائق والأحداث والعالقات فيما بينها لي�ست �سوى جمموعات من املعلومات وعمليات‬ ‫تبادل للمعلومات (‪Paul Davies and Niels Gregersen (Editors): Information‬‬ ‫‪ .)and the Nature of Reality. 2010. Cambridge University Press‬على �أ�سا�س‬ ‫هذا التفكري العلمي‪ ،‬نح ّلل احلياة والعقل واللغة لرن�صد كيف ّ‬ ‫ت�شكل هذه املفاهيم حق ًال‬ ‫وجودياً واحداً ال ينف�صل وال يتجز�أ‪.‬‬ ‫يع ِّرف الفيزيائي �أرون �شرودنغر احلياة على النحو التايل‪ :‬املادة تت�صف باحلياة فقط حني تفعل‬ ‫�شيئاً وتتحرك وتتبادل املواد مع حميطها يف فرتة زمنية �أطول من املتوقع حدوثه مع املادة غري احلية‬ ‫املوجودة يف الظروف عينها‪Erwin Schrodinger: What is Life?. 1944. Cambridge( .‬‬ ‫‪ .)University Press‬لكن يف�شل هذا التحليل للحياة لأنه يقع يف الدور‪ .‬والدور هو حتليل‬ ‫املفهوم من خالل املفهوم ذاته كتعريف املاء باملاء‪ .‬لذا هو مرفو�ض منطقياً‪ .‬بالن�سبة �إىل حتليل‬ ‫�شرودنغر للحياة‪ ،‬املادة احلية هي التي تقوم بالأفعال وتتبادل املواد مع حميطها يف فرتة زمنية‬ ‫�أطول مما هو متوقع من قبل املادة غري احلية‪ .‬وبذلك ا�ستخدم �شرودنغر مفهوم غري احلي املت�ضمن‬ ‫ملفهوم احلي يف حتليل احلياة‪ ،‬وبذلك ا�ستعمل مفهوم احلياة يف حتليل احلياة‪ .‬ولذا وقع التحليل‬ ‫ال�سابق يف الدور‪ .‬من هنا يف�شل حتليل �شرودنغر للحياة‪� .‬أما بالن�سبة �إىل التعريف التقليدي‬ ‫للحياة فاحلي هو الذي يتوالد وينمو ويتغذى ويتحرك وميوت‪ .‬لكن هذا التحليل يقع �أي�ضاً‬ ‫يف الدور‪ .‬فهو يع ِّرف احلياة من خالل مفاهيم تت�ضمن مفهوم احلياة كمفهومي النمو واملوت‪.‬‬ ‫فالكائن الذي ينمو هو الكائن احلي‪ ،‬والكائن الذي ميوت هو الكائن الذي كان حياً‪ .‬هكذا مت‬ ‫‪55‬‬


‫حتليل احلياة من خالل مفهوم احلي‪ .‬وهذا دور مرفو�ض كتعريف املاء باملاء‪.‬‬ ‫يبدو �أن الطريقة الأف�ضل لتحليل احلياة كامنة يف االعتماد على مفهوم م�شرتك بني الكون‬ ‫املادي والكائنات احلية‪ .‬وهذا املفهوم هو مفهوم املعلومة‪ .‬فمن املمكن علمياً و�صف الكون‬ ‫املادي على �أنه معلومات‪ ،‬كما من املمكن علمياً �أي�ضاً و�صف الكائن احلي على �أنه جمموعة‬ ‫معلومات‪ .‬وبذلك مفهوم املعلومة م�شرتك بني املادة غري احلية واملادة احلية‪ ،‬ما يجعله منا�سباً‬ ‫لتحليل احلياة‪ ،‬علماً �أن احلياة معتمدة يف تك ّونها على املادة‪ .‬كما يتجنب هذا التحليل للحياة‬ ‫م�شكلة الوقوع يف الدور املرفو�ض منطقياً ما يحتم �أرجحية �صدق هذا التحليل؛ فتحليل‬ ‫احلياة على �أنها معلومات ال يت�ضمن حتليل احلياة من خالل مفهوم احلياة‪ .‬بالن�سبة �إىل هذا‬ ‫بكالم �آخر‪ ،‬احلياة جمموعة معلومات وعمليات تبادل و�إنتاج‬ ‫التحليل‪ ،‬احلياة نظام معلوماتي‪ٍ .‬‬ ‫للمعلومات‪ .‬فبما �أن اجلينات البيولوجية التي ّ‬ ‫تت�شكل منها الكائنات احلية لي�ست �سوى‬ ‫معلومات متوارثة‪� ،‬إذاً احلياة نظام معلوماتي‪.‬‬ ‫ينجح هذا النموذج الفكري يف تف�سري ملاذا توجد احلياة وكيف من املمكن وملاذا من املتوقع‬ ‫�أن تن�ش�أ احلياة من املادة غري احلية‪ ،‬ما يدعم م�صداقية هذا النموذج يف حتليل احلياة‪ .‬فبما‬ ‫�أن الكون املادي واحلياة �أنظمة معلوماتية كالكمبيوتر وبذلك املادة غري احلية واحلياة تتك ّونان‬ ‫من الأ�شياء ذاتها �أال وهي املعلومات‪� ،‬إذاً من املتوقع �أن توجد احلياة يف عاملنا املادي و�أن‬ ‫تن�ش�أ احلياة من املادة غري احلية‪ .‬هكذا ينجح هذا النموذج املعلوماتي يف تف�سري �إمكانية ن�شوء‬ ‫احلياة من املادة وملاذا توجد احلياة �أ�ص ًال‪ .‬ورغم جناح هذا التحليل يف ربط احلياة باملادة غري‬ ‫احلية ينجح �أي�ضاً يف التمييز بني الكائنات احلية وغري احلية‪ ،‬وبذلك يكت�سب هذا التحليل‬ ‫للحياة ف�ضائل معرفية �أخرى‪ .‬فمث ًال‪ ،‬احلجر ال ميلك احلياة بينما الكائنات الب�شرية واحليوانية‬ ‫حائزة على احلياة‪ .‬هذا ب�سبب �أن احلياة نظام معلوماتي يتبادل وينتج املعلومات‪ ،‬لكن احلجر‬ ‫ال ينتج املعلومات وبذلك هو لي�س حياً بينما الكائنات الب�شرية واحليوانية تنتج املعلومات من‬ ‫خالل �إدراكها و�أفعالها وردات �أفعالها ولذا هي حية رغم �أن املادة غري احلية والأحياء جمرد‬ ‫جمموعات من املعلومات‪.‬‬ ‫هذا النموذج الفكري نف�سه ميكننا من تف�سري العقل‪ .‬فكما من املمكن علمياً تف�سري وو�صف‬ ‫الكون واحلياة من خالل املعلومات ننجح علمياً �أي�ضاً يف و�صف وتف�سري العقل على �أنه‬ ‫معلومات‪ .‬ومن املتاح ذلك من خالل االعتماد على نظريات بع�ض العلماء‪ .‬فمث ًال‪ ،‬يطرح‬ ‫‪56‬‬


‫ف�������������ك�������������ر‬

‫الفيزيائي مي�شيو كاكو نظرية علمية مثرية مفادها �أن العقل لي�س �سوى كمبيوتر متطور‪ .‬وعلى‬ ‫�ضوء نظريته يتنب�أ بالتطورات العلمية يف امل�ستقبل‪ .‬يعتقد كاكو �أن امل�ستقبل القريب يحمل‬ ‫مفاج�آت عدة‪ ،‬منها �إمكانية ت�سجيل ذكرياتنا وا�ستعمالها ك�أ�شرطة فيديو ون�شوء روبوتات‬ ‫واعية (�أي �آالت �شبيهة بالإن�سان) �سرتافقنا يف حياتنا و�إمكانية حتميل وعينا يف �آالت متطورة‪،‬‬ ‫ما يحقق �إمكانية �أن يحيى وعينا �إىل الأبد‪ .‬وهذا امل�ستقبل حتمي ويت�ضمن معامل ع�صر ما‬ ‫بعد الإن�سان‪ .‬ي�ؤكد كاكو على �أن مع�ضالت الوعي الإن�ساين �سوف يتم حلها على �ضوء‬ ‫التطورات العلمية يف حقل علوم تكنولوجيا النيورونات‪ .‬بالن�سبة �إليه‪ ،‬العقل جمموعة برامج‬ ‫كمبيوترية معتمدة على النيورونات �أي اخلاليا الع�صبية يف الدماغ‪ .‬هذا يعني‪ ،‬كما يقول‬ ‫كاكو‪� ،‬أن العقل جمرد كمبيوتر م�صنوع من خاليا بيولوجية‪ .‬وبذلك فهم العقل لي�س �سوى‬ ‫م�س�ألة هند�سية‪ .‬ي�ضيف كاكو قائ ًال �إن القوانني املتحكمة بالكمبيوترات معروفة‪ .‬وبذلك‬ ‫�سنتمكن قريباً من التحكم بالوعي كما نتحكم اليوم بالإلكرتونات املوجودة يف الكمبيوتر‬ ‫(‪.)Michio Kaku: The Future of the Mind. 2014. Doubleday‬‬ ‫لقد متكن العلماء من ر�سم ما يحدث يف الدماغ الب�شري حني ي�شاهد العقل هذه الأفالم‬ ‫وامل�شاهد �أو تلك‪ .‬ولذا خريطة ت�صرف الدماغ معروفة علمياً‪ .‬وبذلك ي�ستنتج كاكو �أنه من‬ ‫املمكن التنب�ؤ مبا يفكر ويرى العقل من خالل النظر فقط �إىل النيورونات الدماغية وت�صرفها‪.‬‬ ‫فاخلاليا الع�صبية ت�ضيء حني ن�شاهد هذا امل�شهد �أو ذاك‪ ،‬ما يجعل من ال�سهل درا�ستها علمياً‬ ‫وربط ما ي�ضيء من النيورونات مبا ن�شاهد �أو نفكر‪.‬‬ ‫على هذا الأ�سا�س‪ ،‬من املمكن علمياً‪ ،‬كما ي�ؤكد كاكو‪ ،‬ت�سجيل ذكريات و�أفكار فرد ما وزرعها‬ ‫يف دماغ �شخ�ص �آخر من خالل التحكم بعمل النيورونات‪ ،‬كما �ستتمكن الكمبيوترات‬ ‫املتطورة املت�صلة ب�أدمغتنا من قراءة �أفكارنا و�إر�سالها �إىل هذا املتلقي �أو ذاك‪ .‬من املنطلق نف�سه‪،‬‬ ‫من املمكن علمياً �إعادة �صياغة عقولنا وحتميلها يف �آالت كمبيوترية متطورة تبقى يف الوجود‬ ‫بعد موتنا بيولوجياً‪ .‬هذا لأن عقولنا لي�ست �سوى برامج كمبيوترية معتمدة على النيورونات‪،‬‬ ‫�أي اخلاليا الع�صبية التي من املمكن التحكم فيها (املرجع ال�سابق)‪.‬‬ ‫لن�س ّلم علمياً ب�أن العقل كمبيوتر‪ .‬لكن الكمبيوتر يتك ّون من برامج حلفظ املعلومات وتبادلها‬ ‫و�إنتاجها‪ .‬بذلك العقل نظام معلوماتي ّ‬ ‫يت�شكل من معلومات وعمليات تبادل لها‪ .‬الآن‪ ،‬مبا‬ ‫�أن العقل نظام معلوماتي كالكون املادي متاماً‪� ،‬إذاً من الطبيعي �أن يوجد العقل يف هذا الكون‬ ‫‪57‬‬


‫املادي‪ .‬كما من الطبيعي �أن يتفاعل العقل مع ج�سده احلي لكونهما يتك ّونان من الطبيعة‬ ‫ذاتها �أال وهي املعلومات‪ .‬ومن الطبيعي �أي�ضاً �أن ينجح العقل يف معرفة الكون لكون العقل‬ ‫والكون لي�سا �سوى معلومات وتبادل لها‪ .‬من هنا‪ ،‬تنجح النظرية القائلة �إن العقول والكون‬ ‫جمرد �أنظمة معلوماتية يف تف�سري ملاذا يوجد العقل وكيف من املمكن �أن يتفاعل مع اجل�سد‬ ‫احلي ويتمكن من معرفة الكون‪ .‬وبذلك متلك هذه النظرية يف العقل والكون قدرة تف�سريية‬ ‫كربى ما يدعم �صدقها‪.‬‬ ‫اللغة �أي�ضاً لي�ست �سوى معلومات‪ ،‬وال�صياغات اللغوية املختلفة لي�ست �سوى برامج معلوماتية‬ ‫متنوعة‪ .‬فمث ًال‪ ،‬كلمة "ال�صديق" يف اللغة العربية م�شتقة من " َ�ص َدقَ "‪ ،‬وبذلك اللغة العربية‬ ‫حتتوي على معلومة متوارثة‪ ،‬مفادها �أن �صديقك هو الذي ي�صدق معك‪ .‬ويف اللغة العربية‬ ‫�أي�ضاً‪ ،‬كلمة "التوا�صل" م�شتقة من " َو َ�ص َل" مبعنى َر َبط‪ ،‬وبذلك حتتوي اللغة العربية �أي�ضاً‬ ‫على معلومة متوارثة‪� ،‬أال وهي �أن التوا�صل بني النا�س هو الذي يربط النا�س فيما بينهم‪.‬‬ ‫من هنا‪ ،‬اللغة جمموعة معلومات متوارثة‪ .‬لكن الكون املادي يتك ّون من معلومات‪ .‬ومبا �أن‬ ‫اللغة �أي�ضاً معلومات‪� ،‬إذاً من الطبيعي �أن تن�ش�أ اللغة وتوجد يف عاملنا املادي‪ .‬هكذا ينجح‬ ‫هذا النموذج املعلوماتي يف تف�سري ملاذا توجد اللغة متاماً كما ينجح يف تف�سري ملاذا توجد احلياة‬ ‫والعقول‪ .‬كون من دون عقل ولغة وحياة كون من دون وجود‪.‬‬

‫‪58‬‬


‫ف�����������������ك�����������������ر‬

‫العلمانية ر�ؤية من زاوية �أخرى‬

‫جنيب ن�صري ‪ -‬كاتب‬

‫رمبا كان من �أكرث احلوادث املثرية للنكد والتوقف عن تبادل اال�ستماع‪ ،‬هو ذلك احلوار حول‬ ‫العلمانية‪ ،‬فنحن ملّا نزل نتناولها وهي تدور حول حمور وحيد‪ ،‬هو املعتقد الذي ال حدود‬ ‫وا�ضحة ملقد�ساته‪ ،‬كما �أنه لي�ست هناك حدود وا�ضحة للترثيب �أو التقريظ يف م�س�ألة اهرت�أت‬ ‫من كرثة التداول‪ ،‬ومل يعد هناك ما يقال �أكرث مما قيل فيها‪ ،‬لتبقى م�س�ألة العلمانية كمع�ضلة‬ ‫تغ�ص فيها حلوق منتجي الثقافة من الناطقني بالعربية‪ ،‬فهي م�س�ألة ال ميكن جتاوزها‪ ،‬كما‬ ‫ثقافية‪ّ ،‬‬ ‫�أنها ال ميكن القبول بها يف هذه البنية الثقافية‪ ،‬على الرغم من �ضرورتها املعرفية‪ ،‬ما ي�صنع تعرثاً‬ ‫كارثياً يف ت�ص ّور املجتمع والدولة والقيم والإنتاج (وكلها باملعنى العلمي‪ /‬املعريف املعا�صر)‪،‬‬ ‫خ�صو�صاً �أن رف�ض العلمانية يعني متاماً رف�ض كل منتوجات الع�صر نظرياً على الأقل‪.‬‬ ‫لي�ست كل منتوجات الع�صر هي منتوجات ملمو�سة فيزيائية الوجود‪� ،‬إمنا توازيها منتوجات‬ ‫مفهومية فكرية ومعنوية ال ّ‬ ‫تقل �أهمية عنها‪ ،‬وال منا�ص من ت�شابك وتفاعل النوعني كي تتم‬ ‫اال�ستفادة املجدية من الأداء الإن�ساين‪ ،‬ما يح ّول هذه املنتوجات برمتها �إىل تكنولوجيات‬ ‫(�أدوات �أو و�سائل)‪ ،‬ت�ستعمل يف ت�سهيل العي�ش الب�شري على هذه الكرة الأر�ضية‪ ،‬ومن‬ ‫هنا ميكن النظر �إىل تكنولوجيات االجتماع املحدثة كو�سيلة لإر�ساء املجتمعات‪ ،‬وكذلك‬ ‫تكنولوجيات التحزب واحلوكمة الخ‪ ،‬حيث تبدو ر�ؤيتها من هذه الزاوية �أكرث حيادية وبروداً‪،‬‬ ‫قا�ص �أو دانٍ ‪ ،‬على ممار�سة‬ ‫وبالتايل �أقل نكداً وانحيازاً‪ ،‬حيث مل نلحظ �أي‬ ‫اعرتا�ض‪ ،‬ال من ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫تكنولوجيات مثل �أدوية القلب �أو العمليات اجلراحية �أو ا�ستعمال ال�سيارة والكال�شينكوف‬ ‫وركوب الطائرة وا�ستخدام ثورة االت�صال احلديثة واحلداثية‪ ،‬وكلها تكنولوجيات معا�صرة‬ ‫مت�شابكة مع التكنولوجيات املعنوية املوازية واملتفاعلة معها‪.‬‬ ‫رمبا علينا النظر �إىل العلمانية من هذه الزاوية‪ ،‬زاوية التكنولوجيات‪� ،‬أي الأدوات امل�سخّ رة‬ ‫خلدمة الإن�سان يف ع�صره وبيئته‪ ،‬لنتبني بالقيا�س واملعايرة مدى �ضرورتها‪ ،‬فالإن�سان (وغريه‬ ‫من الثدييات) ي�ستطيع وهذا من حقه‪ ،‬ال�سفر �إىل ال�صني بوا�سطة �أي من تكنولوجيات‬ ‫‪59‬‬


‫ال�سفر‪ ،‬م�شياً �أو يف عربة جت ّرها الدواب �أو يف �سيارة وقطار وكذلك يف طائرة‪ ،‬وعليه هو �أن‬ ‫يختار و�أن يح�صد نتائج خياراته‪ ،‬ومن هنا ميكننا النظر �إىل العلمانية‪ ،‬كتكنولوجية ت�أ�سي�سية يف‬ ‫تكنولوجيات االجتماع الب�شري وغريه‪ ،‬و�أي�ضاً كواحد من اخليارات التي علينا ا�ستخدامها‪،‬‬ ‫يف حال كان مق�صدنا هو الو�صول �إىل املجتمع مبعناه احلديث املعا�صر‪ ،‬هذا املجتمع القادر على‬ ‫الإنتاج مبا يفيد م�س�ألتي ال�شبع واملنعة‪ ،‬يف خ�ضم االحتدام احليوي بني جمتمعات هذا العامل‪.‬‬ ‫وهنا ي�أتي دور املعايرة‪ ،‬واملعايري بطبيعتها باردة وحمايدة وال تتقبل املواربة‪ ،‬وهو اجلزء الذي‬ ‫مل تتقبله "جمتمعاتنا" متمثّلة "بنخبنا" حتى اليوم‪ ،‬بحجة �أنها م�ستوردة وال تتنا�سب مع‬ ‫خ�صو�صياتنا‪ ،‬على الرغم من قبولها بالكثري الكثري من املعايري امل�ستوردة‪ ،‬يف �شتى تطبيقات‬ ‫التكنولوجيات‪ ،‬مع كامل االمتنان‪ ،‬وهو ما يقودنا �إىل التفكري يف �إنتاج معايري (�أو ا�ستريادها)‪،‬‬ ‫ت�ستطيع قيا�س جدوى ا�ستخدام العلمانية كتكنولوجية يف خدمة الإن�سان‪ ،‬ف�إذا كانت امل�ساواة‬ ‫هي جزء م� ّؤ�س�س للمجتمع و�شرط من �شروطه‪ ،‬فهذا يقودنا (مث ًال) �إىل رف�ض �أو �إبعاد كل و�سيلة‬ ‫متنع ح�صولها‪ ،‬وهنا �سوف نكون يف مواجهة احلاجة ملعيار يقرر ما هي امل�ساواة‪ ،‬ل�ضمان عدم‬ ‫ت�أ�سي�س املجتمع على قواعد طائفية �أو جن�سية �أو عرقية‪ ،‬وبالتايل البحث عن تكنولوجيات‬ ‫معرفية حتقق هذا ال�شرط الت�أ�سي�سي‪ ،‬والبحث يف جمموعة التوا�ؤمات املطلوبة التي حتقق‬ ‫ا�ستخداماً �أمثل لهذه التكنولوجيات‪ ،‬وخ�صو�صاً �أن الهدف وا�ضح و�صريح‪ ،‬وهو الو�صول �إىل‬ ‫كيان حيوي قادر على التناف�س بالإنتاج‪ ،‬يف خ�ضم هذا االحتدام الأممي‪.‬‬ ‫وهنا تبدو العلمانية كتكنولوجية حمايدة‪ ،‬قادرة على تقدمي دور �أ�سا�سي يف �إيجاد املجتمع‬ ‫وتوليد دولة منه‪ ،‬فمجالها احلقوقي هو امل�ساواة‪ ،‬وهو �أمر من ال�صعب وجود و�سيلة بديلة له �إال‬ ‫بالتجربة واخلط�أ‪ ،‬الأمر الذي ي�ستهلك من عمر الأقوام ودمائها‪ ،‬قدر يجعلها �أبعد ما تكون عن‬ ‫الوجود احليوي املرجتى‪.‬‬

‫‪60‬‬


‫ف�����������������ك�����������������ر‬

‫الوعي الب�رشي ظاهرة تاريخية‬ ‫د‪ .‬علي م�ش ّيك ‪� -‬أ�ستاذ التاريخ يف اجلامعة اللبنانية‬

‫‪ - 1‬مقدمة‪:‬‬

‫يتميز الإن�سان عن جميع الكائنات الأخرى بعقله‪ .‬وهو الوعي؛ �أي �إ ّنه قدرة الإن�سان على‬ ‫التفكري؛ �أي �أن يفكر يف ذاته ويف الآخر‪ ،‬من حيث �سلوكه ومواقفه و�آرائه وغري ذلك‪ .‬وتفكري‬ ‫الإن�سان يف ذاته‪ ،‬يعني �إدراكه ووعيه لذاته‪.‬‬ ‫لقد �أدرك الإن�سان منذ القدم ذاته‪ ،‬وم ّيز نف�سه عن احليوان‪ ،‬الذي ا�ستخدمه يف ت�أمني حاجاته‪.‬‬ ‫ولو كان ذلك الإدراك ال يرقى �إىل م�ستوى الإدراك النظري اخلال�ص‪� ،‬إنمّ ا كان �إدراكاً عملياً‪.‬‬ ‫تو�صل �إىل ذلك‪ ،‬لي�س بال�ضرورة بوا�سطة التفكري املنطقي املعروف لدينا حالياً‪ ،‬و�إنمّ ا‬ ‫فهو قد ّ‬ ‫الإن�سان القدمي قد م ّيز نف�سه عن احليوان‪ ،‬و�أدرك �أ ّنه يتم ّيز عنه ب�أمور كثرية‪ ،‬مثل املهارة‪،‬‬ ‫والقدرة على ابتكارها‪ ،‬وحفظها‪ ،‬و�سرعة تعلمها‪ ...‬الخ‪.‬‬ ‫لقد متكن الإن�سان القدمي من التح ّرر من حدود الطبيعة وحتم ّيتها‪ ،‬فقد اكت�شف النار‪ ،‬وحت ّول‬ ‫فيما بعد‪ ،‬من �إن�سان يهتم بجمع طعامه �إىل �إن�سان منتج للغذاء‪ ،‬وذلك مع حت ّوله �إىل تدجني‬ ‫احليوان واعتماد الزراعة‪ .‬وقد حقق بذلك �أ ّول ثورة تكنولوجية علمية اقت�صادية وح�ضارية‪.‬‬ ‫ين�ش�أ الوعي الفردي عن ال�شك واالندها�ش والأمل‪ .‬والإن�سان قد يكون الهياً عن ذاته‪� ،‬إال‬ ‫�أ ّنه عندما ي�شعر بالأمل يبد�أ بالت�سا�ؤل عن �سببه‪ ،‬وتن�ش�أ بذلك فل�سفته‪ .‬ويرى �أحد الفال�سفة‬ ‫الرواقيني �أنّ الفل�سفة تن�ش�أ عن �شعورنا ب�ضعفنا وعجزنا‪ .‬ويرى كارل يا�سربز الوجودي املعا�صر‬ ‫�أنّ الوجود الإن�ساين هو دائماً وجود يف موقف‪� ،‬أي �إ ّنه دائماً يقف يف مواجهة ما يقف يف وجه‬ ‫حر ّية الإن�سان‪.‬‬ ‫يت�ضمن من‬ ‫الوعي الفردي هو �إدراك الإن�سان لذاته ولقدراته ولدوره‪ ،‬و�إدراكه للآخر‪ ،‬مبا ّ‬ ‫‪61‬‬


‫خملوقات وطبيعة وجمتمعات‪� ،‬إىل غري ذلك‪ .‬وهناك تباين يف م�ستوى الوعي‪ ،‬وذلك تبعاً‬ ‫لثقافته وخلرباته يف مواجهة امل�شاكل وقدرته على معرفة معاجلتها‪ .‬وتباينت �آراء الفال�سفة‬ ‫حول مفهوم الوعي الفردي‪ ،‬وذلك باختالف مدار�سهم‪ .‬يرى ديكارت �أن الوعي هو وعي‬ ‫يقيني بوجود ذاته‪ ،‬وغري يقيني �إزاء اخلارج‪ .‬واحلد�س عنده‪ ،‬هو عمل عقلي يدرك به الذهن‬ ‫حقيقة من احلقائق يفهمها بتمامها يف زمان واحد‪ ،‬ال على التعاقب‪ .‬وهو ال يق�صد باحلد�س‬ ‫�شهادة احلوا�س املتغيرّ ة‪ ،‬وال احلكم الفا�سد‪ ،‬و�إنمّ ا يق�صد به "الت�صور الذي يقوم يف ذهن‬ ‫خال�ص منتبه بدرجة من ال�سهولة والتم ّيز ال يبقى معها جمال للريب" ‪ .‬واليقني الفل�سفي‬ ‫"م�صاحب للحقيقة ومنبعث عنها كما ينبعث ال�ضوء من ال�شم�س" ‪.‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪2‬‬

‫يتمثل الوعي الفردي بفل�سفة الفرد وجممل �آرائه عن الكون والوجود والطبيعة واملجتمع‪،‬‬ ‫وكذلك عن م�صري الإن�سان ووظيفته ودوره‪� ،‬إىل غري ذلك‪" .‬والفل�سفة هي التحليل املنطقي‬ ‫جلميع �أ�شكال الفكر الب�شري" ‪.‬‬ ‫‪3‬‬

‫ومن الفال�سفة من يرى �أن الوعي ين�ش�أ على �أ�سا�س حياة املجتمع املادية‪ ،‬من تن ّوع العالقات‬ ‫وتن ّوع الن�شاط‪�" ،‬إنّ الوعي هو جانب �ضروري من احلياة االجتماعية‪ ،‬لأن احلياة االجتماعية‬ ‫يف جميع ظاهراتها هي نتيجة لن�شاط النا�س‪ ،‬الكائنات احل ّية‪� .‬أما طابع الوعي االجتماعي‬ ‫فيحددها يف �آخر املطاف الوجود االجتماعي" ‪ .‬ويرى كل من‬ ‫وم�ستواه واجتاهات تطوره‪ّ ،‬‬ ‫مارك�س و�أجنلز �أن الأفكار لي�ست هي �إال نتاج الدماغ الإن�ساين‪ .‬و�أن الإن�سان هو نتاج‬ ‫الطبيعة‪ .‬وما املثايل �سوى املادي منقو ًال �إىل الدماغ وحم ّو ًال فيه‪ .‬وي�ؤكد �أجنلز على م�س�ألة‬ ‫الت�أثري املتبادل بني البنى التحتية والبنى الفوقية‪ ،‬ويرى �أن التطور ال�سيا�سي والت�شريعي‬ ‫والفل�سفي والديني والأدبي والف ّني الخ‪ ،‬يقوم على �أ�سا�س التطور االقت�صادي ‪.‬‬ ‫‪4‬‬

‫‪5‬‬

‫الوعي الب�شري هو ح�صيلة تراكم املعارف واملهارات الب�شرية خالل التاريخ‪ .‬وهو يرتبط‬ ‫بالذكاء والعلوم واملعتقدات والعادات‪ ،‬كما �أ ّنه يرتبط بامل�ستوى احل�ضاري والبيئي‪ .‬وهناك‬ ‫طرق خمتلفة للتفكري العلمي‪ .‬والب�شر ي�ستخدمون طرقاً خمتلفة يف معاجلة م�شكالتهم‪ ،‬وذلك‬ ‫بح�سب خرباتهم وم�ستوى ذكائهم ونوعية امل�شكلة وطبيعتها‪.‬‬ ‫لقد تطور الوعي الب�شري‪ ،‬ب�سبب تراكم املعارف واملهارات الب�شرية‪ ،‬وتزايد احلاجات‪ ،‬وتزايد‬ ‫االكت�شافات العلمية احلديثة‪ .‬لذا ميكننا �أن ن�ص ّنف تطور الوعي بثالث مراحل‪ :‬مرحلة‬ ‫‪62‬‬


‫ف�������������ك�������������ر‬

‫ال�سحر والأ�ساطري ماقبل الفل�سفة والعلم ‪ ،‬مرحلة الفل�سفة الكال�سيكية‪ ،‬ومرحلة العلوم‬ ‫الو�ضعية والفل�سفة احلديثة وما بعدها‪.‬‬ ‫�إن ما نهتم به‪ ،‬يف هذا البحث‪ ،‬هو معاجلة الإ�شكالية القائمة عن الوعي الب�شري‪ .‬هل الوعي‬ ‫الب�شري هو ظاهرة فطرية �أم مكت�سبة؟ وهل الوعي الفردي هو ظاهرة تاريخية وجدت مع‬ ‫وجود الإن�سان يف الطبيعة؟‪ .‬و�إذا كان هناك تداخل وترابط بني الفطري واملكت�سب‪ ،‬فما مدى‬ ‫ذلك الرتابط؟‪ .‬و�إذا كان الوعي الب�شري‪ ،‬يف جانب منه فطري‪ ،‬فهل بالإمكان اال�ستغناء عن‬ ‫اجلانب املكت�سب؟‪ .‬ثم هل اجلانب الفطري هو الوعي �أو الالوعي؟ وهل هناك ترابط بني‬ ‫االثنني؟‪ .‬ثم ما مدى الرتابط بني الوعي الفردي والوعي اجلماعي؟‪.‬‬ ‫‪ - 2‬الوعي الب�رشي �أثناء مرحلة ال�سحر والأ�ساطري‬

‫تبد�أ تلك املرحلة مع وجود الإن�سان يف الطبيعة‪� ،‬إذ ال ميكن ف�صل ظاهرة الوعي عن وجود‬ ‫الإن�سان‪ ،‬لأن العقل الإن�ساين وجد مع وجود الفرد‪ ،‬و�إن كان عق ًال عملياً‪� ،‬أي �إنه يدرك من‬ ‫دون �أن يعرف كيف يدرك وما هو الع�ضو الذي يدرك به �أو بوا�سطته‪.‬‬ ‫ويرى العديد من املفكرين �أنّ احل�ضارة الب�شرية لي�ست �إال كل ما �أبدعه الإن�سان‪ ،‬منذ تع ّلم‬ ‫�إ�شعال النار‪ ،‬قبل حوايل ‪� 500000‬سنة‪ ،‬حتى تفتيت الذ ّرة واكت�شاف الف�ضاء‪ ،‬و�إىل يومنا‬ ‫هذا‪.‬‬ ‫يظهر الوعي الإن�ساين يف قدرة العقل الب�شري على �صنع احل�ضارة‪ ،‬وقدرته على جمع �أفراد‬ ‫اجلن�س الب�شري‪ ،‬وتعاونهم‪ ،‬وحماوالتهم امل�ستم ّرة يف التغيري نحو الأف�ضل‪ .‬وهو يظهر كذلك‪،‬‬ ‫يف قدرة العقل الب�شري‪ ،‬و�إمكانية تغ ّلبه على التحديات التي تفر�ضها الطبيعة �أمامه‪.‬‬ ‫الوعي هو الذي �ساعد الإن�سان على التنقل من مكان لآخر‪ ،‬وعلى اختيار املناطق املعتدلة‬ ‫واخل�صبة لل�سكن‪ .‬وعي الإن�سان هو الذي دفع به �إىل التح ّول‪ ،‬من ال�سكن يف املغاور الطبيعية‬ ‫�إىل بناء البيوت و�إن�شاء القرى‪.‬‬ ‫و�إذا كان للحاجات دور بارز يف تفتح الوعي الإن�ساين وتو�سيع مداركه‪� ،‬إذ �إن هناك عالقة‬ ‫جدلية‪ ،‬بني العقل وما يحتاج �إليه الإن�سان يف حياته العملية من حاجات مادية متعددة‪ .‬و�إذا‬ ‫كانت الطبيعة‪ ،‬ح�سب ر�أي توينبي‪ ،‬تقدم ال�شرط املادي لوجود احل�ضارة‪ ،‬ف�إن هذا ال�شرط‬ ‫‪63‬‬


‫ميكن �أن يبقى كما هو‪ ،‬من دون توفر ال�شرط الروحي والإن�ساين‪ .‬والدور الإن�ساين يبقى‬ ‫الأ�سا�سي دائماً‪.‬‬ ‫ي�ؤكد م�ؤرخو احل�ضارات �أنّ الإن�سان القدمي كان دائماً يعي�ش �ضمن جماعته‪ ،‬ولو كانت �صغرية‬ ‫يف البدء‪ .‬ثم ا�ستق ّر بعد ذلك يف قرية‪ ،‬وبعدها يف بلدة‪ ،‬ثم يف مدينة‪ .‬وهو قد خ�ضع لأعراف‬ ‫و�سن‬ ‫وقواعد‪ ،‬وكان ذلك نتيجة وعيه لذاته وملجتمعه‪ .‬وهو قد و�ضع املمنوعات واملح ّرمات‪ّ ،‬‬ ‫القوانني و�أن�ش�أ ال�سلطة ال�سيا�سية‪.‬‬ ‫ورغم �أن حياة الإن�سان القدمي كانت ب�سيطة قيا�ساً مبجتمع اليوم‪� ،‬إال �أن مظاهر الوعي الب�شري‬ ‫قد متثلت بالكثري من مظاهر الغنى والتن ّوع والتعقيد‪ ،‬وخا�صة تلك الآثار القدمية من الر�سوم‬ ‫املتح ّركة لبع�ض احليوانات‪ ،‬التي كانت معروفة‪ ،‬على جدران الكهوف‪ ،‬وكذلك يف طريقة ري‬ ‫الأرا�ضي الزراعية‪ ،‬وجتفيف امل�ستنقعات‪ ،‬و�شق الرتع‪.‬‬ ‫تعدد اللغات وتطور الكتابة‪،‬‬ ‫هناك �أمثلة كثرية تبينّ مدى تطور ح�ضارة الإن�سان القدمي‪ ،‬وهناك ّ‬ ‫من م�سمارية عند البابليني‪� ،‬إىل الهريوغليفية عند امل�صريني‪� ،‬إىل الأبجدية عند الفينيقيني‪.‬‬ ‫وكذلك تطور املهارات منذ القدم‪ ،‬من �أدوات حجرية �إىل �أدوات حديدية‪ .‬ثم تطورت علوم‬ ‫الهند�سة والطب والفلك‪ ،‬وغري ذلك فيما بعد‪.‬‬ ‫�إنّ ما يبلور ب�شكل ج ّيد‪ ،‬مظاهر الوعي الإن�ساين‪ ،‬هو ما ا�شتملت عليه ملحمة جلجام�ش‬ ‫ال�سومرية‪� ،‬إذ عرث يف مكتبة �آ�شور با­نيبال على اثني ع�شر لوحاً طينياً‪ ،‬حتتوي على �أكرث من‬ ‫ثالثة �آالف بيت من ال�شعر‪.‬‬ ‫وما يلفت االنتباه �أن جلجام�ش ذلك امللك‪ ،‬كان يبحث عن الأنا‪� ،‬أي �إنه يبحث عن ت�أكيد‬ ‫الق�صة بحثاً عن �سر اخللود‪ .‬وهنالك كذلك العديد‬ ‫ذاته يف الق ّوة وال�سلطة وال�شهرة‪ .‬وتنتهي ّ‬ ‫تتحدث عن ق�صة اخللق واملوت واحلياة الأخرى‪ .‬وقد‬ ‫من الق�ص�ص والأ�ساطري القدمية‪ ،‬التي ّ‬ ‫اهتدى الإن�سان القدمي �إىل دفن موتاه منذ ما يقرب من خم�سني �ألف �سنة ق‪.‬م‪.‬‬ ‫�أما مظاهر العبادة فقد عرفت كذلك‪ ،‬عند الإن�سان القدمي‪ ،‬وهي �إن دلت على �شيء فهي تدل‬ ‫متعددة �إىل‬ ‫على ظاهرة الوعي الإن�ساين وتطوره‪ .‬وهي قد حت ّولت من االعتقاد بوجود �آلهة مادية ّ‬ ‫�آلهة مفارقة للمادة‪ ،‬ومن االعتقاد ب�آلهة متعددة‪ ،‬يف عهد الفراعنة امل�صريني‪� ،‬إىل االعتقاد ب�إله‬ ‫تعدد الآلهة‪.‬‬ ‫واحد �سماوي �أبدي‪ ،‬يف عهد �أخناتون‪ .‬لقد قام هذا الأخري بثورة على ّ‬ ‫‪64‬‬


‫ف�������������ك�������������ر‬

‫ولعبت االعتقادات الدينية الدور الأ�سا�سي واملركزي‪ ،‬يف معظم احل�ضارات ال�سابقة؛ فالدين‬ ‫هو الذي يعطي ال�شرعية للأنظمة ال�سيا�سية واالجتماعية‪ ،‬والكهنة هم كهنة الآلهة‪ ،‬وامللك‬ ‫هو ممثل الإله‪ .‬وكان االعتقاد ال�سائد‪ ،‬عند تلك املجتمعات‪� ،‬أنّ ال ّروح تتل ّب�س اجل�سد‪ ،‬عندما‬ ‫اهتم القدماء بدفن امل ّيت وحتنيط جثته‪ ،‬لكي يبقى اجل�سد‬ ‫يكون م�ستعداً ال�ستقبالها‪ .‬لذلك ّ‬ ‫م�ستعداً ال�ستقبال الروح عندما تريد العودة �إليه‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫املتعددة‪ ،‬ويعترب ذلك �أكرب دليل على وجود الوعي‬ ‫�أما الفرعون �أخناتون فقد �أنكر تلك الآلهة ّ‬ ‫الإن�ساين‪ .‬وقد جاء ذلك نتيجة تفكري الإن�سان بالوجود وبذاته‪ ،‬وبقدرته كذلك على التمييز‬ ‫بني تلك العبادات‪ ،‬وتف�ضيله لعبادة الإله الواحد ال�سماوي الأبدي‪ ،‬خالق كل �شيء‪.‬‬ ‫مل يكن الوعي الب�شري �سابقاً‪ ،‬جم ّرداً من الأمور العملية‪ ،‬بل ارتبط باحلاجات احلياتية‬ ‫واليومية‪ .‬وقد امتزج التفكري الديني بال�سحر‪ ،‬فلم يكن الوعي متح ّرراً من ال�سحر واخلرافات‪،‬‬ ‫بل كان هناك تداخل بني العلوم واملعارف احلقيقية والفل�سفة وال�سحر وغري ذلك‪.‬‬ ‫اعترب ال�سحر قدمياً‪ ،‬كعلم بدائي‪ ،‬حيث تتوافق وظيفته مع وظيفة العلم‪ .‬وهي‪ :‬معرفة العامل‬ ‫يقدم نف�سه كمجموعة و�سائل وتقنيات‬ ‫املحيط بالإن�سان وتكييفه ح�سب رغباته‪ .‬كان ال�سحر ّ‬ ‫مرتبطة بقوى فوق الطبيعة‪ ،‬بهدف الت�أثري الفوري يف وقائع �أحداث الطبيعة وت�سل�سلها‪ .‬كان‬ ‫ال�ساحر مطالباً �أن ي�شفي املري�ض‪ ،‬ويزيد املحا�صيل‪ ،‬ويعرث على الغائب‪ ،‬وب�شكل فوري‪.‬‬ ‫وهذه الأمور مل تكن مطلوبة من الدين‪ ،‬كما هي مطلوبة من ال�سحر‪ .‬ومع تطور الوعي‬ ‫الإن�ساين‪� ،‬أخذ الإن�سان يبتعد عن ال�سحر خطوة بعد خطوة‪ ،‬مع �صعود العلم ومناهجه‬ ‫ومعايريه احلديثة‪.‬‬ ‫من امل�ؤ�سف �أن العديد من املفكرين يعتربون �أن ظاهرة الوعي القدمية لدى الإن�سان‪،‬‬ ‫ناجتة عن الغريزة‪ .‬فهم يتكلمون عن الغريزة الدينية وغريزة االجتماع‪ .‬ولو كان االعتقاد‬ ‫الديني ناجتاً عن غريزة ما‪ ،‬ملا كان هناك تباين يف الأديان‪� .‬إ ّنهم ف�سروا تلك املظاهر الدينية‬ ‫بالغريزة‪ ،‬نتيجة ملا �شاهدوه من ا�ستمرار ظاهرة العبادة‪ ،‬منذ فجر التاريخ‪ ،‬وربمّ ا منذ �أن‬ ‫وجد الإن�سان على الأر�ض‪ .‬ومل تخل ح�ضارة ب�شرية �سابقة من مظاهر العبادة الدينية‪.‬‬ ‫كانت تلك العبادات ت�سعى �إىل الإجابة عن �شتى �أ�سئلة الوعي الب�شري‪ ،‬حيث ال �أجوبة‬ ‫وا�ضحة عنها‪.‬‬ ‫‪65‬‬


‫‪ - 3‬الوعي الب�رشي �أثناء الفل�سفة الكال�سيكية‬

‫تبد�أ هذه املرحلة مع احل�ضارة اليونانية‪ .‬وهي قد �شهدت يف املرحلة الأوىل‪ ،‬متازجاً بني ال�سحر‬ ‫والعلوم الأخرى‪ .‬وكان لتط ّور علوم الفلك عند البابليني‪ ،‬وتطور علوم الهند�سة عند امل�صريني‪،‬‬ ‫�أثر مهم يف تبلور منوذجني من املعارف؛ ال�سحر ومظاهره ومهاراته وجلو�ؤه �إىل قوى غيبية مفارقة‬ ‫للمادة‪ ،‬والعلوم الأخرى‪ ،‬مبا تتطلبه من خربات عملية وواقعية ونتائج ملمو�سة‪.‬‬ ‫و�إذا كانت العلوم الواقعية قد ابتعدت عن ال�سحر‪ ،‬مع البابليني وامل�صريني‪ ،‬بع�ض اخلطوات‪،‬‬ ‫تو�سعت‬ ‫فقد تزايد ذلك االبتعاد‪ ،‬ما بني ال�سحر وبق ّية العلوم‪ ،‬مع احل�ضارة اليونانية‪ .‬لقد ّ‬ ‫مدارك الوعي الإن�ساين‪ ،‬مع اليونانيني �أكرث ف�أكرث‪ ،‬وظهرت بدايات الفل�سفة مع طالي�س‪ ،‬الذي‬ ‫وف�سر هريقليط�س‬ ‫ّف�سر العامل بوجود املاء‪ ،‬كمادة �أزلية �سابقة للوجود‪ّ .‬‬ ‫وتعددت الآراء بعده‪ّ .‬‬ ‫وجود الكون بال�صريورة الدائمة الأزلية‪ ،‬واعترب برمنيد�س �أن التغيرّ واحلركة لي�سا �إال وهم‪.‬‬ ‫واعترب ال�سف�سطائيون �أن الذات والأ�شياء يف تغيرّ م�ستمر‪ ،‬وال�صريورة �شاملة‪ ،‬واحلركة دائمة‪،‬‬ ‫واملعرفة ن�سبية‪ .‬وحاول �سقراط و�أفالطون تخطي الظواهر املح�سو�سة واملتغيرّ ة للو�صول �إىل‬ ‫احلقائق واملاهيات الثابتة‪.‬‬ ‫�أ ّيد �أفالطون �آراء �سقراط‪ ،‬يف اعتبار الفكرة ك�أ�سا�س‪ ،‬لأنها متثل العقل‪ .‬واملعرفة احلقيقية‬ ‫بر�أيه‪ ،‬هي معرفة الفكرة‪� ،‬إال �أ ّنه زاد على ر�أي �سقراط‪ ،‬باعتباره �أنّ الأ�شياء املادية لي�ست‬ ‫�إال ظال ًال للمثل احلقيقية‪ .‬اعترب �أفالطون �أن املعرفة احلقيقية‪ ،‬هي عبارة عن تذكر؛ �إذ كان‬ ‫الإن�سان على علم بكل املعارف‪ ،‬وعند حلول الروح باجل�سد‪ ،‬قد ن�سيت كل تلك املعارف‬ ‫يح�صله الإن�سان من معارف‪ ،‬يف هذا الكون هو تذكر للمعارف ال�سابقة‪.‬‬ ‫ال�سابقة‪ .‬وما ّ‬ ‫�أما �أر�سطو فقد اعترب �أن العقل الإن�ساين يختلف عن احل�س احليواين املوجود عند احليوان‬ ‫والإن�سان‪ ،‬لأنّ العقل يدرك ال�صور املج ّردة‪ ،‬ويدرك ذاته‪ ،‬ويدرك �أ ّنه يدرك‪ ،‬بينما احل�س ال‬ ‫ميكنه �أن يدرك ذاته‪ ،‬وال �أن يح�س �آلته �أو الع�ضو الذي به يح�س‪ ،‬وال يح�س �أ ّنه يح�س‪ .‬وقد‬ ‫تو�سع ابن �سينا يف هذه الآراء‪ ،‬ومن منظور �أر�سطي �إجما ًال‪ .‬وقد ا�ستم ّر هذا النهج حتى القرن‬ ‫ّ‬ ‫التا�سع ع�شر‪ ،‬يف اعتبار �أن العقل هو املو�ضوع الأوحد لعلم النف�س‪ ،‬علماً �أن �أر�سطو مل يذكر‬ ‫كلمة "وعي"‪ ،‬بل اعترب �أن العقل هو الفكر والوعي‪ ،‬وو�صف الإن�سان ب�أ ّنه حيوان عاقل‪.‬‬ ‫لقد و�صف القدماء "العقل" باجلوهر‪ .‬واعترب �أر�سطو �أن اجلوهر هو عبارة عن �صورة ومادة‪.‬‬ ‫‪66‬‬


‫ف�������������ك�������������ر‬

‫وال�صورة هي الوجود بالفعل‪ ،‬واملادة هي الوجود بالقوة‪ .‬واملادة تقبل اتخاذ �صور كثرية‬ ‫متباينة‪" .‬وف�ض ًال عن ذلك ف�إ ّنه يرى �أن العالقة بني ال�صورة واملادة كامنة من وراء كثري‬ ‫من العالقات الأخرى‪ ،‬فالفلك الأعلى والأدنى‪ ،‬والعنا�صر الرفيعة والدنيا‪ ،‬يف نظام الكون‪،‬‬ ‫وكذلك النف�س واجل�سم‪ ،‬والذكر والأنثى‪ ،‬يرتبطون فيما بينهم بعالقة ال�صورة واملادة" ‪.‬‬ ‫‪6‬‬

‫لقد �سعت الفل�سفة الكال�سيكية �إىل �إيجاد �أجوبة للعقل �أو للأ�سئلة التي كان يطرحها الوعي‬ ‫الب�شري‪ ،‬بوا�سطة الت�أ ّمل‪� ،‬أي بوا�سطة العقل الب�شري‪ ،‬على اعتبار �أنه قادر على اكت�شاف‬ ‫احلقيقة اليقينية‪ .‬لقد كانت الفل�سفة بالذات ظاهرة من ظواهر الوعي الب�شري‪ .‬وهي �ست�ستمر‬ ‫�إىل ما ال نهاية‪ .‬و�إذا كانت الفل�سفة عبارة عن �أ�سئلة وحلول مقرتحة من قبل العقل‪ ،‬فما هي‬ ‫بهذا املعنى �إال جت�سيد للوعي الإن�ساين ولتفتحه‪ .‬وما قول �سقراط امل�شهور "�أ ّيها الإن�سان‬ ‫اعرف نف�سك بنف�سك"‪� ،‬إال ت�أكيد على وجود الوعي الب�شري للذات وللعقل وللآخر‪.‬‬ ‫و�إذا كانت الفل�سفة القدمية قد �أعطت حلو ًال وواجهت انتقادات عديدة‪ ،‬ومل تتمكن من‬ ‫التع ّرف �إىل احلقائق اليقينية‪ ،‬فكذلك الفل�سفة احلديثة‪ ،‬فهي �ست�ستمر يف طرح الأ�سئلة‪ ،‬وال‬ ‫تلقى �أجوبة مقنعة‪.‬‬ ‫و�إذا كانت الفل�سفة القدمية ال تعتمد التجربة كمقيا�س للمعرفة اليقينية‪ ،‬فذلك لأنها مل تكن‬ ‫معروفة �سابقاً ب�صدقيتها‪ ،‬ولأن الوعي الب�شري مل يكن على درجة ت�ؤهله لذلك‪ ،‬كما �أ�صبح‪،‬‬ ‫تو�سع مدارك الوعي‬ ‫فيما بعد‪ ،‬على �أثر اكت�شاف العلوم الو�ضعية‪ ،‬وما ا�ستتبعها‪ ،‬من �أثر على ّ‬ ‫الب�شري‪.‬‬ ‫واعترب علم النف�س‪ ،‬قبل القرن التا�سع ع�شر‪� ،‬أن الوعي �أو العقل هو مو�ضوعه الأوحد‪ .‬وهو‬ ‫يعترب كذلك �أن النف�سي ال ميكن �أن يكون �إال واعياً‪� ،‬أو هو الوعي عينه‪ .‬ويعتمد علم النف�س‬ ‫التقليدي يف درا�سته للوعي‪ ،‬طريق اال�ستبطان‪ .‬وهو يقوم على اعتبار �أن احلياة النف�سية‬ ‫الداخلية ال يعرفها وال ي�شعر بها �إال من يعي�شها؛ فما من �أحد يعرف ما يعانيه ال�شخ�ص �إال‬ ‫ال�شخ�ص ذاته‪ .‬و�أف�ضل طريقة لدرا�سة احلالة النف�سية‪ ،‬هي اال�ستبطان‪ .‬وهو درا�سة الأنا للأنا‪،‬‬ ‫والتب�صر‪.‬‬ ‫عن طريق الت�أ ّمل ّ‬ ‫يهتم ابن �سينا كذلك بالنف�س الإن�سانية‪ ،‬ويثبت وجودها ب�أدلة منطقية‪ .‬وهو يفرد ف�صو ًال‬ ‫تتحدث عن النف�س و�سيا�ستها‪ .‬وهو مي ّيز‪ ،‬بني النف�س الأ ّمارة بال�سوء والعقل الذي يتدخل‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫‪67‬‬


‫"والعاقل هو من حافظ على مناقبه باملواظبة والتنمية وح�سن التدبري‪ ،‬وق�ضى على مثالبه‬ ‫بالقمع والقهر وقلة اال�ستعمال‪ ،‬واتخذ لنف�سه ثواباً وعقاباً ي�سو�سها بهما ح�سب طاعتها‬ ‫وانقيادها يف قبول الف�ضائل وترك الرذائل" ‪.‬‬ ‫‪7‬‬

‫ويهتم الإن�سان ب�شكل عام برتبية النف�س‪ .‬وتعترب جماهدة النف�س يف الإ�سالم �أ ّنها اجلهاد‬ ‫الأكرب‪ .‬وكان �إخوان ال�صفا والفارابي �سابقاً‪ ،‬قد اهتموا بالنف�س‪ .‬اعترب �إخوان ال�صفا "�أن‬ ‫العربة لي�ست باجل�سد املتح ّول والفاين‪ ،‬و�إنمّ ا بالنف�س اخلالدة‪ :‬فبقدر ما ي�صقل الإن�سان نف�سه‪،‬‬ ‫ذكراً كان �أم �أنثى‪ ،‬بقدر ما ي�سمو بها �إىل عاملها الروحاين الذي وردت منه" ‪.‬‬ ‫‪8‬‬

‫لقد لعبت تلك الآراء دوراً مهماً يف تبيان دور النف�س الإن�سانية‪ ،‬كما مهدت �إىل االهتمام‬ ‫بعامل النف�س‪ ،‬فيما بعد‪ ،‬يف الع�صور احلديثة مع ديكارت ومن جاء بعده‪.‬‬ ‫‪ - 4‬الوعي الب�رشي �أثناء مرحلة العلوم الو�ضعية والفل�سفة احلديثة‬

‫بد�أ الع�صر احلديث مع ديكارت‪ ،‬حيث الفل�سفة وعلم النف�س وجممل العلوم الو�ضعية‪� ،‬إذ �إنّ‬ ‫�أول ظهور لكلمة �أو لفكرة "وعي" بد�أت معه يف �أوا�سط القرن ال�سابع ع�شر‪� ،‬إذ م ّيز بني النف�س‬ ‫واجل�سد‪ ،‬واعترب �أن الوعي يعني "�أنا �أفكر"‪ .‬وهو ينطلق من �أن النف�س تعرف كل ما فيها من‬ ‫غري ا�ستثناء‪ ،‬وما ال تعرفه فيها‪ ،‬فهو ال ينتمي �إىل النف�س‪ ،‬بل ينتمي �إىل اجل�سد‪.‬‬ ‫ي�ستبعد ديكارت كلياً فكرة وجود علم نف�س حيواين‪ ،‬لأنّ احليوان ال ي�ستطيع اختبار فكرة‬ ‫"�أنا �أفكر �إذاً �أنا موجود"‪ .‬وهو يرى �أن الوعي هو وعي يقيني بوجود ذاته‪ ،‬وغري يقيني �إزاء‬ ‫اخلارج‪ .‬و�أن كل ما هو نف�سي هو �ضمن دائرة الوعي‪ ،‬و�أن كل ما يتعلق باجل�سم �أو الأ�شياء‬ ‫الأخرى هو خارج دائرة الوعي‪ .‬وهو ال يقر بفكرة "الالوعي النف�سي" التي تكلم عنها فرويد‪.‬‬ ‫ي�سعى ديكارت وراء احلق‪ ،‬وقد رف�ض يف البداية جميع املذاهب التي كانت �شائعة‪ ،‬ملا فيها‬ ‫من تباين واختالف‪ ،‬ف�شك يف كل العلوم التي تعلمها من املا�ضي‪ .‬وهو يقول "الحظت‪..‬‬ ‫�أنني تلقيت منذ �سنواتي الأوىل طائفة من الآراء الباطلة على �أنها �صحيحة‪ .‬ومن �أجل ذلك‬ ‫علي �أن �أقدم بجد م ّرة واحدة يف العمر على تخلي�ص نف�سي من الآراء‬ ‫حكمت ب�أنه يجب ّ‬ ‫التي تلقيتها يف املا�ضي"‪ .‬فهو يرى �أنه من ال�ضروري �إعادة البحث من �أ�سا�سه‪ ،‬لإقامة �شيء‬ ‫ثابت ورا�سخ يف العلوم‪.‬‬ ‫‪9‬‬

‫‪68‬‬


‫ف�������������ك�������������ر‬

‫هكذا ي�ستيقظ الوعي الإن�ساين مع ديكارت‪ ،‬ليعي بطريقة يقين ّية املعارف احلقيقية‪ ،‬ف�شكه‬ ‫مل يكن لأجل ال�شك‪� ،‬إنمّ ا كان يف �سبيل اليقني‪ .‬وما عودته �إىل الذات �إال دليل وا�ضح على‬ ‫وعيه لذاته والوثوق بها‪� .‬إنّ �شكه يختلف عن �شك الريب ّيني الذين يتنازلون عن حقوق‬ ‫الفكر‪ ،‬بل �إ ّنه "�شك م�ؤقت‪ ،‬ال بل هو بداية البحث عن احلقيقة‪ ...‬ف�إن �شك ديكارت �إميان‬ ‫بالعقل‪ ،‬وعزم حمقق على الو�صول �إىل اليقني" ‪.‬‬ ‫‪10‬‬

‫يظهر الوعي الديكارتي يف توليده اليقني من ال�شك‪ .‬وكانت فل�سفته جديدة‪ ،‬ال ت�ؤمن �إال‬ ‫يعد بحق م� ّؤ�س�س الفل�سفة احلديثة‪ .‬ويعرتف لوك بف�ضل‬ ‫بحر ّية الفكر‪ ،‬وبداهة العقل‪ .‬وهو ّ‬ ‫ديكارت‪ ،‬ويقول‪" :‬ونحن يلزمنا �أن نقر ب�أن هذا الفيل�سوف اجلديد قد منحنا‪ ،‬للنظر يف الأ�شياء‬ ‫الطبيعية‪ ،‬نوراً �أعظم من النور الذي منحنا �إ ّياه الفال�سفة الآخرون عن بكرة �أبيهم" ‪.‬‬ ‫وت�ستمر مظاهر الوعي عند الكثري من الفال�سفة الغرب ّيني‪ .‬فريى هيغل �أ ّنه يف "الفل�سفة فقط‬ ‫يتحقق الروح املطلق �أو اهلل متام التحقق‪ ...‬وما املذاهب الفل�سفية التي ي�سجلها التاريخ �إال‬ ‫التقدم نحو هذا الن�صر النهائي" ‪ .‬وهو يرى كذلك‪� ،‬أن املطلق هو الوجود‬ ‫حلقات يف �سل�سلة ّ‬ ‫الواقعي‪ ،‬مبا فيه من روح ال متناه �أو مثال �أو عقل كلي‪ .‬كما �أنه يرى �أي�ضاً‪� ،‬أ ّنه لأجل فهم‬ ‫الوجود‪ ،‬يجب اتباع منهج منطقي يبينّ هذا الت�سل�سل‪ .‬ال�صريورة بر�أيه‪ ،‬هي �صميم الوجود‪،‬‬ ‫و�سر التطور‪ .‬كما �أ ّنه يقر بوجود الروح املطلق والوعي الكلي‪ ،‬والإرادة الكلية‪.‬‬ ‫‪11‬‬

‫‪12‬‬

‫ويبينّ مارك�س تباين �آرائه عن �آراء هيغل‪ .‬ويرى هذا الأخري‪� ،‬أنّ عملية التفكري تتح ّول �إىل‬ ‫ذات م�ستقلة‪ .‬يرى مارك�س "�أن املثايل لي�س �سوى املادي منقو ًال �إىل دماغ الإن�سان وحمو ًال‬ ‫فيه" ‪ .‬ويعترب �إجنل�س �أن الأفكار ما هي �إال نتاج الدماغ الإن�ساين‪ ،‬و�أن الإن�سان هو نتاج‬ ‫الطبيعة‪ ،‬وبذلك �سيكون نتاج دماغ الإن�سان هو نتاج الطبيعة‪.‬‬ ‫‪13‬‬

‫حتدد مدى درجة الوعي االجتماعي‪� .‬إذ �إن‬ ‫ترى املارك�سية �أن الظروف املادية هي التي ّ‬ ‫معي�شة الإن�سان االجتماعية هي التي تعينّ وعيه‪" .‬وعندما تبلغ قوى املجتمع املنتجة املادية‬ ‫درجة مع ّينة من تطورها‪ ،‬تدخل يف تناق�ض مع عالقات الإنتاج املوجودة‪ ..‬ومع تغيرّ الأ�سا�س‬ ‫االقت�صادي يحدث انقالب يف كل البناء الفوقي الهائل‪ ..‬فينبغي بالعك�س تف�سري هذا‬ ‫الوعي انطالقاً من تناق�ضات احلياة املادية" ‪.‬‬ ‫‪14‬‬

‫واعتربت املدر�سة ال�سلوكية‪ ،‬مع واط�سن‪ ،‬يف بداية القرن الع�شرين‪� ،‬أن االعتماد على درا�سة‬ ‫‪69‬‬


‫الوعي‪ ،‬كما كان عند علم النف�س التقليدي‪ ،‬ال ي�ؤ ّدي �إىل علم نف�س علمي‪ .‬لقد قام واط�سن‬ ‫بدرا�سته ل�سلوك احليوان والإن�سان‪ ،‬من غري االكرتاث ملقولة "الوعي"‪ .‬على اعتبار �أن ال�سلوك‪،‬‬ ‫وحده هو املعطى الوحيد يف علم النف�س القابل فع ًال للمراقبة العلم ّية‪.‬‬ ‫حاولت املدر�سة ال�سلوكية اجلديدة التخفيف من ا�ستبعاد الوعي‪ ،‬فجعلت علم النف�س نوعاً‬ ‫من الفيزياء امليكانيكية النف�سية‪ ،‬ف�أدخلت فكرة معنى ال�سلوك‪ ،‬وفكرة "موقع اجل�سد"‪ ،‬وفكرة‬ ‫"الت�صورات الذهنية" و"القيم ال�شخ�صية"‪ ،‬التي تختلف بني فرد و�آخر‪.‬‬ ‫ا�ستم ّر االهتمام بالوعي ودوره يف احلياة النف�سية‪ ،‬يف االنتباه والذاكرة والتخ ّيل‪ ،‬يف كل‬ ‫الوظائف النف�سية العليا‪ .‬لقد ا�ستم ّر دور الوعي‪ ،‬رغم كل املحاوالت والأفكار التي جاء بها‬ ‫ثورندايك عام ‪ ،1911‬وخ�صو�صا فكرة "التعلم بالتجربة واخلط�أ"‪.‬‬ ‫�أما املدر�سة الفينومينولوجية‪ ،‬التي � ّأ�س�سها هو�سرل‪ ،‬فرتى �أن الوعي يق�صد به �شيئاً غري‬ ‫ذاته‪ ،‬معرباً عن احلياة النف�سية‪ ،‬مدركاً الظواهر‪ ،‬التي هي جوهر الأ�شياء "كل وعي هو وعي‬ ‫ل�شيء ما"‪.‬‬ ‫يطلب هو�سرل �إىل العقل �أن ي�ضع بني قو�سني "الوجود الواقعي للأ�شياء لكي يح�صر نظره‬ ‫يف خ�صائ�صها اجلوهرية كما هي ماثلة يف ال�شعور" ‪ .‬وجاءت مدر�سة التحليل النف�سي مع‬ ‫فرويد‪� ،‬إذ انتقد املدر�سة ال�سلوكية‪ ،‬واعترب الالوعي �أ�سا�س احلياة النف�سية‪ .‬واعترب �أن للوعي‬ ‫دوراً �أولياً يف العالج النف�سي‪ .‬واملري�ض النف�ساين بر�أيه‪ ،‬عندما يتمكن من وعي �أ�سباب‬ ‫مر�ضه‪ ،‬ف�إ ّنه يتخل�ص من هذا املر�ض وي�شفى منه‪.‬‬ ‫‪15‬‬

‫و�أ�شار العديد من املفكرين قبل فرويد �إىل الالوعي‪ ،‬وكان �أ�شهرهم‪ :‬اليبنتز‪ ،‬الرو�شفوكو‪،‬‬ ‫رو�سو‪� ،‬شوبنهاور‪ ،‬كارو�س‪ ،‬هارمتان‪ ،‬نيت�شه‪ ،‬ومارك�س‪ .‬يعترب �شوبنهاور �أن دوافعنا الواعية‬ ‫لي�ست �سوى واجهة تخ ّبئ دوافعنا الالواعية‪ ،‬والإن�سان ميكن �أن يجهل دوافعه احلقيقية‪.‬‬ ‫وتكلم نيت�شه كذلك عن الالوعي و�أقنعته‪ ،‬واعترب �أن القيم الأخالقية ت�صدر غالباً عن غرائز‬ ‫�أنانية عدوانية وجن�سية‪ .‬ورغم ما قيل �سابقاً عن الالوعي‪� ،‬إال �أ ّنه ما من �أحد حاول �أن يبني‬ ‫نظرية متما�سكة‪ ،‬قاعدتها الالوعي‪ ،‬كما فعل فرويد‪ .‬وهو قد عمل على حتويل الالوعي �إىل‬ ‫وعي‪ ،‬وذلك عن طريق التحليل النف�سي �أو التداعيات الكالمية احل ّرة‪ ،‬حتت قاعدة عدم‬ ‫مقاطعة املري�ض �أثناء كالمه‪ .‬وهو قد اكت�شف �أن الطريقة التطهريية قا�سية وخميفة للمري�ض‪،‬‬ ‫‪70‬‬


‫ف�������������ك�������������ر‬

‫فا�ستبدلها بطريقة التحليل النف�سي‪ .‬وط ّور فرويد طريقته‪ ،‬ف�أخذ بت�أويل زالت الل�سان‪،‬‬ ‫والأفعال الناق�صة‪ ،‬والأحالم الليلية‪ ،‬وذلك الكت�شاف الالوعي‪.‬‬ ‫ويت�شكل اجلهاز النف�سي عند فرويد من ثالثة عنا�صر‪ :‬الغرائز اجلن�سية �أو الهو‪ .‬والرقابة‬ ‫الأخالقية واالجتماعية �أو الأنا الأعلى‪ .‬والأنا‪ ،‬ذلك اجلزء الواعي الذي تت�صارع فيه‬ ‫الرغبات واملمنوعات‪ .‬والأنا تبدو متوازنة عندما يكون هناك توازن بني الأنا الأعلى والهو‪.‬‬ ‫�شدد فرويد على �أهم ّية اجلن�س‪ ،‬ف�أثار الأو�ساط املحافظة �ضد نظريته‪� .‬إذ �إن الالوعي‬ ‫ّ‬ ‫الفرويدي هو يف الأ�صل‪ ،‬مكبوت جن�سي‪ .‬وهو يفهم اجلن�س فهماً خال�صاً‪ ،‬يختلف فيه عن‬ ‫الآراء ال�سائدة‪ ،‬وتبد�أ احلياة اجلن�سية عنده منذ الوالدة‪ ،‬وهي على مراحل‪� ،‬أعالها‪ :‬مرحلة‬ ‫البلوغ وهي املرحلة التنا�سلية‪ .‬وقد مير الفرد خاللها ب�ست مراحل‪ :‬املرحلة الفمية‪ ،‬وهي‬ ‫مرحلة الر�ضاعة‪ .‬واملرحلة ال�شرجية‪ ،‬وت�ستمر حتى ثالث �سنوات‪ .‬والتنا�سلية الأوىل‪ ،‬وهي‬ ‫من ثالث �إىل �أربع �سنوات‪ .‬املرحلة الق�ضيبية‪ ،‬بني �أربع و�ست �سنوات‪ .‬وال�ستور‪ ،‬بني �سنة‬ ‫و�إحدى ع�شرة �سنة‪ .‬والتنا�سلية‪ ،‬وهي ت�ستمر من اثنتي ع�شرة �سنة حتى �سن البلوغ‪.‬‬ ‫يرى فرويد �أن كل مر�ض نف�سي يجد �أ�سبابه يف مرحلة من تلك املراحل‪ .‬وهو قد �أعطى �أهم ّية‬ ‫خا�صة للمرحلة التنا�سلية الأوىل �أو الأوديبية‪� .‬إذ �إن الولد يتم ّنى‪ ،‬يف تلك الفرتة‪� ،‬إزاحة �أبيه‬ ‫يقدمه التحليل النف�سي هو التخل�ص من عقدة �أوديب‪،‬‬ ‫لأ ّنه يبعده عن �أمه‪ .‬والعالج الذي ّ‬ ‫فتكون الطفولة هي �أ�سا�س �شخ�صية الإن�سان‪ .‬وهذا ما عمل عليه علم الرتبية احلديثة‪ ،‬رغم‬ ‫كل االنتقادات لفرويد‪.‬‬ ‫اعترب فرويد‪ ،‬بعد انتهاء احلرب العاملية الأوىل‪ ،‬وجود غريزتني يف الإن�سان‪ :‬غريزة احلياة‪،‬‬ ‫وغريزة املوت‪� .‬أما غريزة احلياة‪ ،‬فهي الغريزة اجلن�سية التي تهدف �إىل املحافظة على الذات‪،‬‬ ‫ح�سب مبد�أ اللذة‪� .‬أما غريزة املوت‪ ،‬فهي التي ت�سعى �إىل التخل�ص من ال�ضغوط‪ ،‬وتتمثل‬ ‫بالعنف والقتل واالنتحار وتدمري الذات‪.‬‬ ‫وتع ّر�ضت نظرية فرويد الأوىل النتقادات‪ ،‬خا�صة من قبل تالمذته‪ ،‬حيث مل يجدوا يف‬ ‫الليبيدو اجلن�سي غريزة قاعدية قادرة على تف�سري كل ال�سلوك الب�شري‪� ،‬أما �آدلر فريى �أن‬ ‫حاجة الإن�سان الأ�سا�سية هي ت�أكيد الذات‪ .‬ويرى غو�ستاف يونغ وجود منوذجني‪ :‬املنفتح‬ ‫واملنطوي‪ ،‬وهو يقر بوجود الوعي جماعي‪� ،‬إىل جانب الالوعي الفردي‪ .‬ويرى كارن هورين‬ ‫‪71‬‬


‫�أن الغريزة الأ�صلية عند الفرد‪ ،‬هي احلاجة �إىل الأمن واحلماية‪� .‬أما عند الكان‪ ،‬فالعالج يتم‬ ‫بتحويل �صراع الهو والأنا الأعلى �إىل كالم فقط‪.‬‬ ‫ويرى مالينوف�سكي كذلك‪� ،‬أن عقدة �أوديب لي�س مو�ضوعها الأب‪ ،‬بل اخلال �شقيق الأم‪.‬‬ ‫لقد تطورت النظرية الفرويدية‪ ،‬مع تطور علم الإنرتوبولوجيا‪ ،‬حتى اكت�شف املحللون بعد‬ ‫فرويد‪ ،‬الروائز النف�سية الناجحة يف اكت�شاف الالوعي‪ .‬وهي تق�سم �إىل ق�سمني‪:‬‬ ‫ روائز الإ�سقاط‪ ،‬و�أ�شهرها رائز رور�شاخ‪ ،‬ورائز مورغان‪.‬‬‫ روائز البناء‪ ،‬وت�شتمل على روائز الألعاب‪ ،‬وروائز التمثيل امل�سرحي‪ ،‬التي طورها جاكوب‬‫مورينو‪.‬‬ ‫�أما روائز الإ�سقاط‪ ،‬فهي ترى �أن املري�ض يتكلم عن نف�سه من غري �أن يدري‪ .‬فهو ي�سقط‬ ‫الوعيه عليها‪ ،‬ت�أكيداً للقول‪ :‬نحن ال نرى الأ�شكال كما هي‪ ،‬بل نراها كما نحن‪� ،‬أي كما‬ ‫نرغب �أن تكون‪.‬‬ ‫�أما روائز مورغان وم ّري والتمثيل امل�سرحي‪ ،‬فاملري�ض يتكلم عن نف�سه �أو ميثل دوراً يرغبه‪،‬‬ ‫فيكون بذلك قد ي�ص ّور حالته النف�سية من دون �أن يدري‪.‬‬ ‫لقد �أدخل فرويد الالوعي �إىل دائرة املعارف الإن�سانية‪ ،‬فبعد �أن ركزت الب�شرية �سابقاً‪،‬‬ ‫على الفل�سفة والعقل الب�شري‪ ،‬جاء فرويد لي�ؤكد �أن الالوعي هو الذي يقف وراء ال�سلوك‬ ‫الب�شري‪ .‬وما العقل �إال �أداة لتنفيذ الدوافع الالواعية وخادم لها‪.‬‬ ‫ويعترب وليم جيم�س �أن الالوعي هو �أهم اكت�شاف علمي‪ ،‬يف القرن التا�سع ع�شر‪ .‬وقد تن ّبه‬ ‫فرويد لأهمية هذا االكت�شاف‪ ،‬فاعترب �أن الب�شرية عرفت ثالثة اكت�شافات مهمة يف تاريخها‪،‬‬ ‫وهي‪ :‬اكت�شافات كوبرنيكو�س‪ ،‬الذي قال �إن الأر�ض لي�ست مركز العامل‪ ،‬اكت�شاف داروين‪،‬‬ ‫الذي اعترب �أن اجلن�س الب�شري هو تطور وامتداد للجن�س احليواين‪ ،‬واكت�شافه الالوعي‪ ،‬الذي‬ ‫�أزاح العقل عن عر�شه الإن�ساين‪ .‬وعلى الرغم من �إعطاء فرويد �أهمية لالوعي‪ ،‬فقد ظل يرى‬ ‫�أن الوعي هو �أداة �أ�سا�سية يف توازن ال�شخ�صية الإن�سانية‪.‬‬ ‫�أما املدر�سة الوجودية مع هو�سرل وهيدجر و�سارتر‪ ،‬فرتى �أن الوعي "هو دائماً مو�ضوع ما‪،‬‬ ‫حمدد لي�س هناك من وعي باملطلق �أو وعي يف ذاته‪ .‬لكن وعي املو�ضوع لي�س‬ ‫مرتبط مبو�ضوع ّ‬ ‫‪72‬‬


‫ف�������������ك�������������ر‬

‫ب�سيطاً بل هو يحمل يف طياته تناق�ضاً" ‪.‬‬ ‫‪16‬‬

‫ومي ّيز �سارتر بني �إدراك املو�ضوع ووعي ذلك املو�ضوع‪ ،‬فهو يرى �أن هناك ه ّوة ال يوجد فيها‬ ‫�شيء‪ .‬كما �أنه ي�ستنتج وجود الال�شيء �أو العدم‪ ،‬بني الإدراك ووعي ذلك الإدراك‪.‬‬ ‫وهو ي�ؤكد على ا�ستمرارية الوعي‪ ،‬فيقول‪" :‬ف�أنا ملزم �أن �أكون دائماً قبل ماهيتي‪ ...‬ملزم �أن‬ ‫�أكون حراً" ‪ .‬وهو يح ّرر نف�سه من املاهية‪.‬‬ ‫تغدو تلك احلرية مطلقة‪ .‬حريته �أن يختار ما ي�شاء‪� ،‬أو ي�صنع ماهيته‪ .‬وين�ش�أ القلق‪ ،‬عند‬ ‫الوجودي‪ ،‬عندما يرى الوعي مقطوعاً عن ماهيته بوا�سطة العدم‪ ،‬ومف�صو ًال عن امل�ستقبل‬ ‫بوا�سطة حريته نف�سها‪ .‬والوجودية‪ ،‬بقولها ب�أ�سبقية الوجود على املاهية‪ ،‬تخالف كل الإرث‬ ‫ت�شدد الوجودية على الذاتية‪،‬‬ ‫الفل�سفي ال�سابق‪ ،‬الذي يرى �أ�سبقية املاهية على الوجود‪ّ .‬‬ ‫"ذاتية الفرد‪ -‬ال�شخ�ص"‪ .‬وهي حتذف كل مطلق‪ ،‬وت�شكك يف مو�ضوعية املعرفة‪ .‬ويرى �سارتر‬ ‫�أن الإن�سان لي�س هو �إال م�شروعاً‪" ،‬وهو م�شروع يعي�ش بذاته ولذاته‪ .‬وهذا امل�شروع �سابق‪ ،‬يف‬ ‫وجوده‪ ،‬لكل ما عداه‪ .‬وال يوجد �شيء ت�ستطيع ال�سماء �أن تت�صوره �أو تتخ ّيله‪ .‬فالإن�سان هو‬ ‫م�شروع يف �أن يكون‪ ،‬ال ما �أراد �أن يكون" ‪.‬‬ ‫‪17‬‬

‫‪18‬‬

‫تركز الفل�سفة الوجودية على الذاتية‪ ،‬كحقيقة مطلقة‪ .‬وهذه الذاتية لي�ست هي �إال وعي‬ ‫الإن�سان للوجود‪ .‬و�إذا كانت الوجودية قد و�سمت بالإحلاد والقلق واخلوف على امل�صري وعلى‬ ‫امل�ستقبل‪ ،‬فهي ب�سبب ابتعادها عن تلك اخللفية الفل�سفية‪ ،‬التي تنطلق من وجود �إله ووجود‬ ‫حقائق مطلقة‪ ،‬ي�ستطيع الإن�سان بوا�سطتها �أن يتع ّرف �إىل احلقيقة وي�سيطر على القلق‪.‬‬ ‫والوجودية‪ ،‬ح�سب ر�أينا‪ ،‬مل ت�صل �إىل ما و�صلت �إليه‪ ،‬لوال اطالعها على جممل التف�سريات‬ ‫ال�سابقة‪ ،‬والتي ر�أتها غري جمدية‪ .‬فهي رف�ضت ما كان جاهزاً‪ ،‬ومل تتمكن من �إح�ضار البديل‪.‬‬ ‫�أما اعتبارها للذاتية وللوعي‪ ،‬فهي فكرة �صحيحة‪ ،‬وقد درج كثري من املفكرين عرب التاريخ‬ ‫الب�شري و�أكدوا على تلك الذاتية‪� ،‬أمثال ابن �سينا وديكارت وغريهما‪.‬‬ ‫يتج�سد يف كل مرحلة بعبارات متن ّوعة‪� ،‬إال �أنه م�ستمر عرب‬ ‫الوعي ظاهرة تاريخية م�ستم ّرة‪ ،‬وهو ّ‬ ‫التاريخ الب�شري‪ .‬وقد جتلت تلك الفكرة عند �أفالطون باملاهية‪ ،‬وعند �أر�سطو بال�صورة‪ .‬وعند‬ ‫ابن �سينا برباهينه على وجود النف�س‪ ،‬وعند ديكارت باعتماده الأ�سا�سي على وعيه لذاته‪،‬‬ ‫وعند فرويد‪ ،‬عرب �أفكاره عن الوعي والالوعي‪ ،‬وعند هيغل‪ ،‬عرب املطلق‪ ،‬وعند الوجودية‬ ‫‪73‬‬


‫املعا�صرة عرب الذاتية‪ .‬وجتلت فكرة الوعي �أكرث ما جتلت مع برغ�سون‪ ،‬حيث اعترب �أن الوعي‬ ‫يحدد �صفات الوعي‪ ،‬مبا يلي‪:‬‬ ‫م�ستمر ومتوا�صل‪ .‬وهو ّ‬ ‫ ال�صفة الأوىل‪ ،‬وهي �أال يوجد يف الوعي وحدات منف�صلة‪ ،‬م�ستقلة‪ ،‬قائمة بذاتها‪.‬‬‫ ال�صفة الثانية‪� ،‬أن كل حالة هي حالة متغيرّ ة‪ .‬وال ينفك الوعي عن التغيرّ ‪ ،‬بحيث �أن احلالة‬‫الواحدة لي�ست هي دائماً ذاتها وال م�شابهة يف الزمان‪.‬‬ ‫ ال�صفة الثالثة‪ ،‬وهي �أن الوعي م�ستمر ومتوا�صل‪ :‬فالوعي الذي ي�أتي بعد �شعور ما هو‬‫مت�صل بالوعي الذي �سبق هذا ال�شعور‪ ...‬هناك ا�ستمرارية‪� ،‬شعور بالتتابع واالت�صال‪ ...‬ذلك‬ ‫هو تيار الوعي‪� ،‬أو "نهر الوعي �أو الفكرة �أو احلياة الداخلية" ‪.‬‬ ‫‪19‬‬

‫ �أما ال�صفة الرابعة‪ ،‬فهي �أن يهتم الوعي‪ ،‬مبختلف العنا�صر التي ت�شكل حمتواه‪ .‬فالوعي‬‫يف�سر مدى تباين الإدراك بني �شخ�ص و�آخر‪.‬‬ ‫يختار ب�صورة عفوية‪ .‬وهذا ما ّ‬ ‫يحدد برغ�سون احلد�س ب�أنه "ر�ؤية مبا�شرة للعقل بالعقل"‪ .‬احلد�س‪ ،‬هو "وعي مبا�شر‪ ،‬ووعي‬ ‫ّ‬ ‫مو�سع‪ ،‬وهو الوعي ب�شكل عام‪ ،‬وهو التعاطف" ‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫املعرفة احلد�سية‪ ،‬وكما �أق ّر بها العديد من الفال�سفة‪ ،‬لي�ست هي بنظرنا �إال معرفة مبا�شرة‪ .‬فهي‬ ‫ت�أتي نتيجة للوعي الفردي ومدى اطالعه و�سعة معلوماته‪.‬‬ ‫‪20‬‬

‫ال يزال الوعي ظاهرة فكرية م�ستم ّرة‪ .‬وهو يعترب عن�صراً مهماً من عنا�صر احلياة النف�سية‪.‬‬ ‫ويذهب البع�ض �إىل حد اعتباره �سلوكاً ينبغي درا�سته مو�ضوعياً‪� ،‬ش�أنه يف ذلك �ش�أن الالوعي‬ ‫الذي هو �سلوك �أي�ضاً‪.‬‬ ‫الوعي مالزم للحياة النف�سية‪ .‬وهو يتداخل مع الالوعي ب�شكل م�ستمر‪ .‬ويظهر فج�أة على‬ ‫�أثر �صعوبة طارئة ناجمة عن انقطاع مفاجئ يف التك ّيف‪� ،‬أو عن م�ؤثر خارجي قوي‪� ،‬أو عن‬ ‫فكرة ما‪.‬‬ ‫من �أهم خ�صائ�ص الوعي‪ :‬هو �أنه حد�س �أو معرفة مبا�شرة‪ ،‬بالعامل اخلارجي والداخلي‪ .‬وهو‬ ‫قدرة على االختيار‪ ،‬وقدرة على التك ّيف يف الو�سط املوجود‪ ،‬وهو وظيفة ع�ضوية‪ ،‬كما يعتربه‬ ‫ريبو‪ ،‬لت�أمني كل ما نحتاجه‪ .‬والوعي كذلك‪ ،‬هو القدرة على �إيجاد توليفة عقلية قائمة على‬ ‫‪74‬‬


‫ف�������������ك�������������ر‬

‫ان�شداد عقلي وع�ضوي‪ ،‬يبلغ �أوجه يف حالة االنتباه‪ ،‬وله م�ستويات متد ّرجة‪ ،‬ومتن ّوعة؛ ففي‬ ‫حاالت عديدة ال يعي الإن�سان ت�صرفاته‪.‬‬ ‫وما نو ّد �إ�ضافته هنا‪ ،‬هو �أن الوعي ي�شتمل على تف�سريين‪:‬‬ ‫ التف�سري الأول‪ ،‬وهو ذلك الوعي الذاتي وامل�ستمر‪ ،‬وي�شرتك فيه كل اجلن�س الب�شري‪.‬‬‫ التف�سري الثاين �أو الدرجة الثانية‪ ،‬وهو ذلك الوعي الذي ميثل �أعلى درجة و�أكرث اطالعاً‪،‬‬‫و�أو�سع معرفة‪ ،‬و�أقرب للحقيقة‪ .‬وهذا ما يظهر بال�سلوك واملواقف والآراء الفردية‪ .‬ومث ًال‬ ‫على ذلك‪ ،‬وجود جماعة ب�شرية‪ ،‬ت�ضم العامل واملهني والعامل والفيل�سوف‪ .‬وهنا تظهر‬ ‫الدرجة الثانية من الوعي‪ ،‬وهي الدرجة الأعلى‪ ،‬عند الفيل�سوف‪ ،‬ثم عند العامل‪ ،‬ثم عند‬ ‫املهني‪ ،‬و�أخرياً العامل �أو الإن�سان العادي‪ .‬وعندما ن�صف الفيل�سوف ب�أنه واع‪ .‬هذا ال يعني‬ ‫�أن املواطن العادي غري واع‪ ،‬بل يعني �أن الفيل�سوف �أكرث وعياً و�أكرث قدرة على التحليل‬ ‫والإدراك من غريه‪.‬‬ ‫‪ - 5‬خامتة‬

‫انطالقاً من هذه الفكرة‪ ،‬ميكننا �أن نعترب �أن الوعي ظاهرة م�ستمرة لدى خمتلف اجلماعات‬ ‫الب�شرية؛ فهناك الوعي الفردي‪ ،‬وهناك الوعي اجلماعي �أو درجة وعي املجتمع‪ ،‬بالن�سبة �إىل‬ ‫متعددة من الوعي؛ فالفرد‬ ‫جمتمع �آخر‪ .‬وهناك كذلك‪ ،‬داخل كل جمتمع ب�شري درجات ّ‬ ‫املتعلم وامل�ستوعب هو �أكرث تك ّيفاً مع واقعه وحميطه‪� ،‬أي �إنه الأعلم والأو�سع معرفة واطالعاً‪،‬‬ ‫والأكرث تن ّبهاً‪ ،‬وبالتايل فهو الأكرث وعياً من غريه‪ .‬والوعي بهذا املعنى هو ن�سبي‪.‬‬ ‫كذلك بالن�سبة للمجتمع‪ ،‬فاملجتمع الأكرث علماً والأو�سع اطالعاً‪ ،‬هو الأكرث تك ّيفاً مع‬ ‫التطورات‪ ،‬ومع الو�سط االجتماعي وال�سيا�سي والعاملي‪ .‬وهو الأكرث وعياً‪ .‬واملجتمعات‬ ‫احلديثة واملعا�صرة مث ًال‪ ،‬هي �أكرث وعياً من املجتمعات القدمية‪� .‬أما درجة وعي املجتمع‪،‬‬ ‫فيمكن �أن تقا�س مبعدل و�سطي لدرجات الوعي املتن ّوعة عند الأفراد واجلماعات‪.‬‬ ‫�إن ما نهتم به الآن هو ظاهرة الوعي الب�شري امل�ستم ّرة‪ ،‬عرب التاريخ الب�شري‪ .‬وما قمنا به‪ ،‬يف‬ ‫تعمق‬ ‫هذا البحث‪ ،‬ميكن �أن يلفت االنتباه لهذه الظاهرة الإن�سانية والفكرية‪ ،‬وما تتطلبه من ّ‬ ‫ودرا�سات‪ .‬فالوعي يرتبط باملعرفة واملعتقد والرتبية ودرجة الذكاء‪ ،‬والقدرة على التحليل‬ ‫‪75‬‬


‫والنقد‪� .‬إ ّنه ظاهرة مركبة معقدة‪ .‬فهو يرتبط بالإرادة واحلرية والقدرة على التخ ّيل واالبتكار‪.‬‬ ‫ترتبط درجة الوعي الفردي مب�ستوى الوعي اجلماعي؛ فهي ترتبط بالرتبية املنزلية واملدر�سية‬ ‫والعائلية واالجتماعية‪ ،‬وما نعتربه عند الطفل ذكاء حاداً‪ ،‬قد يكون له ذلك يف طفولته‪ ،‬لكنه‬ ‫يفقده من جراء الرتبية التي تفر�ض عليه‪ .‬وكثرياً ما يتع ّر�ض ملعاملة قا�سية تقتل عنده �شعلة‬ ‫الذكاء الطبيعية يف نف�سه‪ .‬كما �أن املجتمع ي�ساهم يف تبلور الوعي وتفتحه عند الفرد‪ ،‬من‬ ‫خالل الرتبية الإيجابية واملفيدة‪ ،‬وكذلك من خالل تو�سيع معارفه وخرباته املتنوعة‪ .‬وما �إن‬ ‫يندمج الإن�سان باملجتمع ويتق ّبل �أفكاره و�أ�ساليبه االجتماعية ال�سائدة‪ ،‬حتى ين�سى �أحالمه‬ ‫وتتبعرث قدراته‪�" .‬إننا نحرم �أوالدنا من مواهبهم‪ ،‬ونحد من مقدرتهم‪ ،‬لأننا ن�سعى بغية جعلهم‬ ‫على �صورتنا ومثالنا‪ ،‬كما فعل �آبا�ؤنا فجعلونا على �صورتهم ومثالهم‪ .‬والتحالف الذي يجابهه‬ ‫كل طفل هو حتالف العائلة واملجتمع �ضده وهو يكاد �أن يكون حتالفاً ال يقهر" ‪.‬‬ ‫‪21‬‬

‫يرى ه�شام �شرابي �أن النظام االجتماعي واالقت�صادي يفر�ض و�ضعاً نف�سياً وذهنياً مع ّيناً يف‬ ‫الأفراد‪ ،‬ك�شرط �أ�سا�سي ال�ستمراره‪ .‬كما �أنه يرى �أن املعرفة الذاتية هي ال�شرط الأ�سا�سي‬ ‫للتغيري الذاتي‪ ،‬يف الفرد كما يف املجتمع‪" .‬والوعي ال�صحيح هو الوعي النقدي القادر على‬ ‫ك�شف الوقائع وتعريته و�إظهار قاعدته احل�ضارية‪ .‬وال ميكن تغيري الواقع �إال بك�شف النقاب‬ ‫عن حقيقته" ‪.‬‬ ‫‪22‬‬

‫الوعي االجتماعي يتطلب ك�شف �أ�ساليب التمويه ال�سائدة يف املجتمع الب�شري‪ .‬وهي‬ ‫م�ستمدة من علم النف�س‪ ،‬وتعني "حجب حقيقة �شيء ما‪� ،‬أو واقع ما‪ ،‬مبختلف الطرق‬ ‫والو�سائل" ‪ .‬تبد�أ تلك العملية يف البيت وت�ستمر يف املدر�سة واملجتمع‪ .‬وبوا�سطتها تتمكن‬ ‫الثقافة االجتماعية �أن تفر�ض هيمنتها وقيمها و�أهدافها‪ .‬بوا�سطة تلك الرتبية التقليدية‪ ،‬ي�صبح‬ ‫الفرد مك ّب ًال بالقيود واملفاهيم املا�ضية‪ ،‬وي�صبح �سجني الآراء التي ت�أتيه من اخلارج‪ ،‬فيبتعد‬ ‫عن حقيقته وي�صبح م�سيرّ اً من قبل القوى املهيمنة يف املجتمع‪.‬‬ ‫يتفتح الوعي الفردي �أكرث ف�أكرث‪ ،‬مع تزايد املعرفة بالظاهرة االجتماعية‪ ،‬والقدرة على الإحاطة‬ ‫بواقع املجتمع وق�ضاياه‪ ،‬وذلك بف�ضل التقدم التقني الذي حتقق �إ ّبان الثورة ال�صناعية‪ ،‬وبف�ضل‬ ‫تطور العلوم وتراكم املعارف وتزايد الأبحاث ال�سو�سيولوجية والإنرتوبولوجية‪ ،‬وبف�ضل تطور‬ ‫و�سائل النقل واالت�صاالت‪" ،‬لقد �أ ّدت العوامل تلك �إىل قيام جمتمع �أكرث وعياً بذاته‪ ،‬و�أكرث‬ ‫‪23‬‬

‫‪76‬‬


‫ف�������������ك�������������ر‬

‫وعياً بغايات اجلماعة وو�سائله" ‪ .‬ويرى �شرابي �أن "ما يقود العلم وي�سيرّ ه يف املجتمع هو دافع‬ ‫ينبثق من ذلك املجتمع‪ ،‬فيعطيه منطقه اخلا�ص‪ ،‬وطبيعته اخلا�صة" ‪ .‬وهناك كثري من القيم‬ ‫والأهداف املج ّردة التي تبدو منطقية‪ ،‬قد تكون غري مفيدة للمجتمع‪.‬‬ ‫الوعي االجتماعي ين�ش�أ على �أ�سا�س حياة املجتمع املادية واملعنوية‪ ،‬من تن ّوع العالقات‬ ‫وتن ّوع الن�شاط وتن ّوع املفاهيم والعادات والأ�ساليب‪ .‬الوعي هو جانب �ضروري من احلياة‬ ‫االجتماعية‪ .‬ولكي يكون وعياً �إيجابياً ومفيداً يجب اعتماد الأ�ساليب العلمية واملنطقية يف‬ ‫التعلم‪ ،‬بالإ�ضافة �إىل درا�سة املجتمع على �ضوء النظريات احلديثة واملتطورة‪ ،‬التي تدر�س‬ ‫املجتمع خالل مراحل تطوره وتغيرّ ه‪ ،‬حيث ميكن معرفة �أ�سباب ذلك التغري والتطور‪ .‬وهذه‬ ‫احلياة يف جميع ظواهرها‪ ،‬هي نتيجة لن�شاط النا�س‪�" .‬أما طابع الوعي االجتماعي وم�ستواه‬ ‫فيحددها يف �آخر املطاف الوجود االجتماعي" ‪.‬‬ ‫واجتاهات تطوره‪ّ ،‬‬ ‫‪24‬‬

‫‪25‬‬

‫‪26‬‬

‫تتعدد مظاهر الوعي االجتماعي‪ ،‬فهناك الوعي ال�سيا�سي والوعي الثقايف‪ ،‬والوعي اجلمايل‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫والوعي القانوين‪ ،‬والوعي االقت�صادي‪� ،‬إىل غري ذلك‪ .‬ويرى حممود عبد الف�ضيل �أن الوعي‬ ‫يف املجال االقت�صادي �شرط �ضروري لتطور الإنتاج "�إن الوعي االنتقادي‪ -‬التحليلي هو‬ ‫�شرط �ضروري ولكنه �شرط غري كاف للخلق والإبداع الذاتي‪ .‬فالفكر االقت�صادي العربي‪،‬‬ ‫من خالل حماوالته للخلق والإبداع الذاتي يف جماالت تهم العديد من بلدان العامل‬ ‫الثالث‪ ،‬ميكن له �أن يكون رافداً من الروافد التي تغني الفكر العاملي حول ق�ضايا التحرر‬ ‫والتنمية والتوحيد االقت�صادي" ‪.‬‬ ‫‪27‬‬

‫الوعي الإن�ساين‪ ،‬ب�شكليه الفردي واجلماعي‪ ،‬يحتاج �إليه الإن�سان يف حياته العملية‪ .‬وهو‬ ‫ال ميكن اال�ستغناء عنه‪� ،‬إذ �إن الإن�سان يتم ّيز عن باقي الكائنات بعقله ووعيه‪ .‬وهو ال�سالح‬ ‫الوحيد الذي ميلكه الإن�سان ليتمكن به من التغلب وال�سيطرة على باقي املخلوقات الأخرى‪.‬‬ ‫كما �أن املجتمعات الب�شرية مدع ّوة لأن تكون �أكرث وعياً و�إدراكاً‪ ،‬حتى تتمكن من ال�سيطرة‬ ‫ما�سة‬ ‫على ال�صعوبات التي تواجهها يف م�سريتها‪� .‬أما عن الوعي ال�سيا�سي مث ًال‪ ،‬فهناك حاجة ّ‬ ‫لتحليل ما يجري يف العامل من خمططات م�شبوهة ومن ثقافات‪ ،‬هدفها تزوير الواقع العاملي‪،‬‬ ‫بهدف ت�ضليل الغالبية العظمى من جمتمعات العامل الثالث‪ ،‬لتمرير امل�شاريع الغربية التي‬ ‫تدعو للتفرقة على �أ�سا�س املعتقدات الدينية‪ ،‬حيث التكلم عن التطرف الديني و�صراع‬ ‫الثقافات‪ .‬تلك الفكرة التي ر ّوج لها املفكر وال�سيا�سي الأمريكي "�صامويل هانتنغتون" يف‬ ‫‪77‬‬


‫مقال بعنوان‪� :‬صدام احل�ضارات‪ .‬وهو ي�ستخدم معنى واحداً للثقافة واحل�ضارة‪ .‬كما �أنه يعترب‬ ‫�أن الدين هو املحور الأ�سا�سي يف الثقافة‪ .‬يعترب هانتنغتون �أن �سبب النزاعات العاملية مل يعد‬ ‫�سبباً اقت�صادياً �أو �إيديولوجياً‪ ،‬و�إنمّ ا "�سيكون م�صدراً ثقافياً‪ ،‬و�ستظل الدول والأمم هي �أقوى‬ ‫الالعبني يف ال�ش�ؤون الدولية‪ ،‬لكن النزاعات الأ�سا�سية يف ال�سيا�سات العاملية‪� ،‬ستحدث بني‬ ‫جتمع ثقايف للنا�س‬ ‫�أمم وجمموعات لها ح�ضارات خمتلفة" ‪ .‬وهو يعترب �أن احل�ضارة هي �أعلى ّ‬ ‫و�أو�سع م�ستوى للهوية الثقافية لل�شعب‪ .‬كما �أنه رغم �إقراره بتداخل احل�ضارات ومتازجها‪� ،‬إال‬ ‫�أنه يعتربها خطوط ف�صل جذرية بني الهويات املتمايزة‪.‬‬ ‫‪28‬‬

‫ي�شدد على تزايد النزعة‬ ‫ي�ؤكد هانتنغتون على ا�ستحالة الق�ضاء على الفوارق الثقافية‪ ،‬كما �أنه ّ‬ ‫الإقليمية وحتولها �إىل منط ثقايف‪ .‬وهو يركز على احتماالت ال�صدام بني الإ�سالم والغرب‪.‬‬ ‫كما �أن امل�ست�شرق الأمريكي برنارد لوي�س يتن ّب�أ بحتمية ال�صراع بني الإ�سالم والغرب‪ ،‬معترباً‬ ‫�أنهما نقي�ضان ال جمال للحوار بينهما‪ .‬وكذلك الأمريكي امل�شهور بول كندي يرى �أن العامل‬ ‫الإ�سالمي عاجز عن اال�ستعداد للقرن احلادي والع�شرين لأ�سباب عقدية وجمتمعية ح�سب‬ ‫ر�أيه‪" ،‬و�إذا احتاج املرء �إىل مثال على �أهمية املواقف الثقافية ل�شرح ا�ستجابة جمتمع ما‬ ‫للتغيري‪ ،‬فعليه بالإ�سالم املعا�صر" ‪.‬‬ ‫‪29‬‬

‫�إن ما ميكن �أن نقوله يف هذا ال�صدد هو �أن ه�ؤالء املفكرين ير ّوجون للإ�سالم ال�سيا�سي‪ ،‬وقد‬ ‫و�ضعوا له �أ�س�سه وبرامج عمله‪ ،‬فهم ي�ستفيدون من وجوده يف جماالت عديدة‪ .‬هذا الإ�سالم‬ ‫ي�شعل ثورة يف جممل الأرجاء من العامل الإ�سالمي‪ ،‬وقد ت�ستخدمها الدول الكربى‬ ‫مل�صاحلها‪ .‬كما �أن ذلك مل يعد ي�سمح بجمع العرب واليهود يف دولة فل�سطينية واحدة‪ .‬هذا‬ ‫من جهة‪� ،‬أما من جهة �أخرى فريتبط العامل الإ�سالمي باملا�ضي‪ ،‬حيث يعود �إىل نقطة ال�صفر‪،‬‬ ‫�إن كان من ناحية الت�شريع �أو من �أي ناحية �أخرى‪� .‬إن الرتويج لهذه الأفكار من �ش�أنه �أن‬ ‫ي�ص ّور امل�سلمني ك�إرهابيني‪ ،‬يقت�ضي حماربتهم من خمتلف ال�شعوب الأخرى‪ .‬ويرى حممد‬ ‫عابد اجلابري �أن العقل الأوروبي ال يعرف الإثبات �إال من خالل النفي‪ ،‬والغرب بعد انهيار‬ ‫خ�صمه ال�شيوعي "يحتاج للإ�سالم يف حتديد هويته ذاتها‪ .‬ويتعلق الأمر ب�إ�سالم ي�صنعه وفق‬ ‫حاجياته وهواج�سه‪.‬‬ ‫�إن العقل الأوروبي مل يعد يرى امل�ستقبل من وجهة م�ستقبلية‪ ،‬بل من خالل �آلية �صنع‬ ‫ال�سيناريوهات وا�ستعرا�ض الإمكانات املحتملة‪ ،‬ومن ثم ف�إن احلاجة العميقة �إىل العدو‬ ‫‪78‬‬


‫ف�������������ك�������������ر‬

‫ا�ستدعت املراهنة على اخليار الأقرب‪ ،‬ال�صراع مع الإ�سالم" ‪.‬‬ ‫�إن امللفت لالنتباه هو �أن هانتنغتون ّ‬ ‫املنظر الأ�سا�سي ل�صدام احل�ضارات‪ ،‬هو �سيا�سي �أمريكي‬ ‫وقد كان مقرباً من مركز القرار الأمريكي‪ ،‬حيث عمل �سابقاً يف �إدارة الرئي�س ال�سابق جيمي‬ ‫كارتر‪ ،‬كما �أنه �شغل رئا�سة اجلمعية الأمريكية للعلوم ال�سيا�سية‪ ،‬وي�شرتك يف حترير جملة‬ ‫ال�سيا�سة اخلارجية‪.‬‬ ‫‪30‬‬

‫يرى وجيه كوثراين يف تعليقه على �أطروحة هانتنغتون من �صدام احل�ضارات‪� ،‬أنه "ال يخرج‬ ‫عن نطاق ال�سعي لإدارة الأزمات يف كوكب الفقراء الذي تنفجر فيه الدميوغرافيا والثقافات‬ ‫التي ميتزج فيها الديني وال�سيا�سي" ‪.‬‬ ‫‪31‬‬

‫هكذا فالوعي �أو التفكري ال�صحيح القائم على التحليل والنقد ال ميكن اال�ستغناء عنه يف �أ ّية‬ ‫مرحلة‪ .‬واملجتمع الب�شري بحاجة لهذا الوعي‪ ،‬يف كل جمال من جماالت احلياة‪ .‬والإن�سان‬ ‫يحتاج لهذا الوعي‪ ،‬يف كل خطوة يقدم عليها‪ .‬كما �أن هذا الوعي هو العامل الأ�سا�سي‪،‬‬ ‫الذي ينقذ الإن�سان واملجتمع من ثغراته‪ ،‬وميكنه من مواجهة التحديات امل�صريية‪ ،‬كتحدي‬ ‫العوملة الأحادية اجلانب‪ ،‬التي تفر�ض فر�ضاً على ال�شعوب النامية‪.‬‬ ‫�أما اعتبار البع�ض ب�أن الوعي هو غريزة‪ ،‬فهو ما ال ميكن الإقرار به لأن الغريزة تبقى كما‬ ‫هي‪ ،‬بينما الوعي يختلف من فرد لآخر ومن جمتمع لآخر‪ .‬وهو ي�أتي نتيجة للتفكري‪ ،‬عك�س‬ ‫الغريزة املتناق�ضة مع الفكر‪.‬‬ ‫يرتبط الوعي بنوعية الدوافع وطبيعتها‪ ،‬وباحلاجات الفردية واالجتماعية وبالتجارب املا�ضية‪،‬‬ ‫والقيم العليا‪ ،‬والتمثالت االجتماعية‪ ،‬والأنا العليا‪ ،‬والقيم الثقافية واالجتماعية‪ .‬الوعي‬ ‫الذاتي يف جانب منه فطري‪ ،‬فالإن�سان ميلك ا�ستعدادات فطرية متكنه من القدرة على‬ ‫التفكري‪ .‬هذه القدرة على التفكري والتحليل يتم ّيز بها الإن�سان عن باقي الكائنات الأخرى‪.‬‬ ‫وهي تلعب دوراً مهماً على �صعيد القدرة على االكت�ساب والتعلم من التجارب ومن الأخذ‬ ‫عن الآخرين‪ .‬يتف ّوق الإن�سان �إذاً‪ ،‬عن باقي املخلوقات الأخرى بهذين العاملني‪.‬‬ ‫�أما عن درجة تلك اال�ستعدادات الفطرية‪ ،‬فهي تتباين عند الأفراد‪ ،‬وغالباً ما نعني بها ن�سبة‬ ‫الذكاء‪ ،‬وقد ابتكر العامل احلديث روائز متعددة لقيا�س ن�سبة الذكاء‪ .‬وتباينت �آراء املفكرين‬ ‫يف ذلك‪ ،‬فمنهم من يغلب ن�سبة الذكاء على ما عداها من معارف مكت�سبة‪ ،‬ومنهم من يغلب‬ ‫‪79‬‬


‫ن�سبة االكت�ساب على ما عداها‪� .‬أما ما ميكن قوله يف هذا املجال‪ ،‬هو �أن العقل الب�شري �أو‬ ‫القدرة على التفكري ترتبط باجلانبني الفطري واملكت�سب‪ .‬وبقدر ما يكت�سب الفرد‪ ،‬وح�سب‬ ‫نوعية االكت�ساب‪ ،‬تتغيرّ القدرة على التفكري ال�صحيح‪ ،‬من فرد لآخر‪ ،‬ومن جمتمع لآخر‪.‬‬ ‫ال ميكن اال�ستغناء عن اجلانب املكت�سب‪ ،‬فمهما كانت قوة الإدراكات الفطرية قوية‪� ،‬إال �أن‬ ‫اجلانب املكت�سب هو الذي يخرج املعلومات �إىل النور‪ .‬اال�ستعدادات هي فقط �ضمن منظور‬ ‫القدرة دون �أن تظهر �إىل الفعل‪ .‬والطفل عندما يتعلم التكلم يبد�أ به�ضم تلك املعلومات التي‬ ‫يكت�سبها من اخلارج‪ .‬والإن�سان يولد‪ ،‬وح�سب ر�أي �أر�سطو‪ ،‬وعقله �صفحة بي�ضاء‪ ،‬ال يتملك‬ ‫املعلومات �إال من التجربة واالكت�ساب‪ .‬ولو و�ضعنا طف ًال منذ والدته يف غابة‪ ،‬لكان يتعلم لغة‬ ‫احليوانات فقط‪ ،‬وملا كان يكت�سب معارف ب�شرية‪.‬‬ ‫�أما عن التمييز بني الوعي والالوعي‪ ،‬فاملق�صود فيه‪ ،‬وجود درجة من املعرفة �أدنى من الوعي‪.‬‬ ‫�إذ �إن ظاهرة الالوعي حتتوي على وعي مكبوت‪ .‬والذكريات "ت�شكل ق�سماً من منطقة‬ ‫الالوعي‪ :‬ففي التنومي‪ ،‬يف الأحالم الليلية‪ ،‬يف ال�صدمة االنفعالية‪ ...‬تربز ذكريات من�س ّية‬ ‫�إىل الوعي" ‪.‬‬ ‫‪32‬‬

‫هناك كذلك ظاهرة "القبوعي" �أو قبل الوعي‪ ،‬وهي ت�شمل الذكريات الإرادية‪ ،‬التي تعترب‬ ‫يف عامل الوعي‪ .‬و�إذا اعتربنا ظاهرة الوعي م�ستم ّرة منذ الوالدة‪ ،‬ترافق الفرد‪ ،‬ب�شكل م�ستمر‪،‬‬ ‫يف خمتلف مراحل حياته‪� ،‬أمكننا التمييز بني الوعي الطفويل والوعي لدى الإن�سان البالغ‪.‬‬ ‫والالوعي من هذه الزاوية‪ ،‬الذي يعترب عند ال�شخ�ص البالغ‪ ،‬لي�س �إال وعياً طفولياً مكبوتاً‪.‬‬ ‫وال�صدمة‪ ،‬التي يتع ّر�ض لها الطفل‪ ،‬ت�س ّبب له عقدة نف�سية‪ ،‬فيما بعد‪� ،‬أي �إنها ت�صدم الفكر‬ ‫فقط‪ .‬والغريزة‪ ،‬من حيث هي غريزة‪ ،‬تقبل القمع‪ ،‬وال تت�أثر به‪� .‬أما الوعي فهو الذي يت�أثر‬ ‫بال�صدمة‪ .‬وما نراه من تركيز الرتبية احلديثة على امليول النف�سية‪ ،‬لي�س بهدف �إطالق حرية‬ ‫الغريزة وال�شهوات‪ ،‬بل بهدف عدم قمع ح ّرية الطفل‪ ،‬عدم قمع �إرادته وفكره ووعيه‪ ،‬عدم‬ ‫قمع ذلك املركب الداخلي عنده‪ .‬لكن ما يت�أثر بال�صدمة والقمع‪ ،‬هو ذلك اجلزء الواعي من‬ ‫الفرد‪.‬‬ ‫�إن ما ميكن �أن نلفت االنتباه له هو تلك الظاهرة املعقدة واملهمة عند الإن�سان‪� ،‬إذ �إ ّنه وحده‬ ‫يتم ّيز بها عن �سائر الكائنات‪ .‬وال ميكن لبحث واحد �أن يفي ب�إعطائها ما ت�ستحقه من درا�سة‬ ‫‪80‬‬


‫ف�������������ك�������������ر‬

‫وتعمق‪� .‬إن ما حتتاجه ظاهرة الوعي‪ ،‬هو تبيان مدى ترابطها باخليال والأحالم والإرادة والذكاء‬ ‫ّ‬ ‫والتك ّيف والعادة والرتبية والدوافع والغرائز‪ ،‬وال�شك والنقد والتحليل‪.‬‬ ‫وما نو ّد لفت االنتباه �إليه هنا‪ ،‬هو ذلك اخللط بني الوعي والالوعي‪ ،‬وعدم تعيني حد فا�صل‬ ‫بينهما‪� .‬إ ّننا نرى �أنه من الأف�ضل‪ ،‬اعتبار الالوعي‪ ،‬هو يف حالة الأحالم والنوم وعدم القدرة‬ ‫على التفكري‪� .‬أما حالة الوعي‪ ،‬فهي ت�شمل كل حاالت اليقظة‪.‬‬ ‫�إن زلة الل�سان والأفعال الناق�صة‪ ،‬والكلمات التائهة‪ ،‬ميكن �أن ن�ستدل بها على وجود الوعي‬ ‫وراء الوعي‪� ،‬إنمّ ا ملن اخلط�أ اعتبار الإن�سان الذي ّزل ل�سانه �أ ّنه يف حالة الوعي‪ .‬كما �أن الطفل‬ ‫الذي ال يعرف �أ�سلوب التفكري ال�صحيح ال يجب اعتباره يف حالة الوعي‪ ،‬بل �إنه يف حالة‬ ‫وعي‪� ،‬إنمّ ا وعيه بقدر معرفته وبقدر ات�ساع فكره‪� .‬إذاً الوعي ن�سبي‪ ،‬وهو يخ�ضع لعوامل عديدة‪،‬‬ ‫منها التيقظ التام‪ ،‬وعدم التيقظ‪ ،‬ودرجة وعيه ومعرفته وقدرته على التحليل‪ .‬والإن�سان‬ ‫الأكرث وعياً هو الأكرث تنبهاً وتيقظاً‪.‬‬ ‫ولو افرت�ضنا جمموعة �أطفال يلعبون‪ ،‬ميكننا �أن من ّيز البع�ض منهم ب�أ ّنهم على درجة من الوعي‪،‬‬ ‫لكن عن �أي وعي نتكلم‪� ،‬إننا نعني وعي الأطفال‪� ،‬إذ �إن �أعلى درجة يف وعي الطفل تختلف‬ ‫عن �أدنى درجة يف وعي الرا�شد‪ .‬وكذلك وعي الرا�شد يختلف ح�سب درجة علمه وثقافته‬ ‫وذكائه وبيئته‪ .‬فالوعي‪ ،‬بهذا املعنى‪ ،‬ي�شمل كل احلاالت التي يكون الإن�سان فيها يقظاً‪.‬‬ ‫هكذا تلعب �إ�شكالية الوعي والالوعي دوراً مهماً يف حياة الإن�سان‪ ،‬وهي تبقى قائمة‪� .‬أولي�س‬ ‫هناك �صراع م�ستمر بني الوعي والالوعي؟‪ .‬ثم �ألي�س ف�صل الوعي كلياً عن الأمور الفطرية‪،‬‬ ‫كما يعترب معظم الفال�سفة‪ ،‬يبقى �إ�شكالية م�ستم ّرة يف تاريخ الفل�سفة؟‪ .‬وهل الوعي هو جم ّرد‬ ‫املعرفة التي يكت�سبها الفرد؟‪ .‬و�إذا كان بالإمكان ف�صل الوعي عن املعرفة‪ ،‬على �أ�سا�س �أنهما‬ ‫جوهران متفاعالن و�إنمّ ا م�ستقالن‪ ،‬فما هو جوهر الوعي �إذاً؟‪� .‬أمل نالحظ خالل جتاربنا �أن‬ ‫هناك بع�ض الأفراد‪ ،‬مهما تعلموا وترقوا يف درجات العلم‪ ،‬يبقون �أقل وعياً من غريهم‪ّ ،‬ممن هم‬ ‫�أدنى رتبة منهم يف العلم واملعرفة؟‪ .‬وهل يعود ذلك ال�سبب فقط لعامل الذكاء الفطري؟‪.‬‬ ‫�أولي�س �أن الوعي هو جم ّرد املنتوج الذكائي للفرد؟‪� .‬إذاً الوعي هو مفهوم �أو قيمة نطلقها على‬ ‫ما ي�صدر عن الفرد من �آراء ومعارف و�سلوك‪ .‬وهذه القيمة �أو هذا احلكم ي�شرتك يف حتديده‪،‬‬ ‫ويف تعيني درجته‪ ،‬كل من �أطلقه ومن ا ّت�صف به‪.‬‬ ‫‪81‬‬


‫�إذاً من ال�ضروري �إعادة النظر بكل هذه املفاهيم‪ ،‬لأنها لي�ست �إال جم ّرد �أحكام‪ ،‬تطلق على‬ ‫ما يظهر من نتائج الأمور‪ ،‬والإن�سان ما هو �إال �أكرث ابتعاداً عن لباب الأمور‪.‬‬ ‫�ألي�ست العودة �إىل فل�سفة �أر�سطو‪ ،‬وقوله باال�ستعدادات الفطرية‪ ،‬تدلنا على الطريق‬ ‫الأ�صوب؟‪ .‬و�إذا كان الوعي هو نتاج الذكاء والثقافة‪ ،‬فلمن تبقى الأولوية؟‪.‬‬ ‫�إن الإ�شكالية الأهم اليوم‪ ،‬هي تلك القائمة ما بني العلم والفل�سفة‪ .‬وال نو ّد هنا �أن ن�ستعر�ض‬ ‫تطور الفل�سفة عرب الع�صور التاريخية‪ ،‬بل نريد �أن ن�سلط ال�ضوء فقط على الإ�شكالية بني‬ ‫االثنني‪ .‬هل �أ�صبح مبقدور العلم �أن ي�ستغني عن الفل�سفة؟‪ .‬هل هناك نقاط م�شرتكة بني‬ ‫الفل�سفة العلمية واملعرفة العلمية؟‪.‬‬ ‫نخت�صر الإجابة على هذه الإ�شكالية مبا ورد عن كانط‪� ،‬إذ يرى �أنه لي�س هناك فل�سفة لنتعلمها‪،‬‬ ‫�إمنا ن�ستطيع �أن نتعلم كيف نتفل�سف‪ .‬الفل�سفة لي�ست مادة معرفة ك�سائر العلوم‪� .‬إنها �ضرب‬ ‫من النظر العقلي‪ ،‬يهدف �إىل معرفة حقيقة الأ�شياء‪ .‬ويرى الفيل�سوف الأمريكي املعا�صر‬ ‫روي�س‪� ،‬أن املرء يتفل�سف حينما يفكر تفكرياً نقدياً‪ ،‬يف كل ما هو ب�صدد عمله يف هذا العامل‪.‬‬ ‫الفل�سفة �إذاً لي�ست ريا�ضة ذهنية فقط‪ ،‬بل هي بحث دائم عن احلقيقة‪ .‬ويرى الفيل�سوف‬ ‫الإنكليزي هربرت �سبن�سر �أن العلم �إذا كان معرفة موحدة جزئياً‪ ،‬ف�إن الفل�سفة هي املعرفة‬ ‫املوحدة كلياً‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫الفل�سفة مبعناها العام هي حياة ونقد وحتليل وتعلم وبحث عن احلقيقة ومعرفة �صحيحة‪ .‬ورغم‬ ‫تباين �آراء الفال�سفة حول طبيعة الفل�سفة‪� ،‬إال �أنها تعرف اليوم مبعناها الديناميكي املعا�صر‪.‬‬ ‫هي الفكر والوعي بذاته‪ .‬يرى ر�سل �أن العلم هو ما نعلم‪� ،‬أما الفل�سفة فهي ما ال نعلم‪ .‬ويرى‬ ‫وايتهد �أن العلم والفل�سفة‪ ،‬من ناحية معينة‪ ،‬مظهران خمتلفان لهدف واحد ي�ضعه العقل‬ ‫الب�شري ن�صب عينيه‪ ،‬من �أجل رفع م�ستوى الب�شرية فوق امل�ستوى العام للحياة احليوانية‪.‬‬ ‫العلم والفل�سفة ي�ساعد �أحدهما الآخر‪ .‬الفل�سفة توفق بني الأفكار املدركة‪ ،‬وتبحث يف‬ ‫التعميمات‪ ،‬وقد ت�ستند على احلدو�س‪ ،‬وقد تتجاوز العلوم‪ ،‬كما �أنها كلية‪ ،‬ومنهجها عقلي‪.‬‬ ‫فهي تتجاوز الكيفيات لتتحرى عن الأ�سباب والنتائج‪ ،‬كما �أنها حتدثنا عن علل العامل ومعناه‬ ‫وقيمته‪ ،‬وال تهدف �إىل �إقامة قوانني عامة ثابتة‪ ،‬كما هي عليه العلوم‪ .‬العلوم تقت�صر على‬ ‫درا�سة اجلزئيات وتقوم على درا�سة الواقع امللمو�س‪ .‬وهي مو�ضوعية وعامة وجمردة‪.‬‬ ‫‪82‬‬


‫ف�������������ك�������������ر‬

‫ومهما تعددت وتنوعت الأبحاث املتعلقة باملعرفة العلمية والفل�سفة‪ ،‬فلي�س ثمة حدود نهائية‬ ‫بني االثنتني‪ .‬وكان الع�صر الذهبي للعلم والفل�سفة هو ع�صر الفال�سفة العلماء‪� ،‬أمثال‪:‬‬ ‫غاليليه‪ ،‬ديكارت‪ ،‬ب�سكال‪ ،‬واليبنتز‪ ،‬وغريهم‪ .‬وقد وجد لدى الفال�سفة رغبة يف �أن تغدو‬ ‫الفل�سفة معرفة للمعرفة العلمية‪ ،‬ووعياً لذاتها‪.‬‬ ‫تكمن �إ�شكالية العلم اليوم‪ ،‬ب�أنه ال ي�ستوعب الذات املفكرة‪ ،‬بل يجهلها‪ .‬يرى هو�سرل �أن �أزمة‬ ‫العلوم احلديثة تعبرّ بعمق عن �أزمة �إخفاء الذات‪� ،‬أو ال مباالة العلميني بذاتيتهم اخلا�صة‪.‬‬ ‫ال ميكن �أن ي�ستغني اليوم طرف عن الآخر‪" .‬ف�إذا كانت الفعالية الفل�سفية تولد احلالة الفكرية‬ ‫امل�ساعدة على تقدير العلم‪ ،‬ف�إن الفعالية العلمية ت�سمح بتغذية الفل�سفة باملعرفة‪� .‬إذاً‪ ،‬ميكن‬ ‫للعلم والفل�سفة �أن يظهرا عرب احلوار كوجهني خمتلفني ومتكاملني كذلك‪� :‬إنه الفكر" ‪.‬‬ ‫‪33‬‬

‫‪83‬‬


‫الهوام�ش‬

‫‪ - 1‬ديكارت‪ ،‬ريني‪ ،‬مقالة الطريقة‪ ،‬ترجمة وتقدمي جميل �صليبا‪ ،‬اللجنة اللبنانية لرتجمة‬ ‫الروائع‪ ،‬ط‪ ،2‬بريوت ‪� ،1970‬ص ‪.24‬‬ ‫‪ - 2‬الفندي‪ ،‬حممد ثابت‪ ،‬مع الفيل�سوف‪ ،‬دار النه�ضة العربية‪ ،‬ط‪،1‬بريوت ‪� ،1974‬ص ‪.74‬‬ ‫‪ - 3‬ري�شنباخ‪ ،‬هانز‪ ،‬ن�ش�أة الفل�سفة العلمية‪ ،‬ترجمة ف�ؤاد زكريا‪ ،‬امل�ؤ�س�سة العربية للدرا�سات‬ ‫والن�شر‪ ،‬ط‪� ،1979 ،2‬ص‪.268‬‬ ‫‪ - 4‬كوفال�سون‪ ،‬املادية التاريخية‪ ،‬ترجمة اليا�س �شاهني‪ ،‬دار التقدم‪ ،‬مو�سكو‪� ،‬ص ‪.36‬‬ ‫‪ - 5‬مارك�س و�أجنلز‪ ،‬الأعمال املختارة‪ ،‬دار التقدم‪ ،‬مو�سكو‪ ،‬املجلد ‪� ،2‬ص ‪.504‬‬ ‫‪ - 6‬ري�شنباخ‪ ،‬هانز‪ ،‬ن�ش�أة الفل�سفة العلمية‪ ،‬مرجع مذكور �سابقاً‪� ،‬ص‪.24‬‬ ‫‪ - 7‬زيعور‪ ،‬علي‪ ،‬احلكمة العملية �أو الأخالق وال�سيا�سة التعاملية‪ ،‬دار الطليعة‪ ،‬ط‪ ،1‬بريوت‬ ‫‪� ،1988‬ص ‪.331‬‬ ‫‪ 8‬امل�صدر نف�سه‪� ،‬ص ‪.257‬‬‫‪ - 9‬ديكارت‪ ،‬رينه‪ ،‬مقالة الطريقة‪ ،‬مرجع مذكور �سابقاً‪� ،‬ص ‪.36‬‬ ‫‪ - 10‬امل�صدر نف�سه‪� ،‬ص ‪.37‬‬ ‫‪ - 11‬امل�صدر نف�سه‪� ،‬ص ‪.63‬‬ ‫‪ - 12‬كرم‪ ،‬يو�سف‪ ،‬تاريخ الفل�سفة احلديثة‪ ،‬دار املعارف‪ ،‬ط ‪� ،1979 ،6‬ص ‪.286‬‬ ‫‪ - 13‬لينني‪ ،‬املختارات‪ ،‬املجلد ‪ ،5‬ترجمة اليا�س �شاهني‪ ،‬دار التقدم‪ ،‬مو�سكو ‪� ،1976‬ص‬ ‫‪.233‬‬ ‫‪ - 14‬امل�صدر نف�سه‪� ،‬ص ‪.239‬‬ ‫‪ - 15‬كرم‪ ،‬يو�سف‪ ،‬تاريخ الفل�سفة احلديثة‪ ،‬مرجع مذكور �سابقاً‪� ،‬ص ‪.460‬‬ ‫‪ - 16‬جود‪� ،‬س‪.‬ي‪ .‬مدخل �إىل الفل�سفة املعا�صرة‪ ،‬ع ّربه د‪.‬حممد �ش ّيا‪ ،‬م�ؤ�س�سة نوفل‪ ،‬ط‪،1‬‬ ‫بريوت‪� ،1981 ،‬ص ‪.144‬‬ ‫‪ - 17‬امل�صدر نف�سه‪� ،‬ص ‪.145‬‬ ‫‪ - 18‬امل�صدر نف�سه‪� ،‬ص ‪.154‬‬ ‫‪ - 19‬زيعور‪ ،‬علي‪ ،‬مذاهب علم النف�س املعا�صر‪ ،‬دار الأندل�س للطباعة والن�شر‪ ،‬ط‪،1‬‬ ‫‪84‬‬


‫ف�������������ك�������������ر‬

‫بريوت‪� ،1971 ،‬ص ‪.121‬‬ ‫‪ - 20‬امل�صدر نف�سه‪� ،‬ص ‪.129‬‬ ‫‪ - 21‬رايت‪ ،‬ف‪ .‬ج‪ ،.‬مبادئ علم االجتماع‪ ،‬ترجمة حممد �شيا‪ ،‬دار احلداثة‪ ،‬ط‪ ،1‬بريوت‬ ‫‪� ،1996‬ص ‪.28‬‬ ‫‪� - 22‬شرابي‪ ،‬ه�شام‪ ،‬مقدمات لدرا�سة املجتمع العربي‪ ،‬دار الطليعة‪ ،‬ط ‪ ،4‬بريوت ‪،1991‬‬ ‫�ص‪.63‬‬ ‫‪ - 23‬نف�س امل�صدر‪� ،‬ص ‪.66‬‬ ‫‪ - 24‬نف�س امل�صدر‪� ،‬ص ‪.67‬‬ ‫‪ - 25‬نف�س امل�صدر‪� ،‬ص ‪.70‬‬ ‫‪ - 26‬كوفال�سون‪ ،‬املادية التاريخية‪ ،‬مرجع مذكور �سابقاً‪� ،‬ص ‪.36‬‬ ‫‪ - 27‬عبد الف�ضيل‪ ،‬حممود‪ ،‬الفكر االقت�صادي العربي وق�ضايا التحرر والتنمية والوحدة‪،‬‬ ‫مركز درا�سات الوحدة العربية‪ ،‬ط‪ ،2‬بريوت ‪� ،1985‬ص‪.183‬‬ ‫‪ - 28‬هانتنغتون‪� ،‬صدام احل�ضارات‪ ،‬مركز الدرا�سات اال�سرتاتيجية والبحوث والتوثيق‪،‬‬ ‫بريوت ‪� ،1995‬ص ‪.14‬‬ ‫‪ - 29‬كندي‪ ،‬بول‪ ،‬اال�ستعداد للقرن الواحد والع�شرين‪ ،‬ترجمة حممد عبد القادر وغازي‬ ‫م�سعود‪ ،‬دار ال�شروق‪ ،‬عمان ‪� ،1993‬ص ‪.266‬‬ ‫‪ - 30‬عابد اجلابري‪ ،‬حممد‪ ،‬م�س�ألة الهوية‪ :‬العروبة والإ�سالم والغرب‪ ،‬مركز درا�سات الوحدة‬ ‫العربية‪ ،‬بريوت ‪� ،1995‬ص ‪.182‬‬ ‫‪ - 31‬ولد �أباه‪ ،‬ال�سيد‪ ،‬اجتاهات العوملة‪ ،‬املركز الثقايف العربي‪ ،‬ط‪ ،1‬الدار البي�ضاء ‪،2001‬‬ ‫�ص‪.95‬‬ ‫‪ - 32‬زيعور‪ ،‬علي‪ ،‬مذاهب علم النف�س املعا�صر‪ ،‬مرجع مزكور �سابقاً‪� ،‬ص ‪.227‬‬ ‫‪ - 33‬موران‪� ،‬إدغار‪ ،‬الفكر العربي املعا�صر‪ ،‬عدد ‪ ،104 105-‬مقال‪ :‬هل العلم بدون وعي‬ ‫مدان؟ جملة فكرية ت�صدر عن معهد الإمناء القومي‪ ،‬بريوت ‪.1998‬‬

‫‪85‬‬


‫املراجع‬

‫‪ - 1‬جود‪� ،‬س‪ .‬ي‪ .‬مدخل �إىل الفل�سفة املعا�صرة‪ ،‬تعريب د‪ .‬حممد �شيا‪ ،‬م�ؤ�س�سة نوفل‪ ،‬ط‪،1‬‬ ‫بريوت ‪.1981‬‬ ‫‪ - 2‬ديكارت‪ ،‬رينه‪ ،‬مقالة الطريقة‪ ،‬ترجمة وتقدمي جميل �صليبا‪ ،‬اللجنة اللبنانية لرتجمة‬ ‫الروائع‪ ،‬ط‪ ،2‬بريوت ‪.1970‬‬ ‫‪ - 3‬رايت‪ ،‬ف‪ .‬ج‪ ،.‬مبادئ علم االجتماع‪ ،‬ترجمة حممد �شيا‪ ،‬دار احلداثة‪ ،‬ط‪ ،1‬بريوت ‪.1996‬‬ ‫‪ - 4‬ري�شنباخ‪ ،‬هانز‪ ،‬ن�ش�أة الفل�سفة العلمية‪ ،‬ترجمة ف�ؤاد زكريا‪ ،‬امل�ؤ�س�سة العربية للدرا�سات‬ ‫والن�شر‪ ،‬ط‪.1979 ،2‬‬ ‫‪ - 5‬زيعور‪ ،‬علي‪ ،‬احلكمة العملية �أو الأخالق وال�سيا�سة التعاملية‪ ،‬دار الطليعة‪ ،‬ط‪ ،1‬بريوت‬ ‫‪.1988‬‬ ‫ مذاهب علم النف�س املعا�صر‪ ،‬دار الأندل�س للطباعة والن�شر‪ ،‬ط‪ ،1‬بريوت ‪.1971‬‬‫‪� - 6‬شرابي‪ ،‬ه�شام‪ ،‬مقدمات لدرا�سة املجتمع العربي‪ ،‬دار الطليعة‪ ،‬ط‪ ،4‬بريوت ‪.1991‬‬ ‫‪ - 7‬عابد اجلابري‪ ،‬حممد‪ ،‬م�س�ألة الهوية‪ :‬العروبة والإ�سالم والغرب‪ ،‬مركز درا�سات الوحدة‬ ‫العربية‪ ،‬بريوت ‪.1995‬‬ ‫‪ - 8‬عبد الف�ضيل‪ ،‬حممود‪ ،‬الفكر االقت�صادي العربي وق�ضايا التحرر والتنمية والوحدة‪ ،‬مركز‬ ‫درا�سات الوحدة العربية‪ ،‬ط‪ ،2‬بريوت ‪.1985‬‬ ‫‪ - 9‬الفندي‪ ،‬حممد ثابت‪ ،‬مع الفيل�سوف‪ ،‬دار النه�ضة العربية‪ ،‬ط‪ ،1‬بريوت ‪.1974‬‬ ‫‪ - 10‬كرم‪ ،‬يو�سف‪ ،‬تاريخ الفل�سفة احلديثة‪ ،‬دار املعارف‪ ،‬ط‪.1979 ،6‬‬ ‫‪ - 11‬كندي‪ ،‬بول‪ ،‬اال�ستعداد للقرن الواحد والع�شرين‪ ،‬ترجمة حممد عبد القادر وغازي‬ ‫م�سعود‪ ،‬دار ال�شروق‪ ،‬عمان ‪.1993‬‬ ‫‪ - 12‬كوفال�سون‪ ،‬املادية التاريخية‪ ،‬ترجمة اليا�س �شاهني‪ ،‬دار التقدم‪ ،‬مو�سكو‪.‬‬ ‫‪ - 13‬لينني‪ ،‬املختارات‪ ،‬املجلد ‪ ،5‬ترجمة اليا�س �شاهني‪ ،‬دار التقدم‪ ،‬مو�سكو ‪.1976‬‬ ‫‪ - 14‬مارك�س و�أجنلز‪ ،‬الأعمال املختارة‪ ،‬دار التقدم‪ ،‬مو�سكو‪ ،‬املجلد ‪.2‬‬ ‫‪ - 15‬هانتنغتون‪� ،‬صدام احل�ضارات‪ ،‬مركز الدرا�سات اال�سرتاتيجية والبحوث والتوثيق‪ ،‬بريوت‬ ‫‪.1995‬‬ ‫‪ - 16‬ولد �أباه‪ ،‬ال�سيد‪ ،‬اجتاهات العوملة‪ ،‬املركز الثقايف العربي‪ ،‬ط‪ ،1‬الدار البي�ضاء ‪.2001‬‬ ‫‪ - 17‬جملة الفكر العربي املعا�صر‪ ،‬عدد ‪ ،104-105‬معهد الإمناء القومي‪ ،‬بريوت ‪.1998‬‬ ‫‪86‬‬


‫ف�����������������ك�����������������ر‬

‫�سوراقيا‪ ...‬احلقيقةُ واخلال�ص‬ ‫د‪ .‬مها خريبك نا�صر ‪ -‬اجلامعة اللبنان ّية‪ -‬املعهد العايل للدكتوراه‬

‫قال �سعادة‪� ":‬إنّ فيكم ق ّو ًة لو فعلت‪ ،‬لغيرّ ت وجه التاريخ" فمن هم "الأنتم" الذين خاطبهم‬ ‫�سعادة؟ وملاذا ا�ستخدم "�إنّ " التوكيد ّية و"لو" ال�شرطية التي تفيد امتناع حدوث اجلواب‬ ‫المتناع حدوث الفعل؟ ما �أ�سباب امتناع حدوث الفعل امل�ؤدي �إىل حدوث التغيري؟ فهل‬ ‫يعجز ه�ؤالء "الأنتم" عن تغيري وجه التاريخ �أم �أ ّنهم ال ميتلكون �إرادة التغيري؟ وهل غياب‬ ‫الإرادة �سببه عوامل ذات ّية �أم عوامل خارج ّية؟‬ ‫ت� ّؤكد حقيقة احلياة �أنّ �إرادة ال�شعوب ت�صنع قدرها‪ ،‬وعندما ّ‬ ‫تعتل الإرادة ينت�صر اال�ست�سالم‪،‬‬ ‫ويفر�ض التبعي َة قدراً‪ ،‬والتبع ّية‪ ،‬نهايتها ال�سقوط حيث ي�شاء املتبوع‪ ،‬و�شعوب هذه املنطقة‬ ‫من العامل‪ ،‬على الرغم من عظمة �إن�سانها‪ ،‬فقد ابتليت بع ّلة التبع ّية ف�سقطت رغباتها يف �أكرث‬ ‫من م�ستنقع‪ ،‬كان �أكرثها ت�سميماً م�ستنقع امل�شيئة العثمان ّية الذي ما زالت �أمرا�ضه تفتك‬ ‫يف ج�سد هذه الأ ّمة املتمردة على الفناء بف�ضل طاقات كمون ّية قادرة على التغيري‪ ،‬ولكنها‬ ‫�سيفجر الوعي باالنتماء بعد جمازر‬ ‫يفجرها لتعيد �صياغة العامل‪ .‬فهل ّ‬ ‫حتتاج �إىل فعل قدح ّ‬ ‫العربي املزعوم هذه الطاقات؟ وهل �سينه�ض الوعي املوعود بق�ضايا �أ ّمة متتلك مق ّومات‬ ‫الربيع ّ‬ ‫غد يفخر بهذه النه�ضة وبنتائجها العلم ّية واحل�ضار ّية والثقاف ّية‬ ‫الوحدة واالحتاد؟ وهل �سيكون ٌ‬ ‫والإن�سان ّية؟‬ ‫�ضم عدداً‬ ‫حتاول الكاتبة �صفية �سعادة يف كتابها "�سوراقيا بدي ًال عن �سايك�س– بيكو"‪ ،‬والذي ّ‬ ‫من املقاالت املن�شورة يف �صحف لبنان ّية‪� ،‬أن تقر�أ مظاهر احلرب الكون ّية التي تدور رحاها على‬ ‫جغرافيا الأ ّمة ال�سور ّية‪ ،‬فقامت بعمل ّية تو�صيف لواقع هذه الأ ّمة‪ ،‬جغراف ّياً وتاريخ ّياً واقت�صاد ّياً‬ ‫و�سيا�س ّياً‪ّ ،‬‬ ‫املوحدة دون �أن تذكر املق ّومات الذات ّية لأبناء هذه الأر�ض‪،‬‬ ‫وركزت على العوامل ّ‬ ‫فهل تكون �أ ّمة من دون �شعب‪ ،‬وجربان يرى �أنّ "الأ ّمة جمموع �أفراد متبايني الأخالق‬ ‫‪87‬‬


‫أعم من‬ ‫وامل�شارب والآراء ّ‬ ‫ت�ضمهم رابطة معنو ّية �أقوى من الأخالق و�أعمق من امل�شارب و� ّ‬ ‫الآراء‪ّ ...‬‬ ‫لكل �شعب ذات عا ّمة ت�شابه بجوهرها وطبيعتها ذات الفرد‪ ،‬ومع �أنّ هذه الذات‬ ‫ت�ستمد كيانها من �أفراد ال�شعب‪ ...‬فهي م�ستقلة عن ال�شعب ولها حياة خا�صة و�إرادة‬ ‫العا ّمة‬ ‫ّ‬ ‫منفردة‪ ..‬فذات الأ ّمة العا ّمة تنام ولكن نوم الأزاهر‪� ..‬أ ّما عطرها‪ ...‬فهو احلقيقة املج ّردة"‪.1‬‬ ‫وقدمت‬ ‫ّركزت �سعادة يف مقاالتها على تو�صيف الأ�سباب الكامنة وراء انتكا�سات هذه الأ ّمة‪ّ ،‬‬ ‫ت�ص ّوراً اجتماع ّياً وتاريخ ّياً وجغراف ّياً وح�ضار ّياً و�سيا�س ّياً دقيقاً يحمل �إجابات عن عدد كبري‬ ‫وي�صحح‪� ،‬أي�ضاً‪ ،‬مفاهيم امل�صطلحات املتداولة‪ ،‬وير�سم ر�ؤيا‬ ‫من الإ�شكاليات التي طرحتها‪ّ ،‬‬ ‫م�ستقبل ّية تب�شّ ر بانبعاث �سوراقيا �أ ّمة موحدة قو ّية‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫توظف الباحثة �أفكار الزعيم �أنطون �سعادة يف حتديد اجلغرافيا التي ينتمي �إليها ه�ؤالء الأنتم‬ ‫ت�ضم ب�شكل رئي�س ك ًال من فل�سطني املحتلة والأردن و�سوريا‬ ‫القادرون على التغيري‪ ،‬ف�سوراقيا " ّ‬ ‫والعراق‪ ،‬وكانت ُتعرف ببالد ال�شام والعراق حتى نهاية ال�سلطنة العثمان ّية"‪ ،2‬وت�ستند �إىل‬ ‫معطيات تاريخ ّية قدمية وحديثة‪ ،‬لتظهر‪ ،‬من خاللها‪ ،‬حقيقة الأطماع اال�ستعمار ّية التي مل‬ ‫هم�شت دور‬ ‫تتوقّف‪ ،‬والتي اتخذت من الدين عامل تباعد وتفتيت‪ ،‬فال�سلطنة العثمان ّية ّ‬ ‫عدد كبري من الطوائف‪ ،‬ون�شرت �أفكاراً طائف ّية ومذهب ّية كان نتيجتها �شعور الأكرث ّية بالتف ّوق‬ ‫و�شعور الأقل ّيات بالقهر‪ ،‬وما بني التف ّوق والقهر تخاذلت الإرادة الوطن ّية‪ ،‬و�ضاعت اله ّوية‬ ‫و�صارت �شعوب هذه املنطقة املخترب الأكرث تلبية لرغبات دول �صارت كربى‪ ،‬و�أمعنت يف‬ ‫واملذهبي‪ ،‬لأنّ هذه الدول ُتدرك �أنّ‬ ‫والطائفي‬ ‫�إف�ساد اللحمة الوطن ّية ب�إزكاء احلقد الديني‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫اجتماعي‪ ،‬وهذه الق�ض ّية ن ّبه �إليها‬ ‫والطائفي ي�ضعف � ّأي متحد‬ ‫املذهبي‬ ‫التقاتل والتناحر‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫كل دولة دين ّية حتمل يف طياتها بذور زوالها ّ‬ ‫�أنطون �سعادة‪ ،‬ور�أى �أنّ ّ‬ ‫وتفككها‪ ،‬لأنها حتاول‬ ‫اجلمع بني مبد�أين متناق�ضني‪ ،‬هما الوظيفة الروحية وال�سلطة الزمنية‪.‬‬ ‫ومهما طال الزمن‪ ،‬ف�إن الإرادة ال�شعبية �س ُتجرب ال�سلطة الدينية على التنازل عن �سلطاتها‬ ‫الزمنية التي ي�أخذها ال�شعب لنف�سه‪ .‬فـهو ي� ّؤكد �أنّ "الدين يف �أ�صله القومي‪ٍ ،‬‬ ‫ومناف للقوم ّية‬ ‫‪-1‬جربان خليل جربان‪ ،‬املجموعة الكاملة‪ ،‬الأمم وذواتها‪� ،‬ص ‪.431‬‬ ‫‪� -2‬سعادة‪� ،‬صف ّية‪� ،‬سوراقيا بدي ًال عن �سايك�س – بيكو‪ ،‬دار �سعادة‪ ،‬بريوت‪ ،‬الطبعة الأوىل ‪� ،2015‬ص ‪.7‬‬ ‫‪88‬‬


‫ف�������������ك�������������ر‬

‫وتكوين الأمة‪ ،‬لأ ّنه �إن�ساين ذو �صبغة عاملية"‪ ،1‬ومثاله‪ ،‬يف ر�أيه‪ ،‬ما حدث يف �أوروبا مع نهاية‬ ‫القرون الو�سطى وتفكك الإمرباطورية الكاثوليكية ل�صالح الدول القومية املمثلة ل�شعوبها‪،‬‬ ‫وكذلك ما حلق بال�سلطنة العثمانية التي حتاول‪ ،‬يف هذه املرحلة من التاريخ‪ ،‬امتطاء الفكر‬ ‫ين لإعادة هيكلة دولة عثمان ّية جديدة‪.‬‬ ‫الإخوا ّ‬ ‫حتاول الدكتورة �صف ّية �أن ت ّربر امتناع حدوث فعل التغيري‪ ،‬فتحيله على �أ�سباب خارج ّية‬ ‫وعلى تخاذل بع�ض ّ‬ ‫حكام �سوراقيا وامل�س�ؤولني الذين باعوا �شرف االنتماء ورهنوا �ضمائرهم‪،‬‬ ‫التو�سع والغزو واال�ستعمار‬ ‫فكانوا الأدوات الأكرث خدمة لإرادات القوى العامل ّية ال�ساعية �إىل ّ‬ ‫متنوعة‪ ،‬و�إىل تفتيت جغراف ّية �أر�ض يتمتع �أبنا�ؤها مبق ّومات م�شرتكة ر�أى فيها �سعادة‬ ‫ب�أ�شكال ّ‬ ‫ق ّوة قادرة على تغيري مايراه الآخرون قدر هذه املنطقة‪ ،‬وهذه الأ�سباب ت�ستمد معطياتها من‬ ‫مرجعيات جغراف ّية وتاريخ ّية واجتماع ّية وثقاف ّية و�سيا�س ّية و�إقليم ّية ودول ّية‪.‬‬ ‫تك�شف املعطيات اجلغراف ّية التي ا�ستندت �إليها الباحثة �أنّ احلدود "ما بني �سوريا ولبنان‬ ‫أجنبي‪ ...‬وال فرق يف اللغة‬ ‫حدود وهم ّية فال بحار �أو جبال �أو �أنهر‪ ...‬بل خطوط و�ضعها ال ّ‬ ‫ج�سد متكامل‬ ‫بني البلدين �أو يف العادات والتقاليد"‪ ،2‬والتما�سك اجلغرا ّيف‪ ،‬يف ر�أيي‪ ،‬قوامه ٌ‬ ‫الأع�ضاء‪ ،‬ف�إذا ّ‬ ‫اعتل منه ع�ضو �شاركته بقية الأع�ضاء الوجع والأمل‪ ،‬ومثاله ما يدور من حرب‬ ‫عامل ّية يف �سوريا والعراق التي �أثّرت يف دول �سوراقيا ك ّلها‪ ،‬فـ"برهنت الأحداث الأخرية‬ ‫�أنّ م�صري �سوراقيا واحد فما ي�صيب العراق ي�صيب �سوريا ولبنان والأردن وفل�سطني‪� ،‬أي�ضاً‪،‬‬ ‫ت�ضم‬ ‫والعك�س �صحيح"‪ ،3‬لأنّ وحدة هذه املنطقة وحدة طبيعية واقت�صاد ّية واجتماع ّية‪ ،‬فهي ّ‬ ‫" ّ‬ ‫كل املك ّونات االجتماع ّية من دين ّية ومذهب ّية وعرق ّية على نحو متكافئ‪ ...‬ومتثّل وحدة‬ ‫اقت�صاد ّية متكاملة ودورة حياة واحدة من غري املمكن جتزئتها �إ ّال �إذا �أردنا تدمريها"‪.4‬‬ ‫ترى الباحثة �أنّ �أ�سباب االمتناع خارج ّية �ص ّنعتها وت�ص ّنعها ال�سيا�سات الأمريك ّية‪ ،‬ودول‬ ‫الوهابي ليكون الق�ضاء على‬ ‫�شجعت على ن�شر الفكر‬ ‫ا�ستعمار ّية غرب ّية و�أطماع �إقليم ّية ّ‬ ‫ّ‬ ‫‪� -1‬أنطون �سعادة‪ ،‬ن�شوء الأمم‪� ،‬ص ‪.162‬‬ ‫‪� -2‬سوراقيا ‪� ،‬ص ‪26‬‬ ‫‪� -3‬سوراقيا‪� ،‬ص‪.25‬‬ ‫‪ -4‬ن‪.‬م‪� .‬ص‪.35‬‬ ‫‪89‬‬


‫إلغائي بد�أ م�شروعه يف بداية‬ ‫إ�سالمي‪ ،‬وهذا الفكر‪ ،‬يف ر�أيها‪ ،‬فكر � ّ‬ ‫عربي � ّ‬ ‫احل�ضارة العرب ّية بفكر ّ‬ ‫إلغائي مل يربز‬ ‫ثمانينيات القرن املا�ضي ب�شكل ممنهج وهادف‪ ،‬فتقول‪�" :‬إنّ الفكر‬ ‫الوهابي ال ّ‬ ‫ّ‬ ‫يف �سوراقيا الآن بل ما ن�شاهده هو اخلطوة الأخرية يف �سل�سلة طويلة من الدعاية والتمويل‬ ‫الطائفي واملذهبي بد�أت منذ ثمانينيات القرن املا�ضي‪ ...‬قامت ال�سعودية بتطبيع‬ ‫والتحري�ض‬ ‫ّ‬ ‫متتد جذورها عميقاً يف الق�ضاء‬ ‫ديني لعقود طويلة ف�أعادت �سوراقيا قروناً �إىل الوراء التي ّ‬ ‫ثقا ّيف‪ّ -‬‬ ‫على �أ�شكال احل�ضارة العرب ّية"‪.1‬‬ ‫الوهابي ّ‬ ‫ّمما ال ّ‬ ‫غذى التع�صب الديني والطائفي واملذهبي الذي ر�سخته‬ ‫�شك فيه �أنّ الفكر‬ ‫ّ‬ ‫م�شيئة ال�سلطنة العثمان ّية‪ ،‬ف�صار التع�صب �سالحاً �ساعد على فتح حروب ا�ستباق ّية تق�ضي‬ ‫على ح�ضارة بالد ال�شام التي "تن�شر ح�ضارتها وعقالنيتها يف �أرجاء اجلزيرة العرب ّية عرب �آالف‬ ‫ويكدون يف غربتهم لبنائها وحتديثها‪ ،‬فالتيار الزاحف من‬ ‫و�آالف من مواطنيها الذين يعملون ّ‬ ‫�سوراقيا باجتاه اخلليج هو التيار الأقوى والأقدر على البقاء"‪ ،2‬فالأ�سباب اخلارج ّية‪ ،‬يف ر�أي‬ ‫ديني فقط‪ ،‬بل هي نتاج حقد على ح�ضارة مل تعرفها ال�صحراء‬ ‫الكاتبة‪ ،‬لي�ست نتاج فكر ّ‬ ‫العرب ّية‪ ،‬وربمّ ا كان هذا احلقد امل�ضاف �إىل خمططات ا�ستعمار ّية ال�سبب الكامن وراء تدمري‬ ‫ح�ضارة �سوراقيا‪.‬‬ ‫حتاول الدكتورة �صف ّية �أن ُت�سند معظم �أ�سباب التدمري يف �سوراقيا احلديثة �إىل الواليات‬ ‫املتحدة الأمريك ّية و�إ�سرائيل‪ ،‬ومن ثم ال�سعودية وتركيا‪ ،‬وت�سوق �أحداثاً تاريخ ّية دقيقة لتبني‬ ‫عليها �آراءها وتطلعاتها‪ ،‬ومن ثم لرت�سم ر�ؤاها امل�ستقبل ّية بعد �أن قر�أت نتائج اتفاق الدول‬ ‫الكربى يف بدايات القرن الع�شرين‪ ،‬وربطتها مبا يحدث على جغرافية الأ ّمة ال�سور ّية ب�شكل‬ ‫خا�ص وعلى جغرافية الأمة العرب ّية ب�شكل عام‪ ،‬فجاء تو�صيفها الظواهر والأحداث دقيقاً‪،‬‬ ‫بعد �أن حاولت تقدمي مقاربة بني املا�ضي واحلا�ضر وامل�ستقبل‪ ،‬فاملا�ضي بالن�سبة �إليها له بعدان‪،‬‬ ‫�سيا�سي دو ّيل كان هدفه الرئي�س تفتيت‬ ‫بعد جغرا ّيف يث ّبت وحدة الأر�ض ال�سور ّية‪ ،‬وبعد‬ ‫ّ‬ ‫املنطقة وا�ستخدام �شعوبها يف جتارب الهيمنة ال�سيا�س ّية واالقت�صاد ّية‪.‬‬ ‫عر�ض للأحداث التي اجتاحت �سوراقيا منذ عام ‪،2002‬‬ ‫تدعم �صف ّية �سعادة ر�ؤيتها بتقدمي ٍ‬ ‫‪� -1‬سوراقيا‪�،‬ص ‪.33‬‬ ‫‪-2‬م‪.‬ن‪� .‬ص‪.34‬‬ ‫‪90‬‬


‫ف�������������ك�������������ر‬

‫العملي والدقيق خلطة القطع مع املا�ضي الأمريك ّية التي تهدف �إىل‬ ‫فرتى �أ ّنها "التطبيق‬ ‫ّ‬ ‫التدمري املنهجي لدول �سوراقيا‪ ،1"...‬وتعتقد �أنّ تطبيق خطة التدمري بد�أت يوم �إ�سقاط نظام‬ ‫ال�سوري‪...‬‬ ‫إقليمي‬ ‫الرئي�س‬ ‫العراقي الأ�سبق " ّ‬ ‫ّ‬ ‫�صدام ح�سني"‪ ،‬لأنّ �إ�سقاطه " ّ‬ ‫يحجم الدور ال ّ‬ ‫ّ‬ ‫وتدمري العراق ي�ؤدي �إىل تغيري ميزان القوى مل�صلحة �إ�سرائيل وتركيا"‪ 2‬وهذه النتائج ت�ضمن‬ ‫بيئة ا�سرتاتيج ّية مالئمة لإ�سرائيل عرب تعاونها الوثيق مع الأردن وتركيا‪ ،‬وجتعل منها "القوة‬ ‫تهدد عربها ّ‬ ‫كل من ت�س ّول له نف�سه �أن يتم ّرد"‪.3‬‬ ‫ال�ضاربة الأمريك ّية والع�صا التي ّ‬ ‫تذكر الكاتبة حرب ‪ 1967‬والتي فر�ضت اال�ستيالء على اجلوالن وال�ضفة الغرب ّية و�شبه‬ ‫وتزعم الواليات املتحدة الأمريكية‬ ‫جزيرة �سيناء‪ ،‬وت�شري �إىل تفكك االحتاد ال�سوفييتي‪ّ ،‬‬ ‫قيادة العامل‪ ،‬فحكمته عرب �إلغاء قوانني الدول القوم ّية واكت�سحت الأ�سواق و�سيطرت على‬ ‫القرارات‪ ،‬و�أرغمت "الدول على التخلي عن حماية �صناعاتها الوطن ّية وت�صفية �إدارات الدولة‬ ‫وم�شاريعها القوم ّية عرب اخل�صخ�صة ما يعني الق�ضاء على الطبقة الو�سطى القائمة على الإنتاج‬ ‫ال�صناعي والزراعي وعلى الأدمغة اخل ّالقة‪ ،‬والطبقة الو�سطى هي الدعامة الأ�سا�س لقيامة‬ ‫الدول"‪ ،4‬فجعلت من العوملة قدراً لل�شعوب ال�ضعيفة‪ ،‬وداعماً رئي�ساً للنمط الإمرباطوري‬ ‫احلاكم العامل‪.‬‬ ‫ت�سوق الباحثة �أحداثاً‪ ،‬كان لها ت�أثري كبري يف ّ‬ ‫كل ما يحدث يف �سوراقيا‪ ،‬وذلد بدءاً من‬ ‫احلريري وخروج‬ ‫�أحداث ‪� 11‬أيلول ‪ ،2001‬مروراً بتدمري العراق ‪ ،2003‬وا�ست�شهاد الرئي�س‬ ‫ّ‬ ‫ال�سوري من لبنان ‪ ،2005‬وحرب متوز ‪ 2006‬و�صو ًال �إىل احلرب العامل ّية يف �سوريا التي‬ ‫اجلي�ش‬ ‫ّ‬ ‫بد�أت عام ‪ 2011‬والتي كان من �أهدافها خلق حرب طائف ّية ومذهب ّية ودين ّية تعيد تفتيت‬ ‫الديني‪ ،‬كما ر�أى الزعيم �سعادة‪،‬‬ ‫املنطقة وتق�سيمها‪ ،‬وت�شظي طاقات جي�شها‪ ،‬لأنّ التع�صب‬ ‫ّ‬ ‫"من �أعظم العقبات التي قامت يف �سبيل ا�ستقالل �سورية ذلك الداء الع�ضال الذي �أحدث‬ ‫�شل ًال يف �أع�ضاء الأمة ال�سورية ووقف حاجزاً منيعاً بينها وبني ما ترمي �إليه من النهو�ض �إىل‬ ‫‪-1‬م‪.‬ن‪� .‬ص‪.13‬‬ ‫‪-2‬م‪.‬ن‪� .‬ص ‪14‬‬ ‫‪-3‬م‪.‬ن‪� .‬ص‪.17‬‬ ‫‪-4‬م‪.‬ن‪� .‬ص ‪.21‬‬ ‫‪91‬‬


‫م�صاف الأمم احلية"‪ ،1‬ولذلك ن ّبه �إىل �ضرورة وحدة اجلي�ش‪ ،‬لأنّ "حتويل الوطن �إىل ميدان‬ ‫املوحد امل�صري‪� ،‬إىل جي�شني يتطاحنان للو�صول �إىل غاية واحدة‬ ‫ينق�سم فيه ال�شعب الواحد‪ّ ،‬‬ ‫القومي‪ ،‬عمل �شائن ال يليق �إال بال�شعوب الرببرية"‪ .2‬وهذا ما �سعت �إليه �أمريكا‬ ‫هي اخلراب‬ ‫ّ‬ ‫ال�سوري من �أهم‬ ‫العربي‬ ‫ّ‬ ‫يف بداية الأزمة ال�سور ّية‪ ،‬فكانت احلرب الطائف ّية وتفتيت اجلي�ش ّ‬ ‫الو�سائل التي ُو�ضعت يف خمطط احلرب الكون ّية الهادفة �إىل تفتيت املنطقة و�إذالل �إن�سانها‪.‬‬ ‫ت�شجع‬ ‫تطرح الكاتبة �إ�شكاليات ت� ّؤكد فر�ضياتها ازدواجية املعايري الدولية‪ ،‬فالظاهرة التي ّ‬ ‫الطبيعي يف �سوراقيا‬ ‫على ت�صنيعها �أمريكا والدائرون يف فلكها يف جغراف ّية ما‪ ،‬ترف�ض حدوثها‬ ‫ّ‬ ‫أوربي‪ ،‬على �سبيل املثال‪ ،‬اليحقّق مق ّومات‬ ‫ّ‬ ‫وت�شجع على ت�شويهها وحماربتها‪ ،‬فاالحتاد ال ّ‬ ‫الوحدة التي تتم ّتع بها دول �سوراقيا‪ ،‬ومع ذلك لقي القبول والر�ضى واالعرتاف والتعاون‪،‬‬ ‫أمريكي من احلدود االقت�صاد ّية لي�س واحداً‪ ،‬ففي الوقت الذي ُي�ضغط‬ ‫وكذلك املوقف ال ّ‬ ‫فيه على الدول لفتح �أ�سواقها و�إلغاء حدودها �أمام الر�ساميل الأمريك ّية والب�ضائع والفنادق‬ ‫�شجع لبنان على املطالبة برت�سيم حدوده مع �سوريا‪ ،3‬والدميقراط ّية‬ ‫واملطاعم واال�ستثمارات‪ُ ،‬ي ّ‬ ‫هي �إ ّال �أداة من �أدوات التحري�ض التي ّ‬ ‫توظفها‬ ‫التي تكرث الدعوات �إىل تطبيقها يف �سوراقيا‪ ،‬ما ّ‬ ‫أمريكي حول تر�سيخ الدميقراط ّية‬ ‫احلرب الإعالم ّية‪ ،‬ولذلك ترى الباحثة �أنّ "كل الكالم ال ّ‬ ‫جمرد حملة دعائ ّية خماتلة‪ ،‬لأنّ الدميقراط ّية احلقّة الت�ستطيع �إ ّال �أن تكون يف دولة قوم ّية‬ ‫مبا �أ ّنها متثّل ال�شعب املوجود على �أر�ضه"‪ 4‬فتذهب �إىل القول �إنّ الدميقراط ّية التوافق ّية التي‬ ‫ينادون بها ما هي �إ ّال دميقراط ّية م�ش ّوهة‪" :‬لأنّ املراد من رغبة الغرب يف تطبيق الدميقراط ّية‬ ‫موحداً وقو ّياً لأنّ الهاج�س الأكرب‬ ‫التوافق ّية هو �شرذمة املجتمع ومنع اجلي�ش من �أن يكون ّ‬ ‫للواليات املتحدة الأمريك ّية هو �ضمانة تف ّوق �إ�سرائيل‪ ...‬فتح�صر ال�سلطة باخلا�صة ال العامة‬ ‫وت�ؤ�س�س للتفرقة بني �أفراد املجتمع‪ ،‬فال م�ساواة ُترجتى وال عدالة تحُ قّق‪ ،‬وال حر ّية ُت�سبغ‪ ،‬وال‬ ‫مواطنة حقّة"‪.5‬‬ ‫‪�- 1‬أنطون �سعادة‪ ،‬الآثار الكاملة‪ ،‬ج‪� ،1‬ص‪ ،31‬ج‪� ،9‬ص‪.177‬‬ ‫‪- 2‬الآثار الكاملة‪ ،‬ج‪� ،2‬ص ‪.232‬‬ ‫‪- 3‬م‪.‬ن‪� .‬ص‪29‬‬ ‫‪� - 4‬سوراقيا‪� ،‬ص ‪.20‬‬ ‫‪� - 5‬سوراقيا‪� ،‬ص‪.86‬‬ ‫‪92‬‬


‫ف�������������ك�������������ر‬

‫احلقيقي‪ ،‬فال تكون �شعارات مف ّرغة‬ ‫تقرتن املطالبة بالدميقراط ّية بوجود �أفراد ُيدركون مفهومها‬ ‫ّ‬ ‫�ستدل على مقوماتها �إ ّال بالفو�ضى‪،‬‬ ‫من القيمة‪ ،‬وم�صطلحات ال ُيدرك منها �إال ا�سمها‪ ،‬وال ُي ّ‬ ‫فالديقراط ّية احلقيق ّية مرتبطة بوجود دولة قوم ّية‪ ،‬وحيث ال مق ّومات دولة قوم ّية ال ميكن �أن‬ ‫ُتنفخ روح الدميقراطية وتنت�شر وتفعل‪ ،‬ولذلك ت� ّؤكد الدكتورة �صف ّية �أ ّنه "ال �إمكان ّية لإر�ساء‬ ‫دميقراطي �إذ مل تكن الدولة قوم ّية فالدميقراط ّية تعني وجود �شعب هو م�صدر ال�سلطات‬ ‫نظام‬ ‫ّ‬ ‫وله تعود الكلمة الف�صل يف قرارات دولته"‪.1‬‬ ‫ال�سوري‬ ‫ذكرت الباحثة معظم الأ�سباب اخلارج ّية التي متنع قدح كمون طاقات الإن�سان‬ ‫ّ‬ ‫ليعيد ت�شكيل التاريخ‪ ،‬ولكن مل �أعرث يف الكتاب على �أ�سباب داخل ّية متنع حدوث فعل‬ ‫التغيري‪ ،‬ومل تذكر الأ�ضرا�س امل�س ّو�سة التي تك ّلم عليها جربان خليل جربان‪ ،‬فقال‪�" :‬إذا‬ ‫قلنا �إنّ الأ ّمة ال�سور ّية تق�ضم قوة احلياة ب�أ�ضرا�س م�س ّو�سة و�إنّ ّ‬ ‫كل لقمة تلوكها متتزج بلعاب‬ ‫م�سمم‪ ،‬و�إ ّنه قد نتج عن ذلك ٌ‬ ‫مر�ض يف �أمعائها‪ ...‬يجيبون بقولهم‪ :‬نعم نحن الآن من�صرفون‬ ‫�إىل در�س �أحدث امل�ساحيق و�أجد املخدرات"‪ ،2‬فلماذا ن�أت ابنة النه�ضة بنف�سها عن ذكر‬ ‫ان�شغال امل�س�ؤولني باملظاهر وتخدير الطاقات مب�ساحيق التجميل ّ‬ ‫وامل�سكنات؟‬ ‫اكتفت الباحثة بالكالم على ت�آمر بع�ض ال�سيا�سيني املرتهنني‪ ،‬وعلى تخاذل املثقفني الذين‬ ‫"يوافقون على التعاون مع الأحالف الدول ّية التي تدعي حماربة الإرهاب بينما يرف�ضون‬ ‫التن�سيق مع جريانهم"‪ ،3‬وكذلك تك ّلمت على رغبة الأكراد ال�سوريني يف االنف�صال عن‬ ‫االجتماعي‪ّ ،‬ثم ّ‬ ‫تذكر بهو ّية الأر�ض‬ ‫ج�سد الأ ّمة التي ا�ستقبلتهم‪ ،‬و�صاروا جزءاً من ن�سيجها‬ ‫ّ‬ ‫التي ينت�سبون �إليها فتقول‪" :‬كانت نينوى املدينة الأكرب يف العامل القدمي‪ ،‬فلقد و�صلت‬ ‫اململكة الآ�شور ّية �إىل ذروة ازدهارها يف القرن ال�سابع قبل امليالد‪ ...‬وكرد�ستان العراق قائمة‬ ‫على �أنقا�ض اململكة الآ�شور ّية"‪.4‬‬ ‫�إنّ الن�أي بالنف�س عن ذكر الأ�سباب الداخل ّية‪ُ ،‬يبقي الأ�سئلة مفتوحة‪ ،‬وهي حتتاح �إىل بحث‬ ‫‪.-1‬م‪.‬ن‪� .‬ص‪.77‬‬ ‫‪- 2‬جربان خليل جربان‪ ،‬املجموعة الكاملة‪ ،‬الأ�ضرا�س امل�س ّو�سة‪� ،‬ص ‪.421‬‬ ‫‪- 3‬م‪.‬ن‪�,‬ص ‪60‬‬

‫‪- 4‬م‪.‬ن‪� .‬ص‪96 - 86‬‬ ‫‪93‬‬


‫ال�سوري عن مق ّوماته‬ ‫وجواب‪ ،‬ومن هذه الأ�سئلة‪ :‬ما الأ�سباب الكامنة وراء تخلي الإن�سان‬ ‫ّ‬ ‫احل�ضار ّية‪ ،‬وانغرا�سه يف تيارات دين ّية عابرة احلدود؟ كيف ي�ستعي�ض عن �سوراقيا احل�ضارة‬ ‫داع�شي �أوجده الأمريكيون والغرب بدي ًال عن �سوراقيا؟‬ ‫واملجد والتاريخ العريق‪ ،‬بفكر‬ ‫ّ‬ ‫اللغوي لهما الداللة اجلغراف ّية عينها‪ .‬فكيف ُي�ستبدل‬ ‫فامل�صطلحان من حيث ظاهر الت�شكيل ّ‬ ‫ين‪ ،‬قوامه التخريب والذبح وابتكار �أ�ساليب تعذيب ال‬ ‫فكر‬ ‫ين بفكر ال �إن�سا ّ‬ ‫ح�ضاري �إن�سا ّ‬ ‫ّ‬ ‫تقوم بها الوحو�ش؟ وهل ه�ؤالء هم �أبناء �سوراقيا؟‬ ‫أمريكي‪،‬‬ ‫تقود الأ�سئلة ال�سابقة �إىل فر�ضية تختزل ر�ؤية �صفية �سعادة �إىل حقيقة املوقف ال ّ‬ ‫ف�صاغت من قراءة الوقائع نتيجة حتم ّية‪ ،‬قادتها �إىل االعتقاد ب�أنّ الواليات املتحدة الأمريك ّية‬ ‫ال تريد تق�سيم املنطقة‪ ،‬لأنّ م�شروعها الرئي�س �إعادة ت�شكيل املنطقة مبا يتوافق و�أهدافها‪،‬‬ ‫فيكون العمل على �إلغاء الدولة الوطن ّية والطموحات القوم ّية وفق ما تبتغيه م�شاريع العوملة‪،‬‬ ‫لأ ّنها بذلك "تك�سر �سيادة الدول على �أرا�ضيها وتقيم مكانها تياراً �إخوانياً جارفاً موالياً لها‬ ‫�سيا�س ّياً واقت�صاد ّياً‪ ،‬ي�ضع والءه الديني فوق والئه‬ ‫الوطني"‪.1‬‬ ‫ّ‬ ‫ت� ّؤ�س�س �صفية �سعادة على هذه الفر�ضية ر�ؤى م�ستقبل ّية تب�شّ ر بانت�صار �سوريا لأ ّنها القلعة‬ ‫الأخرية يف �صمود الأ ّمة ال�سور ّية‪ ،‬وترى الباحثة �أنّ �سوريا حتارب دفاعاً عن نف�سها ودفاعاً‬ ‫عن ّ‬ ‫كل دول �سوراقيا‪ ،‬لذلك تدعو �إىل التعاون والتن�سيق بني دول �سوراقيا‪ ،‬ليتحقّق فعل‬ ‫ويتم تفعيل الطاقات القادرة على التغيري‪ ،‬لأنّ "هجمة الواليات املتحدة الأمريك ّية‬ ‫الن�صر ّ‬ ‫على �سوراقيا بعد �أحداث �أيلول ‪� 2001‬ست�ؤدي �إىل توحيدها"‪ ،2‬و�إىل التحرر من التق�سيمات‬ ‫امل�صطنعة والعودة �إىل "وحدة بالد ال�شام‪� ،‬أق ّله اقت�صادياً و�أمن ّياً وع�سكر ّياً"‪ ،‬و�إىل "جعل الدين‬ ‫يف خدمة املتحد‬ ‫القومي"‪.3‬‬ ‫ّ‬ ‫ربطت الباحثة حتقيق الر�ؤيا بتعاون �شامل مع �إيران‪ ،‬وت�ستند يف ر�أيها �إىل معطيات تاريخ ّية‬ ‫ت� ّؤكد �أنّ �إيران �شاركت يف ازدهار ح�ضارة هذه املنطقة يف الفرتة العبا�س ّية‪ ،‬لأنّ احل�ضارتني‬ ‫الق�ص�صي ويف الطب والعلوم الطبيع ّية‬ ‫اندجمتا "وخلقتا �إبداعاً يف ال�شعر والفل�سفة والأدب‬ ‫ّ‬ ‫‪�- 1‬سوراقيا‪� ،‬ص ‪.54‬‬ ‫‪ - 2‬م‪.‬ن‪� .‬ص‪.25‬‬ ‫‪- 3‬م‪.‬ن‪� .‬ص‪48‬‬ ‫‪94‬‬


‫ف�������������ك�������������ر‬

‫ويف الفيزياء والكيمياء ويف الريا�ضيات والهند�سة وامتزجت �أ�سماء الأعالم الإيران ّية‬ ‫ح�ضاري‬ ‫والعرب ّية"‪ 1‬لذلك ت� ّؤكد �أنّ "ما يجمع �سوراقيا و�إيران لي�س فقط الإ�سالم‪ ..‬بل تراث‬ ‫ّ‬ ‫ين يحيا يف ّ‬ ‫كل فرد م ّنا مبعزل عن دينه �أو معتقده‪ .‬هو تراث م�شرتك �أعلى من‬ ‫فكري عقال ّ‬ ‫ّ‬ ‫‪2‬‬ ‫�ش�أن املعرفة" ‪.‬‬ ‫تعتقد الباحثة �أنّ هذا التعاون �سيلغي ما ت�سعى �إىل �إنتاجه عوملة اقت�صاد ّية‪ ،‬يف ظاهرها‪ ،‬ع�سكر ّية‬ ‫الديني‪ ،‬يف ر�أيي‪ ،‬وجهان لعملة واحدة‪ ،‬لأنّ الفكر‬ ‫والتع�صب‬ ‫�إرهاب ّية‪ ،‬يف حقيقتها‪ ،‬فالعوملة‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫حتده‪ ،‬والعوملة اجتياح للحدود‪ ،‬لذلك ميكن القول �إنّ �أهداف‬ ‫الديني املتطرف ال جغرافيا ّ‬ ‫ّ‬ ‫التكفرييني ال تتناق�ض و�أهداف العوملة‪ ،‬فالعوملة جتتاح احلدود اجلغراف ّية بطروحات ظاهرها‬ ‫القومي‪ ،‬و�إلغاء الهو ّيات‪،‬‬ ‫ن�شر املعرفة وحتويل العامل �إىل قر ّية �صغرية‪ ،‬وباطنها اغتيال الوعي‬ ‫ّ‬ ‫وح�صر القدرة الإبداع ّية يف ق ّلة يحكمون العامل فكر ّياً واقت�صاد ّياً و�سيا�س ّياً‪ ،‬وكذلك احلركة‬ ‫الديني و�إلغاء احلدود اجلغراف ّية‪ ،‬وباطنها التجهيل واال�ستعباد‬ ‫التكفري ّية‪ ،‬ظاهرها ن�شر الوعي ّ‬ ‫والإلغاء والق�ضاء على الهويات الوطن ّية والقوم ّية با�سم الدين‪ ،‬وربمّ ا قر�أت �صفية �سعادة يف‬ ‫مقاربة هاتني الظاهرتني حتمية �سقوط العوملة‪ ،‬و�سقوط املدر�سة الوهاب ّية التكفري ّية‪ ،‬وتعتقد‬ ‫"�أنّ �سوراقيا �سته�ضمهما كما ه�ضمت هجمات هوالكو"‪ ،3‬وهي تعتقد �أنّ هذا االنت�صار لن‬ ‫املوحد‪،‬‬ ‫العربي‬ ‫يكون �إ ّال نتيجة �صمود الإن�سان‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ال�سوري العقائدي ّ‬ ‫ال�سوري املنتمي واجلي�ش ّ‬ ‫فعبرّ ت عن ر�ؤيتها بفخر واعتزاز وقالت‪" :‬ه�ؤالء ال�سوريون املنخرطون يف املواجهة �إىل جانب‬ ‫ال�سوري ير ّدون ع ّنا الأذى نحن الذين نقطن يف جوارهم وعلى متا�س معهم"‪.4‬‬ ‫اجلي�ش‬ ‫ّ‬ ‫ال�سوري املت�س ّلح ب�صدق‬ ‫تب�شّ ر رياح التغيري ب�أنّ ر�ؤيا �صفية �سعادة �ست�صدق‪ ،‬لأنّ الإن�سان‬ ‫ّ‬ ‫االنتماء‪� ،‬سيكون �صموده مدر�سة تع ّلم �أ�ساليب املواجهة والدفاع؛ لأ ّنه ا�ستطاع ب�صموده‬ ‫وانتمائه و�إميانه �أن يوقف "دحرجة كرة الثلج الأمريك ّية‪ّ ،‬ثم البدء بذوبانها‪ ،‬بدءاً ب�سقوط امل�شروع‬ ‫ين‪ ،‬فلوال �صمود �سوريا ملا �سقط مر�سي وحكم الإخوان يف م�صر‪ ،‬ولوال قرار‬ ‫الرتكي الإخوا ّ‬ ‫ّ‬ ‫وارتدت نحو البلدان التي �ص ّنعتها وم ّولتها‪ ...‬هذا‬ ‫املواجهة ملا تراجعت الهجمات التكفري ّية ّ‬ ‫‪�- 1‬سوراقيا‪� ،‬ص‪.61 - 60‬‬ ‫‪- 2‬م‪.‬ن‪� .‬ص‪61‬‬ ‫‪�- 3‬سوراقيا‪� ،‬ص ‪.34‬‬ ‫‪- 4‬م‪.‬ن‪� .‬ص‪.24‬‬ ‫‪95‬‬


‫املتحدة الأمريك ّية مع‬ ‫ال�صمود �أطاح باخلريطة ال�سيا�س ّية لل�شرق الأو�سط كما ث ّبتتها الواليات ّ‬ ‫نهاية احلرب العامل ّية الثانية"‪.1‬‬ ‫�سيفجرون‬ ‫ه�ؤالء ال�سوريون هم الأنتم الذين ب�شّ ر بهم �سعادة‪ ،‬وبكمون انتمائهم‬ ‫القومي ّ‬ ‫ّ‬ ‫العربي املزعوم‪ ،‬و�سينه�ض هذا الوعي املوعود بق�ضايا �أ ّمة‬ ‫الوعي باالنتماء بعد جمازر الربيع ّ‬ ‫غد يفخر ب�أ ّمة �سيعيد �أبنا�ؤها �صياغة العامل و�صناعة‬ ‫متتلك مق ّومات الوحدة واالحتاد‪ ،‬فيكون ٌ‬ ‫التاريخ‪ ،‬و�سي�صدق وعد "جربان خليل جربان" "�إنّ ما تدعينه انحطاطاً يا �سوريا �أدعوه نوماً‬ ‫واجباً يعقبه الن�شاط والعمل‪ ،‬فالزهرة ال تعود �إىل احلياة �إ ّال باملوت‪ ،‬واملح ّبة ال ت�صري عظيمة‬ ‫ال�سوري �أنّ �سوراقيا هي احلقيقة واخلال�ص‪.‬‬ ‫�إ ّال بعد الفراق"‪ .2‬نعم �ست� ّؤكد قوة الإن�سان‬ ‫ّ‬

‫‪�- 1‬سوراقيا‪� ،‬ص‪146 - 144‬‬ ‫‪ - 2‬جربان خليل جربان‪ ،‬املجموعة الكاملة‪ ،‬الدهر والأ ّمة‪� ،‬ص ‪273‬‬ ‫‪96‬‬


‫"‬

‫ملف العدد " احت�ضار لغة و�أمة"‬

‫�أ�ضواء على احت�ضار اللّغة‬

‫"‬

‫د‪ .‬ل�ؤي زيتوين ‪ -‬دكتور يف اجلامعة اللبنانية – ق�سم اللغة العربية‬

‫ّ‬ ‫أهم‬ ‫�شكلت ال ّلغة على م ّر الع�صور عن�صراً حيو ّياً يف م�سرية املجتمع‪� ،‬إذ �أنّ ح�ضورها ُع َّد من � ّ‬ ‫الدالة على متا�سك املجتمع وق ّوة االنتماء فيه‪ ،‬وقد و�صل هذا ال ّتقدير ل ّلغة �إىل ال ّنظر‬ ‫املظاهر ّ‬ ‫�إليها بو�صفها عامل ت�أ�سي�س الأ ّمة يف الكثري من الأحيان‪ .‬و�إن كانت هذه حال ال ّلغة عموماً‪،‬‬ ‫فما هي احلال بال ّن�سبة �إىل ال ّلغة العرب ّية على وجه اخل�صو�ص؟ هذا املو�ضوع هو الذي لفت‬ ‫الدكتورة نادين طربيه ح�شّ ا�ش يف مقالتها املن�شورة �ضمن �صفحات عدد جم ّلة حت ّوالت‬ ‫انتباه ّ‬ ‫رقم ‪ ،91‬واملعنونة "احت�ضار ال ّلغة"‪.‬‬ ‫انطلقت الكاتبة من م�س�ألة �أنّ ال ّلغة العرب ّية تعاين من ال ّتقهقر يف ّ‬ ‫ال�ضغوط ال ّتكنولوج ّية‬ ‫ظل ّ‬ ‫كامل من ال�شّ باب‪ ،‬بحيث ّمتكنت من �إدخال‬ ‫جيل ٍ‬ ‫التي متار�س �سلطتها الإغرائ ّية على ٍ‬ ‫عادات يف ال ّتخاطب وال ّتوا�صل تك�سر متا�سك لغته وتبعده عنها �إىل �أق�صى ما ميكن‪ّ .‬‬ ‫ٍ‬ ‫ولعل‬ ‫هذه االلتفاتة من الدكتورة ح�شّ ا�ش لها ما ي ّربرها‪ ،‬لي�س بو�صفها �شاعرة واثقة ال ّلغة واملنظور‪،‬‬ ‫ولي�س لكونها باحثة واعدة يف ال ّلغة العرب ّية‪ ،‬بل لأنّ هاج�س ال ّلغة يبقى احلا�ضر الأبرز يف‬ ‫طبيعة ح�ضور املجتمع‪ ،‬ولأنّ الأزمة التي تعي�شها لغتنا ُت ّعد �أزم ًة وجود ّي ًة ال مو�ضوعاً عابراً‪.‬‬ ‫أهم ّيته الق�صوى يف ح�ضورنا االجتماعي‪ ،‬ويطرح نف�سه‬ ‫ومن هذا املنطلق‪ ،‬يجد هذا املو�ضوع � ّ‬ ‫بو�صفه مو�ضوعاً جدل ّياً يحتاج �إىل ت�أنٍّ ‪.‬‬ ‫املتخ�ص�صني من �أجل البحث‬ ‫مالحظتي الأوىل هو حر�ص الكاتبة على توجيه دعوتها �إىل ّ‬ ‫اب‪.‬‬ ‫ال�سبل الكفيلة بجعل ال ّلغة �أكرث قدر ًة على اال�ستمرار و�أكرث �شيوعاً بني اجليل ال�شّ ّ‬ ‫يف ّ‬ ‫ال�ضعف الذي ي�صيب ال ّلغة العرب ّية �إىل الإقبال احلثيث على و�سائل‬ ‫كما �أ ّنها عزت م�س�ألة ّ‬ ‫ال ّتوا�صل احلديثة وعلى الوهم ال�شّ ائع حول ارتباط الثّقافة بال ّلغات الغرب ّية‪.‬‬ ‫على �أنّ ما يجب ال ّتن ّبه �إليه يف هذا املجال‪ ،‬هو الأخذ بنقطتني ح�سا�ستني يف مو�ضوع ال ّلغة‪:‬‬ ‫‪97‬‬


‫الأوىل تتع ّلق بطبيعة الع�صر‪� ،‬إذ �أنّ �إقبال اجليل ال�شّ اب على �إغراءات الو�سائل ال ّتنكولوج ّية‬ ‫ال يجعل امل�شكلة يف تلك الو�سائل لأ ّنها و�سائل لت�سهيل احلياة �إىل جانب �سلب ّياتها‪ ،‬وبال ّتايل‬ ‫�شكل من الأ�شكال‪ .‬وهذا ما يو�صل �إىل نتيج ٍة‬ ‫ي�صح الوقوف بوجهها‪ ،‬وال ميكن ذلك ب� ّأي ٍ‬ ‫ال ّ‬ ‫مفادها �أنّ هذا الإقبال مبا ُيبعد عن ال ّلغة العرب ّية‪ ،‬ال ينبع يف م�شكل ٍة حتويها تلك الو�سائل بقدر‬ ‫ما تعود �إىل طبيعة تعاملنا مع ال ّلغة ومع تلك الو�سائل‪� ،‬أي تنبع من ّ‬ ‫الذهنية التي تتعامل مع‬ ‫خمتلف الأمور التي نواجهها‪.‬‬ ‫�أ ّما ال ّنقطة الثّانية فرتتبط بطبيعة نظر الباحثني �إىل ال ّلغة العرب ّية‪ ،‬فنظرتهم جتعل من هذه ال ّلغة‬ ‫كياناً معزو ًال عن العامل وعن قوانني احلياة‪ .‬وهنا تكمن امل�شكلة الأوىل‪� ،‬إذ �أنّ هذه ال ّنظرة‬ ‫جتعل من ال ّلغة العرب ّية منظوم ًة منزل ًة غري قابل ٍة لل ّتط ّور وال ّتك ّيف‪ ،‬وهنا يكمن مقتلها‪ ،‬وبال ّتايل‬ ‫الدكتورة ح�شّ ا�ش‪.‬‬ ‫احت�ضارها ح�سب تعبري ّ‬ ‫لذا ف�إنّ اخلال�ص من حال االحت�ضار هذه ال ميكن �أن يكون �إ ّال بتغيري تلك ال ّنظرة نحو ال ّلغة‬ ‫العرب ّية‪ ،‬و ِب َع ِّدها منظوم ًة �إن�سان ّية الإبداع‪� ،‬أي قابلة لل ّت�أثّر مبعطيات ال ّزمن والبيئة االجتماع ّية‬ ‫مراع لقوانني الوجود وال ّتط ّور؟ وهل من قارئٍ لها من ر�ؤي ٍة جديدة؟‬ ‫واجلغراف ّية‪ .‬فهل من ٍ‬

‫‪98‬‬


‫ملف العدد " احت�ضار لغة و�أمة"‬

‫جدلية العالقة بني اللغة العربية والأمة يف التاريخ‬

‫(من حمورابي وقدمو�س �إىل غوتنربغ)‬

‫*‬

‫فرحان �صالح ‪ -‬كاتب‬

‫يحاول املرء يف متابعة للتطور التاريخي مل�سار العوملة‪ ،‬العودة والوقوف مع هذا الرتاث ال�شفهي‬ ‫الذي مت القطع معه حينما كتب حمورابي وجلجام�ش ن�صو�صهما يف القانون‪ ،‬ويف البحث عن‬ ‫احلياة الأبدية‪ ،‬باحلرف امل�سماري املقطعي‪ .‬فهذه الكتابات حت ّولت وتط ّورت وكتبت يف ما بعد‬ ‫بالأبجدية امل�سمارية‪ ،‬وقد �سبقت ذلك‪ ،‬الكتابة على �ألواح من الطني املخفور‪� ،‬إىل �أن جاء‬ ‫الفينيقيون ب�أبجديتهم التي حملوها �إىل اليونان‪ ،‬فقدمو�س �سجل عرب هذه الأبجدية‪ ،‬ح�ساباته‬ ‫ي�سجل للفينيقيني م�ساهمتهم يف ن�شر الأبجدية عرب و�ضع القامو�س الأول‬ ‫التجارية‪ .‬ومن هنا‪ّ ،‬‬ ‫يف علم البحار‪ ،‬ويف العلوم الزراعية وال�صناعية احلرفية‪ ،‬وفن البناء‪ ،‬ويف ن�شر ثقافتهم الإن�سانية‬ ‫امل�ساملة وغري ذلك‪.‬‬ ‫يتابع املرء ذلك التاريخ على يد العلماء امل�صريني (الفراعنة) الذين ر�سموا �صورة لعامل‬ ‫الآخرة يف كتاب "املوتى"‪ ،‬وتبع ذلك‪ ،‬ما ّقدمه �أخناتون يف تعاليمه التوحيدية‪ ،‬كما هي�أ علماء‬ ‫م�صريون املناخات لعلم الهند�سة‪ ،‬ونهر النيل ذاته املوحى لذلك‪ .‬من ثم ما �شرعت �إليه‬ ‫التعاليم التوراتية‪ ،‬والتعاليم امل�سيحية‪ ،‬كذلك ما جاءت به التعاليم العربية الإ�سالمية‪� .‬إن‬ ‫عهدي‬ ‫تلك العلوم‪ ،‬بخا�صة الهند�سية منها‪ ،‬كانت قد تطورت يف ظل احل�ضارة العربية‪� ،‬أي يف َ‬ ‫بني �أمية والعبا�سيني‪ ،‬و�أبرز من ط ّورها الإدري�سي عرب اخلرائط التي ر�سمها‪ ،‬و�أخذ بها يف ما‬ ‫بعد‪ ،‬الربتغاليون الذين ح ّولوها �إىل علم قائم بذاته‪.‬‬ ‫�إن ما ُي�شار �إليه �سوى بع�ض من منجزات احل�ضارة الهريوغليفية ال�سومرية‪ ،‬مبعنى اللغة التي‬ ‫تتكثف فيها الر�سوم القدمية‪ ،‬كما يقول هريودوت‪ ،‬تلك الثقافة التي قطع معها الربتغاليون‬ ‫وط ّوروها‪ .‬لكن هاتني احل�ضارتني كانتا قد �شكلتا القاعدة واملرجع ملا ابتدعته الب�شرية و�أ�ضافت‬ ‫*‪ -‬ن�ص الكلمة التي �ألقيت يف امل�ؤمتر الذي دعت �إليه جامعة تون�س ـ املنار واجلامعة اللبنانية‪.‬‬ ‫‪99‬‬


‫�إليه‪ ،‬وك�أن منجزات هاتني احل�ضارتني �شكلت منطلقاً لعوملة على قدر ما �أتاحت به منجزات‬ ‫ذلك الزمن‪ .‬لقد كانتا خال�صة حل�ضارتي �آ�سيا و�أفريقيا‪ ،‬وعالقتهما بالعامل القدمي‪ .‬ففيهما‬ ‫بد�أت الكتابة‪ ،‬وبد�أت العلوم التي �أخذت بها الب�شرية وطورتها‪ ،‬وبني ربوعيهما كانت‬ ‫ال�شرائع القانونية الأوىل‪ ،‬وفيهما كانت التعاليم الدينية وبروز علماء ذلك الزمن‪ ،‬وبهذا مل‬ ‫تكن التوراة التي كتبت بالآرامية‪� ،‬سوى امل�ؤ�شر على عدم وجود تاريخ عرباين يف ذاته كما‬ ‫يحاول الرتويج له دعاة ال�صهيونية اليوم‪.‬‬ ‫فالعربانيون كانوا كما تقول �إحدى الروايات التاريخية‪ ،‬يتكلمون لغة قدمية قريبة من الهيفية‬ ‫(�أي لغة اخلطوط الهريوغليفية ال�سومرية يف طبعتها الأوىل‪ ،‬كما مل تكن لغة الأناجيل)‪،‬‬ ‫والقر�آن �أي�ضاً الذي يحمل بني دفتيه �آالف املفردات اللغوية امل�أخوذة عن الآرامية وال�سريانية‬ ‫وغريهما‪ ،‬تلك الكتب من التوراة �إىل الأناجيل �إىل القر�آن‪ ،‬مل تكن �سوى منجز من منجزات‬ ‫هاتني احل�ضارتني‪� .‬أما القول ب�أن التوراة �أو القر�آن ب�أنهما من منجزات العربانيني ذاتهم �أو‬ ‫عرب اجلزيرة‪ ،‬فهذا خمالف للعقل‪.‬‬ ‫يقول العالمة اللغوي عبداهلل العاليلي‪�" :‬إن تراث الب�شرية يف ذلك الزمن بخا�صة الرتاث‬ ‫ال�شفهي‪ ،‬وبع�ضه الكتابي‪ ،‬كان خال�صة من تراثيات ل�شعوب متعددة وجدت يف مرحلة ما‬ ‫قبل امليالد‪ ،‬وبعد تلك املرحلة و�صو ًال ملا �أتت به الأيديولوجية العربية الإ�سالمية‪� .‬أما �أهمية‬ ‫ما قام به العربانيون ومن ثم العرب امل�سلمون‪ ،‬فهو يف جتميع هذا الرتاث واالدعاء �أنه تراث‬ ‫واع لواقع اجتماعي ومعرب عنه‪� .‬أما تلك الكتب‬ ‫خا�ص بهم‪ .‬وما الوحي ذاته �سوى انعكا�س ٍ‬ ‫التي ُيقال �إنها من ّزلة‪ ،‬فهي يف نظري جميعها ت�ستقي من جذور لغوية م�شرتكة مرجعيتها‬ ‫احل�ضارة الهريوغليفية ال�سومرية‪ .‬وما القول ب�أن اجلزيرة العربية وهي املمر وال�سوق التجاري‬ ‫ب�أنها املرجعية للإ�سالم‪ ،‬كذلك يف النظر �إىل التوراة على �أنها نتاج عرباين يف ذاته‪� ،‬سوى قول‬ ‫علينا �أن ن�سعى �إىل ت�صويبه‪.‬‬ ‫�إن كل املكونات التي برزت يف ذلك الزمن حتى متام ن�شوء الأديان‪ ،‬وحتى نهاية الع�صر‬ ‫العبا�سي يف القرن الثاين ع�شر‪ ،‬مل تكن �إال من رحم هاتني احل�ضارتني‪.‬‬ ‫�أما الفينيقيون‪ ،‬فقد كانوا وا�سطة العقد بني هاتني احل�ضارتني؛ ف�أبجديتهم ذاتها مل تكن �سوى‬ ‫اخلال�صة ملا �أعطته الب�شرية يف املجال اللغوي بخا�صة‪ ،‬ويف املجاالت الأخرى بعامة‪ .‬وميكن‬ ‫‪100‬‬


‫ملف العدد " احت�ضار لغة و�أمة"‬

‫تلخي�ص م�شاركتهم احل�ضارية مبا قاله هريودوت من �أن الفينيقيني هم من كانوا رواداً لن�شر‬ ‫ثقافة هذه العوملة خارج نطاق �آ�سيا و�أفريقيا‪ .‬وميكن للمتابع وهذا ما ب ّينته يف كتاب م�شرتك‬ ‫ن�شر يف اجلزائر‪ ،‬ب�أن اللغة الأمازيغية �إذا كان ممكناً قول ذلك‪� ،‬أو كلهجة من لغة‪ ،‬وهذا هو‬ ‫الأقرب �إىل احلقيقة‪ ،‬هي �آخر ما تبقى من اللغة الفينيقية يف ع�صرنا‪ ،‬هنا ميكن العودة ملا كتبه‬ ‫عثمان ال�سعدي وعبد القادر جعلول‪ ،‬كذلك �إىل الكتاب املهم "الفينيقيون بناة املتو�سط"‬ ‫ملحمد ح�سني فنطر‪ ،‬وغريهم ممن اعتمدوا وا�ستندوا على الكتابات القدمية‪ ،‬مرحلة ما قبل‬ ‫ف�ضم‬ ‫امليالد‪� .‬أما العربية الف�صحى‪ ،‬فكانت مبنزلة قطار م ّتجه نحو العوملة املمكنة يف زمانها‪ّ ،‬‬ ‫�إليه جميع اللهجات واللغات التي كانت قائمة‪ ،‬وهذا ال يعني �أن الف�صحى ا�ستطاعت �أن‬ ‫متحو اللهجات املحلية‪� ،‬إال �أنها و�ضعتها خارج �شرعيتها‪� .‬أما الإ�سالم بتعاليمه الدينية‪ ،‬فكان‬ ‫تعبرياً عن واقع �سائد �آنذاك ي�سعى �إىل الأف�ضل‪ ،‬والقر�آن والوحي املن ّزل‪ ،‬كان انعكا�ساً لواقع‬ ‫تاريخي‪ ،‬و�إن كان القر�آن يف ذاته كتاب العرب �إىل العرب و�إىل غريهم من ال�شعوب التي‬ ‫انت�شر بني ربوعها‪ .‬لقد كان القر�آن بعد نزوله مادة لت�أويالت و�صراعات اجتماعية وفتاوى‬ ‫�سيا�سية‪ ،‬و�إن جاءت با�سم هذه الفئة االجتماعية �أو تلك‪ ،‬هذا ما كان عليه الو�ضع �أيام اخللفاء‬ ‫وال�صراع على اخلالفة‪ ،‬وهذا ما عرفته الدولة الأموية مع معار�ضيها‪ ،‬كذلك ما عرفته الدولة‬ ‫العبا�سية التي �أفل�ست وانتهت يف القرن الثاين ع�شر ميالدي‪.‬‬ ‫خ�صو�صيات لغوية �أم روا�سب من لهجات اندثرت؟‬

‫يف مو�ضوع العوملة واخل�صو�صيات اللغوية‪ ،‬يتابع املرء االنقطاع عن ذاك الزمن الذي توقف‬ ‫يف القرن الثاين ع�شر‪ ،‬تاركاً ب�صماته يف لغة عربية يتكلم بها املاليني من العرب‪ ،‬من دون‬ ‫�أن يتمكن العرب من ابتكار �آلية التطور‪� .‬إن تلك احل�ضارة التي كانت عنواناً لزمانها‪ ،‬طالت‬ ‫ّ‬ ‫جل مناطق العامل القدمي ودوله‪ ،‬را�سم ًة �صورة تاريخية ملوقعها يف ذلك الع�صر‪ .‬فاملعرفة التي‬ ‫انتقلت من القراطي�س‪ ،‬ومن الكتابة على جلد اخلراف‪ ،‬كانت قد مرت مبراحل وخما�ضات‪.‬‬ ‫�إن تلك املخا�ضات قد تولد عنها "الثورة الغوتنربغية" �أي علم الطباعة‪ ،‬هذه الثورة التي‬ ‫تواجه حتديات اليوم‪ ،‬تتج�سد بالثورة احلديثة �سواء على �صعيد ثورة املعلومات "الأنرتنت"‪،‬‬ ‫�أو "الفي�س بوك" و"التويرت"‪ ،‬واالت�صاالت‪� ،‬أم �سوى ذلك من تقنيات حديثة‪.‬‬ ‫�إن هذه الثورة هي املنجز الب�شري الذي تتكوكب حوله‪ ،‬وت�صاغ عربه‪ ،‬و�ضعيات من عالقات‬ ‫‪101‬‬


‫دولية جديدة حترتم القوة وحتا�صر ال�ضعفاء‪ ،‬حيث مينع عن ه�ؤالء توطني تقنيات الع�صر ال‬ ‫جمتمعاتهم فح�سب‪ ،‬بل مينع عنهم االحتفاظ يف علمائهم وكوادرهم وكفاءاتهم التي ميكن‬ ‫منها وعربها االرتقاء مب�ستقبل �شعوبهم‪ ،‬وبالتايل مب�ستقبل الب�شرية‪.‬‬ ‫�إن هذه الثورة هي املنجز الب�شري الذي تتكوكب حوله‪ ،‬وت�صاغ عربه‪ ،‬و�ضعيات من عالقات‬ ‫دولية جديدة حترتم القوة وحتا�صر ال�ضعفاء‪ ،‬حيث مينع عن ه�ؤالء توطني الع�صر ال يف‬ ‫جمتمعاتهم فح�سب‪ ،‬بل مينع عنهم االحتفاظ بعلمائهم وكوادرهم وكفاءاتهم التي ميكن منها‬ ‫وعربها االرتقاء مب�ستقبل �شعوبهم‪ ،‬وبالتايل مب�ستقبل الب�شرية‪.‬‬ ‫لذا‪ ،‬ف�إن احلديث عن خ�صو�صيات لغوية هو ذاته احلديث عن روا�سب من لهجات وبقايا‬ ‫تراث �إن�ساين كانت قد عرفته ال�شعوب العربية وغريها يف الأزمنة التاريخية التي كان لها‬ ‫�ش�أن وح�ضور فيها‪.‬‬ ‫�إن مو�ضوع اللغة يف التاريخ احلديث‪ ،‬كان مبثابة هوية �أكرث منه خياراً‪ .‬ول ُتالحظ الكيفية التي‬ ‫�أعيد فيها االنحياز للعربية‪� ،‬أي�ضاً للكيفية التي يحاول البع�ض من خاللها‪� ،‬إعادة االعتبار‬ ‫للهجات على ح�ساب اللغة الأم‪ .‬فهل ميكن احلديث عن خ�صو�صيات ي�ستطيع العرب‬ ‫االعتماد عليها يف �صمودهم‪� ،‬أو يف مواجهة ما تخططه امل�ؤ�س�سات التي تدير هذه العوملة‬ ‫التي ي�ساهم العلماء املهاجرون العرب الذين يتجاوز عددهم املليون‪ ،‬يف االرتقاء باحل�ضارة‬ ‫الأوروبية ــــ �أمريكية‪ ،‬من دون �أن ت�ستفيد ال�شعوب التي ينتمون �إليها‪ ،‬من هذه احل�ضارة‪� ،‬أو‬ ‫من كفاءاتهم وعلومهم وخرباتهم؟‬ ‫يعدها البع�ض قاعدة للهوية العربية‪ ،‬هي يف و�ضعية الدفاع‪،‬‬ ‫�إن اخل�صو�صيات اللغوية‪ ،‬التي ّ‬ ‫الحظوا �أن جل مناهجنا اجلامعية وغري اجلامعية‪ ،‬ما زالت تد ّر�س العلوم البحتة باللغات‬ ‫الأجنبية‪� ،‬إذ مل ُي َ�ص ْر �إىل توطني تلك العلوم باللغة العربية‪ ،‬وبالتايل مل ي�صر لتدري�س العلوم‬ ‫احلديثة بلغتنا القومية‪ ،‬ناهيك عن �أن معظم �أ�سماء ال�شوارع واملحال وال�شركات التجارية‬ ‫ما زالت تكتب ويعلن عنها باللغات الأجنبية‪ ،‬كذلك املعامالت احلكومية وال �سيما تلك‬ ‫املتعلقة بق�ضايا املواطنني‪ ،‬باللغة الفرن�سية �أو الإنكليزية‪ ،‬كذلك الإعالنات والتعريف بال�سلع‪،‬‬ ‫�أي�ضاً الو�صفات الطبية‪ .‬لقد �أ�صبحت الأجيال اجلديدة‪ ،‬ويف �أحاديثها وحواراتها‪ ،‬تتعامل‬ ‫�أي�ضاً بلغات �أجنبية‪ ،‬وت�ستعمل مفردات �أجنبية‪.‬‬ ‫‪102‬‬


‫ملف العدد " احت�ضار لغة و�أمة"‬

‫�إن كل ما نذكره ال ي�ساهم يف ن�شر ثقافة التغريب فح�سب‪ ،‬بل يف تدمري ما تبقى من‬ ‫خ�صو�صيات تراهن عليها �أو يراهن عليها البع�ض اي�ضاً‪� .‬إن ما �آلت �إليه الأمور من �إهمال‬ ‫الأم ــ لغة احلليب‪ ،‬يجعل الأجيال اجلديدة يف حل من االقرتاب الفعلي والعقلي من‬ ‫و�صف وحتديد �أ�سباب عدم تقدم العرب‪ ،‬وبالتايل يف عدم القدرة على و�ضع م�شاريع‬ ‫للمعاجلة‪ ،‬بخا�صة امل�شاريع التي تبد�أ ب�إعادة النظر مبا ذكرناه‪ ،‬و�إيجاد �صيغ مبتكرة للتعاون بني‬ ‫الدول العربية وعلى امل�ستويات كافة‪ .‬دون ذلك �سيبقى العرب يف �سجن املا�ضي‪ ،‬يف �سجن‬ ‫"�سايك�س بيكو"‪ ،‬على الرغم من اال�ستقالالت ال�صورية التي منحت لهذه الدولة �أو تلك‪.‬‬ ‫ال�س�ؤال‪ :‬ما هي اخل�صو�صيات اللغوية �أو غري اللغوية التي ميكن املراهنة عليها للبناء والتطوير‪،‬‬ ‫وال �سيما على ال�صعيدين اللغوي والتعليمي ومنه اجلامعي؟‬ ‫�إن اخل�صو�صيات اللغوية‪ ،‬هي خ�صو�صيات من روا�سب لغات اندثرت‪ ،‬تلك اللغات التي‬ ‫ج ّبتها العربية‪ ،‬وكانت خال�صة لها‪ ،‬ومنها ال�سومرية والهروغليفية والفينيقية بطبيعتها‬ ‫الأمازيغية الأخرية‪ ،‬كذلك ال�سريانية والآرامية وغري ذلك من بقايا لغات قدمية‪ ،‬وقد �أدجمت‬ ‫�سواء يف اللغة الأم‪� ،‬أم �أُدرجت يف العاميات املتداولة‪.‬‬ ‫�إن م�س�ألة التطور اللغوي‪ ،‬ال ميكن النظر �إليها يف ذاتها وبذاتها‪� ،‬أي من دون التطرق ملا مت تقدميه‬ ‫وعر�ضه‪ ،‬فاللغة هي مفردات حلاجات اجتماعية‪ ،‬ولي�ست منف�صلة عن ذلك‪� .‬إنها مفردات من‬ ‫حاجات وحلاجات بني الب�شر‪ ،‬هكذا قال �سيبويه واجلاحظ والفراهيدي واجلرجاين‪ ،‬وهكذا‬ ‫ا�ستمرت �أجيال من بعد‪ ،‬تتبنى اجلديد وتوظفه من �أمثال بطر�س الب�ستاين وجرجي زيدان‬ ‫الذي �أ ّلف كتاباً حتت عنوان "اللغة العربية كائن حي"‪ ،‬وهكذا يقول �شوقي �ضيف وعبد‬ ‫اهلل العاليلي وجواد علي وحممد العربي ولدخليفة وعبدامللك مرتا�ض وعبد القادر الفا�سي‬ ‫الفهري وعبد ال�سالم امل�سدي وع�صام نور الدين وغريهم‪.‬‬ ‫وال�س�ؤال‪ :‬ماذا يبقى للعرب من لغة منتجة يفتخرون بها ويقارنونها مع غريها من لغات؟‬ ‫لقد جفّت املنابع الإبداعية التي ترتوي منها اللغة‪ ،‬فتوقف منوها‪ ،‬ح�صل ذلك ب�سبب هجرة‬ ‫العلماء‪ ،‬وت�صفية اللغة املنتجة التي كان جدودنا يتكلمون وينتجون حاجاتهم الزراعية منها‪.‬‬ ‫تلك اللغة التي �سجلوا فيها قيم حياتهم وتطلعاتهم مل�ستقبل �أف�ضل‪.‬‬ ‫وبتدمري القيم التقليدية املنتجة‪( ،‬الحظوا �أن تدمري كل حرفة من احلرف التي رافقت عمل‬ ‫‪103‬‬


‫الفالحني يف املا�ضي القريب‪ ،‬كان يتم تدمري ثقافة كاملة معها)‪ .‬كان يتم تدمري الأ�سا�س‬ ‫الذي ميكن املراكمة عليه‪ ،‬من دون و�ضع الأ�سا�س لبدائل هي ما �أخذت به �شعوب و�أمم‬ ‫�أخرى‪� .‬إن عدم وجود بدائل قد �أدى �إىل حتويل ال�شعوب العربية �إىل �شعوب ت�ستهلك من‬ ‫دون �أن تنتج‪ ،‬و�أدى �إىل حتويل الأقطار العربية �إىل �أ�سواق ا�ستهالكية من دون قيم‪ ،‬كذلك مل‬ ‫يتم االحتفاظ بهذه الكفاءات من النخب املنتخبة علمياً وفكرياً ومادياً‪ ،‬تلك النخب التي‬ ‫تعلمت وتخ�ص�صت يف الغرب‪ ،‬فما حتتاجه بالدنا الفقرية لي�س �سوى م�شاريع حياة‪ ،‬ولن يتم‬ ‫ذلك �إال ب�إعادة االعتبار له�ؤالء العلماء‪ ،‬وباحت�ضان جمتمعاتهم لهم‪ ،‬وبتعاون هذه الأقطار‬ ‫مع بع�ضها البع�ض‪.‬‬ ‫�إن العربية التي تعاين من م�شاكل قدمية حديثة‪ ،‬تعاين ب�سبب ف�شل لي�س ما ي�سمى النظام‬ ‫الإ�سالمي ودولته فقط‪ ،‬بل �أي�ضاً ب�سبب ف�شل الدولة الوطنية القومية‪ .‬لذا‪ ،‬ف�إن االرتقاء باللغة‬ ‫هو ذاته احلديث عن م�شروع عربي تكون اللغة وا�سطة العقد فيه‪ ،‬لي�س على �صعيد الرتبية‬ ‫والتعليم العايل فح�سب‪ ،‬بل منها ميكن امل�ساهمة يف توطني تقنيات الع�صر �أي�ضاً‪� .‬إن ف�شل‬ ‫امل�شروع الإ�سالمي الذي ي�ستح�ضر معطيات املا�ضي من دون الأخذ يف االعتبار �إ�ضافات‬ ‫الأجيال اجلديدة امل�ستب َعدة من امل�شهد‪� ،‬أو ذاك امل�شروع الوطني‪ ،‬الذي ي�أخذ ال�شكل من‬ ‫احلداثة الغربية من دون �أن يعمل على توطني الت�صنيفات العلمية يف املجتمع العربي‪� .‬إن‬ ‫هذا امل�شروع‪ ،‬كما ذاك كانا قد ا�ستندا على م�شاريع غربية كـ"�سايك�س بيكو"‪ ،‬هو ما �أدى‬ ‫�إىل تراجع العربية‪ ،‬فالعرب الذين ي�سكنون يف �أمكنة اختاروها لأنف�سهم‪ ،‬هم من ي�سيئون‬ ‫ا�ستعمال تعاملهم مع ما اختاروه‪ ،‬وح ّولوه �إىل �أوطان ودول منعزلة عن بع�ضها البع�ض‪.‬‬ ‫ونالحظ مث ًال كيف ي�شجع هذا النظام العربي �أو ذاك على ت�أبيد اللغة‪ .‬و�سجنها يف �سجن‬ ‫�سيبويه والفراهيدي من دون الأخذ مبنجزات الع�صر وقيمه العلمية‪ ،‬وبالتايل من دون ما �أتى‬ ‫به جرجي زيدان من �أن العربية هي كائن حي‪ ،‬وتتطور بتطور ال�شعوب التي تتكلم بها‪ .‬كما‬ ‫جند �أنظمة �أخرى تتبنى اللهجات‪ ،‬وت�شجع على انت�شارها‪ ،‬وهذا ذاته ما �أدى �إىل االنحياز لغري‬ ‫العربية يف الكالم ال�شفهي والكتابي �أي�ضاً‪ ،‬و�أن ه�ؤالء الذين ي�شجعون اللهجات الدارجة‬ ‫يعتقدون �أنهم بها �سيحققون م�شاركة فعالة بالنظام العاملي‪� .‬إن ه�ؤالء هم من تنا�سوا �أن‬ ‫م�ضمون هذا ال�صراع حت�سمه الثقافة العلمية‪ ،‬وبالتايل م�صالح الأقوى‪ ،‬بخا�صة �أن العوملة‬ ‫حتاول تطويع ال�ضعفاء بالقوة والإكراه‪.‬‬ ‫‪104‬‬


‫ملف العدد " احت�ضار لغة و�أمة"‬

‫�إن الأنظمة العربية التي حت�سب �أنها متثل (الإ�سالم كدين)‪ ،‬ال تزال تنظر �إىل اللغة العربية‬ ‫على �أنها بنت الإ�سالم ولي�ست بنت تاريخها‪ ،‬وبالتايل لي�ست جمموع تاريخ اللغات التي‬ ‫�أخذت منها‪ ،‬و�أ�صبحت جزءاً منها‪� .‬إن تلك الأنظمة التي تتاجر بالدين‪ ،‬وك�أن العامل اليوم‬ ‫ميكن املتاجرة معه بهذا الرتاث الذي يتم الرتويج له عرب الأقنية التلفزيونية‪� ،‬أو غريها من‬ ‫و�سائل م�سموعة �أو مقروءة‪ .‬وميكن القول �إن ما ن�سمعه من خالل هذه الو�سائل متهمة �أو ًال‬ ‫ب�إلغاء العقل‪ ،‬بخا�صة �أنه لي�س من م�شروع حياة عند تلك الدول التي تن�شر وتر ّوج لهذه‬ ‫الثقافة التي ترهن حرية الإن�سان وت�شي وجوده‪� .‬إن هذه الو�سائل الإعالمية التي تب�شر‬ ‫بحياة بعد احلياة‪ ،‬هي التي ت�ساهم يف تدمري العقول الب�شرية‪ ،‬وهي التي حت�ضر املناخات‬ ‫لتنظيمات مثل "داع�ش" وغريها‪ ،‬تلك املنظمات التي تعترب �أن حياة الإن�سان يبد�أ بعد موته‪،‬‬ ‫وبالتايل ف�إنها ت�ستبدل احل�ضور الوجودي للإن�سان‪ ،‬مب�شاريع وهمية‪ ،‬هي ما �أو�صلنا �إىل ما تعرفه‬ ‫جمتمعاتنا من ب�ؤ�س وتخلف وخوف‪.‬‬ ‫�إن اهلل هو املهند�س لهذا الكون‪ ،‬وهو الذي يحت�ضن الفالح والعامل وال�صيديل والطبيب‬ ‫وعامل االجتماع والفنان وعامل الآثار‪ ،‬وعامل الف�ضاء واالقت�صادي وعامل الكمبيوتر وغري‬ ‫ذلك من علماء وعلوم �أر�ضية‪ ،‬ولي�س اهلل هو الذي ينطق با�سمه هذا ال�شيخ �أو ذاك الراهب‬ ‫�أو‪ ...‬هذا �أو ذاك الذي يحر�ض على الآخر ويطالب ب�إهدار دمه‪ ...‬لذا على ه�ؤالء الذين‬ ‫ينطقون با�سم اهلل‪� ،‬أن يتوا�ضعوا لأن اجلنة الأر�ضية هي للب�شرية جمعاء‪ ،‬وما علينا �إال �أن‬ ‫ن�سعى كي نعي�ش فيها‪ ،‬والأر�ض ذاتها هي املبتد�أ واخلرب‪...‬‬ ‫�إن اللغة‪ ،‬مبا هي الوعاء للهوية‪ ،‬هي منجزات مادية ومعنوية للأجيال‪ ،‬ولي�ست �أداة للرتويج‬ ‫لثقافة عفا عليها الزمن‪ .‬كما �أن الثقافة الدينية املع ّلبة التي متنع الأخذ ب�إ�ضافات الأجيال‪ ،‬هي‬ ‫ذاتها التي ت�شجع على اال�ستبداد والرهان على املجهول‪.‬‬ ‫�إذا ما تفح�صنا ما ن�شري �إليه ون�شكو منه‪ ،‬فعن �أية خ�صو�صيات لغوية نتحدث‪ ،‬وعن �أية عوملة‬ ‫ـــ نحن العرب ـــ ن�سعى �إليها‪ ،‬ون�سعى �إىل امل�شاركة فيها؟!‬

‫‪105‬‬


3

‫ ط‬- ‫ بناية ر�سامني‬- ‫ �شارع احلمرا‬- ‫ بريوت‬- ‫لبنان‬ ‫ لبنان‬- ‫ بريوت‬113 - 7179 :‫ب‬.‫�ص‬

tel: 00961 -1 - 751 541 E-mail: info@darabaad.com website: www.darabaad.com


‫ملف العدد " احت�ضار لغة و�أمة"‬

‫اللغة العربية‪ :‬ل�سان �أمة وعنوان ح�ضارة وهوية‬ ‫د‪ .‬فيفيان حنا ال�شويري ‪� -‬أ�ستاذة الآثار واحل�ضارت يف اجلامعة اللبنانية‬

‫�إن اللغة وعاء الفكر والو�سيلة التي بوا�سطتها تنتقل املعرفة وتتالقح الثقافات‪ّ ،‬‬ ‫ولكل �شعب‬ ‫لغته وهي عنوان هويته وح�ضارته‪ .‬واللغة القوية هي من الأمة القوية‪ .‬نحن العرب ننتمي‬ ‫اىل ح�ضارة عريقة هي �أم احل�ضارات ومهد الفكر والعلوم والأديان‪ ،‬بوا�سطتها نقل �أجدادنا‬ ‫املتمدن‪ .‬وما من �أحد من العرب �إال ويعرتف ويعتز‬ ‫نتاجهم الثقايف اىل جميع �أ�صقاع العامل ّ‬ ‫بهذا التاريخ املجيد‪ ،‬رغم �أننا ومن دون وعي وكما يقول �أحد الباحثني‪" :‬نر ّدد عبارات من‬ ‫مثل‪" :‬كان العرب"‪" ،‬قالت العرب"‪َّ ،‬‬ ‫لندل على من �سبقنا على هذه الأر�ض العربية‪ ،‬بد ًال‬ ‫منت حل�ضارتهم ب�صلة"!‬ ‫من �أن نقول "�أجدادنا العرب قالوا �أو فعلوا"‪ ،‬وك�أننا غرباء عنهم وال ّ‬ ‫وامل�س�ألة هنا م�س�ألة هوية وانتماء ووعي وجود‪ ،‬يجب تعزيزها والعمل الد�ؤوب لتن�شيطها‬ ‫با�ستمرار‪.‬‬ ‫ي�سرتعي انتباهنا عناوين تعطى مل�ؤمترات تعقد من فرتة اىل �أخرى حول اللغة العربية من‬ ‫مثل "�أ�سباب تعثرّ اللغة العربية وحماوالت النهو�ض بها"‪ ،‬ويلفتنا حتديداً تعبري "تعث" وك�أن‬ ‫يف الأمر ت�أكيداً وحكماً مربماً و�أمراً ناجزاً وتاماً من �أن اللغة العربية متعثرّ ة حقاً‪ .‬وهذا ما‬ ‫نتحفّظ عليه لأ�سباب عدة نذكر �أبرزها الآتي‪:‬‬ ‫�أو ًال‪ :‬كون لبنان كان وما يزال و�سوف يبقى رائداً يف احلفاظ على اللغة العربية على عك�س ما‬ ‫ُيعتقد خط�أً‪ ،‬فمن الإجحاف مبكان ترداد �أن اللغة العربية هي يف م�أزق اليوم بعد كل اجلهود‬ ‫التي قام بها اللبنانيون ب�شكل خا�ص‪ ،‬والت�ضحيات التي ّقدموها وامل�صاعب التي واجهوها‬ ‫خالل القرنني الثامن ع�شر والتا�سع ع�شر �ضد حماوالت طم�س اللغة العربية وتهمي�شها‪،‬‬ ‫بحيث �أ ّدت �أعمالهم اللغوية اىل حمايتها من ال�ضياع التام‪ ،‬وقد منحوها‪ ،‬عالوة على ذلك‪،‬‬ ‫قواعد ومناهج حديثة هي املادة املتوفرة بني �أيدينا اليوم‪ .‬فلو �سئل �أحد ه�ؤالء الطليعيني من‬ ‫‪107‬‬


‫اليازجي والب�ستاين وغريهم �إذا كانوا را�ضني عن و�ضع اللغة العربية يف ع�صرنا‪ ،‬لأجابوا يقيناً‪:‬‬ ‫بل نحن �شاكرون لأجيالنا لأنها ا�ستمرت بالعناية باللغة العربية؛ وهذا �إجناز عظيم‪ ،‬بخا�صة لو‬ ‫عرفوا كم تع ّر�ضت له من �أزمة وجود هو �أ�ضعاف ما تواجهه الآن من هجمات لغات �أجنبية‬ ‫تنازعها املكان‪ ،‬ورغم ذلك ما زالت �صامدة وع�ص ّية‪ .‬وهل حمالت الفرن�سة والأنكلزة يف ظل‬ ‫االنتداب كانت ب�أقل خطورة عن حمالت الترتيك التي �سبقتها؟ وال �شك يف �أن هجمة‬ ‫العوملة التي تو�صف باملتوح�شة و�ضغط املوجات الثقافية الأمريكية احلالية لي�ست بال�شيء‬ ‫القليل‪� ،‬إال �أن اللغات العاملية كلها يف مو�ضع دفاعي �إزاءها‪ ،‬فلي�س حال الفرن�سية �أو الأملانية‬ ‫وغريها ب�أف�ضل من اللغة العربية‪ ،‬فكل ال�شعوب تواجه االجتياح الثقايف واللغوي العاملي‬ ‫احلايل نف�سه‪ ،‬و�إذا ا�ستطاعت تلك ال�شعوب �أن حتمي لغاتها‪َ ،‬مل ال ينجح العرب كذلك؟‬ ‫ثانياً‪� :‬إن اللغة العربية التي نتكلمها اليوم هي نف�سها لغة جربان خليل جربان والرابطة القلمية‬ ‫و�أدباء املهجر الذين كتبوا بهذه اللغة الأم‪ ،‬وهم يف خ�ضم العامل الغربي وثقافته ولغته‪ ،‬ومل‬ ‫مينعهم ذلك من املحافظة على لغتهم الأ�صلية‪ ،‬بل زادهم الأمر ولعاً و�شغفاً واهتماماً بها كونها‬ ‫عنوان هوية وقومية ال ميكن التخلي عنها‪ ،‬ف�إذا كان من عا�ش يف قلب نيويورك والربازيل‬ ‫وغريها مل يت�أثر ومل ي�ض ّيع لغته‪ ،‬فهل يت�أثر من هو يف ال�شرق وبني ظهرانيه؟‬ ‫ثالثاً‪ :‬وقف رواد النه�ضة العربية منذ مطلع القرن الع�شرين بوجه تيارين مت�ضادين‪ :‬التقليد‬ ‫متم�سكني بالتقليد‪ ،‬راف�ضني لكل‬ ‫واحلداثة‪ ،‬والذي جعل املفكرين العرب ينق�سمون بني ّ‬ ‫دخيل‪ ،‬وبني داعني �إىل احلداثة وحم ّبذين موجة "الغربنة"‪� ،‬أي اعتماد ثقافة الغرب ب�شكل‬ ‫بحجة التطور العقلي والعلمي ومواكبة الع�صر واللحاق بركب الدول املتطورة و�سلوك‬ ‫كامل‪ّ ،‬‬ ‫ت�صدى لهذا التيار الذي ر ّوج له متزعم النه�ضة امل�صرية طه ح�سن‪،‬‬ ‫م�سلكها‪ .‬و�أكرث من ّ‬ ‫املد التغريبي‬ ‫املفكرون اللبنانيون من �أمثال فرح �أنطون (توفى �سنة ‪ )1922‬الذي وقف بوجه ّ‬ ‫هذا واتخذ موقف املدافع عن اللغة العربية والقومية العربية واحل�ضارة العربية ب�شدة و�شرا�سة‬ ‫ُوكتب له النجاح يف م�ساعيه وجنت الثقافة واللغة العربية مرة �أخرى من التهمي�ش‪ .‬ومن‬ ‫ين�سى ما للأديرة واحلوزات العلمية من دور ريادي يف حت�صني اللغة العربية وترويج ا�ستعمالها‪،‬‬ ‫وهي لغة الإجنيل املقد�س والقر�آن الكرمي‪ ،‬بها ُيتلى كل من القدا�س الإلهي والآذان يومياً‬ ‫وعلى مدار ال�ساعة‪ ،‬فكيف لأمة "�إقر�أ" و"يف البدء كان الكلمة" �أن تتغ ّرب عن العربية؟ �إن‬ ‫اللغة العربية هي لغة ال�صالة وهل �أكرث من العرب �صالة وابتهاالت و�أدعية؟‬ ‫‪108‬‬


‫ملف العدد " احت�ضار لغة و�أمة"‬

‫رابعاً‪ :‬كيف نظن ولو للحظة �أن اللغة العربية تتعثرّ وهي اللغة التي تع ّلمها املاليني من تالمذة‬ ‫املدار�س وطالب اجلامعات واملعاهد العربية منذ ن�ش�أة هذه امل�ؤ�س�سات التعليمية وما يرتبط بها‬ ‫من وزارات ومراكز تربوية وثقافية؟ فلو قمنا بعملية ح�سابية ب�سيطة لوجدنا �أن اللغة العربية‬ ‫اليوم يف �أوج عزها وانت�شارها مقارنة ب�أوائل القرن الع�شرين ومنت�صفه‪ ،‬حيث مل يكن التعليم‬ ‫�إلزامياً وكان �أكرث من ن�صف ال�سكان العرب �أميني يجهلون القراءة والكتابة وحتى التحدث‬ ‫وفهم اللغة العربية الف�صحى‪ ،‬والتي مل تعد غريبة على �أحد‪ ،‬و�إن ت�أثريها الآن لكبري جداً‬ ‫على اللهجات املحلية واملحكيات التي تط ّعمت بعبارات من اللغة الف�صحى تر ّدد بعفوية‬ ‫على كل ل�سان عربي من مثل‪( :‬من الطبيعي‪ ،‬تلقائياً‪ ،‬خا�صة‪ ،‬بالن�سبة �إىل‪ ،‬عالوة على‪،‬‬ ‫بالإ�ضافة اىل‪ ،‬حتديداً‪ ،‬طبعاً‪� ،‬إجما ًال‪ ،‬باملطلق‪ ،‬يقيناً‪ ،‬م�سبقاً‪ ،‬من املعلوم‪ ،‬من املعروف‪ ،‬مبوازاة‬ ‫ذلك‪ )...‬وكلها عبارت مل ت�ألفها الأجيال العربية التي مل تر َت ْد املدار�س ومل تعهد القراءة‬ ‫والتي‪ ،‬حتى زمن قريب‪ ،‬كانت تبحث عن َمن يقر�أ لها املكتوب يف ال�ضيعة! واالعتقاد‬ ‫املر ّوج له �أن �شبابنا الذين يرتكون الوطن من �أجل فر�ص العمل املتوفرة خارجاً يهملون اللغة‬ ‫العربية وين�سونها‪ ،‬هو خاطئ‪ ،‬لأنهم ما �أن يعودوا اىل وطنهم‪ ،‬حتى ي�ستعيدوا اللغة �شا�ؤوا �أم‬ ‫�أبوا حلاجتهم لها‪ ،‬فكيف لعربي تدبري �ش�ؤونه الإدارية ومعامالته الر�سمية والقانونية والعقارية‬ ‫يف وطنه‪ ،‬من دون ا�ستعمال اللغة العربية‪ ،‬لغة بالده الر�سمية؟‬ ‫خام�ساً‪� :‬إن تعليم اللغة العربية ي�أخذ ح ّيزاً كبرياً من االهتمام يف املناهج الرتبوية التي‬ ‫و�ضعتها وزارة الرتبية‪ ،‬كما ٌخ ّ�ص�صت له �أق ّله �ساعتان يومياً يف كل من املدار�س اخلا�صة‬ ‫والر�سمية وبع�ض اجلامعات‪ ،‬على ر�أ�سها اجلامعة اللبنانية‪ .‬وال تقت�صر اللغة العربية على كتب‬ ‫القراءة والقواعد والإن�شاء‪ ،‬بل تدخل يف مادة الرتبية املدنية والتاريخ واجلغرافيا والريا�ضيات‬ ‫والعلوم والفل�سفة والتن�شئة الدينية واالقت�صاد وعلم النف�س واالجتماع وال�سيا�سة واحلقوق‬ ‫وال�سياحة واملعرفة وغريها‪ ،‬وبهذا يبقى الطالب على احتكاك بها طيلة �أ�سبوعه الدرا�سي‬ ‫يظن البع�ض‪ .‬ولكون العربية مادة �أ�سا�سية تد ّر�س على قدم‬ ‫وال تغيب عن م�سمعه كما ّ‬ ‫و�ساق مع اللغات الأجنبية‪ ،‬ال مينع �أن يعتني بها كل من املد ّر�س والطالب اعتناءه باللغات‬ ‫الأخرى والعمل على التفوق بها‪ ،‬وما ِمن منا�ص من ذلك‪ ،‬بحيث عليه التقدم المتحان‬ ‫البكالوريا الر�سمي وال جمال للح�صول عليه من دون حت�صيل اللغة العربية وهذه �ضمانة‬ ‫كربى لها‪ ،‬جتبرَ جميع املدار�س على �إيالئها االهتمام الالزم‪ ،‬رغم �أنه يالحظ تفاوت يف‬ ‫م�ستوى العربية بني املدار�س‪ ،‬فمنها جزء ذو م�ستوى عالٍ جداً ومنها جزء متو�سط ومنها ما‬ ‫‪109‬‬


‫هو رديء؛ وال يعود ال�سبب اىل اللغات االجنبية‪ ،‬كما يرتاءى للبع�ض‪ ،‬فالطالب املتمكن من‬ ‫لغة يتمكن من ثانية وثالثة دون م�شكلة والعك�س �أي�ضاً �صحيح‪ ،‬ودليلنا النجاح الذي حققته‬ ‫بع�ض املدار�س اخلا�صة يف تعليم اللغات الثالث العربية والفرن�سية والإنكليزية بالتوازي منذ‬ ‫احل�ضانة‪ ،‬وكانت حماولة ناجحة جداً ومنحت التالمذة قدرة على التمييز واملقارنة واملقاربة‬ ‫مل تكن �سانحة لهم من قبل‪ ،‬ف�أ�ضحت امل�س�ألة عبارة عن منهجية ولي�ست فقط تلقيناً ببغائياً‪،‬‬ ‫وهذه املدار�س تحُ َّيى على جهودها‪ .‬والأهم �أن وظائف الدولة والإدارات العامة والقطاع العام‬ ‫تفر�ض امتالك اللغة العربية �أو ًال اىل جانب اللغات الأجنبية يف مراكز حمددة و�أن اخلدمة‬ ‫املدنية تلزم املر�شحني امتالك اللغة العربية قبل �أي ثقافة �أخرى‪ ،‬وهذه �ضمانة للغة العربية‬ ‫بامتياز‪ .‬واجلدير ذكره �أن بع�ض الدول الأفريقية افتتحت فيها مدار�س للغة العربية �سنحت‬ ‫للمغرتبني اللبنانني العائدين للعي�ش يف الوطن فر�صة التقدم اىل املباريات واحل�صول على‬ ‫وظائف �إ�سوة بغريهم من املواطنني‪.‬‬ ‫�ساد�ساً‪� :‬إن اللغة العربية هي بطبيعة احلال‪ ،‬وعلى عك�س ما يظنه البع�ض‪ ،‬االكرث انت�شاراً‬ ‫يف العامل العربي على م�ستوى ال�شا�شات املحلية والإذاعة ويف الإعالم املقروء وامل�سموع‬ ‫واملرئي‪ ،‬فال�صحف واجلرائد واملجالت اليومية والأ�سبوعية وال�شهرية والف�صلية ال عد لها‬ ‫تقدم ب�شكل غري معهود‬ ‫وال ح�صر اليوم مقارنة مع املا�ضي‪ ،‬كما �أن قطاع الطباعة والن�شر ّ‬ ‫يف ال�سنوات الأخرية وعدد الكتب التي ُتط َبع �سنوياً �ضخم جداً‪ .‬وهذا عائد لكرثة الك ّتاب‬ ‫وال�شعراء‪ ،‬رغم قلة القراء كما ن�سمع وهذه امل�س�ألة عاملية ولي�س فقط عربية‪ .‬كما �أن حركة‬ ‫الرتجمة نا�شطة جداً‪ ،‬فما �أن يخرج كتاب عاملي حتى ت�سارع الدور اىل ترجمته اىل العربية‪،‬‬ ‫�إ�ضافة اىل امل�ؤلفات والدرا�سات والأبحاث املحلية التي ت�صدر من مراكز الأبحاث واجلامعات‬ ‫الكم الهائل من الكتب‬ ‫والأن�شطة والتقارير والأحزاب واجلمعيات والرعايا‪ ،...‬فهال تخ ّيلتم ّ‬ ‫ت�ضمها معار�ض الكتب يف الوطن العربي �سنوياً؟ كما �أن الف�ضائيات والإنرتنيت‬ ‫العربية التي ّ‬ ‫�أعطت اللغة العربية الف�صحى فر�صة فريدة لالنت�شار ب�شكل مل ي�سبق له مثيل‪ ،‬وقد جتاوزت‬ ‫حدود الوطن العربي اىل �أ�صقاع الأر�ض‪ ،‬حيث اجلاليات العربية متيل اىل �سماع لغتها الأم‪.‬‬ ‫كما و�أن املواقع االلكرتونية مليئة ب�آالف الن�صو�ص العربية والرتجمات التي هي مبتناول �أي‬ ‫باحث يتقن العربية ب�سهولة‪ .‬وعندما نقر�أ على موقع ما عدد امل�شاركني واملع ّلقني الذي ي�صل‬ ‫اىل مئات الآالف احياناً‪ ،‬ن�ستغرب مما ير ّوج له زيفاً من انعدام القراءة خا�صة باللغة العربية‪.‬‬ ‫‪110‬‬


‫ملف العدد " احت�ضار لغة و�أمة"‬

‫�سابعاً‪� :‬إن اللغة العربية هي لغة وكتابة‪ ،‬وال يعتقدن �أحد �أن �أ�سلوب الكتابة العربية االلكرتونية‬ ‫الذي ابتدعه ال�شباب الع�صري‪ ،‬معتمداً احلرف الالتيني مع بع�ض احلروف امل�ستنبطة للفظ‬ ‫"العني واحلاء واخلاء"‪� ،‬أنه ي�ض ّر باللغة العربية بل هو ي�سيء اىل الكتابة العربية يف حال �أهملت‬ ‫�أ�صولها‪ .‬والكتابة غريها اللغة كما نعلم جميعاً‪ .‬وهذا النمط اخلطي امل�ستحدث القى رواجاً‬ ‫كبرياً وانت�شر بعفوية يف العامل العربي ما جعل اللغة العربية تتفوق على اللغات املناف�سة‪،‬‬ ‫واجليد يف الأمر �أن ال�شبيية ت�ستعمل اللغة العربية للرتا�سل والتوا�صل ولي�س الفرن�سية �أو‬ ‫الإنكليزية‪ ،‬ما يدعم اللغة العربية ب�شكل كبري ويخدم وجودها ب�شكل �أف�ضل‪ ،‬فهي مت�س‬ ‫الوجدان �أكرث منها اللغة الأجنبية‪ ،‬ونحن نرى �إيجابيات امل�س�ألة ولي�س �سلبياتها‪.‬‬ ‫ثامناً‪� :‬إن اللغة العربية هي اللغة الأكرث ا�ستعما ًال اليوم يف الفنون امل�سرحية وامل�سل�سالت‬ ‫التلفزيونية والدبلجة والأغاين‪ .‬وهي لغة ال�شعر والت�أليف على �أنواعه‪ ،‬و�إىل من يت�ساءل كيف‬ ‫ذلك ف�إننا نعني اللغة العربية بكل لهجاتها وحمكياتها التي �أ�صبحت ي�سرية الفهم على‬ ‫كل مواطن عربي‪� ،‬أينما كان‪ ،‬فلم ي ُعد غريباً عليه الل�سان اخلليجي �أو اليمني �أو اللبناين �أو‬ ‫ال�سوري �أو العراقي �أو الفل�سطيني �أو املغربي �أو البدوي‪ ،‬لكرثة ما يعر�ض على ال�شا�شات من‬ ‫يهتم ب�ش�ؤون املجتمعات العربية كافة‪ .‬ولعلنا نذكر حماولة بع�ض‬ ‫برامج وم�سل�سالت ووثاقي ّ‬ ‫ال�شبكات التلفزيونية تقدمي ن�شرة الأخبار باللهجة املحلية‪ ،‬فكانت النتيجة رمبا رائعة للم�ستمع‬ ‫حدت من انت�شار القناة ورواجها وانفتاحها‬ ‫واملقدم كما �أنها ّ‬ ‫املعد ّ‬ ‫املحلي‪ ،‬ولكن �صعبة على ّ‬ ‫على العرب الآخرين‪ ،‬لذا ما لبثت هذه التجربة �أن ا�ضمحلت وتال�شت من تلقاء نف�سها‪.‬‬ ‫كما �أن عدداً كبرياً من اللقاءات التلفزيونية يطلب من ال�ضيوف ا�ستعمال العربية الف�صحى‬ ‫خالل املناظرة بينهم حتى ّ‬ ‫يتمكن امل�شاهد العربي من فهم املحاورة ب�سهولة‪ .‬واىل َمن يخاف‬ ‫على اللغة العربية من ال�ضياع‪ ،‬نطمئنه �أن املناظرات ال�سيا�سية ون�شرات الأخبار املتتابعة التي‬ ‫وحدها �أن حتافظ على هذه اللغة‬ ‫ال تغيب عن ال�شا�شات العربية وعلى كرثتها اليوم‪ ،‬كفيلة َ‬ ‫و�إن كان �أكرثها ّ‬ ‫ي�شكل �سبي ًال للخالف واملعار�ضة واجلدل العقيم وبلبلة العقول من كرثة‬ ‫الأخذ والر ّد والرثثرة‪ ،‬ومبجملها تنظري كالمي لي�س �إال‪� ،‬إال �أنها تبقى باللغة العربية!‬ ‫تا�سعاً‪ :‬متتاز اللغة العربية الف�صحى عن غريها من اللغات �أنها اللغة اجلامعة للأمة العربية‬ ‫بوا�سطتها ميكن ِّ‬ ‫لكل عربي �أن يفهم الآخر مبعزل عن لهجته املحكية املحلية‪ ،‬وهذا ما ال‬ ‫يتوفّر عند ال�شعوب غري العربية‪ ،‬فمن منا ميكن �أن يحدد ما هي اللغة التي جتمع الأوروبيني‬ ‫‪111‬‬


‫حالياً غري الإنكليزية بالطبع‪ ،‬ولكنها لي�ست لغة الأوروبيني كلهم‪ ،‬بل هم ي�ستعريونها من‬ ‫�أجل التوا�صل فيما بينهم‪ ،‬ما ي�سمح لربيطانيا (ولأمريكا معها عن بعد) �أن حتتل ال�صدارة يف‬ ‫املجموعة الأوروبية ومينحها ذلك نوعاً من التفوق الذي تعتز به‪ ،‬يف حني �أن الآخرين من غري‬ ‫يتحدثون بغري لغتهم خارج �إطار بلدهم الأم‪.‬‬ ‫الربيطانيني ال ي�شعرون باالعتزاز نف�سه لكونهم ّ‬ ‫يحتج �أو ي�شعر بالأ�سى‪� ،‬إذا ما تك ّلم غريه من العرب باللغة الف�صحى؟‬ ‫فهل �أحد من العرب ّ‬ ‫موحداً وحافزاً وجدانياً‬ ‫طبعاً ال! وهذا مو�ضع افتخار �أن تكون اللغة العربية الف�صحى عام ًال ّ‬ ‫وقومياً مزي ًال للحدود الوهمية التي ُو�ضعت للعرب بني بع�ضهم البع�ض‪ ،‬وهنا تكمن �أهميتها‪.‬‬ ‫عا�شراً‪� :‬إنه غري �صحيح‪� ،‬أن التداول باللغات الأجنبية ب�شكل م�ستمر ي�ؤثر على اللغة العربية‪،‬‬ ‫ولبنان خري مثال‪ ،‬بحيث ُي ّعد من �أكرث بلدان ال�شرق الأو�سط ا�ستعما ًال للغات الأجنبية‪،‬‬ ‫وال تقل اللغة العربية فيه �ش�أناً عن غريها‪ ،‬بل ُي ّعد من �أكرث الدول العربية تعليماً واهتماماً‬ ‫م�صدراً للأ�ساتذة اىل الدول العربية ال�شقيقة لتنمية تدري�س اللغة‬ ‫باللغة العربية‪ ،‬وحتى ّ‬ ‫العربية فيها‪ .‬كما و�أنه لي�س �صحيحاً �أن قلة ا�ستعمال اللغات الأجنبية واالقت�صار على العربية‬ ‫ي�ساعد اللغة العربية ويق ّويها‪ ،‬فهناك دول ال تد ّر�س اللغات الأجنبية ب�شكل مكثف ّ‬ ‫ومركز‬ ‫وم�ستوى العربية فيها عادي �أو �أقل من عادي‪� .‬إذن ال عالقة للغات الأجنبية بتاتاً مب�ستوى‬ ‫اللغة العربية‪� ،‬صعودها �أو هبوطها‪ ،‬والدليل �أن �أكرث ّ‬ ‫املتمكنني من اللغة العربية هم الأ�ساتذة‬ ‫واملفكرون والعلماء والباحثون الذين يتقنون �أكرث من لغة �أجنبية‪ ،‬ال غنى لهم عنها يف‬ ‫�أبحاثهم ومراجعهم ومتابعة تطور العلوم فيها‪ ،‬ولكن مل مينعهم ذلك من �أن يكونوا �أفذاذاً‬ ‫باللغة العربية ورمبا الوحيدين الذين يعملون على �صونها‪ ،‬لكون املنهج العلمي يقت�ضي �أ�سلوباً‬ ‫تبدل اللغة امل�ستعملة‪ ،‬فهل‬ ‫واحداً يف التفكري بجميع اللغات وال ميكن االنتقا�ص منه مع ّ‬ ‫�أكرث من املرتجمني �إتقاناً للغات على تن ّوعها؟ وهل املرتجم البارع �أقل �ش�أناً باللغة الفرن�سية‬ ‫منها العربية مث ًال‪ ،‬و�إذا كان هذا حاله فال يكون بارعاً‪ .‬وبهذا يكون الباحث العارف باللغات‬ ‫�أكرث َمن ي�ساهم يف حماية اللغة العربية من العبث الذي يحيط بها‪� .‬إذن‪ ،‬امل�س�ألة هي يف‬ ‫�إهمال اللغة العربية والتخ ّلي عنها و�إق�صائها نهائياً‪ ،‬وهذا غري ممكن يف الوطن العربي‪ ،‬ولي�ست‬ ‫امل�شكلة يف ا�ستعمال لغة �أخرى مبوازاتها‪� .‬أما كون اللغة العربية غري قابلة للت�أقلم مع العلوم‬ ‫والتكنولوجيات احلديثة‪ ،‬فهذا ادعاء خاطئ ير ّوج له للت�ضليل‪� ،‬أال توجد تقنيات وتكنولوجيا‬ ‫وفكر وثقافة يف بلدان ال تعتمد على اللغات الأجنبية بل ترتكز على اللغة العربية ب�شكل‬ ‫�أ�سا�سي؟ �أال يوجد علماء و�أدباء ومفكرون ال يتقنون �أي لغة �أجنبية وحتى ال يعرفون فك‬ ‫‪112‬‬


‫ملف العدد " احت�ضار لغة و�أمة"‬

‫رموزها وال حاجة لهم بها‪ ،‬وهم خالقون ومبدعون؟ و�إال ملا كان من حاجة للرتجمة لو كل‬ ‫النا�س �أتقنوا اللغات‪.‬‬ ‫حادي ع�شر‪ :‬ال يحتاج العربي‪ ،‬بف�ضل لغته العربية‪ ،‬اىل لغة �أخرى ي�ستعني بها لكتابة قوانينه‬ ‫ود�ساتريه وعلومه وفكره وِ�شعره وكل ما يحتاج كتابته‪ ،‬فهي اللغة الأوىل يف كل الوطن‬ ‫العربي‪� ،‬أما ما تالها من لغات �أجنبية فهي و�إن كانت ت�ستعمل وبكرثة‪ ،‬تبقى هام�شية وغري‬ ‫�ضرورية وميكن اال�ستغناء عنها‪ ،‬بينما عند �شعوب �أخرى مل يكن لديها نظام لغوي متطور‬ ‫يف الأ�صل كالقارة الإفريقية ال�سوداء‪ ،‬قام اال�ستعمار الأوروبي بفر�ض لغاته كو�سيلة للتعامل‬ ‫واملعرفة‪ ،‬فهل ميكن للإفريقي �أن ي�ستغني عن الفرن�سية �أو الإنكليزية؟ و�إذا ما ا�ستغنى‪ ،‬مباذا‬ ‫ي�ستعي�ض عنهما ولي�س له لغة ر�سمية غري املحكية اخلا�صة بقبيلته والتي ال يفهمها الإفريقي‬ ‫من منطقة �أخرى‪ ،‬وكيف يكتبها وهو ال ميلك نظام�أ قلمياً جامعاً؟ هذا لي�س حال العربي!‬ ‫وهنا ينتقل بنا احلديث من اللغة كو�سيلة حمادثة اىل اللغة املكتوبة كنظام كتابي و�أداة‬ ‫تدوين‪ ،‬لنتحول من الإيجابيات التي بد�أنا بها طرحنا اىل بع�ض املع�ضالت التي حتيط بهذه‬ ‫اللغة العربية املكتوبة حتى ال نقول م�شكالت‪ .‬ونحن و�إن كنا قد حتفظنا على عبارة "تعرث" يف‬ ‫ما يتعلق باللغة كو�سيلة حمادثة وخماطبة‪ ،‬وب ّينا موا�ضع قوى اللغة العربية ك�أدة للكالم‪ ،‬فال‬ ‫يجدر بنا �إال املوافقة على عبارة "تعث" يف ما يتعلق باللغة العربية املكتوبة والأمران مرتبطان‪،‬‬ ‫مراع‬ ‫فهل ميكن التحدث بلغة �سليمة‪� ،‬إذا ما كتبت ب�شكل مغلوط �أو ركيك �أو م�ش ّوه‪� ،‬أو غري ٍ‬ ‫لأ�صول اللغة وقواعدها ومميزاتها؟ واجلواب بالطبع ال! من هنا وجوب الإ�ضاءة على بع�ض ما‬ ‫تتع ّر�ض له هذه اللغة العربية املكتوبة وما �آل �إليه �أمرها‪.‬‬ ‫�أو ًال‪ :‬ثمة من ّيدعي �أن اللغة العربية �أ�صعب من غريها من اللغات الأخرى‪ ،‬فهل هذا‬ ‫�صحيح؟ وما �سبب هذا االدعاء؟ واجلواب هو لي�ست �صعبة املرا�س ولكن عدم وجود قواعد‬ ‫موحدة متفق عليها بني العرب يجعلها عر�ضة للمجادلة وحتى ال�صراع‪ .‬لن�أخذ كمثل كتابة‬ ‫ّ‬ ‫الهمزة يف كلمة "م�س�ؤول"‪ ،‬فهل تكتب بواو مهموزة و�أخرى م�ضمومة �أم بواو واحدة؟ ومثلها‬ ‫كلمة "جتزئة" فهل تكتب الهمزة على كر�سي الياء �أم على االلف؟ ومثلها الأفعال بد�أ‪ /‬قر�أ‬ ‫‪ /‬ملأ‪ ،‬فهل نكتب يقر�أون ‪ /‬يبد�أون ‪ /‬ميلأون ب�إ�ضافة (ون) يف حالة اجلمع لأن �أ�صل الفعل‬ ‫"قر�أ"‪� ،‬أم يقر�ؤون‪ /‬يبد�ؤون‪ /‬ميل�ؤون بقلب همزة الألف واواً مراعاة للحركة الأقوى؟ �إن امل�س�ألة‬ ‫جتعلكم حتتارون والأف�ضل �س�ؤال خمت�صي اللغة العربية وقواعدها‪ ،‬ولكن هل هم متفقون على‬ ‫‪113‬‬


‫قاعدة واحدة للهمزة؟ وما الهمزة �إال مثل ب�سيط عن قواعد كثرية �أكرث تعقيداً‪ .‬وهذا يتط ّلب‬ ‫توحد هذه القواعد حتى ت�صل اىل لغة عربية �أ�صولها‬ ‫جهوداً من املجامع اللغوية العربية �أن ّ‬ ‫ن�سميه "�شاذ عن القاعدة"‪ ،‬فلكرثة ال�شواذات �أ�صبحت القواعد‬ ‫ثابتة وال تتحرك بح�سب ما ّ‬ ‫العربية من دون قاعدة! �إن حتديد هذه القواعد هو عملية حتديث اللغة وهو �أمر حممود وكفيل‬ ‫ويب�سط الأمر على متلقّي اللغة كما وعلى مد ّر�سيها‪ .‬ونحن‬ ‫ب�أن يذلل الكثري من املع�ضالت ّ‬ ‫على يقني �أنه بزوال اخلالف حول اللغة‪ ،‬تزول خالفات كثرية �أخرى بني العرب!‬ ‫ثانياً‪� :‬إن اللغة العربية احلالية هي �سليلة تراث ح�ضاري موغل يف التاريخ‪ .‬وهي نتاج م�سرية‬ ‫يتحدر من �أقالم عدة �سبقتها‪ ،‬فهي وكما‬ ‫طويلة من تطور الأنظمة الكتابية‪ ،‬وقلمها احلايل ّ‬ ‫تتحدر من القلم ال�سرياين والآرامي وهما قلمان متطوران عن الكتابة الفينيقية‬ ‫يعلم اجلميع ّ‬ ‫الأبجدية التي ر�أت النور يف �صيغتها املب�سطة والأ�سهل على �أر�ض جبيل ‪ -‬بيبلو�س (حوايل‬ ‫‪ 1100‬ق‪.‬م‪ ،).‬وانت�شرت يف العامل الذي اعتمدها ب�شكلها الالتيني وما زال الغرب ي�ستعمله‬ ‫كما ورثه اىل الآن‪ ،‬يف حني تط ّور‪ ،‬يف ال�شرق‪ ،‬احلرف الفينيقي اىل الآرامي املربع‪ ،‬ثم ال�سرياين‬ ‫الذي ربط احلروف ببع�ضها ونقّطها وح ّركها؛ وعنه انبثق اخلط العربي على �أنواعه والذي‬ ‫نكتبه اليوم‪ .‬وال�س�ؤال‪ :‬كم هو عدد الذين يعرفون تاريخ الكتابة العربية‪ ،‬لي�س فقط من‬ ‫املثقفني ب�شكل عام‪ ،‬بل من املهتمني باللغة العربية ب�شكل خا�ص؟ قليل عددهم بالطبع‬ ‫وعلينا اال�ستعانة دائماً بدار�سي اللغات القدمية من �أجل التو�ضيح وال�شرح والإقناع‪ ،‬وهم قلة‪.‬‬ ‫وال�س�ؤال‪ :‬لو طرحنا ال�س�ؤال على �أحد الأوروبيني الغربيني عن تاريخ لغته‪ ،‬لأجاب بتلقائية‬ ‫عدلت وتطورت حتى و�صلت �إليه ب�صيغتها‬ ‫وعفوية مطلقتني �أن �أ�صولها هي الالتينية و�أنها ّ‬ ‫تتحدر منها الكتابة العربية؟ واملهم من‬ ‫احلال ّية‪ ،‬فكم عدد العرب الذين يعرفون الأ�صول التي ّ‬ ‫هذا الطرح هو �أنه لو عمدنا اىل تدري�س الأ�صول الآرامية وال�سريانية للغة العربية منذ املراحل‬ ‫الدرا�سية الأوىل كما هو حال تعليم اللغة الالتينية كقاعدة للغة الأم يف �أوروبا‪ ،‬لك�سبنا‬ ‫�أموراً عدة‪ ،‬منها تع ّرف الأجيال الطالعة على لغاتها وتالياً على ح�ضارتها‪� ،‬إذ �إن ارتباط اللغة‬ ‫باحل�ضارة وثيق ومتالزم‪ .‬وهذا يكفل تع ّلق املرء بلغته تع ّلقه برتاثه وتقاليده وعاداته وطقو�سه‪،‬‬ ‫فكيف يحب العرب اللغة العربية من دون معرفة تاريخها وهو تاريخهم؟ وملاذا تد ّر�س اللغات‬ ‫الأجنبية مرتبطة ب�إرثها الثقايف وح�ضارتها وال يكون الأمر كذلك بالن�سبة للغة العربية؟ يف‬ ‫الأمر فع ًال لغز حميرّ ! فكيف يتباهى العربي بامتالكه لغة �أجنبية وهي عنوان ح�ضارة وتاريخ‬ ‫لأ�صحابها وال يتباهى بالعربية؟ ف�إذا كانت اللغة الأجنبية �سليلة ثقافة وح�ضارة‪ ،‬فهذا حال‬ ‫‪114‬‬


‫ملف العدد " احت�ضار لغة و�أمة"‬

‫كل لغة �أخرى �إذ ما من �شيء �أتى من عدم‪ ،‬وملا ال تكون اللغة العربية وهي �أم اللغات‬ ‫ب�صيغها القدمية مو�ضع عز وافتخار نتعلق به تعلقنا مبقد�ساتنا؟ واجلواب لأن احل�ضارة مهملة‬ ‫عد لها‪ ،‬والتي ترزح‬ ‫يف مناهجنا املدر�سية وال يوجد كتاب عن ح�ضارتنا بني الكتب التي ال ّ‬ ‫حتت وزنها ظهور تالمذتنا النحيلة‪� :‬شُ نط ٌتق�صف الظهور اليانعة ف ُيلعن كتاب القواعد العربية‬ ‫امل�سكني على فعلته‪ ،‬علماً �أنه الأقل وزناً بينها! وعلماً �أنه ال يوجد حتى كتاب تاريخ بينها!‬ ‫فماذا يوجد �إذن داخل هذه الأحجام ال�ضخمة من ال�شنط التي ي�ستع�صي حملها على والد‬ ‫الطفل نف�سه؟! كتب اللغات الأجنبية بالطبع!‬ ‫بحجة �أنها بالية وال حاجة‬ ‫ثالثاً‪ :‬وتلعن الأ�سماء والرموز واملحطات الالمعة يف التاريخ العربي ّ‬ ‫لنا بها يف العلوم احلديثة! ف�إذا كان اجلاحظ واملتنبي والطربي وابن �سينا واملعري وابن املقفع‬ ‫وهنيبعل و�صالح الدين باليني‪ ،‬فلما ال يكون موليري وفولتري و�شك�سبري وبايرون ونيوتن‬ ‫وكانط وفرويد ونابليون وق�سطنطني واال�سكندر الكبري ونريون وفليمينغ وبا�ستور كذلك؟‬ ‫�ألي�سوا كلهم �أ�سماء من املا�ضي مل يعد لهم مت�سع يف العامل املعا�صر العلمي والتكنولوجي؟‬ ‫واجلواب‪ :‬نعم يف املبد�أ املنطقي كلهم قدماء‪ ،‬ولكن لي�سوا كلهم باليني‪� ،‬أق ّله عند الغرب‬ ‫َ‬ ‫التماثيل يف ال�ساحات العامة واحلدائق واملتاحف‪،‬‬ ‫الذي رفع لأعالمه و�شعرائه وعلمائه ه�ؤالء‬ ‫لي�س لتزيينها كما يعتقد من ال يعري اهتماماً مل�آثر الأقدمني‪ ،‬بل لقيمتهم العلمية و�إجنازاتهم‬ ‫الوطنية والقومية وعطاءاتهم التي ّقدموها ل�شعوبهم و�أوطانهم‪ ،‬فهل ي�ستغني الغرب عن رجاله‬ ‫هدمت فرن�سا "البانثيون" (‪ )pantheon‬حيث‬ ‫العظماء با�سم الع�صرنة والتكنولوجيا؟ هل ّ‬ ‫ُدفن رجالها ومفكروها وخمرتعوها و�أعالم ع�صر الأنوار ورجاالت ثورتها الكربى و�صحافيوها‬ ‫و�شعرا�ؤها وك ّتابها‪ ،‬ومل تعد ت�ضع حرا�ساً على مدخله‪ ،‬حتى نقتفي نحن العرب �أثرها ونر�ضى‬ ‫بقطع ر�أ�س املعري‪ ،‬وتهدمي م�ساجد وكنائ�س ال�شرق ون�سف متاحف العراق و�سوريا ومتحف‬ ‫يرف لأحد جبني‪،‬‬ ‫الفنون الإ�سالمية والعربية الأكرب يف العامل يف و�سط القاهرة‪ ،‬من دون �أن ّ‬ ‫ومنا َمن ال علم له حتى بهذه الكوارث واجلرائم بحق الرتاث احل�ضاري العاملي؟ ّ‬ ‫فكل‬ ‫اخرتاع هو ملك للإن�سانية جمعاء وهذا بند من بنود الأوني�سكو حلماية الإرث العاملي؟‬ ‫ال! ال فرن�سا وال غريها‪� ،‬أهملت عظماءها‪ ،‬ولن تفعل‪ ،‬رغم �أن �أعالمها �أخذوا عن رجاالتنا‬ ‫ومفكرينا ه�ؤالء‪ ،‬ولكن نحن فعلنا! وملاذا؟ لأننا نظن‪ ،‬و�إن بع�ض الظن �إثم‪� ،‬أنهم �أ�صبحوا من‬ ‫املا�ضي ومل يعد يحتاجهم ع�صرنا‪ ،‬بل �أ�صبحوا عبئاً ثقي ًال كال�شنط املدر�سية‪ .‬عجباً! �صاحب‬ ‫الفكر الأ�صيل جعلناه بالياً‪ :‬ذلك الذي قال بالعلمانية واملدنية وتفعيل املنطق‪ ،‬ذلك املع ّري‬ ‫‪115‬‬


‫الذي عنه �أخذ دانتي وكانط وهيغل! وابن املقفع �أ�ضحى بالياً‪ ،‬وقد ن�سخه حرفياً ال فونتني ‪La‬‬

‫‪ ،Fontaine‬وعمر بن اخلطاب يد َّمر ذكره وهو القائل‪" :‬كيف ت�ستعبدون النا�س وقد ولدتهم‬ ‫�أمهاتهم �أحراراً؟!‪ ،‬وهي العبارة التي اتخذتها الثورة الفرن�سية الكربى �شعاراً لها و ُن�سبت‬ ‫اىل مفكري ع�صر الأنوار! فكيف ُيحافظ على �إرث رو�سو ‪ Rousseau‬م�ستعري هذا القول‬ ‫ويهم�ش �صاحبه الأ�صلي؟ وكيف ما زال الطربي وابن �سينا وغريهم يد ّر�سون يف الف�صول‬ ‫ّ‬ ‫الأوىل من مناهج الطب لدى الغرب و ُي ّعدهم طالبنا العرب باليني؟ هل لديكم جواب؟‬ ‫لدينا جواب يف هذا ال�س�ؤال‪ :‬ملاذا �أٌلغيت مادة الفل�سفة العربية وتاريخ العلوم عند العرب‬ ‫من املناهج التعليمية ومل تل َغ مادة الفل�سفة والآداب الأجنبية؟ ملاذا �أُلغي كتاب التاريخ‬ ‫العربي ومل تلغ كتب التاريخ الأجنبية؟ هنا الطامة الكربى والتي لها عالقة �أ�سا�سية باللغة‬ ‫العربية‪� .‬إن �أعالم ح�ضارتنا ه�ؤالء الذين ع ّلموا �شعوب العامل ب�أ�سره‪ ،‬قد كتبوا بالعربية‪ ،‬و�إذا‬ ‫هم�شنا تدري�سهم نكون قد �ساهمنا يف تدمري لغتنا العربية وحمو ثقافتنا وعلومنا‪ ،‬وهو كذلك‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫للأ�سف! فقد �أ�ضحوا فلكلوراً لي�س �إال! �إن احلفاظ على علوم مفكرينا ال يحمي فقط اللغة‬ ‫العربية‪ ،‬بل وي�ضيء على ّ‬ ‫حمطات فخر واعتزاز وقوة عرفتها �أمتنا؛ حمطات جميدة من تاريخنا‬ ‫ومتدنا‬ ‫مت�سكنا بها وحفظناها‪� ،‬أن تدعمنا ّ‬ ‫ال قيمة لل�شعوب من دونها؛ حمطات كفيلة‪� ،‬إذا ما ّ‬ ‫والتجدد واملثابرة على اخللق من‬ ‫بالدفع الالزم من �أجل املبادرة والإقدام على االبتكار‬ ‫ّ‬ ‫خالل تكملة م�سرية �أ�سالفنا‪ ،‬وبهذا يكمن التطور والتقدم‪ ،‬فيقوى بذلك ال�شعور القومي‬ ‫والتعلق باللغة كعنوان وجود وهوية و�أ�صالة مت ّيزنا عن الآخرين‪ ،‬وتربز هويتنا اخلا�صة‪ ،‬وجتعلنا‬ ‫مبتكرين ولي�س جم ّرد مق ّلدين وم�ستهلكني و�أداة يح ّركها من ن�ستعري منه اللغة والعلوم‬ ‫والتقنيات‪ ،‬كما يحلو له و�ساعة ي�شاء‪ .‬فهل ركزت �شا�شاتنا و�إعالمنا ولو ن�سبياً على �إحياء‬ ‫ذكراهم؟ �إن للإعالم الدور الأبرز يف دعم اللغة العربية مادة وم�ضموناً‪ ،‬فلنعد لرباجمنا �شيئاً‬ ‫من القيم الثقافية بدل االبتذال احلا�صل‪ .‬هذا جوابنا على َمن ّيدعي تعثرّ اللغة العربية‪.‬‬ ‫وهذا ما نقرتحه للنهو�ض بها ومل يبق �إال �أن نبد�أ بالعمل‪ ،‬والعربة يف التنفيذ‪.‬‬

‫‪116‬‬


‫�أدب‬

‫الظاهرة الرحبانية‪:‬‬

‫املغيبة‬ ‫عا�صي ومن�صور وفريوز النه�ضة‬ ‫ّ‬ ‫ها�شم قا�سم ‪� -‬صحايف وكاتب‬

‫�أعرتف‪ ،‬بداية‪ ،‬ب�أين مهما ّقدمت يف هذه املحا�ضرة عن الظاهرة الرحبانية �س�أبقى مق�صراً عن‬ ‫الإحاطة التف�صيلية ال�شاملة بها‪ ،‬ب�سبب طبيعتها وغناها وت�شعبها‪ ،‬ولأنها �أي�ضاً ك ّونت مالحمها‬ ‫الفنية وبنت مداميكها اجلمالية خالل ما يقرب من �أربعة عقود من الزمن‪� ،‬أعطت خاللها‬ ‫�آالف الأغنيات وع�شرات امل�سرحيات الغنائية والربامج التلفزيونية والأفالم ال�سينمائية‪،‬‬ ‫وحوايل ‪ 400‬ا�سكت�ش �إذاعي‪ ،‬وكلها �ص ّبت يف �سياق نهو�ض فني لبناين وعربي ا�ستثنائي‪.‬‬ ‫لقد ح�ضرت الظاهرة الرحبانية يف الواجهة الإبداعية اللبنانية والعربية وحتى العاملية حلقة يف‬ ‫�شق طريقه مع م�ساهمات �أعالم كبار �سبقوها كاملعلم بطر�س الب�ستاين الذي‬ ‫�سياق نه�ضوي ّ‬ ‫دعا �إىل الوحدة وحترير املر�أة والدميقراطية والأخذ مبعطيات العلم واملعرفة‪� ،‬إ�ضافة �إىل الب�ساتنة‬ ‫الآخرين و�أحمد فار�س ال�شدياق و�إ�صالحيني تنويريني �أمثال حممد عبده والأفغاين ور�شيد‬ ‫ر�ضا والكواكبي وال�شم ّيل وفرح �أنطون و�أنطون �سعادة وغريهم‪.‬‬ ‫وعلى الرغم من الفارق الزمني الذي يف�صل بني نتاجات ه�ؤالء وبني الإبداع الرحباين‪� ،‬إال‬ ‫�أن الظاهرة الرحبانية كانت حلقة �أخرية يف �سياق النهو�ض‪ ،‬من حيث التجديد يف املو�سيقى‬ ‫والأغنية احلديثة وامل�سرح الغنائي �أو ال�شامل‪...‬‬ ‫�صحيح �أن الفعل الإبداعي الرحباين بد�أ متوا�ضعاً يف �أربعينيات القرن املا�ضي يف منطقة‬ ‫تو�سع‬ ‫�صغرية من لبنان؛ هي بلدة �أنطليا�س وبع�ض جبل لبنان ك�ضهور ال�شوير وبكفيا‪ ،‬غري �أنه ّ‬ ‫يف اخلم�سينيات وال�ستينيات لي�شمل املكان والزمان اللبنانيني ّ‬ ‫ويطل على بلدان امل�شرق‬ ‫العربي كافة‪.‬‬ ‫التموزيات" واليا�س �أبو‬ ‫مع �سعيد عقل يف دواوينه ال�شعرية وف�ؤاد �سليمان يف "درب القمر" و" ّ‬ ‫�شبكة ومارون عبود و�آخرين كان ٌ‬ ‫نهو�ض �أدبي كبري‪ ،‬وجاء الرحبانيان عا�صي ومن�صور بعد‬ ‫‪117‬‬


‫ليو�سعا الدائرة باجتاه رفع القيمة الإبداعية للعامية والأزجال والأدب‬ ‫عقد من الزمن تقريباً ّ‬ ‫ال�شعبي‪ ،‬ويط�أان �أر�ض الأدب الإذاعي عرب اال�سكت�ش وال�صياغة اللحنية ذات الوجه اجلديد‬ ‫ويف �إطار امل�سرح والغناء‪.‬‬ ‫لقد كان م�سرح املدر�سة ونادي انطليا�س والقرى املجاورة البيئة الأوىل التي انطلق منها‬ ‫الرحبانيان‪ .‬و�سرعان ما انتقل هذان ال�شرطيان عا�صي ومن�صور �إىل ميدان تعلم املو�سيقى‬ ‫مت�أثرين ببيئة والدهما حنا الرحباين الذي كان يعزف على البزق وي�ستمع �إىل �سيد دروي�ش‬ ‫وحممد عبد الوهاب و�أم كلثوم و�أبو العال حممد‪ ،‬ومبا كانت تعلمهما جدتهما غيتا بعقليني‬ ‫من �أزجال وحكايات‪ ،‬ثم �إىل تعلم املو�سيقى على يد الأب بول�س الأ�شقر ومن ثم �إىل معهد‬ ‫الألبا (‪ )ALBA‬ليتعلما �أ�صول التوزيع املو�سيقي والهارموين على يد الأ�ستاذ برتران روب ّيار‪.‬‬ ‫حتمال ذلك ب�صرب وت�ضحية و�شجاعة‬ ‫رحلة �شاقة اعرت�ضتهما خاللها �صعوبات احلياة وقد ّ‬ ‫لكي ي�صبحا مو�سيقيني وملحنني و�شاعري �أغنية وكاتبني لأعمالهما امل�سرحية الغنائية‪.‬‬ ‫مع زواج عا�صي وفريوز �سنة ‪ 1954‬بد�أت رحلة حياة ورحلة فنية يف �آن واحد‪ ،‬وبعد غناء‬ ‫تبث‪ّ ،‬حلن عا�صي �أغنيته الأوىل لفريوز‬ ‫فريوز �أغنية "بلمح بعيونو" من تلحني عا�صي التي مل ّ‬ ‫"حبذا يا غروب" من �شعر قبالن مكرزل‪ ،‬ثم ك ّرت �سبحة من الأغاين واال�سكت�شات من‬ ‫�إذاعة ال�شرق الأدنى و�إذاعتي دم�شق ولبنان‪ .‬وللحقيقة التاريخية لعب الفنان الفل�سطيني‬ ‫�صربي ال�شريف دوراً كبرياً يف تو�ضيب �أعمال فنية رحبانية وتوليفها والعمل على بناء الفرقة‬ ‫ع�سه‬ ‫املو�سيقية و�إخراج عدد كبري من �أعمالهما امل�سرحية الغنائية‪ .‬كذلك‪ ،‬لعب �أحمد ّ‬ ‫مدير �إذاعة دم�شق منذ بداية اخلم�سينيات دوراً كبرياً �آخر يف تبني النف�س الرحباين اجلديد‬ ‫والر�ؤية الرحبانية اجلديدة وبث الأغاين الرحبانية‪ -‬الفريوزية ب�شكل مركز من �إذاعة دم�شق‬ ‫التي كانت �أقوى الإذاعات يف امل�شرق العربي‪.‬‬ ‫منذ بداية ال�ستينيات بد�أ التحول الكبري يف الظاهرة الرحبانية عرب العمل على بنية مو�سيقية‬ ‫وغنائية جديدة جتاوزت نظام التخت ال�شرقي العربي �إىل ا�ستخدام الآالت املو�سيقية التي‬ ‫مل تكن م�ستخدمة والتوزيع املو�سيقي والن�ص الكالمي النرثي وال�شعري والعامي‪ ،‬فكانت‬ ‫�أعمال مهمة توقّف عندها بالتقدير ك ّتاب ومو�سيقيون عرب كبار �أمثال حممد عبد الوهاب‬ ‫وفريد الأطر�ش و�أم كلثوم وعدد من النقاد املو�سيقيني �أمثال جناة ق�صاب ح�سن و�صلحي‬ ‫‪118‬‬


‫�أدب‬

‫الوادي و�صميم ال�شريف‪ ،‬كذلك �شعراء وك ّتاب �أمثال �أن�سي احلاج وجورج �شحادة وع�صام‬ ‫حمفوظ وخالدة �سعيد وبول�س �سالمة ونزار قباين وتوفيق احلكيم وبدوي اجلبل وغريهم‪.‬‬ ‫�أما �أبرز �سمات الظاهرة الرحبانية‪:‬‬ ‫‪ - 1‬نقل عامية الريف �إىل لغة فنية عملت على وحدة الكالم اللبناين‪ .‬وقد حدث هذا بنب�ش‬ ‫جماالت الفولكلور ال�شرقي اللبناين والعربي وتقدميه ن�صو�صاً غنائية و�أعما ًال راق�صة‪ ...‬وكان‬ ‫هم الرحبانيني بناء لبنان وهويته الثقافية والفنية على قيم الت�سامح والعي�ش الواحد‪ ،‬خا�صة‬ ‫يف ٍ‬ ‫بلد مع ّر�ض لالنفجارات واالهتزازات امل�ؤملة‪ ،‬ويف بلد كان كيانه كوليد حديث بحاجة‬ ‫قوية �إىل جمع املبعرث والفئات املتباينة �إ�ضافة �إىل رف�ض العنف والظلم واال�ستبداد‪ .‬و�أعمال‬ ‫"مو�سم العز" و"جبال ال�صوان" و"�أيام فخر الدين" و"ج�سر القمر" و"ناطورة املفاتيح" مناذج‬ ‫�صريحة يف هذا ال�سياق‪.‬‬ ‫‪ - 2‬ابتعدت الظاهرة الرحبانية يف �أعمالها عن الكالم العابر متبنية الن�ص الأدبي الأجمل‬ ‫والأبقى من �شعر �سعيد عقل ومي�شال طراد واليا�س �أبو �شبكة وميخائيل نعيمة و�إيليا �أبو‬ ‫ما�ضي والأخطل ال�صغري وجربان خليل جربان‪ ،‬كما قامت بتلحني عيون ق�صائد �شعراء‬ ‫عرب �أمثال بدوي اجلبل ونزار قباين وطالل حيدر وابراهيم طوقان وعبد العزيز الكرمي‪...‬‬ ‫ويف مراجعة �شاملة دقيقة لبع�ض الظاهرة الرحبانية ال�شعري‪ ،‬جند مروحة وا�سعة من تلحني‬ ‫�أجمل ال�شعر العربي الكال�سيكي بدءاً من الع�صر اجلاهلي‪ ،‬مروراً بالع�صرين الأموي‬ ‫والعبا�سي وانتهاء باملو�شحات الأندل�سية‪.‬‬ ‫‪ - 3‬يف �إطار املو�شحات وجتديد �صيغة تقدميها ّحلن الرحبانيان مو�شحات لكبار الو�شاحني‬ ‫الأندل�سيني �أمثال احلفيد بن زهر ول�سان الدين اخلطيب وابن �سناء امللك و�صدر الدين‬ ‫الوكيل‪ .‬والإ�شارة �ضرورية هنا �إىل �أن الرحبانيني‪ ،‬بدءاً باالعتناء باملو�شحات وتلحينها منذ‬ ‫بداية اخلم�سينيات فكانت جمموعة منها مع ح�سن عبد النبي و"�صاحب الليل" مع ملحم‬ ‫بركات واملجموعة‪ ،‬ثم جاءت فيما بعد مو�شحات "جادك الغيث" لل�سان الدين اخلطيب‬ ‫ال�صب" للقريواين احل�صري و�أخرى من ت�أليفهما وت�أليف رفيق خوري‪.‬‬ ‫‪ 1960‬و"يا ليل ّ‬ ‫ويف هذا ال�سياق وغريه من الألوان الأدبية والفنية‪ ،‬تعاون الرحبانيان مع باقة من كبار املغنني‬ ‫واملطربني واملو�سيقيني �أمثال وديع ال�صايف و�صباح ون�صري �شم�س الدين والكبريين اليا�س‬ ‫‪119‬‬


‫الرحباين وزياد الرحباين‪ ،‬بالإ�ضافة �إىل ممثلني كبار مثل �أنطوان كرباج وروجيه ع�ساف ومادونا‬ ‫غازي‪ .‬ومن املفيد ذكر بع�ض املغنني كجوزف عازار وجوزف �صقر وهدى وجوزف نا�صيف‬ ‫وحممد غازي وحممد مرعي‪...‬‬ ‫‪� - 4‬إذا جتاوزنا �أعمال الرحبانيني الأوىل‪ ،‬قام م�سرحهما الغنائي وال�شامل ح�سب تعبري من�صور‬ ‫الرحباين على القواعد واملبادئ املو�سيقية العلمية احلديثة‪ .‬فهما ا�ستخدما الأورك�سرتات‬ ‫ال�صغرية والكبرية بهدف �إبراز املحتوى الدرامي للجانبني املو�سيقي والنرثي وال�شعري‬ ‫والعالقة بينهما‪ ،‬وما تتطلبه �ضرورات التعبري املو�سيقية‪ .‬وهكذا قام العمل املو�سيقي والغنائي‬ ‫على قاعدة التوزيع‪ .‬وا�ست�شهد هنا مبا قالته �أم كلثوم لعا�صي الرحباين‪�" :‬أنت �أف�ضل من‬ ‫و ّزع املو�سيقى يف العامل العربي"‪ ،‬ول�شدة �إعجاب حممد عبد الوهاب بالتوزيع الرحباين‬ ‫للمادة املو�سيقية‪ ،‬قام الرحبانيان بطلب منه بتوزيع "�سهار بعد �سهار" و"م ّر بي" و"�سكن الليل"‬ ‫و"خايف �أقول اللي يف قلبي" ون�شيد "طول ما �أملي معاي" الذي كتب عبد الوهاب مو�سيقاه‬ ‫يف مكتب الرحبانيني‪.‬‬ ‫‪ - 5‬بناء املحتوى الدرامي على م�ضمون الن�ص وو�ضع املجتمع وق�ضاياه‪ .‬فامل�سرح الغنائي‬ ‫الرحباين عالج بعمق ق�ضايا النا�س جميعاً كال�سكري والناطور ورئي�س البلدية واملختار واخل ّياط‬ ‫والك ّنا�س والعربجي والباعة واملجنون واالنتهازي واحلاكم والديكتاتور واحلرامي‪ .‬ونن ّوه ب�أن‬ ‫الرحبانيني �أوجدا لكل �شخ�صية لغتها ومالحمها‪ ،‬وكذلك اللحن املنا�سب واملو�سيقى‬ ‫اخلا�صة بها وموقعها يف الدراما امل�سرحية‪ .‬وهكذا كان م�سرحهما اجتماعياً بامتياز‪ ،‬و�أخالقياً‬ ‫بامتياز �آخر لأنهما بنيا عملهما على قيم مثالية ووطنية و�إن�سانية‪ .‬ويف ال�سياق كتب الرحبانيان‬ ‫�أغنيات للباعة والكنا�سني كما يف "ال�شخ�ص" ولعمال الطرقات كما يف "بياع اخلوامت"‪.‬‬ ‫‪ - 6‬قدم امل�سرح الرحباين الغنائي وال�شامل جمموعة من الن�صو�ص الغنائية الوطنية اللبنانية‬ ‫والعربية‪ .‬فهناك حوايل ‪� 300‬أغنية وطنية عن لبنان وحوايل ‪� 30‬أغنية عن فل�سطني وحترير‬ ‫اجلزائر‪ .‬و�أذكر هنا �أغنيتني غري معروفتني وال تذاعان �إطالقاً وهما "جميلة" عن الثورة‬ ‫اجلزائرية‪ ،‬و"�سافرت الق�ضية" عن فل�سطني‪ ،‬بالإ�ضافة �إىل �أكرث من ع�شر �أغانٍ فل�سطينية‬ ‫�ساعدت يف تكوين ال�شخ�صية الوطنية العربية يف بعدها الفل�سطيني من مغناة "راجعون"‬ ‫‪� 1954‬إىل "القد�س العتيقة" و"احرتف احلزن واالنتظار" و"زهرة املدائن" و"ردين �إىل بالدي"‬ ‫و"�سرنجع يوماً" ويقول ال�شاعر حممود دروي�ش‪ّ " :‬قدم الرحبانيان‪ ،‬فنياً‪ ،‬لفل�سطني ما مل يقدمه‬ ‫‪120‬‬


‫�أدب‬

‫الفل�سطينيون �أنف�سهم‪ .‬ولقد �أ�شهر الفل�سطيني هويته اجلمالية بالأغنية الرحبانية العربية…"‪،‬‬ ‫ويف جمال االعتناء الرحباين بالأغنية العربية غ ّنت فريوز من �شعر �سعيد عقل والرحبانيني‬ ‫باقة من �أغانيها للمدن العربية كدم�شق (ق�صائد ل�سعيد عقل والأخطل ال�صغري) وبريوت‬ ‫وعمان والكويت‪ ،‬لكن من زاوية حمددة هي �إبراز هوياتها ومكانتها التاريخية‬ ‫وبغداد وم�صر ّ‬ ‫واحل�ضارية دون �أي تز ّلف �أو حماباة‪.‬‬ ‫‪� - 7‬إزاء الأمل وال�ضياع اللذين كان يتخبط فيهما املجتمع اللبناين وامل�شرق العربي وب�سبب‬ ‫تر�سخ �إميان الرحبانيني وفريوز‪ ،‬كتب الرحبانيان و�سعيد عقل ن�صو�صاً ذات طبيعة �إميانية‬ ‫خال�صة تنادي اهلل وتطلب منه �أن يتدخل‪� ...‬إىل اهلل "�ساكن العايل" يف "�أيام فخر الدين"‬ ‫و�إىل اهلل يف "�شم�س امل�ساكني" يف "ناطورة املفاتيح"‪ ،‬و�إليه �أي�ضاً يف "جبال ال�صوان" من خالل‬ ‫�أغنية "�ساعدين يا نبع الينابيع"‪ .‬ويتبدى من خالل مراجعة الأغاين الدينية التي بلغ عددها‬ ‫ت�سعني �أغنية‪ ،‬بع�ضها كتبه �سعيد عقل والرحبانيان‪ ،‬كما ذكرنا‪ ،‬وبع�ضها الآخر منتقى من‬ ‫الن�صو�ص الدينية من الأدب الديني امل�سيحي‪ .‬ومن ق�صيدة "غنيت مكة" ل�سعيد عقل‪:‬‬ ‫هم بي�ضاً فال ف ّرقت �أو �سودا‬ ‫و� ِأع ّز ربي َ‬ ‫النا�س ك ّل ُ‬ ‫وبالطبع ف�إن لهذا البيت معناه العميق والكا�شف لأمرا�ضنا احلالية و�صراع الع�صبيات يف‬ ‫�أنواعها كافة‪� ،‬إن �صالة فريوز جرت يف كل مكان منا�سب للعبادة‪ :‬البيت‪ ،‬املعبد‪ ،‬اجلبال‬ ‫وعند تخوم ال�سماء والظالل ومعامل اخللق‪.‬‬ ‫بن�ص � ّأخاذ غنته فريوز هو‪:‬‬ ‫ونعود لال�ست�شهاد ٍ‬ ‫�أومن �أن خلف الريح الهوجاء �شفاه تتلو ال�صالة‬ ‫�أومن �أن يف ِ‬ ‫املقفل من ي�صغي يل‬ ‫�صمت الكون ِ‬ ‫ويف هذا ال�سياق الإمياين غ ّنت فريوز ل�سيد دروي�ش‪" :‬ال�شم�س طلعت وامللك هلل" و"اجري‬ ‫لرزقك خليها ع اهلل"‪ ،‬و"ياهلل بنا على باب اهلل" ومن �أغانيها ذات الطابع الإمياين �أي�ضاً �أغنية‬ ‫"بعلبك �أنا �شمعة على دراجك‪� ...‬أنا نقطة زيت ب�سراجك"‪ ،‬ووا�ضح هنا معنى ال�شمعة‬ ‫والزيت وال�سراج يف الأدب الإمياين امل�سيحي‪.‬‬ ‫‪� - 8‬أبدعت الظاهرة الرحبانية يف �إطار م�سرحها الغنائي ن�صاً ومو�سيقى وغنا ًء‪� ،‬صيغة فنية‬ ‫‪121‬‬


‫جديدة متطلعة وذات �أبعاد جتديدية من حيث ر�ؤيتها االجتماعية والإن�سانية بت�أكيدها على‬ ‫�شرف العمل والعطاء ك�سقي املزروعات والغزل على املغزل واحلياكة على النول‪� ،‬إ�ضافة �إىل‬ ‫االحتفال ب�أعياد القطاف واحلرير يف �إطار املواويل والأزجال والأغاين واملو�سيقى املرافقة‪ .‬ويف‬ ‫هذا ال�صدد جند �شبكة وا�سعة من الأغاين الرومان�سية واالجتماعية والفولكلورية والأنا�شيد‬ ‫الع�سكرية و�أغاين البحارة وال�صيادين‪ ،‬وبع�ضاً مهماً من الأغاين ذات الطابع البدوي‪ .‬ك�أننا‬ ‫�أمام منظومة غنائية �أم�سكت بقلب امل�سرح الغنائي الرحباين فنياً وجمالياً‪.‬‬ ‫‪ - 9‬ح ّيد الرحبانيان وفريوز عملهم عن التطبيل للحاكم وا�سرت�ضائه كما يجري اليوم من‬ ‫قبل "مغني" الأغنية الهابطة‪ ،‬فكان رف�ض الغناء للحكام‪ .‬فقد رف�ضوا �أن حتيي فريوز حفلة‬ ‫للرئي�س التون�سي احلبيب بورقيبة‪ ،‬وكذلك رف�ضوا طلب الرئي�س اليا�س �سركي�س �إحياء حفلة‬ ‫مبنا�سبة انعقاد م�ؤمتر القمة العربية يف القاهرة‪ .‬وجتدر الإ�شارة هنا �إىل �أن فريوز منعت من‬ ‫الظهور على �شا�شة التلفزيون ال�سعودي �إىل �أن �أدت "غنيت مكة �أهلها ال�صيدا" ل�سعيد عقل‪.‬‬ ‫‪ - 10‬لعبت فريوز يف التجربة الرحبانية دوراً تكامل معها و�أعطاها زخمها وح�ضورها الوا�سع‬ ‫وامل�ؤثر‪ .‬فالدور الإبداعي الرحباين ا�ستكمل نف�سه مع فريوز وت�ألق‪ .‬ويف حوايل �ألفي �أغنية‬ ‫�أدتها فريوز كان �صوتها كما يقول �أن�سي احلاج �صوتاً يح ّرر الإن�سان من �آثام الب�شاعات املوروثة‬ ‫كما ميثل التعوي�ض عن الأحالم‪ ،‬وبغ�ض النظر عن طاقة هذا ال�صوت وات�ساعه‪ ،‬ف�إنه ّ‬ ‫تخطى‬ ‫بح�سا�سيته و�إرهافه وعمقه ودالالته امل�ستع�صية كل عادي وتقليدي وعابر‪ .‬ومن خالل الر�ؤية‬ ‫الرحبانية �أخرجت فريوز الغناء العربي ككل من دائرة الطرب اخلارجي �إىل دائرة الوجدان‬ ‫وجذور الروح يف بعدها الإن�ساين واالجتماعي‪ .‬ويف هذا اخل�صو�ص كتب امل�سرحي الكبري‬ ‫جورج �شحادة‪� :‬صوتها �صوت املالئكة‪ .‬ال منلك ر�ؤية للمالئكة‪ ،‬لكن يحدث �أحياناً �أن‬ ‫ن�سمعها تغني‪ .‬وي�ضيف حممود دروي�ش‪� :‬أغنية فريوز هي الأغنية التي تن�سى �أن تكرب "هي‬ ‫الأغنية التي جتعل ال�صحراء �أ�صغر والقمر �أكرب"‪.‬‬ ‫�أما حممد عبد الوهاب فيقول‪" :‬عندما ن�ستمع �إىل �صوت فريوز يخ ّيل لك �أنه م ّر يف م�صفاة‬ ‫بحيث ي�صل �إىل امل�ستمع نقياً خالياً من �أي �شائبة‪ ،‬فريوز جميدة يف كل ما تقدمه ومطربة‬ ‫عظيمة وا�ستثنائية"‬ ‫كل ما قلناه عن �صوت فريوز و�أدائها يبقى مق�صراً عن الإحاطة ب�أبعاده ودالالته ومنوذجه‬ ‫‪122‬‬


‫�أدب‬

‫الفريد يف الغناء اللبناين والعربي‪ .‬لهذا ّ‬ ‫�شكل قلب الظاهرة الرحبانية الغنائية من حيث‬ ‫الغناء والأداء‪ ،‬و�إذا كان العمل الإبداعي الرحباين ا�ستثنائياً يف تاريخ مو�سيقانا وم�سرحنا‬ ‫الغنائي‪ ،‬ف�إن �صوت فريوز كان معاد ًال غنائياً و�أدائياً ملبياً ومكم ًال له و�إحدى دعائمه‪ ،‬خ�صو�صاً‬ ‫�أنه جاء من التعبري الدرامي ال�صادر من الداخل ومن الفرح الو�سيع واحلب واحلزن العميق‬ ‫وال�صالة‪ ،‬مقاوماً الوح�شة والظلم وم�ؤكداً على ال�سالم والوحدة‪.‬‬ ‫‪ - 11‬الظاهرة الرحبانية منوذج ا�ستثنائي وفريد يف م�سرية احلداثة الفنية العربية التي بد�أها‬ ‫�سيد دروي�ش يف الربع الأول من القرن الع�شرين وتوقفت بعد رحيله �إىل �أن جاء الرحبانيان‬ ‫وا�ست�أنفا هذه امل�سرية من لبنان بتجربة فريدة ورائدة‪ ،‬خا�صة �أنها كانت متعددة الأبعاد‬ ‫املو�سيقية وال�شعرية والفولكلورية واالجتماعية وامل�سرحية‪.‬‬ ‫‪ - 12‬من يراجع معظم الأعمال امل�سرحية الغنائية الرحبانية �سيجد �أنها احت�ضنت وقدمت‬ ‫جميع �أنواع الزجل بحلة جديدة موقّعة يف الإطار الغنائي وامل�سرح على ٍ‬ ‫حد �سواء‪ ،‬وبذلك‬ ‫�أ�صبحت جزءاً ع�ضوياً من الن�ص امل�ؤدى‪.‬‬ ‫وقد انطلق الرحبانيان يف عملية حتديث الأزجال من تراث لبناين عريق‪ .‬وعلى �سبيل املثال‬ ‫نذكر زجلية ابن القالعي وزجلية �سليمان الأ�شلوحي و�أزجال بول�س ال�شاعر وعلي عجمي‬ ‫وموري�س ع�ضيمي وغنطو�س نكد و�أيوب ثابت وعبد اهلل غامن و�أ�سعد �سابا و�أ�سعد ال�سبعلي‬ ‫وغريهم‪.‬‬ ‫ولقد ا�ستغل الرحبانيان جميع �أنواع الزجل ل�صوغ الأغنية ال�شعبية‪ ،‬فكانت امليجانا والعتابا‬ ‫و�أبو الزلف والقرادي واملواويل والغز ّيل والدلعونا وغريها‪:‬‬ ‫من �أبو الزلف تغني فريوز‪:‬‬ ‫املطلع‪ /‬هيهات يا بو الزلف عيني يا موليا حمال الوما بالوما وحمال العزوبيا‪ ...‬الدور‪ /‬ورحت‬ ‫انا لعندكن قبل الع�شا بنتفي‬ ‫ولقيتكن ناميني و�سراجكن مطفي‬ ‫ّمديت ايدي ع احلبق‬ ‫‪123‬‬


‫القطف �أين قطفي‬ ‫�صاحت بنتا ّلكن ّميا ميا حراميا‬ ‫ومن القرادي‪:‬‬ ‫املطلع‪/‬‬ ‫باب البوابي ببابني‬

‫قفويل ومفاتيح جداد‬

‫عالبوابي يف عبدين‬

‫الليل وعنرت بن �شداد‬

‫الدور‪/‬‬ ‫حلوي و�شباكني ودار العا�شق غط العا�شق طار‬ ‫نغمي ونار وعوادين‬

‫عوادين ونغمي ونار‬

‫ونارين ونغمي وعواد‬ ‫ومن املواويل‪:‬‬ ‫�أوف �أوف �أوف‬ ‫غرب احل�سون والزنبق تكي‬

‫وت�شرين عم يجمع الزهر الليلكي‬

‫ما عاد حترز هيك قال �شو بني كرتت ق�ص�صنا وما بقى ي�ساع احلكي �أوف‬ ‫ومن العتابا البدوية‪:‬‬ ‫يا مركب الريح خلي البحر‬ ‫من طول فرقاه‬

‫‪124‬‬

‫و�إنزل َع َبر‬ ‫دمعي فوق خدي َعرب‬

‫حبيت والدهر‬

‫ع ّلمني بحبو ِعب‬

‫�شرع �شراع ال�سفر‬

‫عالهجر قلبو نوى‬


‫�أدب‬

‫عهد الهوى يا قلب‬

‫ما عاد منو نوى‬

‫وملا التقينا لقينا العمر وىل وعرب‬ ‫‪ - 13‬ع�صرنت الظاهرة الرحبانية الرق�ص الفولكلوري ونقلته من �صيغته ال�شعبية القروية‬ ‫التقليدية �إىل �صيغة مولفة وحمدثة مبنية على الأ�صالة‪ ،‬ا�ستعانت بالفنان عبد احلليم كركال‬ ‫يف "جبال ال�صوان" و"ناطورة املفاتيح" و"برتا" و"نا�س من ورق" و"املحطة" وغريها‪ ،‬الذي عالج‬ ‫يف ت�شكيالته مادة الرق�ص الفولكلوري وح ّولها ت�شكيالت وتوليفات حركية فنية جمعت بني‬ ‫نب�ض الرق�ص احلديث واملادة ال�شعبية اللبنانية الراق�صة‪.‬‬ ‫�أما الفنان فهد عبد اهلل يف "لولو" و"مي�س الرمي"‪ ،‬فقدم فولكلورنا الراق�ص ب�أ�صالته دومنا‬ ‫تغريب فظ ومك�شوف‪ ،‬وحافظ بدراية ورهافة على �أن يكون الرق�ص جزءاً عميقاً من امل�شهدية‬ ‫الب�صرية الدرامية‪ .‬وتتوجب الإ�شارة هنا �إىل م�ساهمات �سيمون عواد و�شبل و�سمرية بعقليني‬ ‫وفاديا احل�سيني و�إىل م�صممي الأزياء �أمثال بابو حلود‪ ،‬وم�صممي امل�شاهد امل�سرحية �أمثال‬ ‫الفنان الراحل غازي قهوجي‪.‬‬ ‫‪ - 14‬نقد امل�سرح الرحباين الف�ساد بكل �أ�شكاله كما يف "ال�شخ�ص" و"نا�س من ورق"‪ ،‬كما‬ ‫دان تزوير االنتخابات يف البلدان العربية و�أنظمة الت�سلط والديكتاتورية يف "يعي�ش يعي�ش"‬ ‫ويف "لولو" ويف �سياق قراءة عميقة للواقع اللبناين تنب�أ الرحبانيان باندالع احلرب اللبنانية �إذ‬ ‫تقول فريوز‪:‬‬ ‫خل�صت احلفلة‪ ،‬خدنى لعندك يا جدي‬ ‫املجنون �إلو حق يحاكم العامل‬ ‫طيارات رمادية ِمتل الترَ َغل‬ ‫انفجار القنابل ِف�ضي بلون ال�شم�س‬ ‫نا�س باخلنادق‬ ‫نا�س بالبارات‬ ‫العدالة كرتون‬ ‫‪125‬‬


‫احلرية كذب‬ ‫�صار احلب�س كبري‬ ‫وكل حكم بالأر�ض باطل‬ ‫ح ّلو يطلع ال�ضو‪ ..‬كا�سك يا جدي‬ ‫�أرادت هذه املحا�ضرة و�صل ما انقطع‪ ،‬خ�صو�صاً �إزاء هذا الكم الفظيع من الغناء الهابط‬ ‫واملو�سيقى املق ّلدة والأ�صوات املتعرثة التي حتا�صرنا اليوم يف �آالف الأ�شرطة املتهاوية وبرامج‬ ‫و�سائل الإعالم املرئي واملخفي‪ .‬ك�أن خط النهو�ض الفني الذي مثلته وقدمته الظاهرة الرحبانية‬ ‫وجمموعة من املو�سيقيني اللبنانيني الكبار �أمثال اليا�س الرحباين وزياد الرحباين وتوفيق‬ ‫البا�شا ومار�سيل خليفة انقطع عن م�ستقبله‪ ،‬وك�أن خط النهو�ض يف امل�سرح الغنائي الرحباين‬ ‫الذي ت�ألق منوذجاً وحيداً يف العامل العربي لثالثني �سنة �أو �أكرث انقطع �أي�ضاً وتوقف‪� .‬أما‬ ‫�أ�سباب ذلك فيتقدمها �سقوط م�شروع النهو�ض و�شراء البع�ض للتدخل الأجنبي و�سيا�سات‬ ‫الهدر والتفريط بكل ثروات البالد وت�شجيع ال�ساقط واملبتذل وعلو كعب الطائفية واملذهبية‬ ‫والف�ساد والإرهاب‪...‬‬ ‫يقول الإمام ال�شافعي‪ :‬من اجتهد و�أ�صاب فله �أجران ومن �أخط�أ فله �أجر واحد‪ ...‬و�أنا‬ ‫حاولت‪.‬‬

‫‪126‬‬


‫�أدب‬

‫�آليات دخول احلداثة الت�شكيلية �إىل لبنان‪:‬‬

‫من املتطلبات الدينية واالجتماعية �إىل البعدين الأكادميي وال�سلعي‬ ‫د‪.‬عادل قديح ‪ -‬فنان ت�شكيلي لبناين وباحث يف الفنون الب�صرية‬

‫ا�ستقرت الثقافة العربية على ثباتها فرتة طويلة من الزمن قبل ال�سيطرة الأوروبية على منطقة‬ ‫ال�شرق العربي‪ .‬بقيت �أمينة ملعايري مل تتبدل �إال بحدود مقبولة جعلها حتافظ على جوهرها‪.‬‬ ‫لكن تعرف بع�ض املثقفني واملفكرين العرب �إىل الثقافة الأوروبية والتعمق بها‪� ،‬ساعد على‬ ‫اعرتافهم بتفوق الفكر الغربي وجعلهم يتحم�سون لالنخراط يف تغيري البنى الثقافية التي‬ ‫فر�ضها العثمانيون‪ ،‬تبنوا هذا الفكر �أو حيزاً رئي�سياً منه‪ ،‬موقنني �أن ذلك ي�شكل الطريق‬ ‫الأوحد نحو تقدم البالد‪ ،‬م�شابه لذلك الذي نالته املجتمعات الغربية‪ .‬لذا �أنتجوا ثقافة‬ ‫تتماهى مع الثقافة الغربية يف احلقول الأدبية والفنية املختلفة‪ ،‬متخلني‪ ،‬يف ذلك‪ ،‬عن حيز‬ ‫وا�سع من تراثهم الأدبي والفني‪� .‬صحيح �أن ذلك �أر�سى �أمناطاً جديدة من الثقافات‪� ،‬إال �أنها‬ ‫بدت للوهلة الأوىل هجينة �أو هي يف �أح�سن احلاالت تقليداً ملا �ساد يف الغرب‪.‬‬ ‫دخل فن احلامل �أو فن امل�سند �إىل منطقة ال�شرق العربي مت�أخراً جداً على انطالقته يف‬ ‫الغرب‪ ،‬ومل نتعرف �إىل فنانني عرب عملوا ب�شكل �صريح وفقاً لهذا الأ�سلوب �إال يف نهايات‬ ‫القرن التا�سع ع�شر ومطالع القرن املا�ضي‪ ،‬متخلني يف ذلك عن الفنون الرتاثية التي كانت‬ ‫موجودة يف جمالهم‪ ،‬والتي جتلت يف لبنان بالفنون الإ�سالمية والبيزنطية والأرثوذوك�سية‬ ‫والفن البحري املبني على الأ�سلوب العثماين‪� .‬أدى هذا التحول �إىل نكران رعيل من‬ ‫"املتحولني العرب" وجود فن ت�شكيلي �سابق على الفن الأوروبي يف بالدهم‪ ،‬معتربين �أن‬ ‫�ساحتهم كانت فارغة من عملية الإبداع‪ ،‬و�أن تبني هذه الفنون من دون �أدنى تعديل يعنى‬ ‫بداية العمل على ت�أ�سي�س فن ت�شكيلي �إبداعي‪ ،‬وذلك رغم وجود فن تراثي كان اليزال حياً‬ ‫ويعمل به يف جماالت خمتلفة‪� .‬أدى كل ذلك‪ ،‬يف البدء‪� ،‬إىل االن�صراف عن الرتاث‪ ،‬و�إىل‬ ‫الأخذ بالأ�ساليب الغربية واللحاق بها ب�شكل تبعي‪.‬‬ ‫‪127‬‬


‫‪ - 1‬الفن الت�شبيهي والطوائف اللبنانية‪ ‬‬

‫�شهد امل�شهد الت�شكيلي يف لبنان تغريات مهمة بدلت من �آليات التعبري الفني‪ .‬فقد كان‬ ‫املوقف يف الو�سط ال�سني اللبناين راف�ضاً للفن الت�شبيهي ب�شكل عام‪ ،‬عانى الفنان م�صطفى‬ ‫فروخ (‪ )1957 - 1901‬من رف�ض و�سطه املبني على قاعدة "منع" الت�صوير الت�شخي�صي‪،‬‬ ‫وذلك منذ �صغره‪ .‬وعلى الرغم من �أن بع�ضاً من املو�ضوعات العائدة للفن الغربي ت�سللت‬ ‫�إىل �أو�ساط الربجوازية ال�سنية والفئات املدينية التي ت�أثرت بالثقافة الغربية‪ ،‬ف�إن املوقف‬ ‫العام من الت�صوير الت�شبيهي كان متزمتاً بع�ض ال�شيء‪ .‬ومبا �أن فروخ يف �صباه ملأ اجلدران‬ ‫والأوراق بخطوطه ور�سوماته‪ ،‬فقد نهاه رجال الدين ال�سنة عن "هذه العادة ال�سيئة"( )‪ ،‬خا�صة‬ ‫يف الك ّتاب الذي كان ي�ؤمه ليتعلم فيه الدين وقراءة القر�آن‪� ،‬إىل �أن جاءه �شيخ م�صلح �شجعه‬ ‫على امل�ضي يف م�ساره الفني‪ .‬فلوال حركة الإ�صالح ورجال الدين امل�صلحني ال�ستمر موقف‬ ‫املنع‪ ،‬رمبا‪ ،‬ل�سنوات طوال‪.‬‬ ‫‪1‬‬

‫�أما يف الو�سط ال�شيعي‪ ،‬فقد اختلف املوقف جزئياً عن املوقف ال�سني من الر�سم الواقعي‪،‬‬ ‫وخا�صة املوقف الفقهي‪ .‬لذلك ر�أينا �صوراً ور�سومات للنبي حممد والإمام علي وولديه‬ ‫الإمامني احل�سن واحل�سني‪ ...‬على �أنه ينبغي التذكري ب�أن امل�ساجد واجلوامع ال�شيعية خلت‬ ‫من كل الر�سوم الإن�سانية واقت�صرت عملية التزيني على فني اخلط والزخرفة‪ ،‬بينما تواجدت‬ ‫هذه ال�صور يف الأندية احل�سينية‪ .‬وال يذكر التاريخ الذي لدينا �أي دور لعبته الربجوازية‬ ‫ال�شيعية يف ت�شجيع فنانني على اعتماد الأ�ساليب الغربية يف الفن‪ ،‬با�ستثناء ما طلبه الوجيه‬ ‫البريوتي ال�شيعي ر�شيد بي�ضون من م�صطفى فروخ �إجناز ر�سم �شخ�صي له مقابل بدل مايل‬ ‫معني‪ .‬ويعتقد �أحد املراجع الدينية ال�شيعية العالمة ال�سيد ح�سني ف�ضل اهلل �أن "امل�صورين‬ ‫الذين ي�صورون �شيئاً من الوجود ف�إنهم ميثلون ال�صورة التي �سبقتهم يف الواقع �أو يف حركة‬ ‫الفكر‪� .‬أما خ�صو�صية اهلل اخلالق‪ ،‬البارئ‪ ،‬فهو الذي يخلق ال�صورة من غري مثال‪ ،‬وهو الذي‬ ‫يبدعها ويوجدها"( )‪ ،‬ويتابع بالقول "‪ ...‬ومنطق ذلك هو من اهلل الذي خلق (للإن�سان)‬ ‫عق ًال وهي�أ له كل واقع التجربة التي ا�ستمد منها هذه اللفتات والإيحاءات"( )‪ ،‬كما يكمل‬ ‫"وكذلك ال جند لل�صورة �أية �سلبية"( )‪ ،‬وفيما يخت�ص بت�صوير �صور للأئمة يقول "‪ ...‬لي�ست‬ ‫لدينا م�شكلة حتى لو �أنها �صور للإمام علي‪ ...‬وال نرف�ض �أ�صل ال�صورة‪ ،‬ولكن نرف�ض �شكل‬ ‫ال�صورة على �أنها ال تتنا�سب مع الآفاق التي يعي�شها الإمام علي‪ ،‬لأن ال�صورة ال بد �أن تنقل‬ ‫‪2‬‬

‫‪3‬‬

‫‪4‬‬

‫‪128‬‬


‫�أدب‬

‫الأفق‪ ،‬من هذه الناحية ال م�شكلة‪ .) ("...‬ويف الو�سط الدرزي ال يذكر التاريخ �أن نزوعاً تكون‬ ‫لدى الربجوازية الدرزية‪ ،‬املتحدرة ب�أكرثيتها من رحم الإقطاع (املقاطعجية)‪ ،‬نحو اقتناء ر�سوم‬ ‫و�صور فنية ومنحوتات‪� ،‬أو احل�ض على ر�سمها وت�شكيلها وم�ساعدة املبدعني الدروز يف هذا‬ ‫املجال‪ .‬ومن امللفت �أننا مل نقر�أ يف التاريخ موقفاً من الزعماء والأعيان الدروز �ضد ا�ستقدام‬ ‫الأمري فخر الدين لبع�ض الر�سوم والتماثيل من �إيطاليا‪ ،‬بل �إن ال�صراع مع املوارنة كان بعده‬ ‫الأ�سا�سي �سيا�سياً واجتماعياً �أكرث منه ديني‪ .‬لكن �أحاديث دارت بيننا وبني بع�ض املثقفني‬ ‫الدروز حول اقتناء ال�صور والأعمال الفنية‪ ،‬وتعليقها على جدران منازل درزية �أو�صلتنا �إىل‬ ‫قناعة �أن غالبية البيوت الدرزية خلت من الر�سوم وال�صور يف نهايات القرن التا�سع ع�شر‬ ‫ومطالع القرن الع�شرين‪ ،‬با�ستثناء �صور فوتوغرافية لبع�ض الأجالء من رجال العقل‪ ،‬وبع�ض‬ ‫الآيات القر�آنية‪ ،‬ذلك لأن املذهب الدرزي يح�ض على التق�شف والورع واالن�صراف عن‬ ‫�أي زخارف وتالوين‪ .‬لكن امللفت عند الكثري من متذوقي الفن لديهم حبهم ال�شديد‬ ‫للخط العربي‪ ،‬حيث �إن عدداً من امل�شايخ �أجاد اخلط واحرتف �صناعته كمهنة فنية وتفاخر‬ ‫بها‪ .‬وعندما نتحدث‪ ،‬مع مريدي الفن الت�شكيلي منهم‪ ،‬عن اخلط العربي وجمالياته ت�شرق‬ ‫عيونهم وتبت�سم م�آقيهم‪.‬‬ ‫‪5‬‬

‫ويف املوقف الفقهي رفع قائمقامية �شيخ عقل املوحدين الدروز يف لبنان ثالث الءات‪" :‬ال‬ ‫جت�سيد‪ ،‬ال متثيل‪ ،‬وال ر�سم وت�صوير للأنبياء �أو املالئكة"( )‪ ،‬وعلى الرغم من وجود فنانني دروز‬ ‫عملوا يف جمال الر�سم الت�شبيهي والنحت الت�شخي�صي ف�إن �شيخ العقل ي�ضيف‪" :‬نحن ال‬ ‫ت�ستهوينا هذه الأمور‪ ...‬ال نحبذ وال نقر جت�سيد �أو متثيل �أو ت�شخي�ص الأنبياء والر�سل من‬ ‫خالل ر�سمهم وت�صويرهم لتجنب �إثارة امل�شاعر والنعرات والغرية والعفوية‪� .) ("...‬أما يف‬ ‫الو�سط امل�سيحي العام فكان الو�ضع �أقل تزمتاً‪ ،‬وذلك لأن ال�صورة كان لديها فعل قد�سي‪،‬‬ ‫يتم تلقني التعاليم الدينية بوا�سطة ال�صورة‪ ،‬كما �أن ي�سوع امل�سيح هو ابن اهلل‪ ،‬ميزج بني‬ ‫املقومات الإلهية والب�شرية‪ ،‬وتزدان الكنائ�س ب�صوره ال�شخ�صية بالإ�ضافة �إىل �صور تالمذته‬ ‫والقدي�سني واملالئكة وم�شاهد ت�شخي�صية متثل ن�شر الدعوة بطريقة تظهر الإن�سان بلبو�سه‬ ‫الب�شري‪ ،‬و�إن اختلفت طريقة الت�صوير بني الأ�سلوب البيزنطي والأرثوذك�سي وبني الأ�سلوب‬ ‫الغربي‪ .‬و�شكل الواقع االجتماعي امل�سيحي �ضغطاً باجتاه اختيار املوا�ضيع‪ ،‬فالت�صوير‬ ‫الت�شبيهي والتج�سيدي مقدر من قبل امل�شاهدين من خالل دالالته الدينية‪ ،‬هكذا ر�أينا‬ ‫�إقبا ًال من قبل الفنانني امل�سيحيني على املو�ضوعات الدينية حتى يف زمن احلداثة‪ .‬فالبدايات‬ ‫‪6‬‬

‫‪7‬‬

‫‪129‬‬


‫عند �صليبا الدويهي (‪ )1994 - 1912‬مث ًال‪ ،‬كانت تقليد ال�صور الكن�سية التي �أجنزها بع�ض‬ ‫كبار الكال�سيكيني الغربيني‪� .‬أما يف املو�ضوعات الدنيوية فالأمر اختلف ب�شكل كبري‪ ،‬فقد‬ ‫�أثارت �أول لوحة عري ر�سمها قي�صر اجلميل "ف�ضيحة"( )‪ .‬ومل يجد مو�ضوع املناظر الطبيعية‬ ‫له �صدى عميقاً يف هذه الفرتة من الزمن‪ ،‬بني الذواقة وامل�شاهدين‪ ،‬حيث ان�صرف املي�سورون‬ ‫�إىل الر�سم ال�شخ�صي‪ .‬لكن ذلك كله مت جتاوزه مع مرور الزمن‪ ،‬ليعكف املتذوقون على اقتناء‬ ‫املناظر الطبيعية والطبيعة ال�صامتة وخا�صة لوحات الزهور التي زينوا بها �صالوناتهم‪ ،‬وال تزال‬ ‫هذه الظاهرة موجودة حتى يومنا هذا‪ ،‬حيث يتفاخر النا�س بتعليق �أعمال كهذه يف بيوتهم‪،‬‬ ‫حتى ولو كانت ن�سخاً مطبوعة‪� ،‬أو ر�سوماً منجزة على عجل‪.‬‬ ‫‪8‬‬

‫‪ - 2‬متطلبات القرن الع�رشين‬

‫ما �إن �أطلت ع�شرينيات القرن الع�شرين حتى تبني �أن تغريات مهمة طر�أت على �صناعة‬ ‫العمل الفني وعلى �آليات ت�سويقه يف لبنان‪ .‬ازدادت اجلر�أة على �إجناز مو�ضوعات العري‬ ‫واملنظر الطبيعي والطبيعة ال�صامتة واملو�ضوعات الفولكلورية وغريها‪ ،‬ما عنى تنوعاً غنياً‪،‬‬ ‫وانزياحاً جزئياً عن متطلبات الكني�سة والأعيان املي�سورين والآتني من الو�سط الإقطاعي‪.‬‬ ‫لكن فن ال�صورة الوجهية بقي يف ال�صدارة‪ .‬مل يعلن الفنانون خ�صومة مع الكني�سة يف‬ ‫ال�ساحة املارونية كما ح�صل يف باري�س‪ ،‬لكن وهج املو�ضوعات الدينية بد�أ يخفت‪� .‬أما يف‬ ‫ال�ساحة الإ�سالمية فبقيت املتطلبات الدينية تلبى وفقاً ملعايري الفن الإ�سالمي املعهودة‪.‬‬ ‫بالدين‪ ،‬كالآيات القر�آنية‬ ‫ونادراً ما وجدنا يف البيوت التقليدية "معلقات" غري تلك املرتبطة ِّ‬ ‫وت�شكيالتها اخلطية املعروفة‪ ،‬با�ستثناء �صور فوتوغرافية لبع�ض ال�شخ�صيات والزعامات‪� ،‬أو‬ ‫النافذين يف العائلة �أو رب العائلة نف�سه‪ ،‬ناهيكم عن �صورة الفقيد التي كانت تعلق يف �صدر‬ ‫غرفة اال�ستقبال‪ .‬ويف بع�ض البيوتات ال�شيعية كان البع�ض يعلقون‪ ،‬بالإ�ضافة �إىل ما ورد‪،‬‬ ‫ر�سومات مطبوعة لآل البيت‪ ،‬ك�صورة الإمام علي بن �أبي طالب‪ ،‬و�صور احل�سن واحل�سني‬ ‫بن علي امل�ستوردة من �سوريا والعراق و�إيران‪ ،‬بالإ�ضافة �إىل �صور �أو جم�سمات ل�سيف الإمام‬ ‫علي "ذو الفقار" و"كف العبا�س"‪ .‬ويرى ال�شيعة يف هذه الرموز تعبرياً عن �أملهم و�سخطهم‬ ‫ال�ست�شهاد �أئمتهم‪ ،‬كما َي َر ْون بال�سيف رمزاً لل�شجاعة والقوة اللتني ات�سم بهما الإمام علي يف‬ ‫دفاعه عن قيم الإ�سالم‪� .‬أما ال�صور فهي �إعالن انتماء وتخليد "لع�صمة" �أئمتهم‪� ،‬شهدائهم‬ ‫الكبار املتحدرين من �سبط الر�سول حممد‪ .‬‬ ‫‪130‬‬


‫�أدب‬

‫ونادراً ما وجدنا يف البيوت الإ�سالمية يف تلك الفرتة �صوراً �أو ر�سومات ملناظر طبيعية �أو‬ ‫ر�سومات وجهية ما خال بع�ض بيوت الوجهاء‪ .‬ال نعرف على وجه اخل�صو�ص فنانني �شيعة‬ ‫اعتمدوا الأ�سلوب الأكادميي الغربي �سوى فنان بقي مغموراً لفرتة طويلة من الزمن هو الفنان‬ ‫علي قبي�سي‪.‬‬ ‫‪ - 3‬هيمنة الأ�سلوب الأكادميي الغربي‬

‫والواقع �أن ظهور الفن وفقاً للمنهج الغربي‪ ،‬خالل العقود الأوىل من القرن الع�شرين‪ ،‬كان‬ ‫مت�شابهاً يف كل من لبنان وم�صر والعراق‪" ،‬كان يف ذهن الفنانني الأوائل �أن الفن احلقيقي‬ ‫الوحيد هو الفن الغربي يف �شكله املعروف يف ذلك الوقت‪� ،‬أي الفن الت�شخي�صي‪ ،‬ب�شكله‬ ‫الأكادميي‪ ...‬وتبنوا يف الوقت نف�سه النظرة الغربية ف�صاروا َي َر ْون �أن لي�س لبالدهم �أي تراث‬ ‫فني‪ .) ("...‬انخرط امل�سلمون يف عملية التبدل هذه‪ ،‬لكن ذلك اقت�صر‪ ،‬يف البدء‪ ،‬على رهط‬ ‫�ضيق منهم‪ ،‬يف الوقت الذي كانت الذائقة اجلمالية يف مكان خمتلف كلياً‪ ..." ،‬امل�شاكل ال‬ ‫تعد وال حت�صى يف بيئة جاحدة لأي نوع من �أنواع العمل الفني وب�أي �شكل من الأ�شكال‪...‬‬ ‫اجلو العام مل يكن ي�سمح بوجود فنان‪ ...‬لأن اجلمهور مبعظمه قا�صر عن فهم اللوحة‪.) ("...‬‬ ‫هكذا ن�ش�أ‪ ،‬يف الو�سط الإ�سالمي ت�صارع بني فريق يرغب بالعودة �إىل التقليد و�آخر يريد‬ ‫ركوب التجديد‪ .‬هكذا بد�أ ينحو الفن الت�شكيلي يف لبنان منحى ذاتوياً متماث ًال مع التجربة‬ ‫الغربية‪ ،‬ولكن باالعتماد على الأ�ساليب الأكادميية‪ .‬وقد فتحت ال�سلطة ال�سيا�سية املجال‬ ‫�أمام هذا التبدل بالت�شجيع عليه‪ .‬ولأن الكني�سة مبعمارها احلديث التي جاءت "�إما ن�سخاً عن‬ ‫كنائ�س �أوروبية �أو �أمريكية و�إما حماوالت البتكار طرازات م�ستوحاة من الفن الغربي"( ) ف�إن‬ ‫معاجلاتها الت�صويرية تبدلت ن�سبياً‪ ‬مبا يتنا�سب مع الطرز اجلديدة‪ ،‬ولكن �ضمن �إطار املو�ضوعات‬ ‫الدينية نف�سها‪ .‬لكن التب�سيط مل يدخل �إىل هذه املعاجلات �إال يف بع�ض الزجاجيات التي‬ ‫زينت هذه الكنائ�س‪ ،‬وذلك ل�ضرورات تقنية وجمالية‪ .‬‬ ‫‪9‬‬

‫‪10‬‬

‫‪11‬‬

‫‪ - 4‬حراك فني و�صاالت م�س ِوقة‪ ‬‬

‫‪ ‬تنامت احلركة الت�شكيلية ابتدا ًء من ع�شرينيات القرن املا�ضي‪ ،‬بالتما�شي مع حركة االقت�صاد‬ ‫اللبناين الذي �أ�صبح مبنياً على اقت�صاد ال�سوق وفقاً للنمط الليربايل الذي �أر�سته �سلطة‬ ‫االنتداب‪� .‬أُخ�ضع العمل الفني �إذاً بجانبه ال�سلعي ملبد�أ العر�ض والطلب‪ .‬بد�أت تن�ش�أ يف‬ ‫‪131‬‬


‫لبنان �صالونات عر�ض ر�سمية منظمة على الطريقة الباري�سية‪� .‬أقيمت املعار�ض يف مبنى‬ ‫الربملان اللبناين بني الأعوام ‪ 1931‬و‪ ،1942‬ثم يف مبنى ق�صر الأوني�سكو‪ ،‬ثم يف متحف‬ ‫�سر�سق الذي ت�أ�س�س �سنة ‪ .1961‬يف العام ‪ 1952‬اجتمع عدد من الفنانني اللبنانيني وقاموا‬ ‫بت�أ�سي�س جمعية �أهل الفن التي �أ�صبح ا�سمها يف �سنة ‪ 1957‬جمعية الفنانني اللبنانيني‬ ‫للر�سم والنحت‪ ،‬وهي ال تزال نا�شطة حتى �أيامنا هذه‪ .‬ومن الفنانني الذين �أ�سهموا بت�أ�سي�س‬ ‫هذه اجلمعية نذكر ك ًال من م�صطفى فروخ‪ ،‬وقي�صر اجلميل (‪ ،)1958 - 1898‬ونقوال منار‬ ‫(‪ ...)2005 - 1925‬هدفت اجلمعية �إىل �إن�شاء ج�سم موحد يف لبنان يعمل على ن�شر الثقافة‬ ‫الت�شكيلية‪ ،‬من خالل �إقامة معار�ض جماعية تع ّرف بالفن الت�شكيلي يف لبنان وتطوراته‬ ‫وتبدالته‪ ،‬وتقيم عالقات فنية وثقافية مع امل�ؤ�س�سات واجلمعيات الأخرى ومع �أ�صحاب القرار‬ ‫يف ال�سلطة ال�سيا�سية‪ ،‬وهذا �شكل تفعي ًال لعملية الت�سويق‪ .‬وكانت ت�شارك يف ن�شاطات فنية‬ ‫وبحثية تقام خارج لبنان من معار�ض جماعية وندوات وم�ؤمترات‪ ،‬كما انفتحت على الغرب‪،‬‬ ‫فا�شرتك العديد من الفنانني يف التظاهرات الفنية التي كانت تقام يف �أكرث من بلد‪ ،‬وكم من‬ ‫فنان تعاقد مع �صاالت عر�ض غربية وانفتح على �أ�سواقها‪ ،‬وقد عملت اجلمعية �أي�ضاً على‬ ‫ت�شجيع درا�سة الفنون يف �أوروبا‪ ،‬وخا�صة يف باري�س‪ ،‬من خالل املنح والتقدميات املحلية‬ ‫واخلارجية‪ .‬هذه احلركة �أتاحت الفر�صة �أمام الفنانني لبيع �أعمالهم �إىل امل�ؤ�س�سات والإدارات‬ ‫العامة واخلا�صة والأفراد وجامعي اللوحات‪ ،‬وقد ت�أخر افتتاح �صاالت العر�ض اخلا�صة‬ ‫(الغالرييهات) حتى العام ‪ ،1963‬حيث مت افتتاح �صالة "غالريي وان" يف غربي بريوت‪ ،‬وقد‬ ‫عر�ض فيها كبار الفنانني اللبنانيني والعرب‪ ،‬ثم تبعتها �صالتي "كونتاكت" و"لوريان"‪ .‬ونتج‬ ‫عن ذلك كله انخراط لبناين نهائي يف منط "�سلعية الثقافة والفن" التي �أ�ضحت من بنات‬ ‫التكون الثابت و�شبه النهائي لالقت�صاد اللبناين يف مرحلة ما بعد اال�ستقالل‪.‬‬ ‫‪ - 5‬انطباعيون �أم �أكادمييون؟‬

‫تعن حركة التطور الت�شكيلي يف لبنان �أن رعيل املطورين الذين نهلوا متاماً من الفن‬ ‫مل ِ‬ ‫الأكادميي الغربي‪ ،‬ومنهم‪ :‬داوود القرم (‪ ،)1930 - 1852‬وحبيب �سرور (‪،)1938 - 1860‬‬ ‫وخليل ال�صليبي (‪ ،)1928 - 1870‬وفيليب موراين (‪ )1928 - 1872‬وتالمذتهم‪ ،‬انطلقوا‬ ‫بهدوء ومن دون عوائق‪ ،‬ذلك �أن الربجوازية اللبنانية والوجهاء يف لبنان اكت�سبوا ثقافة‬ ‫الربجوازية الفرن�سية وذوقها من الناحية ال�شكلية على الأقل‪ ،‬ومن دون �أن يتاح لرواد احلركة‬ ‫‪132‬‬


‫�أدب‬

‫الت�شكيلية فر�ض وجهة نظرهم �أو �أي حيز منها‪ ،‬هذا ما �سرناه يف م�س�ألة موقف هذه الطبقة‬ ‫من الفن ب�شكل عام ومن املنظر الطبيعي ب�شكل خا�ص‪ ،‬فهي مل ت�أبه للقيم اجلمالية بقدر‬ ‫اهتمامها مبا يثبت �صورتها وموقعها‪ ،‬هذا ما دفع بالفنانني �إىل التوفيق بني طموحاتهم الذاتية‬ ‫من جهة وبني حتقيق متطلبات هذه الفئة من النا�س من اجلهة الأخرى باعتبارها مادة للموارد‬ ‫املالية‪" .‬كان فن هذا اجليل الأول يف لبنان‪ ،‬كما كان يف م�صر‪ ،‬فناً �أكادميياً‪ ،‬ا�ستلهم النماذج‬ ‫الباري�سية"( )‪ .‬لكن ذلك مل يعن �أن الرعيل الآتي املتمثل مب�صطفى فروخ وقي�صر اجلميل‬ ‫وعمر الأن�سي (‪ )1969 - 1901‬ور�شيد وهبي (‪� )1993 - 1917‬أدار ظهره كلياً للظاهرة‬ ‫االنطباعية رغم ت�أخر و�صولها بعد فرتة بعيدة جداً من ن�شوئها‪ ،‬ففي حني ن�ش�أت احلركة‬ ‫االنطباعية يف باري�س يف الثلث الأخري من القرن التا�سع ع�شر‪ ،‬ظهرت �أول جتارب تدل عليها‬ ‫يف لبنان يف �سنوات العقد الثالث الأخرية من القرن الع�شرين‪ ،‬ف�إذا كان الرعيل الأول‬ ‫من "مكت�شفي" لوحة احلامل‪ ،‬والذي بقي لزمن طويل مذهو ًال من هذا "االكت�شاف"‪ ،‬ف�إن‬ ‫اهتمامه ان�صب على تثبيت هذا التحول الراديكايل بد ًال من االنغما�س يف النقا�شات التي‬ ‫دارت يف بالد الغرب والتي ر�آها عقيمة‪ ،‬وخا�صة �أن العمل الت�شخي�صي املج�سم املتبنى من‬ ‫ال�شرق العربي قاطبة كان‪ ،‬بحد ذاته‪ ،‬ظاهرة جديدة بالن�سبة لهم‪ .‬و�إذا كان البع�ض يف لبنان‬ ‫وقف موقف الريبة من االنطباعية بذاتها‪ ،‬فكيف لهم �أن يتقبلوا خروجاً على معايري الواقع؟‬ ‫هذا يف الوقت الذي خرج جمع وا�سع جداً من الفنانني الغربيني‪ ،‬ويف باري�س خا�صة‪ ،‬على‬ ‫االنطباعية نف�سها‪ ،‬م�ؤ�س�سني النقالب فني م ّهد لتفجر احلداثة الت�شكيلية على مداها الوا�سع‪،‬‬ ‫فا�ستنبطوا مذاهب جديدة متثلت بثورة التب�سيطية والذاتوية‪.‬‬ ‫‪12‬‬

‫�أتيح لهذا الرعيل من الفنانني اللبنانيني �أن يواكب بزوغ االجتاهات الوح�شية والتعبريية‬ ‫والتكعيبية والرمزية وامل�ستقبلية والدادائية وال�سوريالية و�صو ًال �إىل التجريدية وانت�صارها‪.‬‬ ‫لذلك انده�ش الفنانون اللبنانيون �أمام ت�سارع هذا التبدل وا�شتداد ال�صراع بني هذه‬ ‫االجتاهات يف زمن يعد قيا�سياً باملقارنة مع الفرتة التاريخية ال�سابقة‪ .‬ارتبك اللبنانيون �أمام‬ ‫هذا الأمر‪ ،‬فرف�ضوه يف العقود الأربعة الأوىل من القرن ال�سابق‪ ،‬واعتربوه �ضرباً من اجلنون‬ ‫والتخلف‪ ،‬لكون هذه التيارات تعجز عن مباهاة الفنون الت�شخي�صية والواقعية‪ .‬لذلك ف�إن‬ ‫�أق�صى ما ذهبوا �إليه معاجلتهم للمنظر الطبيعي بلم�سة انطباعية‪� ،‬أو ا�ستعمال ملوناتها يف معاجلة‬ ‫املو�ضوعات الأخرى �أحياناً‪ .‬ذلك �أن املعاجلة بوا�سطة هذا الأ�سلوب ذات مق�صد واقعي متاماً‬ ‫"‪� ...‬إنه لي�س �إلهامياً وال تخيلياً وال عاطفياً وال رمزياً‪� ،‬إنه ال يدخل يف اعتباره ما يح�س به‬ ‫‪133‬‬


‫الفنان جتاه مو�ضوعه‪ ،‬وفيما يتذكر بالن�سبة له‪ ،‬و�إمنا اعتباره قائم على ما يراه يف احلال"( )‪.‬‬ ‫ظهر يف لبنان‪� ،‬إذاً‪� ،‬أ�سلوب مقارب لالنطباعية‪ ،‬ويعزو بع�ض الباحثني ذلك �إىل �أ�سباب م�ؤداها‬ ‫�أن "املفهوم االنطباعي اللبناين يقوم على خ�صائ�ص تختلف يف بع�ض التفا�صيل عن ذلك‬ ‫املفهوم الأوروبي القائم على اخلروج عن النظم الت�صويرية ال�سابقة واملتعارف عليها ثم توجيه‬ ‫انتباه الفنان �صوب كل ما هو �شفاف ومتغري يف الطبيعة‪ ،‬مع الرتكيز على كون الألوان‬ ‫تتحدد بوا�سطة النور الذي تتلقاه"( )‪ ،‬وهذا االختالف هو ما يربر‪ ،‬بر�أي باحثني‪ ،‬الإ�صرار‬ ‫على الأ�ساليب التي اعتنقوها رغم �أنها �آلت �إىل الأفول يف موطنها‪ ،‬ما دفعهم �إىل املراوحة‬ ‫بني الأ�ساليب الكال�سيكية والرومان�سية اال�ست�شراقية والباربيزون والبونت �أفن بلم�سة �شبه‬ ‫انطباعية‪.‬‬ ‫‪13‬‬

‫‪14‬‬

‫وللتذكري ف�إن االنطباعي �ص ّور الطبيعة يف الهواء الطلق‪ ،‬وب�شكل مبا�شر‪ ،‬ووجهاً لوجه‪،‬‬ ‫فاكت�شف �أن الظالل لي�ست مظلمة كي متزج الألوان باللون الأ�سود‪ ،‬لكنها هي مملوءة �أي�ضاً‬ ‫ببع�ض ال�ضوء‪ ‬وبتنوعات الألوان القامتة‪ ،‬و�أن بع�ضاً من هذه الألوان يت�أتى من انعكا�س �أج�سام‬ ‫جماورة م�ضيئة بع�ض ال�شيء‪ ،‬وبع�ضها ينتج عن طبيعة هذه الأج�سام‪.‬‬ ‫ن�ش�أت هذه االنعطافة عن اكت�شاف نيوتن املذهل يف جمال علم الفيزياء الذي ثبت مقولة‬ ‫انق�سام �ضوء ال�شم�س‪ ،‬بوا�سطة املو�شور‪ ،‬وحتللها �إىل �ألوان قو�س قزح‪ ،‬ما �أتاح معرفة �أن اللون‬ ‫يتبدل بتبدل املكان والزمان‪ .‬وبالتايل ال يوجد ثوابت يف جمال الألوان فال ال�سماء زرقاء‬ ‫دائماً‪ ،‬وال تراب الأر�ض بني‪ ،‬وال ال�شجر �أخ�ضر‪ ،‬وال التفاحة حمراء �أو �صفراء‪ ،‬فاجل�سم‬ ‫يكت�سب لونه من خالل قابليته المت�صا�ص بع�ض �أطياف ال�شم�س ولفظه البع�ض الآخر‪،‬‬ ‫"لذلك ا�ستبعد االنطباعيون عن ملونتهم اللون الأبي�ض ال�صايف‪ ،‬والألوان القامتة‪ ،‬وكذلك‬ ‫اللون الأ�سود الذي ال وجود له يف الطبيعة‪ ،‬م�ستخدمني فقط �ألوان املن�شور ال�سبعة املتلألئة‬ ‫ال�صافية"( )‪.‬‬ ‫‪15‬‬

‫من امل�ؤكد �أن الفنانني اللبنانيني مل يختربوا هذه الآليات‪ ،‬بل ت�أثروا �أحياناً بامللونة االنطباعية‬ ‫بعدما �أجرى روادها الغربيون جتارب حثيثة �أثبتت جدواها ومكانتها يف التاريخ الت�شكيلي‪.‬‬ ‫ر�سم اللبنانيون مو�ضوعات خمتلفة منها مو�ضوع الطبيعة‪ ،‬فانكبوا على ت�صوير م�شاهد من‬ ‫جبل لبنان �أو ما �شابهها‪ .‬ان�سحبت �أحياناً امللونة االنطباعية على مو�ضوعاتهم الأخرى‪ ،‬لكن‬ ‫امللونة الكال�سيكية مل ترتاجع لديهم بل بقيت ال�سيادة لها حتى ثالثينيات القرن املا�ضي‪،‬‬ ‫‪134‬‬


‫�أدب‬

‫كما ظلت الرومان�سية مرفرفة فوق بع�ض �أعمالهم‪ ،‬ال�سيما املو�ضوعات القروية والريفية‬ ‫والعادات والتقاليد اجلبلية وال�سمات والأزياء الفولكلورية‪ ...‬تيمناً بالر�سم اال�ست�شراقي‪.‬‬ ‫نادراً ما وجدنا عم ًال "ميجد" بريوت‪ ،‬العا�صمة ال�صاعدة �آنذاك‪ ،‬ويرجع �إىل هذه احلقبة‪ ،‬رغم‬ ‫�أنها كانت مدينة جميلة يف ذلك الزمن‪ .‬ك�أن بريوت ومنط عي�شها‪ ،‬تلك املدينة اخلارجة من‬ ‫عمق التاريخ العثماين‪ ،‬والداخلة يف منط عالقات �شبه ر�أ�سمالية وثقافة تتمازج فيها ح�ضارات‬ ‫عديدة‪ ،‬مل تكن جما ًال لال�ستقواء واال�ستلهام على امل�ستوى الب�صري‪ ،‬ك�أنا بالفنانني ان�صرفوا‬ ‫عن املعاينة الب�صرية لل�سياق االجتماعي فذهبوا �إىل مو�ضوعات نو�ستاجلية �أو وفقاً ملتطلبات‬ ‫ال�سوق كما �أوردنا �سابقاً‪ ،‬لذلك نراهم يتحولون �إىل فناين �أرياف بدل �أن يكونوا مدينيني‪،‬‬ ‫هم ا�ست�ساغوا الطريقة الغربية للر�سم‪ ،‬لذلك "‪ ...‬ادخلوا الفن الغربي �إىل بلد ذي تقاليد فنية‬ ‫خمتلفة‪ ،‬وا�ستطاعوا �أن يجعلوا له مكانة يف الثقافة املحلية‪ ،‬و�أن يهذبوا ذوق اجلمهور ويجعلوه‬ ‫قادراً على تقومي فن جديد "( )‪ .‬ويف �سياق الكالم عن �أ�سلوب انطباعي يف لبنان نذكر بع�ض‬ ‫املواقف لعدد من الباحثني‪ .‬يذكر عفيف بهن�سي �أننا "ال ن�ستطيع �إطالق ت�سمية انطباعية‬ ‫ح�سب مفهومها الفرن�سي على اجتاهات الفنانني اللبنانيني‪ ،‬ولكن ال بد من و�ضع ت�سمية‬ ‫�أكرث �صدقاً فنقول الطبيعية"( )‪ .‬ويعتقد �آخرون �أن ه�ؤالء مزجوا بني مو�ضوعات الطبيعة‬ ‫وبني الإطار الأدبي الق�ص�صي وال�شعري‪ ،‬فقد ت�أثروا "بالر�ؤيا الأدبية اال�ستلهامية للمو�ضوع‬ ‫الغنائي(**)‪ ،‬الأمر الذي جعل �أكرث من باحث يربط بني املرحلة الغنائية من عمر الأدب‬ ‫وال�شعر اللبناين وبني بروز هذا التيار املت�أثر �أ�ص ًال مبعطيات مدر�سة باري�س التي كانت تعي�ش‬ ‫جمرد االنطباعية"( )‪ .‬لكن الذي حدث "‪ ...‬هو �أننا جئنا �إىل انطباعية جاهزة‪ ،‬مقطوعة اجلذور‬ ‫عن �أ�صولها وعن الت�سا�ؤالت التي �سبقتها والتي جنمت عنها‪� ...‬إننا نظل يف نظام التقليد‪� .‬إننا‬ ‫نبقى من دون ال�شروط التاريخية‪ ،‬وحتى النف�سية‪ ،‬التي ولدت االنطباعية‪.) ("...‬‬ ‫‪16‬‬

‫‪17‬‬

‫‪18‬‬

‫‪19‬‬

‫اعتنق رعيل املطورين وتالمذتهم الفن الغربي مبندرجاته الأكادميية‪ ،‬من موقع �أنها البداية‬ ‫التي البد منها للقطع مع املا�ضي‪ ،‬يف الوقت ذاته الذي �أخذ الغربيون يفت�شون عن التحديث‬ ‫يف ب�صريات ال�شرق الرتاثية‪ .‬مل تنتب الغربيني �أية عقدة نق�ص �أثناء ا�ستلهامهم لفنون ال�شرق‬ ‫�إ�سالمية وعربية‪ ،‬فهم انطالقاً من قناعتهم بعاملية فنهم ر�أوا �أن ب�إمكانهم االرتكاز �إىل الثقافات‬ ‫العاملية مادامت ثقافتهم مفتوحة على م�صراعيها لي�أخذ منها العامل ما يريد‪ ،‬من هنا وجد‬ ‫فنانو احلداثة �أنف�سهم قادرين على االبتعاد عن "الواقعية البحتة‪ ،‬حرفوا الطبيعة و�سطحوا‬ ‫العمق الت�صويري‪ ،‬اهتموا بالت�صميم التعبريي بد ًال من الت�صوير الدقيق‪� ،‬أو و�صف املو�ضوع‬ ‫‪135‬‬


‫كق�صة مروية"( )‪ .‬لكن الفنانني اللبنانيني املنتمني �إىل هذه احلقبة‪ ،‬والفنانني العرب ب�شكل‬ ‫عام‪ ،‬راوحوا يف املربع الأكادميي الواقعي‪ ،‬فذلك كان يعني لهم حتو ًال راديكالياً بالن�سبة �إىل‬ ‫ما�ضيهم الب�صري‪ ،‬وهو مل يكن يعني رمزاً حلالة حياتية بائدة كما كانت عند الغربيني‪ ،‬بل‬ ‫�أكرث من ذلك‪ .‬تنتابنا قناعة ب�أن هذا التغيري ّ‬ ‫�شكل مفتاحاً تاريخياً النخراط الفن الت�شكيلي‬ ‫يف لبنان باحلداثة الت�شكيلية‪ ،‬رغم �أن هذه الأ�ساليب الواقعية كانت‪ ،‬يف موطنها‪ ،‬مناق�ضة‬ ‫للحداثة ومنط عي�شها‪ .‬لذلك مل تتم �صياغة الثقافة الب�صرية يف لبنان مبا يتوافق كلياً‪� ،‬أو زمانياً‪،‬‬ ‫وبالوترية نف�سها‪ ،‬مع ما ح�صل يف الغرب‪�" ،‬ستنتابنا الده�شة يف حال مل جند ت�أثرياً للحركة‬ ‫االنطباعية على الت�صوير يف لبنان‪ ،‬فالفن يبقى معرباً عن العالقات االقت�صادية واالجتماعية‬ ‫التي �أقيمت بني هذا البلد وفرن�سا‪ ،‬ويتبدى ذلك يف الهند�سة املعمارية والأزياء واللغة‬ ‫والأدب‪ ،‬فلماذا يبقى اللبنانيون‪� ،‬إذاً‪ ،‬متح�س�سني لتطور الت�صوير يف �أوروبا؟‪.) ("...‬‬ ‫‪20‬‬

‫‪21‬‬

‫مل ت�سمح البنية االجتماعية والثقافية يف لبنان‪ ،‬يف هذه الفرتة من التاريخ‪� ،‬أن ينخرط‬ ‫اللبنانيون املطورون لعملية االنتقال من الفنون الإ�سالمية العثمانية �إىل الفنون الغربية‪،‬‬ ‫بالتطورات التي �شهدتها باري�س‪� ،‬أو اللحاق بها بوترية �سريعة‪ .‬فالتعددية الثقافية النا�شئة‬ ‫عن البنية الطائفية‪ ،‬وبنية الربجوازية اللبنانية االلتحاقية ومتطلباتها الب�صرية‪ ،‬جعل من‬ ‫�إمكانية ا�ست�ساغة االجتاهات احلداثية التي توالدت يف باري�س والعوا�صم الغربية‪ ،‬يف الربع‬ ‫الأول من القرن الع�شرين‪ ،‬مرتبكاً �إن مل يكن متعذراً و�صل �إىل حد الرف�ض ال�سافر‪.‬‬ ‫حتى �إن االنحياز �صوب االنطباعية وقفت �أمامه معوقات‪ .‬يذكر م�صطفى فروخ يف كتابه‬ ‫"طريقي �إىل الفن" �أنه "من كان مثلي يعي�ش يف جو �ضيق بعيد عن الفن وممار�سته بعدنا‬ ‫عن املريخ‪ ،‬ثم مل ي�سمع بالفن‪ ،‬ومل يكن �أمامه وال حوله من �أ�سباب الت�شويق واالندماج‬ ‫الفني ال قليل وال كثري بل العك�س �صحيح �إذ كل ما حوله مثبطات فقط"( )‪ ،‬فماذا‬ ‫�سيكون موقفه �أمام متردات احلداثة على معتقدات اعتنقها ومار�سها‪ ،‬تلك التي قد تعيده‬ ‫�إىل منطقة �سبق �أن نفاها‪ ،‬هو و�أقرانه‪ ،‬من ذاكرته وقطع معها؟ ه�ؤالء املجددون يف جماالت‬ ‫الر�ؤى الب�صرية هم‪ ،‬بالن�سبة له‪ ،‬م�شعوذون �أمثال "بيكا�سو ودويف وماتي�س‪ ،‬دجالو الفن‬ ‫الذين م�سحوا الفن والأخالق"( )‪ .‬هكذا فعل �أي�ضاً "قي�صر اجلميل لدى عودته من‬ ‫باري�س‪ ،‬هاجم املدر�سة التكعيبية"( )‪ .‬وكان يو�سف احلويك قد �أ�شهر موقفاً مماث ًال فو�صف‬ ‫بيكا�سو �أنه ال يح�سن الر�سم‪ .‬وبالعودة �إىل فروخ ف�إنه يقول يف منا�سبة �أخرى "لقد مار�ست‬ ‫ت�صوير هيئة الأ�شخا�ص وهي التي تثمر يف بلدنا‪� ،‬أما املناظر الطبيعية وغريها ف�إنها ال تهم‬ ‫‪22‬‬

‫‪23‬‬

‫‪24‬‬

‫‪136‬‬


‫�أدب‬

‫�أحداً"( )‪ .‬ويذكر ر�شيد وهبي يف ال�سياق ذاته قائ ًال "امل�شاكل ال تعد وال حت�صى يف بيئة‬ ‫جاحدة لأي نوع من �أنواع العمل الفني وب�أي �شكل من الأ�شكال‪ ...‬اجلو العام مل يكن‬ ‫ي�سمح بوجود فنان‪ .‬فالفنان كان يف ذلك الوقت جمهو ًال من قومه وبيئته ولي�س له من‬ ‫جمال للتخ�ص�ص‪.) ("...‬‬ ‫‪25‬‬

‫‪26‬‬

‫‪ - 6‬هل �شكلت هذه التطورات مدخالً �إىل احلداثة؟‪ ‬‬

‫على �ضوء كل ما تقدم‪ ،‬هل ميكننا اعتبار ه�ؤالء الفنانني منتمني ب�شكل ثابت �إىل االجتاه‬ ‫االنطباعي؟‬ ‫وهل �شكلت جتربتهم مدخ ًال �إىل حداثة ت�شكيلية موازية للحداثة الغربية �أو م�ستقاة منها؟‬ ‫يذكر بع�ض الباحثني �أن "االنطباعية اللبنانية!" �شكلت قاعدة للتطور الت�شكيلي الذي يهم‬ ‫بالدخول �إىل احلداثة حيث "‪ ...‬خرجت اللوحة �إىل الطبيعة واجته ناظر الفنان �إىل اجلبل بعد‬ ‫�أن كان لفرتة ق�صرية متجهاً �إىل البحر ير�سم ال�سفن احلربية وي�ؤكد عظمة ال�سلطنة‪.) ("...‬‬ ‫والواقع �أن االنطباعية مل تكن املعتقد الرا�سخ لدى الرعيل الذي �سمي با�سمها‪ ،‬فقد راوح‪،‬‬ ‫وفقاً لعدد من الباحثني‪ ،‬فروخ بني الواقعية الأكادميية واالنطباعية‪ ،‬وقد جرب �أكرث من فنان‬ ‫منهم �أعما ًال تعود �إىل املدر�سة البحرية العثمانية قبل �أن ي�ستدرك بهتانها‪ ،‬ف�أجنزوا �أعما ًال‬ ‫تكتظ بال�سفن احلربية واملراكب البحرية ومناظر من امليناء وموا�ضيع ذات �صلة بالبحر‬ ‫كنافذة مفتوحة على ن�شاطات ال�سلطنة‪ .‬لقد ر�سم هذا الرعيل الذي �سمي "باالنطباعيني"‬ ‫مو�ضوعات من الذاكرة واملخيلة‪ ،‬مثل املو�ضوعات الوطنية واملعارك احلربية واملو�ضوعات‬ ‫التاريخية التي ت�ستنه�ض ال�شعور الوطني‪ .‬وتذكر �سيلفيا نايف �أن فروخ "مل يت�ساءل عن نوع‬ ‫الفن الذي يريده‪ ،‬ففي ذهنه �أن هناك فناً واحداً فقط هو الفن الأكادميي الغربي‪ ...‬بقي فروخ‬ ‫ر�ساماً �أكادميياً طوال حياته الفنية‪ ،‬وكال�سيكياً �سواء جلهة التنفيذ �أو جلهة املوا�ضيع"( )‪ .‬وقد‬ ‫ن ّوع كل من قي�صر اجلميل وعمر الأن�سي ور�شيد وهبي يف موا�ضيعهم ومعاجلاتهم‪ ،‬فبالإ�ضافة‬ ‫�إىل الطبيعة ر�سموا العري والفولكلور ومو�ضوعات تاريخية وتراثية‪ ،‬فقد "ت�أرجح اجلميل بني‬ ‫الكال�سيكية التي متكن منها وبني االنطباعية التي نحا نحوها"( )‪ ،‬بع�ض مو�ضوعاته �أخذها‬ ‫من الأ�ساطري الفينيقية‪ ،‬ك�أ�سطورة �أدوني�س وع�شرتوت‪ .‬نتاج ه�ؤالء اتهم ب�أنه "نتاج كال�سيكي‬ ‫ر�سم خ�صي�صاً للزخرفة والديكور‪ ...‬مل يكن من هدف له �سوى ر�سم لوحة تعجب النا�س‬ ‫‪27‬‬

‫‪28‬‬

‫‪29‬‬

‫‪137‬‬


‫بجمالها ورونقها"( )‪ .‬كذلك ف�إن الأن�سي كان كال�سيكياً يف ر�سوماته الزيتية ال�سابقة على‬ ‫�أعماله التي عاجلها بالألوان املائية (الأكواريل) والتي ا�شتهر بها‪ .‬‬ ‫‪30‬‬

‫انطالقاً من ذلك اعتربنا �أن جيل املطورين وتالمذتهم املقاربني لالنطباعية �أو املحرتفني للفن‬ ‫الغربي‪ ،‬مل تهزهم م�س�ألة احلداثة الت�شكيلية ال من قريب وال من بعيد‪ ،‬ولكنهم احرتفوا‬ ‫الفن الواقعي بكل من درجاته‪ ،‬من الواقعية املثالية التي متثلت بالكال�سيكية‪� ،‬إىل الواقعية‬ ‫العاطفية التي متثلت بالرومان�سية وبفن اال�ست�شراق‪ ،‬والواقعية ال�صرفة‪ ،‬والواقعية الطبيعية‬ ‫املتمثلة باملدر�سة الطبيعية ومدر�سة الباربيزون والبونت �أفن‪ ...‬و�إن كنا تعرفنا �إىل مواقفهم من‬ ‫فنون احلداثة‪ ،‬ن�ستطيع القول �إنهم �أ�س�سوا �أر�ضية لتالمذتهم من الفنانني الالحقني عليهم‪،‬‬ ‫فانخرطوا مبا�شرة يف احلداثة الت�شكيلية‪ ،‬و�أيقنوا من خاللهم ب�أن الفن الغربي �أ�صبح و�سيلة‬ ‫التعبري املعا�صرة من دون منازع‪ .‬لذلك وجدنا الرعيل الالحق يقارب الأ�ساليب احلداثية‬ ‫الغربية التي رف�ضها �أ�ساتذتهم ب�شدة‪.‬‬ ‫ماذا ن�ستنتج؟‬

‫هكذا ي�صبح ب�إمكاننا اال�ستنتاج ب�أن الو�سطني اللبنانيني امل�سلم وامل�سيحي جاهدا للو�صول �إىل‬ ‫تثبيت الت�صوير الت�شبيهي يف لبنان على امتداد �سنوات طويلة من العمل واملعاندة والأ�صرار‪،‬‬ ‫لذلك مل يكن �سه ًال الطلب من الفنانني الذين عا�صروا مرحلة التطوير هذه �إعادة متو�ضعهم‬ ‫ما�ض �أفل‪ ،‬رغم دخول هذا املا�ضي يف‬ ‫من جديد يف �أ�ساليب جديدة قد ت�شكل ارتداداً �إىل ٍ‬ ‫�إطار احلداثة امل�ستجدة و"املريبة" كما يرون‪ .‬هم ا�ستطاعوا �أن ي�أخذوا لنف�سهم مكانة ما يف‬ ‫عيون امل�شاهدين‪ ،‬و�أن ي�ؤ�س�سوا لنف�سهم جمهوراً يقبل على اقتناء بع�ض �أعمالهم ويتذوقها‪.‬‬ ‫وت�أ�سي�ساً على ذلك ميكننا �أن نلخ�ص �أ�سباب رف�ض ه�ؤالء الفنانني االنخراط باحلداثة الغربية‪،‬‬ ‫وترددهم يف تبني املعاجلة االنطباعية‪:‬‬ ‫‪ - 1‬الواقع ال�سيا�سي واالجتماعي بتفاوتاته املختلفة‪ .‬‬ ‫‪ - 2‬الو�ضع الأكادميي الذي ا�ستوجبته الدرا�سة الفنية يف الغرب‪ .‬‬ ‫‪� - 3‬صعوبة القطع مع �أ�ساليب تبناها الفنانون لت ّوهم‪ ،‬واالنتقال �إىل طريقة تعبري تذكر باملا�ضي‬ ‫الرتاثي الذي اعتربوه خارج ال�سياق الفني واجلمايل‪.‬‬ ‫‪138‬‬


‫�أدب‬

‫‪ - 4‬الفروقات الهائلة بني تطور منط العي�ش الغربي وجتلياته الثقافية وبني ما عاي�شه ه�ؤالء من‬ ‫معوقات اجتماعية ومنط عي�ش مت�أخر ال ي�سمح بدينامية تبدلية وانفتاح على التطور ال�سريع‬ ‫وال ميكنه من متو�ضع ذاتي وكيفي �إال قلي ًال‪.‬‬ ‫‪ - 5‬دور �سلطة االنتداب يف تثبيت الثقافة الفرن�سية بهدف تعميق ال�سيطرة على املجتمع‬ ‫ومقدراته من باب الهيمنة الثقافية‪.‬‬

‫‪139‬‬


‫هوام�ش‪:‬‬

‫(‪ )1‬م�صطفى فروخ‪ :‬طريقي �إىل الفن‪ ،‬م�ؤ�س�سة نوفل‪ ،‬بريوت‪� ،1986 ،‬ص ‪.113‬‬ ‫(‪ )2‬ال�سيد حممد ح�سني ف�ضل اهلل‪ :‬ال م�شكلة يف ت�صوير الأنبياء واملر�سلني والأئمة (مقابلة)‪،‬‬ ‫جملة النقطة‪ ،‬بريوت‪ ،‬العدد ‪ ،7‬خريف ‪� ،1996‬ص ‪.53 52-‬‬ ‫(‪ )3‬املرجع ذاته‪� ،‬ص ‪.54‬‬ ‫(‪ )4‬املرجع ذاته‪� ،‬ص ‪.57‬‬ ‫(‪ )5‬املكان ذاته‪.‬‬ ‫(‪ )6‬ال�شيخ بهجت غيث‪ :‬ال جت�سيد‪ ،‬ال ر�سم‪ ،‬ال ت�صوير‪ ،‬خ�شية �أن ت�صبح الت�صاوير والر�سوم‬ ‫�أ�صناماً يف ع�صر املادة‪ ،‬جملة النقطة‪ ،‬املرجع ال�سابق‪� ،‬ص ‪.69 - 68‬‬ ‫(‪ )7‬املكان ذاته‪.‬‬ ‫(‪� )8‬إدوار حلود‪ :‬الفن املعا�صر يف لبنان‪ ،‬بريوت‪� ،1974 ،‬ص‪.XXII ‬‬ ‫(‪� )9‬سيلفيا نايف‪ :‬بحث عن حداثة عربية‪� ،‬أجيال للفنون الت�شكيلية‪ ،‬ترجمة‪ :‬ح�سني‬ ‫قبي�سي‪ ،‬بريوت‪،‬‬ ‫‪،A la Recheched`uneModernite`Arabe، Editions Slatkine، Geneve، 1996‬‬ ‫�ص ‪.27‬‬

‫(‪ )10‬ر�شيد وهبي‪ :‬الإن�سان وظله ملء ري�شتي‪ ،‬جملة الفر�سان‪ ،‬باري�س‪ ،‬العدد‬ ‫�شباط ‪� ،1989‬ص ‪.52‬‬

‫‪18 ،577‬‬

‫(‪ )11‬الأب بطر�س �ضو‪ :‬تاريخ املوارنة الديني وال�سيا�سي واحل�ضاري‪ ،‬دار النهار‪ ،‬بريوت‪،‬‬ ‫‪� ،1972‬ص ‪.424‬‬ ‫(‪� )12‬سيلفيا نايف‪ :‬املرجع ذاته‪� ،‬ص ‪.12‬‬ ‫(‪ )13‬حممود �أمهز‪ :‬الفن الت�شكيلي املعا�صر‪ ،‬دار املثلث‪ ،‬بريوت‪� ،1981 ،‬ص ‪.36‬‬ ‫‪140‬‬


‫�أدب‬

‫(‪ )14‬جوزف �أبو رزق و�آخرون‪ :‬املرجع ال�سابق‪� ،‬ص ‪.2‬‬ ‫(‪ )15‬حممود �أمهز‪ :‬املرجع ال�سابق‪� ،‬ص ‪.24‬‬ ‫(‪� )16‬سيلفيا نايف‪ :‬املرحع ال�سابق‪� ،‬ص ‪.122‬‬ ‫(‪ )17‬عفيف البهن�سي‪ :‬رواد الفن احلديث يف البالد العربية‪ ،‬دار الرائد العربي‪ ،‬بريوت‪،‬‬ ‫‪� ،1985‬ص ‪.111‬‬ ‫(**) ك�أن الباحث يف هذا الو�صف يعني االجتاه الرومان�سي من دون �أن يذكره‪ ،‬ذلك االجتاه‬ ‫الذي ارتكز �إىل الأدب واملخيلة والأ�ساطري والتاريخ والبعد العاطفي‪ .‬وقد تكون تلك مقولة‬ ‫تربيرية هدفها �إ�سقاط مفهوم االنطباعية على هذا النتاج‪ ،‬ف�أراد �أن يوحي ب�أن اللبنانيني �أنتجوا‬ ‫انطباعية خمتلفة!‬ ‫(‪ )18‬جوزيف �أبو رزق و�آخرون‪ ،‬املرجع ال�سابق‪� ،‬ص ‪.27‬‬ ‫(‪� )19‬شاكر لعيبي‪ :‬خرافة اخل�صو�صية يف الت�شكيل العربي املعا�صر‪ ،‬دار الثقافة والإعالم‪،‬‬ ‫ال�شارقة‪� ،2003 ،‬ص ‪.2‬‬ ‫(‪ )20‬جورج فالجنان‪ :‬حول الفن احلديث‪ ،‬دار املعارف مب�صر‪ ،‬ترجمة‪ :‬كمال املالخ‪ ،‬القاهرة‪،‬‬ ‫‪� ،1962‬ص ‪.159‬‬ ‫)‪: AperçuHistorique، La peinture au Liban، dansLiban، le regard des (21‬‬ ‫‪CRASWELL John‬‬ ‫‪ans des peintresLibanais، Liban culture، IMA، Paris، 1989، 200‬‬ ‫‪،p.25peintres‬‬

‫(‪ )22‬م�صطفى فروخ‪ :‬املرجع ال�سابق‪� ،‬ص ‪.27‬‬ ‫(‪ )23‬م�صطفى فروخ‪ :‬املرجع ذاته‪� ،‬ص ‪.21‬‬ ‫(‪� )24‬سيزار منور‪ :‬املرجع ال�سابق‪� ،‬ص ‪.115‬‬ ‫(‪� )25‬سيلفيا نايف‪ :‬املرجع ال�سابق‪� ،‬ص ‪.113‬‬ ‫‪141‬‬


‫(‪ )26‬ر�شيد وهبي‪ :‬املرجع ال�سابق‪� ،‬ص ‪.52‬‬ ‫(‪� )27‬سيزار منور‪ :‬املرجع ال�سابق‪� ،‬ص ‪.15‬‬ ‫(‪� )28‬سيلفيا نايف‪ :‬املرجع ال�سابق‪� ،‬ص ‪.128 –127‬‬ ‫(‪ )29‬جوزيف �أبو رزق‪� ،‬صالح بركات‪ ،‬عمران القي�سي‪ :‬الفن الت�شكيلي يف لبنان‪ ،‬املنظمة‬ ‫العربية للرتبية والثقافة والعلوم‪ ،‬بريوت‪� ،2002 ،‬ص ‪.29‬‬ ‫(‪� )30‬سيلفيا نايف‪ :‬املرجع ال�سابق‪� ،‬ص ‪.126‬‬

‫‪142‬‬


‫�أدب‬

‫مراجع �أخرى‪:‬‬

‫■ القرم جورج داوود‪ :‬كتاب عن ذاته بعنوان جورج داوود القرم‪ ،‬بريوت‪.1981 ،‬‬

‫■ البهن�سي عفيف‪ :‬الفن احلديث يف البالد العربية‪ ،‬تون�س‪ ،‬دار اجلنوب للن�شر‪ ،‬الأوني�سكو‪،‬‬ ‫‪.1980‬‬ ‫■ البهن�سي عفيف‪ :‬رواد الفن احلديث يف البالد العربية‪ ،‬دار الرائد العربي‪ ،‬بريوت‪.1985 ،‬‬ ‫■ البهن�سي عفيف‪ :‬اجلمالية الإ�سالمية يف الفن احلديث‪ ،‬دار الكتاب العربي‪ ،‬دم�شق‪،‬‬ ‫‪.1997‬‬ ‫■ الرتيكي فتحي‪ :‬يف احلداثة وما بعد احلداثة‪ ،‬دار الفكر‪ ،‬دم�شق‪.2003 ،‬‬ ‫■ جرداق حليم‪ :‬حتوالت اخلط واللون‪ ،‬دار النهار‪ ،‬طبعة ثانية‪ ،‬بريوت‪.2000 ،‬‬ ‫■ �سلطان في�صل‪ :‬كتابات م�ستعادة من ذاكرة فنون بريوت‪ ،‬كتاب ال�سفري‪ ،‬دار الفارابي‪،‬‬ ‫بريوت‪.2013 ،‬‬ ‫ال�ستوكي عبداهلل‪ :‬ت�أمالت يف العالقة اجلدلية بني احلداثة والرتاث‪ ،‬املركز الثقايف الدويل‬ ‫باحلمامات‪ ،‬تون�س‪.1979 ،‬‬ ‫■ �سلطان مهى عزيزة‪ :‬رواد من نه�ضة الفن الت�شكيلي يف لبنان‪ ،‬الك�سليك‪.2006 ،‬‬ ‫■ �شاهني مليا‪ :‬يف مائة عام من الفن الت�شكيلي يف لبنان ‪ ،1980 - 1880‬من�شورات ري�شار‬ ‫�شاهني‪ ،‬بريوت‪.1980 ،‬‬ ‫■ عويط مي�شال‪ :‬املوارنة من هم وماذا يريدون‪ ،‬مطابع الكرمي احلديثة‪ ،‬بكركي‪ -‬لبنان‪.1987 ،‬‬ ‫■ فاخوري ريا�ض‪ :‬حديقة �ضيوف‪ ،‬الفن االنطباعي اللبناين‪ ،‬غالريي بخعازي‪ ،‬بريوت‪،‬‬ ‫‪.1993‬‬ ‫■ حلود �إدوار‪ :‬الفن املعا�صر يف لبنان‪ ،‬دار امل�شرق‪ ،‬بريوت‪.1972 ،‬‬

‫‪143‬‬


‫لبنان ‪ -‬بريوت ‪� -‬شارع احلمرا ‪ -‬بناية ر�سامني ‪ -‬ط‬

‫‪3‬‬

‫�ص‪.‬ب‪ 113 - 7179 :‬بريوت ‪ -‬لبنان‬

‫‪tel: 00961 -1 - 751 541‬‬ ‫‪E-mail: info@darabaad.com‬‬ ‫‪website: www.darabaad.com‬‬

‫ا�سم الكتاب‬

‫عوملتان الفو�ضى واملقاومة‬ ‫الهوية وال�صراع‬ ‫رحيل يف ج�سد‬ ‫ال�صناعة يف طرابل�س‬ ‫التحية االخرية‬ ‫�أحالم املاء‬ ‫ناق�صات عقل و دين‬ ‫التطبيع ي�سري يف دمك‬ ‫اوف الين‬ ‫حي التنك‬ ‫بابل والتوراة‬ ‫ال�سيا�سة تطور املعنى وتنوع املقرتبات‬ ‫حب بطعم القهوة‬ ‫امل�سرح العاري‬ ‫التنمية يف الهالل اخل�صيب‬ ‫ال�سقف‬ ‫‪ 90‬يوما يف ال�سعودية‬ ‫جهاد النكاح‬ ‫مناي‬ ‫يف مواجهة الطائفية‬ ‫لأين مل �أكن‬ ‫مار مارون واملوارنة‬ ‫�شعر الفداء واالنبعاث‬ ‫حرب التحرير القومية‬

‫خيمة غزة‬

‫ال�سرية‬ ‫احلرب على �آ�سيا‬ ‫العوملة وال�سيادة‬ ‫الفي�سبوك وت�شكيل العالقات االجتماعية‬ ‫وال ينتهي اللعب‬ ‫ما مل يكتب عن داع�ش‬ ‫منرب حتوالت‬ ‫قامات �أنثوية‬ ‫الأ�شجار العلفية واال�سرتاتيجية يف بالدنا‬ ‫‪The Oak Tree‬‬

‫مواد للبناء‬ ‫ق�صائد افرتا�ضية‬ ‫كانت ال�ضيعة ب�ألف خري‬ ‫من �أجل غد واعد‬ ‫�أورا�سيا والغرب‬ ‫�أمل بردان‬ ‫فرا�شة التوت‬ ‫درو�س يف العقيدة‬ ‫التوراة تثبت �أن فل�سطني �أر�ض عربية‬ ‫يف �شواطي الريح والغبار‬ ‫امل�سيحية امل�شرقية املعنى والر�سالة‬ ‫وطن مبالمح ع�شق‬ ‫ما مل يقله اهلل‬ ‫حكاية حرب‪�..‬سورية ‪2016 - 2011‬‬ ‫كتب حتت الطبع‬ ‫‪ -‬يو�سف بك كرم (�سرية بطل) ‪� -‬سركي�س �أبو زيد‬

‫ا�سم الكاتب‬

‫الت�صنيف‬

‫فكر �سيا�سي‬ ‫�سركي�س �أبو زيد‬ ‫فكر �سيا�سي‬ ‫زهري فيا�ض‬ ‫�أدب‬ ‫زاهر العري�ضي‬ ‫اقت�صاد‬ ‫منري خملوف‬ ‫مذكرات‬ ‫من�صور عازار‬ ‫�أدب‬ ‫�سوريا بدور الطويلة‬ ‫فكر �سيا�سي‬ ‫يحيى جابر‬ ‫فكر �سيا�سي‬ ‫د‪ .‬عادل �سمارة‬ ‫�شعر‬ ‫زاهر العري�ضي‬ ‫�أدب‬ ‫اكرام الداعوق‬ ‫دين‬ ‫الأب �سهيل قا�شا‬ ‫فكر �سيا�سي‬ ‫�شوكت �أ�شتي‬ ‫�أدب‬ ‫جومانة معالوي‬ ‫�شعر‬ ‫عبيدة االبراهيم‬ ‫اقت�صاد‬ ‫زهري فيا�ض‬ ‫�أدب‬ ‫ريا�ض بيد�س‬ ‫مذكرات‬ ‫�أ�سماء وهبة‬ ‫فكر �سيا�سي‬ ‫د‪.‬عادل �سمارة‬ ‫�شعر‬ ‫فايز غازي‬ ‫فكر‬ ‫�سركي�س �أبو زيد‬ ‫�شعر‬ ‫ن�سرين كمال‬ ‫تاريخ‬ ‫�سركي�س �أبو زيد‬ ‫�أدب‬ ‫زيتوين‬ ‫ل�ؤي ف�ؤاد‬ ‫ّ‬ ‫فكر �سيا�سي‬ ‫انعام رعد‬ ‫رواية‬ ‫ن�ضال حمد‬ ‫مذكرات‬ ‫من�صور عازار‬ ‫فكر �سيا�سي‬ ‫علوان �أمني الدين‬ ‫فكر �سيا�سي‬ ‫علوان �أمني الدين‬ ‫اجتماع‬ ‫وفاء كاظم حطيط‬ ‫رواية‬ ‫اكرام الداعوق‬ ‫�أحمد �صالح عثمان – خليل القا�ضي فكر �سيا�سي‬ ‫فكر �سيا�سي‬ ‫من�صور عازار‬ ‫�أدب‬ ‫لوي�س احلايك‬ ‫علوم‬ ‫ف�ؤاد �سروجي و�أحمد �سرحان‬ ‫‪Fuad Srouji‬‬

‫فهد البا�شا‬ ‫�أمني الذيب‬ ‫غازي اخلوري‬ ‫داود خرياهلل‬ ‫د‪ .‬جمال واكيم‬ ‫ملحم احلايك‬ ‫لونا ق�صري‬ ‫�إنعام رعد‬ ‫دعاء ال�شريف‬ ‫د‪.‬ل�ؤي زيتوين‬ ‫�سركي�س �أبوزيد‬ ‫حممد ماجد �صوان‬ ‫كميل حمادة‬ ‫ثريا عا�صي‬

‫‪Sciences‬‬

‫فكر �سيا�سي‬ ‫�شعر‬ ‫رواية‬ ‫فكر �سيا�سي‬ ‫فكر �سيا�سي‬ ‫�شعر‬ ‫رواية‬ ‫فكر �سيا�سي‬ ‫فكر �سيا�سي‬ ‫رواية‬ ‫فكر �سيا�سي‬ ‫�شعر‬ ‫�شعر‬ ‫فكر �سيا�سي‬


‫�أدب‬

‫�شعر الفداء واالنبعاث‬

‫*‬

‫وفيق غريزي ‪ -‬كاتب‬

‫تطالع املتتبع للنتاجات ال�شعرية احلديثة نزعة حازت �أهمية بالغة‪ ،‬ذلك �أنها حتولت �إىل نهج عام‬ ‫يف اجتاهات ال�شعر احلديث وقد عرفت بالنزعة التموزية‪� ،‬أو نزعة الفداء واالنبعاث‪.‬‬ ‫"وهذه النزعة جتذرت حتى �أ�صبحت مرتبطة ع�ضوياً ببنيان الق�صيدة احلديثة‪ ،‬وعن�صراً جوهرياً‬ ‫يف تكوينها"‪ .‬كما �أنها �أثارت جدا ًال طوي ًال يف الأو�ساط الثقافية‪ ،‬ال�سيما يف �سياق حتديد الباعث‬ ‫على ن�ش�أة هذه النزعة‪ ،‬وحتديد جذورها الأ�صيلة‪ ،‬من هنا يقول الباحث الدكتور ل�ؤي زيتوين‬ ‫يف كتابه هذا "�أخذت نزعة الفداء واالنبعاث يف ال�شعر احلديث تربز بو�صفها مو�ضوعاً لدرا�سة‬ ‫جديدة ومو�ضوعية‪ ،‬حتيط بكل جوانبها النظرية‪ .‬وت�ضع التفا�صيل املتعلقة بانطالق هذه النزعة‬ ‫و�أ�سبابها و�أ�س�سها يف الن�صاب احلقيقي"‪ .‬وهذا ما حدا بالباحث �إىل و�ضع ر�سالة تخت�ص بهذا‬ ‫املو�ضوع حتت عنوان "�شعر الفداء واالنبعاث"‪.‬‬ ‫ولعل ال�سبب اجلوهري الختياره مو�ضوع الدرا�سة هذا‪ ،‬هو �أنه يلقي ال�ضوء على توا�صل اخلط‬ ‫الفكري التموزي يف حياتنا املعا�صرة‪ ،‬من خالل �شعر احلداثة‪ ،‬هذا اخلط الذي متثل بعقيدة‬ ‫اخل�صب واالنبعاث الرا�سخة يف ح�ضارات ما بني النهرين وبالد كنعان ال�سورية‪.‬‬ ‫�أما من الناحية ال�شخ�صية‪ ،‬ف�إن االختيار نابع من قناعة الباحث ب�ضرورة الفعل التموزي لبلوغ‬ ‫حتدد هذه الدرا�سة ال�شعراء الذين تتناولهم‪� ،‬إذ �شملت بع�ضاً من‬ ‫القيامة‪ ،‬ومن ناحية �أخرى ّ‬ ‫�أبرز املمثلني للخط التموزي الذين ن�شطوا ب�شكل �أ�سا�سي يف جملتي "�شعر والآداب" وهم‬ ‫�سني والدتهم‪ :‬يو�سف اخلال‪ ،‬خليل حاوي‪ ،‬جربا ابراهيم جربا‪ ،‬بدر �شاكر‬ ‫على التوايل ح�سب ّ‬ ‫ال�سياب‪� ،‬أدوني�س‪ ،‬نذير العظمة‪ ،‬ف�ؤاد رقعة‪ ،‬كمال خري بك وفايز خ�ضور‪.‬‬ ‫*‪� -‬شعر الفداء واالنبعاث ‪ -‬الدكتور ل�ؤي زيتوين‪ -‬دار �أبعاد‪ ،‬بريوت ‪.2015‬‬ ‫‪145‬‬


‫احلداثة ونزعة الفداء واالنبعاث‬

‫�شكلت عملية تفجري البنى الإيقاعية التقليدية يف ال�شعر العربي يف �أواخر الن�صف الأول‬ ‫من القرن املا�ضي‪ ،‬والدة عتيقة نتجت عن مرحلة الإرها�صات التي حتركت يف اجتاهني‪ :‬اجتاه‬ ‫ت�ضمن �سعياً حثيثاً ال�ستعادة مكانة ال�شعر العربي القدمي و�إرجاعه �إىل �سابق عهده‪ ،‬واجتاه عمل‬ ‫ب�شكل متوا�ضع لتطوير ال�شعر العربي ا�ستثنا ًء �إىل املذاهب الأدبية احلديثة التي ن�ش�أت يف‬ ‫الغرب‪ .‬وينقل امل�ؤلف الباحث عن يو�سف اخلال قوله‪" :‬كان ال�شعر العربي قبل اخلم�سينيات‬ ‫ا�ستمراراً لع�صر ذهبي مل يعد الئقاً انتهاك حرمته بامل�ضغ واالجرتار‪ ،‬على الرغم من املحاوالت‬ ‫التجديدية املغلفة بغالف �شفاف من النظرات والتجارب الرومان�سية والربنا�سية والرمزية"‪.‬‬ ‫ومن �أ�سف �أن يعني معظم ال�شعراء يف احلركة اجلديدة ونقادها مبظهرها اخلارجي‪ ،‬حا�سبني �أن‬ ‫ميزتها الكربى هي اخلروج على الأوزان التقليدية‪ ،‬وباعتماد البيت ال�شعري ميزاناً مو�سيقياً‬ ‫�أو باعتماد وزن داخلي‪ .‬ولذلك يعلق بع�ض النقاد‪ ،‬ويف مقدمتهم �إح�سان عبا�س على هذا‬ ‫املو�ضوع فيزعمون �أن الثورة التي قام بها ال�شاعر املعا�صر‪ ،‬كانت على ال�شكل ال�شعري‪� ،‬أول‬ ‫الأمر‪ ،‬خطوة متهيدية مل تغري كثرياً يف طبيعة ال�شعر‪ ،‬و�إن غيرّ ت بع�ض مو�ضوعاته وجماالته‪،‬‬ ‫وو�سعت من حدوده لتقبل تيارات معا�صرة خمتلفة‪ .‬ويف البيان الت�أ�سي�سي ملجلة �شعر الذي‬ ‫�ألقاه يو�سف اخلال يف دار الندوة حتت عنوان "م�ستقبل ال�شعر العربي" �إذ يرى �أن من الأ�س�س‬ ‫التي يقوم عليها �شعر طليعي‪ ،‬كما ينقله الباحث عنه‪" :‬تطوير الإيقاع ال�شعري العربي و�صقله‬ ‫على �ضوء امل�ضامني اجلديدة‪ ،‬فلي�س للأوزان التقليدية �أية قدا�سة"‪ .‬يعني ح�سب ر�أي الدكتور‬ ‫ل�ؤي زيتوين �أن حتديث ال�شكل �إمنا ي�ستهدف متهيد الطريق �أمام حتديث امل�ضمون وجعله يف�سح‬ ‫يف املجال لبلوغ احلداثة الفكرية‪" .‬لأن نظام ال�شكل القدمي يف ال�شعر العربي يفر�ض قيوده على‬ ‫التعبري وعلى انطالق الفكر كذلك‪ ،‬ولهذا ف�إن هذه امل�سرية ال�شكلية لن تت�أخر يف �أن ت�صبح‬ ‫لدى الرواد العراقيني‪ .‬ولكن على نحو �أخ�ص و�أو�ضح يف �أعمال جتمع �شعر‪ ،‬م�سرية للفكر‪،‬‬ ‫ومقاومة للعامل‪ ،‬وكيفية يف ر�ؤيته ومتثله‪ ،‬كذلك و�سيلة تهدمه و�إعادة بنائه"‪.‬‬ ‫واحلداثة باعرتاف �أعالمها‪ ،‬هي حداثة عقلية وروحية‪ ،‬تبتعد كل البعد عن التق�سيمات‬ ‫واملفاهيم لل�شعر لتخرج �إىل التعبري عن املنظور احلديث �إىل حالة الكيانية احلياتية وعن‬ ‫الو�ضع احل�ضاري الذي نعي�شه حا�ضراً‪ ،‬ناظرين �إىل الكيفية التي ت�سعى بها �أن حتقق‬ ‫م�ستقبلنا املرجو‪ ،‬لذا نقول مع ريتا عو�ض يف هذا الإطار‪�" :‬إمنا احلداثة‪ ،‬يف املحل الأول‪،‬‬ ‫‪146‬‬


‫�أدب‬

‫موقف من احلياة والوجود ور�ؤيا جديدة للم�ستقبل"‪.‬‬ ‫الر�ؤيا اجلديدة للعامل‬

‫يعتقد زيتوين �أنه لعل �سمات الر�ؤيا اجلديدة للعامل هي النظر �إىل الواقع املعا�ش‪ ،‬االجتماعي‬ ‫وال�سيا�سي والثقايف‪ ،‬و�إجراء نقد واع ملوقع الإن�سان العربي احل�ضاري ما�ضياً‪ ،‬حا�ضراً وم�ستقب ًال‪،‬‬ ‫�إذ ا�ستطاع هذا الرائي �أن ينفذ بر�ؤياه �إىل �أعماق واقعنا املزري لري�سم الغد الذي ميثل قيمه‬ ‫العليا‪ ،‬ولذا يو�ضح النقد احلديث هذه امل�س�ألة كما ورد عند كمال خري بك‪ ،‬وينقله الباحث‬ ‫حيث قال‪" :‬ويجتاز العامل العربي اليوم حلظة حا�سمة من تاريخه‪ ،‬حلظة ف ّوارة ب�إعادة النظر‬ ‫والتفح�ص واالختبار‪ ،‬وخالفاً للتجليات الأوىل ليقظته يف مطلع القرن املا�ضي‪ ،‬ف�إنه ال يبدو‬ ‫مهموماً ب�إنقاذ �صورته القدمية‪ ،‬جزئياً �أو كلياً‪ ،‬بقدر ما يبدو مهموماً بالدخول‪ ،‬وعلى نحو نهائي‪،‬‬ ‫يف كابو�س عامل �آخر‪ ،‬والتكيف ح�سب طبيعته ومعرفة لعبه وقوانينه"‪� .‬إن العربي يالحظ الآن‬ ‫مبرارة كيف �أن العامل يتجاوز منطه القدمي الذي نحته هو على �صورته‪.‬‬ ‫وبناء على ذلك‪ ،‬ف�إن ال�شاعر العربي احلديث كان عليه مواجهة عدد من املتغريات التي �أثرت‬ ‫فيه بالت�أكيد‪ ،‬ومواجهته هذه �أدت �إىل تر�سيخ الر�ؤيا اجلديدة‪ .‬ومن هنا ر�أى النقد احلديث‬ ‫الذي رافق حركة احلداثة العربية ال�شعرية‪ ،‬ح�سبما ينقل الدكتور زيتوين عن ال�شاعر والناقد‬ ‫الفل�سطيني جربا ابراهيم جربا‪" :‬ال�سمة الكربى يف التغيري الذي يعم العامل العربي اليوم‪ ،‬هي‬ ‫تغيري الر�ؤيا‪ ،‬ولل�شعر العربي املعا�صر �صلة كبرية بهذا التغيري‪ ،‬بل �إنه من م�ؤ�شراته الأوىل‪ ،‬وبع�ض‬ ‫من دوافعه الرئي�سية‪ .‬والتغيري ال�شعري �أ�سلوباً وحمتوى يتبادل الأثر مع تغيري الر�ؤيا"‪ .‬فيربز لنا‬ ‫هنا موفق منظور الباحث زيتوين �سمة جديدة من �سماتها‪� ،‬إذ �إن تلك املواجهة انعك�ست �إيجاباً‬ ‫يف ال�شعر فقدمت مفهوماً جديداً للق�صيدة يربط‪� ،‬أو يدمج ب�شكل ع�ضوي امل�ضمون وال�شكل‬ ‫معاً‪ ،‬ويخرج عن �إطار الأغرا�ض التقليدية‪ ،‬فكان تعريف الق�صيدة الر�ؤيا هو �أنها "قراءة جديدة‬ ‫لتاريخ الإن�سان يف الكون‪� ،‬أو ر�ؤية جديدة للو�ضعية الإن�سانية"‪.‬‬ ‫ويرى زيتوين �أن ال�شعر بو�صفه فناً‪ ،‬يعتمد يف وجوده على الر�ؤيا التي ت�سعى بطبيعة احلال‬ ‫�إىل التوغل يف �أعماق الوجود الكتناه �أ�سراره‪" .‬يبقى �أن الر�ؤيا تختلف تبعاً للزمن وللجغرافيا‪،‬‬ ‫و�أي�ضاً تبعاً للخلفية الأيديولوجية التي حتكم �شخ�صية كل �شاعر‪ ...‬ولذا تكون جدة الر�ؤيا بقدر‬ ‫قدرتها على ا�ستيعاب الطبيعة اخلا�صة للخطة احل�ضارية ووعياً خل�صو�صية التعامل معها‪ .‬كما �أن‬ ‫‪147‬‬


‫تقليدية ال�شعر تعني �سلفية الر�ؤيا‪ ،‬وبالتايل ق�صورها عن ذلك اال�ستيعاب وعن هذا الوعي"‪.‬‬ ‫تعريف ق�صيدة الفداء واالنبعاث "التموزية"‬

‫ُعرفت ق�صيدة الفداء واالنبعاث منذ ن�ش�أتها با�سم الق�صيدة التموزية‪ ،‬ن�سبة �إىل �أ�سطورة متوز‬ ‫�أو �أدوني�س‪ ،‬وذلك منذ اخلم�سينيات من القرن املا�ضي‪ ،‬وال يخفى مدى ارتباط هذه الت�سمية‬ ‫بتاريخ عقيدة اخل�صب واالنبعاث يف املنطقة‪ .‬ويقول الباحث زيتوين‪" :‬وقد ظهر م�صطلح‬ ‫ال�شعراء التموزيني‪ ،‬لأول مرة يف عدد جملة �شعر ال�صادر يف �صيف ‪� ،1958‬ضمن مقالة بعنوان‬ ‫املفازة والبئر واهلل‪ ،‬جلربا ابراهيم جربا‪ ،‬الذي �أطلقها على ال�شعراء‪ :‬يو�سف اخلال‪ ،‬خليل حاوي‪،‬‬ ‫بدر �شاكر ال�سياب وجربا نف�سه"‪ ،‬لأن �شعرهم يتميز بنهج الفداء واالنبعاث الذي ميثله متوز �أحد‬ ‫�أقدم رموز هذا النهج‪.‬‬ ‫ولكن ال�س�ؤال الذي يواجه امل�ؤلف‪ :‬ملاذا اختري رمز متوز بالذات لإطالقه على �شعر الفداء‬ ‫واالنبعاث دون غريه؟ يف حني من املمكن �إعطاء ت�سمية الق�صيدة البعلية �أو الأدوتية‪� ،‬أو‬ ‫امللكارتية‪ .‬فال بد من دخول عن�صر ما بالقوة التي متكنه من تدعيم م�س�ألة اعتماد هذه الت�سمية‬ ‫"وقد جتد ذلك العن�صر‪ ،‬على الأرجح‪ ،‬يف املطابقة الوجدانية بني �أ�سطورة الفداء واالنبعاث‬ ‫وبني ا�ست�شهاد �أنطون �سعاده يف �شعر متوز‪ ،‬هذا احلدث الذي ارتبط به معظم ال�شعراء التموزيني‬ ‫فكرياً ووجدانياً"‪.‬‬ ‫وي�ستطيع املطلع �أن يرى م�صطلح الق�صيدة التموزية‪ ،‬عنواناً مف�صلياً يف حركة احلداثة ال�شعرية‬ ‫واحل�ضارية‪ ،‬لأنه كان النتاج الأكرث ا�ستيعاباً لطبيعة املرحلة التي ُولد فيها‪ ،‬والأكرث مقاومة‬ ‫ل�ضحالتها‪ ،‬وبالتايل الأكرث حتديثاً نظراً لطبيعتها الثورية‪ -‬التجاوزية‪ .‬وقد انطلقت مع ال�شعراء‬ ‫اخلم�سة ال�سابق ذكرهم‪ ،‬على اعتبار �أنهم ي�شرتكون بت�ص ّور احلا�ضر‪� ،‬أر�ضاً خراباً‪ ،‬ماتت فيها‬ ‫القيم الإن�سانية ومعامل احل�ضارة ثم يلوحون بقيم جديدة‪.‬‬ ‫وي�شري زيتوين �إىل �أن نزعة الفداء واالنبعاث‪ ،‬قد تو�سعت وانت�شرت‪ ،‬فلم تعد حم�صورة يف‬ ‫معممة على معظم �شعراء جيلهم‪ .‬وحتى على �شعراء‬ ‫ال�شعراء اخلم�سة‪� ،‬إذ �إنها حتولت �إىل نزعة ّ‬ ‫الأجيال الالحقة و�أبرز الأ�سماء التموزية الأخرى ال�شعراء عبد الوهاب البياتي‪ ،‬نذير العظمة‪،‬‬ ‫فايز خ�ضور‪ ،‬كمال خري بك‪ ،‬وحممد علي �شم�س الدين‪ ،‬مع اكت�سابها اخل�صو�صية ال�شخ�صية‬ ‫لكل �شاعر‪� ،‬إال �أنها ‪-‬يقول زيتوين‪" :-‬تت�سم بقوا�سم م�شرتكة بني نتاجاتهم‪ .‬وهذا ما قاد بع�ض‬ ‫‪148‬‬


‫�أدب‬

‫الباحثني �إىل التو�ضيح‪ ،‬االنبعاث احل�ضاري‪ ،‬الرمز التموزي‪ ،‬العنقاء‪ ،‬وطائر الفينيق‪ ،‬هي القا�سم‬ ‫امل�شرتك يف مرحلة �شعرية كاملة"‪ .‬وفكرة االنبعاث تبدو وك�أنها حماولة ال�ستكمال ع�صر النه�ضة‬ ‫العربية‪� .‬إنها ا�ستعادة للما�ضي‪ ،‬لكنها يف تبلورها ال�شعري ال ت�ستعيد القدمي ب�شكل جماين‪ ،‬بل‬ ‫توظفه يف خدمة م�شروع جديد‪ ،‬بو�صفه منوذجاً‪� ،‬أو �إطاراً �أو رمزاً‪ .‬لذلك غرقت يف الأ�سطورة‪.‬‬ ‫والأ�سطورة يف وعاء‪ ،‬جمرد وعاء للحظة اجتماعية هاربة‪ .‬العودة �إىل املا�ضي لي�ست عودة نقدية‬ ‫�إنها عودة وظيفية‪ ،‬توظيف للما�ضي يف �سبيل هدف �آخر‪.‬‬ ‫وي�ؤكد زيتوين �أن ق�صيدة الفداء واالنبعاث واكبت عملية الوعي احل�ضاري التي �أخذت تتنامى‬ ‫يف املجتمع‪ ،‬فكانت يف �أ�سا�سها منطلقة من فكر �أو موقف جديد جتاه العامل‪� ،‬أي �إنها عقلية‬ ‫حداثية ثورية ت�صدت لهجوم احلا�ضر فنظرت �إليه ب�شكل مغاير عن وجهات النظر ال�سائدة‬ ‫حتى ذلك الزمن‪.‬‬ ‫�إرها�صات والدة ق�صيدة الفداء واالنبعاث‬

‫�إن فعل الفداء واالنبعاث فعل فردي ي�ستهدف قيامة اجلماعة‪ ،‬وهذا ما حدث فع ًال يف املطولة‬ ‫ال�شعرية التي بدت وك�أنها عنوان للدخول يف ع�صر �شعري جديد عملياً‪ .‬تغيب عنه الهموم‬ ‫ال�شخ�صية البحتة‪ ،‬كما تغيب عنه الوطنية الرومان�سية‪ .‬ويح�ضر فيه عن�صر الر�ؤيا والرمز يف �إطار‬ ‫كياين يحت�ضن هم اجلماعة‪ ،‬دون �أن يغيب باخليال عن الواقع العملي وعن احلركة يف �ساحة‬ ‫اجلهاد العقلي‪.‬‬ ‫يف املقابل "ا�ستخدم العديد من ال�شعراء والكتاب �أ�ساطري البعث‪ :‬متوز‪� ،‬أدوني�س‪ ،‬و�أوزري�س‪ .‬لكن‬ ‫بع�ض الباحثني يرى يف ا�ستخدام ه�ؤالء لها‪ ،‬غري الطابع الرومان�سي والو�صفي جرد الأ�سطورة‪،‬‬ ‫التموزية يف كتابة ه�ؤالء من دراما احلياة واملوت‪ .‬فجاءت خالية من احلركة وال�صراع"‪ .‬كما‬ ‫ميكن القول �إنه ا�ستخدام كان �شبيهاً بالإثارة‪ ،‬ويف بع�ض جوانبه ت�ضميناً لأ�ساطري �أو �شخ�صيات‬ ‫�أ�سطورية ب�صفتها مرياثاً معرفياً �أو معرفة ثقافية من دون و�ضوح لتفاعلها من اجلانب الوجداين‬ ‫واالنفعايل وان�صهارهما الأ�سطورة والوجدان معاً ليكونا بنية من بنى الق�صيدة‪ .‬وقد بلغ تطور‬ ‫الإرها�صات التي مهدت لن�شوء ق�صيدة الفداء واالنبعاث "�أن دخلت يف ن�سيج العامي‪ ،‬يف‬ ‫الفرتة التي بد�أ فيها هذا ال�شعر نف�سه يتطور ويتخلى عن �أمناطه القدمية املحددة"‪� .‬إن هذه‬ ‫الق�صيدة مل تولد ب�شكل فجائي دفعة واحدة‪ ،‬فقد كانت تتبلور على زمن غري قليل‪ ،‬فكانت‬ ‫‪149‬‬


‫املحاوالت التي ت�ضمنت الرموز االنبعاثية �أو تبنت الفعل االنبعاثي هي الإرها�صات الأوىل‬ ‫التي �أدت �إىل والدة ق�صيدة الفداء واالنبعاث مع ال�شعر احلديث من خالل �شعراء خا�ضوا‬ ‫ب�أنف�سهم يف وقت مبكر م�س�ألة التعامل مع الرموز ح�سب قول زيتوين‪.‬‬ ‫لعل اكت�شاف قيم اجلدب وال�سقوط من قبل ال�شعراء جعلهم يفكرون يف ا�ستفزاز قوى اخل�صب‬ ‫الفكري يف الأمة‪ ،‬ب�شكل ي�شابه طريقة �صراع الإن�سان القدمي يف �أوىل درجات تفكريه �ضد قوى‬ ‫القحط يف بيئته الطبيعية‪ ،‬فكان كما يرى جربا ابراهيم جربا البحث عن ميالد جديد عن‬ ‫بعث يف الوجود واملدن والزمن‪ .‬وامليالد اجلديد هذا من منظور زيتوين يجب �أن يكون متمتعاً‬ ‫بالقوة الالزمة التي ت�ؤهله لالندماج باحلالة احل�ضارية‪ ،‬واالنطالق من الر�ؤيا التي حملها �أولئك‬ ‫ال�شعراء �إىل العامل‪" .‬فوجدوا يف تراثهم القومي تلك القوة يف الأ�ساطري والرموز القادرة على‬ ‫الإم�ساك بتلك احلالة وجت�سيد هذه الر�ؤيا‪ ،‬ب�شكل ي�ؤمن �شعوراً عارماً بالقيامة دون �أن يقف‬ ‫عند هذا احلد‪ ،‬بل ميتد لي�ؤثر يف حركة املتلقني فيدخلهم يف ق�ضاء ال�صراع احلقيقي من �أجل‬ ‫القيامة"‪ .‬من هنا جل�أ ه�ؤالء �إىل الرمز التموزي لبلوغ ذلك امليالد يف �أ�شعارهم‪ .‬وعليه يكون من‬ ‫الأ�سباب املو�ضوعية‪ ،‬ال�ستخدام هذا الرمز‪ ،‬ورمبا يكون �أهمها‪" :‬الو�ضع مع نكبة ‪ ،1948‬فقد‬ ‫�صحا ال�شعراء على �ضياع فل�سطني و�ضياع الكرامة والعربية معها ب�سبب هزمية الأمة العربية‬ ‫�آنذاك‪ .‬وكان هذا �أ�شبه بالقحط واجلدب يف احلياة العربية والواقع العربي‪ ،‬وت�شكل هذا هاج�ساً‬ ‫يف ذهن ال�شاعر"‪.‬‬ ‫وبطبيعة احلال ف�إن هذا ال�شعور بالإحباط وهذا ال�سعي �إىل االنبعاث انتظر ن�ضج التجربة‬ ‫احل�ضارية حتى ي�ستطيع �أن يتج�سد يف ق�صيدة الفداء واالنبعاث على يد نخبة من ال�شعراء‬ ‫الذين يهج�سون بحلم اجلماعة يف اخلال�ص‪" ،‬فكانت �أوا�سط �سنة ‪ 1954‬تقريباً‪ ،‬م�سرية �شعراء‬ ‫الفداء واالنبعاث يف احلداثة‪ ،‬وتدعمت من خالل �صفحات جملة �شعر ب�شكل �أ�سا�سي‪ ،‬مع‬ ‫ح�ضورها على �صفحات جملة الآداب‪ ،‬وقد �أخذ هذا ال�شعر يتطور ويتعمم بني ال�شعراء حتى‬ ‫�أ�صبح نزعة �شعرية غري مقت�صرة على عدد من ال�شعراء املحددين"‪ .‬وميكننا ا�ستناداً �إىل ذلك‬ ‫القول مع �سلمى اخل�ضراء اجليو�سي‪� :‬أ�صبحت اللحظة احل�ضارية منا�سبة يف �أوا�سط اخلم�سينيات‬ ‫ال�ستعمال ال�شعراء العرب للأ�سطورة‪ ،‬فعمدوا �إليها ليعبرّ وا عن قحط احلياة العربية بعد نكبة‬ ‫فل�سطني‪ ،‬وعن ال�شوق العميق يف لهفته و�أ�ساه �إىل العودة �إىل نب�ض احلياة والكرامة‪.‬‬ ‫ومن املحتمل �أن يكون ال�شعراء التموزيون الأول قد انخرطوا يف هذا الت�أثر باالطالع على بع�ض‬ ‫‪150‬‬


‫�أدب‬

‫النماذج ال�شعرية الغربية وحتى على بع�ض �أعالم الفل�سفة يف الغرب‪ ،‬والواقع يقول زيتوين‪:‬‬ ‫"�إن جميع هذه الأمور جعلت من ن�شوء �شعر الفداء واالنبعاث �أمراً يف غاية التعقيد‪ ،‬لأنه كان‬ ‫متداخ ًال يف خمتلف جوانب احلالة احل�ضارية والقومية‪ ،‬من هذا املنطلق بحث �أولئك ال�شعراء‬ ‫يف الرموز احل�ضارية التموزية عن احتمال �إحياء نه�ضوي ح�ضاري يك�شف عن �إمكانية تبلور‬ ‫الذات القومية"‪ .‬وك�شف هويتها يف ر�ؤيا نخبوي ت�ستوعب �أحالم اجلماعة وتفديها‪ .‬وعلى هذا‬ ‫الأ�سا�س جرى الت�أكيد يف النقد احلديث على �أ�صالتهم ودورهم احل�ضاري‪.‬‬ ‫عرف ال�شعر العربي ق�صدية الفداء واالنبعاث التي �أطلق عليها الق�صيدة التموزية‪ ،‬يف منت�صف‬ ‫القرن املا�ضي‪ ،‬وهذه الق�صيدة تقوم على رف�ض ال�شعراء للواقع املجدب‪ ،‬الذي يعي�ش فيه‬ ‫جمتمعهم‪ ،‬والقيام بفعل عك�سي يف مواجهته با�ستنها�ض قيم احلياة يف هذا املجتمع‪ .‬وذلك ال‬ ‫يكون �إال با�ستخدام تاريخها و�أبرزه ا�ستخداماً يف ال�شعر رمز متوز‪.‬‬ ‫امل�ؤثرات يف ن�ش�أة الق�صيدة التموزية‬

‫يحدثنا امل�ؤلف الدكتور ل�ؤي زيتوين عن امل�ؤثرات يف الق�صيدة التموزية وال�شعر التموزي‪ ،‬بدءاً‬ ‫بامل�ؤثرات الغربية الأنرتوبولوجية‪ ،‬وال�سيما كتاب الغ�صن الذهبي جليم�س فريزر وخا�صة كتاب‬ ‫"متوز" الذي ترجمه جربا ابراهيم جربا‪ ،‬ثم امل�ؤثر الأليوتي �أو التثاقفي‪ ،‬ثم امل�ؤثر النه�ضوي‬ ‫القومي االجتماعي‪ .‬فيقول امل�ؤلف‪" :‬وبالتنا�سب مع ما انطلق منه �أنطون �سعاده يف تعريف‬ ‫الأمة و�أولويتها‪ ،‬يع ّرف ال�شعر بالقول‪ :‬هو الذي يعني ب�إبراز �أ�سمى و�أجمل ما يف كل حيز‬ ‫من فكر �أو �شعور �أو مادة‪ .‬ويرتكز فهم �سعاده لل�شعر �إىل �أربعة �أفكار �أ�سا�سية‪ :‬منائية ال�شعر‬ ‫الباحثة عن الأ�سمى والأجمل‪ ،‬الفكرة املتعلقة مبادة ال�شعر التي تتمحور حول االنفعال ولكن‬ ‫املرتبطة بالفكر ولي�س باالنفعال اجلامح‪ ،‬الثالثة فكرة كيفية التعبري عن هذا االنفعال والذي‬ ‫يكون بال�صور املجازية واخليالية‪ ،‬و�أخرياً فكرة االرتباط‪ ،‬ارتباط ال�شعر بـ"احلقيقة وبالغر�ض‬ ‫الإن�ساين"‪.‬‬ ‫�إذاً فال�شعر عند �سعادة ال يتعلق فقط بالفكر‪ ،‬كما �أنه من غري العادل قطره على ال�شعور‪� ،‬إنه‬ ‫�أعمق من ذلك و�أ�شمل‪� ،‬إذ ي�شتمل على ارتباط وثيق بالو�ضعية الراهنة للأمة ومبا يجب �أن‬ ‫تكون عليه‪ .‬وبهذا ميكننا �أن نتحدث عن ال�شعر املثايل والأ�سمى‪ ،‬لكن الباحث جمال باروت‬ ‫فيقول يف ال�سياق نف�سه‪" :‬تكمن �أهمية �سعاده يف �أنه‪ ،‬مل ير الوظيفة يف العالقة ما بني ال�شاعر‬ ‫‪151‬‬


‫وجمهور يحر�ضه‪� ،‬أي �إنه مل يرها يف �إطار خطابي حتري�ضي بقدر ما ر�آها يف طبيعة ال�شعر نف�سه‪،‬‬ ‫بعد �إعادة النظر مبعناه وطبيعته ووظيفته و�أدواته"‪.‬‬ ‫انطالقاً من هذا الفهم املتكامل لل�شعر‪ ،‬وجد �سعاده ح�سب ر�أي امل�ؤلف �أن �شعراءنا الذي‬ ‫عا�صروه غارقون يف التقليد الأعمى‪ ،‬و�أن نظرتهم �إىل التجديد وتغرقهم �أكرث يف التقليد‪ ،‬لأن‬ ‫جعل ال�شاعر مر�آة للجماعة �أو مر�آة للع�صر‪ ،‬يجعله يعك�س الواقع املنحط والرديء‪ .‬ويف ذلك‬ ‫ميكن القول‪� :‬إزاء هذا الواقع جتد �سعاده يتعامل مع الإبداعية بر�سم الفنان املبدع‪ ،‬وال�شاعر‬ ‫لي�س م�ؤرخاً وال عاملاً اجتماعياً‪ ،‬لي�س بال�ضرورة را�سماً واقع جمتمعه‪ ،‬املبدع هو ذلك الن�سر‬ ‫املحلق الذي ي�ضرب بجناحيه رحاب اجللد في�ؤاخي ال�سماويات والفوقيات واملثل العليا‪،‬‬ ‫وينزل �إىل �أعماق اليم فيعود بالدرر الثمينة من جواهر النف�س ودرر احلياة‪.‬‬ ‫الأدب عند �سعاده هو �أدب احلياة ولي�س �أدب العاطفة �أو النزوة �أو البكاء على الأطالل‪ .‬هو‬ ‫�أدب الفعل ولي�س �أدب االنفعال‪ .‬هو ال�ضارب يف �أعماق النف�س‪ ،‬واملتجذر يف �أ�صول الفكر‪،‬‬ ‫"وويل لأمة ال متلك �شاعراً كبرياً �أو �أديباً كبرياً‪ ..‬لأنها‪ ،‬واحلالة هذه‪ ،‬ال متلك �أي �شيء كبري"‪.‬‬ ‫ومن �أبرز ال�شعراء التموزيني الذين ت�أثروا ب�سعادة‪ ،‬ال�شاعر خليل حاوي‪ ،‬ولعل ت�أثره ب�سعادة‬ ‫يربز من خالل تبنيه لبع�ض مقوالت "ال�صراع الفكري" �إذ ي�شجب مث ًال الأخذ ب�أ�ساطري غريبة‬ ‫يعده تخلياً عن االنتماء وخدمة لأعداء الأمة‪،‬‬ ‫عن �شخ�صية الأمة وعن م�صريها لأن ذلك ّ‬ ‫كما فعل �سعيد عقل يف تبت يفتاح‪ ،‬حيث جتد يفتاح اليهودي بط ًال �أ�سطورياً‪ .‬وهذا الأمر من‬ ‫منظور حممود �شريح‪ :‬ي�ؤكده املتخ�ص�صون يف �أدب خليل حاوي‪� ،‬إذ يرون‪ ..‬بيد �أن ال�شاعر‬ ‫فحملها �آراء‬ ‫كثف ن�شاطه النقدي يف ال�سبعينيات من خالل مقابالت معه �أو درا�سات � ّ‬ ‫أعدها ّ‬ ‫جريئة ا�ستمد معظمها من م�ؤلف �سعاده "ال�صراع الفكري و�صهرها بر�ؤية فل�سفية متميزة ت�أخذ‬ ‫باجتاهات املذهب الكانطي النقدي دون �أن تغيب عنها خلفية احلزب القومي"‪.‬‬ ‫ويرى البع�ض يف عودة حاوي �إىل الأ�سطورة يف �شعره‪ ،‬كما يو�ضح امل�ؤلف تطبيقاً لفكرة �سعاده‬ ‫حول هذا املو�ضوع‪ ،‬ال بل يذهبون �إىل القول �إن ا�ستيعابه لهذه الفكرة ال�سعادية هي عملياً‬ ‫�إعادة اعتبار لذلك القائد من خالل جعل حياة �سعاده ب�أكملها رمزاً �أ�سطورياً‪ ،‬فقد متكن خليل‬ ‫حاوي من توحيد الآتي بالأزيل‪ ،‬بالثقافة اجلماعية للأمة‪ ،‬فر ّد على �سعاده مكانته الالئقة يف‬ ‫فهمه لتوظيف الرمز الأ�سطوري يف الق�صيدة‪ ،‬وح ّول �سريته كلها �إىل رمز �أ�سطوري‪ ،‬ويف حتليل‬ ‫‪152‬‬


‫�أدب‬

‫عميق ب�شعر حاوي‪ ،‬يلحظ البع�ض �أن رمز النار امللكارتية احلا�ضر ب�شكل مكثف فيه‪ ،‬ي�شكل‬ ‫رمزاً تناحياً يحيلنا �إىل مرجع ديناميكي وهو �شعار الزوبعة القومية االجتماعية"‪.‬‬ ‫كما �أن حاوي نف�سه ال يرتك جما ًال لل�شك يف انتمائه القومي االجتماعي حتى بعد �أن ترك‬ ‫احلزب تنظيمياً‪ ،‬فهو يديل بت�صريح وا�ضح يف بداية ال�سبعينيات‪ ،‬قائ ًال‪ :‬مل ي�أت يف تاريخنا قائد‬ ‫له قامة وح�ضور مثل �أنطون �سعاده‪ ،‬لقد حاربوه‪ ،‬و�سيحاربون �أتباعه‪ ،‬لكن �أبناء احلياة ال يهابون‪،‬‬ ‫وهذا ما مينع ال�شك يف ق ّوة الأثر العميق هذا ل�سعاده يف �شاعر االنبعاث الأول خليل حاوي"‪.‬‬ ‫�أ�س�س �شعر الفداء واالنبعاث‬

‫ي�شري امل�ؤلف ل�ؤي زيتوين �إىل �أن �أول هذه الأ�س�س هو الوالء الذي حمله ال�شعراء للأر�ض‪ ،‬مبا‬ ‫جت�سده من معاين االنتماء‪ ،‬ولهذا �شكلت �أوىل �سمات ال�شعر التموزي‪ ،‬ثم االمتالء بامل�صري‬ ‫الكلي‪ -‬اجلمعي‪ ،‬على اعتبار �أن ال�شاعر بح�س باندماجه يف اجلماعة التي ت�شاركه والءه‬ ‫ويعدها ال�شعراء تعبرياً‬ ‫للأر�ض‪� .‬أما الأ�سا�س الثالث فهو املتعلق بالرموز الدينية والأ�سطورة‪ّ ،‬‬ ‫عن حقيقة تاريخية فاعلة‪ ،‬لأن الرمز ّ‬ ‫�شكل را�صداً للواقع املعا�ش يف جمتمعنا‪.‬‬ ‫ويقول زيتوين‪" :‬لقد ارتبطت حركة الفداء واالنبعاث يف �شعرنا احلديث‪ :‬بالتجربة احل�ضارية‬ ‫التي عا�شها جمتمعنا"‪ .‬ميكننا ا�ستناداً �إىل ذلك �أن نلحظ امل�ضامني امل�شرتكة بني �شعراء الفداء‬ ‫واالنبعاث‪ ،‬و�أول هذه امل�ضامني هو تطويرهم الواقع الأليم املليء باالنك�سارات واخليبات‪� ،‬إذ‬ ‫جمد عروق الأر�ض وقتل‬ ‫�إن خليل حاوي على �سبيل املثال‪ ،‬يرى يف هذا الواقع "جليداً" ّ‬ ‫كل مظهر للحياة عند الب�شر فمات كل عرق ويب�ست الأع�ضاء حلماً قديداً‪ .‬ويف نظرة �إىل �شعر‬ ‫يو�سف اخلال يقول امل�ؤلف‪" :‬تراه يجعل من واقعه حالة من الالمباالة حتى بالقيم الإن�سانية‬ ‫ال�سامية‪ .‬حتى �إن البئر الذي يفي�ض ما�ؤها يف ق�صيدة البئر املهجورة‪ ،‬مير عليها الب�شر متجاهلني‬ ‫�إياها فال ي�شربون منها وال يرمون فيها حجراً‪ .‬وهذه الالمباالة وهذا التجاهل‪� ،‬إمنا يعنيان املوت‬ ‫والعدم"‪.‬‬ ‫من جهته‪ ،‬ال�شاعر العراقي بدر �شاكر ال�سياب‪ ،‬ي�ص ّور بالده حزينة مهدمة‪ ،‬ي�سيطر عليها‬ ‫ّ‬ ‫املنحل‬ ‫الوح�ش الذي يحر�س مملكة اجلحيم واملوت‪ ،‬يربزه ب�صورة رهيبة تنم عن احلا�ضر‬ ‫واملنحط‪ ،‬ويخت�صر ال�سياب واقعه وواقع وطنه بو�صفه جوعاً يتحكم بحياة العراق‪ .‬وبالتايل ف�إنه‬ ‫يفتح جما ًال لإ�شباع هذا اجلوع بانبعاث منتظر"‪.‬‬ ‫‪153‬‬


‫وال يخرج �أدوني�س عن غريه من التموزيني‪ ،‬يف و�صف الواقع‪� ،‬إال �أنه يجعل ال�سبب يف الو�صول‬ ‫�إىل هذا الواقع املرير‪ ،‬هو املجتمع نف�سه‪ .‬ف�أفراده هم الذين اندفعوا نحو الهاوية وجعلوا بالدهم‬ ‫تعي�ش ذلك ال�سقوط‪.‬‬ ‫"والنا�س يف جمتمع �أدوني�س ال ي�ؤمنون بالفاعلية الذاتية للإن�سان‪ ،‬بل بالغيبيات التي يعتقدون‬ ‫�أنها �ستنقذهم من حالتهم‪ ،‬وبالتايل مب�س�ألة الق�ضاء والقدر وهذا ما ي�شكل �سبباً �أ�سا�سياً يف‬ ‫انحطاط املجتمع"‪.‬‬ ‫ون�ستطيع القول �إن ال�شعراء التموزيني قد انطلقوا يف نظرتهم احل�ضارية من ر�صد الواقع‬ ‫امل�أ�ساوي للمجتمع وك�شفه على حقيقته‪ ،‬لكننا يف هذا الإطار‪ ،‬ال ميكننا �أن نح�صر هذا املو�ضوع‬ ‫به�ؤالء ال�شعراء فقط مع �أنه من امل�ضامني الأ�سا�سية يف �شعر الفداء واالنبعاث ويرى امل�ؤلف‪،‬‬ ‫�أن ال�شعراء يف ع�صرنا قد قاموا‪� ،‬سواء �أكانوا حديثني‪ ،‬باملعنى الر�ؤيوي للكلمة‪� ،‬أم ال‪ ،‬بت�صوير‬ ‫الواقع الأثيم يف �أ�شعارهم‪ .‬ولذلك ال بد لنا �أن ن�س�أل عن الأ�س�س التي قام عليها �شعر الفداء‬ ‫واالنبعاث وم ّيزاته عن غريه من النزعات ال�شعرية؟‬ ‫لقد بحث �شعراء الفداء واالنبعاث عن رمز ي�ستطيع �أن ي�ستوعب تلك احلال‪ ،‬ويوحي‬ ‫بالنهو�ض من الواقع امليت �إىل غد �أف�ضل و�أمثل‪ ،‬ويف الوقت نف�سه تكون له �صفة الدميومة على‬ ‫�صعيد اخل�صوبة يف احلياة النباتية‪ ،‬وعلى �صعيد حياة الب�شر‪" ،‬فاهتدى ه�ؤالء ال�شعراء �إىل الرمز‬ ‫التموزي ب�أ�شكاله املتعددة‪ :‬متوز‪� ،‬أدوني�س‪ ،‬ي�سوع‪ ،‬مار جرج�س‪ ،‬اخل�ضر‪ ،‬على اعتبار �أن الرمز هو‬ ‫لغة املفارقة التي تهزم القوى املاردة واخلارقة وحتل حملها الإن�سان البطل"‪ .‬فيتجاوز فيها الرمز‬ ‫حقيقة مادية هي ا�ستمرارية الدوام‪ ،‬لي�ؤكد لنا ا�ستحالتها با�ستمرارية التغيرّ ‪ .‬لأن الوجود �شيء‬ ‫مادي‪� ،‬سواء كان ذلك يف جانبه املو�ضوعي �أو جانبه الفكري‪ ،‬وهو لهذا ال يفتي وال ي�ستحدث‬ ‫ويتحول من حال �إىل حال لي�صرع الزمن امليت‪.‬‬ ‫هذا االنبعاث لي�س �سطحياً �شكلياً‪ ،‬بل مي�س العمق احل�ضاري للأمة‪ .‬وانطالقاً من ذلك مت�سك‬ ‫�شعراء الفداء واالنبعاث يف بداءة الأمر ب�أ�سطورة متوز‪ ،‬فعند جربا ابراهيم جربا على �سبيل‬ ‫املثال نلحظ �أن �أول ديوان له يف العربية حمل عنوان "متوز يف املدينة" كما نرى عند ال�سياب‬ ‫ق�صيدة حتمل عنوان "متوز جيكور"‪ .‬وهذا باعتقاد امل�ؤلف‪ ،‬عدا عن كون معظم ق�صائدهم توحي‬ ‫باحل�ضور الفاعل لرمز متوز‪� ،‬إىل درجة �أنهم كثرياً ما كانوا يتلب�سون �شخ�صية متوز يف ذواتهم‪� ،‬إذ‬ ‫‪154‬‬


‫�أدب‬

‫ي�صرخ يو�سف اخلال‪�" :‬أنا كتموز"‪.‬‬ ‫لكن �شعراء الفداء واالنبعاث مل يق�صروا ا�ستعماالتهم للرمز على الأ�سطورة التموزية فقط‪،‬‬ ‫بل ا�ستعانوا برموز انبعاثية �أخرى غري متوز‪ ،‬ومن هذه الرموز �أ�سطورة البعل التي ُتعد منوذجاً‬ ‫�أكرث جت�سيداً للعملية الفدائية‪ ،‬وميكننا �أن نر�صد عملية توظيف رمز البعل يف ال�شعر من خالل‬ ‫الرجوع �إىل �شعر خليل حاوي‪ .‬وي�شري امل�ؤلف �إىل �أن �أ�سطورة البعل قد ا�ستعملت ولكن حتت‬ ‫ا�سم "�آداد" وذلك ب�شكل خا�ص عند ال�شاعر فايز خ�ضور يف مطولته التي حتمل هذا العنوان‪،‬‬ ‫ففيها تربز ق�صة �آداد على �أنها ال�سبيل للخروج من موات الواقع‪.‬‬ ‫فال�شاعر خ�ضور يرى يف �آداد الأمل الوحيد حل�صول البعث وحتقق عودة اخل�صب �إىل الطبيعة‪.‬‬ ‫وقد جل�أ ال�شعراء التموزيون �إىل رموز عديدة �أخرى من الرتاث القومي‪ ،‬ومنها رمز الفينيق‪.‬‬ ‫ومن الوا�ضح ح�سب اعتقاد امل�ؤلف �أن الفينيق يقدم لنا ب�صورته الأ�سطورية‪ ،‬يحت�ضن اللهب‬ ‫ويحرتق لكي يتجدد ويعود �إىل �شبابه املتمثل بلفظة الربيع‪ ..‬وهو الطائر الذي يخ�ص ال�شاعر‬ ‫وقومه‪ ،‬والذي يقود الطريق نحو االنبعاث‪.‬‬ ‫كما ّوظفت رموز دينية يف امل�شروع النه�ضوي‪ ،‬ومن �أبرز تلك الرموز هو رمز ي�سوع امل�سيح‪.‬‬ ‫وقد كان هذا الرمز �أحد �أكرث الرموز ت�أدية للفعل االنبعاثي الفدائي‪ ،‬ويف هذا ال�سياق يتقم�ص‬ ‫ال�شاعر كمال خري بك �شخ�صية امل�سيح ويحقق البعث فيقوم بنزع ال�صخرة التي كانت ت�سد‬ ‫املقربة‪ ،‬وهنا ترد عنده لفظتان ت�ؤكدان بو�ضوح ح�صول القيامة ( ُبعثت‪ ،‬نه�ضت)‪� ،‬أما "احلالة‬ ‫احلا�ضرة في�شري �إليها بعدد من الألفاظ التي تنم عن املوت والدمار (رماد‪ ،‬دخان‪ ،‬حطام‬ ‫و�أنقا�ض)‪� .‬أما �أ�سماء الفاعل الثالثة يف نهاية �أحد ن�صو�صه (خارجاً‪ ،‬الب�ساً‪ ،‬و�ساهراً) ف�إمنا تربز‬ ‫�صفة الثبات التي تو�صل �إليها ذلك الإله نتيجة الفعل الفدائي الذي قام به"‪.‬‬ ‫ومل يتوقف الأمر عند هذا الأمر‪ ،‬فقد جل�أ �شعراء الفداء واالنبعاث �إىل اال�ستعانة برموز انبعاثية‬ ‫قدمية للتعبري عن �شخ�صية فدائية معا�صرة‪ ،‬هي �شخ�صية �أنطون �سعاده على الأرجح‪.‬‬ ‫�إن �شعر الفداء واالنبعاث‪ ،‬من منظور الباحث الدكتور ل�ؤي زيتوين قد �شكل نزعة مهمة‬ ‫ووا�ضحة‪ ،‬ال ميكن �إغفالها يف ال�شعر‪ ،‬و�أخذت موقعها املتميز �ضمن �إطار الق�صيدة احلديثة‪ ،‬وقد‬ ‫�أدت دوراً �أ�سا�سياً يف �إبراز احلالة احل�ضارية وكيفية مواجهتها‪.‬‬ ‫‪155‬‬


3

‫ ط‬- ‫ بناية ر�سامني‬- ‫ �شارع احلمرا‬- ‫ بريوت‬- ‫لبنان‬ ‫ لبنان‬- ‫ بريوت‬113 - 7179 :‫ب‬.‫�ص‬

tel: 00961 -1 - 751 541 E-mail: info@darabaad.com website: www.darabaad.com


‫منا �سبة‬

‫النه�ضة اجلديدة‬

‫*‬

‫الأباتي �أنطوان �ضو ‪ -‬م�ؤرخ وكاتب‬

‫�أ�شكر نادي �شبيبة مزيارة الذي َّ‬ ‫تلطف ودعاين �إىل امل�شاركة يف هذه الندوة الثقافية احل�ضارية‬ ‫حول كتاب الأ�ستاذ فهد البا�شا "مواد للبناء"‪ ،‬ال�صادر عن "دار �أبعاد"‪ ،‬وهو جمموعة مقاالت‬ ‫�صحفية‪ُ ،‬ن�شر �أغلبها يف جريدة البناء‪ ،‬وهي تتناول موا�ضيع عدة‪.‬‬ ‫ا�ستوحيت من هذا الكتاب ثالثة �أفكار لتكون مو�ضوع حديثي‪ ،‬وهي اللغة العربية‪ ،‬واحل�ضارة‬ ‫ُ‬ ‫ال�سورية‪ ،‬واملزيارية‪ ،‬موا ّد �أ�سا�سي ٌة للبناء والنهو�ض احل�ضاري اجلديد‪ ،‬والذي لن يتحقق �إال‬ ‫بثقافة التغيري‪ ،‬والتغيري بالثقافة‪.‬‬ ‫� ُ‬ ‫أدخل �إىل كتابك من باب اللغة العربية امللوكي‪ ،‬و�أنت �س ّيدها وفقيهها والداعية �إىل جتديدها‬ ‫كدعوة الكثريين من النه�ضويني‪ ،‬وعلى ر�أ�سهم املطران جرمانو�س فرحات‪� ،‬صاحب كتاب‬ ‫"بحث املطالب" يف م�ساعدة الطالب على تعلم اللغة العربية‪ .‬والذي كان قد �ألفه يف دير مار‬ ‫الي�شاع‪ ،‬يف وادي قنوبني‪� ،‬سنة ‪ .1708‬فانت�شر ا�ستعماله‪ ،‬حتى �إن املجمع اللبناين الذي عقد‬ ‫�سنة ‪ 1736‬لإ�صالح م�ؤ�س�سات الكني�سة املارونية وجتديدها‪� ،‬أمر با�ستعماله‪ .‬جاء عنه‪ ،‬يف‬ ‫هذا املجمع‪ ،‬ويف باب املدار�س والدرو�س‪" :‬ن�أمر ر�ؤ�ساء ومعلمي مدار�سنا‪ ،‬يف املدن والقرى‬ ‫والأديار الكبرية �أن ُيعنوا بتدري�س �أ�صول اللغة العربية التي �أحكم و�ضعها الطيب الذكر‬ ‫جربائيل فرحات رئي�س �أ�ساقفة حلب‪� ،‬أيام كان راهباً يف رهبانية القدي�س �أنطونيو�س اللبنانية‪،‬‬ ‫حب‬ ‫و�أن يطالع الطلبة ديوان �أ�شعاره وغريه من م�صنفاته نرثاً ونظماً‪ ،‬ذلك لي�شربوا يف قلوبهم َّ‬ ‫التقى مع العلم و�صفوة اللغة العربية"‪.‬‬ ‫لغ ُتك هي "�صفوة اللغة العربية"‪ ،‬وقد عطرتها ببخور وادي قنوبني‪ ،‬و�أنت من �أبنائه‪ ،‬و�أحد �أعالم‬ ‫ِ�ضفتيه‪ ،‬التي بني �أجماده مطبعة دير مار �أنطونيو�س قزحيا‪ ،‬التي دخلت ال�شرق �سنة ‪."1610‬‬ ‫* ‪� -‬ألقيت الكلمة يف ندوة كتاب "مواد للبناء" للأمني فهد البا�شا‪ -‬يف مزيارة بتاريخ ‪.2016 /7 /24‬‬ ‫‪157‬‬


‫بعد �أن �أدخلنا فهد البا�شا من الباب امللوكي �إىل عامل اللغة العربية‪ ،‬قرر متابعة امل�سرية‬ ‫ل ُيدخلنا بوا�سطة احلزب ال�سوري القومي االجتماعي �إىل عامل احل�ضارة ال�سورية الغني‪،‬‬ ‫ُمرحباً ب�أبناء الأمة على تنوع معتقداتهم و�أفكارهم واجتاهاتهم‪ ،‬واقفاً وقفة ع ّز حميياً قائ ًال‪:‬‬ ‫"حت َيى �سورية" فلم يرد على حتيته احلارة من بني اجلمهور �سوى بع�ض القوميني الذين �أجابوا‪،‬‬ ‫بحما�س "حت َيى حت َيى"‪.‬‬ ‫مل يكن يعرف ابن مزيارة �أن التحية عند الروم تبد�أ بالكرييالي�سون اليونانية‪ ،‬وهي تعني "يا‬ ‫رب ارحم"‪ .‬وعند امل�سلمني يقولون‪" :‬اهلل �أكرب"‪.‬‬ ‫يظن ابن مزيارة �أن جميع النا�س هم تالمذة �سعاده الذي ترك �أمور اهلل للدين والأديان‪،‬‬ ‫وكان ُّ‬ ‫و�أمور الإن�سان واملجتمع والأمة للدولة القومية التي مل تتحقق حتى اليوم‪ ،‬غري مدرك �أن‬ ‫الأمة هي �أمة اهلل‪ ،‬والدول يف هذا ال�شرق هي دول دينية وطائفية ومذهبية واتنية‪ .‬و�أن ف�صل‬ ‫الدين عن الدولة التي نادى بها �سعاده غري ممكن‪ ،‬وال العلمانية موجودة‪ ،‬حتى وال الدولة‬ ‫املدنية مقبولة‪ .‬والتق ّية و�شعاراتها ومطالبتها ب�ضرورة �إلغاء الطائفية‪ ،‬وراءها م�شاريع دويالت‬ ‫دينية ومذهبية واتنية‪ .‬دول ال حتقق حلم �سعاده‪ ،‬وال ت�شبه الفكر القومي‪� ،‬إمنا دويالت‬ ‫ومقاطعات ومزارع ت�شبه الكيان ال�صهيوين العن�صري الغا�صب‪ ،‬الذي ز ّور التاريخ‪ ،‬و�أعلن‬ ‫�أور�شليم القد�س عا�صمة �أبدية لـ"�إ�سرائيل"‪ .‬م�شروع قد لن يعار�ضه �أحد كمثل ما عار�ضه‬ ‫�أنطون �سعاده يف حياته ويف قربه‪ .‬وكما علينا مقاومته �إىل الأبد‪.‬‬ ‫امل�ؤمن الثابت يف �إميانه بالق�ضية ال يي�أ�س �أبداً‪ .‬والر�سول احلقيقي ال يتعب من جهاده‪ ،‬بل عليه‬ ‫التبليغ الدائم وبطرق جديدة وخطاب جديد‪ .‬والفهد املزياري قرر الدعوة �إىل لقاء جديد‪ ،‬ال‬ ‫عند الروم‪ ،‬وال عند امل�سلمني بل عند املوارنة‪.‬‬ ‫افتتح اللقاء بتالوة ن�شيد مار مارون‪ ،‬الذي كان قد اكت�شفه يف كتاب قدمي مطبوع يف قزحيا‬ ‫�سنة ‪ ،1896‬وفيه‪:‬‬ ‫لك ا�سم يف ال�شرق م�سمياً‬

‫مار مارون يا فخر �سوريا‬

‫ح ّلت بركة مار مارون على النا�س فاطم�أنوا‪ .‬ثم حياهم بتحية الأمة قائ ًال‪" :‬حت َيى �سورية" فردوا‬ ‫كلهم‪ :‬حت َيى ال�سريانية و�سورية و�سوريانا و�أنطاكية و�سائر امل�شرق‪ ،‬ومطرانيات ال�شام وحلب‬ ‫والالذقية‪ ،‬و�أي�ضاً مطرانية قرب�ص املارونية‪ ،‬والقد�س وكل فل�سطني وعمان وبغداد‪ ،‬معتقدين‬ ‫‪158‬‬


‫منا�سبة‬

‫�أن �أنطون �سعاده هو �أحد تالمذة مار مارون فخر �سورية‪ .‬وفهد ظاناً �أن الزعيم �أ�صله من مزيارة‪،‬‬ ‫�أو من زغرتا‪� ،‬سافر باجتاه �سورية ليحيي الأمة مع مارون‪.‬‬ ‫املارونية وهي انتماء �إىل �أنطاكية و�سائر امل�شرق‪ ،‬ور�سالة انفتاح وحوار وتفاهم ووحدة يف التنوع‬ ‫وعي�ش م�شرتكٍ م�سيحي �إ�سالمي‪ .‬واملوارنة هم ر�سل العروبة احل�ضارية ورواد نه�ضتها وتقدمها‬ ‫ٍ‬ ‫والدفاع عنها‪ ،‬يف الوقت ذاته‪ ،‬يعتقد املوارنة �أن �سورية لي�ست جغرافيا ودميغرافيا و�سيا�سات‬ ‫وتوا�صل ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫وفعل‬ ‫�ضيقة وفا�شلة‪� ،‬إمنا �سورية هي �أو ًال �إن�سان وح�ضارة‪ ،‬ال بل تراكم ح�ضارات‬ ‫ٌ‬ ‫إبداع يف ع�صر العوملة‪ .‬ولكن �أين نحن من الأبحاث والدرا�سات العلمية حول‬ ‫وتفاعل و� ٌ‬ ‫�سورية احل�ضارة العظيمة؟ اجلواب‪ :‬احل�صاد كث ٌري والف َعل ُة قليلون‪.‬‬ ‫املارونية‪ ،‬يف جوهرها‪ ،‬هي �ضد الدولة املارونية‪� .‬أدعو اجلميع �إىل االقتداء باملوارنة ال بغريهم‪،‬‬ ‫ممن يفت�شون عن دويالت ال عالقة لها بالدولة الدميقراطية‪.‬‬ ‫�أما املزيارية فهي حركة انفتاح اللبنانيني على القارة الإفريقية‪ ،‬بخا�صة‪ ،‬وعلى العامل والعوامل‬ ‫والآفاق والر�ؤى‪ ،‬بعامة‪ .‬ولأن �أهل مزيارة قد متيزوا بهجرتهم القوية �إىل �إفريقيا‪� ،‬سميت هجرة‬ ‫اللبنانيني �إىل �إفريقيا باملزيارية‪.‬‬ ‫املزيارية هي التوا�صل والفعل والتفاعل والعمل والبناء والتطوير والتقدم والتنمية الإن�سانية‬ ‫ال�شاملة‪ ،‬واحلياة اجلديدة‪ ،‬وبناء �إفريقيا من جديد‪ .‬و�أي�ضاً م�ساعدة اللبنانيني لأهلهم يف لبنان‪.‬‬ ‫املزيارية هي ظاهر ٌة دميغرافي ٌة حديثة تثبت �أن الأمة مل تعد �أ�سرية حدودها اجلغرافية‪� ،‬إمنا هي‬ ‫الهجرة �أي�ضاً يف �سبيل حياة كرمية �أف�ضل‪ ،‬والتفاعل احل�ضاري بني ال�شعوب واحل�ضارات‬ ‫والثقافات والأديان‪ ،‬مما ُيحتم علينا تعزيز ثقافة احلوار التي ُتخرجنا من الأطر الدينية والثقافية‬ ‫املغلقة واملتطرفة �إىل �أفق االنفتاح‪ ،‬لتدفع بعملية ال�سالم �إىل مزيد من الرجاء والفعل‪.‬‬ ‫�إن �سورية الكربى تعاين �أزمة �أكرب من �سورية احلالية‪ ،‬وذلك نتيجة �ضعف الداخل وقوة‬ ‫التدخل اخلارجي‪ ،‬بهدف تدمريها وتفكيكها‪ ،‬كمقدمة لتدمري املنطقة وتق�سيمها‪.‬‬ ‫فالدفاع عن �سورية الكربى و�إ�صالح �أمورها و�صون وحدتها‪� ،‬أر�ضاً و�شعباً وح�ضار ًة هو‬ ‫�أولوية بالن�سبة �إىل العرب جميعاً‪ ،‬ال بل �إىل العامل كله‪ .‬و�إال ف�إن الإرهاب �سيطول العامل‬ ‫كله‪ ،‬وي�شتعل �صراع احل�ضارات والأديان والثقافات‪ ،‬وتفجر الإ�سالموفوبيا ال�شرق والغرب‬ ‫‪159‬‬


‫معاً‪ ،‬بطرق �إجرامية كارثية‪.‬‬ ‫نحن �أمام تبعات جديدة‪ ،‬و�شعارات خادعة‪ ،‬طاحمة �إىل �إقامة دويالت‪ ،‬على �صورة "�إ�سرائيل"‬

‫ومثالها‪ ،‬لت�ستبدل �سورية الكربى احل�ضارية بـ"�إ�سرائيل" الكربى العن�صرية‪.‬‬

‫�إن ثقافة احلوار هي الطريق الوحيد حلل النزاعات و�إيقاف احلروب والدمار‪ .‬فالإرهاب هو‬ ‫نتيجة الظلم والقهر واال�ستبداد والهيمنة‪� .‬أيها العامل‪ ،‬ويا �أيها النا�س م�شكلة الإرهاب ال حتل‬ ‫بالقوة بل باحلوار واحلق‪.‬‬ ‫وختاماً‪� ،‬إذ �أه ّنئ نادي �شبيبة مزيارة‪ ،‬على هذه احللقة الثقافية احل�ضارية التي �أقيمت تكرمياً‬ ‫البنها البار الأ�ستاذ فهد البا�شا �صاحب هذا الكتاب الذي ُيوحي ب�أفكار ح�ضارية جديدة‪،‬‬ ‫ا�ستوحيت بع�ضها‪� ،‬أهنئه و�أ�شكره و�أدعوه �إىل التب�شري باملزيارية احل�ضارية اجلميلة كجمال‬ ‫مزيارة‪ ،‬لأنه خ ُري ر�سولٍ لها‪.‬‬

‫‪160‬‬


‫دار نل�سن‬

‫هاتف ‪01/739196:‬‬ ‫الربيد الإلكرتوين ‪darnelson@hotmail.com:‬‬


‫لبنان ‪ -‬بريوت ‪� -‬شارع احلمرا ‪ -‬بناية ر�سامني ‪ -‬ط‬ ‫�ص‪.‬ب‪ 113 - 7179 :‬بريوت ‪ -‬لبنان‬

‫‪3‬‬

‫‪tel: 00961 -1 - 751 541‬‬ ‫‪E-mail: info@darabaad.com‬‬ ‫‪website: www.darabaad.com‬‬

‫لبنان ‪ 10000‬لرية | الأردن‪ 4 :‬دينار | �سوريا‪ 200 :‬لرية | م�صر‪ 20 :‬جنيه | تون�س ‪ 3 :‬دينار | املغرب‪ 40 :‬درهم | م�سقط‪ 2 :‬ريال‬ ‫ال�سعودية‪ 20 :‬ريال | البحرين‪ 3 :‬دينار | الكويت‪ 3 :‬دينار | قطر‪ 20 :‬ريال | الإمارات‪ 20 :‬درهم‬


‫العدد‬ ‫كانون الثاين‬ ‫‪2016‬‬


Issuu converts static files into: digital portfolios, online yearbooks, online catalogs, digital photo albums and more. Sign up and create your flipbook.