مجلّة مقاربات - العدد الثالث

Page 1


‫العدد الثالث‬

‫‪................................................................................................................‬‬

‫شــوال ‪ 1439‬هـ ‪ /‬تموز ‪ 2018‬م‬

‫العدد الثالث‬

‫ﺃﺳــﺮﺓ ﺍﻟﺘـﺤـﺮﻳـﺮ‬

‫‪................................................................................................................‬‬

‫شــوال ‪ 1439‬هـ ‪ /‬تموز ‪ 2018‬م‬

‫خـطو ٌة‬

‫رئيس التحـريــر‪ :‬‬

‫الدكتور حسين عبد الهادي آل بكر‬

‫مديـر التــحريــر‪ :‬‬

‫الدكتـور حسن أحـمد الخطــاف‬

‫نـــحـــو‬ ‫َ‬ ‫تطــوير‬ ‫ِ‬

‫مستشار علمـي‪ :‬‬

‫الدكتــور مـحمـد أيمـن الجمال‬

‫الـــمـــحــــــــرر‪ :‬‬

‫األســتـاذ مـحمد عـلـي النجـار‬

‫علومنا‬ ‫ِ‬ ‫ال ّلغوية‬

‫تصدر عن‬

‫المجلس اإلسالمي السوري‬

‫الصيغ الزمانية في اللغة العربية‪ ،‬دراسة تقابلية مع اللغة التركية ‪..............‬‬

‫‪33‬‬

‫محتويات العدد‬ ‫« لتعارفوا» خطوة نحو املشترك اإلنساني ‪ -‬رئيس التحريـر‪ :‬د‪ .‬حسين عبد الهادي آل بكر‪2 ........................................................‬‬ ‫ّ‬ ‫منهجية التعامل مع أحاديث الفتـن ‪ -‬الدكتور‪ :‬معاذ الخن ‪4 .................................................................................................‬‬

‫ملف العدد‬

‫املهدي بين الشيعة وأهل ّ‬ ‫ّ‬ ‫السنة ‪ -‬الدكتور‪ :‬علي محمد حسن األزهري ‪13 ...................................................................................‬‬ ‫التهجير القسر ّي في ّ‬ ‫سوريا وأثره على أهل ّ‬ ‫السنة فيها ‪ -‬الباحث‪ :‬فراس رياض ّ‬ ‫السقال ‪23 .......................................................‬‬ ‫ّ ّ‬ ‫خطوة نحو تطوير علومنا اللغوي ــة ‪ -‬الباحث‪ :‬محمد علي النجار ‪33 .............................................................................................‬‬ ‫التعليم في املناطق املحررة‪ٌ ،‬‬ ‫آالم وآمال ‪ -‬الباحث‪ :‬عبد الكريم محمد بهلول ‪44 ..............................................................................‬‬ ‫الكتاتيب القرآنية‪ ،‬نشأتها ودورها في املجتمع املسلم ‪ -‬الباحثة‪ :‬آسية بنسلمون ‪51 ................................................................‬‬ ‫املكتبات ودورها في نهضة ّ‬ ‫األمة ‪ -‬األستاذ‪ :‬محمد عبد الحميد بكور ‪56 .......................................................................................‬‬ ‫ّ‬ ‫ملاذا نعلم؟ ‪ -‬الدكتور‪ :‬عبد الكريم بكار ‪60 ...................................................................................................................................‬‬ ‫ّ‬ ‫الشعوبية في املجتمع العر ّبي املسلم ‪ -‬األستاذ‪ :‬تميم اليونس ‪63 .........................................................................................‬‬ ‫أثر‬ ‫ُ‬ ‫مالك بن ّ‬ ‫نبي ‪ -‬الباحث‪ُ :‬عرابي عبد ّ‬ ‫الحي ُعرابي ‪69 ..................................................................‬‬ ‫مفهوم‬ ‫ِ‬ ‫الحضارة وشروطها عند ِ ِ‬ ‫من أوسع أودية الباطل ُّ‬ ‫الغلو في األفاضل ‪ -‬الباحث‪ :‬عبيدة خالد عبد القادر ‪73 ......................................................................‬‬

‫ّ‬ ‫التنظيم واإلدارة ومدى ّ‬ ‫ّ‬ ‫الس ّ‬ ‫الثورة ّ‬ ‫ورية ‪ -‬الدكتور‪ :‬زكريا مالحفجي ‪76 .................................................................‬‬ ‫التطبيق في‬ ‫َّ‬ ‫الس ّ‬ ‫الثورة ّ‬ ‫حقول ّ‬ ‫ورية ‪ -‬الدكتور‪ :‬عبد السميع مصطفى األحمد ‪80 .............................................................‬‬ ‫داللية استحدثتها‬

‫ح ّرية القلم اإلعالمي في وسيلة إعالم إسالمية ‪ -‬األستاذ‪ :‬نبيل شبيب ‪83 .................................................................................‬‬ ‫املصطلحات وأثرها في الفكر اإلسالمي ‪ -‬الدكتور‪ :‬محمد العبدة ‪86 .........................................................................................‬‬ ‫الدعوة املفتوحة من أجل عمل مشترك يجمع السوريين ‪ -‬الدكتور‪ :‬عبد العزيز الحاج مصطفى ‪90 ......................................‬‬ ‫محمد أيمن ّ‬ ‫املفسدون في األرض والحج ‪ -‬الدكتور‪ّ :‬‬ ‫الجمال ‪93 ...................................................................................................‬‬ ‫المقاالت الواردة في المجلة تعبر عن رأي كاتبها وال تعبـر بالضرورة عن رأي المجلة‬ ‫الــبـريــــد اإللكــــتـرونـــي للـمجلــة‪jou@sy-sic.com :‬‬


‫العدد الثالث‬

‫‪................................................................................................................‬‬

‫شــوال ‪ 1439‬هـ ‪ /‬تموز ‪ 2018‬م‬

‫العدد الثالث‬

‫ﺃﺳــﺮﺓ ﺍﻟﺘـﺤـﺮﻳـﺮ‬

‫‪................................................................................................................‬‬

‫شــوال ‪ 1439‬هـ ‪ /‬تموز ‪ 2018‬م‬

‫خـطو ٌة‬

‫رئيس التحـريــر‪ :‬‬

‫الدكتور حسين عبد الهادي آل بكر‬

‫مديـر التــحريــر‪ :‬‬

‫الدكتـور حسن أحـمد الخطــاف‬

‫نـــحـــو‬ ‫َ‬ ‫تطــوير‬ ‫ِ‬

‫مستشار علمـي‪ :‬‬

‫الدكتــور مـحمـد أيمـن الجمال‬

‫الـــمـــحــــــــرر‪ :‬‬

‫األســتـاذ مـحمد عـلـي النجـار‬

‫علومنا‬ ‫ِ‬ ‫ال ّلغوية‬

‫تصدر عن‬

‫المجلس اإلسالمي السوري‬

‫الصيغ الزمانية في اللغة العربية‪ ،‬دراسة تقابلية مع اللغة التركية ‪..............‬‬

‫‪33‬‬

‫محتويات العدد‬ ‫« لتعارفوا» خطوة نحو املشترك اإلنساني ‪ -‬رئيس التحريـر‪ :‬د‪ .‬حسين عبد الهادي آل بكر‪2 ........................................................‬‬ ‫ّ‬ ‫منهجية التعامل مع أحاديث الفتـن ‪ -‬الدكتور‪ :‬معاذ الخن ‪4 .................................................................................................‬‬

‫ملف العدد‬

‫املهدي بين الشيعة وأهل ّ‬ ‫ّ‬ ‫السنة ‪ -‬الدكتور‪ :‬علي محمد حسن األزهري ‪13 ...................................................................................‬‬ ‫التهجير القسر ّي في ّ‬ ‫سوريا وأثره على أهل ّ‬ ‫السنة فيها ‪ -‬الباحث‪ :‬فراس رياض ّ‬ ‫السقال ‪23 .......................................................‬‬ ‫ّ ّ‬ ‫خطوة نحو تطوير علومنا اللغوي ــة ‪ -‬الباحث‪ :‬محمد علي النجار ‪33 .............................................................................................‬‬ ‫التعليم في املناطق املحررة‪ٌ ،‬‬ ‫آالم وآمال ‪ -‬الباحث‪ :‬عبد الكريم محمد بهلول ‪44 ..............................................................................‬‬ ‫الكتاتيب القرآنية‪ ،‬نشأتها ودورها في املجتمع املسلم ‪ -‬الباحثة‪ :‬آسية بنسلمون ‪51 ................................................................‬‬ ‫املكتبات ودورها في نهضة ّ‬ ‫األمة ‪ -‬األستاذ‪ :‬محمد عبد الحميد بكور ‪56 .......................................................................................‬‬ ‫ّ‬ ‫ملاذا نعلم؟ ‪ -‬الدكتور‪ :‬عبد الكريم بكار ‪60 ...................................................................................................................................‬‬ ‫ّ‬ ‫الشعوبية في املجتمع العر ّبي املسلم ‪ -‬األستاذ‪ :‬تميم اليونس ‪63 .........................................................................................‬‬ ‫أثر‬ ‫ُ‬ ‫مالك بن ّ‬ ‫نبي ‪ -‬الباحث‪ُ :‬عرابي عبد ّ‬ ‫الحي ُعرابي ‪69 ..................................................................‬‬ ‫مفهوم‬ ‫ِ‬ ‫الحضارة وشروطها عند ِ ِ‬ ‫من أوسع أودية الباطل ُّ‬ ‫الغلو في األفاضل ‪ -‬الباحث‪ :‬عبيدة خالد عبد القادر ‪73 ......................................................................‬‬

‫ّ‬ ‫التنظيم واإلدارة ومدى ّ‬ ‫ّ‬ ‫الس ّ‬ ‫الثورة ّ‬ ‫ورية ‪ -‬الدكتور‪ :‬زكريا مالحفجي ‪76 .................................................................‬‬ ‫التطبيق في‬ ‫َّ‬ ‫الس ّ‬ ‫الثورة ّ‬ ‫حقول ّ‬ ‫ورية ‪ -‬الدكتور‪ :‬عبد السميع مصطفى األحمد ‪80 .............................................................‬‬ ‫داللية استحدثتها‬

‫ح ّرية القلم اإلعالمي في وسيلة إعالم إسالمية ‪ -‬األستاذ‪ :‬نبيل شبيب ‪83 .................................................................................‬‬ ‫املصطلحات وأثرها في الفكر اإلسالمي ‪ -‬الدكتور‪ :‬محمد العبدة ‪86 .........................................................................................‬‬ ‫الدعوة املفتوحة من أجل عمل مشترك يجمع السوريين ‪ -‬الدكتور‪ :‬عبد العزيز الحاج مصطفى ‪90 ......................................‬‬ ‫محمد أيمن ّ‬ ‫املفسدون في األرض والحج ‪ -‬الدكتور‪ّ :‬‬ ‫الجمال ‪93 ...................................................................................................‬‬ ‫المقاالت الواردة في المجلة تعبر عن رأي كاتبها وال تعبـر بالضرورة عن رأي المجلة‬ ‫الــبـريــــد اإللكــــتـرونـــي للـمجلــة‪jou@sy-sic.com :‬‬


‫كلمة رئيس التحرير‬

‫كلمة رئيس التحرير‬

‫« ِل َت َعا َر ُفوا»‬

‫خطوة نحو املشترك اإلنساني‬ ‫الدكتور حسين عبد الهادي آل بكر‬ ‫لِنَنتقـ ْـل مــن صــدام الحضــارات الــذي دعــا إليــه هنتنغتــون إلــى‬ ‫حــوار الحضــارات‪ ،‬ومــن العولمــة التــي ُتفــرض قســرا علــى البشــر‬ ‫إلــى العا َلميــة التــي تدعــو إلــى التعــارف للوصــول إلــى المشــرك‬ ‫اإلنســاين‪ ،‬لكــن ليــس مــن الســهولة أن تتبلــور النظريــة أو المشــروع‬ ‫بيــن عشــية وضحاهــا؛ فهــي تحتــاج إلــى دراســات وقــراءات‬ ‫ولقــاءات وحــوارات تشــهد التعدديــة واالختــاف يف الســاحة‬ ‫الدوليــة‪.‬‬

‫ويف زحــام التيــه والقلــق الــذي رســخه فوكويامــا حــول هنايــة‬ ‫التاريــخ‪ ،‬أو مــا طرحــه بــوش االبــن حــول الحــرب الصليبيــة‬ ‫وصــوال إلــى ترامــب الــذي يعلــن الحــق األمريكــي يف الســيطرة‬ ‫علــى الثــروات العربيــة‪ ،‬أو غيــر ذلــك مــن صيحــات غربيــة غيــر‬ ‫عقالنيــة باتــت تنفــخ يف نيــران الصــراع اإلنســاين؛ بــدأت ُتقــرع‬ ‫نواقيــس الخطــر يف العالــم كلــه علــى نحــو يمكــن أن ينــذر بحــرب‬ ‫كونيــة مدمــرة ال تبقــي وال تــذر‪.‬‬ ‫ولتفــادي هــذا الخطــاب ال بــد مــن دراســة المنطقــة المشــركة‬ ‫علــى المســتوى اإلنســاين‪ ،‬القــادرة علــى الجمــع بيــن الفرقــاء مهمــا‬ ‫اتســعت بينهــم شــقة الخــاف‪ ،‬ولعــل أرقــى األنمــاط الجدليــة يف‬ ‫التاريــخ مــا دعــا إليــه اإلســام ورســوله الخاتــم مــن المجادلــة‬ ‫بالتــي هــي أحســن بنــاء علــى منطــق الدعــوة بالحكمــة والموعظــة‬ ‫الحســنة‪ ،‬وهــو قيــاس حضــاري إنســاين رائــع‪.‬‬

‫إن البحــث عــن المشــرك يتجــاوز منطــق الخصومــة والصــدام‪،‬‬ ‫ويــؤدي إلــى التالقــي واحــرام مســاحات التشــابه بيــن األمــم‬ ‫والشــعوب علــى مســتوى الفكــر واإلبــداع للوقــوف علــى أرض‬ ‫صلبــة ورؤى متجانســة يحكمهــا ذلــك التقــارب‪ ،‬وغالبــا مــا يظــل‬ ‫المشــرك ضامنــا الحــرام الخصوصيــة والهويــة الذاتيــة لــكل أمــة‬ ‫دون التضحيــة بثرواهتــا وتاريخهــا أو تراثهــا اإلنســاين‪ ،‬قــال اهلل‬ ‫ـم مِ ـ ْن َذ َكـ ٍـر‬ ‫تعالــى يف كتابــه الكريــم‪َ ﴿ :‬يــا َأ ُّي َهــا النَّـ ُ‬ ‫ـاس إِ َّنــا َخ َل ْقنَا ُكـ ْ‬ ‫ــل ل ِ َتعار ُفــوا إِ َّن َأكْرم ُكــم ِعنْــدَ اهَّللِ‬ ‫ِ‬ ‫َ َ ْ‬ ‫ُــم ُشــ ُعو ًبا َو َق َبائ َ َ َ‬ ‫َو ُأ ْن َثــى َو َج َع ْلنَاك ْ‬ ‫‪2‬‬

‫ِ‬ ‫يم َخبِ ٌير﴾ [سورة الحجرات‪ :‬آية ‪.]13‬‬ ‫اهَّلل َعل ٌ‬ ‫َأ ْت َقاك ُْم إِ َّن َ‬

‫واليــوم يحتــاج العالــم إلــى خطــاب دينــي حضــاري إنســاين جامــع‬ ‫بيــن احــرام الوحــدة والتنــوع معــا‪ ،‬وليــس يف هــذا أرقــى مــن‬ ‫خطــاب رســول اهلل صلــى اهلل عليــه وســلم يف حجــة الــوداع حينمــا‬ ‫ـاس! أال إِ َّن ر َّبكــم واحــدٌ َوإِ َّن َأ َباكــم واحــدٌ ‪ ،‬أال ال‬ ‫قــال‪« :‬يــا َأ ّيهــا النَّـ ُ‬ ‫ِ‬ ‫َفضـ َـل لِعربِــي علــى َعجمــي َو َل ل َعجمــي َع َلــى َع َربِــي‪َ ،‬‬ ‫ول أحمــر‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫علــى َأســو َد َو َل َأســو َد علــى َأحمـ َـر إِ َّل بِالتَّقــوى»((( فهــذا الخطــاب‬ ‫يمثــل إرهاصــات حقيقيــة للمشــرك ومداخــل رحبــة للتعــارف بيــن‬ ‫الشــعوب واألمــم والحضــارات‪.‬‬ ‫إن البحــث عــن المشــرك مدخــل إلــى الســام اإلنســاين ونشــر‬ ‫لقيــم الصفــح والتســامح بــدال مــن الدمويــة والعنــف‪ ،‬ال ســيما يف‬ ‫ظــل مــا يدعــو إليــه البعــض مــن صــدام الحضــارات‪.‬‬ ‫ويف هــذا الســياق ســتتوالى الدراســات بعطائهــا الحضــاري حــول‬ ‫اإلنســان وحقوقــه وقضايــاه ومشــكالته يف زمــن غابــت فيــه قيــم‬ ‫العــدل وشــاعت فيــه ازدواجيــة المعاييــر‪ ،‬وســيكون هــذا الخطــاب‬ ‫تأصيـ ًـا للــدور الحضــاري ليتع ّلــم اإلنســان كيــف يكــون إنســانًا؛‬ ‫ـوي عــدواينّ‪ ،‬وال يلجــأ إلــى‬ ‫فــا يتحــول إلــى وغــد أو إرهابـ ّـي دمـ ّ‬ ‫التّعنــت والقهــر أو اســتعباد خلــق اهلل أو كراهيــة البشــر والعربــدة‬ ‫علــى حســاب األبريــاء علــى النمــط الــذي انتهجتــه حــركات‬ ‫ٍ‬ ‫خطــاب عــدواين مخيــف‬ ‫االحتــال وأنظمــة االســتبداد يف ســباق‬ ‫وثقافــة تربيريــة لمنطــق الطغيــان والعــدوان علــى اآلخــر‪.‬‬

‫إذا مــا قرأنــا صفحــات التاريــخ فإننــا ســنجد أن ســلوك المســلم‬ ‫ِ‬ ‫ـاحات التالقــي معــه والتفاعــل مــع‬ ‫كان ح ًّبــا لآلخــر‪ ،‬واحرتا ًمــا لمسـ‬ ‫والرقــي يف مجادلتــه أو مناظرتــه‪،‬‬ ‫فكــره والتداخــل يف نتــاج عقلــه‬ ‫ّ‬ ‫ِ‬ ‫وهــو مــا ظــل ســمتًا للثقافــة اإلســامية يف ُمثاق َفتهــا وتالقحهــا مــع‬ ‫كل مــا حولهــا‪.‬‬ ‫((( رواه اإلمام أحمد يف مسنده رقم (‪.)98432‬‬

‫كلمة رئيس التحرير‬ ‫األوربــي يف عصــور ظالمــه فكــر ابــن‬ ‫لقــد صدرنــا للغــرب‬ ‫ّ‬ ‫ســينا وابــن رشــد والكنــدي والفارابــي وابــن حيــان وابــن الهيثــم‬ ‫واإلدريســي والخوارزمــي والــرازي‪ ،‬وغيرهــم كثيــر‪ ...‬هــذا مــا‬ ‫تشــهد بــه صفحــات التاريــخ‪ ،‬بينمــا يف المقابــل نجــد عدوانــا بــكل‬ ‫الوســائل علــى أمتنــا يف الماضــي والحاضــر هدفــه منعنــا مــن أي‬ ‫تقــدم يف الميــدان الحضــاري‪.‬‬

‫َ‬ ‫وبيــان‬ ‫وكشــف األباطيــل‪،‬‬ ‫نحــن نريــد بخطابنــا تجليــ َة الحقائــق‬ ‫َ‬ ‫الزيــف الــذي يحيــط باإلســام وأهلــه إمــا مــن معانــد أو مغامــر أو‬ ‫ـورا أو عجـ ًـزا‬ ‫جاهــل أو مغالــط أو حاقــد‪ ،‬وإمــا مــن غيــر أهلــه قصـ ً‬ ‫أو افــرا ًء‪.‬‬ ‫ـاري اإلنســاينّ علــى‬ ‫إننــا اليــوم بحاجــة إلــى تفعيــل خطابنــا الحضـ ّ‬ ‫مســتوى العالــم كمــا فعــل رســول اهلل صلــى اهلل عليــه وســلم يف‬ ‫ً‬ ‫شــامل للعدالــة‬ ‫حجــة الــوداع يــوم أن وضــع للبشــرية قانونًــا‬ ‫والمســاواة؛ فنحــن مطالبــون اليــوم ببيــان القيــم اإلنســانية العليــا‬ ‫التــي باتــت ضــرورة ال غنــى عنهــا لــكل البشــر‪ ،‬وواجبنــا ‪ -‬نحــن‬ ‫نقر َبهــا إلــى ذاكــرة النــاس يف عصــر طغيــان المــادة‬ ‫المســلمين ‪ -‬أن ِّ‬ ‫وتجاهــل المثــل العليــا وضيــاع معنــى الفضيلــة واألخــاق‪.‬‬ ‫لِنع ِّل ِ‬ ‫ــم العالــم أن الهــدف مــن خطابنــا اإلســامي هــو إنقــاذ‬

‫اإلنســانية مــن رداءة واقعهــا المظلــم‪ ،‬فقــد غــدت جرائــم اإلنســان‬ ‫ضــد أخيــه اإلنســان ‪ -‬قتــا وخيانــة أو غــدرا وكراهيــة أو عدوانــا‬ ‫مظهــرا مألو ًفــا مــن مظاهــر الحيــاة اإلنســانية‪ ،‬وإن كل‬ ‫وســرقة ‪-‬‬ ‫ً‬ ‫مظاهــر للفســاد والبغــي يف‬ ‫هــذه األفعــال البغيضــة عبــارة عــن‬ ‫َ‬ ‫ً‬ ‫وتفصيــا‪.‬‬ ‫األرض تنــايف خطا َبنــا اإليمــاين جملــ ًة‬

‫يف َن ْي ِ‬ ‫العالمــي الجديــد عــادت البشــري ُة لتقــرب مــن‬ ‫ــر النظــام‬ ‫ّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫وانتهــاك‬ ‫وقهــر الضعفــاء‬ ‫الغــزو‬ ‫شــريعة الغــاب‪ ،‬وعــاد منطــق‬ ‫محــارم اإلنســان تحــت طغيــان القــوة والبطــش‪ ،‬وهــو مــا ينــايف‬ ‫مبادئنــا التــي تحــرم قطــع شــجرة أو قتــل طفــل أو إيــذاء شــيخ أو‬ ‫امــرأة‪.‬‬ ‫عــاد المجتمــع اإلنســاين اليــوم يف ُأ ِ‬ ‫وار العولمــة إلــى دورة اإلجــرام‬ ‫ِ‬ ‫للحــرث والنســل‬ ‫مــن قتــ ٍل للنفــس وتجريــف لــأرض وتدميــر‬ ‫وتخريــب للعمــران‪ ،‬وتلــك هــي طريقــة أعــداء الحضــارة وحقــوق‬ ‫اإلنســان علــى مــدار حقــب التاريــخ‪.‬‬ ‫ومــا ُيرتكــب يف ســوريا مــن جرائــم ينــدى لهــا جبيــن اإلنســان ّية‬ ‫وكــذا يف فلســطين والعــراق واليمــن وبورمــا وغيرهــا يســتحق‬ ‫مــن العالــم كلــه صحــوة كــرى‪ ،‬هــذا إن كان ثمــة بقيــة مــن ضميــر‬

‫تســعى للحفــاظ علــى حقــوق اإلنســان‪.‬‬

‫لقــد بــات المعجــم البشــري يف منعطــف خطيـ ٍـر تســيطر عليــه ماد ّيـ ُة‬ ‫الحضــارة الغربيــة بــكل مــا فيهــا مــن صديـ ٍـد أخالقـ ٍّـي وتبجحــات‬ ‫ســلوكية وتغييــب للقيــم التــي يتشــدق هبــا األدعيــاء مــن أهــل‬ ‫الزيــف وأنصــار الشــعارات‪ ،‬وهــذا يســتدعي حتمي ـ َة مراجعـ ِـة مــا‬ ‫يســمى بالمنظمــات الدوليــة العالميــة ومــا أفرزتــه مــن قوانيــن يف‬ ‫غيبــة الضوابــط وبنــود الشــرعية الدوليــة‪.‬‬ ‫يتشــدق دعــاة الحضــارة الماديــة واألنظمــة االســتبدادية بإســناد‬ ‫ظلمــا وهبتا ًنــا‪ ،‬والحــق أن اإلســام‬ ‫اإلرهــاب إلــى اإلســام وأهلــه ً‬ ‫منــه بــراء‪ ،‬وهــؤالء لجــؤوا إلــى تحويــل األنظــار عمــا صنعــوه مــن‬ ‫إرهــاب يف حــق اإلنســانية ماض ًيــا وحاضـ ًـرا عــر إلصاقــه بديــن اهلل‪،‬‬ ‫وحتــى لــو فرضنــا أن هنــاك إرها ًبــا يصــدر عــن بعــض المســلمين‬ ‫فإنّمــا هــو ردة فعــل علــى إرهاهبــم ال أكثــر‪ ،‬وال يمثــل نقطــة يف بحــر‬ ‫جرائمهــم البغيضــة‪.‬‬

‫لقــد أصبحــت لغــة العالــم شــاخصة يف منطــق الصمــت والتخــاذل‬ ‫دون اســتنكار لمــا يقــع مــن اخــراق للقانــون‪ ،‬حتــى أصبــح احــرام‬ ‫القانــون الدولــي ضر ًبــا مــن الوهــم مقابــل التجــرؤ علــى اخرتاقــه‬ ‫أو القفــز علــى قــرارات الشــرعية الدوليــة مــن قبــل ســفاكي الدمــاء‬ ‫ومجرمــي الحــرب‪ ،‬وإال فأيــن العالــم مــن شــعب أعــزل يواجــه‬ ‫عدوا ًنــا مس ـ ّل ًحا مــن األنظمـ ِـة والقــوى اإلقليميــة والعالميــة؟ بــل‬ ‫أيــن القانــون والخطــاب الحضــاري الــذي يدعيــه إنســان القــرن‬ ‫الواحــد والعشــرين؟ أم إن جحافــل العصــور الوســطى مــا زالــت‬ ‫والعالــم ُتجاههــا يؤثــر الصمــت‪ ،‬فهــو‬ ‫تســود الســاحة اإلنســانية؛‬ ‫ُ‬ ‫أصــم أبكــم ال يســمع وال يــرى‪.‬‬

‫ويكفــي دليــا علــى االنحطــاط والتوحــش الــذي وصــل إليــه‬ ‫عالمنــا اليــوم اســتخدام الــروس حــق النقـ ِ‬ ‫ـض ضــد كل القــرارات‬ ‫والقوانيــن التــي تحمــي الشــعب الســوري وتنقــذه مــن جــاده‪ ،‬فيــا‬ ‫للعــار ل ِ‬ ‫ٍ‬ ‫مجلــس ال يســتطيع حمايــة الضعفــاء!‬ ‫أدراجهــا مــع رحلــة الضميــر الــذي ســقط‬ ‫لقــد عــادت الهمجيــة‬ ‫َ‬ ‫ســهوا أو عمــدا يف مســتنقع الجشــع البشــري‪ ،‬وزاد األمــر تعقيــدا‬ ‫صمــت الشــرفاء يف هــذا العالــم حتــى عدنــا إلــى عصــر العبود ّيــة‬ ‫وقهــر اإلنســان يف ظــل ســلطة أدعيــاء الحضــارة والمثــل اإلنســانية‪،‬‬ ‫وكان ذلــك نتيجــة لتخلــي الحضــارة اإلســامية عــن قيــادة الركــب‬ ‫اإلنســاين‪ ،‬وإنــه مــع عــودة هــذه الحضــارة ســيعود االســتقرار إلــى‬ ‫انحســارا يف رقعــة الصــراع اإلنســاينّ ومــا ينتــج‬ ‫عالمنــا وسنشــهد‬ ‫ً‬ ‫عنــه مــن تخلــف ودمــار‪ ...‬ومــا ذلــك علــى اهلل بعزيــز‪.‬‬ ‫‪3‬‬


‫كلمة رئيس التحرير‬

‫كلمة رئيس التحرير‬

‫« ِل َت َعا َر ُفوا»‬

‫خطوة نحو املشترك اإلنساني‬ ‫الدكتور حسين عبد الهادي آل بكر‬ ‫لِنَنتقـ ْـل مــن صــدام الحضــارات الــذي دعــا إليــه هنتنغتــون إلــى‬ ‫حــوار الحضــارات‪ ،‬ومــن العولمــة التــي ُتفــرض قســرا علــى البشــر‬ ‫إلــى العا َلميــة التــي تدعــو إلــى التعــارف للوصــول إلــى المشــرك‬ ‫اإلنســاين‪ ،‬لكــن ليــس مــن الســهولة أن تتبلــور النظريــة أو المشــروع‬ ‫بيــن عشــية وضحاهــا؛ فهــي تحتــاج إلــى دراســات وقــراءات‬ ‫ولقــاءات وحــوارات تشــهد التعدديــة واالختــاف يف الســاحة‬ ‫الدوليــة‪.‬‬

‫ويف زحــام التيــه والقلــق الــذي رســخه فوكويامــا حــول هنايــة‬ ‫التاريــخ‪ ،‬أو مــا طرحــه بــوش االبــن حــول الحــرب الصليبيــة‬ ‫وصــوال إلــى ترامــب الــذي يعلــن الحــق األمريكــي يف الســيطرة‬ ‫علــى الثــروات العربيــة‪ ،‬أو غيــر ذلــك مــن صيحــات غربيــة غيــر‬ ‫عقالنيــة باتــت تنفــخ يف نيــران الصــراع اإلنســاين؛ بــدأت ُتقــرع‬ ‫نواقيــس الخطــر يف العالــم كلــه علــى نحــو يمكــن أن ينــذر بحــرب‬ ‫كونيــة مدمــرة ال تبقــي وال تــذر‪.‬‬ ‫ولتفــادي هــذا الخطــاب ال بــد مــن دراســة المنطقــة المشــركة‬ ‫علــى المســتوى اإلنســاين‪ ،‬القــادرة علــى الجمــع بيــن الفرقــاء مهمــا‬ ‫اتســعت بينهــم شــقة الخــاف‪ ،‬ولعــل أرقــى األنمــاط الجدليــة يف‬ ‫التاريــخ مــا دعــا إليــه اإلســام ورســوله الخاتــم مــن المجادلــة‬ ‫بالتــي هــي أحســن بنــاء علــى منطــق الدعــوة بالحكمــة والموعظــة‬ ‫الحســنة‪ ،‬وهــو قيــاس حضــاري إنســاين رائــع‪.‬‬

‫إن البحــث عــن المشــرك يتجــاوز منطــق الخصومــة والصــدام‪،‬‬ ‫ويــؤدي إلــى التالقــي واحــرام مســاحات التشــابه بيــن األمــم‬ ‫والشــعوب علــى مســتوى الفكــر واإلبــداع للوقــوف علــى أرض‬ ‫صلبــة ورؤى متجانســة يحكمهــا ذلــك التقــارب‪ ،‬وغالبــا مــا يظــل‬ ‫المشــرك ضامنــا الحــرام الخصوصيــة والهويــة الذاتيــة لــكل أمــة‬ ‫دون التضحيــة بثرواهتــا وتاريخهــا أو تراثهــا اإلنســاين‪ ،‬قــال اهلل‬ ‫ـم مِ ـ ْن َذ َكـ ٍـر‬ ‫تعالــى يف كتابــه الكريــم‪َ ﴿ :‬يــا َأ ُّي َهــا النَّـ ُ‬ ‫ـاس إِ َّنــا َخ َل ْقنَا ُكـ ْ‬ ‫ــل ل ِ َتعار ُفــوا إِ َّن َأكْرم ُكــم ِعنْــدَ اهَّللِ‬ ‫ِ‬ ‫َ َ ْ‬ ‫ُــم ُشــ ُعو ًبا َو َق َبائ َ َ َ‬ ‫َو ُأ ْن َثــى َو َج َع ْلنَاك ْ‬ ‫‪2‬‬

‫ِ‬ ‫يم َخبِ ٌير﴾ [سورة الحجرات‪ :‬آية ‪.]13‬‬ ‫اهَّلل َعل ٌ‬ ‫َأ ْت َقاك ُْم إِ َّن َ‬

‫واليــوم يحتــاج العالــم إلــى خطــاب دينــي حضــاري إنســاين جامــع‬ ‫بيــن احــرام الوحــدة والتنــوع معــا‪ ،‬وليــس يف هــذا أرقــى مــن‬ ‫خطــاب رســول اهلل صلــى اهلل عليــه وســلم يف حجــة الــوداع حينمــا‬ ‫ـاس! أال إِ َّن ر َّبكــم واحــدٌ َوإِ َّن َأ َباكــم واحــدٌ ‪ ،‬أال ال‬ ‫قــال‪« :‬يــا َأ ّيهــا النَّـ ُ‬ ‫ِ‬ ‫َفضـ َـل لِعربِــي علــى َعجمــي َو َل ل َعجمــي َع َلــى َع َربِــي‪َ ،‬‬ ‫ول أحمــر‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫علــى َأســو َد َو َل َأســو َد علــى َأحمـ َـر إِ َّل بِالتَّقــوى»((( فهــذا الخطــاب‬ ‫يمثــل إرهاصــات حقيقيــة للمشــرك ومداخــل رحبــة للتعــارف بيــن‬ ‫الشــعوب واألمــم والحضــارات‪.‬‬ ‫إن البحــث عــن المشــرك مدخــل إلــى الســام اإلنســاين ونشــر‬ ‫لقيــم الصفــح والتســامح بــدال مــن الدمويــة والعنــف‪ ،‬ال ســيما يف‬ ‫ظــل مــا يدعــو إليــه البعــض مــن صــدام الحضــارات‪.‬‬ ‫ويف هــذا الســياق ســتتوالى الدراســات بعطائهــا الحضــاري حــول‬ ‫اإلنســان وحقوقــه وقضايــاه ومشــكالته يف زمــن غابــت فيــه قيــم‬ ‫العــدل وشــاعت فيــه ازدواجيــة المعاييــر‪ ،‬وســيكون هــذا الخطــاب‬ ‫تأصيـ ًـا للــدور الحضــاري ليتع ّلــم اإلنســان كيــف يكــون إنســانًا؛‬ ‫ـوي عــدواينّ‪ ،‬وال يلجــأ إلــى‬ ‫فــا يتحــول إلــى وغــد أو إرهابـ ّـي دمـ ّ‬ ‫التّعنــت والقهــر أو اســتعباد خلــق اهلل أو كراهيــة البشــر والعربــدة‬ ‫علــى حســاب األبريــاء علــى النمــط الــذي انتهجتــه حــركات‬ ‫ٍ‬ ‫خطــاب عــدواين مخيــف‬ ‫االحتــال وأنظمــة االســتبداد يف ســباق‬ ‫وثقافــة تربيريــة لمنطــق الطغيــان والعــدوان علــى اآلخــر‪.‬‬

‫إذا مــا قرأنــا صفحــات التاريــخ فإننــا ســنجد أن ســلوك المســلم‬ ‫ِ‬ ‫ـاحات التالقــي معــه والتفاعــل مــع‬ ‫كان ح ًّبــا لآلخــر‪ ،‬واحرتا ًمــا لمسـ‬ ‫والرقــي يف مجادلتــه أو مناظرتــه‪،‬‬ ‫فكــره والتداخــل يف نتــاج عقلــه‬ ‫ّ‬ ‫ِ‬ ‫وهــو مــا ظــل ســمتًا للثقافــة اإلســامية يف ُمثاق َفتهــا وتالقحهــا مــع‬ ‫كل مــا حولهــا‪.‬‬ ‫((( رواه اإلمام أحمد يف مسنده رقم (‪.)98432‬‬

‫كلمة رئيس التحرير‬ ‫األوربــي يف عصــور ظالمــه فكــر ابــن‬ ‫لقــد صدرنــا للغــرب‬ ‫ّ‬ ‫ســينا وابــن رشــد والكنــدي والفارابــي وابــن حيــان وابــن الهيثــم‬ ‫واإلدريســي والخوارزمــي والــرازي‪ ،‬وغيرهــم كثيــر‪ ...‬هــذا مــا‬ ‫تشــهد بــه صفحــات التاريــخ‪ ،‬بينمــا يف المقابــل نجــد عدوانــا بــكل‬ ‫الوســائل علــى أمتنــا يف الماضــي والحاضــر هدفــه منعنــا مــن أي‬ ‫تقــدم يف الميــدان الحضــاري‪.‬‬

‫َ‬ ‫وبيــان‬ ‫وكشــف األباطيــل‪،‬‬ ‫نحــن نريــد بخطابنــا تجليــ َة الحقائــق‬ ‫َ‬ ‫الزيــف الــذي يحيــط باإلســام وأهلــه إمــا مــن معانــد أو مغامــر أو‬ ‫ـورا أو عجـ ًـزا‬ ‫جاهــل أو مغالــط أو حاقــد‪ ،‬وإمــا مــن غيــر أهلــه قصـ ً‬ ‫أو افــرا ًء‪.‬‬ ‫ـاري اإلنســاينّ علــى‬ ‫إننــا اليــوم بحاجــة إلــى تفعيــل خطابنــا الحضـ ّ‬ ‫مســتوى العالــم كمــا فعــل رســول اهلل صلــى اهلل عليــه وســلم يف‬ ‫ً‬ ‫شــامل للعدالــة‬ ‫حجــة الــوداع يــوم أن وضــع للبشــرية قانونًــا‬ ‫والمســاواة؛ فنحــن مطالبــون اليــوم ببيــان القيــم اإلنســانية العليــا‬ ‫التــي باتــت ضــرورة ال غنــى عنهــا لــكل البشــر‪ ،‬وواجبنــا ‪ -‬نحــن‬ ‫نقر َبهــا إلــى ذاكــرة النــاس يف عصــر طغيــان المــادة‬ ‫المســلمين ‪ -‬أن ِّ‬ ‫وتجاهــل المثــل العليــا وضيــاع معنــى الفضيلــة واألخــاق‪.‬‬ ‫لِنع ِّل ِ‬ ‫ــم العالــم أن الهــدف مــن خطابنــا اإلســامي هــو إنقــاذ‬

‫اإلنســانية مــن رداءة واقعهــا المظلــم‪ ،‬فقــد غــدت جرائــم اإلنســان‬ ‫ضــد أخيــه اإلنســان ‪ -‬قتــا وخيانــة أو غــدرا وكراهيــة أو عدوانــا‬ ‫مظهــرا مألو ًفــا مــن مظاهــر الحيــاة اإلنســانية‪ ،‬وإن كل‬ ‫وســرقة ‪-‬‬ ‫ً‬ ‫مظاهــر للفســاد والبغــي يف‬ ‫هــذه األفعــال البغيضــة عبــارة عــن‬ ‫َ‬ ‫ً‬ ‫وتفصيــا‪.‬‬ ‫األرض تنــايف خطا َبنــا اإليمــاين جملــ ًة‬

‫يف َن ْي ِ‬ ‫العالمــي الجديــد عــادت البشــري ُة لتقــرب مــن‬ ‫ــر النظــام‬ ‫ّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫وانتهــاك‬ ‫وقهــر الضعفــاء‬ ‫الغــزو‬ ‫شــريعة الغــاب‪ ،‬وعــاد منطــق‬ ‫محــارم اإلنســان تحــت طغيــان القــوة والبطــش‪ ،‬وهــو مــا ينــايف‬ ‫مبادئنــا التــي تحــرم قطــع شــجرة أو قتــل طفــل أو إيــذاء شــيخ أو‬ ‫امــرأة‪.‬‬ ‫عــاد المجتمــع اإلنســاين اليــوم يف ُأ ِ‬ ‫وار العولمــة إلــى دورة اإلجــرام‬ ‫ِ‬ ‫للحــرث والنســل‬ ‫مــن قتــ ٍل للنفــس وتجريــف لــأرض وتدميــر‬ ‫وتخريــب للعمــران‪ ،‬وتلــك هــي طريقــة أعــداء الحضــارة وحقــوق‬ ‫اإلنســان علــى مــدار حقــب التاريــخ‪.‬‬ ‫ومــا ُيرتكــب يف ســوريا مــن جرائــم ينــدى لهــا جبيــن اإلنســان ّية‬ ‫وكــذا يف فلســطين والعــراق واليمــن وبورمــا وغيرهــا يســتحق‬ ‫مــن العالــم كلــه صحــوة كــرى‪ ،‬هــذا إن كان ثمــة بقيــة مــن ضميــر‬

‫تســعى للحفــاظ علــى حقــوق اإلنســان‪.‬‬

‫لقــد بــات المعجــم البشــري يف منعطــف خطيـ ٍـر تســيطر عليــه ماد ّيـ ُة‬ ‫الحضــارة الغربيــة بــكل مــا فيهــا مــن صديـ ٍـد أخالقـ ٍّـي وتبجحــات‬ ‫ســلوكية وتغييــب للقيــم التــي يتشــدق هبــا األدعيــاء مــن أهــل‬ ‫الزيــف وأنصــار الشــعارات‪ ،‬وهــذا يســتدعي حتمي ـ َة مراجعـ ِـة مــا‬ ‫يســمى بالمنظمــات الدوليــة العالميــة ومــا أفرزتــه مــن قوانيــن يف‬ ‫غيبــة الضوابــط وبنــود الشــرعية الدوليــة‪.‬‬ ‫يتشــدق دعــاة الحضــارة الماديــة واألنظمــة االســتبدادية بإســناد‬ ‫ظلمــا وهبتا ًنــا‪ ،‬والحــق أن اإلســام‬ ‫اإلرهــاب إلــى اإلســام وأهلــه ً‬ ‫منــه بــراء‪ ،‬وهــؤالء لجــؤوا إلــى تحويــل األنظــار عمــا صنعــوه مــن‬ ‫إرهــاب يف حــق اإلنســانية ماض ًيــا وحاضـ ًـرا عــر إلصاقــه بديــن اهلل‪،‬‬ ‫وحتــى لــو فرضنــا أن هنــاك إرها ًبــا يصــدر عــن بعــض المســلمين‬ ‫فإنّمــا هــو ردة فعــل علــى إرهاهبــم ال أكثــر‪ ،‬وال يمثــل نقطــة يف بحــر‬ ‫جرائمهــم البغيضــة‪.‬‬

‫لقــد أصبحــت لغــة العالــم شــاخصة يف منطــق الصمــت والتخــاذل‬ ‫دون اســتنكار لمــا يقــع مــن اخــراق للقانــون‪ ،‬حتــى أصبــح احــرام‬ ‫القانــون الدولــي ضر ًبــا مــن الوهــم مقابــل التجــرؤ علــى اخرتاقــه‬ ‫أو القفــز علــى قــرارات الشــرعية الدوليــة مــن قبــل ســفاكي الدمــاء‬ ‫ومجرمــي الحــرب‪ ،‬وإال فأيــن العالــم مــن شــعب أعــزل يواجــه‬ ‫عدوا ًنــا مس ـ ّل ًحا مــن األنظمـ ِـة والقــوى اإلقليميــة والعالميــة؟ بــل‬ ‫أيــن القانــون والخطــاب الحضــاري الــذي يدعيــه إنســان القــرن‬ ‫الواحــد والعشــرين؟ أم إن جحافــل العصــور الوســطى مــا زالــت‬ ‫والعالــم ُتجاههــا يؤثــر الصمــت‪ ،‬فهــو‬ ‫تســود الســاحة اإلنســانية؛‬ ‫ُ‬ ‫أصــم أبكــم ال يســمع وال يــرى‪.‬‬

‫ويكفــي دليــا علــى االنحطــاط والتوحــش الــذي وصــل إليــه‬ ‫عالمنــا اليــوم اســتخدام الــروس حــق النقـ ِ‬ ‫ـض ضــد كل القــرارات‬ ‫والقوانيــن التــي تحمــي الشــعب الســوري وتنقــذه مــن جــاده‪ ،‬فيــا‬ ‫للعــار ل ِ‬ ‫ٍ‬ ‫مجلــس ال يســتطيع حمايــة الضعفــاء!‬ ‫أدراجهــا مــع رحلــة الضميــر الــذي ســقط‬ ‫لقــد عــادت الهمجيــة‬ ‫َ‬ ‫ســهوا أو عمــدا يف مســتنقع الجشــع البشــري‪ ،‬وزاد األمــر تعقيــدا‬ ‫صمــت الشــرفاء يف هــذا العالــم حتــى عدنــا إلــى عصــر العبود ّيــة‬ ‫وقهــر اإلنســان يف ظــل ســلطة أدعيــاء الحضــارة والمثــل اإلنســانية‪،‬‬ ‫وكان ذلــك نتيجــة لتخلــي الحضــارة اإلســامية عــن قيــادة الركــب‬ ‫اإلنســاين‪ ،‬وإنــه مــع عــودة هــذه الحضــارة ســيعود االســتقرار إلــى‬ ‫انحســارا يف رقعــة الصــراع اإلنســاينّ ومــا ينتــج‬ ‫عالمنــا وسنشــهد‬ ‫ً‬ ‫عنــه مــن تخلــف ودمــار‪ ...‬ومــا ذلــك علــى اهلل بعزيــز‪.‬‬ ‫‪3‬‬


‫منهجية التعامل مع أحاديث الفتن‬

‫َم ْن َه ِج َّيـ ُ‬ ‫عامل َم َع‬ ‫ـة ال َّت ُ‬

‫يث ِ‬ ‫َأحادِ ِ‬ ‫الف َت ِن‬

‫د‪ .‬معاذ الخن ‪ -‬رئيس مجلس اإلفتاء السوري‬

‫مقدمة‬

‫ ‬

‫الحمــد هلل رب العالميــن‪ ،‬وأفضــل الصــاة وأتــم التســليم علــى نبينــا‬ ‫محمــد الهــادي األميــن وعلــى آلــه وصحبــه أجمعيــن‪ ،‬وبعــدُ ‪:‬‬

‫فنظــرا لالضطرابــات والفتــن والحــروب التــي تعيشــها األمــة‬ ‫ً‬ ‫اإلســامية اليــوم وجــد كثيــر مــن النــاس أنفســهم يبحثــون يف أحاديــث‬ ‫الفتــن ومرو ّياهتــا‪ ،‬ويلقــون الســمع لمــن يحدثهــم هبــا؛ لعلهــم يجــدون‬ ‫فيهــا مــا يــروي ظمـ َـأ استشــراف البشــر للمســتقبل والتطلــع لمعرفتــه‪.‬‬

‫وبالنظــر إلــى الجهــل الــذي يضــرب مجتمعاتنــا اليــوم أصبحــت‬ ‫مرويــات الفتــن مــادة دســمة لــكل صاحــب هــوى وبدعــة‪ ،‬يتخــذ منهــا‬ ‫ـتارا يخفــي خلفــه والءه ألهــل الظلــم والفســق والفجــور‪ ،‬أو يســوق‬ ‫سـ ً‬ ‫مــن خاللهــا أهــواءه السياســية‪ ،‬بينمــا وجــد فيهــا أهــل الدعــة والراحــة‬ ‫حجــة يف القعــود عــن العمــل واتبــاع أوامــر اهلل‪ ،‬يف حيــن تجــد فريقــا‬ ‫آخــر قــد أوغــل فيهــا حتــى أصابــه اليــأس والقنــوط‪.‬‬

‫ومــن أعظــم المصائــب مــا نــراه يف الفضــاء اإلعالمــي مــن اشــتغال‬ ‫بعــض الجهلــة يف تفســير هــذه النصــوص وإلصاقهــا بــكل حادثــة‬ ‫يروهنــا قصــدً ا للشــهرة وإرضــاء لشــغف عامــة النــاس هبــذا النــوع‬ ‫مــن المرويــات‪ ...‬وذلــك هــو مــا دعــا لبيــان قواعــد أهــل الســنة يف‬ ‫تفســير نصــوص الفتــن وأشــراط الســاعة باختصــار غيــر مخـ ٍّـل‪ ،‬يسـ ِّل ُط‬ ‫الضــوء علــى جوانــب هــذه المســألة لعلهــا ُتعنــى بمزيــد مــن الــدرس‬ ‫والتفصيــل إلعــادة األمــور إلــى نصاهبــا ولجــم الجهــل بلجــام العلــم‬ ‫والمعرفــة‪ ،‬وقــد تــم هــذا المختصــر مــن خــال الحديــث عــن خمــس‬ ‫مســائل تغطــي جوانــب هــذا الموضــوع‪ ،‬وهــي‪:‬‬ ‫المســألة األولــى‪ :‬معنــى الفتنــة‪ ،‬المســألة الثانيــة‪ِ :‬‬ ‫الحكــم التــي ذكرت‬ ‫مــن أجلهــا نصــوص الفتــن‪ ،‬المســألة الثالثــة‪ :‬ضوابــط التعامــل مــع‬ ‫أحاديــث الفتــن‪ ،‬المســألة الرابعــة‪ :‬المناهــج المخطئــة يف التعامــل مــع‬ ‫أحاديــث الفتــن‪ ،‬المســألة الخامســة‪ :‬موقــف المســلم زمــن الفتــن‪.‬‬ ‫‪4‬‬

‫معنى الفتنة‬

‫وردت هــذه اللفظــة «الفتنــة» بتصريفاهتــا يف الكتــاب والســنة علــى‬ ‫عــدة معــان(((‪ ،‬أهمهــا‪:‬‬ ‫ـى َل َت ُكـ َ‬ ‫ـون فِ ْتنَةٌ﴾‬ ‫﴿و َقاتِ ُل ُ‬ ‫الشــرك والكفــر كمــا يف قولــه تعالــى َ‬ ‫وه ْم َح َّتـ ٰ‬ ‫[ســورة البقــرة‪ :‬آيــة ‪ ]193‬قــال ابــن عبــاس وغيــره مــن التابعيــن‪( :‬أي‪:‬‬ ‫شــرك)(((‪ ،‬وقولــه تعالــى‪َ ﴿ :‬أ َ‬ ‫ل فِــي ا ْل ِف ْتنَـ ِـة َسـ َق ُطوا﴾ [ســورة التوبــة‪ :‬آيــة‬ ‫‪ ]43‬أي‪( :‬يف الكفــر)(((‪.‬‬ ‫ــم َع َلــى الن ِ‬ ‫َّــار ُي ْف َتن َ‬ ‫ُــون﴾ [ســورة‬ ‫العــذاب‪ ،‬قــال تعالــى‪َ ﴿ :‬ي ْ‬ ‫ــو َم ُه ْ‬ ‫الذاريــات‪ :‬آيــة ‪ ]13‬أي‪َّ :‬‬ ‫(يعذبــون‪ ،‬قالــه ابــن عبــاس ومجاهــد‬ ‫والحســن) ( ((‪.‬‬

‫صــرف اإلنســان وصــده عــن دينــه بالقــوة أو باإلغــواء‪ ،‬قــال تعالــى‪:‬‬ ‫ـك َعـ ِ‬ ‫﴿وإِن كَا ُدوا َل َي ْفتِنُو َنـ َ‬ ‫ـن ا َّلـ ِـذي َأ ْو َح ْينَــا إِ َل ْيـ َ‬ ‫ـك﴾ [ســورة اإلســراء‪ :‬آية‬ ‫َ‬ ‫(((‬ ‫‪ ]73‬أي‪( :‬يصرفونــك) وهــذا المعنــى مــن أكثــر المعــاين اســتعما ً‬ ‫ل‬ ‫يف القــرآن الكريــم‪.‬‬ ‫الضــال واالنحــراف‪ ،‬قــال تعالــى‪َ ﴿ :‬فإِ َّن ُكـ ْـم َو َمــا َت ْع ُبــدُ َ‬ ‫ون * َمــا َأن ُتـ ْـم‬ ‫َع َل ْيـ ِـه بِ َفاتِنِي ـ َن* إِلَّ م ـ ْن ُهـ َـو َصـ ِ‬ ‫ـال ا ْل َج ِحيـ ِ‬ ‫ـم﴾ [ســورة الصافــات‪ :‬آيــة‬ ‫َ‬ ‫(((‬ ‫‪ ]163 - 161‬أي‪( :‬مــا أنتــم عليــه بمضليــن) ‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫ـاس َأن ُيت َْر ُكــوا َأن َي ُقو ُلــوا‬ ‫ـب النَّـ ُ‬ ‫االبتــاء واالختبــار‪ ،‬قــال تعالــى‪َ ﴿ :‬أ َحسـ َ‬ ‫آ َمنَّــا َو ُهـ ْـم َل ُي ْف َتنُـ َ‬ ‫ـون * َو َل َقــدْ َف َتنَّــا ا َّل ِذي َن مِــن َق ْبلِ ِه ْم﴾ [ســورة العنكبوت‪:‬‬ ‫(((‬ ‫آيــة ‪ ]3 - 2‬أي‪( :‬يبتلــون ويختــرون‪ ،‬ولقــد اختربنــا من قبلهــم) ‪.‬‬ ‫اختــال األمــور‪ :‬مــا يحــدث مــن اختــال يف األمــور وابتــاءات عامــة‬

‫وجها لمعنى‬ ‫((( ذكر ابن الجوزي يف كتابه (نزهة األعين النواظر يف علم الوجوه والنظائر) خمسة عشر ً‬ ‫الفتنة (‪ ،)774‬وذكر يحيى بن َّ‬ ‫وجها لها (‪.)971‬‬ ‫سلم البصري يف كتابه (التصاريف) أحد عشر ً‬ ‫((( تفسير ابن كثير (‪.)123/2‬‬ ‫((( تفسير الرازي (‪.)86/61‬‬ ‫((( تفسير ابن كثير (‪.)942/4‬‬ ‫((( تفسير الرازي (‪.)81/12‬‬ ‫((( فتح القدير (‪.)414/4‬‬ ‫((( المرجع السابق (‪.)291/4‬‬

‫منهجية التعامل مع أحاديث الفتن‬ ‫قبــل قيــام الســاعة‪ ،‬فيكــون مــن أشــراطها ‪-‬أي‪ :‬عالماهتــا‪ -‬كخــروج‬ ‫بــوب المحدّ ثــون‬ ‫الدابــة والدجــال واالقتتال‪...‬إلــخ‪ ،‬وعلــى هــذا َّ‬ ‫للفتنــة يف كتبهــم كمــا يف (كتــاب الفتــن) مــن صحيــح البخــاري‪،‬‬ ‫وكذلــك (كتــاب الفتــن) يف صحيــح مســلم وغيرهمــا مــن أمهــات‬ ‫كتــب الحديــث‪.‬‬ ‫ممــا ســبق تبيــن أن األصــل يف معنــى الفتنــة لغــ ًة االختبــار‪ ،‬ثــم‬ ‫اســتعملت يف المعــاين األخــرى‪ ،‬قــال ابــن حجــر‪ّ :‬‬ ‫(إن أصــل الفتنــة‬ ‫االختبــار‪ ،‬ثــم اســتعملت فيمــا أخرجتــه المحنــة واالختبــار إلــى‬ ‫المكــروه‪ ،‬ثــم أطلقــت علــى كل مكــروه أو آيــل إليــه كالكفــر واإلثــم‬ ‫والتحريــق والفضيحــة والفجــور وغيــر ذلــك)(((‪.‬‬

‫وإن المعنــى المــراد ببحثنــا هــو األخيــر أي مــا يحــدث مــن أمــور‬ ‫كــرى فيهــا اختــال وتنــازع واقتتــال‪ ،‬ويعــر عنهــا بالفتــن‪ ،‬وهــي التــي‬ ‫تكــون بيــن المؤمنيــن ‪-‬أي داخــل مجتمعاهتــم‪ -‬بينمــا المالحــم تكون‬ ‫بيــن المؤمنيــن وغيرهــم مــن األمــم(((‪ ،‬وإن كان يدخــل فيهــا معــان‬ ‫أخــرى كاالبتــاء والصــد عــن ســبيل اهلل والمعــاين األخــرى‪ ،‬كمــا أن‬ ‫الفتــن التــي يــدور حولهــا بحثنــا الفتــن العامــة ال الفتــن الخاصــة التــي‬ ‫ال يخلــو منهــا أحــد‪.‬‬

‫الحكم التي ذكرت من أجلها نصوص الفنت‬

‫كثيــرون أولئــك الذيــن يتســاءلون عــن الحكمــة مــن ذكــر القــرآن‬ ‫والســنة ألمــور المســتقبل التــي ســيراها المؤمنــون يف قــادم أيــام الدهر‪،‬‬ ‫ويتســاءلون عــن الحكمــة مــن اإلخبــار بفتــن آخــر الزمــان والنص على‬ ‫بعــض أســباهبا ومعالمهــا‪ ،‬وســأذكر اآلن ‪-‬بمــا يســمح بــه المقــام‪ -‬من‬ ‫حكــم الشــرع مــا يشــفي صــدور قــوم مؤمنيــن‪:‬‬ ‫ترســيخ عقيــدة اإليمــان بالغيــب‪ :‬ومــن أهــم ذلــك اإليمــان باليــوم‬ ‫اآلخــر‪ ،‬قــال تعالــى‪﴿ :‬الــم * َٰذلِـ َ ِ‬ ‫ب فِيـ ِـه ُهــدً ى ِّل ْل ُمت َِّقي َن‬ ‫ـاب َل َر ْي َ‬ ‫ـك ا ْلك َتـ ُ‬ ‫ـون بِا ْل َغ ْيـ ِ‬ ‫* ا َّل ِذي ـ َن ُي ْؤمِنُـ َ‬ ‫ـب ﴾ [ســورة البقــرة‪ :‬آيــة ‪ ]2 - 1‬والفتــن مــن‬ ‫عالمــات قــرب يــوم القيامــة ومــن الغيــب الــذي أخربنــا بــه ويجــب‬ ‫علينــا اإليمــان بــه‪.‬‬

‫الداللــة علــى قــدرة اهلل تعالــى‪ :‬فقــد أخــر القــرآن الكريــم عــن الدّ ابــة‬ ‫ــم َدا َّبــ ًة ِّمــ َن‬ ‫ــع ا ْل َق ْ‬ ‫﴿وإِ َذا َو َق َ‬ ‫يف قولــه تعالــى‪َ :‬‬ ‫ــم َأ ْخ َر ْجنَــا َل ُه ْ‬ ‫ــو ُل َع َل ْي ِه ْ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ْالَ ْر ِ‬ ‫ـاس كَا ُنــوا بِآ َياتنَــا َل ُيوقنُـ َ‬ ‫ـون﴾ [ســورة النمــل‪:‬‬ ‫ض ُت َك ِّل ُم ُهـ ْـم َأ َّن النَّـ َ‬ ‫آيــة ‪ ]82‬فهــي آيــة مــن آيــات اهلل للداللــة علــى قدرتــه‪ ،‬فالدابــة ال تعقــل‬ ‫وال تنطــق عــادة‪ ،‬وهــذه الدابــة التــي يخرجهــا اهلل تعالــى آخــر الزمــان‬ ‫تعقــل وتنطــق‪ ،‬فهــي كمــا جــاء يف اآليــة تكلــم النّــاس‪ ،‬وقــد ورد يف‬ ‫األحاديــث الصحيحــة أهنــا َت ِسـ ُـمهم‪ ،‬قــال ابــن عبــاس‪ًّ :‬‬ ‫(كل تفعــل‪ ،‬أي‬ ‫المخاطب ـ َة والوسـ َـم)(‪.((1‬‬ ‫((( فتح الباري (‪.)03/31‬‬ ‫((( إتحاف الجماعة بما جاء يف الفتن والمالحم وأشراط الساعة‪ :‬حمود التويجري (‪.)353/1‬‬ ‫(‪ ((1‬تفسير ابن كثير (‪.)783/3‬‬

‫التدليــل علــى صــدق القــرآن والســنة‪ :‬هــذه النصوص هــي حديث عن‬ ‫المســتقبل‪ ،‬فــإذا وقعــت كمــا أخــر عنهــا كانــت دليـ ًـا علــى مرجعيــة‬ ‫الرســالة وبرها ًنــا علــى صــدق الرســول عليــه الصــاة والســام‪ ،‬ومثاله‬ ‫﴿و َل َّمــا َر َأى ا ْل ُم ْؤمِنُـ َ‬ ‫اب َقا ُلــوا َٰهـ َـذا َمــا َوعَدَ َنــا‬ ‫ـون ْالَ ْحـ َـز َ‬ ‫قولــه تعالــى‪َ :‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫لَّ‬ ‫يما ﴾‬ ‫يما ًنــا َوت ْســل ً‬ ‫ال َّلـ ُه َو َر ُســو ُل ُه َو َصــدَ ق اللـ ُه َو َر ُســول ُه َو َمــا َزا َد ُهـ ْـم إ إ َ‬ ‫[ســورة األحــزاب‪ :‬آيــة ‪.]22‬‬ ‫كيفيــة التعامــل معهــا إذا وقعــت‪ :‬مــن فوائــد ذكــر أحاديــث الفتــن‬ ‫إرشــاد النــاس إلــى كيفيــة التعامــل معهــا إذا وقعــت‪:‬‬

‫توجيهــا كقولــه عليــه الصــاة والســام‪« :‬يوشــك‬ ‫فقــد يكــون النــص‬ ‫ً‬ ‫الفــرات أن يحســر عــن كنــز مــن ذهــب‪ ،‬فمــن حضــره فــا يأخــذ‬ ‫منــه شــي ًئا»(‪ ((1‬وزاد يف صحيــح مســلم‪« :‬فــإذا ســمع بــه النــاس ســاروا‬ ‫إليــه‪ ،‬فيقــول مــن عنــده‪ :‬لئــن تركنــا النــاس يأخــذون منــه ل ُيذهب ـ ّن بــه‬ ‫(‪((1‬‬ ‫كلــه‪ ،‬قــال‪ :‬فيقتتلــون عليــه فيقتــل مــن كل مائــة تســعة وتســعون»‬ ‫فالحديــث جمــع إخباريــن‪ :‬انحســار الفــرات عــن جبــل مــن ذهــب‬ ‫توجيهــا بعــدم األخــذ‬ ‫وحصــول مقتلــة كبيــرة عنــد ذلــك‪ ،‬وذكــر‬ ‫ً‬ ‫ْ‬ ‫يأخــذ منــه شــي ًئا بجــز ِم «فــا‬ ‫والمشــاركة‪ ،‬قــال القســطالين‪( :‬فــا‬ ‫يأخــذ» علــى النهــي‪ ،‬وإنمــا هنــى عــن األخــذ منــه لمــا ينشــأ عــن األخــذ‬ ‫مــن الفتنــة والقتــال عليــه)(‪.((1‬‬

‫حكمــا شــرع ًّيا‪ ،‬جــاء يف أحاديــث الدجــال‪« :‬يمكــث يف‬ ‫وقــد يكــون‬ ‫ً‬ ‫األرض أربعيــن يو ًمــا‪ ،‬يــوم كســنة‪ ،‬ويــوم كشــهر‪ ،‬ويــوم كأســبوع‪،‬‬ ‫وباقــي أيامــه كســائر أيامكــم‪ ،‬فقالــوا‪ :‬يــا رســول اهلل هــل يكفــي يف اليوم‬ ‫الــذي كسـ ٍ‬ ‫ـنة صــاة يــوم؟ قــال‪ :‬ال‪ ،‬اقــدروا لــه قــدره»(‪ ((1‬قال النــووي يف‬ ‫شــرحه للحديــث‪( :‬ومعنــى اقــدروا لــه قــدره‪ :‬أنــه إذا مضــى بعــد طلوع‬ ‫الفجــر قــدر مــا يكــون بينهــا وبيــن الظهــر كل يــوم فصلــوا الظهــر‪ ،‬ثــم‬ ‫إذا مضــى بعــده قــدر مــا يكــون بينهــا وبيــن العصــر فصلــوا العصــر‪...‬‬ ‫إلخ)(‪((1‬ويمكــن تقديــر ذلــك يف هــذه األيــام عــن طريق التقويــم وضبط‬ ‫الوقــت بواســطة الســاعة‪.‬‬ ‫وقــد يكــون تجليــة لحقيقــة قدر َّيــة كمــا جــاء يف الحديــث «ويــح عمــار‬ ‫تقتلــه الفئــة الباغيــة»(‪ ((1‬وقــد ورد أن خزيمــة بــن ثابــت رضــي اهلل عنــه‬ ‫كــف ســاحه يــوم الجمــل حتــى ُقتــل عمــار بص ِّفيــن‪َّ ،‬‬ ‫فســل ســيفه‬ ‫فقاتــل حتــى قتــل وقــال‪ :‬ســمعت رســول اهلل صلــى اهلل عليــه وســلم‬ ‫ـارا الفئــة الباغيــة»(‪.((1‬‬ ‫يقــول‪« :‬تقتــل عمـ ً‬

‫(‪ ((1‬متفق عليه عن أبي هريرة‪ :‬البخاري‪ :‬كتاب الفتن‪ -‬باب خروج النار‪ ،‬رقم (‪ ،)2076‬مسلم‪ :‬كتاب‬ ‫الفتن وأشراط الساعة ‪ -‬باب ال تقوم الساعة حتى يحسر الفرات عن جبل من ذهب‪ ،‬رقم (‪.)4982‬‬ ‫(‪ ((1‬أخرجه مسلم عن أبي بن كعب رضي اهلل عنه‪ ،‬كتاب الفتن وأشراط الساعة ‪ -‬باب ال تقوم الساعة‬ ‫حتى يحسر الفرات عن جبل من ذهب‪ ،‬رقم (‪.)5982‬‬ ‫(‪ ((1‬إرشاد الساري ( ‪.)402/01‬‬ ‫(‪ ((1‬أخرجه مسلم عن أبي هريرة رضي اهلل عنه‪ ،‬كتاب الفتن وأشراط الساعة ‪ -‬باب يف اآليات التي تكون‬ ‫قبل الساعة‪ ،‬رقم (‪.)1092‬‬ ‫(‪ ((1‬شرح صحيح مسلم‪ :‬النووي ( ‪.)66/81‬‬ ‫(‪ ((1‬أخرجه البخاري عن أبي سعيد الخدري‪ ،‬كتاب الجهاد والسير‪ -‬باب مسح الغبار عن الناس يف‬ ‫السبيل‪ ،‬رقم (‪.)7562‬‬ ‫(‪ ((1‬مسند اإلمام أحمد ‪-‬مسند األنصار‪ ،‬حديث خزيمة بن ثابت رضي اهلل عنه‪ ،‬رقم (‪،)22912‬‬ ‫المستدرك‪ :‬الحاكم‪ ،‬كتاب معرفة الصحابة رضي اهلل عنهم‪ -‬ذكر مناقب خزيمة بن ثابت األنصاري‪ ،‬رقم‬ ‫(‪.)7965‬‬

‫‪5‬‬


‫منهجية التعامل مع أحاديث الفتن‬

‫َم ْن َه ِج َّيـ ُ‬ ‫عامل َم َع‬ ‫ـة ال َّت ُ‬

‫يث ِ‬ ‫َأحادِ ِ‬ ‫الف َت ِن‬

‫د‪ .‬معاذ الخن ‪ -‬رئيس مجلس اإلفتاء السوري‬

‫مقدمة‬

‫ ‬

‫الحمــد هلل رب العالميــن‪ ،‬وأفضــل الصــاة وأتــم التســليم علــى نبينــا‬ ‫محمــد الهــادي األميــن وعلــى آلــه وصحبــه أجمعيــن‪ ،‬وبعــدُ ‪:‬‬

‫فنظــرا لالضطرابــات والفتــن والحــروب التــي تعيشــها األمــة‬ ‫ً‬ ‫اإلســامية اليــوم وجــد كثيــر مــن النــاس أنفســهم يبحثــون يف أحاديــث‬ ‫الفتــن ومرو ّياهتــا‪ ،‬ويلقــون الســمع لمــن يحدثهــم هبــا؛ لعلهــم يجــدون‬ ‫فيهــا مــا يــروي ظمـ َـأ استشــراف البشــر للمســتقبل والتطلــع لمعرفتــه‪.‬‬

‫وبالنظــر إلــى الجهــل الــذي يضــرب مجتمعاتنــا اليــوم أصبحــت‬ ‫مرويــات الفتــن مــادة دســمة لــكل صاحــب هــوى وبدعــة‪ ،‬يتخــذ منهــا‬ ‫ـتارا يخفــي خلفــه والءه ألهــل الظلــم والفســق والفجــور‪ ،‬أو يســوق‬ ‫سـ ً‬ ‫مــن خاللهــا أهــواءه السياســية‪ ،‬بينمــا وجــد فيهــا أهــل الدعــة والراحــة‬ ‫حجــة يف القعــود عــن العمــل واتبــاع أوامــر اهلل‪ ،‬يف حيــن تجــد فريقــا‬ ‫آخــر قــد أوغــل فيهــا حتــى أصابــه اليــأس والقنــوط‪.‬‬

‫ومــن أعظــم المصائــب مــا نــراه يف الفضــاء اإلعالمــي مــن اشــتغال‬ ‫بعــض الجهلــة يف تفســير هــذه النصــوص وإلصاقهــا بــكل حادثــة‬ ‫يروهنــا قصــدً ا للشــهرة وإرضــاء لشــغف عامــة النــاس هبــذا النــوع‬ ‫مــن المرويــات‪ ...‬وذلــك هــو مــا دعــا لبيــان قواعــد أهــل الســنة يف‬ ‫تفســير نصــوص الفتــن وأشــراط الســاعة باختصــار غيــر مخـ ٍّـل‪ ،‬يسـ ِّل ُط‬ ‫الضــوء علــى جوانــب هــذه المســألة لعلهــا ُتعنــى بمزيــد مــن الــدرس‬ ‫والتفصيــل إلعــادة األمــور إلــى نصاهبــا ولجــم الجهــل بلجــام العلــم‬ ‫والمعرفــة‪ ،‬وقــد تــم هــذا المختصــر مــن خــال الحديــث عــن خمــس‬ ‫مســائل تغطــي جوانــب هــذا الموضــوع‪ ،‬وهــي‪:‬‬ ‫المســألة األولــى‪ :‬معنــى الفتنــة‪ ،‬المســألة الثانيــة‪ِ :‬‬ ‫الحكــم التــي ذكرت‬ ‫مــن أجلهــا نصــوص الفتــن‪ ،‬المســألة الثالثــة‪ :‬ضوابــط التعامــل مــع‬ ‫أحاديــث الفتــن‪ ،‬المســألة الرابعــة‪ :‬المناهــج المخطئــة يف التعامــل مــع‬ ‫أحاديــث الفتــن‪ ،‬المســألة الخامســة‪ :‬موقــف المســلم زمــن الفتــن‪.‬‬ ‫‪4‬‬

‫معنى الفتنة‬

‫وردت هــذه اللفظــة «الفتنــة» بتصريفاهتــا يف الكتــاب والســنة علــى‬ ‫عــدة معــان(((‪ ،‬أهمهــا‪:‬‬ ‫ـى َل َت ُكـ َ‬ ‫ـون فِ ْتنَةٌ﴾‬ ‫﴿و َقاتِ ُل ُ‬ ‫الشــرك والكفــر كمــا يف قولــه تعالــى َ‬ ‫وه ْم َح َّتـ ٰ‬ ‫[ســورة البقــرة‪ :‬آيــة ‪ ]193‬قــال ابــن عبــاس وغيــره مــن التابعيــن‪( :‬أي‪:‬‬ ‫شــرك)(((‪ ،‬وقولــه تعالــى‪َ ﴿ :‬أ َ‬ ‫ل فِــي ا ْل ِف ْتنَـ ِـة َسـ َق ُطوا﴾ [ســورة التوبــة‪ :‬آيــة‬ ‫‪ ]43‬أي‪( :‬يف الكفــر)(((‪.‬‬ ‫ــم َع َلــى الن ِ‬ ‫َّــار ُي ْف َتن َ‬ ‫ُــون﴾ [ســورة‬ ‫العــذاب‪ ،‬قــال تعالــى‪َ ﴿ :‬ي ْ‬ ‫ــو َم ُه ْ‬ ‫الذاريــات‪ :‬آيــة ‪ ]13‬أي‪َّ :‬‬ ‫(يعذبــون‪ ،‬قالــه ابــن عبــاس ومجاهــد‬ ‫والحســن) ( ((‪.‬‬

‫صــرف اإلنســان وصــده عــن دينــه بالقــوة أو باإلغــواء‪ ،‬قــال تعالــى‪:‬‬ ‫ـك َعـ ِ‬ ‫﴿وإِن كَا ُدوا َل َي ْفتِنُو َنـ َ‬ ‫ـن ا َّلـ ِـذي َأ ْو َح ْينَــا إِ َل ْيـ َ‬ ‫ـك﴾ [ســورة اإلســراء‪ :‬آية‬ ‫َ‬ ‫(((‬ ‫‪ ]73‬أي‪( :‬يصرفونــك) وهــذا المعنــى مــن أكثــر المعــاين اســتعما ً‬ ‫ل‬ ‫يف القــرآن الكريــم‪.‬‬ ‫الضــال واالنحــراف‪ ،‬قــال تعالــى‪َ ﴿ :‬فإِ َّن ُكـ ْـم َو َمــا َت ْع ُبــدُ َ‬ ‫ون * َمــا َأن ُتـ ْـم‬ ‫َع َل ْيـ ِـه بِ َفاتِنِي ـ َن* إِلَّ م ـ ْن ُهـ َـو َصـ ِ‬ ‫ـال ا ْل َج ِحيـ ِ‬ ‫ـم﴾ [ســورة الصافــات‪ :‬آيــة‬ ‫َ‬ ‫(((‬ ‫‪ ]163 - 161‬أي‪( :‬مــا أنتــم عليــه بمضليــن) ‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫ـاس َأن ُيت َْر ُكــوا َأن َي ُقو ُلــوا‬ ‫ـب النَّـ ُ‬ ‫االبتــاء واالختبــار‪ ،‬قــال تعالــى‪َ ﴿ :‬أ َحسـ َ‬ ‫آ َمنَّــا َو ُهـ ْـم َل ُي ْف َتنُـ َ‬ ‫ـون * َو َل َقــدْ َف َتنَّــا ا َّل ِذي َن مِــن َق ْبلِ ِه ْم﴾ [ســورة العنكبوت‪:‬‬ ‫(((‬ ‫آيــة ‪ ]3 - 2‬أي‪( :‬يبتلــون ويختــرون‪ ،‬ولقــد اختربنــا من قبلهــم) ‪.‬‬ ‫اختــال األمــور‪ :‬مــا يحــدث مــن اختــال يف األمــور وابتــاءات عامــة‬

‫وجها لمعنى‬ ‫((( ذكر ابن الجوزي يف كتابه (نزهة األعين النواظر يف علم الوجوه والنظائر) خمسة عشر ً‬ ‫الفتنة (‪ ،)774‬وذكر يحيى بن َّ‬ ‫وجها لها (‪.)971‬‬ ‫سلم البصري يف كتابه (التصاريف) أحد عشر ً‬ ‫((( تفسير ابن كثير (‪.)123/2‬‬ ‫((( تفسير الرازي (‪.)86/61‬‬ ‫((( تفسير ابن كثير (‪.)942/4‬‬ ‫((( تفسير الرازي (‪.)81/12‬‬ ‫((( فتح القدير (‪.)414/4‬‬ ‫((( المرجع السابق (‪.)291/4‬‬

‫منهجية التعامل مع أحاديث الفتن‬ ‫قبــل قيــام الســاعة‪ ،‬فيكــون مــن أشــراطها ‪-‬أي‪ :‬عالماهتــا‪ -‬كخــروج‬ ‫بــوب المحدّ ثــون‬ ‫الدابــة والدجــال واالقتتال‪...‬إلــخ‪ ،‬وعلــى هــذا َّ‬ ‫للفتنــة يف كتبهــم كمــا يف (كتــاب الفتــن) مــن صحيــح البخــاري‪،‬‬ ‫وكذلــك (كتــاب الفتــن) يف صحيــح مســلم وغيرهمــا مــن أمهــات‬ ‫كتــب الحديــث‪.‬‬ ‫ممــا ســبق تبيــن أن األصــل يف معنــى الفتنــة لغــ ًة االختبــار‪ ،‬ثــم‬ ‫اســتعملت يف المعــاين األخــرى‪ ،‬قــال ابــن حجــر‪ّ :‬‬ ‫(إن أصــل الفتنــة‬ ‫االختبــار‪ ،‬ثــم اســتعملت فيمــا أخرجتــه المحنــة واالختبــار إلــى‬ ‫المكــروه‪ ،‬ثــم أطلقــت علــى كل مكــروه أو آيــل إليــه كالكفــر واإلثــم‬ ‫والتحريــق والفضيحــة والفجــور وغيــر ذلــك)(((‪.‬‬

‫وإن المعنــى المــراد ببحثنــا هــو األخيــر أي مــا يحــدث مــن أمــور‬ ‫كــرى فيهــا اختــال وتنــازع واقتتــال‪ ،‬ويعــر عنهــا بالفتــن‪ ،‬وهــي التــي‬ ‫تكــون بيــن المؤمنيــن ‪-‬أي داخــل مجتمعاهتــم‪ -‬بينمــا المالحــم تكون‬ ‫بيــن المؤمنيــن وغيرهــم مــن األمــم(((‪ ،‬وإن كان يدخــل فيهــا معــان‬ ‫أخــرى كاالبتــاء والصــد عــن ســبيل اهلل والمعــاين األخــرى‪ ،‬كمــا أن‬ ‫الفتــن التــي يــدور حولهــا بحثنــا الفتــن العامــة ال الفتــن الخاصــة التــي‬ ‫ال يخلــو منهــا أحــد‪.‬‬

‫الحكم التي ذكرت من أجلها نصوص الفنت‬

‫كثيــرون أولئــك الذيــن يتســاءلون عــن الحكمــة مــن ذكــر القــرآن‬ ‫والســنة ألمــور المســتقبل التــي ســيراها المؤمنــون يف قــادم أيــام الدهر‪،‬‬ ‫ويتســاءلون عــن الحكمــة مــن اإلخبــار بفتــن آخــر الزمــان والنص على‬ ‫بعــض أســباهبا ومعالمهــا‪ ،‬وســأذكر اآلن ‪-‬بمــا يســمح بــه المقــام‪ -‬من‬ ‫حكــم الشــرع مــا يشــفي صــدور قــوم مؤمنيــن‪:‬‬ ‫ترســيخ عقيــدة اإليمــان بالغيــب‪ :‬ومــن أهــم ذلــك اإليمــان باليــوم‬ ‫اآلخــر‪ ،‬قــال تعالــى‪﴿ :‬الــم * َٰذلِـ َ ِ‬ ‫ب فِيـ ِـه ُهــدً ى ِّل ْل ُمت َِّقي َن‬ ‫ـاب َل َر ْي َ‬ ‫ـك ا ْلك َتـ ُ‬ ‫ـون بِا ْل َغ ْيـ ِ‬ ‫* ا َّل ِذي ـ َن ُي ْؤمِنُـ َ‬ ‫ـب ﴾ [ســورة البقــرة‪ :‬آيــة ‪ ]2 - 1‬والفتــن مــن‬ ‫عالمــات قــرب يــوم القيامــة ومــن الغيــب الــذي أخربنــا بــه ويجــب‬ ‫علينــا اإليمــان بــه‪.‬‬

‫الداللــة علــى قــدرة اهلل تعالــى‪ :‬فقــد أخــر القــرآن الكريــم عــن الدّ ابــة‬ ‫ــم َدا َّبــ ًة ِّمــ َن‬ ‫ــع ا ْل َق ْ‬ ‫﴿وإِ َذا َو َق َ‬ ‫يف قولــه تعالــى‪َ :‬‬ ‫ــم َأ ْخ َر ْجنَــا َل ُه ْ‬ ‫ــو ُل َع َل ْي ِه ْ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ْالَ ْر ِ‬ ‫ـاس كَا ُنــوا بِآ َياتنَــا َل ُيوقنُـ َ‬ ‫ـون﴾ [ســورة النمــل‪:‬‬ ‫ض ُت َك ِّل ُم ُهـ ْـم َأ َّن النَّـ َ‬ ‫آيــة ‪ ]82‬فهــي آيــة مــن آيــات اهلل للداللــة علــى قدرتــه‪ ،‬فالدابــة ال تعقــل‬ ‫وال تنطــق عــادة‪ ،‬وهــذه الدابــة التــي يخرجهــا اهلل تعالــى آخــر الزمــان‬ ‫تعقــل وتنطــق‪ ،‬فهــي كمــا جــاء يف اآليــة تكلــم النّــاس‪ ،‬وقــد ورد يف‬ ‫األحاديــث الصحيحــة أهنــا َت ِسـ ُـمهم‪ ،‬قــال ابــن عبــاس‪ًّ :‬‬ ‫(كل تفعــل‪ ،‬أي‬ ‫المخاطب ـ َة والوسـ َـم)(‪.((1‬‬ ‫((( فتح الباري (‪.)03/31‬‬ ‫((( إتحاف الجماعة بما جاء يف الفتن والمالحم وأشراط الساعة‪ :‬حمود التويجري (‪.)353/1‬‬ ‫(‪ ((1‬تفسير ابن كثير (‪.)783/3‬‬

‫التدليــل علــى صــدق القــرآن والســنة‪ :‬هــذه النصوص هــي حديث عن‬ ‫المســتقبل‪ ،‬فــإذا وقعــت كمــا أخــر عنهــا كانــت دليـ ًـا علــى مرجعيــة‬ ‫الرســالة وبرها ًنــا علــى صــدق الرســول عليــه الصــاة والســام‪ ،‬ومثاله‬ ‫﴿و َل َّمــا َر َأى ا ْل ُم ْؤمِنُـ َ‬ ‫اب َقا ُلــوا َٰهـ َـذا َمــا َوعَدَ َنــا‬ ‫ـون ْالَ ْحـ َـز َ‬ ‫قولــه تعالــى‪َ :‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫لَّ‬ ‫يما ﴾‬ ‫يما ًنــا َوت ْســل ً‬ ‫ال َّلـ ُه َو َر ُســو ُل ُه َو َصــدَ ق اللـ ُه َو َر ُســول ُه َو َمــا َزا َد ُهـ ْـم إ إ َ‬ ‫[ســورة األحــزاب‪ :‬آيــة ‪.]22‬‬ ‫كيفيــة التعامــل معهــا إذا وقعــت‪ :‬مــن فوائــد ذكــر أحاديــث الفتــن‬ ‫إرشــاد النــاس إلــى كيفيــة التعامــل معهــا إذا وقعــت‪:‬‬

‫توجيهــا كقولــه عليــه الصــاة والســام‪« :‬يوشــك‬ ‫فقــد يكــون النــص‬ ‫ً‬ ‫الفــرات أن يحســر عــن كنــز مــن ذهــب‪ ،‬فمــن حضــره فــا يأخــذ‬ ‫منــه شــي ًئا»(‪ ((1‬وزاد يف صحيــح مســلم‪« :‬فــإذا ســمع بــه النــاس ســاروا‬ ‫إليــه‪ ،‬فيقــول مــن عنــده‪ :‬لئــن تركنــا النــاس يأخــذون منــه ل ُيذهب ـ ّن بــه‬ ‫(‪((1‬‬ ‫كلــه‪ ،‬قــال‪ :‬فيقتتلــون عليــه فيقتــل مــن كل مائــة تســعة وتســعون»‬ ‫فالحديــث جمــع إخباريــن‪ :‬انحســار الفــرات عــن جبــل مــن ذهــب‬ ‫توجيهــا بعــدم األخــذ‬ ‫وحصــول مقتلــة كبيــرة عنــد ذلــك‪ ،‬وذكــر‬ ‫ً‬ ‫ْ‬ ‫يأخــذ منــه شــي ًئا بجــز ِم «فــا‬ ‫والمشــاركة‪ ،‬قــال القســطالين‪( :‬فــا‬ ‫يأخــذ» علــى النهــي‪ ،‬وإنمــا هنــى عــن األخــذ منــه لمــا ينشــأ عــن األخــذ‬ ‫مــن الفتنــة والقتــال عليــه)(‪.((1‬‬

‫حكمــا شــرع ًّيا‪ ،‬جــاء يف أحاديــث الدجــال‪« :‬يمكــث يف‬ ‫وقــد يكــون‬ ‫ً‬ ‫األرض أربعيــن يو ًمــا‪ ،‬يــوم كســنة‪ ،‬ويــوم كشــهر‪ ،‬ويــوم كأســبوع‪،‬‬ ‫وباقــي أيامــه كســائر أيامكــم‪ ،‬فقالــوا‪ :‬يــا رســول اهلل هــل يكفــي يف اليوم‬ ‫الــذي كسـ ٍ‬ ‫ـنة صــاة يــوم؟ قــال‪ :‬ال‪ ،‬اقــدروا لــه قــدره»(‪ ((1‬قال النــووي يف‬ ‫شــرحه للحديــث‪( :‬ومعنــى اقــدروا لــه قــدره‪ :‬أنــه إذا مضــى بعــد طلوع‬ ‫الفجــر قــدر مــا يكــون بينهــا وبيــن الظهــر كل يــوم فصلــوا الظهــر‪ ،‬ثــم‬ ‫إذا مضــى بعــده قــدر مــا يكــون بينهــا وبيــن العصــر فصلــوا العصــر‪...‬‬ ‫إلخ)(‪((1‬ويمكــن تقديــر ذلــك يف هــذه األيــام عــن طريق التقويــم وضبط‬ ‫الوقــت بواســطة الســاعة‪.‬‬ ‫وقــد يكــون تجليــة لحقيقــة قدر َّيــة كمــا جــاء يف الحديــث «ويــح عمــار‬ ‫تقتلــه الفئــة الباغيــة»(‪ ((1‬وقــد ورد أن خزيمــة بــن ثابــت رضــي اهلل عنــه‬ ‫كــف ســاحه يــوم الجمــل حتــى ُقتــل عمــار بص ِّفيــن‪َّ ،‬‬ ‫فســل ســيفه‬ ‫فقاتــل حتــى قتــل وقــال‪ :‬ســمعت رســول اهلل صلــى اهلل عليــه وســلم‬ ‫ـارا الفئــة الباغيــة»(‪.((1‬‬ ‫يقــول‪« :‬تقتــل عمـ ً‬

‫(‪ ((1‬متفق عليه عن أبي هريرة‪ :‬البخاري‪ :‬كتاب الفتن‪ -‬باب خروج النار‪ ،‬رقم (‪ ،)2076‬مسلم‪ :‬كتاب‬ ‫الفتن وأشراط الساعة ‪ -‬باب ال تقوم الساعة حتى يحسر الفرات عن جبل من ذهب‪ ،‬رقم (‪.)4982‬‬ ‫(‪ ((1‬أخرجه مسلم عن أبي بن كعب رضي اهلل عنه‪ ،‬كتاب الفتن وأشراط الساعة ‪ -‬باب ال تقوم الساعة‬ ‫حتى يحسر الفرات عن جبل من ذهب‪ ،‬رقم (‪.)5982‬‬ ‫(‪ ((1‬إرشاد الساري ( ‪.)402/01‬‬ ‫(‪ ((1‬أخرجه مسلم عن أبي هريرة رضي اهلل عنه‪ ،‬كتاب الفتن وأشراط الساعة ‪ -‬باب يف اآليات التي تكون‬ ‫قبل الساعة‪ ،‬رقم (‪.)1092‬‬ ‫(‪ ((1‬شرح صحيح مسلم‪ :‬النووي ( ‪.)66/81‬‬ ‫(‪ ((1‬أخرجه البخاري عن أبي سعيد الخدري‪ ،‬كتاب الجهاد والسير‪ -‬باب مسح الغبار عن الناس يف‬ ‫السبيل‪ ،‬رقم (‪.)7562‬‬ ‫(‪ ((1‬مسند اإلمام أحمد ‪-‬مسند األنصار‪ ،‬حديث خزيمة بن ثابت رضي اهلل عنه‪ ،‬رقم (‪،)22912‬‬ ‫المستدرك‪ :‬الحاكم‪ ،‬كتاب معرفة الصحابة رضي اهلل عنهم‪ -‬ذكر مناقب خزيمة بن ثابت األنصاري‪ ،‬رقم‬ ‫(‪.)7965‬‬

‫‪5‬‬


‫منهجية التعامل مع أحاديث الفتن‬ ‫خاصــا كمــا جــاء يف الحديــث عــن حصــار عثمــان‬ ‫وقــد يكــون عهــدً ا ًّ‬ ‫رضــي اهلل عنــه‪« :‬قــال عثمــان يــوم الــدار‪ :‬إن رســول اهلل قــد عهــد إلـ ّـي‬ ‫عهــدً ا؛ فأنــا صابــر عليــه»(‪ ((1‬وهــذا العهــد أال يسـ ّـل الســاح وال تــراق‬ ‫بســببه محجنــة دم كمــا يف بعــض الروايــات‪.‬‬

‫مؤخـ ًـرا خاصــة مــع أحــداث الحــادي عشــر مــن ســبتمرب إذ حظيــت‬ ‫كتاباتــه بانتشــار كبيــر‪ ،‬وشــاع طــرح تنبؤاتــه يف مختلــف وســائل‬ ‫اإلعــام المرئيــة والمســموعة والمقــروءة‪.‬‬

‫التنصيص على خاصية بعض البقاع مثل‪:‬‬

‫االستبشــار بحســن العاقبــة‪ :‬فهــو يــزود المؤمنيــن بطاقــة كبيــرة‬ ‫لإلنجــاز واالســتمرار والصــر‪ ،‬فقــد نــزل قولــه تعالــى يف يــوم بــدر‬ ‫ـع َو ُي َو ُّلـ َ‬ ‫ـون الدُّ ُبـ َـر﴾ [ســورة القمــر‪ :‬آيــة ‪ ]45‬فرفــع‬ ‫﴿س ـ ُي ْه َز ُم ا ْل َج ْمـ ُ‬ ‫َ‬ ‫المعنويــات وثبــت األقــدام‪ ،‬ومــن ذلــك حديــث قتــال المســلمين‬ ‫لليهــود آخــر الزمــان‪« :‬ال تقــوم الســاعة حتــى يقاتــل المســلمون‬ ‫اليهــود‪ ،‬فيقتلهــم المســلمون حتــى يختبــئ اليهــودي مــن وراء الحجر‬ ‫والشــجر‪ ،‬فيقــول الحجــر أو الشــجر‪ :‬يــا مســلم يــا عبــد اهلل! هــذا‬ ‫(‪((2‬‬ ‫خلفــي يهــودي فتعــال فاقتلــه‪ ،‬إال الغرقــد فإنــه مــن شــجر اليهــود»‬ ‫فهــذا الوعــد يــدل علــى أن النّصــر ســيكون بكرامــة خارقــة للمؤمنيــن‪،‬‬ ‫وقــد يكــون ذلــك لتمكــن اليهــود وانحيــاز العالم لهــم وقلــة المؤمنين‬ ‫الصادقيــن الذيــن يقاتلوهنــم‪ ،‬وهــذا النطــق حقيقـ ٌّـي وليــس مجاز ًّيــا؛‬ ‫ألنــه لــو حمــل علــى المجــاز لــم يبــق الســتثناء شــجر الغرقــد أي‬ ‫معنــى‪ ،‬ولمــا كان النتصــار المؤمنيــن علــى اليهــود بطريقــة تقليديــة‬ ‫ـرارا‬ ‫عاديــة أي داللــة علــى قــرب الســاعة‪ ،‬فقــد قاتلهــم المؤمنــون مـ ً‬ ‫وانتصــروا عليهــم لكــن ليــس علــى هــذا النحــو‪.‬‬

‫بيــان فضــل بعــض األماكــن عمو ًمــا‪ ،‬وذلــك كفضــل المدينــة عمو ًما‬ ‫خصوصــا كمــا جــاء يف بعــض األحاديــث‪« :‬والمدينــة‬ ‫ويف الفتــن‬ ‫ً‬ ‫خيــر لهــم لــو كانــوا يعلمــون»(‪ ((1‬وحديــث َّ‬ ‫«إن اإليمــان ليــأرز إلــى‬ ‫المدينــة كمــا تــأرز الحيــة إلــى جحرهــا»(‪.((2‬‬

‫وبيــان فضــل بعضهــا علــى وجــه الخصــوص أي وقــت وقــوع‬ ‫الفتــن؛ فليســت أفضليــة عامــة مــن كل وجــه‪ ،‬فبــاد الشــام عمو ًمــا‬ ‫خصوصــا كدمشــق ً‬ ‫مثــا هــي فســطاط المســلمين‬ ‫وبعــض مدهنــا‬ ‫ً‬ ‫يــوم الملحمــة الكــرى‪ ،‬واألحاديــث يف فضائــل الشــام يف المالحــم‬ ‫والفتــن كثيــرة‪ ،‬منهــا حديــث عبــد اهلل بــن أبــي حوالــة الــذي جــاء فيــه‬ ‫أن النبـ َّـي عليــه الصــاة والســام قــال‪« :‬ســتجنّدون أجنــا ًدا بالشــام‬ ‫وأجنــا ًدا بالعــراق وأجنــا ًدا باليمــن‪ ،‬فقلــت‪ :‬خــر لــي يــا رســول اهلل‪،‬‬ ‫فقــال‪ :‬عليكــم بالشــام‪ ،‬فمــن أبــى فليلحــق باليمــن ول َي ْس ِ‬ ‫ــق مــن‬ ‫ُغــدره‪ ،‬فــإن اهلل تكفــل لــي بالشــام وأهلــه»(‪.((2‬‬ ‫والتحذيــر الخــاص مــن بعــض المناطــق دون ذم مطلــق لهــا‪ ،‬منهــا‬ ‫جهــة المشــرق كالعــراق ومــا يليهــا مــن بــاد العجــم كبــاد فــارس‬ ‫وكانــت تدعــى عــراق العجــم‪ ،‬فقــد جــاء يف الحديــث قولــه عليــه‬ ‫الصــاة والســام «الفتنــة مــن ههنــا ‪-‬كررهــا وأشــار إلــى المشــرق‪-‬‬ ‫مــن حيــث يطلــع قــرن الشــمس»(‪((2‬ويف روايــة «قــرن الشــيطان»‪.‬‬

‫إرواء حاجــة التطلــع إلــى المســتقبل مــن مصــدر أميــن‪ :‬إن التطلــع‬ ‫لحة‪ ،‬وإن ثقافة التســاؤل واستشــراف‬ ‫إلــى المســتقبل حاجة بشــرية ُم َّ‬ ‫المســتقبل أحــد أهــم أســباب البحــث والتقــدم العلمــي واالخــراع‪،‬‬ ‫وهــي مــن أهــم مــا يشــغل أفــكار األمــم اإلنســانية جمعــاء‪ ،‬وإن‬ ‫األخبــار النبويــة عــن بعضهــا تقطــع الطريــق علــى الســبل الفاســدة‬ ‫الســتقراء المســتقبل واإلخبــار بــه كالعرافــة والتنجيــم وادعــاء علــم‬ ‫الغيــب‪ ،‬وإن مــن أبــرز مــا ُيظهــر إلحــاح اإلنســان لمعرفــة المســتقبل‬ ‫مــا رأينــاه مــن اهتمــام غربــي كبيــر بنبــوءات المنجــم اليهــودي‬ ‫(ميشــيل نوســرا دامــوس)‪ ،‬فهــذا االســم بــرز بشــكل ملحــوظ‬ ‫(‪ ((1‬أخرجه الرتمذي عن أبي سهلة‪ ،‬كتاب المناقب‪ -‬باب يف مناقب عثمان بن عفان رضي اهلل عنه‪ ،‬رقم‬ ‫(‪.)1173‬‬ ‫(‪ ((1‬أخرجه مسلم عن أبي هريرة رضي اهلل عنه‪ ،‬كتاب الحج ‪ -‬باب فضل المدينة ودعاء النبي صلى اهلل‬ ‫عليه وسلم فيها بالربكة وبيان تحريمها وتحريم صيدها وشجرها وبيان حدود حرمها‪ ،‬رقم (‪.)3631‬‬ ‫(‪ ((2‬أخرجه مسلم عن عمر رضي اهلل عنه‪ ،‬كتاب اإليمان ‪ -‬باب بيان أن اإلسالم بدأ غريبا وسيعود غريبا‬ ‫وإنه يأرز بين المسجدين‪ ،‬رقم (‪.)741‬‬ ‫(‪ ((2‬صحيح ابن حبان‪ ،‬كتاب إخباره صلى اهلل عليه وسلم عن مناقب الصحابة ‪ -‬باب الحجاز واليمن‬ ‫وفارس وعمان‪ ،‬رقم (‪ ،)6037‬مستدرك الحاكم‪ ،‬كتاب الفتن والمالحم‪ ،‬رقم (‪.)6558‬‬ ‫(‪ ((2‬متفق عليه عن ابن عمر رضي اهلل عنه‪ :‬مسلم يف كتاب الفتن وأشراط الساعة ‪ -‬باب الفتنة من المشرق‬ ‫من حيث يطلع قرنا الشيطان‪ ،‬رقم (‪ ،)5092‬البخاري‪ ،‬كتاب الفتن ‪ -‬باب قول النبي صلى اهلل عليه وسلم‬ ‫(الفتنة من قبل المشرق)‪ ،‬رقم (‪.)9766‬‬

‫‪6‬‬

‫فتح باب األمل‪ ،‬ومنه‪:‬‬

‫واالستبشــار بقــدرة المؤمــن علــى مواجهــة فتنــة الدجــال يف حديــث‬ ‫الرجــل الــذي يقتلــه الدجــال ويقطعــه جزلتيــن‪ ،‬فيخــر النبـ ُّـي صلــى‬ ‫اهلل عليــه وســلم أن الرجــل المؤمــن يقــول‪« :‬أشــهد أنــك الدجــال‬ ‫الــذي حدثنــا عنــك رســول اهلل صلــى اهلل عليــه وســلم حديثــه»(‪ ((2‬فقد‬ ‫أعانــت أحاديــث رســول اهلل عــن الفتــن والدجــال هــذا المؤمــن على‬ ‫معرفــة الدجــال والصــر والثبــات يف الفتنــة الكــرى‪.‬‬ ‫وكذلــك حديــث فتــح القســطنطينية الــذي كان حافـ ًـزا لكثيــر مــن‬ ‫الخلفــاء يف وقــت مبكــر لتجهيــز الجيــوش والتوجــه لفتحهــا حيــث‬ ‫جــاء يف الحديــث «لتفتحــن القســطنطينية‪ ،‬فلنعــم األميــر أميرهــا‪،‬‬ ‫ولنعــم الجيــش ذلــك الجيــش»(‪.((2‬‬

‫ضوابط التعامل مع أحاديث الفنت‬

‫الضابــط األول‪ :‬يبنــى العلــم علــى التثبــت‪ ،‬ويبنــى التنزيل علــى الحلم‬ ‫والروية‪.‬‬ ‫إن الواجــب علــى المشــتغل بعلــم عالمــات الســاعة ووقائعهــا أمــران‬

‫(‪ ((2‬متفق عليه عن أبي هريرة رضي اهلل عنه‪ :‬البخاري يف كتاب الجهاد والسير ‪ -‬باب قتال اليهود‪ ،‬رقم‬ ‫(‪ ،)8672‬مسلم هبذا اللفظ يف كتاب الفتن وأشراط الساعة ‪ -‬باب ال تقوم الساعة حتى يمر الرجل بقرب‬ ‫الرجل فيتمنى أن يكون مكان الميت من البالء‪ ،‬رقم (‪.)2292‬‬ ‫(‪ ((2‬متفق عليه عن أبي سعيد الخدري رضي اهلل عنه‪ :‬البخاري يف كتاب أبواب فضائل المدينة ‪ -‬باب‬ ‫ال يدخل الدجال المدينة‪ ،‬رقم (‪ ،)3871‬ومسلم يف باب الفتن وأشراط الساعة ‪ -‬باب يف صفة الدجال‬ ‫وتحريم المدينة عليه وقتله المؤمن وإحيائه‪ ،‬رقم (‪.)8392‬‬ ‫(‪ ((2‬أخرجه الحاكم يف مستدركه عن عبيد اهلل بن بشر الغنوي‪ ،‬كتاب الفتن والمالحم‪ ،‬رقم (‪،)0038‬‬ ‫وأحمد يف مسند الكوفيين ‪ -‬حديث بشر بن سحيم رضي اهلل عنه‪ ،‬رقم (‪.)77981‬‬

‫منهجية التعامل مع أحاديث الفتن‬ ‫اثنان‪:‬‬

‫األول‪ :‬التثبــت مــن صحــة النّــص معتمــدً ا علــى قواعــد المحدثيــن يف‬ ‫التصحيــح والتضعيــف‪.‬‬

‫َّ‬ ‫يكــذب اهلل‬ ‫الثــاين‪ :‬الرتيــث يف تنزيــل الخــر علــى الواقــع لئــا‬ ‫ورســوله‪ ،‬فقــد يلــزم مــن تنزيلــه الحديــث علــى واقعــة مــا مــن غيــر‬ ‫تثبــت مواقــف وأحــكام‪ ،‬وحمــل النــاس علــى العمــل بغيــر هــدى‪،‬‬ ‫كمــا قــد يتســبب تنزيلــه الخاطــئ لألخبــار بإراقــة دمائهــم واســتباحة‬ ‫أموالهــم‪ ،‬وقــد امتــدح النبــي صلــى اهلل عليــه وســلم أشــج عبــد القيــس‬ ‫فقــال‪« :‬إن فيــك لخصلتيــن يحبهمــا اهلل الحلــم واألنــاة»(‪ ((2‬وإذا كانــت‬ ‫هاتــان الخصلتــان ممدوحتيــن يف كل شــأن فإهنمــا يف الفتــن تكونــان‬ ‫مدحــا وأكــر أثـ ًـرا‪ ،‬ولعــل يف حديــث المســتورد مــا يشــير إلــى‬ ‫أشــد ً‬ ‫قــدر الحلــم واألنــاة كمــا يف صحيــح مســلم‪« :‬أن المســتورد القرشــي‬ ‫تحــدث بوجــود عمــرو بــن العــاص رضــي اهلل عنــه فقــال‪ :‬ســمعت‬ ‫رســول اهلل صلــى اهلل عليــه وســلم يقــول‪« :‬تقــوم الســاعة والــروم أكثــر‬ ‫النــاس» فقــال لــه عمــرو‪ :‬أبصــر مــا تقــول‪ ،‬فقــال‪ :‬أقــول ما ســمعت من‬ ‫رســول اهلل صلــى اهلل عليــه وســلم‪ ،‬فقــال عمــرو‪ :‬لئــن قلــت ذلــك فــإن‬ ‫فيهــم لخصـ ً‬ ‫ـال أرب ًعــا‪ :‬إهنــم ألحلــم النــاس عنــد فتنــة‪ ،‬وأســرعهم إفاقة‬ ‫بعــد مصيبــة‪ ،‬وأوشــكهم كـ ّـرة بعــد فـ ّـرة‪ ،‬وخيرهــم لمســكين ويتيــم‬ ‫(‪((2‬‬ ‫وضعيــف‪ ،‬وخامســة حســنة جميلــة‪ :‬وأمنعهــم مــن ظلــم الملــوك»‬ ‫فقولــه «إهنــم ألحلــم النــاس عنــد فتنــة» يعنــي أهنــم ال يتعجلــون وال‬ ‫يغضبــون وال ُيســتفزون‪ ،‬بــل يحافظــون علــى عقولهــم وحســن‬ ‫تفكيرهــم‪ ،‬فيجنبــون قومهــم القتــل والفتــن‪ ،‬ويتخــذون الموقــف‬ ‫الصحيــح الســليم‪ ،‬ولعلــه يكــون ســبب حفظهــم واســتمرارهم‪ ،‬ولقــد‬ ‫وصــف حذيفــة الفتــن فقــال‪ُ « :‬ت ْشــبِه مقبلــ ًة وتب َّيــن مدبــرةً»(‪ ((2‬ولقــد‬ ‫ســأل حفــص بــن غيــاث سـ َ‬ ‫ـدي فقــال لــه‪« :‬إن‬ ‫ـفيان الثــوري عــن المهـ ِّ‬ ‫مـ ّـر علــى بابــك فــا تكــن منــه يف شــيء حتــى يجتمــع النــاس عليــه»(‪.((2‬‬ ‫وإن الرتيــث ال يمنــع أن ينــزل العالــم الخــر علــى الواقعــة إذا تحققت‬ ‫معالمهــا الواضحــة أو كانــت متسلســلة بــأن ســبقها مــا يثبتهــا علــى‬ ‫وجــه اليقيــن‪ ،‬وممــا ذكــره النبـ ُّـي عليــه الصــاة والســام مرت ًبــا ظهــور‬ ‫الدجــال قبــل نــزول المســيح‪ ،‬وكالهمــا قبــل يأجــوج ومأجــوج‪ ،‬فلــو‬ ‫حصــل أحدهــا فســوف يتبعــه اآلخــر‪ ،‬ومثلــه انحســار الفــرات عــن‬ ‫جبــل مــن ذهــب فإنــه لــو حصــل يمكــن للقائــل أن يقــول‪ :‬إن مقتلــة‬ ‫كبيــرة ســوف تقــع‪ ،‬ويمكــن أن ينبــه النّــاس أال يشــاركوا فيهــا وأال‬ ‫يأخــذوا منــه شــي ًئا كمــا يف الحديــث‪.‬‬ ‫الضابط الثاين‪ :‬مراعاة النسبية الزمانية فيها‪.‬‬

‫جــاء عــن النبـ ّـي صلــى اهلل عليــه وســلم يف الحديــث أنــه قــال‪« :‬بعثــت‬

‫(‪ ((2‬رواه مسلم عن ابن عباس رضي اهلل عنه يف كتاب اإليمان ‪ -‬باب األمر باإليمان باهلل تعالى ورسوله‬ ‫صلى اهلل عليه وسلم وشرائع الدين والدعاء إليه والسؤال عنه وحفظه وتبليغه من لم يبلغه‪ ،‬رقم (‪.)81‬‬ ‫(‪ ((2‬أخرجه مسلم عن المستورد بن شداد القرشي يف كتاب الفتن وأشراط الساعة ‪ -‬باب تقوم الساعة‬ ‫والروم أكثر الناس‪ ،‬رقم (‪.)8982‬‬ ‫(‪ ((2‬أخرجه الحاكم يف المستدرك‪ ،‬كتاب الفتن والمالحم‪ ،‬رقم (‪.)5838‬‬ ‫(‪ ((2‬حلية األولياء للحافظ أبي نعيم ( ‪.)13/7‬‬

‫أنــا والســاعة كهاتيــن‪ ،‬وضــم الســبابة والوســطى»(‪ ((3‬وجــاء يف حديــث‬ ‫آخــر عــن الســاعة‪« :‬أهنــا كالحامــل المتـ ّـم التــي ال يــدري أهلهــا متــى‬ ‫ـارا»(‪ ،((3‬وضــرب األمثــال لهــذا المعنــى‬ ‫تفجؤهــم بوالدهــا ليـ ًـا أو هنـ ً‬ ‫كثيــر يف األحاديــث النبويــة‪ ،‬فــإذا كان عليــه الصــاة والســام قــد قــال‬ ‫هــذا قبــل أربعــة عشــر قر ًنــا فاألمــر نســبي إذا مــا ُقـ ِ‬ ‫ـورن بعمــر البشــر‬ ‫ٌّ‬ ‫ٍ‬ ‫علــى األرض ومــا بقــي مقارنــة بمــا مضــى‪ ،‬وكل آت قريــب كمــا‬ ‫يقــال‪ ،‬وباألخــص الفتــن الكــرى كالدجــال ويأجــوج ومأجــوج فهــي‬ ‫مــن هــذا القبيــل يف نســبية الوقــت‪.‬‬ ‫الضابط الثالث‪ :‬اعتبار جميع الصفات‪.‬‬

‫مــا ُذكــرت فيــه عــدة صفــات ال يكفــي يف التنزيــل قيــام بعضهــا وانتفــاء‬ ‫بعــض آخــر‪ ،‬فــا بــدّ مــن اجتماعهــا جمي ًعــا‪ ،‬ومنــه قــول بعضهــم يف‬ ‫المهــدي كمــا نقــل ذلــك عــن الحســن‬ ‫عمــر بــن عبــد العزيــز إنــه‬ ‫ُّ‬ ‫(‪((3‬‬ ‫البصــري وســعيد بــن المســيب ‪ ،‬فقــد اجتمعــت يف عمــر بعــض‬ ‫فممــا تخلــف عنــه ّ‬ ‫أن اســم‬ ‫الصفــات وتخلفــت عنــه بعــض الصفــات‪ّ ،‬‬ ‫المهــدي (محمــد بــن عبــد اهلل) وأنــه مــن ولــد فاطمــة رضــي اهلل عنهــا‪،‬‬ ‫فهــذان لــم يتح ّققــا فيــه‪ ،‬وهــذا مــا حمــل ابــن الق ّيــم علــى القــول‪( :‬ال‬ ‫ـدي الــذي يخــرج يف‬ ‫ريــب أ ّنــه كان راشــدً ا مهد ًّيــا‪ ،‬ولكــن ليــس بالمهـ ِّ‬ ‫آخــر الزمــان)(‪.((3‬‬

‫الضابــط الرابــع‪ :‬ليــس مــن الضــرورة ربــط كل فتنــة بنــص أو البحــث‬ ‫لهــا عــن حديــث‪.‬‬

‫عندمــا تقــع حادثــة كبيــرة ُيهــرع النــاس إلــى أحاديــث الفتــن لعلهــم‬ ‫يجــدون لهــا ذكـ ًـرا أو إشــارة‪ ،‬وهــذا ال بــأس بــه لكــن إذا لــم يجــدوا‬ ‫فينبغــي أال يتكلفــوا‪ ،‬فليــس كل مــا حــدث أو ســيحدث قــد أشــارت‬ ‫إليــه النصــوص‪ ،‬وكــم مــن حــوادث كربى مــرت على المســلمين ليس‬ ‫لهــا ذكــر يف الســنة‪ ،‬مــن ذلــك مــا فعلــه القرامطــة مــن قتــل الحجيــج يف‬ ‫مكــة واقتالعهــم الحجــر األســود وأخذهــم لــه والحــروب الصليبيــة‪،‬‬ ‫فــا يصــح التك ُّلــف يف تنزيــل النصــوص بِ َلـ ّـي أعناقهــا لتخــدم حادثــة‬ ‫بعينها ‪.‬‬ ‫الضابــط الخامــس‪ :‬إعطــاء كل تنزيــل للنصــوص حقــه مــن القطــع أو‬ ‫الظــن‪.‬‬

‫يمكــن للباحــث يف أحاديــث الفتــن القطع يف أمر حدث وقد اســتكمل‬ ‫األوصــاف كحديثــه عليــه الصــاة والســام عــن الحســن رضــي اهلل‬ ‫عنــه‪« :‬ابنــي هــذا ســيد‪ ،‬وســيصلح اهلل بــه بيــن فئتيــن عظيمتيــن مــن‬ ‫المســلمين»(‪ ،((3‬فنحــن نقطــع أن المــراد هــو الصلــح الــذي جــرى بيــن‬ ‫(‪ ((3‬متفق عليه عن سهل بن سعد رضي اهلل عنه‪ :‬البخاري يف كتاب الطالق ‪ -‬باب اللعان‪ ،‬رقم (‪،)5994‬‬ ‫ومسلم يف كتاب الفتن وأشراط الساعة ‪ -‬باب قرب الساعة‪ ،‬رقم (‪.)1592‬‬ ‫(‪ ((3‬أخرجه الحاكم يف المستدرك عن ابن مسعود رضي اهلل عنه‪ ،‬كتاب الفتن والمالحم‪ ،‬رقم (‪،)2058‬‬ ‫وأحمد يف المسند عن عبد اهلل بن مسعود رضي اهلل عنه‪ ،‬رقم (‪.)6553‬‬ ‫(‪ ((3‬الطبقات الكربى‪ ،‬رقم (‪ ،)542/5‬هتذيب التهذيب‪ ،‬رقم (‪.)053/01‬‬ ‫(‪ ((3‬المنار المنيف (ص ‪.)051‬‬ ‫(‪ ((3‬أخرجه البخاري عن أبي بكرة رضي اهلل عنه‪ ،‬كتاب الصلح ‪ -‬باب قول النبي صلى اهلل عليه وسلم‬ ‫للحسن بن علي رضي اهلل عنهما‪« :‬ابني هذا سيد‪ ،‬وسيصلح اهلل به‪ ،»...‬رقم (‪.)7552‬‬

‫‪7‬‬


‫منهجية التعامل مع أحاديث الفتن‬ ‫خاصــا كمــا جــاء يف الحديــث عــن حصــار عثمــان‬ ‫وقــد يكــون عهــدً ا ًّ‬ ‫رضــي اهلل عنــه‪« :‬قــال عثمــان يــوم الــدار‪ :‬إن رســول اهلل قــد عهــد إلـ ّـي‬ ‫عهــدً ا؛ فأنــا صابــر عليــه»(‪ ((1‬وهــذا العهــد أال يسـ ّـل الســاح وال تــراق‬ ‫بســببه محجنــة دم كمــا يف بعــض الروايــات‪.‬‬

‫مؤخـ ًـرا خاصــة مــع أحــداث الحــادي عشــر مــن ســبتمرب إذ حظيــت‬ ‫كتاباتــه بانتشــار كبيــر‪ ،‬وشــاع طــرح تنبؤاتــه يف مختلــف وســائل‬ ‫اإلعــام المرئيــة والمســموعة والمقــروءة‪.‬‬

‫التنصيص على خاصية بعض البقاع مثل‪:‬‬

‫االستبشــار بحســن العاقبــة‪ :‬فهــو يــزود المؤمنيــن بطاقــة كبيــرة‬ ‫لإلنجــاز واالســتمرار والصــر‪ ،‬فقــد نــزل قولــه تعالــى يف يــوم بــدر‬ ‫ـع َو ُي َو ُّلـ َ‬ ‫ـون الدُّ ُبـ َـر﴾ [ســورة القمــر‪ :‬آيــة ‪ ]45‬فرفــع‬ ‫﴿س ـ ُي ْه َز ُم ا ْل َج ْمـ ُ‬ ‫َ‬ ‫المعنويــات وثبــت األقــدام‪ ،‬ومــن ذلــك حديــث قتــال المســلمين‬ ‫لليهــود آخــر الزمــان‪« :‬ال تقــوم الســاعة حتــى يقاتــل المســلمون‬ ‫اليهــود‪ ،‬فيقتلهــم المســلمون حتــى يختبــئ اليهــودي مــن وراء الحجر‬ ‫والشــجر‪ ،‬فيقــول الحجــر أو الشــجر‪ :‬يــا مســلم يــا عبــد اهلل! هــذا‬ ‫(‪((2‬‬ ‫خلفــي يهــودي فتعــال فاقتلــه‪ ،‬إال الغرقــد فإنــه مــن شــجر اليهــود»‬ ‫فهــذا الوعــد يــدل علــى أن النّصــر ســيكون بكرامــة خارقــة للمؤمنيــن‪،‬‬ ‫وقــد يكــون ذلــك لتمكــن اليهــود وانحيــاز العالم لهــم وقلــة المؤمنين‬ ‫الصادقيــن الذيــن يقاتلوهنــم‪ ،‬وهــذا النطــق حقيقـ ٌّـي وليــس مجاز ًّيــا؛‬ ‫ألنــه لــو حمــل علــى المجــاز لــم يبــق الســتثناء شــجر الغرقــد أي‬ ‫معنــى‪ ،‬ولمــا كان النتصــار المؤمنيــن علــى اليهــود بطريقــة تقليديــة‬ ‫ـرارا‬ ‫عاديــة أي داللــة علــى قــرب الســاعة‪ ،‬فقــد قاتلهــم المؤمنــون مـ ً‬ ‫وانتصــروا عليهــم لكــن ليــس علــى هــذا النحــو‪.‬‬

‫بيــان فضــل بعــض األماكــن عمو ًمــا‪ ،‬وذلــك كفضــل المدينــة عمو ًما‬ ‫خصوصــا كمــا جــاء يف بعــض األحاديــث‪« :‬والمدينــة‬ ‫ويف الفتــن‬ ‫ً‬ ‫خيــر لهــم لــو كانــوا يعلمــون»(‪ ((1‬وحديــث َّ‬ ‫«إن اإليمــان ليــأرز إلــى‬ ‫المدينــة كمــا تــأرز الحيــة إلــى جحرهــا»(‪.((2‬‬

‫وبيــان فضــل بعضهــا علــى وجــه الخصــوص أي وقــت وقــوع‬ ‫الفتــن؛ فليســت أفضليــة عامــة مــن كل وجــه‪ ،‬فبــاد الشــام عمو ًمــا‬ ‫خصوصــا كدمشــق ً‬ ‫مثــا هــي فســطاط المســلمين‬ ‫وبعــض مدهنــا‬ ‫ً‬ ‫يــوم الملحمــة الكــرى‪ ،‬واألحاديــث يف فضائــل الشــام يف المالحــم‬ ‫والفتــن كثيــرة‪ ،‬منهــا حديــث عبــد اهلل بــن أبــي حوالــة الــذي جــاء فيــه‬ ‫أن النبـ َّـي عليــه الصــاة والســام قــال‪« :‬ســتجنّدون أجنــا ًدا بالشــام‬ ‫وأجنــا ًدا بالعــراق وأجنــا ًدا باليمــن‪ ،‬فقلــت‪ :‬خــر لــي يــا رســول اهلل‪،‬‬ ‫فقــال‪ :‬عليكــم بالشــام‪ ،‬فمــن أبــى فليلحــق باليمــن ول َي ْس ِ‬ ‫ــق مــن‬ ‫ُغــدره‪ ،‬فــإن اهلل تكفــل لــي بالشــام وأهلــه»(‪.((2‬‬ ‫والتحذيــر الخــاص مــن بعــض المناطــق دون ذم مطلــق لهــا‪ ،‬منهــا‬ ‫جهــة المشــرق كالعــراق ومــا يليهــا مــن بــاد العجــم كبــاد فــارس‬ ‫وكانــت تدعــى عــراق العجــم‪ ،‬فقــد جــاء يف الحديــث قولــه عليــه‬ ‫الصــاة والســام «الفتنــة مــن ههنــا ‪-‬كررهــا وأشــار إلــى المشــرق‪-‬‬ ‫مــن حيــث يطلــع قــرن الشــمس»(‪((2‬ويف روايــة «قــرن الشــيطان»‪.‬‬

‫إرواء حاجــة التطلــع إلــى المســتقبل مــن مصــدر أميــن‪ :‬إن التطلــع‬ ‫لحة‪ ،‬وإن ثقافة التســاؤل واستشــراف‬ ‫إلــى المســتقبل حاجة بشــرية ُم َّ‬ ‫المســتقبل أحــد أهــم أســباب البحــث والتقــدم العلمــي واالخــراع‪،‬‬ ‫وهــي مــن أهــم مــا يشــغل أفــكار األمــم اإلنســانية جمعــاء‪ ،‬وإن‬ ‫األخبــار النبويــة عــن بعضهــا تقطــع الطريــق علــى الســبل الفاســدة‬ ‫الســتقراء المســتقبل واإلخبــار بــه كالعرافــة والتنجيــم وادعــاء علــم‬ ‫الغيــب‪ ،‬وإن مــن أبــرز مــا ُيظهــر إلحــاح اإلنســان لمعرفــة المســتقبل‬ ‫مــا رأينــاه مــن اهتمــام غربــي كبيــر بنبــوءات المنجــم اليهــودي‬ ‫(ميشــيل نوســرا دامــوس)‪ ،‬فهــذا االســم بــرز بشــكل ملحــوظ‬ ‫(‪ ((1‬أخرجه الرتمذي عن أبي سهلة‪ ،‬كتاب المناقب‪ -‬باب يف مناقب عثمان بن عفان رضي اهلل عنه‪ ،‬رقم‬ ‫(‪.)1173‬‬ ‫(‪ ((1‬أخرجه مسلم عن أبي هريرة رضي اهلل عنه‪ ،‬كتاب الحج ‪ -‬باب فضل المدينة ودعاء النبي صلى اهلل‬ ‫عليه وسلم فيها بالربكة وبيان تحريمها وتحريم صيدها وشجرها وبيان حدود حرمها‪ ،‬رقم (‪.)3631‬‬ ‫(‪ ((2‬أخرجه مسلم عن عمر رضي اهلل عنه‪ ،‬كتاب اإليمان ‪ -‬باب بيان أن اإلسالم بدأ غريبا وسيعود غريبا‬ ‫وإنه يأرز بين المسجدين‪ ،‬رقم (‪.)741‬‬ ‫(‪ ((2‬صحيح ابن حبان‪ ،‬كتاب إخباره صلى اهلل عليه وسلم عن مناقب الصحابة ‪ -‬باب الحجاز واليمن‬ ‫وفارس وعمان‪ ،‬رقم (‪ ،)6037‬مستدرك الحاكم‪ ،‬كتاب الفتن والمالحم‪ ،‬رقم (‪.)6558‬‬ ‫(‪ ((2‬متفق عليه عن ابن عمر رضي اهلل عنه‪ :‬مسلم يف كتاب الفتن وأشراط الساعة ‪ -‬باب الفتنة من المشرق‬ ‫من حيث يطلع قرنا الشيطان‪ ،‬رقم (‪ ،)5092‬البخاري‪ ،‬كتاب الفتن ‪ -‬باب قول النبي صلى اهلل عليه وسلم‬ ‫(الفتنة من قبل المشرق)‪ ،‬رقم (‪.)9766‬‬

‫‪6‬‬

‫فتح باب األمل‪ ،‬ومنه‪:‬‬

‫واالستبشــار بقــدرة المؤمــن علــى مواجهــة فتنــة الدجــال يف حديــث‬ ‫الرجــل الــذي يقتلــه الدجــال ويقطعــه جزلتيــن‪ ،‬فيخــر النبـ ُّـي صلــى‬ ‫اهلل عليــه وســلم أن الرجــل المؤمــن يقــول‪« :‬أشــهد أنــك الدجــال‬ ‫الــذي حدثنــا عنــك رســول اهلل صلــى اهلل عليــه وســلم حديثــه»(‪ ((2‬فقد‬ ‫أعانــت أحاديــث رســول اهلل عــن الفتــن والدجــال هــذا المؤمــن على‬ ‫معرفــة الدجــال والصــر والثبــات يف الفتنــة الكــرى‪.‬‬ ‫وكذلــك حديــث فتــح القســطنطينية الــذي كان حافـ ًـزا لكثيــر مــن‬ ‫الخلفــاء يف وقــت مبكــر لتجهيــز الجيــوش والتوجــه لفتحهــا حيــث‬ ‫جــاء يف الحديــث «لتفتحــن القســطنطينية‪ ،‬فلنعــم األميــر أميرهــا‪،‬‬ ‫ولنعــم الجيــش ذلــك الجيــش»(‪.((2‬‬

‫ضوابط التعامل مع أحاديث الفنت‬

‫الضابــط األول‪ :‬يبنــى العلــم علــى التثبــت‪ ،‬ويبنــى التنزيل علــى الحلم‬ ‫والروية‪.‬‬ ‫إن الواجــب علــى المشــتغل بعلــم عالمــات الســاعة ووقائعهــا أمــران‬

‫(‪ ((2‬متفق عليه عن أبي هريرة رضي اهلل عنه‪ :‬البخاري يف كتاب الجهاد والسير ‪ -‬باب قتال اليهود‪ ،‬رقم‬ ‫(‪ ،)8672‬مسلم هبذا اللفظ يف كتاب الفتن وأشراط الساعة ‪ -‬باب ال تقوم الساعة حتى يمر الرجل بقرب‬ ‫الرجل فيتمنى أن يكون مكان الميت من البالء‪ ،‬رقم (‪.)2292‬‬ ‫(‪ ((2‬متفق عليه عن أبي سعيد الخدري رضي اهلل عنه‪ :‬البخاري يف كتاب أبواب فضائل المدينة ‪ -‬باب‬ ‫ال يدخل الدجال المدينة‪ ،‬رقم (‪ ،)3871‬ومسلم يف باب الفتن وأشراط الساعة ‪ -‬باب يف صفة الدجال‬ ‫وتحريم المدينة عليه وقتله المؤمن وإحيائه‪ ،‬رقم (‪.)8392‬‬ ‫(‪ ((2‬أخرجه الحاكم يف مستدركه عن عبيد اهلل بن بشر الغنوي‪ ،‬كتاب الفتن والمالحم‪ ،‬رقم (‪،)0038‬‬ ‫وأحمد يف مسند الكوفيين ‪ -‬حديث بشر بن سحيم رضي اهلل عنه‪ ،‬رقم (‪.)77981‬‬

‫منهجية التعامل مع أحاديث الفتن‬ ‫اثنان‪:‬‬

‫األول‪ :‬التثبــت مــن صحــة النّــص معتمــدً ا علــى قواعــد المحدثيــن يف‬ ‫التصحيــح والتضعيــف‪.‬‬

‫َّ‬ ‫يكــذب اهلل‬ ‫الثــاين‪ :‬الرتيــث يف تنزيــل الخــر علــى الواقــع لئــا‬ ‫ورســوله‪ ،‬فقــد يلــزم مــن تنزيلــه الحديــث علــى واقعــة مــا مــن غيــر‬ ‫تثبــت مواقــف وأحــكام‪ ،‬وحمــل النــاس علــى العمــل بغيــر هــدى‪،‬‬ ‫كمــا قــد يتســبب تنزيلــه الخاطــئ لألخبــار بإراقــة دمائهــم واســتباحة‬ ‫أموالهــم‪ ،‬وقــد امتــدح النبــي صلــى اهلل عليــه وســلم أشــج عبــد القيــس‬ ‫فقــال‪« :‬إن فيــك لخصلتيــن يحبهمــا اهلل الحلــم واألنــاة»(‪ ((2‬وإذا كانــت‬ ‫هاتــان الخصلتــان ممدوحتيــن يف كل شــأن فإهنمــا يف الفتــن تكونــان‬ ‫مدحــا وأكــر أثـ ًـرا‪ ،‬ولعــل يف حديــث المســتورد مــا يشــير إلــى‬ ‫أشــد ً‬ ‫قــدر الحلــم واألنــاة كمــا يف صحيــح مســلم‪« :‬أن المســتورد القرشــي‬ ‫تحــدث بوجــود عمــرو بــن العــاص رضــي اهلل عنــه فقــال‪ :‬ســمعت‬ ‫رســول اهلل صلــى اهلل عليــه وســلم يقــول‪« :‬تقــوم الســاعة والــروم أكثــر‬ ‫النــاس» فقــال لــه عمــرو‪ :‬أبصــر مــا تقــول‪ ،‬فقــال‪ :‬أقــول ما ســمعت من‬ ‫رســول اهلل صلــى اهلل عليــه وســلم‪ ،‬فقــال عمــرو‪ :‬لئــن قلــت ذلــك فــإن‬ ‫فيهــم لخصـ ً‬ ‫ـال أرب ًعــا‪ :‬إهنــم ألحلــم النــاس عنــد فتنــة‪ ،‬وأســرعهم إفاقة‬ ‫بعــد مصيبــة‪ ،‬وأوشــكهم كـ ّـرة بعــد فـ ّـرة‪ ،‬وخيرهــم لمســكين ويتيــم‬ ‫(‪((2‬‬ ‫وضعيــف‪ ،‬وخامســة حســنة جميلــة‪ :‬وأمنعهــم مــن ظلــم الملــوك»‬ ‫فقولــه «إهنــم ألحلــم النــاس عنــد فتنــة» يعنــي أهنــم ال يتعجلــون وال‬ ‫يغضبــون وال ُيســتفزون‪ ،‬بــل يحافظــون علــى عقولهــم وحســن‬ ‫تفكيرهــم‪ ،‬فيجنبــون قومهــم القتــل والفتــن‪ ،‬ويتخــذون الموقــف‬ ‫الصحيــح الســليم‪ ،‬ولعلــه يكــون ســبب حفظهــم واســتمرارهم‪ ،‬ولقــد‬ ‫وصــف حذيفــة الفتــن فقــال‪ُ « :‬ت ْشــبِه مقبلــ ًة وتب َّيــن مدبــرةً»(‪ ((2‬ولقــد‬ ‫ســأل حفــص بــن غيــاث سـ َ‬ ‫ـدي فقــال لــه‪« :‬إن‬ ‫ـفيان الثــوري عــن المهـ ِّ‬ ‫مـ ّـر علــى بابــك فــا تكــن منــه يف شــيء حتــى يجتمــع النــاس عليــه»(‪.((2‬‬ ‫وإن الرتيــث ال يمنــع أن ينــزل العالــم الخــر علــى الواقعــة إذا تحققت‬ ‫معالمهــا الواضحــة أو كانــت متسلســلة بــأن ســبقها مــا يثبتهــا علــى‬ ‫وجــه اليقيــن‪ ،‬وممــا ذكــره النبـ ُّـي عليــه الصــاة والســام مرت ًبــا ظهــور‬ ‫الدجــال قبــل نــزول المســيح‪ ،‬وكالهمــا قبــل يأجــوج ومأجــوج‪ ،‬فلــو‬ ‫حصــل أحدهــا فســوف يتبعــه اآلخــر‪ ،‬ومثلــه انحســار الفــرات عــن‬ ‫جبــل مــن ذهــب فإنــه لــو حصــل يمكــن للقائــل أن يقــول‪ :‬إن مقتلــة‬ ‫كبيــرة ســوف تقــع‪ ،‬ويمكــن أن ينبــه النّــاس أال يشــاركوا فيهــا وأال‬ ‫يأخــذوا منــه شــي ًئا كمــا يف الحديــث‪.‬‬ ‫الضابط الثاين‪ :‬مراعاة النسبية الزمانية فيها‪.‬‬

‫جــاء عــن النبـ ّـي صلــى اهلل عليــه وســلم يف الحديــث أنــه قــال‪« :‬بعثــت‬

‫(‪ ((2‬رواه مسلم عن ابن عباس رضي اهلل عنه يف كتاب اإليمان ‪ -‬باب األمر باإليمان باهلل تعالى ورسوله‬ ‫صلى اهلل عليه وسلم وشرائع الدين والدعاء إليه والسؤال عنه وحفظه وتبليغه من لم يبلغه‪ ،‬رقم (‪.)81‬‬ ‫(‪ ((2‬أخرجه مسلم عن المستورد بن شداد القرشي يف كتاب الفتن وأشراط الساعة ‪ -‬باب تقوم الساعة‬ ‫والروم أكثر الناس‪ ،‬رقم (‪.)8982‬‬ ‫(‪ ((2‬أخرجه الحاكم يف المستدرك‪ ،‬كتاب الفتن والمالحم‪ ،‬رقم (‪.)5838‬‬ ‫(‪ ((2‬حلية األولياء للحافظ أبي نعيم ( ‪.)13/7‬‬

‫أنــا والســاعة كهاتيــن‪ ،‬وضــم الســبابة والوســطى»(‪ ((3‬وجــاء يف حديــث‬ ‫آخــر عــن الســاعة‪« :‬أهنــا كالحامــل المتـ ّـم التــي ال يــدري أهلهــا متــى‬ ‫ـارا»(‪ ،((3‬وضــرب األمثــال لهــذا المعنــى‬ ‫تفجؤهــم بوالدهــا ليـ ًـا أو هنـ ً‬ ‫كثيــر يف األحاديــث النبويــة‪ ،‬فــإذا كان عليــه الصــاة والســام قــد قــال‬ ‫هــذا قبــل أربعــة عشــر قر ًنــا فاألمــر نســبي إذا مــا ُقـ ِ‬ ‫ـورن بعمــر البشــر‬ ‫ٌّ‬ ‫ٍ‬ ‫علــى األرض ومــا بقــي مقارنــة بمــا مضــى‪ ،‬وكل آت قريــب كمــا‬ ‫يقــال‪ ،‬وباألخــص الفتــن الكــرى كالدجــال ويأجــوج ومأجــوج فهــي‬ ‫مــن هــذا القبيــل يف نســبية الوقــت‪.‬‬ ‫الضابط الثالث‪ :‬اعتبار جميع الصفات‪.‬‬

‫مــا ُذكــرت فيــه عــدة صفــات ال يكفــي يف التنزيــل قيــام بعضهــا وانتفــاء‬ ‫بعــض آخــر‪ ،‬فــا بــدّ مــن اجتماعهــا جمي ًعــا‪ ،‬ومنــه قــول بعضهــم يف‬ ‫المهــدي كمــا نقــل ذلــك عــن الحســن‬ ‫عمــر بــن عبــد العزيــز إنــه‬ ‫ُّ‬ ‫(‪((3‬‬ ‫البصــري وســعيد بــن المســيب ‪ ،‬فقــد اجتمعــت يف عمــر بعــض‬ ‫فممــا تخلــف عنــه ّ‬ ‫أن اســم‬ ‫الصفــات وتخلفــت عنــه بعــض الصفــات‪ّ ،‬‬ ‫المهــدي (محمــد بــن عبــد اهلل) وأنــه مــن ولــد فاطمــة رضــي اهلل عنهــا‪،‬‬ ‫فهــذان لــم يتح ّققــا فيــه‪ ،‬وهــذا مــا حمــل ابــن الق ّيــم علــى القــول‪( :‬ال‬ ‫ـدي الــذي يخــرج يف‬ ‫ريــب أ ّنــه كان راشــدً ا مهد ًّيــا‪ ،‬ولكــن ليــس بالمهـ ِّ‬ ‫آخــر الزمــان)(‪.((3‬‬

‫الضابــط الرابــع‪ :‬ليــس مــن الضــرورة ربــط كل فتنــة بنــص أو البحــث‬ ‫لهــا عــن حديــث‪.‬‬

‫عندمــا تقــع حادثــة كبيــرة ُيهــرع النــاس إلــى أحاديــث الفتــن لعلهــم‬ ‫يجــدون لهــا ذكـ ًـرا أو إشــارة‪ ،‬وهــذا ال بــأس بــه لكــن إذا لــم يجــدوا‬ ‫فينبغــي أال يتكلفــوا‪ ،‬فليــس كل مــا حــدث أو ســيحدث قــد أشــارت‬ ‫إليــه النصــوص‪ ،‬وكــم مــن حــوادث كربى مــرت على المســلمين ليس‬ ‫لهــا ذكــر يف الســنة‪ ،‬مــن ذلــك مــا فعلــه القرامطــة مــن قتــل الحجيــج يف‬ ‫مكــة واقتالعهــم الحجــر األســود وأخذهــم لــه والحــروب الصليبيــة‪،‬‬ ‫فــا يصــح التك ُّلــف يف تنزيــل النصــوص بِ َلـ ّـي أعناقهــا لتخــدم حادثــة‬ ‫بعينها ‪.‬‬ ‫الضابــط الخامــس‪ :‬إعطــاء كل تنزيــل للنصــوص حقــه مــن القطــع أو‬ ‫الظــن‪.‬‬

‫يمكــن للباحــث يف أحاديــث الفتــن القطع يف أمر حدث وقد اســتكمل‬ ‫األوصــاف كحديثــه عليــه الصــاة والســام عــن الحســن رضــي اهلل‬ ‫عنــه‪« :‬ابنــي هــذا ســيد‪ ،‬وســيصلح اهلل بــه بيــن فئتيــن عظيمتيــن مــن‬ ‫المســلمين»(‪ ،((3‬فنحــن نقطــع أن المــراد هــو الصلــح الــذي جــرى بيــن‬ ‫(‪ ((3‬متفق عليه عن سهل بن سعد رضي اهلل عنه‪ :‬البخاري يف كتاب الطالق ‪ -‬باب اللعان‪ ،‬رقم (‪،)5994‬‬ ‫ومسلم يف كتاب الفتن وأشراط الساعة ‪ -‬باب قرب الساعة‪ ،‬رقم (‪.)1592‬‬ ‫(‪ ((3‬أخرجه الحاكم يف المستدرك عن ابن مسعود رضي اهلل عنه‪ ،‬كتاب الفتن والمالحم‪ ،‬رقم (‪،)2058‬‬ ‫وأحمد يف المسند عن عبد اهلل بن مسعود رضي اهلل عنه‪ ،‬رقم (‪.)6553‬‬ ‫(‪ ((3‬الطبقات الكربى‪ ،‬رقم (‪ ،)542/5‬هتذيب التهذيب‪ ،‬رقم (‪.)053/01‬‬ ‫(‪ ((3‬المنار المنيف (ص ‪.)051‬‬ ‫(‪ ((3‬أخرجه البخاري عن أبي بكرة رضي اهلل عنه‪ ،‬كتاب الصلح ‪ -‬باب قول النبي صلى اهلل عليه وسلم‬ ‫للحسن بن علي رضي اهلل عنهما‪« :‬ابني هذا سيد‪ ،‬وسيصلح اهلل به‪ ،»...‬رقم (‪.)7552‬‬

‫‪7‬‬


‫منهجية التعامل مع أحاديث الفتن‬ ‫الحســن ومعاويــة رضــي اهلل عنهمــا‪ ،‬وتنــازل فيــه الحســن رضــي اهلل‬ ‫وسـ ِّـمي ذلــك‬ ‫عنــه عــن الخالفــة لمعاويــة بــن أبــي ســفيان عــام ‪41‬هـــ‪ُ ،‬‬ ‫العــام عــام الجماعــة‪ ،‬ويمكــن القطــع ّ‬ ‫بــأن المقصــود مــن حديــث‬ ‫«أشــرف النبــي صلــى اهلل عليــه وســلم علــى أطــم فقــال‪ :‬هــل تــرون‬ ‫مــا أرى؟ قالــوا‪ :‬ال‪ ،‬قــال‪ :‬فــإين ألرى مواقــع الفتــن خــال بيوتكــم‬ ‫كمواقــع القطــر)(‪ ((3‬مــا وقــع وجــرى بيــن الصحابــة رضــوان اهلل عليهــم‬ ‫مــن فتــن واقتتــال يف أواخــر خالفــة عثمــان ويف خالفــة علــي رضــي اهلل‬ ‫عنهمــا ومــا حصــل بعــد ذلــك‪ ،‬قــال النــووي يف شــرحه لهــذا الحديث‪:‬‬ ‫(والتشــبيه بمواقــع القطــر يف الكثــرة والعمــوم‪ ،‬أي إهنــا كثيــرة وتعــم‬ ‫النــاس ال تختــص هبــا طائفــة‪ ،‬وهــذا إشــارة إلــى الحــروب الجاريــة‬ ‫والحــرة ومقتــل عثمــان ومقتــل‬ ‫بينهــم كوقعــة الجمــل وصفيــن‬ ‫ّ‬ ‫الحســين رضــي اهلل عنهمــا‪ ،‬وهــي معجــزة ظاهــرة لــه صلــى اهلل عليــه‬ ‫وســلم)(‪.((3‬‬ ‫وإذا لــم يســتكمل األمــر أوصافــه وكان محتمـ ًـا لهــذا الحــدث وغيره‬ ‫فــا نقطــع بــه‪ ،‬ويجــوز التنزيــل علــى ســبيل الظــن‪ ،‬مثالــه مــا صــح مــن‬ ‫حديــث أســماء بنــت أبــي بكــر رضــي اهلل عنهمــا يف قصــة مقتــل ابنهــا‬ ‫عبــداهلل بــن الزبيــر‪ ،‬فقــد وقفــت وخاطبت الحجــاج فقالت‪ :‬إن رســول‬ ‫اهلل صلــى اهلل عليــه وســلم حدثنــا فقــال‪« :‬إن يف ثقيــف ّ‬ ‫كذا ًبــا ومبيـ ًـرا‪،‬‬ ‫فأ ّمــا الكــذاب فرأينــاه ‪-‬وتعنــي المختــار بــن أبــي عبيــد الثقفــي‪ -‬وأمــا‬ ‫المبيــر فــا إخالــك إال إيــاه»(‪ ((3‬فجزمــت يف األول ولــم تجــزم يف الثاين‪،‬‬ ‫والمبيــر‪ :‬المهلــك‪ ،‬وكذلــك ظــن الصحابــة رضــي اهلل عنهــم ّ‬ ‫أن ابــن‬ ‫صيــاد هــو الدجــال الــذي نعتــه لهــم عليــه الصــاة والســام‪ ،‬ولــم‬ ‫َيجزمــوا يف أمــره إثبا ًتــا وال نف ًيــا(‪.((3‬‬ ‫الضابــط الســادس‪ :‬ال يمنــع الحديــث عــن الفتــن مــن بــاب التحذيــر‪،‬‬ ‫لكــن مــع عــدم الخــوض يف التنزيــل علــى الواقــع‪.‬‬

‫األحاديــث العامــة التــي جــاءت بأوصــاف يمكــن أن توجــد يف كل‬ ‫عصــر مــع اختــاف نســب وجودهــا بحيــث تصبــح ظاهــرة عامــة‬ ‫يف عصــر دون عصــر ينبغــي ذكرهــا وتحذيــر النــاس مــن الوقــوع يف‬ ‫المحظــورات التــي نصــت عليهــا‪ ،‬فقــد جــاء يف بعــض األحاديــث‪:‬‬ ‫«إذا ُض ِّيعــت األمانــة فانتظــر الســاعة‪ ،‬فقيــل‪ :‬كيــف إضاعتهــا؟ قــال‪:‬‬ ‫إذا أســند األمــر إلــى غيــر أهلــه»(‪ ((3‬ولكــن إذا تر َّتــب علــى التحديــث‬ ‫هبــا ســوء فهــم أو فتنــة أو تكذيــب فاألولــى اإلمســاك عــن التحديــث‬ ‫هبــا كمــا قــال أبــو هريــرة رضــي اهلل عنــه‪« :‬حفظــت مــن رســول اهلل‬ ‫جرابيــن‪ :‬فأ َّمــا أحدهمــا فبثثتــه‪ ،‬وأمــا اآلخــر فلــو بثثتــه لقطــع هــذا‬ ‫(‪ ((3‬أخرجه مسلم عن أسامة بن زيد رضي اهلل عنه‪ ،‬كتاب الفتن وأشراط الساعة ‪ -‬باب نزول الفتن‬ ‫كمواقع القطر‪ ،‬رقم (‪.)5882‬‬ ‫(‪ ((3‬شرح صحيح مسلم‪ :‬النووي (‪.)8/81‬‬ ‫(‪ ((3‬أخرجه مسلم عن أبي نوفل‪ ،‬كتاب فضائل الصحابة رضي اهلل عنهم ‪ -‬باب ذكر كذاب ثقيف‬ ‫ومبيرها‪ ،‬رقم (‪.)5452‬‬ ‫(‪ ((3‬متفق عليه عن ابن عمر رضي اهلل عنهما‪ :‬البخاري يف كتاب الجنائز ‪ -‬باب إذا أسلم الصبي فمات هل‬ ‫يصلى عليه وهل يعرض على الصبي اإلسالم؟ رقم (‪ ،)9821‬ومسلم يف كتاب الفتن وأشراط الساعة ‪-‬‬ ‫باب ذكر ابن الصياد‪ ،‬رقم (‪.)0392‬‬ ‫(‪ ((3‬أخرجه البخاري عن أبي هريرة رضي اهلل عنه‪ ،‬كتاب الرقاق ‪ -‬باب رفع األمانة‪ ،‬رقم (‪.)1316‬‬

‫‪8‬‬

‫البلعــوم»(‪ ((4‬وهكــذا فعــل حذيفــة بــن اليمــان عندمــا أومــأ إلــى البــاب‬ ‫الــذي يكســر وال يغلــق يف الفتنــة عندمــا ســأله عمــر رضــي اهلل عنــه(‪،((4‬‬ ‫والــذي حمــل حذيفــة علــى كتمــان بعــض مــا أخــره بــه النبـ ُّـي ‪-‬عليــه‬ ‫الصــاة والســام‪ -‬مــا يرتتــب علــى التحديــث بذلــك مــن فتــن كبيــرة‪،‬‬ ‫وعلــى العمــوم مــن أراد تحذيــر النــاس مــن الفتــن ينبغــي أن يكــون‬ ‫حكيمــا بحيــث ال يوقــع النــاس يف اليــأس والقنــوط؛ فيرتكــوا العمــل‪.‬‬ ‫ً‬ ‫الضابط السابع‪ :‬ما أشكل علينا تأويله نكل علمه إلى اهلل تعالى‪.‬‬

‫علــى المســلم أال يتعجــل يف إنــكار مــا ثبــت مــن أحاديــث الفتــن ثبو ًتــا‬ ‫صحيحــا‪ ،‬وأال يتكلــف تأويلــه بنــاء علــى الواقــع الــذي يعيشــه‪ ،‬فــإن‬ ‫ً‬ ‫الواقــع يتطــور ومفــردات األشــياء التــي يتعامــل هبــا البشــر تتغيــر‪ ،‬ويف‬ ‫هــذا يقــول اإلمــام الغزالــي رحمــه اهلل‪( :‬لــو ســكت مــن ال يعــرف قـ َّـل‬ ‫االختــاف‪ ،‬ومــن قصــر باعــه وضــاق نظــره عــن كالم العلمــاء فمــا لــه‬ ‫وللتكلــم فيمــا ال يدريــه والدخــول فيمــا ال يعنيــه؟)(‪ ،((4‬ومثــال ذلــك‬ ‫مــا ورد يف وصــف االقتتــال آخــر الزمــان واألســلحة التــي يســتعملوهنا‬ ‫كالســيوف والــروس والرمــاح والخيــول‪ ،‬فقــد ورد ذلــك يف أحاديــث‬ ‫(‪((4‬‬ ‫صحيحــة منهــا يف صحيــح مســلم «وقــد علقــوا ســيوفهم بالزيتــون»‬ ‫فبعضهــم يــرى أن التقــدم الــذي عليــه البشــر ســيزول‪ ،‬وســتدمر‬ ‫البشــرية نفســها ويعــود النــاس كســابق عهدهــم يف الحــروب وأدواهتــا‪،‬‬ ‫ـأول هــذه األوصــاف ويجعلهــا مــن بــاب ضــرب المثــل‬ ‫وبعضهــم يتـ ّ‬ ‫فتعليــق الســيوف أي الســاح الفــردي مثـ ًـا وهكــذا‪ ،‬ونحــن نقــول‪:‬‬ ‫اهلل أعلــم والخــوض يف هــذا ال يقــدم وال يؤخــر‪ ،‬فــإذا وقــع األمــر‬ ‫كان علــى المســلمين أن يعــدوا مــا اســتطاعوا مــن قــوة بحســب عــرف‬ ‫زماهنــم ووســائله‪.‬‬ ‫القدري‪.‬‬ ‫الشرعي تذر ًعا بالخرب‬ ‫الضابط الثامن‪ :‬ال نعطل األمر‬ ‫ِّ‬ ‫َّ‬

‫ـرعي مــن كثيــر مــن‬ ‫حصــل الخلــط بيــن الخــر القـ ِّ‬ ‫ـدري واألمــر الشـ ِّ‬ ‫النــاس يف عصرنــا نظـ ًـرا للجهــل الــذي يشــيع يف طوائــف مــن النــاس‪،‬‬ ‫ـارا للمهــدي‪ ،‬وتجــد‬ ‫فتجــد مــن يعطــل األحــكام ويــرك العمــل انتظـ ً‬ ‫مــن النــاس مــن خالطــه اليــأس وترك الســعي بحجــة أن األمــور تمضي‬ ‫نحــو النهايــة؛ فــا فائــدة مــن طــاء ســفينة آيلــة للغــرق‪ ،‬متناسـ ًيا قولــه‬ ‫عليــه الصــاة والســام‪« :‬إذا قامــت الســاعة ويف يــد أحدكــم فســيلة‬ ‫فليغرســها»(‪ ،((4‬ومنهــم مــن جلــس ينتظــر الخــوارق والمخ ّلــص‬ ‫البطــل‪ ،‬فع ّطــل دوره ونســي أن الحيــاة ابتــاء للجميــع وأن مــن ّ‬ ‫بشــر‬ ‫هبــم عليــه الصــاة والســام ســيولدون والدة طبيعيــة‪ ،‬ويمضــون‬ ‫وفــق الســنن الربان ّيــة ويصنعــون قيــادة لقاعــدة صلبــة موجــودة وألمــة‬ ‫اســتكملت شــروط النصــر وبقــي مــن يقودهــا إليــه‪ ،‬وبعضهــم وقــع‬ ‫(‪ ((4‬أخرجه البخاري عن أبي هريرة رضي اهلل عنه‪ ،‬كتاب العلم ‪ -‬باب حفظ العلم‪ ،‬رقم (‪.)021‬‬ ‫(‪ ((4‬رواه البخاري عن حذيفة بن اليمان رضي اهلل عنه‪ ،‬كتاب الفتن ‪ -‬باب الفتنة التي تموج كموج البحر‪،‬‬ ‫رقم (‪.)3866‬‬ ‫(‪ ((4‬الحاوي للفتاوى‪ :‬السيوطي ( ‪.)611/2‬‬ ‫(‪ ((4‬أخرجه مسلم عن أبي هريرة رضي اهلل عنه‪ ،‬كتاب الفتن وأشراط الساعة ‪ -‬باب يف فتح قسطنطينية‬ ‫وخروج الدجال ونزول عيسى ابن مريم‪ ،‬رقم (‪.)7982‬‬ ‫(‪ ((4‬أخرجه أحمد عن أنس رضي اهلل عنه‪ ،‬مسند المكثرين من الصحابة ‪ -‬مسند أنس بن مالك‪ ،‬رقم‬ ‫(‪.)40031‬‬

‫منهجية التعامل مع أحاديث الفتن‬ ‫وهـ ِ‬ ‫ـم العجــز وعــدم القــدرة علــى فعــل أي شــيء يف حالــة مــن‬ ‫أســير ْ‬ ‫الجرب َّيــة القاتلــة‪ ،‬وقــد تجــد بعضهــم يعيــش عقــدة المؤامــرة يف كل‬ ‫األمــور‪ ،‬فــا ينطلــق إال منهــا وال يفســر األحــداث إال علــى ضوئهــا‪،‬‬ ‫فتضيــق عنــده فرجــة األمــل يف التغييــر والتمكيــن‪.‬‬

‫وإن مــن أشــكال تجــاوز الشــرع يف ذلــك أن ُيرتكــب المحــرم شــر ًعا‬ ‫بذريعــة التوصــل بذلــك إلــى دفــع الفتــن ومنــع أســباهبا‪ ،‬وليــس ذلــك‬ ‫مــن الشــرع يف شــيء؛ فقــد امتنــع النبــي صلــى اهلل عليــه وســلم عــن‬ ‫قتــل ابــن صيــاد رغــم مــا كان يعملــه‪ ،‬وقــد اشــتبهوا أنــه الدجــال فقــال‬ ‫عليــه الصــاة والســام لعمــر‪« :‬إن يكنــه فلــن تســلط عليــه»(‪ ،((4‬ولــم‬ ‫يقتــل مســيلمة وقــد وفــد عليــه مــع قومــه بنــي حنيفــة يف آخــر حياتــه‬ ‫عليــه الصــاة الســام؛ ألنــه لــم يفعــل مــا يوجــب قتلــه وإن علــم أنــه‬ ‫يف المســتقبل ســتقع علــى يديــه فتنــة كبيــرة(‪ ،((4‬وقــد اعــرض علــى‬ ‫قســمته ذو الخويصــرة فقــال‪ :‬هــذه قســمة مــا أريــد هبــا وجــه اهلل‪ ،‬فلمــا‬ ‫ق َّفــى قــال عليــه الصــاة والســام‪« :‬يخــرج مــن ضئضــئ هــذا قــوم‬ ‫تحقــرون صالتكــم إلــى صالهتــم» إلــى أن قــال‪« :‬يمرقــون مــن الديــن‬ ‫كمــا يمــرق الســهم مــن الرم ّيــة‪ ،‬واهلل لئــن أدركتهــم ألقتلنهــم قتــل عــاد‬ ‫وإرم»(‪ ((4‬والمــراد هبــؤالء الخــوارج‪ ،‬فقــد علــم عليــه الصــاة والســام‬ ‫فيمــا ع ّلمــه اهلل أن مــن نســل هــذا ســتكون بدايــة فتنــة الخــوارج ومــع‬ ‫ذلــك لــم يأمــر بقتلــه‪ ،‬ومــن جهلــة الشــيعة الروافــض اليــوم مــن يقتلون‬ ‫األبريــاء بحجــة أن المهــدي يخــرج عنــد كثرة الهــرج والقتــل فيكثرون‬ ‫القتــل تعجـ ًـا لخروجــه‪ ،‬ومنهــم مــن يســمح أو يــرر هجــرة اليهــود‬ ‫إلــى فلســطين بدعــوى جمعهــم لتقــع عليهــم الملحمــة الكــرى آخــر‬ ‫ـدري‪.‬‬ ‫الزمــان‪ ،‬وهــذا أمــر محــرم شــر ًعا وال يسـ ِّـوغه الخــر القـ ّ‬ ‫أمــا إذا كانــت أســباب دفــع الفتــن مشــروعة فاإلتيــان هبــا موضــع‬ ‫اجتهــاد؛ فقــد امتنــع عــن قتــل المنافقيــن لئــا يقــال‪ :‬إن محمــدً ا يقتــل‬ ‫الضــرار الــذي بنــاه المنافقــون‪.‬‬ ‫أصحابــه‪ ،‬وحــرق مســجد ِّ‬ ‫وليــس مــن الضــرورة أن يكــون كل وصــف أو شــرط ذكــر يف أشــراط‬ ‫الســاعة شـ ًّـرا يتَّقــى أو فســا ًدا يمنع‪ ،‬فقد يكــون مجرد عالمــة‪ ،‬والمعول‬ ‫يف ذلــك علــى التحذيــر ممــا وراءه‪ ،‬وأمــا هــذا األمر فيبقــى على حكمه‬ ‫األصلـ ِّـي شــر ًعا‪ ،‬ومثالــه حديــث «ال تقــوم الســاعة حتــى تعــود أرض‬ ‫وأهنــارا»(‪ ((4‬فزراعــة األرض واســتصالحها رغبــت‬ ‫مروجــا‬ ‫العــرب‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫فيــه الشــريعة‪ ،‬فهــذا ممــا يمــدح وال يــذم‪ ،‬وذكــره هنــا مجــرد عالمــة‪،‬‬ ‫وكذلــك صــدق رؤيــا المؤمــن كمــا يف الحديــث «إذا اقــرب الزمــان لم‬ ‫تكــد رؤيــا المؤمــن تكــذب‪ ،‬وأصدقكــم رؤيا أصدقكــم حدي ًثــا‪،((4(»...‬‬

‫(‪ ((4‬متفق عليه عن ابن عمر رضي اهلل عنهما‪ :‬رواه البخاري يف كتاب الجنائز ‪ -‬باب إذا أسلم الصبي‬ ‫فمات هل يصلى عليه؟ وهل يعرض على الصبي اإلسالم؟ رقم (‪ ،)9821‬ومسلم يف كتاب الفتن وأشراط‬ ‫الساعة ‪ -‬باب ذكر ابن الصياد‪ ،‬رقم (‪.)0392‬‬ ‫(‪ ((4‬فتح الباري ( ‪ )49/8‬وما بعدها‪ ،‬وزاد المعاد ( ‪ )83/3‬وما بعدها‪.‬‬ ‫(‪ ((4‬متفق عليه عن أبي سعيد الخدري رضي اهلل عنه‪ :‬رواه البخاري يف كتاب األنبياء ‪ -‬باب قول اهلل عز‬ ‫وجل {وأما عاد‪ }...‬رقم (‪ ،)6613‬ومسلم يف كتاب الزكاة ‪ -‬باب ذكر الخوارج وصفاهتم‪ ،‬رقم (‪.)4601‬‬ ‫(‪ ((4‬أخرجه مسلم عن أبي هريرة رضي اهلل عنه‪ ،‬كتاب الزكاة ‪ -‬باب الرتغيب يف الصدقة قبل أن ال يوجد‬ ‫من يقبلها‪ ،‬رقم (‪.)751‬‬ ‫(‪ ((4‬متفق عليه عن أبي هريرة رضي اهلل عنه‪ :‬رواه البخاري يف كتاب التعبير ‪ -‬باب القيد يف المنام‪ ،‬رقم‬ ‫(‪ ،)4166‬ورواه مسلم يف كتاب الرؤيا‪ ،‬رقم (‪.) 3622‬‬

‫فوقــوع الرؤيــا يف الواقــع كمــا رئيــت وع ّبــرت ممــا يمــدح وال يــذم‪.‬‬

‫املناهج املخطئة يف التعامل‬ ‫مع أحاديث الفنت‬

‫نجــد لــدى قلــة مــن األقدميــن وكثيــر مــن المحدثيــن نمــاذج للخطــأ يف‬ ‫التعامــل مــع أحاديــث الفتــن وعالمــات الســاعة؛ ذلــك أهنــم اســتندوا يف‬ ‫ذلــك إلــى قواعــد خاطئــة‪ ،‬أو ح َّكمــوا العقــل فيمــا ال حكــم لــه فيــه أحيانًا‪،‬‬ ‫ـورا مــن تلــك األخطــاء ونمــاذج لهــا‪ ،‬فمــن تلــك األخطــاء‪:‬‬ ‫وســأذكر صـ ً‬ ‫تكذيب النصوص الصحيحة أو إنكارها‪.‬‬

‫مثــال ذلــك مــا فعلــه ابــن خلــدون ومــن تبعــه مــن المعاصريــن من إنــكاره‬ ‫ألحاديــث المهــدي مع أهنا صحيحــة رواها ما يزيد علــى ثالثين صحاب ًّيا‪،‬‬ ‫وهــي مرو َّيــة يف صحيحــي ابــن حبــان وابــن خزيمــة ومســتدرك الحاكــم‪،‬‬ ‫ويف ســنن أبــي داود وابــن ماجــة والرتمــذي والنســائي والدارقطنــي‪ ،‬ويف‬ ‫المســانيد كمســند أحمــد والبــزار وأبــي يعلــى وعبــد بــن حميــد وأبــي‬ ‫عوانــة‪ ،‬ويف مصنفــي ابــن أبــي شــيبة وعبدالــرزاق الصنعــاين ومعاجــم‬ ‫الطــراين الثالثــة‪ ،‬ويف كتــب الرجــال والســير والتاريخ كتاريخ ابن عســاكر‬ ‫وابــن الجــوزي وطبقــات ابــن ســعد ودالئــل النبــوة للبيهقــي‪ ،‬ورواهــا ابــن‬ ‫جريــر الطــري يف هتذيــب اآلثــار‪ ،‬واحتــج هبــا كبــار األئمــة مــن الفقهــاء‬ ‫والمحدثيــن والمفســرين والمؤرخيــن‪ ،‬بــل أفردهــا بعضهــم بالتصنيــف‬ ‫كنعيــم بــن حمــاد وأبــي داود السجســتاين وأبــي نعيــم األصبهــاين وابــن‬ ‫كثيــر وأبــي زرعــة العراقــي والســخاوي والســيوطي وابــن حجــر الهيتمــي‬ ‫والمــا علــي القــاري والربزنجــي والصنعــاين والســفاريني والشــوكاين‬ ‫ومحمــد صديــق خــان وغيرهــم‪ ،‬بــل جزم بصحتهــا كثير منهــم كابن تيمية‬ ‫يف (منهــاج الســنة النبويــة)‪ ،‬ومثلــه القاضي عيــاض يف (الشــفا)‪ ،‬والقرطبي‬ ‫المفســر وابــن حجــر يف (فتــح البــاري)‪ ،‬وجــزم الشــوكاين والربزنجــي‬ ‫والســفاريني والكتــاين بتواترهــا (التواتــر المعنــوي)‪ ،‬قــال الشــوكاين‪:‬‬ ‫(واألحاديــث الــواردة يف المهــدي التــي أمكــن الوقــوف عليهــا منهــا‬ ‫خمســون حدي ًثــا‪ ،‬فيهــا الصحيــح والحســن والضعيــف المنجــر‪ ،‬وهــي‬ ‫متواتــرة بــا شــك وال شــبهة‪ ،‬بــل يصــدق وصــف التواتــر علــى مــا دوهنــا‬ ‫علــى جميــع االصطالحــات المحــررة يف األصــول)(‪ ((5‬وقــال المحــدث‬ ‫صديــق حســن خــان القنوجــي‪( :‬واألحاديــث الــواردة يف المهــدي ‪-‬علــى‬ ‫اختــاف رواياهتــا‪ -‬كثيــرة جــدًّ ا تبلــغ حــدَّ التَّواتــر)(‪ ((5‬ويقــول المحــدث‬ ‫الكتــاين‪( :‬األحاديــث الــواردة يف المهــدي المنتظــر متواتــرة)(‪ ((5‬وليــس‬ ‫المجــال هنــا لســرد هــذه األحاديــث ومناقشــة المخالفيــن وبيــان الفــرق‬ ‫ـاص‪.‬‬ ‫بيــن مهــدي الســنة ومهــدي الشــيعة فهــذا يحتــاج إلــى بحــث خـ ّ‬ ‫رد بعض األحاديث الصحيحة بدعاوى مختلفة‪.‬‬

‫مــن ذلــك رد حديــث الزبيــر بــن عــدي‪ :‬أتينــا أنــس بــن مالــك رضــي اهلل‬

‫(‪ ((5‬نقله عنه يف كتاب اإلذاعة ( ‪ ،)311‬ونقل مثله عن الشوكاين يف تحفة األحوذي ( ‪.)484/6‬‬ ‫(‪ ((5‬اإلذاعة لما كان وما يكون بين يدي الساعة ( ‪.)211‬‬ ‫(‪ ((5‬نظم المتناثر من الحديث المتواتر ( ‪.)741‬‬

‫‪9‬‬


‫منهجية التعامل مع أحاديث الفتن‬ ‫الحســن ومعاويــة رضــي اهلل عنهمــا‪ ،‬وتنــازل فيــه الحســن رضــي اهلل‬ ‫وسـ ِّـمي ذلــك‬ ‫عنــه عــن الخالفــة لمعاويــة بــن أبــي ســفيان عــام ‪41‬هـــ‪ُ ،‬‬ ‫العــام عــام الجماعــة‪ ،‬ويمكــن القطــع ّ‬ ‫بــأن المقصــود مــن حديــث‬ ‫«أشــرف النبــي صلــى اهلل عليــه وســلم علــى أطــم فقــال‪ :‬هــل تــرون‬ ‫مــا أرى؟ قالــوا‪ :‬ال‪ ،‬قــال‪ :‬فــإين ألرى مواقــع الفتــن خــال بيوتكــم‬ ‫كمواقــع القطــر)(‪ ((3‬مــا وقــع وجــرى بيــن الصحابــة رضــوان اهلل عليهــم‬ ‫مــن فتــن واقتتــال يف أواخــر خالفــة عثمــان ويف خالفــة علــي رضــي اهلل‬ ‫عنهمــا ومــا حصــل بعــد ذلــك‪ ،‬قــال النــووي يف شــرحه لهــذا الحديث‪:‬‬ ‫(والتشــبيه بمواقــع القطــر يف الكثــرة والعمــوم‪ ،‬أي إهنــا كثيــرة وتعــم‬ ‫النــاس ال تختــص هبــا طائفــة‪ ،‬وهــذا إشــارة إلــى الحــروب الجاريــة‬ ‫والحــرة ومقتــل عثمــان ومقتــل‬ ‫بينهــم كوقعــة الجمــل وصفيــن‬ ‫ّ‬ ‫الحســين رضــي اهلل عنهمــا‪ ،‬وهــي معجــزة ظاهــرة لــه صلــى اهلل عليــه‬ ‫وســلم)(‪.((3‬‬ ‫وإذا لــم يســتكمل األمــر أوصافــه وكان محتمـ ًـا لهــذا الحــدث وغيره‬ ‫فــا نقطــع بــه‪ ،‬ويجــوز التنزيــل علــى ســبيل الظــن‪ ،‬مثالــه مــا صــح مــن‬ ‫حديــث أســماء بنــت أبــي بكــر رضــي اهلل عنهمــا يف قصــة مقتــل ابنهــا‬ ‫عبــداهلل بــن الزبيــر‪ ،‬فقــد وقفــت وخاطبت الحجــاج فقالت‪ :‬إن رســول‬ ‫اهلل صلــى اهلل عليــه وســلم حدثنــا فقــال‪« :‬إن يف ثقيــف ّ‬ ‫كذا ًبــا ومبيـ ًـرا‪،‬‬ ‫فأ ّمــا الكــذاب فرأينــاه ‪-‬وتعنــي المختــار بــن أبــي عبيــد الثقفــي‪ -‬وأمــا‬ ‫المبيــر فــا إخالــك إال إيــاه»(‪ ((3‬فجزمــت يف األول ولــم تجــزم يف الثاين‪،‬‬ ‫والمبيــر‪ :‬المهلــك‪ ،‬وكذلــك ظــن الصحابــة رضــي اهلل عنهــم ّ‬ ‫أن ابــن‬ ‫صيــاد هــو الدجــال الــذي نعتــه لهــم عليــه الصــاة والســام‪ ،‬ولــم‬ ‫َيجزمــوا يف أمــره إثبا ًتــا وال نف ًيــا(‪.((3‬‬ ‫الضابــط الســادس‪ :‬ال يمنــع الحديــث عــن الفتــن مــن بــاب التحذيــر‪،‬‬ ‫لكــن مــع عــدم الخــوض يف التنزيــل علــى الواقــع‪.‬‬

‫األحاديــث العامــة التــي جــاءت بأوصــاف يمكــن أن توجــد يف كل‬ ‫عصــر مــع اختــاف نســب وجودهــا بحيــث تصبــح ظاهــرة عامــة‬ ‫يف عصــر دون عصــر ينبغــي ذكرهــا وتحذيــر النــاس مــن الوقــوع يف‬ ‫المحظــورات التــي نصــت عليهــا‪ ،‬فقــد جــاء يف بعــض األحاديــث‪:‬‬ ‫«إذا ُض ِّيعــت األمانــة فانتظــر الســاعة‪ ،‬فقيــل‪ :‬كيــف إضاعتهــا؟ قــال‪:‬‬ ‫إذا أســند األمــر إلــى غيــر أهلــه»(‪ ((3‬ولكــن إذا تر َّتــب علــى التحديــث‬ ‫هبــا ســوء فهــم أو فتنــة أو تكذيــب فاألولــى اإلمســاك عــن التحديــث‬ ‫هبــا كمــا قــال أبــو هريــرة رضــي اهلل عنــه‪« :‬حفظــت مــن رســول اهلل‬ ‫جرابيــن‪ :‬فأ َّمــا أحدهمــا فبثثتــه‪ ،‬وأمــا اآلخــر فلــو بثثتــه لقطــع هــذا‬ ‫(‪ ((3‬أخرجه مسلم عن أسامة بن زيد رضي اهلل عنه‪ ،‬كتاب الفتن وأشراط الساعة ‪ -‬باب نزول الفتن‬ ‫كمواقع القطر‪ ،‬رقم (‪.)5882‬‬ ‫(‪ ((3‬شرح صحيح مسلم‪ :‬النووي (‪.)8/81‬‬ ‫(‪ ((3‬أخرجه مسلم عن أبي نوفل‪ ،‬كتاب فضائل الصحابة رضي اهلل عنهم ‪ -‬باب ذكر كذاب ثقيف‬ ‫ومبيرها‪ ،‬رقم (‪.)5452‬‬ ‫(‪ ((3‬متفق عليه عن ابن عمر رضي اهلل عنهما‪ :‬البخاري يف كتاب الجنائز ‪ -‬باب إذا أسلم الصبي فمات هل‬ ‫يصلى عليه وهل يعرض على الصبي اإلسالم؟ رقم (‪ ،)9821‬ومسلم يف كتاب الفتن وأشراط الساعة ‪-‬‬ ‫باب ذكر ابن الصياد‪ ،‬رقم (‪.)0392‬‬ ‫(‪ ((3‬أخرجه البخاري عن أبي هريرة رضي اهلل عنه‪ ،‬كتاب الرقاق ‪ -‬باب رفع األمانة‪ ،‬رقم (‪.)1316‬‬

‫‪8‬‬

‫البلعــوم»(‪ ((4‬وهكــذا فعــل حذيفــة بــن اليمــان عندمــا أومــأ إلــى البــاب‬ ‫الــذي يكســر وال يغلــق يف الفتنــة عندمــا ســأله عمــر رضــي اهلل عنــه(‪،((4‬‬ ‫والــذي حمــل حذيفــة علــى كتمــان بعــض مــا أخــره بــه النبـ ُّـي ‪-‬عليــه‬ ‫الصــاة والســام‪ -‬مــا يرتتــب علــى التحديــث بذلــك مــن فتــن كبيــرة‪،‬‬ ‫وعلــى العمــوم مــن أراد تحذيــر النــاس مــن الفتــن ينبغــي أن يكــون‬ ‫حكيمــا بحيــث ال يوقــع النــاس يف اليــأس والقنــوط؛ فيرتكــوا العمــل‪.‬‬ ‫ً‬ ‫الضابط السابع‪ :‬ما أشكل علينا تأويله نكل علمه إلى اهلل تعالى‪.‬‬

‫علــى المســلم أال يتعجــل يف إنــكار مــا ثبــت مــن أحاديــث الفتــن ثبو ًتــا‬ ‫صحيحــا‪ ،‬وأال يتكلــف تأويلــه بنــاء علــى الواقــع الــذي يعيشــه‪ ،‬فــإن‬ ‫ً‬ ‫الواقــع يتطــور ومفــردات األشــياء التــي يتعامــل هبــا البشــر تتغيــر‪ ،‬ويف‬ ‫هــذا يقــول اإلمــام الغزالــي رحمــه اهلل‪( :‬لــو ســكت مــن ال يعــرف قـ َّـل‬ ‫االختــاف‪ ،‬ومــن قصــر باعــه وضــاق نظــره عــن كالم العلمــاء فمــا لــه‬ ‫وللتكلــم فيمــا ال يدريــه والدخــول فيمــا ال يعنيــه؟)(‪ ،((4‬ومثــال ذلــك‬ ‫مــا ورد يف وصــف االقتتــال آخــر الزمــان واألســلحة التــي يســتعملوهنا‬ ‫كالســيوف والــروس والرمــاح والخيــول‪ ،‬فقــد ورد ذلــك يف أحاديــث‬ ‫(‪((4‬‬ ‫صحيحــة منهــا يف صحيــح مســلم «وقــد علقــوا ســيوفهم بالزيتــون»‬ ‫فبعضهــم يــرى أن التقــدم الــذي عليــه البشــر ســيزول‪ ،‬وســتدمر‬ ‫البشــرية نفســها ويعــود النــاس كســابق عهدهــم يف الحــروب وأدواهتــا‪،‬‬ ‫ـأول هــذه األوصــاف ويجعلهــا مــن بــاب ضــرب المثــل‬ ‫وبعضهــم يتـ ّ‬ ‫فتعليــق الســيوف أي الســاح الفــردي مثـ ًـا وهكــذا‪ ،‬ونحــن نقــول‪:‬‬ ‫اهلل أعلــم والخــوض يف هــذا ال يقــدم وال يؤخــر‪ ،‬فــإذا وقــع األمــر‬ ‫كان علــى المســلمين أن يعــدوا مــا اســتطاعوا مــن قــوة بحســب عــرف‬ ‫زماهنــم ووســائله‪.‬‬ ‫القدري‪.‬‬ ‫الشرعي تذر ًعا بالخرب‬ ‫الضابط الثامن‪ :‬ال نعطل األمر‬ ‫ِّ‬ ‫َّ‬

‫ـرعي مــن كثيــر مــن‬ ‫حصــل الخلــط بيــن الخــر القـ ِّ‬ ‫ـدري واألمــر الشـ ِّ‬ ‫النــاس يف عصرنــا نظـ ًـرا للجهــل الــذي يشــيع يف طوائــف مــن النــاس‪،‬‬ ‫ـارا للمهــدي‪ ،‬وتجــد‬ ‫فتجــد مــن يعطــل األحــكام ويــرك العمــل انتظـ ً‬ ‫مــن النــاس مــن خالطــه اليــأس وترك الســعي بحجــة أن األمــور تمضي‬ ‫نحــو النهايــة؛ فــا فائــدة مــن طــاء ســفينة آيلــة للغــرق‪ ،‬متناسـ ًيا قولــه‬ ‫عليــه الصــاة والســام‪« :‬إذا قامــت الســاعة ويف يــد أحدكــم فســيلة‬ ‫فليغرســها»(‪ ،((4‬ومنهــم مــن جلــس ينتظــر الخــوارق والمخ ّلــص‬ ‫البطــل‪ ،‬فع ّطــل دوره ونســي أن الحيــاة ابتــاء للجميــع وأن مــن ّ‬ ‫بشــر‬ ‫هبــم عليــه الصــاة والســام ســيولدون والدة طبيعيــة‪ ،‬ويمضــون‬ ‫وفــق الســنن الربان ّيــة ويصنعــون قيــادة لقاعــدة صلبــة موجــودة وألمــة‬ ‫اســتكملت شــروط النصــر وبقــي مــن يقودهــا إليــه‪ ،‬وبعضهــم وقــع‬ ‫(‪ ((4‬أخرجه البخاري عن أبي هريرة رضي اهلل عنه‪ ،‬كتاب العلم ‪ -‬باب حفظ العلم‪ ،‬رقم (‪.)021‬‬ ‫(‪ ((4‬رواه البخاري عن حذيفة بن اليمان رضي اهلل عنه‪ ،‬كتاب الفتن ‪ -‬باب الفتنة التي تموج كموج البحر‪،‬‬ ‫رقم (‪.)3866‬‬ ‫(‪ ((4‬الحاوي للفتاوى‪ :‬السيوطي ( ‪.)611/2‬‬ ‫(‪ ((4‬أخرجه مسلم عن أبي هريرة رضي اهلل عنه‪ ،‬كتاب الفتن وأشراط الساعة ‪ -‬باب يف فتح قسطنطينية‬ ‫وخروج الدجال ونزول عيسى ابن مريم‪ ،‬رقم (‪.)7982‬‬ ‫(‪ ((4‬أخرجه أحمد عن أنس رضي اهلل عنه‪ ،‬مسند المكثرين من الصحابة ‪ -‬مسند أنس بن مالك‪ ،‬رقم‬ ‫(‪.)40031‬‬

‫منهجية التعامل مع أحاديث الفتن‬ ‫وهـ ِ‬ ‫ـم العجــز وعــدم القــدرة علــى فعــل أي شــيء يف حالــة مــن‬ ‫أســير ْ‬ ‫الجرب َّيــة القاتلــة‪ ،‬وقــد تجــد بعضهــم يعيــش عقــدة المؤامــرة يف كل‬ ‫األمــور‪ ،‬فــا ينطلــق إال منهــا وال يفســر األحــداث إال علــى ضوئهــا‪،‬‬ ‫فتضيــق عنــده فرجــة األمــل يف التغييــر والتمكيــن‪.‬‬

‫وإن مــن أشــكال تجــاوز الشــرع يف ذلــك أن ُيرتكــب المحــرم شــر ًعا‬ ‫بذريعــة التوصــل بذلــك إلــى دفــع الفتــن ومنــع أســباهبا‪ ،‬وليــس ذلــك‬ ‫مــن الشــرع يف شــيء؛ فقــد امتنــع النبــي صلــى اهلل عليــه وســلم عــن‬ ‫قتــل ابــن صيــاد رغــم مــا كان يعملــه‪ ،‬وقــد اشــتبهوا أنــه الدجــال فقــال‬ ‫عليــه الصــاة والســام لعمــر‪« :‬إن يكنــه فلــن تســلط عليــه»(‪ ،((4‬ولــم‬ ‫يقتــل مســيلمة وقــد وفــد عليــه مــع قومــه بنــي حنيفــة يف آخــر حياتــه‬ ‫عليــه الصــاة الســام؛ ألنــه لــم يفعــل مــا يوجــب قتلــه وإن علــم أنــه‬ ‫يف المســتقبل ســتقع علــى يديــه فتنــة كبيــرة(‪ ،((4‬وقــد اعــرض علــى‬ ‫قســمته ذو الخويصــرة فقــال‪ :‬هــذه قســمة مــا أريــد هبــا وجــه اهلل‪ ،‬فلمــا‬ ‫ق َّفــى قــال عليــه الصــاة والســام‪« :‬يخــرج مــن ضئضــئ هــذا قــوم‬ ‫تحقــرون صالتكــم إلــى صالهتــم» إلــى أن قــال‪« :‬يمرقــون مــن الديــن‬ ‫كمــا يمــرق الســهم مــن الرم ّيــة‪ ،‬واهلل لئــن أدركتهــم ألقتلنهــم قتــل عــاد‬ ‫وإرم»(‪ ((4‬والمــراد هبــؤالء الخــوارج‪ ،‬فقــد علــم عليــه الصــاة والســام‬ ‫فيمــا ع ّلمــه اهلل أن مــن نســل هــذا ســتكون بدايــة فتنــة الخــوارج ومــع‬ ‫ذلــك لــم يأمــر بقتلــه‪ ،‬ومــن جهلــة الشــيعة الروافــض اليــوم مــن يقتلون‬ ‫األبريــاء بحجــة أن المهــدي يخــرج عنــد كثرة الهــرج والقتــل فيكثرون‬ ‫القتــل تعجـ ًـا لخروجــه‪ ،‬ومنهــم مــن يســمح أو يــرر هجــرة اليهــود‬ ‫إلــى فلســطين بدعــوى جمعهــم لتقــع عليهــم الملحمــة الكــرى آخــر‬ ‫ـدري‪.‬‬ ‫الزمــان‪ ،‬وهــذا أمــر محــرم شــر ًعا وال يسـ ِّـوغه الخــر القـ ّ‬ ‫أمــا إذا كانــت أســباب دفــع الفتــن مشــروعة فاإلتيــان هبــا موضــع‬ ‫اجتهــاد؛ فقــد امتنــع عــن قتــل المنافقيــن لئــا يقــال‪ :‬إن محمــدً ا يقتــل‬ ‫الضــرار الــذي بنــاه المنافقــون‪.‬‬ ‫أصحابــه‪ ،‬وحــرق مســجد ِّ‬ ‫وليــس مــن الضــرورة أن يكــون كل وصــف أو شــرط ذكــر يف أشــراط‬ ‫الســاعة شـ ًّـرا يتَّقــى أو فســا ًدا يمنع‪ ،‬فقد يكــون مجرد عالمــة‪ ،‬والمعول‬ ‫يف ذلــك علــى التحذيــر ممــا وراءه‪ ،‬وأمــا هــذا األمر فيبقــى على حكمه‬ ‫األصلـ ِّـي شــر ًعا‪ ،‬ومثالــه حديــث «ال تقــوم الســاعة حتــى تعــود أرض‬ ‫وأهنــارا»(‪ ((4‬فزراعــة األرض واســتصالحها رغبــت‬ ‫مروجــا‬ ‫العــرب‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫فيــه الشــريعة‪ ،‬فهــذا ممــا يمــدح وال يــذم‪ ،‬وذكــره هنــا مجــرد عالمــة‪،‬‬ ‫وكذلــك صــدق رؤيــا المؤمــن كمــا يف الحديــث «إذا اقــرب الزمــان لم‬ ‫تكــد رؤيــا المؤمــن تكــذب‪ ،‬وأصدقكــم رؤيا أصدقكــم حدي ًثــا‪،((4(»...‬‬

‫(‪ ((4‬متفق عليه عن ابن عمر رضي اهلل عنهما‪ :‬رواه البخاري يف كتاب الجنائز ‪ -‬باب إذا أسلم الصبي‬ ‫فمات هل يصلى عليه؟ وهل يعرض على الصبي اإلسالم؟ رقم (‪ ،)9821‬ومسلم يف كتاب الفتن وأشراط‬ ‫الساعة ‪ -‬باب ذكر ابن الصياد‪ ،‬رقم (‪.)0392‬‬ ‫(‪ ((4‬فتح الباري ( ‪ )49/8‬وما بعدها‪ ،‬وزاد المعاد ( ‪ )83/3‬وما بعدها‪.‬‬ ‫(‪ ((4‬متفق عليه عن أبي سعيد الخدري رضي اهلل عنه‪ :‬رواه البخاري يف كتاب األنبياء ‪ -‬باب قول اهلل عز‬ ‫وجل {وأما عاد‪ }...‬رقم (‪ ،)6613‬ومسلم يف كتاب الزكاة ‪ -‬باب ذكر الخوارج وصفاهتم‪ ،‬رقم (‪.)4601‬‬ ‫(‪ ((4‬أخرجه مسلم عن أبي هريرة رضي اهلل عنه‪ ،‬كتاب الزكاة ‪ -‬باب الرتغيب يف الصدقة قبل أن ال يوجد‬ ‫من يقبلها‪ ،‬رقم (‪.)751‬‬ ‫(‪ ((4‬متفق عليه عن أبي هريرة رضي اهلل عنه‪ :‬رواه البخاري يف كتاب التعبير ‪ -‬باب القيد يف المنام‪ ،‬رقم‬ ‫(‪ ،)4166‬ورواه مسلم يف كتاب الرؤيا‪ ،‬رقم (‪.) 3622‬‬

‫فوقــوع الرؤيــا يف الواقــع كمــا رئيــت وع ّبــرت ممــا يمــدح وال يــذم‪.‬‬

‫املناهج املخطئة يف التعامل‬ ‫مع أحاديث الفنت‬

‫نجــد لــدى قلــة مــن األقدميــن وكثيــر مــن المحدثيــن نمــاذج للخطــأ يف‬ ‫التعامــل مــع أحاديــث الفتــن وعالمــات الســاعة؛ ذلــك أهنــم اســتندوا يف‬ ‫ذلــك إلــى قواعــد خاطئــة‪ ،‬أو ح َّكمــوا العقــل فيمــا ال حكــم لــه فيــه أحيانًا‪،‬‬ ‫ـورا مــن تلــك األخطــاء ونمــاذج لهــا‪ ،‬فمــن تلــك األخطــاء‪:‬‬ ‫وســأذكر صـ ً‬ ‫تكذيب النصوص الصحيحة أو إنكارها‪.‬‬

‫مثــال ذلــك مــا فعلــه ابــن خلــدون ومــن تبعــه مــن المعاصريــن من إنــكاره‬ ‫ألحاديــث المهــدي مع أهنا صحيحــة رواها ما يزيد علــى ثالثين صحاب ًّيا‪،‬‬ ‫وهــي مرو َّيــة يف صحيحــي ابــن حبــان وابــن خزيمــة ومســتدرك الحاكــم‪،‬‬ ‫ويف ســنن أبــي داود وابــن ماجــة والرتمــذي والنســائي والدارقطنــي‪ ،‬ويف‬ ‫المســانيد كمســند أحمــد والبــزار وأبــي يعلــى وعبــد بــن حميــد وأبــي‬ ‫عوانــة‪ ،‬ويف مصنفــي ابــن أبــي شــيبة وعبدالــرزاق الصنعــاين ومعاجــم‬ ‫الطــراين الثالثــة‪ ،‬ويف كتــب الرجــال والســير والتاريخ كتاريخ ابن عســاكر‬ ‫وابــن الجــوزي وطبقــات ابــن ســعد ودالئــل النبــوة للبيهقــي‪ ،‬ورواهــا ابــن‬ ‫جريــر الطــري يف هتذيــب اآلثــار‪ ،‬واحتــج هبــا كبــار األئمــة مــن الفقهــاء‬ ‫والمحدثيــن والمفســرين والمؤرخيــن‪ ،‬بــل أفردهــا بعضهــم بالتصنيــف‬ ‫كنعيــم بــن حمــاد وأبــي داود السجســتاين وأبــي نعيــم األصبهــاين وابــن‬ ‫كثيــر وأبــي زرعــة العراقــي والســخاوي والســيوطي وابــن حجــر الهيتمــي‬ ‫والمــا علــي القــاري والربزنجــي والصنعــاين والســفاريني والشــوكاين‬ ‫ومحمــد صديــق خــان وغيرهــم‪ ،‬بــل جزم بصحتهــا كثير منهــم كابن تيمية‬ ‫يف (منهــاج الســنة النبويــة)‪ ،‬ومثلــه القاضي عيــاض يف (الشــفا)‪ ،‬والقرطبي‬ ‫المفســر وابــن حجــر يف (فتــح البــاري)‪ ،‬وجــزم الشــوكاين والربزنجــي‬ ‫والســفاريني والكتــاين بتواترهــا (التواتــر المعنــوي)‪ ،‬قــال الشــوكاين‪:‬‬ ‫(واألحاديــث الــواردة يف المهــدي التــي أمكــن الوقــوف عليهــا منهــا‬ ‫خمســون حدي ًثــا‪ ،‬فيهــا الصحيــح والحســن والضعيــف المنجــر‪ ،‬وهــي‬ ‫متواتــرة بــا شــك وال شــبهة‪ ،‬بــل يصــدق وصــف التواتــر علــى مــا دوهنــا‬ ‫علــى جميــع االصطالحــات المحــررة يف األصــول)(‪ ((5‬وقــال المحــدث‬ ‫صديــق حســن خــان القنوجــي‪( :‬واألحاديــث الــواردة يف المهــدي ‪-‬علــى‬ ‫اختــاف رواياهتــا‪ -‬كثيــرة جــدًّ ا تبلــغ حــدَّ التَّواتــر)(‪ ((5‬ويقــول المحــدث‬ ‫الكتــاين‪( :‬األحاديــث الــواردة يف المهــدي المنتظــر متواتــرة)(‪ ((5‬وليــس‬ ‫المجــال هنــا لســرد هــذه األحاديــث ومناقشــة المخالفيــن وبيــان الفــرق‬ ‫ـاص‪.‬‬ ‫بيــن مهــدي الســنة ومهــدي الشــيعة فهــذا يحتــاج إلــى بحــث خـ ّ‬ ‫رد بعض األحاديث الصحيحة بدعاوى مختلفة‪.‬‬

‫مــن ذلــك رد حديــث الزبيــر بــن عــدي‪ :‬أتينــا أنــس بــن مالــك رضــي اهلل‬

‫(‪ ((5‬نقله عنه يف كتاب اإلذاعة ( ‪ ،)311‬ونقل مثله عن الشوكاين يف تحفة األحوذي ( ‪.)484/6‬‬ ‫(‪ ((5‬اإلذاعة لما كان وما يكون بين يدي الساعة ( ‪.)211‬‬ ‫(‪ ((5‬نظم المتناثر من الحديث المتواتر ( ‪.)741‬‬

‫‪9‬‬


‫منهجية التعامل مع أحاديث الفتن‬ ‫عنــه فشــكونا إليــه مــا نلقــى مــن الحجــاج فقــال‪« :‬اصــروا‪ ،‬فإنــه ال يــأيت‬ ‫عليكــم زمــان إال الــذي بعــده شـ ٌّـر منــه حتــى تلقــوا ربكــم‪ ،‬ســمعته مــن‬ ‫نب ّيكــم صلــى اهلل عليــه وســلم»(‪ ((5‬فمــع أنــه حديــث صحيــح ر َّده بعضهــم‬ ‫بحجــة أنــه يوقــع يف اليــأس واإلحبــاط‪ ،‬وكذلــك احتجــوا ّ‬ ‫بــأن الواقــع‬ ‫التاريخــي يخالفــه؛ فقــد كان عهــد عمــر بــن عبــد العزيــز خيـ ًـرا مــن العهــد‬ ‫الــذي قبلــه با ّتفــاق‪ ،‬وســيأيت عهــد عيســى عليــه الســام والمهــدي فيكــون‬ ‫خيــرا مــن زمــن الدجــال والــذي قبلــه‪ ،‬ولقــد أورد هــذا اإلشــكال ابــن‬ ‫ً‬ ‫حجــر(‪ ،((5‬فبيــن أن المقصــود بالزمــان المذكــور عصــر الصحابــة ألهنــم‬ ‫هــم المخاطبــون هبــذا اللفــظ «ال يــأيت عليكــم»‪ ،‬وهــذا مــا حمل ابــن حبان‬ ‫علــى القــول يف صحيحــه‪ :‬إن هــذا ليــس علــى عمومــه بــل هــو مــن العــام‬ ‫المخصــوص‪ ،‬وحملــه الحســن البصــري علــى األغلــب‪ ،‬أو يحمــل علــى‬ ‫المجمــوع ال الجميــع؛ فقــد كان يف عهــد الحجــاج جماعــة مــن الصحابة‪.‬‬ ‫مصادمة القطعي من النصوص‪.‬‬

‫مــن الصــور الخاطئــة للتعامــل مــع أحاديــث الفتــن وأشــراط الســاعة‬ ‫االعتمــاد علــى روايــات تخالــف القطعــي مــن أمــور ديننــا‪ ،‬مثــال ذلــك‬ ‫حديــث أنـ ٍ‬ ‫ـاس عن عمــر الدنيا وميعــاد قيام الســاعة‪ ،‬ســواء أكان اعتمادهم‬ ‫الجمــل أو الــرؤى أو التأويــل‪ ،‬فهــذا‬ ‫علــى األحاديــث الواهيــة أو حســاب ّ‬ ‫البحــث مرفــوض مــن أصلــه ألنــه يناقــض القطع ّيــات يف الكتــاب والســنة‬ ‫ثبو ًتــا وداللـةً؛ ذلــك أن اهلل اســتأثر بعلــم الســاعة ولــم ُيطلــع عليهــا ملـ ًكا‬ ‫مقر ًبــا وال نب ًّيــا مرسـ ًـا‪ ،‬قــال تعالى‪َ ﴿ :‬ي ْسـ َـأ ُلون َ​َك َعـ ِ‬ ‫الســا َع ِة َأ َّي َ‬ ‫ـاها‬ ‫ان ُم ْر َسـ َ‬ ‫ـن َّ‬ ‫ّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ُقـ ْـل إن َ​َّمــا ع ْل ُم َهــا عنْــدَ َر ِّبــي َل ُي َج ِّل َيهــا ل َو ْقت َهــا إ َّل ُهـ َـو﴾ [ســورة األعــراف‪:‬‬ ‫آيــة ‪ ]187‬وقــد اســتدل البعــض لتعييــن وقــت قيــام الســاعة بمــا روي على‬ ‫أنــه حديــث «الدنيــا ســبعة آالف ســنة»‪ ،‬وهــو مــا بيــن موضــوع وشــديد‬ ‫الضعــف بــا شــك‪ ،‬حتــى إن مــن رواه مــن المحدثيــن كالحاكــم وغيــره‬ ‫نقلــه علــى أنــه مــن كالم اليهــود وليــس مــن كالمــه عليــه الصالة والســام‪،‬‬ ‫وال تصــح مقولتهــم تلــك لمصادمــة القطعـ ِّـي مــن نصوصنــا‪ ،‬وقــد وقــع‬ ‫بعــض أفاضــل العلمــاء يف هــذا الخطــأ كاإلمــام الســيوطي يف كتابــه‬ ‫(الكشــف عــن مجــاوزة هــذه األمــة األلــف)(‪ ((5‬فتحــدث عن تواريــخ لقيام‬ ‫الســاعة‪ ،‬وإن مصادمــة هكــذا مرو ّيــات لقطع ّيــات الديــن مــن عالمــات‬ ‫الحكـ ِـم الظاهــر علــى الروايــة بالوضــع أو الضعــف عنــد أهــل الســنة‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫االعتماد على األحاديث الواهية أو الموضوعة‪.‬‬

‫مــن الصــور الخاطئــة إلثبــات الفتــن وأشــراط الســاعة االعتمــاد علــى‬ ‫المرويــات الواهيــة والموضوعــة يف ذلــك‪ ،‬ومنهــا كتــاب الفتــن لإلمــام‬ ‫حمــاد المــروزي ‪229‬هـــ؛ فقــد تكلــم يف ذلــك كثيــر مــن أهــل‬ ‫نُعيــم بــن ّ‬ ‫العلــم‪ ،‬قــال اإلمــام الذهبــي‪( :‬نُعيــم مــن كبــار أوعيــة العلــم لكــن ال تركــن‬ ‫النفــس إلــى رواياتــه)(‪ ((5‬ثــم قــال‪( :‬وقــد صنــف يف الفتــن‪ ،‬فأتــى بعجائــب‬ ‫(‪ ((5‬أخرجه البخاري عن الزبير بن عدي يف كتاب الفتن ‪ -‬باب ال يأيت زمان إال الذي بعده شر منه‪ ،‬رقم‬ ‫(‪.)7566‬‬ ‫(‪ ((5‬انظر فتح الباري ( ‪.)12/31‬‬ ‫(‪ ((5‬أورده السيوطي يف الحاوي للفتاوى ( ‪.)68/2‬‬ ‫(‪ ((5‬سير أعالم النبالء ( ‪.)006/01‬‬

‫‪10‬‬

‫ومناكيــر)(‪ ،((5‬وهــذا مــا حمــل كبــار المحدثيــن كالخطيــب البغــدادي على‬ ‫التحفــظ علــى الكثيــر ممــا ورد يف الفتــن والمالحــم وأشــراط الســاعة‬ ‫فقــال‪( :‬وليــس يصــح يف ذكــر المالحــم المرتقبــة والفتــن المنتظــرة غيــر‬ ‫أحاديــث يســيرة اتصلــت أســانيدها إلــى الرســول صلــى اهلل عليــه وســلم‬ ‫مــن وجــوه مرض ّيــة وطــرق واضحــة جل ّيــة)(‪.((5‬‬ ‫تحريف دالالت النصوص بالتأويالت البعيدة الفاسدة‪.‬‬

‫جــاء يف الحديــث الــذي ذكــره ابــن القيــم وصححــه لتعــدد طرقــه‪ ،‬ونقــل‬ ‫تصحيــح أحمــد لــه عــن إبراهيــم بــن عبــد الرحمــن العــذري‪ ،‬قــال‪ :‬قــال‬ ‫رســول اهلل صلــى اهلل عليــه وســلم‪« :‬يحمــل هــذا العلــم مــن كل خلــف‬ ‫عدولــه‪ ،‬ينفــون عنــه تحريــف الغاليــن وانتحــال المبطليــن وتأويــل‬ ‫الجاهليــن» قــال ابــن القيــم‪( :‬فأخــر أن الغاليــن يحرفــون مــا جــاء بــه‪،‬‬ ‫يتأولونــه‬ ‫والمبطلــون ينتحلــون بباطلهــم غيــر مــا كان عليــه‪ ،‬والجاهلــون ّ‬ ‫علــى غيــر تأويلــه‪ ،‬وفســاد اإلســام مــن هــذه الطوائــف الثالثــة)(‪ ((5‬فمــن‬ ‫ّأولــه علــى وجهــه فهــو الحـ ّـق‪ ،‬ومــن ّأولــه علــى غيــر تأويلــه فقــد افــرى‬ ‫علــى اهلل ورســوله‪ ،‬فكيــف إذا اجتمــع مــع ســوء الفهــم والتأويــل ســوء‬ ‫القصــد؟‬ ‫ومــن تلــك التفســيرات الفاســدة تأويل األحاديــث التي جــاءت يف األعور‬ ‫الدجــال بــأن المقصــود هبــا المدنيــة الغربيــة؛ فهــي تنظــر إلــى اإلنســان‬ ‫بعيــن المــادة وتغفــل الجانــب الروحــي فيــه‪ ،‬فهــي حضــارة عميــاء‪،...‬‬ ‫هــذا التأويــل مخالــف لمــا أثبتتــه األحاديــث التــي ُيحكــم عليهــا بالتواتــر‬ ‫ـوي بمجموعهــا مــن أن الدجــال رجــل فــرد يغــدو ويــروح‪ ،‬ويتكلــم‬ ‫المعنـ ِّ‬ ‫ويفعــل‪ ،‬وير ِّغــب ويرهــب‪ ،‬ويجــادل ويمــاري‪ ،‬ثــم ُيقتــل بحربــة نبـ ِّـي اهلل‬ ‫عيســى عليــه الســام‪.‬‬ ‫ونــرى اليــوم عشــرات مــن الكتــب المعاصــرة للحداثييــن والعلمانييــن‬ ‫التــي َتك َّلــف أصحاهبــا تنزيــل النصــوص علــى الوقائــع بتأويــات فاســدة‬ ‫ـادي‬ ‫ـب الظهــور وإشــغال األمــة والكســب المـ ّ‬ ‫بعيــدة‪ ،‬يدفعهــم لهــذا حـ ّ‬ ‫ِ‬ ‫والمؤســف أن الكتــب التــي يؤلفها هؤالء الســفهاء تجد رواجـًــا‬ ‫المحــرم؛‬ ‫كبيــ ًـرا عند العــوام‪.‬‬ ‫وممــا يدخــل يف هــذا البــاب مــا يــراه الباحــث المســلم يف كتــب المالحــم‬ ‫والفتــن مــن عجائب اإلســرائيليات المنقولة عن كتب اليهــود والنصارى‪،‬‬ ‫فقــد توســع بعــض المشــتغلين بأخبــار الفتــن يف رواياهتــا ولــم ينضبطــوا‬ ‫ودب‪ ،‬ولــم يقــف األمــر عنــد‬ ‫ـب ّ‬ ‫بضوابــط التحديــث هبــا فجمعــوا مــا هـ ّ‬ ‫مجــرد االســتئناس هبــا بــل صــارت مجـ ً‬ ‫ـال لالســتدالل هبــا كذلــك عنــد‬ ‫قــوم‪ ،‬وهــذه آفــة قديمــة ذمهــا الخطيب البغــدادي فقــال‪( :‬ونظير مــا ذكرناه‬ ‫آن ًفــا أحاديــث المالحــم ومــا يكــون مــن الحــوادث‪ ،‬فــإن أكثرهــا موضــوع‬ ‫وج ّلهــا مصنــوع كالكتــاب المنســوب إلــى دانيــال)(‪ ((6‬وبعضهــم يعـ ّـول‬ ‫كثيـ ًـرا علــى أســفار كتــب النصــارى والعهــد القديــم‪ ،‬ومــن اإلســرائيليات‬ ‫(‪ ((5‬سير أعالم النبالء ( ‪.)906/01‬‬ ‫(‪ ((5‬الجامع ألخالق الراوي وآداب السامع‪ :‬الخطيب البغدادي ( ‪.)261/1‬‬ ‫(‪ ((5‬إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان‪ :‬ابن القيم ( ‪.)951/1‬‬ ‫(‪ ((6‬الجامع ألخالق الراوي وآداب السامع‪ :‬الخطيب البغدادي ( ‪.)161/2‬‬

‫منهجية التعامل مع أحاديث الفتن‬ ‫تفسير دانيال وتفسير أشعيا وتفسير حزقيال‪.‬‬ ‫االعتماد على طرق ليس لها قيمة علمية‪.‬‬

‫مــن ذلــك االعتمــاد علــى حــروف (أبــي جــاد)‪ ،‬والمــراد هبــا (أبجــد‬ ‫هوز‪...‬إلــخ)‪ ،‬وكانــت تســتخدم طريقــة حســابية للعــد‪ ،‬ولــو بقــي األمــر‬ ‫هكــذا فــا غضاضــة فيــه‪ ،‬فهــو عــدٌّ اصطالحــي‪ ،‬واســتعمله اآلراميــون‬ ‫واألنبــاط واليهــود‪ ،‬وقــد اســتعمله المســلمون يف نظمهــم ونثرهــم كمــا‬ ‫قــال ابــن الجــزري يف منظومتــه يف التجويــد‪( :‬أبياهتــا قــاف وزاي يف العــدد)‬ ‫أي عــدد أبياهتــا مائــة وســبعة‪ ،‬فالقــاف مائــة والــزاي ســبعة‪ ،‬لكـ ْن أن تفســر‬ ‫النصــوص الدينيــة بانتقــاء بعــض كلماهتــا وعدهــا علــى هــذا النحــو فهــذا‬ ‫عــدوان علــى النصــوص ال مســتند لــه وال دليــل‪ ،‬وهــو مــن قبيــل التفســير‬ ‫زورا لجعفــر‬ ‫الباطنــي المرفــوض‪ ،‬ومنــه مــا ورد يف (الجفــر) الــذي ينســب ً‬ ‫الصــادق‪ ،‬وهــو مــن وضــع هــارون بــن ســعيد العجلــي‪ ،‬وهــو مشــحون‬ ‫بالغيبيــات التــي يقــوم كثيــر منهــا علــى هــذه الطريقــة الفاســدة‪ ،‬ورووا‬ ‫يف ذلــك أحاديــث منكــرة موضوعــة يف الحــث علــى تعلــم طريقــة (أبــي‬ ‫جــاد) واعتمادهــا يف التفســير‪ ،‬ويف ذلــك يقــول ابــن حجــر‪( :‬هــو باطــل ال‬ ‫يعتمــد عليــه‪ ،‬وال أصــل لــه يف الشــريعة)(‪ ،((6‬ومنهــم مــن زعــم أن الســاعة‬ ‫تقــوم ســنة (‪1407‬هـــ) بنــاء علــى قولــه تعالــى‪﴿ :‬ال تأتيكــم إال بغتــة﴾ بنــاء‬ ‫علــى حســاب حــروف كلمــة ﴿بغتــة﴾ بطريقــة عــدّ أبــي جــاد‪ ،‬ومــن ذلــك‬ ‫تخــرص رشــاد خليفــة (البهائــي) باعتبــاره عــام (‪1710‬هـــ) هــو عــام قيــام‬ ‫الجمــل‪.‬‬ ‫الســاعة بنــاء علــى حســاب ّ‬ ‫وكذلــك مــن الوســائل التــي ال ُتعــد مــن قواعــد العلــم مــا ســلكه بعــض‬ ‫الباحثيــن يف األحاديــث التــي جــاءت لضــرب المثــل‪ ،‬ومنهــا الحديــث‬ ‫الــذي جــاء فيــه «إنمــا أجلكــم فيمــا خــا مــن األمم كمــا بين صــاة العصر‬ ‫إلــى مغــرب الشــمس‪ ،‬وإنمــا مثلكــم ومثــل اليهــود كمثــل رجــل اســتأجر‬ ‫أجــراء فقــال‪ :‬مــن يعمــل من غــدوة إلى نصــف النهــار على قيــراط قيراط؟‬ ‫فعملــت اليهــود‪ ،‬ثــم قــال‪ :‬مــن يعمــل من نصــف النهــار إلى صــاة العصر‬ ‫علــى قيــراط قيــراط؟ فعملــت النصــارى‪ ،‬ثــم قــال‪ :‬مــن يعمــل مــن العصــر‬ ‫إلــى أن تغيــب الشــمس علــى قيراطيــن قيراطيــن؟ فأنتــم هــم»(‪ ،((6‬فأخــذ‬ ‫يعمــل حســاب ًّيا علــى عمــر أمــة اليهــود وعمــر أمــة النصــارى‪ ،‬فتبيــن لــه أن‬ ‫عمــر أمــة اإلســام بنــاء علــى هــذا الحديــث (‪900‬ســنة)؛ ذلــك أنــه عــدَّ‬ ‫عمــر أمــة اليهــود يعــادل مجمــوع عمر أمتــي النصــارى واإلســام‪ ،‬فيكون‬ ‫(‪1500‬ســنة) عمــر أمــة اليهــود ‪600( -‬ســنة) عمــر أمــة النصــارى=‬ ‫(‪900‬ســنة) عمــر أمــة اإلســام‪ ،‬ولمــا لــم يتــم لــه ذلــك يف الواقــع أضــاف‬ ‫إليــه (‪ 500‬ســنة) مسـ ً‬ ‫ـتدل بمــا رواه عــن ســعد بــن أبــي وقــاص رضــي اهلل‬ ‫عنــه أن رســول اهلل صلــى اهلل عليــه وســلم قــال‪« :‬إين ألرجــو أال تعجــز‬ ‫أمتــي عنــد رهبــا أن يؤخرهــم نصــف يــوم‪ ،‬فقيــل لســعد‪ :‬كــم نصــف يــوم؟‬ ‫قــال‪ :‬خمســمائة ســنة»(‪ ((6‬فيكــون المجمــوع (‪1400‬ســنة) وهــذا ما يكذبه‬ ‫(‪ ((6‬فتح الباري ( ‪.)112/8‬‬ ‫(‪ ((6‬أخرجه البخاري عن ابن عمر رضي اهلل عنهما يف كتاب األنبياء ‪ -‬باب ما ذكر عن بني إسرائيل‪ ،‬رقم‬ ‫(‪.)2723‬‬ ‫(‪ ((6‬أخرجه أحمد يف مسند العشرة المبشرين بالجنة ‪ -‬مسند سعد بن أبي وقاص‪ ،‬رقم (‪ ،)4641‬وأبو‬ ‫داود يف كتاب المالحم ‪ -‬باب قيام الساعة‪ ،‬رقم (‪.)0534‬‬

‫علمــا أن الخطــأ وقــع يف منهــج االســتدالل‪ ،‬فقــد جــزم إمــام‬ ‫الواقــع ً‬ ‫أيضــا‪ً ،‬‬ ‫الحرميــن الجوينــي فقــال‪( :‬إن األحــكام ال تؤخــذ مــن األحاديــث التــي‬ ‫تــأيت لضــرب األمثــال)(‪ ،((6‬وقــال ابــن رجــب‪( :‬وهــذا الحديــث إنمــا ســاقه‬ ‫النبــي صلــى اهلل عليــه وســلم مســاق ضــرب األمثــال‪ ،‬واألمثــال مظنــة‬ ‫ُّ‬ ‫التوســع فيهــا)(‪ ،((6‬فــا يلــزم مــن التمثيــل والتشــبيه التســوية مــن كل جهــة‪،‬‬ ‫فالمــراد هنــا كثــرة العمــل ال المــدة الزمنيــة كمــا قــال ابــن حجــر‪( :‬ال يلــزم‬ ‫مــن كوهنــم أكثــر عمـ ًـا أن يكونــوا أكثــر زما ًنــا)(‪.((6‬‬ ‫التوسع يف مسألة الرؤى والمنامات‪.‬‬

‫مــن األخطــاء يف تفســير أحاديــث الفتــن وأشــراط الســاعة اعتمــاد الــرؤى‬ ‫عــول كثيــرون علــى المنامــات يف تنزيــل النصــوص علــى‬ ‫فيهــا‪ ،‬فقــد ّ‬ ‫الوقائــع حتــى أخرجــوا الــرؤى عــن الحــد الــذي حدّ ها هبــا النبـ ُّـي صلى اهلل‬ ‫عليــه وســلم‪ ،‬أال وهــو البِشــارة أو النِّــذارة‪ ،‬فأدخلوهــا يف تفســير النصوص‬ ‫وإســقاطها علــى الواقــع‪ ،‬ونتــج عــن ذلــك اإلقحــام الــذي ال يقبلــه الشــرع‬ ‫سـ ُ‬ ‫ـفك الدمــاء واســتباح ُة األمــوال‪ ،‬ولــم يعــد هنــاك عنــد كثيريــن ضوابــط‬ ‫وال معاييــر‪ ،‬فسـ َّـوغوا الظلــم والطغيــان وخالفــوا النصــوص القطع َّيــة يف‬ ‫األخــذ علــى يــد الظالــم لرؤيــا ر َأ ْوهــا‪ ،‬ومــن جملــة ذلــك أن كثيـ ًـرا ممــن‬ ‫كالمهدي الســوداينّ‪.‬‬ ‫زعــم المهد َّيــة يف التَّاريــخ كان ادعــاؤه لها لرؤيــا رآها‬ ‫ِّ‬

‫موقف املسلم زمن الفنت‬

‫االستعاذة باهلل من الفتن‪.‬‬ ‫يقــول النبــي صلــى اهلل عليــه وســلم‪« :‬تعــوذوا باهلل مــن الفتن مــا ظهر منها‬ ‫ومــا بطــن»(‪ ،((6‬وقــد ثبــت باألحاديــث الصحيحــة اســتعاذته عليــه الصــاة‬ ‫والســام مــن بعــض الفتــن علــى وجــه الخصــوص كفتنــة الدجــال وفتنــة‬ ‫المحيــا والممــات وغيرهــا‪ ،‬جــاء يف الحديــث أنــه عليــه الصــاة والســام‬ ‫كان يقــول‪« :‬اللهــم إين أعــوذ بــك مــن عــذاب القــر وعــذاب النــار‪ ،‬وفتنــة‬ ‫المحيــا والممــات‪ ،‬وفتنــة المســيح الدجــال»(‪.((6‬‬ ‫اإلكثار من العبادة‪.‬‬ ‫إن لجــوء المســلمين إلــى رهبــم وتقرهبــم إليــه بكثــرة العبــادة مــن أســباب‬ ‫النجــاة مــن الفتــن‪ ،‬قــال رســول اهلل ص َّلــى اهلل عليــه وس ـ َّلم‪« :‬العبــادة يف‬ ‫الهــرج كهجــرة إلـ ّـي»)‪ ،‬قــال النــووي‪( :‬وســبب فضــل كثــرة العبــادة فيــه‬ ‫أي الهــرج‪ -‬أن النــاس يغفلــون عنهــا‪ ،‬وال يتفــرغ لهــا َّإل األفــراد)(‪.((6‬‬‫الرجوع إلى أهل العلم‪.‬‬ ‫الفتنــة يحصــل فيهــا اضطــراب واختــاف حتــى يصيــر الحليــم فيهــا‬ ‫حيـ َ‬ ‫بأذهب‬ ‫ـران‪ ،‬قــال حذيفــة بــن اليمــان رضــي اهلل عنــه‪« :‬ما الخمــر ِصر ًفــا‬ ‫َ‬ ‫(‪ ((6‬نقله عنه ابن حجر يف فتح الباري ( ‪.)93/2‬‬ ‫(‪ ((6‬فتح الباري البن رجب ( ‪.)143/4‬‬ ‫(‪ ((6‬فتح الباري البن حجر ( ‪.)04/2‬‬ ‫(‪ ((6‬أخرجه مسلم عن زيد بن ثابت رضي اهلل عنه يف كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها ‪ -‬باب عرض‬ ‫مقعد الميت من الجنة أو النار عليه‪ ،...‬رقم (‪.)7682‬‬ ‫(‪ ((6‬أخرجه النسائي عن أبي هريرة يف كتاب االستعاذة ‪ -‬باب االستعاذة من فتنة المحيا‪ ،‬رقم (‪،)8497‬‬ ‫وأخرجه أحمد عن أبي هريرة‪ ،‬رقم (‪.)87701‬‬ ‫(‪ ((6‬شرح صحيح مسلم‪ :‬النووي ( ‪.)88/81‬‬

‫‪11‬‬


‫منهجية التعامل مع أحاديث الفتن‬ ‫عنــه فشــكونا إليــه مــا نلقــى مــن الحجــاج فقــال‪« :‬اصــروا‪ ،‬فإنــه ال يــأيت‬ ‫عليكــم زمــان إال الــذي بعــده شـ ٌّـر منــه حتــى تلقــوا ربكــم‪ ،‬ســمعته مــن‬ ‫نب ّيكــم صلــى اهلل عليــه وســلم»(‪ ((5‬فمــع أنــه حديــث صحيــح ر َّده بعضهــم‬ ‫بحجــة أنــه يوقــع يف اليــأس واإلحبــاط‪ ،‬وكذلــك احتجــوا ّ‬ ‫بــأن الواقــع‬ ‫التاريخــي يخالفــه؛ فقــد كان عهــد عمــر بــن عبــد العزيــز خيـ ًـرا مــن العهــد‬ ‫الــذي قبلــه با ّتفــاق‪ ،‬وســيأيت عهــد عيســى عليــه الســام والمهــدي فيكــون‬ ‫خيــرا مــن زمــن الدجــال والــذي قبلــه‪ ،‬ولقــد أورد هــذا اإلشــكال ابــن‬ ‫ً‬ ‫حجــر(‪ ،((5‬فبيــن أن المقصــود بالزمــان المذكــور عصــر الصحابــة ألهنــم‬ ‫هــم المخاطبــون هبــذا اللفــظ «ال يــأيت عليكــم»‪ ،‬وهــذا مــا حمل ابــن حبان‬ ‫علــى القــول يف صحيحــه‪ :‬إن هــذا ليــس علــى عمومــه بــل هــو مــن العــام‬ ‫المخصــوص‪ ،‬وحملــه الحســن البصــري علــى األغلــب‪ ،‬أو يحمــل علــى‬ ‫المجمــوع ال الجميــع؛ فقــد كان يف عهــد الحجــاج جماعــة مــن الصحابة‪.‬‬ ‫مصادمة القطعي من النصوص‪.‬‬

‫مــن الصــور الخاطئــة للتعامــل مــع أحاديــث الفتــن وأشــراط الســاعة‬ ‫االعتمــاد علــى روايــات تخالــف القطعــي مــن أمــور ديننــا‪ ،‬مثــال ذلــك‬ ‫حديــث أنـ ٍ‬ ‫ـاس عن عمــر الدنيا وميعــاد قيام الســاعة‪ ،‬ســواء أكان اعتمادهم‬ ‫الجمــل أو الــرؤى أو التأويــل‪ ،‬فهــذا‬ ‫علــى األحاديــث الواهيــة أو حســاب ّ‬ ‫البحــث مرفــوض مــن أصلــه ألنــه يناقــض القطع ّيــات يف الكتــاب والســنة‬ ‫ثبو ًتــا وداللـةً؛ ذلــك أن اهلل اســتأثر بعلــم الســاعة ولــم ُيطلــع عليهــا ملـ ًكا‬ ‫مقر ًبــا وال نب ًّيــا مرسـ ًـا‪ ،‬قــال تعالى‪َ ﴿ :‬ي ْسـ َـأ ُلون َ​َك َعـ ِ‬ ‫الســا َع ِة َأ َّي َ‬ ‫ـاها‬ ‫ان ُم ْر َسـ َ‬ ‫ـن َّ‬ ‫ّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ُقـ ْـل إن َ​َّمــا ع ْل ُم َهــا عنْــدَ َر ِّبــي َل ُي َج ِّل َيهــا ل َو ْقت َهــا إ َّل ُهـ َـو﴾ [ســورة األعــراف‪:‬‬ ‫آيــة ‪ ]187‬وقــد اســتدل البعــض لتعييــن وقــت قيــام الســاعة بمــا روي على‬ ‫أنــه حديــث «الدنيــا ســبعة آالف ســنة»‪ ،‬وهــو مــا بيــن موضــوع وشــديد‬ ‫الضعــف بــا شــك‪ ،‬حتــى إن مــن رواه مــن المحدثيــن كالحاكــم وغيــره‬ ‫نقلــه علــى أنــه مــن كالم اليهــود وليــس مــن كالمــه عليــه الصالة والســام‪،‬‬ ‫وال تصــح مقولتهــم تلــك لمصادمــة القطعـ ِّـي مــن نصوصنــا‪ ،‬وقــد وقــع‬ ‫بعــض أفاضــل العلمــاء يف هــذا الخطــأ كاإلمــام الســيوطي يف كتابــه‬ ‫(الكشــف عــن مجــاوزة هــذه األمــة األلــف)(‪ ((5‬فتحــدث عن تواريــخ لقيام‬ ‫الســاعة‪ ،‬وإن مصادمــة هكــذا مرو ّيــات لقطع ّيــات الديــن مــن عالمــات‬ ‫الحكـ ِـم الظاهــر علــى الروايــة بالوضــع أو الضعــف عنــد أهــل الســنة‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫االعتماد على األحاديث الواهية أو الموضوعة‪.‬‬

‫مــن الصــور الخاطئــة إلثبــات الفتــن وأشــراط الســاعة االعتمــاد علــى‬ ‫المرويــات الواهيــة والموضوعــة يف ذلــك‪ ،‬ومنهــا كتــاب الفتــن لإلمــام‬ ‫حمــاد المــروزي ‪229‬هـــ؛ فقــد تكلــم يف ذلــك كثيــر مــن أهــل‬ ‫نُعيــم بــن ّ‬ ‫العلــم‪ ،‬قــال اإلمــام الذهبــي‪( :‬نُعيــم مــن كبــار أوعيــة العلــم لكــن ال تركــن‬ ‫النفــس إلــى رواياتــه)(‪ ((5‬ثــم قــال‪( :‬وقــد صنــف يف الفتــن‪ ،‬فأتــى بعجائــب‬ ‫(‪ ((5‬أخرجه البخاري عن الزبير بن عدي يف كتاب الفتن ‪ -‬باب ال يأيت زمان إال الذي بعده شر منه‪ ،‬رقم‬ ‫(‪.)7566‬‬ ‫(‪ ((5‬انظر فتح الباري ( ‪.)12/31‬‬ ‫(‪ ((5‬أورده السيوطي يف الحاوي للفتاوى ( ‪.)68/2‬‬ ‫(‪ ((5‬سير أعالم النبالء ( ‪.)006/01‬‬

‫‪10‬‬

‫ومناكيــر)(‪ ،((5‬وهــذا مــا حمــل كبــار المحدثيــن كالخطيــب البغــدادي على‬ ‫التحفــظ علــى الكثيــر ممــا ورد يف الفتــن والمالحــم وأشــراط الســاعة‬ ‫فقــال‪( :‬وليــس يصــح يف ذكــر المالحــم المرتقبــة والفتــن المنتظــرة غيــر‬ ‫أحاديــث يســيرة اتصلــت أســانيدها إلــى الرســول صلــى اهلل عليــه وســلم‬ ‫مــن وجــوه مرض ّيــة وطــرق واضحــة جل ّيــة)(‪.((5‬‬ ‫تحريف دالالت النصوص بالتأويالت البعيدة الفاسدة‪.‬‬

‫جــاء يف الحديــث الــذي ذكــره ابــن القيــم وصححــه لتعــدد طرقــه‪ ،‬ونقــل‬ ‫تصحيــح أحمــد لــه عــن إبراهيــم بــن عبــد الرحمــن العــذري‪ ،‬قــال‪ :‬قــال‬ ‫رســول اهلل صلــى اهلل عليــه وســلم‪« :‬يحمــل هــذا العلــم مــن كل خلــف‬ ‫عدولــه‪ ،‬ينفــون عنــه تحريــف الغاليــن وانتحــال المبطليــن وتأويــل‬ ‫الجاهليــن» قــال ابــن القيــم‪( :‬فأخــر أن الغاليــن يحرفــون مــا جــاء بــه‪،‬‬ ‫يتأولونــه‬ ‫والمبطلــون ينتحلــون بباطلهــم غيــر مــا كان عليــه‪ ،‬والجاهلــون ّ‬ ‫علــى غيــر تأويلــه‪ ،‬وفســاد اإلســام مــن هــذه الطوائــف الثالثــة)(‪ ((5‬فمــن‬ ‫ّأولــه علــى وجهــه فهــو الحـ ّـق‪ ،‬ومــن ّأولــه علــى غيــر تأويلــه فقــد افــرى‬ ‫علــى اهلل ورســوله‪ ،‬فكيــف إذا اجتمــع مــع ســوء الفهــم والتأويــل ســوء‬ ‫القصــد؟‬ ‫ومــن تلــك التفســيرات الفاســدة تأويل األحاديــث التي جــاءت يف األعور‬ ‫الدجــال بــأن المقصــود هبــا المدنيــة الغربيــة؛ فهــي تنظــر إلــى اإلنســان‬ ‫بعيــن المــادة وتغفــل الجانــب الروحــي فيــه‪ ،‬فهــي حضــارة عميــاء‪،...‬‬ ‫هــذا التأويــل مخالــف لمــا أثبتتــه األحاديــث التــي ُيحكــم عليهــا بالتواتــر‬ ‫ـوي بمجموعهــا مــن أن الدجــال رجــل فــرد يغــدو ويــروح‪ ،‬ويتكلــم‬ ‫المعنـ ِّ‬ ‫ويفعــل‪ ،‬وير ِّغــب ويرهــب‪ ،‬ويجــادل ويمــاري‪ ،‬ثــم ُيقتــل بحربــة نبـ ِّـي اهلل‬ ‫عيســى عليــه الســام‪.‬‬ ‫ونــرى اليــوم عشــرات مــن الكتــب المعاصــرة للحداثييــن والعلمانييــن‬ ‫التــي َتك َّلــف أصحاهبــا تنزيــل النصــوص علــى الوقائــع بتأويــات فاســدة‬ ‫ـادي‬ ‫ـب الظهــور وإشــغال األمــة والكســب المـ ّ‬ ‫بعيــدة‪ ،‬يدفعهــم لهــذا حـ ّ‬ ‫ِ‬ ‫والمؤســف أن الكتــب التــي يؤلفها هؤالء الســفهاء تجد رواجـًــا‬ ‫المحــرم؛‬ ‫كبيــ ًـرا عند العــوام‪.‬‬ ‫وممــا يدخــل يف هــذا البــاب مــا يــراه الباحــث المســلم يف كتــب المالحــم‬ ‫والفتــن مــن عجائب اإلســرائيليات المنقولة عن كتب اليهــود والنصارى‪،‬‬ ‫فقــد توســع بعــض المشــتغلين بأخبــار الفتــن يف رواياهتــا ولــم ينضبطــوا‬ ‫ودب‪ ،‬ولــم يقــف األمــر عنــد‬ ‫ـب ّ‬ ‫بضوابــط التحديــث هبــا فجمعــوا مــا هـ ّ‬ ‫مجــرد االســتئناس هبــا بــل صــارت مجـ ً‬ ‫ـال لالســتدالل هبــا كذلــك عنــد‬ ‫قــوم‪ ،‬وهــذه آفــة قديمــة ذمهــا الخطيب البغــدادي فقــال‪( :‬ونظير مــا ذكرناه‬ ‫آن ًفــا أحاديــث المالحــم ومــا يكــون مــن الحــوادث‪ ،‬فــإن أكثرهــا موضــوع‬ ‫وج ّلهــا مصنــوع كالكتــاب المنســوب إلــى دانيــال)(‪ ((6‬وبعضهــم يعـ ّـول‬ ‫كثيـ ًـرا علــى أســفار كتــب النصــارى والعهــد القديــم‪ ،‬ومــن اإلســرائيليات‬ ‫(‪ ((5‬سير أعالم النبالء ( ‪.)906/01‬‬ ‫(‪ ((5‬الجامع ألخالق الراوي وآداب السامع‪ :‬الخطيب البغدادي ( ‪.)261/1‬‬ ‫(‪ ((5‬إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان‪ :‬ابن القيم ( ‪.)951/1‬‬ ‫(‪ ((6‬الجامع ألخالق الراوي وآداب السامع‪ :‬الخطيب البغدادي ( ‪.)161/2‬‬

‫منهجية التعامل مع أحاديث الفتن‬ ‫تفسير دانيال وتفسير أشعيا وتفسير حزقيال‪.‬‬ ‫االعتماد على طرق ليس لها قيمة علمية‪.‬‬

‫مــن ذلــك االعتمــاد علــى حــروف (أبــي جــاد)‪ ،‬والمــراد هبــا (أبجــد‬ ‫هوز‪...‬إلــخ)‪ ،‬وكانــت تســتخدم طريقــة حســابية للعــد‪ ،‬ولــو بقــي األمــر‬ ‫هكــذا فــا غضاضــة فيــه‪ ،‬فهــو عــدٌّ اصطالحــي‪ ،‬واســتعمله اآلراميــون‬ ‫واألنبــاط واليهــود‪ ،‬وقــد اســتعمله المســلمون يف نظمهــم ونثرهــم كمــا‬ ‫قــال ابــن الجــزري يف منظومتــه يف التجويــد‪( :‬أبياهتــا قــاف وزاي يف العــدد)‬ ‫أي عــدد أبياهتــا مائــة وســبعة‪ ،‬فالقــاف مائــة والــزاي ســبعة‪ ،‬لكـ ْن أن تفســر‬ ‫النصــوص الدينيــة بانتقــاء بعــض كلماهتــا وعدهــا علــى هــذا النحــو فهــذا‬ ‫عــدوان علــى النصــوص ال مســتند لــه وال دليــل‪ ،‬وهــو مــن قبيــل التفســير‬ ‫زورا لجعفــر‬ ‫الباطنــي المرفــوض‪ ،‬ومنــه مــا ورد يف (الجفــر) الــذي ينســب ً‬ ‫الصــادق‪ ،‬وهــو مــن وضــع هــارون بــن ســعيد العجلــي‪ ،‬وهــو مشــحون‬ ‫بالغيبيــات التــي يقــوم كثيــر منهــا علــى هــذه الطريقــة الفاســدة‪ ،‬ورووا‬ ‫يف ذلــك أحاديــث منكــرة موضوعــة يف الحــث علــى تعلــم طريقــة (أبــي‬ ‫جــاد) واعتمادهــا يف التفســير‪ ،‬ويف ذلــك يقــول ابــن حجــر‪( :‬هــو باطــل ال‬ ‫يعتمــد عليــه‪ ،‬وال أصــل لــه يف الشــريعة)(‪ ،((6‬ومنهــم مــن زعــم أن الســاعة‬ ‫تقــوم ســنة (‪1407‬هـــ) بنــاء علــى قولــه تعالــى‪﴿ :‬ال تأتيكــم إال بغتــة﴾ بنــاء‬ ‫علــى حســاب حــروف كلمــة ﴿بغتــة﴾ بطريقــة عــدّ أبــي جــاد‪ ،‬ومــن ذلــك‬ ‫تخــرص رشــاد خليفــة (البهائــي) باعتبــاره عــام (‪1710‬هـــ) هــو عــام قيــام‬ ‫الجمــل‪.‬‬ ‫الســاعة بنــاء علــى حســاب ّ‬ ‫وكذلــك مــن الوســائل التــي ال ُتعــد مــن قواعــد العلــم مــا ســلكه بعــض‬ ‫الباحثيــن يف األحاديــث التــي جــاءت لضــرب المثــل‪ ،‬ومنهــا الحديــث‬ ‫الــذي جــاء فيــه «إنمــا أجلكــم فيمــا خــا مــن األمم كمــا بين صــاة العصر‬ ‫إلــى مغــرب الشــمس‪ ،‬وإنمــا مثلكــم ومثــل اليهــود كمثــل رجــل اســتأجر‬ ‫أجــراء فقــال‪ :‬مــن يعمــل من غــدوة إلى نصــف النهــار على قيــراط قيراط؟‬ ‫فعملــت اليهــود‪ ،‬ثــم قــال‪ :‬مــن يعمــل من نصــف النهــار إلى صــاة العصر‬ ‫علــى قيــراط قيــراط؟ فعملــت النصــارى‪ ،‬ثــم قــال‪ :‬مــن يعمــل مــن العصــر‬ ‫إلــى أن تغيــب الشــمس علــى قيراطيــن قيراطيــن؟ فأنتــم هــم»(‪ ،((6‬فأخــذ‬ ‫يعمــل حســاب ًّيا علــى عمــر أمــة اليهــود وعمــر أمــة النصــارى‪ ،‬فتبيــن لــه أن‬ ‫عمــر أمــة اإلســام بنــاء علــى هــذا الحديــث (‪900‬ســنة)؛ ذلــك أنــه عــدَّ‬ ‫عمــر أمــة اليهــود يعــادل مجمــوع عمر أمتــي النصــارى واإلســام‪ ،‬فيكون‬ ‫(‪1500‬ســنة) عمــر أمــة اليهــود ‪600( -‬ســنة) عمــر أمــة النصــارى=‬ ‫(‪900‬ســنة) عمــر أمــة اإلســام‪ ،‬ولمــا لــم يتــم لــه ذلــك يف الواقــع أضــاف‬ ‫إليــه (‪ 500‬ســنة) مسـ ً‬ ‫ـتدل بمــا رواه عــن ســعد بــن أبــي وقــاص رضــي اهلل‬ ‫عنــه أن رســول اهلل صلــى اهلل عليــه وســلم قــال‪« :‬إين ألرجــو أال تعجــز‬ ‫أمتــي عنــد رهبــا أن يؤخرهــم نصــف يــوم‪ ،‬فقيــل لســعد‪ :‬كــم نصــف يــوم؟‬ ‫قــال‪ :‬خمســمائة ســنة»(‪ ((6‬فيكــون المجمــوع (‪1400‬ســنة) وهــذا ما يكذبه‬ ‫(‪ ((6‬فتح الباري ( ‪.)112/8‬‬ ‫(‪ ((6‬أخرجه البخاري عن ابن عمر رضي اهلل عنهما يف كتاب األنبياء ‪ -‬باب ما ذكر عن بني إسرائيل‪ ،‬رقم‬ ‫(‪.)2723‬‬ ‫(‪ ((6‬أخرجه أحمد يف مسند العشرة المبشرين بالجنة ‪ -‬مسند سعد بن أبي وقاص‪ ،‬رقم (‪ ،)4641‬وأبو‬ ‫داود يف كتاب المالحم ‪ -‬باب قيام الساعة‪ ،‬رقم (‪.)0534‬‬

‫علمــا أن الخطــأ وقــع يف منهــج االســتدالل‪ ،‬فقــد جــزم إمــام‬ ‫الواقــع ً‬ ‫أيضــا‪ً ،‬‬ ‫الحرميــن الجوينــي فقــال‪( :‬إن األحــكام ال تؤخــذ مــن األحاديــث التــي‬ ‫تــأيت لضــرب األمثــال)(‪ ،((6‬وقــال ابــن رجــب‪( :‬وهــذا الحديــث إنمــا ســاقه‬ ‫النبــي صلــى اهلل عليــه وســلم مســاق ضــرب األمثــال‪ ،‬واألمثــال مظنــة‬ ‫ُّ‬ ‫التوســع فيهــا)(‪ ،((6‬فــا يلــزم مــن التمثيــل والتشــبيه التســوية مــن كل جهــة‪،‬‬ ‫فالمــراد هنــا كثــرة العمــل ال المــدة الزمنيــة كمــا قــال ابــن حجــر‪( :‬ال يلــزم‬ ‫مــن كوهنــم أكثــر عمـ ًـا أن يكونــوا أكثــر زما ًنــا)(‪.((6‬‬ ‫التوسع يف مسألة الرؤى والمنامات‪.‬‬

‫مــن األخطــاء يف تفســير أحاديــث الفتــن وأشــراط الســاعة اعتمــاد الــرؤى‬ ‫عــول كثيــرون علــى المنامــات يف تنزيــل النصــوص علــى‬ ‫فيهــا‪ ،‬فقــد ّ‬ ‫الوقائــع حتــى أخرجــوا الــرؤى عــن الحــد الــذي حدّ ها هبــا النبـ ُّـي صلى اهلل‬ ‫عليــه وســلم‪ ،‬أال وهــو البِشــارة أو النِّــذارة‪ ،‬فأدخلوهــا يف تفســير النصوص‬ ‫وإســقاطها علــى الواقــع‪ ،‬ونتــج عــن ذلــك اإلقحــام الــذي ال يقبلــه الشــرع‬ ‫سـ ُ‬ ‫ـفك الدمــاء واســتباح ُة األمــوال‪ ،‬ولــم يعــد هنــاك عنــد كثيريــن ضوابــط‬ ‫وال معاييــر‪ ،‬فسـ َّـوغوا الظلــم والطغيــان وخالفــوا النصــوص القطع َّيــة يف‬ ‫األخــذ علــى يــد الظالــم لرؤيــا ر َأ ْوهــا‪ ،‬ومــن جملــة ذلــك أن كثيـ ًـرا ممــن‬ ‫كالمهدي الســوداينّ‪.‬‬ ‫زعــم المهد َّيــة يف التَّاريــخ كان ادعــاؤه لها لرؤيــا رآها‬ ‫ِّ‬

‫موقف املسلم زمن الفنت‬

‫االستعاذة باهلل من الفتن‪.‬‬ ‫يقــول النبــي صلــى اهلل عليــه وســلم‪« :‬تعــوذوا باهلل مــن الفتن مــا ظهر منها‬ ‫ومــا بطــن»(‪ ،((6‬وقــد ثبــت باألحاديــث الصحيحــة اســتعاذته عليــه الصــاة‬ ‫والســام مــن بعــض الفتــن علــى وجــه الخصــوص كفتنــة الدجــال وفتنــة‬ ‫المحيــا والممــات وغيرهــا‪ ،‬جــاء يف الحديــث أنــه عليــه الصــاة والســام‬ ‫كان يقــول‪« :‬اللهــم إين أعــوذ بــك مــن عــذاب القــر وعــذاب النــار‪ ،‬وفتنــة‬ ‫المحيــا والممــات‪ ،‬وفتنــة المســيح الدجــال»(‪.((6‬‬ ‫اإلكثار من العبادة‪.‬‬ ‫إن لجــوء المســلمين إلــى رهبــم وتقرهبــم إليــه بكثــرة العبــادة مــن أســباب‬ ‫النجــاة مــن الفتــن‪ ،‬قــال رســول اهلل ص َّلــى اهلل عليــه وس ـ َّلم‪« :‬العبــادة يف‬ ‫الهــرج كهجــرة إلـ ّـي»)‪ ،‬قــال النــووي‪( :‬وســبب فضــل كثــرة العبــادة فيــه‬ ‫أي الهــرج‪ -‬أن النــاس يغفلــون عنهــا‪ ،‬وال يتفــرغ لهــا َّإل األفــراد)(‪.((6‬‬‫الرجوع إلى أهل العلم‪.‬‬ ‫الفتنــة يحصــل فيهــا اضطــراب واختــاف حتــى يصيــر الحليــم فيهــا‬ ‫حيـ َ‬ ‫بأذهب‬ ‫ـران‪ ،‬قــال حذيفــة بــن اليمــان رضــي اهلل عنــه‪« :‬ما الخمــر ِصر ًفــا‬ ‫َ‬ ‫(‪ ((6‬نقله عنه ابن حجر يف فتح الباري ( ‪.)93/2‬‬ ‫(‪ ((6‬فتح الباري البن رجب ( ‪.)143/4‬‬ ‫(‪ ((6‬فتح الباري البن حجر ( ‪.)04/2‬‬ ‫(‪ ((6‬أخرجه مسلم عن زيد بن ثابت رضي اهلل عنه يف كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها ‪ -‬باب عرض‬ ‫مقعد الميت من الجنة أو النار عليه‪ ،...‬رقم (‪.)7682‬‬ ‫(‪ ((6‬أخرجه النسائي عن أبي هريرة يف كتاب االستعاذة ‪ -‬باب االستعاذة من فتنة المحيا‪ ،‬رقم (‪،)8497‬‬ ‫وأخرجه أحمد عن أبي هريرة‪ ،‬رقم (‪.)87701‬‬ ‫(‪ ((6‬شرح صحيح مسلم‪ :‬النووي ( ‪.)88/81‬‬

‫‪11‬‬


‫منهجية التعامل مع أحاديث الفتن‬ ‫لعقــول الرجــال مــن الفتــن»(‪ ،((7‬فأهــل العلــم أقــدر النــاس علــى بيــان‬ ‫المشــتبهات وعلــى تقديــر المصالــح والمفاســد والرتجيــح بينهــا‪ ،‬قــال‬ ‫﴿وإِ َذا َجا َء ُهـ ْـم َأ ْمـ ٌـر ِّمـ َن ْالَ ْمـ ِ‬ ‫ـن َأ ِو ا ْل َخـ ْـو ِف َأ َذا ُعــوا بِـ ِـه َو َلـ ْـو َر ُّدو ُه إِ َلى‬ ‫تعالــى‪َ :‬‬ ‫ِ‬ ‫ـى ُأولِــي ْالَ ْمـ ِـر مِن ُْهـ ْـم َل َعلِ َمـ ُه ا َّل ِذي َن َي ْسـتَنبِ ُطو َن ُه مِن ُْه ْم﴾ [ســورة‬ ‫َّ‬ ‫الر ُســول َوإِ َلـ ٰ‬ ‫النســاء‪ :‬آيــة ‪ ]83‬قــال الطــري‪( :‬هــم العلمــاء وذو الــرأي والحكمــة‪ ،‬فــرد‬ ‫األمــور إلــى أهلهــا مــن ذوي الحــل والعقــد مــن العلمــاء)(‪.((7‬‬

‫ّ‬ ‫وإن مــن أهــم محــددات المواقــف يف الفتــن مراعــاة المــآالت والنظــر يف‬ ‫العواقــب ولــو بالرجحــان وغلبــة الظــن فضـ ًـا عــن اليقيــن‪ ،‬فقــد ُتســتغل‬ ‫المواقــف وتمضــي األمــور إلــى غيــر مــا ُقصــد لهــا‪ ،‬وهــذا يدركــه الحـ ّـذاق‬ ‫والمجربــون‪.‬‬ ‫ِّ‬

‫دور مهـ ٌّـم يف تثبيــت األمــة وحفــظ‬ ‫وإن ثبــات الربانييــن يف الفتــن كان لــه ٌ‬ ‫الديــن‪ ،‬ففــي موقــف اإلمــام أحمــد يــوم فتنــة القــول بخلــق القــرآن أجلــى‬ ‫مثــل علــى ذلــك‪ ،‬كان لموقفــه رحمــه اهلل أكــر األثــر يف تثبيــت الخاصــة‬ ‫والعامــة‪ ،‬قــال علــي بــن المدينــي‪( :‬أعـ ّـز اهلل الديــن برجليــن ليــس لهمــا‬ ‫(‪.((7‬‬ ‫ثالــث‪ :‬أبــو بكــر الصديــق يــوم الــردة‪ ،‬وأحمــد بــن حنبــل يــوم المحنــة)‬ ‫وإن مــن مخاطــر الفتــن أن يتكلــم (الرويبضــة) وهــو الرجــل التّافــه يتكلم‬ ‫يف أمــر العامــة كمــا جــاء يف الحديث الصحيــح(‪ ،((7‬وكمــا يف الحديث‪« :‬من‬ ‫أشــراط الســاعة أن يلتمــس العلم عنــد األصاغــر»(‪ ((7‬وقد أتاحت الوســائل‬ ‫اإلعالميــة الحديثــة الفرصــة لهــذا النــوع مــن النــاس ليدلــوا برأيهــم يف‬ ‫قضايــا كــرى‪.‬‬

‫وإن مــن مخاطــر الفتــن االنــزالق خلــف علمــاء الســوء‪ ،‬الذيــن يبيعــون‬ ‫دينهــم وعلمهــم بعــرض مــن الدنيــا قليــل‪ ،‬وهــؤالء أشــبه النــاس باليهــود‬ ‫المغضــوب عليهــم؛ ألهنــم عرفــوا الحــق وأعرضــوا عنــه‪ ،‬قــال ســفيان بــن‬ ‫عيينــة رحمــه اهلل‪( :‬مــن فســد مــن علمائنــا ففيه شــبه مــن اليهود‪ ،‬ومن فســد‬ ‫مــن ُع ّبادنــا ففيــه شــبه مــن النصــارى)(‪.((7‬‬ ‫عدم االندفاع واالستشراف لها وحفظ اللسان‪.‬‬

‫مــن واجــب المســلم تجــاه الفتنــة أن يحفــظ لســانه ويبعــد نفســه عــن‬ ‫الوقــوع فيهــا‪ ،‬وحسـبـــنا مــا جـــاء يف الحديث‪« :‬ســتكون فتــن‪ ،‬القاعد فيها‬ ‫خيــر مــن القائــم‪ ،‬والقائــم فيهــا خيــر مــن الماشــي‪ ،‬والماشــي فيهــا خيــر‬ ‫مــن الســاعي‪ ،‬ومــن يشــرف لهــا تستشــرفه‪ ،‬ومــن وجــد ملجــأ أو معــا ًذا‬ ‫(‪ ((7‬أخرجه ابن أبي شيبة يف المصنف ‪ -‬كتاب الفتن‪.)732 /8( ،‬‬ ‫(‪ ((7‬تفسير الطربي ( ‪.)281/5‬‬ ‫(‪ ((7‬تاريخ بغداد‪ :‬الخطيب البغدادي ( ‪ ،)814/4‬سير أعالم النبالء ( ‪.)691/11‬‬ ‫(‪ ((7‬رواه أحمد‪ ،‬مسند المكثرين من الصحابة ‪ -‬مسند أبي هريرة‪ ،‬رقم (‪.)9987‬‬ ‫(‪ ((7‬المعجم الكبير للطرباين‪ ،‬مكتبة ابن تيمية ط‪ 2‬رقم (‪ ،)809‬جامع بيان العلم وفضله‪ :‬ابن عبد الرب‪،‬‬ ‫دار ابن الجوزي‪ ،‬ط‪ ،1‬باب حال العلم إذا كان عند الفساق واألرذال‪ ،‬رقم (‪.)1501‬‬ ‫(‪ ((7‬تفسير ابن كثير ( ‪.)121/4‬‬

‫‪12‬‬

‫المهدي بين الشيعة وأهل السنة‬

‫فليعــذ بــه»(‪ ((7‬وجــاء يف وصــف بعــض الفتــن أن اللســان فيهــا كحد الســيف‬

‫صمــاء بكمــاء عميــاء‪ ،‬مــن أشــرف لهــا‬ ‫كمــا يف الحديــث‪« :‬ســتكون فتنــة ّ‬ ‫استشــرفت لــه‪ ،‬وإشــراف اللســان فيهــا كوقــع الســيف»(‪.((7‬‬

‫المهدي‬ ‫ُّ‬

‫التحليبالصبروالمصابرة‪.‬‬

‫تعالى‪﴿:‬و َج َع ْلنَــا َب ْع َض ُكـ ْـم ل ِ َب ْعـ ٍ‬ ‫ـض فِ ْتنَ ًة َأ َت ْصبِـ ُـر َ‬ ‫ون﴾ [ســورة الفرقان‪:‬‬ ‫قــال‬ ‫َ‬

‫بين ِّ‬ ‫َ‬ ‫السنة‬ ‫الشيعة‬ ‫وأهل ُّ‬ ‫ِ‬

‫آيــة ‪ ]20‬فــإذا كان الصــر مطلو ًبــا وعواقبــه محمــودة يف كل حيــن ففــي‬ ‫زمــن الفتــن مــن بــاب أولــى‪ ،‬جــاء يف الحديــث‪« :‬إن الســعيد َل َمــن ُجنّــب‬

‫د‪ .‬علي محمد حسن األزهري ‪ -‬قسم العقيدة والفلسفة جامعة األزهر‬

‫الفتــن‪ ،‬و َل َمــن ابتلــي فصــر»(‪ ((7‬فأعظــم ســاح أيــام الفتــن والمحــن الصرب‬ ‫والمصابــرة‪.‬‬

‫لزوم جماعة المسلمين على العموم أو العزلة‪.‬‬

‫جــاء يف حديــث حذيفــة رضــي اهلل عنه‪( :‬فمــا تأمــرين إن أدركنــي ذلــك؟)‬ ‫َقــ َ‬ ‫ـت‪( :‬فــإن لــم يكــن لهــم‬ ‫ـال‪« :‬تلزم جماعــة المســلمين وإمامهــم» قلـ ُ‬ ‫جماعــة وال إمــام؟) َق َ‬ ‫تعــض‬ ‫ـــو َأ ْن ّ‬ ‫ـــال‪« :‬فاعتزل تلــك الفــرق كلهــا َو َل ْ‬ ‫ـت علــى ذلــك»(‪ ،((7‬والعزلــة‬ ‫بأصــل شــجرة َحـ ـتَّى يــدركك المــوت َو َأنْــ َ‬ ‫قــد تكــون بدنيــة أو شــعورية‪ ،‬جزئيــة أو كليــة‪ ،‬فلــزوم الجماعــة واجتمــاع‬

‫الكلمــة مــن مقاصــد الشــريعة الكــرى‪ ،‬ويــرك الفاضــل للمفضــول‬ ‫ألجــل اجتمــاع الكلمــة؛ فابــن مســعود أتـ ّـم الصــاة يف منــى خلــف عثمــان‬ ‫مــع أنــه كان يــروي أن الرســول صلــى اهلل عليــه وســلم كان يصلــي يف‬ ‫منــى ركعتيــن‪ ،‬فلمــا ســئل عــن ذلــك قــال‪« :‬يــا هــذا! الخــاف شــر»‬

‫(‪((8‬‬

‫ويف روايــة‪« :‬إين ألكــره الخــاف»(‪ ،((8‬وقــد بيــن اإلمــام الشــافعي رحمــه‬ ‫اهلل المقصــود بلــزوم الجماعــة فقــال‪« :‬إن معنــى لــزوم الجماعــة ليــس‬

‫باجتمــاع األبــدان ألنــه ال يصنــع شــي ًئا‪ ،‬ولكــن المعنــى لــزوم مــا عليهم من‬ ‫التحليــل والتحريــم والطاعــة فيهمــا»(‪.((8‬‬

‫نســأل اهلل الســامة مــن الفتــن مــا ظهــر منهــا ومــا بطــن والحمــد هلل رب‬

‫العالميــن‪.‬‬

‫(‪((7‬متفق عليه عن أبي هريرة رضي اهلل عنه‪ :‬رواه البخاري يف كتاب المناقب ‪ -‬باب عالمات النبوة يف اإلسالم‪،‬‬ ‫رقم (‪ ،)6043‬ورواه مسلم يف كتاب الفتن وأشراط الساعة ‪ -‬باب نزول الفتن كمواقع القطر‪ ،‬رقم (‪.)6882‬‬ ‫(‪ ((7‬أخرجه أبو داود بسند ضعيف عن أبي هريرة رضي اهلل عنه يف كتاب الفتن والمالحم ‪ -‬باب كف‬ ‫اللسان‪ ،‬رقم (‪ ،)4624‬وبعضه مروي يف الصحاح‪.‬‬ ‫(‪ ((7‬أخرجه أبو داود عن المقداد بن األسود رضي اهلل عنه يف كتاب الفتن والمالحم ‪ -‬باب يف النهي عن‬ ‫السعي يف الفتنة‪ ،‬رقم (‪.)3624‬‬ ‫(‪ ((7‬متفق عليه عن حذيفة بن اليمان رضي اهلل عنه‪ :‬رواه البخاري يف كتاب الفتن ‪ -‬باب كيف األمر إذا لم‬ ‫تكن جماعة‪ ،‬رقم (‪ ،)3766‬ومسلم يف كتاب اإلمارة ‪ -‬باب وجوب مالزمة جماعة المسلمين عند ظهور‬ ‫الفتن ويف كل حال‪ ،‬وتحريم الخروج على الطاعة ومفارقة الجماعة‪ ،‬رقم (‪.)7481‬‬ ‫(‪ ((8‬أخرجه أبو داود عن عبد الرحمن بن يزيد يف كتاب المناسك ‪ -‬باب الصالة بمنى‪ ،‬رقم (‪.)0691‬‬ ‫(‪ ((8‬أخرجه البيهقي عن معاوية بن قرة يف كتاب الصالة ‪ -‬باب السفر الذي تقصر يف مثله الصالة‪ ،‬رقم‬ ‫(‪.)465‬‬ ‫(‪ ((8‬الرسالة ( ‪.)574‬‬

‫ ‬

‫مقدمة‬ ‫إن قضيــة المهــدي هــي إحــدى أكثــر القضايــا جدليــة يف العصــر‬ ‫ـواكل وتـ ٌ‬ ‫الحديــث؛ ذلــك أنــه ترتــب عليهــا عنــد بعــض النــاس تـ ٌ‬ ‫ـرك‬ ‫للســعي يف شــؤون األمــة يف انتظــار اإلمــام المهــدي‪ ،‬وهــذا مــا حــدا‬ ‫َ‬ ‫بعــض الدعــاة العقلييــن إلــى إنكارهــا‪ ،‬وترتــب عليهــا عنــد بعــض‬ ‫طوائــف الشــيعة العمــل علــى إشــاعة الفوضــى والظلــم واســتحالل‬ ‫تعجــا لخروجــه‪.‬‬ ‫الدمــاء‬ ‫ً‬

‫وقــد اتفــق الســنة والشــيعة علــى مجــيء المهــدي‪ ،‬وجــاءت‬ ‫الروايــات متعاضــدة علــى ذلــك‪ ،‬لكــن هــذا ال يعنــي االتفــاق فيمــا‬ ‫وراء ذلــك؛ فبينمــا لــم يكــن المهــدي عنــد الســنة ســوى رجـ ٍ‬ ‫ـل صالــح‬ ‫أخبــر النبــي صلــى اهلل عليــه وســلم بقدومــه يف آخــر الزمــان‪ ،‬يؤمــن‬ ‫كأي مــن األخبــار النبويــة‬ ‫المســلمون بمــا صــح مــن صفتــه وســيرته ٍّ‬ ‫األخــرى دون أثــر لهــذا الخبــر يف الحكــم علــى النــاس باإليمــان‬ ‫والكفــر‪ ،‬أصبــح عنــد الشــيعة جــز ًءا مــن اإليمــان والشــريعة حتــى‬ ‫طغــى علــى أســس الديــن األخــرى‪ ،‬وترتــب علــى اإلخبــار بــه أشــياء‬ ‫كثيــرة مــا أنــزل اهلل بهــا مــن ســلطان ممــا ال يقبلــه عقــل وال يقــره نقــل‪،‬‬ ‫ووصــل بهــم األمــر إلــى اصطنــاع الروايــات واختــاق األحاديــث‬ ‫وكذبهــا علــى أئمــة آل البيــت األطهــار رضــوان اهلل عليهــم أجمعيــن؛‬ ‫نموذجــا‬ ‫َف َح ْسـ ُبنا دراســة قضيــة المهــدي وحدهــا عنــد الشــيعة لنأخــذ‬ ‫ً‬ ‫عــن الضيــاع والشــتات الــذي عاشــه الشــيعة يف التاريــخ الغابــر‬ ‫ويعيشــونه يومنــا الحاضــر‪.‬‬ ‫وجاء الحديث عن هذه المسألة يف مبحثين‪:‬‬

‫المبحث األول‪ :‬المهدي يف ضوء عقيدة الشيعة‪.‬‬

‫المبحث الثاين‪ :‬المهدي يف ضوء عقيدة أهل السنة‪.‬‬

‫المهدييــن‬ ‫وختمــت ذلــك بجــدول للمقارنــة ثــم تعقيــب بعنــوان‪ :‬أي‬ ‫َّ‬ ‫أن ُي َّت َبــع؟‬ ‫أحـ ُّـق ْ‬

‫املبحث األول‪:‬‬ ‫املهدي يف ضوء عقيدة الشــيعة‬ ‫ُّ‬

‫املطلب األول‪ :‬والدة املهدي ونســبه‬ ‫أول‪ :‬مولده‬ ‫ً‬

‫ُتعــد عقيــدة المهــدي المنتظــر مــن العقائــد األساســية عنــد الشــيعة ال‬ ‫ســيما أهنــم قــد توارثوهــا عــر األجيــال‪ ،‬وزادوا عليهــا مســألة اإلمــام‬ ‫الغائــب‪ ،‬وقــد اختلفــوا يف يــوم مولده على خمســة أقــوال‪ :‬قيــل إنه ولد‬ ‫ســنة خمــس وخمســين ومائتيــن يف ليلــة النصف مــن شــعبان(((‪ ،‬وقيل‪:‬‬ ‫إنــه ولــد ســنة ســت وخمســين ومائتيــن(((‪ ،‬وقيــل أيضــا‪ :‬إن المهــدي‬ ‫ُولِــدَ ســنة أربــع وخمســين ومائتيــن(((‪ ،‬ويف قـ ٍ‬ ‫ـول رابــع أن المهــدي ُولِــدَ‬ ‫يف ثالــث وعشــرين مــن رمضــان ســنة ثمــان وخمســين ومائتيــن(((‪ ،‬ويف‬ ‫خامـ ٍ‬ ‫ـس أن المهــدي ُولِــدَ ســنة ســبع وخمســين ومائتيــن(((‪.‬‬ ‫ثان ًيــا‪ :‬المهــدي المنتظــر عنــد الشــيعة اإلماميــة مــن نســل الحســين‬ ‫رضــي اهلل عنــه‪.‬‬

‫علــي‬ ‫ورد يف كتبهــم أن رســول اهلل ﷺ ليلــة وفاتــه أملــى علــى‬ ‫ٍّ‬ ‫وصيتــه‪ ،‬وقــال‪« :‬ســيكون بعــدي اثنــا عشــر إما ًمــا‪ ،‬ومــن بعدهــم اثنــا‬ ‫عشــر مهد ًّيــا‪ ،‬فأنــت يــا علــي َّأول االثنــي عشــر إما ًمــا‪ ،‬وذكرهــم حتــى‬ ‫وصــل إلــى الحســن‪ ،‬وقــال‪ :‬إذا حضرتــه الوفــاة فليس ـ ّلمها إلــى ابنــه‬ ‫محمــد عليهــم الســام‪ ،‬فذلــك اثنــا عشــر‬ ‫محمــد المســتحفظ مــن آل ّ‬ ‫ّ‬ ‫إما ًمــا‪ ،‬ثـ ّـم يكــون مــن بعــده اثنــا عشــر مهد ًّيــا‪ ،‬فــإذا حضرتــه الوفــاة‬ ‫المقربيــن‪ ،‬لــه ثالثــة أســامٍ‪ :‬اســم كاســمي‬ ‫فليســ ّلمها إلــى ابنــه َّأول‬ ‫َّ‬ ‫ـدي‪ ،‬وهــو‬ ‫واســم أبــي وهــو عبــد اهلل وأحمــد‪ ،‬واالســم الثالــث المهـ ّ‬ ‫َّأول المؤمنيــن»(((‪.‬‬ ‫(((  المجلسي‪ :‬بحار األنوار (‪.)2/31‬‬ ‫(((  المرجع السابق (‪.)4/31‬‬ ‫(((  المرجع السابق (‪.)71/31‬‬ ‫(((  المرجع السابق (‪.)32/31‬‬ ‫(((  المرجع السابق (‪.)52/31‬‬ ‫(((  مختصر بصائر الدرجات (صـ ‪ 34‬ـ ‪.)44‬‬

‫‪13‬‬


‫منهجية التعامل مع أحاديث الفتن‬ ‫لعقــول الرجــال مــن الفتــن»(‪ ،((7‬فأهــل العلــم أقــدر النــاس علــى بيــان‬ ‫المشــتبهات وعلــى تقديــر المصالــح والمفاســد والرتجيــح بينهــا‪ ،‬قــال‬ ‫﴿وإِ َذا َجا َء ُهـ ْـم َأ ْمـ ٌـر ِّمـ َن ْالَ ْمـ ِ‬ ‫ـن َأ ِو ا ْل َخـ ْـو ِف َأ َذا ُعــوا بِـ ِـه َو َلـ ْـو َر ُّدو ُه إِ َلى‬ ‫تعالــى‪َ :‬‬ ‫ِ‬ ‫ـى ُأولِــي ْالَ ْمـ ِـر مِن ُْهـ ْـم َل َعلِ َمـ ُه ا َّل ِذي َن َي ْسـتَنبِ ُطو َن ُه مِن ُْه ْم﴾ [ســورة‬ ‫َّ‬ ‫الر ُســول َوإِ َلـ ٰ‬ ‫النســاء‪ :‬آيــة ‪ ]83‬قــال الطــري‪( :‬هــم العلمــاء وذو الــرأي والحكمــة‪ ،‬فــرد‬ ‫األمــور إلــى أهلهــا مــن ذوي الحــل والعقــد مــن العلمــاء)(‪.((7‬‬

‫ّ‬ ‫وإن مــن أهــم محــددات المواقــف يف الفتــن مراعــاة المــآالت والنظــر يف‬ ‫العواقــب ولــو بالرجحــان وغلبــة الظــن فضـ ًـا عــن اليقيــن‪ ،‬فقــد ُتســتغل‬ ‫المواقــف وتمضــي األمــور إلــى غيــر مــا ُقصــد لهــا‪ ،‬وهــذا يدركــه الحـ ّـذاق‬ ‫والمجربــون‪.‬‬ ‫ِّ‬

‫دور مهـ ٌّـم يف تثبيــت األمــة وحفــظ‬ ‫وإن ثبــات الربانييــن يف الفتــن كان لــه ٌ‬ ‫الديــن‪ ،‬ففــي موقــف اإلمــام أحمــد يــوم فتنــة القــول بخلــق القــرآن أجلــى‬ ‫مثــل علــى ذلــك‪ ،‬كان لموقفــه رحمــه اهلل أكــر األثــر يف تثبيــت الخاصــة‬ ‫والعامــة‪ ،‬قــال علــي بــن المدينــي‪( :‬أعـ ّـز اهلل الديــن برجليــن ليــس لهمــا‬ ‫(‪.((7‬‬ ‫ثالــث‪ :‬أبــو بكــر الصديــق يــوم الــردة‪ ،‬وأحمــد بــن حنبــل يــوم المحنــة)‬ ‫وإن مــن مخاطــر الفتــن أن يتكلــم (الرويبضــة) وهــو الرجــل التّافــه يتكلم‬ ‫يف أمــر العامــة كمــا جــاء يف الحديث الصحيــح(‪ ،((7‬وكمــا يف الحديث‪« :‬من‬ ‫أشــراط الســاعة أن يلتمــس العلم عنــد األصاغــر»(‪ ((7‬وقد أتاحت الوســائل‬ ‫اإلعالميــة الحديثــة الفرصــة لهــذا النــوع مــن النــاس ليدلــوا برأيهــم يف‬ ‫قضايــا كــرى‪.‬‬

‫وإن مــن مخاطــر الفتــن االنــزالق خلــف علمــاء الســوء‪ ،‬الذيــن يبيعــون‬ ‫دينهــم وعلمهــم بعــرض مــن الدنيــا قليــل‪ ،‬وهــؤالء أشــبه النــاس باليهــود‬ ‫المغضــوب عليهــم؛ ألهنــم عرفــوا الحــق وأعرضــوا عنــه‪ ،‬قــال ســفيان بــن‬ ‫عيينــة رحمــه اهلل‪( :‬مــن فســد مــن علمائنــا ففيه شــبه مــن اليهود‪ ،‬ومن فســد‬ ‫مــن ُع ّبادنــا ففيــه شــبه مــن النصــارى)(‪.((7‬‬ ‫عدم االندفاع واالستشراف لها وحفظ اللسان‪.‬‬

‫مــن واجــب المســلم تجــاه الفتنــة أن يحفــظ لســانه ويبعــد نفســه عــن‬ ‫الوقــوع فيهــا‪ ،‬وحسـبـــنا مــا جـــاء يف الحديث‪« :‬ســتكون فتــن‪ ،‬القاعد فيها‬ ‫خيــر مــن القائــم‪ ،‬والقائــم فيهــا خيــر مــن الماشــي‪ ،‬والماشــي فيهــا خيــر‬ ‫مــن الســاعي‪ ،‬ومــن يشــرف لهــا تستشــرفه‪ ،‬ومــن وجــد ملجــأ أو معــا ًذا‬ ‫(‪ ((7‬أخرجه ابن أبي شيبة يف المصنف ‪ -‬كتاب الفتن‪.)732 /8( ،‬‬ ‫(‪ ((7‬تفسير الطربي ( ‪.)281/5‬‬ ‫(‪ ((7‬تاريخ بغداد‪ :‬الخطيب البغدادي ( ‪ ،)814/4‬سير أعالم النبالء ( ‪.)691/11‬‬ ‫(‪ ((7‬رواه أحمد‪ ،‬مسند المكثرين من الصحابة ‪ -‬مسند أبي هريرة‪ ،‬رقم (‪.)9987‬‬ ‫(‪ ((7‬المعجم الكبير للطرباين‪ ،‬مكتبة ابن تيمية ط‪ 2‬رقم (‪ ،)809‬جامع بيان العلم وفضله‪ :‬ابن عبد الرب‪،‬‬ ‫دار ابن الجوزي‪ ،‬ط‪ ،1‬باب حال العلم إذا كان عند الفساق واألرذال‪ ،‬رقم (‪.)1501‬‬ ‫(‪ ((7‬تفسير ابن كثير ( ‪.)121/4‬‬

‫‪12‬‬

‫المهدي بين الشيعة وأهل السنة‬

‫فليعــذ بــه»(‪ ((7‬وجــاء يف وصــف بعــض الفتــن أن اللســان فيهــا كحد الســيف‬

‫صمــاء بكمــاء عميــاء‪ ،‬مــن أشــرف لهــا‬ ‫كمــا يف الحديــث‪« :‬ســتكون فتنــة ّ‬ ‫استشــرفت لــه‪ ،‬وإشــراف اللســان فيهــا كوقــع الســيف»(‪.((7‬‬

‫المهدي‬ ‫ُّ‬

‫التحليبالصبروالمصابرة‪.‬‬

‫تعالى‪﴿:‬و َج َع ْلنَــا َب ْع َض ُكـ ْـم ل ِ َب ْعـ ٍ‬ ‫ـض فِ ْتنَ ًة َأ َت ْصبِـ ُـر َ‬ ‫ون﴾ [ســورة الفرقان‪:‬‬ ‫قــال‬ ‫َ‬

‫بين ِّ‬ ‫َ‬ ‫السنة‬ ‫الشيعة‬ ‫وأهل ُّ‬ ‫ِ‬

‫آيــة ‪ ]20‬فــإذا كان الصــر مطلو ًبــا وعواقبــه محمــودة يف كل حيــن ففــي‬ ‫زمــن الفتــن مــن بــاب أولــى‪ ،‬جــاء يف الحديــث‪« :‬إن الســعيد َل َمــن ُجنّــب‬

‫د‪ .‬علي محمد حسن األزهري ‪ -‬قسم العقيدة والفلسفة جامعة األزهر‬

‫الفتــن‪ ،‬و َل َمــن ابتلــي فصــر»(‪ ((7‬فأعظــم ســاح أيــام الفتــن والمحــن الصرب‬ ‫والمصابــرة‪.‬‬

‫لزوم جماعة المسلمين على العموم أو العزلة‪.‬‬

‫جــاء يف حديــث حذيفــة رضــي اهلل عنه‪( :‬فمــا تأمــرين إن أدركنــي ذلــك؟)‬ ‫َقــ َ‬ ‫ـت‪( :‬فــإن لــم يكــن لهــم‬ ‫ـال‪« :‬تلزم جماعــة المســلمين وإمامهــم» قلـ ُ‬ ‫جماعــة وال إمــام؟) َق َ‬ ‫تعــض‬ ‫ـــو َأ ْن ّ‬ ‫ـــال‪« :‬فاعتزل تلــك الفــرق كلهــا َو َل ْ‬ ‫ـت علــى ذلــك»(‪ ،((7‬والعزلــة‬ ‫بأصــل شــجرة َحـ ـتَّى يــدركك المــوت َو َأنْــ َ‬ ‫قــد تكــون بدنيــة أو شــعورية‪ ،‬جزئيــة أو كليــة‪ ،‬فلــزوم الجماعــة واجتمــاع‬

‫الكلمــة مــن مقاصــد الشــريعة الكــرى‪ ،‬ويــرك الفاضــل للمفضــول‬ ‫ألجــل اجتمــاع الكلمــة؛ فابــن مســعود أتـ ّـم الصــاة يف منــى خلــف عثمــان‬ ‫مــع أنــه كان يــروي أن الرســول صلــى اهلل عليــه وســلم كان يصلــي يف‬ ‫منــى ركعتيــن‪ ،‬فلمــا ســئل عــن ذلــك قــال‪« :‬يــا هــذا! الخــاف شــر»‬

‫(‪((8‬‬

‫ويف روايــة‪« :‬إين ألكــره الخــاف»(‪ ،((8‬وقــد بيــن اإلمــام الشــافعي رحمــه‬ ‫اهلل المقصــود بلــزوم الجماعــة فقــال‪« :‬إن معنــى لــزوم الجماعــة ليــس‬

‫باجتمــاع األبــدان ألنــه ال يصنــع شــي ًئا‪ ،‬ولكــن المعنــى لــزوم مــا عليهم من‬ ‫التحليــل والتحريــم والطاعــة فيهمــا»(‪.((8‬‬

‫نســأل اهلل الســامة مــن الفتــن مــا ظهــر منهــا ومــا بطــن والحمــد هلل رب‬

‫العالميــن‪.‬‬

‫(‪((7‬متفق عليه عن أبي هريرة رضي اهلل عنه‪ :‬رواه البخاري يف كتاب المناقب ‪ -‬باب عالمات النبوة يف اإلسالم‪،‬‬ ‫رقم (‪ ،)6043‬ورواه مسلم يف كتاب الفتن وأشراط الساعة ‪ -‬باب نزول الفتن كمواقع القطر‪ ،‬رقم (‪.)6882‬‬ ‫(‪ ((7‬أخرجه أبو داود بسند ضعيف عن أبي هريرة رضي اهلل عنه يف كتاب الفتن والمالحم ‪ -‬باب كف‬ ‫اللسان‪ ،‬رقم (‪ ،)4624‬وبعضه مروي يف الصحاح‪.‬‬ ‫(‪ ((7‬أخرجه أبو داود عن المقداد بن األسود رضي اهلل عنه يف كتاب الفتن والمالحم ‪ -‬باب يف النهي عن‬ ‫السعي يف الفتنة‪ ،‬رقم (‪.)3624‬‬ ‫(‪ ((7‬متفق عليه عن حذيفة بن اليمان رضي اهلل عنه‪ :‬رواه البخاري يف كتاب الفتن ‪ -‬باب كيف األمر إذا لم‬ ‫تكن جماعة‪ ،‬رقم (‪ ،)3766‬ومسلم يف كتاب اإلمارة ‪ -‬باب وجوب مالزمة جماعة المسلمين عند ظهور‬ ‫الفتن ويف كل حال‪ ،‬وتحريم الخروج على الطاعة ومفارقة الجماعة‪ ،‬رقم (‪.)7481‬‬ ‫(‪ ((8‬أخرجه أبو داود عن عبد الرحمن بن يزيد يف كتاب المناسك ‪ -‬باب الصالة بمنى‪ ،‬رقم (‪.)0691‬‬ ‫(‪ ((8‬أخرجه البيهقي عن معاوية بن قرة يف كتاب الصالة ‪ -‬باب السفر الذي تقصر يف مثله الصالة‪ ،‬رقم‬ ‫(‪.)465‬‬ ‫(‪ ((8‬الرسالة ( ‪.)574‬‬

‫ ‬

‫مقدمة‬ ‫إن قضيــة المهــدي هــي إحــدى أكثــر القضايــا جدليــة يف العصــر‬ ‫ـواكل وتـ ٌ‬ ‫الحديــث؛ ذلــك أنــه ترتــب عليهــا عنــد بعــض النــاس تـ ٌ‬ ‫ـرك‬ ‫للســعي يف شــؤون األمــة يف انتظــار اإلمــام المهــدي‪ ،‬وهــذا مــا حــدا‬ ‫َ‬ ‫بعــض الدعــاة العقلييــن إلــى إنكارهــا‪ ،‬وترتــب عليهــا عنــد بعــض‬ ‫طوائــف الشــيعة العمــل علــى إشــاعة الفوضــى والظلــم واســتحالل‬ ‫تعجــا لخروجــه‪.‬‬ ‫الدمــاء‬ ‫ً‬

‫وقــد اتفــق الســنة والشــيعة علــى مجــيء المهــدي‪ ،‬وجــاءت‬ ‫الروايــات متعاضــدة علــى ذلــك‪ ،‬لكــن هــذا ال يعنــي االتفــاق فيمــا‬ ‫وراء ذلــك؛ فبينمــا لــم يكــن المهــدي عنــد الســنة ســوى رجـ ٍ‬ ‫ـل صالــح‬ ‫أخبــر النبــي صلــى اهلل عليــه وســلم بقدومــه يف آخــر الزمــان‪ ،‬يؤمــن‬ ‫كأي مــن األخبــار النبويــة‬ ‫المســلمون بمــا صــح مــن صفتــه وســيرته ٍّ‬ ‫األخــرى دون أثــر لهــذا الخبــر يف الحكــم علــى النــاس باإليمــان‬ ‫والكفــر‪ ،‬أصبــح عنــد الشــيعة جــز ًءا مــن اإليمــان والشــريعة حتــى‬ ‫طغــى علــى أســس الديــن األخــرى‪ ،‬وترتــب علــى اإلخبــار بــه أشــياء‬ ‫كثيــرة مــا أنــزل اهلل بهــا مــن ســلطان ممــا ال يقبلــه عقــل وال يقــره نقــل‪،‬‬ ‫ووصــل بهــم األمــر إلــى اصطنــاع الروايــات واختــاق األحاديــث‬ ‫وكذبهــا علــى أئمــة آل البيــت األطهــار رضــوان اهلل عليهــم أجمعيــن؛‬ ‫نموذجــا‬ ‫َف َح ْسـ ُبنا دراســة قضيــة المهــدي وحدهــا عنــد الشــيعة لنأخــذ‬ ‫ً‬ ‫عــن الضيــاع والشــتات الــذي عاشــه الشــيعة يف التاريــخ الغابــر‬ ‫ويعيشــونه يومنــا الحاضــر‪.‬‬ ‫وجاء الحديث عن هذه المسألة يف مبحثين‪:‬‬

‫المبحث األول‪ :‬المهدي يف ضوء عقيدة الشيعة‪.‬‬

‫المبحث الثاين‪ :‬المهدي يف ضوء عقيدة أهل السنة‪.‬‬

‫المهدييــن‬ ‫وختمــت ذلــك بجــدول للمقارنــة ثــم تعقيــب بعنــوان‪ :‬أي‬ ‫َّ‬ ‫أن ُي َّت َبــع؟‬ ‫أحـ ُّـق ْ‬

‫املبحث األول‪:‬‬ ‫املهدي يف ضوء عقيدة الشــيعة‬ ‫ُّ‬

‫املطلب األول‪ :‬والدة املهدي ونســبه‬ ‫أول‪ :‬مولده‬ ‫ً‬

‫ُتعــد عقيــدة المهــدي المنتظــر مــن العقائــد األساســية عنــد الشــيعة ال‬ ‫ســيما أهنــم قــد توارثوهــا عــر األجيــال‪ ،‬وزادوا عليهــا مســألة اإلمــام‬ ‫الغائــب‪ ،‬وقــد اختلفــوا يف يــوم مولده على خمســة أقــوال‪ :‬قيــل إنه ولد‬ ‫ســنة خمــس وخمســين ومائتيــن يف ليلــة النصف مــن شــعبان(((‪ ،‬وقيل‪:‬‬ ‫إنــه ولــد ســنة ســت وخمســين ومائتيــن(((‪ ،‬وقيــل أيضــا‪ :‬إن المهــدي‬ ‫ُولِــدَ ســنة أربــع وخمســين ومائتيــن(((‪ ،‬ويف قـ ٍ‬ ‫ـول رابــع أن المهــدي ُولِــدَ‬ ‫يف ثالــث وعشــرين مــن رمضــان ســنة ثمــان وخمســين ومائتيــن(((‪ ،‬ويف‬ ‫خامـ ٍ‬ ‫ـس أن المهــدي ُولِــدَ ســنة ســبع وخمســين ومائتيــن(((‪.‬‬ ‫ثان ًيــا‪ :‬المهــدي المنتظــر عنــد الشــيعة اإلماميــة مــن نســل الحســين‬ ‫رضــي اهلل عنــه‪.‬‬

‫علــي‬ ‫ورد يف كتبهــم أن رســول اهلل ﷺ ليلــة وفاتــه أملــى علــى‬ ‫ٍّ‬ ‫وصيتــه‪ ،‬وقــال‪« :‬ســيكون بعــدي اثنــا عشــر إما ًمــا‪ ،‬ومــن بعدهــم اثنــا‬ ‫عشــر مهد ًّيــا‪ ،‬فأنــت يــا علــي َّأول االثنــي عشــر إما ًمــا‪ ،‬وذكرهــم حتــى‬ ‫وصــل إلــى الحســن‪ ،‬وقــال‪ :‬إذا حضرتــه الوفــاة فليس ـ ّلمها إلــى ابنــه‬ ‫محمــد عليهــم الســام‪ ،‬فذلــك اثنــا عشــر‬ ‫محمــد المســتحفظ مــن آل ّ‬ ‫ّ‬ ‫إما ًمــا‪ ،‬ثـ ّـم يكــون مــن بعــده اثنــا عشــر مهد ًّيــا‪ ،‬فــإذا حضرتــه الوفــاة‬ ‫المقربيــن‪ ،‬لــه ثالثــة أســامٍ‪ :‬اســم كاســمي‬ ‫فليســ ّلمها إلــى ابنــه َّأول‬ ‫َّ‬ ‫ـدي‪ ،‬وهــو‬ ‫واســم أبــي وهــو عبــد اهلل وأحمــد‪ ،‬واالســم الثالــث المهـ ّ‬ ‫َّأول المؤمنيــن»(((‪.‬‬ ‫(((  المجلسي‪ :‬بحار األنوار (‪.)2/31‬‬ ‫(((  المرجع السابق (‪.)4/31‬‬ ‫(((  المرجع السابق (‪.)71/31‬‬ ‫(((  المرجع السابق (‪.)32/31‬‬ ‫(((  المرجع السابق (‪.)52/31‬‬ ‫(((  مختصر بصائر الدرجات (صـ ‪ 34‬ـ ‪.)44‬‬

‫‪13‬‬


‫المهدي بين الشيعة وأهل السنة‬ ‫وقــد جــاءت نصــوص أخــرى عنــد الشــيعة تربهــن علــى أن المهــدي‬ ‫أو بعبــارة أخــرى األئمــة بعــد الحســن رضــي اهلل عنــه مــن نســل‬ ‫الحســين رضــي اهلل عنــه(((‪.‬‬

‫والحــق أن هــذه روايــات غيــر صحيحــة كمــا جــزم بذلــك علمــاء‬ ‫ـات نس ـ َبتْه إلــى الحســين بأســانيد‬ ‫الشــيعة أنفســهم؛ فقــد جــاءت روايـ ٌ‬ ‫غيــر معلومــة‪ ،‬فالروايــة عــن مجهــول عــن مجهــول آخــر ومجهــول‬ ‫ثالــث‪ ،‬بــل هــذه الروايــة تناقــض روايــة أخــرى أن اإلمــام زيــد بــن علــي‬ ‫ـس ْ ِ‬ ‫ال َمــا ُم مِنَّــا‬ ‫ابــن الحســين كان يعتــر نفســه إما ًمــا‪ ،‬وكان يقــول‪َ ( :‬ل ْيـ َ‬ ‫ِ‬ ‫ـن ا ْل ِجهـ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ـط َعـ ِ‬ ‫ـس فِــي َب ْيتِـ ِـه َو َأ ْر َخــى ِسـت َْر ُه َو َث َّبـ َ‬ ‫ـاد‪ ،‬و َلكـ َّن ْال َمــا َم‬ ‫َ‬ ‫َمـ ْن َج َلـ َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ـع َع ـ ْن‬ ‫ـع َح ْو َز َت ـ ُه َو َج َ‬ ‫اهــدَ فــي َس ـبِي ِل اهَّلل َحـ َّـق ج َهــاده َو َد َفـ َ‬ ‫منَّــا َم ـ ْن َمنَـ َ‬ ‫يم ِ‬ ‫ــه و َذب َعــن ح ِر ِ‬ ‫ِ ِ ِ‬ ‫ــه)((( فهــذه الروايــة ُتثبــت أن زيــد بــن علــي‬ ‫ْ َ‬ ‫َرع َّيت َ َّ‬ ‫ابــن الحســين لــم يكــن مقـ ًّـرا بإمامــة أخيــه الباقــر‪ ،‬ويرتتــب علــى ذلــك‬ ‫َّ‬ ‫أن كل مــن جــاء مــن نســله فهــو ليــس بإمــام‪ ،‬وعلــى ذلــك فــا إمامــة‬ ‫للمهــدي ا ْل ُمدَّ عــى بنــص الحديــث الســابق‪.‬‬ ‫ثال ًثا‪ :‬أم المهدي المنتظر‪:‬‬

‫أيضــا يف اســم أ ّمــه علــى عــدة أقــوال‪ :‬منهــا نرجــس وسوســن‬ ‫اختلفــوا ً‬ ‫وصقيــل إلــى غير ذلــك(((‪.‬‬

‫والحــق أن الروايــات الــواردة يف اســم أم المهــدي جــاءت بــدون‬ ‫ٍ‬ ‫ـودي ب ُقـ ّـم‪ ،‬فهــل يمكــن‬ ‫منجــم يهـ ّ‬ ‫ســند‪ ،‬بــل جــاءت روايــة أخــرى عــن ِّ‬ ‫َّ‬ ‫ســتدل علــى نســب إمــام مــن األئمــة وعليــه مــدار آخــر الزمــان‬ ‫أن ُي‬ ‫بروايــة اليهــودي؟ بــل مــن العجــب أن الشــيعة أنفســهم اســتدلوا‬ ‫بحديــث هنــى فيــه رســول اهلل صلــى اهلل عليــه وســلم عــن تصديــق‬ ‫العرافيــن والمنجميــن‪ ،‬ففــي الحديــث عنــد المجلســي صاحــب بحار‬ ‫األنــوار يف بــاب مناهــي النبـ ّـي صلــى اهلل عليــه وســلم‪َ :‬أن ـ ُه ن َ​َهــى َع ـ ْن‬ ‫ـان العر ِ‬ ‫إ ْتيـ ِ‬ ‫اف‪ ،‬و َقـ َ‬ ‫ممــا ُأ ْنـ ِـز َل َعلــى‬ ‫َ‬ ‫ـال‪َ « :‬م ـ ْن َأ َتــا ُه َف َصدَّ َق ـ ُه َف َقــدَ َبـ ِـر َئ َّ‬ ‫َّ‬ ‫محم ٍ‬ ‫ــد»(‪.((1‬‬ ‫ُ َ َّ‬ ‫راب ًعا‪ :‬كيفية الوالدة المعجزة للمهدي عند الشيعة‪:‬‬

‫جــاء يف روايــات الشــيعة مــا يــدل على أن حمــل المهــدي ووالدته كانا‬ ‫يف يــوم واحــد‪ ،‬بــل لــم يظهــر علــى أمــه أثــر مــن حمــل إال وقــت الفجر‪،‬‬ ‫ولــم تشــعر بألــم‪ ،‬وأنــه نطــق وهــو يف بطــن أمــه‪ ،‬وولــد ســاجدً ا علــى‬ ‫الســماء وهــو يقــول‪:‬‬ ‫وجهــه جاث ًيــا علــى ركبتيــه راف ًعــا س ـ ّبابتيه نحــو ّ‬ ‫أشــهد أن ال إلــه إال اهلل وحــده ال شــريك لــه‪ّ ،‬‬ ‫وأن جــدّ ي رســول اهلل‬ ‫الســماء‪،‬‬ ‫صلــى اهلل عليــه وآلــه وســلم‪ ،‬ثــم تناولــه طائـ ٌـر وطــار بــه يف ّ‬ ‫جو ّ‬ ‫(‪((1‬‬ ‫وعنــد األربعيــن مــن يــوم مولــده كان يمشــي كطفــل عنــده ســنتان) ‪.‬‬ ‫والمالحــظ أن والدة المهــدي المنتظــر عنــد الشــيعة جــاءت معجــزة‬

‫(((  اإلرشاد يف معرفة حجج اهلل على العباد (صـ ‪.)٣‬‬ ‫(((  الكايف للكليني‪ ،‬كِتَاب ا ْلحج ِة‪ ،‬باب ما ي ْفص ُل بِ ِه بين دعْوى ا ْلم ِ‬ ‫ح ِّق َو ا ْل ُم ْبطِ ِل فِي َأ ْم ِر ا ِلْ َما َم ِة (جـ‬ ‫َْ َ َ َ‬ ‫ُ ُ َّ َ ُ َ ُ َ‬ ‫ُ‬ ‫‪ - 1‬صـ ‪ )573‬حديث رقم (‪.)61‬‬ ‫(((  اإلمام المهدي من المهد إلى الظهور (صـ ‪.)811‬‬ ‫(‪  ((1‬بحار األنوار (جـ ‪ 37‬ـ صـ ‪.)033‬‬ ‫(‪  ((1‬بحار األنوار (جـ ‪ 31‬ـ صـ‪ )41 - 31‬حديث رقم (‪.)41‬‬

‫‪14‬‬

‫لــم تحــدث ال لنبــي مرســل وال لعبــد ولي ‪-‬وكان ســيد الخلق رســولنا‬ ‫صلــى اهلل عليــه وســلم أولــى بذلــك‪ -‬إذ كان الحمــل والوضــع يف ليلــة‬ ‫واحــدة إضافــة إلــى نطقــه يف المهــد وهــو صغيــر‪ ،‬فــكل الروايــات التي‬ ‫وردت يف شــأن والدة المهــدي(‪ ((1‬غيــر صحيحــة بــل يناقــض بعضهــا‬ ‫وأيضــا تزامــن مــع نزولــه أنــه نطــق بالشــهادتين‪ ،‬وأنــه رفــع‬ ‫بعضــا‪ً ،‬‬ ‫ً‬ ‫نفسـ ُه بأنــه خاتــم األئمــة‪.‬‬ ‫ســبابته إلــى الســماء‪ ،‬وأنــه عرفهــم َ‬ ‫املطلب الثاين‪ :‬أســاء املهدي وذكره يف القرآن‬ ‫والســنة بزعم الشــيعة وقضية الغيبة‬ ‫أول‪ :‬أسماء المهدي المنتظر عند الشيعة‪:‬‬ ‫ً‬

‫اســما ولق ًبــا‪،‬‬ ‫ذكــروا للمهــدي مــا يزيــد عــن مائــة وســتة وثمانيــن ً‬ ‫مــن أبرزهــا‪( :‬أبــو القاســم وأبــو عبــداهلل وأبــو جعفــر وأبــو تــارب‬ ‫واألصــل وأمیــر األُمــراء‪ ((1()...‬وهــذه األســماء كلهــا لــم يــرد عليهــا‬ ‫دليــل صحيــح؛ فالحديــث الــذي جمــع هــذه األســماء مــروي عــن ٍ‬ ‫راو‬ ‫كــذاب ُيســمى «محمــد بــن ُجمهــور‬ ‫العمــي»(‪.((1‬‬ ‫ِّ‬ ‫ثان ًيا‪ :‬المهدي يف القرآن عند الشيعة‪:‬‬

‫اســتدل الشــيعة اإلمام ّيــة بكثيــر مــن اآليــات التــي يؤكــدون مــن‬ ‫خاللهــا أهنــا نزلــت يف اإلمــام المهــدي وأصحابــه‪ ،‬ومــن جملــة هــذه‬ ‫اآليــات علــى ســبيل المثــال مــا يلــي‪:‬‬ ‫﴿ون ُِريــدُ َأن ن َُّمـ َّن َع َلــى ا َّل ِذيـ َن ْاسـت ُْض ِع ُفوا فِــي األَ ْر ِ‬ ‫ض‬ ‫قــول اهلل تعالــى َ‬ ‫ِ‬ ‫ونَجع َله ِ‬ ‫ــم ا ْل َو ِارثيــ َن﴾ [ســورة القصــص‪ :‬آيــة ‪]5‬‬ ‫ــم َأئ َّمــ ًة َون َْج َع َل ُه ُ‬ ‫َ ْ َ ُ ْ‬ ‫والمعنــى كمــا فســره جمهــور اإلماميــة‪( :‬جــاء عــن أميــر المؤمنيــن‬ ‫عليــه الســام‪ :‬لتعطفــن الدنيــا علينــا بعــد شماســها عطــف الضــروس‬ ‫﴿ون ُِريــدُ َأن ن َُّمــ َّن َع َلــى ا َّل ِذيــ َن‬ ‫علــى ولدهــا‪ ،‬وتــا عقيــب ذلــك‪َ :‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ْاسـت ُْض ِع ُفوا فِــي األَ ْر ِ‬ ‫ض َون َْج َع َل ُهـ ْـم َأئِ َّمـ ًة َون َْج َع َل ُهـ ُـم ا ْل َوارثيـ َن﴾ وأشــار‬ ‫الــى أصحــاب المهــدي رضــي اهلل عنهــم بقولــه‪( :‬أال بأبــي وأمــي هــم‬ ‫مــن عدة‪ ،‬أســماؤهم يف الســماء معروفــة‪ ،‬ويف األرض مجهولــة‪.((1( )...‬‬

‫ومــن المعلــوم أن ســورة القصــص مكيــة‪ ،‬نزلــت بتمامهــا قبــل خالفــة‬ ‫الشــيخين وقبــل الهجــرة‪ ،‬فمــن أيــن جزمتــم بأهنــا تختــص بالمهــدي‬ ‫ـب بعــد أو ُبويــع؟(‪.((1‬‬ ‫ولــم يكــن اإلمــام األول قــد ن ُِّصـ َ‬ ‫ِ‬ ‫ــروا‬ ‫قــول اهلل تعالــى ﴿ َيــا َأ ُّي َهــا ا َّلذيــ َن آ َمن ْ‬ ‫ــروا َو َصابِ ُ‬ ‫ُوا‪ ‬اصبِ ُ‬ ‫اهَّلل َل َع َّل ُكـ ْـم ُت ْفلِ ُحـ َ‬ ‫ـون﴾ [آل عمــران‪ :‬آيــة‪ ]200‬قالــوا يف‬ ‫َو َرابِ ُط َ‬ ‫وا‪ ‬وا َّت ُقــوا َ‬ ‫تفســيره‪( :‬اصــروا علــى أداء الفرائــض‪ ،‬وصابــروا علــى أذيــة عدوكــم‪،‬‬ ‫ورابطــوا إمامكــم المهــدي المنتظــر)(‪.((1‬‬ ‫(‪  ((1‬بحار األنوار (جـ ‪ 15‬ـ ص ‪ )463‬حديث رقم (‪.)15‬‬ ‫(‪  ((1‬إلزام الناصب يف إثبات الحجة الغائب (جـ ‪ 1‬صـ ‪.)284 _ 184‬‬ ‫(‪  ((1‬رجال ابن داود (صـ ‪.)172‬‬ ‫(‪ « ((1‬ينابيع المودة (جـ ‪ 3‬ـ صـ ‪.)842‬‬ ‫ِ ِ‬ ‫المنزَ ل (جـ ‪ 21‬ـ صـ ‪.)161‬‬ ‫(‪  ((1‬األمثل يف تفسير‬ ‫كتاب اهلل ُ‬ ‫(‪  ((1‬ينابيع المودة (جـ ‪ 3‬ـ صـ ‪.)612‬‬

‫المهدي بين الشيعة وأهل السنة‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫وا‪ ‬الر ُسـ َ‬ ‫ـول‬ ‫اهَّلل َ‪ ‬و َأطي ُع َّ‬ ‫قــول اهلل تعالــى‪َ ﴿ :‬يــا َأ ُّي َهــا ا َّلذي ـ َن آ َمنُوا‪َ ‬أطي ُعــوا َ‬ ‫َو ُأ ْولِــي ْالَ ْمـ ِـر مِنْ ُكـ ْـم﴾ [النســاء‪ :‬آيــة ‪ ]59‬ذكــر علمــاء الشــيعة أن المراد‬ ‫بأولــي األمــر هنــا اإلمــام المهــدي وآبــاؤه الكــرام عليهــم الســام(‪.((1‬‬ ‫﴿و َي ُقو ُلـ َ‬ ‫ـون َلـ ْـو َل ُأ ْنـ ِـز َل َع َل ْيـ ِـه آ َيـ ٌة مِـ ْن َر ِّبـ ِـه َف ُقـ ْـل إِن َ​َّمــا‬ ‫قــول اهلل تعالــى‪َ :‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ـب ل ِ َّلـ ِـه َفا ْنتَظِـ ُـروا إ ِّنــي َم َع ُكـ ْـم مـ َن ا ْل ُمنْتَظريـ َن﴾ [يونــس‪ :‬آيــة ‪]20‬‬ ‫ا ْل َغ ْيـ ُ‬ ‫ويفســر علمــاء الشــيعة هــذه اآليــة بــأن مــراد اهلل تعالــى هنا هــو المهدي‬ ‫الحجــة‪ ،‬فهــو الغيــب وهــو المنتظــر‪ ،‬قــال القنــدوزي‪( :‬الغيــب يف هــذه‬ ‫اآليــة هــو الحجــة القائــم ‪.((1()...‬‬

‫والحــق أن المجلســي أفــرد با ًبــا بعنــوان (إهنــم عليهــم الســام ال‬ ‫﴿و َمــا ك َ‬ ‫اهَّلل ل ِ ُي ْطلِ َع ُكـ ْـم‬ ‫يعلمــون الغيــب ومعنــاه) اآليــات‪ :‬آل عمــران َ‬ ‫َان ُ‬ ‫َع َلــى ا ْل َغ ْي ِ‬ ‫دون‬ ‫ــب﴾ [آل عمــران‪ :‬آيــة ‪ ،((2(]179‬والســؤال لمــاذا َّ‬ ‫المجلســي هــذا البــاب يف كتابــه بحــار األنــوار ولــم يعقــب بعــده‬ ‫بشــيء؟ فانتفــى أن المــراد هــو المهــدي كمــا زعمــت الشــيعة‪.‬‬ ‫وذكــروا أكثــر مــن مائــة دليل مــن القــرآن يصرفــون مــراد اهلل تعالى إلى‬ ‫معتقدهــم‪ ،‬ومــا تفســيراهتم إال من بدع وغرائب التفســير وشــواذه‪.‬‬ ‫ثال ًثا‪ :‬المهدي يف السنة عند الشيعة‪:‬‬

‫ذكــر علمــاء الشــيعة اإلماميــة أكثــر مــن ثالثــة آالف حديــث كلهــا‬ ‫بعضــا مــن‬ ‫ُتدلــل علــى وجــود المهــدي المنتظــر‪ ،‬وإليــك أيهــا القــارئ ً‬ ‫هــذه األحاديــث‪:‬‬

‫عــن ابــن عبــاس رضــي اهلل عنــه قــال‪ :‬قــال رســول اهلل صلــى اهلل عليــه‬ ‫وآلــه وســلم‪« :‬إن عل ًّيــا إمــام أمتــي مــن بعــدي‪ ،‬ومــن ولــده القائــم‬ ‫المنتظــر الــذي إذا ظهــر يمــأ األرض عـ ً‬ ‫وظلما‪،‬‬ ‫ـورا‬ ‫ً‬ ‫ـدل كمــا ملئــت جـ ً‬ ‫ـيرا ونذيـ ًـرا إن الثابتيــن علــى القــول بإمامته يف‬ ‫والــذي بعثنــي بالحــق بشـ ً‬ ‫(‪((2‬‬ ‫زمــان غيبتــه ألعــز مــن الكربيــت األحمــر‪. »...‬‬

‫ولــم يذكــر القنــدوزي أي ســند ســوى قولــه قــال ابــن عبــاس‪ ،‬فهــل‬ ‫عاصــر ابــن عبــاس حتــى يســمع منــه؟! ناهيــك عن هــذه المغــاالة التي‬ ‫ال يقرهــا صريــح نقــل‪ ،‬وال يقبلهــا صحيــح عقــل‪.‬‬ ‫قــال رســول اهلل صلــى اهلل عليــه وآلــه وسـ َّلم‪« :‬ال تذهــب الدنيــا حتــى‬ ‫يبعــث اهلل رجــا مــن أهــل بيتــي‪ ،‬يواطــئ اســمه اســمي واســم أبيه اســم‬ ‫أبــي‪ ،‬يملؤهــا قس ـ ًطا وعـ ً‬ ‫ـورا» (‪ ((2‬وهــذا الحديــث‬ ‫ـدل كمــا ملئــت جـ ً‬ ‫ُينــايف كل مــا ذكــره الشــيعة واســتدلوا بــه؛ فليــس هــو المهــدي ابــن‬ ‫الحســن العســكري‪ ،‬وإنمــا هــو محمــد أو أحمــد بــن عبــد اهلل كمــا جاء‬ ‫يف الحديــث‪.‬‬ ‫عــن أبــي محمــد الحســن بــن علــي عليهمــا الســام يف الخــر الــذي‬ ‫روي عــن آبائــه عليهــم الســام‪« :‬إن األرض ال تخلــو مــن حجــة هلل‬

‫(‪  ((1‬المهدي عجل اهلل فرجه يف القرآن والسنة (صـ ‪ 32‬ـ ‪.)52‬‬ ‫(‪  ((1‬ينابيع المودة للقندوزي (صـ ‪.)805‬‬ ‫(‪  ((2‬بحار األنوار (جـ ‪ 62‬ـ صـ ‪.)89‬‬ ‫(‪  ((2‬ينابيع المودة (جـ ‪ 3‬ـ صـ ‪ 762‬و ‪.)862‬‬ ‫(‪  ((2‬بحار األنوار (جـ ‪ 15‬ـ صـ ‪.)28‬‬

‫علــى خلقــه‪ ،‬وإن مــن مــات ولــم يعرف إمــام زمانــه مات ميتــة جاهلية‪،‬‬ ‫فقــال‪ :‬إن هــذا حــق كمــا أن النهــار حــق‪ ،‬فقيــل‪ :‬يــا ابــن رســول اهلل فمن‬ ‫الحجــة واإلمــام بعــدك؟ فقــال‪ :‬ابنــي محمــد هــو اإلمــام والحجــة‬ ‫بعــدي‪ ،‬فمــن مــات ولــم يعرفــه مــات ميتــة جاهليــة»(‪.((2‬‬ ‫عــن محمــد بــن إبراهيــم الكــويف‪ :‬أن أبــا محمــد عليــه الســام بعــث‬ ‫إلــى بعــض مــن ســماه لــي بشــاة مذبوحــة‪ ،‬وقــال‪ :‬هــذه مــن عقيقــة ابني‬ ‫محمــد(‪.((2‬‬

‫ويمكــن الــرد علــى الحديثيــن الســابقين هبــذا النــص مــات الحســن‬ ‫العســكري ولــم يكــن لــه ولــد كمــا جــاءت الروايــة ( ُتو ِّفــي ولــم ُيــر لــه‬ ‫(‪((2‬‬ ‫أثــر‪ ،‬ولــم ُيعــرف لــه ولــد ظاهــر‪ ،‬فاقتســم ميراثــه أخوه جعفــر وأمــه)‬ ‫فــا وجــود لــه وال غيبــة‪.‬‬

‫إن الروايــات الشــيعية حــول المهــدي المنتظــر لــم تتوقــف عنــد ذكــره‬ ‫ووصفــه بــل انتقلــت لتتحــدث عــن وقــت ظهــوره‪ ،‬وكمــا تضاربــت‬ ‫رواياهتــم يف مجمــل صفــات المهــدي فقــد تباينــت أيضــا يف وقــت‬ ‫ظهــوره‪ ،‬ومــن العجــب أن هــذه األقــوال كلهــا ســاقها المجلســي يف‬ ‫كتابــه بحــار األنــوار‪ ،‬ويمكــن بيــان داللــة ذلــك مــن خــال مــا يلــي‪:‬‬

‫القــول األول‪ :‬ظهــوره يــوم النيــروز‪ ،‬عــن أبــي عبــد اهلل عليــه الســام‬ ‫قــال‪ :‬يــوم النيــروز هــو اليــوم الــذي يظهــر فيــه قائمنــا ‪-‬أهـ َـل البيــت‬ ‫ووال َة األمــر‪ -‬ويظفــره اهلل تعالــى(‪ ،((2‬والنيــروز عيــد الفــرس ومــن‬ ‫عــاش معهــم‪ ،‬يحتفلــون فيــه بقــدوم الربيــع‪.‬‬ ‫القــول الثــاين والثالــث‪ :‬ظهــوره يــوم عاشــوراء يــوم الســبت‪ ،‬قــال أبــو‬ ‫قائمــا‬ ‫جعفــر عليــه الســام‪ :‬كأين بالقائــم يــوم عاشــوراء يــوم الســبت ً‬ ‫بيــن الركــن والمقــام بيــن يديــه جربائيــل عليــه الســام ينــادي‪ :‬البيعــة‬ ‫وظلمــا(‪ ،((2‬ولمــاذا‬ ‫ـورا‬ ‫ً‬ ‫هلل‪ ،‬فيمــأ اهلل بــه األرض عــدال كمــا ملئــت جـ ً‬ ‫يــوم الســبت؟ ألن اليهــود تعظــم هــذا اليــوم كمــا هــو معلــوم‪.‬‬

‫القــول الرابــع‪ :‬ظهــوره يــوم الجمعــة أفضــل األعيــاد‪ ،‬وهــو الثامــن‬ ‫َ‬ ‫أهــل‬‫عشــر مــن ذي الحجــة‪ ،‬وكان يــوم الجمعــة‪ ،‬ويخــرج قائمنــا‬ ‫البيــت‪ -‬يــوم الجمعــة‪ ،‬وتقــوم القيامــة يــوم الجمعــة‪ ،‬ومــا مــن عمــل‬ ‫أفضــل يــوم الجمعــة مــن الصــاة علــى محمــد وآلــه‪.((2(...‬‬ ‫القــول الخامــس‪ :‬عــدم تحديــد ظهــوره بيــوم‪ ،‬يقــول المجلســي‪ :‬عــن‬ ‫أبــي بصيــر عــن أبــي جعفــر عليــه الســام قــال‪ :‬يقــوم القائــم عليــه‬ ‫الســام يف وتــر مــن الســنين‪ :‬تســع‪ ،‬واحــدة‪ ،‬ثــاث‪ ،‬خمــس‪.((2(...‬‬

‫ثــم تضاربــت أقــوال الشــيعة اإلماميــة‪ ،‬فأعلــن الفريــق الثــاين رفضهــم‬ ‫لتحديــد ظهــور المهــدي‪ ،‬واســتدلوا بجملــة مــن األحاديــث أســوق‬ ‫(‪  ((2‬وسائل الشيعة للحـر العاملي (جـ ‪ 61‬ـ صـ ‪.)642‬‬ ‫(‪  ((2‬بحار األنوار (جـ ‪ 15‬ـ صـ ‪.)51‬‬ ‫(‪  ((2‬فرق الشيعة (صـ ‪.)79‬‬ ‫(‪  ((2‬بحار األنوار (جـ ‪ 25‬ـ صـ ‪.)672‬‬ ‫(‪  ((2‬بحار األنوار (جـ ‪ 25‬ـ صـ ‪.)092‬‬ ‫(‪  ((2‬بحار األنوار (جـ ‪ - 65‬صـ ‪.)72‬‬ ‫(‪ )4( ((2‬بحار األنوار (جـ ‪ - 25‬صـ ‪.)532‬‬

‫‪15‬‬


‫المهدي بين الشيعة وأهل السنة‬ ‫وقــد جــاءت نصــوص أخــرى عنــد الشــيعة تربهــن علــى أن المهــدي‬ ‫أو بعبــارة أخــرى األئمــة بعــد الحســن رضــي اهلل عنــه مــن نســل‬ ‫الحســين رضــي اهلل عنــه(((‪.‬‬

‫والحــق أن هــذه روايــات غيــر صحيحــة كمــا جــزم بذلــك علمــاء‬ ‫ـات نس ـ َبتْه إلــى الحســين بأســانيد‬ ‫الشــيعة أنفســهم؛ فقــد جــاءت روايـ ٌ‬ ‫غيــر معلومــة‪ ،‬فالروايــة عــن مجهــول عــن مجهــول آخــر ومجهــول‬ ‫ثالــث‪ ،‬بــل هــذه الروايــة تناقــض روايــة أخــرى أن اإلمــام زيــد بــن علــي‬ ‫ـس ْ ِ‬ ‫ال َمــا ُم مِنَّــا‬ ‫ابــن الحســين كان يعتــر نفســه إما ًمــا‪ ،‬وكان يقــول‪َ ( :‬ل ْيـ َ‬ ‫ِ‬ ‫ـن ا ْل ِجهـ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ـط َعـ ِ‬ ‫ـس فِــي َب ْيتِـ ِـه َو َأ ْر َخــى ِسـت َْر ُه َو َث َّبـ َ‬ ‫ـاد‪ ،‬و َلكـ َّن ْال َمــا َم‬ ‫َ‬ ‫َمـ ْن َج َلـ َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ـع َع ـ ْن‬ ‫ـع َح ْو َز َت ـ ُه َو َج َ‬ ‫اهــدَ فــي َس ـبِي ِل اهَّلل َحـ َّـق ج َهــاده َو َد َفـ َ‬ ‫منَّــا َم ـ ْن َمنَـ َ‬ ‫يم ِ‬ ‫ــه و َذب َعــن ح ِر ِ‬ ‫ِ ِ ِ‬ ‫ــه)((( فهــذه الروايــة ُتثبــت أن زيــد بــن علــي‬ ‫ْ َ‬ ‫َرع َّيت َ َّ‬ ‫ابــن الحســين لــم يكــن مقـ ًّـرا بإمامــة أخيــه الباقــر‪ ،‬ويرتتــب علــى ذلــك‬ ‫َّ‬ ‫أن كل مــن جــاء مــن نســله فهــو ليــس بإمــام‪ ،‬وعلــى ذلــك فــا إمامــة‬ ‫للمهــدي ا ْل ُمدَّ عــى بنــص الحديــث الســابق‪.‬‬ ‫ثال ًثا‪ :‬أم المهدي المنتظر‪:‬‬

‫أيضــا يف اســم أ ّمــه علــى عــدة أقــوال‪ :‬منهــا نرجــس وسوســن‬ ‫اختلفــوا ً‬ ‫وصقيــل إلــى غير ذلــك(((‪.‬‬

‫والحــق أن الروايــات الــواردة يف اســم أم المهــدي جــاءت بــدون‬ ‫ٍ‬ ‫ـودي ب ُقـ ّـم‪ ،‬فهــل يمكــن‬ ‫منجــم يهـ ّ‬ ‫ســند‪ ،‬بــل جــاءت روايــة أخــرى عــن ِّ‬ ‫َّ‬ ‫ســتدل علــى نســب إمــام مــن األئمــة وعليــه مــدار آخــر الزمــان‬ ‫أن ُي‬ ‫بروايــة اليهــودي؟ بــل مــن العجــب أن الشــيعة أنفســهم اســتدلوا‬ ‫بحديــث هنــى فيــه رســول اهلل صلــى اهلل عليــه وســلم عــن تصديــق‬ ‫العرافيــن والمنجميــن‪ ،‬ففــي الحديــث عنــد المجلســي صاحــب بحار‬ ‫األنــوار يف بــاب مناهــي النبـ ّـي صلــى اهلل عليــه وســلم‪َ :‬أن ـ ُه ن َ​َهــى َع ـ ْن‬ ‫ـان العر ِ‬ ‫إ ْتيـ ِ‬ ‫اف‪ ،‬و َقـ َ‬ ‫ممــا ُأ ْنـ ِـز َل َعلــى‬ ‫َ‬ ‫ـال‪َ « :‬م ـ ْن َأ َتــا ُه َف َصدَّ َق ـ ُه َف َقــدَ َبـ ِـر َئ َّ‬ ‫َّ‬ ‫محم ٍ‬ ‫ــد»(‪.((1‬‬ ‫ُ َ َّ‬ ‫راب ًعا‪ :‬كيفية الوالدة المعجزة للمهدي عند الشيعة‪:‬‬

‫جــاء يف روايــات الشــيعة مــا يــدل على أن حمــل المهــدي ووالدته كانا‬ ‫يف يــوم واحــد‪ ،‬بــل لــم يظهــر علــى أمــه أثــر مــن حمــل إال وقــت الفجر‪،‬‬ ‫ولــم تشــعر بألــم‪ ،‬وأنــه نطــق وهــو يف بطــن أمــه‪ ،‬وولــد ســاجدً ا علــى‬ ‫الســماء وهــو يقــول‪:‬‬ ‫وجهــه جاث ًيــا علــى ركبتيــه راف ًعــا س ـ ّبابتيه نحــو ّ‬ ‫أشــهد أن ال إلــه إال اهلل وحــده ال شــريك لــه‪ّ ،‬‬ ‫وأن جــدّ ي رســول اهلل‬ ‫الســماء‪،‬‬ ‫صلــى اهلل عليــه وآلــه وســلم‪ ،‬ثــم تناولــه طائـ ٌـر وطــار بــه يف ّ‬ ‫جو ّ‬ ‫(‪((1‬‬ ‫وعنــد األربعيــن مــن يــوم مولــده كان يمشــي كطفــل عنــده ســنتان) ‪.‬‬ ‫والمالحــظ أن والدة المهــدي المنتظــر عنــد الشــيعة جــاءت معجــزة‬

‫(((  اإلرشاد يف معرفة حجج اهلل على العباد (صـ ‪.)٣‬‬ ‫(((  الكايف للكليني‪ ،‬كِتَاب ا ْلحج ِة‪ ،‬باب ما ي ْفص ُل بِ ِه بين دعْوى ا ْلم ِ‬ ‫ح ِّق َو ا ْل ُم ْبطِ ِل فِي َأ ْم ِر ا ِلْ َما َم ِة (جـ‬ ‫َْ َ َ َ‬ ‫ُ ُ َّ َ ُ َ ُ َ‬ ‫ُ‬ ‫‪ - 1‬صـ ‪ )573‬حديث رقم (‪.)61‬‬ ‫(((  اإلمام المهدي من المهد إلى الظهور (صـ ‪.)811‬‬ ‫(‪  ((1‬بحار األنوار (جـ ‪ 37‬ـ صـ ‪.)033‬‬ ‫(‪  ((1‬بحار األنوار (جـ ‪ 31‬ـ صـ‪ )41 - 31‬حديث رقم (‪.)41‬‬

‫‪14‬‬

‫لــم تحــدث ال لنبــي مرســل وال لعبــد ولي ‪-‬وكان ســيد الخلق رســولنا‬ ‫صلــى اهلل عليــه وســلم أولــى بذلــك‪ -‬إذ كان الحمــل والوضــع يف ليلــة‬ ‫واحــدة إضافــة إلــى نطقــه يف المهــد وهــو صغيــر‪ ،‬فــكل الروايــات التي‬ ‫وردت يف شــأن والدة المهــدي(‪ ((1‬غيــر صحيحــة بــل يناقــض بعضهــا‬ ‫وأيضــا تزامــن مــع نزولــه أنــه نطــق بالشــهادتين‪ ،‬وأنــه رفــع‬ ‫بعضــا‪ً ،‬‬ ‫ً‬ ‫نفسـ ُه بأنــه خاتــم األئمــة‪.‬‬ ‫ســبابته إلــى الســماء‪ ،‬وأنــه عرفهــم َ‬ ‫املطلب الثاين‪ :‬أســاء املهدي وذكره يف القرآن‬ ‫والســنة بزعم الشــيعة وقضية الغيبة‬ ‫أول‪ :‬أسماء المهدي المنتظر عند الشيعة‪:‬‬ ‫ً‬

‫اســما ولق ًبــا‪،‬‬ ‫ذكــروا للمهــدي مــا يزيــد عــن مائــة وســتة وثمانيــن ً‬ ‫مــن أبرزهــا‪( :‬أبــو القاســم وأبــو عبــداهلل وأبــو جعفــر وأبــو تــارب‬ ‫واألصــل وأمیــر األُمــراء‪ ((1()...‬وهــذه األســماء كلهــا لــم يــرد عليهــا‬ ‫دليــل صحيــح؛ فالحديــث الــذي جمــع هــذه األســماء مــروي عــن ٍ‬ ‫راو‬ ‫كــذاب ُيســمى «محمــد بــن ُجمهــور‬ ‫العمــي»(‪.((1‬‬ ‫ِّ‬ ‫ثان ًيا‪ :‬المهدي يف القرآن عند الشيعة‪:‬‬

‫اســتدل الشــيعة اإلمام ّيــة بكثيــر مــن اآليــات التــي يؤكــدون مــن‬ ‫خاللهــا أهنــا نزلــت يف اإلمــام المهــدي وأصحابــه‪ ،‬ومــن جملــة هــذه‬ ‫اآليــات علــى ســبيل المثــال مــا يلــي‪:‬‬ ‫﴿ون ُِريــدُ َأن ن َُّمـ َّن َع َلــى ا َّل ِذيـ َن ْاسـت ُْض ِع ُفوا فِــي األَ ْر ِ‬ ‫ض‬ ‫قــول اهلل تعالــى َ‬ ‫ِ‬ ‫ونَجع َله ِ‬ ‫ــم ا ْل َو ِارثيــ َن﴾ [ســورة القصــص‪ :‬آيــة ‪]5‬‬ ‫ــم َأئ َّمــ ًة َون َْج َع َل ُه ُ‬ ‫َ ْ َ ُ ْ‬ ‫والمعنــى كمــا فســره جمهــور اإلماميــة‪( :‬جــاء عــن أميــر المؤمنيــن‬ ‫عليــه الســام‪ :‬لتعطفــن الدنيــا علينــا بعــد شماســها عطــف الضــروس‬ ‫﴿ون ُِريــدُ َأن ن َُّمــ َّن َع َلــى ا َّل ِذيــ َن‬ ‫علــى ولدهــا‪ ،‬وتــا عقيــب ذلــك‪َ :‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ْاسـت ُْض ِع ُفوا فِــي األَ ْر ِ‬ ‫ض َون َْج َع َل ُهـ ْـم َأئِ َّمـ ًة َون َْج َع َل ُهـ ُـم ا ْل َوارثيـ َن﴾ وأشــار‬ ‫الــى أصحــاب المهــدي رضــي اهلل عنهــم بقولــه‪( :‬أال بأبــي وأمــي هــم‬ ‫مــن عدة‪ ،‬أســماؤهم يف الســماء معروفــة‪ ،‬ويف األرض مجهولــة‪.((1( )...‬‬

‫ومــن المعلــوم أن ســورة القصــص مكيــة‪ ،‬نزلــت بتمامهــا قبــل خالفــة‬ ‫الشــيخين وقبــل الهجــرة‪ ،‬فمــن أيــن جزمتــم بأهنــا تختــص بالمهــدي‬ ‫ـب بعــد أو ُبويــع؟(‪.((1‬‬ ‫ولــم يكــن اإلمــام األول قــد ن ُِّصـ َ‬ ‫ِ‬ ‫ــروا‬ ‫قــول اهلل تعالــى ﴿ َيــا َأ ُّي َهــا ا َّلذيــ َن آ َمن ْ‬ ‫ــروا َو َصابِ ُ‬ ‫ُوا‪ ‬اصبِ ُ‬ ‫اهَّلل َل َع َّل ُكـ ْـم ُت ْفلِ ُحـ َ‬ ‫ـون﴾ [آل عمــران‪ :‬آيــة‪ ]200‬قالــوا يف‬ ‫َو َرابِ ُط َ‬ ‫وا‪ ‬وا َّت ُقــوا َ‬ ‫تفســيره‪( :‬اصــروا علــى أداء الفرائــض‪ ،‬وصابــروا علــى أذيــة عدوكــم‪،‬‬ ‫ورابطــوا إمامكــم المهــدي المنتظــر)(‪.((1‬‬ ‫(‪  ((1‬بحار األنوار (جـ ‪ 15‬ـ ص ‪ )463‬حديث رقم (‪.)15‬‬ ‫(‪  ((1‬إلزام الناصب يف إثبات الحجة الغائب (جـ ‪ 1‬صـ ‪.)284 _ 184‬‬ ‫(‪  ((1‬رجال ابن داود (صـ ‪.)172‬‬ ‫(‪ « ((1‬ينابيع المودة (جـ ‪ 3‬ـ صـ ‪.)842‬‬ ‫ِ ِ‬ ‫المنزَ ل (جـ ‪ 21‬ـ صـ ‪.)161‬‬ ‫(‪  ((1‬األمثل يف تفسير‬ ‫كتاب اهلل ُ‬ ‫(‪  ((1‬ينابيع المودة (جـ ‪ 3‬ـ صـ ‪.)612‬‬

‫المهدي بين الشيعة وأهل السنة‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫وا‪ ‬الر ُسـ َ‬ ‫ـول‬ ‫اهَّلل َ‪ ‬و َأطي ُع َّ‬ ‫قــول اهلل تعالــى‪َ ﴿ :‬يــا َأ ُّي َهــا ا َّلذي ـ َن آ َمنُوا‪َ ‬أطي ُعــوا َ‬ ‫َو ُأ ْولِــي ْالَ ْمـ ِـر مِنْ ُكـ ْـم﴾ [النســاء‪ :‬آيــة ‪ ]59‬ذكــر علمــاء الشــيعة أن المراد‬ ‫بأولــي األمــر هنــا اإلمــام المهــدي وآبــاؤه الكــرام عليهــم الســام(‪.((1‬‬ ‫﴿و َي ُقو ُلـ َ‬ ‫ـون َلـ ْـو َل ُأ ْنـ ِـز َل َع َل ْيـ ِـه آ َيـ ٌة مِـ ْن َر ِّبـ ِـه َف ُقـ ْـل إِن َ​َّمــا‬ ‫قــول اهلل تعالــى‪َ :‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ـب ل ِ َّلـ ِـه َفا ْنتَظِـ ُـروا إ ِّنــي َم َع ُكـ ْـم مـ َن ا ْل ُمنْتَظريـ َن﴾ [يونــس‪ :‬آيــة ‪]20‬‬ ‫ا ْل َغ ْيـ ُ‬ ‫ويفســر علمــاء الشــيعة هــذه اآليــة بــأن مــراد اهلل تعالــى هنا هــو المهدي‬ ‫الحجــة‪ ،‬فهــو الغيــب وهــو المنتظــر‪ ،‬قــال القنــدوزي‪( :‬الغيــب يف هــذه‬ ‫اآليــة هــو الحجــة القائــم ‪.((1()...‬‬

‫والحــق أن المجلســي أفــرد با ًبــا بعنــوان (إهنــم عليهــم الســام ال‬ ‫﴿و َمــا ك َ‬ ‫اهَّلل ل ِ ُي ْطلِ َع ُكـ ْـم‬ ‫يعلمــون الغيــب ومعنــاه) اآليــات‪ :‬آل عمــران َ‬ ‫َان ُ‬ ‫َع َلــى ا ْل َغ ْي ِ‬ ‫دون‬ ‫ــب﴾ [آل عمــران‪ :‬آيــة ‪ ،((2(]179‬والســؤال لمــاذا َّ‬ ‫المجلســي هــذا البــاب يف كتابــه بحــار األنــوار ولــم يعقــب بعــده‬ ‫بشــيء؟ فانتفــى أن المــراد هــو المهــدي كمــا زعمــت الشــيعة‪.‬‬ ‫وذكــروا أكثــر مــن مائــة دليل مــن القــرآن يصرفــون مــراد اهلل تعالى إلى‬ ‫معتقدهــم‪ ،‬ومــا تفســيراهتم إال من بدع وغرائب التفســير وشــواذه‪.‬‬ ‫ثال ًثا‪ :‬المهدي يف السنة عند الشيعة‪:‬‬

‫ذكــر علمــاء الشــيعة اإلماميــة أكثــر مــن ثالثــة آالف حديــث كلهــا‬ ‫بعضــا مــن‬ ‫ُتدلــل علــى وجــود المهــدي المنتظــر‪ ،‬وإليــك أيهــا القــارئ ً‬ ‫هــذه األحاديــث‪:‬‬

‫عــن ابــن عبــاس رضــي اهلل عنــه قــال‪ :‬قــال رســول اهلل صلــى اهلل عليــه‬ ‫وآلــه وســلم‪« :‬إن عل ًّيــا إمــام أمتــي مــن بعــدي‪ ،‬ومــن ولــده القائــم‬ ‫المنتظــر الــذي إذا ظهــر يمــأ األرض عـ ً‬ ‫وظلما‪،‬‬ ‫ـورا‬ ‫ً‬ ‫ـدل كمــا ملئــت جـ ً‬ ‫ـيرا ونذيـ ًـرا إن الثابتيــن علــى القــول بإمامته يف‬ ‫والــذي بعثنــي بالحــق بشـ ً‬ ‫(‪((2‬‬ ‫زمــان غيبتــه ألعــز مــن الكربيــت األحمــر‪. »...‬‬

‫ولــم يذكــر القنــدوزي أي ســند ســوى قولــه قــال ابــن عبــاس‪ ،‬فهــل‬ ‫عاصــر ابــن عبــاس حتــى يســمع منــه؟! ناهيــك عن هــذه المغــاالة التي‬ ‫ال يقرهــا صريــح نقــل‪ ،‬وال يقبلهــا صحيــح عقــل‪.‬‬ ‫قــال رســول اهلل صلــى اهلل عليــه وآلــه وسـ َّلم‪« :‬ال تذهــب الدنيــا حتــى‬ ‫يبعــث اهلل رجــا مــن أهــل بيتــي‪ ،‬يواطــئ اســمه اســمي واســم أبيه اســم‬ ‫أبــي‪ ،‬يملؤهــا قس ـ ًطا وعـ ً‬ ‫ـورا» (‪ ((2‬وهــذا الحديــث‬ ‫ـدل كمــا ملئــت جـ ً‬ ‫ُينــايف كل مــا ذكــره الشــيعة واســتدلوا بــه؛ فليــس هــو المهــدي ابــن‬ ‫الحســن العســكري‪ ،‬وإنمــا هــو محمــد أو أحمــد بــن عبــد اهلل كمــا جاء‬ ‫يف الحديــث‪.‬‬ ‫عــن أبــي محمــد الحســن بــن علــي عليهمــا الســام يف الخــر الــذي‬ ‫روي عــن آبائــه عليهــم الســام‪« :‬إن األرض ال تخلــو مــن حجــة هلل‬

‫(‪  ((1‬المهدي عجل اهلل فرجه يف القرآن والسنة (صـ ‪ 32‬ـ ‪.)52‬‬ ‫(‪  ((1‬ينابيع المودة للقندوزي (صـ ‪.)805‬‬ ‫(‪  ((2‬بحار األنوار (جـ ‪ 62‬ـ صـ ‪.)89‬‬ ‫(‪  ((2‬ينابيع المودة (جـ ‪ 3‬ـ صـ ‪ 762‬و ‪.)862‬‬ ‫(‪  ((2‬بحار األنوار (جـ ‪ 15‬ـ صـ ‪.)28‬‬

‫علــى خلقــه‪ ،‬وإن مــن مــات ولــم يعرف إمــام زمانــه مات ميتــة جاهلية‪،‬‬ ‫فقــال‪ :‬إن هــذا حــق كمــا أن النهــار حــق‪ ،‬فقيــل‪ :‬يــا ابــن رســول اهلل فمن‬ ‫الحجــة واإلمــام بعــدك؟ فقــال‪ :‬ابنــي محمــد هــو اإلمــام والحجــة‬ ‫بعــدي‪ ،‬فمــن مــات ولــم يعرفــه مــات ميتــة جاهليــة»(‪.((2‬‬ ‫عــن محمــد بــن إبراهيــم الكــويف‪ :‬أن أبــا محمــد عليــه الســام بعــث‬ ‫إلــى بعــض مــن ســماه لــي بشــاة مذبوحــة‪ ،‬وقــال‪ :‬هــذه مــن عقيقــة ابني‬ ‫محمــد(‪.((2‬‬

‫ويمكــن الــرد علــى الحديثيــن الســابقين هبــذا النــص مــات الحســن‬ ‫العســكري ولــم يكــن لــه ولــد كمــا جــاءت الروايــة ( ُتو ِّفــي ولــم ُيــر لــه‬ ‫(‪((2‬‬ ‫أثــر‪ ،‬ولــم ُيعــرف لــه ولــد ظاهــر‪ ،‬فاقتســم ميراثــه أخوه جعفــر وأمــه)‬ ‫فــا وجــود لــه وال غيبــة‪.‬‬

‫إن الروايــات الشــيعية حــول المهــدي المنتظــر لــم تتوقــف عنــد ذكــره‬ ‫ووصفــه بــل انتقلــت لتتحــدث عــن وقــت ظهــوره‪ ،‬وكمــا تضاربــت‬ ‫رواياهتــم يف مجمــل صفــات المهــدي فقــد تباينــت أيضــا يف وقــت‬ ‫ظهــوره‪ ،‬ومــن العجــب أن هــذه األقــوال كلهــا ســاقها المجلســي يف‬ ‫كتابــه بحــار األنــوار‪ ،‬ويمكــن بيــان داللــة ذلــك مــن خــال مــا يلــي‪:‬‬

‫القــول األول‪ :‬ظهــوره يــوم النيــروز‪ ،‬عــن أبــي عبــد اهلل عليــه الســام‬ ‫قــال‪ :‬يــوم النيــروز هــو اليــوم الــذي يظهــر فيــه قائمنــا ‪-‬أهـ َـل البيــت‬ ‫ووال َة األمــر‪ -‬ويظفــره اهلل تعالــى(‪ ،((2‬والنيــروز عيــد الفــرس ومــن‬ ‫عــاش معهــم‪ ،‬يحتفلــون فيــه بقــدوم الربيــع‪.‬‬ ‫القــول الثــاين والثالــث‪ :‬ظهــوره يــوم عاشــوراء يــوم الســبت‪ ،‬قــال أبــو‬ ‫قائمــا‬ ‫جعفــر عليــه الســام‪ :‬كأين بالقائــم يــوم عاشــوراء يــوم الســبت ً‬ ‫بيــن الركــن والمقــام بيــن يديــه جربائيــل عليــه الســام ينــادي‪ :‬البيعــة‬ ‫وظلمــا(‪ ،((2‬ولمــاذا‬ ‫ـورا‬ ‫ً‬ ‫هلل‪ ،‬فيمــأ اهلل بــه األرض عــدال كمــا ملئــت جـ ً‬ ‫يــوم الســبت؟ ألن اليهــود تعظــم هــذا اليــوم كمــا هــو معلــوم‪.‬‬

‫القــول الرابــع‪ :‬ظهــوره يــوم الجمعــة أفضــل األعيــاد‪ ،‬وهــو الثامــن‬ ‫َ‬ ‫أهــل‬‫عشــر مــن ذي الحجــة‪ ،‬وكان يــوم الجمعــة‪ ،‬ويخــرج قائمنــا‬ ‫البيــت‪ -‬يــوم الجمعــة‪ ،‬وتقــوم القيامــة يــوم الجمعــة‪ ،‬ومــا مــن عمــل‬ ‫أفضــل يــوم الجمعــة مــن الصــاة علــى محمــد وآلــه‪.((2(...‬‬ ‫القــول الخامــس‪ :‬عــدم تحديــد ظهــوره بيــوم‪ ،‬يقــول المجلســي‪ :‬عــن‬ ‫أبــي بصيــر عــن أبــي جعفــر عليــه الســام قــال‪ :‬يقــوم القائــم عليــه‬ ‫الســام يف وتــر مــن الســنين‪ :‬تســع‪ ،‬واحــدة‪ ،‬ثــاث‪ ،‬خمــس‪.((2(...‬‬

‫ثــم تضاربــت أقــوال الشــيعة اإلماميــة‪ ،‬فأعلــن الفريــق الثــاين رفضهــم‬ ‫لتحديــد ظهــور المهــدي‪ ،‬واســتدلوا بجملــة مــن األحاديــث أســوق‬ ‫(‪  ((2‬وسائل الشيعة للحـر العاملي (جـ ‪ 61‬ـ صـ ‪.)642‬‬ ‫(‪  ((2‬بحار األنوار (جـ ‪ 15‬ـ صـ ‪.)51‬‬ ‫(‪  ((2‬فرق الشيعة (صـ ‪.)79‬‬ ‫(‪  ((2‬بحار األنوار (جـ ‪ 25‬ـ صـ ‪.)672‬‬ ‫(‪  ((2‬بحار األنوار (جـ ‪ 25‬ـ صـ ‪.)092‬‬ ‫(‪  ((2‬بحار األنوار (جـ ‪ - 65‬صـ ‪.)72‬‬ ‫(‪ )4( ((2‬بحار األنوار (جـ ‪ - 25‬صـ ‪.)532‬‬

‫‪15‬‬


‫المهدي بين الشيعة وأهل السنة‬ ‫بعضها‪:‬‬

‫عــن عبــد الرحمــن بــن كثيــر قــال‪( :‬كنــت عنــد أبــي عبــد اهلل ‪-‬عليــه‬ ‫الســام‪ -‬إذ دخــل عليــه مهــزم‪ ،‬فقــال لــه‪ :‬جعلــت فــداك أخــرين عــن‬ ‫هــذا األمــر الــذي ننتظــره متــى هــو؟ فقــال‪ :‬يــا مهــزم كــذب الوقاتــون‪،‬‬ ‫وهلــك المســتعجلون‪ ،‬ونجــا المســلمون)‪.‬‬

‫عــن الفضيــل بــن يســار عــن أبــي جعفــر ‪-‬عليــه الســام‪ -‬قــال قلــت‬ ‫لــه‪ :‬لهــذا األمــر وقــت؟ فقــال‪( :‬كــذب الوقاتــون‪ ،‬كــذب الوقاتــون‪ ،‬إن‬ ‫موســى عليــه الســام لمــا خــرج وافــدً ا إلــى ربــه واعدهــم ثالثيــن يو ًما‪،‬‬ ‫فلمــا زاده اهلل علــى الثالثيــن عشـ ًـرا قــال قومــه‪ :‬قــد أخلفنــا موســى‪،‬‬ ‫فصنعــوا مــا صنعــوا‪ ،‬فــإذا حدثناكــم بحديــث فجــاء علــى مــا حدثناكــم‬ ‫بــه فقولــوا‪ :‬صــدق اهلل‪ ،‬وإذا حدثناكــم بحديــث فجــاء علــى خــاف مــا‬ ‫حدثناكــم بــه فقولــوا‪ :‬صــدق اهلل‪ ،‬تؤجــروا مرتيــن)(‪.((3‬‬

‫ويف اختالفهــم رد عليهــم حيــث لــم يتفقــوا علــى توقيــت ظهــور‬ ‫بعضــا‪.‬‬ ‫المهــدي أو عــدم توقيتــه مــن خــال روايــات يكــذب بعضهــا ً‬ ‫راب ًعا‪ :‬غيبة المهدي المنتظر عند الشيعة‪:‬‬

‫والغيبــة عندهــم تعنــي اختفــاء المهــدي المنتظــر فــرة مــن الزمــن‪،‬‬ ‫ولقــد قســموا الغيبــة قســمين‪:‬‬ ‫القسم األول الغيبة الصغرى‪:‬‬

‫وكان ســببها خــوف المهــدي المنتظــر مــن القتــل حيث نســب الشــيعة‬ ‫للخلفــاء العباســيين مالحقــة المهــدي لقتلــه‪ ،‬وقــد بــدأت فــرة الغيبــة‬ ‫ـكري‬ ‫الصغــرى ‪-‬بحســب روايــة الشــيعة‪ -‬بوفــاة اإلمــام الحســن العسـ ِّ‬ ‫ـدي خمس‬ ‫عليــه الســام‪ -‬عــام ‪260‬هـــ حيــث كان عمــر اإلمام المهـ ِّ‬‫ـتمرت قرابــة ‪ 70‬ســنة حتــى عــام ‪ 329‬هـــ حيــث‬ ‫ســنين تقري ًبــا‪ ،‬واسـ َّ‬ ‫انتهــت بوفــاة الســفير الرابــع وبدايــة الغيبــة الكــرى‪.‬‬ ‫ودليــل الشــيعة علــى الغيبــة المزعومــة مــا ُروي عــن أبــي بصيــر قــال‬ ‫قلــت ألبــي عبــد اهلل عليــه الســام‪ :‬كان أبــو جعفــر يقــول‪( :‬لِقائــم آل‬ ‫محمــد غيبتــان‪ :‬واحــدة طويلــة واألخــرى قصيــرة‪ ،‬قــال فقــال لــي‪:‬‬ ‫َّ‬ ‫(‪((3‬‬ ‫نعــم يــا أبــا بصيــر‪ ،‬أحدهمــا أطــول مــن األخــرى) ‪.‬‬ ‫أسباب الغيبة الصغرى‪:‬‬

‫ذكــر الشــيعة عــدة دوا ٍع للغيبــة الصغــرى تــدور حول ســببين رئيســين‪:‬‬ ‫األول منهمــا الخــوف علــى المهــدي المنتظــر مــن قتــل العباســيين لــه‪،‬‬ ‫واســتدلوا بحديــث نســبوه لرســول اهلل صلــى اهلل عليــه وســلم أنــه قال‪:‬‬ ‫«ال بــدَّ للغــام مــن غيبــة‪ ،‬فقيــل لــه‪َ :‬ولِـ َـم يــا رســول اهلل؟ قــال‪ :‬يخــاف‬ ‫القتــل» (‪ ((3‬والثــاين‪ :‬هتيئــة األمــة بأكملهــا للغيبــة الكــرى‪ ،‬التــي بــدأت‬ ‫مــن عــام ‪ 329‬هـــ بمــوت الســفير الرابــع للمهــدي المنتظــر‪.‬‬ ‫(‪  ((3‬الغيبة (صـ ‪.)503 - 403‬‬ ‫(‪  ((3‬بحار األنوار (جـ ‪ - 15‬صـ ‪.)563‬‬ ‫(‪  ((3‬علل الشرائع (جـ ‪ - 1‬صـ ‪.)342‬‬

‫‪16‬‬

‫سفراء المهدي يف الغيبة الصغرى‪:‬‬

‫ادعــى الشــيعة أن لمهديهــم الغائــب أربعــة ســفراء‪ :‬الســفير األول‪ :‬أبو‬ ‫أيضــا لوالــده اإلمــام‬ ‫عمــر عثمــان بــن ســعيد العمــري‪ ،‬وقــد كان نائ ًبــا ً‬ ‫ـفيرا أو نائ ًبــا للمهــدي مــدة خمــس ســنوات‪.‬‬ ‫العســكري(‪ ،((3‬وظــل سـ ً‬

‫ـري‪،‬‬ ‫محمــد بــن عثمــان بــن ســعيد العمـ ّ‬ ‫الســفير الثــاين‪ :‬أبــو جعفــر َّ‬ ‫العســكري والــد المهــدي وزكاه وأشــهد النــاس‬ ‫وقــد ذكــره اإلمــام‬ ‫ّ‬ ‫(‪((3‬‬ ‫أيضــا نائ ًبــا‬ ‫أيضــا وكيــل لإلمــام المهــدي ‪ ،‬وظــل ً‬ ‫أنــه وكيلــه‪ ،‬وولــده ً‬ ‫للمهــدي مــدة أربعيــن ســنة‪.‬‬ ‫الســفير الثالــث‪ :‬أبــو القاســم حســين بــن روح النوبختــي؛ ذكــره وأثنى‬ ‫العمــري قبــل وفاتــه بفــرة(‪ ،((3‬وظــل نائ ًبــا‬ ‫محمــد بــن عثمــان‬ ‫ّ‬ ‫عليــه َّ‬ ‫للمهــدي مــدة إحــدى وعشــرين ســنة‪.‬‬

‫ـمري؛ ويف هنايــة‬ ‫محمــد السـ ّ‬ ‫الســفير الرابــع‪ :‬أبــو الحســن علـ ّـي بــن َّ‬ ‫المهــدي يخــر النــاس بانتهــاء‬ ‫ســفارته خــرج التوقيــع مــن اإلمــام‬ ‫ِّ‬ ‫الغيبــة الصغــرى وبــدء الغيبــة الكــرى‪ ،‬فكتــب المهــدي بزعمهــم‪:‬‬ ‫ـمري! أعظــم اهلل‬ ‫محمــد السـ ّ‬ ‫«بســم اهلل الرحمــن الرحيــم‪ ،‬يــا علـ ّـي بــن َّ‬ ‫أجــر إخوانــك فيــك‪ ،‬فإ َّنــك م ِّيــت مــا بينــك وبيــن ســتة أ ّيــام‪ ،‬فاجمــع‬ ‫أمــرك وال تـ ِ‬ ‫ـوص إلــى أحـ ٍـد فيقــوم مقامــك بعــد وفاتــك‪ ،‬فقــد وقعــت‬ ‫الغيبــة التا َّمــة‪ ،‬فــا ظهــور إال بــإذن اهلل تعالــى ذكــره‪ ،‬وذلــك بعــد طــول‬ ‫ـورا‪ ،‬وســيأيت لشــيعتي مــن‬ ‫األمــد وقســوة القلــوب وامتــاء األرض جـ ً‬ ‫يدَّ ِعــي المشــاهدة‪ ،‬أال فمــن ا َّدعــى المشــاهدة قبــل خــروج الســفياينّ‬ ‫والصيحــة فهــو َّ‬ ‫العلــي‬ ‫قــوة إال بــاهلل‬ ‫كــذاب مفــر‪ ،‬وال حــول وال َّ‬ ‫ّ‬ ‫العظيــم»(‪ ،((3‬وظلــت فــرة نيابتــه عــن المهــدي مــدة ثــاث ســنوات‬ ‫كمــا يذكــر الشــيعة‪.‬‬ ‫ـي هنــا‪ :‬مــا الدليــل علــى كــون هــؤالء ســفراء عــن‬ ‫والســؤال المنطقـ ُّ‬ ‫المهــدي؟ ألــم يظهــر َخلـ ٌـق كثيــرون يدعــون أهنــم نــواب عــن رســول‬ ‫ِ‬ ‫زورا‬ ‫اهلل صلــى اهلل عليــه وســلم‪ ،‬وكانــوا كلهــم م َّمــن ادعــى النبــوة ً‬ ‫وهبتا ًنــا؟ فليــس هنــاك مــن دليــل صحيــح علــى صحــة ســفارة هــؤالء‬ ‫عــن المهــدي عنــد الشــيعة علــى فــرض القــول بأنــه قــد ولــد شــخص‬ ‫اســمه المهــدي يف ذلــك الزمــن؟‬ ‫القسم الثاين‪ :‬الغيبة الكبرى‬

‫بدأت من عام ‪ 329‬هـ بموت السفير الرابع للمهدي المنتظر‪.‬‬

‫لماذا الغيبة الكبرى؟‬

‫ذكر علماء الشيعة عدة أسباب‪ ،‬منها على سبيل المثال‪:‬‬

‫تمحيــص المؤمنيــن يف زمــن الغيبة الكــرى؛ فإن االمتحــان األصعب‬ ‫علــى المؤمــن أن يمــر بمرحلــة االبتــاء أو االختبــار‪ ،‬فالمؤمــن القــوي‬ ‫(‪  ((3‬يراجع‪ :‬بحار األنوار (جـ ‪ 15‬ـ صـ ‪.)443‬‬ ‫(‪  ((3‬ينظر‪ :‬بحار األنوار (جـ ‪ 15‬ـ صـ ‪.)643‬‬ ‫(‪  ((3‬يراجع‪ :‬بحار األنوار (جـ ‪ 15‬ـ صـ ‪.)643‬‬ ‫(‪  ((3‬بحار األنوار (جـ ‪ 15‬ـ صـ ‪.)163‬‬

‫المهدي بين الشيعة وأهل السنة‬ ‫من يثبت على إيمانه(‪.((3‬‬

‫ظهــور الظلــم والفســاد؛ ليعلــم أهــل األرض مقدار المهــدي المنتظر‪،‬‬ ‫ففــي الحديــث المــروي عــن الشــيعة‪« :‬المهــدي الــذي يملؤهــا عـ ً‬ ‫ـدل‬ ‫وظلمــا يكــون لــه َحيــرة وغيبــة‪ ،‬تضـ ّـل فيهــا‬ ‫ـورا‬ ‫ً‬ ‫وقسـ ًطا كمــا ملئــت جـ ً‬ ‫(‪((3‬‬ ‫أقــوام ويهتــدي فيهــا آخــرون) ‪.‬‬ ‫كراهة مجاورة أهل الظلم والطغيان‪.‬‬

‫وهــذا االعتــزال هــو اختیــار اهلل للمهــدي ولیــس اختیــار المهــدي‬ ‫لنفســه؛ غض ًبــا منــه ســبحانه وتعالــى علــى أعدائــه الظالميــن‪ ،‬قــال أبــو‬ ‫عبــد اهلل اإلمــام الصــادق‪« :‬إن أشــدَّ مــا يكــون اهلل غض ًبــا علــى أعدائــه‬ ‫إذا أفقدهــم حجتــه فلــم يظهــر لهــم»(‪. ((3‬‬ ‫والحــق أن مــا ذكــره علمــاء الشــيعة من التربيــر لغيبة المهــدي المنتظر‬ ‫مــا هــو إال محــض هــروب مــن الضيــاع الــذي يشــعرون بــه إزاء هــذه‬ ‫القضيــة الغريبة‪.‬‬

‫ ‬

‫يظهر املهدي املنتظر حســب قول‬

‫الشــيعة عنــد اكتامل أصحابه ثالث مائة‬

‫ـا‪ ،‬واملعلوم أن الظهور ضد‬ ‫وبضعــة عرش رجـ ً‬ ‫الخفاء‪ ،‬أي ســيظهر ِعيانًــا بَيانًا للناس‪ ،‬وعندما‬

‫يكتمــل أصحابه ســيبدو للخلق أجمعني‬

‫الغيبــة ســر مــن أســرار اهلل تعالــى‪ ،‬هكــذا ُيعلــل الشــيعة غيبــة المهــدي‬ ‫المنتظــر عندهــم‪( :‬وجــه الحكمــة يف غيبتــه وجــه الحكمــة يف غيابــات‬ ‫مــن تقدمــه مــن حجــج اهلل تعالــى ذكــره‪ ،‬إن وجــه الحكمــة يف ذلــك‬ ‫ال ينكشــف إال بعــد ظهــوره كمــا ال ينكشــف وجــه الحكمــة لمــا أتــاه‬ ‫الخضــر عليــه الســام مــن خــرق الســفينة وقتــل الغــام وإقامــة الجدار‬ ‫لموســى عليــه الســام إال وقــت افرتاقهمــا‪ ،‬يــا ابــن الفضــل إن هــذا‬ ‫االمــر أمــر مــن أمــر اهلل وســر مــن ســر اهلل وغيــب مــن غيــب اهلل‪ ،‬ومتــى‬ ‫علمنــا أنــه عــز وجــل حكيــم‪ ،‬صدقنــا بــأن أفعاله كلهــا حكمــة وإن كان‬ ‫وجههــا غيــر منكشــف لنــا)(‪.((4‬‬ ‫كانــت هــذه النصــوص ُتصــاد ُم قــول النبوختــي(‪ ((4‬صاحــب فــرق‬ ‫الشــيعة الــذي جــزم بقولــه‪( :‬إن الحســن العســكري قــد ُتــويف وليــس‬ ‫لــه عقــب أي وريــث وال ولــد)(‪ ،((4‬ومــا علــى المســلم ليعــرف بطــان‬ ‫مــا يدعيــه الشــيعة مــن الغيبــة المبنيــة علــى دعــوى وجــود ولــد لإلمــام‬ ‫(‪  ((3‬الكايف (جـ ‪ 1‬ـ صـ ‪.) 833‬‬ ‫(‪  ((3‬الغيبة للطوسي (صـ ‪ 561‬ـ ‪.)661‬‬ ‫(‪  ((3‬بحار األنوار (جـ ‪ 25‬ـ صـ ‪ ،)59‬واإلمام المنتظر من والدته إلى دولته (صـ ‪ 431‬و ‪ )931‬بتصرف ‪.‬‬ ‫(‪  ((4‬بحار األنوار (جـ ‪ - 25‬صـ ‪ ،)19‬علل الشرائع (جـ ‪ - 1‬صـ ‪ 112‬و ‪.)212‬‬ ‫(‪  ((4‬أبو محمد الحسن بن موسى النوبختي‪ ،‬متكلم‪ ‬وفيلسوف‪ ‬من أعالم‪ ‬اإلمامية‪ ‬يف القرنين‪ ‬الثالث‪ ‬والراب‬ ‫ع‪ ‬الهجريين‪ ،‬صاحب كتاب‪ ‬اآلراء والديانات‪ ‬وكتاب‪ ‬فرق الشيعة‪ ‬وغيرها من المصنفات‪.‬‬ ‫(‪  ((4‬فرق الشيعة (صـ ‪.)79‬‬

‫الحســن العســكري إال أن يعــود إلــى النبوختــي الشــيعي يف كتابــه فــرق‬ ‫الشــيعة؛ ليطلــع علــى الضيــاع الــذي عاشــته الشــيعة بعــد مــوت أبــي‬ ‫الحســن العســكري دون ولــد‪ ،‬وكيــف سـ َّـوغوا ذلــك بأنــه بعــد موتــه‬ ‫عــاد إلــى الحيــاة لكونــه المهــدي‪ ،‬بينمــا ادعــى آخــرون والدة طفــل لــه‬ ‫بعــد موتــه بثمانيــة شــهور لكنهــم اصطدمــوا بمــا روي َع ـ ْن َأبِــي َع ْبـ ِـد‬ ‫ـون مِـن بعـ ِـد ِه َفي ِ‬ ‫ـوت ْ ِ‬ ‫اهَّللِ َقـ َ‬ ‫ـال‪َ :‬‬ ‫وصـ َـي‬ ‫(ل َي ُمـ ُ‬ ‫ُ‬ ‫ال َمــا ُم َح َّتــى َي ْع َلـ َـم َمـ ْن َي ُكـ ُ ْ َ ْ‬ ‫إِ َل ْيـ ِـه) (‪((4‬؛ فأنكــرت فــرق منهــم ذلــك وســلكوا سـ ً‬ ‫ـبل أخــرى‪.‬‬ ‫املطلــب الثالث‪ :‬رؤية املهــدي املنتظر يف الغيبة‬ ‫وعالمات ظهوره‬

‫أول‪ :‬من رأى المهدي المنتظر يف الغيبة الكبرى؟‬ ‫ً‬

‫بعــد اختــاف الشــيعة إثــر مــوت اإلمــام الحســن العســكري بــا ولــد‬ ‫غلبــت الفرقــة التــي تدعــي وجــود طفــل غائــب لــه‪ ،‬ثــم قامــوا بإشــاعة‬ ‫روايــات مختلفــة للتغطيــة علــى الســقوط الفاضــح للعقيــدة الباطلــة‬ ‫التــي نســبوها إلــى أئمــة أهــل البيــت رضــوان اهلل عليهــم زورا وهبتانــا‪،‬‬ ‫فــرووا عــن بعضهــم أهنــم كانــوا يلتقــون بالمهــدي الغائــب‪.‬‬ ‫ذكــر علمــاء الشــيعة اإلماميــة جملــة مــن األدلــة تؤكــد علــى أن قلــة‬ ‫قليلــة شــرفوا برؤيــة المهــدي المنتظــر وقــت غيبتــه‪ ،‬وكان منهــم (امرأة‬ ‫يقــال لهــا فاطمــة‪ ،‬زوجــة رجــل يدعــى النجــم ويلقــب باألســود‪ ،‬فقــد‬ ‫أصــاب الرجــل وزوجتــه العمــى و َب ِقيــا على حالــة ضعيفــة‪ ،‬وكان ذلك‬ ‫يف ســنة اثنتــي عشــرة وســبع مائــة‪ ،‬وبقيــا علــى ذلــك مــدة مديــدة‪ ،‬فلمــا‬ ‫ٍ‬ ‫تمـ ّـر علــى وجههــا‪ ،‬وقائــل‬ ‫أحســت المــرأة بيــد ُ‬ ‫كان يف بعــض الليــل َّ‬ ‫ِ‬ ‫يقــول‪ :‬قــد أذهــب اهلل عنــك العمــى فقومــي إلــى زوجــك أبــي علـ ّـي‪،‬‬ ‫ـورا‪،‬‬ ‫فــا تقصــري يف خدمتــه‪ ،‬ففتحــت عينيهــا فــإذا الــدار قــد امتألت ُنـ ً‬ ‫وعلمــت أنــه القائــم)(‪.((4‬‬ ‫أيضــا أحــد علمــاء الشــيعة الزيديــة‪،‬‬ ‫وأثبتــوا يف مؤلفاهتــم أن مِ َّمــن رآه ً‬ ‫منكــرا لوجــود‬ ‫وهــو المســمى بعطــوة العلــوي الحســيني‪ ،‬وكان‬ ‫ً‬ ‫المهــدي‪ ،‬وكان هــذا الرجــل بــه مــرض‪ ،‬فلمــا رأى المهــدي ُشــفي مــن‬ ‫مرضــه(‪.((4‬‬ ‫ثان ًيا‪ :‬مكان غيبة المهدي المنتظر عند الشيعة اإلمامية‪:‬‬

‫ذهــب فريــق منهــم إلــى أنــه ال ُيعلـ ُـم لــه مــكان‪ ،‬وذهــب فريــق آخــر‬ ‫إلــى أن المهــدي مقيــم يف المدينــة المنــورة؛ وقــال جماعــة‪ :‬إن‬ ‫أيضــا‪ :‬إنــه يقيــم‬ ‫المهــدي يقيــم يف واد مــن وديــان مكــة‪ ،‬وقــال جماعــة ً‬ ‫بســرداب يف ســامراء‪ ،‬والعجيــب أنــه ربمــا يف كتــاب واحــد لواحــد مــن‬ ‫أبــرز علمــاء الشــيعة وهــو الكلينــي صاحــب الــكايف يقــع االختــاف يف‬ ‫تحديــد مــكان غيبــة المهــدي المنتظــر‪ ،‬ويمكــن ذكــر أقوالهــم مدعمــة‬ ‫اح ٍد إِ َلى و ِ‬ ‫(‪  ((4‬الكايف باب َأ َّن ِ ْالمام َة عَهدٌ مِن اهَّللِ عَزَّ و ج َّل معهود مِن و ِ‬ ‫اح ٍد ( عليهم السالم ) حديث‬ ‫َ‬ ‫َ َ َُْ ٌ ْ َ‬ ‫َ‬ ‫َ َ ْ‬ ‫َ ُ‬ ‫رقم ( ‪( ) 5‬جـ ‪ - 1‬صـ ‪.) 772‬‬ ‫(‪  ((4‬إلزام الناصب يف إثبات الحجة الغائب للحرائري (جـ ‪ 2‬ـ صـ ‪.)11‬‬ ‫(‪  ((4‬كشف الغمة يف معرفة األئمة (جـ ‪ - 2‬صـ ‪ 003‬و ‪.)103‬‬

‫‪17‬‬


‫المهدي بين الشيعة وأهل السنة‬ ‫بعضها‪:‬‬

‫عــن عبــد الرحمــن بــن كثيــر قــال‪( :‬كنــت عنــد أبــي عبــد اهلل ‪-‬عليــه‬ ‫الســام‪ -‬إذ دخــل عليــه مهــزم‪ ،‬فقــال لــه‪ :‬جعلــت فــداك أخــرين عــن‬ ‫هــذا األمــر الــذي ننتظــره متــى هــو؟ فقــال‪ :‬يــا مهــزم كــذب الوقاتــون‪،‬‬ ‫وهلــك المســتعجلون‪ ،‬ونجــا المســلمون)‪.‬‬

‫عــن الفضيــل بــن يســار عــن أبــي جعفــر ‪-‬عليــه الســام‪ -‬قــال قلــت‬ ‫لــه‪ :‬لهــذا األمــر وقــت؟ فقــال‪( :‬كــذب الوقاتــون‪ ،‬كــذب الوقاتــون‪ ،‬إن‬ ‫موســى عليــه الســام لمــا خــرج وافــدً ا إلــى ربــه واعدهــم ثالثيــن يو ًما‪،‬‬ ‫فلمــا زاده اهلل علــى الثالثيــن عشـ ًـرا قــال قومــه‪ :‬قــد أخلفنــا موســى‪،‬‬ ‫فصنعــوا مــا صنعــوا‪ ،‬فــإذا حدثناكــم بحديــث فجــاء علــى مــا حدثناكــم‬ ‫بــه فقولــوا‪ :‬صــدق اهلل‪ ،‬وإذا حدثناكــم بحديــث فجــاء علــى خــاف مــا‬ ‫حدثناكــم بــه فقولــوا‪ :‬صــدق اهلل‪ ،‬تؤجــروا مرتيــن)(‪.((3‬‬

‫ويف اختالفهــم رد عليهــم حيــث لــم يتفقــوا علــى توقيــت ظهــور‬ ‫بعضــا‪.‬‬ ‫المهــدي أو عــدم توقيتــه مــن خــال روايــات يكــذب بعضهــا ً‬ ‫راب ًعا‪ :‬غيبة المهدي المنتظر عند الشيعة‪:‬‬

‫والغيبــة عندهــم تعنــي اختفــاء المهــدي المنتظــر فــرة مــن الزمــن‪،‬‬ ‫ولقــد قســموا الغيبــة قســمين‪:‬‬ ‫القسم األول الغيبة الصغرى‪:‬‬

‫وكان ســببها خــوف المهــدي المنتظــر مــن القتــل حيث نســب الشــيعة‬ ‫للخلفــاء العباســيين مالحقــة المهــدي لقتلــه‪ ،‬وقــد بــدأت فــرة الغيبــة‬ ‫ـكري‬ ‫الصغــرى ‪-‬بحســب روايــة الشــيعة‪ -‬بوفــاة اإلمــام الحســن العسـ ِّ‬ ‫ـدي خمس‬ ‫عليــه الســام‪ -‬عــام ‪260‬هـــ حيــث كان عمــر اإلمام المهـ ِّ‬‫ـتمرت قرابــة ‪ 70‬ســنة حتــى عــام ‪ 329‬هـــ حيــث‬ ‫ســنين تقري ًبــا‪ ،‬واسـ َّ‬ ‫انتهــت بوفــاة الســفير الرابــع وبدايــة الغيبــة الكــرى‪.‬‬ ‫ودليــل الشــيعة علــى الغيبــة المزعومــة مــا ُروي عــن أبــي بصيــر قــال‬ ‫قلــت ألبــي عبــد اهلل عليــه الســام‪ :‬كان أبــو جعفــر يقــول‪( :‬لِقائــم آل‬ ‫محمــد غيبتــان‪ :‬واحــدة طويلــة واألخــرى قصيــرة‪ ،‬قــال فقــال لــي‪:‬‬ ‫َّ‬ ‫(‪((3‬‬ ‫نعــم يــا أبــا بصيــر‪ ،‬أحدهمــا أطــول مــن األخــرى) ‪.‬‬ ‫أسباب الغيبة الصغرى‪:‬‬

‫ذكــر الشــيعة عــدة دوا ٍع للغيبــة الصغــرى تــدور حول ســببين رئيســين‪:‬‬ ‫األول منهمــا الخــوف علــى المهــدي المنتظــر مــن قتــل العباســيين لــه‪،‬‬ ‫واســتدلوا بحديــث نســبوه لرســول اهلل صلــى اهلل عليــه وســلم أنــه قال‪:‬‬ ‫«ال بــدَّ للغــام مــن غيبــة‪ ،‬فقيــل لــه‪َ :‬ولِـ َـم يــا رســول اهلل؟ قــال‪ :‬يخــاف‬ ‫القتــل» (‪ ((3‬والثــاين‪ :‬هتيئــة األمــة بأكملهــا للغيبــة الكــرى‪ ،‬التــي بــدأت‬ ‫مــن عــام ‪ 329‬هـــ بمــوت الســفير الرابــع للمهــدي المنتظــر‪.‬‬ ‫(‪  ((3‬الغيبة (صـ ‪.)503 - 403‬‬ ‫(‪  ((3‬بحار األنوار (جـ ‪ - 15‬صـ ‪.)563‬‬ ‫(‪  ((3‬علل الشرائع (جـ ‪ - 1‬صـ ‪.)342‬‬

‫‪16‬‬

‫سفراء المهدي يف الغيبة الصغرى‪:‬‬

‫ادعــى الشــيعة أن لمهديهــم الغائــب أربعــة ســفراء‪ :‬الســفير األول‪ :‬أبو‬ ‫أيضــا لوالــده اإلمــام‬ ‫عمــر عثمــان بــن ســعيد العمــري‪ ،‬وقــد كان نائ ًبــا ً‬ ‫ـفيرا أو نائ ًبــا للمهــدي مــدة خمــس ســنوات‪.‬‬ ‫العســكري(‪ ،((3‬وظــل سـ ً‬

‫ـري‪،‬‬ ‫محمــد بــن عثمــان بــن ســعيد العمـ ّ‬ ‫الســفير الثــاين‪ :‬أبــو جعفــر َّ‬ ‫العســكري والــد المهــدي وزكاه وأشــهد النــاس‬ ‫وقــد ذكــره اإلمــام‬ ‫ّ‬ ‫(‪((3‬‬ ‫أيضــا نائ ًبــا‬ ‫أيضــا وكيــل لإلمــام المهــدي ‪ ،‬وظــل ً‬ ‫أنــه وكيلــه‪ ،‬وولــده ً‬ ‫للمهــدي مــدة أربعيــن ســنة‪.‬‬ ‫الســفير الثالــث‪ :‬أبــو القاســم حســين بــن روح النوبختــي؛ ذكــره وأثنى‬ ‫العمــري قبــل وفاتــه بفــرة(‪ ،((3‬وظــل نائ ًبــا‬ ‫محمــد بــن عثمــان‬ ‫ّ‬ ‫عليــه َّ‬ ‫للمهــدي مــدة إحــدى وعشــرين ســنة‪.‬‬

‫ـمري؛ ويف هنايــة‬ ‫محمــد السـ ّ‬ ‫الســفير الرابــع‪ :‬أبــو الحســن علـ ّـي بــن َّ‬ ‫المهــدي يخــر النــاس بانتهــاء‬ ‫ســفارته خــرج التوقيــع مــن اإلمــام‬ ‫ِّ‬ ‫الغيبــة الصغــرى وبــدء الغيبــة الكــرى‪ ،‬فكتــب المهــدي بزعمهــم‪:‬‬ ‫ـمري! أعظــم اهلل‬ ‫محمــد السـ ّ‬ ‫«بســم اهلل الرحمــن الرحيــم‪ ،‬يــا علـ ّـي بــن َّ‬ ‫أجــر إخوانــك فيــك‪ ،‬فإ َّنــك م ِّيــت مــا بينــك وبيــن ســتة أ ّيــام‪ ،‬فاجمــع‬ ‫أمــرك وال تـ ِ‬ ‫ـوص إلــى أحـ ٍـد فيقــوم مقامــك بعــد وفاتــك‪ ،‬فقــد وقعــت‬ ‫الغيبــة التا َّمــة‪ ،‬فــا ظهــور إال بــإذن اهلل تعالــى ذكــره‪ ،‬وذلــك بعــد طــول‬ ‫ـورا‪ ،‬وســيأيت لشــيعتي مــن‬ ‫األمــد وقســوة القلــوب وامتــاء األرض جـ ً‬ ‫يدَّ ِعــي المشــاهدة‪ ،‬أال فمــن ا َّدعــى المشــاهدة قبــل خــروج الســفياينّ‬ ‫والصيحــة فهــو َّ‬ ‫العلــي‬ ‫قــوة إال بــاهلل‬ ‫كــذاب مفــر‪ ،‬وال حــول وال َّ‬ ‫ّ‬ ‫العظيــم»(‪ ،((3‬وظلــت فــرة نيابتــه عــن المهــدي مــدة ثــاث ســنوات‬ ‫كمــا يذكــر الشــيعة‪.‬‬ ‫ـي هنــا‪ :‬مــا الدليــل علــى كــون هــؤالء ســفراء عــن‬ ‫والســؤال المنطقـ ُّ‬ ‫المهــدي؟ ألــم يظهــر َخلـ ٌـق كثيــرون يدعــون أهنــم نــواب عــن رســول‬ ‫ِ‬ ‫زورا‬ ‫اهلل صلــى اهلل عليــه وســلم‪ ،‬وكانــوا كلهــم م َّمــن ادعــى النبــوة ً‬ ‫وهبتا ًنــا؟ فليــس هنــاك مــن دليــل صحيــح علــى صحــة ســفارة هــؤالء‬ ‫عــن المهــدي عنــد الشــيعة علــى فــرض القــول بأنــه قــد ولــد شــخص‬ ‫اســمه المهــدي يف ذلــك الزمــن؟‬ ‫القسم الثاين‪ :‬الغيبة الكبرى‬

‫بدأت من عام ‪ 329‬هـ بموت السفير الرابع للمهدي المنتظر‪.‬‬

‫لماذا الغيبة الكبرى؟‬

‫ذكر علماء الشيعة عدة أسباب‪ ،‬منها على سبيل المثال‪:‬‬

‫تمحيــص المؤمنيــن يف زمــن الغيبة الكــرى؛ فإن االمتحــان األصعب‬ ‫علــى المؤمــن أن يمــر بمرحلــة االبتــاء أو االختبــار‪ ،‬فالمؤمــن القــوي‬ ‫(‪  ((3‬يراجع‪ :‬بحار األنوار (جـ ‪ 15‬ـ صـ ‪.)443‬‬ ‫(‪  ((3‬ينظر‪ :‬بحار األنوار (جـ ‪ 15‬ـ صـ ‪.)643‬‬ ‫(‪  ((3‬يراجع‪ :‬بحار األنوار (جـ ‪ 15‬ـ صـ ‪.)643‬‬ ‫(‪  ((3‬بحار األنوار (جـ ‪ 15‬ـ صـ ‪.)163‬‬

‫المهدي بين الشيعة وأهل السنة‬ ‫من يثبت على إيمانه(‪.((3‬‬

‫ظهــور الظلــم والفســاد؛ ليعلــم أهــل األرض مقدار المهــدي المنتظر‪،‬‬ ‫ففــي الحديــث المــروي عــن الشــيعة‪« :‬المهــدي الــذي يملؤهــا عـ ً‬ ‫ـدل‬ ‫وظلمــا يكــون لــه َحيــرة وغيبــة‪ ،‬تضـ ّـل فيهــا‬ ‫ـورا‬ ‫ً‬ ‫وقسـ ًطا كمــا ملئــت جـ ً‬ ‫(‪((3‬‬ ‫أقــوام ويهتــدي فيهــا آخــرون) ‪.‬‬ ‫كراهة مجاورة أهل الظلم والطغيان‪.‬‬

‫وهــذا االعتــزال هــو اختیــار اهلل للمهــدي ولیــس اختیــار المهــدي‬ ‫لنفســه؛ غض ًبــا منــه ســبحانه وتعالــى علــى أعدائــه الظالميــن‪ ،‬قــال أبــو‬ ‫عبــد اهلل اإلمــام الصــادق‪« :‬إن أشــدَّ مــا يكــون اهلل غض ًبــا علــى أعدائــه‬ ‫إذا أفقدهــم حجتــه فلــم يظهــر لهــم»(‪. ((3‬‬ ‫والحــق أن مــا ذكــره علمــاء الشــيعة من التربيــر لغيبة المهــدي المنتظر‬ ‫مــا هــو إال محــض هــروب مــن الضيــاع الــذي يشــعرون بــه إزاء هــذه‬ ‫القضيــة الغريبة‪.‬‬

‫ ‬

‫يظهر املهدي املنتظر حســب قول‬

‫الشــيعة عنــد اكتامل أصحابه ثالث مائة‬

‫ـا‪ ،‬واملعلوم أن الظهور ضد‬ ‫وبضعــة عرش رجـ ً‬ ‫الخفاء‪ ،‬أي ســيظهر ِعيانًــا بَيانًا للناس‪ ،‬وعندما‬

‫يكتمــل أصحابه ســيبدو للخلق أجمعني‬

‫الغيبــة ســر مــن أســرار اهلل تعالــى‪ ،‬هكــذا ُيعلــل الشــيعة غيبــة المهــدي‬ ‫المنتظــر عندهــم‪( :‬وجــه الحكمــة يف غيبتــه وجــه الحكمــة يف غيابــات‬ ‫مــن تقدمــه مــن حجــج اهلل تعالــى ذكــره‪ ،‬إن وجــه الحكمــة يف ذلــك‬ ‫ال ينكشــف إال بعــد ظهــوره كمــا ال ينكشــف وجــه الحكمــة لمــا أتــاه‬ ‫الخضــر عليــه الســام مــن خــرق الســفينة وقتــل الغــام وإقامــة الجدار‬ ‫لموســى عليــه الســام إال وقــت افرتاقهمــا‪ ،‬يــا ابــن الفضــل إن هــذا‬ ‫االمــر أمــر مــن أمــر اهلل وســر مــن ســر اهلل وغيــب مــن غيــب اهلل‪ ،‬ومتــى‬ ‫علمنــا أنــه عــز وجــل حكيــم‪ ،‬صدقنــا بــأن أفعاله كلهــا حكمــة وإن كان‬ ‫وجههــا غيــر منكشــف لنــا)(‪.((4‬‬ ‫كانــت هــذه النصــوص ُتصــاد ُم قــول النبوختــي(‪ ((4‬صاحــب فــرق‬ ‫الشــيعة الــذي جــزم بقولــه‪( :‬إن الحســن العســكري قــد ُتــويف وليــس‬ ‫لــه عقــب أي وريــث وال ولــد)(‪ ،((4‬ومــا علــى المســلم ليعــرف بطــان‬ ‫مــا يدعيــه الشــيعة مــن الغيبــة المبنيــة علــى دعــوى وجــود ولــد لإلمــام‬ ‫(‪  ((3‬الكايف (جـ ‪ 1‬ـ صـ ‪.) 833‬‬ ‫(‪  ((3‬الغيبة للطوسي (صـ ‪ 561‬ـ ‪.)661‬‬ ‫(‪  ((3‬بحار األنوار (جـ ‪ 25‬ـ صـ ‪ ،)59‬واإلمام المنتظر من والدته إلى دولته (صـ ‪ 431‬و ‪ )931‬بتصرف ‪.‬‬ ‫(‪  ((4‬بحار األنوار (جـ ‪ - 25‬صـ ‪ ،)19‬علل الشرائع (جـ ‪ - 1‬صـ ‪ 112‬و ‪.)212‬‬ ‫(‪  ((4‬أبو محمد الحسن بن موسى النوبختي‪ ،‬متكلم‪ ‬وفيلسوف‪ ‬من أعالم‪ ‬اإلمامية‪ ‬يف القرنين‪ ‬الثالث‪ ‬والراب‬ ‫ع‪ ‬الهجريين‪ ،‬صاحب كتاب‪ ‬اآلراء والديانات‪ ‬وكتاب‪ ‬فرق الشيعة‪ ‬وغيرها من المصنفات‪.‬‬ ‫(‪  ((4‬فرق الشيعة (صـ ‪.)79‬‬

‫الحســن العســكري إال أن يعــود إلــى النبوختــي الشــيعي يف كتابــه فــرق‬ ‫الشــيعة؛ ليطلــع علــى الضيــاع الــذي عاشــته الشــيعة بعــد مــوت أبــي‬ ‫الحســن العســكري دون ولــد‪ ،‬وكيــف سـ َّـوغوا ذلــك بأنــه بعــد موتــه‬ ‫عــاد إلــى الحيــاة لكونــه المهــدي‪ ،‬بينمــا ادعــى آخــرون والدة طفــل لــه‬ ‫بعــد موتــه بثمانيــة شــهور لكنهــم اصطدمــوا بمــا روي َع ـ ْن َأبِــي َع ْبـ ِـد‬ ‫ـون مِـن بعـ ِـد ِه َفي ِ‬ ‫ـوت ْ ِ‬ ‫اهَّللِ َقـ َ‬ ‫ـال‪َ :‬‬ ‫وصـ َـي‬ ‫(ل َي ُمـ ُ‬ ‫ُ‬ ‫ال َمــا ُم َح َّتــى َي ْع َلـ َـم َمـ ْن َي ُكـ ُ ْ َ ْ‬ ‫إِ َل ْيـ ِـه) (‪((4‬؛ فأنكــرت فــرق منهــم ذلــك وســلكوا سـ ً‬ ‫ـبل أخــرى‪.‬‬ ‫املطلــب الثالث‪ :‬رؤية املهــدي املنتظر يف الغيبة‬ ‫وعالمات ظهوره‬

‫أول‪ :‬من رأى المهدي المنتظر يف الغيبة الكبرى؟‬ ‫ً‬

‫بعــد اختــاف الشــيعة إثــر مــوت اإلمــام الحســن العســكري بــا ولــد‬ ‫غلبــت الفرقــة التــي تدعــي وجــود طفــل غائــب لــه‪ ،‬ثــم قامــوا بإشــاعة‬ ‫روايــات مختلفــة للتغطيــة علــى الســقوط الفاضــح للعقيــدة الباطلــة‬ ‫التــي نســبوها إلــى أئمــة أهــل البيــت رضــوان اهلل عليهــم زورا وهبتانــا‪،‬‬ ‫فــرووا عــن بعضهــم أهنــم كانــوا يلتقــون بالمهــدي الغائــب‪.‬‬ ‫ذكــر علمــاء الشــيعة اإلماميــة جملــة مــن األدلــة تؤكــد علــى أن قلــة‬ ‫قليلــة شــرفوا برؤيــة المهــدي المنتظــر وقــت غيبتــه‪ ،‬وكان منهــم (امرأة‬ ‫يقــال لهــا فاطمــة‪ ،‬زوجــة رجــل يدعــى النجــم ويلقــب باألســود‪ ،‬فقــد‬ ‫أصــاب الرجــل وزوجتــه العمــى و َب ِقيــا على حالــة ضعيفــة‪ ،‬وكان ذلك‬ ‫يف ســنة اثنتــي عشــرة وســبع مائــة‪ ،‬وبقيــا علــى ذلــك مــدة مديــدة‪ ،‬فلمــا‬ ‫ٍ‬ ‫تمـ ّـر علــى وجههــا‪ ،‬وقائــل‬ ‫أحســت المــرأة بيــد ُ‬ ‫كان يف بعــض الليــل َّ‬ ‫ِ‬ ‫يقــول‪ :‬قــد أذهــب اهلل عنــك العمــى فقومــي إلــى زوجــك أبــي علـ ّـي‪،‬‬ ‫ـورا‪،‬‬ ‫فــا تقصــري يف خدمتــه‪ ،‬ففتحــت عينيهــا فــإذا الــدار قــد امتألت ُنـ ً‬ ‫وعلمــت أنــه القائــم)(‪.((4‬‬ ‫أيضــا أحــد علمــاء الشــيعة الزيديــة‪،‬‬ ‫وأثبتــوا يف مؤلفاهتــم أن مِ َّمــن رآه ً‬ ‫منكــرا لوجــود‬ ‫وهــو المســمى بعطــوة العلــوي الحســيني‪ ،‬وكان‬ ‫ً‬ ‫المهــدي‪ ،‬وكان هــذا الرجــل بــه مــرض‪ ،‬فلمــا رأى المهــدي ُشــفي مــن‬ ‫مرضــه(‪.((4‬‬ ‫ثان ًيا‪ :‬مكان غيبة المهدي المنتظر عند الشيعة اإلمامية‪:‬‬

‫ذهــب فريــق منهــم إلــى أنــه ال ُيعلـ ُـم لــه مــكان‪ ،‬وذهــب فريــق آخــر‬ ‫إلــى أن المهــدي مقيــم يف المدينــة المنــورة؛ وقــال جماعــة‪ :‬إن‬ ‫أيضــا‪ :‬إنــه يقيــم‬ ‫المهــدي يقيــم يف واد مــن وديــان مكــة‪ ،‬وقــال جماعــة ً‬ ‫بســرداب يف ســامراء‪ ،‬والعجيــب أنــه ربمــا يف كتــاب واحــد لواحــد مــن‬ ‫أبــرز علمــاء الشــيعة وهــو الكلينــي صاحــب الــكايف يقــع االختــاف يف‬ ‫تحديــد مــكان غيبــة المهــدي المنتظــر‪ ،‬ويمكــن ذكــر أقوالهــم مدعمــة‬ ‫اح ٍد إِ َلى و ِ‬ ‫(‪  ((4‬الكايف باب َأ َّن ِ ْالمام َة عَهدٌ مِن اهَّللِ عَزَّ و ج َّل معهود مِن و ِ‬ ‫اح ٍد ( عليهم السالم ) حديث‬ ‫َ‬ ‫َ َ َُْ ٌ ْ َ‬ ‫َ‬ ‫َ َ ْ‬ ‫َ ُ‬ ‫رقم ( ‪( ) 5‬جـ ‪ - 1‬صـ ‪.) 772‬‬ ‫(‪  ((4‬إلزام الناصب يف إثبات الحجة الغائب للحرائري (جـ ‪ 2‬ـ صـ ‪.)11‬‬ ‫(‪  ((4‬كشف الغمة يف معرفة األئمة (جـ ‪ - 2‬صـ ‪ 003‬و ‪.)103‬‬

‫‪17‬‬


‫المهدي بين الشيعة وأهل السنة‬ ‫بأدلتهم على النحو التالي‪:‬‬

‫إنــه ال يقيــم يف مــكان معلــوم‪ ،‬عــن عبيــد بــن زرار َة قــال‪ :‬ســمعت‬ ‫أبــا عبــد ال ّلــه ‪-‬عليــه الســام‪ -‬يقــول‪( :‬يفقــد النّــاس إمامهــم‪ ،‬يشــهد‬ ‫الموســم فيراهــم وال يرونَــ ُه)(‪.((4‬‬ ‫َ‬ ‫قولهــم إن المهــدي المنتظــر يف غيبتــه يســكن المدينــة‪ ،‬عــن أبــي بصيـ ٍـر‬ ‫عــن أبــي عبــد ال ّلــه قــال‪( :‬ال ُبــدَّ لصاحـ ِ‬ ‫ـب هــذا األمـ ِـر مــن غيبـ ٍـة‪ ،‬وال ُبــدَّ‬ ‫ٍ‬ ‫لــه يف غيبتــه مــن عزلـ ٍـة‪ ،‬ونعــم المنـ ُ‬ ‫ـزل َطيبـةُ‪ ،‬وما بثالثيــن من وحشــة)(‪.((4‬‬ ‫قولهــم إنــه غائــب يف ٍ‬ ‫واد مــن وديــان مكــة‪ ،‬فعــن أبــي جعفــر الصــادق‬ ‫قــال‪( :‬يكــون لصاحــب هــذا األمــر غيبــة يف بعــض هــذه الشــعاب‪ ،‬ثــم‬ ‫أومــأ بيــده إلــى ناحيــة ذي طــوى‪ ،‬وذو طــوى هــو ٍ‬ ‫واد بمكــة)(‪.((4‬‬

‫كثيــرا مــن العالمــات التــي تــدل علــى المهــدي قبــل‬ ‫ذكــر الشــيعة ً‬ ‫ظهــوره ويف حــال وجــوده‪ ،‬روى المجلســي عــن أبــي عبــد اهلل جعفــر‬ ‫ابــن محمــد عليــه الســام أنــه قــال‪( :‬إن قــدّ ام القائــم عليــه الســام‬ ‫عالمــات بلــوى مــن اهلل للمؤمنيــن‪ ،‬قلــت‪ :‬ومــا هــي؟ قــال‪ :‬ذلــك قــول‬ ‫اهلل عــز وجــل‪﴿ :‬و َلنَب ُلو َّن ُكــم بِ َشــي ٍء مِـن ا ْل َخــو ِ‬ ‫ف َوا ْل ُجــو ِع َو َن ْقـ ٍ‬ ‫ـص مِـ َن‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ ْ َ ْ ِ ْ‬ ‫ْالَمـ َـو ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ال َو ْالَ ْن ُفـ ِ‬ ‫الصابريـ َن﴾ [ســورة البقــرة‪ :‬آيــة‬ ‫ـس َوال َّث َمـ َـرات َو َب ِّشــر َّ‬ ‫ْ‬ ‫(‪((5‬‬ ‫‪ ]15‬ومــن هــذه العالمــات التــي ذكرهــا الشــيعة‪:‬‬ ‫كسوف الشمس يف النصف من رمضان‪ ،‬وخسوف القمر يف آخره(‪.((5‬‬

‫هدم المساجد وخاص ًة المسجدَ الحرام بمكة‪ ،‬ومساجد الكوفة(‪.((5‬‬

‫خــروج الدجــال وتــرك الصــاة وإضاعــة األمانــة‪ ،‬واســتحالل‬ ‫المحرمــات ( ‪. ((5‬‬

‫قولهــم إن المهــدي يقيــم يف الســرداب الــذي دخلــه فغــاب مــن وقتهــا‬ ‫وأمــه كانــت تنتظــره‪ ،‬ذكــر المجلســي هــذه الروايــة قائـ ًـا‪( :‬الشــيعة‬ ‫يقولــون‪ :‬إنــه دخــل الســرداب يف دار أبيــه وأ ُّمــه تنظــر إليــه‪ ،‬فلــم يعــد‬ ‫يخــرج إليهــا)(‪.((4‬‬

‫قتــل النفــس الزكيــة‪ ،‬وهــو رجــل مــن آل البيــت يقتــل بيــن الركــن‬ ‫والمقــام عندهــا يخــرج المهــدي(‪.((6‬‬

‫يظهــر المهــدي المنتظــر حســب قــول الشــيعة عنــد اكتمــال أصحابــه‬ ‫ثــاث مائــة وبضعــة عشــر رجـ ًـا‪ ،‬والمعلــوم أن الظهــور ضــد الخفــاء‪،‬‬ ‫أي ســيظهر ِعيا ًنــا َبيا ًنــا للنــاس‪ ،‬وعندمــا يكتمــل أصحابــه ســيبدو للخلــق‬ ‫أجمعيــن‪ ،‬وســيظهر بمكــة(‪ ،((5‬ثــم إذا ظهــر لهــم المهــدي المنتظــر وجب‬ ‫علــى جميــع النــاس أن يبــادروا لــه بالســام والتحيــة(‪.((5‬‬

‫ومــن صفاتــه قتــل العــرب وأهــل قريــش خاصــة‪ ،‬فيقتــل منهــم الكثير‪،‬‬ ‫عــن أبــي عبــد اهلل الصــادق أنــه قــال‪( :‬إذا خــرج القائــم لــم يكــن بينــه‬ ‫وبيــن العــرب وقريــش إال الســیف‪ ،‬مــا یأخــذ منهــا إال الســیف)(‪.((6‬‬

‫ثال ًثا‪ :‬وقت خروج مهدي الشيعة من غيبته الكبرى‪:‬‬

‫ـاس‬ ‫وفــور ظهــوره يف مكــة يقــف خطي ًبــا يف النــاس قائـ ًـا‪َ ( :‬يــا َأ ُّي َهــا النَّـ ُ‬ ‫ـاس َفإِنَّا َأ ْهـ ُـل بي ِ‬ ‫ِ‬ ‫اهلل‪َ ،‬ف َمـ ْن َأ َجا َبنَــا مِـ َن النَّـ ِ‬ ‫ت َنبِ ِّي ُكـ ْـم ُم َح َّمد‪،‬‬ ‫َْ‬ ‫إِ َّنــا ن َْسـ َتنْص ُر َ‬ ‫َون َْحـ ُن َأ ْو َلــى النَّـ ِ‬ ‫ـاس بِــاهللِ وبِ ُم َح َّمــد صلــى اهلل عليــه وآلــه‪.((5()...‬‬ ‫ثــم خلــع الشــيعة جملــة مــن األوصــاف تكــون شــهادة علــى صــدق‬ ‫ً‬ ‫حامــا لرايــة رســول اهلل صلــى اهلل عليــه‬ ‫المهــدي‪ ،‬منهــا أن يكــون‬ ‫وســلم وخاتــم ســليمان عليــه الســام وحجــر موســى عليــه الســام‬ ‫وعصــاه‪ ،‬ويأمــر النــاس ّأل يأكلــوا ويشــربوا‪ ،‬ثــم يفجــر لهــم األكل‬ ‫والشــرب بعصــا موســى عليــه الســام وحجــره(‪.((5‬‬

‫ويظهــر المهــدي المنتظــر وهــو يرتــدي قميــص رســول اهلل صلــى اهلل‬ ‫عليــه وســلم القميــص الــذي كان يرتديــه يــوم أحــد يــوم أن كُســرت‬ ‫َرباعيتــه صلــى اهلل عليــه وســلم(‪.((5‬‬ ‫راب ًعا‪ :‬عالمات المهدي المنتظر عند الشيعة‪:‬‬

‫(‪  ((4‬الكايف (جـ ‪ 1‬ـ صـ ‪ 733‬و ‪.)833‬‬ ‫(‪  ((4‬الكايف (جـ ‪ - 1‬صـ ‪.)043‬‬ ‫(‪  ((4‬تفسیر العیاشي‪ ،‬تحقیق‪ /‬السید محمود الكتابي وأوالده‪ ،‬المكتبة العلمیة (جـ ‪ - 2‬صـ ‪.)65‬‬ ‫(‪  ((4‬بحار األنوار (جـ ‪ - 15‬صـ ‪.)42‬‬ ‫(‪  ((5‬الغيبة (صـ ‪.)112‬‬ ‫(‪  ((5‬بحار األنوار (جـ ‪ - 15‬صـ ‪.)63‬‬ ‫(‪  ((5‬الغيبة (صـ ‪.)092‬‬ ‫(‪  ((5‬بحار األنوار (جـ ‪ 25‬ـ صـ ‪.)153‬‬ ‫(‪  ((5‬بحار األنوار (جـ ‪ 25‬ـ صـ ‪.)052‬‬

‫‪18‬‬

‫كثرة الزالزل وكثرة الموت وإرسال الجراد على الناس ‪.‬‬ ‫(‪((5‬‬

‫الصيحــة الســماوية‪ُ ،‬تنــادي الصيحــة الســماوية باســم المهــدي‪،‬‬ ‫يســمعها الخالئــق جمي ًعــا وتكــون لــكل قــوم حســب لغتهــم‪ ،‬فيجيــب‬ ‫أهــل الحــق ويتخلــف أهــل الباطــل أهــل إبليــس(‪.((6‬‬

‫هــدم المســجد الحــرام‪ ،‬جــاء يف اإلرشــاد ويف الغيبــة‪( :‬إذا قام‪ ‬المهدي‬ ‫هــدم المســجد الحــرام…‪ ،‬وقطــع أيــدي بنــي شــيبة وعلقهــا بالكعبــة‬ ‫وكتــب عليهــا‪ :‬هــؤالء ســرقة الكعبــة)(‪.((6‬‬

‫الحكــم بغيــر شــرع اهلل‪ ،‬إن الشــيعة اإلماميــة قــد ســاقت مــن جملــة‬ ‫عالمــات ظهــور المهــدي المنتظــر عندهــم أن يحكــم بشــرع جديــد‬ ‫يخالــف مــا تعاهدتــه األمــة مــن أحــكام اإلســام يف قــرآن رهبــم وســنة‬ ‫نبيهــم صلــى اهلل عليــه وســلم‪ ،‬وقــد ســاقوا جملة مــن األحاديــث تدلل‬ ‫علــى ذلــك‪ ،‬فمنهــا علــى ســبيل المثــال‪ :‬عــن أبــي عبــد اهلل علیه الســام‬ ‫قــال‪( :‬إذا قــام القائــم علیــه الســام جــاء بأمــر جدیــد‪ ،‬کمــا دعــا رســول‬ ‫اهلل صلــى اهلل علیــه وآلــه وســلم يف بــدو اإلســام إلــى أمــر جدیــد)(‪.((6‬‬ ‫(‪  ((5‬بحار األنوار (جـ ‪ ٢٥‬ـ صـ ‪ ٣٠٢‬و ‪ ،)٢٠٢‬وإعالم الورى بأعالم الهدى (صـ ‪.)١٤٤‬‬ ‫(‪  ((5‬إعالم الورى بأعالم الهدى (صـ ‪ 344‬و ‪ ،)444‬واإلرشاد يف معرفة حجج اهلل على العباد (جـ‬ ‫‪ -٢‬صـ ‪.)473‬‬ ‫(‪  ((5‬إعالم الورى بأعالم الهدى ـ (صـ ‪.)744 ،6٤٤‬‬ ‫(‪  ((5‬بحار األنوار (جـ ‪ 25‬ـ صـ ‪.)391‬‬ ‫(‪  ((5‬كشف الغمة (جـ ‪ 3‬ـ صـ ‪.)652‬‬ ‫(‪  ((6‬كشف الغمة يف معرفة األئمة‪( ،‬جـ ‪ - ٣‬صـ ‪ ،)٥٥٢‬وإعالم الورى بأعالم الهدى (صـ ‪ 1٤٤‬و‪.)244‬‬ ‫(‪  ((6‬بحار األنوار (جـ ‪ - 25‬صـ ‪.)502‬‬ ‫(‪  ((6‬بحار األنوار (جـ ‪ - 25‬صـ ‪ )533‬وإعالم الورى بأعالم الهدى (صـ ‪.)544‬‬ ‫(‪  ((6‬اإلرشاد للمفيد (ص‪ )114‬والغيبة للطوسي (ص‪.)282‬‬ ‫(‪  ((6‬اإلرشاد يف معرفة حجج اهلل على العباد‪( ،‬جـ ‪ - ٢‬صـ ‪ ،)483‬وبحار األنوار (جـ ‪ - 15‬صـ ‪.)03‬‬

‫المهدي بين الشيعة وأهل السنة‬

‫ ‬

‫إن التاريــخ يؤيــد عدم وجود ولد لإلمام‬

‫الحادي عرش الحســن العســكري‪ ،‬وهذا ما‬ ‫اضطر علامء الشــيعة إىل اخرتاع مســألة‬

‫قيامة الحســن العسكري بعد املوت‬ ‫خامسا‪ :‬شرائع وأحكام المهدي المنتظر‪:‬‬ ‫ً‬

‫ومــن جملــة الشــرائع أو األحــكام التــي ُيقرهــا المهــدي المنتظــر‬ ‫عنــد الشــيعة اســتحالل الدمــاء‪ ،‬عــن ابــن تغلــب قــال‪( :‬قــال لــي أبــو‬ ‫عبــد ال ّلــه‪ :‬دمــان يف اإلســام حـ ٌ‬ ‫ـال مــن ال ّلــه ال يقضــي فيهمــا أحــدٌ‬ ‫حتــى يبعــث ال ّلــه قائمنــا أهــل البيــت‪ ،‬فــإذا بعــث ال ّلــه عـ ّـز وجـ ّـل‬ ‫قائمنــا ‪-‬أهــل البيــت‪ -‬حكــم فيهمــا بحكــم ال ّلــه ال يريــد عليهمــا‬ ‫(‪((6‬‬ ‫الــزاين المحصــن يرجمــه‪ ،‬ومانــع الــزكاة يضــرب عن َقــه)‬ ‫بينــةٌ‪ّ :‬‬ ‫ومــن شــرائعه أيضــا حجــب األخ الشــقيق مــن اإلرث‪ ،‬وإعطــاء‬ ‫اإلرث لغيــر الشــقيق(‪.((6‬‬

‫ومــن جملــة شــرائع المهــدي المنتظــر فــور خروجــه مــن‬ ‫الغيبــة الكــرى وظهــوره للنــاس وفــق كتــب الشــيعة أنــه‬ ‫ســيهدم المســاجد (‪ ،((6‬وينســخ الشــرع (‪ ،((6‬ويهيــن أمهــات‬ ‫المؤمنيــن (‪ ،((6‬ويمتهــن حرمــة األمــوات (‪ ،((7‬ويحكــم بحكــم‬ ‫آل داود (‪ ،((7‬ويتكلــم بالعربانيــة (‪ ،((7‬وقــد ُب َ‬ ‫عــث نقمــ ًة ولــم‬ ‫ُي ْ‬ ‫بعــث نعمــة (‪.((7‬‬

‫ولــو فرضنــا صحــة األحاديــث الــواردة يف شــأن المهــدي عنــد‬ ‫ـخصا عدوان ًّيــا مبــدّ ًل لشــرع اهلل؛ مخال ًفــا لمــا‬ ‫الشــيعة فإننــا نجــده شـ ً‬ ‫ِ‬ ‫جــاء بــه جــده النبــي صلــى اهلل عليــه وســلم ولـــما كان عليــه األئمــة‪،‬‬ ‫وأنــه ال يأب ـ ُه لحرمــة الموتــى‪ ،‬وأنــه جــاء لينتقــم ال ليقيــم شــر ًعا‪،‬‬ ‫وأن هدفــه هــو خــراب األرض ال تعميرهــا‪ ،‬وأنــه يريــد القضــاء‬ ‫علــى الديــن هبدمــه للمســاجد وتخريــب الكعبــة‪ ،‬وأنــه جــاء نقمــة‬ ‫كمــا ســبق‪.‬‬ ‫إن صفــات المهــدي عنــد الشــيعة ال تعكــس الواقــع بمقــدار‬ ‫مــا تعكــس الحقــد المجوســي علــى العــرب والكــره اليهــودي‬ ‫لإلســام‪ ،‬بــل هــي أقــرب لصفــات الدجــال الــذي ينتظــره اليهــود‬ ‫مــن المهــدي الــذي تحــدث عنــه اإلســام‪.‬‬

‫(‪  ((6‬الكايف (جـ ‪ - 2‬صـ ‪.)305‬‬ ‫(‪  ((6‬بحار األنوار (جـ ‪ - 6‬صـ ‪.)942‬‬ ‫(‪  ((6‬بحار األنوار (جـ ‪ - 25‬صـ ‪.)933‬‬ ‫(‪  ((6‬اإلرشاد يف معرفة حجج اهلل على العباد‪( ،‬جـ ‪ - ٢‬صـ ‪.)483‬‬ ‫(‪  ((6‬علل الشرائع (جـ ‪ - 2‬صـ ‪.)085‬‬ ‫(‪  ((7‬بحار األنوار (جـ ‪ - 35‬صـ ‪.)21‬‬ ‫(‪  ((7‬الكايف (جـ ‪ -1‬صـ ‪ 793‬و ‪.)893‬‬ ‫(‪  ((7‬الغيبة (صـ ‪.)313‬‬ ‫(‪  ((7‬الكايف (جـ ‪ - 8‬صـ ‪.)332‬‬

‫خاتمة‪:‬‬

‫بعــد أن طوفنــا حــول عقيــدة المهــدي المنتظــر عنــد الشــيعة يتضــح‬ ‫لنــا بجــاء أن هــذه العقيــدة مليئــ ٌة بالتناقضــات‪ ،‬باإلضافــة إلــى‬ ‫مــا تضمنتــه مــن معارضــة الشــرع والعقــل والواقــع الــذي نقلــه‬ ‫المؤرخــون‪.‬‬ ‫ولعلنا نستطيع أن نلخص ما سبق يف عدة نقاط‪:‬‬

‫األولــى‪ :‬المهــدي شــخص مجهــول مخت َلــف فيــه ُولِــد أم ال‪ ،‬وعلــى‬ ‫فــرض والدتــه فــا يعلــم ذلــك علــى وجــه التحديــد‪ ،‬وهــل كان يف‬ ‫حيــاة والــده أم بعــده‪ ،‬وعلــى فــرض والدة هــذا الشــخص ذهب قســم‬ ‫مــن الشــيعة إلــى أن عمــه جعفــر هــو اإلمــام بعــد الحســن العســكري؛‬ ‫واختلفــوا يف اســم أمــه‪ ،‬وبلــغ الغلــو ببعضهــم أن يدعــي أهنــا حفيــدة‬ ‫قيصــر ملــك الــروم ليضفــي هالـ ًة علــى هــذه الشــخصية المجهولــة‪.‬‬

‫الثانيــة‪ :‬لقــد حــاول الشــيعة إضفــاء هالــة مــن التقديــس علــى هــذه‬ ‫الشــخصية الوهميــة‪ ،‬فنســبوا لهــا مــا لــم يكــن لنبــي وال رســول‪،‬‬ ‫فادعــى بعضهــم أن أمــه حملــت بــه وولدتــه يف ليلــة‪ ،‬ولــم يكتفــوا‬ ‫بذلــك حتــى ادعــوا أنــه خــر ســاجدً ا يــوم والدتــه‪ ،‬راف ًعــا ســبابته‬ ‫للســماء قائـ ًـا‪ :‬أنــا المهــدي أنــا الحجــة‪ ،...‬ثــم زعمــوا أنــه مشــى يف‬ ‫اليــوم األربعيــن مــن عمــره‪ ،‬وغيــر ذلــك مــن خــوارق لــم تكــن لنبــي‬ ‫وال رســول‪.‬‬ ‫الثالثــة‪ :‬إن التاريــخ يؤيــد عــدم وجــود ولــد لإلمــام الحــادي عشــر‬ ‫الحســن العســكري‪ ،‬وهــذا مــا اضطــر علمــاء الشــيعة إلــى اخــراع‬ ‫مســألة قيامــة الحســن العســكري بعــد المــوت‪ ،‬ثــم مســألة الغيبــة‬ ‫الصغــرى والكــرى ووجــود النــواب البنــه المهــدي المزعــوم‪،‬‬ ‫واخرتعــوا لذلــك األقاويــل والروايــات َ‬ ‫وكذبوهــا علــى أئمــة أهــل‬ ‫البيــت رضــي اهلل عنهــم أجمعيــن‪.‬‬

‫شــخصا دمو ًّيــا‬ ‫المهــدي‬ ‫الرابعــة‪ :‬تصــور كتــب الشــيعة اإلمــام‬ ‫ً‬ ‫َّ‬ ‫يخــرب البــاد ويشــرد العبــاد‪ ،‬ويعمــل الســيف يف العــرب وقريــش‬ ‫خاصــة‪ ،‬ويهــدم المســاجد ويمتهــن أم المؤمنيــن عائشــة وأباهــا‬ ‫ِ‬ ‫الصديـ َـق وخليف َتــه عمــر رضــي اهلل عنهــم مــن خــال نبــش قبورهــم‬ ‫وإخــراج أجســادهم لالنتقــام منهــم‪.‬‬

‫الخامســة‪ :‬يــأيت المهــدي بشــرع جديــد يخالــف مــا كان معرو ًفــا‬ ‫قبلــه‪ ،‬ويــأيت بعالمــات موســى عليــه الســام‪ ،‬ويحكــم بشــريعة‬ ‫داود‪ ،‬ويتكلــم العربانيــة‪ ،‬وهــذا يوضــح أثــر العقيــدة اليهوديــة علــى‬ ‫ٍ‬ ‫الروافــض منــذ ٍ‬ ‫بعيــد‪.‬‬ ‫أمــد‬ ‫كل مــا ســبق يدعــو عقــاء الشــيعة إلعــادة النظــر فيمــا امتــأت بــه‬ ‫كتبهــم مــن األكاذيــب والدعــاوى الباطلــة التــي بنــوا عليهــا دينهــم‬ ‫ومنهــج حياتهــم‪.‬‬ ‫‪19‬‬


‫المهدي بين الشيعة وأهل السنة‬ ‫بأدلتهم على النحو التالي‪:‬‬

‫إنــه ال يقيــم يف مــكان معلــوم‪ ،‬عــن عبيــد بــن زرار َة قــال‪ :‬ســمعت‬ ‫أبــا عبــد ال ّلــه ‪-‬عليــه الســام‪ -‬يقــول‪( :‬يفقــد النّــاس إمامهــم‪ ،‬يشــهد‬ ‫الموســم فيراهــم وال يرونَــ ُه)(‪.((4‬‬ ‫َ‬ ‫قولهــم إن المهــدي المنتظــر يف غيبتــه يســكن المدينــة‪ ،‬عــن أبــي بصيـ ٍـر‬ ‫عــن أبــي عبــد ال ّلــه قــال‪( :‬ال ُبــدَّ لصاحـ ِ‬ ‫ـب هــذا األمـ ِـر مــن غيبـ ٍـة‪ ،‬وال ُبــدَّ‬ ‫ٍ‬ ‫لــه يف غيبتــه مــن عزلـ ٍـة‪ ،‬ونعــم المنـ ُ‬ ‫ـزل َطيبـةُ‪ ،‬وما بثالثيــن من وحشــة)(‪.((4‬‬ ‫قولهــم إنــه غائــب يف ٍ‬ ‫واد مــن وديــان مكــة‪ ،‬فعــن أبــي جعفــر الصــادق‬ ‫قــال‪( :‬يكــون لصاحــب هــذا األمــر غيبــة يف بعــض هــذه الشــعاب‪ ،‬ثــم‬ ‫أومــأ بيــده إلــى ناحيــة ذي طــوى‪ ،‬وذو طــوى هــو ٍ‬ ‫واد بمكــة)(‪.((4‬‬

‫كثيــرا مــن العالمــات التــي تــدل علــى المهــدي قبــل‬ ‫ذكــر الشــيعة ً‬ ‫ظهــوره ويف حــال وجــوده‪ ،‬روى المجلســي عــن أبــي عبــد اهلل جعفــر‬ ‫ابــن محمــد عليــه الســام أنــه قــال‪( :‬إن قــدّ ام القائــم عليــه الســام‬ ‫عالمــات بلــوى مــن اهلل للمؤمنيــن‪ ،‬قلــت‪ :‬ومــا هــي؟ قــال‪ :‬ذلــك قــول‬ ‫اهلل عــز وجــل‪﴿ :‬و َلنَب ُلو َّن ُكــم بِ َشــي ٍء مِـن ا ْل َخــو ِ‬ ‫ف َوا ْل ُجــو ِع َو َن ْقـ ٍ‬ ‫ـص مِـ َن‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ ْ َ ْ ِ ْ‬ ‫ْالَمـ َـو ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ال َو ْالَ ْن ُفـ ِ‬ ‫الصابريـ َن﴾ [ســورة البقــرة‪ :‬آيــة‬ ‫ـس َوال َّث َمـ َـرات َو َب ِّشــر َّ‬ ‫ْ‬ ‫(‪((5‬‬ ‫‪ ]15‬ومــن هــذه العالمــات التــي ذكرهــا الشــيعة‪:‬‬ ‫كسوف الشمس يف النصف من رمضان‪ ،‬وخسوف القمر يف آخره(‪.((5‬‬

‫هدم المساجد وخاص ًة المسجدَ الحرام بمكة‪ ،‬ومساجد الكوفة(‪.((5‬‬

‫خــروج الدجــال وتــرك الصــاة وإضاعــة األمانــة‪ ،‬واســتحالل‬ ‫المحرمــات ( ‪. ((5‬‬

‫قولهــم إن المهــدي يقيــم يف الســرداب الــذي دخلــه فغــاب مــن وقتهــا‬ ‫وأمــه كانــت تنتظــره‪ ،‬ذكــر المجلســي هــذه الروايــة قائـ ًـا‪( :‬الشــيعة‬ ‫يقولــون‪ :‬إنــه دخــل الســرداب يف دار أبيــه وأ ُّمــه تنظــر إليــه‪ ،‬فلــم يعــد‬ ‫يخــرج إليهــا)(‪.((4‬‬

‫قتــل النفــس الزكيــة‪ ،‬وهــو رجــل مــن آل البيــت يقتــل بيــن الركــن‬ ‫والمقــام عندهــا يخــرج المهــدي(‪.((6‬‬

‫يظهــر المهــدي المنتظــر حســب قــول الشــيعة عنــد اكتمــال أصحابــه‬ ‫ثــاث مائــة وبضعــة عشــر رجـ ًـا‪ ،‬والمعلــوم أن الظهــور ضــد الخفــاء‪،‬‬ ‫أي ســيظهر ِعيا ًنــا َبيا ًنــا للنــاس‪ ،‬وعندمــا يكتمــل أصحابــه ســيبدو للخلــق‬ ‫أجمعيــن‪ ،‬وســيظهر بمكــة(‪ ،((5‬ثــم إذا ظهــر لهــم المهــدي المنتظــر وجب‬ ‫علــى جميــع النــاس أن يبــادروا لــه بالســام والتحيــة(‪.((5‬‬

‫ومــن صفاتــه قتــل العــرب وأهــل قريــش خاصــة‪ ،‬فيقتــل منهــم الكثير‪،‬‬ ‫عــن أبــي عبــد اهلل الصــادق أنــه قــال‪( :‬إذا خــرج القائــم لــم يكــن بينــه‬ ‫وبيــن العــرب وقريــش إال الســیف‪ ،‬مــا یأخــذ منهــا إال الســیف)(‪.((6‬‬

‫ثال ًثا‪ :‬وقت خروج مهدي الشيعة من غيبته الكبرى‪:‬‬

‫ـاس‬ ‫وفــور ظهــوره يف مكــة يقــف خطي ًبــا يف النــاس قائـ ًـا‪َ ( :‬يــا َأ ُّي َهــا النَّـ ُ‬ ‫ـاس َفإِنَّا َأ ْهـ ُـل بي ِ‬ ‫ِ‬ ‫اهلل‪َ ،‬ف َمـ ْن َأ َجا َبنَــا مِـ َن النَّـ ِ‬ ‫ت َنبِ ِّي ُكـ ْـم ُم َح َّمد‪،‬‬ ‫َْ‬ ‫إِ َّنــا ن َْسـ َتنْص ُر َ‬ ‫َون َْحـ ُن َأ ْو َلــى النَّـ ِ‬ ‫ـاس بِــاهللِ وبِ ُم َح َّمــد صلــى اهلل عليــه وآلــه‪.((5()...‬‬ ‫ثــم خلــع الشــيعة جملــة مــن األوصــاف تكــون شــهادة علــى صــدق‬ ‫ً‬ ‫حامــا لرايــة رســول اهلل صلــى اهلل عليــه‬ ‫المهــدي‪ ،‬منهــا أن يكــون‬ ‫وســلم وخاتــم ســليمان عليــه الســام وحجــر موســى عليــه الســام‬ ‫وعصــاه‪ ،‬ويأمــر النــاس ّأل يأكلــوا ويشــربوا‪ ،‬ثــم يفجــر لهــم األكل‬ ‫والشــرب بعصــا موســى عليــه الســام وحجــره(‪.((5‬‬

‫ويظهــر المهــدي المنتظــر وهــو يرتــدي قميــص رســول اهلل صلــى اهلل‬ ‫عليــه وســلم القميــص الــذي كان يرتديــه يــوم أحــد يــوم أن كُســرت‬ ‫َرباعيتــه صلــى اهلل عليــه وســلم(‪.((5‬‬ ‫راب ًعا‪ :‬عالمات المهدي المنتظر عند الشيعة‪:‬‬

‫(‪  ((4‬الكايف (جـ ‪ 1‬ـ صـ ‪ 733‬و ‪.)833‬‬ ‫(‪  ((4‬الكايف (جـ ‪ - 1‬صـ ‪.)043‬‬ ‫(‪  ((4‬تفسیر العیاشي‪ ،‬تحقیق‪ /‬السید محمود الكتابي وأوالده‪ ،‬المكتبة العلمیة (جـ ‪ - 2‬صـ ‪.)65‬‬ ‫(‪  ((4‬بحار األنوار (جـ ‪ - 15‬صـ ‪.)42‬‬ ‫(‪  ((5‬الغيبة (صـ ‪.)112‬‬ ‫(‪  ((5‬بحار األنوار (جـ ‪ - 15‬صـ ‪.)63‬‬ ‫(‪  ((5‬الغيبة (صـ ‪.)092‬‬ ‫(‪  ((5‬بحار األنوار (جـ ‪ 25‬ـ صـ ‪.)153‬‬ ‫(‪  ((5‬بحار األنوار (جـ ‪ 25‬ـ صـ ‪.)052‬‬

‫‪18‬‬

‫كثرة الزالزل وكثرة الموت وإرسال الجراد على الناس ‪.‬‬ ‫(‪((5‬‬

‫الصيحــة الســماوية‪ُ ،‬تنــادي الصيحــة الســماوية باســم المهــدي‪،‬‬ ‫يســمعها الخالئــق جمي ًعــا وتكــون لــكل قــوم حســب لغتهــم‪ ،‬فيجيــب‬ ‫أهــل الحــق ويتخلــف أهــل الباطــل أهــل إبليــس(‪.((6‬‬

‫هــدم المســجد الحــرام‪ ،‬جــاء يف اإلرشــاد ويف الغيبــة‪( :‬إذا قام‪ ‬المهدي‬ ‫هــدم المســجد الحــرام…‪ ،‬وقطــع أيــدي بنــي شــيبة وعلقهــا بالكعبــة‬ ‫وكتــب عليهــا‪ :‬هــؤالء ســرقة الكعبــة)(‪.((6‬‬

‫الحكــم بغيــر شــرع اهلل‪ ،‬إن الشــيعة اإلماميــة قــد ســاقت مــن جملــة‬ ‫عالمــات ظهــور المهــدي المنتظــر عندهــم أن يحكــم بشــرع جديــد‬ ‫يخالــف مــا تعاهدتــه األمــة مــن أحــكام اإلســام يف قــرآن رهبــم وســنة‬ ‫نبيهــم صلــى اهلل عليــه وســلم‪ ،‬وقــد ســاقوا جملة مــن األحاديــث تدلل‬ ‫علــى ذلــك‪ ،‬فمنهــا علــى ســبيل المثــال‪ :‬عــن أبــي عبــد اهلل علیه الســام‬ ‫قــال‪( :‬إذا قــام القائــم علیــه الســام جــاء بأمــر جدیــد‪ ،‬کمــا دعــا رســول‬ ‫اهلل صلــى اهلل علیــه وآلــه وســلم يف بــدو اإلســام إلــى أمــر جدیــد)(‪.((6‬‬ ‫(‪  ((5‬بحار األنوار (جـ ‪ ٢٥‬ـ صـ ‪ ٣٠٢‬و ‪ ،)٢٠٢‬وإعالم الورى بأعالم الهدى (صـ ‪.)١٤٤‬‬ ‫(‪  ((5‬إعالم الورى بأعالم الهدى (صـ ‪ 344‬و ‪ ،)444‬واإلرشاد يف معرفة حجج اهلل على العباد (جـ‬ ‫‪ -٢‬صـ ‪.)473‬‬ ‫(‪  ((5‬إعالم الورى بأعالم الهدى ـ (صـ ‪.)744 ،6٤٤‬‬ ‫(‪  ((5‬بحار األنوار (جـ ‪ 25‬ـ صـ ‪.)391‬‬ ‫(‪  ((5‬كشف الغمة (جـ ‪ 3‬ـ صـ ‪.)652‬‬ ‫(‪  ((6‬كشف الغمة يف معرفة األئمة‪( ،‬جـ ‪ - ٣‬صـ ‪ ،)٥٥٢‬وإعالم الورى بأعالم الهدى (صـ ‪ 1٤٤‬و‪.)244‬‬ ‫(‪  ((6‬بحار األنوار (جـ ‪ - 25‬صـ ‪.)502‬‬ ‫(‪  ((6‬بحار األنوار (جـ ‪ - 25‬صـ ‪ )533‬وإعالم الورى بأعالم الهدى (صـ ‪.)544‬‬ ‫(‪  ((6‬اإلرشاد للمفيد (ص‪ )114‬والغيبة للطوسي (ص‪.)282‬‬ ‫(‪  ((6‬اإلرشاد يف معرفة حجج اهلل على العباد‪( ،‬جـ ‪ - ٢‬صـ ‪ ،)483‬وبحار األنوار (جـ ‪ - 15‬صـ ‪.)03‬‬

‫المهدي بين الشيعة وأهل السنة‬

‫ ‬

‫إن التاريــخ يؤيــد عدم وجود ولد لإلمام‬

‫الحادي عرش الحســن العســكري‪ ،‬وهذا ما‬ ‫اضطر علامء الشــيعة إىل اخرتاع مســألة‬

‫قيامة الحســن العسكري بعد املوت‬ ‫خامسا‪ :‬شرائع وأحكام المهدي المنتظر‪:‬‬ ‫ً‬

‫ومــن جملــة الشــرائع أو األحــكام التــي ُيقرهــا المهــدي المنتظــر‬ ‫عنــد الشــيعة اســتحالل الدمــاء‪ ،‬عــن ابــن تغلــب قــال‪( :‬قــال لــي أبــو‬ ‫عبــد ال ّلــه‪ :‬دمــان يف اإلســام حـ ٌ‬ ‫ـال مــن ال ّلــه ال يقضــي فيهمــا أحــدٌ‬ ‫حتــى يبعــث ال ّلــه قائمنــا أهــل البيــت‪ ،‬فــإذا بعــث ال ّلــه عـ ّـز وجـ ّـل‬ ‫قائمنــا ‪-‬أهــل البيــت‪ -‬حكــم فيهمــا بحكــم ال ّلــه ال يريــد عليهمــا‬ ‫(‪((6‬‬ ‫الــزاين المحصــن يرجمــه‪ ،‬ومانــع الــزكاة يضــرب عن َقــه)‬ ‫بينــةٌ‪ّ :‬‬ ‫ومــن شــرائعه أيضــا حجــب األخ الشــقيق مــن اإلرث‪ ،‬وإعطــاء‬ ‫اإلرث لغيــر الشــقيق(‪.((6‬‬

‫ومــن جملــة شــرائع المهــدي المنتظــر فــور خروجــه مــن‬ ‫الغيبــة الكــرى وظهــوره للنــاس وفــق كتــب الشــيعة أنــه‬ ‫ســيهدم المســاجد (‪ ،((6‬وينســخ الشــرع (‪ ،((6‬ويهيــن أمهــات‬ ‫المؤمنيــن (‪ ،((6‬ويمتهــن حرمــة األمــوات (‪ ،((7‬ويحكــم بحكــم‬ ‫آل داود (‪ ،((7‬ويتكلــم بالعربانيــة (‪ ،((7‬وقــد ُب َ‬ ‫عــث نقمــ ًة ولــم‬ ‫ُي ْ‬ ‫بعــث نعمــة (‪.((7‬‬

‫ولــو فرضنــا صحــة األحاديــث الــواردة يف شــأن المهــدي عنــد‬ ‫ـخصا عدوان ًّيــا مبــدّ ًل لشــرع اهلل؛ مخال ًفــا لمــا‬ ‫الشــيعة فإننــا نجــده شـ ً‬ ‫ِ‬ ‫جــاء بــه جــده النبــي صلــى اهلل عليــه وســلم ولـــما كان عليــه األئمــة‪،‬‬ ‫وأنــه ال يأب ـ ُه لحرمــة الموتــى‪ ،‬وأنــه جــاء لينتقــم ال ليقيــم شــر ًعا‪،‬‬ ‫وأن هدفــه هــو خــراب األرض ال تعميرهــا‪ ،‬وأنــه يريــد القضــاء‬ ‫علــى الديــن هبدمــه للمســاجد وتخريــب الكعبــة‪ ،‬وأنــه جــاء نقمــة‬ ‫كمــا ســبق‪.‬‬ ‫إن صفــات المهــدي عنــد الشــيعة ال تعكــس الواقــع بمقــدار‬ ‫مــا تعكــس الحقــد المجوســي علــى العــرب والكــره اليهــودي‬ ‫لإلســام‪ ،‬بــل هــي أقــرب لصفــات الدجــال الــذي ينتظــره اليهــود‬ ‫مــن المهــدي الــذي تحــدث عنــه اإلســام‪.‬‬

‫(‪  ((6‬الكايف (جـ ‪ - 2‬صـ ‪.)305‬‬ ‫(‪  ((6‬بحار األنوار (جـ ‪ - 6‬صـ ‪.)942‬‬ ‫(‪  ((6‬بحار األنوار (جـ ‪ - 25‬صـ ‪.)933‬‬ ‫(‪  ((6‬اإلرشاد يف معرفة حجج اهلل على العباد‪( ،‬جـ ‪ - ٢‬صـ ‪.)483‬‬ ‫(‪  ((6‬علل الشرائع (جـ ‪ - 2‬صـ ‪.)085‬‬ ‫(‪  ((7‬بحار األنوار (جـ ‪ - 35‬صـ ‪.)21‬‬ ‫(‪  ((7‬الكايف (جـ ‪ -1‬صـ ‪ 793‬و ‪.)893‬‬ ‫(‪  ((7‬الغيبة (صـ ‪.)313‬‬ ‫(‪  ((7‬الكايف (جـ ‪ - 8‬صـ ‪.)332‬‬

‫خاتمة‪:‬‬

‫بعــد أن طوفنــا حــول عقيــدة المهــدي المنتظــر عنــد الشــيعة يتضــح‬ ‫لنــا بجــاء أن هــذه العقيــدة مليئــ ٌة بالتناقضــات‪ ،‬باإلضافــة إلــى‬ ‫مــا تضمنتــه مــن معارضــة الشــرع والعقــل والواقــع الــذي نقلــه‬ ‫المؤرخــون‪.‬‬ ‫ولعلنا نستطيع أن نلخص ما سبق يف عدة نقاط‪:‬‬

‫األولــى‪ :‬المهــدي شــخص مجهــول مخت َلــف فيــه ُولِــد أم ال‪ ،‬وعلــى‬ ‫فــرض والدتــه فــا يعلــم ذلــك علــى وجــه التحديــد‪ ،‬وهــل كان يف‬ ‫حيــاة والــده أم بعــده‪ ،‬وعلــى فــرض والدة هــذا الشــخص ذهب قســم‬ ‫مــن الشــيعة إلــى أن عمــه جعفــر هــو اإلمــام بعــد الحســن العســكري؛‬ ‫واختلفــوا يف اســم أمــه‪ ،‬وبلــغ الغلــو ببعضهــم أن يدعــي أهنــا حفيــدة‬ ‫قيصــر ملــك الــروم ليضفــي هالـ ًة علــى هــذه الشــخصية المجهولــة‪.‬‬

‫الثانيــة‪ :‬لقــد حــاول الشــيعة إضفــاء هالــة مــن التقديــس علــى هــذه‬ ‫الشــخصية الوهميــة‪ ،‬فنســبوا لهــا مــا لــم يكــن لنبــي وال رســول‪،‬‬ ‫فادعــى بعضهــم أن أمــه حملــت بــه وولدتــه يف ليلــة‪ ،‬ولــم يكتفــوا‬ ‫بذلــك حتــى ادعــوا أنــه خــر ســاجدً ا يــوم والدتــه‪ ،‬راف ًعــا ســبابته‬ ‫للســماء قائـ ًـا‪ :‬أنــا المهــدي أنــا الحجــة‪ ،...‬ثــم زعمــوا أنــه مشــى يف‬ ‫اليــوم األربعيــن مــن عمــره‪ ،‬وغيــر ذلــك مــن خــوارق لــم تكــن لنبــي‬ ‫وال رســول‪.‬‬ ‫الثالثــة‪ :‬إن التاريــخ يؤيــد عــدم وجــود ولــد لإلمــام الحــادي عشــر‬ ‫الحســن العســكري‪ ،‬وهــذا مــا اضطــر علمــاء الشــيعة إلــى اخــراع‬ ‫مســألة قيامــة الحســن العســكري بعــد المــوت‪ ،‬ثــم مســألة الغيبــة‬ ‫الصغــرى والكــرى ووجــود النــواب البنــه المهــدي المزعــوم‪،‬‬ ‫واخرتعــوا لذلــك األقاويــل والروايــات َ‬ ‫وكذبوهــا علــى أئمــة أهــل‬ ‫البيــت رضــي اهلل عنهــم أجمعيــن‪.‬‬

‫شــخصا دمو ًّيــا‬ ‫المهــدي‬ ‫الرابعــة‪ :‬تصــور كتــب الشــيعة اإلمــام‬ ‫ً‬ ‫َّ‬ ‫يخــرب البــاد ويشــرد العبــاد‪ ،‬ويعمــل الســيف يف العــرب وقريــش‬ ‫خاصــة‪ ،‬ويهــدم المســاجد ويمتهــن أم المؤمنيــن عائشــة وأباهــا‬ ‫ِ‬ ‫الصديـ َـق وخليف َتــه عمــر رضــي اهلل عنهــم مــن خــال نبــش قبورهــم‬ ‫وإخــراج أجســادهم لالنتقــام منهــم‪.‬‬

‫الخامســة‪ :‬يــأيت المهــدي بشــرع جديــد يخالــف مــا كان معرو ًفــا‬ ‫قبلــه‪ ،‬ويــأيت بعالمــات موســى عليــه الســام‪ ،‬ويحكــم بشــريعة‬ ‫داود‪ ،‬ويتكلــم العربانيــة‪ ،‬وهــذا يوضــح أثــر العقيــدة اليهوديــة علــى‬ ‫ٍ‬ ‫الروافــض منــذ ٍ‬ ‫بعيــد‪.‬‬ ‫أمــد‬ ‫كل مــا ســبق يدعــو عقــاء الشــيعة إلعــادة النظــر فيمــا امتــأت بــه‬ ‫كتبهــم مــن األكاذيــب والدعــاوى الباطلــة التــي بنــوا عليهــا دينهــم‬ ‫ومنهــج حياتهــم‪.‬‬ ‫‪19‬‬


‫المهدي بين الشيعة وأهل السنة‬

‫املبحث الثاين‪:‬‬ ‫املهدي يف ضوء عقيدة أهل الســنة‬

‫إن المهــدي عنــد أهــل الســنة يختلــف عــن معتقــد الشــيعة فيــه؛ فأهــل‬ ‫الســنة يصدقــون خــر رســول اهلل صلــى اهلل عليــه وســلم فيــه‪ ،‬وأنــه مــن‬ ‫آل بيتــه‪ ،‬ويؤمنــون بمــا صــح مــن صفاتــه عــن نبيهــم صلــى اهلل عليــه‬ ‫وســلم وال يزيــدون علــى ذلــك‪ ،‬فــا أثــر لهــذا األمــر علــى العقيــدة أو‬ ‫العمــل أو اإليمــان وعدمــه كمــا هــو الحــال عنــد الشــيعة الذيــن غالــوا‬ ‫يف األمــر حتــى أصبــح مــن أصــول اإليمــان عندهــم‪.‬‬ ‫عــن عبــد اهلل بــن مســعود رضــي اهلل عنــه عــن النبـ ِّـي صلــى اهلل عليــه‬ ‫وســلم قــال‪« :‬لــو لــم يبــق مــن الدنيــا إال يــوم لطـ َّـول اهلل ذلــك اليــوم‬ ‫ً‬ ‫رجــا منــي أو مــن أهــل بيتــي‪ ،‬يواطــئ اســمه‬ ‫حتــى يبعــث اهلل فيــه‬ ‫(‪((7‬‬ ‫اســمي‪ ،‬واســم أبيــه اســم أبــي» ‪.‬‬ ‫املطلب األول‪ :‬اســمه ونســبه وصفته ِ‬ ‫وحليته‬ ‫أول اسمه‪:‬‬ ‫ً‬

‫اســمه كاســم رســول اهلل‪ ،‬واســم أبيــه كاســم أبــي النبــي‪ ،‬فهــو علــى‬ ‫ذلــك‪ :‬محمــد أو أحمــد بــن عبــد اهلل‪ ،‬وهــو مــن ذريــة فاطمــة بنــت‬ ‫رســول اهلل ثــم مــن ولــد الحســن بــن علــي رضــي اهلل عنهمــا(‪.((7‬‬ ‫ثان ًيا نسبه‪:‬‬

‫المهــدي مــن ولــد فاطمــة البتــول ابنـ ِـة النبــي صلــى اهلل عليــه وســلم‬ ‫ورضــي عنهــا وعــن أوالدهــا الطاهريــن‪ ،‬وكل األخبــار الــواردة يف‬ ‫شــأن نســب المهــدي ال ُتنــايف أن المهــدي مــن ذريــة رســول اهلل صلــى‬ ‫اهلل عليــه وســلم مــن ولــد فاطمــة الزهــراء؛ قــال بعــض حفــاظ األمــة‬ ‫وأعيــان األئمــة‪( :‬إن كــون المهــدي مــن ذريتــه صلــى اهلل عليــه وســلم‬ ‫ممــا تواتــر عنــه‪ ،‬فــا يســوغ العــدول وال االلتفــات إلــى غيــره)‪ ،‬عــن‬ ‫أم ســلمة رضــي اهلل عنهــا قالــت‪ :‬ســمعت رســول اهلل صلــى اهلل عليــه‬ ‫وســلم يقــول‪« :‬المهــدي مــن عــريت ‪-‬أي مــن نســلي‪ -‬مــن ولــد‬ ‫فاطمــة»(‪.((7‬‬ ‫وهــو مــن ولــد الحســن بــن علــي رضــي اهلل عنهمــا‪ ،‬عــن علـ ٍّـي رضــي‬ ‫اهلل عنــه ‪-‬ونظــر إلــى ابنــه الحسـ ِ‬ ‫ـن‪ -‬قــال‪ّ :‬‬ ‫«إن ابنــى هــذا س ـ ّيدٌ كمــا‬ ‫ٌ‬ ‫رجــل‬ ‫ّبــي صلــى اهلل عليــه وســلم‪ ،‬وســيخرج مــن صلبــه‬ ‫ّ‬ ‫ســماه الن ّ‬ ‫الخ ُلــق وال يشــبهه يف َ‬ ‫يسـ َّـمى باســم نب ّيكــم‪ ،‬يشــبهه يف ُ‬ ‫الخ ْلــق ‪-‬ثـ ّـم ذكر‬ ‫األرض عـ ً‬ ‫ـدل»(‪.((7‬‬ ‫قصــة‪ -‬يمــأ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ثال ًثا مولده‪:‬‬

‫(‪  ((7‬أخرجه أبو داود يف سننه‪ ،‬كتاب المهدي‪ ،‬حديث رقم (‪.)2824‬‬ ‫(‪  ((7‬د‪ /‬علي محمد الصالبي‪ :‬الدولة الفاطمية‪ ،‬دار الناشر الدولي‪ ،‬ط‪( ،1‬ص‪.)05‬‬ ‫(‪  ((7‬أخرجه أبو داود يف سننه‪ ،‬كتاب المهدي‪ ،‬حديث رقم (‪.)4824‬‬ ‫(‪  ((7‬رواه أبو داود يف سننه‪ ،‬يف كتاب المهدي‪ ،‬رقم (‪.)0924‬‬

‫‪20‬‬

‫المهــدي رضــي اهلل عنــه ُيولــد بالمدينــة المنــورة‪ ،‬عــن أم‬ ‫روي أن‬ ‫َّ‬ ‫ســلمة رضــي اهلل عنهــا زوج النبـ ّـي صلــى اهلل عليــه وســلم عــن النبـ ِّـي‬ ‫صلــى اهلل عليــه وســلم قــال‪« :‬يكــون اختــاف عنــد مــوت خليفــة‪،‬‬ ‫فيخــرج رجــل مــن أهــل المدينــة هار ًبــا إلــى مكــة»(‪ ،((7‬وعــن علــي بــن‬ ‫أبــي طالــب رضــي اهلل عنــه قــال‪« :‬المهــدي مولــده بالمدينــة‪ ،‬مــن أهــل‬ ‫بيــت النبــي صلــى اهلل عليــه وســلم‪ ،‬واســمه اســم النبــي صلــى اهلل عليــه‬ ‫وســلم‪ ،‬ومهاجــره بيــت المقــدس»(‪.((7‬‬ ‫راب ًعا‪ :‬صفة المهدي وحليته‪:‬‬

‫ـدي وص ًفــا دقي ًقــا تضمــن‬ ‫وصــف النبــي صلــى اهلل عليــه وســلم المهـ َّ‬ ‫مالمــح وجهــه رضــي اهلل عنــه‪ ،‬فهــو قليــل الشــعر كمــا ذكــر ابــن األثيــر‬ ‫ـدي «أ ّنــه أجلــى الجبهــة» األج َلــى‪ :‬الخفيــف شــعر مــا‬ ‫(ويف صفــة المهـ ّ‬ ‫الصدغيــن‪ ،‬والــذي انحســر ّ‬ ‫الشــعر عــن جبهتــه‪،‬‬ ‫بيــن النَّزعتيــن مــن ِّ‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫«أقنــى األنــف» القنــا يف األنــف‪ :‬طولــه ورقــة أرنبتــه مــع حــدَ ب يف‬ ‫وســطه‪ ((8()...‬عــن أبــي ســعيد الخــدري رضــي اهلل عنــه قــال‪ :‬قــال‬ ‫«المهــدي منّــي‪ ،‬أجلــى الجبهــة‬ ‫رســول اهلل صلــى اهلل عليــه وســلم‪:‬‬ ‫ّ‬ ‫أقنــى األنــف‪ ،‬يمــأ األرض قسـ ًطا وعـ ً‬ ‫وظلما‪،‬‬ ‫ـورا‬ ‫ً‬ ‫ـدل‪ ،‬كمــا ملئــت جـ ً‬ ‫يملــك ســبع ســنين»(‪.((8‬‬

‫المهدي بين الشيعة وأهل السنة‬ ‫َ‬ ‫ـلمون»(‪ ((8‬فــا يقيــم شــر ًعا جديــدً ا بــل يوافــق مــا‬ ‫ويص ّلــي عليـ ِـه المسـ‬ ‫جــاء بــه الرســول صلــى اهلل عليــه وســلم علــى نقيــض مــا تذهــب إليــه‬ ‫ـدي يــأيت بشــرع جديــد ويحكــم بحكم‬ ‫الشــيعة اإلماميــة مــن كــون المهـ ِّ‬ ‫آل داود ال يسـ َـأل بينــة‪.‬‬

‫ـول اهَّللِ‬ ‫ُيصلــي بالنــاس إما ًمــا وفيهــم عيســى عليــه الســام‪ ،‬قــال رسـ ُ‬ ‫ـف أنتـ ْـم إذا نــزل ابــن مريــم فيكــم وإمامكم‬ ‫اهلل عليـ ِـه وسـ َّل َم‪« :‬كيـ َ‬ ‫ص َّلــى ُ‬ ‫(‪((8‬‬ ‫من ُكـ ْـم» وليــس يف هــذا تفضيــل للمهــدي علــى عيســى عليــه الســام‬ ‫إذ تصــح إمامــة المفضــول بوجــود الفاضــل‪.‬‬

‫انتشــار العــدل والقســط‪ ،‬والقضــاء علــى الجــور والظلــم‪ ،‬قال رســول‬ ‫«المهــدي منــي‪ ،‬أجلــى الجبهــة أقنــى‬ ‫اهلل صلــى اهلل عليــه وســلم‪:‬‬ ‫ُّ‬ ‫األنــف‪ ،‬يمــأ األرض قسـ ًطا وعـ ً‬ ‫وظلمــا‪ ،‬يملك‬ ‫ـورا‬ ‫ً‬ ‫ـدل كمــا ملئت جـ ً‬ ‫ســبع ســنين»(‪.((8‬‬

‫ ‬

‫هو إما ُم عد ٍل يأيت بالرحمة للناس‬

‫النبي صىل الله عليه‬ ‫جميعا‪ ،‬ويحكم بسنة‬ ‫ِّ‬

‫وسلم‪ ،‬ميلك يف هذه األمة بضع سنني‪ ،‬يجمع‬

‫املطلــب الثاين‪ :‬مــد ُة ُحكم املهدي وعالمات ظهوره‪:‬‬

‫الله به كلمة املسلمني وينرصهم عىل أعدائهم‬

‫قيــل‪ :‬مــدة حكمــه ســبع ســنين‪ ،‬يـ ُّ‬ ‫ـدل علــى هــذا مــا رواه أبــو داود يف‬ ‫ٍ‬ ‫ـدري‏قــال ‏‪:‬‏قــال رســول ال ّلــه صلــى اهلل عليــه‬ ‫ســننه عـ ‏‬ ‫ن‏أبــي ســعيد الخـ ِّ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫‏الجبهـ ‏ـة‏أقنــى‏األ ْنــف‪ ،‬يم ـأُ‬ ‫األرض‏‏‬ ‫ـدي منِّــي‪ ،‬أجل ـ ‏‬ ‫َ‬ ‫ى َ‬ ‫وســلم‪« :‬‏المهـ ُّ‬ ‫(‪((8‬‬ ‫قسـ ًطا وعـ ً‬ ‫وظلمــا‪ ،‬يملـ ُ‬ ‫ـبع ســني َن» ‪.‬‬ ‫ـورا‬ ‫ـك سـ َ‬ ‫ً‬ ‫ـدل كمــا ُمل َئــت جـ ً‬ ‫ثان ًيا‪ :‬عالمات تؤيد ظهور المهدي‪:‬‬

‫خــروج أصحــاب الرايــات الســود مــن خراســان ‪-‬بــاد أفغانســتان‬ ‫أخرج‪ ‬الرتمــذي وابــن ماجــه وأحمــد والحاكــم‪ ‬يف‬ ‫وإيــران اآلن‪-‬‬ ‫ُّ‬ ‫المســتدرك مــن حديث‪ ‬ثوبان‪ ‬قــال قــال رســول اهلل صلــى اهلل عليــه‬ ‫وســلم‪« :‬يقتتــل عنــد كنزكــم ثالثــة كلهــم ابــن خليفــة‪ ،‬ثــم ال يصيــر‬ ‫إلــى واحــد منهــم‪ ،‬ثــم تطلــع الرايــات الســود مــن قبــل المشــرق‪،‬‬ ‫فيقتلونكــم قتــا لــم يقتلــه قــوم ‪-‬ثــم ذكــر شــي ًئا ال أحفظــه‪ -‬فقــال‪:‬‬ ‫حبــوا علــى الثلــج؛ فإنــه خليفــة اهلل‬ ‫فــإذا رأيتمــوه فبايعــوه ولــو‬ ‫ً‬ ‫المهــدي»(‪ ((8‬قال‪ ‬الحاكم‪ :‬هــذا حديــث صحيــح علــى شــرط‬ ‫الشــيخين‪ ،‬ووافقه‪ ‬الذهبــي‪ ،‬ويذكـ ُـر ابــن كثيــر ُمعل ًقــا علــى أصحــاب‬ ‫الرايــات الســود فيقــول‪( :‬هــذه الرايــات الســود تــأيت بصحبــة المهــدي‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬ ‫المشــرق‪ ،‬ينصرونــه ويقيمــون‬ ‫بنــاس مــن أهــ ِل‬ ‫الــذي يؤيــده اهلل‬ ‫َ‬ ‫زي‬ ‫ســلطانه ويشــدون أ ْركانــه‪ ،‬وتكــون راياهتــم ســوداء ً‬ ‫أيضــا‪ ،‬وهــو ٌّ‬ ‫عليــه الوقــار ألن رايــة رســول اهلل ﷺ كانــت ســوداء مر َّبعــة يقــال لهــا‬ ‫العقــاب)(‪.((8‬‬

‫أول مدة حكمه‪:‬‬ ‫ً‬

‫ـدي‪،‬‬ ‫جــاء يف الســنة جملــة مــن العالمــات التــي تــدل علــى ظهــور المهـ ّ‬ ‫منها ‪:‬‬

‫أن اهلل يه ِّي ُئــه يف يــوم وليلــة للخالفــة‪ ،‬عــن علــي رضي اهلل عنــه قال‪:‬قال‬ ‫ـدي منَّــا أهل البيــت‪ ،‬يصلحه‬ ‫رســول اهلل صلــى اهلل عليــه وســلم‪« :‬المهـ ّ‬ ‫اهلل يف ليلة»(‪.((8‬‬ ‫ُيقيــم الســنة ويعمــل بشــرع اهلل تعالــى‪ ،‬عــن النبـ ّـي صلــى ال ّلــه عليــه‬ ‫ـلم َقــال‪« :‬ويعمـ ُـل يف النّــاس بسـن َِّة نب ّيهــم ص َّلــى ال ّلــه عليــه وسـ ّلم‪،‬‬ ‫وسـ َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ويلقــي اإلســا ُم بجرانــه إلــى األرض‪ ،‬فيلبـ ُ‬ ‫يتو َّفــى‬ ‫ـبع ســنين‪ ،‬ثـ َّـم َ‬ ‫ـث سـ َ‬ ‫(‪  ((7‬جزء من حديث أخرجه أبو داود يف سننه‪ ،‬كتاب المهدي‪ ،‬رقم (‪ ،)6824‬وأحمد يف مسنده‪ ،‬رقم‬ ‫(‪.)98662‬‬ ‫(‪  ((7‬نعيم بن حماد‪ :‬كتاب الفتن‪( ،‬جـ‪ -1‬صـ ‪ ،)663‬رقم (‪.)3701‬‬ ‫(‪  ((8‬النهاية يف غريب الحديث واألثر (جـ ‪ - 1‬صـ‪.)092‬‬ ‫(‪  ((8‬أخرجه أبو داود يف سننه‪ ،‬كتاب المهدي‪ ،‬رقم (‪.)5824‬‬ ‫(‪  ((8‬أخرجه أبو دواد يف سننه‪ ،‬ينظر شرح عون المعبود كتاب المهدي (جـ ‪ - 11‬صـ ‪ ،)252‬رقم‬ ‫(‪.)7724‬‬ ‫(‪  ((8‬أخرجه أحمد يف مسنده‪( ،‬ج‪ -2‬ص‪ )47‬رقم (‪ )546‬وابن ماجة يف سننه يف كتاب الفتن‪ ،‬باب خروج‬ ‫المهدي (ج‪ - 5‬ص‪ )312‬رقم (‪.)5804‬‬

‫(‪  ((8‬جزء من حديث أخرجه أبو داود يف سننه‪ ،‬كتاب المهدي‪ ،‬رقم (‪ ،)6824‬وأحمد يف المسند‪ ،‬ح رقم‬ ‫(‪.)98662‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫الس َال ُم‪،‬‬ ‫َاب َأ َحاديث َاأل ْنبِ َياء ـ َب ُ‬ ‫(‪  ((8‬أخرجه البخاري يف صحيحه ـ كت ُ‬ ‫يسى ا ْب ِن َم ْر َي َم َع َل ْي ِه َما َّ‬ ‫اب نُزُ ول ع َ‬ ‫ِ ِ‬ ‫رقم (‪)9443‬؛ وأخرجه مسلم يف صحيحه‪ ،‬كِت ُ ِ‬ ‫يم َ‬ ‫يسى ا ْب ِن َم ْر َي َم َحاكِ ًما بِ َش ِري َع ِة َنبِ ِّينَا‬ ‫ان‪َ ،‬ب ُ‬ ‫اب نُزُ ول ع َ‬ ‫َاب ْال َ‬ ‫ُ ٌ‬ ‫ٍ‬ ‫اهلل َع َل ْي ِه َو َس َّل َم‪ ،‬رقم (‪.)551‬‬ ‫ُم َح َّمد َص َّلى ُ‬ ‫(‪  ((8‬أخرجه أبو داود يف سننه‪ ،‬كتاب المهدي‪ ،‬رقم (‪.)5824‬‬ ‫(‪  ((8‬أخرجه ابن ماجة يف سننه‪ ،‬كتاب أبواب الفتن‪ ،‬باب خروج المهدي‪ ،‬رقم (‪ )4804‬والحاكم يف‬ ‫المستدرك‪ ،‬كتاب الفتن والمالحم‪ ،‬باب «وأما حديث عمران بن حصين»‪ ،‬رقم (‪ )2348‬فع َّلق عليه‬ ‫الذهبي بقوله‪ :‬هذا حديث صحيح على شرط الشيخين‪.‬‬ ‫(‪  ((8‬النهاية يف الفتن والمالحم البن كثير (جـ‪ -1‬صـ ‪ )94‬باختصار‪.‬‬

‫ظهــور الســفياين لقتــال المهــدي فــور ظهوره‪ ،‬والســفياينُّ ســيخرج من‬ ‫دمشــق و ُيرسـ ُـل ً‬ ‫جيشــا كبيـ ًـرا لقتــال المهــدي إال أن المهــدي ســيهزمه‬ ‫شــر هزيمــة‪ ،‬ثــم يــأيت بجيــش آخــر ف ُيخســف بــه‪ ،‬وال ينجــو منهــم إال‬ ‫مخــر‪ ،‬عــن أبــي هريــرة رضــي اهلل عنــه عــن رســول اهلل صلــى اهلل عليــه‬ ‫وســلم قــال‪« :‬يخــرج رجــل يقــال لــه الســفياين يف عمــق دمشــق‪ ،‬وعامــة‬ ‫مــن يتبعــه مــن كلــب‪ ،‬ف َيقتــل حتى يبقــر بطــون النســاء ويقتــل الصبيان‪،‬‬ ‫فتجمــع لهــم قيــس‪ ،‬فيقتلهــا حتــى ال ُيمنــع ذنــب تلعــة‪ ،‬ويخــرج رجــل‬ ‫مــن أهــل بيتــي يف الحــرة‪ ،‬فيبلــغ الســفياين‪ ،‬فيبعــث إليــه جنــدً ا مــن‬ ‫جنــده فيهزمهــم‪ ،‬فيســير إليــه الســفياين بمــن معــه‪ ،‬حتــى إذا صــار ببيداء‬ ‫مــن األرض خســف هبــم‪ ،‬فــا ينجــو منهــم إال المخــر عنهــم»(‪.((8‬‬

‫بينمــا النــاس يف أطــراف الكعبــة مــا بيــن الركــن والمقــام قــد التفــوا‬ ‫حــول المهــدي رضــي اهلل عنــه يبايعونــه يرســل إليــه أعــداء اإلســام‬ ‫ً‬ ‫جيشــا كبيـ ًـرا يريــدون قتلــه وهــدم الكعبــة‪ ،‬فيخســف اهلل تعالــى هبــم‬ ‫البيــداء بيــن المدينــة المنــورة ومكــة‪ ،‬عــن أم ســلمة زوج النبــي صلــى‬ ‫اهلل عليــه وســلم عــن النبــي صلــى اهلل عليــه وســلم قــال‪« :‬يخــرج‬ ‫رجــل مــن أهــل المدينــة هار ًبــا إلــى مكــة‪ ،‬فيأتيــه نــاس مــن أهــل مكــة‬ ‫فيخرجونــه وهــو كاره‪ ،‬فيبايعونــه بيــن الركــن والمقــام‪ ،‬ويبعــث إليــه‬ ‫بعــث مــن أهــل الشــام‪ ،‬فيخســف هبــم بالبيــداء بيــن مكــة والمدينــة‪،‬‬ ‫فــإذا رأى النــاس ذلــك أتــاه أبــدال الشــام وعصائــب أهــل العــراق‪،‬‬ ‫فيبايعونــه بيــن الركــن والمقــام»(‪.((9‬‬ ‫خاتمة‪:‬‬

‫إن مــا ورد يف كتــب الســنة عــن المهــدي يمكــن تلخيصــه يف عــدة‬ ‫نقــاط‪:‬‬

‫األولــى‪ :‬هــو رجــل مــن آل النبــي صلــى اهلل عليــه وســلم‪ ،‬ومــن نســل‬ ‫الحســن علــى األرجــح‪ ،‬يولــد يف المدينــة‪ ،‬ويبايــع يف مكــة‪ ،‬ويهاجــر‬ ‫إلــى الشــام‪.‬‬ ‫الثانيــة‪ :‬هــو إمــام عـ ٍ‬ ‫ـدل يــأيت بالرحمــة للنــاس جميعــا‪ ،‬ويحكــم بســنة‬ ‫ُ‬ ‫النبــي صلــى اهلل عليــه وســلم‪ ،‬يملــك يف هــذه األمــة بضــع ســنين‪،‬‬ ‫ِّ‬ ‫يجمــع اهلل بــه كلمــة المســلمين وينصرهــم علــى أعدائهــم‪ ،‬حتــى يــأيت‬ ‫الدجــال فيضيــق األمــر عليــه وعلــى مــن معــه‪ ،‬فيؤيدهــم اهلل بعيســى بن‬ ‫مريــم‪ ،‬فيقتلــون الدجــال‪.‬‬

‫الثالثــة‪ :‬كل مــا صــح عــن المهــدي نؤمــن بــه‪ ،‬وال أثــر لذلــك يف‬ ‫العقيــدة أو األحــكام كمــا هــو الحــال عنــد الشــيعة‪.‬‬

‫ولعلــه مــن المناســب يف ختــام هــذا البحــث المتواضــع المقارنــة بيــن مــا‬ ‫ورد عــن المهــدي رضــي اهلل عنــه يف كتب الســنة ومــا ورد يف كتب الشــيعة‪:‬‬ ‫(‪  ((8‬أخرجه الحاكم يف المستدرك‪ ،‬كتاب الفتن والمالحم‪ ،‬باب «أما حديث أبي عوانة»‪ ،‬رقم (‪،)6858‬‬ ‫وعلق عليه الذهبي بقوله‪ :‬هذا حديث صحيح اإلسناد على شرط الشيخين ولم يخرجاه‪.‬‬ ‫(‪  ((9‬جزء من حديث أخرجه أبو داود يف سننه‪ ،‬كتاب المهدي‪ ،‬رقم (‪ ،)6824‬وأحمد يف مسنده‪ ،‬رقم‬ ‫(‪.)98662‬‬

‫‪21‬‬


‫المهدي بين الشيعة وأهل السنة‬

‫املبحث الثاين‪:‬‬ ‫املهدي يف ضوء عقيدة أهل الســنة‬

‫إن المهــدي عنــد أهــل الســنة يختلــف عــن معتقــد الشــيعة فيــه؛ فأهــل‬ ‫الســنة يصدقــون خــر رســول اهلل صلــى اهلل عليــه وســلم فيــه‪ ،‬وأنــه مــن‬ ‫آل بيتــه‪ ،‬ويؤمنــون بمــا صــح مــن صفاتــه عــن نبيهــم صلــى اهلل عليــه‬ ‫وســلم وال يزيــدون علــى ذلــك‪ ،‬فــا أثــر لهــذا األمــر علــى العقيــدة أو‬ ‫العمــل أو اإليمــان وعدمــه كمــا هــو الحــال عنــد الشــيعة الذيــن غالــوا‬ ‫يف األمــر حتــى أصبــح مــن أصــول اإليمــان عندهــم‪.‬‬ ‫عــن عبــد اهلل بــن مســعود رضــي اهلل عنــه عــن النبـ ِّـي صلــى اهلل عليــه‬ ‫وســلم قــال‪« :‬لــو لــم يبــق مــن الدنيــا إال يــوم لطـ َّـول اهلل ذلــك اليــوم‬ ‫ً‬ ‫رجــا منــي أو مــن أهــل بيتــي‪ ،‬يواطــئ اســمه‬ ‫حتــى يبعــث اهلل فيــه‬ ‫(‪((7‬‬ ‫اســمي‪ ،‬واســم أبيــه اســم أبــي» ‪.‬‬ ‫املطلب األول‪ :‬اســمه ونســبه وصفته ِ‬ ‫وحليته‬ ‫أول اسمه‪:‬‬ ‫ً‬

‫اســمه كاســم رســول اهلل‪ ،‬واســم أبيــه كاســم أبــي النبــي‪ ،‬فهــو علــى‬ ‫ذلــك‪ :‬محمــد أو أحمــد بــن عبــد اهلل‪ ،‬وهــو مــن ذريــة فاطمــة بنــت‬ ‫رســول اهلل ثــم مــن ولــد الحســن بــن علــي رضــي اهلل عنهمــا(‪.((7‬‬ ‫ثان ًيا نسبه‪:‬‬

‫المهــدي مــن ولــد فاطمــة البتــول ابنـ ِـة النبــي صلــى اهلل عليــه وســلم‬ ‫ورضــي عنهــا وعــن أوالدهــا الطاهريــن‪ ،‬وكل األخبــار الــواردة يف‬ ‫شــأن نســب المهــدي ال ُتنــايف أن المهــدي مــن ذريــة رســول اهلل صلــى‬ ‫اهلل عليــه وســلم مــن ولــد فاطمــة الزهــراء؛ قــال بعــض حفــاظ األمــة‬ ‫وأعيــان األئمــة‪( :‬إن كــون المهــدي مــن ذريتــه صلــى اهلل عليــه وســلم‬ ‫ممــا تواتــر عنــه‪ ،‬فــا يســوغ العــدول وال االلتفــات إلــى غيــره)‪ ،‬عــن‬ ‫أم ســلمة رضــي اهلل عنهــا قالــت‪ :‬ســمعت رســول اهلل صلــى اهلل عليــه‬ ‫وســلم يقــول‪« :‬المهــدي مــن عــريت ‪-‬أي مــن نســلي‪ -‬مــن ولــد‬ ‫فاطمــة»(‪.((7‬‬ ‫وهــو مــن ولــد الحســن بــن علــي رضــي اهلل عنهمــا‪ ،‬عــن علـ ٍّـي رضــي‬ ‫اهلل عنــه ‪-‬ونظــر إلــى ابنــه الحسـ ِ‬ ‫ـن‪ -‬قــال‪ّ :‬‬ ‫«إن ابنــى هــذا س ـ ّيدٌ كمــا‬ ‫ٌ‬ ‫رجــل‬ ‫ّبــي صلــى اهلل عليــه وســلم‪ ،‬وســيخرج مــن صلبــه‬ ‫ّ‬ ‫ســماه الن ّ‬ ‫الخ ُلــق وال يشــبهه يف َ‬ ‫يسـ َّـمى باســم نب ّيكــم‪ ،‬يشــبهه يف ُ‬ ‫الخ ْلــق ‪-‬ثـ ّـم ذكر‬ ‫األرض عـ ً‬ ‫ـدل»(‪.((7‬‬ ‫قصــة‪ -‬يمــأ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ثال ًثا مولده‪:‬‬

‫(‪  ((7‬أخرجه أبو داود يف سننه‪ ،‬كتاب المهدي‪ ،‬حديث رقم (‪.)2824‬‬ ‫(‪  ((7‬د‪ /‬علي محمد الصالبي‪ :‬الدولة الفاطمية‪ ،‬دار الناشر الدولي‪ ،‬ط‪( ،1‬ص‪.)05‬‬ ‫(‪  ((7‬أخرجه أبو داود يف سننه‪ ،‬كتاب المهدي‪ ،‬حديث رقم (‪.)4824‬‬ ‫(‪  ((7‬رواه أبو داود يف سننه‪ ،‬يف كتاب المهدي‪ ،‬رقم (‪.)0924‬‬

‫‪20‬‬

‫المهــدي رضــي اهلل عنــه ُيولــد بالمدينــة المنــورة‪ ،‬عــن أم‬ ‫روي أن‬ ‫َّ‬ ‫ســلمة رضــي اهلل عنهــا زوج النبـ ّـي صلــى اهلل عليــه وســلم عــن النبـ ِّـي‬ ‫صلــى اهلل عليــه وســلم قــال‪« :‬يكــون اختــاف عنــد مــوت خليفــة‪،‬‬ ‫فيخــرج رجــل مــن أهــل المدينــة هار ًبــا إلــى مكــة»(‪ ،((7‬وعــن علــي بــن‬ ‫أبــي طالــب رضــي اهلل عنــه قــال‪« :‬المهــدي مولــده بالمدينــة‪ ،‬مــن أهــل‬ ‫بيــت النبــي صلــى اهلل عليــه وســلم‪ ،‬واســمه اســم النبــي صلــى اهلل عليــه‬ ‫وســلم‪ ،‬ومهاجــره بيــت المقــدس»(‪.((7‬‬ ‫راب ًعا‪ :‬صفة المهدي وحليته‪:‬‬

‫ـدي وص ًفــا دقي ًقــا تضمــن‬ ‫وصــف النبــي صلــى اهلل عليــه وســلم المهـ َّ‬ ‫مالمــح وجهــه رضــي اهلل عنــه‪ ،‬فهــو قليــل الشــعر كمــا ذكــر ابــن األثيــر‬ ‫ـدي «أ ّنــه أجلــى الجبهــة» األج َلــى‪ :‬الخفيــف شــعر مــا‬ ‫(ويف صفــة المهـ ّ‬ ‫الصدغيــن‪ ،‬والــذي انحســر ّ‬ ‫الشــعر عــن جبهتــه‪،‬‬ ‫بيــن النَّزعتيــن مــن ِّ‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫«أقنــى األنــف» القنــا يف األنــف‪ :‬طولــه ورقــة أرنبتــه مــع حــدَ ب يف‬ ‫وســطه‪ ((8()...‬عــن أبــي ســعيد الخــدري رضــي اهلل عنــه قــال‪ :‬قــال‬ ‫«المهــدي منّــي‪ ،‬أجلــى الجبهــة‬ ‫رســول اهلل صلــى اهلل عليــه وســلم‪:‬‬ ‫ّ‬ ‫أقنــى األنــف‪ ،‬يمــأ األرض قسـ ًطا وعـ ً‬ ‫وظلما‪،‬‬ ‫ـورا‬ ‫ً‬ ‫ـدل‪ ،‬كمــا ملئــت جـ ً‬ ‫يملــك ســبع ســنين»(‪.((8‬‬

‫المهدي بين الشيعة وأهل السنة‬ ‫َ‬ ‫ـلمون»(‪ ((8‬فــا يقيــم شــر ًعا جديــدً ا بــل يوافــق مــا‬ ‫ويص ّلــي عليـ ِـه المسـ‬ ‫جــاء بــه الرســول صلــى اهلل عليــه وســلم علــى نقيــض مــا تذهــب إليــه‬ ‫ـدي يــأيت بشــرع جديــد ويحكــم بحكم‬ ‫الشــيعة اإلماميــة مــن كــون المهـ ِّ‬ ‫آل داود ال يسـ َـأل بينــة‪.‬‬

‫ـول اهَّللِ‬ ‫ُيصلــي بالنــاس إما ًمــا وفيهــم عيســى عليــه الســام‪ ،‬قــال رسـ ُ‬ ‫ـف أنتـ ْـم إذا نــزل ابــن مريــم فيكــم وإمامكم‬ ‫اهلل عليـ ِـه وسـ َّل َم‪« :‬كيـ َ‬ ‫ص َّلــى ُ‬ ‫(‪((8‬‬ ‫من ُكـ ْـم» وليــس يف هــذا تفضيــل للمهــدي علــى عيســى عليــه الســام‬ ‫إذ تصــح إمامــة المفضــول بوجــود الفاضــل‪.‬‬

‫انتشــار العــدل والقســط‪ ،‬والقضــاء علــى الجــور والظلــم‪ ،‬قال رســول‬ ‫«المهــدي منــي‪ ،‬أجلــى الجبهــة أقنــى‬ ‫اهلل صلــى اهلل عليــه وســلم‪:‬‬ ‫ُّ‬ ‫األنــف‪ ،‬يمــأ األرض قسـ ًطا وعـ ً‬ ‫وظلمــا‪ ،‬يملك‬ ‫ـورا‬ ‫ً‬ ‫ـدل كمــا ملئت جـ ً‬ ‫ســبع ســنين»(‪.((8‬‬

‫ ‬

‫هو إما ُم عد ٍل يأيت بالرحمة للناس‬

‫النبي صىل الله عليه‬ ‫جميعا‪ ،‬ويحكم بسنة‬ ‫ِّ‬

‫وسلم‪ ،‬ميلك يف هذه األمة بضع سنني‪ ،‬يجمع‬

‫املطلــب الثاين‪ :‬مــد ُة ُحكم املهدي وعالمات ظهوره‪:‬‬

‫الله به كلمة املسلمني وينرصهم عىل أعدائهم‬

‫قيــل‪ :‬مــدة حكمــه ســبع ســنين‪ ،‬يـ ُّ‬ ‫ـدل علــى هــذا مــا رواه أبــو داود يف‬ ‫ٍ‬ ‫ـدري‏قــال ‏‪:‬‏قــال رســول ال ّلــه صلــى اهلل عليــه‬ ‫ســننه عـ ‏‬ ‫ن‏أبــي ســعيد الخـ ِّ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫‏الجبهـ ‏ـة‏أقنــى‏األ ْنــف‪ ،‬يم ـأُ‬ ‫األرض‏‏‬ ‫ـدي منِّــي‪ ،‬أجل ـ ‏‬ ‫َ‬ ‫ى َ‬ ‫وســلم‪« :‬‏المهـ ُّ‬ ‫(‪((8‬‬ ‫قسـ ًطا وعـ ً‬ ‫وظلمــا‪ ،‬يملـ ُ‬ ‫ـبع ســني َن» ‪.‬‬ ‫ـورا‬ ‫ـك سـ َ‬ ‫ً‬ ‫ـدل كمــا ُمل َئــت جـ ً‬ ‫ثان ًيا‪ :‬عالمات تؤيد ظهور المهدي‪:‬‬

‫خــروج أصحــاب الرايــات الســود مــن خراســان ‪-‬بــاد أفغانســتان‬ ‫أخرج‪ ‬الرتمــذي وابــن ماجــه وأحمــد والحاكــم‪ ‬يف‬ ‫وإيــران اآلن‪-‬‬ ‫ُّ‬ ‫المســتدرك مــن حديث‪ ‬ثوبان‪ ‬قــال قــال رســول اهلل صلــى اهلل عليــه‬ ‫وســلم‪« :‬يقتتــل عنــد كنزكــم ثالثــة كلهــم ابــن خليفــة‪ ،‬ثــم ال يصيــر‬ ‫إلــى واحــد منهــم‪ ،‬ثــم تطلــع الرايــات الســود مــن قبــل المشــرق‪،‬‬ ‫فيقتلونكــم قتــا لــم يقتلــه قــوم ‪-‬ثــم ذكــر شــي ًئا ال أحفظــه‪ -‬فقــال‪:‬‬ ‫حبــوا علــى الثلــج؛ فإنــه خليفــة اهلل‬ ‫فــإذا رأيتمــوه فبايعــوه ولــو‬ ‫ً‬ ‫المهــدي»(‪ ((8‬قال‪ ‬الحاكم‪ :‬هــذا حديــث صحيــح علــى شــرط‬ ‫الشــيخين‪ ،‬ووافقه‪ ‬الذهبــي‪ ،‬ويذكـ ُـر ابــن كثيــر ُمعل ًقــا علــى أصحــاب‬ ‫الرايــات الســود فيقــول‪( :‬هــذه الرايــات الســود تــأيت بصحبــة المهــدي‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬ ‫المشــرق‪ ،‬ينصرونــه ويقيمــون‬ ‫بنــاس مــن أهــ ِل‬ ‫الــذي يؤيــده اهلل‬ ‫َ‬ ‫زي‬ ‫ســلطانه ويشــدون أ ْركانــه‪ ،‬وتكــون راياهتــم ســوداء ً‬ ‫أيضــا‪ ،‬وهــو ٌّ‬ ‫عليــه الوقــار ألن رايــة رســول اهلل ﷺ كانــت ســوداء مر َّبعــة يقــال لهــا‬ ‫العقــاب)(‪.((8‬‬

‫أول مدة حكمه‪:‬‬ ‫ً‬

‫ـدي‪،‬‬ ‫جــاء يف الســنة جملــة مــن العالمــات التــي تــدل علــى ظهــور المهـ ّ‬ ‫منها ‪:‬‬

‫أن اهلل يه ِّي ُئــه يف يــوم وليلــة للخالفــة‪ ،‬عــن علــي رضي اهلل عنــه قال‪:‬قال‬ ‫ـدي منَّــا أهل البيــت‪ ،‬يصلحه‬ ‫رســول اهلل صلــى اهلل عليــه وســلم‪« :‬المهـ ّ‬ ‫اهلل يف ليلة»(‪.((8‬‬ ‫ُيقيــم الســنة ويعمــل بشــرع اهلل تعالــى‪ ،‬عــن النبـ ّـي صلــى ال ّلــه عليــه‬ ‫ـلم َقــال‪« :‬ويعمـ ُـل يف النّــاس بسـن َِّة نب ّيهــم ص َّلــى ال ّلــه عليــه وسـ ّلم‪،‬‬ ‫وسـ َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ويلقــي اإلســا ُم بجرانــه إلــى األرض‪ ،‬فيلبـ ُ‬ ‫يتو َّفــى‬ ‫ـبع ســنين‪ ،‬ثـ َّـم َ‬ ‫ـث سـ َ‬ ‫(‪  ((7‬جزء من حديث أخرجه أبو داود يف سننه‪ ،‬كتاب المهدي‪ ،‬رقم (‪ ،)6824‬وأحمد يف مسنده‪ ،‬رقم‬ ‫(‪.)98662‬‬ ‫(‪  ((7‬نعيم بن حماد‪ :‬كتاب الفتن‪( ،‬جـ‪ -1‬صـ ‪ ،)663‬رقم (‪.)3701‬‬ ‫(‪  ((8‬النهاية يف غريب الحديث واألثر (جـ ‪ - 1‬صـ‪.)092‬‬ ‫(‪  ((8‬أخرجه أبو داود يف سننه‪ ،‬كتاب المهدي‪ ،‬رقم (‪.)5824‬‬ ‫(‪  ((8‬أخرجه أبو دواد يف سننه‪ ،‬ينظر شرح عون المعبود كتاب المهدي (جـ ‪ - 11‬صـ ‪ ،)252‬رقم‬ ‫(‪.)7724‬‬ ‫(‪  ((8‬أخرجه أحمد يف مسنده‪( ،‬ج‪ -2‬ص‪ )47‬رقم (‪ )546‬وابن ماجة يف سننه يف كتاب الفتن‪ ،‬باب خروج‬ ‫المهدي (ج‪ - 5‬ص‪ )312‬رقم (‪.)5804‬‬

‫(‪  ((8‬جزء من حديث أخرجه أبو داود يف سننه‪ ،‬كتاب المهدي‪ ،‬رقم (‪ ،)6824‬وأحمد يف المسند‪ ،‬ح رقم‬ ‫(‪.)98662‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫الس َال ُم‪،‬‬ ‫َاب َأ َحاديث َاأل ْنبِ َياء ـ َب ُ‬ ‫(‪  ((8‬أخرجه البخاري يف صحيحه ـ كت ُ‬ ‫يسى ا ْب ِن َم ْر َي َم َع َل ْي ِه َما َّ‬ ‫اب نُزُ ول ع َ‬ ‫ِ ِ‬ ‫رقم (‪)9443‬؛ وأخرجه مسلم يف صحيحه‪ ،‬كِت ُ ِ‬ ‫يم َ‬ ‫يسى ا ْب ِن َم ْر َي َم َحاكِ ًما بِ َش ِري َع ِة َنبِ ِّينَا‬ ‫ان‪َ ،‬ب ُ‬ ‫اب نُزُ ول ع َ‬ ‫َاب ْال َ‬ ‫ُ ٌ‬ ‫ٍ‬ ‫اهلل َع َل ْي ِه َو َس َّل َم‪ ،‬رقم (‪.)551‬‬ ‫ُم َح َّمد َص َّلى ُ‬ ‫(‪  ((8‬أخرجه أبو داود يف سننه‪ ،‬كتاب المهدي‪ ،‬رقم (‪.)5824‬‬ ‫(‪  ((8‬أخرجه ابن ماجة يف سننه‪ ،‬كتاب أبواب الفتن‪ ،‬باب خروج المهدي‪ ،‬رقم (‪ )4804‬والحاكم يف‬ ‫المستدرك‪ ،‬كتاب الفتن والمالحم‪ ،‬باب «وأما حديث عمران بن حصين»‪ ،‬رقم (‪ )2348‬فع َّلق عليه‬ ‫الذهبي بقوله‪ :‬هذا حديث صحيح على شرط الشيخين‪.‬‬ ‫(‪  ((8‬النهاية يف الفتن والمالحم البن كثير (جـ‪ -1‬صـ ‪ )94‬باختصار‪.‬‬

‫ظهــور الســفياين لقتــال المهــدي فــور ظهوره‪ ،‬والســفياينُّ ســيخرج من‬ ‫دمشــق و ُيرسـ ُـل ً‬ ‫جيشــا كبيـ ًـرا لقتــال المهــدي إال أن المهــدي ســيهزمه‬ ‫شــر هزيمــة‪ ،‬ثــم يــأيت بجيــش آخــر ف ُيخســف بــه‪ ،‬وال ينجــو منهــم إال‬ ‫مخــر‪ ،‬عــن أبــي هريــرة رضــي اهلل عنــه عــن رســول اهلل صلــى اهلل عليــه‬ ‫وســلم قــال‪« :‬يخــرج رجــل يقــال لــه الســفياين يف عمــق دمشــق‪ ،‬وعامــة‬ ‫مــن يتبعــه مــن كلــب‪ ،‬ف َيقتــل حتى يبقــر بطــون النســاء ويقتــل الصبيان‪،‬‬ ‫فتجمــع لهــم قيــس‪ ،‬فيقتلهــا حتــى ال ُيمنــع ذنــب تلعــة‪ ،‬ويخــرج رجــل‬ ‫مــن أهــل بيتــي يف الحــرة‪ ،‬فيبلــغ الســفياين‪ ،‬فيبعــث إليــه جنــدً ا مــن‬ ‫جنــده فيهزمهــم‪ ،‬فيســير إليــه الســفياين بمــن معــه‪ ،‬حتــى إذا صــار ببيداء‬ ‫مــن األرض خســف هبــم‪ ،‬فــا ينجــو منهــم إال المخــر عنهــم»(‪.((8‬‬

‫بينمــا النــاس يف أطــراف الكعبــة مــا بيــن الركــن والمقــام قــد التفــوا‬ ‫حــول المهــدي رضــي اهلل عنــه يبايعونــه يرســل إليــه أعــداء اإلســام‬ ‫ً‬ ‫جيشــا كبيـ ًـرا يريــدون قتلــه وهــدم الكعبــة‪ ،‬فيخســف اهلل تعالــى هبــم‬ ‫البيــداء بيــن المدينــة المنــورة ومكــة‪ ،‬عــن أم ســلمة زوج النبــي صلــى‬ ‫اهلل عليــه وســلم عــن النبــي صلــى اهلل عليــه وســلم قــال‪« :‬يخــرج‬ ‫رجــل مــن أهــل المدينــة هار ًبــا إلــى مكــة‪ ،‬فيأتيــه نــاس مــن أهــل مكــة‬ ‫فيخرجونــه وهــو كاره‪ ،‬فيبايعونــه بيــن الركــن والمقــام‪ ،‬ويبعــث إليــه‬ ‫بعــث مــن أهــل الشــام‪ ،‬فيخســف هبــم بالبيــداء بيــن مكــة والمدينــة‪،‬‬ ‫فــإذا رأى النــاس ذلــك أتــاه أبــدال الشــام وعصائــب أهــل العــراق‪،‬‬ ‫فيبايعونــه بيــن الركــن والمقــام»(‪.((9‬‬ ‫خاتمة‪:‬‬

‫إن مــا ورد يف كتــب الســنة عــن المهــدي يمكــن تلخيصــه يف عــدة‬ ‫نقــاط‪:‬‬

‫األولــى‪ :‬هــو رجــل مــن آل النبــي صلــى اهلل عليــه وســلم‪ ،‬ومــن نســل‬ ‫الحســن علــى األرجــح‪ ،‬يولــد يف المدينــة‪ ،‬ويبايــع يف مكــة‪ ،‬ويهاجــر‬ ‫إلــى الشــام‪.‬‬ ‫الثانيــة‪ :‬هــو إمــام عـ ٍ‬ ‫ـدل يــأيت بالرحمــة للنــاس جميعــا‪ ،‬ويحكــم بســنة‬ ‫ُ‬ ‫النبــي صلــى اهلل عليــه وســلم‪ ،‬يملــك يف هــذه األمــة بضــع ســنين‪،‬‬ ‫ِّ‬ ‫يجمــع اهلل بــه كلمــة المســلمين وينصرهــم علــى أعدائهــم‪ ،‬حتــى يــأيت‬ ‫الدجــال فيضيــق األمــر عليــه وعلــى مــن معــه‪ ،‬فيؤيدهــم اهلل بعيســى بن‬ ‫مريــم‪ ،‬فيقتلــون الدجــال‪.‬‬

‫الثالثــة‪ :‬كل مــا صــح عــن المهــدي نؤمــن بــه‪ ،‬وال أثــر لذلــك يف‬ ‫العقيــدة أو األحــكام كمــا هــو الحــال عنــد الشــيعة‪.‬‬

‫ولعلــه مــن المناســب يف ختــام هــذا البحــث المتواضــع المقارنــة بيــن مــا‬ ‫ورد عــن المهــدي رضــي اهلل عنــه يف كتب الســنة ومــا ورد يف كتب الشــيعة‪:‬‬ ‫(‪  ((8‬أخرجه الحاكم يف المستدرك‪ ،‬كتاب الفتن والمالحم‪ ،‬باب «أما حديث أبي عوانة»‪ ،‬رقم (‪،)6858‬‬ ‫وعلق عليه الذهبي بقوله‪ :‬هذا حديث صحيح اإلسناد على شرط الشيخين ولم يخرجاه‪.‬‬ ‫(‪  ((9‬جزء من حديث أخرجه أبو داود يف سننه‪ ،‬كتاب المهدي‪ ،‬رقم (‪ ،)6824‬وأحمد يف مسنده‪ ،‬رقم‬ ‫(‪.)98662‬‬

‫‪21‬‬


‫المهدي بين الشيعة وأهل السنة‬

‫صفات املهدي‬ ‫وعالماته عند الشــيعة‬ ‫اسمه‬

‫صفات املهدي‬ ‫وعالماته عندأهل الســنة‬ ‫اسمه‬

‫محمد بن الحسن العسكري‬

‫محمد أو أحمد بن عبد اهلل‬

‫ُولد يف عام ‪ 255‬هـ‬

‫لم ُيولد بعد ولم نره‬

‫اختلفوا يف اسم أمه على‬

‫لم ُيحدد اسم أمه‬

‫له غيبة صغرى وكربى‬

‫ليس له غيبة‬

‫يحكم بشريعة آل داود‬

‫يحكم بشريعة اإلسالم‬

‫يكون نقمة وعذابا على العباد‬

‫يكون نعمة ورحمة للعباد‬

‫يهدم المساجد ويقتل الناس‬

‫عمر األرض والمساجد‬ ‫َي ُ‬

‫ُ‬ ‫يقتل أعداء الشيعة و ُيشر ُد هبم‬

‫يجمع صفوف أهل اإلسالم‬ ‫ُ‬

‫أو بعده بسنوات‬

‫ثمانية أقوال‬

‫يخرج بإرادته ومشيئته‬ ‫ليس له مدة محددة لحكمه‬ ‫بل يحكم كيفما شاء‬

‫قانونه السيف واالنتقام‬ ‫وسفك الدماء‬

‫‪22‬‬

‫ويصلي بالناس‬

‫يخرج بأمر من اهلل بعد‬ ‫أن يهيئه للخالفة‬

‫يحكم سبع سنين غالبا‬

‫ينشر القسط والعدل بين الناس‬

‫التهجير القسري في سوريا‬

‫ِ‬ ‫أحق أ ْن يُتَّ َبع؟‬ ‫أي‬ ‫املهديَّـ ْيـــنِ ُّ‬

‫يالحــظ اتفــاق الشــيعة والســنة علــى قضيــة المهــدي عليــه الســام‬ ‫وأنــه إنســان صالــح‪ ،‬ولكنهــم يختلفــون يف تفســير الصــاح كل‬ ‫بحســب تصــوره عــن الديــن الناتــج عــن الفــرق بيــن نصــوص‬ ‫صــادرة عــن الوحــي ونصــوص صــادرة عــن مرضــى نفســيين اندســوا‬ ‫بيــن المســلمين ونفثــوا ســمومهم وأحقادهــم يف عقــول الروافــض‬ ‫وقلوهبــم‪ ،‬فقــد التــزم أهــل الســنة بمــا جــاء عــن النبــي صلــى اهلل عليــه‬ ‫وســلم يف ذلــك مــن كونــه إمــام عـ ٍ‬ ‫ـدل يجمــع اهلل بــه األمــة‪ ،‬ويحكــم‬ ‫َ‬ ‫بينهــم بشــريعة اإلســام الصافيــة‪.‬‬

‫القرسي يف ســوريا‪،‬‬ ‫ري‬ ‫ُّ‬ ‫التهج ُ‬ ‫وأثره عىل أهل السـ ّنة فيها‬ ‫الباحث‪ :‬فراس رياض السقال‬

‫أمــا الشــيعة فقــد أصبغــوا علــى شــخصية المهــدي مجموعــة مــن‬ ‫الصفــات المكذوبــة التــي تفضــح األســس الخطيــرة التــي تقــوم عليهــا‬ ‫العقيــدة الشــيعية‪ ،‬ومــن أهــم هــذه األســس‪ :‬الخرافــة والدمويــة وحــب‬ ‫االنتقــام مــن اآلخــر باإلضافــة إلــى األثــر اليهــودي يف عقيدهتــم‪.‬‬

‫نــرى الخرافــة واضحــة يف الروايــات التــي تتحــدث عــن والدتــه‬ ‫المعجــزة وطفولتــه الخارقــة ثــم غيبتــه‪ ،‬كمــا نالحــظ األمــاين الشــيعية‬ ‫العربــي‪ ،‬وهــذا واضــح يف‬ ‫يف قتــل اآلخــر والقضــاء عليــه وخاصــة‬ ‫َّ‬ ‫حديثهــم عــن هدمــه الحرميــن ونبــش قبــور أبــي بكــر وعمــر وعائشــة‬ ‫رضــي اهلل عنهــم وإعمالــه الســيف يف العــرب وخصوصــا منهــم قريش‬ ‫قــوم النبــي صلــى اهلل عليــه وســلم‪ ،‬وأمــا األثــر اليهــودي يف ديانتهــم‬ ‫فنــراه مــن خــال إقرارهــم بأنه يغير شــريعة نبينــا محمد صلــى اهلل عليه‬ ‫وســلم ليحكــم بشــريعة داود عليــه الســام‪ ،‬ال يســأل عــن بينــة‪ ،‬ويلبس‬ ‫خاتــم ســليمان ويحمــل عصــا موســى وحجــره ل ُيطعــم ويســقي مــن‬ ‫ا َّتبعــه ويقضــي علــى مــن خالفــه‪ ،‬وهــذا المذكــور يف كتبهــم أقــرب إلــى‬ ‫صفــة الدجــال مخلــص اليهــود وملكهــم منــه إلــى مهــدي اإلســام‪.‬‬

‫إن مــا ســبق يــدل علــى أن مهــدي الشــيعة هــو الدجــال؛ ال الــذي‬ ‫أخــر عنــه النبــي صلــى اهلل عليــه وســلم‪ ،‬والشــيعة يف ذلــك ســيتيهون‬ ‫ويــرددون بيــن الحــق والباطــل حتــى يهــدي اهلل مــن فيــه الخيــر منهــم‪،‬‬ ‫ويطمــس علــى قلــوب عتاهتــم بمــا امتــأت مــن كــره لإلســام وأهلــه‪.‬‬ ‫وقــد كان مــن أثــر هــذه العقيــدة الباطلــة علــى أعمالهــم الشــيء الكثيــر‬ ‫مــن قتلهــم للمخالــف وتكفيــره واســتحالل دمــه‪ ،‬وبلــغ األمــر هبــم‬ ‫أن انتشــرت يف بعــض تياراهتــم الدعــوة إلــى الظلــم وســفك الدمــاء‬ ‫ـورا تعجيـ ًـا يف خــروج المهــدي مــن ســردابه‬ ‫ظلمــا وجـ ً‬ ‫لمــلء األرض ً‬ ‫المزعــوم يف ســامراء‪ ،‬حتــى جمعــوا أطفــال الســنة وأحرقوهــم أحيــاء‬ ‫وطبخــوا لحــوم بعضهــم‪ ،‬ومثلــوا يف رجالهم ونســائهم‪ ،‬بل واســتحلوا‬ ‫دمــاء الشــيعة العــرب الذيــن ال يقبلــون هبــذا الفســاد الــذي تنشــره‬ ‫الســلطة اإليرانيــة الحاكمــة فيمــا اســتطاعت مــن بــاد المســلمين‪،‬‬ ‫نســأل اهلل اللطــف بعبــاده والهدايــة والتوفيــق لــكل مــن يف قلبــه ذرة مــن‬ ‫خيــر أو إيمــان‪ ،‬والحمــد هلل رب العالميــن‪.‬‬

‫ماجستير يف الفقه وأصوله‬

‫ ‬

‫املقدمة‬ ‫الحمــد هلل رب العالميــن‪ ،‬وأفضــل الصــاة وأتــم التســليم‪ ،‬علــى‬ ‫ســيدنا محمــد وعلــى آلــه وصحبــه أجمعيــن‪ ،‬ومــن تبعهــم بإحســان‬ ‫إلــى يــوم الديــن وبعــد‪:‬‬ ‫فــإن المؤمــن ُممتحــن ُمبتلــى‪ ،‬وإن اهلل يمتحــن أصفيــا َء ُه بامتحانــات‬ ‫شــتى‪ ،‬و ُتعــد الهجــرة مــن أعظــم أصنــاف االمتحــان‪ ،‬حيــث يصيــر‬ ‫العبــد بعيــدً ا عــن أهلــه ووطنــه وذويــه‪ ،‬ومــن نشــأ معهــم وترعــرع‬ ‫يف أحضاهنــم‪ ،‬ولقــد مضــت ُســنّة اهلل تعالــى يف أنبيائــه صلــوات اهلل‬ ‫عليهــم أجمعيــن أن معظمهــم هاجــروا مــن بلداهنــم بح ًثــا عــن موطــن‬ ‫آمــن يتعبــدون رهبــم فيــه‪ ،‬ويدعــون فيــه إلــى اهلل دون من ّغصــات أو‬ ‫مالحقــات وتبعــات‪.‬‬

‫هجــر المرء‬ ‫هــذه هــي الهجــرة‪ ،‬فكيــف إن كان األمر أشــدّ منهــا؟ كأن ُي َّ‬ ‫مجـرًا طريــدً ا‪ ،‬أو أن ُيدعــى ألمـ ٍـر ال يناســبه‪ ،‬فــإن فعلــه حــاز الرضا من‬ ‫الــ ُـم ْك ِره‪ ،‬وإال فــا بقــاء لــه يف وطنــه‪ ،‬فجـ ّـاده حاضر وســوطه ُمسـ ّلط‪،‬‬ ‫وكل ذلــك يجــري بســيف الساســة ودســتور السياســة الجوفــاء‪ ،‬دون‬ ‫أي اعتبــار لحقوق اإلنســان وإنســانيته‪.‬‬

‫وهــذا التهجيــر نــراه يف عــدد مــن الــدول اإلســام ّية عمو ًمــا‪ ،‬والسـنّية‬ ‫علــى وجــه الخصــوص‪ ،‬وقــد رأينــا ذلــك يف العــراق واليمــن‪ ،‬وهــا هــو‬ ‫َيفحــل يف ســوريا‪ ،‬التــي ُيعــدّ أهــل السـنّة فيهــا الســوا َد األعظــم‪ ،‬حيــث‬ ‫ّ‬ ‫ـني فيهــا أكثــر مــن ‪ %76،1‬مــن الســكان(((‪.‬‬ ‫ُيشـكل المكـ ِّـون السـ ّ‬ ‫(((  انظر المركز السوري للدراسات السياسية واالسرتاتيجية (‪ )sspcs‬وموقع الجزيرة بعنوان (الرتكيبة‬ ‫السكانية يف سوريا) ‪.1102/4/91‬‬

‫إن مــا يعانيــه الشــعب الســوري مــن التهجيــر القســري المن ّظــم‪،‬‬ ‫يســتحق منّــا لفــت االنتبــاه والتمحيــص فيمــا يجــري إلظهــار حقائقــه‪،‬‬ ‫وكشــف مظاهــر هــذا التهجيــر وأهدافــه‪ ،‬واألصابــع الخفيــة القائمــة يف‬ ‫تحريــك هــذه الفتنــة وتنميتهــا‪ ،‬واآلثــار الناشــئة مــن هــذا الفعــل غيــر‬ ‫القانــوين أو اإلنســاينّ‪.‬‬

‫ممــا يســتدعي منــا الســعي الــدؤوب نحــو تجليــة هــذا األمــر‬ ‫بشــفاف ّية ومهن ّيــة‪ ،‬راجيــن اهلل ‪ ۵‬أن ُيه ّيــئ طريــق الخــاص لجميــع‬ ‫المضطهديــن يف العالــم إنــه ســميع مجيــب‪.‬‬ ‫تحديد المشكلة‪:‬‬

‫‪ -1‬لماذا يستهدف هذا التهجير أهل السنّة دون غيرهم؟‬

‫اللعبة يف المنطقة إلنجاز هذا التغيير؟‬ ‫‪ -2‬من هي الدول ّ‬

‫‪ -3‬مــا هــي أهــداف ومصالــح هــذه الــدول مــن إزاحــة المســلمين‬ ‫الس ـنّة عــن بالدهــم؟‬

‫إن البحــث عــن إجابــات لهــذه األســئلة هــو مــا يدعونــا للحديــث عــن‬ ‫ظاهــرة التهجيــر اإلجرامــي؛ مــن خــال تســليط الضــوء علــى الســاحة‬ ‫الســورية ومــا جــرى فيهــا إثــر ثــورة شــعبها المجيــدة‪.‬‬ ‫أهمية هذا الموضوع‪:‬‬

‫إن مــا نــراه يف هــذا العقــد مــن تمالــؤ القاصي والــداين على أهل السـنّة يف‬ ‫ســوريا‪ ،‬والعمــل علــى إفــراغ مناطقهــم مــن أهلهــا‪ ،‬مــن خــال حمــات‬ ‫التهجيــر الطائفــي‪ ،‬وتعــاون الشــيعة مــع قــوى عظمــى‪ ،‬جعــل للبحــث‬ ‫العلمـ ّـي حــول هــذه القضيــة أهم ّيــة كــرى‪ ،‬ال يجــوز التغافــل عنهــا‪.‬‬ ‫‪23‬‬


‫المهدي بين الشيعة وأهل السنة‬

‫صفات املهدي‬ ‫وعالماته عند الشــيعة‬ ‫اسمه‬

‫صفات املهدي‬ ‫وعالماته عندأهل الســنة‬ ‫اسمه‬

‫محمد بن الحسن العسكري‬

‫محمد أو أحمد بن عبد اهلل‬

‫ُولد يف عام ‪ 255‬هـ‬

‫لم ُيولد بعد ولم نره‬

‫اختلفوا يف اسم أمه على‬

‫لم ُيحدد اسم أمه‬

‫له غيبة صغرى وكربى‬

‫ليس له غيبة‬

‫يحكم بشريعة آل داود‬

‫يحكم بشريعة اإلسالم‬

‫يكون نقمة وعذابا على العباد‬

‫يكون نعمة ورحمة للعباد‬

‫يهدم المساجد ويقتل الناس‬

‫عمر األرض والمساجد‬ ‫َي ُ‬

‫ُ‬ ‫يقتل أعداء الشيعة و ُيشر ُد هبم‬

‫يجمع صفوف أهل اإلسالم‬ ‫ُ‬

‫أو بعده بسنوات‬

‫ثمانية أقوال‬

‫يخرج بإرادته ومشيئته‬ ‫ليس له مدة محددة لحكمه‬ ‫بل يحكم كيفما شاء‬

‫قانونه السيف واالنتقام‬ ‫وسفك الدماء‬

‫‪22‬‬

‫ويصلي بالناس‬

‫يخرج بأمر من اهلل بعد‬ ‫أن يهيئه للخالفة‬

‫يحكم سبع سنين غالبا‬

‫ينشر القسط والعدل بين الناس‬

‫التهجير القسري في سوريا‬

‫ِ‬ ‫أحق أ ْن يُتَّ َبع؟‬ ‫أي‬ ‫املهديَّـ ْيـــنِ ُّ‬

‫يالحــظ اتفــاق الشــيعة والســنة علــى قضيــة المهــدي عليــه الســام‬ ‫وأنــه إنســان صالــح‪ ،‬ولكنهــم يختلفــون يف تفســير الصــاح كل‬ ‫بحســب تصــوره عــن الديــن الناتــج عــن الفــرق بيــن نصــوص‬ ‫صــادرة عــن الوحــي ونصــوص صــادرة عــن مرضــى نفســيين اندســوا‬ ‫بيــن المســلمين ونفثــوا ســمومهم وأحقادهــم يف عقــول الروافــض‬ ‫وقلوهبــم‪ ،‬فقــد التــزم أهــل الســنة بمــا جــاء عــن النبــي صلــى اهلل عليــه‬ ‫وســلم يف ذلــك مــن كونــه إمــام عـ ٍ‬ ‫ـدل يجمــع اهلل بــه األمــة‪ ،‬ويحكــم‬ ‫َ‬ ‫بينهــم بشــريعة اإلســام الصافيــة‪.‬‬

‫القرسي يف ســوريا‪،‬‬ ‫ري‬ ‫ُّ‬ ‫التهج ُ‬ ‫وأثره عىل أهل السـ ّنة فيها‬ ‫الباحث‪ :‬فراس رياض السقال‬

‫أمــا الشــيعة فقــد أصبغــوا علــى شــخصية المهــدي مجموعــة مــن‬ ‫الصفــات المكذوبــة التــي تفضــح األســس الخطيــرة التــي تقــوم عليهــا‬ ‫العقيــدة الشــيعية‪ ،‬ومــن أهــم هــذه األســس‪ :‬الخرافــة والدمويــة وحــب‬ ‫االنتقــام مــن اآلخــر باإلضافــة إلــى األثــر اليهــودي يف عقيدهتــم‪.‬‬

‫نــرى الخرافــة واضحــة يف الروايــات التــي تتحــدث عــن والدتــه‬ ‫المعجــزة وطفولتــه الخارقــة ثــم غيبتــه‪ ،‬كمــا نالحــظ األمــاين الشــيعية‬ ‫العربــي‪ ،‬وهــذا واضــح يف‬ ‫يف قتــل اآلخــر والقضــاء عليــه وخاصــة‬ ‫َّ‬ ‫حديثهــم عــن هدمــه الحرميــن ونبــش قبــور أبــي بكــر وعمــر وعائشــة‬ ‫رضــي اهلل عنهــم وإعمالــه الســيف يف العــرب وخصوصــا منهــم قريش‬ ‫قــوم النبــي صلــى اهلل عليــه وســلم‪ ،‬وأمــا األثــر اليهــودي يف ديانتهــم‬ ‫فنــراه مــن خــال إقرارهــم بأنه يغير شــريعة نبينــا محمد صلــى اهلل عليه‬ ‫وســلم ليحكــم بشــريعة داود عليــه الســام‪ ،‬ال يســأل عــن بينــة‪ ،‬ويلبس‬ ‫خاتــم ســليمان ويحمــل عصــا موســى وحجــره ل ُيطعــم ويســقي مــن‬ ‫ا َّتبعــه ويقضــي علــى مــن خالفــه‪ ،‬وهــذا المذكــور يف كتبهــم أقــرب إلــى‬ ‫صفــة الدجــال مخلــص اليهــود وملكهــم منــه إلــى مهــدي اإلســام‪.‬‬

‫إن مــا ســبق يــدل علــى أن مهــدي الشــيعة هــو الدجــال؛ ال الــذي‬ ‫أخــر عنــه النبــي صلــى اهلل عليــه وســلم‪ ،‬والشــيعة يف ذلــك ســيتيهون‬ ‫ويــرددون بيــن الحــق والباطــل حتــى يهــدي اهلل مــن فيــه الخيــر منهــم‪،‬‬ ‫ويطمــس علــى قلــوب عتاهتــم بمــا امتــأت مــن كــره لإلســام وأهلــه‪.‬‬ ‫وقــد كان مــن أثــر هــذه العقيــدة الباطلــة علــى أعمالهــم الشــيء الكثيــر‬ ‫مــن قتلهــم للمخالــف وتكفيــره واســتحالل دمــه‪ ،‬وبلــغ األمــر هبــم‬ ‫أن انتشــرت يف بعــض تياراهتــم الدعــوة إلــى الظلــم وســفك الدمــاء‬ ‫ـورا تعجيـ ًـا يف خــروج المهــدي مــن ســردابه‬ ‫ظلمــا وجـ ً‬ ‫لمــلء األرض ً‬ ‫المزعــوم يف ســامراء‪ ،‬حتــى جمعــوا أطفــال الســنة وأحرقوهــم أحيــاء‬ ‫وطبخــوا لحــوم بعضهــم‪ ،‬ومثلــوا يف رجالهم ونســائهم‪ ،‬بل واســتحلوا‬ ‫دمــاء الشــيعة العــرب الذيــن ال يقبلــون هبــذا الفســاد الــذي تنشــره‬ ‫الســلطة اإليرانيــة الحاكمــة فيمــا اســتطاعت مــن بــاد المســلمين‪،‬‬ ‫نســأل اهلل اللطــف بعبــاده والهدايــة والتوفيــق لــكل مــن يف قلبــه ذرة مــن‬ ‫خيــر أو إيمــان‪ ،‬والحمــد هلل رب العالميــن‪.‬‬

‫ماجستير يف الفقه وأصوله‬

‫ ‬

‫املقدمة‬ ‫الحمــد هلل رب العالميــن‪ ،‬وأفضــل الصــاة وأتــم التســليم‪ ،‬علــى‬ ‫ســيدنا محمــد وعلــى آلــه وصحبــه أجمعيــن‪ ،‬ومــن تبعهــم بإحســان‬ ‫إلــى يــوم الديــن وبعــد‪:‬‬ ‫فــإن المؤمــن ُممتحــن ُمبتلــى‪ ،‬وإن اهلل يمتحــن أصفيــا َء ُه بامتحانــات‬ ‫شــتى‪ ،‬و ُتعــد الهجــرة مــن أعظــم أصنــاف االمتحــان‪ ،‬حيــث يصيــر‬ ‫العبــد بعيــدً ا عــن أهلــه ووطنــه وذويــه‪ ،‬ومــن نشــأ معهــم وترعــرع‬ ‫يف أحضاهنــم‪ ،‬ولقــد مضــت ُســنّة اهلل تعالــى يف أنبيائــه صلــوات اهلل‬ ‫عليهــم أجمعيــن أن معظمهــم هاجــروا مــن بلداهنــم بح ًثــا عــن موطــن‬ ‫آمــن يتعبــدون رهبــم فيــه‪ ،‬ويدعــون فيــه إلــى اهلل دون من ّغصــات أو‬ ‫مالحقــات وتبعــات‪.‬‬

‫هجــر المرء‬ ‫هــذه هــي الهجــرة‪ ،‬فكيــف إن كان األمر أشــدّ منهــا؟ كأن ُي َّ‬ ‫مجـرًا طريــدً ا‪ ،‬أو أن ُيدعــى ألمـ ٍـر ال يناســبه‪ ،‬فــإن فعلــه حــاز الرضا من‬ ‫الــ ُـم ْك ِره‪ ،‬وإال فــا بقــاء لــه يف وطنــه‪ ،‬فجـ ّـاده حاضر وســوطه ُمسـ ّلط‪،‬‬ ‫وكل ذلــك يجــري بســيف الساســة ودســتور السياســة الجوفــاء‪ ،‬دون‬ ‫أي اعتبــار لحقوق اإلنســان وإنســانيته‪.‬‬

‫وهــذا التهجيــر نــراه يف عــدد مــن الــدول اإلســام ّية عمو ًمــا‪ ،‬والسـنّية‬ ‫علــى وجــه الخصــوص‪ ،‬وقــد رأينــا ذلــك يف العــراق واليمــن‪ ،‬وهــا هــو‬ ‫َيفحــل يف ســوريا‪ ،‬التــي ُيعــدّ أهــل السـنّة فيهــا الســوا َد األعظــم‪ ،‬حيــث‬ ‫ّ‬ ‫ـني فيهــا أكثــر مــن ‪ %76،1‬مــن الســكان(((‪.‬‬ ‫ُيشـكل المكـ ِّـون السـ ّ‬ ‫(((  انظر المركز السوري للدراسات السياسية واالسرتاتيجية (‪ )sspcs‬وموقع الجزيرة بعنوان (الرتكيبة‬ ‫السكانية يف سوريا) ‪.1102/4/91‬‬

‫إن مــا يعانيــه الشــعب الســوري مــن التهجيــر القســري المن ّظــم‪،‬‬ ‫يســتحق منّــا لفــت االنتبــاه والتمحيــص فيمــا يجــري إلظهــار حقائقــه‪،‬‬ ‫وكشــف مظاهــر هــذا التهجيــر وأهدافــه‪ ،‬واألصابــع الخفيــة القائمــة يف‬ ‫تحريــك هــذه الفتنــة وتنميتهــا‪ ،‬واآلثــار الناشــئة مــن هــذا الفعــل غيــر‬ ‫القانــوين أو اإلنســاينّ‪.‬‬

‫ممــا يســتدعي منــا الســعي الــدؤوب نحــو تجليــة هــذا األمــر‬ ‫بشــفاف ّية ومهن ّيــة‪ ،‬راجيــن اهلل ‪ ۵‬أن ُيه ّيــئ طريــق الخــاص لجميــع‬ ‫المضطهديــن يف العالــم إنــه ســميع مجيــب‪.‬‬ ‫تحديد المشكلة‪:‬‬

‫‪ -1‬لماذا يستهدف هذا التهجير أهل السنّة دون غيرهم؟‬

‫اللعبة يف المنطقة إلنجاز هذا التغيير؟‬ ‫‪ -2‬من هي الدول ّ‬

‫‪ -3‬مــا هــي أهــداف ومصالــح هــذه الــدول مــن إزاحــة المســلمين‬ ‫الس ـنّة عــن بالدهــم؟‬

‫إن البحــث عــن إجابــات لهــذه األســئلة هــو مــا يدعونــا للحديــث عــن‬ ‫ظاهــرة التهجيــر اإلجرامــي؛ مــن خــال تســليط الضــوء علــى الســاحة‬ ‫الســورية ومــا جــرى فيهــا إثــر ثــورة شــعبها المجيــدة‪.‬‬ ‫أهمية هذا الموضوع‪:‬‬

‫إن مــا نــراه يف هــذا العقــد مــن تمالــؤ القاصي والــداين على أهل السـنّة يف‬ ‫ســوريا‪ ،‬والعمــل علــى إفــراغ مناطقهــم مــن أهلهــا‪ ،‬مــن خــال حمــات‬ ‫التهجيــر الطائفــي‪ ،‬وتعــاون الشــيعة مــع قــوى عظمــى‪ ،‬جعــل للبحــث‬ ‫العلمـ ّـي حــول هــذه القضيــة أهم ّيــة كــرى‪ ،‬ال يجــوز التغافــل عنهــا‪.‬‬ ‫‪23‬‬


‫التهجير القسري في سوريا‬ ‫لقــد بــدأت هــذه الفكــرة تأخــذ ح ّيـ ًـزا مــن تفكيري بعدمــا رأيــت الذين‬ ‫يقمعــون المظاهــرات الســورية ‪-‬يف أحيــاء دمشــق تحديــدً ا‪ -‬عبارة عن‬ ‫عناصــر غريبــة عــن بالدنــا‪ ،‬حيــث كانــوا ِضخــام األجســام‪ ،‬حليقــي‬ ‫الشــعور طويلــي اللحــى‪ ،‬يضعــون النظــارات الســوداء‪ ،‬بعضهــم يلبس‬ ‫القمصــان (تيشــرت) والبناطيــل الســوداء‪ ،‬وبعضهــم البنطــال الممــوه‬ ‫(مارنــز)‪ ،‬ويركبــون ســيارات ســوداء ليــس عليهــا لوحــات رقم ّيــة‪،‬‬ ‫وكانــت أســلحتهم غيــر األســلحة الروســية التــي نعرفهــا‪.‬‬ ‫يف البدايــة حســبتهم مــن عناصر الســاحل الســوري (الشــبيحة) للشـ َب ِه‬ ‫ٍ‬ ‫بلهجــة‬ ‫الكبيــر بينهــم‪ ،‬وعندمــا اقرتبــت منهــم ســمعتُهم يتخافتــون‬ ‫لبنان ّيـ ٍـة‪ ،‬ويقــول أحدهــم لصاحبــه‪ :‬إيــاك والــكالم‪ ،‬عندهــا عرفــت أهنم‬ ‫مــن عناصــر المجــرم المدعــو حســن نصــر اهلل(((‪.‬‬

‫اعتُقلــت يف بدايــة الثــورة والحظــت يف المعتقــل ّ‬ ‫أن أكثــر مــن ُيعـ َّـذب‬ ‫و ُيق َتــل يف ســجون المخابــرات هــم أهل الســنة‪ ،‬وأن ّ‬ ‫جلدنــا كان يتفنن‬ ‫ـب ر ّبنــا وديننــا ونب ّينــا وشــتمهم‪ ،‬وهــو لشـ ِ‬ ‫ـتم صحابــة رســول اهلل‬ ‫يف سـ ّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ـادر إلــى النيــل مــن أبــي بكــر وابنتــه عائشـ َة رضــي اهلل عنهما‪.‬‬ ‫مكثـ ٌـر‪ ،‬مبـ ٌ‬

‫ـني الثــورة تراكمــت الجرائم بحـ ّـق أهل السـنّة‬ ‫وفيمــا تــا ذلــك مــن سـ ِّ‬ ‫يف ســوريا‪ ،‬وتفاقمــت شــي ًئا فشــي ًئا‪ ،‬ووصلــت هذه االنتهــاكات إلى حدّ‬ ‫هتجيــر األهالــي مــن أوطاهنــم وبيوهتــم‪ ،‬علــى يــد قـ ّـوات نظــام األســد‬ ‫وحلفائــه مــن ميليشــيات إيــران وحــزب اهلل‪ ،‬ورغــم مــا بيــن النصيريــة‬ ‫والشــيعة مــن عــداء تاريخــي فإنــك تجد القاســم المشــرك يف تحالفهم‬ ‫الغريــب هــو عداؤهــم ألهــل الســنة واالتفــاق علــى اســتئصالهم‪.‬‬

‫ومــن خــال هــذا البحــث ســأحاول كشــف اللثــام عــن بعــض‬ ‫الحقائــق والنوايــا العالميــة أو اإلقليميــة يف توثيــق الســعي المســعور‬ ‫لتهجيــر ســكان ســوريا األصلييــن وإحــداث خلــل كبيــر يف واقــع‬ ‫المكــون الســني فيهــا‪.‬‬ ‫وقــد تــم هــذا البحــث مــن خــال مقدمــة ومبحثيــن‪ ،‬األول‪ :‬يتحــدث‬ ‫عــن مفهــوم التهجيــر القســري وأشــكاله وأهدافــه والجهــات القائمــة‬ ‫عليــه‪ ،‬والمبحــث الثــاين‪ :‬يتحــدث عــن اآلثــار االجتماعيــة والطائفيــة‬ ‫لسياســة التهجيــر القســري يف ســوريا‪ ،‬وختمــت البحــث بأهــم النتائــج‬ ‫والتوصيــات‪.‬‬

‫املبحث األول‬ ‫القرسي وأشــكاله وأهدافه‬ ‫مفهــوم التهجري‬ ‫ّ‬ ‫القرسي‪:‬‬ ‫مفهــوم التهجري‬ ‫ّ‬

‫(اله ْجــر) ضــد الوصــل‪ ،‬وبابــه نصــر‬ ‫التهجيــر لغــة‪ :‬التهجيــر لغــة‪ :‬مــن َ‬ ‫ِ‬ ‫أيضــا‪ ،‬واالســم ِ‬ ‫اج َرة) مــن أرض إلــى‬ ‫و(ه ْج َرا ًنــا) ً‬ ‫(اله ْجـ َـرةُ)‪ .‬و(الــ ُـم َه َ‬ ‫و(اله ْجـ ُـر) بالفتــح‬ ‫اجـ ُـر) التقاطــع‪.‬‬ ‫أرض تــرك األولــى للثانيــة‪ .‬و(الت َ​َّه ُ‬ ‫َ‬ ‫((( يف ذلك الوقت كنت فذاهبًا إلى جامع الحسن يف حي الميدان يف يوم الجمعة‪.‬‬

‫‪24‬‬

‫و(اله ِ‬ ‫و(اله ِج ْيـ ُـر) نصــف‬ ‫اجـ َـرة)‬ ‫و(اله ْجـ ُـر) بالفتــح‬ ‫أيضــا الهذيــان‪...‬‬ ‫ً‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫النهــار عنــد اشــتداد الحــر‪ ،‬و(الت َّْهجيــر) و(الت َ​َّه ُّجــر) الســير يف الهاجرة‪.‬‬ ‫َ ِ‬ ‫ــروا) وال‬ ‫ــر) فــان تشــبه بالمهاجريــن‪ .‬ويف‬ ‫الحديث‪(»:‬هاج ُ‬ ‫و( َت َه َّج َ‬ ‫و(ه َجـ ٌـر) بفتحتيــن اســم بلــد مذكــر مصــروف‪ .‬ويف المثــل‪:‬‬ ‫َت َه َّجـ ُـروا»‪َ .‬‬ ‫ٍ (((‬ ‫واله ْجــر‪ :‬الــرك‪ ،‬والمهاجــرون‪ :‬هــم مــن‬ ‫كمبضــع تمــر إلــى َه َجــر ‪َ .‬‬ ‫(((‬ ‫هجـ َـر إلــى ‪.‬‬ ‫هجـ َـر‪َّ ،‬‬ ‫هجــروا أوطاهنــم(((‪ .‬و َت ْهجيــر (مفــرد)‪ :‬مصــدر َّ‬ ‫إ ًذا فمــن معــاين كلمــة تهجيــر‪ :‬الــرك‪ ،‬والتشـ ّبه بالمهاجريــن‪ ،‬ومفارقة‬ ‫األوطــان‪ ،‬والتقاطع‪.‬‬ ‫ـري بســبب صراعــات داخل ّيــة‪،‬‬ ‫والتهجيــر‬ ‫اصطالحــا هــو‪ :‬انتقــال قسـ ٌّ‬ ‫ً‬ ‫تدفــع األُســر واألفــراد إلــى مغــادرة أماكــن إقامتهــم األصليــة‪ ،‬والتوجه‬ ‫ـدرا أكــر مــن األمــن وشــروط االســتقرار(((‪.‬‬ ‫إلــى أماكــن توفــر لهــم قـ ً‬ ‫ـراه وتشـ ٍ‬ ‫التهجيــر بالمعنــى السياســي‪ :‬سياس ـ ُة إكـ ٍ‬ ‫ـريد‪ ،‬وإرغــا ٌم علــى‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫حــرب أو نــزا ٍع ُمســ َّلح أو فتنــة‬ ‫جــراء‬ ‫مغــادرة‬ ‫مســكن أو بلــد‪ ،‬مــن َّ‬ ‫سياســ َّية «مخ ّططــات هتجير َّيــة وتطهيــر عرقــي»(((‪.‬‬ ‫بداية هذه السياسة يف العصور الحديثة‪:‬‬

‫بــدأت سياســة التهجيــر تنتشــر مــع قيــام إســرائيل باســتقدام يهــود‬ ‫العالــم‪ ،‬وتوطينهــم يف فلســطين بعــد إجــاء أهلهــا وهتجيرهــم يف بقــاع‬ ‫األرض‪ ،‬فالصهيونيــة كانــت ومــا زالــت حركــة توطين ّيــة اســتيطانية‪،‬‬ ‫القــوة البشــر ّية القتال ّيــة اليهود ّيــة إلــى فلســطين مســألة‬ ‫ويعــدّ تد ُّفــق ّ‬ ‫ـتمر يف االضطــاع بوظيفتهــا‬ ‫أساسـ ّية وحيو ّيــة بالنســبة لهــا‪ ،‬حتــى تسـ ّ‬ ‫القتاليــة‪ ،‬فنجــد الحركــة الصهيون ّيــة كثيـ ًـرا مــا تلجــأ إلــى عمليــة هتجيــر‬ ‫قســر ّية لبعــض يهــود العالــم‪.‬‬ ‫الدولــي‪( :‬ممارســة تن ّفذهــا‬ ‫القســري يف القانــون‬ ‫مفهــوم التهجيــر‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫متعصبــ ٌة اتجــاه‬ ‫مجموعــات‬ ‫حكومــات أو قــوى شــبه عســكر ّية‪ ،‬أو‬ ‫ٌ‬ ‫ّ‬ ‫ٍ‬ ‫أراض مع ّينــة‪،‬‬ ‫مجموعــات عرق ّيــة أو دين ّيــة أو مذهب ّيــة‪ ،‬هبــدف إخــاء‬ ‫وإحــال مجاميــع ســكان ّية أخــرى بـ ً‬ ‫ـدل عنهــا)(((‪ .‬‬ ‫ـري‪ ‬بأنّه‪( :‬اإلخــاء‬ ‫ـي اإلنســاينّ التهجيــر القسـ ّ‬ ‫ُ‬ ‫ويعـ ِّـرف القانــون الدولـ ّ‬ ‫ـري وغيــر القانــوينّ‪ ،‬لمجموعة مــن األفراد والســكان من األرض‬ ‫القسـ ُّ‬ ‫التــي يقيمــون عليهــا) وهــو ممارســة مرتبطــة بالتطهيــر‪ ،‬وإجــراء تقــوم‬ ‫بــه الحكومــات‪ ،‬أو المجموعــات المتعصبــة تجــاه مجموعــة عرق ّية أو‬ ‫ٍ‬ ‫أراض‬ ‫دين ّيــة مع ّينــة‪ ،‬وأحيا ًنــا ضــد مجموعــات عديــدة هبــدف إخــاء‬ ‫معينــة لنخبــة بديلــة أو فئــة معينــة‪ ،‬وتعــدُّ المــوا ُّد (‪ )6‬و(‪ )7‬و(‪ )8‬مــن‬ ‫(((  انظر‪ :‬مختار الصحاح للرازي‪( ،‬ج‪/1‬ص‪ ،)423‬ط‪ ،9991/5‬المكتبة العصرية‬ ‫بيروت‪ .‬‬ ‫(((  انظر‪ :‬القاموس الفقهي لسدي أبو جيب‪( ،‬ج‪/1‬ص‪ ،)563‬ط‪ ،8891/2‬دار الفكر‪.‬‬ ‫(((  انظر‪ :‬معجم اللغة العربية المعاصرة‪ ،‬د‪.‬أحمد مختار عبد الحميد عمر‪( ،‬ج‪/3‬ص‪ ،)5232‬عالم‬ ‫الكتب‪/‬ط‪.1‬‬ ‫(((  انظر‪ :‬كتاب الصحة النفسية للجميع‪ ،‬الدكتور فيكرام باتل‪( ،‬ص‪ ،)502‬ط ‪ 1‬العربية معدلة‪ ،‬الناشر‬ ‫ورشة الموارد العربية‪ ،‬بيروت‪.‬‬ ‫(((  انظر‪ :‬المرجع السابق (ج‪.)5232/3‬‬ ‫(((  انظر‪ :‬مقالة «مفهوم التهجير القسري يف القانون الدولي» لعادل عامر‪ ،‬موقع ديوان العرب‪ ،‬نوفمرب‬ ‫‪.4102‬‬

‫التهجير القسري في سوريا‬ ‫ـري جريمــة حــرب(((‪.‬‬ ‫نظــام رومــا األساسـ ّـي التهجيـ َـر القسـ ّ‬

‫القســري‪ :‬مــن قــرارات‬ ‫إجــراءات مجلــس األمــن إزاء التهجيــر‬ ‫ّ‬ ‫مجلــس األمــن المتعلقــة بالتهجيــر القــرار رقــم «‪ »1674‬لعــام ‪2006‬‬ ‫حمايــة المدنييــن يف الصراعــات المســلحة (الفقــرة ‪ :)12‬يشــير إلــى‬ ‫ـري للمدن ّييــن يف حــاالت الصــراع المســلح‪ ،‬يف‬ ‫حظــر التهجيــر القسـ ّ‬ ‫ظــل ظــروف تشــكل انتهــاكًا اللتزامــات األطــراف بموجــب القانــون‬ ‫اإلنســاينّ‬ ‫الدولــي(‪.((1‬‬ ‫ّ‬ ‫الفــرق بيــن الهجــرة والتهجيــر‪ :‬مــن خــال تناولنــا لمعنــى كلمــة‬ ‫َتهجيــر يتضــح معنــا الفــرق بيــن كلمتــي الهجــرة والتهجيــر‪.‬‬

‫فالهجــرة‪ :‬مــن الممكــن أن تكــون اختيار ّيــة برغبــة المهاجــر‪ ،‬دون‬ ‫َت ّ‬ ‫دخـ ٍل مــن جهــة خارج ّيــة أخــرى‪ ،‬و ُيمكــن أن تكــون علــى ســبيل الفــرار‬ ‫أي خطــر يهــدّ د حيــاة اإلنســان أو دينــه أو عرضــه ومالــه ونســله‪.‬‬ ‫مــن ّ‬

‫أمــا التّهجيــر‪ :‬فمبناهــا يــدل علــى معناهــا‪ ،‬وزيــادة المبنــى تــدل علــى‬ ‫(ه َجـ َـر‪َ ،‬ه َّجـ َـر)‪ ،‬فالــ ُـم َه َّجر هــو مــن ُأرغــم علــى الهجرة‬ ‫زيــادة المعنــى َ‬ ‫دون اختيــار منــه‪ ،‬وتــأيت بمعنــى ال ّطــرد‪.‬‬ ‫القرسي‪:‬‬ ‫أشــكال التهجري‬ ‫ّ‬

‫رأســا قــد ُرفــع قــام بزجــه أو إبعــاده‬ ‫إن الحاكــم المســتبد إن وجــد ً‬ ‫ـأي طريقـ ٍـة كانــت‪ ،‬وإن رأى المعارضيــن لــه قــد زاد جمعهــم بحيــث‬ ‫بـ ّ‬ ‫يصعــب قتلهــم جمي ًعــا لجــأ إلــى نفيهــم مــن أوطاهنــم وهتجيرهــم لعله‬ ‫يصفــو لــه اســتبداده وال يجــد مــن يلومــه علــى ظلمــه أو يقول لــه كفى‪،‬‬ ‫وهــذا مــا فعلــه نظــام الطاغيــة يف ســوريا‪ ،‬حيــث ا ّتبــع أســاليب وطر ًقــا‬ ‫مختلفــة لتهجيــر معارضيــه‪ ...‬مــن هــذه الطــرق‪:‬‬ ‫ـتثناءات أو حـ ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ـدود‪ ،‬فقــد بلــغ‬ ‫أي اسـ‬ ‫‪ -1‬االعتقـ ُ‬ ‫ـاالت التعســف ّية دون ّ‬ ‫ـخصا حتــى آذار‬ ‫عــدد المعتقليــن يف الســجون الســورية ‪ 118829‬شـ ً‬ ‫(‪((1‬‬ ‫‪.2018‬‬ ‫اإلجبــاري واعتقــال الشــباب علــى الحواجــز‪ ،‬وقــد‬ ‫‪ -2‬التجنيــد‬ ‫ّ‬ ‫و ّثقــت هيئــات حقــوق اإلنســان حــاالت اعتقــال الكثيريــن من الشـ ّبان‬ ‫الســور ّيين الذيــن تــراوح أعمارهــم مــا بيــن ‪ 35-25‬ســنة‪ ،‬يف غالــب‬ ‫ِ‬ ‫ـاري (‪.((1‬‬ ‫المحافظــات الســورية لســوقهم إلــى التجنيــد اإلجبـ ّ‬

‫‪ -3‬إعــادة التنظيــم العمــراينّ وإطــاق مشــاريع كربى‪ :‬كمــا يف حمص‬ ‫وأيضــا مــا‬ ‫(مشــروع حلــم حمــص) ويقضــي هبــدم حمــص القديمــة‪ً ،‬‬ ‫جــرى يف كفــر سوســة‪ ،‬وبســاتين المــزة‪ ،‬والقــدم‪ ،‬وداريــا وغيرهــا(‪.((1‬‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫وخاصــة‬ ‫زهيــدة‪،‬‬ ‫بأثمــان‬ ‫‪ -4‬إجبــار الســكان علــى بيــع البيــوت‬ ‫ّ‬ ‫(((  انظر‪ :‬مركز الشرق العربي (التهجير القسري والتغيير الديموغرايف يف سوريا تحت غطاء األمم‬ ‫المتحدة) االئتالف الوطني السوري ‪.6102/9/6‬‬ ‫(‪  ((1‬انظر‪ :‬األمم المتحدة ‪ ،‬مجلس األمن ‪ ،‬القرار ‪/4761‬عام ‪ 6002‬يف جلسته ‪ ،0345‬من شهر نيسان‪.‬‬ ‫(‪  ((1‬انظر‪ :‬المرجع السابق‪.‬‬ ‫(‪  ((1‬انظر‪ :‬المرجع السابق ‪/22‬ديسمرب‪5102/‬م‪.‬‬ ‫(‪  ((1‬انظر‪« :‬التهجير القسري يف سوريا السياسات األدوات والتبعات»‪ ،‬د‪ .‬ياسر سعد الدين‪ ،‬مركز أمية‬ ‫للبحوث ‪7102/1/02‬م‪ ،‬موقع الراصد‪.‬‬

‫يف دمشــق القديمــة‪ ،‬لتفريغهــا واالســتيالء عليهــا‪ ،‬خاصــة البيــوت‬ ‫المملوكــة للســنّة(‪.((1‬‬ ‫المحرمــة أو غيرهــا‪،‬‬ ‫‪ -5‬القصــف الوحشـ ّـي وبكافــة أنــواع األســلحة‬ ‫ّ‬ ‫ممــا يســتدعي فــرار األهالــي بحياهتــم‪ ،‬وقــد و ّثقــت المنظمــات‬ ‫الحقوق ّيــة الكثيــر مــن هــذه االنتهــاكات ومنهــا الهجمــات باألســلحة‬ ‫الكيماو ّيــة(‪.((1‬‬ ‫‪ -6‬التغييــر الديموغــرايفّ الــذي ينتهجــه نظــام األســد وحلفــاؤه‬ ‫اإليران ّيــون يف جميــع مناطــق السـنّة‪ ،‬كمــا حــدث يف دار ّيــا‪ ،‬ومعضم ّيــة‬ ‫الشــام‪ ،‬ووادي بــردى‪ ،‬وغيرهــا مــن المناطــق المحــررة التــي كانــت‬ ‫(‪((1‬‬ ‫ـقي‪ ،‬والقلمــون‪،‬‬ ‫تحــت ســيطرة الثـ ّـوار ‪ ،‬إضافــة إلــى الجنــوب الدمشـ ّ‬ ‫والزبــداين‪ ،‬وحمــص‪ ،‬والغوطــة الشــرق ّية‪.‬‬ ‫‪ -7‬الحصــار الخانــق المفــروض علــى المناطــق المحـ ّـررة‪ ،‬وقطــع‬ ‫جميــع ضرور ّيــات الحيــاة عــن ســكاهنا‪ ،‬مــن الكهربــاء والغــذاء‬ ‫واألدويــة والوقــود والغــاز‪ ،‬وحليــب األطفــال‪ ،‬واإلنرتنــت وغيــر‬ ‫ذلــك‪.‬‬

‫‪ -8‬منــع المرضــى الخارجيــن مــن مناطــق الحصــار للعــاج مــن‬ ‫العــودة إلــى مناطقهــم(‪ ((1‬كمــا حــدث يف مضايــا‪.‬‬ ‫وهكــذا نــرى ّ‬ ‫ـوري وحلفــاءه روســيا وإيــران وحــزب‬ ‫أن النظــام السـ ّ‬ ‫اهلل‪ ،‬يمارســون أســوأ الطــرق وأبشــعها‪ ،‬يف ســبيل إعجــاز هــذا الشــعب‬ ‫األعــزل‪ ،‬ودفعهــم لكراهيــة العيــش يف بلدهــم‪ ،‬هبــدف النــزول تحــت‬ ‫ـري(‪.((1‬‬ ‫طاعتــه وإجرامــه‪ ،‬فإمــا القتــل واالعتقــال‪ ،‬أو التهجيــر القسـ ّ‬ ‫القرسي يف ســوريا‪:‬‬ ‫أهداف التهجري‬ ‫ّ‬

‫يختلــف الهــدف مــن هتجيــر الشــعوب باختــاف البقعــة الجغرافيــة‬ ‫التــي يحــدث فيهــا‪ ،‬واختــاف النــاس الذيــن يقــع عليهــم‪ ،‬ولهــذا فــإن‬ ‫أهمهــا‪:‬‬ ‫للتهجيــر يف ســوريا أســبا ًبا كثيــرة ســأذكر ّ‬ ‫ـوي‬ ‫أهــداف التهجيــر السياس ـ ّية‪ :‬يســعى النظــام للظهــور بمظهــر القـ ّ‬ ‫والمنتصــر يف معاركِ ِ‬ ‫ــه ضــدّ أبنــاء شــعبِ ِه‪ ،‬وذلــك لتحقيــق مكاســب‬ ‫الدولــي‪ ،‬ومــا نــراه‬ ‫سياســ ّية يعــرض فيهــا عضالتــه أمــام المجتمــع‬ ‫ّ‬ ‫يتج ّلــى يف بقائِ ِ‬ ‫بقــي يف البلــد وحــدَ ُه‪،‬‬ ‫كرســي الحكــم‪ ،‬ولــو‬ ‫ــه علــى‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫وشــرد جميــع أبنـ ِ‬ ‫ـاء ِ‬ ‫ـار ُه الحفـ ُ‬ ‫بلد ِه‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫ـاظ علــى العاصمــة‪ ،‬ولــو ُه ّجر ُ ّ‬ ‫فمعيـ ُ‬ ‫ـوري بنفــس النظــرة والعقل ّيـ ِـة‪ ،‬فبقــا ُء حكـ ِ‬ ‫ـم‬ ‫وينظـ ُـر حلفــا ُء النظــام السـ ّ‬ ‫األسـ ِـد بقــا ٌء لتحالفاهتــم ومصالحهــم‪ ،‬التــي لــن يحلمــوا أن يحصلــوا‬ ‫رأس الحكــم يف ســوريا‪ ،‬طب ًعــا مــن أهم تلــك المصالح‬ ‫عليهــا لــو تغ ّيــر ُ‬ ‫(‪  ((1‬انظر‪ :‬مقالة «التغيير الديمغرايف والطريق إلى سوريا المفيدة» غازي دحمان‪ ،‬موقع معهد العالم‬ ‫للدراسات‪/13 ،‬اكتوبر‪6102/‬م‪.‬‬ ‫(‪  ((1‬انظر‪ :‬موقع الجزيرة نقال عن الشبكة السورية لحقوق اإلنسان‪.‬‬ ‫(‪  ((1‬انظر‪ :‬المرجع السابق‪.‬‬ ‫(‪  ((1‬انظر‪ :‬تقرير «طريقة جديدة للتهجير القسري مرضى مضايا المخرجون ممنوعون من العودة»‪،‬‬ ‫المركز الصحفي السوري ‪/9 ،cps‬اكتوبر‪6102/‬م‪.‬‬ ‫(‪  ((1‬انظر‪ :‬مجلة االتحاد‪ ،‬اإلمارات‪ ،‬د‪ .‬رياض نعسان أغا‪« ،‬التهجير القسري يف سوريا» ‪/2‬‬ ‫سبتمرب‪6102/‬م ‪.‬‬

‫‪25‬‬


‫التهجير القسري في سوريا‬ ‫لقــد بــدأت هــذه الفكــرة تأخــذ ح ّيـ ًـزا مــن تفكيري بعدمــا رأيــت الذين‬ ‫يقمعــون المظاهــرات الســورية ‪-‬يف أحيــاء دمشــق تحديــدً ا‪ -‬عبارة عن‬ ‫عناصــر غريبــة عــن بالدنــا‪ ،‬حيــث كانــوا ِضخــام األجســام‪ ،‬حليقــي‬ ‫الشــعور طويلــي اللحــى‪ ،‬يضعــون النظــارات الســوداء‪ ،‬بعضهــم يلبس‬ ‫القمصــان (تيشــرت) والبناطيــل الســوداء‪ ،‬وبعضهــم البنطــال الممــوه‬ ‫(مارنــز)‪ ،‬ويركبــون ســيارات ســوداء ليــس عليهــا لوحــات رقم ّيــة‪،‬‬ ‫وكانــت أســلحتهم غيــر األســلحة الروســية التــي نعرفهــا‪.‬‬ ‫يف البدايــة حســبتهم مــن عناصر الســاحل الســوري (الشــبيحة) للشـ َب ِه‬ ‫ٍ‬ ‫بلهجــة‬ ‫الكبيــر بينهــم‪ ،‬وعندمــا اقرتبــت منهــم ســمعتُهم يتخافتــون‬ ‫لبنان ّيـ ٍـة‪ ،‬ويقــول أحدهــم لصاحبــه‪ :‬إيــاك والــكالم‪ ،‬عندهــا عرفــت أهنم‬ ‫مــن عناصــر المجــرم المدعــو حســن نصــر اهلل(((‪.‬‬

‫اعتُقلــت يف بدايــة الثــورة والحظــت يف المعتقــل ّ‬ ‫أن أكثــر مــن ُيعـ َّـذب‬ ‫و ُيق َتــل يف ســجون المخابــرات هــم أهل الســنة‪ ،‬وأن ّ‬ ‫جلدنــا كان يتفنن‬ ‫ـب ر ّبنــا وديننــا ونب ّينــا وشــتمهم‪ ،‬وهــو لشـ ِ‬ ‫ـتم صحابــة رســول اهلل‬ ‫يف سـ ّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ـادر إلــى النيــل مــن أبــي بكــر وابنتــه عائشـ َة رضــي اهلل عنهما‪.‬‬ ‫مكثـ ٌـر‪ ،‬مبـ ٌ‬

‫ـني الثــورة تراكمــت الجرائم بحـ ّـق أهل السـنّة‬ ‫وفيمــا تــا ذلــك مــن سـ ِّ‬ ‫يف ســوريا‪ ،‬وتفاقمــت شــي ًئا فشــي ًئا‪ ،‬ووصلــت هذه االنتهــاكات إلى حدّ‬ ‫هتجيــر األهالــي مــن أوطاهنــم وبيوهتــم‪ ،‬علــى يــد قـ ّـوات نظــام األســد‬ ‫وحلفائــه مــن ميليشــيات إيــران وحــزب اهلل‪ ،‬ورغــم مــا بيــن النصيريــة‬ ‫والشــيعة مــن عــداء تاريخــي فإنــك تجد القاســم المشــرك يف تحالفهم‬ ‫الغريــب هــو عداؤهــم ألهــل الســنة واالتفــاق علــى اســتئصالهم‪.‬‬

‫ومــن خــال هــذا البحــث ســأحاول كشــف اللثــام عــن بعــض‬ ‫الحقائــق والنوايــا العالميــة أو اإلقليميــة يف توثيــق الســعي المســعور‬ ‫لتهجيــر ســكان ســوريا األصلييــن وإحــداث خلــل كبيــر يف واقــع‬ ‫المكــون الســني فيهــا‪.‬‬ ‫وقــد تــم هــذا البحــث مــن خــال مقدمــة ومبحثيــن‪ ،‬األول‪ :‬يتحــدث‬ ‫عــن مفهــوم التهجيــر القســري وأشــكاله وأهدافــه والجهــات القائمــة‬ ‫عليــه‪ ،‬والمبحــث الثــاين‪ :‬يتحــدث عــن اآلثــار االجتماعيــة والطائفيــة‬ ‫لسياســة التهجيــر القســري يف ســوريا‪ ،‬وختمــت البحــث بأهــم النتائــج‬ ‫والتوصيــات‪.‬‬

‫املبحث األول‬ ‫القرسي وأشــكاله وأهدافه‬ ‫مفهــوم التهجري‬ ‫ّ‬ ‫القرسي‪:‬‬ ‫مفهــوم التهجري‬ ‫ّ‬

‫(اله ْجــر) ضــد الوصــل‪ ،‬وبابــه نصــر‬ ‫التهجيــر لغــة‪ :‬التهجيــر لغــة‪ :‬مــن َ‬ ‫ِ‬ ‫أيضــا‪ ،‬واالســم ِ‬ ‫اج َرة) مــن أرض إلــى‬ ‫و(ه ْج َرا ًنــا) ً‬ ‫(اله ْجـ َـرةُ)‪ .‬و(الــ ُـم َه َ‬ ‫و(اله ْجـ ُـر) بالفتــح‬ ‫اجـ ُـر) التقاطــع‪.‬‬ ‫أرض تــرك األولــى للثانيــة‪ .‬و(الت َ​َّه ُ‬ ‫َ‬ ‫((( يف ذلك الوقت كنت فذاهبًا إلى جامع الحسن يف حي الميدان يف يوم الجمعة‪.‬‬

‫‪24‬‬

‫و(اله ِ‬ ‫و(اله ِج ْيـ ُـر) نصــف‬ ‫اجـ َـرة)‬ ‫و(اله ْجـ ُـر) بالفتــح‬ ‫أيضــا الهذيــان‪...‬‬ ‫ً‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫النهــار عنــد اشــتداد الحــر‪ ،‬و(الت َّْهجيــر) و(الت َ​َّه ُّجــر) الســير يف الهاجرة‪.‬‬ ‫َ ِ‬ ‫ــروا) وال‬ ‫ــر) فــان تشــبه بالمهاجريــن‪ .‬ويف‬ ‫الحديث‪(»:‬هاج ُ‬ ‫و( َت َه َّج َ‬ ‫و(ه َجـ ٌـر) بفتحتيــن اســم بلــد مذكــر مصــروف‪ .‬ويف المثــل‪:‬‬ ‫َت َه َّجـ ُـروا»‪َ .‬‬ ‫ٍ (((‬ ‫واله ْجــر‪ :‬الــرك‪ ،‬والمهاجــرون‪ :‬هــم مــن‬ ‫كمبضــع تمــر إلــى َه َجــر ‪َ .‬‬ ‫(((‬ ‫هجـ َـر إلــى ‪.‬‬ ‫هجـ َـر‪َّ ،‬‬ ‫هجــروا أوطاهنــم(((‪ .‬و َت ْهجيــر (مفــرد)‪ :‬مصــدر َّ‬ ‫إ ًذا فمــن معــاين كلمــة تهجيــر‪ :‬الــرك‪ ،‬والتشـ ّبه بالمهاجريــن‪ ،‬ومفارقة‬ ‫األوطــان‪ ،‬والتقاطع‪.‬‬ ‫ـري بســبب صراعــات داخل ّيــة‪،‬‬ ‫والتهجيــر‬ ‫اصطالحــا هــو‪ :‬انتقــال قسـ ٌّ‬ ‫ً‬ ‫تدفــع األُســر واألفــراد إلــى مغــادرة أماكــن إقامتهــم األصليــة‪ ،‬والتوجه‬ ‫ـدرا أكــر مــن األمــن وشــروط االســتقرار(((‪.‬‬ ‫إلــى أماكــن توفــر لهــم قـ ً‬ ‫ـراه وتشـ ٍ‬ ‫التهجيــر بالمعنــى السياســي‪ :‬سياس ـ ُة إكـ ٍ‬ ‫ـريد‪ ،‬وإرغــا ٌم علــى‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫حــرب أو نــزا ٍع ُمســ َّلح أو فتنــة‬ ‫جــراء‬ ‫مغــادرة‬ ‫مســكن أو بلــد‪ ،‬مــن َّ‬ ‫سياســ َّية «مخ ّططــات هتجير َّيــة وتطهيــر عرقــي»(((‪.‬‬ ‫بداية هذه السياسة يف العصور الحديثة‪:‬‬

‫بــدأت سياســة التهجيــر تنتشــر مــع قيــام إســرائيل باســتقدام يهــود‬ ‫العالــم‪ ،‬وتوطينهــم يف فلســطين بعــد إجــاء أهلهــا وهتجيرهــم يف بقــاع‬ ‫األرض‪ ،‬فالصهيونيــة كانــت ومــا زالــت حركــة توطين ّيــة اســتيطانية‪،‬‬ ‫القــوة البشــر ّية القتال ّيــة اليهود ّيــة إلــى فلســطين مســألة‬ ‫ويعــدّ تد ُّفــق ّ‬ ‫ـتمر يف االضطــاع بوظيفتهــا‬ ‫أساسـ ّية وحيو ّيــة بالنســبة لهــا‪ ،‬حتــى تسـ ّ‬ ‫القتاليــة‪ ،‬فنجــد الحركــة الصهيون ّيــة كثيـ ًـرا مــا تلجــأ إلــى عمليــة هتجيــر‬ ‫قســر ّية لبعــض يهــود العالــم‪.‬‬ ‫الدولــي‪( :‬ممارســة تن ّفذهــا‬ ‫القســري يف القانــون‬ ‫مفهــوم التهجيــر‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫متعصبــ ٌة اتجــاه‬ ‫مجموعــات‬ ‫حكومــات أو قــوى شــبه عســكر ّية‪ ،‬أو‬ ‫ٌ‬ ‫ّ‬ ‫ٍ‬ ‫أراض مع ّينــة‪،‬‬ ‫مجموعــات عرق ّيــة أو دين ّيــة أو مذهب ّيــة‪ ،‬هبــدف إخــاء‬ ‫وإحــال مجاميــع ســكان ّية أخــرى بـ ً‬ ‫ـدل عنهــا)(((‪ .‬‬ ‫ـري‪ ‬بأنّه‪( :‬اإلخــاء‬ ‫ـي اإلنســاينّ التهجيــر القسـ ّ‬ ‫ُ‬ ‫ويعـ ِّـرف القانــون الدولـ ّ‬ ‫ـري وغيــر القانــوينّ‪ ،‬لمجموعة مــن األفراد والســكان من األرض‬ ‫القسـ ُّ‬ ‫التــي يقيمــون عليهــا) وهــو ممارســة مرتبطــة بالتطهيــر‪ ،‬وإجــراء تقــوم‬ ‫بــه الحكومــات‪ ،‬أو المجموعــات المتعصبــة تجــاه مجموعــة عرق ّية أو‬ ‫ٍ‬ ‫أراض‬ ‫دين ّيــة مع ّينــة‪ ،‬وأحيا ًنــا ضــد مجموعــات عديــدة هبــدف إخــاء‬ ‫معينــة لنخبــة بديلــة أو فئــة معينــة‪ ،‬وتعــدُّ المــوا ُّد (‪ )6‬و(‪ )7‬و(‪ )8‬مــن‬ ‫(((  انظر‪ :‬مختار الصحاح للرازي‪( ،‬ج‪/1‬ص‪ ،)423‬ط‪ ،9991/5‬المكتبة العصرية‬ ‫بيروت‪ .‬‬ ‫(((  انظر‪ :‬القاموس الفقهي لسدي أبو جيب‪( ،‬ج‪/1‬ص‪ ،)563‬ط‪ ،8891/2‬دار الفكر‪.‬‬ ‫(((  انظر‪ :‬معجم اللغة العربية المعاصرة‪ ،‬د‪.‬أحمد مختار عبد الحميد عمر‪( ،‬ج‪/3‬ص‪ ،)5232‬عالم‬ ‫الكتب‪/‬ط‪.1‬‬ ‫(((  انظر‪ :‬كتاب الصحة النفسية للجميع‪ ،‬الدكتور فيكرام باتل‪( ،‬ص‪ ،)502‬ط ‪ 1‬العربية معدلة‪ ،‬الناشر‬ ‫ورشة الموارد العربية‪ ،‬بيروت‪.‬‬ ‫(((  انظر‪ :‬المرجع السابق (ج‪.)5232/3‬‬ ‫(((  انظر‪ :‬مقالة «مفهوم التهجير القسري يف القانون الدولي» لعادل عامر‪ ،‬موقع ديوان العرب‪ ،‬نوفمرب‬ ‫‪.4102‬‬

‫التهجير القسري في سوريا‬ ‫ـري جريمــة حــرب(((‪.‬‬ ‫نظــام رومــا األساسـ ّـي التهجيـ َـر القسـ ّ‬

‫القســري‪ :‬مــن قــرارات‬ ‫إجــراءات مجلــس األمــن إزاء التهجيــر‬ ‫ّ‬ ‫مجلــس األمــن المتعلقــة بالتهجيــر القــرار رقــم «‪ »1674‬لعــام ‪2006‬‬ ‫حمايــة المدنييــن يف الصراعــات المســلحة (الفقــرة ‪ :)12‬يشــير إلــى‬ ‫ـري للمدن ّييــن يف حــاالت الصــراع المســلح‪ ،‬يف‬ ‫حظــر التهجيــر القسـ ّ‬ ‫ظــل ظــروف تشــكل انتهــاكًا اللتزامــات األطــراف بموجــب القانــون‬ ‫اإلنســاينّ‬ ‫الدولــي(‪.((1‬‬ ‫ّ‬ ‫الفــرق بيــن الهجــرة والتهجيــر‪ :‬مــن خــال تناولنــا لمعنــى كلمــة‬ ‫َتهجيــر يتضــح معنــا الفــرق بيــن كلمتــي الهجــرة والتهجيــر‪.‬‬

‫فالهجــرة‪ :‬مــن الممكــن أن تكــون اختيار ّيــة برغبــة المهاجــر‪ ،‬دون‬ ‫َت ّ‬ ‫دخـ ٍل مــن جهــة خارج ّيــة أخــرى‪ ،‬و ُيمكــن أن تكــون علــى ســبيل الفــرار‬ ‫أي خطــر يهــدّ د حيــاة اإلنســان أو دينــه أو عرضــه ومالــه ونســله‪.‬‬ ‫مــن ّ‬

‫أمــا التّهجيــر‪ :‬فمبناهــا يــدل علــى معناهــا‪ ،‬وزيــادة المبنــى تــدل علــى‬ ‫(ه َجـ َـر‪َ ،‬ه َّجـ َـر)‪ ،‬فالــ ُـم َه َّجر هــو مــن ُأرغــم علــى الهجرة‬ ‫زيــادة المعنــى َ‬ ‫دون اختيــار منــه‪ ،‬وتــأيت بمعنــى ال ّطــرد‪.‬‬ ‫القرسي‪:‬‬ ‫أشــكال التهجري‬ ‫ّ‬

‫رأســا قــد ُرفــع قــام بزجــه أو إبعــاده‬ ‫إن الحاكــم المســتبد إن وجــد ً‬ ‫ـأي طريقـ ٍـة كانــت‪ ،‬وإن رأى المعارضيــن لــه قــد زاد جمعهــم بحيــث‬ ‫بـ ّ‬ ‫يصعــب قتلهــم جمي ًعــا لجــأ إلــى نفيهــم مــن أوطاهنــم وهتجيرهــم لعله‬ ‫يصفــو لــه اســتبداده وال يجــد مــن يلومــه علــى ظلمــه أو يقول لــه كفى‪،‬‬ ‫وهــذا مــا فعلــه نظــام الطاغيــة يف ســوريا‪ ،‬حيــث ا ّتبــع أســاليب وطر ًقــا‬ ‫مختلفــة لتهجيــر معارضيــه‪ ...‬مــن هــذه الطــرق‪:‬‬ ‫ـتثناءات أو حـ ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ـدود‪ ،‬فقــد بلــغ‬ ‫أي اسـ‬ ‫‪ -1‬االعتقـ ُ‬ ‫ـاالت التعســف ّية دون ّ‬ ‫ـخصا حتــى آذار‬ ‫عــدد المعتقليــن يف الســجون الســورية ‪ 118829‬شـ ً‬ ‫(‪((1‬‬ ‫‪.2018‬‬ ‫اإلجبــاري واعتقــال الشــباب علــى الحواجــز‪ ،‬وقــد‬ ‫‪ -2‬التجنيــد‬ ‫ّ‬ ‫و ّثقــت هيئــات حقــوق اإلنســان حــاالت اعتقــال الكثيريــن من الشـ ّبان‬ ‫الســور ّيين الذيــن تــراوح أعمارهــم مــا بيــن ‪ 35-25‬ســنة‪ ،‬يف غالــب‬ ‫ِ‬ ‫ـاري (‪.((1‬‬ ‫المحافظــات الســورية لســوقهم إلــى التجنيــد اإلجبـ ّ‬

‫‪ -3‬إعــادة التنظيــم العمــراينّ وإطــاق مشــاريع كربى‪ :‬كمــا يف حمص‬ ‫وأيضــا مــا‬ ‫(مشــروع حلــم حمــص) ويقضــي هبــدم حمــص القديمــة‪ً ،‬‬ ‫جــرى يف كفــر سوســة‪ ،‬وبســاتين المــزة‪ ،‬والقــدم‪ ،‬وداريــا وغيرهــا(‪.((1‬‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫وخاصــة‬ ‫زهيــدة‪،‬‬ ‫بأثمــان‬ ‫‪ -4‬إجبــار الســكان علــى بيــع البيــوت‬ ‫ّ‬ ‫(((  انظر‪ :‬مركز الشرق العربي (التهجير القسري والتغيير الديموغرايف يف سوريا تحت غطاء األمم‬ ‫المتحدة) االئتالف الوطني السوري ‪.6102/9/6‬‬ ‫(‪  ((1‬انظر‪ :‬األمم المتحدة ‪ ،‬مجلس األمن ‪ ،‬القرار ‪/4761‬عام ‪ 6002‬يف جلسته ‪ ،0345‬من شهر نيسان‪.‬‬ ‫(‪  ((1‬انظر‪ :‬المرجع السابق‪.‬‬ ‫(‪  ((1‬انظر‪ :‬المرجع السابق ‪/22‬ديسمرب‪5102/‬م‪.‬‬ ‫(‪  ((1‬انظر‪« :‬التهجير القسري يف سوريا السياسات األدوات والتبعات»‪ ،‬د‪ .‬ياسر سعد الدين‪ ،‬مركز أمية‬ ‫للبحوث ‪7102/1/02‬م‪ ،‬موقع الراصد‪.‬‬

‫يف دمشــق القديمــة‪ ،‬لتفريغهــا واالســتيالء عليهــا‪ ،‬خاصــة البيــوت‬ ‫المملوكــة للســنّة(‪.((1‬‬ ‫المحرمــة أو غيرهــا‪،‬‬ ‫‪ -5‬القصــف الوحشـ ّـي وبكافــة أنــواع األســلحة‬ ‫ّ‬ ‫ممــا يســتدعي فــرار األهالــي بحياهتــم‪ ،‬وقــد و ّثقــت المنظمــات‬ ‫الحقوق ّيــة الكثيــر مــن هــذه االنتهــاكات ومنهــا الهجمــات باألســلحة‬ ‫الكيماو ّيــة(‪.((1‬‬ ‫‪ -6‬التغييــر الديموغــرايفّ الــذي ينتهجــه نظــام األســد وحلفــاؤه‬ ‫اإليران ّيــون يف جميــع مناطــق السـنّة‪ ،‬كمــا حــدث يف دار ّيــا‪ ،‬ومعضم ّيــة‬ ‫الشــام‪ ،‬ووادي بــردى‪ ،‬وغيرهــا مــن المناطــق المحــررة التــي كانــت‬ ‫(‪((1‬‬ ‫ـقي‪ ،‬والقلمــون‪،‬‬ ‫تحــت ســيطرة الثـ ّـوار ‪ ،‬إضافــة إلــى الجنــوب الدمشـ ّ‬ ‫والزبــداين‪ ،‬وحمــص‪ ،‬والغوطــة الشــرق ّية‪.‬‬ ‫‪ -7‬الحصــار الخانــق المفــروض علــى المناطــق المحـ ّـررة‪ ،‬وقطــع‬ ‫جميــع ضرور ّيــات الحيــاة عــن ســكاهنا‪ ،‬مــن الكهربــاء والغــذاء‬ ‫واألدويــة والوقــود والغــاز‪ ،‬وحليــب األطفــال‪ ،‬واإلنرتنــت وغيــر‬ ‫ذلــك‪.‬‬

‫‪ -8‬منــع المرضــى الخارجيــن مــن مناطــق الحصــار للعــاج مــن‬ ‫العــودة إلــى مناطقهــم(‪ ((1‬كمــا حــدث يف مضايــا‪.‬‬ ‫وهكــذا نــرى ّ‬ ‫ـوري وحلفــاءه روســيا وإيــران وحــزب‬ ‫أن النظــام السـ ّ‬ ‫اهلل‪ ،‬يمارســون أســوأ الطــرق وأبشــعها‪ ،‬يف ســبيل إعجــاز هــذا الشــعب‬ ‫األعــزل‪ ،‬ودفعهــم لكراهيــة العيــش يف بلدهــم‪ ،‬هبــدف النــزول تحــت‬ ‫ـري(‪.((1‬‬ ‫طاعتــه وإجرامــه‪ ،‬فإمــا القتــل واالعتقــال‪ ،‬أو التهجيــر القسـ ّ‬ ‫القرسي يف ســوريا‪:‬‬ ‫أهداف التهجري‬ ‫ّ‬

‫يختلــف الهــدف مــن هتجيــر الشــعوب باختــاف البقعــة الجغرافيــة‬ ‫التــي يحــدث فيهــا‪ ،‬واختــاف النــاس الذيــن يقــع عليهــم‪ ،‬ولهــذا فــإن‬ ‫أهمهــا‪:‬‬ ‫للتهجيــر يف ســوريا أســبا ًبا كثيــرة ســأذكر ّ‬ ‫ـوي‬ ‫أهــداف التهجيــر السياس ـ ّية‪ :‬يســعى النظــام للظهــور بمظهــر القـ ّ‬ ‫والمنتصــر يف معاركِ ِ‬ ‫ــه ضــدّ أبنــاء شــعبِ ِه‪ ،‬وذلــك لتحقيــق مكاســب‬ ‫الدولــي‪ ،‬ومــا نــراه‬ ‫سياســ ّية يعــرض فيهــا عضالتــه أمــام المجتمــع‬ ‫ّ‬ ‫يتج ّلــى يف بقائِ ِ‬ ‫بقــي يف البلــد وحــدَ ُه‪،‬‬ ‫كرســي الحكــم‪ ،‬ولــو‬ ‫ــه علــى‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫وشــرد جميــع أبنـ ِ‬ ‫ـاء ِ‬ ‫ـار ُه الحفـ ُ‬ ‫بلد ِه‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫ـاظ علــى العاصمــة‪ ،‬ولــو ُه ّجر ُ ّ‬ ‫فمعيـ ُ‬ ‫ـوري بنفــس النظــرة والعقل ّيـ ِـة‪ ،‬فبقــا ُء حكـ ِ‬ ‫ـم‬ ‫وينظـ ُـر حلفــا ُء النظــام السـ ّ‬ ‫األسـ ِـد بقــا ٌء لتحالفاهتــم ومصالحهــم‪ ،‬التــي لــن يحلمــوا أن يحصلــوا‬ ‫رأس الحكــم يف ســوريا‪ ،‬طب ًعــا مــن أهم تلــك المصالح‬ ‫عليهــا لــو تغ ّيــر ُ‬ ‫(‪  ((1‬انظر‪ :‬مقالة «التغيير الديمغرايف والطريق إلى سوريا المفيدة» غازي دحمان‪ ،‬موقع معهد العالم‬ ‫للدراسات‪/13 ،‬اكتوبر‪6102/‬م‪.‬‬ ‫(‪  ((1‬انظر‪ :‬موقع الجزيرة نقال عن الشبكة السورية لحقوق اإلنسان‪.‬‬ ‫(‪  ((1‬انظر‪ :‬المرجع السابق‪.‬‬ ‫(‪  ((1‬انظر‪ :‬تقرير «طريقة جديدة للتهجير القسري مرضى مضايا المخرجون ممنوعون من العودة»‪،‬‬ ‫المركز الصحفي السوري ‪/9 ،cps‬اكتوبر‪6102/‬م‪.‬‬ ‫(‪  ((1‬انظر‪ :‬مجلة االتحاد‪ ،‬اإلمارات‪ ،‬د‪ .‬رياض نعسان أغا‪« ،‬التهجير القسري يف سوريا» ‪/2‬‬ ‫سبتمرب‪6102/‬م ‪.‬‬

‫‪25‬‬


‫التهجير القسري في سوريا‬ ‫دوام أمن إسرائيل‪ ...‬ومن هؤالء الحلفاء‪:‬‬

‫روســيا‪ :‬حلمهــا الحضــور الدائــم يف الميــاه الدافئة (البحر المتوســط)‬ ‫ـوفيتي كثيــرا مــن مراكــزه وعالقاتــه الدولية من‬ ‫فقــد خســر االتحــاد السـ ّ‬ ‫مصــر إلــى عــدن‪ ،‬فليبيــا والعــراق‪ ،‬ولــم يبــق لــه حال ًّيــا ســوى ســوريا‪،‬‬ ‫ولروســيا هــدف آخــر أال وهــو الخــاص مــن المجاهديــن المنتشــرين‬ ‫يف بالدهــا‪ ،‬إضافــة إلــى أهــداف اقتصاد ّيــة منهــا إعــادة تلميــع صــورة‬ ‫الســاح الروسـ ّـي وتســويقه(‪.((1‬‬

‫إيــران‪ :‬لهــا مكاســب سياسـ ّية واســراتيج ّية وعســكر ّية ال تخفــى على‬ ‫ـكري‪ ،‬ولكــن الظاهــر‬ ‫أحــد‪ ،‬وتحــاول جاهــدة إخفــاء وجودهــا العسـ ّ‬ ‫(‪((2‬‬ ‫عيا ًنــا ّ‬ ‫أن لهــا ثقـ ًـا ووجــو ًدا عســكر ًّيا ال ُيســتهان بــه ‪.‬‬ ‫حــزب اهلل اللبنــاينّ‪ّ :‬‬ ‫إن سياســة حــزب اهلل يف ســوريا مرتبط ـ ٌة بسياســة‬ ‫طهــران‪ ،‬فقــد أكّــد المدعــو حســن نصــر اهلل ذلــك يف الكثيــر مــن‬ ‫خطاباتــه المتلفــزة(‪ ،((2‬وذكــر معهــد واشــنطن‪( :‬صــرح مســؤولون مــن‬ ‫الواليــات المتحــدة والشــرق األوســط بـ ّ‬ ‫ـأن إيــران وحــزب اهلل يجريــان‬ ‫اســتعدادات عســكر ّية لمواجهــة الفوضــى الطائف ّيــة التــي ُيحتمــل أن‬ ‫تبتلــع ســوريا مــا بعــد األســد‪ ،‬ويقــول خبيــر مكافحــة اإلرهــاب ماثيــو‬ ‫ليفيــت‪ّ :‬‬ ‫إن حــزب اهلل ألــزم نفســه بشــكل وثيــق مــع (قــوة القــدس)‬ ‫ـب يف مصلحــة‬ ‫اإليران ّيــة‪ ،‬وســوف يقــوم بأعمــال يف هــذه األيــام تصـ ّ‬ ‫إيــران‪ ،‬حتــى لــو كانــت هــذه األعمــال تتعــارض مــع مصالــح لبنــان‪،‬‬ ‫ومصلحــة الحــزب)(‪.((2‬‬

‫وهكــذا يتب ّيــن لنــا ّ‬ ‫أن كال مــن روســيا وإيــران وحــزب اهلل‪ ،‬يســعى‬ ‫إلتمــام مكاســب سياســ ّية يف ســوريا‪ ،‬علــى حســاب أرواح بريئــة‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬ ‫ــق َّ‬ ‫المشــبوهة‪.‬‬ ‫الصفقــات‬ ‫ســاعة‪ ،‬يف ســبيل إتمــا ِم هــذه‬ ‫كل‬ ‫زه ُ‬ ‫ُت َ‬ ‫االستعمارية‪:‬‬ ‫أهداف التهجير‬ ‫ّ‬

‫ّ‬ ‫أي تربيـ ٍـر لعدواهنــا‪ ،‬فــكال القطبيــن‬ ‫ـاج َّ‬ ‫إن الــدول االســتعمار ّية ال تحتـ ُ‬ ‫والروســي‪ ،‬يســعى لتوســيع مســتعمراته‬ ‫األمريكــي‬ ‫االســتعمار َّيين‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫المباشــرة وغيــر المباشــرة يف الشــرق األوســط‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫الدول‬ ‫فروســيا تح ُلـ ُـم يف كســر عظــم أمريكا يف ســوريا‪ ،‬بعــد أن أبــدَ ْت‬ ‫العرب ّيــة رغبتَهــا يف عــودة االســتعمار بصــورة جديــدة‪ ،‬وبطــرق غيــر‬ ‫مباشــرة إلــى الوطــن العربـ ّـي(‪.((2‬‬

‫ّ‬ ‫دائمــا تأخــذ شــكل المنقــذ أو المخ ِّلــص‪ ،‬وبعــد‬ ‫إن بدايــة االســتعمار ً‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫توســعه تظهـ ُـر أنيا ُب ـ ُه‪ ،‬ثـ ّـم ِ‬ ‫يلتهـ ُـم مــن اسـ َ‬ ‫ـتغاث بــه‪ ،‬فيبــدأ االســتعمار‬ ‫ُّ‬ ‫(‪  ((1‬انظر‪ :‬مقالة «روسيا يف سوريا األهداف والقدرات والنتائج» لهشام جابر‪ ،‬موقع الجزيرة ‪،‬‬ ‫‪5102/01/01‬م‪.‬‬ ‫(‪  ((2‬انظر‪ :‬مقالة «الدور اإليراين يف سوريا األهداف والدوافع (تقرير مرتجم)» أحمد الشيمي‪ ،‬موقع‬ ‫األلوكة‪2102/21/13 ،‬م‪.‬‬ ‫(‪ ((2‬انظر‪ :‬مقالة «مهمة حزب اهلل يف سوريا» ماري كوسرتز (لوموند ديبلو ماتيك) ترجمة «عبد الرحمن‬ ‫الحسيني»‪ ،‬جريدة الغد‪6102/4/61 ،‬م‪.‬‬ ‫(‪  ((2‬انظر‪ :‬مقالة «عالقات حزب اهلل يف سوريا وإيران» لـ ماثيو ليفت ‪ ،‬معهد واشنطن لسياسة الشرق‬ ‫األدنى‪ ،‬شباط ‪3102‬م‪.‬‬ ‫(‪  ((2‬انظر‪ :‬مقالة «دعوة االستعمار للعودة والمفاضلة بين المستعمرين»‪ ،‬لبيب القمحاوي‪ ،‬جريدة‬ ‫الشروق ‪/9‬فرباير‪7102/‬م‪.‬‬

‫‪26‬‬

‫االقتصــادي‪ ،‬ثــم بإنشــاء القواعــد‪ ،‬وبعدهــا الهيمنــة علــى‬ ‫بالتعويــم‬ ‫ّ‬ ‫مقــدّ رات البلــد بكاملــه‪ ،‬وهــذا مــا فعلتــه روســيا يف ســوريا‪ ،‬فاألســلحة‬ ‫الســورية مــن الرصاصــة حتــى الطائــرة صناعــة روســ ّية‪ ،‬ومنتجــات‬ ‫العســكري‬ ‫عــوم يف ســوريا‪ ،‬إضافــة إلــى الزحــف‬ ‫ّ‬ ‫روســيا الكاســدة ُت ّ‬ ‫المتمثــل بحامــات الطائــرات الروســ ّية‪ ،‬وإنشــاء قاعــدة حميميــم‬ ‫وغيرهــا‪ ،‬واســتقدام الجنــد والخــراء‪ ،‬إضافــة لعــدم ســيطرة النظــام‬ ‫الســوري علــى أي قــرار‬ ‫ســيادي(‪.((2‬‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬

‫حتــى المفاوضــات بيــن المعارضــة والنظــام‪ ،‬ال يتـ ّـم االتفــاق علــى‬ ‫ِ‬ ‫أي ٍ‬ ‫المســتعم َرة (روســيا)(‪ ،)((2‬فإنــه‬ ‫بنــد منهــا دون موافقــة الدولــة‬ ‫ّ‬ ‫منــذ بدايــة النصــف الثــاين مــن عــام ‪ 2017‬وإلــى يومنــا هــذا كان كل‬ ‫مــا يســمى بـ»المصالحــات» يقــوم عليــه الــروس بشــكل مباشــر‪ ،‬كمــا‬ ‫الدمشــقي والقلمــون‪.‬‬ ‫حــدث يف الغوطــة الشــرق ّية والجنــوب‬ ‫ّ‬

‫وأمــا المســتعمر اإليــراينّ فقــد عمــل الطاغيــة حافظ األســد ومــن بعده‬ ‫ابنُ ـ ُه الطاغيــة بشــار‪ ،‬منــذ نحــو خمـ ٍ‬ ‫ـس وأربعي ـ َن ســن ًة علــى التمهيــد‬ ‫لتكـ َ‬ ‫ـون دمشـ ُـق الشـ َّـق الثــاين لعاصمته طهــران‪ ،‬وذلك عــر المعاهدات‬ ‫ِ‬ ‫ـص المعاهــدات الدفاع ّيــة المشــركة‪،‬‬ ‫الثنائ ّيــة بيــن النظاميــن‪ ،‬وباألخـ ِّ‬ ‫فدعمــت دمشــق إيــران يف حرهبــا مــع العــراق‪ ،‬ودعمــت حــزب اهلل يف‬ ‫حربــه مــع باقــي المكونــات اللبنانيــة أو إســرائيل‪ ،‬وقــال الكاتب ســالم‬ ‫الكتبـ ّـي‪( :‬تحويــل موازيــن القــوى ديموغراف ًّيــا والتالعــب بالهندســة‬ ‫الديموغراف ّيــة للــدول العرب ّيــة‪ ،‬خ ّطــة تآمر ّيــة ٌنفذهتــا إيــران يف العــراق‪،‬‬ ‫وهــا هــي تمضــي علــى قــدم وســاق يف ســوريا)(‪.((2‬‬

‫واليــوم ال يوجــد مــكان يف ســوريا (يف مناطــق ســيطرة النظــام)‬ ‫إال وإليــران فيــه قواعــد عســكر ّية‪ ،‬بمــا يف ذلــك العاصمــة دمشــق‪،‬‬ ‫ولعلنــا نــدرك حجــم القــوة اإليرانيــة يف ســوريا مــن خــال حجــم‬ ‫القواعــد العســكرية التــي تتمركــز فيهــا قواهتــا وعــدد مقاتليهــا علــى‬ ‫األرض‪ ،‬فقــد نشــرت صحيفــة ســبق الســعودية مقــاال قالــت فيــه‪( :‬أ ّمــا‬ ‫القواعــد اإليران ّيــة يف ســوريا فتشـ ُ‬ ‫ـمل القاعــدة اإليران ّيــة يف مطار دمشــق‬ ‫ـوري اإليراينّ‪ ،‬وبســيطرهتا‬ ‫الدولـ ّـي‪ ،‬وهــي المقـ ّـر الرئيسـ ّـي للحــرس الثـ ّ‬ ‫علــى المطــار الدولـ ّـي تم ّكنــت مــن الســيطرة علــى اإلمــدادات التــي‬ ‫تص ُلهــا مــن إيــران‪ ،‬وإمــداد مختلــف المناطــق الســورية بالمقاتليــن‬ ‫الشــيعة‪ ،((2()..‬كمــا نشــر الموقــع تقريـ ًـرا عــن صحيفــة أســبان ّية علــى‬ ‫الوطنــي للمقاومــة‬ ‫لســان شــاهين غوبــادي العضــو يف المجلــس‬ ‫ّ‬ ‫اإليران ّيــة قــال‪( :‬لــوال دعــم إيــران لمــا بقــي األســد يف منصبــه)‪ ،‬ونقلت‬ ‫الصحيفــة قولــه‪ّ :‬‬ ‫(إن التدخــل اإليــراين يف ســوريا أكــر بكثيــر ممــا‬ ‫ـوري حوالــي ســتة آالف عنصــر مــن القــوات‬ ‫نتو ّقعــه‪ ،‬فللحــرس الثـ ّ‬ ‫(‪  ((2‬انظر‪ :‬مقالة «روسيا يف سوريا األهداف والقدرات والنتائج» لهشام جابر‪ ،‬موقع الجزيرة ‪،‬‬ ‫‪5102/01/01‬م‪.‬‬ ‫(‪  ((2‬انظر‪ :‬مقال «سوريا والمفارقة الروسية اإليرانية» إياد الجعفري‪ ،‬جريدة المدن ‪ /‬بيروت‬ ‫‪7102/1/1‬م‪.‬‬ ‫(‪  ((2‬انظر‪ :‬مقال «كوارث إيران يف سوريا» سالم الكتبي‪ ،‬صحيفة العرب ‪7102/1/3 ،‬م‪ ،‬العدد‬ ‫‪( ،10501‬ص‪.)8‬‬ ‫(‪  ((2‬انظر‪ :‬تقرير «أريع دول تحتفظ بقوات وقواعد عسكرية يف سوريا» صحيفة سبق السعودية‪/42 ،‬‬ ‫اكتوبر‪6102/‬م‪.‬‬

‫التهجير القسري في سوريا‬ ‫النظام ّيــة اإليران ّيــة‪ ،‬والقــوات التــي تخضــع ألوامــر اإليرانييــن تفــوق‬ ‫الوطنــي للمقاومــة‬ ‫عــدد قــوات نظــام األســد‪ ،‬ووف ًقــا للمجلــس‬ ‫ّ‬ ‫قســمت ســوريا إلــى خمــس مناطــق عســكرية‬ ‫اإليران ّيــة؛ فــإن إيــران ّ‬ ‫إحداهــا مركز ّيــة‪ ،‬والبق ّيــة فرع ّيــة‪ ،‬حيــث تخضــع كل منهــا إلــى مركــز‬ ‫قيــادة مختلــف(‪.((2‬‬ ‫أهداف التهجير الدين ّية‪:‬‬

‫ســاعدت ســيطرة األســد األب علــى الحكــم عــام ‪ 1970‬علــى‬ ‫التالعــب يف مكونــات ســوريا‪ ،‬مــع العلــم ّ‬ ‫أن عمــوم انتمــاءات الشــعب‬ ‫ـني‪ ،‬أمــا بقيــة الطوائــف فكانــت أقل ّيــات‬ ‫الســوري إلــى اإلســام السـ ّ‬ ‫منغصــات‪.‬‬ ‫أي‬ ‫ّ‬ ‫تتعايــش مــع أهــل الســنة بــكل و ّد ودون ّ‬

‫إن حافــظ األســد ‪-‬كمــا هــو معلــوم‪ -‬ينتمــي إلــى طائفــة أق ّليــة لهــا‬ ‫إرث تاريخــي مــن الحقــد علــى اإلســام والمســلمين والخــوض‬ ‫ـوت حتــى‬ ‫يف دمائهــم‪ ،‬ولكــن لــم يكــن لهــذه الطائفــة شــوك ٌة وال صـ ٌ‬ ‫جــاء األســد إلــى الســلطة‪ ،‬فاختــار خصــو َم أهــل السـنّة (وهــم الشــيعة)‬ ‫ليكونــوا لــه حلفــاء وداعميــن‪.‬‬ ‫للتوســع دين ًّيــا يف ســوريا‪،‬‬ ‫مهــد حافــظ األســد الطريــق للشــيعة‬ ‫وقــد ّ‬ ‫ُّ‬ ‫فقــد سـ ّـهل لهــم بنــاء الحســينيات والمراكــز الثقاف ّيــة يف جميــع أنحــاء‬ ‫البــاد‪ ،‬حتــى صــارت حمــات التشــييع يف عهــد ابنــه بشــار ُّ‬ ‫تــدق‬ ‫ـواب الس ـنّة يف جميــع المحافظــات الســورية‪ ،‬وقــد نشــطت حركــة‬ ‫أبـ َ‬ ‫التبشــير الشــيعية يف ســوريا بعــد حــرب تمــوز بين حــزب اهلل وإســرائيل‬ ‫بشــكل الفــت للنظــر‪.‬‬

‫ّ‬ ‫فبتدخل‬ ‫الذهبي فقــد كان يف بدايــة الثورة الســورية‪،‬‬ ‫أ ّمــا عصــر التشـ ّيع‬ ‫ّ‬ ‫حــزب اهلل يف الوقــوف إلــى جانــب األســد يف قمــع المتظاهريــن‪ ،‬بــدأ‬ ‫ـيعي بكامــل قــواه إلــى ســوريا‪ ،‬وعلــى وجــه الخصــوص‬ ‫الزحــف الشـ ّ‬ ‫إلــى مركــز دمشــق‪ ،‬ولــم يكتــف جنــود إيــران ونصــر اهلل يف الدعــوة إلى‬ ‫ـوي داخــل‬ ‫التشـ ّيع‪ ،‬بــل قامــوا بشــراء البيــوت المحيطــة بالجامــع األمـ ّ‬ ‫ســور القلعــة‪ ،‬وحــول مســجد السـ ّيدة رق ّيــة يف حــي العمارة والشــاغور‬ ‫وبــاب تومــا وبأســعار زهيــدة‪ ،‬فقامــوا بإجبــار الســكان وبشــتى الطــرق‬ ‫‪-‬بدعــم مــن أجهــزة األمــن‪ -‬علــى البيــع(‪.((2‬‬

‫وهكــذا نجــد ّ‬ ‫ـوري ونجدتــه؛ ليــس‬ ‫أن مــن يل ّبــي اســتغاثة النظــام السـ ّ‬ ‫إال ً‬ ‫وحشــا جائ ًعــا يريــد هنــش خيــرات بلــد بــات لقمــة ســائغة بيــن‬ ‫أنيــاب مجموعــة مــن المســتعمرين‪ ،‬مــا جــاؤوا رغبـ ًة يف إنقــاذ شــعب‬ ‫أو محاربــة إرهــاب أو إفشــاء ســام‪ ،‬بــل لمصالــح شــخص ّية وأهــداف‬ ‫ٍ‬ ‫ـتعمرات ‪-‬يزعموهنــا‬ ‫ـب سياسـ َّي ٍة‪ ،‬ومسـ‬ ‫ال أخالق ّيــة‪ ،‬ســع ًيا وراء مكاسـ َ‬ ‫مناهضـ ًة ألمريــكا‪ -‬وســمو ٍم طائف ّيــة يحلمــون بنشــرها يف هــذا البلــد‪.‬‬ ‫(‪  ((2‬انظر‪ :‬تقرير «صحيفة إسبانية تكشف القواعد اإليرانية السرية بسوريا» موقع عربي‪/2 ، 12‬‬ ‫اكتوبر‪6102/‬م‪.‬‬ ‫(‪  ((2‬انظر‪ :‬مركز الشرق العربي‪« ،‬التهجير القسري والتغيير الديموغرايف يف سوريا تحت غطاء األمم‬ ‫المتحدة» االئتالف السوري ‪6102/9/6‬م‪.‬‬

‫القرسي يف ســوريا‪:‬‬ ‫الجهــات القامئة عىل التهجري‬ ‫ّ‬

‫الســوري‪ :‬هــو المســتفيد األول مــن عمليــة التهجيــر‪،‬‬ ‫‪ -1‬النظــام‬ ‫ّ‬ ‫فقــد قــال الطاغيــة بشــار األســد‪ّ :‬‬ ‫(إن الوطــن ليــس لمــن يســكن فيــه أو‬ ‫يحمــل جنسـ ّيته وجــواز ســفره‪ ،‬بــل لمــن يدافــع عنــه ويحميه)‪ ،‬مشــيدً ا‬ ‫بدعــم إيــران وحــزب اهلل بالقــول‪( :‬إخوتنــا األوفياء بالمقاومــة اللبنانية‬ ‫امتزجــت دماؤهــم بدمــاء إخواهنــم يف الجيــش‪ ،‬وكان لهــم دورهــم‬ ‫المهــم وأداؤهــم الفعــال والنوعــي)(‪.((3‬‬

‫دورا ســلب ًّيا يف حمــات التهجيــر‬ ‫‪ -2‬األمــم المتحــدة‪ :‬فقــد لعبــت ً‬ ‫ـري منــذ ‪2013‬م ممــا يجعلهــا شــريكا يف هــذه الجريمــة البشــعة‪،‬‬ ‫القسـ ّ‬ ‫فقــد نشــرت صحيفــة الغارديــان تحقي ًقــا يكشــف عمــا يمكــن اعتبــاره‬ ‫تواطــؤا مــن األمــم المتحــدة يف دعــم نظــام األســد‪ ،‬إضافــة إلــى‬ ‫ً‬ ‫تقديمهــا مســاعدات بمالييــن الــدوالرات لنظامــه مــن خــال برامــج‬ ‫ومؤخــرا ويف ظــل‬ ‫المســاعدات اإلنســانية لمتضــرري الحــرب(‪،((3‬‬ ‫ً‬ ‫الحملــة العســكرية العنيفــة علــى الغوطــة الشــرق ّية التــي بــدأت يف‬ ‫شــباط ‪ 2018‬قامــت منظمــة الصليــب األحمــر بحمايــة ومرافقة بشــار‬ ‫األســد يف دخولــه إلــى الغوطــة يف ‪2018/3/18‬م‪.‬‬

‫‪ -3‬الواليــات المتحــدة األمريك ّيــة‪ :‬شــجعت سياســتها يف ســوريا‬ ‫ٍ‬ ‫العرقي‪،‬‬ ‫ـري والتطهيــر‬ ‫وبطريقــة غيــر مباشــرة يف جريمــة التهجيــر القسـ ّ‬ ‫ّ‬ ‫مــن خــال تأجيــج الطائف ّيــة والعرق ّيــة‪ ،‬فواشــنطن ّ‬ ‫تدخلــت بشــكل‬ ‫مباشـ ٍـر وج ّيشــت العالــم مــن أجــل مدينـ ِـة عيـ ِ‬ ‫ـن العــرب كوبــاين يف حين‬ ‫ـامل لقــرى ومـ ٍ‬ ‫لــم تحــرك ســاكنًا وهــي تشــهدُ تدميـ ًـرا شـ ً‬ ‫ـدن ســورية‬ ‫ً‬ ‫تســكن ُ​ُها غالب ّي ـ ٌة عرب ّي ـ ٌة ســن ّيةٌ‪ ،‬ويف تقريــر بعنــوان (لــم يكــن لنــا مـ ٌ‬ ‫ـكان‬ ‫آخــر نذهــب إليــه) لمنظمــة العفــو الدول ّيــة صــدر ‪2015‬م‪ ،‬كشــف عن‬ ‫ـري وتدميــر منــازل نفذهتــا قـ ّـوات حــزب االتحــاد‬ ‫عمليــات هتجيــر قسـ ّ‬ ‫أمريكي‪،‬‬ ‫الديمقراطـ ّـي الــذي ســيطر علــى مناطــق شــرق ســوريا بدعــم‬ ‫ٍّ‬ ‫(‪((3‬‬ ‫مما يمكن أن يوصف بأنه جريمة حرب حسب منظمة العفو ‪.‬‬ ‫القســري يف ســوريا‬ ‫‪ -4‬روســيا‪ :‬كان دورهــا يف جريمــة التهجيــر‬ ‫ّ‬ ‫الطائفــي ‪-‬والــذي يشــ ّكل بــذرة الســوء‬ ‫واضحــا‪ ،‬بــدأ بالتحريــض‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ـري‪ -‬حيــث صــرح الفــروف يف ‪2012‬م بــأن روســيا‬ ‫للتهجيــر القسـ ّ‬ ‫ّ‬ ‫ـكري‬ ‫ـني يف ســوريا‪ ،‬ثــم جــاء التدخــل العسـ ّ‬ ‫لــن تســمح بقيــام حكــم سـ ّ‬ ‫الروسـ ّـي الســافر والعنيــف يف ‪2015‬م‪ ،‬والــذي اســتخدُ مت فيــه أنــواع‬ ‫والمحرمــة دول ًّيــا لتخ ّيــر المحاصريــن‬ ‫شــتّى مــن األســلحة الفتّاكــة‬ ‫ّ‬ ‫(‪((3‬‬ ‫الســوريين بيــن اإلفنــاء أو التهجيــر ‪.‬‬

‫‪ -5‬إيــران‪ :‬يبــدو دور إيــران جل ًّيــا مــن خــال ممارســاهتا يف هتجيــر‬ ‫الســنة وتوطيــن الشــيعة‪ ،‬كمــا حــدث يف المناطــق المتاخمــة للشــريط‬ ‫الحــدودي اللبنــاين‪.‬‬

‫(‪  ((3‬انظر‪« :‬التهجير القسري يف سوريا السياسات األدوات والتبعات»‪ ،‬د‪ .‬ياسر سعد الدين‪ ،‬مركز أمية‬ ‫للبحوث‪ ،7102/1/02‬موقع الراصد‪.‬‬ ‫(‪  ((3‬انظر‪ :‬المرجع السابق‪.‬‬ ‫(‪  ((3‬انظر‪ :‬المرجع السابق‪.‬‬ ‫(‪  ((3‬انظر‪ :‬المرجع السابق‪.‬‬

‫‪27‬‬


‫التهجير القسري في سوريا‬ ‫دوام أمن إسرائيل‪ ...‬ومن هؤالء الحلفاء‪:‬‬

‫روســيا‪ :‬حلمهــا الحضــور الدائــم يف الميــاه الدافئة (البحر المتوســط)‬ ‫ـوفيتي كثيــرا مــن مراكــزه وعالقاتــه الدولية من‬ ‫فقــد خســر االتحــاد السـ ّ‬ ‫مصــر إلــى عــدن‪ ،‬فليبيــا والعــراق‪ ،‬ولــم يبــق لــه حال ًّيــا ســوى ســوريا‪،‬‬ ‫ولروســيا هــدف آخــر أال وهــو الخــاص مــن المجاهديــن المنتشــرين‬ ‫يف بالدهــا‪ ،‬إضافــة إلــى أهــداف اقتصاد ّيــة منهــا إعــادة تلميــع صــورة‬ ‫الســاح الروسـ ّـي وتســويقه(‪.((1‬‬

‫إيــران‪ :‬لهــا مكاســب سياسـ ّية واســراتيج ّية وعســكر ّية ال تخفــى على‬ ‫ـكري‪ ،‬ولكــن الظاهــر‬ ‫أحــد‪ ،‬وتحــاول جاهــدة إخفــاء وجودهــا العسـ ّ‬ ‫(‪((2‬‬ ‫عيا ًنــا ّ‬ ‫أن لهــا ثقـ ًـا ووجــو ًدا عســكر ًّيا ال ُيســتهان بــه ‪.‬‬ ‫حــزب اهلل اللبنــاينّ‪ّ :‬‬ ‫إن سياســة حــزب اهلل يف ســوريا مرتبط ـ ٌة بسياســة‬ ‫طهــران‪ ،‬فقــد أكّــد المدعــو حســن نصــر اهلل ذلــك يف الكثيــر مــن‬ ‫خطاباتــه المتلفــزة(‪ ،((2‬وذكــر معهــد واشــنطن‪( :‬صــرح مســؤولون مــن‬ ‫الواليــات المتحــدة والشــرق األوســط بـ ّ‬ ‫ـأن إيــران وحــزب اهلل يجريــان‬ ‫اســتعدادات عســكر ّية لمواجهــة الفوضــى الطائف ّيــة التــي ُيحتمــل أن‬ ‫تبتلــع ســوريا مــا بعــد األســد‪ ،‬ويقــول خبيــر مكافحــة اإلرهــاب ماثيــو‬ ‫ليفيــت‪ّ :‬‬ ‫إن حــزب اهلل ألــزم نفســه بشــكل وثيــق مــع (قــوة القــدس)‬ ‫ـب يف مصلحــة‬ ‫اإليران ّيــة‪ ،‬وســوف يقــوم بأعمــال يف هــذه األيــام تصـ ّ‬ ‫إيــران‪ ،‬حتــى لــو كانــت هــذه األعمــال تتعــارض مــع مصالــح لبنــان‪،‬‬ ‫ومصلحــة الحــزب)(‪.((2‬‬

‫وهكــذا يتب ّيــن لنــا ّ‬ ‫أن كال مــن روســيا وإيــران وحــزب اهلل‪ ،‬يســعى‬ ‫إلتمــام مكاســب سياســ ّية يف ســوريا‪ ،‬علــى حســاب أرواح بريئــة‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬ ‫ــق َّ‬ ‫المشــبوهة‪.‬‬ ‫الصفقــات‬ ‫ســاعة‪ ،‬يف ســبيل إتمــا ِم هــذه‬ ‫كل‬ ‫زه ُ‬ ‫ُت َ‬ ‫االستعمارية‪:‬‬ ‫أهداف التهجير‬ ‫ّ‬

‫ّ‬ ‫أي تربيـ ٍـر لعدواهنــا‪ ،‬فــكال القطبيــن‬ ‫ـاج َّ‬ ‫إن الــدول االســتعمار ّية ال تحتـ ُ‬ ‫والروســي‪ ،‬يســعى لتوســيع مســتعمراته‬ ‫األمريكــي‬ ‫االســتعمار َّيين‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫المباشــرة وغيــر المباشــرة يف الشــرق األوســط‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫الدول‬ ‫فروســيا تح ُلـ ُـم يف كســر عظــم أمريكا يف ســوريا‪ ،‬بعــد أن أبــدَ ْت‬ ‫العرب ّيــة رغبتَهــا يف عــودة االســتعمار بصــورة جديــدة‪ ،‬وبطــرق غيــر‬ ‫مباشــرة إلــى الوطــن العربـ ّـي(‪.((2‬‬

‫ّ‬ ‫دائمــا تأخــذ شــكل المنقــذ أو المخ ِّلــص‪ ،‬وبعــد‬ ‫إن بدايــة االســتعمار ً‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫توســعه تظهـ ُـر أنيا ُب ـ ُه‪ ،‬ثـ ّـم ِ‬ ‫يلتهـ ُـم مــن اسـ َ‬ ‫ـتغاث بــه‪ ،‬فيبــدأ االســتعمار‬ ‫ُّ‬ ‫(‪  ((1‬انظر‪ :‬مقالة «روسيا يف سوريا األهداف والقدرات والنتائج» لهشام جابر‪ ،‬موقع الجزيرة ‪،‬‬ ‫‪5102/01/01‬م‪.‬‬ ‫(‪  ((2‬انظر‪ :‬مقالة «الدور اإليراين يف سوريا األهداف والدوافع (تقرير مرتجم)» أحمد الشيمي‪ ،‬موقع‬ ‫األلوكة‪2102/21/13 ،‬م‪.‬‬ ‫(‪ ((2‬انظر‪ :‬مقالة «مهمة حزب اهلل يف سوريا» ماري كوسرتز (لوموند ديبلو ماتيك) ترجمة «عبد الرحمن‬ ‫الحسيني»‪ ،‬جريدة الغد‪6102/4/61 ،‬م‪.‬‬ ‫(‪  ((2‬انظر‪ :‬مقالة «عالقات حزب اهلل يف سوريا وإيران» لـ ماثيو ليفت ‪ ،‬معهد واشنطن لسياسة الشرق‬ ‫األدنى‪ ،‬شباط ‪3102‬م‪.‬‬ ‫(‪  ((2‬انظر‪ :‬مقالة «دعوة االستعمار للعودة والمفاضلة بين المستعمرين»‪ ،‬لبيب القمحاوي‪ ،‬جريدة‬ ‫الشروق ‪/9‬فرباير‪7102/‬م‪.‬‬

‫‪26‬‬

‫االقتصــادي‪ ،‬ثــم بإنشــاء القواعــد‪ ،‬وبعدهــا الهيمنــة علــى‬ ‫بالتعويــم‬ ‫ّ‬ ‫مقــدّ رات البلــد بكاملــه‪ ،‬وهــذا مــا فعلتــه روســيا يف ســوريا‪ ،‬فاألســلحة‬ ‫الســورية مــن الرصاصــة حتــى الطائــرة صناعــة روســ ّية‪ ،‬ومنتجــات‬ ‫العســكري‬ ‫عــوم يف ســوريا‪ ،‬إضافــة إلــى الزحــف‬ ‫ّ‬ ‫روســيا الكاســدة ُت ّ‬ ‫المتمثــل بحامــات الطائــرات الروســ ّية‪ ،‬وإنشــاء قاعــدة حميميــم‬ ‫وغيرهــا‪ ،‬واســتقدام الجنــد والخــراء‪ ،‬إضافــة لعــدم ســيطرة النظــام‬ ‫الســوري علــى أي قــرار‬ ‫ســيادي(‪.((2‬‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬

‫حتــى المفاوضــات بيــن المعارضــة والنظــام‪ ،‬ال يتـ ّـم االتفــاق علــى‬ ‫ِ‬ ‫أي ٍ‬ ‫المســتعم َرة (روســيا)(‪ ،)((2‬فإنــه‬ ‫بنــد منهــا دون موافقــة الدولــة‬ ‫ّ‬ ‫منــذ بدايــة النصــف الثــاين مــن عــام ‪ 2017‬وإلــى يومنــا هــذا كان كل‬ ‫مــا يســمى بـ»المصالحــات» يقــوم عليــه الــروس بشــكل مباشــر‪ ،‬كمــا‬ ‫الدمشــقي والقلمــون‪.‬‬ ‫حــدث يف الغوطــة الشــرق ّية والجنــوب‬ ‫ّ‬

‫وأمــا المســتعمر اإليــراينّ فقــد عمــل الطاغيــة حافظ األســد ومــن بعده‬ ‫ابنُ ـ ُه الطاغيــة بشــار‪ ،‬منــذ نحــو خمـ ٍ‬ ‫ـس وأربعي ـ َن ســن ًة علــى التمهيــد‬ ‫لتكـ َ‬ ‫ـون دمشـ ُـق الشـ َّـق الثــاين لعاصمته طهــران‪ ،‬وذلك عــر المعاهدات‬ ‫ِ‬ ‫ـص المعاهــدات الدفاع ّيــة المشــركة‪،‬‬ ‫الثنائ ّيــة بيــن النظاميــن‪ ،‬وباألخـ ِّ‬ ‫فدعمــت دمشــق إيــران يف حرهبــا مــع العــراق‪ ،‬ودعمــت حــزب اهلل يف‬ ‫حربــه مــع باقــي المكونــات اللبنانيــة أو إســرائيل‪ ،‬وقــال الكاتب ســالم‬ ‫الكتبـ ّـي‪( :‬تحويــل موازيــن القــوى ديموغراف ًّيــا والتالعــب بالهندســة‬ ‫الديموغراف ّيــة للــدول العرب ّيــة‪ ،‬خ ّطــة تآمر ّيــة ٌنفذهتــا إيــران يف العــراق‪،‬‬ ‫وهــا هــي تمضــي علــى قــدم وســاق يف ســوريا)(‪.((2‬‬

‫واليــوم ال يوجــد مــكان يف ســوريا (يف مناطــق ســيطرة النظــام)‬ ‫إال وإليــران فيــه قواعــد عســكر ّية‪ ،‬بمــا يف ذلــك العاصمــة دمشــق‪،‬‬ ‫ولعلنــا نــدرك حجــم القــوة اإليرانيــة يف ســوريا مــن خــال حجــم‬ ‫القواعــد العســكرية التــي تتمركــز فيهــا قواهتــا وعــدد مقاتليهــا علــى‬ ‫األرض‪ ،‬فقــد نشــرت صحيفــة ســبق الســعودية مقــاال قالــت فيــه‪( :‬أ ّمــا‬ ‫القواعــد اإليران ّيــة يف ســوريا فتشـ ُ‬ ‫ـمل القاعــدة اإليران ّيــة يف مطار دمشــق‬ ‫ـوري اإليراينّ‪ ،‬وبســيطرهتا‬ ‫الدولـ ّـي‪ ،‬وهــي المقـ ّـر الرئيسـ ّـي للحــرس الثـ ّ‬ ‫علــى المطــار الدولـ ّـي تم ّكنــت مــن الســيطرة علــى اإلمــدادات التــي‬ ‫تص ُلهــا مــن إيــران‪ ،‬وإمــداد مختلــف المناطــق الســورية بالمقاتليــن‬ ‫الشــيعة‪ ،((2()..‬كمــا نشــر الموقــع تقريـ ًـرا عــن صحيفــة أســبان ّية علــى‬ ‫الوطنــي للمقاومــة‬ ‫لســان شــاهين غوبــادي العضــو يف المجلــس‬ ‫ّ‬ ‫اإليران ّيــة قــال‪( :‬لــوال دعــم إيــران لمــا بقــي األســد يف منصبــه)‪ ،‬ونقلت‬ ‫الصحيفــة قولــه‪ّ :‬‬ ‫(إن التدخــل اإليــراين يف ســوريا أكــر بكثيــر ممــا‬ ‫ـوري حوالــي ســتة آالف عنصــر مــن القــوات‬ ‫نتو ّقعــه‪ ،‬فللحــرس الثـ ّ‬ ‫(‪  ((2‬انظر‪ :‬مقالة «روسيا يف سوريا األهداف والقدرات والنتائج» لهشام جابر‪ ،‬موقع الجزيرة ‪،‬‬ ‫‪5102/01/01‬م‪.‬‬ ‫(‪  ((2‬انظر‪ :‬مقال «سوريا والمفارقة الروسية اإليرانية» إياد الجعفري‪ ،‬جريدة المدن ‪ /‬بيروت‬ ‫‪7102/1/1‬م‪.‬‬ ‫(‪  ((2‬انظر‪ :‬مقال «كوارث إيران يف سوريا» سالم الكتبي‪ ،‬صحيفة العرب ‪7102/1/3 ،‬م‪ ،‬العدد‬ ‫‪( ،10501‬ص‪.)8‬‬ ‫(‪  ((2‬انظر‪ :‬تقرير «أريع دول تحتفظ بقوات وقواعد عسكرية يف سوريا» صحيفة سبق السعودية‪/42 ،‬‬ ‫اكتوبر‪6102/‬م‪.‬‬

‫التهجير القسري في سوريا‬ ‫النظام ّيــة اإليران ّيــة‪ ،‬والقــوات التــي تخضــع ألوامــر اإليرانييــن تفــوق‬ ‫الوطنــي للمقاومــة‬ ‫عــدد قــوات نظــام األســد‪ ،‬ووف ًقــا للمجلــس‬ ‫ّ‬ ‫قســمت ســوريا إلــى خمــس مناطــق عســكرية‬ ‫اإليران ّيــة؛ فــإن إيــران ّ‬ ‫إحداهــا مركز ّيــة‪ ،‬والبق ّيــة فرع ّيــة‪ ،‬حيــث تخضــع كل منهــا إلــى مركــز‬ ‫قيــادة مختلــف(‪.((2‬‬ ‫أهداف التهجير الدين ّية‪:‬‬

‫ســاعدت ســيطرة األســد األب علــى الحكــم عــام ‪ 1970‬علــى‬ ‫التالعــب يف مكونــات ســوريا‪ ،‬مــع العلــم ّ‬ ‫أن عمــوم انتمــاءات الشــعب‬ ‫ـني‪ ،‬أمــا بقيــة الطوائــف فكانــت أقل ّيــات‬ ‫الســوري إلــى اإلســام السـ ّ‬ ‫منغصــات‪.‬‬ ‫أي‬ ‫ّ‬ ‫تتعايــش مــع أهــل الســنة بــكل و ّد ودون ّ‬

‫إن حافــظ األســد ‪-‬كمــا هــو معلــوم‪ -‬ينتمــي إلــى طائفــة أق ّليــة لهــا‬ ‫إرث تاريخــي مــن الحقــد علــى اإلســام والمســلمين والخــوض‬ ‫ـوت حتــى‬ ‫يف دمائهــم‪ ،‬ولكــن لــم يكــن لهــذه الطائفــة شــوك ٌة وال صـ ٌ‬ ‫جــاء األســد إلــى الســلطة‪ ،‬فاختــار خصــو َم أهــل السـنّة (وهــم الشــيعة)‬ ‫ليكونــوا لــه حلفــاء وداعميــن‪.‬‬ ‫للتوســع دين ًّيــا يف ســوريا‪،‬‬ ‫مهــد حافــظ األســد الطريــق للشــيعة‬ ‫وقــد ّ‬ ‫ُّ‬ ‫فقــد سـ ّـهل لهــم بنــاء الحســينيات والمراكــز الثقاف ّيــة يف جميــع أنحــاء‬ ‫البــاد‪ ،‬حتــى صــارت حمــات التشــييع يف عهــد ابنــه بشــار ُّ‬ ‫تــدق‬ ‫ـواب الس ـنّة يف جميــع المحافظــات الســورية‪ ،‬وقــد نشــطت حركــة‬ ‫أبـ َ‬ ‫التبشــير الشــيعية يف ســوريا بعــد حــرب تمــوز بين حــزب اهلل وإســرائيل‬ ‫بشــكل الفــت للنظــر‪.‬‬

‫ّ‬ ‫فبتدخل‬ ‫الذهبي فقــد كان يف بدايــة الثورة الســورية‪،‬‬ ‫أ ّمــا عصــر التشـ ّيع‬ ‫ّ‬ ‫حــزب اهلل يف الوقــوف إلــى جانــب األســد يف قمــع المتظاهريــن‪ ،‬بــدأ‬ ‫ـيعي بكامــل قــواه إلــى ســوريا‪ ،‬وعلــى وجــه الخصــوص‬ ‫الزحــف الشـ ّ‬ ‫إلــى مركــز دمشــق‪ ،‬ولــم يكتــف جنــود إيــران ونصــر اهلل يف الدعــوة إلى‬ ‫ـوي داخــل‬ ‫التشـ ّيع‪ ،‬بــل قامــوا بشــراء البيــوت المحيطــة بالجامــع األمـ ّ‬ ‫ســور القلعــة‪ ،‬وحــول مســجد السـ ّيدة رق ّيــة يف حــي العمارة والشــاغور‬ ‫وبــاب تومــا وبأســعار زهيــدة‪ ،‬فقامــوا بإجبــار الســكان وبشــتى الطــرق‬ ‫‪-‬بدعــم مــن أجهــزة األمــن‪ -‬علــى البيــع(‪.((2‬‬

‫وهكــذا نجــد ّ‬ ‫ـوري ونجدتــه؛ ليــس‬ ‫أن مــن يل ّبــي اســتغاثة النظــام السـ ّ‬ ‫إال ً‬ ‫وحشــا جائ ًعــا يريــد هنــش خيــرات بلــد بــات لقمــة ســائغة بيــن‬ ‫أنيــاب مجموعــة مــن المســتعمرين‪ ،‬مــا جــاؤوا رغبـ ًة يف إنقــاذ شــعب‬ ‫أو محاربــة إرهــاب أو إفشــاء ســام‪ ،‬بــل لمصالــح شــخص ّية وأهــداف‬ ‫ٍ‬ ‫ـتعمرات ‪-‬يزعموهنــا‬ ‫ـب سياسـ َّي ٍة‪ ،‬ومسـ‬ ‫ال أخالق ّيــة‪ ،‬ســع ًيا وراء مكاسـ َ‬ ‫مناهضـ ًة ألمريــكا‪ -‬وســمو ٍم طائف ّيــة يحلمــون بنشــرها يف هــذا البلــد‪.‬‬ ‫(‪  ((2‬انظر‪ :‬تقرير «صحيفة إسبانية تكشف القواعد اإليرانية السرية بسوريا» موقع عربي‪/2 ، 12‬‬ ‫اكتوبر‪6102/‬م‪.‬‬ ‫(‪  ((2‬انظر‪ :‬مركز الشرق العربي‪« ،‬التهجير القسري والتغيير الديموغرايف يف سوريا تحت غطاء األمم‬ ‫المتحدة» االئتالف السوري ‪6102/9/6‬م‪.‬‬

‫القرسي يف ســوريا‪:‬‬ ‫الجهــات القامئة عىل التهجري‬ ‫ّ‬

‫الســوري‪ :‬هــو المســتفيد األول مــن عمليــة التهجيــر‪،‬‬ ‫‪ -1‬النظــام‬ ‫ّ‬ ‫فقــد قــال الطاغيــة بشــار األســد‪ّ :‬‬ ‫(إن الوطــن ليــس لمــن يســكن فيــه أو‬ ‫يحمــل جنسـ ّيته وجــواز ســفره‪ ،‬بــل لمــن يدافــع عنــه ويحميه)‪ ،‬مشــيدً ا‬ ‫بدعــم إيــران وحــزب اهلل بالقــول‪( :‬إخوتنــا األوفياء بالمقاومــة اللبنانية‬ ‫امتزجــت دماؤهــم بدمــاء إخواهنــم يف الجيــش‪ ،‬وكان لهــم دورهــم‬ ‫المهــم وأداؤهــم الفعــال والنوعــي)(‪.((3‬‬

‫دورا ســلب ًّيا يف حمــات التهجيــر‬ ‫‪ -2‬األمــم المتحــدة‪ :‬فقــد لعبــت ً‬ ‫ـري منــذ ‪2013‬م ممــا يجعلهــا شــريكا يف هــذه الجريمــة البشــعة‪،‬‬ ‫القسـ ّ‬ ‫فقــد نشــرت صحيفــة الغارديــان تحقي ًقــا يكشــف عمــا يمكــن اعتبــاره‬ ‫تواطــؤا مــن األمــم المتحــدة يف دعــم نظــام األســد‪ ،‬إضافــة إلــى‬ ‫ً‬ ‫تقديمهــا مســاعدات بمالييــن الــدوالرات لنظامــه مــن خــال برامــج‬ ‫ومؤخــرا ويف ظــل‬ ‫المســاعدات اإلنســانية لمتضــرري الحــرب(‪،((3‬‬ ‫ً‬ ‫الحملــة العســكرية العنيفــة علــى الغوطــة الشــرق ّية التــي بــدأت يف‬ ‫شــباط ‪ 2018‬قامــت منظمــة الصليــب األحمــر بحمايــة ومرافقة بشــار‬ ‫األســد يف دخولــه إلــى الغوطــة يف ‪2018/3/18‬م‪.‬‬

‫‪ -3‬الواليــات المتحــدة األمريك ّيــة‪ :‬شــجعت سياســتها يف ســوريا‬ ‫ٍ‬ ‫العرقي‪،‬‬ ‫ـري والتطهيــر‬ ‫وبطريقــة غيــر مباشــرة يف جريمــة التهجيــر القسـ ّ‬ ‫ّ‬ ‫مــن خــال تأجيــج الطائف ّيــة والعرق ّيــة‪ ،‬فواشــنطن ّ‬ ‫تدخلــت بشــكل‬ ‫مباشـ ٍـر وج ّيشــت العالــم مــن أجــل مدينـ ِـة عيـ ِ‬ ‫ـن العــرب كوبــاين يف حين‬ ‫ـامل لقــرى ومـ ٍ‬ ‫لــم تحــرك ســاكنًا وهــي تشــهدُ تدميـ ًـرا شـ ً‬ ‫ـدن ســورية‬ ‫ً‬ ‫تســكن ُ​ُها غالب ّي ـ ٌة عرب ّي ـ ٌة ســن ّيةٌ‪ ،‬ويف تقريــر بعنــوان (لــم يكــن لنــا مـ ٌ‬ ‫ـكان‬ ‫آخــر نذهــب إليــه) لمنظمــة العفــو الدول ّيــة صــدر ‪2015‬م‪ ،‬كشــف عن‬ ‫ـري وتدميــر منــازل نفذهتــا قـ ّـوات حــزب االتحــاد‬ ‫عمليــات هتجيــر قسـ ّ‬ ‫أمريكي‪،‬‬ ‫الديمقراطـ ّـي الــذي ســيطر علــى مناطــق شــرق ســوريا بدعــم‬ ‫ٍّ‬ ‫(‪((3‬‬ ‫مما يمكن أن يوصف بأنه جريمة حرب حسب منظمة العفو ‪.‬‬ ‫القســري يف ســوريا‬ ‫‪ -4‬روســيا‪ :‬كان دورهــا يف جريمــة التهجيــر‬ ‫ّ‬ ‫الطائفــي ‪-‬والــذي يشــ ّكل بــذرة الســوء‬ ‫واضحــا‪ ،‬بــدأ بالتحريــض‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ـري‪ -‬حيــث صــرح الفــروف يف ‪2012‬م بــأن روســيا‬ ‫للتهجيــر القسـ ّ‬ ‫ّ‬ ‫ـكري‬ ‫ـني يف ســوريا‪ ،‬ثــم جــاء التدخــل العسـ ّ‬ ‫لــن تســمح بقيــام حكــم سـ ّ‬ ‫الروسـ ّـي الســافر والعنيــف يف ‪2015‬م‪ ،‬والــذي اســتخدُ مت فيــه أنــواع‬ ‫والمحرمــة دول ًّيــا لتخ ّيــر المحاصريــن‬ ‫شــتّى مــن األســلحة الفتّاكــة‬ ‫ّ‬ ‫(‪((3‬‬ ‫الســوريين بيــن اإلفنــاء أو التهجيــر ‪.‬‬

‫‪ -5‬إيــران‪ :‬يبــدو دور إيــران جل ًّيــا مــن خــال ممارســاهتا يف هتجيــر‬ ‫الســنة وتوطيــن الشــيعة‪ ،‬كمــا حــدث يف المناطــق المتاخمــة للشــريط‬ ‫الحــدودي اللبنــاين‪.‬‬

‫(‪  ((3‬انظر‪« :‬التهجير القسري يف سوريا السياسات األدوات والتبعات»‪ ،‬د‪ .‬ياسر سعد الدين‪ ،‬مركز أمية‬ ‫للبحوث‪ ،7102/1/02‬موقع الراصد‪.‬‬ ‫(‪  ((3‬انظر‪ :‬المرجع السابق‪.‬‬ ‫(‪  ((3‬انظر‪ :‬المرجع السابق‪.‬‬ ‫(‪  ((3‬انظر‪ :‬المرجع السابق‪.‬‬

‫‪27‬‬


‫التهجير القسري في سوريا‬ ‫ّ‬ ‫توســعات إيــران وحــزب اهلل والميليشــيات العراق ّيــة الشــيع َّية يف‬ ‫إن ّ‬ ‫ـقي‪،‬‬ ‫حمــص واحتاللهــا الزبــداين وداريــا والغوطــة والجنــوب الدمشـ ّ‬ ‫ومــن ثـ َّـم تح ُّكمهــا بقلــب دمشــق القديمــة ومنطقــة المـ ّـزة‪ّ ،‬‬ ‫كل ذلــك‬ ‫يـ ّ‬ ‫ـدل علــى ّ‬ ‫ـح وأهــداف بعيــدة األمــد تتجــاوز حتــى‬ ‫أن إيــران لهــا مصالـ ُ‬ ‫ـري يف ســوريا‪.‬‬ ‫عمل َّيــة التهجيــر القسـ ّ‬

‫وهكــذا تتضــح لدينــا الجهــات الســاعية بـ ّ‬ ‫ـكل طاقاهتــا لرفــع نســب‬ ‫التهجيــر مــن ســوريا‪ ،‬بطرق مباشــرة أو غير مباشــرة‪ ،‬وبشــتى الوســائل‬ ‫المتاحــة‪ ،‬ففــي ّ‬ ‫كل يــوم تظهــر جهـ ٌة جديــد ٌة تزيــدُ يف نكبــة شــعبنا الــذي‬ ‫ضحــي بـ ّ‬ ‫حريتــه وكرامتــه‪.‬‬ ‫ُي ّ‬ ‫ـكل مــا يملــك ليحصـ َـل علــى ِّ‬

‫املبحث الثاين‬ ‫ـوري‬ ‫آثار التهجري‬ ‫القرسي عىل الشــعب السـ ّ‬ ‫ِّ‬

‫اآلثار النفس ّية‪:‬‬ ‫ـدل علــى البعيــر‪ ،‬واألثــر يـ ّ‬ ‫أن البعــر َة تـ ّ‬ ‫ـدل علــى المســير‪ ،‬فـ ّ‬ ‫كمــا ّ‬ ‫ـإن‬ ‫المهجريــن وأمراضهــم ّ‬ ‫تــدل علــى ســببها أال وهــو التهجيــر‪،‬‬ ‫آالم‬ ‫ّ‬ ‫وقــد تذهــب الكثيــر مــن اآلالم فتــذوب وتختفــي بفعــل الزمــن‪،‬‬ ‫ولكــن اآلثــار العميقــة للتهجيــر واإلبعــاد والطــرد مــن األوطــان ترافــق‬ ‫المهجــر المســكين حتــى آخــر يــوم يف حياتــه‪ ،‬ومــن هــذه اآلثــار آثــار‬ ‫َّ‬ ‫مرض ّيــة نفسـ ّية‪ ،‬يقــول الدكتور فيكــرام باتل‪( :‬يبتعد آالف األشــخاص‬ ‫عــن بيوهتــم‪ ،‬هر ًبــا مــن الحــرب أو االضطهــاد أو المجاعــة‪ ،‬وهــؤالء‬ ‫نســميهم الالجئيــن أو النازحيــن أو المهجريــن‪ ،‬أي األشــخاص الذين‬ ‫ُأجــروا علــى تــرك منازلهــم يف محاولــة إلنقــاذ حياهتــم)(‪.((3‬‬

‫ومــن األســباب التــي دعــت إلــى تــرك الديــار واألوطــان واألهــل‬ ‫الحــرب واإلرهــاب والشــغب واالضطــراب األهلــي‪ ،‬كلهــا حــاالت‬ ‫مفجعــة واقعيــة يف عــدة مناطــق يف العالــم‪ ،‬وإن أكثــر الضحايــا هــم‬ ‫المدنيــون الســيما األطفــال والنســاء‪ ،‬ويبقــى الالجئــون األوفــر ح ًّظــا‬ ‫مــن الذيــن يبقــون يف منازلهــم‪ ،‬فهــم معرضــون للرعــب الناتــج مــن‬ ‫الحــرب وللمعاملــة الالإنســانية التــي ينالوهنــا مــن المعتديــن(‪.((3‬‬ ‫المهجــر مــن األمــراض النفســية‪َ ،‬جــراء ُبعــده عــن أهله‬ ‫وهكــذا يعــاين‬ ‫ّ‬ ‫ووطنــه وديــاره‪ ،‬إضافــة إلــى عــبء البحــث عــن الســامة والحاجــات‬ ‫مهمــات الصحــة‬ ‫األساســ ّية لحياتــه وحيــاة مــن يعــول‪ ،‬إذ هــي مــن ّ‬ ‫النفســية لالجئيــن‪.‬‬ ‫ومــن أهـ ّـم المشــكالت النفس ـ ّية التــي يعــاين منهــا الالجئــون‪ ،‬كمــا‬ ‫يقــول الدكتــور فيكــرام باتــل‪:‬‬

‫‪ )1‬الحــزن والحــداد‪ :‬فخســارة الممتلــكات هــي مفاجــأة رهيبــ ٌة‬ ‫ً‬ ‫فضــا عــن خســارة األهــل‬ ‫لألشــخاص الســيما الفقــراء منهــم‪،‬‬ ‫(‪  ((3‬انظر‪« :‬كتاب الصحة النفسية للجميع» تأليف الدكتور فيكرام باتل‪( ،‬ص‪ )402‬ط ‪ 1‬العربية معدلة‪،‬‬ ‫الناشر ورشة الموارد العربية‪ ،‬بيروت‪.‬‬ ‫(‪  ((3‬انظر‪ :‬المرجع السابق‪.‬‬

‫‪28‬‬

‫واألقارب واألصدقاء‪.‬‬

‫تعرض‬ ‫‪ )2‬التعـ ّـرض للعنــف المرعــب‪ :‬فعــدد كبيــر مــن الالجئيــن قــد ّ‬ ‫مروعة‪.‬‬ ‫وشــهد أحدا ًثــا ِّ‬

‫ـدية‪ :‬فهــذه األمــراض قــد يكــون‬ ‫‪ )3‬اإلصابــات أو األمــراض الجسـ ّ‬ ‫لهــا أثـ ٌـر كبيـ ٌـر علــى الصحــة النفس ـ ّية‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ـي‪ :‬فغال ًبــا‬ ‫‪ )4‬العيــش يف بيئــة خاليــة مــن شــبكات الدعــم االجتماعـ ّ‬ ‫مــا تكـ ُ‬ ‫الصح َّي ـ ُة‬ ‫ـآت‬ ‫ـات الالجئيــن أمكن ـ ًة حزين ـةً‪ ،‬والمنشـ ُ‬ ‫ـون مخ ّيمـ ُ‬ ‫ّ‬ ‫فيهــا مكت ّظـ ًة وفقيــرةً‪ ،‬وقــد يتواجــد يف المســكن نفســه أشــخاص مــن‬ ‫مجتمعــات مختلفــة‪.‬‬ ‫المهجرين‬ ‫ويتابــع الدكتــور فيكــرام‪( :‬أ ّمــا أكثــر األمراض شــيو ًعا بيــن‬ ‫َّ‬ ‫فهــي االكتئــاب والضغــط الناتــج عــن صدمــة‪ ،‬وقــد يشــكو الشــخص‬ ‫عــادة مــن صعوبــة النــوم‪ ،‬والكوابيــس والشــعور بالخــوف والتعــب‪،‬‬ ‫وفقــدان االهتمام بالنشــاطات اليوم ّية‪ ،‬والشــعور بالرغبــة يف االنتحار‪،‬‬ ‫ومــن األعــراض الــواردة واألقـ ّـل شــيو ًعا أن يصبــح بعض األشــخاص‬ ‫كثيــر االضطــراب ويتصــرف بطريقــة غريبــة)(‪.((3‬‬ ‫أمــا بالنســبة لألطفــال الذيــن ُه ّجــروا بعــد تعرضهــم للعنــف فيقــول‬ ‫ً‬ ‫منعــزل ويشــكو مــن الكوابيــس وأوجــاع‬ ‫فيكــرام‪( :‬يصبــح الطفــل‬ ‫الــرأس‪ ،‬واآلالم يف أجــزاء أخــرى مــن جســده‪ ،‬ويتصــرف كمــا لــو كان‬ ‫أصغــر س ـنًّا بكثيــر)(‪.((3‬‬

‫اآلثار االجتامعيّة‪:‬‬ ‫إن حيــاة اإلنســان تتم ّثــل بمجتمعــه الــذي ترعــرع فيــه بيــن أهلِ ِ‬ ‫ّ‬ ‫ــه‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫وعشــيرته وأح ّبائــه‪ ،‬وفقـ ُ‬ ‫ـدان هــذه الثروة يزعــزع كيان ذلــك المجتمع‪،‬‬ ‫ـع وال تبقــى حيــا ٌة جماع ّيـ ٌة تفاعل ّيـةٌ‪ ،‬فالنــاس ُشـ ّـردوا‪،‬‬ ‫فــا يبقــى مجتمـ ٌ‬ ‫ومــات واعتقــل وجــرح مئــات اآلالف‪ ،‬واغتُصبــت الــدور و ُبدّ لــت‬ ‫األرض‪ ،‬وهكــذا تفككــت األســر واغتيلــت الجماعــة‪ ،‬وبــدأ األفــراد‬ ‫بإنشــاء حيــاة جديــدة معجونــة باألســى خاليــة مــن الــروح‪ ،‬ال يوجــد‬ ‫بينهــا وبيــن جديدهــا أي تناغــم أو عوامــل مشــركة تجمعهــم‪.‬‬ ‫القســري ونتائجــه‪ ،‬اآلثــار‬ ‫وممــا قرأ ُتــ ُه مــن مخ ّلفــات التهجيــر‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫االجتماع ّيــة ومنهــا مــا كتبــه الدكتــور فيكــرام باتــل‪ ،‬حيــث ذكــر منهــا‪:‬‬ ‫‪ . 1‬العزلة االجتماع ّية والشعور بالغربة‪.‬‬

‫‪ . 2‬اإلقامة ضمن شروط معيش ّية غير مالئمة‪.‬‬ ‫‪ . 3‬فقدان موارد الرزق‪.‬‬

‫‪ . 4‬انتشار البطالة ّ‬ ‫وتفشي اللصوص ّية واالحتيال‪.‬‬ ‫والصحة(‪.((3‬‬ ‫‪ . 5‬تدهور خدمات التعليم‬ ‫ّ‬ ‫(‪  ((3‬انظر‪ :‬المرجع السابق‪.‬‬ ‫(‪  ((3‬انظر‪ :‬المرجع السابق (ص ‪.)502‬‬ ‫(‪  ((3‬انظر‪ :‬المرجع السابق‪.‬‬

‫التهجير القسري في سوريا‬ ‫أضيف لما سبق من اآلثار االجتماعية‪:‬‬

‫‪ . 6‬اختالف الثقافة واللغة والعادات‪.‬‬

‫‪ . 7‬تبايــن المجتمعــات األخرى (المضيفة أو الـــم ِ‬ ‫ساعدَ ة) يف نظرهتا‬ ‫ُ‬ ‫للم َه ّجــر واحــرام إنســان ّيته‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫‪ . 8‬تفكك األسر وتناثر األفراد‪.‬‬

‫‪ . 9‬ذوبــان بعــض الشــخص ّيات واألخالق ّيــات يف المجتمعــات‬ ‫الغرب ّيــة‪.‬‬ ‫‪ . 10‬ضعــف الــوازع اإليمــاينّ لــدى بعــض المهجريــن والــذي يــؤ ّدي‬ ‫هبــم أحيا ًنــا إلــى تــرك دينهــم‪.‬‬ ‫‪ . 11‬التهجيــر عامــل أساسـ ّـي يف بنــاء مجتمعــات جديــدة محت ّلــة علــى‬ ‫المهجريــن أصحــاب الحـ ّـق‪.‬‬ ‫أنقــاض مجتمعــات‬ ‫ّ‬

‫المهجريــن داف ًعــا قو ًّيــا لالنتقــام‬ ‫‪ . 12‬ومــن آثــاره أنّــه يو ّلــد لــدى‬ ‫ّ‬ ‫أرض ُهــم‪ ،‬ممــا يجعــل العــداوة‬ ‫ممــن طردوهــم واغتصبــوا َ‬ ‫والثــأر ّ‬ ‫بيــن المجتمعــات قائمــة ال زوال لهــا‪ ،‬إال بإفشــاء العدالــة‪.‬‬

‫وهكــذا يتبيــن لنــا ّ‬ ‫ـري له آثــار اجتماع ّيــة وخيمة على‬ ‫أن التهجيــر القسـ ّ‬ ‫المجتمعــات واألفــراد‪ ،‬فهــو يــؤ ّدي إلــى تدمير أ ّمــة بأســرها وضياعها‪،‬‬ ‫الحق‪،‬‬ ‫ونشــوء مجتمعــات ظالمــة علــى أنقــاض المجتمعــات صاحبــة ّ‬ ‫ينشــدُ الســام لجماعاتٍ‬ ‫حيــث ال عدالــة وال ســام وال أمــان يف عالـ ٍ‬ ‫ـم ُ‬ ‫دون جماعــات أخــرى‪ ،‬يف ازدواج ّيــة مؤلمــة للمعاييــر اإلنســانية‬ ‫المهجريــن فتنتزعهــم مــن دورهــم وأرضهــم‪ ،‬وتفرضهــم‬ ‫تالحــق‬ ‫َّ‬ ‫علــى مجتمعــات جديــدة‪.‬‬

‫اآلثار الطائف ّية‪:‬‬ ‫ّ‬ ‫إن مشــكلة الطائف ّيــة يف ســوريا ليســت جديــدة بســبب الثــورة كمــا‬ ‫ـروج البعــض‪ ،‬بــل هــي قديمــة بــدأت تظهــر بوضــوح منــذ ســيطرة‬ ‫يـ ِّ‬ ‫حــزب البعــث علــى مقاليــد الحكــم يف ســوريا والتمهيــد لســيطرة‬ ‫الطائفــة العلويــة علــى نظــام الحكــم فيهــا‪ ،‬ومنــذ انقــاب حافــظ‬ ‫األســد علــى الحكومــة عــام ‪1970‬م بــدأ بخطــة تســويد العلويــة‬ ‫واســتبعاد الســنة‪ ،‬حيــث اقتصــرت المراكــز والقيــادات يف الجيــش‬ ‫واألمــن والمراكــز الســلطو ّية علــى أبنــاء الطائفــة النصير ّيــة‪ ،‬وأخــذت‬ ‫خطتــه تمتــد وتنتشــر مــع ســكوت أبنــاء السـنّة أو كبتهــم وقمعهــم‪ ،‬أو‬ ‫تحالــف بعضهــم مــع النظــام‪.‬‬ ‫ومــع تحجيــم الوجــود الســني يف أجهــزة الجيــش والمخابــرات‬ ‫وقيــادة الدولــة وفتــح المجــال ألبنــاء الطائفــة النصيريــة ازداد زحــف‬ ‫أبنــاء الطائفــة مــن الســاحل إلــى دمشــق‪ ،‬وصــارت لهــم يف دمشــق‬ ‫تجمعــات ســ ّكان َّية خاصــة هبــم يف المــزة ‪ ،86‬وعــش الــورور‬ ‫والديمــاس والســومرية‪ ،‬وحــول المراكــز العســكرية والنقــاط األمنيــة‪،‬‬ ‫بــل وانتشــرت (المســاكن الراقيــة) لضبــاط األمــن الكبــار يف المــزة‬

‫أوتوســراد ويعفــور‪ ،‬وهكــذا بــدأت الطائفيــة تكــر يو ًمــا بعــد يــوم(‪.((3‬‬

‫يتــوج طائف ّيتــه بسياســة خارج ّيــة داعمــة لــه‪،‬‬ ‫وأراد األســد األب أن ّ‬ ‫ـيعي اإليــراين‪ ،‬فنشــأت صلــة قو ّيــة بيــن الطائفتيــن‪،‬‬ ‫فــكان التقــارب الشـ ّ‬ ‫وزادت الروابــط متانــة بعــد المعاهــدات المشــركة‪ ،‬وتســهيالت دينيــة‬ ‫واقتصاديــة وسياســية‪ ،‬حيــث بــرزت المنشــآت الشــيعية يف الســيدة‬ ‫زينــب‪ ،‬وجرمانــا‪ ،‬وحــول المراقــد الشــيع ّية (المزعومــة)‪ ،‬وأخــذت‬ ‫أي رقيــب(‪.((4‬‬ ‫تتوســع‪ ،‬وحمــات التشــييع تــزداد دون ّ‬ ‫الحســين ّيات ّ‬ ‫توضحــت العالقــات الطائف ّيــة بيــن الفريقيــن بالتحالفــات العســكر ّية‬ ‫ّ‬ ‫حيــن وقــف األســد مــع إيــران ضــدّ العــراق‪ ،‬ودعــم وتســليح شــيعة‬ ‫لبنــان وعلــى رأســهم حــزب اهلل وحركــة أمــل يف محاوالهتــم للتســلط‬ ‫علــى الحكــم يف لبنــان واالعتــداء علــى الوجــود الســني فيهــا‪.‬‬

‫ومــع بدايــة الثــورة جــاء دور الشــيعة لــر ِّد جميــ ِل صنيــ ِع األســد‪،‬‬ ‫فدخلــت جنــود حــزب اهلل إلــى ســوريا وشــاركوا النظــام المجــرم يف‬ ‫االعتــداء علــى المدنييــن وإراقــة دمائهــم‪ ،‬ولــم تكــن وقتهــا يف بالدنــا‬ ‫أي مظاهــر لعســكرة أو تســليح الثــورة فقــد كانــت ســلم ّي ًة بحت ـةً‪.‬‬

‫ـيعي كبيــر يف كل المــدن التــي يحكمهــا نظام‬ ‫وإن مــا نــراه مــن تمــدّ د شـ ّ‬ ‫األســد‪ ،‬ليشــير بوضــوح إلــى األهــداف اإليرانيــة الشــريرة التــي تبيتهــا‬ ‫للوجــود الســني يف المنطقــة‪ ،‬مــن خــال نشــر التشــيع والعمــل علــى‬ ‫إعــادة اإلمرباطوريــة الفارســية‪.‬‬

‫إن المراقــب للوضــع يف ســوريا يلحــظ تنــوع الممارســات الطائفيــة‬ ‫للنظــام النصيــري وحلفائــه الشــيعة ضــد أبنــاء الســنة وحقوقهــم‪،‬‬ ‫وتظهر هذه الطائفية يف أساليب شتى منها(‪:((4‬‬ ‫‪ . 1‬شــراء األراضــي وهــدم المبــاين‪ ،‬وهــذا مــا رأينــاه حــول الســفارة‬ ‫اإليرانيــة يف المــزة خلــف مشــفى الــرازي‪ ،‬فقــد ُهجــر ‪ 125‬ألــف‬ ‫نســمة‪ ،‬إضافــة إلــى شــراء بيــوت يف أحيــاء دمشــق ّية عريقــة‪،‬‬ ‫مقرات لميليشــيات‬ ‫كالعمــارة والشــاغور والصالح ّيــة‪ ،‬وجعلهــا ّ‬ ‫أبــي الفضــل الع ّبــاس‪.‬‬

‫‪ . 2‬حــرق الســجالت والنفــوس‪ :‬وذلــك لطمــس أصــول حقــوق‬ ‫أهــل الســنّة‪ ،‬واســتبدالها بملكيــات للشــيعة والنصيرييــن(‪.((4‬‬ ‫‪ . 3‬توطيــن الشــيعة اإليرانييــن والعراقييــن واللبنانييــن يف دمشــق‪،‬‬ ‫وتجنيســهم الجنســ ّية الســورية‪.‬‬ ‫ـوي يف قلــب دمشــق‪ ،‬وعقد حلقــات اللطم‬ ‫‪ . 4‬احتــال الجامــع األمـ ّ‬ ‫(‪((4‬‬ ‫ـب الصحابــة الكــرام يف باحــات المســجد ‪.‬‬ ‫والعويــل وسـ ّ‬ ‫(‪  ((3‬انظر‪ :‬التغيير الديموغرايف يف سوريا (التهجير القسري) يف ظل الثورة السورية‪ ،‬د عبد المنعم زين‬ ‫الدين‪ ،‬مؤسسة جسور للدراسات‪6102 ،‬م‪.‬‬ ‫(‪  ((4‬انظر‪ :‬المرجع السابق‪.‬‬ ‫(‪  ((4‬انظر‪ :‬المرجع السابق‪.‬‬ ‫(‪  ((4‬انظر‪« :‬التهجير القسري يف سوريا السياسات األدوات والتبعات» د‪ .‬ياسر سعد الدين مركز أمية‬ ‫للبحوث ‪7102/1/02‬م‪ ،‬موقع الراصد ‪/82‬يناير‪7102/‬م‪.‬‬ ‫(‪  ((4‬انظر‪ :‬الصورة رقم (‪ )1‬وصورة رقم (‪.)2‬‬

‫‪29‬‬


‫التهجير القسري في سوريا‬ ‫ّ‬ ‫توســعات إيــران وحــزب اهلل والميليشــيات العراق ّيــة الشــيع َّية يف‬ ‫إن ّ‬ ‫ـقي‪،‬‬ ‫حمــص واحتاللهــا الزبــداين وداريــا والغوطــة والجنــوب الدمشـ ّ‬ ‫ومــن ثـ َّـم تح ُّكمهــا بقلــب دمشــق القديمــة ومنطقــة المـ ّـزة‪ّ ،‬‬ ‫كل ذلــك‬ ‫يـ ّ‬ ‫ـدل علــى ّ‬ ‫ـح وأهــداف بعيــدة األمــد تتجــاوز حتــى‬ ‫أن إيــران لهــا مصالـ ُ‬ ‫ـري يف ســوريا‪.‬‬ ‫عمل َّيــة التهجيــر القسـ ّ‬

‫وهكــذا تتضــح لدينــا الجهــات الســاعية بـ ّ‬ ‫ـكل طاقاهتــا لرفــع نســب‬ ‫التهجيــر مــن ســوريا‪ ،‬بطرق مباشــرة أو غير مباشــرة‪ ،‬وبشــتى الوســائل‬ ‫المتاحــة‪ ،‬ففــي ّ‬ ‫كل يــوم تظهــر جهـ ٌة جديــد ٌة تزيــدُ يف نكبــة شــعبنا الــذي‬ ‫ضحــي بـ ّ‬ ‫حريتــه وكرامتــه‪.‬‬ ‫ُي ّ‬ ‫ـكل مــا يملــك ليحصـ َـل علــى ِّ‬

‫املبحث الثاين‬ ‫ـوري‬ ‫آثار التهجري‬ ‫القرسي عىل الشــعب السـ ّ‬ ‫ِّ‬

‫اآلثار النفس ّية‪:‬‬ ‫ـدل علــى البعيــر‪ ،‬واألثــر يـ ّ‬ ‫أن البعــر َة تـ ّ‬ ‫ـدل علــى المســير‪ ،‬فـ ّ‬ ‫كمــا ّ‬ ‫ـإن‬ ‫المهجريــن وأمراضهــم ّ‬ ‫تــدل علــى ســببها أال وهــو التهجيــر‪،‬‬ ‫آالم‬ ‫ّ‬ ‫وقــد تذهــب الكثيــر مــن اآلالم فتــذوب وتختفــي بفعــل الزمــن‪،‬‬ ‫ولكــن اآلثــار العميقــة للتهجيــر واإلبعــاد والطــرد مــن األوطــان ترافــق‬ ‫المهجــر المســكين حتــى آخــر يــوم يف حياتــه‪ ،‬ومــن هــذه اآلثــار آثــار‬ ‫َّ‬ ‫مرض ّيــة نفسـ ّية‪ ،‬يقــول الدكتور فيكــرام باتل‪( :‬يبتعد آالف األشــخاص‬ ‫عــن بيوهتــم‪ ،‬هر ًبــا مــن الحــرب أو االضطهــاد أو المجاعــة‪ ،‬وهــؤالء‬ ‫نســميهم الالجئيــن أو النازحيــن أو المهجريــن‪ ،‬أي األشــخاص الذين‬ ‫ُأجــروا علــى تــرك منازلهــم يف محاولــة إلنقــاذ حياهتــم)(‪.((3‬‬

‫ومــن األســباب التــي دعــت إلــى تــرك الديــار واألوطــان واألهــل‬ ‫الحــرب واإلرهــاب والشــغب واالضطــراب األهلــي‪ ،‬كلهــا حــاالت‬ ‫مفجعــة واقعيــة يف عــدة مناطــق يف العالــم‪ ،‬وإن أكثــر الضحايــا هــم‬ ‫المدنيــون الســيما األطفــال والنســاء‪ ،‬ويبقــى الالجئــون األوفــر ح ًّظــا‬ ‫مــن الذيــن يبقــون يف منازلهــم‪ ،‬فهــم معرضــون للرعــب الناتــج مــن‬ ‫الحــرب وللمعاملــة الالإنســانية التــي ينالوهنــا مــن المعتديــن(‪.((3‬‬ ‫المهجــر مــن األمــراض النفســية‪َ ،‬جــراء ُبعــده عــن أهله‬ ‫وهكــذا يعــاين‬ ‫ّ‬ ‫ووطنــه وديــاره‪ ،‬إضافــة إلــى عــبء البحــث عــن الســامة والحاجــات‬ ‫مهمــات الصحــة‬ ‫األساســ ّية لحياتــه وحيــاة مــن يعــول‪ ،‬إذ هــي مــن ّ‬ ‫النفســية لالجئيــن‪.‬‬ ‫ومــن أهـ ّـم المشــكالت النفس ـ ّية التــي يعــاين منهــا الالجئــون‪ ،‬كمــا‬ ‫يقــول الدكتــور فيكــرام باتــل‪:‬‬

‫‪ )1‬الحــزن والحــداد‪ :‬فخســارة الممتلــكات هــي مفاجــأة رهيبــ ٌة‬ ‫ً‬ ‫فضــا عــن خســارة األهــل‬ ‫لألشــخاص الســيما الفقــراء منهــم‪،‬‬ ‫(‪  ((3‬انظر‪« :‬كتاب الصحة النفسية للجميع» تأليف الدكتور فيكرام باتل‪( ،‬ص‪ )402‬ط ‪ 1‬العربية معدلة‪،‬‬ ‫الناشر ورشة الموارد العربية‪ ،‬بيروت‪.‬‬ ‫(‪  ((3‬انظر‪ :‬المرجع السابق‪.‬‬

‫‪28‬‬

‫واألقارب واألصدقاء‪.‬‬

‫تعرض‬ ‫‪ )2‬التعـ ّـرض للعنــف المرعــب‪ :‬فعــدد كبيــر مــن الالجئيــن قــد ّ‬ ‫مروعة‪.‬‬ ‫وشــهد أحدا ًثــا ِّ‬

‫ـدية‪ :‬فهــذه األمــراض قــد يكــون‬ ‫‪ )3‬اإلصابــات أو األمــراض الجسـ ّ‬ ‫لهــا أثـ ٌـر كبيـ ٌـر علــى الصحــة النفس ـ ّية‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ـي‪ :‬فغال ًبــا‬ ‫‪ )4‬العيــش يف بيئــة خاليــة مــن شــبكات الدعــم االجتماعـ ّ‬ ‫مــا تكـ ُ‬ ‫الصح َّي ـ ُة‬ ‫ـآت‬ ‫ـات الالجئيــن أمكن ـ ًة حزين ـةً‪ ،‬والمنشـ ُ‬ ‫ـون مخ ّيمـ ُ‬ ‫ّ‬ ‫فيهــا مكت ّظـ ًة وفقيــرةً‪ ،‬وقــد يتواجــد يف المســكن نفســه أشــخاص مــن‬ ‫مجتمعــات مختلفــة‪.‬‬ ‫المهجرين‬ ‫ويتابــع الدكتــور فيكــرام‪( :‬أ ّمــا أكثــر األمراض شــيو ًعا بيــن‬ ‫َّ‬ ‫فهــي االكتئــاب والضغــط الناتــج عــن صدمــة‪ ،‬وقــد يشــكو الشــخص‬ ‫عــادة مــن صعوبــة النــوم‪ ،‬والكوابيــس والشــعور بالخــوف والتعــب‪،‬‬ ‫وفقــدان االهتمام بالنشــاطات اليوم ّية‪ ،‬والشــعور بالرغبــة يف االنتحار‪،‬‬ ‫ومــن األعــراض الــواردة واألقـ ّـل شــيو ًعا أن يصبــح بعض األشــخاص‬ ‫كثيــر االضطــراب ويتصــرف بطريقــة غريبــة)(‪.((3‬‬ ‫أمــا بالنســبة لألطفــال الذيــن ُه ّجــروا بعــد تعرضهــم للعنــف فيقــول‬ ‫ً‬ ‫منعــزل ويشــكو مــن الكوابيــس وأوجــاع‬ ‫فيكــرام‪( :‬يصبــح الطفــل‬ ‫الــرأس‪ ،‬واآلالم يف أجــزاء أخــرى مــن جســده‪ ،‬ويتصــرف كمــا لــو كان‬ ‫أصغــر س ـنًّا بكثيــر)(‪.((3‬‬

‫اآلثار االجتامعيّة‪:‬‬ ‫إن حيــاة اإلنســان تتم ّثــل بمجتمعــه الــذي ترعــرع فيــه بيــن أهلِ ِ‬ ‫ّ‬ ‫ــه‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫وعشــيرته وأح ّبائــه‪ ،‬وفقـ ُ‬ ‫ـدان هــذه الثروة يزعــزع كيان ذلــك المجتمع‪،‬‬ ‫ـع وال تبقــى حيــا ٌة جماع ّيـ ٌة تفاعل ّيـةٌ‪ ،‬فالنــاس ُشـ ّـردوا‪،‬‬ ‫فــا يبقــى مجتمـ ٌ‬ ‫ومــات واعتقــل وجــرح مئــات اآلالف‪ ،‬واغتُصبــت الــدور و ُبدّ لــت‬ ‫األرض‪ ،‬وهكــذا تفككــت األســر واغتيلــت الجماعــة‪ ،‬وبــدأ األفــراد‬ ‫بإنشــاء حيــاة جديــدة معجونــة باألســى خاليــة مــن الــروح‪ ،‬ال يوجــد‬ ‫بينهــا وبيــن جديدهــا أي تناغــم أو عوامــل مشــركة تجمعهــم‪.‬‬ ‫القســري ونتائجــه‪ ،‬اآلثــار‬ ‫وممــا قرأ ُتــ ُه مــن مخ ّلفــات التهجيــر‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫االجتماع ّيــة ومنهــا مــا كتبــه الدكتــور فيكــرام باتــل‪ ،‬حيــث ذكــر منهــا‪:‬‬ ‫‪ . 1‬العزلة االجتماع ّية والشعور بالغربة‪.‬‬

‫‪ . 2‬اإلقامة ضمن شروط معيش ّية غير مالئمة‪.‬‬ ‫‪ . 3‬فقدان موارد الرزق‪.‬‬

‫‪ . 4‬انتشار البطالة ّ‬ ‫وتفشي اللصوص ّية واالحتيال‪.‬‬ ‫والصحة(‪.((3‬‬ ‫‪ . 5‬تدهور خدمات التعليم‬ ‫ّ‬ ‫(‪  ((3‬انظر‪ :‬المرجع السابق‪.‬‬ ‫(‪  ((3‬انظر‪ :‬المرجع السابق (ص ‪.)502‬‬ ‫(‪  ((3‬انظر‪ :‬المرجع السابق‪.‬‬

‫التهجير القسري في سوريا‬ ‫أضيف لما سبق من اآلثار االجتماعية‪:‬‬

‫‪ . 6‬اختالف الثقافة واللغة والعادات‪.‬‬

‫‪ . 7‬تبايــن المجتمعــات األخرى (المضيفة أو الـــم ِ‬ ‫ساعدَ ة) يف نظرهتا‬ ‫ُ‬ ‫للم َه ّجــر واحــرام إنســان ّيته‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫‪ . 8‬تفكك األسر وتناثر األفراد‪.‬‬

‫‪ . 9‬ذوبــان بعــض الشــخص ّيات واألخالق ّيــات يف المجتمعــات‬ ‫الغرب ّيــة‪.‬‬ ‫‪ . 10‬ضعــف الــوازع اإليمــاينّ لــدى بعــض المهجريــن والــذي يــؤ ّدي‬ ‫هبــم أحيا ًنــا إلــى تــرك دينهــم‪.‬‬ ‫‪ . 11‬التهجيــر عامــل أساسـ ّـي يف بنــاء مجتمعــات جديــدة محت ّلــة علــى‬ ‫المهجريــن أصحــاب الحـ ّـق‪.‬‬ ‫أنقــاض مجتمعــات‬ ‫ّ‬

‫المهجريــن داف ًعــا قو ًّيــا لالنتقــام‬ ‫‪ . 12‬ومــن آثــاره أنّــه يو ّلــد لــدى‬ ‫ّ‬ ‫أرض ُهــم‪ ،‬ممــا يجعــل العــداوة‬ ‫ممــن طردوهــم واغتصبــوا َ‬ ‫والثــأر ّ‬ ‫بيــن المجتمعــات قائمــة ال زوال لهــا‪ ،‬إال بإفشــاء العدالــة‪.‬‬

‫وهكــذا يتبيــن لنــا ّ‬ ‫ـري له آثــار اجتماع ّيــة وخيمة على‬ ‫أن التهجيــر القسـ ّ‬ ‫المجتمعــات واألفــراد‪ ،‬فهــو يــؤ ّدي إلــى تدمير أ ّمــة بأســرها وضياعها‪،‬‬ ‫الحق‪،‬‬ ‫ونشــوء مجتمعــات ظالمــة علــى أنقــاض المجتمعــات صاحبــة ّ‬ ‫ينشــدُ الســام لجماعاتٍ‬ ‫حيــث ال عدالــة وال ســام وال أمــان يف عالـ ٍ‬ ‫ـم ُ‬ ‫دون جماعــات أخــرى‪ ،‬يف ازدواج ّيــة مؤلمــة للمعاييــر اإلنســانية‬ ‫المهجريــن فتنتزعهــم مــن دورهــم وأرضهــم‪ ،‬وتفرضهــم‬ ‫تالحــق‬ ‫َّ‬ ‫علــى مجتمعــات جديــدة‪.‬‬

‫اآلثار الطائف ّية‪:‬‬ ‫ّ‬ ‫إن مشــكلة الطائف ّيــة يف ســوريا ليســت جديــدة بســبب الثــورة كمــا‬ ‫ـروج البعــض‪ ،‬بــل هــي قديمــة بــدأت تظهــر بوضــوح منــذ ســيطرة‬ ‫يـ ِّ‬ ‫حــزب البعــث علــى مقاليــد الحكــم يف ســوريا والتمهيــد لســيطرة‬ ‫الطائفــة العلويــة علــى نظــام الحكــم فيهــا‪ ،‬ومنــذ انقــاب حافــظ‬ ‫األســد علــى الحكومــة عــام ‪1970‬م بــدأ بخطــة تســويد العلويــة‬ ‫واســتبعاد الســنة‪ ،‬حيــث اقتصــرت المراكــز والقيــادات يف الجيــش‬ ‫واألمــن والمراكــز الســلطو ّية علــى أبنــاء الطائفــة النصير ّيــة‪ ،‬وأخــذت‬ ‫خطتــه تمتــد وتنتشــر مــع ســكوت أبنــاء السـنّة أو كبتهــم وقمعهــم‪ ،‬أو‬ ‫تحالــف بعضهــم مــع النظــام‪.‬‬ ‫ومــع تحجيــم الوجــود الســني يف أجهــزة الجيــش والمخابــرات‬ ‫وقيــادة الدولــة وفتــح المجــال ألبنــاء الطائفــة النصيريــة ازداد زحــف‬ ‫أبنــاء الطائفــة مــن الســاحل إلــى دمشــق‪ ،‬وصــارت لهــم يف دمشــق‬ ‫تجمعــات ســ ّكان َّية خاصــة هبــم يف المــزة ‪ ،86‬وعــش الــورور‬ ‫والديمــاس والســومرية‪ ،‬وحــول المراكــز العســكرية والنقــاط األمنيــة‪،‬‬ ‫بــل وانتشــرت (المســاكن الراقيــة) لضبــاط األمــن الكبــار يف المــزة‬

‫أوتوســراد ويعفــور‪ ،‬وهكــذا بــدأت الطائفيــة تكــر يو ًمــا بعــد يــوم(‪.((3‬‬

‫يتــوج طائف ّيتــه بسياســة خارج ّيــة داعمــة لــه‪،‬‬ ‫وأراد األســد األب أن ّ‬ ‫ـيعي اإليــراين‪ ،‬فنشــأت صلــة قو ّيــة بيــن الطائفتيــن‪،‬‬ ‫فــكان التقــارب الشـ ّ‬ ‫وزادت الروابــط متانــة بعــد المعاهــدات المشــركة‪ ،‬وتســهيالت دينيــة‬ ‫واقتصاديــة وسياســية‪ ،‬حيــث بــرزت المنشــآت الشــيعية يف الســيدة‬ ‫زينــب‪ ،‬وجرمانــا‪ ،‬وحــول المراقــد الشــيع ّية (المزعومــة)‪ ،‬وأخــذت‬ ‫أي رقيــب(‪.((4‬‬ ‫تتوســع‪ ،‬وحمــات التشــييع تــزداد دون ّ‬ ‫الحســين ّيات ّ‬ ‫توضحــت العالقــات الطائف ّيــة بيــن الفريقيــن بالتحالفــات العســكر ّية‬ ‫ّ‬ ‫حيــن وقــف األســد مــع إيــران ضــدّ العــراق‪ ،‬ودعــم وتســليح شــيعة‬ ‫لبنــان وعلــى رأســهم حــزب اهلل وحركــة أمــل يف محاوالهتــم للتســلط‬ ‫علــى الحكــم يف لبنــان واالعتــداء علــى الوجــود الســني فيهــا‪.‬‬

‫ومــع بدايــة الثــورة جــاء دور الشــيعة لــر ِّد جميــ ِل صنيــ ِع األســد‪،‬‬ ‫فدخلــت جنــود حــزب اهلل إلــى ســوريا وشــاركوا النظــام المجــرم يف‬ ‫االعتــداء علــى المدنييــن وإراقــة دمائهــم‪ ،‬ولــم تكــن وقتهــا يف بالدنــا‬ ‫أي مظاهــر لعســكرة أو تســليح الثــورة فقــد كانــت ســلم ّي ًة بحت ـةً‪.‬‬

‫ـيعي كبيــر يف كل المــدن التــي يحكمهــا نظام‬ ‫وإن مــا نــراه مــن تمــدّ د شـ ّ‬ ‫األســد‪ ،‬ليشــير بوضــوح إلــى األهــداف اإليرانيــة الشــريرة التــي تبيتهــا‬ ‫للوجــود الســني يف المنطقــة‪ ،‬مــن خــال نشــر التشــيع والعمــل علــى‬ ‫إعــادة اإلمرباطوريــة الفارســية‪.‬‬

‫إن المراقــب للوضــع يف ســوريا يلحــظ تنــوع الممارســات الطائفيــة‬ ‫للنظــام النصيــري وحلفائــه الشــيعة ضــد أبنــاء الســنة وحقوقهــم‪،‬‬ ‫وتظهر هذه الطائفية يف أساليب شتى منها(‪:((4‬‬ ‫‪ . 1‬شــراء األراضــي وهــدم المبــاين‪ ،‬وهــذا مــا رأينــاه حــول الســفارة‬ ‫اإليرانيــة يف المــزة خلــف مشــفى الــرازي‪ ،‬فقــد ُهجــر ‪ 125‬ألــف‬ ‫نســمة‪ ،‬إضافــة إلــى شــراء بيــوت يف أحيــاء دمشــق ّية عريقــة‪،‬‬ ‫مقرات لميليشــيات‬ ‫كالعمــارة والشــاغور والصالح ّيــة‪ ،‬وجعلهــا ّ‬ ‫أبــي الفضــل الع ّبــاس‪.‬‬

‫‪ . 2‬حــرق الســجالت والنفــوس‪ :‬وذلــك لطمــس أصــول حقــوق‬ ‫أهــل الســنّة‪ ،‬واســتبدالها بملكيــات للشــيعة والنصيرييــن(‪.((4‬‬ ‫‪ . 3‬توطيــن الشــيعة اإليرانييــن والعراقييــن واللبنانييــن يف دمشــق‪،‬‬ ‫وتجنيســهم الجنســ ّية الســورية‪.‬‬ ‫ـوي يف قلــب دمشــق‪ ،‬وعقد حلقــات اللطم‬ ‫‪ . 4‬احتــال الجامــع األمـ ّ‬ ‫(‪((4‬‬ ‫ـب الصحابــة الكــرام يف باحــات المســجد ‪.‬‬ ‫والعويــل وسـ ّ‬ ‫(‪  ((3‬انظر‪ :‬التغيير الديموغرايف يف سوريا (التهجير القسري) يف ظل الثورة السورية‪ ،‬د عبد المنعم زين‬ ‫الدين‪ ،‬مؤسسة جسور للدراسات‪6102 ،‬م‪.‬‬ ‫(‪  ((4‬انظر‪ :‬المرجع السابق‪.‬‬ ‫(‪  ((4‬انظر‪ :‬المرجع السابق‪.‬‬ ‫(‪  ((4‬انظر‪« :‬التهجير القسري يف سوريا السياسات األدوات والتبعات» د‪ .‬ياسر سعد الدين مركز أمية‬ ‫للبحوث ‪7102/1/02‬م‪ ،‬موقع الراصد ‪/82‬يناير‪7102/‬م‪.‬‬ ‫(‪  ((4‬انظر‪ :‬الصورة رقم (‪ )1‬وصورة رقم (‪.)2‬‬

‫‪29‬‬


‫التهجير القسري في سوريا‬ ‫الصورة رقم (‪)1‬‬

‫الصورة رقم (‪)2‬‬

‫الصورة رقم (‪)4‬‬

‫‪ . 8‬انتشــار اللجــان األمنيــة ونقــاط التفتيــش الشــيع ّية يف العاصمــة‪،‬‬ ‫وممارســاهتم السـ ّيئة علــى الحواجــز مــع أبنــاء دمشــق مــن أهــل‬ ‫الســنة(‪.((4‬‬

‫(المهجريــن)‬ ‫‪ . 9‬اســتغالل حالــة فقــر ســكان دمشــق وضيوفهــم‬ ‫ّ‬ ‫وتشــييعهم وتجنيدهــم يف ميليشــياهتم مقابــل مبالــغ زهيــدة‪.‬‬

‫‪ . 10‬تفريــغ مناطــق بأكملهــا مــن أهلهــا‪ ،‬وســيطرة الشــيعة عليهــا‪،‬‬ ‫كالقصيــر وحمــص والزبــداين وداريــا والمعضم ّيــة وحلــب‬ ‫والغوطــة الشــرق ّية والقلمــون ويلــدا وببيــا جنــوب دمشــق‪.‬‬ ‫‪ . 5‬تنظيــم مســيرات فاطم ّية وحســين ّية ألطفال ســوريين يشـ ِّيعوهنم‪،‬‬ ‫حملوهنــم أعــام حــزب اهلل‪ ،‬ورايــات طائفيــة‪ ،‬يجولــون هبم‬ ‫ثــم ُي ّ‬ ‫أحيــاء وأســواق دمشــق القديمــة(‪.((4‬‬ ‫الصورة رقم (‪)3‬‬

‫‪ . 11‬المجــازر الواســعة التــي طالــت مناطــق الســنة حصـ ًـرا‪ ،‬ويف كافــة‬ ‫المــدن الســورية‪.‬‬

‫أهــداف كال الطائفتــن (النصرييّة والصفويّة)‪:‬‬

‫إن الطائف ّيــة الشــيع ّية الصفو ّيــة التــي اجتاحــت بــا ًدا إســامية وعرب ّيــة‬ ‫متعــددة مثــل العــراق وســوريا ولبنــان واليمــن والبحريــن هدفهــا‪:‬‬ ‫ •نشر التش ّيع يف هذه البالد‪.‬‬

‫ •تحقيق حلمها يف بناء اإلمرباطور ّية الصفو ّية‪.‬‬

‫ •قتــل أهــل الســنّة وإبادهتــم‪ ،‬أو هتجيرهــم واالســتيالء علــى‬ ‫ممتلكا هتــم ‪.‬‬ ‫ •إهنــاء الوجــود العربــي‪ ،‬بدافــع قومــي فارســي يفــوق دافعهــم الديني‬ ‫لذلك‪.‬‬

‫ألئمــة‬ ‫‪ . 6‬انتشــار صــور لـــنصر اهلل‪ ،‬وخامنئــي‪ ،‬وصــور مزعومــة ّ‬ ‫الشــيعة‪ ،‬إضافــة إلــى الهتافــات الشــيع ّية يف أســواق دمشــق‪.‬‬ ‫‪ . 7‬إنشاء الحسينيات داخل سور القلعة يف دمشق(‪.((4‬‬

‫(‪  ((4‬انظر‪ :‬الصورة رقم (‪.)3‬‬ ‫(‪  ((4‬انظر‪ :‬تقرير السورية نت (عبد اهلل نظام أبرز أذرع إيران يف دمشق يشرتي عقارات لصالح إيران) ‪/51‬‬ ‫أيلول‪5102/‬‬

‫‪30‬‬

‫أ ّمــا الطائفــة النصير ّيــة التــي احتلــت ســوريا منــذ خمســين ســنة‬ ‫ون ّكلــت بأهــل الس ـنّة أشــدّ التنكيــل‪ ،‬فــإن هدفهــا مــن ذلــك إضعــاف‬ ‫الوجــود الســني وتقويــة طائفتهــا الضعيفة بشــتى الوســائل‪ ،‬وال وســيلة‬ ‫أقــرب إلــى تحقيــق هــذا الهــدف مــن توحيــد مصالحهــا مــع شــيعة‬ ‫المنطقــة وإيــران‪ ،‬فاتفقــوا علــى اجتثــاث أهــل السـنّة وزيــادة الروابــط‬ ‫بيــن أبنــاء الطائفتيــن الشــيعية والنصيريــة؛ رغــم مــا كان بينهم مــن عداء‬ ‫دينــي مســتحكم علــى مــدى التاريــخ‪ ،‬إذ يعتقــد الشــيعة كفــر النصيرية‪،‬‬ ‫(‪  ((4‬انظر‪ :‬الصورة رقم (‪.)4‬‬

‫التهجير القسري في سوريا‬ ‫وهــذا مــا يرجــح عــودة الحــرب بينهــم‬ ‫فــور انتهــاء مصلحــة أحــد الطرفيــن عنــد‬ ‫حليفــه اآلخــر‪.‬‬

‫وهكــذا يبــدو لنــا مــن المشــهد‬ ‫الســوري‪ ،‬مــا يخطــط ويعمــل عليــه‬ ‫ّ‬ ‫النصيريــة والشــيعة مــن محاولــة إلزالــة‬ ‫ـني يف ســوريا‪ ،‬بــل‬ ‫ـامي السـ ّ‬ ‫األثــر اإلسـ ّ‬ ‫ويف كل العالــم اإلســامي‪ ،‬فلــم يو ّفــروا‬ ‫جهــدً ا أو طريقــة إال اســتخدموها‬ ‫الحتــال المــدن الســنية وهنــب خيراهتــا‬ ‫وبنــاء مســتعمراهتم اإلجراميــة علــى‬ ‫أنقــاض المــدن الســورية المدمــرة‪.‬‬ ‫ملخص البحث‪:‬‬

‫بعــد هــذا الســرد لواقــع التهجيــر يف ســوريا‪ ،‬وبعــد هــذه الدراســة‬ ‫التفصيل ّيــة‪ ،‬ال بــد لنــا مــن تدويــن بعــض النقــاط التــي توصلنــا إليهــا‪:‬‬

‫ـعب بأكملــه ليــس هتجيـ ًـرا عبث ًّيــا‪ ،‬بل‬ ‫‪ . 1‬التهجيــر الــذي يتعـ ّـرض لــه شـ ٌ‬ ‫ـدروس‪.‬‬ ‫هــو مطــر ٌد مد ّبـ ٌـر ومـ‬ ‫ٌ‬ ‫ـري قــد أدانتــه جميع األنظمــة الدول ّيــة‪ ،‬والمنظمات‬ ‫‪ . 2‬التهجيـ ُـر القسـ ُّ‬ ‫الحقوق ّيــة‪ ،‬والقوانيــن الوضع ّيــة‪.‬‬ ‫تنوعــت طــرق اإلجــرام يف ســوريا‪ ،‬حتــى ُأجبِـ َـر أه ُلهــا علــى تــرك‬ ‫‪ّ . 3‬‬ ‫ٍ‬ ‫كّل شــيء‪ ،‬والنجــاة بأنفســهم ودينهــم وأعراضهــم وكرامتهــم‪.‬‬ ‫‪ . 4‬للتهجيــر أهــداف متنوعــة منهــا أهــداف اســتعمار ّي ٌة الحتــال‬ ‫وأهــداف سياســ ّي ٌة إلنشــاء مناطــق نفــوذ‬ ‫البلــد وهنــب خيراتــه‪،‬‬ ‫ٌ‬ ‫وتحالفــات جديــدة‪ ،‬وأهــداف دينيــة طائفيــة تتمثــل برغبـ ٍـة إيرانيــةٍ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ــة الفارســية‪ِ،‬‬ ‫إنشــاء دولتهــا الصفوي ِ‬ ‫والهيمنــة علــى الشــرقِ‬ ‫يف‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫األوســط‪ِ.‬‬ ‫دور مهـ ٌّـم يف التهجير‬ ‫‪ . 5‬إن الالعبيــن البارزيــن يف ســوريا والذيــن لهم ٌ‬ ‫ـف هو ّيتهــم ّ‬ ‫كل يــوم‪ ،‬وتظهـ ُـر‬ ‫بشــكل مباشــر أو غيــر مباشــر‪ ،‬تنكشـ ُ‬ ‫عور ُت ُهــم مــن خــال اعتدائهــم أو خذالهنــم للشــعب المظلــوم‪،‬‬ ‫وركوهنــم لمصالحهــم الفاشــ ّية‪ ،‬ومــن هــؤالء‪ :‬األمــم المتحــدة‬ ‫ـوري‪ ،‬وإيــران وحــزب اهلل‪ ،‬وأمريــكا وروســيا‪.‬‬ ‫والنظــام السـ ّ‬ ‫ـار نفسـ ّي ٌة جعلــت‬ ‫‪ . 6‬للتهجيــر آثــار كثيــرة علــى أبنائنــا وأ ّمتنــا‪ ،‬منهــا آثـ ٌ‬ ‫ِ‬ ‫الكثيريــن مــن المهجريــن بحاجـ ٍـة لعــاجٍ نفسـ ّـي وإعــادة تأهي ـلٍ‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫األســر‬ ‫فشــردت‬ ‫َ‬ ‫وآثــار اجتماع ّيــ ٌة جعلــت الجماعــات أفــرا ًدا‪ّ ،‬‬ ‫ٌ‬ ‫ِ‬ ‫وآثــار طائف ّيــةٌ‬ ‫ــرت ثقافت َُهــم وأخالقهــم‪،‬‬ ‫وأفســدَ ت‬ ‫النــاس وغ ّي ْ‬ ‫َ‬ ‫ٌ‬ ‫حيــث ّ‬ ‫ـوري‪.‬‬ ‫تفشــى المـ ُ‬ ‫ـوي بيــن أبنــاء الشــعب السـ ِّ‬ ‫ـرض الصفـ ُّ‬

‫ِّ‬ ‫ِّ‬ ‫النصيــري ّ‬ ‫ُ‬ ‫أن اليهــو َد‬ ‫والمحتــل‬ ‫المحتــل الصهيــوينِّ‬ ‫الفــرق بيــن‬ ‫‪. 7‬‬ ‫ِّ‬ ‫هجــروا أبنــا َء فلســطين (أصحــاب األرض)‪ ،‬لجمــع أبنــاء ملتهــم‬ ‫ّ‬

‫حي بابا عمرو ‪ -‬حمص‬

‫ـري يهجــر‬ ‫وتخليصهــم مــن الشــتات‪ ،‬بينمــا نجــد النظــام النصيـ ّ‬ ‫أبنــاء وطن ِ ِ‬ ‫ــه (أصحــاب الديــار) ويشــتّتهم يف ّ‬ ‫كل بقــاع العالــم‬ ‫ليوطــن يف مدهنــم شــيعة مرتزقــة يســاعدونه يف الحفــاظ علــى‬ ‫ســلطته‪.‬‬

‫‪ .8‬علينــا أال نــرك العمــل علــى المســتوى الدولــي مــن خــال‬ ‫الضغــط علــى جميــع المحاكِـ ِ‬ ‫ـم والمن ّظمــات والهيئــات الدول ّيــة‬ ‫والقضائ ّيــة والقانون ّيــة‪ ،‬لتُس ـ ّل َط الضــوء علــى قض ّيتنــا الســورية‪،‬‬ ‫وتقــوم بواجبهــا اإلنســاين يف الوقــوف يف وجــه ظالـ ٍ‬ ‫ـف معــه‬ ‫ـم تقـ ُ‬ ‫كــرى الــدول لمــآرب ومصالــح ومكاســب سياســية هزيلــةٍ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫وهشـ ٍـة بالنســبة لقض ّيـ ِـة اإلنســان ّية والعدالــة والحر ّيــة والكرامــة‪.‬‬ ‫وأخير ًا ‪..‬‬

‫هــذا مــا ســعى لــه النظــام الســوري‪ ،‬بتحالـ ٍ‬ ‫ـف س ـ ِّيئ الصيــت ضــدّ‬ ‫ّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫أهل ِ‬ ‫ِ‬ ‫أخــر َج َّ‬ ‫كل‬ ‫يكتــف بظلــم شــعبِه وقتلــه‪ ،‬بــل‬ ‫وشــعبه‪ ،‬فلــم‬ ‫ــه‬ ‫َ‬ ‫ـعب ط ّيـ ٍ‬ ‫ـاليب اإلجــرام والحقــد‪ ،‬فأفرغــه علــى شـ ٍ‬ ‫أسـ ِ‬ ‫ـب مســالم أراد‬ ‫فهجــره مــن وطنــه واســتلب أمالكــه‬ ‫يومــا أن يكــون حـ ًّـرا‬ ‫كريمــا؛ ّ‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫وصــادر حقوقــه‪ ،‬وجــاء بالعــدو اإليــراين الحاقــد الــذي صــب حقده‬ ‫إمبراطوريتــه المزعومــة‪،‬‬ ‫الدفيــن علــى أهــل الس ـنّة طم ًعــا يف إنشــاء‬ ‫ّ‬ ‫وقــد شــاركه يف حلمــه المشــؤوم الــروس‪ ،‬الذيــن احت ّلــوا البــاد‬ ‫وقراراتهــا‪ ،‬وجعلــوا عاليهــا ســافلها‪ ،‬طم ًعــا بخيراتهــا الوفيــرة‪.‬‬

‫المهجريــن العــزّل فقــد ســاحوا يف بــاد اهلل الواســعة‪ ،‬ليــس‬ ‫ّأمــا‬ ‫ّ‬ ‫همومــا ثقيلــة ال تطيقهــا قلوبهــم الضعيفــة‪،‬‬ ‫لهــم إال اهلل‪ ،‬حامليــن‬ ‫ً‬ ‫ـارا ف ّتــت يف نفوســهم وأفكارهــم وثقافتهــم وحضارتهــم‪،‬‬ ‫وورثــوا آثـ ً‬ ‫كل شــيء لديهــم‪ ،‬إال شــيئًا واحــدً ا أال وهــو أم ُل ُهــم بنصــرِ‬ ‫فتغ ّيــر ّ‬ ‫اهلل‪ ،‬ورغبتهــم يف نيـ ِ‬ ‫حريتهــم‪ ،‬واهلل غالــب علــى أمــره‪ ...‬والحمــد‬ ‫ـل ّ‬ ‫هلل رب العالميــن‪.‬‬ ‫‪31‬‬


‫التهجير القسري في سوريا‬ ‫الصورة رقم (‪)1‬‬

‫الصورة رقم (‪)2‬‬

‫الصورة رقم (‪)4‬‬

‫‪ . 8‬انتشــار اللجــان األمنيــة ونقــاط التفتيــش الشــيع ّية يف العاصمــة‪،‬‬ ‫وممارســاهتم السـ ّيئة علــى الحواجــز مــع أبنــاء دمشــق مــن أهــل‬ ‫الســنة(‪.((4‬‬

‫(المهجريــن)‬ ‫‪ . 9‬اســتغالل حالــة فقــر ســكان دمشــق وضيوفهــم‬ ‫ّ‬ ‫وتشــييعهم وتجنيدهــم يف ميليشــياهتم مقابــل مبالــغ زهيــدة‪.‬‬

‫‪ . 10‬تفريــغ مناطــق بأكملهــا مــن أهلهــا‪ ،‬وســيطرة الشــيعة عليهــا‪،‬‬ ‫كالقصيــر وحمــص والزبــداين وداريــا والمعضم ّيــة وحلــب‬ ‫والغوطــة الشــرق ّية والقلمــون ويلــدا وببيــا جنــوب دمشــق‪.‬‬ ‫‪ . 5‬تنظيــم مســيرات فاطم ّية وحســين ّية ألطفال ســوريين يشـ ِّيعوهنم‪،‬‬ ‫حملوهنــم أعــام حــزب اهلل‪ ،‬ورايــات طائفيــة‪ ،‬يجولــون هبم‬ ‫ثــم ُي ّ‬ ‫أحيــاء وأســواق دمشــق القديمــة(‪.((4‬‬ ‫الصورة رقم (‪)3‬‬

‫‪ . 11‬المجــازر الواســعة التــي طالــت مناطــق الســنة حصـ ًـرا‪ ،‬ويف كافــة‬ ‫المــدن الســورية‪.‬‬

‫أهــداف كال الطائفتــن (النصرييّة والصفويّة)‪:‬‬

‫إن الطائف ّيــة الشــيع ّية الصفو ّيــة التــي اجتاحــت بــا ًدا إســامية وعرب ّيــة‬ ‫متعــددة مثــل العــراق وســوريا ولبنــان واليمــن والبحريــن هدفهــا‪:‬‬ ‫ •نشر التش ّيع يف هذه البالد‪.‬‬

‫ •تحقيق حلمها يف بناء اإلمرباطور ّية الصفو ّية‪.‬‬

‫ •قتــل أهــل الســنّة وإبادهتــم‪ ،‬أو هتجيرهــم واالســتيالء علــى‬ ‫ممتلكا هتــم ‪.‬‬ ‫ •إهنــاء الوجــود العربــي‪ ،‬بدافــع قومــي فارســي يفــوق دافعهــم الديني‬ ‫لذلك‪.‬‬

‫ألئمــة‬ ‫‪ . 6‬انتشــار صــور لـــنصر اهلل‪ ،‬وخامنئــي‪ ،‬وصــور مزعومــة ّ‬ ‫الشــيعة‪ ،‬إضافــة إلــى الهتافــات الشــيع ّية يف أســواق دمشــق‪.‬‬ ‫‪ . 7‬إنشاء الحسينيات داخل سور القلعة يف دمشق(‪.((4‬‬

‫(‪  ((4‬انظر‪ :‬الصورة رقم (‪.)3‬‬ ‫(‪  ((4‬انظر‪ :‬تقرير السورية نت (عبد اهلل نظام أبرز أذرع إيران يف دمشق يشرتي عقارات لصالح إيران) ‪/51‬‬ ‫أيلول‪5102/‬‬

‫‪30‬‬

‫أ ّمــا الطائفــة النصير ّيــة التــي احتلــت ســوريا منــذ خمســين ســنة‬ ‫ون ّكلــت بأهــل الس ـنّة أشــدّ التنكيــل‪ ،‬فــإن هدفهــا مــن ذلــك إضعــاف‬ ‫الوجــود الســني وتقويــة طائفتهــا الضعيفة بشــتى الوســائل‪ ،‬وال وســيلة‬ ‫أقــرب إلــى تحقيــق هــذا الهــدف مــن توحيــد مصالحهــا مــع شــيعة‬ ‫المنطقــة وإيــران‪ ،‬فاتفقــوا علــى اجتثــاث أهــل السـنّة وزيــادة الروابــط‬ ‫بيــن أبنــاء الطائفتيــن الشــيعية والنصيريــة؛ رغــم مــا كان بينهم مــن عداء‬ ‫دينــي مســتحكم علــى مــدى التاريــخ‪ ،‬إذ يعتقــد الشــيعة كفــر النصيرية‪،‬‬ ‫(‪  ((4‬انظر‪ :‬الصورة رقم (‪.)4‬‬

‫التهجير القسري في سوريا‬ ‫وهــذا مــا يرجــح عــودة الحــرب بينهــم‬ ‫فــور انتهــاء مصلحــة أحــد الطرفيــن عنــد‬ ‫حليفــه اآلخــر‪.‬‬

‫وهكــذا يبــدو لنــا مــن المشــهد‬ ‫الســوري‪ ،‬مــا يخطــط ويعمــل عليــه‬ ‫ّ‬ ‫النصيريــة والشــيعة مــن محاولــة إلزالــة‬ ‫ـني يف ســوريا‪ ،‬بــل‬ ‫ـامي السـ ّ‬ ‫األثــر اإلسـ ّ‬ ‫ويف كل العالــم اإلســامي‪ ،‬فلــم يو ّفــروا‬ ‫جهــدً ا أو طريقــة إال اســتخدموها‬ ‫الحتــال المــدن الســنية وهنــب خيراهتــا‬ ‫وبنــاء مســتعمراهتم اإلجراميــة علــى‬ ‫أنقــاض المــدن الســورية المدمــرة‪.‬‬ ‫ملخص البحث‪:‬‬

‫بعــد هــذا الســرد لواقــع التهجيــر يف ســوريا‪ ،‬وبعــد هــذه الدراســة‬ ‫التفصيل ّيــة‪ ،‬ال بــد لنــا مــن تدويــن بعــض النقــاط التــي توصلنــا إليهــا‪:‬‬

‫ـعب بأكملــه ليــس هتجيـ ًـرا عبث ًّيــا‪ ،‬بل‬ ‫‪ . 1‬التهجيــر الــذي يتعـ ّـرض لــه شـ ٌ‬ ‫ـدروس‪.‬‬ ‫هــو مطــر ٌد مد ّبـ ٌـر ومـ‬ ‫ٌ‬ ‫ـري قــد أدانتــه جميع األنظمــة الدول ّيــة‪ ،‬والمنظمات‬ ‫‪ . 2‬التهجيـ ُـر القسـ ُّ‬ ‫الحقوق ّيــة‪ ،‬والقوانيــن الوضع ّيــة‪.‬‬ ‫تنوعــت طــرق اإلجــرام يف ســوريا‪ ،‬حتــى ُأجبِـ َـر أه ُلهــا علــى تــرك‬ ‫‪ّ . 3‬‬ ‫ٍ‬ ‫كّل شــيء‪ ،‬والنجــاة بأنفســهم ودينهــم وأعراضهــم وكرامتهــم‪.‬‬ ‫‪ . 4‬للتهجيــر أهــداف متنوعــة منهــا أهــداف اســتعمار ّي ٌة الحتــال‬ ‫وأهــداف سياســ ّي ٌة إلنشــاء مناطــق نفــوذ‬ ‫البلــد وهنــب خيراتــه‪،‬‬ ‫ٌ‬ ‫وتحالفــات جديــدة‪ ،‬وأهــداف دينيــة طائفيــة تتمثــل برغبـ ٍـة إيرانيــةٍ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ــة الفارســية‪ِ،‬‬ ‫إنشــاء دولتهــا الصفوي ِ‬ ‫والهيمنــة علــى الشــرقِ‬ ‫يف‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫األوســط‪ِ.‬‬ ‫دور مهـ ٌّـم يف التهجير‬ ‫‪ . 5‬إن الالعبيــن البارزيــن يف ســوريا والذيــن لهم ٌ‬ ‫ـف هو ّيتهــم ّ‬ ‫كل يــوم‪ ،‬وتظهـ ُـر‬ ‫بشــكل مباشــر أو غيــر مباشــر‪ ،‬تنكشـ ُ‬ ‫عور ُت ُهــم مــن خــال اعتدائهــم أو خذالهنــم للشــعب المظلــوم‪،‬‬ ‫وركوهنــم لمصالحهــم الفاشــ ّية‪ ،‬ومــن هــؤالء‪ :‬األمــم المتحــدة‬ ‫ـوري‪ ،‬وإيــران وحــزب اهلل‪ ،‬وأمريــكا وروســيا‪.‬‬ ‫والنظــام السـ ّ‬ ‫ـار نفسـ ّي ٌة جعلــت‬ ‫‪ . 6‬للتهجيــر آثــار كثيــرة علــى أبنائنــا وأ ّمتنــا‪ ،‬منهــا آثـ ٌ‬ ‫ِ‬ ‫الكثيريــن مــن المهجريــن بحاجـ ٍـة لعــاجٍ نفسـ ّـي وإعــادة تأهي ـلٍ‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫األســر‬ ‫فشــردت‬ ‫َ‬ ‫وآثــار اجتماع ّيــ ٌة جعلــت الجماعــات أفــرا ًدا‪ّ ،‬‬ ‫ٌ‬ ‫ِ‬ ‫وآثــار طائف ّيــةٌ‬ ‫ــرت ثقافت َُهــم وأخالقهــم‪،‬‬ ‫وأفســدَ ت‬ ‫النــاس وغ ّي ْ‬ ‫َ‬ ‫ٌ‬ ‫حيــث ّ‬ ‫ـوري‪.‬‬ ‫تفشــى المـ ُ‬ ‫ـوي بيــن أبنــاء الشــعب السـ ِّ‬ ‫ـرض الصفـ ُّ‬

‫ِّ‬ ‫ِّ‬ ‫النصيــري ّ‬ ‫ُ‬ ‫أن اليهــو َد‬ ‫والمحتــل‬ ‫المحتــل الصهيــوينِّ‬ ‫الفــرق بيــن‬ ‫‪. 7‬‬ ‫ِّ‬ ‫هجــروا أبنــا َء فلســطين (أصحــاب األرض)‪ ،‬لجمــع أبنــاء ملتهــم‬ ‫ّ‬

‫حي بابا عمرو ‪ -‬حمص‬

‫ـري يهجــر‬ ‫وتخليصهــم مــن الشــتات‪ ،‬بينمــا نجــد النظــام النصيـ ّ‬ ‫أبنــاء وطن ِ ِ‬ ‫ــه (أصحــاب الديــار) ويشــتّتهم يف ّ‬ ‫كل بقــاع العالــم‬ ‫ليوطــن يف مدهنــم شــيعة مرتزقــة يســاعدونه يف الحفــاظ علــى‬ ‫ســلطته‪.‬‬

‫‪ .8‬علينــا أال نــرك العمــل علــى المســتوى الدولــي مــن خــال‬ ‫الضغــط علــى جميــع المحاكِـ ِ‬ ‫ـم والمن ّظمــات والهيئــات الدول ّيــة‬ ‫والقضائ ّيــة والقانون ّيــة‪ ،‬لتُس ـ ّل َط الضــوء علــى قض ّيتنــا الســورية‪،‬‬ ‫وتقــوم بواجبهــا اإلنســاين يف الوقــوف يف وجــه ظالـ ٍ‬ ‫ـف معــه‬ ‫ـم تقـ ُ‬ ‫كــرى الــدول لمــآرب ومصالــح ومكاســب سياســية هزيلــةٍ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫وهشـ ٍـة بالنســبة لقض ّيـ ِـة اإلنســان ّية والعدالــة والحر ّيــة والكرامــة‪.‬‬ ‫وأخير ًا ‪..‬‬

‫هــذا مــا ســعى لــه النظــام الســوري‪ ،‬بتحالـ ٍ‬ ‫ـف س ـ ِّيئ الصيــت ضــدّ‬ ‫ّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫أهل ِ‬ ‫ِ‬ ‫أخــر َج َّ‬ ‫كل‬ ‫يكتــف بظلــم شــعبِه وقتلــه‪ ،‬بــل‬ ‫وشــعبه‪ ،‬فلــم‬ ‫ــه‬ ‫َ‬ ‫ـعب ط ّيـ ٍ‬ ‫ـاليب اإلجــرام والحقــد‪ ،‬فأفرغــه علــى شـ ٍ‬ ‫أسـ ِ‬ ‫ـب مســالم أراد‬ ‫فهجــره مــن وطنــه واســتلب أمالكــه‬ ‫يومــا أن يكــون حـ ًّـرا‬ ‫كريمــا؛ ّ‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫وصــادر حقوقــه‪ ،‬وجــاء بالعــدو اإليــراين الحاقــد الــذي صــب حقده‬ ‫إمبراطوريتــه المزعومــة‪،‬‬ ‫الدفيــن علــى أهــل الس ـنّة طم ًعــا يف إنشــاء‬ ‫ّ‬ ‫وقــد شــاركه يف حلمــه المشــؤوم الــروس‪ ،‬الذيــن احت ّلــوا البــاد‬ ‫وقراراتهــا‪ ،‬وجعلــوا عاليهــا ســافلها‪ ،‬طم ًعــا بخيراتهــا الوفيــرة‪.‬‬

‫المهجريــن العــزّل فقــد ســاحوا يف بــاد اهلل الواســعة‪ ،‬ليــس‬ ‫ّأمــا‬ ‫ّ‬ ‫همومــا ثقيلــة ال تطيقهــا قلوبهــم الضعيفــة‪،‬‬ ‫لهــم إال اهلل‪ ،‬حامليــن‬ ‫ً‬ ‫ـارا ف ّتــت يف نفوســهم وأفكارهــم وثقافتهــم وحضارتهــم‪،‬‬ ‫وورثــوا آثـ ً‬ ‫كل شــيء لديهــم‪ ،‬إال شــيئًا واحــدً ا أال وهــو أم ُل ُهــم بنصــرِ‬ ‫فتغ ّيــر ّ‬ ‫اهلل‪ ،‬ورغبتهــم يف نيـ ِ‬ ‫حريتهــم‪ ،‬واهلل غالــب علــى أمــره‪ ...‬والحمــد‬ ‫ـل ّ‬ ‫هلل رب العالميــن‪.‬‬ ‫‪31‬‬


‫خطوة نحو تطوير علومنا اللغوية‬

‫ملف العدد‬

‫ٌ‬ ‫نحو تطوير علومِ نا ال ّلغوية‬ ‫خطوة َ‬

‫ُ‬ ‫الص ُ‬ ‫العربية‬ ‫غة‬ ‫يغ ال ّز‬ ‫ِ‬ ‫مانية يف ال ّل ِ‬ ‫ِّ‬ ‫ٌ‬ ‫ِد ٌ‬ ‫غة الترك ّي ِة‬ ‫راسة‬ ‫تقابلية َ‬ ‫مع ال ّل ِ‬

‫محمد علي النجار ‪ -‬محرر مجلة مقاربات ‪ -‬باحث ماجستير‬

‫ ‬ ‫إن المعارف للمعــالي ســ ّلــــــــم‬

‫ ‬ ‫والعلم زينة أهله بيــن الــــــــورى‬

‫وأولو المعارف يجهدون لينعموا‬ ‫سـيان فيــه أخــو ِ‬ ‫الغنــى والمعــــد ُم‬ ‫ّ‬

‫ ‬ ‫فالشمس تطلع يف هنار مشـــــــرق‬

‫والبــدر ال يخفيــه ليـ ٌـل مظلــــــــــم ُ‬

‫ ‬ ‫وأخو العال يسعى فيدرك ما ابتغى‬

‫وســواه مــن أيامــه ‪ ،‬يتظ ّلـــــــــــم‬

‫ ‬ ‫ال فخر يف نسب لمن لم يفتخـــــر‬

‫الناب ّ‬ ‫ذل الضيغـــ ُـم‬ ‫بالعلــم ‪ ،‬لوال ُ‬

‫ ‬ ‫غدوت تلومهـــــم‬ ‫والخاملون إذا ْ‬

‫ّــــم‬ ‫حســبوك يف أســماعهم ‪ ،‬ترتن ُ‬

‫ ‬ ‫فاصدم جهالتهم بعلمك إنّمــــــــا‬

‫أحـــــ َـز ُم‬ ‫صد ُم الجهالة بالمعارف ْ‬

‫ ‬ ‫يف الناس أحياء كأموات الوغــــى‬

‫ْ‬ ‫ ‬ ‫واخــدُ م بـــالد ًا أنت من أبنائــــــها‬

‫ ‬ ‫وامأل فؤادك رحمة لذوي األسى‬

‫ْ‬ ‫وخـ ُـز األسـنّة فيهـ ُـم ال يؤلـــــــــــ ُـم‬ ‫إن البــــاد بأهلــــــــها تتقـــــــــدم‬

‫ال يرحم الرحمن من ال يرحــــــ ُـم‬

‫مصطفى صادق الرافعي‬

‫ ‬

‫مقدمة‬

‫إن الصيــغ الزمانيــة التــي يحتــاج إليهــا البشــر للتعبيــر عــن احتياجاهتــم‬ ‫اليوميــة تــكاد تكــون واحــدة‪ ،‬وهــذا القانــون ينطبــق علــى الناطقيــن بــكل‬ ‫مــن اللغــة العربيــة والرتكيــة واإلنجليزيــة والفرنســية وغيرهــا‪ ...‬ولكــن‬ ‫الفــرق بيــن العربيــة واللغــات األخــرى األكثــر شــيو ًعا يف العالــم؛ أن‬ ‫العربيــة لــم تتغيــر منــذ نــزل القــرآن هبــا‪ ،‬بينمــا تغيــرت لغــات األقــوام‬ ‫األخــرى‪ ،‬والفــرق بيــن علمــاء اللغــة عنــد العــرب وغيرهــم أن العــرب‬ ‫مــا زالــوا مرتبطيــن بالتقســيم النحــوي للفعــل (مـ ٍ‬ ‫ـاض ومضــارع وأمــر)‪،‬‬ ‫وقــد قصــروا يف بنــاء علــم جديــد للغــة العربيــة يعلــم العــرب لغتهــم‬ ‫الفصحــى‪ ،‬ويعمــل جنبــا إلــى جنــب مــع علــم النحــو يف الحفــاظ علــى‬ ‫قصــر العــرب أجيــاال يف تجديــد‬ ‫اللغــة ودفعهــا إلــى األمــام‪ ...‬ويف حيــن َّ‬ ‫علــوم اللغــة فإننــا نجــد أبنــاء األمــم األخــرى قــد أعــادوا هيكلــة لغاهتــم‬ ‫منطقــي يســير‪ ،‬إذ‬ ‫علمــي‬ ‫وقدموهــا ‪-‬ألبنائهــم وغيرهــم‪ -‬يف نظــام‬ ‫ٍّ‬ ‫ٍّ‬ ‫نجدهــم يقســمون األفعــال والصيــغ الزمانيــة والرتاكيــب يف لغاهتــم َوفــق‬ ‫الوظائــف والمعــاين التــي تؤديهــا يف ٍّ‬ ‫كل مــن أزمنــة الماضــي والحاضــر‬ ‫والمســتقبل‪ ،‬ويوزعــون الرتاكيــب علــى الوظائــف التــي تؤديهــا‪.‬‬ ‫إنــه لــدى مقارنــة الصيــغ الزمانيــة البســيطة والمركبــة يف اللغــة العربيــة‬ ‫بالرتكيــة واإلنجليزيــة أو الفرنســية نجدهــا ال تختلــف مــن الجهــة‬ ‫الوظيفيــة أو الدالليــة‪ ،‬لكــن قــد تختلــف يف عــدِّ بعــض الرتاكيــب أزمنــة‬ ‫خاصــة يف حيــن ال تعدّ هــا لغــ ٌة أخــرى‪ ...‬ولكــن علــى العمــوم نجــد‬ ‫التقســيم الرتكــي لألزمنــة هــو األقــرب إلــى اللغــة العربيــة‪.‬‬ ‫لــدى دراســتنا ل ُّلغــات العالم ّيــة المتقدّ مــة نجــد العمــدة يف التقســيم‬ ‫الزمــاين فيهــا يعــود إلــى أمريــن‪ ،‬أحدهمــا الزمــن والثــاين الصيغــة‪.‬‬

‫إن التقســيم الداللــي أو الوظيفــي لألســاليب اللغويــة هــو األســاس‬ ‫الــذي ينبغــي أن يقــوم عليــه علــم اللغــة المجــرد‪ ،‬الــذي يعلــم اللغــة‬ ‫كوســيلة تواصــل بشــري‪ ،‬بينمــا يعتمــد النحــو يف تصنيفه لمفــردات اللغة‬ ‫وتراكيبهــا الشــكل الصــريف للكلمــات أحيانــا ‪-‬كتقســيمه األفعــال إلــى‬ ‫مــاض ومضــارع وأمــر‪ -‬وحركــة الحــرف األخيــر غالبــا‪ ،‬وهــو مــا يعــرف‬ ‫‪32‬‬

‫بنظريــة العامــل ومــا تتضمنــه مــن علــة وعامــل ومعلــول وخالفــات‬ ‫فيهــا‪ ،‬ولهــذا تعــاين كتــب تعليــم اللغــة العربيــة للعــرب أو لغيرهــم مــن‬ ‫االزدواجيــة يف محاولتهــا التوفيــق بيــن حاجاتنــا اللغويــة المبنيــة علــى‬ ‫الوظائــف والــدالالت واالســتخدام وبيــن علــم النحــو المبنــي علــى‬ ‫نظــام الصــرف والعامــل وفلســفتهما‪.‬‬

‫ـلطت الضــو َء يف هــذا البحــث المختصــر علــى الصيــغ الزمانيــة‬ ‫وقــد سـ ُ‬ ‫يف اللغــة العربيــة مقارنــة باللغــة الرتكيــة خاصــة‪ ،‬وقدَّ مــت لذلــك بمبحث‬ ‫خــاص عــن أهــم األســس والمرتكــزات التــي تمكننــا مــن بنــاء (علــم‬ ‫اللغــة العربيــة) المجــرد ليــؤدي خدماتــه جن ًبــا إلــى جنــب مع علــوم اللغة‬ ‫األخــرى‪ ،‬وقــد تــم ذلــك يف مبحثيــن وخاتمــة‪.‬‬ ‫المبحــث األول‪( :‬الحاجــة إلــى تجديــد علــوم اللغــة) وفيــه ثالثــة‬ ‫مطالــب‪ ،‬المطلــب األول‪ :‬كيــف نقــدر حاجتنــا إلــى التطويــر اللغــوي‪،‬‬ ‫المطلــب الثــاين‪ :‬الدعــوات إلــى تجديــد علــوم اللغــة‪ ،‬المطلــب الثالــث‪:‬‬ ‫أصــول يف منهجيــة بنائنــا اللغــوي‪.‬‬ ‫المبحــث الثــاين‪( :‬صيــغ األزمنــة يف اللغــة العربيــة) وفيــه ثالثــة مطالــب‪،‬‬ ‫المطلــب األول‪ :‬األزمنــة يف الجملــة الفعليــة‪ ،‬المطلب الثــاين‪ :‬األزمنة يف‬ ‫الجملــة االســمية‪ ،‬المطلــب الثالــث‪ :‬األزمنــة المحكية‪.‬‬ ‫وأخيرا خاتمة وفيها أهم النتائج والتوصيات‪.‬‬

‫املبحث األول‬ ‫حاجتنا إىل تجديد علوم اللغة‬

‫تمتــاز عصــور التقــدم العلمــي واالســتقرار الحضــاري بســير العلــوم‬ ‫َوفــق األهــداف المبنيــة علــى حاجــات اإلنســان والمجتمــع‪ ،‬بينمــا ال‬ ‫الحضــاري‬ ‫تجــد أهدا ًفــا حقيق َّيــ ًة يف فــرات االضطــراب والتخلــف‬ ‫ِّ‬ ‫نتيجــة لعــدم إدراك األمــم لحاجاهتــا‪ ...‬إذ إن اإلنســان الــذي يعيــش‬ ‫يف بيئــة مضطربــة يفقــد القــدرة علــى رؤيــة المســتقبل‪ ...‬وعلــى فــرض‬ ‫أن العلمــاء الذيــن يعيشــون يف بيئــة متخلفــة أدركــوا حاجتهــم وقامــوا‬ ‫‪33‬‬


‫خطوة نحو تطوير علومنا اللغوية‬

‫ملف العدد‬

‫ٌ‬ ‫نحو تطوير علومِ نا ال ّلغوية‬ ‫خطوة َ‬

‫ُ‬ ‫الص ُ‬ ‫العربية‬ ‫غة‬ ‫يغ ال ّز‬ ‫ِ‬ ‫مانية يف ال ّل ِ‬ ‫ِّ‬ ‫ٌ‬ ‫ِد ٌ‬ ‫غة الترك ّي ِة‬ ‫راسة‬ ‫تقابلية َ‬ ‫مع ال ّل ِ‬

‫محمد علي النجار ‪ -‬محرر مجلة مقاربات ‪ -‬باحث ماجستير‬

‫ ‬ ‫إن المعارف للمعــالي ســ ّلــــــــم‬

‫ ‬ ‫والعلم زينة أهله بيــن الــــــــورى‬

‫وأولو المعارف يجهدون لينعموا‬ ‫سـيان فيــه أخــو ِ‬ ‫الغنــى والمعــــد ُم‬ ‫ّ‬

‫ ‬ ‫فالشمس تطلع يف هنار مشـــــــرق‬

‫والبــدر ال يخفيــه ليـ ٌـل مظلــــــــــم ُ‬

‫ ‬ ‫وأخو العال يسعى فيدرك ما ابتغى‬

‫وســواه مــن أيامــه ‪ ،‬يتظ ّلـــــــــــم‬

‫ ‬ ‫ال فخر يف نسب لمن لم يفتخـــــر‬

‫الناب ّ‬ ‫ذل الضيغـــ ُـم‬ ‫بالعلــم ‪ ،‬لوال ُ‬

‫ ‬ ‫غدوت تلومهـــــم‬ ‫والخاملون إذا ْ‬

‫ّــــم‬ ‫حســبوك يف أســماعهم ‪ ،‬ترتن ُ‬

‫ ‬ ‫فاصدم جهالتهم بعلمك إنّمــــــــا‬

‫أحـــــ َـز ُم‬ ‫صد ُم الجهالة بالمعارف ْ‬

‫ ‬ ‫يف الناس أحياء كأموات الوغــــى‬

‫ْ‬ ‫ ‬ ‫واخــدُ م بـــالد ًا أنت من أبنائــــــها‬

‫ ‬ ‫وامأل فؤادك رحمة لذوي األسى‬

‫ْ‬ ‫وخـ ُـز األسـنّة فيهـ ُـم ال يؤلـــــــــــ ُـم‬ ‫إن البــــاد بأهلــــــــها تتقـــــــــدم‬

‫ال يرحم الرحمن من ال يرحــــــ ُـم‬

‫مصطفى صادق الرافعي‬

‫ ‬

‫مقدمة‬

‫إن الصيــغ الزمانيــة التــي يحتــاج إليهــا البشــر للتعبيــر عــن احتياجاهتــم‬ ‫اليوميــة تــكاد تكــون واحــدة‪ ،‬وهــذا القانــون ينطبــق علــى الناطقيــن بــكل‬ ‫مــن اللغــة العربيــة والرتكيــة واإلنجليزيــة والفرنســية وغيرهــا‪ ...‬ولكــن‬ ‫الفــرق بيــن العربيــة واللغــات األخــرى األكثــر شــيو ًعا يف العالــم؛ أن‬ ‫العربيــة لــم تتغيــر منــذ نــزل القــرآن هبــا‪ ،‬بينمــا تغيــرت لغــات األقــوام‬ ‫األخــرى‪ ،‬والفــرق بيــن علمــاء اللغــة عنــد العــرب وغيرهــم أن العــرب‬ ‫مــا زالــوا مرتبطيــن بالتقســيم النحــوي للفعــل (مـ ٍ‬ ‫ـاض ومضــارع وأمــر)‪،‬‬ ‫وقــد قصــروا يف بنــاء علــم جديــد للغــة العربيــة يعلــم العــرب لغتهــم‬ ‫الفصحــى‪ ،‬ويعمــل جنبــا إلــى جنــب مــع علــم النحــو يف الحفــاظ علــى‬ ‫قصــر العــرب أجيــاال يف تجديــد‬ ‫اللغــة ودفعهــا إلــى األمــام‪ ...‬ويف حيــن َّ‬ ‫علــوم اللغــة فإننــا نجــد أبنــاء األمــم األخــرى قــد أعــادوا هيكلــة لغاهتــم‬ ‫منطقــي يســير‪ ،‬إذ‬ ‫علمــي‬ ‫وقدموهــا ‪-‬ألبنائهــم وغيرهــم‪ -‬يف نظــام‬ ‫ٍّ‬ ‫ٍّ‬ ‫نجدهــم يقســمون األفعــال والصيــغ الزمانيــة والرتاكيــب يف لغاهتــم َوفــق‬ ‫الوظائــف والمعــاين التــي تؤديهــا يف ٍّ‬ ‫كل مــن أزمنــة الماضــي والحاضــر‬ ‫والمســتقبل‪ ،‬ويوزعــون الرتاكيــب علــى الوظائــف التــي تؤديهــا‪.‬‬ ‫إنــه لــدى مقارنــة الصيــغ الزمانيــة البســيطة والمركبــة يف اللغــة العربيــة‬ ‫بالرتكيــة واإلنجليزيــة أو الفرنســية نجدهــا ال تختلــف مــن الجهــة‬ ‫الوظيفيــة أو الدالليــة‪ ،‬لكــن قــد تختلــف يف عــدِّ بعــض الرتاكيــب أزمنــة‬ ‫خاصــة يف حيــن ال تعدّ هــا لغــ ٌة أخــرى‪ ...‬ولكــن علــى العمــوم نجــد‬ ‫التقســيم الرتكــي لألزمنــة هــو األقــرب إلــى اللغــة العربيــة‪.‬‬ ‫لــدى دراســتنا ل ُّلغــات العالم ّيــة المتقدّ مــة نجــد العمــدة يف التقســيم‬ ‫الزمــاين فيهــا يعــود إلــى أمريــن‪ ،‬أحدهمــا الزمــن والثــاين الصيغــة‪.‬‬

‫إن التقســيم الداللــي أو الوظيفــي لألســاليب اللغويــة هــو األســاس‬ ‫الــذي ينبغــي أن يقــوم عليــه علــم اللغــة المجــرد‪ ،‬الــذي يعلــم اللغــة‬ ‫كوســيلة تواصــل بشــري‪ ،‬بينمــا يعتمــد النحــو يف تصنيفه لمفــردات اللغة‬ ‫وتراكيبهــا الشــكل الصــريف للكلمــات أحيانــا ‪-‬كتقســيمه األفعــال إلــى‬ ‫مــاض ومضــارع وأمــر‪ -‬وحركــة الحــرف األخيــر غالبــا‪ ،‬وهــو مــا يعــرف‬ ‫‪32‬‬

‫بنظريــة العامــل ومــا تتضمنــه مــن علــة وعامــل ومعلــول وخالفــات‬ ‫فيهــا‪ ،‬ولهــذا تعــاين كتــب تعليــم اللغــة العربيــة للعــرب أو لغيرهــم مــن‬ ‫االزدواجيــة يف محاولتهــا التوفيــق بيــن حاجاتنــا اللغويــة المبنيــة علــى‬ ‫الوظائــف والــدالالت واالســتخدام وبيــن علــم النحــو المبنــي علــى‬ ‫نظــام الصــرف والعامــل وفلســفتهما‪.‬‬

‫ـلطت الضــو َء يف هــذا البحــث المختصــر علــى الصيــغ الزمانيــة‬ ‫وقــد سـ ُ‬ ‫يف اللغــة العربيــة مقارنــة باللغــة الرتكيــة خاصــة‪ ،‬وقدَّ مــت لذلــك بمبحث‬ ‫خــاص عــن أهــم األســس والمرتكــزات التــي تمكننــا مــن بنــاء (علــم‬ ‫اللغــة العربيــة) المجــرد ليــؤدي خدماتــه جن ًبــا إلــى جنــب مع علــوم اللغة‬ ‫األخــرى‪ ،‬وقــد تــم ذلــك يف مبحثيــن وخاتمــة‪.‬‬ ‫المبحــث األول‪( :‬الحاجــة إلــى تجديــد علــوم اللغــة) وفيــه ثالثــة‬ ‫مطالــب‪ ،‬المطلــب األول‪ :‬كيــف نقــدر حاجتنــا إلــى التطويــر اللغــوي‪،‬‬ ‫المطلــب الثــاين‪ :‬الدعــوات إلــى تجديــد علــوم اللغــة‪ ،‬المطلــب الثالــث‪:‬‬ ‫أصــول يف منهجيــة بنائنــا اللغــوي‪.‬‬ ‫المبحــث الثــاين‪( :‬صيــغ األزمنــة يف اللغــة العربيــة) وفيــه ثالثــة مطالــب‪،‬‬ ‫المطلــب األول‪ :‬األزمنــة يف الجملــة الفعليــة‪ ،‬المطلب الثــاين‪ :‬األزمنة يف‬ ‫الجملــة االســمية‪ ،‬المطلــب الثالــث‪ :‬األزمنــة المحكية‪.‬‬ ‫وأخيرا خاتمة وفيها أهم النتائج والتوصيات‪.‬‬

‫املبحث األول‬ ‫حاجتنا إىل تجديد علوم اللغة‬

‫تمتــاز عصــور التقــدم العلمــي واالســتقرار الحضــاري بســير العلــوم‬ ‫َوفــق األهــداف المبنيــة علــى حاجــات اإلنســان والمجتمــع‪ ،‬بينمــا ال‬ ‫الحضــاري‬ ‫تجــد أهدا ًفــا حقيق َّيــ ًة يف فــرات االضطــراب والتخلــف‬ ‫ِّ‬ ‫نتيجــة لعــدم إدراك األمــم لحاجاهتــا‪ ...‬إذ إن اإلنســان الــذي يعيــش‬ ‫يف بيئــة مضطربــة يفقــد القــدرة علــى رؤيــة المســتقبل‪ ...‬وعلــى فــرض‬ ‫أن العلمــاء الذيــن يعيشــون يف بيئــة متخلفــة أدركــوا حاجتهــم وقامــوا‬ ‫‪33‬‬


‫خطوة نحو تطوير علومنا اللغوية‬ ‫بتحديدهــا فإهنــم ال يملكــون القــدرة علــى تغييــر المســيرة العلميــة التــي‬ ‫ورثوهــا عمــن ســبقهم وفــق احتياجاهتــم‪ ،‬والســبب يف ذلــك شــيوع‬ ‫تقديــس وســائل الحيــاة وشــكلياهتا علــى حســاب مقاصدهــا وروحهــا‪،‬‬ ‫ـوري صفــة العلــم‪ ،‬وتختلــط مفاهيمهــم ويفقــدون‬ ‫فيغــدو التقليــد الصـ ُّ‬ ‫القــدرة علــى التمييــز بيــن االتبــاع الــذي يعنــي ســلوك طريــق الســابقين‬ ‫نفســه‪ ،‬وبيــن التقليــد الــذي يعنــي المحافظــة علــى الصــورة الموروثــة‬ ‫وتــرك الطريــق الــذي وصــل مــن خاللــه الســابقون إلــى أهدافهــم‪.‬‬ ‫ولقــد تأســس علــم النحــو العربــي يف زمــن الســلف الصالــح‪ ،‬يف القــرن‬ ‫األول الهجــري‪ ،‬وفــق حاجــة ذلــك العصــر لحمايــة اللغــة العربيــة مــن‬ ‫الخطــأ بســبب الدخيــل عليهــا‪ ،‬مــن خــال شــرح اللغــة وتعليــم النــاس‬ ‫ضبــط أواخــر الكلمــات‪ ،‬بينمــا كانــت مهمــة علــم الصــرف تعريــف‬ ‫المتعلميــن علــى طــرق بنــاء الكلمــة وداللتهــا مفــردة‪ ،‬يف حيــن كان علــم‬ ‫اإلمــاء مخصصــا لضبــط قواعــد الرســم العربــي‪ ،‬وأمــا علــم البالغــة‬ ‫فقــد أســس لدراســة المعــاين الحقيقيــة والمجازيــة للــكالم العربــي‪ ،‬ومــا‬ ‫زالــت علــوم اللغــة إلــى اليــوم تــؤدي مهمتهــا يف خدمــة اللغــة العربيــة‪،‬‬ ‫ولكــن المشــكلة يف أن اللغــة بشــكلها األصلــي بــدأت تفقــد وجودهــا؛‬ ‫ولهــذا بــدأت تظهــر فجــوة كبيــرة بيــن المتعلــم وعلــوم اللغــة إذ غــدت‬ ‫هــذه العلــوم صفــة لواقــع افرتاضــي غيــر موجــود‪.‬‬ ‫املطلب األول‪ :‬كيف نقدر حاجتنا إىل التطوير اللغوي‬

‫نــكاد نكــون متفقيــن علــى أن علــم اللغــة العربيــة يحتــاج إلــى تطوير كما‬ ‫هــو حــال كل العلــوم اإلنســانية التــي تتغيــر مــن يــوم إلــى آخــر يف بنــاء‬ ‫متيــن يتطــاول بحثــا عــن الكمــال‪ ،‬وإن الســعي نحــو التغييــر أو التطويــر‬ ‫واإلنتــاج غالبــا مــا يســبقه إحســاس بالحاجــة إليــه‪ ،‬فمــا الحاجــة التــي‬ ‫تشــعرنا بوجــوب تطويــر علومنــا اللغويــة وتحديثهــا؟‬ ‫سأسلط الضوء هنا على حاجاتنا اللغوية يف ثالثة ميادين أساسية‪.‬‬

‫األول‪ :‬يف ميــدان تعليــم اللغــة للعــرب؛ إذ لــم تســتطع أدواتنــا اللغوية أن‬ ‫تحافــظ علــى لغتنــا فذهبــت الفصحــى وحلــت محلهــا لهجــات عاميــة‬ ‫رطينــة‪ ،‬ومنهــم مــن يعــزو ذلــك إلــى االختــاط باألمــم األخــرى‪ ،‬فمــا‬ ‫قدرتنــا علــى مواجهــة هــذا االختــاط األممــي أو آثــاره الممتــدة لمئــات‬ ‫الســنين؟ ولعــل مــن يقــول ذلــك يكــون محقــا إلــى درجــة مــا‪ ،‬ولكــن‬ ‫الســؤال المهــم؛ إذا كان هــذا واقعنــا الــذي ال مفــر منــه فهــل أوجدنــا‬ ‫مــا يحــل هــذه المشــكلة ويعيــد الفصحــى إلــى الحيــاة؟ والحقيقــة أن‬ ‫العلمــاء لــم يبذلــوا جهــو ًدا كافي ـ ًة يف ذلــك‪.‬‬

‫إن علــم النحــو الــذي يــراه كثيــرون العلــم األســاس يف تعليــم اللغــة‪ ،‬ال‬ ‫روحهــا‪ ،‬وال يهــب اللغــة لمــن يتعلمــه فكيــف‬ ‫يســتطيع أن يهــب اللغ ـ َة َ‬ ‫بمــن لــم يتعلمــه؟ ومــا أكثــر طالبنــا الذيــن تعلمــوا النحــو أعوا ًمــا‬ ‫وعجــزوا عــن الفصحــى؟ بــل وكــم عــدد األعاجــم الذيــن يتقنــون النحــو‬ ‫ومســائله أكثــر مِ َّمــن تعلمــه مــن العــرب وال يجيــد الســام ورده؟‬ ‫الثــاين‪ :‬الحاجــة الثانيــة نجدهــا يف ميــدان تعليــم اللغــة العربيــة لغيــر‬ ‫‪34‬‬

‫الناطقيــن هبــا‪ ...‬إذ إن ارتبــاط العــرب ولغتهــم باإلســام ومــا نتــج عــن‬ ‫ذلــك مــن تفاعــل حضــاري غيــر وجــه العالــم؛ جعلهــا لغــة عالميــة‬ ‫تحضـ ًـرا‪ ،‬وال يــزال عــدد‬ ‫متقدمــة تنافــس لغــات أقــوى األمــم وأكثرهــا ّ‬ ‫المقبليــن علــى تعلمهــا يــزداد يومــا بعــد يــوم‪ ،‬ولكنــه وكمــا يشــعر‬ ‫العاملــون يف مجــال تدريــس اللغــة للعــرب باالنفصــام التــام بيــن النحــو‬ ‫خاصــة وواقــع اللغــة‪ ،‬فــإن المعانــاة نفســها يجدهــا العاملــون يف مجــال‬ ‫تعليــم اللغــة العربيــة لغيــر الناطقيــن هبــا‪ ،‬وذلــك لالنفصــال التــام بيــن‬ ‫المســتويات اللغويــة والقواعــد العربيــة التــي تــدرس وفــق التقســيم‬ ‫النحــوي‪ ،‬حيــث يصــل كل مــن المعلــم والمتعلــم إلــى مرحلــة ‪-‬تبــدأ‬ ‫يف المســتوى المتوســط عــادة‪ -‬يشــعر فيهــا باالنفصــال التــام بيــن اللغــة‬ ‫وقواعدهــا‪.‬‬ ‫ثالثــا‪ :‬إن الميــدان الثالــث الــذي نشــعر فيــه بقصورنــا اللغــوي ويجعلنــا‬ ‫مجربيــن علــى قضــاء الوقــت للعمــل على تطويــر علومنــا اللغويــة ميدان‬ ‫الحضــارة‪ ،‬فــإن األمــة ال تبــدع وتنتــج خــارج لغتهــا‪ ،‬ونحــن العــرب ال‬ ‫يمكننــا أن نؤمــل هنضــة مســتقبلية بينمــا نبنــي أملنــا الحضــاري علــى‬ ‫اللغــات األجنبيــة‪ ،‬لهــذا ينبغــي أن تكــون لغتنــا قــادرة علــى مســايرة كل‬ ‫أنــواع التطــور اإلنســاين لعلــه يــأيت علينــا يــوم وندلــي بدلونــا فيــه‪.‬‬

‫إن أحــد أقــرب أشــكال تخلــف مناهجنــا اللغويــة أن تجــد الطالــب‬ ‫العربــي يقــدر علــى ممارســة اللغــة األجنبيــة والتكلــم هبــا بطالقــة مــع‬ ‫فهــم قواعدهــا وبنــاء تصــور متكامــل عنهــا خــال ســنة‪ ،‬وال يجيــد لغتــه‬ ‫الفصحــى أو علــم النحــو فقــط علــى الرغــم من دراســته ســنوات عــدة‪...‬‬ ‫وإن أحــد أســباب قــدرة طالبنــا العــرب علــى تعلــم اللغــة األجنبيــة‬ ‫وإتقاهنــا أكثــر مــن العربيــة؛ أنــه يتعلــم األجنبيــة لغــ ًة ‪-‬أي منظومــة‬ ‫متناســقة تحــوي نمــط كالم وتواصــل بشــري‪ -‬بينمــا يتعلــم العربيــة‬ ‫أثــرا حقيق ًّيــا يف واقعــه‬ ‫إحصــاء وفلســفة‬ ‫ومعنــى‪ ،‬وال يــرى لعلومهــا ً‬ ‫ً‬ ‫العملــي‪.‬‬

‫ـاري فعليهم‬ ‫وإن العــرب اليــوم إذا مــا أرادوا أن يمارســوا دورهــم الحضـ َّ‬ ‫ّأو ًل أن يعــودوا إلــى الفصحــى لتكــون لغــة جامعــة لهــم ولمــن يتعلــم‬ ‫لغتهــم‪ ...‬وإن العــودة إلــى الفصحــى تســتلزم منــا بنــاء علــم لغــوي‬ ‫جديــد مرتكـ ٍـز إلــى علومنــا اللغويــة الموروثــة‪ ،‬يعلــم اللغــة نفســها كمــا‬ ‫ً‬ ‫مدخــا إلــى علومنــا اللغو ّيــة‬ ‫ُتع َّلــم لغــات العالــم األخــرى‪ ،‬ويكــون‬ ‫االختصاص ّيــة‪.‬‬ ‫املطلب الثاين‪ :‬الدعوات إىل تجديد علوم اللغة‬

‫يعــد القاضــي الظاهــري ابــن مضــاء األندلســي المتــوىف ســنة ‪ 592‬هـــ‬ ‫أول مــن جهــر بنقــد النحــو العربــي ونظريــة العامــل والتعليــل التــي ُبنــي‬ ‫عليهــا‪ ،‬ولــم يصلنــا مــن حملتــه علــى النحــاة ســوى كتابــه (الــرد علــى‬ ‫النحــاة)‪ ،‬ولعــل تلــك الدعــوة قــد اختفــت تما ًمــا إلــى أن أعادهــا إلــى‬ ‫الحيــاة بعــض علمــاء اللغــة المعاصريــن تحــت ضغــط الحاجــة وعــدم‬ ‫قيــام علــم النحــو باحتياجاتنــا اللغويــة‪.‬‬ ‫مــن أبــرز مــن دعــا إلــى تجديد علــم النحــو ‪ -‬العلــم األســاس يف اللغة ‪-‬‬

‫خطوة نحو تطوير علومنا اللغوية‬ ‫الدكتــور شــوقي ضيــف يف كتابــه (تجديــد النحــو) وكانــت خطتــه تعتمــد‬ ‫يف جــزء كبيــر منهــا علــى إزالــة بعــض أبــواب النحــو وزيــادة بعضهــا‪،‬‬ ‫ومنهــم أيضــا الدكتــور تمــام حســان يف مجموعــة مــن مؤلفاتــه لعــل‬ ‫أبرزهــا كتابــه (اللغــة العربيــة معناهــا ومبناهــا)‪ ،‬والــذي بنــى فيــه رؤي ـ ًة‬ ‫جديــد ًة للنحــو العربـ ّـي‪ ،‬وتعــرض فيــه للعالقــة بيــن زمــن الفعــل وبنائــه‬ ‫واســمه(((‪ ،‬ومنهــم إبراهيــم مصطفــى يف كتابــه (إحياء النحــو)‪ ،‬وتبعهم يف‬ ‫ذلــك مجموعــة أخــرى مــن الباحثيــن‪ ،‬ومــن أبــرز من هتجــم علــى النحاة‬ ‫وكتبهــم يف عصرنــا الشــيخ علــي الطنطــاوي رحمــه اهلل يف مجلــة الرســالة‬ ‫حينمــا كتــب مقالــه الشــهير (آفــة اللغــة هــذا النحــو)‪.‬‬ ‫مصير جهود التجديد‪:‬‬

‫والحقيقــة أن محــاوالت هــؤالء العلمــاء تجديــد النحــو قــد ظهــرت‬ ‫نتيجــة إلدراك حاجتنــا إلــى التطويــر اللغــوي يف ظــل ضيــاع العربيــة‪،‬‬ ‫تصــو ًرا‬ ‫ولعــل يف دراســتهم للغــات األجنبيــة األخــرى مــا أعطاهــم‬ ‫ُّ‬ ‫عــن طــرق دراســة الرتاكيــب اللغويــة‪ ،‬فجــاءت جهودهــم التجديديــة‬ ‫محاولــة للتوفيــق بيــن مــا رأوه مــن تطــور لغــوي يف عالمهــم وبيــن قواعد‬ ‫النحــاة‪ ،‬ولكــن محاوالهتــم قــد عجــزت عــن إحــداث تغييــر حقيقــي يف‬ ‫مســيرة اللغــة لســببين‪ ،‬األول‪ :‬أهنــم انطلقــوا إلــى التجديــد اللغــوي مــن‬ ‫منطلقــات النحــاة القدامــى وليــس مــن منطلقــات مغايــرة‪ ،‬فلــم تخــرج‬ ‫تصوراهتــم عــن الطريقــة النحويــة يف المجمــل‪ ،‬والثــاين‪ :‬أن دعوهتــم‬ ‫للتجديــد كانــت يف مواجهــة النحــو‪ ،‬العلــم المتكامــل البنيــان علــى‬ ‫مــدى ثالثــة عشــر قر ًنــا مــن الزمــان‪ ،‬ممــا جعــل األكثريــة تغــض النظــر‬ ‫ـف آخــر مــن الباحثيــن يف جهودهــم‬ ‫عــن جهودهــم‪ ،‬يف حيــن رأى صنـ ٌ‬ ‫ـوي الــذي يمثــل عصــب العلــوم اللغويــة عنــد‬ ‫محاولـ ًة لهــدم البنــاء النحـ ّ‬ ‫تفهمهــا أحيا ًنــا‪.‬‬ ‫العــرب‪ ،‬فتــم رفضهــا حتــى دون ُّ‬ ‫إن رفــض مجمــل اللغو ّييــن لجهــود المجدّ ديــن ال يعنــي أبــدً ا أن‬ ‫جهودهــم قــد ذهبــت هبــا ًء فقــد قامــوا بأبحــاث دقيقــة ســتكون مفيــد ًة‬ ‫يف بنــاء علــم اللغــة التجريــدي الــذي ينبغــي أن يكــون مقدمــة غيــره مــن‬ ‫العلــوم اللغويــة‪.‬‬ ‫ما الحل؟‬

‫إن النحــاة لــم يخطئــوا أو َي ْق ُصــروا عــن فهــم العالقــة بيــن شــكل الكلمــة‬ ‫ومدلولهــا وخاصــة يف األفعــال‪ ،‬ولكنهــم بنــوا علــم اللغــة وف ًقــا لمعــارف‬ ‫زماهنــم وحاجاهتــم؛ بينمــا َق ُصــر الذيــن جــاؤوا بعدهــم عــن بنــاء علــم‬ ‫ـوي يمثــل معــارف عصرهــم ويخــدم حاجاتــه‪.‬‬ ‫لغـ ٍّ‬ ‫إن الحــل بحســب مــا خلــص إليــه البحــث‪ ،‬يكمــن يف بنــاء علــم جديــد‬ ‫للغــة ننطلــق فيــه مــن منطلقــات وأســس وظيفيــة‪ ،‬يعلــم اللغــة نفســها‬ ‫نمـ َ‬ ‫ـط تعبيــر وتواصــل بشــري‪ ،‬يكــون مقدمــة لعلــوم العربيــة أو معينــا لهــا‬ ‫ال بديــا‪ ،‬لنتجنــب المشــكلتين اللتيــن وقــع فيهمــا مــن دعــا ســاب ًقا إلــى‬ ‫التّجديــد اللغــوي‪.‬‬ ‫(((  ‪ -‬اللغة العربية معناها ومبناها طبعة دار الثقافة عام ‪(4991‬ص ‪ 042‬وما بعدها)‪.‬‬

‫املطلب الثالث‪ :‬كيف نطور اللغة العربية؟‬

‫علــى الرغــم مــن اتفاقنــا علــى الحاجــة لتطويــر اللغــة وتغييــر أســاليبنا‬ ‫التعليميــة فإننــا ســنختلف يف مفهــوم هــذا التطويــر أو التغييــر‪...‬‬ ‫وســأعرض هنــا مقرتحــي لتطويــر اللغــة العربيــة وفــق مجموعــة مــن‬ ‫المقدمــات والقوانيــن والمرتكــزات‪.‬‬ ‫أوال‪ :‬كيف تتطور العلوم اإلنسانية؟‬

‫إن تطويــر علــم مــا ال يقضــي بالضــرورة نســف بنيانــه القديــم أو الزيــادة‬ ‫عليــه أو تغييــره بتغيــر األزمــان‪ ...‬إن بعــض العلــوم يتــم تطويرهــا هبــدم‬ ‫األجــزاء التالفــة منهــا واالســتفادة مــن القديــم الصالــح يف إعــادة تشــييد‬ ‫أركاهنــا وفــق حاجــات البشــر‪ ،‬لكــن البعــض منهــا ال يقبــل الهــدم والبنــاء‬ ‫كعلــم الفيزيــاء مثــا وعلــم أصــول الفقــه والمنطــق والعلــوم الدينيــة‬ ‫الخربيــة المؤسســة علــى الغيــب‪ ،‬ألن أمثــال هــذه العلــوم مبنيــة علــى‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ـس والتجربــة والعقــل أو اإليمــان بالغيــب‪،‬‬ ‫مسـ ّلمات عقل ّيــة ثابتــة بالحـ ّ‬ ‫وإن إعــادة البحــث فيهــا عــر دراسـ ٍ‬ ‫ـات علميــة حديثــة لــن تقودنــا إال إلــى‬ ‫نفــس النتائــج التــي ســبق إليهــا األولــون‪.‬‬

‫ثانيا‪ :‬كيف تتطور اللغات؟‬ ‫إن اللغـ ِ‬ ‫ـات اإلنســاني َة عمو ًمــا تتعــرض لنوعيــن مــن التطويــر‪ ،‬أحدهمــا‬ ‫الهــدم والبنــاء‪ ،‬مــن خــال االســتغناء عــن بعــض أجــزاء اللغــة مــع مــرور‬ ‫العصــور والتعويــض عنهــا بجوانــب جديــدة‪ ،‬كمــا حــدث لكثيــر مــن‬ ‫اللغــات العالميــة إذ تغيــرت مــن فــرة ألخــرى كاإلنجليزيــة والرتكيــة‬ ‫والفرنســية وغيرهــا‪ ...‬النــوع الثــاين مــن التطويــر يكــون مــن خــال‬ ‫تحديــث طــرق عــرض اللغــة وتقســيمها وتقديمهــا بنــاء علــى علومهــا‬ ‫ومعارفهــا الســابقة‪.‬‬ ‫وإن الناظــر يف لغتنــا العربيــة وعلومهــا األصيلــة ‪-‬وخاصــة النحــو‪-‬‬ ‫يجدهــا مــن القســم الــذي ال يقبــل الهــدم والبناء وإعــادة تغيير أساســيات‬ ‫اللغــة كمــا هــو الحــال يف باقــي اللغــات‪ ،‬والســبب يف ذلــك ارتباطهــا‬ ‫الوثيــق بالقــرآن الكريــم وعلــوم اإلســام يف عالقــة متبادلــة بينهــا وبيــن‬ ‫الديــن؛ إذ َن َق َل ْت ـ ُه‪ ،‬وحفظهــا مــن التغييــر‪ ،‬حتــى إنــه قــد كُتبــت هبــا علــوم‬ ‫العــرب والمســلمين يف شــتّى مجــاالت الحضــارة والدّ يــن واألدب‬ ‫والتاريــخ والف ـ ِّن والسياســة ألربعــة عشــر قر ًنــا بــا تغ ّيــر فيهــا‪ ،‬فأصبــح‬ ‫التفكيــر هبــدم أجــزاء مــن علومهــا أو االســتغناء عنهــا والتعويــض بشــيء‬ ‫جديــد ضر ًبــا مــن الخيــال‪...‬‬ ‫ونتيجــة لحتميــة لغتنــا بشــكلها الفصيــح وبعلومهــا الموروثــة؛ فإنــه لــم‬ ‫يبــق لنــا طريــق لتحديثهــا ســوى تغييــر إعــادة عــرض قواعــد النطــق هبــا‬ ‫عــر دراســات أقــرب إلــى مقاصــد الــكالم اإلنســاين وأهدافــه ممــا هــو‬ ‫الواقــع يف علــم النحــو العربــي‪.‬‬ ‫ثالثا‪ :‬ما المنطلقات يف تطوير اللغة العربية؟‬

‫إن أساســنا يف تطويــر لغتنــا هــو مراقبــة مقاصــد المتكلميــن بالعربيــة‬ ‫لمعرفــة األســاليب التــي يعــرون مــن خاللهــا عــن المعــاين التــي‬ ‫‪35‬‬


‫خطوة نحو تطوير علومنا اللغوية‬ ‫بتحديدهــا فإهنــم ال يملكــون القــدرة علــى تغييــر المســيرة العلميــة التــي‬ ‫ورثوهــا عمــن ســبقهم وفــق احتياجاهتــم‪ ،‬والســبب يف ذلــك شــيوع‬ ‫تقديــس وســائل الحيــاة وشــكلياهتا علــى حســاب مقاصدهــا وروحهــا‪،‬‬ ‫ـوري صفــة العلــم‪ ،‬وتختلــط مفاهيمهــم ويفقــدون‬ ‫فيغــدو التقليــد الصـ ُّ‬ ‫القــدرة علــى التمييــز بيــن االتبــاع الــذي يعنــي ســلوك طريــق الســابقين‬ ‫نفســه‪ ،‬وبيــن التقليــد الــذي يعنــي المحافظــة علــى الصــورة الموروثــة‬ ‫وتــرك الطريــق الــذي وصــل مــن خاللــه الســابقون إلــى أهدافهــم‪.‬‬ ‫ولقــد تأســس علــم النحــو العربــي يف زمــن الســلف الصالــح‪ ،‬يف القــرن‬ ‫األول الهجــري‪ ،‬وفــق حاجــة ذلــك العصــر لحمايــة اللغــة العربيــة مــن‬ ‫الخطــأ بســبب الدخيــل عليهــا‪ ،‬مــن خــال شــرح اللغــة وتعليــم النــاس‬ ‫ضبــط أواخــر الكلمــات‪ ،‬بينمــا كانــت مهمــة علــم الصــرف تعريــف‬ ‫المتعلميــن علــى طــرق بنــاء الكلمــة وداللتهــا مفــردة‪ ،‬يف حيــن كان علــم‬ ‫اإلمــاء مخصصــا لضبــط قواعــد الرســم العربــي‪ ،‬وأمــا علــم البالغــة‬ ‫فقــد أســس لدراســة المعــاين الحقيقيــة والمجازيــة للــكالم العربــي‪ ،‬ومــا‬ ‫زالــت علــوم اللغــة إلــى اليــوم تــؤدي مهمتهــا يف خدمــة اللغــة العربيــة‪،‬‬ ‫ولكــن المشــكلة يف أن اللغــة بشــكلها األصلــي بــدأت تفقــد وجودهــا؛‬ ‫ولهــذا بــدأت تظهــر فجــوة كبيــرة بيــن المتعلــم وعلــوم اللغــة إذ غــدت‬ ‫هــذه العلــوم صفــة لواقــع افرتاضــي غيــر موجــود‪.‬‬ ‫املطلب األول‪ :‬كيف نقدر حاجتنا إىل التطوير اللغوي‬

‫نــكاد نكــون متفقيــن علــى أن علــم اللغــة العربيــة يحتــاج إلــى تطوير كما‬ ‫هــو حــال كل العلــوم اإلنســانية التــي تتغيــر مــن يــوم إلــى آخــر يف بنــاء‬ ‫متيــن يتطــاول بحثــا عــن الكمــال‪ ،‬وإن الســعي نحــو التغييــر أو التطويــر‬ ‫واإلنتــاج غالبــا مــا يســبقه إحســاس بالحاجــة إليــه‪ ،‬فمــا الحاجــة التــي‬ ‫تشــعرنا بوجــوب تطويــر علومنــا اللغويــة وتحديثهــا؟‬ ‫سأسلط الضوء هنا على حاجاتنا اللغوية يف ثالثة ميادين أساسية‪.‬‬

‫األول‪ :‬يف ميــدان تعليــم اللغــة للعــرب؛ إذ لــم تســتطع أدواتنــا اللغوية أن‬ ‫تحافــظ علــى لغتنــا فذهبــت الفصحــى وحلــت محلهــا لهجــات عاميــة‬ ‫رطينــة‪ ،‬ومنهــم مــن يعــزو ذلــك إلــى االختــاط باألمــم األخــرى‪ ،‬فمــا‬ ‫قدرتنــا علــى مواجهــة هــذا االختــاط األممــي أو آثــاره الممتــدة لمئــات‬ ‫الســنين؟ ولعــل مــن يقــول ذلــك يكــون محقــا إلــى درجــة مــا‪ ،‬ولكــن‬ ‫الســؤال المهــم؛ إذا كان هــذا واقعنــا الــذي ال مفــر منــه فهــل أوجدنــا‬ ‫مــا يحــل هــذه المشــكلة ويعيــد الفصحــى إلــى الحيــاة؟ والحقيقــة أن‬ ‫العلمــاء لــم يبذلــوا جهــو ًدا كافي ـ ًة يف ذلــك‪.‬‬

‫إن علــم النحــو الــذي يــراه كثيــرون العلــم األســاس يف تعليــم اللغــة‪ ،‬ال‬ ‫روحهــا‪ ،‬وال يهــب اللغــة لمــن يتعلمــه فكيــف‬ ‫يســتطيع أن يهــب اللغ ـ َة َ‬ ‫بمــن لــم يتعلمــه؟ ومــا أكثــر طالبنــا الذيــن تعلمــوا النحــو أعوا ًمــا‬ ‫وعجــزوا عــن الفصحــى؟ بــل وكــم عــدد األعاجــم الذيــن يتقنــون النحــو‬ ‫ومســائله أكثــر مِ َّمــن تعلمــه مــن العــرب وال يجيــد الســام ورده؟‬ ‫الثــاين‪ :‬الحاجــة الثانيــة نجدهــا يف ميــدان تعليــم اللغــة العربيــة لغيــر‬ ‫‪34‬‬

‫الناطقيــن هبــا‪ ...‬إذ إن ارتبــاط العــرب ولغتهــم باإلســام ومــا نتــج عــن‬ ‫ذلــك مــن تفاعــل حضــاري غيــر وجــه العالــم؛ جعلهــا لغــة عالميــة‬ ‫تحضـ ًـرا‪ ،‬وال يــزال عــدد‬ ‫متقدمــة تنافــس لغــات أقــوى األمــم وأكثرهــا ّ‬ ‫المقبليــن علــى تعلمهــا يــزداد يومــا بعــد يــوم‪ ،‬ولكنــه وكمــا يشــعر‬ ‫العاملــون يف مجــال تدريــس اللغــة للعــرب باالنفصــام التــام بيــن النحــو‬ ‫خاصــة وواقــع اللغــة‪ ،‬فــإن المعانــاة نفســها يجدهــا العاملــون يف مجــال‬ ‫تعليــم اللغــة العربيــة لغيــر الناطقيــن هبــا‪ ،‬وذلــك لالنفصــال التــام بيــن‬ ‫المســتويات اللغويــة والقواعــد العربيــة التــي تــدرس وفــق التقســيم‬ ‫النحــوي‪ ،‬حيــث يصــل كل مــن المعلــم والمتعلــم إلــى مرحلــة ‪-‬تبــدأ‬ ‫يف المســتوى المتوســط عــادة‪ -‬يشــعر فيهــا باالنفصــال التــام بيــن اللغــة‬ ‫وقواعدهــا‪.‬‬ ‫ثالثــا‪ :‬إن الميــدان الثالــث الــذي نشــعر فيــه بقصورنــا اللغــوي ويجعلنــا‬ ‫مجربيــن علــى قضــاء الوقــت للعمــل على تطويــر علومنــا اللغويــة ميدان‬ ‫الحضــارة‪ ،‬فــإن األمــة ال تبــدع وتنتــج خــارج لغتهــا‪ ،‬ونحــن العــرب ال‬ ‫يمكننــا أن نؤمــل هنضــة مســتقبلية بينمــا نبنــي أملنــا الحضــاري علــى‬ ‫اللغــات األجنبيــة‪ ،‬لهــذا ينبغــي أن تكــون لغتنــا قــادرة علــى مســايرة كل‬ ‫أنــواع التطــور اإلنســاين لعلــه يــأيت علينــا يــوم وندلــي بدلونــا فيــه‪.‬‬

‫إن أحــد أقــرب أشــكال تخلــف مناهجنــا اللغويــة أن تجــد الطالــب‬ ‫العربــي يقــدر علــى ممارســة اللغــة األجنبيــة والتكلــم هبــا بطالقــة مــع‬ ‫فهــم قواعدهــا وبنــاء تصــور متكامــل عنهــا خــال ســنة‪ ،‬وال يجيــد لغتــه‬ ‫الفصحــى أو علــم النحــو فقــط علــى الرغــم من دراســته ســنوات عــدة‪...‬‬ ‫وإن أحــد أســباب قــدرة طالبنــا العــرب علــى تعلــم اللغــة األجنبيــة‬ ‫وإتقاهنــا أكثــر مــن العربيــة؛ أنــه يتعلــم األجنبيــة لغــ ًة ‪-‬أي منظومــة‬ ‫متناســقة تحــوي نمــط كالم وتواصــل بشــري‪ -‬بينمــا يتعلــم العربيــة‬ ‫أثــرا حقيق ًّيــا يف واقعــه‬ ‫إحصــاء وفلســفة‬ ‫ومعنــى‪ ،‬وال يــرى لعلومهــا ً‬ ‫ً‬ ‫العملــي‪.‬‬

‫ـاري فعليهم‬ ‫وإن العــرب اليــوم إذا مــا أرادوا أن يمارســوا دورهــم الحضـ َّ‬ ‫ّأو ًل أن يعــودوا إلــى الفصحــى لتكــون لغــة جامعــة لهــم ولمــن يتعلــم‬ ‫لغتهــم‪ ...‬وإن العــودة إلــى الفصحــى تســتلزم منــا بنــاء علــم لغــوي‬ ‫جديــد مرتكـ ٍـز إلــى علومنــا اللغويــة الموروثــة‪ ،‬يعلــم اللغــة نفســها كمــا‬ ‫ً‬ ‫مدخــا إلــى علومنــا اللغو ّيــة‬ ‫ُتع َّلــم لغــات العالــم األخــرى‪ ،‬ويكــون‬ ‫االختصاص ّيــة‪.‬‬ ‫املطلب الثاين‪ :‬الدعوات إىل تجديد علوم اللغة‬

‫يعــد القاضــي الظاهــري ابــن مضــاء األندلســي المتــوىف ســنة ‪ 592‬هـــ‬ ‫أول مــن جهــر بنقــد النحــو العربــي ونظريــة العامــل والتعليــل التــي ُبنــي‬ ‫عليهــا‪ ،‬ولــم يصلنــا مــن حملتــه علــى النحــاة ســوى كتابــه (الــرد علــى‬ ‫النحــاة)‪ ،‬ولعــل تلــك الدعــوة قــد اختفــت تما ًمــا إلــى أن أعادهــا إلــى‬ ‫الحيــاة بعــض علمــاء اللغــة المعاصريــن تحــت ضغــط الحاجــة وعــدم‬ ‫قيــام علــم النحــو باحتياجاتنــا اللغويــة‪.‬‬ ‫مــن أبــرز مــن دعــا إلــى تجديد علــم النحــو ‪ -‬العلــم األســاس يف اللغة ‪-‬‬

‫خطوة نحو تطوير علومنا اللغوية‬ ‫الدكتــور شــوقي ضيــف يف كتابــه (تجديــد النحــو) وكانــت خطتــه تعتمــد‬ ‫يف جــزء كبيــر منهــا علــى إزالــة بعــض أبــواب النحــو وزيــادة بعضهــا‪،‬‬ ‫ومنهــم أيضــا الدكتــور تمــام حســان يف مجموعــة مــن مؤلفاتــه لعــل‬ ‫أبرزهــا كتابــه (اللغــة العربيــة معناهــا ومبناهــا)‪ ،‬والــذي بنــى فيــه رؤي ـ ًة‬ ‫جديــد ًة للنحــو العربـ ّـي‪ ،‬وتعــرض فيــه للعالقــة بيــن زمــن الفعــل وبنائــه‬ ‫واســمه(((‪ ،‬ومنهــم إبراهيــم مصطفــى يف كتابــه (إحياء النحــو)‪ ،‬وتبعهم يف‬ ‫ذلــك مجموعــة أخــرى مــن الباحثيــن‪ ،‬ومــن أبــرز من هتجــم علــى النحاة‬ ‫وكتبهــم يف عصرنــا الشــيخ علــي الطنطــاوي رحمــه اهلل يف مجلــة الرســالة‬ ‫حينمــا كتــب مقالــه الشــهير (آفــة اللغــة هــذا النحــو)‪.‬‬ ‫مصير جهود التجديد‪:‬‬

‫والحقيقــة أن محــاوالت هــؤالء العلمــاء تجديــد النحــو قــد ظهــرت‬ ‫نتيجــة إلدراك حاجتنــا إلــى التطويــر اللغــوي يف ظــل ضيــاع العربيــة‪،‬‬ ‫تصــو ًرا‬ ‫ولعــل يف دراســتهم للغــات األجنبيــة األخــرى مــا أعطاهــم‬ ‫ُّ‬ ‫عــن طــرق دراســة الرتاكيــب اللغويــة‪ ،‬فجــاءت جهودهــم التجديديــة‬ ‫محاولــة للتوفيــق بيــن مــا رأوه مــن تطــور لغــوي يف عالمهــم وبيــن قواعد‬ ‫النحــاة‪ ،‬ولكــن محاوالهتــم قــد عجــزت عــن إحــداث تغييــر حقيقــي يف‬ ‫مســيرة اللغــة لســببين‪ ،‬األول‪ :‬أهنــم انطلقــوا إلــى التجديــد اللغــوي مــن‬ ‫منطلقــات النحــاة القدامــى وليــس مــن منطلقــات مغايــرة‪ ،‬فلــم تخــرج‬ ‫تصوراهتــم عــن الطريقــة النحويــة يف المجمــل‪ ،‬والثــاين‪ :‬أن دعوهتــم‬ ‫للتجديــد كانــت يف مواجهــة النحــو‪ ،‬العلــم المتكامــل البنيــان علــى‬ ‫مــدى ثالثــة عشــر قر ًنــا مــن الزمــان‪ ،‬ممــا جعــل األكثريــة تغــض النظــر‬ ‫ـف آخــر مــن الباحثيــن يف جهودهــم‬ ‫عــن جهودهــم‪ ،‬يف حيــن رأى صنـ ٌ‬ ‫ـوي الــذي يمثــل عصــب العلــوم اللغويــة عنــد‬ ‫محاولـ ًة لهــدم البنــاء النحـ ّ‬ ‫تفهمهــا أحيا ًنــا‪.‬‬ ‫العــرب‪ ،‬فتــم رفضهــا حتــى دون ُّ‬ ‫إن رفــض مجمــل اللغو ّييــن لجهــود المجدّ ديــن ال يعنــي أبــدً ا أن‬ ‫جهودهــم قــد ذهبــت هبــا ًء فقــد قامــوا بأبحــاث دقيقــة ســتكون مفيــد ًة‬ ‫يف بنــاء علــم اللغــة التجريــدي الــذي ينبغــي أن يكــون مقدمــة غيــره مــن‬ ‫العلــوم اللغويــة‪.‬‬ ‫ما الحل؟‬

‫إن النحــاة لــم يخطئــوا أو َي ْق ُصــروا عــن فهــم العالقــة بيــن شــكل الكلمــة‬ ‫ومدلولهــا وخاصــة يف األفعــال‪ ،‬ولكنهــم بنــوا علــم اللغــة وف ًقــا لمعــارف‬ ‫زماهنــم وحاجاهتــم؛ بينمــا َق ُصــر الذيــن جــاؤوا بعدهــم عــن بنــاء علــم‬ ‫ـوي يمثــل معــارف عصرهــم ويخــدم حاجاتــه‪.‬‬ ‫لغـ ٍّ‬ ‫إن الحــل بحســب مــا خلــص إليــه البحــث‪ ،‬يكمــن يف بنــاء علــم جديــد‬ ‫للغــة ننطلــق فيــه مــن منطلقــات وأســس وظيفيــة‪ ،‬يعلــم اللغــة نفســها‬ ‫نمـ َ‬ ‫ـط تعبيــر وتواصــل بشــري‪ ،‬يكــون مقدمــة لعلــوم العربيــة أو معينــا لهــا‬ ‫ال بديــا‪ ،‬لنتجنــب المشــكلتين اللتيــن وقــع فيهمــا مــن دعــا ســاب ًقا إلــى‬ ‫التّجديــد اللغــوي‪.‬‬ ‫(((  ‪ -‬اللغة العربية معناها ومبناها طبعة دار الثقافة عام ‪(4991‬ص ‪ 042‬وما بعدها)‪.‬‬

‫املطلب الثالث‪ :‬كيف نطور اللغة العربية؟‬

‫علــى الرغــم مــن اتفاقنــا علــى الحاجــة لتطويــر اللغــة وتغييــر أســاليبنا‬ ‫التعليميــة فإننــا ســنختلف يف مفهــوم هــذا التطويــر أو التغييــر‪...‬‬ ‫وســأعرض هنــا مقرتحــي لتطويــر اللغــة العربيــة وفــق مجموعــة مــن‬ ‫المقدمــات والقوانيــن والمرتكــزات‪.‬‬ ‫أوال‪ :‬كيف تتطور العلوم اإلنسانية؟‬

‫إن تطويــر علــم مــا ال يقضــي بالضــرورة نســف بنيانــه القديــم أو الزيــادة‬ ‫عليــه أو تغييــره بتغيــر األزمــان‪ ...‬إن بعــض العلــوم يتــم تطويرهــا هبــدم‬ ‫األجــزاء التالفــة منهــا واالســتفادة مــن القديــم الصالــح يف إعــادة تشــييد‬ ‫أركاهنــا وفــق حاجــات البشــر‪ ،‬لكــن البعــض منهــا ال يقبــل الهــدم والبنــاء‬ ‫كعلــم الفيزيــاء مثــا وعلــم أصــول الفقــه والمنطــق والعلــوم الدينيــة‬ ‫الخربيــة المؤسســة علــى الغيــب‪ ،‬ألن أمثــال هــذه العلــوم مبنيــة علــى‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ـس والتجربــة والعقــل أو اإليمــان بالغيــب‪،‬‬ ‫مسـ ّلمات عقل ّيــة ثابتــة بالحـ ّ‬ ‫وإن إعــادة البحــث فيهــا عــر دراسـ ٍ‬ ‫ـات علميــة حديثــة لــن تقودنــا إال إلــى‬ ‫نفــس النتائــج التــي ســبق إليهــا األولــون‪.‬‬

‫ثانيا‪ :‬كيف تتطور اللغات؟‬ ‫إن اللغـ ِ‬ ‫ـات اإلنســاني َة عمو ًمــا تتعــرض لنوعيــن مــن التطويــر‪ ،‬أحدهمــا‬ ‫الهــدم والبنــاء‪ ،‬مــن خــال االســتغناء عــن بعــض أجــزاء اللغــة مــع مــرور‬ ‫العصــور والتعويــض عنهــا بجوانــب جديــدة‪ ،‬كمــا حــدث لكثيــر مــن‬ ‫اللغــات العالميــة إذ تغيــرت مــن فــرة ألخــرى كاإلنجليزيــة والرتكيــة‬ ‫والفرنســية وغيرهــا‪ ...‬النــوع الثــاين مــن التطويــر يكــون مــن خــال‬ ‫تحديــث طــرق عــرض اللغــة وتقســيمها وتقديمهــا بنــاء علــى علومهــا‬ ‫ومعارفهــا الســابقة‪.‬‬ ‫وإن الناظــر يف لغتنــا العربيــة وعلومهــا األصيلــة ‪-‬وخاصــة النحــو‪-‬‬ ‫يجدهــا مــن القســم الــذي ال يقبــل الهــدم والبناء وإعــادة تغيير أساســيات‬ ‫اللغــة كمــا هــو الحــال يف باقــي اللغــات‪ ،‬والســبب يف ذلــك ارتباطهــا‬ ‫الوثيــق بالقــرآن الكريــم وعلــوم اإلســام يف عالقــة متبادلــة بينهــا وبيــن‬ ‫الديــن؛ إذ َن َق َل ْت ـ ُه‪ ،‬وحفظهــا مــن التغييــر‪ ،‬حتــى إنــه قــد كُتبــت هبــا علــوم‬ ‫العــرب والمســلمين يف شــتّى مجــاالت الحضــارة والدّ يــن واألدب‬ ‫والتاريــخ والف ـ ِّن والسياســة ألربعــة عشــر قر ًنــا بــا تغ ّيــر فيهــا‪ ،‬فأصبــح‬ ‫التفكيــر هبــدم أجــزاء مــن علومهــا أو االســتغناء عنهــا والتعويــض بشــيء‬ ‫جديــد ضر ًبــا مــن الخيــال‪...‬‬ ‫ونتيجــة لحتميــة لغتنــا بشــكلها الفصيــح وبعلومهــا الموروثــة؛ فإنــه لــم‬ ‫يبــق لنــا طريــق لتحديثهــا ســوى تغييــر إعــادة عــرض قواعــد النطــق هبــا‬ ‫عــر دراســات أقــرب إلــى مقاصــد الــكالم اإلنســاين وأهدافــه ممــا هــو‬ ‫الواقــع يف علــم النحــو العربــي‪.‬‬ ‫ثالثا‪ :‬ما المنطلقات يف تطوير اللغة العربية؟‬

‫إن أساســنا يف تطويــر لغتنــا هــو مراقبــة مقاصــد المتكلميــن بالعربيــة‬ ‫لمعرفــة األســاليب التــي يعــرون مــن خاللهــا عــن المعــاين التــي‬ ‫‪35‬‬


‫خطوة نحو تطوير علومنا اللغوية‬ ‫يبتغــون إيصالهــا إلــى اآلخريــن‪ ،‬ونقــوم بوضــع كل أســلوب يســتخدمه‬ ‫المتكلمــون مــع قســيمه اعتمــا ًدا علــى معارفنــا اللغويــة الســابقة‪ ...‬وهنــا‬ ‫نجــد تسـ ً‬ ‫ـاؤل مهمــا؛ أليــس يف علــوم اللغــة العربيــة مــا يتكلــم يف هــذا‬ ‫الجانــب ويوضحــه؟‬ ‫إن أصــل هــذا التقســيم المنطقــي للغتنــا وقواعدهــا موجــود يف علــم‬ ‫البالغــة ‪-‬كمــا ســيأيت الح ًقــا‪ -‬أكثــر ممــا هــو موجــود يف علــم النحــو‪،‬‬ ‫وإن كان النحــو ال يخلــو مــن بعضــه؛ إذ إن مباحــث البالغــة ُتعنَــى‬ ‫بالدرجــة األولــى بمعــاين الــكالم ومقاصــد المتكلميــن واحتياجاهتــم‬ ‫الحقيق ّيــة الواضحــة أو المجازيــة البســيطة أو المعقــدة الخفيــة‪ ،‬ونجــد‬ ‫علــم أصــول الفقــه يشــرك معهــا يف نظرتــه إلــى الــكالم وتقســيمه لــه‪...‬‬ ‫ومــن خــال جمعنــا بيــن مباحــث علــوم اللغــة العربيــة كالبالغــة والنحــو‬ ‫واإلمــاء والصــرف وفقــه اللغــة وغيرهــا‪ ،‬باإلضافــة إلــى علــم اللغــة‬ ‫التطبيقــي والتقابلــي أو المقــارن ســنجد الطريــق لبنــاء إطــار مرجعــي‬ ‫خــاص بلغتنــا العربيــة‪.‬‬

‫ويف هــذا الصــدد ينبغــي أن نــدرك أنــه ال يمكننــا أن نتبــع يف البنــاء‬ ‫اللغــوي الجديــد لعلــم اللغــة العربيــة مصطلحــات جديــدة بحتــة ‪-‬كمــا‬ ‫يتصــور البعــض‪ -‬ألنــه يف النتيجــة عبــارة عــن مدخــل إلــى علــوم العربيــة‬ ‫األخــرى النحــو والصــرف والبالغــة والكتابــة‪ ...‬ولهــذا ســنختار مــن‬ ‫مباحــث هــذه العلــوم مــا يخــدم هدفنــا وال تبتعــد داللتــه عــن الوظيفــة‬ ‫التــي تؤديهــا الرتاكيــب اللغويــة‪.‬‬

‫الكلمــة عنــد النحوييــن ثالثــة أنــواع‪ :‬أســماء وأفعــال وحــروف‪ ،‬وهــو‬ ‫فصــل فيــه الدكتــور تمــام حســان فقــرر أن‬ ‫تقســيم منطقــي عــام‪ ،‬وقــد ّ‬ ‫اللغــة تتكــون مــن ســبعة أشــياء‪ :‬االســم والصفــة والفعــل والظــروف ثــم‬ ‫الضمائــر واألدوات والفواصــل‪ ...‬ومهمــا يكــن فــإن الجملــة اللغويــة‬ ‫المفيــدة تتكــون مــن ضــم بعــض هــذه األجــزاء إلــى بعضهــا ضمــن نظــام‬ ‫عــريفٍّ بيــن المتكلميــن باللغــة‪.‬‬ ‫والســؤال اآلن إذا كانــت هــذه هــي عناصــر كل لغــة‪ ،‬فكيــف يســتخدم‬ ‫البشــر هــذه اللغــة ومــا أغراضهــم منهــا؟‬ ‫تقسيم الكالم إلى خبر وإنشاء‪:‬‬

‫لقــد ُعنــي علمــاء اللغــة وفقهــاء اإلســام كثيــرا بأنــواع الــكالم ودالالتــه‬ ‫وقــرروا أن أنــواع الــكالم كلهــا ترجــع إلــى قســمين‪ ،‬أحدهمــا الخــر‬ ‫والثــاين اإلنشــاء‪ ،‬كمــا نجــد ذلــك يف كتــب البالغــة وأصــول الفقــه‪...‬‬ ‫إذ إن المتكلميــن بلغــة مــا قــد اتخــذوا اللغــة عر ًفــا يتواصلــون بواســطته‬ ‫ويعــر كل منهــم مــن خاللهــا عــن نفســه‪ ،‬ولــدى اســتقرائنا لحاجــات‬ ‫هــؤالء المتكلميــن وأغراضهــم نجدهــا ال تعــدو التقســيم الــذي اســتقر‬ ‫عليــه علمــاء البالغــة أو أصــول الفقــه اإلســامي‪ ،‬ونجــد تحــت كل مــن‬ ‫هذيــن القســمين أنوا ًعــا مختلفــة مــن المعــاين اللغويــة المركبــة‪ ،‬والمهــم‬ ‫لنــا هنــا يف (علــم اللغــة العربية المجــرد) األنواع البســيطة منهــا والمنتجة‬ ‫بحســب مســتويات اللغــة العامــة وليســت االختصاصيــة منهــا‪.‬‬ ‫‪36‬‬

‫أقسام الخبر واإلنشاء‪:‬‬

‫لــدى نظرنــا إلــى الخــر نجــده ينحصــر يف ثالثة أزمنــة أساســية‪ :‬الماضي‬ ‫والحاضــر والمســتقبل‪ ،‬وهــذا هــو األســاس يف تقســيم أســاليب الــكالم‬ ‫العربــي‪ ...‬وإن كان يف كل زمــن مــن هــذه الثالثــة تقســيمات نعــرض لهــا‬ ‫الحقا‪.‬‬

‫كمــا يدخــل يف الخــر صيــغ إفــادة الوجــوب مثــل (يجــب علــي أن)‬ ‫وصيــغ االســتطاعة (أســتطيع أن)‪ ،‬وهــي وإن كانــت صيــغ خربيــة لكــن‬ ‫ال يعتــر مفهــوم الزمــان فيهــا ألهنــا إنمــا وجــدت إلفــادة معنــى مــا بغــض‬ ‫النظــر عــن القالــب الزمنــي الــذي جــاءت علــى صورتــه‪ ،‬وإنــه مــن الجيد‬ ‫لنــا كمختصيــن أن نعــرف مــكان هــذه الصيــغ مــن اللغــة‪ ،‬وأمــا بالنســبة‬ ‫للمتعلــم فيكفيــه منهــا أن يعــرف أهنــا صيــغ للداللــة علــى هــذا المعنى أو‬ ‫ذاك ويجيــد اســتخدامها بعيــدا عــن فلســفة المقارنــة بيــن أصــل الرتكيــب‬ ‫وهدفــه‪.‬‬ ‫وأمــا اإلنشــاء فهــو أقســام لــكل منهــا وظائفــه الخاصــة وأهمهــا‪ :‬األمــر‬ ‫والنهــي والعــرض والطلــب والتمنــي والرجــاء‪.‬‬ ‫كيف نعرض القواعد؟‬

‫كمــا هــو الحــال يف اإلنجليزيــة والرتكيــة تعــرض اللغــة مــن خــال‬ ‫األزمنــة والصيــغ اإلنشــائية وأدوات الربــط‪ ،‬كل منهــا يف مكانــه مــن‬ ‫جســم اللغــة‪ ،‬متضمنــة فيما يناســبها من المواضيــع والمواقــف الحياتية‪،‬‬ ‫إذ تكــون المعــاين المركبــة ووظائــف الــكالم هــي التــي تســتدعي‬ ‫المباحــث القواعديــة الالزمــة لهــا‪ ،‬وليــس العكــس كمــا هــو الحــال يف‬ ‫كتــب تدريــس القواعــد العربيــة للعــرب‪ ،‬وال تكــون وظائــف الــكالم‬ ‫وســياقاته منفصلــة عــن القواعــد كمــا هــو الحــال يف كتــب تعليــم العربيــة‬ ‫لغيــر الناطقيــن هبــا‪.‬‬ ‫درســا اســمه‬ ‫يف علــم اللغــة العربيــة ‪-‬بشــكله التجريــدي‪ -‬ال نحتــاج ً‬ ‫نواصــب الفعــل المضــارع وال جــوازم الفعــل المضــارع‪ ،‬وال نحتــاج‬ ‫ـدرس‬ ‫درســا اســمه النواســخ‪ ،‬وإنمــا توجــد وظيفــة ُيتحــدث عنهــا‪ ،‬و ُتـ َّ‬ ‫ً‬ ‫كل أداة ممــا ســبق يف مكاهنــا مــن األزمنــة أو الصيــغ‪ ،‬وســأضرب أمثلــة‬ ‫لذلــك‪:‬‬ ‫(أن)‪ :‬تــدرس يف القوالــب المركبــة‪ ،‬كأداة للربــط بيــن فعليــن أولهمــا‬ ‫ْ‬ ‫فعــل مســاعد يــدل علــى صيغــة‪ ،‬والثــاين فعــل يــدل علــى حــدث مثــل‪:‬‬ ‫ـرب‪- ...‬‬ ‫ـري‪ - ...‬يمكــن أن أشـ َ‬ ‫ـب‪ - ...‬أســتطيع أن أجـ َ‬ ‫(يجــب أن أذهـ َ‬ ‫ُأفضــل أن أقــر َأ‪ - ...‬إلــخ)‪.‬‬ ‫(لــن)‪ :‬تــدرس يف زمــن المســتقبل إذ هــي أداة النفــي فيه‪ ،‬مثل‪( :‬سأســافر‬ ‫إلــى الربازيــل ‪ -‬لن أســافر إلــى الربازيل)‪.‬‬

‫(كــي)‪ :‬تــدرس يف المســتويات المتقدمــة للربــط بيــن جملتيــن الثانيــة‬ ‫منهمــا ســبب لألولــى‪ ،‬مثــل‪( :‬جــاء عامــر كــي يأخــذ الســيارة)‪.‬‬ ‫(ال) الناهيــة‪ :‬أداة توضــع قبــل الفعــل بصيغــة الحاضــر لتفيــد النهــي‪ ،‬إذ‬

‫خطوة نحو تطوير علومنا اللغوية‬ ‫ترتكــب مــع صيغــة الفعــل الحاضــر لتنتــج صيغــة النهــي المقابلــة لصيغــة‬ ‫األمــر مثــل‪( :‬اكتــب ‪ #‬ال تكتــب)‪ ،‬ونالحــظ أن األمــر هنــا عبــارة عــن‬ ‫ـيما للماضــي والمضــارع كمــا يف‬ ‫صيغــة تقابــل النهــي‪ ،‬وليــس زمنًــا قسـ ً‬ ‫النحــو أو كتــب العربيــة للناطقيــن بغيرهــا‪.‬‬ ‫(لــم)‪ :‬تــدرس بعــد هنايــة األزمنــة البســيطة كأسـ ٍ‬ ‫ـلوب آخــر لنفــي الزمــن‬ ‫ـاول الطفـ ُـل طعا َمــه‪ ،‬لــم يتنـ ْ‬ ‫الماضــي‪ ،‬مثــل‪( :‬تنـ َ‬ ‫ـاول الطفـ ُـل طعا َمــه)‪.‬‬ ‫(ليــس)‪ :‬تــدرس يف المســتوى المبتــدئ يف نفــي الجملــة االســمية‪ ،‬مثل‪:‬‬ ‫المعلم موجــو ًدا)‪.‬‬ ‫(المعلـ ُـم موجــو ٌد‪ ،‬ليــس‬ ‫ُ‬

‫املبحث الثاين‬ ‫صيغ األزمنة يف اللغة العربية‬

‫األزمنــة ثالثــة هــي الماضــي والحاضــر والمســتقبل‪ ،‬وهــي إمــا أن يعــر‬ ‫عنهــا بشــكلها البســيط أو بمعــان أخــرى مضافــة إليهــا‪ ،‬ومــن هنــا جــاء‬ ‫تنــوع األزمنــة يف اللغــات اإلنســانية‪ ،‬فــإذا اعتربنــا مــع الزمــن المجــرد‬ ‫الصيــغ المخصصــة للتعبيــر عــن كل حــدث مقــرن بزمــان حصلنــا علــى‬ ‫نظــام تقســيم األزمنــة الخــاص بــكل لغــة‪.‬‬ ‫ومــن أشــهر مــن فطــن إلــى هــذه المســألة يف اللغــة العربيــة األســتاذ‬ ‫فريــد الديــن آيــدن حيــث كتــب بح ًثــا تتبــع فيــه اختــاف الدّ اللــة الزمنيــة‬ ‫للفعــل باختــاف الصيــغ‪ ،‬وباختــاف الكلمــات التــي يقــرن هبــا يف بحثه‬ ‫األزمنــة يف اللغــة العربيــة‪ ،‬ولكنــه لــم ُيق ِّعــد المســألة واكتفــى باإلضــاءة‬ ‫علــى بعــض جوانبهــا؛ مــن خــال مالحظــة تغيــر معنــى الصيغــة الفعليــة‬ ‫بحســب العوامــل واألدوات الداخلــة علــى الجملــة العربيــة‪.‬‬

‫وللدكتــور محمــد موفــق الحســن بحــث ال بــأس بــه يف هــذا البــاب‬ ‫عــرض فيــه ألصــل المســألة الزمانيــة واختــاف العلمــاء فيهــا‪ ،‬ثــم ســلط‬ ‫الضــوء علــى القصــور والخلــط الــذي تعــاين منــه كتــب تعليــم اللغــة‬ ‫العربيــة لغيــر الناطقيــن هبــا يف مجــال تقديــم الصيــغ الزمانيــة‪ ،‬مسـ ًّ‬ ‫ـتدل‬ ‫علــى ذلــك بسلســلة اللســان وسلســلة الطريــق إلــى العربيــة والعربيــة‬ ‫بيــن يديــك(((‪ ،‬ثــم عــرض لتصــوره عــن األزمنــة واســتمده يف معظمــه‬ ‫مــن أبحــاث الدكتــور تمــام حســان ولــم يســتطع أن يــأيت بجديــد إذ لــم‬ ‫يتخلــص مــن عقــدة النحــو ومنطلقاتــه‪ ،‬كمــا يتضــح ذلــك يف حديثــه‬ ‫عــن الزمــن الحاضــر إذ عــاد إلــى التعريــف النحــوي‪ ،‬وهنــا يبــدأ الخطــأ‬ ‫يف تدريــس األزمنــة وبالتالــي فــإن كل مــا يبنــى عليــه يبقــى قاصـ ًـرا‪ ،‬ثــم‬ ‫اعتمــد الرتاكيــب الفرعيــة أزمنــة مســتقلة بذاهتــا ممــا أدى إلــى تعقيــد‬ ‫الرؤيــة والخــروج عــن التقســيم المنطقــي‪.‬‬

‫(((‬

‫وبالنســبة لمــا أكتبــه هنــا ومــا وصلــت إليــه مــن تقاســيم للصيــغ الزمانيــة‬ ‫فقــد كان نتيجــة تجربــة شــخصية اســتغرقت بضــع ســنين يف دراســة اللغة‬

‫(((  ‪ -‬كتاب أبحاث مؤتمر إسطنبول الدولي الثاين تعليم اللغة العربية للناطقين بغيرها‪( ،‬إضاءات‬ ‫ومعالم)‪ ،‬البحث بعنوان (قصور كتب تعليم اللغة العربية لغير الناطقين هبا يف مجال تدريس األزمنة الفعلية‬ ‫المركبة) (ص ‪.)215 - 584‬‬ ‫(((  ‪ -‬الكتاب السابق (ص ‪.)794‬‬

‫اإلنجليزيــة والرتكيــة‪ ،‬ثــم تدريــس األزمنــة والصيــغ العربيــة مــن خــال‬ ‫ربطهــا بأســاليب وقواعــد اللغتيــن الســابقتين‪ ،‬كعمليــة تيســير الكتســاب‬ ‫اللغــة العربيــة باالســتفادة مــن ملكــة اللغــة األم وقواعدها الالمحسوســة‬ ‫المتواجــدة بالفطــرة يف عقــل الطالــب‪ ،‬وقــد كان اطالعــي علــى جهــود‬ ‫العلمــاء المعاصريــن يف هــذا البــاب متأخـ ًـرا عــن التقســيم الــذي وصلــت‬ ‫إليــه بالمقابلــة والتجربــة‪ ،‬ولعــل يف تأخــر االطــاع علــى مــا كتبــه‬ ‫الســابقون مــن الخيــر ‪-‬أحيا ًنــا‪ -‬مثــل مــا نجــده يف دراســتها واالطــاع‬ ‫عليهــا‪ ،‬فكثيــرا مــا َت ْأ ِســر الفكــرة الســابقة قارئهــا وتحــول بينــه وبيــن‬ ‫االنطــاق إلــى آفــاق أخــرى لــم يصــل إليهــا الســابقون‪.‬‬

‫إن اللغــة العربيــة لهــا نظامهــا الخــاص الــذي يعتمــد الجملــة االســمية‬ ‫أساســا يف أشــكال الجملــة العربيــة‪ ،‬هــذا يف النحــو العربــي‪،‬‬ ‫والفعليــة ً‬ ‫وأمــا يف البالغــة فتتكــون الجملــة مــن مســند إليــه وهــو (االســم) ومســند‬ ‫وهــو إمــا (صفــة) أو (فعــل)‪ ،‬ولعــل التقســيم البالغــي هــو األقــرب إلــى‬ ‫الوظيفــة اللغويــة‪ ،‬وإننــا إذا اعتربنــا النظــام البالغــي والنحــوي م ًعــا يف‬ ‫تقريــر أنــواع الجمــل نســتطيع أن نقــول‪ :‬الجملــة االســمية مــا أســندت‬ ‫فيهــا الصفــة إلــى االســم‪ ،‬والجملــة الفعليــة مــا أســند فيهــا الفعــل إلــى‬ ‫االســم‪ ،‬مثــل‪( :‬محمــد معلــم وأحمــد يف الصــف‪ :‬جملــة اســمية) و‬ ‫(محمــد يقــرأ ويقــرأ محمــد‪ :‬جملــة فعليــة)‪ ،‬ومــن خــال مــا ســبق‬ ‫ســننطلق إلــى دراســة الصيــغ الزمانيــة يف اللغــة العربيــة‪.‬‬ ‫لــم يخطــئ النحــاة األقدمــون ‪-‬بــا شــك‪ -‬يف تقســيم األفعــال إلــى‬ ‫(مــاض ومضــارع وأمــر)‪ ،‬فهــم أكثــر إدراكًا للغــة منــا‪ ،‬ومــع هــذا علينــا‬ ‫أن نعلــم أن منطلقاتِهــم إلــى اللغــة كانــت تختلــف عــن منطلقاتنــا؛ إذ‬ ‫إن الواقــع اللغــوي الــذي عاشــوه يختلــف عــن واقعنــا الــذي يدعونــا‬ ‫إلــى إعــادة هيكلــة اللغــة وتقديمهــا وفــق معارفنــا المعاصــرة‪ ...‬وليــس‬ ‫صحيحــا أبــدً ا مــا قــام بــه البعــض مــن محاولــة االعتــداء علــى البنــاء‬ ‫ً‬ ‫ـوي المتناســق لتحميلــه حاجاتنــا المعاصــرة‪ ،‬وإنمــا الصحيــح أن‬ ‫النحـ ّ‬ ‫نتعلــم مــن النحــاة كيــف نبنــي بنــا ًء جديــدً ا َن ْت َبــع فيــه أســاليبهم العلم َّيـ َة يف‬ ‫اعتمــاد مبــدأ الفـ ِ‬ ‫ـرض والتّجربــة والقيـ ِ‬ ‫ـاس واســتقراء اللغــة والرتاكيــب؛‬ ‫لتمييــز الرتاكيــب الفاســدة مــن الرتاكيــب المفيــدة يف الواقــع اللغــوي‪.‬‬

‫وســأقوم يف هــذا المبحــث بعــرض األزمنــة العربيــة التــي توصلــت إليهــا‬ ‫بواســطة االســتقراء للــكالم العربــي‪ ،‬مــع المقارنة بيــن الصيــغ الزمانية يف‬ ‫كل مــن العربيــة مــن جهــة والرتكيــة مــن جهــة أخــرى‪.‬‬

‫ـت هــذه األزمنــة واختربهتــا مــدة طويلــة فثبتــت صيغهــا ولــم‬ ‫وقــد جربـ ُ‬ ‫تتأثــر علــى الرغــم مــن اختــاف المواطــن التــي اســتخدمت فيهــا‪ ،‬ولــم‬ ‫أجــد مزيــدً ا عليهــا‪.‬‬ ‫إن األزمنــة التــي وجدهتــا يف لغتنــا العربيــة هــي اثنــا عشــر زما ًنــا‪ ،‬أربعــة‬ ‫منهــا بصيغــة الجملــة الفعل ّيــة للدّ اللــة علــى حــدث مقــرن بزمــان‪،‬‬ ‫وأربعــة منهــا بصيغــة الجملــة االســم ّية للدّ اللــة علــى صفــة ثبتت لالســم‬ ‫المبتــدأ أو المســند إليــه‪ -‬مقرتنــة بزمــن‪ ،‬وأربعــة منهــا بصيغــة الحكايــة‬‫الزمــن الماضــي البعيــد‪.‬‬ ‫للدّ اللــة علــى األزمنــة البســيطة يف ّ‬ ‫‪37‬‬


‫خطوة نحو تطوير علومنا اللغوية‬ ‫يبتغــون إيصالهــا إلــى اآلخريــن‪ ،‬ونقــوم بوضــع كل أســلوب يســتخدمه‬ ‫المتكلمــون مــع قســيمه اعتمــا ًدا علــى معارفنــا اللغويــة الســابقة‪ ...‬وهنــا‬ ‫نجــد تسـ ً‬ ‫ـاؤل مهمــا؛ أليــس يف علــوم اللغــة العربيــة مــا يتكلــم يف هــذا‬ ‫الجانــب ويوضحــه؟‬ ‫إن أصــل هــذا التقســيم المنطقــي للغتنــا وقواعدهــا موجــود يف علــم‬ ‫البالغــة ‪-‬كمــا ســيأيت الح ًقــا‪ -‬أكثــر ممــا هــو موجــود يف علــم النحــو‪،‬‬ ‫وإن كان النحــو ال يخلــو مــن بعضــه؛ إذ إن مباحــث البالغــة ُتعنَــى‬ ‫بالدرجــة األولــى بمعــاين الــكالم ومقاصــد المتكلميــن واحتياجاهتــم‬ ‫الحقيق ّيــة الواضحــة أو المجازيــة البســيطة أو المعقــدة الخفيــة‪ ،‬ونجــد‬ ‫علــم أصــول الفقــه يشــرك معهــا يف نظرتــه إلــى الــكالم وتقســيمه لــه‪...‬‬ ‫ومــن خــال جمعنــا بيــن مباحــث علــوم اللغــة العربيــة كالبالغــة والنحــو‬ ‫واإلمــاء والصــرف وفقــه اللغــة وغيرهــا‪ ،‬باإلضافــة إلــى علــم اللغــة‬ ‫التطبيقــي والتقابلــي أو المقــارن ســنجد الطريــق لبنــاء إطــار مرجعــي‬ ‫خــاص بلغتنــا العربيــة‪.‬‬

‫ويف هــذا الصــدد ينبغــي أن نــدرك أنــه ال يمكننــا أن نتبــع يف البنــاء‬ ‫اللغــوي الجديــد لعلــم اللغــة العربيــة مصطلحــات جديــدة بحتــة ‪-‬كمــا‬ ‫يتصــور البعــض‪ -‬ألنــه يف النتيجــة عبــارة عــن مدخــل إلــى علــوم العربيــة‬ ‫األخــرى النحــو والصــرف والبالغــة والكتابــة‪ ...‬ولهــذا ســنختار مــن‬ ‫مباحــث هــذه العلــوم مــا يخــدم هدفنــا وال تبتعــد داللتــه عــن الوظيفــة‬ ‫التــي تؤديهــا الرتاكيــب اللغويــة‪.‬‬

‫الكلمــة عنــد النحوييــن ثالثــة أنــواع‪ :‬أســماء وأفعــال وحــروف‪ ،‬وهــو‬ ‫فصــل فيــه الدكتــور تمــام حســان فقــرر أن‬ ‫تقســيم منطقــي عــام‪ ،‬وقــد ّ‬ ‫اللغــة تتكــون مــن ســبعة أشــياء‪ :‬االســم والصفــة والفعــل والظــروف ثــم‬ ‫الضمائــر واألدوات والفواصــل‪ ...‬ومهمــا يكــن فــإن الجملــة اللغويــة‬ ‫المفيــدة تتكــون مــن ضــم بعــض هــذه األجــزاء إلــى بعضهــا ضمــن نظــام‬ ‫عــريفٍّ بيــن المتكلميــن باللغــة‪.‬‬ ‫والســؤال اآلن إذا كانــت هــذه هــي عناصــر كل لغــة‪ ،‬فكيــف يســتخدم‬ ‫البشــر هــذه اللغــة ومــا أغراضهــم منهــا؟‬ ‫تقسيم الكالم إلى خبر وإنشاء‪:‬‬

‫لقــد ُعنــي علمــاء اللغــة وفقهــاء اإلســام كثيــرا بأنــواع الــكالم ودالالتــه‬ ‫وقــرروا أن أنــواع الــكالم كلهــا ترجــع إلــى قســمين‪ ،‬أحدهمــا الخــر‬ ‫والثــاين اإلنشــاء‪ ،‬كمــا نجــد ذلــك يف كتــب البالغــة وأصــول الفقــه‪...‬‬ ‫إذ إن المتكلميــن بلغــة مــا قــد اتخــذوا اللغــة عر ًفــا يتواصلــون بواســطته‬ ‫ويعــر كل منهــم مــن خاللهــا عــن نفســه‪ ،‬ولــدى اســتقرائنا لحاجــات‬ ‫هــؤالء المتكلميــن وأغراضهــم نجدهــا ال تعــدو التقســيم الــذي اســتقر‬ ‫عليــه علمــاء البالغــة أو أصــول الفقــه اإلســامي‪ ،‬ونجــد تحــت كل مــن‬ ‫هذيــن القســمين أنوا ًعــا مختلفــة مــن المعــاين اللغويــة المركبــة‪ ،‬والمهــم‬ ‫لنــا هنــا يف (علــم اللغــة العربية المجــرد) األنواع البســيطة منهــا والمنتجة‬ ‫بحســب مســتويات اللغــة العامــة وليســت االختصاصيــة منهــا‪.‬‬ ‫‪36‬‬

‫أقسام الخبر واإلنشاء‪:‬‬

‫لــدى نظرنــا إلــى الخــر نجــده ينحصــر يف ثالثة أزمنــة أساســية‪ :‬الماضي‬ ‫والحاضــر والمســتقبل‪ ،‬وهــذا هــو األســاس يف تقســيم أســاليب الــكالم‬ ‫العربــي‪ ...‬وإن كان يف كل زمــن مــن هــذه الثالثــة تقســيمات نعــرض لهــا‬ ‫الحقا‪.‬‬

‫كمــا يدخــل يف الخــر صيــغ إفــادة الوجــوب مثــل (يجــب علــي أن)‬ ‫وصيــغ االســتطاعة (أســتطيع أن)‪ ،‬وهــي وإن كانــت صيــغ خربيــة لكــن‬ ‫ال يعتــر مفهــوم الزمــان فيهــا ألهنــا إنمــا وجــدت إلفــادة معنــى مــا بغــض‬ ‫النظــر عــن القالــب الزمنــي الــذي جــاءت علــى صورتــه‪ ،‬وإنــه مــن الجيد‬ ‫لنــا كمختصيــن أن نعــرف مــكان هــذه الصيــغ مــن اللغــة‪ ،‬وأمــا بالنســبة‬ ‫للمتعلــم فيكفيــه منهــا أن يعــرف أهنــا صيــغ للداللــة علــى هــذا المعنى أو‬ ‫ذاك ويجيــد اســتخدامها بعيــدا عــن فلســفة المقارنــة بيــن أصــل الرتكيــب‬ ‫وهدفــه‪.‬‬ ‫وأمــا اإلنشــاء فهــو أقســام لــكل منهــا وظائفــه الخاصــة وأهمهــا‪ :‬األمــر‬ ‫والنهــي والعــرض والطلــب والتمنــي والرجــاء‪.‬‬ ‫كيف نعرض القواعد؟‬

‫كمــا هــو الحــال يف اإلنجليزيــة والرتكيــة تعــرض اللغــة مــن خــال‬ ‫األزمنــة والصيــغ اإلنشــائية وأدوات الربــط‪ ،‬كل منهــا يف مكانــه مــن‬ ‫جســم اللغــة‪ ،‬متضمنــة فيما يناســبها من المواضيــع والمواقــف الحياتية‪،‬‬ ‫إذ تكــون المعــاين المركبــة ووظائــف الــكالم هــي التــي تســتدعي‬ ‫المباحــث القواعديــة الالزمــة لهــا‪ ،‬وليــس العكــس كمــا هــو الحــال يف‬ ‫كتــب تدريــس القواعــد العربيــة للعــرب‪ ،‬وال تكــون وظائــف الــكالم‬ ‫وســياقاته منفصلــة عــن القواعــد كمــا هــو الحــال يف كتــب تعليــم العربيــة‬ ‫لغيــر الناطقيــن هبــا‪.‬‬ ‫درســا اســمه‬ ‫يف علــم اللغــة العربيــة ‪-‬بشــكله التجريــدي‪ -‬ال نحتــاج ً‬ ‫نواصــب الفعــل المضــارع وال جــوازم الفعــل المضــارع‪ ،‬وال نحتــاج‬ ‫ـدرس‬ ‫درســا اســمه النواســخ‪ ،‬وإنمــا توجــد وظيفــة ُيتحــدث عنهــا‪ ،‬و ُتـ َّ‬ ‫ً‬ ‫كل أداة ممــا ســبق يف مكاهنــا مــن األزمنــة أو الصيــغ‪ ،‬وســأضرب أمثلــة‬ ‫لذلــك‪:‬‬ ‫(أن)‪ :‬تــدرس يف القوالــب المركبــة‪ ،‬كأداة للربــط بيــن فعليــن أولهمــا‬ ‫ْ‬ ‫فعــل مســاعد يــدل علــى صيغــة‪ ،‬والثــاين فعــل يــدل علــى حــدث مثــل‪:‬‬ ‫ـرب‪- ...‬‬ ‫ـري‪ - ...‬يمكــن أن أشـ َ‬ ‫ـب‪ - ...‬أســتطيع أن أجـ َ‬ ‫(يجــب أن أذهـ َ‬ ‫ُأفضــل أن أقــر َأ‪ - ...‬إلــخ)‪.‬‬ ‫(لــن)‪ :‬تــدرس يف زمــن المســتقبل إذ هــي أداة النفــي فيه‪ ،‬مثل‪( :‬سأســافر‬ ‫إلــى الربازيــل ‪ -‬لن أســافر إلــى الربازيل)‪.‬‬

‫(كــي)‪ :‬تــدرس يف المســتويات المتقدمــة للربــط بيــن جملتيــن الثانيــة‬ ‫منهمــا ســبب لألولــى‪ ،‬مثــل‪( :‬جــاء عامــر كــي يأخــذ الســيارة)‪.‬‬ ‫(ال) الناهيــة‪ :‬أداة توضــع قبــل الفعــل بصيغــة الحاضــر لتفيــد النهــي‪ ،‬إذ‬

‫خطوة نحو تطوير علومنا اللغوية‬ ‫ترتكــب مــع صيغــة الفعــل الحاضــر لتنتــج صيغــة النهــي المقابلــة لصيغــة‬ ‫األمــر مثــل‪( :‬اكتــب ‪ #‬ال تكتــب)‪ ،‬ونالحــظ أن األمــر هنــا عبــارة عــن‬ ‫ـيما للماضــي والمضــارع كمــا يف‬ ‫صيغــة تقابــل النهــي‪ ،‬وليــس زمنًــا قسـ ً‬ ‫النحــو أو كتــب العربيــة للناطقيــن بغيرهــا‪.‬‬ ‫(لــم)‪ :‬تــدرس بعــد هنايــة األزمنــة البســيطة كأسـ ٍ‬ ‫ـلوب آخــر لنفــي الزمــن‬ ‫ـاول الطفـ ُـل طعا َمــه‪ ،‬لــم يتنـ ْ‬ ‫الماضــي‪ ،‬مثــل‪( :‬تنـ َ‬ ‫ـاول الطفـ ُـل طعا َمــه)‪.‬‬ ‫(ليــس)‪ :‬تــدرس يف المســتوى المبتــدئ يف نفــي الجملــة االســمية‪ ،‬مثل‪:‬‬ ‫المعلم موجــو ًدا)‪.‬‬ ‫(المعلـ ُـم موجــو ٌد‪ ،‬ليــس‬ ‫ُ‬

‫املبحث الثاين‬ ‫صيغ األزمنة يف اللغة العربية‬

‫األزمنــة ثالثــة هــي الماضــي والحاضــر والمســتقبل‪ ،‬وهــي إمــا أن يعــر‬ ‫عنهــا بشــكلها البســيط أو بمعــان أخــرى مضافــة إليهــا‪ ،‬ومــن هنــا جــاء‬ ‫تنــوع األزمنــة يف اللغــات اإلنســانية‪ ،‬فــإذا اعتربنــا مــع الزمــن المجــرد‬ ‫الصيــغ المخصصــة للتعبيــر عــن كل حــدث مقــرن بزمــان حصلنــا علــى‬ ‫نظــام تقســيم األزمنــة الخــاص بــكل لغــة‪.‬‬ ‫ومــن أشــهر مــن فطــن إلــى هــذه المســألة يف اللغــة العربيــة األســتاذ‬ ‫فريــد الديــن آيــدن حيــث كتــب بح ًثــا تتبــع فيــه اختــاف الدّ اللــة الزمنيــة‬ ‫للفعــل باختــاف الصيــغ‪ ،‬وباختــاف الكلمــات التــي يقــرن هبــا يف بحثه‬ ‫األزمنــة يف اللغــة العربيــة‪ ،‬ولكنــه لــم ُيق ِّعــد المســألة واكتفــى باإلضــاءة‬ ‫علــى بعــض جوانبهــا؛ مــن خــال مالحظــة تغيــر معنــى الصيغــة الفعليــة‬ ‫بحســب العوامــل واألدوات الداخلــة علــى الجملــة العربيــة‪.‬‬

‫وللدكتــور محمــد موفــق الحســن بحــث ال بــأس بــه يف هــذا البــاب‬ ‫عــرض فيــه ألصــل المســألة الزمانيــة واختــاف العلمــاء فيهــا‪ ،‬ثــم ســلط‬ ‫الضــوء علــى القصــور والخلــط الــذي تعــاين منــه كتــب تعليــم اللغــة‬ ‫العربيــة لغيــر الناطقيــن هبــا يف مجــال تقديــم الصيــغ الزمانيــة‪ ،‬مسـ ًّ‬ ‫ـتدل‬ ‫علــى ذلــك بسلســلة اللســان وسلســلة الطريــق إلــى العربيــة والعربيــة‬ ‫بيــن يديــك(((‪ ،‬ثــم عــرض لتصــوره عــن األزمنــة واســتمده يف معظمــه‬ ‫مــن أبحــاث الدكتــور تمــام حســان ولــم يســتطع أن يــأيت بجديــد إذ لــم‬ ‫يتخلــص مــن عقــدة النحــو ومنطلقاتــه‪ ،‬كمــا يتضــح ذلــك يف حديثــه‬ ‫عــن الزمــن الحاضــر إذ عــاد إلــى التعريــف النحــوي‪ ،‬وهنــا يبــدأ الخطــأ‬ ‫يف تدريــس األزمنــة وبالتالــي فــإن كل مــا يبنــى عليــه يبقــى قاصـ ًـرا‪ ،‬ثــم‬ ‫اعتمــد الرتاكيــب الفرعيــة أزمنــة مســتقلة بذاهتــا ممــا أدى إلــى تعقيــد‬ ‫الرؤيــة والخــروج عــن التقســيم المنطقــي‪.‬‬

‫(((‬

‫وبالنســبة لمــا أكتبــه هنــا ومــا وصلــت إليــه مــن تقاســيم للصيــغ الزمانيــة‬ ‫فقــد كان نتيجــة تجربــة شــخصية اســتغرقت بضــع ســنين يف دراســة اللغة‬

‫(((  ‪ -‬كتاب أبحاث مؤتمر إسطنبول الدولي الثاين تعليم اللغة العربية للناطقين بغيرها‪( ،‬إضاءات‬ ‫ومعالم)‪ ،‬البحث بعنوان (قصور كتب تعليم اللغة العربية لغير الناطقين هبا يف مجال تدريس األزمنة الفعلية‬ ‫المركبة) (ص ‪.)215 - 584‬‬ ‫(((  ‪ -‬الكتاب السابق (ص ‪.)794‬‬

‫اإلنجليزيــة والرتكيــة‪ ،‬ثــم تدريــس األزمنــة والصيــغ العربيــة مــن خــال‬ ‫ربطهــا بأســاليب وقواعــد اللغتيــن الســابقتين‪ ،‬كعمليــة تيســير الكتســاب‬ ‫اللغــة العربيــة باالســتفادة مــن ملكــة اللغــة األم وقواعدها الالمحسوســة‬ ‫المتواجــدة بالفطــرة يف عقــل الطالــب‪ ،‬وقــد كان اطالعــي علــى جهــود‬ ‫العلمــاء المعاصريــن يف هــذا البــاب متأخـ ًـرا عــن التقســيم الــذي وصلــت‬ ‫إليــه بالمقابلــة والتجربــة‪ ،‬ولعــل يف تأخــر االطــاع علــى مــا كتبــه‬ ‫الســابقون مــن الخيــر ‪-‬أحيا ًنــا‪ -‬مثــل مــا نجــده يف دراســتها واالطــاع‬ ‫عليهــا‪ ،‬فكثيــرا مــا َت ْأ ِســر الفكــرة الســابقة قارئهــا وتحــول بينــه وبيــن‬ ‫االنطــاق إلــى آفــاق أخــرى لــم يصــل إليهــا الســابقون‪.‬‬

‫إن اللغــة العربيــة لهــا نظامهــا الخــاص الــذي يعتمــد الجملــة االســمية‬ ‫أساســا يف أشــكال الجملــة العربيــة‪ ،‬هــذا يف النحــو العربــي‪،‬‬ ‫والفعليــة ً‬ ‫وأمــا يف البالغــة فتتكــون الجملــة مــن مســند إليــه وهــو (االســم) ومســند‬ ‫وهــو إمــا (صفــة) أو (فعــل)‪ ،‬ولعــل التقســيم البالغــي هــو األقــرب إلــى‬ ‫الوظيفــة اللغويــة‪ ،‬وإننــا إذا اعتربنــا النظــام البالغــي والنحــوي م ًعــا يف‬ ‫تقريــر أنــواع الجمــل نســتطيع أن نقــول‪ :‬الجملــة االســمية مــا أســندت‬ ‫فيهــا الصفــة إلــى االســم‪ ،‬والجملــة الفعليــة مــا أســند فيهــا الفعــل إلــى‬ ‫االســم‪ ،‬مثــل‪( :‬محمــد معلــم وأحمــد يف الصــف‪ :‬جملــة اســمية) و‬ ‫(محمــد يقــرأ ويقــرأ محمــد‪ :‬جملــة فعليــة)‪ ،‬ومــن خــال مــا ســبق‬ ‫ســننطلق إلــى دراســة الصيــغ الزمانيــة يف اللغــة العربيــة‪.‬‬ ‫لــم يخطــئ النحــاة األقدمــون ‪-‬بــا شــك‪ -‬يف تقســيم األفعــال إلــى‬ ‫(مــاض ومضــارع وأمــر)‪ ،‬فهــم أكثــر إدراكًا للغــة منــا‪ ،‬ومــع هــذا علينــا‬ ‫أن نعلــم أن منطلقاتِهــم إلــى اللغــة كانــت تختلــف عــن منطلقاتنــا؛ إذ‬ ‫إن الواقــع اللغــوي الــذي عاشــوه يختلــف عــن واقعنــا الــذي يدعونــا‬ ‫إلــى إعــادة هيكلــة اللغــة وتقديمهــا وفــق معارفنــا المعاصــرة‪ ...‬وليــس‬ ‫صحيحــا أبــدً ا مــا قــام بــه البعــض مــن محاولــة االعتــداء علــى البنــاء‬ ‫ً‬ ‫ـوي المتناســق لتحميلــه حاجاتنــا المعاصــرة‪ ،‬وإنمــا الصحيــح أن‬ ‫النحـ ّ‬ ‫نتعلــم مــن النحــاة كيــف نبنــي بنــا ًء جديــدً ا َن ْت َبــع فيــه أســاليبهم العلم َّيـ َة يف‬ ‫اعتمــاد مبــدأ الفـ ِ‬ ‫ـرض والتّجربــة والقيـ ِ‬ ‫ـاس واســتقراء اللغــة والرتاكيــب؛‬ ‫لتمييــز الرتاكيــب الفاســدة مــن الرتاكيــب المفيــدة يف الواقــع اللغــوي‪.‬‬

‫وســأقوم يف هــذا المبحــث بعــرض األزمنــة العربيــة التــي توصلــت إليهــا‬ ‫بواســطة االســتقراء للــكالم العربــي‪ ،‬مــع المقارنة بيــن الصيــغ الزمانية يف‬ ‫كل مــن العربيــة مــن جهــة والرتكيــة مــن جهــة أخــرى‪.‬‬

‫ـت هــذه األزمنــة واختربهتــا مــدة طويلــة فثبتــت صيغهــا ولــم‬ ‫وقــد جربـ ُ‬ ‫تتأثــر علــى الرغــم مــن اختــاف المواطــن التــي اســتخدمت فيهــا‪ ،‬ولــم‬ ‫أجــد مزيــدً ا عليهــا‪.‬‬ ‫إن األزمنــة التــي وجدهتــا يف لغتنــا العربيــة هــي اثنــا عشــر زما ًنــا‪ ،‬أربعــة‬ ‫منهــا بصيغــة الجملــة الفعل ّيــة للدّ اللــة علــى حــدث مقــرن بزمــان‪،‬‬ ‫وأربعــة منهــا بصيغــة الجملــة االســم ّية للدّ اللــة علــى صفــة ثبتت لالســم‬ ‫المبتــدأ أو المســند إليــه‪ -‬مقرتنــة بزمــن‪ ،‬وأربعــة منهــا بصيغــة الحكايــة‬‫الزمــن الماضــي البعيــد‪.‬‬ ‫للدّ اللــة علــى األزمنــة البســيطة يف ّ‬ ‫‪37‬‬


‫خطوة نحو تطوير علومنا اللغوية‬ ‫ولــدى اســتقراء الصيــغ الزمان ّيــة يف اللغــة الرتك ّيــة وجدهتــا ســتة عشــر‬ ‫زما ًنــا أصيـ ًـا‪ ،‬وقــد يضــاف عليهــا أربعــة أخــرى لتصــل إلــى عشــرين‬ ‫باعتبــار أن الماضــي يف اللغــة الرتكيــة نوعــان معلــوم وغيــر معلــوم‪،‬‬ ‫وليــس كل مــا يقابلهــا يف العربيــة مــن تراكيــب يمكــن أن يعــدَّ زمانًــا‬ ‫خاصــا يف الرتكيــة ينــدرج تحــت‬ ‫مســتقال‪ ،‬إذ إن بعــض مــا يعتــر زمانــا ًّ‬ ‫نــوع مــن األنــواع االثنــي عشــر التــي ســأذكرها‪.‬‬

‫وكمــا أن الجملــة يف العربيــة نوعــان اســمية وفعليــة‪ ،‬فكذلــك هــو الحال‬ ‫يف الرتكيــة إذ تنقســم الجملــة عندهــم إلــى فعليــة واســمية‪ ،‬واالســمية‬ ‫عندهــم مــا تــم الــكالم هبــا وخلــت مــن الفعــل‪ ،‬والفعليــة عندهــم مــا تــم‬ ‫الــكالم هبــا مــع وجــود فعــل يف تركيبهــا‪.‬‬ ‫وســأعرض هنــا للصيــغ الزمانيــة يف العربيــة مقارنــة بالرتكية‪ ،‬وقــد أعرج‬ ‫علــى اإلنجليزية للتوضيــح أحيانًا‪.‬‬

‫املطلب األول‪ :‬األزمنة يف الجملة الفعلية‬ ‫الجملــة الفعليــة هــي مــا ابت ُِدئــت بفعــل كمــا يف علــم النحــو‪ ،‬أو مــا كان‬

‫المســند فيهــا فعــا ســواء تقــدم علــى االســم أو تأخــر عنــه‪ ،‬كمــا سنســير‬ ‫عليــه‪ ،‬وهــو مــا عليــه االعتمــاد يف اللغــة الرتكيــة‪ ،‬وهــو أقــرب يف االعتبــار‬ ‫إلــى الوظيفــة ممــا هــو عليــه الحــال يف النحــو العربــي‪ ...‬ولــدى اســتقراء‬ ‫تراكيــب الجملــة الفعليــة البســيطة نجدهــا ‪-‬بالنظــر إلــى الزمــن‪ -‬إمــا أن‬ ‫تــدل علــى حــدث وقــع وانتهــى يف الماضــي‪ ،‬أو حــدث يقــع يف وقــت‬ ‫التكلــم‪ ،‬أو حــدث ســيقع يف المســتقبل‪ ،‬أو حــدث واســع تكــرر يف‬ ‫الماضــي ومــا زال يتكــرر يف الحاضــر وسيســتمر يف المســتقبل‪ ،‬فهــذه‬ ‫أربعــة أزمنــة ولــكل منهــا تركيبــه الخــاص يف كل مــن العربيــة كمــا هــو‬ ‫الحــال يف اإلنجليزيــة والرتكيــة‪ ،‬ولــكل مــن هــذه الرتاكيــب مــا يميــزه عن‬ ‫اآلخــر‪.‬‬

‫األول‪ :‬الزمن الحاضر الواسع‪.‬‬

‫التعريــف‪ :‬هــو مــا يــدل علــى حــدث تكــرر يف الماضــي واســتمر كذلــك‬ ‫يف الحاضــر وسيســتمر يف المســتقبل‪ ،‬للداللــة علــى عــادة أو حقيقــة‬ ‫علم ّيــة أو خاصيــة الفاعــل يف المســائل الثابتــة أو مــا شــاهبها ممــا يســتمر‬ ‫يف األزمنــة الثالثــة‪.‬‬

‫االســم‪ :‬واســمه يف اللغــة الرتكيــة (الزمــن الواســع) (‪Geniş‬‬ ‫‪ ،((()Zaman‬واســمه يف اإلنجليزيــة (الزمن الحاضر البســيط) (‪simple‬‬ ‫‪ ((()present tense‬وليــس لــه اســم خــاص يف اللغــة العربيــة‪.‬‬

‫الصيغــة‪ :‬يعــر عــن هــذا الزمــن بصيغــة (الفعــل المضــارع) مــع تضمــن‬ ‫الجملــة لفظــا أو معنــى أحــد التعابيــر اآلتيــة‪( :‬دائمــا ‪ -‬غالبــا ‪ -‬أحيانــا)‬ ‫أو (أبــدا) يف حالــة النفــي‪ ،‬أو (عــادة أو كثيــرا ) للداللــة علــى كثــرة األمــر‪،‬‬ ‫ـادرا) للداللــة علــى قلتــه‪ ...‬ومثــل ذلــك (كل يــوم ‪ -‬كل أســبوع‬ ‫أو (نـ ً‬ ‫ كل عــام ‪ -‬أيــام األحــد ‪ -‬يوميــا ‪ -‬شــهريا ‪ -‬أســبوعيا ‪ -‬ســنويا )‪...‬‬‫(((  ‪ -‬سلسلة إسطنبول (ص ‪.)07/2‬‬ ‫(((  ‪ -‬سلسلة كتاب بيرليتز الوحدة الثالثة (ص ‪.)21/1‬‬

‫‪38‬‬

‫فهــذه التعبيــرات أو مــا يحمــل معناهــا ‪ -‬ممــا يــدل علــى تكــرار الحــدث‬ ‫يف األزمنــة الثالثــة ‪ -‬إن وجــدت يف الجملــة مــع صيغــة الفعــل المضــارع‬ ‫دلــت علــى مــا يســمى (بالزمــن الواســع) يف اللغــة الرتكيــة‪ ،‬أو (الزمــن‬ ‫الحاضــر البســيط) يف اللغــة اإلنجليزيــة‪.‬‬ ‫األمثلة‪:‬‬

‫صباحــا ‪-‬‬ ‫الســاعة ال ّثامنــة‬ ‫ً‬ ‫(دائمــا أذهـ ُ‬ ‫ـب إلــى العمــل يف ّ‬ ‫يف اإليجــاب‪ً :‬‬ ‫ـع مــن ّ‬ ‫ـب العســل ‪ّ -‬‬ ‫الشــرق)‪.‬‬ ‫الشــمس تطلـ ُ‬ ‫أنــت تحـ ُّ‬ ‫ـب أبــدا إلــى العمــل ّ‬ ‫متأخـ ًـرا ‪ -‬عائشــة تقــر ُأ الكتــب‬ ‫يف النفــي‪( :‬أنــا ال أذهـ ُ‬ ‫ُ‬ ‫دائمــا لكـ ّن ســم ّية ال تقــرأ أبــدً ا)‪.‬‬ ‫ً‬ ‫الســؤال‪( :‬متــى تنــا ُم عــادةً؟ الجــواب‪ :‬غال ًبــا أنــام يف الســاعة الحاديــة‬ ‫عشــرة‪ ،‬وأحيا ًنــا ّ‬ ‫أتأخــر إلــى الثانيــة عشــرة)‪.‬‬ ‫(دائمــا) يف اإلثبــات كلمــة (أبــدً ا) يف النفــي‪،‬‬ ‫ونالحــظ أن ضــد كلمــة ً‬ ‫وضــد كلمــة (غال ًبــا) كلمــة (أحيانًــا)‪ ،‬وهنــا نتبــع المشــهور يف اللغــة‬ ‫العامــة وال يلتفــت إلــى الرتاكيــب النــادرة(((‪.‬‬

‫االســم المقتــرح‪ :‬إن التعبيــر الرتكــي عــن هــذا الزمــن هــو األقــرب إلــى‬ ‫المنطــق‪ ،‬فأقــرح لــه اســم (الزمــن الحاضــر الواســع) وأضفــت لــه كلمــة‬ ‫الحاضــر المســتخدمة يف اإلنجليزيــة ألن صيغتــه يف لغتنــا مشــركة مــع‬ ‫الزمــن الحاضــر الحقيقــي فاســتدعى التنبيــه إلــى القــدر المشــرك مــع مــا‬ ‫يميزه‪.‬‬

‫الثاين‪ :‬الزمن الحاضر‬

‫التعريــف‪ :‬هــو مــا يــدل علــى حــدث بــدأ قبــل فــرة مــن الزمــن ويســتمر‬ ‫حدوثــه إلــى وقــت التكلــم‪.‬‬

‫خطوة نحو تطوير علومنا اللغوية‬ ‫يكتب وظيفته اآلن)‪.‬‬ ‫النفي‪ :‬وأداته (ال) مثل‪( :‬الطالب ال‬ ‫ُ‬

‫تفعــل؟ ‪ -‬االبــن‪ :‬أنــا ال ُ‬ ‫ُ‬ ‫أفعــل شــيئا‪ ،‬أنــا أقــر ُأ‬ ‫الســؤال‪( :‬األم‪ :‬مــاذا‬ ‫الجريــدة)‪.‬‬

‫االســم المقتــرح‪( :‬الزمــن الحاضــر) وال حاجــة لوصفــه بالمســتمر أو‬ ‫الحقيقــي‪ ،‬ألنــه قــد تــم وصــف ســابقه (بالواســع) وهــذا االســم كاف يف‬ ‫الداللــة علــى معنــاه‪.‬‬

‫الثالث‪ :‬الزمن الماضي‬

‫التعريف‪ :‬هو ما يدل على حدث بدأ وانتهى قبل وقت التكلم‪.‬‬

‫االســم‪ :‬اســمه يف اللغــة الرتكية (الزمــن الماضي المعلوم) أو الشــهودي‬ ‫(‪ ((()Belirli Geçmiş Zaman‬واســمه يف اإلنجليزيــة (الزمــن الماضي‬ ‫البســيط) (‪ ((1()simple past tense‬واســمه يف اللغــة العربيــة (الفعــل‬ ‫الماضي)‪.‬‬

‫الصيغــة‪ :‬إن الصيغــة الصرفيــة المخصصــة لهــذا الزمــن يف العربيــة‬ ‫هــي ( َف َعـ َـل) إال يف حالــة النفــي بــــ «لــم» فإنــه يعــر عنــه بصيغــة الفعــل‬ ‫المضــارع مســبوقا هبــا‪.‬‬

‫مــن التعبيــرات التــي ترافقــه‪( :‬أمــس ‪ -‬الليلــة الماضيــة ‪ -‬األســبوع‬ ‫الماضــي ‪ -‬منــذ ســنة ‪ -‬طــوال الســنة ‪ -‬طــوال اليــوم ‪ -‬ســابقا ‪ -‬قبــل‬ ‫قليــل ‪ -‬آنفــا ‪ -‬أبــدا‪ :‬يف النفــي )‪.‬‬ ‫األمثلة‪:‬‬

‫َ‬ ‫(وصل صديقي من الربازيل الليلة الماضية)‪.‬‬ ‫اإليجاب‪:‬‬ ‫النفي‪ :‬وأداته (ما) مثل‪( :‬ما رأى عمر أباه أبدً ا)‪.‬‬

‫الصيغــة‪ :‬يعــر عــن هــذا الزمن باســتخدام «الفعــل المضارع» مســبوقا بــ‬ ‫« ســــ » أو « ســوف » كرتكيــب أصلــي خــاص بــه‪ ،‬ولــه عــدة صيــغ أخــرى‬ ‫تــأيت يف ســياق الــكالم وتفهــم مــن القرائــن‪ ،‬وال يمكــن تعدادهــا علــى‬ ‫أهنــا صيــغ أصليــة لــه‪.‬‬ ‫مــن األلفــاظ الدالــة عليــه‪ ( :‬بعــد قليــل ‪ -‬الحقــا ‪ -‬األســبوع القــادم ‪-‬‬ ‫بعــد ســاعة ‪ -‬علــى وشــك أن‪ - ...‬غــدا ‪ -‬قريبــا ‪ -‬يف وقــت قريــب ‪-‬‬ ‫خــال دقائــق ‪ -‬يف المســتقبل ‪ -‬القــرن القــادم)‪.‬‬ ‫األمثلة‪:‬‬

‫ـافر‬ ‫اإليجــاب‪( :‬سـ‬ ‫ُ‬ ‫ـيذهب حســن إلــى الســوق بعــد قليــل‪ ،‬ســوف يسـ ُ‬ ‫عمــي إلــى الربازيــل الشــهر القــادم)‪.‬‬ ‫يلعب الطفل الكرة اليوم)‪.‬‬ ‫النفي‪ :‬وأداته «لن» مثل‪( :‬لن َ‬

‫ـف األطبــاق يــا فاتــح؟ ال‪ ،‬أنــا لــن‬ ‫الســؤال‪ :‬مثــل‪( :‬األم‪ :‬هــل ســوف تنظـ ُ‬ ‫ـف األطبــاق‪ ،‬أختــي ســوف تنظ ُفها)‪.‬‬ ‫أنظـ َ‬

‫االســم المقتــرح‪( :‬الزمــن المســتقبل) وال حاجــة لوصفــه بالبســيط‬ ‫لعــدم التباســه بالمركــب الــذي ســيأيت‪ ،‬ولعــدم التباســه بالحاضر أو اســم‬ ‫الفاعــل الــذي يــدل بالقرائــن علــى المســتقبل‪.‬‬ ‫املطلب الثاين‪ :‬األزمنة يف الجملة االسمية‬ ‫إن الجملــة االســمية هــي مــا ابت ُِدئــت باســم كمــا عرفهــا النحــاة‪ ،‬أو مــا‬ ‫كان المســند إليــه فيهــا اســما‪ ،‬والمســند صفــة أو اســمًا أو أي تركيــب‬ ‫آخــر يخلــو مــن الفعــل‪ ...‬وهبــذا االعتبــار فــإن جملــة (محمــدٌ يقــر ُأ‬ ‫كتا ًبــا) هــي فعل َّيــة باعتبــار المعنــى الوظيفــي الــذي تؤديــه‪.‬‬

‫االســم‪ :‬اســمه يف اللغــة الرتكيــة (الزمــن الحاضــر) (‪Şimdiki‬‬

‫ــت الــدرس يــا ســامر؟ الطالــب‪:‬‬ ‫فهم َ‬ ‫الســؤال‪ :‬مثــل‪( :‬المعلــم‪ :‬هــل ْ‬ ‫أفهــم الــدرس)‪.‬‬ ‫ــت الــدرس‪ ،‬أو‪ :‬ال‪ ،‬لــم‬ ‫فهم ُ‬ ‫ْ‬ ‫نعــم‪ْ ،‬‬

‫الصيغــة‪ :‬يعــر عــن هــذا الزمــن بصيغــة (الفعــل المضــارع) مــع تضمــن‬ ‫الجملة لف ًظا أو معنى الداللة على الحال‪.‬‬

‫الرابع‪ :‬الزمن المستقبل‬

‫إن األزمنــة البســيطة التــي نســتخدمها يف الجملــة الفعليــة هــي نفســها‬ ‫التــي تمــر معنــا يف الجملــة االســمية‪ ،‬ولهــذا نجــد األزمنــة يف هــذا النــوع‬ ‫مــن الجمــل كســابقتها وهــي‪ :‬الزمــن الواســع والزمــن الحاضــر والزمــن‬ ‫الماضــي والزمــن المســتقبل‪ ،‬ولــكل مــن هــذه األزمنــة طريقــة صياغتــه‬ ‫الخاصــة‪.‬‬

‫التعريــف‪ :‬هــو مــا يــدل علــى حــدث ســيبدأ بعــد وقــت التكلــم يف وقــت‬ ‫مــا مــن المســتقبل‪ ،‬ال علــى جهــة الطلــب(‪.((1‬‬

‫التعريــف‪ :‬هــو مــا ُيخــر بــه عــن اســم بصفــة أو ظــرف أو جــار ومجــرور‬ ‫أو اســم أو نحوهــا؛ للداللــة علــى صفــة ثابتــة يف المبتــدأ موجــودة يف‬ ‫األزمنــة الثالثــة الماضــي والحاضــر والمســتقبل دون النــص علــى زمــان‬ ‫معيــن لهــا‪ ،‬مثــل‪( :‬علــي شــجاع) أي إن الشــجاعة ثابتــة لــه يف الماضــي‬ ‫والحاضــر والمســتقبل‪.‬‬

‫‪ ((()Zaman‬واســمه يف اإلنجليزيــة (الزمــن الحاضــر المســتمر)‬ ‫(‪ ((()present progressive tense‬وليــس لــه اســم خــاص يف اللغــة‬ ‫العربيــة‪.‬‬

‫مــن األلفــاظ الدالــة عليــه‪ ( :‬اآلن ‪ -‬يف هــذا الوقــت ‪ ) -‬فهــذه التعبيــرات‬ ‫أو مــا يحمــل معناهــا إن وجــدت ‪ -‬لفظــا أو معنــى ‪ -‬يف الجملــة مــع‬ ‫الفعل المضارع دلت على الزمن الحاضر الحقيقي‪.‬‬ ‫األمثلة‪:‬‬

‫يكتب الوظيفة اآلن)‪.‬‬ ‫اإليجاب‪( :‬الطالب ُ‬

‫(((  ‪ -‬ورد استخدام أبدا مع الماضي يف قوله تعالى‪َ ﴿:‬و َبدَ ا َب ْينَنَا َو َب ْينَ ُك ُم ا ْل َعدَ َاو ُة َوا ْل َبغ َْضا ُء َأ َبدً ا َحتَّى ُتؤْ مِنُوا‬ ‫بِاهَّللِ َو ْحدَ ُه} [الممتحنة‪ :‬آية ‪ ]4‬وليس ذاك مشهورا‪ ،‬فال يعترب أصال يف التقسيم الزماين‪.‬‬ ‫(((  ‪ -‬سلسلة اسطنبول (‪.)04/1‬‬ ‫(((  ‪ -‬سلسلة كتاب بيرليتز الوحدة الرابعة (ص ‪.)81/1‬‬

‫االســم المقتــرح‪( :‬الزمــن الماضــي) وال حاجــة لوصفه بالبســيط‪ ،‬لعدم‬ ‫التباســه بالزمــن الماضــي المركــب مــع غيــره كمــا ســيأيت الح ًقا‪.‬‬

‫االســم‪ :‬اســمه يف اللغــة الرتكيــة (الزمــن المســتقبل) (‪Gelecek‬‬

‫‪ ((1()Zaman‬واســمه يف اإلنجليزيــة (الزمــن المســتقبل البســيط)‬ ‫(‪ ((1()simple future tense‬وليــس لــه اســم خــاص يف اللغــة العربيــة‪.‬‬ ‫(((  ‪ -‬سلسلة اسطنبول (‪.)52/2‬‬ ‫(‪ -  ((1‬سلسلة كتاب بيرليتز الوحدة التاسعة (ص ‪ 84/1‬و ‪.)05‬‬ ‫(‪( -  ((1‬ال على جهة الطلب) زدت هذا القيد حتى ال يلتبس بفعل األمر‪ ،‬إذ تعدّ ه بعض المناهج الصيغة‬ ‫الدالة على المستقبل مقابل الماضي والحاضر‪ ،‬وليس هو يف الحقيقة إال صيغة طلب‪.‬‬ ‫(‪ -  ((1‬سلسلة اسطنبول (‪.)93/2‬‬ ‫(‪ -  ((1‬سلسلة كتاب بيرليتز الوحدة األولى (ص ‪.)2/2‬‬

‫الخامس‪ :‬الزمن الواسع‬

‫االســم‪ :‬واســمه يف اللغــة الرتكيــة (الزمــن الواســع يف الجملــة االســمية)‬ ‫ومثالــه‪ ).Bu çocuk kibar( :‬بمعنــى‪( :‬هــذا الطفــل مهــذب‪ ).‬وال‬ ‫ينــص عليــه يف الكتــب التعليميــة المبســطة عــادة‪ ،‬وليــس لــه اســم خــاص‬ ‫يف اللغــة العربيــة‪.‬‬ ‫‪39‬‬


‫خطوة نحو تطوير علومنا اللغوية‬ ‫ولــدى اســتقراء الصيــغ الزمان ّيــة يف اللغــة الرتك ّيــة وجدهتــا ســتة عشــر‬ ‫زما ًنــا أصيـ ًـا‪ ،‬وقــد يضــاف عليهــا أربعــة أخــرى لتصــل إلــى عشــرين‬ ‫باعتبــار أن الماضــي يف اللغــة الرتكيــة نوعــان معلــوم وغيــر معلــوم‪،‬‬ ‫وليــس كل مــا يقابلهــا يف العربيــة مــن تراكيــب يمكــن أن يعــدَّ زمانًــا‬ ‫خاصــا يف الرتكيــة ينــدرج تحــت‬ ‫مســتقال‪ ،‬إذ إن بعــض مــا يعتــر زمانــا ًّ‬ ‫نــوع مــن األنــواع االثنــي عشــر التــي ســأذكرها‪.‬‬

‫وكمــا أن الجملــة يف العربيــة نوعــان اســمية وفعليــة‪ ،‬فكذلــك هــو الحال‬ ‫يف الرتكيــة إذ تنقســم الجملــة عندهــم إلــى فعليــة واســمية‪ ،‬واالســمية‬ ‫عندهــم مــا تــم الــكالم هبــا وخلــت مــن الفعــل‪ ،‬والفعليــة عندهــم مــا تــم‬ ‫الــكالم هبــا مــع وجــود فعــل يف تركيبهــا‪.‬‬ ‫وســأعرض هنــا للصيــغ الزمانيــة يف العربيــة مقارنــة بالرتكية‪ ،‬وقــد أعرج‬ ‫علــى اإلنجليزية للتوضيــح أحيانًا‪.‬‬

‫املطلب األول‪ :‬األزمنة يف الجملة الفعلية‬ ‫الجملــة الفعليــة هــي مــا ابت ُِدئــت بفعــل كمــا يف علــم النحــو‪ ،‬أو مــا كان‬

‫المســند فيهــا فعــا ســواء تقــدم علــى االســم أو تأخــر عنــه‪ ،‬كمــا سنســير‬ ‫عليــه‪ ،‬وهــو مــا عليــه االعتمــاد يف اللغــة الرتكيــة‪ ،‬وهــو أقــرب يف االعتبــار‬ ‫إلــى الوظيفــة ممــا هــو عليــه الحــال يف النحــو العربــي‪ ...‬ولــدى اســتقراء‬ ‫تراكيــب الجملــة الفعليــة البســيطة نجدهــا ‪-‬بالنظــر إلــى الزمــن‪ -‬إمــا أن‬ ‫تــدل علــى حــدث وقــع وانتهــى يف الماضــي‪ ،‬أو حــدث يقــع يف وقــت‬ ‫التكلــم‪ ،‬أو حــدث ســيقع يف المســتقبل‪ ،‬أو حــدث واســع تكــرر يف‬ ‫الماضــي ومــا زال يتكــرر يف الحاضــر وسيســتمر يف المســتقبل‪ ،‬فهــذه‬ ‫أربعــة أزمنــة ولــكل منهــا تركيبــه الخــاص يف كل مــن العربيــة كمــا هــو‬ ‫الحــال يف اإلنجليزيــة والرتكيــة‪ ،‬ولــكل مــن هــذه الرتاكيــب مــا يميــزه عن‬ ‫اآلخــر‪.‬‬

‫األول‪ :‬الزمن الحاضر الواسع‪.‬‬

‫التعريــف‪ :‬هــو مــا يــدل علــى حــدث تكــرر يف الماضــي واســتمر كذلــك‬ ‫يف الحاضــر وسيســتمر يف المســتقبل‪ ،‬للداللــة علــى عــادة أو حقيقــة‬ ‫علم ّيــة أو خاصيــة الفاعــل يف المســائل الثابتــة أو مــا شــاهبها ممــا يســتمر‬ ‫يف األزمنــة الثالثــة‪.‬‬

‫االســم‪ :‬واســمه يف اللغــة الرتكيــة (الزمــن الواســع) (‪Geniş‬‬ ‫‪ ،((()Zaman‬واســمه يف اإلنجليزيــة (الزمن الحاضر البســيط) (‪simple‬‬ ‫‪ ((()present tense‬وليــس لــه اســم خــاص يف اللغــة العربيــة‪.‬‬

‫الصيغــة‪ :‬يعــر عــن هــذا الزمــن بصيغــة (الفعــل المضــارع) مــع تضمــن‬ ‫الجملــة لفظــا أو معنــى أحــد التعابيــر اآلتيــة‪( :‬دائمــا ‪ -‬غالبــا ‪ -‬أحيانــا)‬ ‫أو (أبــدا) يف حالــة النفــي‪ ،‬أو (عــادة أو كثيــرا ) للداللــة علــى كثــرة األمــر‪،‬‬ ‫ـادرا) للداللــة علــى قلتــه‪ ...‬ومثــل ذلــك (كل يــوم ‪ -‬كل أســبوع‬ ‫أو (نـ ً‬ ‫ كل عــام ‪ -‬أيــام األحــد ‪ -‬يوميــا ‪ -‬شــهريا ‪ -‬أســبوعيا ‪ -‬ســنويا )‪...‬‬‫(((  ‪ -‬سلسلة إسطنبول (ص ‪.)07/2‬‬ ‫(((  ‪ -‬سلسلة كتاب بيرليتز الوحدة الثالثة (ص ‪.)21/1‬‬

‫‪38‬‬

‫فهــذه التعبيــرات أو مــا يحمــل معناهــا ‪ -‬ممــا يــدل علــى تكــرار الحــدث‬ ‫يف األزمنــة الثالثــة ‪ -‬إن وجــدت يف الجملــة مــع صيغــة الفعــل المضــارع‬ ‫دلــت علــى مــا يســمى (بالزمــن الواســع) يف اللغــة الرتكيــة‪ ،‬أو (الزمــن‬ ‫الحاضــر البســيط) يف اللغــة اإلنجليزيــة‪.‬‬ ‫األمثلة‪:‬‬

‫صباحــا ‪-‬‬ ‫الســاعة ال ّثامنــة‬ ‫ً‬ ‫(دائمــا أذهـ ُ‬ ‫ـب إلــى العمــل يف ّ‬ ‫يف اإليجــاب‪ً :‬‬ ‫ـع مــن ّ‬ ‫ـب العســل ‪ّ -‬‬ ‫الشــرق)‪.‬‬ ‫الشــمس تطلـ ُ‬ ‫أنــت تحـ ُّ‬ ‫ـب أبــدا إلــى العمــل ّ‬ ‫متأخـ ًـرا ‪ -‬عائشــة تقــر ُأ الكتــب‬ ‫يف النفــي‪( :‬أنــا ال أذهـ ُ‬ ‫ُ‬ ‫دائمــا لكـ ّن ســم ّية ال تقــرأ أبــدً ا)‪.‬‬ ‫ً‬ ‫الســؤال‪( :‬متــى تنــا ُم عــادةً؟ الجــواب‪ :‬غال ًبــا أنــام يف الســاعة الحاديــة‬ ‫عشــرة‪ ،‬وأحيا ًنــا ّ‬ ‫أتأخــر إلــى الثانيــة عشــرة)‪.‬‬ ‫(دائمــا) يف اإلثبــات كلمــة (أبــدً ا) يف النفــي‪،‬‬ ‫ونالحــظ أن ضــد كلمــة ً‬ ‫وضــد كلمــة (غال ًبــا) كلمــة (أحيانًــا)‪ ،‬وهنــا نتبــع المشــهور يف اللغــة‬ ‫العامــة وال يلتفــت إلــى الرتاكيــب النــادرة(((‪.‬‬

‫االســم المقتــرح‪ :‬إن التعبيــر الرتكــي عــن هــذا الزمــن هــو األقــرب إلــى‬ ‫المنطــق‪ ،‬فأقــرح لــه اســم (الزمــن الحاضــر الواســع) وأضفــت لــه كلمــة‬ ‫الحاضــر المســتخدمة يف اإلنجليزيــة ألن صيغتــه يف لغتنــا مشــركة مــع‬ ‫الزمــن الحاضــر الحقيقــي فاســتدعى التنبيــه إلــى القــدر المشــرك مــع مــا‬ ‫يميزه‪.‬‬

‫الثاين‪ :‬الزمن الحاضر‬

‫التعريــف‪ :‬هــو مــا يــدل علــى حــدث بــدأ قبــل فــرة مــن الزمــن ويســتمر‬ ‫حدوثــه إلــى وقــت التكلــم‪.‬‬

‫خطوة نحو تطوير علومنا اللغوية‬ ‫يكتب وظيفته اآلن)‪.‬‬ ‫النفي‪ :‬وأداته (ال) مثل‪( :‬الطالب ال‬ ‫ُ‬

‫تفعــل؟ ‪ -‬االبــن‪ :‬أنــا ال ُ‬ ‫ُ‬ ‫أفعــل شــيئا‪ ،‬أنــا أقــر ُأ‬ ‫الســؤال‪( :‬األم‪ :‬مــاذا‬ ‫الجريــدة)‪.‬‬

‫االســم المقتــرح‪( :‬الزمــن الحاضــر) وال حاجــة لوصفــه بالمســتمر أو‬ ‫الحقيقــي‪ ،‬ألنــه قــد تــم وصــف ســابقه (بالواســع) وهــذا االســم كاف يف‬ ‫الداللــة علــى معنــاه‪.‬‬

‫الثالث‪ :‬الزمن الماضي‬

‫التعريف‪ :‬هو ما يدل على حدث بدأ وانتهى قبل وقت التكلم‪.‬‬

‫االســم‪ :‬اســمه يف اللغــة الرتكية (الزمــن الماضي المعلوم) أو الشــهودي‬ ‫(‪ ((()Belirli Geçmiş Zaman‬واســمه يف اإلنجليزيــة (الزمــن الماضي‬ ‫البســيط) (‪ ((1()simple past tense‬واســمه يف اللغــة العربيــة (الفعــل‬ ‫الماضي)‪.‬‬

‫الصيغــة‪ :‬إن الصيغــة الصرفيــة المخصصــة لهــذا الزمــن يف العربيــة‬ ‫هــي ( َف َعـ َـل) إال يف حالــة النفــي بــــ «لــم» فإنــه يعــر عنــه بصيغــة الفعــل‬ ‫المضــارع مســبوقا هبــا‪.‬‬

‫مــن التعبيــرات التــي ترافقــه‪( :‬أمــس ‪ -‬الليلــة الماضيــة ‪ -‬األســبوع‬ ‫الماضــي ‪ -‬منــذ ســنة ‪ -‬طــوال الســنة ‪ -‬طــوال اليــوم ‪ -‬ســابقا ‪ -‬قبــل‬ ‫قليــل ‪ -‬آنفــا ‪ -‬أبــدا‪ :‬يف النفــي )‪.‬‬ ‫األمثلة‪:‬‬

‫َ‬ ‫(وصل صديقي من الربازيل الليلة الماضية)‪.‬‬ ‫اإليجاب‪:‬‬ ‫النفي‪ :‬وأداته (ما) مثل‪( :‬ما رأى عمر أباه أبدً ا)‪.‬‬

‫الصيغــة‪ :‬يعــر عــن هــذا الزمن باســتخدام «الفعــل المضارع» مســبوقا بــ‬ ‫« ســــ » أو « ســوف » كرتكيــب أصلــي خــاص بــه‪ ،‬ولــه عــدة صيــغ أخــرى‬ ‫تــأيت يف ســياق الــكالم وتفهــم مــن القرائــن‪ ،‬وال يمكــن تعدادهــا علــى‬ ‫أهنــا صيــغ أصليــة لــه‪.‬‬ ‫مــن األلفــاظ الدالــة عليــه‪ ( :‬بعــد قليــل ‪ -‬الحقــا ‪ -‬األســبوع القــادم ‪-‬‬ ‫بعــد ســاعة ‪ -‬علــى وشــك أن‪ - ...‬غــدا ‪ -‬قريبــا ‪ -‬يف وقــت قريــب ‪-‬‬ ‫خــال دقائــق ‪ -‬يف المســتقبل ‪ -‬القــرن القــادم)‪.‬‬ ‫األمثلة‪:‬‬

‫ـافر‬ ‫اإليجــاب‪( :‬سـ‬ ‫ُ‬ ‫ـيذهب حســن إلــى الســوق بعــد قليــل‪ ،‬ســوف يسـ ُ‬ ‫عمــي إلــى الربازيــل الشــهر القــادم)‪.‬‬ ‫يلعب الطفل الكرة اليوم)‪.‬‬ ‫النفي‪ :‬وأداته «لن» مثل‪( :‬لن َ‬

‫ـف األطبــاق يــا فاتــح؟ ال‪ ،‬أنــا لــن‬ ‫الســؤال‪ :‬مثــل‪( :‬األم‪ :‬هــل ســوف تنظـ ُ‬ ‫ـف األطبــاق‪ ،‬أختــي ســوف تنظ ُفها)‪.‬‬ ‫أنظـ َ‬

‫االســم المقتــرح‪( :‬الزمــن المســتقبل) وال حاجــة لوصفــه بالبســيط‬ ‫لعــدم التباســه بالمركــب الــذي ســيأيت‪ ،‬ولعــدم التباســه بالحاضر أو اســم‬ ‫الفاعــل الــذي يــدل بالقرائــن علــى المســتقبل‪.‬‬ ‫املطلب الثاين‪ :‬األزمنة يف الجملة االسمية‬ ‫إن الجملــة االســمية هــي مــا ابت ُِدئــت باســم كمــا عرفهــا النحــاة‪ ،‬أو مــا‬ ‫كان المســند إليــه فيهــا اســما‪ ،‬والمســند صفــة أو اســمًا أو أي تركيــب‬ ‫آخــر يخلــو مــن الفعــل‪ ...‬وهبــذا االعتبــار فــإن جملــة (محمــدٌ يقــر ُأ‬ ‫كتا ًبــا) هــي فعل َّيــة باعتبــار المعنــى الوظيفــي الــذي تؤديــه‪.‬‬

‫االســم‪ :‬اســمه يف اللغــة الرتكيــة (الزمــن الحاضــر) (‪Şimdiki‬‬

‫ــت الــدرس يــا ســامر؟ الطالــب‪:‬‬ ‫فهم َ‬ ‫الســؤال‪ :‬مثــل‪( :‬المعلــم‪ :‬هــل ْ‬ ‫أفهــم الــدرس)‪.‬‬ ‫ــت الــدرس‪ ،‬أو‪ :‬ال‪ ،‬لــم‬ ‫فهم ُ‬ ‫ْ‬ ‫نعــم‪ْ ،‬‬

‫الصيغــة‪ :‬يعــر عــن هــذا الزمــن بصيغــة (الفعــل المضــارع) مــع تضمــن‬ ‫الجملة لف ًظا أو معنى الداللة على الحال‪.‬‬

‫الرابع‪ :‬الزمن المستقبل‬

‫إن األزمنــة البســيطة التــي نســتخدمها يف الجملــة الفعليــة هــي نفســها‬ ‫التــي تمــر معنــا يف الجملــة االســمية‪ ،‬ولهــذا نجــد األزمنــة يف هــذا النــوع‬ ‫مــن الجمــل كســابقتها وهــي‪ :‬الزمــن الواســع والزمــن الحاضــر والزمــن‬ ‫الماضــي والزمــن المســتقبل‪ ،‬ولــكل مــن هــذه األزمنــة طريقــة صياغتــه‬ ‫الخاصــة‪.‬‬

‫التعريــف‪ :‬هــو مــا يــدل علــى حــدث ســيبدأ بعــد وقــت التكلــم يف وقــت‬ ‫مــا مــن المســتقبل‪ ،‬ال علــى جهــة الطلــب(‪.((1‬‬

‫التعريــف‪ :‬هــو مــا ُيخــر بــه عــن اســم بصفــة أو ظــرف أو جــار ومجــرور‬ ‫أو اســم أو نحوهــا؛ للداللــة علــى صفــة ثابتــة يف المبتــدأ موجــودة يف‬ ‫األزمنــة الثالثــة الماضــي والحاضــر والمســتقبل دون النــص علــى زمــان‬ ‫معيــن لهــا‪ ،‬مثــل‪( :‬علــي شــجاع) أي إن الشــجاعة ثابتــة لــه يف الماضــي‬ ‫والحاضــر والمســتقبل‪.‬‬

‫‪ ((()Zaman‬واســمه يف اإلنجليزيــة (الزمــن الحاضــر المســتمر)‬ ‫(‪ ((()present progressive tense‬وليــس لــه اســم خــاص يف اللغــة‬ ‫العربيــة‪.‬‬

‫مــن األلفــاظ الدالــة عليــه‪ ( :‬اآلن ‪ -‬يف هــذا الوقــت ‪ ) -‬فهــذه التعبيــرات‬ ‫أو مــا يحمــل معناهــا إن وجــدت ‪ -‬لفظــا أو معنــى ‪ -‬يف الجملــة مــع‬ ‫الفعل المضارع دلت على الزمن الحاضر الحقيقي‪.‬‬ ‫األمثلة‪:‬‬

‫يكتب الوظيفة اآلن)‪.‬‬ ‫اإليجاب‪( :‬الطالب ُ‬

‫(((  ‪ -‬ورد استخدام أبدا مع الماضي يف قوله تعالى‪َ ﴿:‬و َبدَ ا َب ْينَنَا َو َب ْينَ ُك ُم ا ْل َعدَ َاو ُة َوا ْل َبغ َْضا ُء َأ َبدً ا َحتَّى ُتؤْ مِنُوا‬ ‫بِاهَّللِ َو ْحدَ ُه} [الممتحنة‪ :‬آية ‪ ]4‬وليس ذاك مشهورا‪ ،‬فال يعترب أصال يف التقسيم الزماين‪.‬‬ ‫(((  ‪ -‬سلسلة اسطنبول (‪.)04/1‬‬ ‫(((  ‪ -‬سلسلة كتاب بيرليتز الوحدة الرابعة (ص ‪.)81/1‬‬

‫االســم المقتــرح‪( :‬الزمــن الماضــي) وال حاجــة لوصفه بالبســيط‪ ،‬لعدم‬ ‫التباســه بالزمــن الماضــي المركــب مــع غيــره كمــا ســيأيت الح ًقا‪.‬‬

‫االســم‪ :‬اســمه يف اللغــة الرتكيــة (الزمــن المســتقبل) (‪Gelecek‬‬

‫‪ ((1()Zaman‬واســمه يف اإلنجليزيــة (الزمــن المســتقبل البســيط)‬ ‫(‪ ((1()simple future tense‬وليــس لــه اســم خــاص يف اللغــة العربيــة‪.‬‬ ‫(((  ‪ -‬سلسلة اسطنبول (‪.)52/2‬‬ ‫(‪ -  ((1‬سلسلة كتاب بيرليتز الوحدة التاسعة (ص ‪ 84/1‬و ‪.)05‬‬ ‫(‪( -  ((1‬ال على جهة الطلب) زدت هذا القيد حتى ال يلتبس بفعل األمر‪ ،‬إذ تعدّ ه بعض المناهج الصيغة‬ ‫الدالة على المستقبل مقابل الماضي والحاضر‪ ،‬وليس هو يف الحقيقة إال صيغة طلب‪.‬‬ ‫(‪ -  ((1‬سلسلة اسطنبول (‪.)93/2‬‬ ‫(‪ -  ((1‬سلسلة كتاب بيرليتز الوحدة األولى (ص ‪.)2/2‬‬

‫الخامس‪ :‬الزمن الواسع‬

‫االســم‪ :‬واســمه يف اللغــة الرتكيــة (الزمــن الواســع يف الجملــة االســمية)‬ ‫ومثالــه‪ ).Bu çocuk kibar( :‬بمعنــى‪( :‬هــذا الطفــل مهــذب‪ ).‬وال‬ ‫ينــص عليــه يف الكتــب التعليميــة المبســطة عــادة‪ ،‬وليــس لــه اســم خــاص‬ ‫يف اللغــة العربيــة‪.‬‬ ‫‪39‬‬


‫خطوة نحو تطوير علومنا اللغوية‬ ‫الصيغــة‪ :‬صيغــة هــذا الزمــن عبــارة عــن اســم يخــر عنــه باســم أو صفــة‬ ‫أو مــا شــابه ذلــك‪ ،‬مثــل‪( :‬محمــد أخــي) وقــد يظهــر الفعــل (يكــون)‬ ‫معنــى يف الجملــة مثــل‪( :‬محمــد يكــون أخــي)‪ ،‬علــى أن‬ ‫المتضمــن‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ـى إحــدى التعابيــر اآلتيــة‪( :‬دائمــا ‪-‬‬ ‫تتضمــن هــذه الصيغــة لفظــا أو معنـ ً‬ ‫غالبــا ‪ -‬أحيانــا) أو (أبــدا) يف حالــة النفــي‪ ،‬أو (عــادة ‪ -‬عــادة مــا) للداللــة‬ ‫ـادرا ‪ -‬نــادرا مــا) للداللــة علــى قلتــه‪ ،‬مثــل‪( :‬أبــي‬ ‫علــى كثــرة األمــر‪ ،‬أو (نـ ً‬ ‫ـادرا مــا يكــون غاض ًبــا)‪ ،‬ومثــل ذلــك (كل يــوم ‪ -‬كل أســبوع ‪ -‬كل عــام‬ ‫نـ ً‬ ‫ أيــام االثنيــن ‪ -‬يوميــا ‪ -‬شــهريا ‪ -‬أســبوعيا ‪ -‬ســنويا)‪.‬‬‫األمثلة‪:‬‬

‫اإليجــاب‪( :‬أحمــد مجتهــدٌ ‪ ،‬عــادة مــا يكــون هــذا المعلــم غاض ًبــا‪ ،‬هــذا‬ ‫العامــل يكــون متع ًبــا كل يــوم اثنيــن)‪.‬‬

‫النفــي‪( :‬ليــس أحمــد مجتهــدً ا) ( خالــد غال ًبــا ال يكــون هاد ًئــا) (عــادة ال‬ ‫معلمــا)‪.‬‬ ‫يكــون هــذا الرجــل يف بيتــه) (أنــا لســت ً‬

‫الســؤال‪( :‬هــل أبــوك مهنــدس؟ نعــم‪ ،‬أبــي مهنــدس ‪ -‬ال‪ ،‬أبــي ليــس‬ ‫مهندســا)‪.‬‬ ‫ً‬

‫تعقيــب‪ :‬هــذه الصيغــة الزمانيــة هــي أبســط أشــكال الجملــة العربيــة‬ ‫وهــي أول مــا يعطــى مــن األزمنــة وإن كان ال ُينــص علــى اســمها‬ ‫إلدراكهــا بالفطــرة‪ ،‬مثــل‪( :‬هــل هــذا قلــم؟ نعــم هــذا قلــم ‪ -‬ال‪ ،‬هــذا‬ ‫ليــس قلمــا)‪ ،‬ويفضــل تدريــس هــذا الزمــن بصيغــة اإلثبــات واالســتفهام‬ ‫والنفــي البســيط بــــ (ليــس) يف بدايــات تعلــم اللغــة‪.‬‬ ‫االسم المقترح‪« :‬الزمن الواسع» يف الجملة االسمية‪.‬‬

‫السادس‪ :‬الزمن الحاضر‬

‫التعريــف‪ :‬هــو اإلخبــار عــن اســم بصفــة أو ظــرف أو جــار ومجــرور‬ ‫أو نحوهــا؛ للداللــة علــى صفــة يف المبتــدأ موجــودة يف زمــن التكلــم‪،‬‬ ‫مثــل‪( :‬أيــن أحمــد؟) الجــواب‪( :‬أحمــد نائــم يف غرفتــه)‪ ،‬إذ النــوم صفــة‬ ‫مؤقتــة تجــري يف وقــت التكلــم‪ ،‬ومثــل‪( :‬أيــن علــي؟) الجــواب‪( :‬علــي‬ ‫يف الصــف اآلن)‪.‬‬

‫االســم‪ :‬لــم يمــر معــي اســم خــاص لهــذه الصيغــة يف اللغــة الرتكيــة‪،‬‬ ‫ولعــل مرجــع األمــر يف ذلــك اإلدراك الفطــري لــدالالت الجملــة‬ ‫االســمية البســيطة‪ ،‬عندمــا تكــون واســعة أو متضمنــة معنــى الحاليــة‪،‬‬ ‫ومثالــه‪ )Ben şuan meşgulüm.( :‬بمعنــى‪( :‬أنــا مشــغول اآلن)‪،‬‬ ‫كمــا أنــه ليــس لهــذا الزمــان اســم يف اللغــة العربيــة‪.‬‬

‫الصيغــة‪ :‬صيغــة هــذا الزمــن كصيغــة الزمــن الواســع‪ ،‬إضافــة إلــى‬ ‫تضمــن الجملــة مــا يــدل علــى الحــال مــن القرائــن أو األلفــاظ‪ ،‬مــن‬ ‫األلفــاظ الدالــة عليــه‪( :‬اآلن ‪ -‬يف هــذا الوقــت)‪.‬‬ ‫األمثلة‪:‬‬

‫ٌ‬ ‫مشغول اآلن)‪.‬‬ ‫اإليجاب‪( :‬أنا‬ ‫‪40‬‬

‫النفي‪ :‬وأداته (ليس) مثل‪( :‬أنا لست ذاه ًبا إلى السوق)‪.‬‬

‫خطوة نحو تطوير علومنا اللغوية‬

‫الثامن‪ :‬الزمن المستقبل‬

‫ـغول اآلن؟ ‪ -‬نعــم‪ ،‬أنــا مشـ ٌ‬ ‫الســؤال‪( :‬هــل أنــت مشـ ٌ‬ ‫ـغول‪ - ،‬ال أنا لســت‬ ‫مشـ ً‬ ‫ـغول يف هــذا الوقت)‪.‬‬

‫التعريــف‪ :‬هــو اإلخبــار عــن اســم بصفــة أو ظــرف أو جــار ومجــرور أو‬ ‫نحوهــا؛ للداللــة علــى صفــة ســتوجد يف االســم بعــد زمــن التكلــم‪ ،‬مثل‪:‬‬ ‫ـارا مثــل أبــي)‪.‬‬ ‫(مــاذا ســتكون يف المســتقبل؟) الجــواب‪( :‬ســأكون ط ّيـ ً‬

‫االسم المقترح‪« :‬الزمن الحاضر» يف الجملة االسمية‪.‬‬

‫الصيغــة‪ :‬صيغتــه يف العربيــة «(ســـ» أو «ســوف» ‪« +‬يكــون» أو «يصبــح»‬ ‫أو «يصيــر» ‪ +‬اســم ‪ +‬صفــة) مثــل (ســيكون طـ ٌ‬ ‫ـارق موظ ًفــا)‪.‬‬

‫تعقيــب‪ :‬كمــا يف ســابقه قــد ال ُيحتــاج إلــى تدريــس هــذا الزمــن باســمه‬ ‫و ُيكتفــى بتعليــم كلمــة (اآلن) لتخصيــص الجملــة االســمية وحصرهــا‬ ‫بوقــت التكلــم‪ ،‬ولكــن بعــد أن يقطــع الطالــب شــو ًطا يف تع ُّلــم تراكيــب‬ ‫اللغــة ينبغــي أن يعــرف مــكان هــذه الصيغــة مــن األزمنــة‪ ،‬ألنــه ســيحتاج‬ ‫إلــى تمييزهــا يف الجمــل الشــرطية والمركبــة‪.‬‬

‫السابع‪ :‬الزمن الماضي‬

‫التعريــف‪ :‬هــو اإلخبــار عــن اســم بصفــة أو ظــرف أو جــار ومجــرور‬ ‫أو نحوهــا؛ للداللــة علــى صفــة كانــت موجــودة يف المبتــدأ وانتهــت‬ ‫قبــل زمــن التكلــم‪ ،‬مثــل‪( :‬أيــن كان أحمــد؟) الجــواب‪( :‬كان أحمــد‬ ‫يف المدرســة‪ ،).‬إذ وجــوده يف المدرســة صفــة ماضيــة‪ ،‬وكذلــك‪( :‬كنــت‬ ‫مريضــا وأنــا اآلن ســليم والحمــد هلل)‪.‬‬ ‫ً‬

‫االســم‪ :‬اســمه يف اللغــة الرتكيــة (الزمــن الماضــي المعلــوم يف الجملــة‬ ‫(‪((1‬‬ ‫االســمية) (‪)İsim Cümlelerinde Belirli Geçmiş Zaman‬‬ ‫مثــل‪ ).Geçen hafta çok yorgundum( :‬بمعنــى‪( :‬كنــت متع ًبــا‬ ‫جــدًّ ا األســبوع الماضــي‪ ).‬وليــس لــه اســم يف اللغــة العربيــة إذ إن (كان)‬ ‫تــدرس نحو ًّيــا يف نواســخ الجملــة االســمية بغــض النظــر عــن المعنــى‬ ‫الوظيفـ ّـي لهــا‪.‬‬

‫الصيغــة‪ :‬صيغــة هــذا الزمــن يف العربيــة ( كان ‪ +‬اســم ‪ +‬صفــة) مثــل‬ ‫(كان طـ ٌ‬ ‫ـارق موظ ًفــا)‪ ،‬ويمكــن أن نســتخدم عــوض (كان)؛ (صــار) أو‬ ‫(أصبــح) للداللــة علــى ضــد معناهــا يف الماضــي مثــل‪( :‬كان صالــح‬ ‫مدرســا‪( ).‬كنــت موظ ًفــا وصــرت متقاعــدً ا‪ ،).‬ومــن‬ ‫طال ًبــا‪ ،‬أصبــح‬ ‫ً‬ ‫األلفــاظ الدالــة عليــه‪( :‬أمــس ‪ -‬الليلــة الماضيــة ‪ -‬األســبوع الماضــي‬ ‫ الســنة الماضيــة ‪ -‬منــذ ســنة ‪ -‬طــوال الســنة ‪ -‬طــوال اليــوم ‪ -‬ســابقا ‪-‬‬‫قبــل قليــل ‪ -‬آنفــا ‪ -‬أبــدا‪ :‬يف النفــي )‪.‬‬ ‫األمثلة‪:‬‬

‫اإليجــاب‪( :‬يف الســنة الماضيــة كان عامــر موظ ًفــا‪ ،‬ويف بدايــة الســنة صار‬ ‫ـافرا طوال الســنة)‪.‬‬ ‫متقاعــدً ا) (كنــت مسـ ً‬

‫النفــي‪ :‬ونحصــل عليــه باســتخدام (مــا كان) أو (لــم يكــن) مثــل‪( :‬مــا‬ ‫ـافرا)‪.‬‬ ‫كان أبــي ً‬ ‫مريضــا) ‪( -‬لــم أكــن مسـ ً‬ ‫الســؤال‪( :‬هــل كنــت مشــغوال؟ ال‪ ،‬لــم أكــن مشــغوال‪ ،‬كنــت منتظـ ًـرا‬ ‫لــك‪.).‬‬ ‫االسم المقترح‪« :‬الزمن الماضي» يف الجملة االسمية‪.‬‬

‫(‪ -  ((1‬سلسلة اسطنبول (‪.)82/2‬‬

‫االســم‪ :‬اســمه يف اللغــة الرتكيــة (الزمــن المســتقبل يف الجملــة‬ ‫االســمية) (‪ ((1()İsim Cümlelerinde Gelecek Zaman‬مثــل‪:‬‬ ‫(‪ )İki ay sonra anne olacağım‬بمعنــى (ســأكون أ ًّمــا بعــد‬ ‫شــهرين‪ ).‬وليــس لــه اســم خــاص يف العربيــة‪.‬‬

‫ويمكــن أن نســتخدم عــوض (ســيكون)؛ (ســيصير) أو (ســيصبح)‬ ‫للداللــة علــى نفــس معناهــا يف المســتقبل وليــس علــى ضــد معناهــا كمــا‬ ‫هــو الحــال يف الماضــي‪ ،‬مثــل (صالح طالب‪ ،‬وســيكون ‪ -‬أو ســيصبح ‪-‬‬ ‫معلمــا الســنة القادمــة)‪ ،‬ومــن األلفــاظ الدالــة عليــه‪ ( :‬بعد قليــل ‪ -‬الحقا‬ ‫ األســبوع القــادم ‪ -‬بعــد ســاعة ‪ -‬على وشــك أن‪ - ...‬غــدا ‪ -‬قريبا ‪ -‬يف‬‫وقــت قريــب ‪ -‬خــال دقائــق ‪ -‬يف المســتقبل ‪ -‬القــرن القــادم)‪.‬‬ ‫األمثلة‪:‬‬

‫ناجحا إن شاء اهلل)‪.‬‬ ‫معلما‬ ‫ً‬ ‫اإليجاب‪( :‬سأكون ً‬

‫النفي‪ :‬وأداته «لن» مثل‪( :‬لن أكون جبانًا ولن أصبح ً‬ ‫فاشل)‪.‬‬

‫ـغول غــدً ا؟ ‪ -‬ســأكون مشـ ً‬ ‫الســؤال‪( :‬هــل ســتكون مشـ ً‬ ‫ـغول مــن الصباح‬ ‫وحتــى الظهــر‪ ،‬لكــن لــن أكون مشـ ً‬ ‫ـغول يف المســاء)‪.‬‬ ‫االسم المقترح‪« :‬الزمن المستقبل» يف الجملة االسمية‪.‬‬

‫املطلب الثالث‪ :‬األزمنة املحكية‬

‫ترتكــب صيــغ الحكايــة يف اللغــة العربية مــن زمنين‪ ،‬أحدهمــا المتضمن‬ ‫يف الصيغــة األصليــة للفعــل المكــون مــن حــدث وزمــان‪ ،‬والزمــن الثــاين‬ ‫المســتفاد مــن تضمــن الصيغــة لفعــل الكــون أو ما يشــبهه‪.‬‬ ‫وأزمنــة الحكايــة هــذه هــي أربعــة تب ًعــا للتّنوع األصلـ ِّـي لألزمنــة‪( ،‬الزمن‬ ‫الواســع والزمــن الحاضــر والزمــن الماضي والزمن المســتقبل)‪،‬‬

‫ويعــر عنهــا يف اللغــة الرتكيــة باســم صيــغ الحكايــة فيقــال‪( :‬حكايــة‬ ‫الزمــن الحاضــر وحكايــة المســتمر وحكايــة الماضــي والمســتقبل)‪،‬‬ ‫وأمــا يف اإلنجليزيــة فيــأيت بعضهــا يف صيــغ (الزمــن التــام) وأحيانــا يف‬ ‫غيرهــا‪ ،‬وهــي تختلــف عــن العربيــة والرتكيــة يف عــد بعــض الصيــغ أزمنة‬ ‫خاصــة؛ هــي تراكيــب متنوعــة لصيغــة زمانيــة واحــدة عندنــا‪.‬‬

‫التاسع‪ :‬الزمن الواسع المحكي‬

‫(‪ -  ((1‬سلسلة اسطنبول (‪.)34/2‬‬

‫التعريــف‪ :‬هــو مــا يحكــي حد ًثــا كان يتكــرر يف الزمــن الماضــي‪ ،‬ســواء‬ ‫بقــي إلــى وقــت التكلــم أم ال‪.‬‬

‫االســم‪ :‬اســم هــذه الصيغــة يف اللغــة الرتكيــة (حكايــة الزمــن الواســع)‬ ‫«‪ Geniş Zamanın Hikâyesi‬مثــل‪Selim gençliğinde pop( :‬‬ ‫‪ ((1().müzik dinlerdi‬بمعنــى (ســليم كان يســمع موســيقى البــوب يف‬ ‫شــبابه‪ ،).‬وأمــا يف اللغــة العربيــة فــا يوجــد اســم خــاص لهــذه الصيغــة‬ ‫وال تفــرد يف التدريــس‪ ،‬بــل تصنــف يف علــم النحــو علــى أهنــا مــن بــاب‬ ‫الجملــة االســمية المنســوخة‪ ،‬وبنظرنــا إلــى جهــة المعنــى والوظيفة نجد‬ ‫أهنــا صيغــة فعليــة‪ ،‬إذ هــي صيغــة حكايــة حــدث وقــع يف الزمــن الماضــي‬ ‫علــى ســبيل التكــرار‪.‬‬

‫الصيغــة‪ { :‬كان ‪ +‬اســم ‪( +‬فعــل مضــارع) ‪ } ..... +‬وأمــا االســم أو‬ ‫الفاعــل يف هــذه الجملــة فيمكــن أن يختلــف مكانــه ليكــون قبــل كان أو‬ ‫بعدهــا‪ ،‬وال يؤثــر يف الصيغــة‪ ،‬ومــن التعبيــرات التــي ترافــق هــذا الزمــن‪:‬‬ ‫(دائمــا ‪ -‬غال ًبــا ‪ -‬أحيا ًنــا) أو (أبــدً ا) يف حالــة النفــي‪ ،‬أو (عــادة) للداللــة‬ ‫ً‬ ‫علــى كثــرة األمــر‪ ...‬ومثــل ذلــك (كل يــوم ‪ -‬يوم ًيــا ‪ -‬شــهر ًيا ‪ -‬أســبوع ًيا‬ ‫ ســنو ًيا ‪ -‬ســاب ًقا ‪ -‬ومــا زلــت ‪ -‬لكــن ليــس بعــد)‪.‬‬‫األمثلة‪:‬‬

‫اإليجــاب‪( :‬لســنوات كان أحمــد يذهــب إلــى عملــه كل يــوم يف الســاعة‬ ‫صباحــا) ومثــل‪( :‬يف الماضــي كان الطــاب عندمــا يــرون المعلم‬ ‫الثامنــة‬ ‫ً‬ ‫يقفــون احرتا ًمــا له)‪.‬‬ ‫الســؤال والنفــي‪( :‬هــل كنــت تدخــن وأنــت شــاب؟ ‪ -‬نعم كنــت أدخن‪.‬‬ ‫ ال‪ ،‬لــم أكــن أدخن أبــدً ا)‪.‬‬‫تعقيــب‪ :‬ليــس يف هــذا الزمــن التنصيــص علــى اســتمرار ت َكـ ُّـر ِر الفعــل يف‬

‫زمــن التكلــم‪ ،‬وإذا أريــد النــص علــى ذلــك فأداتــه (مــا زال) يف اإلثبــات‪،‬‬ ‫و (ولكــن لــم يعــد) يف النفــي أو مــا شــاهبهما‪ ،‬مثالــه يف اإلثبــات‪( :‬عندمــا‬ ‫كان علــي شــا ًّبا كان يمــارس الرياضــة كل يــوم ثالث ســاعات‪ ،‬ومــا زال)‬ ‫ويف النفــي‪( :‬عندمــا كان علــي شــابا كان يمــارس الرياضــة كل يــوم ثالث‬ ‫ســاعات ولكنــه لــم يعــد كذلك)‪.‬‬ ‫االسم المقترح‪« :‬الزمن الواسع المحكي»‪.‬‬

‫العاشر‪ :‬الزمن الحاضر المحكي‬

‫التعريــف‪ :‬هــو مــا يحكــي اســتمرار حــدث مــد ًة مــا يف الزمــن الماضــي‪،‬‬ ‫ثــم انتهــاؤه يف ذلــك الزمــان‪.‬‬

‫االســم‪ :‬اســم هــذه الصيغــة يف اللغــة الرتكيــة (حكايــة الزمــن الحاضــر)‬ ‫(‪ ((1()Şimdiki Zamanın Hikâyesi‬مثــل‪Sınıfa girdim o(:‬‬ ‫‪ ((1()zaman öğretmen ders anlatıyordu‬بمعنــى (عندمــا دخلــت‬ ‫(‪ -  ((1‬كتاب سلسلة اسطنبول (‪.)31/5‬‬ ‫(‪ -  ((1‬كتاب سلسلة اسطنبول (‪.)31/3‬‬ ‫(‪ -  ((1‬كتاب سلسلة اسطنبول (‪.)41/3‬‬

‫‪41‬‬


‫خطوة نحو تطوير علومنا اللغوية‬ ‫الصيغــة‪ :‬صيغــة هــذا الزمــن عبــارة عــن اســم يخــر عنــه باســم أو صفــة‬ ‫أو مــا شــابه ذلــك‪ ،‬مثــل‪( :‬محمــد أخــي) وقــد يظهــر الفعــل (يكــون)‬ ‫معنــى يف الجملــة مثــل‪( :‬محمــد يكــون أخــي)‪ ،‬علــى أن‬ ‫المتضمــن‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ـى إحــدى التعابيــر اآلتيــة‪( :‬دائمــا ‪-‬‬ ‫تتضمــن هــذه الصيغــة لفظــا أو معنـ ً‬ ‫غالبــا ‪ -‬أحيانــا) أو (أبــدا) يف حالــة النفــي‪ ،‬أو (عــادة ‪ -‬عــادة مــا) للداللــة‬ ‫ـادرا ‪ -‬نــادرا مــا) للداللــة علــى قلتــه‪ ،‬مثــل‪( :‬أبــي‬ ‫علــى كثــرة األمــر‪ ،‬أو (نـ ً‬ ‫ـادرا مــا يكــون غاض ًبــا)‪ ،‬ومثــل ذلــك (كل يــوم ‪ -‬كل أســبوع ‪ -‬كل عــام‬ ‫نـ ً‬ ‫ أيــام االثنيــن ‪ -‬يوميــا ‪ -‬شــهريا ‪ -‬أســبوعيا ‪ -‬ســنويا)‪.‬‬‫األمثلة‪:‬‬

‫اإليجــاب‪( :‬أحمــد مجتهــدٌ ‪ ،‬عــادة مــا يكــون هــذا المعلــم غاض ًبــا‪ ،‬هــذا‬ ‫العامــل يكــون متع ًبــا كل يــوم اثنيــن)‪.‬‬

‫النفــي‪( :‬ليــس أحمــد مجتهــدً ا) ( خالــد غال ًبــا ال يكــون هاد ًئــا) (عــادة ال‬ ‫معلمــا)‪.‬‬ ‫يكــون هــذا الرجــل يف بيتــه) (أنــا لســت ً‬

‫الســؤال‪( :‬هــل أبــوك مهنــدس؟ نعــم‪ ،‬أبــي مهنــدس ‪ -‬ال‪ ،‬أبــي ليــس‬ ‫مهندســا)‪.‬‬ ‫ً‬

‫تعقيــب‪ :‬هــذه الصيغــة الزمانيــة هــي أبســط أشــكال الجملــة العربيــة‬ ‫وهــي أول مــا يعطــى مــن األزمنــة وإن كان ال ُينــص علــى اســمها‬ ‫إلدراكهــا بالفطــرة‪ ،‬مثــل‪( :‬هــل هــذا قلــم؟ نعــم هــذا قلــم ‪ -‬ال‪ ،‬هــذا‬ ‫ليــس قلمــا)‪ ،‬ويفضــل تدريــس هــذا الزمــن بصيغــة اإلثبــات واالســتفهام‬ ‫والنفــي البســيط بــــ (ليــس) يف بدايــات تعلــم اللغــة‪.‬‬ ‫االسم المقترح‪« :‬الزمن الواسع» يف الجملة االسمية‪.‬‬

‫السادس‪ :‬الزمن الحاضر‬

‫التعريــف‪ :‬هــو اإلخبــار عــن اســم بصفــة أو ظــرف أو جــار ومجــرور‬ ‫أو نحوهــا؛ للداللــة علــى صفــة يف المبتــدأ موجــودة يف زمــن التكلــم‪،‬‬ ‫مثــل‪( :‬أيــن أحمــد؟) الجــواب‪( :‬أحمــد نائــم يف غرفتــه)‪ ،‬إذ النــوم صفــة‬ ‫مؤقتــة تجــري يف وقــت التكلــم‪ ،‬ومثــل‪( :‬أيــن علــي؟) الجــواب‪( :‬علــي‬ ‫يف الصــف اآلن)‪.‬‬

‫االســم‪ :‬لــم يمــر معــي اســم خــاص لهــذه الصيغــة يف اللغــة الرتكيــة‪،‬‬ ‫ولعــل مرجــع األمــر يف ذلــك اإلدراك الفطــري لــدالالت الجملــة‬ ‫االســمية البســيطة‪ ،‬عندمــا تكــون واســعة أو متضمنــة معنــى الحاليــة‪،‬‬ ‫ومثالــه‪ )Ben şuan meşgulüm.( :‬بمعنــى‪( :‬أنــا مشــغول اآلن)‪،‬‬ ‫كمــا أنــه ليــس لهــذا الزمــان اســم يف اللغــة العربيــة‪.‬‬

‫الصيغــة‪ :‬صيغــة هــذا الزمــن كصيغــة الزمــن الواســع‪ ،‬إضافــة إلــى‬ ‫تضمــن الجملــة مــا يــدل علــى الحــال مــن القرائــن أو األلفــاظ‪ ،‬مــن‬ ‫األلفــاظ الدالــة عليــه‪( :‬اآلن ‪ -‬يف هــذا الوقــت)‪.‬‬ ‫األمثلة‪:‬‬

‫ٌ‬ ‫مشغول اآلن)‪.‬‬ ‫اإليجاب‪( :‬أنا‬ ‫‪40‬‬

‫النفي‪ :‬وأداته (ليس) مثل‪( :‬أنا لست ذاه ًبا إلى السوق)‪.‬‬

‫خطوة نحو تطوير علومنا اللغوية‬

‫الثامن‪ :‬الزمن المستقبل‬

‫ـغول اآلن؟ ‪ -‬نعــم‪ ،‬أنــا مشـ ٌ‬ ‫الســؤال‪( :‬هــل أنــت مشـ ٌ‬ ‫ـغول‪ - ،‬ال أنا لســت‬ ‫مشـ ً‬ ‫ـغول يف هــذا الوقت)‪.‬‬

‫التعريــف‪ :‬هــو اإلخبــار عــن اســم بصفــة أو ظــرف أو جــار ومجــرور أو‬ ‫نحوهــا؛ للداللــة علــى صفــة ســتوجد يف االســم بعــد زمــن التكلــم‪ ،‬مثل‪:‬‬ ‫ـارا مثــل أبــي)‪.‬‬ ‫(مــاذا ســتكون يف المســتقبل؟) الجــواب‪( :‬ســأكون ط ّيـ ً‬

‫االسم المقترح‪« :‬الزمن الحاضر» يف الجملة االسمية‪.‬‬

‫الصيغــة‪ :‬صيغتــه يف العربيــة «(ســـ» أو «ســوف» ‪« +‬يكــون» أو «يصبــح»‬ ‫أو «يصيــر» ‪ +‬اســم ‪ +‬صفــة) مثــل (ســيكون طـ ٌ‬ ‫ـارق موظ ًفــا)‪.‬‬

‫تعقيــب‪ :‬كمــا يف ســابقه قــد ال ُيحتــاج إلــى تدريــس هــذا الزمــن باســمه‬ ‫و ُيكتفــى بتعليــم كلمــة (اآلن) لتخصيــص الجملــة االســمية وحصرهــا‬ ‫بوقــت التكلــم‪ ،‬ولكــن بعــد أن يقطــع الطالــب شــو ًطا يف تع ُّلــم تراكيــب‬ ‫اللغــة ينبغــي أن يعــرف مــكان هــذه الصيغــة مــن األزمنــة‪ ،‬ألنــه ســيحتاج‬ ‫إلــى تمييزهــا يف الجمــل الشــرطية والمركبــة‪.‬‬

‫السابع‪ :‬الزمن الماضي‬

‫التعريــف‪ :‬هــو اإلخبــار عــن اســم بصفــة أو ظــرف أو جــار ومجــرور‬ ‫أو نحوهــا؛ للداللــة علــى صفــة كانــت موجــودة يف المبتــدأ وانتهــت‬ ‫قبــل زمــن التكلــم‪ ،‬مثــل‪( :‬أيــن كان أحمــد؟) الجــواب‪( :‬كان أحمــد‬ ‫يف المدرســة‪ ،).‬إذ وجــوده يف المدرســة صفــة ماضيــة‪ ،‬وكذلــك‪( :‬كنــت‬ ‫مريضــا وأنــا اآلن ســليم والحمــد هلل)‪.‬‬ ‫ً‬

‫االســم‪ :‬اســمه يف اللغــة الرتكيــة (الزمــن الماضــي المعلــوم يف الجملــة‬ ‫(‪((1‬‬ ‫االســمية) (‪)İsim Cümlelerinde Belirli Geçmiş Zaman‬‬ ‫مثــل‪ ).Geçen hafta çok yorgundum( :‬بمعنــى‪( :‬كنــت متع ًبــا‬ ‫جــدًّ ا األســبوع الماضــي‪ ).‬وليــس لــه اســم يف اللغــة العربيــة إذ إن (كان)‬ ‫تــدرس نحو ًّيــا يف نواســخ الجملــة االســمية بغــض النظــر عــن المعنــى‬ ‫الوظيفـ ّـي لهــا‪.‬‬

‫الصيغــة‪ :‬صيغــة هــذا الزمــن يف العربيــة ( كان ‪ +‬اســم ‪ +‬صفــة) مثــل‬ ‫(كان طـ ٌ‬ ‫ـارق موظ ًفــا)‪ ،‬ويمكــن أن نســتخدم عــوض (كان)؛ (صــار) أو‬ ‫(أصبــح) للداللــة علــى ضــد معناهــا يف الماضــي مثــل‪( :‬كان صالــح‬ ‫مدرســا‪( ).‬كنــت موظ ًفــا وصــرت متقاعــدً ا‪ ،).‬ومــن‬ ‫طال ًبــا‪ ،‬أصبــح‬ ‫ً‬ ‫األلفــاظ الدالــة عليــه‪( :‬أمــس ‪ -‬الليلــة الماضيــة ‪ -‬األســبوع الماضــي‬ ‫ الســنة الماضيــة ‪ -‬منــذ ســنة ‪ -‬طــوال الســنة ‪ -‬طــوال اليــوم ‪ -‬ســابقا ‪-‬‬‫قبــل قليــل ‪ -‬آنفــا ‪ -‬أبــدا‪ :‬يف النفــي )‪.‬‬ ‫األمثلة‪:‬‬

‫اإليجــاب‪( :‬يف الســنة الماضيــة كان عامــر موظ ًفــا‪ ،‬ويف بدايــة الســنة صار‬ ‫ـافرا طوال الســنة)‪.‬‬ ‫متقاعــدً ا) (كنــت مسـ ً‬

‫النفــي‪ :‬ونحصــل عليــه باســتخدام (مــا كان) أو (لــم يكــن) مثــل‪( :‬مــا‬ ‫ـافرا)‪.‬‬ ‫كان أبــي ً‬ ‫مريضــا) ‪( -‬لــم أكــن مسـ ً‬ ‫الســؤال‪( :‬هــل كنــت مشــغوال؟ ال‪ ،‬لــم أكــن مشــغوال‪ ،‬كنــت منتظـ ًـرا‬ ‫لــك‪.).‬‬ ‫االسم المقترح‪« :‬الزمن الماضي» يف الجملة االسمية‪.‬‬

‫(‪ -  ((1‬سلسلة اسطنبول (‪.)82/2‬‬

‫االســم‪ :‬اســمه يف اللغــة الرتكيــة (الزمــن المســتقبل يف الجملــة‬ ‫االســمية) (‪ ((1()İsim Cümlelerinde Gelecek Zaman‬مثــل‪:‬‬ ‫(‪ )İki ay sonra anne olacağım‬بمعنــى (ســأكون أ ًّمــا بعــد‬ ‫شــهرين‪ ).‬وليــس لــه اســم خــاص يف العربيــة‪.‬‬

‫ويمكــن أن نســتخدم عــوض (ســيكون)؛ (ســيصير) أو (ســيصبح)‬ ‫للداللــة علــى نفــس معناهــا يف المســتقبل وليــس علــى ضــد معناهــا كمــا‬ ‫هــو الحــال يف الماضــي‪ ،‬مثــل (صالح طالب‪ ،‬وســيكون ‪ -‬أو ســيصبح ‪-‬‬ ‫معلمــا الســنة القادمــة)‪ ،‬ومــن األلفــاظ الدالــة عليــه‪ ( :‬بعد قليــل ‪ -‬الحقا‬ ‫ األســبوع القــادم ‪ -‬بعــد ســاعة ‪ -‬على وشــك أن‪ - ...‬غــدا ‪ -‬قريبا ‪ -‬يف‬‫وقــت قريــب ‪ -‬خــال دقائــق ‪ -‬يف المســتقبل ‪ -‬القــرن القــادم)‪.‬‬ ‫األمثلة‪:‬‬

‫ناجحا إن شاء اهلل)‪.‬‬ ‫معلما‬ ‫ً‬ ‫اإليجاب‪( :‬سأكون ً‬

‫النفي‪ :‬وأداته «لن» مثل‪( :‬لن أكون جبانًا ولن أصبح ً‬ ‫فاشل)‪.‬‬

‫ـغول غــدً ا؟ ‪ -‬ســأكون مشـ ً‬ ‫الســؤال‪( :‬هــل ســتكون مشـ ً‬ ‫ـغول مــن الصباح‬ ‫وحتــى الظهــر‪ ،‬لكــن لــن أكون مشـ ً‬ ‫ـغول يف المســاء)‪.‬‬ ‫االسم المقترح‪« :‬الزمن المستقبل» يف الجملة االسمية‪.‬‬

‫املطلب الثالث‪ :‬األزمنة املحكية‬

‫ترتكــب صيــغ الحكايــة يف اللغــة العربية مــن زمنين‪ ،‬أحدهمــا المتضمن‬ ‫يف الصيغــة األصليــة للفعــل المكــون مــن حــدث وزمــان‪ ،‬والزمــن الثــاين‬ ‫المســتفاد مــن تضمــن الصيغــة لفعــل الكــون أو ما يشــبهه‪.‬‬ ‫وأزمنــة الحكايــة هــذه هــي أربعــة تب ًعــا للتّنوع األصلـ ِّـي لألزمنــة‪( ،‬الزمن‬ ‫الواســع والزمــن الحاضــر والزمــن الماضي والزمن المســتقبل)‪،‬‬

‫ويعــر عنهــا يف اللغــة الرتكيــة باســم صيــغ الحكايــة فيقــال‪( :‬حكايــة‬ ‫الزمــن الحاضــر وحكايــة المســتمر وحكايــة الماضــي والمســتقبل)‪،‬‬ ‫وأمــا يف اإلنجليزيــة فيــأيت بعضهــا يف صيــغ (الزمــن التــام) وأحيانــا يف‬ ‫غيرهــا‪ ،‬وهــي تختلــف عــن العربيــة والرتكيــة يف عــد بعــض الصيــغ أزمنة‬ ‫خاصــة؛ هــي تراكيــب متنوعــة لصيغــة زمانيــة واحــدة عندنــا‪.‬‬

‫التاسع‪ :‬الزمن الواسع المحكي‬

‫(‪ -  ((1‬سلسلة اسطنبول (‪.)34/2‬‬

‫التعريــف‪ :‬هــو مــا يحكــي حد ًثــا كان يتكــرر يف الزمــن الماضــي‪ ،‬ســواء‬ ‫بقــي إلــى وقــت التكلــم أم ال‪.‬‬

‫االســم‪ :‬اســم هــذه الصيغــة يف اللغــة الرتكيــة (حكايــة الزمــن الواســع)‬ ‫«‪ Geniş Zamanın Hikâyesi‬مثــل‪Selim gençliğinde pop( :‬‬ ‫‪ ((1().müzik dinlerdi‬بمعنــى (ســليم كان يســمع موســيقى البــوب يف‬ ‫شــبابه‪ ،).‬وأمــا يف اللغــة العربيــة فــا يوجــد اســم خــاص لهــذه الصيغــة‬ ‫وال تفــرد يف التدريــس‪ ،‬بــل تصنــف يف علــم النحــو علــى أهنــا مــن بــاب‬ ‫الجملــة االســمية المنســوخة‪ ،‬وبنظرنــا إلــى جهــة المعنــى والوظيفة نجد‬ ‫أهنــا صيغــة فعليــة‪ ،‬إذ هــي صيغــة حكايــة حــدث وقــع يف الزمــن الماضــي‬ ‫علــى ســبيل التكــرار‪.‬‬

‫الصيغــة‪ { :‬كان ‪ +‬اســم ‪( +‬فعــل مضــارع) ‪ } ..... +‬وأمــا االســم أو‬ ‫الفاعــل يف هــذه الجملــة فيمكــن أن يختلــف مكانــه ليكــون قبــل كان أو‬ ‫بعدهــا‪ ،‬وال يؤثــر يف الصيغــة‪ ،‬ومــن التعبيــرات التــي ترافــق هــذا الزمــن‪:‬‬ ‫(دائمــا ‪ -‬غال ًبــا ‪ -‬أحيا ًنــا) أو (أبــدً ا) يف حالــة النفــي‪ ،‬أو (عــادة) للداللــة‬ ‫ً‬ ‫علــى كثــرة األمــر‪ ...‬ومثــل ذلــك (كل يــوم ‪ -‬يوم ًيــا ‪ -‬شــهر ًيا ‪ -‬أســبوع ًيا‬ ‫ ســنو ًيا ‪ -‬ســاب ًقا ‪ -‬ومــا زلــت ‪ -‬لكــن ليــس بعــد)‪.‬‬‫األمثلة‪:‬‬

‫اإليجــاب‪( :‬لســنوات كان أحمــد يذهــب إلــى عملــه كل يــوم يف الســاعة‬ ‫صباحــا) ومثــل‪( :‬يف الماضــي كان الطــاب عندمــا يــرون المعلم‬ ‫الثامنــة‬ ‫ً‬ ‫يقفــون احرتا ًمــا له)‪.‬‬ ‫الســؤال والنفــي‪( :‬هــل كنــت تدخــن وأنــت شــاب؟ ‪ -‬نعم كنــت أدخن‪.‬‬ ‫ ال‪ ،‬لــم أكــن أدخن أبــدً ا)‪.‬‬‫تعقيــب‪ :‬ليــس يف هــذا الزمــن التنصيــص علــى اســتمرار ت َكـ ُّـر ِر الفعــل يف‬

‫زمــن التكلــم‪ ،‬وإذا أريــد النــص علــى ذلــك فأداتــه (مــا زال) يف اإلثبــات‪،‬‬ ‫و (ولكــن لــم يعــد) يف النفــي أو مــا شــاهبهما‪ ،‬مثالــه يف اإلثبــات‪( :‬عندمــا‬ ‫كان علــي شــا ًّبا كان يمــارس الرياضــة كل يــوم ثالث ســاعات‪ ،‬ومــا زال)‬ ‫ويف النفــي‪( :‬عندمــا كان علــي شــابا كان يمــارس الرياضــة كل يــوم ثالث‬ ‫ســاعات ولكنــه لــم يعــد كذلك)‪.‬‬ ‫االسم المقترح‪« :‬الزمن الواسع المحكي»‪.‬‬

‫العاشر‪ :‬الزمن الحاضر المحكي‬

‫التعريــف‪ :‬هــو مــا يحكــي اســتمرار حــدث مــد ًة مــا يف الزمــن الماضــي‪،‬‬ ‫ثــم انتهــاؤه يف ذلــك الزمــان‪.‬‬

‫االســم‪ :‬اســم هــذه الصيغــة يف اللغــة الرتكيــة (حكايــة الزمــن الحاضــر)‬ ‫(‪ ((1()Şimdiki Zamanın Hikâyesi‬مثــل‪Sınıfa girdim o(:‬‬ ‫‪ ((1()zaman öğretmen ders anlatıyordu‬بمعنــى (عندمــا دخلــت‬ ‫(‪ -  ((1‬كتاب سلسلة اسطنبول (‪.)31/5‬‬ ‫(‪ -  ((1‬كتاب سلسلة اسطنبول (‪.)31/3‬‬ ‫(‪ -  ((1‬كتاب سلسلة اسطنبول (‪.)41/3‬‬

‫‪41‬‬


‫خطوة نحو تطوير علومنا اللغوية‬ ‫الصــف؛ كان المعلــم يشــرح الــدرس‪ ،).‬وليــس لهــا اســم خــاص يف‬ ‫العربيــة‪.‬‬

‫الصيغــة‪ ( :‬كان ‪ +‬اســم ‪« +‬فعــل مضــارع» ‪ ) ..... +‬ومــن التعبيــرات‬ ‫المرافقــة لهــذا الزمــن‪( :‬أمــس ‪ -‬البارحــة ‪ -‬األســبوع الماضــي ‪ -‬قبــل‬ ‫قليــل ‪ -‬الســنة الماضيــة ‪ -‬يف يــوم مــن األيــام)‪ ،‬ويتميــز عــن (حكايــة‬ ‫الزمــن الواســع) بــأن الواســع ال يكــون يف زمــن معيــن‪ ،‬بينمــا هــذا يحكــي‬ ‫عــن حادثــة واحــدة ويف زمــن معيــن‪.‬‬ ‫األمثلة‪:‬‬

‫اإليجاب‪( :‬كانت فاطمة تبكي قبل قليل)‪.‬‬

‫ـدر ُس) (لــم يكــن الطفــل‬ ‫أدر ُس‪ ،‬كان أخــي ال يـ ُ‬ ‫النفــي‪( :‬حينمــا كنــت ُ‬ ‫يبكــي‪ ،‬كان يضحــك)‪.‬‬

‫والســؤال‪( :‬هــل رأيتنــي عندمــا كنــت أتحــدث يف التلفــاز؟ الجــواب‪:‬‬ ‫نعــم رأيتــك عندمــا كنــت تتحــدث يف التلفــاز‪ ،‬النفــي‪ :‬لألســف مــا‬ ‫رأيتــك‪ ،‬حينمــا كنــت تتحــدث يف التلفــاز؛ كنــت أذاكــر دروســي)‪.‬‬

‫ومــن أشــهر الصيــغ التــي يســتخدم فيهــا مــا يحــوي (عندمــا ‪ -‬بينمــا ‪-‬‬ ‫حينمــا)‪ ،‬مثــل‪( :‬بينمــا كنــت أتنــاول الطعــام ُطــرق البــاب)‪ ،‬حيــث يضــم‬ ‫هــذا الرتكيــب فعليــن أو زمنيــن أحدهمــا طويــل مســتمر اســتغرق وق ًتــا‬ ‫مــن الماضــي قطعــه فعــل آخــر قصيــر‪.‬‬ ‫االسم المقترح‪« :‬الزمن الحاضر المحكي»‪.‬‬

‫الحادي عشر‪ :‬الزمن الماضي المحكي‬

‫التعريف‪:‬هو ما يدل على حكاية انتهاء فعل يف الزمن الماضي‪.‬‬

‫االســم‪ :‬اســم هــذه الصيغــة يف اللغــة الرتكيــة (حكايــة الزمــن الماضــي)‬ ‫(‪ ((1()Geçmiş Zamanın Hikâyesi‬مثــل‪Amerika’ya( :‬‬ ‫‪ ((2().gitmeden önce İngilizce öğrenmiştim‬بمعنــى‪( :‬كنــت قــد‬ ‫تعلمــت اإلنجليزيــة قبــل أن أذهــب إلــى أمريــكا‪ ،).‬وليــس لهــذه الصيغــة‬ ‫اســم خــاص يف العربيــة‪.‬‬

‫الصيغــة‪ ( :‬كان ‪ +‬اســم ‪ +‬قــد ‪ +‬صيغــة الزمــن الماضــي ‪ ) ..... +‬ويمكن‬ ‫للتعبيــرات التــي ترافــق صيغــة (حكايــة الزمــن الحاضــر) أن ترافــق هــذه‬ ‫الصيغــة أيضــا‪ ،‬ومــن أشــهر الصيــغ التــي يســتخدم فيهــا مــا يحــوي‬ ‫(عندمــا ‪ -‬حينمــا)‪ ،‬وغالبــا مــا تضــم صيغــة الزمــن الماضــي المحكــي‬ ‫فعليــن عندمــا بــدأ الثــاين منهمــا كان أولهمــا قــد انتهــى‪ ،‬مثــل‪( :‬كان‬ ‫ـت البيــت)‪( ،‬عندمــا وصلــت ســيارة‬ ‫أحمــد قــد أكل الطعــام‪ ،‬عندمــا دخلـ ُ‬ ‫اإلســعاف؛ كان الرجــل قــد مــات)‪.‬‬ ‫األمثلة‪:‬‬

‫اإليجاب‪( :‬كان خالد قد كتب واجبه؛ قبل أن يلعب كرة القدم)‪.‬‬ ‫(‪ -  ((1‬كتاب سلسلة اسطنبول (‪.)32/5‬‬ ‫(‪ -  ((2‬كتاب سلسلة اسطنبول (‪.)42/5‬‬

‫‪42‬‬

‫النفــي‪ :‬مثــل‪( :‬بالفعــل لــم أكــن قــد غــادرت البيــت عندمــا بــدأت‬ ‫العاصفــة)‪.‬‬

‫االســتفهام‪( :‬هــل كنــت قــد شــاهدت هــذا الفيلــم مــن قبــل؟ ‪ -‬نعــم‬ ‫كنــت قــد شــاهدته‪ ،‬أو‪ :‬لــم أكــن قــد شــاهدته مــن قبــل)‪.‬‬ ‫االسم المقترح‪« :‬الزمن الماضي المحكي»‪.‬‬

‫الثاين عشر‪ :‬الزمن المستقبل المحكي‬

‫التعريف‪:‬هــي الصيغــة الزمانيــة المســتخدمة لحكايــة خطــط مســتقبلية‬ ‫تــم اتخاذهــا يف الماضــي للقيــام بفعــل مــا‪ ،‬أو لتوقــع حدوثه؛ ســواء وجد‬ ‫بعــد ذلــك أم ال‪.‬‬

‫االســم‪ :‬اســم هــذه الصيغــة يف اللغــة الرتكيــة (حكايــة زمــن المســتقبل)‬ ‫(‪ ((2()Gelecek Zamanın Hikâyesi‬مثــل‪Dün alışverişe( :‬‬ ‫‪ ((2().çıkacaktım ama vakit bulup çıkamadım‬بمعنــى‪( :‬أمــس‬ ‫كنــت ســأخرج للتســوق‪ ،‬لكــن لــم أجــد وقتــا ولــم أخــرج‪ ،).‬وليــس‬ ‫لهــذه الصيغــة اســم خــاص يف العربيــة‬

‫الصيغــة‪ ( :‬كان ‪ +‬اســم ‪ +‬صيغــة الزمــن المســتقبل ‪ ) ..... +‬ويرافقهــا‬ ‫مــن التعبيــرات مــا يرافــق الحاضــر والماضــي المحكــي‪.‬‬ ‫األمثلة‪:‬‬

‫اإليجاب‪( :‬هو كان سيسافر إلى إسطنبول‪ ،‬لكنه غير فكرته الح ًقا)‪.‬‬ ‫النفي‪( :‬حقيقة ما كنت سأترك عملي‪ ،‬لكن المصنع ُأغلق)‪.‬‬

‫الســؤال‪( :‬هــل كنــت ســتدرس يف كليــة االقتصــاد؟ الجــواب‪ :‬نعــم‪،‬‬ ‫كنــت ســأدرس فيهــا‪ ،‬أو‪ :‬ال‪ ،‬مــا كنــت ســأدرس فيهــا)‪.‬‬ ‫االسم المقترح‪« :‬الزمن المستقبل المحكي»‪.‬‬

‫خامتة‪:‬‬

‫إن لغتنــا العربيــة تحتــاج إلــى خدمــة حقيق َّيـ ٍـة علــى المســتويات كا ّفــة‪،‬‬ ‫يف مجــال البحــث العلمـ ّـي والتأليــف والرتجمــة ونشــر الكتــب‪ ،‬وليــس‬ ‫صحيحــا مــا يشــيعه البعــض بــأن مــا وصلــت إليــه العلــوم العربيــة ســاب ًقا‬ ‫ً‬ ‫يمثــل الكمــال الــذي ال مزيــد عليــه‪.‬‬

‫ّ‬ ‫ـوي يبصــر الفجــوة المخيفة بين لغتنــا الفصحى‬ ‫إن مــن يــرى واقعنــا اللغـ ّ‬ ‫ومجتمعاتنــا العربيــة‪ ،‬وإن إعــادة تدريــس العربيــة كلغــة تواصــل للعــرب‬ ‫قبــل غيرهــم؛ كفيــل بإعــادة الفصحــى إلــى الحيــاة بدرجــة كبيــرة‪،‬‬ ‫وســأختم كالمــي عــن المســألة بتلخيــص ألهــم النتائــج والتوصيــات‪.‬‬ ‫أهم النتائج‪:‬‬

‫‪ . 1‬البشــر متشــاهبون يف طــرق التعبيــر عــن احتياجاهتــم‪ ،‬ممــا يعطــي‬ ‫(‪ -  ((2‬كتاب سلسلة اسطنبول (‪.)81/5‬‬ ‫(‪ -  ((2‬كتاب سلسلة اسطنبول (‪.)91/5‬‬

‫خطوة نحو تطوير علومنا اللغوية‬ ‫الدراســات اللغويــة المقارنــة قيمــة كبيــرة يف مجــال تطويــر العربيــة‪.‬‬

‫‪ . 2‬حاجتنــا إلــى التجديــد اللغــوي ظاهــرة يف مجــال تعليــم اللغــة‬ ‫للعــرب واألجانــب ويف واقعنــا االجتماعــي والحضــاري‪.‬‬ ‫‪ . 3‬الشــعور بالحاجــة إلــى التجديــد والتخلــص مــن التعقيــد هــو مــا‬ ‫دفــع بعــض العلمــاء إلــى مهاجمــة النحــو والنحــاة‪.‬‬ ‫ـوي‬ ‫‪ . 4‬كان مــن المفــرض بدعــاة التجديــد أن يقومــوا ببنــاء علــم لغـ ٍّ‬ ‫جديــد‪ ،‬بــدل تحميــل حاجاتنــا المعاصــرة لعلــم النحــو الــذي بنــي‬ ‫علــى أســس خاصــة يف غايــة مــن الدقــة ال تحتمــل التغييــر بالزيــادة‬ ‫أو الحــذف‪.‬‬

‫‪ . 5‬اللغــات كلهــا تتطــور‪ ،‬وتطــور لغتنــا يكــون بتجديــد طــرق عرضهــا‬ ‫وليــس بالزيــادة أو الحــذف؛ إذ إن ارتباطهــا بعلــوم اإلســام جعلهــا‬ ‫لغــة ثابتــة ال تتغيــر‪.‬‬ ‫‪ . 6‬ننطلــق يف بنــاء علــم اللغــة التجريــدي مــن خــال اســتقراء وظائــف‬ ‫الرتاكيــب‪ ،‬بعــد تقســيم الــكالم إلــى خرب وإنشــاء‪ ،‬ثــم اعتمــاد الزمن‬ ‫أساســا يف تصنيــف الرتاكيــب اللغويــة‪.‬‬ ‫والصيغــة والوظيفــة ً‬ ‫‪ . 7‬العلــم الجديــد الــذي أدعــو إليــه هــو مقدمــة للعلــوم اللغو َّيــة‬ ‫األخــرى أو مســاعدٌ لهــا؛ مهمتــه إكســاب المتعلــم اللغــة الفصحــى‬ ‫والتمهيــد للعلــوم االختصاصيــة‪ ،‬وال يمكــن أن يكــون بديـ ًـا عنهــا‪.‬‬ ‫‪ . 8‬مــن خــال اســتقراء تراكيــب العربيــة نحصــل علــى اثنــي عشــر‬ ‫زما ًنــا‪ ،‬أربعــة منهــا للجملــة الفعليــة وأربعــة لالســمية وأربعــة لصيغ‬ ‫الحكايــة‪.‬‬ ‫التوصيات‪:‬‬

‫ـوي جديــد باســتخدام أســاليب النحــاة‬ ‫‪ . 1‬العمــل علــى إنشــاء علــم لغـ ٍّ‬ ‫يف تتبــع الرتاكيــب اللغويــة ثــم تقســيمها علــى المســتويات‪ ،‬ولتكــن‬ ‫األزمنــة وصيــغ الطلــب وأدوات الربــط عمــوده الفقــري‪.‬‬ ‫‪ . 2‬علينــا أن نولــي الدّ راســات اللغويــة المقارنــة والدراســات اللســانية‬ ‫والتطبيقيــة الحديثــة مزيــدً ا مــن االهتمــام لتســاعدنا يف تقديــم لغتنــا‬ ‫بشــكل أيســر للمتعلــم العربــي واألجنبــي‪.‬‬ ‫نــدرب معلمــي اللغــة العربيــة علــى تعليــم الطــاب‬ ‫‪ . 3‬ينبغــي أن ِّ‬ ‫العــرب لغتهــم الفصحــى مــن خالل علــم اللغــة الحديــث والقراءة‬ ‫المتدرجــة والحــوار حولهــا حتــى يســتقيم اللســان‪ ،‬وخــال‬ ‫ســنوات ســنلحظ عــودة الفصحــى إلــى الحيــاة تدريج ّيــا‪.‬‬ ‫‪ . 4‬بإمكاننــا أن نطبــق هــذه التجربــة علــى المــدارس الســور ّية يف‬ ‫الداخــل والمهجــر مــن خــال تدريــب معلمــي اللغــة علــى هــذا‬ ‫المنهــج وإلحــاق مــادة مخصصة لألزمنــة والرتاكيــب والصياغات‬ ‫العربيــة بشــكل متــدرج لتكــون رافــدً ا حقيق ًّيــا لعلــم النحــو‪.‬‬

‫‪ . 5‬كل محاولــة علميــة للتطويــر أو البنــاء والتغييــر تكــون محتملــ ًة‬ ‫للخطــأ‪ ،‬وال ينبغــي للخطــأ أن يدفعنــا إلــى التخلــي عــن جهودنــا‪،‬‬ ‫بــل ينبغــي أن يدفعنــا إلــى االســتمرار يف التطويــر حتــى نصــل إلــى‬ ‫القمــة‪.‬‬

‫ونهايــة هــذا جــدول مختصــر للصيــغ الزمانيــة يف كل من اللغتيــن التركية‬ ‫والعربية‪:‬‬ ‫‪ -‬األزمنة يف الجملة الفعلية‪:‬‬

‫اللغة العربية – ‪Arapça‬‬

‫اللغة التركية ‪Türkçe -‬‬

‫الزمن الواسع‬

‫عامر يحب الطعام‪.‬‬

‫‪Amer yemek sever.‬‬

‫‪geniş zaman‬‬

‫الزمن الحاضر‬

‫عامر يأكل الطعام اآلن‪.‬‬

‫‪Amer şimdi yemek yiyor.‬‬

‫‪şimdiki zaman‬‬

‫الزمن الماضي‬

‫تناول عامر الطعام قبل قليل‪.‬‬

‫‪Amer biraz önce yemeği yedi.‬‬

‫‪geçmiş zaman‬‬

‫الزمن المستقبل‬

‫سيتناول عامر الطعام بعد قليل‪.‬‬

‫‪Amer yakında yemek yiyecek.‬‬

‫‪gelecek zaman‬‬

‫ األزمنة يف الجملة االسمية‪:‬‬‫اللغة العربية – ‪Arapça‬‬

‫اللغة التركية ‪Türkçe -‬‬

‫الزمن الواسع‬

‫هذا الطفل مهذب‪.‬‬

‫‪Bu çocuk kibar.‬‬

‫‪geniş zaman‬‬

‫الزمن الحاضر‬

‫علي متعب اآلن‪.‬‬

‫‪Ali şimdi yorgun.‬‬

‫‪şimdiki zaman‬‬

‫الزمن الماضي‬

‫كانت خديجة مريضة‪.‬‬

‫‪Khadija hastaydı.‬‬

‫‪geçmiş zaman‬‬

‫الزمن المستقبل‬

‫سوف يكون أحمد مهندسًا‪.‬‬

‫‪Ahmed mühendis olacak.‬‬

‫‪gelecek zaman‬‬

‫‪ -‬األزمنة المحكية‪:‬‬

‫اللغة العربية – ‪Arapça‬‬

‫اللغة التركية ‪Türkçe -‬‬

‫الزمن الواسع‬ ‫المحكي‬

‫سليم كان يسمع موسيقى‬ ‫البوب يف شبابه‪.‬‬

‫‪Selim gençliğinde pop müzik‬‬ ‫‪dinlerdi.‬‬

‫الزمن الحاضر‬ ‫المحكي‬

‫عندما دخلت الصف؛ كان‬ ‫المعلم يشرح الدرس‪.‬‬

‫‪Sınıfa girdim o zaman‬‬ ‫‪öğretmen ders anlatıyordu.‬‬

‫‪Hikâyesi‬‬

‫الزمن الماضي‬ ‫المحكي‬

‫كنت قد تعلمت اإلنجليزية‬ ‫قبل أن أذهب إلى أمريكا‪.‬‬

‫‪Amerika’ya gitmeden önce‬‬ ‫‪İngilizce öğrenmiştim.‬‬

‫‪Geçmiş‬‬ ‫‪Zamanın‬‬ ‫‪Hikâyesi‬‬

‫الزمن المستقبل‬ ‫المحكي‬

‫أمس كنت سأخرج للتسوق‪،‬‬ ‫لكن لم أجد وقتا ولم أخرج‪.‬‬

‫‪Dün alışverişe çıkacaktım‬‬ ‫‪ama vakit bulup çıkamadım.‬‬

‫‪Gelecek‬‬ ‫‪Zamanın‬‬ ‫‪Hikâyesi‬‬

‫‪Geniş Zamanın‬‬ ‫‪Hikâyesi‬‬

‫‪Şimdiki Zamanın‬‬

‫ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ـي‬ ‫ـي ّ‬ ‫والحمــد هلل َّأو ًل وآخـ ًـرا‪ ،‬وص ّلــى اهلل علــى س ـ ّيدنا َّ‬ ‫األمـ ِّ‬ ‫محمــد النّبـ ِّ‬ ‫ِ‬ ‫أجمعيــن‪.‬‬ ‫وعلــى آلــه وصحبِــه َ‬

‫‪43‬‬


‫خطوة نحو تطوير علومنا اللغوية‬ ‫الصــف؛ كان المعلــم يشــرح الــدرس‪ ،).‬وليــس لهــا اســم خــاص يف‬ ‫العربيــة‪.‬‬

‫الصيغــة‪ ( :‬كان ‪ +‬اســم ‪« +‬فعــل مضــارع» ‪ ) ..... +‬ومــن التعبيــرات‬ ‫المرافقــة لهــذا الزمــن‪( :‬أمــس ‪ -‬البارحــة ‪ -‬األســبوع الماضــي ‪ -‬قبــل‬ ‫قليــل ‪ -‬الســنة الماضيــة ‪ -‬يف يــوم مــن األيــام)‪ ،‬ويتميــز عــن (حكايــة‬ ‫الزمــن الواســع) بــأن الواســع ال يكــون يف زمــن معيــن‪ ،‬بينمــا هــذا يحكــي‬ ‫عــن حادثــة واحــدة ويف زمــن معيــن‪.‬‬ ‫األمثلة‪:‬‬

‫اإليجاب‪( :‬كانت فاطمة تبكي قبل قليل)‪.‬‬

‫ـدر ُس) (لــم يكــن الطفــل‬ ‫أدر ُس‪ ،‬كان أخــي ال يـ ُ‬ ‫النفــي‪( :‬حينمــا كنــت ُ‬ ‫يبكــي‪ ،‬كان يضحــك)‪.‬‬

‫والســؤال‪( :‬هــل رأيتنــي عندمــا كنــت أتحــدث يف التلفــاز؟ الجــواب‪:‬‬ ‫نعــم رأيتــك عندمــا كنــت تتحــدث يف التلفــاز‪ ،‬النفــي‪ :‬لألســف مــا‬ ‫رأيتــك‪ ،‬حينمــا كنــت تتحــدث يف التلفــاز؛ كنــت أذاكــر دروســي)‪.‬‬

‫ومــن أشــهر الصيــغ التــي يســتخدم فيهــا مــا يحــوي (عندمــا ‪ -‬بينمــا ‪-‬‬ ‫حينمــا)‪ ،‬مثــل‪( :‬بينمــا كنــت أتنــاول الطعــام ُطــرق البــاب)‪ ،‬حيــث يضــم‬ ‫هــذا الرتكيــب فعليــن أو زمنيــن أحدهمــا طويــل مســتمر اســتغرق وق ًتــا‬ ‫مــن الماضــي قطعــه فعــل آخــر قصيــر‪.‬‬ ‫االسم المقترح‪« :‬الزمن الحاضر المحكي»‪.‬‬

‫الحادي عشر‪ :‬الزمن الماضي المحكي‬

‫التعريف‪:‬هو ما يدل على حكاية انتهاء فعل يف الزمن الماضي‪.‬‬

‫االســم‪ :‬اســم هــذه الصيغــة يف اللغــة الرتكيــة (حكايــة الزمــن الماضــي)‬ ‫(‪ ((1()Geçmiş Zamanın Hikâyesi‬مثــل‪Amerika’ya( :‬‬ ‫‪ ((2().gitmeden önce İngilizce öğrenmiştim‬بمعنــى‪( :‬كنــت قــد‬ ‫تعلمــت اإلنجليزيــة قبــل أن أذهــب إلــى أمريــكا‪ ،).‬وليــس لهــذه الصيغــة‬ ‫اســم خــاص يف العربيــة‪.‬‬

‫الصيغــة‪ ( :‬كان ‪ +‬اســم ‪ +‬قــد ‪ +‬صيغــة الزمــن الماضــي ‪ ) ..... +‬ويمكن‬ ‫للتعبيــرات التــي ترافــق صيغــة (حكايــة الزمــن الحاضــر) أن ترافــق هــذه‬ ‫الصيغــة أيضــا‪ ،‬ومــن أشــهر الصيــغ التــي يســتخدم فيهــا مــا يحــوي‬ ‫(عندمــا ‪ -‬حينمــا)‪ ،‬وغالبــا مــا تضــم صيغــة الزمــن الماضــي المحكــي‬ ‫فعليــن عندمــا بــدأ الثــاين منهمــا كان أولهمــا قــد انتهــى‪ ،‬مثــل‪( :‬كان‬ ‫ـت البيــت)‪( ،‬عندمــا وصلــت ســيارة‬ ‫أحمــد قــد أكل الطعــام‪ ،‬عندمــا دخلـ ُ‬ ‫اإلســعاف؛ كان الرجــل قــد مــات)‪.‬‬ ‫األمثلة‪:‬‬

‫اإليجاب‪( :‬كان خالد قد كتب واجبه؛ قبل أن يلعب كرة القدم)‪.‬‬ ‫(‪ -  ((1‬كتاب سلسلة اسطنبول (‪.)32/5‬‬ ‫(‪ -  ((2‬كتاب سلسلة اسطنبول (‪.)42/5‬‬

‫‪42‬‬

‫النفــي‪ :‬مثــل‪( :‬بالفعــل لــم أكــن قــد غــادرت البيــت عندمــا بــدأت‬ ‫العاصفــة)‪.‬‬

‫االســتفهام‪( :‬هــل كنــت قــد شــاهدت هــذا الفيلــم مــن قبــل؟ ‪ -‬نعــم‬ ‫كنــت قــد شــاهدته‪ ،‬أو‪ :‬لــم أكــن قــد شــاهدته مــن قبــل)‪.‬‬ ‫االسم المقترح‪« :‬الزمن الماضي المحكي»‪.‬‬

‫الثاين عشر‪ :‬الزمن المستقبل المحكي‬

‫التعريف‪:‬هــي الصيغــة الزمانيــة المســتخدمة لحكايــة خطــط مســتقبلية‬ ‫تــم اتخاذهــا يف الماضــي للقيــام بفعــل مــا‪ ،‬أو لتوقــع حدوثه؛ ســواء وجد‬ ‫بعــد ذلــك أم ال‪.‬‬

‫االســم‪ :‬اســم هــذه الصيغــة يف اللغــة الرتكيــة (حكايــة زمــن المســتقبل)‬ ‫(‪ ((2()Gelecek Zamanın Hikâyesi‬مثــل‪Dün alışverişe( :‬‬ ‫‪ ((2().çıkacaktım ama vakit bulup çıkamadım‬بمعنــى‪( :‬أمــس‬ ‫كنــت ســأخرج للتســوق‪ ،‬لكــن لــم أجــد وقتــا ولــم أخــرج‪ ،).‬وليــس‬ ‫لهــذه الصيغــة اســم خــاص يف العربيــة‬

‫الصيغــة‪ ( :‬كان ‪ +‬اســم ‪ +‬صيغــة الزمــن المســتقبل ‪ ) ..... +‬ويرافقهــا‬ ‫مــن التعبيــرات مــا يرافــق الحاضــر والماضــي المحكــي‪.‬‬ ‫األمثلة‪:‬‬

‫اإليجاب‪( :‬هو كان سيسافر إلى إسطنبول‪ ،‬لكنه غير فكرته الح ًقا)‪.‬‬ ‫النفي‪( :‬حقيقة ما كنت سأترك عملي‪ ،‬لكن المصنع ُأغلق)‪.‬‬

‫الســؤال‪( :‬هــل كنــت ســتدرس يف كليــة االقتصــاد؟ الجــواب‪ :‬نعــم‪،‬‬ ‫كنــت ســأدرس فيهــا‪ ،‬أو‪ :‬ال‪ ،‬مــا كنــت ســأدرس فيهــا)‪.‬‬ ‫االسم المقترح‪« :‬الزمن المستقبل المحكي»‪.‬‬

‫خامتة‪:‬‬

‫إن لغتنــا العربيــة تحتــاج إلــى خدمــة حقيق َّيـ ٍـة علــى المســتويات كا ّفــة‪،‬‬ ‫يف مجــال البحــث العلمـ ّـي والتأليــف والرتجمــة ونشــر الكتــب‪ ،‬وليــس‬ ‫صحيحــا مــا يشــيعه البعــض بــأن مــا وصلــت إليــه العلــوم العربيــة ســاب ًقا‬ ‫ً‬ ‫يمثــل الكمــال الــذي ال مزيــد عليــه‪.‬‬

‫ّ‬ ‫ـوي يبصــر الفجــوة المخيفة بين لغتنــا الفصحى‬ ‫إن مــن يــرى واقعنــا اللغـ ّ‬ ‫ومجتمعاتنــا العربيــة‪ ،‬وإن إعــادة تدريــس العربيــة كلغــة تواصــل للعــرب‬ ‫قبــل غيرهــم؛ كفيــل بإعــادة الفصحــى إلــى الحيــاة بدرجــة كبيــرة‪،‬‬ ‫وســأختم كالمــي عــن المســألة بتلخيــص ألهــم النتائــج والتوصيــات‪.‬‬ ‫أهم النتائج‪:‬‬

‫‪ . 1‬البشــر متشــاهبون يف طــرق التعبيــر عــن احتياجاهتــم‪ ،‬ممــا يعطــي‬ ‫(‪ -  ((2‬كتاب سلسلة اسطنبول (‪.)81/5‬‬ ‫(‪ -  ((2‬كتاب سلسلة اسطنبول (‪.)91/5‬‬

‫خطوة نحو تطوير علومنا اللغوية‬ ‫الدراســات اللغويــة المقارنــة قيمــة كبيــرة يف مجــال تطويــر العربيــة‪.‬‬

‫‪ . 2‬حاجتنــا إلــى التجديــد اللغــوي ظاهــرة يف مجــال تعليــم اللغــة‬ ‫للعــرب واألجانــب ويف واقعنــا االجتماعــي والحضــاري‪.‬‬ ‫‪ . 3‬الشــعور بالحاجــة إلــى التجديــد والتخلــص مــن التعقيــد هــو مــا‬ ‫دفــع بعــض العلمــاء إلــى مهاجمــة النحــو والنحــاة‪.‬‬ ‫ـوي‬ ‫‪ . 4‬كان مــن المفــرض بدعــاة التجديــد أن يقومــوا ببنــاء علــم لغـ ٍّ‬ ‫جديــد‪ ،‬بــدل تحميــل حاجاتنــا المعاصــرة لعلــم النحــو الــذي بنــي‬ ‫علــى أســس خاصــة يف غايــة مــن الدقــة ال تحتمــل التغييــر بالزيــادة‬ ‫أو الحــذف‪.‬‬

‫‪ . 5‬اللغــات كلهــا تتطــور‪ ،‬وتطــور لغتنــا يكــون بتجديــد طــرق عرضهــا‬ ‫وليــس بالزيــادة أو الحــذف؛ إذ إن ارتباطهــا بعلــوم اإلســام جعلهــا‬ ‫لغــة ثابتــة ال تتغيــر‪.‬‬ ‫‪ . 6‬ننطلــق يف بنــاء علــم اللغــة التجريــدي مــن خــال اســتقراء وظائــف‬ ‫الرتاكيــب‪ ،‬بعــد تقســيم الــكالم إلــى خرب وإنشــاء‪ ،‬ثــم اعتمــاد الزمن‬ ‫أساســا يف تصنيــف الرتاكيــب اللغويــة‪.‬‬ ‫والصيغــة والوظيفــة ً‬ ‫‪ . 7‬العلــم الجديــد الــذي أدعــو إليــه هــو مقدمــة للعلــوم اللغو َّيــة‬ ‫األخــرى أو مســاعدٌ لهــا؛ مهمتــه إكســاب المتعلــم اللغــة الفصحــى‬ ‫والتمهيــد للعلــوم االختصاصيــة‪ ،‬وال يمكــن أن يكــون بديـ ًـا عنهــا‪.‬‬ ‫‪ . 8‬مــن خــال اســتقراء تراكيــب العربيــة نحصــل علــى اثنــي عشــر‬ ‫زما ًنــا‪ ،‬أربعــة منهــا للجملــة الفعليــة وأربعــة لالســمية وأربعــة لصيغ‬ ‫الحكايــة‪.‬‬ ‫التوصيات‪:‬‬

‫ـوي جديــد باســتخدام أســاليب النحــاة‬ ‫‪ . 1‬العمــل علــى إنشــاء علــم لغـ ٍّ‬ ‫يف تتبــع الرتاكيــب اللغويــة ثــم تقســيمها علــى المســتويات‪ ،‬ولتكــن‬ ‫األزمنــة وصيــغ الطلــب وأدوات الربــط عمــوده الفقــري‪.‬‬ ‫‪ . 2‬علينــا أن نولــي الدّ راســات اللغويــة المقارنــة والدراســات اللســانية‬ ‫والتطبيقيــة الحديثــة مزيــدً ا مــن االهتمــام لتســاعدنا يف تقديــم لغتنــا‬ ‫بشــكل أيســر للمتعلــم العربــي واألجنبــي‪.‬‬ ‫نــدرب معلمــي اللغــة العربيــة علــى تعليــم الطــاب‬ ‫‪ . 3‬ينبغــي أن ِّ‬ ‫العــرب لغتهــم الفصحــى مــن خالل علــم اللغــة الحديــث والقراءة‬ ‫المتدرجــة والحــوار حولهــا حتــى يســتقيم اللســان‪ ،‬وخــال‬ ‫ســنوات ســنلحظ عــودة الفصحــى إلــى الحيــاة تدريج ّيــا‪.‬‬ ‫‪ . 4‬بإمكاننــا أن نطبــق هــذه التجربــة علــى المــدارس الســور ّية يف‬ ‫الداخــل والمهجــر مــن خــال تدريــب معلمــي اللغــة علــى هــذا‬ ‫المنهــج وإلحــاق مــادة مخصصة لألزمنــة والرتاكيــب والصياغات‬ ‫العربيــة بشــكل متــدرج لتكــون رافــدً ا حقيق ًّيــا لعلــم النحــو‪.‬‬

‫‪ . 5‬كل محاولــة علميــة للتطويــر أو البنــاء والتغييــر تكــون محتملــ ًة‬ ‫للخطــأ‪ ،‬وال ينبغــي للخطــأ أن يدفعنــا إلــى التخلــي عــن جهودنــا‪،‬‬ ‫بــل ينبغــي أن يدفعنــا إلــى االســتمرار يف التطويــر حتــى نصــل إلــى‬ ‫القمــة‪.‬‬

‫ونهايــة هــذا جــدول مختصــر للصيــغ الزمانيــة يف كل من اللغتيــن التركية‬ ‫والعربية‪:‬‬ ‫‪ -‬األزمنة يف الجملة الفعلية‪:‬‬

‫اللغة العربية – ‪Arapça‬‬

‫اللغة التركية ‪Türkçe -‬‬

‫الزمن الواسع‬

‫عامر يحب الطعام‪.‬‬

‫‪Amer yemek sever.‬‬

‫‪geniş zaman‬‬

‫الزمن الحاضر‬

‫عامر يأكل الطعام اآلن‪.‬‬

‫‪Amer şimdi yemek yiyor.‬‬

‫‪şimdiki zaman‬‬

‫الزمن الماضي‬

‫تناول عامر الطعام قبل قليل‪.‬‬

‫‪Amer biraz önce yemeği yedi.‬‬

‫‪geçmiş zaman‬‬

‫الزمن المستقبل‬

‫سيتناول عامر الطعام بعد قليل‪.‬‬

‫‪Amer yakında yemek yiyecek.‬‬

‫‪gelecek zaman‬‬

‫ األزمنة يف الجملة االسمية‪:‬‬‫اللغة العربية – ‪Arapça‬‬

‫اللغة التركية ‪Türkçe -‬‬

‫الزمن الواسع‬

‫هذا الطفل مهذب‪.‬‬

‫‪Bu çocuk kibar.‬‬

‫‪geniş zaman‬‬

‫الزمن الحاضر‬

‫علي متعب اآلن‪.‬‬

‫‪Ali şimdi yorgun.‬‬

‫‪şimdiki zaman‬‬

‫الزمن الماضي‬

‫كانت خديجة مريضة‪.‬‬

‫‪Khadija hastaydı.‬‬

‫‪geçmiş zaman‬‬

‫الزمن المستقبل‬

‫سوف يكون أحمد مهندسًا‪.‬‬

‫‪Ahmed mühendis olacak.‬‬

‫‪gelecek zaman‬‬

‫‪ -‬األزمنة المحكية‪:‬‬

‫اللغة العربية – ‪Arapça‬‬

‫اللغة التركية ‪Türkçe -‬‬

‫الزمن الواسع‬ ‫المحكي‬

‫سليم كان يسمع موسيقى‬ ‫البوب يف شبابه‪.‬‬

‫‪Selim gençliğinde pop müzik‬‬ ‫‪dinlerdi.‬‬

‫الزمن الحاضر‬ ‫المحكي‬

‫عندما دخلت الصف؛ كان‬ ‫المعلم يشرح الدرس‪.‬‬

‫‪Sınıfa girdim o zaman‬‬ ‫‪öğretmen ders anlatıyordu.‬‬

‫‪Hikâyesi‬‬

‫الزمن الماضي‬ ‫المحكي‬

‫كنت قد تعلمت اإلنجليزية‬ ‫قبل أن أذهب إلى أمريكا‪.‬‬

‫‪Amerika’ya gitmeden önce‬‬ ‫‪İngilizce öğrenmiştim.‬‬

‫‪Geçmiş‬‬ ‫‪Zamanın‬‬ ‫‪Hikâyesi‬‬

‫الزمن المستقبل‬ ‫المحكي‬

‫أمس كنت سأخرج للتسوق‪،‬‬ ‫لكن لم أجد وقتا ولم أخرج‪.‬‬

‫‪Dün alışverişe çıkacaktım‬‬ ‫‪ama vakit bulup çıkamadım.‬‬

‫‪Gelecek‬‬ ‫‪Zamanın‬‬ ‫‪Hikâyesi‬‬

‫‪Geniş Zamanın‬‬ ‫‪Hikâyesi‬‬

‫‪Şimdiki Zamanın‬‬

‫ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ـي‬ ‫ـي ّ‬ ‫والحمــد هلل َّأو ًل وآخـ ًـرا‪ ،‬وص ّلــى اهلل علــى س ـ ّيدنا َّ‬ ‫األمـ ِّ‬ ‫محمــد النّبـ ِّ‬ ‫ِ‬ ‫أجمعيــن‪.‬‬ ‫وعلــى آلــه وصحبِــه َ‬

‫‪43‬‬


‫التعليم في المناطق المحررة‬

‫التعليــم يف املناطق املحررة‬

‫آال ٌم وآمال ‪..‬‬

‫عبد الكريم محمد بهلول‬ ‫ماجستير لغة عربية‬ ‫مدير املعاهد املتوسطة إلعداد‬ ‫املدرسين سابقًا‬

‫العلــم والتعليــم أولــى التوجيهــات الســماو ّية التــي ُأمــر هبــا المصطفــى‬ ‫ص ّلــى اهلل عليــه وسـ ّلم؛ ليجعلهــا مصابيــح مــن نـ ٍ‬ ‫ـور يف طريــق البشــر ّية‬ ‫ليهتــدوا إلــى طريــق الســعادة والنــور‪.‬‬

‫ـورا‬ ‫فالعلــم هــو الغــذاء الشــايف للــروح والعقــل‪ ،‬يفتــح القلــب فيزيــده نـ ً‬ ‫ـوي‬ ‫وبصيــرةً‪ ،‬و ُيهـ ّـذب النفــس‪ ،‬ويعــدّ ل الســلوك‪ ،‬و ُيخـ ِّـر ُج الفــر َد السـ َّ‬ ‫الصالــح القــادر علــى إدارة ذاتــه وحياتــه ومجتمعــه‪ ...‬و ُيعــدّ التعليــم‬ ‫مــن األمــور األساســية ألي مجتمــعٍ‪ ،‬فهــو الــذي ي ِ‬ ‫كســب اإلنســان‬ ‫ّ ّ‬ ‫ُ‬ ‫المعرفــة الحقيق ّيــة التــي تعينــه علــى تطويــر ذاتــه ومجتمعــه؛ فيســعى‬ ‫نحــو اإلصــاح والبعــد عــن الفســاد فيعيــش حـ ًّـرا ســعيدً ا‪.‬‬

‫التعليم يف مناطق سيطرة الثوار‪:‬‬ ‫بدايات وآالم‪.‬‬

‫تأ ّثــر التعليــم يف ســوريا كثيـ ًـرا بســبب الظــروف الجائــرة للحــرب التــي‬ ‫مضــى علــى بدئهــا أكثــر مــن ســبع ســنوات‪ ،‬وكذلــك بســبب النــزوح‬ ‫وتراجــع األوضــاع االقتصاديــة والمعيشــية‪ ،‬فمنــذ أن خ ّطــت أنامــل‬ ‫تحولــت‬ ‫أطفــال درعــا علــى جــدار إحــدى مدارســها «يســقط النظــام» ّ‬ ‫المنشــآت التعليميــة والمــدارس وطالهبــا إلــى هـ ٍ‬ ‫ـدف مشــرو ٍع لنظــا ٍم‬ ‫ال يملــك الشــرع ّية‪ ،‬وإنّمــا ّ‬ ‫حولهــا‬ ‫كل مــا كان يملكــه هــو همج ّيــة ّ‬ ‫بــكل جرائمــه إلــى دمـ ٍ‬ ‫ـار أصــاب ّ‬ ‫كل مــا يحيــط بــه‪ ،‬لقــد حـ ّـول مراكــز‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫أبراجــا‬ ‫العلــم إلــى معتقــات وســجون للثــوار‪ ،‬وجعــل مــن أســطحها ً‬ ‫للقنّاصيــن إلزهــاق األرواح بــدل إحيائهــا‪ ،‬فأصبحــت متاريــس‬ ‫عســكر ّية لحمايــة قصــوره‪.‬‬ ‫‪44‬‬

‫ومــا إن بــدأت رقعــة المناطــق المحــررة تــزداد مــن درعــا جنو ًبــا إلــى‬ ‫ً‬ ‫شــمال‪ ،‬ومــن ريــف الالذقيــة غر ًبــا حتــى الجزيــرة‬ ‫حلــب وإدلــب‬ ‫ـرورا بحمــص وغيرهــا؛ حتــى أصبحــت مــدارس هــذه‬ ‫والباديــة شــر ًقا مـ ً‬ ‫المناطــق هد ًفــا لجميــع أنــواع القصــف بالطيــران والرباميــل المتفجــرة‬ ‫وبأنــواع األســلحة كا ّفــة‪ ،‬وعمــل علــى حرمــان المناطــق الثائــرة مــن‬ ‫المخصصــات التعليم ّيــة واالحتياجــات الالزمــة‪ ،‬وبــدأ باعتقــال‬ ‫المئــات مــن الكــوادر التعليم ّيــة مــن أبنــاء المناطــق الثائــرة‪ ،‬إضافـ ًة إلــى‬ ‫قتــل وتشــريد فئـ ٍـة كبيـ ٍ‬ ‫ـرة منهــم‪.‬‬

‫هــذه الوحشــ ّية أ ّدت إلــى خســارة الكثيــر مــن الطــاب والمعلميــن‬ ‫حياهتــم‪ ،‬وبــدأ االنقطــاع عــن التعليــم يــزداد يو ًمــا بعــد يــوم‪ ،‬فضاعــت‬ ‫ٍ‬ ‫وحرمــت‬ ‫األعــوام الدراس ـ ّية الكاملــة علــى عــدد كبيـ ٍـر مــن الطــاب‪ُ ،‬‬ ‫المســتمر والظــروف‬ ‫فئــ ٌة منهــم مــن التعليــم هنائ ًّيــا بســبب القصــف‬ ‫ّ‬ ‫الحيات ّيــة الصعبــة‪.‬‬ ‫وهكــذا قــام النظــام المجــرم بتدميــر أكثــر مــن ‪ /2300/‬مدرســة‪،‬‬ ‫العلمــي‪.‬‬ ‫وح َــر َم مالييــن الطــاب مــن مدارســهم وتحصيلهــم‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫إدراك األحـ ِ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ـوري وخطــر‬ ‫إن‬ ‫ـرار ألهم ّيــة العلــم يف حيــاة الشــعب السـ ّ‬

‫الجهــل علــى الجيــل جعلهــم ينطلقــون يف تنظيــم التعليــم مــن خــال‬ ‫ٍ‬ ‫ـادرات فرد ّيـ ٍـة لتلبيــة الواجــب يف تعليــم أبنائنــا‪ ،‬مت َ​َحدّ يــن المخاطـ َـر‬ ‫مبـ‬ ‫العظيمــة والهمج ّيــة التــي ا ّتبعها نظام األســد يف محاربة العلــم والتعليم‬ ‫باســتهدافه المن ّظــم للمــدارس والطــاب والكــوادر التعليم ّيــة‪ ،‬فمــن‬ ‫قصــف إلــى تشــريد إلــى اعتقــال‪...‬‬ ‫إن ّ‬ ‫ّ‬ ‫كل الويــات التــي ص ّبهــا قصــف النظــام علــى المناطــق المحـ ّـررة‬

‫التعليم في المناطق المحررة‬ ‫لــم ُت ِ‬ ‫ثــن مــن عزيمــة األحــرار‪ ،‬فقــد بــدأ‬ ‫المختصــون يف مجــال الرتبيــة مــن الثــوار‬ ‫ّ‬ ‫بتعليــم األطفــال يف البيــوت واألقبيــة‬ ‫طــوروا عملهــم‪،‬‬ ‫والمســاجد وســرعان مــا ّ‬ ‫حيــث أسســوا المكاتــب التعليم ّيــة المرتبطــة‬ ‫بالمجالــس المحل ّيــة‪ ،‬وبــدؤوا بإعــادة تأهيــل‬ ‫المــدارس وافتتاحهــا‪.‬‬

‫جمــة‪ ،‬وكان مــن أكثرهــا‬ ‫كانــت الصعوبــات ّ‬ ‫ونقــص‬ ‫نقــص الكــوادر التعليم ّيــة‪،‬‬ ‫تعقيــدً ا‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫وتخــوف األهالــي‬ ‫الكتــب المدرســ ّية‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫مــن إرســال أبنائهــم إلــى المــدارس خــوف‬ ‫القصــف‪.‬‬ ‫المتطوعــون علــى عاتقهــم‬ ‫أخــذ المع ّلمــون‬ ‫ّ‬ ‫العمــل علــى تجــاوز العقبــات لالنطــاق‬ ‫بعمل ّيــة التعليــم المدرسـ ّـي؛ ألنّهــم كانــوا علــى‬ ‫يقيــن ّ‬ ‫أن هــذه المرحلة مــن أهــم المراحل التي‬ ‫والتطــور والنمــو‬ ‫ُيعتمــد عليهــا يف بنــاء البلــد‬ ‫ّ‬ ‫المســتقبلي للجوانــب المجتمع ّيــة جميعهــا‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫المتطوعيــن‬ ‫فبــدؤوا بإعــداد المع ّلميــن‬ ‫ّ‬ ‫بتنظيــم دورات تأهيــ ٍل ُتســهم يف رفــع ســو ّية‬ ‫المع ّلــم‪ ،‬وقامــوا بتصويــر الكتــب المدرســ ّية‬ ‫مــن خــال التواصــل مــع الجهــات الداعمــة‪،‬‬ ‫وتطــور األمــر لطباعــة الكتــب‪ ،‬ون ّظمــوا‬ ‫ّ‬ ‫حمـ ٍ‬ ‫ـات لتشــجيع األهالــي إلرســال أبنائهــم‬ ‫إلــى المــدارس لمتابعــة تحصيلهــم العلمـ ّـي؛‬ ‫ـادرا علــى‬ ‫يتخرجــوا جيـ ًـا ً‬ ‫منتجــا فاعـ ًـا قـ ً‬ ‫كــي ّ‬ ‫التفكيــر الســليم متطل ًعــا نحــو البنــاء واإلبــداع‪،‬‬ ‫يســعى الســتخدام قدراتــه ومواهبــه كا ّفــة مــن‬ ‫أجــل إعمــار وطنــه‪.‬‬

‫تعــرض ق ّطــاع التعليــم‬ ‫وعلــى الرغــم مــن ّ‬ ‫خاصــة المــدارس‪ -‬إلــى االســتهداف‬‫ّ‬ ‫المباشــر مــن قبــل طيــران النظــام وحلفائــه‪،‬‬ ‫حيــث ُد ّمــر مــا يقــارب ‪ /2300/‬مدرســة‬ ‫تدميــرا كل ًّيــا أو جزئ ًّيــا ‪-‬كمــا‬ ‫بالقصــف إ ّمــا‬ ‫ً‬ ‫ســبق‪ -‬فـ ّ‬ ‫ـإن العمــل التعليمـ ّـي لــم يتو ّقــف بــل‬ ‫تطــو ًرا ملحو ًظــا‪.‬‬ ‫تطــور ّ‬ ‫ّ‬ ‫وبمــا ّ‬ ‫أن الثــورة الســور ّية ثــورة فكــر ووعــي‪،‬‬ ‫وبمــا ّ‬ ‫أن الشــعب ال يمــوت‪ ،‬فقد بــدأ الغيورون‬ ‫علــى أبنائهــم بإنتــاج الحلــول‪ ،‬وإن كانــت‬ ‫غيــر جذر ّيــة‪ ،‬ولكنهــا محــاوالت الســتئناف‬ ‫العمل ّيــة التعليم ّيــة‪ ،‬وتعويــض الطــاب مــا‬

‫فاهتــم‪ ،‬انطلــق التعليــم يف المناطــق المحــررة ومنعهــا مــن االســتفادة مــن التجــارب الحديثــة‬ ‫عــام ‪ /2012/‬بمبــادرات فرد ّيــة وبدأ تشــكيل يف تلــك الحقبــة المظلمــة مــن تاريــخ بالدنــا‪.‬‬ ‫وتــوج العمــل بإنشــاء‬ ‫المكاتــب التعليم ّيــة‪ّ ،‬‬ ‫تمــت طباعــة الكتــب المعدَّ لــة ألكثــر‬ ‫وقــد ّ‬ ‫الهيئــة الوطن ّيــة للرتبيــة والتعليم‪ ،‬التي أشــرفت مــن مـ ّـرة مــن قبــل وزارة الرتبيــة يف الحكومــة‬ ‫علــى امتحانــات الشــهادة اإلعداد ّيــة والشــهادة الســور ّية المؤ ّقتــة وبعــض المؤسســات‬ ‫الثانو ّيــة التــي أجريــت ألول مــرة يف مناطــق الخيريــة الســورية والدوليــة‪.‬‬ ‫ســيطرة الثــوار يف ‪/29‬آب‪ ،2013/‬حيــث‬ ‫تقــدّ م لالمتحانــات ‪ /9484/‬طال ًبــا وطالب ـةً‪ ،‬ومــع اســتمرار الثــورة الســور ّية أصبحــت‬ ‫ملحــة لتعديــل المناهــج وتطويرهــا‬ ‫مركــزا امتحان ًّيــا‪ /29/ ،‬منهــا يف الحاجــة ّ‬ ‫يف ‪/113/‬‬ ‫ً‬ ‫حلــب وإدلــب‪ ،‬و‪ /11/‬يف ريــف دمشــق‪ ،‬بمــا يتوافــق مــع التطـ ّـور العلمـ ّـي‪ ،‬وتصحيــح‬ ‫الرتبــوي الــذي اعتمــدَ ُه‬ ‫و‪ /9/‬يف الرقــة‪ ،‬و‪ /7/‬يف ديــر الــزور‪ ،‬مســار الهــدف‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫النظــا ُم يف المناهــج‪ ،‬وهــذا يحتــاج خططــا‬ ‫مركــزا يف دول الجــوار‪.‬‬ ‫و‪/13/‬‬ ‫ً‬ ‫مســتويات تربوي ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ــة‬ ‫اســراتيج ّي ًة َتعت َِمــدُ علــى‬ ‫ّ‬ ‫وبذلــك أثبــت الشــعب الســوري أنّــه‬ ‫بمخرجات جي ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫قــادر متطــو ٍ‬ ‫ٌ‬ ‫رة للخــروجِ‬ ‫دة لمســتقب ٍل‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫علــى إدارة المؤسســات التعليم ّيــة وإنجاحهــا‬ ‫تضمـ ُن مركز ّيــة التعليــم‬ ‫أفضـ َـل للجيــل القــادم َ‬ ‫متحدّ ًيــا ّ‬ ‫معوقــات‪.‬‬ ‫كل مــا يصادفــه مــن ّ‬ ‫ووحــدة أهدافــه‪.‬‬

‫املناهج املعتمدة‪:‬‬

‫إحصائيات‪ ..‬وآمال‪:‬‬

‫اعتمــد القائمــون علــى التعليــم المنهــاج‬ ‫الســوري الســابق المط ّبــق قبــل الثــورة‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫التعليمــي فيــه‬ ‫ولكــن بعــد تصحيــح المســار‬ ‫ّ‬ ‫قــدر اإلمــكان وضمــن الجهــود المتواضعــة‬ ‫والوقــت المتــاح‪ ،‬وذلــك مــن خــال حــذف‬ ‫ّ‬ ‫الســوري وحــزب‬ ‫كل مــا لــه عالقــة بالنظــام‬ ‫ّ‬ ‫البعــث‪ ،‬كذلــك طالــت التعديــات ّ‬ ‫كل مــا‬ ‫الســوري‬ ‫لــه عالقــة ببنــاء شــخص ّي ِة التلميــذ‬ ‫ّ‬ ‫الــذي تشـ ّـرب ســاب ًقا عقل ّيــة الحــزب الواحــد‬ ‫والمتح ّكــم الظالــم الواحــد‪ ،‬إضافــة إلــى‬ ‫المعلومــات التــي تتع ّلــق بالعالقــات مــع دول وبــدأ العمــل علــى ضبــط ســير التعليــم‬ ‫ممــا ســاهم يف‬ ‫واعتمــاد التخطيــط‬ ‫الجــوار‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫المركــزي ّ‬ ‫تعزيــز العمل ّيــة التعليم ّيــة‪ ،‬وســاهم يف بنــاء‬ ‫أشــرفت الهيئــة الوطنيــة علــى هــذه‬ ‫ٍ‬ ‫شــراكات مــع الجهــات الداعمــة‪ ،‬وتوجيــه‬ ‫تــم اعتمادهــا مــن قبــل‬ ‫التعديــات إلــى أن ّ‬ ‫ِ‬ ‫ـــمواطن الحاجــة‪ ،‬والرقابــة علــى‬ ‫وزارة الرتبيــة يف الحكومــة الســورية المؤقتــة‪ ،‬الدعــم ل َ‬ ‫ّ‬ ‫َجــو َد ِة التعليــم ومؤسســاته وانضباطــه بالقيــم‬ ‫مهمــة تنقيــح المناهــج‬ ‫حيــث ُأوكلــت‬ ‫ّ‬ ‫الرتبو ّيــة والعمل ّيــة‪.‬‬ ‫وتعديلهــا وهتذيبهــا إلــى مجموعــة مــن‬ ‫والموجهيــن الذيــن وتشــير إحصــاءات وزارة الرتبيــة إلــى ّ‬ ‫أن‬ ‫الخــراء واالختصاصييــن‬ ‫ّ‬ ‫ِ‬ ‫ف عليهــم يف‬ ‫جعلــوا مــن المضمــون العلمـ ّـي للمناهــج مبدأ أعــداد الطــاب الذيــن ُتشــر ُ‬ ‫منهــم علــى معاييــر الداخــل الســوري المحــرر ‪ /700/‬ألــفِ‬ ‫حرصــا‬ ‫ثاب ًتــا حافظــوا عليــه ً‬ ‫ّ‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫المناهــج واعتماد ّيتهــا‪ ،‬ولكــن بقيــت هــذه طالــب وطالبــة يف ‪ /2280/‬مدرس ـةً‪ ،‬حيــث‬ ‫المناهــج تعــاين القصــور العــام الــذي تراكــم بلــغ عــدد الطــاب المتقدّ ميــن المتحانــات‬ ‫فيهــا لعشــرات الســنوات يف فــرة تســلط نظــام الشــهادة الثانو ّيــة دورة عــام ‪2017/‬م‪:/‬‬ ‫العصابــة؛ نتيجــة لتدميــر كوادرنــا التعليميــة ‪ /13600/‬طالـ ٍ‬ ‫ـب وطالبـ ٍـة ولشــهادة التعليــم‬ ‫يف منتصــف عــام ‪ُ /2014/‬شــ ّكلت وزارة‬ ‫الرتبيــة يف الحكومــة الســور ّية المؤ ّقتــة‪ ،‬وبــدأ‬ ‫عملهــا بتاريــخ‪ ،2014/6/4 :‬وتســ ّلم‬ ‫الــوزارة الدكتــور محــي الديــن بنانــة‪ ،‬بــدأت‬ ‫الــوزارة بتأســيس مديريــات مركز ّيــة للرتبيــة‬ ‫يف المحافظــات‪ ،‬بلــغ عددهــا ‪ /9/‬مديريــات‪،‬‬ ‫يف‪ :‬حلــب‪ ،‬إدلــب‪ ،‬حمــاة‪ ،‬الالذق ّيــة‪ ،‬دمشــق‪،‬‬ ‫ريــف دمشــق‪ ،‬حمــص‪ ،‬درعــا‪ ،‬القنيطــرة‪ ،‬يتبــع‬ ‫مجم ًعــا تربو ًّيــا‪.‬‬ ‫لهــا ‪ّ /35/‬‬

‫‪45‬‬


‫التعليم في المناطق المحررة‬

‫التعليــم يف املناطق املحررة‬

‫آال ٌم وآمال ‪..‬‬

‫عبد الكريم محمد بهلول‬ ‫ماجستير لغة عربية‬ ‫مدير املعاهد املتوسطة إلعداد‬ ‫املدرسين سابقًا‬

‫العلــم والتعليــم أولــى التوجيهــات الســماو ّية التــي ُأمــر هبــا المصطفــى‬ ‫ص ّلــى اهلل عليــه وسـ ّلم؛ ليجعلهــا مصابيــح مــن نـ ٍ‬ ‫ـور يف طريــق البشــر ّية‬ ‫ليهتــدوا إلــى طريــق الســعادة والنــور‪.‬‬

‫ـورا‬ ‫فالعلــم هــو الغــذاء الشــايف للــروح والعقــل‪ ،‬يفتــح القلــب فيزيــده نـ ً‬ ‫ـوي‬ ‫وبصيــرةً‪ ،‬و ُيهـ ّـذب النفــس‪ ،‬ويعــدّ ل الســلوك‪ ،‬و ُيخـ ِّـر ُج الفــر َد السـ َّ‬ ‫الصالــح القــادر علــى إدارة ذاتــه وحياتــه ومجتمعــه‪ ...‬و ُيعــدّ التعليــم‬ ‫مــن األمــور األساســية ألي مجتمــعٍ‪ ،‬فهــو الــذي ي ِ‬ ‫كســب اإلنســان‬ ‫ّ ّ‬ ‫ُ‬ ‫المعرفــة الحقيق ّيــة التــي تعينــه علــى تطويــر ذاتــه ومجتمعــه؛ فيســعى‬ ‫نحــو اإلصــاح والبعــد عــن الفســاد فيعيــش حـ ًّـرا ســعيدً ا‪.‬‬

‫التعليم يف مناطق سيطرة الثوار‪:‬‬ ‫بدايات وآالم‪.‬‬

‫تأ ّثــر التعليــم يف ســوريا كثيـ ًـرا بســبب الظــروف الجائــرة للحــرب التــي‬ ‫مضــى علــى بدئهــا أكثــر مــن ســبع ســنوات‪ ،‬وكذلــك بســبب النــزوح‬ ‫وتراجــع األوضــاع االقتصاديــة والمعيشــية‪ ،‬فمنــذ أن خ ّطــت أنامــل‬ ‫تحولــت‬ ‫أطفــال درعــا علــى جــدار إحــدى مدارســها «يســقط النظــام» ّ‬ ‫المنشــآت التعليميــة والمــدارس وطالهبــا إلــى هـ ٍ‬ ‫ـدف مشــرو ٍع لنظــا ٍم‬ ‫ال يملــك الشــرع ّية‪ ،‬وإنّمــا ّ‬ ‫حولهــا‬ ‫كل مــا كان يملكــه هــو همج ّيــة ّ‬ ‫بــكل جرائمــه إلــى دمـ ٍ‬ ‫ـار أصــاب ّ‬ ‫كل مــا يحيــط بــه‪ ،‬لقــد حـ ّـول مراكــز‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫أبراجــا‬ ‫العلــم إلــى معتقــات وســجون للثــوار‪ ،‬وجعــل مــن أســطحها ً‬ ‫للقنّاصيــن إلزهــاق األرواح بــدل إحيائهــا‪ ،‬فأصبحــت متاريــس‬ ‫عســكر ّية لحمايــة قصــوره‪.‬‬ ‫‪44‬‬

‫ومــا إن بــدأت رقعــة المناطــق المحــررة تــزداد مــن درعــا جنو ًبــا إلــى‬ ‫ً‬ ‫شــمال‪ ،‬ومــن ريــف الالذقيــة غر ًبــا حتــى الجزيــرة‬ ‫حلــب وإدلــب‬ ‫ـرورا بحمــص وغيرهــا؛ حتــى أصبحــت مــدارس هــذه‬ ‫والباديــة شــر ًقا مـ ً‬ ‫المناطــق هد ًفــا لجميــع أنــواع القصــف بالطيــران والرباميــل المتفجــرة‬ ‫وبأنــواع األســلحة كا ّفــة‪ ،‬وعمــل علــى حرمــان المناطــق الثائــرة مــن‬ ‫المخصصــات التعليم ّيــة واالحتياجــات الالزمــة‪ ،‬وبــدأ باعتقــال‬ ‫المئــات مــن الكــوادر التعليم ّيــة مــن أبنــاء المناطــق الثائــرة‪ ،‬إضافـ ًة إلــى‬ ‫قتــل وتشــريد فئـ ٍـة كبيـ ٍ‬ ‫ـرة منهــم‪.‬‬

‫هــذه الوحشــ ّية أ ّدت إلــى خســارة الكثيــر مــن الطــاب والمعلميــن‬ ‫حياهتــم‪ ،‬وبــدأ االنقطــاع عــن التعليــم يــزداد يو ًمــا بعــد يــوم‪ ،‬فضاعــت‬ ‫ٍ‬ ‫وحرمــت‬ ‫األعــوام الدراس ـ ّية الكاملــة علــى عــدد كبيـ ٍـر مــن الطــاب‪ُ ،‬‬ ‫المســتمر والظــروف‬ ‫فئــ ٌة منهــم مــن التعليــم هنائ ًّيــا بســبب القصــف‬ ‫ّ‬ ‫الحيات ّيــة الصعبــة‪.‬‬ ‫وهكــذا قــام النظــام المجــرم بتدميــر أكثــر مــن ‪ /2300/‬مدرســة‪،‬‬ ‫العلمــي‪.‬‬ ‫وح َــر َم مالييــن الطــاب مــن مدارســهم وتحصيلهــم‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫إدراك األحـ ِ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ـوري وخطــر‬ ‫إن‬ ‫ـرار ألهم ّيــة العلــم يف حيــاة الشــعب السـ ّ‬

‫الجهــل علــى الجيــل جعلهــم ينطلقــون يف تنظيــم التعليــم مــن خــال‬ ‫ٍ‬ ‫ـادرات فرد ّيـ ٍـة لتلبيــة الواجــب يف تعليــم أبنائنــا‪ ،‬مت َ​َحدّ يــن المخاطـ َـر‬ ‫مبـ‬ ‫العظيمــة والهمج ّيــة التــي ا ّتبعها نظام األســد يف محاربة العلــم والتعليم‬ ‫باســتهدافه المن ّظــم للمــدارس والطــاب والكــوادر التعليم ّيــة‪ ،‬فمــن‬ ‫قصــف إلــى تشــريد إلــى اعتقــال‪...‬‬ ‫إن ّ‬ ‫ّ‬ ‫كل الويــات التــي ص ّبهــا قصــف النظــام علــى المناطــق المحـ ّـررة‬

‫التعليم في المناطق المحررة‬ ‫لــم ُت ِ‬ ‫ثــن مــن عزيمــة األحــرار‪ ،‬فقــد بــدأ‬ ‫المختصــون يف مجــال الرتبيــة مــن الثــوار‬ ‫ّ‬ ‫بتعليــم األطفــال يف البيــوت واألقبيــة‬ ‫طــوروا عملهــم‪،‬‬ ‫والمســاجد وســرعان مــا ّ‬ ‫حيــث أسســوا المكاتــب التعليم ّيــة المرتبطــة‬ ‫بالمجالــس المحل ّيــة‪ ،‬وبــدؤوا بإعــادة تأهيــل‬ ‫المــدارس وافتتاحهــا‪.‬‬

‫جمــة‪ ،‬وكان مــن أكثرهــا‬ ‫كانــت الصعوبــات ّ‬ ‫ونقــص‬ ‫نقــص الكــوادر التعليم ّيــة‪،‬‬ ‫تعقيــدً ا‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫وتخــوف األهالــي‬ ‫الكتــب المدرســ ّية‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫مــن إرســال أبنائهــم إلــى المــدارس خــوف‬ ‫القصــف‪.‬‬ ‫المتطوعــون علــى عاتقهــم‬ ‫أخــذ المع ّلمــون‬ ‫ّ‬ ‫العمــل علــى تجــاوز العقبــات لالنطــاق‬ ‫بعمل ّيــة التعليــم المدرسـ ّـي؛ ألنّهــم كانــوا علــى‬ ‫يقيــن ّ‬ ‫أن هــذه المرحلة مــن أهــم المراحل التي‬ ‫والتطــور والنمــو‬ ‫ُيعتمــد عليهــا يف بنــاء البلــد‬ ‫ّ‬ ‫المســتقبلي للجوانــب المجتمع ّيــة جميعهــا‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫المتطوعيــن‬ ‫فبــدؤوا بإعــداد المع ّلميــن‬ ‫ّ‬ ‫بتنظيــم دورات تأهيــ ٍل ُتســهم يف رفــع ســو ّية‬ ‫المع ّلــم‪ ،‬وقامــوا بتصويــر الكتــب المدرســ ّية‬ ‫مــن خــال التواصــل مــع الجهــات الداعمــة‪،‬‬ ‫وتطــور األمــر لطباعــة الكتــب‪ ،‬ون ّظمــوا‬ ‫ّ‬ ‫حمـ ٍ‬ ‫ـات لتشــجيع األهالــي إلرســال أبنائهــم‬ ‫إلــى المــدارس لمتابعــة تحصيلهــم العلمـ ّـي؛‬ ‫ـادرا علــى‬ ‫يتخرجــوا جيـ ًـا ً‬ ‫منتجــا فاعـ ًـا قـ ً‬ ‫كــي ّ‬ ‫التفكيــر الســليم متطل ًعــا نحــو البنــاء واإلبــداع‪،‬‬ ‫يســعى الســتخدام قدراتــه ومواهبــه كا ّفــة مــن‬ ‫أجــل إعمــار وطنــه‪.‬‬

‫تعــرض ق ّطــاع التعليــم‬ ‫وعلــى الرغــم مــن ّ‬ ‫خاصــة المــدارس‪ -‬إلــى االســتهداف‬‫ّ‬ ‫المباشــر مــن قبــل طيــران النظــام وحلفائــه‪،‬‬ ‫حيــث ُد ّمــر مــا يقــارب ‪ /2300/‬مدرســة‬ ‫تدميــرا كل ًّيــا أو جزئ ًّيــا ‪-‬كمــا‬ ‫بالقصــف إ ّمــا‬ ‫ً‬ ‫ســبق‪ -‬فـ ّ‬ ‫ـإن العمــل التعليمـ ّـي لــم يتو ّقــف بــل‬ ‫تطــو ًرا ملحو ًظــا‪.‬‬ ‫تطــور ّ‬ ‫ّ‬ ‫وبمــا ّ‬ ‫أن الثــورة الســور ّية ثــورة فكــر ووعــي‪،‬‬ ‫وبمــا ّ‬ ‫أن الشــعب ال يمــوت‪ ،‬فقد بــدأ الغيورون‬ ‫علــى أبنائهــم بإنتــاج الحلــول‪ ،‬وإن كانــت‬ ‫غيــر جذر ّيــة‪ ،‬ولكنهــا محــاوالت الســتئناف‬ ‫العمل ّيــة التعليم ّيــة‪ ،‬وتعويــض الطــاب مــا‬

‫فاهتــم‪ ،‬انطلــق التعليــم يف المناطــق المحــررة ومنعهــا مــن االســتفادة مــن التجــارب الحديثــة‬ ‫عــام ‪ /2012/‬بمبــادرات فرد ّيــة وبدأ تشــكيل يف تلــك الحقبــة المظلمــة مــن تاريــخ بالدنــا‪.‬‬ ‫وتــوج العمــل بإنشــاء‬ ‫المكاتــب التعليم ّيــة‪ّ ،‬‬ ‫تمــت طباعــة الكتــب المعدَّ لــة ألكثــر‬ ‫وقــد ّ‬ ‫الهيئــة الوطن ّيــة للرتبيــة والتعليم‪ ،‬التي أشــرفت مــن مـ ّـرة مــن قبــل وزارة الرتبيــة يف الحكومــة‬ ‫علــى امتحانــات الشــهادة اإلعداد ّيــة والشــهادة الســور ّية المؤ ّقتــة وبعــض المؤسســات‬ ‫الثانو ّيــة التــي أجريــت ألول مــرة يف مناطــق الخيريــة الســورية والدوليــة‪.‬‬ ‫ســيطرة الثــوار يف ‪/29‬آب‪ ،2013/‬حيــث‬ ‫تقــدّ م لالمتحانــات ‪ /9484/‬طال ًبــا وطالب ـةً‪ ،‬ومــع اســتمرار الثــورة الســور ّية أصبحــت‬ ‫ملحــة لتعديــل المناهــج وتطويرهــا‬ ‫مركــزا امتحان ًّيــا‪ /29/ ،‬منهــا يف الحاجــة ّ‬ ‫يف ‪/113/‬‬ ‫ً‬ ‫حلــب وإدلــب‪ ،‬و‪ /11/‬يف ريــف دمشــق‪ ،‬بمــا يتوافــق مــع التطـ ّـور العلمـ ّـي‪ ،‬وتصحيــح‬ ‫الرتبــوي الــذي اعتمــدَ ُه‬ ‫و‪ /9/‬يف الرقــة‪ ،‬و‪ /7/‬يف ديــر الــزور‪ ،‬مســار الهــدف‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫النظــا ُم يف المناهــج‪ ،‬وهــذا يحتــاج خططــا‬ ‫مركــزا يف دول الجــوار‪.‬‬ ‫و‪/13/‬‬ ‫ً‬ ‫مســتويات تربوي ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ــة‬ ‫اســراتيج ّي ًة َتعت َِمــدُ علــى‬ ‫ّ‬ ‫وبذلــك أثبــت الشــعب الســوري أنّــه‬ ‫بمخرجات جي ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫قــادر متطــو ٍ‬ ‫ٌ‬ ‫رة للخــروجِ‬ ‫دة لمســتقب ٍل‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫علــى إدارة المؤسســات التعليم ّيــة وإنجاحهــا‬ ‫تضمـ ُن مركز ّيــة التعليــم‬ ‫أفضـ َـل للجيــل القــادم َ‬ ‫متحدّ ًيــا ّ‬ ‫معوقــات‪.‬‬ ‫كل مــا يصادفــه مــن ّ‬ ‫ووحــدة أهدافــه‪.‬‬

‫املناهج املعتمدة‪:‬‬

‫إحصائيات‪ ..‬وآمال‪:‬‬

‫اعتمــد القائمــون علــى التعليــم المنهــاج‬ ‫الســوري الســابق المط ّبــق قبــل الثــورة‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫التعليمــي فيــه‬ ‫ولكــن بعــد تصحيــح المســار‬ ‫ّ‬ ‫قــدر اإلمــكان وضمــن الجهــود المتواضعــة‬ ‫والوقــت المتــاح‪ ،‬وذلــك مــن خــال حــذف‬ ‫ّ‬ ‫الســوري وحــزب‬ ‫كل مــا لــه عالقــة بالنظــام‬ ‫ّ‬ ‫البعــث‪ ،‬كذلــك طالــت التعديــات ّ‬ ‫كل مــا‬ ‫الســوري‬ ‫لــه عالقــة ببنــاء شــخص ّي ِة التلميــذ‬ ‫ّ‬ ‫الــذي تشـ ّـرب ســاب ًقا عقل ّيــة الحــزب الواحــد‬ ‫والمتح ّكــم الظالــم الواحــد‪ ،‬إضافــة إلــى‬ ‫المعلومــات التــي تتع ّلــق بالعالقــات مــع دول وبــدأ العمــل علــى ضبــط ســير التعليــم‬ ‫ممــا ســاهم يف‬ ‫واعتمــاد التخطيــط‬ ‫الجــوار‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫المركــزي ّ‬ ‫تعزيــز العمل ّيــة التعليم ّيــة‪ ،‬وســاهم يف بنــاء‬ ‫أشــرفت الهيئــة الوطنيــة علــى هــذه‬ ‫ٍ‬ ‫شــراكات مــع الجهــات الداعمــة‪ ،‬وتوجيــه‬ ‫تــم اعتمادهــا مــن قبــل‬ ‫التعديــات إلــى أن ّ‬ ‫ِ‬ ‫ـــمواطن الحاجــة‪ ،‬والرقابــة علــى‬ ‫وزارة الرتبيــة يف الحكومــة الســورية المؤقتــة‪ ،‬الدعــم ل َ‬ ‫ّ‬ ‫َجــو َد ِة التعليــم ومؤسســاته وانضباطــه بالقيــم‬ ‫مهمــة تنقيــح المناهــج‬ ‫حيــث ُأوكلــت‬ ‫ّ‬ ‫الرتبو ّيــة والعمل ّيــة‪.‬‬ ‫وتعديلهــا وهتذيبهــا إلــى مجموعــة مــن‬ ‫والموجهيــن الذيــن وتشــير إحصــاءات وزارة الرتبيــة إلــى ّ‬ ‫أن‬ ‫الخــراء واالختصاصييــن‬ ‫ّ‬ ‫ِ‬ ‫ف عليهــم يف‬ ‫جعلــوا مــن المضمــون العلمـ ّـي للمناهــج مبدأ أعــداد الطــاب الذيــن ُتشــر ُ‬ ‫منهــم علــى معاييــر الداخــل الســوري المحــرر ‪ /700/‬ألــفِ‬ ‫حرصــا‬ ‫ثاب ًتــا حافظــوا عليــه ً‬ ‫ّ‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫المناهــج واعتماد ّيتهــا‪ ،‬ولكــن بقيــت هــذه طالــب وطالبــة يف ‪ /2280/‬مدرس ـةً‪ ،‬حيــث‬ ‫المناهــج تعــاين القصــور العــام الــذي تراكــم بلــغ عــدد الطــاب المتقدّ ميــن المتحانــات‬ ‫فيهــا لعشــرات الســنوات يف فــرة تســلط نظــام الشــهادة الثانو ّيــة دورة عــام ‪2017/‬م‪:/‬‬ ‫العصابــة؛ نتيجــة لتدميــر كوادرنــا التعليميــة ‪ /13600/‬طالـ ٍ‬ ‫ـب وطالبـ ٍـة ولشــهادة التعليــم‬ ‫يف منتصــف عــام ‪ُ /2014/‬شــ ّكلت وزارة‬ ‫الرتبيــة يف الحكومــة الســور ّية المؤ ّقتــة‪ ،‬وبــدأ‬ ‫عملهــا بتاريــخ‪ ،2014/6/4 :‬وتســ ّلم‬ ‫الــوزارة الدكتــور محــي الديــن بنانــة‪ ،‬بــدأت‬ ‫الــوزارة بتأســيس مديريــات مركز ّيــة للرتبيــة‬ ‫يف المحافظــات‪ ،‬بلــغ عددهــا ‪ /9/‬مديريــات‪،‬‬ ‫يف‪ :‬حلــب‪ ،‬إدلــب‪ ،‬حمــاة‪ ،‬الالذق ّيــة‪ ،‬دمشــق‪،‬‬ ‫ريــف دمشــق‪ ،‬حمــص‪ ،‬درعــا‪ ،‬القنيطــرة‪ ،‬يتبــع‬ ‫مجم ًعــا تربو ًّيــا‪.‬‬ ‫لهــا ‪ّ /35/‬‬

‫‪45‬‬


‫التعليم في المناطق المحررة‬ ‫األساســي‪./13700 / :‬‬ ‫ّ‬ ‫وبحســب إحصائيــات الــوزارة ّ‬ ‫فــإن عــدد‬ ‫ـوي‬ ‫الذيــن حصلــوا علــى شــهادة التعليــم الثانـ ّ‬ ‫يف الــدورات االمتحان ّيــة الســابقة ‪/45000/‬‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫طالــب حصلــوا‬ ‫طالــب‪ ،‬و ‪/96000/‬‬ ‫األساســي‪ ...‬وعلــى‬ ‫علــى شــهادة التعليــم‬ ‫ّ‬ ‫الرغــم مــن ّ‬ ‫بــذل إال ّ‬ ‫كل الجهــود التــي ُت َ‬ ‫أن‬ ‫حوالــي ‪ %55‬مــن طــاب وطالبــات المناطــق‬ ‫المحــررة مــن مختلــف المراحــل الدراســ ّية‬ ‫ال يزالــون منقطعيــن عــن تعليمهــم‪ ،‬ولذلــك‬ ‫ّ‬ ‫ملحــة لتضافــر الجهــود‬ ‫فــإن هنــاك حاجــة ّ‬ ‫الدول ّيــة‪ ،‬وال ســيما العرب ّيــة واإلســام ّية منهــا‬ ‫لمنــع المزيــد مــن التدهــور يف قطــاع التعليــم‪،‬‬ ‫والعمــل علــى تعافيــه والنهــوض بــه؛ باعتمــاد‬ ‫الدعــم المســتدام‪.‬‬

‫دائمــا بوقــوع ضحايــا بيــن الطــاب‬ ‫يتســبب ً‬ ‫والمدرســين؛ فيــؤ ّدي إلــى عــدم توافــر أماكــن‬ ‫ّ‬ ‫آمنــة للتع ّلــم‪ ،‬وخــوف األهالــي علــى أبنائهــم‬ ‫الــذي يمنعهــم مــن إرســال أبنائهــم إلــى‬ ‫يضطــر القائمــون علــى‬ ‫المــدارس‪ ،‬حيــث‬ ‫ُّ‬ ‫ِ‬ ‫التعليــم الســتخدا ِم األقبيــة والمالجــئ التي ال‬ ‫ظــروف تعليم ّيــ ٌة مناســبةٌ‪.‬‬ ‫تتوافــر فيهــا‬ ‫ٌ‬

‫معوقــات التعليــم وتحدّ ياته يف مناطق ســيطرة‬ ‫ّ‬ ‫أهمهــا الظــروف‬ ‫ـن‬ ‫ـ‬ ‫م‬ ‫ٌ‪،‬‬ ‫ة‬ ‫ـر‬ ‫ـ‬ ‫وخطي‬ ‫ة‬ ‫ـر‬ ‫ـ‬ ‫كبي‬ ‫ـوار‬ ‫الثـ‬ ‫ٌ‬ ‫ّ‬ ‫األمن ّيــة الصعبــة بســبب تعــرض المــدارس‬ ‫ممــا‬ ‫للقصــف مــن قبــل النظــام وحلفائــه ّ‬

‫وإذا أردنــا النهــوض بواقــع العمل ّيــة التعليم ّيــة‬ ‫والعمــل علــى اســتدامة التعليــم ال بــدّ مــن‬ ‫العمــل علــى ســدّ النقــص يف الــكادر التعليمـ ّـي‬ ‫المتخصــص‪ ،‬والحفــاظ علــى المع ّلــم وذلــك‬

‫ومــن التحدّ يــات عــدم وجــود التمويــل الكايف‬ ‫للعمل ّيــة التعليم ّيــة‪ ،‬فمــا تقدّ مــه المنظمــات‬ ‫الداعمــة يل ّبــي أقـ ّـل مــن ‪ % 50‬مــن احتياجــات‬ ‫العمل ّيــة التعليم ّيــة‪ ،‬بحيــث نجــد رواتــب‬ ‫المدرســين ال تتجــاوز ‪ /100/‬دوالر إن‬ ‫ّ‬ ‫وجــدت؛ األمــر الــذي يجعــل المعلــم مضطـ ًّـرا‬ ‫ألن يعمــل أعمـ ً‬ ‫ـال إضاف ّيــة إلعالــة أســرته‪ ،‬مما‬ ‫يؤثــر ســل ًبا علــى اســتقرار العمل ّيــة الرتبو ّيــة‬ ‫وبخصــوص االعــراف الدولــي بالشــهادات وعلــى مســتوى َجــودة التعليــم‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫الســوري تعمــل وزارة ومــن المعوقــات مــا يتعلــق بتأميــن مراكــز‬ ‫الممنوحــة للطالــب‬ ‫ّ‬ ‫الرتبيــة علــى توفير الغطــاء الشــرعي لالعرتاف التعليــم ومســتلزماهتا وتجهيزهــا وتأهيلهــا‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫بالشــهادات الصــادرة عنهــا وإعطائهــا إذ بســبب دمــار أكثــر المــدارس ونــزوح‬ ‫ـداد كبيـ ٍ‬ ‫مصداقيــة دوليــة من خــال إخضــاع العمليات أعـ ٍ‬ ‫ـرة إلــى المخ ّيمــات نجــد ّ‬ ‫أن معظــم‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫االمتحان ّيــة للمعاييــر الدول ّيــة‪ ،‬وذلــك لضمــان المراكــز ال تتوافــر فيهــا ظروف البيئــة التعليم ّية‬ ‫مســتقبل الطالــب الــذي حصــل علــى الشــهادة المناســبة‪ ،‬فهــي عبــار ٌة عــن مالجــئ أو كهـ ٍ‬ ‫ـوف‬ ‫َ‬ ‫خيــم غيــر مهي ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ئــة للعمل ّيــة التعليم ّيــة‪.‬‬ ‫الثانو ّيــة‪ ،‬فبحســب وزارة الرتبيــة أمــام الطالــب أو‬ ‫ّ‬ ‫ٌ‬ ‫فــرص عديــد ٌة إلكمــال دراســته الجامع ّيــة‪ ،‬وكذلــك نجــد ّ‬ ‫أن أعــداد الطــاب المتسـ ّـربين‬ ‫حيــث‬ ‫ر‬ ‫المحــر‬ ‫الســوري‬ ‫الداخــل‬ ‫يف‬ ‫منهــا‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫تبلــغ نســبا خطيــرة تفــوق ‪ ،%50‬إضافــة إلــى‬ ‫يمكنــه التسـ ُ‬ ‫ـجيل يف كليــات جامعــة حلــب يف وجــود نسـ ٍ‬ ‫ـبة مرتفعـ ٍـة مــن الطــاب المنقطعيــن‬ ‫المناطــق‬ ‫ّ‬ ‫المحــررة وجامعــة إدلــب وجامعــة عــن التعليــم بشــكل تــا ٍّم وخاص ـ ًة يف المناطــق‬ ‫الشــام العالم ّيــة‪ ،‬ويمكــن للطالــب أن يكمــل التــي كان ُيســيطر عليهــا تنظيــم داعــش‬ ‫المدرســين‪ ،‬أ ّمــا فيما‬ ‫دراســته يف معاهــد إعــداد‬ ‫ّ‬ ‫متممـ ًة‬ ‫اإلرهابـ ّـي‪ ،‬فقــد انتهــج التنظيــم سياســة ّ‬ ‫ّ‬ ‫يتعلــق بإكمــال دراســته خــارج ســوريا فتؤكــد لسياســة النظــام يف حربــه علــى التعليــم حيــث‬ ‫وزارة الرتبيــة ّ‬ ‫أن الجامعــات يف تركيــا‬ ‫التعليــم هنائ ًّيــا‪ ،‬ويــراوح عــدد ســنوات‬ ‫جميعهــا منــع‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫تعــرف بالشــهادة الصــادرة عنهــا؛ ُ‬ ‫فيمكــ ُن انقطــاع الطــاب يف مناطــق ســيطرته مــا بيــن‬ ‫يســجل يف‬ ‫للطالــب أن‬ ‫ّ‬ ‫تركيــا‪ ،‬كمــا يمكــن ســنتين إلــى خمــس ســنوات‪ ..‬وهــذا يتط ّلــب‬ ‫ٍ‬ ‫خاصــة للمنقطعيــن‪ ،‬وتدريــب‬ ‫أن ُيكمــل دراســته يف عــدد مــن دول االتحــاد إعــدا َد مناهــج ّ‬ ‫األوربــي كفرنســا وألمانيــا وغيرهمــا‪.‬‬ ‫متخصصيــن هبــذه المناهــج لتعويض‬ ‫مع ّلميــن‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫نقــص الســنوات الدراســية لــدى الطــاب‬ ‫تح ّديات‪ ..‬وحلول‪:‬‬ ‫ليعــودوا إلــى تعليمهــم النظامـ ّـي‪.‬‬

‫‪46‬‬

‫المســتمرة‬ ‫مــن خــال تأميــن المنــح المال ّيــة‬ ‫ّ‬ ‫ليتفــرغ‬ ‫والمناســبة لــه لتســاعده يف اســتقراره‬ ‫ّ‬ ‫الرتبــوي‪ .‬كذلــك يجــب العمــل‬ ‫للعمــل‬ ‫ّ‬ ‫المتطوعيــن‪ ،‬وتطويــر‬ ‫علــى تأهيــل المع ّلميــن‬ ‫ّ‬ ‫مراكــز التعليــم وتجهيزهــا بالوســائل التعليم ّية‬ ‫واألجهــزة التقنيــة‪ ،‬وتفريــغ اإلدارة التعليم ّيــة‬ ‫والرتبو ّيــة لمتابعــة العمل ّيــة الرتبو ّيــة وفــق‬ ‫الجــو َدة يف‬ ‫الخطــط الســليمة التــي تعتمــد َ‬ ‫التعليــم‪ ،‬وهــذا يوجــب علــى الجهـ ِ‬ ‫ـات العرب ّيــة‬ ‫ُ‬ ‫والدول ّيــة أن تكــون علــى قــدر المســؤول ّية‬ ‫األخالق ّيــة واإلنســان ّية ‪-‬وخاصــة هيئــات‬ ‫التعليــم الكــرى يف العالــم كاليونيســيف‬ ‫واليونســكو‪ -‬لتأخــذ على عاتقها دعـ َـم التعليم‬ ‫يف ســوريا بشــكل عــامٍ‪ ،‬واعتمــاد الدراســة يف‬ ‫المناطــق المحــررة؛ للحفــاظ علــى الجيــل من‬ ‫خــال إعــداد الوثائــق والتشــريعات وتوقيــع‬ ‫اتفاقــات وتفاهمــات تحافــظ علــى حقــوق‬ ‫الســوري‪.‬‬ ‫الطالــب‬ ‫ّ‬

‫تجربة التعليم يف منطقة درع‬ ‫الفرات‪:‬‬

‫انطلقــت عمليــة درع الفــرات يف الشــمال‬ ‫الســوري يف شــهر آب ‪/2016/‬؛ مــن أجــل‬ ‫تحريــر المنطقــة مــن تنظيــم داعــش وعناصــر‬ ‫الحر‬ ‫بــي كــي كــي اإلرهاب َّييــن‪ ،‬تم ّكــن الجيــش ّ‬ ‫بدعــم مــن تركيــا مــن طــرد التنظيميــن مــن مدنٍ‬ ‫َْ‬ ‫ٍ‬ ‫أهمهــا جرابلــس والبــاب‪.‬‬ ‫عــدّ ة ّ‬ ‫ومــا ْ‬ ‫تــم تأميــن المنطقــة أمن ًّيــا وعســكر ًّيا‬ ‫إن ّ‬ ‫تحــول االهتمــا ُم إلــى إعــادة تأهيــ ِل‬ ‫حتــى‬ ‫ّ‬ ‫النصيــب‬ ‫المؤسســات االجتماع ّيــة‪ ،‬وكان‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫نظــرا للضــرورة القصــوى‬ ‫للتعليــم؛‬ ‫ر‬ ‫ُ‬ ‫األكــ‬ ‫ً‬ ‫ألبنــاء المنطقــة‪ ،‬وذلــك بســبب االنقطــاع عــن‬ ‫التعليــم لفــرات طويلـ ٍـة أثنــاء ســيطرة داعــش‬ ‫علــى المنطقــة‪.‬‬

‫ويعــدّ الواقــع التعليمـ ّـي يف منطقــة درع الفرات‬ ‫األفضـ َـل حـ ً‬ ‫ـال مقارنـ ًة مــع المناطــق المحـ ّـررة‬ ‫األخــرى‪ ،‬فمــن الناحيــة األمنيــة قــد تو ّقــف‬ ‫القصــف علــى المنطقــة وعــاد األهالــي إلــى‬ ‫بيوهتــم وظهــرت حالــة مــن االســتقرار‪ ،‬ومــن‬ ‫الناحيــة التنظيم ّيــة فقــد قامــت وزارة الرتبيــة‬

‫التعليم في المناطق المحررة‬ ‫حصلــوا علــى حـ ّـق التعليــم ‪ %50‬مــن الذيــن‬ ‫هــم يف ســن التعليــم‪ ،‬و ُتحــدّ د نســبة التسـ ّـرب‬ ‫يف المرحلــة االبتدائ ّيــة بـــ ‪ ،%25‬لكنهــا ترتفــع‬ ‫يف المرحلــة اإلعداد ّيــة إلــى ‪ %60‬ويف المرحلــة‬ ‫الثانو ّيــة إلــى ‪. %80‬‬

‫الرتكيــة مــن خــال مدير ّيــة التعليــم مــدى‬ ‫الحيــاة بدعــم العمل ّيــة التعليم ّيــة‪ ،‬وكانــت‬ ‫البدايــة برتميــم معظــم المــدارس المد ّمــرة‬ ‫بســبب العمل ّيــات العســكر ّية لطــرد تنظيــم‬ ‫ِ‬ ‫غــرف صفي ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ــة‬ ‫إنشــاء‬ ‫داعــش‪ ،‬إضافــ ًة إلــى‬ ‫ّ‬ ‫مسـ ِ‬ ‫ـبقة الصنــع كحـ ٍّـل إســعايفٍّ يف بعــض القــرى‬ ‫مدارســها بشــك ٍل‬ ‫والبلــدات التــي تد ّمــرت‬ ‫ُ‬ ‫كامــ ٍل وخرجــت عــن الخدمــة‪ .‬‬ ‫وأخــذت الــوزارة علــى عاتقهــا تأميــن‬ ‫المســتلزمات الدراســ ّية الضرور ّيــة إلنجــاح‬ ‫ٍ‬ ‫وأثــاث‬ ‫التعليــم يف المنطقــة مــن مقاعــدَ‬ ‫وقرطاس ـ ّية ووســائل تعليم ّيــة ومعــدّ ات تقنيــة‬ ‫وتــم توزيــع مليــون و ‪/500/‬‬ ‫وإلكرتون ّيــة‪ّ ،‬‬ ‫ِ‬ ‫مدرســي طبعــت بالتنســيق مــع‬ ‫ألــف كتــاب‬ ‫ّ‬ ‫منظمــة راف القطر ّيــة‪.‬‬

‫من األهمية مبكان‬ ‫اختيار املنسقني من‬ ‫الرتبويني العاملني يف‬ ‫ي يف الداخل‬ ‫املجال الرتبو ّ‬ ‫ي ملا ميلكونه من‬ ‫السور ّ‬ ‫معرفة وخربة بطبيعة العمل‬ ‫والتعليم يف املناطق‬ ‫املح ّررة‪.‬‬

‫هــذه التطــورات خلقــت حالــ ًة مــن الثبــات‬ ‫واالســتقرار للعمل ّيــة التعليم ّيــة‪ ،‬وبــدأ األمــل‬ ‫ينبــت يف قلــوب طالبنــا بعــد الشــلل التــام‬ ‫ٍ‬ ‫الــذي أصــاب ّ‬ ‫شــيء يف المنطقــة بســبب‬ ‫كل‬ ‫تنظيــم داعــش‪ ،‬حيــث أدى إلــى يــأس عميــق‬ ‫أهــم األســباب يف ذلــك عــدم وجــود‬ ‫ومــن ّ‬ ‫خاصــة بالطــاب المنقطعيــن‬ ‫كاد ُيطيــح بحاضرهــم ومســتقبلهم بســبب خ ّطــة تدريس ـ ّية ّ‬ ‫حرماهنــم مــن التعليــم‪.‬‬ ‫تتضمــن الربامــج والمناهــج التدريســ ّية‬ ‫ّ‬ ‫ومــن أجــل توفيــر الكــوادر التعليم ّيــة المالئمــة‪ ،‬مــع عــدم إمكان ّيــة تدريســهم‬ ‫للمــدارس التــي بــدأت بافتتــاح أبواهبــا أقامــت المناهــج العا ّمــة بســبب ســنوات االنقطــاع‬ ‫وزارة الرتبيــة الرتكيــة دورات تأهيــل لتطويــر عــن التعليــم‪ ،‬والتــي تبلــغ عنــد بعــض الطالب‬ ‫ٍ‬ ‫ســنوات‪ ،‬إضافــ ًة إلــى عــدم جاهز ّيــة‬ ‫خمــس‬ ‫المعلميــن خــال صيــف عــام ‪/2017/‬‬ ‫َ‬ ‫تــم مــن البنيــة التحت ّيــة للعمل ّيــة التعليم ّيــة نظــرا لعــدم‬ ‫واختتمــت الــدورات بامتحانــات ّ‬ ‫ومؤه ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫تتضمــن‬ ‫لــة‬ ‫صالحــة‬ ‫مــدارس‬ ‫وجــود‬ ‫خاللهــا تثبيــت الناجحيــن يف المــدارس‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫وخاصــة يف مخ ّيمــات‬ ‫مــع بــدء العــام الدراســي ‪ ،2018-2017‬بيئــة تعليم ّيــة مناســبةً‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ـث تفتقــر المــدارس إلــى وجــودِ‬ ‫وكانــت األولويــة لحملــة الشــهادات الجامع ّية النازحيــن حيـ ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ٍ‬ ‫مدرســي‪ ،‬وتضعــف فيهــا التجهيــزات‬ ‫أثــاث‬ ‫الرتبــوي‪ ،‬وبحســب‬ ‫التخصص ّيــة يف المجــال‬ ‫ّ‬ ‫ٍّ‬ ‫ـاءات صـ ٍ‬ ‫إحصـ ٍ‬ ‫ـادرة عــن مدير ّيــة التعليــم مــدى والمرافــق الخدم ّيــة‪ ،‬إذ غال ًبــا مــا تكــون‬ ‫الحيــاة يف وزارة الرتبيــة الرتكيــة فقــد خضــع المــدارس عبــار ًة عــن خيـ ٍـم ال ُتســهم يف تطويــر‬ ‫ـج عــن تركيــز اهتمام‬ ‫‪ /5686/‬مع ّل ًمــا للــدورة التدريب ّيــة فتـ ّـم تعيين عمل ّيــة التعليــم‪ ،‬وهــذا ناتـ ٌ‬ ‫قرابــة ‪ /5000/‬مع ّل ٍ‬ ‫ــم يف حوالــي ‪ /500/‬المســؤولين يف إدارة التعليــم علــى مراكــز‬ ‫ٍ‬ ‫طالــب يف المــدن وإهمــال القــرى البعيــدة والمخ ّيمــات‪،‬‬ ‫مدرســة اســتوعبت ‪/150/‬ألــف‬ ‫المدرســي‪،‬‬ ‫وكذلــك عــدم توافــر الكتــاب‬ ‫جميــع مــدن وبلــدات منطقــة الفــرات‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫هبــذه الجهــود بدأت الريــاض تزهــر‪ ،‬ولكن ما وصعوبــة النقــل‪ ،‬كمــا أن الحالــة االجتماع ّيــة‬ ‫زالــت المنطقــة لــم تتحــرر مــن الجهــل واألمية واالقتصاد ّيــة لألهالــي مــن أهـ ّـم العوائــق التــي‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫بســبب انقطــاع عــدد كبيـ ٍـر مــن الطــاب عــن تواجــه الطالــب‪.‬‬ ‫تعليمهــم إذ ال تتجــاوز نســبة الطــاب الذيــن وتعــدّ الخ ّطــة اإلدار ّيــة التــي تتبعهــا الرتبيــة‬

‫الرتكيــة غيــر متناســبة مــع واقع التعليــم وطبيعة‬ ‫المنطقــة واألنظمــة المعتمــدة يف ســوريا مــن‬ ‫حيــث نظــام الشــهادتين الثانو ّيــة واإلعداد ّيــة‪،‬‬ ‫المكاتــب‬ ‫إضافــة إلــى تكليــف إدارة التعليــم‬ ‫َ‬ ‫التعليم ّيــة يف المجالس المحل ّيــة‪ ،‬وهي جهات‬ ‫إشــراف ّية وليســت اختصاص ّيــة يف مجــال إدارة‬ ‫العمل ّيــة الرتبو ّيــة‪ ،‬وقــد تـ ّـم تكليــف تربوييــن‬ ‫ومعلميــن كمنســقين لمديريــات الرتبيــة يف‬ ‫الســوري كانــوا موجوديــن يف تركيــا‬ ‫الداخــل‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫منــذ بدايــة الثــورة‪ ،‬وليــس لهــم أدنــى اطــا ٍع‬ ‫علــى الوضــع التعليمـ ّـي يف الداخــل المحـ ّـرر‪.‬‬

‫ّ‬ ‫كل ذلــك أ ّدى إلــى اختــاف الخطط الدرسـ ّية‬ ‫وخاصة فيمــا يتعلق بإلغاء‬ ‫واألنظمــة الداخل ّيــة‬ ‫ّ‬ ‫األساســي‪ ،‬أو فيمــا يتع ّلــق‬ ‫شــهادة التعليــم‬ ‫ّ‬ ‫بضوابــط الشــهادة الثانو ّيــة وإلغــاء الثانو ّيــة‬ ‫الحــرة‪ ..‬وكــون هــذه التعليمــات تقتصــر‬ ‫ّ‬ ‫علــى المشــافهة فإنّهــا تقــود إلــى االرتبــاك‬ ‫والتضــارب يف التعميمــات والتعليمــات‬ ‫االرتجال ّيــة مــن مدينــة إلــى أخــرى‪.‬‬ ‫هــذه اإلشــكال ّيات تتط ّلــب ضــرور َة االنتبــاه‬ ‫أهميــة اإلبقــاء علــى الهيكلــة الرتبو ّيــة‬ ‫إلــى ّ‬ ‫القائمــة علــى المجمعــات الرتبو ّيــة المرتبطــة‬ ‫ِ‬ ‫اختصــاص ِ‬ ‫ٍ‬ ‫ف‬ ‫كجهــة‬ ‫بمدير ّيــة الرتبيــة‬ ‫تشــر ُ‬ ‫علــى إدارة المــدارس‪ ،‬وتكــون المكاتــب‬ ‫التعليم ّيــة يف المجالــس المحل ّيــة عندئــذ‬ ‫جهــات رقاب ّيــة ُتسـ ِـه ُم يف دفــع عجلــة التعليــم‬ ‫إلــى األمــام‪.‬‬

‫ومــن األهميــة بمــكان اختيــار المنســقين مــن‬ ‫ـوي يف الداخل‬ ‫الرتبوييــن العاملين يف المجال الرتبـ ّ‬ ‫ـوري لمــا يملكونــه مــن معرفــة وخــرة بطبيعــة‬ ‫السـ ّ‬ ‫العمــل والتعليــم يف المناطــق المحـ ّـررة‪.‬‬ ‫العمــل علــى إحــداث مــدارس أو شــعب‬ ‫خاصة بالطــاب المنقطعين‬ ‫ضمــن المــدارس ّ‬ ‫والمتســربين عــن الدراســة وتأميــن المناهــج‬ ‫الضرور ّيــة لذلــك للوصــول هبــم إلــى المرحلة‬ ‫الدراس ـ ّية المناســبة لمرحلتهــم العمر ّيــة‪.‬‬

‫اســتمرار العمــل علــى تأميــن البيئــة التعليم ّيــة‬ ‫المناســبة للطــاب بتوفيــر المــدارس‬ ‫والســاحات والمالعــب للعــب األطفــال‪.‬‬ ‫االهتمــام بمجــال الرعايــة الصح ّيــة والنفسـ ّية‬ ‫‪47‬‬


‫التعليم في المناطق المحررة‬ ‫األساســي‪./13700 / :‬‬ ‫ّ‬ ‫وبحســب إحصائيــات الــوزارة ّ‬ ‫فــإن عــدد‬ ‫ـوي‬ ‫الذيــن حصلــوا علــى شــهادة التعليــم الثانـ ّ‬ ‫يف الــدورات االمتحان ّيــة الســابقة ‪/45000/‬‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫طالــب حصلــوا‬ ‫طالــب‪ ،‬و ‪/96000/‬‬ ‫األساســي‪ ...‬وعلــى‬ ‫علــى شــهادة التعليــم‬ ‫ّ‬ ‫الرغــم مــن ّ‬ ‫بــذل إال ّ‬ ‫كل الجهــود التــي ُت َ‬ ‫أن‬ ‫حوالــي ‪ %55‬مــن طــاب وطالبــات المناطــق‬ ‫المحــررة مــن مختلــف المراحــل الدراســ ّية‬ ‫ال يزالــون منقطعيــن عــن تعليمهــم‪ ،‬ولذلــك‬ ‫ّ‬ ‫ملحــة لتضافــر الجهــود‬ ‫فــإن هنــاك حاجــة ّ‬ ‫الدول ّيــة‪ ،‬وال ســيما العرب ّيــة واإلســام ّية منهــا‬ ‫لمنــع المزيــد مــن التدهــور يف قطــاع التعليــم‪،‬‬ ‫والعمــل علــى تعافيــه والنهــوض بــه؛ باعتمــاد‬ ‫الدعــم المســتدام‪.‬‬

‫دائمــا بوقــوع ضحايــا بيــن الطــاب‬ ‫يتســبب ً‬ ‫والمدرســين؛ فيــؤ ّدي إلــى عــدم توافــر أماكــن‬ ‫ّ‬ ‫آمنــة للتع ّلــم‪ ،‬وخــوف األهالــي علــى أبنائهــم‬ ‫الــذي يمنعهــم مــن إرســال أبنائهــم إلــى‬ ‫يضطــر القائمــون علــى‬ ‫المــدارس‪ ،‬حيــث‬ ‫ُّ‬ ‫ِ‬ ‫التعليــم الســتخدا ِم األقبيــة والمالجــئ التي ال‬ ‫ظــروف تعليم ّيــ ٌة مناســبةٌ‪.‬‬ ‫تتوافــر فيهــا‬ ‫ٌ‬

‫معوقــات التعليــم وتحدّ ياته يف مناطق ســيطرة‬ ‫ّ‬ ‫أهمهــا الظــروف‬ ‫ـن‬ ‫ـ‬ ‫م‬ ‫ٌ‪،‬‬ ‫ة‬ ‫ـر‬ ‫ـ‬ ‫وخطي‬ ‫ة‬ ‫ـر‬ ‫ـ‬ ‫كبي‬ ‫ـوار‬ ‫الثـ‬ ‫ٌ‬ ‫ّ‬ ‫األمن ّيــة الصعبــة بســبب تعــرض المــدارس‬ ‫ممــا‬ ‫للقصــف مــن قبــل النظــام وحلفائــه ّ‬

‫وإذا أردنــا النهــوض بواقــع العمل ّيــة التعليم ّيــة‬ ‫والعمــل علــى اســتدامة التعليــم ال بــدّ مــن‬ ‫العمــل علــى ســدّ النقــص يف الــكادر التعليمـ ّـي‬ ‫المتخصــص‪ ،‬والحفــاظ علــى المع ّلــم وذلــك‬

‫ومــن التحدّ يــات عــدم وجــود التمويــل الكايف‬ ‫للعمل ّيــة التعليم ّيــة‪ ،‬فمــا تقدّ مــه المنظمــات‬ ‫الداعمــة يل ّبــي أقـ ّـل مــن ‪ % 50‬مــن احتياجــات‬ ‫العمل ّيــة التعليم ّيــة‪ ،‬بحيــث نجــد رواتــب‬ ‫المدرســين ال تتجــاوز ‪ /100/‬دوالر إن‬ ‫ّ‬ ‫وجــدت؛ األمــر الــذي يجعــل المعلــم مضطـ ًّـرا‬ ‫ألن يعمــل أعمـ ً‬ ‫ـال إضاف ّيــة إلعالــة أســرته‪ ،‬مما‬ ‫يؤثــر ســل ًبا علــى اســتقرار العمل ّيــة الرتبو ّيــة‬ ‫وبخصــوص االعــراف الدولــي بالشــهادات وعلــى مســتوى َجــودة التعليــم‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫الســوري تعمــل وزارة ومــن المعوقــات مــا يتعلــق بتأميــن مراكــز‬ ‫الممنوحــة للطالــب‬ ‫ّ‬ ‫الرتبيــة علــى توفير الغطــاء الشــرعي لالعرتاف التعليــم ومســتلزماهتا وتجهيزهــا وتأهيلهــا‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫بالشــهادات الصــادرة عنهــا وإعطائهــا إذ بســبب دمــار أكثــر المــدارس ونــزوح‬ ‫ـداد كبيـ ٍ‬ ‫مصداقيــة دوليــة من خــال إخضــاع العمليات أعـ ٍ‬ ‫ـرة إلــى المخ ّيمــات نجــد ّ‬ ‫أن معظــم‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫االمتحان ّيــة للمعاييــر الدول ّيــة‪ ،‬وذلــك لضمــان المراكــز ال تتوافــر فيهــا ظروف البيئــة التعليم ّية‬ ‫مســتقبل الطالــب الــذي حصــل علــى الشــهادة المناســبة‪ ،‬فهــي عبــار ٌة عــن مالجــئ أو كهـ ٍ‬ ‫ـوف‬ ‫َ‬ ‫خيــم غيــر مهي ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ئــة للعمل ّيــة التعليم ّيــة‪.‬‬ ‫الثانو ّيــة‪ ،‬فبحســب وزارة الرتبيــة أمــام الطالــب أو‬ ‫ّ‬ ‫ٌ‬ ‫فــرص عديــد ٌة إلكمــال دراســته الجامع ّيــة‪ ،‬وكذلــك نجــد ّ‬ ‫أن أعــداد الطــاب المتسـ ّـربين‬ ‫حيــث‬ ‫ر‬ ‫المحــر‬ ‫الســوري‬ ‫الداخــل‬ ‫يف‬ ‫منهــا‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫تبلــغ نســبا خطيــرة تفــوق ‪ ،%50‬إضافــة إلــى‬ ‫يمكنــه التسـ ُ‬ ‫ـجيل يف كليــات جامعــة حلــب يف وجــود نسـ ٍ‬ ‫ـبة مرتفعـ ٍـة مــن الطــاب المنقطعيــن‬ ‫المناطــق‬ ‫ّ‬ ‫المحــررة وجامعــة إدلــب وجامعــة عــن التعليــم بشــكل تــا ٍّم وخاص ـ ًة يف المناطــق‬ ‫الشــام العالم ّيــة‪ ،‬ويمكــن للطالــب أن يكمــل التــي كان ُيســيطر عليهــا تنظيــم داعــش‬ ‫المدرســين‪ ،‬أ ّمــا فيما‬ ‫دراســته يف معاهــد إعــداد‬ ‫ّ‬ ‫متممـ ًة‬ ‫اإلرهابـ ّـي‪ ،‬فقــد انتهــج التنظيــم سياســة ّ‬ ‫ّ‬ ‫يتعلــق بإكمــال دراســته خــارج ســوريا فتؤكــد لسياســة النظــام يف حربــه علــى التعليــم حيــث‬ ‫وزارة الرتبيــة ّ‬ ‫أن الجامعــات يف تركيــا‬ ‫التعليــم هنائ ًّيــا‪ ،‬ويــراوح عــدد ســنوات‬ ‫جميعهــا منــع‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫تعــرف بالشــهادة الصــادرة عنهــا؛ ُ‬ ‫فيمكــ ُن انقطــاع الطــاب يف مناطــق ســيطرته مــا بيــن‬ ‫يســجل يف‬ ‫للطالــب أن‬ ‫ّ‬ ‫تركيــا‪ ،‬كمــا يمكــن ســنتين إلــى خمــس ســنوات‪ ..‬وهــذا يتط ّلــب‬ ‫ٍ‬ ‫خاصــة للمنقطعيــن‪ ،‬وتدريــب‬ ‫أن ُيكمــل دراســته يف عــدد مــن دول االتحــاد إعــدا َد مناهــج ّ‬ ‫األوربــي كفرنســا وألمانيــا وغيرهمــا‪.‬‬ ‫متخصصيــن هبــذه المناهــج لتعويض‬ ‫مع ّلميــن‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫نقــص الســنوات الدراســية لــدى الطــاب‬ ‫تح ّديات‪ ..‬وحلول‪:‬‬ ‫ليعــودوا إلــى تعليمهــم النظامـ ّـي‪.‬‬

‫‪46‬‬

‫المســتمرة‬ ‫مــن خــال تأميــن المنــح المال ّيــة‬ ‫ّ‬ ‫ليتفــرغ‬ ‫والمناســبة لــه لتســاعده يف اســتقراره‬ ‫ّ‬ ‫الرتبــوي‪ .‬كذلــك يجــب العمــل‬ ‫للعمــل‬ ‫ّ‬ ‫المتطوعيــن‪ ،‬وتطويــر‬ ‫علــى تأهيــل المع ّلميــن‬ ‫ّ‬ ‫مراكــز التعليــم وتجهيزهــا بالوســائل التعليم ّية‬ ‫واألجهــزة التقنيــة‪ ،‬وتفريــغ اإلدارة التعليم ّيــة‬ ‫والرتبو ّيــة لمتابعــة العمل ّيــة الرتبو ّيــة وفــق‬ ‫الجــو َدة يف‬ ‫الخطــط الســليمة التــي تعتمــد َ‬ ‫التعليــم‪ ،‬وهــذا يوجــب علــى الجهـ ِ‬ ‫ـات العرب ّيــة‬ ‫ُ‬ ‫والدول ّيــة أن تكــون علــى قــدر المســؤول ّية‬ ‫األخالق ّيــة واإلنســان ّية ‪-‬وخاصــة هيئــات‬ ‫التعليــم الكــرى يف العالــم كاليونيســيف‬ ‫واليونســكو‪ -‬لتأخــذ على عاتقها دعـ َـم التعليم‬ ‫يف ســوريا بشــكل عــامٍ‪ ،‬واعتمــاد الدراســة يف‬ ‫المناطــق المحــررة؛ للحفــاظ علــى الجيــل من‬ ‫خــال إعــداد الوثائــق والتشــريعات وتوقيــع‬ ‫اتفاقــات وتفاهمــات تحافــظ علــى حقــوق‬ ‫الســوري‪.‬‬ ‫الطالــب‬ ‫ّ‬

‫تجربة التعليم يف منطقة درع‬ ‫الفرات‪:‬‬

‫انطلقــت عمليــة درع الفــرات يف الشــمال‬ ‫الســوري يف شــهر آب ‪/2016/‬؛ مــن أجــل‬ ‫تحريــر المنطقــة مــن تنظيــم داعــش وعناصــر‬ ‫الحر‬ ‫بــي كــي كــي اإلرهاب َّييــن‪ ،‬تم ّكــن الجيــش ّ‬ ‫بدعــم مــن تركيــا مــن طــرد التنظيميــن مــن مدنٍ‬ ‫َْ‬ ‫ٍ‬ ‫أهمهــا جرابلــس والبــاب‪.‬‬ ‫عــدّ ة ّ‬ ‫ومــا ْ‬ ‫تــم تأميــن المنطقــة أمن ًّيــا وعســكر ًّيا‬ ‫إن ّ‬ ‫تحــول االهتمــا ُم إلــى إعــادة تأهيــ ِل‬ ‫حتــى‬ ‫ّ‬ ‫النصيــب‬ ‫المؤسســات االجتماع ّيــة‪ ،‬وكان‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫نظــرا للضــرورة القصــوى‬ ‫للتعليــم؛‬ ‫ر‬ ‫ُ‬ ‫األكــ‬ ‫ً‬ ‫ألبنــاء المنطقــة‪ ،‬وذلــك بســبب االنقطــاع عــن‬ ‫التعليــم لفــرات طويلـ ٍـة أثنــاء ســيطرة داعــش‬ ‫علــى المنطقــة‪.‬‬

‫ويعــدّ الواقــع التعليمـ ّـي يف منطقــة درع الفرات‬ ‫األفضـ َـل حـ ً‬ ‫ـال مقارنـ ًة مــع المناطــق المحـ ّـررة‬ ‫األخــرى‪ ،‬فمــن الناحيــة األمنيــة قــد تو ّقــف‬ ‫القصــف علــى المنطقــة وعــاد األهالــي إلــى‬ ‫بيوهتــم وظهــرت حالــة مــن االســتقرار‪ ،‬ومــن‬ ‫الناحيــة التنظيم ّيــة فقــد قامــت وزارة الرتبيــة‬

‫التعليم في المناطق المحررة‬ ‫حصلــوا علــى حـ ّـق التعليــم ‪ %50‬مــن الذيــن‬ ‫هــم يف ســن التعليــم‪ ،‬و ُتحــدّ د نســبة التسـ ّـرب‬ ‫يف المرحلــة االبتدائ ّيــة بـــ ‪ ،%25‬لكنهــا ترتفــع‬ ‫يف المرحلــة اإلعداد ّيــة إلــى ‪ %60‬ويف المرحلــة‬ ‫الثانو ّيــة إلــى ‪. %80‬‬

‫الرتكيــة مــن خــال مدير ّيــة التعليــم مــدى‬ ‫الحيــاة بدعــم العمل ّيــة التعليم ّيــة‪ ،‬وكانــت‬ ‫البدايــة برتميــم معظــم المــدارس المد ّمــرة‬ ‫بســبب العمل ّيــات العســكر ّية لطــرد تنظيــم‬ ‫ِ‬ ‫غــرف صفي ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ــة‬ ‫إنشــاء‬ ‫داعــش‪ ،‬إضافــ ًة إلــى‬ ‫ّ‬ ‫مسـ ِ‬ ‫ـبقة الصنــع كحـ ٍّـل إســعايفٍّ يف بعــض القــرى‬ ‫مدارســها بشــك ٍل‬ ‫والبلــدات التــي تد ّمــرت‬ ‫ُ‬ ‫كامــ ٍل وخرجــت عــن الخدمــة‪ .‬‬ ‫وأخــذت الــوزارة علــى عاتقهــا تأميــن‬ ‫المســتلزمات الدراســ ّية الضرور ّيــة إلنجــاح‬ ‫ٍ‬ ‫وأثــاث‬ ‫التعليــم يف المنطقــة مــن مقاعــدَ‬ ‫وقرطاس ـ ّية ووســائل تعليم ّيــة ومعــدّ ات تقنيــة‬ ‫وتــم توزيــع مليــون و ‪/500/‬‬ ‫وإلكرتون ّيــة‪ّ ،‬‬ ‫ِ‬ ‫مدرســي طبعــت بالتنســيق مــع‬ ‫ألــف كتــاب‬ ‫ّ‬ ‫منظمــة راف القطر ّيــة‪.‬‬

‫من األهمية مبكان‬ ‫اختيار املنسقني من‬ ‫الرتبويني العاملني يف‬ ‫ي يف الداخل‬ ‫املجال الرتبو ّ‬ ‫ي ملا ميلكونه من‬ ‫السور ّ‬ ‫معرفة وخربة بطبيعة العمل‬ ‫والتعليم يف املناطق‬ ‫املح ّررة‪.‬‬

‫هــذه التطــورات خلقــت حالــ ًة مــن الثبــات‬ ‫واالســتقرار للعمل ّيــة التعليم ّيــة‪ ،‬وبــدأ األمــل‬ ‫ينبــت يف قلــوب طالبنــا بعــد الشــلل التــام‬ ‫ٍ‬ ‫الــذي أصــاب ّ‬ ‫شــيء يف المنطقــة بســبب‬ ‫كل‬ ‫تنظيــم داعــش‪ ،‬حيــث أدى إلــى يــأس عميــق‬ ‫أهــم األســباب يف ذلــك عــدم وجــود‬ ‫ومــن ّ‬ ‫خاصــة بالطــاب المنقطعيــن‬ ‫كاد ُيطيــح بحاضرهــم ومســتقبلهم بســبب خ ّطــة تدريس ـ ّية ّ‬ ‫حرماهنــم مــن التعليــم‪.‬‬ ‫تتضمــن الربامــج والمناهــج التدريســ ّية‬ ‫ّ‬ ‫ومــن أجــل توفيــر الكــوادر التعليم ّيــة المالئمــة‪ ،‬مــع عــدم إمكان ّيــة تدريســهم‬ ‫للمــدارس التــي بــدأت بافتتــاح أبواهبــا أقامــت المناهــج العا ّمــة بســبب ســنوات االنقطــاع‬ ‫وزارة الرتبيــة الرتكيــة دورات تأهيــل لتطويــر عــن التعليــم‪ ،‬والتــي تبلــغ عنــد بعــض الطالب‬ ‫ٍ‬ ‫ســنوات‪ ،‬إضافــ ًة إلــى عــدم جاهز ّيــة‬ ‫خمــس‬ ‫المعلميــن خــال صيــف عــام ‪/2017/‬‬ ‫َ‬ ‫تــم مــن البنيــة التحت ّيــة للعمل ّيــة التعليم ّيــة نظــرا لعــدم‬ ‫واختتمــت الــدورات بامتحانــات ّ‬ ‫ومؤه ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫تتضمــن‬ ‫لــة‬ ‫صالحــة‬ ‫مــدارس‬ ‫وجــود‬ ‫خاللهــا تثبيــت الناجحيــن يف المــدارس‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫وخاصــة يف مخ ّيمــات‬ ‫مــع بــدء العــام الدراســي ‪ ،2018-2017‬بيئــة تعليم ّيــة مناســبةً‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ـث تفتقــر المــدارس إلــى وجــودِ‬ ‫وكانــت األولويــة لحملــة الشــهادات الجامع ّية النازحيــن حيـ ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ٍ‬ ‫مدرســي‪ ،‬وتضعــف فيهــا التجهيــزات‬ ‫أثــاث‬ ‫الرتبــوي‪ ،‬وبحســب‬ ‫التخصص ّيــة يف المجــال‬ ‫ّ‬ ‫ٍّ‬ ‫ـاءات صـ ٍ‬ ‫إحصـ ٍ‬ ‫ـادرة عــن مدير ّيــة التعليــم مــدى والمرافــق الخدم ّيــة‪ ،‬إذ غال ًبــا مــا تكــون‬ ‫الحيــاة يف وزارة الرتبيــة الرتكيــة فقــد خضــع المــدارس عبــار ًة عــن خيـ ٍـم ال ُتســهم يف تطويــر‬ ‫ـج عــن تركيــز اهتمام‬ ‫‪ /5686/‬مع ّل ًمــا للــدورة التدريب ّيــة فتـ ّـم تعيين عمل ّيــة التعليــم‪ ،‬وهــذا ناتـ ٌ‬ ‫قرابــة ‪ /5000/‬مع ّل ٍ‬ ‫ــم يف حوالــي ‪ /500/‬المســؤولين يف إدارة التعليــم علــى مراكــز‬ ‫ٍ‬ ‫طالــب يف المــدن وإهمــال القــرى البعيــدة والمخ ّيمــات‪،‬‬ ‫مدرســة اســتوعبت ‪/150/‬ألــف‬ ‫المدرســي‪،‬‬ ‫وكذلــك عــدم توافــر الكتــاب‬ ‫جميــع مــدن وبلــدات منطقــة الفــرات‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫هبــذه الجهــود بدأت الريــاض تزهــر‪ ،‬ولكن ما وصعوبــة النقــل‪ ،‬كمــا أن الحالــة االجتماع ّيــة‬ ‫زالــت المنطقــة لــم تتحــرر مــن الجهــل واألمية واالقتصاد ّيــة لألهالــي مــن أهـ ّـم العوائــق التــي‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫بســبب انقطــاع عــدد كبيـ ٍـر مــن الطــاب عــن تواجــه الطالــب‪.‬‬ ‫تعليمهــم إذ ال تتجــاوز نســبة الطــاب الذيــن وتعــدّ الخ ّطــة اإلدار ّيــة التــي تتبعهــا الرتبيــة‬

‫الرتكيــة غيــر متناســبة مــع واقع التعليــم وطبيعة‬ ‫المنطقــة واألنظمــة المعتمــدة يف ســوريا مــن‬ ‫حيــث نظــام الشــهادتين الثانو ّيــة واإلعداد ّيــة‪،‬‬ ‫المكاتــب‬ ‫إضافــة إلــى تكليــف إدارة التعليــم‬ ‫َ‬ ‫التعليم ّيــة يف المجالس المحل ّيــة‪ ،‬وهي جهات‬ ‫إشــراف ّية وليســت اختصاص ّيــة يف مجــال إدارة‬ ‫العمل ّيــة الرتبو ّيــة‪ ،‬وقــد تـ ّـم تكليــف تربوييــن‬ ‫ومعلميــن كمنســقين لمديريــات الرتبيــة يف‬ ‫الســوري كانــوا موجوديــن يف تركيــا‬ ‫الداخــل‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫منــذ بدايــة الثــورة‪ ،‬وليــس لهــم أدنــى اطــا ٍع‬ ‫علــى الوضــع التعليمـ ّـي يف الداخــل المحـ ّـرر‪.‬‬

‫ّ‬ ‫كل ذلــك أ ّدى إلــى اختــاف الخطط الدرسـ ّية‬ ‫وخاصة فيمــا يتعلق بإلغاء‬ ‫واألنظمــة الداخل ّيــة‬ ‫ّ‬ ‫األساســي‪ ،‬أو فيمــا يتع ّلــق‬ ‫شــهادة التعليــم‬ ‫ّ‬ ‫بضوابــط الشــهادة الثانو ّيــة وإلغــاء الثانو ّيــة‬ ‫الحــرة‪ ..‬وكــون هــذه التعليمــات تقتصــر‬ ‫ّ‬ ‫علــى المشــافهة فإنّهــا تقــود إلــى االرتبــاك‬ ‫والتضــارب يف التعميمــات والتعليمــات‬ ‫االرتجال ّيــة مــن مدينــة إلــى أخــرى‪.‬‬ ‫هــذه اإلشــكال ّيات تتط ّلــب ضــرور َة االنتبــاه‬ ‫أهميــة اإلبقــاء علــى الهيكلــة الرتبو ّيــة‬ ‫إلــى ّ‬ ‫القائمــة علــى المجمعــات الرتبو ّيــة المرتبطــة‬ ‫ِ‬ ‫اختصــاص ِ‬ ‫ٍ‬ ‫ف‬ ‫كجهــة‬ ‫بمدير ّيــة الرتبيــة‬ ‫تشــر ُ‬ ‫علــى إدارة المــدارس‪ ،‬وتكــون المكاتــب‬ ‫التعليم ّيــة يف المجالــس المحل ّيــة عندئــذ‬ ‫جهــات رقاب ّيــة ُتسـ ِـه ُم يف دفــع عجلــة التعليــم‬ ‫إلــى األمــام‪.‬‬

‫ومــن األهميــة بمــكان اختيــار المنســقين مــن‬ ‫ـوي يف الداخل‬ ‫الرتبوييــن العاملين يف المجال الرتبـ ّ‬ ‫ـوري لمــا يملكونــه مــن معرفــة وخــرة بطبيعــة‬ ‫السـ ّ‬ ‫العمــل والتعليــم يف المناطــق المحـ ّـررة‪.‬‬ ‫العمــل علــى إحــداث مــدارس أو شــعب‬ ‫خاصة بالطــاب المنقطعين‬ ‫ضمــن المــدارس ّ‬ ‫والمتســربين عــن الدراســة وتأميــن المناهــج‬ ‫الضرور ّيــة لذلــك للوصــول هبــم إلــى المرحلة‬ ‫الدراس ـ ّية المناســبة لمرحلتهــم العمر ّيــة‪.‬‬

‫اســتمرار العمــل علــى تأميــن البيئــة التعليم ّيــة‬ ‫المناســبة للطــاب بتوفيــر المــدارس‬ ‫والســاحات والمالعــب للعــب األطفــال‪.‬‬ ‫االهتمــام بمجــال الرعايــة الصح ّيــة والنفسـ ّية‬ ‫‪47‬‬


‫التعليم في المناطق المحررة‬ ‫لمتابعــة حــاالت الطــاب ومســاعدهتم‬ ‫للتخلــص مــن األزمــات التــي يعانــون منهــا‪.‬‬

‫إلعــداد المدرســين يف بدايــة عــام ‪2014‬م‪،‬‬ ‫وأضحــت الملجــأ والمــاذ للطــاب الذيــن‬ ‫حصلــوا علــى الشــهادة الثانويــة يف المناطــق‬ ‫المحــررة ِّ‬ ‫ألول مــرة عــام ‪2013‬م‪ ،‬وتعدّ مرحلة‬ ‫واألهم ّيــة‪،‬‬ ‫المتوســط بالغــة الحساســية‬ ‫التعليــم‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫فهــي حجــر األســاس يف عمل ّيــة اكتســاب‬ ‫المهــارات الضرور ّيــة والمعرفــة الالزمــة‬ ‫ِ‬ ‫والتعليــم‬ ‫لالرتقــاء بالمجتمــع بشــك ٍل عــا ٍّم‬ ‫خــاص‪ ،‬فهــذه المرحلــة تمتــاز بأنّهــا‬ ‫بشــك ٍل‬ ‫ٍّ‬ ‫ـخصي والمهنـ ّـي‬ ‫قــادرة علــى رفــع التم ّيــز الشـ‬ ‫ّ‬ ‫لتنميــة المجتمــع‪ ،‬وكذلــك مــدّ ة الدراســة فيهــا‬ ‫ممــا يســهم يف رفــد المجتمــع بالكــوادر‬ ‫ســنتان ّ‬ ‫فــرة وجيــزة‪ٍ.‬‬ ‫المؤهلــة خــال ٍ‬ ‫ّ‬

‫انطلق الناشــطون يف المجال التعليمـ ّـي إليجاد‬ ‫المتوســطة‬ ‫الحلــول فكانــت انطالقــة المعاهــد‬ ‫ّ‬

‫ٍ‬ ‫يل بها‬ ‫اعرتاف دو ّ‬

‫ضــرورة تزويــد المــدارس بالوســائل‬ ‫التعليم ّيــة الحديثــة والمتطـ ّـورة التــي ُتسـ ِـه ُم يف‬ ‫رفــع َجــودة التعليــم‪.‬‬

‫التوجــه إلــى التعليــم المهنـ ّـي والفنـ ّـي لمــا لــه‬ ‫ّ‬ ‫أهم ّيــة يف إعــادة اإلعمــار‪.‬‬ ‫مــن ّ‬ ‫رفــع الدخــل للمع ّلميــن ضمــن سـ ّلم رواتــب‬ ‫يعتمــد الشــهادات والخــرة يف تحديــد األجــور‬ ‫ممــا يســهم يف االســتقرار المجتمعـ ّـي للحفــاظ‬ ‫ّ‬ ‫المختصيــن‪ ،‬وتفريغهــم‬ ‫علــى المع ّلميــن‬ ‫ّ‬ ‫للعمل ّيــة الرتبو ّيــة‪.‬‬

‫اعتمــدت المعاهــد يف بدايــة انطالقتهــا علــى‬ ‫دعــم المجالــس المحل ّيــة ووجهــاء المجتمــع‪،‬‬ ‫تــم اال ّتفــاق بيــن وزارة الرتبيــة‬ ‫وبعــد ذلــك ّ‬ ‫وبعــض المؤسســات اإلنســانية مــن أجــل‬ ‫دعــم المعاهــد وتقديــم منــح ماليــة مســاعدة‬ ‫للكــوادر اإلداريــة والتدريســية‪.‬‬

‫أشــرفت الــوزارة علــى المعاهــد وبــدأ العمــل‬ ‫علــى إعــداد النظــام الداخلــي والمناهــج‬ ‫الدراســية؛ و ُأقيمــت مــن أجــل ذلــك العديــد‬ ‫مــن ورشــات العمــل‪ُ ،‬‬ ‫وشــ ّكلت اللجــان‬ ‫المختصــة التــي بــدأت العمــل علــى إعــداد‬ ‫المناهــج وتوحيدهــا يف فــروع المعاهــد‬ ‫المنتشــرة يف المناطــق المحــررة‪ ،‬والبالــغ‬ ‫عددهــا ‪ /21/‬فر ًعــا يف المحافظــات ( حلــب‬ ‫‪ ،/8/‬إدلــب ‪ ،/4/‬ريــف دمشــق ‪،/1/‬‬ ‫حمــص ‪ ،/3/‬ريــف الالذقيــة ‪ ،/1/‬درعــا‬ ‫أيضــا‪.‬‬ ‫والقنيطــرة ‪ )/2/‬ويف لبنــان فرعــان ً‬ ‫اعتمــدت المعاهــد على ٍ‬ ‫نخبة مــن أهل الخربة‬

‫دولــي‬ ‫تأميــن اعــراف‬ ‫المختصــون بوضــع اســراتيج ّية هتــدف‬ ‫رســمي للشــهادات بــدأ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫التــي يحصــل عليهــا الطــاب‪ ،‬والمســاعدة يف لرتكيــز المــوارد والجهــود للعمــل علــى‬ ‫اســتكمال تحصيلهــم العلمــي يف الجامعــات تحقيــق قفــزة نوعي ٍ‬ ‫ــة يف معاييــر التعليــم‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫المعتمــدة‪.‬‬ ‫المتوســطة‪ ،‬وكان الرتكيــز علــى‬ ‫للمعاهــد‬ ‫ّ‬ ‫األهــداف اآلتيــة‪:‬‬ ‫واملتوسط‬ ‫التعليم العايل‬ ‫ّ‬ ‫ـادر علــى يف مجــال التدريــس مــن حملــة الدكتــوراه‬ ‫‪1.1‬تأهيــل كادر تدريســي تعليمــي قـ ٍ‬ ‫ِ‬ ‫تنشــئة جيــ ٍل واعٍ‪ ّ ،‬وســدّ ّثغــرة غيــاب والماجســتير واإلجــازات االختصاص ّيــة‪،‬‬ ‫يف املناطق املحررة‪:‬‬ ‫حيــث بلــغ عــدد الــكادر التدريسـ ّـي يف فــروع‬ ‫المعلــم بســبب ظــروف الحــرب‪.‬‬ ‫ً‬ ‫منقــذا للطــاّب‬ ‫األساســي‬ ‫إذا كان التعليــم‬ ‫ومدر ًســا‪ ،‬إضاف ـ ًة‬ ‫ا‬ ‫ـر‬ ‫ـ‬ ‫‪/400/‬محاض‬ ‫ـد‬ ‫ـ‬ ‫المعاه‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫ـن‬ ‫ـ‬ ‫الحاصلي‬ ‫ـات‬ ‫ـ‬ ‫والطالب‬ ‫ـاب‬ ‫ـ‬ ‫الط‬ ‫ـتيعاب‬ ‫ـ‬ ‫اس‬ ‫‪2.‬‬ ‫‪2‬‬ ‫والمجتمــع مــن حالــة األم ّيــة والجهــل‪ّ ،‬‬ ‫فــإن‬ ‫إلــى مــا يقــارب ‪ /200/‬إداري مــن ذوي‬ ‫يف‬ ‫ة‬ ‫ي‬ ‫ـرع‬ ‫ـ‬ ‫والش‬ ‫ـة‬ ‫ـ‬ ‫م‬ ‫العا‬ ‫ـة‬ ‫ـ‬ ‫ي‬ ‫الثانو‬ ‫ـهادة‬ ‫ـ‬ ‫الش‬ ‫ـى‬ ‫ـ‬ ‫عل‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫أهم ّيــة‬ ‫َدور التعليــم العالــي‬ ‫الخــرة الطويلــة والكفــاءة العاليــة يف المجــال‬ ‫والمتوســط ال يقـ ّـل ّ‬ ‫ّ‬ ‫رة‪.‬‬ ‫ـر‬ ‫ـ‬ ‫المح‬ ‫ـق‬ ‫ـ‬ ‫المناط‬ ‫ّ‬ ‫عــن غيــره؛ حيــث تظهــر نتائجــه مــن خــال‬ ‫والتوجيهــي‪.‬‬ ‫اإلداري‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫دفــع عجلــة‬ ‫التطــور يف المجتمــع بواســطة ‪3.3‬الحفــاظ علــى الكفــاءات العلم ّيــة‬ ‫ّ‬ ‫بجــو َد ِة التعليــم الذي اكتسـ َب ُه‬ ‫وتعتــدّ المعاهــد َ‬ ‫الكفــاءات مــن الخريجيــن الذيــن ينهضــون‬ ‫والتدريســ ّية مــن الهجــرة وتأميــن فــرص طلبتُهــا وخريجوهــا مــن خــال التزامهــا‬ ‫بســوق العمــل‪ ،‬ويعملــون علــى هنضــة‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫عمــل لهــم‪.‬‬ ‫التعليــم‬ ‫شــج ُع‬ ‫بضمــان توفيــر بيئــة دراســ ّية ُت ّ‬ ‫َ‬ ‫المجتمــع مــن خــال الــدّ ور الحقيقـ ّـي لهــم يف‬ ‫روح القيــادة والمســؤول ّية االجتماع ّية؛‬ ‫و ُتعـ ّـزز َ‬ ‫العلمــي‪.‬‬ ‫البحــث‬ ‫ّ‬ ‫لبنــاء القــدرات وتطويــر مهــارات التعليــم‬ ‫يعترب االعرتاف‬ ‫ولذلــك كان لزا ًمــا علــى طلبــة الجامعــات ‬ ‫كوهنــا سـ ً‬ ‫مهمــا لتحقيــق أهــداف المعاهــد‬ ‫ـبيل ًّ‬ ‫الســور ّية وكوادرهــا ّأل يتخ ّلفــوا‬ ‫وغايتهــا التــي ُأنشــئت مــن أجلهــا‪.‬‬ ‫عــن بالشهادة الجامعيّة من أهم‬ ‫ـوري إذ كانــت لديهــم‬ ‫المشــاركة يف الحــراك الثـ ّ‬ ‫وقــد وصــل عــدد الطــاب الذيــن التحقــوا‬ ‫أســباهبم اإلضاف ّيــة‬ ‫ّ‬ ‫المتوســطة إلعــداد المدرســين‬ ‫الخاصــة؛ أال وهــي الثــورة التح ّديات التي تواجه الطلبة بالمعاهــد‬ ‫ّ‬ ‫الجامعــي‬ ‫علــى الفســاد الراســخ يف التعليــم‬ ‫المنتشــرة يف المحافظــات المحـ ّـررة ومدهنــا ‪/‬‬ ‫ّ‬ ‫الرشــوة فهذه الجامعات حديثة‬ ‫والمناهــج النظر ّيــة الباليــة ودور‬ ‫‪ / 6000‬طالــب وطالبــة وتـ ّـم تخريــج الدفعــة‬ ‫مم يزرع املخاوف‬ ‫والوســاطة يف تحديــد النجــاح وتزويــر النتائــج النشء ّ‬ ‫األولــى يف العــام الدراســي‪.2016/2015 :‬‬ ‫والتالعــب يف المعــدالت‪ ،‬أضــف إلــى ذلــك‬ ‫وبلــغ عــدد الخريجيــن ‪ /1062/‬مع ّل ًمــا يف‬ ‫يف نفوسهم من عدم وجود‬ ‫اإلداري‪.‬‬ ‫الفســاد‬ ‫ّ‬ ‫كافــة االختصاصــات وهــي‪( :‬اللغــة العربيــة‬

‫‪48‬‬

‫ اللغــة اإلنكليزيــة ‪ -‬الرياضيــات ‪ -‬معلــم‬‫الصــف ‪ -‬العلــوم العامــة ‪ -‬اللغــة الفرنســية)‪،‬‬

‫التعليم في المناطق المحررة‬ ‫وقــد كان لمعاهــد التعليــم الشــرعي دور‬ ‫أساســي يف رفــد المــدارس بمدرســي العلــوم‬ ‫اإلســامية وســد نســبة كبيــرة مــن حاجــة‬ ‫المســاجد إلــى األئمــة والخطباء والمدرســين‪،‬‬ ‫ومــن أشــهر هــذه المراكــز الشــرعية‪ ،‬معهــد‬ ‫مكــة الــذي تشــرف عليــه رابطــة العلمــاء‬ ‫الســوريين‪ ،‬ومعهــد اإلمــام النــووي للعلــوم‬ ‫اإلســامية ومجمــع ســلطان العلمــاء وغيرهــا‪.‬‬

‫وبلــغ عــدد الطــاب الملتحقيــن والمتابعيــن‬ ‫والمخابر التخصص ّية وغيرها‪.‬‬ ‫ولــم يقتصــر األمــر علــى اســتقبال الطــاب لدراســتهم ‪ /5000/‬طالــب وطالبــة‪.‬‬ ‫المســتجدّ ين وإنمــا ُوضعــت خ ّطــة إلكمــال ورغــم االعتمــاد علــى األكاديمييــن‬ ‫طـ ّـاب الجامعــة المنقطعيــن عــن جامعاهتــم المتخصصيــن مــن حملــة الدكتــوراه‬ ‫ّ‬ ‫الطــاب والماجســتير يف تدريــس المقـ ّـررات الجامع ّيــة‬ ‫نح َييــن األول‪ :‬إكمــال‬ ‫مــن خــال َم َ‬ ‫ٌ‬ ‫يف الكل ّيــات المفتتحــة والثــاين‪:‬‬ ‫ـؤرق‬ ‫إكمــال كانــت المشــكلة الكــرى والهاجــس المـ ّ‬ ‫ٍ‬ ‫لطـاّب الســنوات األخيــرة من خــال دورات لــدى الطــاب هــو االعــراف بالشــهادة التــي‬ ‫امتحاني ٍ‬ ‫ــة اســتثنائ ّي ٍة‪.‬‬ ‫ســيحصلون عليهــا‪.‬‬ ‫ّ‬

‫التحــق القســم األكــر مــن خريجــي المعاهــد‬ ‫االختصاصيــة بالمــدارس بعــد خضوعهــم تجربة جامعة إدلب‪:‬‬ ‫لمســابقات مدير ّيــات الرتبيــة‪ ،‬فيمــا التحــق‬ ‫القســم اآلخــر بجامعــة حلــب يف المناطــق بعــد تحريــر إدلــب يف آذار ‪ 2015‬بــدأ العمــل‬ ‫المحـ ّـررة‪ ،‬حيــث صــدر قــرار بقبــول الطــاب علــى اســتثمار الكل ّيــات والمعاهــد الموجــودة‬ ‫ّ‬ ‫الخريجيــن يف الســنة الثالثــة يف الكل ّيــات يف المحافظــة إلطــاق عمل ّيــة التعليــم العالــي‬ ‫الختصاصهــم‪.‬‬ ‫المماثلــة‬ ‫ُ‬ ‫ويف شــهر آب مــن العــام نفســه أطلــق العمــل‬ ‫يف ‪ /25/‬كليــة ومعهــد منهــا كليــات قديمــة‬ ‫تجربة جامعة حلب‪:‬‬ ‫تـ ّـم إعــادة تفعيلهــا ومنهــا كليــات جديــدة تـ ّـم‬ ‫وعــي اســتحداثها وأهمهــا‪ :‬الصيدلــة والهندســة‬ ‫ٍ‬ ‫وبمــا يملــك شــعب بلدنــا مــن‬ ‫بأهميــة التعليــم عا ّمــة والتعليــم الجامعــي المدن ّيــة والميكانيك ّيــة وكل ّيــة الشــريعة‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫الحضــاري يف افتتــاح‬ ‫دور ُه‬ ‫ّ‬ ‫خاصــة اســتكمل َ‬ ‫المحــررة‪ ،‬حيــث‬ ‫الجامعــات يف المناطــق‬ ‫ّ‬ ‫قامــت وزارة الرتبيــة والتعليــم يف الحكومــة‬ ‫الســور ّية المؤ ّقتــة بتشــكيل لجنـ ٍـة عليــا إلدارة‬ ‫وتشــغيل جامعــة حلــب يف المناطق المحـ ّـررة‪،‬‬ ‫األول بتاريــخ‪:‬‬ ‫وانطلــق العــام‬ ‫الدراســي ّ‬ ‫ّ‬ ‫‪2015/12/12‬م وبلــغ عــدد المســجلين‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫وزعــوا‬ ‫طالــب‬ ‫قرابــة ‪/2000 /‬‬ ‫وطالبــة ّ‬ ‫أهمهــا كل ّيــة‬ ‫علــى تســع كل ّيــات وســتة معاهــد ّ‬ ‫ـري والصيدلــة وكل ّيــات الهندســة‬ ‫ـب البشـ ّ‬ ‫الطـ ّ‬ ‫واآلداب والرتبيــة‪ ،‬وكان العمــل وفــق نظــام‬ ‫الوحــدات األوربـ ّـي الحديــث؛ حيــث قامــت‬ ‫الجامعــة بفتــح شــعب وأقســام للكليــات‬ ‫وتــم االعتمــاد‬ ‫يف المحافظــات األخــرى‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫علــى تدريــس مناهــج جامعــة حلــب لضمــان‬ ‫االعــراف؛ وذلــك مــن خــال التواصــل مــع‬ ‫الــدول التــي أبرمــت اتفاق ّيــات مــع جامعــة‬ ‫حلــب قبــل الثــورة إلعطــاء صفــة االعتبار ّيــة‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫المحــررة‪.‬‬ ‫نشــأة يف المناطــق‬ ‫كجامعــة ُم‬ ‫ّ‬ ‫الحــرص‬ ‫وكذلــك ُتواصــل الجامعــ ُة‬ ‫َ‬ ‫علــى توافــر المعاييــر العالم ّيــة للجامعــات‬ ‫مــن خــال تجهيزهــا بالوســائل التعليم ّيــة‬

‫تجربة جامعة الشام العامل ّية‪:‬‬

‫ُأنشــئت جامعــة الشــام العالميــة يف ريــف‬ ‫حلــب الشــمالي برعايــة مــن منظمــة ‪/IHH/‬‬ ‫الرتكيــة يف عــام ‪2016‬م وقــد تم َّيــزت الجامعــة‬ ‫بالفــروع الهندسـ ّية واســتقبال الطــاب الذكور‬ ‫المســجلين فيهــا ‪/600/‬‬ ‫فقــط وبلــغ عــدد‬ ‫ّ‬ ‫طالــب حيــث اعتمــدت نظــام المنــح وتقديــم‬ ‫المســجلين الســتكمال‬ ‫المســاعدة للطــاب‬ ‫ّ‬ ‫تحصيلهــم العلمـ ّـي‪ ،‬وتقــدّ م الجامعــة الســكن‬

‫جامعة إدلب بعد الرتميم‬

‫‪49‬‬


‫التعليم في المناطق المحررة‬ ‫لمتابعــة حــاالت الطــاب ومســاعدهتم‬ ‫للتخلــص مــن األزمــات التــي يعانــون منهــا‪.‬‬

‫إلعــداد المدرســين يف بدايــة عــام ‪2014‬م‪،‬‬ ‫وأضحــت الملجــأ والمــاذ للطــاب الذيــن‬ ‫حصلــوا علــى الشــهادة الثانويــة يف المناطــق‬ ‫المحــررة ِّ‬ ‫ألول مــرة عــام ‪2013‬م‪ ،‬وتعدّ مرحلة‬ ‫واألهم ّيــة‪،‬‬ ‫المتوســط بالغــة الحساســية‬ ‫التعليــم‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫فهــي حجــر األســاس يف عمل ّيــة اكتســاب‬ ‫المهــارات الضرور ّيــة والمعرفــة الالزمــة‬ ‫ِ‬ ‫والتعليــم‬ ‫لالرتقــاء بالمجتمــع بشــك ٍل عــا ٍّم‬ ‫خــاص‪ ،‬فهــذه المرحلــة تمتــاز بأنّهــا‬ ‫بشــك ٍل‬ ‫ٍّ‬ ‫ـخصي والمهنـ ّـي‬ ‫قــادرة علــى رفــع التم ّيــز الشـ‬ ‫ّ‬ ‫لتنميــة المجتمــع‪ ،‬وكذلــك مــدّ ة الدراســة فيهــا‬ ‫ممــا يســهم يف رفــد المجتمــع بالكــوادر‬ ‫ســنتان ّ‬ ‫فــرة وجيــزة‪ٍ.‬‬ ‫المؤهلــة خــال ٍ‬ ‫ّ‬

‫انطلق الناشــطون يف المجال التعليمـ ّـي إليجاد‬ ‫المتوســطة‬ ‫الحلــول فكانــت انطالقــة المعاهــد‬ ‫ّ‬

‫ٍ‬ ‫يل بها‬ ‫اعرتاف دو ّ‬

‫ضــرورة تزويــد المــدارس بالوســائل‬ ‫التعليم ّيــة الحديثــة والمتطـ ّـورة التــي ُتسـ ِـه ُم يف‬ ‫رفــع َجــودة التعليــم‪.‬‬

‫التوجــه إلــى التعليــم المهنـ ّـي والفنـ ّـي لمــا لــه‬ ‫ّ‬ ‫أهم ّيــة يف إعــادة اإلعمــار‪.‬‬ ‫مــن ّ‬ ‫رفــع الدخــل للمع ّلميــن ضمــن سـ ّلم رواتــب‬ ‫يعتمــد الشــهادات والخــرة يف تحديــد األجــور‬ ‫ممــا يســهم يف االســتقرار المجتمعـ ّـي للحفــاظ‬ ‫ّ‬ ‫المختصيــن‪ ،‬وتفريغهــم‬ ‫علــى المع ّلميــن‬ ‫ّ‬ ‫للعمل ّيــة الرتبو ّيــة‪.‬‬

‫اعتمــدت المعاهــد يف بدايــة انطالقتهــا علــى‬ ‫دعــم المجالــس المحل ّيــة ووجهــاء المجتمــع‪،‬‬ ‫تــم اال ّتفــاق بيــن وزارة الرتبيــة‬ ‫وبعــد ذلــك ّ‬ ‫وبعــض المؤسســات اإلنســانية مــن أجــل‬ ‫دعــم المعاهــد وتقديــم منــح ماليــة مســاعدة‬ ‫للكــوادر اإلداريــة والتدريســية‪.‬‬

‫أشــرفت الــوزارة علــى المعاهــد وبــدأ العمــل‬ ‫علــى إعــداد النظــام الداخلــي والمناهــج‬ ‫الدراســية؛ و ُأقيمــت مــن أجــل ذلــك العديــد‬ ‫مــن ورشــات العمــل‪ُ ،‬‬ ‫وشــ ّكلت اللجــان‬ ‫المختصــة التــي بــدأت العمــل علــى إعــداد‬ ‫المناهــج وتوحيدهــا يف فــروع المعاهــد‬ ‫المنتشــرة يف المناطــق المحــررة‪ ،‬والبالــغ‬ ‫عددهــا ‪ /21/‬فر ًعــا يف المحافظــات ( حلــب‬ ‫‪ ،/8/‬إدلــب ‪ ،/4/‬ريــف دمشــق ‪،/1/‬‬ ‫حمــص ‪ ،/3/‬ريــف الالذقيــة ‪ ،/1/‬درعــا‬ ‫أيضــا‪.‬‬ ‫والقنيطــرة ‪ )/2/‬ويف لبنــان فرعــان ً‬ ‫اعتمــدت المعاهــد على ٍ‬ ‫نخبة مــن أهل الخربة‬

‫دولــي‬ ‫تأميــن اعــراف‬ ‫المختصــون بوضــع اســراتيج ّية هتــدف‬ ‫رســمي للشــهادات بــدأ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫التــي يحصــل عليهــا الطــاب‪ ،‬والمســاعدة يف لرتكيــز المــوارد والجهــود للعمــل علــى‬ ‫اســتكمال تحصيلهــم العلمــي يف الجامعــات تحقيــق قفــزة نوعي ٍ‬ ‫ــة يف معاييــر التعليــم‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫المعتمــدة‪.‬‬ ‫المتوســطة‪ ،‬وكان الرتكيــز علــى‬ ‫للمعاهــد‬ ‫ّ‬ ‫األهــداف اآلتيــة‪:‬‬ ‫واملتوسط‬ ‫التعليم العايل‬ ‫ّ‬ ‫ـادر علــى يف مجــال التدريــس مــن حملــة الدكتــوراه‬ ‫‪1.1‬تأهيــل كادر تدريســي تعليمــي قـ ٍ‬ ‫ِ‬ ‫تنشــئة جيــ ٍل واعٍ‪ ّ ،‬وســدّ ّثغــرة غيــاب والماجســتير واإلجــازات االختصاص ّيــة‪،‬‬ ‫يف املناطق املحررة‪:‬‬ ‫حيــث بلــغ عــدد الــكادر التدريسـ ّـي يف فــروع‬ ‫المعلــم بســبب ظــروف الحــرب‪.‬‬ ‫ً‬ ‫منقــذا للطــاّب‬ ‫األساســي‬ ‫إذا كان التعليــم‬ ‫ومدر ًســا‪ ،‬إضاف ـ ًة‬ ‫ا‬ ‫ـر‬ ‫ـ‬ ‫‪/400/‬محاض‬ ‫ـد‬ ‫ـ‬ ‫المعاه‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫ـن‬ ‫ـ‬ ‫الحاصلي‬ ‫ـات‬ ‫ـ‬ ‫والطالب‬ ‫ـاب‬ ‫ـ‬ ‫الط‬ ‫ـتيعاب‬ ‫ـ‬ ‫اس‬ ‫‪2.‬‬ ‫‪2‬‬ ‫والمجتمــع مــن حالــة األم ّيــة والجهــل‪ّ ،‬‬ ‫فــإن‬ ‫إلــى مــا يقــارب ‪ /200/‬إداري مــن ذوي‬ ‫يف‬ ‫ة‬ ‫ي‬ ‫ـرع‬ ‫ـ‬ ‫والش‬ ‫ـة‬ ‫ـ‬ ‫م‬ ‫العا‬ ‫ـة‬ ‫ـ‬ ‫ي‬ ‫الثانو‬ ‫ـهادة‬ ‫ـ‬ ‫الش‬ ‫ـى‬ ‫ـ‬ ‫عل‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫أهم ّيــة‬ ‫َدور التعليــم العالــي‬ ‫الخــرة الطويلــة والكفــاءة العاليــة يف المجــال‬ ‫والمتوســط ال يقـ ّـل ّ‬ ‫ّ‬ ‫رة‪.‬‬ ‫ـر‬ ‫ـ‬ ‫المح‬ ‫ـق‬ ‫ـ‬ ‫المناط‬ ‫ّ‬ ‫عــن غيــره؛ حيــث تظهــر نتائجــه مــن خــال‬ ‫والتوجيهــي‪.‬‬ ‫اإلداري‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫دفــع عجلــة‬ ‫التطــور يف المجتمــع بواســطة ‪3.3‬الحفــاظ علــى الكفــاءات العلم ّيــة‬ ‫ّ‬ ‫بجــو َد ِة التعليــم الذي اكتسـ َب ُه‬ ‫وتعتــدّ المعاهــد َ‬ ‫الكفــاءات مــن الخريجيــن الذيــن ينهضــون‬ ‫والتدريســ ّية مــن الهجــرة وتأميــن فــرص طلبتُهــا وخريجوهــا مــن خــال التزامهــا‬ ‫بســوق العمــل‪ ،‬ويعملــون علــى هنضــة‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫عمــل لهــم‪.‬‬ ‫التعليــم‬ ‫شــج ُع‬ ‫بضمــان توفيــر بيئــة دراســ ّية ُت ّ‬ ‫َ‬ ‫المجتمــع مــن خــال الــدّ ور الحقيقـ ّـي لهــم يف‬ ‫روح القيــادة والمســؤول ّية االجتماع ّية؛‬ ‫و ُتعـ ّـزز َ‬ ‫العلمــي‪.‬‬ ‫البحــث‬ ‫ّ‬ ‫لبنــاء القــدرات وتطويــر مهــارات التعليــم‬ ‫يعترب االعرتاف‬ ‫ولذلــك كان لزا ًمــا علــى طلبــة الجامعــات ‬ ‫كوهنــا سـ ً‬ ‫مهمــا لتحقيــق أهــداف المعاهــد‬ ‫ـبيل ًّ‬ ‫الســور ّية وكوادرهــا ّأل يتخ ّلفــوا‬ ‫وغايتهــا التــي ُأنشــئت مــن أجلهــا‪.‬‬ ‫عــن بالشهادة الجامعيّة من أهم‬ ‫ـوري إذ كانــت لديهــم‬ ‫المشــاركة يف الحــراك الثـ ّ‬ ‫وقــد وصــل عــدد الطــاب الذيــن التحقــوا‬ ‫أســباهبم اإلضاف ّيــة‬ ‫ّ‬ ‫المتوســطة إلعــداد المدرســين‬ ‫الخاصــة؛ أال وهــي الثــورة التح ّديات التي تواجه الطلبة بالمعاهــد‬ ‫ّ‬ ‫الجامعــي‬ ‫علــى الفســاد الراســخ يف التعليــم‬ ‫المنتشــرة يف المحافظــات المحـ ّـررة ومدهنــا ‪/‬‬ ‫ّ‬ ‫الرشــوة فهذه الجامعات حديثة‬ ‫والمناهــج النظر ّيــة الباليــة ودور‬ ‫‪ / 6000‬طالــب وطالبــة وتـ ّـم تخريــج الدفعــة‬ ‫مم يزرع املخاوف‬ ‫والوســاطة يف تحديــد النجــاح وتزويــر النتائــج النشء ّ‬ ‫األولــى يف العــام الدراســي‪.2016/2015 :‬‬ ‫والتالعــب يف المعــدالت‪ ،‬أضــف إلــى ذلــك‬ ‫وبلــغ عــدد الخريجيــن ‪ /1062/‬مع ّل ًمــا يف‬ ‫يف نفوسهم من عدم وجود‬ ‫اإلداري‪.‬‬ ‫الفســاد‬ ‫ّ‬ ‫كافــة االختصاصــات وهــي‪( :‬اللغــة العربيــة‬

‫‪48‬‬

‫ اللغــة اإلنكليزيــة ‪ -‬الرياضيــات ‪ -‬معلــم‬‫الصــف ‪ -‬العلــوم العامــة ‪ -‬اللغــة الفرنســية)‪،‬‬

‫التعليم في المناطق المحررة‬ ‫وقــد كان لمعاهــد التعليــم الشــرعي دور‬ ‫أساســي يف رفــد المــدارس بمدرســي العلــوم‬ ‫اإلســامية وســد نســبة كبيــرة مــن حاجــة‬ ‫المســاجد إلــى األئمــة والخطباء والمدرســين‪،‬‬ ‫ومــن أشــهر هــذه المراكــز الشــرعية‪ ،‬معهــد‬ ‫مكــة الــذي تشــرف عليــه رابطــة العلمــاء‬ ‫الســوريين‪ ،‬ومعهــد اإلمــام النــووي للعلــوم‬ ‫اإلســامية ومجمــع ســلطان العلمــاء وغيرهــا‪.‬‬

‫وبلــغ عــدد الطــاب الملتحقيــن والمتابعيــن‬ ‫والمخابر التخصص ّية وغيرها‪.‬‬ ‫ولــم يقتصــر األمــر علــى اســتقبال الطــاب لدراســتهم ‪ /5000/‬طالــب وطالبــة‪.‬‬ ‫المســتجدّ ين وإنمــا ُوضعــت خ ّطــة إلكمــال ورغــم االعتمــاد علــى األكاديمييــن‬ ‫طـ ّـاب الجامعــة المنقطعيــن عــن جامعاهتــم المتخصصيــن مــن حملــة الدكتــوراه‬ ‫ّ‬ ‫الطــاب والماجســتير يف تدريــس المقـ ّـررات الجامع ّيــة‬ ‫نح َييــن األول‪ :‬إكمــال‬ ‫مــن خــال َم َ‬ ‫ٌ‬ ‫يف الكل ّيــات المفتتحــة والثــاين‪:‬‬ ‫ـؤرق‬ ‫إكمــال كانــت المشــكلة الكــرى والهاجــس المـ ّ‬ ‫ٍ‬ ‫لطـاّب الســنوات األخيــرة من خــال دورات لــدى الطــاب هــو االعــراف بالشــهادة التــي‬ ‫امتحاني ٍ‬ ‫ــة اســتثنائ ّي ٍة‪.‬‬ ‫ســيحصلون عليهــا‪.‬‬ ‫ّ‬

‫التحــق القســم األكــر مــن خريجــي المعاهــد‬ ‫االختصاصيــة بالمــدارس بعــد خضوعهــم تجربة جامعة إدلب‪:‬‬ ‫لمســابقات مدير ّيــات الرتبيــة‪ ،‬فيمــا التحــق‬ ‫القســم اآلخــر بجامعــة حلــب يف المناطــق بعــد تحريــر إدلــب يف آذار ‪ 2015‬بــدأ العمــل‬ ‫المحـ ّـررة‪ ،‬حيــث صــدر قــرار بقبــول الطــاب علــى اســتثمار الكل ّيــات والمعاهــد الموجــودة‬ ‫ّ‬ ‫الخريجيــن يف الســنة الثالثــة يف الكل ّيــات يف المحافظــة إلطــاق عمل ّيــة التعليــم العالــي‬ ‫الختصاصهــم‪.‬‬ ‫المماثلــة‬ ‫ُ‬ ‫ويف شــهر آب مــن العــام نفســه أطلــق العمــل‬ ‫يف ‪ /25/‬كليــة ومعهــد منهــا كليــات قديمــة‬ ‫تجربة جامعة حلب‪:‬‬ ‫تـ ّـم إعــادة تفعيلهــا ومنهــا كليــات جديــدة تـ ّـم‬ ‫وعــي اســتحداثها وأهمهــا‪ :‬الصيدلــة والهندســة‬ ‫ٍ‬ ‫وبمــا يملــك شــعب بلدنــا مــن‬ ‫بأهميــة التعليــم عا ّمــة والتعليــم الجامعــي المدن ّيــة والميكانيك ّيــة وكل ّيــة الشــريعة‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫الحضــاري يف افتتــاح‬ ‫دور ُه‬ ‫ّ‬ ‫خاصــة اســتكمل َ‬ ‫المحــررة‪ ،‬حيــث‬ ‫الجامعــات يف المناطــق‬ ‫ّ‬ ‫قامــت وزارة الرتبيــة والتعليــم يف الحكومــة‬ ‫الســور ّية المؤ ّقتــة بتشــكيل لجنـ ٍـة عليــا إلدارة‬ ‫وتشــغيل جامعــة حلــب يف المناطق المحـ ّـررة‪،‬‬ ‫األول بتاريــخ‪:‬‬ ‫وانطلــق العــام‬ ‫الدراســي ّ‬ ‫ّ‬ ‫‪2015/12/12‬م وبلــغ عــدد المســجلين‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫وزعــوا‬ ‫طالــب‬ ‫قرابــة ‪/2000 /‬‬ ‫وطالبــة ّ‬ ‫أهمهــا كل ّيــة‬ ‫علــى تســع كل ّيــات وســتة معاهــد ّ‬ ‫ـري والصيدلــة وكل ّيــات الهندســة‬ ‫ـب البشـ ّ‬ ‫الطـ ّ‬ ‫واآلداب والرتبيــة‪ ،‬وكان العمــل وفــق نظــام‬ ‫الوحــدات األوربـ ّـي الحديــث؛ حيــث قامــت‬ ‫الجامعــة بفتــح شــعب وأقســام للكليــات‬ ‫وتــم االعتمــاد‬ ‫يف المحافظــات األخــرى‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫علــى تدريــس مناهــج جامعــة حلــب لضمــان‬ ‫االعــراف؛ وذلــك مــن خــال التواصــل مــع‬ ‫الــدول التــي أبرمــت اتفاق ّيــات مــع جامعــة‬ ‫حلــب قبــل الثــورة إلعطــاء صفــة االعتبار ّيــة‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫المحــررة‪.‬‬ ‫نشــأة يف المناطــق‬ ‫كجامعــة ُم‬ ‫ّ‬ ‫الحــرص‬ ‫وكذلــك ُتواصــل الجامعــ ُة‬ ‫َ‬ ‫علــى توافــر المعاييــر العالم ّيــة للجامعــات‬ ‫مــن خــال تجهيزهــا بالوســائل التعليم ّيــة‬

‫تجربة جامعة الشام العامل ّية‪:‬‬

‫ُأنشــئت جامعــة الشــام العالميــة يف ريــف‬ ‫حلــب الشــمالي برعايــة مــن منظمــة ‪/IHH/‬‬ ‫الرتكيــة يف عــام ‪2016‬م وقــد تم َّيــزت الجامعــة‬ ‫بالفــروع الهندسـ ّية واســتقبال الطــاب الذكور‬ ‫المســجلين فيهــا ‪/600/‬‬ ‫فقــط وبلــغ عــدد‬ ‫ّ‬ ‫طالــب حيــث اعتمــدت نظــام المنــح وتقديــم‬ ‫المســجلين الســتكمال‬ ‫المســاعدة للطــاب‬ ‫ّ‬ ‫تحصيلهــم العلمـ ّـي‪ ،‬وتقــدّ م الجامعــة الســكن‬

‫جامعة إدلب بعد الرتميم‬

‫‪49‬‬


‫التعليم في المناطق المحررة‬ ‫المجــاينّ والطعــام للطــاب باإلضافــة للكتــب‬ ‫يتــم منــح الطــاب الملتزميــن‬ ‫الدراســ ّية كمــا ّ‬ ‫منحــا شــهري ًة تــراوح بيــن ‪ 100‬و‪150‬‬ ‫بالــدوام ً‬ ‫ليــرة ترك ّيــة‪.‬‬ ‫وتضــم الجامعــة خمــس كل ّيــات‪( :‬اإلدارة‪-‬‬ ‫ّ‬ ‫االقتصــاد ‪ -‬العلــوم السياســ ّية ‪ -‬الشــريعة‬ ‫والقانــون ‪ -‬كل ّيــة الهندســة والتــي تتألــف مــن‬ ‫أربعــة أقســام‪ :‬الهندســة المدن ّيــة ‪ -‬الهندســة‬ ‫المعلومات ّيــة ‪ -‬الهندســة الكيميائ ّيــة ‪ -‬الهندســة‬ ‫الفيزيائ ّيــة)‪.‬‬

‫تجربة الجامعات الخاصة‪:‬‬

‫يالحــظ المتابــع لشــؤون التعليــم العالــي يف‬ ‫المحافظــات المحــررة انتشــار عـ ٍ‬ ‫ـدد ال بــأس بــه‬ ‫ّ‬ ‫وخاصــة يف ريف إدلب‬ ‫الخاصــة‬ ‫مــن الجامعات‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ِ‬ ‫ـاب‬ ‫ومنطقــة درع الفــرات حيــث َتســتقب ُل الطـ َ‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫مرتفعــة جــدًّ ا بالنظــر إلــى‬ ‫بأقســاط ســنو ّية‬ ‫األوضــاع الماد ّيــة ودخــل أبنــاء هــذه المناطــق‪،‬‬ ‫وتــراوح األقســاط بيــن ‪ 1000/‬و ‪/ 2000‬‬ ‫دوالر ســنو ًّيا وهــذا مــا جعــل َ‬ ‫إقبــال الطــاب‬ ‫ـال لــدى عــددٍ‬ ‫عليهــا محــدو ًدا حيــث القــت إقبـ ً‬ ‫خصوصــا‪ ..‬ومــن‬ ‫مــن الطلبــة ميســوري الحــال‬ ‫ً‬ ‫هــذه الجامعــات‪( :‬جامعــة أكســفورد ‪ -‬جامعــة‬ ‫الزهــراء ‪ -‬جامعــة إيبــا ‪ -‬جامعة رومــا ‪ -‬جامعة‬ ‫مــاري ‪ -‬جامعــة باشــاك شــهير )‪.‬‬

‫ـص تجهيــز‬ ‫وتتم ّيــز هــذه الجامعــات فيمــا يخـ ّ‬ ‫أبنيتهــا وأثاثهــا وتوفيــر الوســائل التعليم ّيــة‬ ‫والمختــرات المناســبة ووســائل الشــرح‬ ‫اإللكرتون ّيــة والتجهيــزات الصوت ّيــة التي تســاعد‬ ‫يف إيصــال المعلومــات‪ ،‬ولكــ ّن هــذا التم ّيــز‬ ‫قــد ال ُيعطيهــا التفـ ّـوق علــى الجامعــات العا ّمــة‬ ‫لمــا يوجــدُ مــن ســلب ّيات خطيــرة علــى الطلبــة‬ ‫أهمهــا عــدم وجــود اعــراف دولـ ّـي‬ ‫ومســتقبلهم ّ‬ ‫بكثيــر منهــا‪ ،‬فمــا هــو مصيــر الطــاب بعــد‬ ‫تخرجهــم منهــا؟ ومــن هــي الجهة الرســم ّية التي‬ ‫ّ‬ ‫التخــرج منهــا؟‬ ‫ســتصدر شــهادة‬ ‫ّ‬

‫تحديات وآمال‪:‬‬

‫مضــي ثــاث ســنوات علــى انطــاق‬ ‫وبعــد‬ ‫ّ‬ ‫الجامعــات يف المناطــق المحـ ّـررة وصــل عــدد‬ ‫‪50‬‬

‫الطــاب إلــى مــا يقــارب ‪ / 15000 /‬طالــب وعلــى الرغــم مــن وجــود هــذه التحدّ يــات‬ ‫بحســب إحصائ ّيــات وزارة التعليــم العالــي يف والمعو ّقــات إال ّ‬ ‫أن األمــل بواقــع تعليمــي أفضل‬ ‫ّ‬ ‫الحكومــة المؤ ّقتــة‪.‬‬ ‫يبقــى هدفــا للمؤسســات التعليميــة يف مناطــق‬ ‫ومــع اقــراب العــام الدراســي الرابــع مــن هنايتــه الثــورة‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫واســتعداد الجامعــات لتخريــج الدفعــة األولــى ال تــزال مؤسســات التعليــم يف المناطــق‬ ‫مــع هنايــة هــذا العــام؛ ال يخفــى علــى أحــد المحــررة تطمــح إلــى تطويــر العمليــة التعليميــة‬ ‫تلــك العقبــات والتحد ّيــات التــي تواجــه إصــرار علــى عــدة محــاور منهــا‪:‬‬ ‫العامليــن علــى العمــل يف الداخــل المحــرر‬ ‫ّ •األبنيــة التعليميــة‪ :‬فهــي بحاجــة إلــى مزيــد من‬ ‫لتأســيس البنية التعليم ّية القو ّية لتمكين الطالّب‬ ‫العنايــة لتوفيــر بيئــة تعليميــة صحيــة ومناســبة‪،‬‬ ‫العلمــي ليكونــوا‬ ‫مــن اســتكمال تحصيلهــم‬ ‫ّ‬ ‫وأكثــر مــا يبعــث علــى الحــزن المراكــز‬ ‫قادريــن علــى خدمـ ِـة بلدهم والمســاهمة العلم ّية‬ ‫التعليميــة التــي ال زالــت يف الخيــم والمبــاين‬ ‫الفعالــة يف إعــادة إعمــاره‪.‬‬ ‫الضيقــة مســبقة الصنــع ومــا تزرعــه يف نفــوس‬ ‫ويعتــر االعــراف بالشــهادة الجامع ّيــة مــن أهــم‬ ‫الطــابمــنإحســاسبالحــزنواالنكســار‪.‬‬ ‫التحدّ يــات التــي تواجــه الطلبــة فهــذه الجامعات‬ ‫ •الكــوادر التعليميــة‪ :‬ال تــزال الكــوادر تعــاين‬ ‫ممــا يــزرع المخاوف يف نفوســهم‬ ‫حديثــة النــشء ّ‬ ‫مــن نقــص شــديد وتحتــاج إلى وضــع مخطط‬ ‫ٍ‬ ‫دولــي هبــا‪ ،‬فوجــود‬ ‫مــن عــدم وجــود اعــراف‬ ‫ّ‬ ‫متكامــل لتدريبهــا واالرتقــاء بمســتواها‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫اعـ ٍ‬ ‫ـهادات الطــاب الخريجيــن‬ ‫ـراف دولـ ٍّـي بشـ‬ ‫أمـ ٌـر مهـ ٌّـم لتلبيــة طموحاهتــم دون أ ّيــة مخــاوف •المناهــج‪ :‬إن المناهــج والكتــب التــي يتــم‬ ‫االعتمــاد عليهــا يف المناطــق المحــررة تعــاين‬ ‫مستقبل ّية‪.‬‬ ‫مــن التنظيــر القاتــل الــذي اتســمت بــه أيــام‬ ‫وكذلــك تعــدّ الظــروف األمن ّيــة الصعبــة وقيــام‬ ‫تســلط النظــام الطائفــي ونحــن بحاجــة اليــوم‬ ‫نظــام األســد وحلفائــه باســتهداف المنشــآت‬ ‫إلــى منهــاج يجمــع بيــن التنظيــر والتدريــب‬ ‫التعليم ّيــة مــن أكــر التحديــات التي تمنــع وجود‬ ‫ٍ‬ ‫آمنــة وأماكــن محص ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫العملــي لفتــح اآلفــاق الحياتيــة العمليــة أمــام‬ ‫ظــروف‬ ‫نــة لخلــق‬ ‫بيئــة‬ ‫ّ‬ ‫تعليميـ ٍـة مناسـ ٍ‬ ‫طالبنــا‪.‬‬ ‫ـبة‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫ـوزع الكل ّيــات وشــعب الجامعــات •اإلدارة‪ :‬إن تنظيــم العمليــة التعليميــة مــن‬ ‫وبســبب تـ ّ‬ ‫خــال إدارة رشــيدة ال يقــل أهميــة عــن‬ ‫علــى محافظــات متعــدّ دة؛ ال يوجــد حــرم‬ ‫ضبــط المناهــج واالرتقــاء بمســتوى الــكادر‬ ‫وخاصــة يف جامعــة حلــب أو‬ ‫جامعـ ّـي مشــرك‬ ‫ّ‬ ‫التعليمــي أو صيانــة األبنيــة واالرتقــاء‬ ‫إدلــب وهــذا يؤ ّدي إلــى صعوبة االنتقال بالنســبة‬ ‫بمســتواها‪ ،‬فــاإلدارة لهــا دور مهــم يف االرتقــاء‬ ‫للطــاب واإلدار ّييــن ويســهم يف صعوبــة العمــل‬ ‫بمؤسســاتنا التعليميــة الناشــئة‪.‬‬ ‫ـغيلي للجامعــة أضــف إلــى ذلــك‬ ‫اإلداري‬ ‫ّ‬ ‫والتشـ ٍ ّ‬ ‫ِ‬ ‫عــد َم وجــود مــدن جامع ّيــة أو مســاكن للطــاب وأخيــرا‪ :‬إننــا نعيــش حالــة حــرب علــى كل‬ ‫ممــا يص ِّعــب عمل ّيــة االلتحــاق بالجامعــة‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫المســتويات االجتماعيــة واإلنســانية‪ ،‬والعلــم‬ ‫وفيمــا يتع ّلــق بالتمويــل تعــاين الجامعــات مــع األخــاق هــو مــا يحفــظ مجتمعنــا وهــو مــا‬ ‫ٍ‬ ‫نقــص يف التمويــل ويف حــال يميزنــا عــن باقــي األمــم أو يجعلنــا محــط احترام‬ ‫جميعهــا مــن‬ ‫وجـ ِ‬ ‫ـوده فهــو مؤ ّقــت وبذلــك تنعكــس النتائــج دولــي‪ ،‬وإن العلــم مــع اإلنســانية هــو الطريــق‬ ‫علــى الجامعــة وطالهبــا مــن حيــث صعوبــة األوحــد لحضــارة إنســانية قويــة تخــدم اآلخرين‬ ‫تأميــن المناهــج الدراســ ّية مطبوعــة وعــدم وتقــدم لهــم الخيــر والنفــع‪ ...‬ومــا نطمــح إليــه‬ ‫وجــود المبــاين الجامع ّيــة المتناســبة مــع التعليــم اليــوم هــو أن نعيــش حيــاة إنســانية كريمــة تنقــذ‬ ‫العالــي والنقــص يف المخابــر العلم ّيــة المتطـ ّـورة شــعبنا مــن الضيــاع الــذي يعانيــه واهلل الموفــق‬ ‫والهــادي إلــى ســواء الســبيل‪.‬‬ ‫وكفايتهــا‪.‬‬

‫الكتاتيب القرآنية‬

‫الكتاتيب القرآنية‬

‫نشــأتها ودورها يف املجتمع املسلم‬ ‫آسية بنسلمون ‪ -‬ماجستير تربية ودراسات إسالمية‬

‫كانــت كتاتيــب القــرآن الكريــم يف العصــور اإلســامية بمنزلــة‬ ‫المــدارس االبتدائ ّيــة يف عصرنــا الحاضــر‪ ،‬وكان لهــا أكبــر األثــر يف‬ ‫الحفــاظ علــى اللغــة العربيــة وانتشــارها بيــن جميــع األعراق المســلمة؛‬ ‫إذ كان التالميــذ يتع ّلمــون فيهــا القــراءة والكتابــة العربيــة والقــراءة‬ ‫الصحيحــة للقــرآن الكريــم‪ ،‬كمــا كان األطفــال المســلمون يتل ّقــون‬ ‫يف هــذه الكتاتيــب تعاليــم الديــن األساســ ّية‪ ،‬فيتعرفــون علــى أركان‬ ‫اإلســام ومعنــى اإليمــان‪ ،‬ويتع ّلمــون كيف ّيــة الوضــوء والصــاة‪ ،‬إضافة‬ ‫إلــى ذلــك كان األطفــال يســتمعون فيهــا لجملـ ٍـة مــن مغــازي الرســول‬ ‫صلــى اهلل عليــه وســلم وحيــاة أصحابــه الكــرام‪.‬‬ ‫ويف العصــر الحديــث وبعــد ســقوط الخالفــة العثمان ّيــة وقيــام‬ ‫ّ‬ ‫محــل الكتاتيــب‪ ،‬ولكنهــا‬ ‫العامــة‬ ‫الجمهوريــات‪ ،‬ح ّلــت المدرســة ّ‬ ‫أخــذت جان ًبــا علمان ًّيــا بحتًــا علــى األغلــب‪ ،‬ووصــل األمــر ببعــض‬ ‫البرامــج التعليم ّيــة يف الــدول العرب ّيــة واإلســام ّية إلــى إهمــال العرب ّيــة‬ ‫ممــا هــدّ د العرب ّيــة‬ ‫مقابــل االهتمــام المبالــغ بــه باللغــات األجنب ّيــة‪ّ ،‬‬ ‫بالضيــاع‪.‬‬ ‫مــع االنتشــار الواســع للمــدارس بقيــت جملــ ٌة مــن المجتمعــات‬ ‫اإلســام ّية تحافــظ علــى كتاتيــب القــرآن الكريــم وتحــرص علــى‬ ‫إرســال أبنائهــا إليهــا بعــد العــودة مــن المــدارس الرســم ّية أو يف الصيــف‬ ‫يف العطلــة المدرسـ ّية الطويلــة‪ ،‬وقد كان للكتاتيــب دور كبير يف الحفاظ‬ ‫النبويــة يف‬ ‫علــى اللغــة العرب ّيــة وتعليــم القــرآن ومبــادئ الديــن والســيرة‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫المتعمــد للعلــوم العرب ّيــة واإلســام ّية يف‬ ‫الحكومــي‬ ‫ظــل اإلهمــال‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ـرعي‬ ‫برامجهــا التعليم ّيــة‪ ،‬والتضييــق المسـ ّ‬ ‫ـتمر علــى مراكــز التعليم الشـ ّ‬ ‫يف عديـ ٍـد مــن الــدول اإلســام ّية‪ ،‬ومنهــا ســوريا يف فتــرة تســلط عائلــة‬ ‫األســد عليهــا‪.‬‬

‫فمــا سـ ُّـر نشــأة هــذه الكتاتيــب؟ كيــف بــدأت؟ وكيــف كانــت برامجها‬ ‫التعليميــة؟ ومــا هــو واقعهــا اليــوم‪ ،‬ومــا واجبنــا تجاههــا لتعزيــز‬ ‫ـبيل للحفــاظ علــى لغتنــا وديننــا وأطفالنــا؟‬ ‫وجودهــا واتّخــاذه سـ ً‬

‫أه ّم ّية القرآن يف حياتنا‪:‬‬

‫يف خضـ ّـم مــا تعيشــه أ ّمتنــا مــن تق ّلبــات وتغ ّيــرات‪ ،‬وانتشــار الفتــن يف‬ ‫المجتمعــات انتشــار النــار يف الهشــيم‪ّ ،‬‬ ‫فــإن اإلنســان المســلم يقــف‬ ‫ً‬ ‫أي‬ ‫وتائهــا‬ ‫متســائل‪ :‬أيــن الســبيل؟ وأيــن النجــاة؟ ال يــدري ّ‬ ‫حائــرا ً‬ ‫ً‬ ‫ٍ‬ ‫ّ‬ ‫وأي طريقــة ينهجهــا‪ ،‬ثـ ّـم ســرعان مــا يتجلــى لــه ذلــك‬ ‫وجهــة يســلكها‪ّ ،‬‬ ‫ّ‬ ‫النــور الــذي ال ينطفــئ‪ ،‬ويبصــر وجهتــه التــي ال يضــل فيهــا‪ ،‬أال وهــي‬ ‫وجهــة القــرآن الكريــم‪ ،‬فيســارع إلــى رحابِـ ِـه ليتف ّيــأ مــن ظاللــه ويقتبــس‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ـاب‬ ‫ـور َوك َتـ ٌ‬ ‫مــن أنــواره‪ ،‬متد ّبـ ًـرا قولــه تعالــى‪َ ﴿ :‬قــدْ َجا َء ُكــم ِّم ـ َن ال َّلــه ُنـ ٌ‬ ‫ُّمبِي ـ ٌن * َي ْهـ ِـدي بِـ ِـه ال َّل ـ ُه َمـ ِ‬ ‫السـ َـا ِم َو ُي ْخ ِر ُج ُهــم‬ ‫ـن ا َّت َبـ َ‬ ‫ـع ِر ْض َوا َن ـ ُه ُس ـ ُب َل َّ‬ ‫يهــم إِ َلــى ِصــر ٍ‬ ‫ــات إِ َلــى الن ِ ِ ِ ِ‬ ‫مــن ال ُّظ ُلم ِ‬ ‫اط ُّم ْســت َِق ٍ‬ ‫يم﴾‬ ‫ِّ َ‬ ‫َ‬ ‫ُّــور بِإِ ْذنــه َو َي ْهد ِ ْ ٰ‬ ‫َ‬ ‫[ســورة المائــدة‪ :‬اآليــة ‪ ]16‬مــدركًا أن ال شــيء أعظــم مــن كتــاب اهلل‬ ‫تدارس ِ‬ ‫ِ‬ ‫ً‬ ‫عامــا بقولــه صلــى‬ ‫ــه والته ُّيــؤ لخدمتــه‪،‬‬ ‫تعالــى‪ ،‬فيجتهــد يف‬ ‫(((‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫َّ‬ ‫اهلل عليــه وســلم‪« :‬خيركــم مــن تعلــم القــرآن وعلمــه» ‪ ،‬وإن تعلــم‬ ‫وتعليمـ ُه ال يتح ّقـ ُـق ّأو ًل إال بالتم ّكــن مــن قولــه تعالــى‪:‬‬ ‫القــرآن الكريــم‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫اس ِ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫ــم َر ِّب َ‬ ‫ــق﴾ [ســورة العلــق‪ :‬آيــة ‪ ،]1‬فالقــراءة‬ ‫ــك الــذي َخل َ‬ ‫﴿ا ْق َــر ْأ بِ ْ‬ ‫والكتابــة مفتــاح تع ّلــم كتــاب اهلل تعالــى‪ ،‬وذاك هــو العلــم الــذي ُينتفــع‬ ‫بــه‪ ،‬ويرتقــي المــرء بــه مــن مرتبــة األخــذ والتع ّلـ ِـم إلــى منزلــة العطــاء‬ ‫ممــا ع ّلمــه اهلل‪.‬‬ ‫والتعليــم واإلنفــاق ّ‬ ‫((( رواه البخاري بسنده عن عثمان بن عفان رضي اهلل عنه‪ ،‬باب (خيركم من تعلم القرآن وعلمه) رقم‬ ‫(‪.)7205‬‬

‫‪51‬‬


‫التعليم في المناطق المحررة‬ ‫المجــاينّ والطعــام للطــاب باإلضافــة للكتــب‬ ‫يتــم منــح الطــاب الملتزميــن‬ ‫الدراســ ّية كمــا ّ‬ ‫منحــا شــهري ًة تــراوح بيــن ‪ 100‬و‪150‬‬ ‫بالــدوام ً‬ ‫ليــرة ترك ّيــة‪.‬‬ ‫وتضــم الجامعــة خمــس كل ّيــات‪( :‬اإلدارة‪-‬‬ ‫ّ‬ ‫االقتصــاد ‪ -‬العلــوم السياســ ّية ‪ -‬الشــريعة‬ ‫والقانــون ‪ -‬كل ّيــة الهندســة والتــي تتألــف مــن‬ ‫أربعــة أقســام‪ :‬الهندســة المدن ّيــة ‪ -‬الهندســة‬ ‫المعلومات ّيــة ‪ -‬الهندســة الكيميائ ّيــة ‪ -‬الهندســة‬ ‫الفيزيائ ّيــة)‪.‬‬

‫تجربة الجامعات الخاصة‪:‬‬

‫يالحــظ المتابــع لشــؤون التعليــم العالــي يف‬ ‫المحافظــات المحــررة انتشــار عـ ٍ‬ ‫ـدد ال بــأس بــه‬ ‫ّ‬ ‫وخاصــة يف ريف إدلب‬ ‫الخاصــة‬ ‫مــن الجامعات‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ِ‬ ‫ـاب‬ ‫ومنطقــة درع الفــرات حيــث َتســتقب ُل الطـ َ‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫مرتفعــة جــدًّ ا بالنظــر إلــى‬ ‫بأقســاط ســنو ّية‬ ‫األوضــاع الماد ّيــة ودخــل أبنــاء هــذه المناطــق‪،‬‬ ‫وتــراوح األقســاط بيــن ‪ 1000/‬و ‪/ 2000‬‬ ‫دوالر ســنو ًّيا وهــذا مــا جعــل َ‬ ‫إقبــال الطــاب‬ ‫ـال لــدى عــددٍ‬ ‫عليهــا محــدو ًدا حيــث القــت إقبـ ً‬ ‫خصوصــا‪ ..‬ومــن‬ ‫مــن الطلبــة ميســوري الحــال‬ ‫ً‬ ‫هــذه الجامعــات‪( :‬جامعــة أكســفورد ‪ -‬جامعــة‬ ‫الزهــراء ‪ -‬جامعــة إيبــا ‪ -‬جامعة رومــا ‪ -‬جامعة‬ ‫مــاري ‪ -‬جامعــة باشــاك شــهير )‪.‬‬

‫ـص تجهيــز‬ ‫وتتم ّيــز هــذه الجامعــات فيمــا يخـ ّ‬ ‫أبنيتهــا وأثاثهــا وتوفيــر الوســائل التعليم ّيــة‬ ‫والمختــرات المناســبة ووســائل الشــرح‬ ‫اإللكرتون ّيــة والتجهيــزات الصوت ّيــة التي تســاعد‬ ‫يف إيصــال المعلومــات‪ ،‬ولكــ ّن هــذا التم ّيــز‬ ‫قــد ال ُيعطيهــا التفـ ّـوق علــى الجامعــات العا ّمــة‬ ‫لمــا يوجــدُ مــن ســلب ّيات خطيــرة علــى الطلبــة‬ ‫أهمهــا عــدم وجــود اعــراف دولـ ّـي‬ ‫ومســتقبلهم ّ‬ ‫بكثيــر منهــا‪ ،‬فمــا هــو مصيــر الطــاب بعــد‬ ‫تخرجهــم منهــا؟ ومــن هــي الجهة الرســم ّية التي‬ ‫ّ‬ ‫التخــرج منهــا؟‬ ‫ســتصدر شــهادة‬ ‫ّ‬

‫تحديات وآمال‪:‬‬

‫مضــي ثــاث ســنوات علــى انطــاق‬ ‫وبعــد‬ ‫ّ‬ ‫الجامعــات يف المناطــق المحـ ّـررة وصــل عــدد‬ ‫‪50‬‬

‫الطــاب إلــى مــا يقــارب ‪ / 15000 /‬طالــب وعلــى الرغــم مــن وجــود هــذه التحدّ يــات‬ ‫بحســب إحصائ ّيــات وزارة التعليــم العالــي يف والمعو ّقــات إال ّ‬ ‫أن األمــل بواقــع تعليمــي أفضل‬ ‫ّ‬ ‫الحكومــة المؤ ّقتــة‪.‬‬ ‫يبقــى هدفــا للمؤسســات التعليميــة يف مناطــق‬ ‫ومــع اقــراب العــام الدراســي الرابــع مــن هنايتــه الثــورة‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫واســتعداد الجامعــات لتخريــج الدفعــة األولــى ال تــزال مؤسســات التعليــم يف المناطــق‬ ‫مــع هنايــة هــذا العــام؛ ال يخفــى علــى أحــد المحــررة تطمــح إلــى تطويــر العمليــة التعليميــة‬ ‫تلــك العقبــات والتحد ّيــات التــي تواجــه إصــرار علــى عــدة محــاور منهــا‪:‬‬ ‫العامليــن علــى العمــل يف الداخــل المحــرر‬ ‫ّ •األبنيــة التعليميــة‪ :‬فهــي بحاجــة إلــى مزيــد من‬ ‫لتأســيس البنية التعليم ّية القو ّية لتمكين الطالّب‬ ‫العنايــة لتوفيــر بيئــة تعليميــة صحيــة ومناســبة‪،‬‬ ‫العلمــي ليكونــوا‬ ‫مــن اســتكمال تحصيلهــم‬ ‫ّ‬ ‫وأكثــر مــا يبعــث علــى الحــزن المراكــز‬ ‫قادريــن علــى خدمـ ِـة بلدهم والمســاهمة العلم ّية‬ ‫التعليميــة التــي ال زالــت يف الخيــم والمبــاين‬ ‫الفعالــة يف إعــادة إعمــاره‪.‬‬ ‫الضيقــة مســبقة الصنــع ومــا تزرعــه يف نفــوس‬ ‫ويعتــر االعــراف بالشــهادة الجامع ّيــة مــن أهــم‬ ‫الطــابمــنإحســاسبالحــزنواالنكســار‪.‬‬ ‫التحدّ يــات التــي تواجــه الطلبــة فهــذه الجامعات‬ ‫ •الكــوادر التعليميــة‪ :‬ال تــزال الكــوادر تعــاين‬ ‫ممــا يــزرع المخاوف يف نفوســهم‬ ‫حديثــة النــشء ّ‬ ‫مــن نقــص شــديد وتحتــاج إلى وضــع مخطط‬ ‫ٍ‬ ‫دولــي هبــا‪ ،‬فوجــود‬ ‫مــن عــدم وجــود اعــراف‬ ‫ّ‬ ‫متكامــل لتدريبهــا واالرتقــاء بمســتواها‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫اعـ ٍ‬ ‫ـهادات الطــاب الخريجيــن‬ ‫ـراف دولـ ٍّـي بشـ‬ ‫أمـ ٌـر مهـ ٌّـم لتلبيــة طموحاهتــم دون أ ّيــة مخــاوف •المناهــج‪ :‬إن المناهــج والكتــب التــي يتــم‬ ‫االعتمــاد عليهــا يف المناطــق المحــررة تعــاين‬ ‫مستقبل ّية‪.‬‬ ‫مــن التنظيــر القاتــل الــذي اتســمت بــه أيــام‬ ‫وكذلــك تعــدّ الظــروف األمن ّيــة الصعبــة وقيــام‬ ‫تســلط النظــام الطائفــي ونحــن بحاجــة اليــوم‬ ‫نظــام األســد وحلفائــه باســتهداف المنشــآت‬ ‫إلــى منهــاج يجمــع بيــن التنظيــر والتدريــب‬ ‫التعليم ّيــة مــن أكــر التحديــات التي تمنــع وجود‬ ‫ٍ‬ ‫آمنــة وأماكــن محص ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫العملــي لفتــح اآلفــاق الحياتيــة العمليــة أمــام‬ ‫ظــروف‬ ‫نــة لخلــق‬ ‫بيئــة‬ ‫ّ‬ ‫تعليميـ ٍـة مناسـ ٍ‬ ‫طالبنــا‪.‬‬ ‫ـبة‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫ـوزع الكل ّيــات وشــعب الجامعــات •اإلدارة‪ :‬إن تنظيــم العمليــة التعليميــة مــن‬ ‫وبســبب تـ ّ‬ ‫خــال إدارة رشــيدة ال يقــل أهميــة عــن‬ ‫علــى محافظــات متعــدّ دة؛ ال يوجــد حــرم‬ ‫ضبــط المناهــج واالرتقــاء بمســتوى الــكادر‬ ‫وخاصــة يف جامعــة حلــب أو‬ ‫جامعـ ّـي مشــرك‬ ‫ّ‬ ‫التعليمــي أو صيانــة األبنيــة واالرتقــاء‬ ‫إدلــب وهــذا يؤ ّدي إلــى صعوبة االنتقال بالنســبة‬ ‫بمســتواها‪ ،‬فــاإلدارة لهــا دور مهــم يف االرتقــاء‬ ‫للطــاب واإلدار ّييــن ويســهم يف صعوبــة العمــل‬ ‫بمؤسســاتنا التعليميــة الناشــئة‪.‬‬ ‫ـغيلي للجامعــة أضــف إلــى ذلــك‬ ‫اإلداري‬ ‫ّ‬ ‫والتشـ ٍ ّ‬ ‫ِ‬ ‫عــد َم وجــود مــدن جامع ّيــة أو مســاكن للطــاب وأخيــرا‪ :‬إننــا نعيــش حالــة حــرب علــى كل‬ ‫ممــا يص ِّعــب عمل ّيــة االلتحــاق بالجامعــة‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫المســتويات االجتماعيــة واإلنســانية‪ ،‬والعلــم‬ ‫وفيمــا يتع ّلــق بالتمويــل تعــاين الجامعــات مــع األخــاق هــو مــا يحفــظ مجتمعنــا وهــو مــا‬ ‫ٍ‬ ‫نقــص يف التمويــل ويف حــال يميزنــا عــن باقــي األمــم أو يجعلنــا محــط احترام‬ ‫جميعهــا مــن‬ ‫وجـ ِ‬ ‫ـوده فهــو مؤ ّقــت وبذلــك تنعكــس النتائــج دولــي‪ ،‬وإن العلــم مــع اإلنســانية هــو الطريــق‬ ‫علــى الجامعــة وطالهبــا مــن حيــث صعوبــة األوحــد لحضــارة إنســانية قويــة تخــدم اآلخرين‬ ‫تأميــن المناهــج الدراســ ّية مطبوعــة وعــدم وتقــدم لهــم الخيــر والنفــع‪ ...‬ومــا نطمــح إليــه‬ ‫وجــود المبــاين الجامع ّيــة المتناســبة مــع التعليــم اليــوم هــو أن نعيــش حيــاة إنســانية كريمــة تنقــذ‬ ‫العالــي والنقــص يف المخابــر العلم ّيــة المتطـ ّـورة شــعبنا مــن الضيــاع الــذي يعانيــه واهلل الموفــق‬ ‫والهــادي إلــى ســواء الســبيل‪.‬‬ ‫وكفايتهــا‪.‬‬

‫الكتاتيب القرآنية‬

‫الكتاتيب القرآنية‬

‫نشــأتها ودورها يف املجتمع املسلم‬ ‫آسية بنسلمون ‪ -‬ماجستير تربية ودراسات إسالمية‬

‫كانــت كتاتيــب القــرآن الكريــم يف العصــور اإلســامية بمنزلــة‬ ‫المــدارس االبتدائ ّيــة يف عصرنــا الحاضــر‪ ،‬وكان لهــا أكبــر األثــر يف‬ ‫الحفــاظ علــى اللغــة العربيــة وانتشــارها بيــن جميــع األعراق المســلمة؛‬ ‫إذ كان التالميــذ يتع ّلمــون فيهــا القــراءة والكتابــة العربيــة والقــراءة‬ ‫الصحيحــة للقــرآن الكريــم‪ ،‬كمــا كان األطفــال المســلمون يتل ّقــون‬ ‫يف هــذه الكتاتيــب تعاليــم الديــن األساســ ّية‪ ،‬فيتعرفــون علــى أركان‬ ‫اإلســام ومعنــى اإليمــان‪ ،‬ويتع ّلمــون كيف ّيــة الوضــوء والصــاة‪ ،‬إضافة‬ ‫إلــى ذلــك كان األطفــال يســتمعون فيهــا لجملـ ٍـة مــن مغــازي الرســول‬ ‫صلــى اهلل عليــه وســلم وحيــاة أصحابــه الكــرام‪.‬‬ ‫ويف العصــر الحديــث وبعــد ســقوط الخالفــة العثمان ّيــة وقيــام‬ ‫ّ‬ ‫محــل الكتاتيــب‪ ،‬ولكنهــا‬ ‫العامــة‬ ‫الجمهوريــات‪ ،‬ح ّلــت المدرســة ّ‬ ‫أخــذت جان ًبــا علمان ًّيــا بحتًــا علــى األغلــب‪ ،‬ووصــل األمــر ببعــض‬ ‫البرامــج التعليم ّيــة يف الــدول العرب ّيــة واإلســام ّية إلــى إهمــال العرب ّيــة‬ ‫ممــا هــدّ د العرب ّيــة‬ ‫مقابــل االهتمــام المبالــغ بــه باللغــات األجنب ّيــة‪ّ ،‬‬ ‫بالضيــاع‪.‬‬ ‫مــع االنتشــار الواســع للمــدارس بقيــت جملــ ٌة مــن المجتمعــات‬ ‫اإلســام ّية تحافــظ علــى كتاتيــب القــرآن الكريــم وتحــرص علــى‬ ‫إرســال أبنائهــا إليهــا بعــد العــودة مــن المــدارس الرســم ّية أو يف الصيــف‬ ‫يف العطلــة المدرسـ ّية الطويلــة‪ ،‬وقد كان للكتاتيــب دور كبير يف الحفاظ‬ ‫النبويــة يف‬ ‫علــى اللغــة العرب ّيــة وتعليــم القــرآن ومبــادئ الديــن والســيرة‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫المتعمــد للعلــوم العرب ّيــة واإلســام ّية يف‬ ‫الحكومــي‬ ‫ظــل اإلهمــال‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ـرعي‬ ‫برامجهــا التعليم ّيــة‪ ،‬والتضييــق المسـ ّ‬ ‫ـتمر علــى مراكــز التعليم الشـ ّ‬ ‫يف عديـ ٍـد مــن الــدول اإلســام ّية‪ ،‬ومنهــا ســوريا يف فتــرة تســلط عائلــة‬ ‫األســد عليهــا‪.‬‬

‫فمــا سـ ُّـر نشــأة هــذه الكتاتيــب؟ كيــف بــدأت؟ وكيــف كانــت برامجها‬ ‫التعليميــة؟ ومــا هــو واقعهــا اليــوم‪ ،‬ومــا واجبنــا تجاههــا لتعزيــز‬ ‫ـبيل للحفــاظ علــى لغتنــا وديننــا وأطفالنــا؟‬ ‫وجودهــا واتّخــاذه سـ ً‬

‫أه ّم ّية القرآن يف حياتنا‪:‬‬

‫يف خضـ ّـم مــا تعيشــه أ ّمتنــا مــن تق ّلبــات وتغ ّيــرات‪ ،‬وانتشــار الفتــن يف‬ ‫المجتمعــات انتشــار النــار يف الهشــيم‪ّ ،‬‬ ‫فــإن اإلنســان المســلم يقــف‬ ‫ً‬ ‫أي‬ ‫وتائهــا‬ ‫متســائل‪ :‬أيــن الســبيل؟ وأيــن النجــاة؟ ال يــدري ّ‬ ‫حائــرا ً‬ ‫ً‬ ‫ٍ‬ ‫ّ‬ ‫وأي طريقــة ينهجهــا‪ ،‬ثـ ّـم ســرعان مــا يتجلــى لــه ذلــك‬ ‫وجهــة يســلكها‪ّ ،‬‬ ‫ّ‬ ‫النــور الــذي ال ينطفــئ‪ ،‬ويبصــر وجهتــه التــي ال يضــل فيهــا‪ ،‬أال وهــي‬ ‫وجهــة القــرآن الكريــم‪ ،‬فيســارع إلــى رحابِـ ِـه ليتف ّيــأ مــن ظاللــه ويقتبــس‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ـاب‬ ‫ـور َوك َتـ ٌ‬ ‫مــن أنــواره‪ ،‬متد ّبـ ًـرا قولــه تعالــى‪َ ﴿ :‬قــدْ َجا َء ُكــم ِّم ـ َن ال َّلــه ُنـ ٌ‬ ‫ُّمبِي ـ ٌن * َي ْهـ ِـدي بِـ ِـه ال َّل ـ ُه َمـ ِ‬ ‫السـ َـا ِم َو ُي ْخ ِر ُج ُهــم‬ ‫ـن ا َّت َبـ َ‬ ‫ـع ِر ْض َوا َن ـ ُه ُس ـ ُب َل َّ‬ ‫يهــم إِ َلــى ِصــر ٍ‬ ‫ــات إِ َلــى الن ِ ِ ِ ِ‬ ‫مــن ال ُّظ ُلم ِ‬ ‫اط ُّم ْســت َِق ٍ‬ ‫يم﴾‬ ‫ِّ َ‬ ‫َ‬ ‫ُّــور بِإِ ْذنــه َو َي ْهد ِ ْ ٰ‬ ‫َ‬ ‫[ســورة المائــدة‪ :‬اآليــة ‪ ]16‬مــدركًا أن ال شــيء أعظــم مــن كتــاب اهلل‬ ‫تدارس ِ‬ ‫ِ‬ ‫ً‬ ‫عامــا بقولــه صلــى‬ ‫ــه والته ُّيــؤ لخدمتــه‪،‬‬ ‫تعالــى‪ ،‬فيجتهــد يف‬ ‫(((‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫َّ‬ ‫اهلل عليــه وســلم‪« :‬خيركــم مــن تعلــم القــرآن وعلمــه» ‪ ،‬وإن تعلــم‬ ‫وتعليمـ ُه ال يتح ّقـ ُـق ّأو ًل إال بالتم ّكــن مــن قولــه تعالــى‪:‬‬ ‫القــرآن الكريــم‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫اس ِ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫ــم َر ِّب َ‬ ‫ــق﴾ [ســورة العلــق‪ :‬آيــة ‪ ،]1‬فالقــراءة‬ ‫ــك الــذي َخل َ‬ ‫﴿ا ْق َــر ْأ بِ ْ‬ ‫والكتابــة مفتــاح تع ّلــم كتــاب اهلل تعالــى‪ ،‬وذاك هــو العلــم الــذي ُينتفــع‬ ‫بــه‪ ،‬ويرتقــي المــرء بــه مــن مرتبــة األخــذ والتع ّلـ ِـم إلــى منزلــة العطــاء‬ ‫ممــا ع ّلمــه اهلل‪.‬‬ ‫والتعليــم واإلنفــاق ّ‬ ‫((( رواه البخاري بسنده عن عثمان بن عفان رضي اهلل عنه‪ ،‬باب (خيركم من تعلم القرآن وعلمه) رقم‬ ‫(‪.)7205‬‬

‫‪51‬‬


‫الكتاتيب القرآنية‬ ‫والحقيقــة ّ‬ ‫أن القــرآن الكريــم والحــرص علــى تع ّلمــه هــو سـ ّـر وجــود‬ ‫الكتاتيــب وانتشــارها يف المجتمعــات المســلمة‪.‬‬

‫نشأة الكتاتيب‪:‬‬ ‫الكتاتيــب‪ :‬هــي جمــع لكلمــة ُك َّتــاب‪ ،‬تلــك الكلمــة التــي تطلــق علــى‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫فضــاء واســ ٍع يكــون بجــوار المســجد غال ًبــا‪ُ ،‬ي ِ‬ ‫ف فيــه‬ ‫مــكان أو‬ ‫شــر ُ‬ ‫شـ ُ‬ ‫ـيخ الحـ ِّـي أو إمــا ُم المســجد علــى تعليــم األطفــال أساسـ ّيات القــراءة‬ ‫والكتابــة العرب ّيــة والقــرآن الكريــم‪.‬‬ ‫إنّنــا إذا مــا رجعنــا إلــى تاريخنــا اإلســامي نجــد ّ‬ ‫أن الرســول صلــى‬ ‫األول ألصحابــه‪ ،‬يح ّثهــم علــى طلــب‬ ‫اهلل عليــه وســلم كان المع ّلــم ّ‬ ‫ِ‬ ‫العلــم و ُي ِ‬ ‫بعضــا‪،‬‬ ‫بعضهــم ً‬ ‫ثــم كان ُيقــر ُئ ُ‬ ‫قرئُهــم القــرآن الكريــم‪ّ ،‬‬ ‫ـث َّ‬ ‫ويحـ ُّ‬ ‫كل واحـ ٍـد منهــم علــى تع ّلــم القــراءة والكتابــة‪ ،‬بــل إ ّنــه صلــى‬ ‫اهلل عليــه وســلم جعــل التعليــم مســاو ًيا للحر ّيــة‪ ،‬حيــث جعــل فــدا َء‬ ‫ممــن ال مــال لهــم أن يع ّلــم الواحــد منهــم عشــر ًة‬ ‫بعــض أســرى بــدر ّ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫ممــن تعلــم منهــم زيــدُ بــن‬ ‫مــن الغلمــان الكتابـ َة ف ُيخلــى ســبيل ُه‪ ،‬فــكان ّ‬ ‫ِ‬ ‫ثابـ ٍ‬ ‫ـت رضــي اهلل عنــه(((‪ ،‬وكانــت هــذه الحادث ـ ُة نقط ـ َة نشــوء الكتاتيــب‬ ‫ـامي‪ ،‬وقــد اســتمر نظــام تعليــم القــراءة والكتابــة بأمــر‬ ‫يف التاريــخ اإلسـ ّ‬ ‫النبـ ّـي ص ّلــى اهلل عليــه وسـ ّلم ثـ ّـم الخلفــاء مــن بعــده‪ ،‬روي عــن عبــد اهلل‬ ‫بــن ســعيد بــن العــاص رضــي اهلل عنــه؛ ّ‬ ‫أن النبـ ّـي ص ّلــى اهلل عليــه وسـ ّلم‬ ‫أمــره أن ُيع ّلــم النــاس الكتابــة بالمدينــة‪ ،‬وكان كاتبــا محس ـنًا(((‪.‬‬ ‫التعليــم بالكتاتيــب مــدى األزمنــة والعصــور يف ّ‬ ‫كل‬ ‫اســتمر‬ ‫وقــد‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫ِ‬ ‫ـب‬ ‫خاصـ ًة يف البــوادي والقــرى‪ ،‬فهــذه الكتاتيـ ُ‬ ‫المجتمعــات اإلســام َّية ّ‬ ‫ال ّ‬ ‫مــع بســاطتها وضيـ ِـق مســاحتِها ‪-‬عــادةً‪ -‬إ ّ‬ ‫مهمــا يف محــو‬ ‫دورا ًّ‬ ‫أن لهــا ً‬ ‫األم ّيــة وربــط المتع ّلميــن بكتــاب اهلل‪ ،‬وتنويــر عقولهم وصقل ألســنتهم‬ ‫وممــن اشــتهروا يف تاريخنــا اإلســامي بالتعليــم يف‬ ‫منــذ الصغــر‪ّ ،‬‬ ‫ِ‬ ‫ـس‬ ‫الكتاتيــب التابعـ ُّـي المقـ ُ‬ ‫السـ َلم ُّي الكــويفُّ وقيـ ُ‬ ‫ـرئ أبــو عبــد الرحمــن ُّ‬ ‫بــن سـ ٍ‬ ‫ـعد‪ ،‬وعطــا ُء بــن ربــاحٍ وال ُك ّميــت الشــاعر‪ ،‬وعبــد الحميــد كاتــب‬ ‫الثقفي‪،‬‬ ‫ـري واألعمــش والحجــاج بــن يوســف‬ ‫بنــي أم ّيــة‪ ،‬واإلمــام الزهـ ّ‬ ‫ّ‬ ‫وأســد بــن الفــرات فاتــح صقل ّيــة‪ ،‬وغيرهــم كثيــر‪ ،‬ومنهــم مــن كان يع ّلم‬ ‫الصبيــان ّأول النهــار والبنــات يف آخــره(((‪.‬‬

‫ونالحــظ مــن األســماء المذكــورة ّ‬ ‫األول كان‬ ‫أن الكتاتيــب يف الزمــن ّ‬ ‫يقــوم عليهــا علمــاء كبــار‪ ،‬حيــث كان األطفــال ينهلــون منهــم شــي ًئا‬ ‫مــن العلــوم اإلســام ّية إضافــة إلــى القــرآن الكريــم‪ ،‬وهــذا مــا افتقدَ ْتـ ُه‬ ‫ـب يف العصــور الالحقــة‪.‬‬ ‫الكتاتيـ ُ‬

‫منهج الكتاتيب يف التعليم‪:‬‬ ‫((( البداية والنهاية البن كثير ج ‪ 3‬ص ‪ / 823‬مكتبة المعارف بيروت ‪. 1991‬‬ ‫((( الرتاتيب اإلدارية لمحمد عبد الحي الكتاين ‪ /‬تحقيق عبد اهلل الخالدي ج ‪ 2‬ص ‪ 84‬الطبعة الثانية‪.‬‬ ‫((( آداب المعلمين لمحمد بن سحنون ‪ /‬تحقيق حسن حسني عبدالوهاب ص ‪ 841‬دار الكتب الشرقية‬ ‫تونس‪.‬‬

‫‪52‬‬

‫كان التع ُّلــم يف ال ُكتــاب يأخــذ معظــم هنــار الطالــب مــن بعــد صــاة‬ ‫ويختلف‬ ‫الفجــر إلــى صــاة الظهــر أو العصــر عــدا يــو َم الجمعـ ِـة غال ًبــا‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫المل ِّقــن ومســتوى‬ ‫منهــج التعليــم مــن كُتــاب إلــى آخــر حســب بيئــة ُ‬ ‫مواجهــا ّ‬ ‫ويتجمــع‬ ‫طلبــه‪،‬‬ ‫ثقافتــه‪ ،‬حيــث يجلــس المع ّلــم علــى األرض‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫التالميــذ المبتدئــون علــى مسـ ٍ‬ ‫ـافة قريبـ ٍـة مــن الشــيخ المع ِّلـ ِـم‪ ،‬ويقــوم‬ ‫مســاعدٌ لــه مــن الطلبــة المتم ّيزيــن بإرشــادهم‪ ،‬وغال ًبــا مــا يعتمــد‬ ‫التحفيــظ علــى وســائل معروفــة مــن ألــواح خشــب ّي ٍة وأقــام‪.‬‬

‫ّأول مــا يبــدأ بــه الطالــب يف الكتــاب هــو تعلــم الحــروف والكتابــة‬ ‫والقــراءة عــن طريــق الشــيخ أو عــن طريــق مســاعديه‪ ،‬ثــم يل ّقنُـ ُه الشـ ُ‬ ‫ـيخ‬ ‫القــرآن الكريــم إلــى أن يتع ّلــم ويصبــح ماهــرا يكتُــب لوحــه ِ‬ ‫َ‬ ‫بيــد ِه‪،‬‬ ‫َ‬ ‫ُ َ ُ‬ ‫ً‬ ‫ِ‬ ‫و ُي ِ‬ ‫لز ُم ُهـ ُـم الشــيخ باســتظهار القديــم قبـ َـل الجديــد مــن المحفــوظ‪ ،‬وال‬ ‫ـمح بالخطــأ فيــه‪ ،‬فــإن أخطــأ يك ّل ُفــه بإعادتــه مـ ّـرات ومـ ّـرات حتــى‬ ‫يسـ ُ‬ ‫ـتظهره‪ ،‬وقــد يعاق ُب ـ ُه إن أخطــأ‪.‬‬ ‫يسـ َ‬ ‫كانــت عقوبــات شــيخ الك ّتــاب نظا ًمــا متعار ًفــا يف الكتاتيــب‪ ،‬ولكنّهــا‬ ‫قــد تكــون قاســي ًة يف بعــض األحيــان‪ ،‬حتــى ّ‬ ‫إن منهــا مــا كان ســب ًبا يف‬ ‫انفصــال العديــد مــن الطلبــة عــن التع ّلــم وحفــظ القــرآن‪ ،‬ومنهــا مــا ترك‬ ‫ـار‬ ‫آثــاره الســلب ّية يف نفــوس كثيــر مــن الحفظــة‪ ،‬كمــا ال ينكــر أحــدٌ اآلثـ َ‬ ‫اإليجاب ّيــة للعقوبــات حينمــا توضــع يف موضعها وبمقدارهــا الصحيح‪.‬‬

‫أ ّمــا اســراحة الطــاب والمع ّلميــن؛ فقــد كانــت يــو َم الجمعــة‪ ،‬وكانت‬ ‫بدايــة ذلــك يف عصــر الخالفــة الراشــدة اســتنا ًدا إلــى مــا ُر ِو َي ّ‬ ‫أن أطفــال‬ ‫ٍ‬ ‫خميــس‬ ‫ال ُكتّــاب يف المدينــة المنــورة خرجــوا إلــى ظاهرهــا يف يــوم‬ ‫ِ‬ ‫عمــر بــن الخطــاب رضــي اهلل عنــه؛ عنــد‬ ‫الســتقبال أميــر المؤمنيــن َ‬ ‫عودتــه مــن رحلــة فتــح بيــت المقــدس‪ ،‬فأصاهبــم مــن الســير علــى‬ ‫األقــدام عنــا ٌء شــديدٌ ‪ ،‬فأشــار عمــر ّأل يذهــب األطفــال إلــى الك ّتــاب يف‬ ‫ممــا نالهــم(((‪ ،‬وصــار األمــر بعــد ذلــك‬ ‫يــوم الجمعــة التالــي ليســريحوا ّ‬ ‫ٍ‬ ‫عــاد ًة متّبع ـ ًة يف أن يكــون يــو ُم الجمعــة يــو َم راحــة وإجــازة‪.‬‬ ‫خرجــت تلــك الكتاتيــب ُح َّفا ًظا و ُقــراء وعلماء كبــار يف الماضي‪،‬‬ ‫وقــد َّ‬ ‫ورغــم انتشــار التعليــم األكاديمـ ّـي فقــد كان طــاب الكتاتيــب متم ّيزيــن‬ ‫يف المــدارس لحــذق فهمهــم وتو ّقــد ذاكرهتــم بســبب أخذهــم القــرآن‬ ‫غضــا طر ًّيــا منــذ نعومــة أظفارهــم‪ّ ،‬إل ّ‬ ‫أن دورهــا قـ َّـل يف األزمنة‬ ‫الكريــم ًّ‬ ‫تطويــرا يف‬ ‫ــر اهتما ًمــا وال‬ ‫ً‬ ‫األخيــرة وض ُع َفــت وظيفتُهــا‪ ،‬ألنّهــا لــم َت َ‬ ‫منهجهــا‪ ،‬إضافــة إلــى انتشــار المــدارس الحكوم ّيــة‪.‬‬

‫واق ُع الكتاتيب اليوم‪:‬‬ ‫دور الكتاتيــب يف عصرنــا الحالــي نظـ ًـرا لحلول المدرســة‬ ‫لقــد َض ُعـ َ‬ ‫ـف ُ‬ ‫مســتمرة يف معظــم‬ ‫الرســمي مح ّلهــا‪ ،‬ولكنهــا مــا زالــت‬ ‫والتعليــم‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫المجتمعــات اإلســام ّية يف فــرة اإلجــازة الصيف ّيــة أو بعــد العــودة‬ ‫كل التهميــش والمضايقــات التــي ُت ِ‬ ‫مــن المدرســة‪ ،‬ومــع ّ‬ ‫حاص ُرهــا‬ ‫((( الرتاتيب اإلدارية ‪.492/2‬‬

‫الكتاتيب القرآنية‬ ‫فمــا زالــت قائمــ ًة بفضــل اهلل‪،‬‬ ‫وقــد اتخــذت بعــض القــوى‬ ‫المتنفــذة يف العالــم مــن هجمــات‬ ‫الحــادي عشــر مــن ســبتمرب عــام‬ ‫‪2001‬م حجــة للضغــط علــى‬ ‫الــدول اإلســامية إلجبارهــا على‬ ‫إغــاق كثيــر مــن كتاتيــب تعليــم‬ ‫القــرآن الكريــم‪ ،‬كمــا حــدث يف‬ ‫باكســتان وأفغانســتان وغيرهــا من‬ ‫الــدول بحجــة أن هــذه الكتاتيــب‬ ‫تخـ ِّـرج المتطرفيــن واإلرهابييــن‪،‬‬ ‫وقــد وجــدت بعــض الحكومــات‬ ‫العلمان َّيــة المتطرفــة يف ذلــك‬ ‫الوقــت يف التوجــه األمريكــي‬ ‫حجــة للتضييــق علــى الكتاتيــب‬ ‫والمــدارس اإلســامية مــن خالل‬ ‫إغالقهــا أو التدخــل يف شــؤوهنا‬ ‫وبرامجهــا الداخليــة كمــا فعــل‬ ‫نظــام األســد يف ســوريا عقــب حربــي أفغانســتان والعــراق‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ودورهــا يف الحفــاظ علــى‬ ‫أهم ّيــة الكتاتيــب القرآنيــة‬ ‫إن عــدم إدراك ّ‬ ‫ممــا‬ ‫الديــن واللغــة مــن قبــل بعــض المجتمعــات ُيهــدّ ُد مســتقب َلها‪ّ ،‬‬ ‫ِ‬ ‫ـرص علــى‬ ‫ـب علينــا التعريـ َ‬ ‫ـف الدائـ َـم بدورهــا يف المجتمــع والحـ َ‬ ‫يوجـ ُ‬ ‫دعــم مســيرهتا‪.‬‬ ‫رغــم مــا هــو معلــوم للجميــع مــن إيجابيـ ِ‬ ‫ـات هــذه الكتاتيـ ِ‬ ‫ـب فإنّهــا ال‬ ‫ٌ‬ ‫تخلــو مــن بعــض المآخــذ‪ ،‬منهــا‪:‬‬ ‫ ّ‬‫أن بعـ َـض المعلميـ َن ال يهتـ ّـم بمــن تحــت يـ ِـد ِه بمقــدار مــا يهتـ ّـم بمــا‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫أئمــة مســاجد أو ســواهم‪،‬‬ ‫يجنــي منهــم مــن رزق زهيــد ســواء مــن ّ‬ ‫ممــا ُيشــغلهم عــن‬ ‫وبعضهــم ّ‬ ‫متطوعــون ال ينالــون مقابــل عملهــم أجـ ًـرا ّ‬ ‫التفـ ّـرغ التــا ّم للتعليــم‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫والمنهجــي للشــيخ المع ّلــم‪ ،‬فأغلبهــم‬ ‫العلمــي‬ ‫التكويــن‬ ‫ضعــف‬ ‫‬‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ال يزيــدون علــى حفــظ القــرآن الكريــم‪ ،‬دون إلمــا ٍم بعلــو ِم اللغــة أو‬ ‫ِ‬ ‫وفهمـ ِـه‪ ،‬وبيــن‬ ‫ممــا يقيــم قطيعــة بيــن تــاوة القــرآن الكريــم‬ ‫التفســير‪ّ ،‬‬ ‫الحفــظ والســلوك‪ِ.‬‬ ‫ِ‬ ‫ قصــور الربنامــج التعليمــي فيهــا عــن ِ‬‫الحفــاظ علــى شــخص ّية‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫اليافعيــن يف مواجهــة دعــوات التطـ ّـرف والغلـ ّـو التــي تسـ ّ‬ ‫ـتغل حمــاس‬ ‫طـ ّـاب القــرآن لخدمــة اإلســام؛ إذ تقــوم بتوجيــه بعضهــم إلــى خدمــة‬ ‫أهدافهــا الشــريرة‪ ،‬كمــا فعلــت داعــش يف ســوريا والعــراق‪.‬‬ ‫قديمــا وحدي ًثــا االهتمــام بتحفيــظ الذكــور‬ ‫ ومــن ســلبيات الكتاتيــب ً‬‫دون اإلنــاث يف أغلــب األحيــان‪.‬‬

‫ عــدم االهتمــام بطــرق التعليــم الحديثــة ‪-‬التــي تتناســب أكثــر مــع‬‫تركيبــة الطفــل يف عصرنــا‪ -‬ومــا فيهــا مــن وســائل التحفيــز التــي تح ّبــب‬ ‫وشـ َغ ٍ‬ ‫الطالــب بكتــاب اهلل‪ ،‬وتجعلــه يــر ّدد علــى ال ُك ّتــاب بفــرحٍ َ‬ ‫ف‪.‬‬

‫التعليمي يف الكتاتيب‪:‬‬ ‫تصويب املنهج‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬

‫ِ‬ ‫ـامي‪ ،‬ومــا‬ ‫لقــد كان للكتاتيــب القرآن ّيــة أعظـ ُـم األثــر يف التاريــخ اإلسـ ّ‬ ‫زالــت إلــى اليــوم تحافــظ علــى لغــة أبنائنــا يف ظـ ّـل اإلهمــال الحكومـ ّـي‬ ‫للغــة العرب ّيــة واالهتمــام المبالــغ فيــه باللغــات األجنب ّيــة‪ ،‬ومــا زال لهــا‬ ‫مبادئ الديــن والوضـ ِ‬ ‫ِ‬ ‫والصالة؛‬ ‫ـوء‬ ‫ـدور األكـرُ يف تعليــم عا ّمــة النــاس‬ ‫َ‬ ‫الـ ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ـب‪ ،‬وكذلــك‬ ‫أهملــت الحكومـ ُ‬ ‫ـات العرب ّي ـة واإلســام ّية هــذا الواجـ َ‬ ‫إذ َ‬ ‫ُ‬ ‫الحــال يف كثيــر مــن الــدول اإلفريق ّيــة واآلســيو ّية فمــا زال الكتَّــاب‬ ‫هــو الرابــط األهـ ّـم بيــن الطفــل المســلم ودينِـ ِـه‪ ،‬ففيــه يتع ّلــم األطفـ ُ‬ ‫ـال‬ ‫َ‬ ‫وأركان اإليمــان‬ ‫الوضــو َء والصــاة والحــروف العرب ّيــة وقــرا َء َة القــرآن‬ ‫َ‬ ‫نغفــل عــن العمــ ِل علــى‬ ‫واإلســام‪ ،‬ولكــ ّن هــذا ال يعنــي أبــدً ا أن‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ـب هـ ِـذ ِه الكتاتيـ ِ‬ ‫تصويـ ِ‬ ‫ـير إلــى‬ ‫ـب ودفعهــا للمزيــد مــن العطــاء‪ ...‬وسأشـ ُ‬ ‫ِ‬ ‫بعـ ِ‬ ‫ـاج منّــا عناي ـ ًة وتصوي ًبــا‪.‬‬ ‫ـض النقــاط التــي تحتـ ُ‬ ‫أن أهـ ّـم َد ْو ٍر للكتاتيـ ِ‬ ‫ـب القرآن ّيــة هــو ربـ ُ‬ ‫ممــا ينبغــي إدرا ُك ـ ُه؛ ّ‬ ‫ـط‬ ‫ً‬ ‫أول‪ّ :‬‬ ‫ِ‬ ‫الطفــل بالقــرآن الكريــم‪ ،‬وتربيتُــ ُه علــى ُ‬ ‫الخ ُلــق والعمــ ِل الصالــحِ ‪،‬‬ ‫والحفـ ُ‬ ‫ـاظ علــى اللغـ ِـة العرب ّيــة والهو ّيــة اإلســام ّية يف المجتمــع‪ ،‬وهــذا‬ ‫ـاب رســولِ‬ ‫ال يتأ ّتــى إال بالرجــوع إلــى المنهــج الــذي ســار عليــه أصحـ ُ‬ ‫اهلل صلــى اهلل عليــه وســلم‪ ،‬فشـ ُ‬ ‫ـيوخ الكتاتيــب هــم أنفســهم عليهــم أن‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ـروع ُع ُمــر‪ ،‬وعلينــا أن نبـ ُـذ َل‬ ‫يتّخــذوا القــرآن الكريــم منهــاج حيــاة ومشـ َ‬ ‫ُجهدَ نــا يف تعريــف المع ّلميــن ِع َظـ َـم األمانــة التــي يحملوهنــا‪ّ ،‬‬ ‫وأن حفــظ‬ ‫القــرآن ليــس يف حفــظ حروفِــه فقــط‪ ،‬ولكــن بالعمــل والتخ ّلــق بــه‪ ،‬قــال‬ ‫‪53‬‬


‫الكتاتيب القرآنية‬ ‫والحقيقــة ّ‬ ‫أن القــرآن الكريــم والحــرص علــى تع ّلمــه هــو سـ ّـر وجــود‬ ‫الكتاتيــب وانتشــارها يف المجتمعــات المســلمة‪.‬‬

‫نشأة الكتاتيب‪:‬‬ ‫الكتاتيــب‪ :‬هــي جمــع لكلمــة ُك َّتــاب‪ ،‬تلــك الكلمــة التــي تطلــق علــى‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫فضــاء واســ ٍع يكــون بجــوار المســجد غال ًبــا‪ُ ،‬ي ِ‬ ‫ف فيــه‬ ‫مــكان أو‬ ‫شــر ُ‬ ‫شـ ُ‬ ‫ـيخ الحـ ِّـي أو إمــا ُم المســجد علــى تعليــم األطفــال أساسـ ّيات القــراءة‬ ‫والكتابــة العرب ّيــة والقــرآن الكريــم‪.‬‬ ‫إنّنــا إذا مــا رجعنــا إلــى تاريخنــا اإلســامي نجــد ّ‬ ‫أن الرســول صلــى‬ ‫األول ألصحابــه‪ ،‬يح ّثهــم علــى طلــب‬ ‫اهلل عليــه وســلم كان المع ّلــم ّ‬ ‫ِ‬ ‫العلــم و ُي ِ‬ ‫بعضــا‪،‬‬ ‫بعضهــم ً‬ ‫ثــم كان ُيقــر ُئ ُ‬ ‫قرئُهــم القــرآن الكريــم‪ّ ،‬‬ ‫ـث َّ‬ ‫ويحـ ُّ‬ ‫كل واحـ ٍـد منهــم علــى تع ّلــم القــراءة والكتابــة‪ ،‬بــل إ ّنــه صلــى‬ ‫اهلل عليــه وســلم جعــل التعليــم مســاو ًيا للحر ّيــة‪ ،‬حيــث جعــل فــدا َء‬ ‫ممــن ال مــال لهــم أن يع ّلــم الواحــد منهــم عشــر ًة‬ ‫بعــض أســرى بــدر ّ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫ممــن تعلــم منهــم زيــدُ بــن‬ ‫مــن الغلمــان الكتابـ َة ف ُيخلــى ســبيل ُه‪ ،‬فــكان ّ‬ ‫ِ‬ ‫ثابـ ٍ‬ ‫ـت رضــي اهلل عنــه(((‪ ،‬وكانــت هــذه الحادث ـ ُة نقط ـ َة نشــوء الكتاتيــب‬ ‫ـامي‪ ،‬وقــد اســتمر نظــام تعليــم القــراءة والكتابــة بأمــر‬ ‫يف التاريــخ اإلسـ ّ‬ ‫النبـ ّـي ص ّلــى اهلل عليــه وسـ ّلم ثـ ّـم الخلفــاء مــن بعــده‪ ،‬روي عــن عبــد اهلل‬ ‫بــن ســعيد بــن العــاص رضــي اهلل عنــه؛ ّ‬ ‫أن النبـ ّـي ص ّلــى اهلل عليــه وسـ ّلم‬ ‫أمــره أن ُيع ّلــم النــاس الكتابــة بالمدينــة‪ ،‬وكان كاتبــا محس ـنًا(((‪.‬‬ ‫التعليــم بالكتاتيــب مــدى األزمنــة والعصــور يف ّ‬ ‫كل‬ ‫اســتمر‬ ‫وقــد‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫ِ‬ ‫ـب‬ ‫خاصـ ًة يف البــوادي والقــرى‪ ،‬فهــذه الكتاتيـ ُ‬ ‫المجتمعــات اإلســام َّية ّ‬ ‫ال ّ‬ ‫مــع بســاطتها وضيـ ِـق مســاحتِها ‪-‬عــادةً‪ -‬إ ّ‬ ‫مهمــا يف محــو‬ ‫دورا ًّ‬ ‫أن لهــا ً‬ ‫األم ّيــة وربــط المتع ّلميــن بكتــاب اهلل‪ ،‬وتنويــر عقولهم وصقل ألســنتهم‬ ‫وممــن اشــتهروا يف تاريخنــا اإلســامي بالتعليــم يف‬ ‫منــذ الصغــر‪ّ ،‬‬ ‫ِ‬ ‫ـس‬ ‫الكتاتيــب التابعـ ُّـي المقـ ُ‬ ‫السـ َلم ُّي الكــويفُّ وقيـ ُ‬ ‫ـرئ أبــو عبــد الرحمــن ُّ‬ ‫بــن سـ ٍ‬ ‫ـعد‪ ،‬وعطــا ُء بــن ربــاحٍ وال ُك ّميــت الشــاعر‪ ،‬وعبــد الحميــد كاتــب‬ ‫الثقفي‪،‬‬ ‫ـري واألعمــش والحجــاج بــن يوســف‬ ‫بنــي أم ّيــة‪ ،‬واإلمــام الزهـ ّ‬ ‫ّ‬ ‫وأســد بــن الفــرات فاتــح صقل ّيــة‪ ،‬وغيرهــم كثيــر‪ ،‬ومنهــم مــن كان يع ّلم‬ ‫الصبيــان ّأول النهــار والبنــات يف آخــره(((‪.‬‬

‫ونالحــظ مــن األســماء المذكــورة ّ‬ ‫األول كان‬ ‫أن الكتاتيــب يف الزمــن ّ‬ ‫يقــوم عليهــا علمــاء كبــار‪ ،‬حيــث كان األطفــال ينهلــون منهــم شــي ًئا‬ ‫مــن العلــوم اإلســام ّية إضافــة إلــى القــرآن الكريــم‪ ،‬وهــذا مــا افتقدَ ْتـ ُه‬ ‫ـب يف العصــور الالحقــة‪.‬‬ ‫الكتاتيـ ُ‬

‫منهج الكتاتيب يف التعليم‪:‬‬ ‫((( البداية والنهاية البن كثير ج ‪ 3‬ص ‪ / 823‬مكتبة المعارف بيروت ‪. 1991‬‬ ‫((( الرتاتيب اإلدارية لمحمد عبد الحي الكتاين ‪ /‬تحقيق عبد اهلل الخالدي ج ‪ 2‬ص ‪ 84‬الطبعة الثانية‪.‬‬ ‫((( آداب المعلمين لمحمد بن سحنون ‪ /‬تحقيق حسن حسني عبدالوهاب ص ‪ 841‬دار الكتب الشرقية‬ ‫تونس‪.‬‬

‫‪52‬‬

‫كان التع ُّلــم يف ال ُكتــاب يأخــذ معظــم هنــار الطالــب مــن بعــد صــاة‬ ‫ويختلف‬ ‫الفجــر إلــى صــاة الظهــر أو العصــر عــدا يــو َم الجمعـ ِـة غال ًبــا‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫المل ِّقــن ومســتوى‬ ‫منهــج التعليــم مــن كُتــاب إلــى آخــر حســب بيئــة ُ‬ ‫مواجهــا ّ‬ ‫ويتجمــع‬ ‫طلبــه‪،‬‬ ‫ثقافتــه‪ ،‬حيــث يجلــس المع ّلــم علــى األرض‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫التالميــذ المبتدئــون علــى مسـ ٍ‬ ‫ـافة قريبـ ٍـة مــن الشــيخ المع ِّلـ ِـم‪ ،‬ويقــوم‬ ‫مســاعدٌ لــه مــن الطلبــة المتم ّيزيــن بإرشــادهم‪ ،‬وغال ًبــا مــا يعتمــد‬ ‫التحفيــظ علــى وســائل معروفــة مــن ألــواح خشــب ّي ٍة وأقــام‪.‬‬

‫ّأول مــا يبــدأ بــه الطالــب يف الكتــاب هــو تعلــم الحــروف والكتابــة‬ ‫والقــراءة عــن طريــق الشــيخ أو عــن طريــق مســاعديه‪ ،‬ثــم يل ّقنُـ ُه الشـ ُ‬ ‫ـيخ‬ ‫القــرآن الكريــم إلــى أن يتع ّلــم ويصبــح ماهــرا يكتُــب لوحــه ِ‬ ‫َ‬ ‫بيــد ِه‪،‬‬ ‫َ‬ ‫ُ َ ُ‬ ‫ً‬ ‫ِ‬ ‫و ُي ِ‬ ‫لز ُم ُهـ ُـم الشــيخ باســتظهار القديــم قبـ َـل الجديــد مــن المحفــوظ‪ ،‬وال‬ ‫ـمح بالخطــأ فيــه‪ ،‬فــإن أخطــأ يك ّل ُفــه بإعادتــه مـ ّـرات ومـ ّـرات حتــى‬ ‫يسـ ُ‬ ‫ـتظهره‪ ،‬وقــد يعاق ُب ـ ُه إن أخطــأ‪.‬‬ ‫يسـ َ‬ ‫كانــت عقوبــات شــيخ الك ّتــاب نظا ًمــا متعار ًفــا يف الكتاتيــب‪ ،‬ولكنّهــا‬ ‫قــد تكــون قاســي ًة يف بعــض األحيــان‪ ،‬حتــى ّ‬ ‫إن منهــا مــا كان ســب ًبا يف‬ ‫انفصــال العديــد مــن الطلبــة عــن التع ّلــم وحفــظ القــرآن‪ ،‬ومنهــا مــا ترك‬ ‫ـار‬ ‫آثــاره الســلب ّية يف نفــوس كثيــر مــن الحفظــة‪ ،‬كمــا ال ينكــر أحــدٌ اآلثـ َ‬ ‫اإليجاب ّيــة للعقوبــات حينمــا توضــع يف موضعها وبمقدارهــا الصحيح‪.‬‬

‫أ ّمــا اســراحة الطــاب والمع ّلميــن؛ فقــد كانــت يــو َم الجمعــة‪ ،‬وكانت‬ ‫بدايــة ذلــك يف عصــر الخالفــة الراشــدة اســتنا ًدا إلــى مــا ُر ِو َي ّ‬ ‫أن أطفــال‬ ‫ٍ‬ ‫خميــس‬ ‫ال ُكتّــاب يف المدينــة المنــورة خرجــوا إلــى ظاهرهــا يف يــوم‬ ‫ِ‬ ‫عمــر بــن الخطــاب رضــي اهلل عنــه؛ عنــد‬ ‫الســتقبال أميــر المؤمنيــن َ‬ ‫عودتــه مــن رحلــة فتــح بيــت المقــدس‪ ،‬فأصاهبــم مــن الســير علــى‬ ‫األقــدام عنــا ٌء شــديدٌ ‪ ،‬فأشــار عمــر ّأل يذهــب األطفــال إلــى الك ّتــاب يف‬ ‫ممــا نالهــم(((‪ ،‬وصــار األمــر بعــد ذلــك‬ ‫يــوم الجمعــة التالــي ليســريحوا ّ‬ ‫ٍ‬ ‫عــاد ًة متّبع ـ ًة يف أن يكــون يــو ُم الجمعــة يــو َم راحــة وإجــازة‪.‬‬ ‫خرجــت تلــك الكتاتيــب ُح َّفا ًظا و ُقــراء وعلماء كبــار يف الماضي‪،‬‬ ‫وقــد َّ‬ ‫ورغــم انتشــار التعليــم األكاديمـ ّـي فقــد كان طــاب الكتاتيــب متم ّيزيــن‬ ‫يف المــدارس لحــذق فهمهــم وتو ّقــد ذاكرهتــم بســبب أخذهــم القــرآن‬ ‫غضــا طر ًّيــا منــذ نعومــة أظفارهــم‪ّ ،‬إل ّ‬ ‫أن دورهــا قـ َّـل يف األزمنة‬ ‫الكريــم ًّ‬ ‫تطويــرا يف‬ ‫ــر اهتما ًمــا وال‬ ‫ً‬ ‫األخيــرة وض ُع َفــت وظيفتُهــا‪ ،‬ألنّهــا لــم َت َ‬ ‫منهجهــا‪ ،‬إضافــة إلــى انتشــار المــدارس الحكوم ّيــة‪.‬‬

‫واق ُع الكتاتيب اليوم‪:‬‬ ‫دور الكتاتيــب يف عصرنــا الحالــي نظـ ًـرا لحلول المدرســة‬ ‫لقــد َض ُعـ َ‬ ‫ـف ُ‬ ‫مســتمرة يف معظــم‬ ‫الرســمي مح ّلهــا‪ ،‬ولكنهــا مــا زالــت‬ ‫والتعليــم‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫المجتمعــات اإلســام ّية يف فــرة اإلجــازة الصيف ّيــة أو بعــد العــودة‬ ‫كل التهميــش والمضايقــات التــي ُت ِ‬ ‫مــن المدرســة‪ ،‬ومــع ّ‬ ‫حاص ُرهــا‬ ‫((( الرتاتيب اإلدارية ‪.492/2‬‬

‫الكتاتيب القرآنية‬ ‫فمــا زالــت قائمــ ًة بفضــل اهلل‪،‬‬ ‫وقــد اتخــذت بعــض القــوى‬ ‫المتنفــذة يف العالــم مــن هجمــات‬ ‫الحــادي عشــر مــن ســبتمرب عــام‬ ‫‪2001‬م حجــة للضغــط علــى‬ ‫الــدول اإلســامية إلجبارهــا على‬ ‫إغــاق كثيــر مــن كتاتيــب تعليــم‬ ‫القــرآن الكريــم‪ ،‬كمــا حــدث يف‬ ‫باكســتان وأفغانســتان وغيرهــا من‬ ‫الــدول بحجــة أن هــذه الكتاتيــب‬ ‫تخـ ِّـرج المتطرفيــن واإلرهابييــن‪،‬‬ ‫وقــد وجــدت بعــض الحكومــات‬ ‫العلمان َّيــة المتطرفــة يف ذلــك‬ ‫الوقــت يف التوجــه األمريكــي‬ ‫حجــة للتضييــق علــى الكتاتيــب‬ ‫والمــدارس اإلســامية مــن خالل‬ ‫إغالقهــا أو التدخــل يف شــؤوهنا‬ ‫وبرامجهــا الداخليــة كمــا فعــل‬ ‫نظــام األســد يف ســوريا عقــب حربــي أفغانســتان والعــراق‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ودورهــا يف الحفــاظ علــى‬ ‫أهم ّيــة الكتاتيــب القرآنيــة‬ ‫إن عــدم إدراك ّ‬ ‫ممــا‬ ‫الديــن واللغــة مــن قبــل بعــض المجتمعــات ُيهــدّ ُد مســتقب َلها‪ّ ،‬‬ ‫ِ‬ ‫ـرص علــى‬ ‫ـب علينــا التعريـ َ‬ ‫ـف الدائـ َـم بدورهــا يف المجتمــع والحـ َ‬ ‫يوجـ ُ‬ ‫دعــم مســيرهتا‪.‬‬ ‫رغــم مــا هــو معلــوم للجميــع مــن إيجابيـ ِ‬ ‫ـات هــذه الكتاتيـ ِ‬ ‫ـب فإنّهــا ال‬ ‫ٌ‬ ‫تخلــو مــن بعــض المآخــذ‪ ،‬منهــا‪:‬‬ ‫ ّ‬‫أن بعـ َـض المعلميـ َن ال يهتـ ّـم بمــن تحــت يـ ِـد ِه بمقــدار مــا يهتـ ّـم بمــا‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫أئمــة مســاجد أو ســواهم‪،‬‬ ‫يجنــي منهــم مــن رزق زهيــد ســواء مــن ّ‬ ‫ممــا ُيشــغلهم عــن‬ ‫وبعضهــم ّ‬ ‫متطوعــون ال ينالــون مقابــل عملهــم أجـ ًـرا ّ‬ ‫التفـ ّـرغ التــا ّم للتعليــم‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫والمنهجــي للشــيخ المع ّلــم‪ ،‬فأغلبهــم‬ ‫العلمــي‬ ‫التكويــن‬ ‫ضعــف‬ ‫‬‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ال يزيــدون علــى حفــظ القــرآن الكريــم‪ ،‬دون إلمــا ٍم بعلــو ِم اللغــة أو‬ ‫ِ‬ ‫وفهمـ ِـه‪ ،‬وبيــن‬ ‫ممــا يقيــم قطيعــة بيــن تــاوة القــرآن الكريــم‬ ‫التفســير‪ّ ،‬‬ ‫الحفــظ والســلوك‪ِ.‬‬ ‫ِ‬ ‫ قصــور الربنامــج التعليمــي فيهــا عــن ِ‬‫الحفــاظ علــى شــخص ّية‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫اليافعيــن يف مواجهــة دعــوات التطـ ّـرف والغلـ ّـو التــي تسـ ّ‬ ‫ـتغل حمــاس‬ ‫طـ ّـاب القــرآن لخدمــة اإلســام؛ إذ تقــوم بتوجيــه بعضهــم إلــى خدمــة‬ ‫أهدافهــا الشــريرة‪ ،‬كمــا فعلــت داعــش يف ســوريا والعــراق‪.‬‬ ‫قديمــا وحدي ًثــا االهتمــام بتحفيــظ الذكــور‬ ‫ ومــن ســلبيات الكتاتيــب ً‬‫دون اإلنــاث يف أغلــب األحيــان‪.‬‬

‫ عــدم االهتمــام بطــرق التعليــم الحديثــة ‪-‬التــي تتناســب أكثــر مــع‬‫تركيبــة الطفــل يف عصرنــا‪ -‬ومــا فيهــا مــن وســائل التحفيــز التــي تح ّبــب‬ ‫وشـ َغ ٍ‬ ‫الطالــب بكتــاب اهلل‪ ،‬وتجعلــه يــر ّدد علــى ال ُك ّتــاب بفــرحٍ َ‬ ‫ف‪.‬‬

‫التعليمي يف الكتاتيب‪:‬‬ ‫تصويب املنهج‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬

‫ِ‬ ‫ـامي‪ ،‬ومــا‬ ‫لقــد كان للكتاتيــب القرآن ّيــة أعظـ ُـم األثــر يف التاريــخ اإلسـ ّ‬ ‫زالــت إلــى اليــوم تحافــظ علــى لغــة أبنائنــا يف ظـ ّـل اإلهمــال الحكومـ ّـي‬ ‫للغــة العرب ّيــة واالهتمــام المبالــغ فيــه باللغــات األجنب ّيــة‪ ،‬ومــا زال لهــا‬ ‫مبادئ الديــن والوضـ ِ‬ ‫ِ‬ ‫والصالة؛‬ ‫ـوء‬ ‫ـدور األكـرُ يف تعليــم عا ّمــة النــاس‬ ‫َ‬ ‫الـ ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ـب‪ ،‬وكذلــك‬ ‫أهملــت الحكومـ ُ‬ ‫ـات العرب ّي ـة واإلســام ّية هــذا الواجـ َ‬ ‫إذ َ‬ ‫ُ‬ ‫الحــال يف كثيــر مــن الــدول اإلفريق ّيــة واآلســيو ّية فمــا زال الكتَّــاب‬ ‫هــو الرابــط األهـ ّـم بيــن الطفــل المســلم ودينِـ ِـه‪ ،‬ففيــه يتع ّلــم األطفـ ُ‬ ‫ـال‬ ‫َ‬ ‫وأركان اإليمــان‬ ‫الوضــو َء والصــاة والحــروف العرب ّيــة وقــرا َء َة القــرآن‬ ‫َ‬ ‫نغفــل عــن العمــ ِل علــى‬ ‫واإلســام‪ ،‬ولكــ ّن هــذا ال يعنــي أبــدً ا أن‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ـب هـ ِـذ ِه الكتاتيـ ِ‬ ‫تصويـ ِ‬ ‫ـير إلــى‬ ‫ـب ودفعهــا للمزيــد مــن العطــاء‪ ...‬وسأشـ ُ‬ ‫ِ‬ ‫بعـ ِ‬ ‫ـاج منّــا عناي ـ ًة وتصوي ًبــا‪.‬‬ ‫ـض النقــاط التــي تحتـ ُ‬ ‫أن أهـ ّـم َد ْو ٍر للكتاتيـ ِ‬ ‫ـب القرآن ّيــة هــو ربـ ُ‬ ‫ممــا ينبغــي إدرا ُك ـ ُه؛ ّ‬ ‫ـط‬ ‫ً‬ ‫أول‪ّ :‬‬ ‫ِ‬ ‫الطفــل بالقــرآن الكريــم‪ ،‬وتربيتُــ ُه علــى ُ‬ ‫الخ ُلــق والعمــ ِل الصالــحِ ‪،‬‬ ‫والحفـ ُ‬ ‫ـاظ علــى اللغـ ِـة العرب ّيــة والهو ّيــة اإلســام ّية يف المجتمــع‪ ،‬وهــذا‬ ‫ـاب رســولِ‬ ‫ال يتأ ّتــى إال بالرجــوع إلــى المنهــج الــذي ســار عليــه أصحـ ُ‬ ‫اهلل صلــى اهلل عليــه وســلم‪ ،‬فشـ ُ‬ ‫ـيوخ الكتاتيــب هــم أنفســهم عليهــم أن‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ـروع ُع ُمــر‪ ،‬وعلينــا أن نبـ ُـذ َل‬ ‫يتّخــذوا القــرآن الكريــم منهــاج حيــاة ومشـ َ‬ ‫ُجهدَ نــا يف تعريــف المع ّلميــن ِع َظـ َـم األمانــة التــي يحملوهنــا‪ّ ،‬‬ ‫وأن حفــظ‬ ‫القــرآن ليــس يف حفــظ حروفِــه فقــط‪ ،‬ولكــن بالعمــل والتخ ّلــق بــه‪ ،‬قــال‬ ‫‪53‬‬


‫الكتاتيب القرآنية‬ ‫ـاري رحمــه اهلل‪ّ :‬‬ ‫َّ‬ ‫(إن الحفــظ هــو الــذي‬ ‫العلمــة المغربـ ّـي فريــد األنصـ ّ‬ ‫أصحــاب رســول اهلل ص ّلــى اهلل عليــه وســ ّلم‪ ،‬حيــث كانــوا‬ ‫مارســ ُه‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫يتل ّقــون خمــس آيــات أو عشـ ًـرا فيدخلــون يف مكابــدَ ة حقائقهــا اإليمان ّية‬ ‫مــا شــاء اهلل‪ّ ..‬‬ ‫وإن الــذي ال ُيكابِــدُ منزلــة اإلخــاص وال يجاهــد نفســه‬ ‫علــى حصنهــا المنيــع‪ ،‬وال يتخ ّلــق بمقــام توحيــد اهلل يف ّ‬ ‫كل شــيء‬ ‫ثــم ّ‬ ‫إن‬ ‫رغ ًبــا وره ًبــا ال ُيمكــن أن ُيعتــرَ حاف ًظــا لســورة اإلخــاص‪ّ ..‬‬ ‫التهجــد ال يكـ ُ‬ ‫ـون مــن أهــل ســورة‬ ‫ـب مواجيــدُ ه بأشــواق‬ ‫ّ‬ ‫الــذي ال تلتهـ ُ‬ ‫منتبها‬ ‫المز ّمــل‪ ،((()..‬فــا بــدّ للشــيخِ مــن أن يكــون مر ّب ًيــا قــدو ًة لطالبــه‪ً ،‬‬ ‫ـب ويتك ّلــم بالــكالم‬ ‫ألخالقهــم‪ ،‬فــا يليــق بمــن َي ْح َفــظ القــرآن أن يسـ ّ‬ ‫الفاحــش‪ ،‬أو يجلــس يحفــظ القــرآن‪ ،‬فــإذا أ ّذن المــؤذن للصــاة خــرج‬ ‫يلهــو ويلعــب وال يص ّلــي كمــا يحــدث يف بعــض الكتاتيب‪ ،‬وهنــا يكون‬ ‫واجــب المع ّلــم أال ير ّكــز علــى التحفيــظ فقــط‪ ،‬بــل يجــب أن يكــون‬ ‫ٍ‬ ‫ـع بيــن الحفــظ وجمال ّيــة الســلوك‪.‬‬ ‫هدفــه تكويــن شــخص ّية متّزنــة تجمـ ُ‬

‫وممــا ينبغــي االنتبــاه لــه هــو عدم اللجــوء إلــى العقوبــات العنيفة‬ ‫ثان ًيــا‪ّ :‬‬ ‫التــي تن ّفــر الطــاب مــن حفــظ القــرآن‪ّ ،‬‬ ‫ميسـ ٌـر مــن عنــد اهلل‪،‬‬ ‫ألن القــرآن ّ‬ ‫ُ‬ ‫﴿و َل َقــدْ َي َّس ْــرنَا‬ ‫فيجــب التيســير‬ ‫والتســهيل يف تحفيظــه‪ ،‬قــال تعالــى‪َ :‬‬ ‫ُ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬ ‫آن ل ِّ‬ ‫ا ْل ُقـ ْـر َ‬ ‫لذ ْكــر َف َهـ ْـل مــن ُّمدَّ كــر﴾ [ســورة القمــر‪ :‬آيــة ‪ ،]17‬فينبغي بسـ ُ‬ ‫ـط‬ ‫خاصــة الصغــار منهــم‪ -‬وتشــجي ُعهم علــى‬‫يـ ِـد الرحمــة للمتع ّلميــن‬ ‫ّ‬ ‫إنســان ّ‬ ‫ٌ‬ ‫إن ابنــي سينســى مــا قــرأ‬ ‫قــراءة القــرآن وحفظــه‪ ،‬وال يقولــ َّن‬ ‫ِ‬ ‫ـإن اإلنسـ َ‬ ‫ـتدامة يف هــذه الكتاتيــب؟ فـ ّ‬ ‫ـان وإن‬ ‫وحفــظ فمــا فائــد ُة االسـ‬ ‫ألن القرآن يشـ ُ‬ ‫ـتمر ّ‬ ‫كان يحفــظ القــرآن وينســى‪ ،‬فـ ّ‬ ‫ـتغل يف‬ ‫ـإن عليــه أن يسـ ّ‬ ‫ِ‬ ‫ـيطهر قلبــه ويهـ ّـذب‬ ‫ـع مــرور الوقــت سـ ّ‬ ‫فمـ َ‬ ‫داخلــه مــن حيــث ال يشــعر‪َ ،‬‬ ‫األنصــاري رحمــه اهلل‪ّ :‬‬ ‫ــب‬ ‫ســلوكه‪ ،‬يقــول فريــد‬ ‫(وإن ّ‬ ‫أحــق مــا ُت َ‬ ‫وه ُ‬ ‫ّ‬ ‫األعمــار كتــاب اهلل‪ ،‬ويف َمثــ ٍل بليــغ ّ‬ ‫أن نملــة انطلقــت يف طريقهــا‬ ‫لــه‬ ‫ُ‬ ‫عاقــدة عزيمتهــا علــى حــج بيــت اهلل مــن أقصــى األرض‪ ،‬فقيــل لهــا‪:‬‬ ‫(كيــف تدركيــن الحــج وإنّمــا أنـ ِ‬ ‫ـت نملــة؟ إ ّنــك ســتموتين قط ًعــا قبــل‬ ‫ـوت علــى تلــك الطريــق)(((‪ ،‬فالشــاهدُ مــن‬ ‫الوصــول)‪ ،‬قالــت‪( :‬إذن أمـ ُ‬ ‫ِ‬ ‫ـان حيا َتـ ُه لكتــاب اهلل ال يـ ّ‬ ‫أن ُيكـ ّـر َس االنسـ ُ‬ ‫هــذا المثـ ِل ْ‬ ‫ـكل وال يمـ ّـل وال‬ ‫ييــأس‪ ،‬ليرضــى اهلل عنــه ويفتــح عليــه مــن أســرار القــرآن الكريــم‪ ،‬أو‬ ‫يأتيــه أج ُل ـ ُه وهــو علــى ذلــك‪.‬‬ ‫جناحــا للبنــات‪ ،‬للحــرص‬ ‫دائمــا ً‬ ‫ثال ًثــا‪ :‬كمــا يجــب أن تضـ ّـم الكتاتيــب ً‬ ‫علــى تخريــج الفتــاة القرآن ّيــة المتشـ ّبعة بأخــاق القــرآن الكريــم‪ ،‬وإ ّنــي‬ ‫ألعلــم يف بالدنــا بــاد المغــرب شـ ً‬ ‫ـيخا جليـ ًـا كـ ّـرس حياتــه لتحفيــظ‬ ‫ـب‬ ‫ـارا منــذ أربعيــن ســنة يف ُك ّتــاب متواض ـ ٍع جانـ َ‬ ‫ـارا وكبـ ً‬ ‫البنــات صغـ ً‬ ‫ٍ‬ ‫صباحــا ومســا ًء ّ‬ ‫كل يــو ٍم‬ ‫مســجد‪ ،‬ولقــد رأيتــه يــر ّدد علــى ال ُكتّــاب‬ ‫ً‬ ‫ِ‬ ‫كل تلــك الســنين مــن تعـ ٍ‬ ‫ـط َّ‬ ‫ـك قـ ُّ‬ ‫ولــم َي ْشـ ُ‬ ‫يدرســهم‬ ‫ـب أو ُبعــد الطريــق‪ّ ،‬‬ ‫ـس الصبيــان الصغار ّ‬ ‫باأللــواح والمصاحــف حيـ ُ‬ ‫ألقل من عشــر‬ ‫ـث يجلـ ُ‬ ‫ســنوات يف األمــام والبنــات والنســاء يف الخلــف‪ ،‬ويح ِّفــظ المتم ّيــزات‬ ‫منهـ ّن بعــض المتــون العلم ّيــة بعــد تمكنهـ ّن مــن القــراءة والكتابــة‪ ،‬وقد‬ ‫(((  هذه رساالت القرآن للعالم فريد االنصاري ‪ /‬تقديم عبد الناصر المقري ص ‪ 31‬دار السالم للطباعة‬ ‫والنشر ‪/‬الطبعة ‪ / 1‬القاهرة ‪0102‬‬ ‫((( هذه رساالت القرآن ص ‪71‬‬

‫‪54‬‬

‫تخرجــت علــى يديــه مئــات الحافظــات والمر ِّبيــات الطاهــرات‪.‬‬ ‫ّ‬

‫ـتحب للشــيخ المع ّلــم أن يســتخدم الســبورة لشــرح بعــض‬ ‫راب ًعــا‪ :‬يسـ ّ‬ ‫قواعــد التجويــد‪ ،‬أو لشــرح اآليــات‪ ،‬مراعــاة للفــروق الفرد ّيــة‪ ،‬وال‬ ‫ِ‬ ‫ممــا ُيشـ ِـغ ُل ُه‬ ‫يتـ ّـم االقتصــار علــى التلقيــن‪ ،‬ففــي بــال الطفــل اليــوم كثيـ ٌـر ّ‬ ‫ـاج إلــى مزيـ ٍـد مــن جــذب اهتمامــه والعنايــة بــه‪.‬‬ ‫ويحتـ ُ‬

‫خامســا‪ :‬خلـ ُـق جـ ٍّـو مــن الراحــة النفسـ ّية للطــاب بإشــعارهم باألمــان‬ ‫ً‬ ‫وعــدم ترهيبهــم‪ ،‬ويف المقابل تحسيســهم بعظمــة القــرآن الكريم وعدم‬ ‫تــرك المجــال لهــم لالســتهانة بالحفــظ أو بحرمــة القــرآن الكريم‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫سادســا‪ :‬ربـ ُ‬ ‫مؤسســات‬ ‫ـط شــراكات مــع الجمع ّيــات اإلســام ّية أو مــع ّ‬ ‫ً‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫األوقــاف لتنظيــم مســابقات وتحفيــز الحافظيــن والحافظــات وتكريــم‬ ‫أصحــاب األخــاق الحســنة‪.‬‬

‫ومختصــر الــكالم؛ يجــب االهتمــام بـ ّ‬ ‫ـكل الوســائل التي ُتسـ ِـه ُم يف نشــر‬ ‫ٍ‬ ‫ثقافـ ِـة حفــظ كتــاب اهلل تعالــى بيــن النــاس‪ ،‬ويبقــى أهـ ّـم شــيء يف ذلــك‬ ‫ك ّلــه أن يحمــل الشـ ُ‬ ‫ـيخ أو المع ّلــم رســال ًة وهد ًفــا يف تعليمــه لكتــاب اهلل‬ ‫خالصــا لــه‪ ،‬مر ّب ًيــا طالبــه علــى أخــاق‬ ‫تعالــى‪ ،‬ويبتغــي بذلــك وجــه اهلل‬ ‫ً‬ ‫القــرآن الكريــم‪.‬‬

‫استمرار الكتاتيب يف البلدان اإلسالم ّية‪:‬‬

‫مــا زالــت الكتاتيــب قائم ـ ًة بفض ـ ِل اهلل يف معظــم البلــدان اإلســام ّية‬ ‫الح ُ‬ ‫أيضــا انتشــار حفــظ‬ ‫ــظ ً‬ ‫وخاصــة يف إفريقيــا وشــرق آســيا‪ ،‬كمــا ُي َ‬ ‫القــرآن يف الكتاتيــب القرآن ّيــة بتقاليدهــا القديمــة يف بلــدان المغــرب‬ ‫ٍ‬ ‫ومــرورا بتونــس والجزائــر‬ ‫كبيــر بدايــ ًة مــن ليبيــا‬ ‫العربــي بشــكل‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫والمغــرب وصحــاري موريتانيــا‪ ،‬وينالــون المراكــز األولــى يف نســبة‬ ‫حفــظ القــرآن الكريــم‪.‬‬

‫أن القرآن هو السـ ُ‬ ‫ـع ّ‬ ‫ـبيل‬ ‫ومــا اإلقبــال الكبيـ ُـر هــذا َّإل بعدمــا أيق َن الجميـ ُ‬ ‫المنجــي‪ ،‬وأ ّنــه هــو النــور الــذي ُينيـ ُـر حيــاة اإلنســان‪ ،‬وهــو الخيــر ك ّلــه‪،‬‬ ‫قــال ســبحانه‪َ ﴿ :‬ف َمـ ِ‬ ‫اي َفــا َي ِضـ ُّـل َوال َي ْشـ َقى﴾ [ســورة طــه‪:‬‬ ‫ـع ُهــدَ َ‬ ‫ـن ا َّت َبـ َ‬ ‫ِ‬ ‫اآليــة ‪ ]123‬فمــن َحفـ َ‬ ‫ـظ القــرآن الكريــم وعمــل بــه؛ ال يضـ ّـل يف الدنيــا‬ ‫وال يشــقى يف اآلخــرة‪ ،‬عــن أبــي شــريحٍ الخزاعـ ّـي رضــي اهلل عنــه قــال‪:‬‬ ‫خــرج علينــا رســول اهلل ص ّلــى اهلل عليــه وسـ ّلم فقــال‪« :‬أبشــروا أبشــروا‬ ‫أليــس تشــهدون ْ‬ ‫أن ال إلــه إال اهلل‪ ،‬وأ ّنــي رســول اهلل؟ قالــوا‪ :‬بلــى‪ ،‬قــال‪:‬‬ ‫ســبب ‪-‬أي ٌ‬ ‫ّ‬ ‫حبــل‪ -‬طر ُفــ ُه بيــد اهلل‪ ،‬وطر ُفــ ُه بأيديكــم‬ ‫إن هــذا القــرآن‬ ‫ٌ‬ ‫فتمســكوا بــه‪ ،‬فإنّكــم لــن تضلــوا ولــن هتلكــوا بعــده أبــدً ا»(((‪.‬‬ ‫ّ‬

‫ي‪:‬‬ ‫كتاتيب القرآن يف املجتمع السور ّ‬

‫بــاد الشــام كمصــر والعــراق وأقاليم المغرب اإلســامي كانــت ً‬ ‫موئل‬ ‫للعلــم والديــن تنتشــر فيهــا المــدارس اإلســامية والكتاتيــب فتمحــو‬ ‫((( رواه الطرباين يف الكبير وابن حبان يف صحيحه‪.‬‬

‫الكتاتيب القرآنية‬ ‫عنهــا عتمــة الجهــل والتخلــف‪ ،‬كانــت كذلــك يف التاريــخ القديــم‬ ‫واســتمرت علــى نســق واحــد يف فــرة الخالفــة العثمانيــة وحتــى مــا بعد‬ ‫ذلــك ســواء يف فــرة االحتــال الفرنســي أو الحكومــات الالحقــة‪.‬‬

‫الكتاتيب يف فرتة حزب البعث ‪:‬‬ ‫(((‬

‫كانــت أمــور بالدنــا ال تــزال بخيــر إلــى أن تسـ َّلط حــزب البعــث علــى‬ ‫مقاليــد الســلطة يف ســوريا؛ إذ بــدأ عتاتــه بمضايقــة العلمــاء ومراكــز‬ ‫التعليــم اإلســامية والكتاتيــب القرآنيــة فيهــا‪ ،‬ويومــا بعد يــوم ‪-‬وتحت‬ ‫وطــأة الســجن والتعذيــب والتهديــد للعالــم وعائلتــه ومن يلوذ بــه‪ -‬بدأ‬ ‫العلمــاء يهاجــرون والمــدارس اإلســامية تنحســر والكتاتيــب القرآنيــة‬ ‫تقـ ّـل‪ ،‬وزاد األمــر خطــرا بوصــول حافــظ األســد وعصابتــه إلــى الســلطة‬ ‫حيــث ســعى جاهــدا إلــى محاصــرة الســلطة الدينيــة علــى المجتمــع‬ ‫وبعــد أحــداث ‪ 1982‬قــام بتهجيــر المئات مــن علماء ســوريا ممن كان‬ ‫منتســبا لجماعــة اإلخــوان المســلمين أو ليــس كذلك‪ ،‬كما قــام بإغالق‬ ‫كثيــر مــن المؤسســات اإلســامية ومــا يتبعهــا مــن مراكــز تعليميــة‬ ‫ومصادرهتــا‪ ،‬حيــث انحســر دور الكتاتيــب القرآنيــة‪ ،‬وكان غالبــا مــا‬ ‫يتــم الســماح ألئمــة المســاجد بافتتاحهــا يف الفــرة الصيفيــة علــى أال‬ ‫يأخــذ المعلمــون أجـ ًـرا مــن الطــاب‪ ،‬وتحــت رقابــة المخابــرات التــي‬ ‫كانــت تــزور هــذه المعاهــد وتحصــي أســماء الطــاب وأعدادهــم ويف‬ ‫كثيــر مــن األحيــان تأخــذ ضريبــة مــن إمــام المســجد مقابــل أال تتدخــل‬ ‫يف التعليــم أو ال تغلــق ال ُكتّــاب‪ ،‬وممــا يحــزن القلــب المحــاوالت‬ ‫البعثيــة لتدنيــس هــذه المراكــز القرآنيــة ال َّطاهــرة بإلصــاق اســم الطاغيــة‬ ‫المجــرم حافــظ األســد هبــا‪ ،‬حيــث أطلــق عليهــا رســم ًّيا اســم «معاهــد‬ ‫األســد لتحفيــظ القــرآن الكريــم» كعــادة هــذا النظــام الفاســد يف ســرقة‬ ‫جهــود النــاس ونســبة كل خيــر إلــى نفســه ِّ‬ ‫وكل شـ ٍّـر إلــى شــعبنا‪.‬‬ ‫وقــد كان لمــا تبقــى مــن كتاتيــب القــرآن الكريــم يف المناطــق الســنية‬ ‫دور كبيــر يف محــو األميــة وتعليــم األطفــال القــراءة والكتابــة يف ظــل‬ ‫التدميــر العلــوي الممنهــج لنظــام التعليــم يف كثيــر مــن المناطــق الســنية‬ ‫النائيــة أو الفقيــرة ضمــن سياســته لتخريــب الجيــل المســلم الســني‬ ‫وتجهيلــه واســتعباده‪.‬‬

‫لقــد بــذل نظــام األســد جهــده للتضييــق علــى المــدارس اإلســامية‬ ‫وكتاتيــب القــرآن‪ ،‬ولكــن مقاومــة العلمــاء والشــعب الســوري المســلم‬ ‫لذلــك نجحــت يف الحفــاظ علــى قــدر ال بــأس بــه مــن هــذه المــدارس‬ ‫والكتاتيــب‪ ،‬و ُت َعــدُّ مضايقــات األســد للحركــة الدينيــة يف ســوريا‬ ‫وإطالقــه العنــان للتبشــير الشــيعي والجمعيــات اإليرانيــة‪ ،‬مــع طــرد‬ ‫المعلمــات المنقبــات مــن المــدارس الرســمية وتدميــر التعليــم يف‬ ‫كثيــر مــن المناطــق الســنية؛ مــن أهــم األســباب التــي أ َّدت إلــى انطــاق‬ ‫الثــورة الســورية‪.‬‬ ‫((( واقع الكتاتيب والتعليم اإلسالمي يف سوريا أفاد به األستاذ محمد علي النجار‪.‬‬

‫كتاتيب القرآن بعد الثورة‪:‬‬ ‫والمؤسســات العاملــة يف‬ ‫ـات‬ ‫بعــد الثــورة الســور ّية احتــوت الجمع ّيـ ُ‬ ‫ّ‬ ‫الداخــل المحـ ّـرر والمخيمــات األطفـ َ‬ ‫ـال واليافعيــن‪ ،‬وافتتحــت لهــم‬ ‫الكثيــر مــن الكتاتيــب يف المســاجد والخيــم‪ ،‬يقــوم عليهــا معلمــات‬ ‫فاضــات‪ ،‬وشــباب غيــورون علــى دينهــم يع ّلمــون األطفــال القــراءة‬ ‫والكتابــة وباقــي المــواد العلم ّيــة‪ ،‬ويح ّفظوهنــم القــرآن الكريم‪ ،‬فأســهم‬ ‫ذلــك بشــك ٍل كبيـ ٍـر يف محاربــة الجهــل وتنويــر العقــول ومواكبــة الســير‬ ‫وتكســير الركــون العلمـ ّـي الــذي س ـ ّببته الحــرب‪.‬‬ ‫ويبقــى واجــب القائميــن على هــذه الكتاتيــب القرآنية اليــوم أن ي ِ‬ ‫لح ُقوا‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫هبــا الربامــج التعليم ّيــة التــي َتح َفـ ُ‬ ‫الغلو والتشــدّ د‬ ‫ـظ الطـ َّـاب مــن أفــكار ّ‬ ‫التــي مــا زالــت تتشـ ّب ُث بالبقــاء يف المخيمــات أو الداخــل المحـ ّـرر؛ فإن‬ ‫والغلو‪،‬‬ ‫مــن أهـ ّـم األخطــار التــي هتــدّ د طــاب الكتاتيب اليــوم التطـ ّـرف‬ ‫ّ‬ ‫ففــي كتاتيــب القــرآن يتع ّلــم الطفــل ّأول مبــادئ اإلســام وفيهــا يتع ّلــق‬ ‫ِ‬ ‫ـب ليخد َم ـ ُه بـ ِّ‬ ‫ـتطيع‪ ..‬وبينمــا هــو‬ ‫ـكل مــا يسـ ُ‬ ‫قل ُب ـ ُه بدينــه منتظـ ًـرا أن يشـ ّ‬ ‫ـان الصبــا ككتلـ ٍـة متو ّقـ ٍ‬ ‫يف ريعـ ِ‬ ‫ـدة؛ إذ بــه تحــو ُم حو َلـ ُه شــياطي ُن التطـ ّـرف‬ ‫واإلرهــاب باذلـ ًة جهدَ هــا لتُغو َيــه وتسـ ّ‬ ‫ـتزل قد َمـ ُه وتســتخد َم ُه يف خدمــة‬ ‫عقائدهــا الفاسـ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ـدة وأجندَ تِهــا اآلثمــة‪ّ ،‬‬ ‫الكتاتيب‬ ‫وإن القائمي َن على هــذه‬ ‫مطالبـ َ‬ ‫ـرح‬ ‫ـوي لألطفــال واليافعيــن يشـ ُ‬ ‫ـون بوضـ ِع برنامــجٍ تعليمـ ّـي وتربـ ّ‬ ‫ويتضمــن بعـ َـض علومــه بمــا يتناســب مــع‬ ‫اإلســام و ُيب ّيــن مقاصــدَ ه‬ ‫ّ‬ ‫ِ‬ ‫الرتكيبــة العقل ّيــة للطفــل بمــا يحميــه مــن االنــزالق يف طــرق التطـ ّـرف‬ ‫والتكفيــر‪ ،‬أو حتــى التم ُّيــع والنفــاق والحداثــة‪ ...‬عــن إبراهيــم التيمـ ّـي‪،‬‬ ‫ـف هذه‬ ‫نفسـ ُه‪ :‬كيــف تختلـ ُ‬ ‫قــال‪« :‬خــا عمــر ذات يــوم‪ ،‬فجعــل يحــدّ ث َ‬ ‫األمــة ونب ّيهــا واحــدٌ ؟! فأرســل إلــى ابــن عبــاس فقــال‪ :‬كيــف تختلــف‬ ‫هــذه األمــة ونب ّيهــا واحــدٌ ‪ ،‬وقبلتُهــا واحــدةٌ؟! فقــال ابــن عبــاس‪ :‬يــا أميــر‬ ‫المؤمنيــن! إ ّنــا ُأنـ ِـز َل القـ ُ‬ ‫ـرآن علينــا فقرأنــاه‪ ،‬وعلِمنــا فيـ َـم نــزل‪ ،‬وإ ّنــه‬ ‫ـدرون فيـ َـم َنـ َـز َل‪ ،‬فيكـ ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ـون‬ ‫ـرؤون القــرآن وال يـ‬ ‫ـيكون بعدَ نــا أقــوا ٌم يقـ‬ ‫سـ‬ ‫رأي اختلفــوا‪ ،‬واقتتلــوا‪.((1()..‬‬ ‫رأي‪ ،‬فــإذا كان لهــم فيــه ٌ‬ ‫لهــم فيــه ٌ‬ ‫خامتة‪:‬‬ ‫ـعاع ثقــايفٌّ مهـ ٌّـم يف المجتمــع المســلم‪ ،‬فهــي‬ ‫ّ‬ ‫ـب القرآن ّيـ َة شـ ٌ‬ ‫إن الكتاتيـ َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫وتمســك النــاس‬ ‫تُســه ُم يف الحفــاظ علــى اللغــة العرب ّيــة ونشــر العلــم‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫بحبـ ِ‬ ‫عمــت وانتشــرت هــذه الكتاتيــب يف مجتمعاتنــا‬ ‫ـل اهلل المتيــن‪ ،‬فــإذا ّ‬ ‫بتلــك المعاييــر التــي ســبق أن ذكرناهــا؛ فســيك ُثر الخيــر والنفــع‬ ‫ُ‬ ‫والفضيلــة ببركــة القــرآن الكريــم‪ ،‬وينشــأ ٌ‬ ‫يحفــظ ُع َــرى‬ ‫جيــل قــرآينٌّ‬ ‫اإلســامِ‪ ،‬فمــن أراد الدنيــا فعليــه بالقــرآن ومــن أراد اآلخــرة فعليــه‬ ‫بالقــرآن‪ ،‬ومــن أرادهمــا م ًعــا فعليــه بالقــرآن‪ ،‬ففيــه ع ـ ُّز الديــن والدنيــا‪،‬‬ ‫والحمــد هلل رب العالميــن‪.‬‬ ‫(‪ ((1‬رواه البيهقي يف شعب اإليمان رقم (‪ )2902‬وابن سالم يف فضائل القرآن رقم (‪.)67‬‬

‫‪55‬‬


‫الكتاتيب القرآنية‬ ‫ـاري رحمــه اهلل‪ّ :‬‬ ‫َّ‬ ‫(إن الحفــظ هــو الــذي‬ ‫العلمــة المغربـ ّـي فريــد األنصـ ّ‬ ‫أصحــاب رســول اهلل ص ّلــى اهلل عليــه وســ ّلم‪ ،‬حيــث كانــوا‬ ‫مارســ ُه‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫يتل ّقــون خمــس آيــات أو عشـ ًـرا فيدخلــون يف مكابــدَ ة حقائقهــا اإليمان ّية‬ ‫مــا شــاء اهلل‪ّ ..‬‬ ‫وإن الــذي ال ُيكابِــدُ منزلــة اإلخــاص وال يجاهــد نفســه‬ ‫علــى حصنهــا المنيــع‪ ،‬وال يتخ ّلــق بمقــام توحيــد اهلل يف ّ‬ ‫كل شــيء‬ ‫ثــم ّ‬ ‫إن‬ ‫رغ ًبــا وره ًبــا ال ُيمكــن أن ُيعتــرَ حاف ًظــا لســورة اإلخــاص‪ّ ..‬‬ ‫التهجــد ال يكـ ُ‬ ‫ـون مــن أهــل ســورة‬ ‫ـب مواجيــدُ ه بأشــواق‬ ‫ّ‬ ‫الــذي ال تلتهـ ُ‬ ‫منتبها‬ ‫المز ّمــل‪ ،((()..‬فــا بــدّ للشــيخِ مــن أن يكــون مر ّب ًيــا قــدو ًة لطالبــه‪ً ،‬‬ ‫ـب ويتك ّلــم بالــكالم‬ ‫ألخالقهــم‪ ،‬فــا يليــق بمــن َي ْح َفــظ القــرآن أن يسـ ّ‬ ‫الفاحــش‪ ،‬أو يجلــس يحفــظ القــرآن‪ ،‬فــإذا أ ّذن المــؤذن للصــاة خــرج‬ ‫يلهــو ويلعــب وال يص ّلــي كمــا يحــدث يف بعــض الكتاتيب‪ ،‬وهنــا يكون‬ ‫واجــب المع ّلــم أال ير ّكــز علــى التحفيــظ فقــط‪ ،‬بــل يجــب أن يكــون‬ ‫ٍ‬ ‫ـع بيــن الحفــظ وجمال ّيــة الســلوك‪.‬‬ ‫هدفــه تكويــن شــخص ّية متّزنــة تجمـ ُ‬

‫وممــا ينبغــي االنتبــاه لــه هــو عدم اللجــوء إلــى العقوبــات العنيفة‬ ‫ثان ًيــا‪ّ :‬‬ ‫التــي تن ّفــر الطــاب مــن حفــظ القــرآن‪ّ ،‬‬ ‫ميسـ ٌـر مــن عنــد اهلل‪،‬‬ ‫ألن القــرآن ّ‬ ‫ُ‬ ‫﴿و َل َقــدْ َي َّس ْــرنَا‬ ‫فيجــب التيســير‬ ‫والتســهيل يف تحفيظــه‪ ،‬قــال تعالــى‪َ :‬‬ ‫ُ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬ ‫آن ل ِّ‬ ‫ا ْل ُقـ ْـر َ‬ ‫لذ ْكــر َف َهـ ْـل مــن ُّمدَّ كــر﴾ [ســورة القمــر‪ :‬آيــة ‪ ،]17‬فينبغي بسـ ُ‬ ‫ـط‬ ‫خاصــة الصغــار منهــم‪ -‬وتشــجي ُعهم علــى‬‫يـ ِـد الرحمــة للمتع ّلميــن‬ ‫ّ‬ ‫إنســان ّ‬ ‫ٌ‬ ‫إن ابنــي سينســى مــا قــرأ‬ ‫قــراءة القــرآن وحفظــه‪ ،‬وال يقولــ َّن‬ ‫ِ‬ ‫ـإن اإلنسـ َ‬ ‫ـتدامة يف هــذه الكتاتيــب؟ فـ ّ‬ ‫ـان وإن‬ ‫وحفــظ فمــا فائــد ُة االسـ‬ ‫ألن القرآن يشـ ُ‬ ‫ـتمر ّ‬ ‫كان يحفــظ القــرآن وينســى‪ ،‬فـ ّ‬ ‫ـتغل يف‬ ‫ـإن عليــه أن يسـ ّ‬ ‫ِ‬ ‫ـيطهر قلبــه ويهـ ّـذب‬ ‫ـع مــرور الوقــت سـ ّ‬ ‫فمـ َ‬ ‫داخلــه مــن حيــث ال يشــعر‪َ ،‬‬ ‫األنصــاري رحمــه اهلل‪ّ :‬‬ ‫ــب‬ ‫ســلوكه‪ ،‬يقــول فريــد‬ ‫(وإن ّ‬ ‫أحــق مــا ُت َ‬ ‫وه ُ‬ ‫ّ‬ ‫األعمــار كتــاب اهلل‪ ،‬ويف َمثــ ٍل بليــغ ّ‬ ‫أن نملــة انطلقــت يف طريقهــا‬ ‫لــه‬ ‫ُ‬ ‫عاقــدة عزيمتهــا علــى حــج بيــت اهلل مــن أقصــى األرض‪ ،‬فقيــل لهــا‪:‬‬ ‫(كيــف تدركيــن الحــج وإنّمــا أنـ ِ‬ ‫ـت نملــة؟ إ ّنــك ســتموتين قط ًعــا قبــل‬ ‫ـوت علــى تلــك الطريــق)(((‪ ،‬فالشــاهدُ مــن‬ ‫الوصــول)‪ ،‬قالــت‪( :‬إذن أمـ ُ‬ ‫ِ‬ ‫ـان حيا َتـ ُه لكتــاب اهلل ال يـ ّ‬ ‫أن ُيكـ ّـر َس االنسـ ُ‬ ‫هــذا المثـ ِل ْ‬ ‫ـكل وال يمـ ّـل وال‬ ‫ييــأس‪ ،‬ليرضــى اهلل عنــه ويفتــح عليــه مــن أســرار القــرآن الكريــم‪ ،‬أو‬ ‫يأتيــه أج ُل ـ ُه وهــو علــى ذلــك‪.‬‬ ‫جناحــا للبنــات‪ ،‬للحــرص‬ ‫دائمــا ً‬ ‫ثال ًثــا‪ :‬كمــا يجــب أن تضـ ّـم الكتاتيــب ً‬ ‫علــى تخريــج الفتــاة القرآن ّيــة المتشـ ّبعة بأخــاق القــرآن الكريــم‪ ،‬وإ ّنــي‬ ‫ألعلــم يف بالدنــا بــاد المغــرب شـ ً‬ ‫ـيخا جليـ ًـا كـ ّـرس حياتــه لتحفيــظ‬ ‫ـب‬ ‫ـارا منــذ أربعيــن ســنة يف ُك ّتــاب متواض ـ ٍع جانـ َ‬ ‫ـارا وكبـ ً‬ ‫البنــات صغـ ً‬ ‫ٍ‬ ‫صباحــا ومســا ًء ّ‬ ‫كل يــو ٍم‬ ‫مســجد‪ ،‬ولقــد رأيتــه يــر ّدد علــى ال ُكتّــاب‬ ‫ً‬ ‫ِ‬ ‫كل تلــك الســنين مــن تعـ ٍ‬ ‫ـط َّ‬ ‫ـك قـ ُّ‬ ‫ولــم َي ْشـ ُ‬ ‫يدرســهم‬ ‫ـب أو ُبعــد الطريــق‪ّ ،‬‬ ‫ـس الصبيــان الصغار ّ‬ ‫باأللــواح والمصاحــف حيـ ُ‬ ‫ألقل من عشــر‬ ‫ـث يجلـ ُ‬ ‫ســنوات يف األمــام والبنــات والنســاء يف الخلــف‪ ،‬ويح ِّفــظ المتم ّيــزات‬ ‫منهـ ّن بعــض المتــون العلم ّيــة بعــد تمكنهـ ّن مــن القــراءة والكتابــة‪ ،‬وقد‬ ‫(((  هذه رساالت القرآن للعالم فريد االنصاري ‪ /‬تقديم عبد الناصر المقري ص ‪ 31‬دار السالم للطباعة‬ ‫والنشر ‪/‬الطبعة ‪ / 1‬القاهرة ‪0102‬‬ ‫((( هذه رساالت القرآن ص ‪71‬‬

‫‪54‬‬

‫تخرجــت علــى يديــه مئــات الحافظــات والمر ِّبيــات الطاهــرات‪.‬‬ ‫ّ‬

‫ـتحب للشــيخ المع ّلــم أن يســتخدم الســبورة لشــرح بعــض‬ ‫راب ًعــا‪ :‬يسـ ّ‬ ‫قواعــد التجويــد‪ ،‬أو لشــرح اآليــات‪ ،‬مراعــاة للفــروق الفرد ّيــة‪ ،‬وال‬ ‫ِ‬ ‫ممــا ُيشـ ِـغ ُل ُه‬ ‫يتـ ّـم االقتصــار علــى التلقيــن‪ ،‬ففــي بــال الطفــل اليــوم كثيـ ٌـر ّ‬ ‫ـاج إلــى مزيـ ٍـد مــن جــذب اهتمامــه والعنايــة بــه‪.‬‬ ‫ويحتـ ُ‬

‫خامســا‪ :‬خلـ ُـق جـ ٍّـو مــن الراحــة النفسـ ّية للطــاب بإشــعارهم باألمــان‬ ‫ً‬ ‫وعــدم ترهيبهــم‪ ،‬ويف المقابل تحسيســهم بعظمــة القــرآن الكريم وعدم‬ ‫تــرك المجــال لهــم لالســتهانة بالحفــظ أو بحرمــة القــرآن الكريم‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫سادســا‪ :‬ربـ ُ‬ ‫مؤسســات‬ ‫ـط شــراكات مــع الجمع ّيــات اإلســام ّية أو مــع ّ‬ ‫ً‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫األوقــاف لتنظيــم مســابقات وتحفيــز الحافظيــن والحافظــات وتكريــم‬ ‫أصحــاب األخــاق الحســنة‪.‬‬

‫ومختصــر الــكالم؛ يجــب االهتمــام بـ ّ‬ ‫ـكل الوســائل التي ُتسـ ِـه ُم يف نشــر‬ ‫ٍ‬ ‫ثقافـ ِـة حفــظ كتــاب اهلل تعالــى بيــن النــاس‪ ،‬ويبقــى أهـ ّـم شــيء يف ذلــك‬ ‫ك ّلــه أن يحمــل الشـ ُ‬ ‫ـيخ أو المع ّلــم رســال ًة وهد ًفــا يف تعليمــه لكتــاب اهلل‬ ‫خالصــا لــه‪ ،‬مر ّب ًيــا طالبــه علــى أخــاق‬ ‫تعالــى‪ ،‬ويبتغــي بذلــك وجــه اهلل‬ ‫ً‬ ‫القــرآن الكريــم‪.‬‬

‫استمرار الكتاتيب يف البلدان اإلسالم ّية‪:‬‬

‫مــا زالــت الكتاتيــب قائم ـ ًة بفض ـ ِل اهلل يف معظــم البلــدان اإلســام ّية‬ ‫الح ُ‬ ‫أيضــا انتشــار حفــظ‬ ‫ــظ ً‬ ‫وخاصــة يف إفريقيــا وشــرق آســيا‪ ،‬كمــا ُي َ‬ ‫القــرآن يف الكتاتيــب القرآن ّيــة بتقاليدهــا القديمــة يف بلــدان المغــرب‬ ‫ٍ‬ ‫ومــرورا بتونــس والجزائــر‬ ‫كبيــر بدايــ ًة مــن ليبيــا‬ ‫العربــي بشــكل‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫والمغــرب وصحــاري موريتانيــا‪ ،‬وينالــون المراكــز األولــى يف نســبة‬ ‫حفــظ القــرآن الكريــم‪.‬‬

‫أن القرآن هو السـ ُ‬ ‫ـع ّ‬ ‫ـبيل‬ ‫ومــا اإلقبــال الكبيـ ُـر هــذا َّإل بعدمــا أيق َن الجميـ ُ‬ ‫المنجــي‪ ،‬وأ ّنــه هــو النــور الــذي ُينيـ ُـر حيــاة اإلنســان‪ ،‬وهــو الخيــر ك ّلــه‪،‬‬ ‫قــال ســبحانه‪َ ﴿ :‬ف َمـ ِ‬ ‫اي َفــا َي ِضـ ُّـل َوال َي ْشـ َقى﴾ [ســورة طــه‪:‬‬ ‫ـع ُهــدَ َ‬ ‫ـن ا َّت َبـ َ‬ ‫ِ‬ ‫اآليــة ‪ ]123‬فمــن َحفـ َ‬ ‫ـظ القــرآن الكريــم وعمــل بــه؛ ال يضـ ّـل يف الدنيــا‬ ‫وال يشــقى يف اآلخــرة‪ ،‬عــن أبــي شــريحٍ الخزاعـ ّـي رضــي اهلل عنــه قــال‪:‬‬ ‫خــرج علينــا رســول اهلل ص ّلــى اهلل عليــه وسـ ّلم فقــال‪« :‬أبشــروا أبشــروا‬ ‫أليــس تشــهدون ْ‬ ‫أن ال إلــه إال اهلل‪ ،‬وأ ّنــي رســول اهلل؟ قالــوا‪ :‬بلــى‪ ،‬قــال‪:‬‬ ‫ســبب ‪-‬أي ٌ‬ ‫ّ‬ ‫حبــل‪ -‬طر ُفــ ُه بيــد اهلل‪ ،‬وطر ُفــ ُه بأيديكــم‬ ‫إن هــذا القــرآن‬ ‫ٌ‬ ‫فتمســكوا بــه‪ ،‬فإنّكــم لــن تضلــوا ولــن هتلكــوا بعــده أبــدً ا»(((‪.‬‬ ‫ّ‬

‫ي‪:‬‬ ‫كتاتيب القرآن يف املجتمع السور ّ‬

‫بــاد الشــام كمصــر والعــراق وأقاليم المغرب اإلســامي كانــت ً‬ ‫موئل‬ ‫للعلــم والديــن تنتشــر فيهــا المــدارس اإلســامية والكتاتيــب فتمحــو‬ ‫((( رواه الطرباين يف الكبير وابن حبان يف صحيحه‪.‬‬

‫الكتاتيب القرآنية‬ ‫عنهــا عتمــة الجهــل والتخلــف‪ ،‬كانــت كذلــك يف التاريــخ القديــم‬ ‫واســتمرت علــى نســق واحــد يف فــرة الخالفــة العثمانيــة وحتــى مــا بعد‬ ‫ذلــك ســواء يف فــرة االحتــال الفرنســي أو الحكومــات الالحقــة‪.‬‬

‫الكتاتيب يف فرتة حزب البعث ‪:‬‬ ‫(((‬

‫كانــت أمــور بالدنــا ال تــزال بخيــر إلــى أن تسـ َّلط حــزب البعــث علــى‬ ‫مقاليــد الســلطة يف ســوريا؛ إذ بــدأ عتاتــه بمضايقــة العلمــاء ومراكــز‬ ‫التعليــم اإلســامية والكتاتيــب القرآنيــة فيهــا‪ ،‬ويومــا بعد يــوم ‪-‬وتحت‬ ‫وطــأة الســجن والتعذيــب والتهديــد للعالــم وعائلتــه ومن يلوذ بــه‪ -‬بدأ‬ ‫العلمــاء يهاجــرون والمــدارس اإلســامية تنحســر والكتاتيــب القرآنيــة‬ ‫تقـ ّـل‪ ،‬وزاد األمــر خطــرا بوصــول حافــظ األســد وعصابتــه إلــى الســلطة‬ ‫حيــث ســعى جاهــدا إلــى محاصــرة الســلطة الدينيــة علــى المجتمــع‬ ‫وبعــد أحــداث ‪ 1982‬قــام بتهجيــر المئات مــن علماء ســوريا ممن كان‬ ‫منتســبا لجماعــة اإلخــوان المســلمين أو ليــس كذلك‪ ،‬كما قــام بإغالق‬ ‫كثيــر مــن المؤسســات اإلســامية ومــا يتبعهــا مــن مراكــز تعليميــة‬ ‫ومصادرهتــا‪ ،‬حيــث انحســر دور الكتاتيــب القرآنيــة‪ ،‬وكان غالبــا مــا‬ ‫يتــم الســماح ألئمــة المســاجد بافتتاحهــا يف الفــرة الصيفيــة علــى أال‬ ‫يأخــذ المعلمــون أجـ ًـرا مــن الطــاب‪ ،‬وتحــت رقابــة المخابــرات التــي‬ ‫كانــت تــزور هــذه المعاهــد وتحصــي أســماء الطــاب وأعدادهــم ويف‬ ‫كثيــر مــن األحيــان تأخــذ ضريبــة مــن إمــام المســجد مقابــل أال تتدخــل‬ ‫يف التعليــم أو ال تغلــق ال ُكتّــاب‪ ،‬وممــا يحــزن القلــب المحــاوالت‬ ‫البعثيــة لتدنيــس هــذه المراكــز القرآنيــة ال َّطاهــرة بإلصــاق اســم الطاغيــة‬ ‫المجــرم حافــظ األســد هبــا‪ ،‬حيــث أطلــق عليهــا رســم ًّيا اســم «معاهــد‬ ‫األســد لتحفيــظ القــرآن الكريــم» كعــادة هــذا النظــام الفاســد يف ســرقة‬ ‫جهــود النــاس ونســبة كل خيــر إلــى نفســه ِّ‬ ‫وكل شـ ٍّـر إلــى شــعبنا‪.‬‬ ‫وقــد كان لمــا تبقــى مــن كتاتيــب القــرآن الكريــم يف المناطــق الســنية‬ ‫دور كبيــر يف محــو األميــة وتعليــم األطفــال القــراءة والكتابــة يف ظــل‬ ‫التدميــر العلــوي الممنهــج لنظــام التعليــم يف كثيــر مــن المناطــق الســنية‬ ‫النائيــة أو الفقيــرة ضمــن سياســته لتخريــب الجيــل المســلم الســني‬ ‫وتجهيلــه واســتعباده‪.‬‬

‫لقــد بــذل نظــام األســد جهــده للتضييــق علــى المــدارس اإلســامية‬ ‫وكتاتيــب القــرآن‪ ،‬ولكــن مقاومــة العلمــاء والشــعب الســوري المســلم‬ ‫لذلــك نجحــت يف الحفــاظ علــى قــدر ال بــأس بــه مــن هــذه المــدارس‬ ‫والكتاتيــب‪ ،‬و ُت َعــدُّ مضايقــات األســد للحركــة الدينيــة يف ســوريا‬ ‫وإطالقــه العنــان للتبشــير الشــيعي والجمعيــات اإليرانيــة‪ ،‬مــع طــرد‬ ‫المعلمــات المنقبــات مــن المــدارس الرســمية وتدميــر التعليــم يف‬ ‫كثيــر مــن المناطــق الســنية؛ مــن أهــم األســباب التــي أ َّدت إلــى انطــاق‬ ‫الثــورة الســورية‪.‬‬ ‫((( واقع الكتاتيب والتعليم اإلسالمي يف سوريا أفاد به األستاذ محمد علي النجار‪.‬‬

‫كتاتيب القرآن بعد الثورة‪:‬‬ ‫والمؤسســات العاملــة يف‬ ‫ـات‬ ‫بعــد الثــورة الســور ّية احتــوت الجمع ّيـ ُ‬ ‫ّ‬ ‫الداخــل المحـ ّـرر والمخيمــات األطفـ َ‬ ‫ـال واليافعيــن‪ ،‬وافتتحــت لهــم‬ ‫الكثيــر مــن الكتاتيــب يف المســاجد والخيــم‪ ،‬يقــوم عليهــا معلمــات‬ ‫فاضــات‪ ،‬وشــباب غيــورون علــى دينهــم يع ّلمــون األطفــال القــراءة‬ ‫والكتابــة وباقــي المــواد العلم ّيــة‪ ،‬ويح ّفظوهنــم القــرآن الكريم‪ ،‬فأســهم‬ ‫ذلــك بشــك ٍل كبيـ ٍـر يف محاربــة الجهــل وتنويــر العقــول ومواكبــة الســير‬ ‫وتكســير الركــون العلمـ ّـي الــذي س ـ ّببته الحــرب‪.‬‬ ‫ويبقــى واجــب القائميــن على هــذه الكتاتيــب القرآنية اليــوم أن ي ِ‬ ‫لح ُقوا‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫هبــا الربامــج التعليم ّيــة التــي َتح َفـ ُ‬ ‫الغلو والتشــدّ د‬ ‫ـظ الطـ َّـاب مــن أفــكار ّ‬ ‫التــي مــا زالــت تتشـ ّب ُث بالبقــاء يف المخيمــات أو الداخــل المحـ ّـرر؛ فإن‬ ‫والغلو‪،‬‬ ‫مــن أهـ ّـم األخطــار التــي هتــدّ د طــاب الكتاتيب اليــوم التطـ ّـرف‬ ‫ّ‬ ‫ففــي كتاتيــب القــرآن يتع ّلــم الطفــل ّأول مبــادئ اإلســام وفيهــا يتع ّلــق‬ ‫ِ‬ ‫ـب ليخد َم ـ ُه بـ ِّ‬ ‫ـتطيع‪ ..‬وبينمــا هــو‬ ‫ـكل مــا يسـ ُ‬ ‫قل ُب ـ ُه بدينــه منتظـ ًـرا أن يشـ ّ‬ ‫ـان الصبــا ككتلـ ٍـة متو ّقـ ٍ‬ ‫يف ريعـ ِ‬ ‫ـدة؛ إذ بــه تحــو ُم حو َلـ ُه شــياطي ُن التطـ ّـرف‬ ‫واإلرهــاب باذلـ ًة جهدَ هــا لتُغو َيــه وتسـ ّ‬ ‫ـتزل قد َمـ ُه وتســتخد َم ُه يف خدمــة‬ ‫عقائدهــا الفاسـ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ـدة وأجندَ تِهــا اآلثمــة‪ّ ،‬‬ ‫الكتاتيب‬ ‫وإن القائمي َن على هــذه‬ ‫مطالبـ َ‬ ‫ـرح‬ ‫ـوي لألطفــال واليافعيــن يشـ ُ‬ ‫ـون بوضـ ِع برنامــجٍ تعليمـ ّـي وتربـ ّ‬ ‫ويتضمــن بعـ َـض علومــه بمــا يتناســب مــع‬ ‫اإلســام و ُيب ّيــن مقاصــدَ ه‬ ‫ّ‬ ‫ِ‬ ‫الرتكيبــة العقل ّيــة للطفــل بمــا يحميــه مــن االنــزالق يف طــرق التطـ ّـرف‬ ‫والتكفيــر‪ ،‬أو حتــى التم ُّيــع والنفــاق والحداثــة‪ ...‬عــن إبراهيــم التيمـ ّـي‪،‬‬ ‫ـف هذه‬ ‫نفسـ ُه‪ :‬كيــف تختلـ ُ‬ ‫قــال‪« :‬خــا عمــر ذات يــوم‪ ،‬فجعــل يحــدّ ث َ‬ ‫األمــة ونب ّيهــا واحــدٌ ؟! فأرســل إلــى ابــن عبــاس فقــال‪ :‬كيــف تختلــف‬ ‫هــذه األمــة ونب ّيهــا واحــدٌ ‪ ،‬وقبلتُهــا واحــدةٌ؟! فقــال ابــن عبــاس‪ :‬يــا أميــر‬ ‫المؤمنيــن! إ ّنــا ُأنـ ِـز َل القـ ُ‬ ‫ـرآن علينــا فقرأنــاه‪ ،‬وعلِمنــا فيـ َـم نــزل‪ ،‬وإ ّنــه‬ ‫ـدرون فيـ َـم َنـ َـز َل‪ ،‬فيكـ ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ـون‬ ‫ـرؤون القــرآن وال يـ‬ ‫ـيكون بعدَ نــا أقــوا ٌم يقـ‬ ‫سـ‬ ‫رأي اختلفــوا‪ ،‬واقتتلــوا‪.((1()..‬‬ ‫رأي‪ ،‬فــإذا كان لهــم فيــه ٌ‬ ‫لهــم فيــه ٌ‬ ‫خامتة‪:‬‬ ‫ـعاع ثقــايفٌّ مهـ ٌّـم يف المجتمــع المســلم‪ ،‬فهــي‬ ‫ّ‬ ‫ـب القرآن ّيـ َة شـ ٌ‬ ‫إن الكتاتيـ َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫وتمســك النــاس‬ ‫تُســه ُم يف الحفــاظ علــى اللغــة العرب ّيــة ونشــر العلــم‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫بحبـ ِ‬ ‫عمــت وانتشــرت هــذه الكتاتيــب يف مجتمعاتنــا‬ ‫ـل اهلل المتيــن‪ ،‬فــإذا ّ‬ ‫بتلــك المعاييــر التــي ســبق أن ذكرناهــا؛ فســيك ُثر الخيــر والنفــع‬ ‫ُ‬ ‫والفضيلــة ببركــة القــرآن الكريــم‪ ،‬وينشــأ ٌ‬ ‫يحفــظ ُع َــرى‬ ‫جيــل قــرآينٌّ‬ ‫اإلســامِ‪ ،‬فمــن أراد الدنيــا فعليــه بالقــرآن ومــن أراد اآلخــرة فعليــه‬ ‫بالقــرآن‪ ،‬ومــن أرادهمــا م ًعــا فعليــه بالقــرآن‪ ،‬ففيــه ع ـ ُّز الديــن والدنيــا‪،‬‬ ‫والحمــد هلل رب العالميــن‪.‬‬ ‫(‪ ((1‬رواه البيهقي يف شعب اإليمان رقم (‪ )2902‬وابن سالم يف فضائل القرآن رقم (‪.)67‬‬

‫‪55‬‬


‫المكتبات ودورها في نهضة األمة‬

‫المكتبات ودورها في نهضة األمة‬ ‫صلــى اهلل عليــه وســلم‪ ،‬عــن عبــد اهلل بــن ســعيد بــن العــاص رضــي اهلل‬ ‫عنــه؛ ّ‬ ‫أن النبـ ّـي ص ّلــى اهلل عليــه وس ـ ّلم أمــره أن ُيع ّلــم النــاس الكتابــة‬ ‫بالمدينــة‪ ،‬وكان كات ًبــا محس ـنًا(((‪.‬‬

‫املكتبات‬

‫ودورهــا يف نهضة األمة‬ ‫محمد عبد الحميد بكور‬ ‫مجاز يف الدراسات اإلسالمية‬

‫وفيمــا تــا الحقبــة النبويــة عمــل بعــض الصحابــة الكــرام علــى تدويــن‬ ‫مــا تيســر لهــم مــن الحديــث والمســائل‪ ،‬كمــا أســس بعــض الصحابــة‬ ‫والتابعيــن مكتبــات خاصــة هبــم يجمعــون فيهــا صنــوف الكتــب‬ ‫والعلــم‪ ،‬وي َعــدُّ هــذا أول ظهــور للمكتبــات يف اإلســام‪ ،‬ف ُيذكــر أن‬ ‫الصحابــي الجليــل عبــد اهلل بــن عبــاس رضــي اهلل عنــه كان يملــك كت ًبــا‬ ‫ِ‬ ‫كتب‬ ‫كثيــرة بلغــت حمــل بعيــر‪ ،‬وكان لعبــد اهلل بــن عمــر رضــي اهلل عنــه ٌ‬ ‫إذا خــرج إلــى الســوق نظــر فيهــا‪ ،‬وكان عبــد اهلل بــن عمــرو بــن العــاص‬ ‫يحفــظ كتبــه وصحفــه يف صنــدوق لــه حلــق‪ ،‬ولعــروة بــن الزبيــر كتــب‬ ‫(وددت لــو أن عنــدي كتبــي‬ ‫احرتقــت يــوم الحــرة فحــزن عليهــا وقــال‪:‬‬ ‫ُ‬ ‫بأهلــي ومالــي)(((‪ ،‬وكان مجاهــد بــن جبيــر يســمح لبعــض أصحابــه أن‬ ‫يصعــدوا إلــى غرفتــه فيخــرج إليهــم كتبــه فينســخون منهــا(((‪.‬‬

‫املكتبات يف العرص األموي‪:‬‬ ‫ال شــك أن نهضــة أي أمــة وازدهــار حضارتهــا ال يأتيــان مــن فــراغ‪،‬‬ ‫إنمــا ذلــك نابــع مــن إنجــاز متكامــل ومتناســق يف كل المجــاالت‪،‬‬ ‫إضافــة إلــى وعــي تــام بــكل مــا يوصــل للتميــز والرقــي‪ ،‬خاصــة يف‬ ‫مجــال العلــم الــذي ُي َعــدُّ مشــعل الفخــر بيــن األمــم‪ ،‬والمؤشــر األبــرز‬ ‫لتقدمهــا الحضــاري‪ ،‬مــن خــال العنايــة بالعلــم والعلمــاء واإلشــادة‬ ‫بفكرهــم‪ ،‬وتشــجيعهم علــى البحــث واإلنتــاج ونشــر كتبهــم وحفظهــا‬ ‫يف الخزائــن والمكتبــات‪.‬‬

‫َعــرف تاريخنــا اإلســامي حقبــا ال نظيــر لهــا يف اتســاع رقعــة العلــم‬ ‫والتأليــف يف كل الفنــون والمياديــن‪ ،‬وشــهد بــروز أكبــر المكتبــات التي‬ ‫كانــت تُشــد إليهــا الرحــال مــن كل أقطــار العالــم لذيــع صيتهــا ونــدرة‬ ‫كتبهــا‪.‬‬

‫املكتبات يف الصدر األول من اإلسالم‪:‬‬ ‫علــى خــاف كثيــر مــن الديانــات والملــل فقــد جــاء اإلســام بالحــث‬ ‫علــى العلــم وعلــى كل الوســائل المؤديــة إليــه‪ ،‬وخاصــة القــراءة‬ ‫والتفكــر‪ ،‬كان أول مــا أنــزل مــن القــرآن الكريــم قــول ربنــا ســبحانه‪:‬‬ ‫ــك ا َّل ِ‬ ‫ــذي َخ َل َــق * َخ َل َــق ْ ِ‬ ‫ــان مِــ ْن َع َل ٍ‬ ‫اس ِ‬ ‫الن َْس َ‬ ‫ــم َر ِّب َ‬ ‫ــق * ا ْق َــر ْأ‬ ‫﴿ا ْق َــر ْأ بِ ْ‬ ‫ِ‬ ‫ـك ْالَ ْكــرم * ا َّلــذي َع َّلــم بِا ْل َق َلـ ِـم * َع َّلــم ْ ِ‬ ‫الن َْسـ َ‬ ‫َو َر ُّبـ َ‬ ‫ـان َمــا َلـ ْـم َي ْع َلـ ْـم﴾‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ ُ‬ ‫[ســورة العلــق‪ :‬أيــة ‪ ،]5 -1‬إنــه أمــر صريــح بالقــراءة وذكــر العلــم‬ ‫والقلــم األداة األولــى لكتابتــه وتدوينــه‪.‬‬ ‫وقــد شــجع القــرآن اإلنســان علــى التفكــر يف خلــق اهلل والنظــر يف‬ ‫الكــون فقــال ســبحانه‪ُ ﴿ :‬قــ ِل ا ْن ُظــروا مــا َذا فِــي الســماو ِ‬ ‫ات َو ْالَ ْر ِ‬ ‫ض‬ ‫َّ َ َ‬ ‫ُ َ‬ ‫‪56‬‬

‫ـات َوالنُّـ ُـذ ُر َع ـ ْن َقـ ْـو ٍم َل ُي ْؤمِنُـ َ‬ ‫ـون﴾ [ســورة يونــس‪ :‬آيــة‬ ‫َو َمــا ُت ْغنِــي ْال َيـ ُ‬ ‫‪ ،]101‬وأمرنــا ربنــا بالتفكــر يف خلــق الجبــال والســموات والكواكــب‬ ‫والــزروع والحيوانــات والنفــس البشــرية وتاريــخ األمم لتتنــوع معارفنا‬ ‫اهَّلل َأن َْــز َل‬ ‫عــن الحيــاة التــي تحيــط بنــا‪ ،‬قــال اهلل تعالــى‪َ ﴿ :‬أ َل ْ‬ ‫ــم َت َــر َأ َّن َ‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ات م ْختَلِ ًفــا َأ ْل َوان َُهــا َومِ ـ َن ا ْل ِج َبـ ِ‬ ‫ـال‬ ‫السـ َـماء َمــا ًء َف َأ ْخ َر ْجنَــا بِــه َث َمـ َـر ُ‬ ‫م ـ َن َّ‬ ‫ـب ُســو ٌد * َومِ ـ َن النَّـ ِ‬ ‫ـاس‬ ‫ُجــدَ ٌد بِيـ ٌـض َو ُح ْمـ ٌـر ُم ْختَلِـ ٌ‬ ‫ـف َأ ْل َوان َُهــا َو َغ َرابِيـ ُ‬ ‫ـك إِنَّمــا ي ْخ َشــى اهَّلل مِـن ِعبـ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ـاد ِه‬ ‫اب َو ْالَ ْن َعــا ِم ُم ْختَلِـ ٌ‬ ‫َ ْ َ‬ ‫َوالــدَّ َو ِّ‬ ‫ـف َأ ْل َوا ُنـ ُه ك َ​َذلـ َ َ َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ـور﴾ [ســورة فاطــر‪ :‬آيــة ‪ 27‬و ‪.]28‬‬ ‫اهَّلل َعزيـ ٌـز َغ ُفـ ٌ‬ ‫ا ْل ُع َل َمــا ُء إ َّن َ‬ ‫يف صــدر اإلســام كان المســجدُ النبــوي هــو مكتبــة المســلمين‬ ‫يتعلمــون فيــه مــن رســول اهلل صلــى اهلل عليــه وســلم ويرتبــون علــى‬ ‫يديــه‪ ،‬وقــد أمرهــم بكتابــة القــرآن الكريــم والحفــاظ علــى الرقــاع‬ ‫التــي يكتــب عليهــا‪ ،‬حيــث كانــت تحفــظ يف البيــوت وتصــان مــن‬ ‫التلــف والتزويــر‪ ،‬وكان هــذا يمثــل نقطــة تشــكل مفهــوم المكتبــات‬ ‫يف اإلســام‪ ،‬وقــد ُج ِم َعــت هــذه الرقــاع واأللــواح يف مــكان واحــد يف‬ ‫خالفــة الصديــق حيــن بــدأ بجمــع القــرآن الكريــم إثــر معركــة اليمامــة‪.‬‬ ‫لقــد تحــول أعــراب الباديــة وأبنــاء القبائــل الفقيــرة يف المســجد النبوي‬ ‫المبــارك مــن أنــاس بســطاء ال يعرفــون شــيئا ســوى الرعــي والحــرب‬ ‫ومــا توارثــوه مــن األخــاق والشــعر إلــى قــادة لألمــم يعلموهنــم‬ ‫األخــاق والحكمــة والمعرفــة وديــن اهلل‪.‬‬

‫وقــد تجلــى اهتمــام النبــي صلــى اهلل عليــه وســلم بالعلــم كأحــد‬ ‫أركان المجتمــع المســلم بعــد معركــة بــدر الكــرى عندمــا جعــل فــداء‬ ‫بعــض األســرى تعليــم القــراءة والكتابــة لعشــرة مــن أوالد المســلمين؛‬ ‫إذ اســتمر تعليــم القــراءة والكتابــة طيلــة العهــد النبــوي بأمــر مــن النبــي‬

‫لقــد اســتمر عصــر المكتبــات الخاصــة يف فــرة الحكــم األمــوي‪ ،‬وي َعدُّ‬ ‫معاويــة بــن أبــي ســفيان رضــي اهلل عنــه أول مــن أمــر بتدويــن القصــص‬ ‫والتاريــخ وكتابتــه علــى الــورق‪ ،‬ثــم جــاء بعــده حفيــده خالــد بــن يزيــد‪،‬‬ ‫الــذي كان لــه اهتمــام خــاص بعلــوم الكيميــاء‪ ،‬فأمــر بإحضــار كتــب‬ ‫اليونــان والقبــط إلــى دمشــق وترجمتهــا إلــى العربيــة‪ ،‬وبذلــك وضــع‬ ‫أول أســاس للمكتبــات العلميــة يف عالمنــا اإلســامي‪ ،‬فالعلــم يبــدأ من‬ ‫ترجمــة معــارف األمــم األخــرى األكثــر تقدمــا إذ تتعلمهــا األمــة ثــم‬ ‫تبنــي عليهــا لتســهم يف دورة الحضــارة اإلنســانية‪.‬‬

‫اســتمرت حركــة التدويــن واقتنــاء الكتــب ضعيفــة يف ذلــك العصــر‪،‬‬ ‫واقتصــرت المكتبــات علــى الصعيــد الشــخصي؛ إذ كان اعتمــاد أهــل‬ ‫العلــم يف ذلــك الزمــن علــى المشــافهة والتلقــي ال التدويــن يف الكتــب‪،‬‬ ‫إلــى أن تولــى الخالفــة عمــر بــن عبــد العزيــز رضــي اهلل عنــه‪ ،‬فأمــر‬ ‫بكتابــة الســنن وتدوينهــا‪ ،‬فانفتــح بــاب التدويــن علــى مصراعيــه بدايــة‬ ‫مــن الســنة النبويــة وأقــوال الصحابــة والفقهــاء والتفســير وســائر العلوم‬ ‫اإلســامية والتواريــخ إلــى هنايــة العصــر األمــوي يف الشــرق‪ ،‬ومــن‬ ‫أشــهر المدونيــن والكتــاب يف العصــر األمــوي اإلمــام الزهــري ومحمد‬ ‫بــن إســحاق كاتــب الســيرة النبويــة‪ ،‬واإلمــام مالــك صاحــب الموطــأ‪.‬‬

‫املكتبات يف العرص العبايس‪:‬‬ ‫ويف عصــر العباســيين انتشــرت حركــة التدويــن والنســخ أكثــر‪ ،‬وكثــر‬ ‫((( الرتاتيب اإلدارية لمحمد عبد الحي الكتاين ‪ /‬تحقيق عبد اهلل الخالدي ج ‪ 2‬ص ‪ 84‬الطبعة الثانية‪.‬‬ ‫((( أصول كتابة البحث العلمي وتحقيق المخطوطات‪ ،‬د‪ .‬يوسف المرعشلي (ص ‪ )612‬دار المعرفة‬ ‫للطباعة والنشر‪.‬‬ ‫((( أصول الحديث علومه ومصطلحه‪ /‬محمد عجاج الخطيب ص ‪ / 011‬دار الفكر ط ‪ 2002‬بيروت‬ ‫لبنان‬

‫التأليف يف مختلف العلوم‪ ،‬وعلى رأســها الحديث الشــريف والتفســير‬ ‫واللغــة والشــعر والســيرة والتاريــخ والمنطق والفلســفة والطــب‪ ،‬وكان‬ ‫الخلفــاء العباســيون يجزلــون العطــاء علــى العلــم والتأليــف حتــى كان‬ ‫المأمــون يعطــي للمؤلفيــن وزن كتبهــم ذه ًبــا‪.‬‬

‫وقــد انتشــر يف العصــر العباســي نوعــان مــن المكتبــات همــا المكتبات‬ ‫الخاصــة والمكتبــات العامــة‪ ،‬ولقــد شــهد العصر العباســي ظهــور كثير‬ ‫مــن العلمــاء كجابــر بــن حيــان والكنــدي وأبــي بكــر الــرازي وابــن ســينا‬ ‫وابــن الهيثــم وغيرهــم‪ ،‬وقــد اجتمــع لــدى العديد مــن العلمــاء مكتبات‬ ‫خاصــة نقــل لنــا المؤرخــون أخبــار بعضهــا‪ ،‬منها‪:‬‬ ‫مكتبة الجاحظ‪:‬‬

‫كان أبــو عثمــان الجاحــظ يملــك مكتبــة ضخمــة‪ ،‬حتــى أنــه فيمــا‬ ‫اشــتهر عنــه كان يكــري دكاكيــن الوراقيــن ويبيــت فيهــا للقــراءة‪ ،‬وذكــر‬ ‫ياقــوت الحمــوي قــوال ألبــي هفــان وهــو مــن معاصريــه وممــن عاشــوا‬ ‫معــه‪ ،‬قــال‪( :‬لــم أر قــط وال ســمعت مــن أحــب الكتــب والعلــوم أكثــر‬ ‫مــن الجاحــظ‪ ،‬فإنــه لــم يقــع بيــده كتــاب قــط إال اســتوىف قراءتــه كائنــا‬ ‫مــا كان)‪ ،‬وال عجــب إذ يفــرد الصفحــات الطــوال يف كتبــه للحديــث‬ ‫عــن فوائــد الكتــب وفضائلهــا ومحاســنها‪ ،‬فأ َّلــف رحمــه اهلل العديــد‬ ‫مــن الكتــب‪ ،‬وكانــت لــه مكتبــة ضخمــة حتــى إنــه كان يطالــع يومــا فيها‬ ‫فوقــع عليــه صــف مــن الكتــب أرداه ميتــا رحمــه اهلل(((‪.‬‬ ‫مكتبــة ابن جرير‪:‬‬

‫وذكــر الشــيخ الكتــاين المغربــي يف كتابــه تاريــخ المكتبــات ابــن جريــر‬ ‫فقــال‪( :‬وأعجــب مــا قرأتــه عــن أهــل القــرن الثالــث‪ ،‬مــا يف ترجمــة ابــن‬ ‫جريــر يف معجــم األدبــاء لياقــوت الحمــوي‪ ،‬عــن أبــي القاســم الحســن‬ ‫بــن حســين الــوراق قــال‪( :‬كان قــد التمــس منــي ابــن جريــر أن أجمــع‬ ‫لــه كتــب النــاس يف القيــاس‪ ،‬فجمعــت لــه ني ًفــا وثالثيــن كتا ًبــا‪ )...‬قــال‪:‬‬ ‫فــإذا كان ابــن جريــر الــذي مــات ســنة ‪310‬هـــ يحضر لــه هذا العــدد من‬ ‫الكتــب يف بــاب واحــد مــن علــم األصــول‪ ،‬فمــا بالــك بغيــره! إن هــذا‬ ‫إال عجــب يريــك الكثــرة التــي بلغوهــا يف كل علــم وبــاب)(((‪.‬‬ ‫مكتبــة الصاحب بن عباد‪:‬‬

‫وذكــر أيضــا أن ســلطان خراســان كتــب ألبــي القاســم الصاحــب بــن‬ ‫عبــاد ورقــة يســتدعيه لحضرتــه ليقلــده الــوزارة فأجابــه معتــذرا‪( :‬كيــف‬ ‫لــي بحمــل أثقالــي وعنــدي مــن كتــب العلــم خاصــة مــا ُيحمــل علــى‬ ‫أربعمئــة جمــل أو أكثــر)(((‪.‬‬ ‫مكتبات أخرى‪:‬‬

‫وقــال الكتــاين أيضــا‪( :‬كان يف مكــة مكتبــة المــؤرخ قطــب الديــن‬

‫((( معجم األدباء لياقوت الحموي‪ ،‬تحقيق إحسان عباس (ج ‪ /5‬ص ‪ )1012‬دار الغرب اإلسالمي‪.‬‬ ‫((( تاريخ المكتبات اإلسالمية ومن ألف يف الكتب للشيخ محمد عبد الحي عبد الكبير الكتاين‪( ،‬ص ‪)47‬‬ ‫الطبعة األولى ‪ /3102‬مركز الدراسات واألبحاث وإحياء الرتاث‪ /‬المغرب الرباط‪.‬‬ ‫((( المرجع السابق (ص ‪.)47‬‬

‫‪57‬‬


‫المكتبات ودورها في نهضة األمة‬

‫المكتبات ودورها في نهضة األمة‬ ‫صلــى اهلل عليــه وســلم‪ ،‬عــن عبــد اهلل بــن ســعيد بــن العــاص رضــي اهلل‬ ‫عنــه؛ ّ‬ ‫أن النبـ ّـي ص ّلــى اهلل عليــه وس ـ ّلم أمــره أن ُيع ّلــم النــاس الكتابــة‬ ‫بالمدينــة‪ ،‬وكان كات ًبــا محس ـنًا(((‪.‬‬

‫املكتبات‬

‫ودورهــا يف نهضة األمة‬ ‫محمد عبد الحميد بكور‬ ‫مجاز يف الدراسات اإلسالمية‬

‫وفيمــا تــا الحقبــة النبويــة عمــل بعــض الصحابــة الكــرام علــى تدويــن‬ ‫مــا تيســر لهــم مــن الحديــث والمســائل‪ ،‬كمــا أســس بعــض الصحابــة‬ ‫والتابعيــن مكتبــات خاصــة هبــم يجمعــون فيهــا صنــوف الكتــب‬ ‫والعلــم‪ ،‬وي َعــدُّ هــذا أول ظهــور للمكتبــات يف اإلســام‪ ،‬ف ُيذكــر أن‬ ‫الصحابــي الجليــل عبــد اهلل بــن عبــاس رضــي اهلل عنــه كان يملــك كت ًبــا‬ ‫ِ‬ ‫كتب‬ ‫كثيــرة بلغــت حمــل بعيــر‪ ،‬وكان لعبــد اهلل بــن عمــر رضــي اهلل عنــه ٌ‬ ‫إذا خــرج إلــى الســوق نظــر فيهــا‪ ،‬وكان عبــد اهلل بــن عمــرو بــن العــاص‬ ‫يحفــظ كتبــه وصحفــه يف صنــدوق لــه حلــق‪ ،‬ولعــروة بــن الزبيــر كتــب‬ ‫(وددت لــو أن عنــدي كتبــي‬ ‫احرتقــت يــوم الحــرة فحــزن عليهــا وقــال‪:‬‬ ‫ُ‬ ‫بأهلــي ومالــي)(((‪ ،‬وكان مجاهــد بــن جبيــر يســمح لبعــض أصحابــه أن‬ ‫يصعــدوا إلــى غرفتــه فيخــرج إليهــم كتبــه فينســخون منهــا(((‪.‬‬

‫املكتبات يف العرص األموي‪:‬‬ ‫ال شــك أن نهضــة أي أمــة وازدهــار حضارتهــا ال يأتيــان مــن فــراغ‪،‬‬ ‫إنمــا ذلــك نابــع مــن إنجــاز متكامــل ومتناســق يف كل المجــاالت‪،‬‬ ‫إضافــة إلــى وعــي تــام بــكل مــا يوصــل للتميــز والرقــي‪ ،‬خاصــة يف‬ ‫مجــال العلــم الــذي ُي َعــدُّ مشــعل الفخــر بيــن األمــم‪ ،‬والمؤشــر األبــرز‬ ‫لتقدمهــا الحضــاري‪ ،‬مــن خــال العنايــة بالعلــم والعلمــاء واإلشــادة‬ ‫بفكرهــم‪ ،‬وتشــجيعهم علــى البحــث واإلنتــاج ونشــر كتبهــم وحفظهــا‬ ‫يف الخزائــن والمكتبــات‪.‬‬

‫َعــرف تاريخنــا اإلســامي حقبــا ال نظيــر لهــا يف اتســاع رقعــة العلــم‬ ‫والتأليــف يف كل الفنــون والمياديــن‪ ،‬وشــهد بــروز أكبــر المكتبــات التي‬ ‫كانــت تُشــد إليهــا الرحــال مــن كل أقطــار العالــم لذيــع صيتهــا ونــدرة‬ ‫كتبهــا‪.‬‬

‫املكتبات يف الصدر األول من اإلسالم‪:‬‬ ‫علــى خــاف كثيــر مــن الديانــات والملــل فقــد جــاء اإلســام بالحــث‬ ‫علــى العلــم وعلــى كل الوســائل المؤديــة إليــه‪ ،‬وخاصــة القــراءة‬ ‫والتفكــر‪ ،‬كان أول مــا أنــزل مــن القــرآن الكريــم قــول ربنــا ســبحانه‪:‬‬ ‫ــك ا َّل ِ‬ ‫ــذي َخ َل َــق * َخ َل َــق ْ ِ‬ ‫ــان مِــ ْن َع َل ٍ‬ ‫اس ِ‬ ‫الن َْس َ‬ ‫ــم َر ِّب َ‬ ‫ــق * ا ْق َــر ْأ‬ ‫﴿ا ْق َــر ْأ بِ ْ‬ ‫ِ‬ ‫ـك ْالَ ْكــرم * ا َّلــذي َع َّلــم بِا ْل َق َلـ ِـم * َع َّلــم ْ ِ‬ ‫الن َْسـ َ‬ ‫َو َر ُّبـ َ‬ ‫ـان َمــا َلـ ْـم َي ْع َلـ ْـم﴾‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ ُ‬ ‫[ســورة العلــق‪ :‬أيــة ‪ ،]5 -1‬إنــه أمــر صريــح بالقــراءة وذكــر العلــم‬ ‫والقلــم األداة األولــى لكتابتــه وتدوينــه‪.‬‬ ‫وقــد شــجع القــرآن اإلنســان علــى التفكــر يف خلــق اهلل والنظــر يف‬ ‫الكــون فقــال ســبحانه‪ُ ﴿ :‬قــ ِل ا ْن ُظــروا مــا َذا فِــي الســماو ِ‬ ‫ات َو ْالَ ْر ِ‬ ‫ض‬ ‫َّ َ َ‬ ‫ُ َ‬ ‫‪56‬‬

‫ـات َوالنُّـ ُـذ ُر َع ـ ْن َقـ ْـو ٍم َل ُي ْؤمِنُـ َ‬ ‫ـون﴾ [ســورة يونــس‪ :‬آيــة‬ ‫َو َمــا ُت ْغنِــي ْال َيـ ُ‬ ‫‪ ،]101‬وأمرنــا ربنــا بالتفكــر يف خلــق الجبــال والســموات والكواكــب‬ ‫والــزروع والحيوانــات والنفــس البشــرية وتاريــخ األمم لتتنــوع معارفنا‬ ‫اهَّلل َأن َْــز َل‬ ‫عــن الحيــاة التــي تحيــط بنــا‪ ،‬قــال اهلل تعالــى‪َ ﴿ :‬أ َل ْ‬ ‫ــم َت َــر َأ َّن َ‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ات م ْختَلِ ًفــا َأ ْل َوان َُهــا َومِ ـ َن ا ْل ِج َبـ ِ‬ ‫ـال‬ ‫السـ َـماء َمــا ًء َف َأ ْخ َر ْجنَــا بِــه َث َمـ َـر ُ‬ ‫م ـ َن َّ‬ ‫ـب ُســو ٌد * َومِ ـ َن النَّـ ِ‬ ‫ـاس‬ ‫ُجــدَ ٌد بِيـ ٌـض َو ُح ْمـ ٌـر ُم ْختَلِـ ٌ‬ ‫ـف َأ ْل َوان َُهــا َو َغ َرابِيـ ُ‬ ‫ـك إِنَّمــا ي ْخ َشــى اهَّلل مِـن ِعبـ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ـاد ِه‬ ‫اب َو ْالَ ْن َعــا ِم ُم ْختَلِـ ٌ‬ ‫َ ْ َ‬ ‫َوالــدَّ َو ِّ‬ ‫ـف َأ ْل َوا ُنـ ُه ك َ​َذلـ َ َ َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ـور﴾ [ســورة فاطــر‪ :‬آيــة ‪ 27‬و ‪.]28‬‬ ‫اهَّلل َعزيـ ٌـز َغ ُفـ ٌ‬ ‫ا ْل ُع َل َمــا ُء إ َّن َ‬ ‫يف صــدر اإلســام كان المســجدُ النبــوي هــو مكتبــة المســلمين‬ ‫يتعلمــون فيــه مــن رســول اهلل صلــى اهلل عليــه وســلم ويرتبــون علــى‬ ‫يديــه‪ ،‬وقــد أمرهــم بكتابــة القــرآن الكريــم والحفــاظ علــى الرقــاع‬ ‫التــي يكتــب عليهــا‪ ،‬حيــث كانــت تحفــظ يف البيــوت وتصــان مــن‬ ‫التلــف والتزويــر‪ ،‬وكان هــذا يمثــل نقطــة تشــكل مفهــوم المكتبــات‬ ‫يف اإلســام‪ ،‬وقــد ُج ِم َعــت هــذه الرقــاع واأللــواح يف مــكان واحــد يف‬ ‫خالفــة الصديــق حيــن بــدأ بجمــع القــرآن الكريــم إثــر معركــة اليمامــة‪.‬‬ ‫لقــد تحــول أعــراب الباديــة وأبنــاء القبائــل الفقيــرة يف المســجد النبوي‬ ‫المبــارك مــن أنــاس بســطاء ال يعرفــون شــيئا ســوى الرعــي والحــرب‬ ‫ومــا توارثــوه مــن األخــاق والشــعر إلــى قــادة لألمــم يعلموهنــم‬ ‫األخــاق والحكمــة والمعرفــة وديــن اهلل‪.‬‬

‫وقــد تجلــى اهتمــام النبــي صلــى اهلل عليــه وســلم بالعلــم كأحــد‬ ‫أركان المجتمــع المســلم بعــد معركــة بــدر الكــرى عندمــا جعــل فــداء‬ ‫بعــض األســرى تعليــم القــراءة والكتابــة لعشــرة مــن أوالد المســلمين؛‬ ‫إذ اســتمر تعليــم القــراءة والكتابــة طيلــة العهــد النبــوي بأمــر مــن النبــي‬

‫لقــد اســتمر عصــر المكتبــات الخاصــة يف فــرة الحكــم األمــوي‪ ،‬وي َعدُّ‬ ‫معاويــة بــن أبــي ســفيان رضــي اهلل عنــه أول مــن أمــر بتدويــن القصــص‬ ‫والتاريــخ وكتابتــه علــى الــورق‪ ،‬ثــم جــاء بعــده حفيــده خالــد بــن يزيــد‪،‬‬ ‫الــذي كان لــه اهتمــام خــاص بعلــوم الكيميــاء‪ ،‬فأمــر بإحضــار كتــب‬ ‫اليونــان والقبــط إلــى دمشــق وترجمتهــا إلــى العربيــة‪ ،‬وبذلــك وضــع‬ ‫أول أســاس للمكتبــات العلميــة يف عالمنــا اإلســامي‪ ،‬فالعلــم يبــدأ من‬ ‫ترجمــة معــارف األمــم األخــرى األكثــر تقدمــا إذ تتعلمهــا األمــة ثــم‬ ‫تبنــي عليهــا لتســهم يف دورة الحضــارة اإلنســانية‪.‬‬

‫اســتمرت حركــة التدويــن واقتنــاء الكتــب ضعيفــة يف ذلــك العصــر‪،‬‬ ‫واقتصــرت المكتبــات علــى الصعيــد الشــخصي؛ إذ كان اعتمــاد أهــل‬ ‫العلــم يف ذلــك الزمــن علــى المشــافهة والتلقــي ال التدويــن يف الكتــب‪،‬‬ ‫إلــى أن تولــى الخالفــة عمــر بــن عبــد العزيــز رضــي اهلل عنــه‪ ،‬فأمــر‬ ‫بكتابــة الســنن وتدوينهــا‪ ،‬فانفتــح بــاب التدويــن علــى مصراعيــه بدايــة‬ ‫مــن الســنة النبويــة وأقــوال الصحابــة والفقهــاء والتفســير وســائر العلوم‬ ‫اإلســامية والتواريــخ إلــى هنايــة العصــر األمــوي يف الشــرق‪ ،‬ومــن‬ ‫أشــهر المدونيــن والكتــاب يف العصــر األمــوي اإلمــام الزهــري ومحمد‬ ‫بــن إســحاق كاتــب الســيرة النبويــة‪ ،‬واإلمــام مالــك صاحــب الموطــأ‪.‬‬

‫املكتبات يف العرص العبايس‪:‬‬ ‫ويف عصــر العباســيين انتشــرت حركــة التدويــن والنســخ أكثــر‪ ،‬وكثــر‬ ‫((( الرتاتيب اإلدارية لمحمد عبد الحي الكتاين ‪ /‬تحقيق عبد اهلل الخالدي ج ‪ 2‬ص ‪ 84‬الطبعة الثانية‪.‬‬ ‫((( أصول كتابة البحث العلمي وتحقيق المخطوطات‪ ،‬د‪ .‬يوسف المرعشلي (ص ‪ )612‬دار المعرفة‬ ‫للطباعة والنشر‪.‬‬ ‫((( أصول الحديث علومه ومصطلحه‪ /‬محمد عجاج الخطيب ص ‪ / 011‬دار الفكر ط ‪ 2002‬بيروت‬ ‫لبنان‬

‫التأليف يف مختلف العلوم‪ ،‬وعلى رأســها الحديث الشــريف والتفســير‬ ‫واللغــة والشــعر والســيرة والتاريــخ والمنطق والفلســفة والطــب‪ ،‬وكان‬ ‫الخلفــاء العباســيون يجزلــون العطــاء علــى العلــم والتأليــف حتــى كان‬ ‫المأمــون يعطــي للمؤلفيــن وزن كتبهــم ذه ًبــا‪.‬‬

‫وقــد انتشــر يف العصــر العباســي نوعــان مــن المكتبــات همــا المكتبات‬ ‫الخاصــة والمكتبــات العامــة‪ ،‬ولقــد شــهد العصر العباســي ظهــور كثير‬ ‫مــن العلمــاء كجابــر بــن حيــان والكنــدي وأبــي بكــر الــرازي وابــن ســينا‬ ‫وابــن الهيثــم وغيرهــم‪ ،‬وقــد اجتمــع لــدى العديد مــن العلمــاء مكتبات‬ ‫خاصــة نقــل لنــا المؤرخــون أخبــار بعضهــا‪ ،‬منها‪:‬‬ ‫مكتبة الجاحظ‪:‬‬

‫كان أبــو عثمــان الجاحــظ يملــك مكتبــة ضخمــة‪ ،‬حتــى أنــه فيمــا‬ ‫اشــتهر عنــه كان يكــري دكاكيــن الوراقيــن ويبيــت فيهــا للقــراءة‪ ،‬وذكــر‬ ‫ياقــوت الحمــوي قــوال ألبــي هفــان وهــو مــن معاصريــه وممــن عاشــوا‬ ‫معــه‪ ،‬قــال‪( :‬لــم أر قــط وال ســمعت مــن أحــب الكتــب والعلــوم أكثــر‬ ‫مــن الجاحــظ‪ ،‬فإنــه لــم يقــع بيــده كتــاب قــط إال اســتوىف قراءتــه كائنــا‬ ‫مــا كان)‪ ،‬وال عجــب إذ يفــرد الصفحــات الطــوال يف كتبــه للحديــث‬ ‫عــن فوائــد الكتــب وفضائلهــا ومحاســنها‪ ،‬فأ َّلــف رحمــه اهلل العديــد‬ ‫مــن الكتــب‪ ،‬وكانــت لــه مكتبــة ضخمــة حتــى إنــه كان يطالــع يومــا فيها‬ ‫فوقــع عليــه صــف مــن الكتــب أرداه ميتــا رحمــه اهلل(((‪.‬‬ ‫مكتبــة ابن جرير‪:‬‬

‫وذكــر الشــيخ الكتــاين المغربــي يف كتابــه تاريــخ المكتبــات ابــن جريــر‬ ‫فقــال‪( :‬وأعجــب مــا قرأتــه عــن أهــل القــرن الثالــث‪ ،‬مــا يف ترجمــة ابــن‬ ‫جريــر يف معجــم األدبــاء لياقــوت الحمــوي‪ ،‬عــن أبــي القاســم الحســن‬ ‫بــن حســين الــوراق قــال‪( :‬كان قــد التمــس منــي ابــن جريــر أن أجمــع‬ ‫لــه كتــب النــاس يف القيــاس‪ ،‬فجمعــت لــه ني ًفــا وثالثيــن كتا ًبــا‪ )...‬قــال‪:‬‬ ‫فــإذا كان ابــن جريــر الــذي مــات ســنة ‪310‬هـــ يحضر لــه هذا العــدد من‬ ‫الكتــب يف بــاب واحــد مــن علــم األصــول‪ ،‬فمــا بالــك بغيــره! إن هــذا‬ ‫إال عجــب يريــك الكثــرة التــي بلغوهــا يف كل علــم وبــاب)(((‪.‬‬ ‫مكتبــة الصاحب بن عباد‪:‬‬

‫وذكــر أيضــا أن ســلطان خراســان كتــب ألبــي القاســم الصاحــب بــن‬ ‫عبــاد ورقــة يســتدعيه لحضرتــه ليقلــده الــوزارة فأجابــه معتــذرا‪( :‬كيــف‬ ‫لــي بحمــل أثقالــي وعنــدي مــن كتــب العلــم خاصــة مــا ُيحمــل علــى‬ ‫أربعمئــة جمــل أو أكثــر)(((‪.‬‬ ‫مكتبات أخرى‪:‬‬

‫وقــال الكتــاين أيضــا‪( :‬كان يف مكــة مكتبــة المــؤرخ قطــب الديــن‬

‫((( معجم األدباء لياقوت الحموي‪ ،‬تحقيق إحسان عباس (ج ‪ /5‬ص ‪ )1012‬دار الغرب اإلسالمي‪.‬‬ ‫((( تاريخ المكتبات اإلسالمية ومن ألف يف الكتب للشيخ محمد عبد الحي عبد الكبير الكتاين‪( ،‬ص ‪)47‬‬ ‫الطبعة األولى ‪ /3102‬مركز الدراسات واألبحاث وإحياء الرتاث‪ /‬المغرب الرباط‪.‬‬ ‫((( المرجع السابق (ص ‪.)47‬‬

‫‪57‬‬


‫المكتبات ودورها في نهضة األمة‬ ‫النهــرواين الحنفــي‪ ،‬كان عظيــم الجــاه عنــد األتــراك‪ ،‬وكانــوا يعطونــه‬ ‫ـس الكتــب ويبذلهــا‬ ‫العطــاء الواســع‪ ،‬فــكان يشــري بمــا يحصلــه نفائـ َ‬ ‫لمــن يحتاجهــا‪ ،‬فاجتمــع عنــده منهــا مــا لــم يجتمــع عنــد غيــره‪ ،‬ومكتبة‬ ‫أبــي الغيــث القشاشــي التونســي(((‪ ،‬كان صاحــب جــاه عظيــم ومــال‬ ‫كثيــر‪ ،‬بنــى جوامــع ومــدارس وقناطــر‪ ،‬وجمــع مــن نفائــس الكتــب مــا‬ ‫ال يحصــى‪ ...‬وكــذا مكتبــة أبــي المواهــب شــرف الديــن األنصــاري(((‪،‬‬ ‫حريصــا علــى خطــوط العلمــاء ضنينًــا هبــا‪،‬‬ ‫كانــت كتبــه كثيــرة‪ ،‬وكان‬ ‫ً‬ ‫ومــن جملــة كتبــه ثمــاين عشــرة نســخ ًة مــن طبقــات الســبكي وثمانيــة‬ ‫ـيرا)(((‪.‬‬ ‫وعشــرون شـ ً‬ ‫ـرحا علــى البخــاري وأربعــون تفسـ ً‬ ‫وقــد أوقــف العديــدُ مــن العلمــاء كت َبهــم ومكتباهتــم علــى طــاب‬ ‫العلــم‪ ،‬كاإلمــام الحافــظ أبــي حاتــم محمــد بــن حبــان البســتي رحمــه‬ ‫اهلل‪ ،‬الــذي وضــع مؤلفاتــه الكثيــرة يف دار خاصــة وجعلهــا وق ًفــا ألهــل‬ ‫العلــم(‪.((1‬‬

‫وهــي أول مكتبــة أكاديميــة وعامة‪ ،‬و ُيرجــع المؤرخــون بدايــة‬ ‫تأسيســها إلــى الخليفــة هــارون الرشــيد رحمــه اهلل‪ ،‬وقــد تــردد إلــى‬ ‫هــذه المكتبــة بح ًثــا وتألي ًفــا علمــاء كثــر‪ ،‬منهــم الكنــدي والخوارزمــي‪،‬‬ ‫كمــا هائـ ًـا مــن الكتــب يف الــراث اإلســامي واإلنســاين‬ ‫وتضمنــت ّ‬ ‫علــى الســواء‪ ،‬ككتــب الرتاجــم والســير ومصنفــات الكيميــاء والفلــك‬ ‫والطــب والجــر‪ ،‬واحتــوت علــى مرصــد فلكــي‪ ،‬وكانــت تحــوي غر ًفا‬ ‫للمحاضــرات والمناظــرات‪ ،‬وغرفة لالســراحة‪ ،‬وغرفــة للمرتجمين‪،‬‬ ‫وغرفــة للنســاخين‪ ،‬وغرفــة للمجلديــن والوراقيــن‪ ،‬وغر ًفــا للخازنيــن‬ ‫والمناوليــن‪ ،‬وغر ًفــا خاصــة للتدريــس‪ ،‬وغر ًفــا أخــرى لســكن طــاب‬ ‫قائما يســتفيد منــه الرواد‬ ‫العلــم‪ ،‬وظــل هــذا المشــروع العلمــي الضخــم ً‬ ‫حتــى وقــع بــاء المغــول علــى بغــداد ســنة ‪656‬ه حيــث هنبــوا وخربــوا‬ ‫وألقــوا بــآالف المخطوطــات والكتــب يف النهــر(‪.((1‬‬

‫املكتبات العامة يف التاريخ اإلسالمي‪:‬‬ ‫إن المكتبــات العامــة إحــدى أبــرز معالــم النهضــة العلميــة عنــد العرب‬ ‫والمســلمين‪ ،‬وقــد كثــرت منــذ أواخــر القــرن الثــاين الهجــري‪ ،‬وتنافــس‬ ‫الخلفــاء يف الحصــول علــى أنفــس الكتــب وأندرهــا حتــى زخــرت‬ ‫المكتبــات العامــة بــآالف المجلــدات‪ ،‬وانتشــرت خزائــن الكتــب يف‬ ‫أقطــار العالــم اإلســامي مــن ســمرقند وفــاس إلــى بخــارى وقرطبــة‬ ‫ومــن بغــداد ودمشــق إلــى حلــب والقاهــرة‪ ،‬وأمدهــا األمــراء والخلفــاء‬ ‫بمــا تحتــاج إليــه مــن الموظفيــن والمــواد الكتابيــة ومــا يلــزم لتجليــد‬ ‫الكتــب(‪.((1‬‬ ‫ولقــد كان المأمــون يشــرط علــى ملــك الــروم يف معاهداتــه معــه‬ ‫بعــد انتصــارات المأمــون المشــهورة عليــه‪ -‬أن يســمح للمرتجميــن‬‫المســلمين برتجمــة الكتــب التــي يف مكتبــة القســطنطينية‪ ..‬وكان‬ ‫لخلفــاء بنــي العبــاس موظفــون يجوبــون األرض بح ًثــا عــن الكتــب‬ ‫العلميــة بــأي لغــة لترتجــم وتوضــع يف مكتبــة بغــداد‪ ،‬بعــد أن يتوالهــا‬ ‫علماء المسلمين المتخصصون بالنقد والتحليل(‪.((1‬‬ ‫ومــن أشــهر المكتبــات العامــة يف تاريــخ هنضتنــا اإلســامية مكتبــة‬ ‫الحكمــة ومكتبــة جامــع الزيتونــة ومكتبــة جامــع القرو ِّييــن‪.‬‬ ‫بيت الحكمة‪:‬‬

‫أو دار الحكمــة‪ ،‬وهــي مــن أشــهر المكتبــات يف العصــر العباســي‪،‬‬

‫(((  محمد الكمرائي‪ ،‬التونسي‪ ،‬القادري‪( ،‬أبو الغيث) طبيب مشارك يف بعض العلوم‪ ،‬تويف مطعونا بتونس‬ ‫(ت ‪ )1301‬انظر معجم المؤلفين (‪.)361/11‬‬ ‫(((  من أحفاد الشيخ زكريا األنصاري الشافعي تويف ‪2901‬هـ ترجمته يف فهرس الفهارس واألثبات‬ ‫(‪.)4601/2‬‬ ‫(((  تاريخ المكتبات (ص ‪ )752‬بتصرف‪.‬‬ ‫(‪  ((1‬أصول كتابة البحث العلمي للمرعشلي (ص ‪.)712‬‬ ‫(‪  ((1‬أصول كتابة البحث العلمي يوسف المرعشلي (ص ‪.)612‬‬ ‫(‪«  ((1‬المغول وحرق مكتبة بغداد» الدكتور راغب السرجاين موقع االتحاد العربي للمكتبات‬ ‫والمعلومات‪.‬‬

‫‪58‬‬

‫رسم لبغداد ‪ -‬تتوسطها دار الحكمة يف العصر العباسي‬

‫مكتبــة جامع الزيتونة‪:‬‬

‫ومــن المكتبــات الشــهيرة يف إفريقيــا مكتبــة جامــع الزيتونــة بتونــس‪،‬‬ ‫المعروفــة بالعبدليــة‪ ،‬وعــدد مجلداهتــا خمســة آالف ومئتــان وتســعة‬ ‫وأربعــون‪ ،‬وعــد بعضهــم مــا اشــتملت عليــه خزانــة جامــع الزيتونــة‬ ‫فقــال‪ :‬اشــتملت علــى أزيــد مــن ســبعة آالف مجلــد(‪ ،((1‬وقــد اســتمر‬ ‫الجامــع بمــا فيــه مــن شــيوخ ودروس وكتــب منــارة للعلــم يف إفريقيــا‬ ‫قرو ًنــا عــدة ومــا زال‪.‬‬ ‫مكتبــة جامع القرويني‪:‬‬

‫ومــن المكتبــات اإلســامية العريقــة يف شــمال إفريقيــا مكتبــة جامــع‬ ‫القروييــن بالمغــرب‪ ،‬والتــي كان يحــج إليهــا النــاس مــن بقــاع العالــم‬ ‫يطلبــون العلــم فيهــا‪ ،‬ومــا زالــت إلــى يومنــا هــذا حاضنــة للمثقفيــن‬ ‫وطــاب العلــم والباحثيــن‪.‬‬ ‫وغيرهــا كثيــر مــن المكتبــات التــي ال يســع المقــام لذكرهــا كلهــا‪،‬‬ ‫وهــذا يــدل علــى االزدهــار الثقــايف والعلمــي والحضــاري الــذي عرفــه‬

‫(‪«  ((1‬المغول وحرق مكتبة بغداد» الدكتور راغب السرجاين موقع االتحاد العربي للمكتبات‬ ‫والمعلومات‪.‬‬ ‫(‪  ((1‬تاريخ المكتبات ص ‪033‬‬

‫المكتبات ودورها في نهضة األمة‬ ‫تاريخنــا اإلســامي‪ ،‬وعلــى أهميــة المكتبــات يف دفــع عجلــة العلــم‬ ‫والحضــارة‪.‬‬

‫املكتبات يف عرصنا الحارض‪:‬‬ ‫مــا زالــت المكتبــات العامــة والوقفيــة مســتمرة إلــى عصرنــا هــذا‪،‬‬ ‫ولكنهــا فقــدت بريقهــا مــع الفجــوة الحاصلــة بيــن المواضيــع التــي‬ ‫تحويهــا وبيــن حاجــة المجتمــع اليــوم‪ ،‬كمــا أن لتخلفنــا الحضــاري‬ ‫ونفــور النــاس مــن البحــث العلمــي أثـ ًـرا كبيــرا يف عــزوف النــاس عــن‬ ‫القــراءة‪.‬‬

‫إن الرتاجــع الــذي ُمنيــت بــه القــراءة العلميــة والبحثيــة يف زماننــا أفقــد‬ ‫المكتبــات بريقهــا وأثرهــا الحضــاري‪ ،‬ممــا أدى بــدوره إلــى تــدين‬ ‫المســتوى العلمــي لــدى النــاس عامــة وطلبــة العلــم خاصــة‪.‬‬ ‫إنــه ال يخفــى علــى عاقــل الــدور الكبيــر الذي تؤديــه المكتبات يف نشــر‬ ‫ثقافــة القــراءة وتشــجيع البحــث العلمــي ونشــر الوعــي يف المجتمــع‪،‬‬ ‫ومشــكلتنا الحاضــرة أن أغلــب مكتباتنــا الشــهيرة اليــوم تتوفــر علــى‬ ‫كتــب قديمــة ال تتجــدد‪ ،‬الكتــب نفســها تبقــى علــى الرفــوف ســنوات‬ ‫متعاقبــة ال ُتســتبدل وال ُتك ِّلــف إدارة المكتبات نفســها بمســايرة التطور‬ ‫العلمــي وتوفيــر كل جديــد مــن العلــم لطالبــه‪ ،‬فكــم مــن طالــب علــم‬ ‫يــود شــراء كتــاب فيجــد ســعره غال ًيــا ويبحــث عنــه يف المكتبــات‬ ‫العامــة فــا يجــده‪ ،‬أو قــد يجــده فتحــول قوانيــن المكتبــة وقيودهــا بينــه‬ ‫وبيــن االنتفــاع بــه‪ ...‬لذلــك تشــهد أمتنــا تراجعــا هائــا وعزوفــا كبيـ ًـرا‬ ‫عــن القــراءة‪ ،‬إضافــة إلــى انشــغال النــاس بالهواتــف الذكيــة ومواقــع‬ ‫التواصــل وبرامــج الدردشــة ومتابعــة األخبــار السياســية والفنيــة‬ ‫والرياضيــة‪.‬‬

‫وهنــا ال يمكننــا أن نغفــل دور الكتــب اإللكرتونيــة المتوفرة يف الشــبكة‬ ‫العنكبوتيــة يف إغنــاء جــزء مــن الباحثيــن عــن الرجــوع إلــى المكتبــات‬ ‫والجلــوس فيهــا‪ ،‬ولكــن مــا نعالجــه هنــا العــزوف المخيــف عــن‬ ‫القــراءة وحــب التعلــم يف مجتمعاتنــا اإلســامية المعاصــرة‪.‬‬

‫نحو مجتمع قارئ‪:‬‬ ‫ال شــك أن هنــاك عالقــ ًة مطــردة بيــن تخلفنــا الحضــاري وعزوفنــا‬ ‫عــن القــراءة‪ ،‬ولكــن يف انطالقنــا إلــى النهضــة العلميــة المنشــودة فــإن‬ ‫القــراءة هــي الحجــر الــذي نبنــي عليــه تطورنــا العلمــي‪ ،‬ولهــذا يجــب‬ ‫علــى قــادة المجتمــع ومعلميــه أن يبذلــوا جهدهــم يف دفــع الجيــل إلــى‬ ‫القــراءة العلميــة المثمــرة‪ ،‬وإعــادة التفاعــل بيــن المكتبــة واإلنســان‬ ‫المســلم‪.‬‬

‫ولعلــه يمكننــا إعــادة اللحمــة بيــن المكتبــة والجيــل مــن خــال عــدة‬ ‫إجــراءات‪ ،‬منهــا‪:‬‬

‫‪1.1‬توفيــر كتــب جديــدة ومتنوعــة يف المكتبــات ُتلبــي حاجــة القــراء‬

‫وتطلعاهتــم‪.‬‬

‫‪2.2‬عقــد النــدوات والمحاضــرات يف المكتبــات العامــة والوقفيــة‬ ‫وتنظيمهــا‪ ،‬وعــرض الكتــب الجديــدة لتكــون يف متنــاول الحضــور‪.‬‬ ‫‪3.3‬تنظيــم مســابقات ثقافيــة وبحثيــة بمســتويات متنوعــة لتشــجيع الطلبة‬ ‫علــى القــراءة والبحــث العلمي‪.‬‬ ‫‪4.4‬فهرسة المكتبات وتوفير آالت النسخ المجانية لل ُق َّراء والباحثين‪.‬‬

‫‪5.5‬االهتمــام بتأســيس المكتبــات الصغيــرة والكبيــرة علــى الســواء‪،‬‬ ‫انطال ًقــا مــن المدرســة والمســجد ومعاهــد تعليــم القــرآن وانتهــاء‬ ‫بالجامعــة‪.‬‬

‫تجربة يف توجيه الطالب إىل القراءة‪:‬‬ ‫أرادت بعــض المــدارس الســورية يف تركيــا أن تقــوم بتشــجيع الطــاب‬ ‫علــى القــراءة‪ ،‬وال تملــك القــدرة الماديــة لتأســيس مكتبــة‪ ،‬فاقرتحــت‬ ‫اإلدارة أن يحضــر كل عضــو يف الــكادر التدريســي مــا لديــه مــن كتــب‬ ‫يف بيتــه لجمعهــا يف المدرســة وإقامــة معــرض لهــا‪ ،‬وبالفعــل حصلــت‬ ‫المدرســة علــى مكتبــة مؤقتـ ٍـة متنوعـ ِـة المجــاالت‪ ،‬واســتفاد الطــاب‬ ‫والمعلمــون مــن هــذه التجربــة أيمــا اســتفادة‪ ...‬وهــذه المحاولــة‬ ‫علــى بســاطتها يمكــن تطبيقهــا يف كل المــدارس الســورية الفقيــرة يف‬ ‫المخيمــات والمهجــر والداخــل؛ لالرتقــاء بمســتوى جيلنــا الــذي‬ ‫دمرتــه الحــرب وأهنكــه الظلــم والطغيــان‪ ...‬وقــد صــدق مــن قــال‪:‬‬ ‫إن الجيــل الــذي يقــرأ تســهل قيادتــه وال يســهل اســتعباده‪ ،‬والجيــل‬ ‫الجاهــل ‪-‬كالــذي عمــل حــزب البعــث علــى صنعــه وتربيتــه‪ -‬يســهل‬ ‫اســتعباده وتصعــب قيادتــه‪.‬‬

‫تقــوم بعــض المــدارس الرتكيــة بتجربــة رائــدة لتعويــد الطــاب علــى‬ ‫القــراءة‪ ،‬وذلــك مــن خــال توزيــع الكتــب التاريخيــة الهادفــة علــى‬ ‫الطــاب‪ ،‬وتخصيــص وقــت يومــي للقــراءة تحــت إشــراف المعلم بين‬ ‫الــدروس أو يف آخرهــا‪ ،‬وأحيانــا يطلــب المعلــم مــن بعض الطــاب أن‬ ‫يحدثــوه عمــا اســتفادوا مــن الكتــب التــي قرؤوهــا‪ ،‬ومــا الــدرس الــذي‬ ‫تعلمــوه مــن كل كتــاب‪ ،‬وكلمــا انتهــى الطالــب مــن كتــاب تبادلــه مــع‬ ‫صديقــه اآلخــر‪ ...‬وقــد كان لهــذه التجربــة أثـ ٌـر كبيـ ٌـر يف إزالــة الجفــوة ما‬ ‫بيــن الطالــب والكتــاب‪ ،‬وانطلــق الطــاب بعدهــا للبحــث عــن كتــب‬ ‫جديــدة لشــرائها وقراءهتــا‪.‬‬ ‫وإن هاتيــن التجربتيــن علــى بســاطتهما لــو طبقناهمــا يف مدارســنا‬ ‫الســورية ومعاهــد تعليــم القــرآن يف فــرات متالحقــة وتحــت توجيــه‬ ‫المعلميــن إلــى الكتــاب المفيــد والقريــب إلــى االختصــاص المفضــل‬ ‫للطالــب؛ لوجدنــا لهــا أثـ ًـرا ط ّي ًبــا يف ربــط جيلنــا بثقافــة عصــره‪ ،‬ممــا‬ ‫ســيجعله جيــا منتجــا بــدل أن يكــون جيــا جاهــا عالــة علــى‬ ‫اإلنســانية‪ ...‬ومــا يقــع علــى عاتقنــا أن نعلمهــم القــراءة‪ ،‬واهلل هــو‬ ‫الهــادي إلــى ســواء الســبيل‪.‬‬ ‫‪59‬‬


‫المكتبات ودورها في نهضة األمة‬ ‫النهــرواين الحنفــي‪ ،‬كان عظيــم الجــاه عنــد األتــراك‪ ،‬وكانــوا يعطونــه‬ ‫ـس الكتــب ويبذلهــا‬ ‫العطــاء الواســع‪ ،‬فــكان يشــري بمــا يحصلــه نفائـ َ‬ ‫لمــن يحتاجهــا‪ ،‬فاجتمــع عنــده منهــا مــا لــم يجتمــع عنــد غيــره‪ ،‬ومكتبة‬ ‫أبــي الغيــث القشاشــي التونســي(((‪ ،‬كان صاحــب جــاه عظيــم ومــال‬ ‫كثيــر‪ ،‬بنــى جوامــع ومــدارس وقناطــر‪ ،‬وجمــع مــن نفائــس الكتــب مــا‬ ‫ال يحصــى‪ ...‬وكــذا مكتبــة أبــي المواهــب شــرف الديــن األنصــاري(((‪،‬‬ ‫حريصــا علــى خطــوط العلمــاء ضنينًــا هبــا‪،‬‬ ‫كانــت كتبــه كثيــرة‪ ،‬وكان‬ ‫ً‬ ‫ومــن جملــة كتبــه ثمــاين عشــرة نســخ ًة مــن طبقــات الســبكي وثمانيــة‬ ‫ـيرا)(((‪.‬‬ ‫وعشــرون شـ ً‬ ‫ـرحا علــى البخــاري وأربعــون تفسـ ً‬ ‫وقــد أوقــف العديــدُ مــن العلمــاء كت َبهــم ومكتباهتــم علــى طــاب‬ ‫العلــم‪ ،‬كاإلمــام الحافــظ أبــي حاتــم محمــد بــن حبــان البســتي رحمــه‬ ‫اهلل‪ ،‬الــذي وضــع مؤلفاتــه الكثيــرة يف دار خاصــة وجعلهــا وق ًفــا ألهــل‬ ‫العلــم(‪.((1‬‬

‫وهــي أول مكتبــة أكاديميــة وعامة‪ ،‬و ُيرجــع المؤرخــون بدايــة‬ ‫تأسيســها إلــى الخليفــة هــارون الرشــيد رحمــه اهلل‪ ،‬وقــد تــردد إلــى‬ ‫هــذه المكتبــة بح ًثــا وتألي ًفــا علمــاء كثــر‪ ،‬منهــم الكنــدي والخوارزمــي‪،‬‬ ‫كمــا هائـ ًـا مــن الكتــب يف الــراث اإلســامي واإلنســاين‬ ‫وتضمنــت ّ‬ ‫علــى الســواء‪ ،‬ككتــب الرتاجــم والســير ومصنفــات الكيميــاء والفلــك‬ ‫والطــب والجــر‪ ،‬واحتــوت علــى مرصــد فلكــي‪ ،‬وكانــت تحــوي غر ًفا‬ ‫للمحاضــرات والمناظــرات‪ ،‬وغرفة لالســراحة‪ ،‬وغرفــة للمرتجمين‪،‬‬ ‫وغرفــة للنســاخين‪ ،‬وغرفــة للمجلديــن والوراقيــن‪ ،‬وغر ًفــا للخازنيــن‬ ‫والمناوليــن‪ ،‬وغر ًفــا خاصــة للتدريــس‪ ،‬وغر ًفــا أخــرى لســكن طــاب‬ ‫قائما يســتفيد منــه الرواد‬ ‫العلــم‪ ،‬وظــل هــذا المشــروع العلمــي الضخــم ً‬ ‫حتــى وقــع بــاء المغــول علــى بغــداد ســنة ‪656‬ه حيــث هنبــوا وخربــوا‬ ‫وألقــوا بــآالف المخطوطــات والكتــب يف النهــر(‪.((1‬‬

‫املكتبات العامة يف التاريخ اإلسالمي‪:‬‬ ‫إن المكتبــات العامــة إحــدى أبــرز معالــم النهضــة العلميــة عنــد العرب‬ ‫والمســلمين‪ ،‬وقــد كثــرت منــذ أواخــر القــرن الثــاين الهجــري‪ ،‬وتنافــس‬ ‫الخلفــاء يف الحصــول علــى أنفــس الكتــب وأندرهــا حتــى زخــرت‬ ‫المكتبــات العامــة بــآالف المجلــدات‪ ،‬وانتشــرت خزائــن الكتــب يف‬ ‫أقطــار العالــم اإلســامي مــن ســمرقند وفــاس إلــى بخــارى وقرطبــة‬ ‫ومــن بغــداد ودمشــق إلــى حلــب والقاهــرة‪ ،‬وأمدهــا األمــراء والخلفــاء‬ ‫بمــا تحتــاج إليــه مــن الموظفيــن والمــواد الكتابيــة ومــا يلــزم لتجليــد‬ ‫الكتــب(‪.((1‬‬ ‫ولقــد كان المأمــون يشــرط علــى ملــك الــروم يف معاهداتــه معــه‬ ‫بعــد انتصــارات المأمــون المشــهورة عليــه‪ -‬أن يســمح للمرتجميــن‬‫المســلمين برتجمــة الكتــب التــي يف مكتبــة القســطنطينية‪ ..‬وكان‬ ‫لخلفــاء بنــي العبــاس موظفــون يجوبــون األرض بح ًثــا عــن الكتــب‬ ‫العلميــة بــأي لغــة لترتجــم وتوضــع يف مكتبــة بغــداد‪ ،‬بعــد أن يتوالهــا‬ ‫علماء المسلمين المتخصصون بالنقد والتحليل(‪.((1‬‬ ‫ومــن أشــهر المكتبــات العامــة يف تاريــخ هنضتنــا اإلســامية مكتبــة‬ ‫الحكمــة ومكتبــة جامــع الزيتونــة ومكتبــة جامــع القرو ِّييــن‪.‬‬ ‫بيت الحكمة‪:‬‬

‫أو دار الحكمــة‪ ،‬وهــي مــن أشــهر المكتبــات يف العصــر العباســي‪،‬‬

‫(((  محمد الكمرائي‪ ،‬التونسي‪ ،‬القادري‪( ،‬أبو الغيث) طبيب مشارك يف بعض العلوم‪ ،‬تويف مطعونا بتونس‬ ‫(ت ‪ )1301‬انظر معجم المؤلفين (‪.)361/11‬‬ ‫(((  من أحفاد الشيخ زكريا األنصاري الشافعي تويف ‪2901‬هـ ترجمته يف فهرس الفهارس واألثبات‬ ‫(‪.)4601/2‬‬ ‫(((  تاريخ المكتبات (ص ‪ )752‬بتصرف‪.‬‬ ‫(‪  ((1‬أصول كتابة البحث العلمي للمرعشلي (ص ‪.)712‬‬ ‫(‪  ((1‬أصول كتابة البحث العلمي يوسف المرعشلي (ص ‪.)612‬‬ ‫(‪«  ((1‬المغول وحرق مكتبة بغداد» الدكتور راغب السرجاين موقع االتحاد العربي للمكتبات‬ ‫والمعلومات‪.‬‬

‫‪58‬‬

‫رسم لبغداد ‪ -‬تتوسطها دار الحكمة يف العصر العباسي‬

‫مكتبــة جامع الزيتونة‪:‬‬

‫ومــن المكتبــات الشــهيرة يف إفريقيــا مكتبــة جامــع الزيتونــة بتونــس‪،‬‬ ‫المعروفــة بالعبدليــة‪ ،‬وعــدد مجلداهتــا خمســة آالف ومئتــان وتســعة‬ ‫وأربعــون‪ ،‬وعــد بعضهــم مــا اشــتملت عليــه خزانــة جامــع الزيتونــة‬ ‫فقــال‪ :‬اشــتملت علــى أزيــد مــن ســبعة آالف مجلــد(‪ ،((1‬وقــد اســتمر‬ ‫الجامــع بمــا فيــه مــن شــيوخ ودروس وكتــب منــارة للعلــم يف إفريقيــا‬ ‫قرو ًنــا عــدة ومــا زال‪.‬‬ ‫مكتبــة جامع القرويني‪:‬‬

‫ومــن المكتبــات اإلســامية العريقــة يف شــمال إفريقيــا مكتبــة جامــع‬ ‫القروييــن بالمغــرب‪ ،‬والتــي كان يحــج إليهــا النــاس مــن بقــاع العالــم‬ ‫يطلبــون العلــم فيهــا‪ ،‬ومــا زالــت إلــى يومنــا هــذا حاضنــة للمثقفيــن‬ ‫وطــاب العلــم والباحثيــن‪.‬‬ ‫وغيرهــا كثيــر مــن المكتبــات التــي ال يســع المقــام لذكرهــا كلهــا‪،‬‬ ‫وهــذا يــدل علــى االزدهــار الثقــايف والعلمــي والحضــاري الــذي عرفــه‬

‫(‪«  ((1‬المغول وحرق مكتبة بغداد» الدكتور راغب السرجاين موقع االتحاد العربي للمكتبات‬ ‫والمعلومات‪.‬‬ ‫(‪  ((1‬تاريخ المكتبات ص ‪033‬‬

‫المكتبات ودورها في نهضة األمة‬ ‫تاريخنــا اإلســامي‪ ،‬وعلــى أهميــة المكتبــات يف دفــع عجلــة العلــم‬ ‫والحضــارة‪.‬‬

‫املكتبات يف عرصنا الحارض‪:‬‬ ‫مــا زالــت المكتبــات العامــة والوقفيــة مســتمرة إلــى عصرنــا هــذا‪،‬‬ ‫ولكنهــا فقــدت بريقهــا مــع الفجــوة الحاصلــة بيــن المواضيــع التــي‬ ‫تحويهــا وبيــن حاجــة المجتمــع اليــوم‪ ،‬كمــا أن لتخلفنــا الحضــاري‬ ‫ونفــور النــاس مــن البحــث العلمــي أثـ ًـرا كبيــرا يف عــزوف النــاس عــن‬ ‫القــراءة‪.‬‬

‫إن الرتاجــع الــذي ُمنيــت بــه القــراءة العلميــة والبحثيــة يف زماننــا أفقــد‬ ‫المكتبــات بريقهــا وأثرهــا الحضــاري‪ ،‬ممــا أدى بــدوره إلــى تــدين‬ ‫المســتوى العلمــي لــدى النــاس عامــة وطلبــة العلــم خاصــة‪.‬‬ ‫إنــه ال يخفــى علــى عاقــل الــدور الكبيــر الذي تؤديــه المكتبات يف نشــر‬ ‫ثقافــة القــراءة وتشــجيع البحــث العلمــي ونشــر الوعــي يف المجتمــع‪،‬‬ ‫ومشــكلتنا الحاضــرة أن أغلــب مكتباتنــا الشــهيرة اليــوم تتوفــر علــى‬ ‫كتــب قديمــة ال تتجــدد‪ ،‬الكتــب نفســها تبقــى علــى الرفــوف ســنوات‬ ‫متعاقبــة ال ُتســتبدل وال ُتك ِّلــف إدارة المكتبات نفســها بمســايرة التطور‬ ‫العلمــي وتوفيــر كل جديــد مــن العلــم لطالبــه‪ ،‬فكــم مــن طالــب علــم‬ ‫يــود شــراء كتــاب فيجــد ســعره غال ًيــا ويبحــث عنــه يف المكتبــات‬ ‫العامــة فــا يجــده‪ ،‬أو قــد يجــده فتحــول قوانيــن المكتبــة وقيودهــا بينــه‬ ‫وبيــن االنتفــاع بــه‪ ...‬لذلــك تشــهد أمتنــا تراجعــا هائــا وعزوفــا كبيـ ًـرا‬ ‫عــن القــراءة‪ ،‬إضافــة إلــى انشــغال النــاس بالهواتــف الذكيــة ومواقــع‬ ‫التواصــل وبرامــج الدردشــة ومتابعــة األخبــار السياســية والفنيــة‬ ‫والرياضيــة‪.‬‬

‫وهنــا ال يمكننــا أن نغفــل دور الكتــب اإللكرتونيــة المتوفرة يف الشــبكة‬ ‫العنكبوتيــة يف إغنــاء جــزء مــن الباحثيــن عــن الرجــوع إلــى المكتبــات‬ ‫والجلــوس فيهــا‪ ،‬ولكــن مــا نعالجــه هنــا العــزوف المخيــف عــن‬ ‫القــراءة وحــب التعلــم يف مجتمعاتنــا اإلســامية المعاصــرة‪.‬‬

‫نحو مجتمع قارئ‪:‬‬ ‫ال شــك أن هنــاك عالقــ ًة مطــردة بيــن تخلفنــا الحضــاري وعزوفنــا‬ ‫عــن القــراءة‪ ،‬ولكــن يف انطالقنــا إلــى النهضــة العلميــة المنشــودة فــإن‬ ‫القــراءة هــي الحجــر الــذي نبنــي عليــه تطورنــا العلمــي‪ ،‬ولهــذا يجــب‬ ‫علــى قــادة المجتمــع ومعلميــه أن يبذلــوا جهدهــم يف دفــع الجيــل إلــى‬ ‫القــراءة العلميــة المثمــرة‪ ،‬وإعــادة التفاعــل بيــن المكتبــة واإلنســان‬ ‫المســلم‪.‬‬

‫ولعلــه يمكننــا إعــادة اللحمــة بيــن المكتبــة والجيــل مــن خــال عــدة‬ ‫إجــراءات‪ ،‬منهــا‪:‬‬

‫‪1.1‬توفيــر كتــب جديــدة ومتنوعــة يف المكتبــات ُتلبــي حاجــة القــراء‬

‫وتطلعاهتــم‪.‬‬

‫‪2.2‬عقــد النــدوات والمحاضــرات يف المكتبــات العامــة والوقفيــة‬ ‫وتنظيمهــا‪ ،‬وعــرض الكتــب الجديــدة لتكــون يف متنــاول الحضــور‪.‬‬ ‫‪3.3‬تنظيــم مســابقات ثقافيــة وبحثيــة بمســتويات متنوعــة لتشــجيع الطلبة‬ ‫علــى القــراءة والبحــث العلمي‪.‬‬ ‫‪4.4‬فهرسة المكتبات وتوفير آالت النسخ المجانية لل ُق َّراء والباحثين‪.‬‬

‫‪5.5‬االهتمــام بتأســيس المكتبــات الصغيــرة والكبيــرة علــى الســواء‪،‬‬ ‫انطال ًقــا مــن المدرســة والمســجد ومعاهــد تعليــم القــرآن وانتهــاء‬ ‫بالجامعــة‪.‬‬

‫تجربة يف توجيه الطالب إىل القراءة‪:‬‬ ‫أرادت بعــض المــدارس الســورية يف تركيــا أن تقــوم بتشــجيع الطــاب‬ ‫علــى القــراءة‪ ،‬وال تملــك القــدرة الماديــة لتأســيس مكتبــة‪ ،‬فاقرتحــت‬ ‫اإلدارة أن يحضــر كل عضــو يف الــكادر التدريســي مــا لديــه مــن كتــب‬ ‫يف بيتــه لجمعهــا يف المدرســة وإقامــة معــرض لهــا‪ ،‬وبالفعــل حصلــت‬ ‫المدرســة علــى مكتبــة مؤقتـ ٍـة متنوعـ ِـة المجــاالت‪ ،‬واســتفاد الطــاب‬ ‫والمعلمــون مــن هــذه التجربــة أيمــا اســتفادة‪ ...‬وهــذه المحاولــة‬ ‫علــى بســاطتها يمكــن تطبيقهــا يف كل المــدارس الســورية الفقيــرة يف‬ ‫المخيمــات والمهجــر والداخــل؛ لالرتقــاء بمســتوى جيلنــا الــذي‬ ‫دمرتــه الحــرب وأهنكــه الظلــم والطغيــان‪ ...‬وقــد صــدق مــن قــال‪:‬‬ ‫إن الجيــل الــذي يقــرأ تســهل قيادتــه وال يســهل اســتعباده‪ ،‬والجيــل‬ ‫الجاهــل ‪-‬كالــذي عمــل حــزب البعــث علــى صنعــه وتربيتــه‪ -‬يســهل‬ ‫اســتعباده وتصعــب قيادتــه‪.‬‬

‫تقــوم بعــض المــدارس الرتكيــة بتجربــة رائــدة لتعويــد الطــاب علــى‬ ‫القــراءة‪ ،‬وذلــك مــن خــال توزيــع الكتــب التاريخيــة الهادفــة علــى‬ ‫الطــاب‪ ،‬وتخصيــص وقــت يومــي للقــراءة تحــت إشــراف المعلم بين‬ ‫الــدروس أو يف آخرهــا‪ ،‬وأحيانــا يطلــب المعلــم مــن بعض الطــاب أن‬ ‫يحدثــوه عمــا اســتفادوا مــن الكتــب التــي قرؤوهــا‪ ،‬ومــا الــدرس الــذي‬ ‫تعلمــوه مــن كل كتــاب‪ ،‬وكلمــا انتهــى الطالــب مــن كتــاب تبادلــه مــع‬ ‫صديقــه اآلخــر‪ ...‬وقــد كان لهــذه التجربــة أثـ ٌـر كبيـ ٌـر يف إزالــة الجفــوة ما‬ ‫بيــن الطالــب والكتــاب‪ ،‬وانطلــق الطــاب بعدهــا للبحــث عــن كتــب‬ ‫جديــدة لشــرائها وقراءهتــا‪.‬‬ ‫وإن هاتيــن التجربتيــن علــى بســاطتهما لــو طبقناهمــا يف مدارســنا‬ ‫الســورية ومعاهــد تعليــم القــرآن يف فــرات متالحقــة وتحــت توجيــه‬ ‫المعلميــن إلــى الكتــاب المفيــد والقريــب إلــى االختصــاص المفضــل‬ ‫للطالــب؛ لوجدنــا لهــا أثـ ًـرا ط ّي ًبــا يف ربــط جيلنــا بثقافــة عصــره‪ ،‬ممــا‬ ‫ســيجعله جيــا منتجــا بــدل أن يكــون جيــا جاهــا عالــة علــى‬ ‫اإلنســانية‪ ...‬ومــا يقــع علــى عاتقنــا أن نعلمهــم القــراءة‪ ،‬واهلل هــو‬ ‫الهــادي إلــى ســواء الســبيل‪.‬‬ ‫‪59‬‬


‫لماذا نع ّلم؟‬

‫لماذا نع ّلم؟‬ ‫د‪ .‬عبد الكريم بكار‬ ‫عضو أمناء املجلس اإلسالمي السوري‬

‫إن تحديــد األهــداف والغايــات يف كل‬ ‫َّ‬ ‫ـري‬ ‫دائمــا شــيء جوهـ ّ‬ ‫مجــاالت الحيــاة هــو ً‬ ‫ألن الهــدف يشــكّل البوصلــة‬ ‫ومهــم؛ ّ‬ ‫ألنشــطتنا يف الـــمجال الــذي نعمــل فيــه‪.‬‬

‫أول‬ ‫إن الهــدف الــذي ينبغــي أن نحــدِّ ده ً‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫لــكل المؤسســات‬ ‫النهائــي‬ ‫هــو الهــدف‬ ‫ّ‬ ‫واألشــغال التعليميــة‪ ،‬وحيــن نحــدِّ د الهــدف‬ ‫النهائــي يســهل علينــا تحديــدُ األهــداف‬ ‫ّ‬ ‫الفرع ّيــة‪ّ ،‬‬ ‫يتوســل بــه إلــى تحقيقهــا‪.‬‬ ‫وكل مــا ّ‬

‫ســئلت؛ مــا الشــيء الــذي يمكــن أن‬ ‫لــو‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫لــكل‬ ‫واألكبــر‬ ‫النهائــي‬ ‫يكــون الهــدف‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫لقلــت دون تــر ّدد‪:‬‬ ‫العمليــات التعليميــة‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫إنّــه (الحيــاة الط ّيبــة) وهــذا اســتلهام لقــول‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ــن َذكَــرٍ‬ ‫ــن َع ِم َ‬ ‫ــل َصال ًحــا م ْ‬ ‫اهلل تعالــى‪{َ :‬م ْ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫ــن َف َلن ُْحي َينَّــ ُه َح َيــا ًة ط ِّي َبــ ًة‬ ‫ــو ُم ْؤم ٌ‬ ‫َأ ْو ُأ ْن َثــى َو ُه َ‬ ‫ــم بِ َأ ْح َس ِ‬ ‫ــن َمــا كَانُــوا‬ ‫ــم َأ ْج َر ُه ْ‬ ‫َو َلن َْج ِز َين َُّه ْ‬ ‫ــون} [ســورة النحــل‪ :‬آيــة ‪.]97‬‬ ‫َي ْع َم ُل َ‬ ‫الحيــاة الط ّيبــة المــرادة هنــا هــي الهنــاء‬ ‫والســعادة واألمــن واالســتقرار والنجــاح‬ ‫ٍ‬ ‫مــاض يف‬ ‫والرخــاء‪ ،‬وشــعور المــرء بأنّــه‬ ‫الطريــق الصحيــح‪ ،‬وعلــى هــدي عقيدتــه‬ ‫ومبادئــه ِ‬ ‫وق َي ِمــه‪...‬‬

‫مك ّونات الحياة الطيبة‪:‬‬ ‫االنسجام الذايتّ‪:‬‬

‫يشــكل االنســجام الــذايتّ علــى نحــو عــا ٍّم‬ ‫‪60‬‬

‫رمــزا لشــيئين‪ :‬االســتقرار واالندمــاج‪،‬‬ ‫ً‬ ‫وكالهمــا َينتــج مــن شــيئين‪ :‬وضــوح‬ ‫الرؤيــة وزوال التناقــض مــن الحيــاة اليوم َّيــة‬ ‫لإلنســان‪ ...‬هــذا يفــرض علــى مؤسســاتنا‬ ‫ِ‬ ‫العقائــد‬ ‫الرتكيــز علــى مجموعــة‬ ‫التعليميــة‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫والمبــادئ والقيــم التــي ترســم خــط الســير‬ ‫الشــخصي للطالــب يف هــذه الحيــاة‪ ،‬مثــل‬ ‫اإليمــان العميــق بــاهلل تعالــى‪ ،‬والعمــل‬ ‫لآلخــرة واالســتقامة والحفــاظ علــى‬ ‫وبــر الوالديــن‬ ‫األســري‪،‬‬ ‫التماســك‬ ‫ّ‬ ‫ِّ‬ ‫والرحمــة والتعــاون‪ ،‬واحــرام خصوصيــات‬ ‫اآلخريــن والجديــة والمثابــرة والشــغف‬ ‫بمعرفــة الجديــد‪.‬‬

‫شــك يف ّ‬ ‫ّ‬ ‫أن المناهــج واألنشــطة‬ ‫ال‬ ‫المدرســ ّية المتوافــرة اآلن تســاعد علــى‬ ‫إيجــاد الوعــي الــذي نتحــدث عنــه‪ ،‬لكــن‬ ‫علــى نحــو جزئــي؛ َّ‬ ‫وإن لــدى بعــض‬ ‫ٍّ‬ ‫ـارب جميلــة يف هــذا‬ ‫المــدارس اليابانيــة تجـ َ‬ ‫الشــأن‪ ،‬ولعـ َّـل مــا يلفــت النَّظــر منهــا شــيئان‪:‬‬

‫األول‪ :‬هــو طــرح األســئلة المفتوحــة علــى‬ ‫ٍ‬ ‫أجوبــة علــى تلــك‬ ‫الطــاب دون انتظــار‬ ‫األســئلة منهــم‪ ،‬بغيــة إيقــاظ عقولهــم حــول‬ ‫بعــض المســائل والقضايــا المتع ِّلقــة ببعــض‬ ‫القيــم أو بمســتقبل البــاد‪ ،‬ومــن ذلــك مثـ ًـا‪:‬‬ ‫ـاع طــاب المدارس‬ ‫ •هــل من المناســب إطـ ُ‬ ‫المتوســطة على مرض الســرطان؟‬ ‫ّ‬ ‫ •هل استنساخ البشر شي ٌء مقبول؟‬

‫ •هــل مــن المناســب صــرف مر َّتبــات‬ ‫لطــاب المــدارس االبتدائ َّيــة؟‬

‫الثــاين‪ :‬ترتيــب زيــارات لــوزراء وقــادة‬ ‫وعلمــاء ورؤســاء بلد َّيــات ورجــال أعمــال‬ ‫بارزيــن للمــدارس‪ ،‬وهــذا من َّظــم وكثيــف‬ ‫لدرجــة َّ‬ ‫يتخــرج مــن‬ ‫أن الطالــب حيــن‬ ‫ّ‬ ‫ِّ‬ ‫األقــل‬ ‫الثانو َّيــة يكــون قــد التقــى علــى‬ ‫بخمســين شــخصية مجتمعيــة‪ ...‬ويغــدو‬ ‫مــن خــال الســماع لتجارهبــم وآرائهــم‬ ‫والنقــاش معهــم وقــد صــار علــى وعــي تــا ٍّم‬ ‫بالعديــد مــن جوانــب الحيــاة‪ ،‬كمــا ّ‬ ‫أن اللقــاء‬ ‫ّ‬ ‫ـلبي الــذي ُيقابــل االنســجام بالقــادة والناجحيــن يو ِّلــد طاقــة تحفيز ّيــة‬ ‫إن المعنــى السـ ّ‬ ‫الــذايتّ هــو (االغــراب الــذايتّ) وهــو هائلــة لــدى الطــاب‪.‬‬ ‫مصطلــح ُيشــير إلــى العديــد مــن المعــاين‬ ‫الســيئة‪ ،‬منهــا‪ :‬العجــز والعزلــة والالمبــاالة إشــعال الرغبة يف التعليم‪:‬‬ ‫واالستســا ُم لليــأس واإلحبــاط‪ ،‬وفقــدُ مــن المتفق عليــه َّ‬ ‫أن المــدارس والجامعات‬ ‫المعاييــر‪ ،‬وتفــ ّكك القيــم‪.‬‬ ‫تخــرج علمــاء‪،‬‬ ‫مهمــا عــا شــأهنا‪ -‬ال‬‫ِّ‬ ‫هــذه المعــاين تشــيع لــدى كثيــر مــن فتياننــا ولهــذا ّ‬ ‫أنفــس مــا تقدِّ مــه َّ‬ ‫لطلهبــا هــو‬ ‫فــإن‬ ‫َ‬ ‫وفتياتنــا؛ بســبب الخلــل الهائــل الــذي إشــعال رغبتهــم يف المزيــد مــن التع ّلــم‬ ‫وتحبيــب القــراءة والكتــاب إلــى نفوســهم‪،‬‬ ‫أوجدتــه الحضــارة الحديثــة‪.‬‬ ‫َّ‬ ‫ومــن المؤســف أن معظــم مدارســنا قــد‬ ‫تنمية الوعي‪:‬‬ ‫أخفقــت يف هــذا إخفا ًقــا شــديدً ا‪ ،‬وهــذا قــد‬ ‫نحــن نعيــش يف واقــع شــديد التعقيــد‪ ،‬يعــود إلــى عــدد مــن العوامــل‪ ،‬لكــن يبــدو‬ ‫ِ‬ ‫ّ‬ ‫أن أهمهــا يكمــن يف األســلوب الــذي تقــدِّ م‬ ‫ـرارات الصحيحـ َة‬ ‫وحتــى يتّخــذ الطالــب القـ‬ ‫يف حياتــه يحتــاج إلــى (االتصــال العميــق) بــه المــدارس المعرفــة والتجربــة لطالهبــا‪،‬‬ ‫ويف نوع َّيــة العالقــة التــي تربــط الطالــب‬ ‫بذاتــه وبمحيطــه‪ ،‬وهــذا هــو (الوعــي)‪.‬‬

‫لماذا نع ّلم؟‬ ‫بأســاتذته‪.‬‬

‫إين ألتط ّلــع حقيق ـ ًة إلــى اليــوم الــذي نتَّخــذ‬ ‫فيــه مــن مــدى نجــاح المــدارس يف تحبيــب‬ ‫ـارا أساسـ ًّيا يف تقييــم‬ ‫التع ُّلــم إلــى طالهبــا معيـ ً‬ ‫جودهتــا ودرجــة تصنيفهــا‪.‬‬ ‫ترســيخ عادات الناجحني‪:‬‬

‫مهمــا‬ ‫يشــ ّكل النجــاح يف الحيــاة‬ ‫ً‬ ‫عنصــرا ًّ‬ ‫يف تكويــن (الحيــاة الط ّيبــة) فأ َّمــة اإلســام‬ ‫التــي تعــاين مــن التخ ّلــف يف العديــد مــن‬ ‫المجــاالت يف حاجــة إلــى أن يكــون بيــن‬ ‫أبنائهــا أكــر عــدد ممكــن مــن الناجحيــن‬ ‫والمتفوقيــن‪ ،‬كمــا َّ‬ ‫أن النجــاح ُيل ّبــي‬ ‫ٍ‬ ‫حاجــات عميقــ ًة يف نفوســنا‪ ،‬مثــل تم ُّلــك‬ ‫القـ َّـوة‪ ،‬والتقليــل مــن الحاجــة إلــى النــاس‪،‬‬ ‫وتأميــن متط َّلبــات الحيــاة‪ ،‬باإلضافــة إلــى َّ‬ ‫أن‬ ‫ِ‬ ‫مــرارات الفشــل‪.‬‬ ‫تــذوق‬ ‫النجــاح ُيجنِّ ُبنــا ُّ‬ ‫صفات الناجحين‪:‬‬ ‫ُ‬

‫ •قــدر ٌة عاليـ ٌة علــى التك ُّيــف مــع الظــروف‬ ‫ـات الجديـ ِ‬ ‫والبيئـ ِ‬ ‫ـدة‪.‬‬

‫الدائــم لمناقشــة األفــكار‬ ‫ •االســتعدا ُد‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫الجديــدة‪ ،‬والتخلــي عــن وجهــات‬ ‫الخاصــة إذا ثبــت عــدم صواهبــا‪.‬‬ ‫النظــر‬ ‫َّ‬ ‫بحــس الدعابــة‬ ‫ّــع‬ ‫ّ‬ ‫حــب المــرح والتمت ُ‬ ‫ • ُّ‬ ‫مــع التفريــق بيــن الجدِّ َّيــة والعبــوس‪.‬‬ ‫ •يعلــم الناجــح أنَّــه ال يعلــم‪ ،‬وال يطــرح‬ ‫أفــكارا إذا لــم تثبــت لديــه وال يملــك‬ ‫ً‬ ‫مــن األدلــة مــا يكفــي لإلقنــاع هبــا‪.‬‬ ‫ •يحدِّ د أهدافه بوضوحٍ ‪.‬‬

‫ •يقــرأ كل يــومٍ‪ ،‬ويحــاول قــراء َة كتــاب‬ ‫واحــد يف الشــهر علــى األقــل‪.‬‬ ‫يؤجــل رغباتــه‪ ،‬ويضبــط نفســه‪ ،‬ويبــادر‬ ‫ • ِّ‬ ‫إلــى فعــل الخيــر‪.‬‬ ‫الحفاظ عــى الهويَّة الثقافيَّة‪.‬‬

‫نحــن اليــوم يف عصــر الحداثــة الســائلة‪،‬‬ ‫حيــث انتهــى عصــر األفــكار والمذاهــب‬ ‫التفكيــك ّ‬ ‫َ‬ ‫لــكل مــا‬ ‫الكبيــرة‪ ،‬فنحــن نشــهدُ‬ ‫هــو مشــرك وجامــع‪ ،‬إذ تعمــل العولمــة‬

‫العاملي‪:‬‬ ‫علــى جعــل الشــباب ينغمســون يف بحــار املواطن‬ ‫ُّ‬ ‫َّ‬ ‫والمســلم‬ ‫المتعــة واللــذة واللهــو والتســلية والولــع اإلســام رحمــ ٌة للعالميــن‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ـردي‬ ‫الشــديد يف البحــث عــن الخــاص الفـ ّ‬ ‫معنــي هبدايــة العالــم‪ ،‬وإيصــال رســالة‬ ‫ٌّ‬ ‫الشــخصي‪ ...‬هــذه الوضع ّيــة‬ ‫والمســتقبل‬ ‫ّ‬ ‫مهتــم بإعمــار‬ ‫اإلســام إليــه‪ ،‬كمــا أنَّــه‬ ‫ٌّ‬ ‫تش ـ ِّكل ِ‬ ‫تحد ًيــا غيــر مســبوق لـ ِّ‬ ‫ـكل الهو ّيــات‬ ‫ِ‬ ‫األرض‪ ،‬وازدهــار األوطــان ونظافــة البيئــة‪،‬‬ ‫الثقاف ّيــة والوطن ّيــة‪ ،‬وحيــن يضعــف االنتمــاء‬ ‫والحفــاظ علــى المــوارد التــي أتاحهــا‬ ‫ـدي والوطنــي؛ فـ َّ‬ ‫ـإن الدفــاع عــن الذاتيــة‬ ‫العقـ ُّ‬ ‫ُّ‬ ‫لنــا الخالــق الجليــل‪ ..‬هــذا ك ُّلــه يتط َّلــب‬ ‫ـب الريــح‪.‬‬ ‫الدينيــة واألخالق َّيــة يصبــح يف مهـ ِّ‬ ‫َ‬ ‫عقــل‬ ‫مــن مدارســنا تنشــئ َة جيــ ٍل يحمــل‬ ‫َّ‬ ‫وروحــه‪.‬‬ ‫العالمــي وقل َبــه‬ ‫إن الهو َّيــة الثقاف َّيــة عبــارة عــن مر َّكــب مــن المواطــن‬ ‫َ‬ ‫ِّ‬ ‫المعتقــدات والفنــون والعــادات والقوانيــن‬ ‫ٌ‬ ‫إنســان تتجــاوز‬ ‫العالمــي‪:‬‬ ‫المواطــن‬ ‫واألعــراف التــي تمنــح األ ّمــة خصوص َّيتهــا‬ ‫ُّ‬ ‫وإن عقيدتنــا اإلســام َّية اهتماماتــه حــدود الوطــن الــذي يعيــش فيــه‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫بيــن األمــم‪،‬‬ ‫الســمحة تشــ ِّكل عمــاد هو َّيتنــا الثقاف َّيــة إ ّنــه ينظـ ُـر إلــى بنــي البشــر جمي ًعــا علــى أنَّهــم‬ ‫باإلضافــة إلــى بعــض القيــم األساســية‪ ،‬مثــل يســتح ُّقون المســاعدة والعيــش الكريــم‬ ‫الحفــاظ علــى تماســك األســرة والوفــاء والحمايــة مــن الفقــر والظلــم والمــرض‪َّ ،‬‬ ‫إن‬ ‫للصديــق واحــرام الكبيــر ورعايــة حقــوق الذيــن يمكــن أن ُي ْسـ َت ْثنَوا مــن هــذا هــم فقــط‬ ‫الجــار‪ ،‬والوقــوف إلــى جانــب الضعيــف الذيــن نعــدُّ أنفســنا يف حالــة حـ ٍ‬ ‫ـرب معهــم‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫والمظلــوم‪...‬‬ ‫المرتحــل الــذي‬ ‫نحــن يف عصــر اإلنســان‬

‫العاملي‬ ‫املواطن‬ ‫ ‬ ‫ُّ‬ ‫إنسا ٌن تتجاوز اهتامماته‬ ‫حدود الوطن الذي يعيش‬ ‫فيه‪ ،‬إنّه ينظ ُر إىل بني البرش‬ ‫جمي ًعا عىل أنَّهم يستحقُّون‬ ‫املساعدة والعيش الكريم‬ ‫والحامية من الفقر والظلم‬ ‫واملرض‬

‫يولــد يف بلــد‪ ،‬ويتع ّلــم يف بلــد‪ ،‬ويعمــل يف‬ ‫بلـ ٍـد ثالـ ٍ‬ ‫ـث‪ ،‬وهــذا يتط َّلــب مــن المــدارس أن‬ ‫تــزود طالهبــا بعـ ٍ‬ ‫ـدد مــن المهــارات الثقاف َّيــة‪،‬‬ ‫ِّ َ‬ ‫َ‬ ‫وترســخ يف أذهاهنــم عــد ًدا مــن المفاهيــم‬ ‫ِّ‬ ‫والمفــردات األخالق َّيــة التــي تســاعدهم‬ ‫التنــوع الثقــايفِّ والمشــاركة يف‬ ‫تفهــم‬ ‫ُّ‬ ‫علــى ُّ‬ ‫األعمــال مــع أشــخاص مختلفيــن دين ًّيــا‬ ‫ولغو ًّيــا‪ ،‬باإلضافــة إلــى القــدرة علــى‬ ‫التفــاوض وتــداول األفــكار‪ ،‬والمشــاركة يف‬ ‫وتفهــم الخصوص َّيــات والعــادات‬ ‫النقــاش‪ُّ ،‬‬ ‫والتقاليــد واألعــراف المرع َّيــة لــدى‬ ‫اآلخريــن‪.‬‬

‫هــذه المفاهيــم والمهــارات تحتــاج إلــى‬ ‫بنــاء خلف َّيــة ثقاف َّيــة حديثــة لــدى الطــاب‪،‬‬ ‫كمــا تحتــاج إلــى تدريــب عملـ ٍّـي واسـ ٍع عــر‬ ‫َّ‬ ‫الدراســي‪.‬‬ ‫إن مــن واجــب المــدارس بنــاء عقــول األنشــطة المصاحبــة للمنهــج‬ ‫ِّ‬ ‫منفتحــة وثقافــة رحبــة لــدى الطــاب‪،‬‬ ‫ـم لتكويــن المواطــن العالمـ ِّـي أن‬ ‫يســتطيعون مــن خاللهــا التمييــز بيــن مــن المهـ ِّ‬ ‫نعتمــدَ يف بنــاء شــخص َّيات ّ‬ ‫طلبنــا شــيئين‬ ‫الصالــح والطالــح والغـ ِّ‬ ‫ـث والســمين‪ ،‬كمــا‬ ‫أساســ َّيين‪:‬‬ ‫َّ‬ ‫جســد يف عالقاهتــا وأعرافهــا‬ ‫أن عليهــا أن ُت ِّ‬ ‫و ُن ُظمهــا الداخل َّيــة ّ‬ ‫األول‪ :‬هــو الســعي إلــى أن يكــون العالــم‬ ‫كل مــا يســاعد علــى‬ ‫َّ‬ ‫تشــكيل الشــخص َّية اإلســام َّية الســو َّية‪ .‬بأســره مكانًــا أفضــل للعيــش علــى نحــو‬ ‫‪61‬‬


‫لماذا نع ّلم؟‬

‫لماذا نع ّلم؟‬ ‫د‪ .‬عبد الكريم بكار‬ ‫عضو أمناء املجلس اإلسالمي السوري‬

‫إن تحديــد األهــداف والغايــات يف كل‬ ‫َّ‬ ‫ـري‬ ‫دائمــا شــيء جوهـ ّ‬ ‫مجــاالت الحيــاة هــو ً‬ ‫ألن الهــدف يشــكّل البوصلــة‬ ‫ومهــم؛ ّ‬ ‫ألنشــطتنا يف الـــمجال الــذي نعمــل فيــه‪.‬‬

‫أول‬ ‫إن الهــدف الــذي ينبغــي أن نحــدِّ ده ً‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫لــكل المؤسســات‬ ‫النهائــي‬ ‫هــو الهــدف‬ ‫ّ‬ ‫واألشــغال التعليميــة‪ ،‬وحيــن نحــدِّ د الهــدف‬ ‫النهائــي يســهل علينــا تحديــدُ األهــداف‬ ‫ّ‬ ‫الفرع ّيــة‪ّ ،‬‬ ‫يتوســل بــه إلــى تحقيقهــا‪.‬‬ ‫وكل مــا ّ‬

‫ســئلت؛ مــا الشــيء الــذي يمكــن أن‬ ‫لــو‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫لــكل‬ ‫واألكبــر‬ ‫النهائــي‬ ‫يكــون الهــدف‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫لقلــت دون تــر ّدد‪:‬‬ ‫العمليــات التعليميــة‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫إنّــه (الحيــاة الط ّيبــة) وهــذا اســتلهام لقــول‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ــن َذكَــرٍ‬ ‫ــن َع ِم َ‬ ‫ــل َصال ًحــا م ْ‬ ‫اهلل تعالــى‪{َ :‬م ْ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫ــن َف َلن ُْحي َينَّــ ُه َح َيــا ًة ط ِّي َبــ ًة‬ ‫ــو ُم ْؤم ٌ‬ ‫َأ ْو ُأ ْن َثــى َو ُه َ‬ ‫ــم بِ َأ ْح َس ِ‬ ‫ــن َمــا كَانُــوا‬ ‫ــم َأ ْج َر ُه ْ‬ ‫َو َلن َْج ِز َين َُّه ْ‬ ‫ــون} [ســورة النحــل‪ :‬آيــة ‪.]97‬‬ ‫َي ْع َم ُل َ‬ ‫الحيــاة الط ّيبــة المــرادة هنــا هــي الهنــاء‬ ‫والســعادة واألمــن واالســتقرار والنجــاح‬ ‫ٍ‬ ‫مــاض يف‬ ‫والرخــاء‪ ،‬وشــعور المــرء بأنّــه‬ ‫الطريــق الصحيــح‪ ،‬وعلــى هــدي عقيدتــه‬ ‫ومبادئــه ِ‬ ‫وق َي ِمــه‪...‬‬

‫مك ّونات الحياة الطيبة‪:‬‬ ‫االنسجام الذايتّ‪:‬‬

‫يشــكل االنســجام الــذايتّ علــى نحــو عــا ٍّم‬ ‫‪60‬‬

‫رمــزا لشــيئين‪ :‬االســتقرار واالندمــاج‪،‬‬ ‫ً‬ ‫وكالهمــا َينتــج مــن شــيئين‪ :‬وضــوح‬ ‫الرؤيــة وزوال التناقــض مــن الحيــاة اليوم َّيــة‬ ‫لإلنســان‪ ...‬هــذا يفــرض علــى مؤسســاتنا‬ ‫ِ‬ ‫العقائــد‬ ‫الرتكيــز علــى مجموعــة‬ ‫التعليميــة‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫والمبــادئ والقيــم التــي ترســم خــط الســير‬ ‫الشــخصي للطالــب يف هــذه الحيــاة‪ ،‬مثــل‬ ‫اإليمــان العميــق بــاهلل تعالــى‪ ،‬والعمــل‬ ‫لآلخــرة واالســتقامة والحفــاظ علــى‬ ‫وبــر الوالديــن‬ ‫األســري‪،‬‬ ‫التماســك‬ ‫ّ‬ ‫ِّ‬ ‫والرحمــة والتعــاون‪ ،‬واحــرام خصوصيــات‬ ‫اآلخريــن والجديــة والمثابــرة والشــغف‬ ‫بمعرفــة الجديــد‪.‬‬

‫شــك يف ّ‬ ‫ّ‬ ‫أن المناهــج واألنشــطة‬ ‫ال‬ ‫المدرســ ّية المتوافــرة اآلن تســاعد علــى‬ ‫إيجــاد الوعــي الــذي نتحــدث عنــه‪ ،‬لكــن‬ ‫علــى نحــو جزئــي؛ َّ‬ ‫وإن لــدى بعــض‬ ‫ٍّ‬ ‫ـارب جميلــة يف هــذا‬ ‫المــدارس اليابانيــة تجـ َ‬ ‫الشــأن‪ ،‬ولعـ َّـل مــا يلفــت النَّظــر منهــا شــيئان‪:‬‬

‫األول‪ :‬هــو طــرح األســئلة المفتوحــة علــى‬ ‫ٍ‬ ‫أجوبــة علــى تلــك‬ ‫الطــاب دون انتظــار‬ ‫األســئلة منهــم‪ ،‬بغيــة إيقــاظ عقولهــم حــول‬ ‫بعــض المســائل والقضايــا المتع ِّلقــة ببعــض‬ ‫القيــم أو بمســتقبل البــاد‪ ،‬ومــن ذلــك مثـ ًـا‪:‬‬ ‫ـاع طــاب المدارس‬ ‫ •هــل من المناســب إطـ ُ‬ ‫المتوســطة على مرض الســرطان؟‬ ‫ّ‬ ‫ •هل استنساخ البشر شي ٌء مقبول؟‬

‫ •هــل مــن المناســب صــرف مر َّتبــات‬ ‫لطــاب المــدارس االبتدائ َّيــة؟‬

‫الثــاين‪ :‬ترتيــب زيــارات لــوزراء وقــادة‬ ‫وعلمــاء ورؤســاء بلد َّيــات ورجــال أعمــال‬ ‫بارزيــن للمــدارس‪ ،‬وهــذا من َّظــم وكثيــف‬ ‫لدرجــة َّ‬ ‫يتخــرج مــن‬ ‫أن الطالــب حيــن‬ ‫ّ‬ ‫ِّ‬ ‫األقــل‬ ‫الثانو َّيــة يكــون قــد التقــى علــى‬ ‫بخمســين شــخصية مجتمعيــة‪ ...‬ويغــدو‬ ‫مــن خــال الســماع لتجارهبــم وآرائهــم‬ ‫والنقــاش معهــم وقــد صــار علــى وعــي تــا ٍّم‬ ‫بالعديــد مــن جوانــب الحيــاة‪ ،‬كمــا ّ‬ ‫أن اللقــاء‬ ‫ّ‬ ‫ـلبي الــذي ُيقابــل االنســجام بالقــادة والناجحيــن يو ِّلــد طاقــة تحفيز ّيــة‬ ‫إن المعنــى السـ ّ‬ ‫الــذايتّ هــو (االغــراب الــذايتّ) وهــو هائلــة لــدى الطــاب‪.‬‬ ‫مصطلــح ُيشــير إلــى العديــد مــن المعــاين‬ ‫الســيئة‪ ،‬منهــا‪ :‬العجــز والعزلــة والالمبــاالة إشــعال الرغبة يف التعليم‪:‬‬ ‫واالستســا ُم لليــأس واإلحبــاط‪ ،‬وفقــدُ مــن المتفق عليــه َّ‬ ‫أن المــدارس والجامعات‬ ‫المعاييــر‪ ،‬وتفــ ّكك القيــم‪.‬‬ ‫تخــرج علمــاء‪،‬‬ ‫مهمــا عــا شــأهنا‪ -‬ال‬‫ِّ‬ ‫هــذه المعــاين تشــيع لــدى كثيــر مــن فتياننــا ولهــذا ّ‬ ‫أنفــس مــا تقدِّ مــه َّ‬ ‫لطلهبــا هــو‬ ‫فــإن‬ ‫َ‬ ‫وفتياتنــا؛ بســبب الخلــل الهائــل الــذي إشــعال رغبتهــم يف المزيــد مــن التع ّلــم‬ ‫وتحبيــب القــراءة والكتــاب إلــى نفوســهم‪،‬‬ ‫أوجدتــه الحضــارة الحديثــة‪.‬‬ ‫َّ‬ ‫ومــن المؤســف أن معظــم مدارســنا قــد‬ ‫تنمية الوعي‪:‬‬ ‫أخفقــت يف هــذا إخفا ًقــا شــديدً ا‪ ،‬وهــذا قــد‬ ‫نحــن نعيــش يف واقــع شــديد التعقيــد‪ ،‬يعــود إلــى عــدد مــن العوامــل‪ ،‬لكــن يبــدو‬ ‫ِ‬ ‫ّ‬ ‫أن أهمهــا يكمــن يف األســلوب الــذي تقــدِّ م‬ ‫ـرارات الصحيحـ َة‬ ‫وحتــى يتّخــذ الطالــب القـ‬ ‫يف حياتــه يحتــاج إلــى (االتصــال العميــق) بــه المــدارس المعرفــة والتجربــة لطالهبــا‪،‬‬ ‫ويف نوع َّيــة العالقــة التــي تربــط الطالــب‬ ‫بذاتــه وبمحيطــه‪ ،‬وهــذا هــو (الوعــي)‪.‬‬

‫لماذا نع ّلم؟‬ ‫بأســاتذته‪.‬‬

‫إين ألتط ّلــع حقيق ـ ًة إلــى اليــوم الــذي نتَّخــذ‬ ‫فيــه مــن مــدى نجــاح المــدارس يف تحبيــب‬ ‫ـارا أساسـ ًّيا يف تقييــم‬ ‫التع ُّلــم إلــى طالهبــا معيـ ً‬ ‫جودهتــا ودرجــة تصنيفهــا‪.‬‬ ‫ترســيخ عادات الناجحني‪:‬‬

‫مهمــا‬ ‫يشــ ّكل النجــاح يف الحيــاة‬ ‫ً‬ ‫عنصــرا ًّ‬ ‫يف تكويــن (الحيــاة الط ّيبــة) فأ َّمــة اإلســام‬ ‫التــي تعــاين مــن التخ ّلــف يف العديــد مــن‬ ‫المجــاالت يف حاجــة إلــى أن يكــون بيــن‬ ‫أبنائهــا أكــر عــدد ممكــن مــن الناجحيــن‬ ‫والمتفوقيــن‪ ،‬كمــا َّ‬ ‫أن النجــاح ُيل ّبــي‬ ‫ٍ‬ ‫حاجــات عميقــ ًة يف نفوســنا‪ ،‬مثــل تم ُّلــك‬ ‫القـ َّـوة‪ ،‬والتقليــل مــن الحاجــة إلــى النــاس‪،‬‬ ‫وتأميــن متط َّلبــات الحيــاة‪ ،‬باإلضافــة إلــى َّ‬ ‫أن‬ ‫ِ‬ ‫مــرارات الفشــل‪.‬‬ ‫تــذوق‬ ‫النجــاح ُيجنِّ ُبنــا ُّ‬ ‫صفات الناجحين‪:‬‬ ‫ُ‬

‫ •قــدر ٌة عاليـ ٌة علــى التك ُّيــف مــع الظــروف‬ ‫ـات الجديـ ِ‬ ‫والبيئـ ِ‬ ‫ـدة‪.‬‬

‫الدائــم لمناقشــة األفــكار‬ ‫ •االســتعدا ُد‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫الجديــدة‪ ،‬والتخلــي عــن وجهــات‬ ‫الخاصــة إذا ثبــت عــدم صواهبــا‪.‬‬ ‫النظــر‬ ‫َّ‬ ‫بحــس الدعابــة‬ ‫ّــع‬ ‫ّ‬ ‫حــب المــرح والتمت ُ‬ ‫ • ُّ‬ ‫مــع التفريــق بيــن الجدِّ َّيــة والعبــوس‪.‬‬ ‫ •يعلــم الناجــح أنَّــه ال يعلــم‪ ،‬وال يطــرح‬ ‫أفــكارا إذا لــم تثبــت لديــه وال يملــك‬ ‫ً‬ ‫مــن األدلــة مــا يكفــي لإلقنــاع هبــا‪.‬‬ ‫ •يحدِّ د أهدافه بوضوحٍ ‪.‬‬

‫ •يقــرأ كل يــومٍ‪ ،‬ويحــاول قــراء َة كتــاب‬ ‫واحــد يف الشــهر علــى األقــل‪.‬‬ ‫يؤجــل رغباتــه‪ ،‬ويضبــط نفســه‪ ،‬ويبــادر‬ ‫ • ِّ‬ ‫إلــى فعــل الخيــر‪.‬‬ ‫الحفاظ عــى الهويَّة الثقافيَّة‪.‬‬

‫نحــن اليــوم يف عصــر الحداثــة الســائلة‪،‬‬ ‫حيــث انتهــى عصــر األفــكار والمذاهــب‬ ‫التفكيــك ّ‬ ‫َ‬ ‫لــكل مــا‬ ‫الكبيــرة‪ ،‬فنحــن نشــهدُ‬ ‫هــو مشــرك وجامــع‪ ،‬إذ تعمــل العولمــة‬

‫العاملي‪:‬‬ ‫علــى جعــل الشــباب ينغمســون يف بحــار املواطن‬ ‫ُّ‬ ‫َّ‬ ‫والمســلم‬ ‫المتعــة واللــذة واللهــو والتســلية والولــع اإلســام رحمــ ٌة للعالميــن‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ـردي‬ ‫الشــديد يف البحــث عــن الخــاص الفـ ّ‬ ‫معنــي هبدايــة العالــم‪ ،‬وإيصــال رســالة‬ ‫ٌّ‬ ‫الشــخصي‪ ...‬هــذه الوضع ّيــة‬ ‫والمســتقبل‬ ‫ّ‬ ‫مهتــم بإعمــار‬ ‫اإلســام إليــه‪ ،‬كمــا أنَّــه‬ ‫ٌّ‬ ‫تش ـ ِّكل ِ‬ ‫تحد ًيــا غيــر مســبوق لـ ِّ‬ ‫ـكل الهو ّيــات‬ ‫ِ‬ ‫األرض‪ ،‬وازدهــار األوطــان ونظافــة البيئــة‪،‬‬ ‫الثقاف ّيــة والوطن ّيــة‪ ،‬وحيــن يضعــف االنتمــاء‬ ‫والحفــاظ علــى المــوارد التــي أتاحهــا‬ ‫ـدي والوطنــي؛ فـ َّ‬ ‫ـإن الدفــاع عــن الذاتيــة‬ ‫العقـ ُّ‬ ‫ُّ‬ ‫لنــا الخالــق الجليــل‪ ..‬هــذا ك ُّلــه يتط َّلــب‬ ‫ـب الريــح‪.‬‬ ‫الدينيــة واألخالق َّيــة يصبــح يف مهـ ِّ‬ ‫َ‬ ‫عقــل‬ ‫مــن مدارســنا تنشــئ َة جيــ ٍل يحمــل‬ ‫َّ‬ ‫وروحــه‪.‬‬ ‫العالمــي وقل َبــه‬ ‫إن الهو َّيــة الثقاف َّيــة عبــارة عــن مر َّكــب مــن المواطــن‬ ‫َ‬ ‫ِّ‬ ‫المعتقــدات والفنــون والعــادات والقوانيــن‬ ‫ٌ‬ ‫إنســان تتجــاوز‬ ‫العالمــي‪:‬‬ ‫المواطــن‬ ‫واألعــراف التــي تمنــح األ ّمــة خصوص َّيتهــا‬ ‫ُّ‬ ‫وإن عقيدتنــا اإلســام َّية اهتماماتــه حــدود الوطــن الــذي يعيــش فيــه‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫بيــن األمــم‪،‬‬ ‫الســمحة تشــ ِّكل عمــاد هو َّيتنــا الثقاف َّيــة إ ّنــه ينظـ ُـر إلــى بنــي البشــر جمي ًعــا علــى أنَّهــم‬ ‫باإلضافــة إلــى بعــض القيــم األساســية‪ ،‬مثــل يســتح ُّقون المســاعدة والعيــش الكريــم‬ ‫الحفــاظ علــى تماســك األســرة والوفــاء والحمايــة مــن الفقــر والظلــم والمــرض‪َّ ،‬‬ ‫إن‬ ‫للصديــق واحــرام الكبيــر ورعايــة حقــوق الذيــن يمكــن أن ُي ْسـ َت ْثنَوا مــن هــذا هــم فقــط‬ ‫الجــار‪ ،‬والوقــوف إلــى جانــب الضعيــف الذيــن نعــدُّ أنفســنا يف حالــة حـ ٍ‬ ‫ـرب معهــم‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫والمظلــوم‪...‬‬ ‫المرتحــل الــذي‬ ‫نحــن يف عصــر اإلنســان‬

‫العاملي‬ ‫املواطن‬ ‫ ‬ ‫ُّ‬ ‫إنسا ٌن تتجاوز اهتامماته‬ ‫حدود الوطن الذي يعيش‬ ‫فيه‪ ،‬إنّه ينظ ُر إىل بني البرش‬ ‫جمي ًعا عىل أنَّهم يستحقُّون‬ ‫املساعدة والعيش الكريم‬ ‫والحامية من الفقر والظلم‬ ‫واملرض‬

‫يولــد يف بلــد‪ ،‬ويتع ّلــم يف بلــد‪ ،‬ويعمــل يف‬ ‫بلـ ٍـد ثالـ ٍ‬ ‫ـث‪ ،‬وهــذا يتط َّلــب مــن المــدارس أن‬ ‫تــزود طالهبــا بعـ ٍ‬ ‫ـدد مــن المهــارات الثقاف َّيــة‪،‬‬ ‫ِّ َ‬ ‫َ‬ ‫وترســخ يف أذهاهنــم عــد ًدا مــن المفاهيــم‬ ‫ِّ‬ ‫والمفــردات األخالق َّيــة التــي تســاعدهم‬ ‫التنــوع الثقــايفِّ والمشــاركة يف‬ ‫تفهــم‬ ‫ُّ‬ ‫علــى ُّ‬ ‫األعمــال مــع أشــخاص مختلفيــن دين ًّيــا‬ ‫ولغو ًّيــا‪ ،‬باإلضافــة إلــى القــدرة علــى‬ ‫التفــاوض وتــداول األفــكار‪ ،‬والمشــاركة يف‬ ‫وتفهــم الخصوص َّيــات والعــادات‬ ‫النقــاش‪ُّ ،‬‬ ‫والتقاليــد واألعــراف المرع َّيــة لــدى‬ ‫اآلخريــن‪.‬‬

‫هــذه المفاهيــم والمهــارات تحتــاج إلــى‬ ‫بنــاء خلف َّيــة ثقاف َّيــة حديثــة لــدى الطــاب‪،‬‬ ‫كمــا تحتــاج إلــى تدريــب عملـ ٍّـي واسـ ٍع عــر‬ ‫َّ‬ ‫الدراســي‪.‬‬ ‫إن مــن واجــب المــدارس بنــاء عقــول األنشــطة المصاحبــة للمنهــج‬ ‫ِّ‬ ‫منفتحــة وثقافــة رحبــة لــدى الطــاب‪،‬‬ ‫ـم لتكويــن المواطــن العالمـ ِّـي أن‬ ‫يســتطيعون مــن خاللهــا التمييــز بيــن مــن المهـ ِّ‬ ‫نعتمــدَ يف بنــاء شــخص َّيات ّ‬ ‫طلبنــا شــيئين‬ ‫الصالــح والطالــح والغـ ِّ‬ ‫ـث والســمين‪ ،‬كمــا‬ ‫أساســ َّيين‪:‬‬ ‫َّ‬ ‫جســد يف عالقاهتــا وأعرافهــا‬ ‫أن عليهــا أن ُت ِّ‬ ‫و ُن ُظمهــا الداخل َّيــة ّ‬ ‫األول‪ :‬هــو الســعي إلــى أن يكــون العالــم‬ ‫كل مــا يســاعد علــى‬ ‫َّ‬ ‫تشــكيل الشــخص َّية اإلســام َّية الســو َّية‪ .‬بأســره مكانًــا أفضــل للعيــش علــى نحــو‬ ‫‪61‬‬


‫لماذا نع ّلم؟‬ ‫دائم‪ ،‬ما وجدنا إلى ذلك ً‬ ‫سبيل‪.‬‬

‫الثــاين‪ :‬هــو االشــمئزاز مــن الظلــم‬ ‫ـاس‬ ‫والتطفيــف يف المعاييــر‪ ،‬فالظلــم هــو أسـ ٌ‬ ‫ـم مــا يحـ ُّـل بالبشـ ِـر مــن نــزا ٍع وعــذابٍ‬ ‫لمعظـ ِ‬ ‫وتشــرد‪.‬‬

‫العالمــي ليســت مــن‬ ‫فرتبيــة المواطــن‬ ‫ّ‬ ‫الــرف أو األمــور الكمال َّيــة‪ ،‬إنَّهــا يف الحقيقــة‬ ‫جــز ٌء مــن اللياقــة الحيات َّيــة لــدى طالبنــا‪.‬‬

‫النظرة املستقبل َّية‪:‬‬ ‫دائمــا لطالبِنــا ليح َيــوا (حيــا ًة‬ ‫مــن‬ ‫المهــم ً‬ ‫ِّ‬ ‫ط ِّيبــةً) َّأل نقــع أســرى لمــا نعــرف‪ ،‬ولمــا‬ ‫دائمــا‬ ‫نســتطيع فع َلــ ُه‪ ،‬بــل علينــا التفكيــر ً‬ ‫فيمــا يجــب علينــا فعلــه‪ ،‬ونحــن اليــو َم نــرى‬ ‫بــأ ِّم أعيننــا ســرعة التطـ ُّـورات الهائلــة علــى‬ ‫ِّ‬ ‫ممــا يوجــب علينــا أن‬ ‫كل أصعــدة الحيــاة‪َّ ،‬‬ ‫ِ‬ ‫ـوي ‪-‬مثـ ًـا‪ -‬ليحيــا ويعمل‪،‬‬ ‫نُعــدَّ طالــب الثانـ ّ‬ ‫ويبــدع يف بيئـ ٍـة ســتكون موجــود ًة بعــد عشــر‬ ‫ٍ‬ ‫ســنوات‪ ،‬وهــذا يعنــي َّ‬ ‫أن علــى المــدارس‬ ‫ِ‬ ‫المعطيــات‬ ‫محاولــ َة اكتشــاف وتخ ُّيــل‬ ‫السـ ِ‬ ‫ُ‬ ‫ـيتعامل معهــا الطالــب بعــد‬ ‫ـائدة التــي سـ‬ ‫ٍ‬ ‫فيومئــذ ســتكون‬ ‫تخرجــه مــن الجامعــة‪،‬‬ ‫ُّ‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ـات ال عهــد‬ ‫ـرص وتحدِّ يـ ٌ‬ ‫علــى نحــو مؤ َّكــد فـ ٌ‬ ‫لنــا هبــا اليــوم‪.‬‬

‫أ ‪ -‬مــن المتو َّقــع اســتمرار تو ُّفــر قــدر هائــل‬ ‫مــن المعلومــات يف ِّ‬ ‫كل المجــاالت‪ ،‬ومــن‬ ‫المتو َّقــع كذلــك ازديــاد إمكان َّيــة الحصــول‬ ‫عليهــا‪ ،‬وهــذا يعنــي تراجــع درجــة االهتمــام‬ ‫ممــا يتط َّلــب الرتكيــز علــى‬ ‫بالحفــظ‪َّ ،‬‬ ‫تدريــب الطــاب علــى معالجــة المعلومــات‬ ‫والتعامــل معهــا‪ ،‬وهــذا يقتضــي االرتقــا َء‬ ‫ِ‬ ‫النقــد لــدى الطالــب‪ ،‬وتنميــ َة‬ ‫بملكــة‬ ‫ِ‬ ‫ـم مــن خــال‬ ‫مهــارات ممارســته‪ ،‬وذلــك يتـ ُّ‬ ‫التفهــم العميــق للمعــارف التي‬ ‫تدريبــه علــى ُّ‬ ‫ـم مــن خــال‬ ‫يدرســها وي َّطلـ ُ‬ ‫ـع عليهــا‪ ،‬كمــا يتـ ُّ‬ ‫ُ‬ ‫تدريــب الطالــب علــى تحليــل المعلومــات‬ ‫ثــم تقويمهــا‬ ‫والمعطيــات المتوفــرة‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫وصـ ً‬ ‫ـول إلــى توظيفهــا واســتثمارها‪ ..‬ومــن‬ ‫المؤســف َّ‬ ‫مناهجنــا التعليميــة بعيــد ٌة‬ ‫أن‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫كل البعــد عــن مالمســة هــذا األفــق كمــا ال‬ ‫ِ‬ ‫يخفــى علــى الم َّطلــع!‬ ‫‪62‬‬

‫ب‪ -‬علــى واضعــي المناهــج امتــاك‬ ‫البصيــرة والمعرفــة الكافيــة إلدراك‬ ‫المؤهــات والمهــارات التــي يحتاجهــا‬ ‫ِّ‬ ‫الطــاب مــن أجــل دخــول ســوق العمــل‪،‬‬ ‫والحصــول علــى وظيفــة مرموقــة فيــه‪ ،‬وإن‬ ‫شــي ًئا كهــذا يتط َّلــب إعــدا ًدا فكر ًّيــا ونفســ ًّيا‬ ‫مع ّينًــا‪ ،‬كمــا يتط َّلــب إيجــاد اهتمامــات‬ ‫وتمليــك مهــارات محــدَّ دة‪ ،‬ونحــن نــرى‬ ‫كل اقتصـ ِ‬ ‫بــأ ِّم أعيننــا اليــوم كيــف تتَّجــه ُّ‬ ‫ـادات‬ ‫العالــم نحــو الحاجــة إلــى اإلبــداع‬ ‫التخصص َّيــة‪ ،‬ونحــو االعتمــاد‬ ‫والمعــارف‬ ‫ُّ‬ ‫علــى المزيــد مــن الربمجــة واألتمتــة‪ ،‬ومــن‬ ‫هنــا َّ‬ ‫تحفيــز الطــاب‬ ‫فــإن علــى المــدارس‬ ‫َ‬ ‫علــى إتقــان مهــارات مثــل التعامــل مــع‬ ‫الشــخص َّيات الصعبــة‪ ،‬والتواصــل والتعامــل‬ ‫مــع زمــاء العمــل‪ ،‬ومثــل تع ُّلــم أبجد َّيــات‬ ‫صناعــة (الروبوتــات) وتقن َّيــة (النانــو)‬ ‫وتع ُّلــم أبجد َّيــات (ال َّطاقــة المتجــدِّ دة)‪َّ ،‬‬ ‫إن‬ ‫العالــم ك َّلــه يتَّجــه نحــو تطويــر هــذه األشــياء‬ ‫باإلضافــة إلــى تطويــر عالــم االتصــاالت‬ ‫الصناعــي يف‬ ‫والمواصــات ودمــج الــذكاء‬ ‫ِّ‬ ‫المـ ِّ‬ ‫ـري‪ ،‬وإبــداع المزيــد مــن المــواد‬ ‫ـخ البشـ ِّ‬ ‫الجديــدة‪...‬‬ ‫ت‪ -‬تدريــب الطــاب علــى التفكيــر‬ ‫المنهجـ ِّـي والتقييــم الموضوعـ ِّـي للمعــارف‬ ‫يتضمــن‬ ‫واألفــكار واألحــداث‪ ،‬وهــذا‬ ‫َّ‬ ‫بالطبــع التدريــب علــى تحديــد األولو َّيــات‬ ‫واألفــكار األساســية يف ِّ‬ ‫كل مشــرو ٍع مــن‬ ‫المشــروعات‪ ،‬إلــى جانــب تدريــب الطالــب‬ ‫علــى بلــورة أعظــم األخطــار والتحدِّ يــات‬ ‫التــي يمكــن أن تعصــف بــه‪.‬‬

‫ث‪ -‬ســتكون الخيــارات يف المســتقبل‬ ‫هائلــة‪ ،‬كمــا َّ‬ ‫أن المغريــات والمر ِّفهــات‬ ‫يف نمــو م َّط ٍ‬ ‫تعليــم‬ ‫ــرد‪ ،‬وهــذا ك ُّلــه يقتضــي‬ ‫ُ ٍّ‬ ‫َ‬ ‫الطالــب كيــف يحيــا حيــا ًة متوازن ـةً‪ ،‬حيــث‬ ‫ٍ‬ ‫بموازنــات‬ ‫المطلــوب منــه القيــا َم‬ ‫يكــون‬ ‫ُ‬ ‫كثيــرة بيــن المبــادئ والمصالــح‪ ،‬وبيــن‬ ‫ٌ‬ ‫شــخصي‬ ‫عاجــل وآجــل‪ ،‬ومــا هــو‬ ‫مــا هــو‬ ‫ٌّ‬ ‫واجتماعــي ‪...‬‬ ‫ٌّ‬ ‫التطوعــي‬ ‫حــب العمــل‬ ‫غــرس‬ ‫ج‪-‬‬ ‫ِّ‬ ‫ُ‬ ‫ِ ّ‬ ‫والخيــري يف نفــوس الطــاب وعقولهــم‬ ‫ّ‬

‫وتدريبهــم علــى ذلــك عــر هتيئــة الفرصــة‬ ‫لهــم لالنخــراط يف العمــل يف بعــض‬ ‫المؤسســات الخيريــة خــال الدراســة يف‬ ‫المتوســطة والثانويــة‪ ،‬وهــذا‬ ‫المرحلتيــن‬ ‫ِّ‬ ‫ك ُّلــه يتط َّلــب رؤيــ ًة اســراتيج َّي ًة وتخطي ًطــا‬ ‫دائمــا‬ ‫اســراتيج ًّيا‪ ،‬وإال فســنجد أنفســنا ً‬ ‫ـدرب علــى مهــارات صــارت‬ ‫ـورا ونـ ِّ‬ ‫نع ِّلــم أمـ ً‬ ‫يف حكــم الهامشــ ّية أو المنســوخة‪.‬‬ ‫ممــا‬ ‫إذا كان مــا يحتاجــه التعليــم العــا ُّم َّ‬ ‫ـإن حاجــة (التعليــم‬ ‫ذكرنــاه كبيـ ًـرا‬ ‫وملحــا‪ ،‬فـ َّ‬ ‫ًّ‬ ‫إلحاحــا‬ ‫الشــرعي) إلــى ذلــك أكبــر وأشــدُّ‬ ‫ً‬ ‫ِّ‬ ‫ٍ‬ ‫جهــات عليــا ترعــاه‪،‬‬ ‫بســبب عــدم وجــود‬ ‫وتعمــل علــى تطويــره وتحديثــه‪.‬‬ ‫رب العالمين‬ ‫والحمد هلل ِّ‬

‫أثر الشعوبية في المجتمع العربي المسلم‬

‫أثر ُّ‬ ‫الشعوب َّيةِ‬ ‫ُ‬

‫ـلم‬ ‫العربي‬ ‫المجتمع‬ ‫في‬ ‫ْ‬ ‫المسـ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِّ‬ ‫األستاذ َتميم اليو ُنس ‪ -‬إجازة يف الشريعة‬

‫إن األمــم الكبــرى كلهــا تمـ ُّـر خــال عمرهــا الطويــل يف مراحــل مختلفــة‬ ‫مــن االنتصــارات واالنكســارات‪ ،‬والعــرب أمــة مــن األمــم التــي شـ َّـرفها‬ ‫اهلل وأعزَّهــا بدينــه اإلســام‪ ،‬يمـ ُّـر عليهــا مــا يمـ ُّـر علــى غيرهــا مــن صعــود‬ ‫وانحــدار‪ ...‬وفيمــا تــا فتــرة ثــورات الربيــع العربــي ومــا تخللهــا مــن‬ ‫انكســارات ومؤامــرات علــى الشــعوب العربيــة المســلمة‪ ،‬ظهــرت‬ ‫موجــة مــن اليــأس والعجــز عنــد الشــباب العربــي المســلم‪ ،‬ونتيجــة‬ ‫لهــذا اإلحســاس بالعجــز واليــأس ظهــرت بعــض األفــكار والمقــاالت‬ ‫والكتابــات الســلبية‪ ،‬وهــذا أمــر طبيعــي‪ ،‬ولكنــه ومــع ازديــاد كميــة هــذه‬ ‫المناشــير التــي تثبــط النــاس وتقتــل الثقــة بالنفــس ومــا يتخللهــا مــن طعــن‬ ‫بالعــرب وبالقيــم اإلســامية التــي يحملونهــا‪ ،‬يــراودك الشــك يف مصــدر‬ ‫هــذه الرســائل وتلــك المقــاالت الطويلــة المنمقــة التــي ال تكــف عــن‬ ‫مقارنــة العــرب بالغــرب‪ ،‬وتدعــو إلــى االنســاخ عــن اإلســام بحجــة أنــه‬ ‫المســؤول عــن كل مــا أصابنــا مــن مصائــب‪.‬‬ ‫إن هــذه الهجمــة المنظمــة علــى العــرب وعلــى مــا يحملونــه مــن ثقافــة‬ ‫إســامية‪ ،‬أو مــا يقدســونه مــن أوامــر ربانيــة؛ تعيــد ذاكرتنــا إلــى تاريــخ‬ ‫الحــركات المتطرفــة التــي تبنــت القيــام هبجمــات فكريــة خبيثــة علــى‬ ‫وحملتِــه مــن العــرب عــر التاريخ اإلســامي الطويــل‪ ،‬إذ عرفت‬ ‫اإلســام َ‬ ‫تلــك الحــركات باســم (الشــعوبية)‪.‬‬

‫إن مــا شــاهدناه يف القــرن العشــرين مــن هجــوم علــى المســلمين عامــة‪،‬‬ ‫وعلــى العنصــر العربــي خاصــة‪ ،‬هــو مظهــر مــن مظاهــر عــودة الحركــة‬ ‫الشــعوبية التــي هتــدف إلــى الطعــن باإلســام والعنصــر العربــي‪ ،‬بعــدِّ ه‬ ‫أصــل عناصــر اإلســام‪ ،‬وبِلغتِــه جــاء القــرآن الكريــم‪ ،‬ودونــت الســنة‬ ‫النبويــة‪ ،‬وأ ِّلفــت علــو ُم الحضــارة اإلســامية‪.‬‬ ‫وقــد تمثلــت الشــعوبية المعاصــرة يف عــدة مظاهــر‪ ،‬منها‪ :‬تحميــل العرب‬ ‫خاصــة مســؤولية ســقوط الخالفــة اإلســامية؛ مــن خــال تصويرهــم‬ ‫العنصــر الخائــن‪ ،‬وكلنــا نعلــم أن ســقوطها كان نتيجــة الهنيــار يف األمــة‬ ‫كلهــا‪ ،‬بــكل أعراقهــا‪.‬‬ ‫ومــن مظاهــر الشــعوبية المعاصــرة محاولــة الغــرب إنــكار أي إســهامات‬

‫للعــرب يف الحضــارة‪ ،‬ومحاولتهــم النيــل مــن العــرب بإشــاعتهم يف‬ ‫مســارحهم أن العــرب قــوم يخبئــون ذيولهــم تحــت عباءاهتــم الطويلــة‪ ،‬ثم‬ ‫نشــوء تيــارات من المثقفيــن واألدباء العــرب يحتقرون قومهم‪ ،‬وينســبون‬ ‫كل خيــر فيهــم إلــى اليونــان واألمــم الســابقة‪ ،‬وفيمــا تــا ثــورة الخمينــي‬ ‫يف إيــران ومــا تبعهــا مــن محاولــة للتســلط علــى العــرب‪ ،‬زادت الحكومــة‬ ‫اإليرانيــة المتطرفــة حجـ َـم الكراهيــة للعــرب تحــت ذرائــع مختلفــة‪ ،‬ممــا‬ ‫جعلهــم موضوعــا لكثيــر مــن الهزليــات الشــعبية يف إيــران‪.‬‬ ‫وســأعرض يف هــذه المقالــة موجـ ًـزا عــن مبــدأ اإلســام‪ ،‬وتكليــف اهلل‬ ‫للعــرب بحملــه‪ ،‬مــا أدى إلى ظهــور حمالت منظمة للقضــاء على العرب‬ ‫ومهاجمتهــم مــن قبــل األمــم التــي رفضــت اإلســام‪ ،‬أو التــي خلطتــه‬ ‫بعصبيتهــا القوميــة واســتخدمت الديــن يف خدمــة مصالحهــا الفئويــة‪ ،‬وقد‬ ‫خبتــت هــذه الحركــة يف فــرة حكــم المماليــك والــرك‪ ،‬وعــادت للظهــور‬ ‫بأشــرس صورهــا يف عصرنــا الحديــث‪ ،‬وزادت من هجومهــا المنظم فيما‬ ‫تــا ثــورات الربيــع العربــي؛ لقتــل األمــل يف نفــوس العــرب ومنعهــم مــن‬ ‫التحــرك والقيــام مــن جديــد‪.‬‬

‫قانون االصطفاء اإللهي‪:‬‬

‫ونوعــه بحكمتــه‪ ،‬وكمــا ّنوع أصنــاف الخلق‬ ‫إن اهلل ســبحانه خلــق الخلــق َّ‬ ‫فقــد نـ ّـوع خلقــة البشــر‪ ،‬فمنهــم األحمــر واألبيــض واألصفــر واألســود‪،‬‬ ‫ـاس إِ َّنــا‬ ‫وجعلهــم شــعوبًا وقبائــل مختلفــة‪ ،‬قــال اهلل تعالــى‪َ ﴿ :‬يــا َأ ُّي َهــا النَّـ ُ‬ ‫َخ َل ْقنَا ُكـ ْـم مِـ ْن َذ َكـ ٍـر َو ُأ ْن َثــى َو َج َع ْلنَاك ُْم ُشـ ُعو ًبا َو َق َبائِـ َـل ل ِ َت َع َار ُفــوا إِ َّن َأك َْر َم ُك ْم‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫هَّلل َعلِيـ ٌـم َخبِيـ ٌـر﴾ [ســورة الحجــرات‪ :‬آيــة ‪.]13‬‬ ‫عنْــدَ اهَّلل َأ ْت َقا ُكـ ْـم إِ َّن ا َ‬

‫وكان مــن حكمــة اهلل أن يصطفــي مــن خلقــه مــا يشــاء‪ ،‬فقــد اصطفــى آدم‬ ‫َّ‬ ‫مســخرة لهــم‪ ،‬ثــم‬ ‫وذريتــه وأخلفهــم يف األرض‪ ،‬وجعــل المخلوقــات‬ ‫ُوحــا‬ ‫اص َط َفــى آ َد َم َون ً‬ ‫هَّلل ْ‬ ‫اصطفــى مــن بنــي آدم مــن يشــاء‪ ،‬قــال تعالــى‪﴿ :‬إِ َّن ا َ‬ ‫َو َآل إِ ْب َر ِاهيـ َـم َو َآل ِع ْمـ َـر َ‬ ‫ان َع َلــى ا ْل َعا َل ِميـ َن﴾ [ســورة آل عمــران‪ :‬اآلية ‪،]33‬‬ ‫ـب َعـ ْن مِ َّلـ ِـة إِ ْب َر ِاهيـ َـم إِ َّل َمـ ْن َسـ ِـف َه َن ْف َسـ ُه َو َل َقـ ِـد‬ ‫وقــال تعالــى‪َ ﴿ :‬و َمـ ْن َي ْر َغـ ُ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫الصالحيـ َن﴾ [ســورة البقــرة‪:‬‬ ‫اص َط َف ْينَــا ُه فــي الدُّ ْن َيــا َوإِ َّنـ ُه فــي ْالخـ َـرة َلمـ َن َّ‬ ‫ْ‬ ‫‪63‬‬


‫لماذا نع ّلم؟‬ ‫دائم‪ ،‬ما وجدنا إلى ذلك ً‬ ‫سبيل‪.‬‬

‫الثــاين‪ :‬هــو االشــمئزاز مــن الظلــم‬ ‫ـاس‬ ‫والتطفيــف يف المعاييــر‪ ،‬فالظلــم هــو أسـ ٌ‬ ‫ـم مــا يحـ ُّـل بالبشـ ِـر مــن نــزا ٍع وعــذابٍ‬ ‫لمعظـ ِ‬ ‫وتشــرد‪.‬‬

‫العالمــي ليســت مــن‬ ‫فرتبيــة المواطــن‬ ‫ّ‬ ‫الــرف أو األمــور الكمال َّيــة‪ ،‬إنَّهــا يف الحقيقــة‬ ‫جــز ٌء مــن اللياقــة الحيات َّيــة لــدى طالبنــا‪.‬‬

‫النظرة املستقبل َّية‪:‬‬ ‫دائمــا لطالبِنــا ليح َيــوا (حيــا ًة‬ ‫مــن‬ ‫المهــم ً‬ ‫ِّ‬ ‫ط ِّيبــةً) َّأل نقــع أســرى لمــا نعــرف‪ ،‬ولمــا‬ ‫دائمــا‬ ‫نســتطيع فع َلــ ُه‪ ،‬بــل علينــا التفكيــر ً‬ ‫فيمــا يجــب علينــا فعلــه‪ ،‬ونحــن اليــو َم نــرى‬ ‫بــأ ِّم أعيننــا ســرعة التطـ ُّـورات الهائلــة علــى‬ ‫ِّ‬ ‫ممــا يوجــب علينــا أن‬ ‫كل أصعــدة الحيــاة‪َّ ،‬‬ ‫ِ‬ ‫ـوي ‪-‬مثـ ًـا‪ -‬ليحيــا ويعمل‪،‬‬ ‫نُعــدَّ طالــب الثانـ ّ‬ ‫ويبــدع يف بيئـ ٍـة ســتكون موجــود ًة بعــد عشــر‬ ‫ٍ‬ ‫ســنوات‪ ،‬وهــذا يعنــي َّ‬ ‫أن علــى المــدارس‬ ‫ِ‬ ‫المعطيــات‬ ‫محاولــ َة اكتشــاف وتخ ُّيــل‬ ‫السـ ِ‬ ‫ُ‬ ‫ـيتعامل معهــا الطالــب بعــد‬ ‫ـائدة التــي سـ‬ ‫ٍ‬ ‫فيومئــذ ســتكون‬ ‫تخرجــه مــن الجامعــة‪،‬‬ ‫ُّ‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ـات ال عهــد‬ ‫ـرص وتحدِّ يـ ٌ‬ ‫علــى نحــو مؤ َّكــد فـ ٌ‬ ‫لنــا هبــا اليــوم‪.‬‬

‫أ ‪ -‬مــن المتو َّقــع اســتمرار تو ُّفــر قــدر هائــل‬ ‫مــن المعلومــات يف ِّ‬ ‫كل المجــاالت‪ ،‬ومــن‬ ‫المتو َّقــع كذلــك ازديــاد إمكان َّيــة الحصــول‬ ‫عليهــا‪ ،‬وهــذا يعنــي تراجــع درجــة االهتمــام‬ ‫ممــا يتط َّلــب الرتكيــز علــى‬ ‫بالحفــظ‪َّ ،‬‬ ‫تدريــب الطــاب علــى معالجــة المعلومــات‬ ‫والتعامــل معهــا‪ ،‬وهــذا يقتضــي االرتقــا َء‬ ‫ِ‬ ‫النقــد لــدى الطالــب‪ ،‬وتنميــ َة‬ ‫بملكــة‬ ‫ِ‬ ‫ـم مــن خــال‬ ‫مهــارات ممارســته‪ ،‬وذلــك يتـ ُّ‬ ‫التفهــم العميــق للمعــارف التي‬ ‫تدريبــه علــى ُّ‬ ‫ـم مــن خــال‬ ‫يدرســها وي َّطلـ ُ‬ ‫ـع عليهــا‪ ،‬كمــا يتـ ُّ‬ ‫ُ‬ ‫تدريــب الطالــب علــى تحليــل المعلومــات‬ ‫ثــم تقويمهــا‬ ‫والمعطيــات المتوفــرة‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫وصـ ً‬ ‫ـول إلــى توظيفهــا واســتثمارها‪ ..‬ومــن‬ ‫المؤســف َّ‬ ‫مناهجنــا التعليميــة بعيــد ٌة‬ ‫أن‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫كل البعــد عــن مالمســة هــذا األفــق كمــا ال‬ ‫ِ‬ ‫يخفــى علــى الم َّطلــع!‬ ‫‪62‬‬

‫ب‪ -‬علــى واضعــي المناهــج امتــاك‬ ‫البصيــرة والمعرفــة الكافيــة إلدراك‬ ‫المؤهــات والمهــارات التــي يحتاجهــا‬ ‫ِّ‬ ‫الطــاب مــن أجــل دخــول ســوق العمــل‪،‬‬ ‫والحصــول علــى وظيفــة مرموقــة فيــه‪ ،‬وإن‬ ‫شــي ًئا كهــذا يتط َّلــب إعــدا ًدا فكر ًّيــا ونفســ ًّيا‬ ‫مع ّينًــا‪ ،‬كمــا يتط َّلــب إيجــاد اهتمامــات‬ ‫وتمليــك مهــارات محــدَّ دة‪ ،‬ونحــن نــرى‬ ‫كل اقتصـ ِ‬ ‫بــأ ِّم أعيننــا اليــوم كيــف تتَّجــه ُّ‬ ‫ـادات‬ ‫العالــم نحــو الحاجــة إلــى اإلبــداع‬ ‫التخصص َّيــة‪ ،‬ونحــو االعتمــاد‬ ‫والمعــارف‬ ‫ُّ‬ ‫علــى المزيــد مــن الربمجــة واألتمتــة‪ ،‬ومــن‬ ‫هنــا َّ‬ ‫تحفيــز الطــاب‬ ‫فــإن علــى المــدارس‬ ‫َ‬ ‫علــى إتقــان مهــارات مثــل التعامــل مــع‬ ‫الشــخص َّيات الصعبــة‪ ،‬والتواصــل والتعامــل‬ ‫مــع زمــاء العمــل‪ ،‬ومثــل تع ُّلــم أبجد َّيــات‬ ‫صناعــة (الروبوتــات) وتقن َّيــة (النانــو)‬ ‫وتع ُّلــم أبجد َّيــات (ال َّطاقــة المتجــدِّ دة)‪َّ ،‬‬ ‫إن‬ ‫العالــم ك َّلــه يتَّجــه نحــو تطويــر هــذه األشــياء‬ ‫باإلضافــة إلــى تطويــر عالــم االتصــاالت‬ ‫الصناعــي يف‬ ‫والمواصــات ودمــج الــذكاء‬ ‫ِّ‬ ‫المـ ِّ‬ ‫ـري‪ ،‬وإبــداع المزيــد مــن المــواد‬ ‫ـخ البشـ ِّ‬ ‫الجديــدة‪...‬‬ ‫ت‪ -‬تدريــب الطــاب علــى التفكيــر‬ ‫المنهجـ ِّـي والتقييــم الموضوعـ ِّـي للمعــارف‬ ‫يتضمــن‬ ‫واألفــكار واألحــداث‪ ،‬وهــذا‬ ‫َّ‬ ‫بالطبــع التدريــب علــى تحديــد األولو َّيــات‬ ‫واألفــكار األساســية يف ِّ‬ ‫كل مشــرو ٍع مــن‬ ‫المشــروعات‪ ،‬إلــى جانــب تدريــب الطالــب‬ ‫علــى بلــورة أعظــم األخطــار والتحدِّ يــات‬ ‫التــي يمكــن أن تعصــف بــه‪.‬‬

‫ث‪ -‬ســتكون الخيــارات يف المســتقبل‬ ‫هائلــة‪ ،‬كمــا َّ‬ ‫أن المغريــات والمر ِّفهــات‬ ‫يف نمــو م َّط ٍ‬ ‫تعليــم‬ ‫ــرد‪ ،‬وهــذا ك ُّلــه يقتضــي‬ ‫ُ ٍّ‬ ‫َ‬ ‫الطالــب كيــف يحيــا حيــا ًة متوازن ـةً‪ ،‬حيــث‬ ‫ٍ‬ ‫بموازنــات‬ ‫المطلــوب منــه القيــا َم‬ ‫يكــون‬ ‫ُ‬ ‫كثيــرة بيــن المبــادئ والمصالــح‪ ،‬وبيــن‬ ‫ٌ‬ ‫شــخصي‬ ‫عاجــل وآجــل‪ ،‬ومــا هــو‬ ‫مــا هــو‬ ‫ٌّ‬ ‫واجتماعــي ‪...‬‬ ‫ٌّ‬ ‫التطوعــي‬ ‫حــب العمــل‬ ‫غــرس‬ ‫ج‪-‬‬ ‫ِّ‬ ‫ُ‬ ‫ِ ّ‬ ‫والخيــري يف نفــوس الطــاب وعقولهــم‬ ‫ّ‬

‫وتدريبهــم علــى ذلــك عــر هتيئــة الفرصــة‬ ‫لهــم لالنخــراط يف العمــل يف بعــض‬ ‫المؤسســات الخيريــة خــال الدراســة يف‬ ‫المتوســطة والثانويــة‪ ،‬وهــذا‬ ‫المرحلتيــن‬ ‫ِّ‬ ‫ك ُّلــه يتط َّلــب رؤيــ ًة اســراتيج َّي ًة وتخطي ًطــا‬ ‫دائمــا‬ ‫اســراتيج ًّيا‪ ،‬وإال فســنجد أنفســنا ً‬ ‫ـدرب علــى مهــارات صــارت‬ ‫ـورا ونـ ِّ‬ ‫نع ِّلــم أمـ ً‬ ‫يف حكــم الهامشــ ّية أو المنســوخة‪.‬‬ ‫ممــا‬ ‫إذا كان مــا يحتاجــه التعليــم العــا ُّم َّ‬ ‫ـإن حاجــة (التعليــم‬ ‫ذكرنــاه كبيـ ًـرا‬ ‫وملحــا‪ ،‬فـ َّ‬ ‫ًّ‬ ‫إلحاحــا‬ ‫الشــرعي) إلــى ذلــك أكبــر وأشــدُّ‬ ‫ً‬ ‫ِّ‬ ‫ٍ‬ ‫جهــات عليــا ترعــاه‪،‬‬ ‫بســبب عــدم وجــود‬ ‫وتعمــل علــى تطويــره وتحديثــه‪.‬‬ ‫رب العالمين‬ ‫والحمد هلل ِّ‬

‫أثر الشعوبية في المجتمع العربي المسلم‬

‫أثر ُّ‬ ‫الشعوب َّيةِ‬ ‫ُ‬

‫ـلم‬ ‫العربي‬ ‫المجتمع‬ ‫في‬ ‫ْ‬ ‫المسـ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِّ‬ ‫األستاذ َتميم اليو ُنس ‪ -‬إجازة يف الشريعة‬

‫إن األمــم الكبــرى كلهــا تمـ ُّـر خــال عمرهــا الطويــل يف مراحــل مختلفــة‬ ‫مــن االنتصــارات واالنكســارات‪ ،‬والعــرب أمــة مــن األمــم التــي شـ َّـرفها‬ ‫اهلل وأعزَّهــا بدينــه اإلســام‪ ،‬يمـ ُّـر عليهــا مــا يمـ ُّـر علــى غيرهــا مــن صعــود‬ ‫وانحــدار‪ ...‬وفيمــا تــا فتــرة ثــورات الربيــع العربــي ومــا تخللهــا مــن‬ ‫انكســارات ومؤامــرات علــى الشــعوب العربيــة المســلمة‪ ،‬ظهــرت‬ ‫موجــة مــن اليــأس والعجــز عنــد الشــباب العربــي المســلم‪ ،‬ونتيجــة‬ ‫لهــذا اإلحســاس بالعجــز واليــأس ظهــرت بعــض األفــكار والمقــاالت‬ ‫والكتابــات الســلبية‪ ،‬وهــذا أمــر طبيعــي‪ ،‬ولكنــه ومــع ازديــاد كميــة هــذه‬ ‫المناشــير التــي تثبــط النــاس وتقتــل الثقــة بالنفــس ومــا يتخللهــا مــن طعــن‬ ‫بالعــرب وبالقيــم اإلســامية التــي يحملونهــا‪ ،‬يــراودك الشــك يف مصــدر‬ ‫هــذه الرســائل وتلــك المقــاالت الطويلــة المنمقــة التــي ال تكــف عــن‬ ‫مقارنــة العــرب بالغــرب‪ ،‬وتدعــو إلــى االنســاخ عــن اإلســام بحجــة أنــه‬ ‫المســؤول عــن كل مــا أصابنــا مــن مصائــب‪.‬‬ ‫إن هــذه الهجمــة المنظمــة علــى العــرب وعلــى مــا يحملونــه مــن ثقافــة‬ ‫إســامية‪ ،‬أو مــا يقدســونه مــن أوامــر ربانيــة؛ تعيــد ذاكرتنــا إلــى تاريــخ‬ ‫الحــركات المتطرفــة التــي تبنــت القيــام هبجمــات فكريــة خبيثــة علــى‬ ‫وحملتِــه مــن العــرب عــر التاريخ اإلســامي الطويــل‪ ،‬إذ عرفت‬ ‫اإلســام َ‬ ‫تلــك الحــركات باســم (الشــعوبية)‪.‬‬

‫إن مــا شــاهدناه يف القــرن العشــرين مــن هجــوم علــى المســلمين عامــة‪،‬‬ ‫وعلــى العنصــر العربــي خاصــة‪ ،‬هــو مظهــر مــن مظاهــر عــودة الحركــة‬ ‫الشــعوبية التــي هتــدف إلــى الطعــن باإلســام والعنصــر العربــي‪ ،‬بعــدِّ ه‬ ‫أصــل عناصــر اإلســام‪ ،‬وبِلغتِــه جــاء القــرآن الكريــم‪ ،‬ودونــت الســنة‬ ‫النبويــة‪ ،‬وأ ِّلفــت علــو ُم الحضــارة اإلســامية‪.‬‬ ‫وقــد تمثلــت الشــعوبية المعاصــرة يف عــدة مظاهــر‪ ،‬منها‪ :‬تحميــل العرب‬ ‫خاصــة مســؤولية ســقوط الخالفــة اإلســامية؛ مــن خــال تصويرهــم‬ ‫العنصــر الخائــن‪ ،‬وكلنــا نعلــم أن ســقوطها كان نتيجــة الهنيــار يف األمــة‬ ‫كلهــا‪ ،‬بــكل أعراقهــا‪.‬‬ ‫ومــن مظاهــر الشــعوبية المعاصــرة محاولــة الغــرب إنــكار أي إســهامات‬

‫للعــرب يف الحضــارة‪ ،‬ومحاولتهــم النيــل مــن العــرب بإشــاعتهم يف‬ ‫مســارحهم أن العــرب قــوم يخبئــون ذيولهــم تحــت عباءاهتــم الطويلــة‪ ،‬ثم‬ ‫نشــوء تيــارات من المثقفيــن واألدباء العــرب يحتقرون قومهم‪ ،‬وينســبون‬ ‫كل خيــر فيهــم إلــى اليونــان واألمــم الســابقة‪ ،‬وفيمــا تــا ثــورة الخمينــي‬ ‫يف إيــران ومــا تبعهــا مــن محاولــة للتســلط علــى العــرب‪ ،‬زادت الحكومــة‬ ‫اإليرانيــة المتطرفــة حجـ َـم الكراهيــة للعــرب تحــت ذرائــع مختلفــة‪ ،‬ممــا‬ ‫جعلهــم موضوعــا لكثيــر مــن الهزليــات الشــعبية يف إيــران‪.‬‬ ‫وســأعرض يف هــذه المقالــة موجـ ًـزا عــن مبــدأ اإلســام‪ ،‬وتكليــف اهلل‬ ‫للعــرب بحملــه‪ ،‬مــا أدى إلى ظهــور حمالت منظمة للقضــاء على العرب‬ ‫ومهاجمتهــم مــن قبــل األمــم التــي رفضــت اإلســام‪ ،‬أو التــي خلطتــه‬ ‫بعصبيتهــا القوميــة واســتخدمت الديــن يف خدمــة مصالحهــا الفئويــة‪ ،‬وقد‬ ‫خبتــت هــذه الحركــة يف فــرة حكــم المماليــك والــرك‪ ،‬وعــادت للظهــور‬ ‫بأشــرس صورهــا يف عصرنــا الحديــث‪ ،‬وزادت من هجومهــا المنظم فيما‬ ‫تــا ثــورات الربيــع العربــي؛ لقتــل األمــل يف نفــوس العــرب ومنعهــم مــن‬ ‫التحــرك والقيــام مــن جديــد‪.‬‬

‫قانون االصطفاء اإللهي‪:‬‬

‫ونوعــه بحكمتــه‪ ،‬وكمــا ّنوع أصنــاف الخلق‬ ‫إن اهلل ســبحانه خلــق الخلــق َّ‬ ‫فقــد نـ ّـوع خلقــة البشــر‪ ،‬فمنهــم األحمــر واألبيــض واألصفــر واألســود‪،‬‬ ‫ـاس إِ َّنــا‬ ‫وجعلهــم شــعوبًا وقبائــل مختلفــة‪ ،‬قــال اهلل تعالــى‪َ ﴿ :‬يــا َأ ُّي َهــا النَّـ ُ‬ ‫َخ َل ْقنَا ُكـ ْـم مِـ ْن َذ َكـ ٍـر َو ُأ ْن َثــى َو َج َع ْلنَاك ُْم ُشـ ُعو ًبا َو َق َبائِـ َـل ل ِ َت َع َار ُفــوا إِ َّن َأك َْر َم ُك ْم‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫هَّلل َعلِيـ ٌـم َخبِيـ ٌـر﴾ [ســورة الحجــرات‪ :‬آيــة ‪.]13‬‬ ‫عنْــدَ اهَّلل َأ ْت َقا ُكـ ْـم إِ َّن ا َ‬

‫وكان مــن حكمــة اهلل أن يصطفــي مــن خلقــه مــا يشــاء‪ ،‬فقــد اصطفــى آدم‬ ‫َّ‬ ‫مســخرة لهــم‪ ،‬ثــم‬ ‫وذريتــه وأخلفهــم يف األرض‪ ،‬وجعــل المخلوقــات‬ ‫ُوحــا‬ ‫اص َط َفــى آ َد َم َون ً‬ ‫هَّلل ْ‬ ‫اصطفــى مــن بنــي آدم مــن يشــاء‪ ،‬قــال تعالــى‪﴿ :‬إِ َّن ا َ‬ ‫َو َآل إِ ْب َر ِاهيـ َـم َو َآل ِع ْمـ َـر َ‬ ‫ان َع َلــى ا ْل َعا َل ِميـ َن﴾ [ســورة آل عمــران‪ :‬اآلية ‪،]33‬‬ ‫ـب َعـ ْن مِ َّلـ ِـة إِ ْب َر ِاهيـ َـم إِ َّل َمـ ْن َسـ ِـف َه َن ْف َسـ ُه َو َل َقـ ِـد‬ ‫وقــال تعالــى‪َ ﴿ :‬و َمـ ْن َي ْر َغـ ُ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫الصالحيـ َن﴾ [ســورة البقــرة‪:‬‬ ‫اص َط َف ْينَــا ُه فــي الدُّ ْن َيــا َوإِ َّنـ ُه فــي ْالخـ َـرة َلمـ َن َّ‬ ‫ْ‬ ‫‪63‬‬


‫أثر الشعوبية في المجتمع العربي المسلم‬ ‫آيــة ‪ ،]130‬وكل ذلــك لحكمــة إلهيــة فقــد يصطفــي اهلل أفــرادا وقــد‬ ‫يصطفــي أقوامــا‪ ،‬وليــس اصطفــاؤه أقوامــا دلي ـاً علــى أن كل مــن فيهــم‬ ‫ِ‬ ‫يصطفهــم؛ إذ مرجــع األفضليــة إلــى التقوى كمــا قال‬ ‫هــو أفضــل ممــن لــم‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫هَّلل َعليـ ٌـم َخبيـ ٌـر﴾ [ســورة‬ ‫ربنــا ســبحانه‪﴿ :‬إِ َّن َأك َْر َم ُكـ ْـم عنْــدَ اهَّلل أ ْت َقا ُكـ ْـم إ َّن ا َ‬ ‫الحجــرات‪ :‬آيــة ‪.]13‬‬

‫فضــل اهلل بعــض األقــوام علــى آخريــن ببعــض النعــم والعطايــا‪،‬‬ ‫ولقــد َّ‬ ‫كمــا فضــل بنــي إســرائيل بكثــرة األنبيــاء والمرســلين‪ ،‬قــال تعالــى‪َ ﴿ :‬يــا‬ ‫ـت َع َل ْي ُكـ ْـم َو َأ ِّنــي َف َّض ْل ُت ُكـ ْـم َع َلــى‬ ‫َبنِــي إِ ْسـ َـرائِ َيل ا ْذ ُكـ ُـروا نِ ْع َمتِـ َـي ا َّلتِــي َأ ْن َع ْمـ ُ‬ ‫ا ْل َعا َل ِميـ َن﴾ [ســورة البقــرة‪ :‬آيــة ‪ ،]47‬وقــد ذ ّكــر موســى عليه الســام قومه‬ ‫﴿وإِ ْذ َقـ َ‬ ‫وســى ل ِ َق ْومِـ ِـه َيــا َقـ ْـو ِم ا ْذ ُكـ ُـروا نِ ْع َم ـ َة‬ ‫بنعــم اهلل عليهــم فقــال‪َ :‬‬ ‫ـال ُم َ‬ ‫اهَّللِ َع َلي ُكــم إِ ْذ جعـ َـل فِي ُكــم َأ ْنبِيــاء وجع َل ُكــم م ُلــوكًا وآ َتا ُكــم مــا َلــم يـ ْـؤتِ‬ ‫َ‬ ‫ْ ْ َ َ‬ ‫ْ َ ْ ُ‬ ‫ْ َ َ َ َ َ ْ ُ‬ ‫َأ َحــدً ا مِـ َن ا ْل َعا َل ِمي ـ َن﴾ [ســورة المائــدة‪ :‬اآليــة ‪ ،]20‬وعندمــا عصــوا بــدَّ ل‬ ‫اهلل حالهــم وجازاهــم مــن البــاء بمقــدار مــا كفــروا مــن النعمــة‪ ،‬قــال اهلل‬ ‫الذ َّلـ ُة َوا ْل َم ْسـ َكنَ ُة َو َبــا ُءوا بِ َغ َضـ ٍ‬ ‫ـت َع َل ْي ِهـ ُـم ِّ‬ ‫ـب مِـ َن اهَّللِ َذل ِ َك‬ ‫﴿و ُض ِر َبـ ْ‬ ‫تعالــى‪َ :‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫بِ َأن َُّهـ ْـم كَا ُنــوا َيكفـ ُـرون بآ َيــات اهَّلل َو َيق ُتلــون النَّب ِّيي ـ َن ب َغ ْيــر ال َحـ ِّـق ذلـ َ‬ ‫ـك ب َمــا‬ ‫َع َصـ ْـوا َوكَا ُنــوا َي ْع َتــدُ َ‬ ‫ون﴾ [ســورة البقــرة‪ :‬آيــة ‪.]61‬‬

‫اصطفــى اهلل ســبحانه مــن مختلــف أعــراق بنــي آدم أناســا صالحيــن‬ ‫أوحــى إليهــم بالنبــوة أو الرســالة ليبلغــوا دينــه إلــى النــاس‪ ،‬وانقطعــت‬ ‫النبــوة فــرة يف انتظــار النبــي الخاتــم الــذي شــاع نبــؤه ونبــأ قومــه يف الكتــب‬ ‫الســماوية الســابقة‪ ،‬وقبيــل مبعثــه كان علمــاء األديــان يرتقبــون ظهــوره‪،‬‬ ‫وكان اليهــود ال يشــكون يف أنــه مبعــوث فيهــم؛ إذ يعتقــدون أهنــم أبنــاء اهلل‬ ‫وأحبــاؤه‪ ،‬وكان النصــارى مثلهــم يف ذلــك‪.‬‬

‫النبي الخاتم صىل الله عليه وسلم‪:‬‬

‫انقطعــت الرســالة فــرة مــن الزمــن‪ ،‬ثــم شــاء اهلل ســبحانه أن يرســل نب َّيــه‬ ‫الخاتــم إلــى عبــاده‪ ،‬فنــزل أمــره على نبــي عربي هو ســيد الكائنــات محمد‬ ‫بــن عبــد اهلل الهاشــمي القرشــي العدنــاين صلــى اهلل عليــه وســلم‪ ،‬وكان‬ ‫ذلــك اصطفــاء مــن اهلل ونعمــة منــه علــى العــرب‪ ،‬قــال اإلمــام القرطبــي يف‬ ‫تفســير قولــه تعالــى‪َ ﴿ :‬ل َقــدْ َجا َء ُكـ ْـم َر ُسـ ٌ‬ ‫ـول مِـ ْن َأ ْن ُف ِسـ ُك ْم﴾ [ســورة التوبــة‪:‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫مدحــا لنســب النبــي صلى‬ ‫‪( ]128‬قولــه تعالــى‪﴿ :‬مـ ْن َأ ْن ُفسـ ُك ْم﴾ يقتضــي ً‬ ‫اهلل عليــه وســلم وأنــه مــن صميــم العــرب وخالصهــا‪ ،‬ويف صحيــح مســلم‬ ‫عــن واثلــة بــن األســقع قــال‪ :‬ســمعت رســول اهلل صلــى اهلل عليــه وســلم‬ ‫يقــول‪« :‬إن اهلل اصطفــى كنانــة مــن ولــد إســماعيل واصطفــى قريشــا مــن‬ ‫كنانــة واصطفــى مــن قريــش بنــي هاشــم واصطفــاين مــن بنــي هاشــم»(((‪.‬‬ ‫إن اصطفــاء اهلل للعــرب لحمــل الرســالة لــم يكــن اعتبا ًطــا إنمــا يرجــع‬ ‫إلــى أن العــرب علــى اســتعداد لقبــول الرســالة وحملهــا والدفــاع عنهــا إذ‬ ‫كانــوا قومــا أصفيــاء النفــوس لــم تتكــدر عقولهــم بفلســفات الحضــارات‬ ‫وجدلياهتــا‪.‬‬

‫((( الحديث رواه مسلم‪ ،‬باب فضل نسب النبي صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬رقم (‪ )7706‬برتقيم المكنز‪ ،‬وقد‬ ‫ذكره القرطبي يف تفسير سورة التوبة (‪ )103/8‬دار عالم الكتب‪.‬‬

‫‪64‬‬

‫ويبــدو أن هــذا االختيــار قــد أحــدث ردة فعــل لدى الشــعوب غيــر العربية‬ ‫فأخــذت تبــث شــكوكها وتكشــف عــن اســتيائها‪ ،‬وإن قــول اهلل تعالــى‪:‬‬ ‫هَّلل َأ ْع َلـ ُـم َح ْيـ ُ‬ ‫ـث َي ْج َعـ ُـل ِر َســا َل َت ُه﴾ [األنعــام‪ ،]12٤ :‬قــول صريــح وقاطع‬ ‫﴿ا ُ‬ ‫يف الــرد علــى كل مــن يعــرض علــى حكمــة اهلل يف اصطفائــه لمــن شــاء من‬ ‫عباده‪.‬‬

‫وممــن اشــتهر عنــه إنــكار الوحــي إلــى نبــي عربــي اليهــود‪ ،‬وقــد ذكــر‬ ‫اإلمــام الــرازي وجهيــن لمحاجــة اليهــود يف نــزول الرســالة الخاتمــة علــى‬ ‫اجونَنــا فِــي اهَّللِ َو ُهـ َـو َر ُّبنــا‬ ‫نبــي عربــي عنــد تفســير قولــه تعالــى‪ُ ﴿ :‬قـ ْـل َأ ُت َح ُّ‬ ‫ِ‬ ‫َو َر ُّب ُكـ ْـم َو َلنــا َأ ْعما ُلنــا َو َل ُكـ ْـم َأ ْعما ُل ُكـ ْـم َون َْح ـ ُن َل ـ ُه ُم ْخل ُصـ َ‬ ‫ـون﴾ [ســورة‬ ‫البقــرة‪ :‬آيــة ‪ ،]139‬وقــال‪ْ :‬‬ ‫(اخ َت َل ُفــوا فِــي تِ ْلـ َ‬ ‫وها‪،‬‬ ‫اجـ ِـة َو َذ َكـ ُـروا ُو ُج ً‬ ‫ـك ا ْل ُم َح َّ‬ ‫َان َقو َلهــم إِنَّهــم َأو َلــى بِا ْلحـ ِّـق والنُّبــو ِة ل ِ َت َقــدُّ ِم النُّبــوةِ‬ ‫َأ َحدهــا‪َ :‬أ َّن َذلِـ َ‬ ‫ُ َّ‬ ‫َ َ ُ َّ‬ ‫ـك ك َ ْ ُ ْ ُ ْ ْ‬ ‫يهــم‪ ،‬وا ْلمعنَــى‪َ :‬أ ُتج ِ‬ ‫ِ‬ ‫اد ُلو َننَــا فِــي أن اهلل اصطفــى رسـ ً‬ ‫ـول مِـ َن ا ْل َعـ َـر ِب َل‬ ‫َ‬ ‫ف ِ ْ َ َ ْ‬ ‫مِنْ ُكـ ْـم َو َت ُقو ُلـ َ‬ ‫هَّلل َع َلــى َأ َحـ ٍـد َلَ ْنـ َـز َل َع َل ْي ُكـ ْـم‪َ ،‬و َت َر ْو َن ُكـ ْـم َأ َحـ َّـق‬ ‫ـون‪َ :‬لـ ْـو َأ ْنـ َـز َل ا ُ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫اليمـ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ـان مِ ـ َن ا ْل َعـ َـر ِب ا َّل ِذي ـ َن‬ ‫بِالنُّ ُبـ َّـوة منَّــا! َو َثان َيهــا‪َ :‬ق ْو ُل ُهـ ْـم‪ :‬ن َْح ـ ُن َأ َحـ ُّـق بِ ْ َ‬ ‫َع َبــدُ وا ْالَ ْو َثـ َ‬ ‫ـان‪.)...‬‬

‫العرب بني الترشيف والتكليف‪:‬‬

‫وقــد كان مــع هــذا التشــريف اإللهــي للعــرب ‪ -‬باختيــار النبــي الخاتــم‬ ‫منهــم ‪ -‬تكليــف شــاق؛ إذ وقــع علــى عاتقهــم تبليــغ رســالة اهلل ونشــرها‬ ‫بيــن األمــم‪ ،‬وقــد قامــوا بذلــك أيمــا قيــام‪ ،‬حتــى قضــى عشــرات اآلالف‬ ‫مــن صحابــة رســول اهلل صلــى اهلل عليــه وســلم يف اآلفــاق حامليــن ديــن‬ ‫اهلل ومجاهديــن دونــه‪ ،‬وقــد شــاركهم يف هــذا الشــرف آخــرون مــن غيــر‬ ‫العــرب كالصحابــي الجليــل ســلمان الفارســي وبــال الحبشــي وصهيب‬ ‫الرومــي رضــي اهلل عنهــم أجمعيــن‪.‬‬

‫ومهمــا يكــن فقــد كان العــرب يف مطلــع اإلســام هــم أصــل هــذه‬ ‫الدعــوة وحملتهــا‪ ،‬حتــى قــال عمــر بــن الخطــاب رضــي اهلل عنــه موص ًيــا‬ ‫مــن ســيخلفه‪( :‬و ُأ ِ‬ ‫وصيـ ِـه بِاألَ ْعـ َـر ِ‬ ‫اب َخ ْيـ ًـرا َفإِن َُّهـ ْـم َأ ْصـ ُـل ا ْل َعـ َـر ِب َو َمــا َّد ُة‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫اإل ْسـاَمِ)(((‪ ،‬وقــد نالــوا مــن الشــرف بمقــدار مــا حملــوا من همــوم الدعوة‬ ‫والبــذل يف ســبيلها فأكرمهــم اهلل بخيريــة هــذه األمــة‪ ،‬قــال النبــي صلــى اهلل‬ ‫«خ ْيـ ُـر النَّـ ِ‬ ‫عليــه وســلم‪َ :‬‬ ‫ـاس َق ْرنِــي‪ُ ،‬ثـ َّـم ا َّل ِذيـ َن َي ُلون َُهـ ْـم‪ُ ،‬ثـ َّـم ا َّل ِذيـ َن َي ُلون َُهـ ْـم‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ُثـ َّـم َي ِجــي ُء َأ ْقـ َـوا ٌم َت ْس ـبِ ُق َشـ َـها َد ُة َأ َحدهـ ْـم َيمينَ ـ ُه‪َ ،‬و َيمينُ ـ ُه َشـ َـها َد َته»(((‪.‬‬

‫نزول القرآن بالعربية‪:‬‬

‫لقــد نــزل القــرآن الكريــم أول مــا نــزل بيــن العــرب وبلغتهــم قــال اهلل‬ ‫تعالــى‪﴿ :‬إنــا أنزلنــاه قرآنــا عربيــا لعلكــم تعقلــون﴾ [ســورة يوســف‪ :‬آيــة‬ ‫ِ‬ ‫ـاب ُّم َصــدِّ ٌق ِّل َســانًا َع َربِ ًّيــا ِّل ُينـ ِـذ َر ا َّل ِذي َن‬ ‫﴿وهـ َـذا ك َتـ ٌ‬ ‫‪ ،]٢‬وقــال ربنــا ســبحانه‪َ :‬‬ ‫َظ َل ُمــوا َو ُب ْشـ َـر ٰى ل ِ ْل ُم ْح ِســنِي َن﴾ [األحقــاف‪ :‬آيــة ‪.]12‬‬ ‫وكان نــزول القــرآن بلغــة العــرب لحكــم كثيــرة ظهــر منهــا للبشــر ما ظهر‬

‫((( قطعة من حديث رواه البخاري يف باب قصة البيعة واتفاق الناس على عثمان بن عفان رضي اهلل عنه‪،‬‬ ‫رقم (‪ )7943‬طبعة البغا‪.‬‬ ‫((( رواه الشيخان وأحمد عن عبد اهلل بن مسعود رضي اهلل عنه‪.‬‬

‫أثر الشعوبية في المجتمع العربي المسلم‬ ‫وخفــي مــا خفــي‪ ،‬ومــن الحكــم الظاهــرة مــا ذكــره اهلل يف كتابــه مــن عادتــه‬ ‫يف خلقــه أن يرســل كل رســول بلغــة قومــه ليفقهــوا قولــه‪ ،‬قــال اهلل تعالــى‪:‬‬ ‫ِ ِ ِ​ِ​ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬ ‫هَّلل َمن َي َشــا ُء‬ ‫َ‬ ‫﴿و َمــا َأ ْر َسـ ْلنَا مــن َّر ُســول إِ َّل بِل َســان َق ْومــه ل ُي َب ِّيـ َن َل ُهـ ْـم َف ُيضـ ُّـل ا ُ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫َو َي ْهــدي َمــن َي َشــا ُء َو ُهـ َـو ال َعزيـ ُـز ال َحكيـ ُـم﴾ [ســورة إبراهيــم‪ :‬آيــة ‪.]4‬‬ ‫ولقــد أكــد اهلل ســبحانه عربيــة القــرآن حينمــا اهتــم الكفــار نبيــه بأخــذه‬ ‫﴿و َل َقــدْ َن ْع َلـ ُـم َأن َُّهـ ْـم َي ُقو ُلـ َ‬ ‫ـون إِن َ​َّمــا ُي َع ِّل ُمـ ُه َب َشـ ٌـر‬ ‫مــن بعــض الرهبــان فقــال‪َ :‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ون إِ َل ْيـ ِـه َأ ْع َجمــي َو َهـ َـذا ل َسـ ٌ‬ ‫ـان ا َّلـ ِـذي ُي ْل ِحــدُ َ‬ ‫ل ِ َسـ ُ‬ ‫ـان َع َربِـ ٌّـي ُمبِيـ ٌن﴾ [ســورة‬ ‫ٌّ‬ ‫النحــل‪ :‬اآليــة ‪.]103‬‬

‫وقــد اختــار اهلل العربيــة لغــة كتابــه الخاتــم لمــا فيهــا مــن ســعة ودقــة ال‬ ‫تحويهــا اللغــات األخــرى‪ ،‬قــال اإلمــام الشــافعي‪( :‬لســان العــرب أوســع‬ ‫(((‬ ‫األلســنة مذهبــا وأكثرهــا ألفاظــا وال نعلمــه يحيــط بجميــع علمــه نبــي)‬ ‫وأشــار عمــر بــن الخطــاب رضــي اهلل عنــه إلــى بعــض مــن أســرارها فقــال‪:‬‬ ‫(تعلمــوا العربيــة فإهنــا تثبت العقل وتزيــد يف المــروءة)(((‪ ،‬وصــدق يف ذلك‬ ‫فقــد شــهد العجــم للعربيــة كما شــهد لهــا أبناؤهــا‪ ،‬قــال اإلمام الزمخشــري‬ ‫ وهــو خوارزمــي ليــس لــه أصــل عربــي ‪ -‬يف مقدمــة كتابــه (المفصــل)‪:‬‬‫(اهللَ أحمــدُ علــى أن جعلنــي مــن علمــاء العربيــة‪ ،‬وجبلنــي علــى الغضــب‬ ‫للعــرب والعصبيــة‪ ،‬وأبــى لــي أن أنفــرد عــن صميــم أنصارهــم وأمتــاز‪،‬‬ ‫وأنضــوي إلــى لفيــف الشــعوبية وأنحــاز‪ ،‬وعصمنــي مــن مذهبهــم الــذي‬ ‫لــم يجــد عليهــم إال الرشــق بألســنة الالعنيــن‪ ،‬والمشــق بأســنة الطاعنين)‪،‬‬ ‫ويقــول المستشــرق اإليطالــي كارلــو نلينــو عــن اللغــة العربيــة بعــد أن‬ ‫تعلمهــا وســحرته بجمالهــا‪( :‬اللغــة العربيــة تفــوق ســائر لغــات العالــم‬ ‫رون ًقــا وغنًــى ويعجــز اللســان عــن وصــف محاســنها)‪.‬‬ ‫وإن العربيــة ليســت لغــة قــوم وإنمــا لغــة ســماوية يمتــاز هبــا كل مــن نطــق‬ ‫هبــا وإن كان مــن أصــل غيــر عربــي‪ ،‬حتــى نص كثيــر من علماء الســنة على‬ ‫أن العربيــة اللســان وليســت العــرق‪ ،‬قــال اإلمــام ابــن تيمية يف كتابــه اقتضاء‬ ‫الصــراط يف معــرض حديثــه عــن العــرب‪( :‬ومــا ذكرنــا مــن حكــم اللســان‬ ‫العربــي وأخــاق العــرب يثبــت لمــن كان كذلــك وإن كان أصلــه فارسـ ًّيا‬ ‫وينتفــي عمــن لــم يكن كذلــك وإن كان أصله هاشــم ًّيا) وهــذه قاعدة مهمة‬ ‫يف بيــان معنــى العــرب والعربيــة‪ ،‬فأفضليــة العــرب يف تمســكهم بديــن اهلل‬ ‫فــإن أهملــوا ذهــب فضلهم‪.‬‬

‫وقــد تحــدث الجاحــظ حــول هــذه المســألة أثنــاء ذكــره لعروبة إســماعيل‬ ‫عليــه الســام فقــال‪( :‬وقــد جعــل اهلل إســماعيل وهــو ابــن أعجمييــن عربيا‬ ‫ألن اهلل فتــق لســانه بالعربيــة المبينــة علــى غيــر التلقيــن والرتتيــب ثــم فطره‬ ‫علــى الفصاحــة العجيبــة علــى غيــر النشــوء والتمريــن‪ ،‬ثــم حبــاه مــن‬ ‫طبائعهــم ‪-‬أي العــرب‪ -‬ومنحــه مــن أخالقهــم وشــمائلهم‪ ،‬وطبعــه مــن‬ ‫كرمهــم وأنَفهــم وهمتهــم علــى أكرمهــا وأســناها وأشــرفها وأعالهــا)(((‪.‬‬

‫بداية الحركة الشعوبية‪:‬‬

‫((( كتاب الرسالة‪ ،‬تحقيق أحمد شاكر (‪.)43‬‬ ‫((( أخرجه البيهقي يف شعب اإليمان‪ ،‬باب طلب العلم‪ ،‬والعلم إذا أطلق علم الدين‪ ،‬رقم (‪.)6551‬‬ ‫((( الجذور التاريخية للشعوبية‪ ،‬للدكتور عبد العزيز الدوري (‪.)٨٧‬‬

‫إن الحــرب الســرية المنظمــة علــى اإلســام والعــرب بِعدِّ هــم حــكا َم‬ ‫الدولــة اإلســامية األولــى وحماهتــا بــدأ منــذ عهــد عمــر بــن الخطــاب‬ ‫رضــي اهلل عنــه مــن خــال عمــل فارســي وآخــر يهــودي أدى إلــى‬ ‫اغتيــال أميــر المؤمنيــن عمــر بــن الخطــاب رضــي اهلل عنــه مــن قبــل غــام‬ ‫فارســي‪ ،‬ثــم قيــام الفتنــة علــى عثمان رضــي اهلل عنــه واســتمرارها يف عهد‬ ‫علــي كــرم اهلل وجهــه؛ إذ ذهــب ضحيتهــا اآلالف مــن صحابــة رســول اهلل‬ ‫صلــى اهلل عليــه وســلم وتابعيهــم‪ ،‬ومــن أبــرز مــن ظهــر اســمه يف مقتــل‬ ‫عمــر األميــر الفارســي المســلم الهرمــزان‪ ،‬ولــوال مــا رآه عبيــد اهلل بــن‬ ‫عمــر مــن ســقوط الخنجــر الــذي قتــل بــه أبــوه مــن بيــن أيديهــم لبقــي‬ ‫األمــر سـ ًّـرا أبــد الدهــر ال يعلــم بــه أحــد‪ ،‬ومــن أشــهر مــن اشــتهر بإذاعــة‬ ‫الفتنــة يف زمــن علــي عبــد اهلل بــن ســبأ اليهــودي‪ ،‬وقــد أدت جهودهــم‬ ‫المنظمــة إلــى اغتيــال ثالثــة مــن الخلفــاء الراشــدين‪ ،‬وكانــت كل تلــك‬ ‫االغتيــاالت تتــم بيــد أنــاس مســلمين دخلــوا اإلســام نفاقــا كالهرمــزان‬ ‫وابــن ســبأ‪ ،‬أو أدت هبــم حماقتهــم إلــى أن يكونــوا أداة بيــد قــوى منظمــة‬ ‫تعمــل علــى هــدم الدولــة اإلســامية كقتلــة عثمــان رضــي اهلل عنــه‪.‬‬ ‫هــذا هــو حــال الحــرب الســرية علــى اإلســام يف العصــر الراشــدي‪،‬‬ ‫ونالحــظ أن دوافعهــا إمــا أن تكــون دينيــة كاليهودية‪ ،‬أو عرقية كالفارســية‪،‬‬ ‫وقــد اســتمرت هــذه الحركــة يف العصــر األمــوي ولكنهــا ضعفــت آثارهــا‬ ‫علــى المجتمــع بينمــا كانــت تتقــد تحــت الرمــاد‪.‬‬

‫ويف العصــر األمــوي‪ ،‬وتحديــدا يف خالفــة عبــد الملــك بــن مــروان‪،‬‬ ‫توجهــت الدولــة إلــى تعريــب دواويــن الخــراج واالســتغناء عــن‬ ‫المســؤولين الــروم والفــرس يف الدولــة؛ إذ لــم يكونــوا مــن أهــل الثقــة أو‬ ‫األمانــة‪ ،‬قــال البــاذري يف فتــوح البلــدان‪( :‬ولم يــزل ديوان الشــام بالرومية‬ ‫َح َّتــى ولــي عبــد الملــك بــن مــروان‪ ،‬فلمــا كانت ســنة إحــدى وثمانيــن أمر‬ ‫بنقلــه‪ ،‬وذلــك أن رجــا مــن كتــاب الــروم احتــاج أن يكتــب شــي ًئا‪ ،‬فلــم‬ ‫يجــد مــاء فبــال يف الــدواة‪ ،‬فبلــغ ذلــك َع ْبــد الملــك فأ َّدبــه‪ ،‬وأمــر ُسـ َل ْي َمان‬ ‫ْبــن َسـ ْعد بنقــل الديــوان‪ ،‬فســأله أن يعينــه بخــراج األردن ســنة‪ ،‬ففعل ذلك‬ ‫ّ‬ ‫ووله األردن‪ ،‬فلــم تنقــض الســنة حتــى فــرغ مــن نقلــه‪ ،‬وأتــى بــه َع ْبــد‬ ‫ِ‬ ‫الملــك فدعــا بســرجون كاتبــه‪ ،‬فعــرض ذلــك َع َل ْيــه فغمه وخرج مــن عنده‬ ‫كئيبــا‪ ،‬فلقيــه قــوم مــن كتــاب الــروم‪ ،‬فقــال‪ :‬اطلبــوا المعيشــة مــن غير َهـ ِـذ ِه‬ ‫الصناعــة‪ ،‬فقــد قطعهــا اهَّلل عنكــم)‪.‬‬

‫وكان يشــرف علــى ديــوان الخــراج بالعــراق يف ذلــك الوقت رجل يســمى‬ ‫«زادان فــروخ» مــن قبــل الحجــاج بــن يوســف الثقفــي‪ ،‬وتصــادف أن قتــل‬ ‫هــذا العامــل أثنــاء فتنــة عبــد الرحمــن بــن األشــعث بيــن ســنتي ‪ 82‬و‪83‬‬ ‫هجر ّيــة‪ ،‬وهــو األمــر الــذي ســهل علــى الحجــاج تحقيــق سياســة الدولــة‬ ‫الماليــة الجديــدة الســاعية إلــى تعريــب الدواويــن؛ إذ كلــف الحجــاج‬ ‫رجـ ًـا يســمى صالــح بــن عبــد الرحمــن ممــن كان يجيــد اللغــة الفارســية‬ ‫والعربيــة بتعريــب ديــوان خــراج العــراق‪ ،‬وقــد حــاول «مــردان شــاه» ابــن‬ ‫«زادان فــروخ» الــذي قتــل يف فتنــة ابــن األشــعث أن يدفع ِرشــوة لصالح بن‬ ‫عبــد الرحمــن حتــى يثنيــه ويمنعــه عــن عملــه يف تعريــب الدواويــن‪ ،‬وأبــى‬ ‫هــذا العامــل العربــي‪ ،‬وأتــم عملــه بنجــاح باهــر‪ ،‬وتخــرج علــى يديــه نفــر‬ ‫‪65‬‬


‫أثر الشعوبية في المجتمع العربي المسلم‬ ‫آيــة ‪ ،]130‬وكل ذلــك لحكمــة إلهيــة فقــد يصطفــي اهلل أفــرادا وقــد‬ ‫يصطفــي أقوامــا‪ ،‬وليــس اصطفــاؤه أقوامــا دلي ـاً علــى أن كل مــن فيهــم‬ ‫ِ‬ ‫يصطفهــم؛ إذ مرجــع األفضليــة إلــى التقوى كمــا قال‬ ‫هــو أفضــل ممــن لــم‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫هَّلل َعليـ ٌـم َخبيـ ٌـر﴾ [ســورة‬ ‫ربنــا ســبحانه‪﴿ :‬إِ َّن َأك َْر َم ُكـ ْـم عنْــدَ اهَّلل أ ْت َقا ُكـ ْـم إ َّن ا َ‬ ‫الحجــرات‪ :‬آيــة ‪.]13‬‬

‫فضــل اهلل بعــض األقــوام علــى آخريــن ببعــض النعــم والعطايــا‪،‬‬ ‫ولقــد َّ‬ ‫كمــا فضــل بنــي إســرائيل بكثــرة األنبيــاء والمرســلين‪ ،‬قــال تعالــى‪َ ﴿ :‬يــا‬ ‫ـت َع َل ْي ُكـ ْـم َو َأ ِّنــي َف َّض ْل ُت ُكـ ْـم َع َلــى‬ ‫َبنِــي إِ ْسـ َـرائِ َيل ا ْذ ُكـ ُـروا نِ ْع َمتِـ َـي ا َّلتِــي َأ ْن َع ْمـ ُ‬ ‫ا ْل َعا َل ِميـ َن﴾ [ســورة البقــرة‪ :‬آيــة ‪ ،]47‬وقــد ذ ّكــر موســى عليه الســام قومه‬ ‫﴿وإِ ْذ َقـ َ‬ ‫وســى ل ِ َق ْومِـ ِـه َيــا َقـ ْـو ِم ا ْذ ُكـ ُـروا نِ ْع َم ـ َة‬ ‫بنعــم اهلل عليهــم فقــال‪َ :‬‬ ‫ـال ُم َ‬ ‫اهَّللِ َع َلي ُكــم إِ ْذ جعـ َـل فِي ُكــم َأ ْنبِيــاء وجع َل ُكــم م ُلــوكًا وآ َتا ُكــم مــا َلــم يـ ْـؤتِ‬ ‫َ‬ ‫ْ ْ َ َ‬ ‫ْ َ ْ ُ‬ ‫ْ َ َ َ َ َ ْ ُ‬ ‫َأ َحــدً ا مِـ َن ا ْل َعا َل ِمي ـ َن﴾ [ســورة المائــدة‪ :‬اآليــة ‪ ،]20‬وعندمــا عصــوا بــدَّ ل‬ ‫اهلل حالهــم وجازاهــم مــن البــاء بمقــدار مــا كفــروا مــن النعمــة‪ ،‬قــال اهلل‬ ‫الذ َّلـ ُة َوا ْل َم ْسـ َكنَ ُة َو َبــا ُءوا بِ َغ َضـ ٍ‬ ‫ـت َع َل ْي ِهـ ُـم ِّ‬ ‫ـب مِـ َن اهَّللِ َذل ِ َك‬ ‫﴿و ُض ِر َبـ ْ‬ ‫تعالــى‪َ :‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫بِ َأن َُّهـ ْـم كَا ُنــوا َيكفـ ُـرون بآ َيــات اهَّلل َو َيق ُتلــون النَّب ِّيي ـ َن ب َغ ْيــر ال َحـ ِّـق ذلـ َ‬ ‫ـك ب َمــا‬ ‫َع َصـ ْـوا َوكَا ُنــوا َي ْع َتــدُ َ‬ ‫ون﴾ [ســورة البقــرة‪ :‬آيــة ‪.]61‬‬

‫اصطفــى اهلل ســبحانه مــن مختلــف أعــراق بنــي آدم أناســا صالحيــن‬ ‫أوحــى إليهــم بالنبــوة أو الرســالة ليبلغــوا دينــه إلــى النــاس‪ ،‬وانقطعــت‬ ‫النبــوة فــرة يف انتظــار النبــي الخاتــم الــذي شــاع نبــؤه ونبــأ قومــه يف الكتــب‬ ‫الســماوية الســابقة‪ ،‬وقبيــل مبعثــه كان علمــاء األديــان يرتقبــون ظهــوره‪،‬‬ ‫وكان اليهــود ال يشــكون يف أنــه مبعــوث فيهــم؛ إذ يعتقــدون أهنــم أبنــاء اهلل‬ ‫وأحبــاؤه‪ ،‬وكان النصــارى مثلهــم يف ذلــك‪.‬‬

‫النبي الخاتم صىل الله عليه وسلم‪:‬‬

‫انقطعــت الرســالة فــرة مــن الزمــن‪ ،‬ثــم شــاء اهلل ســبحانه أن يرســل نب َّيــه‬ ‫الخاتــم إلــى عبــاده‪ ،‬فنــزل أمــره على نبــي عربي هو ســيد الكائنــات محمد‬ ‫بــن عبــد اهلل الهاشــمي القرشــي العدنــاين صلــى اهلل عليــه وســلم‪ ،‬وكان‬ ‫ذلــك اصطفــاء مــن اهلل ونعمــة منــه علــى العــرب‪ ،‬قــال اإلمــام القرطبــي يف‬ ‫تفســير قولــه تعالــى‪َ ﴿ :‬ل َقــدْ َجا َء ُكـ ْـم َر ُسـ ٌ‬ ‫ـول مِـ ْن َأ ْن ُف ِسـ ُك ْم﴾ [ســورة التوبــة‪:‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫مدحــا لنســب النبــي صلى‬ ‫‪( ]128‬قولــه تعالــى‪﴿ :‬مـ ْن َأ ْن ُفسـ ُك ْم﴾ يقتضــي ً‬ ‫اهلل عليــه وســلم وأنــه مــن صميــم العــرب وخالصهــا‪ ،‬ويف صحيــح مســلم‬ ‫عــن واثلــة بــن األســقع قــال‪ :‬ســمعت رســول اهلل صلــى اهلل عليــه وســلم‬ ‫يقــول‪« :‬إن اهلل اصطفــى كنانــة مــن ولــد إســماعيل واصطفــى قريشــا مــن‬ ‫كنانــة واصطفــى مــن قريــش بنــي هاشــم واصطفــاين مــن بنــي هاشــم»(((‪.‬‬ ‫إن اصطفــاء اهلل للعــرب لحمــل الرســالة لــم يكــن اعتبا ًطــا إنمــا يرجــع‬ ‫إلــى أن العــرب علــى اســتعداد لقبــول الرســالة وحملهــا والدفــاع عنهــا إذ‬ ‫كانــوا قومــا أصفيــاء النفــوس لــم تتكــدر عقولهــم بفلســفات الحضــارات‬ ‫وجدلياهتــا‪.‬‬

‫((( الحديث رواه مسلم‪ ،‬باب فضل نسب النبي صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬رقم (‪ )7706‬برتقيم المكنز‪ ،‬وقد‬ ‫ذكره القرطبي يف تفسير سورة التوبة (‪ )103/8‬دار عالم الكتب‪.‬‬

‫‪64‬‬

‫ويبــدو أن هــذا االختيــار قــد أحــدث ردة فعــل لدى الشــعوب غيــر العربية‬ ‫فأخــذت تبــث شــكوكها وتكشــف عــن اســتيائها‪ ،‬وإن قــول اهلل تعالــى‪:‬‬ ‫هَّلل َأ ْع َلـ ُـم َح ْيـ ُ‬ ‫ـث َي ْج َعـ ُـل ِر َســا َل َت ُه﴾ [األنعــام‪ ،]12٤ :‬قــول صريــح وقاطع‬ ‫﴿ا ُ‬ ‫يف الــرد علــى كل مــن يعــرض علــى حكمــة اهلل يف اصطفائــه لمــن شــاء من‬ ‫عباده‪.‬‬

‫وممــن اشــتهر عنــه إنــكار الوحــي إلــى نبــي عربــي اليهــود‪ ،‬وقــد ذكــر‬ ‫اإلمــام الــرازي وجهيــن لمحاجــة اليهــود يف نــزول الرســالة الخاتمــة علــى‬ ‫اجونَنــا فِــي اهَّللِ َو ُهـ َـو َر ُّبنــا‬ ‫نبــي عربــي عنــد تفســير قولــه تعالــى‪ُ ﴿ :‬قـ ْـل َأ ُت َح ُّ‬ ‫ِ‬ ‫َو َر ُّب ُكـ ْـم َو َلنــا َأ ْعما ُلنــا َو َل ُكـ ْـم َأ ْعما ُل ُكـ ْـم َون َْح ـ ُن َل ـ ُه ُم ْخل ُصـ َ‬ ‫ـون﴾ [ســورة‬ ‫البقــرة‪ :‬آيــة ‪ ،]139‬وقــال‪ْ :‬‬ ‫(اخ َت َل ُفــوا فِــي تِ ْلـ َ‬ ‫وها‪،‬‬ ‫اجـ ِـة َو َذ َكـ ُـروا ُو ُج ً‬ ‫ـك ا ْل ُم َح َّ‬ ‫َان َقو َلهــم إِنَّهــم َأو َلــى بِا ْلحـ ِّـق والنُّبــو ِة ل ِ َت َقــدُّ ِم النُّبــوةِ‬ ‫َأ َحدهــا‪َ :‬أ َّن َذلِـ َ‬ ‫ُ َّ‬ ‫َ َ ُ َّ‬ ‫ـك ك َ ْ ُ ْ ُ ْ ْ‬ ‫يهــم‪ ،‬وا ْلمعنَــى‪َ :‬أ ُتج ِ‬ ‫ِ‬ ‫اد ُلو َننَــا فِــي أن اهلل اصطفــى رسـ ً‬ ‫ـول مِـ َن ا ْل َعـ َـر ِب َل‬ ‫َ‬ ‫ف ِ ْ َ َ ْ‬ ‫مِنْ ُكـ ْـم َو َت ُقو ُلـ َ‬ ‫هَّلل َع َلــى َأ َحـ ٍـد َلَ ْنـ َـز َل َع َل ْي ُكـ ْـم‪َ ،‬و َت َر ْو َن ُكـ ْـم َأ َحـ َّـق‬ ‫ـون‪َ :‬لـ ْـو َأ ْنـ َـز َل ا ُ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫اليمـ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ـان مِ ـ َن ا ْل َعـ َـر ِب ا َّل ِذي ـ َن‬ ‫بِالنُّ ُبـ َّـوة منَّــا! َو َثان َيهــا‪َ :‬ق ْو ُل ُهـ ْـم‪ :‬ن َْح ـ ُن َأ َحـ ُّـق بِ ْ َ‬ ‫َع َبــدُ وا ْالَ ْو َثـ َ‬ ‫ـان‪.)...‬‬

‫العرب بني الترشيف والتكليف‪:‬‬

‫وقــد كان مــع هــذا التشــريف اإللهــي للعــرب ‪ -‬باختيــار النبــي الخاتــم‬ ‫منهــم ‪ -‬تكليــف شــاق؛ إذ وقــع علــى عاتقهــم تبليــغ رســالة اهلل ونشــرها‬ ‫بيــن األمــم‪ ،‬وقــد قامــوا بذلــك أيمــا قيــام‪ ،‬حتــى قضــى عشــرات اآلالف‬ ‫مــن صحابــة رســول اهلل صلــى اهلل عليــه وســلم يف اآلفــاق حامليــن ديــن‬ ‫اهلل ومجاهديــن دونــه‪ ،‬وقــد شــاركهم يف هــذا الشــرف آخــرون مــن غيــر‬ ‫العــرب كالصحابــي الجليــل ســلمان الفارســي وبــال الحبشــي وصهيب‬ ‫الرومــي رضــي اهلل عنهــم أجمعيــن‪.‬‬

‫ومهمــا يكــن فقــد كان العــرب يف مطلــع اإلســام هــم أصــل هــذه‬ ‫الدعــوة وحملتهــا‪ ،‬حتــى قــال عمــر بــن الخطــاب رضــي اهلل عنــه موص ًيــا‬ ‫مــن ســيخلفه‪( :‬و ُأ ِ‬ ‫وصيـ ِـه بِاألَ ْعـ َـر ِ‬ ‫اب َخ ْيـ ًـرا َفإِن َُّهـ ْـم َأ ْصـ ُـل ا ْل َعـ َـر ِب َو َمــا َّد ُة‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫اإل ْسـاَمِ)(((‪ ،‬وقــد نالــوا مــن الشــرف بمقــدار مــا حملــوا من همــوم الدعوة‬ ‫والبــذل يف ســبيلها فأكرمهــم اهلل بخيريــة هــذه األمــة‪ ،‬قــال النبــي صلــى اهلل‬ ‫«خ ْيـ ُـر النَّـ ِ‬ ‫عليــه وســلم‪َ :‬‬ ‫ـاس َق ْرنِــي‪ُ ،‬ثـ َّـم ا َّل ِذيـ َن َي ُلون َُهـ ْـم‪ُ ،‬ثـ َّـم ا َّل ِذيـ َن َي ُلون َُهـ ْـم‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ُثـ َّـم َي ِجــي ُء َأ ْقـ َـوا ٌم َت ْس ـبِ ُق َشـ َـها َد ُة َأ َحدهـ ْـم َيمينَ ـ ُه‪َ ،‬و َيمينُ ـ ُه َشـ َـها َد َته»(((‪.‬‬

‫نزول القرآن بالعربية‪:‬‬

‫لقــد نــزل القــرآن الكريــم أول مــا نــزل بيــن العــرب وبلغتهــم قــال اهلل‬ ‫تعالــى‪﴿ :‬إنــا أنزلنــاه قرآنــا عربيــا لعلكــم تعقلــون﴾ [ســورة يوســف‪ :‬آيــة‬ ‫ِ‬ ‫ـاب ُّم َصــدِّ ٌق ِّل َســانًا َع َربِ ًّيــا ِّل ُينـ ِـذ َر ا َّل ِذي َن‬ ‫﴿وهـ َـذا ك َتـ ٌ‬ ‫‪ ،]٢‬وقــال ربنــا ســبحانه‪َ :‬‬ ‫َظ َل ُمــوا َو ُب ْشـ َـر ٰى ل ِ ْل ُم ْح ِســنِي َن﴾ [األحقــاف‪ :‬آيــة ‪.]12‬‬ ‫وكان نــزول القــرآن بلغــة العــرب لحكــم كثيــرة ظهــر منهــا للبشــر ما ظهر‬

‫((( قطعة من حديث رواه البخاري يف باب قصة البيعة واتفاق الناس على عثمان بن عفان رضي اهلل عنه‪،‬‬ ‫رقم (‪ )7943‬طبعة البغا‪.‬‬ ‫((( رواه الشيخان وأحمد عن عبد اهلل بن مسعود رضي اهلل عنه‪.‬‬

‫أثر الشعوبية في المجتمع العربي المسلم‬ ‫وخفــي مــا خفــي‪ ،‬ومــن الحكــم الظاهــرة مــا ذكــره اهلل يف كتابــه مــن عادتــه‬ ‫يف خلقــه أن يرســل كل رســول بلغــة قومــه ليفقهــوا قولــه‪ ،‬قــال اهلل تعالــى‪:‬‬ ‫ِ ِ ِ​ِ​ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬ ‫هَّلل َمن َي َشــا ُء‬ ‫َ‬ ‫﴿و َمــا َأ ْر َسـ ْلنَا مــن َّر ُســول إِ َّل بِل َســان َق ْومــه ل ُي َب ِّيـ َن َل ُهـ ْـم َف ُيضـ ُّـل ا ُ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫َو َي ْهــدي َمــن َي َشــا ُء َو ُهـ َـو ال َعزيـ ُـز ال َحكيـ ُـم﴾ [ســورة إبراهيــم‪ :‬آيــة ‪.]4‬‬ ‫ولقــد أكــد اهلل ســبحانه عربيــة القــرآن حينمــا اهتــم الكفــار نبيــه بأخــذه‬ ‫﴿و َل َقــدْ َن ْع َلـ ُـم َأن َُّهـ ْـم َي ُقو ُلـ َ‬ ‫ـون إِن َ​َّمــا ُي َع ِّل ُمـ ُه َب َشـ ٌـر‬ ‫مــن بعــض الرهبــان فقــال‪َ :‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ون إِ َل ْيـ ِـه َأ ْع َجمــي َو َهـ َـذا ل َسـ ٌ‬ ‫ـان ا َّلـ ِـذي ُي ْل ِحــدُ َ‬ ‫ل ِ َسـ ُ‬ ‫ـان َع َربِـ ٌّـي ُمبِيـ ٌن﴾ [ســورة‬ ‫ٌّ‬ ‫النحــل‪ :‬اآليــة ‪.]103‬‬

‫وقــد اختــار اهلل العربيــة لغــة كتابــه الخاتــم لمــا فيهــا مــن ســعة ودقــة ال‬ ‫تحويهــا اللغــات األخــرى‪ ،‬قــال اإلمــام الشــافعي‪( :‬لســان العــرب أوســع‬ ‫(((‬ ‫األلســنة مذهبــا وأكثرهــا ألفاظــا وال نعلمــه يحيــط بجميــع علمــه نبــي)‬ ‫وأشــار عمــر بــن الخطــاب رضــي اهلل عنــه إلــى بعــض مــن أســرارها فقــال‪:‬‬ ‫(تعلمــوا العربيــة فإهنــا تثبت العقل وتزيــد يف المــروءة)(((‪ ،‬وصــدق يف ذلك‬ ‫فقــد شــهد العجــم للعربيــة كما شــهد لهــا أبناؤهــا‪ ،‬قــال اإلمام الزمخشــري‬ ‫ وهــو خوارزمــي ليــس لــه أصــل عربــي ‪ -‬يف مقدمــة كتابــه (المفصــل)‪:‬‬‫(اهللَ أحمــدُ علــى أن جعلنــي مــن علمــاء العربيــة‪ ،‬وجبلنــي علــى الغضــب‬ ‫للعــرب والعصبيــة‪ ،‬وأبــى لــي أن أنفــرد عــن صميــم أنصارهــم وأمتــاز‪،‬‬ ‫وأنضــوي إلــى لفيــف الشــعوبية وأنحــاز‪ ،‬وعصمنــي مــن مذهبهــم الــذي‬ ‫لــم يجــد عليهــم إال الرشــق بألســنة الالعنيــن‪ ،‬والمشــق بأســنة الطاعنين)‪،‬‬ ‫ويقــول المستشــرق اإليطالــي كارلــو نلينــو عــن اللغــة العربيــة بعــد أن‬ ‫تعلمهــا وســحرته بجمالهــا‪( :‬اللغــة العربيــة تفــوق ســائر لغــات العالــم‬ ‫رون ًقــا وغنًــى ويعجــز اللســان عــن وصــف محاســنها)‪.‬‬ ‫وإن العربيــة ليســت لغــة قــوم وإنمــا لغــة ســماوية يمتــاز هبــا كل مــن نطــق‬ ‫هبــا وإن كان مــن أصــل غيــر عربــي‪ ،‬حتــى نص كثيــر من علماء الســنة على‬ ‫أن العربيــة اللســان وليســت العــرق‪ ،‬قــال اإلمــام ابــن تيمية يف كتابــه اقتضاء‬ ‫الصــراط يف معــرض حديثــه عــن العــرب‪( :‬ومــا ذكرنــا مــن حكــم اللســان‬ ‫العربــي وأخــاق العــرب يثبــت لمــن كان كذلــك وإن كان أصلــه فارسـ ًّيا‬ ‫وينتفــي عمــن لــم يكن كذلــك وإن كان أصله هاشــم ًّيا) وهــذه قاعدة مهمة‬ ‫يف بيــان معنــى العــرب والعربيــة‪ ،‬فأفضليــة العــرب يف تمســكهم بديــن اهلل‬ ‫فــإن أهملــوا ذهــب فضلهم‪.‬‬

‫وقــد تحــدث الجاحــظ حــول هــذه المســألة أثنــاء ذكــره لعروبة إســماعيل‬ ‫عليــه الســام فقــال‪( :‬وقــد جعــل اهلل إســماعيل وهــو ابــن أعجمييــن عربيا‬ ‫ألن اهلل فتــق لســانه بالعربيــة المبينــة علــى غيــر التلقيــن والرتتيــب ثــم فطره‬ ‫علــى الفصاحــة العجيبــة علــى غيــر النشــوء والتمريــن‪ ،‬ثــم حبــاه مــن‬ ‫طبائعهــم ‪-‬أي العــرب‪ -‬ومنحــه مــن أخالقهــم وشــمائلهم‪ ،‬وطبعــه مــن‬ ‫كرمهــم وأنَفهــم وهمتهــم علــى أكرمهــا وأســناها وأشــرفها وأعالهــا)(((‪.‬‬

‫بداية الحركة الشعوبية‪:‬‬

‫((( كتاب الرسالة‪ ،‬تحقيق أحمد شاكر (‪.)43‬‬ ‫((( أخرجه البيهقي يف شعب اإليمان‪ ،‬باب طلب العلم‪ ،‬والعلم إذا أطلق علم الدين‪ ،‬رقم (‪.)6551‬‬ ‫((( الجذور التاريخية للشعوبية‪ ،‬للدكتور عبد العزيز الدوري (‪.)٨٧‬‬

‫إن الحــرب الســرية المنظمــة علــى اإلســام والعــرب بِعدِّ هــم حــكا َم‬ ‫الدولــة اإلســامية األولــى وحماهتــا بــدأ منــذ عهــد عمــر بــن الخطــاب‬ ‫رضــي اهلل عنــه مــن خــال عمــل فارســي وآخــر يهــودي أدى إلــى‬ ‫اغتيــال أميــر المؤمنيــن عمــر بــن الخطــاب رضــي اهلل عنــه مــن قبــل غــام‬ ‫فارســي‪ ،‬ثــم قيــام الفتنــة علــى عثمان رضــي اهلل عنــه واســتمرارها يف عهد‬ ‫علــي كــرم اهلل وجهــه؛ إذ ذهــب ضحيتهــا اآلالف مــن صحابــة رســول اهلل‬ ‫صلــى اهلل عليــه وســلم وتابعيهــم‪ ،‬ومــن أبــرز مــن ظهــر اســمه يف مقتــل‬ ‫عمــر األميــر الفارســي المســلم الهرمــزان‪ ،‬ولــوال مــا رآه عبيــد اهلل بــن‬ ‫عمــر مــن ســقوط الخنجــر الــذي قتــل بــه أبــوه مــن بيــن أيديهــم لبقــي‬ ‫األمــر سـ ًّـرا أبــد الدهــر ال يعلــم بــه أحــد‪ ،‬ومــن أشــهر مــن اشــتهر بإذاعــة‬ ‫الفتنــة يف زمــن علــي عبــد اهلل بــن ســبأ اليهــودي‪ ،‬وقــد أدت جهودهــم‬ ‫المنظمــة إلــى اغتيــال ثالثــة مــن الخلفــاء الراشــدين‪ ،‬وكانــت كل تلــك‬ ‫االغتيــاالت تتــم بيــد أنــاس مســلمين دخلــوا اإلســام نفاقــا كالهرمــزان‬ ‫وابــن ســبأ‪ ،‬أو أدت هبــم حماقتهــم إلــى أن يكونــوا أداة بيــد قــوى منظمــة‬ ‫تعمــل علــى هــدم الدولــة اإلســامية كقتلــة عثمــان رضــي اهلل عنــه‪.‬‬ ‫هــذا هــو حــال الحــرب الســرية علــى اإلســام يف العصــر الراشــدي‪،‬‬ ‫ونالحــظ أن دوافعهــا إمــا أن تكــون دينيــة كاليهودية‪ ،‬أو عرقية كالفارســية‪،‬‬ ‫وقــد اســتمرت هــذه الحركــة يف العصــر األمــوي ولكنهــا ضعفــت آثارهــا‬ ‫علــى المجتمــع بينمــا كانــت تتقــد تحــت الرمــاد‪.‬‬

‫ويف العصــر األمــوي‪ ،‬وتحديــدا يف خالفــة عبــد الملــك بــن مــروان‪،‬‬ ‫توجهــت الدولــة إلــى تعريــب دواويــن الخــراج واالســتغناء عــن‬ ‫المســؤولين الــروم والفــرس يف الدولــة؛ إذ لــم يكونــوا مــن أهــل الثقــة أو‬ ‫األمانــة‪ ،‬قــال البــاذري يف فتــوح البلــدان‪( :‬ولم يــزل ديوان الشــام بالرومية‬ ‫َح َّتــى ولــي عبــد الملــك بــن مــروان‪ ،‬فلمــا كانت ســنة إحــدى وثمانيــن أمر‬ ‫بنقلــه‪ ،‬وذلــك أن رجــا مــن كتــاب الــروم احتــاج أن يكتــب شــي ًئا‪ ،‬فلــم‬ ‫يجــد مــاء فبــال يف الــدواة‪ ،‬فبلــغ ذلــك َع ْبــد الملــك فأ َّدبــه‪ ،‬وأمــر ُسـ َل ْي َمان‬ ‫ْبــن َسـ ْعد بنقــل الديــوان‪ ،‬فســأله أن يعينــه بخــراج األردن ســنة‪ ،‬ففعل ذلك‬ ‫ّ‬ ‫ووله األردن‪ ،‬فلــم تنقــض الســنة حتــى فــرغ مــن نقلــه‪ ،‬وأتــى بــه َع ْبــد‬ ‫ِ‬ ‫الملــك فدعــا بســرجون كاتبــه‪ ،‬فعــرض ذلــك َع َل ْيــه فغمه وخرج مــن عنده‬ ‫كئيبــا‪ ،‬فلقيــه قــوم مــن كتــاب الــروم‪ ،‬فقــال‪ :‬اطلبــوا المعيشــة مــن غير َهـ ِـذ ِه‬ ‫الصناعــة‪ ،‬فقــد قطعهــا اهَّلل عنكــم)‪.‬‬

‫وكان يشــرف علــى ديــوان الخــراج بالعــراق يف ذلــك الوقت رجل يســمى‬ ‫«زادان فــروخ» مــن قبــل الحجــاج بــن يوســف الثقفــي‪ ،‬وتصــادف أن قتــل‬ ‫هــذا العامــل أثنــاء فتنــة عبــد الرحمــن بــن األشــعث بيــن ســنتي ‪ 82‬و‪83‬‬ ‫هجر ّيــة‪ ،‬وهــو األمــر الــذي ســهل علــى الحجــاج تحقيــق سياســة الدولــة‬ ‫الماليــة الجديــدة الســاعية إلــى تعريــب الدواويــن؛ إذ كلــف الحجــاج‬ ‫رجـ ًـا يســمى صالــح بــن عبــد الرحمــن ممــن كان يجيــد اللغــة الفارســية‬ ‫والعربيــة بتعريــب ديــوان خــراج العــراق‪ ،‬وقــد حــاول «مــردان شــاه» ابــن‬ ‫«زادان فــروخ» الــذي قتــل يف فتنــة ابــن األشــعث أن يدفع ِرشــوة لصالح بن‬ ‫عبــد الرحمــن حتــى يثنيــه ويمنعــه عــن عملــه يف تعريــب الدواويــن‪ ،‬وأبــى‬ ‫هــذا العامــل العربــي‪ ،‬وأتــم عملــه بنجــاح باهــر‪ ،‬وتخــرج علــى يديــه نفــر‬ ‫‪65‬‬


‫أثر الشعوبية في المجتمع العربي المسلم‬ ‫مــن كبــار موظفــي الماليــة العــرب يف العــراق‪.‬‬

‫إن اعتمــاد األموييــن العربيــة لغ ـ ًة رســمي ًة يف الدواويــن وســك العملــة‬ ‫وإخــراج الموظفيــن الــروم والفــرس واألقبــاط وغيرهــم مــن هــذه‬ ‫الوظائــف؛ أدى إلــى الحــد مــن أطماعهــم يف الرتقــي يف وظائــف الدولــة‬ ‫المســلمة والمشــاركة فيهــا‪ ،‬فامتلــؤوا حقــدا علــى العــرب‪ ،‬وقــد أضــاف‬ ‫األمويــون إلــى تعريــب العملــة والدواويــن اقتصارهــم يف الواليــات‬ ‫والمناصــب الكــرى علــى العــرب خاصــة‪ ،‬ممــا زاد حقــد األقــوام‬ ‫األخــرى علــى العنصــر العربــي وعلــى دينــه اإلســام‪ ،‬ولــم يعــد هنــاك‬ ‫فــرق بيــن كلمــة عربــي ومســلم حتــى غــدت كلمــة (عربــي) مرادفــة‬ ‫لكلمــة (مســلم) فقــد اعتــذر دهاقيــن بخــارى مــن قلــة الضرائــب فكتبــوا‬ ‫إلــى الوالــي أشــرس يقولــون لــه‪( :‬ممــن تأخــذ الخــراج وقــد صــار الناس‬ ‫كلهــم عر ًبــا) أي أصبحــوا مســلمين(((‪.‬‬ ‫لقــد كانــت الشــعوبية يف هــذه الفــرة تتقــد تحــت الرمــاد‪ ،‬وقــد وجــد‬ ‫الفــرس الحاقديــن علــى بنــي أميــة متنفســهم يف الدعــوة العباســية‪ ،‬فأيدها‬ ‫قســم منهــم نكايــة بالدولــة األمويــة التــي صبغــت الحيــاة كلهــا بالصبغــة‬ ‫العربيــة ومنعتهــم مــن اإلمــارات والواليــات‪ ،‬وقــد حــاول هــؤالء فيمــا‬ ‫بعــد وعلــى رأســهم أبــو مســلم الخراســاين أن يعلنــوا عــن مطامعهــم‬ ‫ويحولوهــا إلــى دولــة‪ ،‬ولكــن العباســيين كانــوا لهــم بالمرصــاد‪.‬‬

‫الشعوبية يف العرص العبايس‪:‬‬

‫إن إطــاق اســم «الشــعوبية» علــى الحــركات التــي تحــض علــى كراهــة‬ ‫العــرب كان يف العصــر العباســي‪ ،‬حيث ظهر العداء للعــرب يف أجلى صوره‬ ‫بعــد منــع بنــي العبــاس مؤيديهــم الفــرس مــن الســيطرة علــى قيــادة الدولــة‬ ‫اإلســامية‪ ،‬وقــد ظهــرت لهــا بعــد تلــك الفــرة تعريفــات عــدة؛ إذ غــدت‬ ‫لفظــة شــعوبي عرفــا على من يكــره العرب‪ ،‬ســواء كان الشــعوبي مســلما أو‬ ‫غيــر مســلم‪ ،‬يقــول البغــدادي يف كتابه الفــرق بين الفــرق‪( :‬الشــعوبية‪ :‬الذين‬ ‫يــرون تفضيــل العجــم علــى العــرب ويتمنــون عــودة الملــك إلــى العجــم)‪،‬‬ ‫ويقــول اإلمــام القرطبــي‪( :‬الشــعوبية تبغــض العــرب وتفضل العجــم) وأما‬ ‫اللســان فيعطــي تعريفا واضحا للشــعوبية حين يقول‪( :‬الشــعوبي هــو الذي‬ ‫يصغــر شــأن العــرب وال يــرى لهــم فضـ ًـا علــى غيرهــم)(((‪.‬‬

‫وقــد أســمى الشــعوبيون حركتهــم يف بدايتهــا بحركــة (التســوية) أي بيــن‬ ‫حقوقهــم وحقــوق العــرب‪ ،‬تلــك التــي تبدلــت تدريجيــا إلــى حركــة‬ ‫تفضيــل العجــم علــى العــرب‪ ،‬قــال المفكــر اإليــراين علــي شــريعتي‪:‬‬ ‫(تحولــت الشــعوبية تدريج ًّيــا مــن حركــة تســوية إلى حركة تفضــل العجم‬ ‫علــى العــرب‪ ،‬وعملــت عبــر ترويــج المشــاعر القومية وإشــاعة اليــأس من‬ ‫اإلســام إلــى ضــرب ســلطة الخالفــة)(((‪.‬‬ ‫ومــن أشــهر من تكلــم عن الشــعوبية وأظهر مالمحهــا الجاحظ المتوىف ســنة‬ ‫(‪255‬هـــ)‪ ،‬حيــث تعرض لها يف كثير من مؤلفاتــه‪ ،‬مما يدل على أهنا أصبحت‬ ‫((( كتاب الشعوبية حركة مضادة لإلسالم واألمة العربية للدكتور‪ :‬عبد اهلل سلوم السامرائي‪.)٣٣( ،‬‬ ‫((( الجذور التاريخية للشعوبية للدكتور عبد العزيز الدوري (‪.)٩٤‬‬ ‫((( من مقال بعنوان الشعوبية على الشبكة العنكبوتية باسم المعرفة ‪/gro.aferam.www//:sptth‬شعوبية‪.‬‬

‫‪66‬‬

‫أحــد أســوأ األمــراض االجتماعيــة يف القرن الثــاين والثالــث الهجري‪.‬‬

‫انتشار الشعوبية‪:‬‬

‫وقــد انتشــرت الشــعوبية بيــن المســلمين الفــرس‪ ،‬ألهنــم أول مــن‬ ‫دخــل يف اإلســام مــن غيــر العــرب‪ ،‬وفيهــم طائفــة لــم تقبــل مــا صــار‬ ‫عليــه حــال قومهــم مــن الدخــول يف اإلســام‪ ،‬فعزمــوا علــى إشــاعة‬ ‫الكراهيــة والفتنــة بينهــم‪ ،‬ثــم ظهــر شــعوبيون هنــود وأتــراك ومــن مولدي‬ ‫األندلــس‪ ،‬يقــول الجاحــظ يف رســالته فخــر الســودان على البيضــان‪( :‬إن‬ ‫الشــعوبية لــم تكــن تشــيع بيــن الفــرس فحســب‪ ،‬وإنمــا طالت بقيــة األمم‬ ‫كاألندلســيين والزنــج مــن أهــل أفريقيــا واجتمعــوا وهــؤالء علــى العــداء‬ ‫للعــرب واالســتطالة عليهــم والحــط مــن شــأهنم)‪.‬‬

‫لقد امتدت ســاحة المواجهة بين المســلمين العرب من جهة والشــعوبية‬ ‫مــن جهــة أخــرى علــى رقعــة واســعة مــن الحجــاز إلــى خراســان عــر بالد‬ ‫العــراق‪ ،‬كمــا تمثلــت يف بــاد الشــام واليمــن والعــراق معرجــة إلى شــمال‬ ‫إفريقيــا واألندلــس ويف مناطــق أخــرى حيث يقيم الموالــي(‪.((1‬‬

‫أعامل الشعوبيني بني القديم الحديث‪:‬‬

‫يؤكــد بعــض المؤرخيــن أن حادثــة اغتيــال أبي لؤلؤة المجوســي للخليفة‬ ‫عمــر بــن الخطــاب كانــت أولــى األعمــال العدائيــة للحركــة الشــعوبية‬ ‫انتقامــا للدولــة الســامانية التــي ُقهــرت يف عهــده(‪.((1‬‬ ‫وقــد تزاوجــت شــعوبية اليهــود مــع شــعوبية الفــرس يف صــدر اإلســام‬ ‫وكان مــن روادهــا اليهــودي اليمنــي عبــد اهلل بــن ســبأ(‪.((1‬‬

‫وانتقامــا مــن العــرب تحالفــوا مــع القــوى األجنبيــة المعاديــة لإلســام‬ ‫والمســلمين كتحالــف الطوســي وابــن العلقمــي مــع هوالكــو والمغــول‪،‬‬ ‫وكان لهــذا التحالــف امتــداد يف العصــر الحديــث حين تحالــف اإليرانيون‬ ‫مــع بــوش إلســقاط صــدام حســين وإقامــة دولــة فارســية يف العــراق علــى‬ ‫أنقــاض الدولــة العربيــة(‪.((1‬‬

‫مظاهرالشعوبية‪:‬‬

‫عملــت هــذه المقاومــة الشــعوبية يف مجاليــن كمــا بيــن ذلك الدكتــور عبد‬ ‫اهلل السامرائي‪:‬‬

‫‪ _١‬مقاومــة قامــت يف وجــه اإلســام واســتهدفت محاربتــه وتشــويه مبادئــه‬ ‫بــكل األســاليب‪ ،‬وقــد تمثلــت هذه المقاومــة بحركتين كبيرتيــن هما حركة‬ ‫«الغلــو» وحركــة «الزندقــة» ويطلق عليهــا المقاومة الشــعوبية الدينية‪.‬‬ ‫‪ _٢‬وثمــة مقاومــة أخرى اســتهدفت الطعن يف العرب وتشــويه حضارهتم‬ ‫وهــدم ســلطاهنم وتفضيــل الشــعوب األخــرى عليهــم‪ ،‬ويطلــق علــى هذه‬ ‫المقاومة الشــعوبية العنصرية‪.‬‬

‫(‪ ((1‬الشعوبية حركة مضادة لإلسالم واألمة العربية للدكتور عبد اهلل السامرائي (‪.)6‬‬ ‫(‪ ((1‬من مقال على اإلنرتنت بعنوان استنهاض الشعوبية ودرء المد القومي العربي لرانية المدهون‪.‬‬ ‫(‪ ((1‬من مقال الشعوبية يف العصر الحديث من موقع شبكة البصرة عام ‪.٢٠٠٢‬‬ ‫(‪ ((1‬من مقال‪ :‬الشعوبيون الجدد‪ ،‬للدكتورة حسناء عبد العزيز القنيعير‪ ،‬عرب االنرتنت‪.‬‬

‫أثر الشعوبية في المجتمع العربي المسلم‬ ‫أمــا الشــعوبية الدينيــة فكانــت منظمــة لهــا أســاليبها الخاصــة يف العمــل‬ ‫وتنظيماهتــا المحكمــة يف إعــداد الدعــاة واالتصــال بالنــاس‪ ،‬وعلــى الرغم‬ ‫مــن أن الشــعوبية العنصريــة لــم تكــن منظمــة تنظيمــا يحــدد معالمهــا‬ ‫وأســاليبها ويوحدهــا يف حركــة واحــدة‪ ،‬فــإن الشــعوبية العنصريــة كانــت‬ ‫تتســر باإلســام وتعمــل علــى تحقيــق أغراضهــا مــن خــال التظاهــر‬ ‫بالــوالء القبلــي والــوالء السياســي(‪.((1‬‬

‫وتحــاول الشــعوبية طمــس الــذات العربيــة وقطــع الجــذور تاريخيــا‬ ‫وثقافيــا وتفتيــت الوحــدة‪ ،‬فتبــدأ بمهاجمــة األنســاب العربيــة القديمــة‪،‬‬ ‫وهتاجــم العــرب القدامــى‪ ،‬وتظهرهــم بمظهــر التأخــر والهمجيــة وتســخر‬ ‫مــن ثقافتهــم‪ ،‬وتشــكك يف شــعرهم بمــا ُتدخلــه فيــه مــن انتحــال‪ ،‬وهتاجــم‬ ‫العربيــة‪ ،‬وهــي بعــد ذلــك هتاجــم المــروءة العربيــة بمــا فيهــا مــن فروســية‬ ‫وكــرم ووفــاء وفصاحــة‪ ،‬وهــي تنــدد بالمثــل ُ‬ ‫الخلقيــة وبالقيــم العربيــة‬ ‫اإلســامية‪ ،‬وتذهــب إلــى التحلــل‪ ،‬وتنــزع إلــى المجــون‪ ،‬وتدعــو إلــى‬ ‫نظــرات اجتماعيــة وخلقيــة تتعــارض كليــا مــع القيــم العربيــة اإلســامية‪،‬‬ ‫والشــعوبية تفعــل ذلــك باســم الظــرف والحضــارة وتتبجــح بدعــوى‬ ‫الحريــة االجتماعيــة‪ ،‬وهــي تــدرك أهنــا سـ ٌ‬ ‫ـبيل فعــال لتفكيــك الروابــط‬ ‫وإضعــاف الكيــان االجتماعــي‪.‬‬

‫ثــم تــأيت الشــعوبية إلــى العرب واإلســام فتنكــر دورهم يف حمل الرســالة‬ ‫اإلنســانية‪ ،‬وتحــاول طمــس دورهــم الحضــاري‪ ،‬فتدعــي أن الحضــارة‬ ‫العربيــة اإلســامية مــا هــي إال اقتباســات مــن األعاجــم‪ ..‬تريــد بذلــك‬ ‫زعزعــة الثقــة بالــذات‪ ،‬وصــرف االنتبــاه إلــى الثقافــات األعجميــة‪ ،‬وهــي‬ ‫تفعــل ذلــك يف وقــت تحــاول فيه إحيــاء الــراث األعجمي وتمجيــد اآلثار‬ ‫األعجميــة‪ ،‬وتعمــل علــى بثهــا يف المجتمــع العربــي اإلســامي‪ ،‬وعلــى‬ ‫تحويلــه عــن ذاتــه‪ ،‬وتريــد بعــد هــذا أن تطبــع اإلدارة والحيــاة العامــة بطابع‬ ‫أعجمــي‪ ،‬فترتجــم الكتــب عــن الفارســية يف المراســيم والعــادات وشــكل‬ ‫الحكــم واألخــاق‪ ،‬وتضــع كت ًبــا ورســائل تنســبها للقدمــاء وتعمــل علــى‬ ‫بثهــا وترويجهــا(‪.((1‬‬ ‫واتخــذ هــؤالء ســبال مختلفــة‪ ،‬منهــا‪ :‬إكثارهم مــن الرتجمة عن الفارســية‬ ‫يف موضوعــات تتصــل بصميــم الــذات الفارســية كاألدب والتاريــخ‬ ‫والتقاليــد والمثــل‪ ،‬وقــد شــهد العصــر العباســي ترجمــة واســعة عــن‬ ‫الفارســية‪ ،‬وهــي مســتقلة عــن حركــة الرتجمــة التــي تبناهــا الخلفــاء‪،‬‬ ‫ومــن أمثلــة هــذه الرتجمــات «خداينامــه» أو «ســير ملــوك الفــرس» وهــو‬ ‫كتــاب ينطــوي علــى كثيــر مــن األســاطير والمواعــظ والتمجيــد‪ ،‬ويغلــب‬ ‫عليــه عنصــر القصــة واألســطورة‪ ،‬ومنهــا «اآلييــن نامــه» وهــو يتضمــن أد ًبا‬ ‫و ُمثـ ًـا أخالقيــة مجوســية ال تأتلــف والمفاهيــم اإلســامية‪ ،‬وقــد ترجمــه‬ ‫ابــن المقفــع(‪.((1‬‬

‫ٍّ‬ ‫وســلكت الشــعوبية ً‬ ‫ولــكل منهــا‬ ‫ســبل متعــددة بيــن ظاهــر ومســتور‪،‬‬ ‫أثرهــا وخطرهــا الخــاص‪ ،‬فهــي تريــد أن تربــك العقائــد وتشــوه المفاهيــم‬ ‫(‪ ((1‬الشعوبية حركة مضادة لإلسالم واألمة العربية للدكتور عبد اهلل السامرائي (‪.)7‬‬ ‫(‪ ((1‬الجذور التاريخية للشعوبية‪ ،‬د‪ .‬عبد العزيز الدوري (‪.)٤٩‬‬ ‫(‪ ((1‬الجذور التاريخية للشعوبية للدكتور عبد العزيز الدوري (‪.)١٥‬‬

‫اإلســامية لتزعــزع قاعــدة المجتمــع وأساســه‪ ،‬وهــي تنفــذ باســم العقــل‬ ‫والمنطــق إلــى تحويــر معنــى النصــوص والمفاهيــم اإلســامية؛ إذ تنتقــل‬ ‫إلــى التأويــل الــذي يخــرج النصــوص مــن معانيهــا اإلســامية إلــى مفاهيم‬ ‫غريبــة بعيــدة عــن اإلســام(‪ ،((1‬وهــم يفعلــون ذلــك باســم الحريــة الثقافيــة‬ ‫وتحــت ســتار الفكــر المتحــرر‪ ،‬ومــن ذلــك مــا عــر عنــه أحــد الشــعوبيين‬ ‫بقولــه‪( :‬نرفــض يف الظاهــر مــا بيننــا مــن العــداوة ونظهــر موافقتهــم‬ ‫ومســاعدهتم وندخــل يف ديــن محمــد ونؤمــن بــه‪ ،‬ثــم نفســد عليهــم دينهــم‬ ‫بلطيــف الحيــل ونــدرك منهــم مــا لــم يمكــن إدراكــه بالقهــر والغلبــة)(‪.((1‬‬ ‫يقــول ابــن قتيبــة‪( :‬وأعاذنــا اهلل مــن فتنــة العصبيــة وحميــة الجاهليــة‬ ‫وتحامــل الشــعوبية‪ ،‬فإهنــا لفــرط الحســد ونغــل الصــدر؛ تدفــع العــرب‬ ‫عــن كل فضيلــة‪ ،‬وتلحــق هبــا كل رذيلــة‪ ،‬وتغلــو يف القــول وتســرف يف الذم‬ ‫وتبهــت يف الكــذب وتكابــر بالعصيــان)(‪.((1‬‬

‫ولــذا نجــد الشــعوبية تنتهــي يف كثيــر مــن الحــاالت بالخــروج علــى‬ ‫اإلســام وســلوك طريــق الزندقــة‪ ،‬فهــي تبــدأ مــن التهجــم علــى العــرب‬ ‫إلــى مهاجمــة العربيــة وتنتهــي بالهجــوم علــى اإلســام‪ ،‬وقــد أدرك‬ ‫الجاحــظ الصلــة الوثيقــة بيــن الشــعوبية والزندقــة حيــن قــال‪( :‬فـ َّ‬ ‫ـإن عا َّمـ َة‬ ‫َمــن ارتــاب باإلســام إنمــا كان َّأول ذلــك رأي ُّ‬ ‫الشــعوبية والتمــادي‬ ‫فيــه وطــول الجــدال المــؤ ِّدي إلــى القتــال‪ ،‬فــإذا أبغــض شــيئًا أبغـ َـض‬ ‫أه َلــه‪ْ ،‬‬ ‫وإن أب َغـ َـض تلــك اللغـ َة أبغــض تلـ َ‬ ‫ـك الجزيــرةَ‪ ،‬وإذا أبغــض تلــك‬ ‫ـاالت تنتقــل‬ ‫ـب َمــن أبغــض تلــك الجزيــرة‪ ،‬فــا تــزال الحـ ُ‬ ‫الجزيــر َة أحـ َّ‬ ‫بــه حتــى ينســلخ مــن اإلســام؛ إذ كانــت العــرب هــي التــي جــاءت بــه‬ ‫الســلف والقــدوة)(‪.((2‬‬ ‫وكانــوا َّ‬ ‫يقــول الدكتــور عبــد اهلل الســامرائي‪( :‬ومــن متابعــة نشــاط الحركــة‬ ‫الشــعوبية وقفــت علــى أن أهدافهــا ترتكــز يف ثالثــة أمور أساســية متداخلة‪:‬‬ ‫تشــويه مبــادئ اإلســام وهدمهــا مــن الداخــل بــكل األســاليب‪ ،‬ومحاربــة‬ ‫األمــة العربيــة والعمــل علــى إزالــة ســلطاهنا وتشــويه حضارهتــا‪ ،‬مــن أجــل‬ ‫إعــادة الســلطة وإحيــاء الحضــارة اإليرانيــة)(‪.((2‬‬

‫وقــد عــادت الشــعوبية بقــوة يف العصــر الحديــث بعــد تولــي الثــورة‬ ‫اإليرانيــة مقاليــد الحكــم ودعــوة الخمينــي إلــى تصديــر الثــورة اإليرانيــة‬ ‫إلــى الــدول المجــاورة‪ ،‬ومــا رافــق ذلــك مــن خطــاب طائفــي وإذكاء‬ ‫للنعــرات الطائفيــة والمذهبيــة بيــن شــعوب المنطقــة‪ ..‬يقــول الدكتــور‬ ‫صــري محمــد خليــل‪( :‬ورغــم أن هــذه الشــعوبية التاريخيــة قــد خفتت يف‬ ‫مراحــل تاليــة‪ ،‬إال إهنــا اســتمرت يف الظهــور عــر تاريــخ إيــران رغــم تغيــر‬ ‫األنظمــة السياســية اإليرانيــة)‪ ،‬ثــم يقــول مبينــا غايــة الشــعوبية المعاصــرة‪:‬‬ ‫(كمــا تقــوم الشــعوبية يف األمــة العربيــة المســلمة علــى الدعــوة إلــى إلغــاء‬ ‫أربعــة عشــر قرنــا مــن التاريــخ أوجــد فيــه اإلســام للعــرب أمــة ليعــودوا‬ ‫إلــى الشــعوب الســابقة علــى الفتــح اإلســامي‪.)..‬‬ ‫(‪((1‬الجذور التاريخية للشعوبية للدكتور عبد العزيز الدوري (‪.)٤٩‬‬ ‫(‪ ((1‬الشعوبية حركة مضادة لإلسالم واألمة العربية للدكتور عبد اهلل السامرائي (‪.)٣٤‬‬ ‫(‪ ((1‬الجذور التاريخية للشعوبية للدكتور عبد العزيز الدوري (‪.)١٥‬‬ ‫(‪ ((2‬كتاب الحيوان للجاحظ‪ ،‬تحقيق عبد السالم هارون‪ ،‬طبعة دار الجيل ‪.)022/7( 6991‬‬ ‫(‪ ((2‬الشعوبية حركة مضادة لإلسالم واألمة العربية للدكتور عبد اهلل السامرائي (‪.)٧‬‬

‫‪67‬‬


‫أثر الشعوبية في المجتمع العربي المسلم‬ ‫مــن كبــار موظفــي الماليــة العــرب يف العــراق‪.‬‬

‫إن اعتمــاد األموييــن العربيــة لغ ـ ًة رســمي ًة يف الدواويــن وســك العملــة‬ ‫وإخــراج الموظفيــن الــروم والفــرس واألقبــاط وغيرهــم مــن هــذه‬ ‫الوظائــف؛ أدى إلــى الحــد مــن أطماعهــم يف الرتقــي يف وظائــف الدولــة‬ ‫المســلمة والمشــاركة فيهــا‪ ،‬فامتلــؤوا حقــدا علــى العــرب‪ ،‬وقــد أضــاف‬ ‫األمويــون إلــى تعريــب العملــة والدواويــن اقتصارهــم يف الواليــات‬ ‫والمناصــب الكــرى علــى العــرب خاصــة‪ ،‬ممــا زاد حقــد األقــوام‬ ‫األخــرى علــى العنصــر العربــي وعلــى دينــه اإلســام‪ ،‬ولــم يعــد هنــاك‬ ‫فــرق بيــن كلمــة عربــي ومســلم حتــى غــدت كلمــة (عربــي) مرادفــة‬ ‫لكلمــة (مســلم) فقــد اعتــذر دهاقيــن بخــارى مــن قلــة الضرائــب فكتبــوا‬ ‫إلــى الوالــي أشــرس يقولــون لــه‪( :‬ممــن تأخــذ الخــراج وقــد صــار الناس‬ ‫كلهــم عر ًبــا) أي أصبحــوا مســلمين(((‪.‬‬ ‫لقــد كانــت الشــعوبية يف هــذه الفــرة تتقــد تحــت الرمــاد‪ ،‬وقــد وجــد‬ ‫الفــرس الحاقديــن علــى بنــي أميــة متنفســهم يف الدعــوة العباســية‪ ،‬فأيدها‬ ‫قســم منهــم نكايــة بالدولــة األمويــة التــي صبغــت الحيــاة كلهــا بالصبغــة‬ ‫العربيــة ومنعتهــم مــن اإلمــارات والواليــات‪ ،‬وقــد حــاول هــؤالء فيمــا‬ ‫بعــد وعلــى رأســهم أبــو مســلم الخراســاين أن يعلنــوا عــن مطامعهــم‬ ‫ويحولوهــا إلــى دولــة‪ ،‬ولكــن العباســيين كانــوا لهــم بالمرصــاد‪.‬‬

‫الشعوبية يف العرص العبايس‪:‬‬

‫إن إطــاق اســم «الشــعوبية» علــى الحــركات التــي تحــض علــى كراهــة‬ ‫العــرب كان يف العصــر العباســي‪ ،‬حيث ظهر العداء للعــرب يف أجلى صوره‬ ‫بعــد منــع بنــي العبــاس مؤيديهــم الفــرس مــن الســيطرة علــى قيــادة الدولــة‬ ‫اإلســامية‪ ،‬وقــد ظهــرت لهــا بعــد تلــك الفــرة تعريفــات عــدة؛ إذ غــدت‬ ‫لفظــة شــعوبي عرفــا على من يكــره العرب‪ ،‬ســواء كان الشــعوبي مســلما أو‬ ‫غيــر مســلم‪ ،‬يقــول البغــدادي يف كتابه الفــرق بين الفــرق‪( :‬الشــعوبية‪ :‬الذين‬ ‫يــرون تفضيــل العجــم علــى العــرب ويتمنــون عــودة الملــك إلــى العجــم)‪،‬‬ ‫ويقــول اإلمــام القرطبــي‪( :‬الشــعوبية تبغــض العــرب وتفضل العجــم) وأما‬ ‫اللســان فيعطــي تعريفا واضحا للشــعوبية حين يقول‪( :‬الشــعوبي هــو الذي‬ ‫يصغــر شــأن العــرب وال يــرى لهــم فضـ ًـا علــى غيرهــم)(((‪.‬‬

‫وقــد أســمى الشــعوبيون حركتهــم يف بدايتهــا بحركــة (التســوية) أي بيــن‬ ‫حقوقهــم وحقــوق العــرب‪ ،‬تلــك التــي تبدلــت تدريجيــا إلــى حركــة‬ ‫تفضيــل العجــم علــى العــرب‪ ،‬قــال المفكــر اإليــراين علــي شــريعتي‪:‬‬ ‫(تحولــت الشــعوبية تدريج ًّيــا مــن حركــة تســوية إلى حركة تفضــل العجم‬ ‫علــى العــرب‪ ،‬وعملــت عبــر ترويــج المشــاعر القومية وإشــاعة اليــأس من‬ ‫اإلســام إلــى ضــرب ســلطة الخالفــة)(((‪.‬‬ ‫ومــن أشــهر من تكلــم عن الشــعوبية وأظهر مالمحهــا الجاحظ المتوىف ســنة‬ ‫(‪255‬هـــ)‪ ،‬حيــث تعرض لها يف كثير من مؤلفاتــه‪ ،‬مما يدل على أهنا أصبحت‬ ‫((( كتاب الشعوبية حركة مضادة لإلسالم واألمة العربية للدكتور‪ :‬عبد اهلل سلوم السامرائي‪.)٣٣( ،‬‬ ‫((( الجذور التاريخية للشعوبية للدكتور عبد العزيز الدوري (‪.)٩٤‬‬ ‫((( من مقال بعنوان الشعوبية على الشبكة العنكبوتية باسم المعرفة ‪/gro.aferam.www//:sptth‬شعوبية‪.‬‬

‫‪66‬‬

‫أحــد أســوأ األمــراض االجتماعيــة يف القرن الثــاين والثالــث الهجري‪.‬‬

‫انتشار الشعوبية‪:‬‬

‫وقــد انتشــرت الشــعوبية بيــن المســلمين الفــرس‪ ،‬ألهنــم أول مــن‬ ‫دخــل يف اإلســام مــن غيــر العــرب‪ ،‬وفيهــم طائفــة لــم تقبــل مــا صــار‬ ‫عليــه حــال قومهــم مــن الدخــول يف اإلســام‪ ،‬فعزمــوا علــى إشــاعة‬ ‫الكراهيــة والفتنــة بينهــم‪ ،‬ثــم ظهــر شــعوبيون هنــود وأتــراك ومــن مولدي‬ ‫األندلــس‪ ،‬يقــول الجاحــظ يف رســالته فخــر الســودان على البيضــان‪( :‬إن‬ ‫الشــعوبية لــم تكــن تشــيع بيــن الفــرس فحســب‪ ،‬وإنمــا طالت بقيــة األمم‬ ‫كاألندلســيين والزنــج مــن أهــل أفريقيــا واجتمعــوا وهــؤالء علــى العــداء‬ ‫للعــرب واالســتطالة عليهــم والحــط مــن شــأهنم)‪.‬‬

‫لقد امتدت ســاحة المواجهة بين المســلمين العرب من جهة والشــعوبية‬ ‫مــن جهــة أخــرى علــى رقعــة واســعة مــن الحجــاز إلــى خراســان عــر بالد‬ ‫العــراق‪ ،‬كمــا تمثلــت يف بــاد الشــام واليمــن والعــراق معرجــة إلى شــمال‬ ‫إفريقيــا واألندلــس ويف مناطــق أخــرى حيث يقيم الموالــي(‪.((1‬‬

‫أعامل الشعوبيني بني القديم الحديث‪:‬‬

‫يؤكــد بعــض المؤرخيــن أن حادثــة اغتيــال أبي لؤلؤة المجوســي للخليفة‬ ‫عمــر بــن الخطــاب كانــت أولــى األعمــال العدائيــة للحركــة الشــعوبية‬ ‫انتقامــا للدولــة الســامانية التــي ُقهــرت يف عهــده(‪.((1‬‬ ‫وقــد تزاوجــت شــعوبية اليهــود مــع شــعوبية الفــرس يف صــدر اإلســام‬ ‫وكان مــن روادهــا اليهــودي اليمنــي عبــد اهلل بــن ســبأ(‪.((1‬‬

‫وانتقامــا مــن العــرب تحالفــوا مــع القــوى األجنبيــة المعاديــة لإلســام‬ ‫والمســلمين كتحالــف الطوســي وابــن العلقمــي مــع هوالكــو والمغــول‪،‬‬ ‫وكان لهــذا التحالــف امتــداد يف العصــر الحديــث حين تحالــف اإليرانيون‬ ‫مــع بــوش إلســقاط صــدام حســين وإقامــة دولــة فارســية يف العــراق علــى‬ ‫أنقــاض الدولــة العربيــة(‪.((1‬‬

‫مظاهرالشعوبية‪:‬‬

‫عملــت هــذه المقاومــة الشــعوبية يف مجاليــن كمــا بيــن ذلك الدكتــور عبد‬ ‫اهلل السامرائي‪:‬‬

‫‪ _١‬مقاومــة قامــت يف وجــه اإلســام واســتهدفت محاربتــه وتشــويه مبادئــه‬ ‫بــكل األســاليب‪ ،‬وقــد تمثلــت هذه المقاومــة بحركتين كبيرتيــن هما حركة‬ ‫«الغلــو» وحركــة «الزندقــة» ويطلق عليهــا المقاومة الشــعوبية الدينية‪.‬‬ ‫‪ _٢‬وثمــة مقاومــة أخرى اســتهدفت الطعن يف العرب وتشــويه حضارهتم‬ ‫وهــدم ســلطاهنم وتفضيــل الشــعوب األخــرى عليهــم‪ ،‬ويطلــق علــى هذه‬ ‫المقاومة الشــعوبية العنصرية‪.‬‬

‫(‪ ((1‬الشعوبية حركة مضادة لإلسالم واألمة العربية للدكتور عبد اهلل السامرائي (‪.)6‬‬ ‫(‪ ((1‬من مقال على اإلنرتنت بعنوان استنهاض الشعوبية ودرء المد القومي العربي لرانية المدهون‪.‬‬ ‫(‪ ((1‬من مقال الشعوبية يف العصر الحديث من موقع شبكة البصرة عام ‪.٢٠٠٢‬‬ ‫(‪ ((1‬من مقال‪ :‬الشعوبيون الجدد‪ ،‬للدكتورة حسناء عبد العزيز القنيعير‪ ،‬عرب االنرتنت‪.‬‬

‫أثر الشعوبية في المجتمع العربي المسلم‬ ‫أمــا الشــعوبية الدينيــة فكانــت منظمــة لهــا أســاليبها الخاصــة يف العمــل‬ ‫وتنظيماهتــا المحكمــة يف إعــداد الدعــاة واالتصــال بالنــاس‪ ،‬وعلــى الرغم‬ ‫مــن أن الشــعوبية العنصريــة لــم تكــن منظمــة تنظيمــا يحــدد معالمهــا‬ ‫وأســاليبها ويوحدهــا يف حركــة واحــدة‪ ،‬فــإن الشــعوبية العنصريــة كانــت‬ ‫تتســر باإلســام وتعمــل علــى تحقيــق أغراضهــا مــن خــال التظاهــر‬ ‫بالــوالء القبلــي والــوالء السياســي(‪.((1‬‬

‫وتحــاول الشــعوبية طمــس الــذات العربيــة وقطــع الجــذور تاريخيــا‬ ‫وثقافيــا وتفتيــت الوحــدة‪ ،‬فتبــدأ بمهاجمــة األنســاب العربيــة القديمــة‪،‬‬ ‫وهتاجــم العــرب القدامــى‪ ،‬وتظهرهــم بمظهــر التأخــر والهمجيــة وتســخر‬ ‫مــن ثقافتهــم‪ ،‬وتشــكك يف شــعرهم بمــا ُتدخلــه فيــه مــن انتحــال‪ ،‬وهتاجــم‬ ‫العربيــة‪ ،‬وهــي بعــد ذلــك هتاجــم المــروءة العربيــة بمــا فيهــا مــن فروســية‬ ‫وكــرم ووفــاء وفصاحــة‪ ،‬وهــي تنــدد بالمثــل ُ‬ ‫الخلقيــة وبالقيــم العربيــة‬ ‫اإلســامية‪ ،‬وتذهــب إلــى التحلــل‪ ،‬وتنــزع إلــى المجــون‪ ،‬وتدعــو إلــى‬ ‫نظــرات اجتماعيــة وخلقيــة تتعــارض كليــا مــع القيــم العربيــة اإلســامية‪،‬‬ ‫والشــعوبية تفعــل ذلــك باســم الظــرف والحضــارة وتتبجــح بدعــوى‬ ‫الحريــة االجتماعيــة‪ ،‬وهــي تــدرك أهنــا سـ ٌ‬ ‫ـبيل فعــال لتفكيــك الروابــط‬ ‫وإضعــاف الكيــان االجتماعــي‪.‬‬

‫ثــم تــأيت الشــعوبية إلــى العرب واإلســام فتنكــر دورهم يف حمل الرســالة‬ ‫اإلنســانية‪ ،‬وتحــاول طمــس دورهــم الحضــاري‪ ،‬فتدعــي أن الحضــارة‬ ‫العربيــة اإلســامية مــا هــي إال اقتباســات مــن األعاجــم‪ ..‬تريــد بذلــك‬ ‫زعزعــة الثقــة بالــذات‪ ،‬وصــرف االنتبــاه إلــى الثقافــات األعجميــة‪ ،‬وهــي‬ ‫تفعــل ذلــك يف وقــت تحــاول فيه إحيــاء الــراث األعجمي وتمجيــد اآلثار‬ ‫األعجميــة‪ ،‬وتعمــل علــى بثهــا يف المجتمــع العربــي اإلســامي‪ ،‬وعلــى‬ ‫تحويلــه عــن ذاتــه‪ ،‬وتريــد بعــد هــذا أن تطبــع اإلدارة والحيــاة العامــة بطابع‬ ‫أعجمــي‪ ،‬فترتجــم الكتــب عــن الفارســية يف المراســيم والعــادات وشــكل‬ ‫الحكــم واألخــاق‪ ،‬وتضــع كت ًبــا ورســائل تنســبها للقدمــاء وتعمــل علــى‬ ‫بثهــا وترويجهــا(‪.((1‬‬ ‫واتخــذ هــؤالء ســبال مختلفــة‪ ،‬منهــا‪ :‬إكثارهم مــن الرتجمة عن الفارســية‬ ‫يف موضوعــات تتصــل بصميــم الــذات الفارســية كاألدب والتاريــخ‬ ‫والتقاليــد والمثــل‪ ،‬وقــد شــهد العصــر العباســي ترجمــة واســعة عــن‬ ‫الفارســية‪ ،‬وهــي مســتقلة عــن حركــة الرتجمــة التــي تبناهــا الخلفــاء‪،‬‬ ‫ومــن أمثلــة هــذه الرتجمــات «خداينامــه» أو «ســير ملــوك الفــرس» وهــو‬ ‫كتــاب ينطــوي علــى كثيــر مــن األســاطير والمواعــظ والتمجيــد‪ ،‬ويغلــب‬ ‫عليــه عنصــر القصــة واألســطورة‪ ،‬ومنهــا «اآلييــن نامــه» وهــو يتضمــن أد ًبا‬ ‫و ُمثـ ًـا أخالقيــة مجوســية ال تأتلــف والمفاهيــم اإلســامية‪ ،‬وقــد ترجمــه‬ ‫ابــن المقفــع(‪.((1‬‬

‫ٍّ‬ ‫وســلكت الشــعوبية ً‬ ‫ولــكل منهــا‬ ‫ســبل متعــددة بيــن ظاهــر ومســتور‪،‬‬ ‫أثرهــا وخطرهــا الخــاص‪ ،‬فهــي تريــد أن تربــك العقائــد وتشــوه المفاهيــم‬ ‫(‪ ((1‬الشعوبية حركة مضادة لإلسالم واألمة العربية للدكتور عبد اهلل السامرائي (‪.)7‬‬ ‫(‪ ((1‬الجذور التاريخية للشعوبية‪ ،‬د‪ .‬عبد العزيز الدوري (‪.)٤٩‬‬ ‫(‪ ((1‬الجذور التاريخية للشعوبية للدكتور عبد العزيز الدوري (‪.)١٥‬‬

‫اإلســامية لتزعــزع قاعــدة المجتمــع وأساســه‪ ،‬وهــي تنفــذ باســم العقــل‬ ‫والمنطــق إلــى تحويــر معنــى النصــوص والمفاهيــم اإلســامية؛ إذ تنتقــل‬ ‫إلــى التأويــل الــذي يخــرج النصــوص مــن معانيهــا اإلســامية إلــى مفاهيم‬ ‫غريبــة بعيــدة عــن اإلســام(‪ ،((1‬وهــم يفعلــون ذلــك باســم الحريــة الثقافيــة‬ ‫وتحــت ســتار الفكــر المتحــرر‪ ،‬ومــن ذلــك مــا عــر عنــه أحــد الشــعوبيين‬ ‫بقولــه‪( :‬نرفــض يف الظاهــر مــا بيننــا مــن العــداوة ونظهــر موافقتهــم‬ ‫ومســاعدهتم وندخــل يف ديــن محمــد ونؤمــن بــه‪ ،‬ثــم نفســد عليهــم دينهــم‬ ‫بلطيــف الحيــل ونــدرك منهــم مــا لــم يمكــن إدراكــه بالقهــر والغلبــة)(‪.((1‬‬ ‫يقــول ابــن قتيبــة‪( :‬وأعاذنــا اهلل مــن فتنــة العصبيــة وحميــة الجاهليــة‬ ‫وتحامــل الشــعوبية‪ ،‬فإهنــا لفــرط الحســد ونغــل الصــدر؛ تدفــع العــرب‬ ‫عــن كل فضيلــة‪ ،‬وتلحــق هبــا كل رذيلــة‪ ،‬وتغلــو يف القــول وتســرف يف الذم‬ ‫وتبهــت يف الكــذب وتكابــر بالعصيــان)(‪.((1‬‬

‫ولــذا نجــد الشــعوبية تنتهــي يف كثيــر مــن الحــاالت بالخــروج علــى‬ ‫اإلســام وســلوك طريــق الزندقــة‪ ،‬فهــي تبــدأ مــن التهجــم علــى العــرب‬ ‫إلــى مهاجمــة العربيــة وتنتهــي بالهجــوم علــى اإلســام‪ ،‬وقــد أدرك‬ ‫الجاحــظ الصلــة الوثيقــة بيــن الشــعوبية والزندقــة حيــن قــال‪( :‬فـ َّ‬ ‫ـإن عا َّمـ َة‬ ‫َمــن ارتــاب باإلســام إنمــا كان َّأول ذلــك رأي ُّ‬ ‫الشــعوبية والتمــادي‬ ‫فيــه وطــول الجــدال المــؤ ِّدي إلــى القتــال‪ ،‬فــإذا أبغــض شــيئًا أبغـ َـض‬ ‫أه َلــه‪ْ ،‬‬ ‫وإن أب َغـ َـض تلــك اللغـ َة أبغــض تلـ َ‬ ‫ـك الجزيــرةَ‪ ،‬وإذا أبغــض تلــك‬ ‫ـاالت تنتقــل‬ ‫ـب َمــن أبغــض تلــك الجزيــرة‪ ،‬فــا تــزال الحـ ُ‬ ‫الجزيــر َة أحـ َّ‬ ‫بــه حتــى ينســلخ مــن اإلســام؛ إذ كانــت العــرب هــي التــي جــاءت بــه‬ ‫الســلف والقــدوة)(‪.((2‬‬ ‫وكانــوا َّ‬ ‫يقــول الدكتــور عبــد اهلل الســامرائي‪( :‬ومــن متابعــة نشــاط الحركــة‬ ‫الشــعوبية وقفــت علــى أن أهدافهــا ترتكــز يف ثالثــة أمور أساســية متداخلة‪:‬‬ ‫تشــويه مبــادئ اإلســام وهدمهــا مــن الداخــل بــكل األســاليب‪ ،‬ومحاربــة‬ ‫األمــة العربيــة والعمــل علــى إزالــة ســلطاهنا وتشــويه حضارهتــا‪ ،‬مــن أجــل‬ ‫إعــادة الســلطة وإحيــاء الحضــارة اإليرانيــة)(‪.((2‬‬

‫وقــد عــادت الشــعوبية بقــوة يف العصــر الحديــث بعــد تولــي الثــورة‬ ‫اإليرانيــة مقاليــد الحكــم ودعــوة الخمينــي إلــى تصديــر الثــورة اإليرانيــة‬ ‫إلــى الــدول المجــاورة‪ ،‬ومــا رافــق ذلــك مــن خطــاب طائفــي وإذكاء‬ ‫للنعــرات الطائفيــة والمذهبيــة بيــن شــعوب المنطقــة‪ ..‬يقــول الدكتــور‬ ‫صــري محمــد خليــل‪( :‬ورغــم أن هــذه الشــعوبية التاريخيــة قــد خفتت يف‬ ‫مراحــل تاليــة‪ ،‬إال إهنــا اســتمرت يف الظهــور عــر تاريــخ إيــران رغــم تغيــر‬ ‫األنظمــة السياســية اإليرانيــة)‪ ،‬ثــم يقــول مبينــا غايــة الشــعوبية المعاصــرة‪:‬‬ ‫(كمــا تقــوم الشــعوبية يف األمــة العربيــة المســلمة علــى الدعــوة إلــى إلغــاء‬ ‫أربعــة عشــر قرنــا مــن التاريــخ أوجــد فيــه اإلســام للعــرب أمــة ليعــودوا‬ ‫إلــى الشــعوب الســابقة علــى الفتــح اإلســامي‪.)..‬‬ ‫(‪((1‬الجذور التاريخية للشعوبية للدكتور عبد العزيز الدوري (‪.)٤٩‬‬ ‫(‪ ((1‬الشعوبية حركة مضادة لإلسالم واألمة العربية للدكتور عبد اهلل السامرائي (‪.)٣٤‬‬ ‫(‪ ((1‬الجذور التاريخية للشعوبية للدكتور عبد العزيز الدوري (‪.)١٥‬‬ ‫(‪ ((2‬كتاب الحيوان للجاحظ‪ ،‬تحقيق عبد السالم هارون‪ ،‬طبعة دار الجيل ‪.)022/7( 6991‬‬ ‫(‪ ((2‬الشعوبية حركة مضادة لإلسالم واألمة العربية للدكتور عبد اهلل السامرائي (‪.)٧‬‬

‫‪67‬‬


‫أثر الشعوبية في المجتمع العربي المسلم‬ ‫وال يخفــى مــا للكيــان الصهيــوين مــن دور يف بعــث الشــعوبية مــن‬ ‫جديــد وإذكاء نارهــا‪ ،‬فيقــول الدكتــور مبينــا دور الكيــان الصهيــوين يف‬ ‫إظهــار الشــعوبية المعاصــرة‪( :‬ويف هــذا الســياق فقــد أثبــت اكتشــاف‬ ‫شــبكات التجســس اإلســرائيلية يف العديــد مــن الــدول العربيــة اســتهداف‬ ‫إســرائيل لألمــن القومــي العربــي بــكل أبعــاده السياســية واالقتصاديــة‬ ‫والعســكرية واالجتماعيــة‪ ..‬ويضــاف إلــى هــذا كلــه مجموعــة ضخمــة‬ ‫مــن مراكــز الدراســات واألبحــاث التــي تســهم أيضــا يف أعمــال التجســس‬ ‫والتخريــب والتشــجيع على االنقســامات والفتــن داخل العالميــن العربي‬ ‫واإلســامي‪ ..‬وتعتمــد الموســاد ومراكــز األبحــاث المشــار إليهــا علــى‬ ‫مجموعــة مــن النظريــات والمخططــات التــي ترمــي يف آخــر المطــاف‬ ‫إلــى تفتيــت المجتمعــات العربيــة عــر إثــارة الفتــن وتأجيــج حالــة التمــرد‬ ‫والعصيــان والتنــازع‪ ،‬وذلــك مــن خــال االســتعانة بالجماعــات اإلثنيــة‬ ‫والطائفيــة والمذهبيــة التــي تعيــش حــاالت من التذمــر والغضــب والنزوع‬ ‫نحــو االنفصــال والتقســيم)(‪.((2‬‬ ‫وال بــد مــن االنتبــاه إلــى أن الشــعوبية الحديثة تتخذ اليــوم مظاهر مختلفة‬ ‫وتتلبــس مالبس شــتى‪ ،‬منها‪:‬‬ ‫‪ _١‬الدعــوة الحــارة إلــى إحيــاء اللهجــات العاميــة المحليــة وهجــر اللغــة‬ ‫العربيــة الفصيحــة‪ ،‬وقــد تنــادي بإحــال الالتينيــة محــل الحــروف العربيــة‬ ‫واالنصــراف عــن قواعــد النحــو واإلعــراب وتــرك الشــعر التقليــدي ذي‬ ‫الــوزن الخليلــي‪.‬‬ ‫‪ _ ٢‬الدعــوة إلــى التفريق بين العقليات وتعميق الفروق بينها يف الدراســات‬ ‫والبحــوث‪ ،‬وربــط المبدعيــن العــرب بشــتى ألــوان العلــوم والفنــون بغيــر‬ ‫األصــل العربــي ورده إلــى أصــول آريــة أو إلــى أصــول غيــر عربيــة‪.‬‬

‫‪ _ ٣‬إشــاعة فكــرة الرفــض التــي تتبنــى رفــض الماضــي‪ ،‬ورفــض الكتــب‬ ‫الصفــراء‪ ،‬ورفــض الــراث‪ ،‬ورفــض كل اعتــزاز بمجد تليــد بحجة التطلع‬ ‫إلــى األمــام؛ احتــذاء بأمــم أخــرى تختلــف ظــروف حياهتــا عــن ظــروف‬ ‫(‪((2‬‬ ‫الحيــاة العربيــة حاضــرا وماضيــا ومســتقبال‪.‬‬

‫الشعوبية وثورات الربيع العريب‪:‬‬

‫لقــد تعالــت أصــوات الشــعوبية أيضــا مــع بدايــات ثــورات الربيــع العربــي‬ ‫فكأهنــا وجــدت يف هــذه الفــرة الحرجــة مــن تاريــخ األمــة فرصــة لتحقيــق‬ ‫مآرهبــا وأطماعهــا‪ ..‬وتأثــر هبــا كثيــر مــن المثقفيــن واألكاديمييــن العــرب‪،‬‬ ‫مــن حيــث يشــعرون أو ال يشــعرون‪ ،‬فأصبحنا نرى االســتخفاف بالعرب‪،‬‬ ‫وتصويرهــم بمظهــر اإلفــاس الحضــاري والفشــل االجتماعــي‪ ،‬كمــا لــم‬ ‫نعهــده مــن قبــل‪.‬‬ ‫(والحقيقــة أن العرب‪ ‬أمة‪ ‬مــن األمــم مثلهــم مثــل غيرهــم‪ ،‬لهــم مــا لهــم‬ ‫وعليهــم مــا عليهــم‪ ،‬بــل لــو قيســوا بأكثــر أمــم األرض تحضــرا وتقدمــا‬ ‫(‪ ((2‬الموقع الرسمي للدكتور صربي محمد خليل خيري من مقاله المعنون بـ (الشعوبية التاريخية‬ ‫والمعاصرة من منظور نقدي إسالمي)‪.‬‬ ‫(‪ ((2‬مجلة رابطة األدب اإلسالمي العالمية من مقال بعنوان بين شعوبية القدماء وشعوبية المعاصرين‪،‬‬ ‫للدكتور بكري شيخ أمين‪.‬‬

‫‪68‬‬

‫لكانــوا مــن الخمــس أو الســبع األوائــل‪ ،‬وإن كانــوا يمــرون بظــروف‬ ‫اســتثنائية مزعجــة فهــذه ســنة الحياة‪ ..‬لكــن االســتهزاء هبــم وجلــد‬ ‫الذات‪ ،‬وإظهارهــم علــى أهنــم أمــة الجنــس والطعــام والتفاهــات؛ أمــر‬ ‫ال يقبلــه عاقــل‪ ،‬فهــذه الفئــة مــن النــاس موجــودة يف غيرنــا مــن األمــم‬ ‫أكثــر ممــا هــي عندنــا‪ ،‬وإن كثــرة المناشــير المســيئة ألمتنــا تــؤدي إلــى‬ ‫ســلبية أكثــر وإلــى ضــرر أكرب‪ ‬على‪ ‬النفســية العربيــة‪ ،‬ومــن يقــرأ التاريــخ‬ ‫يعلــم أن ال شــيء يدمــر األمــة مثــل فقــدان الثقــة بالنفــس واألمــل‪ ..‬لهذا‬ ‫كشــخص عربــي أشــعر باأللــم عندمــا يرســل لــي أحدهــم واحــدة مــن‬ ‫تلــك المقــاالت المســيئة التــي تقتات‪ ‬على‪ ‬االســتياء العــام للشــعوب‬ ‫العربيــة وتغذيــه‪ ،‬وأدعــو أصدقائــي إلــى زجــر مــن يشــيع مثــل هــذه‬ ‫المقــاالت بــدل تأييــده‪ ،‬ولنشــغل أنفســنا بالعمــل ولنكــف عــن‬ ‫الســلبية فقــد قــال الرســول ﷺ‪« :‬إذا قــال الرجــل هلــك النــاس فهــو‬ ‫أهل ُك ُهـ ْـم»(‪ ((2‬وأنتــم يــا أيهــا الدعــاة العباقــرة والمفكــرون اليائســون! يــا‬ ‫مــن تــرون أنفســكم يف عاليــة ال يبلغهــا بنــو قومكــم وتتكــرون علــى‬ ‫أوجاعهــم وتســخرون مــن آالمهــم؛ إن كنتــم‪ ‬ال تثقــون بأمــة عربيــة‬ ‫يبلــغ تعدادهــا مئــات المالييــن وتشــكل جــزءا أساسـ ًّيا مــن أمــة المليــار‬ ‫ونصــف‪ ،‬وال تــزال رغــم ســقوط‪ ‬دولتها منــذ أكثــر مــن مئــة عــام يف‬ ‫تقــدم مســتمر‪ ...‬فاعتزلــوا النــاس والتزمــوا الصمــت؛ يكــن ذلك‪ ‬خيــر ًا‬ ‫لكــم وللنــاس‪ ،‬وقــد قــال رســول اهلل صلــى اهلل عليــه وســلم‪« :‬مــن كان‬ ‫يؤمــن باهلل‪ ‬واليــوم اآلخــر فليقــل خيــرا أو ليصمــت»(‪.((2‬‬ ‫وأختــم بقــول اإلمــام أحمــد يف بيانــه عقيــدة أهــل الســنة‪( :‬ونعــرف‬ ‫للعــرب حقهــا وفضلهــا وســابقتها ونحبهــم لحديــث النبــي صلــى اهلل‬ ‫عليــه وســلم فــإن حبهــم إيمــان وبغضهــم نفــاق(‪ ،((2‬وال نقــول بقــول‬ ‫الشــعوبية وأراذل الموالــي الذيــن ال يحبــون العــرب وال يقــرون لهــا‬ ‫بفضــل فــإن لهــم بدع ـ ًة ونفا ًقــا وخال ًفــا)(‪.((2‬‬

‫خامتة‪:‬‬

‫إن الشــعوبية حركــة قديمــة حديثــة‪ ،‬وعلــى الباحثيــن المســلمين أن‬ ‫يدرســوها دراســة دقيقــة ليوجهــوا المجتمــع المســلم إلــى اكتشــاف‬ ‫ظواهرهــا ومخططاهتــا يف تدميــر المجتمعــات المســلمة عــر بــث الفتــن‬ ‫بينهــا وبيــن العــرب‪ ،‬وتشــويه اإلســام مــن خــال تســليط الضــوء علــى‬ ‫مشــاكل العــرب االجتماعيــة ونســبتها إلــى اإلســام‪.‬‬ ‫ومــن الواجــب علينــا أيضــا؛ تعريــف الباحثيــن العــرب هبــذه الحركــة‬ ‫وأهدافهــا‪ ،‬حتــى ينتبهــوا إلــى أنفســهم فال يكونــوا ضحية لها مــن حيث ال‬ ‫يشــعرون‪ ...‬واهلل المأمــول أن يرشــدنا إلــى الصــواب‪ ،‬والبعــد عــن مواطن‬ ‫الزلــل والفتــن مــا ظهــر منهــا ومــا بطــن‪ ،‬والحمــد هلل رب العالميــن‪.‬‬ ‫(‪((2‬رواه مسلم‪ ،‬باب النهي عن قول هلك الناس‪ ،‬رقم (‪ )0586‬برتقيم المكنز‪.‬‬ ‫(‪ ((2‬من مقاالت منشورة على اإلنرتنت لألستاذ محمد علي النجار‪ ،‬وحديث «من كان يؤمن باهلل واليوم‬ ‫اآلخر فليقل خيرا أو ليصمت» متفق عليه عن أبي هريرة رضي اهلل عنه‪.‬‬ ‫(‪ ((2‬حديث «حب العرب إيمان وبغضهم نفاق»‪ ،‬رواه البيهقي يف شعب اإليمان‪ ،‬رقم (‪ )5941‬والحاكم‬ ‫يف المستدرك‪ ،‬رقم (‪.)8996‬‬ ‫(‪ ((2‬عقيدة اإلمام أحمد رواية أبي بكر الخالل‪ ،‬دار قتيبة ‪ -8041‬ص (‪)18‬‬

‫مفهوم الحضارة عند مالك بن نبي‬

‫َمفهــو ُم الحضار ِة ورشوطُها‬ ‫نبي‬ ‫عنـ َد مالِك ِ‬ ‫بن ّ‬

‫الحي ُعرابي‬ ‫ُعرابي عبد‬ ‫ّ‬

‫ماجستير يف العقيدة اإلسالمية‬ ‫مدرس يف جامعة تراكيا ‪ -‬أَ ِدرنه‬

‫متهي ٌد ‪:‬‬

‫ـم علمــاء االجتمــاع ‪-‬بعــد ابــن خلــدون‪-‬‬ ‫ـي أحــدَ أهـ ِّ‬ ‫ُيعــدُّ ابــن نبـ ٍّ‬ ‫الذيــن درســوا نشــوء الحضــارات ونهوضهــا واألمــراض التــي‬ ‫ٍ‬ ‫رصيــن‪ّ ،‬إل أنّــه‬ ‫اســتطالعي‬ ‫تصيــب حضاراتهــا مــن منط َلــق‬ ‫ٍّ‬ ‫كمــا لــم يغــدُ ابــن خلــدون ظاهــر ًة يف البــاد اإلســام ّية يف زمنــه؛‬ ‫الرغــم مــن شــهرة‬ ‫ّ‬ ‫نبــي قــد نالــه المصيــر ذاتُــه‪ ،‬وعلــى ّ‬ ‫فــإن ابــن ٍّ‬ ‫الرجليــن وتــداول كتبهمــا ّإل أن المؤسســات الرســمية لــم ُتــولِ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫أطروحتيهمــا يف دراســة المجتمعــات اإلســام ّية كبيــر اهتمــام‪،‬‬ ‫تســع إلــى تنــاول قراءتيهمــا بالدّ عــم والمراجعــة والتبنّــي‪.‬‬ ‫ولــم‬ ‫َ‬

‫مفهوم الحضارة‪:‬‬

‫تشــير المراجــع ال ّلغو ّيــة إلــى ّ‬ ‫أن الحضــارة مأخــوذة مــن مــا ّدة‬ ‫الح َض ِ‬ ‫ــر وتضــا ّد اإلقامــة يف‬ ‫ــر) وا ّلتــي تفيــدُ اإلقامــة يف َ‬ ‫َ‬ ‫(ح َض َ‬ ‫(((‬ ‫أن ابــن خلــدون يشــير يف مقدِّ متــه إلــى ّ‬ ‫ل ّ‬ ‫الباديــة ‪ ،‬إ ّ‬ ‫أن العمــران‬ ‫الســابق‬ ‫ـري‪َ ،‬‬ ‫الح َضـ ِّ‬ ‫ـدوي أصـ ُـل العمــران َ‬ ‫البـ َّ‬ ‫فج َعــل طــور البــداوة ّ‬ ‫(((‬ ‫التحضــر أصــاً لــه ‪ ،‬أمــا الحضــارة يف الــرؤى المعاصــرة‬ ‫علــى‬ ‫ُّ‬ ‫َّ‬ ‫مشــخص‪ ،‬وثانيهمــا‬ ‫موضوعــي‬ ‫فتطلــق علــى معنَ َييــن‪ ،‬أحدهمــا‬ ‫ٌّ‬ ‫الموضوعــي جملــة‬ ‫ويقصــد بالحضــارة بمعناهــا‬ ‫مجــرد‪،‬‬ ‫ذايتٌّ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫ِّ‬ ‫مظاهــر التّقــدّ م األدبــي والفنّــي والعلمــي والتّقنــي؛ إذ َّ‬ ‫إن مز ّيــة‬ ‫ِّ‬ ‫ِّ‬ ‫ِّ‬ ‫ِّ‬ ‫هــذه المظاهــر انتقا ُلهــا مــن جيــل إلــى جيــل يف مجتمــع واحــد أو‬ ‫((( ينظر لسان العرب‪ ،‬جمال الدين‪ ،‬ابن منظور‪ ،‬دار صادر‪ ،‬بيروت‪ ،‬ط‪ ،3‬مادة‪ :‬حضر‪.‬‬ ‫((( ينظر مقدمة ديوان المبتدأ والخرب يف تاريخ العرب والرببر ومن عاصرهم من ذوي الشأن األكرب‪ ،‬أو‬ ‫ما يعرف بـ تاريخ ابن خلدون‪ ،‬عبد الرحمن ابن خلدون‪ ،‬تحقيق خليل شحادة‪ ،‬دار الفكر‪ ،‬بيروت‪ ،‬ط‪،2‬‬ ‫‪( ،8891‬ج‪.)351-251 /1‬‬

‫مجتمعــات متماثلــة‪ ،‬فيقــال‪ :‬الحضــارة األندلســ ّية أو اإلســام ّية‬ ‫أو الهند ّيــة مثــاً‪ ،‬فتنحصــر الحضــارة ههنــا بنطاقهــا الجغــرايفّ‬ ‫ولغاهتــا المح ِّل ّيــة‪ ،‬أ ّمــا الحضــار ُة بمعناهــا الـ ّـذايتّ المجـ ّـرد فتطلــق‬ ‫ّوحــش‪،‬‬ ‫ّطــور اإلنســاينِّ المقابلــة لمرحلــة الت ُّ‬ ‫علــى مرحلــة الت ُّ‬ ‫أي ّ‬ ‫مشــاحة يف‬ ‫الغائــي فــا‬ ‫تعــرف بمعناهــا‬ ‫َّ‬ ‫إن الحضــارة ههنــا َّ‬ ‫ِّ‬ ‫الزمــان والمــكان‬ ‫أي حضــارة وإن اختلفــت حــدود ّ‬ ‫إطالقــه علــى ِّ‬ ‫الشــراكها يف عناصــر ُمتَّحــدة‪ ،‬وقــد تــرادف الحضــارة مفــردة‬ ‫ٍ‬ ‫ّ‬ ‫واحــد‪ ،‬فال َّثقافــة‬ ‫يــدلن علــى مدلــول‬ ‫ال ّثقافــة‪ّ ،‬إل أنَّهمــا ال‬ ‫تطلــق عنــد بعــض المف ّكريــن علــى تنميــة العقــل بالفكــر‪ ،‬بينمــا‬ ‫يطلقهــا آخــرون علــى نتيجــة هــذه التّنميــة‪ ،‬ويقصــد هبــا علمــاء‬ ‫األنثروبولوجيــا ‪-‬مــن طــرف آخــر‪َّ -‬‬ ‫كل مظهــر مــن مظاهــر‬ ‫الحيــاة ســواء كان المجتمــع يف حالــة التّخ ُّلــف أو التَّقــدُّ م‪ ،‬يف‬ ‫حيــن َّ‬ ‫أن الحضــارة ُتط َلــق عندهــم علــى منتجــات المجتمعــات‬ ‫يهمنــا يف هــذا المقــام إدراك مفهــوم الحضــارة‬ ‫المتقدِّ مــة(((‪ ،‬ومــا ُّ‬ ‫نبــي وأثــر هــذا المفهــوم يف رؤيتــه لنهضــة الحضــارة‬ ‫عنــد ابــن ٍّ‬ ‫وأفولهــا‪.‬‬

‫مفهــوم الحضارة عند ابن نبي‪:‬‬

‫توزعــت بحــوث ابــن نبــي عــن الحضــارة يف العديــد مــن كتبــه‬ ‫َّ‬ ‫ّ‬ ‫َّ‬ ‫ومقاالتــه التــي أطرهــا بسلســلة «مشــكالت الحضــارة» التــي‬ ‫الفكــري‪ ،‬وذلــك كمــا يف‬ ‫كبيــرا مــن مشــروعه‬ ‫ــزا‬ ‫شــغلت ح ِّي ً‬ ‫ِّ‬ ‫ً‬ ‫((( ينظر المعجم الفلسفي‪ ،‬جميل صليبا‪ ،‬دار الكتاب اللبناين‪ ،‬بيروت‪ ،‬د‪ .‬ط‪( ،2891 ،‬ج‪-574 /1‬‬ ‫‪ )774‬وينظر المعجم الفلسفي‪ ،‬د‪ .‬مراد وهبة‪ ،‬دار قباء‪ ،‬القاهرة‪ )082( ،7002 ،‬مادة "الحضارة"‪.‬‬

‫‪69‬‬


‫أثر الشعوبية في المجتمع العربي المسلم‬ ‫وال يخفــى مــا للكيــان الصهيــوين مــن دور يف بعــث الشــعوبية مــن‬ ‫جديــد وإذكاء نارهــا‪ ،‬فيقــول الدكتــور مبينــا دور الكيــان الصهيــوين يف‬ ‫إظهــار الشــعوبية المعاصــرة‪( :‬ويف هــذا الســياق فقــد أثبــت اكتشــاف‬ ‫شــبكات التجســس اإلســرائيلية يف العديــد مــن الــدول العربيــة اســتهداف‬ ‫إســرائيل لألمــن القومــي العربــي بــكل أبعــاده السياســية واالقتصاديــة‬ ‫والعســكرية واالجتماعيــة‪ ..‬ويضــاف إلــى هــذا كلــه مجموعــة ضخمــة‬ ‫مــن مراكــز الدراســات واألبحــاث التــي تســهم أيضــا يف أعمــال التجســس‬ ‫والتخريــب والتشــجيع على االنقســامات والفتــن داخل العالميــن العربي‬ ‫واإلســامي‪ ..‬وتعتمــد الموســاد ومراكــز األبحــاث المشــار إليهــا علــى‬ ‫مجموعــة مــن النظريــات والمخططــات التــي ترمــي يف آخــر المطــاف‬ ‫إلــى تفتيــت المجتمعــات العربيــة عــر إثــارة الفتــن وتأجيــج حالــة التمــرد‬ ‫والعصيــان والتنــازع‪ ،‬وذلــك مــن خــال االســتعانة بالجماعــات اإلثنيــة‬ ‫والطائفيــة والمذهبيــة التــي تعيــش حــاالت من التذمــر والغضــب والنزوع‬ ‫نحــو االنفصــال والتقســيم)(‪.((2‬‬ ‫وال بــد مــن االنتبــاه إلــى أن الشــعوبية الحديثة تتخذ اليــوم مظاهر مختلفة‬ ‫وتتلبــس مالبس شــتى‪ ،‬منها‪:‬‬ ‫‪ _١‬الدعــوة الحــارة إلــى إحيــاء اللهجــات العاميــة المحليــة وهجــر اللغــة‬ ‫العربيــة الفصيحــة‪ ،‬وقــد تنــادي بإحــال الالتينيــة محــل الحــروف العربيــة‬ ‫واالنصــراف عــن قواعــد النحــو واإلعــراب وتــرك الشــعر التقليــدي ذي‬ ‫الــوزن الخليلــي‪.‬‬ ‫‪ _ ٢‬الدعــوة إلــى التفريق بين العقليات وتعميق الفروق بينها يف الدراســات‬ ‫والبحــوث‪ ،‬وربــط المبدعيــن العــرب بشــتى ألــوان العلــوم والفنــون بغيــر‬ ‫األصــل العربــي ورده إلــى أصــول آريــة أو إلــى أصــول غيــر عربيــة‪.‬‬

‫‪ _ ٣‬إشــاعة فكــرة الرفــض التــي تتبنــى رفــض الماضــي‪ ،‬ورفــض الكتــب‬ ‫الصفــراء‪ ،‬ورفــض الــراث‪ ،‬ورفــض كل اعتــزاز بمجد تليــد بحجة التطلع‬ ‫إلــى األمــام؛ احتــذاء بأمــم أخــرى تختلــف ظــروف حياهتــا عــن ظــروف‬ ‫(‪((2‬‬ ‫الحيــاة العربيــة حاضــرا وماضيــا ومســتقبال‪.‬‬

‫الشعوبية وثورات الربيع العريب‪:‬‬

‫لقــد تعالــت أصــوات الشــعوبية أيضــا مــع بدايــات ثــورات الربيــع العربــي‬ ‫فكأهنــا وجــدت يف هــذه الفــرة الحرجــة مــن تاريــخ األمــة فرصــة لتحقيــق‬ ‫مآرهبــا وأطماعهــا‪ ..‬وتأثــر هبــا كثيــر مــن المثقفيــن واألكاديمييــن العــرب‪،‬‬ ‫مــن حيــث يشــعرون أو ال يشــعرون‪ ،‬فأصبحنا نرى االســتخفاف بالعرب‪،‬‬ ‫وتصويرهــم بمظهــر اإلفــاس الحضــاري والفشــل االجتماعــي‪ ،‬كمــا لــم‬ ‫نعهــده مــن قبــل‪.‬‬ ‫(والحقيقــة أن العرب‪ ‬أمة‪ ‬مــن األمــم مثلهــم مثــل غيرهــم‪ ،‬لهــم مــا لهــم‬ ‫وعليهــم مــا عليهــم‪ ،‬بــل لــو قيســوا بأكثــر أمــم األرض تحضــرا وتقدمــا‬ ‫(‪ ((2‬الموقع الرسمي للدكتور صربي محمد خليل خيري من مقاله المعنون بـ (الشعوبية التاريخية‬ ‫والمعاصرة من منظور نقدي إسالمي)‪.‬‬ ‫(‪ ((2‬مجلة رابطة األدب اإلسالمي العالمية من مقال بعنوان بين شعوبية القدماء وشعوبية المعاصرين‪،‬‬ ‫للدكتور بكري شيخ أمين‪.‬‬

‫‪68‬‬

‫لكانــوا مــن الخمــس أو الســبع األوائــل‪ ،‬وإن كانــوا يمــرون بظــروف‬ ‫اســتثنائية مزعجــة فهــذه ســنة الحياة‪ ..‬لكــن االســتهزاء هبــم وجلــد‬ ‫الذات‪ ،‬وإظهارهــم علــى أهنــم أمــة الجنــس والطعــام والتفاهــات؛ أمــر‬ ‫ال يقبلــه عاقــل‪ ،‬فهــذه الفئــة مــن النــاس موجــودة يف غيرنــا مــن األمــم‬ ‫أكثــر ممــا هــي عندنــا‪ ،‬وإن كثــرة المناشــير المســيئة ألمتنــا تــؤدي إلــى‬ ‫ســلبية أكثــر وإلــى ضــرر أكرب‪ ‬على‪ ‬النفســية العربيــة‪ ،‬ومــن يقــرأ التاريــخ‬ ‫يعلــم أن ال شــيء يدمــر األمــة مثــل فقــدان الثقــة بالنفــس واألمــل‪ ..‬لهذا‬ ‫كشــخص عربــي أشــعر باأللــم عندمــا يرســل لــي أحدهــم واحــدة مــن‬ ‫تلــك المقــاالت المســيئة التــي تقتات‪ ‬على‪ ‬االســتياء العــام للشــعوب‬ ‫العربيــة وتغذيــه‪ ،‬وأدعــو أصدقائــي إلــى زجــر مــن يشــيع مثــل هــذه‬ ‫المقــاالت بــدل تأييــده‪ ،‬ولنشــغل أنفســنا بالعمــل ولنكــف عــن‬ ‫الســلبية فقــد قــال الرســول ﷺ‪« :‬إذا قــال الرجــل هلــك النــاس فهــو‬ ‫أهل ُك ُهـ ْـم»(‪ ((2‬وأنتــم يــا أيهــا الدعــاة العباقــرة والمفكــرون اليائســون! يــا‬ ‫مــن تــرون أنفســكم يف عاليــة ال يبلغهــا بنــو قومكــم وتتكــرون علــى‬ ‫أوجاعهــم وتســخرون مــن آالمهــم؛ إن كنتــم‪ ‬ال تثقــون بأمــة عربيــة‬ ‫يبلــغ تعدادهــا مئــات المالييــن وتشــكل جــزءا أساسـ ًّيا مــن أمــة المليــار‬ ‫ونصــف‪ ،‬وال تــزال رغــم ســقوط‪ ‬دولتها منــذ أكثــر مــن مئــة عــام يف‬ ‫تقــدم مســتمر‪ ...‬فاعتزلــوا النــاس والتزمــوا الصمــت؛ يكــن ذلك‪ ‬خيــر ًا‬ ‫لكــم وللنــاس‪ ،‬وقــد قــال رســول اهلل صلــى اهلل عليــه وســلم‪« :‬مــن كان‬ ‫يؤمــن باهلل‪ ‬واليــوم اآلخــر فليقــل خيــرا أو ليصمــت»(‪.((2‬‬ ‫وأختــم بقــول اإلمــام أحمــد يف بيانــه عقيــدة أهــل الســنة‪( :‬ونعــرف‬ ‫للعــرب حقهــا وفضلهــا وســابقتها ونحبهــم لحديــث النبــي صلــى اهلل‬ ‫عليــه وســلم فــإن حبهــم إيمــان وبغضهــم نفــاق(‪ ،((2‬وال نقــول بقــول‬ ‫الشــعوبية وأراذل الموالــي الذيــن ال يحبــون العــرب وال يقــرون لهــا‬ ‫بفضــل فــإن لهــم بدع ـ ًة ونفا ًقــا وخال ًفــا)(‪.((2‬‬

‫خامتة‪:‬‬

‫إن الشــعوبية حركــة قديمــة حديثــة‪ ،‬وعلــى الباحثيــن المســلمين أن‬ ‫يدرســوها دراســة دقيقــة ليوجهــوا المجتمــع المســلم إلــى اكتشــاف‬ ‫ظواهرهــا ومخططاهتــا يف تدميــر المجتمعــات المســلمة عــر بــث الفتــن‬ ‫بينهــا وبيــن العــرب‪ ،‬وتشــويه اإلســام مــن خــال تســليط الضــوء علــى‬ ‫مشــاكل العــرب االجتماعيــة ونســبتها إلــى اإلســام‪.‬‬ ‫ومــن الواجــب علينــا أيضــا؛ تعريــف الباحثيــن العــرب هبــذه الحركــة‬ ‫وأهدافهــا‪ ،‬حتــى ينتبهــوا إلــى أنفســهم فال يكونــوا ضحية لها مــن حيث ال‬ ‫يشــعرون‪ ...‬واهلل المأمــول أن يرشــدنا إلــى الصــواب‪ ،‬والبعــد عــن مواطن‬ ‫الزلــل والفتــن مــا ظهــر منهــا ومــا بطــن‪ ،‬والحمــد هلل رب العالميــن‪.‬‬ ‫(‪((2‬رواه مسلم‪ ،‬باب النهي عن قول هلك الناس‪ ،‬رقم (‪ )0586‬برتقيم المكنز‪.‬‬ ‫(‪ ((2‬من مقاالت منشورة على اإلنرتنت لألستاذ محمد علي النجار‪ ،‬وحديث «من كان يؤمن باهلل واليوم‬ ‫اآلخر فليقل خيرا أو ليصمت» متفق عليه عن أبي هريرة رضي اهلل عنه‪.‬‬ ‫(‪ ((2‬حديث «حب العرب إيمان وبغضهم نفاق»‪ ،‬رواه البيهقي يف شعب اإليمان‪ ،‬رقم (‪ )5941‬والحاكم‬ ‫يف المستدرك‪ ،‬رقم (‪.)8996‬‬ ‫(‪ ((2‬عقيدة اإلمام أحمد رواية أبي بكر الخالل‪ ،‬دار قتيبة ‪ -8041‬ص (‪)18‬‬

‫مفهوم الحضارة عند مالك بن نبي‬

‫َمفهــو ُم الحضار ِة ورشوطُها‬ ‫نبي‬ ‫عنـ َد مالِك ِ‬ ‫بن ّ‬

‫الحي ُعرابي‬ ‫ُعرابي عبد‬ ‫ّ‬

‫ماجستير يف العقيدة اإلسالمية‬ ‫مدرس يف جامعة تراكيا ‪ -‬أَ ِدرنه‬

‫متهي ٌد ‪:‬‬

‫ـم علمــاء االجتمــاع ‪-‬بعــد ابــن خلــدون‪-‬‬ ‫ـي أحــدَ أهـ ِّ‬ ‫ُيعــدُّ ابــن نبـ ٍّ‬ ‫الذيــن درســوا نشــوء الحضــارات ونهوضهــا واألمــراض التــي‬ ‫ٍ‬ ‫رصيــن‪ّ ،‬إل أنّــه‬ ‫اســتطالعي‬ ‫تصيــب حضاراتهــا مــن منط َلــق‬ ‫ٍّ‬ ‫كمــا لــم يغــدُ ابــن خلــدون ظاهــر ًة يف البــاد اإلســام ّية يف زمنــه؛‬ ‫الرغــم مــن شــهرة‬ ‫ّ‬ ‫نبــي قــد نالــه المصيــر ذاتُــه‪ ،‬وعلــى ّ‬ ‫فــإن ابــن ٍّ‬ ‫الرجليــن وتــداول كتبهمــا ّإل أن المؤسســات الرســمية لــم ُتــولِ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫أطروحتيهمــا يف دراســة المجتمعــات اإلســام ّية كبيــر اهتمــام‪،‬‬ ‫تســع إلــى تنــاول قراءتيهمــا بالدّ عــم والمراجعــة والتبنّــي‪.‬‬ ‫ولــم‬ ‫َ‬

‫مفهوم الحضارة‪:‬‬

‫تشــير المراجــع ال ّلغو ّيــة إلــى ّ‬ ‫أن الحضــارة مأخــوذة مــن مــا ّدة‬ ‫الح َض ِ‬ ‫ــر وتضــا ّد اإلقامــة يف‬ ‫ــر) وا ّلتــي تفيــدُ اإلقامــة يف َ‬ ‫َ‬ ‫(ح َض َ‬ ‫(((‬ ‫أن ابــن خلــدون يشــير يف مقدِّ متــه إلــى ّ‬ ‫ل ّ‬ ‫الباديــة ‪ ،‬إ ّ‬ ‫أن العمــران‬ ‫الســابق‬ ‫ـري‪َ ،‬‬ ‫الح َضـ ِّ‬ ‫ـدوي أصـ ُـل العمــران َ‬ ‫البـ َّ‬ ‫فج َعــل طــور البــداوة ّ‬ ‫(((‬ ‫التحضــر أصــاً لــه ‪ ،‬أمــا الحضــارة يف الــرؤى المعاصــرة‬ ‫علــى‬ ‫ُّ‬ ‫َّ‬ ‫مشــخص‪ ،‬وثانيهمــا‬ ‫موضوعــي‬ ‫فتطلــق علــى معنَ َييــن‪ ،‬أحدهمــا‬ ‫ٌّ‬ ‫الموضوعــي جملــة‬ ‫ويقصــد بالحضــارة بمعناهــا‬ ‫مجــرد‪،‬‬ ‫ذايتٌّ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫ِّ‬ ‫مظاهــر التّقــدّ م األدبــي والفنّــي والعلمــي والتّقنــي؛ إذ َّ‬ ‫إن مز ّيــة‬ ‫ِّ‬ ‫ِّ‬ ‫ِّ‬ ‫ِّ‬ ‫هــذه المظاهــر انتقا ُلهــا مــن جيــل إلــى جيــل يف مجتمــع واحــد أو‬ ‫((( ينظر لسان العرب‪ ،‬جمال الدين‪ ،‬ابن منظور‪ ،‬دار صادر‪ ،‬بيروت‪ ،‬ط‪ ،3‬مادة‪ :‬حضر‪.‬‬ ‫((( ينظر مقدمة ديوان المبتدأ والخرب يف تاريخ العرب والرببر ومن عاصرهم من ذوي الشأن األكرب‪ ،‬أو‬ ‫ما يعرف بـ تاريخ ابن خلدون‪ ،‬عبد الرحمن ابن خلدون‪ ،‬تحقيق خليل شحادة‪ ،‬دار الفكر‪ ،‬بيروت‪ ،‬ط‪،2‬‬ ‫‪( ،8891‬ج‪.)351-251 /1‬‬

‫مجتمعــات متماثلــة‪ ،‬فيقــال‪ :‬الحضــارة األندلســ ّية أو اإلســام ّية‬ ‫أو الهند ّيــة مثــاً‪ ،‬فتنحصــر الحضــارة ههنــا بنطاقهــا الجغــرايفّ‬ ‫ولغاهتــا المح ِّل ّيــة‪ ،‬أ ّمــا الحضــار ُة بمعناهــا الـ ّـذايتّ المجـ ّـرد فتطلــق‬ ‫ّوحــش‪،‬‬ ‫ّطــور اإلنســاينِّ المقابلــة لمرحلــة الت ُّ‬ ‫علــى مرحلــة الت ُّ‬ ‫أي ّ‬ ‫مشــاحة يف‬ ‫الغائــي فــا‬ ‫تعــرف بمعناهــا‬ ‫َّ‬ ‫إن الحضــارة ههنــا َّ‬ ‫ِّ‬ ‫الزمــان والمــكان‬ ‫أي حضــارة وإن اختلفــت حــدود ّ‬ ‫إطالقــه علــى ِّ‬ ‫الشــراكها يف عناصــر ُمتَّحــدة‪ ،‬وقــد تــرادف الحضــارة مفــردة‬ ‫ٍ‬ ‫ّ‬ ‫واحــد‪ ،‬فال َّثقافــة‬ ‫يــدلن علــى مدلــول‬ ‫ال ّثقافــة‪ّ ،‬إل أنَّهمــا ال‬ ‫تطلــق عنــد بعــض المف ّكريــن علــى تنميــة العقــل بالفكــر‪ ،‬بينمــا‬ ‫يطلقهــا آخــرون علــى نتيجــة هــذه التّنميــة‪ ،‬ويقصــد هبــا علمــاء‬ ‫األنثروبولوجيــا ‪-‬مــن طــرف آخــر‪َّ -‬‬ ‫كل مظهــر مــن مظاهــر‬ ‫الحيــاة ســواء كان المجتمــع يف حالــة التّخ ُّلــف أو التَّقــدُّ م‪ ،‬يف‬ ‫حيــن َّ‬ ‫أن الحضــارة ُتط َلــق عندهــم علــى منتجــات المجتمعــات‬ ‫يهمنــا يف هــذا المقــام إدراك مفهــوم الحضــارة‬ ‫المتقدِّ مــة(((‪ ،‬ومــا ُّ‬ ‫نبــي وأثــر هــذا المفهــوم يف رؤيتــه لنهضــة الحضــارة‬ ‫عنــد ابــن ٍّ‬ ‫وأفولهــا‪.‬‬

‫مفهــوم الحضارة عند ابن نبي‪:‬‬

‫توزعــت بحــوث ابــن نبــي عــن الحضــارة يف العديــد مــن كتبــه‬ ‫َّ‬ ‫ّ‬ ‫َّ‬ ‫ومقاالتــه التــي أطرهــا بسلســلة «مشــكالت الحضــارة» التــي‬ ‫الفكــري‪ ،‬وذلــك كمــا يف‬ ‫كبيــرا مــن مشــروعه‬ ‫ــزا‬ ‫شــغلت ح ِّي ً‬ ‫ِّ‬ ‫ً‬ ‫((( ينظر المعجم الفلسفي‪ ،‬جميل صليبا‪ ،‬دار الكتاب اللبناين‪ ،‬بيروت‪ ،‬د‪ .‬ط‪( ،2891 ،‬ج‪-574 /1‬‬ ‫‪ )774‬وينظر المعجم الفلسفي‪ ،‬د‪ .‬مراد وهبة‪ ،‬دار قباء‪ ،‬القاهرة‪ )082( ،7002 ،‬مادة "الحضارة"‪.‬‬

‫‪69‬‬


‫مفهوم الحضارة عند مالك بن نبي‬ ‫«شــروط النّهضــة» و«مشــكلة ال ّثقافــة» و«وجهة العالم اإلســامي»‬ ‫و«ميــاد مجتمــع» و «آفــاق جزائر َّيــة» وغيرهــا‪ ،‬معتمــدً ا العمــق‬ ‫يف التّحليــل واالســتفاضة يف البحــث للوصــول إلــى إبــداع نظر َّيــة‬ ‫متكاملــة يف فهــم الحضــارة وأســباب نشــوئها ومشــكالهتا التــي‬ ‫تعرتضهــا فتــؤ ِّدي إلــى أفولهــا‪.‬‬ ‫بدايــ ًة يشــير ابــن نبــي إلــى َّ‬ ‫أن الحضــارة بمــا يتعــارف عليــه‬ ‫ٍّ‬ ‫علمــاء األنثروبولوجيــا تعنــي َّ‬ ‫«كل شــك ٍل مــن أشــكال تنظيــم‬ ‫الحيــاة البشــرية»(((‪ ،‬وال يخلــو هــذا التّعريــف مــن تعميــم م ِ‬ ‫خـ ٍّـل؛‬ ‫َّ‬ ‫ُ‬ ‫أي مجتمــع مــن هــذه األشــكال وإن تد ّنــى مســتواها‪،‬‬ ‫إذ ال يخلــو ُّ‬ ‫نبــي يف حفر َّياتــه يف صياغــة مفهــو ٍم للحضــارة مــن‬ ‫لينطلــق ابــن ٍّ‬ ‫يتوصــل إليهــا مــع المجتمعــات‬ ‫خــال بــروز المفاهيــم التــي‬ ‫َّ‬ ‫والضعــف والقابل ّيــة لالســتعمار‪،‬‬ ‫ا ّلتــي تعــاين مصاعــب التّخ ّلــف ّ‬ ‫مســتندً ا إلــى فرض ّيــة عــدم إمــكان التّوصــل إلــى بنــاء هــذا المفهــوم‬ ‫ّإل بدراســة هــذه المجتمعــات‪ ،‬فالحضــارة تتبــع ظــروف المجتمع‬ ‫المتخ ّلــف وهــي أداتــه ا ّلتــي تعطيهــا القــدرة علــى النمـ ّـو‪ ،‬فتكــون‬ ‫بذلــك مجمــوع الشــروط الما ِّد َّيــة واألخالق ّيــة ا ّلتــي تتيــح لمجتمــع‬ ‫معيــن أن يقــدّ م لـ ّ‬ ‫ـكل فــرد مــن أفــراده يف أطــوار وجــوده المســاعدة‬ ‫الضرور ّيــة لــه(((‪ ،‬فيكــون مفهــوم الحضــارة بذلــك مســتندً ا إلــى‬ ‫ظاهــرة مركّبــة ترتبــط بالفــرد فكـ ًـرا وتعامـ ًـا‪.‬‬

‫«الفكــرة الدينيَّة» الّتي تقف‬ ‫ ‬ ‫الحضاري ال تقترص‬ ‫خلــف النهوض‬ ‫ّ‬ ‫عىل مجتمع دون آخر‪ ،‬فســوا ًء كُ ّنا‬ ‫ـامي أو املجتمع‬ ‫بصدد املجتمع اإلسـ‬ ‫ّ‬ ‫ـيحي أو املجتمعــات الّتي اختفت‬ ‫املسـ ّ‬ ‫من الوجود فإنّنا نســتطيع أن نق ّرر أن‬ ‫الفكرة التي غرســت أثرها يف حقل‬ ‫التّاريــخ ناتجة عن فكرة دين ّية‬ ‫لقــد انطلــق ابــن نبــي يف دراســته لنشــوء الحضــارة مــن عــدة‬ ‫جوانــب‪ ،‬كبنيــة الحضــارة وعناصــر تركيبهــا‪ ،‬إضافــة إلــى‬ ‫تتعمــق يف فهــم الغايــة التــي تؤ ّديهــا بنُ ُظمهــا يف‬ ‫وظيفتهــا ا ّلتــي ّ‬ ‫ليتوصــل يف النهايــة‬ ‫المجتمعــات ا ّلتــي تنتشــر أفكارهــا فيهــا؛‬ ‫ّ‬ ‫وتطورهــا وغايتهــا الرســال ّية‬ ‫إلــى تحليــل طــرق نشــوء الحضــارة‬ ‫ّ‬ ‫ا ّلتــي تح ّققهــا(((؛ لنخلــص إلــى ّ‬ ‫أن الحضــارة ليســت عبــار ًة عــن‬ ‫((( آفاق جزائرية‪ ،‬مالك بن نبي‪ ،‬مكتبة النهضة الجزائرية‪ ،‬د‪.‬ط‪.‬ت‪.)03( ،‬‬ ‫((( ينظر المصدر السابق‪ ،)74 ،64( ،‬وينظر الظاهرة الغربية يف الوعي الحضاري‪ ،‬د‪ .‬بدران بن الحسن‪،‬‬ ‫سلسلة كتاب األمة‪ ،‬العدد ‪ ،37‬ط‪.)07 ،96( ،0002 ،1‬‬ ‫((( يف مفهوم الحضارة‪ ،‬د‪ .‬بدران بن الحسن‪ ،‬مجلة نوافذ‪ :‬اتجاهات فكرية‪.3002 /21/ 52 ،‬‬

‫‪70‬‬

‫وفــرة المنتجــات الفكريــة والماديــة وتكديســها؛ إذ ّ‬ ‫إن ذلــك‬ ‫يتخــم المجتمــع بالشــيئ ّية ويســلبه طاقــة القيــام ويوقعــه يف خانــة‬ ‫التبع ّيــة واالســتهالك ّية‪ ،‬بينمــا األمــر علــى النّقيــض مــن ذلــك؛ ألن‬ ‫للحضـ ِ‬ ‫ـارة قــدر ًة علــى البنــاء واإلبــداع وصناعــة األُ ُطــر المالئمــة‬ ‫لذلــك‪ ،‬ضمــن رؤيــة شــاملة للوســائل واألهــداف‪.‬‬ ‫ويتكـ ّـون مفهــوم الحضــارة عنــد مالــك مــن عــدة محــاور ترتكــز‬ ‫علــى انســجام الجهــود اإلنســان ّية وتكاملهــا مــع قوانيــن النّهــوض‬ ‫الخاصــة بالنمـ ّـو واالزدهــار‬ ‫ـوي وجملــة الشــروط‬ ‫ّ‬ ‫المــا ّدي والمعنـ ّ‬ ‫واالقتصاديــة والما ّد ّيــة يف‬ ‫الفكريــة والروح ّيــة‬ ‫يف ش ـتّى المجــاالت‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫الســير بركــب‬ ‫الواقــع المعــاش(((؛ إذ الغايــة مــن تاريــخ اإلنســان ّ‬ ‫ــم تتط َّلــب‬ ‫الراقيــة(((؛ ومــن َث َّ‬ ‫التقــدّ م إلــى أفضــل أشــكال الحيــاة ّ‬ ‫َ‬ ‫سســا فكر ّيــ ًة مع ّينــ ًة وجهــو ًدا يف عال َمــي‬ ‫عمل ّيــة بنــاء الحضــارة ُأ ً‬ ‫األشــخاص واألشــياء‪ ،‬ولك ـ ّن ذلــك ال يتــم ّإل يف صــورة برنامــج‬ ‫ـوي يهــدف لتغييــر اإلنســان مــن الداخــل وفــق شــروط مع ّينــة‪،‬‬ ‫تربـ ّ‬ ‫ح ّتــى يتم ّكــن مــن أداء وظيفتــه االجتماع ّيــة ويح ّقــق بنــاء المجتمــع‬ ‫المتحضــر(((‪.‬‬ ‫ِّ‬

‫انقداح الحضارة وأثــر الفكرة الدينيّة‬ ‫فيها‪:‬‬

‫أهم ّيــة الدّ يــن يف بنــاء‬ ‫نبــي يف نقاشــاته وأبحاثــه ّ‬ ‫لــم يغفــل ابــن ٍّ‬ ‫الحضــارة‪ ،‬فعــدَّ ه أســاس تحريــك عجلــة التاريــخ ونقطــة البدايــة‬ ‫يف بنــاء صرحهــا؛ ألثــره يف حركــة التّاريــخ ودوره يف حيــاة األفــراد‬ ‫والمجتمعــات‪ ...‬ويســتند مالــك يف رؤيتــه هــذه علــى وجــود‬ ‫عناصــر الحضــارة الما ّديــة يف عا ّمــة األمــم‪ ،‬وحاجتهــا الســتثمار‬ ‫هــذه ّ‬ ‫المحــرك أو القــادح الــذي‬ ‫الشــروط والتّأليــف بينهــا إلــى‬ ‫ِّ‬ ‫نبــي‬ ‫ينســج عمليــة البنــاء والتّركيــب فيمــا بينهــا‪ ،‬ويختــار ابــن ٍّ‬ ‫محركــة الحضــارة وموقــدة‬ ‫يف هــذا اإلطــار‪« -‬الفكــرة الدين ّيــة» ِّ‬‫تأسيســا لهــذا اإلطــار عنــد ســابقيه كـــ‬ ‫انطالقتهــا‪ ،‬ولع ّلنــا نجــد‬ ‫ً‬ ‫ابــن خلــدون يف نظر ّيتــه عــن «العصب ّيــة» وتوينبــي يف نظر ّيتــه عــن‬ ‫«التّحــدي»‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫ـاري ال‬ ‫إن «الفكــرة الدين َّيــة» ا ّلتــي تقــف خلــف النهــوض الحضـ ّ‬ ‫تقتصــر علــى مجتمــع دون آخــر‪ ،‬فســوا ًء ُكنّــا بصــدد المجتمــع‬ ‫ـيحي أو المجتمعــات ا ّلتــي اختفــت‬ ‫ـامي أو المجتمــع المسـ ّ‬ ‫اإلسـ ّ‬ ‫نقــرر أن الفكــرة التــي غرســت‬ ‫مــن الوجــود فإنّنــا نســتطيع أن ّ‬ ‫(‪((1‬‬ ‫أثرهــا يف حقــل التّاريــخ ناتجــة عــن فكــرة دين ّيــة ‪.‬‬ ‫ولعـ ّـل مــر ّد هــذا عائــد إلــى ّ‬ ‫الروح ّيــة بيــن اهلل واإلنســان‬ ‫أن العالقــة ّ‬

‫((( ينظر البناء الحضاري عند مالك بن نبي‪ ،‬د‪ .‬جياللي بوبكر‪ ،‬دار المعرفة‪ ،‬الجزائر‪ ،‬د‪.‬ط‪ ،‬ت‪.)83( ،‬‬ ‫((( ينظر ميالد مجتمع‪ ،‬مالك بن نبي‪ ،‬ترجمة عبد الصبور شاهين‪ ،‬دار الفكر‪ ،‬بيروت‪ ،‬ط‪،4791 ،2‬‬ ‫(‪.)61‬‬ ‫((( ينظر مشكالت الحضارة عند مالك بن نبي‪ ،‬محمد عبد السالم الجفائري‪ ،‬الدار العربية للكتاب‪،‬‬ ‫تونس‪ ،4891 ،‬د‪.‬ط‪ ،521 ،‬ويقارن بالمصدر السابق‪.)93( ،‬‬ ‫(‪ ((1‬ينظر ميالد مجتمع‪.)25( ،‬‬

‫مفهوم الحضارة عند مالك بن نبي‬ ‫تو ّلــد العالقــة االجتماع ّيــة وتنشــئها‪ ،‬وهــي مــا يربــط بيــن اإلنســان‬ ‫واإلنســان‪ ،‬فنســتطيع بذلــك النّظــر إلــى العالقــة االجتماع ّيــة‬ ‫والدين ّيــة تاريخ ًّيــا علــى أهنــا حــدَ ٌ‬ ‫ث‪ ،‬ومــن الوجهــة الكون ّيــة علــى‬ ‫ِ‬ ‫أنّهــا تطـ ّـور اجتماعـ ٌّـي واحــد(‪ ،((1‬فبضعــف العالقــة الدين ّيــة تضعــف‬ ‫ّ‬ ‫وبقوهتــا تقــوى‪.‬‬ ‫الشــبكات االجتماع ّيــة ّ‬ ‫ولعـ ّـل أهــم آثــار هــذه الفكـ ِ‬ ‫ـرة عنــد ابــن نبــي فهــم العالقــة بيــن‬ ‫ّ‬ ‫وتطورهــا‬ ‫ـارة‬ ‫ـ‬ ‫الحض‬ ‫ـوء‬ ‫ـ‬ ‫نش‬ ‫ـاء‬ ‫ـ‬ ‫أثن‬ ‫ـا‬ ‫ـ‬ ‫وضعفه‬ ‫ـة»‬ ‫ـ‬ ‫ي‬ ‫الدين‬ ‫ـرة‬ ‫قـ ّـوة «الفكـ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫أو أفولهــا؛ فيتج ّلــى ذلــك يف انتقــال العقــل بســبب قــوة الــروح مــن‬ ‫مرحلــة الخمــول إلــى النهــوض ومــلء مجــاالت الحيــاة بالفنــون‬ ‫والصناعــات‪ّ ،‬إل أنــه لضعــف الــروح أمــام هنضــة العقــل‬ ‫والعلــوم ّ‬ ‫الســيطرة وتتسـ ّـرب مــن المنافــذ التــي تتيحهــا‬ ‫تخــرج الغرائــز عــن ّ‬ ‫التغــول يف‬ ‫المــا ّدة فيتــاح لهــا التّمــدّ د إلــى أن تصــل إلــى مرحلــة‬ ‫ُّ‬ ‫مواجهــة «الفكــرة الدين ّيــة»‪ ،‬فتتو ّقــف آثار هــذه الفكــرة يف المجتمع‬ ‫وتدخــل الحضــارة ليــل التاريــخ ُمتِ َّمـ ًة بذلــك دورهتــا(‪.((1‬‬ ‫ة‪/‬المعنويــة) التــي م َّثلــت مبعــث الحضــارة‬ ‫إن الفكــرة (الدين ّي‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ـامي‪ ،‬حيــث بــدأت دورتــه بنــزول القــرآن‬ ‫اإلســامي َة الديـ ُ‬ ‫ـن اإلسـ ُّ‬ ‫وتغلغــل مبادئــه يف نفــوس المؤمنيــن بــه‪ ،‬فشــهدنا بعــد ذلــك حيــاة‬ ‫المثــل العليــا‪ ،‬كمــا شــهدنا ظهــور علــوم جديــدة وحركــة فكريــة‬ ‫ـب العظمــة‪ ،‬فبــدأت‬ ‫ال تضاهــى‪ ،‬إلــى أن ظهــرت حيــاة ال ّتــرف وحـ ّ‬ ‫شــمس الحضــارة تأفــل رويــدً ا رويــدً ا‪.‬‬

‫يلتــزم مالــك يف أبحاثه عن بناء‬ ‫ ‬ ‫الحضــارة ورشوط انطالقها مبحوريّة‬ ‫اإلنســان (فر ًدا ومجتم ًعا) فيها؛ إذ يع ُّده‬ ‫حضاري‬ ‫أي مرشوع‬ ‫ّ‬ ‫املحــور ال ّرئيس يف ّ‬ ‫ّ‬ ‫نبــي عــن «الفكــرة‬ ‫ولعــل‬ ‫ّ‬ ‫أهــم مــا نســتخلصه مــن كالم ابــن ٍّ‬ ‫الدين ّيــة» وأثرهــا يف بنــاء الحضــارة كـ ُ‬ ‫ـاس‬ ‫ـون الديــن العامـ َـل األسـ َ‬ ‫ا ّلــذي ي َعــدُّ السـ ّـر الكــوين المر ِّكــب بيــن ثالث ّيــة (اإلنســان وال ّتــراب‬ ‫بقــوة ف ّعالــة يف التاريــخ(‪ ،((1‬فيشــ ّكل‬ ‫والوقــت)‪ ،‬والباعــث لهــا ّ‬ ‫(‪((1‬‬ ‫ال ّظواهــر والقيــم والمبــادئ االجتماع ّيــة ‪ ،‬والحضــارة مــن هــذه‬ ‫النظــرة الفاحصــة ال تقــوم ّإل يف ظـ ّـل وجــود شــبكة مــن العالقــات‬ ‫االجتماع ّيــة ا ّلتــي تش ـ ّكل الميــاد الحقيقـ ّـي للمجتمــع يف التاريــخ‬ ‫وبدايــة إنجــازه التاريخـ ّـي علــى ضــوء «الفكــرة الدين ّيــة»(‪ ،((1‬ومــا‬

‫(‪ ((1‬ينظر المصدر السابق نفسه‪.‬‬ ‫(‪ ((1‬ينظر المصدر السابق‪.)501-401-101( ،‬‬ ‫(‪ ((1‬ينظر ميالد مجتمع‪.)47( ،‬‬ ‫(‪ ((1‬ينظر وجهة العالم اإلسالمي‪ ،‬مالك بن نبي‪ ،‬ترجمة عبد الصبور شاهين‪ ،‬دار الفكر‪ ،‬دمشق‪،5891 ،‬‬ ‫(‪.)72‬‬ ‫(‪ ((1‬حديث يف البناء الجديد‪ ،‬مالك بن نبي‪ ،‬منشورات المكتبة العصرية‪ ،‬صيدا‪ ،‬بيروت‪ ،‬د‪.‬ت‪.‬ط‪،‬‬ ‫(‪.)101-001‬‬

‫مســتمرة يف التّركيــب بيــن هــذه الفئــات‬ ‫دامــت هــذه الفكــرة‬ ‫ّ‬ ‫ِ‬ ‫الثــاث فإنّهــا ســتبقى منتميــة إلــى كتلــة بنــاء الحضــارة يف‬ ‫التّاريــخ(‪ ،((1‬أ ّمــا إذا صــار اإليمــان بالفكــرة محــض جـ ٍ‬ ‫ـردي‪،‬‬ ‫ـذب فـ ٍّ‬ ‫فإنّــه ســيفقد إشــعاعه‪ ،‬وســتنتهي رســالته التّاريخ ّيــة لعجــزه عــن‬ ‫دفــع الحضــارة وتحريكهــا(‪.((1‬‬ ‫عنــارص الحضارة عند ابن نبي‪:‬‬

‫ترتكّــب الحضــارة مــن عناصــر متعــدّ دة‪ّ ،‬إل ّ‬ ‫أن عناصــر تركيــب‬ ‫الحضــارة ليســت منتجـ ٍ‬ ‫بالضــرورة‪ ،‬بــل هــي أصــول‬ ‫ـات حضار ّيـ ًة ّ‬ ‫تفرضهــا طبيعــة المنتجــات وشــروط اإلنتــاج(‪ ،((1‬ومــن هنــا ّ‬ ‫فــإن‬ ‫ابــن نبــي يســعى إلــى تحليــل ٍ‬ ‫واف لعناصــر الحضــارة‪ ،‬داع ًيــا إلــى‬ ‫ٍّ‬ ‫تنــاول المســألة كمــا تتنــاول المختــرات التّحليــات والتفاعــات‬ ‫عناصــر‬ ‫توصــل بعــد طــول بحــث إلــى أن‬ ‫الكيميائ ّيــة(‪ ،((1‬وقــد َّ‬ ‫َ‬ ‫ـاري‬ ‫البنــاء الحضار ّيــة محصــورة بالمعادلــة اآلتيــة‪( :‬منتــوج حضـ ّ‬ ‫= إنســان ‪ +‬تــراب ‪ +‬وقــت)(‪ ،((2‬ومجمــوع المنتجــات الحضار ّيــة‬ ‫بالضــرورة ناتــج عــن مجمــوع إنســان ومجمــوع تــراب ومجمــوع‬ ‫وقــت(‪ ،((2‬ومهمــا تكدَّ ســت المنتجــات الحضار ّيــة فــا يشــي ذلــك‬ ‫ٍ‬ ‫ـتمر علــى فهــم الحضــارة‬ ‫بوجــود حضــارة حقيق ّيــة‪ ،‬لتأكيــده المسـ ّ‬ ‫بنــا ًء مر ّك ًبــا يشــمل العناصــر ال ّثالثــة فقــط مهمــا بلغــت درجــة تعقيد‬ ‫هــذا البنــاء(‪ ،((2‬كمــا يلتــزم مالــك يف أبحاثــه عــن بنــاء الحضــارة‬ ‫وشــروط انطالقهــا بمحور ّيــة اإلنســان (فــر ًدا ومجتم ًعــا) فيهــا؛‬ ‫ـاري‪ ،‬فهــو البدايــة‬ ‫أي مشــروع حضـ ّ‬ ‫الرئيــس يف ّ‬ ‫إذ يعــدُّ ه المحــور ّ‬ ‫والغايــة‪ ،‬كمــا أن قـ ّـوة فكــره أو مرضــه دليــل علــى قـ ّـوة حضارتــه‬ ‫وضعفهــا؛ إذ ّ‬ ‫السياســة أو‬ ‫إن جميــع األعــراض التــي ظهــرت يف ّ‬ ‫يف صــورة العمــران لــم تكــن َّإل تعبيـ ًـرا عــن حالــة مرض ّيــة يعانيهــا‬ ‫اإلنســان الجديــد ا ّلــذي خلــف إنســان الحضــارة اإلســام ّية‪،‬‬ ‫والــذي كان يحمــل يف كيانــه جميــع الجراثيــم التــي ســينتج عنهــا‬ ‫متفرقــة المشــاكل ا ّلتــي تعـ ّـرض لهــا العالــم اإلســامي‬ ‫يف فــرات ّ‬ ‫منــذ ذلــك الحيــن‪ ،‬فالنّقائــص التــي تعانيهــا النّهضــة اآلن‪ ،‬يعــود‬ ‫الرجــل الــذي لــم يكــن طليعــة يف التّاريــخ(‪.((2‬‬ ‫وزرهــا إلــى ذلــك ّ‬ ‫ّ‬ ‫إن ال ّتــراب ال يكــون عامــل حضــارة إال بتهيئتــه مــا ّدة المنتجــات‬ ‫االجتماع ّيــة‪ ،‬وكــذا الوقــت‪ ،‬فــا يكــون عنصـ ًـرا يف بنــاء الحضــارة‬ ‫ّإل إذا تك ّيــف مــع المجتمــع فأصبــح زمنًــا اجتماع ًّيــا تجــري فيــه‬ ‫عمل ّيــات الصناعــة وهنضــة االقتصــاد والثقافــة(‪ ،((2‬ويضــاف الديــن‬ ‫إلــى هــذه العناصــر ليكــون المر ِّكــب األســاس فيمــا بينهــا‪ ،‬ومــن‬ ‫(‪ ((1‬ينظر شروط النهضة‪ ،‬مالك بن نبي‪ ،‬ترجمة عبد الصبور شاهين‪ ،‬دار الفكر‪ ،‬دمشق‪.)68( ،6891 ،‬‬ ‫(‪ ((1‬ينظر وجهة العالم اإلسالمي‪.)72( ،‬‬ ‫(‪ ((1‬ينظر تأمالت‪.)691( ،‬‬ ‫(‪ ((1‬ينظر آفاق جزائرية‪.)96( ،‬‬ ‫(‪ ((2‬ينظر تأمالت‪ ،‬مالك بن نبي‪ ،‬ترجمة عبد الصبور شاهين‪ ،‬دار الفكر‪ ،‬بيروت‪ ،‬د‪.‬ط‪.‬ت (‪.)791‬‬ ‫(‪ ((2‬ينظر المصر السابق نفسه‪.‬‬ ‫(‪ ((2‬ينظر المصدر السابق‪.)891( ،‬‬ ‫(‪ ((2‬ينظر وجهة العالم اإلسالمي‪.)63( ،‬‬ ‫(‪ ((2‬ينظر آفاق جزائرية‪.)47( ،‬‬

‫‪71‬‬


‫مفهوم الحضارة عند مالك بن نبي‬ ‫«شــروط النّهضــة» و«مشــكلة ال ّثقافــة» و«وجهة العالم اإلســامي»‬ ‫و«ميــاد مجتمــع» و «آفــاق جزائر َّيــة» وغيرهــا‪ ،‬معتمــدً ا العمــق‬ ‫يف التّحليــل واالســتفاضة يف البحــث للوصــول إلــى إبــداع نظر َّيــة‬ ‫متكاملــة يف فهــم الحضــارة وأســباب نشــوئها ومشــكالهتا التــي‬ ‫تعرتضهــا فتــؤ ِّدي إلــى أفولهــا‪.‬‬ ‫بدايــ ًة يشــير ابــن نبــي إلــى َّ‬ ‫أن الحضــارة بمــا يتعــارف عليــه‬ ‫ٍّ‬ ‫علمــاء األنثروبولوجيــا تعنــي َّ‬ ‫«كل شــك ٍل مــن أشــكال تنظيــم‬ ‫الحيــاة البشــرية»(((‪ ،‬وال يخلــو هــذا التّعريــف مــن تعميــم م ِ‬ ‫خـ ٍّـل؛‬ ‫َّ‬ ‫ُ‬ ‫أي مجتمــع مــن هــذه األشــكال وإن تد ّنــى مســتواها‪،‬‬ ‫إذ ال يخلــو ُّ‬ ‫نبــي يف حفر َّياتــه يف صياغــة مفهــو ٍم للحضــارة مــن‬ ‫لينطلــق ابــن ٍّ‬ ‫يتوصــل إليهــا مــع المجتمعــات‬ ‫خــال بــروز المفاهيــم التــي‬ ‫َّ‬ ‫والضعــف والقابل ّيــة لالســتعمار‪،‬‬ ‫ا ّلتــي تعــاين مصاعــب التّخ ّلــف ّ‬ ‫مســتندً ا إلــى فرض ّيــة عــدم إمــكان التّوصــل إلــى بنــاء هــذا المفهــوم‬ ‫ّإل بدراســة هــذه المجتمعــات‪ ،‬فالحضــارة تتبــع ظــروف المجتمع‬ ‫المتخ ّلــف وهــي أداتــه ا ّلتــي تعطيهــا القــدرة علــى النمـ ّـو‪ ،‬فتكــون‬ ‫بذلــك مجمــوع الشــروط الما ِّد َّيــة واألخالق ّيــة ا ّلتــي تتيــح لمجتمــع‬ ‫معيــن أن يقــدّ م لـ ّ‬ ‫ـكل فــرد مــن أفــراده يف أطــوار وجــوده المســاعدة‬ ‫الضرور ّيــة لــه(((‪ ،‬فيكــون مفهــوم الحضــارة بذلــك مســتندً ا إلــى‬ ‫ظاهــرة مركّبــة ترتبــط بالفــرد فكـ ًـرا وتعامـ ًـا‪.‬‬

‫«الفكــرة الدينيَّة» الّتي تقف‬ ‫ ‬ ‫الحضاري ال تقترص‬ ‫خلــف النهوض‬ ‫ّ‬ ‫عىل مجتمع دون آخر‪ ،‬فســوا ًء كُ ّنا‬ ‫ـامي أو املجتمع‬ ‫بصدد املجتمع اإلسـ‬ ‫ّ‬ ‫ـيحي أو املجتمعــات الّتي اختفت‬ ‫املسـ ّ‬ ‫من الوجود فإنّنا نســتطيع أن نق ّرر أن‬ ‫الفكرة التي غرســت أثرها يف حقل‬ ‫التّاريــخ ناتجة عن فكرة دين ّية‬ ‫لقــد انطلــق ابــن نبــي يف دراســته لنشــوء الحضــارة مــن عــدة‬ ‫جوانــب‪ ،‬كبنيــة الحضــارة وعناصــر تركيبهــا‪ ،‬إضافــة إلــى‬ ‫تتعمــق يف فهــم الغايــة التــي تؤ ّديهــا بنُ ُظمهــا يف‬ ‫وظيفتهــا ا ّلتــي ّ‬ ‫ليتوصــل يف النهايــة‬ ‫المجتمعــات ا ّلتــي تنتشــر أفكارهــا فيهــا؛‬ ‫ّ‬ ‫وتطورهــا وغايتهــا الرســال ّية‬ ‫إلــى تحليــل طــرق نشــوء الحضــارة‬ ‫ّ‬ ‫ا ّلتــي تح ّققهــا(((؛ لنخلــص إلــى ّ‬ ‫أن الحضــارة ليســت عبــار ًة عــن‬ ‫((( آفاق جزائرية‪ ،‬مالك بن نبي‪ ،‬مكتبة النهضة الجزائرية‪ ،‬د‪.‬ط‪.‬ت‪.)03( ،‬‬ ‫((( ينظر المصدر السابق‪ ،)74 ،64( ،‬وينظر الظاهرة الغربية يف الوعي الحضاري‪ ،‬د‪ .‬بدران بن الحسن‪،‬‬ ‫سلسلة كتاب األمة‪ ،‬العدد ‪ ،37‬ط‪.)07 ،96( ،0002 ،1‬‬ ‫((( يف مفهوم الحضارة‪ ،‬د‪ .‬بدران بن الحسن‪ ،‬مجلة نوافذ‪ :‬اتجاهات فكرية‪.3002 /21/ 52 ،‬‬

‫‪70‬‬

‫وفــرة المنتجــات الفكريــة والماديــة وتكديســها؛ إذ ّ‬ ‫إن ذلــك‬ ‫يتخــم المجتمــع بالشــيئ ّية ويســلبه طاقــة القيــام ويوقعــه يف خانــة‬ ‫التبع ّيــة واالســتهالك ّية‪ ،‬بينمــا األمــر علــى النّقيــض مــن ذلــك؛ ألن‬ ‫للحضـ ِ‬ ‫ـارة قــدر ًة علــى البنــاء واإلبــداع وصناعــة األُ ُطــر المالئمــة‬ ‫لذلــك‪ ،‬ضمــن رؤيــة شــاملة للوســائل واألهــداف‪.‬‬ ‫ويتكـ ّـون مفهــوم الحضــارة عنــد مالــك مــن عــدة محــاور ترتكــز‬ ‫علــى انســجام الجهــود اإلنســان ّية وتكاملهــا مــع قوانيــن النّهــوض‬ ‫الخاصــة بالنمـ ّـو واالزدهــار‬ ‫ـوي وجملــة الشــروط‬ ‫ّ‬ ‫المــا ّدي والمعنـ ّ‬ ‫واالقتصاديــة والما ّد ّيــة يف‬ ‫الفكريــة والروح ّيــة‬ ‫يف ش ـتّى المجــاالت‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫الســير بركــب‬ ‫الواقــع المعــاش(((؛ إذ الغايــة مــن تاريــخ اإلنســان ّ‬ ‫ــم تتط َّلــب‬ ‫الراقيــة(((؛ ومــن َث َّ‬ ‫التقــدّ م إلــى أفضــل أشــكال الحيــاة ّ‬ ‫َ‬ ‫سســا فكر ّيــ ًة مع ّينــ ًة وجهــو ًدا يف عال َمــي‬ ‫عمل ّيــة بنــاء الحضــارة ُأ ً‬ ‫األشــخاص واألشــياء‪ ،‬ولك ـ ّن ذلــك ال يتــم ّإل يف صــورة برنامــج‬ ‫ـوي يهــدف لتغييــر اإلنســان مــن الداخــل وفــق شــروط مع ّينــة‪،‬‬ ‫تربـ ّ‬ ‫ح ّتــى يتم ّكــن مــن أداء وظيفتــه االجتماع ّيــة ويح ّقــق بنــاء المجتمــع‬ ‫المتحضــر(((‪.‬‬ ‫ِّ‬

‫انقداح الحضارة وأثــر الفكرة الدينيّة‬ ‫فيها‪:‬‬

‫أهم ّيــة الدّ يــن يف بنــاء‬ ‫نبــي يف نقاشــاته وأبحاثــه ّ‬ ‫لــم يغفــل ابــن ٍّ‬ ‫الحضــارة‪ ،‬فعــدَّ ه أســاس تحريــك عجلــة التاريــخ ونقطــة البدايــة‬ ‫يف بنــاء صرحهــا؛ ألثــره يف حركــة التّاريــخ ودوره يف حيــاة األفــراد‬ ‫والمجتمعــات‪ ...‬ويســتند مالــك يف رؤيتــه هــذه علــى وجــود‬ ‫عناصــر الحضــارة الما ّديــة يف عا ّمــة األمــم‪ ،‬وحاجتهــا الســتثمار‬ ‫هــذه ّ‬ ‫المحــرك أو القــادح الــذي‬ ‫الشــروط والتّأليــف بينهــا إلــى‬ ‫ِّ‬ ‫نبــي‬ ‫ينســج عمليــة البنــاء والتّركيــب فيمــا بينهــا‪ ،‬ويختــار ابــن ٍّ‬ ‫محركــة الحضــارة وموقــدة‬ ‫يف هــذا اإلطــار‪« -‬الفكــرة الدين ّيــة» ِّ‬‫تأسيســا لهــذا اإلطــار عنــد ســابقيه كـــ‬ ‫انطالقتهــا‪ ،‬ولع ّلنــا نجــد‬ ‫ً‬ ‫ابــن خلــدون يف نظر ّيتــه عــن «العصب ّيــة» وتوينبــي يف نظر ّيتــه عــن‬ ‫«التّحــدي»‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫ـاري ال‬ ‫إن «الفكــرة الدين َّيــة» ا ّلتــي تقــف خلــف النهــوض الحضـ ّ‬ ‫تقتصــر علــى مجتمــع دون آخــر‪ ،‬فســوا ًء ُكنّــا بصــدد المجتمــع‬ ‫ـيحي أو المجتمعــات ا ّلتــي اختفــت‬ ‫ـامي أو المجتمــع المسـ ّ‬ ‫اإلسـ ّ‬ ‫نقــرر أن الفكــرة التــي غرســت‬ ‫مــن الوجــود فإنّنــا نســتطيع أن ّ‬ ‫(‪((1‬‬ ‫أثرهــا يف حقــل التّاريــخ ناتجــة عــن فكــرة دين ّيــة ‪.‬‬ ‫ولعـ ّـل مــر ّد هــذا عائــد إلــى ّ‬ ‫الروح ّيــة بيــن اهلل واإلنســان‬ ‫أن العالقــة ّ‬

‫((( ينظر البناء الحضاري عند مالك بن نبي‪ ،‬د‪ .‬جياللي بوبكر‪ ،‬دار المعرفة‪ ،‬الجزائر‪ ،‬د‪.‬ط‪ ،‬ت‪.)83( ،‬‬ ‫((( ينظر ميالد مجتمع‪ ،‬مالك بن نبي‪ ،‬ترجمة عبد الصبور شاهين‪ ،‬دار الفكر‪ ،‬بيروت‪ ،‬ط‪،4791 ،2‬‬ ‫(‪.)61‬‬ ‫((( ينظر مشكالت الحضارة عند مالك بن نبي‪ ،‬محمد عبد السالم الجفائري‪ ،‬الدار العربية للكتاب‪،‬‬ ‫تونس‪ ،4891 ،‬د‪.‬ط‪ ،521 ،‬ويقارن بالمصدر السابق‪.)93( ،‬‬ ‫(‪ ((1‬ينظر ميالد مجتمع‪.)25( ،‬‬

‫مفهوم الحضارة عند مالك بن نبي‬ ‫تو ّلــد العالقــة االجتماع ّيــة وتنشــئها‪ ،‬وهــي مــا يربــط بيــن اإلنســان‬ ‫واإلنســان‪ ،‬فنســتطيع بذلــك النّظــر إلــى العالقــة االجتماع ّيــة‬ ‫والدين ّيــة تاريخ ًّيــا علــى أهنــا حــدَ ٌ‬ ‫ث‪ ،‬ومــن الوجهــة الكون ّيــة علــى‬ ‫ِ‬ ‫أنّهــا تطـ ّـور اجتماعـ ٌّـي واحــد(‪ ،((1‬فبضعــف العالقــة الدين ّيــة تضعــف‬ ‫ّ‬ ‫وبقوهتــا تقــوى‪.‬‬ ‫الشــبكات االجتماع ّيــة ّ‬ ‫ولعـ ّـل أهــم آثــار هــذه الفكـ ِ‬ ‫ـرة عنــد ابــن نبــي فهــم العالقــة بيــن‬ ‫ّ‬ ‫وتطورهــا‬ ‫ـارة‬ ‫ـ‬ ‫الحض‬ ‫ـوء‬ ‫ـ‬ ‫نش‬ ‫ـاء‬ ‫ـ‬ ‫أثن‬ ‫ـا‬ ‫ـ‬ ‫وضعفه‬ ‫ـة»‬ ‫ـ‬ ‫ي‬ ‫الدين‬ ‫ـرة‬ ‫قـ ّـوة «الفكـ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫أو أفولهــا؛ فيتج ّلــى ذلــك يف انتقــال العقــل بســبب قــوة الــروح مــن‬ ‫مرحلــة الخمــول إلــى النهــوض ومــلء مجــاالت الحيــاة بالفنــون‬ ‫والصناعــات‪ّ ،‬إل أنــه لضعــف الــروح أمــام هنضــة العقــل‬ ‫والعلــوم ّ‬ ‫الســيطرة وتتسـ ّـرب مــن المنافــذ التــي تتيحهــا‬ ‫تخــرج الغرائــز عــن ّ‬ ‫التغــول يف‬ ‫المــا ّدة فيتــاح لهــا التّمــدّ د إلــى أن تصــل إلــى مرحلــة‬ ‫ُّ‬ ‫مواجهــة «الفكــرة الدين ّيــة»‪ ،‬فتتو ّقــف آثار هــذه الفكــرة يف المجتمع‬ ‫وتدخــل الحضــارة ليــل التاريــخ ُمتِ َّمـ ًة بذلــك دورهتــا(‪.((1‬‬ ‫ة‪/‬المعنويــة) التــي م َّثلــت مبعــث الحضــارة‬ ‫إن الفكــرة (الدين ّي‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ـامي‪ ،‬حيــث بــدأت دورتــه بنــزول القــرآن‬ ‫اإلســامي َة الديـ ُ‬ ‫ـن اإلسـ ُّ‬ ‫وتغلغــل مبادئــه يف نفــوس المؤمنيــن بــه‪ ،‬فشــهدنا بعــد ذلــك حيــاة‬ ‫المثــل العليــا‪ ،‬كمــا شــهدنا ظهــور علــوم جديــدة وحركــة فكريــة‬ ‫ـب العظمــة‪ ،‬فبــدأت‬ ‫ال تضاهــى‪ ،‬إلــى أن ظهــرت حيــاة ال ّتــرف وحـ ّ‬ ‫شــمس الحضــارة تأفــل رويــدً ا رويــدً ا‪.‬‬

‫يلتــزم مالــك يف أبحاثه عن بناء‬ ‫ ‬ ‫الحضــارة ورشوط انطالقها مبحوريّة‬ ‫اإلنســان (فر ًدا ومجتم ًعا) فيها؛ إذ يع ُّده‬ ‫حضاري‬ ‫أي مرشوع‬ ‫ّ‬ ‫املحــور ال ّرئيس يف ّ‬ ‫ّ‬ ‫نبــي عــن «الفكــرة‬ ‫ولعــل‬ ‫ّ‬ ‫أهــم مــا نســتخلصه مــن كالم ابــن ٍّ‬ ‫الدين ّيــة» وأثرهــا يف بنــاء الحضــارة كـ ُ‬ ‫ـاس‬ ‫ـون الديــن العامـ َـل األسـ َ‬ ‫ا ّلــذي ي َعــدُّ السـ ّـر الكــوين المر ِّكــب بيــن ثالث ّيــة (اإلنســان وال ّتــراب‬ ‫بقــوة ف ّعالــة يف التاريــخ(‪ ،((1‬فيشــ ّكل‬ ‫والوقــت)‪ ،‬والباعــث لهــا ّ‬ ‫(‪((1‬‬ ‫ال ّظواهــر والقيــم والمبــادئ االجتماع ّيــة ‪ ،‬والحضــارة مــن هــذه‬ ‫النظــرة الفاحصــة ال تقــوم ّإل يف ظـ ّـل وجــود شــبكة مــن العالقــات‬ ‫االجتماع ّيــة ا ّلتــي تش ـ ّكل الميــاد الحقيقـ ّـي للمجتمــع يف التاريــخ‬ ‫وبدايــة إنجــازه التاريخـ ّـي علــى ضــوء «الفكــرة الدين ّيــة»(‪ ،((1‬ومــا‬

‫(‪ ((1‬ينظر المصدر السابق نفسه‪.‬‬ ‫(‪ ((1‬ينظر المصدر السابق‪.)501-401-101( ،‬‬ ‫(‪ ((1‬ينظر ميالد مجتمع‪.)47( ،‬‬ ‫(‪ ((1‬ينظر وجهة العالم اإلسالمي‪ ،‬مالك بن نبي‪ ،‬ترجمة عبد الصبور شاهين‪ ،‬دار الفكر‪ ،‬دمشق‪،5891 ،‬‬ ‫(‪.)72‬‬ ‫(‪ ((1‬حديث يف البناء الجديد‪ ،‬مالك بن نبي‪ ،‬منشورات المكتبة العصرية‪ ،‬صيدا‪ ،‬بيروت‪ ،‬د‪.‬ت‪.‬ط‪،‬‬ ‫(‪.)101-001‬‬

‫مســتمرة يف التّركيــب بيــن هــذه الفئــات‬ ‫دامــت هــذه الفكــرة‬ ‫ّ‬ ‫ِ‬ ‫الثــاث فإنّهــا ســتبقى منتميــة إلــى كتلــة بنــاء الحضــارة يف‬ ‫التّاريــخ(‪ ،((1‬أ ّمــا إذا صــار اإليمــان بالفكــرة محــض جـ ٍ‬ ‫ـردي‪،‬‬ ‫ـذب فـ ٍّ‬ ‫فإنّــه ســيفقد إشــعاعه‪ ،‬وســتنتهي رســالته التّاريخ ّيــة لعجــزه عــن‬ ‫دفــع الحضــارة وتحريكهــا(‪.((1‬‬ ‫عنــارص الحضارة عند ابن نبي‪:‬‬

‫ترتكّــب الحضــارة مــن عناصــر متعــدّ دة‪ّ ،‬إل ّ‬ ‫أن عناصــر تركيــب‬ ‫الحضــارة ليســت منتجـ ٍ‬ ‫بالضــرورة‪ ،‬بــل هــي أصــول‬ ‫ـات حضار ّيـ ًة ّ‬ ‫تفرضهــا طبيعــة المنتجــات وشــروط اإلنتــاج(‪ ،((1‬ومــن هنــا ّ‬ ‫فــإن‬ ‫ابــن نبــي يســعى إلــى تحليــل ٍ‬ ‫واف لعناصــر الحضــارة‪ ،‬داع ًيــا إلــى‬ ‫ٍّ‬ ‫تنــاول المســألة كمــا تتنــاول المختــرات التّحليــات والتفاعــات‬ ‫عناصــر‬ ‫توصــل بعــد طــول بحــث إلــى أن‬ ‫الكيميائ ّيــة(‪ ،((1‬وقــد َّ‬ ‫َ‬ ‫ـاري‬ ‫البنــاء الحضار ّيــة محصــورة بالمعادلــة اآلتيــة‪( :‬منتــوج حضـ ّ‬ ‫= إنســان ‪ +‬تــراب ‪ +‬وقــت)(‪ ،((2‬ومجمــوع المنتجــات الحضار ّيــة‬ ‫بالضــرورة ناتــج عــن مجمــوع إنســان ومجمــوع تــراب ومجمــوع‬ ‫وقــت(‪ ،((2‬ومهمــا تكدَّ ســت المنتجــات الحضار ّيــة فــا يشــي ذلــك‬ ‫ٍ‬ ‫ـتمر علــى فهــم الحضــارة‬ ‫بوجــود حضــارة حقيق ّيــة‪ ،‬لتأكيــده المسـ ّ‬ ‫بنــا ًء مر ّك ًبــا يشــمل العناصــر ال ّثالثــة فقــط مهمــا بلغــت درجــة تعقيد‬ ‫هــذا البنــاء(‪ ،((2‬كمــا يلتــزم مالــك يف أبحاثــه عــن بنــاء الحضــارة‬ ‫وشــروط انطالقهــا بمحور ّيــة اإلنســان (فــر ًدا ومجتم ًعــا) فيهــا؛‬ ‫ـاري‪ ،‬فهــو البدايــة‬ ‫أي مشــروع حضـ ّ‬ ‫الرئيــس يف ّ‬ ‫إذ يعــدُّ ه المحــور ّ‬ ‫والغايــة‪ ،‬كمــا أن قـ ّـوة فكــره أو مرضــه دليــل علــى قـ ّـوة حضارتــه‬ ‫وضعفهــا؛ إذ ّ‬ ‫السياســة أو‬ ‫إن جميــع األعــراض التــي ظهــرت يف ّ‬ ‫يف صــورة العمــران لــم تكــن َّإل تعبيـ ًـرا عــن حالــة مرض ّيــة يعانيهــا‬ ‫اإلنســان الجديــد ا ّلــذي خلــف إنســان الحضــارة اإلســام ّية‪،‬‬ ‫والــذي كان يحمــل يف كيانــه جميــع الجراثيــم التــي ســينتج عنهــا‬ ‫متفرقــة المشــاكل ا ّلتــي تعـ ّـرض لهــا العالــم اإلســامي‬ ‫يف فــرات ّ‬ ‫منــذ ذلــك الحيــن‪ ،‬فالنّقائــص التــي تعانيهــا النّهضــة اآلن‪ ،‬يعــود‬ ‫الرجــل الــذي لــم يكــن طليعــة يف التّاريــخ(‪.((2‬‬ ‫وزرهــا إلــى ذلــك ّ‬ ‫ّ‬ ‫إن ال ّتــراب ال يكــون عامــل حضــارة إال بتهيئتــه مــا ّدة المنتجــات‬ ‫االجتماع ّيــة‪ ،‬وكــذا الوقــت‪ ،‬فــا يكــون عنصـ ًـرا يف بنــاء الحضــارة‬ ‫ّإل إذا تك ّيــف مــع المجتمــع فأصبــح زمنًــا اجتماع ًّيــا تجــري فيــه‬ ‫عمل ّيــات الصناعــة وهنضــة االقتصــاد والثقافــة(‪ ،((2‬ويضــاف الديــن‬ ‫إلــى هــذه العناصــر ليكــون المر ِّكــب األســاس فيمــا بينهــا‪ ،‬ومــن‬ ‫(‪ ((1‬ينظر شروط النهضة‪ ،‬مالك بن نبي‪ ،‬ترجمة عبد الصبور شاهين‪ ،‬دار الفكر‪ ،‬دمشق‪.)68( ،6891 ،‬‬ ‫(‪ ((1‬ينظر وجهة العالم اإلسالمي‪.)72( ،‬‬ ‫(‪ ((1‬ينظر تأمالت‪.)691( ،‬‬ ‫(‪ ((1‬ينظر آفاق جزائرية‪.)96( ،‬‬ ‫(‪ ((2‬ينظر تأمالت‪ ،‬مالك بن نبي‪ ،‬ترجمة عبد الصبور شاهين‪ ،‬دار الفكر‪ ،‬بيروت‪ ،‬د‪.‬ط‪.‬ت (‪.)791‬‬ ‫(‪ ((2‬ينظر المصر السابق نفسه‪.‬‬ ‫(‪ ((2‬ينظر المصدر السابق‪.)891( ،‬‬ ‫(‪ ((2‬ينظر وجهة العالم اإلسالمي‪.)63( ،‬‬ ‫(‪ ((2‬ينظر آفاق جزائرية‪.)47( ،‬‬

‫‪71‬‬


‫مفهوم الحضارة عند مالك بن نبي‬ ‫ــم فــإن رؤيــة مالــك لعناصــر الحضــارة تجتمــع هبــذه الثالثيــة‬ ‫َث َّ‬ ‫مــع «الفكــرة الدين ّيــة» فيطلــق عليهــا مجتمعــة مصطلــح «ال ُعــدَّ ة‬ ‫الدّ ائمــة» الواجبــة لتح ّقــق الحضــارة(‪.((2‬‬

‫دورة الحضارة‪:‬‬

‫لــم يحصــل أن اتّفــق المف ّكــرون علــى تعريــف واحـ ٍـد للحضــارة‬ ‫تطورهــا وانتكاســها والعمــر المفتــرض لهــا‪ ،‬إال أنّهــم‬ ‫أو عوامــل ّ‬ ‫ٍ‬ ‫عمــدوا إلــى رســم دورات يــرون الحضــارات داخلــة فيهــا‪ ،‬فمــن‬ ‫دورة العصب ّيــة عنــد ابــن خلــدون إلــى التناقــض عنــد هيجــل أو‬ ‫صــراع الطبقــات عنــد ماركــس أو األطــوار الثالثــة عنــد دوركايم(‪،((2‬‬ ‫وقــد اســتفاد ابــن نبــي مــن فكــرة دورات الحضــارة ا ّلتــي بحثهــا‬ ‫فتفحــص مقاالهتــم‬ ‫الســابقون‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫المف ّكــرون وعلمــاء االجتمــاع ّ‬ ‫ٍ‬ ‫ونقدهــا(‪ ،((2‬واســتفاض يف البحــث لتكويــن نظــرة جامعــة يف فهــم‬ ‫مخصصاهتــا وشــروطها‪،‬‬ ‫فتوصــل إليهــا وحــدَّ د‬ ‫دورات الحضــارة‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫وضبطهــا بيــن البدايــة واألفــول‪ ،‬محــدّ ًدا المرحلــة التــي تســبق‬ ‫(‪((2‬‬ ‫ّ‬ ‫نبــي دورة‬ ‫البدايــة والمعالــم التــي تســم النهايــة ‪ ،‬فابتــدع ابــن ٍّ‬ ‫(النهــوض واألوج واألفــول) بحســب التَّفاعــل الــذي تقــوم بــه‬ ‫الفكــرة الدين ّيــة مــع ثالث ّيتــه الشــهيرة علــى نحــو مــا أســلفنا مــن ّ‬ ‫أن‬ ‫الحضــارة تبــدأ بارتبــاط فكــرة دين ّيــة مع ّينــة تنهــي ســطوة الغرائــز‬ ‫الجســد ّية وتطلــق الــروح مــن ســجنها فينطلــق العقــل معهــا ل َيـ ُـؤول‬ ‫مــرة أخــرى إلــى ارتبــاط الغرائــز بســطوة العقــل فخمــود‬ ‫الحــال ّ‬ ‫(‪((2‬‬ ‫الروحــي وســيطرة المــا ّدة علــى حســاهبا ‪.‬‬ ‫األلــق‬ ‫ّ‬ ‫ٍ‬ ‫ومــر ُّد هــذه الــدورة بــرأي الباحــث عائــد إلــى ّ‬ ‫حضــارة‬ ‫أي‬ ‫أن َّ‬ ‫َ‬ ‫إنمــا تنتــج عــن فكــرة جوهريــة تطبــع المجتمــع يف مرحلــة مــا قبــل‬ ‫التحضــر‪ ،‬وتدفعــه لدخــول ميــدان التاريــخ بحضــارة واثقــة‪ ،‬فقــد‬ ‫أخرجــت الفكــرة المســيحية أوروبــا إلــى مســرح التاريــخ‪ ،‬وبنــت‬ ‫عالمهــا الفكــري انطال ًقــا منهــا‪ ،‬إال أنّهــا تغ ّيــرت بتغ ّيــر فكرهتــا مــع‬ ‫اســتعادة عصــر النهضــة أدب ّيــات اإلغريــق وفلســفاهتم الماضيــة(‪،((3‬‬ ‫الــروح‪ ،‬ولــو‬ ‫لتصبــح حضــارة الغــرب بذلــك معن ّيــة بالمــا ّدة ال ّ‬ ‫ٍ‬ ‫تطبيــق لنظر ّيتــه‪-‬‬ ‫أردنــا دراســة دورة الحضــارة اإلســام ّية ‪-‬يف‬ ‫فإننــا نلحــظ بدايتهــا مــع الفكــرة الدين ّيــة اإلســامية‪ ،‬ففــي مرحلــة‬ ‫مــا قبــل الحضــارة كانــت الجاهل ّيــة تضــرب أطناهبــا علــى مجتمــع‬ ‫محــرر ًة‬ ‫الجزيــرة العرب ّيــة‪ ،‬فجــاءت الفكــرة الدينيــة اإلســامية‬ ‫ِّ‬ ‫الــروح مــن ربقــة غرائــز الواقــع المحيــط هبــا‪ ،‬ودفعــت بمعتنقيهــا‬ ‫إلــى طــور األوج‪ ،‬فقــام المســلمون بالفتــوح ونشــر العلــوم‬ ‫وتطويــر الفنــون‪ ،‬لتصــل إلــى طــور األفــول مــع هنايــات طــور‬ ‫(‪ ((2‬ينظر شروط النهضة‪.)29( ،‬‬ ‫(‪ ((2‬أي المرحلة الالهوتية‪ ،‬ثم الميتافيزيقية‪ ،‬ثم الوضعية‪.‬‬ ‫(‪ ((2‬ينظر شروط النهضة‪.)99-39( ،‬‬ ‫(‪ ((2‬ينظر شروط النهضة‪.)99 ،89( ،‬‬ ‫(‪ ((2‬ينظر شروط النهضة‪.)501( ،‬‬ ‫(‪ ((3‬مشكلة األفكار يف العالم اإلسالمي‪ ،‬مالك بن نبي‪ ،‬ترجمة‪ :‬بسام بركة‪ ،‬أحمد شعبو‪ ،‬دار الفكر‪،‬‬ ‫دمشق‪.)14( ،2002 ،‬‬

‫‪72‬‬

‫الموحديــن‪ -‬حيــث بــدأت‬ ‫ســماه عصــر مــا بعــد‬ ‫ّ‬ ‫األوج ‪-‬أو مــا ّ‬ ‫قـ ّـوة الفكــرة الدين ّيــة يف تســيير المجتمــع بالغيــاب ومالــت ال ّطبيعــة‬ ‫إلــى اســتعادة َغ َل َبتِهــا علــى الفــرد والمجتمــع(‪((3‬؛ وهكــذا نصــل‬ ‫إلــى النّتيجــة ا ّلتــي وصــل إليهــا ابــن نبـ ٍّـي مــن قبــل يف عــد ِم وجــود‬ ‫حضـ ٍ‬ ‫ـارة مــا تــكاد تشـ ّـذ عــن هــذه الــدورة(‪.((3‬‬ ‫تعــاين الحضــارة ‪ -‬ال ريــب‪ -‬مــن مشــكالت عديــدة ترهقهــا‬ ‫وتترابــط فيمــا بينهــا بوشــائج متعــدّ دة تدفعهــا إلــى النّكــوص عــن‬ ‫العقلــي إلــى غايــات المــا ّدة‬ ‫والســمو‬ ‫الروحــي‬ ‫غايــة النهــوض‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫وطغيــان األشــياء واالســتهالك وتصنيــم األشــخاص‪ ،‬وذلــك‬ ‫لغيــاب الفاعل ّيــة المطلوبــة مــن العقيــدة واألفــكار وال ّثقافــة‪،‬‬ ‫ـص مســتفيض ّ‬ ‫يوضــح‬ ‫توسـ ٍع وتقـ ٍّ‬ ‫وهــو مــا يحتــاج بحــدّ ذاتــه إلــى ُّ‬ ‫المقصــود بالفاعل ّيــة وقواعدهــا وأنواعهــا وأســباب تخ ّلفهــا عــن‬ ‫أداء دورهــا‪.‬‬

‫خت ٌم وإيجاز‪:‬‬

‫يتعمــق يف‬ ‫ال يمكــن لشــعب أن يفهــم مشــكلته‬ ‫النهضويــة مــا لــم ّ‬ ‫ّ‬ ‫فهــم العوامــل التــي تبنــي الحضــارات أو تهدمهــا؛ إذ الحضــارات‬ ‫والقادمــة عناصــر للملحمــة اإلنســان ّية منــذ‬ ‫المعاصــرة والماضي ـ ُة‬ ‫ُ‬ ‫فجــر القــرون إلــى نهايــة الزمــن‪ ،‬فهــي حلقــات لسلســلة واحــدة‬ ‫ٍ‬ ‫وريــث لــه فيهــا(‪((3‬؛‬ ‫منــذ أن هبــط آدم علــى األرض إلــى آخــر‬ ‫نبــي يف‬ ‫أهــم مــا يمكننــا‬ ‫فــإن‬ ‫ــم َّ‬ ‫ُ‬ ‫َّ‬ ‫ومــن َث َّ‬ ‫الختــم بــه مــن آراء ابــن ّ‬ ‫الحضاريــة‬ ‫مفهومــا مر ّك ًبــا يتســاوق مــع ال ّظاهــرة‬ ‫الحضــارة كونهــا‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫وتطورهــا وأفولهــا؛ إذ هــي يف فحواهــا انســجا ٌم لجهــود‬ ‫يف نشــأتها‬ ‫ُّ‬ ‫ـوي يف‬ ‫الســنن اإلله ّيــة يف النّهــوض المــا ّدي والمعنـ ّ‬ ‫اإلنســان ّية مــع ُّ‬ ‫شـتّى المجــاالت اإلنســان ّية والعلم ّيــة والدين ّيــة‪ ،‬فالغايــة مــن ذلــك‬ ‫التقــدّ م واالرتقــاء باإلنســان إلــى أفضــل أشــكال الحيــاة الممكنــة‪،‬‬ ‫أن عمل ّيــة بنــاء الحضــارة تســتدعي ُأ َس ًســا يحصرهــا ابــن نبــي‬ ‫ّإل ّ‬ ‫لمحــرك‬ ‫يف عا َل َمــي األشــخاص واألشــياء‪ ،‬إضافــ ًة إلــى حاجتهــا‬ ‫ِّ‬ ‫قوتهــا واســتمرارها‪ ،‬وهــو مــا حــدَّ ده‬ ‫يعطــي العمل ّيــة البنائ ّيــة ّ‬ ‫بـــ «الفكــرة الدين ّيــة» المنتميــة ‪-‬بضــرورة الحــال‪ -‬إلــى عا َلــم‬ ‫ٍ‬ ‫شــامل يهــدف‬ ‫يتــم ّإل بتنســيق‬ ‫األفــكار‪،‬‬ ‫مشــيرا إلــى ّ‬ ‫أن ذلــك ال ُّ‬ ‫ً‬ ‫لتغييــر اإلنســان مــن الداخــل وفــق شــروط مع ّينــة‪ ،‬تُمكِّنـ ُه مــن أداء‬ ‫المتحضــر‪ ،‬واختــال هــذه‬ ‫وظيفتــه االجتماع ّيــة وبنــاء المجتمــع‬ ‫ِّ‬ ‫ـي ســيؤ ّدي لطغيــان هــذه العناصــر بعضهــا‬ ‫الشــروط عنــد ابــن نبـ ّ‬ ‫علــى بعـ ٍ‬ ‫المحركــة للحضــارة مقاب َلهــا؛ ممــا‬ ‫ـض‪ ،‬وانــزواء األفــكار‬ ‫ِّ‬ ‫الفكريــة واالســتهالك ّية‬ ‫ُينــذر بأفــول شمســها واســتفحال التبع ّيــة‬ ‫ّ‬ ‫وأمــراض عديـ ٍ‬ ‫ـدة يف َجســد المجتمــع وفك ـرِه‪.‬‬ ‫(‪ ((3‬ينظر شروط النهضة‪.)401-201( ،‬‬ ‫(‪ ((3‬ينظر السابق‪.)97( ،‬‬ ‫(‪ ((3‬السابق (‪.)02 ،91‬‬

‫من أوسع أودية الباطب الغلو في األفاضل‬

‫الباطل‬ ‫أوسع أودية‬ ‫ِمن‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫األفاضل‬ ‫الغلو في‬ ‫ُّ‬ ‫ِ‬ ‫عبيدة خالد عبد القادر‬ ‫ماجستير يف الحديث النبوي الشريف‬

‫يقــول ابــن الجــوزي رحمــه اهلل‪( :‬إن الحاجــة لمــن يمتلــك جميــع مفاتيــح‬ ‫الشــيطان ليفتــح للعبــد تســع ًة وتســعين با ًبــا الحلــول لجميــع األزمــات والتحديــات التــي‬ ‫يواجهوهنــا يف حياهتــم‪.‬‬ ‫للخيــر يريــد بــه با ًبــا مــن الشــر)(((‪.‬‬

‫تتنــوع طرائــق الشــيطان التــي يســلكها‬ ‫إلغــواء البشــر وتتعــدد‪ ،‬ويلحــظ المتأمــل‬ ‫يف هــذه الطرائــق مــن الدهــاء والمرونــة‪،‬‬ ‫والج َلــد والخفــاء مــا تشــيب لــه الــرؤوس‪،‬‬ ‫َ‬ ‫ِّ‬ ‫ولعــل مــن أدق طرائــق الشــيطان وأخفاهــا‬ ‫يف إغــواء الخلــق وصدِّ هــم عــن ســبيل اهلل‬ ‫تعالــى طريقــة ظاهرهــا الخيــر والمصلحــة‬ ‫ولكــن مــا تفضــي إليــه الشــر والمفســدة‬ ‫المحضــة‪.‬‬

‫وقــد بحثــت عــن عبــارة تلخــص مفهومهــا‬ ‫فمــا وجــدت أروع وال أبلــغ وال أوجــز مــن‬ ‫قولهــم‪( :‬مِــن أوســع أوديــة الباطــل الغلـ ُّـو يف‬ ‫األفاضــل)‪.‬‬

‫والحقيقــة التــي يؤكدهــا علمــاء االجتمــاع‬ ‫أن َّ‬ ‫كل البشــر مــن الممكــن أن يمـ ُّـروا بتجربــة‬ ‫َّ‬ ‫الغلــو يف األفاضــل واإلفــراط يف تقديرهــم‬ ‫إذا توفــرت بعــض الشــروط والمالبســات‬ ‫االجتماعيــة التــي تجعلهــم مســتعدين لتقبــل‬ ‫فاضــا‬ ‫فكــرة التســليم المطلــق لمــن تــراه‬ ‫ً‬ ‫والتعايــش معهــا‪ ،‬يف امتــداد لمــا يســمى‬ ‫الفرعونيــة االجتماعيــة‪ ..‬فتراهــم يميلــون‬ ‫إلــى الغلــو يف تقديــر األشــخاص اســتنا ًدا‬ ‫لضعفهــم وعجزهــم الــذايت‪ ،‬وســيادة فكــر‬ ‫((( تلبيس إبليس (ص‪.)73 :‬‬

‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ــم‬ ‫إِ َّل ا ْل َح َّ‬ ‫ــق إِن َ​َّمــا ا ْل َمس ُ‬ ‫يســى ا ْبــ ُن َم ْر َي َ‬ ‫ــيح ع َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َر ُسـ ُ‬ ‫وح‬ ‫ـول اهَّلل َوكَل َم ُت ـ ُه َأ ْل َق َ‬ ‫ـم َو ُر ٌ‬ ‫اهــا إلــى َم ْر َيـ َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫مِنْــ ُه َفآمنُــوا بِــاهَّلل َو ُر ُســلِه َو َل َت ُقو ُلــوا َث َل َثــ ٌة‬ ‫ا ْنتَهــوا َخيــرا َل ُكــم إِنَّمــا اهَّلل إِ َلـه و ِ‬ ‫احدٌ ُسـ ْب َحا َن ُه‬ ‫ْ َ ُ ٌ َ‬ ‫ُ‬ ‫ًْ‬ ‫ــون َلــه و َلــدٌ َلــه مــا فِــي الســماواتِ‬ ‫َّ َ َ‬ ‫َأ ْن َي ُك َ ُ َ‬ ‫ُ َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َو َمــا فِــي ْالَ ْر ِ‬ ‫ض َو َك َفــى بِــاهَّلل َوك ً‬ ‫يــا * َلــ ْن‬ ‫ــون َعبــدً ا ل ِ َّل ِ‬ ‫ِ‬ ‫ــه َو َل‬ ‫َي ْســ َتنْكِ َ‬ ‫ــيح َأ ْن َي ُك َ ْ‬ ‫ف ا ْل َمس ُ‬ ‫ا ْل َم َلئِ َكــ ُة ا ْل ُم َق َّر ُب َ‬ ‫ف َعــ ْن‬ ‫ــون َو َمــ ْن َي ْســ َتنْكِ ْ‬ ‫ِع َبا َدتِـ ِـه َو َي ْسـ َت ْكبِ ْر َف َس َي ْح ُشـ ُـر ُه ْم إِ َل ْيـ ِـه َج ِمي ًعــا﴾‬ ‫[النســاء‪ :‬آيــة ‪ 171‬و‪]172‬‬

‫لكــ َّن الســؤال األهــم حــول كيفيــة الغلــو‬ ‫يف األفاضــل المفضــي للمفســدة‪ ،‬حيــث‬ ‫يعمــد البعــض إلــى تعظيــم مــن لــه فضــل‬ ‫مــن العلمــاء والدعــاة والصالحيــن وذلــك‬ ‫وفــق تسلســل منطقــي مــن حيــث المقدمــات‬ ‫والنتائــج والموضــوع والمحمــول‪ ،‬فاألمــر‬ ‫دائمــا يبــدأ باالحــرام والتقديــر واإلجــال‬ ‫ً‬ ‫واإلطــراء لشــخص العالــم أو الداعيــة أو يقــول اإلمــام ابــن كثيــر رحمــه اهلل يف تفســير‬ ‫العابــد الصالــح والمســتحق بســبب علمــه هــذه اآليــة الكريمــة‪( :‬ينهــى تعالــى أهــل‬ ‫وفضلــه وزهــده وعملــه يف خدمــة الديــن الكتــاب عــن الغلــو واإلطــراء‪ ،‬وهــذا كثيــر يف‬ ‫لهــذا التقديــر واإلجــال‪.‬‬ ‫النصــارى‪ ،‬فإهنــم تجــاوزوا الحــد يف عيســى‬ ‫ويتطــور هــذا التقديــر واالحــرام ليتحــول حتــى رفعــوه فــوق المنزلــة التــي أعطــاه اهلل‬ ‫إلــى المحبــة والتعلــق العاطفــي بشــخص إياهــا‪ ،‬فنقلــوه مــن حيــز النبــوة‪ ،‬إلــى أن‬ ‫الفاضــل‪ ،‬وال ينتهــي إال وقــد أصبــح الفاضل اتخــذوه إلهــا مــن دون اهلل يعبدونــه كمــا‬ ‫عنــد مح ِّبيــه ‪-‬لفــرط الغلــو يف تقديــره‪ -‬يعبدونــه‪ ،‬بــل قــد غلــوا يف أتباعــه وأشــياعه‬ ‫معصو ًمــا خل ًّيــا عــن العيــوب واألخطــاء مــرأ ممــن زعــم أنــه علــى دينــه‪ ،‬فادعــوا فيهــم‬ ‫مــن ِّ‬ ‫كل نقصــان‪ ،‬بــل قــد يتطــور األمــر إلــى العصمــة‪ ،‬واتبعوهــم يف كل مــا قالــوه ســواء‬ ‫أبعــد مــن ذلــك فيغــدو الفاضــل عنــد أتباعــه كان ح ًقــا أو باطــا‪ ،‬أو ضــاال أو رشــادا‪ ،‬أو‬ ‫وثنًــا يعبــد مــن دون اهلل تعالــى‪ ،‬واألدلــة صحيحــا أو كذبــا‪ ،‬ولهــذا قــال اهلل تعالــى‪:‬‬ ‫ومثلهــا الشــواهد وكالم العلمــاء رحمهــم اهلل ﴿اتخــذوا أحبارهــم ورهباهنــم أربابــا مــن‬ ‫تعالــى شــاهدة علــى هــذا األصــل؛ إذ يضيــق دون اهلل﴾ [ســورة التوبــة‪ :‬آيــة ‪.(((]31‬‬ ‫المقــام عــن اســتيعاهبا‪ ،‬ولك ـ َّن مــا ال يــدرك‬ ‫ويف صحيــح البخــاري مــن حديــث ابــن‬ ‫ك ُّلــه ال يــرك ج ُّلــه‪ .‬يقــول اهلل عــز وجــل يف‬ ‫َ َ ْ ِ ِ عبــاس رضــي اهلل عنهمــا ســمع عمــر رضــي‬ ‫وصــف أهــل الكتــاب‪َ ﴿ :‬يــا أ ْهــل الكتَــاب‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ ِ‬ ‫ع َلــى اهَّلل ((( تفسير ابن كثير (‪.)424 /2‬‬ ‫ــم َو َل َت ُقو ُلــوا َ‬ ‫َل َت ْغ ُلــوا فــي دين ُك ْ‬ ‫‪73‬‬


‫مفهوم الحضارة عند مالك بن نبي‬ ‫ــم فــإن رؤيــة مالــك لعناصــر الحضــارة تجتمــع هبــذه الثالثيــة‬ ‫َث َّ‬ ‫مــع «الفكــرة الدين ّيــة» فيطلــق عليهــا مجتمعــة مصطلــح «ال ُعــدَّ ة‬ ‫الدّ ائمــة» الواجبــة لتح ّقــق الحضــارة(‪.((2‬‬

‫دورة الحضارة‪:‬‬

‫لــم يحصــل أن اتّفــق المف ّكــرون علــى تعريــف واحـ ٍـد للحضــارة‬ ‫تطورهــا وانتكاســها والعمــر المفتــرض لهــا‪ ،‬إال أنّهــم‬ ‫أو عوامــل ّ‬ ‫ٍ‬ ‫عمــدوا إلــى رســم دورات يــرون الحضــارات داخلــة فيهــا‪ ،‬فمــن‬ ‫دورة العصب ّيــة عنــد ابــن خلــدون إلــى التناقــض عنــد هيجــل أو‬ ‫صــراع الطبقــات عنــد ماركــس أو األطــوار الثالثــة عنــد دوركايم(‪،((2‬‬ ‫وقــد اســتفاد ابــن نبــي مــن فكــرة دورات الحضــارة ا ّلتــي بحثهــا‬ ‫فتفحــص مقاالهتــم‬ ‫الســابقون‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫المف ّكــرون وعلمــاء االجتمــاع ّ‬ ‫ٍ‬ ‫ونقدهــا(‪ ،((2‬واســتفاض يف البحــث لتكويــن نظــرة جامعــة يف فهــم‬ ‫مخصصاهتــا وشــروطها‪،‬‬ ‫فتوصــل إليهــا وحــدَّ د‬ ‫دورات الحضــارة‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫وضبطهــا بيــن البدايــة واألفــول‪ ،‬محــدّ ًدا المرحلــة التــي تســبق‬ ‫(‪((2‬‬ ‫ّ‬ ‫نبــي دورة‬ ‫البدايــة والمعالــم التــي تســم النهايــة ‪ ،‬فابتــدع ابــن ٍّ‬ ‫(النهــوض واألوج واألفــول) بحســب التَّفاعــل الــذي تقــوم بــه‬ ‫الفكــرة الدين ّيــة مــع ثالث ّيتــه الشــهيرة علــى نحــو مــا أســلفنا مــن ّ‬ ‫أن‬ ‫الحضــارة تبــدأ بارتبــاط فكــرة دين ّيــة مع ّينــة تنهــي ســطوة الغرائــز‬ ‫الجســد ّية وتطلــق الــروح مــن ســجنها فينطلــق العقــل معهــا ل َيـ ُـؤول‬ ‫مــرة أخــرى إلــى ارتبــاط الغرائــز بســطوة العقــل فخمــود‬ ‫الحــال ّ‬ ‫(‪((2‬‬ ‫الروحــي وســيطرة المــا ّدة علــى حســاهبا ‪.‬‬ ‫األلــق‬ ‫ّ‬ ‫ٍ‬ ‫ومــر ُّد هــذه الــدورة بــرأي الباحــث عائــد إلــى ّ‬ ‫حضــارة‬ ‫أي‬ ‫أن َّ‬ ‫َ‬ ‫إنمــا تنتــج عــن فكــرة جوهريــة تطبــع المجتمــع يف مرحلــة مــا قبــل‬ ‫التحضــر‪ ،‬وتدفعــه لدخــول ميــدان التاريــخ بحضــارة واثقــة‪ ،‬فقــد‬ ‫أخرجــت الفكــرة المســيحية أوروبــا إلــى مســرح التاريــخ‪ ،‬وبنــت‬ ‫عالمهــا الفكــري انطال ًقــا منهــا‪ ،‬إال أنّهــا تغ ّيــرت بتغ ّيــر فكرهتــا مــع‬ ‫اســتعادة عصــر النهضــة أدب ّيــات اإلغريــق وفلســفاهتم الماضيــة(‪،((3‬‬ ‫الــروح‪ ،‬ولــو‬ ‫لتصبــح حضــارة الغــرب بذلــك معن ّيــة بالمــا ّدة ال ّ‬ ‫ٍ‬ ‫تطبيــق لنظر ّيتــه‪-‬‬ ‫أردنــا دراســة دورة الحضــارة اإلســام ّية ‪-‬يف‬ ‫فإننــا نلحــظ بدايتهــا مــع الفكــرة الدين ّيــة اإلســامية‪ ،‬ففــي مرحلــة‬ ‫مــا قبــل الحضــارة كانــت الجاهل ّيــة تضــرب أطناهبــا علــى مجتمــع‬ ‫محــرر ًة‬ ‫الجزيــرة العرب ّيــة‪ ،‬فجــاءت الفكــرة الدينيــة اإلســامية‬ ‫ِّ‬ ‫الــروح مــن ربقــة غرائــز الواقــع المحيــط هبــا‪ ،‬ودفعــت بمعتنقيهــا‬ ‫إلــى طــور األوج‪ ،‬فقــام المســلمون بالفتــوح ونشــر العلــوم‬ ‫وتطويــر الفنــون‪ ،‬لتصــل إلــى طــور األفــول مــع هنايــات طــور‬ ‫(‪ ((2‬ينظر شروط النهضة‪.)29( ،‬‬ ‫(‪ ((2‬أي المرحلة الالهوتية‪ ،‬ثم الميتافيزيقية‪ ،‬ثم الوضعية‪.‬‬ ‫(‪ ((2‬ينظر شروط النهضة‪.)99-39( ،‬‬ ‫(‪ ((2‬ينظر شروط النهضة‪.)99 ،89( ،‬‬ ‫(‪ ((2‬ينظر شروط النهضة‪.)501( ،‬‬ ‫(‪ ((3‬مشكلة األفكار يف العالم اإلسالمي‪ ،‬مالك بن نبي‪ ،‬ترجمة‪ :‬بسام بركة‪ ،‬أحمد شعبو‪ ،‬دار الفكر‪،‬‬ ‫دمشق‪.)14( ،2002 ،‬‬

‫‪72‬‬

‫الموحديــن‪ -‬حيــث بــدأت‬ ‫ســماه عصــر مــا بعــد‬ ‫ّ‬ ‫األوج ‪-‬أو مــا ّ‬ ‫قـ ّـوة الفكــرة الدين ّيــة يف تســيير المجتمــع بالغيــاب ومالــت ال ّطبيعــة‬ ‫إلــى اســتعادة َغ َل َبتِهــا علــى الفــرد والمجتمــع(‪((3‬؛ وهكــذا نصــل‬ ‫إلــى النّتيجــة ا ّلتــي وصــل إليهــا ابــن نبـ ٍّـي مــن قبــل يف عــد ِم وجــود‬ ‫حضـ ٍ‬ ‫ـارة مــا تــكاد تشـ ّـذ عــن هــذه الــدورة(‪.((3‬‬ ‫تعــاين الحضــارة ‪ -‬ال ريــب‪ -‬مــن مشــكالت عديــدة ترهقهــا‬ ‫وتترابــط فيمــا بينهــا بوشــائج متعــدّ دة تدفعهــا إلــى النّكــوص عــن‬ ‫العقلــي إلــى غايــات المــا ّدة‬ ‫والســمو‬ ‫الروحــي‬ ‫غايــة النهــوض‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫وطغيــان األشــياء واالســتهالك وتصنيــم األشــخاص‪ ،‬وذلــك‬ ‫لغيــاب الفاعل ّيــة المطلوبــة مــن العقيــدة واألفــكار وال ّثقافــة‪،‬‬ ‫ـص مســتفيض ّ‬ ‫يوضــح‬ ‫توسـ ٍع وتقـ ٍّ‬ ‫وهــو مــا يحتــاج بحــدّ ذاتــه إلــى ُّ‬ ‫المقصــود بالفاعل ّيــة وقواعدهــا وأنواعهــا وأســباب تخ ّلفهــا عــن‬ ‫أداء دورهــا‪.‬‬

‫خت ٌم وإيجاز‪:‬‬

‫يتعمــق يف‬ ‫ال يمكــن لشــعب أن يفهــم مشــكلته‬ ‫النهضويــة مــا لــم ّ‬ ‫ّ‬ ‫فهــم العوامــل التــي تبنــي الحضــارات أو تهدمهــا؛ إذ الحضــارات‬ ‫والقادمــة عناصــر للملحمــة اإلنســان ّية منــذ‬ ‫المعاصــرة والماضي ـ ُة‬ ‫ُ‬ ‫فجــر القــرون إلــى نهايــة الزمــن‪ ،‬فهــي حلقــات لسلســلة واحــدة‬ ‫ٍ‬ ‫وريــث لــه فيهــا(‪((3‬؛‬ ‫منــذ أن هبــط آدم علــى األرض إلــى آخــر‬ ‫نبــي يف‬ ‫أهــم مــا يمكننــا‬ ‫فــإن‬ ‫ــم َّ‬ ‫ُ‬ ‫َّ‬ ‫ومــن َث َّ‬ ‫الختــم بــه مــن آراء ابــن ّ‬ ‫الحضاريــة‬ ‫مفهومــا مر ّك ًبــا يتســاوق مــع ال ّظاهــرة‬ ‫الحضــارة كونهــا‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫وتطورهــا وأفولهــا؛ إذ هــي يف فحواهــا انســجا ٌم لجهــود‬ ‫يف نشــأتها‬ ‫ُّ‬ ‫ـوي يف‬ ‫الســنن اإلله ّيــة يف النّهــوض المــا ّدي والمعنـ ّ‬ ‫اإلنســان ّية مــع ُّ‬ ‫شـتّى المجــاالت اإلنســان ّية والعلم ّيــة والدين ّيــة‪ ،‬فالغايــة مــن ذلــك‬ ‫التقــدّ م واالرتقــاء باإلنســان إلــى أفضــل أشــكال الحيــاة الممكنــة‪،‬‬ ‫أن عمل ّيــة بنــاء الحضــارة تســتدعي ُأ َس ًســا يحصرهــا ابــن نبــي‬ ‫ّإل ّ‬ ‫لمحــرك‬ ‫يف عا َل َمــي األشــخاص واألشــياء‪ ،‬إضافــ ًة إلــى حاجتهــا‬ ‫ِّ‬ ‫قوتهــا واســتمرارها‪ ،‬وهــو مــا حــدَّ ده‬ ‫يعطــي العمل ّيــة البنائ ّيــة ّ‬ ‫بـــ «الفكــرة الدين ّيــة» المنتميــة ‪-‬بضــرورة الحــال‪ -‬إلــى عا َلــم‬ ‫ٍ‬ ‫شــامل يهــدف‬ ‫يتــم ّإل بتنســيق‬ ‫األفــكار‪،‬‬ ‫مشــيرا إلــى ّ‬ ‫أن ذلــك ال ُّ‬ ‫ً‬ ‫لتغييــر اإلنســان مــن الداخــل وفــق شــروط مع ّينــة‪ ،‬تُمكِّنـ ُه مــن أداء‬ ‫المتحضــر‪ ،‬واختــال هــذه‬ ‫وظيفتــه االجتماع ّيــة وبنــاء المجتمــع‬ ‫ِّ‬ ‫ـي ســيؤ ّدي لطغيــان هــذه العناصــر بعضهــا‬ ‫الشــروط عنــد ابــن نبـ ّ‬ ‫علــى بعـ ٍ‬ ‫المحركــة للحضــارة مقاب َلهــا؛ ممــا‬ ‫ـض‪ ،‬وانــزواء األفــكار‬ ‫ِّ‬ ‫الفكريــة واالســتهالك ّية‬ ‫ُينــذر بأفــول شمســها واســتفحال التبع ّيــة‬ ‫ّ‬ ‫وأمــراض عديـ ٍ‬ ‫ـدة يف َجســد المجتمــع وفك ـرِه‪.‬‬ ‫(‪ ((3‬ينظر شروط النهضة‪.)401-201( ،‬‬ ‫(‪ ((3‬ينظر السابق‪.)97( ،‬‬ ‫(‪ ((3‬السابق (‪.)02 ،91‬‬

‫من أوسع أودية الباطب الغلو في األفاضل‬

‫الباطل‬ ‫أوسع أودية‬ ‫ِمن‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫األفاضل‬ ‫الغلو في‬ ‫ُّ‬ ‫ِ‬ ‫عبيدة خالد عبد القادر‬ ‫ماجستير يف الحديث النبوي الشريف‬

‫يقــول ابــن الجــوزي رحمــه اهلل‪( :‬إن الحاجــة لمــن يمتلــك جميــع مفاتيــح‬ ‫الشــيطان ليفتــح للعبــد تســع ًة وتســعين با ًبــا الحلــول لجميــع األزمــات والتحديــات التــي‬ ‫يواجهوهنــا يف حياهتــم‪.‬‬ ‫للخيــر يريــد بــه با ًبــا مــن الشــر)(((‪.‬‬

‫تتنــوع طرائــق الشــيطان التــي يســلكها‬ ‫إلغــواء البشــر وتتعــدد‪ ،‬ويلحــظ المتأمــل‬ ‫يف هــذه الطرائــق مــن الدهــاء والمرونــة‪،‬‬ ‫والج َلــد والخفــاء مــا تشــيب لــه الــرؤوس‪،‬‬ ‫َ‬ ‫ِّ‬ ‫ولعــل مــن أدق طرائــق الشــيطان وأخفاهــا‬ ‫يف إغــواء الخلــق وصدِّ هــم عــن ســبيل اهلل‬ ‫تعالــى طريقــة ظاهرهــا الخيــر والمصلحــة‬ ‫ولكــن مــا تفضــي إليــه الشــر والمفســدة‬ ‫المحضــة‪.‬‬

‫وقــد بحثــت عــن عبــارة تلخــص مفهومهــا‬ ‫فمــا وجــدت أروع وال أبلــغ وال أوجــز مــن‬ ‫قولهــم‪( :‬مِــن أوســع أوديــة الباطــل الغلـ ُّـو يف‬ ‫األفاضــل)‪.‬‬

‫والحقيقــة التــي يؤكدهــا علمــاء االجتمــاع‬ ‫أن َّ‬ ‫كل البشــر مــن الممكــن أن يمـ ُّـروا بتجربــة‬ ‫َّ‬ ‫الغلــو يف األفاضــل واإلفــراط يف تقديرهــم‬ ‫إذا توفــرت بعــض الشــروط والمالبســات‬ ‫االجتماعيــة التــي تجعلهــم مســتعدين لتقبــل‬ ‫فاضــا‬ ‫فكــرة التســليم المطلــق لمــن تــراه‬ ‫ً‬ ‫والتعايــش معهــا‪ ،‬يف امتــداد لمــا يســمى‬ ‫الفرعونيــة االجتماعيــة‪ ..‬فتراهــم يميلــون‬ ‫إلــى الغلــو يف تقديــر األشــخاص اســتنا ًدا‬ ‫لضعفهــم وعجزهــم الــذايت‪ ،‬وســيادة فكــر‬ ‫((( تلبيس إبليس (ص‪.)73 :‬‬

‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ــم‬ ‫إِ َّل ا ْل َح َّ‬ ‫ــق إِن َ​َّمــا ا ْل َمس ُ‬ ‫يســى ا ْبــ ُن َم ْر َي َ‬ ‫ــيح ع َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َر ُسـ ُ‬ ‫وح‬ ‫ـول اهَّلل َوكَل َم ُت ـ ُه َأ ْل َق َ‬ ‫ـم َو ُر ٌ‬ ‫اهــا إلــى َم ْر َيـ َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫مِنْــ ُه َفآمنُــوا بِــاهَّلل َو ُر ُســلِه َو َل َت ُقو ُلــوا َث َل َثــ ٌة‬ ‫ا ْنتَهــوا َخيــرا َل ُكــم إِنَّمــا اهَّلل إِ َلـه و ِ‬ ‫احدٌ ُسـ ْب َحا َن ُه‬ ‫ْ َ ُ ٌ َ‬ ‫ُ‬ ‫ًْ‬ ‫ــون َلــه و َلــدٌ َلــه مــا فِــي الســماواتِ‬ ‫َّ َ َ‬ ‫َأ ْن َي ُك َ ُ َ‬ ‫ُ َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َو َمــا فِــي ْالَ ْر ِ‬ ‫ض َو َك َفــى بِــاهَّلل َوك ً‬ ‫يــا * َلــ ْن‬ ‫ــون َعبــدً ا ل ِ َّل ِ‬ ‫ِ‬ ‫ــه َو َل‬ ‫َي ْســ َتنْكِ َ‬ ‫ــيح َأ ْن َي ُك َ ْ‬ ‫ف ا ْل َمس ُ‬ ‫ا ْل َم َلئِ َكــ ُة ا ْل ُم َق َّر ُب َ‬ ‫ف َعــ ْن‬ ‫ــون َو َمــ ْن َي ْســ َتنْكِ ْ‬ ‫ِع َبا َدتِـ ِـه َو َي ْسـ َت ْكبِ ْر َف َس َي ْح ُشـ ُـر ُه ْم إِ َل ْيـ ِـه َج ِمي ًعــا﴾‬ ‫[النســاء‪ :‬آيــة ‪ 171‬و‪]172‬‬

‫لكــ َّن الســؤال األهــم حــول كيفيــة الغلــو‬ ‫يف األفاضــل المفضــي للمفســدة‪ ،‬حيــث‬ ‫يعمــد البعــض إلــى تعظيــم مــن لــه فضــل‬ ‫مــن العلمــاء والدعــاة والصالحيــن وذلــك‬ ‫وفــق تسلســل منطقــي مــن حيــث المقدمــات‬ ‫والنتائــج والموضــوع والمحمــول‪ ،‬فاألمــر‬ ‫دائمــا يبــدأ باالحــرام والتقديــر واإلجــال‬ ‫ً‬ ‫واإلطــراء لشــخص العالــم أو الداعيــة أو يقــول اإلمــام ابــن كثيــر رحمــه اهلل يف تفســير‬ ‫العابــد الصالــح والمســتحق بســبب علمــه هــذه اآليــة الكريمــة‪( :‬ينهــى تعالــى أهــل‬ ‫وفضلــه وزهــده وعملــه يف خدمــة الديــن الكتــاب عــن الغلــو واإلطــراء‪ ،‬وهــذا كثيــر يف‬ ‫لهــذا التقديــر واإلجــال‪.‬‬ ‫النصــارى‪ ،‬فإهنــم تجــاوزوا الحــد يف عيســى‬ ‫ويتطــور هــذا التقديــر واالحــرام ليتحــول حتــى رفعــوه فــوق المنزلــة التــي أعطــاه اهلل‬ ‫إلــى المحبــة والتعلــق العاطفــي بشــخص إياهــا‪ ،‬فنقلــوه مــن حيــز النبــوة‪ ،‬إلــى أن‬ ‫الفاضــل‪ ،‬وال ينتهــي إال وقــد أصبــح الفاضل اتخــذوه إلهــا مــن دون اهلل يعبدونــه كمــا‬ ‫عنــد مح ِّبيــه ‪-‬لفــرط الغلــو يف تقديــره‪ -‬يعبدونــه‪ ،‬بــل قــد غلــوا يف أتباعــه وأشــياعه‬ ‫معصو ًمــا خل ًّيــا عــن العيــوب واألخطــاء مــرأ ممــن زعــم أنــه علــى دينــه‪ ،‬فادعــوا فيهــم‬ ‫مــن ِّ‬ ‫كل نقصــان‪ ،‬بــل قــد يتطــور األمــر إلــى العصمــة‪ ،‬واتبعوهــم يف كل مــا قالــوه ســواء‬ ‫أبعــد مــن ذلــك فيغــدو الفاضــل عنــد أتباعــه كان ح ًقــا أو باطــا‪ ،‬أو ضــاال أو رشــادا‪ ،‬أو‬ ‫وثنًــا يعبــد مــن دون اهلل تعالــى‪ ،‬واألدلــة صحيحــا أو كذبــا‪ ،‬ولهــذا قــال اهلل تعالــى‪:‬‬ ‫ومثلهــا الشــواهد وكالم العلمــاء رحمهــم اهلل ﴿اتخــذوا أحبارهــم ورهباهنــم أربابــا مــن‬ ‫تعالــى شــاهدة علــى هــذا األصــل؛ إذ يضيــق دون اهلل﴾ [ســورة التوبــة‪ :‬آيــة ‪.(((]31‬‬ ‫المقــام عــن اســتيعاهبا‪ ،‬ولك ـ َّن مــا ال يــدرك‬ ‫ويف صحيــح البخــاري مــن حديــث ابــن‬ ‫ك ُّلــه ال يــرك ج ُّلــه‪ .‬يقــول اهلل عــز وجــل يف‬ ‫َ َ ْ ِ ِ عبــاس رضــي اهلل عنهمــا ســمع عمــر رضــي‬ ‫وصــف أهــل الكتــاب‪َ ﴿ :‬يــا أ ْهــل الكتَــاب‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ ِ‬ ‫ع َلــى اهَّلل ((( تفسير ابن كثير (‪.)424 /2‬‬ ‫ــم َو َل َت ُقو ُلــوا َ‬ ‫َل َت ْغ ُلــوا فــي دين ُك ْ‬ ‫‪73‬‬


‫من أوسع أودية الباطب الغلو في األفاضل‬ ‫اهلل عنــه يقــول علــى المنــر‪ :‬ســمعت النبــي‬ ‫صلــى اهلل عليــه وســلم يقــول‪« :‬ال تطــروين‬ ‫كمــا أطــرت النصــارى ابــن مريــم‪ ،‬فإنمــا أنــا‬ ‫عبــده‪ ،‬فقولــوا عبــد اهلل‪ ،‬ورســوله»(((‪.‬‬ ‫واإلطــراء‪ :‬هــو اإلفــراط يف المديــح‬ ‫ومجــاوزة الحــد فيــه إلــى الغلــو والخــروج‬ ‫عــن المألــوف عر ًفــا يف مديــح مــن يســتحق‬ ‫المــدح والثنــاء(((‪.‬‬

‫ويف صحيــح البخــاري عــن عائشــة أن أم‬ ‫ســلمة ذكــرت لرســول اهلل صلــى اهلل عليــه‬ ‫وســلم كنيســة رأهتــا بــأرض الحبشــة يقــال‬ ‫لهــا ماريــة‪ ،‬فذكــرت لــه مــا رأت فيهــا مــن‬ ‫الصــور‪ ،‬فقــال رســول اهلل صلــى اهلل عليــه‬ ‫وســلم‪« :‬أولئــك قــوم إذا مــات فيهــم العبــد‬ ‫الصالــح أو الرجــل الصالــح بنــوا علــى قــره‬ ‫مســجدً ا وصـ َّـوروا فيــه تلــك الصــور أولئــك‬ ‫شــرار الخلــق عنــد اهلل»(((‪.‬‬

‫حــي‬ ‫ويف ترجمــة الحســن بــن صالــح بــن ٍّ‬ ‫كلمــات قاســية أطلقهــا بعــض األئمــة فيــه‬ ‫مــع مــا عــرف مــن فضلــه‪( ،‬قــال أبــو صالــح‬ ‫الفــراء‪ :‬ذكــرت ليوســف بــن أســباط عــن‬ ‫وكيــع شــي ًئا مــن أمــر الفتــن‪ ،‬فقــال‪( :‬ذاك‬ ‫يشــبه أســتاذه ‪-‬يعنــي الحســن بــن حــي‪-‬‬ ‫فقــال‪ :‬فقلــت ليوســف‪ :‬مــا تخــاف أن تكــون‬ ‫هــذه غيبــة! فقــال‪ :‬لــم يــا أحمــق أنــا خيــر‬ ‫لهــؤالء مــن آبائهــم وأمهاهتــم أنــا أهنــى الناس‬ ‫أن يعملــوا بمــا أحدثــوا فتتبعهــم أوزارهــم‪،‬‬ ‫ومــن أطراهــم كان أضــر عليهــم)(((‪.‬‬ ‫ويف الصحيحيــن وغيرهمــا عــن علــي َر ِضـ َـي‬ ‫اهَّلل َعنْـ ُه قــال‪« :‬مــا ســمعت َر ُسـ َ‬ ‫ـول اهَّللِ َص َّلــى‬ ‫ُ‬ ‫اهَّلل َع َلي ِ‬ ‫ــه َو َســ َّل َم جمــع أبويــه إال لســعد بــن‬ ‫ُ ْ‬ ‫مالــك (هــو ســعد بــن أبــي وقــاص) فــإين‬ ‫ســمعته يقــول يــوم أحــد‪« :‬يــا ســعد ارم فــداك‬ ‫((( صحيح البخاري‪ ،‬كتاب أحاديث األنبياء‪ ،‬باب قول اهلل‪{ :‬واذكر‬ ‫يف الكتاب مريم إذ انتبذت من أهلها} [مريم‪ ]61 :‬رقم (‪.)5443‬‬ ‫((( قال اإلمام بدر الدين العيني‪( :‬ال ُتطروين) بضم التاء من اإلطراء‪،‬‬ ‫وهو‪ :‬المديح بالباطل‪ ،‬تقول‪ :‬أطريت فالنا مدحته فأفرطت يف مدحه‪،‬‬ ‫وقيل‪ :‬اإلطراء مجاوزة الحد يف المدح والكذب فيه‪ ،‬قوله "كما أطرت‬ ‫النصارى" أي يف دعواهم يف عيسى باإللهية وغير ذلك)‪ ،‬عمدة القاري‬ ‫شرح صحيح البخاري‪ ،‬طبعة دار إحياء الرتاث العربي (‪.)73/61‬‬ ‫((( صحيح البخاري‪ ،‬كتاب الصالة‪ ،‬باب الصالة يف البيعة رقم‬ ‫(‪.)434‬‬ ‫((( هتذيب التهذيب (‪.)682 /2‬‬

‫‪74‬‬

‫أبــي وأمــي»((( وكان ســعد قــد قعــد عــن مقيــاس الحــق والباطــل‪ ،‬ولتكــون المــآالت‬ ‫قتــال البغــاة‪ ،‬فــكان علــي إذا كان يف جماعــة وبـ ً‬ ‫ـال علــى األمــة يف حاضرهــا ومســتقبلها‪.‬‬ ‫يخشــى أن يتبعــوا ســعدً ا بالقعــود ربمــا وبالعــودة إلــى األمثلــة التاريخيــة الشــاهدة‬ ‫أطلــق غيــر كاذب كلمــات ُتوهــم الغــض علــى خطــر الغلــو يف األفاضــل نجــد يف‬ ‫ً‬ ‫واضحــا علــى أثــر‬ ‫مثــال‬ ‫مــن ســعد‪ ،‬وإذا كان مــع مــن ال يخشــى منــه الشــيعة اإلماميــة‬ ‫ً‬ ‫القعــود فذكــر ســعدً ا ذكــر فضلــه‪.‬‬ ‫هــذه الظاهــرة الخطيــرة المفضيــة إلــى‬ ‫االنحــراف التــام عــن الحــق والصــواب‪.‬‬

‫لقــد كانــت بدايــة الشــيعة اإلماميــة الغلــو يف‬ ‫إ َّن تطور األمم وعلو‬ ‫ ‬ ‫أميــر المؤمنيــن علــي بــن أبــي طالــب رضــي‬ ‫اهلل عنــه بســذاجة العــوام أو خبــث الخــواص‬ ‫شأنها يقاس بتقديرها‬ ‫منهــم‪ ،‬بتفضيلــه علــى باقــي الخلفــاء‬ ‫لعلامئها ومنحهم املقام‬ ‫الراشــدين‪ ،‬ثــم تكفيــر مــن ســواه مــن‬ ‫صحابــة رســول اهلل صلــى اهلل عليــه وســلم‪،‬‬ ‫الذي يستحقونه لرشف‬ ‫واخــراع النصــوص التــي تســوغ منهجهــم‬ ‫محمولهم‪ ،‬وحجم الخدمات الضــال‪ ،‬األمــر الــذي أوصلهــم إلــى مــا نــراه‬ ‫اليــوم مــن المغــاالة وتجــاوز الحــد يف علــي‬ ‫التي يقدمونها لألمة‬ ‫رضــي اهلل عنــه و َمــ ْن تتابــع مــن ذريتــه وآل‬ ‫واألمثلــة مــن واقــع األمــة اإلســامية علــى بيتــه‪ ،‬بــل وإضفــاء بعــض الصفــات اإللهيــة‬ ‫تــر ِّدي أصنــاف مــن أبنــاء األمــة وجماعاهتــا علــى األئمــة الذيــن ا َّد َعوهــم‪.‬‬ ‫يف هــذا الــوادي كثيــرة جــدً ا‪ ،‬وحســبنا أن وقــد بلــغ هبــم األمــر إلــى معــادة ســائر أهــل‬ ‫نعلــم أن أغلــب الطوائــف المنحرفــة عــن اإلســام مِ َّمــن يرونــه مخال ًفــا لهــذا االعتقــاد‬ ‫منهــج األمــة وعقيدهتــا؛ بــدأت االنحــراف أو كان يش ـ ّكل حائـ ًـا أمــام الخرافــات التــي‬ ‫مــن خــال المبالغــة والغلــو يف أفاضــل ا َّد َعوهــا لعلــي رضــي اهلل تعالــى عنــه وآل‬ ‫انطلقــوا يف مبــادرات ومشــاريع يقصــدون هبا بيتــه‪ ،‬وهــو مــا تجلــى يف تكفيرهــم لكبــار‬ ‫وجــه اهلل‪َ ،‬‬ ‫ـف مــن بعدهــم َخ ْلـ ٌ‬ ‫فخ َلـ َ‬ ‫ـف غا َلــوا الصحابــة ومــن جــاء بعدهــم مــن أهــل‬ ‫يف تقديــس صاحــب المشــروع وبالغــوا يف الســنة والجماعــة‪ ،‬بــل واســتحالل دمائهــم‬ ‫تقديــره‪ ،‬وانصرفــوا يف تقديرهــم عــن أهــداف وأموالهــم‪ ..‬كل ذلــك يف تجســيد كامــل‬ ‫المشــروع ورؤيتــه ورســالته إلــى التمحــور للتمــادي يف الغلــو يف األفاضــل المفضــي‬ ‫ً‬ ‫كبيــرا يف‬ ‫شــرخا‬ ‫حــول صاحــب المشــروع وإطرائــه والثنــاء لمفاســد كبيــرة شــكلت‬ ‫ً‬ ‫عليــه وتدبيــج الخطابــات والمقــاالت جســد األمــة اإلســامية‪.‬‬ ‫والكتــب يف الثنــاء عليــه‪ ،‬وأنكــروا أن تكــون روى اإلمــام الخطابــي يف كتــاب العزلــة‬ ‫لهــذا الفاضــل أي أخطــاء أو ثغــرات‪ ،‬وبالغوا عــن ابــن عائشــة رحمــه اهلل قــال‪( :‬مــا أمــر‬ ‫يف الدفــاع غيــر المحــق عنــه حتــى باتــوا ســدًّ ا اهلل تعالــى عبــاده بأمــر إال وللشــيطان فيــه‬ ‫مني ًعــا أمــام النقــد البنَّــاء المفضــي لتصحيــح نزعتــان‪ :‬فإمــا إلــى غلــو‪ ،‬وإمــا إلــى تقصيــر‬ ‫المســار وتقويــم العيــوب‪ ،‬لتكــون العاقبــة فبأيهمــا ظفــر قنــع)(((‪ ،‬وقالــوا فيمــا مضــى‪:‬‬ ‫انحرا ًفــا‬ ‫ً‬ ‫واضحــا عــن المنهــج الــذي خ َّطــه (كال طــريف القصــد مذمــوم)‪.‬‬ ‫وأراده ذاك الفاضــل‪ ،‬بــل وصر ًفــا لبوصلــة‬ ‫كمــا َّ‬ ‫أن الغلــو يف األفاضــل المفضــي‬ ‫المشــروع عــن خدمــة األمــة؛ إلــى خدمــة‬ ‫ــة‪ ،‬جعلــت الــوالء للفاضــل لتنزيههــم عــن الخطــأ والقصــور ينطــوي‬ ‫قضيــة َطرفِي ٍ‬ ‫َ َّ‬ ‫علــى مفاســد ‪-‬قــد بســطنا القــول فيهــا آن ًفــا‪-‬‬ ‫((( صحيح البخاري كتاب الجهاد والسير باب المجن ومن يرتس‬ ‫برتس صاحبه‪ ،‬رقم (‪.)5092‬‬

‫((( العزلة للخطابي (ص‪)79 :‬‬

‫من أوسع أودية الباطب الغلو في األفاضل‬ ‫فــإن التقصيــر يف حقهــم واالنتقــاص مــن‬ ‫قدرهــم‪ ،‬والتطــاول علــى مقامهــم‪ ،‬والتجــرؤ‬ ‫علــى أعراضهــم‪ ،‬والتســلط عليهــم بالــذم‬ ‫واإلنــكار‪ ،‬بســبب الخــاف معهــم يف قضايــا‬ ‫تحتمــل الخــاف؛ كذلــك ينطــوي علــى‬ ‫مفاســد كثيــرة‪.‬‬

‫إن مــن نتائــج التجــرؤ علــى أهــل العلــم‬ ‫والصــاح يف زماننــا فقــدان النــاس الثقــ َة‬ ‫بــكالم أهــل العلــم والفضــل‪ ،‬فــا َيق َبلــون‬ ‫نصحــا وال‬ ‫كالمــا وال فتــوى‪ ،‬وال‬ ‫منهــم‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫إرشــا ًدا‪ ،‬األمــر الــذي يفضــي ال محالــة إلــى‬ ‫حــدوث شــاغرٍ يف َد ِ‬ ‫ور الريــادة والقيــادة يف‬ ‫األمــة‪ ،‬هــذا الــدور الــذي تصــدَّ ره العلمــاء‬ ‫وأهــل الفضــل لعقــود طويلــة يف ظــل ســيادة‬ ‫األمــة اإلســامية والتمكيــن لهــا‪ ،‬وقــد كان‬ ‫البديــل المأســاوي للمجتمعــات اإلســامية‬ ‫جه ً‬ ‫ــال َيضلــون‬ ‫أن يتخــذ النــاس‬ ‫رؤوســا َّ‬ ‫ً‬ ‫و ُيضلــون‪ ،‬ففــي صحيــح البخــاري مــن‬ ‫حديــث عبــد اهلل بــن عمــرو بــن العــاص قــال‪:‬‬ ‫ســمعت رســول اهلل صلــى اهلل عليــه وســلم‬ ‫يقــول‪« :‬إن اهلل ال يقبــض العلــم انتزاعــا‬ ‫ينتزعــه مــن العبــاد‪ ،‬ولكــن يقبــض العلــم‬ ‫بقبــض العلمــاء‪ ،‬حتــى إذا لــم يبــق عالمــا؛‬ ‫اتخــذ النــاس رؤوســا جهـ ً‬ ‫فســئلوا فأف َتــوا‬ ‫ـال‪ُ ،‬‬ ‫(((‬ ‫فض ّلــوا و َأ َضلــوا» ‪.‬‬ ‫بغيــر علــم‪َ ،‬‬ ‫وحيــن يتجــرأ ســفهاء النــاس علــى الطعــن‬ ‫يف العلمــاء وأهــل الفضــل؛ يتحقــق أحــد‬ ‫أهــم أهــداف أعــداء اإلســام يف إســقاط قــادة‬ ‫األمــة وفصلهــم عــن قيــادة األمــة المســلمة‬ ‫والحفــاظ عليهــا‪ ،‬ألن العلمــاء واألفاضــل‬ ‫والدعــاة هــم خــط الدفــاع المتيــن أمــام‬ ‫تمريــر أفكارهــم الهدَّ امــة لعقيــدة األمــة أو‬ ‫لقيمهــا وأخالقهــا‪.‬‬ ‫وال نبعــد إن قلنــا‪َّ :‬‬ ‫إن تطــور األمــم وعلــو‬ ‫شــأهنا يقــاس بتقديرهــا لعلمائهــا ومنحهــم‬ ‫المقــام الــذي يســتحقونه لشــرف محمولهم‪،‬‬ ‫وحجــم الخدمــات التــي يقدموهنــا لألمــة‪،‬‬ ‫بــل َّ‬ ‫إن رقــي األمــم وتقدَّ مهــا وازدهارهــا‬

‫((( رواه البخاري يف كتاب العلم‪ ،‬باب كيف يقبض العلم رقم (‪)001‬‬ ‫بتحقيق البغا‪ ،‬ومسلم يف باب رفع العلم وقبضه وظهور الجهل‪ ،‬رقم‬ ‫(‪ )3762/31‬بتحقيق عبد الباقي‪.‬‬

‫يتحصــل بمــا ينتجــه هــؤالء العلمــاء‪ ،‬وال‬ ‫ســيما علمــاء الديــن والدعــاة والمصلحــون‪،‬‬ ‫فهــم الحملــة للــواء الديــن والعلــم الشــرعي‬ ‫أحــد أهــم مقومــات الحفــاظ علــى األمــة يف‬ ‫جوهــر بقائهــا‪ ،‬أال وهو الدِّ يــن واإليمان‪ ،‬ويف‬ ‫صحيــح البخــاري‪َّ :‬‬ ‫«وأن العلمــاء هــم ورثــة‬ ‫األنبيــاء‪ ،‬ورثــوا العلــم‪ ،‬مــن أخــذه أخــذ بحظ‬ ‫وافــر»(‪ ،((1‬ويقــول اإلمــام ابــن القيــم الجوزيــة‬ ‫يف كتابــه إعــام الموقعيــن‪( :‬فصــل‪ ...‬فقهــاء‬ ‫اإلســام‪ ،‬ومــن دارت الفتيــا علــى أقوالهــم‬ ‫بيــن األنــام‪ ،‬الذيــن ُخ ُّصــوا باســتنباط‬ ‫األحــكام‪ ،‬وعنــوا بضبــط قواعــد الحــال‬ ‫والحــرام؛ فهــم يف األرض بمنزلــة النجــوم يف‬ ‫الســماء‪ ،‬هبــم يهتــدي الحيــران يف الظلمــاء‪،‬‬ ‫وحاجــة النــاس إليهــم أعظــم مــن حاجتهــم‬ ‫إلــى الطعــام والشــراب‪ ،‬وطاعتهــم أفــرض‬ ‫عليهــم مــن طاعــة األمهــات واآلبــاء بنــص‬ ‫الكتــاب‪ ،‬قــال اهلل تعالــى‪﴿ :‬يــا أيهــا الذيــن‬ ‫آمنــوا أطيعــوا اهلل وأطيعــوا الرســول وأولــي‬ ‫األمــر منكــم فــإن تنازعتــم يف شــيء فــردوه‬ ‫إلــى اهلل والرســول إن كنتــم تؤمنــون بــاهلل‬ ‫واليــوم اآلخــر ذلــك خيــر وأحســن تأويــا﴾‬ ‫[النســاء‪ ]59 :‬قــال عبــد اهلل بــن عبــاس رضي‬ ‫اهلل عنهمــا يف إحــدى الروايتيــن عنــه وجابــر‬ ‫بــن عبــد اهلل والحســن البصــري وأبــو العاليــة‬ ‫وعطــاء بــن أبــي ربــاح والضحــاك ومجاهــد‬ ‫يف إحــدى الروايتيــن عنــه‪ :‬أولــو األمــر هــم‬ ‫العلمــاء‪ ،‬وهــو إحــدى الروايتيــن عــن اإلمــام‬ ‫أحمــد)(‪.((1‬‬

‫وأئمتهــا‪ ،‬بــل إن بعــض هــذه الجماعــات‬ ‫يــرون يف أفكارهــم الحــق المطلــق األمــر‬ ‫الــذي يجعلهــم يــزدرون كل مــن يخالفهــم‬ ‫مــن أهــل العلــم والفضــل مهمــا بلــغ مــن‬ ‫الصــاح والخدمــة لهــذه األمــة‪.‬‬ ‫ولســائل أن يســأل مــا هــو الحــدُّ بيــن طــريف‬ ‫القصــد وهمــا الغلــو يف األفاضــل ومقابلــه‬ ‫أال وهــو التنقــص منهــم والجــرح فيهــم؟‬

‫إن الحــد الفاصــل بيــن الغلــو والتنقــص‬ ‫يكمــن يف التــزام ضوابــط الشــرع يف ذلــك‬ ‫والحــذر مــن الوقــوع يف حبائــل الشــيطان‬ ‫الــذي يلبــس علــى النــاس دينهــم يف محاولــة‬ ‫منــه للخلــط بيــن عــدة قضايــا يجــب الفصــل‬ ‫بينهــا يف التعامــل مــع أهــل العلــم والفضــل‬ ‫والدعــوة‪ ،‬فالتقديــر والمحبــة واإلجــال‬ ‫صمــام‬ ‫لألفاضــل مســألة البــد منهــا‪ ،‬وهــي َّ‬ ‫أمــان يحفــظ األمــة ويحصنهــا مــن الضيــاع‪،‬‬ ‫لك ـ َّن التقديــر لهــم ومعرفــة حقهــم ال يعنــي‬ ‫ُّ‬ ‫قــط نســب َة العصمــة لهــم وإنزالهــم منزلــة‬ ‫األنبيــاء يف ذلــك‪ ،‬وعــدم التجــرؤ علــى‬ ‫نقدهــم وفــق اآلداب واألصــول إن وقــع‬ ‫منهــم بعــدٌ عــن الصــواب‪ ،‬وهــو أمــر ال‬ ‫ينفــك عنــه بنــو آدم‪.‬‬

‫وإن نقــد خطــأ العالــم شــرطه ّأل يقــود‬ ‫صاحبــه إلــى جــرح العلمــاء والنيــل منهــم‪،‬‬ ‫يف انحــراف واضــح عــن جوهــر النقــد البنَّــاء‬ ‫الــذي يجــب أن يركــز علــى القــول والمســألة‬ ‫المنتقــدة ال علــى القائــل‪ ،‬وشــرط أال يكــون‬ ‫هــذا النقــد لخطــأِ العالــم م ِ‬ ‫فض ًيــا إلــى تناســي‬ ‫ُ‬ ‫ومــن األمثلــة الشــاهدة علــى خطــورة‬ ‫ـط مــن مــا لــه مــن علــم وفضــل ودعــوة ومكانــة‬ ‫االنتقــاص مــن شــأن األفاضــل والحـ ِّ‬ ‫أقدارهــم مــا نــراه اليــوم مــن نتائــج كارثيــة ومواطــن إصابــة للحــق يحفــل بهــا تاريخــه‪.‬‬ ‫لســلوكيات بعــض الجماعــات اإلســامية إن إتقــان التعديــل ومثلــه الجــرح العلمــي‬ ‫التــي دأبــت علــى االنتقــاص مــن علمــاء وفــق أصولهمــا وقواعدهمــا العلميــة الدقيقة‬ ‫األمــة والحــط مــن أقدارهــم والمعارضــة ‪-‬التــي خ َّطهــا علماؤنــا ومراجعنــا ســلوكًا‬ ‫الدائمــة العتبارهــم مرجعيــات مناســبة‬ ‫ونظــرا‪ -‬لهــو شــرط التــوازن األســاس يف‬ ‫ً‬ ‫تم ِّكــن األمــة مــن الحــد األدنــى مــن الوحــدة التعاطــي مــع العلمــاء واألفاضــل وأهــل‬ ‫واالتفــاق علــى مرجعياهتــا ومشــايخها الدعــوة‪ ،‬يف حالــة صحيــة َخلِي ٍ‬ ‫ــة عــن الغلــو‬ ‫ّ‬ ‫ِّ َّ‬ ‫والتقصيــر‪.‬‬ ‫(‪ ((1‬رواه أبو داود‪ ،‬باب الحث على طلب العلم‪ ،‬رقم (‪)1463‬‬ ‫برتقيم األرناؤوط‪ ،‬والرتمذي باب ما جاء يف فضل الفقه على العبادة‪،‬‬ ‫رقم (‪ )8982‬برتقيم المكنز‪.‬‬ ‫(‪ ((1‬إعالم الموقعين عن رب العالمين (‪)8 /1‬‬

‫‪75‬‬


‫من أوسع أودية الباطب الغلو في األفاضل‬ ‫اهلل عنــه يقــول علــى المنــر‪ :‬ســمعت النبــي‬ ‫صلــى اهلل عليــه وســلم يقــول‪« :‬ال تطــروين‬ ‫كمــا أطــرت النصــارى ابــن مريــم‪ ،‬فإنمــا أنــا‬ ‫عبــده‪ ،‬فقولــوا عبــد اهلل‪ ،‬ورســوله»(((‪.‬‬ ‫واإلطــراء‪ :‬هــو اإلفــراط يف المديــح‬ ‫ومجــاوزة الحــد فيــه إلــى الغلــو والخــروج‬ ‫عــن المألــوف عر ًفــا يف مديــح مــن يســتحق‬ ‫المــدح والثنــاء(((‪.‬‬

‫ويف صحيــح البخــاري عــن عائشــة أن أم‬ ‫ســلمة ذكــرت لرســول اهلل صلــى اهلل عليــه‬ ‫وســلم كنيســة رأهتــا بــأرض الحبشــة يقــال‬ ‫لهــا ماريــة‪ ،‬فذكــرت لــه مــا رأت فيهــا مــن‬ ‫الصــور‪ ،‬فقــال رســول اهلل صلــى اهلل عليــه‬ ‫وســلم‪« :‬أولئــك قــوم إذا مــات فيهــم العبــد‬ ‫الصالــح أو الرجــل الصالــح بنــوا علــى قــره‬ ‫مســجدً ا وصـ َّـوروا فيــه تلــك الصــور أولئــك‬ ‫شــرار الخلــق عنــد اهلل»(((‪.‬‬

‫حــي‬ ‫ويف ترجمــة الحســن بــن صالــح بــن ٍّ‬ ‫كلمــات قاســية أطلقهــا بعــض األئمــة فيــه‬ ‫مــع مــا عــرف مــن فضلــه‪( ،‬قــال أبــو صالــح‬ ‫الفــراء‪ :‬ذكــرت ليوســف بــن أســباط عــن‬ ‫وكيــع شــي ًئا مــن أمــر الفتــن‪ ،‬فقــال‪( :‬ذاك‬ ‫يشــبه أســتاذه ‪-‬يعنــي الحســن بــن حــي‪-‬‬ ‫فقــال‪ :‬فقلــت ليوســف‪ :‬مــا تخــاف أن تكــون‬ ‫هــذه غيبــة! فقــال‪ :‬لــم يــا أحمــق أنــا خيــر‬ ‫لهــؤالء مــن آبائهــم وأمهاهتــم أنــا أهنــى الناس‬ ‫أن يعملــوا بمــا أحدثــوا فتتبعهــم أوزارهــم‪،‬‬ ‫ومــن أطراهــم كان أضــر عليهــم)(((‪.‬‬ ‫ويف الصحيحيــن وغيرهمــا عــن علــي َر ِضـ َـي‬ ‫اهَّلل َعنْـ ُه قــال‪« :‬مــا ســمعت َر ُسـ َ‬ ‫ـول اهَّللِ َص َّلــى‬ ‫ُ‬ ‫اهَّلل َع َلي ِ‬ ‫ــه َو َســ َّل َم جمــع أبويــه إال لســعد بــن‬ ‫ُ ْ‬ ‫مالــك (هــو ســعد بــن أبــي وقــاص) فــإين‬ ‫ســمعته يقــول يــوم أحــد‪« :‬يــا ســعد ارم فــداك‬ ‫((( صحيح البخاري‪ ،‬كتاب أحاديث األنبياء‪ ،‬باب قول اهلل‪{ :‬واذكر‬ ‫يف الكتاب مريم إذ انتبذت من أهلها} [مريم‪ ]61 :‬رقم (‪.)5443‬‬ ‫((( قال اإلمام بدر الدين العيني‪( :‬ال ُتطروين) بضم التاء من اإلطراء‪،‬‬ ‫وهو‪ :‬المديح بالباطل‪ ،‬تقول‪ :‬أطريت فالنا مدحته فأفرطت يف مدحه‪،‬‬ ‫وقيل‪ :‬اإلطراء مجاوزة الحد يف المدح والكذب فيه‪ ،‬قوله "كما أطرت‬ ‫النصارى" أي يف دعواهم يف عيسى باإللهية وغير ذلك)‪ ،‬عمدة القاري‬ ‫شرح صحيح البخاري‪ ،‬طبعة دار إحياء الرتاث العربي (‪.)73/61‬‬ ‫((( صحيح البخاري‪ ،‬كتاب الصالة‪ ،‬باب الصالة يف البيعة رقم‬ ‫(‪.)434‬‬ ‫((( هتذيب التهذيب (‪.)682 /2‬‬

‫‪74‬‬

‫أبــي وأمــي»((( وكان ســعد قــد قعــد عــن مقيــاس الحــق والباطــل‪ ،‬ولتكــون المــآالت‬ ‫قتــال البغــاة‪ ،‬فــكان علــي إذا كان يف جماعــة وبـ ً‬ ‫ـال علــى األمــة يف حاضرهــا ومســتقبلها‪.‬‬ ‫يخشــى أن يتبعــوا ســعدً ا بالقعــود ربمــا وبالعــودة إلــى األمثلــة التاريخيــة الشــاهدة‬ ‫أطلــق غيــر كاذب كلمــات ُتوهــم الغــض علــى خطــر الغلــو يف األفاضــل نجــد يف‬ ‫ً‬ ‫واضحــا علــى أثــر‬ ‫مثــال‬ ‫مــن ســعد‪ ،‬وإذا كان مــع مــن ال يخشــى منــه الشــيعة اإلماميــة‬ ‫ً‬ ‫القعــود فذكــر ســعدً ا ذكــر فضلــه‪.‬‬ ‫هــذه الظاهــرة الخطيــرة المفضيــة إلــى‬ ‫االنحــراف التــام عــن الحــق والصــواب‪.‬‬

‫لقــد كانــت بدايــة الشــيعة اإلماميــة الغلــو يف‬ ‫إ َّن تطور األمم وعلو‬ ‫ ‬ ‫أميــر المؤمنيــن علــي بــن أبــي طالــب رضــي‬ ‫اهلل عنــه بســذاجة العــوام أو خبــث الخــواص‬ ‫شأنها يقاس بتقديرها‬ ‫منهــم‪ ،‬بتفضيلــه علــى باقــي الخلفــاء‬ ‫لعلامئها ومنحهم املقام‬ ‫الراشــدين‪ ،‬ثــم تكفيــر مــن ســواه مــن‬ ‫صحابــة رســول اهلل صلــى اهلل عليــه وســلم‪،‬‬ ‫الذي يستحقونه لرشف‬ ‫واخــراع النصــوص التــي تســوغ منهجهــم‬ ‫محمولهم‪ ،‬وحجم الخدمات الضــال‪ ،‬األمــر الــذي أوصلهــم إلــى مــا نــراه‬ ‫اليــوم مــن المغــاالة وتجــاوز الحــد يف علــي‬ ‫التي يقدمونها لألمة‬ ‫رضــي اهلل عنــه و َمــ ْن تتابــع مــن ذريتــه وآل‬ ‫واألمثلــة مــن واقــع األمــة اإلســامية علــى بيتــه‪ ،‬بــل وإضفــاء بعــض الصفــات اإللهيــة‬ ‫تــر ِّدي أصنــاف مــن أبنــاء األمــة وجماعاهتــا علــى األئمــة الذيــن ا َّد َعوهــم‪.‬‬ ‫يف هــذا الــوادي كثيــرة جــدً ا‪ ،‬وحســبنا أن وقــد بلــغ هبــم األمــر إلــى معــادة ســائر أهــل‬ ‫نعلــم أن أغلــب الطوائــف المنحرفــة عــن اإلســام مِ َّمــن يرونــه مخال ًفــا لهــذا االعتقــاد‬ ‫منهــج األمــة وعقيدهتــا؛ بــدأت االنحــراف أو كان يش ـ ّكل حائـ ًـا أمــام الخرافــات التــي‬ ‫مــن خــال المبالغــة والغلــو يف أفاضــل ا َّد َعوهــا لعلــي رضــي اهلل تعالــى عنــه وآل‬ ‫انطلقــوا يف مبــادرات ومشــاريع يقصــدون هبا بيتــه‪ ،‬وهــو مــا تجلــى يف تكفيرهــم لكبــار‬ ‫وجــه اهلل‪َ ،‬‬ ‫ـف مــن بعدهــم َخ ْلـ ٌ‬ ‫فخ َلـ َ‬ ‫ـف غا َلــوا الصحابــة ومــن جــاء بعدهــم مــن أهــل‬ ‫يف تقديــس صاحــب المشــروع وبالغــوا يف الســنة والجماعــة‪ ،‬بــل واســتحالل دمائهــم‬ ‫تقديــره‪ ،‬وانصرفــوا يف تقديرهــم عــن أهــداف وأموالهــم‪ ..‬كل ذلــك يف تجســيد كامــل‬ ‫المشــروع ورؤيتــه ورســالته إلــى التمحــور للتمــادي يف الغلــو يف األفاضــل المفضــي‬ ‫ً‬ ‫كبيــرا يف‬ ‫شــرخا‬ ‫حــول صاحــب المشــروع وإطرائــه والثنــاء لمفاســد كبيــرة شــكلت‬ ‫ً‬ ‫عليــه وتدبيــج الخطابــات والمقــاالت جســد األمــة اإلســامية‪.‬‬ ‫والكتــب يف الثنــاء عليــه‪ ،‬وأنكــروا أن تكــون روى اإلمــام الخطابــي يف كتــاب العزلــة‬ ‫لهــذا الفاضــل أي أخطــاء أو ثغــرات‪ ،‬وبالغوا عــن ابــن عائشــة رحمــه اهلل قــال‪( :‬مــا أمــر‬ ‫يف الدفــاع غيــر المحــق عنــه حتــى باتــوا ســدًّ ا اهلل تعالــى عبــاده بأمــر إال وللشــيطان فيــه‬ ‫مني ًعــا أمــام النقــد البنَّــاء المفضــي لتصحيــح نزعتــان‪ :‬فإمــا إلــى غلــو‪ ،‬وإمــا إلــى تقصيــر‬ ‫المســار وتقويــم العيــوب‪ ،‬لتكــون العاقبــة فبأيهمــا ظفــر قنــع)(((‪ ،‬وقالــوا فيمــا مضــى‪:‬‬ ‫انحرا ًفــا‬ ‫ً‬ ‫واضحــا عــن المنهــج الــذي خ َّطــه (كال طــريف القصــد مذمــوم)‪.‬‬ ‫وأراده ذاك الفاضــل‪ ،‬بــل وصر ًفــا لبوصلــة‬ ‫كمــا َّ‬ ‫أن الغلــو يف األفاضــل المفضــي‬ ‫المشــروع عــن خدمــة األمــة؛ إلــى خدمــة‬ ‫ــة‪ ،‬جعلــت الــوالء للفاضــل لتنزيههــم عــن الخطــأ والقصــور ينطــوي‬ ‫قضيــة َطرفِي ٍ‬ ‫َ َّ‬ ‫علــى مفاســد ‪-‬قــد بســطنا القــول فيهــا آن ًفــا‪-‬‬ ‫((( صحيح البخاري كتاب الجهاد والسير باب المجن ومن يرتس‬ ‫برتس صاحبه‪ ،‬رقم (‪.)5092‬‬

‫((( العزلة للخطابي (ص‪)79 :‬‬

‫من أوسع أودية الباطب الغلو في األفاضل‬ ‫فــإن التقصيــر يف حقهــم واالنتقــاص مــن‬ ‫قدرهــم‪ ،‬والتطــاول علــى مقامهــم‪ ،‬والتجــرؤ‬ ‫علــى أعراضهــم‪ ،‬والتســلط عليهــم بالــذم‬ ‫واإلنــكار‪ ،‬بســبب الخــاف معهــم يف قضايــا‬ ‫تحتمــل الخــاف؛ كذلــك ينطــوي علــى‬ ‫مفاســد كثيــرة‪.‬‬

‫إن مــن نتائــج التجــرؤ علــى أهــل العلــم‬ ‫والصــاح يف زماننــا فقــدان النــاس الثقــ َة‬ ‫بــكالم أهــل العلــم والفضــل‪ ،‬فــا َيق َبلــون‬ ‫نصحــا وال‬ ‫كالمــا وال فتــوى‪ ،‬وال‬ ‫منهــم‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫إرشــا ًدا‪ ،‬األمــر الــذي يفضــي ال محالــة إلــى‬ ‫حــدوث شــاغرٍ يف َد ِ‬ ‫ور الريــادة والقيــادة يف‬ ‫األمــة‪ ،‬هــذا الــدور الــذي تصــدَّ ره العلمــاء‬ ‫وأهــل الفضــل لعقــود طويلــة يف ظــل ســيادة‬ ‫األمــة اإلســامية والتمكيــن لهــا‪ ،‬وقــد كان‬ ‫البديــل المأســاوي للمجتمعــات اإلســامية‬ ‫جه ً‬ ‫ــال َيضلــون‬ ‫أن يتخــذ النــاس‬ ‫رؤوســا َّ‬ ‫ً‬ ‫و ُيضلــون‪ ،‬ففــي صحيــح البخــاري مــن‬ ‫حديــث عبــد اهلل بــن عمــرو بــن العــاص قــال‪:‬‬ ‫ســمعت رســول اهلل صلــى اهلل عليــه وســلم‬ ‫يقــول‪« :‬إن اهلل ال يقبــض العلــم انتزاعــا‬ ‫ينتزعــه مــن العبــاد‪ ،‬ولكــن يقبــض العلــم‬ ‫بقبــض العلمــاء‪ ،‬حتــى إذا لــم يبــق عالمــا؛‬ ‫اتخــذ النــاس رؤوســا جهـ ً‬ ‫فســئلوا فأف َتــوا‬ ‫ـال‪ُ ،‬‬ ‫(((‬ ‫فض ّلــوا و َأ َضلــوا» ‪.‬‬ ‫بغيــر علــم‪َ ،‬‬ ‫وحيــن يتجــرأ ســفهاء النــاس علــى الطعــن‬ ‫يف العلمــاء وأهــل الفضــل؛ يتحقــق أحــد‬ ‫أهــم أهــداف أعــداء اإلســام يف إســقاط قــادة‬ ‫األمــة وفصلهــم عــن قيــادة األمــة المســلمة‬ ‫والحفــاظ عليهــا‪ ،‬ألن العلمــاء واألفاضــل‬ ‫والدعــاة هــم خــط الدفــاع المتيــن أمــام‬ ‫تمريــر أفكارهــم الهدَّ امــة لعقيــدة األمــة أو‬ ‫لقيمهــا وأخالقهــا‪.‬‬ ‫وال نبعــد إن قلنــا‪َّ :‬‬ ‫إن تطــور األمــم وعلــو‬ ‫شــأهنا يقــاس بتقديرهــا لعلمائهــا ومنحهــم‬ ‫المقــام الــذي يســتحقونه لشــرف محمولهم‪،‬‬ ‫وحجــم الخدمــات التــي يقدموهنــا لألمــة‪،‬‬ ‫بــل َّ‬ ‫إن رقــي األمــم وتقدَّ مهــا وازدهارهــا‬

‫((( رواه البخاري يف كتاب العلم‪ ،‬باب كيف يقبض العلم رقم (‪)001‬‬ ‫بتحقيق البغا‪ ،‬ومسلم يف باب رفع العلم وقبضه وظهور الجهل‪ ،‬رقم‬ ‫(‪ )3762/31‬بتحقيق عبد الباقي‪.‬‬

‫يتحصــل بمــا ينتجــه هــؤالء العلمــاء‪ ،‬وال‬ ‫ســيما علمــاء الديــن والدعــاة والمصلحــون‪،‬‬ ‫فهــم الحملــة للــواء الديــن والعلــم الشــرعي‬ ‫أحــد أهــم مقومــات الحفــاظ علــى األمــة يف‬ ‫جوهــر بقائهــا‪ ،‬أال وهو الدِّ يــن واإليمان‪ ،‬ويف‬ ‫صحيــح البخــاري‪َّ :‬‬ ‫«وأن العلمــاء هــم ورثــة‬ ‫األنبيــاء‪ ،‬ورثــوا العلــم‪ ،‬مــن أخــذه أخــذ بحظ‬ ‫وافــر»(‪ ،((1‬ويقــول اإلمــام ابــن القيــم الجوزيــة‬ ‫يف كتابــه إعــام الموقعيــن‪( :‬فصــل‪ ...‬فقهــاء‬ ‫اإلســام‪ ،‬ومــن دارت الفتيــا علــى أقوالهــم‬ ‫بيــن األنــام‪ ،‬الذيــن ُخ ُّصــوا باســتنباط‬ ‫األحــكام‪ ،‬وعنــوا بضبــط قواعــد الحــال‬ ‫والحــرام؛ فهــم يف األرض بمنزلــة النجــوم يف‬ ‫الســماء‪ ،‬هبــم يهتــدي الحيــران يف الظلمــاء‪،‬‬ ‫وحاجــة النــاس إليهــم أعظــم مــن حاجتهــم‬ ‫إلــى الطعــام والشــراب‪ ،‬وطاعتهــم أفــرض‬ ‫عليهــم مــن طاعــة األمهــات واآلبــاء بنــص‬ ‫الكتــاب‪ ،‬قــال اهلل تعالــى‪﴿ :‬يــا أيهــا الذيــن‬ ‫آمنــوا أطيعــوا اهلل وأطيعــوا الرســول وأولــي‬ ‫األمــر منكــم فــإن تنازعتــم يف شــيء فــردوه‬ ‫إلــى اهلل والرســول إن كنتــم تؤمنــون بــاهلل‬ ‫واليــوم اآلخــر ذلــك خيــر وأحســن تأويــا﴾‬ ‫[النســاء‪ ]59 :‬قــال عبــد اهلل بــن عبــاس رضي‬ ‫اهلل عنهمــا يف إحــدى الروايتيــن عنــه وجابــر‬ ‫بــن عبــد اهلل والحســن البصــري وأبــو العاليــة‬ ‫وعطــاء بــن أبــي ربــاح والضحــاك ومجاهــد‬ ‫يف إحــدى الروايتيــن عنــه‪ :‬أولــو األمــر هــم‬ ‫العلمــاء‪ ،‬وهــو إحــدى الروايتيــن عــن اإلمــام‬ ‫أحمــد)(‪.((1‬‬

‫وأئمتهــا‪ ،‬بــل إن بعــض هــذه الجماعــات‬ ‫يــرون يف أفكارهــم الحــق المطلــق األمــر‬ ‫الــذي يجعلهــم يــزدرون كل مــن يخالفهــم‬ ‫مــن أهــل العلــم والفضــل مهمــا بلــغ مــن‬ ‫الصــاح والخدمــة لهــذه األمــة‪.‬‬ ‫ولســائل أن يســأل مــا هــو الحــدُّ بيــن طــريف‬ ‫القصــد وهمــا الغلــو يف األفاضــل ومقابلــه‬ ‫أال وهــو التنقــص منهــم والجــرح فيهــم؟‬

‫إن الحــد الفاصــل بيــن الغلــو والتنقــص‬ ‫يكمــن يف التــزام ضوابــط الشــرع يف ذلــك‬ ‫والحــذر مــن الوقــوع يف حبائــل الشــيطان‬ ‫الــذي يلبــس علــى النــاس دينهــم يف محاولــة‬ ‫منــه للخلــط بيــن عــدة قضايــا يجــب الفصــل‬ ‫بينهــا يف التعامــل مــع أهــل العلــم والفضــل‬ ‫والدعــوة‪ ،‬فالتقديــر والمحبــة واإلجــال‬ ‫صمــام‬ ‫لألفاضــل مســألة البــد منهــا‪ ،‬وهــي َّ‬ ‫أمــان يحفــظ األمــة ويحصنهــا مــن الضيــاع‪،‬‬ ‫لك ـ َّن التقديــر لهــم ومعرفــة حقهــم ال يعنــي‬ ‫ُّ‬ ‫قــط نســب َة العصمــة لهــم وإنزالهــم منزلــة‬ ‫األنبيــاء يف ذلــك‪ ،‬وعــدم التجــرؤ علــى‬ ‫نقدهــم وفــق اآلداب واألصــول إن وقــع‬ ‫منهــم بعــدٌ عــن الصــواب‪ ،‬وهــو أمــر ال‬ ‫ينفــك عنــه بنــو آدم‪.‬‬

‫وإن نقــد خطــأ العالــم شــرطه ّأل يقــود‬ ‫صاحبــه إلــى جــرح العلمــاء والنيــل منهــم‪،‬‬ ‫يف انحــراف واضــح عــن جوهــر النقــد البنَّــاء‬ ‫الــذي يجــب أن يركــز علــى القــول والمســألة‬ ‫المنتقــدة ال علــى القائــل‪ ،‬وشــرط أال يكــون‬ ‫هــذا النقــد لخطــأِ العالــم م ِ‬ ‫فض ًيــا إلــى تناســي‬ ‫ُ‬ ‫ومــن األمثلــة الشــاهدة علــى خطــورة‬ ‫ـط مــن مــا لــه مــن علــم وفضــل ودعــوة ومكانــة‬ ‫االنتقــاص مــن شــأن األفاضــل والحـ ِّ‬ ‫أقدارهــم مــا نــراه اليــوم مــن نتائــج كارثيــة ومواطــن إصابــة للحــق يحفــل بهــا تاريخــه‪.‬‬ ‫لســلوكيات بعــض الجماعــات اإلســامية إن إتقــان التعديــل ومثلــه الجــرح العلمــي‬ ‫التــي دأبــت علــى االنتقــاص مــن علمــاء وفــق أصولهمــا وقواعدهمــا العلميــة الدقيقة‬ ‫األمــة والحــط مــن أقدارهــم والمعارضــة ‪-‬التــي خ َّطهــا علماؤنــا ومراجعنــا ســلوكًا‬ ‫الدائمــة العتبارهــم مرجعيــات مناســبة‬ ‫ونظــرا‪ -‬لهــو شــرط التــوازن األســاس يف‬ ‫ً‬ ‫تم ِّكــن األمــة مــن الحــد األدنــى مــن الوحــدة التعاطــي مــع العلمــاء واألفاضــل وأهــل‬ ‫واالتفــاق علــى مرجعياهتــا ومشــايخها الدعــوة‪ ،‬يف حالــة صحيــة َخلِي ٍ‬ ‫ــة عــن الغلــو‬ ‫ّ‬ ‫ِّ َّ‬ ‫والتقصيــر‪.‬‬ ‫(‪ ((1‬رواه أبو داود‪ ،‬باب الحث على طلب العلم‪ ،‬رقم (‪)1463‬‬ ‫برتقيم األرناؤوط‪ ،‬والرتمذي باب ما جاء يف فضل الفقه على العبادة‪،‬‬ ‫رقم (‪ )8982‬برتقيم المكنز‪.‬‬ ‫(‪ ((1‬إعالم الموقعين عن رب العالمين (‪)8 /1‬‬

‫‪75‬‬


‫التنظيم واإلدارة ومدى التطبيق في الثورة‬

‫منهــا جــز ًءا مــن المطلــوب بحســب إدارهتــا‬ ‫ومواردهــا الذاتيــة‪ ،‬ممــا أدى إلــى اســتهالك‬ ‫واســتنزاف كبيــر ونتائــج أقــل وال ِســم ّيا يف‬ ‫المجــاالت الخدميــة‪.‬‬

‫التَّنظي ُم واإلدارة‬

‫السوريّة‬ ‫ِ‬ ‫و َمدى التّ‬ ‫طبيق يف الثّور ِة ّ‬ ‫الدكتور زكريا مالحفجي‬ ‫دكتوراه يف اإلدارة والتخطيط االستراتيجي‬

‫إن النُّظــم اإلداريــة ُت َعــدُّ العمــود الفقــري لــكل المؤسســات‬ ‫واألحــزاب والحــركات الناجحــة يف العالــم‪ ،‬وإن أي عمــل تطغــى‬ ‫عليــه العشــوائية مصيــره االضمحــال ال شــك يف ذلــك‪.‬‬

‫إننــا اليــوم نعيــش يف عالــم متطــور ســريع التقــدم والتقلــب‪،‬‬ ‫يحتــرم األقويــاء وال يرحــم الضعفــاء‪ ،‬وإن أبــرز مــا يميــز القــوة يف‬ ‫عصرنــا الحالــي اإلدارة وحســن التخطيــط والقــدرة علــى توظيــف‬ ‫اإلمكانــات المتوفــرة‪ ...‬وإن الحالــة التــي وصلــت إليهــا الثــورة‬ ‫الســورية ال تخفــى علــى أحــد‪ ،‬ولذلــك أســباب كثيــرة منهــا مــا‬ ‫معلومــا‪ ،‬وســأعرض يف هــذه العجالــة‬ ‫هــو معلــوم ومنهــا مــا ليــس‬ ‫ً‬ ‫للحالــة اإلداريــة يف الثــورة الســورية؛ لعــل ذلــك يســلط الضــوء‬ ‫علــى أحــد أهــم أمراضنــا التــي أصابــت ثورتنــا الســورية يف مقتــل‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫جيــدة لمؤسســاتها‪ ،‬وهــل‬ ‫هــل قامــت مؤسســات الثــورة بــإدارة‬ ‫ـكل جيــدٍ‬ ‫اســتثمرت اإلمكانــات البشــرية والماديــة المتاحــة لهــا بشـ ٍ‬ ‫أو بالشــكل المطلــوب؟‬

‫مــا مــدى التنظيــم والتخطيــط وتطبيــق األســس اإلداريــة يف الثــورة‬ ‫كركــن مــن أركان النجــاح يف عالمنــا المعاصــر؟‬

‫قراءة يف الواقع‬ ‫ســوريا قبــل الثــورة ‪ -‬كحــال معظــم الــدول الناميــة ‪ -‬كانــت‬ ‫ـاري علــى كل المســتويات‪ ،‬رغــم‬ ‫تعيــش حالــة فش ـ ٍل‬ ‫إداري وحضـ ٍّ‬ ‫ٍّ‬ ‫الفــرص الكثيــرة للنمــو والتقــدم؛ إذ كان يتســلط علــى حكومتهــا‬ ‫ومؤسســاهتا مجموعــات عصاب َّيــة مــن البعث ّييــن والنُّصير ّييــن‬ ‫واألمن ّييــن‪ ،‬يديروهنــا بشــكل أقــرب مــا يكــون إلــى نظــم إدارة‬ ‫‪76‬‬

‫التنظيم واإلدارة ومدى التطبيق في الثورة‬

‫العصابــات وتشــكيالت المافيــا‪ ،‬بعيــدً ا تمــام البعــد عــن أســاليب‬ ‫اإلدارة المنتظمــة والعادلــة التــي تتميــز هبــا أنظمــة الحكــم الرشــيد‪،‬‬ ‫ممــا منــع البــاد مــن االســتفادة مــن علــوم اإلدارة وفنوهنــا‪،‬‬ ‫والتخطيطــات المعاصــرة المتبعــة يف كل الــدول المتقدمــة‪ ،‬أو حتــى‬ ‫الكفــاءات اإلداريــة الموجــودة بيــن أبنــاء الشــعب الســوري‪.‬‬ ‫ـم متكامــل لــه قواعــده ومبادئــه ونظرياتــه الخاصــة‪،‬‬ ‫إن اإلدارة علـ ٌ‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫واإلدارة فــ ٌن يحتــاج إلــى خــرة وذكاء يف الممارســة‪ ،‬وإن صــورة‬ ‫إدارة العصابــة القائمــة علــى الــوالءات وليــس الكفــاءات‪ ،‬أو علــى‬ ‫القــرارات االرتجال ّيــة األمن ّيــة التــي تــزرع الخــوف يف كل الدوائــر‬ ‫الحكوميــة؛ ال يمكــن أن تتفــق بحــال مــع أي شــكل مــن أشــكال‬ ‫اإلدارة الرشــيدة‪.‬‬

‫إنــه علــى الرغــم مــن غنــى ســوريا بالمــوارد البشــرية المتميــزة‪،‬‬ ‫إضافــة إلــى الموقــع واإلمكانــات الماديــة الجيــدة‪ ،‬فإهنــا لــم تكــن‬ ‫ُتــدار بشــك ٍل جيــد ولــم تســتثمر قدراهتــا إال يف حــدود شــبه معدومــة‬ ‫نتيجــة لنظــام الحكــم الدكتاتــوري وغيــاب أي شــكل مــن أشــكال‬ ‫الحكــم المؤسســايت‪ ،‬الشــورى أو الديمقراطيــة‪.‬‬ ‫وكنتيجــة لتقديــم الــوالءات الطائفيــة والحزبيــة علــى أســس‬ ‫اإلدارة الرشــيدة خــال خمســين ســنة مضــت لــم ُيســمح ألحــد‬ ‫ـاالت نـ ٍ‬ ‫مــن ذوي الكفــاءة بــإدارة قطــاع مــا؛ إال يف حـ ٍ‬ ‫ـادرة ‪-‬وعلــى‬ ‫نطــاق ضيــق‪ -‬ال تشــكل ربي ًعــا‪ ،‬يف حيــن تجــد الــدول الحديثــة‬ ‫تســعى بــكل جهــد نحــو توظيـ ٍ‬ ‫ـف أمثـ ٍل للطاقــات واإلمكانــات‪ ،‬مــع‬ ‫اســتطالع دائــم لــرأي الشــعب وتقييمــه ألداء المــدراء والمســؤولين‬ ‫الذيــن يديــرون شــؤونه مــن خــال االنتخابــات الدوريــة أو‬

‫الهيئــات الخاصــة بالمراقبــة والمتابعــة‪ ،‬علــى مــدى ثمــاين ســنوات مــن عمــر الثــورة‪.‬‬ ‫ممــا يجعــل المســؤول يف حــرص دائــم علــى إن معرفــة األســباب التــي أدت إلــى‬ ‫رضــا الشــعب وتقديــم أكمــل الخدمــات الفوضــى وســوء اإلدارة ُت َعــدُّ الخطــوة‬ ‫والحصــول علــى أفضــل النتائــج‪ ،‬إن كان األولــى للعــاج واســتدراك مــا فــات‪،‬‬ ‫يبتغــي االســتمرار والنجــاح يف عملــه أو وســأعرض هنــا أبــرز أســباب ضعــف والحقيقــة أن الــذي أوجــد هــذه الحالــة‬ ‫تجنــب المحاســبة‪.‬‬ ‫التنظيــم واإلدارة يف الثــورة‪ ،‬مــن خــال عوامــل كثيــرة‪ ،‬منهــا إرث تاريخــي كبيــر مــن‬ ‫نتيجــة للممارســات الطائفيــة للعصبــة التطبيــق علــى عــدة مؤسســات موجــودة غيــاب الحالــة الجماعيــة والتنظيميــة لــدى‬ ‫المتســلطة علــى مؤسســات الدولــة وعاملــة علــى األراضــي الســورية‪.‬‬ ‫الشــعب الســوري يف ظــل حكــم الطائفــة‪،‬‬ ‫وغيــاب العقــد االجتماعــي لــدى الســوريين‬ ‫والشــعب يف بالدنــا قامــت الثــورة الثوريــة‬ ‫كحركــة تطالــب باإلصــاح وإهنــاء الفســاد أبرز أسباب الغياب اإلداري‬ ‫وضعــف الشــعور باالنتمــاء إلــى الوطــن أو‬ ‫مــن يمثلــه‪ ،‬أو العمــل ألجــل المصلحــة‬ ‫والتمييــز الطائفــي والحزبــي‪ ،‬ولكــن نتيجــة والتنظيمي يف الثورة‬ ‫العامــة‪ ،‬إضافــة إلــى حالــة االنعتــاق مــن‬ ‫لممارســات النظــام الحاكــم وإراقتــه للدمــاء‬ ‫تحولــت الثــورة الســورية مــن الحالــة إن الم ّطلــع علــى واقــع الثــورة الســورية المؤسســات األمنيــة التــي تعقبهــا حالــة‬ ‫الســلمية إلــى العســكرية‪ ،‬وأصبحــت يعلــم تمــام العلــم أن الحالــة التــي وصلــت ال إراديــة مــن الفوضــى والتشــتت‪ ،‬ولكــن‬ ‫مناطــق كبيــرة تحــت ســلطة الثــورة وخــارج إليهــا اليــوم كانــت نتيجــة لمجموعــة مــن اســتمرار هــذه الحالــة المخزيــة مــن التشــتت‬ ‫وعــدم التنظيــم ليس مســوغًا أبدا؛ ِ‬ ‫والسـ ّيما‬ ‫ِّ‬ ‫ســيطرة نظــام األســد‪ُ ،‬فأنشــئت مؤسســات األســباب اإلقليميــة والدوليــة واالجتماعيــة‬ ‫مــع مــرور سـ ٍ‬ ‫ـنوات‪ ،‬وإن كان ُيمكــن تســويغه‬ ‫مختلفــة ومتنوعــة إلدارة المناطــق التــي واإليديولوجيــة والتنظيميــة‪ ،‬ولكنهــا كلهــا‬ ‫تخضــع لســيطر الثــوار إلدارة الملفــات تنــدرج تحــت قســمين أساســيين‪ ،‬همــا وفهمــه يف األشــهر األولــى مــن الثــورة فقــط‪.‬‬ ‫السياســية والعســكرية والخدميــة‪ ،‬وتنظيــم األســباب الداخليــة واألســباب الخارجيــة‪ -2 .‬األطراف تدير المركز‪:‬‬ ‫حركــة المعابــر الحدوديــة‪ ،‬وتوظيــف‬ ‫تحولــت حالــة اإلدارة الطبيعيــة للمناطــق‬ ‫المــوارد البشــرية والماديــة الموجــودة بــكل األسباب الذاتية الداخلية‪:‬‬ ‫المحــررة مــن المركــز إلــى األطــراف‪ ،‬أي‬ ‫أنواعهــا‪ ،‬ولكــن لألســف ‪-‬ونتيجــة العتيــاد‬ ‫الشــعب الســوري مــدة خمســة عقــود علــى إن اســتقراء جميــع األســباب الداخليــة مــن مراكــز المــدن إلــى أريــاف المــدن‪،‬‬ ‫أســاليب اإلدارة البعثيــة الفاشــلة‪ -‬انتقلــت لســوء اإلدارة مــن الصعوبــة بمــكان‪ ،‬وهــذا خــاف الحالــة الطبيعيــة يف اإلدارة‬ ‫أســاليب اإلدارة البعثيــة بــكل أمراضهــا ويحتــاج إلــى دراســات كثيــرة‪ ،‬وســأتعرض وســرعة االســتجابة‪ ،‬كمــا أن الخــرات‬ ‫الخطيــرة إلــى المناطــق المحــررة‪ ،‬باســتثناء ألهــم هــذه األســباب بحســب معاينتــي القــادرة علــى إدارة المؤسســات عــادة مــا‬ ‫تتجمــع يف المركــز أي يف المــدن‪ ،‬قــرب‬ ‫التدخــل األمنــي‪ ،‬فقــد كان يف المناطــق للواقــع‪:‬‬ ‫المحــررة قليـ ًـا نو ًعــا مــا‪ ،‬وتــم فتــح المجــال ‪ -1‬غيــاب المؤسســة الواحــدة والجســم المراكــز الحيويــة فيهــا‪ ،‬حيــث تتوفــر‬ ‫الخــرات الرتاكميــة المدربــة‪ ...‬كمــا أنــه‬ ‫للكفــاءات بنســبة أكــر للقيــام بدورهــا يف الواحــد‪:‬‬ ‫أصبــح صاحــب القــوة أو مــن يســيطر أو‬ ‫المحدثــة‪.‬‬ ‫المؤسســات ُ‬ ‫إن‬ ‫َ‬ ‫غيــاب المؤسســة الواحــدة التــي يحــرر منطقــة هــو مــن يديرهــا ويعيــن مــن‬ ‫إن الفشــل اإلداري والتنظيمــي يف تشــرف علــى كل قطــاع وتــوزع الســلطات يشــرف علــى هــذه المؤسســات والمراكــز‬ ‫المناطــق المحــررة كان مــن الوضــوح والصالحيــات فيــه‪ ،‬وتنســق بيــن مؤسســاته وهــو ال يملــك الخــرة المناســبة التــي‬ ‫بمــا ال يخفــى علــى أحــد‪ ،‬وإن هــذا األمــر سـ ٌ‬ ‫ـبب أســاس يف إفشــال الحالــة اإلداريــة‪ ،‬إذ تؤهلــه لذلــك‪ ،‬ويف أحيــان كثيــرة ُس ِّ‬ ‫ــخرت‬ ‫يعــود العتبــارات كثيــرة جــدًّ ا ذاتيــة داخليــة إن لمؤسســات كل قطــاع مواردهــا الخاصــة المؤسســات لمصلحــة الفــرد أو العائلــة‬ ‫وهــي األكــر‪ -‬وعوامــل أخــرى خارجيــة هبــا التــي تشــرف عليهــا إدارة موحــدة تــوزع كاســتمرار طبيعــي للثقافــة التــي رســخها‬‫أ َّدت ً‬ ‫دورا ال يســتهان بــه يف حالــة الفشــل عليهــا المــوارد والمهــام بشــكل عــادل‪ ..‬حــزب البعــث يف المجتمــع الســوري‪.‬‬ ‫التنظيمــي واإلداري لمؤسســات الثــورة ولكــن غيــاب هــذا الجســم الواحــد أدى‬ ‫عــادل للمهــام والمــوارد ‪ -3‬غياب الوعي‪:‬‬ ‫ٍ‬ ‫الناشــئة يف ظــروف اســتثنائية يمكــن أن تقبــل إلــى توزيــ ٍع ِ‬ ‫غيــر‬ ‫أيضــا غيــاب الوعــي‬ ‫فيهــا بعــض األخطــاء وحــاالت الفوضــى‪ ،‬واالختصاصييــن‪ ،‬فتشــتت الطاقــات‪ ،‬مــن أســباب الفشــل ً‬ ‫لكــن األمــر الــذي لــم يكــن مقبـ ً‬ ‫ـول بحــال‬ ‫وعمــت الفوضــى‪ ،‬ونشــأت ســلطات تجــاه هــذه المنشــآت علــى أهنــا ملــك‬ ‫َّ‬ ‫اســتمرار حالــة الفوضــى بــل وازديا ُدهــا متعــددة ومؤسســات متنوعــة‪ ،‬تــؤدي كل للشــعب وليســت ملــ ًكا للنظــام‪ ،‬وعــدم‬ ‫ُ‬ ‫‪77‬‬


‫التنظيم واإلدارة ومدى التطبيق في الثورة‬

‫منهــا جــز ًءا مــن المطلــوب بحســب إدارهتــا‬ ‫ومواردهــا الذاتيــة‪ ،‬ممــا أدى إلــى اســتهالك‬ ‫واســتنزاف كبيــر ونتائــج أقــل وال ِســم ّيا يف‬ ‫المجــاالت الخدميــة‪.‬‬

‫التَّنظي ُم واإلدارة‬

‫السوريّة‬ ‫ِ‬ ‫و َمدى التّ‬ ‫طبيق يف الثّور ِة ّ‬ ‫الدكتور زكريا مالحفجي‬ ‫دكتوراه يف اإلدارة والتخطيط االستراتيجي‬

‫إن النُّظــم اإلداريــة ُت َعــدُّ العمــود الفقــري لــكل المؤسســات‬ ‫واألحــزاب والحــركات الناجحــة يف العالــم‪ ،‬وإن أي عمــل تطغــى‬ ‫عليــه العشــوائية مصيــره االضمحــال ال شــك يف ذلــك‪.‬‬

‫إننــا اليــوم نعيــش يف عالــم متطــور ســريع التقــدم والتقلــب‪،‬‬ ‫يحتــرم األقويــاء وال يرحــم الضعفــاء‪ ،‬وإن أبــرز مــا يميــز القــوة يف‬ ‫عصرنــا الحالــي اإلدارة وحســن التخطيــط والقــدرة علــى توظيــف‬ ‫اإلمكانــات المتوفــرة‪ ...‬وإن الحالــة التــي وصلــت إليهــا الثــورة‬ ‫الســورية ال تخفــى علــى أحــد‪ ،‬ولذلــك أســباب كثيــرة منهــا مــا‬ ‫معلومــا‪ ،‬وســأعرض يف هــذه العجالــة‬ ‫هــو معلــوم ومنهــا مــا ليــس‬ ‫ً‬ ‫للحالــة اإلداريــة يف الثــورة الســورية؛ لعــل ذلــك يســلط الضــوء‬ ‫علــى أحــد أهــم أمراضنــا التــي أصابــت ثورتنــا الســورية يف مقتــل‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫جيــدة لمؤسســاتها‪ ،‬وهــل‬ ‫هــل قامــت مؤسســات الثــورة بــإدارة‬ ‫ـكل جيــدٍ‬ ‫اســتثمرت اإلمكانــات البشــرية والماديــة المتاحــة لهــا بشـ ٍ‬ ‫أو بالشــكل المطلــوب؟‬

‫مــا مــدى التنظيــم والتخطيــط وتطبيــق األســس اإلداريــة يف الثــورة‬ ‫كركــن مــن أركان النجــاح يف عالمنــا المعاصــر؟‬

‫قراءة يف الواقع‬ ‫ســوريا قبــل الثــورة ‪ -‬كحــال معظــم الــدول الناميــة ‪ -‬كانــت‬ ‫ـاري علــى كل المســتويات‪ ،‬رغــم‬ ‫تعيــش حالــة فش ـ ٍل‬ ‫إداري وحضـ ٍّ‬ ‫ٍّ‬ ‫الفــرص الكثيــرة للنمــو والتقــدم؛ إذ كان يتســلط علــى حكومتهــا‬ ‫ومؤسســاهتا مجموعــات عصاب َّيــة مــن البعث ّييــن والنُّصير ّييــن‬ ‫واألمن ّييــن‪ ،‬يديروهنــا بشــكل أقــرب مــا يكــون إلــى نظــم إدارة‬ ‫‪76‬‬

‫التنظيم واإلدارة ومدى التطبيق في الثورة‬

‫العصابــات وتشــكيالت المافيــا‪ ،‬بعيــدً ا تمــام البعــد عــن أســاليب‬ ‫اإلدارة المنتظمــة والعادلــة التــي تتميــز هبــا أنظمــة الحكــم الرشــيد‪،‬‬ ‫ممــا منــع البــاد مــن االســتفادة مــن علــوم اإلدارة وفنوهنــا‪،‬‬ ‫والتخطيطــات المعاصــرة المتبعــة يف كل الــدول المتقدمــة‪ ،‬أو حتــى‬ ‫الكفــاءات اإلداريــة الموجــودة بيــن أبنــاء الشــعب الســوري‪.‬‬ ‫ـم متكامــل لــه قواعــده ومبادئــه ونظرياتــه الخاصــة‪،‬‬ ‫إن اإلدارة علـ ٌ‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫واإلدارة فــ ٌن يحتــاج إلــى خــرة وذكاء يف الممارســة‪ ،‬وإن صــورة‬ ‫إدارة العصابــة القائمــة علــى الــوالءات وليــس الكفــاءات‪ ،‬أو علــى‬ ‫القــرارات االرتجال ّيــة األمن ّيــة التــي تــزرع الخــوف يف كل الدوائــر‬ ‫الحكوميــة؛ ال يمكــن أن تتفــق بحــال مــع أي شــكل مــن أشــكال‬ ‫اإلدارة الرشــيدة‪.‬‬

‫إنــه علــى الرغــم مــن غنــى ســوريا بالمــوارد البشــرية المتميــزة‪،‬‬ ‫إضافــة إلــى الموقــع واإلمكانــات الماديــة الجيــدة‪ ،‬فإهنــا لــم تكــن‬ ‫ُتــدار بشــك ٍل جيــد ولــم تســتثمر قدراهتــا إال يف حــدود شــبه معدومــة‬ ‫نتيجــة لنظــام الحكــم الدكتاتــوري وغيــاب أي شــكل مــن أشــكال‬ ‫الحكــم المؤسســايت‪ ،‬الشــورى أو الديمقراطيــة‪.‬‬ ‫وكنتيجــة لتقديــم الــوالءات الطائفيــة والحزبيــة علــى أســس‬ ‫اإلدارة الرشــيدة خــال خمســين ســنة مضــت لــم ُيســمح ألحــد‬ ‫ـاالت نـ ٍ‬ ‫مــن ذوي الكفــاءة بــإدارة قطــاع مــا؛ إال يف حـ ٍ‬ ‫ـادرة ‪-‬وعلــى‬ ‫نطــاق ضيــق‪ -‬ال تشــكل ربي ًعــا‪ ،‬يف حيــن تجــد الــدول الحديثــة‬ ‫تســعى بــكل جهــد نحــو توظيـ ٍ‬ ‫ـف أمثـ ٍل للطاقــات واإلمكانــات‪ ،‬مــع‬ ‫اســتطالع دائــم لــرأي الشــعب وتقييمــه ألداء المــدراء والمســؤولين‬ ‫الذيــن يديــرون شــؤونه مــن خــال االنتخابــات الدوريــة أو‬

‫الهيئــات الخاصــة بالمراقبــة والمتابعــة‪ ،‬علــى مــدى ثمــاين ســنوات مــن عمــر الثــورة‪.‬‬ ‫ممــا يجعــل المســؤول يف حــرص دائــم علــى إن معرفــة األســباب التــي أدت إلــى‬ ‫رضــا الشــعب وتقديــم أكمــل الخدمــات الفوضــى وســوء اإلدارة ُت َعــدُّ الخطــوة‬ ‫والحصــول علــى أفضــل النتائــج‪ ،‬إن كان األولــى للعــاج واســتدراك مــا فــات‪،‬‬ ‫يبتغــي االســتمرار والنجــاح يف عملــه أو وســأعرض هنــا أبــرز أســباب ضعــف والحقيقــة أن الــذي أوجــد هــذه الحالــة‬ ‫تجنــب المحاســبة‪.‬‬ ‫التنظيــم واإلدارة يف الثــورة‪ ،‬مــن خــال عوامــل كثيــرة‪ ،‬منهــا إرث تاريخــي كبيــر مــن‬ ‫نتيجــة للممارســات الطائفيــة للعصبــة التطبيــق علــى عــدة مؤسســات موجــودة غيــاب الحالــة الجماعيــة والتنظيميــة لــدى‬ ‫المتســلطة علــى مؤسســات الدولــة وعاملــة علــى األراضــي الســورية‪.‬‬ ‫الشــعب الســوري يف ظــل حكــم الطائفــة‪،‬‬ ‫وغيــاب العقــد االجتماعــي لــدى الســوريين‬ ‫والشــعب يف بالدنــا قامــت الثــورة الثوريــة‬ ‫كحركــة تطالــب باإلصــاح وإهنــاء الفســاد أبرز أسباب الغياب اإلداري‬ ‫وضعــف الشــعور باالنتمــاء إلــى الوطــن أو‬ ‫مــن يمثلــه‪ ،‬أو العمــل ألجــل المصلحــة‬ ‫والتمييــز الطائفــي والحزبــي‪ ،‬ولكــن نتيجــة والتنظيمي يف الثورة‬ ‫العامــة‪ ،‬إضافــة إلــى حالــة االنعتــاق مــن‬ ‫لممارســات النظــام الحاكــم وإراقتــه للدمــاء‬ ‫تحولــت الثــورة الســورية مــن الحالــة إن الم ّطلــع علــى واقــع الثــورة الســورية المؤسســات األمنيــة التــي تعقبهــا حالــة‬ ‫الســلمية إلــى العســكرية‪ ،‬وأصبحــت يعلــم تمــام العلــم أن الحالــة التــي وصلــت ال إراديــة مــن الفوضــى والتشــتت‪ ،‬ولكــن‬ ‫مناطــق كبيــرة تحــت ســلطة الثــورة وخــارج إليهــا اليــوم كانــت نتيجــة لمجموعــة مــن اســتمرار هــذه الحالــة المخزيــة مــن التشــتت‬ ‫وعــدم التنظيــم ليس مســوغًا أبدا؛ ِ‬ ‫والسـ ّيما‬ ‫ِّ‬ ‫ســيطرة نظــام األســد‪ُ ،‬فأنشــئت مؤسســات األســباب اإلقليميــة والدوليــة واالجتماعيــة‬ ‫مــع مــرور سـ ٍ‬ ‫ـنوات‪ ،‬وإن كان ُيمكــن تســويغه‬ ‫مختلفــة ومتنوعــة إلدارة المناطــق التــي واإليديولوجيــة والتنظيميــة‪ ،‬ولكنهــا كلهــا‬ ‫تخضــع لســيطر الثــوار إلدارة الملفــات تنــدرج تحــت قســمين أساســيين‪ ،‬همــا وفهمــه يف األشــهر األولــى مــن الثــورة فقــط‪.‬‬ ‫السياســية والعســكرية والخدميــة‪ ،‬وتنظيــم األســباب الداخليــة واألســباب الخارجيــة‪ -2 .‬األطراف تدير المركز‪:‬‬ ‫حركــة المعابــر الحدوديــة‪ ،‬وتوظيــف‬ ‫تحولــت حالــة اإلدارة الطبيعيــة للمناطــق‬ ‫المــوارد البشــرية والماديــة الموجــودة بــكل األسباب الذاتية الداخلية‪:‬‬ ‫المحــررة مــن المركــز إلــى األطــراف‪ ،‬أي‬ ‫أنواعهــا‪ ،‬ولكــن لألســف ‪-‬ونتيجــة العتيــاد‬ ‫الشــعب الســوري مــدة خمســة عقــود علــى إن اســتقراء جميــع األســباب الداخليــة مــن مراكــز المــدن إلــى أريــاف المــدن‪،‬‬ ‫أســاليب اإلدارة البعثيــة الفاشــلة‪ -‬انتقلــت لســوء اإلدارة مــن الصعوبــة بمــكان‪ ،‬وهــذا خــاف الحالــة الطبيعيــة يف اإلدارة‬ ‫أســاليب اإلدارة البعثيــة بــكل أمراضهــا ويحتــاج إلــى دراســات كثيــرة‪ ،‬وســأتعرض وســرعة االســتجابة‪ ،‬كمــا أن الخــرات‬ ‫الخطيــرة إلــى المناطــق المحــررة‪ ،‬باســتثناء ألهــم هــذه األســباب بحســب معاينتــي القــادرة علــى إدارة المؤسســات عــادة مــا‬ ‫تتجمــع يف المركــز أي يف المــدن‪ ،‬قــرب‬ ‫التدخــل األمنــي‪ ،‬فقــد كان يف المناطــق للواقــع‪:‬‬ ‫المحــررة قليـ ًـا نو ًعــا مــا‪ ،‬وتــم فتــح المجــال ‪ -1‬غيــاب المؤسســة الواحــدة والجســم المراكــز الحيويــة فيهــا‪ ،‬حيــث تتوفــر‬ ‫الخــرات الرتاكميــة المدربــة‪ ...‬كمــا أنــه‬ ‫للكفــاءات بنســبة أكــر للقيــام بدورهــا يف الواحــد‪:‬‬ ‫أصبــح صاحــب القــوة أو مــن يســيطر أو‬ ‫المحدثــة‪.‬‬ ‫المؤسســات ُ‬ ‫إن‬ ‫َ‬ ‫غيــاب المؤسســة الواحــدة التــي يحــرر منطقــة هــو مــن يديرهــا ويعيــن مــن‬ ‫إن الفشــل اإلداري والتنظيمــي يف تشــرف علــى كل قطــاع وتــوزع الســلطات يشــرف علــى هــذه المؤسســات والمراكــز‬ ‫المناطــق المحــررة كان مــن الوضــوح والصالحيــات فيــه‪ ،‬وتنســق بيــن مؤسســاته وهــو ال يملــك الخــرة المناســبة التــي‬ ‫بمــا ال يخفــى علــى أحــد‪ ،‬وإن هــذا األمــر سـ ٌ‬ ‫ـبب أســاس يف إفشــال الحالــة اإلداريــة‪ ،‬إذ تؤهلــه لذلــك‪ ،‬ويف أحيــان كثيــرة ُس ِّ‬ ‫ــخرت‬ ‫يعــود العتبــارات كثيــرة جــدًّ ا ذاتيــة داخليــة إن لمؤسســات كل قطــاع مواردهــا الخاصــة المؤسســات لمصلحــة الفــرد أو العائلــة‬ ‫وهــي األكــر‪ -‬وعوامــل أخــرى خارجيــة هبــا التــي تشــرف عليهــا إدارة موحــدة تــوزع كاســتمرار طبيعــي للثقافــة التــي رســخها‬‫أ َّدت ً‬ ‫دورا ال يســتهان بــه يف حالــة الفشــل عليهــا المــوارد والمهــام بشــكل عــادل‪ ..‬حــزب البعــث يف المجتمــع الســوري‪.‬‬ ‫التنظيمــي واإلداري لمؤسســات الثــورة ولكــن غيــاب هــذا الجســم الواحــد أدى‬ ‫عــادل للمهــام والمــوارد ‪ -3‬غياب الوعي‪:‬‬ ‫ٍ‬ ‫الناشــئة يف ظــروف اســتثنائية يمكــن أن تقبــل إلــى توزيــ ٍع ِ‬ ‫غيــر‬ ‫أيضــا غيــاب الوعــي‬ ‫فيهــا بعــض األخطــاء وحــاالت الفوضــى‪ ،‬واالختصاصييــن‪ ،‬فتشــتت الطاقــات‪ ،‬مــن أســباب الفشــل ً‬ ‫لكــن األمــر الــذي لــم يكــن مقبـ ً‬ ‫ـول بحــال‬ ‫وعمــت الفوضــى‪ ،‬ونشــأت ســلطات تجــاه هــذه المنشــآت علــى أهنــا ملــك‬ ‫َّ‬ ‫اســتمرار حالــة الفوضــى بــل وازديا ُدهــا متعــددة ومؤسســات متنوعــة‪ ،‬تــؤدي كل للشــعب وليســت ملــ ًكا للنظــام‪ ،‬وعــدم‬ ‫ُ‬ ‫‪77‬‬


‫التنظيم واإلدارة ومدى التطبيق في الثورة‬ ‫التمييــز بيــن المؤسســات الخدميــة التــي المدنيــة‪:‬‬ ‫ال ينبغــي المســاس هبــا وبيــن المؤسســات لقــد كان لتدخــل الفصائــل العســكرية يف‬ ‫الطائفيــة والحزبيــة التــي تمثــل النظــام المؤسســات المدنيــة للمناطــق المحــررة‬ ‫ويســيطر مــن خاللهــا علــى أركان الدولــة‪،‬‬ ‫دور كبيــر يف إفشــال كثيــر مــن التجــارب‬ ‫ٌ‬ ‫فتــم التعامــل مــع المؤسســات علــى أهنــا اإلداريــة التــي ظهــرت فيهــا بــوادر‬ ‫ســواء‪ ،‬وأصبــح التعامــل علــى أســاس النجــاح واألمــل‪ ،‬وال ِســ ّيما التنظيمــات‬ ‫انتمــاء الموظــف ومديــر المؤسســة ورأيــه اإليديولوجيــة والقــوى االنفصاليــة التــي‬ ‫السياســي‪ ،‬وليــس علــى أســاس خربتــه‪ ،‬كانــت تســعى إلــى أهــداف خاصــة ال تتفــق‬ ‫إضافــة إلــى عــدم تأميــن البديــل المناســب أبــدً ا مــع أهــداف الشــعب والثــورة‪.‬‬ ‫لمــن ُمنعــوا مــن العمــل‪.‬‬ ‫‪ -8‬التوجه نحو الدعم الخارجي‪:‬‬ ‫‪ -4‬قلة الخبرات اإلدارية‪:‬‬ ‫لقــد كان لتوجــه النــاس نحــو الدعــم‬ ‫مــن األســباب أيضــا قلــة الخــرات اإلداريــة الخارجــي بــدل الســعي لالكتفــاء الــذايت‬ ‫التــي تجمــع بيــن المعرفــة النظريــة والخــرة عــر إدارة المــوارد واســتثمارها بالشــكل‬ ‫أثــر كبيــر يف فشــل الحالــة‬ ‫العمليــة‪ ،‬مــع االســتعداد الشــخصي‪ ،‬أقصــد الصحيــح؛ ٌ‬ ‫بمســتوى خــراء وليــس مبتدئيــن‪ ،‬أو بتعبيــر اإلداريــة ومنجــزات الثــورة عمو ًمــا‪.‬‬ ‫القــرآن الكريــم ﴿القــوي األميــن﴾‪.‬‬ ‫‪ -9‬انفصال السلطة عن الخبرة‪:‬‬ ‫‪ -5‬تدمير نظام األسد للبنى التحتية‪:‬‬ ‫كان ذوو الخــرة بــا ســلطة لإلنجــاز‪،‬‬ ‫َت َع َّمــدَ نظــام األســد تدمير ٍ‬ ‫كثير من المنشــآت وأصحــاب الســلطة بــا خــرة؛ إذ لــم‬ ‫الخدمية والمؤسســات التي يمكن االســتفادة تســتقطب هــذه المؤسســات ذوي الخــرات‪،‬‬ ‫منهــا؛ إذ عمــد إلــى تدميــر البنــى التحت ّيــة ولــم يتــم االســتفادة مــن الخــراء الذيــن‬ ‫والمراكــز الحيويــة مــن أجــل ســلب النــاس ابتعــدوا أو انشــقوا عــن النظــام‪ ،‬ممــا أجربهــم‬ ‫الشــعور باالســتقرار يف المناطــق الخارجــة الحقــا علــى االلتحــاق بأعمــال فرديــة بح ًثــا‬ ‫َ‬ ‫عــن ســيطرته‪ ،‬ومنــع النــاس مــن االســتفادة عــن ســبل البقــاء والحصــول علــى لقمــة‬ ‫مــن هــذه المراكــز‪ ،‬وإفشــال أي تجربــة إداريــة العيــش يف بــاد الهجــرة‪ ،‬وبعضهــم اضطــر‬ ‫للســفر والهجــرة بح ًثــا عــن حــق اللجــوء يف‬ ‫ناجحــة يف تلــك المناطــق‪.‬‬ ‫بعــض الــدول التــي تمنحــه‪.‬‬ ‫‪ -6‬عدم استثمار الموارد‪:‬‬ ‫‪ -10‬غياب الرقابة والمحاسبة‪:‬‬

‫إن المــوارد الماديــة يف المناطــق المحــررة‬ ‫بعمومهــا تقســمت بيــن القــوى العســكرية‬ ‫المســيطرة‪ ،‬ولــم تحصــل حالــة اســتثمار‬ ‫منظمــة لهــا تعــود بالفائــدة العامــة علــى‬ ‫المناطــق التــي تحكمهــا‪ ،‬وأبــرز هــذه‬ ‫المــواد المهــدرة النفــط والغــاز والمعابــر‬ ‫والمحاصيــل الزراعيــة والمنشــآت‬ ‫االقتصاديــة؛ إذ تراجــع إنتــاج كثيــر مــن‬ ‫وه ِّمشــت مؤسســاهتا‪ ،‬وكان األسباب الخارجية‪:‬‬ ‫هــذه المــواد‪ُ ،‬‬ ‫كل ذلــك نتيجــة حتميــة لغيــاب المؤسســة بعــد ذكــر أبــرز األســباب الذاتيــة الداخليــة‬ ‫الواحــدة والجســم الواحــد‪ ،‬وتعــدد للفشــل التنظيمــي واإلداري ســأذكر أبــرز‬ ‫الســلطات واختالفهــا فيمــا بينهــا‪.‬‬ ‫األســباب الخارجيــة‪ ...‬وأقصــد باألســباب‬ ‫‪ -7‬تدخــل الحالــة العســكرية بــاإلدارة الخارجيــة مــا كان خــارج المناطــق المحررة‬ ‫كبيــر يف‬ ‫أثــر‬ ‫ٌ‬ ‫لقــد كان لغيــاب الرقابــة ٌ‬ ‫انفــات المؤسســات‪ ،‬إذ المخطــئ يحتــاج‬ ‫مــن يردعــه ويوقفــه عنــد حــده‪ ،‬ومــن‬ ‫المعلــوم ضــرورة يف كل النظــم اإلداريــة أن‬ ‫مراقبــة األداء ومحاســبة المقصــر مــن أهــم‬ ‫أســباب النجــاح والتقــدم المؤسســايت‪.‬‬

‫‪78‬‬

‫أو مناطــق ســيطرة المعارضــة‪ ،‬أو مــا كان‬ ‫خــارج قــدرة قــوى الثــورة والمعارضــة‪،‬‬ ‫وليــس خــارج ســوريا فقــط‪ ،‬وهــذه‬ ‫أيضــا‪ ،‬وســأقتصر علــى‬ ‫األســباب كثيــرة ً‬ ‫ذكــر أهمهــا‪ ،‬وهــي‪:‬‬ ‫‪ -1‬القصف المستمر‪:‬‬

‫القصــف المســتمر مــن قبــل النظــام‬ ‫وحلفائــه بأســلحة ذات قــدرة تدميريــة‬ ‫عاليــة‪ ،‬ومنهــا مــا هــو محظــور دول ًّيــا‪ ،‬ممــا‬ ‫جعــل العمــل يف ظــل هــذه األجــواء خطِـ ًـرا‬ ‫للغايــة‪ ،‬فكانــت حالــة اللجــوء والنــزوح‬ ‫الداخلــي حالــة مســتمرة لــم تتوقــف إلــى‬ ‫يومنــا هــذا‪ ،‬لكــن تختلــف صعــو ًدا وهبو ًطــا‬ ‫حســب األوضــاع المتقلبــة‪.‬‬ ‫موحدة‪:‬‬ ‫‪ -2‬عدم وجود حكومة َّ‬

‫لقــد تــم طــرح تشــكيل حكومــة مؤقتــة‬ ‫المحــررة‪ ،‬لكــن لــم يكــن‬ ‫يف المناطــق‬ ‫ّ‬ ‫موقــف أصدقــاء الشــعب الســوري واحــدً ا‬ ‫تجاههــا‪ ،‬فكانــت هنــاك تباينــات مــن‬ ‫الدفــع هبــا والــردد بدعمهــا والتعامــل معهــا‬ ‫نظــرا لعــدم تحقيقهــا‬ ‫أو االعــراف هبــا‪،‬‬ ‫ً‬ ‫ـم تشــكيل‬ ‫لمصالحهــم الخاصــة‪ ،‬وعندمــا تـ َّ‬ ‫حكومــة مؤقتــة يف الخــارج ســعت كثيــر‬ ‫مــن الــدول لوضــع أســباب فشــلها‪ ،‬إذ لــم‬ ‫تتشــكل مــن القــوى الحقيقيــة المم ِّثلــة‬ ‫للشــعب الســوري‪ ،‬ممــا أضعــف فاعليتهــا‪،‬‬ ‫وال ِســ ّيما أهنــا لــم تســتوعب الداخــل‬ ‫المحــرر‪ ،‬فبقيــت حال ـ ًة ُم ْشــكلة مــن ضمــن‬ ‫خصوصــا الجنــاح‬ ‫الحــاالت الكثيــرة‬ ‫ً‬ ‫العســكري لهــا‪ ،‬ممــا أبقاهــا متناثــرة ُتــدار‬ ‫مــن قبــل مدن ّييــن عاد ّييــن‪ ،‬ال خــرة لهــم وال‬ ‫ســلطة علــى األرض‪ ،‬فبقــي دورهــا جزئ ًّيــا‪،‬‬ ‫أو باألحــرى بقيــت بــا دور حقيقــي يف‬ ‫الواقــع‪.‬‬ ‫‪ -3‬اختــاف الــرؤى واألهــداف لــدى دول‬ ‫األصدقــاء‪:‬‬

‫وكان هــذا مــن أســباب إفشــال الحالــة‬ ‫التنظيميــة للمناطــق المحــررة‪ ،‬إذ لــم يكــن‬ ‫الحــرص الخارجــي ‪-‬ممــن ُسـ ّـموا أصدقــاء‬ ‫الشــعب الســوري‪ -‬علــى التعامــل مــع‬

‫التنظيم واإلدارة ومدى التطبيق في الثورة‬ ‫الــكل‪ ،‬وإنمــا كانــوا يفضلــون التعاطــي الخطــط المرحليــة التشــغيلية والخطــط ليــس عســكر ًّيا فقــط‪ ،‬وإنمــا هــو سياســي‬ ‫أيضــا‪.‬‬ ‫مــع الجــزء الــذي يناســبهم حســب التوجــه االســراتيجية بعيــدة المــدى وفــق األهــداف واقتصــادي واجتماعــي ً‬ ‫الفكــري السياســي أو اإليديولوجــي الــذي المقــررة مســب ًقا‪.‬‬ ‫حتــى وإن رأينــا شــبه توقــف للصــراع‬ ‫اإلداري الجيــد هــو الــذي ُيحســن العســكري مــع نظــام األســد‪ ،‬فإنــه سيســتمر‬ ‫يمثلــه القائمــون علــى مؤسســة مــا‪ ،‬وهــذا إن‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫رســخ حالــة االنقســام والتعــدد وتكريــس تشــخيص واقعــه كمــا يحســن التنبــؤ وقــراءة بمجــاالت مختلفــة سياســية واقتصاديــة‬ ‫مصلحــة الفــرد والجماعــة‪ ،‬لهــذا غابــت المســتقبل‪ ،‬يعــرف كيــف يســتثمر المــوارد وحقوقيــة‪ ،‬كمــا أنــه سيســتمر مــن خــال‬ ‫المؤسســة التــي تديــر‬ ‫التطبيــق اإلداري المتاحــة واالســتثمار األمثــل لنتائــج النضــال المــدين الشــعبي‪ ،‬وإدارة المناطــق‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫بمنهجيــة موضوعيــة علميــة‪ ،‬وترســخت أفضــل؛ مســتوعبا خــال ذلــك كل األدوات المحــررة بشــكل صحيــح وإعطــاء نمــوذجٍ‬ ‫حالــة عــدم وجــود الجســم الواحــد الــذي‬ ‫ـري علمـ ٍّـي إلدارة القطاعــات الخدميــة‪،‬‬ ‫المتاحــة والفــرص وحتــى التحديــات التــي عصـ ٍّ‬ ‫يديــر المؤسســات ويــوزع الســلطات‪.‬‬ ‫أمامــه‪ ،‬فمــا كان يف الســابق تحد ًيــا هــو اليــوم والعمــل علــى اســتقرار األهالــي وخدمتهم‪...‬‬ ‫وهكــذا ســتكون الثــورة قــد تحولــت إلــى‬ ‫‪ -4‬عدم وجود منطقة آمنة‪:‬‬ ‫أيضــا صحيــح‪.‬‬ ‫فرصــة‪ ،‬والعكــس ً‬ ‫ٍ شــكلها الجديــد‪ ،‬وال ســيما بعــد أن انكشــفت‬ ‫كان النعــدام األمــن واســتمرار القصــف توجــد يف مناطقنــا اليــوم حالــة مــن نفــوذ‬ ‫كل الجماعــات المتطرفــة واالنفصاليــة أمــام‬ ‫العشــوائي علــى المناطــق المحــررة أثـ ٌـر كبير‬ ‫ٍ‬ ‫متــوزع‪ ،‬يرافقهــا دفــع باتجــاه حــل‬ ‫دولــي‬ ‫ّ‬ ‫والمغــرر هبــم‪.‬‬ ‫المخدوعيــن‬ ‫َّ‬ ‫يف إفشــال العمــل المؤسســايتِّ‪ ،‬حيــث أصبح‬ ‫سياســي لــم تتبلــور صورتــه حتــى اآلن‪،‬‬ ‫ٍّ‬ ‫مــن المتعــذر يف هــذه المناطق العمل بشــك ٍل كمــا نالحــظ انخفــاض القصــف يف مناطــق إن عدالــة قضيتنــا ال يكســبها القــدر َة علــى‬ ‫آمـ ٍ‬ ‫النفــوذ الدولــي وانعدامــه تما ًمــا يف مناطــق االســتمرار أو النجــاح‪ ،‬بــل ال بــد لهــا مــن‬ ‫ـن وحـ ّـر‪.‬‬ ‫أخــرى‪ ،‬حتــى عــادت أشــكال الحيــاة شــبه إدارة وتنظيــم كــي تصــل إلى مرحلة تســتطيع‬ ‫‪ -5‬التنظيمات المجهولة‪:‬‬ ‫طبيعيــة‪ ،‬لكــن بظــل مخ ّلفــات حرب قاســية‪ .‬فيهــا تحقيــق آمــال شــعبنا يف الخــاص مــن‬ ‫لعــل الســبب الخارجــي األهــم يف منــع‬ ‫العصابــة المتســلطة‪ ،‬وتســتحق فيهــا أن‬ ‫وواجبــات‬ ‫وواقــع‬ ‫ظــرف‬ ‫اآلن‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫جديــدٌ‬ ‫ٌ‬ ‫وجــود حالــة إداريــة مســتقرة يف مناطقنــا مــا‬ ‫ُتحــرم مــن قبــل الجميــع‪.‬‬ ‫قامــت بــه دول شــتى بالتعــاون مــع نظــام كبيــرةٌ‪ ،‬وال ِســ ّيما بعــد حــاالت التّهجيــر‬ ‫دائمــا‪،‬‬ ‫األســد أو حلفائــه اإلقليمييــن مــن إغــراق التــي طالــت كثيريــن‪ ،‬وواجبنــا اليــوم إن غيــاب اإلدارة يعنــي الفوضــى ً‬ ‫اإلداري الذاتيــة‪ ،‬والفوضــى تعنــي الفشــل‪ ،‬وقــد تنجــح‬ ‫الســاحة الســورية بأشــخاص مجهوليــن ِ‬ ‫قدمــوا تــايف كل أســباب الفشــل‬ ‫ِّ‬ ‫مــرة واحــدة‪ ،‬ولكــن‬ ‫بالفوضــى‬ ‫مــا‬ ‫قضيــة‬ ‫َّ‬ ‫خاصــا متطر ًفــا واســتغالل تغيــر الوضــع الخارجــي‪ ،‬فهنــاك‬ ‫عــر الحــدود ليقيمــوا مشــرو ًعا ًّ‬ ‫ـرص كثيــر ٌة هــذا النجــاح لــن يــدوم بالتأكيــد‪ ...‬وإذا‬ ‫ٌ‬ ‫ـ‬ ‫ف‬ ‫ـا‬ ‫ـ‬ ‫أمامن‬ ‫ـزال‬ ‫ـ‬ ‫ت‬ ‫وال‬ ‫ة‬ ‫ـ‬ ‫آمن‬ ‫ـق‬ ‫ـ‬ ‫مناط‬ ‫ُ‬ ‫ٌ‬ ‫ال عالقــة لــه بالوضــع الســوري‪ ،‬اســتغل الديــن‬ ‫لالســتفادة منهــا وإدارة المناطــق بــكل غــاب التخطيــط فالبديــل هــو االرتجــال‬ ‫واحــرام النــاس له إلفشــال المشــروع الســوري‬ ‫مواردهــا وتجميــع كل الطاقــات وتوظيفهــا واالنفعــال‪.‬‬ ‫داخل ًّيــا وخارج ًّيــا وضــرب الحالــة الســورية‬ ‫ا‬ ‫د‬ ‫عــد‬ ‫هنــاك‬ ‫أن‬ ‫كمــا‬ ‫الخــرات‪،‬‬ ‫وتقديــم‬ ‫ً إذا غــاب التنظيــم عــر الســلطة الواحــدة‬ ‫أي مؤسســة مــن التطــور أو النجــاح‪،‬‬ ‫ومنــع ّ‬ ‫ٍ‬ ‫والوقــوف ســدًّ ا منيعــا ضــد أي حالــة إداريــة‪ ،‬مــن الكــوادر التــي اكتســبت خــرات جيــد ًة فالبديــل هــو التشــرذم والســلطات المتعــددة‬ ‫وقــد كانــت هنــاك حالــة تخــادم دائمــة بيــن نظام طيلــة الســنين الماضيــة‪ ،‬يمكــن االســتفادة والمتخاصمــة‪ ،‬والنتيجــة هــي الضيــاع‪ ،‬قــال‬ ‫ـب‬ ‫﴿و َل َتن َ​َاز ُعوا‪َ ‬ف َت ْف َش ـ ُلوا َو َت ْذ َهـ َ‬ ‫األســد وبيــن هــذه القــوى الظالميــة التــي ُت َعــدُّ منهــا‪ ،‬وخاصــة يف ظــل وجــود أعــداد مــن اهلل تعالــى‪َ :‬‬ ‫ـم﴾ [ســورة األنفــال‪ :‬آيــة ‪.]46‬‬ ‫الســاح األقــوى الــذي أســهم يف إيصــال الحالة منظمــات العمــل المجتمعــي التــي تحركــت ِر ُ‬ ‫يح ُكـ ْ‬ ‫يف هــذه المســاحات وعملــت بحرفيــة‬ ‫الســورية إلــى مــا نــراه عليهــا اليــوم‪.‬‬ ‫ـباب الفش ـ ِل المـ ِّـر لســنين‪،‬‬ ‫لقــد حم ْلنــا أسـ َ‬ ‫لســنوات مــن أجــل المجتمــع‪.‬‬ ‫وقــد آن األوان لنتخلــص مــن هــذه‬ ‫الواقع الحايل والحلول‬ ‫هنــاك الواجــب المتأخــر جــدًّ ا وهــو الســعي األســباب المتمثلــة يف غيــاب القيــادة‬ ‫للجســم الواحــد المنظــم‪ ،‬الــذي يســتقطب والســلطة الواحــدة وســوء التنظيــم واإلدارة‪،‬‬ ‫إن الواقــع الحالــي اليــوم يف المناطــق‬ ‫الكفــاءات ويشــرف علــى كل النواحــي اإلدارية وإن االســتمرار هكــذا يعنــي المزيــد مــن‬ ‫المحــررة مختلــف تما ًمــا عــن الســابق‪،‬‬ ‫االســتنزاف والضيــاع والخســائر‪ ...‬وأختــم‬ ‫وهنــاك ظــروف جديــدة نحتــاج فهمهــا مــن والتنظيميــة ويضــع اســراتيجيات عملهــا‪.‬‬ ‫بقــول النبــي صلــى اهلل عليــه وســلم‪« :‬إن اهلل‬ ‫أجــل العمــل بمــا يناســب المرحلــة انطال ًقــا إن تشــكيل الجســم الواحــد للمناطــق‬ ‫يحــب إذا عمــل أحدكــم عم ـاً أن يتقنــه»(((‪.‬‬ ‫نحــو الهــدف‪ ،‬وهــذا عمــل اإلدارييــن؛ إذ المحــررة سيحســن شــروط التفــاوض‬ ‫ُي ِّ‬ ‫شــخصون الواقــع الحالــي‪ ،‬ثــم يضعــون والعمليــة السياســية‪ ،‬فالصــراع يف منطقتنــا ((( أخرجه أبو يعلى والطرباين‪.‬‬ ‫‪79‬‬


‫التنظيم واإلدارة ومدى التطبيق في الثورة‬ ‫التمييــز بيــن المؤسســات الخدميــة التــي المدنيــة‪:‬‬ ‫ال ينبغــي المســاس هبــا وبيــن المؤسســات لقــد كان لتدخــل الفصائــل العســكرية يف‬ ‫الطائفيــة والحزبيــة التــي تمثــل النظــام المؤسســات المدنيــة للمناطــق المحــررة‬ ‫ويســيطر مــن خاللهــا علــى أركان الدولــة‪،‬‬ ‫دور كبيــر يف إفشــال كثيــر مــن التجــارب‬ ‫ٌ‬ ‫فتــم التعامــل مــع المؤسســات علــى أهنــا اإلداريــة التــي ظهــرت فيهــا بــوادر‬ ‫ســواء‪ ،‬وأصبــح التعامــل علــى أســاس النجــاح واألمــل‪ ،‬وال ِســ ّيما التنظيمــات‬ ‫انتمــاء الموظــف ومديــر المؤسســة ورأيــه اإليديولوجيــة والقــوى االنفصاليــة التــي‬ ‫السياســي‪ ،‬وليــس علــى أســاس خربتــه‪ ،‬كانــت تســعى إلــى أهــداف خاصــة ال تتفــق‬ ‫إضافــة إلــى عــدم تأميــن البديــل المناســب أبــدً ا مــع أهــداف الشــعب والثــورة‪.‬‬ ‫لمــن ُمنعــوا مــن العمــل‪.‬‬ ‫‪ -8‬التوجه نحو الدعم الخارجي‪:‬‬ ‫‪ -4‬قلة الخبرات اإلدارية‪:‬‬ ‫لقــد كان لتوجــه النــاس نحــو الدعــم‬ ‫مــن األســباب أيضــا قلــة الخــرات اإلداريــة الخارجــي بــدل الســعي لالكتفــاء الــذايت‬ ‫التــي تجمــع بيــن المعرفــة النظريــة والخــرة عــر إدارة المــوارد واســتثمارها بالشــكل‬ ‫أثــر كبيــر يف فشــل الحالــة‬ ‫العمليــة‪ ،‬مــع االســتعداد الشــخصي‪ ،‬أقصــد الصحيــح؛ ٌ‬ ‫بمســتوى خــراء وليــس مبتدئيــن‪ ،‬أو بتعبيــر اإلداريــة ومنجــزات الثــورة عمو ًمــا‪.‬‬ ‫القــرآن الكريــم ﴿القــوي األميــن﴾‪.‬‬ ‫‪ -9‬انفصال السلطة عن الخبرة‪:‬‬ ‫‪ -5‬تدمير نظام األسد للبنى التحتية‪:‬‬ ‫كان ذوو الخــرة بــا ســلطة لإلنجــاز‪،‬‬ ‫َت َع َّمــدَ نظــام األســد تدمير ٍ‬ ‫كثير من المنشــآت وأصحــاب الســلطة بــا خــرة؛ إذ لــم‬ ‫الخدمية والمؤسســات التي يمكن االســتفادة تســتقطب هــذه المؤسســات ذوي الخــرات‪،‬‬ ‫منهــا؛ إذ عمــد إلــى تدميــر البنــى التحت ّيــة ولــم يتــم االســتفادة مــن الخــراء الذيــن‬ ‫والمراكــز الحيويــة مــن أجــل ســلب النــاس ابتعــدوا أو انشــقوا عــن النظــام‪ ،‬ممــا أجربهــم‬ ‫الشــعور باالســتقرار يف المناطــق الخارجــة الحقــا علــى االلتحــاق بأعمــال فرديــة بح ًثــا‬ ‫َ‬ ‫عــن ســيطرته‪ ،‬ومنــع النــاس مــن االســتفادة عــن ســبل البقــاء والحصــول علــى لقمــة‬ ‫مــن هــذه المراكــز‪ ،‬وإفشــال أي تجربــة إداريــة العيــش يف بــاد الهجــرة‪ ،‬وبعضهــم اضطــر‬ ‫للســفر والهجــرة بح ًثــا عــن حــق اللجــوء يف‬ ‫ناجحــة يف تلــك المناطــق‪.‬‬ ‫بعــض الــدول التــي تمنحــه‪.‬‬ ‫‪ -6‬عدم استثمار الموارد‪:‬‬ ‫‪ -10‬غياب الرقابة والمحاسبة‪:‬‬

‫إن المــوارد الماديــة يف المناطــق المحــررة‬ ‫بعمومهــا تقســمت بيــن القــوى العســكرية‬ ‫المســيطرة‪ ،‬ولــم تحصــل حالــة اســتثمار‬ ‫منظمــة لهــا تعــود بالفائــدة العامــة علــى‬ ‫المناطــق التــي تحكمهــا‪ ،‬وأبــرز هــذه‬ ‫المــواد المهــدرة النفــط والغــاز والمعابــر‬ ‫والمحاصيــل الزراعيــة والمنشــآت‬ ‫االقتصاديــة؛ إذ تراجــع إنتــاج كثيــر مــن‬ ‫وه ِّمشــت مؤسســاهتا‪ ،‬وكان األسباب الخارجية‪:‬‬ ‫هــذه المــواد‪ُ ،‬‬ ‫كل ذلــك نتيجــة حتميــة لغيــاب المؤسســة بعــد ذكــر أبــرز األســباب الذاتيــة الداخليــة‬ ‫الواحــدة والجســم الواحــد‪ ،‬وتعــدد للفشــل التنظيمــي واإلداري ســأذكر أبــرز‬ ‫الســلطات واختالفهــا فيمــا بينهــا‪.‬‬ ‫األســباب الخارجيــة‪ ...‬وأقصــد باألســباب‬ ‫‪ -7‬تدخــل الحالــة العســكرية بــاإلدارة الخارجيــة مــا كان خــارج المناطــق المحررة‬ ‫كبيــر يف‬ ‫أثــر‬ ‫ٌ‬ ‫لقــد كان لغيــاب الرقابــة ٌ‬ ‫انفــات المؤسســات‪ ،‬إذ المخطــئ يحتــاج‬ ‫مــن يردعــه ويوقفــه عنــد حــده‪ ،‬ومــن‬ ‫المعلــوم ضــرورة يف كل النظــم اإلداريــة أن‬ ‫مراقبــة األداء ومحاســبة المقصــر مــن أهــم‬ ‫أســباب النجــاح والتقــدم المؤسســايت‪.‬‬

‫‪78‬‬

‫أو مناطــق ســيطرة المعارضــة‪ ،‬أو مــا كان‬ ‫خــارج قــدرة قــوى الثــورة والمعارضــة‪،‬‬ ‫وليــس خــارج ســوريا فقــط‪ ،‬وهــذه‬ ‫أيضــا‪ ،‬وســأقتصر علــى‬ ‫األســباب كثيــرة ً‬ ‫ذكــر أهمهــا‪ ،‬وهــي‪:‬‬ ‫‪ -1‬القصف المستمر‪:‬‬

‫القصــف المســتمر مــن قبــل النظــام‬ ‫وحلفائــه بأســلحة ذات قــدرة تدميريــة‬ ‫عاليــة‪ ،‬ومنهــا مــا هــو محظــور دول ًّيــا‪ ،‬ممــا‬ ‫جعــل العمــل يف ظــل هــذه األجــواء خطِـ ًـرا‬ ‫للغايــة‪ ،‬فكانــت حالــة اللجــوء والنــزوح‬ ‫الداخلــي حالــة مســتمرة لــم تتوقــف إلــى‬ ‫يومنــا هــذا‪ ،‬لكــن تختلــف صعــو ًدا وهبو ًطــا‬ ‫حســب األوضــاع المتقلبــة‪.‬‬ ‫موحدة‪:‬‬ ‫‪ -2‬عدم وجود حكومة َّ‬

‫لقــد تــم طــرح تشــكيل حكومــة مؤقتــة‬ ‫المحــررة‪ ،‬لكــن لــم يكــن‬ ‫يف المناطــق‬ ‫ّ‬ ‫موقــف أصدقــاء الشــعب الســوري واحــدً ا‬ ‫تجاههــا‪ ،‬فكانــت هنــاك تباينــات مــن‬ ‫الدفــع هبــا والــردد بدعمهــا والتعامــل معهــا‬ ‫نظــرا لعــدم تحقيقهــا‬ ‫أو االعــراف هبــا‪،‬‬ ‫ً‬ ‫ـم تشــكيل‬ ‫لمصالحهــم الخاصــة‪ ،‬وعندمــا تـ َّ‬ ‫حكومــة مؤقتــة يف الخــارج ســعت كثيــر‬ ‫مــن الــدول لوضــع أســباب فشــلها‪ ،‬إذ لــم‬ ‫تتشــكل مــن القــوى الحقيقيــة المم ِّثلــة‬ ‫للشــعب الســوري‪ ،‬ممــا أضعــف فاعليتهــا‪،‬‬ ‫وال ِســ ّيما أهنــا لــم تســتوعب الداخــل‬ ‫المحــرر‪ ،‬فبقيــت حال ـ ًة ُم ْشــكلة مــن ضمــن‬ ‫خصوصــا الجنــاح‬ ‫الحــاالت الكثيــرة‬ ‫ً‬ ‫العســكري لهــا‪ ،‬ممــا أبقاهــا متناثــرة ُتــدار‬ ‫مــن قبــل مدن ّييــن عاد ّييــن‪ ،‬ال خــرة لهــم وال‬ ‫ســلطة علــى األرض‪ ،‬فبقــي دورهــا جزئ ًّيــا‪،‬‬ ‫أو باألحــرى بقيــت بــا دور حقيقــي يف‬ ‫الواقــع‪.‬‬ ‫‪ -3‬اختــاف الــرؤى واألهــداف لــدى دول‬ ‫األصدقــاء‪:‬‬

‫وكان هــذا مــن أســباب إفشــال الحالــة‬ ‫التنظيميــة للمناطــق المحــررة‪ ،‬إذ لــم يكــن‬ ‫الحــرص الخارجــي ‪-‬ممــن ُسـ ّـموا أصدقــاء‬ ‫الشــعب الســوري‪ -‬علــى التعامــل مــع‬

‫التنظيم واإلدارة ومدى التطبيق في الثورة‬ ‫الــكل‪ ،‬وإنمــا كانــوا يفضلــون التعاطــي الخطــط المرحليــة التشــغيلية والخطــط ليــس عســكر ًّيا فقــط‪ ،‬وإنمــا هــو سياســي‬ ‫أيضــا‪.‬‬ ‫مــع الجــزء الــذي يناســبهم حســب التوجــه االســراتيجية بعيــدة المــدى وفــق األهــداف واقتصــادي واجتماعــي ً‬ ‫الفكــري السياســي أو اإليديولوجــي الــذي المقــررة مســب ًقا‪.‬‬ ‫حتــى وإن رأينــا شــبه توقــف للصــراع‬ ‫اإلداري الجيــد هــو الــذي ُيحســن العســكري مــع نظــام األســد‪ ،‬فإنــه سيســتمر‬ ‫يمثلــه القائمــون علــى مؤسســة مــا‪ ،‬وهــذا إن‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫رســخ حالــة االنقســام والتعــدد وتكريــس تشــخيص واقعــه كمــا يحســن التنبــؤ وقــراءة بمجــاالت مختلفــة سياســية واقتصاديــة‬ ‫مصلحــة الفــرد والجماعــة‪ ،‬لهــذا غابــت المســتقبل‪ ،‬يعــرف كيــف يســتثمر المــوارد وحقوقيــة‪ ،‬كمــا أنــه سيســتمر مــن خــال‬ ‫المؤسســة التــي تديــر‬ ‫التطبيــق اإلداري المتاحــة واالســتثمار األمثــل لنتائــج النضــال المــدين الشــعبي‪ ،‬وإدارة المناطــق‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫بمنهجيــة موضوعيــة علميــة‪ ،‬وترســخت أفضــل؛ مســتوعبا خــال ذلــك كل األدوات المحــررة بشــكل صحيــح وإعطــاء نمــوذجٍ‬ ‫حالــة عــدم وجــود الجســم الواحــد الــذي‬ ‫ـري علمـ ٍّـي إلدارة القطاعــات الخدميــة‪،‬‬ ‫المتاحــة والفــرص وحتــى التحديــات التــي عصـ ٍّ‬ ‫يديــر المؤسســات ويــوزع الســلطات‪.‬‬ ‫أمامــه‪ ،‬فمــا كان يف الســابق تحد ًيــا هــو اليــوم والعمــل علــى اســتقرار األهالــي وخدمتهم‪...‬‬ ‫وهكــذا ســتكون الثــورة قــد تحولــت إلــى‬ ‫‪ -4‬عدم وجود منطقة آمنة‪:‬‬ ‫أيضــا صحيــح‪.‬‬ ‫فرصــة‪ ،‬والعكــس ً‬ ‫ٍ شــكلها الجديــد‪ ،‬وال ســيما بعــد أن انكشــفت‬ ‫كان النعــدام األمــن واســتمرار القصــف توجــد يف مناطقنــا اليــوم حالــة مــن نفــوذ‬ ‫كل الجماعــات المتطرفــة واالنفصاليــة أمــام‬ ‫العشــوائي علــى المناطــق المحــررة أثـ ٌـر كبير‬ ‫ٍ‬ ‫متــوزع‪ ،‬يرافقهــا دفــع باتجــاه حــل‬ ‫دولــي‬ ‫ّ‬ ‫والمغــرر هبــم‪.‬‬ ‫المخدوعيــن‬ ‫َّ‬ ‫يف إفشــال العمــل المؤسســايتِّ‪ ،‬حيــث أصبح‬ ‫سياســي لــم تتبلــور صورتــه حتــى اآلن‪،‬‬ ‫ٍّ‬ ‫مــن المتعــذر يف هــذه المناطق العمل بشــك ٍل كمــا نالحــظ انخفــاض القصــف يف مناطــق إن عدالــة قضيتنــا ال يكســبها القــدر َة علــى‬ ‫آمـ ٍ‬ ‫النفــوذ الدولــي وانعدامــه تما ًمــا يف مناطــق االســتمرار أو النجــاح‪ ،‬بــل ال بــد لهــا مــن‬ ‫ـن وحـ ّـر‪.‬‬ ‫أخــرى‪ ،‬حتــى عــادت أشــكال الحيــاة شــبه إدارة وتنظيــم كــي تصــل إلى مرحلة تســتطيع‬ ‫‪ -5‬التنظيمات المجهولة‪:‬‬ ‫طبيعيــة‪ ،‬لكــن بظــل مخ ّلفــات حرب قاســية‪ .‬فيهــا تحقيــق آمــال شــعبنا يف الخــاص مــن‬ ‫لعــل الســبب الخارجــي األهــم يف منــع‬ ‫العصابــة المتســلطة‪ ،‬وتســتحق فيهــا أن‬ ‫وواجبــات‬ ‫وواقــع‬ ‫ظــرف‬ ‫اآلن‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫جديــدٌ‬ ‫ٌ‬ ‫وجــود حالــة إداريــة مســتقرة يف مناطقنــا مــا‬ ‫ُتحــرم مــن قبــل الجميــع‪.‬‬ ‫قامــت بــه دول شــتى بالتعــاون مــع نظــام كبيــرةٌ‪ ،‬وال ِســ ّيما بعــد حــاالت التّهجيــر‬ ‫دائمــا‪،‬‬ ‫األســد أو حلفائــه اإلقليمييــن مــن إغــراق التــي طالــت كثيريــن‪ ،‬وواجبنــا اليــوم إن غيــاب اإلدارة يعنــي الفوضــى ً‬ ‫اإلداري الذاتيــة‪ ،‬والفوضــى تعنــي الفشــل‪ ،‬وقــد تنجــح‬ ‫الســاحة الســورية بأشــخاص مجهوليــن ِ‬ ‫قدمــوا تــايف كل أســباب الفشــل‬ ‫ِّ‬ ‫مــرة واحــدة‪ ،‬ولكــن‬ ‫بالفوضــى‬ ‫مــا‬ ‫قضيــة‬ ‫َّ‬ ‫خاصــا متطر ًفــا واســتغالل تغيــر الوضــع الخارجــي‪ ،‬فهنــاك‬ ‫عــر الحــدود ليقيمــوا مشــرو ًعا ًّ‬ ‫ـرص كثيــر ٌة هــذا النجــاح لــن يــدوم بالتأكيــد‪ ...‬وإذا‬ ‫ٌ‬ ‫ـ‬ ‫ف‬ ‫ـا‬ ‫ـ‬ ‫أمامن‬ ‫ـزال‬ ‫ـ‬ ‫ت‬ ‫وال‬ ‫ة‬ ‫ـ‬ ‫آمن‬ ‫ـق‬ ‫ـ‬ ‫مناط‬ ‫ُ‬ ‫ٌ‬ ‫ال عالقــة لــه بالوضــع الســوري‪ ،‬اســتغل الديــن‬ ‫لالســتفادة منهــا وإدارة المناطــق بــكل غــاب التخطيــط فالبديــل هــو االرتجــال‬ ‫واحــرام النــاس له إلفشــال المشــروع الســوري‬ ‫مواردهــا وتجميــع كل الطاقــات وتوظيفهــا واالنفعــال‪.‬‬ ‫داخل ًّيــا وخارج ًّيــا وضــرب الحالــة الســورية‬ ‫ا‬ ‫د‬ ‫عــد‬ ‫هنــاك‬ ‫أن‬ ‫كمــا‬ ‫الخــرات‪،‬‬ ‫وتقديــم‬ ‫ً إذا غــاب التنظيــم عــر الســلطة الواحــدة‬ ‫أي مؤسســة مــن التطــور أو النجــاح‪،‬‬ ‫ومنــع ّ‬ ‫ٍ‬ ‫والوقــوف ســدًّ ا منيعــا ضــد أي حالــة إداريــة‪ ،‬مــن الكــوادر التــي اكتســبت خــرات جيــد ًة فالبديــل هــو التشــرذم والســلطات المتعــددة‬ ‫وقــد كانــت هنــاك حالــة تخــادم دائمــة بيــن نظام طيلــة الســنين الماضيــة‪ ،‬يمكــن االســتفادة والمتخاصمــة‪ ،‬والنتيجــة هــي الضيــاع‪ ،‬قــال‬ ‫ـب‬ ‫﴿و َل َتن َ​َاز ُعوا‪َ ‬ف َت ْف َش ـ ُلوا َو َت ْذ َهـ َ‬ ‫األســد وبيــن هــذه القــوى الظالميــة التــي ُت َعــدُّ منهــا‪ ،‬وخاصــة يف ظــل وجــود أعــداد مــن اهلل تعالــى‪َ :‬‬ ‫ـم﴾ [ســورة األنفــال‪ :‬آيــة ‪.]46‬‬ ‫الســاح األقــوى الــذي أســهم يف إيصــال الحالة منظمــات العمــل المجتمعــي التــي تحركــت ِر ُ‬ ‫يح ُكـ ْ‬ ‫يف هــذه المســاحات وعملــت بحرفيــة‬ ‫الســورية إلــى مــا نــراه عليهــا اليــوم‪.‬‬ ‫ـباب الفش ـ ِل المـ ِّـر لســنين‪،‬‬ ‫لقــد حم ْلنــا أسـ َ‬ ‫لســنوات مــن أجــل المجتمــع‪.‬‬ ‫وقــد آن األوان لنتخلــص مــن هــذه‬ ‫الواقع الحايل والحلول‬ ‫هنــاك الواجــب المتأخــر جــدًّ ا وهــو الســعي األســباب المتمثلــة يف غيــاب القيــادة‬ ‫للجســم الواحــد المنظــم‪ ،‬الــذي يســتقطب والســلطة الواحــدة وســوء التنظيــم واإلدارة‪،‬‬ ‫إن الواقــع الحالــي اليــوم يف المناطــق‬ ‫الكفــاءات ويشــرف علــى كل النواحــي اإلدارية وإن االســتمرار هكــذا يعنــي المزيــد مــن‬ ‫المحــررة مختلــف تما ًمــا عــن الســابق‪،‬‬ ‫االســتنزاف والضيــاع والخســائر‪ ...‬وأختــم‬ ‫وهنــاك ظــروف جديــدة نحتــاج فهمهــا مــن والتنظيميــة ويضــع اســراتيجيات عملهــا‪.‬‬ ‫بقــول النبــي صلــى اهلل عليــه وســلم‪« :‬إن اهلل‬ ‫أجــل العمــل بمــا يناســب المرحلــة انطال ًقــا إن تشــكيل الجســم الواحــد للمناطــق‬ ‫يحــب إذا عمــل أحدكــم عم ـاً أن يتقنــه»(((‪.‬‬ ‫نحــو الهــدف‪ ،‬وهــذا عمــل اإلدارييــن؛ إذ المحــررة سيحســن شــروط التفــاوض‬ ‫ُي ِّ‬ ‫شــخصون الواقــع الحالــي‪ ،‬ثــم يضعــون والعمليــة السياســية‪ ،‬فالصــراع يف منطقتنــا ((( أخرجه أبو يعلى والطرباين‪.‬‬ ‫‪79‬‬


‫حقول داللية استحدثتها الثورة السورية‬

‫ٌ‬ ‫قول َدالل ّية‬ ‫ُح‬

‫حدث ْتها َّ‬ ‫الث ُ‬ ‫السور َّية‬ ‫ورة ُّ‬ ‫اسـ َت َ‬ ‫الدكتور عبد السميع مصطفى األحمد‬

‫باحث وأكاديمي سوري‬

‫غال ًبــا مــا يصاحــب األحــداث الج ّلــى تغييــرات كثيــرة علــى‬ ‫مســتويات متنوعــة يف مســيرة الــدول واألمــم‪ ،‬ومن شــأن المختصين‬ ‫والمراقبيــن علــى اختــاف اهتماماتهــم اســتجالء هــذه التطــورات‬ ‫ورصدهــا ومراقبتهــا يف المجتمعــات التــي تتعــرض لمثــل هــذه‬ ‫التغيــرات‪ ،‬واللغــة بِعدِّ هــا كائنًــا اجتماع ًّيــا متطـ ّـو ًرا تمثــل أحــد هــذه‬ ‫المنحنيــات القابلــة للتغييــر والتطـ ّـور بوتائــر متفاوتــة‪ ،‬مــن لغــة إلــى‬ ‫أخــرى‪ ،‬ومــن أمــة إلــى أمــة‪ ،‬ومــن مجتمــع إلــى آخــر‪ ،‬بحســب قــوة‬ ‫هــذا الحــدث‪ ،‬وشــدة تأثيــره يف األفــراد‪.‬‬ ‫نموذجــا ح ًّيــا لدراســة‬ ‫وممــا ال شــك فيــه أن الثــورة الســورية تعــد‬ ‫ً‬ ‫مثــل هــذا التطــور؛ لمــا حفلــت بــه مــن أحــداث‪ ،‬وحملتــه مــن‬ ‫وصاحبهــا مــن مــآس‪.‬‬ ‫عظائــم‪،‬‬ ‫َ‬

‫وقــد حاولــت تتبــع تأثيــر الثــورة الســورية يف اللغــة‪ ،‬فوجــدت أن‬ ‫ـب بشــكل كبيــر علــى اســتحداث ألفــاظ جديــدة‪،‬‬ ‫ُجـ َّـل ذلــك ينصـ ُّ‬ ‫ونقــل الحقــل الداللــي‪ ،‬وتــكاد تكــون معظــم التحــوالت اللغويــة‬ ‫منضويــة تحــت هــذا الســبب األخيــر‪.‬‬

‫فمــن النــوع األول؛ وهــو االســتحداث‪ ،‬نجــد مثـ ًـا كلمــات جديــدة‬ ‫لــم تكــن مســتعملة يف اللغــة الفصيحــة والعاميــة الســورية‪ ،‬ومــن‬ ‫ذلــك‪« :‬د ِ‬ ‫اعـ ْـش‪ِ ،‬‬ ‫وهتِـ ْـش‪ ،‬و َق َســدْ ‪ ،»..‬وهــذه تعــد مــن المصطلحــات‬ ‫َ‬ ‫التــي تقــوم علــى النحــت‪ ،‬وهــو ضــم حــروف كلمــات معينــة‬ ‫إلنتــاج لفظــة واحــدة مــن أوائــل هــذه الكلمــات‪ ،‬أو أواخرهــا مثـ ًـا‪،‬‬ ‫وهــي طريقــة مألوفــة يف العربيــة‪ ،‬وإن كانــت اللغــات األخــرى أكثــر‬ ‫ً‬ ‫ـتعمال لهــذا النــوع مــن التطويــر‪ ،‬ومــن المصطلحــات الشــهيرة‬ ‫اسـ‬ ‫يف ذلــك «حمــاس» و» فتــح»‪ ،‬فـ»حمــاس» مثـ ًـا مؤلفــة مــن أوائــل‬ ‫الكلمــات التاليــة‪ :‬حركــة المقاومــة اإلســامية‪ ،‬وأمــا كلمــة «فتــح»‬ ‫فجــاءت مــن معكــوس كلمــات‪ :‬حركــة التحريــر الفلســطينية‪.‬‬ ‫مثــا أن «د ِ‬ ‫اع ْ‬ ‫وإذا عدنــا إلــى ألفــاظ الثــورة الســورية نجــد ً‬ ‫ــش»‬ ‫َ‬ ‫جــاءت اختصــارا لألحــرف األولــى من كلمــات‪ :‬الدولة اإلســامية‬ ‫يف العــراق والشــام‪ .‬وجــاءت ِ‬ ‫«هتِـ ْـش» مــن حــروف‪ :‬هيئــة تحريــر‬ ‫الشــام‪ ،‬كمــا جــاءت « َقســدْ » مــن‪ :‬قــوات ســوريا الديمقراطيــة‪.‬‬ ‫‪80‬‬

‫أيضــا كلمــة‪« :‬العر ِ‬ ‫اعيـ ْـر»‪ ،‬وهي جمع‬ ‫ومــن المفــردات المســتحدثة ً‬ ‫َ​َ‬ ‫لكلمــة « َع ْر ُعــور»‪ ،‬ويقصــدون بــه الشــيخ عدنــان عرعــور‪ ،‬الــذي‬ ‫كان مــن المج ِّيشــين للثــورة يف بدايتهــا‪ ،‬وتشــبه مفــردة العراعيــر‬ ‫أيضــا كلمــة «ال َعاللِيـ ْـش» مــع مالحظــة الفــارق الزمنــي يف انتشــار‬ ‫ً‬ ‫المفردتيــن‪ ،‬وهــي يف األصــل نســبة لمؤســس جيــش اإلســام‪،‬‬ ‫َز ْهــران َع ُّلــوش‪ ،‬وقــد أصبحــت مفردتــا» العراعيــر والعالليــش»‬ ‫هتكمــا واســتهزاء‪ -‬علــى إســاميي المجاهديــن ك ِّلهــم‪.‬‬‫تطلقــان‬ ‫ً‬ ‫أمــا النــوع الثــاين مــن النقــل والتوســع يف الحقــول الدالليــة فكثيــر‬ ‫«الحر َّيــة» ومشــتقاهتا‬ ‫جــدًّ ا‪ ،‬وتــأيت يف مقدمــة هــذا النــوع مفــردة‬ ‫ِّ‬ ‫التــي أصبحــت مالزمــة لــكل مــا يتصــل بالمعارضــة الثائــرة‪ ،‬مثــل‪:‬‬ ‫ـرار ّ‬ ‫الشــام‪ ،‬ومجلــس حلــب الحــرة‪ ،‬واتحــاد‬ ‫الجيـ ُـش الحـ ُّـر‪ ،‬وأحـ ُ‬ ‫كتــاب ســوريا األحــرار‪ ،‬وهكــذا‪..‬‬

‫البخـ ُ‬ ‫وتــكاد تكــون كلمتــا «الــ ُـمنْدَ ِّس» و»الرجـ ُـل ّ‬ ‫ـاخ» مــن أوليــات‬ ‫هــذه المفــردات التــي راجــت يف األيــام األولــى للثــورة‪ ،‬أمــا‬ ‫«الرجــل البخــاخ» فهــو ذلــك الحــر ‪-‬رجـ ًـا كان أو امــرأةً‪ ،‬شــا ًّبا أو‬ ‫فتــاة‪ -‬الــذي يقتنــص فرصــة الظــام وانســدال الليــل علــى البيــوت‪،‬‬ ‫فيتطــوع بالخــروج متنكـ ًـرا يف غفلــة مــن العيــون‪ ،‬لكتابــة عبــارات‬ ‫تدعــو للحريــة واالنتفاضــة والثــورة علــى جــدران المــدارس‬ ‫وأفــواه األســواق والمبــاين الرســمية‪ ...‬وأمــا لفظــة «المنــدس» فقــد‬ ‫اســتعملها إعــام النظــام بقــوة يف األيــام األولــى للحــراك الثــوري‬ ‫يف ســوريا؛ للتهويــن مــن شــأن هــذا المســار‪ ،‬والتقليــل مــن أعــداد‬ ‫المناديــن بالحريــة‪ ،‬وتقزيــم الزخــم المعــارض آنــذاك‪ ،‬وظلــت‬ ‫أبــواق النظــام َت ِصـ ُّـر ‪-‬ببالهــة وص َلــف‪ -‬علــى هــذا «االندســاس»‬ ‫حتــى بعــد أن مــأت أعــداد الثائريــن الســاحات وأغلقت الشــوارع‪،‬‬ ‫ممــا أثــار موجــة مــن التف ِّكــه والتنــدّ ر بيــن الجماهيــر‪.‬‬ ‫وبعــد كلمــة «المندســين» تجــيء كلمــات‪« :‬المؤ ِّي ِديــن‬ ‫ِ ِ‬ ‫ـرزا طبيع ًّيــا للشــعب الســوري‬ ‫والرماد ِّييــن» بِعدِّ هــا فـ ً‬ ‫والمعارضيــن َّ‬ ‫وموقــف أفــراده مــن الثــورة‪ ،‬ويمكننــا كذلــك أن نســلك يف هــذا‬ ‫أيضــا مفــردة أخــرى تــدور يف فلــك هــذا الحقــل الداللــي‪،‬‬ ‫الســياق ً‬

‫حقول داللية استحدثتها الثورة السورية‬ ‫وهــي كلمــة «الــ ِ‬ ‫ـمن ِْح َّب ْك ِ‬ ‫ج َّية»‪ ،‬وهــي منحوتــة مــن قــول الســوريين‪:‬‬ ‫«مِنْح َّب ْ‬ ‫ــك» أي‪« :‬نحــن نحبــك»‪ ،‬وكان المعارضــون َي ِســمون هبــا‬ ‫المؤيديــن‪.‬‬ ‫وتــأيت عبــارة (اهلل َي ْط ِف َيهــا بنـ ِ‬ ‫مصطلحــا يندرج كذلك يف مســاق‬ ‫ـوره)‬ ‫ً‬ ‫الفــرز الحــا ّد بيــن الســوريين‪ ،‬ويطلــق هــذا المصطلــح عــادة علــى‬ ‫جماعــة هــي أقــرب إلــى الرماد ِّييــن الذيــن آثــروا عــدم االصطفــاف‬ ‫إلــى أحــد فريقــي الصــراع‪ ،‬وإن كان جمهــور المعارضيــن يعــدُّ ون‬ ‫هــذه الفئــة مؤ ِّيــدة صامتــة‪.‬‬ ‫«المن َْشـ ُّـق»‪ ،‬فقــد ظهــرت يف بدايــة عســكرة الثــورة‪ ،‬حيث‬ ‫أمــا كلمــة ُ‬ ‫بــدأ بعــض ضبــاط الجيــش ينشــقون عــن المؤسســة العســكرية‪،‬‬ ‫وينضمــون لجمــوع المعارضــة‪ ،‬مشــكلين نــواة لمــا أطلــق عليــه‬ ‫آنــذاك مصطلــح «الجيــش الحــر»‪.‬‬

‫وقــد تكــون كلمــة َّ‬ ‫«الشـ ِّبيح» أشــهر المفــردات التــي درجــت علــى‬ ‫األلســنة‪ ،‬وتعنــي المؤيــد المتشــدد يف تأييــده‪ ،‬أو ذاك الــذي يقــدم‬ ‫خدمــات موازيــة ألعمــال جيــش النظــام‪- ،‬ومثلهــا مــا أطلــق عليــه‪:‬‬ ‫صــرف الســوريون هــذه المفــردة‪،‬‬ ‫قــوات الدفــاع الوطنــي‪ -‬وقــد ّ‬ ‫ـبيح‪ ،‬والماضــي والمضــارع‬ ‫فاســتعملوا منهــا المصــدر‪ ،‬وهــو الت َّْشـ ُ‬ ‫واألمــر‪ ،‬فقالــوا‪َ :‬ش ـ َّب َح ‪ُ -‬ي َش ـ ِّب ُح‪ ،‬وهكــذا‪ ،‬والتشــبيح ليــس جديــدً ا‬ ‫يف ســوريا‪ ،‬بــل لــه جــذور ترجــع إلــى أواخــر الثمانينــات وأوائــل‬ ‫ـورا علــى فئــة مــن فئــات‬ ‫التســعينات عندمــا كان «التَّهريــب» مقصـ ً‬ ‫المجتمــع‪ ،‬تســتحوذ علــى هــذه التجــارة المحرمــة‪ ،‬والتــي تــدر‬ ‫عليهــم أمــوا ً‬ ‫ال طائلــة يف جميــع المحافظــات‪ ،‬وقــد كان هــؤالء‬ ‫المهربــون يســتخدمون ســيارات المرســيدس َّ‬ ‫«الش ـ َبح» المظللــة‪،‬‬ ‫ومــن كلمــة «الشــبح» هــذه جــاء مصطلــح التشــبيح‪.‬‬

‫وبعــد اشــتداد الصــراع‪ ،‬اســتخدم جيش النظــام كل أنواع األســلحة‬ ‫ســاحا جديــدا اســتعمله‪،‬‬ ‫التقليديــة المعروفــة بأســمائها‪ ،‬ولكــن‬ ‫ً‬ ‫عظيمــا‪ ،‬ود َّمــر البيــوت‬ ‫ســاح الجــو‪ ،‬فقــد فتــك بالشــعب فتــ ًكا‬ ‫ً‬ ‫ِ‬ ‫المتفجــرة»‪ ،‬وهــو‬ ‫وأحــرق األخضــر واليابــس‪ ،‬ذاك هــو «ال َب َراميـ ُـل‬ ‫ِّ‬ ‫مصطلــح جديــد نســب ًيا‪ ،‬وقــد ذاع صيتــه بيــن الســوريين؛ لمــا كان‬ ‫لــه مــن قــوة تدميريــة غيــر منضبطــة أو مركــزة‪ ،‬وبالمقابــل حاولــت‬ ‫فصائــل المعارضــة المسـ ّلحة أن تــرد بمــا توفــر لديهــا مــن أدوات‪،‬‬ ‫يمكــن اســتخدامها يف الــرد‪ ،‬فابتكــرت مــا أطلــق عليــه‪َ « :‬مدَ افِــع‬ ‫َج َهنَّــم»‪ ،‬وهــي عبــارة عــن أســطوانة غــاز‪ ،‬يقذفهــا مدفــع معــدّ لهــذا‬ ‫الشــأن‪.‬‬ ‫وخــال ســيطرة هذا الفريــق أو ذاك على الجغرافيا الســورية أصبح‬ ‫الرمــز باأللــوان داللــة واضحــة علــى القــوى الفاعلــة علــى األرض‪،‬‬ ‫فاللــون األحمــر يرمــز للنظــام‪ ،‬واألخضــر للمعارضــة‪ ،‬واألســود‬ ‫لداعــش‪ ،‬واألصفــر للفصائــل الكرديــة‪ ،‬وأضحــى وصــف األرض‬ ‫ـدو» و»الصديـ ِـق» إشــار ًة لتبــادل الســيطرة علــى هــذه المنطقــة‬ ‫بـ»العـ ِّ‬ ‫أو تلــك‪ ،‬وتختلــف الرؤيــة هنــا باختــاف المتحدثيــن‪.‬‬

‫اضطــر كثيــر مــن الســوريين لمغــادرة‬ ‫وبســبب احتــداد الصــراع‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫بالدهــم إلــى مخيمــات اللجــوء يف البلــدان المجــاورة‪ ،‬أو الســعي‬ ‫للهجــرة إلــى أوربــا‪ ،‬فظهــرت بأثــر ذلــك حقــول دالليــة جديــدة‪،‬‬ ‫«المهـ ِّـرب» بظــال‬ ‫انتشــرت بقــوة بيــن الســوريين‪ ،‬فــرزت لفظــة‬ ‫َ‬ ‫جديــدة‪ ،‬غيــر تلــك المرســومة يف الذهنيــة الســورية‪ ،‬فـ»المهــرب»‬ ‫الجديــد‪ :‬هــو ذاك الــذي يتكفــل بنقلــك عــر ممــرات آمنــة بعيــدة‬ ‫عــن درك الحــدود يف الــدول المجــاورة‪ ،‬أو يؤ ِّمــن لــك وســيلة‬ ‫الوصــول إلــى أوروبــا عــر ممــرات مائيــة معروفــة‪ ،‬وقــد ذاع‬ ‫ِ‬ ‫ـم» بشــكل غيــر مســبوق بيــن أوســاط الشــباب‪ ،‬وكل‬ ‫صيــت الـــ « َبلـ ْ‬ ‫الطامعيــن بالوصــول إلــى بــر األمــان األوربــي‪ ،‬للداللــة علــى‬ ‫القــارب المطاطــي الــذي يذهبــون بــه إلــى دول أوربــا‪.‬‬ ‫«المعارضــات» وتش ـ ُّتتَها يف البــاد‬ ‫أيضــا أن كثــرة‬ ‫ومــن المالحــظ ً‬ ‫َ‬ ‫«معارضــ ُة‬ ‫خلــق تصنيفــات جديــدة لهــا‪ ،‬فظهــر لدينــا مصطلــح‬ ‫َ‬ ‫الداخــلِ» ومعارضــة «الخــارجِ »‪ ،‬وأســهمت اآللــة اإلعالميــة‬ ‫للنظــام ومؤيديــه بنشــر هــذه التقســيمات وتســويقها عالم ًّيــا‬ ‫هبــدف خلخلــة جبهــة المعارضــة‪ ،‬وإظهارهــا منقســمة متباينــة يف‬ ‫مقابــل تماســك جبهــة النظــام وتآلــف مكوناهتــا‪ ،‬وخاصــة بعــد‬ ‫انطــاق مســيرة المفاوضــات‪ ..‬ويمكننــا أن نســلك يف هــذا الحقــل‬ ‫الخ ِ‬ ‫ــو ُار َ‬ ‫نــاد ِق»‬ ‫الداللــي ً‬ ‫أيضــا مصطلحــان آخــران‪ ،‬وهمــا‪ُ « :‬ث َّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫و»ثـ ّـوار ال َفنــادق»‪ ،‬وأزعــم أن هذيــن المصطلحيــن مــا بــرزا إال يف‬ ‫ظــل الرتاشــق الكالمــي بيــن الفصائــل العســكرية المرابطــة علــى‬ ‫األرض‪ ،‬واالئتــاف والحكومــة المؤقتــة يف الخــارج‪.‬‬

‫وقــد كان للحضــور الالفــت للمقاتليــن والمجاهديــن مــن غيــر‬ ‫الســوريين حضــور بــارز وفاعــل يف كثيــر مــن األحيــان‪ ،‬وقــد تــوزع‬ ‫هــؤالء علــى طــريف الصــراع‪ ،‬فحمــل كل فصيــل أو جماعــة مــن‬ ‫هــؤالء أســماء كثيــرة‪ ،‬اكتظــت هبــم الســاحة الســورية‪ ،‬ورفرفــت‬ ‫راياهتــم وأعالمهــم يف كل مــكان‪ ،‬ولــم يكتــف هــؤالء بالتأثيــر يف‬ ‫األرض فحســب‪ ،‬بــل نقلــوا بعــض لســاهنم وأهازيجهــم وأغانيهــم‬ ‫وعاداهتــم يف الملبــس والمــأكل والمشــرب‪ ،‬وبسـ ٍ‬ ‫ـبب يعــود إلــى قوة‬ ‫هــؤالء األغراب‪ ،‬وشــدة تأثيرهــم يف القرارات العســكرية للطرفين‪،‬‬ ‫فقــد تســللت بعــض ألفاظهــم ومفرداهتــم إلــى لغــة الســوريين‪ ،‬تجــد‬ ‫ْ ِ‬ ‫ــي»‪ ،‬وهــو الــزي المنتشــر يف أفغانســتان‪،‬‬ ‫ذلــك يف مثــل‪« :‬األفغان ّ‬ ‫وربمــا أطلــق عليــه ِّ‬ ‫«الشيشــاينّ»‪ ،‬وأحيانــا يذكرونــه بصيغــة‬ ‫التأنيــث‪ :‬األفغانيــة‪ ،‬والشيشــانية‪ ...‬وقــد انتقــل بشــكل ملمــوس‬ ‫إلــى بعــض المجاهديــن العــرب المتشــبهين هبــم‪ ،‬وأصبحــت‬ ‫لفظــة «األفغــاين» دارجــة بينهــم كانتشــار الــزي نفســه‪ ،‬وقــد تبايــن‬ ‫موقــف الســوريين مــن هــؤالء القادميــن إليهــا هبــدف الجهــاد تباينًــا‬ ‫شــديدً ا‪ ،‬فأطلــق عليهــم بعضهــم لقــب «الم ِ‬ ‫هاجريــن» تكريمــا لهــم‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ُّ‬ ‫وتكشــف بعــض‬ ‫وتقديــرا لجهادهــم‪ ،‬ولكــن بعــد مــرور الوقــت‬ ‫ً‬ ‫«الم َل َّثميــن» منهــم‪ ،‬بــدأ بعــض النــاس يرتابــون فيهــم‪،‬‬ ‫حقائــق‬ ‫ُ‬ ‫ويتوجســون منهــم‪ ،‬و»الملثمــون» مصطلــح أخــذ يــروج كثيـ ًـرا يف‬ ‫‪81‬‬


‫حقول داللية استحدثتها الثورة السورية‬

‫ٌ‬ ‫قول َدالل ّية‬ ‫ُح‬

‫حدث ْتها َّ‬ ‫الث ُ‬ ‫السور َّية‬ ‫ورة ُّ‬ ‫اسـ َت َ‬ ‫الدكتور عبد السميع مصطفى األحمد‬

‫باحث وأكاديمي سوري‬

‫غال ًبــا مــا يصاحــب األحــداث الج ّلــى تغييــرات كثيــرة علــى‬ ‫مســتويات متنوعــة يف مســيرة الــدول واألمــم‪ ،‬ومن شــأن المختصين‬ ‫والمراقبيــن علــى اختــاف اهتماماتهــم اســتجالء هــذه التطــورات‬ ‫ورصدهــا ومراقبتهــا يف المجتمعــات التــي تتعــرض لمثــل هــذه‬ ‫التغيــرات‪ ،‬واللغــة بِعدِّ هــا كائنًــا اجتماع ًّيــا متطـ ّـو ًرا تمثــل أحــد هــذه‬ ‫المنحنيــات القابلــة للتغييــر والتطـ ّـور بوتائــر متفاوتــة‪ ،‬مــن لغــة إلــى‬ ‫أخــرى‪ ،‬ومــن أمــة إلــى أمــة‪ ،‬ومــن مجتمــع إلــى آخــر‪ ،‬بحســب قــوة‬ ‫هــذا الحــدث‪ ،‬وشــدة تأثيــره يف األفــراد‪.‬‬ ‫نموذجــا ح ًّيــا لدراســة‬ ‫وممــا ال شــك فيــه أن الثــورة الســورية تعــد‬ ‫ً‬ ‫مثــل هــذا التطــور؛ لمــا حفلــت بــه مــن أحــداث‪ ،‬وحملتــه مــن‬ ‫وصاحبهــا مــن مــآس‪.‬‬ ‫عظائــم‪،‬‬ ‫َ‬

‫وقــد حاولــت تتبــع تأثيــر الثــورة الســورية يف اللغــة‪ ،‬فوجــدت أن‬ ‫ـب بشــكل كبيــر علــى اســتحداث ألفــاظ جديــدة‪،‬‬ ‫ُجـ َّـل ذلــك ينصـ ُّ‬ ‫ونقــل الحقــل الداللــي‪ ،‬وتــكاد تكــون معظــم التحــوالت اللغويــة‬ ‫منضويــة تحــت هــذا الســبب األخيــر‪.‬‬

‫فمــن النــوع األول؛ وهــو االســتحداث‪ ،‬نجــد مثـ ًـا كلمــات جديــدة‬ ‫لــم تكــن مســتعملة يف اللغــة الفصيحــة والعاميــة الســورية‪ ،‬ومــن‬ ‫ذلــك‪« :‬د ِ‬ ‫اعـ ْـش‪ِ ،‬‬ ‫وهتِـ ْـش‪ ،‬و َق َســدْ ‪ ،»..‬وهــذه تعــد مــن المصطلحــات‬ ‫َ‬ ‫التــي تقــوم علــى النحــت‪ ،‬وهــو ضــم حــروف كلمــات معينــة‬ ‫إلنتــاج لفظــة واحــدة مــن أوائــل هــذه الكلمــات‪ ،‬أو أواخرهــا مثـ ًـا‪،‬‬ ‫وهــي طريقــة مألوفــة يف العربيــة‪ ،‬وإن كانــت اللغــات األخــرى أكثــر‬ ‫ً‬ ‫ـتعمال لهــذا النــوع مــن التطويــر‪ ،‬ومــن المصطلحــات الشــهيرة‬ ‫اسـ‬ ‫يف ذلــك «حمــاس» و» فتــح»‪ ،‬فـ»حمــاس» مثـ ًـا مؤلفــة مــن أوائــل‬ ‫الكلمــات التاليــة‪ :‬حركــة المقاومــة اإلســامية‪ ،‬وأمــا كلمــة «فتــح»‬ ‫فجــاءت مــن معكــوس كلمــات‪ :‬حركــة التحريــر الفلســطينية‪.‬‬ ‫مثــا أن «د ِ‬ ‫اع ْ‬ ‫وإذا عدنــا إلــى ألفــاظ الثــورة الســورية نجــد ً‬ ‫ــش»‬ ‫َ‬ ‫جــاءت اختصــارا لألحــرف األولــى من كلمــات‪ :‬الدولة اإلســامية‬ ‫يف العــراق والشــام‪ .‬وجــاءت ِ‬ ‫«هتِـ ْـش» مــن حــروف‪ :‬هيئــة تحريــر‬ ‫الشــام‪ ،‬كمــا جــاءت « َقســدْ » مــن‪ :‬قــوات ســوريا الديمقراطيــة‪.‬‬ ‫‪80‬‬

‫أيضــا كلمــة‪« :‬العر ِ‬ ‫اعيـ ْـر»‪ ،‬وهي جمع‬ ‫ومــن المفــردات المســتحدثة ً‬ ‫َ​َ‬ ‫لكلمــة « َع ْر ُعــور»‪ ،‬ويقصــدون بــه الشــيخ عدنــان عرعــور‪ ،‬الــذي‬ ‫كان مــن المج ِّيشــين للثــورة يف بدايتهــا‪ ،‬وتشــبه مفــردة العراعيــر‬ ‫أيضــا كلمــة «ال َعاللِيـ ْـش» مــع مالحظــة الفــارق الزمنــي يف انتشــار‬ ‫ً‬ ‫المفردتيــن‪ ،‬وهــي يف األصــل نســبة لمؤســس جيــش اإلســام‪،‬‬ ‫َز ْهــران َع ُّلــوش‪ ،‬وقــد أصبحــت مفردتــا» العراعيــر والعالليــش»‬ ‫هتكمــا واســتهزاء‪ -‬علــى إســاميي المجاهديــن ك ِّلهــم‪.‬‬‫تطلقــان‬ ‫ً‬ ‫أمــا النــوع الثــاين مــن النقــل والتوســع يف الحقــول الدالليــة فكثيــر‬ ‫«الحر َّيــة» ومشــتقاهتا‬ ‫جــدًّ ا‪ ،‬وتــأيت يف مقدمــة هــذا النــوع مفــردة‬ ‫ِّ‬ ‫التــي أصبحــت مالزمــة لــكل مــا يتصــل بالمعارضــة الثائــرة‪ ،‬مثــل‪:‬‬ ‫ـرار ّ‬ ‫الشــام‪ ،‬ومجلــس حلــب الحــرة‪ ،‬واتحــاد‬ ‫الجيـ ُـش الحـ ُّـر‪ ،‬وأحـ ُ‬ ‫كتــاب ســوريا األحــرار‪ ،‬وهكــذا‪..‬‬

‫البخـ ُ‬ ‫وتــكاد تكــون كلمتــا «الــ ُـمنْدَ ِّس» و»الرجـ ُـل ّ‬ ‫ـاخ» مــن أوليــات‬ ‫هــذه المفــردات التــي راجــت يف األيــام األولــى للثــورة‪ ،‬أمــا‬ ‫«الرجــل البخــاخ» فهــو ذلــك الحــر ‪-‬رجـ ًـا كان أو امــرأةً‪ ،‬شــا ًّبا أو‬ ‫فتــاة‪ -‬الــذي يقتنــص فرصــة الظــام وانســدال الليــل علــى البيــوت‪،‬‬ ‫فيتطــوع بالخــروج متنكـ ًـرا يف غفلــة مــن العيــون‪ ،‬لكتابــة عبــارات‬ ‫تدعــو للحريــة واالنتفاضــة والثــورة علــى جــدران المــدارس‬ ‫وأفــواه األســواق والمبــاين الرســمية‪ ...‬وأمــا لفظــة «المنــدس» فقــد‬ ‫اســتعملها إعــام النظــام بقــوة يف األيــام األولــى للحــراك الثــوري‬ ‫يف ســوريا؛ للتهويــن مــن شــأن هــذا المســار‪ ،‬والتقليــل مــن أعــداد‬ ‫المناديــن بالحريــة‪ ،‬وتقزيــم الزخــم المعــارض آنــذاك‪ ،‬وظلــت‬ ‫أبــواق النظــام َت ِصـ ُّـر ‪-‬ببالهــة وص َلــف‪ -‬علــى هــذا «االندســاس»‬ ‫حتــى بعــد أن مــأت أعــداد الثائريــن الســاحات وأغلقت الشــوارع‪،‬‬ ‫ممــا أثــار موجــة مــن التف ِّكــه والتنــدّ ر بيــن الجماهيــر‪.‬‬ ‫وبعــد كلمــة «المندســين» تجــيء كلمــات‪« :‬المؤ ِّي ِديــن‬ ‫ِ ِ‬ ‫ـرزا طبيع ًّيــا للشــعب الســوري‬ ‫والرماد ِّييــن» بِعدِّ هــا فـ ً‬ ‫والمعارضيــن َّ‬ ‫وموقــف أفــراده مــن الثــورة‪ ،‬ويمكننــا كذلــك أن نســلك يف هــذا‬ ‫أيضــا مفــردة أخــرى تــدور يف فلــك هــذا الحقــل الداللــي‪،‬‬ ‫الســياق ً‬

‫حقول داللية استحدثتها الثورة السورية‬ ‫وهــي كلمــة «الــ ِ‬ ‫ـمن ِْح َّب ْك ِ‬ ‫ج َّية»‪ ،‬وهــي منحوتــة مــن قــول الســوريين‪:‬‬ ‫«مِنْح َّب ْ‬ ‫ــك» أي‪« :‬نحــن نحبــك»‪ ،‬وكان المعارضــون َي ِســمون هبــا‬ ‫المؤيديــن‪.‬‬ ‫وتــأيت عبــارة (اهلل َي ْط ِف َيهــا بنـ ِ‬ ‫مصطلحــا يندرج كذلك يف مســاق‬ ‫ـوره)‬ ‫ً‬ ‫الفــرز الحــا ّد بيــن الســوريين‪ ،‬ويطلــق هــذا المصطلــح عــادة علــى‬ ‫جماعــة هــي أقــرب إلــى الرماد ِّييــن الذيــن آثــروا عــدم االصطفــاف‬ ‫إلــى أحــد فريقــي الصــراع‪ ،‬وإن كان جمهــور المعارضيــن يعــدُّ ون‬ ‫هــذه الفئــة مؤ ِّيــدة صامتــة‪.‬‬ ‫«المن َْشـ ُّـق»‪ ،‬فقــد ظهــرت يف بدايــة عســكرة الثــورة‪ ،‬حيث‬ ‫أمــا كلمــة ُ‬ ‫بــدأ بعــض ضبــاط الجيــش ينشــقون عــن المؤسســة العســكرية‪،‬‬ ‫وينضمــون لجمــوع المعارضــة‪ ،‬مشــكلين نــواة لمــا أطلــق عليــه‬ ‫آنــذاك مصطلــح «الجيــش الحــر»‪.‬‬

‫وقــد تكــون كلمــة َّ‬ ‫«الشـ ِّبيح» أشــهر المفــردات التــي درجــت علــى‬ ‫األلســنة‪ ،‬وتعنــي المؤيــد المتشــدد يف تأييــده‪ ،‬أو ذاك الــذي يقــدم‬ ‫خدمــات موازيــة ألعمــال جيــش النظــام‪- ،‬ومثلهــا مــا أطلــق عليــه‪:‬‬ ‫صــرف الســوريون هــذه المفــردة‪،‬‬ ‫قــوات الدفــاع الوطنــي‪ -‬وقــد ّ‬ ‫ـبيح‪ ،‬والماضــي والمضــارع‬ ‫فاســتعملوا منهــا المصــدر‪ ،‬وهــو الت َّْشـ ُ‬ ‫واألمــر‪ ،‬فقالــوا‪َ :‬ش ـ َّب َح ‪ُ -‬ي َش ـ ِّب ُح‪ ،‬وهكــذا‪ ،‬والتشــبيح ليــس جديــدً ا‬ ‫يف ســوريا‪ ،‬بــل لــه جــذور ترجــع إلــى أواخــر الثمانينــات وأوائــل‬ ‫ـورا علــى فئــة مــن فئــات‬ ‫التســعينات عندمــا كان «التَّهريــب» مقصـ ً‬ ‫المجتمــع‪ ،‬تســتحوذ علــى هــذه التجــارة المحرمــة‪ ،‬والتــي تــدر‬ ‫عليهــم أمــوا ً‬ ‫ال طائلــة يف جميــع المحافظــات‪ ،‬وقــد كان هــؤالء‬ ‫المهربــون يســتخدمون ســيارات المرســيدس َّ‬ ‫«الش ـ َبح» المظللــة‪،‬‬ ‫ومــن كلمــة «الشــبح» هــذه جــاء مصطلــح التشــبيح‪.‬‬

‫وبعــد اشــتداد الصــراع‪ ،‬اســتخدم جيش النظــام كل أنواع األســلحة‬ ‫ســاحا جديــدا اســتعمله‪،‬‬ ‫التقليديــة المعروفــة بأســمائها‪ ،‬ولكــن‬ ‫ً‬ ‫عظيمــا‪ ،‬ود َّمــر البيــوت‬ ‫ســاح الجــو‪ ،‬فقــد فتــك بالشــعب فتــ ًكا‬ ‫ً‬ ‫ِ‬ ‫المتفجــرة»‪ ،‬وهــو‬ ‫وأحــرق األخضــر واليابــس‪ ،‬ذاك هــو «ال َب َراميـ ُـل‬ ‫ِّ‬ ‫مصطلــح جديــد نســب ًيا‪ ،‬وقــد ذاع صيتــه بيــن الســوريين؛ لمــا كان‬ ‫لــه مــن قــوة تدميريــة غيــر منضبطــة أو مركــزة‪ ،‬وبالمقابــل حاولــت‬ ‫فصائــل المعارضــة المسـ ّلحة أن تــرد بمــا توفــر لديهــا مــن أدوات‪،‬‬ ‫يمكــن اســتخدامها يف الــرد‪ ،‬فابتكــرت مــا أطلــق عليــه‪َ « :‬مدَ افِــع‬ ‫َج َهنَّــم»‪ ،‬وهــي عبــارة عــن أســطوانة غــاز‪ ،‬يقذفهــا مدفــع معــدّ لهــذا‬ ‫الشــأن‪.‬‬ ‫وخــال ســيطرة هذا الفريــق أو ذاك على الجغرافيا الســورية أصبح‬ ‫الرمــز باأللــوان داللــة واضحــة علــى القــوى الفاعلــة علــى األرض‪،‬‬ ‫فاللــون األحمــر يرمــز للنظــام‪ ،‬واألخضــر للمعارضــة‪ ،‬واألســود‬ ‫لداعــش‪ ،‬واألصفــر للفصائــل الكرديــة‪ ،‬وأضحــى وصــف األرض‬ ‫ـدو» و»الصديـ ِـق» إشــار ًة لتبــادل الســيطرة علــى هــذه المنطقــة‬ ‫بـ»العـ ِّ‬ ‫أو تلــك‪ ،‬وتختلــف الرؤيــة هنــا باختــاف المتحدثيــن‪.‬‬

‫اضطــر كثيــر مــن الســوريين لمغــادرة‬ ‫وبســبب احتــداد الصــراع‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫بالدهــم إلــى مخيمــات اللجــوء يف البلــدان المجــاورة‪ ،‬أو الســعي‬ ‫للهجــرة إلــى أوربــا‪ ،‬فظهــرت بأثــر ذلــك حقــول دالليــة جديــدة‪،‬‬ ‫«المهـ ِّـرب» بظــال‬ ‫انتشــرت بقــوة بيــن الســوريين‪ ،‬فــرزت لفظــة‬ ‫َ‬ ‫جديــدة‪ ،‬غيــر تلــك المرســومة يف الذهنيــة الســورية‪ ،‬فـ»المهــرب»‬ ‫الجديــد‪ :‬هــو ذاك الــذي يتكفــل بنقلــك عــر ممــرات آمنــة بعيــدة‬ ‫عــن درك الحــدود يف الــدول المجــاورة‪ ،‬أو يؤ ِّمــن لــك وســيلة‬ ‫الوصــول إلــى أوروبــا عــر ممــرات مائيــة معروفــة‪ ،‬وقــد ذاع‬ ‫ِ‬ ‫ـم» بشــكل غيــر مســبوق بيــن أوســاط الشــباب‪ ،‬وكل‬ ‫صيــت الـــ « َبلـ ْ‬ ‫الطامعيــن بالوصــول إلــى بــر األمــان األوربــي‪ ،‬للداللــة علــى‬ ‫القــارب المطاطــي الــذي يذهبــون بــه إلــى دول أوربــا‪.‬‬ ‫«المعارضــات» وتش ـ ُّتتَها يف البــاد‬ ‫أيضــا أن كثــرة‬ ‫ومــن المالحــظ ً‬ ‫َ‬ ‫«معارضــ ُة‬ ‫خلــق تصنيفــات جديــدة لهــا‪ ،‬فظهــر لدينــا مصطلــح‬ ‫َ‬ ‫الداخــلِ» ومعارضــة «الخــارجِ »‪ ،‬وأســهمت اآللــة اإلعالميــة‬ ‫للنظــام ومؤيديــه بنشــر هــذه التقســيمات وتســويقها عالم ًّيــا‬ ‫هبــدف خلخلــة جبهــة المعارضــة‪ ،‬وإظهارهــا منقســمة متباينــة يف‬ ‫مقابــل تماســك جبهــة النظــام وتآلــف مكوناهتــا‪ ،‬وخاصــة بعــد‬ ‫انطــاق مســيرة المفاوضــات‪ ..‬ويمكننــا أن نســلك يف هــذا الحقــل‬ ‫الخ ِ‬ ‫ــو ُار َ‬ ‫نــاد ِق»‬ ‫الداللــي ً‬ ‫أيضــا مصطلحــان آخــران‪ ،‬وهمــا‪ُ « :‬ث َّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫و»ثـ ّـوار ال َفنــادق»‪ ،‬وأزعــم أن هذيــن المصطلحيــن مــا بــرزا إال يف‬ ‫ظــل الرتاشــق الكالمــي بيــن الفصائــل العســكرية المرابطــة علــى‬ ‫األرض‪ ،‬واالئتــاف والحكومــة المؤقتــة يف الخــارج‪.‬‬

‫وقــد كان للحضــور الالفــت للمقاتليــن والمجاهديــن مــن غيــر‬ ‫الســوريين حضــور بــارز وفاعــل يف كثيــر مــن األحيــان‪ ،‬وقــد تــوزع‬ ‫هــؤالء علــى طــريف الصــراع‪ ،‬فحمــل كل فصيــل أو جماعــة مــن‬ ‫هــؤالء أســماء كثيــرة‪ ،‬اكتظــت هبــم الســاحة الســورية‪ ،‬ورفرفــت‬ ‫راياهتــم وأعالمهــم يف كل مــكان‪ ،‬ولــم يكتــف هــؤالء بالتأثيــر يف‬ ‫األرض فحســب‪ ،‬بــل نقلــوا بعــض لســاهنم وأهازيجهــم وأغانيهــم‬ ‫وعاداهتــم يف الملبــس والمــأكل والمشــرب‪ ،‬وبسـ ٍ‬ ‫ـبب يعــود إلــى قوة‬ ‫هــؤالء األغراب‪ ،‬وشــدة تأثيرهــم يف القرارات العســكرية للطرفين‪،‬‬ ‫فقــد تســللت بعــض ألفاظهــم ومفرداهتــم إلــى لغــة الســوريين‪ ،‬تجــد‬ ‫ْ ِ‬ ‫ــي»‪ ،‬وهــو الــزي المنتشــر يف أفغانســتان‪،‬‬ ‫ذلــك يف مثــل‪« :‬األفغان ّ‬ ‫وربمــا أطلــق عليــه ِّ‬ ‫«الشيشــاينّ»‪ ،‬وأحيانــا يذكرونــه بصيغــة‬ ‫التأنيــث‪ :‬األفغانيــة‪ ،‬والشيشــانية‪ ...‬وقــد انتقــل بشــكل ملمــوس‬ ‫إلــى بعــض المجاهديــن العــرب المتشــبهين هبــم‪ ،‬وأصبحــت‬ ‫لفظــة «األفغــاين» دارجــة بينهــم كانتشــار الــزي نفســه‪ ،‬وقــد تبايــن‬ ‫موقــف الســوريين مــن هــؤالء القادميــن إليهــا هبــدف الجهــاد تباينًــا‬ ‫شــديدً ا‪ ،‬فأطلــق عليهــم بعضهــم لقــب «الم ِ‬ ‫هاجريــن» تكريمــا لهــم‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ُّ‬ ‫وتكشــف بعــض‬ ‫وتقديــرا لجهادهــم‪ ،‬ولكــن بعــد مــرور الوقــت‬ ‫ً‬ ‫«الم َل َّثميــن» منهــم‪ ،‬بــدأ بعــض النــاس يرتابــون فيهــم‪،‬‬ ‫حقائــق‬ ‫ُ‬ ‫ويتوجســون منهــم‪ ،‬و»الملثمــون» مصطلــح أخــذ يــروج كثيـ ًـرا يف‬ ‫‪81‬‬


‫حقول داللية استحدثتها الثورة السورية‬ ‫مختصــا بالمهاجريــن‪ ،‬غيــر‬ ‫المناطــق المحــررة‪ ،‬وهــو وإن لــم يكــن‬ ‫ً‬ ‫أهنــم يشــكلون نســبة ال بــأس هبــا بينهــم‪ ،‬وقــد ظهــر مواز ًيــا لهــذه‬ ‫أيضــا مصطلــح آخــر‪ ،‬وهــو مصطلــح ِ‬ ‫«اإل ْخـ َـوة»‪ ،‬ويبــدو أنــه‬ ‫الحقبــة ً‬ ‫كان شــبه محصــور تقري ًبــا يف الفصائــل ذات التوجــه اإلســامي‪،‬‬ ‫وقــد كانــت ردة فعــل عمــوم الســوريين بعــد انكشــاف حقيقــة‬ ‫داعــش وأفرادهــا الذيــن كانــوا يتخــذون الديــن مطيــة لتنفيــذ مــآرب‬ ‫أخــرى أن أطلقــوا علــى هــؤالء مصطلــح‪َ :‬‬ ‫«خـ َـو ِار ُج ال َع ْصـ ِـر»‪ ،‬وهــو‬ ‫ٍ‬ ‫َ‬ ‫مصطلــح يذكرنــا بتلــك الجماعــة التــي بــرزت يف أ َخـ َـرة مــن العصــر‬ ‫ـوي يف غالــب األحيــان‪.‬‬ ‫ـلبي دمـ ٌّ‬ ‫الراشــدي‪ ،‬وكان لهــا تأثيـ ٌـر سـ ٌّ‬

‫ومــن المفــردات الغريبــة التــي وجــدت طريقهــا إلــى المجتمــع‬ ‫الســوري‪ ،‬وتع ِّبــر بمــرارة عــن واقــع أليم تعــرض له الســوريون يف ظل‬ ‫غيــاب األمــن‪ ،‬وظهــور عصابــات مارســت كل أنواع الجريمــة‪ ،‬كلمة‬ ‫«الت َّْشـ ِـويل»‪ ،‬بشــين ثقيلــة (‪ْ )ch - ç‬‬ ‫والشــوال ‪-‬باللهجــة الحلبيــة‪ -‬هو‬ ‫ا ْل ُّشــوال أو ا ْل ُج ُ‬ ‫ــوال يف غيرهــا‪ ،‬وهــو كيــس مــن الخيــش‪ُ ،‬معــدّ يف‬ ‫األصــل لتعبئــة الحبــوب وغيرهــا‪ ،‬ولكــن أصبــح لهــذه المفــردة يف‬ ‫ظــل هــذه الظــروف حقــل داللـ ٌّـي جديــد‪ ،‬إذ يقصــدون هبــا مــا يقــوم‬ ‫بــه بعــض الشــبيحة والعصابــات‪ ،‬وربمــا بعــض الفصائــل المقاتلــة‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫«تشــويل»‬ ‫«تجويــل» أو‬ ‫التــي تســيطر علــى األرض كذلــك‪ ...‬و‬ ‫ٍ‬ ‫ـخص مــا؛ يعنــي اعتقالــه يف النهايــة‪ ،‬بــأي طريقــة أو كيفيــة تــم ذلــك‬ ‫شـ‬ ‫االعتقــال‪ ،‬وقــد اشـت ُّق مــن هذه الكلمــة الجامــدة تصريفــات متعددة‪،‬‬ ‫كالفعــل الماضــي والمضــارع وفعــل األمــر‪.‬‬ ‫ـت عنهــا مــرة يف تغريــدة‪ ،‬فقلــت‪:‬‬ ‫أمــا كلمــة «ال َّت ْع ِفيــش»‪ ،‬فقــد تحدثـ ُ‬ ‫تــأيت كلمــة «ع َفــش» يف اللغــة العربيــة بمعنــى «جمــع»(((‪ .‬ويبــدو أن‬ ‫كلمــة « الع ْفــش» جــاءت مــن هــذا المعنــى‪ ،‬وقــد اســتعمل لغو ُّيــو‬ ‫الثــورة الســورية هــذا الفعــل بالتضعيــف «ع ّفــش» بمعنــى‪« :‬أزال‬ ‫العفــش»‪ ،‬ومثلــه ّ‬ ‫«قشــر»‪ :‬أي‪ :‬أزال القشــر‪ ،‬وقــد انتشــر مصطلــح‬ ‫ِ‬ ‫ْ‬ ‫المهجريــن مــن قبــل جيــش‬ ‫«التعفيــش» بمعنــى ســرقة َعفــش بيــوت‬ ‫َّ‬ ‫النظــام وعناصــر الميليشــيات المســاندة لــه بعــد اضطــرار ســكان‬ ‫المناطــق التــي يســيطرون عليهــا لمغــادرة منازلهــم وبيوهتــم»‪.‬‬ ‫وألننــي أتحــدث عــن هتجيــر ســكان المناطــق التــي يســيطر عليهــا‬ ‫ـارا واس ـ ًعا يف هــذا‬ ‫النظــام‪ ،‬فــإن هنــاك‬ ‫ً‬ ‫مصطلحــا آخــر انتشــر انتشـ ً‬ ‫ـات ُ‬ ‫الخ ْضـ ُـر»‪ ،‬وهــو مصطلــح راج يف أوســاط‬ ‫الصــدد‪ ،‬وهــو «الباصـ ُ‬ ‫النظــام ومؤيديــه بعــد أن بــدأت كفــة المواجهــات تميــل لصالحهــم‪،‬‬ ‫ويريــدون بــه تلــك الحافــات التــي ُتقـ ّـل المهجريــن وعائالهتــم مــن‬ ‫مناطقهــم التــي كانــوا يعيشــون فيهــا ويســيطرون عليهــا‪ ،‬إلــى مناطــق‬ ‫جديــدة مــا زالــت تحــت قبضــة المعارضــة‪ ،‬وغالبــا مــا تكــون يف‬ ‫الشــمال الســوري‪.‬‬ ‫وتــأيت أحــدث مفــردات الثــورة الســورية التــي أخــذت طريقهــا‬ ‫رمــزا‬ ‫للــروز منــذ فــرة قصيــرة‪- ،‬ومــن المؤكــد أهنــا ســتصبح ً‬ ‫((( ينظر‪ :‬لسان العرب‪ ،‬البن منظور‪ ،‬مادة "عفش"‪.‬‬

‫‪82‬‬

‫كِنائيــا‪ ،‬وعالمــة مســجلة يف األيــام القادمــة‪ -‬هــي لفظــة‪ِ :‬‬ ‫«ض ْفــدَ ع»‪،‬‬ ‫ًّ‬ ‫و»الض َفـ ِ‬ ‫ـادع»‪ ،‬ويكنّــي هبــا الســوريون عــن تلــك الخاليــا النائمــة‪ ،‬أو‬ ‫َّ‬ ‫العمــاء المندســين مــن رجــاالت النظــام يف مناطــق المعارضــة‪،‬‬ ‫وقــد جــاءت اللفظــة مــن شــخصية الشــيخ «بســام ضفــدع» الــذي‬ ‫ظــل مقيمــا يف بعــض مناطــق الغوطــة الشــرقية‪ ،‬حتــى حاصرهــا‬ ‫جيــش النظــام‪ ،‬فأعلــن حقيقتــه وحمــل الســاح مــع تالمذتــه وقــام‬ ‫بطعــن الجيــش الحــر يف ظهــره‪.‬‬

‫ومــن المصطلحــات العلميــة الكبيــرة التــي تمخضــت عنهــا الثــورة‬ ‫الســورية كذلــك‪ :‬مصطلــح ِ‬ ‫«اإلعــا ُم ال َبديـ ُـل»‪ ،‬وهــو يقــدم نفســه‬ ‫ـرزا طبيع ًيــا لمــا َّ‬ ‫تمخــض‬ ‫للجمهــور بِعــدِّ ه بديـ ًـا إلعــام النظــام‪ ،‬وفـ ً‬ ‫مــن حــراك إعالمــي يناصــر الثــورة ويدعــو للتحــرر‪ ،‬ويطالــب‬ ‫بحقــوق الشــعب المســلوبة منــذ ســنين‪ ...‬وقــد نشــأ هــذا اإلعــام‬ ‫ر ًّدا علــى آلــة النظــام اإلعالميــة التــي احتكــرت الفضــاء‪ ،‬وســيطرت‬ ‫علــى الحــرف والكلمــة المكتوبــة أو المســموعة أو المرئيــة(((‪.‬‬

‫َ‬ ‫أجمــل‬ ‫عــات ال َب ْيضــا ُء»‬ ‫ويظــل ‪-‬يف الختــام‪ -‬مصطلــح «ال ُق َّب ُ‬ ‫وأطهرهــا‪ ،‬فالدفــاع‬ ‫المصطلحــات التــي أفرزهتــا الثــورة‪ ،‬وأنقاهــا‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫المــدين الســوري ‪-‬ويعــرف أيضــا باســم ُ‬ ‫الخـ َـوذ البيضــاء‪ -‬منظم ـ ُة‬ ‫تطوعيــة تعمــل يف مناطــق ســيطرة المعارضــة يف‬ ‫دفــا ٍع مدن َّيــة ُّ‬ ‫ســوريا‪ ،‬وقــد تأسســت عــام ‪2013‬م‪ ،‬وتتألــف مــن ثالثــة آالف‬ ‫متطــوع ســوري مــدين تقري ًبــا‪ ،‬وهتــدف إلــى إغاثــة المتضرريــن‬ ‫جــراء الحــرب‪ ،‬و َت ُعــدُّ المنظمــة نفســها حياديــة وغيــر منحــازة‪ ،‬وال‬ ‫تتعهــد بالــوالء ألي حــزب أو جماعــة سياســية(((‪.‬‬ ‫وبعــد‪ ،‬فهــذا ُأ ّس بحــث صغيــر‪ ،‬هدفــه التأريــخ اللغــوي لحقبــة‬ ‫تاريخيــة مفصليــة‪ ،‬ومنعطــف زمنــي مهــم مــن أخطــر المنعطفــات يف‬ ‫تاريــخ ســوريا الحديثــة والمنطقــة برمتهــا‪ ،‬والتأريــخ ال ُّلغــوي ليــس‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫معــزول عــن البيئــة‪ ،‬بــل هــو وثيــق‬ ‫منفصــا عــن المجتمــع‪ ،‬وال‬ ‫تعبيــرا صاد ًقــا عــن عاطفــة‬ ‫الصلــة باألمــة وهمــوم أبنائهــا‪ ،‬يع ِّبــر‬ ‫ً‬ ‫الشــعوب ونبــض وجداهنــا‪ ،‬ويم ّثــل تمثيـ ًـا دقي ًقــا آالمهــا وآمالهــا‪.‬‬ ‫وال أدعــي أننــي اســتوفيت كل مــا اســتحدثته الثــورة الســورية يف‬ ‫هــذا البحــث الصغيــر مــن ألفــاظ ومفــردات ومصطلحــات‪ ،‬وأنــى‬ ‫أس بحــث‪ ،‬يمكــن تطويــره‬ ‫لــي ذلــك؟ بــل هــو ‪-‬كمــا أســلفت‪ُّ -‬‬ ‫وتوســيعه والبنــاء عليــه‪ ،‬عــر إضافــة مفــردات لــم نتطــرق لهــا‪،‬‬ ‫نمــر عليهــا‪ ،‬ويمكــن للباحثيــن والمهتميــن‬ ‫وحقــول دالليــة لــم ّ‬ ‫بتأريــخ رحلــة اللغــات واللهجــات أن يبنــوا علــى مثــل هــذا‬ ‫البحــث‪ ،‬أو يطـ ّـوروا هــذه الدراســة‪ ،‬لعلهــا تكــون لبنــة يف مداميــك‬ ‫ً‬ ‫وتأريخــا لهــذه الحقبــة المفصليــة يف تاريــخ ســوريا‬ ‫لغــة الثــورة‪،‬‬ ‫الحديــث(((‪.‬‬ ‫((( ينظر‪SUEMds2/yl.tib//:sptth :‬‬ ‫((( ينظر‪gro.aidepikiw.m.ra//:sptth :‬‬ ‫شاكرا لكل من يتواصل معي لتقديم الجديد النافع يف هذا المجال من خالل الربيد اإللكرتوين‪،‬‬ ‫((( سأكون‬ ‫ً‬ ‫أو صفحتي يف فيسبوك‪)moc.liamtoh@3mas-a( ،‬‬

‫حر ّية القلم اإلعالمي في وسيلة إعالم إسالمية‬

‫حريــة القلم اإلعالمي‬

‫يف وســيلة إعالم إسالمية‬

‫االنفصام بــن ما نصنع ونتوقع‪..‬‬ ‫ومــا ينبغي أن نصنع ونتوقع‬

‫مقدمات‬ ‫قبــل الدخــول يف صلــب الموضــوع‪ ،‬نرصــد أن اإلعــام لــم يعــد‬ ‫كمــا كان‪ ..‬وال العمــل لإلســام كمــا كان‪ ..‬وال واقــع العالــم‬ ‫والعصــر كمــا كان‪ ..‬ولكــن مــا نــزال‪ ،‬أو مــا يــزال كثيــر منّــا‪ ،‬يتعامــل‬ ‫مــع اإلعــام‪ ،‬باســم العمــل لإلســام ودعوتــه‪ ،‬بأســاليب متخلفــة‬ ‫(معــذرة) نخطــئ إذا اعتربناهــا مســتمدّ ة مــن اإلســام نفســه‪.‬‬

‫ينعكس ذلك يف صورتين متقابلتين‪:‬‬ ‫(‪ )١‬ممارســات إعالميــة ِ‬ ‫(ح َرفِيــة‪ ..‬أو متعدّ يــة علــى المهنــة!)‬ ‫تحمــل عناويــن إســامية‪ ،‬فقــدت مفعولهــا وضعــف تأثيرهــا يف‬ ‫الفئــات المســتهدفة؛ إذ ال تنســجم مــع رســالة «اإلعــام العــام»‬ ‫وأهدافــه المتناميــة‪ ،‬ومتغيــرات الظــروف المحيطــة بــه‪ ،‬وال ترقــى‬ ‫إلــى مســتوى طموحــات مــا ينبغــي أن يصنعــه مــن يعمــل لإلســام‬ ‫يف عالمنــا هــذا وعصرنــا هــذا‪.‬‬ ‫(‪ )٢‬توقعــات غيــر موضوعيــة تقيــس العطــاء اإلعالمــي تحــت‬ ‫عنــوان إســامي بتطلعــات تعجيزيــة‪ ،‬أو ال تنــدرج يف قائمــة أهــداف‬ ‫وســيلة «إعالميــة إســامية» بعينهــا‪ ،‬فتخيــب آمــال أصحــاب تلــك‬ ‫التوقعــات وتنتشــر االنتقــادات‪ ،‬ناهيــك عــن انتقــادات «جاهــزة»‬ ‫ينشــرها مــن ال يقــرأ وال ي َّطلــع وال يتابــع أصــا‪.‬‬ ‫هــذا‪ ..‬ونؤكــد جميعــا «أهميــة اإلعــام العــام»‪ ..‬ونعلــم مــا يعنيــه‬ ‫وبــأدواره المؤثــرة يف صناعــة الحــدث‪ ..‬إيجا ًبــا وســل ًبا‪ ،‬وهــذا‬ ‫مــا أصبحنــا شــهودا عليــه‪ ،‬وذقنــا طعمــه بنكهــة الدمــاء واآلالم‪،‬‬

‫األستاذ نبيل شبيب‬ ‫كاتب وإعالمي سوري‬

‫والتضحيــات واإلخفاقــات‪ ،‬مــرة بعــد مــرة‪ ،‬ومــن ذلــك مــا واكــب‬ ‫مســارات أحــداث طاحنــة‪ ،‬أثنــاء تدفــق أمــواج مقاومــة الغــزاة‪،‬‬ ‫واالنتفاضــات التحريريــة‪ ،‬ثــم الثــورات الشــعبية العربيــة‪ ،‬ومــا‬ ‫قابلهــا مــن ســيول التحــرك الجــارف المضــاد محليــا وإقليميــا‬ ‫وعالميــا‪.‬‬

‫يكفــي هــذا ‪-‬وبعضنــا يؤكــد ضــرورة «المراجعــات» عمومــا‪-‬‬ ‫لبيــان أهميــة النظــر يف معنــى مــا بــدأ بــه هــذا المقــال مــن ا ّدعــاء‬ ‫وجــود انفصــام يف اإلعــام اإلســامي بيــن مــا نصنــع ونتوقــع‬ ‫فعـ ًـا‪ ..‬ومــا ينبغــي أن نصنــع ونتوقــع‪ ،‬وال ينفصــل المطلــوب هنــا‬ ‫عــن نســيج جهــود كــرى ضروريــة لالرتقــاء إلــى مســتوى وجودنــا‬ ‫أمــام بوابــة دورة حضاريــة جديــدة‪ ،‬نزعــم أننــا نحمــل قســطا كبيــرا‬ ‫مــن المســؤولية عــن الدفــع بعجالهتــا يف االتجــاه الصحيــح‪.‬‬ ‫وال يكفــي للنظــر فيمــا ســبق ســبك «مقــال»‪ ..‬وإن قيــل إن البالغــة‬ ‫يف اإليجــاز‪ ،‬وكان الحديــث مقتصــرا علــى قســط محــدود مــن‬ ‫جانــب جزئــي يشــير إليــه مطلــع المقــال‪ ،‬مــن أصــل قضيــة أكــر‬ ‫وأوســع‪ ،‬تتطلــب دراســات محكمــة وبحوثــا اســتقصائية وإبداعــا‬ ‫يف التفكيــر والتحليــل واالســتنتاج وصياغــة اقرتاحــات ومبــادرات‬ ‫عمليــة‪.‬‬

‫ومــن الضــروري اإلشــارة إلــى أن الفقــرات اآلتيــة تحــت عنــوان‬ ‫(حريــة القلــم اإلعالمــي يف وســيلة إعــام إســامية) ال تتعــرض‪:‬‬ ‫ إلجــازة نشــر المــوا ّد يف نطــاق إعــام تخصصــي عــر آليــة‬‫منهجيــة علميــة دون إفســادها بخلــط المعاييــر العلميــة بموقــف‬ ‫‪83‬‬


‫حقول داللية استحدثتها الثورة السورية‬ ‫مختصــا بالمهاجريــن‪ ،‬غيــر‬ ‫المناطــق المحــررة‪ ،‬وهــو وإن لــم يكــن‬ ‫ً‬ ‫أهنــم يشــكلون نســبة ال بــأس هبــا بينهــم‪ ،‬وقــد ظهــر مواز ًيــا لهــذه‬ ‫أيضــا مصطلــح آخــر‪ ،‬وهــو مصطلــح ِ‬ ‫«اإل ْخـ َـوة»‪ ،‬ويبــدو أنــه‬ ‫الحقبــة ً‬ ‫كان شــبه محصــور تقري ًبــا يف الفصائــل ذات التوجــه اإلســامي‪،‬‬ ‫وقــد كانــت ردة فعــل عمــوم الســوريين بعــد انكشــاف حقيقــة‬ ‫داعــش وأفرادهــا الذيــن كانــوا يتخــذون الديــن مطيــة لتنفيــذ مــآرب‬ ‫أخــرى أن أطلقــوا علــى هــؤالء مصطلــح‪َ :‬‬ ‫«خـ َـو ِار ُج ال َع ْصـ ِـر»‪ ،‬وهــو‬ ‫ٍ‬ ‫َ‬ ‫مصطلــح يذكرنــا بتلــك الجماعــة التــي بــرزت يف أ َخـ َـرة مــن العصــر‬ ‫ـوي يف غالــب األحيــان‪.‬‬ ‫ـلبي دمـ ٌّ‬ ‫الراشــدي‪ ،‬وكان لهــا تأثيـ ٌـر سـ ٌّ‬

‫ومــن المفــردات الغريبــة التــي وجــدت طريقهــا إلــى المجتمــع‬ ‫الســوري‪ ،‬وتع ِّبــر بمــرارة عــن واقــع أليم تعــرض له الســوريون يف ظل‬ ‫غيــاب األمــن‪ ،‬وظهــور عصابــات مارســت كل أنواع الجريمــة‪ ،‬كلمة‬ ‫«الت َّْشـ ِـويل»‪ ،‬بشــين ثقيلــة (‪ْ )ch - ç‬‬ ‫والشــوال ‪-‬باللهجــة الحلبيــة‪ -‬هو‬ ‫ا ْل ُّشــوال أو ا ْل ُج ُ‬ ‫ــوال يف غيرهــا‪ ،‬وهــو كيــس مــن الخيــش‪ُ ،‬معــدّ يف‬ ‫األصــل لتعبئــة الحبــوب وغيرهــا‪ ،‬ولكــن أصبــح لهــذه المفــردة يف‬ ‫ظــل هــذه الظــروف حقــل داللـ ٌّـي جديــد‪ ،‬إذ يقصــدون هبــا مــا يقــوم‬ ‫بــه بعــض الشــبيحة والعصابــات‪ ،‬وربمــا بعــض الفصائــل المقاتلــة‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫«تشــويل»‬ ‫«تجويــل» أو‬ ‫التــي تســيطر علــى األرض كذلــك‪ ...‬و‬ ‫ٍ‬ ‫ـخص مــا؛ يعنــي اعتقالــه يف النهايــة‪ ،‬بــأي طريقــة أو كيفيــة تــم ذلــك‬ ‫شـ‬ ‫االعتقــال‪ ،‬وقــد اشـت ُّق مــن هذه الكلمــة الجامــدة تصريفــات متعددة‪،‬‬ ‫كالفعــل الماضــي والمضــارع وفعــل األمــر‪.‬‬ ‫ـت عنهــا مــرة يف تغريــدة‪ ،‬فقلــت‪:‬‬ ‫أمــا كلمــة «ال َّت ْع ِفيــش»‪ ،‬فقــد تحدثـ ُ‬ ‫تــأيت كلمــة «ع َفــش» يف اللغــة العربيــة بمعنــى «جمــع»(((‪ .‬ويبــدو أن‬ ‫كلمــة « الع ْفــش» جــاءت مــن هــذا المعنــى‪ ،‬وقــد اســتعمل لغو ُّيــو‬ ‫الثــورة الســورية هــذا الفعــل بالتضعيــف «ع ّفــش» بمعنــى‪« :‬أزال‬ ‫العفــش»‪ ،‬ومثلــه ّ‬ ‫«قشــر»‪ :‬أي‪ :‬أزال القشــر‪ ،‬وقــد انتشــر مصطلــح‬ ‫ِ‬ ‫ْ‬ ‫المهجريــن مــن قبــل جيــش‬ ‫«التعفيــش» بمعنــى ســرقة َعفــش بيــوت‬ ‫َّ‬ ‫النظــام وعناصــر الميليشــيات المســاندة لــه بعــد اضطــرار ســكان‬ ‫المناطــق التــي يســيطرون عليهــا لمغــادرة منازلهــم وبيوهتــم»‪.‬‬ ‫وألننــي أتحــدث عــن هتجيــر ســكان المناطــق التــي يســيطر عليهــا‬ ‫ـارا واس ـ ًعا يف هــذا‬ ‫النظــام‪ ،‬فــإن هنــاك‬ ‫ً‬ ‫مصطلحــا آخــر انتشــر انتشـ ً‬ ‫ـات ُ‬ ‫الخ ْضـ ُـر»‪ ،‬وهــو مصطلــح راج يف أوســاط‬ ‫الصــدد‪ ،‬وهــو «الباصـ ُ‬ ‫النظــام ومؤيديــه بعــد أن بــدأت كفــة المواجهــات تميــل لصالحهــم‪،‬‬ ‫ويريــدون بــه تلــك الحافــات التــي ُتقـ ّـل المهجريــن وعائالهتــم مــن‬ ‫مناطقهــم التــي كانــوا يعيشــون فيهــا ويســيطرون عليهــا‪ ،‬إلــى مناطــق‬ ‫جديــدة مــا زالــت تحــت قبضــة المعارضــة‪ ،‬وغالبــا مــا تكــون يف‬ ‫الشــمال الســوري‪.‬‬ ‫وتــأيت أحــدث مفــردات الثــورة الســورية التــي أخــذت طريقهــا‬ ‫رمــزا‬ ‫للــروز منــذ فــرة قصيــرة‪- ،‬ومــن المؤكــد أهنــا ســتصبح ً‬ ‫((( ينظر‪ :‬لسان العرب‪ ،‬البن منظور‪ ،‬مادة "عفش"‪.‬‬

‫‪82‬‬

‫كِنائيــا‪ ،‬وعالمــة مســجلة يف األيــام القادمــة‪ -‬هــي لفظــة‪ِ :‬‬ ‫«ض ْفــدَ ع»‪،‬‬ ‫ًّ‬ ‫و»الض َفـ ِ‬ ‫ـادع»‪ ،‬ويكنّــي هبــا الســوريون عــن تلــك الخاليــا النائمــة‪ ،‬أو‬ ‫َّ‬ ‫العمــاء المندســين مــن رجــاالت النظــام يف مناطــق المعارضــة‪،‬‬ ‫وقــد جــاءت اللفظــة مــن شــخصية الشــيخ «بســام ضفــدع» الــذي‬ ‫ظــل مقيمــا يف بعــض مناطــق الغوطــة الشــرقية‪ ،‬حتــى حاصرهــا‬ ‫جيــش النظــام‪ ،‬فأعلــن حقيقتــه وحمــل الســاح مــع تالمذتــه وقــام‬ ‫بطعــن الجيــش الحــر يف ظهــره‪.‬‬

‫ومــن المصطلحــات العلميــة الكبيــرة التــي تمخضــت عنهــا الثــورة‬ ‫الســورية كذلــك‪ :‬مصطلــح ِ‬ ‫«اإلعــا ُم ال َبديـ ُـل»‪ ،‬وهــو يقــدم نفســه‬ ‫ـرزا طبيع ًيــا لمــا َّ‬ ‫تمخــض‬ ‫للجمهــور بِعــدِّ ه بديـ ًـا إلعــام النظــام‪ ،‬وفـ ً‬ ‫مــن حــراك إعالمــي يناصــر الثــورة ويدعــو للتحــرر‪ ،‬ويطالــب‬ ‫بحقــوق الشــعب المســلوبة منــذ ســنين‪ ...‬وقــد نشــأ هــذا اإلعــام‬ ‫ر ًّدا علــى آلــة النظــام اإلعالميــة التــي احتكــرت الفضــاء‪ ،‬وســيطرت‬ ‫علــى الحــرف والكلمــة المكتوبــة أو المســموعة أو المرئيــة(((‪.‬‬

‫َ‬ ‫أجمــل‬ ‫عــات ال َب ْيضــا ُء»‬ ‫ويظــل ‪-‬يف الختــام‪ -‬مصطلــح «ال ُق َّب ُ‬ ‫وأطهرهــا‪ ،‬فالدفــاع‬ ‫المصطلحــات التــي أفرزهتــا الثــورة‪ ،‬وأنقاهــا‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫المــدين الســوري ‪-‬ويعــرف أيضــا باســم ُ‬ ‫الخـ َـوذ البيضــاء‪ -‬منظم ـ ُة‬ ‫تطوعيــة تعمــل يف مناطــق ســيطرة المعارضــة يف‬ ‫دفــا ٍع مدن َّيــة ُّ‬ ‫ســوريا‪ ،‬وقــد تأسســت عــام ‪2013‬م‪ ،‬وتتألــف مــن ثالثــة آالف‬ ‫متطــوع ســوري مــدين تقري ًبــا‪ ،‬وهتــدف إلــى إغاثــة المتضرريــن‬ ‫جــراء الحــرب‪ ،‬و َت ُعــدُّ المنظمــة نفســها حياديــة وغيــر منحــازة‪ ،‬وال‬ ‫تتعهــد بالــوالء ألي حــزب أو جماعــة سياســية(((‪.‬‬ ‫وبعــد‪ ،‬فهــذا ُأ ّس بحــث صغيــر‪ ،‬هدفــه التأريــخ اللغــوي لحقبــة‬ ‫تاريخيــة مفصليــة‪ ،‬ومنعطــف زمنــي مهــم مــن أخطــر المنعطفــات يف‬ ‫تاريــخ ســوريا الحديثــة والمنطقــة برمتهــا‪ ،‬والتأريــخ ال ُّلغــوي ليــس‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫معــزول عــن البيئــة‪ ،‬بــل هــو وثيــق‬ ‫منفصــا عــن المجتمــع‪ ،‬وال‬ ‫تعبيــرا صاد ًقــا عــن عاطفــة‬ ‫الصلــة باألمــة وهمــوم أبنائهــا‪ ،‬يع ِّبــر‬ ‫ً‬ ‫الشــعوب ونبــض وجداهنــا‪ ،‬ويم ّثــل تمثيـ ًـا دقي ًقــا آالمهــا وآمالهــا‪.‬‬ ‫وال أدعــي أننــي اســتوفيت كل مــا اســتحدثته الثــورة الســورية يف‬ ‫هــذا البحــث الصغيــر مــن ألفــاظ ومفــردات ومصطلحــات‪ ،‬وأنــى‬ ‫أس بحــث‪ ،‬يمكــن تطويــره‬ ‫لــي ذلــك؟ بــل هــو ‪-‬كمــا أســلفت‪ُّ -‬‬ ‫وتوســيعه والبنــاء عليــه‪ ،‬عــر إضافــة مفــردات لــم نتطــرق لهــا‪،‬‬ ‫نمــر عليهــا‪ ،‬ويمكــن للباحثيــن والمهتميــن‬ ‫وحقــول دالليــة لــم ّ‬ ‫بتأريــخ رحلــة اللغــات واللهجــات أن يبنــوا علــى مثــل هــذا‬ ‫البحــث‪ ،‬أو يطـ ّـوروا هــذه الدراســة‪ ،‬لعلهــا تكــون لبنــة يف مداميــك‬ ‫ً‬ ‫وتأريخــا لهــذه الحقبــة المفصليــة يف تاريــخ ســوريا‬ ‫لغــة الثــورة‪،‬‬ ‫الحديــث(((‪.‬‬ ‫((( ينظر‪SUEMds2/yl.tib//:sptth :‬‬ ‫((( ينظر‪gro.aidepikiw.m.ra//:sptth :‬‬ ‫شاكرا لكل من يتواصل معي لتقديم الجديد النافع يف هذا المجال من خالل الربيد اإللكرتوين‪،‬‬ ‫((( سأكون‬ ‫ً‬ ‫أو صفحتي يف فيسبوك‪)moc.liamtoh@3mas-a( ،‬‬

‫حر ّية القلم اإلعالمي في وسيلة إعالم إسالمية‬

‫حريــة القلم اإلعالمي‬

‫يف وســيلة إعالم إسالمية‬

‫االنفصام بــن ما نصنع ونتوقع‪..‬‬ ‫ومــا ينبغي أن نصنع ونتوقع‬

‫مقدمات‬ ‫قبــل الدخــول يف صلــب الموضــوع‪ ،‬نرصــد أن اإلعــام لــم يعــد‬ ‫كمــا كان‪ ..‬وال العمــل لإلســام كمــا كان‪ ..‬وال واقــع العالــم‬ ‫والعصــر كمــا كان‪ ..‬ولكــن مــا نــزال‪ ،‬أو مــا يــزال كثيــر منّــا‪ ،‬يتعامــل‬ ‫مــع اإلعــام‪ ،‬باســم العمــل لإلســام ودعوتــه‪ ،‬بأســاليب متخلفــة‬ ‫(معــذرة) نخطــئ إذا اعتربناهــا مســتمدّ ة مــن اإلســام نفســه‪.‬‬

‫ينعكس ذلك يف صورتين متقابلتين‪:‬‬ ‫(‪ )١‬ممارســات إعالميــة ِ‬ ‫(ح َرفِيــة‪ ..‬أو متعدّ يــة علــى المهنــة!)‬ ‫تحمــل عناويــن إســامية‪ ،‬فقــدت مفعولهــا وضعــف تأثيرهــا يف‬ ‫الفئــات المســتهدفة؛ إذ ال تنســجم مــع رســالة «اإلعــام العــام»‬ ‫وأهدافــه المتناميــة‪ ،‬ومتغيــرات الظــروف المحيطــة بــه‪ ،‬وال ترقــى‬ ‫إلــى مســتوى طموحــات مــا ينبغــي أن يصنعــه مــن يعمــل لإلســام‬ ‫يف عالمنــا هــذا وعصرنــا هــذا‪.‬‬ ‫(‪ )٢‬توقعــات غيــر موضوعيــة تقيــس العطــاء اإلعالمــي تحــت‬ ‫عنــوان إســامي بتطلعــات تعجيزيــة‪ ،‬أو ال تنــدرج يف قائمــة أهــداف‬ ‫وســيلة «إعالميــة إســامية» بعينهــا‪ ،‬فتخيــب آمــال أصحــاب تلــك‬ ‫التوقعــات وتنتشــر االنتقــادات‪ ،‬ناهيــك عــن انتقــادات «جاهــزة»‬ ‫ينشــرها مــن ال يقــرأ وال ي َّطلــع وال يتابــع أصــا‪.‬‬ ‫هــذا‪ ..‬ونؤكــد جميعــا «أهميــة اإلعــام العــام»‪ ..‬ونعلــم مــا يعنيــه‬ ‫وبــأدواره المؤثــرة يف صناعــة الحــدث‪ ..‬إيجا ًبــا وســل ًبا‪ ،‬وهــذا‬ ‫مــا أصبحنــا شــهودا عليــه‪ ،‬وذقنــا طعمــه بنكهــة الدمــاء واآلالم‪،‬‬

‫األستاذ نبيل شبيب‬ ‫كاتب وإعالمي سوري‬

‫والتضحيــات واإلخفاقــات‪ ،‬مــرة بعــد مــرة‪ ،‬ومــن ذلــك مــا واكــب‬ ‫مســارات أحــداث طاحنــة‪ ،‬أثنــاء تدفــق أمــواج مقاومــة الغــزاة‪،‬‬ ‫واالنتفاضــات التحريريــة‪ ،‬ثــم الثــورات الشــعبية العربيــة‪ ،‬ومــا‬ ‫قابلهــا مــن ســيول التحــرك الجــارف المضــاد محليــا وإقليميــا‬ ‫وعالميــا‪.‬‬

‫يكفــي هــذا ‪-‬وبعضنــا يؤكــد ضــرورة «المراجعــات» عمومــا‪-‬‬ ‫لبيــان أهميــة النظــر يف معنــى مــا بــدأ بــه هــذا المقــال مــن ا ّدعــاء‬ ‫وجــود انفصــام يف اإلعــام اإلســامي بيــن مــا نصنــع ونتوقــع‬ ‫فعـ ًـا‪ ..‬ومــا ينبغــي أن نصنــع ونتوقــع‪ ،‬وال ينفصــل المطلــوب هنــا‬ ‫عــن نســيج جهــود كــرى ضروريــة لالرتقــاء إلــى مســتوى وجودنــا‬ ‫أمــام بوابــة دورة حضاريــة جديــدة‪ ،‬نزعــم أننــا نحمــل قســطا كبيــرا‬ ‫مــن المســؤولية عــن الدفــع بعجالهتــا يف االتجــاه الصحيــح‪.‬‬ ‫وال يكفــي للنظــر فيمــا ســبق ســبك «مقــال»‪ ..‬وإن قيــل إن البالغــة‬ ‫يف اإليجــاز‪ ،‬وكان الحديــث مقتصــرا علــى قســط محــدود مــن‬ ‫جانــب جزئــي يشــير إليــه مطلــع المقــال‪ ،‬مــن أصــل قضيــة أكــر‬ ‫وأوســع‪ ،‬تتطلــب دراســات محكمــة وبحوثــا اســتقصائية وإبداعــا‬ ‫يف التفكيــر والتحليــل واالســتنتاج وصياغــة اقرتاحــات ومبــادرات‬ ‫عمليــة‪.‬‬

‫ومــن الضــروري اإلشــارة إلــى أن الفقــرات اآلتيــة تحــت عنــوان‬ ‫(حريــة القلــم اإلعالمــي يف وســيلة إعــام إســامية) ال تتعــرض‪:‬‬ ‫ إلجــازة نشــر المــوا ّد يف نطــاق إعــام تخصصــي عــر آليــة‬‫منهجيــة علميــة دون إفســادها بخلــط المعاييــر العلميــة بموقــف‬ ‫‪83‬‬


‫حر ّية القلم اإلعالمي في وسيلة إعالم إسالمية‬ ‫ذايت تجــاه «رأي» مخالــف تشــمله المــواد المعنيــة‪..‬‬

‫ أو العتبــارات اســتثنائية لشــخصية طبيعيــة أو اعتباريــة تشــغل‬‫موقــع الناطــق الرســمي باســم جهــة سياســية أو تجاريــة أو مــا شــابه‬ ‫ذلــك‪..‬‬ ‫ وال تتعــرض لمــا يســمى «ميثــاق شــرف» إعالمــي ببنــود قيميــة‬‫وأخالقيــة‪..‬‬

‫لجميــع ذلــك وأشــباهه قواعــد دقيقــة ليســت موضــع الحديــث هنــا‬ ‫بصيغــة خواطــر معــدودة تتنــاول إجــازة المعلومــة العامــة والــرأي‬ ‫العــام يف وســيلة إعالميــة عامــة‪ ،‬ذات عنــوان إســامي‪ ،‬والســؤال‪:‬‬ ‫كــم ذا نعلــن مــن منطلــق إســامي رفــض تقييــد اإلعــام يف بالدنــا‬ ‫خصوصــا عــر مقــص الرقيــب ووســائل أخــرى‪ ،‬ومــن دواعــي‬ ‫ً‬ ‫المصداقيــة القــول‪ :‬إن الرقابــة المســبقة علــى حريــة الكلمــة يف‬ ‫إنتــاج إعــام إســامي موجــودة‪ ،‬فكيــف نلغيهــا ليكــون إســام ًيا‬ ‫ً‬ ‫فعــا‪ ،‬ويكــون إعال ًمــا بحــق؟‬

‫أين الخلل؟‬ ‫يعتــذر كاتــب هــذه الســطور إن أطــال يف المقدمــات‪ ..‬ولكــن يوجد‬ ‫مــا يدفــع إلــى ذلــك مــن احتمــاالت «ســوء فهــم أو ســوء تفاهــم‬ ‫أو حساســيات مــا» فيحــاول وضــع إطــار دقيــق قــدر اإلمــكان‪،‬‬ ‫ومــن ذلــك اإلقــرار أن الســؤال المطــروح يتجــاوز مســائل تســبقه‬ ‫موضوع ًيــا وتحتــاج إلــى إجابــات‪ ،‬مثــل البحــث عــن مقاربــة‬ ‫فيمــا يطــرح مــن صياغــات مختلفــة لتعريــف المفــردات الــواردة‬ ‫«الرقابــة‪ ،‬حريــة الكلمــة‪ ،‬اإلعــام‪ ،‬اإلعــام اإلســامي»‪ ،‬وأهــم‬ ‫مــن ذلــك‪:‬‬ ‫األصــح يف تعريــف هــذه المفــردات‬ ‫مــا الــذي يصلــح لرتجيــح‬ ‫ّ‬ ‫وتطبيقهــا‪ ،‬بمعيــار مــا هــو أقــرب إلــى الصــواب موضوعيــا وأكثــر‬ ‫إقناعــا علــى أرض الواقــع؟‬ ‫هــل يصلــح لذلــك االعتمــاد علــى المتخصــص بالشــريعة أو‬ ‫المتخصــص باإلعــام؟ وعــر االستشــارة أم القــرار؟ ولئــن اجتمــع‬ ‫الطرفــان علــى أمــر‪ ،‬مــا الــذي نحتــاج إليــه يف رفــد الموضــوع مــن‬ ‫خــارج إطــار تخصصــات الشــريعة واإلعــام‪ ،‬أي مــن قطاعــات‬ ‫الرتبيــة والسياســة وعلــم النفــس واالجتمــاع وفنــون اإلنتــاج‬ ‫اإلعالمــي وملحقاتــه وتقنياهتــا‪ ،‬ومــا شــابه ذلــك‪ ،‬فنحــن نعلــم أن‬ ‫عالمنــا تتداخــل فيــه التخصصــات وتتكامــل‪ ،‬مضمو ًنــا ومفعـ ً‬ ‫ـول!‬

‫إذا تجاوزنــا مســألة حــق كل وســيلة إعالميــة أن تســتكتب مــن‬ ‫تريــد وأن تتعاقــد تحريريــا مــع مــن تريــد‪ ،‬فإننــا نعلــم بوجــود رقابــة‬ ‫مســبقة علــى هــؤالء أيضــا‪ ،‬وحدهــا األدنــى هــو تنفيــذ قــرار يجــري‬ ‫اتخــاذه مــن جانــب جهــة معتمــدة لذلــك‪ ،‬تحكــم علــى تعبيــر‬ ‫إعالمــي مكتــوب أو مصــور قبــل نشــره (للتذكيــر‪ :‬الحديــث هنــا‬ ‫‪84‬‬

‫عــن إعــام الــرأي)‪.‬‬

‫مــن جوانــب اإلشــكالية أن غالبنــا ال يــدرك أو ال يتبنــى قاعــدة‬ ‫تقــول باســتحالة انفــراد «شــخص» أو «مجموعــة» أو «تخصــص»‬ ‫بعينــه يف احتــكار صــواب الحكــم علــى قضيــة مــا (واإلنتــاج‬ ‫اإلعالمــي العــام يشــمل مختلــف القضايــا) بعــد أن تحــول عالمنــا‬ ‫إلــى «قريــة صغيــرة» يف دنيــا االتصــاالت‪ ،‬وإلــى «دار مشــركة»‬ ‫تجمــع بيــن أبعادهــا الســتة مــا ال ُيحصــى مــن التخصصــات‬ ‫المتفرعــة والمتشــابكة‪.‬‬ ‫قــد يكــون «محتكــر الصــواب» محقــا مــن الناحيــة الشــكلية‪ ،‬أي‬ ‫داخــل نطــاق زاويــة تخصصــه وفضــاء تواضعــه‪ ،‬ولكــن ال يفيــد‬ ‫ذلــك مــا دام الموضــوع المعنــي أوســع نطاقــا بمضمونــه وتأثيــره‬ ‫مــن أن ُيحبــس وراء جــدران تخصــص بعينــه‪.‬‬

‫الرقابة املسبقة لحظر حرية‬ ‫ ‬ ‫املامرسة اإلعالمية تعايش عىل أرض‬ ‫الواقع انهيار دعاماتها‪ ،‬رغم ما نرشته‬ ‫من أجواء الرعب من املرهبات ومتاهات‬ ‫التضليل‬ ‫هــذا مجــال يحتــاج للتأمــل بمــا يتجــاوز المطلــوب يف هــذه‬ ‫الخواطــر‪ ،‬وهــو محــض لفــت األنظــار إلــى مؤشــرين اثنيــن بمنزلــة‬ ‫«التمهيــد» لمــن ُيرجــى أن يعملــوا علــى اســتنباط محــددات‬ ‫مدروســة إللغــاء الرقابــة المســبقة علــى حريــة الكلمــة يف إنتــاج‬ ‫إعالمــي إســامي‪ ،‬ليكــون إعالمــا بحــق‪ ،‬ويكــون إســاميا فعــا‪.‬‬

‫املؤرش األول‪:‬‬ ‫نعايــش علــى أرض الواقــع أن أصنــاف الرقابــة المســبقة ‪-‬ومــن‬ ‫أدواهتــا‪ :‬الســماح‪ ..‬والحظــر‪ ..‬والتعديــل‪ ..‬والحــذف‪ -‬قــد فقــدت‬ ‫مغزاهــا وجدواهــا‪ ،‬وأخفقــت وســائلها التقليديــة وغيــر التقليديــة‪،‬‬ ‫الشــديدة والناعمــة‪ ،‬المتبعــة عمومــا قبــل انطــاق الثــورات الكــرى‬ ‫المتتاليــة يف عالــم االتصــاالت والتواصــل‪ ،‬ثــم مــا أضيــف إليهــا‬ ‫حتــى اليــوم‪.‬‬

‫بتعبيــر آخــر؛ لــم يعــد يوجــد يف عالمنــا وعصرنــا أي جــدار يمكــن‬ ‫اعتمــاده لمنــع تحليــق «الكلمــة» فــوق األســوار أو منــع تناقــل‬ ‫عمومــا‪ ،‬بالكلمــة والصــورة والســلوك‪.‬‬ ‫«التعبيــر»‬ ‫ً‬ ‫بــل ارتكبــت جرائــم االســتئصال بالقتــل أحيانًــا‪ ،‬وباالعتقــال‬ ‫كثيــرا ممــن‬ ‫والتعذيــب والتشــريد أحيانًــا أخــرى‪ ،‬واســتهدفت‬ ‫ً‬

‫حر ّية القلم اإلعالمي في وسيلة إعالم إسالمية‬ ‫ينتزعــون ألنفســهم حريــة الكلمــة اإلعالميــة انتزاعــا‪ ،‬مــن محرتفيــن‬ ‫وهــواة‪ ،‬كمــا ارتكبــت جرائــم تدميــر وســائل التعبيــر والنشــر‬ ‫ـارا‪ ..‬ولكــن بــات‬ ‫«المتمــردة» قصفــا مباشـ ًـرا أو خن ًقــا ماد ًيــا وحصـ ً‬ ‫مسلســل هــذه الجرائــم يــؤدي إلــى نقيــض المقصــود منــه‪ ،‬فهــي‬ ‫تضاعــف أعــداد «اإلعالمييــن المتمرديــن» وتثيــر مزيــدا مــن‬ ‫«اإلعــام» حــول قضيــة «الحريــة اإلعالميــة» التــي دفعــت الرغبــة‬ ‫يف وأدهــا إلــى ارتــكاب تلــك الجرائــم‪.‬‬ ‫لــم تعــد حتــى الجرائــم المباشــرة قــادرة علــى «وقــف» مســيرة‬ ‫تحــرر اإلعــام مــن قيــود الحظــر بمختلــف أشــكالها‪:‬‬

‫ قيــود تقليديــة مــن جانــب الســلطات يف كيانــات مارقــة تســمي‬‫ً‬ ‫«دول» أو يف دول تزعــم احتكارهــا هــي لتطبيــق الحريــات‬ ‫نفســه‬ ‫اإلعالميــة ثــم ال تــر ّدد عــن تقييدهــا وتوجيههــا بأســاليب الهيمنــة‬ ‫الماديــة‪..‬‬

‫ وقيــود غيــر تقليديــة أخطــر شــأنًا؛ إذ يســتخدمها كل ذي ســلطة‬‫مــا‪ ،‬وتعتمــد علــى توظيــف آليــات «حريريــة الملمــس»‪ ،‬تــزرد‬ ‫شــبكات حديديــة مــن رقابــة ذاتيــة‪ ،‬أو مــن مــررات مبتكــرة‪،‬‬ ‫لعمــل «مقــص الرقيــب» فتلتقــي يف هنايــة المطــاف مــع ممارســات‬ ‫الســلطات االســتبدادية وأغراضهــا‪.‬‬ ‫المقصــود هنــا هــو االســتناد يف أي عمليــة حظــر إلــى ممارســة‬ ‫الوصايــة علــى أفــكار‪ ..‬وعــادات‪ ..‬ومعتقــدات‪ ..‬ومســ ّلمات‬ ‫تدنيســا‪.‬‬ ‫تقديســا أو‬ ‫وبدهيــات موهومــة‪..‬‬ ‫ً‬ ‫ً‬

‫إن الرقابــة المســبقة لحظــر حريــة الممارســة اإلعالميــة تعايــش‬ ‫علــى أرض الواقــع اهنيــار دعاماهتــا‪ ،‬رغــم مــا نشــرته مــن أجــواء‬ ‫الرعــب مــن المرهبــات ومتاهــات التضليــل يف حمــأة المرغبــات‪،‬‬ ‫وقــد فقــدت تلــك الرقابــة المســبقة جدواهــا‪ ،‬إن لــم نقــل انعكــس‬ ‫مفعولهــا‪ ..‬ولهــذا علــى األقــل‪:‬‬ ‫ال ينبغــي أن ينزلــق أي عمــل إعالمــي رصيــن يحمــل عنــوان‬ ‫«اإلســام» إلــى ممارسـ ِـة مــا ال جــدوى منــه‪ ،‬ومــا أصبــح ضــرره‬ ‫أكــر مــن نفعــه‪.‬‬

‫للتذكيــر مــرة أخــرى‪ ..‬المقصــود هنــا هــو «الرقابــة المســبقة»‬ ‫وليــس معاييــر مدروســة وآليــات فاعلــة‪ ،‬تنطــوي علــى قــدر ٍ‬ ‫كاف‬ ‫مــن ضمانــات النزاهــة والعدالــة‪ ،‬للمتابعــة ثــم المحاســبة ألي‬ ‫عطــاء إعالمــي بعــد نشــره‪.‬‬

‫املؤرش الثاين‪:‬‬ ‫اإلعــام تحــت عنــوان إســامي‪ ،‬الحريــص علــى الكلمــة الطيبــة‪..‬‬ ‫الســديدة‪ ..‬الصالحــة‪ ..‬الخ ِّيــرة‪ ..‬الصادقــة‪ ..‬الهادفــة‪ ..‬الملتزمــة‪..‬‬ ‫أحــق مــن ســواه بالعمــل مــن أجــل إهنــاء مختلــف أســاليب الرقابــة‬ ‫المســبقة علــى النشــر يف اإلعــام العــام‪ ،‬فهــذا أحــد المطالــب‬

‫األساســية تجــاه منظومــات االســتبداد والهيمنــة محل ًيــا وعالم ًيــا‪،‬‬ ‫وهــو أحــد جوانــب تم ّيــز الوجــه «األصيــل» لمشــاركة الدعــوة‬ ‫اإلســامية القويمــة يف مسلســل المقاومــة واالنتفاضــات والثــورات‬ ‫يف بالدنــا وعالمنــا المعاصــر‪ ،‬مقابــل مــا كان مــن وجــوه «دخيلــة»‬ ‫هجينــة ومســتهجنة‪.‬‬ ‫عالوة على ذلك‪:‬‬

‫لــو اتســع المجــال لدراســة أو أكثــر‪ ،‬فيؤمــل أن يصــل فريــق‬ ‫«اندماجــي» مــن الخــراء المتخصصيــن يف علــوم الشــريعة وعلــوم‬ ‫اإلعــام والنشــر‪ ،‬مــع مــن يرفدوهنــم بتخصصــات تكميليــة‬ ‫مســاعدة‪ ،‬إلــى مــا يثبــت‪ ،‬وفــق المعاييــر العلميــة‪ ،‬أن مثــل هــذه‬ ‫أي وجــود نظــري أو تطبيقــي يف‬ ‫«الرقابــة المســبقة» لــم يكــن لهــا ّ‬ ‫العهــد النبــوي األول يف التعامــل مــع مــا يمكــن اعتبــاره ‪-‬مــع‬ ‫مراعــاة اختــاف العصــر والمعطيــات والظــروف والوســائل‪-‬‬ ‫صيغــة مــن صيــغ اإلعــام والنشــر‪.‬‬

‫بــل لعلنــا نجــد يف ذلــك العهــد شــواهد مــن أحــداث الســيرة تنقــض‬ ‫ممارســات الرقابــة المســبقة‪ ..‬أو الحظــر والحجــر المســبق عمو ًما‪،‬‬ ‫تنويهــا دون تفصيــل‪:‬‬ ‫ومــن ذلــك ً‬ ‫ اعــراض «المجادلــة» وخوضهــا دفاعــا عــن حقهــا يف الجــدال‬‫«العلنــي» مــع مــن ال ينطــق عــن الهــوى‪..‬‬

‫ االعــراض «العلنــي» أيضــا مــن فتــاة لــم ُتســأل مســبقا بشــأن‬‫تزويجهــا بمــن طلــب يدهــا‪..‬‬ ‫ شــتيمة «يــا ابــن الســوداء» بحضــور كــرام الصحابــة‪ ،‬ثــم عــدم‬‫تلقــي عقوبــة «شــرعية» علــى ذلــك الخطــأ يف التفكيــر والتعبيــر‪،‬‬ ‫واالكتفــاء يف توصيــف الســبب بأســلوب تربــوي‪ ،‬أنــه «خصلــة مــن‬ ‫الجاهليــة»‪..‬‬

‫ االمتنــاع عــن ممارســة العقوبــة المســتحقة‪ ،‬حتــى علــى منافــق‬‫المنــورة‬ ‫تطــاول علــى المقــام النبــوي وابتغــى الفتنــة يف المدينــة‬ ‫ّ‬ ‫وهــو يتوعــد بــأن «يخــرج األعـ ّـز منهــا األذل» بعــد معركــة أحــد‪..‬‬ ‫إن الحديــث عــن ذلــك يف نطــاق مقــال قصيــر هنــا ال يقطــع باعتبــار‬ ‫الشــواهد «ممارســات إعالميــة» أم ال‪ ،‬بــل المرجــو منــه محــض‬ ‫اإلشــارة إلــى أمثلــة تســمح بدراســة قــد تصــل إلــى نتيجــة ينطلــق‬ ‫منهــا كاتــب هــذه الســطور‪ ،‬ومؤداهــا‪:‬‬

‫لــم يعــرف العهــد النبــوي وجــود مــا يحظــر التعبيــر بحريــة عمــا‬ ‫يــراه الفــرد ولــو جانبــه الصــواب‪ ،‬أمــا إن أخطــأ يف اســتخدام هــذه‬ ‫الحريــة فتعــدّ ى حدودهــا إلــى المســاس بحــق فــرد آخــر أو حقــوق‬ ‫المجتمــع‪ ،‬فآنــذاك يســري يف التعامــل مــع ارتــكاب الخطــأ‪ :‬العفــو‬ ‫التربــوي قــدر اإلمــكان‪ ،‬أو العقوبــة المشــروعة بقــدر الضــرورة ويف‬ ‫حــدود مــا يتناســب مــع درجــة ذلــك الخطــأ وضــرره‪.‬‬ ‫‪85‬‬


‫حر ّية القلم اإلعالمي في وسيلة إعالم إسالمية‬ ‫ذايت تجــاه «رأي» مخالــف تشــمله المــواد المعنيــة‪..‬‬

‫ أو العتبــارات اســتثنائية لشــخصية طبيعيــة أو اعتباريــة تشــغل‬‫موقــع الناطــق الرســمي باســم جهــة سياســية أو تجاريــة أو مــا شــابه‬ ‫ذلــك‪..‬‬ ‫ وال تتعــرض لمــا يســمى «ميثــاق شــرف» إعالمــي ببنــود قيميــة‬‫وأخالقيــة‪..‬‬

‫لجميــع ذلــك وأشــباهه قواعــد دقيقــة ليســت موضــع الحديــث هنــا‬ ‫بصيغــة خواطــر معــدودة تتنــاول إجــازة المعلومــة العامــة والــرأي‬ ‫العــام يف وســيلة إعالميــة عامــة‪ ،‬ذات عنــوان إســامي‪ ،‬والســؤال‪:‬‬ ‫كــم ذا نعلــن مــن منطلــق إســامي رفــض تقييــد اإلعــام يف بالدنــا‬ ‫خصوصــا عــر مقــص الرقيــب ووســائل أخــرى‪ ،‬ومــن دواعــي‬ ‫ً‬ ‫المصداقيــة القــول‪ :‬إن الرقابــة المســبقة علــى حريــة الكلمــة يف‬ ‫إنتــاج إعــام إســامي موجــودة‪ ،‬فكيــف نلغيهــا ليكــون إســام ًيا‬ ‫ً‬ ‫فعــا‪ ،‬ويكــون إعال ًمــا بحــق؟‬

‫أين الخلل؟‬ ‫يعتــذر كاتــب هــذه الســطور إن أطــال يف المقدمــات‪ ..‬ولكــن يوجد‬ ‫مــا يدفــع إلــى ذلــك مــن احتمــاالت «ســوء فهــم أو ســوء تفاهــم‬ ‫أو حساســيات مــا» فيحــاول وضــع إطــار دقيــق قــدر اإلمــكان‪،‬‬ ‫ومــن ذلــك اإلقــرار أن الســؤال المطــروح يتجــاوز مســائل تســبقه‬ ‫موضوع ًيــا وتحتــاج إلــى إجابــات‪ ،‬مثــل البحــث عــن مقاربــة‬ ‫فيمــا يطــرح مــن صياغــات مختلفــة لتعريــف المفــردات الــواردة‬ ‫«الرقابــة‪ ،‬حريــة الكلمــة‪ ،‬اإلعــام‪ ،‬اإلعــام اإلســامي»‪ ،‬وأهــم‬ ‫مــن ذلــك‪:‬‬ ‫األصــح يف تعريــف هــذه المفــردات‬ ‫مــا الــذي يصلــح لرتجيــح‬ ‫ّ‬ ‫وتطبيقهــا‪ ،‬بمعيــار مــا هــو أقــرب إلــى الصــواب موضوعيــا وأكثــر‬ ‫إقناعــا علــى أرض الواقــع؟‬ ‫هــل يصلــح لذلــك االعتمــاد علــى المتخصــص بالشــريعة أو‬ ‫المتخصــص باإلعــام؟ وعــر االستشــارة أم القــرار؟ ولئــن اجتمــع‬ ‫الطرفــان علــى أمــر‪ ،‬مــا الــذي نحتــاج إليــه يف رفــد الموضــوع مــن‬ ‫خــارج إطــار تخصصــات الشــريعة واإلعــام‪ ،‬أي مــن قطاعــات‬ ‫الرتبيــة والسياســة وعلــم النفــس واالجتمــاع وفنــون اإلنتــاج‬ ‫اإلعالمــي وملحقاتــه وتقنياهتــا‪ ،‬ومــا شــابه ذلــك‪ ،‬فنحــن نعلــم أن‬ ‫عالمنــا تتداخــل فيــه التخصصــات وتتكامــل‪ ،‬مضمو ًنــا ومفعـ ً‬ ‫ـول!‬

‫إذا تجاوزنــا مســألة حــق كل وســيلة إعالميــة أن تســتكتب مــن‬ ‫تريــد وأن تتعاقــد تحريريــا مــع مــن تريــد‪ ،‬فإننــا نعلــم بوجــود رقابــة‬ ‫مســبقة علــى هــؤالء أيضــا‪ ،‬وحدهــا األدنــى هــو تنفيــذ قــرار يجــري‬ ‫اتخــاذه مــن جانــب جهــة معتمــدة لذلــك‪ ،‬تحكــم علــى تعبيــر‬ ‫إعالمــي مكتــوب أو مصــور قبــل نشــره (للتذكيــر‪ :‬الحديــث هنــا‬ ‫‪84‬‬

‫عــن إعــام الــرأي)‪.‬‬

‫مــن جوانــب اإلشــكالية أن غالبنــا ال يــدرك أو ال يتبنــى قاعــدة‬ ‫تقــول باســتحالة انفــراد «شــخص» أو «مجموعــة» أو «تخصــص»‬ ‫بعينــه يف احتــكار صــواب الحكــم علــى قضيــة مــا (واإلنتــاج‬ ‫اإلعالمــي العــام يشــمل مختلــف القضايــا) بعــد أن تحــول عالمنــا‬ ‫إلــى «قريــة صغيــرة» يف دنيــا االتصــاالت‪ ،‬وإلــى «دار مشــركة»‬ ‫تجمــع بيــن أبعادهــا الســتة مــا ال ُيحصــى مــن التخصصــات‬ ‫المتفرعــة والمتشــابكة‪.‬‬ ‫قــد يكــون «محتكــر الصــواب» محقــا مــن الناحيــة الشــكلية‪ ،‬أي‬ ‫داخــل نطــاق زاويــة تخصصــه وفضــاء تواضعــه‪ ،‬ولكــن ال يفيــد‬ ‫ذلــك مــا دام الموضــوع المعنــي أوســع نطاقــا بمضمونــه وتأثيــره‬ ‫مــن أن ُيحبــس وراء جــدران تخصــص بعينــه‪.‬‬

‫الرقابة املسبقة لحظر حرية‬ ‫ ‬ ‫املامرسة اإلعالمية تعايش عىل أرض‬ ‫الواقع انهيار دعاماتها‪ ،‬رغم ما نرشته‬ ‫من أجواء الرعب من املرهبات ومتاهات‬ ‫التضليل‬ ‫هــذا مجــال يحتــاج للتأمــل بمــا يتجــاوز المطلــوب يف هــذه‬ ‫الخواطــر‪ ،‬وهــو محــض لفــت األنظــار إلــى مؤشــرين اثنيــن بمنزلــة‬ ‫«التمهيــد» لمــن ُيرجــى أن يعملــوا علــى اســتنباط محــددات‬ ‫مدروســة إللغــاء الرقابــة المســبقة علــى حريــة الكلمــة يف إنتــاج‬ ‫إعالمــي إســامي‪ ،‬ليكــون إعالمــا بحــق‪ ،‬ويكــون إســاميا فعــا‪.‬‬

‫املؤرش األول‪:‬‬ ‫نعايــش علــى أرض الواقــع أن أصنــاف الرقابــة المســبقة ‪-‬ومــن‬ ‫أدواهتــا‪ :‬الســماح‪ ..‬والحظــر‪ ..‬والتعديــل‪ ..‬والحــذف‪ -‬قــد فقــدت‬ ‫مغزاهــا وجدواهــا‪ ،‬وأخفقــت وســائلها التقليديــة وغيــر التقليديــة‪،‬‬ ‫الشــديدة والناعمــة‪ ،‬المتبعــة عمومــا قبــل انطــاق الثــورات الكــرى‬ ‫المتتاليــة يف عالــم االتصــاالت والتواصــل‪ ،‬ثــم مــا أضيــف إليهــا‬ ‫حتــى اليــوم‪.‬‬

‫بتعبيــر آخــر؛ لــم يعــد يوجــد يف عالمنــا وعصرنــا أي جــدار يمكــن‬ ‫اعتمــاده لمنــع تحليــق «الكلمــة» فــوق األســوار أو منــع تناقــل‬ ‫عمومــا‪ ،‬بالكلمــة والصــورة والســلوك‪.‬‬ ‫«التعبيــر»‬ ‫ً‬ ‫بــل ارتكبــت جرائــم االســتئصال بالقتــل أحيانًــا‪ ،‬وباالعتقــال‬ ‫كثيــرا ممــن‬ ‫والتعذيــب والتشــريد أحيانًــا أخــرى‪ ،‬واســتهدفت‬ ‫ً‬

‫حر ّية القلم اإلعالمي في وسيلة إعالم إسالمية‬ ‫ينتزعــون ألنفســهم حريــة الكلمــة اإلعالميــة انتزاعــا‪ ،‬مــن محرتفيــن‬ ‫وهــواة‪ ،‬كمــا ارتكبــت جرائــم تدميــر وســائل التعبيــر والنشــر‬ ‫ـارا‪ ..‬ولكــن بــات‬ ‫«المتمــردة» قصفــا مباشـ ًـرا أو خن ًقــا ماد ًيــا وحصـ ً‬ ‫مسلســل هــذه الجرائــم يــؤدي إلــى نقيــض المقصــود منــه‪ ،‬فهــي‬ ‫تضاعــف أعــداد «اإلعالمييــن المتمرديــن» وتثيــر مزيــدا مــن‬ ‫«اإلعــام» حــول قضيــة «الحريــة اإلعالميــة» التــي دفعــت الرغبــة‬ ‫يف وأدهــا إلــى ارتــكاب تلــك الجرائــم‪.‬‬ ‫لــم تعــد حتــى الجرائــم المباشــرة قــادرة علــى «وقــف» مســيرة‬ ‫تحــرر اإلعــام مــن قيــود الحظــر بمختلــف أشــكالها‪:‬‬

‫ قيــود تقليديــة مــن جانــب الســلطات يف كيانــات مارقــة تســمي‬‫ً‬ ‫«دول» أو يف دول تزعــم احتكارهــا هــي لتطبيــق الحريــات‬ ‫نفســه‬ ‫اإلعالميــة ثــم ال تــر ّدد عــن تقييدهــا وتوجيههــا بأســاليب الهيمنــة‬ ‫الماديــة‪..‬‬

‫ وقيــود غيــر تقليديــة أخطــر شــأنًا؛ إذ يســتخدمها كل ذي ســلطة‬‫مــا‪ ،‬وتعتمــد علــى توظيــف آليــات «حريريــة الملمــس»‪ ،‬تــزرد‬ ‫شــبكات حديديــة مــن رقابــة ذاتيــة‪ ،‬أو مــن مــررات مبتكــرة‪،‬‬ ‫لعمــل «مقــص الرقيــب» فتلتقــي يف هنايــة المطــاف مــع ممارســات‬ ‫الســلطات االســتبدادية وأغراضهــا‪.‬‬ ‫المقصــود هنــا هــو االســتناد يف أي عمليــة حظــر إلــى ممارســة‬ ‫الوصايــة علــى أفــكار‪ ..‬وعــادات‪ ..‬ومعتقــدات‪ ..‬ومســ ّلمات‬ ‫تدنيســا‪.‬‬ ‫تقديســا أو‬ ‫وبدهيــات موهومــة‪..‬‬ ‫ً‬ ‫ً‬

‫إن الرقابــة المســبقة لحظــر حريــة الممارســة اإلعالميــة تعايــش‬ ‫علــى أرض الواقــع اهنيــار دعاماهتــا‪ ،‬رغــم مــا نشــرته مــن أجــواء‬ ‫الرعــب مــن المرهبــات ومتاهــات التضليــل يف حمــأة المرغبــات‪،‬‬ ‫وقــد فقــدت تلــك الرقابــة المســبقة جدواهــا‪ ،‬إن لــم نقــل انعكــس‬ ‫مفعولهــا‪ ..‬ولهــذا علــى األقــل‪:‬‬ ‫ال ينبغــي أن ينزلــق أي عمــل إعالمــي رصيــن يحمــل عنــوان‬ ‫«اإلســام» إلــى ممارسـ ِـة مــا ال جــدوى منــه‪ ،‬ومــا أصبــح ضــرره‬ ‫أكــر مــن نفعــه‪.‬‬

‫للتذكيــر مــرة أخــرى‪ ..‬المقصــود هنــا هــو «الرقابــة المســبقة»‬ ‫وليــس معاييــر مدروســة وآليــات فاعلــة‪ ،‬تنطــوي علــى قــدر ٍ‬ ‫كاف‬ ‫مــن ضمانــات النزاهــة والعدالــة‪ ،‬للمتابعــة ثــم المحاســبة ألي‬ ‫عطــاء إعالمــي بعــد نشــره‪.‬‬

‫املؤرش الثاين‪:‬‬ ‫اإلعــام تحــت عنــوان إســامي‪ ،‬الحريــص علــى الكلمــة الطيبــة‪..‬‬ ‫الســديدة‪ ..‬الصالحــة‪ ..‬الخ ِّيــرة‪ ..‬الصادقــة‪ ..‬الهادفــة‪ ..‬الملتزمــة‪..‬‬ ‫أحــق مــن ســواه بالعمــل مــن أجــل إهنــاء مختلــف أســاليب الرقابــة‬ ‫المســبقة علــى النشــر يف اإلعــام العــام‪ ،‬فهــذا أحــد المطالــب‬

‫األساســية تجــاه منظومــات االســتبداد والهيمنــة محل ًيــا وعالم ًيــا‪،‬‬ ‫وهــو أحــد جوانــب تم ّيــز الوجــه «األصيــل» لمشــاركة الدعــوة‬ ‫اإلســامية القويمــة يف مسلســل المقاومــة واالنتفاضــات والثــورات‬ ‫يف بالدنــا وعالمنــا المعاصــر‪ ،‬مقابــل مــا كان مــن وجــوه «دخيلــة»‬ ‫هجينــة ومســتهجنة‪.‬‬ ‫عالوة على ذلك‪:‬‬

‫لــو اتســع المجــال لدراســة أو أكثــر‪ ،‬فيؤمــل أن يصــل فريــق‬ ‫«اندماجــي» مــن الخــراء المتخصصيــن يف علــوم الشــريعة وعلــوم‬ ‫اإلعــام والنشــر‪ ،‬مــع مــن يرفدوهنــم بتخصصــات تكميليــة‬ ‫مســاعدة‪ ،‬إلــى مــا يثبــت‪ ،‬وفــق المعاييــر العلميــة‪ ،‬أن مثــل هــذه‬ ‫أي وجــود نظــري أو تطبيقــي يف‬ ‫«الرقابــة المســبقة» لــم يكــن لهــا ّ‬ ‫العهــد النبــوي األول يف التعامــل مــع مــا يمكــن اعتبــاره ‪-‬مــع‬ ‫مراعــاة اختــاف العصــر والمعطيــات والظــروف والوســائل‪-‬‬ ‫صيغــة مــن صيــغ اإلعــام والنشــر‪.‬‬

‫بــل لعلنــا نجــد يف ذلــك العهــد شــواهد مــن أحــداث الســيرة تنقــض‬ ‫ممارســات الرقابــة المســبقة‪ ..‬أو الحظــر والحجــر المســبق عمو ًما‪،‬‬ ‫تنويهــا دون تفصيــل‪:‬‬ ‫ومــن ذلــك ً‬ ‫ اعــراض «المجادلــة» وخوضهــا دفاعــا عــن حقهــا يف الجــدال‬‫«العلنــي» مــع مــن ال ينطــق عــن الهــوى‪..‬‬

‫ االعــراض «العلنــي» أيضــا مــن فتــاة لــم ُتســأل مســبقا بشــأن‬‫تزويجهــا بمــن طلــب يدهــا‪..‬‬ ‫ شــتيمة «يــا ابــن الســوداء» بحضــور كــرام الصحابــة‪ ،‬ثــم عــدم‬‫تلقــي عقوبــة «شــرعية» علــى ذلــك الخطــأ يف التفكيــر والتعبيــر‪،‬‬ ‫واالكتفــاء يف توصيــف الســبب بأســلوب تربــوي‪ ،‬أنــه «خصلــة مــن‬ ‫الجاهليــة»‪..‬‬

‫ االمتنــاع عــن ممارســة العقوبــة المســتحقة‪ ،‬حتــى علــى منافــق‬‫المنــورة‬ ‫تطــاول علــى المقــام النبــوي وابتغــى الفتنــة يف المدينــة‬ ‫ّ‬ ‫وهــو يتوعــد بــأن «يخــرج األعـ ّـز منهــا األذل» بعــد معركــة أحــد‪..‬‬ ‫إن الحديــث عــن ذلــك يف نطــاق مقــال قصيــر هنــا ال يقطــع باعتبــار‬ ‫الشــواهد «ممارســات إعالميــة» أم ال‪ ،‬بــل المرجــو منــه محــض‬ ‫اإلشــارة إلــى أمثلــة تســمح بدراســة قــد تصــل إلــى نتيجــة ينطلــق‬ ‫منهــا كاتــب هــذه الســطور‪ ،‬ومؤداهــا‪:‬‬

‫لــم يعــرف العهــد النبــوي وجــود مــا يحظــر التعبيــر بحريــة عمــا‬ ‫يــراه الفــرد ولــو جانبــه الصــواب‪ ،‬أمــا إن أخطــأ يف اســتخدام هــذه‬ ‫الحريــة فتعــدّ ى حدودهــا إلــى المســاس بحــق فــرد آخــر أو حقــوق‬ ‫المجتمــع‪ ،‬فآنــذاك يســري يف التعامــل مــع ارتــكاب الخطــأ‪ :‬العفــو‬ ‫التربــوي قــدر اإلمــكان‪ ،‬أو العقوبــة المشــروعة بقــدر الضــرورة ويف‬ ‫حــدود مــا يتناســب مــع درجــة ذلــك الخطــأ وضــرره‪.‬‬ ‫‪85‬‬


‫المصطلحات وأثرها في الفكر اإلسالمي‬

‫املصط َل ُ‬ ‫ُ‬ ‫حات‬ ‫كر ا ِإلسـ‬ ‫ـامي‬ ‫وأث ُرها في ِ‬ ‫الف ِ‬ ‫ّ‬ ‫الدكتور محمد العبدة ‪ -‬عضو املجلس اإلسالمي السوري‬

‫مقدمة‬

‫ ‬

‫ال شــك أن الخطــوة األولــى يف مســيرة الفكــر الســليم هــي العنايــة‬ ‫وفهمــا وســيا ًقا؛ حتــى يقــوم البحــث أو الحــوار‬ ‫باللغــة تحديــدً ا‬ ‫ً‬ ‫والتفاهــم علــى أســس علميــة واضحــة جل ّيــة‪ ،‬وحتــى ال تنقلــب‬ ‫األمــور إلــى أضدادهــا ويســتغلها صاحــب الهــوى (فــإن ظلــم‬ ‫الكلمــات بتغييــر داللتهــا كظلــم األحيــاء بتشــويه خلقتهــم‪ ،‬كالهمــا‬ ‫منكــر وكالهمــا قبيــح)(((‪ ،‬ذلــك ألن األلفــاظ المبهمــة الغامضــة‬ ‫تربــك الذهــن وتشــوش الفكــر‪ ..‬وإن مــن البالغــة أن َتبِيــن عــن‬ ‫قصــدك بالشــكل الــذي يجعــل القــارئ أو الســامع يتفهــم مــا تريــد‪،‬‬ ‫وعــن أهميــة الكلمــة ووضوحهــا يقــول الدكتــور زكــي نجيــب‬ ‫محمــود‪( :‬قــد تكــون الكلمــة واضحــة حيــن تجــري يف ســياقها‪،‬‬ ‫لكنــك إذا عزلتهــا وحدهــا ووضعتهــا يف مخبــار التحليــل ألفيتهــا‬ ‫تقــاوم وتــراوغ‪ ،‬فكأنمــا اللفظــة مــن هــذه األلفــاظ كائــ ٌن حــي‬ ‫بالمعنــى الحقيقــي لهــذه الكلمــة‪ ،‬تنصــاع لفهمــك إذا جعلتهــا جز ًءا‬ ‫مــن عبــارة‪ ،‬وكأهنــا وســيلة تتعــاون مــع غيرهــا علــى أداء معنــى)(((‪.‬‬

‫عليــه وســلم‪ ،‬قــال تعالــى‪﴿ :‬يــا َأيهــا ا َّل ِذي ـن آمنُــوا َل َت ُقو ُلــوا ر ِ‬ ‫اعنَــا‬ ‫َ ُّ َ‬ ‫َ‬ ‫َ َ‬ ‫و ُقو ُلــوا ا ْن ُظر َنــا واســمعوا ول ِ ْل َكافِ ِريـن َعـ َـذاب َأل ِ‬ ‫ـ‬ ‫ي‬ ‫ـم﴾ [ســورة البقــرة‪:‬‬ ‫ٌ‬ ‫َ‬ ‫ْ َ ْ َ ُ َ‬ ‫َ‬ ‫ٌ‬ ‫آيــة ‪.]104‬‬

‫نــزل القــرآن الكريــم بلســان عربــي مبيــن ليكــون ذلــك حمايــة‬ ‫لــه مــن التحريفــات أو التأويــات الباطلــة‪ ،‬فــإن للغــة العربيــة‬ ‫قــدر ًة فائقــة علــى تحديــد المعــاين بطريقــة واضحــة جازمــة‬ ‫ــم َت ْع ِق ُل َ‬ ‫ــون﴾ [ســورة الزخــرف‪:‬‬ ‫﴿إِنَّــا َج َع ْلنَــا ُه ُق ْرآنًــا َع َربِ ًّيــا َل َع َّل ُك ْ‬ ‫آيــة ‪ ]3‬قــال الشــيخ ابــن عاشــور‪( :‬ألن أهــل تلــك اللغــة أفهــم‬ ‫لدقائقهــا‪ ،‬واصطفــى رســوله مــن أهــل تلــك اللغــة لتتظاهــر‬ ‫وســائل الداللــة والفهــم‪ ،‬فيكونــوا المبلغيــن مــراد اهلل إلــى‬ ‫األمــم)(((‪ ،‬وقــال تعالــى علــى لســان عيســى عليــه الســام‪:‬‬ ‫ـال َقــدْ ِج ْئ ُت ُكــم بِا ْل ِ‬ ‫﴿و َلمــا جــاء ِعيســى بِا ْلبينَـ ِ‬ ‫ـات َقـ َ‬ ‫ح ْك َمـ ِـة َو ِلُ َب ِّي ـ َن‬ ‫َ ِّ‬ ‫ْ‬ ‫َ َّ َ َ َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ــض ا َّل ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫ــذي َت ْختَل ُف َ‬ ‫اهَّلل َوأطي ُعــون﴾ [ســورة‬ ‫ــم َب ْع َ‬ ‫َل ُك ْ‬ ‫ــون فيــه َفا َّت ُقــوا َ‬ ‫الزخــرف‪ :‬آيــة ‪( ]63‬والتبييــن هــو تجليــة المعــاين الخفيــة لغمــوض‬ ‫أو ســوء تأويــل)(((‪ ،‬وقــد وصــف القــرآن الكريــم أشــرف الخلــق‬ ‫﴿س ـ ْب َح َ‬ ‫ان‬ ‫محمــدً ا صلــى اهلل عليــه وســلم بالعبوديــة فقــال تعالــى‪ُ :‬‬ ‫ــجدِ‬ ‫ــذي َأســرى بِعب ِ‬ ‫ا َّل ِ‬ ‫ــج ِد ا ْل َحــرا ِم إلــى ا ْلمس ِ‬ ‫ــا مِــ َن ا ْلمس ِ‬ ‫ــد ِه َل ْي ً‬ ‫َْ‬ ‫َ ْ‬ ‫َ‬ ‫َ ْ‬ ‫ْ َ‬ ‫ْالَ ْق َصــى﴾ [ســورة اإلســراء‪ :‬آيــة ‪ ]1‬وذلــك حتــى ال يكــون هنــاك‬ ‫أبــوة كمــا وقــع للنصــارى يف‬ ‫بنــوة أو ّ‬ ‫أي التبــاس أو أوهــام مــن ّ‬ ‫عيســى عليــه الســام‪.‬‬

‫لقــد أدان القــرآن الكريــم محــاوالت أنــاس يلجــؤون إلــى الخــداع‬ ‫اللفظــي أو تعمــد الغمــوض واللبــس ليتســنى لهــم تفســير اللفظــة‬ ‫حســب أهوائهــم وحســب األوجــه التــي تناســبهم‪ ،‬فقــال تعالــى‬ ‫مخاط ًبــا بنــي اســرائيل ناه ًيــا إياهــم عــن الخلــط والخــداع الــذي‬ ‫ِ‬ ‫ُــم‬ ‫اتصفــوا بــه‪َ :‬‬ ‫﴿و َل َت ْلبِ ُســوا ا ْل َح َّــق بِا ْل َباطــ ِل َو َت ْكت ُ​ُمــوا ا ْل َح َّــق َو َأنت ْ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َت ْع َل ُمـ َ‬ ‫ـون﴾ [ســورة البقــرة‪ :‬آيــة ‪ ]42‬وقــال عنهــم‪﴿ :‬م َن ا َّلذيـ َن َها ُدوا‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ُي َح ِّر ُفـ َ‬ ‫ـم َعـ ْن َم َواضعــه﴾ [ســورة النســاء‪ :‬آيــة ‪ ]46‬وقــد أمــر‬ ‫ـون ا ْل َكلـ َ‬ ‫ٍ‬ ‫اهلل ســبحانه وتعالــى المســلمين أن ال يســتعملوا كلمــات فيهــا خلــط‬ ‫وفيهــا باطــل مثــل كلمــة ِ‬ ‫عوضــا عنهــا ( ُا ْن ُظ ْرنــا)‬ ‫(راعنَــا) وأن يقولــوا ً‬ ‫ذلــك ألن اليهــود كانــوا يســتعملون كلمــة راعنــا بطريقــة ملتويــة‬ ‫خبيثــة‪ ،‬يقصــدون هبــا قصــدً ا ســي ًئا يف مخاطبــة الرســول صلــى اهلل‬

‫والتحــزب الــذي‬ ‫كثيــرا مــن التفــرق‬ ‫إنــه مــن المالحــظ أن‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫وقــع يف األمــة إنمــا هــو ناشــئ عــن ســوء التعامــل مــع األلفــاظ‬ ‫والمصطلحــات‪ ،‬ولهــذا َمنــع العلمــاء مــن إطــاق األلفــاظ‬ ‫المبتَدَ عــة المجملــة المشـ َتبِهة‪ ،‬فعندمــا شــاع مذهــب الجربيــة أنكــر‬ ‫العلمــاء هــذا المصطلــح وقالــوا‪ :‬ال يجــر اإلنســان علــى شــيء ثــم‬

‫((( البشير االبراهيمي‪ :‬اآلثار الكاملة (‪.)81/3‬‬ ‫((( ثقافتنا يف مواجهة العصر (‪.)291‬‬

‫((( التحرير والتنوير (‪.)161/01‬‬ ‫((( المصدر السابق‪ ،‬تفسير سورة الزخرف‪.‬‬

‫‪86‬‬

‫سوء التعامل مع األلفاظ‪:‬‬

‫المصطلحات وأثرها في الفكر اإلسالمي‬ ‫ُيحاســب عليــه‪ ،‬ولكــن قــد ُيجبــل علــى خلــق معيــن كمــا يف حديــث‬ ‫وفــد عبــد القيــس حيــث قــال الرســول صلــى اهلل عليه وســلم لرئيس‬ ‫ِ‬ ‫ـك َل َخص َل َتيـ ِ ِ‬ ‫ـج إِ َّن فِيـ َ‬ ‫ـم‬ ‫ْ ْ‬ ‫الوفــد‪َ « :‬يــا َأ َشـ ُّ‬ ‫اهَّلل َو َر ُســو ُل ُه‪ ،‬ا ْلح ْلـ َ‬ ‫ـن ُيح ُّب ُه َمــا ُ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ـال‪َ :‬يــا َر ُسـ َ‬ ‫َوال ُّتـ َـؤ َدةَ» َقـ َ‬ ‫ـت َع َل ْيــه‪َ ،‬أ ْم َشــي ٌء َحــدَ َ‬ ‫ث‬ ‫ـول اهَّلل َأ َشـ ْـي ٌء ُجبِ ْلـ ُ‬ ‫ْ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ـال َر ُسـ ُ‬ ‫لِــي؟ َقـ َ‬ ‫ـت‬ ‫اهلل َع َل ْيــه َو َس ـ َّل َم‪َ « :‬بـ ْـل َشـ ْـي ٌء ُجبِ ْلـ َ‬ ‫ـول اهَّلل َص َّلــى ُ‬ ‫َع َلي ِ‬ ‫ــه»(((‪ ،‬وألنــه قــد تطلــق األلفــاظ وهــي تحمــل ح ًّقــا وباطــاً‪،‬‬ ‫ْ‬ ‫فــإذا نُفيــت فهــذا يعنــي نفــي مــا فيهــا مــن الحــق‪ ،‬وإذا ُأثبتــت فهــذا‬ ‫إثبــات مــا فيهــا مــن الباطــل‪ ،‬ولذلــك ال بــد مــن تحريرهــا‪ ،‬وإدراك‬ ‫مــا تحملــه مــن معـ ٍ‬ ‫ـان‪ ،‬ومعرفــة المقصــود منهــا‪..‬‬

‫النقل والرتجمة عن اللغات‪:‬‬

‫ٍ‬ ‫ومصطلحــات خاصــ ًة يف لغتهــا‪ ،‬ولمــا‬ ‫إن لــكل أمــة أوضا ًعــا‬ ‫قديمــا لغــة العلــم‪ ،‬كمــا هــو حــال اللغــة اإلنجليزيــة‬ ‫كانــت اليونانيــة ً‬ ‫اليــوم‪ ،‬وكانتــا مختلفتيــن تما ًمــا عــن العربيــة؛ وجــب ترجمــة معــاين‬ ‫مفرداهتمــا ومصطلحاهتمــا العلميــة ترجمــة دقيقــة لمعرفــة مــاذا‬ ‫يقصــدون هبــذه المفــردة يف ثقافتهــم؟ وكيــف نشــأت؟ ولمــاذا؟‬ ‫(فإنــه عندمــا يفهــم المــرء المعنــى الدقيــق لكلمـ ٍـة مــا؛ فإنــه يفهــم يف‬ ‫غالــب األحيــان كذلــك اإلشــكاالت التــي تكــون لهــا عالقــة هبــذه‬ ‫الكلمــة)((( يقــول الدكتــور زكــي نجيــب محمــود‪( :‬قــل أي جملــة‬ ‫شــئت‪ ،‬مهمــا بلغــت بســاطة مضموهنــا‪ ،‬ثــم انقــل هــذا المضمــون‬ ‫إلــى لغــة أخــرى تجــدك قــد اضطــررت إلــى نقــص هنــا وزيــادة‬ ‫هنــاك ممــا تقتضيــه ثقافــة تلــك اللغــة األخــرى)(((‪.‬‬ ‫وإذا كان العلمــاء والمفســرون قــد ك َف ْونــا مؤونــة شــرح بعــض‬ ‫المهمــة وتحديدهــا‪ ،‬مثــل‪( :‬الجاهليــة‪،‬‬ ‫المصطلحــات القرآنيــة‬ ‫ّ‬ ‫األمــة‪ ،‬الحكــم‪ ،‬الهجــرة‪ ،‬الجهــاد)؛ فــإن عصــر الرتجمــة يف العصــر‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ومصطلحــات هــي نتــاج ثقافــة‬ ‫عبــارات‬ ‫العباســي األول أدخــل‬ ‫أخــرى ولغــة أخــرى‪ ،‬واألمثلــة علــى ذلــك كثيــرة‪ ،‬منهــا لفــظ‬ ‫(العقــل)‪.‬‬

‫ّ‬ ‫إن مصطلــح (العقــل) عنــد اليونانييــن القدمــاء الذيــن ُترجمــت‬ ‫كتبهــم إلــى العربيــة مغايـ ٌـر لمعنــاه يف القــرآن الكريــم‪ ،‬فإهنــم يعنــون‬ ‫قائمــا بنفســه‪ ،‬ولكنــه يف المصطلــح القــرآين‪ :‬إجــراء‬ ‫بالعقــل جوهـ ًـرا ً‬ ‫ذهنــي يســاعد علــى الســيطرة والضبــط والتحديــد‪ ،‬وهــو عمليــة‬ ‫ُرشــد وتمييــز بيــن الهــدى والضــال‪ ،‬ولذلــك ورد ذكــره يف القــرآن‬ ‫بصيغــة الفعــل (تعقلــون) أي الممارســة لعمليــة التفكيــر والمقارنة‪،‬‬ ‫والعقــل عنــد بعــض الفالســفة اليونانييــن‪ ،‬وحســب نظريــة‬ ‫(الفيــض) عنــد أفلوطيــن ‪-‬وليــس أفالطــون‪ -‬تعنــي التــدرج مــن‬ ‫المصــدر األول (اإللهــي) نـ ً‬ ‫ـزول إلــى العقــل اإلنســاين وهــي عشــرة‬ ‫عقــول‪ ،‬ولهــا تعلــق باألجــرام الســماوية‪ ،‬وهــذه النظريــة أخذهــا‬ ‫((( الحديث رواه ابن ماجه يف سننه‪ ،‬باب الحلم‪ ،‬رقم (‪ )8714‬برتقيم األرناؤوط‪ ،‬وله رواية قريبة عند أبي‬ ‫داود‪ ،‬وجزؤه األول مروي يف صحيح مسلم وغيره‪.‬‬ ‫((( أريك فروم‪ :‬حب الحياة‪ ،‬نصوص مختارة (‪.)18‬‬ ‫((( يف حياتنا العقلية (‪.)231‬‬

‫ـض خرافـ ٍـة وجهــل بــاهلل‬ ‫الفارابــي عــن أفلوطيــن‪ ،‬وهــو تصــور محـ ُ‬ ‫ومخلوقــات اهلل‪ ،‬وإن نبــوغ اليونانييــن يف الرياضيــات أو الطــب أو‬ ‫علــم الفلــك ال يعنــي أهنــم كذلــك يف اإللهيــات(((‪ ،‬بــل هــم أجهــل‬ ‫النــاس باإللهيــات التــي يجــب أن ُتتل َّقــى عــن األنبيــاء‪ ،‬والحقيقــة‬ ‫أن الفلســفة التــي تســمى (إســامية) اس ـتَجلبت نظا ًمــا كامـ ًـا مــن‬ ‫ً‬ ‫أصــا باللغــة العربيــة أو برؤيــة‬ ‫المفاهيــم األجنبيــة ال شــأن لهــا‬ ‫اإلســام للعالــم‪ ،‬ولمــا أراد هــؤالء الفالســفة التوفيــق بيــن الديــن‬ ‫والفلســفة وإيجــاد مصطلحــات مناســبة لذلــك ‪-‬مــع أن المفاهيــم‬ ‫أجنبيــة‪ -‬حــدث التناقــض والتشــويش‪ ،‬ألنــه مــن الصعــب إيجــاد‬ ‫وقديمــا اشــتكى‬ ‫مقابــل تــام يف اللغــة العربيــة لمصطلــح يونــاين‪،‬‬ ‫ً‬ ‫الخطيــب الرومــاين الشــهير (شيشــرون)((( مــن صعوبــة التعبيــر‬ ‫ّ‬ ‫باللتينيــة عــن المفاهيــم اإلغريقيــة‪.‬‬ ‫ولعــل مــن اآلثــار الســلبية لنقــل المصطلحــات بــا تتبــع مصدرهــا‬ ‫وســبب نشــأهتا ‪-‬بحســب رأي البعــض‪ -‬مــا وقــع للمســلمين مــن‬ ‫اســتعمال المصطلحــات اإلغريقيــة التــي تفســر الوجــود كلــه يف‬ ‫إطــار (الجواهــر واألعــراض) ومــا يعــرض لهــا مــن حــاالت‪،‬‬ ‫واســتخدام هــذه المصطلحــات يف علــم الــكالم‪.‬‬

‫النقل والرتجمة يف العرص الحديث‪:‬‬

‫إننــا إذا مــا انتقلنــا إلــى العصــر الحديــث فســوف نجــد ّ‬ ‫أن المشــكلة‬ ‫تتكــرر ‪-‬وربمــا بشــكل أوســع‪ -‬ودون أن ننتبــه إلــى مــا تلقــي‬ ‫الكلمــة المســتوردة مــن ظــال علــى واقعنــا اللغــوي والمعــريف‪،‬‬ ‫ومــا المفاهيــم الكامنــة وراءهــا‪ ،‬ومــا لهــا مــن معــان عنــد القــوم غيــر‬ ‫موجــودة يف ثقافتنــا‪.‬‬ ‫ثــم زدنــا علــى ذلــك فقمنــا برتجمــة المصطلحــات األجنبيــة ترجمة‬ ‫أخيــرا يف الصحافــة‬ ‫حرفيــة‪ ،‬فمصطلــح (األصوليــة) الــذي شــاع‬ ‫ً‬ ‫واإلعــام وعنــد بعــض الك ّتــاب؛ إنمــا هــو ترجمــة حرفيــة لكلمــة‬ ‫(‪ ،)Fundamentalism‬التــي تشــير يف المعجــم الغربــي بالدرجــة‬ ‫األولــى إلــى التفســيرات الحرفيــة الربوتســتانتية للعهــد القديــم‬ ‫والح ْرفِ ّيــة مرتادفتــان‬ ‫والعهــد الجديــد‪ ،‬وهكــذا نجــد أن األصوليــة َ‬ ‫يف المفهــوم الغربــي‪ ،‬أمــا يف الســياق العربــي اإلســامي فاألمــر‬ ‫مختلــف جــدً ا‪ ،‬فالحرفيــة تعنــي عــدم إعمــال العقــل أو االجتهــاد‪،‬‬ ‫وهــذا النمــط غيــر معــروف يف الفكــر اإلســامي‪ ،‬ويقــال يف الــراث‬ ‫اإلســامي (أصولـ ّـي) ويعنــون بذلــك المتمكــن مــن علــوم أصــول‬ ‫الفقــه‪ ،‬واألصــول عندنــا هــو إطــار علمــي دقيــق لعمليــة اجتهــاد‬ ‫مســتمر‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫إن مصطلــح (‪ )Religion‬أي الديــن عنــد الغــرب يعنــي‪ :‬التوجــه‬ ‫الروحــي لألفــراد‪ ،‬أي أن الديــن ال يتدخــل يف حيــاة اإلنســان‬ ‫الدنيويــة‪ :‬السياســية واالقتصاديــة والحيــاة االجتماعيــة‪ ،‬ويقــال‪ :‬إن‬

‫الحكم يف العلوم التي تحل مشاكل اإلنسان‪.‬‬ ‫((( كمن يظن أن تقدم الغرب يف العلوم المادية يجعله َ‬ ‫((( ماركوس تيلوس شيشرون فيلسوف وخطيب وسياسي روماين ولد (‪ 601‬ق‪.‬م) وتويف (‪ 34‬ق‪.‬م)‪.‬‬

‫‪87‬‬


‫المصطلحات وأثرها في الفكر اإلسالمي‬

‫املصط َل ُ‬ ‫ُ‬ ‫حات‬ ‫كر ا ِإلسـ‬ ‫ـامي‬ ‫وأث ُرها في ِ‬ ‫الف ِ‬ ‫ّ‬ ‫الدكتور محمد العبدة ‪ -‬عضو املجلس اإلسالمي السوري‬

‫مقدمة‬

‫ ‬

‫ال شــك أن الخطــوة األولــى يف مســيرة الفكــر الســليم هــي العنايــة‬ ‫وفهمــا وســيا ًقا؛ حتــى يقــوم البحــث أو الحــوار‬ ‫باللغــة تحديــدً ا‬ ‫ً‬ ‫والتفاهــم علــى أســس علميــة واضحــة جل ّيــة‪ ،‬وحتــى ال تنقلــب‬ ‫األمــور إلــى أضدادهــا ويســتغلها صاحــب الهــوى (فــإن ظلــم‬ ‫الكلمــات بتغييــر داللتهــا كظلــم األحيــاء بتشــويه خلقتهــم‪ ،‬كالهمــا‬ ‫منكــر وكالهمــا قبيــح)(((‪ ،‬ذلــك ألن األلفــاظ المبهمــة الغامضــة‬ ‫تربــك الذهــن وتشــوش الفكــر‪ ..‬وإن مــن البالغــة أن َتبِيــن عــن‬ ‫قصــدك بالشــكل الــذي يجعــل القــارئ أو الســامع يتفهــم مــا تريــد‪،‬‬ ‫وعــن أهميــة الكلمــة ووضوحهــا يقــول الدكتــور زكــي نجيــب‬ ‫محمــود‪( :‬قــد تكــون الكلمــة واضحــة حيــن تجــري يف ســياقها‪،‬‬ ‫لكنــك إذا عزلتهــا وحدهــا ووضعتهــا يف مخبــار التحليــل ألفيتهــا‬ ‫تقــاوم وتــراوغ‪ ،‬فكأنمــا اللفظــة مــن هــذه األلفــاظ كائــ ٌن حــي‬ ‫بالمعنــى الحقيقــي لهــذه الكلمــة‪ ،‬تنصــاع لفهمــك إذا جعلتهــا جز ًءا‬ ‫مــن عبــارة‪ ،‬وكأهنــا وســيلة تتعــاون مــع غيرهــا علــى أداء معنــى)(((‪.‬‬

‫عليــه وســلم‪ ،‬قــال تعالــى‪﴿ :‬يــا َأيهــا ا َّل ِذي ـن آمنُــوا َل َت ُقو ُلــوا ر ِ‬ ‫اعنَــا‬ ‫َ ُّ َ‬ ‫َ‬ ‫َ َ‬ ‫و ُقو ُلــوا ا ْن ُظر َنــا واســمعوا ول ِ ْل َكافِ ِريـن َعـ َـذاب َأل ِ‬ ‫ـ‬ ‫ي‬ ‫ـم﴾ [ســورة البقــرة‪:‬‬ ‫ٌ‬ ‫َ‬ ‫ْ َ ْ َ ُ َ‬ ‫َ‬ ‫ٌ‬ ‫آيــة ‪.]104‬‬

‫نــزل القــرآن الكريــم بلســان عربــي مبيــن ليكــون ذلــك حمايــة‬ ‫لــه مــن التحريفــات أو التأويــات الباطلــة‪ ،‬فــإن للغــة العربيــة‬ ‫قــدر ًة فائقــة علــى تحديــد المعــاين بطريقــة واضحــة جازمــة‬ ‫ــم َت ْع ِق ُل َ‬ ‫ــون﴾ [ســورة الزخــرف‪:‬‬ ‫﴿إِنَّــا َج َع ْلنَــا ُه ُق ْرآنًــا َع َربِ ًّيــا َل َع َّل ُك ْ‬ ‫آيــة ‪ ]3‬قــال الشــيخ ابــن عاشــور‪( :‬ألن أهــل تلــك اللغــة أفهــم‬ ‫لدقائقهــا‪ ،‬واصطفــى رســوله مــن أهــل تلــك اللغــة لتتظاهــر‬ ‫وســائل الداللــة والفهــم‪ ،‬فيكونــوا المبلغيــن مــراد اهلل إلــى‬ ‫األمــم)(((‪ ،‬وقــال تعالــى علــى لســان عيســى عليــه الســام‪:‬‬ ‫ـال َقــدْ ِج ْئ ُت ُكــم بِا ْل ِ‬ ‫﴿و َلمــا جــاء ِعيســى بِا ْلبينَـ ِ‬ ‫ـات َقـ َ‬ ‫ح ْك َمـ ِـة َو ِلُ َب ِّي ـ َن‬ ‫َ ِّ‬ ‫ْ‬ ‫َ َّ َ َ َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ــض ا َّل ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫ــذي َت ْختَل ُف َ‬ ‫اهَّلل َوأطي ُعــون﴾ [ســورة‬ ‫ــم َب ْع َ‬ ‫َل ُك ْ‬ ‫ــون فيــه َفا َّت ُقــوا َ‬ ‫الزخــرف‪ :‬آيــة ‪( ]63‬والتبييــن هــو تجليــة المعــاين الخفيــة لغمــوض‬ ‫أو ســوء تأويــل)(((‪ ،‬وقــد وصــف القــرآن الكريــم أشــرف الخلــق‬ ‫﴿س ـ ْب َح َ‬ ‫ان‬ ‫محمــدً ا صلــى اهلل عليــه وســلم بالعبوديــة فقــال تعالــى‪ُ :‬‬ ‫ــجدِ‬ ‫ــذي َأســرى بِعب ِ‬ ‫ا َّل ِ‬ ‫ــج ِد ا ْل َحــرا ِم إلــى ا ْلمس ِ‬ ‫ــا مِــ َن ا ْلمس ِ‬ ‫ــد ِه َل ْي ً‬ ‫َْ‬ ‫َ ْ‬ ‫َ‬ ‫َ ْ‬ ‫ْ َ‬ ‫ْالَ ْق َصــى﴾ [ســورة اإلســراء‪ :‬آيــة ‪ ]1‬وذلــك حتــى ال يكــون هنــاك‬ ‫أبــوة كمــا وقــع للنصــارى يف‬ ‫بنــوة أو ّ‬ ‫أي التبــاس أو أوهــام مــن ّ‬ ‫عيســى عليــه الســام‪.‬‬

‫لقــد أدان القــرآن الكريــم محــاوالت أنــاس يلجــؤون إلــى الخــداع‬ ‫اللفظــي أو تعمــد الغمــوض واللبــس ليتســنى لهــم تفســير اللفظــة‬ ‫حســب أهوائهــم وحســب األوجــه التــي تناســبهم‪ ،‬فقــال تعالــى‬ ‫مخاط ًبــا بنــي اســرائيل ناه ًيــا إياهــم عــن الخلــط والخــداع الــذي‬ ‫ِ‬ ‫ُــم‬ ‫اتصفــوا بــه‪َ :‬‬ ‫﴿و َل َت ْلبِ ُســوا ا ْل َح َّــق بِا ْل َباطــ ِل َو َت ْكت ُ​ُمــوا ا ْل َح َّــق َو َأنت ْ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َت ْع َل ُمـ َ‬ ‫ـون﴾ [ســورة البقــرة‪ :‬آيــة ‪ ]42‬وقــال عنهــم‪﴿ :‬م َن ا َّلذيـ َن َها ُدوا‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ُي َح ِّر ُفـ َ‬ ‫ـم َعـ ْن َم َواضعــه﴾ [ســورة النســاء‪ :‬آيــة ‪ ]46‬وقــد أمــر‬ ‫ـون ا ْل َكلـ َ‬ ‫ٍ‬ ‫اهلل ســبحانه وتعالــى المســلمين أن ال يســتعملوا كلمــات فيهــا خلــط‬ ‫وفيهــا باطــل مثــل كلمــة ِ‬ ‫عوضــا عنهــا ( ُا ْن ُظ ْرنــا)‬ ‫(راعنَــا) وأن يقولــوا ً‬ ‫ذلــك ألن اليهــود كانــوا يســتعملون كلمــة راعنــا بطريقــة ملتويــة‬ ‫خبيثــة‪ ،‬يقصــدون هبــا قصــدً ا ســي ًئا يف مخاطبــة الرســول صلــى اهلل‬

‫والتحــزب الــذي‬ ‫كثيــرا مــن التفــرق‬ ‫إنــه مــن المالحــظ أن‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫وقــع يف األمــة إنمــا هــو ناشــئ عــن ســوء التعامــل مــع األلفــاظ‬ ‫والمصطلحــات‪ ،‬ولهــذا َمنــع العلمــاء مــن إطــاق األلفــاظ‬ ‫المبتَدَ عــة المجملــة المشـ َتبِهة‪ ،‬فعندمــا شــاع مذهــب الجربيــة أنكــر‬ ‫العلمــاء هــذا المصطلــح وقالــوا‪ :‬ال يجــر اإلنســان علــى شــيء ثــم‬

‫((( البشير االبراهيمي‪ :‬اآلثار الكاملة (‪.)81/3‬‬ ‫((( ثقافتنا يف مواجهة العصر (‪.)291‬‬

‫((( التحرير والتنوير (‪.)161/01‬‬ ‫((( المصدر السابق‪ ،‬تفسير سورة الزخرف‪.‬‬

‫‪86‬‬

‫سوء التعامل مع األلفاظ‪:‬‬

‫المصطلحات وأثرها في الفكر اإلسالمي‬ ‫ُيحاســب عليــه‪ ،‬ولكــن قــد ُيجبــل علــى خلــق معيــن كمــا يف حديــث‬ ‫وفــد عبــد القيــس حيــث قــال الرســول صلــى اهلل عليه وســلم لرئيس‬ ‫ِ‬ ‫ـك َل َخص َل َتيـ ِ ِ‬ ‫ـج إِ َّن فِيـ َ‬ ‫ـم‬ ‫ْ ْ‬ ‫الوفــد‪َ « :‬يــا َأ َشـ ُّ‬ ‫اهَّلل َو َر ُســو ُل ُه‪ ،‬ا ْلح ْلـ َ‬ ‫ـن ُيح ُّب ُه َمــا ُ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ـال‪َ :‬يــا َر ُسـ َ‬ ‫َوال ُّتـ َـؤ َدةَ» َقـ َ‬ ‫ـت َع َل ْيــه‪َ ،‬أ ْم َشــي ٌء َحــدَ َ‬ ‫ث‬ ‫ـول اهَّلل َأ َشـ ْـي ٌء ُجبِ ْلـ ُ‬ ‫ْ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ـال َر ُسـ ُ‬ ‫لِــي؟ َقـ َ‬ ‫ـت‬ ‫اهلل َع َل ْيــه َو َس ـ َّل َم‪َ « :‬بـ ْـل َشـ ْـي ٌء ُجبِ ْلـ َ‬ ‫ـول اهَّلل َص َّلــى ُ‬ ‫َع َلي ِ‬ ‫ــه»(((‪ ،‬وألنــه قــد تطلــق األلفــاظ وهــي تحمــل ح ًّقــا وباطــاً‪،‬‬ ‫ْ‬ ‫فــإذا نُفيــت فهــذا يعنــي نفــي مــا فيهــا مــن الحــق‪ ،‬وإذا ُأثبتــت فهــذا‬ ‫إثبــات مــا فيهــا مــن الباطــل‪ ،‬ولذلــك ال بــد مــن تحريرهــا‪ ،‬وإدراك‬ ‫مــا تحملــه مــن معـ ٍ‬ ‫ـان‪ ،‬ومعرفــة المقصــود منهــا‪..‬‬

‫النقل والرتجمة عن اللغات‪:‬‬

‫ٍ‬ ‫ومصطلحــات خاصــ ًة يف لغتهــا‪ ،‬ولمــا‬ ‫إن لــكل أمــة أوضا ًعــا‬ ‫قديمــا لغــة العلــم‪ ،‬كمــا هــو حــال اللغــة اإلنجليزيــة‬ ‫كانــت اليونانيــة ً‬ ‫اليــوم‪ ،‬وكانتــا مختلفتيــن تما ًمــا عــن العربيــة؛ وجــب ترجمــة معــاين‬ ‫مفرداهتمــا ومصطلحاهتمــا العلميــة ترجمــة دقيقــة لمعرفــة مــاذا‬ ‫يقصــدون هبــذه المفــردة يف ثقافتهــم؟ وكيــف نشــأت؟ ولمــاذا؟‬ ‫(فإنــه عندمــا يفهــم المــرء المعنــى الدقيــق لكلمـ ٍـة مــا؛ فإنــه يفهــم يف‬ ‫غالــب األحيــان كذلــك اإلشــكاالت التــي تكــون لهــا عالقــة هبــذه‬ ‫الكلمــة)((( يقــول الدكتــور زكــي نجيــب محمــود‪( :‬قــل أي جملــة‬ ‫شــئت‪ ،‬مهمــا بلغــت بســاطة مضموهنــا‪ ،‬ثــم انقــل هــذا المضمــون‬ ‫إلــى لغــة أخــرى تجــدك قــد اضطــررت إلــى نقــص هنــا وزيــادة‬ ‫هنــاك ممــا تقتضيــه ثقافــة تلــك اللغــة األخــرى)(((‪.‬‬ ‫وإذا كان العلمــاء والمفســرون قــد ك َف ْونــا مؤونــة شــرح بعــض‬ ‫المهمــة وتحديدهــا‪ ،‬مثــل‪( :‬الجاهليــة‪،‬‬ ‫المصطلحــات القرآنيــة‬ ‫ّ‬ ‫األمــة‪ ،‬الحكــم‪ ،‬الهجــرة‪ ،‬الجهــاد)؛ فــإن عصــر الرتجمــة يف العصــر‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ومصطلحــات هــي نتــاج ثقافــة‬ ‫عبــارات‬ ‫العباســي األول أدخــل‬ ‫أخــرى ولغــة أخــرى‪ ،‬واألمثلــة علــى ذلــك كثيــرة‪ ،‬منهــا لفــظ‬ ‫(العقــل)‪.‬‬

‫ّ‬ ‫إن مصطلــح (العقــل) عنــد اليونانييــن القدمــاء الذيــن ُترجمــت‬ ‫كتبهــم إلــى العربيــة مغايـ ٌـر لمعنــاه يف القــرآن الكريــم‪ ،‬فإهنــم يعنــون‬ ‫قائمــا بنفســه‪ ،‬ولكنــه يف المصطلــح القــرآين‪ :‬إجــراء‬ ‫بالعقــل جوهـ ًـرا ً‬ ‫ذهنــي يســاعد علــى الســيطرة والضبــط والتحديــد‪ ،‬وهــو عمليــة‬ ‫ُرشــد وتمييــز بيــن الهــدى والضــال‪ ،‬ولذلــك ورد ذكــره يف القــرآن‬ ‫بصيغــة الفعــل (تعقلــون) أي الممارســة لعمليــة التفكيــر والمقارنة‪،‬‬ ‫والعقــل عنــد بعــض الفالســفة اليونانييــن‪ ،‬وحســب نظريــة‬ ‫(الفيــض) عنــد أفلوطيــن ‪-‬وليــس أفالطــون‪ -‬تعنــي التــدرج مــن‬ ‫المصــدر األول (اإللهــي) نـ ً‬ ‫ـزول إلــى العقــل اإلنســاين وهــي عشــرة‬ ‫عقــول‪ ،‬ولهــا تعلــق باألجــرام الســماوية‪ ،‬وهــذه النظريــة أخذهــا‬ ‫((( الحديث رواه ابن ماجه يف سننه‪ ،‬باب الحلم‪ ،‬رقم (‪ )8714‬برتقيم األرناؤوط‪ ،‬وله رواية قريبة عند أبي‬ ‫داود‪ ،‬وجزؤه األول مروي يف صحيح مسلم وغيره‪.‬‬ ‫((( أريك فروم‪ :‬حب الحياة‪ ،‬نصوص مختارة (‪.)18‬‬ ‫((( يف حياتنا العقلية (‪.)231‬‬

‫ـض خرافـ ٍـة وجهــل بــاهلل‬ ‫الفارابــي عــن أفلوطيــن‪ ،‬وهــو تصــور محـ ُ‬ ‫ومخلوقــات اهلل‪ ،‬وإن نبــوغ اليونانييــن يف الرياضيــات أو الطــب أو‬ ‫علــم الفلــك ال يعنــي أهنــم كذلــك يف اإللهيــات(((‪ ،‬بــل هــم أجهــل‬ ‫النــاس باإللهيــات التــي يجــب أن ُتتل َّقــى عــن األنبيــاء‪ ،‬والحقيقــة‬ ‫أن الفلســفة التــي تســمى (إســامية) اس ـتَجلبت نظا ًمــا كامـ ًـا مــن‬ ‫ً‬ ‫أصــا باللغــة العربيــة أو برؤيــة‬ ‫المفاهيــم األجنبيــة ال شــأن لهــا‬ ‫اإلســام للعالــم‪ ،‬ولمــا أراد هــؤالء الفالســفة التوفيــق بيــن الديــن‬ ‫والفلســفة وإيجــاد مصطلحــات مناســبة لذلــك ‪-‬مــع أن المفاهيــم‬ ‫أجنبيــة‪ -‬حــدث التناقــض والتشــويش‪ ،‬ألنــه مــن الصعــب إيجــاد‬ ‫وقديمــا اشــتكى‬ ‫مقابــل تــام يف اللغــة العربيــة لمصطلــح يونــاين‪،‬‬ ‫ً‬ ‫الخطيــب الرومــاين الشــهير (شيشــرون)((( مــن صعوبــة التعبيــر‬ ‫ّ‬ ‫باللتينيــة عــن المفاهيــم اإلغريقيــة‪.‬‬ ‫ولعــل مــن اآلثــار الســلبية لنقــل المصطلحــات بــا تتبــع مصدرهــا‬ ‫وســبب نشــأهتا ‪-‬بحســب رأي البعــض‪ -‬مــا وقــع للمســلمين مــن‬ ‫اســتعمال المصطلحــات اإلغريقيــة التــي تفســر الوجــود كلــه يف‬ ‫إطــار (الجواهــر واألعــراض) ومــا يعــرض لهــا مــن حــاالت‪،‬‬ ‫واســتخدام هــذه المصطلحــات يف علــم الــكالم‪.‬‬

‫النقل والرتجمة يف العرص الحديث‪:‬‬

‫إننــا إذا مــا انتقلنــا إلــى العصــر الحديــث فســوف نجــد ّ‬ ‫أن المشــكلة‬ ‫تتكــرر ‪-‬وربمــا بشــكل أوســع‪ -‬ودون أن ننتبــه إلــى مــا تلقــي‬ ‫الكلمــة المســتوردة مــن ظــال علــى واقعنــا اللغــوي والمعــريف‪،‬‬ ‫ومــا المفاهيــم الكامنــة وراءهــا‪ ،‬ومــا لهــا مــن معــان عنــد القــوم غيــر‬ ‫موجــودة يف ثقافتنــا‪.‬‬ ‫ثــم زدنــا علــى ذلــك فقمنــا برتجمــة المصطلحــات األجنبيــة ترجمة‬ ‫أخيــرا يف الصحافــة‬ ‫حرفيــة‪ ،‬فمصطلــح (األصوليــة) الــذي شــاع‬ ‫ً‬ ‫واإلعــام وعنــد بعــض الك ّتــاب؛ إنمــا هــو ترجمــة حرفيــة لكلمــة‬ ‫(‪ ،)Fundamentalism‬التــي تشــير يف المعجــم الغربــي بالدرجــة‬ ‫األولــى إلــى التفســيرات الحرفيــة الربوتســتانتية للعهــد القديــم‬ ‫والح ْرفِ ّيــة مرتادفتــان‬ ‫والعهــد الجديــد‪ ،‬وهكــذا نجــد أن األصوليــة َ‬ ‫يف المفهــوم الغربــي‪ ،‬أمــا يف الســياق العربــي اإلســامي فاألمــر‬ ‫مختلــف جــدً ا‪ ،‬فالحرفيــة تعنــي عــدم إعمــال العقــل أو االجتهــاد‪،‬‬ ‫وهــذا النمــط غيــر معــروف يف الفكــر اإلســامي‪ ،‬ويقــال يف الــراث‬ ‫اإلســامي (أصولـ ّـي) ويعنــون بذلــك المتمكــن مــن علــوم أصــول‬ ‫الفقــه‪ ،‬واألصــول عندنــا هــو إطــار علمــي دقيــق لعمليــة اجتهــاد‬ ‫مســتمر‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫إن مصطلــح (‪ )Religion‬أي الديــن عنــد الغــرب يعنــي‪ :‬التوجــه‬ ‫الروحــي لألفــراد‪ ،‬أي أن الديــن ال يتدخــل يف حيــاة اإلنســان‬ ‫الدنيويــة‪ :‬السياســية واالقتصاديــة والحيــاة االجتماعيــة‪ ،‬ويقــال‪ :‬إن‬

‫الحكم يف العلوم التي تحل مشاكل اإلنسان‪.‬‬ ‫((( كمن يظن أن تقدم الغرب يف العلوم المادية يجعله َ‬ ‫((( ماركوس تيلوس شيشرون فيلسوف وخطيب وسياسي روماين ولد (‪ 601‬ق‪.‬م) وتويف (‪ 34‬ق‪.‬م)‪.‬‬

‫‪87‬‬


‫المصطلحات وأثرها في الفكر اإلسالمي‬ ‫هــذا المصطلــح مأخــوذ مــن كلمــة ‪ Relation‬التــي تعنــي العالقــة‪.‬‬

‫وأمــا مفهــوم (الديــن) عنــد المســلمين فهــو نمــط حيــاة شــامل‬ ‫لــكل شــؤون الحيــاة‪ ،‬وقــد َع َّرفــه العلمــاء بأنــه‪( :‬وضــع إلهــي ســائق‬ ‫لــذوي العقــول باختيارهــم المحمــود إلــى الخيــر باطنًــا وظاهـ ًـرا)‪،‬‬ ‫فالمــراد مــن الديــن هــو حفــظ نظــام العالــم وصــاح أحــوال‬ ‫أهلــه‪ ،‬قــال تعالــى‪َ ﴿ :‬مــ ْن َع ِم َــل َصال ِ ًحــا مِــ ْن َذك ٍ‬ ‫ــو‬ ‫َــر َأ ْو ُأ ْن َثــى َو ُه َ‬ ‫ُم ْؤمِ ـ ٌن َف َلن ُْحيِ َينَّ ـ ُه َح َيــا ًة َط ِّي َب ـةً﴾ [ســورة النحــل‪ :‬آيــة ‪ ،]97‬ولذلــك‬ ‫أطلــق الغربيــون ‪-‬عــن عمــد أو عــن جهــل‪ -‬مصطلــح (اإلســام‬ ‫السياســي) وتلقفــه المقلــدون عندنــا‪ ،‬وهــو مصطلــح غيــر صحيــح‪،‬‬ ‫ألن معنــاه أن هنــاك إســا ًما غيــر سياســي ﴿ا َّل ِذي ـ َن َج َع ُلــوا ا ْل ُقـ ْـر َ‬ ‫آن‬ ‫ِع ِضيــ َن﴾ [ســورة الحجــر‪ :‬آيــة ‪.]91‬‬ ‫ّ‬ ‫إن كلمــة (‪ )Faith‬اإلنجليزيــة‪ ،‬ترتجــم إلــى العربيــة بمعنــى اإليمان‪،‬‬ ‫ولكننــا نالحــظ الفــرق الكبيــر بيــن مصطلــح (اإليمــان) القــرآين‬ ‫وهــذه الكلمــة يف الثقافــة الغربيــة؛ إذ تعنــي عندهــم الثقــة بشــيء‬ ‫مــا‪ ،‬وتعنــي االعتقــاد بــأي شــيء كان‪ ،‬كمــا تعنــي اإليمــان بــاهلل‬ ‫والديــن علــى أســاس الفهــم والتخــوف الروحــاين غيــر المعتمــد‬ ‫علــى برهــان أو دليــل‪ ..‬أمــا اإليمــان بالمصطلــح اإلســامي فإنــه‬ ‫تصديــق جــازم مبنــي علــى الدليــل والربهــان يشــمل اعتقــادات‬ ‫القلــب وعمــل الجــوارح‪ ،‬وهــو اليقيــن دون شــك أو َر ْيــب‪.‬‬ ‫كمــا ُترتجــم كلمــة (‪ )nation‬بمعنــى (األمــة) ولكنهــا عنــد أصحاهبا‬ ‫تعنــي شــع ًبا ضمــن حــدود جغرافيــة‪ ،‬أي هــي قوميــة معينــة‪ ،‬واألمــة‬ ‫بالمصطلــح اإلســامي قائمــة علــى ربــاط عقــدي سياســي‪ ،‬ال تــزال‬ ‫تجمــع المســلمين دون حواجــز اللغــة أو العــرق أو اللــون‪.‬‬ ‫ونســتخدم مصطلــح (التقــدم) دون أن نحــدد مضمونــه‪ ،‬هــل هــو‬ ‫إقامــة العــدل وتحقيــق إنســانية اإلنســان‪ ،‬أم هــو اإلنتــاج المــادي‬ ‫واالســتهالك والرفاهيــة؟‬

‫إن الغربــي ينظــر إلــى الــوراء‪ ،‬إلــى القــرون الوســطى وكيــف كانــت‬ ‫أوروبــا‪ ،‬ثــم ينظــر إلــى مــا هــو عليــه اآلن‪ ،‬مــن بدايــة النهضــة ثــم‬ ‫مصطلحــا يوحــي بالرجــوع‬ ‫التقــدم العلمــي والصناعــي‪ ،‬فــإذا ســمع‬ ‫ً‬ ‫إلــى العصــور الســابقة‪ ،‬فــإن هــذا يفزعــه‪ ،‬ولذلــك كان لمصطلــح‬ ‫(التقــدم) ســحر خــاص لديــه‪ ..‬ولكــن هــذا ال ينطبــق علــى كل‬ ‫شــعوب األرض‪ ،‬وإنــه مــن غيــر المقبــول أن يفرضــوا نظرهتــم‬ ‫إلــى التاريــخ علــى ســائر البشــرية‪ ،‬كمــا فعــل (ماركــس) إذ رأى‬ ‫أن المجتمعــات البشــرية تطــورت مــن شــيوعية بدائيــة إلــى عبوديــة‬ ‫وإقطــاع ثــم الرأســمالية ثــم االشــراكية العلميــة (الشــيوعية) وهــي‬ ‫هنايــة المطــاف‪ ،‬وهــي األمــل والمثــل األعلــى‪ ،‬وإن كان هــذا‬ ‫التطــور ينطبــق علــى أوروبــا مثـ ًـا؛ فإنــه ال ينطبــق علــى المجتمعات‬ ‫األخــرى‪ ،‬أو علــى تاريــخ البشــرية كلهــا‪.‬‬ ‫ـف الكلمــات وإعطا َءهــا مدلـ ً‬ ‫ـول يناســبها‪ ،‬كمــا‬ ‫يتقــن الغــرب تحريـ َ‬ ‫حكــى القــرآن الكريــم عــن بنــي اســرائيل‪ ،‬فالغــرب يســمي احتــال‬ ‫‪88‬‬

‫بلــدان الشــعوب األخــرى (االســتعمار) و(عصــر االكتشــافات)‬ ‫وكأنــه أعمــر بلدانــا كانــت خرا ًبــا‪ ،‬أو اكتشــف قــارة ليــس هبــا أحــد‪،‬‬ ‫ومــا ذلــك إال ألنــه يــرى ّ‬ ‫َعمرة ال تســتحق‬ ‫أن هــذه الشــعوب المس ـت َ‬ ‫الحيــاة‪ ..‬وهــو يســمي المنطقــة العربيــة اإلســامية‪( :‬الشــرق‬ ‫األوســط) وذلــك إلبعادهــا عــن هويتهــا اإلســامية‪ ،‬فهــي بنظــره‬ ‫جــز ٌء جغــرايفٌّ مــن الشــرق‪ ،‬فهنــاك شــرق أدنــى وشــرق أوســط‬ ‫وشــرق أقصــى‪.‬‬

‫فــإذا مــا أتينــا إلــى المصطلحــات التــي كثــر الحديــث عنهــا يف‬ ‫مجتمعاتنــا المســلمة اليــوم مثــل‪ :‬الدولــة المدنيــة‪ ،‬الموا َطنــة‪،‬‬ ‫الديمقراطيــة‪ ...‬إلــخ‪ ،‬نجدهــا أشــد اشــتباها ممــا ســبق الحديــث‬ ‫عنــه‪ ،‬وإن األصــل والواجــب علينــا أن نعــود إلــى أصــل المصطلــح‬ ‫لنعــرف أيــن نشــأ ومــا هــو مفهومــه عنــد مــن أنشــأه‪.‬‬ ‫إن مصطلــح (الدولــة المدنيــة) ً‬ ‫مثــا‪ ،‬نشــأ مــن خــال صــراع‬ ‫أوروبــا مــع الكنيســة وتســلطها‪ ،‬حيــن كان ملــوك أوروبــا ‪-‬‬ ‫بحصولهــم علــى تأييــد القســس والرهبــان ومباركتهــم ‪ -‬يحكمــون‬ ‫شــعوهبم باســم اإللــه‪ ،‬وهــو مــا ُيســمى بالنظــام الثيوقراطــي‪ ،‬أو‬ ‫الدولــة الدينيــة‪ ،‬فالدولــة المدنيــة باصطالحهــم هــي مقابــل الدولــة‬ ‫الدينيــة‪ ،‬وليــس عندنــا يف اإلســام شــيء اســمه دولــة دينيــة‪،‬‬ ‫ولكــن عندنــا دولــة تحكمهــا الشــريعة اإلســامية ونظــم منبثقــة‬ ‫عــن هــذه الشــريعة‪ ،‬وال يحكمهــا طبقــة اســمها (رجــال الديــن)؛‬ ‫إذ ليــس يف اإلســام طبقــة اســمها (رجــال الديــن)‪ ،‬ومفهــوم‬ ‫(الثيوقراطيــة) بعيــد جــدً ا عــن شــكل النظــام اإلســامي الــذي‬ ‫لــه أسســه ونظرتــه الخاصــة يف السياســة واالقتصــاد واالجتمــاع‪،‬‬ ‫فكيــف نــأيت بمصطلــح نشــأ يف أوروبــا نتيجــة صــراع طويــل بيــن‬ ‫الشــعب والســلطة الطاغيــة للملــوك والرهبــان؛ ونطبقــه علــى‬ ‫واقعنــا اإلســامي الــذي ال يحمــل أ ًّيــا مــن مالبســات ظهــور هــذا‬ ‫المصطلــح يف التاريــخ السياســي األوربــي؟‬ ‫إن الدولــة المدنيــة يف الغــرب تعنــي (الدولــة العلمانيــة) حيــث‬ ‫شــرع اإلنســان ويضــع القوانيــن التــي تنظــم حياتــه‪ ،‬ويكــون‬ ‫ُي ّ‬ ‫ـدر الســلطة وصاحــب الحــق يف التشــريع‪ ،‬إذ هــو‬ ‫الشــعب فيهــا مصـ َ‬ ‫أعــرف بأمــور دنيــاه‪- ،‬كمــا ورد يف برامــج بعــض األحــزاب العربيــة‬ ‫(الوســطية)‪ -‬وأمــا الديــن عنــد هــؤالء فإنــه يقتصــر علــى ممارســة‬ ‫الشــعائر التعبديــة‪.‬‬ ‫وأمــا الذيــن يقولــون‪ :‬نقصــد بالدولــة المدنيــة أهنــا ليســت دولــة‬ ‫عســكرية‪ ،‬فــإن كالمهــم ال يعــدو المغالطــة والخــداع‪ ،‬فالغــرب‬ ‫عندمــا أطلــق هــذا المصطلــح لــم يكــن تحــت حكــم عســكري‪،‬‬ ‫ويريــد إزاحتــه بدولــة مدنيــة‪ ..‬وأمــا الذيــن يقولــون‪ :‬ال مشــاحة‬ ‫يف االصطــاح إذا اتفقنــا علــى المضمــون الــذي نريــده لشــكل‬ ‫الحكــم؛ فيقــال لهــم‪ :‬لمــاذا ال نبتعــد عــن المصطلحــات الغامضــة‬ ‫التــي لهــا جــذور علمانيــة‪ ،‬ويكــون لنــا مصطلحاتنــا الربيئــة مــن‬ ‫هــذه العيــوب؟‬

‫المصطلحات وأثرها في الفكر اإلسالمي‬ ‫إن مصطلــح (المواطنــة) هــو انتســاب جغــرايف‪ ،‬فهــل يتعــارض مــع‬ ‫(اله ِو َّية)؟‬ ‫ُ‬ ‫إن النــاس ال بــد لهــم مــن ُه ِو َّيــة هــي نظــام حياهتــم وعالقاهتــم‪ ،‬وإذا‬ ‫كانــت هويــة األكثريــة هــي الغالبــة‪ ،‬وهــي التــي تدعــم االســتقرار‬ ‫واألمــن‪ ،‬والمخالفــون يف الهويــة لهــم حقوقهــم وواجباهتــم‪،‬‬ ‫وخاصــة يف األشــياء العامــة المطلوبــة مــن كل مواطــن‪ -‬فــإذا كان‬‫األمــر كذلــك فهــذا هــو الشــيء الطبيعــي يف الــدول والحضــارات‪،‬‬ ‫وهــو الــذي يســاعد علــى التفاهــم والتعايــش‪.‬‬

‫وأمــا مصطلــح (الديمقراطيــة) الــذي قامــت حولــه المعــارك‬ ‫مصطلحــا وحســب‪ ،‬بــل هــو نظــام معيــن‪،‬‬ ‫الكالميــة‪ ،‬فهــو ليــس‬ ‫ً‬ ‫ســواء مــن حيــث الشــكل أو المضمــون‪ ،‬وقــد تــدرج وتأصــل يف‬ ‫الغــرب يف العصــر الحديــث‪ ،‬ولــه آلياتــه وثقافتــه‪ ،‬ويعنــي حكــم‬ ‫األكثريــة مــن خــال االنتخابــات ‪-‬ولــو كانــت أكثريــة ضئيلــة‪ -‬وقد‬ ‫تقــدم الغــرب سياســ ًّيا بســبب هــذا النظــام رغــم عيوبــه ونقائصــه‬ ‫التــي يتكلــم عنهــا كتّــاب الغــرب أنفســهم‪ ،‬فهــل نقــول‪ :‬إنــه هــو‬ ‫نظــام الشــورى الموجــود عنــد المســلمين‪ ،‬أي نحـ ّـرف الكلمــات!‪.‬‬ ‫ال شــك يف أن هنــاك خالفــا أساسـ ًّيا بيــن الديمقراطيــة والشــورى‪،‬‬ ‫وليــس هنــا مجــال التفصيــل يف هــذا الموضــوع‪ ،‬فهــذا لــه بحــث‬ ‫طويــل عريــض؛ إذ النظــام اإلســامي يختلــف تما ًمــا عــن كل‬ ‫األوضــاع البشــرية األخــرى‪ ،‬فــا هــو ديمقراطــي وال ثيوقراطــي‬ ‫وال أوليرشــي (حكــم األقليــة) وال منوقراطــي (قانــوين حــريف)‪،‬‬ ‫فهــل مــن المعقــول أن ننقــل نظا ًمــا نشــأ يف الغــرب وتطــور ضمــن‬ ‫بيئــة وثقافــة معينــة وأصبــح ثقافــة لعامــة الشــعب‪ ،‬إلــى بيئــة وثقافــة‬ ‫أخــرى يف ديــن أبنائهــا أساســيات مختلفــة للحكــم والسياســة؟‬ ‫هــل ننقــل مثــل هــذا النظــام بعجــره وبجــره‪ ،‬بــا مراعــاة للظــروف‬ ‫وأســلوب الحيــاة؟‬

‫إن مــا أقولــه هنــا ال يعنــي أبــدً ا القبـ َ‬ ‫ـول بالنظــم االســتبدادية‪ ،‬كمــا ال‬ ‫يعنــي االنغــاق عــن قبــول أي شــيء مفيــد‪ ،‬ومــن أي جهــة كان‪..‬‬ ‫ولكــن يجــب أن نعلــم أن أســوأ الســرقات هــي ســرقة الهويــة‪،‬‬ ‫والقبــول بســذاجة تعريــف اآلخريــن لمــا يجــب أن نســير عليــه‪.‬‬

‫مصطلحات إسالمية خاصة‪:‬‬

‫ويف مقابــل مــا ســبق ذكــره؛ فــإن هنــاك مصطلحـ ٍ‬ ‫ـات إســامي ًة ذات‬ ‫خاصـ ٍـة ليــس لهــا مــرادف يف اللغــات األجنبيــة‪ ،‬وال يمكــن أن‬ ‫داللــة َّ‬ ‫ترتجــم حرف ًيــا‪ ،‬وإال فســيضيع معناهــا ومغزاهــا‪.‬‬

‫إن مــن المصطلحــات اإلســامية الخاصــة (العبوديــة) أو (عبــدً ا‬ ‫هلل) فهــل يمكــن ترجمــة هــذا التعبيــر بكلمــة (‪ )slave‬اإلنجليزيــة‪،‬‬ ‫والتــي تعنــي العبــد المملــوك‪ ،‬أم هــل يمكــن ترجمتهــا بـــ (‪servant‬‬ ‫‪ )of Gad‬التــي تعنــي الخــادم هلل؟ والحقيقــة أن كال التعبيريــن ال‬ ‫يمكــن اســتخدامهما بمعنــى العبوديــة يف المصطلــح القــرآين‪ ،‬والتــي‬

‫تعنــي الخضــوع هلل مــع المحبــة‪ ،‬ولذلــك ُوصــف أشــرف الخلــق يف‬ ‫﴿س ـ ْب َح َ‬ ‫ان ا َّلـ ِـذي‬ ‫القــرآن الكريــم بصفــة العبوديــة‪ ،‬قــال اهلل تعالــى‪ُ :‬‬ ‫َأ ْسـ َـرى بِ َع ْبـ ِـد ِه َل ْيـ ًـا﴾ [ســورة اإلســراء‪ :‬آيــة ‪.]1‬‬ ‫ومثــل العبوديــة مصطلــح (الهجــرة) يف الشــرع‪ ،‬فهــل يمكــن‬ ‫ترجمتــه إلــى اإلنجليزيــة بكلمــة (‪ ،)Immigration‬التــي تعنــي‬ ‫االنتقــال مــن مــكان إلــى آخــر؟ ال شــك يف أن ذلــك ليــس ممكنًــا يف‬ ‫ظــل داللــة الكلمــة اإلنجليزيــة علــى االنتقــال الطبيعــي مــن مــكان‬ ‫آلخــر‪ ،‬والــذي يختلــف تمــام االختــاف عــن مصطلــح الهجــرة‬ ‫الشــرعي؛ الــذي يعنــي االنتقــال مــن بلــد الشــرك إلــى بلــد اإلســام‪،‬‬ ‫أو مــن بلــد ال يســمح للمســلم بإقامــة شــعائر دينــه إلــى بلــد يســمح‬ ‫لــه بذلــك‪.‬‬ ‫وقــل مثــل ذلــك يف مصطلــح (الجهــاد)‪ ،‬فليــس هــو كمــا يرتجــم‬ ‫يف اإلنجليزيــة بتعبيــر (‪ )Holy war‬الــذي يعنــي الحــرب المقدســة‪،‬‬ ‫فالجهــاد يف اإلســام يجــب أن يكــون يف ســبيل اهلل‪ ،‬وهــو مصطلــح‬ ‫شــرعي لــه مفهومــه الخــاص وآدابــه وشــروطه‪ ،‬وعندمــا يرتجــم‬ ‫بـــ (الحــرب المقدســة) يفقــد معنــاه وروحــه‪ ،‬كمــا هــو الحــال يف‬ ‫ترجمــة الهجــرة أو العبوديــة‪ ،‬فإنــه إِن لــم يرتجــم المصطلــح حســب‬ ‫مــا ُعــرف يف لغتــه األصليــة ومــا تأســس لــه مــن معنــى كمصطلــح‬ ‫قــرآين يف منهجيــة اإلســام العقائديــة؛ فإنــه ســيفقد مــا وضــع لــه‬ ‫و ُيعطــي صــورة مشــوهة أو غيــر دقيقــة للغيــر‪.‬‬

‫وقاعــدة العــاج للخلــل الغربــي يف نقــل المصطلحــات مــن لغــة‬ ‫ــدرس المصطلــح الغربــي الــذي يشــير‬ ‫إلــى أخــرى (هــي أن ُي َ‬ ‫إلــى ظاهــرة مــا مــن خــال ســياقه األصلــي دراســة جيــدة‪ ،‬نعــرف‬ ‫مدلوالتــه معرفــة جيــدة‪ ،‬ونحــاول توليــد مصطلــح مــن داخــل‬ ‫المعجــم العربــي بحيــث ال يكــون ترجمــة حرفيــة‪ ،‬وإنمــا تســمية‬ ‫للظاهــرة مــن وجهــة نظرنــا‪ ،‬وقــد أدمنّــا عمليــة نقــل المصطلحــات‬ ‫بــا إعمــال فكــر أو اجتهــاد‪ ،‬ومــن غيــر إدراك للمفاهيــم المتحيــزة‬ ‫الكامنــة)(‪.((1‬‬ ‫وأخيــرا علينــا أن نعلــم أن تقريــب مصطلحاتنــا إلــى المفاهيــم‬ ‫الغربيــة يع ّقــد مشــكلة النهضــة واإلصــاح التــي نســعى إليهــا‪،‬‬ ‫ويوقعنــا يف حالــة االســتتباع واالنبهــار‪ ،‬يقــول اإلمــام الشــافعي‬ ‫(مــا َج ِه َ‬ ‫ــان‬ ‫َّــاس َوال ْ‬ ‫اخ َت َل ُفــوا‪ ،‬إِ َّل لِت َْركِ ِهــم لِ َس َ‬ ‫ــل الن ُ‬ ‫رحمــه اهلل‪َ :‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫العــر ِ ِ ِ‬ ‫ــم إلــى ل َس ِ‬ ‫ــان َأ ْرســ َطا َطال ْي َس)(‪.((1‬‬ ‫ب‪َ ،‬وميل ِه ْ‬ ‫َ َ‬ ‫(‪ ((1‬عبد الوهاب المسيري‪ :‬حوارات (‪.)053/1‬‬ ‫(‪ ((1‬سير أعالم النبالء‪ ،‬طبعة مؤسسة الرسالة (‪.)75/91‬‬

‫‪89‬‬


‫المصطلحات وأثرها في الفكر اإلسالمي‬ ‫هــذا المصطلــح مأخــوذ مــن كلمــة ‪ Relation‬التــي تعنــي العالقــة‪.‬‬

‫وأمــا مفهــوم (الديــن) عنــد المســلمين فهــو نمــط حيــاة شــامل‬ ‫لــكل شــؤون الحيــاة‪ ،‬وقــد َع َّرفــه العلمــاء بأنــه‪( :‬وضــع إلهــي ســائق‬ ‫لــذوي العقــول باختيارهــم المحمــود إلــى الخيــر باطنًــا وظاهـ ًـرا)‪،‬‬ ‫فالمــراد مــن الديــن هــو حفــظ نظــام العالــم وصــاح أحــوال‬ ‫أهلــه‪ ،‬قــال تعالــى‪َ ﴿ :‬مــ ْن َع ِم َــل َصال ِ ًحــا مِــ ْن َذك ٍ‬ ‫ــو‬ ‫َــر َأ ْو ُأ ْن َثــى َو ُه َ‬ ‫ُم ْؤمِ ـ ٌن َف َلن ُْحيِ َينَّ ـ ُه َح َيــا ًة َط ِّي َب ـةً﴾ [ســورة النحــل‪ :‬آيــة ‪ ،]97‬ولذلــك‬ ‫أطلــق الغربيــون ‪-‬عــن عمــد أو عــن جهــل‪ -‬مصطلــح (اإلســام‬ ‫السياســي) وتلقفــه المقلــدون عندنــا‪ ،‬وهــو مصطلــح غيــر صحيــح‪،‬‬ ‫ألن معنــاه أن هنــاك إســا ًما غيــر سياســي ﴿ا َّل ِذي ـ َن َج َع ُلــوا ا ْل ُقـ ْـر َ‬ ‫آن‬ ‫ِع ِضيــ َن﴾ [ســورة الحجــر‪ :‬آيــة ‪.]91‬‬ ‫ّ‬ ‫إن كلمــة (‪ )Faith‬اإلنجليزيــة‪ ،‬ترتجــم إلــى العربيــة بمعنــى اإليمان‪،‬‬ ‫ولكننــا نالحــظ الفــرق الكبيــر بيــن مصطلــح (اإليمــان) القــرآين‬ ‫وهــذه الكلمــة يف الثقافــة الغربيــة؛ إذ تعنــي عندهــم الثقــة بشــيء‬ ‫مــا‪ ،‬وتعنــي االعتقــاد بــأي شــيء كان‪ ،‬كمــا تعنــي اإليمــان بــاهلل‬ ‫والديــن علــى أســاس الفهــم والتخــوف الروحــاين غيــر المعتمــد‬ ‫علــى برهــان أو دليــل‪ ..‬أمــا اإليمــان بالمصطلــح اإلســامي فإنــه‬ ‫تصديــق جــازم مبنــي علــى الدليــل والربهــان يشــمل اعتقــادات‬ ‫القلــب وعمــل الجــوارح‪ ،‬وهــو اليقيــن دون شــك أو َر ْيــب‪.‬‬ ‫كمــا ُترتجــم كلمــة (‪ )nation‬بمعنــى (األمــة) ولكنهــا عنــد أصحاهبا‬ ‫تعنــي شــع ًبا ضمــن حــدود جغرافيــة‪ ،‬أي هــي قوميــة معينــة‪ ،‬واألمــة‬ ‫بالمصطلــح اإلســامي قائمــة علــى ربــاط عقــدي سياســي‪ ،‬ال تــزال‬ ‫تجمــع المســلمين دون حواجــز اللغــة أو العــرق أو اللــون‪.‬‬ ‫ونســتخدم مصطلــح (التقــدم) دون أن نحــدد مضمونــه‪ ،‬هــل هــو‬ ‫إقامــة العــدل وتحقيــق إنســانية اإلنســان‪ ،‬أم هــو اإلنتــاج المــادي‬ ‫واالســتهالك والرفاهيــة؟‬

‫إن الغربــي ينظــر إلــى الــوراء‪ ،‬إلــى القــرون الوســطى وكيــف كانــت‬ ‫أوروبــا‪ ،‬ثــم ينظــر إلــى مــا هــو عليــه اآلن‪ ،‬مــن بدايــة النهضــة ثــم‬ ‫مصطلحــا يوحــي بالرجــوع‬ ‫التقــدم العلمــي والصناعــي‪ ،‬فــإذا ســمع‬ ‫ً‬ ‫إلــى العصــور الســابقة‪ ،‬فــإن هــذا يفزعــه‪ ،‬ولذلــك كان لمصطلــح‬ ‫(التقــدم) ســحر خــاص لديــه‪ ..‬ولكــن هــذا ال ينطبــق علــى كل‬ ‫شــعوب األرض‪ ،‬وإنــه مــن غيــر المقبــول أن يفرضــوا نظرهتــم‬ ‫إلــى التاريــخ علــى ســائر البشــرية‪ ،‬كمــا فعــل (ماركــس) إذ رأى‬ ‫أن المجتمعــات البشــرية تطــورت مــن شــيوعية بدائيــة إلــى عبوديــة‬ ‫وإقطــاع ثــم الرأســمالية ثــم االشــراكية العلميــة (الشــيوعية) وهــي‬ ‫هنايــة المطــاف‪ ،‬وهــي األمــل والمثــل األعلــى‪ ،‬وإن كان هــذا‬ ‫التطــور ينطبــق علــى أوروبــا مثـ ًـا؛ فإنــه ال ينطبــق علــى المجتمعات‬ ‫األخــرى‪ ،‬أو علــى تاريــخ البشــرية كلهــا‪.‬‬ ‫ـف الكلمــات وإعطا َءهــا مدلـ ً‬ ‫ـول يناســبها‪ ،‬كمــا‬ ‫يتقــن الغــرب تحريـ َ‬ ‫حكــى القــرآن الكريــم عــن بنــي اســرائيل‪ ،‬فالغــرب يســمي احتــال‬ ‫‪88‬‬

‫بلــدان الشــعوب األخــرى (االســتعمار) و(عصــر االكتشــافات)‬ ‫وكأنــه أعمــر بلدانــا كانــت خرا ًبــا‪ ،‬أو اكتشــف قــارة ليــس هبــا أحــد‪،‬‬ ‫ومــا ذلــك إال ألنــه يــرى ّ‬ ‫َعمرة ال تســتحق‬ ‫أن هــذه الشــعوب المس ـت َ‬ ‫الحيــاة‪ ..‬وهــو يســمي المنطقــة العربيــة اإلســامية‪( :‬الشــرق‬ ‫األوســط) وذلــك إلبعادهــا عــن هويتهــا اإلســامية‪ ،‬فهــي بنظــره‬ ‫جــز ٌء جغــرايفٌّ مــن الشــرق‪ ،‬فهنــاك شــرق أدنــى وشــرق أوســط‬ ‫وشــرق أقصــى‪.‬‬

‫فــإذا مــا أتينــا إلــى المصطلحــات التــي كثــر الحديــث عنهــا يف‬ ‫مجتمعاتنــا المســلمة اليــوم مثــل‪ :‬الدولــة المدنيــة‪ ،‬الموا َطنــة‪،‬‬ ‫الديمقراطيــة‪ ...‬إلــخ‪ ،‬نجدهــا أشــد اشــتباها ممــا ســبق الحديــث‬ ‫عنــه‪ ،‬وإن األصــل والواجــب علينــا أن نعــود إلــى أصــل المصطلــح‬ ‫لنعــرف أيــن نشــأ ومــا هــو مفهومــه عنــد مــن أنشــأه‪.‬‬ ‫إن مصطلــح (الدولــة المدنيــة) ً‬ ‫مثــا‪ ،‬نشــأ مــن خــال صــراع‬ ‫أوروبــا مــع الكنيســة وتســلطها‪ ،‬حيــن كان ملــوك أوروبــا ‪-‬‬ ‫بحصولهــم علــى تأييــد القســس والرهبــان ومباركتهــم ‪ -‬يحكمــون‬ ‫شــعوهبم باســم اإللــه‪ ،‬وهــو مــا ُيســمى بالنظــام الثيوقراطــي‪ ،‬أو‬ ‫الدولــة الدينيــة‪ ،‬فالدولــة المدنيــة باصطالحهــم هــي مقابــل الدولــة‬ ‫الدينيــة‪ ،‬وليــس عندنــا يف اإلســام شــيء اســمه دولــة دينيــة‪،‬‬ ‫ولكــن عندنــا دولــة تحكمهــا الشــريعة اإلســامية ونظــم منبثقــة‬ ‫عــن هــذه الشــريعة‪ ،‬وال يحكمهــا طبقــة اســمها (رجــال الديــن)؛‬ ‫إذ ليــس يف اإلســام طبقــة اســمها (رجــال الديــن)‪ ،‬ومفهــوم‬ ‫(الثيوقراطيــة) بعيــد جــدً ا عــن شــكل النظــام اإلســامي الــذي‬ ‫لــه أسســه ونظرتــه الخاصــة يف السياســة واالقتصــاد واالجتمــاع‪،‬‬ ‫فكيــف نــأيت بمصطلــح نشــأ يف أوروبــا نتيجــة صــراع طويــل بيــن‬ ‫الشــعب والســلطة الطاغيــة للملــوك والرهبــان؛ ونطبقــه علــى‬ ‫واقعنــا اإلســامي الــذي ال يحمــل أ ًّيــا مــن مالبســات ظهــور هــذا‬ ‫المصطلــح يف التاريــخ السياســي األوربــي؟‬ ‫إن الدولــة المدنيــة يف الغــرب تعنــي (الدولــة العلمانيــة) حيــث‬ ‫شــرع اإلنســان ويضــع القوانيــن التــي تنظــم حياتــه‪ ،‬ويكــون‬ ‫ُي ّ‬ ‫ـدر الســلطة وصاحــب الحــق يف التشــريع‪ ،‬إذ هــو‬ ‫الشــعب فيهــا مصـ َ‬ ‫أعــرف بأمــور دنيــاه‪- ،‬كمــا ورد يف برامــج بعــض األحــزاب العربيــة‬ ‫(الوســطية)‪ -‬وأمــا الديــن عنــد هــؤالء فإنــه يقتصــر علــى ممارســة‬ ‫الشــعائر التعبديــة‪.‬‬ ‫وأمــا الذيــن يقولــون‪ :‬نقصــد بالدولــة المدنيــة أهنــا ليســت دولــة‬ ‫عســكرية‪ ،‬فــإن كالمهــم ال يعــدو المغالطــة والخــداع‪ ،‬فالغــرب‬ ‫عندمــا أطلــق هــذا المصطلــح لــم يكــن تحــت حكــم عســكري‪،‬‬ ‫ويريــد إزاحتــه بدولــة مدنيــة‪ ..‬وأمــا الذيــن يقولــون‪ :‬ال مشــاحة‬ ‫يف االصطــاح إذا اتفقنــا علــى المضمــون الــذي نريــده لشــكل‬ ‫الحكــم؛ فيقــال لهــم‪ :‬لمــاذا ال نبتعــد عــن المصطلحــات الغامضــة‬ ‫التــي لهــا جــذور علمانيــة‪ ،‬ويكــون لنــا مصطلحاتنــا الربيئــة مــن‬ ‫هــذه العيــوب؟‬

‫المصطلحات وأثرها في الفكر اإلسالمي‬ ‫إن مصطلــح (المواطنــة) هــو انتســاب جغــرايف‪ ،‬فهــل يتعــارض مــع‬ ‫(اله ِو َّية)؟‬ ‫ُ‬ ‫إن النــاس ال بــد لهــم مــن ُه ِو َّيــة هــي نظــام حياهتــم وعالقاهتــم‪ ،‬وإذا‬ ‫كانــت هويــة األكثريــة هــي الغالبــة‪ ،‬وهــي التــي تدعــم االســتقرار‬ ‫واألمــن‪ ،‬والمخالفــون يف الهويــة لهــم حقوقهــم وواجباهتــم‪،‬‬ ‫وخاصــة يف األشــياء العامــة المطلوبــة مــن كل مواطــن‪ -‬فــإذا كان‬‫األمــر كذلــك فهــذا هــو الشــيء الطبيعــي يف الــدول والحضــارات‪،‬‬ ‫وهــو الــذي يســاعد علــى التفاهــم والتعايــش‪.‬‬

‫وأمــا مصطلــح (الديمقراطيــة) الــذي قامــت حولــه المعــارك‬ ‫مصطلحــا وحســب‪ ،‬بــل هــو نظــام معيــن‪،‬‬ ‫الكالميــة‪ ،‬فهــو ليــس‬ ‫ً‬ ‫ســواء مــن حيــث الشــكل أو المضمــون‪ ،‬وقــد تــدرج وتأصــل يف‬ ‫الغــرب يف العصــر الحديــث‪ ،‬ولــه آلياتــه وثقافتــه‪ ،‬ويعنــي حكــم‬ ‫األكثريــة مــن خــال االنتخابــات ‪-‬ولــو كانــت أكثريــة ضئيلــة‪ -‬وقد‬ ‫تقــدم الغــرب سياســ ًّيا بســبب هــذا النظــام رغــم عيوبــه ونقائصــه‬ ‫التــي يتكلــم عنهــا كتّــاب الغــرب أنفســهم‪ ،‬فهــل نقــول‪ :‬إنــه هــو‬ ‫نظــام الشــورى الموجــود عنــد المســلمين‪ ،‬أي نحـ ّـرف الكلمــات!‪.‬‬ ‫ال شــك يف أن هنــاك خالفــا أساسـ ًّيا بيــن الديمقراطيــة والشــورى‪،‬‬ ‫وليــس هنــا مجــال التفصيــل يف هــذا الموضــوع‪ ،‬فهــذا لــه بحــث‬ ‫طويــل عريــض؛ إذ النظــام اإلســامي يختلــف تما ًمــا عــن كل‬ ‫األوضــاع البشــرية األخــرى‪ ،‬فــا هــو ديمقراطــي وال ثيوقراطــي‬ ‫وال أوليرشــي (حكــم األقليــة) وال منوقراطــي (قانــوين حــريف)‪،‬‬ ‫فهــل مــن المعقــول أن ننقــل نظا ًمــا نشــأ يف الغــرب وتطــور ضمــن‬ ‫بيئــة وثقافــة معينــة وأصبــح ثقافــة لعامــة الشــعب‪ ،‬إلــى بيئــة وثقافــة‬ ‫أخــرى يف ديــن أبنائهــا أساســيات مختلفــة للحكــم والسياســة؟‬ ‫هــل ننقــل مثــل هــذا النظــام بعجــره وبجــره‪ ،‬بــا مراعــاة للظــروف‬ ‫وأســلوب الحيــاة؟‬

‫إن مــا أقولــه هنــا ال يعنــي أبــدً ا القبـ َ‬ ‫ـول بالنظــم االســتبدادية‪ ،‬كمــا ال‬ ‫يعنــي االنغــاق عــن قبــول أي شــيء مفيــد‪ ،‬ومــن أي جهــة كان‪..‬‬ ‫ولكــن يجــب أن نعلــم أن أســوأ الســرقات هــي ســرقة الهويــة‪،‬‬ ‫والقبــول بســذاجة تعريــف اآلخريــن لمــا يجــب أن نســير عليــه‪.‬‬

‫مصطلحات إسالمية خاصة‪:‬‬

‫ويف مقابــل مــا ســبق ذكــره؛ فــإن هنــاك مصطلحـ ٍ‬ ‫ـات إســامي ًة ذات‬ ‫خاصـ ٍـة ليــس لهــا مــرادف يف اللغــات األجنبيــة‪ ،‬وال يمكــن أن‬ ‫داللــة َّ‬ ‫ترتجــم حرف ًيــا‪ ،‬وإال فســيضيع معناهــا ومغزاهــا‪.‬‬

‫إن مــن المصطلحــات اإلســامية الخاصــة (العبوديــة) أو (عبــدً ا‬ ‫هلل) فهــل يمكــن ترجمــة هــذا التعبيــر بكلمــة (‪ )slave‬اإلنجليزيــة‪،‬‬ ‫والتــي تعنــي العبــد المملــوك‪ ،‬أم هــل يمكــن ترجمتهــا بـــ (‪servant‬‬ ‫‪ )of Gad‬التــي تعنــي الخــادم هلل؟ والحقيقــة أن كال التعبيريــن ال‬ ‫يمكــن اســتخدامهما بمعنــى العبوديــة يف المصطلــح القــرآين‪ ،‬والتــي‬

‫تعنــي الخضــوع هلل مــع المحبــة‪ ،‬ولذلــك ُوصــف أشــرف الخلــق يف‬ ‫﴿س ـ ْب َح َ‬ ‫ان ا َّلـ ِـذي‬ ‫القــرآن الكريــم بصفــة العبوديــة‪ ،‬قــال اهلل تعالــى‪ُ :‬‬ ‫َأ ْسـ َـرى بِ َع ْبـ ِـد ِه َل ْيـ ًـا﴾ [ســورة اإلســراء‪ :‬آيــة ‪.]1‬‬ ‫ومثــل العبوديــة مصطلــح (الهجــرة) يف الشــرع‪ ،‬فهــل يمكــن‬ ‫ترجمتــه إلــى اإلنجليزيــة بكلمــة (‪ ،)Immigration‬التــي تعنــي‬ ‫االنتقــال مــن مــكان إلــى آخــر؟ ال شــك يف أن ذلــك ليــس ممكنًــا يف‬ ‫ظــل داللــة الكلمــة اإلنجليزيــة علــى االنتقــال الطبيعــي مــن مــكان‬ ‫آلخــر‪ ،‬والــذي يختلــف تمــام االختــاف عــن مصطلــح الهجــرة‬ ‫الشــرعي؛ الــذي يعنــي االنتقــال مــن بلــد الشــرك إلــى بلــد اإلســام‪،‬‬ ‫أو مــن بلــد ال يســمح للمســلم بإقامــة شــعائر دينــه إلــى بلــد يســمح‬ ‫لــه بذلــك‪.‬‬ ‫وقــل مثــل ذلــك يف مصطلــح (الجهــاد)‪ ،‬فليــس هــو كمــا يرتجــم‬ ‫يف اإلنجليزيــة بتعبيــر (‪ )Holy war‬الــذي يعنــي الحــرب المقدســة‪،‬‬ ‫فالجهــاد يف اإلســام يجــب أن يكــون يف ســبيل اهلل‪ ،‬وهــو مصطلــح‬ ‫شــرعي لــه مفهومــه الخــاص وآدابــه وشــروطه‪ ،‬وعندمــا يرتجــم‬ ‫بـــ (الحــرب المقدســة) يفقــد معنــاه وروحــه‪ ،‬كمــا هــو الحــال يف‬ ‫ترجمــة الهجــرة أو العبوديــة‪ ،‬فإنــه إِن لــم يرتجــم المصطلــح حســب‬ ‫مــا ُعــرف يف لغتــه األصليــة ومــا تأســس لــه مــن معنــى كمصطلــح‬ ‫قــرآين يف منهجيــة اإلســام العقائديــة؛ فإنــه ســيفقد مــا وضــع لــه‬ ‫و ُيعطــي صــورة مشــوهة أو غيــر دقيقــة للغيــر‪.‬‬

‫وقاعــدة العــاج للخلــل الغربــي يف نقــل المصطلحــات مــن لغــة‬ ‫ــدرس المصطلــح الغربــي الــذي يشــير‬ ‫إلــى أخــرى (هــي أن ُي َ‬ ‫إلــى ظاهــرة مــا مــن خــال ســياقه األصلــي دراســة جيــدة‪ ،‬نعــرف‬ ‫مدلوالتــه معرفــة جيــدة‪ ،‬ونحــاول توليــد مصطلــح مــن داخــل‬ ‫المعجــم العربــي بحيــث ال يكــون ترجمــة حرفيــة‪ ،‬وإنمــا تســمية‬ ‫للظاهــرة مــن وجهــة نظرنــا‪ ،‬وقــد أدمنّــا عمليــة نقــل المصطلحــات‬ ‫بــا إعمــال فكــر أو اجتهــاد‪ ،‬ومــن غيــر إدراك للمفاهيــم المتحيــزة‬ ‫الكامنــة)(‪.((1‬‬ ‫وأخيــرا علينــا أن نعلــم أن تقريــب مصطلحاتنــا إلــى المفاهيــم‬ ‫الغربيــة يع ّقــد مشــكلة النهضــة واإلصــاح التــي نســعى إليهــا‪،‬‬ ‫ويوقعنــا يف حالــة االســتتباع واالنبهــار‪ ،‬يقــول اإلمــام الشــافعي‬ ‫(مــا َج ِه َ‬ ‫ــان‬ ‫َّــاس َوال ْ‬ ‫اخ َت َل ُفــوا‪ ،‬إِ َّل لِت َْركِ ِهــم لِ َس َ‬ ‫ــل الن ُ‬ ‫رحمــه اهلل‪َ :‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫العــر ِ ِ ِ‬ ‫ــم إلــى ل َس ِ‬ ‫ــان َأ ْرســ َطا َطال ْي َس)(‪.((1‬‬ ‫ب‪َ ،‬وميل ِه ْ‬ ‫َ َ‬ ‫(‪ ((1‬عبد الوهاب المسيري‪ :‬حوارات (‪.)053/1‬‬ ‫(‪ ((1‬سير أعالم النبالء‪ ،‬طبعة مؤسسة الرسالة (‪.)75/91‬‬

‫‪89‬‬


‫الدعوة المفتوحة من أجل عمل مشترك‬

‫الدعوة المفتوحة من أجل عمل مشــترك‬ ‫يجمع الســوريين من أجل خالصهم‬ ‫أ‪ .‬د‪ .‬عبد العزيز الحاج مصطفى‬ ‫عضو رابطة العلماء السوريين‬

‫يف كثيــر مــن األحيــان يصعــب الحصــول الوجهيــن أكثــر مــن ملحوظــة أيضــا!‬ ‫علــى الحقائــق المجــردة‪ ،‬وذلــك ألســباب ثالثــا _ أن (المســتجد الحديــث يف‬ ‫كثيــرة‪ ،‬منهــا‪ :‬أنهــا قــد ال تكــون مكشــوفة‪ ،‬المنطقــة) وســورية تضطلــع اليــوم بكفــل‬ ‫أو ال تكــون معروفــة‪ ،‬أو ال تتوافــر لهــا األدلــة منــه؛ يــكاد يكــون تشــاركيًا بينهــم! وقــد‬ ‫الكافيــة‪ .‬وســورية بعــد مئــة عــام مــن االنفصال وزعــوا أدوارهــم‪ ،‬مــن حيــث التعامــل معــه‬ ‫عــن الدولــة العثمانية‪ ،‬دخلــت يف هــذه الدائرة‪ ،‬بشــكل تحاصصــي‪ ،‬وتبعــا لمصالحهــم‬ ‫والــذي أدخلهــا فيهــا الســوريون أنفســهم!! وحجومهــم‪ .‬وســبع الســنوات التــي مــرت‬ ‫وســبب ذلــك‪ :‬يعــود لشــتاتهم الفكــري علــى ســورية؛ الوقائــع واألحــداث فيهــا تثبــت‬ ‫والثقــايف‪ ،‬ولضعــف خزينهــم المعــريف‪ ،‬صحــة ذلــك؛ وقــد قطعــوا أوصالهــا وانتهكــوا‬ ‫والبتعادهــم أكثــر عــن قضيتهــم المركزيــة‪ ،‬حرماهتــا ود ّمــروا بناهــا التحتيــة والفوقيــة!!‬ ‫وانشــغالهم بســواها مــن القضايــا األخــرى‪ ،‬والتحالــف الدولــي الــذي يشــمل (‪)٦٨‬‬ ‫ٌ‬ ‫التــي تتضــاد مــع قضيتهــم!! وهــو‬ ‫انشــغال دولــة‪ ،‬يتو ّلــى كــر المســألة فيهــا‪ ،‬وهــو يوميــا‬ ‫آذاهــم‪ ،‬وآذى قضيتهــم‪ ،‬وآذى األمــة كذلــك‪ !.‬يشـ ّـرق ويغــرب يف األجــواء الســورية‪ ،‬وعلــى‬ ‫فمن المس َّلم به جدالً‪:‬‬

‫أوالً _ أن التــوازن الدولـ ّـي قــد انفــرط عقــده‪،‬‬ ‫وأن سياســة القطــب الواحــد وهــي منحــازة‬ ‫للصهيونيــة‪ ،‬قــد باتــت هــي المهيمنــة علــى‬ ‫السياســة الدوليــة‪ ،‬ومعنــى ذلــك أن خلــاً‬ ‫كبيــر ًا أصــاب التــوازن العــام يف صميمــه‪ ،‬وأن‬ ‫العالــم اإلســامي يتحمــل الجــزء األكــر منــه‪.‬‬

‫ثانيــا _ أن الحــروب الصليبيــة التــي عرفهــا‬ ‫العالــم يف العصــور الوســطى‪ ،‬لــم تكــن قــد‬ ‫انتهــت حقيقــة!! وأن القــوم امتلكــوا ناصيــة‬ ‫يصفــوا حســاباهتم مــع‬ ‫القــوة‪ ،‬ويريــدون أن ّ‬ ‫المســلمين!! وهــذه المســألة يمكــن أن تقــرأ‬ ‫يف وقائــع الحيــاة اليوميــة‪ ،‬وهــي ملحوظــة!!‬ ‫وسياســة الكيــل بمكياليــن‪ ،‬أو السياســة ذات‬ ‫‪90‬‬

‫األرض الســورية‪ ،‬وقــد عدمــت ســورية‬ ‫الموقــف المســعف مــن أصدقائهــا‪ ،‬أو‬ ‫المنصــف مــن البشــر الذيــن لمــا يــزل لديهــم‬ ‫بقيــة مــن ضميــر‪ .‬فنــاءت بكــر ذلــك فــكان‬ ‫علــى شــعبها األعــزل ‪ -‬زيــادة علــى مــا يقرتفــه‬ ‫ضــده النظــام مــن موبقــات ‪ -‬أن يواجــه حربــا‬ ‫عالميــة معلنــة عليــه مــن طــرف واحــد!! وأن‬ ‫يتحمــل تبعــات تلــك الحــرب‪ ،‬بالرغــم ممــا‬ ‫اتســمت بــه مــن جــروت وقــوة‪ ،‬ومــن أدوات‬ ‫خسيســة وخبيثــة‪ ،‬وبعضهــا دون المســتوى‬ ‫اآلدمــي‪ ،‬يف شراســتها‪ ،‬ووحشــيتها وأســاليبها‬ ‫غيــر المشــروعة‪ ،‬وقــد اســتهدفت علــى وجــه‬ ‫الخصــوص األســواق العامــة‪ ،‬والمــدارس‪،‬‬ ‫والمستشــفيات‪ ،‬والتجمعــات‪ .‬وقــد عملــت‬ ‫وال تــزال علــى التهجيــر القســري والطوعــي؛‬

‫كمــا أهنــا أتاحــت الفرصــة للمرتزقــة أن‬ ‫يتوافــدوا إليهــا بشــكل عصابــي‪ ،‬مــن دول‬ ‫شــتى‪ ،‬وغضــت الطــرف عمــا يفعلــون‪،‬‬ ‫ويف مقابــل ذلــك أثــارت حــول الفصائــل‬ ‫المقاتلــة زوابــع إعالميــة قصــد شــيطنتها‪ ،‬ثــم‬ ‫عملــت علــى شــقها‪ ،‬وشــرذمتها‪ ،‬وتشــويه‬ ‫ســمعتها‪ ،‬والدفــع هبــا تجــاه مــا هــو أســوأ‬ ‫بالنســبة لهــا‪ ،‬حتــى غــدت ســورية حمــى‬ ‫مســتباحًا مــن قبــل المرتزقــة والموتوريــن‪،‬‬ ‫ويف مقابــل ذلــك غــدت المســألة الســورية‬ ‫ وكجــزء مــن االلتفــاف علــى المســألة‬‫قصــد اإلحبــاط والتضليــل _ ممــا يجــب أن‬ ‫تثــار يف كل محفــل ذر ًا للرمــاد يف العيــون‪،‬‬ ‫وخداعــا للعامليــن‪ ،‬فكانــت جنيــف واحــد‪،‬‬ ‫ثــم امتــدت إلــى جنيــف ثمانيــة‪ ،‬ثــم كانــت‬ ‫أســتانا واحــدة‪ ،‬ثــم امتــدت إلــى أســتانات‬ ‫متعــددة‪ ،‬أمــا الوســطاء الدوليــون مــن أمثــال‪:‬‬ ‫مصطفــى الدابــي‪ ،‬وكــويف عنــان‪ ،‬واألخضــر‬ ‫اإلبراهيمــي‪ ،‬ودي ميســتورا فقــد رتعــوا فيهــا!‬ ‫والحقيقــة أن الجميــع أدخلوهــا يف عنــق‬ ‫زجاجــة‪ ،‬ثـ ّـم أحكمــوا ســدها وإغالقهــا‪ ،‬بعــد‬ ‫أن تنصلــوا مــن تبعاهتــا‪ ،‬وكل ذلــك يمكــن‬ ‫أن يكــون وزيــادة‪ ،‬فــا حــدود لمــا يفعلــه‬ ‫األعــداء وال ســيما إذا كانــوا كأعــداء الشــعب‬ ‫الســوري‪ ،‬ينطــوون علــى حقــد وضغينــة‪،‬‬ ‫وعلــى تــارات قديمــة‪ ،‬وعلــى رغبــة بقتلهــم‬ ‫وتدميرهــم خدمــة للصهيونيــة‪ ،‬أو ألربــاب‬ ‫المصالــح‪ ،‬ممــن يســيل لعاهبــم تجــاه موضــع‬

‫الدعوة المفتوحة من أجل عمل مشترك‬ ‫قــدم فيهــا؛ كالــروس واألمريــكان‪ .‬ومــع ذلــك‬ ‫لــم تتوقــف المشــكلة الســورية عنــد حــدود‬ ‫األعــداء الخارجييــن‪ ،‬بــل الــذي زاد الطيــن‬ ‫ب ّلــة اإلقليميــون‪ ،‬الذيــن أجــادوا اللعــب علــى‬ ‫الحبــال والقفــز والجمــز‪ ،‬يف تعاملهــم مــع‬ ‫ــع) و(ضــد)‬ ‫القضيــة الســورية! فكانــوا ( َم ْ‬ ‫يف آن واحــد‪ ،‬وقــد أجــادوا االصطفــاف يف‬ ‫خانتَــي األعــداء واألصدقــاء‪ ،‬وبعضهــم لــم‬ ‫يتــوان لحظــة عــن الكيــد للقضيــة الســورية‪،‬‬ ‫أو لالجئيــن الذيــن اندفعــوا عــر الحــدود‬ ‫يبحثــون عــن ملجــأ آمــن‪ ،‬فعاملهــم كغربــاء‪،‬‬ ‫وقاســمهم الســلة الغذائيــة هضمــا لهــم!!‬

‫أمــا الداخــل الســوري الــذي كُتــب عليــه أن‬ ‫يــرزح تحــت نيــر نظــام متأ ّلــه يؤمــن بالحلــول‪،‬‬ ‫أي‪ :‬أن يحــل اإللــه يف الجســد البشــري‪ ،‬فقــد‬ ‫ســام النــاس خــال أكثــر مــن ســتين عامــا‬ ‫بخســا‪ .‬وقــد كتــب علــى أنــاس الداخــل‬ ‫بعامــة أن يواجهــوه بالمعارضــة الســلمية‬ ‫والمســلحة‪ ،‬وكان أشــهرها مــا عــرف بـــ (ثورة‬ ‫اإلخــوان) يف ثمانينــات القــرن الماضــي‪،‬‬ ‫وبالثــورة الشــعبية الســلمية والمســلحة التــي‬ ‫اندلعــت بشــكل بــركاين مــع مســتهل ‪ ٠١١‬م‪،‬‬ ‫وال تــزال قائمــة إلــى اليــوم‪ ،‬وقــد ُووجهــت‬ ‫بأقصــى مــا ووجهــت بــه ثــورة يف التاريــخ‪،‬‬ ‫واســتخدمت فيهــا الرباميــل المتفجــرة التــي‬ ‫توصــف بالعميــاء أو الشــبيحة التــي توصــف‬ ‫بأهنــا أكثــر عمــى مــن الرباميــل‪ ،‬واســتخدم‬ ‫الــذكاء المخابــرايت المجنــون‪ ،‬مــن أجــل إدارة‬ ‫الصــراع مــع المعارضيــن الذيــن أســقطتهم‬ ‫خالفاهتــم وتشــرذمهم‪ ،‬وتآمــر الغريــب‬ ‫والقريــب عليهــم‪ ،‬وحــال بينهــم وبيــن أن‬ ‫يكونــوا علــى مســتوى القضيــة فهما وأســلوبًا‬ ‫وتضحيــة مــا هــم فيــه مــن شــقاق ومــن‬ ‫خالفــات تدمــي القلــوب‪ ،‬وقــد اســتعصت‬ ‫علــى الحــل وال ســيما بعــد أن كثــر أمــراء‬ ‫الحــرب فيهــا‪ ،‬حتــى صعــب معرفــة عددهــم‪،‬‬ ‫وبعضهــم ولألســف الشــديد لبــس لبــوس‬ ‫اإلســام‪ ،‬وطــرح الشــعارات اإلســامية‪،‬‬ ‫واإلســام منــه بــريء‪.‬‬ ‫ويف تقديرنــا مــع هــذا الموقــف الجلــل‪ ،‬ليــس‬ ‫علــى المفكريــن الســوريين وأصحــاب الــرأي‬

‫والموقــف منهــم‪ ،‬إال أن يتداعــوا لدراســة ولــو يف قضيــة واحــدة‪ ،‬ســوى ألــق رموزهــا‪،‬‬ ‫هــذا المســتجد الصعــب‪ ،‬الــذي تمخضــت وقــد كان خدَّ اعــا وكاذبــا‪.‬‬ ‫عنــه الســنوات الســبع‪ ،‬قصــد التوصــل الزمــن الثــاين _ ويتمثــل بمرحلــة مــا بعــد‬ ‫لفهــم مشــرك للقضيــة الســورية‪ ،‬ولمعرفــة االســتقالل‪ ،‬وبدقــة مــن ‪١٩٤٦‬م إلــى انقــاب‬ ‫األســباب المباشــرة وغيــر المباشــرة‪ ،‬التــي الثامــن مــن آذار ســنة ‪١٩٦٣‬م‪ ،‬ويشــمل علــى‬ ‫أوصلــت الســوريين إلــى هــذا المســتوى مــن وجــه الخصــوص (أســس نشــأة الجيــش‬ ‫التشــرذم‪ ،‬ومــن العــدوان الواســع المقنــن الســوري وتكوينــه)‪ ،‬و(األســباب التــي‬ ‫دوليــا‪ ،‬الــذي تشــارك فيــه الــدول الكــرى أدت إلــى أن يكــون زيــد ًا أو عبيــد ًا رئيســا‬ ‫والصغــرى‪ ،‬وجماعــات وأحــزاب مــن منطلق للجمهوريــة‪ ،‬أو للــوزراء مــن أمثــال (شــكري‬ ‫عــدواين بحــت‪!!!.‬‬ ‫القوتلــي‪ ،‬وناظــم القدســي‪ ،‬وخالــد العظــم‪،‬‬ ‫ويف تقديرنــا أنــه مــن أجــل ذلــك ال بــدّ مــن وجميــل مــردم)‪ ،‬و(االنقالبــات العســكرية)‪،‬‬ ‫جــدول أعمــال يتمثــل بمحوريــن رئيســين‪ :‬وقــد كثــرت وتعــددت أســباهبا وبواعثهــا‪،‬‬ ‫و(االغتيــاالت)‪ ،‬وقــد تعــددت أيضــا‪،‬‬ ‫المحــور األول _ يتمثــل بالخــارج اإلقليمــي‬ ‫و(عهــدي الوحــدة واالنفصــال) اللذيــن‬ ‫والدولــي؛ بمــا كان مــن سياســاته‪ ،‬ومــن‬ ‫ـتقر‪ ،‬حتــى‬ ‫أدخــا البــاد يف أرجوحــة الالمسـ ّ‬ ‫مواقفــه تجــاه القضيــة الســورية خاصــة‪.‬‬ ‫أســلموها طواعيــة للطائفييــن‪.‬‬ ‫المحــور الثــاين _ يتمثــل بالداخــل الســوري‪ ،‬الزمــن الثالــث _ يتمثــل بحكــم الطائفييــن‪،‬‬ ‫وبمــا كان مــن عــدوان عليــه‪ ،‬طــال البشــر وبالنظــام الطائفــي‪ ،‬وبدقــة مــن ‪١٩٦٣‬م إلــى‬ ‫والحجــر‪ ،‬وحتــى الحيوانــات األليفــة ‪٢٠١١‬م‪ .‬ويشــمل أربــع مراحــل‪:‬‬ ‫والمتوحشــة‪ ،‬ولــم يســتثن‪ ..‬وأطــال حلــب‬ ‫الشــهباء وأريافهــا وهــي شــاخصة‪ ،‬تشــهد األولــى _ تتمثــل بحكــم (أميــن الحافــظ)‪،‬‬ ‫علــى وحشــية ذلــك العــدوان‪ ،‬وعلــى مــدى ما أو مــا يســمى بالقيــادة القوميــة‪ .‬وتمتــد مــن‬ ‫تــم التخلــص‬ ‫‪١٩٦٣‬م إلــى ‪١٩٦٦‬م وفيهــا َّ‬ ‫كان عليــه مــن جريمــة‪.‬‬ ‫ً‬ ‫مــن الضبــاط الســنة (الكبــار حصــرا)‪ ،‬ومــن‬ ‫ومــع أن جــدول األعمــال‪ ،‬ممــا يجــب أن السياســيين التقليديــن الذيــن حــال قانــون‬ ‫يضعــه الخــراء والمختصــون‪ ،‬إال أننــا نقــدم العــزل السياســي ‪-‬الــذي أعلنــوه بعــد‬ ‫بيــن أيديهــم رؤيــة متواضعــة‪ ،‬هــي بمنزلــة االنقــاب‪ -‬بينهــم وبيــن أن يتولــوا الوظائــف‬ ‫إضــاءات علــى مــا التبــس أو أهبــم‪ ،‬أو خفــي الكــرى يف الدولــة‪ ،‬وقــد شــهدت هــذه الحقبة‬ ‫الخاســر فيهــا‬ ‫عــن األعيــن‪ ،‬وهــذه الرؤيــة بمنزلــة دراســة (صراعــات وتصرفــات) كان‬ ‫َ‬ ‫والرابــح الطائف ِّيــون الذيــن خرجــوا‬ ‫أوليــة للقضيــة الســورية‪ ،‬وهــي تتجــاوز الســنةُ‪،‬‬ ‫َ‬ ‫(الحديــث) وتتخطــاه إلــى مــا هــو (أقــدم) منهــا‪ ،‬وهــم أكثــر قــوة‪.‬‬ ‫وذلــك مــن واقــع أزمنــة ثالثــة‪:‬‬ ‫الثانيــة _(تتمثــل بســيادة اليســار‪ ،‬وبطــرح‬ ‫الزمــن األول _ يتمثــل بمــا يتعلــق بالقضيــة االشــراكية العلميــة منهجــا وأســلوبًا‪ .‬وتمتد‬ ‫الســورية منــذ العهــد العثمــاين‪ ،‬وإلــى هنايــة مــن ســنة ‪١٩٦٦‬م إلــى ‪١٩٧٠‬م‪ ،‬وفيهــا زهقت‬ ‫الحقبــة االســتعمارية‪ ،‬ويشــمل علــى وجــه األنفــس‪ ،‬وقــد أصبــح الطــرح االشــراكي مــن‬ ‫الخصــوص‪( :‬ورقــة هرتــزل)‪ ،‬و(اتفاقيــة المســلم بــه جــد ً‬ ‫ال _ طوعــا أو كرهــا _(وأصبح‬ ‫ســايكس بيكــو)‪ ،‬و(وعــد بلفــور)‪ ،‬االشــراكيون ســادة الموقــف‪ ،‬وقد اســتطاعوا‬ ‫و(سياســات غــورو يف ســورية)‪ ،‬ومنهــا التســلل إلــى حــزب البعــث والســيطرة علــى‬ ‫تقســيمها إلــى دويــات‪ ،‬وإنشــاؤه (قــوات مصــدر القــرار فيــه‪ ،‬وهــو أمــر دفعهــم إلــى‬ ‫الشــرق الخاصــة) ذات الصفــة الطائفيــة‪ ،‬الغلــو يف الطــرح‪ ،‬ممــا جعــل النــاس أكثــر نفرة‬ ‫وأخيــر ًا‪( :‬الكتلــة الوطنيــة الســورية) التــي منهــم واســتهجانًا لمــا يقولونــه أو يفعلونــه‪،‬‬ ‫تغولــت علــى نفســها فيمــا بعــد‪ ،‬ولــم تفلــح بعــد أن كان كثيــر منهــم يصفقــون لهــم‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫‪91‬‬


‫الدعوة المفتوحة من أجل عمل مشترك‬

‫الدعوة المفتوحة من أجل عمل مشــترك‬ ‫يجمع الســوريين من أجل خالصهم‬ ‫أ‪ .‬د‪ .‬عبد العزيز الحاج مصطفى‬ ‫عضو رابطة العلماء السوريين‬

‫يف كثيــر مــن األحيــان يصعــب الحصــول الوجهيــن أكثــر مــن ملحوظــة أيضــا!‬ ‫علــى الحقائــق المجــردة‪ ،‬وذلــك ألســباب ثالثــا _ أن (المســتجد الحديــث يف‬ ‫كثيــرة‪ ،‬منهــا‪ :‬أنهــا قــد ال تكــون مكشــوفة‪ ،‬المنطقــة) وســورية تضطلــع اليــوم بكفــل‬ ‫أو ال تكــون معروفــة‪ ،‬أو ال تتوافــر لهــا األدلــة منــه؛ يــكاد يكــون تشــاركيًا بينهــم! وقــد‬ ‫الكافيــة‪ .‬وســورية بعــد مئــة عــام مــن االنفصال وزعــوا أدوارهــم‪ ،‬مــن حيــث التعامــل معــه‬ ‫عــن الدولــة العثمانية‪ ،‬دخلــت يف هــذه الدائرة‪ ،‬بشــكل تحاصصــي‪ ،‬وتبعــا لمصالحهــم‬ ‫والــذي أدخلهــا فيهــا الســوريون أنفســهم!! وحجومهــم‪ .‬وســبع الســنوات التــي مــرت‬ ‫وســبب ذلــك‪ :‬يعــود لشــتاتهم الفكــري علــى ســورية؛ الوقائــع واألحــداث فيهــا تثبــت‬ ‫والثقــايف‪ ،‬ولضعــف خزينهــم المعــريف‪ ،‬صحــة ذلــك؛ وقــد قطعــوا أوصالهــا وانتهكــوا‬ ‫والبتعادهــم أكثــر عــن قضيتهــم المركزيــة‪ ،‬حرماهتــا ود ّمــروا بناهــا التحتيــة والفوقيــة!!‬ ‫وانشــغالهم بســواها مــن القضايــا األخــرى‪ ،‬والتحالــف الدولــي الــذي يشــمل (‪)٦٨‬‬ ‫ٌ‬ ‫التــي تتضــاد مــع قضيتهــم!! وهــو‬ ‫انشــغال دولــة‪ ،‬يتو ّلــى كــر المســألة فيهــا‪ ،‬وهــو يوميــا‬ ‫آذاهــم‪ ،‬وآذى قضيتهــم‪ ،‬وآذى األمــة كذلــك‪ !.‬يشـ ّـرق ويغــرب يف األجــواء الســورية‪ ،‬وعلــى‬ ‫فمن المس َّلم به جدالً‪:‬‬

‫أوالً _ أن التــوازن الدولـ ّـي قــد انفــرط عقــده‪،‬‬ ‫وأن سياســة القطــب الواحــد وهــي منحــازة‬ ‫للصهيونيــة‪ ،‬قــد باتــت هــي المهيمنــة علــى‬ ‫السياســة الدوليــة‪ ،‬ومعنــى ذلــك أن خلــاً‬ ‫كبيــر ًا أصــاب التــوازن العــام يف صميمــه‪ ،‬وأن‬ ‫العالــم اإلســامي يتحمــل الجــزء األكــر منــه‪.‬‬

‫ثانيــا _ أن الحــروب الصليبيــة التــي عرفهــا‬ ‫العالــم يف العصــور الوســطى‪ ،‬لــم تكــن قــد‬ ‫انتهــت حقيقــة!! وأن القــوم امتلكــوا ناصيــة‬ ‫يصفــوا حســاباهتم مــع‬ ‫القــوة‪ ،‬ويريــدون أن ّ‬ ‫المســلمين!! وهــذه المســألة يمكــن أن تقــرأ‬ ‫يف وقائــع الحيــاة اليوميــة‪ ،‬وهــي ملحوظــة!!‬ ‫وسياســة الكيــل بمكياليــن‪ ،‬أو السياســة ذات‬ ‫‪90‬‬

‫األرض الســورية‪ ،‬وقــد عدمــت ســورية‬ ‫الموقــف المســعف مــن أصدقائهــا‪ ،‬أو‬ ‫المنصــف مــن البشــر الذيــن لمــا يــزل لديهــم‬ ‫بقيــة مــن ضميــر‪ .‬فنــاءت بكــر ذلــك فــكان‬ ‫علــى شــعبها األعــزل ‪ -‬زيــادة علــى مــا يقرتفــه‬ ‫ضــده النظــام مــن موبقــات ‪ -‬أن يواجــه حربــا‬ ‫عالميــة معلنــة عليــه مــن طــرف واحــد!! وأن‬ ‫يتحمــل تبعــات تلــك الحــرب‪ ،‬بالرغــم ممــا‬ ‫اتســمت بــه مــن جــروت وقــوة‪ ،‬ومــن أدوات‬ ‫خسيســة وخبيثــة‪ ،‬وبعضهــا دون المســتوى‬ ‫اآلدمــي‪ ،‬يف شراســتها‪ ،‬ووحشــيتها وأســاليبها‬ ‫غيــر المشــروعة‪ ،‬وقــد اســتهدفت علــى وجــه‬ ‫الخصــوص األســواق العامــة‪ ،‬والمــدارس‪،‬‬ ‫والمستشــفيات‪ ،‬والتجمعــات‪ .‬وقــد عملــت‬ ‫وال تــزال علــى التهجيــر القســري والطوعــي؛‬

‫كمــا أهنــا أتاحــت الفرصــة للمرتزقــة أن‬ ‫يتوافــدوا إليهــا بشــكل عصابــي‪ ،‬مــن دول‬ ‫شــتى‪ ،‬وغضــت الطــرف عمــا يفعلــون‪،‬‬ ‫ويف مقابــل ذلــك أثــارت حــول الفصائــل‬ ‫المقاتلــة زوابــع إعالميــة قصــد شــيطنتها‪ ،‬ثــم‬ ‫عملــت علــى شــقها‪ ،‬وشــرذمتها‪ ،‬وتشــويه‬ ‫ســمعتها‪ ،‬والدفــع هبــا تجــاه مــا هــو أســوأ‬ ‫بالنســبة لهــا‪ ،‬حتــى غــدت ســورية حمــى‬ ‫مســتباحًا مــن قبــل المرتزقــة والموتوريــن‪،‬‬ ‫ويف مقابــل ذلــك غــدت المســألة الســورية‬ ‫ وكجــزء مــن االلتفــاف علــى المســألة‬‫قصــد اإلحبــاط والتضليــل _ ممــا يجــب أن‬ ‫تثــار يف كل محفــل ذر ًا للرمــاد يف العيــون‪،‬‬ ‫وخداعــا للعامليــن‪ ،‬فكانــت جنيــف واحــد‪،‬‬ ‫ثــم امتــدت إلــى جنيــف ثمانيــة‪ ،‬ثــم كانــت‬ ‫أســتانا واحــدة‪ ،‬ثــم امتــدت إلــى أســتانات‬ ‫متعــددة‪ ،‬أمــا الوســطاء الدوليــون مــن أمثــال‪:‬‬ ‫مصطفــى الدابــي‪ ،‬وكــويف عنــان‪ ،‬واألخضــر‬ ‫اإلبراهيمــي‪ ،‬ودي ميســتورا فقــد رتعــوا فيهــا!‬ ‫والحقيقــة أن الجميــع أدخلوهــا يف عنــق‬ ‫زجاجــة‪ ،‬ثـ ّـم أحكمــوا ســدها وإغالقهــا‪ ،‬بعــد‬ ‫أن تنصلــوا مــن تبعاهتــا‪ ،‬وكل ذلــك يمكــن‬ ‫أن يكــون وزيــادة‪ ،‬فــا حــدود لمــا يفعلــه‬ ‫األعــداء وال ســيما إذا كانــوا كأعــداء الشــعب‬ ‫الســوري‪ ،‬ينطــوون علــى حقــد وضغينــة‪،‬‬ ‫وعلــى تــارات قديمــة‪ ،‬وعلــى رغبــة بقتلهــم‬ ‫وتدميرهــم خدمــة للصهيونيــة‪ ،‬أو ألربــاب‬ ‫المصالــح‪ ،‬ممــن يســيل لعاهبــم تجــاه موضــع‬

‫الدعوة المفتوحة من أجل عمل مشترك‬ ‫قــدم فيهــا؛ كالــروس واألمريــكان‪ .‬ومــع ذلــك‬ ‫لــم تتوقــف المشــكلة الســورية عنــد حــدود‬ ‫األعــداء الخارجييــن‪ ،‬بــل الــذي زاد الطيــن‬ ‫ب ّلــة اإلقليميــون‪ ،‬الذيــن أجــادوا اللعــب علــى‬ ‫الحبــال والقفــز والجمــز‪ ،‬يف تعاملهــم مــع‬ ‫ــع) و(ضــد)‬ ‫القضيــة الســورية! فكانــوا ( َم ْ‬ ‫يف آن واحــد‪ ،‬وقــد أجــادوا االصطفــاف يف‬ ‫خانتَــي األعــداء واألصدقــاء‪ ،‬وبعضهــم لــم‬ ‫يتــوان لحظــة عــن الكيــد للقضيــة الســورية‪،‬‬ ‫أو لالجئيــن الذيــن اندفعــوا عــر الحــدود‬ ‫يبحثــون عــن ملجــأ آمــن‪ ،‬فعاملهــم كغربــاء‪،‬‬ ‫وقاســمهم الســلة الغذائيــة هضمــا لهــم!!‬

‫أمــا الداخــل الســوري الــذي كُتــب عليــه أن‬ ‫يــرزح تحــت نيــر نظــام متأ ّلــه يؤمــن بالحلــول‪،‬‬ ‫أي‪ :‬أن يحــل اإللــه يف الجســد البشــري‪ ،‬فقــد‬ ‫ســام النــاس خــال أكثــر مــن ســتين عامــا‬ ‫بخســا‪ .‬وقــد كتــب علــى أنــاس الداخــل‬ ‫بعامــة أن يواجهــوه بالمعارضــة الســلمية‬ ‫والمســلحة‪ ،‬وكان أشــهرها مــا عــرف بـــ (ثورة‬ ‫اإلخــوان) يف ثمانينــات القــرن الماضــي‪،‬‬ ‫وبالثــورة الشــعبية الســلمية والمســلحة التــي‬ ‫اندلعــت بشــكل بــركاين مــع مســتهل ‪ ٠١١‬م‪،‬‬ ‫وال تــزال قائمــة إلــى اليــوم‪ ،‬وقــد ُووجهــت‬ ‫بأقصــى مــا ووجهــت بــه ثــورة يف التاريــخ‪،‬‬ ‫واســتخدمت فيهــا الرباميــل المتفجــرة التــي‬ ‫توصــف بالعميــاء أو الشــبيحة التــي توصــف‬ ‫بأهنــا أكثــر عمــى مــن الرباميــل‪ ،‬واســتخدم‬ ‫الــذكاء المخابــرايت المجنــون‪ ،‬مــن أجــل إدارة‬ ‫الصــراع مــع المعارضيــن الذيــن أســقطتهم‬ ‫خالفاهتــم وتشــرذمهم‪ ،‬وتآمــر الغريــب‬ ‫والقريــب عليهــم‪ ،‬وحــال بينهــم وبيــن أن‬ ‫يكونــوا علــى مســتوى القضيــة فهما وأســلوبًا‬ ‫وتضحيــة مــا هــم فيــه مــن شــقاق ومــن‬ ‫خالفــات تدمــي القلــوب‪ ،‬وقــد اســتعصت‬ ‫علــى الحــل وال ســيما بعــد أن كثــر أمــراء‬ ‫الحــرب فيهــا‪ ،‬حتــى صعــب معرفــة عددهــم‪،‬‬ ‫وبعضهــم ولألســف الشــديد لبــس لبــوس‬ ‫اإلســام‪ ،‬وطــرح الشــعارات اإلســامية‪،‬‬ ‫واإلســام منــه بــريء‪.‬‬ ‫ويف تقديرنــا مــع هــذا الموقــف الجلــل‪ ،‬ليــس‬ ‫علــى المفكريــن الســوريين وأصحــاب الــرأي‬

‫والموقــف منهــم‪ ،‬إال أن يتداعــوا لدراســة ولــو يف قضيــة واحــدة‪ ،‬ســوى ألــق رموزهــا‪،‬‬ ‫هــذا المســتجد الصعــب‪ ،‬الــذي تمخضــت وقــد كان خدَّ اعــا وكاذبــا‪.‬‬ ‫عنــه الســنوات الســبع‪ ،‬قصــد التوصــل الزمــن الثــاين _ ويتمثــل بمرحلــة مــا بعــد‬ ‫لفهــم مشــرك للقضيــة الســورية‪ ،‬ولمعرفــة االســتقالل‪ ،‬وبدقــة مــن ‪١٩٤٦‬م إلــى انقــاب‬ ‫األســباب المباشــرة وغيــر المباشــرة‪ ،‬التــي الثامــن مــن آذار ســنة ‪١٩٦٣‬م‪ ،‬ويشــمل علــى‬ ‫أوصلــت الســوريين إلــى هــذا المســتوى مــن وجــه الخصــوص (أســس نشــأة الجيــش‬ ‫التشــرذم‪ ،‬ومــن العــدوان الواســع المقنــن الســوري وتكوينــه)‪ ،‬و(األســباب التــي‬ ‫دوليــا‪ ،‬الــذي تشــارك فيــه الــدول الكــرى أدت إلــى أن يكــون زيــد ًا أو عبيــد ًا رئيســا‬ ‫والصغــرى‪ ،‬وجماعــات وأحــزاب مــن منطلق للجمهوريــة‪ ،‬أو للــوزراء مــن أمثــال (شــكري‬ ‫عــدواين بحــت‪!!!.‬‬ ‫القوتلــي‪ ،‬وناظــم القدســي‪ ،‬وخالــد العظــم‪،‬‬ ‫ويف تقديرنــا أنــه مــن أجــل ذلــك ال بــدّ مــن وجميــل مــردم)‪ ،‬و(االنقالبــات العســكرية)‪،‬‬ ‫جــدول أعمــال يتمثــل بمحوريــن رئيســين‪ :‬وقــد كثــرت وتعــددت أســباهبا وبواعثهــا‪،‬‬ ‫و(االغتيــاالت)‪ ،‬وقــد تعــددت أيضــا‪،‬‬ ‫المحــور األول _ يتمثــل بالخــارج اإلقليمــي‬ ‫و(عهــدي الوحــدة واالنفصــال) اللذيــن‬ ‫والدولــي؛ بمــا كان مــن سياســاته‪ ،‬ومــن‬ ‫ـتقر‪ ،‬حتــى‬ ‫أدخــا البــاد يف أرجوحــة الالمسـ ّ‬ ‫مواقفــه تجــاه القضيــة الســورية خاصــة‪.‬‬ ‫أســلموها طواعيــة للطائفييــن‪.‬‬ ‫المحــور الثــاين _ يتمثــل بالداخــل الســوري‪ ،‬الزمــن الثالــث _ يتمثــل بحكــم الطائفييــن‪،‬‬ ‫وبمــا كان مــن عــدوان عليــه‪ ،‬طــال البشــر وبالنظــام الطائفــي‪ ،‬وبدقــة مــن ‪١٩٦٣‬م إلــى‬ ‫والحجــر‪ ،‬وحتــى الحيوانــات األليفــة ‪٢٠١١‬م‪ .‬ويشــمل أربــع مراحــل‪:‬‬ ‫والمتوحشــة‪ ،‬ولــم يســتثن‪ ..‬وأطــال حلــب‬ ‫الشــهباء وأريافهــا وهــي شــاخصة‪ ،‬تشــهد األولــى _ تتمثــل بحكــم (أميــن الحافــظ)‪،‬‬ ‫علــى وحشــية ذلــك العــدوان‪ ،‬وعلــى مــدى ما أو مــا يســمى بالقيــادة القوميــة‪ .‬وتمتــد مــن‬ ‫تــم التخلــص‬ ‫‪١٩٦٣‬م إلــى ‪١٩٦٦‬م وفيهــا َّ‬ ‫كان عليــه مــن جريمــة‪.‬‬ ‫ً‬ ‫مــن الضبــاط الســنة (الكبــار حصــرا)‪ ،‬ومــن‬ ‫ومــع أن جــدول األعمــال‪ ،‬ممــا يجــب أن السياســيين التقليديــن الذيــن حــال قانــون‬ ‫يضعــه الخــراء والمختصــون‪ ،‬إال أننــا نقــدم العــزل السياســي ‪-‬الــذي أعلنــوه بعــد‬ ‫بيــن أيديهــم رؤيــة متواضعــة‪ ،‬هــي بمنزلــة االنقــاب‪ -‬بينهــم وبيــن أن يتولــوا الوظائــف‬ ‫إضــاءات علــى مــا التبــس أو أهبــم‪ ،‬أو خفــي الكــرى يف الدولــة‪ ،‬وقــد شــهدت هــذه الحقبة‬ ‫الخاســر فيهــا‬ ‫عــن األعيــن‪ ،‬وهــذه الرؤيــة بمنزلــة دراســة (صراعــات وتصرفــات) كان‬ ‫َ‬ ‫والرابــح الطائف ِّيــون الذيــن خرجــوا‬ ‫أوليــة للقضيــة الســورية‪ ،‬وهــي تتجــاوز الســنةُ‪،‬‬ ‫َ‬ ‫(الحديــث) وتتخطــاه إلــى مــا هــو (أقــدم) منهــا‪ ،‬وهــم أكثــر قــوة‪.‬‬ ‫وذلــك مــن واقــع أزمنــة ثالثــة‪:‬‬ ‫الثانيــة _(تتمثــل بســيادة اليســار‪ ،‬وبطــرح‬ ‫الزمــن األول _ يتمثــل بمــا يتعلــق بالقضيــة االشــراكية العلميــة منهجــا وأســلوبًا‪ .‬وتمتد‬ ‫الســورية منــذ العهــد العثمــاين‪ ،‬وإلــى هنايــة مــن ســنة ‪١٩٦٦‬م إلــى ‪١٩٧٠‬م‪ ،‬وفيهــا زهقت‬ ‫الحقبــة االســتعمارية‪ ،‬ويشــمل علــى وجــه األنفــس‪ ،‬وقــد أصبــح الطــرح االشــراكي مــن‬ ‫الخصــوص‪( :‬ورقــة هرتــزل)‪ ،‬و(اتفاقيــة المســلم بــه جــد ً‬ ‫ال _ طوعــا أو كرهــا _(وأصبح‬ ‫ســايكس بيكــو)‪ ،‬و(وعــد بلفــور)‪ ،‬االشــراكيون ســادة الموقــف‪ ،‬وقد اســتطاعوا‬ ‫و(سياســات غــورو يف ســورية)‪ ،‬ومنهــا التســلل إلــى حــزب البعــث والســيطرة علــى‬ ‫تقســيمها إلــى دويــات‪ ،‬وإنشــاؤه (قــوات مصــدر القــرار فيــه‪ ،‬وهــو أمــر دفعهــم إلــى‬ ‫الشــرق الخاصــة) ذات الصفــة الطائفيــة‪ ،‬الغلــو يف الطــرح‪ ،‬ممــا جعــل النــاس أكثــر نفرة‬ ‫وأخيــر ًا‪( :‬الكتلــة الوطنيــة الســورية) التــي منهــم واســتهجانًا لمــا يقولونــه أو يفعلونــه‪،‬‬ ‫تغولــت علــى نفســها فيمــا بعــد‪ ،‬ولــم تفلــح بعــد أن كان كثيــر منهــم يصفقــون لهــم‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫‪91‬‬


‫الدعوة المفتوحة من أجل عمل مشترك‬ ‫الثالثــة _ تتمثــل بســيادة المنهــج الطائفــي‬ ‫الــذي كان بطلــه وزعيمــه حافــظ أســد‬ ‫الــذي طــوى صفحــة االشــراكية العلميــة‪،‬‬ ‫ليســتعيض عنهــا بانتخابــات وديمقراطيــات‬ ‫وطــدت أركان النظــام‪ ،‬وكانــت مــن دعائمــه‬ ‫القويــة‪.‬‬

‫الهيمنــة المطلقــة وقــد أصبــح رئيســا‬ ‫للجمهوريــة)‪ ،‬وفيهــا انقلــب علــى شــركائه‬ ‫يف الطائفــة‪ ،‬وعلــى زمالئــه يف الحــزب‪ ،‬وقــد‬ ‫امتــدت هــذه المرحلــة مــن ‪16‬تشــرين الثــاين‬ ‫مــن‪1970‬م إلــى ‪2001‬م وقــد انتهــت بموته‪،‬‬ ‫وتمتــاز هــذه المرحلــة بســمات أربــع ‪:‬‬

‫الســمة األولــى _ بـــ (القفــز إلــى منصــب‬ ‫والوقــوف علــى مــا فعلــه حافــظ أســد يف‬ ‫ســورية ضرورة تحتمهــا المواقف المســتجدة رئيــس الجمهوريــة) وهتيئــة الظــروف‬ ‫كا ّفــة‪ ،‬علــى امتــداد ذلــك التاريــخ الــذي عاشــه المســاعدة‪ ،‬لجعلهــا وراثيــة يف عقبــه‪.‬‬ ‫حافــظ أســد‪ ،‬والــذي كان بعضــا مــن ســيرته‬ ‫الســمة الثانيــة _ باعتمــاده (شــكال مــن‬ ‫الذاتيــة التــي تتــوزع علــى أربــع مراحــل‪:‬‬ ‫الديمقراطيــة ومــن الربلمــان) يخــدم نظامــه‬

‫ثانيتهــا _ إطــاق يــد رمــوز النظــام يف‬ ‫الكســب غيــر المشــروع؛ وال ســيما مــن‬ ‫العائلــة الحاكمــة وأنســبائها وأقربائهــا‪،‬‬ ‫وتعــد ظاهــرة (رفعــت األســد) ومــن بعــده‬ ‫(رامــي مخلــوف) المثــال األكثــر داللــة‬ ‫علــى ذلــك‪.‬‬

‫ثالثتهــا _ اســتقدام األجنبــي إلــى البــاد‬ ‫ليســتقوي بــه‪ ،‬ومــن هــؤالء الــروس الذيــن‬ ‫أصبحــوا محتليــن حقيقييــن لســورية‪،‬‬ ‫والميليشــيات الرافضــة التــي جــاءت مــن‬ ‫أقطــار شــتى‪ ،‬وكل ذلــك قصــد التغييــر‬ ‫الديمغــرايف الشــامل والكامــل لســورية‬ ‫كلهــا‪ ،‬وهــو أمــر ُي َعــدُّ اليــوم قيــد التحقيــق‪،‬‬ ‫وال يمــاري بــه إال عميــل أو ضــال‪.‬‬

‫المرحلــة األولــى _ توصــف بـــ (مرحلــة ويســاعده مــن أجــل تحقيــق أهدافــه‪.‬‬ ‫الــروز الــذايت)‪ ،‬حيــن اســتطاع هــو ومحمــد‬ ‫الســمة الثالثــة _بصراعــه (مــع اإلخــوان‬ ‫عمــران وصــاح جديــد تأســيس مــا يســمى المســلمين‪ ،‬وبارتكابــه مجــزرة حمــاة التــي‬ ‫بـــ (اللجنــة العســكرية) ذات الصفــة الطائفيــة‪ ،‬راح ضحيتهــا أكثــر مــن أربعيــن ألفــا مــن‬ ‫إن كل ذلــك يف رأينــا‪ ،‬وحســب تقديرنــا‪،‬‬ ‫ووقتهــا بــرز بيــن الطائفييــن وكأنــه أحــد الشــهداء)‪ ،‬ووقتهــا كشــف عــن وجهــه‬ ‫يوجــب علينــا أن نعمــل مجتمعيــن‪ ،‬مــن‬ ‫رموزهــم‪.‬‬ ‫الطائفــي بعــد أن كان مقنعا بالحــزب والدولة‪.‬‬ ‫أجــل تقريــر صيغــة مــا لعمــل مشــرك فيــه‬ ‫المرحلــة الثانيــة _ توصــف بـــ (المرحلــة‬ ‫الســمة الرابعــة _ بتصفيــة معارضيــه إنقــاذ الســوريين ممــا هــم فيــه مــن واقــع‬ ‫االعتباريــة) علــى مســتوى الدولــة الســورية‪،‬‬ ‫مــن الطائفــة ومــن غيرهــا بـــ (هتيئــة الحــزب ال يحســدون عليــه‪ ،‬مــن أجــل خالصهــم‬ ‫وقــد أصبــح بعــد انقــاب ‪1963‬م قائــدً ا‬ ‫والدولــة بمــا يف ذلــك القــوات المســلحة مــن محنتهــم التــي طالــت وامتــدت‪ ،‬حتــى‬ ‫للطيــران‪ ،‬وأحــد المســؤولين الكبــار يف‬ ‫لقبــول وراثــة منصــب رئيــس الجمهوريــة كادت تكــون الظاهــرة األكثــر خطــورة‬ ‫التنظيــم الحزبــي؛ إذ اســتطاع هــو وزميلــه لولــده مــن بعــده)‪.‬‬ ‫خــال القرنيــن (العشــرين) و(الواحــد‬ ‫صــاح جديــد تســريح العــدد األكــر مــن‬ ‫الضبــاط الســنة مــن الجيــش والقــوات الرابعــة _ مرحلــة بشــار األســد الــذي والعشــرين)‪ ،‬وتجــاه ذلــك فإننــا نتوجــه‬ ‫المســلحة‪ ،‬وخــوض الصــراع مــع الحافــظ خلــف والــده يف رئاســة الجمهوريــة‪ ،‬ابتــداء بدعوتنــا المفتوحــة إلــى ثــاث فئــات‪:‬‬ ‫مــن ســنة ‪٢٠٠١‬م ولــم يــزل علــى كرســي‬ ‫ورفاقــه‪ ،‬والــذي انتهــى بســيطرهتما علــى‬ ‫ً الفئــة األولــى _ فئــة العلمــاء العامليــن‪،‬‬ ‫الحكــم إلــى اليــوم‪ ،‬وقــد كان أشــد خطــرا‬ ‫الدولــة والحــزب وذلــك بعــد انقــاب مــن والــده‪ ،‬أو أكثــر منــه ضــررا يف المســائل كال منهــم حســب علمــه وفهمــه ودرجتــه‬ ‫‪1966‬م‪.‬‬ ‫العامــة والخاصــة‪ ،‬وقــد اتســم حكمــه العلميــة‪.‬‬ ‫المرحلــة الثالثــة _ توصــف بـــ (بــروزه بظواهــر ثــاث‪:‬‬ ‫الفئــة الثانيــة _ فئــة الخــراء والمختصيــن‪،‬‬ ‫زعيمــا وقائــدا) للجيــش والقــوات المســلحة‪ ،‬أوالهــا _ تمثــل بمــد النفــوذ اإليــراين إلــى مــن إعالمييــن وسياســيين وعســكريين‬ ‫فهــو بعــد حــدث شــباط اســتطاع أن يحتــل ســورية‪ ،‬أو تمكيــن اإليرانيين مــن أن يكونوا محرتفيــن‪ ،‬واقتصادييــن حاذقيــن‪ ،‬ومــن‬ ‫منصــب وزيــر الدفــاع‪ ،‬وخــال الحقبــة مــن أكثــر تســلطًا على البــاد والعباد‪ ،‬والســماح مهتميــن بالمشــهد الســوري عامــة‪.‬‬ ‫‪1966‬م إلــى ‪1970‬م اســتطاع أن يحكــم‬ ‫قبضتــه الطائفيــة علــى الجيــش والقــوات لهــم باإلقامــة والتملــك‪ ،‬وبالعمــل علــى الفئــة الثالثــة _ فئــة األدبــاء والكتــاب‪ ،‬مــن‬ ‫المســلحة‪ ،‬وأن يخــوض حــرب ‪1967‬م افتتــاح الحســينيات‪ ،‬والمــدارس الشــيعية أصحــاب األقــام الرفيعــة ممــن يكتبــون‬ ‫التــي تعمــل علــى تشــييع الســوريين‪،‬‬ ‫ويبحثــون ويدرســون ويفكــرون بطريقــة‬ ‫ويخــرج منهــا منتصــرا بالرغــم مــن ســقوط وكذلــك علــى إنشــاء المنظمــات والهيئــات‬ ‫ســليمة‪.‬‬ ‫الجــوالن وهزيمــة الجيــش الســوري‪ ،‬وممــا الداعمــة لهــا‪ ،‬وتعــد جمعيــة المرتضــى‬ ‫تنوقــل عــن بيعــه الجــوالن وعــن انســحاباته‬ ‫يتولــى أمرهــا جميــل األســد األخ نقــول ذلــك ونحــن نتمثــل الحكمــة القائلــة‪:‬‬ ‫التــي كان ّ‬ ‫الكيفيــة التــي عــدت وصمــة عــار يف جبينــه‪ .‬الشــقيق لحافــظ األســد المثــال الــدال علــى « إذا لــم يكــن بإمكانــك أن تشــعل شــمعة‬ ‫فليــس أقــل مــن أن تلعــن الظــام»‪.‬‬ ‫المرحلــة الرابعــة _ توصــف بـــ (مرحلــة ذلــك‪.‬‬ ‫‪92‬‬

‫المفسدون في األرض والحج‬

‫املفسدون يف‬ ‫والحج‬ ‫األرض‬ ‫ّ‬ ‫الجمال‬ ‫د‪.‬‬ ‫محمد أيمن ّ‬ ‫ّ‬

‫أستاذ مشارك يف جامعة السلطان‬ ‫محمد الفاتح الوقفية‬

‫يف عصرنــا بــات اســم التنويــر والحداثــة والتجديــد ‪-‬حتــى‬ ‫قصــد بــه التغييــر الشــامل للشــريعة‪،‬‬ ‫اإلصــاح‪-‬‬ ‫مصطلحــا ُي َ‬ ‫ً‬ ‫ممــن يزعــم‬ ‫والتعــدّ ي علــى األصــول والثوابــت‪ ،‬بــل صــار كثيــر َّ‬ ‫اإلصــاح هــم المفســدون ح ًّقــا‪ ،‬يقــول تعالــى واص ًفــا حــال‬ ‫ِ‬ ‫ـم الَ ُت ْف ِســدُ و ْا فِــي األَ ْر ِ‬ ‫ـن‬ ‫ض َقا ُلــو ْا إِ َّن َمــا ن َْحـ ُ‬ ‫هــؤالء‪َ :‬‬ ‫﴿وإِ َذا قيـ َـل َل ُهـ ْ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫ون﴾‬ ‫ــم ا ْل ُم ْفســدُ َ‬ ‫ُم ْص ِل ُح َ‬ ‫ون َو َلكــن الَّ َي ْشــ ُع ُر َ‬ ‫ــم ُه ُ‬ ‫ــون * أال إن َُّه ْ‬ ‫[ســورة البقــرة‪ :‬آيــة‪ ]12-11 :‬وهــو مــا يجعــل االنتســاب‬ ‫إليهــم موضــع تهمــة يف زماننــا‪ ،‬ومشــاركتهم الجزئ ّيــة يف بعــض‬ ‫ّ‬ ‫محــل اشــتباه!‬ ‫طروحاتهــم‬ ‫فالتجديــد الــذي ينــادي بــه أمثــال ميــزو وشــحرور وعدنــان‬ ‫يفــر ُغ اإلســام‬ ‫إبراهيــم وتيزينــي والجابــري وأركــون وغيرهــم ّ‬ ‫مــن اإلســام ويحــرف العقيــدة ويهــدم الثوابــت‪ ،‬وهــو تجديــد‬ ‫هدفــه الهــدم وليــس البنــاء‪ ،‬وحيــن نتك ّلــم عــن الهــدم فنحــن نعنــي‬ ‫هــدم الثوابــت قبــل المتغ ّيــرات‪ ،‬وهــدم القطعـ ّـي قبــل الظنّـ ّـي‪ ،‬أ ّمــا‬ ‫اإلصالحيــون الحقيق ّيــون فإنّهــم يختلفــون عــن الهداميــن الذيــن‬ ‫يســعون إلصابــة األ ّمــة يف مقاتلهــا‪ ،‬وال يمنعهــم مــن ذلــك ركــوب‬ ‫الكــذب وال االفــراء وال التدليــس!‬ ‫ِ‬ ‫ّ‬ ‫باســم (التجديــد)‪،‬‬ ‫ف اليــوم‬ ‫عــر ُ‬ ‫إن فعــل هــؤالء هــو مــا بــات ُي َ‬ ‫والحداثــة‪ ،‬واإلصــاح!‬

‫حينمــا نتحــدّ ث عــن مهاجمــة القطع ّيــات فنحــن نتحــدّ ث عــن‬ ‫مهاجمــة شــعائر األ ّمــة ومحكمــات دينهــا‪ ،‬أرأيــت الحجــاب‬ ‫وحــدّ الــر ّدة وأحــكام العبيــد وأحــكام اإلمامــة العظمــى وأحــكام‬ ‫الميــراث؟ ك ّلهــا تناقلهــا أهــل العلــم بالتســليم والقبــول‪ ،‬ولــم‬

‫ً‬ ‫فضــا عــن أن‬ ‫يخالــف فيهــا مجتهــد يف عصــر مــن العصــور‪،‬‬ ‫يخالــف فيهــا أحــدٌ مــن جماهيــر النــاس‪ ،‬بــل جــاء اليــوم مــن‬ ‫ـم تحدي ًثــا وتطويـ ًـرا وتجديــدً ا فلــم يكتــف بالــكالم عــن تلــك‬ ‫يزعـ ُ‬ ‫المســ ّلمات‪- ،‬وهــي موضــع نــو ٍع مــن اإلجمــاع‪ -‬بــل نــال مــن‬ ‫فـ ِ‬ ‫ـرض الصــوم والصــاة‪ ،‬وفـ ّـرق بيــن الشــعائر والشــرائع وأبطــل‬ ‫ٍ‬ ‫ـج‪ُّ ،‬‬ ‫كل ذلــك تحــت ســتار مــن‬ ‫ـوب الــزكاة وأراد تعطيــل الحـ ّ‬ ‫وجـ َ‬ ‫التنويــر والتطويــر والتجديــد والحداثــة!‬

‫والقطعي يف الرشع‪:‬‬ ‫الظني‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬

‫إن مســاحة الظن ّيــات كبيــرة يف الفقــه اإلســامي‪ ،‬بــل ّ‬ ‫لعــل لهــا‬ ‫النصيــب األوىف مــن األحــكام الفقه ّيــة‪ ،‬وليــس مــن مصلحــة‬ ‫أحـ ٍـد مــن الفقهــاء توســيع دائــرة القطع ّيــات‪ّ ،‬‬ ‫ألن االجتهــاد عمل ّيــة‬ ‫تصــور المســائل! فــإن‬ ‫متجــدّ دة بالنظــر إلــى تغ ّيــر الواقــع‪ ،‬وتغ ّيــر‬ ‫ّ‬ ‫عُــدّ ت المســألة يف القطع ّيــات ضــاق علــى الفقيــه أصــل تناولهــا‬ ‫ـإن الفقهــاء تجنّبــوا قــدر اإلمــكان الزعــم بـ ّ‬ ‫بالبحــث! ولذلــك فـ ّ‬ ‫ـأن‬ ‫فسـ ُـق‬ ‫هــذه المســألة مــن مســائل اإلجمــاع الــذي يكفــر منكــره‪ ،‬و ُي َ‬ ‫تاركهــا‪ ،‬كمــا تجنّبــوا الحكــم علــى المســألة بالقطع ّيــة بنــاء علــى‬ ‫القطعــي!‬ ‫األصــول التــي جعلوهــا مب ّينــ ًة لحــدّ‬ ‫ّ‬

‫وال ريــب ّ‬ ‫والقطعــي ليســت‬ ‫الظنــي‬ ‫أن تحديــد المســافة بيــن‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫واضحــة المعالــم يف كتــب الفقــه واألصــول‪ ،‬لك ـ ّن قواعــد عمل ّيــة‬ ‫الفــرز وأصولهــا حاضــرة يف أذهــان الفقهــاء والمجتهديــن‪.‬‬

‫ـلم‬ ‫واحتيا ًطــا لذلــك فقــد اســتعملوا عبــارات مــن مثــل‪ :‬ال يعــذر مسـ ٌ‬ ‫بجهلِـ ِـه‪ ،‬معلــو ٌم مــن الديــن بالضــرورة‪ ،‬مــا ال ينكــره مســلم‪ ،‬مــا ال‬ ‫‪93‬‬


‫الدعوة المفتوحة من أجل عمل مشترك‬ ‫الثالثــة _ تتمثــل بســيادة المنهــج الطائفــي‬ ‫الــذي كان بطلــه وزعيمــه حافــظ أســد‬ ‫الــذي طــوى صفحــة االشــراكية العلميــة‪،‬‬ ‫ليســتعيض عنهــا بانتخابــات وديمقراطيــات‬ ‫وطــدت أركان النظــام‪ ،‬وكانــت مــن دعائمــه‬ ‫القويــة‪.‬‬

‫الهيمنــة المطلقــة وقــد أصبــح رئيســا‬ ‫للجمهوريــة)‪ ،‬وفيهــا انقلــب علــى شــركائه‬ ‫يف الطائفــة‪ ،‬وعلــى زمالئــه يف الحــزب‪ ،‬وقــد‬ ‫امتــدت هــذه المرحلــة مــن ‪16‬تشــرين الثــاين‬ ‫مــن‪1970‬م إلــى ‪2001‬م وقــد انتهــت بموته‪،‬‬ ‫وتمتــاز هــذه المرحلــة بســمات أربــع ‪:‬‬

‫الســمة األولــى _ بـــ (القفــز إلــى منصــب‬ ‫والوقــوف علــى مــا فعلــه حافــظ أســد يف‬ ‫ســورية ضرورة تحتمهــا المواقف المســتجدة رئيــس الجمهوريــة) وهتيئــة الظــروف‬ ‫كا ّفــة‪ ،‬علــى امتــداد ذلــك التاريــخ الــذي عاشــه المســاعدة‪ ،‬لجعلهــا وراثيــة يف عقبــه‪.‬‬ ‫حافــظ أســد‪ ،‬والــذي كان بعضــا مــن ســيرته‬ ‫الســمة الثانيــة _ باعتمــاده (شــكال مــن‬ ‫الذاتيــة التــي تتــوزع علــى أربــع مراحــل‪:‬‬ ‫الديمقراطيــة ومــن الربلمــان) يخــدم نظامــه‬

‫ثانيتهــا _ إطــاق يــد رمــوز النظــام يف‬ ‫الكســب غيــر المشــروع؛ وال ســيما مــن‬ ‫العائلــة الحاكمــة وأنســبائها وأقربائهــا‪،‬‬ ‫وتعــد ظاهــرة (رفعــت األســد) ومــن بعــده‬ ‫(رامــي مخلــوف) المثــال األكثــر داللــة‬ ‫علــى ذلــك‪.‬‬

‫ثالثتهــا _ اســتقدام األجنبــي إلــى البــاد‬ ‫ليســتقوي بــه‪ ،‬ومــن هــؤالء الــروس الذيــن‬ ‫أصبحــوا محتليــن حقيقييــن لســورية‪،‬‬ ‫والميليشــيات الرافضــة التــي جــاءت مــن‬ ‫أقطــار شــتى‪ ،‬وكل ذلــك قصــد التغييــر‬ ‫الديمغــرايف الشــامل والكامــل لســورية‬ ‫كلهــا‪ ،‬وهــو أمــر ُي َعــدُّ اليــوم قيــد التحقيــق‪،‬‬ ‫وال يمــاري بــه إال عميــل أو ضــال‪.‬‬

‫المرحلــة األولــى _ توصــف بـــ (مرحلــة ويســاعده مــن أجــل تحقيــق أهدافــه‪.‬‬ ‫الــروز الــذايت)‪ ،‬حيــن اســتطاع هــو ومحمــد‬ ‫الســمة الثالثــة _بصراعــه (مــع اإلخــوان‬ ‫عمــران وصــاح جديــد تأســيس مــا يســمى المســلمين‪ ،‬وبارتكابــه مجــزرة حمــاة التــي‬ ‫بـــ (اللجنــة العســكرية) ذات الصفــة الطائفيــة‪ ،‬راح ضحيتهــا أكثــر مــن أربعيــن ألفــا مــن‬ ‫إن كل ذلــك يف رأينــا‪ ،‬وحســب تقديرنــا‪،‬‬ ‫ووقتهــا بــرز بيــن الطائفييــن وكأنــه أحــد الشــهداء)‪ ،‬ووقتهــا كشــف عــن وجهــه‬ ‫يوجــب علينــا أن نعمــل مجتمعيــن‪ ،‬مــن‬ ‫رموزهــم‪.‬‬ ‫الطائفــي بعــد أن كان مقنعا بالحــزب والدولة‪.‬‬ ‫أجــل تقريــر صيغــة مــا لعمــل مشــرك فيــه‬ ‫المرحلــة الثانيــة _ توصــف بـــ (المرحلــة‬ ‫الســمة الرابعــة _ بتصفيــة معارضيــه إنقــاذ الســوريين ممــا هــم فيــه مــن واقــع‬ ‫االعتباريــة) علــى مســتوى الدولــة الســورية‪،‬‬ ‫مــن الطائفــة ومــن غيرهــا بـــ (هتيئــة الحــزب ال يحســدون عليــه‪ ،‬مــن أجــل خالصهــم‬ ‫وقــد أصبــح بعــد انقــاب ‪1963‬م قائــدً ا‬ ‫والدولــة بمــا يف ذلــك القــوات المســلحة مــن محنتهــم التــي طالــت وامتــدت‪ ،‬حتــى‬ ‫للطيــران‪ ،‬وأحــد المســؤولين الكبــار يف‬ ‫لقبــول وراثــة منصــب رئيــس الجمهوريــة كادت تكــون الظاهــرة األكثــر خطــورة‬ ‫التنظيــم الحزبــي؛ إذ اســتطاع هــو وزميلــه لولــده مــن بعــده)‪.‬‬ ‫خــال القرنيــن (العشــرين) و(الواحــد‬ ‫صــاح جديــد تســريح العــدد األكــر مــن‬ ‫الضبــاط الســنة مــن الجيــش والقــوات الرابعــة _ مرحلــة بشــار األســد الــذي والعشــرين)‪ ،‬وتجــاه ذلــك فإننــا نتوجــه‬ ‫المســلحة‪ ،‬وخــوض الصــراع مــع الحافــظ خلــف والــده يف رئاســة الجمهوريــة‪ ،‬ابتــداء بدعوتنــا المفتوحــة إلــى ثــاث فئــات‪:‬‬ ‫مــن ســنة ‪٢٠٠١‬م ولــم يــزل علــى كرســي‬ ‫ورفاقــه‪ ،‬والــذي انتهــى بســيطرهتما علــى‬ ‫ً الفئــة األولــى _ فئــة العلمــاء العامليــن‪،‬‬ ‫الحكــم إلــى اليــوم‪ ،‬وقــد كان أشــد خطــرا‬ ‫الدولــة والحــزب وذلــك بعــد انقــاب مــن والــده‪ ،‬أو أكثــر منــه ضــررا يف المســائل كال منهــم حســب علمــه وفهمــه ودرجتــه‬ ‫‪1966‬م‪.‬‬ ‫العامــة والخاصــة‪ ،‬وقــد اتســم حكمــه العلميــة‪.‬‬ ‫المرحلــة الثالثــة _ توصــف بـــ (بــروزه بظواهــر ثــاث‪:‬‬ ‫الفئــة الثانيــة _ فئــة الخــراء والمختصيــن‪،‬‬ ‫زعيمــا وقائــدا) للجيــش والقــوات المســلحة‪ ،‬أوالهــا _ تمثــل بمــد النفــوذ اإليــراين إلــى مــن إعالمييــن وسياســيين وعســكريين‬ ‫فهــو بعــد حــدث شــباط اســتطاع أن يحتــل ســورية‪ ،‬أو تمكيــن اإليرانيين مــن أن يكونوا محرتفيــن‪ ،‬واقتصادييــن حاذقيــن‪ ،‬ومــن‬ ‫منصــب وزيــر الدفــاع‪ ،‬وخــال الحقبــة مــن أكثــر تســلطًا على البــاد والعباد‪ ،‬والســماح مهتميــن بالمشــهد الســوري عامــة‪.‬‬ ‫‪1966‬م إلــى ‪1970‬م اســتطاع أن يحكــم‬ ‫قبضتــه الطائفيــة علــى الجيــش والقــوات لهــم باإلقامــة والتملــك‪ ،‬وبالعمــل علــى الفئــة الثالثــة _ فئــة األدبــاء والكتــاب‪ ،‬مــن‬ ‫المســلحة‪ ،‬وأن يخــوض حــرب ‪1967‬م افتتــاح الحســينيات‪ ،‬والمــدارس الشــيعية أصحــاب األقــام الرفيعــة ممــن يكتبــون‬ ‫التــي تعمــل علــى تشــييع الســوريين‪،‬‬ ‫ويبحثــون ويدرســون ويفكــرون بطريقــة‬ ‫ويخــرج منهــا منتصــرا بالرغــم مــن ســقوط وكذلــك علــى إنشــاء المنظمــات والهيئــات‬ ‫ســليمة‪.‬‬ ‫الجــوالن وهزيمــة الجيــش الســوري‪ ،‬وممــا الداعمــة لهــا‪ ،‬وتعــد جمعيــة المرتضــى‬ ‫تنوقــل عــن بيعــه الجــوالن وعــن انســحاباته‬ ‫يتولــى أمرهــا جميــل األســد األخ نقــول ذلــك ونحــن نتمثــل الحكمــة القائلــة‪:‬‬ ‫التــي كان ّ‬ ‫الكيفيــة التــي عــدت وصمــة عــار يف جبينــه‪ .‬الشــقيق لحافــظ األســد المثــال الــدال علــى « إذا لــم يكــن بإمكانــك أن تشــعل شــمعة‬ ‫فليــس أقــل مــن أن تلعــن الظــام»‪.‬‬ ‫المرحلــة الرابعــة _ توصــف بـــ (مرحلــة ذلــك‪.‬‬ ‫‪92‬‬

‫المفسدون في األرض والحج‬

‫املفسدون يف‬ ‫والحج‬ ‫األرض‬ ‫ّ‬ ‫الجمال‬ ‫د‪.‬‬ ‫محمد أيمن ّ‬ ‫ّ‬

‫أستاذ مشارك يف جامعة السلطان‬ ‫محمد الفاتح الوقفية‬

‫يف عصرنــا بــات اســم التنويــر والحداثــة والتجديــد ‪-‬حتــى‬ ‫قصــد بــه التغييــر الشــامل للشــريعة‪،‬‬ ‫اإلصــاح‪-‬‬ ‫مصطلحــا ُي َ‬ ‫ً‬ ‫ممــن يزعــم‬ ‫والتعــدّ ي علــى األصــول والثوابــت‪ ،‬بــل صــار كثيــر َّ‬ ‫اإلصــاح هــم المفســدون ح ًّقــا‪ ،‬يقــول تعالــى واص ًفــا حــال‬ ‫ِ‬ ‫ـم الَ ُت ْف ِســدُ و ْا فِــي األَ ْر ِ‬ ‫ـن‬ ‫ض َقا ُلــو ْا إِ َّن َمــا ن َْحـ ُ‬ ‫هــؤالء‪َ :‬‬ ‫﴿وإِ َذا قيـ َـل َل ُهـ ْ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫ون﴾‬ ‫ــم ا ْل ُم ْفســدُ َ‬ ‫ُم ْص ِل ُح َ‬ ‫ون َو َلكــن الَّ َي ْشــ ُع ُر َ‬ ‫ــم ُه ُ‬ ‫ــون * أال إن َُّه ْ‬ ‫[ســورة البقــرة‪ :‬آيــة‪ ]12-11 :‬وهــو مــا يجعــل االنتســاب‬ ‫إليهــم موضــع تهمــة يف زماننــا‪ ،‬ومشــاركتهم الجزئ ّيــة يف بعــض‬ ‫ّ‬ ‫محــل اشــتباه!‬ ‫طروحاتهــم‬ ‫فالتجديــد الــذي ينــادي بــه أمثــال ميــزو وشــحرور وعدنــان‬ ‫يفــر ُغ اإلســام‬ ‫إبراهيــم وتيزينــي والجابــري وأركــون وغيرهــم ّ‬ ‫مــن اإلســام ويحــرف العقيــدة ويهــدم الثوابــت‪ ،‬وهــو تجديــد‬ ‫هدفــه الهــدم وليــس البنــاء‪ ،‬وحيــن نتك ّلــم عــن الهــدم فنحــن نعنــي‬ ‫هــدم الثوابــت قبــل المتغ ّيــرات‪ ،‬وهــدم القطعـ ّـي قبــل الظنّـ ّـي‪ ،‬أ ّمــا‬ ‫اإلصالحيــون الحقيق ّيــون فإنّهــم يختلفــون عــن الهداميــن الذيــن‬ ‫يســعون إلصابــة األ ّمــة يف مقاتلهــا‪ ،‬وال يمنعهــم مــن ذلــك ركــوب‬ ‫الكــذب وال االفــراء وال التدليــس!‬ ‫ِ‬ ‫ّ‬ ‫باســم (التجديــد)‪،‬‬ ‫ف اليــوم‬ ‫عــر ُ‬ ‫إن فعــل هــؤالء هــو مــا بــات ُي َ‬ ‫والحداثــة‪ ،‬واإلصــاح!‬

‫حينمــا نتحــدّ ث عــن مهاجمــة القطع ّيــات فنحــن نتحــدّ ث عــن‬ ‫مهاجمــة شــعائر األ ّمــة ومحكمــات دينهــا‪ ،‬أرأيــت الحجــاب‬ ‫وحــدّ الــر ّدة وأحــكام العبيــد وأحــكام اإلمامــة العظمــى وأحــكام‬ ‫الميــراث؟ ك ّلهــا تناقلهــا أهــل العلــم بالتســليم والقبــول‪ ،‬ولــم‬

‫ً‬ ‫فضــا عــن أن‬ ‫يخالــف فيهــا مجتهــد يف عصــر مــن العصــور‪،‬‬ ‫يخالــف فيهــا أحــدٌ مــن جماهيــر النــاس‪ ،‬بــل جــاء اليــوم مــن‬ ‫ـم تحدي ًثــا وتطويـ ًـرا وتجديــدً ا فلــم يكتــف بالــكالم عــن تلــك‬ ‫يزعـ ُ‬ ‫المســ ّلمات‪- ،‬وهــي موضــع نــو ٍع مــن اإلجمــاع‪ -‬بــل نــال مــن‬ ‫فـ ِ‬ ‫ـرض الصــوم والصــاة‪ ،‬وفـ ّـرق بيــن الشــعائر والشــرائع وأبطــل‬ ‫ٍ‬ ‫ـج‪ُّ ،‬‬ ‫كل ذلــك تحــت ســتار مــن‬ ‫ـوب الــزكاة وأراد تعطيــل الحـ ّ‬ ‫وجـ َ‬ ‫التنويــر والتطويــر والتجديــد والحداثــة!‬

‫والقطعي يف الرشع‪:‬‬ ‫الظني‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬

‫إن مســاحة الظن ّيــات كبيــرة يف الفقــه اإلســامي‪ ،‬بــل ّ‬ ‫لعــل لهــا‬ ‫النصيــب األوىف مــن األحــكام الفقه ّيــة‪ ،‬وليــس مــن مصلحــة‬ ‫أحـ ٍـد مــن الفقهــاء توســيع دائــرة القطع ّيــات‪ّ ،‬‬ ‫ألن االجتهــاد عمل ّيــة‬ ‫تصــور المســائل! فــإن‬ ‫متجــدّ دة بالنظــر إلــى تغ ّيــر الواقــع‪ ،‬وتغ ّيــر‬ ‫ّ‬ ‫عُــدّ ت المســألة يف القطع ّيــات ضــاق علــى الفقيــه أصــل تناولهــا‬ ‫ـإن الفقهــاء تجنّبــوا قــدر اإلمــكان الزعــم بـ ّ‬ ‫بالبحــث! ولذلــك فـ ّ‬ ‫ـأن‬ ‫فسـ ُـق‬ ‫هــذه المســألة مــن مســائل اإلجمــاع الــذي يكفــر منكــره‪ ،‬و ُي َ‬ ‫تاركهــا‪ ،‬كمــا تجنّبــوا الحكــم علــى المســألة بالقطع ّيــة بنــاء علــى‬ ‫القطعــي!‬ ‫األصــول التــي جعلوهــا مب ّينــ ًة لحــدّ‬ ‫ّ‬

‫وال ريــب ّ‬ ‫والقطعــي ليســت‬ ‫الظنــي‬ ‫أن تحديــد المســافة بيــن‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫واضحــة المعالــم يف كتــب الفقــه واألصــول‪ ،‬لك ـ ّن قواعــد عمل ّيــة‬ ‫الفــرز وأصولهــا حاضــرة يف أذهــان الفقهــاء والمجتهديــن‪.‬‬

‫ـلم‬ ‫واحتيا ًطــا لذلــك فقــد اســتعملوا عبــارات مــن مثــل‪ :‬ال يعــذر مسـ ٌ‬ ‫بجهلِـ ِـه‪ ،‬معلــو ٌم مــن الديــن بالضــرورة‪ ،‬مــا ال ينكــره مســلم‪ ،‬مــا ال‬ ‫‪93‬‬


‫المفسدون في األرض والحج‬ ‫ـم فيــه خــاف‪ ،‬اتفــق عليــه الفقهــاء‪.‬‬ ‫ُيع َلـ ُ‬

‫اإلجامع من القطع ّيات‪:‬‬

‫ـص ال يقبــل االحتمــال وحديـ ٌ‬ ‫ـث‬ ‫والــذي ُيعــدّ قطع ًّيــا أحــد ثالثــة‪ :‬نـ ٌّ‬ ‫ـاع منعقــدٌ ‪ .‬كمــا يقــول اإلمــام الجوينـ ّـي يف الربهــان‪:‬‬ ‫متواتـ ٌـر وإجمـ ٌ‬ ‫نــص الكتــاب‪،‬‬ ‫(وأدلــة الفقــه هــي األدلــة الســمع ّية‪ ،‬وأقســامها‪ُّ :‬‬ ‫(((‬ ‫ـص الس ـنّة المتواتــرة‪ ،‬واإلجمــاع)‬ ‫ونـ ُّ‬

‫نــادر‪،‬‬ ‫النــص الــذي ال يقبــل االحتمــال أو التأويــل فهــو‬ ‫فأ ّمــا‬ ‫ُّ‬ ‫ٌ‬ ‫ممــا ال تخفــى‪،‬‬ ‫وكذلــك المتواتــر مــن الحديــث‪ ،‬والمنازعــة فيهمــا ّ‬ ‫والــذي يظهــر مــن هــذه األمــور التــي يعدّ وهنــا يف القطعيــات‬ ‫قطع ّيتهــا مــن وجــه دون وجــه‪ ،‬وهــذا الوجــه الــذي صــارت منــه‬ ‫قطع ّيــة يكفــي لبنــاء األحــكام عليهــا‪ ،‬لك ـ ّن مــا هــو أكثــر يقينًــا مــن‬ ‫الكتــاب والســنّة يف القطع ّيــة هــو اإلجمــاع‪ ،‬ألنّــه إجمــاع علــى‬ ‫ـص المنقــول أصــا‪،‬‬ ‫عيــن المســألة‪ ،‬وليــس فيــه خــاف يف فهــم النـ ّ‬ ‫ّ‬ ‫ولذلــك ّ‬ ‫محــط اهتمــام الفقهــاء والمشــتغلين بالشــريعة هــو‬ ‫فــإن‬ ‫اإلجمــاع‪ ،‬الــذي يقســمه األصول ّيــون إلــى قســمين‪ :‬صريــحٍ ُيظهـ ُـر‬ ‫ّ‬ ‫كل واحـ ٍـد مــن المجتهديــن فيــه رأيــه صراح ـةً‪ ،‬وســكويتٍّ يصـ ّـرح‬ ‫حجــة ظن ّيــة‬ ‫بالحكــم بعضهــم ويســكت آخــرون‪ ،‬وجعلــه بعضهــم ّ‬ ‫موجبــة للعمــل دون العلــم‪.‬‬

‫نقل الكافّة عن الكافّة‪:‬‬

‫قســيما ال ّ‬ ‫وأرى ّ‬ ‫أهم ّيــ ًة عنهمــا‪ ،‬بــل‬ ‫أن لنو َعــي اإلجمــاع‬ ‫يقــل ّ‬ ‫ً‬ ‫لع ّلــه يفوقهمــا أهم ّيــة مــن حيــث إثبــات القطع ّيــات المنقولــة‬ ‫بــه‪ ،‬وهــو مــا أجمعــت عليــه األ ّمــة‪ ،‬وتناقلتــه بنقــل الكا ّفــة عــن‬ ‫ـوع غفيــر ٌة مــن‬ ‫الكا ّفــة‪ ،‬فنقلــه جماهيـ ُـر عريض ـ ٌة مــن‬ ‫األئمــة وجمـ ٌ‬ ‫ّ‬ ‫عمــن ســبقهم ح ّتــى نقــل عــن جيــل الصحابــة بكا ّفتــه‪ ،‬وهــو‬ ‫األ ّمــة ّ‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫أعظــم منزلــة مــن نقــل أعــداد محــدودة مــن الفقهــاء وإن كانــوا‬ ‫مــن مجتهــدي األّ ّمــة‪.‬‬ ‫قال‪ ‬الجوينــي‪ ‬يف الربهــان (‪(:)436/1‬واإلجماع‪ ‬عصــام‬ ‫الشــريعة‪ ،‬وعمادهــا‪ ،‬وإليــه اســتنادها)‪.‬‬

‫صريحــا أو‬ ‫االصطالحــي يف كتــب األصــول‬ ‫وحــدُّ اإلجمــاع‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫عــذر‬ ‫ســكوت ًّيا‬ ‫يشــمل المعلــوم مــن الديــن بالضــرورة ومــا ال ُي ُ‬ ‫يتــم التعــدّ ي عليــه مــن الحداثييــن‬ ‫مســلم بجهلــه‪ ،‬وجملــ ُة مــا ّ‬ ‫ٌ‬ ‫أدعيــاء اإلصــاح مــن هــذه البــاب‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫فــإن‬ ‫ومهمــا يكــن فهمنــا لمصطلــح اإلصــاح والتجديــد‬ ‫اســتعماله اليــوم ال يعــدو هــذه الســقطات الشــنيعة التــي تـ ّ‬ ‫ـدل بمــا‬ ‫متفوهيهــا علــى مــا تخفيــه صدورهــم‪.‬‬ ‫يبــدو مــن بغضــاء ّ‬ ‫علــى أن تنــاول بعــض األحــكام الثابتــة بالتطبيــق قــد يحتــاج‬ ‫اجتهــا ًدا جديــدً ا‪ ،‬فكيف ّيــات التنفيــذ قــد ُترا َعــى فيهــا الحداثــة يف‬

‫(((  الربهان (‪.)8/1‬‬

‫‪94‬‬

‫األســاليب‪ ،‬وتطبيــق الحكــم قــد يوقــف بتقديــر الحاكــم المجتهــد‬ ‫يف بعــض الظــروف‪ ،‬والتغييــر ضمــن الضوابــط قــد يكــون مقبـ ً‬ ‫ـول‬ ‫يف كثيـ ٍـر مــن الصــور‪ ،‬وذلــك ّ‬ ‫ألن التعامــل مــع االجتهــاد بالتقديــس‬ ‫مرفــوض‪ ،‬لك ـ ّن تطــاول الفريــق المدّ عــي للتحديــث والتصحيــح‬ ‫والتجديــد دفــع إلــى ر ّدة فعــل عنيفــة لــم ُت ِ‬ ‫ــورث عنــد جماهيــر‬ ‫عريضــة مــن طــاب العلــم إال جمــو ًدا يف محــراب الــراث!‬ ‫وهجــرا للتطويــر والتجديــد المشــرو َع ْي ِن‪.‬‬ ‫ً‬ ‫الحقيقــي بســوء الفهــم أو ســوء‬ ‫ــح‬ ‫نعــم‪ ،‬قــد‬ ‫َ‬ ‫يواجــ ُه المصلِ ُ‬ ‫ّ‬ ‫الظــن! لكــ ّن هــذا ال ينبغــي أن يكــون داف ًعــا لــه إلــى االنجــرار‬ ‫خلــف التنوير ّييــن والحداث ّييــن والتجديد ّييــن مــن أعــداء األديــان‬ ‫والتحجــر عنــد‬ ‫والمجتمعــات‪ ،‬وال مسـ ّـوغًا للتقوقــع علــى الــذات‬ ‫ّ‬ ‫الشــرعي الصحيــح‬ ‫ممــا يــؤ ّدي إلــى مخالفــة المنهــج‬ ‫المنقــول‪ّ ،‬‬ ‫ّ‬ ‫للتعامــل مــع مســتجدّ ات الواقــع‪.‬‬

‫﴿ َوأَذِّن ِفي ال َّن ِ‬ ‫اس بِالْ َح ِّج﴾‪:‬‬

‫ذلــك كالم اهلل تعالــى الــذي ال يأتيــه الباطــل مــن بيــن يديــه وال‬ ‫الطلــب‬ ‫وج َع َــل‬ ‫اهلل تعالــى‬ ‫بحــج بيتــه الحــرام‪َ ،‬‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫مــن خلفــه‪ ،‬أمــر ُ‬ ‫عا ًّمــا للنــاس ك ّلهــم‪ ،‬لكــ ّن هــذا كان قبــل وجــود أ ّمــة مســلمة!‬ ‫وقــد أمــر ســبحانه بشــهود المنافــع فيــه‪ ،‬قبــل أن يأمــر بذكــر اســم‬ ‫ِ‬ ‫ّ‬ ‫فحــث عليهــا ً‬ ‫ــع‬ ‫اهلل تعالــى فيــه‪،‬‬ ‫ــهدُ وا َمنَاف َ‬ ‫أول يف قولــه‪ِّ ﴿ :‬ل َي ْش َ‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫ـى َمــا َر َزق ُهــم ِّمــن‬ ‫ـم اللــه فــي أ َّيــا ٍم َّم ْعلو َمــات َعلـ ٰ‬ ‫اسـ َ‬ ‫ـم َو َي ْذ ُكـ ُـروا ْ‬ ‫َل ُهـ ْ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫الحــج لشــهود‬ ‫فــكان‬ ‫يمــة ْالَ ْن َعــامِ﴾ [ســورة الحــج‪ :‬آيــة ‪]28‬‬ ‫ّ‬ ‫َب ِه َ‬ ‫المنافــع قبــل أن يكــون للذكــر‪.‬‬ ‫و ّظــف كثيـ ٌـر مــن أدعيــاء اإلصــاح ذلــك الخطــاب الر ّبــاينّ للنــاس‬ ‫ـج يف ســبيل هــدم الثوابــت‪ ،‬وتغييــر المنقــول المتواتــر‪ ،‬ومــن‬ ‫بالحـ ّ‬ ‫ذلــك قولهــم ّ‬ ‫الحــج للنــاس ك ّلهــم‪ ،‬وإن تقييــده بالمســلمين‬ ‫إن‬ ‫ّ‬ ‫ال يجــوز‪ ،‬وقولهــم‪ّ :‬‬ ‫الحــج للمنافــع ال للطقــوس‪ ،‬وقولهــم‪:‬‬ ‫إن‬ ‫ّ‬ ‫أحــب‬ ‫نــوع مــن الســياحة فمــن‬ ‫ّ‬ ‫إن الســعي بيــن الصفــا والمــروة ٌ‬ ‫أن يفعلــه فليفعلــه‪ ،‬وهــو ليــس الز ًمــا يف شــيء مــن العبــادات‪،‬‬ ‫تعمدهــم االســتهزاء بالشــعيرة‪،‬‬ ‫أو‪ :‬هــو ليــس عبــاد ًة أصـ ًـا‪ ،‬مــع ّ‬ ‫وانتقاصهــم مــن حرمــة المشــاعر وقدسـ ّيتها‪ ،‬ونيلهــم مــن مالييــن‬ ‫المســلمين الذيــن توارثوهــا عــن أســافهم إلــى صاحــب الرســالة‬ ‫ص ّلــى اهلل عليــه وآلــه وسـ ّلم‪ ،‬إلــى غيــر ذلــك مــن أقوالهــم التــي ال‬ ‫يتّســع المجــال لذكرهــا‪.‬‬ ‫والناظــر يف جملــة مــا قالــوه يــرى أنّهــم ُيغفلــون عنــد الحديــث عن‬ ‫هــذه األمــور جملـ ًة مــن أساسـ ّيات اســتنباط األحــكام يف التشــريع‬ ‫اإلســامي‪ ،‬ويســعون نحــو هـ ٍ‬ ‫ـدف بـ ٍ‬ ‫ـاحة فيــه‪،‬‬ ‫ـارز واضــحٍ ال مشـ ّ‬ ‫ّ‬ ‫إلــى هــدم الثوابــت‪ ،‬وتحطيــم الرمــوز‪.‬‬ ‫وإن مــن أبــرز مــا يخرتقــه أولئــك مــن أساسـ ّيات االســتنباط‪ ،‬ومــا‬ ‫يقومــون بــه مــن التأثيــر يف الجمهــور‪:‬‬

‫المفسدون في األرض والحج‬ ‫إغفالهــم قواعــد التعامــل مــع األلفــاظ عنــد ورودهــا‪ ،‬ومــن ذلــك‬ ‫مثـ ًـا ّ‬ ‫أن اللفــظ العــام قــد ُيطلــق ويــراد بــه الخصــوص‪ ،‬وقــد ُيطلــق‬ ‫مــرارا‪،‬‬ ‫ويــراد بــه الفــرد الواحــد‪ ،‬وهــذا ورد يف القــرآن الكريــم‬ ‫ً‬ ‫ومــن أبــرز األمثلــة التــي يســوقها األصول ّيــون عليــه قولــه تعالــى‪:‬‬ ‫﴿ا َّل ِذيـ َن َقـ َ‬ ‫ـم َف ْ‬ ‫اخ َشـ ْـو ُه ْم﴾‬ ‫ـاس إِ َّن النَّـ َ‬ ‫ـم النَّـ ُ‬ ‫ـاس َقــدْ َج َم ُعــوا َل ُكـ ْ‬ ‫ـال َل ُهـ ُ‬ ‫شــخصا‬ ‫[ســورة آل عمــران‪ :‬آيــة ‪ ]173‬فـــ (النــاس) هنــا تعنــي‬ ‫ً‬ ‫األشــجعي‪ ،‬فقــد جــاء يف تفســير الــرازي مــا‬ ‫واحــدً ا هــو نعيــم‬ ‫ّ‬ ‫نصــه‪( :‬هــذه اآليــة نزلــت يف غــزوة بــدر الصغــرى‪ ،‬روى ابــن‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫لمــا عــزم علــى أن ينصــرف مــن المدينــة إلــى‬ ‫ـفيان‬ ‫ـ‬ ‫س‬ ‫ـا‬ ‫ـ‬ ‫أب‬ ‫أن‬ ‫ـاس‬ ‫ـ‬ ‫ب‬ ‫عّ‬ ‫ّ‬ ‫محمــد موعدنــا موســم بــدر الصغــرى فنقتتــل هبــا‬ ‫م ّكــة‪ ،‬نــادى ‪ :‬يــا ّ‬ ‫ـئت‪ ،‬فقــال عليــه الصــاة والســام لعمــر‪ :‬قــل بيننــا وبينــك‬ ‫إن شـ َ‬ ‫ـرج أبــو سـ َ‬ ‫ـفيان‬ ‫فلمــا حضــر األجـ ُـل خـ َ‬ ‫ذلــك إن شــاء اهلل تعالــى‪ّ ،‬‬ ‫ـب يف‬ ‫مــع قومــه حتــى نــزل بمـ ّـر الظهــران‪ ،‬وألقــى اهلل تعالــى الرعـ َ‬ ‫ٍ‬ ‫األشــجعي‪،‬‬ ‫مســعود‬ ‫نعيــم بــ َن‬ ‫فلقــي‬ ‫قلبــه‪ ،‬فبــدا لــه أن يرجــع‪،‬‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫ـم معتمـ ًـرا‪ ،‬فقــال‪ :‬يــا نعيــم إ ّنــي وعــدت محمــدً ا أن‬ ‫وقــد قــدم نعيـ ٌ‬ ‫وإن هــذا عــا ُم جـ ٍ‬ ‫نلتقــي بموســم بــدر‪ّ ،‬‬ ‫ـدب وال يصلحنــا َّإل عــا ٌم‬ ‫ـرب فيــه اللبــن‪ ،‬وقــد بــدا لــي أن أرجــع‪،‬‬ ‫نرعــى فيــه الشــجر ونشـ ُ‬ ‫ولكــن إن خــرج محمــدٌ ولــم أخــرج زاد بذلــك جــراءةً‪ ،‬فاذهــب‬ ‫إلــى المدينــة فث ّبطهــم ولــك عنــدي عشــرة مــن اإلبــل‪ ،‬فخــرج‬ ‫يتجهــزون؛ فقــال لهــم‪ :‬مــا هــذا بالــرأي‪،‬‬ ‫نعيــم فوجــد المســلمين‬ ‫ّ‬ ‫أ َتوكُــم يف دياركــم وقتلــوا أكثركــم فــإن ذهبتــم إليهــم لــم يرجــع‬ ‫فلمــا عــرف‬ ‫منكــم أحــد‪ ،‬فو َقـ َ‬ ‫ـع هــذا الــكالم يف قلــوب قــو ٍم منهــم‪ّ ،‬‬ ‫ُ‬ ‫الرســول عليــه الصــاة والســام ذلــك قــال‪(( :‬والــذي نفــس‬ ‫النبــي‬ ‫ثــم خــرج‬ ‫محمــد بيــده ألخرجــ ّن إليهــم ولــو وحــدي))‪ّ ،‬‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ص ّلــى اهلل عليــه وآلــه وس ـلم ومعــه نحــو ســبعين رجـ ًـا فيهــم ابــن‬ ‫مســعود‪ ،‬وذهبــوا إلــى أن وصلــوا إلــى بــدر الصغــرى‪ ،‬وهــي مــاء‬ ‫لبنــي كنانــة‪ ،‬وكانــت موضــع ســوق لهــم يجتمعــون فيهــا ّ‬ ‫كل عــام‬ ‫ثمانيــة أيــام‪ ،‬ولــم يلـ َـق رسـ ُ‬ ‫ـول اهلل ص ّلــى اهلل عليــه وسـ ّلم وأصحا ُبه‬ ‫أحــدً ا مــن المشــركين‪ ،‬ووافقــوا الســوق‪ ،‬وكانــت معهــم نفقــات‬ ‫وتجــارات‪ ،‬فباعــوا واشــروا أد ًمــا وزبي ًبــا وربحــوا وأصابــوا‬ ‫بالدرهــم درهميــن‪ ،‬وانصرفــوا إلــى المدينــة ســالمين غانميــن‪،‬‬ ‫فســمى ُ‬ ‫َ‬ ‫أهــل م ّكــة َ‬ ‫جيــش‬ ‫جيشــ ُه‬ ‫ورجــع أبــو ســفيان إلــى م ّكــة‬ ‫ّ‬ ‫الســويق) فالنــاس يف‬ ‫الســويق‪ ،‬وقالــوا‪ :‬إنّمــا خرجتــم لتشــربوا ُّ‬ ‫اآليــة الكريمــة لفـ ٌ‬ ‫ـاص‪ ،‬بــل بمعنــى‬ ‫ـظ عــا ٌّم اســتعمل يف معنــى الخـ ّ‬ ‫ٍ‬ ‫ـخص واحـ ٍـد وهــو نعيــم بــن مســعود‪.‬‬ ‫شـ‬ ‫إغفالهــم مبــادئ النظــر يف النصــوص واآليــات عمومــا‪،‬‬ ‫وتجاوزهــم فهــم الســابقين‪ ،‬بزعــم ّ‬ ‫أن الــراث ينبغــي إعــادة‬ ‫ـري‪ ،‬ومــن ذلــك مثـ ًـا عــدم ر ّدهــم محكــم‬ ‫ـم بشـ ٌّ‬ ‫فلرتتــه‪ ،‬وأ ّنــه فهـ ٌ‬ ‫النصــوص إلــى متشــاهبها‪ ،‬وعــدم محاولــة الجمــع بينهــا قبــل‬ ‫ـباب النــزول‪،‬‬ ‫الرتجيــح علــى قواعــد‬ ‫األئمــة‪ ،‬وعــدم اعتبارهــم أسـ َ‬ ‫ّ‬ ‫وعــدم النظــر يف وقــت النــزول لمعرفــة الناســخ مــن المنســوخ‪،‬‬ ‫الحــج اللتيــن‬ ‫ومــن األمثلــة علــى ذلــك قولهــم يف آيتــي وقــت‬ ‫ّ‬

‫ٍ‬ ‫ــج‬ ‫جــاءت إحداهمــا بلفــظ‪َ ﴿ :‬أ َّيــا ٍم َّم ْع ُلو َمــات﴾ واألخــرى ﴿ا ْل َح ُّ‬ ‫ــه ٌر‬ ‫ــه ٌر َّم ْع ُلو َم ٌ‬ ‫َأ ْش ُ‬ ‫ــج َأ ْش ُ‬ ‫ــات﴾‪ ،‬وذلــك يف قولــه تعالــى‪﴿ :‬ا ْل َح ُّ‬ ‫ِ‬ ‫ــات َف َمــن َف َــر َض ف ِ‬ ‫ال ُف ُس َ‬ ‫ــج َفــاَ َر َف َ‬ ‫ــوق َو َ‬ ‫ــث َو َ‬ ‫ال‬ ‫َّم ْع ُلو َم ٌ‬ ‫يهــ َّن ا ْل َح َّ‬ ‫ِ‬ ‫ـج﴾ [ســورة البقــرة‪ :‬آيــة ‪ ]197‬ويف قولــه تعالــى‪:‬‬ ‫ِجــدَ َال فــي ا ْل َحـ ِّ‬ ‫﴿لِي ْشــهدُ وا منَافِــع َلهــم وي ْذكُــروا اســم اهَّللِ فِــي َأيــا ٍم مع ُلوم ٍ‬ ‫ــات‬ ‫َ َ‬ ‫َّ َ ْ َ‬ ‫ْ َ‬ ‫َ َ ُ ْ َ​َ ُ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫يمــة ْال ْن َعــامِ﴾ [ســورة الحــج‪ :‬آيــة ‪،]28‬‬ ‫ـم م ـ ْن َبه َ‬ ‫َع َلــى َمــا َر َز َق ُهـ ْ‬ ‫التعجــل‬ ‫فهــا هنــا ُيسـ ّـمي اهلل ســبحانه األ ّيــام بالمعلومــات‪ ،‬ويف آيــة‬ ‫ّ‬ ‫ـهر أم أ ّيــام؟ وهــل األ ّيــام‬ ‫ُيسـ ّـميها بالمعــدودات! فهــل الحـ ّ‬ ‫ـج أشـ ٌ‬ ‫معــدودات؟‬ ‫معلومــات أم‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬

‫أي‬ ‫يزعــم هــؤالء أنّــه أشــهر‪ ،‬ومــن ّ‬ ‫يحجــوا يف ّ‬ ‫حــق النــاس أن ّ‬ ‫ّ‬ ‫أ ّيــام الســنة شــاؤوا! ويتناســون ّ‬ ‫النبــي صلــى اهلل عليــه وآلــه‬ ‫أن‬ ‫ّ‬ ‫وس ـ ّلم اسـ َ‬ ‫ـتعمل لفــظ (خــذوا‪ ،‬فخــذوه‪ ،‬لتأخــذوا) القــرآينّ ذاتــه‬ ‫َ‬ ‫الر ُسـ ُ‬ ‫ـم‬ ‫مــن قــول اهلل تعالــى‪َ :‬‬ ‫ـم َّ‬ ‫ـول َف ُخـ ُـذو ُه َو َمــا ن َ​َها ُكـ ْ‬ ‫﴿و َمــا آ َتا ُكـ ُ‬ ‫َعنْــ ُه َفا ْنت َُهــوا﴾ [ســورة الحشــر‪ :‬آيــة ‪ ]7‬فقــال‪(( :‬لتأخــذوا عنّــي‬ ‫مناســككم)) (((‪.‬‬

‫وقــد فـ ّـرق العلمــاء ببــن األشــهر المعلومــات واأل ّيــام المعدودات‬ ‫ـج والعــزم عليــه وعــدم الرفــث‬ ‫أ ّمــا األشــهر فهــي لإلحــرام بالحـ ّ‬ ‫والفســوق يف أشــهره بطولهــا‪ ،‬وقــد كان أمـ ًـرا طبيع ًّيــا بســبب مســيرة‬ ‫الحيــاة وطبيعــة التن ّقــل‪ ،‬وأ ّمــا الذكــر فهــو يف األيــام المعــدودات‬ ‫(وهــي أ ّيــام أداء المناســك!) كمــا يقــول الفقهــاء‪.‬‬ ‫ويؤيــد ذلــك قولــه تعالــى‪﴿ :‬وا ْذكُــروا اهَّلل فِــي َأيــا ٍم معــدُ ود ٍ‬ ‫ات‬ ‫َ‬ ‫َّ َّ ْ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ـن َفـ َـا إِ ْثــم َع َليـ ِـه ومــن َت َأ َّخــر َفـ َـا إِ ْثــم َع َليــهِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َف َمــن ت َع َّجــل فــي َي ْو َم ْيـ‬ ‫َ ْ‬ ‫َ‬ ‫َ ْ َ َ‬ ‫ِ‬ ‫ل ِ َم ِ‬ ‫ــم إِ َل ْيــه ُت ْح َش ُــر َ‬ ‫ون﴾ [ســورة‬ ‫اهَّلل َوا ْع َل ُمــوا َأ َّن ُك ْ‬ ‫ــن ا َّت َقــى َوا َّت ُقــوا َ‬ ‫ـج‪ ،‬وهــي‬ ‫البقــرة‪ :‬آيــة ‪]203‬‬ ‫فالتعجــل يف يوميــن ألداء شــعائر الحـ ّ‬ ‫ّ‬ ‫ـج وعرفــت وقتــه مــن‬ ‫تلــك األ ّيــام التــي توارثــت األ ّمــة فيهــا الحـ ّ‬ ‫المنقــول متواتـ ًـرا بنقــل الكا ّفــة عــن الكا ّفــة عــن رســول اهلل ص ّلــى‬ ‫اهلل عليــه وآلــه وس ـ ّلم‪ ،‬وهــو الوحيــد المك ّلــف ببيــان مــا أنــزل ال‬ ‫غيــره مــن المدّ عيــن للبيــان بأهوائهــم يف عصرنــا‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ـم‬ ‫ـم شـ‬ ‫فهمــا بشــر ًّيا غيـ َـر معصــوم؟ فلـ َ‬ ‫ـحرور وأمثالــه ً‬ ‫َ‬ ‫أوليــس فهـ ُ‬ ‫ـم أال يحـ ّـق لنــا أن نعــدّ كالم‬ ‫ـليم لــه؟ ثـ ّ‬ ‫ُيرتجــى منّــا تصديقــه والتسـ ُ‬ ‫شــحرور وغيــره مــن المفســدين بعــد ســنين مــن قولهــم لــه؛ مــن‬ ‫ِ‬ ‫وكتــب‬ ‫الــراث الــذي ينبغــي أن نؤرشــفه كمــا يريــدون لرتاثنــا‬ ‫فقهائنــا؟‬ ‫ممــن يريــد نســف السـنّة‬ ‫وهــل يمكــن للمهنــدس شــحرور وغيــره ّ‬ ‫والتاريــخ والفقــه أن ُيعلِ َمنــا مــن القــرآن وليــس مــن اجتهاداتــه مــا‬ ‫هــي األشــهر المعلومــات؟ وكيــف صــارت معلومــة بالنســبة لــه‬ ‫إال مــن الــراث؟‬ ‫تضليــل الجمهــور مــن خــال الهجــوم علــى المرجع ّيــات‬

‫(((  (مسلم‪ :‬كتاب الحج‪ ،‬باب استحباب رمي جمرة العقبة يوم النحر راكبا‪.)1297 ،‬‬

‫‪95‬‬


‫المفسدون في األرض والحج‬ ‫ـم فيــه خــاف‪ ،‬اتفــق عليــه الفقهــاء‪.‬‬ ‫ُيع َلـ ُ‬

‫اإلجامع من القطع ّيات‪:‬‬

‫ـص ال يقبــل االحتمــال وحديـ ٌ‬ ‫ـث‬ ‫والــذي ُيعــدّ قطع ًّيــا أحــد ثالثــة‪ :‬نـ ٌّ‬ ‫ـاع منعقــدٌ ‪ .‬كمــا يقــول اإلمــام الجوينـ ّـي يف الربهــان‪:‬‬ ‫متواتـ ٌـر وإجمـ ٌ‬ ‫نــص الكتــاب‪،‬‬ ‫(وأدلــة الفقــه هــي األدلــة الســمع ّية‪ ،‬وأقســامها‪ُّ :‬‬ ‫(((‬ ‫ـص الس ـنّة المتواتــرة‪ ،‬واإلجمــاع)‬ ‫ونـ ُّ‬

‫نــادر‪،‬‬ ‫النــص الــذي ال يقبــل االحتمــال أو التأويــل فهــو‬ ‫فأ ّمــا‬ ‫ُّ‬ ‫ٌ‬ ‫ممــا ال تخفــى‪،‬‬ ‫وكذلــك المتواتــر مــن الحديــث‪ ،‬والمنازعــة فيهمــا ّ‬ ‫والــذي يظهــر مــن هــذه األمــور التــي يعدّ وهنــا يف القطعيــات‬ ‫قطع ّيتهــا مــن وجــه دون وجــه‪ ،‬وهــذا الوجــه الــذي صــارت منــه‬ ‫قطع ّيــة يكفــي لبنــاء األحــكام عليهــا‪ ،‬لك ـ ّن مــا هــو أكثــر يقينًــا مــن‬ ‫الكتــاب والســنّة يف القطع ّيــة هــو اإلجمــاع‪ ،‬ألنّــه إجمــاع علــى‬ ‫ـص المنقــول أصــا‪،‬‬ ‫عيــن المســألة‪ ،‬وليــس فيــه خــاف يف فهــم النـ ّ‬ ‫ّ‬ ‫ولذلــك ّ‬ ‫محــط اهتمــام الفقهــاء والمشــتغلين بالشــريعة هــو‬ ‫فــإن‬ ‫اإلجمــاع‪ ،‬الــذي يقســمه األصول ّيــون إلــى قســمين‪ :‬صريــحٍ ُيظهـ ُـر‬ ‫ّ‬ ‫كل واحـ ٍـد مــن المجتهديــن فيــه رأيــه صراح ـةً‪ ،‬وســكويتٍّ يصـ ّـرح‬ ‫حجــة ظن ّيــة‬ ‫بالحكــم بعضهــم ويســكت آخــرون‪ ،‬وجعلــه بعضهــم ّ‬ ‫موجبــة للعمــل دون العلــم‪.‬‬

‫نقل الكافّة عن الكافّة‪:‬‬

‫قســيما ال ّ‬ ‫وأرى ّ‬ ‫أهم ّيــ ًة عنهمــا‪ ،‬بــل‬ ‫أن لنو َعــي اإلجمــاع‬ ‫يقــل ّ‬ ‫ً‬ ‫لع ّلــه يفوقهمــا أهم ّيــة مــن حيــث إثبــات القطع ّيــات المنقولــة‬ ‫بــه‪ ،‬وهــو مــا أجمعــت عليــه األ ّمــة‪ ،‬وتناقلتــه بنقــل الكا ّفــة عــن‬ ‫ـوع غفيــر ٌة مــن‬ ‫الكا ّفــة‪ ،‬فنقلــه جماهيـ ُـر عريض ـ ٌة مــن‬ ‫األئمــة وجمـ ٌ‬ ‫ّ‬ ‫عمــن ســبقهم ح ّتــى نقــل عــن جيــل الصحابــة بكا ّفتــه‪ ،‬وهــو‬ ‫األ ّمــة ّ‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫أعظــم منزلــة مــن نقــل أعــداد محــدودة مــن الفقهــاء وإن كانــوا‬ ‫مــن مجتهــدي األّ ّمــة‪.‬‬ ‫قال‪ ‬الجوينــي‪ ‬يف الربهــان (‪(:)436/1‬واإلجماع‪ ‬عصــام‬ ‫الشــريعة‪ ،‬وعمادهــا‪ ،‬وإليــه اســتنادها)‪.‬‬

‫صريحــا أو‬ ‫االصطالحــي يف كتــب األصــول‬ ‫وحــدُّ اإلجمــاع‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫عــذر‬ ‫ســكوت ًّيا‬ ‫يشــمل المعلــوم مــن الديــن بالضــرورة ومــا ال ُي ُ‬ ‫يتــم التعــدّ ي عليــه مــن الحداثييــن‬ ‫مســلم بجهلــه‪ ،‬وجملــ ُة مــا ّ‬ ‫ٌ‬ ‫أدعيــاء اإلصــاح مــن هــذه البــاب‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫فــإن‬ ‫ومهمــا يكــن فهمنــا لمصطلــح اإلصــاح والتجديــد‬ ‫اســتعماله اليــوم ال يعــدو هــذه الســقطات الشــنيعة التــي تـ ّ‬ ‫ـدل بمــا‬ ‫متفوهيهــا علــى مــا تخفيــه صدورهــم‪.‬‬ ‫يبــدو مــن بغضــاء ّ‬ ‫علــى أن تنــاول بعــض األحــكام الثابتــة بالتطبيــق قــد يحتــاج‬ ‫اجتهــا ًدا جديــدً ا‪ ،‬فكيف ّيــات التنفيــذ قــد ُترا َعــى فيهــا الحداثــة يف‬

‫(((  الربهان (‪.)8/1‬‬

‫‪94‬‬

‫األســاليب‪ ،‬وتطبيــق الحكــم قــد يوقــف بتقديــر الحاكــم المجتهــد‬ ‫يف بعــض الظــروف‪ ،‬والتغييــر ضمــن الضوابــط قــد يكــون مقبـ ً‬ ‫ـول‬ ‫يف كثيـ ٍـر مــن الصــور‪ ،‬وذلــك ّ‬ ‫ألن التعامــل مــع االجتهــاد بالتقديــس‬ ‫مرفــوض‪ ،‬لك ـ ّن تطــاول الفريــق المدّ عــي للتحديــث والتصحيــح‬ ‫والتجديــد دفــع إلــى ر ّدة فعــل عنيفــة لــم ُت ِ‬ ‫ــورث عنــد جماهيــر‬ ‫عريضــة مــن طــاب العلــم إال جمــو ًدا يف محــراب الــراث!‬ ‫وهجــرا للتطويــر والتجديــد المشــرو َع ْي ِن‪.‬‬ ‫ً‬ ‫الحقيقــي بســوء الفهــم أو ســوء‬ ‫ــح‬ ‫نعــم‪ ،‬قــد‬ ‫َ‬ ‫يواجــ ُه المصلِ ُ‬ ‫ّ‬ ‫الظــن! لكــ ّن هــذا ال ينبغــي أن يكــون داف ًعــا لــه إلــى االنجــرار‬ ‫خلــف التنوير ّييــن والحداث ّييــن والتجديد ّييــن مــن أعــداء األديــان‬ ‫والتحجــر عنــد‬ ‫والمجتمعــات‪ ،‬وال مسـ ّـوغًا للتقوقــع علــى الــذات‬ ‫ّ‬ ‫الشــرعي الصحيــح‬ ‫ممــا يــؤ ّدي إلــى مخالفــة المنهــج‬ ‫المنقــول‪ّ ،‬‬ ‫ّ‬ ‫للتعامــل مــع مســتجدّ ات الواقــع‪.‬‬

‫﴿ َوأَذِّن ِفي ال َّن ِ‬ ‫اس بِالْ َح ِّج﴾‪:‬‬

‫ذلــك كالم اهلل تعالــى الــذي ال يأتيــه الباطــل مــن بيــن يديــه وال‬ ‫الطلــب‬ ‫وج َع َــل‬ ‫اهلل تعالــى‬ ‫بحــج بيتــه الحــرام‪َ ،‬‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫مــن خلفــه‪ ،‬أمــر ُ‬ ‫عا ًّمــا للنــاس ك ّلهــم‪ ،‬لكــ ّن هــذا كان قبــل وجــود أ ّمــة مســلمة!‬ ‫وقــد أمــر ســبحانه بشــهود المنافــع فيــه‪ ،‬قبــل أن يأمــر بذكــر اســم‬ ‫ِ‬ ‫ّ‬ ‫فحــث عليهــا ً‬ ‫ــع‬ ‫اهلل تعالــى فيــه‪،‬‬ ‫ــهدُ وا َمنَاف َ‬ ‫أول يف قولــه‪ِّ ﴿ :‬ل َي ْش َ‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫ـى َمــا َر َزق ُهــم ِّمــن‬ ‫ـم اللــه فــي أ َّيــا ٍم َّم ْعلو َمــات َعلـ ٰ‬ ‫اسـ َ‬ ‫ـم َو َي ْذ ُكـ ُـروا ْ‬ ‫َل ُهـ ْ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫الحــج لشــهود‬ ‫فــكان‬ ‫يمــة ْالَ ْن َعــامِ﴾ [ســورة الحــج‪ :‬آيــة ‪]28‬‬ ‫ّ‬ ‫َب ِه َ‬ ‫المنافــع قبــل أن يكــون للذكــر‪.‬‬ ‫و ّظــف كثيـ ٌـر مــن أدعيــاء اإلصــاح ذلــك الخطــاب الر ّبــاينّ للنــاس‬ ‫ـج يف ســبيل هــدم الثوابــت‪ ،‬وتغييــر المنقــول المتواتــر‪ ،‬ومــن‬ ‫بالحـ ّ‬ ‫ذلــك قولهــم ّ‬ ‫الحــج للنــاس ك ّلهــم‪ ،‬وإن تقييــده بالمســلمين‬ ‫إن‬ ‫ّ‬ ‫ال يجــوز‪ ،‬وقولهــم‪ّ :‬‬ ‫الحــج للمنافــع ال للطقــوس‪ ،‬وقولهــم‪:‬‬ ‫إن‬ ‫ّ‬ ‫أحــب‬ ‫نــوع مــن الســياحة فمــن‬ ‫ّ‬ ‫إن الســعي بيــن الصفــا والمــروة ٌ‬ ‫أن يفعلــه فليفعلــه‪ ،‬وهــو ليــس الز ًمــا يف شــيء مــن العبــادات‪،‬‬ ‫تعمدهــم االســتهزاء بالشــعيرة‪،‬‬ ‫أو‪ :‬هــو ليــس عبــاد ًة أصـ ًـا‪ ،‬مــع ّ‬ ‫وانتقاصهــم مــن حرمــة المشــاعر وقدسـ ّيتها‪ ،‬ونيلهــم مــن مالييــن‬ ‫المســلمين الذيــن توارثوهــا عــن أســافهم إلــى صاحــب الرســالة‬ ‫ص ّلــى اهلل عليــه وآلــه وسـ ّلم‪ ،‬إلــى غيــر ذلــك مــن أقوالهــم التــي ال‬ ‫يتّســع المجــال لذكرهــا‪.‬‬ ‫والناظــر يف جملــة مــا قالــوه يــرى أنّهــم ُيغفلــون عنــد الحديــث عن‬ ‫هــذه األمــور جملـ ًة مــن أساسـ ّيات اســتنباط األحــكام يف التشــريع‬ ‫اإلســامي‪ ،‬ويســعون نحــو هـ ٍ‬ ‫ـدف بـ ٍ‬ ‫ـاحة فيــه‪،‬‬ ‫ـارز واضــحٍ ال مشـ ّ‬ ‫ّ‬ ‫إلــى هــدم الثوابــت‪ ،‬وتحطيــم الرمــوز‪.‬‬ ‫وإن مــن أبــرز مــا يخرتقــه أولئــك مــن أساسـ ّيات االســتنباط‪ ،‬ومــا‬ ‫يقومــون بــه مــن التأثيــر يف الجمهــور‪:‬‬

‫المفسدون في األرض والحج‬ ‫إغفالهــم قواعــد التعامــل مــع األلفــاظ عنــد ورودهــا‪ ،‬ومــن ذلــك‬ ‫مثـ ًـا ّ‬ ‫أن اللفــظ العــام قــد ُيطلــق ويــراد بــه الخصــوص‪ ،‬وقــد ُيطلــق‬ ‫مــرارا‪،‬‬ ‫ويــراد بــه الفــرد الواحــد‪ ،‬وهــذا ورد يف القــرآن الكريــم‬ ‫ً‬ ‫ومــن أبــرز األمثلــة التــي يســوقها األصول ّيــون عليــه قولــه تعالــى‪:‬‬ ‫﴿ا َّل ِذيـ َن َقـ َ‬ ‫ـم َف ْ‬ ‫اخ َشـ ْـو ُه ْم﴾‬ ‫ـاس إِ َّن النَّـ َ‬ ‫ـم النَّـ ُ‬ ‫ـاس َقــدْ َج َم ُعــوا َل ُكـ ْ‬ ‫ـال َل ُهـ ُ‬ ‫شــخصا‬ ‫[ســورة آل عمــران‪ :‬آيــة ‪ ]173‬فـــ (النــاس) هنــا تعنــي‬ ‫ً‬ ‫األشــجعي‪ ،‬فقــد جــاء يف تفســير الــرازي مــا‬ ‫واحــدً ا هــو نعيــم‬ ‫ّ‬ ‫نصــه‪( :‬هــذه اآليــة نزلــت يف غــزوة بــدر الصغــرى‪ ،‬روى ابــن‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫لمــا عــزم علــى أن ينصــرف مــن المدينــة إلــى‬ ‫ـفيان‬ ‫ـ‬ ‫س‬ ‫ـا‬ ‫ـ‬ ‫أب‬ ‫أن‬ ‫ـاس‬ ‫ـ‬ ‫ب‬ ‫عّ‬ ‫ّ‬ ‫محمــد موعدنــا موســم بــدر الصغــرى فنقتتــل هبــا‬ ‫م ّكــة‪ ،‬نــادى ‪ :‬يــا ّ‬ ‫ـئت‪ ،‬فقــال عليــه الصــاة والســام لعمــر‪ :‬قــل بيننــا وبينــك‬ ‫إن شـ َ‬ ‫ـرج أبــو سـ َ‬ ‫ـفيان‬ ‫فلمــا حضــر األجـ ُـل خـ َ‬ ‫ذلــك إن شــاء اهلل تعالــى‪ّ ،‬‬ ‫ـب يف‬ ‫مــع قومــه حتــى نــزل بمـ ّـر الظهــران‪ ،‬وألقــى اهلل تعالــى الرعـ َ‬ ‫ٍ‬ ‫األشــجعي‪،‬‬ ‫مســعود‬ ‫نعيــم بــ َن‬ ‫فلقــي‬ ‫قلبــه‪ ،‬فبــدا لــه أن يرجــع‪،‬‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫ـم معتمـ ًـرا‪ ،‬فقــال‪ :‬يــا نعيــم إ ّنــي وعــدت محمــدً ا أن‬ ‫وقــد قــدم نعيـ ٌ‬ ‫وإن هــذا عــا ُم جـ ٍ‬ ‫نلتقــي بموســم بــدر‪ّ ،‬‬ ‫ـدب وال يصلحنــا َّإل عــا ٌم‬ ‫ـرب فيــه اللبــن‪ ،‬وقــد بــدا لــي أن أرجــع‪،‬‬ ‫نرعــى فيــه الشــجر ونشـ ُ‬ ‫ولكــن إن خــرج محمــدٌ ولــم أخــرج زاد بذلــك جــراءةً‪ ،‬فاذهــب‬ ‫إلــى المدينــة فث ّبطهــم ولــك عنــدي عشــرة مــن اإلبــل‪ ،‬فخــرج‬ ‫يتجهــزون؛ فقــال لهــم‪ :‬مــا هــذا بالــرأي‪،‬‬ ‫نعيــم فوجــد المســلمين‬ ‫ّ‬ ‫أ َتوكُــم يف دياركــم وقتلــوا أكثركــم فــإن ذهبتــم إليهــم لــم يرجــع‬ ‫فلمــا عــرف‬ ‫منكــم أحــد‪ ،‬فو َقـ َ‬ ‫ـع هــذا الــكالم يف قلــوب قــو ٍم منهــم‪ّ ،‬‬ ‫ُ‬ ‫الرســول عليــه الصــاة والســام ذلــك قــال‪(( :‬والــذي نفــس‬ ‫النبــي‬ ‫ثــم خــرج‬ ‫محمــد بيــده ألخرجــ ّن إليهــم ولــو وحــدي))‪ّ ،‬‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ص ّلــى اهلل عليــه وآلــه وس ـلم ومعــه نحــو ســبعين رجـ ًـا فيهــم ابــن‬ ‫مســعود‪ ،‬وذهبــوا إلــى أن وصلــوا إلــى بــدر الصغــرى‪ ،‬وهــي مــاء‬ ‫لبنــي كنانــة‪ ،‬وكانــت موضــع ســوق لهــم يجتمعــون فيهــا ّ‬ ‫كل عــام‬ ‫ثمانيــة أيــام‪ ،‬ولــم يلـ َـق رسـ ُ‬ ‫ـول اهلل ص ّلــى اهلل عليــه وسـ ّلم وأصحا ُبه‬ ‫أحــدً ا مــن المشــركين‪ ،‬ووافقــوا الســوق‪ ،‬وكانــت معهــم نفقــات‬ ‫وتجــارات‪ ،‬فباعــوا واشــروا أد ًمــا وزبي ًبــا وربحــوا وأصابــوا‬ ‫بالدرهــم درهميــن‪ ،‬وانصرفــوا إلــى المدينــة ســالمين غانميــن‪،‬‬ ‫فســمى ُ‬ ‫َ‬ ‫أهــل م ّكــة َ‬ ‫جيــش‬ ‫جيشــ ُه‬ ‫ورجــع أبــو ســفيان إلــى م ّكــة‬ ‫ّ‬ ‫الســويق) فالنــاس يف‬ ‫الســويق‪ ،‬وقالــوا‪ :‬إنّمــا خرجتــم لتشــربوا ُّ‬ ‫اآليــة الكريمــة لفـ ٌ‬ ‫ـاص‪ ،‬بــل بمعنــى‬ ‫ـظ عــا ٌّم اســتعمل يف معنــى الخـ ّ‬ ‫ٍ‬ ‫ـخص واحـ ٍـد وهــو نعيــم بــن مســعود‪.‬‬ ‫شـ‬ ‫إغفالهــم مبــادئ النظــر يف النصــوص واآليــات عمومــا‪،‬‬ ‫وتجاوزهــم فهــم الســابقين‪ ،‬بزعــم ّ‬ ‫أن الــراث ينبغــي إعــادة‬ ‫ـري‪ ،‬ومــن ذلــك مثـ ًـا عــدم ر ّدهــم محكــم‬ ‫ـم بشـ ٌّ‬ ‫فلرتتــه‪ ،‬وأ ّنــه فهـ ٌ‬ ‫النصــوص إلــى متشــاهبها‪ ،‬وعــدم محاولــة الجمــع بينهــا قبــل‬ ‫ـباب النــزول‪،‬‬ ‫الرتجيــح علــى قواعــد‬ ‫األئمــة‪ ،‬وعــدم اعتبارهــم أسـ َ‬ ‫ّ‬ ‫وعــدم النظــر يف وقــت النــزول لمعرفــة الناســخ مــن المنســوخ‪،‬‬ ‫الحــج اللتيــن‬ ‫ومــن األمثلــة علــى ذلــك قولهــم يف آيتــي وقــت‬ ‫ّ‬

‫ٍ‬ ‫ــج‬ ‫جــاءت إحداهمــا بلفــظ‪َ ﴿ :‬أ َّيــا ٍم َّم ْع ُلو َمــات﴾ واألخــرى ﴿ا ْل َح ُّ‬ ‫ــه ٌر‬ ‫ــه ٌر َّم ْع ُلو َم ٌ‬ ‫َأ ْش ُ‬ ‫ــج َأ ْش ُ‬ ‫ــات﴾‪ ،‬وذلــك يف قولــه تعالــى‪﴿ :‬ا ْل َح ُّ‬ ‫ِ‬ ‫ــات َف َمــن َف َــر َض ف ِ‬ ‫ال ُف ُس َ‬ ‫ــج َفــاَ َر َف َ‬ ‫ــوق َو َ‬ ‫ــث َو َ‬ ‫ال‬ ‫َّم ْع ُلو َم ٌ‬ ‫يهــ َّن ا ْل َح َّ‬ ‫ِ‬ ‫ـج﴾ [ســورة البقــرة‪ :‬آيــة ‪ ]197‬ويف قولــه تعالــى‪:‬‬ ‫ِجــدَ َال فــي ا ْل َحـ ِّ‬ ‫﴿لِي ْشــهدُ وا منَافِــع َلهــم وي ْذكُــروا اســم اهَّللِ فِــي َأيــا ٍم مع ُلوم ٍ‬ ‫ــات‬ ‫َ َ‬ ‫َّ َ ْ َ‬ ‫ْ َ‬ ‫َ َ ُ ْ َ​َ ُ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫يمــة ْال ْن َعــامِ﴾ [ســورة الحــج‪ :‬آيــة ‪،]28‬‬ ‫ـم م ـ ْن َبه َ‬ ‫َع َلــى َمــا َر َز َق ُهـ ْ‬ ‫التعجــل‬ ‫فهــا هنــا ُيسـ ّـمي اهلل ســبحانه األ ّيــام بالمعلومــات‪ ،‬ويف آيــة‬ ‫ّ‬ ‫ـهر أم أ ّيــام؟ وهــل األ ّيــام‬ ‫ُيسـ ّـميها بالمعــدودات! فهــل الحـ ّ‬ ‫ـج أشـ ٌ‬ ‫معــدودات؟‬ ‫معلومــات أم‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬

‫أي‬ ‫يزعــم هــؤالء أنّــه أشــهر‪ ،‬ومــن ّ‬ ‫يحجــوا يف ّ‬ ‫حــق النــاس أن ّ‬ ‫ّ‬ ‫أ ّيــام الســنة شــاؤوا! ويتناســون ّ‬ ‫النبــي صلــى اهلل عليــه وآلــه‬ ‫أن‬ ‫ّ‬ ‫وس ـ ّلم اسـ َ‬ ‫ـتعمل لفــظ (خــذوا‪ ،‬فخــذوه‪ ،‬لتأخــذوا) القــرآينّ ذاتــه‬ ‫َ‬ ‫الر ُسـ ُ‬ ‫ـم‬ ‫مــن قــول اهلل تعالــى‪َ :‬‬ ‫ـم َّ‬ ‫ـول َف ُخـ ُـذو ُه َو َمــا ن َ​َها ُكـ ْ‬ ‫﴿و َمــا آ َتا ُكـ ُ‬ ‫َعنْــ ُه َفا ْنت َُهــوا﴾ [ســورة الحشــر‪ :‬آيــة ‪ ]7‬فقــال‪(( :‬لتأخــذوا عنّــي‬ ‫مناســككم)) (((‪.‬‬

‫وقــد فـ ّـرق العلمــاء ببــن األشــهر المعلومــات واأل ّيــام المعدودات‬ ‫ـج والعــزم عليــه وعــدم الرفــث‬ ‫أ ّمــا األشــهر فهــي لإلحــرام بالحـ ّ‬ ‫والفســوق يف أشــهره بطولهــا‪ ،‬وقــد كان أمـ ًـرا طبيع ًّيــا بســبب مســيرة‬ ‫الحيــاة وطبيعــة التن ّقــل‪ ،‬وأ ّمــا الذكــر فهــو يف األيــام المعــدودات‬ ‫(وهــي أ ّيــام أداء المناســك!) كمــا يقــول الفقهــاء‪.‬‬ ‫ويؤيــد ذلــك قولــه تعالــى‪﴿ :‬وا ْذكُــروا اهَّلل فِــي َأيــا ٍم معــدُ ود ٍ‬ ‫ات‬ ‫َ‬ ‫َّ َّ ْ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ـن َفـ َـا إِ ْثــم َع َليـ ِـه ومــن َت َأ َّخــر َفـ َـا إِ ْثــم َع َليــهِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َف َمــن ت َع َّجــل فــي َي ْو َم ْيـ‬ ‫َ ْ‬ ‫َ‬ ‫َ ْ َ َ‬ ‫ِ‬ ‫ل ِ َم ِ‬ ‫ــم إِ َل ْيــه ُت ْح َش ُــر َ‬ ‫ون﴾ [ســورة‬ ‫اهَّلل َوا ْع َل ُمــوا َأ َّن ُك ْ‬ ‫ــن ا َّت َقــى َوا َّت ُقــوا َ‬ ‫ـج‪ ،‬وهــي‬ ‫البقــرة‪ :‬آيــة ‪]203‬‬ ‫فالتعجــل يف يوميــن ألداء شــعائر الحـ ّ‬ ‫ّ‬ ‫ـج وعرفــت وقتــه مــن‬ ‫تلــك األ ّيــام التــي توارثــت األ ّمــة فيهــا الحـ ّ‬ ‫المنقــول متواتـ ًـرا بنقــل الكا ّفــة عــن الكا ّفــة عــن رســول اهلل ص ّلــى‬ ‫اهلل عليــه وآلــه وس ـ ّلم‪ ،‬وهــو الوحيــد المك ّلــف ببيــان مــا أنــزل ال‬ ‫غيــره مــن المدّ عيــن للبيــان بأهوائهــم يف عصرنــا‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ـم‬ ‫ـم شـ‬ ‫فهمــا بشــر ًّيا غيـ َـر معصــوم؟ فلـ َ‬ ‫ـحرور وأمثالــه ً‬ ‫َ‬ ‫أوليــس فهـ ُ‬ ‫ـم أال يحـ ّـق لنــا أن نعــدّ كالم‬ ‫ـليم لــه؟ ثـ ّ‬ ‫ُيرتجــى منّــا تصديقــه والتسـ ُ‬ ‫شــحرور وغيــره مــن المفســدين بعــد ســنين مــن قولهــم لــه؛ مــن‬ ‫ِ‬ ‫وكتــب‬ ‫الــراث الــذي ينبغــي أن نؤرشــفه كمــا يريــدون لرتاثنــا‬ ‫فقهائنــا؟‬ ‫ممــن يريــد نســف السـنّة‬ ‫وهــل يمكــن للمهنــدس شــحرور وغيــره ّ‬ ‫والتاريــخ والفقــه أن ُيعلِ َمنــا مــن القــرآن وليــس مــن اجتهاداتــه مــا‬ ‫هــي األشــهر المعلومــات؟ وكيــف صــارت معلومــة بالنســبة لــه‬ ‫إال مــن الــراث؟‬ ‫تضليــل الجمهــور مــن خــال الهجــوم علــى المرجع ّيــات‬

‫(((  (مسلم‪ :‬كتاب الحج‪ ،‬باب استحباب رمي جمرة العقبة يوم النحر راكبا‪.)1297 ،‬‬

‫‪95‬‬


‫المفسدون في األرض والحج‬ ‫الفكر ّيــة لأل ّمــة وجعلهــا يف مقابلــة القــرآن (الديــن عندهــم)‪،‬‬ ‫فكــري‬ ‫وهــذا الهــدم للمرجع ّيــات يهــدف إلــى خلــق فــراغ‬ ‫ّ‬ ‫يملؤونــه بقيحهــم الــذي يملــؤون بــه (اإلنرتنــت) الفضــاء الرحــب‬ ‫المفتــوح‪ ،‬وال يجــدون حســي ًبا وال رقي ًبــا ير ّدهــم‪ ،‬ويســهم معهــم‬ ‫الهدمــي عشــرات القنــوات الفضائ ّيــة التــي‬ ‫يف دعــم مشــروعهم‬ ‫ّ‬ ‫تعيــد تشــكيل الــرأي العــام بمــا يت ّفــق مــع رؤيــة هــؤالء الهدّ اميــن‪.‬‬ ‫إيهــام النــاس ّ‬ ‫أن بإمكاهنــم اســتنباط األحــكام مــن النصــوص‬ ‫مباشــرة‪ ،‬مــع كوهنــم ُيفلســفون النصــوص إلــى درجــة يصعــب‬ ‫معهــا علــى العلمــاء أن يفهمــوا فلســفتهم‪ ،‬ولكنّهــم ُيشــيعون‬ ‫ثقافــة التفكيــر الحـ ّـر كمــا يزعمــون‪ ،‬وهــم يســعون إلــى الســيطرة‬ ‫علــى العقــل الجمعــي لأل ّمــة‪ ،‬وتغييــر آليــات التفكيــر الســليمة‪،‬‬ ‫ومنهج ّيــات محاكمــة األخبــار المســموعة والنصــوص‪ ،‬إلــى‬ ‫منهج ّيــات توافــق شــذوذاهتم‪ ،‬وتجعــل الجمهــور ينصــاع لهــم‬ ‫مــن غيــر أن ينبــس ببنــت شــفة‪.‬‬

‫الدنيــوي) مــع األحــكام الشــرع ّية‪ ،‬وإغفــال‬ ‫التعامــل (المــا ّد ّي‬ ‫ّ‬ ‫األخــروي) الــذي يح ّقــق التــوازن يف تلــك‬ ‫الجانــب (الروحــي‬ ‫ّ‬ ‫ـج التــي كان مــن‬ ‫األحــكام أصـ ًـا‪ ،‬وهــذا يظهــر جل ًّيــا يف أحــكام الحـ ّ‬ ‫ِح َكـ ِ‬ ‫ـم فرضهــا ً‬ ‫جوانب روح ّيـ ًة َت ِص ُل األ ّم َة الواحد َة‬ ‫أصل أن تح ّقق‬ ‫َ‬ ‫ســماها أبوهــا إبراهيــم (مســلمين) بأطرافهــا وأواســطها‪،‬‬ ‫التــي ّ‬ ‫وتجعــل التــوازن متجل ًّيــا بصورتــه المثلــى يف هــذه األحــكام‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫الحــج‬ ‫الروحــي عنــد التعامــل مــع أحــكام‬ ‫إن إغفــال الجانــب‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ُيســ ّبب ثغــرة كبيــرة يف النظــرة إليــه ين ُفــذ منهــا أدعيــاء اإلصــاح‬

‫والتجديــد ليســيئوا إلــى المســلمين مــن خــال االعــراض علــى‬ ‫شــعائرهم وشــرائعهم‪.‬‬ ‫يشــرك دعــاة اإلصــاح والتجديــد مــع النصــارى واليهــود الذيــن‬ ‫يهاجمــون األ ّمــة المســلمة بأفكارهــا وعقائدهــا‪ ،‬بــل تــكاد تتطابــق‬ ‫أقوالهــم مــع أقــوال المالحــدة والــا دين ّييــن‪ ،‬الذيــن لــم يحاربــوا‬ ‫يو ًمــا إال اإلســام الصــايف الصحيــح‪.‬‬

‫ختا ًما‪:‬‬

‫أن المســلم الباحـ َ‬ ‫لعـ ّـل مــن المالحــظ ّ‬ ‫ـف‬ ‫ـث عــن الحـ ّـق‪ ،‬المنصـ َ‬ ‫ِ‬ ‫يف إعمــال العقــل‪ ،‬الــذي لــم ُيعــط عق َلــ ُه منحــ ًة للمتخ ّلفيــن‬ ‫والمفســدين ليصيغــوه بحســب مقاســهم؛ ال يجــد مــا ّدة‬ ‫بعــض‬ ‫فكر ّيــة ُتغنيــه عنــد التعامــل مــع هــؤالء‪ ،‬نعــم قــد أفــاض ُ‬ ‫المعاصريــن يف مناقشــة تلــك األطروحــات المفســدة يف كتــب‬ ‫مطولــة فمــا نالــت موقعهــا يف مكتبــات النــاس وال يف عقولهــم‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫فرغــوا لهــا مــن أوقاهتــم لفهمهــا وتل ّقــي أجمــلَ‬ ‫وال اســتطاعوا أن ُي ّ‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ردود مفحمــة ومناقشــات قاتلــة لشــحرور ولغيــره‬ ‫مــا فيهــا مــن‬ ‫مــن المفســدين‪.‬‬

‫ّ‬ ‫ولعــل مــن أوجــب الواجبــات علــى طــاب العلــم اليــوم أن‬ ‫يجتهــدوا يف بيــان ضــال أولئــك مــن خــال كلمــات قليلــة‬ ‫ومقاطــع صوت ّيــة قصيــرة تغنــي وتفيــد وتح ّقــق المــراد منهــا عنــد‬ ‫جماهيــر النــاس‪ ،‬واهلل الموفــق والهــادي إلــى ســواء الســبيل‪.‬‬

‫مــع بدايــة الثــورة الســورية املباركــة تشــكلت فــي الداخــل الســوري الهيئــات والروابــط الشــرعية لتســد الفـراغ الحاصــل‬ ‫مــن غيــاب مؤسســات الدولــة وانحســارها فــي املناطــق املحــررة‪ ،‬علــى صعيــد آخــر شــهد عــام ‪ 2011‬مبــادرات إليجــاد كيــان‬ ‫جامــع ّ‬ ‫موحــد مــن قبــل العلمــاء والروابــط الت ــي أجب ــرها النظــام علــى االغت ـراب‪ ..‬وعلــى خطــى التوحيــد اجتمــع نحــو ‪40‬‬ ‫ِ‬ ‫رابطــة وهيئــة شــرعية فــي منتصــف نيســان ‪ ،2014‬ليعلنــوا تأســيس «املجل ــس اإلس ــامي الس ــوري»‪ ،‬الــذي ضــم العلمــاء‬ ‫ً‬ ‫والهيئــات الشــرعية والروابــط العلميــة الســورية‪ ،‬ليكــون ق ـر ًارا مشت ــركا يعب ــر عــن إرادة موحــدة لرمــوز املــدارس الفكريــة‬ ‫اإلســامية املعتدلــة فــي ســوريا ‪.‬‬

‫الهوية‬ ‫هيئــة مرجعيــة شــرعية وســطية ســورية‪ ،‬تســعى إلــى جمــع كلمــة العلمــاء والدعــاة وممثلــي الكيانــات الشــرعية‪ ،‬وتوجيــه الشــعب‬ ‫الســوري‪ ،‬وإيجــاد الحلــول الشــرعية ملشــكالته وقضايــاه‪ ،‬والحفــاظ علــى هويتــه ومســار ثورتــه‪.‬‬

‫الرسالة‬ ‫تـرسيخ املشروع اإلسالمي وتفعيل دور املؤسسة الديـنية في املجتمع السوري‪.‬‬

‫الرؤية‬ ‫تمكيـن املرجعية اإلسالمية للشعب السوري من االضطالع بدورها الريادي في املجتمع‪.‬‬

‫‪96‬‬


‫المفسدون في األرض والحج‬ ‫الفكر ّيــة لأل ّمــة وجعلهــا يف مقابلــة القــرآن (الديــن عندهــم)‪،‬‬ ‫فكــري‬ ‫وهــذا الهــدم للمرجع ّيــات يهــدف إلــى خلــق فــراغ‬ ‫ّ‬ ‫يملؤونــه بقيحهــم الــذي يملــؤون بــه (اإلنرتنــت) الفضــاء الرحــب‬ ‫المفتــوح‪ ،‬وال يجــدون حســي ًبا وال رقي ًبــا ير ّدهــم‪ ،‬ويســهم معهــم‬ ‫الهدمــي عشــرات القنــوات الفضائ ّيــة التــي‬ ‫يف دعــم مشــروعهم‬ ‫ّ‬ ‫تعيــد تشــكيل الــرأي العــام بمــا يت ّفــق مــع رؤيــة هــؤالء الهدّ اميــن‪.‬‬ ‫إيهــام النــاس ّ‬ ‫أن بإمكاهنــم اســتنباط األحــكام مــن النصــوص‬ ‫مباشــرة‪ ،‬مــع كوهنــم ُيفلســفون النصــوص إلــى درجــة يصعــب‬ ‫معهــا علــى العلمــاء أن يفهمــوا فلســفتهم‪ ،‬ولكنّهــم ُيشــيعون‬ ‫ثقافــة التفكيــر الحـ ّـر كمــا يزعمــون‪ ،‬وهــم يســعون إلــى الســيطرة‬ ‫علــى العقــل الجمعــي لأل ّمــة‪ ،‬وتغييــر آليــات التفكيــر الســليمة‪،‬‬ ‫ومنهج ّيــات محاكمــة األخبــار المســموعة والنصــوص‪ ،‬إلــى‬ ‫منهج ّيــات توافــق شــذوذاهتم‪ ،‬وتجعــل الجمهــور ينصــاع لهــم‬ ‫مــن غيــر أن ينبــس ببنــت شــفة‪.‬‬

‫الدنيــوي) مــع األحــكام الشــرع ّية‪ ،‬وإغفــال‬ ‫التعامــل (المــا ّد ّي‬ ‫ّ‬ ‫األخــروي) الــذي يح ّقــق التــوازن يف تلــك‬ ‫الجانــب (الروحــي‬ ‫ّ‬ ‫ـج التــي كان مــن‬ ‫األحــكام أصـ ًـا‪ ،‬وهــذا يظهــر جل ًّيــا يف أحــكام الحـ ّ‬ ‫ِح َكـ ِ‬ ‫ـم فرضهــا ً‬ ‫جوانب روح ّيـ ًة َت ِص ُل األ ّم َة الواحد َة‬ ‫أصل أن تح ّقق‬ ‫َ‬ ‫ســماها أبوهــا إبراهيــم (مســلمين) بأطرافهــا وأواســطها‪،‬‬ ‫التــي ّ‬ ‫وتجعــل التــوازن متجل ًّيــا بصورتــه المثلــى يف هــذه األحــكام‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫الحــج‬ ‫الروحــي عنــد التعامــل مــع أحــكام‬ ‫إن إغفــال الجانــب‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ُيســ ّبب ثغــرة كبيــرة يف النظــرة إليــه ين ُفــذ منهــا أدعيــاء اإلصــاح‬

‫والتجديــد ليســيئوا إلــى المســلمين مــن خــال االعــراض علــى‬ ‫شــعائرهم وشــرائعهم‪.‬‬ ‫يشــرك دعــاة اإلصــاح والتجديــد مــع النصــارى واليهــود الذيــن‬ ‫يهاجمــون األ ّمــة المســلمة بأفكارهــا وعقائدهــا‪ ،‬بــل تــكاد تتطابــق‬ ‫أقوالهــم مــع أقــوال المالحــدة والــا دين ّييــن‪ ،‬الذيــن لــم يحاربــوا‬ ‫يو ًمــا إال اإلســام الصــايف الصحيــح‪.‬‬

‫ختا ًما‪:‬‬

‫أن المســلم الباحـ َ‬ ‫لعـ ّـل مــن المالحــظ ّ‬ ‫ـف‬ ‫ـث عــن الحـ ّـق‪ ،‬المنصـ َ‬ ‫ِ‬ ‫يف إعمــال العقــل‪ ،‬الــذي لــم ُيعــط عق َلــ ُه منحــ ًة للمتخ ّلفيــن‬ ‫والمفســدين ليصيغــوه بحســب مقاســهم؛ ال يجــد مــا ّدة‬ ‫بعــض‬ ‫فكر ّيــة ُتغنيــه عنــد التعامــل مــع هــؤالء‪ ،‬نعــم قــد أفــاض ُ‬ ‫المعاصريــن يف مناقشــة تلــك األطروحــات المفســدة يف كتــب‬ ‫مطولــة فمــا نالــت موقعهــا يف مكتبــات النــاس وال يف عقولهــم‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫فرغــوا لهــا مــن أوقاهتــم لفهمهــا وتل ّقــي أجمــلَ‬ ‫وال اســتطاعوا أن ُي ّ‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ردود مفحمــة ومناقشــات قاتلــة لشــحرور ولغيــره‬ ‫مــا فيهــا مــن‬ ‫مــن المفســدين‪.‬‬

‫ّ‬ ‫ولعــل مــن أوجــب الواجبــات علــى طــاب العلــم اليــوم أن‬ ‫يجتهــدوا يف بيــان ضــال أولئــك مــن خــال كلمــات قليلــة‬ ‫ومقاطــع صوت ّيــة قصيــرة تغنــي وتفيــد وتح ّقــق المــراد منهــا عنــد‬ ‫جماهيــر النــاس‪ ،‬واهلل الموفــق والهــادي إلــى ســواء الســبيل‪.‬‬

‫مــع بدايــة الثــورة الســورية املباركــة تشــكلت فــي الداخــل الســوري الهيئــات والروابــط الشــرعية لتســد الفـراغ الحاصــل‬ ‫مــن غيــاب مؤسســات الدولــة وانحســارها فــي املناطــق املحــررة‪ ،‬علــى صعيــد آخــر شــهد عــام ‪ 2011‬مبــادرات إليجــاد كيــان‬ ‫جامــع ّ‬ ‫موحــد مــن قبــل العلمــاء والروابــط الت ــي أجب ــرها النظــام علــى االغت ـراب‪ ..‬وعلــى خطــى التوحيــد اجتمــع نحــو ‪40‬‬ ‫ِ‬ ‫رابطــة وهيئــة شــرعية فــي منتصــف نيســان ‪ ،2014‬ليعلنــوا تأســيس «املجل ــس اإلس ــامي الس ــوري»‪ ،‬الــذي ضــم العلمــاء‬ ‫ً‬ ‫والهيئــات الشــرعية والروابــط العلميــة الســورية‪ ،‬ليكــون ق ـر ًارا مشت ــركا يعب ــر عــن إرادة موحــدة لرمــوز املــدارس الفكريــة‬ ‫اإلســامية املعتدلــة فــي ســوريا ‪.‬‬

‫الهوية‬ ‫هيئــة مرجعيــة شــرعية وســطية ســورية‪ ،‬تســعى إلــى جمــع كلمــة العلمــاء والدعــاة وممثلــي الكيانــات الشــرعية‪ ،‬وتوجيــه الشــعب‬ ‫الســوري‪ ،‬وإيجــاد الحلــول الشــرعية ملشــكالته وقضايــاه‪ ،‬والحفــاظ علــى هويتــه ومســار ثورتــه‪.‬‬

‫الرسالة‬ ‫تـرسيخ املشروع اإلسالمي وتفعيل دور املؤسسة الديـنية في املجتمع السوري‪.‬‬

‫الرؤية‬ ‫تمكيـن املرجعية اإلسالمية للشعب السوري من االضطالع بدورها الريادي في املجتمع‪.‬‬

‫‪96‬‬



Issuu converts static files into: digital portfolios, online yearbooks, online catalogs, digital photo albums and more. Sign up and create your flipbook.