سوريتنا | العدد الثاني والثمانون | 14 نيسان 2013

Page 18

‫نبض الروح ‪. .‬‬ ‫سوريتنا | السنة الثانية | العدد (‪ / 14 | )82‬نيسان ‪2013 /‬‬ ‫أسبوعية تصدر عن شباب سوري حر‬ ‫‪18‬‬

‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ـالزم‬ ‫قرنفـلة امل ِ‬ ‫سيامند حسين‬ ‫لم يردّ عليه أح��د‪ .‬توقّف هديرُ‬ ‫المح��رّك ول��م يَع��دْ يس��مع س��وى‬ ‫أنفاسه المُتهشّمة‪ .‬عندما نزل‪ ،‬كان‬ ‫ُ‬ ‫ي��دوسُ على ّ‬ ‫يفصل بين‬ ‫خط أس��ود‬ ‫ً‬ ‫قمح‬ ‫وحقول‬ ‫‪،‬‬ ‫ا‬ ‫جنوب��‬ ‫أرض محروق��ةٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ِ ٍ‬ ‫خض��را َء ش��ما ًال‪ ،‬اس��تطاعَ التع��رّفُ‬ ‫ك��راج ل�لآالت الزراعي��ة‬ ‫فيه��ا عل��ى‬ ‫ٍ‬ ‫ف��ي البعي��د‪ .‬اختلط��تْ ف��ي أنف��ه‬ ‫رائحت��ا الس��نابل والرم��اد‪ ،‬وتناه��تْ‬ ‫إلى س��معِه أصدا ٌء عذب��ة قادمة من‬ ‫مضخ��ات اآلبار اإلرتِوازي��ة المتناثرة‬ ‫ً‬ ‫بوضوح‬ ‫منفصلة‬ ‫عُم��ق الحقول‪،‬‬ ‫في‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬ ‫تحلي��ق مروحياتٍ حربيةٍ‬ ‫عن أصوات‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫بداية‬ ‫ف��ي الجه��ة األخرى‪ .‬ظنّ ذل��ك‬ ‫النصف الثاني لح ُلمِ��ه غير المُكتمل‬ ‫َ‬ ‫ليل��ة أم��س‪ .‬ع��اد وصع��دَ الش��احنة‬ ‫ُ‬ ‫المعطوب��ة‪ ،‬وق��رّر االنتظ��ارَ حتّ��ى‬ ‫بزوغ الفجر‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫كان صباحًا غائماً وبارداً من أيّام‬ ‫آذارَ األولى عندما شعرَ بيدٍ تهزُّه‪:‬‬ ‫ٌ‬ ‫«مكالم��ة ل��ك‪ .‬إنّ��هُ الرّائ��د‬ ‫‬‫حسن»‪ .‬قالت أمّه‪.‬‬ ‫نه��ض مس��تا ًء بعيني��ن نص��ف‬ ‫مُغمضتَين واتّجه إلى الصالون‪ .‬رفع‬ ‫سمّاعة الهاتف‪:‬‬ ‫ «ألو‪.» ..‬‬‫ً‬ ‫دوريّة من ثمانيةِ‬ ‫ «اسمعْ‪ .‬خُذ‬‫عناص��رَ واتّجهْ عل��ى الفو ِر إلى حيّ‬ ‫َ‬ ‫القابُون و‪.» ..‬‬ ‫َ‬ ‫الس��ماعة بقوّةٍ‪ ،‬ثمّ شدّ‬ ‫أغلقَ‬ ‫َ‬ ‫كبل الهاتف بعن��فٍ فقطعَه‪ .‬تص ّلبَ‬ ‫َ‬ ‫أثق��ل فيها صمتٌ‬ ‫جس��مُه للحظ��اتٍ‬ ‫الم��كان برمّت��ه‪ .‬عندم��ا التف��تَ إلى‬ ‫َ‬ ‫ال��وراء‪ ،‬كان��ت عين��اه تلتمِع��ان ف��ي‬ ‫الخيال المنعكس لرأسِ��ه فقط‪ ،‬على‬ ‫ِ‬ ‫زج��اج ص��ورةٍ ضخمةٍ لألس��د اإلبن‬ ‫ِ‬ ‫ً‬ ‫معلق��ة عل��ى الج��دار‪ .‬ش��عرَ‬ ‫كان��ت‬ ‫��ل‪ ،‬ربمّ��ا للمرّة األول��ى‪ ،‬عندما‬ ‫ِ‬ ‫بوَج ٍ‬ ‫التق��تْ عين��اه بالعيني��ن الزرقاوَين‬ ‫اللتي��ن كانت��ا تنظران نحوَ األس��فل‬ ‫قلي� ً‬ ‫لا‪ .‬اقت��ربَ م��ن الص��ورة المائلة‬ ‫بع��ضَ الش��يء‪ ،‬ودف��عَ بأصبعَي��هِ‬ ‫الس��فلية ببط ٍء محاو ًال َ‬ ‫َ‬ ‫جعل‬ ‫زاويتَها‬ ‫القائم متعامداً مع ِّ‬ ‫خَط‬ ‫ها‬ ‫ر‬ ‫إطا‬ ‫ضِلعَ ِ‬ ‫ِ‬ ‫التقا ِء األرضية بالجدار‪ .‬لوهلةٍ ّ‬ ‫تذكرَ‬ ‫أس��تا َذ الرياضي��ات قصي��رَ القام��ةِ‬ ‫وشُرُوحَه عن المستويات المتعامدة‬ ‫أيام الثانوية‪ .‬استعادَ تركيزه‪ ،‬وأسرعَ‬ ‫ً‬ ‫حقيبة‬ ‫عجل‬ ‫إلى غرفته يح��زُمُ على ٍ‬ ‫صغير ًة وضعَ فيها مُسدسَ��ه ومخزنًا‬ ‫َ‬ ‫ش��ريط كاس��يت ألمّ كلثوم‪،‬‬ ‫إضافيًا‪،‬‬ ‫فرشا َة أسنان‪ ،‬بعضَ الثياب‪ ،‬حاجياتٍ‬ ‫ً‬ ‫فوتوغرافية‬ ‫ش��خصيّة أخرى وصور ًة‬ ‫بجان��ب الباب‬ ‫لزوجت��ه‪ .‬تفق��دَّ الرّفَّ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫والتق��ط مفاتيحَ��ه وبع��ضَ النقود‪،‬‬

‫ووقعتْ عينُه على ماس��ورةٍ صغيرةٍ‬ ‫م��ن األل��وان الزيتيّ��ة فق��رّر أخذها‬ ‫أيضًا‪ ،‬وضعها معًا في جيبه وخرج من‬ ‫الغرفة‪.‬‬ ‫ً‬ ‫باب المنزل‬ ‫كانت أمّه‬ ‫واقفة أمام ِ‬ ‫ً‬ ‫مُغطي��ة فمَه��ا‬ ‫تجهَ��شُ بصم��تٍ‬ ‫رقيق تضعُه‬ ‫بط��رف‬ ‫ٍ‬ ‫منديل أبي��ضَ ٍ‬ ‫عل��ى رأس��ها‪ .‬اقت��ربَ منه��ا وضمّها‬ ‫ب ُلطف‪ .‬ثم قال بص��وتٍ اعتراهُ ٌ‬ ‫قليل‬ ‫من االرتعاش‪:‬‬ ‫ً‬ ‫جماعة‬ ‫ «مام��ا‪ ،‬قُول��ي له��م أن‬‫َ‬ ‫ً‬ ‫اختطفتن��ي ه��ذا الصب��اح‪.‬‬ ‫مس��لحة‬ ‫اِعتَني بنفسكِ وبالصغيرة جيداً»‪.‬‬ ‫َ‬ ‫أومَ��أ إل��ى الص��ورةِ العمالق��ة‬ ‫وأضاف‪:‬‬ ‫ُ‬ ‫«ستحمِيكما من شرّهم»‪.‬‬ ‫‬‫فت��حَ الب��اب وخ��رجَ ت��اركاً أمَّهُ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫بقيّة القصّ��ةِ التي‬ ‫تتخّي��ل وحي��د ًة‬ ‫أصب��حَ ابنه��ا اآلن مُتورط��اً فيه��ا‪.‬‬ ‫ً‬ ‫ش��احنة صغي��ر ًة م��ن ن��وع‬ ‫رك��بَ‬ ‫ُ‬ ‫يمتلِكه��ا أخُ��وه األصغر‪،‬‬ ‫(كيّ��ا) كان‬ ‫وانطل��ق بس��رعةٍ جنوني��ةٍ متّجه��ًا‬ ‫خارجَ دمش��قَ ش��ما ًال‪ .‬س��اعتين من‬ ‫القي��ادة م��رّ فيهما عل��ى العديدِ من‬ ‫ٌ‬ ‫ورق��ة ممهور ٌة‬ ‫الحواج��ز؛ أمّن��تْ ل��ه‬ ‫م��ن وزارةِ الدفاع‪ ،‬كان يحمِ ُلها دائماً‪،‬‬ ‫ُكت��ب عليها‪" :‬مهمّ��ة خاصّة ‪ -‬يرجى‬ ‫الس��ماحُ لحامِله��ا بالم��رور" اجتيازاً‬ ‫سلس��ًا في ّ‬ ‫كل مرّة دون أيّ مش��اكل‬ ‫َ‬ ‫طوال ساعةٍ بعد ذلك‬ ‫أواستفسارات‪.‬‬ ‫تقريب��اً عب��رَ طريقًا مس��تقيمًا‪ ،‬خَال‬ ‫م��ن حواج��ز الجي��ش‪ ،‬تعاقب��تْ على‬ ‫الصنوب��ر المح ِنيَ��ة‬ ‫جانبي��ه أش��جارُ‬ ‫ِ‬ ‫بفعل الرّي��اح المُزمنة في المنطقة‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫بفتح��ةِ حِمْصَ‪ ،‬وبدأَ‬ ‫والت��ي تُعرف ُ‬ ‫يُفكرَ بما َ‬ ‫يَصفو‪ .‬وكيال ّ‬ ‫ُ‬ ‫حدث‪،‬‬ ‫ذهنُه‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫يُشغِل نفسَه بالنّظر‪ ،‬بين‬ ‫حاول أن‬ ‫فينةٍ وأُخ��رى‪ ،‬عبر الناف��ذة الجانبيّة‬ ‫المُحاصَ��ر‪،‬‬ ‫المنظ��ر الخارج��يّ‬ ‫إل��ى‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫داكن��ة‪ ،‬ت��كادُ‬ ‫ثخين��ة‬ ‫حي��ث غي��ومٌ‬ ‫تالمسُ أب��راجَ الكهرب��ا ِء المنصوبة‬ ‫التالل المش��رفةِ على الطريق‪،‬‬ ‫على‬ ‫ِ‬ ‫سُ��رعان‬ ‫كانت تحجُ��بُ ضو َء النهار‪.‬‬ ‫َ‬ ‫ما استس��لمَ لش��ريطِ الذاك��رة الذي‬ ‫ص��ور‬ ‫راح يتوقّ��ف عش��وائيًّا‪ ،‬عن��د‬ ‫ٍ‬ ‫ً‬ ‫مُنقِبة في‬ ‫وتنطفئ‬ ‫كانت تُومِضُ‬ ‫ُ‬ ‫ماضِيه الغزير‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫تذكرَ زوجتَ��ه التي تُوفيتْ قبل‬ ‫أربع��ةِ أع��وام وه��ي تل��دُ طفلتَهما‬ ‫الوحي��دة‪ .‬لقدٍ فجعَ��هُ موتُها طوي ً‬ ‫ال‪،‬‬ ‫وترك��تِ الحادثة في َقس��مَاتِه حُزنًا‬ ‫ُ‬ ‫يرافِقه أينم��ا ذهب‪ .‬كان‬ ‫خفيّ��اً كان‬ ‫صوتُ��ه يختن��قُ في داخل��ه ّ‬ ‫كل مرّة‬ ‫أراد التح��دّث عنها‪ّ .‬‬ ‫تذك��ر جدّه‪ ،‬الذي‬ ‫لم ي��ره إلاّ في ص��ورةٍ ملصقةٍ على‬

‫وثيق��ةٍ عُثماني��ةٍ قديم��ةٍ كان ال‬ ‫َ‬ ‫وقصة‬ ‫يزال فيها ابن الثامنة عش��رة‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫بالس��كين على يدِ أحدِ‬ ‫مقتلِه طعنًا‬ ‫ِرجاالتِ اآلغ��ا‪ ،‬ذلك بعد رفضِه مراراً‬ ‫قطيع‬ ‫األخير بمش��اركتِه ف��ي‬ ‫طل��بَ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬ ‫يملِكه؛ فبحس��ب ما‬ ‫الغن��م الذي كان‬ ‫كان ي��روي وال��ده‪ ،‬كان للجدّ ثالثمئة‬ ‫رأس غن��م ّ‬ ‫يُغط��ون س��فحَ الهضبةِ‬ ‫الجنوب��يّ للقري��ة بص��وفٍ أبي��ضَ‬ ‫ورديٍّ‪ّ ،‬‬ ‫كل مس��ا ٍء قُبي��ل الغ��روب‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫وتذك��ر بعده��ا‪ ،‬م��ا ج��رى ف��ي تلك‬ ‫الليل��ةِ حين ع��ادَ إلى البي��ت متأخراً‬ ‫ع��ن المعت��اد‪ ،‬حي��ث ركض��تْ ابنتُه‬ ‫الصغيرة الس��تقبالِه فانحنى نحوها‬ ‫فاتح��ًا ذراعيه؛ لكنّه��ا توقّفت حينها‪،‬‬ ‫وكان��ت نظراتهُ��ا تتّجهُ إل��ى البقعة‬ ‫الت��ي توس��طتْ قميصَ��ه األبي��ض؛‬ ‫فاس��تدركَ عنده��ا قائ� ً‬ ‫لا‪« :‬آه!‪..‬‬ ‫ِّ‬ ‫س��أنظفه غداً‪ .‬في الحقيقة‪ ،‬ش��عرتُ‬ ‫بالضّج��ر فحاول��تُ رس��مَ ق ُ‬ ‫ُرنفل��ةٍ‬ ‫حمراء»‪.‬‬ ‫كان يُحبُّ الرس��مَ كثي��راً‪ ،‬وفي‬ ‫األربع األخي��رة حيث أصبح‬ ‫الس��نوات‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫أطول في بيتِ القرية‪،‬‬ ‫يقضي فتراتٍ‬ ‫َ‬ ‫اتّخ��ذ من الغرف��ة الخارجية‬ ‫كان ق��د‬ ‫الواقع��ة في فنا ِء الدار بجانب المطبخ‬ ‫مرس��ماً له‪ ،‬كان كثيراً ما يس��هرُ فيه‬ ‫م��ع أصدقائ��ه‪ّ .‬‬ ‫تذك��ر ذاتَ ي��وم من‬ ‫ٍ‬ ‫أي��ام الصي��فِ قب��ل س��نتين عندم��ا‬ ‫َ‬ ‫دخل المرس��مَ ف��ي الصب��اح‪ ،‬فألفى‬ ‫ابنتَه ُ‬ ‫تعبث بأنابيب األلوان‪ .‬كانت قد‬ ‫عص��رتْ بعض��اً منه��ا وأفرغتها على‬ ‫َ‬ ‫قطعة‬ ‫البالط واألريكة‪ ،‬وأفسدتْ بها‬ ‫القم��اش الت��ي كان أعدَّها للرس��م‪.‬‬ ‫ً‬ ‫مُولعة باأللوان‪.‬‬ ‫كانت ابنتُه مث َله‪،‬‬ ‫قطع��تْ عليه ّ‬ ‫صف��اراتُ الحاجز‪،‬‬ ‫الذي كان قد ص��ارَ على مقربةٍ منه‪،‬‬ ‫ش��رودَهُ الطويل‪ .‬كانت رشقاتٌ من‬ ‫ّ‬ ‫المتقطعة‪،‬‬ ‫مطر ناعم تحرفُها الريحُ‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ً‬ ‫دقيقة عل��ى النافذة‬ ‫فتندل��قُ خيوطًا‬ ‫األمامية؛ تأمله��ا لبرهةٍ عندما توقّف‬ ‫بهدوء‪ ،‬ثم أخفض الزجاج ومدّ رأسه‬ ‫إل��ى الخارج‪ .‬ج��اء إليه أحد العس��اكر‪،‬‬ ‫وكما في الس��ابق ّ‬ ‫تحققَ من هويّته‬ ‫ثمّ أش��ار آلخرَ بفت��ح الطريق‪ .‬وفي‬ ‫اللحظ��ة الت��ي أدارَ فيه��ا المح��رّك‪،‬‬ ‫انصهرَ الهدي��ر المُنتظ��رُ في أذنيه‬ ‫رص��اص وانفجاراتٍ انهالتْ‬ ‫مع دويِّ‬ ‫ٍ‬ ‫إنذار‬ ‫س��ابق‬ ‫غي��ر‬ ‫م��ن‬ ‫الحاجز‬ ‫عل��ى‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬ ‫وكأنّها رعودٌ متتالية ضربت األرض‪.‬‬ ‫فرّ الجنود مسرعين إلى داخل الغرف‬ ‫اإلس��منتية الصغي��رة‪ ،‬وأخف��ضَ هو‬ ‫رأسَ��ه عل��ى الف��ور‪ .‬بق��يَ لدقائقَ‬ ‫ب�لا ح��راكٍ مُحتميًا تحت الكرس��يّ‪،‬‬ ‫حتى بدأ فجأ ًة يش��عر بالغثيان‪ ،‬وباتَ‬ ‫الضجي��جُ م��ن حول��ه يتخامدُ ش��يئًا‬ ‫يخترقُ زُجاجَ‬ ‫فشيئًا‪ .‬كان الرصاصُ ِ‬

‫السيارة من ِّ‬ ‫صوب ُ‬ ‫ويثقبُ هيك َلها‬ ‫كل‬ ‫ٍ‬ ‫مُحدِثًا رنينًا معدنيًا حاداً‪.‬‬ ‫لم يكنْ معص��وبَ العينين‪ .‬كان‬ ‫َ‬ ‫الطريق ممدداً ف��ي الصندوق‬ ‫ط��وال‬ ‫ِ‬ ‫الخلف��ي لس��يارة (البي��ك آب)‪ ،‬حي��ث‬ ‫ٌ‬ ‫باس��تمرار‬ ‫رج��ل يس��قيهِ الم��اء‬ ‫كان‬ ‫ٍ‬ ‫حين‬ ‫بي��ن‬ ‫��هِ‬ ‫وجه‬ ‫عل��ى‬ ‫ويصفعُ��هُ‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬ ‫وآخر بي��دٍ ثقيلةٍ في محاولةٍ إلبقائه‬ ‫صاحي��ًا‪ .‬بال��كادِ يذك��رُ أنّ��ه عندم��ا‬ ‫َ‬ ‫اس��تيقظ وجدَ نفسَ��ه مُم��دّداً على‬ ‫ُ‬ ‫رائحة‬ ‫سرير في غرفةٍ باردةٍ أشبعتْ‬ ‫ٍ‬ ‫ّ‬ ‫المرك ِز هوا َئها‪ ،‬أطباء‬ ‫الكحول الطبيِّ‬ ‫ِ‬ ‫وممرض��ون يرت��دون ثياب��اً وقفازاتٍ‬ ‫س��ودا َء اجتمع��وا ف��وق رأس��ه‪ ،‬حتّى‬ ‫كماماتهُ��م كانت س��وداء‪ .‬لم ينبسْ‬ ‫بكلم��ة‪ .‬س��مع أحدَهم‪ ،‬ب��دا أكبرهم‬ ‫س��ناً‪ ،‬يقول‪« :‬إصابته ليست خطيرة‪،‬‬ ‫لكنّه نزفَ كثيراً‪ .‬المهمّ أن يستريحَ‬ ‫في السرير‪ ،‬ثالثة أيام على ّ‬ ‫األقل»‪.‬‬ ‫لم يستطعْ التفكيرَ أو االرتكاسَ‬ ‫بدُوار خفيف‪ ،‬وللحظةٍ‬ ‫لش��يء‪ .‬شعرَ‬ ‫ٍ‬ ‫َ‬ ‫خُيّل إليه س��ماعُ أغني��ةٍ ألمّ كلثوم‬ ‫ً‬ ‫قادم��ة من خلف الج��دارن‪ .‬بعد‬ ‫بدتْ‬ ‫ث��وانٍ قليل��ة غفا ويده كان��ت تنزلقُ‬ ‫بثقل إلى جانبه‪.‬‬ ‫من فوق صدره ٍ‬ ‫الصباحُ م��رّة أخرى‪ .‬فتحَ عينيه‬ ‫َ‬ ‫اعت��دل س��انداً‬ ‫بكس��ل‪ ،‬وبمش��قةٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ظهرَه إلى الوسادة والحائط‪ ،‬فوقعتْ‬ ‫عين��اه عل��ى بقع��ةِ الدم المتّس��عةِ‬ ‫األبيض‬ ‫الش��اش‬ ‫عل��ى ضم��ادٍ م��ن‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫ح��ول منطقةِ البطن‪ .‬لم‬ ‫لفّ جذعَه‬ ‫يكن يش��عرُ بأيّ أل��م‪ .‬راح يتفحصُ‬ ‫جس��دَه مح��ركًا رجليه ومم��رّراً يده‬ ‫عل��ى وجه��ه ورأس��ه‪ .‬اس��تدارَ قلي ً‬ ‫ال‬ ‫ليفحصَ ظهرَه‪ ،‬فتحَ فهمه‪ ،‬تلمّسَ‬ ‫أس��نانه بلس��انه ث��م ق��ال بص��وتٍ‬ ‫مس��موع‪« :‬أنا بخير»‪ .‬فاطمئنَّ لحاله‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫َ‬ ‫الغرفة بعينيه‪ ،‬كانت‬ ‫راح يستكش��فُ‬ ‫َ‬ ‫متوس��طة الحج��م‪ ،‬وعل��ى الحائ��ط‬ ‫المقاب��ل له ثمّة س��تار ٌة م��ن قماش‬ ‫رقيق ومطرّز‪ ،‬تحجبُ ش��باكًا‬ ‫أبيضَ ٍ‬ ‫خلفه��ا عل��ى األرج��ح‪ ،‬إل��ى جانبه��ا‬ ‫ٌ‬ ‫لوحة آليفازوفس��كي‪ ،‬عرفها‬ ‫عُلقتْ‬ ‫ّ‬ ‫وتذك��ر عُنوانهَ��ا‪« :‬بح��رٌ عاصِف»‪،‬‬ ‫و ّلدتْ في نفس��ه ش��يئًا م��ن االرتياح‬ ‫بعد أن تأمّلها لبرهةٍ في اس��تغراب‪.‬‬ ‫ً‬ ‫ُ‬ ‫مفروش��ة ببعض األثاث‬ ‫الغرفة‬ ‫كانت‬ ‫ٌ‬ ‫صوفيّة‬ ‫الخش��بيّ‪ ،‬وكان��ت س��جّاد ٌة‬ ‫ٌ‬ ‫مزخرف��ة تُغط��ي األرضي��ة‪ ،‬وتمتدُّ‬ ‫من الس��رير إلى الباب الذي كان َ‬ ‫منفذ‬ ‫الض��و ِء الوحي��د‪ ،‬حي��ث كان مج��رّدَ‬ ‫باب في‬ ‫فُتح��ةٍ مس��تطيلةٍ‬ ‫ِ‬ ‫بمَق��اس ٍ‬ ‫الجدار‪.‬‬ ‫َ‬ ‫دخ��ل عجُ��وزٌ مل ّثمٌ‬ ‫قلي��ل‬ ‫بع��د‬ ‫ٍ‬ ‫ٌ‬ ‫يحمل إبري��قَ ما ٍء وكأس��ًا‪ ،‬ووضعهما‬ ‫على الطاولة الصغيرة لِصقَ السرير‪،‬‬


Issuu converts static files into: digital portfolios, online yearbooks, online catalogs, digital photo albums and more. Sign up and create your flipbook.