نبض الروح . . سوريتنا | السنة الثانية | العدد ( / 14 | )82نيسان 2013 / أسبوعية تصدر عن شباب سوري حر 18
ُ ُ ُ ـالزم قرنفـلة امل ِ سيامند حسين لم يردّ عليه أح��د .توقّف هديرُ المح��رّك ول��م يَع��دْ يس��مع س��وى أنفاسه المُتهشّمة .عندما نزل ،كان ُ ي��دوسُ على ّ يفصل بين خط أس��ود ً قمح وحقول ، ا جنوب�� أرض محروق��ةٍ ٍ ِ ٍ خض��را َء ش��ما ًال ،اس��تطاعَ التع��رّفُ ك��راج ل�لآالت الزراعي��ة فيه��ا عل��ى ٍ ف��ي البعي��د .اختلط��تْ ف��ي أنف��ه رائحت��ا الس��نابل والرم��اد ،وتناه��تْ إلى س��معِه أصدا ٌء عذب��ة قادمة من مضخ��ات اآلبار اإلرتِوازي��ة المتناثرة ً بوضوح منفصلة عُم��ق الحقول، في ِ ٍ تحلي��ق مروحياتٍ حربيةٍ عن أصوات ِ َ بداية ف��ي الجه��ة األخرى .ظنّ ذل��ك النصف الثاني لح ُلمِ��ه غير المُكتمل َ ليل��ة أم��س .ع��اد وصع��دَ الش��احنة ُ المعطوب��ة ،وق��رّر االنتظ��ارَ حتّ��ى بزوغ الفجر. ِ كان صباحًا غائماً وبارداً من أيّام آذارَ األولى عندما شعرَ بيدٍ تهزُّه: ٌ «مكالم��ة ل��ك .إنّ��هُ الرّائ��د حسن» .قالت أمّه. نه��ض مس��تا ًء بعيني��ن نص��ف مُغمضتَين واتّجه إلى الصالون .رفع سمّاعة الهاتف: «ألو.» ..ً دوريّة من ثمانيةِ «اسمعْ .خُذعناص��رَ واتّجهْ عل��ى الفو ِر إلى حيّ َ القابُون و.» .. َ الس��ماعة بقوّةٍ ،ثمّ شدّ أغلقَ َ كبل الهاتف بعن��فٍ فقطعَه .تص ّلبَ َ أثق��ل فيها صمتٌ جس��مُه للحظ��اتٍ الم��كان برمّت��ه .عندم��ا التف��تَ إلى َ ال��وراء ،كان��ت عين��اه تلتمِع��ان ف��ي الخيال المنعكس لرأسِ��ه فقط ،على ِ زج��اج ص��ورةٍ ضخمةٍ لألس��د اإلبن ِ ً معلق��ة عل��ى الج��دار .ش��عرَ كان��ت ��ل ،ربمّ��ا للمرّة األول��ى ،عندما ِ بوَج ٍ التق��تْ عين��اه بالعيني��ن الزرقاوَين اللتي��ن كانت��ا تنظران نحوَ األس��فل قلي� ً لا .اقت��ربَ م��ن الص��ورة المائلة بع��ضَ الش��يء ،ودف��عَ بأصبعَي��هِ الس��فلية ببط ٍء محاو ًال َ َ جعل زاويتَها القائم متعامداً مع ِّ خَط ها ر إطا ضِلعَ ِ ِ التقا ِء األرضية بالجدار .لوهلةٍ ّ تذكرَ أس��تا َذ الرياضي��ات قصي��رَ القام��ةِ وشُرُوحَه عن المستويات المتعامدة أيام الثانوية .استعادَ تركيزه ،وأسرعَ ً حقيبة عجل إلى غرفته يح��زُمُ على ٍ صغير ًة وضعَ فيها مُسدسَ��ه ومخزنًا َ ش��ريط كاس��يت ألمّ كلثوم، إضافيًا، فرشا َة أسنان ،بعضَ الثياب ،حاجياتٍ ً فوتوغرافية ش��خصيّة أخرى وصور ًة بجان��ب الباب لزوجت��ه .تفق��دَّ الرّفَّ ِ َ والتق��ط مفاتيحَ��ه وبع��ضَ النقود،
ووقعتْ عينُه على ماس��ورةٍ صغيرةٍ م��ن األل��وان الزيتيّ��ة فق��رّر أخذها أيضًا ،وضعها معًا في جيبه وخرج من الغرفة. ً باب المنزل كانت أمّه واقفة أمام ِ ً مُغطي��ة فمَه��ا تجهَ��شُ بصم��تٍ رقيق تضعُه بط��رف ٍ منديل أبي��ضَ ٍ عل��ى رأس��ها .اقت��ربَ منه��ا وضمّها ب ُلطف .ثم قال بص��وتٍ اعتراهُ ٌ قليل من االرتعاش: ً جماعة «مام��ا ،قُول��ي له��م أنَ ً اختطفتن��ي ه��ذا الصب��اح. مس��لحة اِعتَني بنفسكِ وبالصغيرة جيداً». َ أومَ��أ إل��ى الص��ورةِ العمالق��ة وأضاف: ُ «ستحمِيكما من شرّهم». فت��حَ الب��اب وخ��رجَ ت��اركاً أمَّهُ َ ُ بقيّة القصّ��ةِ التي تتخّي��ل وحي��د ًة أصب��حَ ابنه��ا اآلن مُتورط��اً فيه��ا. ً ش��احنة صغي��ر ًة م��ن ن��وع رك��بَ ُ يمتلِكه��ا أخُ��وه األصغر، (كيّ��ا) كان وانطل��ق بس��رعةٍ جنوني��ةٍ متّجه��ًا خارجَ دمش��قَ ش��ما ًال .س��اعتين من القي��ادة م��رّ فيهما عل��ى العديدِ من ٌ ورق��ة ممهور ٌة الحواج��ز؛ أمّن��تْ ل��ه م��ن وزارةِ الدفاع ،كان يحمِ ُلها دائماً، ُكت��ب عليها" :مهمّ��ة خاصّة -يرجى الس��ماحُ لحامِله��ا بالم��رور" اجتيازاً سلس��ًا في ّ كل مرّة دون أيّ مش��اكل َ طوال ساعةٍ بعد ذلك أواستفسارات. تقريب��اً عب��رَ طريقًا مس��تقيمًا ،خَال م��ن حواج��ز الجي��ش ،تعاقب��تْ على الصنوب��ر المح ِنيَ��ة جانبي��ه أش��جارُ ِ بفعل الرّي��اح المُزمنة في المنطقة، ِ بفتح��ةِ حِمْصَ ،وبدأَ والت��ي تُعرف ُ يُفكرَ بما َ يَصفو .وكيال ّ ُ حدث، ذهنُه َ َ يُشغِل نفسَه بالنّظر ،بين حاول أن فينةٍ وأُخ��رى ،عبر الناف��ذة الجانبيّة المُحاصَ��ر، المنظ��ر الخارج��يّ إل��ى ِ ِ ٌ ٌ داكن��ة ،ت��كادُ ثخين��ة حي��ث غي��ومٌ تالمسُ أب��راجَ الكهرب��ا ِء المنصوبة التالل المش��رفةِ على الطريق، على ِ سُ��رعان كانت تحجُ��بُ ضو َء النهار. َ ما استس��لمَ لش��ريطِ الذاك��رة الذي ص��ور راح يتوقّ��ف عش��وائيًّا ،عن��د ٍ ً مُنقِبة في وتنطفئ كانت تُومِضُ ُ ماضِيه الغزير. ّ تذكرَ زوجتَ��ه التي تُوفيتْ قبل أربع��ةِ أع��وام وه��ي تل��دُ طفلتَهما الوحي��دة .لقدٍ فجعَ��هُ موتُها طوي ً ال، وترك��تِ الحادثة في َقس��مَاتِه حُزنًا ُ يرافِقه أينم��ا ذهب .كان خفيّ��اً كان صوتُ��ه يختن��قُ في داخل��ه ّ كل مرّة أراد التح��دّث عنهاّ . تذك��ر جدّه ،الذي لم ي��ره إلاّ في ص��ورةٍ ملصقةٍ على
وثيق��ةٍ عُثماني��ةٍ قديم��ةٍ كان ال َ وقصة يزال فيها ابن الثامنة عش��رة، ّ بالس��كين على يدِ أحدِ مقتلِه طعنًا ِرجاالتِ اآلغ��ا ،ذلك بعد رفضِه مراراً قطيع األخير بمش��اركتِه ف��ي طل��بَ ِ ِ ُ يملِكه؛ فبحس��ب ما الغن��م الذي كان كان ي��روي وال��ده ،كان للجدّ ثالثمئة رأس غن��م ّ يُغط��ون س��فحَ الهضبةِ الجنوب��يّ للقري��ة بص��وفٍ أبي��ضَ ورديٍّّ ، كل مس��ا ٍء قُبي��ل الغ��روب. ّ وتذك��ر بعده��ا ،م��ا ج��رى ف��ي تلك الليل��ةِ حين ع��ادَ إلى البي��ت متأخراً ع��ن المعت��اد ،حي��ث ركض��تْ ابنتُه الصغيرة الس��تقبالِه فانحنى نحوها فاتح��ًا ذراعيه؛ لكنّه��ا توقّفت حينها، وكان��ت نظراتهُ��ا تتّجهُ إل��ى البقعة الت��ي توس��طتْ قميصَ��ه األبي��ض؛ فاس��تدركَ عنده��ا قائ� ً لا« :آه!.. ِّ س��أنظفه غداً .في الحقيقة ،ش��عرتُ بالضّج��ر فحاول��تُ رس��مَ ق ُ ُرنفل��ةٍ حمراء». كان يُحبُّ الرس��مَ كثي��راً ،وفي األربع األخي��رة حيث أصبح الس��نوات ِ َ أطول في بيتِ القرية، يقضي فتراتٍ َ اتّخ��ذ من الغرف��ة الخارجية كان ق��د الواقع��ة في فنا ِء الدار بجانب المطبخ مرس��ماً له ،كان كثيراً ما يس��هرُ فيه م��ع أصدقائ��هّ . تذك��ر ذاتَ ي��وم من ٍ أي��ام الصي��فِ قب��ل س��نتين عندم��ا َ دخل المرس��مَ ف��ي الصب��اح ،فألفى ابنتَه ُ تعبث بأنابيب األلوان .كانت قد عص��رتْ بعض��اً منه��ا وأفرغتها على َ قطعة البالط واألريكة ،وأفسدتْ بها القم��اش الت��ي كان أعدَّها للرس��م. ً مُولعة باأللوان. كانت ابنتُه مث َله، قطع��تْ عليه ّ صف��اراتُ الحاجز، الذي كان قد ص��ارَ على مقربةٍ منه، ش��رودَهُ الطويل .كانت رشقاتٌ من ّ المتقطعة، مطر ناعم تحرفُها الريحُ ٍ ٍ ً دقيقة عل��ى النافذة فتندل��قُ خيوطًا األمامية؛ تأمله��ا لبرهةٍ عندما توقّف بهدوء ،ثم أخفض الزجاج ومدّ رأسه إل��ى الخارج .ج��اء إليه أحد العس��اكر، وكما في الس��ابق ّ تحققَ من هويّته ثمّ أش��ار آلخرَ بفت��ح الطريق .وفي اللحظ��ة الت��ي أدارَ فيه��ا المح��رّك، انصهرَ الهدي��ر المُنتظ��رُ في أذنيه رص��اص وانفجاراتٍ انهالتْ مع دويِّ ٍ إنذار س��ابق غي��ر م��ن الحاجز عل��ى ِ ِ ٍ وكأنّها رعودٌ متتالية ضربت األرض. فرّ الجنود مسرعين إلى داخل الغرف اإلس��منتية الصغي��رة ،وأخف��ضَ هو رأسَ��ه عل��ى الف��ور .بق��يَ لدقائقَ ب�لا ح��راكٍ مُحتميًا تحت الكرس��يّ، حتى بدأ فجأ ًة يش��عر بالغثيان ،وباتَ الضجي��جُ م��ن حول��ه يتخامدُ ش��يئًا يخترقُ زُجاجَ فشيئًا .كان الرصاصُ ِ
السيارة من ِّ صوب ُ ويثقبُ هيك َلها كل ٍ مُحدِثًا رنينًا معدنيًا حاداً. لم يكنْ معص��وبَ العينين .كان َ الطريق ممدداً ف��ي الصندوق ط��وال ِ الخلف��ي لس��يارة (البي��ك آب) ،حي��ث ٌ باس��تمرار رج��ل يس��قيهِ الم��اء كان ٍ حين بي��ن ��هِ وجه عل��ى ويصفعُ��هُ ِ ٍ وآخر بي��دٍ ثقيلةٍ في محاولةٍ إلبقائه صاحي��ًا .بال��كادِ يذك��رُ أنّ��ه عندم��ا َ اس��تيقظ وجدَ نفسَ��ه مُم��دّداً على ُ رائحة سرير في غرفةٍ باردةٍ أشبعتْ ٍ ّ المرك ِز هوا َئها ،أطباء الكحول الطبيِّ ِ وممرض��ون يرت��دون ثياب��اً وقفازاتٍ س��ودا َء اجتمع��وا ف��وق رأس��ه ،حتّى كماماتهُ��م كانت س��وداء .لم ينبسْ بكلم��ة .س��مع أحدَهم ،ب��دا أكبرهم س��ناً ،يقول« :إصابته ليست خطيرة، لكنّه نزفَ كثيراً .المهمّ أن يستريحَ في السرير ،ثالثة أيام على ّ األقل». لم يستطعْ التفكيرَ أو االرتكاسَ بدُوار خفيف ،وللحظةٍ لش��يء .شعرَ ٍ َ خُيّل إليه س��ماعُ أغني��ةٍ ألمّ كلثوم ً قادم��ة من خلف الج��دارن .بعد بدتْ ث��وانٍ قليل��ة غفا ويده كان��ت تنزلقُ بثقل إلى جانبه. من فوق صدره ٍ الصباحُ م��رّة أخرى .فتحَ عينيه َ اعت��دل س��انداً بكس��ل ،وبمش��قةٍ ٍ ظهرَه إلى الوسادة والحائط ،فوقعتْ عين��اه عل��ى بقع��ةِ الدم المتّس��عةِ األبيض الش��اش عل��ى ضم��ادٍ م��ن ِ ِ َ ح��ول منطقةِ البطن .لم لفّ جذعَه يكن يش��عرُ بأيّ أل��م .راح يتفحصُ جس��دَه مح��ركًا رجليه ومم��رّراً يده عل��ى وجه��ه ورأس��ه .اس��تدارَ قلي ً ال ليفحصَ ظهرَه ،فتحَ فهمه ،تلمّسَ أس��نانه بلس��انه ث��م ق��ال بص��وتٍ مس��موع« :أنا بخير» .فاطمئنَّ لحاله. ٍ َ الغرفة بعينيه ،كانت راح يستكش��فُ َ متوس��طة الحج��م ،وعل��ى الحائ��ط المقاب��ل له ثمّة س��تار ٌة م��ن قماش رقيق ومطرّز ،تحجبُ ش��باكًا أبيضَ ٍ خلفه��ا عل��ى األرج��ح ،إل��ى جانبه��ا ٌ لوحة آليفازوفس��كي ،عرفها عُلقتْ ّ وتذك��ر عُنوانهَ��ا« :بح��رٌ عاصِف»، و ّلدتْ في نفس��ه ش��يئًا م��ن االرتياح بعد أن تأمّلها لبرهةٍ في اس��تغراب. ً ُ مفروش��ة ببعض األثاث الغرفة كانت ٌ صوفيّة الخش��بيّ ،وكان��ت س��جّاد ٌة ٌ مزخرف��ة تُغط��ي األرضي��ة ،وتمتدُّ من الس��رير إلى الباب الذي كان َ منفذ الض��و ِء الوحي��د ،حي��ث كان مج��رّدَ باب في فُتح��ةٍ مس��تطيلةٍ ِ بمَق��اس ٍ الجدار. َ دخ��ل عجُ��وزٌ مل ّثمٌ قلي��ل بع��د ٍ ٌ يحمل إبري��قَ ما ٍء وكأس��ًا ،ووضعهما على الطاولة الصغيرة لِصقَ السرير،