محتويات العدد حصاد قرن من الزمان -رئيس التحريـر 2 .................................................................................................................................. ُ َّ وضوابطه -الدكتور :معاذ الخن 5 .............................................................................................................................. التكفي ُـر ِ ّ رعية في تقديم وجود َّ قواعد ّ الش َّ الدولة املسلمة السياسة ِ ِ ومصالحها على إقامة الحدود -الباحث :محمد علي النجار16 ................................................................................................... اإلمام عبد القادر الجيالن ّـي وتالمذته في اإلصالح جهود ِ ُّ السن ّ ِـي وبـناء املدارس -الدكتور :أيمن يزبك 28 .......................................................................................................................... ّ األصولييـن في االع ِتدال الفكر ّي -الدكتور :حسن الخطاف 38 ................................................................................ أثـر مناهج َّ حقوق ذوي االحتياجات الخاصة من منظور القرآن الكريم -الدكتور :محمد محمود كالو 45 .................................................... َّ ُّ العلمي في زمن الثورات العرب َّـية -الدكتور :عبد الجواد حردان 53 ..................................................................................... الفراغ األصولي في تفسيـر ُّ ُّ النصوص وتطبـيقه على آية الجزية -الدكتور :أحمد السعدي 65 .................................................. املنهج موقف اإلسالم من الظاهرة القومية -الدكتور :حسيـن عبد الهادي آل بكر 72 .........................................................................
ﺃﺳﺮﺓ ﺍﻟﺘﺤﺮﻳﺮ رئيس التحـريـر :الدكتور حسيـن عبد الهادي آل بكر مديـر التـ ـ ــحريـر :ال ـ ــدكت ـ ـ ــور حس ـ ــن أحـمــد الخـط ـ ـ ــاف الـم ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـح ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــرر :األس ـ ـت ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــاذ م ـ ـح ـ ـم ـ ــد ع ـ ـل ـ ــي الن ـ ـج ـ ــار مستشار علمـي :الدكت ـ ـ ـ ــور م ــحم ـ ـ ـ ــد أيمـ ـ ـ ــن الجمـ ـ ـ ــال املدقق اللغوي :األستـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــاذ أحـ ـم ـ ــد ع ـل ـ ــي ال ـيـوس ـ ــف ال ـبـريـ ـ ـ ـ ــد اإللك ـ ـ ـ ـتـرونـ ــي للـمجل ـ ـ ـ ــةjou@sy-sic.com :
العدد 2
رجب 1439هـ آذار 2018م
القدس أرض رباط وجهاد إلى يوم القيامة -الدكتور :ليث سعود 79 ........................................................................................... اإلسالمي من الفرد إلى َّ ُّ بـنـياننا الدولة -الدكتور :محمد العبدة 85 ............................................................................................. الس َّنة ّ ُّ الن َّ الذمة في ُّ الرد على شبهة (األمر بإهانة أهل َّ بوية) .الدكتور :علي محمد حسن األزهري 89 .......................................... الفتح أم االنتصار للمظلوم؟ -الدكتور :محمد أيمن الجمال 92 .............................................................................................. «إلى رسول هللا» قصيدة شع َّرية -الشاعر :أنس الدغيم 94 ...................................................................................................... بقايا مداد -الدكتور :عبد الكريم بكار 96 ...................................................................................................................................
محتويات العدد حصاد قرن من الزمان -رئيس التحريـر 2 .................................................................................................................................. ُ َّ وضوابطه -الدكتور :معاذ الخن 5 .............................................................................................................................. التكفي ُـر ِ ّ رعية في تقديم وجود َّ قواعد ّ الش َّ الدولة املسلمة السياسة ِ ِ ومصالحها على إقامة الحدود -الباحث :محمد علي النجار16 ................................................................................................... اإلمام عبد القادر الجيالن ّـي وتالمذته في اإلصالح جهود ِ ُّ السن ّ ِـي وبـناء املدارس -الدكتور :أيمن يزبك 28 .......................................................................................................................... ّ األصولييـن في االع ِتدال الفكر ّي -الدكتور :حسن الخطاف 38 ................................................................................ أثـر مناهج َّ حقوق ذوي االحتياجات الخاصة من منظور القرآن الكريم -الدكتور :محمد محمود كالو 45 .................................................... َّ ُّ العلمي في زمن الثورات العرب َّـية -الدكتور :عبد الجواد حردان 53 ..................................................................................... الفراغ األصولي في تفسيـر ُّ ُّ النصوص وتطبـيقه على آية الجزية -الدكتور :أحمد السعدي 65 .................................................. املنهج موقف اإلسالم من الظاهرة القومية -الدكتور :حسيـن عبد الهادي آل بكر 72 .........................................................................
ﺃﺳﺮﺓ ﺍﻟﺘﺤﺮﻳﺮ رئيس التحـريـر :الدكتور حسيـن عبد الهادي آل بكر مديـر التـ ـ ــحريـر :ال ـ ــدكت ـ ـ ــور حس ـ ــن أحـمــد الخـط ـ ـ ــاف الـم ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـح ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــرر :األس ـ ـت ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــاذ م ـ ـح ـ ـم ـ ــد ع ـ ـل ـ ــي الن ـ ـج ـ ــار مستشار علمـي :الدكت ـ ـ ـ ــور م ــحم ـ ـ ـ ــد أيمـ ـ ـ ــن الجمـ ـ ـ ــال املدقق اللغوي :األستـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــاذ أحـ ـم ـ ــد ع ـل ـ ــي ال ـيـوس ـ ــف ال ـبـريـ ـ ـ ـ ــد اإللك ـ ـ ـ ـتـرونـ ــي للـمجل ـ ـ ـ ــةjou@sy-sic.com :
العدد 2
رجب 1439هـ آذار 2018م
القدس أرض رباط وجهاد إلى يوم القيامة -الدكتور :ليث سعود 79 ........................................................................................... اإلسالمي من الفرد إلى َّ ُّ بـنـياننا الدولة -الدكتور :محمد العبدة 85 ............................................................................................. الس َّنة ّ ُّ الن َّ الذمة في ُّ الرد على شبهة (األمر بإهانة أهل َّ بوية) .الدكتور :علي محمد حسن األزهري 89 .......................................... الفتح أم االنتصار للمظلوم؟ -الدكتور :محمد أيمن الجمال 92 .............................................................................................. «إلى رسول هللا» قصيدة شع َّرية -الشاعر :أنس الدغيم 94 ...................................................................................................... بقايا مداد -الدكتور :عبد الكريم بكار 96 ...................................................................................................................................
افتتاحية العدد
افتتاحية العدد
العدد 2رجب 1439هـ
ٍ قرن من الزّمان حصادُ د .حسيـن عبد الهادي آل بكر -رئيس التحريـر
إن التدافــع بـي ــن البشــر فــي هــذه الحيــاة الدن ــيا ســنة َّ إلهيــة قاهــرة ،تم�شــي علــى كل البشــرمؤمنهــم وكافرهــم قــال هللا تعالــى: َ َ ْ َ َ ْ ُ َّ َّ َ َ ْ َ ُ ْ َ ْ َ َ َ َ ْ َ ْ ُ َ َ َّ َّ َ ُ َ ْ َ ْ َ ضـ ٍـل َعلــى ال َع ِالي ـ َـن )) [ســورة البقــرة ،]251 :وقــال تعالــى: ـض لفســد ِت الرض ول ِكــن الل ذو ف (( ولــول دفــع ِ الل النــاس بعضهــم ِببعـ ٍ َ َ َ ْ َ ْ َّ َ ٌ ُ ّ َّ َ َ ْ َ َ ْ ُ َّ َ َ َ ْ ْ َ َ َ َ َ ُ َ َ َ ُ ْ َ َ ٌ ُ ْ َ َ ُ ُ الل ك ِثي ًـرا )) [سورة الحج :آية .]40 اجد يذك ُر ِفيها اسم ِ (( ولول دفع ِ ض له ِدمت صو ِامع و ِبيع وصلوات ومس ِ الل الناس بعضهم ِببع ٍ والحكمــة مــن هــذا التدافــع لــم يهتـ ِـد إليهــا أحـ ٌـد قبــل نــزول القـرآن الكريــم؛ ذلــك ألن هللا خلــق األنــواع وأراد لهــا البقــاء ،فــأودع فيهــا قوى تدافع بها عن نفسها ،ولوال هذه القوى التـي ّ ً خولها هللا تعالى األنــواع الشـ ّ ـتد طمــع القــوي فــي إهــاك الضعيــف ...فبهــذا التدافــع حصلــت ســامة القــوي كمــا حصلــت ســامة الضعيــف ً أيضــا ،ألن القــوي إذا وجــد التعــب واألذى فــي االعتــداء علــى الضعفــاء ســئمت نفســه ودعتــه إلــى الكــف واالقتصــار علــى مــا فــي يــده. ولعــل الحــروب بأنواعهــا مــن أعظــم مظاهــر ســنة التدافــع بـي ــن البشــر ،فبالحــروب الجائــرة يطلــب املعتــدي االســتحواذ علــى مــا فــي أيــدي الضعفــاء ،وبالحــروب العادلــة ي ــنتصف املحــق مــن املبطــل والضعيــف مــن القــوي. ولعلــه ال يمكــن املــرور علــى هــذه املســألة دون التوقــف علــى البــون الشاســع فــي اختــاف مفاهيــم الصـراع والتدافــع بـي ــن الغــرب واملسلمي ــن ...فاملســلمون هدفهــم تبليــغ دي ــن هللا لعبــاده وتحري ــر اإلنســان ونشــر الرخــاء والســام ،وقــد لخــص ربعــي ب ــن عامــر ر�ضــي ْ هللا عنه ذلك عندما سأله رستم :ما جاء بكم؟ فقالُ َّ : (الل ْاب َت َعث َنا ُّ ْ ل ُن ْخر َج َم ْن َش َاء م ْن ع َب َادة ْالع َباد إ َلى ع َب َادة َّ َ ْ الدن َيا يق ِ ِ ِ ِ ِ ِ ِ ِ ِ ِ الل ،و ِمن ِض ِ َ ِ َ َ َ ْ َ ْ ََْْ َ َ ْ ْ ْ َ الســا ِم). ِإلــى ِســع ِتها ،و ِمــن جــو ِر الديـ ِـان ِإلــى عــد ِل ِ بـي ــنما نجــد أهــداف الغــرب فــي الحــروب تــكاد تنحصــر فــي القضــاء علــى اآلخــر وإلغائــه والســيطرة علــى مــا فــي يــده مــن خــال فلســفة البقاء لألقوى حسب نظرية دارون ،ونظرية هوبز الذي يـرى أن
اإلنســان ذئــب ألخيــه اإلنســان وأنــه مجبــول بطبعــه علــى األنان ــية والطمــع وليســت الحيــاة إال مســرح لحــرب الــكل علــى الــكل ...وهــذا هــو الفــارق بـي ــن دوافعنــا نحــن املسلمي ــن فــي الجهــاد ومجالــدة الظاملي ــن وبـي ــن دوافــع الغــرب فــي الحــرب والصـراع. لقــد بــدأ العالــم الغرب ــي التفافــه حــول العالــم اإلســامي فــي العــام الــذي ســقطت فيــه غرناطــة وتــم فيــه اقتــاع اإلســام مــن غــرب أوربــا فــي القــرن الخامــس عشــر امليــادي ،ثــم ُ اقت ِحــم العالــم اإلســامي مــن خــال حملــة نابليــون علــى مصــر فــي أواخــر القــرن الثامــن عشــر امليــادي ،واسـ ّ ـتمر التآمــر علــى العالــم اإلســامي املتهــاوي حتــى معاهــدة ســايكس ب ــيكو عــام 1916/م /ووعــد بلفــور 1917/م./ لقــد ّ حقــق الغــرب فــي حربــه علــى اإلســام أهدافــا عــدة وتقــدم فيهــا خطــوات خطي ــرة ...وكانــت أكب ــر ضربــة وجههــا للمسلي ــن إســقاطه الخالفــة اإلســامية عــام 1924/م /حيــث حقــق هدفــه األول وهــو إســقاط إســطنبول العاصمــة السياســية للمسلمي ــن وقبــل ذلــك - وبواســطة الحملتـي ــن الفرنســية والبـريطان ــية ومــا تبعهمــا -حقــق هدفــه بإخ ـراج القاهــرة العاصمــة العلميــة للمسلمي ــن مــن دائــرة الصراع اإلســامي الغرب ــي ...ونتج عن ذلك تحقيقه لهدفه الثالث فــي اتفاقيــة ســايكس ب ــيكو أال وهــو تمزيــق األمــة إلــى دويــات بحــدود سياسية وجغرافية أصبحت مقدسة عند بعض املسلميـن أكثـر من قداسة األمة نفسها ،ولم يكتف بذلك حتى زرع في فلسطي ــن ً كيانــا ًّ ً غاصبــا ي ـراقب تنفيــذ خططــه بكافــة مراحلهــا. يهوديــا 2
ولقــد تحــول الغــرب بعــد هــذه االنتصارات إلــى املرحلــة الالحقــة واألخطــر أال وهــي ًّ ًّ وعقائديــا وإزالــة فكريــا تدمي ــر األمــة اإلســام مــن الحيــاة وإحــال الثقافــة الغرب ــية محلــه ،ولكنــه فشــل فــي هــذه املرحلــة وهــا هــو منــذ أكث ــر مــن نصــف قــرن يحــاول ذلــك ولكــن دون جــدوى... ومــا الصحــوة اإلســامية إال دليــل علــى هــذا الفشــل ،كمــا أصبــح سماســرته ً الذي ــن طبلــوا وزمــروا لــه ً منــا طويــا فلــول ز منبــوذة فــي الواقــع ال أث ــر لهــم إال علــى طبقــات قليلــة فــي املجتمــع ،ويــدل علــى ذلــك نتائــج االنتخابــات فــي عمــوم بلــدان العالــم اإلســامي. ورغــم كل املصائــب الت ــي حلــت ب ــنا مــن الغــرب وعمالئــه ال زال هنــاك مــن بعــض املحسوبـي ــن علــى هــذه األمــة مــن يتفلســف وي ــنكر وجــود أي تآمــر علــى هــذه األمــة بــل ويزعــم أن كل مــا أصاب ــنا مــن نكبــات مــا هــو إال أحــداث طب ــيعية يجــب أن نعتــاد عليهــا وال نظلــم حمــاة اإلنسان ــية -الغــرب وطفلتهــم إس ـرائيل -ونحملهــم مــا أصاب ــنا وباقــي األمــم الضعيفــة مــن فقــر وتخلــف ودمــار ،مــع العلــم أننــا خرجنــا مــن مرحلــة التآمــر إلــى مرحلــة التالحــم . وإن قضيــة فلسطي ــن لهــي أوضــح هــذه امليادي ــن الت ــي اجتمــع فيهــا العالــم الغرب ــي واليهــودي بــكل أطيافــه وتآمــر عليهــا عب ــر مخطــط مــدروس ال يجهلــه عاقــل... وسأســتعرض مخطــط التآمــر علــى ّ فلسطي ــن ،وكيــف تــم تنفيــذه بدقــة كل عشــر ســنوات أو عشري ــن ســنة حتــى
العدد 2رجب 1439هـ
وصــل العــدو إلــى مرحلــة إعــان مدي ــنة القــدس عاصمــة إلس ـرائيل: -1لقــد بــدأت خطــة اليهــود والغــرب فــي التآمــر علــى فلسطي ــن بخطوتهــا العمليــة األولى باملؤتمر الصهيون ــي األول في مدي ــنة بــال بسويس ـرا عــام 1897م. -2ثم مؤتمر نبـرمان عام 1907م. -3ثم وعد بلفور عام 1917م. -4وتلتهــا مرحلــة التأســيس عب ــر اقت ـراح لجنة بـيل تقسيم فلسطيـن عام 1937م. -5وتمــت مرحلــة التنفيــذ عب ــر والدة الكيــان الصهيون ــي عــام 1948م. -6وأمــا مرحلــة التمــدد فقــد كانــت فــي حــرب حزي ـران وهزيمــة األنظمــة القوميــة العلمان ــية ،حــرب الســت ســاعات عــام 1967م. -7ليصلــوا بعدهــا إلــى االعت ـراف الرســمي بوجــوده مــن خــال زيــارة الســادات للقــدس عــام 1977م. -8إعــان انتهــاء الحــرب معــه بتوقيــع اتفــاق الســلطة الفلسطيـن ــية مــع اليهــود عــام 1997م. -9وإجمــاع حكومــي عرب ــي علــى اســتجداء الســام مــع إسـرائيل عب ــر مــا ســمي (بســام الشــجعان) أو ســام املتخاذلي ــن في مؤتمر القمــة العرب ــية فــي بـي ــروت عــام 2002م. ً -10وأخيـر ــا اعت ـراف ت ـرامب بالقــدس عاصمــة إلس ـرائيل عــام 2017م. ّ إن الخطــوات الســابقة تبـي ــن مخطــط التآمــر الصهيون ــي والعالمــي علــى فلسطي ــن خــال أكث ــر مــن قــرن مــن
الزمــان ،وقــد شــارك فــي هــذا التآمــر الغــرب الرأســمالي والشــرق الشــيوعي واألنظمــة الت ــي كشــفت عــن ســقوطها فــي قمــة بـي ــروت عــام 2002م. هــذا مــا خلفتــه األنظمــة االســتبدادية املتخلفــة بعــد رحلــة قــرن مــن الزمــن لشــعوبها جهــل وضعــف وفتنــة فضاعــت األرض ودنســت املقدســات وهــدرت ُ الكرامــة وفقــد األمــن. إن املتتبــع ملسي ــرة األحــداث العامليــة فــي عصــر العوملــة فــي القــرن الحــادي والعشري ــن يجدهــا تصــب جميعهــا فــي مصــب واحـ ٍـد وهــو تطويــق العالــم اإلســامي ،واســتنزاف مــوارده وخي ـراته. وتــزداد الحســرة وامل ـرارة فــي قلــب املســلم ً مدعومــا حي ــن ي ــرى الوجــود الصهيون ــي بتأييــد ومباركــة األنظمــة العامليــة والعرب ــية علــى الســواء ،دون أن تلــوح فــي األفــق بارقــة أمــل بتغي ــر هــذا الواقــع علــى املــدى القريــب علــى األقــل. وليــت األمــر وقــف عنــد ضعــف هــؤالء الحــكام أو ســكوتهم بــل تعـ ّـداه اليــوم ّ ـداء ورضاهــم ون ــيل إلــى مخاطبــة ود األعـ ِ الحظــوة واملكانــة لديهــم ،وقــد آن األوان حســب زعمهــم -لت ــرفرف رايــات الســامواالزدهــار والرخــاء علــى املنطقــة ،وفــي ً املقابــل تــزداد إس ـرائيل ّ تعن ًتــا ووحشـ ّـية ضـ ّـد الوجــود الفلسطيـن ـ ّ ِـي وكل مــن َّ يتحدث عنه أو ّ يؤيده ،بل إن أي شخص ِ أو جهــة تطالــب بإنقــاذ القــدس واألق�صــى َّ باألصوليــة واإلرهــاب مــن اليهــود تتهــم َّ والرجعيــة والعيــش خــارج الواقــع. 3
افتتاحية العدد
افتتاحية العدد
العدد 2رجب 1439هـ
ٍ قرن من الزّمان حصادُ د .حسيـن عبد الهادي آل بكر -رئيس التحريـر
إن التدافــع بـي ــن البشــر فــي هــذه الحيــاة الدن ــيا ســنة َّ إلهيــة قاهــرة ،تم�شــي علــى كل البشــرمؤمنهــم وكافرهــم قــال هللا تعالــى: َ َ ْ َ َ ْ ُ َّ َّ َ َ ْ َ ُ ْ َ ْ َ َ َ َ ْ َ ْ ُ َ َ َّ َّ َ ُ َ ْ َ ْ َ ضـ ٍـل َعلــى ال َع ِالي ـ َـن )) [ســورة البقــرة ،]251 :وقــال تعالــى: ـض لفســد ِت الرض ول ِكــن الل ذو ف (( ولــول دفــع ِ الل النــاس بعضهــم ِببعـ ٍ َ َ َ ْ َ ْ َّ َ ٌ ُ ّ َّ َ َ ْ َ َ ْ ُ َّ َ َ َ ْ ْ َ َ َ َ َ ُ َ َ َ ُ ْ َ َ ٌ ُ ْ َ َ ُ ُ الل ك ِثي ًـرا )) [سورة الحج :آية .]40 اجد يذك ُر ِفيها اسم ِ (( ولول دفع ِ ض له ِدمت صو ِامع و ِبيع وصلوات ومس ِ الل الناس بعضهم ِببع ٍ والحكمــة مــن هــذا التدافــع لــم يهتـ ِـد إليهــا أحـ ٌـد قبــل نــزول القـرآن الكريــم؛ ذلــك ألن هللا خلــق األنــواع وأراد لهــا البقــاء ،فــأودع فيهــا قوى تدافع بها عن نفسها ،ولوال هذه القوى التـي ّ ً خولها هللا تعالى األنــواع الشـ ّ ـتد طمــع القــوي فــي إهــاك الضعيــف ...فبهــذا التدافــع حصلــت ســامة القــوي كمــا حصلــت ســامة الضعيــف ً أيضــا ،ألن القــوي إذا وجــد التعــب واألذى فــي االعتــداء علــى الضعفــاء ســئمت نفســه ودعتــه إلــى الكــف واالقتصــار علــى مــا فــي يــده. ولعــل الحــروب بأنواعهــا مــن أعظــم مظاهــر ســنة التدافــع بـي ــن البشــر ،فبالحــروب الجائــرة يطلــب املعتــدي االســتحواذ علــى مــا فــي أيــدي الضعفــاء ،وبالحــروب العادلــة ي ــنتصف املحــق مــن املبطــل والضعيــف مــن القــوي. ولعلــه ال يمكــن املــرور علــى هــذه املســألة دون التوقــف علــى البــون الشاســع فــي اختــاف مفاهيــم الصـراع والتدافــع بـي ــن الغــرب واملسلمي ــن ...فاملســلمون هدفهــم تبليــغ دي ــن هللا لعبــاده وتحري ــر اإلنســان ونشــر الرخــاء والســام ،وقــد لخــص ربعــي ب ــن عامــر ر�ضــي ْ هللا عنه ذلك عندما سأله رستم :ما جاء بكم؟ فقالُ َّ : (الل ْاب َت َعث َنا ُّ ْ ل ُن ْخر َج َم ْن َش َاء م ْن ع َب َادة ْالع َباد إ َلى ع َب َادة َّ َ ْ الدن َيا يق ِ ِ ِ ِ ِ ِ ِ ِ ِ ِ الل ،و ِمن ِض ِ َ ِ َ َ َ ْ َ ْ ََْْ َ َ ْ ْ ْ َ الســا ِم). ِإلــى ِســع ِتها ،و ِمــن جــو ِر الديـ ِـان ِإلــى عــد ِل ِ بـي ــنما نجــد أهــداف الغــرب فــي الحــروب تــكاد تنحصــر فــي القضــاء علــى اآلخــر وإلغائــه والســيطرة علــى مــا فــي يــده مــن خــال فلســفة البقاء لألقوى حسب نظرية دارون ،ونظرية هوبز الذي يـرى أن
اإلنســان ذئــب ألخيــه اإلنســان وأنــه مجبــول بطبعــه علــى األنان ــية والطمــع وليســت الحيــاة إال مســرح لحــرب الــكل علــى الــكل ...وهــذا هــو الفــارق بـي ــن دوافعنــا نحــن املسلمي ــن فــي الجهــاد ومجالــدة الظاملي ــن وبـي ــن دوافــع الغــرب فــي الحــرب والصـراع. لقــد بــدأ العالــم الغرب ــي التفافــه حــول العالــم اإلســامي فــي العــام الــذي ســقطت فيــه غرناطــة وتــم فيــه اقتــاع اإلســام مــن غــرب أوربــا فــي القــرن الخامــس عشــر امليــادي ،ثــم ُ اقت ِحــم العالــم اإلســامي مــن خــال حملــة نابليــون علــى مصــر فــي أواخــر القــرن الثامــن عشــر امليــادي ،واسـ ّ ـتمر التآمــر علــى العالــم اإلســامي املتهــاوي حتــى معاهــدة ســايكس ب ــيكو عــام 1916/م /ووعــد بلفــور 1917/م./ لقــد ّ حقــق الغــرب فــي حربــه علــى اإلســام أهدافــا عــدة وتقــدم فيهــا خطــوات خطي ــرة ...وكانــت أكب ــر ضربــة وجههــا للمسلي ــن إســقاطه الخالفــة اإلســامية عــام 1924/م /حيــث حقــق هدفــه األول وهــو إســقاط إســطنبول العاصمــة السياســية للمسلمي ــن وقبــل ذلــك - وبواســطة الحملتـي ــن الفرنســية والبـريطان ــية ومــا تبعهمــا -حقــق هدفــه بإخ ـراج القاهــرة العاصمــة العلميــة للمسلمي ــن مــن دائــرة الصراع اإلســامي الغرب ــي ...ونتج عن ذلك تحقيقه لهدفه الثالث فــي اتفاقيــة ســايكس ب ــيكو أال وهــو تمزيــق األمــة إلــى دويــات بحــدود سياسية وجغرافية أصبحت مقدسة عند بعض املسلميـن أكثـر من قداسة األمة نفسها ،ولم يكتف بذلك حتى زرع في فلسطي ــن ً كيانــا ًّ ً غاصبــا ي ـراقب تنفيــذ خططــه بكافــة مراحلهــا. يهوديــا 2
ولقــد تحــول الغــرب بعــد هــذه االنتصارات إلــى املرحلــة الالحقــة واألخطــر أال وهــي ًّ ًّ وعقائديــا وإزالــة فكريــا تدمي ــر األمــة اإلســام مــن الحيــاة وإحــال الثقافــة الغرب ــية محلــه ،ولكنــه فشــل فــي هــذه املرحلــة وهــا هــو منــذ أكث ــر مــن نصــف قــرن يحــاول ذلــك ولكــن دون جــدوى... ومــا الصحــوة اإلســامية إال دليــل علــى هــذا الفشــل ،كمــا أصبــح سماســرته ً الذي ــن طبلــوا وزمــروا لــه ً منــا طويــا فلــول ز منبــوذة فــي الواقــع ال أث ــر لهــم إال علــى طبقــات قليلــة فــي املجتمــع ،ويــدل علــى ذلــك نتائــج االنتخابــات فــي عمــوم بلــدان العالــم اإلســامي. ورغــم كل املصائــب الت ــي حلــت ب ــنا مــن الغــرب وعمالئــه ال زال هنــاك مــن بعــض املحسوبـي ــن علــى هــذه األمــة مــن يتفلســف وي ــنكر وجــود أي تآمــر علــى هــذه األمــة بــل ويزعــم أن كل مــا أصاب ــنا مــن نكبــات مــا هــو إال أحــداث طب ــيعية يجــب أن نعتــاد عليهــا وال نظلــم حمــاة اإلنسان ــية -الغــرب وطفلتهــم إس ـرائيل -ونحملهــم مــا أصاب ــنا وباقــي األمــم الضعيفــة مــن فقــر وتخلــف ودمــار ،مــع العلــم أننــا خرجنــا مــن مرحلــة التآمــر إلــى مرحلــة التالحــم . وإن قضيــة فلسطي ــن لهــي أوضــح هــذه امليادي ــن الت ــي اجتمــع فيهــا العالــم الغرب ــي واليهــودي بــكل أطيافــه وتآمــر عليهــا عب ــر مخطــط مــدروس ال يجهلــه عاقــل... وسأســتعرض مخطــط التآمــر علــى ّ فلسطي ــن ،وكيــف تــم تنفيــذه بدقــة كل عشــر ســنوات أو عشري ــن ســنة حتــى
العدد 2رجب 1439هـ
وصــل العــدو إلــى مرحلــة إعــان مدي ــنة القــدس عاصمــة إلس ـرائيل: -1لقــد بــدأت خطــة اليهــود والغــرب فــي التآمــر علــى فلسطي ــن بخطوتهــا العمليــة األولى باملؤتمر الصهيون ــي األول في مدي ــنة بــال بسويس ـرا عــام 1897م. -2ثم مؤتمر نبـرمان عام 1907م. -3ثم وعد بلفور عام 1917م. -4وتلتهــا مرحلــة التأســيس عب ــر اقت ـراح لجنة بـيل تقسيم فلسطيـن عام 1937م. -5وتمــت مرحلــة التنفيــذ عب ــر والدة الكيــان الصهيون ــي عــام 1948م. -6وأمــا مرحلــة التمــدد فقــد كانــت فــي حــرب حزي ـران وهزيمــة األنظمــة القوميــة العلمان ــية ،حــرب الســت ســاعات عــام 1967م. -7ليصلــوا بعدهــا إلــى االعت ـراف الرســمي بوجــوده مــن خــال زيــارة الســادات للقــدس عــام 1977م. -8إعــان انتهــاء الحــرب معــه بتوقيــع اتفــاق الســلطة الفلسطيـن ــية مــع اليهــود عــام 1997م. -9وإجمــاع حكومــي عرب ــي علــى اســتجداء الســام مــع إسـرائيل عب ــر مــا ســمي (بســام الشــجعان) أو ســام املتخاذلي ــن في مؤتمر القمــة العرب ــية فــي بـي ــروت عــام 2002م. ً -10وأخيـر ــا اعت ـراف ت ـرامب بالقــدس عاصمــة إلس ـرائيل عــام 2017م. ّ إن الخطــوات الســابقة تبـي ــن مخطــط التآمــر الصهيون ــي والعالمــي علــى فلسطي ــن خــال أكث ــر مــن قــرن مــن
الزمــان ،وقــد شــارك فــي هــذا التآمــر الغــرب الرأســمالي والشــرق الشــيوعي واألنظمــة الت ــي كشــفت عــن ســقوطها فــي قمــة بـي ــروت عــام 2002م. هــذا مــا خلفتــه األنظمــة االســتبدادية املتخلفــة بعــد رحلــة قــرن مــن الزمــن لشــعوبها جهــل وضعــف وفتنــة فضاعــت األرض ودنســت املقدســات وهــدرت ُ الكرامــة وفقــد األمــن. إن املتتبــع ملسي ــرة األحــداث العامليــة فــي عصــر العوملــة فــي القــرن الحــادي والعشري ــن يجدهــا تصــب جميعهــا فــي مصــب واحـ ٍـد وهــو تطويــق العالــم اإلســامي ،واســتنزاف مــوارده وخي ـراته. وتــزداد الحســرة وامل ـرارة فــي قلــب املســلم ً مدعومــا حي ــن ي ــرى الوجــود الصهيون ــي بتأييــد ومباركــة األنظمــة العامليــة والعرب ــية علــى الســواء ،دون أن تلــوح فــي األفــق بارقــة أمــل بتغي ــر هــذا الواقــع علــى املــدى القريــب علــى األقــل. وليــت األمــر وقــف عنــد ضعــف هــؤالء الحــكام أو ســكوتهم بــل تعـ ّـداه اليــوم ّ ـداء ورضاهــم ون ــيل إلــى مخاطبــة ود األعـ ِ الحظــوة واملكانــة لديهــم ،وقــد آن األوان حســب زعمهــم -لت ــرفرف رايــات الســامواالزدهــار والرخــاء علــى املنطقــة ،وفــي ً املقابــل تــزداد إس ـرائيل ّ تعن ًتــا ووحشـ ّـية ضـ ّـد الوجــود الفلسطيـن ـ ّ ِـي وكل مــن َّ يتحدث عنه أو ّ يؤيده ،بل إن أي شخص ِ أو جهــة تطالــب بإنقــاذ القــدس واألق�صــى َّ باألصوليــة واإلرهــاب مــن اليهــود تتهــم َّ والرجعيــة والعيــش خــارج الواقــع. 3
افتتاحية العدد وأصبحــت الواقعيــة عنــد كثي ــر مــن املثقفي ــن واملفكري ــن فــي أن تق�ضــي الشــعوب العرب ــية واإلســامية عمرهــا وهــي تتذبــذب فــي اللهــاث خلــف االتحــاد األورب ــي أو اقتــاع لألبــواب والنوافــذ أمــام تأمــرك اقتصــادي سيا�ســي ثقافــي يتبــارى فيــه الصغــار والكبــار. وفيمــا تــا أحــداث الرب ــيع العرب ــي مــن هجمة علمانـية غربـية شرسة على ثوابتنا األصيلــة؛ يبــدو أن آليــة التآمــر تمتــد حتــى نجــد قسـ ًـما مــن املثقفي ــن املذبذبـي ــن ي ــنفيها ألســباب غي ــر مقنعــه ...وحســب ّ اطالعــي فــإن هــؤالء املفتونـي ــن بالقيــم الغرب ــية مقلــدون وليســوا مبتدعي ــن فــي هــذا الطــرح؛ فهــم ي ـ ّ ـرددون فــي هــذه املســألة أقــوال ّ كتــاب يعيشــون فــي الغــرب ّ ّ بخلفيــات ويكتبــون وي ــنظرون لواقعنــا ّ إيديولوجيــة غرب ـ ّـية؛ فهــم عندمــا ي ــنفون خطــط التآمــر علــى ّأمتنــا يبغــون مــن وراء نفيهــم هــذا قتــل روح التحــدي في ــنا واالســتكانة للواقــع األليــم حيــث ننســلق ً ونشــوى وال نبــدي ح ـراكا ،ونذبــح ونحــن نقبــل يــد جالدنــا. إن مواجهــة الواقــع بالحقيقــة املــرة هــي الحــل ،بــل إن فتــح ملفــات التآمــر ً ً قديمــا وحديثــا ومحاســبة علــى أمتنــا العمــاء واألغب ــياء الذي ــن ســاهموا ً ً حقيقيــا لوضــع فتحــا فيــه؛ يعتب ــر النقــاط علــى الحــروف بــدل الــدوران فــي حلقــة مفرغــة فــي دائــرة ثقافــة الثـرث ــرة والتفلســف الهابــط.
التكفيـر وضوابطه
العدد 2رجب 1439هـ
ثورة الشعب السوري قد أسقطت األقنعة عن املتاجريـن بحقوق اإلنسان وفضحت النظام العاملي الجديد وإن قضيــة فلسطي ــن والقــدس ال تحتــاج إلــى تفسي ــر ،فقــد وقعــت ضحيــة جهــل وضعــف املحسوبـي ــن عليهــا بــل وتآمــر بعضهــم مــع أعدائهــا ،أمــا ثــورة الشــعب الســوري فقــد أســقطت األقنعــة عــن املتاجري ــن بحقــوق اإلنســان وفضحــت النظــام العالمــي الجديــد وأثبتــت أن العالــم يعيــش فــي غابــة وأصبــح مفلســا ّ ّ وقيميــا وحضارّيــا ويحتــاج إلــى أخالقيــا منقــذ . ُ وأريــد أن أشي ــر إلــى أن املؤامــرة قــد نفــذت وانتهــت ،ونحــن اليــوم قــد انتقلنــا مــن مرحلــة املؤامــرة إلــى مرحلــة املواجهــة املكشــوفة مــع املتآمري ــن لقــد ســقطت ورقــة التــوت ولــم تبــق حجــة إال ألعمــى. إن الهاجــس األكب ــر للغــرب فــي هــذه األيــام هــو مشــكلة الصحــوة اإلســامية الت ــي ت ــرفضها القيــادة الغرب ــية بــل وتواجههــا بعنــف بالــغ وهــي فــي داخــل الب ــناء االجتماعــي الغرب ــي ،وهــذا الخــوف بــدوره يــؤدي إلــى هاجــس أكث ــر تعقيـ ًـدا وهــو خــوف الغــرب مــن اإليديولوجيــا اإلســامية الت ــي تشــكل خطـ ًـرا علــى اإليديولوجيــا الليب ــرالية ...وليــس مــا أطرحــه هنــا مــن وحــي اجتهــادي ،وإنمــا هــو اســتقراء
واســتنتاج لطروحــات الغربـيي ــن أنفســهم أمثــال فوكويامــا وصامويــل هنتنغتــون وتومــاس فريدمــان وغي ــرهم كثي ــر؛ حيــث يقــول مصرفــي غرب ــي :لــو عــرف االقتصاديــون فــي الغــرب املزيــد عــن الق ـرآن لفهمــوا قيمــة االقتصــاد اإلســامي( ،)1وبــدوري أنصــح الكتــاب املنهزمي ــن نفسـ ًّـيا دعــاة الثقافــة الغرب ــية أن ي ـراجعوا أفكارهــم مــن خــال الواقــع، وأال يجلــدوا أنفســهم كثي ـ ًـرا فإنهــم بذلــك يــدورون فــي دائــرة ثقافــة الهزيمــة الت ــي حملهــا ونشــرها سماســرة الغــزو الفكــري فــي ســاحتنا ،وقــد أصبحــوا ضحيــة لهــا مــن حيــث ال يشــعرون. ـآس وعلــى رغــم مــا يمــر باألمــة مــن مـ ٍ وعراقيــل منــذ حقبــة االســتقالل، ورغــم مــا نشــاهده مــن تعاظــم ســطوة َ وخد ِمهــا مــن املؤسســات التغريب ــية متطرفي ــن وإرهابـيي ــن؛ فإننــا اليــوم فــي مرحلــة است ــيقاظ إســامي شــامل ،وحــال مثقفي ــنا املتغربـي ــن هــو اآلن أكث ــر ً بؤســا ً إفالســا مــن حالهــم إبــان بواكي ــر وأعظــم االنبهــار بالغــرب. وفــي الختــام أقــول :مــن ســنن هللا فــي الحيــاة أن يـنتصر أصحاب املبادئ على أصحاب القــوة هــذا هــو منطــق ســنن التاريــخ.
العدد 2رجب 1439هـ
التّكفيـ ُر و ضوابِ ُطه د .معاذ الخن -رئيس مجلس اإلفتاء السوري
بـيـن يدي البحث الحمــد هلل رب العاملي ــن والصــاة والســام علــى نبـي ــنا محمــد إمــام األنب ــياء واملرسلي ــن وعلــى آلــه وأصحابــه أجمعي ــن، َ َ َّ َ َ اطــي يقــول هللا تعالــى(( :وأن هــذا ِص َر ِ يما َف َّاتب ُعـ ُ ـوه َو َل َت َّتب ُعــوا ُّ ُم ْسـ َـت ِق ً السـ ُـب َل ِ ِ َََ َ ُ َ ُ ْ َ َّ ُ صاكـ ْـم فتفـ َّـرق ِبكـ ْـم َعـ ْـن َسـ ِـب ِيل ِه ذ ِلكــم و َ َّ ُ َ َّ ُ َ ِبـ ِـه ل َعلكـ ْـم تتقــون)) [ســورة األنعــام :آيــة ]153أمــا بعــد: فلــكل دي ــن حــدوده مــن تجاوزهــا عـ ّـد خار ًجــا ً معرضــا عــن شــرائعه مسـ ً ـتوجبا عــن الدي ــن للعقوبــة ،والقــرآن الكريــم عب ــر عــن أحكامــه بالحــدود فقــال(( :تلــك حــدود هللا فــا تقربوهــا)) [ســورة البقــرة :آيــة ]187وقــال: ((تلــك حــدود هللا فــا تعتدوهــا)) [ســورة البقــرة :آيــة ]229وأهــل الســنة والجماعــة بمنهجهــم الــذي يقــوم علــى الحــق والعــدل وإنصــاف املخالــف يقفــون موقــف الوســط بـي ــن منهجــي اإلفــراط والتفريــط ،فهنــاك مــن
يغالــي فــي التكفي ــر ويحكــم بــه علــى مــن ال يســتحقه شـ ً ـرعا ،وهنــاك مــن ي ــريد أن يجعــل مــن اإلســام ً مائعــا ليــس لــه حــدود وال ضوابــط بدعــوى ســماحته ويســره ،فــكان ال بـ ّـد مــن منهــج ضابــط لهــذه املســألة يكــون ً متوافقــا مــع نصــوص الكتــاب والســنة وفهــم الســلف وعلمــاء األمــة املشــهود لهــم بالصــدق واإلمامــة والفقــه فــي الدي ــن؛ ألن هــذه املســألة مــن الخطــورة بمــكان إذ تســتباح فيهــا الدمــاء وتنــزع فيهــا الحقــوق؛ لــذا كتــب كثي ــر مــن العلمــاء فــي القديــم والحديــث حــول هــذا املوضــوع ً ً تأصيــا وضبطــا ،وجــاءت بعــض هــذه البحــوث مــا بـي ــن طويــل ممـ ٍ ّـل أو قصي ــر مخـ ّـل ،وقــد زادت الحاجــة فــي زماننــا لهــذا املوضــوع بســبب ب ــروز ت ــيارات غاليــة فــي األمــة تســلك مســلك التكفي ــر بغي ــر علــم وال ضبــط، ُ ُ الصافيــة ّ ـورة اإلســام ّ فكث ــر املظلومــون وشــوهت صـ النقيــة ،وصــار يفت ــي فــي هــذه املســألة حدثــاء األســنان ســفهاء األحــام جهــاء املعرفــة، فــكان البـ ّـد مــن تأصيــل شــرعي لهــذه املســألة يبـي ــن خطورتهــا وأحكامهــا وضوابطهــا ..وقــد تكلمــت عــن هــذه املســألة فــي مبحثي ــن: األول :مقدمــة فــي التعريــف باملســألة ومكانهــا مــن أحــكام الشــرع وخطــورة التعامــل معهــا ،وب ــيان معنــى اإليمــان ومــا يتعلــق بــه مــن مســائل. والثان ــي :تكلمــت فيــه عــن أهــم القواعــد والضوابــط املعتب ــرة فــي مســألة التكفي ــر ،وذلــك مــن خــال مجموعــة قواعــد نــص عليهــا علمــاء الســنة فــي مواضــع مختلفــة مــن مباحــث العقائــد أو األحــكام.
( ) 1اإلسالم والغرب والديمقراطية ص2ـ 4عبد الواحد علوانـي
4
5
افتتاحية العدد وأصبحــت الواقعيــة عنــد كثي ــر مــن املثقفي ــن واملفكري ــن فــي أن تق�ضــي الشــعوب العرب ــية واإلســامية عمرهــا وهــي تتذبــذب فــي اللهــاث خلــف االتحــاد األورب ــي أو اقتــاع لألبــواب والنوافــذ أمــام تأمــرك اقتصــادي سيا�ســي ثقافــي يتبــارى فيــه الصغــار والكبــار. وفيمــا تــا أحــداث الرب ــيع العرب ــي مــن هجمة علمانـية غربـية شرسة على ثوابتنا األصيلــة؛ يبــدو أن آليــة التآمــر تمتــد حتــى نجــد قسـ ًـما مــن املثقفي ــن املذبذبـي ــن ي ــنفيها ألســباب غي ــر مقنعــه ...وحســب ّ اطالعــي فــإن هــؤالء املفتونـي ــن بالقيــم الغرب ــية مقلــدون وليســوا مبتدعي ــن فــي هــذا الطــرح؛ فهــم ي ـ ّ ـرددون فــي هــذه املســألة أقــوال ّ كتــاب يعيشــون فــي الغــرب ّ ّ بخلفيــات ويكتبــون وي ــنظرون لواقعنــا ّ إيديولوجيــة غرب ـ ّـية؛ فهــم عندمــا ي ــنفون خطــط التآمــر علــى ّأمتنــا يبغــون مــن وراء نفيهــم هــذا قتــل روح التحــدي في ــنا واالســتكانة للواقــع األليــم حيــث ننســلق ً ونشــوى وال نبــدي ح ـراكا ،ونذبــح ونحــن نقبــل يــد جالدنــا. إن مواجهــة الواقــع بالحقيقــة املــرة هــي الحــل ،بــل إن فتــح ملفــات التآمــر ً ً قديمــا وحديثــا ومحاســبة علــى أمتنــا العمــاء واألغب ــياء الذي ــن ســاهموا ً ً حقيقيــا لوضــع فتحــا فيــه؛ يعتب ــر النقــاط علــى الحــروف بــدل الــدوران فــي حلقــة مفرغــة فــي دائــرة ثقافــة الثـرث ــرة والتفلســف الهابــط.
التكفيـر وضوابطه
العدد 2رجب 1439هـ
ثورة الشعب السوري قد أسقطت األقنعة عن املتاجريـن بحقوق اإلنسان وفضحت النظام العاملي الجديد وإن قضيــة فلسطي ــن والقــدس ال تحتــاج إلــى تفسي ــر ،فقــد وقعــت ضحيــة جهــل وضعــف املحسوبـي ــن عليهــا بــل وتآمــر بعضهــم مــع أعدائهــا ،أمــا ثــورة الشــعب الســوري فقــد أســقطت األقنعــة عــن املتاجري ــن بحقــوق اإلنســان وفضحــت النظــام العالمــي الجديــد وأثبتــت أن العالــم يعيــش فــي غابــة وأصبــح مفلســا ّ ّ وقيميــا وحضارّيــا ويحتــاج إلــى أخالقيــا منقــذ . ُ وأريــد أن أشي ــر إلــى أن املؤامــرة قــد نفــذت وانتهــت ،ونحــن اليــوم قــد انتقلنــا مــن مرحلــة املؤامــرة إلــى مرحلــة املواجهــة املكشــوفة مــع املتآمري ــن لقــد ســقطت ورقــة التــوت ولــم تبــق حجــة إال ألعمــى. إن الهاجــس األكب ــر للغــرب فــي هــذه األيــام هــو مشــكلة الصحــوة اإلســامية الت ــي ت ــرفضها القيــادة الغرب ــية بــل وتواجههــا بعنــف بالــغ وهــي فــي داخــل الب ــناء االجتماعــي الغرب ــي ،وهــذا الخــوف بــدوره يــؤدي إلــى هاجــس أكث ــر تعقيـ ًـدا وهــو خــوف الغــرب مــن اإليديولوجيــا اإلســامية الت ــي تشــكل خطـ ًـرا علــى اإليديولوجيــا الليب ــرالية ...وليــس مــا أطرحــه هنــا مــن وحــي اجتهــادي ،وإنمــا هــو اســتقراء
واســتنتاج لطروحــات الغربـيي ــن أنفســهم أمثــال فوكويامــا وصامويــل هنتنغتــون وتومــاس فريدمــان وغي ــرهم كثي ــر؛ حيــث يقــول مصرفــي غرب ــي :لــو عــرف االقتصاديــون فــي الغــرب املزيــد عــن الق ـرآن لفهمــوا قيمــة االقتصــاد اإلســامي( ،)1وبــدوري أنصــح الكتــاب املنهزمي ــن نفسـ ًّـيا دعــاة الثقافــة الغرب ــية أن ي ـراجعوا أفكارهــم مــن خــال الواقــع، وأال يجلــدوا أنفســهم كثي ـ ًـرا فإنهــم بذلــك يــدورون فــي دائــرة ثقافــة الهزيمــة الت ــي حملهــا ونشــرها سماســرة الغــزو الفكــري فــي ســاحتنا ،وقــد أصبحــوا ضحيــة لهــا مــن حيــث ال يشــعرون. ـآس وعلــى رغــم مــا يمــر باألمــة مــن مـ ٍ وعراقيــل منــذ حقبــة االســتقالل، ورغــم مــا نشــاهده مــن تعاظــم ســطوة َ وخد ِمهــا مــن املؤسســات التغريب ــية متطرفي ــن وإرهابـيي ــن؛ فإننــا اليــوم فــي مرحلــة است ــيقاظ إســامي شــامل ،وحــال مثقفي ــنا املتغربـي ــن هــو اآلن أكث ــر ً بؤســا ً إفالســا مــن حالهــم إبــان بواكي ــر وأعظــم االنبهــار بالغــرب. وفــي الختــام أقــول :مــن ســنن هللا فــي الحيــاة أن يـنتصر أصحاب املبادئ على أصحاب القــوة هــذا هــو منطــق ســنن التاريــخ.
العدد 2رجب 1439هـ
التّكفيـ ُر و ضوابِ ُطه د .معاذ الخن -رئيس مجلس اإلفتاء السوري
بـيـن يدي البحث الحمــد هلل رب العاملي ــن والصــاة والســام علــى نبـي ــنا محمــد إمــام األنب ــياء واملرسلي ــن وعلــى آلــه وأصحابــه أجمعي ــن، َ َ َّ َ َ اطــي يقــول هللا تعالــى(( :وأن هــذا ِص َر ِ يما َف َّاتب ُعـ ُ ـوه َو َل َت َّتب ُعــوا ُّ ُم ْسـ َـت ِق ً السـ ُـب َل ِ ِ َََ َ ُ َ ُ ْ َ َّ ُ صاكـ ْـم فتفـ َّـرق ِبكـ ْـم َعـ ْـن َسـ ِـب ِيل ِه ذ ِلكــم و َ َّ ُ َ َّ ُ َ ِبـ ِـه ل َعلكـ ْـم تتقــون)) [ســورة األنعــام :آيــة ]153أمــا بعــد: فلــكل دي ــن حــدوده مــن تجاوزهــا عـ ّـد خار ًجــا ً معرضــا عــن شــرائعه مسـ ً ـتوجبا عــن الدي ــن للعقوبــة ،والقــرآن الكريــم عب ــر عــن أحكامــه بالحــدود فقــال(( :تلــك حــدود هللا فــا تقربوهــا)) [ســورة البقــرة :آيــة ]187وقــال: ((تلــك حــدود هللا فــا تعتدوهــا)) [ســورة البقــرة :آيــة ]229وأهــل الســنة والجماعــة بمنهجهــم الــذي يقــوم علــى الحــق والعــدل وإنصــاف املخالــف يقفــون موقــف الوســط بـي ــن منهجــي اإلفــراط والتفريــط ،فهنــاك مــن
يغالــي فــي التكفي ــر ويحكــم بــه علــى مــن ال يســتحقه شـ ً ـرعا ،وهنــاك مــن ي ــريد أن يجعــل مــن اإلســام ً مائعــا ليــس لــه حــدود وال ضوابــط بدعــوى ســماحته ويســره ،فــكان ال بـ ّـد مــن منهــج ضابــط لهــذه املســألة يكــون ً متوافقــا مــع نصــوص الكتــاب والســنة وفهــم الســلف وعلمــاء األمــة املشــهود لهــم بالصــدق واإلمامــة والفقــه فــي الدي ــن؛ ألن هــذه املســألة مــن الخطــورة بمــكان إذ تســتباح فيهــا الدمــاء وتنــزع فيهــا الحقــوق؛ لــذا كتــب كثي ــر مــن العلمــاء فــي القديــم والحديــث حــول هــذا املوضــوع ً ً تأصيــا وضبطــا ،وجــاءت بعــض هــذه البحــوث مــا بـي ــن طويــل ممـ ٍ ّـل أو قصي ــر مخـ ّـل ،وقــد زادت الحاجــة فــي زماننــا لهــذا املوضــوع بســبب ب ــروز ت ــيارات غاليــة فــي األمــة تســلك مســلك التكفي ــر بغي ــر علــم وال ضبــط، ُ ُ الصافيــة ّ ـورة اإلســام ّ فكث ــر املظلومــون وشــوهت صـ النقيــة ،وصــار يفت ــي فــي هــذه املســألة حدثــاء األســنان ســفهاء األحــام جهــاء املعرفــة، فــكان البـ ّـد مــن تأصيــل شــرعي لهــذه املســألة يبـي ــن خطورتهــا وأحكامهــا وضوابطهــا ..وقــد تكلمــت عــن هــذه املســألة فــي مبحثي ــن: األول :مقدمــة فــي التعريــف باملســألة ومكانهــا مــن أحــكام الشــرع وخطــورة التعامــل معهــا ،وب ــيان معنــى اإليمــان ومــا يتعلــق بــه مــن مســائل. والثان ــي :تكلمــت فيــه عــن أهــم القواعــد والضوابــط املعتب ــرة فــي مســألة التكفي ــر ،وذلــك مــن خــال مجموعــة قواعــد نــص عليهــا علمــاء الســنة فــي مواضــع مختلفــة مــن مباحــث العقائــد أو األحــكام.
( ) 1اإلسالم والغرب والديمقراطية ص2ـ 4عبد الواحد علوانـي
4
5
التكفيـر وضوابطه
املبحث األول: تعريف عام مبسألة التكفيـر ومعنى اإلميان )1تعريف التكفيـر: هــو :الحكــم بالكفــر ،قــال الغزالــي :التكفي ــر حكــم شــرعي كالــرق والحريــة(.)1 )2خطورة التكفيـر: إن التساهل في الحكم بالتكفيـر خروج عن منهــج هللا وال نت ــيجة لهــذا الخــروج إال الفرقــة والشــقاء واقتتــال اإلخــوة وضعفهــم وتســلط عدوهــم عليهــم ،فالحكــم علــى مســلم بالكفــر بمثابة قتله ،كما أخبـرنا بذلك النبـي صلى هللا عليــه وســلم بقولــه(( :ومــن مــى ً مؤمنــا بكفــر ر فهــو كقتلــه))( )2لــذا ال يصــار إليــه بالتشــهي والهــوى والظــن ،وقــد حــذر النب ــي صلــى هللا عليــه وســلم مــن الوقــوع فيــه حتــى قــال(( :إذا قــال الرجــل ألخيــه املؤمــن يــا كافــر فقــد بــاء بهــا أحدهمــا ،فــإن كان كمــا قــال أو رجعــت عليــه))( )3أي :رجعــت عليــه معصيــة تكفي ــره، فالراجــع التكفي ــر ال الكفــر كمــا ذكــر أكث ــر املحققيـن كالنووي والقرطبـي وابـن حجر ( .)4 ً وإدراكا من العلماء لخطورة التكفيـرفقد أعملوا فيه قاعدة (الخطأ في العفو خي ــر مــن الخطــأ فــي العقوبــة) يقــول اإلمــام أبــو حامد الغزالي رحمه هللا( :ويـنبغي االحتـراز
مــن التكفي ــر مــا وجــد اإلنســان إلــى ذلــك سب ــيال ،فــإن اســتباحة الدمــاء واألمــوال مــن املصلي ــن إلــى القبلــة املصرحي ــن بقــول ٌ (ال إلــه إال هللا محمــد رســول هللا) خطــأ ، والخطأ في ت ــرك ألف كافرفي الحياة أهون مــن ســفك محجمــة مــن دم مســلم)(.)5 كما أن الحكم به تتـرتب عليه الكثيـرمن األحــكام الشــرعية ،كقطــع املــواالة والتفريق بـي ــن الزوجي ــن ومنــع التــوارث وإباحــة الــدم وغي ــر ذلــك ،لهــذا تــورع علمــاء الســنة فــي كل العصــور عــن الحكــم بكفــر مســلم إال فــي حــاالت قليلــة ممــن تطاولــت أعناقهــم علــى الديـن ولم يتـركوا لإليمان في أعناقهم شيئا. ولعــل التكفي ــر بــا دليــل معتب ــر هــو إحــدى مالمــح الخــوارج البــارزة والت ــي نتجــت عــن الجهــل بأحــكام الدي ــن وقواعــده ومقاصــده وقــد أخب ــر النب ــي صلــى هللا عليــه وســلم عــن هــؤالء الخارجي ــن عــن الجــادة بقولــه ()6 ((يقــرؤون الق ـرآن ال يجــاوز حناجرهــم)) َ ْ َ وفــي روايــة َ ((ي ْقـ َـرؤون ال ُقـ ْـر َآن ال ُي َجـ ِـاو ُز َح َناج َر ُهـ ْـم َي ْم ُر ُقــو َن مـ َـن اإل ْسـ َـام ُمـ ُـر َ وق ِ ِ ِ ِ َ َّ َّ َ ْ ُ ُ َ َ ْ َ ْ َ َّ ْ اإلســا ِم الســه ِم ِمـ َـن الر ِميـ َ ِـة يقتلــون أهــل ِ َ َ َو َي َد ُعــون أ ْهـ َـل األ ْوثـ ِـان))(.)7 )3التكفيـربـيـن اإلفراط والتفريط: قــد ت ــرى بعــض املتأثـري ــن بالفكــر الحداثــي ي ــنكر أن يكــون هنــاك حكــم اســمه (التكفي ــر) ويعتب ــر ذلــك مــن االعتــداء علــى حريــة اآلخــر ...والحقيقــة أن قضيــة
( )1فيصل التفرقة بـيـن اإلسالم والزندقة للغزالي (ص.)128 ( )2صحيح البخاري ،باب من أكفر أخاه بغيـر تأويل فهو كما قال ،رقم ( ،)5754تحقيق البغا ،طبعة دار ابـن كثيـر .1987 ( )3متفق عليه عن ابـن عمر ر�ضي هللا عنه ،أخرجه البخاري في باب من أكفر أخاه بغيـر تأويل فهو كما قال ،رقم (.)5753 ( )4فتح الباري (ص.)466/10 ( )5االقتصاد في االعتقاد للغزالي (ص.)135 ( )6متفق عليه عن أبـي سعيد الخدري ر�ضي هللا عنه ،أخرجه البخاري في باب قتل الخوارج وامللحديـن بعد إقامة الحجة عليهم ،رقم (.)6532 ( )7متفق عليه عن أبـي سعيد الخدري ر�ضي هللا عنه كما سبق ،وقوله (يقتلون أهل اإلسالم )...رواها النسائي والحاكم وغيـرهما.
التكفيـر وضوابطه
العدد 2رجب 1439هـ
َّ التكفي ــر مســألة تــكاد تكــون مطــردة الوجــود لــدى كل أتبــاع الديانــات؛ إذ الناس في نظرهم مؤمن وغيـر مؤمن وليس هــذا حكـ ًـرا علــى اإلســام ...والدي ــن الــذي ال ضوابــط فيــه لإليمــان أو الكفــر دي ــن هالمــي ليــس لــه حــدود ...وكمــا أن تمييــع الدي ــن انحراف خطيـر فإن تجاوز الحد في التكفيـر والغلــو فيــه انح ـراف ً أيضــا عــن املنهــج الصحيــح ...فاملذهــب العــدل الوســط هــو تكفيـرمنيستحقالتكفيـرباألدلةاملعتبـرةمع االحتـياطوعدمتكفيـرمناليستحقه،ويمثل الخ ـوارج واملرجئــة فــي هــذه املســألة نموذجــي اإلف ـراط والتفريــط فــي التاريــخ اإلسـ ّ ـامي. )4املرجــع فــي ضبــط املصطلحــات الشــرعية الكتــاب والســنة واآلثــار: فــي محاولــة مــن امللحدي ــن فــي الدي ــن لطمــس معالــم الشــريعة يحــاول بعضهــم تفسي ــر مــا ورد مــن مصطلحــات ديـن ــية كالكفــر واإليمــان والفســق وغي ــرها فــي الق ـرآن الكريــم تفسي ـ ًـرا ًّ لغويــا بعيـ ًـدا عــن املعنــى االصطالحـ ّ ِـي الــذي ب ـ ّـينته نصــوص الكتــاب والســنة ،والحقيقــة أن كالمهــم مــردود عليهــم ألن الضابــط فــي تحديــد معان ــي هــذه املصطلحــات هــو النصــوص الشـ َّ ـرعية وال يصــار إلــى املعنــى اللغــو ّ ِي واشــتقاقاته وشــواهده إال فــي حــال عــدم وجــود النــص املفســر لهــا ...يقــول اب ــن ت ــيمية رحمــه هللا: (ومــا ي ــنبغي أن يعلــم أن األلفــاظ املوجــودة فــي القـرآن والحديــث إذا عــرف تفسي ــرها ومــا
6
أريد بها من جهة النبـي صلى هللا عليه وسلم لــم يحتــج فــي ذلــك إلــى االســتدالل بأقــوال أهــل اللغــة وال غي ــرهم)(.)8 )5ما هي حقيقة اإليمان؟ ال تــدرك حقيقــة الكفــر إال بمعرفــة حقيقــة اإليمــان ،ولهــذا ال بــد لنــا مــن التعريــف بــه ،فهــو فــي اللغــة :مطلــق التصديــق ،وفــي االصطــاح :تصديــق القلــب وقــول اللســان وعمــل القلــب والجــوارح. فتصديــق القلــب إق ـراره وقــول اللســان النطــق بالشهادتـي ــن وعمــل القلــب اإلذعــان والقبــول واالنقيــاد وعمــل الجــوارح إت ــيانها باملأمــورات وت ــرك املنهيــات ،قــال اإلمــام البخــاري( :لقيــت أكث ــر مــن ألــف رجــل مــن العلمــاء باألمصــار فمــا رأيــت أن أحـ ًـدا منهــم يختلــف فــي أن اإليمــان قــول وعمــل يزيــد وي ــنقص( )9وهــذا نقلــه الاللكائــي عــن ّ ـافعي وأحمــد وإســحق وأب ــي عب ــيد وأب ــي الشـ ِ زرعــة وغي ــرهم(.)10 )6تحقيــق مســألة (اإليمــان تصديــق للخب ــر وانقيــاد لآلمــر) : إن التصديــق بوحدان ــية هللا ونبــوة رســول هللا صلــى هللا عليــه وســلم وحدهمــا ال يكفــي ليدخــل اإلنســان تحــت اســم اإلســام ،حتــى يؤديه هذا التصديق إلى التسليم هلل وانعقاد القلب على التصديق بمقت�ضى الشهادة من اإليمان بكل ما جاء عن هللا ورسوله ،قال هللا تعالــى(( :فــا وربــك ال يؤمنــون حتــى يحكمــوك فيمــا شــجر بـي ــنهم ثــم ال يجــدوا فــي أنفســهم ( )8اإليمان البـن تـيمية (ص.)271 ( )9فتح الباري (ص.)47/1 ( )10كتاب السنة لاللكائي (ص.)151/1 ( )11إرشاد الساري للقسطالنـي (ص.)82/1 ( )12حاشية ابـن عابديـن (ص)221/4
ً حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما)) [سورة النساء:آية]65يقولالتفتازانـي(:اإليمانلغة التصديق وهو إذعان لحكم املخبـر وقبوله، فليــس حقيقــة التصديــق أن يقــع فــي القلــب نسبة التصديق إلى الخبـر أو املخبـر من غيـر إذعــان وقبــول ،بــل هــو إذعــان وقبــول لذلــك بحيــث يقــع عليــه اســم التســليم)(.)11 إن مــن اقتصــر فــي تعريــف اإليمــان علــى التصديق -من أهل السنة والجماعة -كان مقصــوده التصديــق االنقيــادي املســتلزم ًّ لفظيــا، لقبــول األحــكام فيكــون الخــاف فلــم يؤث ــر عــن أحدهــم إخ ـراج عمــل القلــب مــن حقيقــة اإليمــان ولــم يقصــره أحــد علــى التصديــق الخب ــري ســوى الجهميــة ،وهــذا ما نقله ابـن الهمام الحنفي وابـن عابديـن في حاشــيته حيــث قــال( :معنــى التصديــق قبول القلب وإذعانه ملا علم بالضرورة أنه من ديـن محمــد صلــى هللا عليــه وســلم بحيــث تعلمــه العامة من غيـر نظر واستدالل كالوحدانـية والنبــوة والبعــث والج ـزاء ووجــوب الصــاة والــزكاة وحرمــة الخمــر ونحوهــا)(.)12 )7مسألة زيادة اإليمان ونقصانه وعالقتها بالتكفيـر: إن اإليمان في قلب املسلم يزيد ويـنقص وقد جاءذلكبـنصالقرآنالكريمكمافيقولهتعالى ((وإذا تليــت عليهــم آياتــه ادتهــم ً إيمانــا)) [ســورة ز األنفــال :اآليــة ]2وقولــه تعالــى ((هــو الــذي أنــزل السكي ــنة فــي قلــوب املؤمنـي ــن ليــزدادوا ً إيمانــا)) [سورة الفتح :آية ]4فإذا كان يزيد فهو يـنقص.
العدد 2رجب 1439هـ
وي ــنتج عــن قضيــة زيــادة اإليمــان ونقصــه تقســيم اإليمــان إلــى مراتــب مثــل أضعــف اإليمــان ،فقــد جــاء فــي الحديــث الصحيــح ((مــن رأى منكــم منكـ ًـرا فليغي ــره ب ــيده فــإن لــم يســتطع فبلســانه فــإن لــم يســتطع فبقلبــه وذلــك أضعــف اإليمــان))( ،)13وأدنى اإليمــان كمــا جــاء فــي أحاديــث الشــفاعة، ََ يقول النبـي صلى هللا عليه وسلم(( :فأ ُقو ُل ُ ُ َ ْ َ ََ ْ َيا َر ِ ّب أ َّم ِتي أ َّم ِتي! ف َي ُقو ُل :انط ِل ْق فأخ ِر ْج َم ْن َ َْ َ َ َ َ َ َ َْ ك َان ِفــي قل ِبـ ِـه أ ْدنــى أ ْدنــى أ ْدنــى ِمثقـ ِـال َح َّبـ ِـة َخـ ْـر َدل مـ ْـن إ َيمــان َف َأ ْخر ْجـ ُـه مـ َـن َّ النـ ِـار))(.)14 ِ ِ ٍ ِ ِ ٍ فاإليمــان يزيــد وي ــنقص ،وكان ضــال فــرق الخــوارج اعتقادهــم أن اإليمــان منزلــة واحــدة وأن أعمــال الجــوارح جــزء مــن أصلــه ،فمــن ارتكــب معصيــة كبـي ــرة خــرج مــن اإليمــان وكفــر ...ولــم يكــن ذلــك منهــم إال َّ تعلقــا بظواهــر نصــوص الوعيــد. وكان ضــال املرجئــة فــي إخراجهــم كل ّ األعمــال مــن معنــى اإليمــان تعل ًقــا بظاهــر نصــوص الوعــد فقالــوا بصحــة اإليمــان ً إطالقــا بمجــرد التصديــق بــا انقيــاد وال عمــل ،قــال اب ــن ت ــيمية ( :وهــذا هــو األصــل الــذي تفــرع عنــه البــدع فــي اإليمــان)( .)15
إن التصديــق بوحدانـــية اللــه ونبــوة رســوله وحدهــا ال يكفــي ليدخــل اإلنســان تحــت اســم اإلســام
( )13صحيح مسلم ،باب بـيان كون النهي عن املنكر من اإليمان ..رقم ( ،)49-78تـرقيم عبد الباقي طبعة دار إحياء التـراث العربـي. ( )14أخرجه البخاري في باب كالم الرب عز و جل يوم القيامة مع األنبـياء وغيـرهم ،عن أنس بـن مالك ر�ضي هللا عنه ،رقم (.)7072 ( )15كتاب اإليمان البـن تـيمية (ص)209
7
التكفيـر وضوابطه
املبحث األول: تعريف عام مبسألة التكفيـر ومعنى اإلميان )1تعريف التكفيـر: هــو :الحكــم بالكفــر ،قــال الغزالــي :التكفي ــر حكــم شــرعي كالــرق والحريــة(.)1 )2خطورة التكفيـر: إن التساهل في الحكم بالتكفيـر خروج عن منهــج هللا وال نت ــيجة لهــذا الخــروج إال الفرقــة والشــقاء واقتتــال اإلخــوة وضعفهــم وتســلط عدوهــم عليهــم ،فالحكــم علــى مســلم بالكفــر بمثابة قتله ،كما أخبـرنا بذلك النبـي صلى هللا عليــه وســلم بقولــه(( :ومــن مــى ً مؤمنــا بكفــر ر فهــو كقتلــه))( )2لــذا ال يصــار إليــه بالتشــهي والهــوى والظــن ،وقــد حــذر النب ــي صلــى هللا عليــه وســلم مــن الوقــوع فيــه حتــى قــال(( :إذا قــال الرجــل ألخيــه املؤمــن يــا كافــر فقــد بــاء بهــا أحدهمــا ،فــإن كان كمــا قــال أو رجعــت عليــه))( )3أي :رجعــت عليــه معصيــة تكفي ــره، فالراجــع التكفي ــر ال الكفــر كمــا ذكــر أكث ــر املحققيـن كالنووي والقرطبـي وابـن حجر ( .)4 ً وإدراكا من العلماء لخطورة التكفيـرفقد أعملوا فيه قاعدة (الخطأ في العفو خي ــر مــن الخطــأ فــي العقوبــة) يقــول اإلمــام أبــو حامد الغزالي رحمه هللا( :ويـنبغي االحتـراز
مــن التكفي ــر مــا وجــد اإلنســان إلــى ذلــك سب ــيال ،فــإن اســتباحة الدمــاء واألمــوال مــن املصلي ــن إلــى القبلــة املصرحي ــن بقــول ٌ (ال إلــه إال هللا محمــد رســول هللا) خطــأ ، والخطأ في ت ــرك ألف كافرفي الحياة أهون مــن ســفك محجمــة مــن دم مســلم)(.)5 كما أن الحكم به تتـرتب عليه الكثيـرمن األحــكام الشــرعية ،كقطــع املــواالة والتفريق بـي ــن الزوجي ــن ومنــع التــوارث وإباحــة الــدم وغي ــر ذلــك ،لهــذا تــورع علمــاء الســنة فــي كل العصــور عــن الحكــم بكفــر مســلم إال فــي حــاالت قليلــة ممــن تطاولــت أعناقهــم علــى الديـن ولم يتـركوا لإليمان في أعناقهم شيئا. ولعــل التكفي ــر بــا دليــل معتب ــر هــو إحــدى مالمــح الخــوارج البــارزة والت ــي نتجــت عــن الجهــل بأحــكام الدي ــن وقواعــده ومقاصــده وقــد أخب ــر النب ــي صلــى هللا عليــه وســلم عــن هــؤالء الخارجي ــن عــن الجــادة بقولــه ()6 ((يقــرؤون الق ـرآن ال يجــاوز حناجرهــم)) َ ْ َ وفــي روايــة َ ((ي ْقـ َـرؤون ال ُقـ ْـر َآن ال ُي َجـ ِـاو ُز َح َناج َر ُهـ ْـم َي ْم ُر ُقــو َن مـ َـن اإل ْسـ َـام ُمـ ُـر َ وق ِ ِ ِ ِ َ َّ َّ َ ْ ُ ُ َ َ ْ َ ْ َ َّ ْ اإلســا ِم الســه ِم ِمـ َـن الر ِميـ َ ِـة يقتلــون أهــل ِ َ َ َو َي َد ُعــون أ ْهـ َـل األ ْوثـ ِـان))(.)7 )3التكفيـربـيـن اإلفراط والتفريط: قــد ت ــرى بعــض املتأثـري ــن بالفكــر الحداثــي ي ــنكر أن يكــون هنــاك حكــم اســمه (التكفي ــر) ويعتب ــر ذلــك مــن االعتــداء علــى حريــة اآلخــر ...والحقيقــة أن قضيــة
( )1فيصل التفرقة بـيـن اإلسالم والزندقة للغزالي (ص.)128 ( )2صحيح البخاري ،باب من أكفر أخاه بغيـر تأويل فهو كما قال ،رقم ( ،)5754تحقيق البغا ،طبعة دار ابـن كثيـر .1987 ( )3متفق عليه عن ابـن عمر ر�ضي هللا عنه ،أخرجه البخاري في باب من أكفر أخاه بغيـر تأويل فهو كما قال ،رقم (.)5753 ( )4فتح الباري (ص.)466/10 ( )5االقتصاد في االعتقاد للغزالي (ص.)135 ( )6متفق عليه عن أبـي سعيد الخدري ر�ضي هللا عنه ،أخرجه البخاري في باب قتل الخوارج وامللحديـن بعد إقامة الحجة عليهم ،رقم (.)6532 ( )7متفق عليه عن أبـي سعيد الخدري ر�ضي هللا عنه كما سبق ،وقوله (يقتلون أهل اإلسالم )...رواها النسائي والحاكم وغيـرهما.
التكفيـر وضوابطه
العدد 2رجب 1439هـ
َّ التكفي ــر مســألة تــكاد تكــون مطــردة الوجــود لــدى كل أتبــاع الديانــات؛ إذ الناس في نظرهم مؤمن وغيـر مؤمن وليس هــذا حكـ ًـرا علــى اإلســام ...والدي ــن الــذي ال ضوابــط فيــه لإليمــان أو الكفــر دي ــن هالمــي ليــس لــه حــدود ...وكمــا أن تمييــع الدي ــن انحراف خطيـر فإن تجاوز الحد في التكفيـر والغلــو فيــه انح ـراف ً أيضــا عــن املنهــج الصحيــح ...فاملذهــب العــدل الوســط هــو تكفيـرمنيستحقالتكفيـرباألدلةاملعتبـرةمع االحتـياطوعدمتكفيـرمناليستحقه،ويمثل الخ ـوارج واملرجئــة فــي هــذه املســألة نموذجــي اإلف ـراط والتفريــط فــي التاريــخ اإلسـ ّ ـامي. )4املرجــع فــي ضبــط املصطلحــات الشــرعية الكتــاب والســنة واآلثــار: فــي محاولــة مــن امللحدي ــن فــي الدي ــن لطمــس معالــم الشــريعة يحــاول بعضهــم تفسي ــر مــا ورد مــن مصطلحــات ديـن ــية كالكفــر واإليمــان والفســق وغي ــرها فــي الق ـرآن الكريــم تفسي ـ ًـرا ًّ لغويــا بعيـ ًـدا عــن املعنــى االصطالحـ ّ ِـي الــذي ب ـ ّـينته نصــوص الكتــاب والســنة ،والحقيقــة أن كالمهــم مــردود عليهــم ألن الضابــط فــي تحديــد معان ــي هــذه املصطلحــات هــو النصــوص الشـ َّ ـرعية وال يصــار إلــى املعنــى اللغــو ّ ِي واشــتقاقاته وشــواهده إال فــي حــال عــدم وجــود النــص املفســر لهــا ...يقــول اب ــن ت ــيمية رحمــه هللا: (ومــا ي ــنبغي أن يعلــم أن األلفــاظ املوجــودة فــي القـرآن والحديــث إذا عــرف تفسي ــرها ومــا
6
أريد بها من جهة النبـي صلى هللا عليه وسلم لــم يحتــج فــي ذلــك إلــى االســتدالل بأقــوال أهــل اللغــة وال غي ــرهم)(.)8 )5ما هي حقيقة اإليمان؟ ال تــدرك حقيقــة الكفــر إال بمعرفــة حقيقــة اإليمــان ،ولهــذا ال بــد لنــا مــن التعريــف بــه ،فهــو فــي اللغــة :مطلــق التصديــق ،وفــي االصطــاح :تصديــق القلــب وقــول اللســان وعمــل القلــب والجــوارح. فتصديــق القلــب إق ـراره وقــول اللســان النطــق بالشهادتـي ــن وعمــل القلــب اإلذعــان والقبــول واالنقيــاد وعمــل الجــوارح إت ــيانها باملأمــورات وت ــرك املنهيــات ،قــال اإلمــام البخــاري( :لقيــت أكث ــر مــن ألــف رجــل مــن العلمــاء باألمصــار فمــا رأيــت أن أحـ ًـدا منهــم يختلــف فــي أن اإليمــان قــول وعمــل يزيــد وي ــنقص( )9وهــذا نقلــه الاللكائــي عــن ّ ـافعي وأحمــد وإســحق وأب ــي عب ــيد وأب ــي الشـ ِ زرعــة وغي ــرهم(.)10 )6تحقيــق مســألة (اإليمــان تصديــق للخب ــر وانقيــاد لآلمــر) : إن التصديــق بوحدان ــية هللا ونبــوة رســول هللا صلــى هللا عليــه وســلم وحدهمــا ال يكفــي ليدخــل اإلنســان تحــت اســم اإلســام ،حتــى يؤديه هذا التصديق إلى التسليم هلل وانعقاد القلب على التصديق بمقت�ضى الشهادة من اإليمان بكل ما جاء عن هللا ورسوله ،قال هللا تعالــى(( :فــا وربــك ال يؤمنــون حتــى يحكمــوك فيمــا شــجر بـي ــنهم ثــم ال يجــدوا فــي أنفســهم ( )8اإليمان البـن تـيمية (ص.)271 ( )9فتح الباري (ص.)47/1 ( )10كتاب السنة لاللكائي (ص.)151/1 ( )11إرشاد الساري للقسطالنـي (ص.)82/1 ( )12حاشية ابـن عابديـن (ص)221/4
ً حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما)) [سورة النساء:آية]65يقولالتفتازانـي(:اإليمانلغة التصديق وهو إذعان لحكم املخبـر وقبوله، فليــس حقيقــة التصديــق أن يقــع فــي القلــب نسبة التصديق إلى الخبـر أو املخبـر من غيـر إذعــان وقبــول ،بــل هــو إذعــان وقبــول لذلــك بحيــث يقــع عليــه اســم التســليم)(.)11 إن مــن اقتصــر فــي تعريــف اإليمــان علــى التصديق -من أهل السنة والجماعة -كان مقصــوده التصديــق االنقيــادي املســتلزم ًّ لفظيــا، لقبــول األحــكام فيكــون الخــاف فلــم يؤث ــر عــن أحدهــم إخ ـراج عمــل القلــب مــن حقيقــة اإليمــان ولــم يقصــره أحــد علــى التصديــق الخب ــري ســوى الجهميــة ،وهــذا ما نقله ابـن الهمام الحنفي وابـن عابديـن في حاشــيته حيــث قــال( :معنــى التصديــق قبول القلب وإذعانه ملا علم بالضرورة أنه من ديـن محمــد صلــى هللا عليــه وســلم بحيــث تعلمــه العامة من غيـر نظر واستدالل كالوحدانـية والنبــوة والبعــث والج ـزاء ووجــوب الصــاة والــزكاة وحرمــة الخمــر ونحوهــا)(.)12 )7مسألة زيادة اإليمان ونقصانه وعالقتها بالتكفيـر: إن اإليمان في قلب املسلم يزيد ويـنقص وقد جاءذلكبـنصالقرآنالكريمكمافيقولهتعالى ((وإذا تليــت عليهــم آياتــه ادتهــم ً إيمانــا)) [ســورة ز األنفــال :اآليــة ]2وقولــه تعالــى ((هــو الــذي أنــزل السكي ــنة فــي قلــوب املؤمنـي ــن ليــزدادوا ً إيمانــا)) [سورة الفتح :آية ]4فإذا كان يزيد فهو يـنقص.
العدد 2رجب 1439هـ
وي ــنتج عــن قضيــة زيــادة اإليمــان ونقصــه تقســيم اإليمــان إلــى مراتــب مثــل أضعــف اإليمــان ،فقــد جــاء فــي الحديــث الصحيــح ((مــن رأى منكــم منكـ ًـرا فليغي ــره ب ــيده فــإن لــم يســتطع فبلســانه فــإن لــم يســتطع فبقلبــه وذلــك أضعــف اإليمــان))( ،)13وأدنى اإليمــان كمــا جــاء فــي أحاديــث الشــفاعة، ََ يقول النبـي صلى هللا عليه وسلم(( :فأ ُقو ُل ُ ُ َ ْ َ ََ ْ َيا َر ِ ّب أ َّم ِتي أ َّم ِتي! ف َي ُقو ُل :انط ِل ْق فأخ ِر ْج َم ْن َ َْ َ َ َ َ َ َ َْ ك َان ِفــي قل ِبـ ِـه أ ْدنــى أ ْدنــى أ ْدنــى ِمثقـ ِـال َح َّبـ ِـة َخـ ْـر َدل مـ ْـن إ َيمــان َف َأ ْخر ْجـ ُـه مـ َـن َّ النـ ِـار))(.)14 ِ ِ ٍ ِ ِ ٍ فاإليمــان يزيــد وي ــنقص ،وكان ضــال فــرق الخــوارج اعتقادهــم أن اإليمــان منزلــة واحــدة وأن أعمــال الجــوارح جــزء مــن أصلــه ،فمــن ارتكــب معصيــة كبـي ــرة خــرج مــن اإليمــان وكفــر ...ولــم يكــن ذلــك منهــم إال َّ تعلقــا بظواهــر نصــوص الوعيــد. وكان ضــال املرجئــة فــي إخراجهــم كل ّ األعمــال مــن معنــى اإليمــان تعل ًقــا بظاهــر نصــوص الوعــد فقالــوا بصحــة اإليمــان ً إطالقــا بمجــرد التصديــق بــا انقيــاد وال عمــل ،قــال اب ــن ت ــيمية ( :وهــذا هــو األصــل الــذي تفــرع عنــه البــدع فــي اإليمــان)( .)15
إن التصديــق بوحدانـــية اللــه ونبــوة رســوله وحدهــا ال يكفــي ليدخــل اإلنســان تحــت اســم اإلســام
( )13صحيح مسلم ،باب بـيان كون النهي عن املنكر من اإليمان ..رقم ( ،)49-78تـرقيم عبد الباقي طبعة دار إحياء التـراث العربـي. ( )14أخرجه البخاري في باب كالم الرب عز و جل يوم القيامة مع األنبـياء وغيـرهم ،عن أنس بـن مالك ر�ضي هللا عنه ،رقم (.)7072 ( )15كتاب اإليمان البـن تـيمية (ص)209
7
التكفيـر وضوابطه
املبحث الثانـي :قواعد وضوابط يف التكفيـر القاعدة األولى( :ال نكفرإال من كفره هللا ورسوله) َّ فمــن جــاءت النصــوص بكفــره فهــو كافــر ،ومــن لــم يكفــره هللا ورســوله فــا يكفــر... وعلــى هــذا فأهــل الســنة ال ّ يكفــرون مــن يكفرهــم مــن غي ــرهم ملجــرد ّأن اآلخــر قــد ً كفرهــم ،ألن التكفي ــر حكــم شــرعي ليــس داخــا فــي بــاب العقوبــة باملثــل ،فالتكفي ــر ّ يكفــر الصحابــة الخــوارج مــع أن الخــوارج كفــروا ًّ عليــا ر�ضــي هللا حــق هللا ،لــذا لــم ِ عنــه ومــن معــه مــن الصحابــة ،فاملعـ ّـول عليــه فــي مســألة التكفي ــر النــص الصريــح أو اإلجمــاع أو القيــاس الجلــي الصحيــح علــى منصــوص عليــه(.)16 القاعدة الثانـية :التفريق بـيـن التكفيـر املطلــق «األوصــاف» أو «تكفي ــرالفعــل» والتكفي ــر املعي ــن «األشــخاص» أو «تكفي ــر الفاعــل» وضوابــط كل منهمــا : )1تكفي ــر األوصــاف يحتــاج إلــى دليــل وتكفي ــر املعي ــن يحتــاج إلــى تحقيــق منــاط (اجتمــاع شــروط وانتفــاء موانــع). )2التفصيــل فــي التكفي ــر املطلــق والتضييــق فــي تكفي ــر األعيــان فــا يطلــب فــي ذلــك االســتقصاء. )3تكفي ــر األوصــاف مــن اختصــاص العلمــاء والفقهــاء وتكفي ــر األشــخاص مــن مســؤولية األئمــة والقضــاة ال عامــة النــاس والوعــاظ. ال تالزم بـيـن التكفيـر املطلق وتكفيـر املعيـن ومثالــه قــول اإلمــام أحمــد بكفــر مــن قــال بخلــق الق ـرآن ،لكنــه لــم ّ يكفــر أعيانهــم مــع أنــه ناظــر بعضهــم ،وذلــك لعــدم اجتمــاع الشــروط وانتفــاء املوانــع ،وهــؤالء لــم يكذبــوا النصــوص وإنمــا أخطــؤوا فــي فهمهــا وتأويلهــا، فقد كان اإلمام أحمد يصلي خلف الخليفة
الــذي كان يمتحــن النــاس بهــذه املســألة وكان يدعــو هللا لــه باملغفــرة. القاعــدة الثالثــة :الفــرق بـي ــن الكفــر األكب ــر والكفــر األصغــر ليــس كل مــا وردت النصــوص بتســميته َ ً كفـ ًـرا أو شــركا فهــو عمــل ُمك ِّفـ ٌـر مخــرج مــن امللة ...إذ إن بعض األعمال ورد وصفها بذلك ملشــابهتها أفعــال الكفــار أو باعتبــار مــا تــؤدي إليه أو ألسباب أخرى ...ومن هنا قسم بعض العلمــاء الكفــر إلــى قسمي ــن :كفــر أكب ــر وهــو املخــرج مــن امللــة ،وكفــر أصغــر وضابطــه :مــا ً وردت النصــوص بتســميته كفـ ًـرا أو شــركا، واتفــق العلمــاء علــى أنــه ال يخــرج مرتكبــه مــن امللة إال باالستحالل ،ولبـيان هذه القاعدة ال بــد مــن الحديــث عــن عــدة مســائل: )1إن هــذا التقســيم الــذي مــر فــي الكفــر يكــون فــي الشــرك والنفــاق والظلــم والفســق ً أيضا ،فمنها ما هو أصغر ومنها ما هو أكبـر... وهــذا التقســيم منــه مــا صرحــت بــه النصــوص ومنــه مــا هــو مفهــوم مــن قواعــد تفسي ــر
التكفيـر وضوابطه
العدد 2رجب 1439هـ
النصوص ،وقد جاء في األحاديث ذكر الشرك األصغــر كمــا فــي قولــه عليــه الصــاة والســام: ((إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك األصغر، قالوا :يا رســول هللا وما الشــرك األصغر؟ قال: الريــاء))( )17وهــذا النــوع ال يخــرج مــن امللــة وال ي ــنفي عــن صاحبــه أصــل اإلســام ولكــن ي ــنافي كماله لكونه من الكبائر ،وال يغفر ملرتكبه إال بالتوبــة ومــن مــات ولــم يتــب فهــو تحــت مشــيئة هللا تعالــى إن شــاء عاقبــه أو غفــر لــه. )2ممــا يتفــرع علــى هــذه القاعــدة عــدم تكفي ــر أهــل القبلــة بمطلــق الذنــوب أو بمــا وصــف مــن الذنــوب بالكفــر أو الشــرك إال بجحــود األمــر أو اســتحالل املحـ ّـرم ،فقــد أجمــع الصحابــة والتابعــون ومــن بعدهــم علــى أن املعا�صــي مــن أمــور الجاهليــة وال يكفــر صاحبهــا بارتكابهــا إال بالشــرك، بـ ّـوب البخــاري (بــاب املعا�صــي مــن أمــر الجاهليــة)( )18وأورد حديــث(( :إنــك امــرؤ فيــك جاهليــة))( )19وقــد فــرق الق ـرآن بـي ــن الشــرك وســائر املعا�صــي ،وجــاء فــي أحاديــث الشــفاعة حديــث(( :شفاعت ــي ألهــل الكبائــر مــن أمت ــي))( ،)20يقــول اب ــن ت ــيمية( :إنــه قــد تقــرر مــن مذهــب أهــل الســنة والجماعــة مــا دل عليــه الكتــاب والســنة أنهــم ال يكفــرون أحـ ًـدا مــن أهــل القبلــة بذنــب وال يخرجونــه مــن اإلســام بعمــل إذا كان فعـ ًـا ًّ منهيــا عنــه مثــل الزنــا والســرقة وشــرب الخمــر مــا لــم يتضمــن ت ــرك اإليمــان ...وقــد ثبــت فــي الصحيحي ــن حديــث أب ــي ذر (( :مــن قــال ال إلــه إال هللا دخــل الجنــة وإن زنــا وإن ســرق وإن شــرب الخمــر رغــم أنــف أب ــي ذر))( .)21 )3للعلمــاء فــي تأويــل النصــوص الت ــي صرحــت
( )16فيصل التفرقة بـيـن اإلسالم والزندقة للغزالي (ص )17( .)128رواه اإلمام أحمد بسند صحيح عن محمود بـن لبـيد رقم ( )23630طبعة دار الرسالة ،ورواه الحاكم في املستدرك عن شداد بـن أوس وقال صحيح على شرطهما ولم يخرجاه ،رقم ( )7937تحقيق العطا طبعة دار الكتب العلمية. ( )18فتح الباري (ص )19( - )84/1أخرجه البخاري عن املعرور بـن سويد ر�ضي هللا عنه ،رقم (.)30 ( )20رواه أبو داود باب في الشفاعة رقم ( ،)4739والتـرمذي باب شفاعتـي ألهل الكبائر من أمتـي رقم ( ،)2623وابـن ماجه في باب ذكر الشفاعة (.)4310 ( )21مجموع الفتاوى البـن تـيمية (ص.)90/20
8
بتكفي ــر مرتكب ــي بعــض الذنــوب مذاهــب عــدة :األول :املـراد أنهــا مــن أعمــال أهــل الكفــر كمــا فــي الحديــث(( :ال ت ــرجعوا بعــدي كفــا ًرا يضــرب بعضكــم رقــاب بعــض))( ،)22وحديــث: ((سباب املسلم فسوق وقتاله كفر))( )23وقد قــال هللا تعالــى فــي حــق املسلمي ــن املتقاتلي ــن: ((وإن طائفتــان مــن املؤمنـي ــن اقتتلــوا)) [ســورة الحج ـرات :آيــة ]9فلــم ي ــنف عنهــم وصــف اإليمــان مــع اقتتالهــم ،الثان ــي :الكفــر أو الشــرك املذكــور فــي الحديــث هــو فــي حــق املســتحل ،الثالــث :هــذا الفعــل يــؤدي إلــى الكفر أو الشرك(( :من حلف بغي ــر هللا فقد كفــر أو أشــرك))( ،)24الرابــع :هــو بمعنــى كفــر اإلحســان والنعمــة ،وهــو مــا يعب ــر عنــه بعبــارة: (كفــر دون كفــر) كقولــه تعالــى(( :ضــرب هللا ً مثــا قريــة كانــت آمنــة مطمئنــة يأت ــيها رزقهــا رغـ ًـدا مــن كل مــكان فكفــرت بأنعــم هللا)) [سورة النحل :آية ،]112الخامس :املقصود نفــي كمــال اإليمــان مــع بقــاء أصلــه فــا يكــون بذلــك العا�صــي خار ًجــا مــن امللــة ،كقولــه عليــه الصــاة والســام(( :ال يزن ــي الزان ــي حي ــن يزن ــي وهو مؤمن))( )25قال ابـن حجر في تعليقه على هــذا الحديــث( :وهــذا يوافــق قول الجمهــور إن امل ـراد باإليمــان هنــا كمالــه ال أصلــه)(.)26 الســادس :إن املقصــود بــه هــو التغليــظ والزجــر ففــي مقــام الوعــظ تذكــر هــذه النصــوص كمــا هــي دون تفصيــل فيهــا لتحقــق الغايــة منهــا كمــا نقــل ذلــك عــن اإلمــام أحمــد وســفيان(:يقرونها ويمرونهــا كمــا جــاءت ويكرهــون تأويلهــا بمــا يخرجهــا عن مقصودها
فــي التغليــظ والزجــر)( ،)27وأمــا فــي مقــام ب ــيان الحكــم فتجمــع النصــوص الــواردة فــي كل مسألة منها ثم تفسر بحسب قواعد تفسيـر نصــوص الوعــد والوعيــد ...ولجهــل كثي ــر مــن املتصدريـن للوعظ بهذه الضوابط فقد أدى بهــم ذلــك إلــى التكفي ــر بمــا ال يجــوز التكفي ــر بــه ،ومثــال هــذا الخلــط املتســبب عــن الجهــل بأســاليب العــرب أن يخــرج مــن هــؤالء مــن يظــن أن قــول علــي ألهــل الكوفــة (يــا أشــباه الرجــال وال رجــال ) ..يدعــو إلــى تنزيــل أحــكام الخنثــى عليهــم فــي املواريــث!. مســألة مــواالة الكفــار :يتفــرع علــى القاعــدة السابقةالحديثعن(الكفراالعتقادي)وهو الكفــر األكب ــر( ،والكفــر العملــي) وهــو الكفــر األصغر ...ولعل من أشهر املسائل التـي حصل الخلــط فيهــا بـي ــن الكفــر االعتقــادي والكفــر العملــي مســألة نقــض اإليمــان بمـواالة الكفــار! فهل مطلق مواالة املســلم للكفار يخرجه من امللة باعتباره ً كفرا أكبـر؟ أم أن فيه تفصيال؟ لقــد نهــى هللا ســبحانه عــن مــواالة الكفــار فقــال ((:يــا أيهــا الذي ــن آمنــوا ال تتخــذوا عــدوي وعدوكــم أوليــاء)) [ســورة املمتحنــة :آيــة ]1 وقــال(( :ومــن يتولهــم منكــم فإنــه منهــم)) [ســورة املائــدة :آيــة ،]51وقــد فهــم البعــض مــن ظاهــر هــذه النصــوص تكفي ــر كل مــن عمــل عمــا يفســر علــى أنــه مــواالة للكفــار، وليــس األمــر كذلــك إذ جــاء فــي الســنة تفصيــل هــذه املســألة بمــا ال يــدع للشــبهة مجــاال! . جاء في قصة حاطب ب ــن أب ــي بلتعة ر�ضي هللا عنــه يــوم الفتــح أنــه أرســل ً كتابــا يخب ــر أهــل
العدد 2رجب 1439هـ
إ ّن الحاكم الذي يوصف بأنه مســلم ثم يـــرفض رشيعة اللــه ويعتقــد بأن غيـــرها أفضل منهــا وأجــدر بالتطبـــيق وأنهــا غيـــر صالحــة للعمــل بهــا وال شــبهة لــه يف ذلــك فهــذا كافــر وإن صــام وصــى مكــة بمسي ــر الرســول صلــى هللا عليــه وســلم واملسلمي ــن إليهــم ،وهــذا مــن املــواالة الظاهــرة، لكــن املــواالة منــه لهــم لم تكن بســبب اعتقــاده مــا هــم عليــه مــن الكفــر ،إنمــا حمايــة ألهلــه كمــا جــاء فــي الحديــث الصحيــح فقــد قــال حاطب( :وهللا ما فعلته شـ ًّـكا في ديـن ــي وال ر ً ضا بالكفــر بعــد اإلســام) فقــال عليــه الصــاة والســام(( :إنــه قــد صــدق))( ،)28وأمــا منــع قتلــه فــكان بســبب شــهوده بــد ًرا فلــو حكــم بكفــره فشــهوده بــد ًرا ال يمنــع مــن إطــاق الكفــر عليــه وكذلــك لــو حكــم بكفــره لحبــط عملــه ومــن جملــة ذلــك جهــاده وشــهوده بــد ًرا قــال تعالــى(( :ومــن يكفــر باإليمــان فقــد حبــط عمله)) [ســورة املائدة :آية ]5فلم يعد ي ــنفعه عملــه شـ ًـيئا ،فلمــا لــم يكــن مــا فعلــه كفـ ًـرا كانت حسنة شهوده بدرا ماحية لهذه السيئة ،قال ّ ُ الداللــة اإلمــام الشــافعي رحمــه هللا( :وليــس ِ علــى عــورة ُمســلم وال تأييـ ُـد كافــر بـ َـأن ُي َحـ ّـذ َر َأنَّ ِ ٍ ٍِ ْالُسلمي َـن ُيريدو َن م ُنه غ َّر ًة ليحذ َرها أو َّ يتقدمَ ِ ِ ِ
( )22رواه البخاري في باب حجة الوداع ،رقم ( ،)4143ومسلم في باب بـيان معنى قول النبـي صلى اله عليه وسلم ال تـرجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض رقم (.)65 -118 ( )23رواه البخاري في باب ما يـنهى من السباب واللعن رقم ( ،)5697ورواه مسلم في باب بـيان قول النبـي صلى هللا عليه و سلم سباب املسلم فسوق وقتاله كفر ،رقم (.)64-116 ( )24أخرجه ابـن حبان في صحيحه عن ابـن عمر ر�ضي هللا عنه ،وفي مسند أحمد وسنن أبـي داود والتـرمذي ،وصححه الحاكم في مستدركه على شرطهما. ( )25متفق عليه عن أبـي هريـرة ر�ضي هللا عنه ،رواه البخاري في باب النبهى بغيـر إذن صاحبه ،رقم ( ،)2343ومسلم في باب بـيان نقصان اإليمان باملعا�صي رقم (.)57-100 ( )26فتح الباري (ص)115/12 ( )27مجموع الفتاوى (ص.)673/7 ( )28القصة موجودة في صحيح البخاري وفي كل كتب السيـرة وبهذا اللفظ في السنن الكبـرى للبـيهقي وفي شرح السنة للبغوي.
9
التكفيـر وضوابطه
املبحث الثانـي :قواعد وضوابط يف التكفيـر القاعدة األولى( :ال نكفرإال من كفره هللا ورسوله) َّ فمــن جــاءت النصــوص بكفــره فهــو كافــر ،ومــن لــم يكفــره هللا ورســوله فــا يكفــر... وعلــى هــذا فأهــل الســنة ال ّ يكفــرون مــن يكفرهــم مــن غي ــرهم ملجــرد ّأن اآلخــر قــد ً كفرهــم ،ألن التكفي ــر حكــم شــرعي ليــس داخــا فــي بــاب العقوبــة باملثــل ،فالتكفي ــر ّ يكفــر الصحابــة الخــوارج مــع أن الخــوارج كفــروا ًّ عليــا ر�ضــي هللا حــق هللا ،لــذا لــم ِ عنــه ومــن معــه مــن الصحابــة ،فاملعـ ّـول عليــه فــي مســألة التكفي ــر النــص الصريــح أو اإلجمــاع أو القيــاس الجلــي الصحيــح علــى منصــوص عليــه(.)16 القاعدة الثانـية :التفريق بـيـن التكفيـر املطلــق «األوصــاف» أو «تكفي ــرالفعــل» والتكفي ــر املعي ــن «األشــخاص» أو «تكفي ــر الفاعــل» وضوابــط كل منهمــا : )1تكفي ــر األوصــاف يحتــاج إلــى دليــل وتكفي ــر املعي ــن يحتــاج إلــى تحقيــق منــاط (اجتمــاع شــروط وانتفــاء موانــع). )2التفصيــل فــي التكفي ــر املطلــق والتضييــق فــي تكفي ــر األعيــان فــا يطلــب فــي ذلــك االســتقصاء. )3تكفي ــر األوصــاف مــن اختصــاص العلمــاء والفقهــاء وتكفي ــر األشــخاص مــن مســؤولية األئمــة والقضــاة ال عامــة النــاس والوعــاظ. ال تالزم بـيـن التكفيـر املطلق وتكفيـر املعيـن ومثالــه قــول اإلمــام أحمــد بكفــر مــن قــال بخلــق الق ـرآن ،لكنــه لــم ّ يكفــر أعيانهــم مــع أنــه ناظــر بعضهــم ،وذلــك لعــدم اجتمــاع الشــروط وانتفــاء املوانــع ،وهــؤالء لــم يكذبــوا النصــوص وإنمــا أخطــؤوا فــي فهمهــا وتأويلهــا، فقد كان اإلمام أحمد يصلي خلف الخليفة
الــذي كان يمتحــن النــاس بهــذه املســألة وكان يدعــو هللا لــه باملغفــرة. القاعــدة الثالثــة :الفــرق بـي ــن الكفــر األكب ــر والكفــر األصغــر ليــس كل مــا وردت النصــوص بتســميته َ ً كفـ ًـرا أو شــركا فهــو عمــل ُمك ِّفـ ٌـر مخــرج مــن امللة ...إذ إن بعض األعمال ورد وصفها بذلك ملشــابهتها أفعــال الكفــار أو باعتبــار مــا تــؤدي إليه أو ألسباب أخرى ...ومن هنا قسم بعض العلمــاء الكفــر إلــى قسمي ــن :كفــر أكب ــر وهــو املخــرج مــن امللــة ،وكفــر أصغــر وضابطــه :مــا ً وردت النصــوص بتســميته كفـ ًـرا أو شــركا، واتفــق العلمــاء علــى أنــه ال يخــرج مرتكبــه مــن امللة إال باالستحالل ،ولبـيان هذه القاعدة ال بــد مــن الحديــث عــن عــدة مســائل: )1إن هــذا التقســيم الــذي مــر فــي الكفــر يكــون فــي الشــرك والنفــاق والظلــم والفســق ً أيضا ،فمنها ما هو أصغر ومنها ما هو أكبـر... وهــذا التقســيم منــه مــا صرحــت بــه النصــوص ومنــه مــا هــو مفهــوم مــن قواعــد تفسي ــر
التكفيـر وضوابطه
العدد 2رجب 1439هـ
النصوص ،وقد جاء في األحاديث ذكر الشرك األصغــر كمــا فــي قولــه عليــه الصــاة والســام: ((إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك األصغر، قالوا :يا رســول هللا وما الشــرك األصغر؟ قال: الريــاء))( )17وهــذا النــوع ال يخــرج مــن امللــة وال ي ــنفي عــن صاحبــه أصــل اإلســام ولكــن ي ــنافي كماله لكونه من الكبائر ،وال يغفر ملرتكبه إال بالتوبــة ومــن مــات ولــم يتــب فهــو تحــت مشــيئة هللا تعالــى إن شــاء عاقبــه أو غفــر لــه. )2ممــا يتفــرع علــى هــذه القاعــدة عــدم تكفي ــر أهــل القبلــة بمطلــق الذنــوب أو بمــا وصــف مــن الذنــوب بالكفــر أو الشــرك إال بجحــود األمــر أو اســتحالل املحـ ّـرم ،فقــد أجمــع الصحابــة والتابعــون ومــن بعدهــم علــى أن املعا�صــي مــن أمــور الجاهليــة وال يكفــر صاحبهــا بارتكابهــا إال بالشــرك، بـ ّـوب البخــاري (بــاب املعا�صــي مــن أمــر الجاهليــة)( )18وأورد حديــث(( :إنــك امــرؤ فيــك جاهليــة))( )19وقــد فــرق الق ـرآن بـي ــن الشــرك وســائر املعا�صــي ،وجــاء فــي أحاديــث الشــفاعة حديــث(( :شفاعت ــي ألهــل الكبائــر مــن أمت ــي))( ،)20يقــول اب ــن ت ــيمية( :إنــه قــد تقــرر مــن مذهــب أهــل الســنة والجماعــة مــا دل عليــه الكتــاب والســنة أنهــم ال يكفــرون أحـ ًـدا مــن أهــل القبلــة بذنــب وال يخرجونــه مــن اإلســام بعمــل إذا كان فعـ ًـا ًّ منهيــا عنــه مثــل الزنــا والســرقة وشــرب الخمــر مــا لــم يتضمــن ت ــرك اإليمــان ...وقــد ثبــت فــي الصحيحي ــن حديــث أب ــي ذر (( :مــن قــال ال إلــه إال هللا دخــل الجنــة وإن زنــا وإن ســرق وإن شــرب الخمــر رغــم أنــف أب ــي ذر))( .)21 )3للعلمــاء فــي تأويــل النصــوص الت ــي صرحــت
( )16فيصل التفرقة بـيـن اإلسالم والزندقة للغزالي (ص )17( .)128رواه اإلمام أحمد بسند صحيح عن محمود بـن لبـيد رقم ( )23630طبعة دار الرسالة ،ورواه الحاكم في املستدرك عن شداد بـن أوس وقال صحيح على شرطهما ولم يخرجاه ،رقم ( )7937تحقيق العطا طبعة دار الكتب العلمية. ( )18فتح الباري (ص )19( - )84/1أخرجه البخاري عن املعرور بـن سويد ر�ضي هللا عنه ،رقم (.)30 ( )20رواه أبو داود باب في الشفاعة رقم ( ،)4739والتـرمذي باب شفاعتـي ألهل الكبائر من أمتـي رقم ( ،)2623وابـن ماجه في باب ذكر الشفاعة (.)4310 ( )21مجموع الفتاوى البـن تـيمية (ص.)90/20
8
بتكفي ــر مرتكب ــي بعــض الذنــوب مذاهــب عــدة :األول :املـراد أنهــا مــن أعمــال أهــل الكفــر كمــا فــي الحديــث(( :ال ت ــرجعوا بعــدي كفــا ًرا يضــرب بعضكــم رقــاب بعــض))( ،)22وحديــث: ((سباب املسلم فسوق وقتاله كفر))( )23وقد قــال هللا تعالــى فــي حــق املسلمي ــن املتقاتلي ــن: ((وإن طائفتــان مــن املؤمنـي ــن اقتتلــوا)) [ســورة الحج ـرات :آيــة ]9فلــم ي ــنف عنهــم وصــف اإليمــان مــع اقتتالهــم ،الثان ــي :الكفــر أو الشــرك املذكــور فــي الحديــث هــو فــي حــق املســتحل ،الثالــث :هــذا الفعــل يــؤدي إلــى الكفر أو الشرك(( :من حلف بغي ــر هللا فقد كفــر أو أشــرك))( ،)24الرابــع :هــو بمعنــى كفــر اإلحســان والنعمــة ،وهــو مــا يعب ــر عنــه بعبــارة: (كفــر دون كفــر) كقولــه تعالــى(( :ضــرب هللا ً مثــا قريــة كانــت آمنــة مطمئنــة يأت ــيها رزقهــا رغـ ًـدا مــن كل مــكان فكفــرت بأنعــم هللا)) [سورة النحل :آية ،]112الخامس :املقصود نفــي كمــال اإليمــان مــع بقــاء أصلــه فــا يكــون بذلــك العا�صــي خار ًجــا مــن امللــة ،كقولــه عليــه الصــاة والســام(( :ال يزن ــي الزان ــي حي ــن يزن ــي وهو مؤمن))( )25قال ابـن حجر في تعليقه على هــذا الحديــث( :وهــذا يوافــق قول الجمهــور إن امل ـراد باإليمــان هنــا كمالــه ال أصلــه)(.)26 الســادس :إن املقصــود بــه هــو التغليــظ والزجــر ففــي مقــام الوعــظ تذكــر هــذه النصــوص كمــا هــي دون تفصيــل فيهــا لتحقــق الغايــة منهــا كمــا نقــل ذلــك عــن اإلمــام أحمــد وســفيان(:يقرونها ويمرونهــا كمــا جــاءت ويكرهــون تأويلهــا بمــا يخرجهــا عن مقصودها
فــي التغليــظ والزجــر)( ،)27وأمــا فــي مقــام ب ــيان الحكــم فتجمــع النصــوص الــواردة فــي كل مسألة منها ثم تفسر بحسب قواعد تفسيـر نصــوص الوعــد والوعيــد ...ولجهــل كثي ــر مــن املتصدريـن للوعظ بهذه الضوابط فقد أدى بهــم ذلــك إلــى التكفي ــر بمــا ال يجــوز التكفي ــر بــه ،ومثــال هــذا الخلــط املتســبب عــن الجهــل بأســاليب العــرب أن يخــرج مــن هــؤالء مــن يظــن أن قــول علــي ألهــل الكوفــة (يــا أشــباه الرجــال وال رجــال ) ..يدعــو إلــى تنزيــل أحــكام الخنثــى عليهــم فــي املواريــث!. مســألة مــواالة الكفــار :يتفــرع علــى القاعــدة السابقةالحديثعن(الكفراالعتقادي)وهو الكفــر األكب ــر( ،والكفــر العملــي) وهــو الكفــر األصغر ...ولعل من أشهر املسائل التـي حصل الخلــط فيهــا بـي ــن الكفــر االعتقــادي والكفــر العملــي مســألة نقــض اإليمــان بمـواالة الكفــار! فهل مطلق مواالة املســلم للكفار يخرجه من امللة باعتباره ً كفرا أكبـر؟ أم أن فيه تفصيال؟ لقــد نهــى هللا ســبحانه عــن مــواالة الكفــار فقــال ((:يــا أيهــا الذي ــن آمنــوا ال تتخــذوا عــدوي وعدوكــم أوليــاء)) [ســورة املمتحنــة :آيــة ]1 وقــال(( :ومــن يتولهــم منكــم فإنــه منهــم)) [ســورة املائــدة :آيــة ،]51وقــد فهــم البعــض مــن ظاهــر هــذه النصــوص تكفي ــر كل مــن عمــل عمــا يفســر علــى أنــه مــواالة للكفــار، وليــس األمــر كذلــك إذ جــاء فــي الســنة تفصيــل هــذه املســألة بمــا ال يــدع للشــبهة مجــاال! . جاء في قصة حاطب ب ــن أب ــي بلتعة ر�ضي هللا عنــه يــوم الفتــح أنــه أرســل ً كتابــا يخب ــر أهــل
العدد 2رجب 1439هـ
إ ّن الحاكم الذي يوصف بأنه مســلم ثم يـــرفض رشيعة اللــه ويعتقــد بأن غيـــرها أفضل منهــا وأجــدر بالتطبـــيق وأنهــا غيـــر صالحــة للعمــل بهــا وال شــبهة لــه يف ذلــك فهــذا كافــر وإن صــام وصــى مكــة بمسي ــر الرســول صلــى هللا عليــه وســلم واملسلمي ــن إليهــم ،وهــذا مــن املــواالة الظاهــرة، لكــن املــواالة منــه لهــم لم تكن بســبب اعتقــاده مــا هــم عليــه مــن الكفــر ،إنمــا حمايــة ألهلــه كمــا جــاء فــي الحديــث الصحيــح فقــد قــال حاطب( :وهللا ما فعلته شـ ًّـكا في ديـن ــي وال ر ً ضا بالكفــر بعــد اإلســام) فقــال عليــه الصــاة والســام(( :إنــه قــد صــدق))( ،)28وأمــا منــع قتلــه فــكان بســبب شــهوده بــد ًرا فلــو حكــم بكفــره فشــهوده بــد ًرا ال يمنــع مــن إطــاق الكفــر عليــه وكذلــك لــو حكــم بكفــره لحبــط عملــه ومــن جملــة ذلــك جهــاده وشــهوده بــد ًرا قــال تعالــى(( :ومــن يكفــر باإليمــان فقــد حبــط عمله)) [ســورة املائدة :آية ]5فلم يعد ي ــنفعه عملــه شـ ًـيئا ،فلمــا لــم يكــن مــا فعلــه كفـ ًـرا كانت حسنة شهوده بدرا ماحية لهذه السيئة ،قال ّ ُ الداللــة اإلمــام الشــافعي رحمــه هللا( :وليــس ِ علــى عــورة ُمســلم وال تأييـ ُـد كافــر بـ َـأن ُي َحـ ّـذ َر َأنَّ ِ ٍ ٍِ ْالُسلمي َـن ُيريدو َن م ُنه غ َّر ًة ليحذ َرها أو َّ يتقدمَ ِ ِ ِ
( )22رواه البخاري في باب حجة الوداع ،رقم ( ،)4143ومسلم في باب بـيان معنى قول النبـي صلى اله عليه وسلم ال تـرجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض رقم (.)65 -118 ( )23رواه البخاري في باب ما يـنهى من السباب واللعن رقم ( ،)5697ورواه مسلم في باب بـيان قول النبـي صلى هللا عليه و سلم سباب املسلم فسوق وقتاله كفر ،رقم (.)64-116 ( )24أخرجه ابـن حبان في صحيحه عن ابـن عمر ر�ضي هللا عنه ،وفي مسند أحمد وسنن أبـي داود والتـرمذي ،وصححه الحاكم في مستدركه على شرطهما. ( )25متفق عليه عن أبـي هريـرة ر�ضي هللا عنه ،رواه البخاري في باب النبهى بغيـر إذن صاحبه ،رقم ( ،)2343ومسلم في باب بـيان نقصان اإليمان باملعا�صي رقم (.)57-100 ( )26فتح الباري (ص)115/12 ( )27مجموع الفتاوى (ص.)673/7 ( )28القصة موجودة في صحيح البخاري وفي كل كتب السيـرة وبهذا اللفظ في السنن الكبـرى للبـيهقي وفي شرح السنة للبغوي.
9
التكفيـر وضوابطه ُ ِفــي ِنكايـ ِـة املسلمي ـ َـن ِبك ْفـ ٍـر َب ِّيـ ٍـن) ،وقــال اب ـ ُـن ْ َ ُ َ َ ُّ ُ َ وراتاملسلمي َـن العربـي(َ :منكث َرتطل ُعهعلىع َ ِ َ َ ُ ْ عليهــم ُوي َعـ ّ ِـرف َع ُد َّو ُهــم ِبأخبا ِر ِهـ ْـم لـ ْـم ُوين ِّبـ ُـه ِ َ ُ ْ َ َ ً َ َ َ َ ََ ُ َ َ ض ُدنـيو ّي، يكن ِبذ ِلك كا ِفرا ِإذا كان فعل َه ِلغ َر ٍ َ واعتقـ ُـاد ُه علــى ذلـ َـك َسـ ٌ حاطـ ٌـب ـليم ،كمــا فعـ َـل ِ ّ َ حي ـ َـن َق َ صـ َـد ِبذلـ َـك ِاتخــاذ اليـ ِـد ولــم ي ــنو الـ ّـردة ِ ّ )29 ( عــن الدي ــن) ،وقــال اب ــن ت ــيمية فــي الفتــاوى: َّ ُ ّ حاجة لرحم أو ٍ (وقد تحصل للرجل موادتهم ٍ ُ فتكــون ً ذنبــا ي ــنقص بــه إيمانــه ،وال يكــون بــه كافـ ًـرا كمــا حصــل ِمــن حاطــب ب ــن أب ــي بلتعــة ملــا كاتــب املشركي ــن ببعــض أخبــار النب ــي صلــى َ َّ هللا عليه وســلم وأنزل هللا فيه ((يا أ ُّي َها ال ِذي ـ َـن َ ُ َ َّ ُ َ ُ ّ َ َ ُ َّ ُ ْ َ ْ َ ْ ياء ُتل ُقو َن آمنوا ال تت ِخذوا عد ِوي وعدوكم أوِل َ َْ ِإل ْي ِهـ ْـم ِبالـ َـو َّد ِة)) [ســورة املمتحنــة :آيــة ]1وقــد ناقــش اإلمــام اب ــن القيــم هــذه املســألة فــي زاد املعــاد( )30ثــم ب ـ ّـين حكــم الجاســوس ورجــح أنــه مــن أحــكام اإلمامــة فاإلمــام يمكــن أن يقتلــه أو يستبقيه بحسب املصلحة ،ولو حكم بكفره ملــا جــاز االســتبقاء. ومثــل قصــة حاطــب مــا حصــل مــن ســعد ب ــن عبــادة فــي (حديــث اإلفــك) فقــد جــاء فيــه :قــال ســعد ب ــن معــاذ( :دعن ــي أقتــل هــذا املنافــق) يقصــد عبــدهللا ب ــن أب ـ ّـي! فقــال لــه ســعد ب ــن عبــادة( :كذبــت وهللا ال تقتلــه وال تقــدر علــى ً ً قتلــه) قالــت عائشــة(( :وكان رجــا صالحــا ولكــن احتملتــه الحميــة))( ،)31يفهــم مــن ذلــك أنــه لــم يكــن دفــاع ســعد عــن املنافــق مــواالة لــه فــي نفاقــه ،ولكــن لســبب خــارج عنــه. مســألة الحكــم بغي ــر مــا أنــزل هللا :ومــن املســائل املهمــة املتفرعــة عــن قاعــدة الكفــر
االعتقــادي والكفــر العملــي مســألة الحكــم بغيـر ما أنزل هللا ،فهل كل من تـرك حكم هللا هــو كافــر أم أن فــي ذلــك تفصيــا؟ ّإن الحاكــم الــذي يوصــف بأنــه مســلم ثــم يـرفض شريعة هللا ويعتقد بأن غيـرها أفضل منهــا وأجــدر بالتطب ــيق وأنهــا غي ــر صالحــة للعمــل بهــا وال شــبهة لــه فــي ذلــك فهــذا كافــر وإن صــام وصلــى وزعــم أنــه مســلم ،قــال تعالــى: (( فــا وربــك ال يؤمنــون حتــى يحكمــوك فيمــا شــجر بـي ــنهم ثــم ال يجــدوا فــي أنفســهم ً حرجــا ممــا قضيــت ويســلموا تســليما)) [ســورة النســاء :آيــة ...]65ولكنــه إن كان يعتقــد أحقيتها ويؤمن بها ولكنه ال يعمل بمقتضاها تقصي ـ ًـرا أو لوضــع مــا يمنعــه مــن ذلــك؛ عاصيــا أو ظال ـ ًـما مر ً ً فهــذا يكــون تكبــا للكبـي ــرة أو فاسـ ًـقا وال يدخــل تحــت مســمى الكفــر االعتقــادي األكب ــر ،قــال شــارح الطحاويــة : (وهنا أمر يجب أن يتفطن له وهو أن الحكم بغي ــر مــا أنــزل هللا قــد يكــون كفـ ًـرا ي ــنقل عــن امللــة ،وقــد يكــون معصيــة كبـي ــرة أو صغي ــرة، ويكــون كفـ ًـرا إمــا مجا ًّزي ــا وإمــا كفـ ًـرا أصغــر علــى القولي ــن املذكوري ــن ،وذلــك بحســب حــال الحاكــم ،فإنــه إن اعتقــد أن الحكــم بمــا أنــزل هللا غي ــر واجب وأنه مخي ــر فيه أو استهان به مــع ت ــيقنه أنــه حكــم هللا فهــذا كفــر أكب ــر ،وإن اعتقــد وجــوب الحكــم بمــا أنــزل هللا وعلمــه فــي هــذه الواقعــة وعــدل عنــه مــع اعت ـرافه بأنــه مســتحق للعقوبــة فهــذا عــاص ويســمى كافـ ًـرا كفـ ًـرا مجا ًّزيــا أو كفـ ًـرا أصغــر ،وإن جهــل حكــم هللا فيهــا مــع بــذل جهــده واســتفراغ وســعه فــي
التكفيـر وضوابطه
العدد 2رجب 1439هـ
معرفــة الحكــم وأخطــأ فهــذا مخطــئ لــه أجــر علــى اجتهــاده وخطــؤه مغفــور)( .)32 القاعدة الرابعة :من عرف إيمانه بـيقيـن فاليحكم بكفره إالبـيقيـن. ويتـرتب على ذلك: -1ثبــوت عقــد اإليمــان لــكل مــن أقــر بالشهادتـي ــن حتــى يتلبــس ب ــناقض جلــي مــن نواقــض اإليمــان ،إذ يكفــي مــن لــم يكــن ً مؤمنــا اإلق ـرار املجمــل بالشهادتـي ــن ليعصــم دمــه ومالــه ،وأدلــة ذلــك كثي ــرة منهــا حديــث أســامة ب ــن زيــد (بعثنــا رســول هللا صلــى هللا عليــه وسلم إلى َ الحرقة من جهي ــنة فصبحنا القوم فهزمناهــم ،ولحقــت أنــا ورجـ ٌـل مــن األنصــار ً رجل منهم ،فلما غشي ــناه قال :ال إله إال هللا، فكــف عنــه األنصــاري وطعنتــه ب ــرمحي حتــى قتلتــه ،قــال :فلمــا قدمنــا بلــغ ذلــك النب ــي صلــى هللا عليــه وســلم فقــال لــي (( :يــا أســامة أقتلتــه بعدما قال ال إله إال هللا؟)) قال :قلت يا رسول ً هللا إنمــا كان متعــوذا! قــال(( :أقتلتــه بعدمــا قــال ال إلــه إال هللا؟)) قــال :قلــت يــا رســول هللا ً إنما كان متعوذا ،قال(( :أقتلته بعدما قال ال إله إال هللا؟)) فما زال يكررها حتى تمنـيت أنـي لــم أكــن أســلمت قبــل ذلــك اليــوم)( ،)33ومثلــه حديث معاوية بـن الحكم السلمي والذي جاء فيــه أنــه لطــم جاريتــه ثــم نــدم وأراد أن يعتقهــا فســأل النب ــي صلــى هللا عليــه وســلم عــن ذلــك ثم جاء في الحديث(( :أن النبـي صلى هللا عليه وســلم ســألها :أي ــن هللا؟ قالــت :فــي الســماء ثــم قــال :مــن أنــا؟ قالــت :أنــت رســول هللا ،قــال: أعتقهــا فإنهــا مؤمنــة))( ) 34فقــد اكتفــى مــن
( )29أحكام القرآن البـن العربـي تحقيق العطا ،طبعة دار الكتب العلمية ( ،2003ص .)225/4 ( )30زاد املعاد (ص.)423/3 ،114/3 ( )31متفق عليه عن عائشة ر�ضي هللا عنها ،رواه البخاري في باب تعديل النساء بعضهن بعضا رقم ( ،)2518ومسلم في باب حديث اإلفك ...رقم (.)2770-56 ( )32شرح العقيدة الطحاوية (ص.)446/2 ( )33متفق عليه عن أسامة بـن زيد ر�ضي هللا عنه ،رواه البخاري باب قول هللا تعالى (ومن أحياها) رقم ( ،)6478ومسلم باب تحريم قتل الكافر بعد أن قال ال إله إال هللا ،رقم (.)96-159 ( )34أخرجه مسلم عن معاوية بـن الحكم السلمي ر�ضي هللا عنه ،باب تحريم الكالم في الصالة ونسخ ما كان من إباحة ،رقم (.)537-33
10
الجاريــة إقرارهــا ومــن الرجــل فــي حديــث أســامة إق ـراره ،يقــول اب ــن رجــب( :مــن املعلــوم بالضــرورة ّأن النب ــي صلــى هللا عليــه وسلم كان يقبل كل من جاءه يـريد الدخول فــي اإلســام بالشهادتـي ــن فقــط ،ويعصــم دمــه بذلــك ويجعلــه مسـ ًـلما ،فقــد أنكــر علــى أســامة ب ــن زيــد قتلــه ملــن قــال ال إلــه إال هللا ّ لـ ــا رفــع عليــه الســيف واشــتد نكي ــره عليــه، ولــم يكــن صلــى هللا عليــه وســلم ليشت ــرط علــى مــن جــاءه ي ـريد اإلســام)( ،)35وهــذا قصــد كل مــن قــال مــن الســلف أن اإلق ـرار باإلســام يكفيــه لثبــوت وصــف اإلســام لــه. -2لــو حدثــت لوثــة فــي اإلق ـرار املجمــل ملــن أراد الدخــول فــي الدي ــن فــا بــد مــن التحقيــق املفصــل ،فالوثن ــي تقبــل منــه الشــهادتان واإلق ـرار املجمــل بهمــا ،وأمــا الكتاب ــي فــا يكتفــى منــه بذلــك لوجــود شــبهة إقرارهــم ب ــنبوته عليــه الصــاة والســام وإنكارهــم بعثتــه إليهــم وأنــه بعــث للعــرب خاصــة، وهكــذا كل مــن لــه لوثــة أو شــبهة علــى اإلقـرار املجمــل فــا بــد أن يقــر بالحــق ويتب ـرأ مــن كل مــا خالفــه كالباطن ــية بطوائفهــا والقاديان ــية، يقــول النــووي( :أمــا إذا أتــى بالشهادتـي ــن فــا يشتـرط معهما أن يقول وأنا بـريء من كل ما خالــف دي ــن اإلســام إال إذا كان مــن الكفــار الذي ــن يعتقــدون اختصــاص رســالة نبـي ــنا صلــى هللا عليــه وســلم بالعــرب فإنــه ال يحكــم بإســامه حتــى يتب ـرأ)(.)36 -3االحت ــياط بالتكفي ــر :قــال اب ــن عبــد الب ــر: (ومــن وجهــة النظــر الصحيــح الــذي ال مدفــع
لــه أن كل مــن ثبــت لــه عقــد اإلســام فــي وقــت بإجمــاع مــن املسلمي ــن ثــم أذنــب ً ذنبــا أو ً تـ ّـأول تأويــا فاختلفــوا بعـ ُـد فــي خروجــه مــن اإلســام لــم يكــن الختالفهــم بعــد إجماعهــم معنــى ،وال يخــرج مــن اإلســام املتفــق عليــه إال باتفــاق آخــر أو ســنة ثابتــة ال معــارض لهــا ،وقــد اتفــق أهــل الســنة والجماعــة وهــم أهــل الفقــه واألث ــر علــى أن أحــدا ال يخرجــه ذنبــه وإن عظــم مــن اإلســام ،فالواجــب فــي النظــر أال ُي َّ كفــر إال مــن اتفــق علــى تكفي ــره أو قــام علــى تكفي ــره دليــل ال مدفــع لــه مــن كتــاب أو ســنة)( .)37 -4وعلــى هــذا فاملســلم الــذي نجهــل حالــه يكفــي فــي معرفتنــا إســامه أي داللــة علــى ذلــك كمــن يصلــي أو يصــوم ،وعليــه يحمــل حديــث النب ــي صلــى هللا عليــه وســلم ((مــن صلــى صالتنــا واســتقبل قبلتنــا وأكل ذب ــيحتنا فذلــك املســلم الــذي لــه ذمــة هللا ورســوله))( )38يقــول اب ــن حجــر فــي تعليقــه علــى هــذا الحديــث( :وفيــه أن أمــور النــاس محمولــة علــى الظاهــر ،فمــن أظهــر شــعائر الدي ــن أجريــت عليــه أحــكام أهلــه مــا لــم يظهــر منــه خــاف ذلــك( ،)39ولقــد نهــى الق ـرآن الكريــم عــن نفــي اإليمــان عمــن ابتدأنــا بالســام ألن الســام مــن عالمــات اإليمــان ،قــال هللا تعالــى(( :وال تقولـوا ملــن ألقــى إليكــم الســام لســت ً مؤمنــا)) [ســورة النســاء: آية ]94وهذا في حق كافر ألقى الســام كما يــدل عليــه ســبب النــزول فكيــف بمســلم يعيــش فــي بــاد اإلســام ،وعلــى هــذا فليــس
( )35جامع العلوم والحكم البـن رجب (ص.)228 ( )36صحيح مسلم بشرح النووي (ص.)149/1 ( )37التمهيد البـن عبد البـر (ص .)21/17 ( )38أخرجه البخاري عن أنس بـن مالك ر�ضي هللا عنه ،باب فضل استقبال القبلة رقم ( )384ومسلم باب وقتها -أي األضحية -رقم (.)1961-6 ( )39فتح الباري البـن حجر (ص .)496/1 ( )40انظر تاريخ املذاهب اإلسالمية ملحمد أبـي زهرة (ص.)74
العدد 2رجب 1439هـ
مــن الهــدي النبــوي امتحــان النــاس ملعرفــة إيمانهــم طاملــا أنهــم يعيشــون بـي ــن املسلمي ــن ويظهــرون لنــا مــا يــدل علــى إســامهم، وامتحان اإليمان كان في حاالت خاصة أمر هللا تعالــى بهــا كامتحــان املـرأة املهاجــرة وذلــك ملصلحــة الوفــاء بالعهــد الــذي أب ــرم فــي صلــح الحديب ــية ،وكذلك عند الريبة لتنزيل حكم شــرعي كمــا فــي قصــة عتــق الجاريــة. -5التفريق في الحكم بـيـن من أراد الدخول في اإلســام مــن غي ــر أهلــه؛ وبـي ــن الحكــم بكفــر مــن هــو مــن أهــل اإليمــان ،وتنزيــل قاعــدة: ّ يكفرالكافرأوشك في تكفيـره فهو (من لم ِ كافــر) فــإن هــذه القاعــدة إنمــا تصــدق علــى من شك في كفر الكافر األصلي املجمع على كفــره كاليهــود والنصــارى( ...وهــذه القاعــدة ملــا توســع بهــا الخــوارج ّ كفــر بعضهــم ً بعضــا واســتباحوا دمــاء بعضهــم ً بعضــا وصــاروا مــا يزيــد علــى عشري ــن فرقــة ،وقــد فطــن بعــض الدهــاة كاملهلــب ب ــن أب ــي صفــرة لهــذا النهــم الشــديد وهــذه السلســة التكفي ـرية ،فصــار يـ ُّ ـدس لهــم مــن يســألهم عــن املعضــات فيختلفــون فــي اإلجابــة فيكفــر بعضهــم َ ً بعضــا ومــن ثـ ّـم يفت ــرقون)(.)40 -6مســألة :شــاع عن البعض القول بجاهلية املجتمعــات اإلســامية والت ــي يجعلــون مــن لوازمهــا تكفي ــر املسلمي ــن ،بــل واعتبارهــم كفــا ًرا حتــى يثبــت العكــس ،وهــذه املســألة منقوضــة بأمــور كثي ــرة منهــا أن الحكــم علــى َّ الجاهلية عمل فرد أو جماعة بأنه من عمل ال يلــزم منــه تكفي ــر املعي ــن مــا لــم يكــن األمــر
11
التكفيـر وضوابطه ُ ِفــي ِنكايـ ِـة املسلمي ـ َـن ِبك ْفـ ٍـر َب ِّيـ ٍـن) ،وقــال اب ـ ُـن ْ َ ُ َ َ ُّ ُ َ وراتاملسلمي َـن العربـي(َ :منكث َرتطل ُعهعلىع َ ِ َ َ ُ ْ عليهــم ُوي َعـ ّ ِـرف َع ُد َّو ُهــم ِبأخبا ِر ِهـ ْـم لـ ْـم ُوين ِّبـ ُـه ِ َ ُ ْ َ َ ً َ َ َ َ ََ ُ َ َ ض ُدنـيو ّي، يكن ِبذ ِلك كا ِفرا ِإذا كان فعل َه ِلغ َر ٍ َ واعتقـ ُـاد ُه علــى ذلـ َـك َسـ ٌ حاطـ ٌـب ـليم ،كمــا فعـ َـل ِ ّ َ حي ـ َـن َق َ صـ َـد ِبذلـ َـك ِاتخــاذ اليـ ِـد ولــم ي ــنو الـ ّـردة ِ ّ )29 ( عــن الدي ــن) ،وقــال اب ــن ت ــيمية فــي الفتــاوى: َّ ُ ّ حاجة لرحم أو ٍ (وقد تحصل للرجل موادتهم ٍ ُ فتكــون ً ذنبــا ي ــنقص بــه إيمانــه ،وال يكــون بــه كافـ ًـرا كمــا حصــل ِمــن حاطــب ب ــن أب ــي بلتعــة ملــا كاتــب املشركي ــن ببعــض أخبــار النب ــي صلــى َ َّ هللا عليه وســلم وأنزل هللا فيه ((يا أ ُّي َها ال ِذي ـ َـن َ ُ َ َّ ُ َ ُ ّ َ َ ُ َّ ُ ْ َ ْ َ ْ ياء ُتل ُقو َن آمنوا ال تت ِخذوا عد ِوي وعدوكم أوِل َ َْ ِإل ْي ِهـ ْـم ِبالـ َـو َّد ِة)) [ســورة املمتحنــة :آيــة ]1وقــد ناقــش اإلمــام اب ــن القيــم هــذه املســألة فــي زاد املعــاد( )30ثــم ب ـ ّـين حكــم الجاســوس ورجــح أنــه مــن أحــكام اإلمامــة فاإلمــام يمكــن أن يقتلــه أو يستبقيه بحسب املصلحة ،ولو حكم بكفره ملــا جــاز االســتبقاء. ومثــل قصــة حاطــب مــا حصــل مــن ســعد ب ــن عبــادة فــي (حديــث اإلفــك) فقــد جــاء فيــه :قــال ســعد ب ــن معــاذ( :دعن ــي أقتــل هــذا املنافــق) يقصــد عبــدهللا ب ــن أب ـ ّـي! فقــال لــه ســعد ب ــن عبــادة( :كذبــت وهللا ال تقتلــه وال تقــدر علــى ً ً قتلــه) قالــت عائشــة(( :وكان رجــا صالحــا ولكــن احتملتــه الحميــة))( ،)31يفهــم مــن ذلــك أنــه لــم يكــن دفــاع ســعد عــن املنافــق مــواالة لــه فــي نفاقــه ،ولكــن لســبب خــارج عنــه. مســألة الحكــم بغي ــر مــا أنــزل هللا :ومــن املســائل املهمــة املتفرعــة عــن قاعــدة الكفــر
االعتقــادي والكفــر العملــي مســألة الحكــم بغيـر ما أنزل هللا ،فهل كل من تـرك حكم هللا هــو كافــر أم أن فــي ذلــك تفصيــا؟ ّإن الحاكــم الــذي يوصــف بأنــه مســلم ثــم يـرفض شريعة هللا ويعتقد بأن غيـرها أفضل منهــا وأجــدر بالتطب ــيق وأنهــا غي ــر صالحــة للعمــل بهــا وال شــبهة لــه فــي ذلــك فهــذا كافــر وإن صــام وصلــى وزعــم أنــه مســلم ،قــال تعالــى: (( فــا وربــك ال يؤمنــون حتــى يحكمــوك فيمــا شــجر بـي ــنهم ثــم ال يجــدوا فــي أنفســهم ً حرجــا ممــا قضيــت ويســلموا تســليما)) [ســورة النســاء :آيــة ...]65ولكنــه إن كان يعتقــد أحقيتها ويؤمن بها ولكنه ال يعمل بمقتضاها تقصي ـ ًـرا أو لوضــع مــا يمنعــه مــن ذلــك؛ عاصيــا أو ظال ـ ًـما مر ً ً فهــذا يكــون تكبــا للكبـي ــرة أو فاسـ ًـقا وال يدخــل تحــت مســمى الكفــر االعتقــادي األكب ــر ،قــال شــارح الطحاويــة : (وهنا أمر يجب أن يتفطن له وهو أن الحكم بغي ــر مــا أنــزل هللا قــد يكــون كفـ ًـرا ي ــنقل عــن امللــة ،وقــد يكــون معصيــة كبـي ــرة أو صغي ــرة، ويكــون كفـ ًـرا إمــا مجا ًّزي ــا وإمــا كفـ ًـرا أصغــر علــى القولي ــن املذكوري ــن ،وذلــك بحســب حــال الحاكــم ،فإنــه إن اعتقــد أن الحكــم بمــا أنــزل هللا غي ــر واجب وأنه مخي ــر فيه أو استهان به مــع ت ــيقنه أنــه حكــم هللا فهــذا كفــر أكب ــر ،وإن اعتقــد وجــوب الحكــم بمــا أنــزل هللا وعلمــه فــي هــذه الواقعــة وعــدل عنــه مــع اعت ـرافه بأنــه مســتحق للعقوبــة فهــذا عــاص ويســمى كافـ ًـرا كفـ ًـرا مجا ًّزيــا أو كفـ ًـرا أصغــر ،وإن جهــل حكــم هللا فيهــا مــع بــذل جهــده واســتفراغ وســعه فــي
التكفيـر وضوابطه
العدد 2رجب 1439هـ
معرفــة الحكــم وأخطــأ فهــذا مخطــئ لــه أجــر علــى اجتهــاده وخطــؤه مغفــور)( .)32 القاعدة الرابعة :من عرف إيمانه بـيقيـن فاليحكم بكفره إالبـيقيـن. ويتـرتب على ذلك: -1ثبــوت عقــد اإليمــان لــكل مــن أقــر بالشهادتـي ــن حتــى يتلبــس ب ــناقض جلــي مــن نواقــض اإليمــان ،إذ يكفــي مــن لــم يكــن ً مؤمنــا اإلق ـرار املجمــل بالشهادتـي ــن ليعصــم دمــه ومالــه ،وأدلــة ذلــك كثي ــرة منهــا حديــث أســامة ب ــن زيــد (بعثنــا رســول هللا صلــى هللا عليــه وسلم إلى َ الحرقة من جهي ــنة فصبحنا القوم فهزمناهــم ،ولحقــت أنــا ورجـ ٌـل مــن األنصــار ً رجل منهم ،فلما غشي ــناه قال :ال إله إال هللا، فكــف عنــه األنصــاري وطعنتــه ب ــرمحي حتــى قتلتــه ،قــال :فلمــا قدمنــا بلــغ ذلــك النب ــي صلــى هللا عليــه وســلم فقــال لــي (( :يــا أســامة أقتلتــه بعدما قال ال إله إال هللا؟)) قال :قلت يا رسول ً هللا إنمــا كان متعــوذا! قــال(( :أقتلتــه بعدمــا قــال ال إلــه إال هللا؟)) قــال :قلــت يــا رســول هللا ً إنما كان متعوذا ،قال(( :أقتلته بعدما قال ال إله إال هللا؟)) فما زال يكررها حتى تمنـيت أنـي لــم أكــن أســلمت قبــل ذلــك اليــوم)( ،)33ومثلــه حديث معاوية بـن الحكم السلمي والذي جاء فيــه أنــه لطــم جاريتــه ثــم نــدم وأراد أن يعتقهــا فســأل النب ــي صلــى هللا عليــه وســلم عــن ذلــك ثم جاء في الحديث(( :أن النبـي صلى هللا عليه وســلم ســألها :أي ــن هللا؟ قالــت :فــي الســماء ثــم قــال :مــن أنــا؟ قالــت :أنــت رســول هللا ،قــال: أعتقهــا فإنهــا مؤمنــة))( ) 34فقــد اكتفــى مــن
( )29أحكام القرآن البـن العربـي تحقيق العطا ،طبعة دار الكتب العلمية ( ،2003ص .)225/4 ( )30زاد املعاد (ص.)423/3 ،114/3 ( )31متفق عليه عن عائشة ر�ضي هللا عنها ،رواه البخاري في باب تعديل النساء بعضهن بعضا رقم ( ،)2518ومسلم في باب حديث اإلفك ...رقم (.)2770-56 ( )32شرح العقيدة الطحاوية (ص.)446/2 ( )33متفق عليه عن أسامة بـن زيد ر�ضي هللا عنه ،رواه البخاري باب قول هللا تعالى (ومن أحياها) رقم ( ،)6478ومسلم باب تحريم قتل الكافر بعد أن قال ال إله إال هللا ،رقم (.)96-159 ( )34أخرجه مسلم عن معاوية بـن الحكم السلمي ر�ضي هللا عنه ،باب تحريم الكالم في الصالة ونسخ ما كان من إباحة ،رقم (.)537-33
10
الجاريــة إقرارهــا ومــن الرجــل فــي حديــث أســامة إق ـراره ،يقــول اب ــن رجــب( :مــن املعلــوم بالضــرورة ّأن النب ــي صلــى هللا عليــه وسلم كان يقبل كل من جاءه يـريد الدخول فــي اإلســام بالشهادتـي ــن فقــط ،ويعصــم دمــه بذلــك ويجعلــه مسـ ًـلما ،فقــد أنكــر علــى أســامة ب ــن زيــد قتلــه ملــن قــال ال إلــه إال هللا ّ لـ ــا رفــع عليــه الســيف واشــتد نكي ــره عليــه، ولــم يكــن صلــى هللا عليــه وســلم ليشت ــرط علــى مــن جــاءه ي ـريد اإلســام)( ،)35وهــذا قصــد كل مــن قــال مــن الســلف أن اإلق ـرار باإلســام يكفيــه لثبــوت وصــف اإلســام لــه. -2لــو حدثــت لوثــة فــي اإلق ـرار املجمــل ملــن أراد الدخــول فــي الدي ــن فــا بــد مــن التحقيــق املفصــل ،فالوثن ــي تقبــل منــه الشــهادتان واإلق ـرار املجمــل بهمــا ،وأمــا الكتاب ــي فــا يكتفــى منــه بذلــك لوجــود شــبهة إقرارهــم ب ــنبوته عليــه الصــاة والســام وإنكارهــم بعثتــه إليهــم وأنــه بعــث للعــرب خاصــة، وهكــذا كل مــن لــه لوثــة أو شــبهة علــى اإلقـرار املجمــل فــا بــد أن يقــر بالحــق ويتب ـرأ مــن كل مــا خالفــه كالباطن ــية بطوائفهــا والقاديان ــية، يقــول النــووي( :أمــا إذا أتــى بالشهادتـي ــن فــا يشتـرط معهما أن يقول وأنا بـريء من كل ما خالــف دي ــن اإلســام إال إذا كان مــن الكفــار الذي ــن يعتقــدون اختصــاص رســالة نبـي ــنا صلــى هللا عليــه وســلم بالعــرب فإنــه ال يحكــم بإســامه حتــى يتب ـرأ)(.)36 -3االحت ــياط بالتكفي ــر :قــال اب ــن عبــد الب ــر: (ومــن وجهــة النظــر الصحيــح الــذي ال مدفــع
لــه أن كل مــن ثبــت لــه عقــد اإلســام فــي وقــت بإجمــاع مــن املسلمي ــن ثــم أذنــب ً ذنبــا أو ً تـ ّـأول تأويــا فاختلفــوا بعـ ُـد فــي خروجــه مــن اإلســام لــم يكــن الختالفهــم بعــد إجماعهــم معنــى ،وال يخــرج مــن اإلســام املتفــق عليــه إال باتفــاق آخــر أو ســنة ثابتــة ال معــارض لهــا ،وقــد اتفــق أهــل الســنة والجماعــة وهــم أهــل الفقــه واألث ــر علــى أن أحــدا ال يخرجــه ذنبــه وإن عظــم مــن اإلســام ،فالواجــب فــي النظــر أال ُي َّ كفــر إال مــن اتفــق علــى تكفي ــره أو قــام علــى تكفي ــره دليــل ال مدفــع لــه مــن كتــاب أو ســنة)( .)37 -4وعلــى هــذا فاملســلم الــذي نجهــل حالــه يكفــي فــي معرفتنــا إســامه أي داللــة علــى ذلــك كمــن يصلــي أو يصــوم ،وعليــه يحمــل حديــث النب ــي صلــى هللا عليــه وســلم ((مــن صلــى صالتنــا واســتقبل قبلتنــا وأكل ذب ــيحتنا فذلــك املســلم الــذي لــه ذمــة هللا ورســوله))( )38يقــول اب ــن حجــر فــي تعليقــه علــى هــذا الحديــث( :وفيــه أن أمــور النــاس محمولــة علــى الظاهــر ،فمــن أظهــر شــعائر الدي ــن أجريــت عليــه أحــكام أهلــه مــا لــم يظهــر منــه خــاف ذلــك( ،)39ولقــد نهــى الق ـرآن الكريــم عــن نفــي اإليمــان عمــن ابتدأنــا بالســام ألن الســام مــن عالمــات اإليمــان ،قــال هللا تعالــى(( :وال تقولـوا ملــن ألقــى إليكــم الســام لســت ً مؤمنــا)) [ســورة النســاء: آية ]94وهذا في حق كافر ألقى الســام كما يــدل عليــه ســبب النــزول فكيــف بمســلم يعيــش فــي بــاد اإلســام ،وعلــى هــذا فليــس
( )35جامع العلوم والحكم البـن رجب (ص.)228 ( )36صحيح مسلم بشرح النووي (ص.)149/1 ( )37التمهيد البـن عبد البـر (ص .)21/17 ( )38أخرجه البخاري عن أنس بـن مالك ر�ضي هللا عنه ،باب فضل استقبال القبلة رقم ( )384ومسلم باب وقتها -أي األضحية -رقم (.)1961-6 ( )39فتح الباري البـن حجر (ص .)496/1 ( )40انظر تاريخ املذاهب اإلسالمية ملحمد أبـي زهرة (ص.)74
العدد 2رجب 1439هـ
مــن الهــدي النبــوي امتحــان النــاس ملعرفــة إيمانهــم طاملــا أنهــم يعيشــون بـي ــن املسلمي ــن ويظهــرون لنــا مــا يــدل علــى إســامهم، وامتحان اإليمان كان في حاالت خاصة أمر هللا تعالــى بهــا كامتحــان املـرأة املهاجــرة وذلــك ملصلحــة الوفــاء بالعهــد الــذي أب ــرم فــي صلــح الحديب ــية ،وكذلك عند الريبة لتنزيل حكم شــرعي كمــا فــي قصــة عتــق الجاريــة. -5التفريق في الحكم بـيـن من أراد الدخول في اإلســام مــن غي ــر أهلــه؛ وبـي ــن الحكــم بكفــر مــن هــو مــن أهــل اإليمــان ،وتنزيــل قاعــدة: ّ يكفرالكافرأوشك في تكفيـره فهو (من لم ِ كافــر) فــإن هــذه القاعــدة إنمــا تصــدق علــى من شك في كفر الكافر األصلي املجمع على كفــره كاليهــود والنصــارى( ...وهــذه القاعــدة ملــا توســع بهــا الخــوارج ّ كفــر بعضهــم ً بعضــا واســتباحوا دمــاء بعضهــم ً بعضــا وصــاروا مــا يزيــد علــى عشري ــن فرقــة ،وقــد فطــن بعــض الدهــاة كاملهلــب ب ــن أب ــي صفــرة لهــذا النهــم الشــديد وهــذه السلســة التكفي ـرية ،فصــار يـ ُّ ـدس لهــم مــن يســألهم عــن املعضــات فيختلفــون فــي اإلجابــة فيكفــر بعضهــم َ ً بعضــا ومــن ثـ ّـم يفت ــرقون)(.)40 -6مســألة :شــاع عن البعض القول بجاهلية املجتمعــات اإلســامية والت ــي يجعلــون مــن لوازمهــا تكفي ــر املسلمي ــن ،بــل واعتبارهــم كفــا ًرا حتــى يثبــت العكــس ،وهــذه املســألة منقوضــة بأمــور كثي ــرة منهــا أن الحكــم علــى َّ الجاهلية عمل فرد أو جماعة بأنه من عمل ال يلــزم منــه تكفي ــر املعي ــن مــا لــم يكــن األمــر
11
التكفيـر وضوابطه ّ مكفـ ًـرا بذاتــه بعــد اجتمــاع شــروطه وانتفــاء ِ موانعــه ،وعليــه يحمــل قولــه عليــه الصــاة والسالم ألبـي ذر(( :إنك امرؤ فيك جاهلية)) ولــم يقــل أحــد بكفــر أب ــي ذر ،وكذلــك ال يلــزم َّ ُ جاهليــة مــن القــول بجاهليـ ِـة املجتمعــات كل األف ـراد ،فاملجتمعــات مركبــة مــن أف ـراد وجماعــات ومنــاط الحكــم علــى املجتمعــات غي ــر مناطــه علــى األف ـراد ،وكذلــك لــم يقــل أحــد مــن أهــل العلــم أن الحكــم علــى دار بأنها دار كفر يلزم منه كفر كل ساكنـيها، وعلــى هــذا فاألصــل فــي النــاس فــي بــاد املسلمي ــن اإلســام ،والحكــم بالكفــر هــو خــاف األصــل فيحتــاج إلــى دليــل واجتمــاع شــروط وانتفــاء موانــع فــي حــق ّ املعيــن. وعلــى هــذا لــو صــدر قــول أو فعــل محتمـ ٌـل للكفــر وعدمــه ،فــا بـ ّـد مــن االســتفصال فــي الحامــل علــى ذلــك ألن وجــود االحتمــال يمنــع مــن القطــع كمــا فــي حديــث ســجود معــاذ ر�ضــي هللا عنــه للنب ــي عليــه الصــاة والســام بعــد مقــدم معــاذ مــن الشــام ،فلمــا ســأله النبـي عليه الصالة والسالم عن سبب ذلك؛ ذكــر لــه رؤيتــه النــاس فــي الشــام يســجدون ألســاقفتهم ورأى أنــه عليــه الصــاة والســام أولــى بالســجود منهــم ،فقــال لــه عليــه الصــاة والسالم(( :ال تفعل)) فمن الواضح أن سجود معــاذ كان مــن بــاب التعظيــم واالحت ـرام وليــس مــن قب ــيل العبــادة يقي ـ ًـنا ،فقــد كان ســجود االحت ـرام والتعظيــم جائـ ًـزا فــي األمــم الســابقة كمــا فــي ســجود أبـ َـوي يوســف وإخوتــه لــه ،قــال َ َ َ َ َ ْ تعالــىَ (( :و َرفـ َـع أ َب َو ْيـ ِـه َعلــى ال َعـ ْـر ِش َوخـ ُّـروا لـ ُـه ُسـ َّـج ًدا)) [ســورة يوســف :اآليــة ]100وعلــى
هــذا فســجود التعظيــم يحكــم علــى فاعلــه بأنــه ارتكــب حر ًامــا للنهــي عنــه وال يحكــم ً عليه بالكفر خالفا لســجود العبادة ،فاألمر مــن حيــث الظاهــر يحتمــل األمري ــن ،وعلــى هــذا فمجــرد الســجود ال يســتلزم الحكــم علــى فاعلــه بأنــه قصــد العبــادة فــا بـ ّـد مــن االستفصال ،يقول ابـن تـيمية( :فكيف يقال يلــزم مــن الســجود ل�شــيء عبادتــه !! وقــد قــال النب ــي صلــى هللا عليــه وســلم(( :لــو كنــت آمـ ًـرا ً أحدا أن يسجد ألحد ألمرت املرأة أن تسجد لزوجهــا لعظــم حقــه عليهــا))( )41ومعلــوم أنــه (.)42 لــم يقــل :لــو كنــت آمـ ًـرا أحـ ًـدا أن يعبــد)... القاعــدة الخامســة :ال يكفــر فــي مســائل الخالفاملعتبـرفيأصولالعقائدأوالفقه. يقــول اب ــن ت ــيمية بعــد عرضــه الخــاف فــي بعــض مســائل التوســل (فاملكفــر فــي مثــل هــذه األمور يستحق من غليظ العقوبة والتعزيـر ما (.)43 يســتحقه أمثالــه مــن املفتـري ــن علــى الدي ــن) ولعــل مــن أشــهر املســائل الت ــي تنــدرج تحــت هــذه القاعــدة مســألة تــارك الصــاة هــل هــو كافــر أم ال؟ لحديــث النب ــي صلــى هللا عليــه وســلم( :بـي ــن الرجــل وبـي ــن الشــرك والكفــر ت ــرك الصــاة)( ،)44وقولــه عليــه الصالة والسالم( :العهد الذي بـي ــننا وبـي ــنهم الصــاة فمــن ت ــركها فقــد كفــر)( ،)45حيــث ذهــب الجمهــور إلــى عــدم كفــره مــا لــم يجحــد وجــوب الصــاة وخالفهــم الحنابلــة فحكمــوا على تارك الصالة بظاهر الحديث ...فإن هذه املســألة مــن القضايــا الخالفيــة ومهمــا قيــل فــي أدلــة هــذه األق ـوال فســوف يبقــى الخــاف فيها معتب ـ ًـرا ،فهل يجري التكفي ــر فيها؟ الذي
التكفيـر وضوابطه
العدد 2رجب 1439هـ
أراه أن الحكــم بالتكفي ــر فيهــا ومــا يلــزم عنــه مــن أحــكام ال يقــع؛ ألنــه ال يكفــر بمســائل ً الخــاف ب ــناء علــى أصــل القاعــدة ،وعمــا بقاعــدة مــن ثبــت إيمانــه بـيقي ــن ال يخــرج عنــه إال بـيقي ــن ،ومســائل الخــاف ال يقي ــن فيهــا.
أحــكام الرشيعــة تجــري عــى حســب األعــال الظاهــرة للنــاس وليــس عــى مــا يبطنونــه القاعــدة السادســة :معاملــة النــاس علــى الظاهــروهللا يتولــى الســرائر. إن أحــكام الش ـريعة تجــري علــى حســب األعمــال الظاهــرة للنــاس وليــس علــى مــا يبطنونــه ،وهــذا مــا شــرعه النب ــي صلــى هللا عليــه وســلم ألمتــه مــن خــال طريقــة تعاملــه مــع املنافقي ــن مــع علمــه اليقيـن ــي ب ــنفاقهم َ ْ ُ َ َّ الل الكفري ،قال هللا تعالى عنهم(( :يح ِلفون ِب ِ َ ُ ََ َ ُ َ َ ُْ َ َمــا قالــوا َولقـ ْـد قالــوا ك ِل َمــة الك ْفـ ِـر َوك َفـ ُـروا َب ْعـ َـد َ ِإ ْســا ِم ِه ْم)) [ســورة التوبــة :آيــة ...]74ومــع ذلــك كان عليه الصالة والسالم يجري عليهم أحكام املسلميـن من حيث األنكحة وامليـراث والجنائز ولــوال النهــي لبقــي يســتغفر لهــم ،وهــذا مــا نــص عليــه اإلمــام الشــافعي رحمــه هللا( ،)46يقــول الشاطب ــي( :ومــن هنــا جعلــت األعمــال الظاهــرة ً فــي الشــرع دليــا علــى مــا فــي الباطــن ،فــإن كان ً الظاهــر منحرفــا حكــم علــى الباطــن بذلــك ،أو مستقيما حكم على الباطن بذلك ً ً أيضا ،وهو أصــل عــام فــي الفقــه وســائر األحــكام ّ العاديــات والتجريب ــيات ،بــل هــو كليــة التش ـريع وعمــدة
( )41تتمة حديث سجود معاذ للنبـي عليه الصالة والسالم وهو في مسند اإلمام أحمد وسنن ابـن ماجة والبـيهقي وصحيح ابـن حبان عن عبدهللا بـن أبـي أوفي وهو صحيح. ( )42مجموع الفتاوى (ص )43( - )360/4مجموع الفتاوى البـن تـيمية (ص.)106/1 ( )44أخرجه مسلم عن جابـر ر�ضي هللا عنه ،باب بـيان إطالق اسم الكفر على من تـرك الصالة ،رقم (.)82 - 134 ( )45أخرجه ابـن ماجة وأحمد والتـرمذي وابـن حبان وغيـرهم عن بـريدة ر�ضي هللا عنه وهو صحيح. ( )46األم للشافعي (ص)296/1
12
التكليــف بالنســبة إلــى إقامــة حــدود الشــعائر اإلســامية الخاصــة والعامــة)( .)47 القاعــدة الســابعة :ليــس هنــاك تــازم بـي ــن املقاتلــة والحكــم بالكفــر. ويدخــل تحــت هــذه القاعــدة مجموعــة مــن املســائل املشــهورة منهــا قتــال أهــل البغــي وقتــل الزنادقــة وقتــال مانعــي الــزكاة. )1قتال مانعي الزكاة: قتــال مانعــي الــزكاة فــي عهــد أب ــي بكــر الصديــق ر�ضــي هللا عنــه ال يســتدل بــه علــى كفــر تــارك الواجــب ،إذ إن ت ــركها لــم يكــن عــن جحــود لهــا ولكــن ألنهــم تأولوهــا بأنهــا كانــت خاصــة بزمــن النب ــي صلــى هللا عليــه وســلم ،وهــؤالء هــم الذي ــن اختلــف الصحابــة فــي قتالهــم ً ابتداء ...وجمهور العلماء لم يحكموا بكفرهم كالنــووي والخطاب ــي واب ــن حجــر واب ــن قدامــة والشوكانـي( )48ولم يجعلوا تالز ًما بـيـن التكفيـر واملقاتلــة ،وأطلــق عليهــم لقــب مرتدي ــن مــن قب ــيل التغليــب واملجــاز كمــا جــزم بذلــك اب ــن حجــر فــي فتــح البــاري ،ويقــول الخطاب ــي( :هــم أهــل بغــي وإن لــم يدعــوا بهــذا االســم ذلــك الزمــان لدخولهــم فــي غمــرة املرتدي ــن ،وأول مــا ُ أ ّرخ لقتــال البغــاة زمــن علــي). )2قتل أحد الخليفتـيـن: يقــول النب ــي صلــى هللا عليــه وســلم(( :إذا بويــع لخليفتـي ــن فاقتلــوا اآلخــر منهمــا))( )49فــإن هــذا ال يلــزم منــه الحكــم بكفــر الثان ــي. )3قتال علي للخوارج: وقد قاتل علي ر�ضي هللا عنه الخوارج وقاتلوه
ومــع هــذا فإنــه لــم يحكــم عليهــم بالكفــر( ،وملــا ســئل عنهــم أكفـ ٌـار هــم؟ قــال(( :مــن الكفــر َ فـ ُّـروا)) وقــال عنهــم(( :إخواننــا بغــوا علي ــنا))(.)50 ومثــل ذلــك فــي الحكــم مــا وقــع مــن قتــال بـي ــن الصحابــة رضــوان هللا عليهــم ،فقــد كانــوا متأولي ــن فيــه ولــم ّ يكفــر بعضهــم ً ّ بعضــا ،بــل ِ قالالقرآنالكريم((:وإنطائفتانمناملؤمنـيـن اقتتلوا)) [ســورة الحجرات :آية ]9فلم يســلب عنهم وصف اإليمان مع وقوع االقتتال بـيـنهم، وعلى هذا يحمل كالم الشــافعي كما نقله اب ــن حجــر( :ليــس القتــال مــن القتــل بسب ــيل ،قــد (.)51 يحــل قتــال الرجــل وال يحــل قتلــه) القاعــدة الثامنــة :الزم القــول ليــس بقــول والزم املذهــب ليــس بمذهــب. فقــد يقــول القائــل القــول فيلــزم منــه الزم مكفــر فــا يحكــم بكفــره إال إن أقــره ،فالــازم يستعمل في االحتجاج وإبطال دعوى الخصم ال في الحكم عليه ،وألن اللوازم قد يغفل عنها صاحــب املقالــة ولــم يكــن يقصدهــا فــي كالمــه وتقريـره ،وهذا يـنسجم مع قاعدة( :ال يـنسب لســاكت قــول). ومثالــه :لــو ابتــدع إنســان بدعــة وزعــم أن فيهــا خي ـ ًـرا ،فإنــه يلــزم مــن قولــه أن النب ــي صلــى هللا عليــه وســلم خــان األمانــة لعــدم تبليغــه بهــذا الخي ــر الــذي ابتدعــه املبتــدع ،وهــذا القــول ال ريــب مــن الكفــر ،لكــن هــذه اللــوازم منهــا مــا يلتزمــه صاحــب القــول فهــو لــه مذهــب ،ومنهــا ما يـنكره أو يجهله أو يـرده فهو ليس بقول له ً مستلزما له حقيقة ،وإضافة ولو كان مذهبه الــازم إليــه فــي هــذه الحــال كــذب عليــه ،وغايــة
( )47املوافقات للشاطبـي (ص.)233/1 ( )48شرح النووي لصحيح مسلم (ص )203/1وما بعدها ،فتح الباري (ص ،)277/12املغنـي البـن قدامة (ص ،)434/2ونـيل األوطار (ص.)127/4 ( )49أخرجه مسلم عن أبـي سعيد الخدري ر�ضي هللا عنه ،باب إذا بويع لخليفتـيـن ،رقم (.)1853-61 ( )50مصنف ابـن أبـي شيبة باب مسيـر عائشة وعلي وطلحة والزبـيـر ر�ضي هللا عنهم رقم ( ،)38918وسنن البـيهقي الكبـرى عن أبـي البختـري، باب الدليل على أن الفئة الباغية منهما ال تخرج بالبغي عن تسمية اإلسالم ،رقم (.)16490 ( )51فتح الباري (ص )52( - )76/1االعتصام للشاطبـي (ص )53( - )549/2شرح العقيدة الطحاوية (ص )54( - )354/2الفصل (ص.)294/3 ( )55صحيح مسلم عن عائشة ر�ضي هللا عنه ،باب ما يقال عند دخول القبـر ...رقم (.)974 -103
العدد 2رجب 1439هـ
مــا يمكننــا القــول أنــه تناقــض فــي قولــه وال سبـيل للقول بتكفيـره في هذه الحال ذكر هذا املثــال الشاطب ــي(.)52 وقــد نقــل عــن الشــافعي -وبعضهــم نســبه إلــى اإلمــام أحمــد -أنــه قــال( :ناظــروا القدريــة ُ بالعلــم ،فــإن أقــروا بــه خصمــوا وإن أنكــروا كفــروا)( )53فالحكــم مت ـرتب علــى إنكارهــم ال علــى الزم قولهــم فحســب ،وقــال اب ــن حــزم: (وأمــا مــن ّ كفــر النــاس بمــا تــؤول إليــه أقوالهــم َ فخطــأ ،ألنــه كـ ِـذب علــى الخصــم وتقويـ ٌـل له ما لــم يقــل بــه وإن لزمــه ،فلــم يحصــل علــى غي ــر التناقض فقط والتناقض ليس ً كفرا ،بل قد (.)54 أحســن إذ فــر مــن الكفــر) القاعدة التاسعة :ال بد في مسألة التكفي ــر مراعــاة املوانــع. )1ومن هذه املوانع الجهل: فإنــه عــارض معتب ــر عنــد إج ـراء األحــكام، فــا يحكــم علــى جاهــل بالكفــر وال غي ــره فيمــا جهلــه ،ولــه أشــكال عــدة: الجهل في بعض العقائد : كســجود معــاذ للنب ــي عليــه الصــاة والســام بعــد مجيئــه مــن الشــام ولــم يكــن يعلــم الحكم كما سبق بـيانه ،وجهل بعض الصحابة بـرؤية هللا يــوم القيامــة ،وجهــل عائشــة أن هللا قــد أحــاط بــكل �شــيء ً علمــا حتــى مــا يكتمــه النــاس َ فقــد ســألت النب ــي صلــى هللا عليــه وســلم عــن ذلــك؛ فبـي ــن لهــا وكان ممــا قــال(( :أتخافي ــن أن يحيــف هللا عليــك ورســوله))( ،)55وكجهــل ُ ـلمة الفتح عند مرورهم في غزوة حنـي ــن مسـ ِ
13
التكفيـر وضوابطه ّ مكفـ ًـرا بذاتــه بعــد اجتمــاع شــروطه وانتفــاء ِ موانعــه ،وعليــه يحمــل قولــه عليــه الصــاة والسالم ألبـي ذر(( :إنك امرؤ فيك جاهلية)) ولــم يقــل أحــد بكفــر أب ــي ذر ،وكذلــك ال يلــزم َّ ُ جاهليــة مــن القــول بجاهليـ ِـة املجتمعــات كل األف ـراد ،فاملجتمعــات مركبــة مــن أف ـراد وجماعــات ومنــاط الحكــم علــى املجتمعــات غي ــر مناطــه علــى األف ـراد ،وكذلــك لــم يقــل أحــد مــن أهــل العلــم أن الحكــم علــى دار بأنها دار كفر يلزم منه كفر كل ساكنـيها، وعلــى هــذا فاألصــل فــي النــاس فــي بــاد املسلمي ــن اإلســام ،والحكــم بالكفــر هــو خــاف األصــل فيحتــاج إلــى دليــل واجتمــاع شــروط وانتفــاء موانــع فــي حــق ّ املعيــن. وعلــى هــذا لــو صــدر قــول أو فعــل محتمـ ٌـل للكفــر وعدمــه ،فــا بـ ّـد مــن االســتفصال فــي الحامــل علــى ذلــك ألن وجــود االحتمــال يمنــع مــن القطــع كمــا فــي حديــث ســجود معــاذ ر�ضــي هللا عنــه للنب ــي عليــه الصــاة والســام بعــد مقــدم معــاذ مــن الشــام ،فلمــا ســأله النبـي عليه الصالة والسالم عن سبب ذلك؛ ذكــر لــه رؤيتــه النــاس فــي الشــام يســجدون ألســاقفتهم ورأى أنــه عليــه الصــاة والســام أولــى بالســجود منهــم ،فقــال لــه عليــه الصــاة والسالم(( :ال تفعل)) فمن الواضح أن سجود معــاذ كان مــن بــاب التعظيــم واالحت ـرام وليــس مــن قب ــيل العبــادة يقي ـ ًـنا ،فقــد كان ســجود االحت ـرام والتعظيــم جائـ ًـزا فــي األمــم الســابقة كمــا فــي ســجود أبـ َـوي يوســف وإخوتــه لــه ،قــال َ َ َ َ َ ْ تعالــىَ (( :و َرفـ َـع أ َب َو ْيـ ِـه َعلــى ال َعـ ْـر ِش َوخـ ُّـروا لـ ُـه ُسـ َّـج ًدا)) [ســورة يوســف :اآليــة ]100وعلــى
هــذا فســجود التعظيــم يحكــم علــى فاعلــه بأنــه ارتكــب حر ًامــا للنهــي عنــه وال يحكــم ً عليه بالكفر خالفا لســجود العبادة ،فاألمر مــن حيــث الظاهــر يحتمــل األمري ــن ،وعلــى هــذا فمجــرد الســجود ال يســتلزم الحكــم علــى فاعلــه بأنــه قصــد العبــادة فــا بـ ّـد مــن االستفصال ،يقول ابـن تـيمية( :فكيف يقال يلــزم مــن الســجود ل�شــيء عبادتــه !! وقــد قــال النب ــي صلــى هللا عليــه وســلم(( :لــو كنــت آمـ ًـرا ً أحدا أن يسجد ألحد ألمرت املرأة أن تسجد لزوجهــا لعظــم حقــه عليهــا))( )41ومعلــوم أنــه (.)42 لــم يقــل :لــو كنــت آمـ ًـرا أحـ ًـدا أن يعبــد)... القاعــدة الخامســة :ال يكفــر فــي مســائل الخالفاملعتبـرفيأصولالعقائدأوالفقه. يقــول اب ــن ت ــيمية بعــد عرضــه الخــاف فــي بعــض مســائل التوســل (فاملكفــر فــي مثــل هــذه األمور يستحق من غليظ العقوبة والتعزيـر ما (.)43 يســتحقه أمثالــه مــن املفتـري ــن علــى الدي ــن) ولعــل مــن أشــهر املســائل الت ــي تنــدرج تحــت هــذه القاعــدة مســألة تــارك الصــاة هــل هــو كافــر أم ال؟ لحديــث النب ــي صلــى هللا عليــه وســلم( :بـي ــن الرجــل وبـي ــن الشــرك والكفــر ت ــرك الصــاة)( ،)44وقولــه عليــه الصالة والسالم( :العهد الذي بـي ــننا وبـي ــنهم الصــاة فمــن ت ــركها فقــد كفــر)( ،)45حيــث ذهــب الجمهــور إلــى عــدم كفــره مــا لــم يجحــد وجــوب الصــاة وخالفهــم الحنابلــة فحكمــوا على تارك الصالة بظاهر الحديث ...فإن هذه املســألة مــن القضايــا الخالفيــة ومهمــا قيــل فــي أدلــة هــذه األق ـوال فســوف يبقــى الخــاف فيها معتب ـ ًـرا ،فهل يجري التكفي ــر فيها؟ الذي
التكفيـر وضوابطه
العدد 2رجب 1439هـ
أراه أن الحكــم بالتكفي ــر فيهــا ومــا يلــزم عنــه مــن أحــكام ال يقــع؛ ألنــه ال يكفــر بمســائل ً الخــاف ب ــناء علــى أصــل القاعــدة ،وعمــا بقاعــدة مــن ثبــت إيمانــه بـيقي ــن ال يخــرج عنــه إال بـيقي ــن ،ومســائل الخــاف ال يقي ــن فيهــا.
أحــكام الرشيعــة تجــري عــى حســب األعــال الظاهــرة للنــاس وليــس عــى مــا يبطنونــه القاعــدة السادســة :معاملــة النــاس علــى الظاهــروهللا يتولــى الســرائر. إن أحــكام الش ـريعة تجــري علــى حســب األعمــال الظاهــرة للنــاس وليــس علــى مــا يبطنونــه ،وهــذا مــا شــرعه النب ــي صلــى هللا عليــه وســلم ألمتــه مــن خــال طريقــة تعاملــه مــع املنافقي ــن مــع علمــه اليقيـن ــي ب ــنفاقهم َ ْ ُ َ َّ الل الكفري ،قال هللا تعالى عنهم(( :يح ِلفون ِب ِ َ ُ ََ َ ُ َ َ ُْ َ َمــا قالــوا َولقـ ْـد قالــوا ك ِل َمــة الك ْفـ ِـر َوك َفـ ُـروا َب ْعـ َـد َ ِإ ْســا ِم ِه ْم)) [ســورة التوبــة :آيــة ...]74ومــع ذلــك كان عليه الصالة والسالم يجري عليهم أحكام املسلميـن من حيث األنكحة وامليـراث والجنائز ولــوال النهــي لبقــي يســتغفر لهــم ،وهــذا مــا نــص عليــه اإلمــام الشــافعي رحمــه هللا( ،)46يقــول الشاطب ــي( :ومــن هنــا جعلــت األعمــال الظاهــرة ً فــي الشــرع دليــا علــى مــا فــي الباطــن ،فــإن كان ً الظاهــر منحرفــا حكــم علــى الباطــن بذلــك ،أو مستقيما حكم على الباطن بذلك ً ً أيضا ،وهو أصــل عــام فــي الفقــه وســائر األحــكام ّ العاديــات والتجريب ــيات ،بــل هــو كليــة التش ـريع وعمــدة
( )41تتمة حديث سجود معاذ للنبـي عليه الصالة والسالم وهو في مسند اإلمام أحمد وسنن ابـن ماجة والبـيهقي وصحيح ابـن حبان عن عبدهللا بـن أبـي أوفي وهو صحيح. ( )42مجموع الفتاوى (ص )43( - )360/4مجموع الفتاوى البـن تـيمية (ص.)106/1 ( )44أخرجه مسلم عن جابـر ر�ضي هللا عنه ،باب بـيان إطالق اسم الكفر على من تـرك الصالة ،رقم (.)82 - 134 ( )45أخرجه ابـن ماجة وأحمد والتـرمذي وابـن حبان وغيـرهم عن بـريدة ر�ضي هللا عنه وهو صحيح. ( )46األم للشافعي (ص)296/1
12
التكليــف بالنســبة إلــى إقامــة حــدود الشــعائر اإلســامية الخاصــة والعامــة)( .)47 القاعــدة الســابعة :ليــس هنــاك تــازم بـي ــن املقاتلــة والحكــم بالكفــر. ويدخــل تحــت هــذه القاعــدة مجموعــة مــن املســائل املشــهورة منهــا قتــال أهــل البغــي وقتــل الزنادقــة وقتــال مانعــي الــزكاة. )1قتال مانعي الزكاة: قتــال مانعــي الــزكاة فــي عهــد أب ــي بكــر الصديــق ر�ضــي هللا عنــه ال يســتدل بــه علــى كفــر تــارك الواجــب ،إذ إن ت ــركها لــم يكــن عــن جحــود لهــا ولكــن ألنهــم تأولوهــا بأنهــا كانــت خاصــة بزمــن النب ــي صلــى هللا عليــه وســلم ،وهــؤالء هــم الذي ــن اختلــف الصحابــة فــي قتالهــم ً ابتداء ...وجمهور العلماء لم يحكموا بكفرهم كالنــووي والخطاب ــي واب ــن حجــر واب ــن قدامــة والشوكانـي( )48ولم يجعلوا تالز ًما بـيـن التكفيـر واملقاتلــة ،وأطلــق عليهــم لقــب مرتدي ــن مــن قب ــيل التغليــب واملجــاز كمــا جــزم بذلــك اب ــن حجــر فــي فتــح البــاري ،ويقــول الخطاب ــي( :هــم أهــل بغــي وإن لــم يدعــوا بهــذا االســم ذلــك الزمــان لدخولهــم فــي غمــرة املرتدي ــن ،وأول مــا ُ أ ّرخ لقتــال البغــاة زمــن علــي). )2قتل أحد الخليفتـيـن: يقــول النب ــي صلــى هللا عليــه وســلم(( :إذا بويــع لخليفتـي ــن فاقتلــوا اآلخــر منهمــا))( )49فــإن هــذا ال يلــزم منــه الحكــم بكفــر الثان ــي. )3قتال علي للخوارج: وقد قاتل علي ر�ضي هللا عنه الخوارج وقاتلوه
ومــع هــذا فإنــه لــم يحكــم عليهــم بالكفــر( ،وملــا ســئل عنهــم أكفـ ٌـار هــم؟ قــال(( :مــن الكفــر َ فـ ُّـروا)) وقــال عنهــم(( :إخواننــا بغــوا علي ــنا))(.)50 ومثــل ذلــك فــي الحكــم مــا وقــع مــن قتــال بـي ــن الصحابــة رضــوان هللا عليهــم ،فقــد كانــوا متأولي ــن فيــه ولــم ّ يكفــر بعضهــم ً ّ بعضــا ،بــل ِ قالالقرآنالكريم((:وإنطائفتانمناملؤمنـيـن اقتتلوا)) [ســورة الحجرات :آية ]9فلم يســلب عنهم وصف اإليمان مع وقوع االقتتال بـيـنهم، وعلى هذا يحمل كالم الشــافعي كما نقله اب ــن حجــر( :ليــس القتــال مــن القتــل بسب ــيل ،قــد (.)51 يحــل قتــال الرجــل وال يحــل قتلــه) القاعــدة الثامنــة :الزم القــول ليــس بقــول والزم املذهــب ليــس بمذهــب. فقــد يقــول القائــل القــول فيلــزم منــه الزم مكفــر فــا يحكــم بكفــره إال إن أقــره ،فالــازم يستعمل في االحتجاج وإبطال دعوى الخصم ال في الحكم عليه ،وألن اللوازم قد يغفل عنها صاحــب املقالــة ولــم يكــن يقصدهــا فــي كالمــه وتقريـره ،وهذا يـنسجم مع قاعدة( :ال يـنسب لســاكت قــول). ومثالــه :لــو ابتــدع إنســان بدعــة وزعــم أن فيهــا خي ـ ًـرا ،فإنــه يلــزم مــن قولــه أن النب ــي صلــى هللا عليــه وســلم خــان األمانــة لعــدم تبليغــه بهــذا الخي ــر الــذي ابتدعــه املبتــدع ،وهــذا القــول ال ريــب مــن الكفــر ،لكــن هــذه اللــوازم منهــا مــا يلتزمــه صاحــب القــول فهــو لــه مذهــب ،ومنهــا ما يـنكره أو يجهله أو يـرده فهو ليس بقول له ً مستلزما له حقيقة ،وإضافة ولو كان مذهبه الــازم إليــه فــي هــذه الحــال كــذب عليــه ،وغايــة
( )47املوافقات للشاطبـي (ص.)233/1 ( )48شرح النووي لصحيح مسلم (ص )203/1وما بعدها ،فتح الباري (ص ،)277/12املغنـي البـن قدامة (ص ،)434/2ونـيل األوطار (ص.)127/4 ( )49أخرجه مسلم عن أبـي سعيد الخدري ر�ضي هللا عنه ،باب إذا بويع لخليفتـيـن ،رقم (.)1853-61 ( )50مصنف ابـن أبـي شيبة باب مسيـر عائشة وعلي وطلحة والزبـيـر ر�ضي هللا عنهم رقم ( ،)38918وسنن البـيهقي الكبـرى عن أبـي البختـري، باب الدليل على أن الفئة الباغية منهما ال تخرج بالبغي عن تسمية اإلسالم ،رقم (.)16490 ( )51فتح الباري (ص )52( - )76/1االعتصام للشاطبـي (ص )53( - )549/2شرح العقيدة الطحاوية (ص )54( - )354/2الفصل (ص.)294/3 ( )55صحيح مسلم عن عائشة ر�ضي هللا عنه ،باب ما يقال عند دخول القبـر ...رقم (.)974 -103
العدد 2رجب 1439هـ
مــا يمكننــا القــول أنــه تناقــض فــي قولــه وال سبـيل للقول بتكفيـره في هذه الحال ذكر هذا املثــال الشاطب ــي(.)52 وقــد نقــل عــن الشــافعي -وبعضهــم نســبه إلــى اإلمــام أحمــد -أنــه قــال( :ناظــروا القدريــة ُ بالعلــم ،فــإن أقــروا بــه خصمــوا وإن أنكــروا كفــروا)( )53فالحكــم مت ـرتب علــى إنكارهــم ال علــى الزم قولهــم فحســب ،وقــال اب ــن حــزم: (وأمــا مــن ّ كفــر النــاس بمــا تــؤول إليــه أقوالهــم َ فخطــأ ،ألنــه كـ ِـذب علــى الخصــم وتقويـ ٌـل له ما لــم يقــل بــه وإن لزمــه ،فلــم يحصــل علــى غي ــر التناقض فقط والتناقض ليس ً كفرا ،بل قد (.)54 أحســن إذ فــر مــن الكفــر) القاعدة التاسعة :ال بد في مسألة التكفي ــر مراعــاة املوانــع. )1ومن هذه املوانع الجهل: فإنــه عــارض معتب ــر عنــد إج ـراء األحــكام، فــا يحكــم علــى جاهــل بالكفــر وال غي ــره فيمــا جهلــه ،ولــه أشــكال عــدة: الجهل في بعض العقائد : كســجود معــاذ للنب ــي عليــه الصــاة والســام بعــد مجيئــه مــن الشــام ولــم يكــن يعلــم الحكم كما سبق بـيانه ،وجهل بعض الصحابة بـرؤية هللا يــوم القيامــة ،وجهــل عائشــة أن هللا قــد أحــاط بــكل �شــيء ً علمــا حتــى مــا يكتمــه النــاس َ فقــد ســألت النب ــي صلــى هللا عليــه وســلم عــن ذلــك؛ فبـي ــن لهــا وكان ممــا قــال(( :أتخافي ــن أن يحيــف هللا عليــك ورســوله))( ،)55وكجهــل ُ ـلمة الفتح عند مرورهم في غزوة حنـي ــن مسـ ِ
13
التكفيـر وضوابطه علــى ذات أنــواط فقالــوا( :اجعــل لنــا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط فقال لهم(( :لقد قلتــم كمــا قــال ب ــنو إسـرائيل ملو�ســى.)56( )... الجهل في مسائل الصفات : وذلــك كجهــل بعــض الحواريي ــن بقــدرة هللا تعالــى عندمــا قالــوا لعي�ســى ب ــن مريــمَ : ((هـ ْـل َ َ َ ً َي ْسـ َـت ِط ُيع َ ُّربـ َـك أ ْن ُينـ ّ ِـز َل َعل ْي َنــا َما ِئـ َـدة ِمـ َـن َّ َ َ َ َّ ُ َّ َ ُ ْ الل ِإ ْن ك ْن ُتـ ْـم ُمؤ ِم ِني ـ َـن)) الســم ِاء قــال اتقــوا [ســورة املائــدة :اآليــة ]112فلــم يكفرهــم لجهلهــم بكمــال قدرتــه ســبحانه وتعالــى... قــال اإلمــام الشــافعي رحمــه هللا( :هلل أســماء وصفات ال يسع ً أحدا ر ُّدها ،ومن خالف بعد ثبوت الحجة عليه فقد كفر ،وأما قبل قيام الحجــة فإنــه يعــذر بالجهــل ،ألن علــم ذلــك ال يــدرك بالعقــل ،وال الرؤيــة والفكــر)(.)57 ومــن الجهــل بصفــات هللا قصــة الرجــل الــذي أو�صــى أب ــناءه إذا مــات أن يحرقــوه َ َ ويــذروه كمــا جــاء فــي الحديــث(( :أ ْسـ َـرف َْ َ ُجـ ٌـل َع َلــى َن ْفســهَ ،ف َل َّمــا َح َ ضـ َـر ُه الـ ْـو ُت ر ِ ِ َ ْ َ َ َ َ َ َ َ َ ُ ُّ َ َ ْ ُ أو�صــى ب ِنيـ ِـه فقــالِ :إذا أنــا مــت فأح ِرقو ِنــي ُثـ َّـم ْ اسـ َـح ُقو ِنيُ ،ثـ َّـم ْاذ ُرو ِنــي فــي ّ الريـ ِـح ِفــي ِ ِ َ َْ ْ َ َ َ َ َ ّ هللا ل ِئـ ْـن قـ َـد َر َعلـ َّـي َرِّبــي ل ُي َع ِذ ُب ِنــي البحــر ،فــو ِ َ َ ً ِ َ َ َّ َ ُ َ َ َ ـالَ :ف َف َع ُلــوا َذلــكَ َ عذابــا مــا عذبــه أحــد ،قـ ِ َ َ َ َ َ ْ َْ َ ّ َ َ َ ْ ض :أ ِدي مــا أخــذ ِت ،فـ ِـإذا ِبـ ِـهَ ،فقــال ِ َلــأر ِ َ َ َ ُ َ َ َ ُهـ َـو قا ِئـ ٌـم! ف َقـ َ ـال لــه(َ :مــا ح َملــك علــى َمــا َ ـالَ :خ ْشـ َـي ُت َكَ ،يــا َر ّب َ -أ ْو َقـ َ ص َن ْعـ َـت؟) َف َقـ َ ـال ِ َ َ َ ََ َ َ َمخاف ُت َك -فغف َر ل ُه ِبذ ِل َك))( )58فهذا الرجل ً كان جاهــا بعمــوم قــدرة هللا تعالــى فظــن أن هللا ال يقــدر علــى أن يجمعــه إذا صــار رمـ ًـادا مذ ًّيــا فــي البحــر مــع أنــه كان ً مؤمنــا باملعــاد، ر فعــذره هللا بجهلــه فــي املســألة األولــى ،وأثابــه علــى خشــيته فــي الثان ــية فغفــر لــه.
الجهل في مسائل األحكام : ومــن أمثلتــه تلــك امل ـرأة النوب ــية الت ــي أقــرت بالزنــا علــى نفســها وبمــن زنــا بهــا كمــا جــاء فــي ََ ْ َ َْ ٌ ُ َ ُ َ َ َ ْ ُ ٌ َ وش ،ف َج َاء ْت األثـر(( :زنت مولة يقال لها مرك َ ْ َ ُّ ّ َ الزنــاَ ،ف َسـ َـأ َل َع ْن َهــا ُع َمـ ُـر َعل ًّيــا َو َع ْبــدَ تســتهل ب ِ َّ ْ ِ َ ِ ْ ِ َ َ ْ َ َ َ ُ َ ُّ َ َ ََ الرحمـ ِـن بــن عــو ٍف! فقــال« :تحــد» فســأل ََ َ َْ ُ ْ َ َ َ َ َ ُ َ ـال« :أ َر َاهــا ت ْسـ َـت ِه ُّل ِبـ ِـه كأ َّن َهــا عنهــا عثمــان فقـ َل َت ْع َلـ ُـم َوإ َّن َمــا ْال َحـ ُّـد َع َلــى َمـ ْـن َعل َمـ ُـه» َف َو َافــقَ ِ ِ ُ َ ُ َ َ َ َ َ َ َ ْ َ ْ ُ ْ َ ()59 عمــر فضربهــا ولــم يرجمهــا)) . وتحقيــق األمــر أن هــذه املســألة ممــا تتغي ــر ً مانــا ً بــه الفتــوى ً ومكانــا وحــال ،فمــا علــم مــن ز الدي ــن بالضــرورة ال عــذر بجهلــه ....ويتفــرع على ما سبق من اعتبار الجهل ً مانعا التفريق بـيـن دعاة البدع وعامة أتباعها ،ولهذا تبايـن الحكــم عنــد كثي ــر مــن العلمــاء فــي حكمهــم علــى الشــيعة الرافضــة ّ وفرقــوا بـي ــن عامتهــم وخاصتهــم ودعاتهــم العتبــار مانــع الجهــل. )2من موانع التكفيـراإلكراه: يعتب ــر اإلك ـراه مــن العــوارض املانعــة مــن التكفي ــر وهــذا محــل اتفــاق بـي ــن العلمــاء، لكــن اختلفــوا فــي تحديــد معنــى اإلك ـراه ثــم بحثــوا فــي ضوابــط اإلك ـراه وفرقــوا بـي ــن اإلك ـراه امللجــئ وغي ــر امللجــئ ،وبحثــوا فيمــا يعتب ــر فيــه ومــا ال يعتب ــر ...كمــا اختلفــوا فــي مقــدار مــا يبــاح للمســلم حــال اإلك ـراه، َ ْ َ َ َّ الل ودليله في القرآن قوله ُتعالى(( :من كف َر ِب ِ ْ ْ َْ َّ ِمـ ْـن َب ْعـ ِـد ِإ َيما ِنـ ِـه ِإل َمـ ْـن أكـ ِـر َه َوقل ُبـ ُـه ُمط َم ِئـ ٌّـن ْ ال َيمـ ِـان)) [ســورة النحــل :آيــة ]106وأهــل ِب ِ التفسي ــر متفقــون علــى أنهــا نزلــت فــي عمــار ب ــن ياســر ملــا أكــره علــى مــدح آلهــة املشركي ــن وســب النب ــي عليه الصالة والســام كما ثبت فــي حديــث املســتدرك وغي ــره.
( )56أخرجه أحمد رقم ( )21897والتـرمذي وابـن حبان عن أبـي واقد الليثي ر�ضي هللا عنه وهو صحيح )57( -فتح الباري (ص.)407/13 ( )58متفق عليه عن أبـي هريـرة ر�ضي هللا عنه ،رواه البخاري باب الخوف من هللا رقم ( ،)6116ومسلم في باب سعة رحمة هللا ...رقم (.)2756-25 ( )59مسند الشافعي (ص )275/3رقم ( ،)1552ومصنف عبدالرزاق (ص )403/7رقم ( )13644عن يحيى بـن حاطب عن أبـيه. ( )60االقتصاد في االعتقاد للغزالي (ص.)223
التكفيـر وضوابطه
العدد 2رجب 1439هـ
)3اعتبارعارض التأويل عند إجراء األحكام: إن التأويــل مــن العــوارض واملوانــع املعتب ــرة عنــد إج ـراء األحــكام ،ولكــن ال بــد لــه مــن َّ ضابــط حتــى ال يصي ــر ســل ًما للباطن ــية والزنادقــة ...وقــد فـ ّـرق العلمــاء بـي ــن مــن كان تأويلــه مــن قب ــيل رد النصــوص والتكذيــب بهــا وبـيـن من كان تأويله للنصوص من قبـيل عدم ً صحيحــا ،فقــد جعلــوا تنزيلهــا وإجرائهــا إجـر ًاء لذلــك ضوابــط منهــا: )1عدم مخالفة نص قطعي الثبوت والداللة. )2عــدم مخالفــة مــا ثبــت علمــه مــن الدي ــن بالضــرو رة. )3عدم خروجه عن طريقة العرب وأساليبها في الكالم. )4اعتبــار الفــرق بـي ــن مــن َّأول ً تنزيهــا لــرب العاملي ــن ومــن أول ً هدمــا لش ـرائع الدي ــن. قــال أبــو حامــد الغزالــي( :ولــم يثبــت لنــا أن الخطــأ فــي التأويــل موجــب للتكفي ــر ،فــا بــد مــن دليــل عليــه ،وثبــت أن العصمــة مســتفادة مــن قــول :ال إلــه إال هللا ً قطعــا فــا يدفــع ذلــك إال بقاطــع ،وهــذا القــدر كاف فــي التنبـيه على أن إسراف من بالغ في التكفيـر ليــس عــن ب ــرهان(.)60 واعتبــا ًرا للخطــأ فــي التأويــل مــع قصــد الحــق عــذر املســلمون أصحــاب النب ــي صلــى هللا عليه وسلم الذيـن شاركوا في الفتنة وتـرضوا عــن ســائرهم ،ولــم يوقعــوا فيهــم النصــوص التـي ذمت قاتل النفس املؤمنة كقوله عليه الصــاة والســام(( :ال ت ــرجعوا بعــدي كفــا ًرا، يضــرب بعضكــم رقــاب بعــض)). والضابــط املعتب ــر فــي التفريــق بـي ــن مــا يعتب ــر مــن التأويــات في ــنفي عــن أصحابــه وصــف
14
الكفــر وبـي ــن مــا ال يعتب ــر اإلجمــاع ،فهنــاك فــرق أجمــع العلمــاء علــى كفــر تأويالتهــا كتأويــل القاديان ــية آيــة ختــم النبــوة بمعنــى خاتــم الحليــة والزي ــنة فقالــوا ب ــنبوة ّ دعيهــم ِ مي ــرزا غــام أحمــد ومثلهــا تأويــات البهائيــة والقرامطــة وطوائــف الباطن ــية. ومــن املشــهور فــي ذلــك اســتحالل قدامــة ب ــن ً مظعــون شــرب الخمــر تأويــا لقولــه تعالــى: َ ـس َع َلــى َّالذي ـ َـن َآم ُنــوا َو َعم ُلــوا َّ َ ((ل ْيـ َ ـات الص ِالحـ ِ ِ ِ َ َ َ ُج َنـ ٌ ـاح ِف َيمــا ط ِع ُمــوا ِإذا َمــا َّاتقـ ْـوا َو َآم ُنــوا َو َعم ُلوا َّ َ ات))[سورة املائدة :آية ]93 الص ِالح ِ ِ كما ذكر في تفسي ــر اآلية ،وجاء في الحديث أن عمــر ب ــن الخطــاب قــال لــه(( :أمــا إنــك لــو اتقيــت هللا الجتنبــت مــا حــرم هللا عليــك))، فأمــر بجلــده حـ ًّـدا ولــم يحكــم بكفــره لكونــه ّ لــم يكــن ً مكذبــا وإنمــا شــربها متــأوال حلهــا، فقــد ب ـ ّـين لــه فقهــاء الصحابــة أن اآليــة نزلــت بعد تحريم الخمر فتحرج بعضهم ألنه كان يشــربها قبــل التحريــم وبعضهــم مــات وهــي فــي بطنــه فأنــزل هللا اآليــة إلزالــة هــذا الحــرج بســبب شــربها قبــل التحريــمّ ، فخيــره عمــر بـي ــن قتلــه كفـ ًـرا بعــد ب ــيان الحكــم إذا أصـ ّـر أو حــد الشــرب إن اعت ــرف بخطــأ تصرفــه. وقــد اعتب ــر علــي ر�ضــي هللا عنــه عــارض التأويــل فــي قضيــة الخــوارج ،فــإن الصحابة لم يحكمــوا عليهــم بالكفــر رغــم تكفي ــرهم لألمــة وقتالهــم لهــا ألنهــم خرجــوا متأولي ــن ،وال يفهــم من اعتبار التأويل عا ًضا تـرك مرتكبه ً طليقا ر فيمــا يفعــل إذ ال تعــارض بـي ــن اعتبــار عــارض التأويــل فــي إجـراء األحــكام ووجــوب منعــه مــن نشــر خطئــه وتأويلــه الباطــل.
)4عارض الخطأ أو(القصد) معتبـرعند إجــراء األحــكام : ُ َ َ صـ َـد الفعــل ال ق ْ بــأن يكــون الخطــأ ق ْ صـ َـد ِ الكفـ ِـر ،ألنــه ال يقصــد الكفــر مؤمــن ً عمومــا ،وذلــك كقــول الرجــل الــذي فــرح بعــودة راحلتــه(( :اللهــم أنــت عبــدي وأنــا ربــك)) فــي حديــث التوبــة(( :هلل أفــرح بتوبــة ()61 عبــده مــن رجــل أضــل راحلتــه ))... وإن كان للعلمــاء تفصيــل فــي قاعــدة (أخــذاألحــكام مــن ضــرب األمثــال) -قــال اب ــن القيــم( :ومــن تدب ــر مصــادر الشــرع ومــوارده تبـي ــن لــه أن الشــارع ألغــى األلفــاظ الت ــي لــم يقصــد املتكلــم بهــا معان ــيها ،بــل جــرت علــى غيـر قصد منه كالنائم والنا�سي والسكران والجاهــل واملكــره واملخطــئ مــن شــدة الفــرح أو الغضــب أو املــرض ونحوهــم)(.)62 ومثــل هــذا ُّ ـوء فــي القــول مــا يصــدر السـ ِ يــوم القيامــة مــن آخــر أهــل الجنــة دخــوال ً إليهــا ،فيقــول مخاطبــا ربــه جـ ّـل وعــا: ((أتسخر ب ــي أو أتضحك ب ــي وأنت امللك؟ قــال :لقــد رأيــت رســول هللا صلــى هللا عليــه ()63 وســلم ضحــك حتــى بــدت نواجــذه)) َ وهــذا القــول املســتقبح ال يخاطــب بــه هللا العظيــم لكنــه عفــي عــن قائلــه لفــرط ذهولــه ،ونقــل النــووي عــن القا�ضــي عيــاض قولــه فــي معنــى الحديــث( :هــذا الــكالم صــدر مــن هــذا ّ الرجــل وهــو غي ــر ضابــط ملــا قالــه ملــا نالــه مــن ّ الســرور ببلــوغ مــا لــم يخطــر ببالــه ،فلــم يضبــط لســانه ً ً وفرحــا ،فقالــه وهــو ال يعتقــد دهشــا حقيقــة معنــاه وجــرى علــى عادتــه فــي
( )61أخرجه مسلم عن أنس بـن مالك ر�ض ي هللا عنه ،باب ف ي الحض عل ى التوبة والفرح بها ،رقم ( .)2747-7 ( )62إعالم املوقعيـن (ص.)124/3 ( )63متفق عليه عن ابـن مسعود ،رواه البخاري ف ي باب صفة الجنة والنار رقم ( )6202ومسلم باب آخر أهل النار خروجا رقم (.)186-308 ( )64شرح النووي لصحيح مسلم (ص.)40/3 ( )65فتاوى السبكي (ص.)591/2
العدد 2رجب 1439هـ
ّ الدن ــيا فــي مخاطبــة املخلــوق)(.)64 َ كمــا أنــه لــم ُيك َّفــر الذي ــن خاضــوا باإلفــك، وآذوا النبـي صلى هللا عليه وسلم كحسان ب ــن ثابــت ومســطح ب ــن أثاثــة وحمنــة ب ــنت جحــش لعــدم قصدهــم إيــذاءه ...ومثلهــم حــال أولئــك األصحــاب رضــوان هللا عليهــم الذي ــن أطالــوا الجلــوس عنــده صلــى هللا َ عليــه وســلم فــي يــوم زواجــه ،فــآذوه بذلــك: َّ َ َّ َ ُ ْ َ َ ْ الن ِبـ َّـي ف َي ْسـ َـت ْح ِيي ان ُيــؤ ِذي ((إن ذ ِلكــم ك ِ َ َ ْ ْ ُ ْ َ َّ َ َ ُ ّ َ ْ ْ ِمنكــم والل ل يســتح ِيي ِمــن الحـ ِـق)) [سورة األحزاب :آية ،]53يقول السبكي: (لكن األذى على قسمي ــن ،أحدهما يكون فاعلــه قاصـ ًـدا ألذى النب ـ ّـي صلــى هللا عليــه وســلم ،والشــك أن هــذا يقت�ضــي القتــل، ُ وهــذا كأذى عبــد هللا ب ــن أب ـ ّـي فــي قصــة اإلفــك ،واآلخــر أن ال يكــون فاعلــه قاصـ ًـدا ألذى النب ـ ّـي صلــى هللا عليــه وســلم مثــل كالم مســطح وحمنــة فــي اإلفــك ،فهــذا ال يقت�ضــي قتــا)(.)65
تم البحث والحمد هلل رب العامليـن
15
التكفيـر وضوابطه علــى ذات أنــواط فقالــوا( :اجعــل لنــا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط فقال لهم(( :لقد قلتــم كمــا قــال ب ــنو إسـرائيل ملو�ســى.)56( )... الجهل في مسائل الصفات : وذلــك كجهــل بعــض الحواريي ــن بقــدرة هللا تعالــى عندمــا قالــوا لعي�ســى ب ــن مريــمَ : ((هـ ْـل َ َ َ ً َي ْسـ َـت ِط ُيع َ ُّربـ َـك أ ْن ُينـ ّ ِـز َل َعل ْي َنــا َما ِئـ َـدة ِمـ َـن َّ َ َ َ َّ ُ َّ َ ُ ْ الل ِإ ْن ك ْن ُتـ ْـم ُمؤ ِم ِني ـ َـن)) الســم ِاء قــال اتقــوا [ســورة املائــدة :اآليــة ]112فلــم يكفرهــم لجهلهــم بكمــال قدرتــه ســبحانه وتعالــى... قــال اإلمــام الشــافعي رحمــه هللا( :هلل أســماء وصفات ال يسع ً أحدا ر ُّدها ،ومن خالف بعد ثبوت الحجة عليه فقد كفر ،وأما قبل قيام الحجــة فإنــه يعــذر بالجهــل ،ألن علــم ذلــك ال يــدرك بالعقــل ،وال الرؤيــة والفكــر)(.)57 ومــن الجهــل بصفــات هللا قصــة الرجــل الــذي أو�صــى أب ــناءه إذا مــات أن يحرقــوه َ َ ويــذروه كمــا جــاء فــي الحديــث(( :أ ْسـ َـرف َْ َ ُجـ ٌـل َع َلــى َن ْفســهَ ،ف َل َّمــا َح َ ضـ َـر ُه الـ ْـو ُت ر ِ ِ َ ْ َ َ َ َ َ َ َ َ ُ ُّ َ َ ْ ُ أو�صــى ب ِنيـ ِـه فقــالِ :إذا أنــا مــت فأح ِرقو ِنــي ُثـ َّـم ْ اسـ َـح ُقو ِنيُ ،ثـ َّـم ْاذ ُرو ِنــي فــي ّ الريـ ِـح ِفــي ِ ِ َ َْ ْ َ َ َ َ َ ّ هللا ل ِئـ ْـن قـ َـد َر َعلـ َّـي َرِّبــي ل ُي َع ِذ ُب ِنــي البحــر ،فــو ِ َ َ ً ِ َ َ َّ َ ُ َ َ َ ـالَ :ف َف َع ُلــوا َذلــكَ َ عذابــا مــا عذبــه أحــد ،قـ ِ َ َ َ َ َ ْ َْ َ ّ َ َ َ ْ ض :أ ِدي مــا أخــذ ِت ،فـ ِـإذا ِبـ ِـهَ ،فقــال ِ َلــأر ِ َ َ َ ُ َ َ َ ُهـ َـو قا ِئـ ٌـم! ف َقـ َ ـال لــه(َ :مــا ح َملــك علــى َمــا َ ـالَ :خ ْشـ َـي ُت َكَ ،يــا َر ّب َ -أ ْو َقـ َ ص َن ْعـ َـت؟) َف َقـ َ ـال ِ َ َ َ ََ َ َ َمخاف ُت َك -فغف َر ل ُه ِبذ ِل َك))( )58فهذا الرجل ً كان جاهــا بعمــوم قــدرة هللا تعالــى فظــن أن هللا ال يقــدر علــى أن يجمعــه إذا صــار رمـ ًـادا مذ ًّيــا فــي البحــر مــع أنــه كان ً مؤمنــا باملعــاد، ر فعــذره هللا بجهلــه فــي املســألة األولــى ،وأثابــه علــى خشــيته فــي الثان ــية فغفــر لــه.
الجهل في مسائل األحكام : ومــن أمثلتــه تلــك امل ـرأة النوب ــية الت ــي أقــرت بالزنــا علــى نفســها وبمــن زنــا بهــا كمــا جــاء فــي ََ ْ َ َْ ٌ ُ َ ُ َ َ َ ْ ُ ٌ َ وش ،ف َج َاء ْت األثـر(( :زنت مولة يقال لها مرك َ ْ َ ُّ ّ َ الزنــاَ ،ف َسـ َـأ َل َع ْن َهــا ُع َمـ ُـر َعل ًّيــا َو َع ْبــدَ تســتهل ب ِ َّ ْ ِ َ ِ ْ ِ َ َ ْ َ َ َ ُ َ ُّ َ َ ََ الرحمـ ِـن بــن عــو ٍف! فقــال« :تحــد» فســأل ََ َ َْ ُ ْ َ َ َ َ َ ُ َ ـال« :أ َر َاهــا ت ْسـ َـت ِه ُّل ِبـ ِـه كأ َّن َهــا عنهــا عثمــان فقـ َل َت ْع َلـ ُـم َوإ َّن َمــا ْال َحـ ُّـد َع َلــى َمـ ْـن َعل َمـ ُـه» َف َو َافــقَ ِ ِ ُ َ ُ َ َ َ َ َ َ َ ْ َ ْ ُ ْ َ ()59 عمــر فضربهــا ولــم يرجمهــا)) . وتحقيــق األمــر أن هــذه املســألة ممــا تتغي ــر ً مانــا ً بــه الفتــوى ً ومكانــا وحــال ،فمــا علــم مــن ز الدي ــن بالضــرورة ال عــذر بجهلــه ....ويتفــرع على ما سبق من اعتبار الجهل ً مانعا التفريق بـيـن دعاة البدع وعامة أتباعها ،ولهذا تبايـن الحكــم عنــد كثي ــر مــن العلمــاء فــي حكمهــم علــى الشــيعة الرافضــة ّ وفرقــوا بـي ــن عامتهــم وخاصتهــم ودعاتهــم العتبــار مانــع الجهــل. )2من موانع التكفيـراإلكراه: يعتب ــر اإلك ـراه مــن العــوارض املانعــة مــن التكفي ــر وهــذا محــل اتفــاق بـي ــن العلمــاء، لكــن اختلفــوا فــي تحديــد معنــى اإلك ـراه ثــم بحثــوا فــي ضوابــط اإلك ـراه وفرقــوا بـي ــن اإلك ـراه امللجــئ وغي ــر امللجــئ ،وبحثــوا فيمــا يعتب ــر فيــه ومــا ال يعتب ــر ...كمــا اختلفــوا فــي مقــدار مــا يبــاح للمســلم حــال اإلك ـراه، َ ْ َ َ َّ الل ودليله في القرآن قوله ُتعالى(( :من كف َر ِب ِ ْ ْ َْ َّ ِمـ ْـن َب ْعـ ِـد ِإ َيما ِنـ ِـه ِإل َمـ ْـن أكـ ِـر َه َوقل ُبـ ُـه ُمط َم ِئـ ٌّـن ْ ال َيمـ ِـان)) [ســورة النحــل :آيــة ]106وأهــل ِب ِ التفسي ــر متفقــون علــى أنهــا نزلــت فــي عمــار ب ــن ياســر ملــا أكــره علــى مــدح آلهــة املشركي ــن وســب النب ــي عليه الصالة والســام كما ثبت فــي حديــث املســتدرك وغي ــره.
( )56أخرجه أحمد رقم ( )21897والتـرمذي وابـن حبان عن أبـي واقد الليثي ر�ضي هللا عنه وهو صحيح )57( -فتح الباري (ص.)407/13 ( )58متفق عليه عن أبـي هريـرة ر�ضي هللا عنه ،رواه البخاري باب الخوف من هللا رقم ( ،)6116ومسلم في باب سعة رحمة هللا ...رقم (.)2756-25 ( )59مسند الشافعي (ص )275/3رقم ( ،)1552ومصنف عبدالرزاق (ص )403/7رقم ( )13644عن يحيى بـن حاطب عن أبـيه. ( )60االقتصاد في االعتقاد للغزالي (ص.)223
التكفيـر وضوابطه
العدد 2رجب 1439هـ
)3اعتبارعارض التأويل عند إجراء األحكام: إن التأويــل مــن العــوارض واملوانــع املعتب ــرة عنــد إج ـراء األحــكام ،ولكــن ال بــد لــه مــن َّ ضابــط حتــى ال يصي ــر ســل ًما للباطن ــية والزنادقــة ...وقــد فـ ّـرق العلمــاء بـي ــن مــن كان تأويلــه مــن قب ــيل رد النصــوص والتكذيــب بهــا وبـيـن من كان تأويله للنصوص من قبـيل عدم ً صحيحــا ،فقــد جعلــوا تنزيلهــا وإجرائهــا إجـر ًاء لذلــك ضوابــط منهــا: )1عدم مخالفة نص قطعي الثبوت والداللة. )2عــدم مخالفــة مــا ثبــت علمــه مــن الدي ــن بالضــرو رة. )3عدم خروجه عن طريقة العرب وأساليبها في الكالم. )4اعتبــار الفــرق بـي ــن مــن َّأول ً تنزيهــا لــرب العاملي ــن ومــن أول ً هدمــا لش ـرائع الدي ــن. قــال أبــو حامــد الغزالــي( :ولــم يثبــت لنــا أن الخطــأ فــي التأويــل موجــب للتكفي ــر ،فــا بــد مــن دليــل عليــه ،وثبــت أن العصمــة مســتفادة مــن قــول :ال إلــه إال هللا ً قطعــا فــا يدفــع ذلــك إال بقاطــع ،وهــذا القــدر كاف فــي التنبـيه على أن إسراف من بالغ في التكفيـر ليــس عــن ب ــرهان(.)60 واعتبــا ًرا للخطــأ فــي التأويــل مــع قصــد الحــق عــذر املســلمون أصحــاب النب ــي صلــى هللا عليه وسلم الذيـن شاركوا في الفتنة وتـرضوا عــن ســائرهم ،ولــم يوقعــوا فيهــم النصــوص التـي ذمت قاتل النفس املؤمنة كقوله عليه الصــاة والســام(( :ال ت ــرجعوا بعــدي كفــا ًرا، يضــرب بعضكــم رقــاب بعــض)). والضابــط املعتب ــر فــي التفريــق بـي ــن مــا يعتب ــر مــن التأويــات في ــنفي عــن أصحابــه وصــف
14
الكفــر وبـي ــن مــا ال يعتب ــر اإلجمــاع ،فهنــاك فــرق أجمــع العلمــاء علــى كفــر تأويالتهــا كتأويــل القاديان ــية آيــة ختــم النبــوة بمعنــى خاتــم الحليــة والزي ــنة فقالــوا ب ــنبوة ّ دعيهــم ِ مي ــرزا غــام أحمــد ومثلهــا تأويــات البهائيــة والقرامطــة وطوائــف الباطن ــية. ومــن املشــهور فــي ذلــك اســتحالل قدامــة ب ــن ً مظعــون شــرب الخمــر تأويــا لقولــه تعالــى: َ ـس َع َلــى َّالذي ـ َـن َآم ُنــوا َو َعم ُلــوا َّ َ ((ل ْيـ َ ـات الص ِالحـ ِ ِ ِ َ َ َ ُج َنـ ٌ ـاح ِف َيمــا ط ِع ُمــوا ِإذا َمــا َّاتقـ ْـوا َو َآم ُنــوا َو َعم ُلوا َّ َ ات))[سورة املائدة :آية ]93 الص ِالح ِ ِ كما ذكر في تفسي ــر اآلية ،وجاء في الحديث أن عمــر ب ــن الخطــاب قــال لــه(( :أمــا إنــك لــو اتقيــت هللا الجتنبــت مــا حــرم هللا عليــك))، فأمــر بجلــده حـ ًّـدا ولــم يحكــم بكفــره لكونــه ّ لــم يكــن ً مكذبــا وإنمــا شــربها متــأوال حلهــا، فقــد ب ـ ّـين لــه فقهــاء الصحابــة أن اآليــة نزلــت بعد تحريم الخمر فتحرج بعضهم ألنه كان يشــربها قبــل التحريــم وبعضهــم مــات وهــي فــي بطنــه فأنــزل هللا اآليــة إلزالــة هــذا الحــرج بســبب شــربها قبــل التحريــمّ ، فخيــره عمــر بـي ــن قتلــه كفـ ًـرا بعــد ب ــيان الحكــم إذا أصـ ّـر أو حــد الشــرب إن اعت ــرف بخطــأ تصرفــه. وقــد اعتب ــر علــي ر�ضــي هللا عنــه عــارض التأويــل فــي قضيــة الخــوارج ،فــإن الصحابة لم يحكمــوا عليهــم بالكفــر رغــم تكفي ــرهم لألمــة وقتالهــم لهــا ألنهــم خرجــوا متأولي ــن ،وال يفهــم من اعتبار التأويل عا ًضا تـرك مرتكبه ً طليقا ر فيمــا يفعــل إذ ال تعــارض بـي ــن اعتبــار عــارض التأويــل فــي إجـراء األحــكام ووجــوب منعــه مــن نشــر خطئــه وتأويلــه الباطــل.
)4عارض الخطأ أو(القصد) معتبـرعند إجــراء األحــكام : ُ َ َ صـ َـد الفعــل ال ق ْ بــأن يكــون الخطــأ ق ْ صـ َـد ِ الكفـ ِـر ،ألنــه ال يقصــد الكفــر مؤمــن ً عمومــا ،وذلــك كقــول الرجــل الــذي فــرح بعــودة راحلتــه(( :اللهــم أنــت عبــدي وأنــا ربــك)) فــي حديــث التوبــة(( :هلل أفــرح بتوبــة ()61 عبــده مــن رجــل أضــل راحلتــه ))... وإن كان للعلمــاء تفصيــل فــي قاعــدة (أخــذاألحــكام مــن ضــرب األمثــال) -قــال اب ــن القيــم( :ومــن تدب ــر مصــادر الشــرع ومــوارده تبـي ــن لــه أن الشــارع ألغــى األلفــاظ الت ــي لــم يقصــد املتكلــم بهــا معان ــيها ،بــل جــرت علــى غيـر قصد منه كالنائم والنا�سي والسكران والجاهــل واملكــره واملخطــئ مــن شــدة الفــرح أو الغضــب أو املــرض ونحوهــم)(.)62 ومثــل هــذا ُّ ـوء فــي القــول مــا يصــدر السـ ِ يــوم القيامــة مــن آخــر أهــل الجنــة دخــوال ً إليهــا ،فيقــول مخاطبــا ربــه جـ ّـل وعــا: ((أتسخر ب ــي أو أتضحك ب ــي وأنت امللك؟ قــال :لقــد رأيــت رســول هللا صلــى هللا عليــه ()63 وســلم ضحــك حتــى بــدت نواجــذه)) َ وهــذا القــول املســتقبح ال يخاطــب بــه هللا العظيــم لكنــه عفــي عــن قائلــه لفــرط ذهولــه ،ونقــل النــووي عــن القا�ضــي عيــاض قولــه فــي معنــى الحديــث( :هــذا الــكالم صــدر مــن هــذا ّ الرجــل وهــو غي ــر ضابــط ملــا قالــه ملــا نالــه مــن ّ الســرور ببلــوغ مــا لــم يخطــر ببالــه ،فلــم يضبــط لســانه ً ً وفرحــا ،فقالــه وهــو ال يعتقــد دهشــا حقيقــة معنــاه وجــرى علــى عادتــه فــي
( )61أخرجه مسلم عن أنس بـن مالك ر�ض ي هللا عنه ،باب ف ي الحض عل ى التوبة والفرح بها ،رقم ( .)2747-7 ( )62إعالم املوقعيـن (ص.)124/3 ( )63متفق عليه عن ابـن مسعود ،رواه البخاري ف ي باب صفة الجنة والنار رقم ( )6202ومسلم باب آخر أهل النار خروجا رقم (.)186-308 ( )64شرح النووي لصحيح مسلم (ص.)40/3 ( )65فتاوى السبكي (ص.)591/2
العدد 2رجب 1439هـ
ّ الدن ــيا فــي مخاطبــة املخلــوق)(.)64 َ كمــا أنــه لــم ُيك َّفــر الذي ــن خاضــوا باإلفــك، وآذوا النبـي صلى هللا عليه وسلم كحسان ب ــن ثابــت ومســطح ب ــن أثاثــة وحمنــة ب ــنت جحــش لعــدم قصدهــم إيــذاءه ...ومثلهــم حــال أولئــك األصحــاب رضــوان هللا عليهــم الذي ــن أطالــوا الجلــوس عنــده صلــى هللا َ عليــه وســلم فــي يــوم زواجــه ،فــآذوه بذلــك: َّ َ َّ َ ُ ْ َ َ ْ الن ِبـ َّـي ف َي ْسـ َـت ْح ِيي ان ُيــؤ ِذي ((إن ذ ِلكــم ك ِ َ َ ْ ْ ُ ْ َ َّ َ َ ُ ّ َ ْ ْ ِمنكــم والل ل يســتح ِيي ِمــن الحـ ِـق)) [سورة األحزاب :آية ،]53يقول السبكي: (لكن األذى على قسمي ــن ،أحدهما يكون فاعلــه قاصـ ًـدا ألذى النب ـ ّـي صلــى هللا عليــه وســلم ،والشــك أن هــذا يقت�ضــي القتــل، ُ وهــذا كأذى عبــد هللا ب ــن أب ـ ّـي فــي قصــة اإلفــك ،واآلخــر أن ال يكــون فاعلــه قاصـ ًـدا ألذى النب ـ ّـي صلــى هللا عليــه وســلم مثــل كالم مســطح وحمنــة فــي اإلفــك ،فهــذا ال يقت�ضــي قتــا)(.)65
تم البحث والحمد هلل رب العامليـن
15
قواعد السياسة الشرعية
قواعد السياسة الشرعية
العدد 2رجب 1439هـ
في إدارة الدولة وإنزال العقوبات على مستحقيها أو تـرك هذه العقوبات بحســب الحــال ،وهــي كالتالــي: املبحــث األول :ت ــرك الحــد ً تأليفــا لقلــوب النــاس وحـ ً ـذرا مــن النفــور عــن
ياس ِة َّ رعية َق ُ الش َّ الس َ واعد ِّ تقديم ُوجوِد َّ الدولِة املُسِلمِة يف ِ صاحلها على إِقامِة ا ُ حلدود َ وم ِ
الدي ــن ،وفيــه ذكــر واقعت ــي ت ــرك قتــل عبــد هللا ب ــن أب ــي ب ــن ســلول ومنــع الصحابــة مــن قتــل ذي الخويصــرة التميمــي. املبحــث الثان ــي :درء الحــد بســبب شــيوع الحاجــة ،وفيــه ذكــر قصــة الســرقة فــي عــام الرمــادة. املبحث الثالث :وحدة الدولة مقدمة على إقامة الحدود ،وفيه الحديث عن مسألة القصاص من قتلة عثمان بـن عفان ر�ضي هللا عنه.
محمد علي النجار
محرر مجلة مقاربات -باحث ماجستـيـر
املقدمة
الحمــد هلل رب العاملي ــن والصــاة والســام علــى نبـي ــنا الهــادي األمي ــن ســيدنا محمــد وعلــى آلــه وصحبــه أجمعي ــن ،والتابعي ــن لهــم بإحســان إلــى يــوم الدي ــن وبعــد: إن املراقــب للثــورة الســورية فــي ســنواتها الســبع املاضيــة ي ــرى بوضــوح الحالــة املأســاوية الت ــي وصلــت إليهــا حالنــا بفعــل الجماعــات التكفي ـرية ّ ً املتطرفــة الدخيلــة علــى ّ خاصــة ،حيــث عملــت أمتنــا جمعـ َـاء وعلــى بالدنــا علــى بــث الفتــن وتفريــق الصفــوف ثــم قامــت بالغــدر بأهل الســنة وطعنهم في ظهورهم وتمكيـن عدوهم من رقابهم ...مما انعكس ً سلبا على الوضع ً خصوصــا وفــي منطقــة الشــرق العــام ألهــل الســنة والجماعــة فــي ســوريا األوســط ً عمومــا ...وإذا مــا رجــع ب ــنا الزمــان قليــا نجــد املأســاة الت ــي حلــت ببالد الشام تتكرر بتفاصيلها اململة مع أهل السنة في العراق وقبل ذلك فــي أفغانســتان والصومــال والســبب هــذه الجماعــات املتطرفــة نفســها، تختلف األرض وتتنوع الوجوه وتتعدد األسماء ولكن النت ــيجة واحدة ال تختلف ...مما أدى إلى االستـياء العام واليأس القاتل ،والذي أدى بدوره إلى موجة من اإللحاد والردة عن املبادئ والثوابت الديـنـية في ظل حرب إعالميــة شــعواء تســتغل الظــروف املأســاوية الت ــي نمــر بهــا ،لتحويلهــا إلــى ســم قاتــل ي ــنتشر فــي جميــع أنحــاء الجســد اإلســامي املريــض ...وفــي أوار هــذه الحــروب املســتعرة علــى كافــة الصعــد وفــي كل ميادي ــن الحيــاة، بــدأت تطفــو علــى الســطح مجموعــة مــن التســاؤالت الخطي ــرة ...منهــا علــى سب ــيل املثــال :أي ــن الخطــأ؟ وكيــف نصححــه؟ هــل العلــة فــي اإلســام أم في املسلمي ــن؟ وهل انتهت صالحية تعاليم اإلســام املتعلقة بأســس ب ــناء
املجتمــع أو السياســة الداخليــة والخارجيــة لألمــة؟ أال يجــب أن نجنــب اإلســام أي إصــاح سيا�ســي مأمــول إذا مــا أردنــا االســتقرار؟ والحقيقــة أن كل هــذه األســئلة نشــأت نت ــيجة ملمارســات خاطئــة ومفاهيــم مشــوهة عــن الدي ــن ،قامــت بهــا هــذه الجماعــات املتطرفــة الت ــي ال تمــت بأفعالهــا ومفاهيمهــا إلــى اإلســام بصلــة ،وقــد حاولــت فــي هــذا البحــث الصغي ــر اإلجابة على هذه األسئلة ،والتأكيد على أن التشريع السيا�سي عند أهل الســنة والجماعــة ال يمــت بصلــة إلــى مــا آلــت إليــه حــال معظــم فصائــل ً املتطرفي ــن املقاتلــة علــى األرض ،كمــا أن فكرهــم املشــوه ال يتقــارب أصــا مــع الفكــر الــذي يحملــه علمــاء الثــورة وفقهاؤهــا. ال بــد لنــا أن نعــرف أن ســبب مــا وصلــت إليــه الجماعــات املتطرفــة اليــوم مــن فرقــة وتخلــف ودمويــة؛ ومــا نتــج عــن ذلــك مــن ســقوط وت ـراجع لكثي ــر مــن الشــعوب اإلســامية الت ــي ظهــروا فيهــا؛ هــو املفاهيــم والتصــورات الخاطئــة لهــذه الجماعــات ،وليــس الســبب فــي ذلــك املنهــج القويــم للتش ـريع اإلســامي والــذي كان نـ ً ـورا ً هاديــا لــكل الــدول العظمــى الت ــي شهدها تا يخنا املجيد ...فلم َ يحتج أسالفنا ً يوما إلى تغيي ــر قاعدة ثابتة ر أو التخلــي عــن بعــض الشــرع بداعــي اختــاف الزمــان وتغي ــر األحــوال ،أو بحجــة أن الشــرع قاصــر عــن مواكبــة عصورهــم. وقد بـيـنت في هذا البحث معالم الفكر السيا�سي ألهل السنة والجماعة وخاصــة مــا يتعلــق منهــا ب ــنشوء الـ ُّـدول وطــرق إدارتهــا ،وكان ذلــك فــي ســياق حديثــي عــن إقامــة الحــدود علــى الجنــاة أو القصــاص منهــم ...وقــد تــم ذلــك مــن خــال مدخــل يســلط الضــوء علــى مــا وصلــت إليــه حــال الجماعــات املتطرفــة اليــوم ،ثــم خمســة مباحــث يتنــاول كل منهــا واقعــة أو أكث ــر مــن زمــن النب ــي صلــى هللا عليــه وســلم أو الخلفــاء الراشدي ــن ،لب ــيان منهجهــم 16
املبحــث الرابــع :شــؤون الحكــم والحــدود مــن أمــور السياســة الت ــي ال تحمــل مسـ َّ ـؤولياتها لعامــة النــاس ،وفيــه ذكــر لقصــة حدثــت فــي موســم الحــج فــي آخــر عهــد عمــر ب ــن الخطــاب ر�ضــي هللا عنــه. ُ َّ املبحــث الخامــس :األنــاة والتــدرج فــي إقامــة الش ـريعة ضمــن ســلم ّ األولويــات فــي التشـريع اإلســامي ،وفيــه ذكــر قصــة عمــر ب ــن عبــد العزيــز ر�ضــي هللا عنــه مــع اب ــنه عبــد امللــك. وعقبت ذلك بذكرالنتائج والخاتمة.
املدخل .. أسئلة كثيـرة تطرح منها ما هو بـريء ومنها ما هو مشبوه ،تحاول الكثيـر مــن مراكــز اإلعــام العامليــة تحويلهــا إلــى ســهام قاتلــة تصــوب نحــو الجســد ً ً اإلســامي املمــدد ...وقــد اتبــع أعــداء اإلســام خططــا محكمــة للقضــاء علــى أهل السنة فك ًّريا ً تمهيدا لتشتـيتهم والتحكم بمصيـرهم ،وذلك من خالل مجموعة من اإلجراءات الخطي ــرة منها دعم بعض الحكام التابعي ــن لهم ملنــع أي تحــرك إســامي ســليم ،ومنهــا تمكي ــن مجموعــة مــن رجــال الدي ــن الفاسدي ــن مــن تســلم أهــم املناصــب الديـن ــية والعلميــة عنــد أهــل الســنة والجماعــة ،وأخطرهــا اســتخدام اإلعــام كســاح لتشــويش العقــول وبــث الفتن والفساد ،حيث تم تأسيس بعض الفضائيات الديـنـية في السنوات األخي ــرة لــكل مــن متطرفــي الســنة والشــيعة علــى الســواء ،بدعــم مــن دول ورجــال أعمــال مشــبوهي التوجــه واالرتباطــات. ومــن ي ـراقب خريطــة هــذه الفضائيــات يالحــظ أن نســبة منهــا تــؤدي ً دورا مشـ ً ـبوها فــي تضليــل األمــة إمــا عب ــر بــث التطــرف والفتنــة والتكفي ــر ،وإمــا
العدد 2رجب 1439هـ
بالــرد علــى هــذا التطــرف بمزيــد مــن العلمنــة والحداثــة الغرب ــية املغلفــة بغــاف البحــث العقلــي واملنطقــي فــي النصــوص الشــرعية ومراجعــة كتــب التـراث ،حتى غدا اإلفراط والتفريط هو السمة العامة لنسبة ال يستهان بها من الفضائيات املحسوبة على اإلعالم اإلسالمي اليوم ،في ظل حصار إعالمــي وحكومــي مطبــق علــى كل األصــوات الناطقــة بالحــق وبمنهــج أهــل ً ـات. الســنة القويــم ســواء كانــوا أفـرادا أو جماعـ ٍ كما ظهرت في عصرنا بعض الجماعات واألحزاب املنادية بإقامة الخالفة اإلسالمية وإيجاب السعي إلى هذا الهدف على كل صغيـر وكبـيـر وجاهل وعالم؛ حتى أصبح مقام الخالفة السامي عند هؤالء حديث كل منتسب ً ً ً لهم سواء أكان جاهل أم عال ـا أم متدي ًـنا أم غيـر متدي ٍـن أصل ،وال يذكر الديـن عند هؤالء إال مقرونا باسم الخالفة في ظل نسيان شبه كامل لكل واجبــات الفــرد واألمــة األخــرى ،بــل وغيــاب كامــل ملفهــوم الدولــة أو املجتمــع املســلم ...فتــم تقزيــم مفهــوم الدي ــن عنــد هــؤالء ليتحــول إلــى مجموعــة مــن القوانـيـن واألحكام السياسية التـي يتـربع على عرشها مصطلح الخالفة، وظهرت عندنا معادلة غريبة تقول (اإلسالم = الخالفة). ومــع مــرور الســنوات وتســليط الضــوء علــى جماعــات الهجــرة والتكفي ــر بعــد تفجي ــر ب ــرجي التجــارة وحــرب أفغانســتان والع ـراق والصومــال؛ تــم ً تباطــا ً وثيقــا بعــدة تضخيــم دور هــذه الجماعــات املتطرفــة ،واملرتبطــة ار أجهــزة مخاب ـرات عامليــة وإقليميــة علــى رأســها الواليــات املتحــدة وإي ـران... كمــا قامــت فضائيــات أخباريــة وديـن ــية شهي ــرة بإظهارهــم بمظهــر الجيــش الحامــي ألهــل الســنة والجماعــة. وقــد كان مــن مقصــد وجــود هــذه الجماعــات املشــبوهة تقزيــم مفهــوم كل من الديـن والخالفة ،ليقتـرنا في ذهن املسلم وغيـر املسلم بتنفيذ الحدود والقصــاص بقطــع الــرؤوس واأليــادي ورجــم الزان ــي ،حيــث بــدأت تظهــر فيديوهات قتل وذبح عجيبة تتصدر خلفياتها رايات مختلفة كتبت عليها شــهادة التوحيــد وعبــارات إســامية أخــرى ...وكل هــذا الذبــح والقتــل كان بحجــة إقامــة الدولــة اإلســامية ومــا يقتضيــه وجودهــا مــن عمــل بأحــكام الحــدود والقصــاص ...ولهــذا كان لز ًامــا علي ــنا أن نبـي ــن مفهــوم كل مــن الدولة والحدود والقصاص عند املسلميـن قبل البدء بالبحث وتفرعاته. ً أول :تعريف الدولة. َ ْ (َ ْ َّ )1 ُْ ُ َُ َ الغ َل َب ُةُ ،ي َقالُ : الله ّم واإلدالــة: َلغــة هــي العقبــة فــي املــال والحــرب ،والدولــة ِ َ ُ َ ْ َّ َ َ ُ ُ ْ ُ ْ ُ ََْ داولها أ ِدلنـي على ف َ ٍ الن وانصرنـي علي ِه ،ودالت األيام :دارت ،والل تعالى ((ي ِ َ الناس)) أي ُي ِدي ُـرها( ،)2وأما تعريف الدولة في االصطالح فإن الباحث بـيـن ِ
( )1لسان العرب ،املؤلف :محمد بـن مكرم بـن منظور األفريقي املصري ،الناشر :دار صادر -بـيـروت ،الطبعة األول ى ()252/11 الرزاق الحسيـنـي ،أبو الفيضّ ، محم د بـن عبد ّ امللق ب بمرت�ض ىَّ ، محم د بـن ّ ( )2الكتاب :تاج العروس من جواهر القاموس ،املؤلفّ : الزبـيدي (املتوف ى1205 :هـ) ،املحقق :مجموعة من املحققيـن ،الناش ر :دار الهداية (- )511/28
17
قواعد السياسة الشرعية
قواعد السياسة الشرعية
العدد 2رجب 1439هـ
في إدارة الدولة وإنزال العقوبات على مستحقيها أو تـرك هذه العقوبات بحســب الحــال ،وهــي كالتالــي: املبحــث األول :ت ــرك الحــد ً تأليفــا لقلــوب النــاس وحـ ً ـذرا مــن النفــور عــن
ياس ِة َّ رعية َق ُ الش َّ الس َ واعد ِّ تقديم ُوجوِد َّ الدولِة املُسِلمِة يف ِ صاحلها على إِقامِة ا ُ حلدود َ وم ِ
الدي ــن ،وفيــه ذكــر واقعت ــي ت ــرك قتــل عبــد هللا ب ــن أب ــي ب ــن ســلول ومنــع الصحابــة مــن قتــل ذي الخويصــرة التميمــي. املبحــث الثان ــي :درء الحــد بســبب شــيوع الحاجــة ،وفيــه ذكــر قصــة الســرقة فــي عــام الرمــادة. املبحث الثالث :وحدة الدولة مقدمة على إقامة الحدود ،وفيه الحديث عن مسألة القصاص من قتلة عثمان بـن عفان ر�ضي هللا عنه.
محمد علي النجار
محرر مجلة مقاربات -باحث ماجستـيـر
املقدمة
الحمــد هلل رب العاملي ــن والصــاة والســام علــى نبـي ــنا الهــادي األمي ــن ســيدنا محمــد وعلــى آلــه وصحبــه أجمعي ــن ،والتابعي ــن لهــم بإحســان إلــى يــوم الدي ــن وبعــد: إن املراقــب للثــورة الســورية فــي ســنواتها الســبع املاضيــة ي ــرى بوضــوح الحالــة املأســاوية الت ــي وصلــت إليهــا حالنــا بفعــل الجماعــات التكفي ـرية ّ ً املتطرفــة الدخيلــة علــى ّ خاصــة ،حيــث عملــت أمتنــا جمعـ َـاء وعلــى بالدنــا علــى بــث الفتــن وتفريــق الصفــوف ثــم قامــت بالغــدر بأهل الســنة وطعنهم في ظهورهم وتمكيـن عدوهم من رقابهم ...مما انعكس ً سلبا على الوضع ً خصوصــا وفــي منطقــة الشــرق العــام ألهــل الســنة والجماعــة فــي ســوريا األوســط ً عمومــا ...وإذا مــا رجــع ب ــنا الزمــان قليــا نجــد املأســاة الت ــي حلــت ببالد الشام تتكرر بتفاصيلها اململة مع أهل السنة في العراق وقبل ذلك فــي أفغانســتان والصومــال والســبب هــذه الجماعــات املتطرفــة نفســها، تختلف األرض وتتنوع الوجوه وتتعدد األسماء ولكن النت ــيجة واحدة ال تختلف ...مما أدى إلى االستـياء العام واليأس القاتل ،والذي أدى بدوره إلى موجة من اإللحاد والردة عن املبادئ والثوابت الديـنـية في ظل حرب إعالميــة شــعواء تســتغل الظــروف املأســاوية الت ــي نمــر بهــا ،لتحويلهــا إلــى ســم قاتــل ي ــنتشر فــي جميــع أنحــاء الجســد اإلســامي املريــض ...وفــي أوار هــذه الحــروب املســتعرة علــى كافــة الصعــد وفــي كل ميادي ــن الحيــاة، بــدأت تطفــو علــى الســطح مجموعــة مــن التســاؤالت الخطي ــرة ...منهــا علــى سب ــيل املثــال :أي ــن الخطــأ؟ وكيــف نصححــه؟ هــل العلــة فــي اإلســام أم في املسلمي ــن؟ وهل انتهت صالحية تعاليم اإلســام املتعلقة بأســس ب ــناء
املجتمــع أو السياســة الداخليــة والخارجيــة لألمــة؟ أال يجــب أن نجنــب اإلســام أي إصــاح سيا�ســي مأمــول إذا مــا أردنــا االســتقرار؟ والحقيقــة أن كل هــذه األســئلة نشــأت نت ــيجة ملمارســات خاطئــة ومفاهيــم مشــوهة عــن الدي ــن ،قامــت بهــا هــذه الجماعــات املتطرفــة الت ــي ال تمــت بأفعالهــا ومفاهيمهــا إلــى اإلســام بصلــة ،وقــد حاولــت فــي هــذا البحــث الصغي ــر اإلجابة على هذه األسئلة ،والتأكيد على أن التشريع السيا�سي عند أهل الســنة والجماعــة ال يمــت بصلــة إلــى مــا آلــت إليــه حــال معظــم فصائــل ً املتطرفي ــن املقاتلــة علــى األرض ،كمــا أن فكرهــم املشــوه ال يتقــارب أصــا مــع الفكــر الــذي يحملــه علمــاء الثــورة وفقهاؤهــا. ال بــد لنــا أن نعــرف أن ســبب مــا وصلــت إليــه الجماعــات املتطرفــة اليــوم مــن فرقــة وتخلــف ودمويــة؛ ومــا نتــج عــن ذلــك مــن ســقوط وت ـراجع لكثي ــر مــن الشــعوب اإلســامية الت ــي ظهــروا فيهــا؛ هــو املفاهيــم والتصــورات الخاطئــة لهــذه الجماعــات ،وليــس الســبب فــي ذلــك املنهــج القويــم للتش ـريع اإلســامي والــذي كان نـ ً ـورا ً هاديــا لــكل الــدول العظمــى الت ــي شهدها تا يخنا املجيد ...فلم َ يحتج أسالفنا ً يوما إلى تغيي ــر قاعدة ثابتة ر أو التخلــي عــن بعــض الشــرع بداعــي اختــاف الزمــان وتغي ــر األحــوال ،أو بحجــة أن الشــرع قاصــر عــن مواكبــة عصورهــم. وقد بـيـنت في هذا البحث معالم الفكر السيا�سي ألهل السنة والجماعة وخاصــة مــا يتعلــق منهــا ب ــنشوء الـ ُّـدول وطــرق إدارتهــا ،وكان ذلــك فــي ســياق حديثــي عــن إقامــة الحــدود علــى الجنــاة أو القصــاص منهــم ...وقــد تــم ذلــك مــن خــال مدخــل يســلط الضــوء علــى مــا وصلــت إليــه حــال الجماعــات املتطرفــة اليــوم ،ثــم خمســة مباحــث يتنــاول كل منهــا واقعــة أو أكث ــر مــن زمــن النب ــي صلــى هللا عليــه وســلم أو الخلفــاء الراشدي ــن ،لب ــيان منهجهــم 16
املبحــث الرابــع :شــؤون الحكــم والحــدود مــن أمــور السياســة الت ــي ال تحمــل مسـ َّ ـؤولياتها لعامــة النــاس ،وفيــه ذكــر لقصــة حدثــت فــي موســم الحــج فــي آخــر عهــد عمــر ب ــن الخطــاب ر�ضــي هللا عنــه. ُ َّ املبحــث الخامــس :األنــاة والتــدرج فــي إقامــة الش ـريعة ضمــن ســلم ّ األولويــات فــي التشـريع اإلســامي ،وفيــه ذكــر قصــة عمــر ب ــن عبــد العزيــز ر�ضــي هللا عنــه مــع اب ــنه عبــد امللــك. وعقبت ذلك بذكرالنتائج والخاتمة.
املدخل .. أسئلة كثيـرة تطرح منها ما هو بـريء ومنها ما هو مشبوه ،تحاول الكثيـر مــن مراكــز اإلعــام العامليــة تحويلهــا إلــى ســهام قاتلــة تصــوب نحــو الجســد ً ً اإلســامي املمــدد ...وقــد اتبــع أعــداء اإلســام خططــا محكمــة للقضــاء علــى أهل السنة فك ًّريا ً تمهيدا لتشتـيتهم والتحكم بمصيـرهم ،وذلك من خالل مجموعة من اإلجراءات الخطي ــرة منها دعم بعض الحكام التابعي ــن لهم ملنــع أي تحــرك إســامي ســليم ،ومنهــا تمكي ــن مجموعــة مــن رجــال الدي ــن الفاسدي ــن مــن تســلم أهــم املناصــب الديـن ــية والعلميــة عنــد أهــل الســنة والجماعــة ،وأخطرهــا اســتخدام اإلعــام كســاح لتشــويش العقــول وبــث الفتن والفساد ،حيث تم تأسيس بعض الفضائيات الديـنـية في السنوات األخي ــرة لــكل مــن متطرفــي الســنة والشــيعة علــى الســواء ،بدعــم مــن دول ورجــال أعمــال مشــبوهي التوجــه واالرتباطــات. ومــن ي ـراقب خريطــة هــذه الفضائيــات يالحــظ أن نســبة منهــا تــؤدي ً دورا مشـ ً ـبوها فــي تضليــل األمــة إمــا عب ــر بــث التطــرف والفتنــة والتكفي ــر ،وإمــا
العدد 2رجب 1439هـ
بالــرد علــى هــذا التطــرف بمزيــد مــن العلمنــة والحداثــة الغرب ــية املغلفــة بغــاف البحــث العقلــي واملنطقــي فــي النصــوص الشــرعية ومراجعــة كتــب التـراث ،حتى غدا اإلفراط والتفريط هو السمة العامة لنسبة ال يستهان بها من الفضائيات املحسوبة على اإلعالم اإلسالمي اليوم ،في ظل حصار إعالمــي وحكومــي مطبــق علــى كل األصــوات الناطقــة بالحــق وبمنهــج أهــل ً ـات. الســنة القويــم ســواء كانــوا أفـرادا أو جماعـ ٍ كما ظهرت في عصرنا بعض الجماعات واألحزاب املنادية بإقامة الخالفة اإلسالمية وإيجاب السعي إلى هذا الهدف على كل صغيـر وكبـيـر وجاهل وعالم؛ حتى أصبح مقام الخالفة السامي عند هؤالء حديث كل منتسب ً ً ً لهم سواء أكان جاهل أم عال ـا أم متدي ًـنا أم غيـر متدي ٍـن أصل ،وال يذكر الديـن عند هؤالء إال مقرونا باسم الخالفة في ظل نسيان شبه كامل لكل واجبــات الفــرد واألمــة األخــرى ،بــل وغيــاب كامــل ملفهــوم الدولــة أو املجتمــع املســلم ...فتــم تقزيــم مفهــوم الدي ــن عنــد هــؤالء ليتحــول إلــى مجموعــة مــن القوانـيـن واألحكام السياسية التـي يتـربع على عرشها مصطلح الخالفة، وظهرت عندنا معادلة غريبة تقول (اإلسالم = الخالفة). ومــع مــرور الســنوات وتســليط الضــوء علــى جماعــات الهجــرة والتكفي ــر بعــد تفجي ــر ب ــرجي التجــارة وحــرب أفغانســتان والع ـراق والصومــال؛ تــم ً تباطــا ً وثيقــا بعــدة تضخيــم دور هــذه الجماعــات املتطرفــة ،واملرتبطــة ار أجهــزة مخاب ـرات عامليــة وإقليميــة علــى رأســها الواليــات املتحــدة وإي ـران... كمــا قامــت فضائيــات أخباريــة وديـن ــية شهي ــرة بإظهارهــم بمظهــر الجيــش الحامــي ألهــل الســنة والجماعــة. وقــد كان مــن مقصــد وجــود هــذه الجماعــات املشــبوهة تقزيــم مفهــوم كل من الديـن والخالفة ،ليقتـرنا في ذهن املسلم وغيـر املسلم بتنفيذ الحدود والقصــاص بقطــع الــرؤوس واأليــادي ورجــم الزان ــي ،حيــث بــدأت تظهــر فيديوهات قتل وذبح عجيبة تتصدر خلفياتها رايات مختلفة كتبت عليها شــهادة التوحيــد وعبــارات إســامية أخــرى ...وكل هــذا الذبــح والقتــل كان بحجــة إقامــة الدولــة اإلســامية ومــا يقتضيــه وجودهــا مــن عمــل بأحــكام الحــدود والقصــاص ...ولهــذا كان لز ًامــا علي ــنا أن نبـي ــن مفهــوم كل مــن الدولة والحدود والقصاص عند املسلميـن قبل البدء بالبحث وتفرعاته. ً أول :تعريف الدولة. َ ْ (َ ْ َّ )1 ُْ ُ َُ َ الغ َل َب ُةُ ،ي َقالُ : الله ّم واإلدالــة: َلغــة هــي العقبــة فــي املــال والحــرب ،والدولــة ِ َ ُ َ ْ َّ َ َ ُ ُ ْ ُ ْ ُ ََْ داولها أ ِدلنـي على ف َ ٍ الن وانصرنـي علي ِه ،ودالت األيام :دارت ،والل تعالى ((ي ِ َ الناس)) أي ُي ِدي ُـرها( ،)2وأما تعريف الدولة في االصطالح فإن الباحث بـيـن ِ
( )1لسان العرب ،املؤلف :محمد بـن مكرم بـن منظور األفريقي املصري ،الناشر :دار صادر -بـيـروت ،الطبعة األول ى ()252/11 الرزاق الحسيـنـي ،أبو الفيضّ ، محم د بـن عبد ّ امللق ب بمرت�ض ىَّ ، محم د بـن ّ ( )2الكتاب :تاج العروس من جواهر القاموس ،املؤلفّ : الزبـيدي (املتوف ى1205 :هـ) ،املحقق :مجموعة من املحققيـن ،الناش ر :دار الهداية (- )511/28
17
قواعد السياسة الشرعية فــي كتــب الفقــه والسياســة الشــرعية ال يــكاد يجــد التعبـي ــر عــن الســلطة الحاكمــة بهــذا اللفــظ إال ً ملامــا؛ إذ كان يعب ــر عــن مفهومهــا بمصطلحــات أخــرى كاإلمامــة والخالفــة وامللــك ومــا إلــى ذلــك ولكنهــا أصبحــت اليــوم هــي اللفــظ واملصطلــح الــذي يعب ــر عــن مفاهيــم اإلدارة السياســية والســلطة بجميــع أنواعهــا... ً اصطالحــا :مجمــوع كبـي ــر مــن األفـراد يقطــن بصفــة دائمــة إقليمــا والدولــة َّ معي ًنــا ،ويتمتــع بالشــخصية املعنويــة وب ــنظام حكومــي وباالســتقالل ُ َ َ َ َ َّ ُ َّ ْ َ ُ ْ ْ َ َ ُّ ُ َ ْ َ َ ـات ِب َح ْيــث السيا�ســي( ،)3وتتألــف الدولــة ِمــن َمج ُموعـ ٍـة ِمــن النظـ ِـم وال ِواليـ ِ ُ َ ّ ُ َ َ ْ َ َ َ ً َ َّ ً ْ َ َ َّ َ َ ً الد ْولـ ِـةَ ،وت ْع َمــل ُم ْج َت ِم َعــة ـف تــؤ ِدي كل ِواليـ ٍـة ِمنهــا و ِظيفــة خ اصــة ِمــن وظا ِئـ ِ َ ّ َ ُ َ َ َ ُ َ َ ْ ُ ْ َ ّ َّ َ ُّ ْ َْ َ ْ َ َّ الدي ـ ِني ِة والدني ِويـ ِـة، ِلتح ِقيـ ِـق مق ِصـ ٍـد عـ ٍـام ،وهــو ِرعايــة مص ِالـ ِـح الس ِل ِمي ــن ِ َُ اســة ّ َ َ ُ َ ْ ُ َ ٌ َ َ ُّ َ َْ َ ْ الدي ـ ِـن يقــول الــاور ِد ُّي( :اإلمامــة موضوعــة ِل ِخالفـ ِـة الن ُبـ َّـو ِة ِفــي ِح َر ِ ِ ُّ ْ َوس َي َ اسـ ِـة الدن َيــا) ( ،)4وقــد لخــص اإلمــام املــاوردي فكــرة الفقهــاء عــن ِ َ الد ْن َيــا َحتــىَّ ص ُلـ ُـح ُّ األركان الت ــي تقــوم عليهــا الدولــة بقولــهْ : (اع َلـ ْـم أ َّن َمــا بــه َت ْ ِِ َتصي َـر َأ ْح َو ُال َها ُم ْن َتظ َم ًةَ ،وُأ ُم ُور َها ُم ْل َتئ َم ًة ،س َّت ُة َأ ْش َي َاء ه َي َق َواع ُد َهاَ ،وإنْ ِ ِ ِ ِ ِ ِ ِ َت َف َّر َع ْتَ ،وه َي :دي ٌـن ُم َّت َب ٌع َو ُس ْل َط ٌان َقاه ٌر َو َع ْد ٌل َشام ٌل َوَأ ْم ٌن َع ٌّام َوخ ْ صبٌ ِ ِ ِ ِ ِ َ َ ٌ ()5 َدا ِئـ ٌـم َوأ َمـ ٌـل ف ِســيح) . ثان ًـيا:تعريفالحد. هــو فــي اللغــة :املنــع ،وأمــا فــي الشــرع :فهــو عقوبــة مقــدرة وجبــت ًّ حقــا هلل(،)6 َّ َ َ ْ ُ َ َ ُ َ َ َ َّ َ ُ َ َّ ُ َ َ َ َ ُ ّ َ ّ َ ْ َ ْ الزنــى َوالقــذ ِف وقــد اتفــق الفقهــاء علـ ْـى أن مــا يطبــق علــى ج ِريمـ ِـة ك ٍل ِمــن ِ ْ َ َّ َ ُّ ْ َ َّ َ َ َ ََ َ َ َ السـ ِـرق ِة َوقطـ ِـع الط ِريـ ِـق ُي ْع َت َبـ ُـر َحـ ًّـدا َواخ َتل ُفــوا ِفيمــا وراء ذ ِلــك، والســك ِر و َ َ َ َ ْ َ َ َّ ُ َ َ َّ َ َّ ٌ َ َ َ َ َ َ ّ ُّ ْ ْ َ ْ َ َّ ً فذهب الحن ِفية ِإلى أنها ِستة ،وذ ِلك ِب ِإضاف ِة ح ِد الشر ِب ِللخم ِر خاصة، َْ ُ َ ْ َ ٌ َ َ َ َ ُْ َ َو َيـ َـرى ال ِال ِك َّيــة أ َّن ال ُحـ ُـد َود َسـ ْـب َعة ،ف ُي ِض ُيفــون ِإلــى ال َّتفـ ِـق َعل ْيـ ِـه الـ ّ ِـر َّدة ْ ْ ْ َ ْ َ ُ َ ْ ُ َّ ـاص َأ ْي ً الشــافع َّية ْالق َ صـ َ ضــا ِمـ َـن ال ُحـ ُـد ِود، َوال َبغـ َـيِ ،فــي ِحي ـ ِـن يعت ِبــر بعــض ِِ ِ ِ ُ َ ُ ْ ُ َ َ ٌ ْ َ ُ َّ َح ْيث قالوا :ال ُح ُد ُود ث َما ِن َية َو َع ُّد ُوه َب ْي َن َهاَ ،و ْاع َت َب َر ال ِال ِك َّية َوالشا ِف ِع َّية ق ْتل ْ َّ َ َ الصال ِة َع ْم ًدا ِم َن ال ُح ُد ِود( ،)7وإذا درجنا على ما قاله الشافعية فإن ت ِار ِك القصــاص نــوع مــن أنــواع الحــدود. ً ثالثا:تعريفالقصاص. َ ْ َ َ ـاص َأ ْن ُي ْؤ َخـ َـذ َلــك الق َ واإل ْق َ صـ ُ صـ ُ القـ ّ ـاص، ـص وهــو القطــع، لغــة هــو مــن ِ ُ َ َ َ َّ َ ُ ُ ً ْ ُ ْ َ َّ َ ُ ْ َ َ َ ُ ْ َ َ ْ يقال :أقص األ ِميـر فالنا ِمن فالنِ ،إذا اقتص له ِمنه فجرحه ِمثل جر ِحه، َ َ َ َ أو ق َتلــه قـ َـو ًدا ( ...)8وأمــا فــي كتــب التشـريع اإلســامي فقــد تعــددت تعريفاتــه
قواعد السياسة الشرعية
العدد 2رجب 1439هـ
ْ ُ َ َْ َْ َ َْ اعـ ِـل ِمثـ َـل عنــد العلمــاء ومــن أخصرهــا قــول الجرجان ــي( :هــو أن يفعـ َـل ِبالف ِ َ َ َ َ (ّ )9 ُ ولعلــي مــن خــال اســتقراء مــا ذكــر فــي تعريفــه عنــد الفقهــاء مــا فعــل) ِ ، يمكننـي أن أقول ،إن القصاص :هو عقوبة مقدرة ثابتة بالكتاب والسنة ً قابلة لإلسقاط تقت�ضي َ أو أحدهما وجبت ًّ عقوبة على أيقاع حقا آلدمي ٍ الجانـي بمقدار جنايته. َّ ٌ صحيــح أن الحــدود وأحــكام القصــاص كلهــا ثابتــة بالنــص فــي الق ـرآن والســنة أو فــي أحدهمــا ،وال إشـ َّ ـكالية تعتب ــر فــي ثبوتهــا ،ولكــن اإلشــكالية فــي تـرت ــيبها مــن حيــث األولويــة ،وفــي طريقــة تنفيذهــا ومــا يعــرض لوقائعهــا مــن قواعــد َّ كليــة قــد تؤث ــر علــى طريقــة العمــل بهــا. وعلى ّ كل فلم تمض سنوات حتى تم عبـر هذه الجماعات املتطرفة تقزيم ٍ مصطلح الخالفة اإلسالمية وما تحمله من معانـي سامية من إقامة دولة اإليمــان والعــدل والحضــارة اإلنسان ــية إلــى مفهــوم الحــدود عب ــر معادلــة بســيطة كالتالــي( :إســام = خالفــة = قطــع الــرؤوس واأليــادي والرجــم) ونتـيجتها (اإلسالم= قطع الرؤوس واأليادي ورجم البشر) ومعادلة أخرى تقول( :عدم تنفيذ الحدود = حكم بغيـر ما أنزل هللا = الكفر) ،ونتـيجتها (عــدم تنفيــذ الحــدود = كفــر). ومن املؤسف ًّ حقا أن هذه املعادلة الغريبة عن التشريع اإلسالمي -وتحت ً ّ أمرا مسل ًما لدى الكثيـريـن من الضغط اإلعالمي وقلة التوعية -أصبحت أبـناء األمة الغيوريـن والعامليـن على رفعة الديـن بل والكثيـريـن من صغار طلبة العلوم الشــرعية ،مما أدى إلى فشــل كل مشــاريع التحرر السن ــي في العراق والصومال وأفغانستان وسوريا. ً واســتغالل منهــم لليــأس القاتــل الــذي أصــاب شــباب األمــة نت ــيجة لفشــل هــذه الجماعــات الت ــي ب ــنوا آمالهــم عليهــا؛ بــل وظهــور عمالــة الكثي ــر منهــا؛ أطلــق اإلعــام املشــبوه العشـرات مــن دعــاة الحداثــة والتجديــد ُون َ صرائهــم لتشــكيك أهــل الســنة والجماعــة بثوابتهــم واالســتدالل بعظــم املأســاة وقتامــة الواقــع علــى صــدق كالمهــم ،فأنكــروا ضروريــات الدي ــن واعتــدوا عليهــا بالبت ــر والتشــويه كصــورة جديــدة لالستش ـراق الــذي غ ـزا األمــة فــي بدايــات القــرن املا�ضــي ،والواجــب علــى فقهــاء األمــة ودعاتهــا اليــوم أن يقومــوا بإعــادة البحــث والق ـراءة فــي قواعــد االجتهــاد عنــد أهــل الســنة والجماعــة؛ لتقديمهــا إلــى الباحثي ــن وتقريبهــا إلــى أذهانهــم وتعريفهــم علــى
( )3املعجم الوسيط املؤلف :إبـراهيم مصطفى ـ أحمد الزيات ـ حامد عبد القادر ـ محمد النجار ،دار النشر :دار الدعوة ،تحقيق :مجمع اللغة العربـية ()304/1 ( )4املوسوعة الفقهية الكويتـية ( 36/21وما بعدها) )5( -أدب الدنـيا والديـن ،لإلمام املاوردي ،نش ر :دار مكتبة الحياة ،طبعة عام 1986م (.)133 ( )6أنـيس الفقهاء ف ي تعريفات األلفاظ املتداولة بـيـن الفقهاء للقاسم بـن عبد هللا بـن أميـر عل ي القونوي الرومي الحنفي (املتوف ى978 :هـ)،املحقق :يحي ى حسن مراد ،الناش ر :دار الكتب العلمية ،الطبعة2004 :م1424-هـ (ص .)61 ( )7املوسوعة الفقهية الكويتـية ( )8( - .)132/17تاج العروس من جواهر القاموس ،املحقق :مجموعة من املحققيـن ،الناش ر :دار الهداية( ،ص 105/18و.)108 ( )9الفروق للقراف ي ،طبعة عالم الكتب.)213/4( ،
18
الصورة املشرقة ملسيـرة التشريع عند أهل السنة والجماعة بما فيها من ضوابط كلية ودراسات جزئية تكفل تطور التشريع بتطور الحياة والسيـر ً تنظيمــا وإرشـ ًـادا خطــوة بخطــوة ،لعــل فــي نــور العلــم مــا يزيــل غشــاوة معهــا الجهل والشك الت ــي بدأت تنسج خيوطها على عقول أب ــناء جيلنا وقلوبهم. وإذا مــا طالعنــا كتــب التش ـريع اإلســامي ودققنــا فــي مباحــث السياســة الشــرعية وتطب ــيقاتها فإننــا نجــد قضيــة املحافظــة علــى الدولــة واألمــة َّ ً َّ ً ّ أولويــة إسـ ـامية مقدمــة علــى الشــكليات السياســية والجزئيــات الشــرعية، وقــد أثبتــت الجماعــات اإلســامية الت ــي نشــأت علــى أرضنــا أثنــاء الثــورة الســورية فشـ ًـا ذر ً يعــا فــي مجــال العمــل السيا�ســي لتجاهلهــا هــذه األولويــة وتقديمالكثيـرمنالجزئياتالديـنـيةالفرعيةعلىأصولالديـنومقاصده الكلية ،ونتـيجةلهذاالخلطفيتـرتـيب َّ األولوياتلمتستطعهذهالجماعات ّ إسالمي شامل يجمع شتاتها ويوحد صفوفها، إلى اليوم أن تتفق على فكر ٍ بل لم تستطع أن تؤسس في مناطق سيطرتها دولة بأدنى أشكالها لها رئيس واحــد وجيــش واحــد ومؤسســات منتظمــة ،تضمــن أدنــى مقومــات الحيــاة اإلنسانـيةالكريمةملواطنـيها...يـرتكزالفكرالسيا�سيفياإلسالمعلىمقاصد أساسية وهي( :حفظ الديـن والنفس واملال والعقل والنسب) ،فال يتحرك الساســة املســلمون إال وفــق هــذا املبــدأ العظيــم ،الــذي يحكــم كل جزئيــات الشــرع وقوانـي ــنه املتفرعــة عــن أدلتهــا الخاصــة ،وقــد كان الحفــاظ علــى هــذه الكليــات الخمــس هــو املنــار الــذي يهــدي السب ــيل لــكل الخلفــاء الصالحي ــن وامللــوك العظمــاء الذي ــن نقـرأ عنهــم فــي تاريخنــا املشــرف املمتــد ألربعــة عشــر ق ًرنــا مــن الزمــان. عندما فهم املسلمون هذا املبدأ استطاع ساستهم العظماء أن ُيخرجوا األمــة مــن تحــت الــركام م ـرات وم ـرات ،ويعيدوهــا إلــى مركــز الصــدارة والقيــادة ،ومــا تأخــرت األمــة فــي عصرنــا وتفرقــت إال عندمــا أغفلــت قياداتهــا هــذا األصــل فــي عملهــم السيا�ســي لتحــل محلــه شــعارات ب ـراقة ال حقيقــة لهــا وال مضمــون. وإذا مــا تأملنــا بعــض هــذه الشــعارات املنتشــرة اليــوم نجدهــا مأخــوذة مــن أدلة جزئية ال يصح االستدالل بها خارج اإلطار املتكامل لفقه السياسة اإلســامية ،حيــث تجــد األولويــة عنــد بعــض الجماعــات املنتشــرة فــي بالدنا لشعار دولة إسالمية وعند بعضهم األولوية لكلمة خالفة وعند بعضهم األولوية لكلمة أميـر أو أميـر املؤمنـيـن ...فال يمكن أن تكون الدولة مرضية مــن قبــل هللا بحســب ظــن هــؤالء إذا لــم يطلــق عليهــا اســم الخالفــة وعلــى رئيســها لقــب أمي ــر املؤمنـي ــن وعلــى قيــادات جيشــها األم ـراء ويعتب ــرون
العدد 2رجب 1439هـ
العمل على نشر العدالة والفضيلة غيـر مر�ضي من قبل هللا إذا لم َّ يسم ُ ً وجنوده مجاهديـن والقضاء بالنسبة لهم نوع من الكفر وتحكيم جهادا أحكامــه حـ ً ـدودا ومـ ُّ ُ ـواده ً الطاغــوت إذا لــم تسـ َّـم فقهــا ،وكذلــك االقتصــاد ُ فليس إسـ ًّ ـاميا إذا لم تسـ َّـم مؤسســته الحســبة ولم تسـ َّـم مصارفه ب ــيوت املال ،وهكذا حلت األسماء -عند هؤالء املتطرفيـن -مكان الحقائق وضاع النــاس وضاعــت البلــد ومــأت جثــث مهجري ــنا الب ــر والبحــر ،وتعرضــت شعوبـنا للذل في مشارق األرض ومغاربها ،ولم ت َ ـرع ِو هذه الجماعات ولم تغيــر املآ�ســي مــن واقعهــا شـ ًـيئا ،وإنمــا ادهــا الواقــع جهـ ًـا وجب ـ ً ّ ـروتا ،وألقــوا ز ِ بالالئمــة علــى الداخــل والخــارج ونزهــوا أنفســهم وكب ـراءهم عــن الخطــأ، ورفضــوا اإلذعــان لصــوت الحــق ،وهللا املســتعان. بعــد أن ســلطت الضــوء علــى واقعنــا املؤلــم ومــا وصــل إليــه حالنــا؛ ســأقوم بق ـراءة متأن ــية فــي بعــض قواعــد السياســة اإلســامية ومحاكماتهــا بـي ــن مصالح الدولة وإقامة الحدود ...وذلك من خالل وقائع مشهورة في سيـرة النب ــي صلــى هللا عليــه وســلم وخلفائــه الراشدي ــن وحكامنــا املؤمنـي ــن عب ــر التاريخ اإلسالمي الطويل ...لعلنا نتبصر معالم طريقنا الذي بدأنا نفقده فــي ظــل هــذه الحــرب الفكريــة الت ــي تشــن علــى اإلســام اليــوم.
املبحث األول
ّ ً تـرك ّ حد ّ لقلوب الناس الردة تأليفا ِ ِ ُّ ّ ً فور عن الديـن وحذرا من الن ِ أجمع أهل السنة والجماعة على قتل املرتد واستدلوا لذلك بالكثيـر من النصــوص وأفعــال النب ــي صلــى هللا عليــه وســلم وخلفائــه ،منهــا مــا رواه البخــاري وغي ــره عــن النب ــي صلــى هللا عليــه وســلم قــال(( :مــن بــدل دي ــنه فاقتلــوه))( ،)10وهــو َحـ ُّـد َحـ ٍ ّـق شـ َـرعه الدي ــن لحفــظ املجتمــع املســلم مــن الفتنــة وردع الفســقة مــن التالعــب بالدي ــن ...وهــو مــن جملــة أحــكام السياســة الشــرعية الت ــي ي ــرجع األمر فيها إلى الحاكم املســلم ملا يعرض للحكــم مــن أمــور دقيقــة وخطي ــرة قــد تنقــل حكمــه مــن بــاب إلــى بــاب آخــر فــي الفقــه اإلســامي كمــا ســنرى فــي فعــل النب ــي صلــى هللا عليــه وســلم؛ مــن خــال واقعتـي ــن شهيـرتـي ــن فــي السي ــرة النبويــة. الواقعة األولى :تـرك قتل عبد هللا بـن أبـي بـن سلول َ َْ َ (غ َز ْو َنــا َمـ َـع َّ عــن َجابــر َر�ضـ َـي َّ ُ الن ِبـ ّ ِـي صلــى هللا عليــه وســلم وقــد الل َع ْنـ ُـه قــال: ٍِ ِ َثـ َ ـاس ِمــن ْ ُال َهاجري ـ َـن َح َّتــى َك ُثـ ُـروا َو َك َان ِمـ َـن ْالُ َهاجري ـ َـن َر ُجـ ٌـل َل َّعــابٌ ـاب َم َعـ ُـه َنـ ٌ ِ ِ ِ ِ َ َ َ َ ْ َ ُّي َ َ َ َ َف َك َس َع َأ ْن َ ص ًّ ض ًبا ش ِد ًيدا َح َّتى ت َد َاع ْوا، اريا -أي ضربه -فغ ِضب األنص ِار غ ِ
َ ُ َ َّ ُ َ َ َّ الل رقم ()2854 اب ِ ( )10صحيح البخاري ،تحقيق البغا طبعة دار ابـن كثيـر ،1987كتاب الجهاد والسيـر ،باب ال يعذب ِبعذ ِ
19
قواعد السياسة الشرعية فــي كتــب الفقــه والسياســة الشــرعية ال يــكاد يجــد التعبـي ــر عــن الســلطة الحاكمــة بهــذا اللفــظ إال ً ملامــا؛ إذ كان يعب ــر عــن مفهومهــا بمصطلحــات أخــرى كاإلمامــة والخالفــة وامللــك ومــا إلــى ذلــك ولكنهــا أصبحــت اليــوم هــي اللفــظ واملصطلــح الــذي يعب ــر عــن مفاهيــم اإلدارة السياســية والســلطة بجميــع أنواعهــا... ً اصطالحــا :مجمــوع كبـي ــر مــن األفـراد يقطــن بصفــة دائمــة إقليمــا والدولــة َّ معي ًنــا ،ويتمتــع بالشــخصية املعنويــة وب ــنظام حكومــي وباالســتقالل ُ َ َ َ َ َّ ُ َّ ْ َ ُ ْ ْ َ َ ُّ ُ َ ْ َ َ ـات ِب َح ْيــث السيا�ســي( ،)3وتتألــف الدولــة ِمــن َمج ُموعـ ٍـة ِمــن النظـ ِـم وال ِواليـ ِ ُ َ ّ ُ َ َ ْ َ َ َ ً َ َّ ً ْ َ َ َّ َ َ ً الد ْولـ ِـةَ ،وت ْع َمــل ُم ْج َت ِم َعــة ـف تــؤ ِدي كل ِواليـ ٍـة ِمنهــا و ِظيفــة خ اصــة ِمــن وظا ِئـ ِ َ ّ َ ُ َ َ َ ُ َ َ ْ ُ ْ َ ّ َّ َ ُّ ْ َْ َ ْ َ َّ الدي ـ ِني ِة والدني ِويـ ِـة، ِلتح ِقيـ ِـق مق ِصـ ٍـد عـ ٍـام ،وهــو ِرعايــة مص ِالـ ِـح الس ِل ِمي ــن ِ َُ اســة ّ َ َ ُ َ ْ ُ َ ٌ َ َ ُّ َ َْ َ ْ الدي ـ ِـن يقــول الــاور ِد ُّي( :اإلمامــة موضوعــة ِل ِخالفـ ِـة الن ُبـ َّـو ِة ِفــي ِح َر ِ ِ ُّ ْ َوس َي َ اسـ ِـة الدن َيــا) ( ،)4وقــد لخــص اإلمــام املــاوردي فكــرة الفقهــاء عــن ِ َ الد ْن َيــا َحتــىَّ ص ُلـ ُـح ُّ األركان الت ــي تقــوم عليهــا الدولــة بقولــهْ : (اع َلـ ْـم أ َّن َمــا بــه َت ْ ِِ َتصي َـر َأ ْح َو ُال َها ُم ْن َتظ َم ًةَ ،وُأ ُم ُور َها ُم ْل َتئ َم ًة ،س َّت ُة َأ ْش َي َاء ه َي َق َواع ُد َهاَ ،وإنْ ِ ِ ِ ِ ِ ِ ِ َت َف َّر َع ْتَ ،وه َي :دي ٌـن ُم َّت َب ٌع َو ُس ْل َط ٌان َقاه ٌر َو َع ْد ٌل َشام ٌل َوَأ ْم ٌن َع ٌّام َوخ ْ صبٌ ِ ِ ِ ِ ِ َ َ ٌ ()5 َدا ِئـ ٌـم َوأ َمـ ٌـل ف ِســيح) . ثان ًـيا:تعريفالحد. هــو فــي اللغــة :املنــع ،وأمــا فــي الشــرع :فهــو عقوبــة مقــدرة وجبــت ًّ حقــا هلل(،)6 َّ َ َ ْ ُ َ َ ُ َ َ َ َّ َ ُ َ َّ ُ َ َ َ َ ُ ّ َ ّ َ ْ َ ْ الزنــى َوالقــذ ِف وقــد اتفــق الفقهــاء علـ ْـى أن مــا يطبــق علــى ج ِريمـ ِـة ك ٍل ِمــن ِ ْ َ َّ َ ُّ ْ َ َّ َ َ َ ََ َ َ َ السـ ِـرق ِة َوقطـ ِـع الط ِريـ ِـق ُي ْع َت َبـ ُـر َحـ ًّـدا َواخ َتل ُفــوا ِفيمــا وراء ذ ِلــك، والســك ِر و َ َ َ َ ْ َ َ َّ ُ َ َ َّ َ َّ ٌ َ َ َ َ َ َ ّ ُّ ْ ْ َ ْ َ َّ ً فذهب الحن ِفية ِإلى أنها ِستة ،وذ ِلك ِب ِإضاف ِة ح ِد الشر ِب ِللخم ِر خاصة، َْ ُ َ ْ َ ٌ َ َ َ َ ُْ َ َو َيـ َـرى ال ِال ِك َّيــة أ َّن ال ُحـ ُـد َود َسـ ْـب َعة ،ف ُي ِض ُيفــون ِإلــى ال َّتفـ ِـق َعل ْيـ ِـه الـ ّ ِـر َّدة ْ ْ ْ َ ْ َ ُ َ ْ ُ َّ ـاص َأ ْي ً الشــافع َّية ْالق َ صـ َ ضــا ِمـ َـن ال ُحـ ُـد ِود، َوال َبغـ َـيِ ،فــي ِحي ـ ِـن يعت ِبــر بعــض ِِ ِ ِ ُ َ ُ ْ ُ َ َ ٌ ْ َ ُ َّ َح ْيث قالوا :ال ُح ُد ُود ث َما ِن َية َو َع ُّد ُوه َب ْي َن َهاَ ،و ْاع َت َب َر ال ِال ِك َّية َوالشا ِف ِع َّية ق ْتل ْ َّ َ َ الصال ِة َع ْم ًدا ِم َن ال ُح ُد ِود( ،)7وإذا درجنا على ما قاله الشافعية فإن ت ِار ِك القصــاص نــوع مــن أنــواع الحــدود. ً ثالثا:تعريفالقصاص. َ ْ َ َ ـاص َأ ْن ُي ْؤ َخـ َـذ َلــك الق َ واإل ْق َ صـ ُ صـ ُ القـ ّ ـاص، ـص وهــو القطــع، لغــة هــو مــن ِ ُ َ َ َ َّ َ ُ ُ ً ْ ُ ْ َ َّ َ ُ ْ َ َ َ ُ ْ َ َ ْ يقال :أقص األ ِميـر فالنا ِمن فالنِ ،إذا اقتص له ِمنه فجرحه ِمثل جر ِحه، َ َ َ َ أو ق َتلــه قـ َـو ًدا ( ...)8وأمــا فــي كتــب التشـريع اإلســامي فقــد تعــددت تعريفاتــه
قواعد السياسة الشرعية
العدد 2رجب 1439هـ
ْ ُ َ َْ َْ َ َْ اعـ ِـل ِمثـ َـل عنــد العلمــاء ومــن أخصرهــا قــول الجرجان ــي( :هــو أن يفعـ َـل ِبالف ِ َ َ َ َ (ّ )9 ُ ولعلــي مــن خــال اســتقراء مــا ذكــر فــي تعريفــه عنــد الفقهــاء مــا فعــل) ِ ، يمكننـي أن أقول ،إن القصاص :هو عقوبة مقدرة ثابتة بالكتاب والسنة ً قابلة لإلسقاط تقت�ضي َ أو أحدهما وجبت ًّ عقوبة على أيقاع حقا آلدمي ٍ الجانـي بمقدار جنايته. َّ ٌ صحيــح أن الحــدود وأحــكام القصــاص كلهــا ثابتــة بالنــص فــي الق ـرآن والســنة أو فــي أحدهمــا ،وال إشـ َّ ـكالية تعتب ــر فــي ثبوتهــا ،ولكــن اإلشــكالية فــي تـرت ــيبها مــن حيــث األولويــة ،وفــي طريقــة تنفيذهــا ومــا يعــرض لوقائعهــا مــن قواعــد َّ كليــة قــد تؤث ــر علــى طريقــة العمــل بهــا. وعلى ّ كل فلم تمض سنوات حتى تم عبـر هذه الجماعات املتطرفة تقزيم ٍ مصطلح الخالفة اإلسالمية وما تحمله من معانـي سامية من إقامة دولة اإليمــان والعــدل والحضــارة اإلنسان ــية إلــى مفهــوم الحــدود عب ــر معادلــة بســيطة كالتالــي( :إســام = خالفــة = قطــع الــرؤوس واأليــادي والرجــم) ونتـيجتها (اإلسالم= قطع الرؤوس واأليادي ورجم البشر) ومعادلة أخرى تقول( :عدم تنفيذ الحدود = حكم بغيـر ما أنزل هللا = الكفر) ،ونتـيجتها (عــدم تنفيــذ الحــدود = كفــر). ومن املؤسف ًّ حقا أن هذه املعادلة الغريبة عن التشريع اإلسالمي -وتحت ً ّ أمرا مسل ًما لدى الكثيـريـن من الضغط اإلعالمي وقلة التوعية -أصبحت أبـناء األمة الغيوريـن والعامليـن على رفعة الديـن بل والكثيـريـن من صغار طلبة العلوم الشــرعية ،مما أدى إلى فشــل كل مشــاريع التحرر السن ــي في العراق والصومال وأفغانستان وسوريا. ً واســتغالل منهــم لليــأس القاتــل الــذي أصــاب شــباب األمــة نت ــيجة لفشــل هــذه الجماعــات الت ــي ب ــنوا آمالهــم عليهــا؛ بــل وظهــور عمالــة الكثي ــر منهــا؛ أطلــق اإلعــام املشــبوه العشـرات مــن دعــاة الحداثــة والتجديــد ُون َ صرائهــم لتشــكيك أهــل الســنة والجماعــة بثوابتهــم واالســتدالل بعظــم املأســاة وقتامــة الواقــع علــى صــدق كالمهــم ،فأنكــروا ضروريــات الدي ــن واعتــدوا عليهــا بالبت ــر والتشــويه كصــورة جديــدة لالستش ـراق الــذي غ ـزا األمــة فــي بدايــات القــرن املا�ضــي ،والواجــب علــى فقهــاء األمــة ودعاتهــا اليــوم أن يقومــوا بإعــادة البحــث والق ـراءة فــي قواعــد االجتهــاد عنــد أهــل الســنة والجماعــة؛ لتقديمهــا إلــى الباحثي ــن وتقريبهــا إلــى أذهانهــم وتعريفهــم علــى
( )3املعجم الوسيط املؤلف :إبـراهيم مصطفى ـ أحمد الزيات ـ حامد عبد القادر ـ محمد النجار ،دار النشر :دار الدعوة ،تحقيق :مجمع اللغة العربـية ()304/1 ( )4املوسوعة الفقهية الكويتـية ( 36/21وما بعدها) )5( -أدب الدنـيا والديـن ،لإلمام املاوردي ،نش ر :دار مكتبة الحياة ،طبعة عام 1986م (.)133 ( )6أنـيس الفقهاء ف ي تعريفات األلفاظ املتداولة بـيـن الفقهاء للقاسم بـن عبد هللا بـن أميـر عل ي القونوي الرومي الحنفي (املتوف ى978 :هـ)،املحقق :يحي ى حسن مراد ،الناش ر :دار الكتب العلمية ،الطبعة2004 :م1424-هـ (ص .)61 ( )7املوسوعة الفقهية الكويتـية ( )8( - .)132/17تاج العروس من جواهر القاموس ،املحقق :مجموعة من املحققيـن ،الناش ر :دار الهداية( ،ص 105/18و.)108 ( )9الفروق للقراف ي ،طبعة عالم الكتب.)213/4( ،
18
الصورة املشرقة ملسيـرة التشريع عند أهل السنة والجماعة بما فيها من ضوابط كلية ودراسات جزئية تكفل تطور التشريع بتطور الحياة والسيـر ً تنظيمــا وإرشـ ًـادا خطــوة بخطــوة ،لعــل فــي نــور العلــم مــا يزيــل غشــاوة معهــا الجهل والشك الت ــي بدأت تنسج خيوطها على عقول أب ــناء جيلنا وقلوبهم. وإذا مــا طالعنــا كتــب التش ـريع اإلســامي ودققنــا فــي مباحــث السياســة الشــرعية وتطب ــيقاتها فإننــا نجــد قضيــة املحافظــة علــى الدولــة واألمــة َّ ً َّ ً ّ أولويــة إسـ ـامية مقدمــة علــى الشــكليات السياســية والجزئيــات الشــرعية، وقــد أثبتــت الجماعــات اإلســامية الت ــي نشــأت علــى أرضنــا أثنــاء الثــورة الســورية فشـ ًـا ذر ً يعــا فــي مجــال العمــل السيا�ســي لتجاهلهــا هــذه األولويــة وتقديمالكثيـرمنالجزئياتالديـنـيةالفرعيةعلىأصولالديـنومقاصده الكلية ،ونتـيجةلهذاالخلطفيتـرتـيب َّ األولوياتلمتستطعهذهالجماعات ّ إسالمي شامل يجمع شتاتها ويوحد صفوفها، إلى اليوم أن تتفق على فكر ٍ بل لم تستطع أن تؤسس في مناطق سيطرتها دولة بأدنى أشكالها لها رئيس واحــد وجيــش واحــد ومؤسســات منتظمــة ،تضمــن أدنــى مقومــات الحيــاة اإلنسانـيةالكريمةملواطنـيها...يـرتكزالفكرالسيا�سيفياإلسالمعلىمقاصد أساسية وهي( :حفظ الديـن والنفس واملال والعقل والنسب) ،فال يتحرك الساســة املســلمون إال وفــق هــذا املبــدأ العظيــم ،الــذي يحكــم كل جزئيــات الشــرع وقوانـي ــنه املتفرعــة عــن أدلتهــا الخاصــة ،وقــد كان الحفــاظ علــى هــذه الكليــات الخمــس هــو املنــار الــذي يهــدي السب ــيل لــكل الخلفــاء الصالحي ــن وامللــوك العظمــاء الذي ــن نقـرأ عنهــم فــي تاريخنــا املشــرف املمتــد ألربعــة عشــر ق ًرنــا مــن الزمــان. عندما فهم املسلمون هذا املبدأ استطاع ساستهم العظماء أن ُيخرجوا األمــة مــن تحــت الــركام م ـرات وم ـرات ،ويعيدوهــا إلــى مركــز الصــدارة والقيــادة ،ومــا تأخــرت األمــة فــي عصرنــا وتفرقــت إال عندمــا أغفلــت قياداتهــا هــذا األصــل فــي عملهــم السيا�ســي لتحــل محلــه شــعارات ب ـراقة ال حقيقــة لهــا وال مضمــون. وإذا مــا تأملنــا بعــض هــذه الشــعارات املنتشــرة اليــوم نجدهــا مأخــوذة مــن أدلة جزئية ال يصح االستدالل بها خارج اإلطار املتكامل لفقه السياسة اإلســامية ،حيــث تجــد األولويــة عنــد بعــض الجماعــات املنتشــرة فــي بالدنا لشعار دولة إسالمية وعند بعضهم األولوية لكلمة خالفة وعند بعضهم األولوية لكلمة أميـر أو أميـر املؤمنـيـن ...فال يمكن أن تكون الدولة مرضية مــن قبــل هللا بحســب ظــن هــؤالء إذا لــم يطلــق عليهــا اســم الخالفــة وعلــى رئيســها لقــب أمي ــر املؤمنـي ــن وعلــى قيــادات جيشــها األم ـراء ويعتب ــرون
العدد 2رجب 1439هـ
العمل على نشر العدالة والفضيلة غيـر مر�ضي من قبل هللا إذا لم َّ يسم ُ ً وجنوده مجاهديـن والقضاء بالنسبة لهم نوع من الكفر وتحكيم جهادا أحكامــه حـ ً ـدودا ومـ ُّ ُ ـواده ً الطاغــوت إذا لــم تسـ َّـم فقهــا ،وكذلــك االقتصــاد ُ فليس إسـ ًّ ـاميا إذا لم تسـ َّـم مؤسســته الحســبة ولم تسـ َّـم مصارفه ب ــيوت املال ،وهكذا حلت األسماء -عند هؤالء املتطرفيـن -مكان الحقائق وضاع النــاس وضاعــت البلــد ومــأت جثــث مهجري ــنا الب ــر والبحــر ،وتعرضــت شعوبـنا للذل في مشارق األرض ومغاربها ،ولم ت َ ـرع ِو هذه الجماعات ولم تغيــر املآ�ســي مــن واقعهــا شـ ًـيئا ،وإنمــا ادهــا الواقــع جهـ ًـا وجب ـ ً ّ ـروتا ،وألقــوا ز ِ بالالئمــة علــى الداخــل والخــارج ونزهــوا أنفســهم وكب ـراءهم عــن الخطــأ، ورفضــوا اإلذعــان لصــوت الحــق ،وهللا املســتعان. بعــد أن ســلطت الضــوء علــى واقعنــا املؤلــم ومــا وصــل إليــه حالنــا؛ ســأقوم بق ـراءة متأن ــية فــي بعــض قواعــد السياســة اإلســامية ومحاكماتهــا بـي ــن مصالح الدولة وإقامة الحدود ...وذلك من خالل وقائع مشهورة في سيـرة النب ــي صلــى هللا عليــه وســلم وخلفائــه الراشدي ــن وحكامنــا املؤمنـي ــن عب ــر التاريخ اإلسالمي الطويل ...لعلنا نتبصر معالم طريقنا الذي بدأنا نفقده فــي ظــل هــذه الحــرب الفكريــة الت ــي تشــن علــى اإلســام اليــوم.
املبحث األول
ّ ً تـرك ّ حد ّ لقلوب الناس الردة تأليفا ِ ِ ُّ ّ ً فور عن الديـن وحذرا من الن ِ أجمع أهل السنة والجماعة على قتل املرتد واستدلوا لذلك بالكثيـر من النصــوص وأفعــال النب ــي صلــى هللا عليــه وســلم وخلفائــه ،منهــا مــا رواه البخــاري وغي ــره عــن النب ــي صلــى هللا عليــه وســلم قــال(( :مــن بــدل دي ــنه فاقتلــوه))( ،)10وهــو َحـ ُّـد َحـ ٍ ّـق شـ َـرعه الدي ــن لحفــظ املجتمــع املســلم مــن الفتنــة وردع الفســقة مــن التالعــب بالدي ــن ...وهــو مــن جملــة أحــكام السياســة الشــرعية الت ــي ي ــرجع األمر فيها إلى الحاكم املســلم ملا يعرض للحكــم مــن أمــور دقيقــة وخطي ــرة قــد تنقــل حكمــه مــن بــاب إلــى بــاب آخــر فــي الفقــه اإلســامي كمــا ســنرى فــي فعــل النب ــي صلــى هللا عليــه وســلم؛ مــن خــال واقعتـي ــن شهيـرتـي ــن فــي السي ــرة النبويــة. الواقعة األولى :تـرك قتل عبد هللا بـن أبـي بـن سلول َ َْ َ (غ َز ْو َنــا َمـ َـع َّ عــن َجابــر َر�ضـ َـي َّ ُ الن ِبـ ّ ِـي صلــى هللا عليــه وســلم وقــد الل َع ْنـ ُـه قــال: ٍِ ِ َثـ َ ـاس ِمــن ْ ُال َهاجري ـ َـن َح َّتــى َك ُثـ ُـروا َو َك َان ِمـ َـن ْالُ َهاجري ـ َـن َر ُجـ ٌـل َل َّعــابٌ ـاب َم َعـ ُـه َنـ ٌ ِ ِ ِ ِ َ َ َ َ ْ َ ُّي َ َ َ َ َف َك َس َع َأ ْن َ ص ًّ ض ًبا ش ِد ًيدا َح َّتى ت َد َاع ْوا، اريا -أي ضربه -فغ ِضب األنص ِار غ ِ
َ ُ َ َّ ُ َ َ َّ الل رقم ()2854 اب ِ ( )10صحيح البخاري ،تحقيق البغا طبعة دار ابـن كثيـر ،1987كتاب الجهاد والسيـر ،باب ال يعذب ِبعذ ِ
19
قواعد السياسة الشرعية ـال ْ ُال َهاجــر ُّيَ :يــا َل ْل ُم َهاجري ـ َـن! َف َخـ َـر َج َّ َ َ َ َ ْ َ ُّ َ َ َ ْ َ صــار! َو َقـ َ الن ِبـ ُّـي وقــال األنصـ ِـاري :يــا لألن ِ ِ َِ ْ ِ ِ ـالَ : ـالَ : صلــى هللا عليــه وســلم َف َقـ َ ـال َد ْعـ َـوى أ ْهــل ال َجاه ِل َّيـ ِـة؟)) ُثـ َّـم َقـ َ ((مــا َبـ ُ ((مــا ِ ِ َ ُُْ ْ َ ُ ْ َ َ ْ َ َُْ ّ َ ـال َّ األ ْن َ ـالَ :ف َقـ َ صــار َّيَ ،قـ َ شــأنهم؟)) فأخ ِبــر ِبكســع ِة اله ِاجـ ِـر ِي الن ِبـ ُّـي صلــى هللا ِ وها َفإ َّن َها َخب َيث ٌة!))َ ،و َق َال َع ْب ُد هللا ْب ُن ُأ َب ّي ْاب ُن َس ُلو َلَ :أ َقدْ ((د ُع َ عليه وسلمَ : ِ ِ ِ ٍَ َ َ َ ْ َ َ ْ َ َ ْ َ َ ْ َ َ ْ َ َ َ ُ ْ َ َّ َ األ َعـ ُّـز ِم ْن َهــا األ َذ َّل! َف َقـ َ ـال ُع َمـ ُـر: تداعــوا علينــا! ل ِئــن رجعنــا ِإلــى ال ِدي ــن ِة ليخ ِرجــن َ َ َّ َأ َال َن ْق ُت ُل َيا َر ُسو َل َ َ ْ َ َ َ ْ هللا -؟ فق َال الن ِب ُّي صلى هللا عليه هللا هذا الخ ِبيث ِ -لعب ِد ِ ِ َ َ َ َ َّ ُ َّ ُ َ َّ ُ َ َ َ ْ ُ ُ َ َ َ ْ ()11 وســلم(( :ال يتحــدث النــاس أنــه كان يقتــل أصحابــه)) ،وفــي روايــة اإلمــام ((يــا ُع َمـ ُـرَ ،د ْعـ ُـه َل َي َت َحـ َّـد ُث َّ أحمــد َ ـاس َأ َّن ُم َح َّمـ ًـدا َي ْق ُتـ ُـل َأ ْ النـ ُ ص َح َابـ ُـه))(.)12 وقــد نقــل اإلمــام اب ــن العرب ــي رحمــه هللا أقــوال العلمــاء فــي تحليــل هــذه َْ َ ََ َ َ َ ْ ََ َ ْ َ َ ـف ال ُعل َمـ ُـاء ِفــي ذ ِلـ َـك َعلــى ثلثـ ِـة أ ْقـ َـو ٍال ...ال َّو ُل: الحادثــة فقــال( :واختلـ َأ َّنـ ُـه َلـ ْـم َي ْق ُت ْل ُهـ ْـم ِ َل َّنـ ُـه َلـ ْـم َي ْع َلـ ْـم َح َال ُهـ ْـم ِسـ َـو ُاهَ ،و َقـ ْـد َّات َفـ َـق ْال ُع َل َمـ ُـاء َعـ ْـن َب ْكــر ِةَ َ ْ َ ْ َْ َ َ ْ َ َ َ َّ ْ َ ا�ضـ َـي ل َي ْق ُتـ ُـل ِب ِعل ِمـ ِـهَ ،وِإ ْن اخ َتل ُفــوا ِفــي َســا ِئ ِر ال ْحــك ِام أ ِب ِيهــم علــى أن الق َ ِ َ ْ ُ َهـ ْـل َي ْحكـ ُـم ِب ِعل ِمـ ِـه أ ْم ل؟ . َّ َ َّ ُ َ ْ َ ْ ُ ْ ُ ْ َ ْ َ َ َ َ ُّ ْ ُ َ َ َ َّ َ ـف ال ُقلـ ـوب َعل ْيـ ِـه ِلئــا ت ْن ِفـ َـر َع ْنـ ُـهَ ،وقـ ْـد الثا ِنــي :أنــه لــم يقتلهــم ِلصلحـ ِـة َتألـ ِ ِ َ َ َ ُ َ َ َّ َّ ُ َ َ ْ َ َ َّ َ َ َ َ ْ َ ْ َ َ َ َ َ َ ُ َ ْ َ َ َ َّ َ أشــار هــو صلــى الل عليـ ِـه وســلم إلــى هــذا العنــى فقــال(( :أخــاف أن يتحــدث َّ ص َّلــى َّ ُ ـاس َأ َّن ُم َح َّمـ ًـدا َ الل َع َل ْيــه َو َسـ َّـل َم َي ْق ُتـ ُـل َأ ْ النـ ُ ص َح َابـ ُـه)). ِ َّ َّ ُ َ َ َ ْ َ ُ َّ ّ َّ َ َ ْ َ ْ ُ ْ ُ ْ َ َّ ّ ْ الزن ِديـ َـق َو ُهـ َـو الـ ِـذي الث ِالــث :قــال أصحــاب الشــا ِف ِعي :إنمــا لــم يقتلهــم ِلن ِ ُ ُّ ْ ُ ْ َ َ ُ ْ ُ ْ َ َ ُ ِْ َ َ ُ َ َ ُ ْ َ ُ َ َ َ َ ْ ٌ ْ ُ َ َ اليمــان يســتتاب ول يقتــل ،وهــذا وهــم ِمــن علمـ ِـاء ي ِســر الكفــر ويظ ِهــر ِ َ ْ َ َ َّ َّ َّ َ َّ َُّ الل َع َل ْيــه َو َسـ َّـل َم َلـ ْـم َي ْسـ َـتت ْب ُه ْمَ َ ،ول َي ُقــو ُل َأ َحـ ٌـد إنَّ أصح ِابـ ِـه فـ ِـإن الن ِبــي صلــى ِ ِ َ َ َّ َّ َ َّ ْ َ َ َ ّْ َ َّ ً ُ ْ َ َ َ َ َ َ الزن ِد ِيق غ ْي ُر َو ِاج َب ٍة ،وكان الن ِب ُّي صلى الل عل ْي ِه وسل َم ُم ْع ِرضا عن ُه ْم اس ِتتابة َ َ ْ ِ ْ َ َ َ َُْ َ ّ ُ ْ َ َّ ّ َّ َ َ َّ ْ َ َ َ َ ْ ـاب الشــا ِف ِع ِي الـ ِـذي قــال إن اسـ ِتتابة مــع ِعل ِمـ ِـه ِب ِهــم ،فهــذا التأ ِخــر ِمــن أصحـ ِ َ ٌَ َ َ َ َ ً ّْ ً الزن ِديـ ِـق جا ِئــزة قـ ـال َمــا لـ ْـم َي ِصـ َّـح قـ ْـول َو ِاحــدا. ِ َ َ َّ َ ْ ُ َ ْ َ َ َّ ُ َ ْ َ ْ ُ ْ ُ ْ َ َّ ْ َ َ َ ْ ْ ْ ُ ُ َ �ضي ِب ِعل ِم ِه ِفي الحد ِود، وأما قول من قال إنه لم يقتلهم ِلن الح ِاكم ل يق ِ ْ ْ ََ َ ُْ ّ َ َ ْ ْ ُ َّ فقـ ْـد ق َتـ َـل ِبال َجـ ِـذ ِر ْبـ ِـن ِزَيـ ٍـاد ِب ِعل ِمـ ِـه ال َحـ ِـارث ْبـ َـن ســويد بـ ِـن الص ِامـ ِـت؛ َ ُْ ّ َ َ َ ََ َ ْ ُ َ ََْ ِل َّن ال َجـ ِـذ َر ق َتـ َـل أ َبـ ُـاه ُسـ َـو ْي ًدا َيـ ْـو َم ُب َعــاث ،فأ ْســل َم ال َحـ ِـارث َوأغفلـ ُـه ُ ْ ْ ُ َّ َّ َ َّ َّ ُ َ ُ َ َ َ ََ ْ الل َعل ْيـ ِـه َيـ ْـو َم أ ُحـ ٍـد ال َحـ ِـارث فق َتلـ ُـه ،فأخ َبـ َـر ِبـ ِـه ِجب ِريــل الن ِبــي صلــى َّ َ َ َ َ َّ َ ْ َ ُ َ َ َ ً َ ْ َ ان ِغيلــةَ ،وق ْتـ ُـل ال ِغيلـ ِـة َحـ ٌّـد ِمـ ْـن ُحـ ُـد ِود َو َســل َم فق َتلـ ُـه ِبـ ِـه ِلن قتلــه ك َّ الل َعـ َّـز َو َجـ َّـل . ِ َ َ ُّ َ ًَ َ َّ ُ َ َّ َّ ص َّلى َّ ُ النب َّي َ الل َع َل ْيه َو َس َّل َم َّإن َما َأ ْع َر َ ض َع ْن ُه ْم تأل ًفا َو َمخافة ِ والص ِحيح ْ :أن َ ِْ َ َ َ َ َ ُ ََ ْ وج َبـ ِـة ِل َّلت ْن ِفي ـ ِـر ،ك َمــا َسـ َـب َق ِمـ ْـن ق ْ ِولـ ِـهَ ،و َهــذا ك َمــا ك َان ِمــن ُسـ ِ ـوء القالـ ِـة ال ِ
قواعد السياسة الشرعية
العدد 2رجب 1439هـ
َ َ ُّ َ َ ْ َّ َ َ َ ْ َ َّ َ ُ ُ َ ـوء ْاع ِتق ِاد ِهـ ْـم تأل ًفــا ل ُهـ ْـم، ُي ْع ِطــي الصدقــة ِلل ُمؤلفـ ِـة قل ُوب ُهـ ْـم َمــع ِعل ِمـ ِـه ِب ُسـ ِ ضـ ًـاء ل َق َ الل ُسـ ْـب َح َان ُه َأ ْح َك َامـ ُـه َع َلــى ْال َفائـ َـدة َّالتــي َسـ َّـن َها ْإم َ َأ ْجـ َـرى َّ ُ ض َايـ ُـاه ِ ِ ِ ِ َ ُّ َّ َ َ ِب السـ َّـن ِة ال ِتــي ل ت ْب ِديـ َـل ل َهــا) (.)13 ولعــل مــن يقــول إن هــذا الرجــل منافــق ،وال عالقــة لهــذه الحادثــة بحكــم الردة ،والجواب على ذلك من وجهي ــن ،األول :نعم كان اب ــن سلول ً منافقا يبطن الكفر ويظهر اإليمان ،ولكن تلفظه بهذه الكلمة في هذا املوقف زاد له وصف الكفر والردة الظاهرة ،حيث أعلن الحرب على رسول هللا صلى هللا عليــه وســلم وال يختلــف اثنــان فــي أن عــداوة رســول هللا صلــى هللا عليــه وســلم ردة ،والثان ــي :لقــد بـي ــن رســول هللا صلــى هللا عليــه وســلم علــة ت ــركه لقتلهــم أال وهــو [حديــث النــاس!] ((أت ـريد أن يتحــدث النــاس أن محمــدا يقتــل أصحابــه؟)) وال أدري كيــف ُي َّدعــى بــأن األخــذ ب ــنص الحديــث خطــأ، ومخالفــة نصــه صــواب؟ وقــال اإلمــام النــووي رحمــه هللا معلقــا علــى هــذه َ َ َ َ َ ْ َ َّ َّ ُ َ ْ ْ َّ َ الل َعل ْيـ ِـه َو َســل َم ِمـ َـن ال ِحلـ ِـمَ ،و ِفيـ ِـه تـ ْـر ُك الحادثــةِ ( :فيـ ِـه مــا كان عليـ ِـه صلــى َ ْ ً ْ َ ْ َ َ َ َّ َ َ َ َ ْ ْ ُ ُ ور ْ ُ ْ َ َ َ َّ ْ َ َ َ ْ ْ َ َ ض الف ِاس ِد خوفا ِمن أن تترتب على بع ِ ض الم ِ َالختار ِة والصب ِر على بع ِ َ َ َ َّ َ َّ َّ َ ٌ َّ َ ْ َ َ ْ ُ َّ ُ َ ْ َ َ َ َ َ َ َ َ اس وي ْ َذ ِل َك َمفسدة أعظ ُم ِمنه وكان صلى الل عل ْي ِه وسل َم يتألف الن َ ص ِب ُر ََ َ َ ْ َ ْ َ ُْ َ َ ُ ُْ َ ُ َ اب َوال َنا ِف ِقي َـن َوغ ْي ِر ِه ْم ِل َت ْق َوى ش ْوكة ال ْس ِل ِمي َـن َوت ِت َّم َد ْع َوة على جف ِاء العر ِ ْ ُ َ َّ َ َ َ ْ َ َ َ ْ ُ ُ ْ ْ ْ َ ْ ْ َ َ َ َ َ َّ َ ْ َ ُ ْ ُ ُ الســا ِم اليمــان ِمــن قلـ ِ ـوب الؤلفـ ِـة ويرغــب غيرهــم ِفــي ِ الســا ِم ويتمكــن ِ ِ َ َ َ ْ َْ َ َ َ ُ ْ ُ ْ َْ َ َ ْ َ َ َ َ َ َ َ ْ َ ْ ُ ْ ُ َ َ وكان يع ِط ِيهــم المــوال الج ِزيلــة ِلذ ِلــك ولــم يقتـ ِـل النا ِف ِقي ــن ِلهــذا العنــى، َّ َ َْ ُ ْ َ َ ُ ْ ْ الظاهر َوَا َّ ُ لل َي َت َو َّلى َّ الس َرا ِئ َر.)14()... ال ْسل َم َوق ْد أ ِم َر ِبال ُحك ِم ِب ِِ وِ ِلظه ِار ِهم ِ وعلق اإلمام ابـن حجر باملعنى نفسه على تـرك النبـي صلى هللا عليه وسلم َ َّ َ ْ َ َ ْ َ ْ ْ َ ال ْع َ قتل الساحر لبـيد بـن األعصم حيث قال(ِ :لن ترك قت ِل ل ِب ِيد ب ِن ص ِم ُ َك َان ل َخ ْش َية َأ ْن ُيثي َـر ب َس َبب َق ْتله ف ْت َن ًة َأ ْو ل َئ َّل ُي َن ّف َر َّ ُّ الن َ اس َع ِن الدخو ِل ِفي ِ ِ ِ ِ ِ ِ ِ ِِ ِ ْ ْ َ َ ُ َ ْ ْ َ َ َ ُ َّ ُّ َ َّ َّ ُ َ َ ْ َ َ َّ َ ْ َ ْ َ ْ س ما راعاه الن ِبي صلى الل علي ِه وسلم ِمن من ِع قت ِل السلم ،وهو ِمن جن ْ ُِ َ ِ َ َ ْ ُ َ ِ َ َ ِ َ َ َ َّ ُ َّ ُ َ َّ ُ َ َّ ً َ ْ ُ ُ َ ْ َ َ ُ ()15 النا ِف ِقيـن حيث قال :ل يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه)) . وقــال اإلمــام اب ــن القيــم رحمــه هللا( :وقيــل بــل َتـ َـرك حـ َّـده ملصلحــة هــي ُ أعظم وتكلمــه بمــا ُيوجــب قتلــه مـر ًارا، ـور نفاقــه ِ ِمــن إقامتــه كمــا ت ــرك قتلــه مــع ظهـ ِ ُ ً ـف قومــه وعـ ُ وهــي تأليـ ـدم تنفي ــرهم عــن اإلســام ،فإنــه كان مطاعــا فيهــم، ُ ُ ّ ر ً ئيســا عليهــم ،فلــم تؤمــن إثــارة الفتنــة فــي حـ ِـده)(.)16 الواقعة الثانـية «منع الصحابة من قتل ذي الخويصرة التميمي»: َ َ َ َ ُ ُ َ َّ َ ْ َ ْ َ ْ َّ الل صلــى هللا الل ر�ضــي هللا عنــه قـ ـال :أتــى َرجـ ٌـل َرســول ِ عــن ج ِابـ ِـر بـ ِـن عبـ ِـد ِ
( )11رواه البخاري ومسلم صحيح البخاري ،كتاب املناقب باب ما يـنهى من دعوى الجاهلية حديث رقم الحديث ( ...)3330وفي صحيح مسلم ،طبعة دار الخيـر ،1996كتاب البـر والصلة َ ْ َ َ ً الا َأ ْو َم ْظ ُل ً وما ،رقم الحديث (.)2584 واآلداب ،باب نص ِر األ ِخ ظ ِ ( )12مسند اإلمام أحمد ،تحقيق شعيب األرناؤوط ،طبعة الرسالة ،مسند جابـر بـن عبد هللا (ص )389/23رقم الحديث (.)15223 ( )13أحكام القرآن البـن عربـي ،تحقيق العطا ،نشر دار الكتب العلمية ( ،2003ص 21/1و )14( - .)22شرح النووي على مسلم ،طبعة دار إحياء التـراث العربـي ( ،1392ص .)139/16 ( )15فتح الباري البـن حجر ،تحقيق محب الديـن الخطيب ،تـرقيم محمد فؤاد عبد الباقي طبعة دار املعرفة ( 1379ص .)231/10 ( )16زاد املعاد البـن القيم طبعة مؤسسة الرسالة ( ،1994ص .)263/3
20
ص َر َفـ ُـه مـ ْـن ُح َن ْيــن َوفــى َثـ ْـوب بـ َـال ف َّ عليــه وســلم ب ْالج ْع َر َانــة ُم ْن َ ضـ ٌـة َو َر ُســو ُل ِ ِ ِ ٍ ِ ِ ٍ ِ ِ ِ َّ الل صلــى هللا عليــه وســلم َيقبـْ ـالَ :يــا ُم َح َّمــدُ ـض م ْن َهــا ُي ْعطــى َّ ُ ـاسَ ،ف َقـ َ النـ َ ِ ِ ِ ِ َ َ َُ َ ْ ْ َ َ َ َ َ ََ ((و ْيل َك َو َم ْن َي ْع ِد ُل ِإذا ل ْم أك ْن أ ْع ِد ُل ،لق ْد ِخ ْب َت َوخ ِس ْر َت ِإ ْن اع ِدل! قال: ـال ُع َمـ ُـر ْبـ ُـن ْال َخ َّطــاب ر�ضــي هللا عنــهَ :د ْعنــي َيــا َر ُســولَ َلـ ْـم َأ ُكـ ْـن َأ ْعـ ِـد ُل))َ ،ف َقـ َ ِ ِ َّ َ َ ْ ُ َ َ َ ْ ُ َ َ َ َ َ َ َ َ َّ الل َأ ْن َي َت َحـ َّـد َث َّ ـاس َأ ِّنــي َأ ْق ُتــلُ النـ ُ الل فأقتــل هــذا النا ِفــق! فقــال(( :معــاذ ِ ِ َّ َ َ َ َ ْ َ َ ُ َ ْ َ َن ْ ُ ْ َ َ ُ َ ُ َ َ َ ُ ْ َ ْ ُ ُ نَ َ َأ ْ صح ِابيِ ،إن هذا وأصحابه يقرؤو القرآن ال يج ِاوز حن ِاجرهم ،يمرقو م ْنـ ُـه َك َمــا َي ْمـ ُـر ُق َّ السـ ْـه ُم ِمـ َـن َّ الر ِم َّيـ ِـة))(.)17 ِ ً ّ ّ معلــا ت ــرك النب ـ ّـي صلــى هللا عليــه وســلم قــال اإلمــام اب ــن حجــر رحمــه هللا ِ الل َع َل ْيــه َو َسـ َّـل َم َق ْتـ َـل ْالَ ْذ ُكــور َل َّنــهُ قتــل هــذا الرجــل(َ :وإ َّن َمــا َتـ َـر َك َّ ص َّلــى َّ ُ النبـ ُّـي َ ِ ِِ ِ ِ الصـ َـاحُ َلـ ْـم َي ُكـ ْـن َأ ْظ َهـ َـر َمــا ُي ْسـ َـت َد ُّل بـ ِـه َع َلــى َمــا َو َر َاء ُهَ ،ف َلـ ْـو َق َتـ َـل َمـ ْـن َظاهـ ُـر ُه َّ ِ ِ ُُْ َ َ َّ ع ْنـ َـد َّ ُ َ النــاس َق ْبـ َـل ْاس ـت ْح َكام َأ ْمــر ْال ْسـ َـام َو ُر ُ ْ َ ـوب لنفرهــم عـ ِـن ـ ل ق ال ـي ـ ف ه ـوخ ـ س ِ ِ ِِ ِ َِ ِ ِ ِ ِ ِ ُّ ص َّلــى َّ ُ الد ُخــول فــي ْال ْسـ َـامَ ،وأ َّمــا َب ْعـ َـد ُه َ الل َع َل ْيــه َو َسـ َّـل َم َفـ َـا َي ُجـ ُـوز َتـ ْـر ُك ِق َت ِالهــمْ ِ ِ ِ ِ ِ ِ َ ُ ْ َ ْ َ ُ َ ْ َ ُ ْ َ َ َ ُ ْ َ َ َ َ َ َ َ ُ ْ َ َّ َ َ َ ْ ُ ْ َ َ َ َ ْ ِإذا هم أظهروا رأيهم وتركوا الجماعة وخالفوا ال ِئمة مع القدر ِة على ِقت ِال ِهم... َ َ َّ َ ْ ُ َ َّ َ َ َّ َ ُّ ُ َ ْ َ َ ََ التألف ِإ َّن َما ك َان ِفي أ َّو ِل ِال ْسل ِم ِإذا كان ِت َوقد ذكر ابـن بط ٍال ع ِن الهل ِب قال: َ َ ْ َ ْ َ َّ ُ ْ َ َ َ ْ َ َ ُ َ َّ ً َ الل ِال ْســا َم فــا َي ِجـ ُـب اســة لذ ِلــك لدفــع مضرتهــم ،فأمــا ِإذ أعلــى الحاجــة م َ ْ َّ َ ُّ ُ َّ َ َ َ ْ ْ ٌ َ ْ َ َ َ َّ النــاس َح َ اجــة ِلذ ِلــك ،ف ِ ِل َمـ ِـام ال َوقـ ِـت ذ ِلــك)(.)18 التألــف ِإل أن تنـ ِـزل ِب ِ َ َّ ْ ْ َ اسـ َـتأذ َن ُع َمـ ُـر وقــال اإلمــام النــووي فــي شــرحه علــى صحيــح مســلم( :حتــى َ َ ٌ َّ َّ َ َّ َّ ُ َ َ ْ َ َ َّ َ َ ْ َ َ َ َ َ َ َّ َ ْ َ َ َ َّ َ الل أن يتحــدث وخ ِالــد الن ِبــي صلــى الل عليـ ِـه وســلم ِفــي قت ِلـ ِـه فقــال(( :معــاذ ِ َّ ص َح َاب ُه)) َف َهذه ه َي العلة ،وسلك َم َع ُه َم ْس َل َك ُه َمعَ اس َأ َّن ُم َح َّم ًدا َي ْق ُت ُل َأ ْ الن ُ ِِ ِ َ َ َّ َ ُْ َ َ غ ْيـ ِـر ِه ِمـ َـن ال َنا ِف ِقي ـ َـن ال ِذي ـ َـن آذ ْو ُه َو َسـ ِـم َع ِم ْن ُهـ ْـم ِفــي غ ْيـ ِـر َم ْو ِطـ ِـن َمــا ك ِر َهـ ُـه ل ِك َّنـ ُـه َ َ َ ْ ْ َ ً ْ َ ْ َ َ ْ ً َ ْ ْ َ َّ َ َ َ َّ َ َّ ُ َ ـاس أ َّنـ ُـه َي ْق ُتـ ُـل صبــر اس ـ ِتبقاء ِلن ِقي ِاد ِهــم وتأ ِليفــا ِلغي ِر ِهــم ِلئــا يتحــدث النـ َ َأ ْ ص َح َابـ ُـه ف َي ْن ِفـ ُـروا)(.)19 إن تصرف النبـي صلى هللا عليه وسلم في هذه املواقف وأمثالها ،باإلضافة ملا ورد في القرآن الكريم من تقديـر األضرار كان األصل الذي بـنـيت عليه قاعــدة ،إذا َتعــارض مفســدتان روعــي أعظمهمــا َ ضـ َـر ًرا بارتــكاب أخفهمــا ِ أو يختار أهون الشريـن ،وغيـرها من األلفاظ التـي جاءت بهذا املعنى. قال الشيخ مصطفى الزرقا في تطبـيقه على قاعدة ِإذا َتعارض مفسدتان َ َْ ََ روعــي أعظمهمــا َ (يتفـ َّـرع علــى َهـ ِـذه الق ِاعـ َـدة ت ْج ِويــز ضـ َـر ًرا بارتــكاب أخفهمــا: َ ُْ َّ ال ْجـ َـرة علــى َمــا دعــت إ َل ْيــه َّ الضـ ُـرو َرة مــن الط َاعــات كاألذان واإلمامــة أخــذ ِ ِ ََ ْ ُْ ْ َ ْ َ َ َ ََ ُّ ُ ُْ ْ َّ وتع ِليــم القــرآن وال ِفقــه ،وتجويــز الســكوت علــى النكــر ِإذا كان يترتــب علــى َْ َ َ َ َ إ ْنـ َـكاره َ ضـ َـرر أعظــم ،ك َمــا تجــوز ط َاعــة ال ِمي ــر الجائــر ِإذا ك َان َيت َ َّرتــب علــى ِ
العدد 2رجب 1439هـ
ْ ْ َ َ َ ْ ْ ُ الخـ ُـروج َعل ْيـ ِـه شـ ّـر أعظــمَ ،و ِم ْنــه َجـ َـواز شـ ّـق بطــن ال َيتــة ِإلخـ َـراج ال َولــد ِإذا َ ك َان ت ــرجى َح َياتــه)(.)20 وقــد قــرر اإلمــام اب ــن ت ــيمية رحمــه هللا هــذه القاعــدة فقــال( :فــا يجــوز دفــع الفساد القليل بالفساد الكثيـر ،وال دفع أخف الضرريـن بتحصيل أعظم الضرري ــن ،فــإن الش ـريعة جــاءت بتحصيــل املصالــح وتكميلهــا وتعطيــل املفاســد وتقليلهــا بقــدر اإلمــكان ،ومطلوبهــا ت ــرجيح خي ــر الخيـري ــن إذا لــم ً ً جميعــا ،ودفــع شــر الشري ــن إذا لــم ي ــندفعا يمكــن أن يجتمعــا جميعــا)(.)21 اعتـراض ورد: وقــد اعت ــرض بعضهــم علــى األحــكام املســتفادة مــن هــذه الحادثــة بفعــل خليفة رسول هللا صلى هللا عليه وسلم أبـي بكر الصديق ر�ضي هللا عنه؛ إذ قاتــل أهــل الــردة ولــم يلتفــت إلــى حديــث النــاس وقولهــم إن أبــا بكــر يقتــل أصحابه ،وفعله هذا حجة على وجوب تطبـيق الحدود وعدم اعتبار كالم النــاس وتأليبهــم علــى اإلســام! . ويجــاب علــى ذلــك بــأن قصــة حــوار أب ــي بكــر وعمــر ر�ضــي هللا عنهمــا حــول حــرب املرتدي ــن لهــي أوضــح دليــل علــى أن حــد الــردة مــن أحــكام السياســة الشــرعية الت ــي يســوغ للحاكم االجتهاد فيها ،بحســب ما ي ـراه من املصلحة َ والخيـر للمسلميـن ،فإنه مع اتفاق أبـي بكر وعمر على ارتداد كل من ف َّر َق بـي ــن الصــاة والــزكاة وتالعــب بأحــكام الدي ــن فأقـ َّـر ببعضهــا وأنكــر بعضهــا ً بدون شبهة؛ فقد طالب عمر بتأخيـر قتالهم عن الذيـن ارتدوا ًّ اعتمادا كليا منــه للمصلحــة فــي ذلــك ،إذ رأى أن املصلحــة تكمــن فــي قتــال املرتدي ــن علــى ً جميعا. مراحــل نظـ ًـرا لضعــف املسلمي ــن عــن مواجهتهــم ولكن أبا بكر الصديق ر�ضي هللا عنه بـنظرته الحكيمة لواقع األمة في ذلك الوقت كان أبعد في النظر من عمر -وكالهما على خيـر -ولذلك قرر قتالهم ً جميعــا ،ملــا فــي ذلــك مــن املصلحــة وســرعة القضــاء علــى املــرض مــن أصلــه، وتثبـيت أحكام الديـن في أذهان املسلميـن الجدد ...فقد أدرك الصديق أن أي تساهل مع أي طائفة من املرتديـن ،أو حتى العصاة غيـر املرتديـن سيؤدي إلى سقوط هيبة الدولة وانهيار مفاهيم الدي ــن وضياع الدعوة اإلسالمية ،لهذا لم يفرق بـيـنهم في القتال ،بل إن أبا بكر ر�ضي هللا عنه شمل في قتاله من ليس مر ًّتدا ،وهم الناس الذي ــن لم ي ــنكروا فرائض اإلسالم ،ولكنهم فقط امتنعوا عن أداء الزكاة إلى الخليفة ،فقد شملهم أبو بكر بالحرب مع املرتديـن ،ملا في فعلهم من تطاول على مركزية الدولة اإلسالميةُّ ، وتمرٍد عليها.
( )17صحيح البخاري باب عالمات النبوة في اإلسالم ،رقم الحديث ( ،)3414ومسلم في باب ذكر الخوارج وصفاتهم ،رقم الحديث (،)1063 وقوله َ(م َع َاذ َّ َ ْ َ َ َ َّ َ َّ اس َأ ّنى َأ ْق ُت ُل َأ ْ ص َح ِابي) ليست في البخاري. الل أن يتحدث الن ُ ِ ِ ( )18فتح الباري شرح صحيح البخاري (ص )19( - .)291/12شرح النووي على مسلم (ص .)159/7 ( )20شرح القواعد الفقهية ،للشيخ أحمد بـن الشيخ محمد الزرقا ،طبعة دار القلم 1409هـ 1989 -م( ،ص .)202 ( )21مجموع الفتاوى البـن تـيمية تحقيق أنور الباز وعامر الجزار ،طبعة دار الوفاء ( ،2005ص .)343/23
21
قواعد السياسة الشرعية ـال ْ ُال َهاجــر ُّيَ :يــا َل ْل ُم َهاجري ـ َـن! َف َخـ َـر َج َّ َ َ َ َ ْ َ ُّ َ َ َ ْ َ صــار! َو َقـ َ الن ِبـ ُّـي وقــال األنصـ ِـاري :يــا لألن ِ ِ َِ ْ ِ ِ ـالَ : ـالَ : صلــى هللا عليــه وســلم َف َقـ َ ـال َد ْعـ َـوى أ ْهــل ال َجاه ِل َّيـ ِـة؟)) ُثـ َّـم َقـ َ ((مــا َبـ ُ ((مــا ِ ِ َ ُُْ ْ َ ُ ْ َ َ ْ َ َُْ ّ َ ـال َّ األ ْن َ ـالَ :ف َقـ َ صــار َّيَ ،قـ َ شــأنهم؟)) فأخ ِبــر ِبكســع ِة اله ِاجـ ِـر ِي الن ِبـ ُّـي صلــى هللا ِ وها َفإ َّن َها َخب َيث ٌة!))َ ،و َق َال َع ْب ُد هللا ْب ُن ُأ َب ّي ْاب ُن َس ُلو َلَ :أ َقدْ ((د ُع َ عليه وسلمَ : ِ ِ ِ ٍَ َ َ َ ْ َ َ ْ َ َ ْ َ َ ْ َ َ ْ َ َ َ ُ ْ َ َّ َ األ َعـ ُّـز ِم ْن َهــا األ َذ َّل! َف َقـ َ ـال ُع َمـ ُـر: تداعــوا علينــا! ل ِئــن رجعنــا ِإلــى ال ِدي ــن ِة ليخ ِرجــن َ َ َّ َأ َال َن ْق ُت ُل َيا َر ُسو َل َ َ ْ َ َ َ ْ هللا -؟ فق َال الن ِب ُّي صلى هللا عليه هللا هذا الخ ِبيث ِ -لعب ِد ِ ِ َ َ َ َ َّ ُ َّ ُ َ َّ ُ َ َ َ ْ ُ ُ َ َ َ ْ ()11 وســلم(( :ال يتحــدث النــاس أنــه كان يقتــل أصحابــه)) ،وفــي روايــة اإلمــام ((يــا ُع َمـ ُـرَ ،د ْعـ ُـه َل َي َت َحـ َّـد ُث َّ أحمــد َ ـاس َأ َّن ُم َح َّمـ ًـدا َي ْق ُتـ ُـل َأ ْ النـ ُ ص َح َابـ ُـه))(.)12 وقــد نقــل اإلمــام اب ــن العرب ــي رحمــه هللا أقــوال العلمــاء فــي تحليــل هــذه َْ َ ََ َ َ َ ْ ََ َ ْ َ َ ـف ال ُعل َمـ ُـاء ِفــي ذ ِلـ َـك َعلــى ثلثـ ِـة أ ْقـ َـو ٍال ...ال َّو ُل: الحادثــة فقــال( :واختلـ َأ َّنـ ُـه َلـ ْـم َي ْق ُت ْل ُهـ ْـم ِ َل َّنـ ُـه َلـ ْـم َي ْع َلـ ْـم َح َال ُهـ ْـم ِسـ َـو ُاهَ ،و َقـ ْـد َّات َفـ َـق ْال ُع َل َمـ ُـاء َعـ ْـن َب ْكــر ِةَ َ ْ َ ْ َْ َ َ ْ َ َ َ َّ ْ َ ا�ضـ َـي ل َي ْق ُتـ ُـل ِب ِعل ِمـ ِـهَ ،وِإ ْن اخ َتل ُفــوا ِفــي َســا ِئ ِر ال ْحــك ِام أ ِب ِيهــم علــى أن الق َ ِ َ ْ ُ َهـ ْـل َي ْحكـ ُـم ِب ِعل ِمـ ِـه أ ْم ل؟ . َّ َ َّ ُ َ ْ َ ْ ُ ْ ُ ْ َ ْ َ َ َ َ ُّ ْ ُ َ َ َ َّ َ ـف ال ُقلـ ـوب َعل ْيـ ِـه ِلئــا ت ْن ِفـ َـر َع ْنـ ُـهَ ،وقـ ْـد الثا ِنــي :أنــه لــم يقتلهــم ِلصلحـ ِـة َتألـ ِ ِ َ َ َ ُ َ َ َّ َّ ُ َ َ ْ َ َ َّ َ َ َ َ ْ َ ْ َ َ َ َ َ َ ُ َ ْ َ َ َ َّ َ أشــار هــو صلــى الل عليـ ِـه وســلم إلــى هــذا العنــى فقــال(( :أخــاف أن يتحــدث َّ ص َّلــى َّ ُ ـاس َأ َّن ُم َح َّمـ ًـدا َ الل َع َل ْيــه َو َسـ َّـل َم َي ْق ُتـ ُـل َأ ْ النـ ُ ص َح َابـ ُـه)). ِ َّ َّ ُ َ َ َ ْ َ ُ َّ ّ َّ َ َ ْ َ ْ ُ ْ ُ ْ َ َّ ّ ْ الزن ِديـ َـق َو ُهـ َـو الـ ِـذي الث ِالــث :قــال أصحــاب الشــا ِف ِعي :إنمــا لــم يقتلهــم ِلن ِ ُ ُّ ْ ُ ْ َ َ ُ ْ ُ ْ َ َ ُ ِْ َ َ ُ َ َ ُ ْ َ ُ َ َ َ َ ْ ٌ ْ ُ َ َ اليمــان يســتتاب ول يقتــل ،وهــذا وهــم ِمــن علمـ ِـاء ي ِســر الكفــر ويظ ِهــر ِ َ ْ َ َ َّ َّ َّ َ َّ َُّ الل َع َل ْيــه َو َسـ َّـل َم َلـ ْـم َي ْسـ َـتت ْب ُه ْمَ َ ،ول َي ُقــو ُل َأ َحـ ٌـد إنَّ أصح ِابـ ِـه فـ ِـإن الن ِبــي صلــى ِ ِ َ َ َّ َّ َ َّ ْ َ َ َ ّْ َ َّ ً ُ ْ َ َ َ َ َ َ الزن ِد ِيق غ ْي ُر َو ِاج َب ٍة ،وكان الن ِب ُّي صلى الل عل ْي ِه وسل َم ُم ْع ِرضا عن ُه ْم اس ِتتابة َ َ ْ ِ ْ َ َ َ َُْ َ ّ ُ ْ َ َّ ّ َّ َ َ َّ ْ َ َ َ َ ْ ـاب الشــا ِف ِع ِي الـ ِـذي قــال إن اسـ ِتتابة مــع ِعل ِمـ ِـه ِب ِهــم ،فهــذا التأ ِخــر ِمــن أصحـ ِ َ ٌَ َ َ َ َ ً ّْ ً الزن ِديـ ِـق جا ِئــزة قـ ـال َمــا لـ ْـم َي ِصـ َّـح قـ ْـول َو ِاحــدا. ِ َ َ َّ َ ْ ُ َ ْ َ َ َّ ُ َ ْ َ ْ ُ ْ ُ ْ َ َّ ْ َ َ َ ْ ْ ْ ُ ُ َ �ضي ِب ِعل ِم ِه ِفي الحد ِود، وأما قول من قال إنه لم يقتلهم ِلن الح ِاكم ل يق ِ ْ ْ ََ َ ُْ ّ َ َ ْ ْ ُ َّ فقـ ْـد ق َتـ َـل ِبال َجـ ِـذ ِر ْبـ ِـن ِزَيـ ٍـاد ِب ِعل ِمـ ِـه ال َحـ ِـارث ْبـ َـن ســويد بـ ِـن الص ِامـ ِـت؛ َ ُْ ّ َ َ َ ََ َ ْ ُ َ ََْ ِل َّن ال َجـ ِـذ َر ق َتـ َـل أ َبـ ُـاه ُسـ َـو ْي ًدا َيـ ْـو َم ُب َعــاث ،فأ ْســل َم ال َحـ ِـارث َوأغفلـ ُـه ُ ْ ْ ُ َّ َّ َ َّ َّ ُ َ ُ َ َ َ ََ ْ الل َعل ْيـ ِـه َيـ ْـو َم أ ُحـ ٍـد ال َحـ ِـارث فق َتلـ ُـه ،فأخ َبـ َـر ِبـ ِـه ِجب ِريــل الن ِبــي صلــى َّ َ َ َ َ َّ َ ْ َ ُ َ َ َ ً َ ْ َ ان ِغيلــةَ ،وق ْتـ ُـل ال ِغيلـ ِـة َحـ ٌّـد ِمـ ْـن ُحـ ُـد ِود َو َســل َم فق َتلـ ُـه ِبـ ِـه ِلن قتلــه ك َّ الل َعـ َّـز َو َجـ َّـل . ِ َ َ ُّ َ ًَ َ َّ ُ َ َّ َّ ص َّلى َّ ُ النب َّي َ الل َع َل ْيه َو َس َّل َم َّإن َما َأ ْع َر َ ض َع ْن ُه ْم تأل ًفا َو َمخافة ِ والص ِحيح ْ :أن َ ِْ َ َ َ َ َ ُ ََ ْ وج َبـ ِـة ِل َّلت ْن ِفي ـ ِـر ،ك َمــا َسـ َـب َق ِمـ ْـن ق ْ ِولـ ِـهَ ،و َهــذا ك َمــا ك َان ِمــن ُسـ ِ ـوء القالـ ِـة ال ِ
قواعد السياسة الشرعية
العدد 2رجب 1439هـ
َ َ ُّ َ َ ْ َّ َ َ َ ْ َ َّ َ ُ ُ َ ـوء ْاع ِتق ِاد ِهـ ْـم تأل ًفــا ل ُهـ ْـم، ُي ْع ِطــي الصدقــة ِلل ُمؤلفـ ِـة قل ُوب ُهـ ْـم َمــع ِعل ِمـ ِـه ِب ُسـ ِ ضـ ًـاء ل َق َ الل ُسـ ْـب َح َان ُه َأ ْح َك َامـ ُـه َع َلــى ْال َفائـ َـدة َّالتــي َسـ َّـن َها ْإم َ َأ ْجـ َـرى َّ ُ ض َايـ ُـاه ِ ِ ِ ِ َ ُّ َّ َ َ ِب السـ َّـن ِة ال ِتــي ل ت ْب ِديـ َـل ل َهــا) (.)13 ولعــل مــن يقــول إن هــذا الرجــل منافــق ،وال عالقــة لهــذه الحادثــة بحكــم الردة ،والجواب على ذلك من وجهي ــن ،األول :نعم كان اب ــن سلول ً منافقا يبطن الكفر ويظهر اإليمان ،ولكن تلفظه بهذه الكلمة في هذا املوقف زاد له وصف الكفر والردة الظاهرة ،حيث أعلن الحرب على رسول هللا صلى هللا عليــه وســلم وال يختلــف اثنــان فــي أن عــداوة رســول هللا صلــى هللا عليــه وســلم ردة ،والثان ــي :لقــد بـي ــن رســول هللا صلــى هللا عليــه وســلم علــة ت ــركه لقتلهــم أال وهــو [حديــث النــاس!] ((أت ـريد أن يتحــدث النــاس أن محمــدا يقتــل أصحابــه؟)) وال أدري كيــف ُي َّدعــى بــأن األخــذ ب ــنص الحديــث خطــأ، ومخالفــة نصــه صــواب؟ وقــال اإلمــام النــووي رحمــه هللا معلقــا علــى هــذه َ َ َ َ َ ْ َ َّ َّ ُ َ ْ ْ َّ َ الل َعل ْيـ ِـه َو َســل َم ِمـ َـن ال ِحلـ ِـمَ ،و ِفيـ ِـه تـ ْـر ُك الحادثــةِ ( :فيـ ِـه مــا كان عليـ ِـه صلــى َ ْ ً ْ َ ْ َ َ َ َّ َ َ َ َ ْ ْ ُ ُ ور ْ ُ ْ َ َ َ َّ ْ َ َ َ ْ ْ َ َ ض الف ِاس ِد خوفا ِمن أن تترتب على بع ِ ض الم ِ َالختار ِة والصب ِر على بع ِ َ َ َ َّ َ َّ َّ َ ٌ َّ َ ْ َ َ ْ ُ َّ ُ َ ْ َ َ َ َ َ َ َ َ اس وي ْ َذ ِل َك َمفسدة أعظ ُم ِمنه وكان صلى الل عل ْي ِه وسل َم يتألف الن َ ص ِب ُر ََ َ َ ْ َ ْ َ ُْ َ َ ُ ُْ َ ُ َ اب َوال َنا ِف ِقي َـن َوغ ْي ِر ِه ْم ِل َت ْق َوى ش ْوكة ال ْس ِل ِمي َـن َوت ِت َّم َد ْع َوة على جف ِاء العر ِ ْ ُ َ َّ َ َ َ ْ َ َ َ ْ ُ ُ ْ ْ ْ َ ْ ْ َ َ َ َ َ َّ َ ْ َ ُ ْ ُ ُ الســا ِم اليمــان ِمــن قلـ ِ ـوب الؤلفـ ِـة ويرغــب غيرهــم ِفــي ِ الســا ِم ويتمكــن ِ ِ َ َ َ ْ َْ َ َ َ ُ ْ ُ ْ َْ َ َ ْ َ َ َ َ َ َ َ ْ َ ْ ُ ْ ُ َ َ وكان يع ِط ِيهــم المــوال الج ِزيلــة ِلذ ِلــك ولــم يقتـ ِـل النا ِف ِقي ــن ِلهــذا العنــى، َّ َ َْ ُ ْ َ َ ُ ْ ْ الظاهر َوَا َّ ُ لل َي َت َو َّلى َّ الس َرا ِئ َر.)14()... ال ْسل َم َوق ْد أ ِم َر ِبال ُحك ِم ِب ِِ وِ ِلظه ِار ِهم ِ وعلق اإلمام ابـن حجر باملعنى نفسه على تـرك النبـي صلى هللا عليه وسلم َ َّ َ ْ َ َ ْ َ ْ ْ َ ال ْع َ قتل الساحر لبـيد بـن األعصم حيث قال(ِ :لن ترك قت ِل ل ِب ِيد ب ِن ص ِم ُ َك َان ل َخ ْش َية َأ ْن ُيثي َـر ب َس َبب َق ْتله ف ْت َن ًة َأ ْو ل َئ َّل ُي َن ّف َر َّ ُّ الن َ اس َع ِن الدخو ِل ِفي ِ ِ ِ ِ ِ ِ ِ ِِ ِ ْ ْ َ َ ُ َ ْ ْ َ َ َ ُ َّ ُّ َ َّ َّ ُ َ َ ْ َ َ َّ َ ْ َ ْ َ ْ س ما راعاه الن ِبي صلى الل علي ِه وسلم ِمن من ِع قت ِل السلم ،وهو ِمن جن ْ ُِ َ ِ َ َ ْ ُ َ ِ َ َ ِ َ َ َ َّ ُ َّ ُ َ َّ ُ َ َّ ً َ ْ ُ ُ َ ْ َ َ ُ ()15 النا ِف ِقيـن حيث قال :ل يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه)) . وقــال اإلمــام اب ــن القيــم رحمــه هللا( :وقيــل بــل َتـ َـرك حـ َّـده ملصلحــة هــي ُ أعظم وتكلمــه بمــا ُيوجــب قتلــه مـر ًارا، ـور نفاقــه ِ ِمــن إقامتــه كمــا ت ــرك قتلــه مــع ظهـ ِ ُ ً ـف قومــه وعـ ُ وهــي تأليـ ـدم تنفي ــرهم عــن اإلســام ،فإنــه كان مطاعــا فيهــم، ُ ُ ّ ر ً ئيســا عليهــم ،فلــم تؤمــن إثــارة الفتنــة فــي حـ ِـده)(.)16 الواقعة الثانـية «منع الصحابة من قتل ذي الخويصرة التميمي»: َ َ َ َ ُ ُ َ َّ َ ْ َ ْ َ ْ َّ الل صلــى هللا الل ر�ضــي هللا عنــه قـ ـال :أتــى َرجـ ٌـل َرســول ِ عــن ج ِابـ ِـر بـ ِـن عبـ ِـد ِ
( )11رواه البخاري ومسلم صحيح البخاري ،كتاب املناقب باب ما يـنهى من دعوى الجاهلية حديث رقم الحديث ( ...)3330وفي صحيح مسلم ،طبعة دار الخيـر ،1996كتاب البـر والصلة َ ْ َ َ ً الا َأ ْو َم ْظ ُل ً وما ،رقم الحديث (.)2584 واآلداب ،باب نص ِر األ ِخ ظ ِ ( )12مسند اإلمام أحمد ،تحقيق شعيب األرناؤوط ،طبعة الرسالة ،مسند جابـر بـن عبد هللا (ص )389/23رقم الحديث (.)15223 ( )13أحكام القرآن البـن عربـي ،تحقيق العطا ،نشر دار الكتب العلمية ( ،2003ص 21/1و )14( - .)22شرح النووي على مسلم ،طبعة دار إحياء التـراث العربـي ( ،1392ص .)139/16 ( )15فتح الباري البـن حجر ،تحقيق محب الديـن الخطيب ،تـرقيم محمد فؤاد عبد الباقي طبعة دار املعرفة ( 1379ص .)231/10 ( )16زاد املعاد البـن القيم طبعة مؤسسة الرسالة ( ،1994ص .)263/3
20
ص َر َفـ ُـه مـ ْـن ُح َن ْيــن َوفــى َثـ ْـوب بـ َـال ف َّ عليــه وســلم ب ْالج ْع َر َانــة ُم ْن َ ضـ ٌـة َو َر ُســو ُل ِ ِ ِ ٍ ِ ِ ٍ ِ ِ ِ َّ الل صلــى هللا عليــه وســلم َيقبـْ ـالَ :يــا ُم َح َّمــدُ ـض م ْن َهــا ُي ْعطــى َّ ُ ـاسَ ،ف َقـ َ النـ َ ِ ِ ِ ِ َ َ َُ َ ْ ْ َ َ َ َ َ ََ ((و ْيل َك َو َم ْن َي ْع ِد ُل ِإذا ل ْم أك ْن أ ْع ِد ُل ،لق ْد ِخ ْب َت َوخ ِس ْر َت ِإ ْن اع ِدل! قال: ـال ُع َمـ ُـر ْبـ ُـن ْال َخ َّطــاب ر�ضــي هللا عنــهَ :د ْعنــي َيــا َر ُســولَ َلـ ْـم َأ ُكـ ْـن َأ ْعـ ِـد ُل))َ ،ف َقـ َ ِ ِ َّ َ َ ْ ُ َ َ َ ْ ُ َ َ َ َ َ َ َ َ َّ الل َأ ْن َي َت َحـ َّـد َث َّ ـاس َأ ِّنــي َأ ْق ُتــلُ النـ ُ الل فأقتــل هــذا النا ِفــق! فقــال(( :معــاذ ِ ِ َّ َ َ َ َ ْ َ َ ُ َ ْ َ َن ْ ُ ْ َ َ ُ َ ُ َ َ َ ُ ْ َ ْ ُ ُ نَ َ َأ ْ صح ِابيِ ،إن هذا وأصحابه يقرؤو القرآن ال يج ِاوز حن ِاجرهم ،يمرقو م ْنـ ُـه َك َمــا َي ْمـ ُـر ُق َّ السـ ْـه ُم ِمـ َـن َّ الر ِم َّيـ ِـة))(.)17 ِ ً ّ ّ معلــا ت ــرك النب ـ ّـي صلــى هللا عليــه وســلم قــال اإلمــام اب ــن حجــر رحمــه هللا ِ الل َع َل ْيــه َو َسـ َّـل َم َق ْتـ َـل ْالَ ْذ ُكــور َل َّنــهُ قتــل هــذا الرجــل(َ :وإ َّن َمــا َتـ َـر َك َّ ص َّلــى َّ ُ النبـ ُّـي َ ِ ِِ ِ ِ الصـ َـاحُ َلـ ْـم َي ُكـ ْـن َأ ْظ َهـ َـر َمــا ُي ْسـ َـت َد ُّل بـ ِـه َع َلــى َمــا َو َر َاء ُهَ ،ف َلـ ْـو َق َتـ َـل َمـ ْـن َظاهـ ُـر ُه َّ ِ ِ ُُْ َ َ َّ ع ْنـ َـد َّ ُ َ النــاس َق ْبـ َـل ْاس ـت ْح َكام َأ ْمــر ْال ْسـ َـام َو ُر ُ ْ َ ـوب لنفرهــم عـ ِـن ـ ل ق ال ـي ـ ف ه ـوخ ـ س ِ ِ ِِ ِ َِ ِ ِ ِ ِ ِ ُّ ص َّلــى َّ ُ الد ُخــول فــي ْال ْسـ َـامَ ،وأ َّمــا َب ْعـ َـد ُه َ الل َع َل ْيــه َو َسـ َّـل َم َفـ َـا َي ُجـ ُـوز َتـ ْـر ُك ِق َت ِالهــمْ ِ ِ ِ ِ ِ ِ َ ُ ْ َ ْ َ ُ َ ْ َ ُ ْ َ َ َ ُ ْ َ َ َ َ َ َ َ ُ ْ َ َّ َ َ َ ْ ُ ْ َ َ َ َ ْ ِإذا هم أظهروا رأيهم وتركوا الجماعة وخالفوا ال ِئمة مع القدر ِة على ِقت ِال ِهم... َ َ َّ َ ْ ُ َ َّ َ َ َّ َ ُّ ُ َ ْ َ َ ََ التألف ِإ َّن َما ك َان ِفي أ َّو ِل ِال ْسل ِم ِإذا كان ِت َوقد ذكر ابـن بط ٍال ع ِن الهل ِب قال: َ َ ْ َ ْ َ َّ ُ ْ َ َ َ ْ َ َ ُ َ َّ ً َ الل ِال ْســا َم فــا َي ِجـ ُـب اســة لذ ِلــك لدفــع مضرتهــم ،فأمــا ِإذ أعلــى الحاجــة م َ ْ َّ َ ُّ ُ َّ َ َ َ ْ ْ ٌ َ ْ َ َ َ َّ النــاس َح َ اجــة ِلذ ِلــك ،ف ِ ِل َمـ ِـام ال َوقـ ِـت ذ ِلــك)(.)18 التألــف ِإل أن تنـ ِـزل ِب ِ َ َّ ْ ْ َ اسـ َـتأذ َن ُع َمـ ُـر وقــال اإلمــام النــووي فــي شــرحه علــى صحيــح مســلم( :حتــى َ َ ٌ َّ َّ َ َّ َّ ُ َ َ ْ َ َ َّ َ َ ْ َ َ َ َ َ َ َّ َ ْ َ َ َ َّ َ الل أن يتحــدث وخ ِالــد الن ِبــي صلــى الل عليـ ِـه وســلم ِفــي قت ِلـ ِـه فقــال(( :معــاذ ِ َّ ص َح َاب ُه)) َف َهذه ه َي العلة ،وسلك َم َع ُه َم ْس َل َك ُه َمعَ اس َأ َّن ُم َح َّم ًدا َي ْق ُت ُل َأ ْ الن ُ ِِ ِ َ َ َّ َ ُْ َ َ غ ْيـ ِـر ِه ِمـ َـن ال َنا ِف ِقي ـ َـن ال ِذي ـ َـن آذ ْو ُه َو َسـ ِـم َع ِم ْن ُهـ ْـم ِفــي غ ْيـ ِـر َم ْو ِطـ ِـن َمــا ك ِر َهـ ُـه ل ِك َّنـ ُـه َ َ َ ْ ْ َ ً ْ َ ْ َ َ ْ ً َ ْ ْ َ َّ َ َ َ َّ َ َّ ُ َ ـاس أ َّنـ ُـه َي ْق ُتـ ُـل صبــر اس ـ ِتبقاء ِلن ِقي ِاد ِهــم وتأ ِليفــا ِلغي ِر ِهــم ِلئــا يتحــدث النـ َ َأ ْ ص َح َابـ ُـه ف َي ْن ِفـ ُـروا)(.)19 إن تصرف النبـي صلى هللا عليه وسلم في هذه املواقف وأمثالها ،باإلضافة ملا ورد في القرآن الكريم من تقديـر األضرار كان األصل الذي بـنـيت عليه قاعــدة ،إذا َتعــارض مفســدتان روعــي أعظمهمــا َ ضـ َـر ًرا بارتــكاب أخفهمــا ِ أو يختار أهون الشريـن ،وغيـرها من األلفاظ التـي جاءت بهذا املعنى. قال الشيخ مصطفى الزرقا في تطبـيقه على قاعدة ِإذا َتعارض مفسدتان َ َْ ََ روعــي أعظمهمــا َ (يتفـ َّـرع علــى َهـ ِـذه الق ِاعـ َـدة ت ْج ِويــز ضـ َـر ًرا بارتــكاب أخفهمــا: َ ُْ َّ ال ْجـ َـرة علــى َمــا دعــت إ َل ْيــه َّ الضـ ُـرو َرة مــن الط َاعــات كاألذان واإلمامــة أخــذ ِ ِ ََ ْ ُْ ْ َ ْ َ َ َ ََ ُّ ُ ُْ ْ َّ وتع ِليــم القــرآن وال ِفقــه ،وتجويــز الســكوت علــى النكــر ِإذا كان يترتــب علــى َْ َ َ َ َ إ ْنـ َـكاره َ ضـ َـرر أعظــم ،ك َمــا تجــوز ط َاعــة ال ِمي ــر الجائــر ِإذا ك َان َيت َ َّرتــب علــى ِ
العدد 2رجب 1439هـ
ْ ْ َ َ َ ْ ْ ُ الخـ ُـروج َعل ْيـ ِـه شـ ّـر أعظــمَ ،و ِم ْنــه َجـ َـواز شـ ّـق بطــن ال َيتــة ِإلخـ َـراج ال َولــد ِإذا َ ك َان ت ــرجى َح َياتــه)(.)20 وقــد قــرر اإلمــام اب ــن ت ــيمية رحمــه هللا هــذه القاعــدة فقــال( :فــا يجــوز دفــع الفساد القليل بالفساد الكثيـر ،وال دفع أخف الضرريـن بتحصيل أعظم الضرري ــن ،فــإن الش ـريعة جــاءت بتحصيــل املصالــح وتكميلهــا وتعطيــل املفاســد وتقليلهــا بقــدر اإلمــكان ،ومطلوبهــا ت ــرجيح خي ــر الخيـري ــن إذا لــم ً ً جميعــا ،ودفــع شــر الشري ــن إذا لــم ي ــندفعا يمكــن أن يجتمعــا جميعــا)(.)21 اعتـراض ورد: وقــد اعت ــرض بعضهــم علــى األحــكام املســتفادة مــن هــذه الحادثــة بفعــل خليفة رسول هللا صلى هللا عليه وسلم أبـي بكر الصديق ر�ضي هللا عنه؛ إذ قاتــل أهــل الــردة ولــم يلتفــت إلــى حديــث النــاس وقولهــم إن أبــا بكــر يقتــل أصحابه ،وفعله هذا حجة على وجوب تطبـيق الحدود وعدم اعتبار كالم النــاس وتأليبهــم علــى اإلســام! . ويجــاب علــى ذلــك بــأن قصــة حــوار أب ــي بكــر وعمــر ر�ضــي هللا عنهمــا حــول حــرب املرتدي ــن لهــي أوضــح دليــل علــى أن حــد الــردة مــن أحــكام السياســة الشــرعية الت ــي يســوغ للحاكم االجتهاد فيها ،بحســب ما ي ـراه من املصلحة َ والخيـر للمسلميـن ،فإنه مع اتفاق أبـي بكر وعمر على ارتداد كل من ف َّر َق بـي ــن الصــاة والــزكاة وتالعــب بأحــكام الدي ــن فأقـ َّـر ببعضهــا وأنكــر بعضهــا ً بدون شبهة؛ فقد طالب عمر بتأخيـر قتالهم عن الذيـن ارتدوا ًّ اعتمادا كليا منــه للمصلحــة فــي ذلــك ،إذ رأى أن املصلحــة تكمــن فــي قتــال املرتدي ــن علــى ً جميعا. مراحــل نظـ ًـرا لضعــف املسلمي ــن عــن مواجهتهــم ولكن أبا بكر الصديق ر�ضي هللا عنه بـنظرته الحكيمة لواقع األمة في ذلك الوقت كان أبعد في النظر من عمر -وكالهما على خيـر -ولذلك قرر قتالهم ً جميعــا ،ملــا فــي ذلــك مــن املصلحــة وســرعة القضــاء علــى املــرض مــن أصلــه، وتثبـيت أحكام الديـن في أذهان املسلميـن الجدد ...فقد أدرك الصديق أن أي تساهل مع أي طائفة من املرتديـن ،أو حتى العصاة غيـر املرتديـن سيؤدي إلى سقوط هيبة الدولة وانهيار مفاهيم الدي ــن وضياع الدعوة اإلسالمية ،لهذا لم يفرق بـيـنهم في القتال ،بل إن أبا بكر ر�ضي هللا عنه شمل في قتاله من ليس مر ًّتدا ،وهم الناس الذي ــن لم ي ــنكروا فرائض اإلسالم ،ولكنهم فقط امتنعوا عن أداء الزكاة إلى الخليفة ،فقد شملهم أبو بكر بالحرب مع املرتديـن ،ملا في فعلهم من تطاول على مركزية الدولة اإلسالميةُّ ، وتمرٍد عليها.
( )17صحيح البخاري باب عالمات النبوة في اإلسالم ،رقم الحديث ( ،)3414ومسلم في باب ذكر الخوارج وصفاتهم ،رقم الحديث (،)1063 وقوله َ(م َع َاذ َّ َ ْ َ َ َ َّ َ َّ اس َأ ّنى َأ ْق ُت ُل َأ ْ ص َح ِابي) ليست في البخاري. الل أن يتحدث الن ُ ِ ِ ( )18فتح الباري شرح صحيح البخاري (ص )19( - .)291/12شرح النووي على مسلم (ص .)159/7 ( )20شرح القواعد الفقهية ،للشيخ أحمد بـن الشيخ محمد الزرقا ،طبعة دار القلم 1409هـ 1989 -م( ،ص .)202 ( )21مجموع الفتاوى البـن تـيمية تحقيق أنور الباز وعامر الجزار ،طبعة دار الوفاء ( ،2005ص .)343/23
21
قواعد السياسة الشرعية ً ّ ـرعي ونت ــيجة ملــا ســبق فــإن قتــال أب ــي بكــر ألهــل الــردة كان تنفيــذا لحكــم شـ ٍ توفرت أسباب تطبـيقه ،ويحقق مصلحة ناجزة للمسلميـن أكبـر من تلك املصلحــة الت ــي ظنهــا عمــر ر�ضــي هللا عنــه وأهـ ّـم مــن كالم النــاس ،ولــو َو َجــد ّ ّ الصديــق ر�ضــي هللا عنــه املصلحــة فــي غي ــر ذلــك ملــا وســعه إال ِاتبــاع النب ــي ّ ّ صلــى هللا عليــه فــي تقدي ــر املصلحــة ،وهــو أهــل املحبــة واالتبــاع والطاعــة املطلقــة هلل ســبحانه ولنب ــيه صلــى هللا عليــه وآلــه وصحبــه وســلم.
املبحثالثانـي
رء ّ َ الحاجة شيوع الحد د ُ ِ ِ ِ بسبب ِ فــي خالفــة عمــر ب ــن الخطــاب ر�ضــي هللا عنــه ،وفــي العــام الثامــن عشــر مــن جوعــا شـ ً الهجــرة أجدبــت األرض وقحطــت الســماء فجــاع النــاس ً ـديدا، اضطـ ّـر بعــض ّ النــاس بســببه َّ للســرقة ،وقــد اشــتهر أن عمــر ر�ضــي هللا عنــه قــام بــدرء حـ ّـد الســرقة عــن بعــض العب ــيد ّالذي ــن ســرقوا فــي تلــك ّ الســنة ِ ً ً ّ َ املجدبــة ،حيــث اعتب ــر انتشــار الجــوع شــبهة مانعــة مــن إقامــة الحـ ِـد ...ولــم يكتــف بإســقاط الحـ ِّـد عنهــم بــل عاقــب سـ ّـيدهم َّ وغرمــه ألنــه كان متسـ ّـب ًبا فيمــا فعلــه عب ــيده إذ كان يتعبهــم وال يشــبعهم(( ،عــن َم ِالــك ر�ضــي هللا عنــه َ َعـ ْـن ِه َشــام ْبــن ُعـ ْـر َو َة َعـ ْـن َأبيـ ِـه َعـ ْـن َي ْح َيــى ْبــن َع ْبـ ِـد َّ الر ْح َمـ ِـن ْبـ ِـن َح ِاطـ ٍـب ،أ َّن ِ ِ ِ ِ َرق ًيقــا ل َحاطــب ب ــن أب ــي بلتعــة َسـ َـر ُقوا َن َاقـ ًـة ل َر ُجــل مـ ْـن ُم َ ْزي َنـ َـة َف ْان َت َح ُر َ وهــا، ِ ٍ ِ ِ ِ ِ ٍ الص ْل ِت َأ ْن َي ْق َط َع َأ ْي ِد َي ُهمْ، َف ُر ِف َع َذ ِل َك إ َلى ُع َم َر ْبن ْال َخ َّطاب َف َأ َم َر َك ِثي َـر ْب َن َّ ِ ِ ِ َ َ َ ُ ُ ُ ْ َ َّ ُثـ َّـم َقـ َ ُ الل ُأل َغ ّر َم َّنـ َـك ُغ ْر ًمــا َي ُشـ ُّـق َع َل ْيـ َـك) ُثــمَّ ُ ـال ع َمــر( :إن ــي أراك ت ِجيعهــم ،و ِ ِ َ َ َ ْ ُ َ ّ َ ْ َ َ ُ َ َ َ َ َ َ َْ َ عمائــة ِد ْر َهــمَ ،قـ َ ـال ُع َمـ ُـر( :أ ْع ِطـ ِـه قــال ِللم ِزنـ ِـي( :كــم ثمــن ناق ِتــك؟) قــال :أرب ٍ َ َ َ ث َمان ِمائــة ِد ْر َهـ ٍـم))(.)22 فعلمنــا مــن ذلــك أنــه قــد تطـرأ علــى املجتمــع ظــروف يكــون تطب ــيق الحــدود فيهــا ً ظلمــا للنــاس ،ليــس ألن الحــدود غي ــر عادلــة أو غي ــر واجبــة ،بــل ألن َ حمــل الفـ ُ املجتمــع أصبــح هــو بحـ ِّـد ذاتــه ســبب الجنايــة ،فــا ُي َّ ـرد مســؤولية ً ً مجتم ِعه ...ونالحظ أن عمر قد جعل من شــيوع الجوع شــبهة كافية لدرء الحد ،وكذلك يكون النظر في كل جناية وعقوبتها فإن كان ُ سببها املجتمع عقوبات تعزيـ َّرية مناسبة تعتمد املوازنة في تحميل الخطأ لجأ الحاكم إلى ٍ ّ ملرتكبه أو للمتسبب به كل بمقداره ...ولكن إن كانت السرقة أو غيـرها من الجنايــات مســببة عــن الشــخص نفســه وليــس للمجتمــع دخــل فيهــا؛ ثبــت ً ُّ الحد على مرتكبها كأن يسرق لغي ــر حاجة ً طمعا وزيادة في الث ــروة... والحقيقــة أنــه ي ــنبغي ألهــل العلــم أن يقفــوا فــي القضيــة حيــث وقــف عمــر
قواعد السياسة الشرعية
العدد 2رجب 1439هـ
ر�ضــي هللا عنــه وال يتجــاوزوا ذلــك ...إذ يســتدل بعــض الحداثيي ــن بهــذه الواقعــة علــى إلغــاء الحــدود ً تمامــا ،وجــواز االجتهــاد علــى خــاف النـ ّ ـص ِ ِ القرآن ـ ّـي ب ـ ً ـناء علــى املصلحــة أو علــى التش ـريع بال ـرأي ،وليــس األمــر كمــا ِ ً أوهمتهــم نفوســهم( ...والحــق أن األمــر ليــس تقديمــا للمصلحــة علــى النــص ً وال تعطيــا لحــد مــن حــدود هللا ..ولكنــه بواليتــه العامــة وجــد أن شــروط النــص غي ــر منطبقــة ،إذ توجــد شــبهة قويــة تحــول دون تطب ــيق الحــد أو تــدرؤه ،وهــو الــذي ســمع رســول هللا صلــى هللا عليــه وســلم يقــول(( :ادرؤوا الحدود بالشبهات ما استطعتم)) وسمعه كذلك يقول(( :ألن يخطئ اإلمام فــي العفــو خي ــر مــن أن يخطــئ فــي العقوبــة)) وهــو الــذي ت ــرجمه القانون ــيون املحدثون بقولهم[ :إن العدالة تتأذى من إدانة بـريء واحد لكنها ال تتأذى من تبـرئة مائة متهم] وهو الذي جاءه صاحب بستان يشكو سرقة خادمه لثمــار البســتان ،فلمــا حقــق القضيــة وجــد أن صاحــب البســتان ال يعطــي خادمــه مــا يكفيــه ،فقــال لــه عمــر :لــو ســرق بعــد ذلــك لقطعــت يــدك أنــت! هذا الفقه السليم إلقامة الحدود اإلسالمية هو الذي فقهه عمر فوجد أن الرمــادة شــبهة كبـي ــرة تــدرأ الحــد ..فوجــد أن شــروط النــص ال تنطبــق، وليــس معنــى ذلــك تقديــم املصلحــة علــى النــص ،إنمــا هــو اجتهــاد داخــل النــص نفســه للبحــث فــي توافــر شــروط الجريمــة وشــروط العقوبــة)(.)23 َّ اإلسالمي يعيش الرمادة واملجاعة على كل ومن يتأمل واقعنا يـرى مجتمعنا َّ َّ واألخالقية والفكرية ،وهذا ما يدعونا اليوم إلى إعادة املستويات الديـن َّـية النظر في ّ ّ اإلسالمية وطريقة تعاملها مع املجتمع ...فيا أولويات الجماعات من تنادون باإلســام صباح مســاء! بدل أن تلوموا ّ الناس لوموا أنفســكم، هل فعلتم ما يتوجب عليكم لتثبـيت اإليمان في القلوب حتى يفعل الناس مــا يتوجــب عليهــم مــن العمــل بأحــكام هللا؟ أم أنكــم بخالفاتكــم ونزاعاتكــم والفضائــح الت ــي تنــال كباركــم والخرافــات الت ــي تعــج بهــا عقــول أتباعكــم؛ قــد أفقدتــم َّ النــاس الثقــة بــكل مــن يتكلــم باســم الدي ــن! نعــم نحــن اليــوم جـ ٌ ـزء مــن ّ َّ نحملهالآلخريـن. املشكلةالتـينتكلمعنهاوعليـناأننتحملمسؤولياتنابدلأن ِ فاحذر أيها املسلم الغيور إن ُوّل َ يت ً شيئا من أمر املسلميـن أن تجور عليهم ِ أو تظلمهــم ،فتبــوء بغضــب هللا مــن حيــث قصــدت رضــاه ،واعلــم أن ـات كثي ــرة قبــل أن تصــل إلــى مرحلــة تطب ــيق للمجتمــع عليــك واجبـ ٍ الحــدود ،فقبــل أن تقطــع يــد الســارق أطعمــه ،وقبــل أن تجلــد الزان ــي أو ت ــرجمه علمــه وأدبــه ،وقبــل أن تجلــد شــارب الخمــر هيــئ لــه ظــروف صالحــه ،وقبــل أن تحكــم بالــردة علــى مــن يســب الدي ــن علمــه حرمــة ً مجتمعا الدي ــن ،فــإن أقمــت عليهــم الحــدود قبــل أن تعلمهــم وتيهــئ لهــم
( )22موطأ اإلمام مالك ،تحقيق بشار عواد معروف ومحمود خليل ،طبعة مؤسسة الرسالة ( ،1412ص .)470/2 ( )23املصلحة املرسلة محاولة لبسطها ونظرة فيها ،املؤلف :علي محمد جريشة ،الناشر :الجامعة اإلسالمية باملديـنة املنورة ،طبعة السنة العاشرة -العدد الثالث ،ذو الحجة 1397هـ (ص .)48
22
ً َّ وأولويتــك اليــوم أن تيهــئ املجتمــع نظيفــا يعيشــون فيــه فقــد ظلمتهــم، ليتحمل أعباء الحكم اإلسالمي ويتقبل مفاهيمه بدل أن تكرهه على ما ُ يجهــل وتأطــره عليــه أطـ ًـرا فتكــون ســبب فتنــة لــه فــي دي ــنه... اعتـراض ورد: االعت ـراض :يحــاول البعــض الطعــن فــي روايــة درء عمــر ر�ضــي هللا عنــه لحــد الســرقة بشــبهة الجــوع بقولهــم :إنهــا غي ــر ثابتــة لضعــف ســندها ،بــل جــزم بعضهــم بأنهــا مكذوبــة مختلقــة علــى عمــر ر�ضــي هللا عنــه! وتلــك هــي حجــة الضعفــاء وأهــل البــدع فــي كل زمــان ،إن لــم يوافــق النــص فهمهــم ّ ضعفــوه، فــإن لــم يجــدوا سب ـ ًـيل لذلــك َّأولــوه َّ وحملــوه مــن األحــكام مــا ليــس فيــه، كحــال ذي الخويصــرة التميمــي الــذي لــم يمنعــه �شــيء مــن االعتــداء علــى حرمــة النب ــي صلــى هللا عليــه وســلم واتهامــه بالجــور والبعــد عــن العدالــة. الــرد :رغــم مــا ذكــر فــي ســند هــذه القصــة فإنــه ال يطعــن فيهــا ألنهــا ثابتــة معتمدة عند مجتهدي فقهاء السلف الصالح ،إذ جعلوها ً أساسا تستنبط منه األحكام في مسألة تغريم العبد بجنايته أو تغريم سيده ،وحكم تغريم السيدبضعفقيمةال�شيءاملتلف،باإلضافةإلىتقريـرهمدرءحدالسرقة بالجــوع ...وممــن احتــج بهــذه الروايــة اإلمــام مالــك واإلمــام الشــافعي واإلمــام َّ ّ يؤكــد مــا نقــل مــن اجتهــاد عمــر فــي هــذه املســألة؛ تقري ــره هــذه أحمــد ،وممــا ِ َُْ َ ُ الفتــوى فــي مواضــع أخــرى وروايــة األئمــة لذلــك عنــه كقولــه(( :ال يقطــع ِفــي َ ْ ِعــذ ٍقَ ،وال ِفــي َعـ ِـام َسـ َـن ٍة))(.)24 وقــد تحــدث اب ــن ّ القيــم طويــا عــن اجتهــاد عمــر ر�ضــي هللا عنــه فــي هــذه َ ْ ٌِ ْ َ ْ َ ّ َ َ َْ ُ ُ ْ َ ال َج َاعـ ِـة] ْ ِال َثــالُ وط الحـ ِـد عــام اب ســق ِ املســألة َفقــال( :فصــل ِ[مــن أســب ِ َ َ ْ ْ َّ َّ َ َ ْ ُ الثالـ ُـث :أ َّن ُع َمـ َـر ْبـ َـن ْال َخ َّطــاب َر�ضـ َـي ُ الل َعنــه أ ْســقط القطـ َـع َعـ ْـن َّ السـ ِـار ِق ِ ِ ِ ْ َ َ َْ َ َ َ ْ ُ َ َ َ َ َ ُ َ ْ ـال(( :ل ت ْقطـ ُـع ال َيـ ُـد ِفــي ِعــذ ٍق َول َعـ ِـام َسـ َـن ٍة))، ِفــي عـ ِـام الجاعـ ِـة ...عــن عمــر قـ ََ َ ْ َ َ َّ ْ ُّ َ َ ْ َ ْ َ َ ْ َ َ ْ َ َ ْ َ َ ْ (العـ ْـذقُ: َ قــال الســع ِدي :ســألت أحمــد بــن حنبـ ٍـل عــن هــذا الح ِديـ ِـث فقــالِ : َْ ُ َ ْ َ ََ َ َ َ َّ الن ْخ َل ُة) و َ ْ ال :إي ل َعم ِري، (ع ُام َس َن ٍة :ال َج َاعة) ،ف ُقلت ِل ْح َم َد :ت ُقول ِب ِه؟ فق ْ َ َ َ َ َ َ َ َْ َ ُ ُ ََ َ َ َ َ ََْ ُ ْ َ َ ُ َ ُْ اجــة َعلــى قلــت :إن ســرق ِفــي مجاعـ ٍـة ل تقطعــه؟ فقــال :ل ،إذا حملتــه الح َذلـ َـك َو َّ النـ ُ ـاس ِفــي َم َج َاعـ ٍـة َو ِشـ َّـد ٍة. ِ َ ْ َ َ َ َ ـال َّ َقـ َ السـ ْـع ِد ُّيَ :و َهــذا َعلــى ن ْحـ ِـو ق ِض َّيـ ِـة ُع َمـ َـر ِفــي ِغل َمـ ِـان َح ِاطـ ٍـبَ ...وذ َهـ َـب يعــا ،فــي َم َســائل ْ َأ ْح َمـ ُـد َإلــى ُم َو َاف َقــة ُع َمـ َـر فــي ْال َف ْ ص َل ْيــن َجم ً إسـ َـم ِاع َ يل ْبـ ِـن ِ ِ ِ ِ ِ ِ ِ َّ َ ْ ّ َّ َ َ َ َ َّ ْ ُّ َ َ َّ ُ ْ ُ َ ْ ُ َ َ َ َ ْ َ اب سماه التر ِجم ،قال :سألت َس ِع ٍيد الشالن ِج ِي ال ِتي شرحها السع ِدي ِب ِكت ٍ َ َّ ْ َ َ ْ َ َ ْ َ َ ْ َّ ُ َ ْ ُ َّ الث َمـ َـر ِمـ ْـن أ ْك َم ِامـ ِـهَ ،ف َقـ َ ـالِ :فيـ ِـه الث َمـ ُـن أحمــد بــن حنبـ ٍـل عــن الرجـ ِـل يح ِمــل َ َّ َ ْ َ َ ْ ُ َ َ َ َ َ َ ُ ُّ َ ْ َ َ ْ َ َ ْ ُ ْ َ ُّ َ ْ َ َ ُ َ ْ َ ْ َ َ َ ْ مرتيـ ِـن وضــرب نــك ٍال ،وقــال :وكل مــن درأنــا عنــه الحــد والقــود أضعفنــا عليـ ِـه َْ ْ َ َْ َْ َ ْ ُ َ َ َ ْ َ َ َ َ ْ َ ََ ُ ُ وط القطـ ِـع ِفــي ال َج َاعـ ِـة ال ْوز ِاعـ ُّـيَ ،و َهــذا الغـ ْـرم ،وقــد وافــق أح َمــد علــى ســق ِ
العدد 2رجب 1439هـ
َ َ ْ ُ ْ َ ََُْ َ َ َّ ْ َ َّ َّ َ َ َ َ السـ َـنة إذا كانـ ْـت َسـ َـنة �ضــى ق َو ِاعـ ِـد الشــرِع؛ فـ ِـإن ـاس ومقت محــض ال ِقيـ ِ َ َ َ َ َّ َ َ َ َ َ َّ ْ َ َ ُ َ َّ ُ َ ُ َ َ ُ ْ َ َ َ َ ْ ُُ ـاس الحاجــة والضــرورة ...وعــام الجاعـ ِـة يكثــر مجاعـ ٍـة و ِشــد ٍة غلــب علــى النـ ِ ْ َ َ ُ َ ْ ُ ْ َ ُّ َ َ َ َ َ َ َّ ُ ْ ُ ْ َ ْ ْ ُ ْ َ َّ ُق َ ْ َ َ ِف ِيه الح ِاويج والضطرون ،ول يتميز الستغ ِني ِمنهم والس ِار ِلغي ِر حاج ٍة َ َ ْ َ َ َ َ َْ َ َ ِم ْن غ ْي ِر ِه ،فاشت َب َه َم ْن َي ِج ُب َعل ْي ِه ال َح ُّد ِب َم ْن ل َي ِج ُب َعل ْي ِه ف ُد ِر َئ ،ن َع ْم إذا َ َ َ َّ َّ َق َ َ َ َ َ ُ َ ُ ْ َ ْ َ ْ َّ َ ُ السـ ِـرق ِة ق ِطـ َـع)(.)25 بــان أن السـ ِـار ل حاجــة ِبـ ِـه وهــو مســتغ ٍن عــن لعل في هذا العرض املوجز لألحكام التـي استنبطها مجتهدو سلفنا الصالح ً كفاية لباغي ّ الحق َّ والرشاد ،وأما من استحكمت بدعته من هذه القصة ِ فــي قلبــه فــا يقنعــه �شــيء مــن ذلــك ،ولــو كان صر ً يحــا فــي كتــاب هللا وســنة رسوله ألن مرضه كمرض ذي الخويصرة الذي لم يمنعه �شيء من االفتـراء على رسول هللا صلى هللا عليه وسلم ،إنه العجب والكبـر على عباد هللا كما أخبـر النبـي صلى هللا عليه وسلم ،نسأل هللا السالمة من ذلك.
املبحثالثالث
َّ ٌ ُ َّ الحدود إقامة ِ ولة مقدمة على ِ وحدة الد ِ عندما بويع الصحاب ُّـي الجليل ّ علي بـن أبـي طالب كرم هللا وجهه بالخالفة، كان أول عمل سيقوم به هو االقتصاص من قتلة عثمان بـن عفان ر�ضي هللا عنهّ ، ولكنه رأى في تطب ــيق القصاص في تلك املرحلة مفســدة أكب ــر مــن املصلحــة املرتجــاة مــن تطب ــيقه ،أال وهــي خــروج عشــائر القتلــة علــى الدولــة اإلســامية ،وبالتالــي دخــول األمــة فــي حــروب طاحنــة قــد تــؤدي إلــى انهيــار الدولــة ،ورأى أن الحـ َ ـروب مــع املطالبـي ــن بتعجيــل القصــاص وهــم طلحــة والزبـي ــر ومعاويــة -ر�ضــي هللا عــن الجميــع -أقـ ُّـل ضـ ًـررا مــن تطب ــيق القصــاص فــي تلــك املرحلــة الحرجــة ،بــل وأقــل ضـ ًـررا مــن ـقوط ملكانــة الخالفــة االســتجابة لهــم ،ملــا فــي االســتجابة ملخالفيــه مــن سـ ٍ وهيبــة ُ الحكـ ِـم ،فيدفــع ذلــك كل ذي هــوى إلــى التطــاول علــى مكانــة الدولــة فــي قابــل َّأيامهــا ،ومعلــوم مــا فــي هــذا األمــر مــن ضيــاع للســلطة وانف ـراط لعقــد األمــة وإطمــاع للعــدو فــي بالدهــا َّ ورعيتهــا. فت ـ ْـر ُك القصــاص شــر ،والحــرب ضــد معاويــة وغي ــره شــر آخــر ،ولكــن أمي ــر املؤمنـي ــن ًّ عليــا كــرم هللا وجهــه دفــع أعظــم الشري ــن بأهونهمــا ،فرفــض االقتصــاص مــن القتلــة فــي تلــك املرحلــة ور�ضــي بمواجهــة اآلخري ــن علــى القاعدة املشهورة( :إذا تعارضت مفسدتان دفع أعظمهما ً ضررا بارتكاب أخفهمــا) ...وال بــد لنــا مــن الوقــوف علــى أقــوال أهــل العلــم فــي هــذه الواقعــة، لعل في أقوالهم ً نورا مبـي ـ ًـنا يبدد ظلمات الجهل ،ويكشف الحق لطالب ــيه. ّ الباقلن ـ ُّـي رحمــه هللاَ : (وعلــى َأنــه إذا َثبــت َأن ًّ عليــا ِم َّمــن ي ــرى يقــول اإلمــام ِ
( )24مصنف ابـن أبـي شيبة ،بتـرقيم دار القبلة ،باب في الرجل يسرق الثمر والطعام رقم الحديث ( ،)29179وفي مصنف عبد الرزاق ،تحقيق األعظمي طبعة املجلس العلمي في الهند ،1403رقم الحديث (.)18990 ( )25إعالم املوقعيـن عن رب العامليـن البـن القيم ،تحقيق محمد عبد السالم إبـراهيم ،طبعة دار الكتب العلمية ( ،1991ص 18/3و )53(.)19شرح العقيدة الطحاوية (ص)354/2
23
قواعد السياسة الشرعية ً ّ ـرعي ونت ــيجة ملــا ســبق فــإن قتــال أب ــي بكــر ألهــل الــردة كان تنفيــذا لحكــم شـ ٍ توفرت أسباب تطبـيقه ،ويحقق مصلحة ناجزة للمسلميـن أكبـر من تلك املصلحــة الت ــي ظنهــا عمــر ر�ضــي هللا عنــه وأهـ ّـم مــن كالم النــاس ،ولــو َو َجــد ّ ّ الصديــق ر�ضــي هللا عنــه املصلحــة فــي غي ــر ذلــك ملــا وســعه إال ِاتبــاع النب ــي ّ ّ صلــى هللا عليــه فــي تقدي ــر املصلحــة ،وهــو أهــل املحبــة واالتبــاع والطاعــة املطلقــة هلل ســبحانه ولنب ــيه صلــى هللا عليــه وآلــه وصحبــه وســلم.
املبحثالثانـي
رء ّ َ الحاجة شيوع الحد د ُ ِ ِ ِ بسبب ِ فــي خالفــة عمــر ب ــن الخطــاب ر�ضــي هللا عنــه ،وفــي العــام الثامــن عشــر مــن جوعــا شـ ً الهجــرة أجدبــت األرض وقحطــت الســماء فجــاع النــاس ً ـديدا، اضطـ ّـر بعــض ّ النــاس بســببه َّ للســرقة ،وقــد اشــتهر أن عمــر ر�ضــي هللا عنــه قــام بــدرء حـ ّـد الســرقة عــن بعــض العب ــيد ّالذي ــن ســرقوا فــي تلــك ّ الســنة ِ ً ً ّ َ املجدبــة ،حيــث اعتب ــر انتشــار الجــوع شــبهة مانعــة مــن إقامــة الحـ ِـد ...ولــم يكتــف بإســقاط الحـ ِّـد عنهــم بــل عاقــب سـ ّـيدهم َّ وغرمــه ألنــه كان متسـ ّـب ًبا فيمــا فعلــه عب ــيده إذ كان يتعبهــم وال يشــبعهم(( ،عــن َم ِالــك ر�ضــي هللا عنــه َ َعـ ْـن ِه َشــام ْبــن ُعـ ْـر َو َة َعـ ْـن َأبيـ ِـه َعـ ْـن َي ْح َيــى ْبــن َع ْبـ ِـد َّ الر ْح َمـ ِـن ْبـ ِـن َح ِاطـ ٍـب ،أ َّن ِ ِ ِ ِ َرق ًيقــا ل َحاطــب ب ــن أب ــي بلتعــة َسـ َـر ُقوا َن َاقـ ًـة ل َر ُجــل مـ ْـن ُم َ ْزي َنـ َـة َف ْان َت َح ُر َ وهــا، ِ ٍ ِ ِ ِ ِ ٍ الص ْل ِت َأ ْن َي ْق َط َع َأ ْي ِد َي ُهمْ، َف ُر ِف َع َذ ِل َك إ َلى ُع َم َر ْبن ْال َخ َّطاب َف َأ َم َر َك ِثي َـر ْب َن َّ ِ ِ ِ َ َ َ ُ ُ ُ ْ َ َّ ُثـ َّـم َقـ َ ُ الل ُأل َغ ّر َم َّنـ َـك ُغ ْر ًمــا َي ُشـ ُّـق َع َل ْيـ َـك) ُثــمَّ ُ ـال ع َمــر( :إن ــي أراك ت ِجيعهــم ،و ِ ِ َ َ َ ْ ُ َ ّ َ ْ َ َ ُ َ َ َ َ َ َ َْ َ عمائــة ِد ْر َهــمَ ،قـ َ ـال ُع َمـ ُـر( :أ ْع ِطـ ِـه قــال ِللم ِزنـ ِـي( :كــم ثمــن ناق ِتــك؟) قــال :أرب ٍ َ َ َ ث َمان ِمائــة ِد ْر َهـ ٍـم))(.)22 فعلمنــا مــن ذلــك أنــه قــد تطـرأ علــى املجتمــع ظــروف يكــون تطب ــيق الحــدود فيهــا ً ظلمــا للنــاس ،ليــس ألن الحــدود غي ــر عادلــة أو غي ــر واجبــة ،بــل ألن َ حمــل الفـ ُ املجتمــع أصبــح هــو بحـ ِّـد ذاتــه ســبب الجنايــة ،فــا ُي َّ ـرد مســؤولية ً ً مجتم ِعه ...ونالحظ أن عمر قد جعل من شــيوع الجوع شــبهة كافية لدرء الحد ،وكذلك يكون النظر في كل جناية وعقوبتها فإن كان ُ سببها املجتمع عقوبات تعزيـ َّرية مناسبة تعتمد املوازنة في تحميل الخطأ لجأ الحاكم إلى ٍ ّ ملرتكبه أو للمتسبب به كل بمقداره ...ولكن إن كانت السرقة أو غيـرها من الجنايــات مســببة عــن الشــخص نفســه وليــس للمجتمــع دخــل فيهــا؛ ثبــت ً ُّ الحد على مرتكبها كأن يسرق لغي ــر حاجة ً طمعا وزيادة في الث ــروة... والحقيقــة أنــه ي ــنبغي ألهــل العلــم أن يقفــوا فــي القضيــة حيــث وقــف عمــر
قواعد السياسة الشرعية
العدد 2رجب 1439هـ
ر�ضــي هللا عنــه وال يتجــاوزوا ذلــك ...إذ يســتدل بعــض الحداثيي ــن بهــذه الواقعــة علــى إلغــاء الحــدود ً تمامــا ،وجــواز االجتهــاد علــى خــاف النـ ّ ـص ِ ِ القرآن ـ ّـي ب ـ ً ـناء علــى املصلحــة أو علــى التش ـريع بال ـرأي ،وليــس األمــر كمــا ِ ً أوهمتهــم نفوســهم( ...والحــق أن األمــر ليــس تقديمــا للمصلحــة علــى النــص ً وال تعطيــا لحــد مــن حــدود هللا ..ولكنــه بواليتــه العامــة وجــد أن شــروط النــص غي ــر منطبقــة ،إذ توجــد شــبهة قويــة تحــول دون تطب ــيق الحــد أو تــدرؤه ،وهــو الــذي ســمع رســول هللا صلــى هللا عليــه وســلم يقــول(( :ادرؤوا الحدود بالشبهات ما استطعتم)) وسمعه كذلك يقول(( :ألن يخطئ اإلمام فــي العفــو خي ــر مــن أن يخطــئ فــي العقوبــة)) وهــو الــذي ت ــرجمه القانون ــيون املحدثون بقولهم[ :إن العدالة تتأذى من إدانة بـريء واحد لكنها ال تتأذى من تبـرئة مائة متهم] وهو الذي جاءه صاحب بستان يشكو سرقة خادمه لثمــار البســتان ،فلمــا حقــق القضيــة وجــد أن صاحــب البســتان ال يعطــي خادمــه مــا يكفيــه ،فقــال لــه عمــر :لــو ســرق بعــد ذلــك لقطعــت يــدك أنــت! هذا الفقه السليم إلقامة الحدود اإلسالمية هو الذي فقهه عمر فوجد أن الرمــادة شــبهة كبـي ــرة تــدرأ الحــد ..فوجــد أن شــروط النــص ال تنطبــق، وليــس معنــى ذلــك تقديــم املصلحــة علــى النــص ،إنمــا هــو اجتهــاد داخــل النــص نفســه للبحــث فــي توافــر شــروط الجريمــة وشــروط العقوبــة)(.)23 َّ اإلسالمي يعيش الرمادة واملجاعة على كل ومن يتأمل واقعنا يـرى مجتمعنا َّ َّ واألخالقية والفكرية ،وهذا ما يدعونا اليوم إلى إعادة املستويات الديـن َّـية النظر في ّ ّ اإلسالمية وطريقة تعاملها مع املجتمع ...فيا أولويات الجماعات من تنادون باإلســام صباح مســاء! بدل أن تلوموا ّ الناس لوموا أنفســكم، هل فعلتم ما يتوجب عليكم لتثبـيت اإليمان في القلوب حتى يفعل الناس مــا يتوجــب عليهــم مــن العمــل بأحــكام هللا؟ أم أنكــم بخالفاتكــم ونزاعاتكــم والفضائــح الت ــي تنــال كباركــم والخرافــات الت ــي تعــج بهــا عقــول أتباعكــم؛ قــد أفقدتــم َّ النــاس الثقــة بــكل مــن يتكلــم باســم الدي ــن! نعــم نحــن اليــوم جـ ٌ ـزء مــن ّ َّ نحملهالآلخريـن. املشكلةالتـينتكلمعنهاوعليـناأننتحملمسؤولياتنابدلأن ِ فاحذر أيها املسلم الغيور إن ُوّل َ يت ً شيئا من أمر املسلميـن أن تجور عليهم ِ أو تظلمهــم ،فتبــوء بغضــب هللا مــن حيــث قصــدت رضــاه ،واعلــم أن ـات كثي ــرة قبــل أن تصــل إلــى مرحلــة تطب ــيق للمجتمــع عليــك واجبـ ٍ الحــدود ،فقبــل أن تقطــع يــد الســارق أطعمــه ،وقبــل أن تجلــد الزان ــي أو ت ــرجمه علمــه وأدبــه ،وقبــل أن تجلــد شــارب الخمــر هيــئ لــه ظــروف صالحــه ،وقبــل أن تحكــم بالــردة علــى مــن يســب الدي ــن علمــه حرمــة ً مجتمعا الدي ــن ،فــإن أقمــت عليهــم الحــدود قبــل أن تعلمهــم وتيهــئ لهــم
( )22موطأ اإلمام مالك ،تحقيق بشار عواد معروف ومحمود خليل ،طبعة مؤسسة الرسالة ( ،1412ص .)470/2 ( )23املصلحة املرسلة محاولة لبسطها ونظرة فيها ،املؤلف :علي محمد جريشة ،الناشر :الجامعة اإلسالمية باملديـنة املنورة ،طبعة السنة العاشرة -العدد الثالث ،ذو الحجة 1397هـ (ص .)48
22
ً َّ وأولويتــك اليــوم أن تيهــئ املجتمــع نظيفــا يعيشــون فيــه فقــد ظلمتهــم، ليتحمل أعباء الحكم اإلسالمي ويتقبل مفاهيمه بدل أن تكرهه على ما ُ يجهــل وتأطــره عليــه أطـ ًـرا فتكــون ســبب فتنــة لــه فــي دي ــنه... اعتـراض ورد: االعت ـراض :يحــاول البعــض الطعــن فــي روايــة درء عمــر ر�ضــي هللا عنــه لحــد الســرقة بشــبهة الجــوع بقولهــم :إنهــا غي ــر ثابتــة لضعــف ســندها ،بــل جــزم بعضهــم بأنهــا مكذوبــة مختلقــة علــى عمــر ر�ضــي هللا عنــه! وتلــك هــي حجــة الضعفــاء وأهــل البــدع فــي كل زمــان ،إن لــم يوافــق النــص فهمهــم ّ ضعفــوه، فــإن لــم يجــدوا سب ـ ًـيل لذلــك َّأولــوه َّ وحملــوه مــن األحــكام مــا ليــس فيــه، كحــال ذي الخويصــرة التميمــي الــذي لــم يمنعــه �شــيء مــن االعتــداء علــى حرمــة النب ــي صلــى هللا عليــه وســلم واتهامــه بالجــور والبعــد عــن العدالــة. الــرد :رغــم مــا ذكــر فــي ســند هــذه القصــة فإنــه ال يطعــن فيهــا ألنهــا ثابتــة معتمدة عند مجتهدي فقهاء السلف الصالح ،إذ جعلوها ً أساسا تستنبط منه األحكام في مسألة تغريم العبد بجنايته أو تغريم سيده ،وحكم تغريم السيدبضعفقيمةال�شيءاملتلف،باإلضافةإلىتقريـرهمدرءحدالسرقة بالجــوع ...وممــن احتــج بهــذه الروايــة اإلمــام مالــك واإلمــام الشــافعي واإلمــام َّ ّ يؤكــد مــا نقــل مــن اجتهــاد عمــر فــي هــذه املســألة؛ تقري ــره هــذه أحمــد ،وممــا ِ َُْ َ ُ الفتــوى فــي مواضــع أخــرى وروايــة األئمــة لذلــك عنــه كقولــه(( :ال يقطــع ِفــي َ ْ ِعــذ ٍقَ ،وال ِفــي َعـ ِـام َسـ َـن ٍة))(.)24 وقــد تحــدث اب ــن ّ القيــم طويــا عــن اجتهــاد عمــر ر�ضــي هللا عنــه فــي هــذه َ ْ ٌِ ْ َ ْ َ ّ َ َ َْ ُ ُ ْ َ ال َج َاعـ ِـة] ْ ِال َثــالُ وط الحـ ِـد عــام اب ســق ِ املســألة َفقــال( :فصــل ِ[مــن أســب ِ َ َ ْ ْ َّ َّ َ َ ْ ُ الثالـ ُـث :أ َّن ُع َمـ َـر ْبـ َـن ْال َخ َّطــاب َر�ضـ َـي ُ الل َعنــه أ ْســقط القطـ َـع َعـ ْـن َّ السـ ِـار ِق ِ ِ ِ ْ َ َ َْ َ َ َ ْ ُ َ َ َ َ َ ُ َ ْ ـال(( :ل ت ْقطـ ُـع ال َيـ ُـد ِفــي ِعــذ ٍق َول َعـ ِـام َسـ َـن ٍة))، ِفــي عـ ِـام الجاعـ ِـة ...عــن عمــر قـ ََ َ ْ َ َ َّ ْ ُّ َ َ ْ َ ْ َ َ ْ َ َ ْ َ َ ْ َ َ ْ (العـ ْـذقُ: َ قــال الســع ِدي :ســألت أحمــد بــن حنبـ ٍـل عــن هــذا الح ِديـ ِـث فقــالِ : َْ ُ َ ْ َ ََ َ َ َ َّ الن ْخ َل ُة) و َ ْ ال :إي ل َعم ِري، (ع ُام َس َن ٍة :ال َج َاعة) ،ف ُقلت ِل ْح َم َد :ت ُقول ِب ِه؟ فق ْ َ َ َ َ َ َ َ َْ َ ُ ُ ََ َ َ َ َ ََْ ُ ْ َ َ ُ َ ُْ اجــة َعلــى قلــت :إن ســرق ِفــي مجاعـ ٍـة ل تقطعــه؟ فقــال :ل ،إذا حملتــه الح َذلـ َـك َو َّ النـ ُ ـاس ِفــي َم َج َاعـ ٍـة َو ِشـ َّـد ٍة. ِ َ ْ َ َ َ َ ـال َّ َقـ َ السـ ْـع ِد ُّيَ :و َهــذا َعلــى ن ْحـ ِـو ق ِض َّيـ ِـة ُع َمـ َـر ِفــي ِغل َمـ ِـان َح ِاطـ ٍـبَ ...وذ َهـ َـب يعــا ،فــي َم َســائل ْ َأ ْح َمـ ُـد َإلــى ُم َو َاف َقــة ُع َمـ َـر فــي ْال َف ْ ص َل ْيــن َجم ً إسـ َـم ِاع َ يل ْبـ ِـن ِ ِ ِ ِ ِ ِ ِ َّ َ ْ ّ َّ َ َ َ َ َّ ْ ُّ َ َ َّ ُ ْ ُ َ ْ ُ َ َ َ َ ْ َ اب سماه التر ِجم ،قال :سألت َس ِع ٍيد الشالن ِج ِي ال ِتي شرحها السع ِدي ِب ِكت ٍ َ َّ ْ َ َ ْ َ َ ْ َ َ ْ َّ ُ َ ْ ُ َّ الث َمـ َـر ِمـ ْـن أ ْك َم ِامـ ِـهَ ،ف َقـ َ ـالِ :فيـ ِـه الث َمـ ُـن أحمــد بــن حنبـ ٍـل عــن الرجـ ِـل يح ِمــل َ َّ َ ْ َ َ ْ ُ َ َ َ َ َ َ ُ ُّ َ ْ َ َ ْ َ َ ْ ُ ْ َ ُّ َ ْ َ َ ُ َ ْ َ ْ َ َ َ ْ مرتيـ ِـن وضــرب نــك ٍال ،وقــال :وكل مــن درأنــا عنــه الحــد والقــود أضعفنــا عليـ ِـه َْ ْ َ َْ َْ َ ْ ُ َ َ َ ْ َ َ َ َ ْ َ ََ ُ ُ وط القطـ ِـع ِفــي ال َج َاعـ ِـة ال ْوز ِاعـ ُّـيَ ،و َهــذا الغـ ْـرم ،وقــد وافــق أح َمــد علــى ســق ِ
العدد 2رجب 1439هـ
َ َ ْ ُ ْ َ ََُْ َ َ َّ ْ َ َّ َّ َ َ َ َ السـ َـنة إذا كانـ ْـت َسـ َـنة �ضــى ق َو ِاعـ ِـد الشــرِع؛ فـ ِـإن ـاس ومقت محــض ال ِقيـ ِ َ َ َ َ َّ َ َ َ َ َ َّ ْ َ َ ُ َ َّ ُ َ ُ َ َ ُ ْ َ َ َ َ ْ ُُ ـاس الحاجــة والضــرورة ...وعــام الجاعـ ِـة يكثــر مجاعـ ٍـة و ِشــد ٍة غلــب علــى النـ ِ ْ َ َ ُ َ ْ ُ ْ َ ُّ َ َ َ َ َ َ َّ ُ ْ ُ ْ َ ْ ْ ُ ْ َ َّ ُق َ ْ َ َ ِف ِيه الح ِاويج والضطرون ،ول يتميز الستغ ِني ِمنهم والس ِار ِلغي ِر حاج ٍة َ َ ْ َ َ َ َ َْ َ َ ِم ْن غ ْي ِر ِه ،فاشت َب َه َم ْن َي ِج ُب َعل ْي ِه ال َح ُّد ِب َم ْن ل َي ِج ُب َعل ْي ِه ف ُد ِر َئ ،ن َع ْم إذا َ َ َ َّ َّ َق َ َ َ َ َ ُ َ ُ ْ َ ْ َ ْ َّ َ ُ السـ ِـرق ِة ق ِطـ َـع)(.)25 بــان أن السـ ِـار ل حاجــة ِبـ ِـه وهــو مســتغ ٍن عــن لعل في هذا العرض املوجز لألحكام التـي استنبطها مجتهدو سلفنا الصالح ً كفاية لباغي ّ الحق َّ والرشاد ،وأما من استحكمت بدعته من هذه القصة ِ فــي قلبــه فــا يقنعــه �شــيء مــن ذلــك ،ولــو كان صر ً يحــا فــي كتــاب هللا وســنة رسوله ألن مرضه كمرض ذي الخويصرة الذي لم يمنعه �شيء من االفتـراء على رسول هللا صلى هللا عليه وسلم ،إنه العجب والكبـر على عباد هللا كما أخبـر النبـي صلى هللا عليه وسلم ،نسأل هللا السالمة من ذلك.
املبحثالثالث
َّ ٌ ُ َّ الحدود إقامة ِ ولة مقدمة على ِ وحدة الد ِ عندما بويع الصحاب ُّـي الجليل ّ علي بـن أبـي طالب كرم هللا وجهه بالخالفة، كان أول عمل سيقوم به هو االقتصاص من قتلة عثمان بـن عفان ر�ضي هللا عنهّ ، ولكنه رأى في تطب ــيق القصاص في تلك املرحلة مفســدة أكب ــر مــن املصلحــة املرتجــاة مــن تطب ــيقه ،أال وهــي خــروج عشــائر القتلــة علــى الدولــة اإلســامية ،وبالتالــي دخــول األمــة فــي حــروب طاحنــة قــد تــؤدي إلــى انهيــار الدولــة ،ورأى أن الحـ َ ـروب مــع املطالبـي ــن بتعجيــل القصــاص وهــم طلحــة والزبـي ــر ومعاويــة -ر�ضــي هللا عــن الجميــع -أقـ ُّـل ضـ ًـررا مــن تطب ــيق القصــاص فــي تلــك املرحلــة الحرجــة ،بــل وأقــل ضـ ًـررا مــن ـقوط ملكانــة الخالفــة االســتجابة لهــم ،ملــا فــي االســتجابة ملخالفيــه مــن سـ ٍ وهيبــة ُ الحكـ ِـم ،فيدفــع ذلــك كل ذي هــوى إلــى التطــاول علــى مكانــة الدولــة فــي قابــل َّأيامهــا ،ومعلــوم مــا فــي هــذا األمــر مــن ضيــاع للســلطة وانف ـراط لعقــد األمــة وإطمــاع للعــدو فــي بالدهــا َّ ورعيتهــا. فت ـ ْـر ُك القصــاص شــر ،والحــرب ضــد معاويــة وغي ــره شــر آخــر ،ولكــن أمي ــر املؤمنـي ــن ًّ عليــا كــرم هللا وجهــه دفــع أعظــم الشري ــن بأهونهمــا ،فرفــض االقتصــاص مــن القتلــة فــي تلــك املرحلــة ور�ضــي بمواجهــة اآلخري ــن علــى القاعدة املشهورة( :إذا تعارضت مفسدتان دفع أعظمهما ً ضررا بارتكاب أخفهمــا) ...وال بــد لنــا مــن الوقــوف علــى أقــوال أهــل العلــم فــي هــذه الواقعــة، لعل في أقوالهم ً نورا مبـي ـ ًـنا يبدد ظلمات الجهل ،ويكشف الحق لطالب ــيه. ّ الباقلن ـ ُّـي رحمــه هللاَ : (وعلــى َأنــه إذا َثبــت َأن ًّ عليــا ِم َّمــن ي ــرى يقــول اإلمــام ِ
( )24مصنف ابـن أبـي شيبة ،بتـرقيم دار القبلة ،باب في الرجل يسرق الثمر والطعام رقم الحديث ( ،)29179وفي مصنف عبد الرزاق ،تحقيق األعظمي طبعة املجلس العلمي في الهند ،1403رقم الحديث (.)18990 ( )25إعالم املوقعيـن عن رب العامليـن البـن القيم ،تحقيق محمد عبد السالم إبـراهيم ،طبعة دار الكتب العلمية ( ،1991ص 18/3و )53(.)19شرح العقيدة الطحاوية (ص)354/2
23
قواعد السياسة الشرعية َ َّ َ ْ ْ ْ قتــل ال َج َم َاعــة ِبال َو ِاحـ ِـد؛ لــم يجــز أن يقتــل َج ِميــع قتلــة ُعث َمــان ِإل ِبــأن تقــوم َ َ ْ ال َب ِّي َنــة علــى القتلــة بأعيانهــمَ ،و ِبــأن يحضــر أ ْوِل َيــاء الـ َّـدم َم ْج ِلســه ،ويطالبــوا َ َ َ َ ّ َ ُ ُ ووليهــمَ ،ول َيكونــوا ِفــي حكــم مــن ْيع َتقــد أنهــم بغــاة َعل ْيـ ِـه َو ِم َّمـ ْـن ل ِبـ َـدم أ ِب ِيهــم ِ َ َ ْ ُ َّ ْ ْ اسـ ِتخ َراج حــق ل ُهــم دون أن يدخلــوا ِفــي الط َاعــة وي ــرجعوا َعــن ال َبغــي، يجــب َ َ َُّ َ َ ْ َ ُ َ َ ْ َ ََ َُْ َ َُّ َ َ اإلمــام اج ِتهــاده ِإلــى أن قتــل قتلـ ِـة عثمــان ل يــؤ ِدي ِإلــى هــرج ع ِظيــم و ِبــأن يــؤ ِدي ِ َ ْ َ ْ َ َ ْ ُ َّ َوف َســاد شـ ِـديد؛ قــد يكــون ِفيـ ِـه مثــل قتــل ُعث َمــان أو أعظــم ِمنــهِ َ ،وإن تأ ِخي ـ َـر َ ْ َ ْ َ ْ ْ َ ِإق َامــة ال َحــد ِإلــى َوقــت ِإ ْمكانــه وتق�صــي الحــق ِفيـ ِـه أولــى و أصلـ ُـح للمــة وألـ ُّـم َ ْ َْ َ َ ُْ َ ُ ُ اإل َمــام ِفــي إقامــة لشــعثهم وأنفــى للفســاد والتهمــة عنهــم ،هـ ِـذه أ َمــور كلهــا تلــزم ِ ْ ْ ْال ُحـ ُـدود واســتخراج ْال ُح ُقــوقَ ،وَل ْيـ َ ال َم َامــة لرجــل مــن ـس ألحــد أن يعقــد ِ ْ ْ َ َ ُْ السلمي ــن بشـريطة ت ْع ِجيــل ِإق َامــة حــد مــن ُحـ ُـدود هللاَ ،وال َع َمـ ِـل ِفيـ ِـه ِبـ َـرأي ْ َ َّ الرعيــةَ َ ،ول للمعقــود َلـ ُـه َأن ْ ّ ـي ـ ف ـل ـ خ يد ال َم َامــة ِب َهــذا الشـ ْـرط.)26().. ِ ِ َّ وقــد تكلــم اإلمــام الطحــاوي رحمــه هللا عــن أســباب امتنــاع اإلمــام علـ ّ ٍـي كــرم هللا وجهــه عــن القصــاص فــي تلــك الفت ــرة الحرجــة مــن تاريــخ األمــة بقولــه: ُ َ َّ ُّ َ ْ َ َ(و َك َان فــي َع ْسـ َـكر َعلـ ّـي َر�ضـ َـي َّ ُ الل َع ْنـ ُـه ِ -مـ ْـن أول ِئـ َـك الطغـ ِـاة الخـ َـو ِار ِج ال ِذي ـ َـن ِ ِ ِ ٍ ِ َق َت ُلــوا ُع ْث َمـ َ ـان َ -مـ ْـن َلـ ْـم ُي ْعـ َـر ْف ب َع ْي ِنـ ِـهَ ،و َمـ ْـن َت ْن َتصـ ُـر َلـ ُـه َقب َيل ُتـ ُـهَ ،و َمـ ْـن َلـ ْـم َت ُقــمْ ِ ِ ِ َ َ ْ ُ َّ ٌ َ َ َ َ ُ َ َ ْ َ ْ َ ٌ َ ْ َ َ َ َّ ْ ْ ْ ُ ّ ()27 َ عليـ ِـه حجــة ِبمــا فعلــه ،ومــن ِفــي قل ِبـ ِـه ِنفــاق لــم يتمكــن ِمــن ِإظهـ ِـار ِه ك ِلـ ِـه) . ّ يقــول اب ــن ت ــيمية( :بــل لــم يكــن علـ ٌّـي مــع تفــرق النــاس عليــه متمك ًنــا مــن قتـ ِـل َ َ شرا ً بفتنة تزيد األمر ًّ وبالء ،ودفع أفسد الفاسديـن بالتزام تلة عثمان إال ٍ ق ِ ً عسكرا وكان لهم قبائل تغضب لهم، أدناهما أولى من العكس ،ألنهم كانوا ً َّ واملباشر منهم للقتل وإن كان قليل فكان ِر ْد ُؤهم أهل الشوكة ،ولوال ذلك َ لــم يتمكنــوا ...وملــا ســار طلحــة والزبـي ــر إلــى البصــرة ليقتلــوا قتلــة عثمــان قــام بســبب ذلــك حـ ٌ ـرب قتــل فيهــا خلــق ،وممــا يبـي ــن ذلــك أن معاويــة قــد أجمــع ّ علي وصار أمي ًـرا على جميع املسلميـن ومع هذا فلم الناس عليه بعد موت ٍ يقتل قتلــة عثمــان)(.)28 ّ الخالصــة :ال بــد لهــذا الــدرس أن يكــون نـ ً ـورا َّ واملتبصري ــن ،فهــذا للسالكي ــن اإلمــام علـ ٌّـي كــرم هللا وجهــه لــم يقــل بــأن القصــاص غي ــر واجــب تبـري ـ ًـرا لعــدم قــدرة الدولــة علــى تنفيــذه ،كمــا لــم يدفعــه التزامــه بكافــة أوامــر الشــرع إلــى القيام بأعمال قد تؤدي إلى انهيار دولته ...وإنما أخذ بكل ما جاء في الشرع مــن نصــوص ومــن قواعــد املصلحــة ّ الكليــة املعروفــة عنــد املجتهدي ــن مــن ٍ الصحابــة ومــن علــى دربهــم. وهذا ما نقوله اليوم في سوريا واليمن وليبـيا وغيـرها من بالد اإلسالم التـي تعانـي من االضطرابات ،ال تجوز إقامة الحدود في فتـرة فتنة ومحسوبـيات
قواعد السياسة الشرعية
العدد 2رجب 1439هـ
وتصفيةحساباتتحتاسماملحاكمالشرعية،ملافيذلكمنإشعالللفتن وتحكيمللهوىوعصيانهللورسولهوبعدعننهجالخلفاءالراشديـن،وإنما تقام على املذنبـيـن عقوبات مؤقتة من حجز وتعزيـر تكفي لضبط املجتمع ريثمايستقرالوضع،وتنفذفيهمالعقوباتاملناسبةلجرائمهم...
املبحث الرابع
ُ الحدود من أمور ّ ياسة التـي ال ُت َّ حمل الس ِ ِ ِ َّ مسؤولياتها لعامة الناس عندمــا نتتبــع أوامــر الش ـريعة اإلســامية فإننــا نــرى مــن نصوصهــا مــا هــو عــام لــكل مســلم كاألمــر باإليمــان والصــاة ،ومنهــا مــا هــو خـ ّ ـاص موجــه لفئة َّ معينـ ٍـة مــن األمــة كاألمــر بالــزكاة والحــج واألمــر باملعــروف والنهــي عــن املنكــر والجهــاد واإلنفــاق فإنــه وإن كان األمــر فيــه ًّ عامــا لــكل األمــة ،فــإن هــذا األمــر ال يفيد الوجوب في حق املكلف بعيـنه حتى يكون ً قادرا على أدائه أو ممن اجتمعــت فيهــم شــروط التكليــف ،كاألمــر بالحــج والــزكاة فإنــه موجــه إلــى األغنـياء والقادريـن... وكذلك أمور الحكم وإدارة الدول فإنها موجهة إلى الحكام والقضاة وأولي مخصوص من أحكامها... األمر وأصحاب القدرة ،وكل منهم مكلف بجزء ٍ أما أن ُي َّدعى َّأن األمر بهذه األحكام َّ موج ٌه إلى كل أحد من املسلميـن ،فيظن ًّ البعض نفســه ًّ ووصيا على إقامة الشــرع ،فإن في هذا وصيا على الخالفة ً أنواعا من الفساد ال تح�صى ،وقد رأيـناها في بالد الشامُ ، وقبل في العراق والجزائر والصومال ومالي وأفغانستان ،فكلما تغلبت مجموعة من هؤالء ً َّ إسالمي ًة تعقد فيها بـيعة لنكرة ُّ يسمونه القاصريـن على قرية أعلنوها إمارة أمي ًـرا ،تجب طاعته في اليسر والعسر واملنشط واملكره على حد تعبـيـرهم، َّ ً ـرعية يعقــدون فيهــا مجالــس القضــاء الت ــي تتطاي ــر ثــم ي ــنشئون محاكـ َـم شـ فيهــا رؤوس املخالفي ــن يمنــة ويســرة تحــت شــعار إقامــة الحــدود والحكــم بمــا أنــزل هللا. وقد عد النبـي صلى هللا عليه وسلم حديث رعاع الناس في شؤون املسلميـن العامةمنعالماتفسادالزمانوانقالباملوازيـنقربظهورالدجال،يقول َ ات َخ ّد َاع ٌ الناس َس َن َو ٌ ((ت ْأتي َع َلى َّ ات ُي َ ص َّد ُق ِف َيها النبـي صلى هللا عليه وسلمِ : ِ َْ َ ُ ْ َ َْ ْالـ َـك ِاذ ُبَ ،وُي َكـ َّـذ ُب ِف َيهــا َّ الصـ ِـاد ُقَ ،وُيؤت َمـ ُـن ِف َيهــا الخا ِئـ ُـنَ ،وُيخـ َّـون ِف َيهــا ال ِمي ـ ُـن، الر َو ْيب َ الر َو ْيب َ ضـ ُـة؟ َقـ َ ضـ ُـة)) ِقيـ َـلَ :يــا َر ُســو َل َّ ِ َ َ ُّ ـالَّ : َ َ ْ ُ ُ ُّ ((الر ُجـ ُـل الل ومــا ِ وين ِطــق ِف ِيهــم َ ِ ْ َ َّ َّ التا ِف ُه َي َتكل ُم ِفي أ ْم ِر ال َع َّام ِة))(.)29
( )26تمهيد األوائل في تلخيص الدالئل للباقالنـي ،طبعة مؤسسة الكتب الثقافية -لبـنان 1987م( ،ص .)551 ( )27شرح العقيدة الطحاوية البـن أبـي العز الحنفي ،طبعة مؤسسة الرسالة 1997م( ،ص )28( - .)723/2منهاج السنة البـن تـيمية تحقيق محمد رشاد سالم ،الطبعة األولى ،مؤسسة قرطبة( ،ص .)236/4 ( )29املستدرك على الصحيحيـن للحاكم النـيسابوري ،تحقيق مصطفى العطا ،طبعة دار الكتب العلمية 1990م( ،ص )512/4رقم الحديث ( )8439وقد صححه الحاكم ووافقه الذهبـي... وفي سنن ابـن ماجه تحقيق األرناؤوط طبعة دار الرسالة 2009م ،باب شدة الزمان( ،ص )162/5رقم الحديث (.)4036
24
ولهذا فإنه من اإلجرام في حق األمة واملجتمع ما تقوم به بعض الجماعات مــن تحميــل مســؤولية إقامــة «منصــب الخالفــة» لــكل فــرد ،ممــا جعــل َّ الخالفة كلمة مبتذلة على األفواه وفي أذهان الناس بعد أن َ حملها وتكلم ً بهــا مــن ليــس أهــا للحديــث عنهــا ،وهــي إنمــا يخاطــب بهــا أهــل القــدرة مــن األمـراء والعلمــاء وأهــل الســطوة فــي األمــة ...والحــدود فــي ذلــك كالخالفــة -إذ هي جزء من مهامها -إنما يخاطب بها أهل ُ الحكم من ملوك وأمراء وقضاة وأصحــاب الســلطة االجتماعيــة مــن علمــاء ورجــال سياســة وأعمــال ،وال يخاطــب بهــا الجهلــة ومــن ليــس مــن أهــل االختصــاص ،ممــن لــم يتوجــه خطــاب الشــارع إليــه فــي هــذا املســائل. قال اإلمام النووي رحمه هللا في املجموع( :ال يقيم الحدود على األحرار إال اإلمام أو من فوض إليه اإلمام ،ألنه لم ُي َقم ٌّ حد على حر على عهد رسول هللا صلــى هللا عليــه وســلم إال بإذنــه ،وال فــي أيــام الخلفــاء إال بإذنهــم ،وألنــه حـ ٌّـق هلل تعالــى يفتقــر إلــى االجتهــاد وال يؤمــن فــي است ــيفائه الحيــف فلــم يجــز بغي ــر إذن اإلمام.)30()... ولعل في الواقعة التـي نقلت عن عمر بـن الخطاب ر�ضي هللا عنه في حجته األخيـرة ب ً ـيانا ً شافيا لنا في هذه املسألة ،روى اإلمام البخار ُّي بسنده إلى ْاب ِن َ َ ُ ُْ ُْ َ َّ ـاس ر�ضــي هللا عنهمــا قـ ـال( :ك ْنـ ُـت أقـ ِـر ُئ ِر َجــاال ِمـ َـن ال َه ِاج ِري ـ َـن ِم ْن ُهـ ْـم َع ْبـ ُـد عبـ ٍ َ ً َ ْ َ ْ َ ُ َ َ ْ ْ َ َّ َّ ْ َ ْ ُ َ ْ َ َ ْ َ َ َ َ ْ ـاب الرحمـ ِـن بــن عــو ٍف فبينمــا أنــا ِفــي من ِزلـ ِـه ِب ِمنــى ،وهــو ِعنــد عمـ َـر بـ ِـن الخطـ َ ِ َ َّ َ َّ َ ْ َ َ َ َ َّ َ ْ ُ َّ ْ َ َ َ َ َ ً َ ِفــي ِآخـ ِـر حجـ ٍـة حجهــا؛ ِإذ رجــع ِإلــي عبــد الرحمـ ِـن فقـ ـال :لـ ْـو َرأ ْيـ َـت َر ُجــا أتــى َ ُْْ َ ْ َ ْ َ َ َ ـالَ :يــا َأمي ـ َـر ْالُ ْؤمني ـ َـن َهـ ْـل َلـ َـك فــي ُفـ َـان! َي ُقــو ُلَ :لــوْ ِِ أ ِمي ـ َـر الؤ ِم ِني ــن اليــوم فقـ َ ِ َِ ٍ ُ ْ َّ َ ْ ً َ ْ َ َ ُ َ ُ َ َ ْ َ َ ْ ُ ُ َ ً َ َ َّ َ َ الل َمــا كانـ ْـت َب ْي َعــة أ ِبــي َبكـ ٍـر ِإال فل َتــة قــد مــات عمــر لقــد بايعــت فالنــا فــو ِ َ َ َّ ْ َ َ َ ُ َ ُ ُ َّ َ َ ّ ْ َ َ َّ ُ َ َ ٌ ْ َ َّ َ َّ ـاس فتمــت! فغ ِضــب عمــر ثــم قــالِ : ((إَ ِنــي ِإن شــاء الل ُلقا ِئــم الع ِشــية ِفــي النـ ِ ُ َ َّ َ ّ َ ْ ْ ُ َ ُ َ ُ ُ ْ ْ ف ُم َح ِذ ُر ُهـ ْـم َهــؤال ِء ال ِذي ـ َـن ُي ِريـ ُـدون أن يغ ِصبوهــم أمورهــم)). بهــذه الكلمــات البســيطة يقــرر عمــر ب ــن الخطــاب ر�ضــي هللا عنــه قاعــدة كبـرى من قواعد السياسة اإلسالمية وهي :أن السلطة في تنصيب الحاكم لألمة ،مما يتـرتب على ذلك عدم شرعية الحكام الذيـن يأخذون السلطة ً غصبــا دون أن يكــون للمجتمــع أو لقادتــه ر ٌ أي فــي اخت ــيارهم ...ولكــن ملــا أراد عمــر أن يخطــب وقــف فــي وجهــه مستشــاره األمي ــن عبــد الرحمــن ب ــن عــوف َ َْ ََ َ ُْْ ر�ضي هللا عنه وقال له(َ :يا أ ِمي َـر الؤ ِم ِني َـن ال ت ْف َع ْل ف ِإ َّن ال ْو ِس َم َي ْج َم ُع َر َع َاع َّ النــاس َو َغ ْو َغ َاء ُهـ ْـمَ ،فإ َّن ُهـ ْـم ُهـ ُـم َّال ِذي ـ َـن َي ْغل ُبــو َن َع َلــى ُق ْربـ َـك حي ـ َـن َت ُقـ ُ ـوم ِفــي ِ ِ ِ ِ ِ ُ َ َ َ َ ً َ َََ َ ْ َ َ ْ َ ُ َ َ َّ ـوم ف َت ُقــو َل َمقالــة ُيط ِّي ُر َهــا َع ْنـ َـك ك ُّل ُمط ِّيـ ٍـرَ ،وأ ْن النـ ـاس ،وأنــا أخ�شــى أن تقـ ِ ََ َْ َ َ َ َ َ ُ َ ََ ْ َ َ َ ُ َ ََ َ َ اض ِع َهــا فأ ْم ِهـ ْـل َح َّتــى ت ْقـ ُـد َم ال ِدي ـ َـنة ف ِإ َّن َهــا ال يعوهــا ،وأن ال يضعوهــا علــى مو ِ ُْ َّ َ َ ُ ْ ْ َ َ ُّ َّ َ َ ْ ُ َ َ ْ ْ ْ َ َ ْ اس ف َت ُقو َل َما قل َت دار ال ِهجر ِة و السن ِة ،فتخلص ِبأه ِل ال ِفق ِه وأش َر ِ اف الن ِ ( )30املجموع شرح املهذب لإلمام النووي طبعة دار الفكر( ،ص .)34/20 ( )31صحيح البخاري ،باب رجم الحبلى في الزنا إذا أحصنت ،رقم الحديث (.)6442
العدد 2رجب 1439هـ
ُ َ َ ّ ً ََ َ ْ ُ ْ ْ َ َ ََ َ ََ َ ُ ََ ََ َ َ اض ِع َهــا!) (.)31 متم ِكنــا ،في ِعــي أهــل ال ِعلـ ِـم مقالتــك ويضعونهــا علــى مو ِ وبالفعــل فقــد رأى عمــر ر�ضــي هللا عنــه الصــواب فــي نصيحــة مستشــاره األمي ــن َّ فأجــل الخطبــة حتــى ي ــرجع إلــى املدي ــنة ويتكلــم مــع أهــل الفهــم واالختصــاص ،وهــذا الــكالم مــن اب ــن عــوف وعمــر ر�ضــي هللا عنهمــا واضــح ُ الداللــة علــى أنــه ليــس مــن الحكمــة الحديــث أمــام عامــة النــاس فــي أمــور تخــص الحاكــم والدولــة والسياســة ،فالعامــة ال يفهمونهــا بــل قــد يثي ــرون الفتــن عنــد ســماعها ،وإنمــا املختصــون بمناقشــة أمــور الحكــم والسياســة هــم طبقــة خاصــة مــن املجتمــع تتمتــع بالفهــم والعقــل والعلــم. ً َ ثــم كان مــن كالم عمــر فــي خطبتــه يــوم رجــع إلــى املدي ــنة(( :ف َمـ ْـن َب َايـ َـع َر ُجــا َ ًَ َ َّ َ َ ُْ َع َلــى َغ ْيــر َم ُشـ َ ـور ٍة ِمـ َـن ال ْس ِل ِمي ـ َـن فــا ُي َت َابـ ُـع ُهـ َـوَ ،وال الـ ِـذي َب َاي َعـ ُـه ت ِغـ َّـرة أ ْن ِ َ ُي ْق َتال)) فأيما رجل خرج يطلب الحكم بدون مشــورة املجتمع وأهل الرأي والحكمــة فيــه فحقــه القتــل هــو ومــن بايعــه. وهــذان األم ـران وهمــا وجــوب مشــورة أهــل ال ـرأي والحكمــة فــي اخت ــيار َ الحاكــم ،وعــدم إدخــال عامــة َّ النــاس فــي أمــور سياسـ َّـية ال يفقهونهــا؛ ل ُهمــا من أبـرز معالم نظام الحكم في اإلسالم ،الذي اختص بتشريعات حكيمة تحوي في ثناياها كل مزايا االتجاهات السياسية األخرى وتتجنب مساوئها. مســألة :إن تجن ــيب العامــة مســائل الحكــم وتطب ــيق الحــدود ال يعن ــي أبـ ًـدا ّ َّ ّ ُ ّ ونعل َمهــم إياهــا ونعرفهــم علــى حكمــة اإلســام فــي تشـريعها، فقههــم بهــا ِ أل ن ِ بــل إن تعليمهــم هــذه األمــور مــن واجبــات الدي ــن الت ــي تعـ ّـرف املــرء بأحــكام ربه وتحفظ له ديـنه فال تلتبس عليه الشبهات التـي تثار حول التشريعات حم َل مسؤولية تطبـيقها أو َ اإلسالمية اليوم ،وإنما املمنوع هو أن ُي َّ يوهم بــأن هللا سيحاســبه إن لــم يســع لهــا؛ وهــو أصــا ليــس مــن أهــل هــذا الشــأن وال ممــن ّ توجـ َـه إليــه التكليــف بذلــك.
املبحثالخامس َّ ُ َّ ّ ُ إقامة الشريعة األناة والتدرج في ِ
إن القــارئ فــي مسي ــرة التشـريع اإلســامي يعلــم أن األنــاة والتــدرج أساســان مهمان من أسس الدعوة لم يستغن عنهما اإلسالم في مرحلة من مراحله، إذ لم ي ــنزل القرآن دفعة واحدة ولم تحرم الخبائث كلها ب ــنص واحد ،كما لــم تنــزل الفرائــض جميعــا فــي يــوم واحــد ولــو أراد هللا ذلــك لــكان ...ولعــل فــي مهــام وأهــداف الدعــوة اإلســامية فــي كل مــن املرحلــة املكيــة واملدن ــية أوضــح دليــل علــى ذلــك...
25
قواعد السياسة الشرعية َ َّ َ ْ ْ ْ قتــل ال َج َم َاعــة ِبال َو ِاحـ ِـد؛ لــم يجــز أن يقتــل َج ِميــع قتلــة ُعث َمــان ِإل ِبــأن تقــوم َ َ ْ ال َب ِّي َنــة علــى القتلــة بأعيانهــمَ ،و ِبــأن يحضــر أ ْوِل َيــاء الـ َّـدم َم ْج ِلســه ،ويطالبــوا َ َ َ َ ّ َ ُ ُ ووليهــمَ ،ول َيكونــوا ِفــي حكــم مــن ْيع َتقــد أنهــم بغــاة َعل ْيـ ِـه َو ِم َّمـ ْـن ل ِبـ َـدم أ ِب ِيهــم ِ َ َ ْ ُ َّ ْ ْ اسـ ِتخ َراج حــق ل ُهــم دون أن يدخلــوا ِفــي الط َاعــة وي ــرجعوا َعــن ال َبغــي، يجــب َ َ َُّ َ َ ْ َ ُ َ َ ْ َ ََ َُْ َ َُّ َ َ اإلمــام اج ِتهــاده ِإلــى أن قتــل قتلـ ِـة عثمــان ل يــؤ ِدي ِإلــى هــرج ع ِظيــم و ِبــأن يــؤ ِدي ِ َ ْ َ ْ َ َ ْ ُ َّ َوف َســاد شـ ِـديد؛ قــد يكــون ِفيـ ِـه مثــل قتــل ُعث َمــان أو أعظــم ِمنــهِ َ ،وإن تأ ِخي ـ َـر َ ْ َ ْ َ ْ ْ َ ِإق َامــة ال َحــد ِإلــى َوقــت ِإ ْمكانــه وتق�صــي الحــق ِفيـ ِـه أولــى و أصلـ ُـح للمــة وألـ ُّـم َ ْ َْ َ َ ُْ َ ُ ُ اإل َمــام ِفــي إقامــة لشــعثهم وأنفــى للفســاد والتهمــة عنهــم ،هـ ِـذه أ َمــور كلهــا تلــزم ِ ْ ْ ْال ُحـ ُـدود واســتخراج ْال ُح ُقــوقَ ،وَل ْيـ َ ال َم َامــة لرجــل مــن ـس ألحــد أن يعقــد ِ ْ ْ َ َ ُْ السلمي ــن بشـريطة ت ْع ِجيــل ِإق َامــة حــد مــن ُحـ ُـدود هللاَ ،وال َع َمـ ِـل ِفيـ ِـه ِبـ َـرأي ْ َ َّ الرعيــةَ َ ،ول للمعقــود َلـ ُـه َأن ْ ّ ـي ـ ف ـل ـ خ يد ال َم َامــة ِب َهــذا الشـ ْـرط.)26().. ِ ِ َّ وقــد تكلــم اإلمــام الطحــاوي رحمــه هللا عــن أســباب امتنــاع اإلمــام علـ ّ ٍـي كــرم هللا وجهــه عــن القصــاص فــي تلــك الفت ــرة الحرجــة مــن تاريــخ األمــة بقولــه: ُ َ َّ ُّ َ ْ َ َ(و َك َان فــي َع ْسـ َـكر َعلـ ّـي َر�ضـ َـي َّ ُ الل َع ْنـ ُـه ِ -مـ ْـن أول ِئـ َـك الطغـ ِـاة الخـ َـو ِار ِج ال ِذي ـ َـن ِ ِ ِ ٍ ِ َق َت ُلــوا ُع ْث َمـ َ ـان َ -مـ ْـن َلـ ْـم ُي ْعـ َـر ْف ب َع ْي ِنـ ِـهَ ،و َمـ ْـن َت ْن َتصـ ُـر َلـ ُـه َقب َيل ُتـ ُـهَ ،و َمـ ْـن َلـ ْـم َت ُقــمْ ِ ِ ِ َ َ ْ ُ َّ ٌ َ َ َ َ ُ َ َ ْ َ ْ َ ٌ َ ْ َ َ َ َّ ْ ْ ْ ُ ّ ()27 َ عليـ ِـه حجــة ِبمــا فعلــه ،ومــن ِفــي قل ِبـ ِـه ِنفــاق لــم يتمكــن ِمــن ِإظهـ ِـار ِه ك ِلـ ِـه) . ّ يقــول اب ــن ت ــيمية( :بــل لــم يكــن علـ ٌّـي مــع تفــرق النــاس عليــه متمك ًنــا مــن قتـ ِـل َ َ شرا ً بفتنة تزيد األمر ًّ وبالء ،ودفع أفسد الفاسديـن بالتزام تلة عثمان إال ٍ ق ِ ً عسكرا وكان لهم قبائل تغضب لهم، أدناهما أولى من العكس ،ألنهم كانوا ً َّ واملباشر منهم للقتل وإن كان قليل فكان ِر ْد ُؤهم أهل الشوكة ،ولوال ذلك َ لــم يتمكنــوا ...وملــا ســار طلحــة والزبـي ــر إلــى البصــرة ليقتلــوا قتلــة عثمــان قــام بســبب ذلــك حـ ٌ ـرب قتــل فيهــا خلــق ،وممــا يبـي ــن ذلــك أن معاويــة قــد أجمــع ّ علي وصار أمي ًـرا على جميع املسلميـن ومع هذا فلم الناس عليه بعد موت ٍ يقتل قتلــة عثمــان)(.)28 ّ الخالصــة :ال بــد لهــذا الــدرس أن يكــون نـ ً ـورا َّ واملتبصري ــن ،فهــذا للسالكي ــن اإلمــام علـ ٌّـي كــرم هللا وجهــه لــم يقــل بــأن القصــاص غي ــر واجــب تبـري ـ ًـرا لعــدم قــدرة الدولــة علــى تنفيــذه ،كمــا لــم يدفعــه التزامــه بكافــة أوامــر الشــرع إلــى القيام بأعمال قد تؤدي إلى انهيار دولته ...وإنما أخذ بكل ما جاء في الشرع مــن نصــوص ومــن قواعــد املصلحــة ّ الكليــة املعروفــة عنــد املجتهدي ــن مــن ٍ الصحابــة ومــن علــى دربهــم. وهذا ما نقوله اليوم في سوريا واليمن وليبـيا وغيـرها من بالد اإلسالم التـي تعانـي من االضطرابات ،ال تجوز إقامة الحدود في فتـرة فتنة ومحسوبـيات
قواعد السياسة الشرعية
العدد 2رجب 1439هـ
وتصفيةحساباتتحتاسماملحاكمالشرعية،ملافيذلكمنإشعالللفتن وتحكيمللهوىوعصيانهللورسولهوبعدعننهجالخلفاءالراشديـن،وإنما تقام على املذنبـيـن عقوبات مؤقتة من حجز وتعزيـر تكفي لضبط املجتمع ريثمايستقرالوضع،وتنفذفيهمالعقوباتاملناسبةلجرائمهم...
املبحث الرابع
ُ الحدود من أمور ّ ياسة التـي ال ُت َّ حمل الس ِ ِ ِ َّ مسؤولياتها لعامة الناس عندمــا نتتبــع أوامــر الش ـريعة اإلســامية فإننــا نــرى مــن نصوصهــا مــا هــو عــام لــكل مســلم كاألمــر باإليمــان والصــاة ،ومنهــا مــا هــو خـ ّ ـاص موجــه لفئة َّ معينـ ٍـة مــن األمــة كاألمــر بالــزكاة والحــج واألمــر باملعــروف والنهــي عــن املنكــر والجهــاد واإلنفــاق فإنــه وإن كان األمــر فيــه ًّ عامــا لــكل األمــة ،فــإن هــذا األمــر ال يفيد الوجوب في حق املكلف بعيـنه حتى يكون ً قادرا على أدائه أو ممن اجتمعــت فيهــم شــروط التكليــف ،كاألمــر بالحــج والــزكاة فإنــه موجــه إلــى األغنـياء والقادريـن... وكذلك أمور الحكم وإدارة الدول فإنها موجهة إلى الحكام والقضاة وأولي مخصوص من أحكامها... األمر وأصحاب القدرة ،وكل منهم مكلف بجزء ٍ أما أن ُي َّدعى َّأن األمر بهذه األحكام َّ موج ٌه إلى كل أحد من املسلميـن ،فيظن ًّ البعض نفســه ًّ ووصيا على إقامة الشــرع ،فإن في هذا وصيا على الخالفة ً أنواعا من الفساد ال تح�صى ،وقد رأيـناها في بالد الشامُ ، وقبل في العراق والجزائر والصومال ومالي وأفغانستان ،فكلما تغلبت مجموعة من هؤالء ً َّ إسالمي ًة تعقد فيها بـيعة لنكرة ُّ يسمونه القاصريـن على قرية أعلنوها إمارة أمي ًـرا ،تجب طاعته في اليسر والعسر واملنشط واملكره على حد تعبـيـرهم، َّ ً ـرعية يعقــدون فيهــا مجالــس القضــاء الت ــي تتطاي ــر ثــم ي ــنشئون محاكـ َـم شـ فيهــا رؤوس املخالفي ــن يمنــة ويســرة تحــت شــعار إقامــة الحــدود والحكــم بمــا أنــزل هللا. وقد عد النبـي صلى هللا عليه وسلم حديث رعاع الناس في شؤون املسلميـن العامةمنعالماتفسادالزمانوانقالباملوازيـنقربظهورالدجال،يقول َ ات َخ ّد َاع ٌ الناس َس َن َو ٌ ((ت ْأتي َع َلى َّ ات ُي َ ص َّد ُق ِف َيها النبـي صلى هللا عليه وسلمِ : ِ َْ َ ُ ْ َ َْ ْالـ َـك ِاذ ُبَ ،وُي َكـ َّـذ ُب ِف َيهــا َّ الصـ ِـاد ُقَ ،وُيؤت َمـ ُـن ِف َيهــا الخا ِئـ ُـنَ ،وُيخـ َّـون ِف َيهــا ال ِمي ـ ُـن، الر َو ْيب َ الر َو ْيب َ ضـ ُـة؟ َقـ َ ضـ ُـة)) ِقيـ َـلَ :يــا َر ُســو َل َّ ِ َ َ ُّ ـالَّ : َ َ ْ ُ ُ ُّ ((الر ُجـ ُـل الل ومــا ِ وين ِطــق ِف ِيهــم َ ِ ْ َ َّ َّ التا ِف ُه َي َتكل ُم ِفي أ ْم ِر ال َع َّام ِة))(.)29
( )26تمهيد األوائل في تلخيص الدالئل للباقالنـي ،طبعة مؤسسة الكتب الثقافية -لبـنان 1987م( ،ص .)551 ( )27شرح العقيدة الطحاوية البـن أبـي العز الحنفي ،طبعة مؤسسة الرسالة 1997م( ،ص )28( - .)723/2منهاج السنة البـن تـيمية تحقيق محمد رشاد سالم ،الطبعة األولى ،مؤسسة قرطبة( ،ص .)236/4 ( )29املستدرك على الصحيحيـن للحاكم النـيسابوري ،تحقيق مصطفى العطا ،طبعة دار الكتب العلمية 1990م( ،ص )512/4رقم الحديث ( )8439وقد صححه الحاكم ووافقه الذهبـي... وفي سنن ابـن ماجه تحقيق األرناؤوط طبعة دار الرسالة 2009م ،باب شدة الزمان( ،ص )162/5رقم الحديث (.)4036
24
ولهذا فإنه من اإلجرام في حق األمة واملجتمع ما تقوم به بعض الجماعات مــن تحميــل مســؤولية إقامــة «منصــب الخالفــة» لــكل فــرد ،ممــا جعــل َّ الخالفة كلمة مبتذلة على األفواه وفي أذهان الناس بعد أن َ حملها وتكلم ً بهــا مــن ليــس أهــا للحديــث عنهــا ،وهــي إنمــا يخاطــب بهــا أهــل القــدرة مــن األمـراء والعلمــاء وأهــل الســطوة فــي األمــة ...والحــدود فــي ذلــك كالخالفــة -إذ هي جزء من مهامها -إنما يخاطب بها أهل ُ الحكم من ملوك وأمراء وقضاة وأصحــاب الســلطة االجتماعيــة مــن علمــاء ورجــال سياســة وأعمــال ،وال يخاطــب بهــا الجهلــة ومــن ليــس مــن أهــل االختصــاص ،ممــن لــم يتوجــه خطــاب الشــارع إليــه فــي هــذا املســائل. قال اإلمام النووي رحمه هللا في املجموع( :ال يقيم الحدود على األحرار إال اإلمام أو من فوض إليه اإلمام ،ألنه لم ُي َقم ٌّ حد على حر على عهد رسول هللا صلــى هللا عليــه وســلم إال بإذنــه ،وال فــي أيــام الخلفــاء إال بإذنهــم ،وألنــه حـ ٌّـق هلل تعالــى يفتقــر إلــى االجتهــاد وال يؤمــن فــي است ــيفائه الحيــف فلــم يجــز بغي ــر إذن اإلمام.)30()... ولعل في الواقعة التـي نقلت عن عمر بـن الخطاب ر�ضي هللا عنه في حجته األخيـرة ب ً ـيانا ً شافيا لنا في هذه املسألة ،روى اإلمام البخار ُّي بسنده إلى ْاب ِن َ َ ُ ُْ ُْ َ َّ ـاس ر�ضــي هللا عنهمــا قـ ـال( :ك ْنـ ُـت أقـ ِـر ُئ ِر َجــاال ِمـ َـن ال َه ِاج ِري ـ َـن ِم ْن ُهـ ْـم َع ْبـ ُـد عبـ ٍ َ ً َ ْ َ ْ َ ُ َ َ ْ ْ َ َّ َّ ْ َ ْ ُ َ ْ َ َ ْ َ َ َ َ ْ ـاب الرحمـ ِـن بــن عــو ٍف فبينمــا أنــا ِفــي من ِزلـ ِـه ِب ِمنــى ،وهــو ِعنــد عمـ َـر بـ ِـن الخطـ َ ِ َ َّ َ َّ َ ْ َ َ َ َ َّ َ ْ ُ َّ ْ َ َ َ َ َ ً َ ِفــي ِآخـ ِـر حجـ ٍـة حجهــا؛ ِإذ رجــع ِإلــي عبــد الرحمـ ِـن فقـ ـال :لـ ْـو َرأ ْيـ َـت َر ُجــا أتــى َ ُْْ َ ْ َ ْ َ َ َ ـالَ :يــا َأمي ـ َـر ْالُ ْؤمني ـ َـن َهـ ْـل َلـ َـك فــي ُفـ َـان! َي ُقــو ُلَ :لــوْ ِِ أ ِمي ـ َـر الؤ ِم ِني ــن اليــوم فقـ َ ِ َِ ٍ ُ ْ َّ َ ْ ً َ ْ َ َ ُ َ ُ َ َ ْ َ َ ْ ُ ُ َ ً َ َ َّ َ َ الل َمــا كانـ ْـت َب ْي َعــة أ ِبــي َبكـ ٍـر ِإال فل َتــة قــد مــات عمــر لقــد بايعــت فالنــا فــو ِ َ َ َّ ْ َ َ َ ُ َ ُ ُ َّ َ َ ّ ْ َ َ َّ ُ َ َ ٌ ْ َ َّ َ َّ ـاس فتمــت! فغ ِضــب عمــر ثــم قــالِ : ((إَ ِنــي ِإن شــاء الل ُلقا ِئــم الع ِشــية ِفــي النـ ِ ُ َ َّ َ ّ َ ْ ْ ُ َ ُ َ ُ ُ ْ ْ ف ُم َح ِذ ُر ُهـ ْـم َهــؤال ِء ال ِذي ـ َـن ُي ِريـ ُـدون أن يغ ِصبوهــم أمورهــم)). بهــذه الكلمــات البســيطة يقــرر عمــر ب ــن الخطــاب ر�ضــي هللا عنــه قاعــدة كبـرى من قواعد السياسة اإلسالمية وهي :أن السلطة في تنصيب الحاكم لألمة ،مما يتـرتب على ذلك عدم شرعية الحكام الذيـن يأخذون السلطة ً غصبــا دون أن يكــون للمجتمــع أو لقادتــه ر ٌ أي فــي اخت ــيارهم ...ولكــن ملــا أراد عمــر أن يخطــب وقــف فــي وجهــه مستشــاره األمي ــن عبــد الرحمــن ب ــن عــوف َ َْ ََ َ ُْْ ر�ضي هللا عنه وقال له(َ :يا أ ِمي َـر الؤ ِم ِني َـن ال ت ْف َع ْل ف ِإ َّن ال ْو ِس َم َي ْج َم ُع َر َع َاع َّ النــاس َو َغ ْو َغ َاء ُهـ ْـمَ ،فإ َّن ُهـ ْـم ُهـ ُـم َّال ِذي ـ َـن َي ْغل ُبــو َن َع َلــى ُق ْربـ َـك حي ـ َـن َت ُقـ ُ ـوم ِفــي ِ ِ ِ ِ ِ ُ َ َ َ َ ً َ َََ َ ْ َ َ ْ َ ُ َ َ َّ ـوم ف َت ُقــو َل َمقالــة ُيط ِّي ُر َهــا َع ْنـ َـك ك ُّل ُمط ِّيـ ٍـرَ ،وأ ْن النـ ـاس ،وأنــا أخ�شــى أن تقـ ِ ََ َْ َ َ َ َ َ ُ َ ََ ْ َ َ َ ُ َ ََ َ َ اض ِع َهــا فأ ْم ِهـ ْـل َح َّتــى ت ْقـ ُـد َم ال ِدي ـ َـنة ف ِإ َّن َهــا ال يعوهــا ،وأن ال يضعوهــا علــى مو ِ ُْ َّ َ َ ُ ْ ْ َ َ ُّ َّ َ َ ْ ُ َ َ ْ ْ ْ َ َ ْ اس ف َت ُقو َل َما قل َت دار ال ِهجر ِة و السن ِة ،فتخلص ِبأه ِل ال ِفق ِه وأش َر ِ اف الن ِ ( )30املجموع شرح املهذب لإلمام النووي طبعة دار الفكر( ،ص .)34/20 ( )31صحيح البخاري ،باب رجم الحبلى في الزنا إذا أحصنت ،رقم الحديث (.)6442
العدد 2رجب 1439هـ
ُ َ َ ّ ً ََ َ ْ ُ ْ ْ َ َ ََ َ ََ َ ُ ََ ََ َ َ اض ِع َهــا!) (.)31 متم ِكنــا ،في ِعــي أهــل ال ِعلـ ِـم مقالتــك ويضعونهــا علــى مو ِ وبالفعــل فقــد رأى عمــر ر�ضــي هللا عنــه الصــواب فــي نصيحــة مستشــاره األمي ــن َّ فأجــل الخطبــة حتــى ي ــرجع إلــى املدي ــنة ويتكلــم مــع أهــل الفهــم واالختصــاص ،وهــذا الــكالم مــن اب ــن عــوف وعمــر ر�ضــي هللا عنهمــا واضــح ُ الداللــة علــى أنــه ليــس مــن الحكمــة الحديــث أمــام عامــة النــاس فــي أمــور تخــص الحاكــم والدولــة والسياســة ،فالعامــة ال يفهمونهــا بــل قــد يثي ــرون الفتــن عنــد ســماعها ،وإنمــا املختصــون بمناقشــة أمــور الحكــم والسياســة هــم طبقــة خاصــة مــن املجتمــع تتمتــع بالفهــم والعقــل والعلــم. ً َ ثــم كان مــن كالم عمــر فــي خطبتــه يــوم رجــع إلــى املدي ــنة(( :ف َمـ ْـن َب َايـ َـع َر ُجــا َ ًَ َ َّ َ َ ُْ َع َلــى َغ ْيــر َم ُشـ َ ـور ٍة ِمـ َـن ال ْس ِل ِمي ـ َـن فــا ُي َت َابـ ُـع ُهـ َـوَ ،وال الـ ِـذي َب َاي َعـ ُـه ت ِغـ َّـرة أ ْن ِ َ ُي ْق َتال)) فأيما رجل خرج يطلب الحكم بدون مشــورة املجتمع وأهل الرأي والحكمــة فيــه فحقــه القتــل هــو ومــن بايعــه. وهــذان األم ـران وهمــا وجــوب مشــورة أهــل ال ـرأي والحكمــة فــي اخت ــيار َ الحاكــم ،وعــدم إدخــال عامــة َّ النــاس فــي أمــور سياسـ َّـية ال يفقهونهــا؛ ل ُهمــا من أبـرز معالم نظام الحكم في اإلسالم ،الذي اختص بتشريعات حكيمة تحوي في ثناياها كل مزايا االتجاهات السياسية األخرى وتتجنب مساوئها. مســألة :إن تجن ــيب العامــة مســائل الحكــم وتطب ــيق الحــدود ال يعن ــي أبـ ًـدا ّ َّ ّ ُ ّ ونعل َمهــم إياهــا ونعرفهــم علــى حكمــة اإلســام فــي تشـريعها، فقههــم بهــا ِ أل ن ِ بــل إن تعليمهــم هــذه األمــور مــن واجبــات الدي ــن الت ــي تعـ ّـرف املــرء بأحــكام ربه وتحفظ له ديـنه فال تلتبس عليه الشبهات التـي تثار حول التشريعات حم َل مسؤولية تطبـيقها أو َ اإلسالمية اليوم ،وإنما املمنوع هو أن ُي َّ يوهم بــأن هللا سيحاســبه إن لــم يســع لهــا؛ وهــو أصــا ليــس مــن أهــل هــذا الشــأن وال ممــن ّ توجـ َـه إليــه التكليــف بذلــك.
املبحثالخامس َّ ُ َّ ّ ُ إقامة الشريعة األناة والتدرج في ِ
إن القــارئ فــي مسي ــرة التشـريع اإلســامي يعلــم أن األنــاة والتــدرج أساســان مهمان من أسس الدعوة لم يستغن عنهما اإلسالم في مرحلة من مراحله، إذ لم ي ــنزل القرآن دفعة واحدة ولم تحرم الخبائث كلها ب ــنص واحد ،كما لــم تنــزل الفرائــض جميعــا فــي يــوم واحــد ولــو أراد هللا ذلــك لــكان ...ولعــل فــي مهــام وأهــداف الدعــوة اإلســامية فــي كل مــن املرحلــة املكيــة واملدن ــية أوضــح دليــل علــى ذلــك...
25
قواعد السياسة الشرعية والتــدرج فــي قضيــة تحريــم الخمــر وزواج املتعــة -كنمــاذج لهــذا القانــون اإللهــي -أشــهر مــن أن يحتــاج لذكرهمــا هنــا ...ولكــن ظهــر اليــوم مــن دعــاة ّ التكفي ــر وغي ــرهم مــن يدعــون إلــى إقامــة الدي ــن ِكلــه علــى النــاس جمي ِعهــم ً ً دفعــة واحــدة دون اعتبــار لتعاليــم النب ــي صلــى هللا عليــه وســلم أو نظــر فــي مآالت األمور ونتائجهاَ ،وي َّدعون أن مبدأ التدرج ال يعدو أن يكون تشـر ًيعا ً وتقديمــا للعقــل علــى النقــل ،وأنــه ال قيمــة لــه بعــد قــول هللا تعالــى بال ـرأي َ ْ ((ال َيـ ْـو َم َأ ْك َم ْلـ ُـت َل ُكـ ْـم دي ـ َـن ُك ْم َوأ ْت َم ْمـ ُـت َع َل ْي ُكـ ْـم ن ْع َمتــي َو َرضيـ ُـت َل ُكـ ُـم ْال ْسـ َـامَ ِ ِ ِ ِ ِ ِدي ـ ًـنا)) [املائــدة :اآليــة .]3 والحقيقــة أن االســتدالل بآيــة إكمــال الدي ــن علــى إنــكار اعتبــار التــدرج فــي الشــرع والواقــع نــوع مــن تحميــل النــص مــا ال يحتملــه ،إذ ال يعن ــي تمــام علــم ً ً مــا (كالجب ــر والهندســة) أنــه يجــب أن ُيعطــى دفعــة واحــدة لطالــب مبتــدئ ً ً احتجاجــا بكونــه ً فــي الســنة األولــى علمــا متكامــا ،وعلــى الجهــة املقابلــة ال يســتقيم إنــكار أج ـزاء أصيلــة مــن علــم الرياضيــات وبت ــرها منــه بحجــة أن عقــل الطالــب ال يستســيغها فــي هــذه الفت ــرة ،وهــذا حالنــا اليــوم بـي ــن طرفــي النقيض «التكفيـرييـن والحداثييـن» كالهما َّ تطرف في فهمه للديـن فأخطأ الطريــق وضـ َّـل وأضـ َّـل ً خلقــا كثي ـ ًـرا ،وقــد أكــدت الســيدة عائشــة ر�ضــي هللا عنهــا هــذا املبــدأ اإلسـ َّ ـامي العظيــم فــي مراعــاة أحــوال النــاس عندمــا قالــت: ْ ْ ((إ َّن َما َن َز َل َأ َّو َل َما َن َز َل منه -أي القرآن ُ -س َور ٌة م َن ْ ُال َف َّ ص ِل ِف َيها ِذك ُر ال َج َّن ِة ِ ِ ِ ـاب َّ َو َّ ـاس إ َلــى اإل ْسـ َـام َنـ َـز َل ْال َحـ َـا ُل َو ْال َحـ َـر ُامَ ،وَلـ ْـو َنـ َـز َل َأ َّولَ النــارَ ،ح َّتــى إ َذا َثـ َ النـ ُ ِ ِ ِ ِ ِ َ ْ َ َ ْ َُ ْ َ ْ َ َ َ ُ َ َ َ ُ ْ َ ْ َ ََ ً َ َ ْ َ َ َ َ َ ُْ َ َ ُ َ �شي ٍء ال تشربوا الخمر لقالوا ال ندع الخمر أبدا ،ولو نزل ال تزنوا لقالوا ال َ َ ُ َّ َ الزنــا أ َبـ ًـدا))(.)32 نــدع ِ َ ُ َّ ُ ف َّ ُ الل َن ْفساً ومع هذا سأتجاوز مسألة التدرج لنستمع لقوله تعالى ((ل يك ِل َّ َ ((ف َّات ُقــوا َّ َ الل مــاَ ِإل ُو ْسـ َـع َها)) [ســورة البقــرة :آيــة ]286ولقولــه ســبحانه: ٌ َْ َ ُ اآليات واضحة في وجوب اإلتـيان استط ْعت ْم )) [سورة التغابـن :آية ]16إن ِ من الشرع ما استطعنا وعدم تكليفنا ما ال نستطيع ،وقد أخذ العلماء من ُّ هذه اآليات وغيـرها القاعدة الفقهية الشهيـرة (ما ال يدرك كله ال يتـرك كله ُّ أو جله) ...فيجب اإلتـيان باملستطاع من التكاليف الشرعية ما يختص منها بعالقــة املــرء مــع ربــه ،أو مــا ي ــنظم عالقتــه باآلخري ــن ،وال بــد عنــد العمــل بقاعــدة االســتطاعة أن نعتب ــر قواعــد الشــرع األخــرى ونالحــظ تعلقهــا بتقريـر أحكام الوقائع التـي تعرض لنا في حياتنا ،كقاعدة (درء املفاسد مقــدم علــى جلــب املصالــح) وكقاعــدة (الضــرورات تب ــيح املحظــورات) وكقاعدة (يختار أهون الشريـن) وقاعدة (يتحمل الضرر الخاص لدفع الضــرر العــام) وغي ــرها.
قواعد السياسة الشرعية
العدد 2رجب 1439هـ
ولنستمع لهذا الحوار بـيـن خامس الخلفاء الراشديـن عمر بـن عبد العزيز ر�ضــي هللا عنــه واب ــنه عبــد امللــك لنتعــرف علــى منهــج الســلف فــي تحكيــم الشــرع والقيــام بأوامــر هللا ســبحانه( ...دخــل عبــد امللــك ب ــن ُع َمــر ب ــن عبــد العزيــز علــى أب ــيه وقــال لــه :يــا أمي ــر املؤمنـي ــن مــا أنــت قائــل لربــك غـ ًـدا إذا ً ســألك! فقــال :رأيــت بدعــة فلــم تمتهــا أو سـ ّـنة لــم تحيهــا؟ فقــال لــه :يــا بـن ـ ّـي إلي أم ٌ َ الر َّ أ�شيء َّ حم ْلت َك ُه َّ نفسك؟ قال :ال وهللا! ولكن عية َّ ر أي رأيته من قبل ِ َ ْأ ٌي ُ أيتــه مــن قبــل نف�ســي وعرفـ ُـت أنــك مســؤول ،فمــا أنــت قائــل؟ فقــال ر ر ً لــه أبــوه :رحمــك هللا وجـزاك مــن ولــد خي ــرا ،فـوهللا إن ــي ألرجــو أن تكــون مــن ً ً األعــوان علــى الخي ــر يــا بـن ــي ،إن قومــك قــد شـ ُّـدوا هــذا األمــر عقــدة عقــدة ً ً وعــروة عــروة! ومتــى مــا أريــد مكاب ــرتهم علــى انت ـزاع مــا فــي أيديهــم لــم آمــن أن يفتقــوا علــي ً فتقــا تكث ــر فيــه الدمــاء ،وهللا لــزوال الدن ــيا أهــون علـ َّـي مــن أن يهراق في سببـي محجمة من ٍدم ،أو ما تـر�ضى أن ال يأتـي على أبـيك يوم من ً ً سنة حتى َ يحكم هللا بـيـننا ّأيام الدنـيا إال وهو يميت فيه بدعة ويحيي فيه وبـي ــن قومنــا بالحــق وهــو خي ــر الحاكمي ــن)(.)33 َ َ َ ْ َ ْ َ َ ْ ُ َ ْ َ َ َّ ُ َ ات َعلى قال اإلمام الشاطبـي رحمه هللا( :ف ِلهذا العنى ِبعي ِن ِه و ِضع ِت العم ِلي َ َ َّ َ َ َ َ ُ ْ ْ ُ َ َّ َ َ َ َو ْجـ ٍـه ل تخـ ِـر ُج الكلــف ِإلــى َمشـ َّـق ٍة َي َمـ ُّـل ِب َسـ َـب ِب َها ،أ ْو ِإلــى ت ْع ِطيـ ِـل عادا ِتـ ِـه ال ِتــي َ َ ُْ َْ ُ ُ َ َ ُ َُْ ُ َََ َ ُ َ َ َُ ُ وظـ ِـهَ ،وذ ِلـ َـك أ َّن ال ِّمـ َّـي يقــوم ِب َهــا صــاح دنيــاه ،ويتو َّســع ِبســب ِب َها ِفــي نيـ ِـل حظ ِ َ ْ ْ َ َْ َّ َّ َ ْ ُ َ ْ َ ْ ً َ ْ ُ ُ ـور الشـ ْـر ِع َّي ِة َول ال َع ْق ِل َّيـ ِـة َ-و ُر َّب َمــا اشـ َـمأ َّز قل ُبـ ُـه الـ ِـذي لــم يــز ِاول شــيئا ِمــن المـ ِ َ َ َ َ َ ْ َع َّمــا ُيخ ِر ُجـ ُـه َعـ ْـن ُم ْع َتـ ِـاد ِه ِ -ب ِخــا ِف َمـ ْـن ك َان لـ ُـه ِبذ ِلـ َـك َع ْهـ ٌـدَ ،و ِمـ ْـن ُه َنــا ك َان ْ َ َ َ ً َ َ َ َ ْ َ ْ َ ُ َّ ْ ُ َ ول ْال ُق ْرآن ُن ُج ً ُن ُز ُ التك ِل ِيف َّية ِف َيها ش ْي ًئا وما ِفي ِعش ِريـن سنة ،وورد ِت الحكام ِ َ َ ْ ً َ َ ْ َ ْ ْ َ ْ َ ً َ َ ً َ َ َ َ َّ َ ْ َ َ ْ َ ُّ ُ ُ ْ ً ً وس َدف َعة َو ِاح َدة، فشيئا ولم تن ِزل دفعة و ِاحدة ،وذ ِلك ِلئل تن ِفر عنها النف ـال َلـ ُـهَ :مــا َلــكَ َو ِف َيمــا ُي ْح َكــى َعـ ْـن ُع َمـ َـر ْبــن َع ْبـ ِـد ْال َعزيــز َأ َّن ْاب َنـ ُـه َع ْبـ َـد ْ َال ِلـ ِـك َقـ َ ِ ِ ِ َ ُ َ ّ ُ ْ ُ ُ َ َ َ َّ الل َمــا ُأ َبالــي َلـ ْـو َأ َّن ْال ُقـ ُـد َور َغ َلـ ْـت بــي َوبـ َـك فــي ْال َحـ ّـق! َقـ َ ـال ل تن ِفــذ المــور؟ فــو ِ ِ ِ ِ ِ ِ ْ َ ُ ُ َ ُ َ َ ْ َ ْ َ ُ َ َّ َ َّ َّ َ َ ْ َ َ الل ذ َّم الخ ْمـ َـر ِفــي ال ُقـ ْـر ِآن َم َّرت ْيـ ِـن َو َح َّر َم َهــا ِفــي لــه عمــر( :ل تعجــل يــا بنــي ،فـ ِـإن َّ َ َ َّ َ َ ُ َ ْ َ ْ َ ْ َ َّ َ َ ُ ْ َ ً َ َ ْ َُ َّ ُ ـاس جملــة ،فيدفعــوه جملــة، الث ِالثـ ِـةِ ،وإنــي أخــاف أن أح ِمــل الحــق علــى النـ ِ ْ ْ َ ويكــون مــن ذا فتنـ ًـةَ )...و َهـ َـذا َم ْع ًنــى َ ْ ص ِحيـ ٌـح ُم ْع َت َبـ ٌـر ِفــي ِالسـ ِتق َر ِاء العـ ِـاد ّ ِي)(.)34 وجاء في سيـرة عمر بـن عبد العزيز عند أبـي محمد عبد هللا بـن عبد الحكم قال( :ملا ولي عمر بـن عبد العزيز قال له ابـنه عبد امللك :إنـي ألراك يا أبتاه ّ ً ـاعة مــن َّ قــد أخــرت أمـ ً النهــار عجلتهــا، ـورا كثي ــرة كنــت أحســبك لــو وليــت سـ َ ولـ َـو ِد ْد ُت أنــك قــد فعلــت ذلــك ولــو فــارت ب ــي وبــك القــدور! قــال لــه عمــر: َ ُ ُ ّ أي أهـ ِـل الحداثـ ِـة، أي بـن ــي! إنــك علـ َـى ح ُسـ ِـن قسـ ِـم هللا لــك ،وفيــك بعــض ر ِ ٌ ـتطيع أ ْن أ َ وهللا ما أسـ ُ خرج لهم شـ ًـيئا من الدي ــن إال ومعه طرف من الدن ــيا ِ ً أستلي ــن بــه قلوبهــم؛ خوفــا أن ي ــنخرق علـ َّـي منهــم مــا ال طاقــة لــي بــه)(.)35
( )32رواه البخاري في كتاب فضائل القرآن ،باب تأليف القرآن رقم الحديث (.)4707 ( )33حلية األولياء ألبـي نعيم ،طبعة دار الكتب العربـي 1405هـ (ص ،)283/5وتاريخ الخلفاء للسيوطي ،تحقيق الدمرداش ،طبعة مكتبة نزار الباز 2004م( ،ص .)180 ( )34املوافقات للشاطبـي طبعة دار ابـن عفان 1997م( ،ص .)184/2 ( )35سيـرة عمر بـن عبد العزيز ،لإلمام أبـي محمد عبد هللا بـن عبد الحكم ،تحقيق أحمد عبـيد ،طبعة عالم الكتب 1984م( ،ص.)57
26
النتائج )1أحــكام الحــدود والقصــاص جــزء مــن تشــريع اإلســام ال ي ــنكرها عالــم متفقــه علــى منهــج أهــل الســنة والجماعــة ،وإنمــا ي ــنكرها أهــل ـبهات ،وال علــم األهــواء أو الضعفــاء ممــن وقعــوا تحــت ضغــط الشـ ِ لهــم بقواعــد اســتنباط األحــكام الشــرعية ليدافعــوا بهــا عــن دي ــنهم. )2النتائــج الت ــي وصــل إليهــا املتطرفــون ال تمــت إلــى اإلســام بصلــة، ألنهــا ال تعــدو أن تكــون اجت ـز ًاء لألدلــة وإخر ً اجــا لهــا مــن ســياقها. )3كل واحــدة مــن املســائل الشــرعية هــي عبــارة عــن وحــدة متكاملــة ً َّ مكونــة مــن مجموعــة مــن األج ـزاء املت ـرابطة فيمــا بـي ــنها ت ـرابطا ال انفــكاك فيــه ،فــإذا مــا ُحكــم علــى مســألة مــا مــن غي ــر إحاطــة شــاملة بــكل مــا ورد فيهــا مــن أدلــة خاصــة ومــا ي ــنطبق عليهــا مــن قواعــد عامــة؛ ً ناقصــا وبعيـ ًـدا عــن م ـراد الشــرع الكريــم. فســيكون الحكــم )4القواعــد الفقهيــة هــي الحاكمــة علــى قوانـي ــن الشــريعة الجزئيــة، وال حكــم بــدون اعتبارهــا وعــرض الوقائــع عليهــا. ٌ )5فــي السي ــرة النبويــة وتاريــخ خلفائنــا كفايــة للتعــرف علــى منهــج اإلســام فــي سياســة األمــة وإدارة شــؤونها ومنهــا قضايــا الحــدود. )6بعــض أمــور السياســة والحكــم ال يجــوز الحديــث بهــا أمــام العامــة لعــدم توجــه الخطــاب إليهــم فيهــا ،ومنعــا مــن إثــارة الفتــن. )7هللا كلفنــا بمــا نســتطيع ولــم يكلفنــا فــوق طاقتنــا ،ومــن يكلــف نفســه فــوق طاقتــه يخــرج عــن منهــج هللا ويخســر دي ــنه ودن ــياه. َ )8اإلسالم جاء لسعادتنا فإذا ش ِقيت املجتمعات املسلمة فالسبب هو تخلفها وفهمها الخاطئ للديـن وليس اإلسالم.
خامتة
إن املســلم حي ــن يتأمــل نصــوص الق ـرآن والســنة يجــد أن مقصــود الشــرع مــن الحــدود ليــس االنتقــام مــن الجان ــي وليــس العقوبــة بحــد ذاتهــا ،ولكــن هدفــه األول مــن تشــريعها ردع املجــرم عــن التمــادي فــي خطئــه ،والحفــاظ علــى املجتمــع مــن أن تتحــول هــذه األخطــاء فيــه مــن حــاالت فرديــة طب ــيعية ال يخلــو منهــا مجتمــع إلــى ظاهــرة مرضيــة مستشــرية تهتــك النســيج األخالقــي ّ لألمــة املســلمة ...روى اإلمــام مالــك فــي املوطــأ عــن زيــد ب ــن أســلم،
العدد 2رجب 1439هـ
ً أن رجــا اعت ــرف علــى نفســه بالزنــا علــى عهــد رســول هللا صلــى هللا عليــه وســلم ،فأمــر بــه فجلــد ثــم قــال(( :أيهــا النــاس قــد آن لكــم أن تنتهــوا عــن حــدود هللا ،مــن أصــاب مــن هــذه القــاذورات شــيئا فليستت ــر بست ــر هللا ،فإنــه مــن يبــدي لنــا صفحتــه نقــم عليــه كتــاب هللا)). مــن هنــا أســتطيع أن أقــول :إن كتــب الفقــه أو الحديــث ال تكفــي ً قارئهــا ليصبــح ً فقيهــا أو عال ـ ــا ،فمــن اكتفــى بالق ـراءة والحفــظ َُ َ ال يعــدو َمثلـ ُـه آلــة الحاســوب ،يخــزن املعلومــات ثــم يخرجهــا ال فقـ َـه وال فهـ َـم ...وإنمــا علــى املتفقــه أن يقـرأ سي ــرة النب ــي صلــى هللا عليــه وســلم وسي ــر خلفائــه الراشدي ــن ومناقــب الســلف واألئمــة املجتهدي ــن والعلمــاء العاملي ــن بقصــد االســتفادة ال بغــرض النقــد والتنقــص ،ثــم يثن ــي بق ـراءة كتــب القواعــد الفقهيــة ألنهــا هــي الحاكمــة علــى مــا قـرأه فــي كتــب الفقــه ،كمــا أنــه ال بــد لــه مــن ق ـراءة علــم أصــول الفقــه ليعــرف كيــف وصــل املجتهــدون إلــى األحــكام ،فــا يتهمهــم بالتفريــط والحكــم بغي ــر مــا أنــزل هللا كمــا يفعــل حدثــاء األســنان ،وال يقــوده رأيــه إلــى مــا يخرجــه عــن قواعــد فهــم النصــوص عنــد أهــل الســنة كمــا يفعــل دعــاة الحداثــة ...ثــم بعــد ذلــك يتفكــر فــي ســنن هللا فــي نشــوء األمــم وســقوطها وقـراءة تواريخهــا كمــا أمــر هللا بذلــك فــي كتابــه ،لعلــه يــدرك علــم ت ـ ُّـرت ِب النتائــج علــى األســباب ضمــن قانــون هللا فــي خلقــه ،والــذي أثبتــه َُ ْ َ َ َّ َ َ َ َ َ َ َُ ُ ًّ ُ ان َعطـ ُـاء بقولــه ((كل ن ِمـ ُّـد َهــؤل ِء َو َهــؤل ِء ِمــن عطـ ِـاء رِبــك ومــا ك َرّبـ َـك َم ْح ُظـ ً ـورا)) [اإلس ـراء :اآليــة ...]20عندمــا يسي ــر اإلنســان ِ فــي هــذا الطريــق بصحبــة أهــل العلــم والصــدق لــن تلتبــس عليــه ُ األمــور ولــن تســقطه شــبه امللحدي ــن كمــا لــن تغ�شــي عيـن ــيه ُ َُ ّ املفرطي ــن... اســتدالالت املتطرفي ــن وال شــبه ِ نسأل هللا سبحانه التوفيق والهداية لكل املسلميـن والحمد هلل رب العامليـن.
27
قواعد السياسة الشرعية والتــدرج فــي قضيــة تحريــم الخمــر وزواج املتعــة -كنمــاذج لهــذا القانــون اإللهــي -أشــهر مــن أن يحتــاج لذكرهمــا هنــا ...ولكــن ظهــر اليــوم مــن دعــاة ّ التكفي ــر وغي ــرهم مــن يدعــون إلــى إقامــة الدي ــن ِكلــه علــى النــاس جمي ِعهــم ً ً دفعــة واحــدة دون اعتبــار لتعاليــم النب ــي صلــى هللا عليــه وســلم أو نظــر فــي مآالت األمور ونتائجهاَ ،وي َّدعون أن مبدأ التدرج ال يعدو أن يكون تشـر ًيعا ً وتقديمــا للعقــل علــى النقــل ،وأنــه ال قيمــة لــه بعــد قــول هللا تعالــى بال ـرأي َ ْ ((ال َيـ ْـو َم َأ ْك َم ْلـ ُـت َل ُكـ ْـم دي ـ َـن ُك ْم َوأ ْت َم ْمـ ُـت َع َل ْي ُكـ ْـم ن ْع َمتــي َو َرضيـ ُـت َل ُكـ ُـم ْال ْسـ َـامَ ِ ِ ِ ِ ِ ِدي ـ ًـنا)) [املائــدة :اآليــة .]3 والحقيقــة أن االســتدالل بآيــة إكمــال الدي ــن علــى إنــكار اعتبــار التــدرج فــي الشــرع والواقــع نــوع مــن تحميــل النــص مــا ال يحتملــه ،إذ ال يعن ــي تمــام علــم ً ً مــا (كالجب ــر والهندســة) أنــه يجــب أن ُيعطــى دفعــة واحــدة لطالــب مبتــدئ ً ً احتجاجــا بكونــه ً فــي الســنة األولــى علمــا متكامــا ،وعلــى الجهــة املقابلــة ال يســتقيم إنــكار أج ـزاء أصيلــة مــن علــم الرياضيــات وبت ــرها منــه بحجــة أن عقــل الطالــب ال يستســيغها فــي هــذه الفت ــرة ،وهــذا حالنــا اليــوم بـي ــن طرفــي النقيض «التكفيـرييـن والحداثييـن» كالهما َّ تطرف في فهمه للديـن فأخطأ الطريــق وضـ َّـل وأضـ َّـل ً خلقــا كثي ـ ًـرا ،وقــد أكــدت الســيدة عائشــة ر�ضــي هللا عنهــا هــذا املبــدأ اإلسـ َّ ـامي العظيــم فــي مراعــاة أحــوال النــاس عندمــا قالــت: ْ ْ ((إ َّن َما َن َز َل َأ َّو َل َما َن َز َل منه -أي القرآن ُ -س َور ٌة م َن ْ ُال َف َّ ص ِل ِف َيها ِذك ُر ال َج َّن ِة ِ ِ ِ ـاب َّ َو َّ ـاس إ َلــى اإل ْسـ َـام َنـ َـز َل ْال َحـ َـا ُل َو ْال َحـ َـر ُامَ ،وَلـ ْـو َنـ َـز َل َأ َّولَ النــارَ ،ح َّتــى إ َذا َثـ َ النـ ُ ِ ِ ِ ِ ِ َ ْ َ َ ْ َُ ْ َ ْ َ َ َ ُ َ َ َ ُ ْ َ ْ َ ََ ً َ َ ْ َ َ َ َ َ ُْ َ َ ُ َ �شي ٍء ال تشربوا الخمر لقالوا ال ندع الخمر أبدا ،ولو نزل ال تزنوا لقالوا ال َ َ ُ َّ َ الزنــا أ َبـ ًـدا))(.)32 نــدع ِ َ ُ َّ ُ ف َّ ُ الل َن ْفساً ومع هذا سأتجاوز مسألة التدرج لنستمع لقوله تعالى ((ل يك ِل َّ َ ((ف َّات ُقــوا َّ َ الل مــاَ ِإل ُو ْسـ َـع َها)) [ســورة البقــرة :آيــة ]286ولقولــه ســبحانه: ٌ َْ َ ُ اآليات واضحة في وجوب اإلتـيان استط ْعت ْم )) [سورة التغابـن :آية ]16إن ِ من الشرع ما استطعنا وعدم تكليفنا ما ال نستطيع ،وقد أخذ العلماء من ُّ هذه اآليات وغيـرها القاعدة الفقهية الشهيـرة (ما ال يدرك كله ال يتـرك كله ُّ أو جله) ...فيجب اإلتـيان باملستطاع من التكاليف الشرعية ما يختص منها بعالقــة املــرء مــع ربــه ،أو مــا ي ــنظم عالقتــه باآلخري ــن ،وال بــد عنــد العمــل بقاعــدة االســتطاعة أن نعتب ــر قواعــد الشــرع األخــرى ونالحــظ تعلقهــا بتقريـر أحكام الوقائع التـي تعرض لنا في حياتنا ،كقاعدة (درء املفاسد مقــدم علــى جلــب املصالــح) وكقاعــدة (الضــرورات تب ــيح املحظــورات) وكقاعدة (يختار أهون الشريـن) وقاعدة (يتحمل الضرر الخاص لدفع الضــرر العــام) وغي ــرها.
قواعد السياسة الشرعية
العدد 2رجب 1439هـ
ولنستمع لهذا الحوار بـيـن خامس الخلفاء الراشديـن عمر بـن عبد العزيز ر�ضــي هللا عنــه واب ــنه عبــد امللــك لنتعــرف علــى منهــج الســلف فــي تحكيــم الشــرع والقيــام بأوامــر هللا ســبحانه( ...دخــل عبــد امللــك ب ــن ُع َمــر ب ــن عبــد العزيــز علــى أب ــيه وقــال لــه :يــا أمي ــر املؤمنـي ــن مــا أنــت قائــل لربــك غـ ًـدا إذا ً ســألك! فقــال :رأيــت بدعــة فلــم تمتهــا أو سـ ّـنة لــم تحيهــا؟ فقــال لــه :يــا بـن ـ ّـي إلي أم ٌ َ الر َّ أ�شيء َّ حم ْلت َك ُه َّ نفسك؟ قال :ال وهللا! ولكن عية َّ ر أي رأيته من قبل ِ َ ْأ ٌي ُ أيتــه مــن قبــل نف�ســي وعرفـ ُـت أنــك مســؤول ،فمــا أنــت قائــل؟ فقــال ر ر ً لــه أبــوه :رحمــك هللا وجـزاك مــن ولــد خي ــرا ،فـوهللا إن ــي ألرجــو أن تكــون مــن ً ً األعــوان علــى الخي ــر يــا بـن ــي ،إن قومــك قــد شـ ُّـدوا هــذا األمــر عقــدة عقــدة ً ً وعــروة عــروة! ومتــى مــا أريــد مكاب ــرتهم علــى انت ـزاع مــا فــي أيديهــم لــم آمــن أن يفتقــوا علــي ً فتقــا تكث ــر فيــه الدمــاء ،وهللا لــزوال الدن ــيا أهــون علـ َّـي مــن أن يهراق في سببـي محجمة من ٍدم ،أو ما تـر�ضى أن ال يأتـي على أبـيك يوم من ً ً سنة حتى َ يحكم هللا بـيـننا ّأيام الدنـيا إال وهو يميت فيه بدعة ويحيي فيه وبـي ــن قومنــا بالحــق وهــو خي ــر الحاكمي ــن)(.)33 َ َ َ ْ َ ْ َ َ ْ ُ َ ْ َ َ َّ ُ َ ات َعلى قال اإلمام الشاطبـي رحمه هللا( :ف ِلهذا العنى ِبعي ِن ِه و ِضع ِت العم ِلي َ َ َّ َ َ َ َ ُ ْ ْ ُ َ َّ َ َ َ َو ْجـ ٍـه ل تخـ ِـر ُج الكلــف ِإلــى َمشـ َّـق ٍة َي َمـ ُّـل ِب َسـ َـب ِب َها ،أ ْو ِإلــى ت ْع ِطيـ ِـل عادا ِتـ ِـه ال ِتــي َ َ ُْ َْ ُ ُ َ َ ُ َُْ ُ َََ َ ُ َ َ َُ ُ وظـ ِـهَ ،وذ ِلـ َـك أ َّن ال ِّمـ َّـي يقــوم ِب َهــا صــاح دنيــاه ،ويتو َّســع ِبســب ِب َها ِفــي نيـ ِـل حظ ِ َ ْ ْ َ َْ َّ َّ َ ْ ُ َ ْ َ ْ ً َ ْ ُ ُ ـور الشـ ْـر ِع َّي ِة َول ال َع ْق ِل َّيـ ِـة َ-و ُر َّب َمــا اشـ َـمأ َّز قل ُبـ ُـه الـ ِـذي لــم يــز ِاول شــيئا ِمــن المـ ِ َ َ َ َ َ ْ َع َّمــا ُيخ ِر ُجـ ُـه َعـ ْـن ُم ْع َتـ ِـاد ِه ِ -ب ِخــا ِف َمـ ْـن ك َان لـ ُـه ِبذ ِلـ َـك َع ْهـ ٌـدَ ،و ِمـ ْـن ُه َنــا ك َان ْ َ َ َ ً َ َ َ َ ْ َ ْ َ ُ َّ ْ ُ َ ول ْال ُق ْرآن ُن ُج ً ُن ُز ُ التك ِل ِيف َّية ِف َيها ش ْي ًئا وما ِفي ِعش ِريـن سنة ،وورد ِت الحكام ِ َ َ ْ ً َ َ ْ َ ْ ْ َ ْ َ ً َ َ ً َ َ َ َ َّ َ ْ َ َ ْ َ ُّ ُ ُ ْ ً ً وس َدف َعة َو ِاح َدة، فشيئا ولم تن ِزل دفعة و ِاحدة ،وذ ِلك ِلئل تن ِفر عنها النف ـال َلـ ُـهَ :مــا َلــكَ َو ِف َيمــا ُي ْح َكــى َعـ ْـن ُع َمـ َـر ْبــن َع ْبـ ِـد ْال َعزيــز َأ َّن ْاب َنـ ُـه َع ْبـ َـد ْ َال ِلـ ِـك َقـ َ ِ ِ ِ َ ُ َ ّ ُ ْ ُ ُ َ َ َ َّ الل َمــا ُأ َبالــي َلـ ْـو َأ َّن ْال ُقـ ُـد َور َغ َلـ ْـت بــي َوبـ َـك فــي ْال َحـ ّـق! َقـ َ ـال ل تن ِفــذ المــور؟ فــو ِ ِ ِ ِ ِ ِ ْ َ ُ ُ َ ُ َ َ ْ َ ْ َ ُ َ َّ َ َّ َّ َ َ ْ َ َ الل ذ َّم الخ ْمـ َـر ِفــي ال ُقـ ْـر ِآن َم َّرت ْيـ ِـن َو َح َّر َم َهــا ِفــي لــه عمــر( :ل تعجــل يــا بنــي ،فـ ِـإن َّ َ َ َّ َ َ ُ َ ْ َ ْ َ ْ َ َّ َ َ ُ ْ َ ً َ َ ْ َُ َّ ُ ـاس جملــة ،فيدفعــوه جملــة، الث ِالثـ ِـةِ ،وإنــي أخــاف أن أح ِمــل الحــق علــى النـ ِ ْ ْ َ ويكــون مــن ذا فتنـ ًـةَ )...و َهـ َـذا َم ْع ًنــى َ ْ ص ِحيـ ٌـح ُم ْع َت َبـ ٌـر ِفــي ِالسـ ِتق َر ِاء العـ ِـاد ّ ِي)(.)34 وجاء في سيـرة عمر بـن عبد العزيز عند أبـي محمد عبد هللا بـن عبد الحكم قال( :ملا ولي عمر بـن عبد العزيز قال له ابـنه عبد امللك :إنـي ألراك يا أبتاه ّ ً ـاعة مــن َّ قــد أخــرت أمـ ً النهــار عجلتهــا، ـورا كثي ــرة كنــت أحســبك لــو وليــت سـ َ ولـ َـو ِد ْد ُت أنــك قــد فعلــت ذلــك ولــو فــارت ب ــي وبــك القــدور! قــال لــه عمــر: َ ُ ُ ّ أي أهـ ِـل الحداثـ ِـة، أي بـن ــي! إنــك علـ َـى ح ُسـ ِـن قسـ ِـم هللا لــك ،وفيــك بعــض ر ِ ٌ ـتطيع أ ْن أ َ وهللا ما أسـ ُ خرج لهم شـ ًـيئا من الدي ــن إال ومعه طرف من الدن ــيا ِ ً أستلي ــن بــه قلوبهــم؛ خوفــا أن ي ــنخرق علـ َّـي منهــم مــا ال طاقــة لــي بــه)(.)35
( )32رواه البخاري في كتاب فضائل القرآن ،باب تأليف القرآن رقم الحديث (.)4707 ( )33حلية األولياء ألبـي نعيم ،طبعة دار الكتب العربـي 1405هـ (ص ،)283/5وتاريخ الخلفاء للسيوطي ،تحقيق الدمرداش ،طبعة مكتبة نزار الباز 2004م( ،ص .)180 ( )34املوافقات للشاطبـي طبعة دار ابـن عفان 1997م( ،ص .)184/2 ( )35سيـرة عمر بـن عبد العزيز ،لإلمام أبـي محمد عبد هللا بـن عبد الحكم ،تحقيق أحمد عبـيد ،طبعة عالم الكتب 1984م( ،ص.)57
26
النتائج )1أحــكام الحــدود والقصــاص جــزء مــن تشــريع اإلســام ال ي ــنكرها عالــم متفقــه علــى منهــج أهــل الســنة والجماعــة ،وإنمــا ي ــنكرها أهــل ـبهات ،وال علــم األهــواء أو الضعفــاء ممــن وقعــوا تحــت ضغــط الشـ ِ لهــم بقواعــد اســتنباط األحــكام الشــرعية ليدافعــوا بهــا عــن دي ــنهم. )2النتائــج الت ــي وصــل إليهــا املتطرفــون ال تمــت إلــى اإلســام بصلــة، ألنهــا ال تعــدو أن تكــون اجت ـز ًاء لألدلــة وإخر ً اجــا لهــا مــن ســياقها. )3كل واحــدة مــن املســائل الشــرعية هــي عبــارة عــن وحــدة متكاملــة ً َّ مكونــة مــن مجموعــة مــن األج ـزاء املت ـرابطة فيمــا بـي ــنها ت ـرابطا ال انفــكاك فيــه ،فــإذا مــا ُحكــم علــى مســألة مــا مــن غي ــر إحاطــة شــاملة بــكل مــا ورد فيهــا مــن أدلــة خاصــة ومــا ي ــنطبق عليهــا مــن قواعــد عامــة؛ ً ناقصــا وبعيـ ًـدا عــن م ـراد الشــرع الكريــم. فســيكون الحكــم )4القواعــد الفقهيــة هــي الحاكمــة علــى قوانـي ــن الشــريعة الجزئيــة، وال حكــم بــدون اعتبارهــا وعــرض الوقائــع عليهــا. ٌ )5فــي السي ــرة النبويــة وتاريــخ خلفائنــا كفايــة للتعــرف علــى منهــج اإلســام فــي سياســة األمــة وإدارة شــؤونها ومنهــا قضايــا الحــدود. )6بعــض أمــور السياســة والحكــم ال يجــوز الحديــث بهــا أمــام العامــة لعــدم توجــه الخطــاب إليهــم فيهــا ،ومنعــا مــن إثــارة الفتــن. )7هللا كلفنــا بمــا نســتطيع ولــم يكلفنــا فــوق طاقتنــا ،ومــن يكلــف نفســه فــوق طاقتــه يخــرج عــن منهــج هللا ويخســر دي ــنه ودن ــياه. َ )8اإلسالم جاء لسعادتنا فإذا ش ِقيت املجتمعات املسلمة فالسبب هو تخلفها وفهمها الخاطئ للديـن وليس اإلسالم.
خامتة
إن املســلم حي ــن يتأمــل نصــوص الق ـرآن والســنة يجــد أن مقصــود الشــرع مــن الحــدود ليــس االنتقــام مــن الجان ــي وليــس العقوبــة بحــد ذاتهــا ،ولكــن هدفــه األول مــن تشــريعها ردع املجــرم عــن التمــادي فــي خطئــه ،والحفــاظ علــى املجتمــع مــن أن تتحــول هــذه األخطــاء فيــه مــن حــاالت فرديــة طب ــيعية ال يخلــو منهــا مجتمــع إلــى ظاهــرة مرضيــة مستشــرية تهتــك النســيج األخالقــي ّ لألمــة املســلمة ...روى اإلمــام مالــك فــي املوطــأ عــن زيــد ب ــن أســلم،
العدد 2رجب 1439هـ
ً أن رجــا اعت ــرف علــى نفســه بالزنــا علــى عهــد رســول هللا صلــى هللا عليــه وســلم ،فأمــر بــه فجلــد ثــم قــال(( :أيهــا النــاس قــد آن لكــم أن تنتهــوا عــن حــدود هللا ،مــن أصــاب مــن هــذه القــاذورات شــيئا فليستت ــر بست ــر هللا ،فإنــه مــن يبــدي لنــا صفحتــه نقــم عليــه كتــاب هللا)). مــن هنــا أســتطيع أن أقــول :إن كتــب الفقــه أو الحديــث ال تكفــي ً قارئهــا ليصبــح ً فقيهــا أو عال ـ ــا ،فمــن اكتفــى بالق ـراءة والحفــظ َُ َ ال يعــدو َمثلـ ُـه آلــة الحاســوب ،يخــزن املعلومــات ثــم يخرجهــا ال فقـ َـه وال فهـ َـم ...وإنمــا علــى املتفقــه أن يقـرأ سي ــرة النب ــي صلــى هللا عليــه وســلم وسي ــر خلفائــه الراشدي ــن ومناقــب الســلف واألئمــة املجتهدي ــن والعلمــاء العاملي ــن بقصــد االســتفادة ال بغــرض النقــد والتنقــص ،ثــم يثن ــي بق ـراءة كتــب القواعــد الفقهيــة ألنهــا هــي الحاكمــة علــى مــا قـرأه فــي كتــب الفقــه ،كمــا أنــه ال بــد لــه مــن ق ـراءة علــم أصــول الفقــه ليعــرف كيــف وصــل املجتهــدون إلــى األحــكام ،فــا يتهمهــم بالتفريــط والحكــم بغي ــر مــا أنــزل هللا كمــا يفعــل حدثــاء األســنان ،وال يقــوده رأيــه إلــى مــا يخرجــه عــن قواعــد فهــم النصــوص عنــد أهــل الســنة كمــا يفعــل دعــاة الحداثــة ...ثــم بعــد ذلــك يتفكــر فــي ســنن هللا فــي نشــوء األمــم وســقوطها وقـراءة تواريخهــا كمــا أمــر هللا بذلــك فــي كتابــه ،لعلــه يــدرك علــم ت ـ ُّـرت ِب النتائــج علــى األســباب ضمــن قانــون هللا فــي خلقــه ،والــذي أثبتــه َُ ْ َ َ َّ َ َ َ َ َ َ َُ ُ ًّ ُ ان َعطـ ُـاء بقولــه ((كل ن ِمـ ُّـد َهــؤل ِء َو َهــؤل ِء ِمــن عطـ ِـاء رِبــك ومــا ك َرّبـ َـك َم ْح ُظـ ً ـورا)) [اإلس ـراء :اآليــة ...]20عندمــا يسي ــر اإلنســان ِ فــي هــذا الطريــق بصحبــة أهــل العلــم والصــدق لــن تلتبــس عليــه ُ األمــور ولــن تســقطه شــبه امللحدي ــن كمــا لــن تغ�شــي عيـن ــيه ُ َُ ّ املفرطي ــن... اســتدالالت املتطرفي ــن وال شــبه ِ نسأل هللا سبحانه التوفيق والهداية لكل املسلميـن والحمد هلل رب العامليـن.
27
اإلمام الجيالنـي
اإلمام الجيالنـي
العدد 2رجب 1439هـ
جهود اإلمام
الق ِ َع ِ الج ْي َل ِني بد َ ادر َ
السنـي وبـناء املدارس وتالمذتِه ،يف اإلصالح ُّ الدكتور أيمن يزبك
ً سابقا دكتوراه يف التاريخ اإلسالمي محاضر يف جامعة دمشق
ً ّ ً ُ فعــال تعــد املدرســة القادريــة إحــدى أهــم املراكــز العلميــة الت ــي لعبــت دورا فــي حركــة اإلصــاح والتجديــد فــي مرحلــة مــن الزمــن سـ ّـماها بعــض الباحثي ــن املعاصري ــن عصــر الجمــود ،وكان بعــض الحــكام ممــن قــادوا حركــة اإلصــاح الدي ــن زن ـكـي وصــاح ّ والتجديــد أمثــال نــور ّ الدي ــن ّ األيوب ــي يعتمــدون عليهــا فــي رفدهــم باألجيــال الواعيــة لب ــناء مشــروعهم النهضــوي وإتمــام مسي ــرة اإلصــاح... ـوادر ّ األمــة اإلسـ ّ وقــد أمـ َّـدت هــذه املدرســة ّ ـامية بكـ َ علميــة تعــدى تأثي ــرها جغرافيــة العالــم السن ــي ووصلــوا إلــى مناطــق النفــوذ الشــيعي ،وأســهموا بشــكل ّ ّ التحــول السيا�سـ ّـي والفكــر ّي لتلــك الشــعوب ...والحديــث هنــا يــدور فعــال فــي عــن حيـ ِـاة مؤســس هــذه املدرســة الشــيخ عبــد القــادرالجيالن ــي ودوره الت ــربوي والتعليمــي ،وعــن ب ــناء مشــروع النهضــة الــذي بــدأه الوزي ــرنظــام امللــك الطو�ســي ٌ وأكملــه نــور الدي ــن وصــاح الدي ــن ومعهــم ثلــة مــن العلمــاء ،وعــن الخطــوط الت ــي ســارت عليهــا حركــة اإلصــاح والتجديــد. وســيكون الحديــث عــن اإلمــام الجيالن ــي ومنهجــه اإلصالحــي مــن خــال خمســة مباحــث، ُ ُ األول :أ َعــرف فيــه بأمــور الشــيخ العامــة ،والثان ــي :أتحــدث فيــه عــن منهجــه فــي الب ــناء العقائــدي لتالمذتــه ،وأمــا فــي املبحــث الثالــث :فأتحــدث فيــه عــن مفهــوم التصــوف عنــد الشــيخ إذ كان أب ــرز مــا اشــتهر بــه منهجــه اإلصالحــي ،وأمــا املبحــث الرابــعْ : فتكلمــت فيــه عــن معالــم الطريقــة القادريــة وأهــم مــا يتعلمــه املريــد فيهــا ،وأمــا املبحــث الخامــس ْ واألخيـر :فعرفت فيه بأهم املدارس القادرية في العالم اإلسالمي في ذلك الوقت ونبذة عــن حيــاة مؤسســيها ،ثــم عقبــت ذلــك بخاتمــة فيهــا أهــم النتائــج والتوصيــات.
املبحث األول اسماإلمامونسبهوشيوخهومكانتهالعلمية )1اسمه ونسبه : هــو أبــو محمــد عبــد القــادر ب ــن أب ــي صالــح عبــد هللا ب ــن جنكــي دوســت الجيلــي الحنبلــي شــيخ بغــداد، لقبــه محيــي الدي ــن ( ،)1مولــده فــي جيــان( )2مــن بــاد ما وراء طب ــرستان عــام 471هــ1078/م ،وفيهــا كانــت نشــأته وبدايــة طلبــه للعلــم. وقــد نشــأ فــي كنــف أســرة ُعرفــت بالزهــد والصــاح والتقــوى ،وقــد وصــف الشــيخ عبــد القــادر عائلتــه بقولــهَّ : (أهلن ــي هللا عــز وجــل بب ــركات متابعت ــي للرســول صلــى هللا عليــه وســلم وب ــري بوالــدي ووالدات ــي رحمهمــا هللا عــز وجــل ،والــدي زاهــد فــي الدن ــيا مــع قدرتــه عليهــا ووالدت ــي وافقتــه علــى ذلــك ورضيــت بفعلــه ،كانــا مــن أهــل الصــاح والديانــة والشــفقة علــى الخلــق) (.)3 28
وفــي ســن الشــباب رحــل الشــيخ إلــى بغــداد عــام 488هــ1095/م، وهــي يومئــذ ملتقــى العلمــاء ،حيــث تتلمــذ علــى شــيخه فــي املذهــب اب ــن عقيــل الحنبلــي وعنــه أخــذ فقــه املذهــب ،كمــا تتلمــذ علــى الشــيخ أب ــي ســعيد ّ املخرمــي صاحــب املدرســة. عــاش عبــد القــادر الجيالن ــي تسعي ــن ســنة وتوفــي عــام 561هــ1165/م، وكانكثيـرالولدانفكانلهمنالذكورسبعةوعشرونومناإلناثواحد وعشرون،وكانمنأوالدهأحدعشرحملوارسالتهوفقههإلىالعامليـن. و حظي الشيخ بثناء العلماء سواء من معاصريه أم ّ ممن جاء بعدهم فقــال عنــه السمعان ــي - :وهــو مــن معاصريــه ( -إمــام الحنابلــة فــي زمانــه) ،وقــال عنــه الذهب ــي [ت748هــ]( :الشــيخ اإلمــام العالــم ُ ّ الزاهــد العــارف القــدوة شــيخ اإلســام وعلــم األوليــاء ومحيــي الدي ــن( ،)4وقــال اب ــن رجــب [ت795هــ] فــي وصفــه( :شــيخ العصــر وقدوة العارفيـن وسلطان املشايخ صاحب املقامات والكرامات)(.)5 وقــد كابــد الشــيخ الجيالن ــي مصاعــب الحيــاة فــي سب ــيل طلــب العلــم الشــرعي الــذي سـ ّ ـيؤهله فيمــا بعــد لالنضمــام لصفــوف عظــام َ الدعــاة املنافحي ــن عــن دي ــن هللا وشـريعته وال ُـمث ِّبتـي ــن ملذهــب أهــل الســنة والجماعــة ...ولــم يكــن اإلمــام عبــد القــادر ً بدعــا فــي ذلــك، فقــد أصابــه مــن املشــقة والعنــت مــا أصــاب الذي ــن ســبقوه فــي العلمــاء العاملي ــن كاب ــن جري ــر الطب ــري وأبــو حاتــم الـرازي ونظــام امللــك والغزالــي. وقــد وصــف اإلمــام الجيالن ــي معاناتــه فــي سب ــيل طلــب العلــم فقــال: (وكنت أقتات بخرنوب الشــوك ،وقمامة البقل ،وورق الخس من جانــب النهــر والشــط ،وبلغــت الضائقــة فــي غــاء نــزل ببغــداد إلــى أن أياما لم آكل فيها ً بقيت ً طعاما ،بل كنت أتتبع املنبوذات أطعمها، فخرجــت ً يومــا مــن شــدة الجــوع إلــى الشــط لعلــي أجــد ورق الخــس أو البقــل ،أو غي ــر ذلــك فأتقـ ّـوت بــه .فمــا ذهبــت إلــى موضــع إال وغي ــري قــد سبقن ــي إليــه وإن وجــدت أجــد الفقـراء يتزاحمــون عليــه ً فأت ــركه ُح ًّبــا ،فرجعــت أم�شــي وســط البلــد ال أدرك منبــوذا إال وقــد
العدد 2رجب 1439هـ
ســبقت إليــه ،حتــى وصلــت إلــى مســجد ياسي ــن بســوق الريحانـيي ــن ببغــداد وقــد أجهدن ــي الضعــف ،وعجــزت عــن التماســك ،فدخلــت إليــه وقعــدت فــي جانــب منــه وقــد كــدت أصافــح املــوت ،إذ دخــل شــاب ٌ صاف وشواء ،وجلس يأكل ،فكنت أكاد كلما رفع أعجمي ومعه خبز ٍ يــده باللقمــة أن أفتــح فمــي مــن شــدة الجــوع ،حتــى أنكــرت ذلــك علــى نف�سي :فقلت ما هذا؟ وقلت :ما ههنا إال هللا أو ما قضاه من املوت ،إذ التفت إلى العجمي فرآنـي فقال :بسم هللا يا أخي! فأبـيت فأقسم علي فبــادرت نف�ســي فخالفتهــا فأقســم ً أيضــا فأجبتــه ،فأكلــت متقاصـ ًـرا، فأخــذ يسألن ــي :مــا شــغلك؟ ومــن أي ــن أنــت؟ وبمــن تعــرف؟ فقلــت :أنــا ّ متفقـ ٌـه مــن جيــان! فقــال :وأنــا مــن جيــان فهــل تعــرف شـ ًّـابا جيالن ـ ًّـيا يســمى عبــد القــادر ُيعــرف بســبط أب ــي عبــد هللا الصومعــي الزاهــد؟ فقلــت :أنــا هــو ،فاضطــرب وتغي ــر وجهــه وقــال :وهللا لقــد وصلــت إلــى بغــداد معــي بقيــة نفقــة لــي ،فســألت عنــك فلــم يـرشدن ــي أحــد ونفــذت َّ عقت ــي ،ولــي ثالثــة أيــام ال أجــد ثمــن قوت ــي ،إال ممــا كان لــك معــي ،وقــد حلــت لــي امليتــة وأخــذت مــن وديعتــك هــذا الخبــز والشــواء ،فــكل ً طيبــا فإنمــا هــو لــك وأنــا ضيفــك اآلن بعــد أن كنــت ضيفــي ،فقلــت لــه :ومــا ذاك؟ فقالُّ :أمك وجهت لك معي ثمان ــية دنانـي ــر فاشت ـريت منها هذا لالضطـرار ،فأنــا معتــذر إليــك! فسـ َّـك ُّته ّ وطيبـ ُـت نفســه ودفعــت إليــه باقــي الطعــام وشـ ًـيئا مــن الذهــب ب ــرسم النفقــة فقبلــه وانصــرف) (.)6
)2شيوخه: اســتقى الشــيخ عبــد القــادر العلــم واملعرفــة مــن يـناب ــيع عــدة ،وكان أولهــا فــي بغــداد: أ -شــيخه أبــو ســعيد :املبــارك ب ــن علــي املخرمــي شــيخ الحنابلــة، وهــو الــذي ب ــنى مدرســة فــي بــاب األزج وجلــس فيهــا للتدريــس ثــم تولــى املهمــة بعــده تلميــذه عبــد القــادر ،وكانــت وفــاة أب ــي ســعيد عام510هــ1116/م(.)7 ب -أبو الوفاء علي بـن عقيل بـن عبد هللا البغدادي شيخ الحنابلة في عصره،وصاحبالتصانـيفوصفهالذهبـيبقوله:بحراملعرفة(.)8
( )1وقــد توقــف اب ــن كثي ــر وأبــو الفــداء الحمــوي عنــد هــذا النســب ،فــي حي ــن أن اب ــن الــوردي والصفــدي والشعران ــي ي ــنسبه إلــى آل الب ــيت ،وأنــه مــن ولــد الحســن ب ــن علــي ب ــن أب ــي طالــب :قــال الذهب ــي( :وزاد بعــض النــاس فــي نســبه إلــى أن وصلــه بالحســن ب ــن علــي ر�ضــي هللا عنــه فقــال :اب ــن أب ــي عبــد هللا ب ــن عبــد هللا ب ــن يحيــى الزاهــد ب ــن محمــد ب ــن داود ب ــن مو�ســى ب ــن عبــد هللا ب ــن مو�ســى ب ــن عبد هللا املحض بـن الحسن املثنى بـن الحسن بـن علي بـن أبـي طالب ر�ضي هللا عنه) انظر :الذهبـي :تاريخ اإلسالم ،ج ،12ص.252 ( )2كورة فارسية تقع جنوبـي بحر الخزر وشمالي جبال البـرز ويحدها من الشرق طبـرستان أو مازندران ،ومن الشمال ملتقى نهر (الكر) بـنهر (الرس) ،وهذه الكورة حافلة باملستنقعات، ومنه اشتق اسمها (جيل) وهو الطيـن أو الوحل وتعرف البقاع الجبلية منه باسم الديلم .انظر ابـن شمائل :مراصد االطالع ،ج ،1ص.368 ( )3انظر :ابـن رجب :ذيل طبقات الحنابلة ،ج ،1ص )4( - .298سيـر أعالم النبالء ،ج ،20ص.439 ( )5ابـن رجب :ذيل طبقات الحنابلة ،ج ،1ص )6( - 290انظر :ذيل طبقات الحنابلة ،ج ،1ص.298 ( )7الذهبـي :سيـر أعالم النبالء ،ج ،19ص )8( - 428الذهبـي :املصدر السابق ،ج ،19ص.446
29
اإلمام الجيالنـي
اإلمام الجيالنـي
العدد 2رجب 1439هـ
جهود اإلمام
الق ِ َع ِ الج ْي َل ِني بد َ ادر َ
السنـي وبـناء املدارس وتالمذتِه ،يف اإلصالح ُّ الدكتور أيمن يزبك
ً سابقا دكتوراه يف التاريخ اإلسالمي محاضر يف جامعة دمشق
ً ّ ً ُ فعــال تعــد املدرســة القادريــة إحــدى أهــم املراكــز العلميــة الت ــي لعبــت دورا فــي حركــة اإلصــاح والتجديــد فــي مرحلــة مــن الزمــن سـ ّـماها بعــض الباحثي ــن املعاصري ــن عصــر الجمــود ،وكان بعــض الحــكام ممــن قــادوا حركــة اإلصــاح الدي ــن زن ـكـي وصــاح ّ والتجديــد أمثــال نــور ّ الدي ــن ّ األيوب ــي يعتمــدون عليهــا فــي رفدهــم باألجيــال الواعيــة لب ــناء مشــروعهم النهضــوي وإتمــام مسي ــرة اإلصــاح... ـوادر ّ األمــة اإلسـ ّ وقــد أمـ َّـدت هــذه املدرســة ّ ـامية بكـ َ علميــة تعــدى تأثي ــرها جغرافيــة العالــم السن ــي ووصلــوا إلــى مناطــق النفــوذ الشــيعي ،وأســهموا بشــكل ّ ّ التحــول السيا�سـ ّـي والفكــر ّي لتلــك الشــعوب ...والحديــث هنــا يــدور فعــال فــي عــن حيـ ِـاة مؤســس هــذه املدرســة الشــيخ عبــد القــادرالجيالن ــي ودوره الت ــربوي والتعليمــي ،وعــن ب ــناء مشــروع النهضــة الــذي بــدأه الوزي ــرنظــام امللــك الطو�ســي ٌ وأكملــه نــور الدي ــن وصــاح الدي ــن ومعهــم ثلــة مــن العلمــاء ،وعــن الخطــوط الت ــي ســارت عليهــا حركــة اإلصــاح والتجديــد. وســيكون الحديــث عــن اإلمــام الجيالن ــي ومنهجــه اإلصالحــي مــن خــال خمســة مباحــث، ُ ُ األول :أ َعــرف فيــه بأمــور الشــيخ العامــة ،والثان ــي :أتحــدث فيــه عــن منهجــه فــي الب ــناء العقائــدي لتالمذتــه ،وأمــا فــي املبحــث الثالــث :فأتحــدث فيــه عــن مفهــوم التصــوف عنــد الشــيخ إذ كان أب ــرز مــا اشــتهر بــه منهجــه اإلصالحــي ،وأمــا املبحــث الرابــعْ : فتكلمــت فيــه عــن معالــم الطريقــة القادريــة وأهــم مــا يتعلمــه املريــد فيهــا ،وأمــا املبحــث الخامــس ْ واألخيـر :فعرفت فيه بأهم املدارس القادرية في العالم اإلسالمي في ذلك الوقت ونبذة عــن حيــاة مؤسســيها ،ثــم عقبــت ذلــك بخاتمــة فيهــا أهــم النتائــج والتوصيــات.
املبحث األول اسماإلمامونسبهوشيوخهومكانتهالعلمية )1اسمه ونسبه : هــو أبــو محمــد عبــد القــادر ب ــن أب ــي صالــح عبــد هللا ب ــن جنكــي دوســت الجيلــي الحنبلــي شــيخ بغــداد، لقبــه محيــي الدي ــن ( ،)1مولــده فــي جيــان( )2مــن بــاد ما وراء طب ــرستان عــام 471هــ1078/م ،وفيهــا كانــت نشــأته وبدايــة طلبــه للعلــم. وقــد نشــأ فــي كنــف أســرة ُعرفــت بالزهــد والصــاح والتقــوى ،وقــد وصــف الشــيخ عبــد القــادر عائلتــه بقولــهَّ : (أهلن ــي هللا عــز وجــل بب ــركات متابعت ــي للرســول صلــى هللا عليــه وســلم وب ــري بوالــدي ووالدات ــي رحمهمــا هللا عــز وجــل ،والــدي زاهــد فــي الدن ــيا مــع قدرتــه عليهــا ووالدت ــي وافقتــه علــى ذلــك ورضيــت بفعلــه ،كانــا مــن أهــل الصــاح والديانــة والشــفقة علــى الخلــق) (.)3 28
وفــي ســن الشــباب رحــل الشــيخ إلــى بغــداد عــام 488هــ1095/م، وهــي يومئــذ ملتقــى العلمــاء ،حيــث تتلمــذ علــى شــيخه فــي املذهــب اب ــن عقيــل الحنبلــي وعنــه أخــذ فقــه املذهــب ،كمــا تتلمــذ علــى الشــيخ أب ــي ســعيد ّ املخرمــي صاحــب املدرســة. عــاش عبــد القــادر الجيالن ــي تسعي ــن ســنة وتوفــي عــام 561هــ1165/م، وكانكثيـرالولدانفكانلهمنالذكورسبعةوعشرونومناإلناثواحد وعشرون،وكانمنأوالدهأحدعشرحملوارسالتهوفقههإلىالعامليـن. و حظي الشيخ بثناء العلماء سواء من معاصريه أم ّ ممن جاء بعدهم فقــال عنــه السمعان ــي - :وهــو مــن معاصريــه ( -إمــام الحنابلــة فــي زمانــه) ،وقــال عنــه الذهب ــي [ت748هــ]( :الشــيخ اإلمــام العالــم ُ ّ الزاهــد العــارف القــدوة شــيخ اإلســام وعلــم األوليــاء ومحيــي الدي ــن( ،)4وقــال اب ــن رجــب [ت795هــ] فــي وصفــه( :شــيخ العصــر وقدوة العارفيـن وسلطان املشايخ صاحب املقامات والكرامات)(.)5 وقــد كابــد الشــيخ الجيالن ــي مصاعــب الحيــاة فــي سب ــيل طلــب العلــم الشــرعي الــذي سـ ّ ـيؤهله فيمــا بعــد لالنضمــام لصفــوف عظــام َ الدعــاة املنافحي ــن عــن دي ــن هللا وشـريعته وال ُـمث ِّبتـي ــن ملذهــب أهــل الســنة والجماعــة ...ولــم يكــن اإلمــام عبــد القــادر ً بدعــا فــي ذلــك، فقــد أصابــه مــن املشــقة والعنــت مــا أصــاب الذي ــن ســبقوه فــي العلمــاء العاملي ــن كاب ــن جري ــر الطب ــري وأبــو حاتــم الـرازي ونظــام امللــك والغزالــي. وقــد وصــف اإلمــام الجيالن ــي معاناتــه فــي سب ــيل طلــب العلــم فقــال: (وكنت أقتات بخرنوب الشــوك ،وقمامة البقل ،وورق الخس من جانــب النهــر والشــط ،وبلغــت الضائقــة فــي غــاء نــزل ببغــداد إلــى أن أياما لم آكل فيها ً بقيت ً طعاما ،بل كنت أتتبع املنبوذات أطعمها، فخرجــت ً يومــا مــن شــدة الجــوع إلــى الشــط لعلــي أجــد ورق الخــس أو البقــل ،أو غي ــر ذلــك فأتقـ ّـوت بــه .فمــا ذهبــت إلــى موضــع إال وغي ــري قــد سبقن ــي إليــه وإن وجــدت أجــد الفقـراء يتزاحمــون عليــه ً فأت ــركه ُح ًّبــا ،فرجعــت أم�شــي وســط البلــد ال أدرك منبــوذا إال وقــد
العدد 2رجب 1439هـ
ســبقت إليــه ،حتــى وصلــت إلــى مســجد ياسي ــن بســوق الريحانـيي ــن ببغــداد وقــد أجهدن ــي الضعــف ،وعجــزت عــن التماســك ،فدخلــت إليــه وقعــدت فــي جانــب منــه وقــد كــدت أصافــح املــوت ،إذ دخــل شــاب ٌ صاف وشواء ،وجلس يأكل ،فكنت أكاد كلما رفع أعجمي ومعه خبز ٍ يــده باللقمــة أن أفتــح فمــي مــن شــدة الجــوع ،حتــى أنكــرت ذلــك علــى نف�سي :فقلت ما هذا؟ وقلت :ما ههنا إال هللا أو ما قضاه من املوت ،إذ التفت إلى العجمي فرآنـي فقال :بسم هللا يا أخي! فأبـيت فأقسم علي فبــادرت نف�ســي فخالفتهــا فأقســم ً أيضــا فأجبتــه ،فأكلــت متقاصـ ًـرا، فأخــذ يسألن ــي :مــا شــغلك؟ ومــن أي ــن أنــت؟ وبمــن تعــرف؟ فقلــت :أنــا ّ متفقـ ٌـه مــن جيــان! فقــال :وأنــا مــن جيــان فهــل تعــرف شـ ًّـابا جيالن ـ ًّـيا يســمى عبــد القــادر ُيعــرف بســبط أب ــي عبــد هللا الصومعــي الزاهــد؟ فقلــت :أنــا هــو ،فاضطــرب وتغي ــر وجهــه وقــال :وهللا لقــد وصلــت إلــى بغــداد معــي بقيــة نفقــة لــي ،فســألت عنــك فلــم يـرشدن ــي أحــد ونفــذت َّ عقت ــي ،ولــي ثالثــة أيــام ال أجــد ثمــن قوت ــي ،إال ممــا كان لــك معــي ،وقــد حلــت لــي امليتــة وأخــذت مــن وديعتــك هــذا الخبــز والشــواء ،فــكل ً طيبــا فإنمــا هــو لــك وأنــا ضيفــك اآلن بعــد أن كنــت ضيفــي ،فقلــت لــه :ومــا ذاك؟ فقالُّ :أمك وجهت لك معي ثمان ــية دنانـي ــر فاشت ـريت منها هذا لالضطـرار ،فأنــا معتــذر إليــك! فسـ َّـك ُّته ّ وطيبـ ُـت نفســه ودفعــت إليــه باقــي الطعــام وشـ ًـيئا مــن الذهــب ب ــرسم النفقــة فقبلــه وانصــرف) (.)6
)2شيوخه: اســتقى الشــيخ عبــد القــادر العلــم واملعرفــة مــن يـناب ــيع عــدة ،وكان أولهــا فــي بغــداد: أ -شــيخه أبــو ســعيد :املبــارك ب ــن علــي املخرمــي شــيخ الحنابلــة، وهــو الــذي ب ــنى مدرســة فــي بــاب األزج وجلــس فيهــا للتدريــس ثــم تولــى املهمــة بعــده تلميــذه عبــد القــادر ،وكانــت وفــاة أب ــي ســعيد عام510هــ1116/م(.)7 ب -أبو الوفاء علي بـن عقيل بـن عبد هللا البغدادي شيخ الحنابلة في عصره،وصاحبالتصانـيفوصفهالذهبـيبقوله:بحراملعرفة(.)8
( )1وقــد توقــف اب ــن كثي ــر وأبــو الفــداء الحمــوي عنــد هــذا النســب ،فــي حي ــن أن اب ــن الــوردي والصفــدي والشعران ــي ي ــنسبه إلــى آل الب ــيت ،وأنــه مــن ولــد الحســن ب ــن علــي ب ــن أب ــي طالــب :قــال الذهب ــي( :وزاد بعــض النــاس فــي نســبه إلــى أن وصلــه بالحســن ب ــن علــي ر�ضــي هللا عنــه فقــال :اب ــن أب ــي عبــد هللا ب ــن عبــد هللا ب ــن يحيــى الزاهــد ب ــن محمــد ب ــن داود ب ــن مو�ســى ب ــن عبــد هللا ب ــن مو�ســى ب ــن عبد هللا املحض بـن الحسن املثنى بـن الحسن بـن علي بـن أبـي طالب ر�ضي هللا عنه) انظر :الذهبـي :تاريخ اإلسالم ،ج ،12ص.252 ( )2كورة فارسية تقع جنوبـي بحر الخزر وشمالي جبال البـرز ويحدها من الشرق طبـرستان أو مازندران ،ومن الشمال ملتقى نهر (الكر) بـنهر (الرس) ،وهذه الكورة حافلة باملستنقعات، ومنه اشتق اسمها (جيل) وهو الطيـن أو الوحل وتعرف البقاع الجبلية منه باسم الديلم .انظر ابـن شمائل :مراصد االطالع ،ج ،1ص.368 ( )3انظر :ابـن رجب :ذيل طبقات الحنابلة ،ج ،1ص )4( - .298سيـر أعالم النبالء ،ج ،20ص.439 ( )5ابـن رجب :ذيل طبقات الحنابلة ،ج ،1ص )6( - 290انظر :ذيل طبقات الحنابلة ،ج ،1ص.298 ( )7الذهبـي :سيـر أعالم النبالء ،ج ،19ص )8( - 428الذهبـي :املصدر السابق ،ج ،19ص.446
29
اإلمام الجيالنـي ج -حمــاد ب ــن مســلم ّ الدبــاس ،وكان علــى درجــة عاليــة مــن العلــم واالســتقامة وقــد تحــدث عنــه اب ــن ت ــيمية حيــث ذكــره وتلميــذه الجيالن ــي بقولــه( :فأمــر الشــيخ عبــد القــادر وشــيخه حمــاد الدبــاس وغي ــرهما مــن املشــايخ أهــل االســتقامة -ر�ضــي هللا عنهــم ُّ بأنــه ال ي ــريد الســالك مـر ًادا قــط ،وأنــه ال ي ــريد مــع إرادة هللا عــزوجــل ســواها بــل يجــري فعلــه فيــه فيكــون هــو م ـراد الحــق)(.)9 د -أبو محمد جعفر بـن أحمد البغدادي السراج محدث بغداد، وصاحــب التصان ــيف كان مــن يلتقــي بــه مــن التالميــذ ،ويأخــذ عنــه يتفاخر بذلك وتصبح هذه منقبة له بـي ــن طلبة العلم(.)10 ه -أبــو عبــد هللا يحيــى ب ــن اإلمــام أب ــي علــي الحســن ب ــن أحمــد ب ــن الب ــناء البغــدادي الحنبلــي ،وكان مــن أكث ــر مــن أثنــى عليــه مــن العلمــاء وذكــروا فضائلــه كب ــنائه للمســاجد(.)11 يالحــظ مــن ذكــر هــؤالء أن اإلمــام عبــد القــادر الجيالن ــي قــد أخــذ فقــه الحنابلــة عــن أكث ــر مــن شــيخ ممــا جعلــه علــى قــدر كبـي ــر مــن العلــم واإلحاطــة بفــروع املذهــب واجتهــادات أئمتــه ومصنفاتهــم فــي ذلــك.
)3مكانته العلمية وثناء العلماء عليه:
ومــن رحــم املعانــاة وضيــق الفاقــة ُوِلــد هــذا الفقيــه النحري ــر ً فقيهــا ّ محد ًثــا ّ الشــيخ عبــد القــادر الجيالن ــي ً مفسـ ًـرا واعظــا جمــع بـي ــن صنــوف العلــم والتبحــر فيهــا ،وتشــهد لــه تصان ــيفه بذلــك إضافــة إلــى ثنــاء كبــار علمــاء اإلســام عليــه ،فهــذا تلميــذه موفــق الدي ــن ب ــن قدامــة املقد�ســي صاحــب املغن ــي يقــول( :دخلنــا بغــداد ســنة ( 561ه ـ ) فــإذا الشــيخ اإلمــام محيــي الدي ــن عبــد القــادر ً ً ممــن انتهــت إليــه الرئاســة بهــا ً علمــا وعمــا وحــال وافتـ ًـاء ،وكان يكفــي طالــب العلــم عــن قصــده غي ــره مــن كث ــرة مــا اجتمــع فيــه مــن العلــوم والصب ــر علــى املشتغلي ــن وســعة الصــدر ،وكان مــلء ً ً العي ــن وجمــع هللا فيــه أوصافــا جميلــة وأحــوال عزيــزة ،ومــا رأيــت بعــده مثلــه وكل الصيــد فــي جــوف الف ـراء)(.)12 وهــذا اب ــنه عبــد الوهــاب الــذي ورث أبــاه عبــد القــادر فــي املذهــب، يقــول( :كان والــدي رحمــه هللا يتكلــم فــي األســبوع ثــاث م ـرات بكــرة الجمعــة وعشــية الثالثــاء وبالربــاط بكــرة األحــد ،وكان ( )9ابـن تـيمية:الفتاوى،ج ،10ص.455 ( )10الذهبـي :سيـر أعالم النبالء ،ج ،19ص.228 ( )11الذهبـي :املصدر السابق ،ج ،20ص.6 ( )12ابـن رجب :ذيل طبقات الحنابلة ،ج ،1ص.294 ( )13الشطنوفي :بهجة األسرار ،ص.95
اإلمام الجيالنـي
العدد 2رجب 1439هـ
يحضــره العلمــاء والفقهــاء واملشــايخ وغي ــرهم ،ومــدة كالمــه علــى النــاس أربعــون ســنة أولهــا 521ه ـ وآخرهــا 561هــ ،ومـ ّـدة تصــدره للتدريــس والفتــوى بمدرســته 33ســنة أولهــا 528هــ، وآخرها561هــ ،وكان يكتــب مــا يقــول فــي مجلســه أربعمائــة ً محب ــرة) ( .)13وأثنــى عليــه اب ــن ت ــيمية ثنـ ًـاء جميــا فقــال( :الشــيخ عبــد القــادر ونحــوه مــن أعظــم مشــايخ زمانهــم أمـ ًـرا بالتـزام الشــرع واألمــر والنهــي وتقديمــه علــى الــذوق والقــدر ،مــن أعظــم املشــايخ أمـ ًـرا بت ــرك الهــوى واإلرادة النفســية) (.)14
املبحث الثانـي منهجهفيالعقائد لقــد تميــز منهــج اإلمــام فــي عــرض العقيــدة اإلســامية بالبســاطة والصفــاء الــذي كانــت عليــه فــي عصــر النب ــي صلــى هللا عليــه وســلم والصــدر األول مــن الســلف قبــل أن تدخلهــا الجدليــات الت ــي لحقــت بهــذا العلــم فيمــا بعــد ...وكان اإلمــام ًّ محبــا ملنهــج الســلف ً وخصوصا منهم اإلمام وكان على منهج أهل الحديث في العقائد أحمــد ب ــن حنبــل ،ويتجلــى ذلــك فــي قولــه( :قــال اإلمــام أبــو عبــد هللا أحمــد ب ــن محمــد ب ــن حنبــل الشيبان ــي رحمــه هللا وأماتنــا علــى وفرعــا وحشــرنا فــي زمرتــه)( ،)15وكان يتحــدث ً مذهبــه أصـ ًـا ً أيضــا عــن الســلف فيقــول( :عليكــم باالتبــاع مــن غي ــر ابتــداع عليكــم بمذهــب الســلف الصالــح امشــوا فــي الجــادة املســتقيمة)(.)16 )1التوحيد: كان اإلمام الجيالنـي يـرى أن توحيد هللا يأتـي بالفطرة ،وهو يـنبع مــن أعمــاق النفــس البشــرية ،وفــي هــذا يقــول( :النفــس بأجمعهــا تابعــة لربهــا موافقــة لــه إذ هــو خالقهــا ومنشــئها وهــي مفتقــرة لــه بالعبوديــة) ،ثــم يبـي ــن الجيالن ــي رأيــه فــي أن معرفــة اإلنســان لربــه فــي املرحلــة الثان ــية بعــد الفطــرة تكــون مــن خــال تأملــه فــي آيــات هللا فــي الكــون والنفــس ،حيــث يقــول الجيالن ــي( :أن يعــرف ويت ــيقن أن هللا واحــد أحــد فــرد صمــد ...ال شب ــيه لــه وال نظي ــر ،وال عــون وال ظهي ــر ،وال شــريك وال وزي ــر ،وال َّنــد وال مشي ــر)( ،)17وهــذا كمــا فــي قولــه تعالــى(( :ليــس كمثلـ ِـه �شــيء وهــو الســميع البصي ــر))
( )14ابـن تـيمية :الفتاوى ،ج ،10ص.488 ( )15عبد القادر الجيالنـي :الغنـية ،ج ،1ص.55 ( )16الفتح الربانـي ،ص.35 ( )17الغنـية ،ج ،1ص.54
30
[ســورة الشــورى :اآليــة ،]11وهــذا تمــام التوحيــدُ ،ويتابــع الشــيخ الجيالن ــي قولــه( :إن الواجــب علــى مــن أراد الدخــول فــي دي ــن اإلســام أن يتلفــظ بكلمــة التوحيــد ،وأن يتب ـ ّـرأ مــن كل دي ــن غي ــر اإلســام معتقـ ًـدا بقلبــه وحدان ــية هللا.)18()...
)2قوله في اإليمان: وأمــا عــن قولــه فــي اإليمــان فــكان ال يخــرج عــن قــول جمهــور الســلف الصالــح فــي ذلــك حيــث يقــول( :ونعتقــد أن اإليمــان قــول باللســان ومعرفــة بالجنــان وعمــل بــاألركان ،وهــذا هــو القــول املعتمــد عنــد الســلف الصالــح) ،وفــي موضــع آخــر يقــول الجيالن ــي( :اإليمــان قــول وعمــل :فالقــول دعــوى والعمــل هــو روحهــا) ،ويقــول ً الب ـ ّـينة ،والقــول صــورة والعمــل ُ أيضــا( :ونعتقــد أن اإليمــان قــول باللســان ومعرفــة بالجنــان وعمــل بــاألركان يزيــد بالطاعــة وي ــنقص باملعصيــة)( ،)19وقــد اســتدل علــى ذلــك بقولــه تعالــى(( :فأمــا الذي ــن آمنــوا فزادتهــم ً إيمانــا وهــم يستبشــرون)) [ســورة التوبــة :آيــة ]124وقولــه تعالــى(( :وإذا تليــت عليهــم آياتــه ادتهــم ً إيمانــا وعلــى ربهــم يتوكلــون)) [ســورة األنفــال :آيــة . ]2 ز
)3موقفه من علم الكالم:
لــم يكــن اإلمــام عبــد القــادر مــن ّ محبــي علــم الــكالم وال مــن ّ الخائضي ــن فيــه بــل كان يعارضــه بشـ ّـدة ،وكان يتمثــل بقــول اإلمــام أحمــد ب ــن حنبــل وهــو( :لســت بصاحــب كالم وال أرى الــكالم فــي �شـ ْـيء مــن هــذا ّإل مــا كان فــي كتــاب هللا عــز وجــل أو حديــث عــن ّ النب ـ ّـي صلــى هللا عليه وسلم أو عن أصحابه ر�ضي هللا عنهم أو عن التابعيـنّ ، فأما غي ــر ذلــك فــإن الــكالم فيــه غي ــر محمــود)(.)20
)4التفويض في املتشابه: وقــد التــزم الجيالن ــي منهــج التفويــض بمــا جــاء فــي الكتــاب والســنة بخصــوص صفــات هللا حيــث يقــول( :وال نخــرج عــن الكتــاب والســنة، َ نقـرأ اآليــة والخب ــر ونؤمــن بمــا فيهمــا ونـ ِـكل الكيفيــة فــي الصفــات إلــى علــم هللا عــز وجــل)( ،)21ويقــول أيضــا( :انفــوا ثــم أثبتــوا ،انفــوا عنــه مــاال يليــق به ،وأثبتوا له ما يليق به ،وهو ما رضيه لنفسه ورضيه له رسوله صلى هللا عليه وسلم ،إذا فعلتم هذا زال التشبـيه والتعطيل من قلوبكم)(.)22 ( )18الغنـية ،ج ،1ص.2 ( ) 19املصدر نفسه ،ج ،1ص.62 ( )20الغنـية ،ج ،1ص.57 ( )21الغنـية ،ج ،1ص.62
العدد 2رجب 1439هـ
)5شروط قبول العمل: لقــد وافــق الجيالن ــي علمــاء الســلف فيمــا ذهبــوا إليــه حــول شــرط ً قبــول العمــل وهــو اإلخــاص هلل أول ثــم االتبــاع أي موافقــة العمــل للســنة وفــي هــذا يقــول( :إذا عملــت هــذه األعمــال -يعن ــي اإلت ــيان باألوامــر وت ــرك النواهــي -ال يقبــل منــك إال اإلخــاص فــا يقبــل قــول بــا عمــل ،وال عمــل بــا إخــاص وإصابــة الســنة) ويقــول فــي موضــع آخــر( :وجميــع مــا ذكرنــاه مــن صيــام األشــهر واألضحيــة والعبــادات من الصالة واألذكار وغيـر ذلك ال يقبل إال بعد التوبة وطهارة القلب وإخالص العمل هلل تعالى وتـرك الرياء والسمعة) ثم يستشهد على وجــوب اإلخــاص بقــول هللا تعالــى(( :ومــا أمــروا إال ليعبــدوا هللا مخلصيـن له الديـن)) [سورة البـيـنة :آية ]5وقوله سبحانه (أال هلل الدي ــن الخالــص) [ســورة الزمــر :آيــة ]3ثــم ذكــر الشــيخ عبــد القــادر الجيالنـي في كتابه الغنـية أقوال العلماء في اإلخالص مب ّـي ًنا منهجه الذي ال يـنفصل عن منهج السلف الصالح ،ومن ذلك قول سعيد بـن جبـيـر [ت96هـ] (اإلخالص أن يخلص العبد ديـنه هلل وعمله هلل تعالــى ،وال يشــرك بــه فــي دي ــنه وال ي ـرائي بعملــه أحـ ًـدا)(.)23
)6مرتكب الكبـيـرة: ومــن أب ــرز مــا خالــف بــه الجيالن ــي فــرق الخــوارج واملعتزلــة حكــم مرتكبالكبـيـرة،فأهلالسنةوالجماعةيـرونه ً فاسقاالتخرجهالكبـيـرة مــن ملــة اإلســام ،وإنمــا هــو واقــع تحــت رحمــة هللا فــي اآلخــرة إن شــاء عذبه وإن شاء غفر له ويقول الشيخ الجيالنـي في هذا( :ونعتقد أن من أدخله هللا النار بكبـيـرته مع اإليمان فإنه ال يخلد فيها بل يخرجه منها؛ ألن النار في حقه كالسجن في الدنـيا يستوفى منه بقدر كبـيـرته وجريمته ً ثــم يخــرج ب ــرحمة هللا تعالــى وال يخلــد فيهــا) ثــم يتابــع قائــا( :ونعتقــد أن ذنوبــا كثي ـ ًـرة مــن الكبائــر والصغائــر ال ُ املؤمــن وإن أذنــب ً يكفــر بهــا ،وإن خــرج مــن الدن ــيا بغي ــر توبــة ،إذا مــات علــى التوحيــد واإلخــاص)(.)24 هــذه باقــة مــن عقائــد اإلمــام الجيالن ــي نلحــظ مــن خاللهــا االلت ـزام الكامــل بعقيدة أهل السنة والجماعة ومفاهيمهم على طريقة السلف مع البعد عن كل مــا قــد لحــق ببعــض العلــوم اإلســامية مــن َج َد ّليــات ال طائــل منهــا ...وهــذا هو املنهج الذي قامت عليه مدرسة الشيخ عبد القادر وحملها تالميذه إلى أرجــاء العالــم اإلســامي فكانـوا خي ــر قــادة لحركــة اإلصــاح والنهــوض السن ــي.
( )22الفتح الربانـي مجلس ،47ص.62 ( )23الجيالنـي :الغنـية ،ج ،2ص.66 ( )24الجيالنـي :املصدر السابق ،ج ،1ص.65
31
اإلمام الجيالنـي ج -حمــاد ب ــن مســلم ّ الدبــاس ،وكان علــى درجــة عاليــة مــن العلــم واالســتقامة وقــد تحــدث عنــه اب ــن ت ــيمية حيــث ذكــره وتلميــذه الجيالن ــي بقولــه( :فأمــر الشــيخ عبــد القــادر وشــيخه حمــاد الدبــاس وغي ــرهما مــن املشــايخ أهــل االســتقامة -ر�ضــي هللا عنهــم ُّ بأنــه ال ي ــريد الســالك مـر ًادا قــط ،وأنــه ال ي ــريد مــع إرادة هللا عــزوجــل ســواها بــل يجــري فعلــه فيــه فيكــون هــو م ـراد الحــق)(.)9 د -أبو محمد جعفر بـن أحمد البغدادي السراج محدث بغداد، وصاحــب التصان ــيف كان مــن يلتقــي بــه مــن التالميــذ ،ويأخــذ عنــه يتفاخر بذلك وتصبح هذه منقبة له بـي ــن طلبة العلم(.)10 ه -أبــو عبــد هللا يحيــى ب ــن اإلمــام أب ــي علــي الحســن ب ــن أحمــد ب ــن الب ــناء البغــدادي الحنبلــي ،وكان مــن أكث ــر مــن أثنــى عليــه مــن العلمــاء وذكــروا فضائلــه كب ــنائه للمســاجد(.)11 يالحــظ مــن ذكــر هــؤالء أن اإلمــام عبــد القــادر الجيالن ــي قــد أخــذ فقــه الحنابلــة عــن أكث ــر مــن شــيخ ممــا جعلــه علــى قــدر كبـي ــر مــن العلــم واإلحاطــة بفــروع املذهــب واجتهــادات أئمتــه ومصنفاتهــم فــي ذلــك.
)3مكانته العلمية وثناء العلماء عليه:
ومــن رحــم املعانــاة وضيــق الفاقــة ُوِلــد هــذا الفقيــه النحري ــر ً فقيهــا ّ محد ًثــا ّ الشــيخ عبــد القــادر الجيالن ــي ً مفسـ ًـرا واعظــا جمــع بـي ــن صنــوف العلــم والتبحــر فيهــا ،وتشــهد لــه تصان ــيفه بذلــك إضافــة إلــى ثنــاء كبــار علمــاء اإلســام عليــه ،فهــذا تلميــذه موفــق الدي ــن ب ــن قدامــة املقد�ســي صاحــب املغن ــي يقــول( :دخلنــا بغــداد ســنة ( 561ه ـ ) فــإذا الشــيخ اإلمــام محيــي الدي ــن عبــد القــادر ً ً ممــن انتهــت إليــه الرئاســة بهــا ً علمــا وعمــا وحــال وافتـ ًـاء ،وكان يكفــي طالــب العلــم عــن قصــده غي ــره مــن كث ــرة مــا اجتمــع فيــه مــن العلــوم والصب ــر علــى املشتغلي ــن وســعة الصــدر ،وكان مــلء ً ً العي ــن وجمــع هللا فيــه أوصافــا جميلــة وأحــوال عزيــزة ،ومــا رأيــت بعــده مثلــه وكل الصيــد فــي جــوف الف ـراء)(.)12 وهــذا اب ــنه عبــد الوهــاب الــذي ورث أبــاه عبــد القــادر فــي املذهــب، يقــول( :كان والــدي رحمــه هللا يتكلــم فــي األســبوع ثــاث م ـرات بكــرة الجمعــة وعشــية الثالثــاء وبالربــاط بكــرة األحــد ،وكان ( )9ابـن تـيمية:الفتاوى،ج ،10ص.455 ( )10الذهبـي :سيـر أعالم النبالء ،ج ،19ص.228 ( )11الذهبـي :املصدر السابق ،ج ،20ص.6 ( )12ابـن رجب :ذيل طبقات الحنابلة ،ج ،1ص.294 ( )13الشطنوفي :بهجة األسرار ،ص.95
اإلمام الجيالنـي
العدد 2رجب 1439هـ
يحضــره العلمــاء والفقهــاء واملشــايخ وغي ــرهم ،ومــدة كالمــه علــى النــاس أربعــون ســنة أولهــا 521ه ـ وآخرهــا 561هــ ،ومـ ّـدة تصــدره للتدريــس والفتــوى بمدرســته 33ســنة أولهــا 528هــ، وآخرها561هــ ،وكان يكتــب مــا يقــول فــي مجلســه أربعمائــة ً محب ــرة) ( .)13وأثنــى عليــه اب ــن ت ــيمية ثنـ ًـاء جميــا فقــال( :الشــيخ عبــد القــادر ونحــوه مــن أعظــم مشــايخ زمانهــم أمـ ًـرا بالتـزام الشــرع واألمــر والنهــي وتقديمــه علــى الــذوق والقــدر ،مــن أعظــم املشــايخ أمـ ًـرا بت ــرك الهــوى واإلرادة النفســية) (.)14
املبحث الثانـي منهجهفيالعقائد لقــد تميــز منهــج اإلمــام فــي عــرض العقيــدة اإلســامية بالبســاطة والصفــاء الــذي كانــت عليــه فــي عصــر النب ــي صلــى هللا عليــه وســلم والصــدر األول مــن الســلف قبــل أن تدخلهــا الجدليــات الت ــي لحقــت بهــذا العلــم فيمــا بعــد ...وكان اإلمــام ًّ محبــا ملنهــج الســلف ً وخصوصا منهم اإلمام وكان على منهج أهل الحديث في العقائد أحمــد ب ــن حنبــل ،ويتجلــى ذلــك فــي قولــه( :قــال اإلمــام أبــو عبــد هللا أحمــد ب ــن محمــد ب ــن حنبــل الشيبان ــي رحمــه هللا وأماتنــا علــى وفرعــا وحشــرنا فــي زمرتــه)( ،)15وكان يتحــدث ً مذهبــه أصـ ًـا ً أيضــا عــن الســلف فيقــول( :عليكــم باالتبــاع مــن غي ــر ابتــداع عليكــم بمذهــب الســلف الصالــح امشــوا فــي الجــادة املســتقيمة)(.)16 )1التوحيد: كان اإلمام الجيالنـي يـرى أن توحيد هللا يأتـي بالفطرة ،وهو يـنبع مــن أعمــاق النفــس البشــرية ،وفــي هــذا يقــول( :النفــس بأجمعهــا تابعــة لربهــا موافقــة لــه إذ هــو خالقهــا ومنشــئها وهــي مفتقــرة لــه بالعبوديــة) ،ثــم يبـي ــن الجيالن ــي رأيــه فــي أن معرفــة اإلنســان لربــه فــي املرحلــة الثان ــية بعــد الفطــرة تكــون مــن خــال تأملــه فــي آيــات هللا فــي الكــون والنفــس ،حيــث يقــول الجيالن ــي( :أن يعــرف ويت ــيقن أن هللا واحــد أحــد فــرد صمــد ...ال شب ــيه لــه وال نظي ــر ،وال عــون وال ظهي ــر ،وال شــريك وال وزي ــر ،وال َّنــد وال مشي ــر)( ،)17وهــذا كمــا فــي قولــه تعالــى(( :ليــس كمثلـ ِـه �شــيء وهــو الســميع البصي ــر))
( )14ابـن تـيمية :الفتاوى ،ج ،10ص.488 ( )15عبد القادر الجيالنـي :الغنـية ،ج ،1ص.55 ( )16الفتح الربانـي ،ص.35 ( )17الغنـية ،ج ،1ص.54
30
[ســورة الشــورى :اآليــة ،]11وهــذا تمــام التوحيــدُ ،ويتابــع الشــيخ الجيالن ــي قولــه( :إن الواجــب علــى مــن أراد الدخــول فــي دي ــن اإلســام أن يتلفــظ بكلمــة التوحيــد ،وأن يتب ـ ّـرأ مــن كل دي ــن غي ــر اإلســام معتقـ ًـدا بقلبــه وحدان ــية هللا.)18()...
)2قوله في اإليمان: وأمــا عــن قولــه فــي اإليمــان فــكان ال يخــرج عــن قــول جمهــور الســلف الصالــح فــي ذلــك حيــث يقــول( :ونعتقــد أن اإليمــان قــول باللســان ومعرفــة بالجنــان وعمــل بــاألركان ،وهــذا هــو القــول املعتمــد عنــد الســلف الصالــح) ،وفــي موضــع آخــر يقــول الجيالن ــي( :اإليمــان قــول وعمــل :فالقــول دعــوى والعمــل هــو روحهــا) ،ويقــول ً الب ـ ّـينة ،والقــول صــورة والعمــل ُ أيضــا( :ونعتقــد أن اإليمــان قــول باللســان ومعرفــة بالجنــان وعمــل بــاألركان يزيــد بالطاعــة وي ــنقص باملعصيــة)( ،)19وقــد اســتدل علــى ذلــك بقولــه تعالــى(( :فأمــا الذي ــن آمنــوا فزادتهــم ً إيمانــا وهــم يستبشــرون)) [ســورة التوبــة :آيــة ]124وقولــه تعالــى(( :وإذا تليــت عليهــم آياتــه ادتهــم ً إيمانــا وعلــى ربهــم يتوكلــون)) [ســورة األنفــال :آيــة . ]2 ز
)3موقفه من علم الكالم:
لــم يكــن اإلمــام عبــد القــادر مــن ّ محبــي علــم الــكالم وال مــن ّ الخائضي ــن فيــه بــل كان يعارضــه بشـ ّـدة ،وكان يتمثــل بقــول اإلمــام أحمــد ب ــن حنبــل وهــو( :لســت بصاحــب كالم وال أرى الــكالم فــي �شـ ْـيء مــن هــذا ّإل مــا كان فــي كتــاب هللا عــز وجــل أو حديــث عــن ّ النب ـ ّـي صلــى هللا عليه وسلم أو عن أصحابه ر�ضي هللا عنهم أو عن التابعيـنّ ، فأما غي ــر ذلــك فــإن الــكالم فيــه غي ــر محمــود)(.)20
)4التفويض في املتشابه: وقــد التــزم الجيالن ــي منهــج التفويــض بمــا جــاء فــي الكتــاب والســنة بخصــوص صفــات هللا حيــث يقــول( :وال نخــرج عــن الكتــاب والســنة، َ نقـرأ اآليــة والخب ــر ونؤمــن بمــا فيهمــا ونـ ِـكل الكيفيــة فــي الصفــات إلــى علــم هللا عــز وجــل)( ،)21ويقــول أيضــا( :انفــوا ثــم أثبتــوا ،انفــوا عنــه مــاال يليــق به ،وأثبتوا له ما يليق به ،وهو ما رضيه لنفسه ورضيه له رسوله صلى هللا عليه وسلم ،إذا فعلتم هذا زال التشبـيه والتعطيل من قلوبكم)(.)22 ( )18الغنـية ،ج ،1ص.2 ( ) 19املصدر نفسه ،ج ،1ص.62 ( )20الغنـية ،ج ،1ص.57 ( )21الغنـية ،ج ،1ص.62
العدد 2رجب 1439هـ
)5شروط قبول العمل: لقــد وافــق الجيالن ــي علمــاء الســلف فيمــا ذهبــوا إليــه حــول شــرط ً قبــول العمــل وهــو اإلخــاص هلل أول ثــم االتبــاع أي موافقــة العمــل للســنة وفــي هــذا يقــول( :إذا عملــت هــذه األعمــال -يعن ــي اإلت ــيان باألوامــر وت ــرك النواهــي -ال يقبــل منــك إال اإلخــاص فــا يقبــل قــول بــا عمــل ،وال عمــل بــا إخــاص وإصابــة الســنة) ويقــول فــي موضــع آخــر( :وجميــع مــا ذكرنــاه مــن صيــام األشــهر واألضحيــة والعبــادات من الصالة واألذكار وغيـر ذلك ال يقبل إال بعد التوبة وطهارة القلب وإخالص العمل هلل تعالى وتـرك الرياء والسمعة) ثم يستشهد على وجــوب اإلخــاص بقــول هللا تعالــى(( :ومــا أمــروا إال ليعبــدوا هللا مخلصيـن له الديـن)) [سورة البـيـنة :آية ]5وقوله سبحانه (أال هلل الدي ــن الخالــص) [ســورة الزمــر :آيــة ]3ثــم ذكــر الشــيخ عبــد القــادر الجيالنـي في كتابه الغنـية أقوال العلماء في اإلخالص مب ّـي ًنا منهجه الذي ال يـنفصل عن منهج السلف الصالح ،ومن ذلك قول سعيد بـن جبـيـر [ت96هـ] (اإلخالص أن يخلص العبد ديـنه هلل وعمله هلل تعالــى ،وال يشــرك بــه فــي دي ــنه وال ي ـرائي بعملــه أحـ ًـدا)(.)23
)6مرتكب الكبـيـرة: ومــن أب ــرز مــا خالــف بــه الجيالن ــي فــرق الخــوارج واملعتزلــة حكــم مرتكبالكبـيـرة،فأهلالسنةوالجماعةيـرونه ً فاسقاالتخرجهالكبـيـرة مــن ملــة اإلســام ،وإنمــا هــو واقــع تحــت رحمــة هللا فــي اآلخــرة إن شــاء عذبه وإن شاء غفر له ويقول الشيخ الجيالنـي في هذا( :ونعتقد أن من أدخله هللا النار بكبـيـرته مع اإليمان فإنه ال يخلد فيها بل يخرجه منها؛ ألن النار في حقه كالسجن في الدنـيا يستوفى منه بقدر كبـيـرته وجريمته ً ثــم يخــرج ب ــرحمة هللا تعالــى وال يخلــد فيهــا) ثــم يتابــع قائــا( :ونعتقــد أن ذنوبــا كثي ـ ًـرة مــن الكبائــر والصغائــر ال ُ املؤمــن وإن أذنــب ً يكفــر بهــا ،وإن خــرج مــن الدن ــيا بغي ــر توبــة ،إذا مــات علــى التوحيــد واإلخــاص)(.)24 هــذه باقــة مــن عقائــد اإلمــام الجيالن ــي نلحــظ مــن خاللهــا االلت ـزام الكامــل بعقيدة أهل السنة والجماعة ومفاهيمهم على طريقة السلف مع البعد عن كل مــا قــد لحــق ببعــض العلــوم اإلســامية مــن َج َد ّليــات ال طائــل منهــا ...وهــذا هو املنهج الذي قامت عليه مدرسة الشيخ عبد القادر وحملها تالميذه إلى أرجــاء العالــم اإلســامي فكانـوا خي ــر قــادة لحركــة اإلصــاح والنهــوض السن ــي.
( )22الفتح الربانـي مجلس ،47ص.62 ( )23الجيالنـي :الغنـية ،ج ،2ص.66 ( )24الجيالنـي :املصدر السابق ،ج ،1ص.65
31
اإلمام الجيالنـي
املبحثالثالث مفهومالتصوفعندالشيخالجيالنـي قــال الجيالن ــي فــي معـ ِـرض حديثــه عــن التصــوف (:التصــوف هــو َ ُ وعرفه ً الخ ُ الخ ْلق)(ّ ،)25 أيضا بقوله: لق مع الصدق مع الحق وحسن (هــو تقــوى هللا وطاعتــه ولــزوم ظاهــر الشــرع وســامة الصــدر وســخاء ّ وكف األذى ّ وتحمل األذى والفقر النفس وبشاشة الوجه وبذل الندى وحفــظ ُحرمــات املشــايخ والعشــرة مــع اإلخــوان والنصيحــة لألصاغــر واألكاب ــر وت ــرك الخصومــة واإلرفــاق ،ومالزمــة اإليثــار ومجانبــة ّ االدخــار وت ــرك صحبة من ليس من طبقتهم واملعاونة في أمر الدي ــن والدن ــيا). يوضح الشيخ الجيالنـي معالم التصوف الحقيقي ،والذي ال يحيد عن منهج سلفنا الصالح مبـيـنا ذلك في ثمان صفات هي -1 :السخاء -2والر�ضى -3والصب ــر -4وســرعة الفهم باإلشــارة -5وصفاء النفس -6واصطفاؤهــا -7 ،والتأمــل والتفكــر فــي آيــات هللا فــي الكــون والنفــس ً ويسميها الصوفية السياحة -8 ،وأخي ًـرا الفقر ويكون فيه العبد ذليل ً ً ً مخلصا في دعائه وتضرعه. معتمدا عليه منكسرا بـيـن يدي ربه وهــذه املعان ــي أو الصفــات إذا تحققــت فــي العبــد بلــغ مرحلــة االصطفــاء كمــا ي ــرى الشــيخ الجيالن ــي ،فالصوفــي عنــده (مــن صفــاء صافيــا مــن آفــات النفــس ً ً خاليــا مــن النفــس أو العبــد الــذي أصبــح ً مذموماتهــا ســالكا لحميــد مذاهبــه مالز ًمــا للحقائــق غي ــر ســاكن إلــى ّ اصطالحيــا للصوفــي أحــد مــن الخالئــق)()26؛ ولذلــك وضــع معنــى ّ (الصوفي من صفا باطنه وظاهره بمتابعة كتاب هللا وســنة بقوله: رســوله صلــى هللا عليــه وســلم ،والصوفــي الصــادق فــي تصوفــه يصفو قلبه عما سوى مواله عز وجل ،وهذا �شيء ال يجيء بتغييـر الخــرق وتعفي ــر الوجــوه وجمــع األكتــاف ولقلقــة اللســان وحكايــات الصالحي ــن وتحريــك األصابــع بالتسب ــيح والتهليــل ،وإنمــا يجــيء بالصــدق فــي طلــب الحــق عــز وجــل والزهــد فــي الدن ــيا وإخـراج الخلــق مــن القلــب وتجـ ّـرده ّ عمــا ســوى مــواله عــز وجــل)(.)27 ومن هذه املعان ــي واملفاهيم وضع الشــيخ الجيالن ــي كتابـي ــن يانعي ــن ماتعيـن هما( :الغنـية) و (فتوح الغيب) ،واللذان كانا ً منهاجا ملدرسة ت ـربوية ســعى مــن خاللهــا لتنقيــة التصــوف مــن شــوائب البــدع ( )25ابـن القيم :زاد املعاد ،ج ،1ص.71 ( )26الصالبـي :عصر الدولة الزنكية ،ص.381 ( )27الفتح الربانـي ،مجلس ،25ص.90 ( )28الجيالنـي :فتوح الغيب ،ص.50
اإلمام الجيالنـي
العدد 2رجب 1439هـ
والخرافات والشطحات البعيدة عن الكتاب والسنة وإظهار معدن التصــوف األصيــل ...فالفهــم الصحيــح ي ــنتج عنــه ســلوك صحيــح، وال يكــون هــذا إال مــن خــال تهذيــب النفــس وتنشــئتها علــى األخــاق الحميدةوالعقيدةالصحيحة؛لذاقررالجيالنـيعلىتالميذهجملة مــن اآلداب والواجبــات الت ــي تنقــي النفــس وتســمو بهــا إلــى مراتــب الصفاء الروحي والنف�سي وهي :التمسك بالكتاب والسنة والتزامهما كمنهــج عملــي فــي األمــر باملعــروف والنهــي عــن املنكــر ،والصــدق مــع هللا وإخــاص العمــل لــه ومجاهــدة النفــس فــي سب ــيل مرضاتــه ً وصحبة الصالحيـن؛ ألن في صحبتهم حفظا للنفس من التقصيـر في الطاعة ،وتـرك أصحاب القيل والقال واالبتعاد عن مجالسهم، ّ ّ والتحلــي واالتصــاف باليقي ــن والكــرم ،فبهمــا تســمو النفــس فــا تخ�شــى قلــة بعــد عطــاء وبــذل ،وتهذيــب النفــس عــن طريــق الجــوع ُ والحرمان فال ت ّلبى بكل ما تطلبه ،وفي هذا يقول الشاعر( :والنفس راغبـ ٌـة إذا ر ّغبتهــا ** وإذا ت ـ ُّ ـرد إلــى قليـ ٍـل تقنـ ُـع) كمــا كان يأمــر تالمذتــه باالبتعــاد عــن مجالــس الشــهرة ـكـي ال يصــل ُ العجـ ُـب إلــى النفــس فيدخلها الهوى ُ وحب الظهور ،وأن يتضرع الفرد منهم ً دائما إلى هللا بأن يستـره ويعيـنه على تـرك الذنوب واملعا�صي وأن ي ُ ـرزقه التوفيق َ والصــاح ،ويأمرهــم باإليثــار وهــو أن يؤ ِثــر املريــد أقرانــه علــى نفســه فــا يتقدمهــم فــي مجلــس شــيخ وال فــي ب ــيت عالــم وأن يكرمهــم قــدر املستطاع ،وعلى املريد أن يتعلم كظم الغيظ واملسارعة في الصفح والعفو ،وتنا�سي إساءات الناس إليه ثم التحبب إليهم ،كما أن من أدب العلــم مالزمــة الشــيوخ ون ــيل الرضــا والتــودد إليهــم ...كمــا علــى كل منهــم أن يعامــل النــاس علــى قاعــدة الحــب فــي هللا والبغــض فيــه، يقــول الشــيخ الجيالن ــي ّ موض ًحــا ذلــك( :إذا وجــدت فــي قلبــك بغــض شــخص أو َّ حبــه فاعــرض أعمالــه علــى الكتــاب والســنة ،فــإن كانــت فيهمــا مبغوضــة ،فأبشــر بموافقتــك هلل عــز وجــل ولرســوله ،وإن كانــت أعمالــه فيهمــا محبوبــة وأنــت تبغضــه ،فاعلــم بأنــك صاحــب ً ً وعاصيــا هلل عــز وجــل هــوى تبغضــه بهــواك ظالـ ــا لــه ببغضــك ّإيــاه مخالفــا لهمــا ُ ً فتـ ْـب إلــى هللا عــز وجــل)(.)28 ولرســوله هذا هو موقف الشيخ عبد القادر الجيالنـي من التصوف ومفهومه ومقاصــده ،تصــوف يســمو بالعبــد إلــى أعلــى درجــات العبوديــة هلل ً موقنــا حـ ّـق اليقي ــن أنــه ال معبــود بحــق ســوى هللا ،ومت ـ ً ـرجما هــذا
32
بســلوكه مــع نفســه ومــع النــاس ومــع الب ــيئة املحيطــة بــه زاهـ ًـدا بمتــاع الدن ــيا ،وليــس الزهــد الــذي ّ يغيــب صاحبــه عــن همــوم أمتــه والنظــر في أحوالها فهذا الصوفي الزاهد يبقى ً واحدا من أفراد األمة يصيبه ً بمنأى ّ عما يـنزل فيها من بالء. ما يصيب املسلميـن ،وال يظن نفسه
املبحثالرابع الطريقةالقادريةوتصحيحاملفاهيم )1نشأة الطريقة:
ّ َّ الصوفية ُيعتبـر الشيخ عبد القادر الجيالنـي من أول وأشهر من نظم فــي جماعــات ُم َ منهجــة تسي ــر وفــق طريقــة منضبطــة ،تضبــط ســلوك ٍ املريد مع شيخه وسلوك الشيخ مع تلميذه وسلوك االثنـيـن مع الناس والبـيئة املحيطة بهم ،ويتجلى ذلك في وصيته البـنه عبد الرزاق حيث قــال( :أوصيــك بتقــوى هللا ،وطاعتــه ولــزوم الشــرع وحفــظ حــدوده، ٌ وأعلم يا ولدي -وفقنا هللا وإياك واملسلميـن -أن طريقتنا هذه مبـن ّـية على الكتاب والســنة وســامة الصدر وســخاء اليد وبذل الندى وكف الجفــا وحمــل األذى والصفــح عــن عث ـرات اإلخــوان). ً وقد ّ أصل الجيالنـي لطريقته تأصيل يقوم على الكتاب والسنة وال يحيــد فيــه عــن فهــم ســلف األمــة ،حيــث يقــول فــي وصيتــه( :أدخــل الظلمة باملصباح وهو كتاب هللا وسنة رسوله صلى هللا عليه وسلم؛ فــإن خطــر خاطــر أو جـ ّـد إلهـ ٌ ـام فاعرضــه علــى الكتــاب والســنة؛ فــإن وجــدت فيهمــا تحريــم ذلــك مثــل أن تلهــم الزنــا والريــاء ومخالطــة أهــل الفسق والفجور وغيـر ذلك من املعا�صي فادفعه عنك واهجره وال تقبله وال تعمل به واقطع بأنه من الشيطان اللعيـن)(.)29
)2حثه على األمرباملعروف والنهي عن املنكر:
ّ كان الشــيخ الجيالن ــي كثي ـ ًـرا مــا يحــث أتبــاع طريقتــه علــى وجــوب األمر باملعروف ،واجتناب ما نهى ُ هللا عنه واالستسالم والتسليم لـ ُـه بقضائــه فــا مــرد لقضائــه ،ولكنــه ســبحانه يلطــف بالنــاس بقــدر دعائهــم وتضرعهــم لـ ُـه عــز وجــل ،فــكان يقــول لتالميــذه: (البــد لــكل مؤمــن فــي ســائر أحوالــه مــن ثالثــة أشــياء :أمــر يمتثلــه ونهي يجتنبه وقدر يـر�ضى به ،فأقل حالة املؤمن ال يخلو فيها من قلبه ّ همها َ أحد هذه األشياء الثالثة ،فيـنبغي أن ُيلزم َّ ويحدث بها ِ ( )29الجيالنـي :املصدر السابق ،ص.640 ( )30الجيالنـي :املصدر السابق ،ص.6 ( )31قالئد الجواهر ،ص.19
العدد 2رجب 1439هـ
نفســه ويؤاخــذ الجــوارح بهــا فــي ســائر أحوالــه)(.)30
)3إقبال الناس على طريقته:
ّ اتبع الشيخ الجيالنـي أسلوب الوعظ واإلرشاد والنصح والغيـرة على عبــاد هللا وحمــل همهــم وهــم آخرتهــم ،لذلــك ازداد التفــاف النــاس حولــه ،وكان يقــول لهــم ( :أال إن ــي راع لكــم ســاق لكــم ناطــور لكــم، مــا ت ــرقيت هــا هنــا وأرى لكــم وجـ ً ـودا فــي الضــر والنفــع بعــد مــا قطعــت الكل بسيف التوحيد ...حمدكم وذمكم وإقبالكم وإدباركم عندي كم َمن يذمن ــي كثي ـ ًـرا ثم ي ــنقلب ذمه ً ســواءْ ، حمدا ،كالهما من هللا ال منه ،إقبالي عليكم هلل أخذي منكم هلل لو أمكننـي دخلت مع كل منكم القب ــر وجاوبت عنه ً منكرا ونكي ـ ًـرا رحمة وشفقة عليكم). بهذه املعانـي ّربى الجيالنـي أتباعه ،وغرس في نفوسهم مفهوم اإلخاء والبــذل والعطــاء ،والتناصــح والشــفقة وحســن التعامــل وطيــب الكالم،وتجريدالنفسعنالهوى،وانقيادهالخالقهاوباريهابصدق وإخالص ،وقد وصل صدى وعظ اإلمام إلى قلوب جماعة األحداث وقطاع الطرق ،فأســلم من لم يكن مسـ ًـلما وتاب على يده من ن�ســي دي ــنه حتــى قــال الجيالن ــي( :وتــاب علــى يــدي مــن ّ العياري ــن واملســالحة أكث ــر مــن مائــة ألــف ،وهــذا خي ــر كثي ــر)( ،)31ولذلــك انتشــرت طريقــة الشــيخ ،وحيــث مــا تــوزع أتباعــه ووصلــوا وجــدت طريقتــه بمعان ــيها وأسســها البســيطة والخاليــة مــن أي فكــر فلســفي معقــد الكثي ــر من األتباع املخلصي ــن ...وقد كان الشــيخ كثي ـ ًـرا ما ي ــنهى أتباعه عن الفلســفة ويحذرهــم مــن خطــر دخولهــا علــى النفــس والعقــل.
املبحثالخامس املدرسةالقادريةوفروعهافيالبلدان لقدكانتاملدارسالديـنـيةهياملراكزالتـيانتشرمنهامنهجاإلمامالتـربوي ـات متخصصــة فــي صناعة الوعي واإلصالحــي ،وكانــت هــذه املــدارس محطـ ٍ وتـربـية الجيل على اإليمان والعلم واالستعداد لخدمة األمة ...وسأعرض اآلن لبـناء املدرسة القادرية األولى وأهم فروعها في املدن واألرياف.
)1املدرسة القاد َّرية األولى:
ً منــذ أن جلــس الشــيخ عبــد القــادر الجيالن ــي للتدريــس وارثــا
33
اإلمام الجيالنـي
املبحثالثالث مفهومالتصوفعندالشيخالجيالنـي قــال الجيالن ــي فــي معـ ِـرض حديثــه عــن التصــوف (:التصــوف هــو َ ُ وعرفه ً الخ ُ الخ ْلق)(ّ ،)25 أيضا بقوله: لق مع الصدق مع الحق وحسن (هــو تقــوى هللا وطاعتــه ولــزوم ظاهــر الشــرع وســامة الصــدر وســخاء ّ وكف األذى ّ وتحمل األذى والفقر النفس وبشاشة الوجه وبذل الندى وحفــظ ُحرمــات املشــايخ والعشــرة مــع اإلخــوان والنصيحــة لألصاغــر واألكاب ــر وت ــرك الخصومــة واإلرفــاق ،ومالزمــة اإليثــار ومجانبــة ّ االدخــار وت ــرك صحبة من ليس من طبقتهم واملعاونة في أمر الدي ــن والدن ــيا). يوضح الشيخ الجيالنـي معالم التصوف الحقيقي ،والذي ال يحيد عن منهج سلفنا الصالح مبـيـنا ذلك في ثمان صفات هي -1 :السخاء -2والر�ضى -3والصب ــر -4وســرعة الفهم باإلشــارة -5وصفاء النفس -6واصطفاؤهــا -7 ،والتأمــل والتفكــر فــي آيــات هللا فــي الكــون والنفــس ً ويسميها الصوفية السياحة -8 ،وأخي ًـرا الفقر ويكون فيه العبد ذليل ً ً ً مخلصا في دعائه وتضرعه. معتمدا عليه منكسرا بـيـن يدي ربه وهــذه املعان ــي أو الصفــات إذا تحققــت فــي العبــد بلــغ مرحلــة االصطفــاء كمــا ي ــرى الشــيخ الجيالن ــي ،فالصوفــي عنــده (مــن صفــاء صافيــا مــن آفــات النفــس ً ً خاليــا مــن النفــس أو العبــد الــذي أصبــح ً مذموماتهــا ســالكا لحميــد مذاهبــه مالز ًمــا للحقائــق غي ــر ســاكن إلــى ّ اصطالحيــا للصوفــي أحــد مــن الخالئــق)()26؛ ولذلــك وضــع معنــى ّ (الصوفي من صفا باطنه وظاهره بمتابعة كتاب هللا وســنة بقوله: رســوله صلــى هللا عليــه وســلم ،والصوفــي الصــادق فــي تصوفــه يصفو قلبه عما سوى مواله عز وجل ،وهذا �شيء ال يجيء بتغييـر الخــرق وتعفي ــر الوجــوه وجمــع األكتــاف ولقلقــة اللســان وحكايــات الصالحي ــن وتحريــك األصابــع بالتسب ــيح والتهليــل ،وإنمــا يجــيء بالصــدق فــي طلــب الحــق عــز وجــل والزهــد فــي الدن ــيا وإخـراج الخلــق مــن القلــب وتجـ ّـرده ّ عمــا ســوى مــواله عــز وجــل)(.)27 ومن هذه املعان ــي واملفاهيم وضع الشــيخ الجيالن ــي كتابـي ــن يانعي ــن ماتعيـن هما( :الغنـية) و (فتوح الغيب) ،واللذان كانا ً منهاجا ملدرسة ت ـربوية ســعى مــن خاللهــا لتنقيــة التصــوف مــن شــوائب البــدع ( )25ابـن القيم :زاد املعاد ،ج ،1ص.71 ( )26الصالبـي :عصر الدولة الزنكية ،ص.381 ( )27الفتح الربانـي ،مجلس ،25ص.90 ( )28الجيالنـي :فتوح الغيب ،ص.50
اإلمام الجيالنـي
العدد 2رجب 1439هـ
والخرافات والشطحات البعيدة عن الكتاب والسنة وإظهار معدن التصــوف األصيــل ...فالفهــم الصحيــح ي ــنتج عنــه ســلوك صحيــح، وال يكــون هــذا إال مــن خــال تهذيــب النفــس وتنشــئتها علــى األخــاق الحميدةوالعقيدةالصحيحة؛لذاقررالجيالنـيعلىتالميذهجملة مــن اآلداب والواجبــات الت ــي تنقــي النفــس وتســمو بهــا إلــى مراتــب الصفاء الروحي والنف�سي وهي :التمسك بالكتاب والسنة والتزامهما كمنهــج عملــي فــي األمــر باملعــروف والنهــي عــن املنكــر ،والصــدق مــع هللا وإخــاص العمــل لــه ومجاهــدة النفــس فــي سب ــيل مرضاتــه ً وصحبة الصالحيـن؛ ألن في صحبتهم حفظا للنفس من التقصيـر في الطاعة ،وتـرك أصحاب القيل والقال واالبتعاد عن مجالسهم، ّ ّ والتحلــي واالتصــاف باليقي ــن والكــرم ،فبهمــا تســمو النفــس فــا تخ�شــى قلــة بعــد عطــاء وبــذل ،وتهذيــب النفــس عــن طريــق الجــوع ُ والحرمان فال ت ّلبى بكل ما تطلبه ،وفي هذا يقول الشاعر( :والنفس راغبـ ٌـة إذا ر ّغبتهــا ** وإذا ت ـ ُّ ـرد إلــى قليـ ٍـل تقنـ ُـع) كمــا كان يأمــر تالمذتــه باالبتعــاد عــن مجالــس الشــهرة ـكـي ال يصــل ُ العجـ ُـب إلــى النفــس فيدخلها الهوى ُ وحب الظهور ،وأن يتضرع الفرد منهم ً دائما إلى هللا بأن يستـره ويعيـنه على تـرك الذنوب واملعا�صي وأن ي ُ ـرزقه التوفيق َ والصــاح ،ويأمرهــم باإليثــار وهــو أن يؤ ِثــر املريــد أقرانــه علــى نفســه فــا يتقدمهــم فــي مجلــس شــيخ وال فــي ب ــيت عالــم وأن يكرمهــم قــدر املستطاع ،وعلى املريد أن يتعلم كظم الغيظ واملسارعة في الصفح والعفو ،وتنا�سي إساءات الناس إليه ثم التحبب إليهم ،كما أن من أدب العلــم مالزمــة الشــيوخ ون ــيل الرضــا والتــودد إليهــم ...كمــا علــى كل منهــم أن يعامــل النــاس علــى قاعــدة الحــب فــي هللا والبغــض فيــه، يقــول الشــيخ الجيالن ــي ّ موض ًحــا ذلــك( :إذا وجــدت فــي قلبــك بغــض شــخص أو َّ حبــه فاعــرض أعمالــه علــى الكتــاب والســنة ،فــإن كانــت فيهمــا مبغوضــة ،فأبشــر بموافقتــك هلل عــز وجــل ولرســوله ،وإن كانــت أعمالــه فيهمــا محبوبــة وأنــت تبغضــه ،فاعلــم بأنــك صاحــب ً ً وعاصيــا هلل عــز وجــل هــوى تبغضــه بهــواك ظالـ ــا لــه ببغضــك ّإيــاه مخالفــا لهمــا ُ ً فتـ ْـب إلــى هللا عــز وجــل)(.)28 ولرســوله هذا هو موقف الشيخ عبد القادر الجيالنـي من التصوف ومفهومه ومقاصــده ،تصــوف يســمو بالعبــد إلــى أعلــى درجــات العبوديــة هلل ً موقنــا حـ ّـق اليقي ــن أنــه ال معبــود بحــق ســوى هللا ،ومت ـ ً ـرجما هــذا
32
بســلوكه مــع نفســه ومــع النــاس ومــع الب ــيئة املحيطــة بــه زاهـ ًـدا بمتــاع الدن ــيا ،وليــس الزهــد الــذي ّ يغيــب صاحبــه عــن همــوم أمتــه والنظــر في أحوالها فهذا الصوفي الزاهد يبقى ً واحدا من أفراد األمة يصيبه ً بمنأى ّ عما يـنزل فيها من بالء. ما يصيب املسلميـن ،وال يظن نفسه
املبحثالرابع الطريقةالقادريةوتصحيحاملفاهيم )1نشأة الطريقة:
ّ َّ الصوفية ُيعتبـر الشيخ عبد القادر الجيالنـي من أول وأشهر من نظم فــي جماعــات ُم َ منهجــة تسي ــر وفــق طريقــة منضبطــة ،تضبــط ســلوك ٍ املريد مع شيخه وسلوك الشيخ مع تلميذه وسلوك االثنـيـن مع الناس والبـيئة املحيطة بهم ،ويتجلى ذلك في وصيته البـنه عبد الرزاق حيث قــال( :أوصيــك بتقــوى هللا ،وطاعتــه ولــزوم الشــرع وحفــظ حــدوده، ٌ وأعلم يا ولدي -وفقنا هللا وإياك واملسلميـن -أن طريقتنا هذه مبـن ّـية على الكتاب والســنة وســامة الصدر وســخاء اليد وبذل الندى وكف الجفــا وحمــل األذى والصفــح عــن عث ـرات اإلخــوان). ً وقد ّ أصل الجيالنـي لطريقته تأصيل يقوم على الكتاب والسنة وال يحيــد فيــه عــن فهــم ســلف األمــة ،حيــث يقــول فــي وصيتــه( :أدخــل الظلمة باملصباح وهو كتاب هللا وسنة رسوله صلى هللا عليه وسلم؛ فــإن خطــر خاطــر أو جـ ّـد إلهـ ٌ ـام فاعرضــه علــى الكتــاب والســنة؛ فــإن وجــدت فيهمــا تحريــم ذلــك مثــل أن تلهــم الزنــا والريــاء ومخالطــة أهــل الفسق والفجور وغيـر ذلك من املعا�صي فادفعه عنك واهجره وال تقبله وال تعمل به واقطع بأنه من الشيطان اللعيـن)(.)29
)2حثه على األمرباملعروف والنهي عن املنكر:
ّ كان الشــيخ الجيالن ــي كثي ـ ًـرا مــا يحــث أتبــاع طريقتــه علــى وجــوب األمر باملعروف ،واجتناب ما نهى ُ هللا عنه واالستسالم والتسليم لـ ُـه بقضائــه فــا مــرد لقضائــه ،ولكنــه ســبحانه يلطــف بالنــاس بقــدر دعائهــم وتضرعهــم لـ ُـه عــز وجــل ،فــكان يقــول لتالميــذه: (البــد لــكل مؤمــن فــي ســائر أحوالــه مــن ثالثــة أشــياء :أمــر يمتثلــه ونهي يجتنبه وقدر يـر�ضى به ،فأقل حالة املؤمن ال يخلو فيها من قلبه ّ همها َ أحد هذه األشياء الثالثة ،فيـنبغي أن ُيلزم َّ ويحدث بها ِ ( )29الجيالنـي :املصدر السابق ،ص.640 ( )30الجيالنـي :املصدر السابق ،ص.6 ( )31قالئد الجواهر ،ص.19
العدد 2رجب 1439هـ
نفســه ويؤاخــذ الجــوارح بهــا فــي ســائر أحوالــه)(.)30
)3إقبال الناس على طريقته:
ّ اتبع الشيخ الجيالنـي أسلوب الوعظ واإلرشاد والنصح والغيـرة على عبــاد هللا وحمــل همهــم وهــم آخرتهــم ،لذلــك ازداد التفــاف النــاس حولــه ،وكان يقــول لهــم ( :أال إن ــي راع لكــم ســاق لكــم ناطــور لكــم، مــا ت ــرقيت هــا هنــا وأرى لكــم وجـ ً ـودا فــي الضــر والنفــع بعــد مــا قطعــت الكل بسيف التوحيد ...حمدكم وذمكم وإقبالكم وإدباركم عندي كم َمن يذمن ــي كثي ـ ًـرا ثم ي ــنقلب ذمه ً ســواءْ ، حمدا ،كالهما من هللا ال منه ،إقبالي عليكم هلل أخذي منكم هلل لو أمكننـي دخلت مع كل منكم القب ــر وجاوبت عنه ً منكرا ونكي ـ ًـرا رحمة وشفقة عليكم). بهذه املعانـي ّربى الجيالنـي أتباعه ،وغرس في نفوسهم مفهوم اإلخاء والبــذل والعطــاء ،والتناصــح والشــفقة وحســن التعامــل وطيــب الكالم،وتجريدالنفسعنالهوى،وانقيادهالخالقهاوباريهابصدق وإخالص ،وقد وصل صدى وعظ اإلمام إلى قلوب جماعة األحداث وقطاع الطرق ،فأســلم من لم يكن مسـ ًـلما وتاب على يده من ن�ســي دي ــنه حتــى قــال الجيالن ــي( :وتــاب علــى يــدي مــن ّ العياري ــن واملســالحة أكث ــر مــن مائــة ألــف ،وهــذا خي ــر كثي ــر)( ،)31ولذلــك انتشــرت طريقــة الشــيخ ،وحيــث مــا تــوزع أتباعــه ووصلــوا وجــدت طريقتــه بمعان ــيها وأسســها البســيطة والخاليــة مــن أي فكــر فلســفي معقــد الكثي ــر من األتباع املخلصي ــن ...وقد كان الشــيخ كثي ـ ًـرا ما ي ــنهى أتباعه عن الفلســفة ويحذرهــم مــن خطــر دخولهــا علــى النفــس والعقــل.
املبحثالخامس املدرسةالقادريةوفروعهافيالبلدان لقدكانتاملدارسالديـنـيةهياملراكزالتـيانتشرمنهامنهجاإلمامالتـربوي ـات متخصصــة فــي صناعة الوعي واإلصالحــي ،وكانــت هــذه املــدارس محطـ ٍ وتـربـية الجيل على اإليمان والعلم واالستعداد لخدمة األمة ...وسأعرض اآلن لبـناء املدرسة القادرية األولى وأهم فروعها في املدن واألرياف.
)1املدرسة القاد َّرية األولى:
ً منــذ أن جلــس الشــيخ عبــد القــادر الجيالن ــي للتدريــس وارثــا
33
اإلمام الجيالنـي شــيخه أبــا ســعيد املخرمــي فــي مدرســته صــار املــكان يضيــق باملجتمعيـن من شدة االزدحام وكثـرة إقبال الناس على مجلس الشــيخ الجيالن ــي ،حتــى خــرج بهــم إلــى ســور بغــداد الجنوب ــي... وهنــاك أقــام اإلمــام مدرســته الجديــدة الت ــي عرفــت باســم (املدرسة القادرية) وأقبلت عليها جموع الناس غنـيهم وفقيـرهم كل يبــذل مــا اســتطاع لب ــناء املدرســة ّ وكبـي ــرهم وصغي ــرهم ٌّ حبــا ً وكرامــة وتقدي ـ ًـرا وإجــال لإلمــام ومنهجــه ...فهــذا الغن ــي يتصــدق بمالــه ويســتأجر العمــال ،وهــذا الفقي ــر املعــدوم الــذي ال يجــد قــوت يومــه يبــذل نفســه وجهــده ،حتــى امل ـرأة كانــت تتصــدق بمهرهــا لزوجهــا مقابــل أن يعمــل فــي ب ــناء املدرســة ،فــي مشــهد مــن التكافــل والتعــاون والتــآزر والتالحــم والتكاتــف َع َكـ َ ـس روح العمــل الجماعــي الــذي أثمــر عــن إنشــاء وتشــييد صــرح علمــي غــدا مــع الزمــن مركــز إشــعاع دعــوي رفــد األمــة اإلســامية بالكثي ــر مــن الدعاة اللذيـن كان لهم دور كبـيـر في بـناء املدارس وتوحيد األمة، ورفــد مشــروع الزنكيي ــن واأليوبـيي ــن لحمايــة الدي ــن ومواجهــة ّ كل مــن الخطــر الصليب ــي والراف�ضــي علــى الســواء ...لذلــك عمــل ٍ الشــيخ الجيالن ــي بعد إتمام ب ــناء املدرســة عام (528هـ1133/م) علــى اســتقبال كل مــن يقصــد هــذه املدرســة مــن طلبــة العلــم القادمي ــن مــن كل أنحــاء العالــم اإلســامي ،وتوفي ــر كل مــا يلــزم طالــب العلــم مــن مســكن ومــأكل وملبــس ومســتلزمات الدراســة ومرتــب يعي ــن بــه أهلــه ،حتــى كبــار الســن كانــت لهــم مجالــس تعليــم خاصــة بهــم ...كل ذلــك مــن أجــل أن يصــل العلــم الشــرعي للكبــار والصغــار ُ فيق�ضــى علــى َّ األمية،ويتبـ َّـدد الجهــل ،فتستنـي ــر قلوب الناس ب ــنور العلم واملعرفة ويعرف املرء ما هو أصل دي ــنه ومــا ليــس مــن دي ــنه. ُ ّ ويهيئهــا للعمــل وصــار الشــيخ عبــد القــادر يعــد الكــوادر ِ الدعــوي وفــق منهــج ّ مؤصــل واضــح حتــى يوصلــوا هــذا املنهــج إلــى مناطقهــم ،وكان اهتمــام الجيالن ــي يت ــركز علــى األريــاف أكث ــر مــن املــدن الت ــي تكث ــر فيهــا املــدارس ومراكــز الدعــوة ،وأكث ــر أهــل العلــم يقطنــون فيهــا بخــاف األريــاف الت ــي تكــون مراكــز التعليــم فيهــا أقــل ...ومــن أجــل هــذا كان الطالــب ُي َعـ ُّـد إعـ ً ً صحيحــا ـدادا ً منضبطــا ثــم ُيرســل إلــى منطقتــه ـكـي ي ــن�شئ فيهــا ً فرعــا للمدرســة القادريــة ومنهجهــا املؤصــل. ( )32ابـن كثيـر :البداية والنهاية ،ج ،12ص.302 ( )33ابـن العماد :شذرات الذهب،ج ،6ص.300 ( )34الذهبـي :العبـر ،ج ،3ص- .28
اإلمام الجيالنـي
العدد 2رجب 1439هـ
َّ العدوية: )2املدرسة
يل ْبــن ُم َ أسســها عــدي ب ــن مســافر ،وهــو اب ــن إ ْسـ َـم ِ َ و�ســى ْبـ ِـن ْ َّ ِ اع ِ ان ْبــن ْال َح َســن ْبــن َمـ ْـر َو َ َمـ ْـر َو َ ُّ ان ال َهــك ِاري ،مؤســس الطريقــة ِ ِ ِ العدويــة أصلــه مــن بعلبــك غــرب دمشــق مــن قريــة فيهــا تســمى ب ــيت نــار ،وقــد اختلــف املؤرخــون فــي عــام مولــده ولكنهــم اتفقــوا على تاريخ وفاته 557هـ وهو املهم( ،)32وحظي بألقاب كثيـرة عند العلمــاء ومنهــا قطــب املشــايخ وب ــركة الوقــت وقــدوة العلمــاء(.)33 ومــن بعلبــك ارتحــل الشــيخ عــدي إلــى بغــداد ،وفيهــا حضــر مجالــس شــيخه حمــاد ّ الدبا�ســي الحنبلــي والشــيخ عقيــل املنبجــي( ،)34كمــا التقــى بالشــيخ عبــد القــادر الجيالن ــي والشــيخ أب ــي الوفــاء الحلوان ــي والشــيخ أب ــي نجيــب الســهروردي( ،)35حــدث عنــه الحافــظ عبــد القــادر الرهــاوي الــذي صاحــب عــدي ب ــن ً مســافر ً منــا طويــا فوصــف لنــا حالــه وأحوالــه حيــث يقــول: ز ً وصحــب املشــايخ ،وجاهــد أنواعــا مــن (ســاح ِسنـي ــن كثي ــرة، ِ َْ ُ ّ املجاهــدات ،ثـ َّـم إنــه ســكن بعــض جبــال املو ِصــل ِفــي موضــع ليــس ـس هللا تلــك املواضــع بــه ّ بــه أن ــيسُ ،ثـ َّـم آنـ َ وعمرهــا بب ــركاته َح َّتــى ْ قطــع ّ السب ــيل ،وارتــدع جماعــة صــار ال يخــاف أحـ ٌـد بهــا بعــد ْ مــن مفســدي األك ـراد بب ــركاتهّ ، وعمــره هللا َح َّتــى انتفــع بــه خلــق ّ ناصحــا ،متشـ ّـر ًعا ،شـ ً ً ـديدا ِفــي وانتشــر ِذكــره ،وكان معل ًمــا للخي ــر أمــر هللا ،ال تأخــذه فــي هللا لومـ ُـة الئــم ،عــاش ً قريبــا مــن ثمانـي ــن ِ ّ ســنة ...ورأيتــه إذا أقبــل إلــى القريــة يتلقــاه أهلهــا مــن قبــل أن يســمعوا كالمــه تائبـي ــن ،رجالهــم ونســاؤهم إال مــن شــاء هللا منهــم ،ولقــد أتـي ــنا معــه علــى َد ْيــر فيــه ُ ْهبــان ّ فتلقــاه منهــم راهبــان، ٍ ِ ِر ََ َ َّ وق ّبــا ْج َليــه وقــاالْ :ادعُ فل ّمــا وصــا إلــى الشـ ْـيخ كشــفا رأســيهما ِر لنــا فمــا َن ْحـ ُـن إال فــي ب ــركاتك وأخرجــا ً طبقــا فيــه ُخ ْبـ ٌـز َ وع َســل فــأكل ِ ِ ِ الجماعــة)(.)36 بهــذه الصفــات واألحــوال الت ــي ُعرفــت عــن الشــيخ عــدي أقــام مدرســة ســلوكية تعنــى بتزكيــة القلــوب وتهذيــب النفــوس ،و ُر ِّبيــت فيهــا أجيــال عــدة مــن أب ــناء الكــرد وغي ــرهم مــن أب ــناء املناطــق املجاورة ،وقد عرفت هذه املدرسة بعد ذلك باملدرسة العدوية نســبة ملؤسســها حيــث تخــرج منهــا أعــداد جمــة مــن األكـراد الذي ــن عملــوا فــي خدمــة الدولتـي ــن الزنكيــة واأليوب ــية ،ومــن أعــام هــذه املدرســة أســرة صــاح الدي ــن الــذي طــال انتظــار القــدس لــه فــي
( )35ابـن خلكان :وفيات األعيان ،ج ،3ص ( )36الذهبـي :تاريخ اإلسالم ،ج ،12ص.129 -128
34
العدد 2رجب 1439هـ
حي ــنها ،ومــا زالــت القــدس تنتظــر فــي زماننــا مثلــه ...وكان عــدي ب ــن مســافر يحــرص علــى تعليــم أتباعــه نهــج التصــوف املبـن ــي علــى صفــاء النفــس واصطفائهــا والعقيــدة املبـن ــية علــى الكتــاب والســنة والت ــي تلقاهــا عــن شــيخه عبــد القــادر الجيالن ــي وفــي مدرســته القادريــة، لــذا وضــع ألتباعــه كتابـي ــن همــا (عقيــدة أهــل الســنة والجماعــة) وكتــاب (الوصايــة) كمنهــج تعليمــي ت ــربوي فــي مدرســته ...وبعــد وفــاة الشــيخ بزمــن تــوزع أتباعــه فــي األمصــار والتحــق قســم كبـي ــر منهــم بجيــوش األيوبـيي ــن...
)4املدرسة النجائية:
وهــي مدرســة عثمــان ب ــن مــرزوق القر�شــي الحنبلــي الفقيــه الزاهــد، وصفــه الشعران ــي صاحــب الطبقــات بقولــه( :مــن أكاب ــر مشــايخ مصــر املشهوري ــن ،وصــدور العارفي ــن ،وأعيــان العلمــاء املحققي ــن صاحــب الكرامــات الظاهــرة واألحــوال الفاخــرة واألفعــال الخارقــة واألنفــاس الصادقــة ،وهــو أحــد العلمــاء املصنفي ــن والفضــاء املفتـي ــن أفتــى بمصــر علــى مذهــب اإلمــام أحمــد ر�ضــي هللا عنــه، ودرس وناظــر وأملــى وخــرق هللا تعالــى لــه العوائــد وقلــب لــه األعيــان). واإلمــام القر�شــي هــو أحــد أصحــاب الشــيخ عبــد القــادر الجيالن ــي، وكان قــد اجتمــع بــه فــي بغــداد فــي جملــة مــن جمعهــم الشــيخ الجيالن ــي ّ للتباحــث والتشــاور فــي أمــر إصــاح املجتمــع وبـ ِـث روح الســنة فــي نفــوس النــاس( ،)37فــكان الشــيخ عثمــان قــد أخــذ علــى عاتقــه إحيــاء النشــاط السن ــي فــي مصــر - ،وكانــت مصــر يومئـ ٍـذ تحــت حكــم العبـيديي ــن -ولــم يكــن الشــيخ عثمــان أول السابقي ــن فــي هــذا املجــال َّ نظاميــة بــل قــد مهــد لــه ولغي ــره الفقيــه أبــو بكــر الطرطو�شــي اب ــن بغــداد ،والــذي أوقــد شــعلة املذهــب السن ــي فــي مصــر أوائــل القــرن الســادس الهجــري والحــادي عشــر امليــادي ،وجــاءت جهــود عثمــان ب ــن مــرزوق القر�شــي متممــة لجهــود ســابقيه فعقــد مجالــس الوعــظ والفقــه والتفسي ــر وكانــت مجالســه تزدحــم باملستمعي ــن وطــاب العلم ،وراح يلقنهم معانـي التـربـية الروحية والسلوكية والفكرية... َّ حتــى اســتخلص لنفســه ثلــة مــن طالبــه أعتمــد عليهــم فــي نشــر أصــول الســنة والوعــي الديـن ــي ،ومنهــم اب ــن القسطالن ــي وأبــو الطاهــر واب ــن الصابون ــي وأبو عبد هللا القرطب ــي ،كما كان الب ــن مرزوق دو ٌر كبـي ـ ٌـر فــي تثب ــيت حكــم نــور الدي ــن زنكــي فــي مصــر مــن خــال حشــد التأييــد
وهــي مدرســة الفقيــه الواعــظ زي ــن الدي ــن علــي ب ــن إب ـراهيم ب ــن نجــا ب ــن الغنائــم الدمشــقي الفقيــه الحنبلــي ،ولــد فــي دمشــق عــام 508ه ـ وتعلــم علــى خالــه عبــد الوهــاب اب ــن الشــيخ أب ــي الفــرج عبــد الواحــد ب ــن محمــد الحنبلــي ،وعنــه أخــذ فقــه الحنابلــة، كمــا أخــذ فقــه املالكيــة عــن الشــيخ علــي ب ــن أحمــد ب ــن قب ــيس املالكــي. وعندمــا دخــل نــور الدي ــن زنكــي دمشــق اتصــل بعلمائهــا وكان منهــم الشــيخ اب ــن نجــا الــذي اختــاره نــور الدي ــن ليكــون سفي ــره لــدى الخليفــة العبا�ســي فــي بغــداد عــام 564هــ1168/م ،وكان لــه دور كبـي ــر فــي ب ــناء العالقــات الدبلوماســية بـي ــن الخالفــة العباســية والدولــة الزنكيــة. وفــي بغــداد اجتمــع اب ــن نجــا بالشــيخ الجيالن ــي صاحــب املدرســة القادريــة واملرب ــي األول لرجــال الدولــة الزنكيــة ،وطلــب الشــيخ الجيالن ــي مــن اب ــن نجــا أن يتوجــه إلــى مصــر ويقابــل الشــيخ عثمــان ب ــن مــرزوق القر�شــي ويعمــل معــه لتهيئــة األجــواء لقــدوم جيــش نــور الدي ــن زنكــي ،وهــذا مــا حــدث بالفعــل فقــد التقــى اب ــن نجــا بالشــيخ عثمــان وبــدأ معــه التخطيــط الدقيــق لهــذه املهمــة إال أن أيامــه مــع اب ــن مــرزوق لــم تكــن طويلــة حيــث وافــت املن ــية اب ــن مــرزوق القر�شــي ولــم يقــدر لــه أن يشــاهد أركان الدولــة الفاطميــة وهــي تتهــاوى علــى أيــدي صــاح الدي ــن األيوب ــي ورجالــه كمــا شــاهدها اب ــن نجــا... لــم تنتـ ِـه مهمــة الشــيخ اب ــن نجــا بتهيئــة األجــواء لقــدوم الفاتحي ــن بــل كان لــه الــدور األكب ــر واألهــم بعــد ســقوط الفاطميي ــن عــام 567هــ1171/م ليبــدأ مرحلــة التأســيس السيا�ســي لإلســام
)3املدرسة القرشية:
( )37الصالبـي :القائد املجاهد نور الديـن محمود ،ص.396 ( )38الصالبـي :عصر الدولة الزنكية ،ص.413
الشعب ــي لــه عنــد مجــيء أســد الدي ــن شي ــركوه( ...)38لكــن لــم يقــدر لهــذا الشــيخ الفقيــه الواعــظ أن يشــهد ســقوط الدولــة العب ــيدية الت ــي أم�ضــى فــي أراضيهــا نصــف عمــره وهــو ي ــنافح عــن أصــول الســنة فــي وسـ ٍـط كانــت تخــرج منــه دعــوة التشــيع ودعاتــه ...وقــد توفــي اب ــن شاغرا بل ّ ً أعد ملدرسة اإلصالح مرزوق عام564هـ ولم يتـرك مكانه السن ــي أســاتذة يقودونهــا ،ولتبقــى مســتمرة علــى يــد تلميــذه الفقيــه الواعــظ زي ــن الدي ــن علــي ب ــن نجــا.
35
اإلمام الجيالنـي شــيخه أبــا ســعيد املخرمــي فــي مدرســته صــار املــكان يضيــق باملجتمعيـن من شدة االزدحام وكثـرة إقبال الناس على مجلس الشــيخ الجيالن ــي ،حتــى خــرج بهــم إلــى ســور بغــداد الجنوب ــي... وهنــاك أقــام اإلمــام مدرســته الجديــدة الت ــي عرفــت باســم (املدرسة القادرية) وأقبلت عليها جموع الناس غنـيهم وفقيـرهم كل يبــذل مــا اســتطاع لب ــناء املدرســة ّ وكبـي ــرهم وصغي ــرهم ٌّ حبــا ً وكرامــة وتقدي ـ ًـرا وإجــال لإلمــام ومنهجــه ...فهــذا الغن ــي يتصــدق بمالــه ويســتأجر العمــال ،وهــذا الفقي ــر املعــدوم الــذي ال يجــد قــوت يومــه يبــذل نفســه وجهــده ،حتــى امل ـرأة كانــت تتصــدق بمهرهــا لزوجهــا مقابــل أن يعمــل فــي ب ــناء املدرســة ،فــي مشــهد مــن التكافــل والتعــاون والتــآزر والتالحــم والتكاتــف َع َكـ َ ـس روح العمــل الجماعــي الــذي أثمــر عــن إنشــاء وتشــييد صــرح علمــي غــدا مــع الزمــن مركــز إشــعاع دعــوي رفــد األمــة اإلســامية بالكثي ــر مــن الدعاة اللذيـن كان لهم دور كبـيـر في بـناء املدارس وتوحيد األمة، ورفــد مشــروع الزنكيي ــن واأليوبـيي ــن لحمايــة الدي ــن ومواجهــة ّ كل مــن الخطــر الصليب ــي والراف�ضــي علــى الســواء ...لذلــك عمــل ٍ الشــيخ الجيالن ــي بعد إتمام ب ــناء املدرســة عام (528هـ1133/م) علــى اســتقبال كل مــن يقصــد هــذه املدرســة مــن طلبــة العلــم القادمي ــن مــن كل أنحــاء العالــم اإلســامي ،وتوفي ــر كل مــا يلــزم طالــب العلــم مــن مســكن ومــأكل وملبــس ومســتلزمات الدراســة ومرتــب يعي ــن بــه أهلــه ،حتــى كبــار الســن كانــت لهــم مجالــس تعليــم خاصــة بهــم ...كل ذلــك مــن أجــل أن يصــل العلــم الشــرعي للكبــار والصغــار ُ فيق�ضــى علــى َّ األمية،ويتبـ َّـدد الجهــل ،فتستنـي ــر قلوب الناس ب ــنور العلم واملعرفة ويعرف املرء ما هو أصل دي ــنه ومــا ليــس مــن دي ــنه. ُ ّ ويهيئهــا للعمــل وصــار الشــيخ عبــد القــادر يعــد الكــوادر ِ الدعــوي وفــق منهــج ّ مؤصــل واضــح حتــى يوصلــوا هــذا املنهــج إلــى مناطقهــم ،وكان اهتمــام الجيالن ــي يت ــركز علــى األريــاف أكث ــر مــن املــدن الت ــي تكث ــر فيهــا املــدارس ومراكــز الدعــوة ،وأكث ــر أهــل العلــم يقطنــون فيهــا بخــاف األريــاف الت ــي تكــون مراكــز التعليــم فيهــا أقــل ...ومــن أجــل هــذا كان الطالــب ُي َعـ ُّـد إعـ ً ً صحيحــا ـدادا ً منضبطــا ثــم ُيرســل إلــى منطقتــه ـكـي ي ــن�شئ فيهــا ً فرعــا للمدرســة القادريــة ومنهجهــا املؤصــل. ( )32ابـن كثيـر :البداية والنهاية ،ج ،12ص.302 ( )33ابـن العماد :شذرات الذهب،ج ،6ص.300 ( )34الذهبـي :العبـر ،ج ،3ص- .28
اإلمام الجيالنـي
العدد 2رجب 1439هـ
َّ العدوية: )2املدرسة
يل ْبــن ُم َ أسســها عــدي ب ــن مســافر ،وهــو اب ــن إ ْسـ َـم ِ َ و�ســى ْبـ ِـن ْ َّ ِ اع ِ ان ْبــن ْال َح َســن ْبــن َمـ ْـر َو َ َمـ ْـر َو َ ُّ ان ال َهــك ِاري ،مؤســس الطريقــة ِ ِ ِ العدويــة أصلــه مــن بعلبــك غــرب دمشــق مــن قريــة فيهــا تســمى ب ــيت نــار ،وقــد اختلــف املؤرخــون فــي عــام مولــده ولكنهــم اتفقــوا على تاريخ وفاته 557هـ وهو املهم( ،)32وحظي بألقاب كثيـرة عند العلمــاء ومنهــا قطــب املشــايخ وب ــركة الوقــت وقــدوة العلمــاء(.)33 ومــن بعلبــك ارتحــل الشــيخ عــدي إلــى بغــداد ،وفيهــا حضــر مجالــس شــيخه حمــاد ّ الدبا�ســي الحنبلــي والشــيخ عقيــل املنبجــي( ،)34كمــا التقــى بالشــيخ عبــد القــادر الجيالن ــي والشــيخ أب ــي الوفــاء الحلوان ــي والشــيخ أب ــي نجيــب الســهروردي( ،)35حــدث عنــه الحافــظ عبــد القــادر الرهــاوي الــذي صاحــب عــدي ب ــن ً مســافر ً منــا طويــا فوصــف لنــا حالــه وأحوالــه حيــث يقــول: ز ً وصحــب املشــايخ ،وجاهــد أنواعــا مــن (ســاح ِسنـي ــن كثي ــرة، ِ َْ ُ ّ املجاهــدات ،ثـ َّـم إنــه ســكن بعــض جبــال املو ِصــل ِفــي موضــع ليــس ـس هللا تلــك املواضــع بــه ّ بــه أن ــيسُ ،ثـ َّـم آنـ َ وعمرهــا بب ــركاته َح َّتــى ْ قطــع ّ السب ــيل ،وارتــدع جماعــة صــار ال يخــاف أحـ ٌـد بهــا بعــد ْ مــن مفســدي األك ـراد بب ــركاتهّ ، وعمــره هللا َح َّتــى انتفــع بــه خلــق ّ ناصحــا ،متشـ ّـر ًعا ،شـ ً ً ـديدا ِفــي وانتشــر ِذكــره ،وكان معل ًمــا للخي ــر أمــر هللا ،ال تأخــذه فــي هللا لومـ ُـة الئــم ،عــاش ً قريبــا مــن ثمانـي ــن ِ ّ ســنة ...ورأيتــه إذا أقبــل إلــى القريــة يتلقــاه أهلهــا مــن قبــل أن يســمعوا كالمــه تائبـي ــن ،رجالهــم ونســاؤهم إال مــن شــاء هللا منهــم ،ولقــد أتـي ــنا معــه علــى َد ْيــر فيــه ُ ْهبــان ّ فتلقــاه منهــم راهبــان، ٍ ِ ِر ََ َ َّ وق ّبــا ْج َليــه وقــاالْ :ادعُ فل ّمــا وصــا إلــى الشـ ْـيخ كشــفا رأســيهما ِر لنــا فمــا َن ْحـ ُـن إال فــي ب ــركاتك وأخرجــا ً طبقــا فيــه ُخ ْبـ ٌـز َ وع َســل فــأكل ِ ِ ِ الجماعــة)(.)36 بهــذه الصفــات واألحــوال الت ــي ُعرفــت عــن الشــيخ عــدي أقــام مدرســة ســلوكية تعنــى بتزكيــة القلــوب وتهذيــب النفــوس ،و ُر ِّبيــت فيهــا أجيــال عــدة مــن أب ــناء الكــرد وغي ــرهم مــن أب ــناء املناطــق املجاورة ،وقد عرفت هذه املدرسة بعد ذلك باملدرسة العدوية نســبة ملؤسســها حيــث تخــرج منهــا أعــداد جمــة مــن األكـراد الذي ــن عملــوا فــي خدمــة الدولتـي ــن الزنكيــة واأليوب ــية ،ومــن أعــام هــذه املدرســة أســرة صــاح الدي ــن الــذي طــال انتظــار القــدس لــه فــي
( )35ابـن خلكان :وفيات األعيان ،ج ،3ص ( )36الذهبـي :تاريخ اإلسالم ،ج ،12ص.129 -128
34
العدد 2رجب 1439هـ
حي ــنها ،ومــا زالــت القــدس تنتظــر فــي زماننــا مثلــه ...وكان عــدي ب ــن مســافر يحــرص علــى تعليــم أتباعــه نهــج التصــوف املبـن ــي علــى صفــاء النفــس واصطفائهــا والعقيــدة املبـن ــية علــى الكتــاب والســنة والت ــي تلقاهــا عــن شــيخه عبــد القــادر الجيالن ــي وفــي مدرســته القادريــة، لــذا وضــع ألتباعــه كتابـي ــن همــا (عقيــدة أهــل الســنة والجماعــة) وكتــاب (الوصايــة) كمنهــج تعليمــي ت ــربوي فــي مدرســته ...وبعــد وفــاة الشــيخ بزمــن تــوزع أتباعــه فــي األمصــار والتحــق قســم كبـي ــر منهــم بجيــوش األيوبـيي ــن...
)4املدرسة النجائية:
وهــي مدرســة عثمــان ب ــن مــرزوق القر�شــي الحنبلــي الفقيــه الزاهــد، وصفــه الشعران ــي صاحــب الطبقــات بقولــه( :مــن أكاب ــر مشــايخ مصــر املشهوري ــن ،وصــدور العارفي ــن ،وأعيــان العلمــاء املحققي ــن صاحــب الكرامــات الظاهــرة واألحــوال الفاخــرة واألفعــال الخارقــة واألنفــاس الصادقــة ،وهــو أحــد العلمــاء املصنفي ــن والفضــاء املفتـي ــن أفتــى بمصــر علــى مذهــب اإلمــام أحمــد ر�ضــي هللا عنــه، ودرس وناظــر وأملــى وخــرق هللا تعالــى لــه العوائــد وقلــب لــه األعيــان). واإلمــام القر�شــي هــو أحــد أصحــاب الشــيخ عبــد القــادر الجيالن ــي، وكان قــد اجتمــع بــه فــي بغــداد فــي جملــة مــن جمعهــم الشــيخ الجيالن ــي ّ للتباحــث والتشــاور فــي أمــر إصــاح املجتمــع وبـ ِـث روح الســنة فــي نفــوس النــاس( ،)37فــكان الشــيخ عثمــان قــد أخــذ علــى عاتقــه إحيــاء النشــاط السن ــي فــي مصــر - ،وكانــت مصــر يومئـ ٍـذ تحــت حكــم العبـيديي ــن -ولــم يكــن الشــيخ عثمــان أول السابقي ــن فــي هــذا املجــال َّ نظاميــة بــل قــد مهــد لــه ولغي ــره الفقيــه أبــو بكــر الطرطو�شــي اب ــن بغــداد ،والــذي أوقــد شــعلة املذهــب السن ــي فــي مصــر أوائــل القــرن الســادس الهجــري والحــادي عشــر امليــادي ،وجــاءت جهــود عثمــان ب ــن مــرزوق القر�شــي متممــة لجهــود ســابقيه فعقــد مجالــس الوعــظ والفقــه والتفسي ــر وكانــت مجالســه تزدحــم باملستمعي ــن وطــاب العلم ،وراح يلقنهم معانـي التـربـية الروحية والسلوكية والفكرية... َّ حتــى اســتخلص لنفســه ثلــة مــن طالبــه أعتمــد عليهــم فــي نشــر أصــول الســنة والوعــي الديـن ــي ،ومنهــم اب ــن القسطالن ــي وأبــو الطاهــر واب ــن الصابون ــي وأبو عبد هللا القرطب ــي ،كما كان الب ــن مرزوق دو ٌر كبـي ـ ٌـر فــي تثب ــيت حكــم نــور الدي ــن زنكــي فــي مصــر مــن خــال حشــد التأييــد
وهــي مدرســة الفقيــه الواعــظ زي ــن الدي ــن علــي ب ــن إب ـراهيم ب ــن نجــا ب ــن الغنائــم الدمشــقي الفقيــه الحنبلــي ،ولــد فــي دمشــق عــام 508ه ـ وتعلــم علــى خالــه عبــد الوهــاب اب ــن الشــيخ أب ــي الفــرج عبــد الواحــد ب ــن محمــد الحنبلــي ،وعنــه أخــذ فقــه الحنابلــة، كمــا أخــذ فقــه املالكيــة عــن الشــيخ علــي ب ــن أحمــد ب ــن قب ــيس املالكــي. وعندمــا دخــل نــور الدي ــن زنكــي دمشــق اتصــل بعلمائهــا وكان منهــم الشــيخ اب ــن نجــا الــذي اختــاره نــور الدي ــن ليكــون سفي ــره لــدى الخليفــة العبا�ســي فــي بغــداد عــام 564هــ1168/م ،وكان لــه دور كبـي ــر فــي ب ــناء العالقــات الدبلوماســية بـي ــن الخالفــة العباســية والدولــة الزنكيــة. وفــي بغــداد اجتمــع اب ــن نجــا بالشــيخ الجيالن ــي صاحــب املدرســة القادريــة واملرب ــي األول لرجــال الدولــة الزنكيــة ،وطلــب الشــيخ الجيالن ــي مــن اب ــن نجــا أن يتوجــه إلــى مصــر ويقابــل الشــيخ عثمــان ب ــن مــرزوق القر�شــي ويعمــل معــه لتهيئــة األجــواء لقــدوم جيــش نــور الدي ــن زنكــي ،وهــذا مــا حــدث بالفعــل فقــد التقــى اب ــن نجــا بالشــيخ عثمــان وبــدأ معــه التخطيــط الدقيــق لهــذه املهمــة إال أن أيامــه مــع اب ــن مــرزوق لــم تكــن طويلــة حيــث وافــت املن ــية اب ــن مــرزوق القر�شــي ولــم يقــدر لــه أن يشــاهد أركان الدولــة الفاطميــة وهــي تتهــاوى علــى أيــدي صــاح الدي ــن األيوب ــي ورجالــه كمــا شــاهدها اب ــن نجــا... لــم تنتـ ِـه مهمــة الشــيخ اب ــن نجــا بتهيئــة األجــواء لقــدوم الفاتحي ــن بــل كان لــه الــدور األكب ــر واألهــم بعــد ســقوط الفاطميي ــن عــام 567هــ1171/م ليبــدأ مرحلــة التأســيس السيا�ســي لإلســام
)3املدرسة القرشية:
( )37الصالبـي :القائد املجاهد نور الديـن محمود ،ص.396 ( )38الصالبـي :عصر الدولة الزنكية ،ص.413
الشعب ــي لــه عنــد مجــيء أســد الدي ــن شي ــركوه( ...)38لكــن لــم يقــدر لهــذا الشــيخ الفقيــه الواعــظ أن يشــهد ســقوط الدولــة العب ــيدية الت ــي أم�ضــى فــي أراضيهــا نصــف عمــره وهــو ي ــنافح عــن أصــول الســنة فــي وسـ ٍـط كانــت تخــرج منــه دعــوة التشــيع ودعاتــه ...وقــد توفــي اب ــن شاغرا بل ّ ً أعد ملدرسة اإلصالح مرزوق عام564هـ ولم يتـرك مكانه السن ــي أســاتذة يقودونهــا ،ولتبقــى مســتمرة علــى يــد تلميــذه الفقيــه الواعــظ زي ــن الدي ــن علــي ب ــن نجــا.
35
اإلمام الجيالنـي السن ــي املتمثــل بالدولــة الزنكيــة ثــم األيوب ــية بعدهــا ،واســتطاع أن يكتشــف محاوالت فلول العبـيديي ــن لالنقالب على صالح الدي ــن وإعادة السلطة العب ــيدية ،ومن ذلك كشفه مؤامرة عمارة اليمان ــي ّ عــام 569هــ1173/م حي ــن كان يخطــط مــع بعــض أصحابــه لقتــل صالح الدي ــن والقبض على مساعديه ...وفي أثناء التحضي ــر ملعركة حطي ــن كان الب ــن نجــا دور هــام فــي التوجيــه املعنــوي للجيــش وشــحذ الهمــم ورفــع معنويــات الجنــود حتــى فتحــت القــدس وبلــغ اب ــن نجــا مقــام الشــرف األعظــم ملــا كان خطيــب أول جمعــة تقــام فــي املســجد األق�صــى بعــد تحري ــره مــن الصليبـيي ــن ،ثــم عــاد إلــى مصــر ليثبــت دعائــم املذهــب السن ــي حتــى توفــاه هللا عــام 599هــ1202/م.
)5مدرسة أبـي السعود الحريمي: تتلمــذ مؤسســها علــى الشــيخ عبــد القــادر الجيالن ــي والزمــه فــي املدرســة القادريــة حتــى ُعــد مــن أق ـران الشــيخ الجيالن ــي فــي الزهــد والتصــوف ،وصــارت إليــه املشــورة بعــد وفــاة الجيالن ــي ،فكتــب ُ هللا ً لــه القبــول عنــد الخاصــة والعامــة ،وكان ب ــيته مــاذا للفق ـراء(،)39 وقــد أنشــأ مدرســته علــى غـرار املدرســة القادريــة حتــى صــارت ً فرعــا منهــا فــي منهجهــا التعليمــي والت ــربوي ،وظــل الشــيخ أبــو الســعود علــى هــذا املنهــج حتــى وفاتــه عــام 582هــ1186/م(.)40
)6مدرسة عمربـن مسعود البزاز: كان مؤسســها مــن املقربـي ــن عنــد الشــيخ عبــد القــادر والزمــه فــي مجالســه حتــى عــا شــأنه وأقبــل النــاس عليــه ،وقــد أنشــأ مدرســة علــى نهــج املدرســة القادريــة الت ــي تخــرج منهــا ،وكان لــه تأثي ــر كبـي ــر فــي حيــاة النــاس وتــاب علــى يــده خلــق كثي ــر.
)7املدرسة الجبائية: أنشــأها عبــد هللا الجبائــي ،وعبــد هللا هــذا أصلــه مــن جبــل لب ــنان، ُ ُ وكان نصران ـ ًـيا أ ِســر ونقــل إلــى دمشــق ،وفيهــا اعتنــق اإلســام فاشت ـراه علــي ب ــن إب ـراهيم ب ــن نجــا وأرســله إلــى الشــيخ عبدالقــادر الجيالن ــي ـكـي يالزمــه فــي مجالســه ،وصــار عبــد هللا مــن املقربـي ــن مــن الشــيخ الجيالن ــي ،وكانــت مالزمتــه للشــيخ أكث ــر مــن عشري ــن ً عامــا، ََ وبعــد وفــاة الجيالن ــي ارتحــل إلــى أصبهــان ليــد ّرس ويفت ــي فيهــا ،وأنشــأ
اإلمام الجيالنـي
العدد 2رجب 1439هـ
العدد 2رجب 1439هـ
فيهــا مدرســة شب ــيهة باملدرســة القادريــة الت ــي تتلمــذ فيهــا منــذ عــام 540هــ1145/م وظــل يــدرس فيهــا حتــى وفاتــه عــام 605هــ1208/م. )8مدرســة ماجــد الكــردي أو املاجديــة: أسســها أبــو محمــد ماجــد الكــردي فــي منطقتــه الت ــي ولــد فيهــا وهــي قوســان مــن الع ـراق ،وكان الشــيخ ماجـ ُـد هــذا مــن الذي ــن تواصلــوا مع الشــيخ الجيالن ــي ،وكانت بـي ــنهما عالقة حميمة ،وقد تب ــنى ماجد نهــج الشــيخ الجيالن ــي ،وكانــت مدرســته علــى هــذا النحــو حتــى وفاتــه عام562هــ1166/م ،وهــو يتصــدر للتدريــس فيهــا(.)41
رســم للشــيخ عبد القادر الجيالن ــي كمــا ورد فــي مخطوطــة قديمــة فــي متحــف إســطنبول -ت ــركيا
)9املدرسة َّ الحران ّـية:
أنشــأ هــذه املدرســة حيــاة ب ــن قيــس الحران ــي صاحــب الكرامــات واألحــوال حتــى إن امللــوك والسالطي ــن كانــوا يزورونــه تب ـ ّـر ًكا بــه ً وطلبــا للدعاء منه ،حيث كان الســلطان نور الدي ــن زنكي يزوره باســتمرار، وكان الشــيخ يحثــه علــى الجهــاد ضــد الصليبـيي ــن ،كذلــك فعــل مــع السلطان صالح الديـن األيوبـي( ،)42وعلى يده تتلمذ جمع غفيـر من طلبة العلم وكث ــر إقبال الناس عليه وكان ذلك ً سببا في نشر العلم ونهــج التصــوف والزهــد ،وتحريــض النــاس علــى الجهــاد فــي سب ــيل هللا مــع السلطانـي ــن نــور الدي ــن وصــاح الدي ــن ،ولــم يقــدر لــه أن يشــهد فرحــة النصــر فــي حطي ــن ،فقــد وافتــه املن ــية عــام 581هــ1185/م. ُ أنشــئت كذلــك العديــد مــن املــدارس األخــرى علــى يــد تالميــذ الشــيخ الجيالن ــي ومريديــه( ...)43وقــد أســهمت هــذه املــدارس فــي رفــد مشــروع النهضــة الــذي بــدأ علــى أيــدي العلمــاء أمثــال نظــام امللــك والغزالــي والجيالن ــي ،وأكملــه السالطي ــن الصالحــون أمثــال نــور الدي ــن زنكــي وصــاح الدي ــن األيوب ــي ...ذلــك املشــروع العظيــم الــذي ُعن ــي بإعــداد جيــل اإلصــاح السن ــي ملقاومــة كل مــن الجبهــة الباطن ــية والزحــف الصليب ــي وإحــداث نقلــة نوعيــة فــي املجتمــع اإلســامي والحفــاظ علــى الكيــان السن ــي فــي مشــرق العالــم اإلســامي ومغربــه... جزاهــم هللا عــن أمــة اإلســام كل خي ــر...
( )39الذهبـي :تاريخ اإلسالم ،ج ،12ص )40( - .745ماجد عرسان :هكذا ظهر جيل صالح الديـن ،ص237 ( )41ابـن املستوفي :تاريخ أربـيل ،تحقيق سامي السيد خماس ،دار الرشيد ،العراق1980 ،م ،ج ،2ص- 454 ( )42ابـن امللقن :طبقات األولياء ،تحقيق نور الديـن شريبه ،مكتبة الخانجي ،ط2،1994م ،ص430 ( )43من هذه املدارس :مدرسة الشيخ رسالن الجعبـري ،ومدرسة عقيل املنـيحي ،ومدرسة الشيخ علي بـن الهيتـي ،ومدرسة الحسن بـن مسلم ،ومدرسة الجوسقي ،ومدرسة الشيخ عبد الرحمن الطفسونجي، ومدرسة مولى الزولي ،ومدرسة محمد بـن عبد البصري ،ومدرسة القيلوي ،ومدرسة علي بـن وهب الربـيعي ،ومدرسة الشيخ بقا بـن بطو .انظر كتاب :هكذا ظهر جيل صالح الديـن ،ص.238 -224
املدرسة القادرية وإلى جانبها ضريح اإلمام عبد القادر الجيالنـي في مديـنة بغداد -الصورة عام 1914م
36
37
اإلمام الجيالنـي السن ــي املتمثــل بالدولــة الزنكيــة ثــم األيوب ــية بعدهــا ،واســتطاع أن يكتشــف محاوالت فلول العبـيديي ــن لالنقالب على صالح الدي ــن وإعادة السلطة العب ــيدية ،ومن ذلك كشفه مؤامرة عمارة اليمان ــي ّ عــام 569هــ1173/م حي ــن كان يخطــط مــع بعــض أصحابــه لقتــل صالح الدي ــن والقبض على مساعديه ...وفي أثناء التحضي ــر ملعركة حطي ــن كان الب ــن نجــا دور هــام فــي التوجيــه املعنــوي للجيــش وشــحذ الهمــم ورفــع معنويــات الجنــود حتــى فتحــت القــدس وبلــغ اب ــن نجــا مقــام الشــرف األعظــم ملــا كان خطيــب أول جمعــة تقــام فــي املســجد األق�صــى بعــد تحري ــره مــن الصليبـيي ــن ،ثــم عــاد إلــى مصــر ليثبــت دعائــم املذهــب السن ــي حتــى توفــاه هللا عــام 599هــ1202/م.
)5مدرسة أبـي السعود الحريمي: تتلمــذ مؤسســها علــى الشــيخ عبــد القــادر الجيالن ــي والزمــه فــي املدرســة القادريــة حتــى ُعــد مــن أق ـران الشــيخ الجيالن ــي فــي الزهــد والتصــوف ،وصــارت إليــه املشــورة بعــد وفــاة الجيالن ــي ،فكتــب ُ هللا ً لــه القبــول عنــد الخاصــة والعامــة ،وكان ب ــيته مــاذا للفق ـراء(،)39 وقــد أنشــأ مدرســته علــى غـرار املدرســة القادريــة حتــى صــارت ً فرعــا منهــا فــي منهجهــا التعليمــي والت ــربوي ،وظــل الشــيخ أبــو الســعود علــى هــذا املنهــج حتــى وفاتــه عــام 582هــ1186/م(.)40
)6مدرسة عمربـن مسعود البزاز: كان مؤسســها مــن املقربـي ــن عنــد الشــيخ عبــد القــادر والزمــه فــي مجالســه حتــى عــا شــأنه وأقبــل النــاس عليــه ،وقــد أنشــأ مدرســة علــى نهــج املدرســة القادريــة الت ــي تخــرج منهــا ،وكان لــه تأثي ــر كبـي ــر فــي حيــاة النــاس وتــاب علــى يــده خلــق كثي ــر.
)7املدرسة الجبائية: أنشــأها عبــد هللا الجبائــي ،وعبــد هللا هــذا أصلــه مــن جبــل لب ــنان، ُ ُ وكان نصران ـ ًـيا أ ِســر ونقــل إلــى دمشــق ،وفيهــا اعتنــق اإلســام فاشت ـراه علــي ب ــن إب ـراهيم ب ــن نجــا وأرســله إلــى الشــيخ عبدالقــادر الجيالن ــي ـكـي يالزمــه فــي مجالســه ،وصــار عبــد هللا مــن املقربـي ــن مــن الشــيخ الجيالن ــي ،وكانــت مالزمتــه للشــيخ أكث ــر مــن عشري ــن ً عامــا، ََ وبعــد وفــاة الجيالن ــي ارتحــل إلــى أصبهــان ليــد ّرس ويفت ــي فيهــا ،وأنشــأ
اإلمام الجيالنـي
العدد 2رجب 1439هـ
العدد 2رجب 1439هـ
فيهــا مدرســة شب ــيهة باملدرســة القادريــة الت ــي تتلمــذ فيهــا منــذ عــام 540هــ1145/م وظــل يــدرس فيهــا حتــى وفاتــه عــام 605هــ1208/م. )8مدرســة ماجــد الكــردي أو املاجديــة: أسســها أبــو محمــد ماجــد الكــردي فــي منطقتــه الت ــي ولــد فيهــا وهــي قوســان مــن الع ـراق ،وكان الشــيخ ماجـ ُـد هــذا مــن الذي ــن تواصلــوا مع الشــيخ الجيالن ــي ،وكانت بـي ــنهما عالقة حميمة ،وقد تب ــنى ماجد نهــج الشــيخ الجيالن ــي ،وكانــت مدرســته علــى هــذا النحــو حتــى وفاتــه عام562هــ1166/م ،وهــو يتصــدر للتدريــس فيهــا(.)41
رســم للشــيخ عبد القادر الجيالن ــي كمــا ورد فــي مخطوطــة قديمــة فــي متحــف إســطنبول -ت ــركيا
)9املدرسة َّ الحران ّـية:
أنشــأ هــذه املدرســة حيــاة ب ــن قيــس الحران ــي صاحــب الكرامــات واألحــوال حتــى إن امللــوك والسالطي ــن كانــوا يزورونــه تب ـ ّـر ًكا بــه ً وطلبــا للدعاء منه ،حيث كان الســلطان نور الدي ــن زنكي يزوره باســتمرار، وكان الشــيخ يحثــه علــى الجهــاد ضــد الصليبـيي ــن ،كذلــك فعــل مــع السلطان صالح الديـن األيوبـي( ،)42وعلى يده تتلمذ جمع غفيـر من طلبة العلم وكث ــر إقبال الناس عليه وكان ذلك ً سببا في نشر العلم ونهــج التصــوف والزهــد ،وتحريــض النــاس علــى الجهــاد فــي سب ــيل هللا مــع السلطانـي ــن نــور الدي ــن وصــاح الدي ــن ،ولــم يقــدر لــه أن يشــهد فرحــة النصــر فــي حطي ــن ،فقــد وافتــه املن ــية عــام 581هــ1185/م. ُ أنشــئت كذلــك العديــد مــن املــدارس األخــرى علــى يــد تالميــذ الشــيخ الجيالن ــي ومريديــه( ...)43وقــد أســهمت هــذه املــدارس فــي رفــد مشــروع النهضــة الــذي بــدأ علــى أيــدي العلمــاء أمثــال نظــام امللــك والغزالــي والجيالن ــي ،وأكملــه السالطي ــن الصالحــون أمثــال نــور الدي ــن زنكــي وصــاح الدي ــن األيوب ــي ...ذلــك املشــروع العظيــم الــذي ُعن ــي بإعــداد جيــل اإلصــاح السن ــي ملقاومــة كل مــن الجبهــة الباطن ــية والزحــف الصليب ــي وإحــداث نقلــة نوعيــة فــي املجتمــع اإلســامي والحفــاظ علــى الكيــان السن ــي فــي مشــرق العالــم اإلســامي ومغربــه... جزاهــم هللا عــن أمــة اإلســام كل خي ــر...
( )39الذهبـي :تاريخ اإلسالم ،ج ،12ص )40( - .745ماجد عرسان :هكذا ظهر جيل صالح الديـن ،ص237 ( )41ابـن املستوفي :تاريخ أربـيل ،تحقيق سامي السيد خماس ،دار الرشيد ،العراق1980 ،م ،ج ،2ص- 454 ( )42ابـن امللقن :طبقات األولياء ،تحقيق نور الديـن شريبه ،مكتبة الخانجي ،ط2،1994م ،ص430 ( )43من هذه املدارس :مدرسة الشيخ رسالن الجعبـري ،ومدرسة عقيل املنـيحي ،ومدرسة الشيخ علي بـن الهيتـي ،ومدرسة الحسن بـن مسلم ،ومدرسة الجوسقي ،ومدرسة الشيخ عبد الرحمن الطفسونجي، ومدرسة مولى الزولي ،ومدرسة محمد بـن عبد البصري ،ومدرسة القيلوي ،ومدرسة علي بـن وهب الربـيعي ،ومدرسة الشيخ بقا بـن بطو .انظر كتاب :هكذا ظهر جيل صالح الديـن ،ص.238 -224
املدرسة القادرية وإلى جانبها ضريح اإلمام عبد القادر الجيالنـي في مديـنة بغداد -الصورة عام 1914م
36
37
أثـر مناهج األصولييـن
أثـر مناهج األصولييـن
العدد 2رجب 1439هـ
لرســالة معمقــة ،ومــن هنــا ســأقتصر علــى بعضهــا لب ــيان أهميتهــا فــي ضبط مسيـرة االجتهاد وحفظه من الزيغ أو االنحراف ،وقد اختـرت الحديــث عــن َ مبح َثــي حمــل العــام علــى الخــاص واملطلــق علــى املُ ّ قيــد. ُ ُ واملنهــج فــي هــذا أننــا ســنأخذ بعــض النصــوص ونب ِّـيي ــن كيــف تفهــم ُ منفصلــة وكيــف تفهــم مضمومــة إلــى النصــوص األخــرى.
أثـر مناهج األصول ّييـن يف االعتدال الفكري
وستكون الدراسة ضمن مبحثيـن: األول :االعتدال الفكري ومعياره. ُّ الثانـي :حمل النصوص على بعضها.
الدكتور حسن الخطاف
أستاذ مشارك باختصاص العقيدة اإلسالمية ،مدرس يف جامعة آرتقلو مارديـن
مقدمة
الحمد هلل رب العامليـن وأفضل الصالة وأتم التسليم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعيـن ،وبعد: ْ ْ فإن هللا تعالى شــاءت قدرته أن ال يبقى هذا اإلنســان -الذي هو أكرم مخلوق -أسي ــرالتفكي ــراإلنسان ــي ،فأراد هللا تعالى أن ً ً ً يمـ َّـن عليــه فأرســل رســله وأنــزل كتبــه هدايــة لــه وصونــا مــن التقلبــات الفكريــة الت ــي يجنــح إليهــا انطالقــا مــن فكــره وخيالــه... ونظــرة واحــدة فــي العصــرالــذي بعــث فيــه رســول هللا صلــى هللا عليــه وســلم كافيـ ٌـة ل َ تطلعنــا علــى هــذه التقلبــات علــى مســتوى َ ْ َ َّ ُ َ َ ْ ُ ْ َ ْ َ َ ِ َ ْ َ ُ ً ْ َ ْ ُ ْ َ ْ ُ َ َ ْ ْ َ َ الفكروالسلوك ،وصدق هللا العظيم إذ يقول (( :قد من هللا على الؤ ِم ِنيـن ِإذ بعث ِف ِيهم رسول ِمن أنف ِس ِهم يتلوعلي ِهم آيا ِت ِه ََ َ َ َُ َّ ْ َُ َّ ُ ُ ُ ْ َ َ ْ ْ َ ْ َ ُ ويز ِك ِيهــم ويع ِلمهــم ال ِكتـ ـاب َوال ِحك َمــة َوِإن كانــوا ِمـ ْـن ق ْبـ ُـل ل ِفــي ضــا ٍل ُم ِبي ـ ٍـن)) [آل عمــران :اآليــة]164
أهمية البحث وإطاره ومنهجه : تأت ــي أهميــة البحــث فــي إب ـراز أهميــة الشــريعة ودورهــا فــي شـ َّـتى مجــاالت الحيــاة ،ومــن أب ــرز مجــاالت حيــاة اإلنســان الجانــب الفكــري ،ذلــك ألن الفكــر هــو املحـ ّ ِـرك األسا�ســي للســلوك، فاســتقامة الســلوك راجعــة إلــى اســتقامة الفكــر واعوجــاج الســلوك راجــع إلــى اعوجــاج الفكــر . ُّ والتخبــط الــذي يلحظــه املــرء فــي بعــض الفتــاوى الفقهيــة ،أو فــي بعــض املذاهــب الفكريــة العقديــة الت ــي َّأرخ لهــا املهتمــون فــي ســياق امللــل والنحــل كالخــوارج واملعتزلــة راجـ ٌـع إلــى عــدم تحكيــم ّ األصوليــون فــي فهــم النصــوص الشــرعية. املوازي ــن الت ــي وضعهــا ّ بالذكــر َّأن غــاة الخــوارج ومــن علــى خطاهــم مــن ومــن الجدي ــر ِ غــاة العصــر -والســيما املنتمي ــن لداعــش وأشــباهها -يجهلــون ُج َّل العلوم الشرعية وعلى رأسها أصول الفقه ،فضياع أصول الفقــه هــو تضييــع للشــريعة الت ــي َّ تكفــل هللا تعالــى بحفظهــا. كما َّأن حفظ الشريعة يقوم ً أساسا على أصول الفقه باعتباره
آلــة فــي فهــم النصــوص الشــرعية وربطهــا مــع بعضهــا ،وهــدم أصــول الفقــه هــو هــدم للشـريعة ،يقــول القرافــي رحمــه هللا( :ومــا علمــوا أنــه لــوال أصول الفقه لم يثبت من الشريعة قليل وال كثيـر ،فإن كل حكم شرعي ال ُبـ َّـد لــه مــن ســبب موضــوع ودليــل يــدل عليــه وعلــى ســببه ،فــإذا ألغي ــنا أصــول الفقــه ألغي ــنا األدلــة ،فــا يبقــى لنــا حكــم وال ســبب ،فــإن إثبـ َ ـات ُ وقواعدهــا بمجــرد الهــوى خــاف اإلجمــاع ،ولعلهــم ال الشــرع بغي ــر أدلتــه ِ يعبــؤون باإلجمــاع ،فإنــه مــن جملــة أصــول الفقــه ،أو مــا علمــوا أنــه أول مراتــب املجتهدي ــن ،فلــو عدمــه مجتهــد لــم يكــن مجتهـ ًـدا ً قطعــا ،غايــة مــا فــي الباب أن الصحابة والتابعيـن ر�ضي هللا عنهم لم يكونوا يتخاطبون بهذه االصطالحات ،أما املعانـي فكانت عندهم قطعا ،ومن مناقب الشافعي - ر�ضــي هللا عنــه -أنــه أول مــن صنــف فــي أصــول الفقــه)(.)1 فالبحــث يأت ــي مب ـ ّـينا ّ أهميــة هــذا املنهــج فــي ضبــط الفهــم الصحيــح ّ للنصــوص الشــرعية املتمثلــة بكتــاب هللا تعالــى وســنة رســوله ،وهــذا ّ األصوليي ــن. يعن ــي َّأن إطــار البحــث ال يخــرج عــن مناهــج والحقيقــة أن الوقــوف علــى كل مباحــث األصوليي ــن ومكانتهــا يحتــاج
( )1نفائس األصول في شرح املحصول ،شهاب الديـن أحمد بـن إدريس القرافي ،تح :عادل أحمد عبد املوجود ،علي محمد معوض، الناشر :مكتبة نزار مصطفى الباز ،الطبعة :األولى1416 ،هـ 1995 -م( ،ص.)100 /1
38
املبحث األول االعتدال الفكري ومعياره
االعتــدال موجــود فــي الشــريعة اإلســامية ،واألدلــة علــى هــذا كثي ــرة مــن أب ــرزها : )1أن التكليف في الشريعة في حدود االستطاعة اإلنسانـية: عندمــا ننظــر فــي مفــردات التكليــف فــي الشــريعة اإلســامية نجدهــا فــي حــدود اســتطاعة اإلنســان ومقدرتــه ،وهــذا يــدل علــى ســماحة الشــريعة وبعدها عن إرهاق اإلنســانُّ ، فكل ما طلب الشــارع فعله أو ً صريحا في قوله ت ــركه جاء ضمن االســتطاعة البشــرية ،وهذا ما جاء ((صـ ّـل َقائ ًمــا َفــإ ْن َلـ ْـم َت ْسـ َـتط ْع َف َقاعـ ًـدا َفــإنْ صلــى هللا عليــه وســلمَ : ِ ِ ِ ِ ِ ِ َلـ ْـم َت ْسـ َـتط ْع َف َع َلــى َج ْنــب))( )2وفــي قولــه تعالــىَ (( :و َّ َ َ َّ ـاس ِحـ ُّـج ِ ِ ِ ٍ ل علــى النـ ِ َْْ َ ْ َ َ َ َْ َ ً البيـ ِـت مـ ِـن اســتطاع ِإليـ ِـه سـ ِـبيل)) [آل عمـران :اآليــة ]97هــذا التــدرج فــي التخفيــف تابــع لحالــة اإلنســان ،ولــو بحثنــا فــي كل النصــوص الدالــة علــى ذلــك لكتب ــنا الكثي ــر فحسـ ُـبنا مــا ذكرنــا. )2مبدأ اليسرورفع الحرج في الشريعة : اليســر فــي الشــريعة ورفــع الحــرج مبــدأ مــن مبادئهــا ومقصــد مــن مقاصدها ،فاملشقة التـي تثقل كاهل اإلنسان ويعجز عن القيام بها ليســت مــن الشــرع ،قــال هللا تعالــىَ (( :و َمــا َج َعـ َـل َع َل ْي ُكـ ْـم فــي ّ الدي ـ ِـن ِمـ ْـن ِ ِ َّ َ َ ُ َحـ َـر ٍج ِملــة أ ِبيكـ ْـم ِإ ْب َر ِاهيـ َـم)) [ســورة الحــج :اآليــة ،]78والواضــح مــن
العدد 2رجب 1439هـ
اآليــة ((م َّلـ َـة َأب ُيكـ ْـم إ ْب َراهيـ َـم)) َّأن رفــع الحــرج ليــس ًّ خاصــا بالشــريعة ِ ِ ِ ِ اإلســامية ،بــل هــو ســمة مــن ســمات رســاالت األنب ــياء ...وقــد جــاءت أحاديــث كثي ــرة عــن رســول هللا صلــى هللا عليــه وســلم تؤكــد مبــدأ اليســر فــي الشــريعة وأن الدي ــن مبـن ــي علــى اليســر ،وأن األخــذ بالعســر َ ((إ َّن ال يتفــق ويسـ َـر الدي ــن ،مــن ذلـ َـك قو َّلــه َصلــى هللا عليــه وســلمِ : َ الدي ـ َـن ُي ْسـ ٌـر َولـ ْـن ُي َشـ َّـاد ّ ّ الدي ـ َـن أ َحـ ٌـد ِإل غل َبـ ُـه))(.)3 ِ ِ )3معياراالعتدال الفكري وعدمه: املرجعيــة الت ــي ســنحتكم إليهــا فــي قضيــة االعتــدال الفكــري هــي ُ النصـ ُ ـوص الشــرعية وفــق مناهــج األصوليي ــن الت ــي تمثــل جمهــور علمــاء املسلمي ــن ،فبقــدر مــا يكــون الفهــم متفقــا مــع مناهــج جمهــور األصوليي ــن يكــون االعتــدال موجـ ً ـودا والعكــس صحيــح ،ومـ َّ ـؤدى هــذا ً َّأن الدعوة إلى عدم العمل بالنصوص الشرعية أصل هو ِق ِّمة الغلو الفكــري ،أو العمــل بــه مــن غي ــر ضابــط لهــا هــو غلــو فكــري ً أيضــا، ٍ وكــذا األخــذ بالنصــوص العامــة مــن غي ــر البحــث عــن تخصيصهــا أو األخــذ بالنصــوص املطلقــة مــن غي ــر البحــث عــن تقييدهــا هــو غلــو كذلــك ،وموطــن هــذا الغلــو أنــه تجـ ٌ ـاوز إلرادة الشــارع وفهـ ٌـم خــارج عنهــا وحكــم بمــا ال ي ــريده هللا تعالــى وال رســوله صلــى هللا عليــه وســلم(. )4 َّ ومــن الواضــح َّأن الغلــو ال يعن ــي التزيــد بــل يعن ــي الت ــرك ،مــع مالحظــة
أنــه ال ي ــنبغي ْأن ُيفهــم مــن هــذا البحــث بــأي حــال مــن األحــوال أن كل ـص مــن الكتــاب والســنة ي ــنبغي أن يكــون لــه نــص آخــر يخصصــه نـ ٍ ْ أو يقيــده فهــذا أمــر ال نقصــده ،لكــن مــا نقصــده هــو أال ننطلــق فــي البحــث عــن حكــم هللا مــن نــص واحــد بمعــزل عــن النصــوص األخــرى الت ــي جــاءت ضمــن الوحــدة املوضوعيــة. كمــا ال ي ــنبغي ْأن يفهــم بحــال مــن األحــوال أننــا نســعى إلــى تمييــع نصــوص الشــرع عندمــا نتحــدث عــن قضيــة االعتــدال فــي الشــريعة، فمــا نقصــده باالعتــدال هنــا هــو األخــذ بالنصــوص املتكاملــة فــي الحكــم ولــو كان مــؤدى هــذه النصــوص ال ي ــروق للبعــض ،أي أنــه مــن االعتــدال فــي حكــم الشــريعة أن تحكــم علــى الشــخص بأنــه كافــر إذا ّ تكفــر مســلما أو تحكــم توافــرت األدلــة القطعيــة علــى ذلــك ،لكــن أن ِ علــى كافــر باإلســام فهــذا هــو الغلــو ،ألنــه تجــاوز ملــا ي ــريده هللا تعالــى.
َ ُ َ َ ْ ُ ْ َ ً َ َّ َ صلــى َعلــى َج ْنـ ٍـب ،رقــم ،1117:وســلم وســننه وأيامــه ،تــح :محمــد زهي ــر ب ــن ناصــر الناصــر ،الناشــر :دار طــوق اعــدا ( )2محمــد ب ــن إســماعيل أبــو عبــدهللا البخــاري الجعفــي ،صحيــح البخــاري ،كتــاب الصــاة ،بــاب ِإذا لــم ي ِطــق ق ِ النجاة،الطبعة :األولى1422 ،هـن تعليق :الدكتور:مصطفى ديب البغا. ابّ : َ الدي ُـن ُي ْسرٌ ،رقم. 39 : ( )3صحيح البخاري ،كتاب اإليمان ،ب ٌ ِ َ َ َْ ُ ُ َ زَ َّ ُ َ ًّ ( )4جاء في القاموس املحيط « غال في األم ِر غلوا :جاو حده» القاموس املحيط ،مادة (غال)
39
أثـر مناهج األصولييـن
أثـر مناهج األصولييـن
العدد 2رجب 1439هـ
لرســالة معمقــة ،ومــن هنــا ســأقتصر علــى بعضهــا لب ــيان أهميتهــا فــي ضبط مسيـرة االجتهاد وحفظه من الزيغ أو االنحراف ،وقد اختـرت الحديــث عــن َ مبح َثــي حمــل العــام علــى الخــاص واملطلــق علــى املُ ّ قيــد. ُ ُ واملنهــج فــي هــذا أننــا ســنأخذ بعــض النصــوص ونب ِّـيي ــن كيــف تفهــم ُ منفصلــة وكيــف تفهــم مضمومــة إلــى النصــوص األخــرى.
أثـر مناهج األصول ّييـن يف االعتدال الفكري
وستكون الدراسة ضمن مبحثيـن: األول :االعتدال الفكري ومعياره. ُّ الثانـي :حمل النصوص على بعضها.
الدكتور حسن الخطاف
أستاذ مشارك باختصاص العقيدة اإلسالمية ،مدرس يف جامعة آرتقلو مارديـن
مقدمة
الحمد هلل رب العامليـن وأفضل الصالة وأتم التسليم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعيـن ،وبعد: ْ ْ فإن هللا تعالى شــاءت قدرته أن ال يبقى هذا اإلنســان -الذي هو أكرم مخلوق -أسي ــرالتفكي ــراإلنسان ــي ،فأراد هللا تعالى أن ً ً ً يمـ َّـن عليــه فأرســل رســله وأنــزل كتبــه هدايــة لــه وصونــا مــن التقلبــات الفكريــة الت ــي يجنــح إليهــا انطالقــا مــن فكــره وخيالــه... ونظــرة واحــدة فــي العصــرالــذي بعــث فيــه رســول هللا صلــى هللا عليــه وســلم كافيـ ٌـة ل َ تطلعنــا علــى هــذه التقلبــات علــى مســتوى َ ْ َ َّ ُ َ َ ْ ُ ْ َ ْ َ َ ِ َ ْ َ ُ ً ْ َ ْ ُ ْ َ ْ ُ َ َ ْ ْ َ َ الفكروالسلوك ،وصدق هللا العظيم إذ يقول (( :قد من هللا على الؤ ِم ِنيـن ِإذ بعث ِف ِيهم رسول ِمن أنف ِس ِهم يتلوعلي ِهم آيا ِت ِه ََ َ َ َُ َّ ْ َُ َّ ُ ُ ُ ْ َ َ ْ ْ َ ْ َ ُ ويز ِك ِيهــم ويع ِلمهــم ال ِكتـ ـاب َوال ِحك َمــة َوِإن كانــوا ِمـ ْـن ق ْبـ ُـل ل ِفــي ضــا ٍل ُم ِبي ـ ٍـن)) [آل عمــران :اآليــة]164
أهمية البحث وإطاره ومنهجه : تأت ــي أهميــة البحــث فــي إب ـراز أهميــة الشــريعة ودورهــا فــي شـ َّـتى مجــاالت الحيــاة ،ومــن أب ــرز مجــاالت حيــاة اإلنســان الجانــب الفكــري ،ذلــك ألن الفكــر هــو املحـ ّ ِـرك األسا�ســي للســلوك، فاســتقامة الســلوك راجعــة إلــى اســتقامة الفكــر واعوجــاج الســلوك راجــع إلــى اعوجــاج الفكــر . ُّ والتخبــط الــذي يلحظــه املــرء فــي بعــض الفتــاوى الفقهيــة ،أو فــي بعــض املذاهــب الفكريــة العقديــة الت ــي َّأرخ لهــا املهتمــون فــي ســياق امللــل والنحــل كالخــوارج واملعتزلــة راجـ ٌـع إلــى عــدم تحكيــم ّ األصوليــون فــي فهــم النصــوص الشــرعية. املوازي ــن الت ــي وضعهــا ّ بالذكــر َّأن غــاة الخــوارج ومــن علــى خطاهــم مــن ومــن الجدي ــر ِ غــاة العصــر -والســيما املنتمي ــن لداعــش وأشــباهها -يجهلــون ُج َّل العلوم الشرعية وعلى رأسها أصول الفقه ،فضياع أصول الفقــه هــو تضييــع للشــريعة الت ــي َّ تكفــل هللا تعالــى بحفظهــا. كما َّأن حفظ الشريعة يقوم ً أساسا على أصول الفقه باعتباره
آلــة فــي فهــم النصــوص الشــرعية وربطهــا مــع بعضهــا ،وهــدم أصــول الفقــه هــو هــدم للشـريعة ،يقــول القرافــي رحمــه هللا( :ومــا علمــوا أنــه لــوال أصول الفقه لم يثبت من الشريعة قليل وال كثيـر ،فإن كل حكم شرعي ال ُبـ َّـد لــه مــن ســبب موضــوع ودليــل يــدل عليــه وعلــى ســببه ،فــإذا ألغي ــنا أصــول الفقــه ألغي ــنا األدلــة ،فــا يبقــى لنــا حكــم وال ســبب ،فــإن إثبـ َ ـات ُ وقواعدهــا بمجــرد الهــوى خــاف اإلجمــاع ،ولعلهــم ال الشــرع بغي ــر أدلتــه ِ يعبــؤون باإلجمــاع ،فإنــه مــن جملــة أصــول الفقــه ،أو مــا علمــوا أنــه أول مراتــب املجتهدي ــن ،فلــو عدمــه مجتهــد لــم يكــن مجتهـ ًـدا ً قطعــا ،غايــة مــا فــي الباب أن الصحابة والتابعيـن ر�ضي هللا عنهم لم يكونوا يتخاطبون بهذه االصطالحات ،أما املعانـي فكانت عندهم قطعا ،ومن مناقب الشافعي - ر�ضــي هللا عنــه -أنــه أول مــن صنــف فــي أصــول الفقــه)(.)1 فالبحــث يأت ــي مب ـ ّـينا ّ أهميــة هــذا املنهــج فــي ضبــط الفهــم الصحيــح ّ للنصــوص الشــرعية املتمثلــة بكتــاب هللا تعالــى وســنة رســوله ،وهــذا ّ األصوليي ــن. يعن ــي َّأن إطــار البحــث ال يخــرج عــن مناهــج والحقيقــة أن الوقــوف علــى كل مباحــث األصوليي ــن ومكانتهــا يحتــاج
( )1نفائس األصول في شرح املحصول ،شهاب الديـن أحمد بـن إدريس القرافي ،تح :عادل أحمد عبد املوجود ،علي محمد معوض، الناشر :مكتبة نزار مصطفى الباز ،الطبعة :األولى1416 ،هـ 1995 -م( ،ص.)100 /1
38
املبحث األول االعتدال الفكري ومعياره
االعتــدال موجــود فــي الشــريعة اإلســامية ،واألدلــة علــى هــذا كثي ــرة مــن أب ــرزها : )1أن التكليف في الشريعة في حدود االستطاعة اإلنسانـية: عندمــا ننظــر فــي مفــردات التكليــف فــي الشــريعة اإلســامية نجدهــا فــي حــدود اســتطاعة اإلنســان ومقدرتــه ،وهــذا يــدل علــى ســماحة الشــريعة وبعدها عن إرهاق اإلنســانُّ ، فكل ما طلب الشــارع فعله أو ً صريحا في قوله ت ــركه جاء ضمن االســتطاعة البشــرية ،وهذا ما جاء ((صـ ّـل َقائ ًمــا َفــإ ْن َلـ ْـم َت ْسـ َـتط ْع َف َقاعـ ًـدا َفــإنْ صلــى هللا عليــه وســلمَ : ِ ِ ِ ِ ِ ِ َلـ ْـم َت ْسـ َـتط ْع َف َع َلــى َج ْنــب))( )2وفــي قولــه تعالــىَ (( :و َّ َ َ َّ ـاس ِحـ ُّـج ِ ِ ِ ٍ ل علــى النـ ِ َْْ َ ْ َ َ َ َْ َ ً البيـ ِـت مـ ِـن اســتطاع ِإليـ ِـه سـ ِـبيل)) [آل عمـران :اآليــة ]97هــذا التــدرج فــي التخفيــف تابــع لحالــة اإلنســان ،ولــو بحثنــا فــي كل النصــوص الدالــة علــى ذلــك لكتب ــنا الكثي ــر فحسـ ُـبنا مــا ذكرنــا. )2مبدأ اليسرورفع الحرج في الشريعة : اليســر فــي الشــريعة ورفــع الحــرج مبــدأ مــن مبادئهــا ومقصــد مــن مقاصدها ،فاملشقة التـي تثقل كاهل اإلنسان ويعجز عن القيام بها ليســت مــن الشــرع ،قــال هللا تعالــىَ (( :و َمــا َج َعـ َـل َع َل ْي ُكـ ْـم فــي ّ الدي ـ ِـن ِمـ ْـن ِ ِ َّ َ َ ُ َحـ َـر ٍج ِملــة أ ِبيكـ ْـم ِإ ْب َر ِاهيـ َـم)) [ســورة الحــج :اآليــة ،]78والواضــح مــن
العدد 2رجب 1439هـ
اآليــة ((م َّلـ َـة َأب ُيكـ ْـم إ ْب َراهيـ َـم)) َّأن رفــع الحــرج ليــس ًّ خاصــا بالشــريعة ِ ِ ِ ِ اإلســامية ،بــل هــو ســمة مــن ســمات رســاالت األنب ــياء ...وقــد جــاءت أحاديــث كثي ــرة عــن رســول هللا صلــى هللا عليــه وســلم تؤكــد مبــدأ اليســر فــي الشــريعة وأن الدي ــن مبـن ــي علــى اليســر ،وأن األخــذ بالعســر َ ((إ َّن ال يتفــق ويسـ َـر الدي ــن ،مــن ذلـ َـك قو َّلــه َصلــى هللا عليــه وســلمِ : َ الدي ـ َـن ُي ْسـ ٌـر َولـ ْـن ُي َشـ َّـاد ّ ّ الدي ـ َـن أ َحـ ٌـد ِإل غل َبـ ُـه))(.)3 ِ ِ )3معياراالعتدال الفكري وعدمه: املرجعيــة الت ــي ســنحتكم إليهــا فــي قضيــة االعتــدال الفكــري هــي ُ النصـ ُ ـوص الشــرعية وفــق مناهــج األصوليي ــن الت ــي تمثــل جمهــور علمــاء املسلمي ــن ،فبقــدر مــا يكــون الفهــم متفقــا مــع مناهــج جمهــور األصوليي ــن يكــون االعتــدال موجـ ً ـودا والعكــس صحيــح ،ومـ َّ ـؤدى هــذا ً َّأن الدعوة إلى عدم العمل بالنصوص الشرعية أصل هو ِق ِّمة الغلو الفكــري ،أو العمــل بــه مــن غي ــر ضابــط لهــا هــو غلــو فكــري ً أيضــا، ٍ وكــذا األخــذ بالنصــوص العامــة مــن غي ــر البحــث عــن تخصيصهــا أو األخــذ بالنصــوص املطلقــة مــن غي ــر البحــث عــن تقييدهــا هــو غلــو كذلــك ،وموطــن هــذا الغلــو أنــه تجـ ٌ ـاوز إلرادة الشــارع وفهـ ٌـم خــارج عنهــا وحكــم بمــا ال ي ــريده هللا تعالــى وال رســوله صلــى هللا عليــه وســلم(. )4 َّ ومــن الواضــح َّأن الغلــو ال يعن ــي التزيــد بــل يعن ــي الت ــرك ،مــع مالحظــة
أنــه ال ي ــنبغي ْأن ُيفهــم مــن هــذا البحــث بــأي حــال مــن األحــوال أن كل ـص مــن الكتــاب والســنة ي ــنبغي أن يكــون لــه نــص آخــر يخصصــه نـ ٍ ْ أو يقيــده فهــذا أمــر ال نقصــده ،لكــن مــا نقصــده هــو أال ننطلــق فــي البحــث عــن حكــم هللا مــن نــص واحــد بمعــزل عــن النصــوص األخــرى الت ــي جــاءت ضمــن الوحــدة املوضوعيــة. كمــا ال ي ــنبغي ْأن يفهــم بحــال مــن األحــوال أننــا نســعى إلــى تمييــع نصــوص الشــرع عندمــا نتحــدث عــن قضيــة االعتــدال فــي الشــريعة، فمــا نقصــده باالعتــدال هنــا هــو األخــذ بالنصــوص املتكاملــة فــي الحكــم ولــو كان مــؤدى هــذه النصــوص ال ي ــروق للبعــض ،أي أنــه مــن االعتــدال فــي حكــم الشــريعة أن تحكــم علــى الشــخص بأنــه كافــر إذا ّ تكفــر مســلما أو تحكــم توافــرت األدلــة القطعيــة علــى ذلــك ،لكــن أن ِ علــى كافــر باإلســام فهــذا هــو الغلــو ،ألنــه تجــاوز ملــا ي ــريده هللا تعالــى.
َ ُ َ َ ْ ُ ْ َ ً َ َّ َ صلــى َعلــى َج ْنـ ٍـب ،رقــم ،1117:وســلم وســننه وأيامــه ،تــح :محمــد زهي ــر ب ــن ناصــر الناصــر ،الناشــر :دار طــوق اعــدا ( )2محمــد ب ــن إســماعيل أبــو عبــدهللا البخــاري الجعفــي ،صحيــح البخــاري ،كتــاب الصــاة ،بــاب ِإذا لــم ي ِطــق ق ِ النجاة،الطبعة :األولى1422 ،هـن تعليق :الدكتور:مصطفى ديب البغا. ابّ : َ الدي ُـن ُي ْسرٌ ،رقم. 39 : ( )3صحيح البخاري ،كتاب اإليمان ،ب ٌ ِ َ َ َْ ُ ُ َ زَ َّ ُ َ ًّ ( )4جاء في القاموس املحيط « غال في األم ِر غلوا :جاو حده» القاموس املحيط ،مادة (غال)
39
أثـر مناهج األصولييـن
املبحث الثانـي
ُّ حمل النصوص على بعضها
أوال .حمل النصوص على بعضها في مسائل أصول ّ الديـن: ِ حمل املطلق على املقيد والعام على الخاص واملتشابه على املحكم ( )5من أب ــرز مناهــج األصوليي ــن ،وذلــك أن القـرآن اســتمر نزولــه مــا يقــرب مــن ثــاث وعشري ــن ســنة ،وخــال هــذه الفت ــرة كانــت تصــدر عــن رســول هللا صلــى هللا عليــه وســلم أقــوال وأفعــال وتقري ـرات كثي ــرة بحســب وقائــع مختلفــة باعتبــاره مشـ ّـر ًعا ،وال يمكــن أن نقــف فــي إثبــات األحــكام عنــد آيــة واحــدة أو بضــع آيــات بمعــزل عــن اآليــات األخــرى الت ــي جــاءت للحديــث عــن نفــس املســألة ،وال عنــد بعــض اآليــات أو عنــد النصــوص القرآن ــية بمعــزل عــن الســنة النبويــة ،فالتش ـريع عبــارة عــن وحــدة متكاملــة ،ومــن الخطــأ والحـ ُ ـال هــذه ْأن يقــف املــرء عنــد البعــض متجـ ً ـاوزا ّ بقيــة النصــوص . وباختصــار البــد مــن جمــع النصــوص -سـ ً ـواء أكانــت مــن القـرآن نفســه أو من الســنة أو من الســنة والقرآن -الت ــي تتحدث عن موضوع واحد ليتــم التوفيــق بـي ــنها ،ضمــن قواعــد عــدة مــن أب ــرزها حمــل املطلــق علــى املقيــد والعــام علــى الخــاص واملتشــابه فــي ضــوء املحكــم. هذه املناهج من أبـرز مناهج األصولييـن في التنسيق بـيـن النصوص، وعــدم األخــذ بهــا والعمــل بمقتضاهــا هــو الــذي جـ َّـر كثي ـ ًـرا مــن أصحــاب الفــرق إلــى أخطـ ٍـاء شن ــيعة ،وهــذا األمــر هــو رأس املشــاكل فــي أيامنــا هــذه... إن جميع املسلميـن يعلمون أن الديـن يقوم على مصدريـن أساسييـن هما الكتاب والسنة وال خالف بـيـنهم في ذلك! لكن املسألة كيف نفهم هذي ــن املصدري ــن؟ وبمعنــى آخــر هــل يحتــاج فهــم هذي ــن املصدري ــن إلــى آليــات أخــرى ،أم يكفــي للواحــد َّ منــا أن يفهــم هذي ــن املصدري ــن بمجــرد ّ واالطــاع عليهما؟ قراءتهمــا ِ
أثـر مناهج األصولييـن
العدد 2رجب 1439هـ
ً شابا أعرفه ّ وأذكر ّأن ًّ جي ًدا صعد املنب ــر وخطب في الناس قائل لهم: ّإن ّ الدرج الذي وضع لرسول هللا صلى هللا عليه وسلم عندما صنعوا لــه منب ـ ًـرا كان ثــاث درجــات ،فالزيــادة علــى ذلــك ليســت مــن هــدي الرســول صلــى هللا عليــه وســلم ،وأمثــال هــؤالء الشــباب عندمــا تعطيــه ً ُ جاهدا لفهمه من تلقاء نفسه ً دليل يسعى ً بعيدا عن ش ّراح الحديث ّ األصوليي ــن وعلــم اللغــة. ومناهــج ُ ّ عول بعض هؤالء على صحة حديث واحد بمعزل عما يتصل به وقد ي ِ من نصوص أخرى ،فيـنسف بذلك كثي ًـرا من أسس الديـن وأحكامه. ً وهــذا املنهــج ليــس ً صوابــا فالحديــث قــد ال يكــون صحيحــا ،وحتــى لــو ً صحيحــا ليــس لنــا أن نأخــذ منــه ً حكمــا مــن غي ــر الرجــوع إلــى كان ُ شـ َّـراح الحديــث وعلمــاء الفقــه واللغــة واألصــول ومعرفــة ســبب وروده ،ألن الحديــث وإن صـ َّـح فقــد يكــون هنــاك ســبب يمنعنــا مــن ً مخصوصــا وقــد يكــون ّ مقيـ ًـدا ،وقــد األخــذ بــه ،فقــد يكــون الحديــث ًّ ً يكــون منســوخا وقــد يكــون شــاذا ...ومــن هنــا نجــد أن مناهــج الفقهــاء فــي اســتنباط األحــكام مــن الحديــث النبــوي تختلــف ً تمامــا عــن مناهــج املحدثي ــن فــي الحكــم علــى الحديــث ...فمــا هــي جوانــب االختــاف بـي ــن كل مــن منهجـ ّ ِـي املحدثي ــن والفقهــاء؟ إن املحــدث ي ــنظر إلــى الشــروط املتوافــرة فــي الحديــث فــإذا مــا كان ً صحيحــا بمعنــى توفــر الشــروط الخمســة فيــه ،وهــي :اتصــال الحديــث الســند مــع عدالــة وضبــط ال ـراوي والســامة مــن الشــذوذ والعلــة فالحديــث عنــده صحيــح ،مــن غي ــر أن ي ــنظر املحــدث إلــى جملــة األحاديــث األخــرى الــواردة فــي ذات الســياق ومــن غي ــر أن ي ــنظر إلــى اآليــات القرآن ــية الت ــي تتنــاول املســألة نفســها ...فاملحــدث يحكــم علــى ً الحديــث انطالقــا مــن الحديــث ذاتــه بســنده ومتنــه ،بـي ــنما الفقيــه ال يكتفــي بالنظــر إلــى ســند الحديــث وألفاظــه فقــط ،وإنمــا ي ــنظر إلــى مدلــوالت الحديــث وضــرورة انســجامها مــع آيــات الق ـرآن الكريــم ونصــوص الســنة األخــرى ،فــا يتعــارض مــع حديـ ٍـث أصــح منــه ،وال مــع القواعــد الكليــة املتصلــة بالعقيــدة ،فهــو ال ي ــنظر إلــى حديـ ٍـث بمفــرده، وإنمــا ي ــنظر إلــى ضــرورة توافــق هــذا الحديــث مــع جملــة مــن الشــروط مــن أب ــرزها التوافــق مــع نصــوص الق ـرآن الكريــم والســنة املُ َّ طهــرة.
( )5العــام هــو» اللفــظ املســتغرق لجميــع مــا يصلــح لــه بحســب وضــع واحــد» كقولنــا الرجــال فإنــه مســتغرق لجميــع مــا يصلــح لــه « الـرازي ،املحصــول ،دراســة وتحقيــق :الدكتــور طــه جاب ــر فيــاض العلوان ــي ،الناشــر :مؤسســة الرســالة،الطبعة :الثالثــة 1418 ،ه ـ 1997 -م ،514-513 /2 :امــا املطلــق فهــو» اللفــظ الــدال علــى مدلــول شــائع فــي جنســه» اآلمــدي ،إحــكام األحــكام ،املحقــق :عبــد الــرزاق عفيفــي ،الناشــر :املكتــب اإلســامي ،بـي ــروت- دمشــق -لب ــنان ،6-5 /3:وعليــه يكــون َّ املقيــد « مــا َّ دل ال علــى شــائع فــي جنســه « الشوكان ــي ،إرشــاد الفحــول ،املحقــق :الشــيخ أحمــد عــزو عنايــة ،دمشــق -كفــر بطنــا ،قــدم لــه :الشــيخ خليــل امليــس والدكتــور ولــي الدي ــن صالــح فرفــور ،الناشــر :دار الكتــاب العرب ــي ،الطبعــة :الطبعــة األولــى 1419ه ـ 1999 -م ،443 :أمــا عــن الخــاص والتخصيــص فيقــول الشي ـرازي فــي اللمــع »:التخصيــص تمييــز بعــض الجملــة بالحكــم مــن الجملــة ولهــذا القــول خــصًّ رســول هللا صلــى هللا عليــه وســلم بكــذا وكــذا ... وأما تخصيص العموم فهو بـيان مالم يـرد باللفظ العام « الشيـرازي ،اللمع في أصول الفقه ،الناشر :دار الكتب العلمية ،الطبعة :الطبعة الثانـية 2003م 1424 -هـ.ص.77 .
40
ولــو قــام إنســان مــا باألخــذ بظواهــر بعــض النصــوص مــن غي ــر العمــل بقواعد األصوليي ــن في الجمع والتوفيق بـي ــنها لوقع في تناقض عجيب ثــم قــام ب ــنسبة هــذا النقــص إلــى الش ـريعة املطهــرة عــن كل عيــب ونقصــان ،ولنأخــذ بعــض األمثلــة علــى ذلــك: املثال األول: ُ روى اإلمــام مســلم عــن جاب ــر ر�ضــي هللا عنــه قــالَ :ســم ْعت َّ النب ـ َّـي صلــى ِ َ ُ ُل َّ َ ْ َ َّ ُ َ َ ْ َ ّ الشـ ْـرك َو ْال ُك ْفــر َتـ ْـركَ ((إن بيــن الرجـ ِـل وبيــن ِ ِ هللا عليــه وســلم يقــو ِ ِ َّ َ الصــا ِة))( .)6فلــو أخذنــا بظاهــر هــذا الحديــث لقمنــا بتكفي ــر تــارك الصــاة مــن غي ــر أن نســتفصل عــن ســبب الت ــرك ،فاملعنــى املتبــادر إلــى الذهــن مــن ظاهــر الحديــث هــو الحكــم بكفــر تــارك الصــاة ..وتكفي ــره يت ـرتب عليــه أمــور عــدة مــن ذلــك عــدم دفنــه -لــو مــات علــى ذلــك -فــي مقابـر املسلميـن وعدم الصالة عليه وعدم التوارث ،وربما يجر ذلك إلــى اعتبــار أموالــه غنائــم للمسلمي ــن لكونــه كافـ ًـرا . فالقول ّ بالتكفي ــر بشكل مطلق من غي ــر َّ النظر إلى النصوص األخرى ّ يمثــل املنهــج العــام لعلمــاء األمــة فــي التعامــل الــواردة فــي هــذه املســألة ال ِ مــع النصــوص ...ومــن هنــا لــم يأخــذ جماهي ــر األصوليي ــن والفقهــاء بظاهــر هــذا النــص ،يقــول اإلمــام النــووي فــي شــرحه لهــذا الحديــث: (وأمــا تــارك الصــاة فــإن كان منكـ ًـرا لوجوبهــا فهــو كافــر بإجمــاع املسلمي ــن ،خــارج مــن ملــة اإلســام إال أن يكــون قريــب عهــد باإلســام، ً ولــم يخالــط املسلمي ــن مـ ّـدة يبلغــه فيهــا وجــوب الصــاة عليــه ،وإن كان ً ت ـ ْـركه تكاســا مــع اعتقــاده وجوبهــا كمــا هــو حــال كثي ــر مــن النــاس فقــد اختلف العلماء فيه ،فذهب مالك والشافعي رحمهما هللا والجماهيـر مــن الســلف والخلــف إلــى أنــه ال يكفــر بــل يفســق ويســتتاب فــإن تــاب، وإال قتلنــاه حـ ًّـدا كالزان ــي املحصــن ...وذهــب جماعــة مــن الســلف إلــى أنــه يكفــر وهــو إحــدى الروايتـي ــن عــن أحمــد ب ــن حنبــل( ... )7وذهــب أبــو حن ــيفة وجماعــة مــن أهــل الكوفــة واملزن ــي صاحــب الشــافعي رحمهمــا هللا أنــه ال يكفــر وال يقتــل بــل يعــزر ويحبــس حتــى يصلــي ...واحتــج الجمهــور علــى أنــه ال يكفــر بقولــه تعالــى ((إن هللا ال يغفــر أن يشــرك بــه ويغفــر مــا دون ذلــك ملــن يشــاء)) وبقولــه صلــى هللا عليــه و ســلم(( :مــن قــال ال إلــه اال هللا دخــل الجنــة)) ((مــن مــات وهــو يعلــم أن ال إلــه اال هللا دخــل الجنــة)) ((وال يلقــى هللا تعالــى عبــد بهمــا غي ــر شــاك فيحجــب عــن الجنــة)) ((حــرم هللا علــى النــار مــن قــال ال إلــه اال هللا)) وغي ــر ذلــك
العدد 2رجب 1439هـ
ّ وتأولــوا قولــه صلــى هللا عليــه وســلم ((بـي ــن العبــد وبـي ــن الكفــر ت ــرك الصــاة)) علــى معنــى أنــه يســتحق بت ــرك الصــاة عقوبــة الكافــر وهــي ـتح ِ ّل أو علــى أنــه قــد يــؤول بــه إلــى الكفر القتــل أو أنــه محمــول علــى املسـ ِ أو أن فعلــه فعــل الكفــار وهللا أعلــم)(.)8 ومــن الب ـ ِّـين أننــا ال نســتخف بقــول مــن قــال بكفــره وهــي الروايــة األخــرى عنــد اإلمــام أحمــد رحمــه هللا ،فليــس هــذا مــن مقصــود البحــث بــل ً القصــد َّأن الحكــم عليــه ّ بالتكفي ــر انطالقــا مــن الحديــث ذاتــه مــع ّ َّ يمثــل الوجهــة العامــة عنــد علمــاء تجاهــل النصــوص األخــرى ال ِ املسلمي ــن ،ولــذا لــم يأخــذ الجمهــور بظاهــره ،والــذي دعــا الجمهــور إلــى عــدم األخــذ بظاهــر هــذا الحديــث هــو ضــرورة فهمــه فــي ضــوء نصــوص َّ َ َ ْ َ ْ ْ هللا ل َيغ ِف ُر أ ْن ُيش َر َك ِب ِه َو َيغ ِف ُر ((إن الشرع األخرى ،ومنها قوله تعالى ِ َ َ ْ َ َّ َ َ ً َ ُ َ َ َ َْ َ َ ََ ْ ُ ْ ْ ً َ ـاهلل فقــد ضــل ضــال ب ِعيــدا)) مــا دون ذ ِلــك ِلــن يشـ ُـاء ومــن يشـ ِـرك ِبـ ِ [النســاء :اآليــة .]116 وهــذا الــذي ذكــره النـ ُّ ـووي مــن عــدم الحكــم علــى مرتكــب الكبـي ــرة بأنــه مــن الكفــار مالــم يكــن ارتكابــه للذنــب مــن بــاب االســتخفاف أو اإلنــكار ألصــل املشــروعية يمثــل أصـ ًـا مــن أصــول أهــل الســنة ...وقــد َّ عبــر عــن هــذا اإلمــام النــووي بقولــه( :واعلــم أن مذهــب أهــل الســنة ،ومــا عليــه أهــل الحــق مــن الســلف والخلــف أن مــن مــات ّ موحـ ًـدا دخــل الجنــة ِ ً ً قطعا على كل حال ،فإن كان سال ـا من املعا�صي كالصغيـر واملجنون والــذي اتصــل جنونــه بالبلــوغ والتائــب توبــة صحيحــة مــن الشــرك أو غيـره من املعا�صي إذا لم يحدث معصية بعد توبته ،واملوفق الذي لم ً ُي َبتـ َـل بمعصيــة أصــا فــكل هــذا الصنــف يدخلــون الجنــة ،وال يدخلــون ً النــار أصــا ...وأمــا مــن كانــت لــه معصيــة كبـي ــرة ،ومــات مــن غي ــر توبــة َ ً فهو في مشيئة هللا تعالى فإن شاء عفا عنه وأدخله الجنة أ َّول وجعله كالقســم األول ،وإن شــاء عذبــه القــدر الــذى ي ـريده ســبحانه وتعالــى ثــم يدخلــه الجنــة ،فــا يخلــد فــي النــار أحــد مــات علــى التوحيــد ولــو عمــل مــن املعا�صــي مــا عمــل ،كمــا أنــه ال يدخــل الجنــة أحــد مــات علــى الكفــر ولــو عمــل مــن أعمــال الب ــر مــا عمــل ،هــذا مختصــر جامــع ملذهــب أهــل الحــق فــي هــذه املســألة ،وقــد تظاهــرت أدلــة الكتــاب والســنة وإجمــاع مــن يعتــد بــه مــن األمــة علــى هــذه القاعــدة ،وتوات ــرت بذلــك نصـ ٌ ـوص تحصــل العلــم القطعــي فــإذا تقــررت هــذه القاعــدة حمــل عليهــا جميــع مــا ورد مــن أحاديــث البــاب وغي ــره فــإذا ورد حديــث فــي ظاهــره مخالفــة
َْ ْ ْ ُ ْ َ َ َ ْ َ َ َ َّ َ َ ( )6مسلم ،صحيح مسلم ،كتاب الصالةَ ،ب ُ الصلة رقم ،134 :املحقق :محمد فؤاد عبد الباقي ،الناشر :دار إحياء التـراث العربـي. اب َب َي ِان ِإطل ِق اس ِم الكف ِر على من ترك ( )7انظر في مذهب اإلمام أحمد :الكافي في فقه اإلمام أحمد ،ابـن قدامة املقد�سي ،الناشر :دار الكتب العلمية ،الطبعة :األولى 1414 ،هـ 1994 -م.178 /1 : ، ( )8النووي ،شرح النووي على مسلم ،دار إحياء التـراث العربـي -بـيـروت الطبعة :الثانـية.71 /2 ،1392 ،
41
أثـر مناهج األصولييـن
املبحث الثانـي
ُّ حمل النصوص على بعضها
أوال .حمل النصوص على بعضها في مسائل أصول ّ الديـن: ِ حمل املطلق على املقيد والعام على الخاص واملتشابه على املحكم ( )5من أب ــرز مناهــج األصوليي ــن ،وذلــك أن القـرآن اســتمر نزولــه مــا يقــرب مــن ثــاث وعشري ــن ســنة ،وخــال هــذه الفت ــرة كانــت تصــدر عــن رســول هللا صلــى هللا عليــه وســلم أقــوال وأفعــال وتقري ـرات كثي ــرة بحســب وقائــع مختلفــة باعتبــاره مشـ ّـر ًعا ،وال يمكــن أن نقــف فــي إثبــات األحــكام عنــد آيــة واحــدة أو بضــع آيــات بمعــزل عــن اآليــات األخــرى الت ــي جــاءت للحديــث عــن نفــس املســألة ،وال عنــد بعــض اآليــات أو عنــد النصــوص القرآن ــية بمعــزل عــن الســنة النبويــة ،فالتش ـريع عبــارة عــن وحــدة متكاملــة ،ومــن الخطــأ والحـ ُ ـال هــذه ْأن يقــف املــرء عنــد البعــض متجـ ً ـاوزا ّ بقيــة النصــوص . وباختصــار البــد مــن جمــع النصــوص -سـ ً ـواء أكانــت مــن القـرآن نفســه أو من الســنة أو من الســنة والقرآن -الت ــي تتحدث عن موضوع واحد ليتــم التوفيــق بـي ــنها ،ضمــن قواعــد عــدة مــن أب ــرزها حمــل املطلــق علــى املقيــد والعــام علــى الخــاص واملتشــابه فــي ضــوء املحكــم. هذه املناهج من أبـرز مناهج األصولييـن في التنسيق بـيـن النصوص، وعــدم األخــذ بهــا والعمــل بمقتضاهــا هــو الــذي جـ َّـر كثي ـ ًـرا مــن أصحــاب الفــرق إلــى أخطـ ٍـاء شن ــيعة ،وهــذا األمــر هــو رأس املشــاكل فــي أيامنــا هــذه... إن جميع املسلميـن يعلمون أن الديـن يقوم على مصدريـن أساسييـن هما الكتاب والسنة وال خالف بـيـنهم في ذلك! لكن املسألة كيف نفهم هذي ــن املصدري ــن؟ وبمعنــى آخــر هــل يحتــاج فهــم هذي ــن املصدري ــن إلــى آليــات أخــرى ،أم يكفــي للواحــد َّ منــا أن يفهــم هذي ــن املصدري ــن بمجــرد ّ واالطــاع عليهما؟ قراءتهمــا ِ
أثـر مناهج األصولييـن
العدد 2رجب 1439هـ
ً شابا أعرفه ّ وأذكر ّأن ًّ جي ًدا صعد املنب ــر وخطب في الناس قائل لهم: ّإن ّ الدرج الذي وضع لرسول هللا صلى هللا عليه وسلم عندما صنعوا لــه منب ـ ًـرا كان ثــاث درجــات ،فالزيــادة علــى ذلــك ليســت مــن هــدي الرســول صلــى هللا عليــه وســلم ،وأمثــال هــؤالء الشــباب عندمــا تعطيــه ً ُ جاهدا لفهمه من تلقاء نفسه ً دليل يسعى ً بعيدا عن ش ّراح الحديث ّ األصوليي ــن وعلــم اللغــة. ومناهــج ُ ّ عول بعض هؤالء على صحة حديث واحد بمعزل عما يتصل به وقد ي ِ من نصوص أخرى ،فيـنسف بذلك كثي ًـرا من أسس الديـن وأحكامه. ً وهــذا املنهــج ليــس ً صوابــا فالحديــث قــد ال يكــون صحيحــا ،وحتــى لــو ً صحيحــا ليــس لنــا أن نأخــذ منــه ً حكمــا مــن غي ــر الرجــوع إلــى كان ُ شـ َّـراح الحديــث وعلمــاء الفقــه واللغــة واألصــول ومعرفــة ســبب وروده ،ألن الحديــث وإن صـ َّـح فقــد يكــون هنــاك ســبب يمنعنــا مــن ً مخصوصــا وقــد يكــون ّ مقيـ ًـدا ،وقــد األخــذ بــه ،فقــد يكــون الحديــث ًّ ً يكــون منســوخا وقــد يكــون شــاذا ...ومــن هنــا نجــد أن مناهــج الفقهــاء فــي اســتنباط األحــكام مــن الحديــث النبــوي تختلــف ً تمامــا عــن مناهــج املحدثي ــن فــي الحكــم علــى الحديــث ...فمــا هــي جوانــب االختــاف بـي ــن كل مــن منهجـ ّ ِـي املحدثي ــن والفقهــاء؟ إن املحــدث ي ــنظر إلــى الشــروط املتوافــرة فــي الحديــث فــإذا مــا كان ً صحيحــا بمعنــى توفــر الشــروط الخمســة فيــه ،وهــي :اتصــال الحديــث الســند مــع عدالــة وضبــط ال ـراوي والســامة مــن الشــذوذ والعلــة فالحديــث عنــده صحيــح ،مــن غي ــر أن ي ــنظر املحــدث إلــى جملــة األحاديــث األخــرى الــواردة فــي ذات الســياق ومــن غي ــر أن ي ــنظر إلــى اآليــات القرآن ــية الت ــي تتنــاول املســألة نفســها ...فاملحــدث يحكــم علــى ً الحديــث انطالقــا مــن الحديــث ذاتــه بســنده ومتنــه ،بـي ــنما الفقيــه ال يكتفــي بالنظــر إلــى ســند الحديــث وألفاظــه فقــط ،وإنمــا ي ــنظر إلــى مدلــوالت الحديــث وضــرورة انســجامها مــع آيــات الق ـرآن الكريــم ونصــوص الســنة األخــرى ،فــا يتعــارض مــع حديـ ٍـث أصــح منــه ،وال مــع القواعــد الكليــة املتصلــة بالعقيــدة ،فهــو ال ي ــنظر إلــى حديـ ٍـث بمفــرده، وإنمــا ي ــنظر إلــى ضــرورة توافــق هــذا الحديــث مــع جملــة مــن الشــروط مــن أب ــرزها التوافــق مــع نصــوص الق ـرآن الكريــم والســنة املُ َّ طهــرة.
( )5العــام هــو» اللفــظ املســتغرق لجميــع مــا يصلــح لــه بحســب وضــع واحــد» كقولنــا الرجــال فإنــه مســتغرق لجميــع مــا يصلــح لــه « الـرازي ،املحصــول ،دراســة وتحقيــق :الدكتــور طــه جاب ــر فيــاض العلوان ــي ،الناشــر :مؤسســة الرســالة،الطبعة :الثالثــة 1418 ،ه ـ 1997 -م ،514-513 /2 :امــا املطلــق فهــو» اللفــظ الــدال علــى مدلــول شــائع فــي جنســه» اآلمــدي ،إحــكام األحــكام ،املحقــق :عبــد الــرزاق عفيفــي ،الناشــر :املكتــب اإلســامي ،بـي ــروت- دمشــق -لب ــنان ،6-5 /3:وعليــه يكــون َّ املقيــد « مــا َّ دل ال علــى شــائع فــي جنســه « الشوكان ــي ،إرشــاد الفحــول ،املحقــق :الشــيخ أحمــد عــزو عنايــة ،دمشــق -كفــر بطنــا ،قــدم لــه :الشــيخ خليــل امليــس والدكتــور ولــي الدي ــن صالــح فرفــور ،الناشــر :دار الكتــاب العرب ــي ،الطبعــة :الطبعــة األولــى 1419ه ـ 1999 -م ،443 :أمــا عــن الخــاص والتخصيــص فيقــول الشي ـرازي فــي اللمــع »:التخصيــص تمييــز بعــض الجملــة بالحكــم مــن الجملــة ولهــذا القــول خــصًّ رســول هللا صلــى هللا عليــه وســلم بكــذا وكــذا ... وأما تخصيص العموم فهو بـيان مالم يـرد باللفظ العام « الشيـرازي ،اللمع في أصول الفقه ،الناشر :دار الكتب العلمية ،الطبعة :الطبعة الثانـية 2003م 1424 -هـ.ص.77 .
40
ولــو قــام إنســان مــا باألخــذ بظواهــر بعــض النصــوص مــن غي ــر العمــل بقواعد األصوليي ــن في الجمع والتوفيق بـي ــنها لوقع في تناقض عجيب ثــم قــام ب ــنسبة هــذا النقــص إلــى الش ـريعة املطهــرة عــن كل عيــب ونقصــان ،ولنأخــذ بعــض األمثلــة علــى ذلــك: املثال األول: ُ روى اإلمــام مســلم عــن جاب ــر ر�ضــي هللا عنــه قــالَ :ســم ْعت َّ النب ـ َّـي صلــى ِ َ ُ ُل َّ َ ْ َ َّ ُ َ َ ْ َ ّ الشـ ْـرك َو ْال ُك ْفــر َتـ ْـركَ ((إن بيــن الرجـ ِـل وبيــن ِ ِ هللا عليــه وســلم يقــو ِ ِ َّ َ الصــا ِة))( .)6فلــو أخذنــا بظاهــر هــذا الحديــث لقمنــا بتكفي ــر تــارك الصــاة مــن غي ــر أن نســتفصل عــن ســبب الت ــرك ،فاملعنــى املتبــادر إلــى الذهــن مــن ظاهــر الحديــث هــو الحكــم بكفــر تــارك الصــاة ..وتكفي ــره يت ـرتب عليــه أمــور عــدة مــن ذلــك عــدم دفنــه -لــو مــات علــى ذلــك -فــي مقابـر املسلميـن وعدم الصالة عليه وعدم التوارث ،وربما يجر ذلك إلــى اعتبــار أموالــه غنائــم للمسلمي ــن لكونــه كافـ ًـرا . فالقول ّ بالتكفي ــر بشكل مطلق من غي ــر َّ النظر إلى النصوص األخرى ّ يمثــل املنهــج العــام لعلمــاء األمــة فــي التعامــل الــواردة فــي هــذه املســألة ال ِ مــع النصــوص ...ومــن هنــا لــم يأخــذ جماهي ــر األصوليي ــن والفقهــاء بظاهــر هــذا النــص ،يقــول اإلمــام النــووي فــي شــرحه لهــذا الحديــث: (وأمــا تــارك الصــاة فــإن كان منكـ ًـرا لوجوبهــا فهــو كافــر بإجمــاع املسلمي ــن ،خــارج مــن ملــة اإلســام إال أن يكــون قريــب عهــد باإلســام، ً ولــم يخالــط املسلمي ــن مـ ّـدة يبلغــه فيهــا وجــوب الصــاة عليــه ،وإن كان ً ت ـ ْـركه تكاســا مــع اعتقــاده وجوبهــا كمــا هــو حــال كثي ــر مــن النــاس فقــد اختلف العلماء فيه ،فذهب مالك والشافعي رحمهما هللا والجماهيـر مــن الســلف والخلــف إلــى أنــه ال يكفــر بــل يفســق ويســتتاب فــإن تــاب، وإال قتلنــاه حـ ًّـدا كالزان ــي املحصــن ...وذهــب جماعــة مــن الســلف إلــى أنــه يكفــر وهــو إحــدى الروايتـي ــن عــن أحمــد ب ــن حنبــل( ... )7وذهــب أبــو حن ــيفة وجماعــة مــن أهــل الكوفــة واملزن ــي صاحــب الشــافعي رحمهمــا هللا أنــه ال يكفــر وال يقتــل بــل يعــزر ويحبــس حتــى يصلــي ...واحتــج الجمهــور علــى أنــه ال يكفــر بقولــه تعالــى ((إن هللا ال يغفــر أن يشــرك بــه ويغفــر مــا دون ذلــك ملــن يشــاء)) وبقولــه صلــى هللا عليــه و ســلم(( :مــن قــال ال إلــه اال هللا دخــل الجنــة)) ((مــن مــات وهــو يعلــم أن ال إلــه اال هللا دخــل الجنــة)) ((وال يلقــى هللا تعالــى عبــد بهمــا غي ــر شــاك فيحجــب عــن الجنــة)) ((حــرم هللا علــى النــار مــن قــال ال إلــه اال هللا)) وغي ــر ذلــك
العدد 2رجب 1439هـ
ّ وتأولــوا قولــه صلــى هللا عليــه وســلم ((بـي ــن العبــد وبـي ــن الكفــر ت ــرك الصــاة)) علــى معنــى أنــه يســتحق بت ــرك الصــاة عقوبــة الكافــر وهــي ـتح ِ ّل أو علــى أنــه قــد يــؤول بــه إلــى الكفر القتــل أو أنــه محمــول علــى املسـ ِ أو أن فعلــه فعــل الكفــار وهللا أعلــم)(.)8 ومــن الب ـ ِّـين أننــا ال نســتخف بقــول مــن قــال بكفــره وهــي الروايــة األخــرى عنــد اإلمــام أحمــد رحمــه هللا ،فليــس هــذا مــن مقصــود البحــث بــل ً القصــد َّأن الحكــم عليــه ّ بالتكفي ــر انطالقــا مــن الحديــث ذاتــه مــع ّ َّ يمثــل الوجهــة العامــة عنــد علمــاء تجاهــل النصــوص األخــرى ال ِ املسلمي ــن ،ولــذا لــم يأخــذ الجمهــور بظاهــره ،والــذي دعــا الجمهــور إلــى عــدم األخــذ بظاهــر هــذا الحديــث هــو ضــرورة فهمــه فــي ضــوء نصــوص َّ َ َ ْ َ ْ ْ هللا ل َيغ ِف ُر أ ْن ُيش َر َك ِب ِه َو َيغ ِف ُر ((إن الشرع األخرى ،ومنها قوله تعالى ِ َ َ ْ َ َّ َ َ ً َ ُ َ َ َ َْ َ َ ََ ْ ُ ْ ْ ً َ ـاهلل فقــد ضــل ضــال ب ِعيــدا)) مــا دون ذ ِلــك ِلــن يشـ ُـاء ومــن يشـ ِـرك ِبـ ِ [النســاء :اآليــة .]116 وهــذا الــذي ذكــره النـ ُّ ـووي مــن عــدم الحكــم علــى مرتكــب الكبـي ــرة بأنــه مــن الكفــار مالــم يكــن ارتكابــه للذنــب مــن بــاب االســتخفاف أو اإلنــكار ألصــل املشــروعية يمثــل أصـ ًـا مــن أصــول أهــل الســنة ...وقــد َّ عبــر عــن هــذا اإلمــام النــووي بقولــه( :واعلــم أن مذهــب أهــل الســنة ،ومــا عليــه أهــل الحــق مــن الســلف والخلــف أن مــن مــات ّ موحـ ًـدا دخــل الجنــة ِ ً ً قطعا على كل حال ،فإن كان سال ـا من املعا�صي كالصغيـر واملجنون والــذي اتصــل جنونــه بالبلــوغ والتائــب توبــة صحيحــة مــن الشــرك أو غيـره من املعا�صي إذا لم يحدث معصية بعد توبته ،واملوفق الذي لم ً ُي َبتـ َـل بمعصيــة أصــا فــكل هــذا الصنــف يدخلــون الجنــة ،وال يدخلــون ً النــار أصــا ...وأمــا مــن كانــت لــه معصيــة كبـي ــرة ،ومــات مــن غي ــر توبــة َ ً فهو في مشيئة هللا تعالى فإن شاء عفا عنه وأدخله الجنة أ َّول وجعله كالقســم األول ،وإن شــاء عذبــه القــدر الــذى ي ـريده ســبحانه وتعالــى ثــم يدخلــه الجنــة ،فــا يخلــد فــي النــار أحــد مــات علــى التوحيــد ولــو عمــل مــن املعا�صــي مــا عمــل ،كمــا أنــه ال يدخــل الجنــة أحــد مــات علــى الكفــر ولــو عمــل مــن أعمــال الب ــر مــا عمــل ،هــذا مختصــر جامــع ملذهــب أهــل الحــق فــي هــذه املســألة ،وقــد تظاهــرت أدلــة الكتــاب والســنة وإجمــاع مــن يعتــد بــه مــن األمــة علــى هــذه القاعــدة ،وتوات ــرت بذلــك نصـ ٌ ـوص تحصــل العلــم القطعــي فــإذا تقــررت هــذه القاعــدة حمــل عليهــا جميــع مــا ورد مــن أحاديــث البــاب وغي ــره فــإذا ورد حديــث فــي ظاهــره مخالفــة
َْ ْ ْ ُ ْ َ َ َ ْ َ َ َ َّ َ َ ( )6مسلم ،صحيح مسلم ،كتاب الصالةَ ،ب ُ الصلة رقم ،134 :املحقق :محمد فؤاد عبد الباقي ،الناشر :دار إحياء التـراث العربـي. اب َب َي ِان ِإطل ِق اس ِم الكف ِر على من ترك ( )7انظر في مذهب اإلمام أحمد :الكافي في فقه اإلمام أحمد ،ابـن قدامة املقد�سي ،الناشر :دار الكتب العلمية ،الطبعة :األولى 1414 ،هـ 1994 -م.178 /1 : ، ( )8النووي ،شرح النووي على مسلم ،دار إحياء التـراث العربـي -بـيـروت الطبعة :الثانـية.71 /2 ،1392 ،
41
أثـر مناهج األصولييـن وجــب تأويلــه عليهــا ليجمــع بـي ــن نصــوص الشــرع)(.)9 وهــذا املنهــج الــذي ذكــره النــووي رحمــه هللا ال يتفــق مــع منهــج املعتزلــة القائل :بأن صاحب الكبـيـرة ْإن مات عليها فهو في منزلة بـيـن املنزلتـيـن، وعليــه فهــو مخلــد فــي نــار جهنــم ال يخــرج منهــا أبـ ًـدا ،ويســتحق العقوبــة علــى الــدوام وال ي ــنال الشــفاعة ( - )10وإن كان عذابــه أخــف مــن عــذاب الكفــار -وهــذا املنهــج فيــه غلــو وعــدم اعتــدال . وأساس ذلك عدم االعتداد بمناهج األصولييـن وهو حمل األحاديث واآليــات الت ــي يوهــم ظاهرهــا كفـ َـر صاحبهــا علــى اآليــات واألحاديــث األخــرى كمــا هــو منهــج األصوليي ــن مــن أهــل الســنة . بــل نلحــظ أن اآليــة القرآن ــية الت ــي ذكرهــا النــووي -آيــة النســاء -والت ــي ً أساســا فــي حمــل النصــوص األخــرى عليهــا هــي عنــد املعتزلــة كانــت ْ ()11 مصنفــة مــع اآليــات املتشــابهة وجعلهــا كذلــك يعن ــي أنهــا ال تفهــم إال فــي ضــوء اآليــات املحكمــة عندهــم ،يقــول القا�ضــي( :واعلــم أن مشــايخنا رحمهــم هللا قالــوا إن اآليــة مجملــة مفتقــرة إلــى الب ــيان ،ألنــه َ َ َ َ َ ْ ((و َيغ ِفـ ُـر َمــا ُدون ذ ِلـ َـك ِلـ ْـن َيشـ ُـاء)) ولــم يبـي ــن مــن الــذي َيغفــر لــه، قــال: فاحتمــل أن يكــون امل ـراد بــه أصحــاب الصغائــر ،واحتمــل أن يكــون امل ـراد بــه أصحــاب الكبائــر ،فســقط احتجاجهــم باآليــة) (.)12 ّ ٌ وقــول القا�ضــي هــذا فيــه ُبعـ ٌـد وتكلــف ألن القضيــة ليســت هــي تمييــز الكبائــر عــن الصغائــر ،وإنمــا القضيــة هــي أن مــا دون الشــرك تحــت املشيئة ،فهذا هو وجه داللة اآلية وما قاله بعيد عن سياقها وداللتها، ويبــدو أن القا�ضــي شــعر ب ــركاكة الــرد ،فحــاول أن يعضــد دليلــه بدليــل آخــر فقــال( :ووجــه آخــر وهــو أن أكث ــر مــا فــي اآليــة تجويــز أن يغفــر هللا تعالــى مــا دون الشــرك علــى مــا هــو مقــرر فــي العقــل ،فلــو خلي ــنا وقضيــة ُ العقــل لك ّنــا نجــوز أن يغفــر هللا تعالــى مــا دون الشــرك ملــن يشــاء إذا ســمعنا هــذه اآليــة ،غي ــر َّأن عمومــات الوعيــد تنقلنــا مــن التجويــز إلــى القطــع علــى أن أصحــاب الكبائــر يفعــل بهــم مــا يســتحقونه ،وأنــه تعالــى ال يغفر لهم إال بالتوبة واإلنابة ،ومتى قيل فما تلك العمومات؟ قلنا: َ َ َ َ َ ((و َمـ ْـن َي ْعــص َ نحــو قولــهَ : هللا َو َر ُســول ُه فـ ِـإ َّن لـ ُـه نـ َـار َج َه َّنـ َـم خ ِال ِدي ـ َـن ِف َيهــا ِ َ أ َبـ ًـدا)) [الجــن :اآليــة .)13( ]23
أثـر مناهج األصولييـن
العدد 2رجب 1439هـ
وإذ كانــت هــذه العمومــات تنقــل مــن التجويــز إلــى القطــع فمــؤدى هــذا حمــل اآليــة الســابقة علــى هــذه العمومــات ،وهــذا هــو التأويــل بحيــث ُ تحمل داللتها من التجويز إلى القطع ،وهذا التجويز هو الذي جعلها مــن املتشــابه فــي نظــر القا�ضــي (.)14 والشــك أن املنهــج الــذي ســار عليــه املعتزلــة فــي القــول بــأن أصحــاب الكبائــر فــي منزلــة بـي ــن منزلتـي ــن ،وأنهــم ال ي ــنالون الشــفاعة فيــه غلـ ٌّـو ّ األصوليي ــن من أهل السنة الذي ــن حملوا فكر ٌّي ،وهو بعيد عن منهج النصــوص علــى بعضهــا ووفقــوا بي ــنها ،وكان املســتند لهــم فــي ذلــك النصــوص. يقول الشاطبـي( :قوله(( :إن هللا ال يغفر أن يشرك به)) اآلية [النساء: ]48جامع للتخويف والتـرجية من حيث قيد غفران ما سوى الشرك باملشــيئة)( )15ويقــول الباقالن ــي فــي اآليــة الســابقة( :فاســتثنى هللا تعالــى من املعا�صي التـي يجوز أن يغفرها الشرك ،فألحقت األمة به ما كان َّ َ َ ْ ُ ُّ الذ ُنـ َ ـوب ((إن هللا يغ ِفــر بمثابتــه مــن ضــروب الكفــر والشــرك ،وقــال ِ َجم ً يعا))[الزمــر ]53 :فلــم يخــرج ذلــك إال الكفــر والشــرك)(.)16 ِ والذي حمل جمهور أهل الســنة على ذلك نصوص كثي ــرة من أب ــرزها قــول رســول هللا صلــى هللا عليــه وســلم فــي الحديــث املتفــق عليــه مــن ((م ْن َشه َد َأ ْن ال إ َله إ َّال ُ َ هللا حديث عبادة بـن ِ ِ الصامت ر�ضي هللا عنهَِ ُ : َ َ ْ َُ َ َ َ ُ ُ ُ ُ ً َّ َّ ُ َ َ َ َ َ َ َ َ ُ ُ ْ ْ هللا وحــده ال شـريك َلــه ،وأن مح َّمــدا عبــده ورســوله ،وأن ِعي�ســى عبــد ِ ََ ُ ُُ ََ َُ ُ ْ وح م ْنـ ُـهَ ،و ْال َج َّنـ ُـة َحـ ٌّـقَ ،و َّ َ َ َ َُ ٌ النـ ُـار َحـ ٌّـق، َورســوله وك ِلمتــه ألقاهــا ِإلــى م ْريــم ور ِ ْ ْ ََ ُ ُ ْ َ َ أدخلــه هللا ال َج َّنــة َعلــى َمــا ك َان ِمـ َـن ال َع َمــل))( ،)17يقــول الب ــيضاوي عــن هذا الحديث( :فيه دليل على املعتزلة في مقاميـن أحدهما أن العصاة مــن أهــل القبلــة ال يخلــدون فــي النــار لعمــوم قولــه مــن شــهد)(.)18 َ ْ َ َ َ ُ َ َ ْ َ ُ َ َّ ُ َ َ َ َّ ُ َ هللا َدخـ َـل ومــن ذلــك حديــث مســلم ((مــن مــات وهــو يعلــم أنــه ال ِإلــه ِإال ْ َ ال َج َّنــة))( ،)19يقــول بــدر الدي ــن العيـن ــي( :فيــه حجــة ألهــل الســنة أن أصحاب الكبائر ال يقطع لهم بالنار وأنهم إن دخلوها خرجوا منها) (.)20 هــذه نظــرة س ـريعة علــى قواعــد الغلــو عنــد املعتزلــة ،ولكــن أكث ــر مــا واضحــا وصر ً ً يبــدو الغلـ ُّـو الفكــر ُّي يحــا عنــد الخــوارج ،ومــا ذاك إال لبعدهــم عــن مناهــج األصوليي ــن فــي حمــل النصــوص علــى بعضهــا
( )9شرح النووي على مسلم )10( - .217 /1:القا�ضي عبد الجبار ،شرح األصول الخمسة666: ( )11القا�ضي عبد الجبار ،متشابه القرآن )12( - .187:شرح األصول الخمسة.678: ( )13شرح األصول الخمسة )14( - .678:متشابه القرآن.187: ( )15املوافقات ،املؤلف :إب ـراهيم ب ــن مو�ســى ب ــن محمد اللخمي الغرناطي الشهي ــر بالشاطب ــي،املحقق :أبو عب ــيدة مشــهور ب ــن حســن آل ســلمان ،الناشــر :دار اب ــن عفان ،الطبعة :الطبعة األولى 1417هـ1997 /م.175 /4 . ويقــول فــي االعتصــام »:مــن مــات علــى الكفــر ال غفـران لــه البتــة وإنمــا ي ــرجى الغفـران ملــن لــم يخرجــه عملــه عــن اإلســام لقــول هللا تعالــى (( :إن هللا ال يغفــر أن يشــرك بــه ويغفــر مــا دون ذلــك ملــن يشــاء )) االعتصــام.90/1: ( )16الباقالنـي ،تمهيد األوائل وتلخيص الدالئل )17( - .404 /1 :اللؤلؤ واملرجان فيما اتفق عليه الشيخان.12 /1 : َ ُ َ ْ َ َ َ َ ْ َ َّ َ َ ُ ّ َ َ َ هللا ب ْال َيمان َو ُهو َغ ْي ُر َش ّ َّ َ اك ِف ِيه دخل الجنة وح ِرم على النار ،رقم.43 : ٍ ()18فيض القديـر)19( - .205 /6 :صحيح مسلم ،كتاب اإليمان ،باب من ل ِقي ِ ِ ِ ( )20عمدة القاري شرح صحيح البخاري.120 /12:
42
وتفسيـرها وفقا لذلك ،إذ إنهم قد تمسكوا بظواهر بعض النصوص وتجاهلــوا أخــرى ،وهــذا التمســك هــو الــذي َّ جرهــم إلــى فهــم عجيــب لنصــوص الشـريعة ،حيــث حملــوا آيــات الوعيــد علــى ظاهرهــا مــن غي ــر ْ أن يجمعــوا بـي ــن اآليــات واألحاديــث ...ومــن هــؤالء (املك َرميــة أصحــاب مكــرم ب ــن عبــد هللا العجلــي الــذي كان مــن جملــة الثعالبــة وتفــرد عنهــم بــأن قــال :تــارك الصــاة كافــر ال مــن أجــل ت ــرك الصــاة ولكــن مــن أجــل جهلــه بــاهلل تعالــى وطــرد هــذا فــي كل كبـي ــرة ي ـرتكبها اإلنســان ،وقــال :إنمــا يكفــر لجهلــه بــاهلل تعالــى وذلــك أن العــارف بوحدان ــية هللا تعالــى وأنــه املطلــع علــى ســره وعالن ــيته املجــازي علــى طاعتــه ومعصيتــه لــن يتصــور منــه اإلقــدام علــى املعصيــة واالجت ـراء علــى املخالفــة مــا لــم يغفــل عــن هــذه املعرفــة وال يبالــي بالتكليــف منــه ،وعــن هــذا قــال النب ــي عليــه الصــاة و الســام(( :ال يزن ــي الزان ــي حي ــن يزن ــي وهــو مؤمــن وال يســرق الســارق حي ــن يســرق وهــو مؤمــن))(.)21 يقــول الشــيخ الطاهــر ب ــن عاشــور( :فكمــا ال يجــوز حمــل كلماتــه علــى خصوصيــات جزئيــة ألن ذلــك يبطــل مـراد هللا ،كذلــك ال يجــوز تعميــم مــا قصــد منــه الخصــوص وال إطــاق مــا قصــد منــه التقييــد؛ ألن ذلــك قــد يف�ضــي إلــى التخليــط فــي املـراد أو إلــى إبطالــه مــن أصلــه ،وقــد اغت ــر بعــض الفــرق بذلــك ،قــال اب ــن سيـري ــن فــي الخــوارج :إنهــم عمــدوا إلــى آيــات الوعيــد النازلــة فــي املشركي ــن فوضعوهــا علــى املسلمي ــن فجــاؤوا ببدعــة القــول بالتكفي ــر بالذنــب)(.)22 وهكــذا بــات مــن الواضــح بعــد مــا ذكرنــاه ضــرورة الرجــوع إلــى مناهــج ّ األصوليي ــن فــي حمــل النصــوص علــى بعضهــا ،لنصــل إلــى م ـراد هللا وأحكامــه.
ثانـيا .حمل النصوص على بعضها في مسائل الفقه مــن الجدي ــر ذكــره َّأن الخلــط عنــد عــدم حمــل النصــوص علــى بعضهــا ليس ًّ خاصا في مسائل أصول الدي ــن ،بل االضطراب سيكون أكث ــر في َ َ مسائل الفقه نظرا إلى كث ــرة النصوص الواردة في دقائقه وتفاصيله، ويمكن ْأن نأخذ أمثلة كثي ــرة منها. املثال األول: َ قولــه ْ َّ ُ ْ َ َ ُ ْ َ ْ َ ٌ ْ َ ُ َّ َ َ ْ َ ْ ُ ُ ْ َّ َ َ : س ِ ((إذا صليتــم الفجــر ف ِإنــه وقــت ِإلــى أن يطلــع قــرن الشــم ِ
العدد 2رجب 1439هـ
َ َّ ُ ُ َّ َ َ َّ ْ ُ ُ ُّ ْ َ َ َّ ُ َ ْ ٌ َ َ ْ َ ْ ُ َ ْ َ ْ َ َ صـ ُـر ،فـ ِـإذا األول ،ثــم ِإذا صليتــم الظهــر ف ِإنــه وقــت ِإلــى أن يحضــر الع َّ َ َ َّ ْ ُ ُ ْ َ ْ َ َ َّ ُ َ ْ ٌ َ َ ْ َ ْ َ َّ َّ سَ ،فــإذا َ الشـ ْـم ُ صل ْي ُتـ ُـم صليتــم العصــر ف ِإنــه وقــت ِإلــى أن تصفــر ِْ َ ْ َ ْ َ َ َّ ُ َ ْ ٌ َ َ ْ َ ْ ُ َ َّ ص َّل ْي ُتـ ُـم الع َشـ َـاء َفإ َّنــهُ الشـ َـف ُقَ ،فــإذا َ الغـ ِـرب ف ِإنــه وقــت ِإلــى أن يســقط ِ ِ ِ َّ َْ ٌ َ ْ ـف الل ْيـ ِـل))(.)23 وقــت ِإلــى ِنصـ ِ يقــول اإلمــام النــووي(( :قولــه :فــإذا صليتــم العشــاء فإنــه وقــت إلــى نصــف الليــل معنــاه :وقــت ألدائهــا اخت ـ ً ـيارا ،أمــا وقــت الجــواز فيمتــد إلــى طلــوع الفجــر الثان ــي ،لحديــث أب ــي قتــادة الــذي ذكــره مســلم بعــد هــذا فــي بــاب «مــن ن�ســي صــاة أو نــام عنهــا» ((أنــه ليــس فــي النــوم تفريــط إنمــا التفريــط علــى مــن لــم يصــل الصــاة حتــى يجــيء وقــت الصــاة األخــرى))(.)24 يقــول الحافــظ العراقــي فــي الفتــح(( :قلــت وعمــوم حديــث أب ــي قتــادة مخصــوص باإلجمــاع فــي الصبــح)) (.)25 املثال الثانـي: جــاء فــي الحديــث الــذي رواه اإلمــام مســلم مــن طريــق أب ــي مســعود األنصــاري ر�ضــي هللا عنــه ،أن رســول هللا صلــى هللا عليــه وســلم قــال: ْ ََ َ َُ َْ َْ ُ َ َ ُ هللا ،ف ِإ ْن كانوا ِفي ال ِق َر َاء ِة َس َو ًاء فأ ْعل ُم ُه ْم اب ((يؤ ُّم الق ْو َم أق َرؤ ُه ْم ِل ِك َت ِ ِ ََْ ً َ َ ُ السـ َّـن ِةَ ،فــإ ْن َك ُانــوا فــي ُّ ب ُّ السـ َّـن ِة َسـ َـو ًاء فأق َد ُم ُهـ ْـم ِه ْجـ َـرة ،فـ ِـإ ْن كانــوا ِفــي ِ َ ِ ِ ْ ْ َ َ َ ً َ ْ َ ُ ُ ْ ْ ً َ َ َ ُ َّ َّ َّ ُ ُ َّ ُ َ ُ ْ َ َ َ ال ِهجر ِة ســواء فأقدمهم ِســلما ،وال يؤمن الرجل الرجل ِفي ســلطا ِن ِه وال َ َْ َّ ْ َي ْق ُعـ ْـد ِفــي َب ْي ِتـ ِـه َعلــى تك ِر َم ِتـ ِـه ِإال ِب ِإذ ِنـ ِـه)) (.)26 ظاهــر هــذا الحديــث أن األق ـرأ يقــدم فــي اإلمامــة ً مطلقــا ســواء أكان ُُْ ُ ْ َ ـور ال ُفق َهـ ِـاء عنــده فقــه أم ال ،هــذا هــو ظاهــر الحديــث لكــن قــال َجمهـ ْ َ َ َّ َ ْ َ َّ َ َّ َّ َّ ْ ْ َ َ َ ْ َ ْ ْ َ ْ َ مــن الحن ِفيـ ِـة وال ِال ِكيـ ِـة والشــا ِف ِعي ِة :إن األعلــم ِبأحــك ِام ال ِفقـ ِـه أولــى ْْ ْ ِباإل َم َامـ ِـة ِمـ َـن األقـ َ ِـرأ ،بــل إننــا نجــد اب ــن حجــر الهيتمــي وهــو مــن فقهــاء الشــافعية يقــول( :واألصــح أن األفقــه فــي الصــاة ومــا يتعلــق بهــا وإن لــم يحفــظ غي ــر الفاتحــة أولــى مــن األقـرأ غي ــر األفقــه وإن حفــظ جميــع الق ـرآن ،)27( )...وهنــا قــد يســأل البعــض مــن أي ــن جــاء الفقهــاء بهــذا األمــر ،أليــس قولهــم هــذا مخالــف للحديــث ،ومصــادم لــه مــن حيــث ً مخالفــا للحديــث بــل هــو الظاهــر؟ والجــواب :إن قــول الفقهــاء ليــس تطب ــيق عملــي للحديــث ومتفــق مــع الواقــع ،وأدلتهــم علــى ذلــك :أوال: ً محصورا الحاجة إلى الفقه أهم لكون الواجب من القرآن في الصالة َّ ْ َ َ َ َّ َ ُ ْ َ ُ َ ْ َ َ َ والحــوادث فــي الصــاة ال تنحصــرِ ،ألن ال ِقــراءة ِإنمــا يحتــاج ِإليهــا ِإلقامـ ِـة
( )21الشهرستانـي ،امللل والنحل ،107:دار الفكر ،دمشق )22( - .2002 ،التحريـر والتنويـر ـ الطبعة التونسية .50 /1 : َ ُ َْ َ ات َّ الص َل َو ِ ْ َ ْ س ،رقم.171 : ( )23صحيح مسلم ،كتاب الصالة ،ب اب أوق ِ ات الخم ِ ( )24شرح صحيح مسلم )25( - .138 /2:فتح الباري البـن حجر العسقالنـي.52 /2 : ( )26صحيح مسلم ،طبعة دار الجيل كتاب املساجد ومواضع الصالة ،باب من أحق باإلمامة رقم ()1564 ( )27تحفة املحتاج في شرح املنهاج ،طبعة املكتبة التجارية الكبـرى بمصر ،عام النشر 1357 :هـ 1983 -م
43
أثـر مناهج األصولييـن وجــب تأويلــه عليهــا ليجمــع بـي ــن نصــوص الشــرع)(.)9 وهــذا املنهــج الــذي ذكــره النــووي رحمــه هللا ال يتفــق مــع منهــج املعتزلــة القائل :بأن صاحب الكبـيـرة ْإن مات عليها فهو في منزلة بـيـن املنزلتـيـن، وعليــه فهــو مخلــد فــي نــار جهنــم ال يخــرج منهــا أبـ ًـدا ،ويســتحق العقوبــة علــى الــدوام وال ي ــنال الشــفاعة ( - )10وإن كان عذابــه أخــف مــن عــذاب الكفــار -وهــذا املنهــج فيــه غلــو وعــدم اعتــدال . وأساس ذلك عدم االعتداد بمناهج األصولييـن وهو حمل األحاديث واآليــات الت ــي يوهــم ظاهرهــا كفـ َـر صاحبهــا علــى اآليــات واألحاديــث األخــرى كمــا هــو منهــج األصوليي ــن مــن أهــل الســنة . بــل نلحــظ أن اآليــة القرآن ــية الت ــي ذكرهــا النــووي -آيــة النســاء -والت ــي ً أساســا فــي حمــل النصــوص األخــرى عليهــا هــي عنــد املعتزلــة كانــت ْ ()11 مصنفــة مــع اآليــات املتشــابهة وجعلهــا كذلــك يعن ــي أنهــا ال تفهــم إال فــي ضــوء اآليــات املحكمــة عندهــم ،يقــول القا�ضــي( :واعلــم أن مشــايخنا رحمهــم هللا قالــوا إن اآليــة مجملــة مفتقــرة إلــى الب ــيان ،ألنــه َ َ َ َ َ ْ ((و َيغ ِفـ ُـر َمــا ُدون ذ ِلـ َـك ِلـ ْـن َيشـ ُـاء)) ولــم يبـي ــن مــن الــذي َيغفــر لــه، قــال: فاحتمــل أن يكــون امل ـراد بــه أصحــاب الصغائــر ،واحتمــل أن يكــون امل ـراد بــه أصحــاب الكبائــر ،فســقط احتجاجهــم باآليــة) (.)12 ّ ٌ وقــول القا�ضــي هــذا فيــه ُبعـ ٌـد وتكلــف ألن القضيــة ليســت هــي تمييــز الكبائــر عــن الصغائــر ،وإنمــا القضيــة هــي أن مــا دون الشــرك تحــت املشيئة ،فهذا هو وجه داللة اآلية وما قاله بعيد عن سياقها وداللتها، ويبــدو أن القا�ضــي شــعر ب ــركاكة الــرد ،فحــاول أن يعضــد دليلــه بدليــل آخــر فقــال( :ووجــه آخــر وهــو أن أكث ــر مــا فــي اآليــة تجويــز أن يغفــر هللا تعالــى مــا دون الشــرك علــى مــا هــو مقــرر فــي العقــل ،فلــو خلي ــنا وقضيــة ُ العقــل لك ّنــا نجــوز أن يغفــر هللا تعالــى مــا دون الشــرك ملــن يشــاء إذا ســمعنا هــذه اآليــة ،غي ــر َّأن عمومــات الوعيــد تنقلنــا مــن التجويــز إلــى القطــع علــى أن أصحــاب الكبائــر يفعــل بهــم مــا يســتحقونه ،وأنــه تعالــى ال يغفر لهم إال بالتوبة واإلنابة ،ومتى قيل فما تلك العمومات؟ قلنا: َ َ َ َ َ ((و َمـ ْـن َي ْعــص َ نحــو قولــهَ : هللا َو َر ُســول ُه فـ ِـإ َّن لـ ُـه نـ َـار َج َه َّنـ َـم خ ِال ِدي ـ َـن ِف َيهــا ِ َ أ َبـ ًـدا)) [الجــن :اآليــة .)13( ]23
أثـر مناهج األصولييـن
العدد 2رجب 1439هـ
وإذ كانــت هــذه العمومــات تنقــل مــن التجويــز إلــى القطــع فمــؤدى هــذا حمــل اآليــة الســابقة علــى هــذه العمومــات ،وهــذا هــو التأويــل بحيــث ُ تحمل داللتها من التجويز إلى القطع ،وهذا التجويز هو الذي جعلها مــن املتشــابه فــي نظــر القا�ضــي (.)14 والشــك أن املنهــج الــذي ســار عليــه املعتزلــة فــي القــول بــأن أصحــاب الكبائــر فــي منزلــة بـي ــن منزلتـي ــن ،وأنهــم ال ي ــنالون الشــفاعة فيــه غلـ ٌّـو ّ األصوليي ــن من أهل السنة الذي ــن حملوا فكر ٌّي ،وهو بعيد عن منهج النصــوص علــى بعضهــا ووفقــوا بي ــنها ،وكان املســتند لهــم فــي ذلــك النصــوص. يقول الشاطبـي( :قوله(( :إن هللا ال يغفر أن يشرك به)) اآلية [النساء: ]48جامع للتخويف والتـرجية من حيث قيد غفران ما سوى الشرك باملشــيئة)( )15ويقــول الباقالن ــي فــي اآليــة الســابقة( :فاســتثنى هللا تعالــى من املعا�صي التـي يجوز أن يغفرها الشرك ،فألحقت األمة به ما كان َّ َ َ ْ ُ ُّ الذ ُنـ َ ـوب ((إن هللا يغ ِفــر بمثابتــه مــن ضــروب الكفــر والشــرك ،وقــال ِ َجم ً يعا))[الزمــر ]53 :فلــم يخــرج ذلــك إال الكفــر والشــرك)(.)16 ِ والذي حمل جمهور أهل الســنة على ذلك نصوص كثي ــرة من أب ــرزها قــول رســول هللا صلــى هللا عليــه وســلم فــي الحديــث املتفــق عليــه مــن ((م ْن َشه َد َأ ْن ال إ َله إ َّال ُ َ هللا حديث عبادة بـن ِ ِ الصامت ر�ضي هللا عنهَِ ُ : َ َ ْ َُ َ َ َ ُ ُ ُ ُ ً َّ َّ ُ َ َ َ َ َ َ َ َ ُ ُ ْ ْ هللا وحــده ال شـريك َلــه ،وأن مح َّمــدا عبــده ورســوله ،وأن ِعي�ســى عبــد ِ ََ ُ ُُ ََ َُ ُ ْ وح م ْنـ ُـهَ ،و ْال َج َّنـ ُـة َحـ ٌّـقَ ،و َّ َ َ َ َُ ٌ النـ ُـار َحـ ٌّـق، َورســوله وك ِلمتــه ألقاهــا ِإلــى م ْريــم ور ِ ْ ْ ََ ُ ُ ْ َ َ أدخلــه هللا ال َج َّنــة َعلــى َمــا ك َان ِمـ َـن ال َع َمــل))( ،)17يقــول الب ــيضاوي عــن هذا الحديث( :فيه دليل على املعتزلة في مقاميـن أحدهما أن العصاة مــن أهــل القبلــة ال يخلــدون فــي النــار لعمــوم قولــه مــن شــهد)(.)18 َ ْ َ َ َ ُ َ َ ْ َ ُ َ َّ ُ َ َ َ َّ ُ َ هللا َدخـ َـل ومــن ذلــك حديــث مســلم ((مــن مــات وهــو يعلــم أنــه ال ِإلــه ِإال ْ َ ال َج َّنــة))( ،)19يقــول بــدر الدي ــن العيـن ــي( :فيــه حجــة ألهــل الســنة أن أصحاب الكبائر ال يقطع لهم بالنار وأنهم إن دخلوها خرجوا منها) (.)20 هــذه نظــرة س ـريعة علــى قواعــد الغلــو عنــد املعتزلــة ،ولكــن أكث ــر مــا واضحــا وصر ً ً يبــدو الغلـ ُّـو الفكــر ُّي يحــا عنــد الخــوارج ،ومــا ذاك إال لبعدهــم عــن مناهــج األصوليي ــن فــي حمــل النصــوص علــى بعضهــا
( )9شرح النووي على مسلم )10( - .217 /1:القا�ضي عبد الجبار ،شرح األصول الخمسة666: ( )11القا�ضي عبد الجبار ،متشابه القرآن )12( - .187:شرح األصول الخمسة.678: ( )13شرح األصول الخمسة )14( - .678:متشابه القرآن.187: ( )15املوافقات ،املؤلف :إب ـراهيم ب ــن مو�ســى ب ــن محمد اللخمي الغرناطي الشهي ــر بالشاطب ــي،املحقق :أبو عب ــيدة مشــهور ب ــن حســن آل ســلمان ،الناشــر :دار اب ــن عفان ،الطبعة :الطبعة األولى 1417هـ1997 /م.175 /4 . ويقــول فــي االعتصــام »:مــن مــات علــى الكفــر ال غفـران لــه البتــة وإنمــا ي ــرجى الغفـران ملــن لــم يخرجــه عملــه عــن اإلســام لقــول هللا تعالــى (( :إن هللا ال يغفــر أن يشــرك بــه ويغفــر مــا دون ذلــك ملــن يشــاء )) االعتصــام.90/1: ( )16الباقالنـي ،تمهيد األوائل وتلخيص الدالئل )17( - .404 /1 :اللؤلؤ واملرجان فيما اتفق عليه الشيخان.12 /1 : َ ُ َ ْ َ َ َ َ ْ َ َّ َ َ ُ ّ َ َ َ هللا ب ْال َيمان َو ُهو َغ ْي ُر َش ّ َّ َ اك ِف ِيه دخل الجنة وح ِرم على النار ،رقم.43 : ٍ ()18فيض القديـر)19( - .205 /6 :صحيح مسلم ،كتاب اإليمان ،باب من ل ِقي ِ ِ ِ ( )20عمدة القاري شرح صحيح البخاري.120 /12:
42
وتفسيـرها وفقا لذلك ،إذ إنهم قد تمسكوا بظواهر بعض النصوص وتجاهلــوا أخــرى ،وهــذا التمســك هــو الــذي َّ جرهــم إلــى فهــم عجيــب لنصــوص الشـريعة ،حيــث حملــوا آيــات الوعيــد علــى ظاهرهــا مــن غي ــر ْ أن يجمعــوا بـي ــن اآليــات واألحاديــث ...ومــن هــؤالء (املك َرميــة أصحــاب مكــرم ب ــن عبــد هللا العجلــي الــذي كان مــن جملــة الثعالبــة وتفــرد عنهــم بــأن قــال :تــارك الصــاة كافــر ال مــن أجــل ت ــرك الصــاة ولكــن مــن أجــل جهلــه بــاهلل تعالــى وطــرد هــذا فــي كل كبـي ــرة ي ـرتكبها اإلنســان ،وقــال :إنمــا يكفــر لجهلــه بــاهلل تعالــى وذلــك أن العــارف بوحدان ــية هللا تعالــى وأنــه املطلــع علــى ســره وعالن ــيته املجــازي علــى طاعتــه ومعصيتــه لــن يتصــور منــه اإلقــدام علــى املعصيــة واالجت ـراء علــى املخالفــة مــا لــم يغفــل عــن هــذه املعرفــة وال يبالــي بالتكليــف منــه ،وعــن هــذا قــال النب ــي عليــه الصــاة و الســام(( :ال يزن ــي الزان ــي حي ــن يزن ــي وهــو مؤمــن وال يســرق الســارق حي ــن يســرق وهــو مؤمــن))(.)21 يقــول الشــيخ الطاهــر ب ــن عاشــور( :فكمــا ال يجــوز حمــل كلماتــه علــى خصوصيــات جزئيــة ألن ذلــك يبطــل مـراد هللا ،كذلــك ال يجــوز تعميــم مــا قصــد منــه الخصــوص وال إطــاق مــا قصــد منــه التقييــد؛ ألن ذلــك قــد يف�ضــي إلــى التخليــط فــي املـراد أو إلــى إبطالــه مــن أصلــه ،وقــد اغت ــر بعــض الفــرق بذلــك ،قــال اب ــن سيـري ــن فــي الخــوارج :إنهــم عمــدوا إلــى آيــات الوعيــد النازلــة فــي املشركي ــن فوضعوهــا علــى املسلمي ــن فجــاؤوا ببدعــة القــول بالتكفي ــر بالذنــب)(.)22 وهكــذا بــات مــن الواضــح بعــد مــا ذكرنــاه ضــرورة الرجــوع إلــى مناهــج ّ األصوليي ــن فــي حمــل النصــوص علــى بعضهــا ،لنصــل إلــى م ـراد هللا وأحكامــه.
ثانـيا .حمل النصوص على بعضها في مسائل الفقه مــن الجدي ــر ذكــره َّأن الخلــط عنــد عــدم حمــل النصــوص علــى بعضهــا ليس ًّ خاصا في مسائل أصول الدي ــن ،بل االضطراب سيكون أكث ــر في َ َ مسائل الفقه نظرا إلى كث ــرة النصوص الواردة في دقائقه وتفاصيله، ويمكن ْأن نأخذ أمثلة كثي ــرة منها. املثال األول: َ قولــه ْ َّ ُ ْ َ َ ُ ْ َ ْ َ ٌ ْ َ ُ َّ َ َ ْ َ ْ ُ ُ ْ َّ َ َ : س ِ ((إذا صليتــم الفجــر ف ِإنــه وقــت ِإلــى أن يطلــع قــرن الشــم ِ
العدد 2رجب 1439هـ
َ َّ ُ ُ َّ َ َ َّ ْ ُ ُ ُّ ْ َ َ َّ ُ َ ْ ٌ َ َ ْ َ ْ ُ َ ْ َ ْ َ َ صـ ُـر ،فـ ِـإذا األول ،ثــم ِإذا صليتــم الظهــر ف ِإنــه وقــت ِإلــى أن يحضــر الع َّ َ َ َّ ْ ُ ُ ْ َ ْ َ َ َّ ُ َ ْ ٌ َ َ ْ َ ْ َ َّ َّ سَ ،فــإذا َ الشـ ْـم ُ صل ْي ُتـ ُـم صليتــم العصــر ف ِإنــه وقــت ِإلــى أن تصفــر ِْ َ ْ َ ْ َ َ َّ ُ َ ْ ٌ َ َ ْ َ ْ ُ َ َّ ص َّل ْي ُتـ ُـم الع َشـ َـاء َفإ َّنــهُ الشـ َـف ُقَ ،فــإذا َ الغـ ِـرب ف ِإنــه وقــت ِإلــى أن يســقط ِ ِ ِ َّ َْ ٌ َ ْ ـف الل ْيـ ِـل))(.)23 وقــت ِإلــى ِنصـ ِ يقــول اإلمــام النــووي(( :قولــه :فــإذا صليتــم العشــاء فإنــه وقــت إلــى نصــف الليــل معنــاه :وقــت ألدائهــا اخت ـ ً ـيارا ،أمــا وقــت الجــواز فيمتــد إلــى طلــوع الفجــر الثان ــي ،لحديــث أب ــي قتــادة الــذي ذكــره مســلم بعــد هــذا فــي بــاب «مــن ن�ســي صــاة أو نــام عنهــا» ((أنــه ليــس فــي النــوم تفريــط إنمــا التفريــط علــى مــن لــم يصــل الصــاة حتــى يجــيء وقــت الصــاة األخــرى))(.)24 يقــول الحافــظ العراقــي فــي الفتــح(( :قلــت وعمــوم حديــث أب ــي قتــادة مخصــوص باإلجمــاع فــي الصبــح)) (.)25 املثال الثانـي: جــاء فــي الحديــث الــذي رواه اإلمــام مســلم مــن طريــق أب ــي مســعود األنصــاري ر�ضــي هللا عنــه ،أن رســول هللا صلــى هللا عليــه وســلم قــال: ْ ََ َ َُ َْ َْ ُ َ َ ُ هللا ،ف ِإ ْن كانوا ِفي ال ِق َر َاء ِة َس َو ًاء فأ ْعل ُم ُه ْم اب ((يؤ ُّم الق ْو َم أق َرؤ ُه ْم ِل ِك َت ِ ِ ََْ ً َ َ ُ السـ َّـن ِةَ ،فــإ ْن َك ُانــوا فــي ُّ ب ُّ السـ َّـن ِة َسـ َـو ًاء فأق َد ُم ُهـ ْـم ِه ْجـ َـرة ،فـ ِـإ ْن كانــوا ِفــي ِ َ ِ ِ ْ ْ َ َ َ ً َ ْ َ ُ ُ ْ ْ ً َ َ َ ُ َّ َّ َّ ُ ُ َّ ُ َ ُ ْ َ َ َ ال ِهجر ِة ســواء فأقدمهم ِســلما ،وال يؤمن الرجل الرجل ِفي ســلطا ِن ِه وال َ َْ َّ ْ َي ْق ُعـ ْـد ِفــي َب ْي ِتـ ِـه َعلــى تك ِر َم ِتـ ِـه ِإال ِب ِإذ ِنـ ِـه)) (.)26 ظاهــر هــذا الحديــث أن األق ـرأ يقــدم فــي اإلمامــة ً مطلقــا ســواء أكان ُُْ ُ ْ َ ـور ال ُفق َهـ ِـاء عنــده فقــه أم ال ،هــذا هــو ظاهــر الحديــث لكــن قــال َجمهـ ْ َ َ َّ َ ْ َ َّ َ َّ َّ َّ ْ ْ َ َ َ ْ َ ْ ْ َ ْ َ مــن الحن ِفيـ ِـة وال ِال ِكيـ ِـة والشــا ِف ِعي ِة :إن األعلــم ِبأحــك ِام ال ِفقـ ِـه أولــى ْْ ْ ِباإل َم َامـ ِـة ِمـ َـن األقـ َ ِـرأ ،بــل إننــا نجــد اب ــن حجــر الهيتمــي وهــو مــن فقهــاء الشــافعية يقــول( :واألصــح أن األفقــه فــي الصــاة ومــا يتعلــق بهــا وإن لــم يحفــظ غي ــر الفاتحــة أولــى مــن األقـرأ غي ــر األفقــه وإن حفــظ جميــع الق ـرآن ،)27( )...وهنــا قــد يســأل البعــض مــن أي ــن جــاء الفقهــاء بهــذا األمــر ،أليــس قولهــم هــذا مخالــف للحديــث ،ومصــادم لــه مــن حيــث ً مخالفــا للحديــث بــل هــو الظاهــر؟ والجــواب :إن قــول الفقهــاء ليــس تطب ــيق عملــي للحديــث ومتفــق مــع الواقــع ،وأدلتهــم علــى ذلــك :أوال: ً محصورا الحاجة إلى الفقه أهم لكون الواجب من القرآن في الصالة َّ ْ َ َ َ َّ َ ُ ْ َ ُ َ ْ َ َ َ والحــوادث فــي الصــاة ال تنحصــرِ ،ألن ال ِقــراءة ِإنمــا يحتــاج ِإليهــا ِإلقامـ ِـة
( )21الشهرستانـي ،امللل والنحل ،107:دار الفكر ،دمشق )22( - .2002 ،التحريـر والتنويـر ـ الطبعة التونسية .50 /1 : َ ُ َْ َ ات َّ الص َل َو ِ ْ َ ْ س ،رقم.171 : ( )23صحيح مسلم ،كتاب الصالة ،ب اب أوق ِ ات الخم ِ ( )24شرح صحيح مسلم )25( - .138 /2:فتح الباري البـن حجر العسقالنـي.52 /2 : ( )26صحيح مسلم ،طبعة دار الجيل كتاب املساجد ومواضع الصالة ،باب من أحق باإلمامة رقم ()1564 ( )27تحفة املحتاج في شرح املنهاج ،طبعة املكتبة التجارية الكبـرى بمصر ،عام النشر 1357 :هـ 1983 -م
43
أثـر مناهج األصولييـن ْ ْ َ َ ْ َ َ َ ُّ َ َ ْ ْ ُ َْ ُ َ َ ْ َ الســن ِن . ـات و ُركـ ٍـن و ِاحـ ٍـد ،وال ِفقــه ُيحتــاج ِإل ْيـ ِـه ِلج ِميـ ِـع األرك ِان والو ِاجبـ ِ الثان ــي :أن النب ــي صلــى هللا عليــه وســلم فــي مرضــه طلــب مــن أب ــي بكــر أن يـ َّ ـؤم النــاس وفــي القــوم مــن هــو أق ـرأ منــه ،لكــن أبــا بكــر كان أعلــم النــاس ،وقــد قــال هــذا أبــو ســعيد الخــدري فــي الحديــث املتفــق عليــه. لكن قد يقال هنا ،كيف أجاب جمهور الفقهاء عن حديث يؤم القوم ّ أقرؤهــم لكتــاب هللا؟ الجــواب عــن ذلــك نجــده عنــد الخطاب ـ ّ ِـي وغي ــره، يقــول الخطاب ــي( :وإنمــا قـ ِّـدم القــارئ فــي الذكــر ألن عامــة الصحابــة إذا اعتب ــرت أحوالهــم وجــدت أق َرأهــم َ أفقههــم ،وقــال أبــو مســعود :كان أحدنــا إذا حفــظ ســورة مــن الق ـرآن لــم يخــرج عنهــا إلــى غي ــرها حتــى يحكم علمها أو يعرف حاللها وحرامها أو كما قال ،فأما غيـرهم ممن َ تأخــر بهــم الزمــان فــإن أكث ــرهم يقــرؤون القـرآن وال يفقهــون ،ف ُق َّراؤهــم ً كثي ــر والفقهــاء منهــم قليــل)(ّ ،)28 وكأنهــم جعلــوا الحديــث مرتبطــا بعلــة ُمحـ َّـددة وهــي َّأن القــارئ كان ً فقهيــا ،ومــا وجــد فــي العصــور املتأخــرة على خالف ما كان األمر عليه في صدر اإلسالم إذ تجد في زمننا من يحفظ القـرآن بالقـراءات املتوات ــرة مــن خــال املعاهــد والجامعــات املختصــة بالق ـراءات بعيـ ًـدا عــن األحــكام الفقهيــة ،ومــن هنــا نــدرك أهميــة مــا ذكــره جمهــور الفقهــاء مــن املالكيــة والشــافعية والحنفيــة مــن تقديــم الفقــه علــى القـراءة(.)29 املثال الثالث: َ َ َ َ ُ ُ َ َّ لل صلــى هللا عليــه وســلم َعـ ْـن َج ِابـ ٍـر ر�ضــي هللا عنــه قــال :قـ ـال َرســو َل ا ِ َ َ َ َ َ َ ُ ُ ُ َْ َْ َ َ ْ ْ َ َ َ ْ َ ْ ُ َ َْ َ َ ْ ُ ُ َ ـوه ِإلــى ((إذا خطــب أحدكــم الــرأة فـ ِـإن ِاســتطاع أن ينظــر ِمنهــا مــا يدعـ ِ ص َّح َحــهُ ن َكاح َهــا َ ,ف ْل َي ْف َعـ ْـل)) َر َو ُاه َأ ْح َمـ ُـد َوَأ ُبــو َد ُاو َد َور َج ُالـ ُـه ث َقـ ٌ ـات َو َ ِ ِ ِ ِ َ ْ َ ُ َ َ ُ َ ٌ ْ َ َ ّ ْ ّ َ َّ َ ّ َ ْ ُ َ ()30 الح ِاكم وله ش ِاهد ِعند ا ِلتر ِم ِذ ِي والنسا ِئ ِي ع ِن ال ِغيـر ِة .وذكره ابـن حجــر فــي الفتــح وقــال :ســنده حســن(.) 31 ظاهــر الحديــث ُم ْشــكل حيــث إنــه يجيــز َّ النظــر إلــى أماكــن أخــرى مــن الجســم كالصــدر والظهــر. ألن هــذه املواضــع قــد تكــون مدعــاة إلــى الــزواج ،ولكــن ظاهــره ليــس مـر ًادا بــل هــو ُم ّ قيــد بالوجــه واليدي ــن ،يقــول اب ــن قدامــة( :ويجــوز ملــن أراد خطبــة ام ـرأة النظــر إلــى وجههــا مــن غي ــر خلــوة بهــا
حقوق ذوي االحتياجات الخاصة
العدد 2رجب 1439هـ
ملــا روى جاب ــر قــال :قــال رســول هللا صلــى هللا عليــه وســلم(( :إذا خطــب أحدكــم املـرأة فــان اســتطاع أن ي ــنظر إلــى مــا يدعــوه إلــى نكاحهــا فليفعــل)) ...وال بــأس بالنظــر إليهــا بإذنهــا وغي ــر إذنهــا ألن ّ النب ـ ّـي صلــى هللا عليه وســلم أمر بالنظر وأطلق ...وال ي ــنظر إليها نظر تلذذ وشــهوة وال لريبــة ،قــال أحمــد فــي روايــة صالــح( :ي ــنظر إلــى الوجــه وال تكــون علــى طريــق لــذة ولــه تك ـرار النظــر إليهــا وتأمــل محاســنها ألن املقصــود إنمــا يحصــل بذلــك ...وال خــاف بـي ــن أهــل العلــم فــي إباحــة النظــر إلــى وجههــا ألنــه ليــس بعــورة وهــو مجمــع املحاســن وموضــع النظــر)(.)32 ولــو أردنــا ْأن نقــف عنــد النصــوص وضــرب األمثلــة لطــال ب ــنا املقــام ولــذا نكتفــي بمــا تقــدم.
الخامتة
كاف للتعــرف علــى علــم أصــول الفقــه ودور إن مــا ســبق ٍ قواعــده فــي فهــم نصــوص القــرآن والســنة وضبــط أحكامهمــا، ً ســواء املتصــل منهــا بأصــول الدي ــن أم بفروعــه ...وانطالقــا مــن معرفتنــا بهــذه القيمــة الكب ــرى ألصــول الفقــه فــي ضبــط مسي ــرة االجتهــاد فإننــا ندعــو املؤسســات العلميــة والديـن ــية إلــى تفعيــل دور أصــول الفقــه وتدريســه وإنشــاء املراكــزوالكليــات الخاصــة بــه ،لعلــه يخفــف مــن حــدة موجــة الجهــل والغلــو الت ــي تجتــاح العالــم اإلســامي اليــوم. وقــد الحظنــا مــن خــال مــا جــاء بــه الخــوارج واملعتزلــة أن معظــم مــا وقعــوا فيــه ســببه تجاهــل قواعــد أصــول الفقــه وتفسي ــر ّ النصــوص بعيـ ًـدا عــن ضوابطــه ...ومــن املجــزوم بــه أن مناهــج أصــول الفقــه العامــة ُمفتقــدة عنــد معظــم غــاة العصــر مــن ً دواعش وغي ــرهم ،فضل عن معرفتهم بالخاص والعام واملطلق ُ وامل َّ قيــد والناســخ واملنســوخ ،وقــد كان لذلــك أث ـ ٌـركبـي ــرفــي تكفي ــر النــاس واســتباحة دمائهــم.
( )28معالم السنن ،الخطابـي،الناشر :املطبعة العلمية /حلب ،الطبعة :األولى 1351هـ 1932 -م.167 /1 . ( )29يقــول اب ــن الجــوزي عــن الحديــث الســابق »:هــذا الحديــث يــدل علــى تقديــم القــارئ علــى الفقيــه ،وهــو مذهــب أحمــد ب ــن حنبــل ،وإنمــا يقــدم إذا كان يعــرف أحــكام الصــاة ،فذلــك الــذي هــو أولــى مــن الفقيــه الــذي ال يحســن إال الفاتحة .وقال أبو حنـيفة ومالك والشافعي :الفقيه أولى « كشف املشكل من حديث الصحيحيـن ،207 /2 :وفي مذاهب الفقهاء في املسألة انظر :الهداية في شرح بداية املبتدي ،للمرغيـنانـي .57 /1 :مغنـي املحتاج إلى معرفة معانـي ألفاظ املنهاج ،للخطيب الشربـيـنـي ،.486 /1 :الروض املربع شرح زاد املستقنع ،129 /1 :بداية املجتهد ونهاية املقتصد.154 /1: ( )30بلوغ املرام من أدلة األحكام.379 /1: ( )31فتح الباري.171 /9: ( )32الشرح الكبـيـر البـن قدامة.342/7 :
44
العدد 2رجب 1439هـ
اخلاصة االحتياجات ُحقوق َذوي َّ ِ
القرآن الكريم مــن َمنظو ِر ِ الدكتور محمد محمود كالو
أستاذ مشارك يف كلية العلوم اإلسالمية بجامعة أديامان -تـركيا
مقدمة
الحمد هلل رب العاملـيـن ،وأفضل الصالة وأتم التسليم على نب ّـينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعيـن،وبعد: فعندما ّ نتتبع أحوال ذوي االحتـياجات الخاصة عبـرالتاريخ نجد أن الدولة الرومانـية التـي ُّ تمـيزت بالصبغة الحربـية حاولت التخلص من ذوي االحتـياجات الخاصة ،وكان القانون َ حرم بعض ذوي االحتـياجات الخاصة من الحقوق والواجبات التـي اإلنجليـزي القديم ي ِ لهم ،أما اليونان فكانت فلسفاتهم وقوانـيـنهم تسمح بالتخلص ممن بهم نقص جسمـي، وقــد أعلــن أفالطــون وأرســطوطاليــس موافقتهمــا علــى هــذا العمــل ،وكانــت الســال تبــاع ً ً علنا في أسواق إسبـرطة وأثيـنا ،ليوضع فيها الصغاراملشوهون خارج املديـنة إهالكا لهم، ً وفــي رومــا ظــل النــاس أجيــال عديــدة يغرقــون األطفال غي ــرمكتملي النمــو (.)1 وكان املجذومــون فــي أوربــا املسـ ّ ـيحية ُي َ عاملــون معاملــة قاســية فــي كثي ــر مــن األحيــان ويتعرضــون للمــوت بقــرارات مــن ملوكهــم بطريقــة وحشــية ،فقــد قــام امللــك فيليــب الخامــس ملــك فرنســا (1322-1316م) بجمعهــم وحرقهــم أحيــاء ،وأمــربتكــرارذلــك إن وجــدوا ،وكذلــك فعــل امللــك تشــارلز الخامــس(.)2 أمــا فــي العهــد اإلسالم ــي فقــد كان االهتمــام بــكل فئــات املجتمــع وخاصــة الضعفــاء وذوي َْ َ َ ـس َعلــى االحت ــياجات الخاصــة مــن أســس الدي ــن ،وممــا يؤكــد ذلــك قولــه تعالــى (( :ليـ ُّ َ َ َ َ َ َ ْ َ ْ َ َ َ َ َ َّ َ َ َ ُ َ َ ُ ُ َ َ َ ٌ َ َ َ ُ َّ نفقــون حــرج ِإذا نصحــوا ِلل ـ ِـه الضعفـ ِـاء ول علــى الر�ضــى ول علــى ال ِذي ــن ل ي ِجــدون مــا ي ِ َ ََ ُْ ال ْحسني ـ َـن مــن َســبيل َو ُ ََ ُ هللا َغ ُفـ ٌ ـور َّر ِحيـ ٌـم)) [ســورة التوبــة.]91: ـول ِه مــا علــى ورسـ ِ ِ ِ ِ ِ ٍ وب ـ َّـين النب ــي صلــى هللا عليــه وســلم أن هــؤالء الضعفــاء مــن أســباب الــرزق والنصــرَ ، فعـ ْـن َ َّ ُ َ ُ َْ ْ ُ َ ْ ْ َ ْ َ َّ ُ َ َ َ َ َّ َ َ ُ ُ َ ْ ُ ُ َ هللا َعل ْيـ ِـه هللا صلــى جبيـ ِـربـ ِـن نفيـ ٍـرالحض َر ِمـ ّ ِـي ،أنــه سـ ِـمع أبــا الــد ْرد ِاء ،يقــول :سـ ِـمعت َرســول ِ ُّ َ َ َ َ َّ َ ُ ْ َ ُ َ َ ُ ْ َ َ ُ َ ُ َ َ َّ َ َ ُ ُ ْ ُ ((ابغو ِنــي الضعفــاء ،ف ِإنمــا ترزقــون وتن وســلم يقــول: صـ ُـرون ِبض َعفا ِئكـ ْـم)) (.)3 ـاب ولقــد نــزل فــي حــق بعــض ذوي االحت ــياجات الخاصــة آيــات تتلــى إلــى يــوم القيامــة ،بــل مــع عتـ ٍ للنب ــي صلــى هللا عليــه وســلم ،وال َّ أدل علــى ذلــك مــن قصــة الصحاب ــي الجليــل عبــد هللا ب ــن أم َ َ َ َ َ َ َّ َ َ َ ُ ْ َ ْ َ َ َ ُ ْ َ َ َ َّ ُ َ َّ َّ مكتوم ر�ضي هللا عنه ،قال هللا تعالى(( :عبس وتولى* أن جاءه العمى* وما يد ِريك لعله يزكى * ( )1الرعاية الطبية والصحية ودور الخدمة االجتماعية ،إقبال محمد بشيـر وغيـره ،اإلسكندرية ،املكتب الجامعي الحديث ،د.ت( ،ص.)3-2 ( )2ذوو االحتياجات الخاصة باملغرب واألندلس ،د.نجالء سامي النبـراوي ،من منشورات األلوكة( ،ص .)23 ْ َ ُ ُ ْ َ ْ َ َّ َ ( )3سنن أبي داود ،كتاب الجهادَ ،ب ٌ الض َعف ِة ،رقم (.)2594 اب ِفي ِالن ِتص ِار ِبرذ ِل الخي ِل و ( )4ذكره الديلمي في الفردوس( ،ج ،4ص ،)164رقم ( )6510من حديث أنس ر�ضي هللا عنه.
َ ْ َ َّ َّ ُ َ َ َ َ ُ ّ اس َت ْغ َنى* َف َأ َ الذ ْك َرى* َأ َّما َمن ْ نت أو يذكر فتنفعه ِ ِ صـ َّـدى * َو َمــا َع َل ْيـ َـك َأ َّل َي َّز َّ ـكـى * َوَأ َّمــا َمــن َجـ َـاءكَ َلـ ُـه َت َ َ ْ َ َ ُ َ َ ْ َ ََ ََ �شــى * فأنـ َـت َع ْنـ ُـه تل َّهــى)) [ســورة يســعى * وهــو يخ ً عبــس ،]10-1:ولــو تفكرنــا قليــا فــي هــذه اآليــة الكريمــة ،لوجدنــا أن األعمــى لــم يكــن لــه ْأن ي ــرى ُع ُبــوس الرســول عليــه أفضــل الصــاة والســام؛ ومــع ذلــك الم هللا تعالــى نب ـ َّـيه علــى ذلــك التصــرف، ّ وهنــا نــرى علــة املعاتبــة؛ لكونــه صلــى هللا عليــه وســلم انشــغل بدعــوة الوجهــاء عــن قضــاء حاجــة ُ هــذا الكفيــف ،وكان األولــى أن تق�ضــى حاجتــه، َُ وتق َّد َم على حاجات من سواه من الناس ،ألنه من ذوي االحتـياجات الخاصةَ ،وو َر َد أن الرسول عليه أفضل الصالة والسالم كان بعد نزول تلك اآليات يستبشر حي ــن يقابل «اب ــن أم مكتوم» ويقول له: َ ((مر َح ًبا بك َيا بـن َم ْك ُتوم ْ ْ مر َح ًبا ِب َر ُجل َعات َب ِني ِف ِيه َ ِّربــي عــز َوجــل))( ،)4وكان إذا غــاب عــن املدي ــنة -بعــد ّ يوليــه عليهــا إكر ًامــا لــه حتــى يعــود. الهجــرةِ - وفي التاريخ اإلسالمـي نجد النماذج املثلى في العناية والرعايــة لــذوي االحت ــياجات الخاصــة ،فالخليفــة عمــر ب ــن الخطــاب ر�ضــي هللا عنــه رعــى األمــة كلهــا ومنهــم هــذه الش ـريحة مــن ذوي االحت ــياجات ُ الخاصــة ،جــاء فــي تاريــخ دمشــق( :قتــل الطفيــل ب ــن عمــرو باليمامــة شـ ً ـهيدا ،وجــرح اب ــنه عمــرو ب ــن
45
أثـر مناهج األصولييـن ْ ْ َ َ ْ َ َ َ ُّ َ َ ْ ْ ُ َْ ُ َ َ ْ َ الســن ِن . ـات و ُركـ ٍـن و ِاحـ ٍـد ،وال ِفقــه ُيحتــاج ِإل ْيـ ِـه ِلج ِميـ ِـع األرك ِان والو ِاجبـ ِ الثان ــي :أن النب ــي صلــى هللا عليــه وســلم فــي مرضــه طلــب مــن أب ــي بكــر أن يـ َّ ـؤم النــاس وفــي القــوم مــن هــو أق ـرأ منــه ،لكــن أبــا بكــر كان أعلــم النــاس ،وقــد قــال هــذا أبــو ســعيد الخــدري فــي الحديــث املتفــق عليــه. لكن قد يقال هنا ،كيف أجاب جمهور الفقهاء عن حديث يؤم القوم ّ أقرؤهــم لكتــاب هللا؟ الجــواب عــن ذلــك نجــده عنــد الخطاب ـ ّ ِـي وغي ــره، يقــول الخطاب ــي( :وإنمــا قـ ِّـدم القــارئ فــي الذكــر ألن عامــة الصحابــة إذا اعتب ــرت أحوالهــم وجــدت أق َرأهــم َ أفقههــم ،وقــال أبــو مســعود :كان أحدنــا إذا حفــظ ســورة مــن الق ـرآن لــم يخــرج عنهــا إلــى غي ــرها حتــى يحكم علمها أو يعرف حاللها وحرامها أو كما قال ،فأما غيـرهم ممن َ تأخــر بهــم الزمــان فــإن أكث ــرهم يقــرؤون القـرآن وال يفقهــون ،ف ُق َّراؤهــم ً كثي ــر والفقهــاء منهــم قليــل)(ّ ،)28 وكأنهــم جعلــوا الحديــث مرتبطــا بعلــة ُمحـ َّـددة وهــي َّأن القــارئ كان ً فقهيــا ،ومــا وجــد فــي العصــور املتأخــرة على خالف ما كان األمر عليه في صدر اإلسالم إذ تجد في زمننا من يحفظ القـرآن بالقـراءات املتوات ــرة مــن خــال املعاهــد والجامعــات املختصــة بالق ـراءات بعيـ ًـدا عــن األحــكام الفقهيــة ،ومــن هنــا نــدرك أهميــة مــا ذكــره جمهــور الفقهــاء مــن املالكيــة والشــافعية والحنفيــة مــن تقديــم الفقــه علــى القـراءة(.)29 املثال الثالث: َ َ َ َ ُ ُ َ َّ لل صلــى هللا عليــه وســلم َعـ ْـن َج ِابـ ٍـر ر�ضــي هللا عنــه قــال :قـ ـال َرســو َل ا ِ َ َ َ َ َ َ ُ ُ ُ َْ َْ َ َ ْ ْ َ َ َ ْ َ ْ ُ َ َْ َ َ ْ ُ ُ َ ـوه ِإلــى ((إذا خطــب أحدكــم الــرأة فـ ِـإن ِاســتطاع أن ينظــر ِمنهــا مــا يدعـ ِ ص َّح َحــهُ ن َكاح َهــا َ ,ف ْل َي ْف َعـ ْـل)) َر َو ُاه َأ ْح َمـ ُـد َوَأ ُبــو َد ُاو َد َور َج ُالـ ُـه ث َقـ ٌ ـات َو َ ِ ِ ِ ِ َ ْ َ ُ َ َ ُ َ ٌ ْ َ َ ّ ْ ّ َ َّ َ ّ َ ْ ُ َ ()30 الح ِاكم وله ش ِاهد ِعند ا ِلتر ِم ِذ ِي والنسا ِئ ِي ع ِن ال ِغيـر ِة .وذكره ابـن حجــر فــي الفتــح وقــال :ســنده حســن(.) 31 ظاهــر الحديــث ُم ْشــكل حيــث إنــه يجيــز َّ النظــر إلــى أماكــن أخــرى مــن الجســم كالصــدر والظهــر. ألن هــذه املواضــع قــد تكــون مدعــاة إلــى الــزواج ،ولكــن ظاهــره ليــس مـر ًادا بــل هــو ُم ّ قيــد بالوجــه واليدي ــن ،يقــول اب ــن قدامــة( :ويجــوز ملــن أراد خطبــة ام ـرأة النظــر إلــى وجههــا مــن غي ــر خلــوة بهــا
حقوق ذوي االحتياجات الخاصة
العدد 2رجب 1439هـ
ملــا روى جاب ــر قــال :قــال رســول هللا صلــى هللا عليــه وســلم(( :إذا خطــب أحدكــم املـرأة فــان اســتطاع أن ي ــنظر إلــى مــا يدعــوه إلــى نكاحهــا فليفعــل)) ...وال بــأس بالنظــر إليهــا بإذنهــا وغي ــر إذنهــا ألن ّ النب ـ ّـي صلــى هللا عليه وســلم أمر بالنظر وأطلق ...وال ي ــنظر إليها نظر تلذذ وشــهوة وال لريبــة ،قــال أحمــد فــي روايــة صالــح( :ي ــنظر إلــى الوجــه وال تكــون علــى طريــق لــذة ولــه تك ـرار النظــر إليهــا وتأمــل محاســنها ألن املقصــود إنمــا يحصــل بذلــك ...وال خــاف بـي ــن أهــل العلــم فــي إباحــة النظــر إلــى وجههــا ألنــه ليــس بعــورة وهــو مجمــع املحاســن وموضــع النظــر)(.)32 ولــو أردنــا ْأن نقــف عنــد النصــوص وضــرب األمثلــة لطــال ب ــنا املقــام ولــذا نكتفــي بمــا تقــدم.
الخامتة
كاف للتعــرف علــى علــم أصــول الفقــه ودور إن مــا ســبق ٍ قواعــده فــي فهــم نصــوص القــرآن والســنة وضبــط أحكامهمــا، ً ســواء املتصــل منهــا بأصــول الدي ــن أم بفروعــه ...وانطالقــا مــن معرفتنــا بهــذه القيمــة الكب ــرى ألصــول الفقــه فــي ضبــط مسي ــرة االجتهــاد فإننــا ندعــو املؤسســات العلميــة والديـن ــية إلــى تفعيــل دور أصــول الفقــه وتدريســه وإنشــاء املراكــزوالكليــات الخاصــة بــه ،لعلــه يخفــف مــن حــدة موجــة الجهــل والغلــو الت ــي تجتــاح العالــم اإلســامي اليــوم. وقــد الحظنــا مــن خــال مــا جــاء بــه الخــوارج واملعتزلــة أن معظــم مــا وقعــوا فيــه ســببه تجاهــل قواعــد أصــول الفقــه وتفسي ــر ّ النصــوص بعيـ ًـدا عــن ضوابطــه ...ومــن املجــزوم بــه أن مناهــج أصــول الفقــه العامــة ُمفتقــدة عنــد معظــم غــاة العصــر مــن ً دواعش وغي ــرهم ،فضل عن معرفتهم بالخاص والعام واملطلق ُ وامل َّ قيــد والناســخ واملنســوخ ،وقــد كان لذلــك أث ـ ٌـركبـي ــرفــي تكفي ــر النــاس واســتباحة دمائهــم.
( )28معالم السنن ،الخطابـي،الناشر :املطبعة العلمية /حلب ،الطبعة :األولى 1351هـ 1932 -م.167 /1 . ( )29يقــول اب ــن الجــوزي عــن الحديــث الســابق »:هــذا الحديــث يــدل علــى تقديــم القــارئ علــى الفقيــه ،وهــو مذهــب أحمــد ب ــن حنبــل ،وإنمــا يقــدم إذا كان يعــرف أحــكام الصــاة ،فذلــك الــذي هــو أولــى مــن الفقيــه الــذي ال يحســن إال الفاتحة .وقال أبو حنـيفة ومالك والشافعي :الفقيه أولى « كشف املشكل من حديث الصحيحيـن ،207 /2 :وفي مذاهب الفقهاء في املسألة انظر :الهداية في شرح بداية املبتدي ،للمرغيـنانـي .57 /1 :مغنـي املحتاج إلى معرفة معانـي ألفاظ املنهاج ،للخطيب الشربـيـنـي ،.486 /1 :الروض املربع شرح زاد املستقنع ،129 /1 :بداية املجتهد ونهاية املقتصد.154 /1: ( )30بلوغ املرام من أدلة األحكام.379 /1: ( )31فتح الباري.171 /9: ( )32الشرح الكبـيـر البـن قدامة.342/7 :
44
العدد 2رجب 1439هـ
اخلاصة االحتياجات ُحقوق َذوي َّ ِ
القرآن الكريم مــن َمنظو ِر ِ الدكتور محمد محمود كالو
أستاذ مشارك يف كلية العلوم اإلسالمية بجامعة أديامان -تـركيا
مقدمة
الحمد هلل رب العاملـيـن ،وأفضل الصالة وأتم التسليم على نب ّـينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعيـن،وبعد: فعندما ّ نتتبع أحوال ذوي االحتـياجات الخاصة عبـرالتاريخ نجد أن الدولة الرومانـية التـي ُّ تمـيزت بالصبغة الحربـية حاولت التخلص من ذوي االحتـياجات الخاصة ،وكان القانون َ حرم بعض ذوي االحتـياجات الخاصة من الحقوق والواجبات التـي اإلنجليـزي القديم ي ِ لهم ،أما اليونان فكانت فلسفاتهم وقوانـيـنهم تسمح بالتخلص ممن بهم نقص جسمـي، وقــد أعلــن أفالطــون وأرســطوطاليــس موافقتهمــا علــى هــذا العمــل ،وكانــت الســال تبــاع ً ً علنا في أسواق إسبـرطة وأثيـنا ،ليوضع فيها الصغاراملشوهون خارج املديـنة إهالكا لهم، ً وفــي رومــا ظــل النــاس أجيــال عديــدة يغرقــون األطفال غي ــرمكتملي النمــو (.)1 وكان املجذومــون فــي أوربــا املسـ ّ ـيحية ُي َ عاملــون معاملــة قاســية فــي كثي ــر مــن األحيــان ويتعرضــون للمــوت بقــرارات مــن ملوكهــم بطريقــة وحشــية ،فقــد قــام امللــك فيليــب الخامــس ملــك فرنســا (1322-1316م) بجمعهــم وحرقهــم أحيــاء ،وأمــربتكــرارذلــك إن وجــدوا ،وكذلــك فعــل امللــك تشــارلز الخامــس(.)2 أمــا فــي العهــد اإلسالم ــي فقــد كان االهتمــام بــكل فئــات املجتمــع وخاصــة الضعفــاء وذوي َْ َ َ ـس َعلــى االحت ــياجات الخاصــة مــن أســس الدي ــن ،وممــا يؤكــد ذلــك قولــه تعالــى (( :ليـ ُّ َ َ َ َ َ َ ْ َ ْ َ َ َ َ َ َّ َ َ َ ُ َ َ ُ ُ َ َ َ ٌ َ َ َ ُ َّ نفقــون حــرج ِإذا نصحــوا ِلل ـ ِـه الضعفـ ِـاء ول علــى الر�ضــى ول علــى ال ِذي ــن ل ي ِجــدون مــا ي ِ َ ََ ُْ ال ْحسني ـ َـن مــن َســبيل َو ُ ََ ُ هللا َغ ُفـ ٌ ـور َّر ِحيـ ٌـم)) [ســورة التوبــة.]91: ـول ِه مــا علــى ورسـ ِ ِ ِ ِ ِ ٍ وب ـ َّـين النب ــي صلــى هللا عليــه وســلم أن هــؤالء الضعفــاء مــن أســباب الــرزق والنصــرَ ، فعـ ْـن َ َّ ُ َ ُ َْ ْ ُ َ ْ ْ َ ْ َ َّ ُ َ َ َ َ َّ َ َ ُ ُ َ ْ ُ ُ َ هللا َعل ْيـ ِـه هللا صلــى جبيـ ِـربـ ِـن نفيـ ٍـرالحض َر ِمـ ّ ِـي ،أنــه سـ ِـمع أبــا الــد ْرد ِاء ،يقــول :سـ ِـمعت َرســول ِ ُّ َ َ َ َ َّ َ ُ ْ َ ُ َ َ ُ ْ َ َ ُ َ ُ َ َ َّ َ َ ُ ُ ْ ُ ((ابغو ِنــي الضعفــاء ،ف ِإنمــا ترزقــون وتن وســلم يقــول: صـ ُـرون ِبض َعفا ِئكـ ْـم)) (.)3 ـاب ولقــد نــزل فــي حــق بعــض ذوي االحت ــياجات الخاصــة آيــات تتلــى إلــى يــوم القيامــة ،بــل مــع عتـ ٍ للنب ــي صلــى هللا عليــه وســلم ،وال َّ أدل علــى ذلــك مــن قصــة الصحاب ــي الجليــل عبــد هللا ب ــن أم َ َ َ َ َ َ َّ َ َ َ ُ ْ َ ْ َ َ َ ُ ْ َ َ َ َّ ُ َ َّ َّ مكتوم ر�ضي هللا عنه ،قال هللا تعالى(( :عبس وتولى* أن جاءه العمى* وما يد ِريك لعله يزكى * ( )1الرعاية الطبية والصحية ودور الخدمة االجتماعية ،إقبال محمد بشيـر وغيـره ،اإلسكندرية ،املكتب الجامعي الحديث ،د.ت( ،ص.)3-2 ( )2ذوو االحتياجات الخاصة باملغرب واألندلس ،د.نجالء سامي النبـراوي ،من منشورات األلوكة( ،ص .)23 ْ َ ُ ُ ْ َ ْ َ َّ َ ( )3سنن أبي داود ،كتاب الجهادَ ،ب ٌ الض َعف ِة ،رقم (.)2594 اب ِفي ِالن ِتص ِار ِبرذ ِل الخي ِل و ( )4ذكره الديلمي في الفردوس( ،ج ،4ص ،)164رقم ( )6510من حديث أنس ر�ضي هللا عنه.
َ ْ َ َّ َّ ُ َ َ َ َ ُ ّ اس َت ْغ َنى* َف َأ َ الذ ْك َرى* َأ َّما َمن ْ نت أو يذكر فتنفعه ِ ِ صـ َّـدى * َو َمــا َع َل ْيـ َـك َأ َّل َي َّز َّ ـكـى * َوَأ َّمــا َمــن َجـ َـاءكَ َلـ ُـه َت َ َ ْ َ َ ُ َ َ ْ َ ََ ََ �شــى * فأنـ َـت َع ْنـ ُـه تل َّهــى)) [ســورة يســعى * وهــو يخ ً عبــس ،]10-1:ولــو تفكرنــا قليــا فــي هــذه اآليــة الكريمــة ،لوجدنــا أن األعمــى لــم يكــن لــه ْأن ي ــرى ُع ُبــوس الرســول عليــه أفضــل الصــاة والســام؛ ومــع ذلــك الم هللا تعالــى نب ـ َّـيه علــى ذلــك التصــرف، ّ وهنــا نــرى علــة املعاتبــة؛ لكونــه صلــى هللا عليــه وســلم انشــغل بدعــوة الوجهــاء عــن قضــاء حاجــة ُ هــذا الكفيــف ،وكان األولــى أن تق�ضــى حاجتــه، َُ وتق َّد َم على حاجات من سواه من الناس ،ألنه من ذوي االحتـياجات الخاصةَ ،وو َر َد أن الرسول عليه أفضل الصالة والسالم كان بعد نزول تلك اآليات يستبشر حي ــن يقابل «اب ــن أم مكتوم» ويقول له: َ ((مر َح ًبا بك َيا بـن َم ْك ُتوم ْ ْ مر َح ًبا ِب َر ُجل َعات َب ِني ِف ِيه َ ِّربــي عــز َوجــل))( ،)4وكان إذا غــاب عــن املدي ــنة -بعــد ّ يوليــه عليهــا إكر ًامــا لــه حتــى يعــود. الهجــرةِ - وفي التاريخ اإلسالمـي نجد النماذج املثلى في العناية والرعايــة لــذوي االحت ــياجات الخاصــة ،فالخليفــة عمــر ب ــن الخطــاب ر�ضــي هللا عنــه رعــى األمــة كلهــا ومنهــم هــذه الش ـريحة مــن ذوي االحت ــياجات ُ الخاصــة ،جــاء فــي تاريــخ دمشــق( :قتــل الطفيــل ب ــن عمــرو باليمامــة شـ ً ـهيدا ،وجــرح اب ــنه عمــرو ب ــن
45
حقوق ذوي االحتياجات الخاصة الطفيــل وقطعــت يــده ،ثــم اســتبل وصحــت يده ،فبـيـنا هو عند عمر بـن الخطاب إذ أتـي بطعام فتنحى عنه ،فقال عمر :ما لك لعلك تنحيــت ملــكان يــدك؟ قــال :أجــل ،قــال :وهللا ال أذوقــه حتــى تســوطه ب ــيدك ،فــو هللا مــا فــي القــوم أحــد بعضــه فــي الجنــة غي ــرك)(.)5 أمــا عمــر ب ــن عبــد العزيــز فقــد حــث علــى إحصــاء عــدد ذوي االحت ــياجات الخاصــة فــي الدولــة اإلسالم ــية( ،وكتــب إلــى أمصــار الشــام أن ارفعــوا إلـ ّـي كل أعمــى فــي الديــوان أو مقعــد أو مــن بــه الفالــج أو مــن بــه زمانــة تحــول بـي ــنه وبـي ــن القيــام إلــى الصــاة فرفعــوا إليــه ،فأمــر لــكل أعمــى بقائــد ،وأمــر لــكل اثنـي ــن مــن الزمنــى بخــادم)( ،)6ووضــع اإلمــام أبــو حن ــيفة تش ـر ًيعا يق�ضــي بــأن ب ــيت مــال املسلمـي ــن مســؤول عــن النفقــة علــى ذوي االحت ــياجات الخاصــة ،أمــا الخليفــة الوليــد ب ــن عبــد امللــك فقــد ب ــنى أول مستشــفى للمجذومـي ــن عــام 88ه ـ وأعطــى كل َّ َ مقعـ ٍـد ً خادمــا َّ وكل أعمــى قائـ ًـدا ،و ولــى الوليـ ُـد إسـ َ ـحاق ب ــن قب ــيصة الخزاعــي «ديــوان الزمنــى َّ ّ َ أهلـ ِـه بدمشــق» وقــال( :ألدعــن الز ِمــن أحـ َّـب إلــى ِ مـ َـن َّ الص ِحيـ ِـح)(.)7 ِ وأنشــأ املأمــون مــآو َي للعم ــيان والنســاء العاجزات في بغداد واملدن الكبـيـرة ،وقام أبو جعفر املنصور ببـناء مستشفى للمكفوفيـن ومأوىللمجذومـيـنوملجأللعجائزفيبغداد، كما قام السلطان قالوون بب ــناء ب ــيمارستان لرعايــة ذوي االحت ــياجات الخاصــة... واألوقاف مفخرة املسلمـيـن؛ كان من منافعها مؤسســات إلمــداد العم ــيان واملقعدي ــن بمــن يقودهــم ويخدمهــم ،بــل وكتــب كثي ــر مــن علمــاء املسلمـي ــن عــن ذوي االحت ــياجات
الخاصــة؛ ممــا يــدل علــى اهتمامهــم بهــم كالـرازي (املتوفى311هــ) الــذي صنــف كتابــه: (درجــات فقــدان الســمع) ،وشــرح اب ــن سي ــنا (املتوفى427هــ) (أســباب حــدوث الصمــم)، واب ــن وافــد اللخم ــي (املتوفى466هــ) صاحــب كتاب( :تدقيق النظر في علل حاسة البصر) وكتــاب( :نزهــة األفــكار فــي عــاج األبصــار). وتختلــف هــذه االحت ــياجات الخاصــة مــن شــخص آلخــر ،وقــد كان كثي ــر مــن علمــاء املسلمـي ــن مــن ذوي االحت ــياجات الخاصــة، منهــم علــى سب ــيل املثــال :أبــان ب ــن عثمــان، فقــد كان لديــه ضعــف فــي الســمع ومــع ذلــك كان عالـ ًــا ً فقيهــا ،وكان محمــد ب ــن سيـري ــن ذا صعوبة شديدة في سمعه؛ ومع ذلك كان ر ً اويا للحديث ّ ومعب ًرا للرؤيا ،والزاهد القدوة حاتم ِ األصــم البلخــي الواعــظ الناطــق بالحكمــة، ومجــد الدي ــن أبــو الســعادات املبــارك ب ــن محمــد املشــهور باب ــن األثي ــر كان ُم َ قعـ ًـدا ال يستطيع القيام ،ومن أعالم العصر الحديث مصطفــى صــادق الرافعــي الــذي فقــد ســمعه لكــن ُســمعته وشــهرته طبقــت اآلفــاق. ودراست ــي هــذه تت ــركز حــول حقــوق ذوي االحتـياجات الخاصة في منظور القرآن الكريم، فهي ذات أهمـية كبـرى للتعامل األمثل مع هذه الفئــة مــن النــاس ،مــن خــال دراســتها دراســة موضوعيــة متأن ــية ومعمقــة ،وقــد قســمت الدراســة بعــد هــذه املقدمــة إلــى ثالثــة مباحــث وخاتمــة شــاملة ألهــم النتائــج والتوصيــات.
املبحث األول:
مفهوم ذوي االحتـياجات الخاصة ً فــي جم ــيع املجتمعــات ً قديمــا وحديثــا تظهــر
حقوق ذوي االحتياجات الخاصة
العدد 2رجب 1439هـ
ش ـريحة مــن البشــر املصابـي ــن ب ــنقص أو ضعــف ســواء فــي أجســادهم أو فــي عقولهــم، وهذا االبتالء من هللا تعالى امتحان لغيـرهم، فــا بـ َّـد للمجتمــع أن ي ــرعاهم ويعــرف قدرهــم. ً أول :ذوو االحتـياجات الخاصة لغة: ذو :بمعنــى صاحــب ،وذوو أي أصحــاب ،جــاء فــي املعجــم الوســيط(ُ « :ذو)كلمــة َيت َو َّ صــل َبهــا َ َ إ َلــى ْال َو ْ صــف باألجنــاس ُمل َزمــة لإلضافــة ِإلــى ِ َُ َ َّ َ َ َ َ ْ ْ َ ِالســم الظ ِاهر ومعناها صاحب ،يقال فلن ُ ُ ذو َمــال َوذو فضــل»(.)8 االحتـياجات :جمع احتـياج ،قال في مقاييس ْ ْ ْ اللغــةَ « : [حـ َـو َج] ال َحـ ُـاء َوالـ َـو ُاو َوال ِجيـ ُـم صـ ٌـل َواحـ ٌـدَ ،و ُهـ َـو ال ْ َأ ْ ضطـ َـر ُار إ َلــى َّ ال�شـ ْـي ِء، ِ ِ ِ ِ َ ْ َ َ ُ َ َُ ْ َ َ ـاتَ .و ْال َح ْو َجــاءُ: فالحاجــة و ِاحــدة الحاجـ ِ ْال َح َ اح َتـ َ الر ُجـ ُـلْ : اجـ ُـةَ .و ُي َقـ ُ ـال َأ ْحـ َـو َج َّ ـاج. اح َتـ َ ـوج ،ب َم ْع َنــى ْ َُ َ ُ َْ ً َ َ َ ُ ُ ـاج. ويقــال أيضــا :حـَـاج َيحـ ِ َ ُ َ َ َ ْ ـال[ :غ ِنيـ ُـت فلـ ْـم أ ْر ُد ْدكـ ُـم ِع ْنـ َـد ُبغ َيـ ٍـة ... قـ َ ُ ْ ُ ََ ْ َْ ُ ْ ُ ُ َْ َ ()9 وحجــت فلــم أكددكــم ِبالص ِابـ ِـع]» .
الخاصــة :ضــد العامــة ،قــال فــي املعجــم ْ ْ َّ [ال َخ َّ اصــة] خــاف ال َع َّامــة َوالـ ِـذي الوســيط« : َّ ْ َ ْ َ تخصــه َلنفســك وخاصــة ال�شــيء مــا يختــص َ ِبـ ِـه دون غي ــره»(.)10 وب ــناء علــى مــا ســبق يظهــر لنــا أن ذوي االحت ــياجات الخاصــة هــم شـريحة مــن النــاس يفتقــرون إلــى بعــض األشــياء فيطلبونهــا ،أو ُ َْ ّ ليحققــوا احت ــياجاتهم ومطالبهــم. تطلــب لهــم ِ وأطلــق علــى ذوي االحت ــياجات الخاصــة فيمــا م�ضــى اســم ْ (املق َعدي ــن) ،كمــا كانــت كلمــة (املعاقيـن) من أشهر ما عرفوا به ،وفي اللغة: ُ « [املعــاق] مفــرد اســم مفعــول مــن أعــاقَ ،مـ ْـن َّ ّ جسدية أو َّ عقلية عن النشاط تمنعه عاهة اإلنسان ـ ّـي املعتــاد»(.)11
( )5تاريخ دمشق ،البـن عساكر تحقيق :عمرو بـن غرامة العمروي ،دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع1995 ،م (ج ،25ص.)13 ( )6املصدر السابق( :ج ،45ص )7( - .)218املصدر نفسه( :ج ،8ص.)270 ( )8املعجم الوسيط ،مجمع اللغة العربية بالقاهرة ،دار الدعوة ،د.ت( :ج -1ص.)317 ( )9معجم مقاييس اللغة ،أحمد بـن فارس ،تحقيق :عبد السالم هارون ،دار الفكر 1979م (ج -2ص.)114 ( )11معجم اللغة العربية املعاصرة ،د أحمد مختار عبد الحميد عمر (املتوفى1424 :هـ) ،دار الكتب ،الطبعة األولى 2008 ،م( :ج -2ص.)1577( )10املعجم الوسيط( :ج ،1ص .)238
46
ً اصطالحا: ثان ًـيا :ذوو االحتـياجات الخاصة باعتبــار أن جم ــيع املصطلحــات املاضيــة تعن ــي (ذوي االحت ــياجات الخاصــة) وأكث ــر املصــادر واملراجــع يذكرونهــم باملعاقي ــن؛ فســندرس ً اصطالحــاً ، علمــا أن هنــاك تعريــف املعاقي ــن عالقــة وثيقــة بـي ــن املعنــى اللغــوي واملعنــى االصطالحي ملفهوم ذوي االحتـياجات الخاصة. اإلعاقــة هــي« :عيــب ي ــرجع إلــى العجــز الــذي يمنــع الفــرد أو يحــد مــن قدرتــه علــى أداء دور طب ــيعي بالنســبة للســن والجنــس والعوامــل االجتماعيــة والثقافيــة»(.)12 ويشــار بأنها «كل قصور جسم ــي أو نف�ســي أو عقلــي أو خلقــي يمثــل عقبــة فــي سب ــيل قيــام ً قاصرا عن الفرد بواجبه في املجتمع ويجعله األف ـراد األســوياء الذي ــن يتمتعــون بســامة األعضــاء وصحــة وظائفهــا»(.)13 وبالجملــة فــذوو االحت ــياجات الخاصــة َ (اإلعاقــة) :هــم مــن لديهــم قصــور أو خلــل َ فــي ُ القــدرات الجسم ـ َّـية أو الذهن ـ َّـية ،ت ْر ِجـ ُـع ـيئية ُتعيـ ُـق الفـ َ وراثيـ ٍـة أو ب ـ َّ إلــى عوامـ َـل َّ ـرد عــن ُّ تعلــم األنشــطة الت ــي يقــوم بهــا الفــرد الســليم املشـ ِـابه فــي السـ ِ ّـن. ً ثالثا :مصطلحات إسالمـية لها عالقة بذوي االحتـياجاتالخاصة: لقــد ســمى الق ـرآن الكريــم ذوي االحت ــياجات الخاصــة بـ(املصابـي ــن) فقــال هللا تعالــى: �شـ ْـي ٍء ّمـ َـن ْال َخـ ْـوف َو ْال ُ َ ((وَل َن ْب ُل َو َّن ُكــم ب َ ـوع ـ ج ِ ِ ِ ّ ِ َ َ ْ ّ َ ْ َ ْ َ َ ْ َ ُ َ َّ ات َو َب ِش ِر ونقص ِمن المو ِال والنف س والث َم َر ِ َّ ٍ َ َّ َ َ َ َ َ ِ ْ ُ ُّ َ ٌ َ ُ الص ِاب ِري ــن .ال ِذي ــن ِإذا أصابتهم م ِصيبة قالوا َ َّ َ ِإ َّنــا ِلل ـ ِـه َوِإ َّنــا ِإل ْيـ ِـه َر ِاج ُعــون)) [ســورة البقــرة:
]156-155وكل �شيء يؤذي املؤمن ويصيبه فهو مصيبة ،وقد تضمنت اآلية ثناء هللا تعالى علــى ذوي االحت ــياجات الخاصــة (املصابـي ــن) َّ وامتدحهم بصفة الصبـر إن سلموا أمرهم هلل تعالــى ،ألن الصب ــر ت ــرك الشــكوى. كمــا ســماهم (أولــي الضــرر) فقــال هللا تعالــى: َ َ َْ ُْْ َ َ ْ َ اعـ ُـدون ِمـ َـن الؤ ِم ِني ـ َـن غ ْيـ ُـر ُ((ل يســت ِوي الق ِ َّ َ ْ ُ َ ُ َ َ هللا أ َ ِولــي الضـ َ َـر ِر والج ِاهــدون ِفــي سـ ِـب ِيل ِ ِبأ ْم َو ِال ِهـ ْـم َوأ ُنف ِسـ ِـه ْم[ ))...ســورة النســاء،]95: ُ َ َ ْ َ اعـ ُـدون مــن املؤمنـي ــن واملعنــى :ال يســت ِوي الق ِ ُ وامل َجاهـ ُـدون ،إال أولــو َّ الضـ َـرر أي :غي ــر ذوي ِ الضرر الذيـن فيهم َ ضرر يمنعهم من الجهاد كاملر�ضــى وذوي األعــذار؛ َّ فإنهــم يســاوون ُ امل َج ِاه ِدي ــن. ُ ْ ال ْ َربــة) قــال هللا تعالــى: ومنهــا صفــة (أ ِولــي ِ َ ْ ُ ْ ْ َ َ ّ َ َ ّ َّ الرب ِة ِمن الط ْف ِل ال ِذي َـن الرج ِال أ ِو ِ (( ...غي ِر أ ِولي ِ َ ْ َ َْ ُ ََ َ َْ ِ ّ َ ات ال ِنسـ ِـاء[ ))...ســورة لــم يظهــروا علــى عــور ِ النــور(َ ،]31 :و ْ َال ْأ َ َبـ ُـة َو ْالَ ْأ ُ َبـ ُـة َو ْال ْ َبـ ُـةُ ،ك ُّل َذلــكَ ر ِر ر ِ ْ َ َ ُ الح اجــة)( )14أي :غي ــر القادري ــن علــى املباشــرة الجنســية ممــن ال حاجــة لهــم إلــى النســاء. ُ ْ (صـ ٌّـم ُبكـ ٌـم ُع ْمـ ٌـي) فــي قولــه أمــا الوصــم ب ـ َ َ َ ُ َّ َ َ َ ُ َ َ َ َّ تعالــى(( :ومثــل ال ِذي ــن كفــروا كمثـ ِـل الـ ِـذي َي ْنعـ ُـق ب َمــا َل َي ْسـ َـم ُع إ َّل ُد َعـ ًـاء َونـ َـد ًاء ُ صـ ٌّـم ِ ِ ِ ِ ُ ْ ٌ ُ ْ ٌ َ ُ ْ َ َ ْ ُ نَ بكــم عمــي فهــم ل يع ِقلــو )) [ســورة
البقــرة ]171:ففــي حــق الكافري ــن ،ولــم ْ يكونــوا ُ ص ًّمــا وال ُبك ًمــا وال ُع ْم ًيــا إال عــن الحــق والهــدى ،كمــا قــال الشــاعر أحمــد أبــو الوفــا(:)15 ْ َ َ َوما َفا ِق ُد َّ ص ِار ن ْح َس ُب ُه الس ْم ِع واإلب َ ْ ْ َْ ْ َ اف بـيـن ال ُـمعا ِقيـن أو ِمن فق ِد أط َر ِ
( )12اإلعاقات العقلية واالضطرابات االرتقائية ،لويس كامل مليكه ،مطبعة فيكتوركيـرس ،القاهرة( :1998 ،ص .)18 ( )13تنمية األطفال املعاقيـن ،عبداملجيد عبدالرحيم ،القاهرة ،دار غريب للطباعة والنشر والتوزيع1997م( :ص .)9 ( )14معجم مقاييس اللغة ،أحمد بـن فارس( :ج ،1ص.)89 ( )15هو شاعر فلسطيـني معاصرُ ّ ، تقاعد ،من بلدة السيلة الحارثية ،قضاء جنيـن. مدرس م ِ ِ ( )16رواه البخاري ،كتاب الجهاد والسيـر ،باب من حبسه العذر عن الغزو ،رقم (.)2839 ( )17تفسيـر القرآن العظيم ،البـن كثيـر( ،ص ج.)396 - 7
العدد 2رجب 1439هـ
ُ َّ َ َ اق الذي َ ض َ اع ْت َب ِصي َـرت ُه إن ال ُـمع ِ َ اإلر َادةُ ، َ َ وهللا ُه ـ َـو الك ـ ِـافي م ــع َ ِ وأطلــق النب ــي صلــى هللا عليــه وســلم عليهــم مصطلح (أصحاب األعذار) َ فع ْن َأ َن َ �ض َي سر ِ ٍ ُ َ ْ ُ َ َّ َّ َّ َ َّ ُ َ َّ َ هللا َعل ْيـ ِـه َو َســل َم ك َان هللا عنــه :أن الن ِبــي صلــى َ َ َ َ َ َّ َ ْ َ ً ْ َ َ َ ْ َ َ ((إن أقوامــا ِبال ِدي ــن ِة خلفنــا، ِفــي غــز ٍاة ،فقــال: َ َ َ ْ َ ْ ً َ ِ َ َ ً َّ َ ُ َ َ َ ْ مــا ســلكنا ِشــعبا وال و ِاديــا ِإل وهــم معنــا ِفيـ ِـه، ََ َ ُ ُ ُ ْ حبســهم العــذ ُر))(.)16
املبحث الثانـي:
حقوق ذوي االحتـياجات الخاصة جعــل هللا تعالــى التقــوى منــاط التفضيــل بـي ــن بـن ــي البشــر ،فقــال ســبحانه وتعالــى: ََ ََ ُ (( َيــا َأ ُّي َهــا َّ النـ ُ ـاس ِإ َّنــا خل ْق َناكــم ِّمــن ذكـ ٍـر َ ُ ُ َ ْ ُ ُ َوأنثــى َو َج َعل َناكـ ْـم شـ ُـع ًوبا َوق َبا ِئـ َـل ِل َت َع َارفــوا إ َّن َأ ْك َر َم ُكـ ْـم عنـ َـد هللا َأ ْت َق ُاكـ ْـم إ َّن َ هللا َع ِليـ ٌـم ِ ِ ِ ِ َ ٌ خ ِبي ــر)) [ســورة الحج ـرات ]13 :وذوو االحت ــياجات الخاصــة كغي ــرهم لهــم حقــوق وعليهــم واجبــات ،إال مــا اســتثناهم هللا ً تخفيفــا عليهــم، تعالــى منــه كالجهــاد والحــج فمــن حقوقهــم: -1حــق العقيــدة الصحيحــة :وهــو مــن أعظــم الحقــوق الت ــي يجــب علــى املســلم معرفتهــا واعتقادهــا ،قــال هللا تعالــىَ : ((و َمــا َ َ ْ ُ ْ َّ َ ْ َ َّ ـس ِإل ِل َي ْع ُبـ ُـدو ِن)) النـ خلقــت ال ِجــن و ِ [ســورة الذاريــات ]56 :ذكــر اب ــن كثي ــر فــي َ َْ َ تفسي ــرها(َ :قـ َ ـال َع ِلـ ُّـي ْبـ ُـن أ ِبــي طل َحــة َعـ ِـن َ َّ َّ ـاس ِإل ِل َي ْع ُبـ ُـدو ِن أ ْيِ :إل ِل ُي ِقـ ُّـروا ْابـ ِـن َع َّبـ ٍ َ َ َ ِب ِع َب َاد ِتــي ط ْو ًعــا أ ْو ك ْر ًهــا)(.)17
47
حقوق ذوي االحتياجات الخاصة الطفيــل وقطعــت يــده ،ثــم اســتبل وصحــت يده ،فبـيـنا هو عند عمر بـن الخطاب إذ أتـي بطعام فتنحى عنه ،فقال عمر :ما لك لعلك تنحيــت ملــكان يــدك؟ قــال :أجــل ،قــال :وهللا ال أذوقــه حتــى تســوطه ب ــيدك ،فــو هللا مــا فــي القــوم أحــد بعضــه فــي الجنــة غي ــرك)(.)5 أمــا عمــر ب ــن عبــد العزيــز فقــد حــث علــى إحصــاء عــدد ذوي االحت ــياجات الخاصــة فــي الدولــة اإلسالم ــية( ،وكتــب إلــى أمصــار الشــام أن ارفعــوا إلـ ّـي كل أعمــى فــي الديــوان أو مقعــد أو مــن بــه الفالــج أو مــن بــه زمانــة تحــول بـي ــنه وبـي ــن القيــام إلــى الصــاة فرفعــوا إليــه ،فأمــر لــكل أعمــى بقائــد ،وأمــر لــكل اثنـي ــن مــن الزمنــى بخــادم)( ،)6ووضــع اإلمــام أبــو حن ــيفة تش ـر ًيعا يق�ضــي بــأن ب ــيت مــال املسلمـي ــن مســؤول عــن النفقــة علــى ذوي االحت ــياجات الخاصــة ،أمــا الخليفــة الوليــد ب ــن عبــد امللــك فقــد ب ــنى أول مستشــفى للمجذومـي ــن عــام 88ه ـ وأعطــى كل َّ َ مقعـ ٍـد ً خادمــا َّ وكل أعمــى قائـ ًـدا ،و ولــى الوليـ ُـد إسـ َ ـحاق ب ــن قب ــيصة الخزاعــي «ديــوان الزمنــى َّ ّ َ أهلـ ِـه بدمشــق» وقــال( :ألدعــن الز ِمــن أحـ َّـب إلــى ِ مـ َـن َّ الص ِحيـ ِـح)(.)7 ِ وأنشــأ املأمــون مــآو َي للعم ــيان والنســاء العاجزات في بغداد واملدن الكبـيـرة ،وقام أبو جعفر املنصور ببـناء مستشفى للمكفوفيـن ومأوىللمجذومـيـنوملجأللعجائزفيبغداد، كما قام السلطان قالوون بب ــناء ب ــيمارستان لرعايــة ذوي االحت ــياجات الخاصــة... واألوقاف مفخرة املسلمـيـن؛ كان من منافعها مؤسســات إلمــداد العم ــيان واملقعدي ــن بمــن يقودهــم ويخدمهــم ،بــل وكتــب كثي ــر مــن علمــاء املسلمـي ــن عــن ذوي االحت ــياجات
الخاصــة؛ ممــا يــدل علــى اهتمامهــم بهــم كالـرازي (املتوفى311هــ) الــذي صنــف كتابــه: (درجــات فقــدان الســمع) ،وشــرح اب ــن سي ــنا (املتوفى427هــ) (أســباب حــدوث الصمــم)، واب ــن وافــد اللخم ــي (املتوفى466هــ) صاحــب كتاب( :تدقيق النظر في علل حاسة البصر) وكتــاب( :نزهــة األفــكار فــي عــاج األبصــار). وتختلــف هــذه االحت ــياجات الخاصــة مــن شــخص آلخــر ،وقــد كان كثي ــر مــن علمــاء املسلمـي ــن مــن ذوي االحت ــياجات الخاصــة، منهــم علــى سب ــيل املثــال :أبــان ب ــن عثمــان، فقــد كان لديــه ضعــف فــي الســمع ومــع ذلــك كان عالـ ًــا ً فقيهــا ،وكان محمــد ب ــن سيـري ــن ذا صعوبة شديدة في سمعه؛ ومع ذلك كان ر ً اويا للحديث ّ ومعب ًرا للرؤيا ،والزاهد القدوة حاتم ِ األصــم البلخــي الواعــظ الناطــق بالحكمــة، ومجــد الدي ــن أبــو الســعادات املبــارك ب ــن محمــد املشــهور باب ــن األثي ــر كان ُم َ قعـ ًـدا ال يستطيع القيام ،ومن أعالم العصر الحديث مصطفــى صــادق الرافعــي الــذي فقــد ســمعه لكــن ُســمعته وشــهرته طبقــت اآلفــاق. ودراست ــي هــذه تت ــركز حــول حقــوق ذوي االحتـياجات الخاصة في منظور القرآن الكريم، فهي ذات أهمـية كبـرى للتعامل األمثل مع هذه الفئــة مــن النــاس ،مــن خــال دراســتها دراســة موضوعيــة متأن ــية ومعمقــة ،وقــد قســمت الدراســة بعــد هــذه املقدمــة إلــى ثالثــة مباحــث وخاتمــة شــاملة ألهــم النتائــج والتوصيــات.
املبحث األول:
مفهوم ذوي االحتـياجات الخاصة ً فــي جم ــيع املجتمعــات ً قديمــا وحديثــا تظهــر
حقوق ذوي االحتياجات الخاصة
العدد 2رجب 1439هـ
ش ـريحة مــن البشــر املصابـي ــن ب ــنقص أو ضعــف ســواء فــي أجســادهم أو فــي عقولهــم، وهذا االبتالء من هللا تعالى امتحان لغيـرهم، فــا بـ َّـد للمجتمــع أن ي ــرعاهم ويعــرف قدرهــم. ً أول :ذوو االحتـياجات الخاصة لغة: ذو :بمعنــى صاحــب ،وذوو أي أصحــاب ،جــاء فــي املعجــم الوســيط(ُ « :ذو)كلمــة َيت َو َّ صــل َبهــا َ َ إ َلــى ْال َو ْ صــف باألجنــاس ُمل َزمــة لإلضافــة ِإلــى ِ َُ َ َّ َ َ َ َ ْ ْ َ ِالســم الظ ِاهر ومعناها صاحب ،يقال فلن ُ ُ ذو َمــال َوذو فضــل»(.)8 االحتـياجات :جمع احتـياج ،قال في مقاييس ْ ْ ْ اللغــةَ « : [حـ َـو َج] ال َحـ ُـاء َوالـ َـو ُاو َوال ِجيـ ُـم صـ ٌـل َواحـ ٌـدَ ،و ُهـ َـو ال ْ َأ ْ ضطـ َـر ُار إ َلــى َّ ال�شـ ْـي ِء، ِ ِ ِ ِ َ ْ َ َ ُ َ َُ ْ َ َ ـاتَ .و ْال َح ْو َجــاءُ: فالحاجــة و ِاحــدة الحاجـ ِ ْال َح َ اح َتـ َ الر ُجـ ُـلْ : اجـ ُـةَ .و ُي َقـ ُ ـال َأ ْحـ َـو َج َّ ـاج. اح َتـ َ ـوج ،ب َم ْع َنــى ْ َُ َ ُ َْ ً َ َ َ ُ ُ ـاج. ويقــال أيضــا :حـَـاج َيحـ ِ َ ُ َ َ َ ْ ـال[ :غ ِنيـ ُـت فلـ ْـم أ ْر ُد ْدكـ ُـم ِع ْنـ َـد ُبغ َيـ ٍـة ... قـ َ ُ ْ ُ ََ ْ َْ ُ ْ ُ ُ َْ َ ()9 وحجــت فلــم أكددكــم ِبالص ِابـ ِـع]» .
الخاصــة :ضــد العامــة ،قــال فــي املعجــم ْ ْ َّ [ال َخ َّ اصــة] خــاف ال َع َّامــة َوالـ ِـذي الوســيط« : َّ ْ َ ْ َ تخصــه َلنفســك وخاصــة ال�شــيء مــا يختــص َ ِبـ ِـه دون غي ــره»(.)10 وب ــناء علــى مــا ســبق يظهــر لنــا أن ذوي االحت ــياجات الخاصــة هــم شـريحة مــن النــاس يفتقــرون إلــى بعــض األشــياء فيطلبونهــا ،أو ُ َْ ّ ليحققــوا احت ــياجاتهم ومطالبهــم. تطلــب لهــم ِ وأطلــق علــى ذوي االحت ــياجات الخاصــة فيمــا م�ضــى اســم ْ (املق َعدي ــن) ،كمــا كانــت كلمــة (املعاقيـن) من أشهر ما عرفوا به ،وفي اللغة: ُ « [املعــاق] مفــرد اســم مفعــول مــن أعــاقَ ،مـ ْـن َّ ّ جسدية أو َّ عقلية عن النشاط تمنعه عاهة اإلنسان ـ ّـي املعتــاد»(.)11
( )5تاريخ دمشق ،البـن عساكر تحقيق :عمرو بـن غرامة العمروي ،دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع1995 ،م (ج ،25ص.)13 ( )6املصدر السابق( :ج ،45ص )7( - .)218املصدر نفسه( :ج ،8ص.)270 ( )8املعجم الوسيط ،مجمع اللغة العربية بالقاهرة ،دار الدعوة ،د.ت( :ج -1ص.)317 ( )9معجم مقاييس اللغة ،أحمد بـن فارس ،تحقيق :عبد السالم هارون ،دار الفكر 1979م (ج -2ص.)114 ( )11معجم اللغة العربية املعاصرة ،د أحمد مختار عبد الحميد عمر (املتوفى1424 :هـ) ،دار الكتب ،الطبعة األولى 2008 ،م( :ج -2ص.)1577( )10املعجم الوسيط( :ج ،1ص .)238
46
ً اصطالحا: ثان ًـيا :ذوو االحتـياجات الخاصة باعتبــار أن جم ــيع املصطلحــات املاضيــة تعن ــي (ذوي االحت ــياجات الخاصــة) وأكث ــر املصــادر واملراجــع يذكرونهــم باملعاقي ــن؛ فســندرس ً اصطالحــاً ، علمــا أن هنــاك تعريــف املعاقي ــن عالقــة وثيقــة بـي ــن املعنــى اللغــوي واملعنــى االصطالحي ملفهوم ذوي االحتـياجات الخاصة. اإلعاقــة هــي« :عيــب ي ــرجع إلــى العجــز الــذي يمنــع الفــرد أو يحــد مــن قدرتــه علــى أداء دور طب ــيعي بالنســبة للســن والجنــس والعوامــل االجتماعيــة والثقافيــة»(.)12 ويشــار بأنها «كل قصور جسم ــي أو نف�ســي أو عقلــي أو خلقــي يمثــل عقبــة فــي سب ــيل قيــام ً قاصرا عن الفرد بواجبه في املجتمع ويجعله األف ـراد األســوياء الذي ــن يتمتعــون بســامة األعضــاء وصحــة وظائفهــا»(.)13 وبالجملــة فــذوو االحت ــياجات الخاصــة َ (اإلعاقــة) :هــم مــن لديهــم قصــور أو خلــل َ فــي ُ القــدرات الجسم ـ َّـية أو الذهن ـ َّـية ،ت ْر ِجـ ُـع ـيئية ُتعيـ ُـق الفـ َ وراثيـ ٍـة أو ب ـ َّ إلــى عوامـ َـل َّ ـرد عــن ُّ تعلــم األنشــطة الت ــي يقــوم بهــا الفــرد الســليم املشـ ِـابه فــي السـ ِ ّـن. ً ثالثا :مصطلحات إسالمـية لها عالقة بذوي االحتـياجاتالخاصة: لقــد ســمى الق ـرآن الكريــم ذوي االحت ــياجات الخاصــة بـ(املصابـي ــن) فقــال هللا تعالــى: �شـ ْـي ٍء ّمـ َـن ْال َخـ ْـوف َو ْال ُ َ ((وَل َن ْب ُل َو َّن ُكــم ب َ ـوع ـ ج ِ ِ ِ ّ ِ َ َ ْ ّ َ ْ َ ْ َ َ ْ َ ُ َ َّ ات َو َب ِش ِر ونقص ِمن المو ِال والنف س والث َم َر ِ َّ ٍ َ َّ َ َ َ َ َ ِ ْ ُ ُّ َ ٌ َ ُ الص ِاب ِري ــن .ال ِذي ــن ِإذا أصابتهم م ِصيبة قالوا َ َّ َ ِإ َّنــا ِلل ـ ِـه َوِإ َّنــا ِإل ْيـ ِـه َر ِاج ُعــون)) [ســورة البقــرة:
]156-155وكل �شيء يؤذي املؤمن ويصيبه فهو مصيبة ،وقد تضمنت اآلية ثناء هللا تعالى علــى ذوي االحت ــياجات الخاصــة (املصابـي ــن) َّ وامتدحهم بصفة الصبـر إن سلموا أمرهم هلل تعالــى ،ألن الصب ــر ت ــرك الشــكوى. كمــا ســماهم (أولــي الضــرر) فقــال هللا تعالــى: َ َ َْ ُْْ َ َ ْ َ اعـ ُـدون ِمـ َـن الؤ ِم ِني ـ َـن غ ْيـ ُـر ُ((ل يســت ِوي الق ِ َّ َ ْ ُ َ ُ َ َ هللا أ َ ِولــي الضـ َ َـر ِر والج ِاهــدون ِفــي سـ ِـب ِيل ِ ِبأ ْم َو ِال ِهـ ْـم َوأ ُنف ِسـ ِـه ْم[ ))...ســورة النســاء،]95: ُ َ َ ْ َ اعـ ُـدون مــن املؤمنـي ــن واملعنــى :ال يســت ِوي الق ِ ُ وامل َجاهـ ُـدون ،إال أولــو َّ الضـ َـرر أي :غي ــر ذوي ِ الضرر الذيـن فيهم َ ضرر يمنعهم من الجهاد كاملر�ضــى وذوي األعــذار؛ َّ فإنهــم يســاوون ُ امل َج ِاه ِدي ــن. ُ ْ ال ْ َربــة) قــال هللا تعالــى: ومنهــا صفــة (أ ِولــي ِ َ ْ ُ ْ ْ َ َ ّ َ َ ّ َّ الرب ِة ِمن الط ْف ِل ال ِذي َـن الرج ِال أ ِو ِ (( ...غي ِر أ ِولي ِ َ ْ َ َْ ُ ََ َ َْ ِ ّ َ ات ال ِنسـ ِـاء[ ))...ســورة لــم يظهــروا علــى عــور ِ النــور(َ ،]31 :و ْ َال ْأ َ َبـ ُـة َو ْالَ ْأ ُ َبـ ُـة َو ْال ْ َبـ ُـةُ ،ك ُّل َذلــكَ ر ِر ر ِ ْ َ َ ُ الح اجــة)( )14أي :غي ــر القادري ــن علــى املباشــرة الجنســية ممــن ال حاجــة لهــم إلــى النســاء. ُ ْ (صـ ٌّـم ُبكـ ٌـم ُع ْمـ ٌـي) فــي قولــه أمــا الوصــم ب ـ َ َ َ ُ َّ َ َ َ ُ َ َ َ َّ تعالــى(( :ومثــل ال ِذي ــن كفــروا كمثـ ِـل الـ ِـذي َي ْنعـ ُـق ب َمــا َل َي ْسـ َـم ُع إ َّل ُد َعـ ًـاء َونـ َـد ًاء ُ صـ ٌّـم ِ ِ ِ ِ ُ ْ ٌ ُ ْ ٌ َ ُ ْ َ َ ْ ُ نَ بكــم عمــي فهــم ل يع ِقلــو )) [ســورة
البقــرة ]171:ففــي حــق الكافري ــن ،ولــم ْ يكونــوا ُ ص ًّمــا وال ُبك ًمــا وال ُع ْم ًيــا إال عــن الحــق والهــدى ،كمــا قــال الشــاعر أحمــد أبــو الوفــا(:)15 ْ َ َ َوما َفا ِق ُد َّ ص ِار ن ْح َس ُب ُه الس ْم ِع واإلب َ ْ ْ َْ ْ َ اف بـيـن ال ُـمعا ِقيـن أو ِمن فق ِد أط َر ِ
( )12اإلعاقات العقلية واالضطرابات االرتقائية ،لويس كامل مليكه ،مطبعة فيكتوركيـرس ،القاهرة( :1998 ،ص .)18 ( )13تنمية األطفال املعاقيـن ،عبداملجيد عبدالرحيم ،القاهرة ،دار غريب للطباعة والنشر والتوزيع1997م( :ص .)9 ( )14معجم مقاييس اللغة ،أحمد بـن فارس( :ج ،1ص.)89 ( )15هو شاعر فلسطيـني معاصرُ ّ ، تقاعد ،من بلدة السيلة الحارثية ،قضاء جنيـن. مدرس م ِ ِ ( )16رواه البخاري ،كتاب الجهاد والسيـر ،باب من حبسه العذر عن الغزو ،رقم (.)2839 ( )17تفسيـر القرآن العظيم ،البـن كثيـر( ،ص ج.)396 - 7
العدد 2رجب 1439هـ
ُ َّ َ َ اق الذي َ ض َ اع ْت َب ِصي َـرت ُه إن ال ُـمع ِ َ اإلر َادةُ ، َ َ وهللا ُه ـ َـو الك ـ ِـافي م ــع َ ِ وأطلــق النب ــي صلــى هللا عليــه وســلم عليهــم مصطلح (أصحاب األعذار) َ فع ْن َأ َن َ �ض َي سر ِ ٍ ُ َ ْ ُ َ َّ َّ َّ َ َّ ُ َ َّ َ هللا َعل ْيـ ِـه َو َســل َم ك َان هللا عنــه :أن الن ِبــي صلــى َ َ َ َ َ َّ َ ْ َ ً ْ َ َ َ ْ َ َ ((إن أقوامــا ِبال ِدي ــن ِة خلفنــا، ِفــي غــز ٍاة ،فقــال: َ َ َ ْ َ ْ ً َ ِ َ َ ً َّ َ ُ َ َ َ ْ مــا ســلكنا ِشــعبا وال و ِاديــا ِإل وهــم معنــا ِفيـ ِـه، ََ َ ُ ُ ُ ْ حبســهم العــذ ُر))(.)16
املبحث الثانـي:
حقوق ذوي االحتـياجات الخاصة جعــل هللا تعالــى التقــوى منــاط التفضيــل بـي ــن بـن ــي البشــر ،فقــال ســبحانه وتعالــى: ََ ََ ُ (( َيــا َأ ُّي َهــا َّ النـ ُ ـاس ِإ َّنــا خل ْق َناكــم ِّمــن ذكـ ٍـر َ ُ ُ َ ْ ُ ُ َوأنثــى َو َج َعل َناكـ ْـم شـ ُـع ًوبا َوق َبا ِئـ َـل ِل َت َع َارفــوا إ َّن َأ ْك َر َم ُكـ ْـم عنـ َـد هللا َأ ْت َق ُاكـ ْـم إ َّن َ هللا َع ِليـ ٌـم ِ ِ ِ ِ َ ٌ خ ِبي ــر)) [ســورة الحج ـرات ]13 :وذوو االحت ــياجات الخاصــة كغي ــرهم لهــم حقــوق وعليهــم واجبــات ،إال مــا اســتثناهم هللا ً تخفيفــا عليهــم، تعالــى منــه كالجهــاد والحــج فمــن حقوقهــم: -1حــق العقيــدة الصحيحــة :وهــو مــن أعظــم الحقــوق الت ــي يجــب علــى املســلم معرفتهــا واعتقادهــا ،قــال هللا تعالــىَ : ((و َمــا َ َ ْ ُ ْ َّ َ ْ َ َّ ـس ِإل ِل َي ْع ُبـ ُـدو ِن)) النـ خلقــت ال ِجــن و ِ [ســورة الذاريــات ]56 :ذكــر اب ــن كثي ــر فــي َ َْ َ تفسي ــرها(َ :قـ َ ـال َع ِلـ ُّـي ْبـ ُـن أ ِبــي طل َحــة َعـ ِـن َ َّ َّ ـاس ِإل ِل َي ْع ُبـ ُـدو ِن أ ْيِ :إل ِل ُي ِقـ ُّـروا ْابـ ِـن َع َّبـ ٍ َ َ َ ِب ِع َب َاد ِتــي ط ْو ًعــا أ ْو ك ْر ًهــا)(.)17
47
حقوق ذوي االحتياجات الخاصة َ َ والــذي يؤكــد مــا ســبق؛ مــا رواه أبــو ُه َ ْريـ َـرة َ َّ ُ ً َ َ ُ َ هللا ر�ضــي هللا عنــه أن َرجــا أتــى َرســول ِ َ ُ َ َّ َ َّ هللا َعل ْيـ ِـه َو َســل َم ِب َج ِارَيـ ٍـة َع ْج َمـ َـاء ل صلــى َ َ ً ْ ً ُت ْفصـ ُـحَ ،ف َقـ َ ((إ َّن َعلـ َّـي َرق َبــة ُمؤ ِم َنــة، ـال: ِ ِ ََ ص َّلــى ُ ـال َل َهــا َر ُســو ُل هللا َ هللا َع َل ْيــه َو َسـ َّـلمَ: َ فقـ ِ ِ َأ ْيـ َـن ُ هللا َعـ َّـز َو َجـ َّـل؟ َف َأ َشـ َـار ْت إ َلــى َّ السـ َـم ِاء، َ َ َ َ َ َ ْ ََ ََ َ َ ْ َِ َ َّ فقــال لهــا :مــن أنــا؟ فأشــارت ِإلــى الســم ِاء، َ َف َقـ َ ُ ُ هللا :أ ْع ِت ْق َهــا))( ،)18فالواجــب ـال َرســول ِ العقــدي أمــر هــام يلــزم كل فــرد ،وذوو االحت ــياجات الخاصــة ال يســقط عنهــم هــذا الحــق والتكليــف ،كمــا أن العقيــدة الصحيحــة تمنــع بعــض ذوي االحت ــياجات الخاصــة أو َمــن يقــوم بشــؤونهم مــن التــداوي بمــا يخالــف اإليمــان بــاهلل ،كمــن يبغــي الشــفاء علــى أيــدي أهــل الزيــغ مــن املشعوذي ــن والســحرة. كمــا أن العقيــدة الصحيحــة لإلنســان طمأنـي ــنة نفســية وراحــة قلب ــية فــي الصب ــر علــى االبتــاء ،وال َّ أدل علــى هــذا ِمــن حديــث َ َ َ َ امل ـرأة َ ـال َعطـ ُـاء ْبـ ُـن أ ِب ــي الســوداء ،فقــد قـ ِ َ َ ُ َ ْ َ ًَ ََ َ ُ َ ْ َ َّ ـاس(( :أال أ ِريــك امــرأة ـاح َ :قــال ِلــي ابــن عبـ ٍ ربـ ٍ َ َّ ُ ْ ُ َ َ َ َ ْ َ ِمـ ْـن أهـ ِـل الجنـ ِـة؟ قلــت :بلــى ،قــال :هـ ِـذ ِه َّ َّ َ َّ ُ َ ََ املَـ ْ َـرأ ُة َّ هللا َعل ْيـ ِـه السـ ْـو َد ُاء ،أتـ ِـت الن ِب ــي صلــى ّ َ َ َ َّ ُ َو َسـ َّـل َم َف َق َالـ ْـت :إ ّنــي ُأ ْ صـ َـر ُعَ ،وِإ ِنــي أتكشــف، ِ َِ َ ْ ْ َ َ ْ َ َ َفـ ْـاد ُع َ هللا ِل ــي ،قــال«ِ :إن ِشــئ ِت صبــر ِت ولـ ِـك َ َّ ُ َ ْ ْ َ َ ْ ُ َ َ هللا أ ْن ُي َعا ِف َيـ ِـك» الجنــة ،وِإن ِشــئ ِت دعــوت َ َ َ ْ َ ْ ُ َ َ َ ْ ّ َ َ َ َّ ُ فقالــت :أص ِبــر ،فقالــتِ :إ ِنــي أتكشــف، َ ْ ُ َ َ َ َ َ َ َّ َ َ َ فادع هللا ِلي أ ْن ال أتكشــف ،ف َد َعا ل َها))(.)19 -2حــق الحيــاة :لقــد كانــت فلســفات اليونــان وقوانـي ــنهم تســمح بالتخلــص ممــن بهــم نقــص جسم ــي ،وقــد أعلــن أفالطــون وأرســطو طاليــس موافقتهمــا علــى هــذا
ً العمــل ،وفــي رومــا ظــل النــاس أجيــال عديــدة يغرقــون األطفــال غي ــر مكتملــي النمــو. أما في اإلسالم فإن قيمة الحياة لإلنسان لها قدســية خاصــة ،وهــي حــق لــكل فــرد ســواء كان من ذوي االحتـياجات الخاصة أو غيـرهم، َ َ َ ْ ُ ُ َّ ْ َ َّ ـس التِــي َحـ َّـر َم قــال هللا تعالــى (( :ول تقتلــوا النفـ ُ َّ ْ هللا ِإل ِبال َحـ ِ ّـق)) [ســورة اإلس ـراء ،]33 :كمــا ال يجــوز لغي ــره أن يعتــدي عليــه ،قــال َ َ َ َ ســبحانهِ (( :مـ ْـن أ ْجـ ِـل ذ ِلـ َـك ك َت ْب َنــا َعلــى َبنِــي ْ َ َ َ َّ ُ َ َ َ َ َ ْ ً َ ْ َ ْ َ ـس أ ْو ِإســرا ِئيل أْنـ َـه مــن ق َتــل نفســا ِبغيـ ِـر نفـ ٍ َف َســاد فــي ال ْرض َف َكأ َّن َمــا َق َتـ َـل َّ ـاس َجم ً النـ َ يعــا ٍ ِ َ َ ْ َ ِ ْ َ َ َ ِ َ َ َّ َ َ َّ َ ْ َ ً َ ومــن أحياهــا فكأنمــا أحيــا النــاس ج ِميعــا)) [ســورة املائــدة.]32 : -3حــق الكرامــة :كل النــاس متســاوون فــي الكرامــة ذوو االحت ــياجات الخاصــة ََ َ وغيـرهم ،قال هللا تعالىَ (( :ولق ْد ك َّر ْم َنا َبنِـي ْ ْ ْ ْ َآد َم َو َح َمل َن ُاهـ ْـم ِفــي ال َبـ ّ ِـر َوال َب ْحـ ِـر َو َر َزق َن ُاهــم ّ َ َّ ّ َ َ َ َّ ْ َ َ ضل َن ُاهـ ْـم َعلــى ك ِثي ـ ٍـر ِّم َّمـ ْـن ـات وف ِمــن الط ِيبـ ِ َََْ َْ ً خلقنــا تف ِضيــا)) (اإلس ـراء ،)70:قــال اب ــن عاشــور( :وقــد جمعــت اآليــة خمــس ِمنــن :التكريــم ،وتسخي ــر املراكــب فــي الب ــر، وتسخي ــر املراكــب فــي البحــر ،والــرزق مــن الطيبــات ،والتفضيــل علــى كثي ــر مــن املخلوقــات ...فالتكريــم :جعلــه ً كريمــا ،أي ً نفيســا غي ــر مبــذول وال ذليــل فــي صورتــه وال فــي حركــة مشــيه وفــي بشــرته ...وأمــا التفضيــل فجماعــه تمكي ــن اإلنســان مــن ُّ التســلط علــى جم ــيع املخلوقــات األرضيــة ً ب ـرأيه وحيلتــه ،وكفــى بذلــك تفضيــا علــى البقيــة ،والفــرق بـي ــن التفضيــل والتكريــم بالعمــوم والخصــوص؛ فالتكريــم منظــور
( )18شرح مشكل اآلثار ،للطحاوي ،تحقيق :األرنؤوط ،طبعة الرسالة 1415 ،هـ (ج ،12ص.)521 َ ْ َ ْ ُ َُْ َ ّ الر ِيح ،بـرقم.)5652( : ( )19رواه البخاري ،في كتاب املر�ضى ،باب فض ِل من يصرع ِمن ِ ( )20تفسيـر ابـن عاشور( ،املتوفى1393هـ) ،الدار التونسية للنشر ،تونس 1984م( ،ج -15ص.)166-164 ( )21رواه البخاري ،في كتاب األذان ،باب َه ْل َي ْأ ُخ ُذ َ ُ َ َ َّ َ ْ َّ اس؟ بـرقم( )714( :ج ،1ص.)144 ِ اإلمام ِإذا شك ِبقو ِل الن ِ
حقوق ذوي االحتياجات الخاصة
العدد 2رجب 1439هـ
فيــه إلــى تكريمــه فــي ذاتــه ،والتفضيــل منظــور فيــه إلــى تشــريفه فــوق غي ــره)(،)20 فتكريــم هللا لبـن ــي آدم هــو تفضيلــه لهــم َْ بالنطــق والعقــل والعلــم واعتــدال الخلــق. -4حــق الحريــة :فــذوو االحت ــياجات الخاصــة أحـرار كغي ــرهم ،يتمتعــون بحريــة أنفســهم كمــا يتمتعــون بحريــة الـرأي وحريــة القـرار، وحريــة التفكي ــر والتعبـي ــر ،قــال هللا تعالــى: َ َ َ ُ ْ ّ َ هللا ِلنـ َـت ل ُهـ ْـم َولـ ْـو كنـ َـت (( ف ِب َمــا َرح َمـ ٍـة ِمــن ِ َ ًّ َ َ ـظ ْال َق ْلــب َل َنف ُّ فظــا غ ِليـ ضــوا ِمـ ْـن َح ْوِلـ َـك ِ َ ْ ُ ـف َع ْن ُهـ ْـم َو ْ اسـ َـت ْغ ِف ْر َل ُهـ ْـم َو َشــاو ْر ُهمْ فاعـ َ ِ َْ ال ْمــر َفــإ َذا َع َز ْمـ َـت َف َتـ َـو َّك ْل َعلــى هللا إنَّ ِفــي ِ ِ ِ َ ُ ِ ُّ ْ ُ َ َ ّ َ هللا ي ِحــب التو ِك ِلي ــن)) [آل عم ـران،]159: َْ َ فقولــه تعالــىَ (( :وشـ ِـاو ْر ُه ْم ِفــي ال ْمـ ِـر)) أي: اســتخرج آراءهــم ،فاملشــورة :تلقيــح ال ـرأي بــآراء متعــددة ،وهــذا دليــل علــى حريــة الرأي فــي التعبـي ــر وتبــادل اآلراء مــع اآلخري ــن، وال فــرق فــي ذلــك بـي ــن ذوي االحت ــياجات الخاصــة وغي ــرهم ،وهــذا منهــج النب ــي صلــى هللا عليه وسلم في التعامل وإعطاء الحرية لآلخري ــن ليعب ــروا عــن آرائهــم ،والدليــل علــى َ َ َ فعـ ْـن أ ِبــي ُه َرْيـ َـرة ذلــك قصــة ذي اليدي ــن، َ ص َّلــى هللاُ ((أ َّن َر ُســو َل هللا َ ر�ضــي هللا عنــه: ِ َ َ ْ َ َ َّ َ ْ َ َ َ َ ْ َ َ ْ َ َ َ َُ عليـ ِـه وســلم انصــرف ِمــن اثنتيـ ِـن ،فقــال لــه الصـ َـا ُةَ ،أ ْم َنسـ َ الي َد ْيــنَ :أ َق ُ ُذو َ صـ َـر ِت َّ ـيت ِ ِ ص َّلــى ُ ـال َر ُســو ُل هللا َ هللا؟ َف َقـ َ َيــا َر ُســو َل هللا ِ ِ َع َل ْيــه َو َسـ َّـل َم«َ :أ َ صـ َـد َق ُذو َ الي َد ْيــن؟» َف َقـ َ ـال ِ ِ َّ ص َّلــى هللاُ ـام َر ُســو ُل هللا َ ـاسَ :ن َعـ ْـمَ ،ف َقـ َ ُ النـ ُ ِ ْ َع َل ْيــه َو َسـ َّـل َمَ ،ف َ َّ ْ َ َ صلــى اثنت ْيـ ِـن أخ َرَي ْيـ ِـن))(.)21 ِ أمــا حريــة اتخــاذ الق ـرار فتتجلــى فــي موقــف َ َ َع ْمرو ْبن ْال َج ُ وح ر�ضي هللا عنه( ،وك َان أ ْع َر َج م ِ َشـ ِـد َيد ْال َعـ َـرجَ ،و َك َان َلـ ُـه َأ ْ َرب َعـ ُـة َب ِني ـ َـن َشـ َـب ٌ اب ِ
48
َ َّ ُ َ َّ َي ْغـ ُـز َ ون َمـ َـع َر ُ هللا َعل ْيـ ِـه َو َســل َم هللا صلــى ســو ِل ِ َ َّ ُ َ َ َ َ ََ َ َ ُ ُ هللا َعل ْي ِه هللا صلى ِإذا غزا ،فل َّما أ َراد َرســو ُل ِ ـال َلـ ُـه َب ُنـ ُ َو َسـ َّـل َم أن َي َت َو َّجـ ُـه إ َلــى أ ُحـ ٍـدَ ،قـ َ ـوه: ِ إ َّن َ هللا َعـ َّـز َو َجـ َّـل َقـ ْـد َج َعـ َـل َلـ َـك ُر ْخ َ صـ ًـة َف َلــوْ ِ هللا َع ْنــكَ َق َعـ ْـد َت َف َن ْحـ ُـن َن ْكفيـ َـك َف َقـ ْـد َو َ ضـ َـع ُ ِ ْ َ َ َََ َ ْ ُ ْ ُ ْ َ َ ُ ُ َ هللا ـوح رســول ِ ال ِ َّجهــاد ،فأ َتــى عمــر َّو بــن َ َالجمـ ِ صلــى ُ َ هللا َعل ْيــه َو َســل َم ،فقـ َ َ َ ُ َ هللا، ـالَ :يــا رســول ِ ِ َُ َ َ ْ ِإ َّن َبنِـ َّـي َهــؤل ِء َي ْم َن ُعــون أ ْن أخـ ُـر َج َم َعـ َـك، َ ّ ََ َ ُ َ ْ ََ ََ هللا ِإ ِنــي ل ْر ُجــو أ ْن أ ْستشـ َـه َد فأطــأ ِب َع ْر َجتِــي و ِ َ ْ َ َ َّ َ ُ َّ َ ُ ُ َهـ ِـذ ِه فــي الجنـ ِـة! فقـ َ هللا صلــى ـال َلــه َرســول ِ ُ َ ِ َ ْ َ َ َّ َ َ ((أ َّمــا أ ْنـ َـت َف َقـ ْـد َو َ ضـ َـع هللاُ هللا عليـ ِـه وســلم: َْ َ ْ َ َ ََ ـال ل َبنيــهَ : ((و َمــا َع َل ْي ُكــمْ َ َعنــك ال ِجهــاد)) .وقـ ِ ِ ِ َ ْ َ َ ُ ُ َ َ َّ َ ُ ُ َ َ َّ َ هللا َي ْرزق ُه الش َهادة)) .فخ َر َج أن تدعوه لعل َ َ َّ َّ ُ ُ َ َ َ َ َ َ ُ َ ْ هللا صلــى هللا عليـ ِـه وســلم ،فق ِتـ َـل مــع َر ُســو ِل ِ َيـ ْـو َم أ ُحــد َشــه ً يدا)( ،)22فهــذه حريــة اتخــاذ ٍ ِ الق ـرار لــذوي االحت ــياجات الخاصــة. ُّ -5حــق التعلــم والتعليــم :مــن حقــوق ذوي ُّ االحت ــياجات الخاصــة التعلــم والتعليــم لجم ــيع العلــوم املفيــدة ،فــأول مــا نــزل مــن ْ ((اقـ َ ْـرأ ب ْ اسـ ِـم الق ـرآن الكريــم قولــه تعالــى: ِ ََ َّ َّْ َرِّبـ َـك الـ ِـذي خلـ َـق)) [العلــق ]2:أي :تعلــم ْ َ َ وارق وارتـ ِـق ،وهــذا عبــد هللا ب ــن أم مكتــوم مــن ذوي االحت ــياجات الخاصــة (الضري ــر) ُّ ً حريصــا علــى التعلــم مــن رســول هللا كان َّ ليزكـي نفســه ،وقولــه صلــى هللا عليــه وســلم ـ َ َّ َّ َ َ ْ َ ٌ تعالــى(( :كل ِإنهــا تذ ِكــرة)) [عبــس]11: َ ُّ َ ُ َ ْ ُ ُْ (أ ْي َهـ ِـذ ِه السـ ـورة أ ِو ال َو ِص َّيــة ِبال َسـ َـاو ِاة َ ْ ْ َ َ ْ َ َّ ـاس ِفــي ِإ ْبــا ِغ ال ِعلـ ِـم ِمـ ْـن شـ ِـر ِيف ِه ْم بيــن النـ ِ َو َو ِضي ِع ِهـ ْـم ) (.)22 وعـ ْـن ُع ْث َمـ َ هللا َع ْنـ ُـهَ ،عــن َّ ـان َر�ضـ َـي ُ َ النب ـ ّ ِـي ِ ِ
ُ َ َ ْ َ َ َّ َ َ َ َ ُ َ َّ ـال« :خ ْي ُركـ ْـم َمـ ْـن صلــى هللا عليـ ِـه وســلم قـ َ َ َّ َ ُ ْ َ َّ آن َو َعل َمـ ُـه»(.)24 تعلــم القــر وقــد كان أبــو عبــد الرحمــن عبــد هللا ب ــن حب ــيب السلم ــي أعمــى ،لكنــه كان مقــرئ َ َ َ الكوفــة ،وهــو مــن أوالد الصحابــة ،أخــذ َع ْنـ ُـه ُ القـ ْـر َ (عاصـ ُـم ب ـ ُـن َأبــي َّ آنَ : الن ُجـ ْـو ِد، ِ َ ِ َو َي ْح َيــى ب ـ ُـن َو َّثــابَ ،و َعطـ ُـاء ب ـ ُـن َّ الســا ِئ ِب، ٍ َ ْ َ ْ َ َّ َو َع ْبـ ُـد هللا ب ـ ُـن ِع ْي�ســى ب ـ ِـن عبـ ِـد الرحمـ ِـن ب ـ ِـن ِ َ َ َّ أب ــي ليلــى َو ُم َح َّمـ ُـد ب ـ ُـن أ ِبــي أ ُّيـ ْـو َب َوالش ْعب ـ ُّـي َ َ َ َ َ َ َ َ ْ ض َعل ْيـ ِـه اع ْي ُل ب ـ ُـن أ ِبــي خ ِالـ ٍـد ،وعــر وِإسـ َـم ِ الح َسـ ْـي ُن َر�ضـ َـي ُ َ الح َسـ ُـن َو ُ هللا َع ْن ُه َمــا)(.)25 ِ ُّ فمــن حــق ذوي االحت ــياجات الخاصــة التعلــم والتعليــم ،وتوفي ــر الظــروف املناســبة لهــم ـكـي يتعلمــوا وي ــنالوا أعلــى املراتــب ،في ــنفعوا أنفســهم وأمتهــم. -6حــق العمــل والكســب :ي ــنبغي علــى املجتمــع أن يوفــر لــذوي االحت ــياجات الخاصــة فــرص عمــل خاصــة بهــم ،لئــا يكونــوا عالــة علــى أحــد ،وليســاهموا فــي ب ــناء هــذا املجتمــع وإعمــاره ،قــال هللا َُ ْ ُ َ ُ َُ اع َملــوا ف َسـ َـي َرى تعالــى (( :وقـ ِـل هللا َع َملكـ ْـم َ ُ ُ ُْ َ َ ْ ُ َو َر ُســول ُه َوالؤ ِمنــون َو َســت َر ُّدون ِإلــى َع ِالـ ِـم ُ َ ُ َْ َّ الغ ْيـ ِـب َوالشـ َـه َاد ِة ف ُي َن ِّب ُئكــم ِب َمــا ك ُنتـ ْـم َ ُ ت ْع َملــو َن)) [التوبــة ،]105:والعمــل الدن ــيوي واألخــروي مطلــوب مــن الجم ــيع ،ومنهــم ذوو االحت ــياجات الخاصــة ،حيــث يملــؤون أوقــات فراغهــم بمــا هــو مفيــد ونافــع للنــاس ،وبالعمــل يســتعيدون صحتهــم ألن العضــو الــذي ال يعمــل يضمــر ويضعــف، ويحافظــون علــى صحــة نفوســهم؛
( )22رواه البيهقي في السنن الكبـرى ،تحقيق :محمد عطا ،دار الكتب العلمية ،الطبعة الثالثة2003 ،م ،كتاب السيـر، َّ ْ َ ْ َ َ َ َّ َ ْ ْ َ ْ َ َََْ الز َمان ِة َوال ُعذ ِر ِفي ت ْر ِك ال ِج َه ِاد ،بـرقم( ،)17821( :ج ،9ص.)42 ضو باب م ِن اعتذر ِبالضع ِ ف والر ِ ( )23تفسيـر القرآن العظيم (ابـن كثيـر) ،تحقيق :محمد حسيـن شمس الديـن ،دار الكتب العلمية ،الطبعة األولى1419 ،هـ( ،ج ،8ص.)322 َّ ( )24رواه البخاري ،في كتاب فضائل القرآن ،باب َخ ْي ُر ُك ْم َم ْن َت َع َّل َم ُ الق ْر َآن َو َعل َم ُه ،بـرقم( )5027( :ج - 6ص.)192 ( )25سيـر أعالم النبالء ،للذهبي ،دار الحديث ،القاهرة2006 ،م (ج - 5ص.)153 ( )26التكاليف والحقوق الشرعية للمعاقيـن ،د .طارق بـن عبد هللا حجار ،بحث منشور في مجلة الجامعة اإلسالمية ،العدد( ،130:ص.)474-473
العدد 2رجب 1439هـ
ألنهــم بخروجهــم للعمــل ي ــندمجون فــي املجتمــع ،ويعيشــون بعيـ ًـدا عــن إصابتهــم فــا يشــعرون ب ــنقص وال ضعــف ،كمــا أنهــم ي ــنتجون ويكســبون ،ولغي ــرهم ال يحتاجــون ،وهــذا نب ــي هللا مو�ســى عليــه الســام عمــل فــي رعــي األغنــام عشــر سنـي ــن، وفــي لســانه ُع ْقـ َـدة ،قــال هللا تعالــى حكايــة َ َ َ ّ ْ اشـ َـر ْح لــي َ صـ ْـد ِريَ .و َي ِ ّسـ ْـر عنــه (( :قــال رب ِ َ َ ْ ُ ْ ِ ُ ْ َ ً ّ َّ َ ْ َُ ِلــي أ ْمـ ِـري .واحلــل عقــدة ِمــن ِلســا ِني .يفقهــوا َ ق ْو ِلــي)) [طــه ،]28-25:فــذوو االحت ــياجات الخاصــة ال تمنعهــم إصابتهــم مــن العمــل والكســب الحــال. وهــذا عبــد الرحمــن ب ــن عــوف ر�ضــي هللا عنــه (علــى الرغــم مــن َعـ َـر ٍج أصابــه بعــد غــزوة ُ َ ُ ً أحــدُ ، واضحــا وســقوط أســنا ِن ِه تـ َـر َك أث ـ ًـرا فــي نطقــه وحديثــه ،إال أن هــذه اإلعاقــات لــم تمنعــه مــن طلــب الــرزق والســعي إلــى الكســب الحــال حتــى كان مــن أغنــى أغن ــياء املسلمـي ــن)(.)26 -7حــق التصــرف والتملــك :املؤهــل للتصــرف ُ البالــغ العا ِقــل الر ِاشــد ،ومــا دام هــو الحـ ُّـر ِ ذوو االحت ــياجات الخاصــة كذلــك ،فلهــم حــق التصــرف التــام فــي الب ــيع والش ـراء ُّ والتملــك وســائر التصرفــاتَّ ،أمــا إن كان يحــول بـي ــنه وبـي ــن التصــرف �شــيء؛ فإنــه ي ــنوب عنــه غي ــره ،قــال هللا تعالــى فــي َ ْ َ َ َّ آيــة املداي ــنة ...(( :فـ ِـإن ك َان الـ ِـذي َعل ْيـ ِـه ال َحـ ُّـق َ َ َ َســف ًيها َأ ْو َ ض ِع ًيفــا أ ْو ل َي ْسـ َـت ِط ُيع أن ُي ِمـ َّـل ِ ُ َ َ ْ ُ ْ ْ َ ُّ ُ ْ ْ َ هــو فليم ِلــل وِليــه ِبالعــد ِل[ ))...البقــرة]282: ُ ُ ّ ـف ال ـرأي ،أي َمــن ال وف ِســر الســفيه بضعيـ ِ
49
حقوق ذوي االحتياجات الخاصة َ َ والــذي يؤكــد مــا ســبق؛ مــا رواه أبــو ُه َ ْريـ َـرة َ َّ ُ ً َ َ ُ َ هللا ر�ضــي هللا عنــه أن َرجــا أتــى َرســول ِ َ ُ َ َّ َ َّ هللا َعل ْيـ ِـه َو َســل َم ِب َج ِارَيـ ٍـة َع ْج َمـ َـاء ل صلــى َ َ ً ْ ً ُت ْفصـ ُـحَ ،ف َقـ َ ((إ َّن َعلـ َّـي َرق َبــة ُمؤ ِم َنــة، ـال: ِ ِ ََ ص َّلــى ُ ـال َل َهــا َر ُســو ُل هللا َ هللا َع َل ْيــه َو َسـ َّـلمَ: َ فقـ ِ ِ َأ ْيـ َـن ُ هللا َعـ َّـز َو َجـ َّـل؟ َف َأ َشـ َـار ْت إ َلــى َّ السـ َـم ِاء، َ َ َ َ َ َ ْ ََ ََ َ َ ْ َِ َ َّ فقــال لهــا :مــن أنــا؟ فأشــارت ِإلــى الســم ِاء، َ َف َقـ َ ُ ُ هللا :أ ْع ِت ْق َهــا))( ،)18فالواجــب ـال َرســول ِ العقــدي أمــر هــام يلــزم كل فــرد ،وذوو االحت ــياجات الخاصــة ال يســقط عنهــم هــذا الحــق والتكليــف ،كمــا أن العقيــدة الصحيحــة تمنــع بعــض ذوي االحت ــياجات الخاصــة أو َمــن يقــوم بشــؤونهم مــن التــداوي بمــا يخالــف اإليمــان بــاهلل ،كمــن يبغــي الشــفاء علــى أيــدي أهــل الزيــغ مــن املشعوذي ــن والســحرة. كمــا أن العقيــدة الصحيحــة لإلنســان طمأنـي ــنة نفســية وراحــة قلب ــية فــي الصب ــر علــى االبتــاء ،وال َّ أدل علــى هــذا ِمــن حديــث َ َ َ َ امل ـرأة َ ـال َعطـ ُـاء ْبـ ُـن أ ِب ــي الســوداء ،فقــد قـ ِ َ َ ُ َ ْ َ ًَ ََ َ ُ َ ْ َ َّ ـاس(( :أال أ ِريــك امــرأة ـاح َ :قــال ِلــي ابــن عبـ ٍ ربـ ٍ َ َّ ُ ْ ُ َ َ َ َ ْ َ ِمـ ْـن أهـ ِـل الجنـ ِـة؟ قلــت :بلــى ،قــال :هـ ِـذ ِه َّ َّ َ َّ ُ َ ََ املَـ ْ َـرأ ُة َّ هللا َعل ْيـ ِـه السـ ْـو َد ُاء ،أتـ ِـت الن ِب ــي صلــى ّ َ َ َ َّ ُ َو َسـ َّـل َم َف َق َالـ ْـت :إ ّنــي ُأ ْ صـ َـر ُعَ ،وِإ ِنــي أتكشــف، ِ َِ َ ْ ْ َ َ ْ َ َ َفـ ْـاد ُع َ هللا ِل ــي ،قــال«ِ :إن ِشــئ ِت صبــر ِت ولـ ِـك َ َّ ُ َ ْ ْ َ َ ْ ُ َ َ هللا أ ْن ُي َعا ِف َيـ ِـك» الجنــة ،وِإن ِشــئ ِت دعــوت َ َ َ ْ َ ْ ُ َ َ َ ْ ّ َ َ َ َّ ُ فقالــت :أص ِبــر ،فقالــتِ :إ ِنــي أتكشــف، َ ْ ُ َ َ َ َ َ َ َّ َ َ َ فادع هللا ِلي أ ْن ال أتكشــف ،ف َد َعا ل َها))(.)19 -2حــق الحيــاة :لقــد كانــت فلســفات اليونــان وقوانـي ــنهم تســمح بالتخلــص ممــن بهــم نقــص جسم ــي ،وقــد أعلــن أفالطــون وأرســطو طاليــس موافقتهمــا علــى هــذا
ً العمــل ،وفــي رومــا ظــل النــاس أجيــال عديــدة يغرقــون األطفــال غي ــر مكتملــي النمــو. أما في اإلسالم فإن قيمة الحياة لإلنسان لها قدســية خاصــة ،وهــي حــق لــكل فــرد ســواء كان من ذوي االحتـياجات الخاصة أو غيـرهم، َ َ َ ْ ُ ُ َّ ْ َ َّ ـس التِــي َحـ َّـر َم قــال هللا تعالــى (( :ول تقتلــوا النفـ ُ َّ ْ هللا ِإل ِبال َحـ ِ ّـق)) [ســورة اإلس ـراء ،]33 :كمــا ال يجــوز لغي ــره أن يعتــدي عليــه ،قــال َ َ َ َ ســبحانهِ (( :مـ ْـن أ ْجـ ِـل ذ ِلـ َـك ك َت ْب َنــا َعلــى َبنِــي ْ َ َ َ َّ ُ َ َ َ َ َ ْ ً َ ْ َ ْ َ ـس أ ْو ِإســرا ِئيل أْنـ َـه مــن ق َتــل نفســا ِبغيـ ِـر نفـ ٍ َف َســاد فــي ال ْرض َف َكأ َّن َمــا َق َتـ َـل َّ ـاس َجم ً النـ َ يعــا ٍ ِ َ َ ْ َ ِ ْ َ َ َ ِ َ َ َّ َ َ َّ َ ْ َ ً َ ومــن أحياهــا فكأنمــا أحيــا النــاس ج ِميعــا)) [ســورة املائــدة.]32 : -3حــق الكرامــة :كل النــاس متســاوون فــي الكرامــة ذوو االحت ــياجات الخاصــة ََ َ وغيـرهم ،قال هللا تعالىَ (( :ولق ْد ك َّر ْم َنا َبنِـي ْ ْ ْ ْ َآد َم َو َح َمل َن ُاهـ ْـم ِفــي ال َبـ ّ ِـر َوال َب ْحـ ِـر َو َر َزق َن ُاهــم ّ َ َّ ّ َ َ َ َّ ْ َ َ ضل َن ُاهـ ْـم َعلــى ك ِثي ـ ٍـر ِّم َّمـ ْـن ـات وف ِمــن الط ِيبـ ِ َََْ َْ ً خلقنــا تف ِضيــا)) (اإلس ـراء ،)70:قــال اب ــن عاشــور( :وقــد جمعــت اآليــة خمــس ِمنــن :التكريــم ،وتسخي ــر املراكــب فــي الب ــر، وتسخي ــر املراكــب فــي البحــر ،والــرزق مــن الطيبــات ،والتفضيــل علــى كثي ــر مــن املخلوقــات ...فالتكريــم :جعلــه ً كريمــا ،أي ً نفيســا غي ــر مبــذول وال ذليــل فــي صورتــه وال فــي حركــة مشــيه وفــي بشــرته ...وأمــا التفضيــل فجماعــه تمكي ــن اإلنســان مــن ُّ التســلط علــى جم ــيع املخلوقــات األرضيــة ً ب ـرأيه وحيلتــه ،وكفــى بذلــك تفضيــا علــى البقيــة ،والفــرق بـي ــن التفضيــل والتكريــم بالعمــوم والخصــوص؛ فالتكريــم منظــور
( )18شرح مشكل اآلثار ،للطحاوي ،تحقيق :األرنؤوط ،طبعة الرسالة 1415 ،هـ (ج ،12ص.)521 َ ْ َ ْ ُ َُْ َ ّ الر ِيح ،بـرقم.)5652( : ( )19رواه البخاري ،في كتاب املر�ضى ،باب فض ِل من يصرع ِمن ِ ( )20تفسيـر ابـن عاشور( ،املتوفى1393هـ) ،الدار التونسية للنشر ،تونس 1984م( ،ج -15ص.)166-164 ( )21رواه البخاري ،في كتاب األذان ،باب َه ْل َي ْأ ُخ ُذ َ ُ َ َ َّ َ ْ َّ اس؟ بـرقم( )714( :ج ،1ص.)144 ِ اإلمام ِإذا شك ِبقو ِل الن ِ
حقوق ذوي االحتياجات الخاصة
العدد 2رجب 1439هـ
فيــه إلــى تكريمــه فــي ذاتــه ،والتفضيــل منظــور فيــه إلــى تشــريفه فــوق غي ــره)(،)20 فتكريــم هللا لبـن ــي آدم هــو تفضيلــه لهــم َْ بالنطــق والعقــل والعلــم واعتــدال الخلــق. -4حــق الحريــة :فــذوو االحت ــياجات الخاصــة أحـرار كغي ــرهم ،يتمتعــون بحريــة أنفســهم كمــا يتمتعــون بحريــة الـرأي وحريــة القـرار، وحريــة التفكي ــر والتعبـي ــر ،قــال هللا تعالــى: َ َ َ ُ ْ ّ َ هللا ِلنـ َـت ل ُهـ ْـم َولـ ْـو كنـ َـت (( ف ِب َمــا َرح َمـ ٍـة ِمــن ِ َ ًّ َ َ ـظ ْال َق ْلــب َل َنف ُّ فظــا غ ِليـ ضــوا ِمـ ْـن َح ْوِلـ َـك ِ َ ْ ُ ـف َع ْن ُهـ ْـم َو ْ اسـ َـت ْغ ِف ْر َل ُهـ ْـم َو َشــاو ْر ُهمْ فاعـ َ ِ َْ ال ْمــر َفــإ َذا َع َز ْمـ َـت َف َتـ َـو َّك ْل َعلــى هللا إنَّ ِفــي ِ ِ ِ َ ُ ِ ُّ ْ ُ َ َ ّ َ هللا ي ِحــب التو ِك ِلي ــن)) [آل عم ـران،]159: َْ َ فقولــه تعالــىَ (( :وشـ ِـاو ْر ُه ْم ِفــي ال ْمـ ِـر)) أي: اســتخرج آراءهــم ،فاملشــورة :تلقيــح ال ـرأي بــآراء متعــددة ،وهــذا دليــل علــى حريــة الرأي فــي التعبـي ــر وتبــادل اآلراء مــع اآلخري ــن، وال فــرق فــي ذلــك بـي ــن ذوي االحت ــياجات الخاصــة وغي ــرهم ،وهــذا منهــج النب ــي صلــى هللا عليه وسلم في التعامل وإعطاء الحرية لآلخري ــن ليعب ــروا عــن آرائهــم ،والدليــل علــى َ َ َ فعـ ْـن أ ِبــي ُه َرْيـ َـرة ذلــك قصــة ذي اليدي ــن، َ ص َّلــى هللاُ ((أ َّن َر ُســو َل هللا َ ر�ضــي هللا عنــه: ِ َ َ ْ َ َ َّ َ ْ َ َ َ َ ْ َ َ ْ َ َ َ َُ عليـ ِـه وســلم انصــرف ِمــن اثنتيـ ِـن ،فقــال لــه الصـ َـا ُةَ ،أ ْم َنسـ َ الي َد ْيــنَ :أ َق ُ ُذو َ صـ َـر ِت َّ ـيت ِ ِ ص َّلــى ُ ـال َر ُســو ُل هللا َ هللا؟ َف َقـ َ َيــا َر ُســو َل هللا ِ ِ َع َل ْيــه َو َسـ َّـل َم«َ :أ َ صـ َـد َق ُذو َ الي َد ْيــن؟» َف َقـ َ ـال ِ ِ َّ ص َّلــى هللاُ ـام َر ُســو ُل هللا َ ـاسَ :ن َعـ ْـمَ ،ف َقـ َ ُ النـ ُ ِ ْ َع َل ْيــه َو َسـ َّـل َمَ ،ف َ َّ ْ َ َ صلــى اثنت ْيـ ِـن أخ َرَي ْيـ ِـن))(.)21 ِ أمــا حريــة اتخــاذ الق ـرار فتتجلــى فــي موقــف َ َ َع ْمرو ْبن ْال َج ُ وح ر�ضي هللا عنه( ،وك َان أ ْع َر َج م ِ َشـ ِـد َيد ْال َعـ َـرجَ ،و َك َان َلـ ُـه َأ ْ َرب َعـ ُـة َب ِني ـ َـن َشـ َـب ٌ اب ِ
48
َ َّ ُ َ َّ َي ْغـ ُـز َ ون َمـ َـع َر ُ هللا َعل ْيـ ِـه َو َســل َم هللا صلــى ســو ِل ِ َ َّ ُ َ َ َ َ ََ َ َ ُ ُ هللا َعل ْي ِه هللا صلى ِإذا غزا ،فل َّما أ َراد َرســو ُل ِ ـال َلـ ُـه َب ُنـ ُ َو َسـ َّـل َم أن َي َت َو َّجـ ُـه إ َلــى أ ُحـ ٍـدَ ،قـ َ ـوه: ِ إ َّن َ هللا َعـ َّـز َو َجـ َّـل َقـ ْـد َج َعـ َـل َلـ َـك ُر ْخ َ صـ ًـة َف َلــوْ ِ هللا َع ْنــكَ َق َعـ ْـد َت َف َن ْحـ ُـن َن ْكفيـ َـك َف َقـ ْـد َو َ ضـ َـع ُ ِ ْ َ َ َََ َ ْ ُ ْ ُ ْ َ َ ُ ُ َ هللا ـوح رســول ِ ال ِ َّجهــاد ،فأ َتــى عمــر َّو بــن َ َالجمـ ِ صلــى ُ َ هللا َعل ْيــه َو َســل َم ،فقـ َ َ َ ُ َ هللا، ـالَ :يــا رســول ِ ِ َُ َ َ ْ ِإ َّن َبنِـ َّـي َهــؤل ِء َي ْم َن ُعــون أ ْن أخـ ُـر َج َم َعـ َـك، َ ّ ََ َ ُ َ ْ ََ ََ هللا ِإ ِنــي ل ْر ُجــو أ ْن أ ْستشـ َـه َد فأطــأ ِب َع ْر َجتِــي و ِ َ ْ َ َ َّ َ ُ َّ َ ُ ُ َهـ ِـذ ِه فــي الجنـ ِـة! فقـ َ هللا صلــى ـال َلــه َرســول ِ ُ َ ِ َ ْ َ َ َّ َ َ ((أ َّمــا أ ْنـ َـت َف َقـ ْـد َو َ ضـ َـع هللاُ هللا عليـ ِـه وســلم: َْ َ ْ َ َ ََ ـال ل َبنيــهَ : ((و َمــا َع َل ْي ُكــمْ َ َعنــك ال ِجهــاد)) .وقـ ِ ِ ِ َ ْ َ َ ُ ُ َ َ َّ َ ُ ُ َ َ َّ َ هللا َي ْرزق ُه الش َهادة)) .فخ َر َج أن تدعوه لعل َ َ َّ َّ ُ ُ َ َ َ َ َ َ ُ َ ْ هللا صلــى هللا عليـ ِـه وســلم ،فق ِتـ َـل مــع َر ُســو ِل ِ َيـ ْـو َم أ ُحــد َشــه ً يدا)( ،)22فهــذه حريــة اتخــاذ ٍ ِ الق ـرار لــذوي االحت ــياجات الخاصــة. ُّ -5حــق التعلــم والتعليــم :مــن حقــوق ذوي ُّ االحت ــياجات الخاصــة التعلــم والتعليــم لجم ــيع العلــوم املفيــدة ،فــأول مــا نــزل مــن ْ ((اقـ َ ْـرأ ب ْ اسـ ِـم الق ـرآن الكريــم قولــه تعالــى: ِ ََ َّ َّْ َرِّبـ َـك الـ ِـذي خلـ َـق)) [العلــق ]2:أي :تعلــم ْ َ َ وارق وارتـ ِـق ،وهــذا عبــد هللا ب ــن أم مكتــوم مــن ذوي االحت ــياجات الخاصــة (الضري ــر) ُّ ً حريصــا علــى التعلــم مــن رســول هللا كان َّ ليزكـي نفســه ،وقولــه صلــى هللا عليــه وســلم ـ َ َّ َّ َ َ ْ َ ٌ تعالــى(( :كل ِإنهــا تذ ِكــرة)) [عبــس]11: َ ُّ َ ُ َ ْ ُ ُْ (أ ْي َهـ ِـذ ِه السـ ـورة أ ِو ال َو ِص َّيــة ِبال َسـ َـاو ِاة َ ْ ْ َ َ ْ َ َّ ـاس ِفــي ِإ ْبــا ِغ ال ِعلـ ِـم ِمـ ْـن شـ ِـر ِيف ِه ْم بيــن النـ ِ َو َو ِضي ِع ِهـ ْـم ) (.)22 وعـ ْـن ُع ْث َمـ َ هللا َع ْنـ ُـهَ ،عــن َّ ـان َر�ضـ َـي ُ َ النب ـ ّ ِـي ِ ِ
ُ َ َ ْ َ َ َّ َ َ َ َ ُ َ َّ ـال« :خ ْي ُركـ ْـم َمـ ْـن صلــى هللا عليـ ِـه وســلم قـ َ َ َّ َ ُ ْ َ َّ آن َو َعل َمـ ُـه»(.)24 تعلــم القــر وقــد كان أبــو عبــد الرحمــن عبــد هللا ب ــن حب ــيب السلم ــي أعمــى ،لكنــه كان مقــرئ َ َ َ الكوفــة ،وهــو مــن أوالد الصحابــة ،أخــذ َع ْنـ ُـه ُ القـ ْـر َ (عاصـ ُـم ب ـ ُـن َأبــي َّ آنَ : الن ُجـ ْـو ِد، ِ َ ِ َو َي ْح َيــى ب ـ ُـن َو َّثــابَ ،و َعطـ ُـاء ب ـ ُـن َّ الســا ِئ ِب، ٍ َ ْ َ ْ َ َّ َو َع ْبـ ُـد هللا ب ـ ُـن ِع ْي�ســى ب ـ ِـن عبـ ِـد الرحمـ ِـن ب ـ ِـن ِ َ َ َّ أب ــي ليلــى َو ُم َح َّمـ ُـد ب ـ ُـن أ ِبــي أ ُّيـ ْـو َب َوالش ْعب ـ ُّـي َ َ َ َ َ َ َ َ ْ ض َعل ْيـ ِـه اع ْي ُل ب ـ ُـن أ ِبــي خ ِالـ ٍـد ،وعــر وِإسـ َـم ِ الح َسـ ْـي ُن َر�ضـ َـي ُ َ الح َسـ ُـن َو ُ هللا َع ْن ُه َمــا)(.)25 ِ ُّ فمــن حــق ذوي االحت ــياجات الخاصــة التعلــم والتعليــم ،وتوفي ــر الظــروف املناســبة لهــم ـكـي يتعلمــوا وي ــنالوا أعلــى املراتــب ،في ــنفعوا أنفســهم وأمتهــم. -6حــق العمــل والكســب :ي ــنبغي علــى املجتمــع أن يوفــر لــذوي االحت ــياجات الخاصــة فــرص عمــل خاصــة بهــم ،لئــا يكونــوا عالــة علــى أحــد ،وليســاهموا فــي ب ــناء هــذا املجتمــع وإعمــاره ،قــال هللا َُ ْ ُ َ ُ َُ اع َملــوا ف َسـ َـي َرى تعالــى (( :وقـ ِـل هللا َع َملكـ ْـم َ ُ ُ ُْ َ َ ْ ُ َو َر ُســول ُه َوالؤ ِمنــون َو َســت َر ُّدون ِإلــى َع ِالـ ِـم ُ َ ُ َْ َّ الغ ْيـ ِـب َوالشـ َـه َاد ِة ف ُي َن ِّب ُئكــم ِب َمــا ك ُنتـ ْـم َ ُ ت ْع َملــو َن)) [التوبــة ،]105:والعمــل الدن ــيوي واألخــروي مطلــوب مــن الجم ــيع ،ومنهــم ذوو االحت ــياجات الخاصــة ،حيــث يملــؤون أوقــات فراغهــم بمــا هــو مفيــد ونافــع للنــاس ،وبالعمــل يســتعيدون صحتهــم ألن العضــو الــذي ال يعمــل يضمــر ويضعــف، ويحافظــون علــى صحــة نفوســهم؛
( )22رواه البيهقي في السنن الكبـرى ،تحقيق :محمد عطا ،دار الكتب العلمية ،الطبعة الثالثة2003 ،م ،كتاب السيـر، َّ ْ َ ْ َ َ َ َّ َ ْ ْ َ ْ َ َََْ الز َمان ِة َوال ُعذ ِر ِفي ت ْر ِك ال ِج َه ِاد ،بـرقم( ،)17821( :ج ،9ص.)42 ضو باب م ِن اعتذر ِبالضع ِ ف والر ِ ( )23تفسيـر القرآن العظيم (ابـن كثيـر) ،تحقيق :محمد حسيـن شمس الديـن ،دار الكتب العلمية ،الطبعة األولى1419 ،هـ( ،ج ،8ص.)322 َّ ( )24رواه البخاري ،في كتاب فضائل القرآن ،باب َخ ْي ُر ُك ْم َم ْن َت َع َّل َم ُ الق ْر َآن َو َعل َم ُه ،بـرقم( )5027( :ج - 6ص.)192 ( )25سيـر أعالم النبالء ،للذهبي ،دار الحديث ،القاهرة2006 ،م (ج - 5ص.)153 ( )26التكاليف والحقوق الشرعية للمعاقيـن ،د .طارق بـن عبد هللا حجار ،بحث منشور في مجلة الجامعة اإلسالمية ،العدد( ،130:ص.)474-473
العدد 2رجب 1439هـ
ألنهــم بخروجهــم للعمــل ي ــندمجون فــي املجتمــع ،ويعيشــون بعيـ ًـدا عــن إصابتهــم فــا يشــعرون ب ــنقص وال ضعــف ،كمــا أنهــم ي ــنتجون ويكســبون ،ولغي ــرهم ال يحتاجــون ،وهــذا نب ــي هللا مو�ســى عليــه الســام عمــل فــي رعــي األغنــام عشــر سنـي ــن، وفــي لســانه ُع ْقـ َـدة ،قــال هللا تعالــى حكايــة َ َ َ ّ ْ اشـ َـر ْح لــي َ صـ ْـد ِريَ .و َي ِ ّسـ ْـر عنــه (( :قــال رب ِ َ َ ْ ُ ْ ِ ُ ْ َ ً ّ َّ َ ْ َُ ِلــي أ ْمـ ِـري .واحلــل عقــدة ِمــن ِلســا ِني .يفقهــوا َ ق ْو ِلــي)) [طــه ،]28-25:فــذوو االحت ــياجات الخاصــة ال تمنعهــم إصابتهــم مــن العمــل والكســب الحــال. وهــذا عبــد الرحمــن ب ــن عــوف ر�ضــي هللا عنــه (علــى الرغــم مــن َعـ َـر ٍج أصابــه بعــد غــزوة ُ َ ُ ً أحــدُ ، واضحــا وســقوط أســنا ِن ِه تـ َـر َك أث ـ ًـرا فــي نطقــه وحديثــه ،إال أن هــذه اإلعاقــات لــم تمنعــه مــن طلــب الــرزق والســعي إلــى الكســب الحــال حتــى كان مــن أغنــى أغن ــياء املسلمـي ــن)(.)26 -7حــق التصــرف والتملــك :املؤهــل للتصــرف ُ البالــغ العا ِقــل الر ِاشــد ،ومــا دام هــو الحـ ُّـر ِ ذوو االحت ــياجات الخاصــة كذلــك ،فلهــم حــق التصــرف التــام فــي الب ــيع والش ـراء ُّ والتملــك وســائر التصرفــاتَّ ،أمــا إن كان يحــول بـي ــنه وبـي ــن التصــرف �شــيء؛ فإنــه ي ــنوب عنــه غي ــره ،قــال هللا تعالــى فــي َ ْ َ َ َّ آيــة املداي ــنة ...(( :فـ ِـإن ك َان الـ ِـذي َعل ْيـ ِـه ال َحـ ُّـق َ َ َ َســف ًيها َأ ْو َ ض ِع ًيفــا أ ْو ل َي ْسـ َـت ِط ُيع أن ُي ِمـ َّـل ِ ُ َ َ ْ ُ ْ ْ َ ُّ ُ ْ ْ َ هــو فليم ِلــل وِليــه ِبالعــد ِل[ ))...البقــرة]282: ُ ُ ّ ـف ال ـرأي ،أي َمــن ال وف ِســر الســفيه بضعيـ ِ
49
حقوق ذوي االحتياجات الخاصة ُ الختالل في عقله، حســن التصرف في املال ي ِ ٍ َْ ُ واألبكم واألعمى واأللك ُن الجاهل وقيل :هو ِ ُّ َ ْ ُ ْ ْ َ ُّ ُ ْ ْ ْ َ واألخـ ُ ـرس واألصــم ،فليم ِلــل وِليــه ِبالعــد ِل. فبتمكيـن ذوي االحتـياجات الخاصة من حق التصــرف ،يصبحــون فاعلي ــن منتجي ــن ولجهدهم وأوقاتهم مستثمريـن ،وبأموالهم منتفعي ــن وال يكونــون عالــة علــى اآلخري ــن. -8الحــق املالــي :لقــد خـ َّ ـص هللا تعالــى ذوي االحت ــياجات الخاصــة بالحــق املالــي ،ألنهــم يحتاجونــه فــي نفقتهــم وعالجهــم وأدويتهــم ُ َّ وأجهزتهــم كالســماعة والعــكازة والكر�سـ ّـي املتحـ ّ ِـرك ،واســتحقوا ذلــك ألنهــم ال يســتطيعون أن يتحركــوا ،قــال هللا تعالــى: َُْ َّ َ ُ ْ َ هللا (( ِللفقـ َـر ِاء ال ِذي ــن أح ِصـ ُـروا َ ِفــي سـ ِـب ِيل ِ ْ َل َي ْسـ َـتط ُ َ َ ض َي ْح َسـ ُـب ُه ُم يعون ض ْ ًربــا ِفــي ال ْر ِ ِ َْ ُ ْ َ ُ َْ ُّ َّ َ َ َ َ ُ ـف تع ِرفهــم الج ِاهــل أغ ِنيــاء ِمــن التعفـ ِ َ ُ ْ َ َ ْ َ ُ َن َّ َ ْ َ ً ِب ِســيماهم ل يســألو النــاس ِإلحافــا َو َمــا ُتنف ُقــوا مـ ْـن َخ ْيــر َفــإ َّن َ هللا ِبـ ِـه َع ِليـ ٌـم)) ِ ِ ٍ ِ ّ [البقــرة ]273:قــال اب ــن عاشــور( :أنهــم ّ عاجــزون عــن التجــارة لقلــة ذات اليــد، الت ْجــر؛ ّ والضـ ْـر ُب فــي األرض كنايــة عــن َّ ألن شـ َ ـأن التاجــر أن يســافر ليبتــاع ويب ــيع فهــو يضــرب األرض ب ــرجليه أو ّ دابتــه)(.)27 َّ َ َ ُ ْ َ ـات ِلل ُفقـ َـر ِاء قــال هللا تعالــىِ (( :إ َّن َمــا الصدقـ ْ َ َْ ْ ُ َ َّ َ َوال َس ِاكي ـ ِـن َوال َع ِام ِلي ـ َـن َعل ْي َهــا َوالؤلفـ ِـة ُُ َّ َْ ـاب َوالغ ِار ِمي ـ َـن َو ِفــي الرقـ قل ُوب ُهـ ْـم َو ِفــي ِ ِ َ َ ً َ هللا َو ْابــن َّ يضــة ِّمـ َـن السـ ِـب ِيل ف ِر سـ ِـب ِيل ِ ِ هللا َو ُ هللا َع ِليـ ٌـم َح ِكيـ ٌـم)) [التوبــة،]60: ِ وذوو االحت ــياجات الخاصــة هــم الفق ـراء واملساكي ــن الحقيقيــون ،فاملعنــى األصلــي للفقي ــر هــو مــن يشــتكي ِف َقـ َـار ْ ظهــره ،لعــدم وجــود مــا يكفيــه بحســب حالــه ،وا ِمل ْسكي ـ ُـن: هــو مــن سـ ْ ُ جوارحــه ،فالســكون ـكنت
َّ ُ ضعــف وعجــز وقلــة حركــة. -9حــق الــزواج واإلنجــاب :حي ــنما أمــر هللا تعالــى بالــزواج شــمل ذوي االحت ــياجات الخاصــة وغي ــرهم ،بــل ربمــا ذوو االحت ــياجات ْ أحــوج إلــى الــزواج واإلنجــاب مــن غي ــرهم إذا كانــوا قادري ــن َّ ومهيئي ــن لذلك ،ألنهم بهذا الزواج يجدون من يقف بجانبهــم مــن الزوجــة واألوالد ،فيعي ــنوهم فــي حوائجهــم ويســاعدونهم ويســاندونهم، كمــا أن الــزواج مصـ ٌ ـدر مــن مصــادر الــرزق ََ َْ والغنــى ،قــال هللا تعالــى: ((وأ ِنك ُحــوا ال َي َامــى ُ ُ ُ نكـ ْـم َو َّ الص ِال ِحي ـ َـن ِمـ ْـن ِع َب ِادكـ ْـم َوِإ َما ِئكـ ْـم ِم َ ُ ُ ْ ُ َ ْ ُ ُ ِإن َيكونــوا فقـ َـر َاء يغ ِن ِهـ ُـم هللا ِمــن فض ِلـ ِـه َو ُ هللا َو ِاسـ ٌـع َع ِليـ ٌـم)) [ســورة النــور]32: ومعظــم التشــريعات والقوانـي ــن املتعلقــة بحقــوق األشــخاص ذوي االحت ــياجات الخاصــة فــي جم ــيع الــدول قــد َّ نصـ ْـت علــى حــق األشــخاص املعاقي ــن بالــزواج وتكوي ــن األســرة الت ــي تســودها املحبــة واالســتقرار.
املبحث الثالث
واقعذوياالحتـياجاتالخاصةفيسوريا
لقــد عانــى الشــعب الســوري بمختلــف فئاتــه مــن ويــات الحــرب عب ــر الســنوات املاضيــة، ومــن هــذه الفئــات ذوو االحت ــياجات الخاصــة الذي ــن فقــدوا الرعايــة الالزمــة ،والــذي فاقــم الوضــع أكث ــر مــا يتعــرض لــه الشــعب الســوري من قصف مستمر بمختلف األسلحة -وحتى الســاح الكيمــاوي -مــن قبــل النظــام املجــرم وحلفائــه ،ممــا ســبب ازديـ ًـادا خطي ـ ًـرا فــي أعــداد املصابـي ــن بالعاهــات الدائمــة واإلعاقــات َ املزمنــة ،فمنهــم مــن فقـ َـد أطرافــه كبت ــر اليــد َ ّ والرجــل ،ومنهــم مــن فقـ َـد حواســه كالســمع ِ
حقوق ذوي االحتياجات الخاصة
العدد 2رجب 1439هـ
والبصــر ،ومنهــم مــن تعـ ّـرض ألم ـراض نفســية قاســية نت ــيجة الصدمــة والخــوف والرعــب الشــديد ،وهكــذا تنوعــت األســباب الت ــي أدت الــى حــاالت اإلعاقــة بفعــل الحــرب الدائــرة فــي ســوريا ،وقــد تعـ َّـرض بعضهــم إلعاقــات نت ــيجة التعذيــب فــي ســجون نظــام اإلج ـرام. وقد تحدث أحد األطباء العامليـن في منظمة اإلعاقــة الدوليــة (الدكتــور أســعد ممــدوح) للمكتــب اإلعالم ــي لقــوى الثــورة السـ َّ ـورية ً قائــا :إن تقري ــر منظمــة الصحــة العامل ــية ومنظمــة اإلعاقــة الدوليــة والــذي صــدر ّ عــام ،2015وثــق ثمانـي ــن ألــف حادثــة إعاقــة ناتجــة عــن اســتهداف املدنـيي ــن بـي ــن عام ــي 2012و2015م ،وكان ملدي ــنة حلــب وريفها النصيب األكبـر من عدد املعاقيـن، حيــث تعــرض أهالــي املدي ــنة لحملــة واســعة مــن القصــف بالبـرام ــيل املتفجــرة والقنابــل الفتاكــة مــع بدايــة عــام 2014م (.)28 وال زال الدمــار والقصــف بكافــة صنــوف األســلحة هــو مــا يعن ــي ازديـ ًـادا مضطـ ً ـردا فــي عــدد املعاقي ــن بشــكل يوم ـ ّـي ،ومــع كل هــذا لــم يحـ ّـرك املجتمــع الدولــي سـ ً ـاكنا، ِ ولــم يقـ ِّـدم الرعايــة املناســبة لتحسي ــن وضــع ذوي االحت ــياجات الخاصــة كإنشــاء مراكــز لألط ـراف الصناعيــة ،أو إنشــاء مــدارس خاصــة للصــم والبكــم أو فاقــدي البصــر ،بغيــة احتضانهــم وتقديــم مــا يلزمهــم مــن احت ــياجات صحيــة وتعليم ــية ورعايــة نفســية لدمجهــم فــي املجتمــع، اللهــم إال مــا تقدمــه بعــض املنظمــات اإلنسان ــية الت ــي بذلــت قصــارى جهدهــا لتقديــم الدعــم النف�ســي لألطفــال ذوي االحت ــياجات الخاصــة ،حيــث أسســت
( )27املصدر السابق :ج ،3ص.74 ( )28موقع املكتب اإلعالمي لقوى الثورة السورية (« :)RFSذوي االحتياجات الخاصة في سوريا ..واقع أليم ومعاناة مستمرة»مصطفى عبد الحق 25 ،فبـرايـر2016 ,م.
50
مدرست ـ ْـين فــي مدي ــنة حلــب ،ومنهــا مدرســة (الجســر الذهب ــي لــذوي االحت ــياجات الخاصــة) ،إذ بعــد تهجي ــر أهــل حلــب لــم يستســلم القائمــون عليهــا لظــروف التهجي ــر؛ فأعــادوا افتتــاح املدرســة فــي مدي ــنة األتــارب فــي ريــف حلــب الغرب ــي فــي أيــار /مايــو 2017م ،واحتضنــوا هــذه الفئــة املهمشــة مــن املجتمــع ،وخاصــة األطفــال الذي ــن تعرضــوا ألزمــات نفســية، باذلي ــن جهدهــم لتقديــم الرعايــة الخاصــة لهــم ،والقيــام بخلــط األطفــال املصابـي ــن بأقرانهــم السليمـي ــن ضمــن أجــواء مــن اللعــب واملــرح واألنشــطة املفيــدة ،فكانــت النتائــج إيجاب ــية بشــكل كبـي ــر(.)29 أمــا أصحــاب اإلعاقــات الجســدية وفاقدي األعضــاء وخاصــة األرجــل الضروريــة ً للحركــة ،فــا يجــدون أطرافــا صناعيــة تعي ــنهم علــى امل�شــي مجـ ّـد ًدا إال نـ ً ـادرا حيــث يــكاد يكــون الدعــم املقــدم ملراكــز األطـراف الصناعيــة شــبه معــدوم ،ممــا يجعــل صاحــب اإلعاقــة مضطـ ًـرا للتوجــه إلــى دول الجــوار كت ــركيا للحصــول علــى الطــرف الصناعــي ،وكثي ـ ًـرا مــا يجــد املعــاق نفســه أمام باب مسدود ً تماما مع إغالق الحدود أمــام الحــاالت املرضيــة البــاردة والســماح فقــط للحــاالت اإلســعافية الســاخنة أو الحــاالت املرضيــة الت ــي تهــدد حيــاة املريــض بالدخــول إلــى األرا�ضــي الت ــركية. علــى أن الفئــة املنسـ ّـية مــن ذوي االحت ــياجات الخاصــة هــم الصــم والبكــم وخاصــة كبــار الســن منهــم ،فكثي ــر منهــم
مت ــزوج ولديــه أوالد ومســؤوليات عائليــة، توجــب عليهــم الســعي لطلــب الــرزق وتأمـي ــن لقمــة العيــش لعوائلهــم ،وعــاوة علــى أنهــم ال يجــدون مــن يقــدم لهــم يــد العــون واملســاعدة؛ فإنهــم يواجهــون جمــة فــي ّ صعوبــات ّ التكيــف مــع مــا يحيــط بهــم مــن ظــروف قاســية ،ويعانــون مــن مشــكلة التواصــل مــع اآلخري ــن مــن أب ــناء ّ األصحــاء. جلدتهــم ً ُ وقــد َأنشــأ َّ مؤخـ ًـرا قرابــة أربعي ــن ناشــطا َّ جمعيــة للصـ ِ ّـم والبكـ ِـم فــي بلــدة (التوامــة) ب ــريف حلــب الغرب ــي حيــث املناطــق املحــررة ،والالفــت للنظــر أن رئيــس هــذه الجمعيــة هــو أصــم وأبكــم يدعــى (ناصــر الدقــس) ويشــاركه أوالده األصحــاء الذي ــن يعملــون علــى مــد جســر التواصــل مــع العالــم الخارجــي؛ مــن خــال ت ــرجمة لغــة اإلشــارة الت ــي يتقنونهــا ،فيســاعدون والدهــم فــي إدارة شــؤون الجمعيــة(.)30 ويعــد (مركــز التـرب ــية الخاصــة لإلعاقــات الســمعية والنطقيــة والذهن ــية) لتأهيــل ذوي االحت ــياجات الخاصــة ،والــذي ّ أسـ َ ـس ِ أواخــر أب ــريل /ن ــيسان 2016م فــي بلــدة (معربــة) فــي ريــف درعــا الشــرقي ،بــادرة غي ــر مســبوقة فــي املنطقــة ،يهــدف إلــى دمــج ذوي االحت ــياجات الخاصــة فــي املجتمــع، مــن خــال تأهيــل أف ـراد هــذه الشــريحة وتعليمهــا وفــق األســاليب الحديثــة املتعلقــة بهــذا املجــال(.)31 ومــع ارتفــاع أعــداد ذوي االحت ــياجات الخاصة نتـيجة القصف العنـيف من قبل
العدد 2رجب 1439هـ
قــوات النظــام علــى الغوطــة الشــرقية ،تــم تشــكيل رابطــة ذوي االحت ــياجات الخاصــة فــي الغوطــة مــع نهايــة عــام 2015م»(.)32 وال شـ َّـك أن الحـ َّـل الجــذري ملشــكلة ذوي االحت ــياجات الخاصــة فــي ســوريا يكمــن: ً أول :في وقف القتل والتدمـي ــر ،والقصف ّ ـوائي املمنهج. العشـ ِ ثان ـ ًـيا :تأســيس مراكــز طب ــية ومــدارس خاصــة ،تقـ ِّـدم الرعايــة الكاملــة لهــم، ّ وتؤمـ ُـن احت ــياجاتهم األساســية مــن مــأكل ِ وملبــس ومــأوى. ً ثالثــا :تأمـي ــن فــرص عمــل مناســبة لــذوي االحت ــياجات الخاصــة ،ـكـي ال يشــعروا بأنهــم عالــة علــى املجتمــع ،فيكونــون فاعلي ــن ومنتجي ــن ،بــل ومساهمـي ــن فــي نهضــة أمتهــم علــى جم ــيع األصعــدة.
الخامتة
بعــد االنتهــاء مــن هــذه الدراســة َ الع ْجلــى حــول حقــوق ذوي االحت ــياجات الخاصــة مــن منظــور القــرآن الكريــم ،قـ ُ ـرأت تقري ـ ًـرا في اليوم العامل ــي للمعاقي ــن ،فلفت نظري ّ أن نســبة اإلعاقــة فــي البلــدان العرب ــية مــا بـي ــن ( )%0.4فــي بعــض البلــدان ،و ( )%4.9فــي بلــدان أخــرى؛ نســبة لعــدد الســكان عــام 2014م حســب ب ــيانات االســكوا ( ،)33()ESCWAكل هــذا كان قبــل الحــرب فــي ســوريا والبــاد العرب ــية، فمــاذا عــن اإلحصائيــات اآلن؟ إن مــا تت ــركه الحــرب مــن إعاقــات وتشــوهات يفــوق الخيــال.
( )29مقال« :ذوو االحتياجات الخاصة ومعاناتهم في ظل الحرب السورية» ،أحمد الصوراني ،موقع ن بوست 25 ،أغسطس 2017م https://www.noonpost.org/content/19560 ( )30املصدر السابق. ( )31موقع الخليج أوناليـن« :سوريا..أول مركز لذوي االحتياجات الخاصة في درعا املحررة» عطاف األحمد2016/06/21،م. ( )32مقال« :ذوي االحتياجات الخاصة في سوريا ..واقع أليم ومعاناة مستمرة»مصطفى عبد الحق ،مصدر سابق. ّ ( )33اليوم العالمي لإلعاقة ،ويب طب ،2015-12-3 ،اطلع عليه بتاريخ 2017-7-21م.
51
حقوق ذوي االحتياجات الخاصة ُ الختالل في عقله، حســن التصرف في املال ي ِ ٍ َْ ُ واألبكم واألعمى واأللك ُن الجاهل وقيل :هو ِ ُّ َ ْ ُ ْ ْ َ ُّ ُ ْ ْ ْ َ واألخـ ُ ـرس واألصــم ،فليم ِلــل وِليــه ِبالعــد ِل. فبتمكيـن ذوي االحتـياجات الخاصة من حق التصــرف ،يصبحــون فاعلي ــن منتجي ــن ولجهدهم وأوقاتهم مستثمريـن ،وبأموالهم منتفعي ــن وال يكونــون عالــة علــى اآلخري ــن. -8الحــق املالــي :لقــد خـ َّ ـص هللا تعالــى ذوي االحت ــياجات الخاصــة بالحــق املالــي ،ألنهــم يحتاجونــه فــي نفقتهــم وعالجهــم وأدويتهــم ُ َّ وأجهزتهــم كالســماعة والعــكازة والكر�سـ ّـي املتحـ ّ ِـرك ،واســتحقوا ذلــك ألنهــم ال يســتطيعون أن يتحركــوا ،قــال هللا تعالــى: َُْ َّ َ ُ ْ َ هللا (( ِللفقـ َـر ِاء ال ِذي ــن أح ِصـ ُـروا َ ِفــي سـ ِـب ِيل ِ ْ َل َي ْسـ َـتط ُ َ َ ض َي ْح َسـ ُـب ُه ُم يعون ض ْ ًربــا ِفــي ال ْر ِ ِ َْ ُ ْ َ ُ َْ ُّ َّ َ َ َ َ ُ ـف تع ِرفهــم الج ِاهــل أغ ِنيــاء ِمــن التعفـ ِ َ ُ ْ َ َ ْ َ ُ َن َّ َ ْ َ ً ِب ِســيماهم ل يســألو النــاس ِإلحافــا َو َمــا ُتنف ُقــوا مـ ْـن َخ ْيــر َفــإ َّن َ هللا ِبـ ِـه َع ِليـ ٌـم)) ِ ِ ٍ ِ ّ [البقــرة ]273:قــال اب ــن عاشــور( :أنهــم ّ عاجــزون عــن التجــارة لقلــة ذات اليــد، الت ْجــر؛ ّ والضـ ْـر ُب فــي األرض كنايــة عــن َّ ألن شـ َ ـأن التاجــر أن يســافر ليبتــاع ويب ــيع فهــو يضــرب األرض ب ــرجليه أو ّ دابتــه)(.)27 َّ َ َ ُ ْ َ ـات ِلل ُفقـ َـر ِاء قــال هللا تعالــىِ (( :إ َّن َمــا الصدقـ ْ َ َْ ْ ُ َ َّ َ َوال َس ِاكي ـ ِـن َوال َع ِام ِلي ـ َـن َعل ْي َهــا َوالؤلفـ ِـة ُُ َّ َْ ـاب َوالغ ِار ِمي ـ َـن َو ِفــي الرقـ قل ُوب ُهـ ْـم َو ِفــي ِ ِ َ َ ً َ هللا َو ْابــن َّ يضــة ِّمـ َـن السـ ِـب ِيل ف ِر سـ ِـب ِيل ِ ِ هللا َو ُ هللا َع ِليـ ٌـم َح ِكيـ ٌـم)) [التوبــة،]60: ِ وذوو االحت ــياجات الخاصــة هــم الفق ـراء واملساكي ــن الحقيقيــون ،فاملعنــى األصلــي للفقي ــر هــو مــن يشــتكي ِف َقـ َـار ْ ظهــره ،لعــدم وجــود مــا يكفيــه بحســب حالــه ،وا ِمل ْسكي ـ ُـن: هــو مــن سـ ْ ُ جوارحــه ،فالســكون ـكنت
َّ ُ ضعــف وعجــز وقلــة حركــة. -9حــق الــزواج واإلنجــاب :حي ــنما أمــر هللا تعالــى بالــزواج شــمل ذوي االحت ــياجات الخاصــة وغي ــرهم ،بــل ربمــا ذوو االحت ــياجات ْ أحــوج إلــى الــزواج واإلنجــاب مــن غي ــرهم إذا كانــوا قادري ــن َّ ومهيئي ــن لذلك ،ألنهم بهذا الزواج يجدون من يقف بجانبهــم مــن الزوجــة واألوالد ،فيعي ــنوهم فــي حوائجهــم ويســاعدونهم ويســاندونهم، كمــا أن الــزواج مصـ ٌ ـدر مــن مصــادر الــرزق ََ َْ والغنــى ،قــال هللا تعالــى: ((وأ ِنك ُحــوا ال َي َامــى ُ ُ ُ نكـ ْـم َو َّ الص ِال ِحي ـ َـن ِمـ ْـن ِع َب ِادكـ ْـم َوِإ َما ِئكـ ْـم ِم َ ُ ُ ْ ُ َ ْ ُ ُ ِإن َيكونــوا فقـ َـر َاء يغ ِن ِهـ ُـم هللا ِمــن فض ِلـ ِـه َو ُ هللا َو ِاسـ ٌـع َع ِليـ ٌـم)) [ســورة النــور]32: ومعظــم التشــريعات والقوانـي ــن املتعلقــة بحقــوق األشــخاص ذوي االحت ــياجات الخاصــة فــي جم ــيع الــدول قــد َّ نصـ ْـت علــى حــق األشــخاص املعاقي ــن بالــزواج وتكوي ــن األســرة الت ــي تســودها املحبــة واالســتقرار.
املبحث الثالث
واقعذوياالحتـياجاتالخاصةفيسوريا
لقــد عانــى الشــعب الســوري بمختلــف فئاتــه مــن ويــات الحــرب عب ــر الســنوات املاضيــة، ومــن هــذه الفئــات ذوو االحت ــياجات الخاصــة الذي ــن فقــدوا الرعايــة الالزمــة ،والــذي فاقــم الوضــع أكث ــر مــا يتعــرض لــه الشــعب الســوري من قصف مستمر بمختلف األسلحة -وحتى الســاح الكيمــاوي -مــن قبــل النظــام املجــرم وحلفائــه ،ممــا ســبب ازديـ ًـادا خطي ـ ًـرا فــي أعــداد املصابـي ــن بالعاهــات الدائمــة واإلعاقــات َ املزمنــة ،فمنهــم مــن فقـ َـد أطرافــه كبت ــر اليــد َ ّ والرجــل ،ومنهــم مــن فقـ َـد حواســه كالســمع ِ
حقوق ذوي االحتياجات الخاصة
العدد 2رجب 1439هـ
والبصــر ،ومنهــم مــن تعـ ّـرض ألم ـراض نفســية قاســية نت ــيجة الصدمــة والخــوف والرعــب الشــديد ،وهكــذا تنوعــت األســباب الت ــي أدت الــى حــاالت اإلعاقــة بفعــل الحــرب الدائــرة فــي ســوريا ،وقــد تعـ َّـرض بعضهــم إلعاقــات نت ــيجة التعذيــب فــي ســجون نظــام اإلج ـرام. وقد تحدث أحد األطباء العامليـن في منظمة اإلعاقــة الدوليــة (الدكتــور أســعد ممــدوح) للمكتــب اإلعالم ــي لقــوى الثــورة السـ َّ ـورية ً قائــا :إن تقري ــر منظمــة الصحــة العامل ــية ومنظمــة اإلعاقــة الدوليــة والــذي صــدر ّ عــام ،2015وثــق ثمانـي ــن ألــف حادثــة إعاقــة ناتجــة عــن اســتهداف املدنـيي ــن بـي ــن عام ــي 2012و2015م ،وكان ملدي ــنة حلــب وريفها النصيب األكبـر من عدد املعاقيـن، حيــث تعــرض أهالــي املدي ــنة لحملــة واســعة مــن القصــف بالبـرام ــيل املتفجــرة والقنابــل الفتاكــة مــع بدايــة عــام 2014م (.)28 وال زال الدمــار والقصــف بكافــة صنــوف األســلحة هــو مــا يعن ــي ازديـ ًـادا مضطـ ً ـردا فــي عــدد املعاقي ــن بشــكل يوم ـ ّـي ،ومــع كل هــذا لــم يحـ ّـرك املجتمــع الدولــي سـ ً ـاكنا، ِ ولــم يقـ ِّـدم الرعايــة املناســبة لتحسي ــن وضــع ذوي االحت ــياجات الخاصــة كإنشــاء مراكــز لألط ـراف الصناعيــة ،أو إنشــاء مــدارس خاصــة للصــم والبكــم أو فاقــدي البصــر ،بغيــة احتضانهــم وتقديــم مــا يلزمهــم مــن احت ــياجات صحيــة وتعليم ــية ورعايــة نفســية لدمجهــم فــي املجتمــع، اللهــم إال مــا تقدمــه بعــض املنظمــات اإلنسان ــية الت ــي بذلــت قصــارى جهدهــا لتقديــم الدعــم النف�ســي لألطفــال ذوي االحت ــياجات الخاصــة ،حيــث أسســت
( )27املصدر السابق :ج ،3ص.74 ( )28موقع املكتب اإلعالمي لقوى الثورة السورية (« :)RFSذوي االحتياجات الخاصة في سوريا ..واقع أليم ومعاناة مستمرة»مصطفى عبد الحق 25 ،فبـرايـر2016 ,م.
50
مدرست ـ ْـين فــي مدي ــنة حلــب ،ومنهــا مدرســة (الجســر الذهب ــي لــذوي االحت ــياجات الخاصــة) ،إذ بعــد تهجي ــر أهــل حلــب لــم يستســلم القائمــون عليهــا لظــروف التهجي ــر؛ فأعــادوا افتتــاح املدرســة فــي مدي ــنة األتــارب فــي ريــف حلــب الغرب ــي فــي أيــار /مايــو 2017م ،واحتضنــوا هــذه الفئــة املهمشــة مــن املجتمــع ،وخاصــة األطفــال الذي ــن تعرضــوا ألزمــات نفســية، باذلي ــن جهدهــم لتقديــم الرعايــة الخاصــة لهــم ،والقيــام بخلــط األطفــال املصابـي ــن بأقرانهــم السليمـي ــن ضمــن أجــواء مــن اللعــب واملــرح واألنشــطة املفيــدة ،فكانــت النتائــج إيجاب ــية بشــكل كبـي ــر(.)29 أمــا أصحــاب اإلعاقــات الجســدية وفاقدي األعضــاء وخاصــة األرجــل الضروريــة ً للحركــة ،فــا يجــدون أطرافــا صناعيــة تعي ــنهم علــى امل�شــي مجـ ّـد ًدا إال نـ ً ـادرا حيــث يــكاد يكــون الدعــم املقــدم ملراكــز األطـراف الصناعيــة شــبه معــدوم ،ممــا يجعــل صاحــب اإلعاقــة مضطـ ًـرا للتوجــه إلــى دول الجــوار كت ــركيا للحصــول علــى الطــرف الصناعــي ،وكثي ـ ًـرا مــا يجــد املعــاق نفســه أمام باب مسدود ً تماما مع إغالق الحدود أمــام الحــاالت املرضيــة البــاردة والســماح فقــط للحــاالت اإلســعافية الســاخنة أو الحــاالت املرضيــة الت ــي تهــدد حيــاة املريــض بالدخــول إلــى األرا�ضــي الت ــركية. علــى أن الفئــة املنسـ ّـية مــن ذوي االحت ــياجات الخاصــة هــم الصــم والبكــم وخاصــة كبــار الســن منهــم ،فكثي ــر منهــم
مت ــزوج ولديــه أوالد ومســؤوليات عائليــة، توجــب عليهــم الســعي لطلــب الــرزق وتأمـي ــن لقمــة العيــش لعوائلهــم ،وعــاوة علــى أنهــم ال يجــدون مــن يقــدم لهــم يــد العــون واملســاعدة؛ فإنهــم يواجهــون جمــة فــي ّ صعوبــات ّ التكيــف مــع مــا يحيــط بهــم مــن ظــروف قاســية ،ويعانــون مــن مشــكلة التواصــل مــع اآلخري ــن مــن أب ــناء ّ األصحــاء. جلدتهــم ً ُ وقــد َأنشــأ َّ مؤخـ ًـرا قرابــة أربعي ــن ناشــطا َّ جمعيــة للصـ ِ ّـم والبكـ ِـم فــي بلــدة (التوامــة) ب ــريف حلــب الغرب ــي حيــث املناطــق املحــررة ،والالفــت للنظــر أن رئيــس هــذه الجمعيــة هــو أصــم وأبكــم يدعــى (ناصــر الدقــس) ويشــاركه أوالده األصحــاء الذي ــن يعملــون علــى مــد جســر التواصــل مــع العالــم الخارجــي؛ مــن خــال ت ــرجمة لغــة اإلشــارة الت ــي يتقنونهــا ،فيســاعدون والدهــم فــي إدارة شــؤون الجمعيــة(.)30 ويعــد (مركــز التـرب ــية الخاصــة لإلعاقــات الســمعية والنطقيــة والذهن ــية) لتأهيــل ذوي االحت ــياجات الخاصــة ،والــذي ّ أسـ َ ـس ِ أواخــر أب ــريل /ن ــيسان 2016م فــي بلــدة (معربــة) فــي ريــف درعــا الشــرقي ،بــادرة غي ــر مســبوقة فــي املنطقــة ،يهــدف إلــى دمــج ذوي االحت ــياجات الخاصــة فــي املجتمــع، مــن خــال تأهيــل أف ـراد هــذه الشــريحة وتعليمهــا وفــق األســاليب الحديثــة املتعلقــة بهــذا املجــال(.)31 ومــع ارتفــاع أعــداد ذوي االحت ــياجات الخاصة نتـيجة القصف العنـيف من قبل
العدد 2رجب 1439هـ
قــوات النظــام علــى الغوطــة الشــرقية ،تــم تشــكيل رابطــة ذوي االحت ــياجات الخاصــة فــي الغوطــة مــع نهايــة عــام 2015م»(.)32 وال شـ َّـك أن الحـ َّـل الجــذري ملشــكلة ذوي االحت ــياجات الخاصــة فــي ســوريا يكمــن: ً أول :في وقف القتل والتدمـي ــر ،والقصف ّ ـوائي املمنهج. العشـ ِ ثان ـ ًـيا :تأســيس مراكــز طب ــية ومــدارس خاصــة ،تقـ ِّـدم الرعايــة الكاملــة لهــم، ّ وتؤمـ ُـن احت ــياجاتهم األساســية مــن مــأكل ِ وملبــس ومــأوى. ً ثالثــا :تأمـي ــن فــرص عمــل مناســبة لــذوي االحت ــياجات الخاصــة ،ـكـي ال يشــعروا بأنهــم عالــة علــى املجتمــع ،فيكونــون فاعلي ــن ومنتجي ــن ،بــل ومساهمـي ــن فــي نهضــة أمتهــم علــى جم ــيع األصعــدة.
الخامتة
بعــد االنتهــاء مــن هــذه الدراســة َ الع ْجلــى حــول حقــوق ذوي االحت ــياجات الخاصــة مــن منظــور القــرآن الكريــم ،قـ ُ ـرأت تقري ـ ًـرا في اليوم العامل ــي للمعاقي ــن ،فلفت نظري ّ أن نســبة اإلعاقــة فــي البلــدان العرب ــية مــا بـي ــن ( )%0.4فــي بعــض البلــدان ،و ( )%4.9فــي بلــدان أخــرى؛ نســبة لعــدد الســكان عــام 2014م حســب ب ــيانات االســكوا ( ،)33()ESCWAكل هــذا كان قبــل الحــرب فــي ســوريا والبــاد العرب ــية، فمــاذا عــن اإلحصائيــات اآلن؟ إن مــا تت ــركه الحــرب مــن إعاقــات وتشــوهات يفــوق الخيــال.
( )29مقال« :ذوو االحتياجات الخاصة ومعاناتهم في ظل الحرب السورية» ،أحمد الصوراني ،موقع ن بوست 25 ،أغسطس 2017م https://www.noonpost.org/content/19560 ( )30املصدر السابق. ( )31موقع الخليج أوناليـن« :سوريا..أول مركز لذوي االحتياجات الخاصة في درعا املحررة» عطاف األحمد2016/06/21،م. ( )32مقال« :ذوي االحتياجات الخاصة في سوريا ..واقع أليم ومعاناة مستمرة»مصطفى عبد الحق ،مصدر سابق. ّ ( )33اليوم العالمي لإلعاقة ،ويب طب ،2015-12-3 ،اطلع عليه بتاريخ 2017-7-21م.
51
حقوق ذوي االحتياجات الخاصة أهم ما توصل إليه الباحث من النتائج:
-1أن هللا تعالــى كـ َّـرم اب ــن آدم َّ وفضلــه علــى ســائر املخلوقــات بعــدة أمــور منهــا :النطــق َْ والعقــل والعلــم واعتــدال الخلــق وســوية الجســم. -2أن اإلســام اهتـ ّـم بــكل فئــات املجتمــع وخاصــة الضعفــاء وذوي االحت ــياجات الخاصــة ،وقــد نــزل فــي حــق بعضهــم آيــات تتلــى إلــى يــوم القيامــة. -3أن التسمـيات السلبـية مثل( :املكفوفون، الصــم والبكــم ،املشــلولون ،املعاقــون، املقعــدون ،العجــزة ،ذوو العاهــات) وغي ــرها تت ــرك أث ـ ًـرا سلب ـ ًّـيا يلصــق باملصــاب، ً وخاصــة إذا كان طفــا فتؤث ــر علــى عالقاتــه ً االجتماعيــة مســتقبل ،لذلــك اســتخدم القـرآن الكريــم األوصــاف اإليجاب ــية ،مثــل: (املصابـي ــن ،أولــي الضــرر ،أولــي اإلربــة) وقــد سـ َّـماهم النب ــي صلــى هللا عليــه وســلم (أصحـ َ ـاب األعــذار). -4أن الق ـرآن الكريــم جــاء هدايــة للبشــرية جمعــاء ،ومنهــم شــريحة ذوي االحت ــياجات الخاصــة ،حيــث َّ وجــه لهــم نصائــح وإرشــادات ،وأوالهم القرآن عناية خاصة، واستثناهم من بعض التكاليف لضعفهم. -5أن الق ـرآن الكريــم ب ـ َّـين أســس املجتمــع املســلم بمــا فيهــم ذوو االحت ــياجات الخاصــة؛ ـكـي ُيسـ َـعدوا فــي الدن ــيا ويفلحــوا فــي اآلخــرة ،وأهمهــا :املــودة والرحمــة والتعاطــف والتكافــل والتعــاون ،مــع االحت ـرام والتقدي ــر وعدم الســخرية ،وقبل ذلــك العدالــة مــع الجم ــيع. -6أن اإلســام ضمــن لــذوي االحت ــياجات الخاصــة حقوقهــم املشــروعة فــي الحيــاة،
ُّ والكرامــة والحريــة ،والتعلــم والتعليــم ُّ والعمــل ،والتصــرف والتملــك ،والــزواج واإلنجــاب وغي ــر ذلــك. -7أن الشعب السوري بمختلف فئاته عانى مــن ويــات الحــرب عب ــر الســنوات املاضيــة، ومــن هــذه الفئــات ذوو االحت ــياجات الخاصــة ،الذي ــن فقــدوا الرعايــة الالزمــة. -8أن املجتمــع الدولــي لــم يقـ ِّـدم الرعايــة املناسبة لتحسي ــن وضع ذوي االحت ــياجات الخاصــة كإنشــاء مراكــز ،أو إنشــاء مــدارس خاصــة ،بغيــة احتضانهــم وتقديــم مــا يلزمهــم مــن احت ــياجات صحيــة وتعليم ــية ورعايــة نفســية لدمجهــم فــي املجتمــع. -9أن املنظمــات اإلنسان ــية بذلــت قصــارى جهدهــا لتقديــم الدعــم النف�ســي لألطفــال ذوي االحت ــياجات الخاصــة ،حيــث أسســت مراكــز ومؤسســات ومــدارس.
من َّ ُ رات العربـ َّية الث ْو ِ الفراغ ِ لمي في َز ِ الع ُّ
العدد 2رجب 1439هـ
-4إجـراء دراســات وإحصائيــات موثقــة حــول أســباب ازديــاد أعــداد ذوي االحت ــياجات الخاصــة فــي العالــم ،وخاصــة فــي البــاد العرب ــية واإلسالم ــية.
- 7
العدد 2رجب 1439هـ
من َّ ُ العربـية رات الث ْو ِ الفراغ ِ َّ الع ُّ لمي يف َز ِ
وآخردعوانا أن الحمد هلل رب العاملـيـن. الدكتور عبد الجواد حردان
مدرس أصول الفقه بكلية اإللهيات ،جامعة صوتجو إمام -كهرمان مرعش
ُمق ِّدم ٌة
ُ رب العامليـن ،والصالة ّ والس ُ الحمد هلل ّ األكمالن األتمان الم ِ ِ ِ ِ علــى ســيدنا محمــد ســيد األولي ــن واآلخري ــن ،وعلــى آلــه وصحبـ ِـه أجمعي ــنُ ، وبعد ْ :هب َج َد ًل أن ظالم االســتبداد َأ َل َّ ـريق ـ ب ب م األمل ِ ِ ـس فــي َّ فــي التغيي ــر أو كاد َي ِحيــق بــهَ :أ َوليـ َ الصحــوة الفكريــة الت ــي ُ ّ تبشــربميــاد نجـ ٍـم ســاطع يتســلل مــن بـي ــن أثمرتهــا ثوراتنــا بــوارق ِ ْ ُ َْ ً السـ ُـدف ُ ُّ والح ُجــب؟ َووفقــا لرؤيــة تومــاس كــون فــي كتابــه (بنيــة ِ َّ والدة نهضـ ٍـة ـية الثــورة العلميــة) فــإن التفسي ـ َـر العلمـ َّـي إلمكان ـ ِ ِ َ َ الك ْبــوة أو لإلقــاع بعــد الهبــوطَّ : أن األنمـ َ ـوذج (الثــورة بعــد ً ً َّ ً البارادايـ َـم) كشــفت بمــرور الزمــن أحــوال وأنماطــا شــاذة عــن َّ ـوري وأهدافــه الســامية ،ومــا زالــت هــذه ُّ النســق الثـ ّ الصــور ِِ ِ َّ ّ ْ َّ تبشـ ُـر تت ــراكم حتــى غــدت ظاهــرة يتوقــع أن تتولــد عنهــا أزمــة ِ ً َ آخــرال يقـ َـوى االسـ ُ ـتبداد وقــوى الشـ ِّـرمجتمعــة ـورة مــن نمـ ٍـط بثـ ٍ االدعــاء شــواهده فــي الثــورة الفرنســية؛ فــإنَّ علــى قمعهــا ،ولهــذا ّ ِ َّ ٌ أقــرب مــا قيــل فــي تفسي ــرها أنهــا ثــورة عقليــة تنوي ــرية علــى عصــور ظالمهــم. َُ َّ َّ ُ ـاب قضيــة البحـ ِـث هــو كتــاب (رســالة فــي ولعــل أهــم مــا ك ِتــب فــي لبـ ِ الطريــق إلــى ثقافتنــا) للعالمــة محمــود شــاكر رحمــه هللا تعالــى ،فــا لألمــة فــي ليالــي َّ َ أنفــع وال أجـ َـدى َّ يتدارســه َّرواد الدواهــي هــذه مــن أن نهضتهــا ليســتلهموا منــه ال ِعب ــر وي ــرسموا بفرجــاره دوائــر انبعاثهــم املتداخلــة ويقفــوا مــن خاللهــا علــى مركــز نهضتهــم ومحورهــا َ اءتــه م ـرات وكـ َّـرات ُّ بتدبـ ٍـر واســتنطاق، وأقطارهــا ،ثــم يعيــدوا قر ِ َّ ُ َّ َّ ويتـرجموه إلى أنشطة َّ َّ وفعاليات بحثية وفكرية ثـرية تتولد منها رؤى عميقة تحملهم على التخطيط لبـرامج عملية واستـراتـيجيات قابلة َ ْ ُ ـإن ك َّنــا كمــا قالــت أ َمــل( :ربما للتطب ــيق علــى املــدى القريــب والبعيــد ،فـ
أما ُّ أهم التوصيات فيمكن تلخيصها في اآلتـي: -1تعليــم القائمـي ــن علــى ذوي االحت ــياجات الخاصــة األحــكام الخاصــة باملعاقي ــن، ســواء فــي اإليمــان والعقيــدة أو فــي العبــادة والصب ــر واألخــاق. -2الت ـزام القائمـي ــن علــى رعايــة ذوي االحت ــياجات الخاصــة بتقــوى هللا تعالــى فــي الســر والعلــن ،ألنهــم علــى ثغــرة عظيمــة، ولهــم أجــر كبـي ــر فــي توجيههــم التوجيــه ا لصحيــح . -3الحــث علــى دراســات علم ـ َّـية معمقــة لــذوي االحت ــياجات الخاصــة ،واســتنباط العــاج لهــم مــن خــال اآليــات القرآن ــية أو الدراســات الحديثــة ،وخاصــة ذوو األم ـراض النفســية. 52
ً ً ـرة ُ ُننفــق َّ ليمـ َّـر النــور لألجيــال مـ َّـرة) فلنجعـ ْـل كل العمــر ـكـي نثقـ َـب ثغـ مــن هــذه الرســالة َم ْسـ ًـرى لجيـ ٍـل راشـ ٍـد إلــى مســتقبل واعـ ٍـد. ومــن الدراســات املهمــة ً أيضــا كتــاب «العلــم وب ــناء األمــم» للدكتــور راغــب السرجان ــي ،وال بـ َّـد مــن القــول بــأن كتــاب تومــاس كــون «بـن ــية الثــورة العلميــة» ذو قــدر فــي هــذا البــاب ْ وإن لــم يكــن فــي صلــب ٍ املوضــوع؛ ففيــه إيحــاءات تنـي ــر زوايــا مظلمــة فــي الفكــر العلمــي لثــورات التغيي ــر َّ الفعــال. الكم والكيف ّ محددان رئيسان ومعياران مقبوالن للحكم الصحيح ِ َّ َ َ ْ َ َّ ات العرب ــية ،فــا بديــل علــى واقعيـ ِـة العلــم والتعليــم فــي زمـ ِـن الثــور ِ إحصائيــا ،وال َ عــن االســتبانات الحاصــرة ّ ًّ معنــى ملتغيراتهمــا ودراســتها ِ ـدد العلمــاء واألســاتذة املخلصي ــن املرابطي ــن ـتغال بتخمي ــن عـ ِ لالشـ ِ الجاثميـن على صدور املستبديـن في َخ َفاء ،وال ْ لحد ِس ما يمكن وما ٍ ً ال يمكــن أدلجتــه مــن مناهــج التعليــم ومؤسســاته؛ فمنعــا لالعت ـراض علــى بعــض أحــكام البحــث بتخمي ــن كهــذا وجــب َّ النـ ُ ـص عليــه ،فهــو ٍ احتـراس أو احتـر ٌاز وليس من املصادرة على املطلوب في �شيء ،واآلن َ إليــك مشــكلة البحــث فــي األســئلة اآلت ــية: َّ ّ َّ ّ اغر التـربو ّي التعليمي الواقع واملتوقع ما مدى الفر ِاغالعلمي والش ِ ِ ً فــي األزمنــة الثالثــة بــدءا مــن عــام 2011م حتــى اليــوم؟ ومــا التصــورات املقت ــرحة لسـ ِّـد هــذا الف ـراغ فــي ضــوء اختــافّ ـوال إلــى أخــرى؟ املتغي ـرات مــن بلـ ٍـد إلــى آخــر ومــن ظـ ٍ ـروف وأحـ ٍ ِ وما الوسائل املتاحة إلسقاط هذه التصورات على الواقع؟َ ومــن املســؤول عــن ت ــرجمة هــذه التصــورات إلــى واقــع فــي ن ْي ـ ِـر حالـ ِـةَّ َ ات والهجـ ِـرة وقهـ ِـر االســتبداد؟ الشــت ِ 53
حقوق ذوي االحتياجات الخاصة أهم ما توصل إليه الباحث من النتائج:
-1أن هللا تعالــى كـ َّـرم اب ــن آدم َّ وفضلــه علــى ســائر املخلوقــات بعــدة أمــور منهــا :النطــق َْ والعقــل والعلــم واعتــدال الخلــق وســوية الجســم. -2أن اإلســام اهتـ ّـم بــكل فئــات املجتمــع وخاصــة الضعفــاء وذوي االحت ــياجات الخاصــة ،وقــد نــزل فــي حــق بعضهــم آيــات تتلــى إلــى يــوم القيامــة. -3أن التسمـيات السلبـية مثل( :املكفوفون، الصــم والبكــم ،املشــلولون ،املعاقــون، املقعــدون ،العجــزة ،ذوو العاهــات) وغي ــرها تت ــرك أث ـ ًـرا سلب ـ ًّـيا يلصــق باملصــاب، ً وخاصــة إذا كان طفــا فتؤث ــر علــى عالقاتــه ً االجتماعيــة مســتقبل ،لذلــك اســتخدم القـرآن الكريــم األوصــاف اإليجاب ــية ،مثــل: (املصابـي ــن ،أولــي الضــرر ،أولــي اإلربــة) وقــد سـ َّـماهم النب ــي صلــى هللا عليــه وســلم (أصحـ َ ـاب األعــذار). -4أن الق ـرآن الكريــم جــاء هدايــة للبشــرية جمعــاء ،ومنهــم شــريحة ذوي االحت ــياجات الخاصــة ،حيــث َّ وجــه لهــم نصائــح وإرشــادات ،وأوالهم القرآن عناية خاصة، واستثناهم من بعض التكاليف لضعفهم. -5أن الق ـرآن الكريــم ب ـ َّـين أســس املجتمــع املســلم بمــا فيهــم ذوو االحت ــياجات الخاصــة؛ ـكـي ُيسـ َـعدوا فــي الدن ــيا ويفلحــوا فــي اآلخــرة ،وأهمهــا :املــودة والرحمــة والتعاطــف والتكافــل والتعــاون ،مــع االحت ـرام والتقدي ــر وعدم الســخرية ،وقبل ذلــك العدالــة مــع الجم ــيع. -6أن اإلســام ضمــن لــذوي االحت ــياجات الخاصــة حقوقهــم املشــروعة فــي الحيــاة،
ُّ والكرامــة والحريــة ،والتعلــم والتعليــم ُّ والعمــل ،والتصــرف والتملــك ،والــزواج واإلنجــاب وغي ــر ذلــك. -7أن الشعب السوري بمختلف فئاته عانى مــن ويــات الحــرب عب ــر الســنوات املاضيــة، ومــن هــذه الفئــات ذوو االحت ــياجات الخاصــة ،الذي ــن فقــدوا الرعايــة الالزمــة. -8أن املجتمــع الدولــي لــم يقـ ِّـدم الرعايــة املناسبة لتحسي ــن وضع ذوي االحت ــياجات الخاصــة كإنشــاء مراكــز ،أو إنشــاء مــدارس خاصــة ،بغيــة احتضانهــم وتقديــم مــا يلزمهــم مــن احت ــياجات صحيــة وتعليم ــية ورعايــة نفســية لدمجهــم فــي املجتمــع. -9أن املنظمــات اإلنسان ــية بذلــت قصــارى جهدهــا لتقديــم الدعــم النف�ســي لألطفــال ذوي االحت ــياجات الخاصــة ،حيــث أسســت مراكــز ومؤسســات ومــدارس.
من َّ ُ رات العربـ َّية الث ْو ِ الفراغ ِ لمي في َز ِ الع ُّ
العدد 2رجب 1439هـ
-4إجـراء دراســات وإحصائيــات موثقــة حــول أســباب ازديــاد أعــداد ذوي االحت ــياجات الخاصــة فــي العالــم ،وخاصــة فــي البــاد العرب ــية واإلسالم ــية.
- 7
العدد 2رجب 1439هـ
من َّ ُ العربـية رات الث ْو ِ الفراغ ِ َّ الع ُّ لمي يف َز ِ
وآخردعوانا أن الحمد هلل رب العاملـيـن. الدكتور عبد الجواد حردان
مدرس أصول الفقه بكلية اإللهيات ،جامعة صوتجو إمام -كهرمان مرعش
ُمق ِّدم ٌة
ُ رب العامليـن ،والصالة ّ والس ُ الحمد هلل ّ األكمالن األتمان الم ِ ِ ِ ِ علــى ســيدنا محمــد ســيد األولي ــن واآلخري ــن ،وعلــى آلــه وصحبـ ِـه أجمعي ــنُ ، وبعد ْ :هب َج َد ًل أن ظالم االســتبداد َأ َل َّ ـريق ـ ب ب م األمل ِ ِ ـس فــي َّ فــي التغيي ــر أو كاد َي ِحيــق بــهَ :أ َوليـ َ الصحــوة الفكريــة الت ــي ُ ّ تبشــربميــاد نجـ ٍـم ســاطع يتســلل مــن بـي ــن أثمرتهــا ثوراتنــا بــوارق ِ ْ ُ َْ ً السـ ُـدف ُ ُّ والح ُجــب؟ َووفقــا لرؤيــة تومــاس كــون فــي كتابــه (بنيــة ِ َّ والدة نهضـ ٍـة ـية الثــورة العلميــة) فــإن التفسي ـ َـر العلمـ َّـي إلمكان ـ ِ ِ َ َ الك ْبــوة أو لإلقــاع بعــد الهبــوطَّ : أن األنمـ َ ـوذج (الثــورة بعــد ً ً َّ ً البارادايـ َـم) كشــفت بمــرور الزمــن أحــوال وأنماطــا شــاذة عــن َّ ـوري وأهدافــه الســامية ،ومــا زالــت هــذه ُّ النســق الثـ ّ الصــور ِِ ِ َّ ّ ْ َّ تبشـ ُـر تت ــراكم حتــى غــدت ظاهــرة يتوقــع أن تتولــد عنهــا أزمــة ِ ً َ آخــرال يقـ َـوى االسـ ُ ـتبداد وقــوى الشـ ِّـرمجتمعــة ـورة مــن نمـ ٍـط بثـ ٍ االدعــاء شــواهده فــي الثــورة الفرنســية؛ فــإنَّ علــى قمعهــا ،ولهــذا ّ ِ َّ ٌ أقــرب مــا قيــل فــي تفسي ــرها أنهــا ثــورة عقليــة تنوي ــرية علــى عصــور ظالمهــم. َُ َّ َّ ُ ـاب قضيــة البحـ ِـث هــو كتــاب (رســالة فــي ولعــل أهــم مــا ك ِتــب فــي لبـ ِ الطريــق إلــى ثقافتنــا) للعالمــة محمــود شــاكر رحمــه هللا تعالــى ،فــا لألمــة فــي ليالــي َّ َ أنفــع وال أجـ َـدى َّ يتدارســه َّرواد الدواهــي هــذه مــن أن نهضتهــا ليســتلهموا منــه ال ِعب ــر وي ــرسموا بفرجــاره دوائــر انبعاثهــم املتداخلــة ويقفــوا مــن خاللهــا علــى مركــز نهضتهــم ومحورهــا َ اءتــه م ـرات وكـ َّـرات ُّ بتدبـ ٍـر واســتنطاق، وأقطارهــا ،ثــم يعيــدوا قر ِ َّ ُ َّ َّ ويتـرجموه إلى أنشطة َّ َّ وفعاليات بحثية وفكرية ثـرية تتولد منها رؤى عميقة تحملهم على التخطيط لبـرامج عملية واستـراتـيجيات قابلة َ ْ ُ ـإن ك َّنــا كمــا قالــت أ َمــل( :ربما للتطب ــيق علــى املــدى القريــب والبعيــد ،فـ
أما ُّ أهم التوصيات فيمكن تلخيصها في اآلتـي: -1تعليــم القائمـي ــن علــى ذوي االحت ــياجات الخاصــة األحــكام الخاصــة باملعاقي ــن، ســواء فــي اإليمــان والعقيــدة أو فــي العبــادة والصب ــر واألخــاق. -2الت ـزام القائمـي ــن علــى رعايــة ذوي االحت ــياجات الخاصــة بتقــوى هللا تعالــى فــي الســر والعلــن ،ألنهــم علــى ثغــرة عظيمــة، ولهــم أجــر كبـي ــر فــي توجيههــم التوجيــه ا لصحيــح . -3الحــث علــى دراســات علم ـ َّـية معمقــة لــذوي االحت ــياجات الخاصــة ،واســتنباط العــاج لهــم مــن خــال اآليــات القرآن ــية أو الدراســات الحديثــة ،وخاصــة ذوو األم ـراض النفســية. 52
ً ً ـرة ُ ُننفــق َّ ليمـ َّـر النــور لألجيــال مـ َّـرة) فلنجعـ ْـل كل العمــر ـكـي نثقـ َـب ثغـ مــن هــذه الرســالة َم ْسـ ًـرى لجيـ ٍـل راشـ ٍـد إلــى مســتقبل واعـ ٍـد. ومــن الدراســات املهمــة ً أيضــا كتــاب «العلــم وب ــناء األمــم» للدكتــور راغــب السرجان ــي ،وال بـ َّـد مــن القــول بــأن كتــاب تومــاس كــون «بـن ــية الثــورة العلميــة» ذو قــدر فــي هــذا البــاب ْ وإن لــم يكــن فــي صلــب ٍ املوضــوع؛ ففيــه إيحــاءات تنـي ــر زوايــا مظلمــة فــي الفكــر العلمــي لثــورات التغيي ــر َّ الفعــال. الكم والكيف ّ محددان رئيسان ومعياران مقبوالن للحكم الصحيح ِ َّ َ َ ْ َ َّ ات العرب ــية ،فــا بديــل علــى واقعيـ ِـة العلــم والتعليــم فــي زمـ ِـن الثــور ِ إحصائيــا ،وال َ عــن االســتبانات الحاصــرة ّ ًّ معنــى ملتغيراتهمــا ودراســتها ِ ـدد العلمــاء واألســاتذة املخلصي ــن املرابطي ــن ـتغال بتخمي ــن عـ ِ لالشـ ِ الجاثميـن على صدور املستبديـن في َخ َفاء ،وال ْ لحد ِس ما يمكن وما ٍ ً ال يمكــن أدلجتــه مــن مناهــج التعليــم ومؤسســاته؛ فمنعــا لالعت ـراض علــى بعــض أحــكام البحــث بتخمي ــن كهــذا وجــب َّ النـ ُ ـص عليــه ،فهــو ٍ احتـراس أو احتـر ٌاز وليس من املصادرة على املطلوب في �شيء ،واآلن َ إليــك مشــكلة البحــث فــي األســئلة اآلت ــية: َّ ّ َّ ّ اغر التـربو ّي التعليمي الواقع واملتوقع ما مدى الفر ِاغالعلمي والش ِ ِ ً فــي األزمنــة الثالثــة بــدءا مــن عــام 2011م حتــى اليــوم؟ ومــا التصــورات املقت ــرحة لسـ ِّـد هــذا الف ـراغ فــي ضــوء اختــافّ ـوال إلــى أخــرى؟ املتغي ـرات مــن بلـ ٍـد إلــى آخــر ومــن ظـ ٍ ـروف وأحـ ٍ ِ وما الوسائل املتاحة إلسقاط هذه التصورات على الواقع؟َ ومــن املســؤول عــن ت ــرجمة هــذه التصــورات إلــى واقــع فــي ن ْي ـ ِـر حالـ ِـةَّ َ ات والهجـ ِـرة وقهـ ِـر االســتبداد؟ الشــت ِ 53
من َّ ُ رات العربـ َّية الث ْو ِ الفراغ ِ لمي في َز ِ الع ُّ ْ ّ ـور صـ ْـد َر ولتـيسي ــر االســتدالل علــى ِصــدق التفسي ــر العلمـ ِـي املذكـ ِ ّ ـرصد أهـ ِ ّـم األنمــاط (الفـر ِاغ العلمـ ّ ِـي فــي هــذه املقدمـ ِـة فــي هــذا البحــث ب ـ ِ ِ َ ً َّ فتضمــن تمهيــدا شـ ِـمل أهـ َّـم الدراســات الســابقة وأســئلة الفت ــرة)، الدراســة ،ومباحــث: ُ ُ ُ ُ ُ َّ الدولة(االستخالففياألرض) املبحثاألول:العلموالتعليموبـناء األم ِةو ِ َّ املبحــث الثان ــي :الواقـ ُـع املنظــور واملتوقـ ُـع املأمــول للتعليــم فــي الثــورة ،وفيــه مطالــب: املطلب األول :الواقع املنظور للتعليم في الثورة. املطلب الثانـي :املستقبل التعليمي من زاوية الواقع في هذه الفتـرة. َّ املطلب الثالث :املتوقع املأمول ملستقبل التعليم في الثورة. ُ السنوات َّ ُ الس ْبع. السبع في ظواهرالتعليم املبحث الثالث: ِ خاتمة البحث ونتائجه وتوصياته.
املبحثُ األول موقع التعليم من بـناء األمة والدولة
ً تأت ــي أهميــة هــذه الدراسـ ِـة مــن كونهــا منوطــة بالتعليــم والتـرب ــية ً َّ ً قويــة ـورات إقليميـ ٍـة تهــدف إلــى تغيي ــر إيجاب ــي َي ْب ِن ــي دول فــي زمــن ثـ ٍ ُ َْ َ ُ ّ َ َّ ـرب يحتــذى بهــا ،والجدي ــر ِ بالذكــر أن الحديــث عـ ْـن هــذا الضـ ِ َْ ـيد والتعليـ ِـم مــن التغيي ــر عندمــا يـنبـن ــي علــى أســس العلـ ِـم الشـ ِ الرشــيد يغــدو مــن املسـ َّـلمات وثوابــت َّ ّ الجيـ ِـد َّ النمـ ِـط الحضــار ّ ِي ِ ِ ِ ّ ْ ٌ ُ َ َ الســل ِم وحملــة للثــورات ،وهــذا مــا ذهــب إليــه كوكبــة مــن دعـ ِـاة ِ رايــة اإلصــاح والســام فــي العالــم أمثــال ن ــيلسون مانديــا القائــل: (التعليــم هــو أقــوى ســاح يمكــن أن تســتخدمه لتغيي ــر العالــم)... ُّ أيضــا َّ وبــات مــن املسـ َّـل َمات ً أن الغـ َ ـرض مــن العلـ ِـم والتعلــم هــو َّ ُّ التحكــم بالطب ــيعة وعناصرهــا واســتغاللها وتسخي ــرها لصالــح اإلنســان؛ ليسـ ّـخ َر اإلنســان َ نفســه ملعرفــة ذا ِتـ ِـه وخالقــه مــن ِ خــال عمارتــه للكــون عــن علــم وخب ــرة ودرايــة (( َأ َلـ ْـم َتـ َـر ْوا َأ َّن هللاَ ٍ ٍ ٍ َْ ال ْ ض َو َأ ْسـ َـب َغ َع َل ْي ُكـ ْـم ن َع َمــهُ َ َسـ َّـخ َر َل ُكـ ْـم َمــا فــي َّ َ َ السـ َـماو ِ ِ ِ ات ومــا ِفــي ر ِ َْ ْ ََ َ ًَ ََ َ ً ً َّ ُ َ ْ َ َ ُ َ ُ هللا ِبغيـ ِـر ِعلـ ٍـم ول هــدى ـاس مــن يجـ ِـادل ِفــي ِ ظ ِاهــرة وب ِ اطنــة و ِمــن النـ ِ ََ َ ـاب ُم ِني ـ ٍـر)) [لقمــان :اآليــة ]20وتلــك هــي أولــى خطــوات ب ــناء ول ِكتـ ٍ وقو ِتــه ووعيــه وعقلــه َّ اإلنســان (الدولـ ِـة) الــذي بســواعده َّ تؤسـ ُ ـس ِ
من َّ ُ رات العربـ َّية الث ْو ِ الفراغ ِ لمي في َز ِ الع ُّ
العدد 2رجب 1439هـ
َ َ ُ َ َّ ُ ُ َ ْ ُ ْ ُ ُ ُ وقاعدتهــا الدولــة وقيادتهــا (( قالــوا أنــى َيكــون لـ ُـه اللـ ُـك َعل ْي َنــا)) َ ـص فيــه َ فــكان الجــوابَّ :إنــه اصطفــاء ُخـ َّ ذاك املصطفــى بعلـ ٍـم ْ ْ ًَ َ ُ َ َ َ َّ َ ْ َ َ اصطفـ ُـاه َعل ْيكـ ْـم َوز َاد ُه َب ْســطة ِفــي ال ِعلـ ِـم ـوة ((قــال ِإن هللا وقـ ٍ ْ ُ ْ َّ َوال ِجسـ ِـم)) [البقــرة ]247 :ومــن علـ ِـم طالــوت الــذي خــص بــه ُ التخطيــط العســكري وفـ ُّـن القيــادة واإلدارة( ،)1فأي ــن تخصصــات َّ ـاص التعليــم كلهــا مــن إعــداد ِخطـ ٍـة شـ ٍ ـاملة لــكل مجـ ٍـال واختصـ ٍ َّ علميــا وت ـ ًّ ًّ ـربويا؟ وهــل كان لهــذه العلــوم لدعــم الثــورات وأســاتذتها ٌ دور َّ ـيس الدولــة؟ بــل فعــال فــي دحـ ِـر االسـ ِ ـتبداد وتأسـ ِ أي ً ـوام َّ معنــى لالســتخالف فــي األرض الــذي بــه يحلــم أقـ ٌ ُّ منــا إذا َ ُ َّ ّ ـدو ي ــنازعه اتـ َـكأ الخليفــة (اإلنســان) علــى صناعـ ِـة واخت ـر ِاع عـ ٍ َ ّ ِخلفـ َـة األرض اتـ ً متخل ًفــا ال ُمســتخل ًفا أو إذا لــم يكــن ـكاء ُي َعـ ُّـد بــه ِ َِ َْ َّ ـتخلف علــى علــم ودرايــة بمسـ َ هــذا املسـ ـتوى (( َو َعلـ َـم َآد َم ال ْسـ َـم َاء ٍ ٍ َ ُك َّل َهــا)) [البقــرة :آيــة َ ]31لي ْعــرف بهمــا كيــف يعمــر األرض ُ ((هـ َـو َ ْ َ َ ُ ْ َ ْ َ ْ َ ْ َ ْ َ َِ ُ ُ ْ َ ـدرك أنشــأكم ِمـ َـن الر ِ ض واســتعمركم ِفيهــا)) [هــود :آيــة ]61وليـ ِ َ َ َ ـات الت ــي ـات الصالحـ ِ بهمــا ماهيــة وأنــواع وأشــكال وضــروب ودرجـ ِ ُ َ َ َ ُ َّ ُ هللا ال ِذي ـ َـن َآم ُنــوا ِم ْنكـ ْـم َو َع ِملــوا تؤهلــه لالســتخالف املوعــود ((وعــد الص ِال َحـ ِ َ َ ْ َ ْ َ َّ ُ ْ َّ ْ َْ ض)) [النــور.]55 : ـات ليســتخ ِلفنهم ِفــي الر ِ َ ُ َ مقت�ضــى االســتخالف أن يكــون املســتخلف علــى علـ ٍـم وإذا كان بمــا تقــوم بــه األرض وجـ َـب البحـ ُـث فــي أمري ــن َّربمــا ال يكــون أحــدٌ ِ ً حقيقــا بالخالفــة بدونهمــا: ّ ـتخالف مــن أهــل اإليمـ ِـان الوعـ ُـي املتطلعي ــن لالسـ األول :علــى ِ ِ ُ ـيعتها خلفوا فيهــا ِ وبحدودهــا وطب ـ ِ بمدلــو ِل األرض الت ــي اســت ِ ُ وكنوزهــا ومفات ــيحها وعناصرهــا ونشــأتها ّ وكل مــا عليهــا(( ،قـ ْـل ِ ِ ْ َْ َ ْ ُ ُ َ ِْ َ َ َ َ ْ َ ْ َ ُ ض فانظــروا كيــف بــدأ الخلــق)) [العنكبــوت]20 : ِس ْي ــروا ِفــي الر ِ ً ً َو ِتل ُكـ ْـم فريضـ ٌـة تقت�ضــي ً علمــا وبحثــا وإحاطــة بقــارات األرض َ ـتخلف إعـ َ ـداد علمــاء باحثي ــن املكتشــفة كمــا تفــرض علــى املسـ ِ َّ كشــافة َّ رحالــة مــن أجــل البحــث عــن مناطــق يحتمــل أنهــا لــم َ َ َّ ُ ليبلغهــا الرســالة الت ــي صــار بهــا مســتخل ًفا فــي تكتشــف بعــد؛ ِ َ ْ ّ ـات يعمرهــا بهــا ـكـي األرض ِول ُيقـ ِـد َم لهــا مــا تحــت يـ ِـده ِمــن ِخدمـ ٍ َّ ـأي ً ّ معنــى ُي َسـ ِ ّـمي يصــدق عليــه ًأنــه خليفــة هللا فــي األرض ،وإال فبـ ِ َ نفسـ ُـه خليفــة؟ وهــذه الوظيفــة املنوطــة باالســتخالف هــي عي ــنها الت ــي َ حملــت علمــاء املسلمي ــن األمويي ــن األندلسيي ــن ثــم العثمانـيي ــن علــى
( )1راغب السرجانـي :العلم وبـناء األمم ،دراسة تأصيلية لدور العلم في بـناء الدولة ،مؤسسة اقرأ ،القاهرة 2007م ط ،1ص.76
54
َّ الضـ ْـرب فــي مشــارق األرض ومغاربهــا سـ ً ـعيا منهــم إلــى امتثــال أمـ ٍـر َ َ ْ َ َ َّ َ َُ ورد بأســلوب الخب ــر والبشــارة(( :ل َي ْبلغـ َّـن َهــذا ال ْمـ ُـر َمــا َبلــغ الل ْيـ ُـل هللا َه َذا ّ هللا َب ْي َت َم َدر َوَل َو َبر إ َّل َأ ْد َخ َل ُه ُ الن َه ُارَ ،وَل َي ْت ُر ُك ُ َو َّ الدي َـن، ِ ٍ ِ ٍ ْ َ ُ ًّ ّ َ َْ ُ ّ َ ًّ ُ ُّ ُ ال ْســا َمَ ،وذل ُيـ ِـذ ُّل ِب ِعـ ِـز ع ِز ْيـ ٍـز أو ِبــذ ِل ذ ِليـ ٍـلِ ،عــزا ي ِعــز هللا ِبـ ِـه ِ ُ هللا بـ ِـه ال ُك ْفـ َـر))( )2فـرأى أولــو األمــر مــن َّ الســلف أمـر ًاء وعلمــاء فــي ِ مثــل هــذه األحاديــث ً تكليفــا يفــرض عليهــم البحــث والتنقيــب عــن املعلــوم واملجهــول مــن األرض ،فهــذا طــارق ب ــن زيــاد ي ــناجي َّربــه ِمــن ســواحل البحــار (اللهــم إنــك تعلــم أن ــي قــد بلغــت املجهــود، ولــو أن ــي أعلــم أن خلــف هــذا البحــر بـ ً ـادا لخضتهــا ،أقاتــل فــي سب ــيلك ،حتــى ال يبقــى علــى وجــه األرض مــن يكفــر بــك) َّ وأمــا ِمــن بعــد طــارق فمــا حالــت البحــار دون محاولتهــم اكتشــاف أمريــكا والقــارة القطب ــية الجنوب ــية ،وأشــهرهم :العالمــة البـيـرون ـ ّـي(،)3 قبلـ ِـه خشـ ٌ ـخاش البحــر ّي يــوم أن أبحــر بسفي ــنته مــن ومــن ِ لشــبونة إلــى بحــر الظلمــات (املحيــط األطلنطــي) ســنة (235ه ـ ً 850م) ،فاكتشــف هنــاك جزي ــرة عامــرة بالســكان ،ثــم عــاد منهــا بهدايــا َّ قدمهــا لحاكــم األندلــس عبــد الرحمــن الثان ــي ،فكافــأه األمي ــر بتعيي ــنه أمي ـ ًـرا للبحريــة اإلســامية ،ثــم تتابــع الكشــف علــى يــد ُعصبــة مــن عــرب املغــرب ثــم فريــق مــن الفت ــية َّ املغرري ــن ِ ُ الذي ــن َّ َّ تقدمــوا علــى غي ــرهم كالغــر ِة وعــادوا إلــى لشــبونة ،فاحتفــى بهــم أهــل األندلــس أواخــر القــرن العاشــر امليــادي( ،)4وعندمــا تحـ َّـدث كريســتوفر كولومبــوس عــن الهنــود الحمــر فــي أمريــكا قــالَّ :إنــه كان يعتقــد أنهــم مــن ســالة العــرب الذي ــن ســبقوه(،)5 وممــا يب ــرهن علــى ذلــك خرائــط البحــارة العثمان ـ ّـي بـي ــري ريــس فــي القــرن الخامــس عشــر امليــادي ،وتاريـ ُـخ رســمها املـ َّ ـدون فيهــا ُيثبــت ِ ََ َّ أنــه أتـ َّـم رسـ َـمها قبــل كولومبــوس بثالثـ ِـة عقــود ،بــل إن فــي خرائطــه خريطــة تفصيليــة للقــارة القطب ــية الجنوب ــية الت ــي تعــرف بقــارة ً أنتـركت ــيكا وتضاريســها ،وأثبتـ ْـت صــور األقمــار الصناعيــة حديثــا ُ ـلف َّ األمــة دقــة هــذه الخرائــط( ،)6أليــس هــذا الــذي ســعى إليــه سـ
العدد 2رجب 1439هـ
أمـر ًاء وعلمـ َـاء هــو االمتثـ َ ـال العلمـ َّـي العملـ َّـي لتحقيــق بشــارة رســول ّ واالتبـ َ ـاع هللا صلــى هللا عليــه وســلم وتمثيلـ ِـه فــي مقــام الخالفــةِ ، ِ ْ األقـ َـو َم لقولــه تعالــىَ (( :و ُأوحـ َـي إ َلـ َّـي َهـ َـذا ْال ُقـ ْـر ُ آن ُل ْنذ َر ُكـ ْـم بــه َو َمــنْ ِ ِ ِِ ِ ِ ََ َبلــغ)) [األنعــام :آيــة ]19وهــي تحتمــل العطــف علــى املنـ ِـذر أو َ َ َ َ َّ ُ ْ ُ َ َ َ (حـ ٌّـق َعلــى َمـ ِـن َّات َبـ َـع ـس: املنــذر ،ففــي َّهــذه اآليـ َـة قــال َّالرِب َيــع بــن أنـ َ ٍَّ ُ َ َ َ ُ ُ ُ َ ْ َ َ َ ْ َْ َُ َ هللا هللا صلــى هللا عليـ ِـه وســلم أن يدعــو كالـ ِـذي دعــا َرســول ِ َرســول ِ َّ َ ُ َ َ َّ َ ْ َ َ َّ َ َ َ وعـ ْـن ق َتـ َـادة ِفــي هللا َعل ْيـ ِـه َو َســل َمَ ،وأ ْن ُي ْنـ ِـذ َر كالـ ِـذي أنــذ َر)، صلــى ُ َ ْ َُ َ َّ َ َ ْ ََ َ َّ ُ َ َْ هللا َعل ْيـ ِـه صلــى هللا قوِلـ ِـه(( :ألن ِذركـ ْـم ِبـ ِـه ومــن بلــغ))(ِ :إن َرســول ِ ََ َ َ ْ ََ َْ ُ َ ٌ ْ َ َو َسـ َّـل َم َقـ َ َ ّ ُ َ هللا فقـ ْـد ـاب ِ ـال(( :ب ِلغــوا عـ ِـن ِ هللا)) فمــن بلغتــه آيــة ِمــن ِكتـ ِ ََ َ ْ هللا)(.)7 بلغــه أمـ ُـر ِ َ ّ يؤمـ ُـل االســتخالف فــي األرض مــا الثان ــي :أن يكــون للمؤمـ ِـن الــذي ِ ودرء ألهلهــا ِ يؤهلــه لعمــارة األرض بالصالحـ ِ ـات بجلـ ِـب املصالـ ِـح ِ ُ ُ ْ ُ املفاســد عنهــم (( َو َعـ َـد ُ َ َ َ هللا َّال ِذي ـ َـن َآمنــوا منكـ ْـم وعملــوا َّ ـات الص ِالحـ ِ ِ ِ ِ َ َ ْ َ ْ َ َّ ُ ْ ْ َ ْ ض )) والــذي يؤهلــه لعمارتهــا أم ـران ،أولهمــا ليســتخ ِلفنهم ِفــي الر ِ أصــل وثان ــيهما بــدل: َ ُ ُ َ َ َّ َ ْ َ َ اصطفـ ُـاه َعل ْيكـ ْـم أولهمــا :العلـ ُـم والتعليـ ُـم والقــوة (( قــال ِإن هللا ََ َُ َ ْ َ ـط ًة فــي ْالع ْلــم َو ْالج ْســم)) [البقــرة :آيــة َ (( ]247و َد ُاو َ ود وزاده بسـ ِ ِ ِ ِ ِ ْ َ ُ ََْ َ ْ ُ َ ْ ََ َ َْ ان ِإذ َي ْحك َمـ ِـان ِفــي ال َحـ ْـر ِث ِإذ نفشـ ْـت ِفيـ ِـه غ َنـ ُـم القـ ْـو ِم وســليم ْ ُ َ َ َّ ْ َ َ ُ َ ْ َ َ َ ُ ًّ َ ْ َ ُ ًْ َ َوك َّنــا ِل ُحك ِم ِهـ ْـم ش ِاه ِدي ـ َـن ( )78ففهمناهــا ســليمان وكل آتينــا حكمــا َََ ْ ََْ َ ُ َ َ ُ َْ َ َ ْ ْ ان ِعل ًما)) َو ِعل ًما)) [األنبـياء :آية (( ]79 ،78ولقد آتينا داوود وسليم ((و َو َث ُسـ َـل ْي َم ُ ان َد ُاو َ ود)) [النمــل :آيــة .]16 [النمــل :آيــة ِ َ ]15ر ثان ــيهما :أن يستعي ــن بأهــل العلــم والقـ َّـو ِة املختصي ــن فــي كل فـ ٍ ّـن َّ ّ وييهـ َـئ َّ لرعيتــه أن تتعلــم مــن ذلــك مــا تعمــر بــه األرض ومــا يجعلــه ِ ََ جدي ـ ًـرا باالســتخالف بمعنــاه األتـ ِ ّـم األكمــل ،قــال اب ــن القيــم( :ذكـ َـر َ َ َ ً َّ مالــك ِفــي ُم َوط ِئـ ِـه َعـ ْـن َزْيـ ِـد ْبـ ِـن أ ْســل َم(( :أ َّن َر ُجــا ِفــي َز َمـ ِـان َر ُســو ِل ُ َ َ ْ َ َ َّ َ َ َ َ ُ ُ ْ ٌ َ ْ َ ْ َ َّ اح َتقـ َـن ال ُجـ ْـر ُح الـ َّـد َم، صلــى هللا عليـ ِـه وســلم أصابــه جــرح ،ف هللا ِ الر ُجـ َـل َد َعــا َر ُج َل ْيــن مـ ْـن َبن ــي َأ ْن َمـ َـارَ ،ف َن َظـ َـرا إ َل ْيــهَ ،ف َز َع َمــا َأنَّ َو َأنَّ َّ ِ ِ ِ ِ ِ ص َّلــى ُ َر ُســو َل هللا َ ـال َل ُه َمــاَ :أ ُّي ُك َمــا َأ َطـ ُّـب؟ َف َقــالَ: هللا َع َل ْيـ ِـه َو َسـ َّـل َم َقـ َ ِ
( )2أحمد بـن حنبل :املسند ،تح :شعيب األرنؤوط وآخرون ،مؤسسة الرسالة ،ط 1421 ،1هـ 2001 -م )154 /28( ،رقم ،16957إسناده صحيح على شرط مسلم. ( )3راغــب السرجان ــي :العلــم وب ــناء األمــم ،مرجــع ســابق ،ص ،155ي ــنظر :األب أنســتاس الكرملــي البغــدادي :عــرف العــرب أمريــكا قبــل أن يعرفهــا أب ــناء الغــرب ،مجلــة املقتطــف ،العــدد الثان ــي ،املجلــد ،106دولــت حســن الصغي ــر :اقتحــم العــرب املحيــط قبــل أن يقتحمــه كوملبــس ،مجلــة الرســالة ،مصــر ،العــدد(. )612 ُ ( )4علي بـن الحسيـن املسعودي :مروج الذهب ومعادن الجواهر ،تح :يوسف أسعد داغر ،دار النشر :مؤسسة دار الهجرة ،ق ْم1409 ،هـ .135/1 ( )5راغب السرجانـي :العلم وبـناء األمم ،مرجع سابق ،ص.157 (( https://www.turkpress.co/node/14112 )6املستكشف التـركي بـيـري ريس عالم البحر والحرب) ( )7أبو الفداء إسماعيل بـن عمر بـن كثيـر :تفسيـر القرآن العظيم ،تح :محمد حسيـن شمس الديـن ،دار الكتب العلمية ،بـيـروت ،ط1419 1ه (.)245 /3 ( )8زاد املعاد في هدي خيـر العباد :محمد بـن أبـي بكر شمس الديـن ابـن قيم الجوزية ،مؤسسة الرسالة بـيـروت ،مكتبة املنار اإلسالمية الكويت ،ط1415 ،27هـ 1994/م.121/4 ، ( )9أحمد بـن حنبل :املسند ،مرجع سابق )46 /45( ،رقم الحديث (.)26450 ،27095
55
من َّ ُ رات العربـ َّية الث ْو ِ الفراغ ِ لمي في َز ِ الع ُّ ْ ّ ـور صـ ْـد َر ولتـيسي ــر االســتدالل علــى ِصــدق التفسي ــر العلمـ ِـي املذكـ ِ ّ ـرصد أهـ ِ ّـم األنمــاط (الفـر ِاغ العلمـ ّ ِـي فــي هــذه املقدمـ ِـة فــي هــذا البحــث ب ـ ِ ِ َ ً َّ فتضمــن تمهيــدا شـ ِـمل أهـ َّـم الدراســات الســابقة وأســئلة الفت ــرة)، الدراســة ،ومباحــث: ُ ُ ُ ُ ُ َّ الدولة(االستخالففياألرض) املبحثاألول:العلموالتعليموبـناء األم ِةو ِ َّ املبحــث الثان ــي :الواقـ ُـع املنظــور واملتوقـ ُـع املأمــول للتعليــم فــي الثــورة ،وفيــه مطالــب: املطلب األول :الواقع املنظور للتعليم في الثورة. املطلب الثانـي :املستقبل التعليمي من زاوية الواقع في هذه الفتـرة. َّ املطلب الثالث :املتوقع املأمول ملستقبل التعليم في الثورة. ُ السنوات َّ ُ الس ْبع. السبع في ظواهرالتعليم املبحث الثالث: ِ خاتمة البحث ونتائجه وتوصياته.
املبحثُ األول موقع التعليم من بـناء األمة والدولة
ً تأت ــي أهميــة هــذه الدراسـ ِـة مــن كونهــا منوطــة بالتعليــم والتـرب ــية ً َّ ً قويــة ـورات إقليميـ ٍـة تهــدف إلــى تغيي ــر إيجاب ــي َي ْب ِن ــي دول فــي زمــن ثـ ٍ ُ َْ َ ُ ّ َ َّ ـرب يحتــذى بهــا ،والجدي ــر ِ بالذكــر أن الحديــث عـ ْـن هــذا الضـ ِ َْ ـيد والتعليـ ِـم مــن التغيي ــر عندمــا يـنبـن ــي علــى أســس العلـ ِـم الشـ ِ الرشــيد يغــدو مــن املسـ َّـلمات وثوابــت َّ ّ الجيـ ِـد َّ النمـ ِـط الحضــار ّ ِي ِ ِ ِ ّ ْ ٌ ُ َ َ الســل ِم وحملــة للثــورات ،وهــذا مــا ذهــب إليــه كوكبــة مــن دعـ ِـاة ِ رايــة اإلصــاح والســام فــي العالــم أمثــال ن ــيلسون مانديــا القائــل: (التعليــم هــو أقــوى ســاح يمكــن أن تســتخدمه لتغيي ــر العالــم)... ُّ أيضــا َّ وبــات مــن املسـ َّـل َمات ً أن الغـ َ ـرض مــن العلـ ِـم والتعلــم هــو َّ ُّ التحكــم بالطب ــيعة وعناصرهــا واســتغاللها وتسخي ــرها لصالــح اإلنســان؛ ليسـ ّـخ َر اإلنســان َ نفســه ملعرفــة ذا ِتـ ِـه وخالقــه مــن ِ خــال عمارتــه للكــون عــن علــم وخب ــرة ودرايــة (( َأ َلـ ْـم َتـ َـر ْوا َأ َّن هللاَ ٍ ٍ ٍ َْ ال ْ ض َو َأ ْسـ َـب َغ َع َل ْي ُكـ ْـم ن َع َمــهُ َ َسـ َّـخ َر َل ُكـ ْـم َمــا فــي َّ َ َ السـ َـماو ِ ِ ِ ات ومــا ِفــي ر ِ َْ ْ ََ َ ًَ ََ َ ً ً َّ ُ َ ْ َ َ ُ َ ُ هللا ِبغيـ ِـر ِعلـ ٍـم ول هــدى ـاس مــن يجـ ِـادل ِفــي ِ ظ ِاهــرة وب ِ اطنــة و ِمــن النـ ِ ََ َ ـاب ُم ِني ـ ٍـر)) [لقمــان :اآليــة ]20وتلــك هــي أولــى خطــوات ب ــناء ول ِكتـ ٍ وقو ِتــه ووعيــه وعقلــه َّ اإلنســان (الدولـ ِـة) الــذي بســواعده َّ تؤسـ ُ ـس ِ
من َّ ُ رات العربـ َّية الث ْو ِ الفراغ ِ لمي في َز ِ الع ُّ
العدد 2رجب 1439هـ
َ َ ُ َ َّ ُ ُ َ ْ ُ ْ ُ ُ ُ وقاعدتهــا الدولــة وقيادتهــا (( قالــوا أنــى َيكــون لـ ُـه اللـ ُـك َعل ْي َنــا)) َ ـص فيــه َ فــكان الجــوابَّ :إنــه اصطفــاء ُخـ َّ ذاك املصطفــى بعلـ ٍـم ْ ْ ًَ َ ُ َ َ َ َّ َ ْ َ َ اصطفـ ُـاه َعل ْيكـ ْـم َوز َاد ُه َب ْســطة ِفــي ال ِعلـ ِـم ـوة ((قــال ِإن هللا وقـ ٍ ْ ُ ْ َّ َوال ِجسـ ِـم)) [البقــرة ]247 :ومــن علـ ِـم طالــوت الــذي خــص بــه ُ التخطيــط العســكري وفـ ُّـن القيــادة واإلدارة( ،)1فأي ــن تخصصــات َّ ـاص التعليــم كلهــا مــن إعــداد ِخطـ ٍـة شـ ٍ ـاملة لــكل مجـ ٍـال واختصـ ٍ َّ علميــا وت ـ ًّ ًّ ـربويا؟ وهــل كان لهــذه العلــوم لدعــم الثــورات وأســاتذتها ٌ دور َّ ـيس الدولــة؟ بــل فعــال فــي دحـ ِـر االسـ ِ ـتبداد وتأسـ ِ أي ً ـوام َّ معنــى لالســتخالف فــي األرض الــذي بــه يحلــم أقـ ٌ ُّ منــا إذا َ ُ َّ ّ ـدو ي ــنازعه اتـ َـكأ الخليفــة (اإلنســان) علــى صناعـ ِـة واخت ـر ِاع عـ ٍ َ ّ ِخلفـ َـة األرض اتـ ً متخل ًفــا ال ُمســتخل ًفا أو إذا لــم يكــن ـكاء ُي َعـ ُّـد بــه ِ َِ َْ َّ ـتخلف علــى علــم ودرايــة بمسـ َ هــذا املسـ ـتوى (( َو َعلـ َـم َآد َم ال ْسـ َـم َاء ٍ ٍ َ ُك َّل َهــا)) [البقــرة :آيــة َ ]31لي ْعــرف بهمــا كيــف يعمــر األرض ُ ((هـ َـو َ ْ َ َ ُ ْ َ ْ َ ْ َ ْ َ ْ َ َِ ُ ُ ْ َ ـدرك أنشــأكم ِمـ َـن الر ِ ض واســتعمركم ِفيهــا)) [هــود :آيــة ]61وليـ ِ َ َ َ ـات الت ــي ـات الصالحـ ِ بهمــا ماهيــة وأنــواع وأشــكال وضــروب ودرجـ ِ ُ َ َ َ ُ َّ ُ هللا ال ِذي ـ َـن َآم ُنــوا ِم ْنكـ ْـم َو َع ِملــوا تؤهلــه لالســتخالف املوعــود ((وعــد الص ِال َحـ ِ َ َ ْ َ ْ َ َّ ُ ْ َّ ْ َْ ض)) [النــور.]55 : ـات ليســتخ ِلفنهم ِفــي الر ِ َ ُ َ مقت�ضــى االســتخالف أن يكــون املســتخلف علــى علـ ٍـم وإذا كان بمــا تقــوم بــه األرض وجـ َـب البحـ ُـث فــي أمري ــن َّربمــا ال يكــون أحــدٌ ِ ً حقيقــا بالخالفــة بدونهمــا: ّ ـتخالف مــن أهــل اإليمـ ِـان الوعـ ُـي املتطلعي ــن لالسـ األول :علــى ِ ِ ُ ـيعتها خلفوا فيهــا ِ وبحدودهــا وطب ـ ِ بمدلــو ِل األرض الت ــي اســت ِ ُ وكنوزهــا ومفات ــيحها وعناصرهــا ونشــأتها ّ وكل مــا عليهــا(( ،قـ ْـل ِ ِ ْ َْ َ ْ ُ ُ َ ِْ َ َ َ َ ْ َ ْ َ ُ ض فانظــروا كيــف بــدأ الخلــق)) [العنكبــوت]20 : ِس ْي ــروا ِفــي الر ِ ً ً َو ِتل ُكـ ْـم فريضـ ٌـة تقت�ضــي ً علمــا وبحثــا وإحاطــة بقــارات األرض َ ـتخلف إعـ َ ـداد علمــاء باحثي ــن املكتشــفة كمــا تفــرض علــى املسـ ِ َّ كشــافة َّ رحالــة مــن أجــل البحــث عــن مناطــق يحتمــل أنهــا لــم َ َ َّ ُ ليبلغهــا الرســالة الت ــي صــار بهــا مســتخل ًفا فــي تكتشــف بعــد؛ ِ َ ْ ّ ـات يعمرهــا بهــا ـكـي األرض ِول ُيقـ ِـد َم لهــا مــا تحــت يـ ِـده ِمــن ِخدمـ ٍ َّ ـأي ً ّ معنــى ُي َسـ ِ ّـمي يصــدق عليــه ًأنــه خليفــة هللا فــي األرض ،وإال فبـ ِ َ نفسـ ُـه خليفــة؟ وهــذه الوظيفــة املنوطــة باالســتخالف هــي عي ــنها الت ــي َ حملــت علمــاء املسلمي ــن األمويي ــن األندلسيي ــن ثــم العثمانـيي ــن علــى
( )1راغب السرجانـي :العلم وبـناء األمم ،دراسة تأصيلية لدور العلم في بـناء الدولة ،مؤسسة اقرأ ،القاهرة 2007م ط ،1ص.76
54
َّ الضـ ْـرب فــي مشــارق األرض ومغاربهــا سـ ً ـعيا منهــم إلــى امتثــال أمـ ٍـر َ َ ْ َ َ َّ َ َُ ورد بأســلوب الخب ــر والبشــارة(( :ل َي ْبلغـ َّـن َهــذا ال ْمـ ُـر َمــا َبلــغ الل ْيـ ُـل هللا َه َذا ّ هللا َب ْي َت َم َدر َوَل َو َبر إ َّل َأ ْد َخ َل ُه ُ الن َه ُارَ ،وَل َي ْت ُر ُك ُ َو َّ الدي َـن، ِ ٍ ِ ٍ ْ َ ُ ًّ ّ َ َْ ُ ّ َ ًّ ُ ُّ ُ ال ْســا َمَ ،وذل ُيـ ِـذ ُّل ِب ِعـ ِـز ع ِز ْيـ ٍـز أو ِبــذ ِل ذ ِليـ ٍـلِ ،عــزا ي ِعــز هللا ِبـ ِـه ِ ُ هللا بـ ِـه ال ُك ْفـ َـر))( )2فـرأى أولــو األمــر مــن َّ الســلف أمـر ًاء وعلمــاء فــي ِ مثــل هــذه األحاديــث ً تكليفــا يفــرض عليهــم البحــث والتنقيــب عــن املعلــوم واملجهــول مــن األرض ،فهــذا طــارق ب ــن زيــاد ي ــناجي َّربــه ِمــن ســواحل البحــار (اللهــم إنــك تعلــم أن ــي قــد بلغــت املجهــود، ولــو أن ــي أعلــم أن خلــف هــذا البحــر بـ ً ـادا لخضتهــا ،أقاتــل فــي سب ــيلك ،حتــى ال يبقــى علــى وجــه األرض مــن يكفــر بــك) َّ وأمــا ِمــن بعــد طــارق فمــا حالــت البحــار دون محاولتهــم اكتشــاف أمريــكا والقــارة القطب ــية الجنوب ــية ،وأشــهرهم :العالمــة البـيـرون ـ ّـي(،)3 قبلـ ِـه خشـ ٌ ـخاش البحــر ّي يــوم أن أبحــر بسفي ــنته مــن ومــن ِ لشــبونة إلــى بحــر الظلمــات (املحيــط األطلنطــي) ســنة (235ه ـ ً 850م) ،فاكتشــف هنــاك جزي ــرة عامــرة بالســكان ،ثــم عــاد منهــا بهدايــا َّ قدمهــا لحاكــم األندلــس عبــد الرحمــن الثان ــي ،فكافــأه األمي ــر بتعيي ــنه أمي ـ ًـرا للبحريــة اإلســامية ،ثــم تتابــع الكشــف علــى يــد ُعصبــة مــن عــرب املغــرب ثــم فريــق مــن الفت ــية َّ املغرري ــن ِ ُ الذي ــن َّ َّ تقدمــوا علــى غي ــرهم كالغــر ِة وعــادوا إلــى لشــبونة ،فاحتفــى بهــم أهــل األندلــس أواخــر القــرن العاشــر امليــادي( ،)4وعندمــا تحـ َّـدث كريســتوفر كولومبــوس عــن الهنــود الحمــر فــي أمريــكا قــالَّ :إنــه كان يعتقــد أنهــم مــن ســالة العــرب الذي ــن ســبقوه(،)5 وممــا يب ــرهن علــى ذلــك خرائــط البحــارة العثمان ـ ّـي بـي ــري ريــس فــي القــرن الخامــس عشــر امليــادي ،وتاريـ ُـخ رســمها املـ َّ ـدون فيهــا ُيثبــت ِ ََ َّ أنــه أتـ َّـم رسـ َـمها قبــل كولومبــوس بثالثـ ِـة عقــود ،بــل إن فــي خرائطــه خريطــة تفصيليــة للقــارة القطب ــية الجنوب ــية الت ــي تعــرف بقــارة ً أنتـركت ــيكا وتضاريســها ،وأثبتـ ْـت صــور األقمــار الصناعيــة حديثــا ُ ـلف َّ األمــة دقــة هــذه الخرائــط( ،)6أليــس هــذا الــذي ســعى إليــه سـ
العدد 2رجب 1439هـ
أمـر ًاء وعلمـ َـاء هــو االمتثـ َ ـال العلمـ َّـي العملـ َّـي لتحقيــق بشــارة رســول ّ واالتبـ َ ـاع هللا صلــى هللا عليــه وســلم وتمثيلـ ِـه فــي مقــام الخالفــةِ ، ِ ْ األقـ َـو َم لقولــه تعالــىَ (( :و ُأوحـ َـي إ َلـ َّـي َهـ َـذا ْال ُقـ ْـر ُ آن ُل ْنذ َر ُكـ ْـم بــه َو َمــنْ ِ ِ ِِ ِ ِ ََ َبلــغ)) [األنعــام :آيــة ]19وهــي تحتمــل العطــف علــى املنـ ِـذر أو َ َ َ َ َّ ُ ْ ُ َ َ َ (حـ ٌّـق َعلــى َمـ ِـن َّات َبـ َـع ـس: املنــذر ،ففــي َّهــذه اآليـ َـة قــال َّالرِب َيــع بــن أنـ َ ٍَّ ُ َ َ َ ُ ُ ُ َ ْ َ َ َ ْ َْ َُ َ هللا هللا صلــى هللا عليـ ِـه وســلم أن يدعــو كالـ ِـذي دعــا َرســول ِ َرســول ِ َّ َ ُ َ َ َّ َ ْ َ َ َّ َ َ َ وعـ ْـن ق َتـ َـادة ِفــي هللا َعل ْيـ ِـه َو َســل َمَ ،وأ ْن ُي ْنـ ِـذ َر كالـ ِـذي أنــذ َر)، صلــى ُ َ ْ َُ َ َّ َ َ ْ ََ َ َّ ُ َ َْ هللا َعل ْيـ ِـه صلــى هللا قوِلـ ِـه(( :ألن ِذركـ ْـم ِبـ ِـه ومــن بلــغ))(ِ :إن َرســول ِ ََ َ َ ْ ََ َْ ُ َ ٌ ْ َ َو َسـ َّـل َم َقـ َ َ ّ ُ َ هللا فقـ ْـد ـاب ِ ـال(( :ب ِلغــوا عـ ِـن ِ هللا)) فمــن بلغتــه آيــة ِمــن ِكتـ ِ ََ َ ْ هللا)(.)7 بلغــه أمـ ُـر ِ َ ّ يؤمـ ُـل االســتخالف فــي األرض مــا الثان ــي :أن يكــون للمؤمـ ِـن الــذي ِ ودرء ألهلهــا ِ يؤهلــه لعمــارة األرض بالصالحـ ِ ـات بجلـ ِـب املصالـ ِـح ِ ُ ُ ْ ُ املفاســد عنهــم (( َو َعـ َـد ُ َ َ َ هللا َّال ِذي ـ َـن َآمنــوا منكـ ْـم وعملــوا َّ ـات الص ِالحـ ِ ِ ِ ِ َ َ ْ َ ْ َ َّ ُ ْ ْ َ ْ ض )) والــذي يؤهلــه لعمارتهــا أم ـران ،أولهمــا ليســتخ ِلفنهم ِفــي الر ِ أصــل وثان ــيهما بــدل: َ ُ ُ َ َ َّ َ ْ َ َ اصطفـ ُـاه َعل ْيكـ ْـم أولهمــا :العلـ ُـم والتعليـ ُـم والقــوة (( قــال ِإن هللا ََ َُ َ ْ َ ـط ًة فــي ْالع ْلــم َو ْالج ْســم)) [البقــرة :آيــة َ (( ]247و َد ُاو َ ود وزاده بسـ ِ ِ ِ ِ ِ ْ َ ُ ََْ َ ْ ُ َ ْ ََ َ َْ ان ِإذ َي ْحك َمـ ِـان ِفــي ال َحـ ْـر ِث ِإذ نفشـ ْـت ِفيـ ِـه غ َنـ ُـم القـ ْـو ِم وســليم ْ ُ َ َ َّ ْ َ َ ُ َ ْ َ َ َ ُ ًّ َ ْ َ ُ ًْ َ َوك َّنــا ِل ُحك ِم ِهـ ْـم ش ِاه ِدي ـ َـن ( )78ففهمناهــا ســليمان وكل آتينــا حكمــا َََ ْ ََْ َ ُ َ َ ُ َْ َ َ ْ ْ ان ِعل ًما)) َو ِعل ًما)) [األنبـياء :آية (( ]79 ،78ولقد آتينا داوود وسليم ((و َو َث ُسـ َـل ْي َم ُ ان َد ُاو َ ود)) [النمــل :آيــة .]16 [النمــل :آيــة ِ َ ]15ر ثان ــيهما :أن يستعي ــن بأهــل العلــم والقـ َّـو ِة املختصي ــن فــي كل فـ ٍ ّـن َّ ّ وييهـ َـئ َّ لرعيتــه أن تتعلــم مــن ذلــك مــا تعمــر بــه األرض ومــا يجعلــه ِ ََ جدي ـ ًـرا باالســتخالف بمعنــاه األتـ ِ ّـم األكمــل ،قــال اب ــن القيــم( :ذكـ َـر َ َ َ ً َّ مالــك ِفــي ُم َوط ِئـ ِـه َعـ ْـن َزْيـ ِـد ْبـ ِـن أ ْســل َم(( :أ َّن َر ُجــا ِفــي َز َمـ ِـان َر ُســو ِل ُ َ َ ْ َ َ َّ َ َ َ َ ُ ُ ْ ٌ َ ْ َ ْ َ َّ اح َتقـ َـن ال ُجـ ْـر ُح الـ َّـد َم، صلــى هللا عليـ ِـه وســلم أصابــه جــرح ،ف هللا ِ الر ُجـ َـل َد َعــا َر ُج َل ْيــن مـ ْـن َبن ــي َأ ْن َمـ َـارَ ،ف َن َظـ َـرا إ َل ْيــهَ ،ف َز َع َمــا َأنَّ َو َأنَّ َّ ِ ِ ِ ِ ِ ص َّلــى ُ َر ُســو َل هللا َ ـال َل ُه َمــاَ :أ ُّي ُك َمــا َأ َطـ ُّـب؟ َف َقــالَ: هللا َع َل ْيـ ِـه َو َسـ َّـل َم َقـ َ ِ
( )2أحمد بـن حنبل :املسند ،تح :شعيب األرنؤوط وآخرون ،مؤسسة الرسالة ،ط 1421 ،1هـ 2001 -م )154 /28( ،رقم ،16957إسناده صحيح على شرط مسلم. ( )3راغــب السرجان ــي :العلــم وب ــناء األمــم ،مرجــع ســابق ،ص ،155ي ــنظر :األب أنســتاس الكرملــي البغــدادي :عــرف العــرب أمريــكا قبــل أن يعرفهــا أب ــناء الغــرب ،مجلــة املقتطــف ،العــدد الثان ــي ،املجلــد ،106دولــت حســن الصغي ــر :اقتحــم العــرب املحيــط قبــل أن يقتحمــه كوملبــس ،مجلــة الرســالة ،مصــر ،العــدد(. )612 ُ ( )4علي بـن الحسيـن املسعودي :مروج الذهب ومعادن الجواهر ،تح :يوسف أسعد داغر ،دار النشر :مؤسسة دار الهجرة ،ق ْم1409 ،هـ .135/1 ( )5راغب السرجانـي :العلم وبـناء األمم ،مرجع سابق ،ص.157 (( https://www.turkpress.co/node/14112 )6املستكشف التـركي بـيـري ريس عالم البحر والحرب) ( )7أبو الفداء إسماعيل بـن عمر بـن كثيـر :تفسيـر القرآن العظيم ،تح :محمد حسيـن شمس الديـن ،دار الكتب العلمية ،بـيـروت ،ط1419 1ه (.)245 /3 ( )8زاد املعاد في هدي خيـر العباد :محمد بـن أبـي بكر شمس الديـن ابـن قيم الجوزية ،مؤسسة الرسالة بـيـروت ،مكتبة املنار اإلسالمية الكويت ،ط1415 ،27هـ 1994/م.121/4 ، ( )9أحمد بـن حنبل :املسند ،مرجع سابق )46 /45( ،رقم الحديث (.)26450 ،27095
55
من َّ ُ رات العربـ َّية الث ْو ِ الفراغ ِ لمي في َز ِ الع ُّ َّ َ ََ َ َ َأ َو فــي ّ َ ْ َ ُ َ ـال :أ ْنـ َـز َل الـ َّـد َو َاء الـ ِـذي أ ْنـ َـز َل هللا؟ فقـ الطـ ِ ّـب خيـ ٌـر يــا َرســول ِ ِ ِ َ الـ َّـداء)) ففــي هــذا الحديــث أنــه ي ــنبغي االســتعانة فــي كل علــم وصناعــة بأحــذق مــن فيهــا فاألحــذق؛ َّ ()8 فإنــه إلــى اإلصابــة أقــرب) ورى اإلمــام أحمــد أن النب ــي صلــى هللا عليــه وســلم قــال للشــفاء ّ َ َ (عل ْ ميهــا حفصــة ك َمــا ب ــنت عبــد هللا وهــي عاملــة طب ــيبة يومئـ ٍـذِ : َع َّل ْم ِت َيهــا ْال ِك َت َابـ َـة)( ،)9فـ ُّ ـأي مؤمــن يحلــم بوعـ ِـد هللا باالســتخالف َّ ـات فقــد ـتكم ْل هــذه الصالحـ ِ وبب ــناء أمـ ٍـة أو نهضـ ٍـة أو دولـ ٍـة ولــم يسـ ِ َ ُّ ْ َ َ أبعــد النجعــة. ُ ًإذا ال مـ َـر َاء َّ أن أســاس الدولــة وأ َّســها العلـ ُـم والبحــث والتعليـ ُـم ِ ُ َّ والتـرب ــية والقــوة بمعناهــا الشــامل للقضايــا املاديــة واملعنويــة َّ الثـ ّ ـوري املأمــول واالقتصاديــة وغي ــرها ،وهــذا هــو جوهــر التغيي ــر والخيــار البديــل إلســقاط االســتبداد والعصب ــية والعصابــات وتحري ــر البشــرية مــن اســتعباد الفــرس والـ ُّـروم ُ الجـ ُـدد ً معــا. َ لقــد ســبق الســفر ُاء تشــريف الرســول صلــى هللا عليــه وســلم ّ َ َ معلمي ــن للمدي ــنة وتأسيســه قاعــدة األمـ ِـة بسنـي ــن ليكونــوا ِ مربي ــنَّ ، ّ ُ وصحبــه لب ــناء إنسـ ٍـان تقد َمـ ُـه هــؤالء املعلمــون مصعـ ٌـب ِ َّ ـدة ألمـ ٍـة ـية متـي ـ ٍ يحكمــه الوعــي ال العصب ــية ولتأســيس بـن ـ ٍ ـنة وقاعـ ٍ َّ َُ َّ ودولـ ٍـة تنتصــب علــى قوائـ ِـم مجتمـ ٍـع مســل ٍح بالعلــم ،يؤهــل ألن يقــود األمــم وال يقــاد كالغنــم لعصابــات الجاهليي ــن وعصب ــيتهم َّ الجاهليــة ،ثــم إنــه مــا ْ إن شـ َّـرف النب ــي صلــى هللا عليــه وســلم املدي ــنة حتــى شــرع فــي ب ــناء املســجد وغــدا املؤسســة التعليميــة ـناء األولــى يومئـ ٍـذ ،فــكان أهـ ُّـم مــا امتــاز بــه الدي ــن الجديــد فــي ب ـ ِ ُ َّ ـئة ودولـ ٍـة مدن ـ َّـي ٍة لــم ولــن تدنــس بهرطقــات الكهنوت ــية أمـ ٍـة ناشـ ٍ َّ الكنسـ َّـية أو الفارسـ َّـية؛ أنــه قــام علــى العلــم والتعليــم وصناعــة الوعــي واالنســاخ مــن ظلمــات الوهــم إلــى أنــوار الحقيقــة ّ ـؤرخ اإلنجليــزي ويلــز( :اإلســام هــو والعقــل والعلــم ،يقــول املـ ِ َ املدن ـ َّـية ،ومــن أراد الدليــل فليقــرأ القــرآن ومــا فيــه مــن نظــرات ومناهــج علميــة وقوانـي ــن اجتماعيــة)(.)10
املبحث الثانـي
َّ الواقــع املنظــور واملتوقــع املأمــول للتعليــم فــي الثــورة ّ يغذيــه املســتبد كان التعليــم قبــل الثــورات ومــا ي ـزال ،لكنــه تعليــم ِ ( )10عبد املنعم النمر :اإلسالم واملبادئ املستوردة ،القاهرة ،دار الشروق ،1981ص.84 (http://www.aljazeera.net )11
من َّ ُ رات العربـ َّية الث ْو ِ الفراغ ِ لمي في َز ِ الع ُّ
العدد 2رجب 1439هـ
بعقيدتــه َّ السرطان ــية وبفلســفة القائــد األوحــدَ ،وي ْم َسـ ُـخ جوهـ َـر ُه ُ ً َُْ أحيانــا مــن خــال َ رصـ ِـه وميزان ــيته العبـ ِـث بمناهجـ ِـه وبني ِتــه وف ِ ِ قيت ال تحكمه ضوابط تـربوية ِص ْرفة، نحو َم ٍ وبالقائميـن عليه على ٍ وال يختلــف مــن هــذه َّ ُ الزاويـ ِـة تعليــم دولـ ِـة اإلرهــاب عــن تعليــم تنظيــم ِ َّ َّ ّ ْ ـات املؤطـ ِـرة ب ــرؤى منغلقــة أو املســي ِرة الدولــة وال ِعر ِق ِيي ــن والجماعـ ِ َّ َ َ َ عــن بعــد أو الت ــي ت ــرى َ نفســها هــي األمــة والدولــة واملدن ــية ومــن ســواها ً رعاعــا ،وإذا مــا ُمســت مصالحهــا بســوء لــم تبـ ِـال بالعلــم وأدب ـ َّـياته َ ودأبـ ْـت تسـ ُ ـوم الوطـ َـن واألمــة ســوء املؤامــرة والخ ـراب باســتغاللها َ التعليـ َـم وجيشــه املب ــرمج. املطلــب األول :الواقــع املنظــور للتعليــم فــي الثــورة ُ َّ ّ نقلب األوراق ونستنطق التـربوييـن ونستذكر التاريخ منذ عام هلم ِ َّ َ 2011م :لقــد كان مــن املالحــظ يــوم أن قامــت الثــورات أن خريطــة فمـ ْـن أكث ــر املظاهـرات ضــد االســتبداد رســمها املثقفــون ال األميــونِ ، َ َ ْ ّ الخريجــون، مــن دعــا وشــارك واستبســل هــم طــاب الجامعــات أو ِ لكن هل يمكن القول بأن هذه الصفوة أخطأت القياس والتقديـر َ َ ْ أيام أو أسابـيع وتسقط األنظمة وحدست أنها ليست سوى بضعة ٍ عودة ويعودون إلى مقاعد الدراســة أو التدريس؟ وأقنعتها ِ لألبد بال ٍ وإذا فرضنــا أنهــم َّ فوهمــوا فــي التقييــم فهــل أخطــؤوا التقويــم خمنــوا ِ ً أيضــا؟ ومــاذا دهاهــم عندمــا رأوا أنــه قيــاس مــع الفــارق وأن أيــام َ املســتبد تطــول وتســتطيل؟! ِلـ َـم لـ ْـم يجعلوهــا ثــورة علــى الجهــل ومصالح الجهلة الجاهلييـن املؤيديـن لالستبداد؟ أعنـي كيف غفل َ ـئة كثي ــرون منهــم عــن هــذا ومــا عــادوا للتعليــم وال قــدروا تعليــم الناشـ ِ قـ ْـد َر ُه وهــم أعــرف النــاس بــأن الجهــل هــو د ْم َنـ ُـة االســتبداد ُ وسـ ْـف َع ُته، ِ فمنــذ أن قامــت الثــورة املصريــة كتــب تومــاس فريدمــان (الخطــوة الثان ــية الت ــي قــد تعــزز قــوة الشــباب العرب ــي بعــد الثــورات قــد تكــون َ َ الثــورة التعليميــة الت ــي قــد تيهــئ لهــم فــرص العمــل) ،وتحــدث عــن مبــادرة تدريــب معلمــي املــدارس علــى تعليــم التفكي ــر الخــاق وحــل املشــكالت فــي الفصــول الدراســية بــاألردن فقــال( :إن ذلــك ســيكون رب ـ ً ًّ حقيقيــا ،وإن الثــورات العرب ــية ربمــا ال تنجــح فــي خلــع ـيعا عرب ـ ًّـيا الحكام املستبديـن بدون تمكيـن الجيل الجديد من الشباب العرب بهــذا النــوع مــن الثــورة فــي التعليــم ،فالثــورات لــن تعـ ّ ِـزز بــأي َ حــال مــن األحــوال قــوة الجيــل الجديــد فــي ظــل غيــاب الثــورة فــي َّ َ ّ التعليــم)(َ )11ومـ ْـن للثـ َـو ِار أ َّنــه إن انقشــعت ظلمــات هــذا املســتبد أل 56
يأت ــي جيــل الجهــل بمســتبد أدهــى وأعتــى ْ وإن بالطــرق الديمقراطيــة؛ َ ُ ّ ـوت جاهــل فــإن مــن عيوبهــا مســاواة صـ ٍ ـوت ثمنــه رغيــف خبــز أو صـ ِ ـوت أعلــى النــاس خانــع قابــع بــل قانــع بســطوة املســتبد عابـ ٍـد لــه بصـ ِ علمــا ونزاهـ ًـة وح َّريـ ًـة فــي الفكــر وال ـرأي؟! ومــن َ ً أدرى هــؤالء الصفــوة الجامعيي ــن أنــه -فــي غفلـ ٍـة منهــم وليــس ببعيــد عــن ضــروب هــذا الجاهل َ -ت َك َاث َر ٌ أناس على ِضفاف الثورة مسخوا التعليم وناصبوا ََ َ ُ َ َ س العرب ــية العداء وحالفوا األعداء ،وآخرون ابت ِسروا في ِ كهوف غل ٍ ً ً ُ َ َ إيمانهــم ورســالة فــي ال ي ــرون فيهــا العلــم إال ورقــة تســرد نواقــض ِ عقيدة مذهبـية ،وبهما يغدو تحريـر الشام واليمن والقدس وأراكان َ كلمــح البصــر أو هــو أقــرب ،بــل بهمــا ســيفتحون العالــم بغــزوات َّ َ َ ُّ َ ُ ْ َ ْ َ اسـ َـتط ْع ُت ْم ِمـ ْـن ـاح ...وأمــا (( وأ ِعــدوا لهــم مــا ُمباركــة ،فهمــا أم�ضــى سـ ٍ ُّ َّ ـداع فــي صناعــة قــو ٍة)) [األنفــال :آيــة ]60فــا تحفزهــم لتعلـ ٍ ًـم أو إبـ ٍ ُ ْ بعلم العدو سالح أو اخت ـراع في تقن ــيات حرب ــية م ِعينة مثل بل إنهم ِ َ ـرجل يقتــل وصناع ِتــه وســاحه ســيقاتلون وي ــنتصرون ،ومــن لــك ب ـ ٍ عدوه بسالحه فهل ثمة أشجع منه! َّ َّ وكأن عيـن الشاعر الهراوي لم تقع َ على من هو جدي ــر باملديح سواه ،فأشبعه إطر ًاء حتى جعل منه ُه ْزأة: َّ ـرب بغي ــر حســام وأخــو الجهالــة فــي الحيــاة كأنــه سـ ٍـاع إلــى حـ ٍ
املطلب الثانـي :املستقبل التعليمي من زاوية الواقع في هذه الفتـرة َ فــي ضــوء محـ ِّـد َدات مشــكلة البحــث املطروحـ ِـة يتب ـ َّـين َّأن املعضلــة ٌ موضـ َ بوية ال تعليميــة فحســب ،فلهيـ ُـب ُأوارهــا يسـ ُ ـفع ـوع البحـ ِـث ت ـر ّ ـف وقاعـ ٍـة َد ْر ِسـ َّـية ،وال َي ِه َمـ َّـن واهـ ٌـم َّأن ـدان وصـ ٍ ـص وميـ ٍ كل تخصـ ٍ ُ ّ ّ الب ــيت وحـ َـده «رغــم َّ أهميتــه» يصـ ِـوب مــا ت ِلقنــه املدرســة للطفــل؛ صوابــا ًّ فـ َّ ً ـإن أحـ ًـدا ال يجهــل َّأن الطفــل يــكاد ال ي ــرى وحقــا فــي �شــيء َ ُ ُْ ُ يقــال لــه مــا لــم يطابـ ْـق مــا قيــل لــه فــي املدرســة ،وعليــه؛ ف َهــاؤ ُم انظـ ْـر بعي ــن حصيــف ثــم أجـ ْـب إن وجــدت للــكالم ً منزعــا :هــل ّ تخيلـ َـت ً يومــا ٍ ِ َّ ُ ْ ّ ُ َّ ُ معلمون ٍ عصابات كدستهم أنظمة االستبداد أو االحتالل على أنهم ِ ْ َّ ُ بعدمــا ُمنحــوا بـي ــن غســق الليــل وســدف ِت ِه بطــر ٍق شــتى شــهادات ال ُ َّ تبلــغ قيمــة املــداد الــذي خطــت بــه ،فــإذا بأروقة الجامعــات واملدارس ُْ ّ فــي وطنــك ّ األم تغـ ّ الصادي ــن عــن سب ــيل العلــم، ـص بهــؤالء ال ْر ِج ِف ْيـ َـن ِ ِ ُ َ ّ ّ املعوقي ــن امل ِثبطي ــن وتســتغيث بالعلــم وأ َربابــه ،ومــن ســموم أولئــك ِ َ َ تســتعيذ وتستجي ــر؟ أ َت َ ـيد الق َتلــة علــى منصــات صـ َّـورت هــؤالء العب ـ التعليــم ي ـ ُّربون أب ـ َ ـناءك بعدمــا عــادوا إلــى مدارســهم أو جامعاتهــم فــي
العدد 2رجب 1439هـ
ّ ُّ يعلـ َـم أولئــك أحفـ َـاد َك ،وعــام تظـ ُّـن أن وطنهــم األ ِم؟ مــاذا ع�ســى أن ِ ي ـربوهم وي ــنشئوهم؟ ال أحســبك نســيت أن املثــل األعلــى بــل الــرب األعلــى لقــوم فرعــون هــو هــو معبــود هــؤالء! أت ـراك نســيت مقالتــه َ ُ ُ َّ (( َقـ َ ـال ِف ْر َعـ ْـو ُن َمــا أ ِريكـ ْـم ِإل َمــا أ َرى)) [غافــر :آيــة ]29فلئــن غـ ِـرق فرعــون وســقط حكمــه فــإن مــن ورائــه فراعنــة ال ي ــرون إال مــا َيــرى هذا املستبد ،وهم إن لم يحكموا الرقاب واألشباح فإنهم يحكمون ويفســدون األرواح باعتالئهــم منصــات التعليــم ليســتأنف العقــولِ ، َح َف َد ُتــك مسي ــرة الخنــوع والعبوديــة لسـ ّ ـتبد آخــر يصنعــه هــذا ٍ ِ ِ الفراغَ ، فبعد قمع الثورات املناهضة للفرنسييـن في الريف املغربـي َ استدعى قائد الحملة املسؤول عن التعليم وقال له :لقد أخضعنا لكــم األبــدان ،وقضي ــنا علــى مقاومــة الشــعب ،فعليكــم إخضــاع العقــول عــن طريــق التعليــم(.)12 َ أتـ َـرى هــذا الوطــن قـ َّـد َم كل مــا ت ــرى مــن شــهداء وتضحيــات ليعتلـ َـي َ ُ ـتبداد مناب ــر العلــم والتـرب ــية ويحتكــروا تـرب ــية أب ــنائك عب ــيد االسـ ِ وتعليمهــم وهــا أنـ َـت مــا زلــت ُتقســم أن َت َبقــى أنــت وأوالدك اليـ َ ـوم ُّ ـروش مــن هنــاك، أ ِميي ــن لتنفقــوا العمــر فــي كســب لي ـ ٍـرة مــن هنــا أو قـ َ ٍ وتعــودوا غـ ًـدا بعقـ ٍـل خـ ٍـاو وجيـ ٍـب مــآن ،بـي ــنما قــد ســطا أولئــك علــى ٌ ً َّ ٌ عــروش العلــم ومراكــز بحوثــه ومختب ـراته؟؟! تلــك إذا كـ َّـرة خاســرة َ ْ ـوم اشت ــروا وســوق بائــرة ال رواج لهــا وال نفــاق! فمــا ربحــت تجــارة قـ ٍ َ الجهالــة بالعلــم والتعليــم. ّ ً عمــال وبـي ــنما يستحسـ ُـن هــؤالء اآلبــاء فــي أب ــنائهم أن ي ــروا فيهــم مجهودي ــن ُجبـ ًـاة للمــال وإن عاشــوا وماتــوا ّ أميي ـ َـن ،وي ــرى الذي ــن ِ ِ َ ْ ً ً َّ ً َ عسكروا الثورات أسيـر الحرب مغنما وكنزا ثميـنا ،وجدنا أن النبـي ـدر مــا هــو أثمــن مــن الفــداء صلــى هللا عليــه وســلم رأى فــي أســرى بـ ٍ َ ًّ ـداء أسي ــرها مــاال جمــا، باملــال ،ولــو شــاء ألخــذ مــن كل قب ــيلة علــى فـ ِ ّ َ َ يعلــم األســرى القــرءاة والكتابــة ألطفـ ِـال الصحابــة لكنــه اكتفــى بــأن ِ ً ثمنــا للح َّريــة ،ولــو شــاء لقــال :إن دولتنــا وليــدة ناشــئة وأمــوال مواطنـيها مصادرة فاملال ُّ أهم من محو األمية ملجموعة من األطفال ال ســيما أننــا علــى أبــواب تأســيس دولــة قويــة ،لكنــه َّ التعليــم الــذي بــه ٍ َّ تقــوم الدولــة وعليــه ت ـرتفع رايــة األمــة ...وفــي اليابــان خاصــة وماليزيــة وت ــركية تجـ ُ ـارب مشــهودة ،فهــي مــا قامــت وال نهضــت وال تحـ َّـر َر ْت ً ً ً وال َّ أس َسـ ْـت دولــة مهيبــة محت ــرمة وال ازدهــر اقتصادهــا إال بالعلــم ُ َ ُ النهضــة آتــت أكلهــا حتــى َ وجــودة التعليــم واإلبــداع ،وهــذه َّ جنــى مــن جنانها كل مواطنـيها ال سيما املتعلميـن واملبدعيـن واملختـرعيـن؛ ْ لقد ِ ِ
( )12حسن إبـراهيم أحمد :استمرارية التاريخ ما بـيـن صدام املصالح وحوار الحضارات ،دار رسالن2016 ،م ،ص .183
57
من َّ ُ رات العربـ َّية الث ْو ِ الفراغ ِ لمي في َز ِ الع ُّ َّ َ ََ َ َ َأ َو فــي ّ َ ْ َ ُ َ ـال :أ ْنـ َـز َل الـ َّـد َو َاء الـ ِـذي أ ْنـ َـز َل هللا؟ فقـ الطـ ِ ّـب خيـ ٌـر يــا َرســول ِ ِ ِ َ الـ َّـداء)) ففــي هــذا الحديــث أنــه ي ــنبغي االســتعانة فــي كل علــم وصناعــة بأحــذق مــن فيهــا فاألحــذق؛ َّ ()8 فإنــه إلــى اإلصابــة أقــرب) ورى اإلمــام أحمــد أن النب ــي صلــى هللا عليــه وســلم قــال للشــفاء ّ َ َ (عل ْ ميهــا حفصــة ك َمــا ب ــنت عبــد هللا وهــي عاملــة طب ــيبة يومئـ ٍـذِ : َع َّل ْم ِت َيهــا ْال ِك َت َابـ َـة)( ،)9فـ ُّ ـأي مؤمــن يحلــم بوعـ ِـد هللا باالســتخالف َّ ـات فقــد ـتكم ْل هــذه الصالحـ ِ وبب ــناء أمـ ٍـة أو نهضـ ٍـة أو دولـ ٍـة ولــم يسـ ِ َ ُّ ْ َ َ أبعــد النجعــة. ُ ًإذا ال مـ َـر َاء َّ أن أســاس الدولــة وأ َّســها العلـ ُـم والبحــث والتعليـ ُـم ِ ُ َّ والتـرب ــية والقــوة بمعناهــا الشــامل للقضايــا املاديــة واملعنويــة َّ الثـ ّ ـوري املأمــول واالقتصاديــة وغي ــرها ،وهــذا هــو جوهــر التغيي ــر والخيــار البديــل إلســقاط االســتبداد والعصب ــية والعصابــات وتحري ــر البشــرية مــن اســتعباد الفــرس والـ ُّـروم ُ الجـ ُـدد ً معــا. َ لقــد ســبق الســفر ُاء تشــريف الرســول صلــى هللا عليــه وســلم ّ َ َ معلمي ــن للمدي ــنة وتأسيســه قاعــدة األمـ ِـة بسنـي ــن ليكونــوا ِ مربي ــنَّ ، ّ ُ وصحبــه لب ــناء إنسـ ٍـان تقد َمـ ُـه هــؤالء املعلمــون مصعـ ٌـب ِ َّ ـدة ألمـ ٍـة ـية متـي ـ ٍ يحكمــه الوعــي ال العصب ــية ولتأســيس بـن ـ ٍ ـنة وقاعـ ٍ َّ َُ َّ ودولـ ٍـة تنتصــب علــى قوائـ ِـم مجتمـ ٍـع مســل ٍح بالعلــم ،يؤهــل ألن يقــود األمــم وال يقــاد كالغنــم لعصابــات الجاهليي ــن وعصب ــيتهم َّ الجاهليــة ،ثــم إنــه مــا ْ إن شـ َّـرف النب ــي صلــى هللا عليــه وســلم املدي ــنة حتــى شــرع فــي ب ــناء املســجد وغــدا املؤسســة التعليميــة ـناء األولــى يومئـ ٍـذ ،فــكان أهـ ُّـم مــا امتــاز بــه الدي ــن الجديــد فــي ب ـ ِ ُ َّ ـئة ودولـ ٍـة مدن ـ َّـي ٍة لــم ولــن تدنــس بهرطقــات الكهنوت ــية أمـ ٍـة ناشـ ٍ َّ الكنسـ َّـية أو الفارسـ َّـية؛ أنــه قــام علــى العلــم والتعليــم وصناعــة الوعــي واالنســاخ مــن ظلمــات الوهــم إلــى أنــوار الحقيقــة ّ ـؤرخ اإلنجليــزي ويلــز( :اإلســام هــو والعقــل والعلــم ،يقــول املـ ِ َ املدن ـ َّـية ،ومــن أراد الدليــل فليقــرأ القــرآن ومــا فيــه مــن نظــرات ومناهــج علميــة وقوانـي ــن اجتماعيــة)(.)10
املبحث الثانـي
َّ الواقــع املنظــور واملتوقــع املأمــول للتعليــم فــي الثــورة ّ يغذيــه املســتبد كان التعليــم قبــل الثــورات ومــا ي ـزال ،لكنــه تعليــم ِ ( )10عبد املنعم النمر :اإلسالم واملبادئ املستوردة ،القاهرة ،دار الشروق ،1981ص.84 (http://www.aljazeera.net )11
من َّ ُ رات العربـ َّية الث ْو ِ الفراغ ِ لمي في َز ِ الع ُّ
العدد 2رجب 1439هـ
بعقيدتــه َّ السرطان ــية وبفلســفة القائــد األوحــدَ ،وي ْم َسـ ُـخ جوهـ َـر ُه ُ ً َُْ أحيانــا مــن خــال َ رصـ ِـه وميزان ــيته العبـ ِـث بمناهجـ ِـه وبني ِتــه وف ِ ِ قيت ال تحكمه ضوابط تـربوية ِص ْرفة، نحو َم ٍ وبالقائميـن عليه على ٍ وال يختلــف مــن هــذه َّ ُ الزاويـ ِـة تعليــم دولـ ِـة اإلرهــاب عــن تعليــم تنظيــم ِ َّ َّ ّ ْ ـات املؤطـ ِـرة ب ــرؤى منغلقــة أو املســي ِرة الدولــة وال ِعر ِق ِيي ــن والجماعـ ِ َّ َ َ َ عــن بعــد أو الت ــي ت ــرى َ نفســها هــي األمــة والدولــة واملدن ــية ومــن ســواها ً رعاعــا ،وإذا مــا ُمســت مصالحهــا بســوء لــم تبـ ِـال بالعلــم وأدب ـ َّـياته َ ودأبـ ْـت تسـ ُ ـوم الوطـ َـن واألمــة ســوء املؤامــرة والخ ـراب باســتغاللها َ التعليـ َـم وجيشــه املب ــرمج. املطلــب األول :الواقــع املنظــور للتعليــم فــي الثــورة ُ َّ ّ نقلب األوراق ونستنطق التـربوييـن ونستذكر التاريخ منذ عام هلم ِ َّ َ 2011م :لقــد كان مــن املالحــظ يــوم أن قامــت الثــورات أن خريطــة فمـ ْـن أكث ــر املظاهـرات ضــد االســتبداد رســمها املثقفــون ال األميــونِ ، َ َ ْ ّ الخريجــون، مــن دعــا وشــارك واستبســل هــم طــاب الجامعــات أو ِ لكن هل يمكن القول بأن هذه الصفوة أخطأت القياس والتقديـر َ َ ْ أيام أو أسابـيع وتسقط األنظمة وحدست أنها ليست سوى بضعة ٍ عودة ويعودون إلى مقاعد الدراســة أو التدريس؟ وأقنعتها ِ لألبد بال ٍ وإذا فرضنــا أنهــم َّ فوهمــوا فــي التقييــم فهــل أخطــؤوا التقويــم خمنــوا ِ ً أيضــا؟ ومــاذا دهاهــم عندمــا رأوا أنــه قيــاس مــع الفــارق وأن أيــام َ املســتبد تطــول وتســتطيل؟! ِلـ َـم لـ ْـم يجعلوهــا ثــورة علــى الجهــل ومصالح الجهلة الجاهلييـن املؤيديـن لالستبداد؟ أعنـي كيف غفل َ ـئة كثي ــرون منهــم عــن هــذا ومــا عــادوا للتعليــم وال قــدروا تعليــم الناشـ ِ قـ ْـد َر ُه وهــم أعــرف النــاس بــأن الجهــل هــو د ْم َنـ ُـة االســتبداد ُ وسـ ْـف َع ُته، ِ فمنــذ أن قامــت الثــورة املصريــة كتــب تومــاس فريدمــان (الخطــوة الثان ــية الت ــي قــد تعــزز قــوة الشــباب العرب ــي بعــد الثــورات قــد تكــون َ َ الثــورة التعليميــة الت ــي قــد تيهــئ لهــم فــرص العمــل) ،وتحــدث عــن مبــادرة تدريــب معلمــي املــدارس علــى تعليــم التفكي ــر الخــاق وحــل املشــكالت فــي الفصــول الدراســية بــاألردن فقــال( :إن ذلــك ســيكون رب ـ ً ًّ حقيقيــا ،وإن الثــورات العرب ــية ربمــا ال تنجــح فــي خلــع ـيعا عرب ـ ًّـيا الحكام املستبديـن بدون تمكيـن الجيل الجديد من الشباب العرب بهــذا النــوع مــن الثــورة فــي التعليــم ،فالثــورات لــن تعـ ّ ِـزز بــأي َ حــال مــن األحــوال قــوة الجيــل الجديــد فــي ظــل غيــاب الثــورة فــي َّ َ ّ التعليــم)(َ )11ومـ ْـن للثـ َـو ِار أ َّنــه إن انقشــعت ظلمــات هــذا املســتبد أل 56
يأت ــي جيــل الجهــل بمســتبد أدهــى وأعتــى ْ وإن بالطــرق الديمقراطيــة؛ َ ُ ّ ـوت جاهــل فــإن مــن عيوبهــا مســاواة صـ ٍ ـوت ثمنــه رغيــف خبــز أو صـ ِ ـوت أعلــى النــاس خانــع قابــع بــل قانــع بســطوة املســتبد عابـ ٍـد لــه بصـ ِ علمــا ونزاهـ ًـة وح َّريـ ًـة فــي الفكــر وال ـرأي؟! ومــن َ ً أدرى هــؤالء الصفــوة الجامعيي ــن أنــه -فــي غفلـ ٍـة منهــم وليــس ببعيــد عــن ضــروب هــذا الجاهل َ -ت َك َاث َر ٌ أناس على ِضفاف الثورة مسخوا التعليم وناصبوا ََ َ ُ َ َ س العرب ــية العداء وحالفوا األعداء ،وآخرون ابت ِسروا في ِ كهوف غل ٍ ً ً ُ َ َ إيمانهــم ورســالة فــي ال ي ــرون فيهــا العلــم إال ورقــة تســرد نواقــض ِ عقيدة مذهبـية ،وبهما يغدو تحريـر الشام واليمن والقدس وأراكان َ كلمــح البصــر أو هــو أقــرب ،بــل بهمــا ســيفتحون العالــم بغــزوات َّ َ َ ُّ َ ُ ْ َ ْ َ اسـ َـتط ْع ُت ْم ِمـ ْـن ـاح ...وأمــا (( وأ ِعــدوا لهــم مــا ُمباركــة ،فهمــا أم�ضــى سـ ٍ ُّ َّ ـداع فــي صناعــة قــو ٍة)) [األنفــال :آيــة ]60فــا تحفزهــم لتعلـ ٍ ًـم أو إبـ ٍ ُ ْ بعلم العدو سالح أو اخت ـراع في تقن ــيات حرب ــية م ِعينة مثل بل إنهم ِ َ ـرجل يقتــل وصناع ِتــه وســاحه ســيقاتلون وي ــنتصرون ،ومــن لــك ب ـ ٍ عدوه بسالحه فهل ثمة أشجع منه! َّ َّ وكأن عيـن الشاعر الهراوي لم تقع َ على من هو جدي ــر باملديح سواه ،فأشبعه إطر ًاء حتى جعل منه ُه ْزأة: َّ ـرب بغي ــر حســام وأخــو الجهالــة فــي الحيــاة كأنــه سـ ٍـاع إلــى حـ ٍ
املطلب الثانـي :املستقبل التعليمي من زاوية الواقع في هذه الفتـرة َ فــي ضــوء محـ ِّـد َدات مشــكلة البحــث املطروحـ ِـة يتب ـ َّـين َّأن املعضلــة ٌ موضـ َ بوية ال تعليميــة فحســب ،فلهيـ ُـب ُأوارهــا يسـ ُ ـفع ـوع البحـ ِـث ت ـر ّ ـف وقاعـ ٍـة َد ْر ِسـ َّـية ،وال َي ِه َمـ َّـن واهـ ٌـم َّأن ـدان وصـ ٍ ـص وميـ ٍ كل تخصـ ٍ ُ ّ ّ الب ــيت وحـ َـده «رغــم َّ أهميتــه» يصـ ِـوب مــا ت ِلقنــه املدرســة للطفــل؛ صوابــا ًّ فـ َّ ً ـإن أحـ ًـدا ال يجهــل َّأن الطفــل يــكاد ال ي ــرى وحقــا فــي �شــيء َ ُ ُْ ُ يقــال لــه مــا لــم يطابـ ْـق مــا قيــل لــه فــي املدرســة ،وعليــه؛ ف َهــاؤ ُم انظـ ْـر بعي ــن حصيــف ثــم أجـ ْـب إن وجــدت للــكالم ً منزعــا :هــل ّ تخيلـ َـت ً يومــا ٍ ِ َّ ُ ْ ّ ُ َّ ُ معلمون ٍ عصابات كدستهم أنظمة االستبداد أو االحتالل على أنهم ِ ْ َّ ُ بعدمــا ُمنحــوا بـي ــن غســق الليــل وســدف ِت ِه بطــر ٍق شــتى شــهادات ال ُ َّ تبلــغ قيمــة املــداد الــذي خطــت بــه ،فــإذا بأروقة الجامعــات واملدارس ُْ ّ فــي وطنــك ّ األم تغـ ّ الصادي ــن عــن سب ــيل العلــم، ـص بهــؤالء ال ْر ِج ِف ْيـ َـن ِ ِ ُ َ ّ ّ املعوقي ــن امل ِثبطي ــن وتســتغيث بالعلــم وأ َربابــه ،ومــن ســموم أولئــك ِ َ َ تســتعيذ وتستجي ــر؟ أ َت َ ـيد الق َتلــة علــى منصــات صـ َّـورت هــؤالء العب ـ التعليــم ي ـ ُّربون أب ـ َ ـناءك بعدمــا عــادوا إلــى مدارســهم أو جامعاتهــم فــي
العدد 2رجب 1439هـ
ّ ُّ يعلـ َـم أولئــك أحفـ َـاد َك ،وعــام تظـ ُّـن أن وطنهــم األ ِم؟ مــاذا ع�ســى أن ِ ي ـربوهم وي ــنشئوهم؟ ال أحســبك نســيت أن املثــل األعلــى بــل الــرب األعلــى لقــوم فرعــون هــو هــو معبــود هــؤالء! أت ـراك نســيت مقالتــه َ ُ ُ َّ (( َقـ َ ـال ِف ْر َعـ ْـو ُن َمــا أ ِريكـ ْـم ِإل َمــا أ َرى)) [غافــر :آيــة ]29فلئــن غـ ِـرق فرعــون وســقط حكمــه فــإن مــن ورائــه فراعنــة ال ي ــرون إال مــا َيــرى هذا املستبد ،وهم إن لم يحكموا الرقاب واألشباح فإنهم يحكمون ويفســدون األرواح باعتالئهــم منصــات التعليــم ليســتأنف العقــولِ ، َح َف َد ُتــك مسي ــرة الخنــوع والعبوديــة لسـ ّ ـتبد آخــر يصنعــه هــذا ٍ ِ ِ الفراغَ ، فبعد قمع الثورات املناهضة للفرنسييـن في الريف املغربـي َ استدعى قائد الحملة املسؤول عن التعليم وقال له :لقد أخضعنا لكــم األبــدان ،وقضي ــنا علــى مقاومــة الشــعب ،فعليكــم إخضــاع العقــول عــن طريــق التعليــم(.)12 َ أتـ َـرى هــذا الوطــن قـ َّـد َم كل مــا ت ــرى مــن شــهداء وتضحيــات ليعتلـ َـي َ ُ ـتبداد مناب ــر العلــم والتـرب ــية ويحتكــروا تـرب ــية أب ــنائك عب ــيد االسـ ِ وتعليمهــم وهــا أنـ َـت مــا زلــت ُتقســم أن َت َبقــى أنــت وأوالدك اليـ َ ـوم ُّ ـروش مــن هنــاك، أ ِميي ــن لتنفقــوا العمــر فــي كســب لي ـ ٍـرة مــن هنــا أو قـ َ ٍ وتعــودوا غـ ًـدا بعقـ ٍـل خـ ٍـاو وجيـ ٍـب مــآن ،بـي ــنما قــد ســطا أولئــك علــى ٌ ً َّ ٌ عــروش العلــم ومراكــز بحوثــه ومختب ـراته؟؟! تلــك إذا كـ َّـرة خاســرة َ ْ ـوم اشت ــروا وســوق بائــرة ال رواج لهــا وال نفــاق! فمــا ربحــت تجــارة قـ ٍ َ الجهالــة بالعلــم والتعليــم. ّ ً عمــال وبـي ــنما يستحسـ ُـن هــؤالء اآلبــاء فــي أب ــنائهم أن ي ــروا فيهــم مجهودي ــن ُجبـ ًـاة للمــال وإن عاشــوا وماتــوا ّ أميي ـ َـن ،وي ــرى الذي ــن ِ ِ َ ْ ً ً َّ ً َ عسكروا الثورات أسيـر الحرب مغنما وكنزا ثميـنا ،وجدنا أن النبـي ـدر مــا هــو أثمــن مــن الفــداء صلــى هللا عليــه وســلم رأى فــي أســرى بـ ٍ َ ًّ ـداء أسي ــرها مــاال جمــا، باملــال ،ولــو شــاء ألخــذ مــن كل قب ــيلة علــى فـ ِ ّ َ َ يعلــم األســرى القــرءاة والكتابــة ألطفـ ِـال الصحابــة لكنــه اكتفــى بــأن ِ ً ثمنــا للح َّريــة ،ولــو شــاء لقــال :إن دولتنــا وليــدة ناشــئة وأمــوال مواطنـيها مصادرة فاملال ُّ أهم من محو األمية ملجموعة من األطفال ال ســيما أننــا علــى أبــواب تأســيس دولــة قويــة ،لكنــه َّ التعليــم الــذي بــه ٍ َّ تقــوم الدولــة وعليــه ت ـرتفع رايــة األمــة ...وفــي اليابــان خاصــة وماليزيــة وت ــركية تجـ ُ ـارب مشــهودة ،فهــي مــا قامــت وال نهضــت وال تحـ َّـر َر ْت ً ً ً وال َّ أس َسـ ْـت دولــة مهيبــة محت ــرمة وال ازدهــر اقتصادهــا إال بالعلــم ُ َ ُ النهضــة آتــت أكلهــا حتــى َ وجــودة التعليــم واإلبــداع ،وهــذه َّ جنــى مــن جنانها كل مواطنـيها ال سيما املتعلميـن واملبدعيـن واملختـرعيـن؛ ْ لقد ِ ِ
( )12حسن إبـراهيم أحمد :استمرارية التاريخ ما بـيـن صدام املصالح وحوار الحضارات ،دار رسالن2016 ،م ،ص .183
57
من َّ ُ رات العربـ َّية الث ْو ِ الفراغ ِ لمي في َز ِ الع ُّ قــدرت دراسـ ٌـة ملؤسســة أنقــذوا األطفــال عـ َ ـام َّ 2015أن السوريي ــن الذي ــن لــم ُي ْكم ُلــوا تعليـ َـم املرحلــة األساســية مــن َّ املرجـ ِـح أن يحصلــوا ِ علــى أجــور أقــل ب ــنسبة %32مــن أجــور نظرائهــم ممــن أنهــوا دراســتهم الثانويــة ،وأقــل ب ــنسبة %56مقارنــة بمــن َّ تخرجــوا فــي الجامعــة(.)13 ٌ ـاف َ ناصــر العالــم املتحضــر فيهــا واليــوم هــا قــد انصرمــت ســبع عجـ َ َ ّ ّ املستبدي ــن َّ ّ َ السفاحي ــن قتلــة املدن ِـيي ــن النيــام ِ املسالي ــن واألطفــال ِ ِ ّ َ بالكيمــاو ِي واملحـ ِـارق الجماعيــة ،وعــاد الســؤال يطــرح نفســه كــرة أخــرى :أيهمــا ســقط االســتبداد أم التعليــم؟ وهــل فــات ثوارنــا ّ فــي البــاد العرب ــية ِكلهــا يومئـ ٍـذ أن يضعــوا خطــة بديلــة إلســقاط االســتبداد ،وقوامهــا التعليــم والتـرب ــية واالخت ـراق؟ ال ســيما أن التهجيـر واالغتـراب أتاح لكثيـريـن ً ّ تعليمية نادرة رغم أنه كان فرصا سـ ًـببا للحرمــان مــن التعليــم فــي حــاالت ليســت قليلــة لعوامــل أهمهــا اللغــة وظــروف أخــرى. ّ ـواب القــول بــأنَّ فلنؤكــد صـ َ وإذ إن الثــورة والتعليــم متالزمــان ِ َ االحتفــاظ بجوهــر يســتع�صي علــى التغيي ــر فــي عالــم كثي ـ ِـر التحــول َ ٌ ـداره أو قلـ ٍـب علــى نظــام حركتــه(،)14 �شــيء يعــادل بقــاء كوكـ ٍـب فــي مـ ِ َّ وأن صمـ َ ـام أمــان هــذا الجوهــر هــو ب ــناء الشــخصية الرياديــة الت ــي ِ ُّ مــن أهـ ِ ّـم أركانهــا العلـ ُـم وملكــة الفهــم والشــعور باملســؤولية ،وكلهــا ّ ّ منوطـ ٌـة بالتعليــم والتـرب ــية ً معــا؛ وب ـ ً نؤكـ ُـد َّأن الثائــر ـناء علــى هــذا ِكلــه ِ ً يشة في ّ مهب ريح ،لون الحرباء الجاهل املستهت ــر ال يعدو أن يكون ر َ َِ ُ ّ ُ ُُ ُُ ُّ َ وإنــي لذكــر أنــه بـي ــنما كان ِصبغتــه والتغيـ ُـر طبعــه وثباتــه مســتغرب؛ ِ ّ ّ درب الثــورة ثو َرانــا الجامعيــون يقضــون العجــب -وهــم ي ــرون رفــاق ِ صالحــوا دولــة اإلرهــاب واالســتبداد واصطفــوا فــي خنــدق مليشــياتها ـوة األمــس األحـرار -كنـ ُـت أكـ ّ ِـرر: أو لحقــوا بتنظيــم الدولــة لقتــال إخـ ِ َ َ َّ ستغرب ،تتبعوا ما�ضي وحاضر هؤالء القتلى ال�شيء من معدنه ال ُي َْ ّ املصطفي ــن فــي ركاب إرهــاب الدولــة وتنظيــم الهلكــى املصالحي ــن ّ ً متعل ًمــا أو عالــا أو ِ الدولــة علــى جبهــات القتــال ،فلــن ت َجــدوا فيهــم ِ ُ َّ َ ْ مسـ ً ـتمعا ،وهــذا سـ ُّـر هالكهــمَ ،عـ ْـن أبــي َب ْكـ َـر َة َقـ َ ـال« :سـ ِـمعت النـبِـ َّـي ِ َ َ َ ّ َّ ً ْ ص َّلــى َُ هللا َعل ْيـ ِـه َو َســل َمَ -ي ُقــو ُل(( :اغـ ُـد َع ِالــا أ ْو ُم َت َع ِل ًمــا أ ْو ُم ْسـ َـت ِم ًعا ـال َع َطـ ٌـاء(َ :قـ َ َأ ْو ُم ِح ًّبــاَ َ ،ول َت ُكــن ْال َخ ِام َسـ َـة َف َت ْه ِلـ َـك)) َقـ َ ـال ِلــي ِم ْسـ َـع ٌر: ْ َ َ َ َ ً َ ِْ َ ُ ْ ْ َ َ َ ـض ْالع ْلــمَ ـال«َ :و ْال َخام َسـ ُـة َأ ْن ُت ْبغـ َ َ ِزدتنــا خ ِامســة لــم تكــن ِعندنــا ،قـ ِ ِ ِ
من َّ ُ رات العربـ َّية الث ْو ِ الفراغ ِ لمي في َز ِ الع ُّ
العدد 2رجب 1439هـ
َو َأ ْه َل ُه)( ،)15وال َّ أدل على الهالك الناجم عن الجهل من هذا التقلب ـوار ُ ُ َ ـاد َ حكمهــا ثـ ٌ قادت ُهــم العجــاب وذاك األداء اإلداري الضعيــف فــي بـ ٍ َّ ٌ ًُ َّإمــا ِح ْر ِف ُّيــون لــم تخــط أيديهــم كلمــة تــدار بهــا غرفــة يقطنهــا بضعــة ً ّ أنفــار َّ ُّ يكفــرون وإمــا ظالميــون ال ي ــرون العلــم ســوى جهـ ٍ ـاالت مطبقــة ِ َ وعرضــه. بهــا مــن شــاء ليستب ــيحوا دمــه ومالــه َ وفشـ ِـت األميــة وأعـ َ ـرض القــوم عــن املدرســة واليــوم وقــد كان مــا كان وشــغلتهم دن ــيا الوهــم فــي جمــع قــروش أو إســقاط عــروش ســرعان ُ َ صنع ْتــه هتافــات مخلصــة مــا تعــود ِلتشـ َّـيد علــى جماجــم جهـ ٍـل َّ خطــت بمعــاول تجهيــل َّ هدامــة (ال دراســة وال تدريــس هـ َّـدارة؛ لكنهــا ٍ الرئيــس) ،فهــل مــن مغيــث اليــوم تحملــه ّ حتــى يســقط َّ حميــة الغي ــرة علــى عقــول تســتغيث لدفــع الصائلي ــن عليهــا؟! لقــد عـ َّـز ْ زت هــذه ُ ُ ـف التسـ ُّـر َب مــن التعليــم حتــى الشــعارات وخشــية االعتقـ ِـال والقصـ ِ وصلــت نســبة األطفــال املحرومي ــن مــن الدراســة بســبب الصراعــات فــي هــذه الــدول ً %40 وفقــا لتقري ــر منظمــة األمــم املتحــدة لألمومــة والطفولــة فــي 3أيلــول 2015بعنــوان (التعليــم تحــت النــار)(،)16 ومـ ُّ ـرد هــذه املعضلـ ِـة إلــى موانــع وعقبــات بعضهــا ال مفـ َّـر منهــا كمــا فــي ّ املتولد من قصف الطائرات عشـرات املرات للمدارس أثناء الرعب ِ الــدوام ،ولبعضهــا مخــارج محــدودة األث ــر عمــل الثــوار ومؤسســات املجتمــع املدن ــي علــى تجاوزهــا مــا أمكــن كمــا فــي تدمي ــر املنشــآت التعليميــة واســتهداف املعلمي ــن واســتنزاف املــوارد ،ولتذليــل هــذه العقبــات انبعثــت مــدارس املخيمــات ومبــادرة جيــل غي ــر ضائــع وحمــات العــودة للتعليــم وعمليــات إعــادة إعمــار بعــض املــدارس، َّ لكن من لم ّ تحصنهم هذه املؤسسات تلقفتهم التنظيمات اإلرهابـية ِ فــي صفوفهــا كمــا فــي اليمــن والعـراق وســورية ،ويجــري توظيــف هــؤالء األطفــال لتكريــس ســموم التطــرف والتكفي ــر والصـراع واالنفصــال واالنتمــاءات والــوالءات الطائفيــة والعرقيــة ورفــض اآلخــر لــدى األجيــال الناشــئة. َّ املطلب الثالث :املتوقع املأمول ملستقبل التعليم في الثورة ٌ ُ ٌ ْ ٌ ْ ُ بقيم تعليــم دولــة الثــورة املنشــود تعليــم ِصــرف ِقي ِمـ ُّـي محايــد محــاط ٍ ُ بوية ال يختلــف عليهــا اثنــان ،هدفـ ُـه تكوي ـ ُـن العقليــة املوضوعيــة ت ـر ٍ العلميــة املؤسســة علــى النظــر واالســتنباط والب ــرهنة واالســتدالل،
(/http://midan.aljazeera.net/reality/community/2017/1/28 )13 ( )14د .عبد الكريم بكار :منشورات صفحته على الفيس بوك. ( )15أبو الحسن نور الديـن علي بـن أبـي بكر الهيثمي :مجمع الزوائد ومنبع الفوائد ،تح :حسام الديـن القد�سي ،الناشر :مكتبة القد�سي، َّ َ َ ْ َّ ُ َّ َ القاهرة1414 ،هـ 1994م ( ،)122 /1وقال الهيثميَ :ر َو ُاه الط َب َرا ِن ُّي ِفي الثلث ِة َوال َب َّز ُارَ ،و ِر َجال ُه ُم َوث ُقون. ( /https://aawsat.com/home/article/988056 )16رياح الحروب تقفل أبواب املدارس.
58
ُ ُ وب ـ ُ وقاعدتهــا وقيادتهــا ـناء اإلنســان الــذي بــه ت ْب َنــى الحضــارة والدولــة ًّأيــا كان عـ ْـر ُق هــذا اإلنســان املسـ َ ـتهدف بالتعليــم أو دي ـ ُـنه؛ فالعلــوم ِ َّ َ ْ ً الحياتـية ميـراث إنسانـي ليس حكرا على ِمل ٍة أو ديـن ،يقول أبو بكر ال ـرازي فــي كتابــه املوســوعي الحــاوي فــي تاريــخ الطــب( :لقــد جمعــت ً ً وعيونــا مــن صناعــة الطــب ممــا اســتخرجته فــي كتاب ــي هــذا جمــا مــن كتــب أبق ـراط وجالي ــنوس وأرماســوس ومــن دونهــم مــن قدمــاء فالســفة األطبــاء ،ومــن بعدهــم مــن املحدثي ــن فــي أحــكام الطــب مثــل ()17 بولــس وآهــرون وحنـي ــن ب ــن إســحاق ويحيــى ب ــن ماســويه وغي ــرهم وملــا دخــل الناصــر صــاح الدي ــن األيوب ــي رحمــه هللا تعالــى مصــر كان ً بصحبتــه ثمان ــية عشــر عال ـ ــا فــي الطــب ،منهــم ثمان ــية مســلمون وخمســة يهــود وأربعــة مــن النصــارى وســامر ٌّي واحــد(.)18 َ َ ومــا ْإن ْأن أنهكـ ِـت الثــورة الســنون وكادت تتــآكل بأن ــياب املتآمري ــن بقصـ ٍـد أو عــن جهالـ ٍـة حتــى عـ َـاد الثــوار ليست ــيقنوا مــا ب ــرهنت عليــه ســنن التاريــخ م ـر ًارا ِمـ ْـن َّأن التعليــم ســاح التغيي ــر ،وأنــه كان ِل َز ًامــا علــى الثـ ْـو َرات لتحقــق انتصـ ًـارا ال هزيمـ َـة بعـ ُ ـده أن تتخــذ مــن العلــم َ ً َ منــارة لهــا حتــى يبلــغ العلـ ُـم بهــا مبلغــا ،ويكــون للتعليــم ومؤسســاته ّ ـتقلة ال غي ــر القــو ُل الفصــل فــي التغيي ــر مــن الجــذور لـ ّ ـكل مــن املسـ ٍ املفاهيــم والســلوك ،وليغـ َ ـدو البحــث العلمــي َّ بقوتــه الت ــي يذعــن لهــا العامــة والخاصــة موئـ ًـا للساســة ورجــال األعمــال ً معــا ،ويمكــن تصـ ُّـور مرجعيـ ِـة العلــم ومؤسســاته علــى النحــو اآلت ــي: ٌ ُ ً وخصوصــا التجريب ــية هيئــة ـوث العلميــة )1تصبــح ملؤسســة البحـ ِ ٌ قانون ــية لتقييــم األداء الحكومـ ّ ِـي فــي مجــال التعليــم والبحــث العلمــي ً ُ ُْ ّ ـئ ـ ج ل بحيــث ت السياسيي ــن مثــا إلــى أن يجعلــوا رضــا املؤسســات ِ ِ ً ُ ّ َّ وإدارت ِهــم للدولــة الحقــا. هم ِهــم فــي ـية ِ دعايات ِهــم االنتخاب ـ ِ ِ العلميــة جــل ِ ُ َ ْ اءات االخت ـراع )2تح ِمـ ُـل منزلــة مراكـ ِـز البحــوث ومؤسســة ب ـر ِ َ َ ـركات واملصانـ َـع العمالقــة علــى أ ْن تلتمــس مــن املؤسســات الشـ ِ َ العلميــة املختصــة إش ـراكها فــي اإلبــداع ونفقا ِتــه لتحصــل منهــا علــى تزكيـ ٍـة فــي مجالهــا تسـ ّ ِـوق بهــا لنفســها. ُ ّ ْ َ ـياء )3تبعــث منزلــة العلــوم الســامقة الوعـ َـي فــي املتدي ِنيــن األغن ـ ِ ِ َّ ـوث ـات الداعمــة للثــورة ليست ــيقنوا أن اإلنفــاق علــى البحـ ِ واملنظمـ ِ َ ُ َ ُ ـف مــرة مــن واملختب ـرات وعلــى الباحثي ــن املغتـربـي ــن هــو أفضــل بألـ ِ ّ ُ ـوة نفـ ِـل ألـ ِ ـاق التب ــرعات ِكلهــا علــى القـ ِ ـف حــج وعمــرة وأعــدل مــن إنفـ ِ
العدد 2رجب 1439هـ
ملقاومــة العــدو املســتبد وأعوانــه املحتلي ــن ((إ َّن َ هللا َعـ َّـز َو َجـ َّـل ُي ْد ِخـ ُـل ِ َّ صان َعـ ُـه َي ْح َتسـ ُـب فــي َ ْ َ َّ َ َ الث َل َثـ َـة ب َّ ْ َ ص ْن َع ِتـ ِـه ْال َخ ْيــرَ، السـ ْـه ِم الو ِاحـ ِـد الجنــةِ : ِ ِ ْ ِ َوالُ ِمـ َّـد بـ ِـهَ ،و َّ الر ِامـ َـي ِبـ ِـه))(.)19 ِ َ )4يب ـ ُ ـرهن العلـ ُـم بأث ــره فــي الدي ــن والدن ــيا ِلــن كان فــي َم ْي َسـ ٍـرة مــن ّ املفسري ــن القائلي ــن: املتقي ــن علــى وجهـ ِـة نظـ ِـر فريـ ٍـق مــن فقهــاء ِ ّ َّإن للعلــم وأهلــه ومؤسســاته بأنواعهــا ِكلهــا الشــرعية والحيات ـ ّـية ً ْ َ َ َ هللا َو ْابـ ِـن مــن الزكــوات املفروضـ ِـة نصيبــا ِمــن ســهم ْي (( و ِفــي سـ ِـب ِيل ِ ً َّ ً السـ ِـب ِيل)) [التوبــة ]60 :ال ســهما واحــدا فحســب كالفق ـراء ناهيــك عــن األوقــاف والتب ــرعات( ،حـ َّـدث اب ــن جبـي ــر فــي رحلتــه الت ــي قــام بهــا ســنة 580ه ـ تقر ًيبــا أنــه رأى فــي بغــداد عاصمــة الخالفــة العباســية ًّ ً حيا كامل من أحيائها يشبه املديـنة الصغيـرة ،يتوسطه قصر فخم جميل ،تحيط به الحدائق والبـيوت املتعددة ،وكان ذلك َو ً قفا على املر�ضــى ،وكان يؤمــه األطبــاء مــن مختلــف التخصصــات فضــا عــن ً الصيادلة وطلبة الطب وكانت النفقة جارية عليهم من الدولة ومن األوقاف الت ــي يجعلها األغن ــياء من األمة لعالج الفقراء وغي ــرهم)(.)20 هــذا والحكــم العــام فــي املطلــب الســابق علــى الثــوار الجامعيي ــن بأنهم ـيب األولويــات َّإبـ َ ـان الثــورة إنمــا هــو مقصـ ٌ أخطــؤوا التقويـ َـم وتـرت ـ َ ـور ِ الج ْيــل ،أمــا إطــاق هــذا الحكــم علــى علــى مــدى اهتمامهــم بتعليــم ِ ً دراســتهم الشــخصية فليــس صحيحــا ،فقــد كان فيهــم مــن يغامــر بــل َّ انفضــت أكمــل طريقــه يقامــر بحياتــه وهــو يتصـ َّـدر مظاهــرة ،فــإذا ً ُ ماضيــا ق ُد ًمــا إلــى كليــة الهندســة إلــى املحاض ـرات فــي جامعــة الثــورة املعماريــة الت ــي ُم ِن َيــت بحصــة األســد مــن قصــف الطي ـران مطلــع عــام 2013م مـ ّ ـرد ًدا العلــم طريــق الخــاص ،ومثــل هــذه القناعــة هــي ِ الت ــي حملــت السوريي ــن علــى خــوض غمــار هــذه املجازفـ ِـة التظاهـ ِـر معــا ،فهــم يتظاهــرون ثــم يهرولــون إلــى القاعــات َّ والدراســة ً الد ْرســية ِ وهــم موقنــون أن االعتقــال ليــس عنهــم ببعيــد. َ َ وث َّمــة آخــرون ت ــركوا كليــات الطــب ونشــطوا فــي اإلغاثــة لكــن ملــا حانــت فرصــة املنــح ملتابعــة التعليــم الجامعــي أو الحصــول علــى الدكتــوراه فــي املهجــر ُهرعــوا إليهــا كمــا فعــل كثي ــرون فــي ســورية وفلسطي ــن املحتلــة ال ســيما أهــل غــزة املحاصــرة؛ ألن العلــم طريــق الخــاص فبــه ســيخدمون وطنهــم مــن طريــق أقــوى وأقــوم ،ال ســيما أنهــم أتقنــوا لغــات شـ َّـتى ،فت ــرجمة العلــوم أول خطــوة للبــدء مــن حيــث
( )17أحمد بـن القاسم أبو العباس ابـن أبـي أصيبعة :عيون األنباء في طبقات األطباء ،تح :الدكتور نزار رضا ،دار مكتبة الحياة ،بـيـروت .70/1 ( )18راغب السرجانـي :العلم وبـناء األمم ،مرجع سابق ،ص.112 ( )19أحمد بـن حنبل :املسند ،مرجع سابق )532 /28( ،رقم الحديث ( )17300قال محققه :حسن بشواهده ومتابعاته. ( )20مصطفى السباعي :من روائع حضارتنا ،دار الوراق للنشر والتوزيع-املكتب اإلسالمي ،1999-1420 ،ط ،1ص.118
59
من َّ ُ رات العربـ َّية الث ْو ِ الفراغ ِ لمي في َز ِ الع ُّ قــدرت دراسـ ٌـة ملؤسســة أنقــذوا األطفــال عـ َ ـام َّ 2015أن السوريي ــن الذي ــن لــم ُي ْكم ُلــوا تعليـ َـم املرحلــة األساســية مــن َّ املرجـ ِـح أن يحصلــوا ِ علــى أجــور أقــل ب ــنسبة %32مــن أجــور نظرائهــم ممــن أنهــوا دراســتهم الثانويــة ،وأقــل ب ــنسبة %56مقارنــة بمــن َّ تخرجــوا فــي الجامعــة(.)13 ٌ ـاف َ ناصــر العالــم املتحضــر فيهــا واليــوم هــا قــد انصرمــت ســبع عجـ َ َ ّ ّ املستبدي ــن َّ ّ َ السفاحي ــن قتلــة املدن ِـيي ــن النيــام ِ املسالي ــن واألطفــال ِ ِ ّ َ بالكيمــاو ِي واملحـ ِـارق الجماعيــة ،وعــاد الســؤال يطــرح نفســه كــرة أخــرى :أيهمــا ســقط االســتبداد أم التعليــم؟ وهــل فــات ثوارنــا ّ فــي البــاد العرب ــية ِكلهــا يومئـ ٍـذ أن يضعــوا خطــة بديلــة إلســقاط االســتبداد ،وقوامهــا التعليــم والتـرب ــية واالخت ـراق؟ ال ســيما أن التهجيـر واالغتـراب أتاح لكثيـريـن ً ّ تعليمية نادرة رغم أنه كان فرصا سـ ًـببا للحرمــان مــن التعليــم فــي حــاالت ليســت قليلــة لعوامــل أهمهــا اللغــة وظــروف أخــرى. ّ ـواب القــول بــأنَّ فلنؤكــد صـ َ وإذ إن الثــورة والتعليــم متالزمــان ِ َ االحتفــاظ بجوهــر يســتع�صي علــى التغيي ــر فــي عالــم كثي ـ ِـر التحــول َ ٌ ـداره أو قلـ ٍـب علــى نظــام حركتــه(،)14 �شــيء يعــادل بقــاء كوكـ ٍـب فــي مـ ِ َّ وأن صمـ َ ـام أمــان هــذا الجوهــر هــو ب ــناء الشــخصية الرياديــة الت ــي ِ ُّ مــن أهـ ِ ّـم أركانهــا العلـ ُـم وملكــة الفهــم والشــعور باملســؤولية ،وكلهــا ّ ّ منوطـ ٌـة بالتعليــم والتـرب ــية ً معــا؛ وب ـ ً نؤكـ ُـد َّأن الثائــر ـناء علــى هــذا ِكلــه ِ ً يشة في ّ مهب ريح ،لون الحرباء الجاهل املستهت ــر ال يعدو أن يكون ر َ َِ ُ ّ ُ ُُ ُُ ُّ َ وإنــي لذكــر أنــه بـي ــنما كان ِصبغتــه والتغيـ ُـر طبعــه وثباتــه مســتغرب؛ ِ ّ ّ درب الثــورة ثو َرانــا الجامعيــون يقضــون العجــب -وهــم ي ــرون رفــاق ِ صالحــوا دولــة اإلرهــاب واالســتبداد واصطفــوا فــي خنــدق مليشــياتها ـوة األمــس األحـرار -كنـ ُـت أكـ ّ ِـرر: أو لحقــوا بتنظيــم الدولــة لقتــال إخـ ِ َ َ َّ ستغرب ،تتبعوا ما�ضي وحاضر هؤالء القتلى ال�شيء من معدنه ال ُي َْ ّ املصطفي ــن فــي ركاب إرهــاب الدولــة وتنظيــم الهلكــى املصالحي ــن ّ ً متعل ًمــا أو عالــا أو ِ الدولــة علــى جبهــات القتــال ،فلــن ت َجــدوا فيهــم ِ ُ َّ َ ْ مسـ ً ـتمعا ،وهــذا سـ ُّـر هالكهــمَ ،عـ ْـن أبــي َب ْكـ َـر َة َقـ َ ـال« :سـ ِـمعت النـبِـ َّـي ِ َ َ َ ّ َّ ً ْ ص َّلــى َُ هللا َعل ْيـ ِـه َو َســل َمَ -ي ُقــو ُل(( :اغـ ُـد َع ِالــا أ ْو ُم َت َع ِل ًمــا أ ْو ُم ْسـ َـت ِم ًعا ـال َع َطـ ٌـاء(َ :قـ َ َأ ْو ُم ِح ًّبــاَ َ ،ول َت ُكــن ْال َخ ِام َسـ َـة َف َت ْه ِلـ َـك)) َقـ َ ـال ِلــي ِم ْسـ َـع ٌر: ْ َ َ َ َ ً َ ِْ َ ُ ْ ْ َ َ َ ـض ْالع ْلــمَ ـال«َ :و ْال َخام َسـ ُـة َأ ْن ُت ْبغـ َ َ ِزدتنــا خ ِامســة لــم تكــن ِعندنــا ،قـ ِ ِ ِ
من َّ ُ رات العربـ َّية الث ْو ِ الفراغ ِ لمي في َز ِ الع ُّ
العدد 2رجب 1439هـ
َو َأ ْه َل ُه)( ،)15وال َّ أدل على الهالك الناجم عن الجهل من هذا التقلب ـوار ُ ُ َ ـاد َ حكمهــا ثـ ٌ قادت ُهــم العجــاب وذاك األداء اإلداري الضعيــف فــي بـ ٍ َّ ٌ ًُ َّإمــا ِح ْر ِف ُّيــون لــم تخــط أيديهــم كلمــة تــدار بهــا غرفــة يقطنهــا بضعــة ً ّ أنفــار َّ ُّ يكفــرون وإمــا ظالميــون ال ي ــرون العلــم ســوى جهـ ٍ ـاالت مطبقــة ِ َ وعرضــه. بهــا مــن شــاء ليستب ــيحوا دمــه ومالــه َ وفشـ ِـت األميــة وأعـ َ ـرض القــوم عــن املدرســة واليــوم وقــد كان مــا كان وشــغلتهم دن ــيا الوهــم فــي جمــع قــروش أو إســقاط عــروش ســرعان ُ َ صنع ْتــه هتافــات مخلصــة مــا تعــود ِلتشـ َّـيد علــى جماجــم جهـ ٍـل َّ خطــت بمعــاول تجهيــل َّ هدامــة (ال دراســة وال تدريــس هـ َّـدارة؛ لكنهــا ٍ الرئيــس) ،فهــل مــن مغيــث اليــوم تحملــه ّ حتــى يســقط َّ حميــة الغي ــرة علــى عقــول تســتغيث لدفــع الصائلي ــن عليهــا؟! لقــد عـ َّـز ْ زت هــذه ُ ُ ـف التسـ ُّـر َب مــن التعليــم حتــى الشــعارات وخشــية االعتقـ ِـال والقصـ ِ وصلــت نســبة األطفــال املحرومي ــن مــن الدراســة بســبب الصراعــات فــي هــذه الــدول ً %40 وفقــا لتقري ــر منظمــة األمــم املتحــدة لألمومــة والطفولــة فــي 3أيلــول 2015بعنــوان (التعليــم تحــت النــار)(،)16 ومـ ُّ ـرد هــذه املعضلـ ِـة إلــى موانــع وعقبــات بعضهــا ال مفـ َّـر منهــا كمــا فــي ّ املتولد من قصف الطائرات عشـرات املرات للمدارس أثناء الرعب ِ الــدوام ،ولبعضهــا مخــارج محــدودة األث ــر عمــل الثــوار ومؤسســات املجتمــع املدن ــي علــى تجاوزهــا مــا أمكــن كمــا فــي تدمي ــر املنشــآت التعليميــة واســتهداف املعلمي ــن واســتنزاف املــوارد ،ولتذليــل هــذه العقبــات انبعثــت مــدارس املخيمــات ومبــادرة جيــل غي ــر ضائــع وحمــات العــودة للتعليــم وعمليــات إعــادة إعمــار بعــض املــدارس، َّ لكن من لم ّ تحصنهم هذه املؤسسات تلقفتهم التنظيمات اإلرهابـية ِ فــي صفوفهــا كمــا فــي اليمــن والعـراق وســورية ،ويجــري توظيــف هــؤالء األطفــال لتكريــس ســموم التطــرف والتكفي ــر والصـراع واالنفصــال واالنتمــاءات والــوالءات الطائفيــة والعرقيــة ورفــض اآلخــر لــدى األجيــال الناشــئة. َّ املطلب الثالث :املتوقع املأمول ملستقبل التعليم في الثورة ٌ ُ ٌ ْ ٌ ْ ُ بقيم تعليــم دولــة الثــورة املنشــود تعليــم ِصــرف ِقي ِمـ ُّـي محايــد محــاط ٍ ُ بوية ال يختلــف عليهــا اثنــان ،هدفـ ُـه تكوي ـ ُـن العقليــة املوضوعيــة ت ـر ٍ العلميــة املؤسســة علــى النظــر واالســتنباط والب ــرهنة واالســتدالل،
(/http://midan.aljazeera.net/reality/community/2017/1/28 )13 ( )14د .عبد الكريم بكار :منشورات صفحته على الفيس بوك. ( )15أبو الحسن نور الديـن علي بـن أبـي بكر الهيثمي :مجمع الزوائد ومنبع الفوائد ،تح :حسام الديـن القد�سي ،الناشر :مكتبة القد�سي، َّ َ َ ْ َّ ُ َّ َ القاهرة1414 ،هـ 1994م ( ،)122 /1وقال الهيثميَ :ر َو ُاه الط َب َرا ِن ُّي ِفي الثلث ِة َوال َب َّز ُارَ ،و ِر َجال ُه ُم َوث ُقون. ( /https://aawsat.com/home/article/988056 )16رياح الحروب تقفل أبواب املدارس.
58
ُ ُ وب ـ ُ وقاعدتهــا وقيادتهــا ـناء اإلنســان الــذي بــه ت ْب َنــى الحضــارة والدولــة ًّأيــا كان عـ ْـر ُق هــذا اإلنســان املسـ َ ـتهدف بالتعليــم أو دي ـ ُـنه؛ فالعلــوم ِ َّ َ ْ ً الحياتـية ميـراث إنسانـي ليس حكرا على ِمل ٍة أو ديـن ،يقول أبو بكر ال ـرازي فــي كتابــه املوســوعي الحــاوي فــي تاريــخ الطــب( :لقــد جمعــت ً ً وعيونــا مــن صناعــة الطــب ممــا اســتخرجته فــي كتاب ــي هــذا جمــا مــن كتــب أبق ـراط وجالي ــنوس وأرماســوس ومــن دونهــم مــن قدمــاء فالســفة األطبــاء ،ومــن بعدهــم مــن املحدثي ــن فــي أحــكام الطــب مثــل ()17 بولــس وآهــرون وحنـي ــن ب ــن إســحاق ويحيــى ب ــن ماســويه وغي ــرهم وملــا دخــل الناصــر صــاح الدي ــن األيوب ــي رحمــه هللا تعالــى مصــر كان ً بصحبتــه ثمان ــية عشــر عال ـ ــا فــي الطــب ،منهــم ثمان ــية مســلمون وخمســة يهــود وأربعــة مــن النصــارى وســامر ٌّي واحــد(.)18 َ َ ومــا ْإن ْأن أنهكـ ِـت الثــورة الســنون وكادت تتــآكل بأن ــياب املتآمري ــن بقصـ ٍـد أو عــن جهالـ ٍـة حتــى عـ َـاد الثــوار ليست ــيقنوا مــا ب ــرهنت عليــه ســنن التاريــخ م ـر ًارا ِمـ ْـن َّأن التعليــم ســاح التغيي ــر ،وأنــه كان ِل َز ًامــا علــى الثـ ْـو َرات لتحقــق انتصـ ًـارا ال هزيمـ َـة بعـ ُ ـده أن تتخــذ مــن العلــم َ ً َ منــارة لهــا حتــى يبلــغ العلـ ُـم بهــا مبلغــا ،ويكــون للتعليــم ومؤسســاته ّ ـتقلة ال غي ــر القــو ُل الفصــل فــي التغيي ــر مــن الجــذور لـ ّ ـكل مــن املسـ ٍ املفاهيــم والســلوك ،وليغـ َ ـدو البحــث العلمــي َّ بقوتــه الت ــي يذعــن لهــا العامــة والخاصــة موئـ ًـا للساســة ورجــال األعمــال ً معــا ،ويمكــن تصـ ُّـور مرجعيـ ِـة العلــم ومؤسســاته علــى النحــو اآلت ــي: ٌ ُ ً وخصوصــا التجريب ــية هيئــة ـوث العلميــة )1تصبــح ملؤسســة البحـ ِ ٌ قانون ــية لتقييــم األداء الحكومـ ّ ِـي فــي مجــال التعليــم والبحــث العلمــي ً ُ ُْ ّ ـئ ـ ج ل بحيــث ت السياسيي ــن مثــا إلــى أن يجعلــوا رضــا املؤسســات ِ ِ ً ُ ّ َّ وإدارت ِهــم للدولــة الحقــا. هم ِهــم فــي ـية ِ دعايات ِهــم االنتخاب ـ ِ ِ العلميــة جــل ِ ُ َ ْ اءات االخت ـراع )2تح ِمـ ُـل منزلــة مراكـ ِـز البحــوث ومؤسســة ب ـر ِ َ َ ـركات واملصانـ َـع العمالقــة علــى أ ْن تلتمــس مــن املؤسســات الشـ ِ َ العلميــة املختصــة إش ـراكها فــي اإلبــداع ونفقا ِتــه لتحصــل منهــا علــى تزكيـ ٍـة فــي مجالهــا تسـ ّ ِـوق بهــا لنفســها. ُ ّ ْ َ ـياء )3تبعــث منزلــة العلــوم الســامقة الوعـ َـي فــي املتدي ِنيــن األغن ـ ِ ِ َّ ـوث ـات الداعمــة للثــورة ليست ــيقنوا أن اإلنفــاق علــى البحـ ِ واملنظمـ ِ َ ُ َ ُ ـف مــرة مــن واملختب ـرات وعلــى الباحثي ــن املغتـربـي ــن هــو أفضــل بألـ ِ ّ ُ ـوة نفـ ِـل ألـ ِ ـاق التب ــرعات ِكلهــا علــى القـ ِ ـف حــج وعمــرة وأعــدل مــن إنفـ ِ
العدد 2رجب 1439هـ
ملقاومــة العــدو املســتبد وأعوانــه املحتلي ــن ((إ َّن َ هللا َعـ َّـز َو َجـ َّـل ُي ْد ِخـ ُـل ِ َّ صان َعـ ُـه َي ْح َتسـ ُـب فــي َ ْ َ َّ َ َ الث َل َثـ َـة ب َّ ْ َ ص ْن َع ِتـ ِـه ْال َخ ْيــرَ، السـ ْـه ِم الو ِاحـ ِـد الجنــةِ : ِ ِ ْ ِ َوالُ ِمـ َّـد بـ ِـهَ ،و َّ الر ِامـ َـي ِبـ ِـه))(.)19 ِ َ )4يب ـ ُ ـرهن العلـ ُـم بأث ــره فــي الدي ــن والدن ــيا ِلــن كان فــي َم ْي َسـ ٍـرة مــن ّ املفسري ــن القائلي ــن: املتقي ــن علــى وجهـ ِـة نظـ ِـر فريـ ٍـق مــن فقهــاء ِ ّ َّإن للعلــم وأهلــه ومؤسســاته بأنواعهــا ِكلهــا الشــرعية والحيات ـ ّـية ً ْ َ َ َ هللا َو ْابـ ِـن مــن الزكــوات املفروضـ ِـة نصيبــا ِمــن ســهم ْي (( و ِفــي سـ ِـب ِيل ِ ً َّ ً السـ ِـب ِيل)) [التوبــة ]60 :ال ســهما واحــدا فحســب كالفق ـراء ناهيــك عــن األوقــاف والتب ــرعات( ،حـ َّـدث اب ــن جبـي ــر فــي رحلتــه الت ــي قــام بهــا ســنة 580ه ـ تقر ًيبــا أنــه رأى فــي بغــداد عاصمــة الخالفــة العباســية ًّ ً حيا كامل من أحيائها يشبه املديـنة الصغيـرة ،يتوسطه قصر فخم جميل ،تحيط به الحدائق والبـيوت املتعددة ،وكان ذلك َو ً قفا على املر�ضــى ،وكان يؤمــه األطبــاء مــن مختلــف التخصصــات فضــا عــن ً الصيادلة وطلبة الطب وكانت النفقة جارية عليهم من الدولة ومن األوقاف الت ــي يجعلها األغن ــياء من األمة لعالج الفقراء وغي ــرهم)(.)20 هــذا والحكــم العــام فــي املطلــب الســابق علــى الثــوار الجامعيي ــن بأنهم ـيب األولويــات َّإبـ َ ـان الثــورة إنمــا هــو مقصـ ٌ أخطــؤوا التقويـ َـم وتـرت ـ َ ـور ِ الج ْيــل ،أمــا إطــاق هــذا الحكــم علــى علــى مــدى اهتمامهــم بتعليــم ِ ً دراســتهم الشــخصية فليــس صحيحــا ،فقــد كان فيهــم مــن يغامــر بــل َّ انفضــت أكمــل طريقــه يقامــر بحياتــه وهــو يتصـ َّـدر مظاهــرة ،فــإذا ً ُ ماضيــا ق ُد ًمــا إلــى كليــة الهندســة إلــى املحاض ـرات فــي جامعــة الثــورة املعماريــة الت ــي ُم ِن َيــت بحصــة األســد مــن قصــف الطي ـران مطلــع عــام 2013م مـ ّ ـرد ًدا العلــم طريــق الخــاص ،ومثــل هــذه القناعــة هــي ِ الت ــي حملــت السوريي ــن علــى خــوض غمــار هــذه املجازفـ ِـة التظاهـ ِـر معــا ،فهــم يتظاهــرون ثــم يهرولــون إلــى القاعــات َّ والدراســة ً الد ْرســية ِ وهــم موقنــون أن االعتقــال ليــس عنهــم ببعيــد. َ َ وث َّمــة آخــرون ت ــركوا كليــات الطــب ونشــطوا فــي اإلغاثــة لكــن ملــا حانــت فرصــة املنــح ملتابعــة التعليــم الجامعــي أو الحصــول علــى الدكتــوراه فــي املهجــر ُهرعــوا إليهــا كمــا فعــل كثي ــرون فــي ســورية وفلسطي ــن املحتلــة ال ســيما أهــل غــزة املحاصــرة؛ ألن العلــم طريــق الخــاص فبــه ســيخدمون وطنهــم مــن طريــق أقــوى وأقــوم ،ال ســيما أنهــم أتقنــوا لغــات شـ َّـتى ،فت ــرجمة العلــوم أول خطــوة للبــدء مــن حيــث
( )17أحمد بـن القاسم أبو العباس ابـن أبـي أصيبعة :عيون األنباء في طبقات األطباء ،تح :الدكتور نزار رضا ،دار مكتبة الحياة ،بـيـروت .70/1 ( )18راغب السرجانـي :العلم وبـناء األمم ،مرجع سابق ،ص.112 ( )19أحمد بـن حنبل :املسند ،مرجع سابق )532 /28( ،رقم الحديث ( )17300قال محققه :حسن بشواهده ومتابعاته. ( )20مصطفى السباعي :من روائع حضارتنا ،دار الوراق للنشر والتوزيع-املكتب اإلسالمي ،1999-1420 ،ط ،1ص.118
59
من َّ ُ رات العربـ َّية الث ْو ِ الفراغ ِ لمي في َز ِ الع ُّ انتهــى اآلخــرون ،ومــا قولــك فــي َّأن الخليفــة املأمــون كان يو ِفــد َبعثــات َ ً َ وزنــه ً ذهبــا ومــا أدراك ـية علميــة( )21وي َهـ ُـب مــن يت ــرجم كتابــا إلــى العرب ـ ِ بــوزن َور ِق ذلــك العصــر!( )22وفــي عهــده صــارت بغــداد العاصمــة َ تح�صــى وقـ َّـرب إليــه العلميــة العظمــى فــي األرض فجمــع إليهــا كتبــا ال ّ العلمــاء وبالــغ فــي الحفــاوة بهــم( )23بــل مــا قولــك فــي أن مــن الخلفــاء ّ ـدو املخطوطــات والكتــب العلميــة العباسيي ــن مــن كان يأخــذ مــن العـ ِ ً بــدل الجزيــة!( ...)24إذا أليــس األجـ َـدى مــن التبا ـكـي علــى التعليــم فــي ّ الحقبـ ِـة هــو حــث منظمــات الثــورة واملجتمــع املدن ــي للعمــل علــى هــذه ِ ـداد ب ـرنامج اتصـ ٍـال وجــداول عمـ ٍـل ودعـ ٍـم إعالمـ ّ ٍـي ومـ ِ ّـاد ّ ٍي ومعنــو ّ ٍي إعـ ِ َ َ َ َْ ُ تست ِهدف االتصال باملغتـربـيـن الدارسيـن في املهجر والعناية الفائقة ّ جلهــم أو فريــق منهــم لوطنــه بعــد ُّ تخرجــه وإال بهــم لضمــان عــودة ِ عدنــا َّ بخفــي حنـي ــن. هــذا ولئــن كانــت العنايــة بالتعليــم واملنــح ُتعـ ُّـد ف ـر ًارا مــن َّ الزحــف ِ وري في رأي فئة يومئذ؛ َّ َّ ّ فإن كثي ًـرا من املهاجريـن يـرون في التعليم ٍ ٍ الث ِ سـ ً ـاحا ًّ نوعيــا وخطــة بديلــة للتغيي ــر فــي املســتقبل ،ولــو أن الفئــة َّ األولــى حكمــت العاطفــة والحمــاس والعقــل والتخطيــط املســتقبلي ً معــا لعلمــت أن كل املســارات ضــرورات ال خيــارات يجــوز إغفالهــا؛ فمــا خــرج النب ــي صلــى هللا عليــه وســلم للقــاء عــدو فــي معركــة ً يومــا ََ َ َ ْ ّ َّ ان الُ ْؤ ِم ُنــو َن يعلــم النــاس والوفــود ((ومــا ك إال وخلــف فــي املدي ــنة مــن ِ ل َي ْنف ُروا َك َّاف ًة َف َل ْ َول َن َف َر م ْن ُك ّل ف ْر َقة م ْن ُه ْم َطائ َف ٌة ل َي َت َف َّق ُهوا في ّ الدي ِـن ِ ِ ِ ِ ِ ِ ِ ِ ِ ٍ ِ َ ُ ْ ُ َ ْ َ ُ ْ َ َ َ ُ َ ْ ْ َ َ َّ ُ ْ َ ْ َ َ ُ وِلينـ ِـذروا قومهــم ِإذا رجعــوا ِإلي ِهــم لعلهــم يحــذرون)) [التوبــة،]122 : ُْ ُ ّ املعلــم مــع وتلــك هــي وظيفــة الـ ّ ِـردء الت ــي كان يقــوم بهــا هــارون الب ـ ِـين ِ ً جميعــا يومئـ ٍـذ بمســار مو�ســى عليهمــا الســام ،فمــن ألــزم النــاس واحــد ُرئـ َـي يتبا ـكـى علــى َ جرحــى يلفظــون أنفاســهم عندمــا لــم يجــد أطبــاء مــن حولــه ،ومــن أي ــن لــه األطبــاء إن لــم يــدرس أحـ ٌـد الطــب علــى مذهبــه امللــزم للجميــع بالسي ــر فــي مســار واحــد؟ َّإن أعظـ َـم ثائـ ٍـر علــى ِ الباطنـيي ــن الــذي أصــاب ب ــنظرته الثاقبــة بــأن طريــق تحري ــر القــدس يبــدأ بالخــاص مــن كيــد الباطنـيي ــن هــو اإلمــام العــادل الشــهيد نــور ُ ّ الزنكــي رحمــه هللا تعالــى ،وبـي ــنما كان يم�ضــى ق ُد ًمــا فــي الدي ــن محمــود ِ ومن ورائهم الصليبـيـن واليهود كانت عنايته جهاده ضد الباطنـييـن ِ َّ َ بالتعليــم فائقــة ،ففــي ذلــك الوقــت عــام 549ه ـ أســس كليــة الطــب
من َّ ُ رات العربـ َّية الث ْو ِ الفراغ ِ لمي في َز ِ الع ُّ
العدد 2رجب 1439هـ
العريقــة (املستشــفى النــوري الكبـي ــر) وهــو مــن أجــل املؤسســات الطب ــية وأعظمهــا فــي التاريــخ ،ومــا زال يخـ ّ ِـرج األطبــاء فــي قاعاتــه العلميــة ويعالــج املر�ضــى حتــى عــام 1317هــ1899/م أي نحــو ثمان ــي مئــة ســنة(.)25 فأي ــن ثوارنــا أصحــاب االتجــاه واملســار الواحــد مــن هــذا الوعــي الرشــيد؟ ثــم إنــك ســوف ت ــرى فيهــم مــن يتبا ـكـى وهــو يعاي ـ ُـن الشــركات األجنب ــية تأت ــي بمهندســيها وخب ـرائها إلعــادة األعمــار ،وليــس ألب ــناء ُّ الوطــن يومئـ ٍـذ ســوى التحســر علــى مــا فــات: ُّ ً والج ــهل يخفــض أمة ويــذلها والعلم يـرفعها َّ أجل مقـ ِـام ُ انظر إلى األقوام كيف َ العلوم إلى ّ املحل السامي سم ْت بهم تلك ِ
املبحث الثالث
ُ ـنوات َّ السـ ْـبع ظواهـ ُـر التعليــم الســبع فــي السـ ِ
ً ـتطالعا إن اإلجابــة العلميــة عــن أســئلة البحــث تقت�ضــي اسـ ـتبانات ّ َّ ـات واملراحـ ِـل العمريــة علميــة واسـ ٍ مفصلــة لــكل التخصصـ ِ ـنوات الثــورات ومقارنــة كل ســنة بمــا قبلهــا واســتبانات علــى مــدى سـ ِ ـرب ـباب التسـ ِ خاصــة بمناطــق النــزوح وبــاد املهجــر ،وأخــرى ألسـ ِ َّ وعوامل األمية وخط سيـر اإلنتاج العلمي املتوقع وانحسار التعليم ِ ِ ً ُ ًّ ًّ كما وكيفا تـراك ِميا فيما لو فرضنا أن هذه الحقبة حقبة استقرار، عملية على ّ ثم القيام بدراسة تجريبـية َّ عينات الدراسة في كل حالة ِ وإعــداد دراســات إحصائيــة لذلــك كلــه مــن أجــل إصــدار أحــكام َ صحيحــة ،وتســتدعي اإلجابــة علــى األســئلة ً أيضــا مقارنــة التعليــم فــي اب بمــا هــو متــاح للموالي ــن لألنظمــة الحاكمــة خــال الثــورة واالغت ـر ِ ســنوات الثــورات ،أمــا مقارنــة فــروق التعليــم فــي زمــن الســلم بزمــن الحــرب فتلــك مســألة أعمــق. َ وإنن ــي َ َل ُكـ ّـر ُر أنن ــي ال أكتمــك سـ ًّـرا بـ َّ ـأن الدراســة اقتصــرت علــى إثــارة ِ ّ املشــكلة ولــم تقـ ِـدم إجابــة علميــة عــن أي مــن األســئلة؛ ذلــك أن اإلجابات العلمية تستوجب القيام بكل ما سبق ،وتلك أعمال بحثية ٌ ُمسـ ِـهبة حقيقــة ب ــرسائل جامعيــة فــي أقســام علــم التـرب ــية واالجتمــاع والسياســة ،لكــن يمكــن ســرد ظواهــر تنكشــف بهــا حــدود البحــث
الق َّنوجي :أبجد العلوم ،دار ابـن حزم ،ط 1423 ،1هـ 2002 -م ،ص .146 :وفيه قال( :أوفد املأمون الرسل ( )21أبو الطيب محمد صديق خان بـن حسن ِ على ملوك الروم في استخراج علوم اليونانـييـن وانتساخها بالخط العربـي ،وبعث املتـرجميـن لذلك ،فأوعى منه واستوعب). ( )22شوقي أبو خليل :الحضارة العربية اإلسالمية ،دار الفكر املعاصر ودار الفكر2002 ،م ،ص .442 ( )23راغب السرجاني :العلم وبـناء األمم ،مرجع سابق ،ص .185نقال عن دوبيـر في كتابه :املنازعة بيـن العلم. ( )24علي عبد هللا الدفاع :روائع الحضارة العربية اإلسالمية في العلوم ،مؤسسة الرسالة القاهرة ط ،1999 ،2ص.25 ( )25مصطفى السباعي :من روائع حضارتنا ،مرجع سابق ،ص .116
60
مفصلـ ًـة وتصلــح ً َّ أساســا ملقاربــات ومدخــا لدراســات أكاديميــة بحتــة. الظاهرة األولى :ضعف الفرص واإلمكان َّـيات َّ َ ُ ْ وجامعات ِهـ ْـم َوفـ َـق منــاخ وب ــيئة بـي ــنما يم�ضــي الطلبــة إلــى مدارســهم ِ َّ َ ْ ًّ ـلطان األنظمــة املســتبدةَ ،نـ َـرى تعليميــة مهيـ ٍـأة شــكليا تحــت سـ ِ زمالءهــم فــي املخيمــات ومناطــق الحــرب والحصــار وكهــوف النــزوح وبعــض دول اللجــوء يتكدســون فــي املنشــآت التعليميــة؛ فيضعــف َ مســتوى التعليــم والخ ْدمــات َّ املقدمــة أو تنعــدم ،بــل ُي ْرفــض أكث ــر ِ ّ الطــاب لضيــق املنشــآت وشـ ِـح املــوارد التعليميــة كمــا فــي لب ــنان حتــى عــام 2015م ،ثــم َّإنــه قلمــا يحظــى أحــد هــؤالء الطــاب بااللتحــاق ُ ـباب تحكيهــا ظــروف بالجامعــة ال ســيما التخصصــات املرموقــة ألسـ ٍ َ َّ َّ ٌ َّ ـوء والحيـ ِـاة الشــاقة ،نعــم ثمــة قلــة آخــرون ـرب واالعتقـ ِـال واللجـ ِ الحـ ِ َ ـرص مــا كانــت لتتــاح لهــم لــو لــم يهاجــروا. حظــوا بفـ ٍ َ َّ ُ ّ َّ ومنظمــات املجتمــع حمـ ُـل األف ـر َاد و ِفـ َـرق العمــل إن هــذا املشــهد لي ِ َ مسؤولية تدارك القصور ّ وسد الثغرات من خالل مجموعة املدنـي إجـراءات وب ـرامج مقت ــرحة ،منهــا: ـزء مــن مواردهــا فــي التعليــم مــن خــال )1اســتثمار املنظمــات لجـ ٍ ب ـرامج دقيقــة مبـن ــية علــى دراســة جــدوى إيجاب ــية وتفاعلهــا مــع مؤسســات حكوميــة وخي ـرية يســتفاد مــن مراكزهــا املتاحــة ً دائمــا أو خــارج ســاعات دوامهــا الرســمي. اهقي ــن )2تنظيــم فــرق عمــل لدعــم املنقطعي ــن عــن الدراســة واملر ِ ُ األ ِّم ْيي ــن مــن خــال تـيسي ــر التعليــم البديــل أو املفتــوح أو املســتمر أو عــن بعــد مــن خــال املراســلة والــدروس التفاعليــة واملســجلة عب ــر وســائل التواصــل االجتماعــي ،ويقــوم عليهــا مشــرف مجموعــة متخصــص للدعــم واملتابعــة. ً ـاعة ًّ ّ يوميــا ـدرس املتطـ ّ ِـوع) سـ )3مبــادرات فرديــة لتفعيــل ب ـرامج (املـ ِ َ ْ العالــم الثائــر عبــد الحميــد مــع مبــدأ (األم مد َرســة) ،اســتمر ًارا لفكــرة ِ َّ علمــت ولـ ًـدا فقــد علمــت فـ ً ـردا وإذا ب ــن باديــس رحمــه هللا تعالــى( :إذا علمت ب ًـنتا فقد علمت َّأمة) ،وتهدف إلى تحسيـن سريع ألداء أولياء األمــور ليغــدوا مدرسي ــن فعليي ــن ألوالدهــم فــي الب ــيوت وفــق ب ـرنامج َّ ومدعــم بوســائل مســاعدة مكثــف يــوازي ب ـرامج الدراســة املنتظمــة َّ ّ ّ ـوكل مهمــة االســتمرار ـدرس املتطـ ِـوع ثــم يـ ِ مــن الشــبكة ،يبــدأ بــه املـ ِ إلــى األســرة ،وتغــدو مهمتــه التقويــم واملتابعــة الجماعيــة املباشــرة ًّ ً ـبوعيا مــرة فــي مراكــز متاحــة أو فــي بعــض الب ــيوت أيــام العطلــة أسـ األســبوعية أو املتابعــة عــن بعــد مــن خــال مواقــع التواصــل ،و�شــيءٌ
العدد 2رجب 1439هـ
مــن هــذا يقــوم بــه بعــض املغتـربـي ــن املصريي ــن املثقفي ــن :يتخــذون مــن ب ــيوتهم مدرســة نموذجيــة بــإدارة األبوي ــن فقــط ،فــإذا حانــت االمتحانــات التحقــوا باملراكــز الخارجيــة لهــا مــن خــال ســفارات بالدهــم. الظاهرة الثانـية :أثـرالحرب على العملية التعليمية ي ــنبغي تحديــد مــدى تأثي ــر الحــرب ُّ والرعــب والنــزوح واللجــوء والظــروف املعيشــية القاســية والوضــع االجتماعــي الناجــم عنهــا علــى التعليم واألداء وعدد املعلمي ــن املتخصصي ــن ،وتأثي ــر هذه األحوال علــى املتعلمي ــن ونفســيتهم ووعيهــم وأدمغتهــم وعقولهــم وتصورهــم للواقــع واملســتقبل.
الظاهرة الثالثة :أثـراملحيط على الطالب املغتـرب ّ الرفــاق فــي العمليــة التعليميــة فــي بــاد االغت ـراب والنــزوح مجموعــات ِ تت ـ ُ ـرك فــي الطفــل أث ـ ًـرا تتباي ــن درجاتــه مــن بلــد إلــى آخــر ،فبـي ــنما يكتسب في بعضها إيجابـيات املدنـية الحديثة؛ تتجذر فيه سلبـياتها ّ وقوميــات وانتمــاءات وطن ــية ليــس فيهــا خصوصيــة الوطــن األم وال ب ــيئته وال ثقافتــه ،ويكابــد م ـرارة النظــرة السلب ــية والتفرقــة ً أحيانــا. الظاهرة الرابعة :مشكلة االعتـراف بالشهادات
كمــا ً تتمثــل هــذه الظاهــرة فــي النظــر إلــى الشــهادات العلميــة ًّ ونوعــا ً واعت ـر ًافا وفاعليــة ،ومــدى قناعــة الطــاب ب ــنجاعة الدراســة دون شــهادة معت ــرف بهــا ،وتأثي ــر ذلــك علــى درجــة العنايــة واالهتمــام بالعلــم والتعليــم ،فربمــا َّأدت مـرارة هــذا املشــهد إلــى أن ي ـ ّ ـردد بعــض ِ العامــة :وهــل َ ً أغنــت الشـ ُ ـهادات عــن الدارسي ــن مــن قبـ ُـل شــيئا؟ فهــا الجامعيــون َ ُّ هــم وح َملــة الشــهادات العليــا فــي بــاد املهجــر والنــزوح ً َ َ ّ ّ ُ َّ ٌ عمال كاألمييـن بل أسوأ حال؛ فال هم خبروا املهن من قبل ليتقنوا إحداهــا وال فرصــة تتــاح لهــم فــي مناطــق النــزوح وال فــي بــاد املهجــر ُ ُ ُ ملوانــع عــدة ُّ أهمهــا اللغــة األجنب ــية ونــدرة الفــرص فــي تخصصاتهــم وقوانـي ـ ُـن تلك الدول في تشغيل األجانب املتخصصي ــن ...وهذا واقع مشهود صحيح نسب ـ ًّـيا َّ لكنه ليس ًّ عاما؛ َّ فثمة جامعيون استكملوا ُ املطلــوب منهــم ،وآخــرون أتقنــوا اللغــات ،وأت ــيحت لقســم آخــر فــرص عمــل مناســبةَّ ، وات َجــه بعضهــم للتعليــم مــرة أخــرى حســب ٍ ق التخصــص املرغــوب فــي ســو العمــل حيــث يقيــم هــو ،فأســهر ّ متخص ً صــا فــي مجــال آخــر؛ ثــم َّإنــه رغــم ليلــه وأجهــد نفســه ،وصــار ِ نسب ـ ّـية صــواب مــا ي ـ ّ ـردده العامــة عــن انعــدام الفــرص للمتعلمي ــن ِ 61
من َّ ُ رات العربـ َّية الث ْو ِ الفراغ ِ لمي في َز ِ الع ُّ انتهــى اآلخــرون ،ومــا قولــك فــي َّأن الخليفــة املأمــون كان يو ِفــد َبعثــات َ ً َ وزنــه ً ذهبــا ومــا أدراك ـية علميــة( )21وي َهـ ُـب مــن يت ــرجم كتابــا إلــى العرب ـ ِ بــوزن َور ِق ذلــك العصــر!( )22وفــي عهــده صــارت بغــداد العاصمــة َ تح�صــى وقـ َّـرب إليــه العلميــة العظمــى فــي األرض فجمــع إليهــا كتبــا ال ّ العلمــاء وبالــغ فــي الحفــاوة بهــم( )23بــل مــا قولــك فــي أن مــن الخلفــاء ّ ـدو املخطوطــات والكتــب العلميــة العباسيي ــن مــن كان يأخــذ مــن العـ ِ ً بــدل الجزيــة!( ...)24إذا أليــس األجـ َـدى مــن التبا ـكـي علــى التعليــم فــي ّ الحقبـ ِـة هــو حــث منظمــات الثــورة واملجتمــع املدن ــي للعمــل علــى هــذه ِ ـداد ب ـرنامج اتصـ ٍـال وجــداول عمـ ٍـل ودعـ ٍـم إعالمـ ّ ٍـي ومـ ِ ّـاد ّ ٍي ومعنــو ّ ٍي إعـ ِ َ َ َ َْ ُ تست ِهدف االتصال باملغتـربـيـن الدارسيـن في املهجر والعناية الفائقة ّ جلهــم أو فريــق منهــم لوطنــه بعــد ُّ تخرجــه وإال بهــم لضمــان عــودة ِ عدنــا َّ بخفــي حنـي ــن. هــذا ولئــن كانــت العنايــة بالتعليــم واملنــح ُتعـ ُّـد ف ـر ًارا مــن َّ الزحــف ِ وري في رأي فئة يومئذ؛ َّ َّ ّ فإن كثي ًـرا من املهاجريـن يـرون في التعليم ٍ ٍ الث ِ سـ ً ـاحا ًّ نوعيــا وخطــة بديلــة للتغيي ــر فــي املســتقبل ،ولــو أن الفئــة َّ األولــى حكمــت العاطفــة والحمــاس والعقــل والتخطيــط املســتقبلي ً معــا لعلمــت أن كل املســارات ضــرورات ال خيــارات يجــوز إغفالهــا؛ فمــا خــرج النب ــي صلــى هللا عليــه وســلم للقــاء عــدو فــي معركــة ً يومــا ََ َ َ ْ ّ َّ ان الُ ْؤ ِم ُنــو َن يعلــم النــاس والوفــود ((ومــا ك إال وخلــف فــي املدي ــنة مــن ِ ل َي ْنف ُروا َك َّاف ًة َف َل ْ َول َن َف َر م ْن ُك ّل ف ْر َقة م ْن ُه ْم َطائ َف ٌة ل َي َت َف َّق ُهوا في ّ الدي ِـن ِ ِ ِ ِ ِ ِ ِ ِ ِ ٍ ِ َ ُ ْ ُ َ ْ َ ُ ْ َ َ َ ُ َ ْ ْ َ َ َّ ُ ْ َ ْ َ َ ُ وِلينـ ِـذروا قومهــم ِإذا رجعــوا ِإلي ِهــم لعلهــم يحــذرون)) [التوبــة،]122 : ُْ ُ ّ املعلــم مــع وتلــك هــي وظيفــة الـ ّ ِـردء الت ــي كان يقــوم بهــا هــارون الب ـ ِـين ِ ً جميعــا يومئـ ٍـذ بمســار مو�ســى عليهمــا الســام ،فمــن ألــزم النــاس واحــد ُرئـ َـي يتبا ـكـى علــى َ جرحــى يلفظــون أنفاســهم عندمــا لــم يجــد أطبــاء مــن حولــه ،ومــن أي ــن لــه األطبــاء إن لــم يــدرس أحـ ٌـد الطــب علــى مذهبــه امللــزم للجميــع بالسي ــر فــي مســار واحــد؟ َّإن أعظـ َـم ثائـ ٍـر علــى ِ الباطنـيي ــن الــذي أصــاب ب ــنظرته الثاقبــة بــأن طريــق تحري ــر القــدس يبــدأ بالخــاص مــن كيــد الباطنـيي ــن هــو اإلمــام العــادل الشــهيد نــور ُ ّ الزنكــي رحمــه هللا تعالــى ،وبـي ــنما كان يم�ضــى ق ُد ًمــا فــي الدي ــن محمــود ِ ومن ورائهم الصليبـيـن واليهود كانت عنايته جهاده ضد الباطنـييـن ِ َّ َ بالتعليــم فائقــة ،ففــي ذلــك الوقــت عــام 549ه ـ أســس كليــة الطــب
من َّ ُ رات العربـ َّية الث ْو ِ الفراغ ِ لمي في َز ِ الع ُّ
العدد 2رجب 1439هـ
العريقــة (املستشــفى النــوري الكبـي ــر) وهــو مــن أجــل املؤسســات الطب ــية وأعظمهــا فــي التاريــخ ،ومــا زال يخـ ّ ِـرج األطبــاء فــي قاعاتــه العلميــة ويعالــج املر�ضــى حتــى عــام 1317هــ1899/م أي نحــو ثمان ــي مئــة ســنة(.)25 فأي ــن ثوارنــا أصحــاب االتجــاه واملســار الواحــد مــن هــذا الوعــي الرشــيد؟ ثــم إنــك ســوف ت ــرى فيهــم مــن يتبا ـكـى وهــو يعاي ـ ُـن الشــركات األجنب ــية تأت ــي بمهندســيها وخب ـرائها إلعــادة األعمــار ،وليــس ألب ــناء ُّ الوطــن يومئـ ٍـذ ســوى التحســر علــى مــا فــات: ُّ ً والج ــهل يخفــض أمة ويــذلها والعلم يـرفعها َّ أجل مقـ ِـام ُ انظر إلى األقوام كيف َ العلوم إلى ّ املحل السامي سم ْت بهم تلك ِ
املبحث الثالث
ُ ـنوات َّ السـ ْـبع ظواهـ ُـر التعليــم الســبع فــي السـ ِ
ً ـتطالعا إن اإلجابــة العلميــة عــن أســئلة البحــث تقت�ضــي اسـ ـتبانات ّ َّ ـات واملراحـ ِـل العمريــة علميــة واسـ ٍ مفصلــة لــكل التخصصـ ِ ـنوات الثــورات ومقارنــة كل ســنة بمــا قبلهــا واســتبانات علــى مــدى سـ ِ ـرب ـباب التسـ ِ خاصــة بمناطــق النــزوح وبــاد املهجــر ،وأخــرى ألسـ ِ َّ وعوامل األمية وخط سيـر اإلنتاج العلمي املتوقع وانحسار التعليم ِ ِ ً ُ ًّ ًّ كما وكيفا تـراك ِميا فيما لو فرضنا أن هذه الحقبة حقبة استقرار، عملية على ّ ثم القيام بدراسة تجريبـية َّ عينات الدراسة في كل حالة ِ وإعــداد دراســات إحصائيــة لذلــك كلــه مــن أجــل إصــدار أحــكام َ صحيحــة ،وتســتدعي اإلجابــة علــى األســئلة ً أيضــا مقارنــة التعليــم فــي اب بمــا هــو متــاح للموالي ــن لألنظمــة الحاكمــة خــال الثــورة واالغت ـر ِ ســنوات الثــورات ،أمــا مقارنــة فــروق التعليــم فــي زمــن الســلم بزمــن الحــرب فتلــك مســألة أعمــق. َ وإنن ــي َ َل ُكـ ّـر ُر أنن ــي ال أكتمــك سـ ًّـرا بـ َّ ـأن الدراســة اقتصــرت علــى إثــارة ِ ّ املشــكلة ولــم تقـ ِـدم إجابــة علميــة عــن أي مــن األســئلة؛ ذلــك أن اإلجابات العلمية تستوجب القيام بكل ما سبق ،وتلك أعمال بحثية ٌ ُمسـ ِـهبة حقيقــة ب ــرسائل جامعيــة فــي أقســام علــم التـرب ــية واالجتمــاع والسياســة ،لكــن يمكــن ســرد ظواهــر تنكشــف بهــا حــدود البحــث
الق َّنوجي :أبجد العلوم ،دار ابـن حزم ،ط 1423 ،1هـ 2002 -م ،ص .146 :وفيه قال( :أوفد املأمون الرسل ( )21أبو الطيب محمد صديق خان بـن حسن ِ على ملوك الروم في استخراج علوم اليونانـييـن وانتساخها بالخط العربـي ،وبعث املتـرجميـن لذلك ،فأوعى منه واستوعب). ( )22شوقي أبو خليل :الحضارة العربية اإلسالمية ،دار الفكر املعاصر ودار الفكر2002 ،م ،ص .442 ( )23راغب السرجاني :العلم وبـناء األمم ،مرجع سابق ،ص .185نقال عن دوبيـر في كتابه :املنازعة بيـن العلم. ( )24علي عبد هللا الدفاع :روائع الحضارة العربية اإلسالمية في العلوم ،مؤسسة الرسالة القاهرة ط ،1999 ،2ص.25 ( )25مصطفى السباعي :من روائع حضارتنا ،مرجع سابق ،ص .116
60
مفصلـ ًـة وتصلــح ً َّ أساســا ملقاربــات ومدخــا لدراســات أكاديميــة بحتــة. الظاهرة األولى :ضعف الفرص واإلمكان َّـيات َّ َ ُ ْ وجامعات ِهـ ْـم َوفـ َـق منــاخ وب ــيئة بـي ــنما يم�ضــي الطلبــة إلــى مدارســهم ِ َّ َ ْ ًّ ـلطان األنظمــة املســتبدةَ ،نـ َـرى تعليميــة مهيـ ٍـأة شــكليا تحــت سـ ِ زمالءهــم فــي املخيمــات ومناطــق الحــرب والحصــار وكهــوف النــزوح وبعــض دول اللجــوء يتكدســون فــي املنشــآت التعليميــة؛ فيضعــف َ مســتوى التعليــم والخ ْدمــات َّ املقدمــة أو تنعــدم ،بــل ُي ْرفــض أكث ــر ِ ّ الطــاب لضيــق املنشــآت وشـ ِـح املــوارد التعليميــة كمــا فــي لب ــنان حتــى عــام 2015م ،ثــم َّإنــه قلمــا يحظــى أحــد هــؤالء الطــاب بااللتحــاق ُ ـباب تحكيهــا ظــروف بالجامعــة ال ســيما التخصصــات املرموقــة ألسـ ٍ َ َّ َّ ٌ َّ ـوء والحيـ ِـاة الشــاقة ،نعــم ثمــة قلــة آخــرون ـرب واالعتقـ ِـال واللجـ ِ الحـ ِ َ ـرص مــا كانــت لتتــاح لهــم لــو لــم يهاجــروا. حظــوا بفـ ٍ َ َّ ُ ّ َّ ومنظمــات املجتمــع حمـ ُـل األف ـر َاد و ِفـ َـرق العمــل إن هــذا املشــهد لي ِ َ مسؤولية تدارك القصور ّ وسد الثغرات من خالل مجموعة املدنـي إجـراءات وب ـرامج مقت ــرحة ،منهــا: ـزء مــن مواردهــا فــي التعليــم مــن خــال )1اســتثمار املنظمــات لجـ ٍ ب ـرامج دقيقــة مبـن ــية علــى دراســة جــدوى إيجاب ــية وتفاعلهــا مــع مؤسســات حكوميــة وخي ـرية يســتفاد مــن مراكزهــا املتاحــة ً دائمــا أو خــارج ســاعات دوامهــا الرســمي. اهقي ــن )2تنظيــم فــرق عمــل لدعــم املنقطعي ــن عــن الدراســة واملر ِ ُ األ ِّم ْيي ــن مــن خــال تـيسي ــر التعليــم البديــل أو املفتــوح أو املســتمر أو عــن بعــد مــن خــال املراســلة والــدروس التفاعليــة واملســجلة عب ــر وســائل التواصــل االجتماعــي ،ويقــوم عليهــا مشــرف مجموعــة متخصــص للدعــم واملتابعــة. ً ـاعة ًّ ّ يوميــا ـدرس املتطـ ّ ِـوع) سـ )3مبــادرات فرديــة لتفعيــل ب ـرامج (املـ ِ َ ْ العالــم الثائــر عبــد الحميــد مــع مبــدأ (األم مد َرســة) ،اســتمر ًارا لفكــرة ِ َّ علمــت ولـ ًـدا فقــد علمــت فـ ً ـردا وإذا ب ــن باديــس رحمــه هللا تعالــى( :إذا علمت ب ًـنتا فقد علمت َّأمة) ،وتهدف إلى تحسيـن سريع ألداء أولياء األمــور ليغــدوا مدرسي ــن فعليي ــن ألوالدهــم فــي الب ــيوت وفــق ب ـرنامج َّ ومدعــم بوســائل مســاعدة مكثــف يــوازي ب ـرامج الدراســة املنتظمــة َّ ّ ّ ـوكل مهمــة االســتمرار ـدرس املتطـ ِـوع ثــم يـ ِ مــن الشــبكة ،يبــدأ بــه املـ ِ إلــى األســرة ،وتغــدو مهمتــه التقويــم واملتابعــة الجماعيــة املباشــرة ًّ ً ـبوعيا مــرة فــي مراكــز متاحــة أو فــي بعــض الب ــيوت أيــام العطلــة أسـ األســبوعية أو املتابعــة عــن بعــد مــن خــال مواقــع التواصــل ،و�شــيءٌ
العدد 2رجب 1439هـ
مــن هــذا يقــوم بــه بعــض املغتـربـي ــن املصريي ــن املثقفي ــن :يتخــذون مــن ب ــيوتهم مدرســة نموذجيــة بــإدارة األبوي ــن فقــط ،فــإذا حانــت االمتحانــات التحقــوا باملراكــز الخارجيــة لهــا مــن خــال ســفارات بالدهــم. الظاهرة الثانـية :أثـرالحرب على العملية التعليمية ي ــنبغي تحديــد مــدى تأثي ــر الحــرب ُّ والرعــب والنــزوح واللجــوء والظــروف املعيشــية القاســية والوضــع االجتماعــي الناجــم عنهــا علــى التعليم واألداء وعدد املعلمي ــن املتخصصي ــن ،وتأثي ــر هذه األحوال علــى املتعلمي ــن ونفســيتهم ووعيهــم وأدمغتهــم وعقولهــم وتصورهــم للواقــع واملســتقبل.
الظاهرة الثالثة :أثـراملحيط على الطالب املغتـرب ّ الرفــاق فــي العمليــة التعليميــة فــي بــاد االغت ـراب والنــزوح مجموعــات ِ تت ـ ُ ـرك فــي الطفــل أث ـ ًـرا تتباي ــن درجاتــه مــن بلــد إلــى آخــر ،فبـي ــنما يكتسب في بعضها إيجابـيات املدنـية الحديثة؛ تتجذر فيه سلبـياتها ّ وقوميــات وانتمــاءات وطن ــية ليــس فيهــا خصوصيــة الوطــن األم وال ب ــيئته وال ثقافتــه ،ويكابــد م ـرارة النظــرة السلب ــية والتفرقــة ً أحيانــا. الظاهرة الرابعة :مشكلة االعتـراف بالشهادات
كمــا ً تتمثــل هــذه الظاهــرة فــي النظــر إلــى الشــهادات العلميــة ًّ ونوعــا ً واعت ـر ًافا وفاعليــة ،ومــدى قناعــة الطــاب ب ــنجاعة الدراســة دون شــهادة معت ــرف بهــا ،وتأثي ــر ذلــك علــى درجــة العنايــة واالهتمــام بالعلــم والتعليــم ،فربمــا َّأدت مـرارة هــذا املشــهد إلــى أن ي ـ ّ ـردد بعــض ِ العامــة :وهــل َ ً أغنــت الشـ ُ ـهادات عــن الدارسي ــن مــن قبـ ُـل شــيئا؟ فهــا الجامعيــون َ ُّ هــم وح َملــة الشــهادات العليــا فــي بــاد املهجــر والنــزوح ً َ َ ّ ّ ُ َّ ٌ عمال كاألمييـن بل أسوأ حال؛ فال هم خبروا املهن من قبل ليتقنوا إحداهــا وال فرصــة تتــاح لهــم فــي مناطــق النــزوح وال فــي بــاد املهجــر ُ ُ ُ ملوانــع عــدة ُّ أهمهــا اللغــة األجنب ــية ونــدرة الفــرص فــي تخصصاتهــم وقوانـي ـ ُـن تلك الدول في تشغيل األجانب املتخصصي ــن ...وهذا واقع مشهود صحيح نسب ـ ًّـيا َّ لكنه ليس ًّ عاما؛ َّ فثمة جامعيون استكملوا ُ املطلــوب منهــم ،وآخــرون أتقنــوا اللغــات ،وأت ــيحت لقســم آخــر فــرص عمــل مناســبةَّ ، وات َجــه بعضهــم للتعليــم مــرة أخــرى حســب ٍ ق التخصــص املرغــوب فــي ســو العمــل حيــث يقيــم هــو ،فأســهر ّ متخص ً صــا فــي مجــال آخــر؛ ثــم َّإنــه رغــم ليلــه وأجهــد نفســه ،وصــار ِ نسب ـ ّـية صــواب مــا ي ـ ّ ـردده العامــة عــن انعــدام الفــرص للمتعلمي ــن ِ 61
من َّ ُ رات العربـ َّية الث ْو ِ الفراغ ِ لمي في َز ِ الع ُّ كل َّ يعــود ٌّ منــا ليســائل ذاتــه فــي أعمــاق نفســه :إذا رضي ــنا بالعاجلــة فمــن لآلجلــة؟ ْإن أعرضنــا عــن العلــم والتعليــم بدعـ َـاوى كهــذه فمــن ســيعلم أجيالنا القادمة بعد التحري ــر إن عدنا بال علم وال شــهادة؟ أما املوالون ألنظمة االستبداد فمنهم من أعدوا أنفسهم ومنهم من ُ أقحمــوا فــي املؤسســات التعليميــة مــن غي ــر أبوابهــا ،فحجــزوا مقاعــد التعليم في كل املؤسسات ،ناهيك عن َّأن كيل املستبديـن قد طفح فاجتثوا من الهيئات التدريسية ومؤسسات التعليم كل من َّ خمنوا خفاء ،فماذا ع�سى أن أنه معارض لظلمهم وطغيانهم وفسادهم في ٍ ّ يعلــم أعـ ُ ـوان القتلــة أب ـ َ ـناءنا وعــام سي ـربونهم؟! ويــل ثــم ويــل إن آلــت ِ فساد إليهم وحدهم زمام التعليم ليعودوا فيـربوا جيلنا القادم على ٍ ِ َّ ـات َرذلـ ٍـة ـتعباده وعلــى سـ ـلوكيات وصفـ ٍ ٍ ـوع للمســتبد واسـ ِ وخسـ ٍـة وخنـ ٍ توارثتهــا جي ــناتهم وقامــت عليهــا مصالحهــم كاب ـ ًـرا عــن كاب ــر.
الظاهرة الخامسة :تحكم املستبد وأتباعه بالتعليم ي ــنبغي مالحظــة مــدى تكثيــف أنظمــة االســتبداد ألعــداد املوالي ــن ُّ القائمي ــن بالعملية التعليمية في التعليم الجامعي وما قبله وتحكم الحقبــة بفــرص التعليــم العالــي ،وعلــى هــذا: تلــك األنظمــة فــي هــذه ِ َ ُ كيــف ومتــى وأي ــن يمكــن أن ت َه َّيــأ فـ ٌ ـرص إلعــداد كفــاءات تدريســية فــي كل التخصصــات لتكــون مؤهلــة للمنافســة والتصحيــح املطلــق الشــامل للمفاهيــم والقيــم؟ الظاهرة السادسة :املناهج بـيـن األدلجة والتحريف وقعــت املناهــج تحــت ســياط األدلجــة ومباضــع عمليــات التشــويه عملية تعليمية َّ أي َّ والكذب والتحريف ،وتلك ُّأم الخبائث ،فعن ّ تتحدث ِ ِ ُ ّ ّ ْ َ واملتعلــم والكتــاب -فــي ميــاه املعلــم ِ وقــد أغي ــر عليهــا حتــى غــارت أركانهــا ِ - َ َ آســنة؟ وليــس الكتــاب أحـ ُـد عناصــر املناهـ ِـج هــو وحــده مــن ِسـ ْـيم وبــال َ ُ َ التعليم َّيـ ِـة والتقويـ ِـم ـائل ِ املسـ ِـخ والتزوي ـ ِـر ،بــل طــال العبــث توظيــف الوسـ ِ ّ الصف َّيــة َّ واملوجهــة والحـ َّـرة؛ ثــم َّإن األدلجــة والبـن ــية الفكريــة واألنشــطة ِ فــي املناهــج واملؤسســات والهيئــات التدريســية يتفــاوت أث ــرها فــي جيـ ِـل املستقبل لدى ّ وأنظمة ُّ التطرف كل من أنظمة االستبداد ودول اإلرهاب ِ ٍ ل العرقي أو الديـن ـ ّـي ولدى أنظمة دو االغت ـراب وجيل الثورة ،وهي مسألة لها بصماتها في صناعة الوعي والتاريخ وبـناء الجيل أو تخريبه ،فجدي ٌـر بها فرد بالبحث ،فل َّربما يحتاج األمر إلى دراسة ميدانـية َّ أن ُت َ مفصلة سابـرة لجرائم ُد َول اإلرهاب وتنظيم الدولة والع ّ رقييـن العابثيـن باملناهج في ضوء ِ ِ حياد َّيــة إلعــداد املنهــج وبـن ــيته وإطــاره ومحتوياتــه معايي ــر علميــة ت ـربوية ِ
من َّ ُ رات العربـ َّية الث ْو ِ الفراغ ِ لمي في َز ِ الع ُّ
العدد 2رجب 1439هـ
َ بعناصــره الســبع؛ ولهــذا وجـ َـب إفـراد هــذه الظاهــرة ب ـرأسها ببحـ ٍـث آخــر. ُ الظاهرة السابعة :اللغة األ ُّم واللغات األجنبـية ومــدار الحديــث هنــا عــن اللغــة األم ولغــات دول االغت ـرابَّ ،إن االحتــال واالنتحــال األلسن ــي مســألة َّ معقــدة فــي املهجــر والبــاد َّ ّ منفــرة لألطفــال مــن التعليــم قبــل املحتلــة ،فاللغــات األجنب ــية ِ ً إتقانهــاَّ ،أمــا بعــد إتقانهــم لهــا فاملصيبــة األعظــم أنهــا تغــدو كارثــة َ علــى اللغــة األم ،وقــد تمســخ الهويــة الوطن ــية وتضـ ُّـر بالب ــرمجة ُ اللغويــة األ ّم عنــد التفكي ــر ومعالجــة العلــوم ودراســتها وتدريســها، ُّ َُ ـدن تشــهد وأشــد وأنكــى مــا تــرى هــذه املعضلــة التعليميــة فــي مـ ٍ ً وحروبــا َّ مسـ ًـخا ًّ عرقيــة ،نعــم إن مــن ســنن هللا فــي الكــون قوميــا اإلحيــاء واإلماتــة والبعــث والتدافــع والسبب ــية والصي ــرورة ،وهــي ســنن تــكاد تكــون ضربــة الزب لــكل أفـراد الوجــود واأللسـ ُـن ُ أحدهــا، وتلبــس تلــك الســنن غالبــا لبــاس األســباب علــى يــد البشــر ،لكــن ْ أن َُ تق َّمــص بهــا علــى أيديهــم بالســطو واإلرهــاب كمــا يجــري فــي مــدارس شــمال شــرق ســورية فتلــك مســألة ال تأت ــي فــي ســياق ســنن التغيي ــر َ بــل هــي احتــال مســتهجن مســتقذر. ُْ لقــد اندث ــر مــن األقــوام مــا ال يح�صــى وإن قلــت ومــن اللغــات نحــو ذلــك فلعلــك تصيــب ،وتغي ــرت وتطــورت أنمــاط الحيــاة منــذ بــدء ّ الخلــق وكــذا ألســنتهم ،ولهــذا كلــه عوامــل ال تنكــر ،وجلهــا يعــود إلــى الســنن املذكــورة ،وهــذا يب ــرهن أن علــى أهــل كل لســان أن يحفظــوا لســانهم أن يحــور أو يغــور أو يب ــيد ،وللمحافظــة عوامــل مردهــا إلــى تلــك الســنن ً أيضــا؛ والعقــل يحــار فــي معضلــة الهيمنــة -العوملــة - اللغويــة :أت ـراها تــؤول إلــى ســنة التدافــع أم اإلماتــة؟ ولعــل ملفتــاح ً حـ ّـل هــذه األحجيــة وفـ ّـك موزهــا أسـ ً ـنانا ،أكب ـ ُـرها دقــة تشــخيص ِ ر الواقعــة ليكــون العــاج أكث ــر مالءمــة ومطابقــة ،وعمدتهــا سب ــر عوامــل انقطــاع األلســن أو إعجامهــا ،ونقـ ّـدم لذلــك ّ بمقدمــة ربمــا ِ ِ َّ تنـي ــر هــذا الجانــب املظلــم يــوم حــط املحتــل األجنب ــي عصــا الت ــرحال املنتحــل العرب ــي ،لــم َيـ ْـد ُع األو ُل الثان ـ َـي الســتبدال اللســان ُوِلــد ِ ـتعداه؛ َو َ ُ ض َعه بـي ــن َيدي األعجمي بالعرب ــي ،لكنه اســتدعاه بل اسـ وعلوم باهرة ،فاقتنع الثانـي أن ال وعاء لهذه الثقافة غازية ثقافة ٍ ٍ َ ُّ وتعليمهــا إال العجمــة ،وبـي ــنما كان ي ــرى والعلــوم وال طريــق لتعل ِمهــا ِ الثقافـ َـة والعلـ َ ـوم العرب ــية قــد اصفـ َّـرت فغــدت حطامــا بــل حصيـ ًـدا كأن لــم َت ْغـ َـن باألمــس ،حكــم علــى وعائهــا «لســانها» بمثــل ذلــك ً أيضــا، ِ 62
فلــم يعــد ي ــرى فيــه لغــة علــم وال تعليــم؛ واملحتــل واملنتحــل شـريكان فــي هــذا العــدوان (كل الدالئــل تثبــت أن الفرنســية حققــت فــي مرحلــة اســتقالل املغــرب مــن االنتشــار والتوســع مــا لــم تكــن تحلــم بتحقيقــه فــي مرحلــة االحتــال ...وبعــد الغــزو العســكري هنــاك أســلحة جديــدة ســتدخل الحلبــة وتقــود املعركــة ،وهــي اللغــة والفكــر الفرن�ســي) كمــا ُ ََ َ ْ «مغــرب الغــد» الضابــط الفرن�ســي بــول مارت ــي. ذكــر فــي وعلــى يــد املحتــل واملنتحــل ولــد االنحــال مــن رحــم هــذا الغــزو ّ الفكــري واللسان ــي ،ومعنــى االنحــال اللغــوي :التفــكك واالنتقــال من املؤتلف إلى املختلف ،ومن الصحيح إلى الفاسد ،فاضمحلت لغــة العلــوم والتعليــم واإلعــام وانحلــت ،وتآكلــت الهويــة فــي بــاد املغــرب مثــا والخليــج علــى دربــه ،ذلــك ّ أن حـ َ ـروب اللغــة حـ ٌ ـروب ِِ علــى الوطــن والشــعب وعلــى املا�ضــي والحاضــر واملســتقبل ،أي علــى الهويــة بمعناهــا الشــامل للخصائــص الثقافيــة والحضاريــة والعرقيــة والجغرافيــة والتاريخيــة والديـن ــية ،فاللغــة ليســت ثقافيــة ووســيلة ّ لسـ ًـانا فحســب بــل هــي ّ التعليــم ّ ّ األم ووعــاء هويــة ِ ّ ّ والخصوصيــات. الفكــر ومســتودع الت ـراث وتضاعفــت مشــكلة الهجي ــن اللغــوي باغت ـراب العــرب ولجوئهــم اليــوم وبوفــادة األعاجــم إلــى الخليــج أمــس ،فهــؤالء العــرب وإن ـوج َّ عرفــوا لغتهــم واســتقام لســانهم؛ رطــن فكرهــم واعـ ّ ألن لغــة َّ التعليــم أجنب ــية ،فت ـراه يفكــر بهــا ويت ــرجم مــا يفكــر بــه إلــى لغتــه األم ،وقــد يفــر مــن ّأمــه إلــى تلــك إذا مــا أقفــر حضنهــا فلــم يجــد فــي معجمــه ذلــك املصطلـ َـح أو املعنــى األجنب ــي القائــم فــي ذهنــه. وفــي مزاحمــة األعاجــم وثقافتهــم ولغاتهــم األورديــة واإلنجليزيــة والفارســية للعرب ــية تهديـ ٌـد ِب َه ْتــك النســيج املجتمعــي والثقافــي، وهــذا فيــه مــا فيــه مــن زعزعــة األمــن والســلم األهلــي والعــدوان علــى العقــل العرب ــي ولغتــه الت ــي كانــت باألمــس لغــة العلــوم َ والتعليــم العال َّيــة؛ وخي ــر مــن وفــى البحــث َح َّقــه األســتاذ محمــود شــاكر فــي كتابــه (رســالة فــي الطريــق إلــى ثقافتنــا) ،يقــول ســارتون: (كانــت اللغــة العرب ــية مــن منتصــف القــرن الثامــن حتــى نهايــة القــرن الحــادي عشــر لغــة العلــم االرتقائيــة للجنــس البشــري ،حتــى لقــد كان ي ــنبغي ألي كائــن إذا أراد أن يلـ َّـم بثقافــة عصــره وبأحــدث ()26 ()27 ()28 ()29 ()30
العدد 2رجب 1439هـ
صورهــا أن يتعلــم اللغــة العرب ــية)( .)26وأبلــغ مــن ذلــك قــول العالمــة ب ــريفلوت عــن روجــر ب ــيكون أشـ ُ ـرب( :لــم يكــن ـهر ع َمـ ِ ـداء نهضـ ِـة الغـ ِ ِ ً ُ ِب ْيكــون إال رســول مــن رســل العلــم واملنهــج اإلســامي إلــى أوروبــا املســيحية ،وهــو لــم يمـ ّـل قــط مــن التصريــح بــأن اللغــة العرب ــية وعلــوم العــرب همــا الطريــق الوحيــد ملعرفــة الحــق)(.)27 ـية ومــا عليــك لحـ ِ ّـل لغــز روجــر ب ــيكون وزمرِتــه والنهضـ ِـة الغرب ـ ِ ُّ ُّ والتأمــل فــي حالنــا اليــوم وحالهــم يومئـ ٍـذ والتدبــر ســوى التحليـ ِـل ّ ـاب تقلـ ُـب وجــوه املعان ــي عنــد قراءتــك بشـ ٍ وأنــت ِ ـغف وعمـ ٍـق لكتـ ِ َ ُْ َّ (رســالة فــي الطريــق إلــى ثقافتنــا) ،وليكــن علــى ذكـ ٍـر منــك أن طريقــة ـود وبحثهــا ودراســتها علــى مــدى عقـ ٍ علومنــا ِ نهضتهــم بــدأت بت ــرجمة ِ ً َّ لقــد اكتســب العلــم الغرب ـ ُّـي مــادة أدت إلــى إث ـرائه بدرجــة ال نظي ــر لهــا بفضــل الت ــرجمات العرب ــية عــن اإلغريــق ،وكذلــك بفضــل اإلنتــاج العلمـ ّـي املســتقل للمسلمي ــن(َّ )28 وإن انتعـ َ ـاش العلــم فــي العالــم الغرب ــي سـ ُـببه الت ــرجمة الســريعة ملؤلفــات املسلمي ــن فــي ّ حقــل العلــوم ونقلهــا مــن العرب ــية إلــى اللتـيـن ــية لغــة التعليــم الدوليــة آنــذاك( ،)29وهــي هــي الطريقــة ذاتهــا الت ــي قامــت بهــا نهضــة َّ َ املسلمي ــن األوائــل يــوم أن ت ــرجموا علــوم اآلخ ِري ــن وعلموهــا لألجيــال فبحثهــا كل جيــل وفــق معطيــات عصــره وبذلــوا املهــج ً صحيحــا أنهــا تتصــارع فــي تطوي ــرها؛ فالحضــارات تتالقــح وليــس أو تتناطــح ،وال َّ أدل علــى ذلــك مــن صن ــيع العالمــة املوســوعي الفيزيائــي الفلكــي الفيلســوف الكنــدي أب ــي يوســف يعقــوب ب ــن إســحاق صاحــب املأمــون ،لقــد قـرأ العلــوم املت ــرجمة عــن اليونان ـ ّـية ّ والسريان ـ ّـية ،وأتقــن اليونان ـ ّـية ّ والهنديــة ّ والسريان ـ ّـية، والفارسـ ّـية ُ وت ـ َ وفريقـ ُـه البحثـ ُّـي منهــا ًّ جمــا غفي ـ ًـرا حتــى صــارت مكتبتــه ـرجم هــو تضاهــي أعظـ َـم مكتبـ ٍـة يومئــذ (مكتبـ ِـة ب ــيت الحكمــة) البغداديــة، بحثيــا وجامعـ ًـة ت ـر َّ وصــارت مكتبتــه مركـ ًـزا ًّ اثية(.)30 ً وضوحــا فــي حــدود الدراســة، هــذه هــي الظواهــر الســبع األكث ــر ولـ ّ ـكل منهــا تفسي ـراتها وأســبابها وحلــول مقت ــرحة تســاعد علــى ٍ َّ َّ تجــاوز عقباتهــا ،وإنــه ليجــدر بمراكــز البحــوث املعن ــية بالثــورات ْ ّ تولــي هــذه الظواهــر قـ ْـد ًرا مــن العنايــة والحريــة والكرامــة أن ِ البحثيــة يالئــم أث ــر ّ كل منهــا فــي التعليــم. ٍ
أحمد علي املال :أثـر العلماء املسلميـن في الحضارة األوربـية ،دار الفكر ط 1401 ،2هـ ،1981/ص ،111 ،110نقال عن سارتون :املدخل إلى تاريخ العلوم. أنور الجندي :مقدمات العلوم واملناهج ،دار األنصار1409 ،ه.710/4 ، راغب السرجانـي :العلم وبـناء األمم ،مرجع سابق 184 ،نقال عن بلسنر :العلوم الطبـيعية والطب ،دراسة منشورة بكتاب تـراث اإلسالم ،إشراف شاخت و بوزوروث ،ص.79،81 راغب السرجانـي :العلم وبـناء األمم ،مرجع سابق ،ص 184نقال عن يبدي تومبسون Yhompsonj/j/w/The Medioval Lirary N.Y Hafner publishing company 1976 p236 رحاب العكاوي :الكندي أعظم الحكماء في تاريخ البشرية ،دار الفكر العربـي ،2000 ،ص.16
63
من َّ ُ رات العربـ َّية الث ْو ِ الفراغ ِ لمي في َز ِ الع ُّ كل َّ يعــود ٌّ منــا ليســائل ذاتــه فــي أعمــاق نفســه :إذا رضي ــنا بالعاجلــة فمــن لآلجلــة؟ ْإن أعرضنــا عــن العلــم والتعليــم بدعـ َـاوى كهــذه فمــن ســيعلم أجيالنا القادمة بعد التحري ــر إن عدنا بال علم وال شــهادة؟ أما املوالون ألنظمة االستبداد فمنهم من أعدوا أنفسهم ومنهم من ُ أقحمــوا فــي املؤسســات التعليميــة مــن غي ــر أبوابهــا ،فحجــزوا مقاعــد التعليم في كل املؤسسات ،ناهيك عن َّأن كيل املستبديـن قد طفح فاجتثوا من الهيئات التدريسية ومؤسسات التعليم كل من َّ خمنوا خفاء ،فماذا ع�سى أن أنه معارض لظلمهم وطغيانهم وفسادهم في ٍ ّ يعلــم أعـ ُ ـوان القتلــة أب ـ َ ـناءنا وعــام سي ـربونهم؟! ويــل ثــم ويــل إن آلــت ِ فساد إليهم وحدهم زمام التعليم ليعودوا فيـربوا جيلنا القادم على ٍ ِ َّ ـات َرذلـ ٍـة ـتعباده وعلــى سـ ـلوكيات وصفـ ٍ ٍ ـوع للمســتبد واسـ ِ وخسـ ٍـة وخنـ ٍ توارثتهــا جي ــناتهم وقامــت عليهــا مصالحهــم كاب ـ ًـرا عــن كاب ــر.
الظاهرة الخامسة :تحكم املستبد وأتباعه بالتعليم ي ــنبغي مالحظــة مــدى تكثيــف أنظمــة االســتبداد ألعــداد املوالي ــن ُّ القائمي ــن بالعملية التعليمية في التعليم الجامعي وما قبله وتحكم الحقبــة بفــرص التعليــم العالــي ،وعلــى هــذا: تلــك األنظمــة فــي هــذه ِ َ ُ كيــف ومتــى وأي ــن يمكــن أن ت َه َّيــأ فـ ٌ ـرص إلعــداد كفــاءات تدريســية فــي كل التخصصــات لتكــون مؤهلــة للمنافســة والتصحيــح املطلــق الشــامل للمفاهيــم والقيــم؟ الظاهرة السادسة :املناهج بـيـن األدلجة والتحريف وقعــت املناهــج تحــت ســياط األدلجــة ومباضــع عمليــات التشــويه عملية تعليمية َّ أي َّ والكذب والتحريف ،وتلك ُّأم الخبائث ،فعن ّ تتحدث ِ ِ ُ ّ ّ ْ َ واملتعلــم والكتــاب -فــي ميــاه املعلــم ِ وقــد أغي ــر عليهــا حتــى غــارت أركانهــا ِ - َ َ آســنة؟ وليــس الكتــاب أحـ ُـد عناصــر املناهـ ِـج هــو وحــده مــن ِسـ ْـيم وبــال َ ُ َ التعليم َّيـ ِـة والتقويـ ِـم ـائل ِ املسـ ِـخ والتزوي ـ ِـر ،بــل طــال العبــث توظيــف الوسـ ِ ّ الصف َّيــة َّ واملوجهــة والحـ َّـرة؛ ثــم َّإن األدلجــة والبـن ــية الفكريــة واألنشــطة ِ فــي املناهــج واملؤسســات والهيئــات التدريســية يتفــاوت أث ــرها فــي جيـ ِـل املستقبل لدى ّ وأنظمة ُّ التطرف كل من أنظمة االستبداد ودول اإلرهاب ِ ٍ ل العرقي أو الديـن ـ ّـي ولدى أنظمة دو االغت ـراب وجيل الثورة ،وهي مسألة لها بصماتها في صناعة الوعي والتاريخ وبـناء الجيل أو تخريبه ،فجدي ٌـر بها فرد بالبحث ،فل َّربما يحتاج األمر إلى دراسة ميدانـية َّ أن ُت َ مفصلة سابـرة لجرائم ُد َول اإلرهاب وتنظيم الدولة والع ّ رقييـن العابثيـن باملناهج في ضوء ِ ِ حياد َّيــة إلعــداد املنهــج وبـن ــيته وإطــاره ومحتوياتــه معايي ــر علميــة ت ـربوية ِ
من َّ ُ رات العربـ َّية الث ْو ِ الفراغ ِ لمي في َز ِ الع ُّ
العدد 2رجب 1439هـ
َ بعناصــره الســبع؛ ولهــذا وجـ َـب إفـراد هــذه الظاهــرة ب ـرأسها ببحـ ٍـث آخــر. ُ الظاهرة السابعة :اللغة األ ُّم واللغات األجنبـية ومــدار الحديــث هنــا عــن اللغــة األم ولغــات دول االغت ـرابَّ ،إن االحتــال واالنتحــال األلسن ــي مســألة َّ معقــدة فــي املهجــر والبــاد َّ ّ منفــرة لألطفــال مــن التعليــم قبــل املحتلــة ،فاللغــات األجنب ــية ِ ً إتقانهــاَّ ،أمــا بعــد إتقانهــم لهــا فاملصيبــة األعظــم أنهــا تغــدو كارثــة َ علــى اللغــة األم ،وقــد تمســخ الهويــة الوطن ــية وتضـ ُّـر بالب ــرمجة ُ اللغويــة األ ّم عنــد التفكي ــر ومعالجــة العلــوم ودراســتها وتدريســها، ُّ َُ ـدن تشــهد وأشــد وأنكــى مــا تــرى هــذه املعضلــة التعليميــة فــي مـ ٍ ً وحروبــا َّ مسـ ًـخا ًّ عرقيــة ،نعــم إن مــن ســنن هللا فــي الكــون قوميــا اإلحيــاء واإلماتــة والبعــث والتدافــع والسبب ــية والصي ــرورة ،وهــي ســنن تــكاد تكــون ضربــة الزب لــكل أفـراد الوجــود واأللسـ ُـن ُ أحدهــا، وتلبــس تلــك الســنن غالبــا لبــاس األســباب علــى يــد البشــر ،لكــن ْ أن َُ تق َّمــص بهــا علــى أيديهــم بالســطو واإلرهــاب كمــا يجــري فــي مــدارس شــمال شــرق ســورية فتلــك مســألة ال تأت ــي فــي ســياق ســنن التغيي ــر َ بــل هــي احتــال مســتهجن مســتقذر. ُْ لقــد اندث ــر مــن األقــوام مــا ال يح�صــى وإن قلــت ومــن اللغــات نحــو ذلــك فلعلــك تصيــب ،وتغي ــرت وتطــورت أنمــاط الحيــاة منــذ بــدء ّ الخلــق وكــذا ألســنتهم ،ولهــذا كلــه عوامــل ال تنكــر ،وجلهــا يعــود إلــى الســنن املذكــورة ،وهــذا يب ــرهن أن علــى أهــل كل لســان أن يحفظــوا لســانهم أن يحــور أو يغــور أو يب ــيد ،وللمحافظــة عوامــل مردهــا إلــى تلــك الســنن ً أيضــا؛ والعقــل يحــار فــي معضلــة الهيمنــة -العوملــة - اللغويــة :أت ـراها تــؤول إلــى ســنة التدافــع أم اإلماتــة؟ ولعــل ملفتــاح ً حـ ّـل هــذه األحجيــة وفـ ّـك موزهــا أسـ ً ـنانا ،أكب ـ ُـرها دقــة تشــخيص ِ ر الواقعــة ليكــون العــاج أكث ــر مالءمــة ومطابقــة ،وعمدتهــا سب ــر عوامــل انقطــاع األلســن أو إعجامهــا ،ونقـ ّـدم لذلــك ّ بمقدمــة ربمــا ِ ِ َّ تنـي ــر هــذا الجانــب املظلــم يــوم حــط املحتــل األجنب ــي عصــا الت ــرحال املنتحــل العرب ــي ،لــم َيـ ْـد ُع األو ُل الثان ـ َـي الســتبدال اللســان ُوِلــد ِ ـتعداه؛ َو َ ُ ض َعه بـي ــن َيدي األعجمي بالعرب ــي ،لكنه اســتدعاه بل اسـ وعلوم باهرة ،فاقتنع الثانـي أن ال وعاء لهذه الثقافة غازية ثقافة ٍ ٍ َ ُّ وتعليمهــا إال العجمــة ،وبـي ــنما كان ي ــرى والعلــوم وال طريــق لتعل ِمهــا ِ الثقافـ َـة والعلـ َ ـوم العرب ــية قــد اصفـ َّـرت فغــدت حطامــا بــل حصيـ ًـدا كأن لــم َت ْغـ َـن باألمــس ،حكــم علــى وعائهــا «لســانها» بمثــل ذلــك ً أيضــا، ِ 62
فلــم يعــد ي ــرى فيــه لغــة علــم وال تعليــم؛ واملحتــل واملنتحــل شـريكان فــي هــذا العــدوان (كل الدالئــل تثبــت أن الفرنســية حققــت فــي مرحلــة اســتقالل املغــرب مــن االنتشــار والتوســع مــا لــم تكــن تحلــم بتحقيقــه فــي مرحلــة االحتــال ...وبعــد الغــزو العســكري هنــاك أســلحة جديــدة ســتدخل الحلبــة وتقــود املعركــة ،وهــي اللغــة والفكــر الفرن�ســي) كمــا ُ ََ َ ْ «مغــرب الغــد» الضابــط الفرن�ســي بــول مارت ــي. ذكــر فــي وعلــى يــد املحتــل واملنتحــل ولــد االنحــال مــن رحــم هــذا الغــزو ّ الفكــري واللسان ــي ،ومعنــى االنحــال اللغــوي :التفــكك واالنتقــال من املؤتلف إلى املختلف ،ومن الصحيح إلى الفاسد ،فاضمحلت لغــة العلــوم والتعليــم واإلعــام وانحلــت ،وتآكلــت الهويــة فــي بــاد املغــرب مثــا والخليــج علــى دربــه ،ذلــك ّ أن حـ َ ـروب اللغــة حـ ٌ ـروب ِِ علــى الوطــن والشــعب وعلــى املا�ضــي والحاضــر واملســتقبل ،أي علــى الهويــة بمعناهــا الشــامل للخصائــص الثقافيــة والحضاريــة والعرقيــة والجغرافيــة والتاريخيــة والديـن ــية ،فاللغــة ليســت ثقافيــة ووســيلة ّ لسـ ًـانا فحســب بــل هــي ّ التعليــم ّ ّ األم ووعــاء هويــة ِ ّ ّ والخصوصيــات. الفكــر ومســتودع الت ـراث وتضاعفــت مشــكلة الهجي ــن اللغــوي باغت ـراب العــرب ولجوئهــم اليــوم وبوفــادة األعاجــم إلــى الخليــج أمــس ،فهــؤالء العــرب وإن ـوج َّ عرفــوا لغتهــم واســتقام لســانهم؛ رطــن فكرهــم واعـ ّ ألن لغــة َّ التعليــم أجنب ــية ،فت ـراه يفكــر بهــا ويت ــرجم مــا يفكــر بــه إلــى لغتــه األم ،وقــد يفــر مــن ّأمــه إلــى تلــك إذا مــا أقفــر حضنهــا فلــم يجــد فــي معجمــه ذلــك املصطلـ َـح أو املعنــى األجنب ــي القائــم فــي ذهنــه. وفــي مزاحمــة األعاجــم وثقافتهــم ولغاتهــم األورديــة واإلنجليزيــة والفارســية للعرب ــية تهديـ ٌـد ِب َه ْتــك النســيج املجتمعــي والثقافــي، وهــذا فيــه مــا فيــه مــن زعزعــة األمــن والســلم األهلــي والعــدوان علــى العقــل العرب ــي ولغتــه الت ــي كانــت باألمــس لغــة العلــوم َ والتعليــم العال َّيــة؛ وخي ــر مــن وفــى البحــث َح َّقــه األســتاذ محمــود شــاكر فــي كتابــه (رســالة فــي الطريــق إلــى ثقافتنــا) ،يقــول ســارتون: (كانــت اللغــة العرب ــية مــن منتصــف القــرن الثامــن حتــى نهايــة القــرن الحــادي عشــر لغــة العلــم االرتقائيــة للجنــس البشــري ،حتــى لقــد كان ي ــنبغي ألي كائــن إذا أراد أن يلـ َّـم بثقافــة عصــره وبأحــدث ()26 ()27 ()28 ()29 ()30
العدد 2رجب 1439هـ
صورهــا أن يتعلــم اللغــة العرب ــية)( .)26وأبلــغ مــن ذلــك قــول العالمــة ب ــريفلوت عــن روجــر ب ــيكون أشـ ُ ـرب( :لــم يكــن ـهر ع َمـ ِ ـداء نهضـ ِـة الغـ ِ ِ ً ُ ِب ْيكــون إال رســول مــن رســل العلــم واملنهــج اإلســامي إلــى أوروبــا املســيحية ،وهــو لــم يمـ ّـل قــط مــن التصريــح بــأن اللغــة العرب ــية وعلــوم العــرب همــا الطريــق الوحيــد ملعرفــة الحــق)(.)27 ـية ومــا عليــك لحـ ِ ّـل لغــز روجــر ب ــيكون وزمرِتــه والنهضـ ِـة الغرب ـ ِ ُّ ُّ والتأمــل فــي حالنــا اليــوم وحالهــم يومئـ ٍـذ والتدبــر ســوى التحليـ ِـل ّ ـاب تقلـ ُـب وجــوه املعان ــي عنــد قراءتــك بشـ ٍ وأنــت ِ ـغف وعمـ ٍـق لكتـ ِ َ ُْ َّ (رســالة فــي الطريــق إلــى ثقافتنــا) ،وليكــن علــى ذكـ ٍـر منــك أن طريقــة ـود وبحثهــا ودراســتها علــى مــدى عقـ ٍ علومنــا ِ نهضتهــم بــدأت بت ــرجمة ِ ً َّ لقــد اكتســب العلــم الغرب ـ ُّـي مــادة أدت إلــى إث ـرائه بدرجــة ال نظي ــر لهــا بفضــل الت ــرجمات العرب ــية عــن اإلغريــق ،وكذلــك بفضــل اإلنتــاج العلمـ ّـي املســتقل للمسلمي ــن(َّ )28 وإن انتعـ َ ـاش العلــم فــي العالــم الغرب ــي سـ ُـببه الت ــرجمة الســريعة ملؤلفــات املسلمي ــن فــي ّ حقــل العلــوم ونقلهــا مــن العرب ــية إلــى اللتـيـن ــية لغــة التعليــم الدوليــة آنــذاك( ،)29وهــي هــي الطريقــة ذاتهــا الت ــي قامــت بهــا نهضــة َّ َ املسلمي ــن األوائــل يــوم أن ت ــرجموا علــوم اآلخ ِري ــن وعلموهــا لألجيــال فبحثهــا كل جيــل وفــق معطيــات عصــره وبذلــوا املهــج ً صحيحــا أنهــا تتصــارع فــي تطوي ــرها؛ فالحضــارات تتالقــح وليــس أو تتناطــح ،وال َّ أدل علــى ذلــك مــن صن ــيع العالمــة املوســوعي الفيزيائــي الفلكــي الفيلســوف الكنــدي أب ــي يوســف يعقــوب ب ــن إســحاق صاحــب املأمــون ،لقــد قـرأ العلــوم املت ــرجمة عــن اليونان ـ ّـية ّ والسريان ـ ّـية ،وأتقــن اليونان ـ ّـية ّ والهنديــة ّ والسريان ـ ّـية، والفارسـ ّـية ُ وت ـ َ وفريقـ ُـه البحثـ ُّـي منهــا ًّ جمــا غفي ـ ًـرا حتــى صــارت مكتبتــه ـرجم هــو تضاهــي أعظـ َـم مكتبـ ٍـة يومئــذ (مكتبـ ِـة ب ــيت الحكمــة) البغداديــة، بحثيــا وجامعـ ًـة ت ـر َّ وصــارت مكتبتــه مركـ ًـزا ًّ اثية(.)30 ً وضوحــا فــي حــدود الدراســة، هــذه هــي الظواهــر الســبع األكث ــر ولـ ّ ـكل منهــا تفسي ـراتها وأســبابها وحلــول مقت ــرحة تســاعد علــى ٍ َّ َّ تجــاوز عقباتهــا ،وإنــه ليجــدر بمراكــز البحــوث املعن ــية بالثــورات ْ ّ تولــي هــذه الظواهــر قـ ْـد ًرا مــن العنايــة والحريــة والكرامــة أن ِ البحثيــة يالئــم أث ــر ّ كل منهــا فــي التعليــم. ٍ
أحمد علي املال :أثـر العلماء املسلميـن في الحضارة األوربـية ،دار الفكر ط 1401 ،2هـ ،1981/ص ،111 ،110نقال عن سارتون :املدخل إلى تاريخ العلوم. أنور الجندي :مقدمات العلوم واملناهج ،دار األنصار1409 ،ه.710/4 ، راغب السرجانـي :العلم وبـناء األمم ،مرجع سابق 184 ،نقال عن بلسنر :العلوم الطبـيعية والطب ،دراسة منشورة بكتاب تـراث اإلسالم ،إشراف شاخت و بوزوروث ،ص.79،81 راغب السرجانـي :العلم وبـناء األمم ،مرجع سابق ،ص 184نقال عن يبدي تومبسون Yhompsonj/j/w/The Medioval Lirary N.Y Hafner publishing company 1976 p236 رحاب العكاوي :الكندي أعظم الحكماء في تاريخ البشرية ،دار الفكر العربـي ،2000 ،ص.16
63
من َّ ُ رات العربـ َّية الث ْو ِ الفراغ ِ لمي في َز ِ الع ُّ
خامتة البحــث ونتائجه وتوصياته
هــذا ومــا كان ّ لثوا ِرنــا الجامعيي ــن بــل مــا ي ــنبغي لهــم أن تخمــد َ جــذوة نشــاطهم وهدي ــر أصواتهــم ،أو أن ي ــرفع بعضهــم عقي ــرته ْ بفــوات األوان وال َع ْجـ ِـز عــن تقديــم ب ـرامج لتعليــم الجيــل املغــدور؛ ُ َ َ ويوهـ َـن عزيمتــه وعــزم اآلخري ــن ،فليكــن التعليـ ُـم والتـرب ــية في ِهــن ِ َ والت َج ُّنـ ُ ـس بجنسـ َّـيات أخــرى مــن أجــل االشت ـراك واالخت ـراق ّ ّ َّ والدوليــة خط َت َنــا البديلــة لهزيمـ ِـة املحليــة ِ للمؤسســات واملحافــل ِ َّ وإدانة أنصاره الد ْوليي ــن وإدر ِاجهم في ســجالت التاريخ ـتبداد االسـ ِ ِ ُ الســوداء ،ولنصـ ِـرة شــعوب أخــرى تتــوق للحريــة فــي قابــل األيــام، َ ـف بــاء الحريــة والوسـ َ ـائل العلميــة ولتعليــم األمــم املســحوقة ألـ َّ َّ العبودية ات السلمية لالنعتاق من االستبداد ،ولتعريفهم أبجدي ِ ـرب امللــوك واملماليــك َّ لـ ّ وأنهــا ال تكــون ألحـ ٍـد ســواه. ِ َ َ َّ ُ ويــا لــه مــن تشــريف! ومــا أجلــه مــن تكليــف! أن يقت�ضــي منــك إيمانــك بالحريــة واالنعتــاق مــن العبوديــة لغي ــر هللا :أنــك كلمــا َ َ فتنصــب لتعليــم الجيــل ـرنامجك اليومـ ّ ِـي تهـ ُّـب فرغــت مــن ب ـ ِ َّ َ ْ َ َّ ـتقبل املغــدور وفــق خطـ ٍـة منظمــة ،وتنتصــب بــكل إبــاء لب ــناء مسـ ٍ تحكمــه مبــادئ حكيمــة للنهــوض والعطــاء. ولــك أن تســتهدي بمنــارات وقيــم ســامقة فــي سب ــيل نهضــة أمتنــا، ولنقبــس مــن جــذوة منشــورات الدكتــور عبــد الكريــم بــكار علــى صفحتــه ً قبســا لعـ َّـل فيــه إلــى هــذا السب ــيل هـ ً ـدى: * حي ــن يشــعر إنســان بأنــه حــر يكــون قــد َّ حقــق نصــف وجــوده، ويحقــق النصــف الثان ــي حي ــن ُينجــز مــا يجــب عليــه إنجــازه، ومعظــم اإلنجــازات الكب ــرى مدي ــنة ألمري ــن مهمي ــن :االهتمــام والتنظيــم ،فاالهتمــام يحملنــا علــى اتخــاذ موقــف ،والتنظيــم ي ــرفع درجــة الكفــاءة فــي توظيــف املــوارد املتاحــة ،وال يعب ــر عــن نوعية شخصيتك وال يوضح مقدار عظمتك �شيء كاهتماماتك وأولوياتــك ،فالعديــد مــن األشــخاص يملكــون كل مقومــات العظمــة لكنهــم لــم يصبحــوا عظمــاء ألن اهتماماتهــم تافهــة ،وفــي هــذا خســارة كبـي ــرة لهــم ولنــا.
المنهج األصولي في تفسيـر النصوص
العدد 2رجب 1439هـ
الجاهلة يسهل سوقها وتصعب قيادتها؛ فالعلم يؤسس للتفاهم. *الوقــت يضيــع ســدى إذا لــم نضغــط عليــه بآمــال مســتقبلية ،فالطب ــيعة تكــره الف ـراغ ،وإذا لــم يمتلــئ القلــب باألفــكار العظيمــة امتــأ بالهمــوم والتطلعــات الصغي ــرة ،وإذا لــم يمتلــئ العقــل باألفــكار النـي ــرة عششــت فيــه األوهــام ،ولذلــك فإنــه ال خيــار أمامنــا ســوى ســلوك طريــق النبــاء والنابهي ــن.
أهـ ُّـم نتائــج البحــث:
َّ ُ مركزيــة العلــم والتعليــم فــي التغيي ــر والب ــناء. )1 )2ت ـ ُ ـرشيد الوعــي املجتمعــي بالفــرق بـي ــن دولتـي ــن :دولـ ٍـة ُ مرغــوب فيهــا وأخــرى مرغــوب عنهــا ،والكشــف عــن جوهرهذا الفــرق فــي ضــوء املــدى الحقيقــي لــه مــن خــال هــذه الثالثيـ ِـة: ـيس نهضتهــا عليــه أ) عنايـ ِـة األمــة بالعلــم والتعليــم ،ب) وتأسـ ِ ـخائها فــي اإلنفــاق علــى طالبــه ومؤسســاته. ج) وسـ ِ )3حصــر العوامــل املكتســبة والقهريــة املؤث ــرة فــي مشــكالت التعليــم بـي ــن عهدي ــن. ـات )4اقت ــراح بدائــل متاحــة لحــاالت كانــت أو افت ــرضت عقبـ ٍ الحقبــة. فــي طريــق التعليــم فــي هــذه ِ ُ َّ وفــي ل َّجــة أفــكار هــذا البحــث وقضايــاه املكثفــة الجدي ــرة ـاث َّ معمقــة يتســلل شــعاع األمــل املعقــود علــى بدراســات وأبحـ ٍ َ ْ َ َ هــذا الجيــل ليعــود فيبنِــي مــن جديــد جيــل الغــد املنشــود ،ومــا يدري ــنا أن يعود العقل اإلسالمي الولود إلى إبداع املدن ــية من ِ جديــد؟ َّ إن فت ــرات االزدهــارواالنحــدارمـ َّـرت علــى جميــع األمــم كمــا ي ــرى رْينــان( ،)31وهــذا ليــس بمسـ َ ـناء َّأمـ ٍـة قيــل ـتغرب مــن أب ـ ِ ِ ّ عــن أســافها( :كل مستشــفى وكل مركــز علمــي فــي أيامنــا هــذه إنمــا هــوفــي حقيقــة األمــر ُن ُ صـ ٌـب تــذكاري للعبقرية العرب ــية)(.)32
* الشــعوب املتعلمة تســهل قيادتها ويصعب ســوقها ،والشــعوب ( )31أنور الجندي :مقدمات العلوم واملناهج ،مرجع سابق.173/8 ، ( )32زيغريد هونكه :شمس العرب تسطع على الغرب ،دار اآلفاق الجديدة ،ط ،3بـيـروت1985 ،م ،ص.354
64
العدد 2رجب 1439هـ
ُّ األصولي المنهج ُ الجزية يف تفسيـر النصوص وتطبـيق ُه ىلع ِ آية ِ الدكتور أحمد السعدي
بأكاديمية باشاك شهيـر -إسطنبول. أستاذ مشارك يف قسم الفقه وأصوله ،عميد كلية الشريعة َّ
ُمق ِّدم ٌة
ُ ّ ُ ّ ـان الحمــد ِ هلل ر ِب العاملي ــن ،والصــاة والســام األتمـ ِـان األكمـ ِ علــى ســيدنا محمــد ســيد األولي ــن واآلخري ــن ،وعلــى آلــه وصحبـ ِـه أجمعي ــن ،وبعـ ُـد: ـدد مــن الباحثي ــن علــى القــولَّ : دأب عـ ٌ فقــد َ إن الفقهــاء ِ املعاصري ــن اســتطاعوا أن يجــددوا فــي الفقــه اإلسـ ّ ـامي لكنهــم جمــدوا أمــام أصولــه ،ودعــوا إلــى شــمو ِل حركــة التجديـ ِـد ملباحــث َّ ليتحر َر الفقه من ربقة قيود األصول الذي ما زال أصول الفقه يعيــد ويكــرر مســائل الشــافعي الثابتــة منــذ أكث ــرمــن ألــف ومئت ــي َ ســنة ،وقــد حــاول هــذا البحــث ب ــيان حقيقـ ٍـة مفادهــا َّأن ثبــات األصوليي ــن ليس ً ّ نابعا مسائل الشافعي ومن سارعلى نهجه من ّّ َّ ٌ ْ متو ِلــد مــن ِمــن تقديـ ٍ ـس لقـ ْـول شــخص أو منهــج َّأفــراد ،إنمــا هــو ِ بثباتها. طبـيعة هذا العل ِم الذي قام على ُمسل ٍ مات يحكم العقل ِ وقــد جهــد الباحــث فــي إيضــاح حقيقــة مفادهــا أن االحتفــاظ بالجانــب الثابــت مــن أصــول الفقــه ال يمنــع التجديــد فــي فــروع الفقــه ومســائله املبـن ــية علــى هــذا الجانــب ،ذلــك ألن ثبــات هــذا الجانب اليعنـي عدم االختالف في تطبـيقه ،واالختالف في تطبـيقه َّ َ هوما َج َع َل بعض املعاصريـن يـنكرون قطعيت ُه؛ لعدم مالحظتهم أن االختالف في التطبـيق اليعنـي ظن َّـية القاعدة ،فحيـن نقو ُل َّ إن فهــم العــرب لكالمهــم إبــان نــزول القـرآن هــوالــذي يجــب تفسي ــر القرآن على أساسه ال نعنـي َّ ً جميعا، أن فهمهم واحد ثابت بـيـنهم ُ َّ بل يعنـي -كما سيبـيـن البحث -أنه ال يمكن تفسيـرالقرآن على ُ نســق يضــاد منطــق فهمهــم ،ويخالــف عرفهــم فــي التخاطـ ِـب. ول ـكـي يب ــرهن البحــث علــى َّ أن االنضــواء تحــت قواعــد األصــول
علــى اختــاف العلمــاء فــي جزئياتهــا -ال يحصــرالباحــث فــي خانــةً ت ــرجع باملجتمــع أكث ــر مــن ألــف عــام إلــى الــوراء؛ ِاختــار مبحثــا ًّ خاصــا مــن مباحــث الفقــه يكث ــر الجــدل حولــه هــذه األيــام، َ َّ وحكـ َـم فيــه املنهـ َـج األصولـ َّـي دون لـ ّ ٍـي لقواعــده ،وظهــرت نت ــيجة ٌ هــذا التحكيــم رؤيــة خالفــت فــي جوانــب مهمــة منهــا مــا اســتنبطه املتقدمــون وفــق املنهــج نفســه ،ليقــول َّ إن أصــول الفقــه ال َ ُ سب ــيل لتجــاوزهَّ ، وإن ثبــات أ ِ ّسـ ِـه غي ــرمانـ ٍـع مــن تجديــد االجتهــاد وتقديــم رؤى تتفــق ومقاصــد الشــريعة فــي رعايــة مصالــح البشــر ومناســبة الشــرع لــكل زمــان ومــكان. ً َ ـتمل علــى جانبـي ــن :نظــر ّ ٍي وتطب ـ ّ ن ـيقي ،فقــد ـ ش م ـوع ـ ض املو ـو ـ ولك ٍ ِ قســمته إلــى مبحثي ــن ،تحدثــت فــي املبحــث األول منهمــا عــن الجانــب َّ ـية: النظري ،وخصصت الثانـي للجانب التطبـيقي وفق الخط ِة اآلت ِ
خطَّة البحث: يتألف البحث من مقدمة ومبحثيـن وخاتمة: ّ )1 مقدمة حول مشكلة البحث وخطته. ِ )2املبحث َّ َّ َّ األصولية على الفهم البشري حاكمية القواعد األو ُل: َّ للنصوص ومطلبان: الشرعية .وفيه تمهيد ِ أ -التمهيد :في ضرورة فهم كالم أي لغة وفق قواعد الداللة فيها. ب -املطلــب َّ األو ُل :الدليــل القرآن ــي علــى وجــوب تحكيــم قواعــد الداللــة للغــة العرب ــية. ج -املطلب الثانـي :املنهج األثـري واملنهج املقاصدي في فهم النص الشرعي. )3املبحــث الثان ــي :إعمــال املنهــج األصولــي فــي فهــم آيــة الجزيــة، 65
من َّ ُ رات العربـ َّية الث ْو ِ الفراغ ِ لمي في َز ِ الع ُّ
خامتة البحــث ونتائجه وتوصياته
هــذا ومــا كان ّ لثوا ِرنــا الجامعيي ــن بــل مــا ي ــنبغي لهــم أن تخمــد َ جــذوة نشــاطهم وهدي ــر أصواتهــم ،أو أن ي ــرفع بعضهــم عقي ــرته ْ بفــوات األوان وال َع ْجـ ِـز عــن تقديــم ب ـرامج لتعليــم الجيــل املغــدور؛ ُ َ َ ويوهـ َـن عزيمتــه وعــزم اآلخري ــن ،فليكــن التعليـ ُـم والتـرب ــية في ِهــن ِ َ والت َج ُّنـ ُ ـس بجنسـ َّـيات أخــرى مــن أجــل االشت ـراك واالخت ـراق ّ ّ َّ والدوليــة خط َت َنــا البديلــة لهزيمـ ِـة املحليــة ِ للمؤسســات واملحافــل ِ َّ وإدانة أنصاره الد ْوليي ــن وإدر ِاجهم في ســجالت التاريخ ـتبداد االسـ ِ ِ ُ الســوداء ،ولنصـ ِـرة شــعوب أخــرى تتــوق للحريــة فــي قابــل األيــام، َ ـف بــاء الحريــة والوسـ َ ـائل العلميــة ولتعليــم األمــم املســحوقة ألـ َّ َّ العبودية ات السلمية لالنعتاق من االستبداد ،ولتعريفهم أبجدي ِ ـرب امللــوك واملماليــك َّ لـ ّ وأنهــا ال تكــون ألحـ ٍـد ســواه. ِ َ َ َّ ُ ويــا لــه مــن تشــريف! ومــا أجلــه مــن تكليــف! أن يقت�ضــي منــك إيمانــك بالحريــة واالنعتــاق مــن العبوديــة لغي ــر هللا :أنــك كلمــا َ َ فتنصــب لتعليــم الجيــل ـرنامجك اليومـ ّ ِـي تهـ ُّـب فرغــت مــن ب ـ ِ َّ َ ْ َ َّ ـتقبل املغــدور وفــق خطـ ٍـة منظمــة ،وتنتصــب بــكل إبــاء لب ــناء مسـ ٍ تحكمــه مبــادئ حكيمــة للنهــوض والعطــاء. ولــك أن تســتهدي بمنــارات وقيــم ســامقة فــي سب ــيل نهضــة أمتنــا، ولنقبــس مــن جــذوة منشــورات الدكتــور عبــد الكريــم بــكار علــى صفحتــه ً قبســا لعـ َّـل فيــه إلــى هــذا السب ــيل هـ ً ـدى: * حي ــن يشــعر إنســان بأنــه حــر يكــون قــد َّ حقــق نصــف وجــوده، ويحقــق النصــف الثان ــي حي ــن ُينجــز مــا يجــب عليــه إنجــازه، ومعظــم اإلنجــازات الكب ــرى مدي ــنة ألمري ــن مهمي ــن :االهتمــام والتنظيــم ،فاالهتمــام يحملنــا علــى اتخــاذ موقــف ،والتنظيــم ي ــرفع درجــة الكفــاءة فــي توظيــف املــوارد املتاحــة ،وال يعب ــر عــن نوعية شخصيتك وال يوضح مقدار عظمتك �شيء كاهتماماتك وأولوياتــك ،فالعديــد مــن األشــخاص يملكــون كل مقومــات العظمــة لكنهــم لــم يصبحــوا عظمــاء ألن اهتماماتهــم تافهــة ،وفــي هــذا خســارة كبـي ــرة لهــم ولنــا.
المنهج األصولي في تفسيـر النصوص
العدد 2رجب 1439هـ
الجاهلة يسهل سوقها وتصعب قيادتها؛ فالعلم يؤسس للتفاهم. *الوقــت يضيــع ســدى إذا لــم نضغــط عليــه بآمــال مســتقبلية ،فالطب ــيعة تكــره الف ـراغ ،وإذا لــم يمتلــئ القلــب باألفــكار العظيمــة امتــأ بالهمــوم والتطلعــات الصغي ــرة ،وإذا لــم يمتلــئ العقــل باألفــكار النـي ــرة عششــت فيــه األوهــام ،ولذلــك فإنــه ال خيــار أمامنــا ســوى ســلوك طريــق النبــاء والنابهي ــن.
أهـ ُّـم نتائــج البحــث:
َّ ُ مركزيــة العلــم والتعليــم فــي التغيي ــر والب ــناء. )1 )2ت ـ ُ ـرشيد الوعــي املجتمعــي بالفــرق بـي ــن دولتـي ــن :دولـ ٍـة ُ مرغــوب فيهــا وأخــرى مرغــوب عنهــا ،والكشــف عــن جوهرهذا الفــرق فــي ضــوء املــدى الحقيقــي لــه مــن خــال هــذه الثالثيـ ِـة: ـيس نهضتهــا عليــه أ) عنايـ ِـة األمــة بالعلــم والتعليــم ،ب) وتأسـ ِ ـخائها فــي اإلنفــاق علــى طالبــه ومؤسســاته. ج) وسـ ِ )3حصــر العوامــل املكتســبة والقهريــة املؤث ــرة فــي مشــكالت التعليــم بـي ــن عهدي ــن. ـات )4اقت ــراح بدائــل متاحــة لحــاالت كانــت أو افت ــرضت عقبـ ٍ الحقبــة. فــي طريــق التعليــم فــي هــذه ِ ُ َّ وفــي ل َّجــة أفــكار هــذا البحــث وقضايــاه املكثفــة الجدي ــرة ـاث َّ معمقــة يتســلل شــعاع األمــل املعقــود علــى بدراســات وأبحـ ٍ َ ْ َ َ هــذا الجيــل ليعــود فيبنِــي مــن جديــد جيــل الغــد املنشــود ،ومــا يدري ــنا أن يعود العقل اإلسالمي الولود إلى إبداع املدن ــية من ِ جديــد؟ َّ إن فت ــرات االزدهــارواالنحــدارمـ َّـرت علــى جميــع األمــم كمــا ي ــرى رْينــان( ،)31وهــذا ليــس بمسـ َ ـناء َّأمـ ٍـة قيــل ـتغرب مــن أب ـ ِ ِ ّ عــن أســافها( :كل مستشــفى وكل مركــز علمــي فــي أيامنــا هــذه إنمــا هــوفــي حقيقــة األمــر ُن ُ صـ ٌـب تــذكاري للعبقرية العرب ــية)(.)32
* الشــعوب املتعلمة تســهل قيادتها ويصعب ســوقها ،والشــعوب ( )31أنور الجندي :مقدمات العلوم واملناهج ،مرجع سابق.173/8 ، ( )32زيغريد هونكه :شمس العرب تسطع على الغرب ،دار اآلفاق الجديدة ،ط ،3بـيـروت1985 ،م ،ص.354
64
العدد 2رجب 1439هـ
ُّ األصولي المنهج ُ الجزية يف تفسيـر النصوص وتطبـيق ُه ىلع ِ آية ِ الدكتور أحمد السعدي
بأكاديمية باشاك شهيـر -إسطنبول. أستاذ مشارك يف قسم الفقه وأصوله ،عميد كلية الشريعة َّ
ُمق ِّدم ٌة
ُ ّ ُ ّ ـان الحمــد ِ هلل ر ِب العاملي ــن ،والصــاة والســام األتمـ ِـان األكمـ ِ علــى ســيدنا محمــد ســيد األولي ــن واآلخري ــن ،وعلــى آلــه وصحبـ ِـه أجمعي ــن ،وبعـ ُـد: ـدد مــن الباحثي ــن علــى القــولَّ : دأب عـ ٌ فقــد َ إن الفقهــاء ِ املعاصري ــن اســتطاعوا أن يجــددوا فــي الفقــه اإلسـ ّ ـامي لكنهــم جمــدوا أمــام أصولــه ،ودعــوا إلــى شــمو ِل حركــة التجديـ ِـد ملباحــث َّ ليتحر َر الفقه من ربقة قيود األصول الذي ما زال أصول الفقه يعيــد ويكــرر مســائل الشــافعي الثابتــة منــذ أكث ــرمــن ألــف ومئت ــي َ ســنة ،وقــد حــاول هــذا البحــث ب ــيان حقيقـ ٍـة مفادهــا َّأن ثبــات األصوليي ــن ليس ً ّ نابعا مسائل الشافعي ومن سارعلى نهجه من ّّ َّ ٌ ْ متو ِلــد مــن ِمــن تقديـ ٍ ـس لقـ ْـول شــخص أو منهــج َّأفــراد ،إنمــا هــو ِ بثباتها. طبـيعة هذا العل ِم الذي قام على ُمسل ٍ مات يحكم العقل ِ وقــد جهــد الباحــث فــي إيضــاح حقيقــة مفادهــا أن االحتفــاظ بالجانــب الثابــت مــن أصــول الفقــه ال يمنــع التجديــد فــي فــروع الفقــه ومســائله املبـن ــية علــى هــذا الجانــب ،ذلــك ألن ثبــات هــذا الجانب اليعنـي عدم االختالف في تطبـيقه ،واالختالف في تطبـيقه َّ َ هوما َج َع َل بعض املعاصريـن يـنكرون قطعيت ُه؛ لعدم مالحظتهم أن االختالف في التطبـيق اليعنـي ظن َّـية القاعدة ،فحيـن نقو ُل َّ إن فهــم العــرب لكالمهــم إبــان نــزول القـرآن هــوالــذي يجــب تفسي ــر القرآن على أساسه ال نعنـي َّ ً جميعا، أن فهمهم واحد ثابت بـيـنهم ُ َّ بل يعنـي -كما سيبـيـن البحث -أنه ال يمكن تفسيـرالقرآن على ُ نســق يضــاد منطــق فهمهــم ،ويخالــف عرفهــم فــي التخاطـ ِـب. ول ـكـي يب ــرهن البحــث علــى َّ أن االنضــواء تحــت قواعــد األصــول
علــى اختــاف العلمــاء فــي جزئياتهــا -ال يحصــرالباحــث فــي خانــةً ت ــرجع باملجتمــع أكث ــر مــن ألــف عــام إلــى الــوراء؛ ِاختــار مبحثــا ًّ خاصــا مــن مباحــث الفقــه يكث ــر الجــدل حولــه هــذه األيــام، َ َّ وحكـ َـم فيــه املنهـ َـج األصولـ َّـي دون لـ ّ ٍـي لقواعــده ،وظهــرت نت ــيجة ٌ هــذا التحكيــم رؤيــة خالفــت فــي جوانــب مهمــة منهــا مــا اســتنبطه املتقدمــون وفــق املنهــج نفســه ،ليقــول َّ إن أصــول الفقــه ال َ ُ سب ــيل لتجــاوزهَّ ، وإن ثبــات أ ِ ّسـ ِـه غي ــرمانـ ٍـع مــن تجديــد االجتهــاد وتقديــم رؤى تتفــق ومقاصــد الشــريعة فــي رعايــة مصالــح البشــر ومناســبة الشــرع لــكل زمــان ومــكان. ً َ ـتمل علــى جانبـي ــن :نظــر ّ ٍي وتطب ـ ّ ن ـيقي ،فقــد ـ ش م ـوع ـ ض املو ـو ـ ولك ٍ ِ قســمته إلــى مبحثي ــن ،تحدثــت فــي املبحــث األول منهمــا عــن الجانــب َّ ـية: النظري ،وخصصت الثانـي للجانب التطبـيقي وفق الخط ِة اآلت ِ
خطَّة البحث: يتألف البحث من مقدمة ومبحثيـن وخاتمة: ّ )1 مقدمة حول مشكلة البحث وخطته. ِ )2املبحث َّ َّ َّ األصولية على الفهم البشري حاكمية القواعد األو ُل: َّ للنصوص ومطلبان: الشرعية .وفيه تمهيد ِ أ -التمهيد :في ضرورة فهم كالم أي لغة وفق قواعد الداللة فيها. ب -املطلــب َّ األو ُل :الدليــل القرآن ــي علــى وجــوب تحكيــم قواعــد الداللــة للغــة العرب ــية. ج -املطلب الثانـي :املنهج األثـري واملنهج املقاصدي في فهم النص الشرعي. )3املبحــث الثان ــي :إعمــال املنهــج األصولــي فــي فهــم آيــة الجزيــة، 65
المنهج األصولي في تفسيـر النصوص وفيــه تمهيــد ومطلبـ ِـان. أ -التمهيــد :فــي ضــرورة تحكيــم النـ ّ ـص فــي حكمنــا علــى مختلــف ِ ّ وخاصهــا. شــؤون الحيــاة عامهــا ِ ب -املطلـ ُـب َّ األو ُل :اختــاف العلمــاء املتقدمي ــن فــي تفسي ــر آيــة الجزيــة. ّ الشرعي ِة. ج -املطلب الثانـي :موضوع الجزية جانب من جوانب السياسة ّ السوري. )4خاتمة في تطبـيق نتائج البحث على الواقع ِ وأرجــو هللا عـ َّـز وجـ َّـل أن يكــون هــذا البحــث إضافــة جديــدة تخــدم الثوابــت مــن جانــب ،وتنفتــح علــى العصــر فــي ضوئهــا مــن جانــب ّ املوفـ ُـق وهــو يهــدي السب ـ َ ـيل. آخــر ،وهللا ِ
املبحث األ َّو ُل
َّ َّ األصولي ّة على الفهم القواعد ة حاكمي ّي ُّ للنصوص الش َّ رعية ِ البشر ِ تمهيد: ً َّ ال أظــن أن عاقــا مهمــا اشــتط بــه الهــوى الفلســفي أو اســتهوته ّ ً َّ ُ منهجية ُي َف ِ ّسـ ُـر لفظا عرب ـ ًّـيا باالســتفادة من اشــتقاق التـيـن ـ ّ ٍـي دون الل ً أن يفت ــرض عالقة ما بـي ــن الجذر العرب ــي والجذر الالتـيـن ــي في مرحلة ســابقة علــى اســتعمال اللفــظ. ً َّإن َّ أي عاقــل ال يســتطيع أن يفســر كلمــة ( )whenاإلنجليزيــة مثــا بلفظها في لغتنا ّ الدارجة ( ِوي ـ ْـن ) الت ــي تســتعملها للســؤال عن املكان دون الزمــان ،وهــذا يعن ــي َّأن هنــاك إجماعــا علــى َّأن اللفــظ َّ يفســر وفــق اللغــة الت ــي جــاء فــي ســياقهاِ ،م َّمــا يفــرض االســتفادة مــن األنظمــة
أو املســتويات اللغويــة عنــد التفسي ــر مــن حيــث الجملــة ،علــى خــاف فــي الكـ ِ ّـم والكيــف والتفصيــل. ً بدايــة يفــرض علي ــنا عقلنــا البشــري -ونحــن تحــت وطــأة حكمــه مهمــا ً مكتوبــا أو مسـ ً ً ـموعا. حاولنــا رفضــه َ -ج ْب َّريــة فــي تفسي ــر النــص
نحــن أمــام حقيقــة ال يمكــن تجاهلهــا عنــد إرادة ب ــيان املعنــى الكامــن فــي اللفــظ أو الكلمــة ولــو غابــت القري ــنة ،أال وهــي اعتمــاد اللغــة وســيلة َّ ْ ّ أي نــص كان -فهــذا يجعلنــا للفهــم ،وإذا ســلمنا هــذا فــي تفسي ــر النــص ِ - بمنأى عن تأكيد ذلك أو االستدالل له في حالة تفسيـرنا للنص القرآنـي.
المنهج األصولي في تفسيـر النصوص
العدد 2رجب 1439هـ
املطلب َّ األو ُل:
الدليل القرآنـي على وجوب تحكيم قواعد الداللة للغة العربـية. ورغــم مــا تقـ َّـد َم مــن عــدم الحاجــة لالســتدالل علــى هــذه املســألة َّ َ القطعيــة بطب ــيعتهاَّ ، َّ النظـ ِـر إلــى تك ـرار الق ـرآن فإنن ــي أرى وجــوب لفـ ِـت التأكيـ َـد علــى عرب ـ َّـي ِت ِه ،فاآليــات املفيــدة لوجــوب االعتمــاد علــى العرب ــية وســيلة لفهــم القـرآن غي ـ ُـر قليلــة ،بــل قــد يحــار اإلنســان فــي كث ــرتها ،وربمــا تزيل الحيـرة عندما نعلم أن هذه اآليات -وهي أكثـر من عشر آيات -نزلت الع ْمـ َـد َة علــى صــدق ّ بمكــة حيــث كان التحـ ّـدي بالق ـرآن الدليـ َـل ُ النبــوة... ولكن هل جميع اآليات املفيدة لعربـية القرآن ًّ نصا -على املعنى األصولي ّ مك َّيــة؟ الجــواب :نعــم ،إذا لــم نعتب ــر آيــة الرعــد ّ نصــا فــي ذلــك. للنــص -هــي ِ ولكــن هــذا املقصــد ،أعن ــي حجيــة القـرآن علــى صــدق الرســالة يجعــل تأكيــد القـرآن علــى عرب ــيته غي ــر متوجــه إلــى طريقــة التفسي ــر ابتــداء، وهــذا صحيــح ً أيضــا لــوال آيــة الرعــد. حكمــا اسـ ً إننــا ًإذا أمــام آيــة تشـ ِّـكل ً ـتثنائيا ال نســتطيع التعميــم معــه، ِم َّما يدفعنا للتأمل في هذه اآلية الستنباط معالم هذا االستثناء وأسبابه. َ ُ َ يقــول ســبحانهَ : ((و َّال ِذي ـ َـن َآت ْي َن ُاهـ ُـم ْالك َتـ َ ـاب َي ْف َر ُحــون ِب َمــا أنـ ِـز َل ِإل ْيـ َـك ِ َ َ َ ْ َ َ ُ ُ َ ْ َ ُ ُ ْ َّ َ ُ ْ ُ َ ْ َ ْ ُ َ َ ُ ْ هللا َوال أش ِر َك نكر بعضه قل إنما أ ِمرت أن أعبد اب من ي ِ و ِمن َ األحَز ِ َ ِ َ َ َ َ َ ْ َ ُ ُ ْ ً َ َ ًّ َ َ َ ـآب ( )36وكذ ِلــك أنزلنــاه حكمــا ع ِربيــا ول ِئـ ِـن ِبـ ِـه ِإل ْيـ ِـه أ ْد ُعــو َوِإل ْيـ ِـه َمـ ِ َ َّ َ ْ َ َ ْ َ ُ َ ْ َ َ َ َ َ ْ ْ َ َ َ َ هللا ِمــن َوِل ـ ّ ٍـي َوال اتبعــت أهواءهــم بعــد مــا جـ َـاءك ِمــن ال ِعلـ ِـم مــا لــك ِمــن ِ َو ٍاق)) [الرعــد :اآليــة 36و ،]37نالحــظ فــي اآليــة األمــر بالتـزام العلــم ْ ْ مقابــل الهــوى (( َو َلئــن َّات َب ْعـ َـت َأ ْه َو ُ اءهــم َب ْعـ َـد َمــا َجـ َـاء َك ِمـ َـن ال ِعلـ ِـم)) ِِ ولكــن مــا املقصــود بالعلــم هنــا ومــا الهــوى املقابــل؟ يفســر ذلــك سـ ٌ ـؤال يحضــر فــي الذهــن عنــد ق ـراءة اآليــة موازنــة باآليات املكية ،ولنأخذ على سبـيل املثال اآليات املكية البادئة بكلمة َ َ (كذلــك) اللفــظ الــذي تبــدأ بــه هــذه اآليــة ،يقــول ســبحانهَ (( :وكذ ِلـ َـك َ َ ْ َ َّ َ َ ْ َ ُ ُ ْ ً َ َ ًّ َ َ ْ ُ ص َّرف َنــا ِفيـ ِـه ِمـ َـن ال َو ِعيـ ِـد ل َعل ُهـ ْـم َي َّت ُقــون أ ْو ُي ْحـ ِـدث أنزلنــاه قرآنــا ع ِربيــا و َل ُه ْم ذ ْك ًرا)) [طه :اآلية .]113ويقول ســبحانهَ (( :و َك َذل َك َأ ْو َح ْي َنا إ َل ْيكَ ِ ِ ِ ُ ْ ً َ َ ًّ ّ ُ َ ُ َّ ْ ُ َ َ َ ْ َ ْ َ َ َ ُ َ َ ْ َ ْ َ ْ َ ْ َ قرآنــا ع ِربيــا ِلتنـ ِـذر أم القــرى ومــن حولهــا وتنـ ِـذر يــوم الجمـ ِـع ال ريــب ِفيـ ِـه َفريـ ٌـق فــي ْال َج َّنـ ِـة َو َفريـ ٌـق فــي َّ الس ِعي ـ ِـر)) [الشــورى :آيــة ]7واآليتــان بهــذا ِ ِ ِ ِ ً نزول وجمعاً. التـرت ــيب دائمــا مــع وصــف القـرآن ًّ والســؤالِ :لـ َـم جــاء لفــظ العرب ــية ً نصــا -كمــا قدمنــا -أمــا هنــا فجــاء مــع لفــظ ُ الحكــم؟ وملــاذا كانــت العرب ــية فــي الســور املكيــة تــازم الق ـرآن أمــا هنــا فتحولــت إلــى الحكــم؟ 66
َّإن م َّمــا ال يجهلــه َّ مثقــف مســلم َّأن اآليــات املدن ــية إنمــا تتحــدث فــي ِ ُ ْ مجملها عن األحكام بخالف اآليات املكية التـي تعنى بتثبـيت العقيدة وب ــيان صــدق الرســالة ،هــذا يعن ــي َّأن العلــم هنــا :اعتبــار اللفــظ كمــا توحــي بــه داللتــه اللغويــة فــي مجــال اســتنباط األحــكام الشــرعية. َ فــإذا تجــاوزت الحديــث عــن الحكــم الشــرعي حيــث اللغــة هنــا لغــة ـذوق اللغــة األدب ـ َّـية َّ العلــم فــي ســياق أدب ــي ،لــك أن تتـ َّ حتــى فــي آيــات األحــكام علــى النحــو الــذي تقدمــه لــك جماليــات اللفــظ والســياق واملوســيقى واإليحــاءات والصــور الفن ــية ومــا إلــى ذلــك ،فاســتنباط ّ العلميــة كالفيزيــاء ،اللفــظ هنــا ال يــدل علــى الحكــم خاضــع للقواعــد �شــيء خــارج الداللــة اللغويــة الضيقــة ،كمــا أن القــوة فــي الفيزيــاء ال ً يمكــن أن تعن ــي قــوة الب ــيان األدب ــي مثــا ،فالتــذوق الجمالــي �شــيء َّ واســتنباط الحكــم الشــرعي �شــيء آخــر ،واإلعجــاز القرآن ــي يتمثــل فــي الجمع بـي ــن لغة العلم الصارمة وبـي ــن لغة األدب البـيان ــية الجمالية.
املطلبالثانـي:
املنهج األثـري واملنهج املقاصدي في فهم النص الشرعي. ْ بعـ َـد هــذا الب ــيان ّ َّ الخاصـ ِـة بالقـرآن فــي جمعــه بـي ــن لغــة العلــم للســمة ِ ولغــة األدب ،ممــا ُي ّ فســر ً جانبــا مــن أســباب عجــز العــرب عــن ِ ـوم مـ ْـن كــون ُ ـال أوجــه ،فــإنَّ حمـ َ الق ـرآن ّ ٌ مجاراتـ ِـه ،مــع مــا هــو معلـ ِ ِ ً ُ باحث في تفسي ــر القرآن أو ب ــيان أحكامه ،إذ ليس سؤال ي ـراود ك َّل ِ
مــن املعقــول أن يــدل الق ـرآن علــى ال�شــيء وضــده ،فيقــول لل�شــيء ً مــرة هــو حــال ومـ َّـرة هــو ح ـرام ،تعالــى هللا عــن ذلــك علـ ًّـوا كبـي ـ ًـرا. ً أقــو ُلَّ :إن هنــاك ســؤال ي ـراود الباحــث ُمفـ ُـاد ُه :مــا الضوابــط الت ــي تعصــم النــص القرآن ــي مــن التعســف فــي التفسي ــر أو التأويــل عنــد انفتــاح النــص أمــام آليــات القـراءة اللغويــة؟ ومــا املنهــج املتبــع داخــل النــص وخــارج النــص ،أعن ــي عالقــة النــص ب ــنصوص أخــرى؟ هــذا مــا يقدمــه لنــا علــم أصــول الفقــه بـنسخت ــيه األث ـ َّرية واملقصديــة. َّأما النسخة األثـ َّرية ُفيجمل الشافعي خالصة رؤيتها بجملته الشهيـرة: (ليــس ألحــد دون رســول هللا أن يقــول إال باالســتدالل)( ،)1وهــذا يعن ــي َّ َّأن لرســول هللا صلــى هللا عليــه وســلم -وكالمــه عرب ــي تحكمــه طــرق الداللــة العرب ـ َّـية -أن ُ يحـ َّـد مــن آفـ ِـاق داللــة اللفــظ العرب ــي بمــا أعطــي مــن ســلطة التفسي ــر ،وبذلــك يجعــل الشــافعي فصـ َـل املقـ ِـال فيمــا
العدد 2رجب 1439هـ
ً يخــرج عــن كونــه ًّ نصــا مــن كالم هللا مت ــروكا لب ــيان رســوله صلــى هللا عليــه وســلم ،وإال فالقيــاس. وقد يقول قائلَّ :إن َّ السنة أغنت إذن عن االجتهاد بحصرها للداللة اللغوية ،بل بمحاصرتها ّ واحد ال يحتمل لنص القرآن املطلق بوجه ٍ ِ َّ ُّ غيـره ،والحقيقة َّأن هذا مجانب للصواب ،وأظن أن ذلك سيتضح َّ ً الحقا غيـر أننـي أسارع للقولَّ :إن رسول هللا صلى هللا عليه وسلم لم َُ ّ نحو تفصيلي(.)2 يف ِسر القرآن على ٍ ّ َّ فيؤكد رائدها قطعية علم َّأما النسخة الثانـية -إن صح التعبـيـرِ - أصــول الفقــه ،حيــث يقــول( :إن أصــول الفقــه فــي الدي ــن قطعيــة ال ظن ــية ،والدليــل علــى ذلــك أنهــا راجعــة إلــى كليــات الشــريعة، ومــا كان كذلــك فهــو قطــع ،ب ــيان األول ظاهــر باالســتقراء املفيــد للقطــع ،وب ــيان الثان ــي مــن أوجــه أحدهــا أنهــا ت ــرجع َّإمــا إلــى أصــول عقليــة وهــي قطعيــة ،وإمــا مــن االســتقراء الكلــي مــن أدلــة الشــريعة وذلــك قطعــي ً أيضــا ،وال ثالــث لهذي ــن إال املجمــوع منهمــا ،واملؤلــف مــن القطعيــات قطعـ ٌّـي ،وذلــك أصــول الفقــه)(.)3 وهــذا املوقــف مــن الشاطب ـ ّـي رحمــه ُ هللا ليــس َح ْجـ ًـرا و ًّ صائيــا ،بــل ِ ِ َّ ُ ٌ القطعيــة آت ــية مــن طب ــيعة هــذا العلــم الــذي يســتمد ســلطته مــن ً النـ ّ ـص نفســه ...العدالــة مثــا واجــب قطعــي علــى كل حاكــم فــي ِ ي مي ـزان العقــل البشــر ،الحديــث هنــا عــن العدالــة مــن حيــث هــي قيمــة أخالقيــة عامــة مطلقــة ،يمكــن أن ي ــرفضها عاقــل داخــل الحــرب ،والصــدق قيمــة أخالقيــة ُت ْر َفـ ُ ـض ،أو يمكــن رفضهــا، َّ أخالقيــة أعلــى. عندمــا تتعــارض مــع قيمــة وكذلــك القــول بقطعيــة أصــول الفقــه مــن حيــث الجملــة بعيـ ًـدا عــن التطب ــيقات الجزئيــة ،ولذلــك نــرى الشاطب ـ َّـي رحمــه هللا يعــود للقــول( :فمــا جــرى فيهــا ممــا ليــس بقطعــي فمبـن ــي علــى القطعــي ً تفريعــا عليــه بالتبــع ال بالقصــد األول)(.)4 ّ يؤكــد علمــاء األصــول ضمــن املدرستـي ــن أو الرؤيتـي ــن َّأن َّ النـ َّ ـص هــو ِ ّ ُ املؤســس لشــرعية مختلــف املصــادر التش ـريعية ،حتــى تلــك الت ــي ِ تملــك ســلطة بـيان ــية أو تفسي ـرية ،والعالقــات املتبادلــة بـي ــن النــصّ ِ ّ املؤسس ومجموعة الضوابط املنبثقة عن تحكيم املقاصد بصفتها ِ ّ َّ ســلطة تفسي ـرية مؤسســة؛ تشـ ِـكل املنظومــة الثان ــية الت ــي اســتمدها
( )1الرسالة للشافعي( ،ص.)25 : َْ ُ َّ ( )2ومــا ُنسـ َـب إلــى اب ــن ت ــيمية رحمــه هللا مــن أنــه ي ــرى َّأن رســول هللا صلــى هللا عليــه وسـ َّـلم َّ فســر الق ـرآن كلــه فيــه نظــر ،ذلــك أنــه رحمــه هللا قــال فــي مطلـ ِـع مقدمتــه املشــهورة فــي أصــول التفسي ــر [ي ــنظر :مجمــوع الفتــاوى ِ َ ً َ ( :]331/13يجــب أن ُيعلــم أن النب ــي ب ـ ّـين ألصحابــه معان ــي الق ـرآن كمــا بـي ــن لهــم ألفاظــه) ف ُح ِمــل قولــه هــذا علــى َّأنـ ُـه ي ــرى تفسي ــر رســول هللا لــكل الق ـرآن ،وليــس قولــه دال علــى ذلــك ...علــى َّأن هــذا الفهــم لعبارتــه إن كان ً صحيحــا فهــو يخالــف مــا ذهــب إليــه الجمهــور. ( )3املوافقات ،مقدمات ،القسم األول( ،ص )4( - .)33/1 :املرجع السابق ،املوضع نفسه.
67
المنهج األصولي في تفسيـر النصوص وفيــه تمهيــد ومطلبـ ِـان. أ -التمهيــد :فــي ضــرورة تحكيــم النـ ّ ـص فــي حكمنــا علــى مختلــف ِ ّ وخاصهــا. شــؤون الحيــاة عامهــا ِ ب -املطلـ ُـب َّ األو ُل :اختــاف العلمــاء املتقدمي ــن فــي تفسي ــر آيــة الجزيــة. ّ الشرعي ِة. ج -املطلب الثانـي :موضوع الجزية جانب من جوانب السياسة ّ السوري. )4خاتمة في تطبـيق نتائج البحث على الواقع ِ وأرجــو هللا عـ َّـز وجـ َّـل أن يكــون هــذا البحــث إضافــة جديــدة تخــدم الثوابــت مــن جانــب ،وتنفتــح علــى العصــر فــي ضوئهــا مــن جانــب ّ املوفـ ُـق وهــو يهــدي السب ـ َ ـيل. آخــر ،وهللا ِ
املبحث األ َّو ُل
َّ َّ األصولي ّة على الفهم القواعد ة حاكمي ّي ُّ للنصوص الش َّ رعية ِ البشر ِ تمهيد: ً َّ ال أظــن أن عاقــا مهمــا اشــتط بــه الهــوى الفلســفي أو اســتهوته ّ ً َّ ُ منهجية ُي َف ِ ّسـ ُـر لفظا عرب ـ ًّـيا باالســتفادة من اشــتقاق التـيـن ـ ّ ٍـي دون الل ً أن يفت ــرض عالقة ما بـي ــن الجذر العرب ــي والجذر الالتـيـن ــي في مرحلة ســابقة علــى اســتعمال اللفــظ. ً َّإن َّ أي عاقــل ال يســتطيع أن يفســر كلمــة ( )whenاإلنجليزيــة مثــا بلفظها في لغتنا ّ الدارجة ( ِوي ـ ْـن ) الت ــي تســتعملها للســؤال عن املكان دون الزمــان ،وهــذا يعن ــي َّأن هنــاك إجماعــا علــى َّأن اللفــظ َّ يفســر وفــق اللغــة الت ــي جــاء فــي ســياقهاِ ،م َّمــا يفــرض االســتفادة مــن األنظمــة
أو املســتويات اللغويــة عنــد التفسي ــر مــن حيــث الجملــة ،علــى خــاف فــي الكـ ِ ّـم والكيــف والتفصيــل. ً بدايــة يفــرض علي ــنا عقلنــا البشــري -ونحــن تحــت وطــأة حكمــه مهمــا ً مكتوبــا أو مسـ ً ً ـموعا. حاولنــا رفضــه َ -ج ْب َّريــة فــي تفسي ــر النــص
نحــن أمــام حقيقــة ال يمكــن تجاهلهــا عنــد إرادة ب ــيان املعنــى الكامــن فــي اللفــظ أو الكلمــة ولــو غابــت القري ــنة ،أال وهــي اعتمــاد اللغــة وســيلة َّ ْ ّ أي نــص كان -فهــذا يجعلنــا للفهــم ،وإذا ســلمنا هــذا فــي تفسي ــر النــص ِ - بمنأى عن تأكيد ذلك أو االستدالل له في حالة تفسيـرنا للنص القرآنـي.
المنهج األصولي في تفسيـر النصوص
العدد 2رجب 1439هـ
املطلب َّ األو ُل:
الدليل القرآنـي على وجوب تحكيم قواعد الداللة للغة العربـية. ورغــم مــا تقـ َّـد َم مــن عــدم الحاجــة لالســتدالل علــى هــذه املســألة َّ َ القطعيــة بطب ــيعتهاَّ ، َّ النظـ ِـر إلــى تك ـرار الق ـرآن فإنن ــي أرى وجــوب لفـ ِـت التأكيـ َـد علــى عرب ـ َّـي ِت ِه ،فاآليــات املفيــدة لوجــوب االعتمــاد علــى العرب ــية وســيلة لفهــم القـرآن غي ـ ُـر قليلــة ،بــل قــد يحــار اإلنســان فــي كث ــرتها ،وربمــا تزيل الحيـرة عندما نعلم أن هذه اآليات -وهي أكثـر من عشر آيات -نزلت الع ْمـ َـد َة علــى صــدق ّ بمكــة حيــث كان التحـ ّـدي بالق ـرآن الدليـ َـل ُ النبــوة... ولكن هل جميع اآليات املفيدة لعربـية القرآن ًّ نصا -على املعنى األصولي ّ مك َّيــة؟ الجــواب :نعــم ،إذا لــم نعتب ــر آيــة الرعــد ّ نصــا فــي ذلــك. للنــص -هــي ِ ولكــن هــذا املقصــد ،أعن ــي حجيــة القـرآن علــى صــدق الرســالة يجعــل تأكيــد القـرآن علــى عرب ــيته غي ــر متوجــه إلــى طريقــة التفسي ــر ابتــداء، وهــذا صحيــح ً أيضــا لــوال آيــة الرعــد. حكمــا اسـ ً إننــا ًإذا أمــام آيــة تشـ ِّـكل ً ـتثنائيا ال نســتطيع التعميــم معــه، ِم َّما يدفعنا للتأمل في هذه اآلية الستنباط معالم هذا االستثناء وأسبابه. َ ُ َ يقــول ســبحانهَ : ((و َّال ِذي ـ َـن َآت ْي َن ُاهـ ُـم ْالك َتـ َ ـاب َي ْف َر ُحــون ِب َمــا أنـ ِـز َل ِإل ْيـ َـك ِ َ َ َ ْ َ َ ُ ُ َ ْ َ ُ ُ ْ َّ َ ُ ْ ُ َ ْ َ ْ ُ َ َ ُ ْ هللا َوال أش ِر َك نكر بعضه قل إنما أ ِمرت أن أعبد اب من ي ِ و ِمن َ األحَز ِ َ ِ َ َ َ َ َ ْ َ ُ ُ ْ ً َ َ ًّ َ َ َ ـآب ( )36وكذ ِلــك أنزلنــاه حكمــا ع ِربيــا ول ِئـ ِـن ِبـ ِـه ِإل ْيـ ِـه أ ْد ُعــو َوِإل ْيـ ِـه َمـ ِ َ َّ َ ْ َ َ ْ َ ُ َ ْ َ َ َ َ َ ْ ْ َ َ َ َ هللا ِمــن َوِل ـ ّ ٍـي َوال اتبعــت أهواءهــم بعــد مــا جـ َـاءك ِمــن ال ِعلـ ِـم مــا لــك ِمــن ِ َو ٍاق)) [الرعــد :اآليــة 36و ،]37نالحــظ فــي اآليــة األمــر بالتـزام العلــم ْ ْ مقابــل الهــوى (( َو َلئــن َّات َب ْعـ َـت َأ ْه َو ُ اءهــم َب ْعـ َـد َمــا َجـ َـاء َك ِمـ َـن ال ِعلـ ِـم)) ِِ ولكــن مــا املقصــود بالعلــم هنــا ومــا الهــوى املقابــل؟ يفســر ذلــك سـ ٌ ـؤال يحضــر فــي الذهــن عنــد ق ـراءة اآليــة موازنــة باآليات املكية ،ولنأخذ على سبـيل املثال اآليات املكية البادئة بكلمة َ َ (كذلــك) اللفــظ الــذي تبــدأ بــه هــذه اآليــة ،يقــول ســبحانهَ (( :وكذ ِلـ َـك َ َ ْ َ َّ َ َ ْ َ ُ ُ ْ ً َ َ ًّ َ َ ْ ُ ص َّرف َنــا ِفيـ ِـه ِمـ َـن ال َو ِعيـ ِـد ل َعل ُهـ ْـم َي َّت ُقــون أ ْو ُي ْحـ ِـدث أنزلنــاه قرآنــا ع ِربيــا و َل ُه ْم ذ ْك ًرا)) [طه :اآلية .]113ويقول ســبحانهَ (( :و َك َذل َك َأ ْو َح ْي َنا إ َل ْيكَ ِ ِ ِ ُ ْ ً َ َ ًّ ّ ُ َ ُ َّ ْ ُ َ َ َ ْ َ ْ َ َ َ ُ َ َ ْ َ ْ َ ْ َ ْ َ قرآنــا ع ِربيــا ِلتنـ ِـذر أم القــرى ومــن حولهــا وتنـ ِـذر يــوم الجمـ ِـع ال ريــب ِفيـ ِـه َفريـ ٌـق فــي ْال َج َّنـ ِـة َو َفريـ ٌـق فــي َّ الس ِعي ـ ِـر)) [الشــورى :آيــة ]7واآليتــان بهــذا ِ ِ ِ ِ ً نزول وجمعاً. التـرت ــيب دائمــا مــع وصــف القـرآن ًّ والســؤالِ :لـ َـم جــاء لفــظ العرب ــية ً نصــا -كمــا قدمنــا -أمــا هنــا فجــاء مــع لفــظ ُ الحكــم؟ وملــاذا كانــت العرب ــية فــي الســور املكيــة تــازم الق ـرآن أمــا هنــا فتحولــت إلــى الحكــم؟ 66
َّإن م َّمــا ال يجهلــه َّ مثقــف مســلم َّأن اآليــات املدن ــية إنمــا تتحــدث فــي ِ ُ ْ مجملها عن األحكام بخالف اآليات املكية التـي تعنى بتثبـيت العقيدة وب ــيان صــدق الرســالة ،هــذا يعن ــي َّأن العلــم هنــا :اعتبــار اللفــظ كمــا توحــي بــه داللتــه اللغويــة فــي مجــال اســتنباط األحــكام الشــرعية. َ فــإذا تجــاوزت الحديــث عــن الحكــم الشــرعي حيــث اللغــة هنــا لغــة ـذوق اللغــة األدب ـ َّـية َّ العلــم فــي ســياق أدب ــي ،لــك أن تتـ َّ حتــى فــي آيــات األحــكام علــى النحــو الــذي تقدمــه لــك جماليــات اللفــظ والســياق واملوســيقى واإليحــاءات والصــور الفن ــية ومــا إلــى ذلــك ،فاســتنباط ّ العلميــة كالفيزيــاء ،اللفــظ هنــا ال يــدل علــى الحكــم خاضــع للقواعــد �شــيء خــارج الداللــة اللغويــة الضيقــة ،كمــا أن القــوة فــي الفيزيــاء ال ً يمكــن أن تعن ــي قــوة الب ــيان األدب ــي مثــا ،فالتــذوق الجمالــي �شــيء َّ واســتنباط الحكــم الشــرعي �شــيء آخــر ،واإلعجــاز القرآن ــي يتمثــل فــي الجمع بـي ــن لغة العلم الصارمة وبـي ــن لغة األدب البـيان ــية الجمالية.
املطلبالثانـي:
املنهج األثـري واملنهج املقاصدي في فهم النص الشرعي. ْ بعـ َـد هــذا الب ــيان ّ َّ الخاصـ ِـة بالقـرآن فــي جمعــه بـي ــن لغــة العلــم للســمة ِ ولغــة األدب ،ممــا ُي ّ فســر ً جانبــا مــن أســباب عجــز العــرب عــن ِ ـوم مـ ْـن كــون ُ ـال أوجــه ،فــإنَّ حمـ َ الق ـرآن ّ ٌ مجاراتـ ِـه ،مــع مــا هــو معلـ ِ ِ ً ُ باحث في تفسي ــر القرآن أو ب ــيان أحكامه ،إذ ليس سؤال ي ـراود ك َّل ِ
مــن املعقــول أن يــدل الق ـرآن علــى ال�شــيء وضــده ،فيقــول لل�شــيء ً مــرة هــو حــال ومـ َّـرة هــو ح ـرام ،تعالــى هللا عــن ذلــك علـ ًّـوا كبـي ـ ًـرا. ً أقــو ُلَّ :إن هنــاك ســؤال ي ـراود الباحــث ُمفـ ُـاد ُه :مــا الضوابــط الت ــي تعصــم النــص القرآن ــي مــن التعســف فــي التفسي ــر أو التأويــل عنــد انفتــاح النــص أمــام آليــات القـراءة اللغويــة؟ ومــا املنهــج املتبــع داخــل النــص وخــارج النــص ،أعن ــي عالقــة النــص ب ــنصوص أخــرى؟ هــذا مــا يقدمــه لنــا علــم أصــول الفقــه بـنسخت ــيه األث ـ َّرية واملقصديــة. َّأما النسخة األثـ َّرية ُفيجمل الشافعي خالصة رؤيتها بجملته الشهيـرة: (ليــس ألحــد دون رســول هللا أن يقــول إال باالســتدالل)( ،)1وهــذا يعن ــي َّ َّأن لرســول هللا صلــى هللا عليــه وســلم -وكالمــه عرب ــي تحكمــه طــرق الداللــة العرب ـ َّـية -أن ُ يحـ َّـد مــن آفـ ِـاق داللــة اللفــظ العرب ــي بمــا أعطــي مــن ســلطة التفسي ــر ،وبذلــك يجعــل الشــافعي فصـ َـل املقـ ِـال فيمــا
العدد 2رجب 1439هـ
ً يخــرج عــن كونــه ًّ نصــا مــن كالم هللا مت ــروكا لب ــيان رســوله صلــى هللا عليــه وســلم ،وإال فالقيــاس. وقد يقول قائلَّ :إن َّ السنة أغنت إذن عن االجتهاد بحصرها للداللة اللغوية ،بل بمحاصرتها ّ واحد ال يحتمل لنص القرآن املطلق بوجه ٍ ِ َّ ُّ غيـره ،والحقيقة َّأن هذا مجانب للصواب ،وأظن أن ذلك سيتضح َّ ً الحقا غيـر أننـي أسارع للقولَّ :إن رسول هللا صلى هللا عليه وسلم لم َُ ّ نحو تفصيلي(.)2 يف ِسر القرآن على ٍ ّ َّ فيؤكد رائدها قطعية علم َّأما النسخة الثانـية -إن صح التعبـيـرِ - أصــول الفقــه ،حيــث يقــول( :إن أصــول الفقــه فــي الدي ــن قطعيــة ال ظن ــية ،والدليــل علــى ذلــك أنهــا راجعــة إلــى كليــات الشــريعة، ومــا كان كذلــك فهــو قطــع ،ب ــيان األول ظاهــر باالســتقراء املفيــد للقطــع ،وب ــيان الثان ــي مــن أوجــه أحدهــا أنهــا ت ــرجع َّإمــا إلــى أصــول عقليــة وهــي قطعيــة ،وإمــا مــن االســتقراء الكلــي مــن أدلــة الشــريعة وذلــك قطعــي ً أيضــا ،وال ثالــث لهذي ــن إال املجمــوع منهمــا ،واملؤلــف مــن القطعيــات قطعـ ٌّـي ،وذلــك أصــول الفقــه)(.)3 وهــذا املوقــف مــن الشاطب ـ ّـي رحمــه ُ هللا ليــس َح ْجـ ًـرا و ًّ صائيــا ،بــل ِ ِ َّ ُ ٌ القطعيــة آت ــية مــن طب ــيعة هــذا العلــم الــذي يســتمد ســلطته مــن ً النـ ّ ـص نفســه ...العدالــة مثــا واجــب قطعــي علــى كل حاكــم فــي ِ ي مي ـزان العقــل البشــر ،الحديــث هنــا عــن العدالــة مــن حيــث هــي قيمــة أخالقيــة عامــة مطلقــة ،يمكــن أن ي ــرفضها عاقــل داخــل الحــرب ،والصــدق قيمــة أخالقيــة ُت ْر َفـ ُ ـض ،أو يمكــن رفضهــا، َّ أخالقيــة أعلــى. عندمــا تتعــارض مــع قيمــة وكذلــك القــول بقطعيــة أصــول الفقــه مــن حيــث الجملــة بعيـ ًـدا عــن التطب ــيقات الجزئيــة ،ولذلــك نــرى الشاطب ـ َّـي رحمــه هللا يعــود للقــول( :فمــا جــرى فيهــا ممــا ليــس بقطعــي فمبـن ــي علــى القطعــي ً تفريعــا عليــه بالتبــع ال بالقصــد األول)(.)4 ّ يؤكــد علمــاء األصــول ضمــن املدرستـي ــن أو الرؤيتـي ــن َّأن َّ النـ َّ ـص هــو ِ ّ ُ املؤســس لشــرعية مختلــف املصــادر التش ـريعية ،حتــى تلــك الت ــي ِ تملــك ســلطة بـيان ــية أو تفسي ـرية ،والعالقــات املتبادلــة بـي ــن النــصّ ِ ّ املؤسس ومجموعة الضوابط املنبثقة عن تحكيم املقاصد بصفتها ِ ّ َّ ســلطة تفسي ـرية مؤسســة؛ تشـ ِـكل املنظومــة الثان ــية الت ــي اســتمدها
( )1الرسالة للشافعي( ،ص.)25 : َْ ُ َّ ( )2ومــا ُنسـ َـب إلــى اب ــن ت ــيمية رحمــه هللا مــن أنــه ي ــرى َّأن رســول هللا صلــى هللا عليــه وسـ َّـلم َّ فســر الق ـرآن كلــه فيــه نظــر ،ذلــك أنــه رحمــه هللا قــال فــي مطلـ ِـع مقدمتــه املشــهورة فــي أصــول التفسي ــر [ي ــنظر :مجمــوع الفتــاوى ِ َ ً َ ( :]331/13يجــب أن ُيعلــم أن النب ــي ب ـ ّـين ألصحابــه معان ــي الق ـرآن كمــا بـي ــن لهــم ألفاظــه) ف ُح ِمــل قولــه هــذا علــى َّأنـ ُـه ي ــرى تفسي ــر رســول هللا لــكل الق ـرآن ،وليــس قولــه دال علــى ذلــك ...علــى َّأن هــذا الفهــم لعبارتــه إن كان ً صحيحــا فهــو يخالــف مــا ذهــب إليــه الجمهــور. ( )3املوافقات ،مقدمات ،القسم األول( ،ص )4( - .)33/1 :املرجع السابق ،املوضع نفسه.
67
المنهج األصولي في تفسيـر النصوص ّ املتقدميـن وعلى رأسهم الشافعي الذي َّ تحدث الشاطبـي من أبحاث ِ باســتفاضة عــن املنظومــة األولــى فــي العالقــة بـي ــن النـ ّ ـص القرآن ــي ِ والنـ ّ ـص النبــو ّ ِي (الوحــي بشــكليه املتلـ ُّـو وغي ــر املتلـ ّ ِـو). ِ َّ َّ نخلــص مــن ذلــك إلــى أن اللفــظ القرآن ــي الــذي يحمــل فــي طياتــه اللغويــة إمكان ــيات عـ َّـدة أو بمعنــى آخــر يحمــل دالالت مختلفــة؛ ُي َّ َّ رجـ ُـح ِ فــي تفسي ــره مــا نـ َّ ـص عليــه الب ــيان النبــوي ،وهــذا الب ــيان محكــوم بــدوره بآليات القراءة اللغوية ،ومحدود بمعطيات املقاصد في رعاية مصالح البشــر ،وهــذا مــا قالــه اب ــن القيــمَّ : (إن الشـريعة مب ــناها وأساســها علــى الح َكــم ومصالــح العبــاد فــي املعــاش واملعــاد ...فـ ُّ ـكل مســألة خرجــت ِ ِ َ ْ عــن العــدل إلــى الجــور ،وعــن الرحمــة إلــى ضدهــا ،وعــن املصلحــة إلــى املفســدة ،وعــن الحكمــة إلــى العبــث فليســت مــن الش ـريعة)(.)5
املبحث الثّانـي
ّ األصولي في فهم آية الجزية إعمال املنهج ِ تمهيد: مــا َّ قد ْم ُتـ ُـه فــي املبحــث األول -وهــو الجانــب النظــر ُّي ِمـ ْـن هــذا البحـ ِـث- قد يعتـرف به الكثيـرون ،سواء دعاة التقليد أم دعاة التحديث ،بل حتــى بعــض دعــاة التغريــب ،لكـ َّـن املشــكلة تكمــن ً دائمــا فــي التطب ــيق، وأود هنا أن أعرض لنموذج تطبـيقي َ ُّ وذلك ِخدمة للمبحث السابق، إذ به يظهر املراد بتحكيم قواعد الداللة من جانب ومقاصد الشرع َّ من جانب آخر ،وال ُب َّد من التنبـيه على َّ األهمية ،وهي قضية غاية في ـرعية ألفعــال َّ باملرجعيــة الشـ َّ َّ النــاس ،وبالتالــي َّأن ب ــياننا هــذا ملــن يؤمــن فــإن ب ــيان حكــم الشــرع ال بــد فيــه مــن الرجــوع للنـ ّ ـص ،ثـ َّـم محاولــة ِ نص ّ مؤســس عنه تنزيله على الواقع الذي ي ـراد الحكم عليه ...لدي ــنا ٌّ ِ تصــدر رؤيتنــا ولدي ــنا واقــع ننظــر لــه علــى أنــه محـ ُّـل الرؤيــة ال الحاكـ ُـم عليهــاَّ ، لكننــا ال نهمــل الطــرف املحكــوم عليــه ال ألننــا نريــد التطب ــيع مــع الواقــع ،بــل َّ ألن الواقــع هــو محــور بحثنــا وحولــه تت ــركز رؤيتنــا، ً ّ مؤثـ ًـرا ،وال أريــد أن آت ــي باألدلــة ومــن غي ــر املعقــول أال يكــون طرفــا ِ علــى أهميــة فقــه الواقــع فــي تقري ــر الحكــم بأكث ــر ممــا قررتــه مــن أنَّ ّ مؤثــرة فــي فهــم النـ ّ ـص ،ال بلـ ّ ِـي عنقــه بــل بإضــاءة مســاحات املصلحــة ِ ِ فيــه قــد تكــون غائبــة عــن أولئــك الذي ــن حكمــوا بــه علــى واقع مخالف. ( )5إعالم املوقعيـن )6( - . 14/3لسان العرب ،مادة جزي. ( )7األحكام السلطانـية )8( - .142:املغنـي البـن قدامة.263 /9 ، ( )9أحكام أهل الذمة ص22
المنهج األصولي في تفسيـر النصوص
العدد 2رجب 1439هـ
املطلب َّ ُ األو ُل: اختالف العلماء املتقدميـن في تفسيـرآية الجزية. تختلــف أنظــار ّ املفسري ــن فــي كثي ــر مــن مواطــن شــرحهم آليــة الجزيــة، ِ ّ لتوضــح مــا رميــت إليــه مــن تحكيــم آليـ ٍـة تعتمــد علــى وســأختار نمــاذج ِ ً ً أول واألث ــر ثان ـ ًـيا واملصلحــة الحقيقيــة ثالثــا ،علــى نحــو مــا َّ اللغــة قدمــت ََ َ ُ َّ َ َ ُ ْ ُ نَ َّ ـاهلل ول فــي املبحـ ِـث األو ِل ،يقــول هللا تعالــى (( :قا ِتلــوا ال ِذي ــن ل يؤ ِمنــو ِبـ ِ ُ َ ْ َ ب ْال َيـ ْـوم ْالخــر َ َول ُي َح ّر ُمــو َن َمــا َحـ َّـر َم ُ هللا َو َر ُســول ُه َول َي ِدي ـ ُـنون ِدي ـ َـن ال َحـ ِ ّـق ِ ِ ِ َ َّ َ ُ ِ ُ ْ َِ َ َ َّ ُ ْ ُ ْ ْ َ َ َ ُ َ َ َ َ ْ ُ ِمــن ال ِذي ــن أوتــوا ال ِكتــاب حتــى يعطــوا ال ِجزيــة عــن يـ ٍـد وهــم ص ِاغــرون)) [ســورة التوبــة :آيــة .]29 يختلــف ّ املفســرون وعلمــاء اللغــة فــي تحديــد أصــل اشــتقاق الجزيــة، ِ ّ ّ ّ ّ فيقول ابـن منظور ( :هي عبارة عن املال الذي يعقد الكتابـي عليه الذمة، وهــي ف ْع َلــة مــن الجـزاء َّ كأنهــا جــزت عــن قتلــه) ( ،)6فهــو ي ــرى َّأنهــا مــن الجـزاء. ِ إن الفقهــاء باالســتفادة مــن تحديــد اللغويي ــن ألصــل هــذه الكلمــة يت ــرددون فــي معنــى الجـزاء هنــا ،يقــول املــاوردي« :فأمــا الجزيــة فهــي موضوعــة علــى الــرؤوس واســمها مشــتق مــن الجـزاء ،إمــا جـزاء علــى كفرهــم ألخذهــا منهــم صغـ ًـارا ،وإمــا ج ـزاء علــى أماننــا لهــم ألخذهــا منهــم ً رفقــا»(.)7 وي ــرى بعــض اللغويي ــن َّأن الجزيــة هنــا ليســت مــن الج ـزاء بمعنــى املقابلــة ،بــل هــي مــن جــزى بمعنــى ق�ضــى ،كمــا فــي قولــه تعالــىَ (( :و َّات ُقــوا ًَْ َ َ ْ يَْ ٌ َ ْ َْ َ س شـ ْـي ًئا )) [ســورة البقرة :آية ]48أي :ال يوما ل تج ِز نفس عن نف ٍ تق�ضي عنها ،واب ــن قدامة رحمه هللا ي ــنتصر لهذا املعنى حي ــن يقول: «وهــي الوظيفــة املأخــوذة مــن الكافــر إلقامتــه بــدار اإلســام فــي كل عــام ،وهــي فعلــة مــن جــزى يجــزي إذا ق�ضــى ،....تقــول العــرب :جزيــت ديـنـي ،إذا قضيته»( .)8فإذا انتقلنا لتفسيـر قوله سبحانه ((عن يد)) زاد االختــاف ،وســأعرض ملــا أورده اب ــن القيــم مــن تفسي ـرات لهــذا ً نموذجــا لهــذه االختالفــات حيــث يــورد خمســة أقــوال فــي الت ــركيب تفسي ــرها : ً - 1يعطوهــا أذالء مقهوري ــن - 2 .املعنــى مــن يــد إلــى يــد نقــدا غي ــر ً ً نســيئة - 3 .مــن يــده إلــى يــد اآلخــذ ال باعثــا بهــا وال مــوكل فــي دفعهــا. - 4عــن إنعــام منكــم عليهــم بإقراركــم لهــم وبالقبــول منهــم - 5 .عــن يــد منهــم أي عــن قــدرة علــى أدائهــا فــا تؤخــذ مــن عاجــز عنهــا .وقــد صحــح رحمــه هللا األول ورفــض األخي ــر(.)9
68
فــإذا انتقلنــا إلــى آخــر اآليــة لنــرى معنــى الصغــار فــي قولــه ((وهــم ً اختالفــا ً أيضــا فــي ب ــيانه ،فقــد ذكــروا فــي تأويلــه صاغــرون)) ،ألفي ــنا معنـيي ــن :أحدهما أذالء مستكيـنـي ــن .والثان ــي أن تجري عليهم أحكام اإلســام( ،)10أي أن يخضعــوا للنظــام العــام للدولــة.
العدد 2رجب 1439هـ
هذا جانب مهم في تقريـر املسألة ،وربط لألحكام بمنظومة ّ تؤهلنا ِ للحديــث عــن الجزيــة فــي واقعنــا املعاصــر ،فالحكــم ي ــنطلق مــن النــص ليصــادف ً واقعــا يحكــم عليــه ،وأثنــاء حمــل النـ ّ ـص الحاكــم ِ علــى الواقــع املحكــوم -ممــا يســميه األصوليــون تحقيــق املنــاط - َّتتضــح كمــا قدمنــا مســاحات قــد يضيئهــا الواقــع داخــل َّ النـ ّ ـص، ِ وتطب ـ ً ـيقا علــى ذلــك ال بـ َّـد لنــا مــن نظــرة فقهيــة ســريعة ّ توضــح لنــا ِ كيــف يمكــن تطب ــيق َّ النـ ّ ـص علــى واقعنــا. ِ
ولنقــف وقفــة س ـريعة أمــام هــذا الخــاف فــي تفسي ــر (الصغــار)، وذلك ملا يت ـرتب على تفسي ــره -هنا -من أث ـ ٍـر في تطب ــيق أمرهم بدفع ُّ الجزيــة ،فالذي ــن ّ يفســرون الصغــار هنــا بالــذ ِ ّل ملــؤوا كتــب الفقــه ِ ّ ـؤدي الجزيــة ،وهــذه الشــروط نتجــت عــن بشــروط عجيبــة علــى مـ ِ التفسيـر اللغوي لكلمة الصغار ،لكنها تجاوزت شرط تحكيم األثـر روي يف عقــود الجزيــة يف مــن جانــب ،وأهملــت أهــم مقصــد مــن مقاصــد الشــرع وهــو الرحمــة، بل أظن َّأنها لم تتحقق من صالحية املعنى اللغوي ً القــوي صــدر اإلســام إســقاطها عــن أيضا ،فتجاوزت ِّ املراحــل الثــاث الت ــي أقرهــا علــم أصــول الفقــه. ـي إذا افتقــر ،فمــن إذا ض ُعــف ،والغنــ ِّ ُّ فسـرنا َّ َّأمــا الجانــب اللغــوي فلــو َّ الصغــار بالــذ ِ ّل لوقفنــا أمــام مشــكلة الصلــح بـيـــن ذلــك مــا جــاء يف كتــاب ّ فــي تفسي ــر آيــة أخــرى ،وأعلــى درجــات التفسي ــر تفسي ــر الق ـرآن خالــد بـــن الوليــد ريض اللــه عنــه وأهــل ْ ْ َ ْ ْ َ َ َ ْ َ َّ ُ ْ ُ ُ َ ـود ل بالق ـرآن ،لنقــف أمــام قولــه تعالــى(( :ار ِجــع ِإلي ِهــم فلنأ ِتينهــم ِبجنـ ٍ َ َ صاغـ ُـر َ الحيـــرة َ َ ُ ْ َ َّ ْ َ َّ ً َ ُ َ ون)) [النمــل،]37: ِقبـ َـل ل ُهـ ْـم ِب َهــا ولنخ ِرجن ُهـ ْـم ِمن َهــا أ ِذلــة وهـ ْـم ِ فس ـرنا َّ ولنســأل كيــف يغــدو املعنــى لــو َّ الصغـ َـار هنــا بالـ ّ ـذل ،ال شـ َّـك ِ َّأن املعنــى ســيكون :ولنخرجنهــم منهــا أذلــة وهــم أذلــة ،وهــو معنــى ال املطلبالثانـي: يتفق مع أسلوب القرآن وبالغته ،ولو تجاوزنا هذا الجانب وانتقلنا موضوع الجزية جانب من جوانب السياسة الشرعية. َّ ً تب ـ َّـي َن لنــا فــي املطلــب ّ الســابق َّأن بعـ َ ـض الفقهــاء حي ــن تحدثــوا عــن إلــى جانــب األث ــر ،لــم نجــد دليــا مــن الســنة أو مــن سي ــرة الخلفــاء ِ ِ ّ ُّ الراشديـن تطب ً فسروا بها كلمة َّ ـيقا لتلك الشروط التـي َّ أؤكــد فــي الصغارَّ ،أما الجزيــة لــم يعملــوا قواعــد األصــو ِل فــي فهمهــم لآليـ ِـة ،وأود أن ِ ّ ويوضــح هــذا املطلــب أمـ ًـرا آخــر ،وهــو َّأنهــم أغفلــوا -إلــى جانــب عــدم إعمالهــم مخالفــة ذلــك ملقصــد الرحمــة فمــا أظنــه يحتــاج إلــى ب ــيانِ ، َّ ُ ُ َّ ًّ ّ ً اإلمــام النــووي خالصــة ذلــك بقولــه « :قلــت :هــذه الهيئــة املذكــورة للقواعد األصولي ِة -أمرا م ِهما يتعلق بفلسفة املوقف الشرعي -إن ِ ً أول ،ال نعلــم لهــا علــى هــذا الوجــه أصـ ًـا معتمـ ًـدا ،وإنمــا ذكرهــا طائفــة صــح التعبـي ــر -مــن هــذا املصطلــح. من أصحاب ــنا الخراسانـيي ــن ،وقال جمهور األصحاب :تؤخذ الجزية إن الجزيــة حســب تفسي ــر الفقهـ ِـاء هــي «مــا يؤخــذ مــن أهــل الكفــر ب ــرفق ،كأخــذ الديــون ،فالصــواب الجــزم بــأن هــذه الهيئــة باطلــة جـز ًاء علــى تأمي ــنهم وحقــن دمائهــم مــع إقرارهــم علــى الكفر»( .)12وهي مردودة على َم ْن اخت ــرعها ،ولم ي ــنقل أن النب ــي صلى هللا عليه وسلم تؤخــذ مــن املقاتلي ــن ،أعن ــي َمـ ْـن هــم قــادرون علــى القتــال ،وفــي هــذا وال أحد من الخلفاء الراشدي ــن فعل ً شيئا منها مع أخذهم الجزية ...يقــول اب ــن قدامــة -رحمــه هللا « : -وال جزيــة علــى صب ــي وال زائــل ً قال الرافعي رحمه هللا في أول كتاب الجزية :األصح عند األصحاب :العقــل ،وال امـرأة ،ال نعلــم بـي ــن أهــل العلــم خالفــا فــي هــذا ،وبــه قــال ّ تفسي ــر َّ والشـ ّ ـافعي وأحمــد وأبــو ثــور ،وقــال اب ــن املنــذر، الصغــار بالت ـزام أحــكام اإلســام وجريانهــا عليهــم ،وقالــوا :أبــو حن ــيفة ومالــك َ أشــد َّ الصغــار علــى املــرء أن ُيحكـ َـم عليــه بمــا ال يعتقــده ُويضطـ َّـر إلــى ال أعلــم عــن غي ــرهم خالفهــم»(.)13 احتمالــه ،وهللا أعلــم(. )11 ( )10األحكام السلطانـية للماوردي ،ص )11( - .143روضة الطالبـيـن 315/ 10ـ .316 َّ املالكية ،يـنظر :حاشية العدوي على شرح كفاية الطالب الربانـي .33/4 ( )12هذا تعريف ابـن رشد ـ رحمه هللا ـ من ( )13املغنـي البـن قدامة.572/10 ،
69
المنهج األصولي في تفسيـر النصوص ّ املتقدميـن وعلى رأسهم الشافعي الذي َّ تحدث الشاطبـي من أبحاث ِ باســتفاضة عــن املنظومــة األولــى فــي العالقــة بـي ــن النـ ّ ـص القرآن ــي ِ والنـ ّ ـص النبــو ّ ِي (الوحــي بشــكليه املتلـ ُّـو وغي ــر املتلـ ّ ِـو). ِ َّ َّ نخلــص مــن ذلــك إلــى أن اللفــظ القرآن ــي الــذي يحمــل فــي طياتــه اللغويــة إمكان ــيات عـ َّـدة أو بمعنــى آخــر يحمــل دالالت مختلفــة؛ ُي َّ َّ رجـ ُـح ِ فــي تفسي ــره مــا نـ َّ ـص عليــه الب ــيان النبــوي ،وهــذا الب ــيان محكــوم بــدوره بآليات القراءة اللغوية ،ومحدود بمعطيات املقاصد في رعاية مصالح البشــر ،وهــذا مــا قالــه اب ــن القيــمَّ : (إن الشـريعة مب ــناها وأساســها علــى الح َكــم ومصالــح العبــاد فــي املعــاش واملعــاد ...فـ ُّ ـكل مســألة خرجــت ِ ِ َ ْ عــن العــدل إلــى الجــور ،وعــن الرحمــة إلــى ضدهــا ،وعــن املصلحــة إلــى املفســدة ،وعــن الحكمــة إلــى العبــث فليســت مــن الش ـريعة)(.)5
املبحث الثّانـي
ّ األصولي في فهم آية الجزية إعمال املنهج ِ تمهيد: مــا َّ قد ْم ُتـ ُـه فــي املبحــث األول -وهــو الجانــب النظــر ُّي ِمـ ْـن هــذا البحـ ِـث- قد يعتـرف به الكثيـرون ،سواء دعاة التقليد أم دعاة التحديث ،بل حتــى بعــض دعــاة التغريــب ،لكـ َّـن املشــكلة تكمــن ً دائمــا فــي التطب ــيق، وأود هنا أن أعرض لنموذج تطبـيقي َ ُّ وذلك ِخدمة للمبحث السابق، إذ به يظهر املراد بتحكيم قواعد الداللة من جانب ومقاصد الشرع َّ من جانب آخر ،وال ُب َّد من التنبـيه على َّ األهمية ،وهي قضية غاية في ـرعية ألفعــال َّ باملرجعيــة الشـ َّ َّ النــاس ،وبالتالــي َّأن ب ــياننا هــذا ملــن يؤمــن فــإن ب ــيان حكــم الشــرع ال بــد فيــه مــن الرجــوع للنـ ّ ـص ،ثـ َّـم محاولــة ِ نص ّ مؤســس عنه تنزيله على الواقع الذي ي ـراد الحكم عليه ...لدي ــنا ٌّ ِ تصــدر رؤيتنــا ولدي ــنا واقــع ننظــر لــه علــى أنــه محـ ُّـل الرؤيــة ال الحاكـ ُـم عليهــاَّ ، لكننــا ال نهمــل الطــرف املحكــوم عليــه ال ألننــا نريــد التطب ــيع مــع الواقــع ،بــل َّ ألن الواقــع هــو محــور بحثنــا وحولــه تت ــركز رؤيتنــا، ً ّ مؤثـ ًـرا ،وال أريــد أن آت ــي باألدلــة ومــن غي ــر املعقــول أال يكــون طرفــا ِ علــى أهميــة فقــه الواقــع فــي تقري ــر الحكــم بأكث ــر ممــا قررتــه مــن أنَّ ّ مؤثــرة فــي فهــم النـ ّ ـص ،ال بلـ ّ ِـي عنقــه بــل بإضــاءة مســاحات املصلحــة ِ ِ فيــه قــد تكــون غائبــة عــن أولئــك الذي ــن حكمــوا بــه علــى واقع مخالف. ( )5إعالم املوقعيـن )6( - . 14/3لسان العرب ،مادة جزي. ( )7األحكام السلطانـية )8( - .142:املغنـي البـن قدامة.263 /9 ، ( )9أحكام أهل الذمة ص22
المنهج األصولي في تفسيـر النصوص
العدد 2رجب 1439هـ
املطلب َّ ُ األو ُل: اختالف العلماء املتقدميـن في تفسيـرآية الجزية. تختلــف أنظــار ّ املفسري ــن فــي كثي ــر مــن مواطــن شــرحهم آليــة الجزيــة، ِ ّ لتوضــح مــا رميــت إليــه مــن تحكيــم آليـ ٍـة تعتمــد علــى وســأختار نمــاذج ِ ً ً أول واألث ــر ثان ـ ًـيا واملصلحــة الحقيقيــة ثالثــا ،علــى نحــو مــا َّ اللغــة قدمــت ََ َ ُ َّ َ َ ُ ْ ُ نَ َّ ـاهلل ول فــي املبحـ ِـث األو ِل ،يقــول هللا تعالــى (( :قا ِتلــوا ال ِذي ــن ل يؤ ِمنــو ِبـ ِ ُ َ ْ َ ب ْال َيـ ْـوم ْالخــر َ َول ُي َح ّر ُمــو َن َمــا َحـ َّـر َم ُ هللا َو َر ُســول ُه َول َي ِدي ـ ُـنون ِدي ـ َـن ال َحـ ِ ّـق ِ ِ ِ َ َّ َ ُ ِ ُ ْ َِ َ َ َّ ُ ْ ُ ْ ْ َ َ َ ُ َ َ َ َ ْ ُ ِمــن ال ِذي ــن أوتــوا ال ِكتــاب حتــى يعطــوا ال ِجزيــة عــن يـ ٍـد وهــم ص ِاغــرون)) [ســورة التوبــة :آيــة .]29 يختلــف ّ املفســرون وعلمــاء اللغــة فــي تحديــد أصــل اشــتقاق الجزيــة، ِ ّ ّ ّ ّ فيقول ابـن منظور ( :هي عبارة عن املال الذي يعقد الكتابـي عليه الذمة، وهــي ف ْع َلــة مــن الجـزاء َّ كأنهــا جــزت عــن قتلــه) ( ،)6فهــو ي ــرى َّأنهــا مــن الجـزاء. ِ إن الفقهــاء باالســتفادة مــن تحديــد اللغويي ــن ألصــل هــذه الكلمــة يت ــرددون فــي معنــى الجـزاء هنــا ،يقــول املــاوردي« :فأمــا الجزيــة فهــي موضوعــة علــى الــرؤوس واســمها مشــتق مــن الجـزاء ،إمــا جـزاء علــى كفرهــم ألخذهــا منهــم صغـ ًـارا ،وإمــا ج ـزاء علــى أماننــا لهــم ألخذهــا منهــم ً رفقــا»(.)7 وي ــرى بعــض اللغويي ــن َّأن الجزيــة هنــا ليســت مــن الج ـزاء بمعنــى املقابلــة ،بــل هــي مــن جــزى بمعنــى ق�ضــى ،كمــا فــي قولــه تعالــىَ (( :و َّات ُقــوا ًَْ َ َ ْ يَْ ٌ َ ْ َْ َ س شـ ْـي ًئا )) [ســورة البقرة :آية ]48أي :ال يوما ل تج ِز نفس عن نف ٍ تق�ضي عنها ،واب ــن قدامة رحمه هللا ي ــنتصر لهذا املعنى حي ــن يقول: «وهــي الوظيفــة املأخــوذة مــن الكافــر إلقامتــه بــدار اإلســام فــي كل عــام ،وهــي فعلــة مــن جــزى يجــزي إذا ق�ضــى ،....تقــول العــرب :جزيــت ديـنـي ،إذا قضيته»( .)8فإذا انتقلنا لتفسيـر قوله سبحانه ((عن يد)) زاد االختــاف ،وســأعرض ملــا أورده اب ــن القيــم مــن تفسي ـرات لهــذا ً نموذجــا لهــذه االختالفــات حيــث يــورد خمســة أقــوال فــي الت ــركيب تفسي ــرها : ً - 1يعطوهــا أذالء مقهوري ــن - 2 .املعنــى مــن يــد إلــى يــد نقــدا غي ــر ً ً نســيئة - 3 .مــن يــده إلــى يــد اآلخــذ ال باعثــا بهــا وال مــوكل فــي دفعهــا. - 4عــن إنعــام منكــم عليهــم بإقراركــم لهــم وبالقبــول منهــم - 5 .عــن يــد منهــم أي عــن قــدرة علــى أدائهــا فــا تؤخــذ مــن عاجــز عنهــا .وقــد صحــح رحمــه هللا األول ورفــض األخي ــر(.)9
68
فــإذا انتقلنــا إلــى آخــر اآليــة لنــرى معنــى الصغــار فــي قولــه ((وهــم ً اختالفــا ً أيضــا فــي ب ــيانه ،فقــد ذكــروا فــي تأويلــه صاغــرون)) ،ألفي ــنا معنـيي ــن :أحدهما أذالء مستكيـنـي ــن .والثان ــي أن تجري عليهم أحكام اإلســام( ،)10أي أن يخضعــوا للنظــام العــام للدولــة.
العدد 2رجب 1439هـ
هذا جانب مهم في تقريـر املسألة ،وربط لألحكام بمنظومة ّ تؤهلنا ِ للحديــث عــن الجزيــة فــي واقعنــا املعاصــر ،فالحكــم ي ــنطلق مــن النــص ليصــادف ً واقعــا يحكــم عليــه ،وأثنــاء حمــل النـ ّ ـص الحاكــم ِ علــى الواقــع املحكــوم -ممــا يســميه األصوليــون تحقيــق املنــاط - َّتتضــح كمــا قدمنــا مســاحات قــد يضيئهــا الواقــع داخــل َّ النـ ّ ـص، ِ وتطب ـ ً ـيقا علــى ذلــك ال بـ َّـد لنــا مــن نظــرة فقهيــة ســريعة ّ توضــح لنــا ِ كيــف يمكــن تطب ــيق َّ النـ ّ ـص علــى واقعنــا. ِ
ولنقــف وقفــة س ـريعة أمــام هــذا الخــاف فــي تفسي ــر (الصغــار)، وذلك ملا يت ـرتب على تفسي ــره -هنا -من أث ـ ٍـر في تطب ــيق أمرهم بدفع ُّ الجزيــة ،فالذي ــن ّ يفســرون الصغــار هنــا بالــذ ِ ّل ملــؤوا كتــب الفقــه ِ ّ ـؤدي الجزيــة ،وهــذه الشــروط نتجــت عــن بشــروط عجيبــة علــى مـ ِ التفسيـر اللغوي لكلمة الصغار ،لكنها تجاوزت شرط تحكيم األثـر روي يف عقــود الجزيــة يف مــن جانــب ،وأهملــت أهــم مقصــد مــن مقاصــد الشــرع وهــو الرحمــة، بل أظن َّأنها لم تتحقق من صالحية املعنى اللغوي ً القــوي صــدر اإلســام إســقاطها عــن أيضا ،فتجاوزت ِّ املراحــل الثــاث الت ــي أقرهــا علــم أصــول الفقــه. ـي إذا افتقــر ،فمــن إذا ض ُعــف ،والغنــ ِّ ُّ فسـرنا َّ َّأمــا الجانــب اللغــوي فلــو َّ الصغــار بالــذ ِ ّل لوقفنــا أمــام مشــكلة الصلــح بـيـــن ذلــك مــا جــاء يف كتــاب ّ فــي تفسي ــر آيــة أخــرى ،وأعلــى درجــات التفسي ــر تفسي ــر الق ـرآن خالــد بـــن الوليــد ريض اللــه عنــه وأهــل ْ ْ َ ْ ْ َ َ َ ْ َ َّ ُ ْ ُ ُ َ ـود ل بالق ـرآن ،لنقــف أمــام قولــه تعالــى(( :ار ِجــع ِإلي ِهــم فلنأ ِتينهــم ِبجنـ ٍ َ َ صاغـ ُـر َ الحيـــرة َ َ ُ ْ َ َّ ْ َ َّ ً َ ُ َ ون)) [النمــل،]37: ِقبـ َـل ل ُهـ ْـم ِب َهــا ولنخ ِرجن ُهـ ْـم ِمن َهــا أ ِذلــة وهـ ْـم ِ فس ـرنا َّ ولنســأل كيــف يغــدو املعنــى لــو َّ الصغـ َـار هنــا بالـ ّ ـذل ،ال شـ َّـك ِ َّأن املعنــى ســيكون :ولنخرجنهــم منهــا أذلــة وهــم أذلــة ،وهــو معنــى ال املطلبالثانـي: يتفق مع أسلوب القرآن وبالغته ،ولو تجاوزنا هذا الجانب وانتقلنا موضوع الجزية جانب من جوانب السياسة الشرعية. َّ ً تب ـ َّـي َن لنــا فــي املطلــب ّ الســابق َّأن بعـ َ ـض الفقهــاء حي ــن تحدثــوا عــن إلــى جانــب األث ــر ،لــم نجــد دليــا مــن الســنة أو مــن سي ــرة الخلفــاء ِ ِ ّ ُّ الراشديـن تطب ً فسروا بها كلمة َّ ـيقا لتلك الشروط التـي َّ أؤكــد فــي الصغارَّ ،أما الجزيــة لــم يعملــوا قواعــد األصــو ِل فــي فهمهــم لآليـ ِـة ،وأود أن ِ ّ ويوضــح هــذا املطلــب أمـ ًـرا آخــر ،وهــو َّأنهــم أغفلــوا -إلــى جانــب عــدم إعمالهــم مخالفــة ذلــك ملقصــد الرحمــة فمــا أظنــه يحتــاج إلــى ب ــيانِ ، َّ ُ ُ َّ ًّ ّ ً اإلمــام النــووي خالصــة ذلــك بقولــه « :قلــت :هــذه الهيئــة املذكــورة للقواعد األصولي ِة -أمرا م ِهما يتعلق بفلسفة املوقف الشرعي -إن ِ ً أول ،ال نعلــم لهــا علــى هــذا الوجــه أصـ ًـا معتمـ ًـدا ،وإنمــا ذكرهــا طائفــة صــح التعبـي ــر -مــن هــذا املصطلــح. من أصحاب ــنا الخراسانـيي ــن ،وقال جمهور األصحاب :تؤخذ الجزية إن الجزيــة حســب تفسي ــر الفقهـ ِـاء هــي «مــا يؤخــذ مــن أهــل الكفــر ب ــرفق ،كأخــذ الديــون ،فالصــواب الجــزم بــأن هــذه الهيئــة باطلــة جـز ًاء علــى تأمي ــنهم وحقــن دمائهــم مــع إقرارهــم علــى الكفر»( .)12وهي مردودة على َم ْن اخت ــرعها ،ولم ي ــنقل أن النب ــي صلى هللا عليه وسلم تؤخــذ مــن املقاتلي ــن ،أعن ــي َمـ ْـن هــم قــادرون علــى القتــال ،وفــي هــذا وال أحد من الخلفاء الراشدي ــن فعل ً شيئا منها مع أخذهم الجزية ...يقــول اب ــن قدامــة -رحمــه هللا « : -وال جزيــة علــى صب ــي وال زائــل ً قال الرافعي رحمه هللا في أول كتاب الجزية :األصح عند األصحاب :العقــل ،وال امـرأة ،ال نعلــم بـي ــن أهــل العلــم خالفــا فــي هــذا ،وبــه قــال ّ تفسي ــر َّ والشـ ّ ـافعي وأحمــد وأبــو ثــور ،وقــال اب ــن املنــذر، الصغــار بالت ـزام أحــكام اإلســام وجريانهــا عليهــم ،وقالــوا :أبــو حن ــيفة ومالــك َ أشــد َّ الصغــار علــى املــرء أن ُيحكـ َـم عليــه بمــا ال يعتقــده ُويضطـ َّـر إلــى ال أعلــم عــن غي ــرهم خالفهــم»(.)13 احتمالــه ،وهللا أعلــم(. )11 ( )10األحكام السلطانـية للماوردي ،ص )11( - .143روضة الطالبـيـن 315/ 10ـ .316 َّ املالكية ،يـنظر :حاشية العدوي على شرح كفاية الطالب الربانـي .33/4 ( )12هذا تعريف ابـن رشد ـ رحمه هللا ـ من ( )13املغنـي البـن قدامة.572/10 ،
69
المنهج األصولي في تفسيـر النصوص وب ــناء علــى فهمنــا هــذا للجزيــة ،حيــث بهــا حقــن دمــاء الكفــار مــع إقرارهــم علــى دي ــنهم ،مــع كونهــا ال تؤخــذ إال ممــن يقاتــل ،فــا تؤخــذ عــن صغي ــر وال عــن امـرأة ،نــرى َّأنهــا ليســت ً عقابــا بطب ــيعتها ،إذ لــو كانــت كذلــك لوجبــت علــى األنثــى كمــا تجــب علــى الذكــر ،وإذ لــم ص َ ـرعي فلمــاذا َتقت ــر ُن بمــا ُ ً ورتــه ِعقـ ٌ ّ ـاب ِ تكــن عقابــا فــي املفهــوم الشـ ِ ْ ـف إلــى ذلــك مســألة َّ مهمــة تتصــل مــن هــذه الفكــرة أضـ وج ـزاء! ِ َّ بســبب ،وهــي أن تحديــد الجزيــة ومــا يتصــل بهــذا العقــد فــي الجملــة َ ـرعيةَّ ، هــو مــن بــاب السياســة الشـ َّ حتــى َّأن عمــر ر�ضــي هللا عنــه ق ِبــل مــن بعــض العــرب َّ النصــارى دفــع ضعــف زكاة املسلمي ــن بــدل دفــع الجزيــة؛ َأل َن َفتهــم مــن اســم الجزيــة َ كونهــم ً عربــا ،قــال اب ــن قدامــة: ِِ «ب ــنو تغلــب ب ــن وائــل مــن العــرب مــن رب ــيعة ب ــن ن ـزار انتقلــوا فــي الجاهليــة إلــى النصران ــية ،فدعاهــم عمــر إلــى بــذل الجزيــة فأبــوا وأنفــوا وقالــوا« :نحــن عــرب خــذ منــا كمــا يأخــذ بعضكــم مــن بعــض باســم الصدقــة» ،فقــال عمــر« :ال آخــذ مــن مشــرك صدقــة»؛ فلحــق بعضهــم بالــروم ،فقــال النعمــان ب ــن زرعــة« :يــا أمي ــر املؤمنـي ــنَّ :إن القــوم لهــم بــأس وشـ َّـدة ،وهــم عــرب يأنفــون مــن الجزيــة ،فــا تعــن عليـ َـك عـ َّ ـدو َك بهــم وخــذ منهــم الجزيــة باســم الصدقــة ،فبعــث عمــر فــي طلبهــم ّ فردهــم وضعــف عليهــم مــن اإلبــل مــن كل خمــس شاتـي ــن، ..فاســتقر ذلــك مــن قــول عمــر ،ولــم يخالفــه أحــد مــن الصحابــة ً فصــار إجماعــا ،وقــال بــه الفقهــاء بعــد الصحابــة» (.)14 َّ ّ يؤكــد ذلــك أنــه روي فــي عقــود الجزيــة فــي صــدر اإلســام وممــا ِ ّ ُ إســقاطها عــن القــو ِي إذا ضعــف ،والغن ـ ّ ِـي إذا افتقــر ،فمــن ذلــك مــا جــاء فــي كتــاب ّ الصلــح بـي ــن خالــد ب ــن الوليــد ر�ضــي هللا عنــه وأهــل الحي ــرة « :وجعلــت لهــم ّأيمــا شــيخ ضعــف عــن العمــل ،أو أصابتــه ّ يتصدقــون آفــة مــن اآلفــات ،أو كان غن ـ ًّـيا فافتقــر ،وصــار أهــل دي ــنه عليــه طرحــت جزيتــه ،وعيــل مــن ب ــيت مــال املسلمي ــن وعيالــه مــا أقــام بــدار الهجــرة ودار اإلســام ،فــإن خرجــوا إلــى غي ــر دار الهجــرة ودار اإلســام فليــس علــى املسلمي ــن ّ النفقــة علــى عيالهــم» (.)15 كمــا دلــت هــذه العقــود ،علــى َّأن عجــز املسلمي ــن عــن حمايتهــم يقت�ضــي إرجــاع أموالهــم الت ــي دفعوهــا علــى أنهــا جزيــة ،ألنهــا إنمــا شــرعت فــي مقابــل دخولهــم تحــت حمايــة املسلمي ــن ،وممــا ورد فــي ذلــك مــا ذكــره أبــو يوســف مــن َّأن أبــا عب ــيدة ب ــن الجـ ّـراح عندمــا
المنهج األصولي في تفسيـر النصوص
العدد 2رجب 1439هـ
ّ الشــام ّ بتجمــع الـ ّـروم ملقاتلــة املسلمي ــن كتب أعلمــه ّنوابــه علــى مــدن ّ خلفــه فــي املــدن الت ــي صالــح أهلهــا يأمرهــم أن ي ـ ّ ـردوا وال ممــن إلــى كل ٍ ُ عليهــم مــا جب ــي مــن الجزيــة والخ ـراج ،وكتــب إليهــم أن يقولــوا لهــم: ّ ّ «إنمــا رددنــا عليكــم أموالكــم ،ألنــه قــد بلغنــا مــا ُج ِمــع لنــا مــن الجمــوع، ّ ّ وأنكــم اشت ــرطتم علي ــنا أن نمنعكــم ،وإنــا ال نقــدر علــى ذلــك.)16( ».. وورد من ذلك َّ أخبار دالة على َّأن عجز املسلميـن عن حمايتهم عدة ٍ يوجــب إرجــاع مــا دفعــوه مــن الجزيــة. وبـناء على ما َّ تقدم ُّ أود أن ّ أسجل املالحظات اآلتـية: ِ - 1يجب أن يـنظر اإلمام في مصلحة املسلميـن ليحدد كيفية التعامل مع رعايا الدولة من غيـر املسلميـن ،كما فعل عمر ر�ضي هللا عنه مع بـنـي تغلب. ً وب ــناء علــى ذلــك يمكنــه أن يأخــذ منهــم مــال باســم الضرائــب أو الصدقــة أو غي ــر ذلــك ،مقابــل مــا يلــزم مــن حمايتهــم ،ومــا ّ يعبــرون بــه ِ عــن مواطنتهــم (الخضــوع لنظــام الدولــة). - 2يدفــع املســلمون الــزكاة ُّ تعبـ ًـدا ،ويمكــن أن تكــون الجزيــة فــي مقابلهــا؛ َّ ألن غي ــر املســلم ال ُت َ قبـ ُـل منــه القربــات. - 3ظاهــر األدلــة تشي ــر إلــى َّأن الجزيــة تـ َّ ـؤدى بمقابــل الحمايــة ،فهــي ال تؤخــذ إال ممــن يســتطيع القتــال ،وت ـ ُّ ـرد فــي حالــة عــدم القــدرة علــى حمايتهــم ،وهــم كانــوا إذ ذاك ال يقاتلــون مــع املسلمي ــن. وب ــناء علــى هــذه املالحظــات فـ َّ ـإن أهــل الطوائــف اليــوم ،ممــن ثبــت ً كفــره ،ي ــنظر فــي اآلليــة الت ــي ُيثبـ ُـت فيهــا َ والءه للدولــة ،بــأن يدفــع مبلغــا ِ مقابــل إعفائــه مــن الخدمــة العســكرية ،أو أن يشت ــرك مــع املسلمي ــن فــي حمايــة بلــده ،وعندهــا تســقط عنهــم الجزيــة ،إذ كانــت مقابــل حمايتنــا لهــم ،وهــم يدفعونهــا بشــكل َبـ َـد ٍل عــن خدمــة العلــم علــى مــا تسـ َّـمى اليــوم ،أو يشت ــركون فــي حمايــة البلــد أســوة باملسلمي ــن. وقــد ذهــب إلــى هــذا القــول عــدد مــن العلمــاء املعاصري ــن ،منهــم الدكتــور عبــد الكريــم زيــدان( )17والدكتــور القرضــاوي(.)18 َّ ومما ُّ يدل على جواز إسقاط الجزية عنهم إذا اشتـركوا في حماية البلد املسلم،سوابقتار َّ يخيةمتعددة،ذكرهااملؤرخوناملسلمونكالطبـري وغي ــره ،ومــن ذلــك مــا ذكــره البــاذري فــي فتــوح البلــدان( )19مــن مصالحــة والي أبـي عبـيدة بـن الجراح ر�ضي هللا عنه للجراجمة (املسيحييـن) على عونا ً أن يكونوا ً وعيونا للمسلميـن مقابل إسقاط الجزية عنهم.
( )14املرجع السابق )15( - .581/10 ،الخراج ألبـي يوسف ص .156 كتابه :أحكام الذمييـن واملستأمنـيـن في دار اإلسالم ،ص 157ـ .158 ( )16املرجع السابق ،ص )17( - .139وذلك في ِ ( )18وذلك في كتابه :غيـر املسلميـن في املجتمع اإلسالمي ص . 28 ( )19فتوح البلدان ص .217وذكر د .عبد الكريم زيدان رحمه هللا ً عددا من هذه السوابق في كتابه أحكام الذمييـن ...ص 155وما بعد.
70
ِ خات ٌة
ّ السوري: نظرة بإنزال هذا الحكم على الواقع ِ
َّ الواقعية اآلتـية: ال ّبد بعد بـيان الحكم من مالحظة املعطيات ً ـورية امتـ ٌ أول :حــال الطوائــف املنتشــرة فــي الجغرافيــا السـ َّ ـداد إلق ـرار املسلمي ــن لهــا عب ــر القــرون ،منــذ العصــر العبا�ســي ،مــرو ًرا ً بالعصــر العثمان ــي ووصــول للعصــر الحديــث. فليــس إقرارهــا اليــوم ً بدعــا مــن األمــر ،بــل هــو منهــج املسلمي ــن فــي التعامــل مــع غي ــر املسلمي ــن فــي املجتمــع اإلسـ ّ ـامي عب ــر العصــور. َّ األقليــات وال إلــى تهجي ــرهم ،هنــاك ثان ـ ًـيا :ال سب ــيل إلــى إفنــاء مئــات آالف السوريي ــن مــن هــذه األقليــات فــي ســوريا ،بعضهــم ي ــريد التعايــش بصــدق ،وإقرارهــم ضمــن تفاهمــات هــو السب ــيل لالســتفادة منهــم بــدل معاداتهــم. ً ـص الفقهــاء علــى َّ ثالثــا :نـ َّ أن عقــد الجزيــة هــو مــا يحقــق مقاصــد الشــريعة الغ ـراء فــي هدايــة النــاس وإرشــادهم ،فمــن ذلــك مــا قالــه ُ اب ــن العرب ــي« :لــو قتــل الكافــر ليئــس مــن الفــاح ووجــب عليــه الهلكــة ،فــإذا أعطــى الجزيــة وأمهــل لعلــه أن يتدب ــر الحــق وي ــرجع إلــى الصــواب ،ال ســيما بمراقبــة أهــل الدي ــن والتــدرب بســماع مــا عنــد املسلمي ــن؛ أال ت ــرى أن عظيــم كفرهــم لــم يمنــع مــن إدرار رزقــه ســبحانه عليهــم ،وقــد قــال النب ــي صلــى هللا عليــه وســلم« :ليــس أحــد أصبـر على أذى من هللا يعافيهم ويـرزقهم وهم يدعون له الصاحبة والولــد»( ،)20ومــا قالــه القرافـ ّـي رحمــه هللا ّ « :إن قاعــدة الجزيــة مــن ّ بــاب التـزام املفســدة ّ الدن ــيا لدفــع املفســدة العليــا وتوقــع املصلحــة، ّ الشـ ّ ـرعية ،ب ــيانهّ :أن الكافر إذا قتل انسـ ّـد وذلك هو شــأن القواعد ّ عليه باب اإليمان ،وباب مقام ســعادة اإليمان ،وتحتم عليه الكفر والخلــود فــي ّ النــار ،وغضــب ّ الد ّيــان»(. )21 ولــو ربطنــا كالمهــم هــذا بواقعنــا ألدركنــا َّأن املصلحــة الديـن ـ َّـية ـيوية ّ متحققــة بإقرارهــم ،ولعلنــا نعلــم َّ أن عـ ً والدن ـ َّ ـددا مــن العائــات ِ النصي ـ َّـرية املشــهورة اختلطــت بأهــل السـ َّـنة فــي دمشــق فــكان منهــا علمــاء وتجــار مؤمنــون يســعون فــي مصالــح املسلمي ــن ،ويدعمــون الدعــوة اإلسـ َّ ـامية كمــا يعــرف أهــل دمشــق وغي ــرهم(.)22
العدد 2رجب 1439هـ
ً َّ رابعــا :كانــت األقليــات -وال ت ـزال -وســيلة األجنب ـ ّـي للتدخــل فــي ُّ البــاد وذريعتــه للتحكــم فــي قراراتهــا ،وقــد يدفــع هــذا بعــض النــاس ُّ العتبارهــم خطـ ًـرا يجــب التخلــص منــه ،وهــو تفكي ــر ثبــت خطــؤه َ ّ تاريخيــا ،واألولــى است ــيعابهم ضمــن مواطن ــي الدولــة ،وإقناعهــم ْ بصد ِقنــا فــي الرغبــة بالتعايــش معهــم دون مشــكالت ،وهــذا يقطــع يــد التدخــل األجنب ـ ّـي بحجــة مســاعدتهم والدفــاع عنهــم ،وبقاؤهــم فــي ظــل الدولــة الت ــي تحكــم بالعــدل مهــم لطمأنتهــم مــن جهــة، ولبقائهــم تحــت مراقبــة الدولــة مــن جهــة أخــرى ،وقــد تقـ َّـدم معنــا َّ أن هــذا مــا دفــع عمــر ر�ضــي هللا عنــه لقبــول الجزيــة باســم الصدقــة مــن نصــارى بـن ــي تغلــب ،وفــي التاريــخ شــواهد مماثلــة منهــا صن ــيع الســلطان عبــد الحميــد مــع بعــض الطوائــف فــي شــمال ســوريا، فـ َّ ـإن ضيــاء باشــا الــذي بعثــه ليستكشــف أمرهــم رأى ميلهــم إلي ـران ومحاولــة األمريكيي ــن الســتقطابهم عب ــر املــدارس ،فــكان أن قطــع السـ ُ ـلطان الطريـ َـق علــى هــؤالء بمــا فعلــه مــن محاولــة إصالحهــم(.)23 هــذا مــا أراه ً فهمــا إلعمـ ِـال قواعــد األصــول فــي اســتنباط األحــكام مــن النصــوص ،وهــي قواعــد ضابطــة لالســتنباط منضبطــة ً ب ــنفسها وليســت فضفاضــة بحيــث نقــول مثــا( :حيثمــا وجــدت املصلحــة فثـ َّـم وجــه الشـ ِـرع) دون تفصيــل وب ــيان ودون النظــر فــي آحــاد النصــوص علــى وفــق قواعــد الداللــة والب ــيان ،كمــا أودعهــا األصليــون فــي كتبهــم ...بــل الحـ ُّـق فــي النظــر فــي النصــوص وتحكيــم قواعــد العرب ــية فــي فهمهــا ،والتــزام ب ــيان الرســول صلــى هللا عليــه وســلم ،والنظــر فــي الجمــع بـي ــن ذلــك وبـي ــن املصلحــة العامــة ،فــإن أمكــن الجمــع دون تحريــف وتغيي ــر ملنطــوق النصــوص ومفهومهــا فحيهــا ،وإن لــم يمكــن فاملرجعيــة للنــص ً وآخـ ًـرا ،واملصلحــة فــي مقابلــة النــص موهومــة غي ــر حقيقيــة. أول ِ َّإن علــم أصــول الفقــه مــن حيــث أسســه ومنطلقاتــه قطعــي ال َّ مرجعي ِتـ ِـهِ ،لكــن الجمــود علــى كالم املتقدمي ــن دون سب ــيل إللغــاء ٌ ً مالحظــة تطب ــيقهم لقواعــده أكان ســديدا أم دخلــه الخطــأ؛ آفــة َ علقــت ببعــض املسلمي ــن وال بــد مــن اجتثاثهــا بالحكمــة واملوعظــة ِ الحســنة ...وهللا أعلــم وهــو يهــدي السب ــيل.
( )20أحكام القرآن البـن العربـي ،482/2والحديث أخرجه البخاري رقم ،5634ومسلم ،بـرقم 5016بألفاظ قريبة ،ولفظ البخاري، ولداَّ ، وهو األقرب للمذكور« ،ليس أحد ـ أو ليس �شيء ـ أصبـر على أذى سمعه من هللاَّ ،إنهم ليدعون له ً وإنه ليعافيهم ويـرزقهم». ( )21الفروق للقرافي .10/3 ( )22كان الشيخ صافي حيدر ـ رحمه هللا ـ ً إماما في صالة الفجر في جامع منجك في منطقة امليدان من أحياء دمشق القديمة، ً حافظا لكتاب هللا .وهذا مثال واقعي رصدته بـنف�سيَّ ، كما كان ولدي أمثلة متعددة في هذا الباب. ( ) 23خطط الشام ،)58/6( ،)106_105/3( ،سوريا والعهد العثماني ،يوسف الحكيم ،ص .71_70
71
المنهج األصولي في تفسيـر النصوص وب ــناء علــى فهمنــا هــذا للجزيــة ،حيــث بهــا حقــن دمــاء الكفــار مــع إقرارهــم علــى دي ــنهم ،مــع كونهــا ال تؤخــذ إال ممــن يقاتــل ،فــا تؤخــذ عــن صغي ــر وال عــن امـرأة ،نــرى َّأنهــا ليســت ً عقابــا بطب ــيعتها ،إذ لــو كانــت كذلــك لوجبــت علــى األنثــى كمــا تجــب علــى الذكــر ،وإذ لــم ص َ ـرعي فلمــاذا َتقت ــر ُن بمــا ُ ً ورتــه ِعقـ ٌ ّ ـاب ِ تكــن عقابــا فــي املفهــوم الشـ ِ ْ ـف إلــى ذلــك مســألة َّ مهمــة تتصــل مــن هــذه الفكــرة أضـ وج ـزاء! ِ َّ بســبب ،وهــي أن تحديــد الجزيــة ومــا يتصــل بهــذا العقــد فــي الجملــة َ ـرعيةَّ ، هــو مــن بــاب السياســة الشـ َّ حتــى َّأن عمــر ر�ضــي هللا عنــه ق ِبــل مــن بعــض العــرب َّ النصــارى دفــع ضعــف زكاة املسلمي ــن بــدل دفــع الجزيــة؛ َأل َن َفتهــم مــن اســم الجزيــة َ كونهــم ً عربــا ،قــال اب ــن قدامــة: ِِ «ب ــنو تغلــب ب ــن وائــل مــن العــرب مــن رب ــيعة ب ــن ن ـزار انتقلــوا فــي الجاهليــة إلــى النصران ــية ،فدعاهــم عمــر إلــى بــذل الجزيــة فأبــوا وأنفــوا وقالــوا« :نحــن عــرب خــذ منــا كمــا يأخــذ بعضكــم مــن بعــض باســم الصدقــة» ،فقــال عمــر« :ال آخــذ مــن مشــرك صدقــة»؛ فلحــق بعضهــم بالــروم ،فقــال النعمــان ب ــن زرعــة« :يــا أمي ــر املؤمنـي ــنَّ :إن القــوم لهــم بــأس وشـ َّـدة ،وهــم عــرب يأنفــون مــن الجزيــة ،فــا تعــن عليـ َـك عـ َّ ـدو َك بهــم وخــذ منهــم الجزيــة باســم الصدقــة ،فبعــث عمــر فــي طلبهــم ّ فردهــم وضعــف عليهــم مــن اإلبــل مــن كل خمــس شاتـي ــن، ..فاســتقر ذلــك مــن قــول عمــر ،ولــم يخالفــه أحــد مــن الصحابــة ً فصــار إجماعــا ،وقــال بــه الفقهــاء بعــد الصحابــة» (.)14 َّ ّ يؤكــد ذلــك أنــه روي فــي عقــود الجزيــة فــي صــدر اإلســام وممــا ِ ّ ُ إســقاطها عــن القــو ِي إذا ضعــف ،والغن ـ ّ ِـي إذا افتقــر ،فمــن ذلــك مــا جــاء فــي كتــاب ّ الصلــح بـي ــن خالــد ب ــن الوليــد ر�ضــي هللا عنــه وأهــل الحي ــرة « :وجعلــت لهــم ّأيمــا شــيخ ضعــف عــن العمــل ،أو أصابتــه ّ يتصدقــون آفــة مــن اآلفــات ،أو كان غن ـ ًّـيا فافتقــر ،وصــار أهــل دي ــنه عليــه طرحــت جزيتــه ،وعيــل مــن ب ــيت مــال املسلمي ــن وعيالــه مــا أقــام بــدار الهجــرة ودار اإلســام ،فــإن خرجــوا إلــى غي ــر دار الهجــرة ودار اإلســام فليــس علــى املسلمي ــن ّ النفقــة علــى عيالهــم» (.)15 كمــا دلــت هــذه العقــود ،علــى َّأن عجــز املسلمي ــن عــن حمايتهــم يقت�ضــي إرجــاع أموالهــم الت ــي دفعوهــا علــى أنهــا جزيــة ،ألنهــا إنمــا شــرعت فــي مقابــل دخولهــم تحــت حمايــة املسلمي ــن ،وممــا ورد فــي ذلــك مــا ذكــره أبــو يوســف مــن َّأن أبــا عب ــيدة ب ــن الجـ ّـراح عندمــا
المنهج األصولي في تفسيـر النصوص
العدد 2رجب 1439هـ
ّ الشــام ّ بتجمــع الـ ّـروم ملقاتلــة املسلمي ــن كتب أعلمــه ّنوابــه علــى مــدن ّ خلفــه فــي املــدن الت ــي صالــح أهلهــا يأمرهــم أن ي ـ ّ ـردوا وال ممــن إلــى كل ٍ ُ عليهــم مــا جب ــي مــن الجزيــة والخ ـراج ،وكتــب إليهــم أن يقولــوا لهــم: ّ ّ «إنمــا رددنــا عليكــم أموالكــم ،ألنــه قــد بلغنــا مــا ُج ِمــع لنــا مــن الجمــوع، ّ ّ وأنكــم اشت ــرطتم علي ــنا أن نمنعكــم ،وإنــا ال نقــدر علــى ذلــك.)16( ».. وورد من ذلك َّ أخبار دالة على َّأن عجز املسلميـن عن حمايتهم عدة ٍ يوجــب إرجــاع مــا دفعــوه مــن الجزيــة. وبـناء على ما َّ تقدم ُّ أود أن ّ أسجل املالحظات اآلتـية: ِ - 1يجب أن يـنظر اإلمام في مصلحة املسلميـن ليحدد كيفية التعامل مع رعايا الدولة من غيـر املسلميـن ،كما فعل عمر ر�ضي هللا عنه مع بـنـي تغلب. ً وب ــناء علــى ذلــك يمكنــه أن يأخــذ منهــم مــال باســم الضرائــب أو الصدقــة أو غي ــر ذلــك ،مقابــل مــا يلــزم مــن حمايتهــم ،ومــا ّ يعبــرون بــه ِ عــن مواطنتهــم (الخضــوع لنظــام الدولــة). - 2يدفــع املســلمون الــزكاة ُّ تعبـ ًـدا ،ويمكــن أن تكــون الجزيــة فــي مقابلهــا؛ َّ ألن غي ــر املســلم ال ُت َ قبـ ُـل منــه القربــات. - 3ظاهــر األدلــة تشي ــر إلــى َّأن الجزيــة تـ َّ ـؤدى بمقابــل الحمايــة ،فهــي ال تؤخــذ إال ممــن يســتطيع القتــال ،وت ـ ُّ ـرد فــي حالــة عــدم القــدرة علــى حمايتهــم ،وهــم كانــوا إذ ذاك ال يقاتلــون مــع املسلمي ــن. وب ــناء علــى هــذه املالحظــات فـ َّ ـإن أهــل الطوائــف اليــوم ،ممــن ثبــت ً كفــره ،ي ــنظر فــي اآلليــة الت ــي ُيثبـ ُـت فيهــا َ والءه للدولــة ،بــأن يدفــع مبلغــا ِ مقابــل إعفائــه مــن الخدمــة العســكرية ،أو أن يشت ــرك مــع املسلمي ــن فــي حمايــة بلــده ،وعندهــا تســقط عنهــم الجزيــة ،إذ كانــت مقابــل حمايتنــا لهــم ،وهــم يدفعونهــا بشــكل َبـ َـد ٍل عــن خدمــة العلــم علــى مــا تسـ َّـمى اليــوم ،أو يشت ــركون فــي حمايــة البلــد أســوة باملسلمي ــن. وقــد ذهــب إلــى هــذا القــول عــدد مــن العلمــاء املعاصري ــن ،منهــم الدكتــور عبــد الكريــم زيــدان( )17والدكتــور القرضــاوي(.)18 َّ ومما ُّ يدل على جواز إسقاط الجزية عنهم إذا اشتـركوا في حماية البلد املسلم،سوابقتار َّ يخيةمتعددة،ذكرهااملؤرخوناملسلمونكالطبـري وغي ــره ،ومــن ذلــك مــا ذكــره البــاذري فــي فتــوح البلــدان( )19مــن مصالحــة والي أبـي عبـيدة بـن الجراح ر�ضي هللا عنه للجراجمة (املسيحييـن) على عونا ً أن يكونوا ً وعيونا للمسلميـن مقابل إسقاط الجزية عنهم.
( )14املرجع السابق )15( - .581/10 ،الخراج ألبـي يوسف ص .156 كتابه :أحكام الذمييـن واملستأمنـيـن في دار اإلسالم ،ص 157ـ .158 ( )16املرجع السابق ،ص )17( - .139وذلك في ِ ( )18وذلك في كتابه :غيـر املسلميـن في املجتمع اإلسالمي ص . 28 ( )19فتوح البلدان ص .217وذكر د .عبد الكريم زيدان رحمه هللا ً عددا من هذه السوابق في كتابه أحكام الذمييـن ...ص 155وما بعد.
70
ِ خات ٌة
ّ السوري: نظرة بإنزال هذا الحكم على الواقع ِ
َّ الواقعية اآلتـية: ال ّبد بعد بـيان الحكم من مالحظة املعطيات ً ـورية امتـ ٌ أول :حــال الطوائــف املنتشــرة فــي الجغرافيــا السـ َّ ـداد إلق ـرار املسلمي ــن لهــا عب ــر القــرون ،منــذ العصــر العبا�ســي ،مــرو ًرا ً بالعصــر العثمان ــي ووصــول للعصــر الحديــث. فليــس إقرارهــا اليــوم ً بدعــا مــن األمــر ،بــل هــو منهــج املسلمي ــن فــي التعامــل مــع غي ــر املسلمي ــن فــي املجتمــع اإلسـ ّ ـامي عب ــر العصــور. َّ األقليــات وال إلــى تهجي ــرهم ،هنــاك ثان ـ ًـيا :ال سب ــيل إلــى إفنــاء مئــات آالف السوريي ــن مــن هــذه األقليــات فــي ســوريا ،بعضهــم ي ــريد التعايــش بصــدق ،وإقرارهــم ضمــن تفاهمــات هــو السب ــيل لالســتفادة منهــم بــدل معاداتهــم. ً ـص الفقهــاء علــى َّ ثالثــا :نـ َّ أن عقــد الجزيــة هــو مــا يحقــق مقاصــد الشــريعة الغ ـراء فــي هدايــة النــاس وإرشــادهم ،فمــن ذلــك مــا قالــه ُ اب ــن العرب ــي« :لــو قتــل الكافــر ليئــس مــن الفــاح ووجــب عليــه الهلكــة ،فــإذا أعطــى الجزيــة وأمهــل لعلــه أن يتدب ــر الحــق وي ــرجع إلــى الصــواب ،ال ســيما بمراقبــة أهــل الدي ــن والتــدرب بســماع مــا عنــد املسلمي ــن؛ أال ت ــرى أن عظيــم كفرهــم لــم يمنــع مــن إدرار رزقــه ســبحانه عليهــم ،وقــد قــال النب ــي صلــى هللا عليــه وســلم« :ليــس أحــد أصبـر على أذى من هللا يعافيهم ويـرزقهم وهم يدعون له الصاحبة والولــد»( ،)20ومــا قالــه القرافـ ّـي رحمــه هللا ّ « :إن قاعــدة الجزيــة مــن ّ بــاب التـزام املفســدة ّ الدن ــيا لدفــع املفســدة العليــا وتوقــع املصلحــة، ّ الشـ ّ ـرعية ،ب ــيانهّ :أن الكافر إذا قتل انسـ ّـد وذلك هو شــأن القواعد ّ عليه باب اإليمان ،وباب مقام ســعادة اإليمان ،وتحتم عليه الكفر والخلــود فــي ّ النــار ،وغضــب ّ الد ّيــان»(. )21 ولــو ربطنــا كالمهــم هــذا بواقعنــا ألدركنــا َّأن املصلحــة الديـن ـ َّـية ـيوية ّ متحققــة بإقرارهــم ،ولعلنــا نعلــم َّ أن عـ ً والدن ـ َّ ـددا مــن العائــات ِ النصي ـ َّـرية املشــهورة اختلطــت بأهــل السـ َّـنة فــي دمشــق فــكان منهــا علمــاء وتجــار مؤمنــون يســعون فــي مصالــح املسلمي ــن ،ويدعمــون الدعــوة اإلسـ َّ ـامية كمــا يعــرف أهــل دمشــق وغي ــرهم(.)22
العدد 2رجب 1439هـ
ً َّ رابعــا :كانــت األقليــات -وال ت ـزال -وســيلة األجنب ـ ّـي للتدخــل فــي ُّ البــاد وذريعتــه للتحكــم فــي قراراتهــا ،وقــد يدفــع هــذا بعــض النــاس ُّ العتبارهــم خطـ ًـرا يجــب التخلــص منــه ،وهــو تفكي ــر ثبــت خطــؤه َ ّ تاريخيــا ،واألولــى است ــيعابهم ضمــن مواطن ــي الدولــة ،وإقناعهــم ْ بصد ِقنــا فــي الرغبــة بالتعايــش معهــم دون مشــكالت ،وهــذا يقطــع يــد التدخــل األجنب ـ ّـي بحجــة مســاعدتهم والدفــاع عنهــم ،وبقاؤهــم فــي ظــل الدولــة الت ــي تحكــم بالعــدل مهــم لطمأنتهــم مــن جهــة، ولبقائهــم تحــت مراقبــة الدولــة مــن جهــة أخــرى ،وقــد تقـ َّـدم معنــا َّ أن هــذا مــا دفــع عمــر ر�ضــي هللا عنــه لقبــول الجزيــة باســم الصدقــة مــن نصــارى بـن ــي تغلــب ،وفــي التاريــخ شــواهد مماثلــة منهــا صن ــيع الســلطان عبــد الحميــد مــع بعــض الطوائــف فــي شــمال ســوريا، فـ َّ ـإن ضيــاء باشــا الــذي بعثــه ليستكشــف أمرهــم رأى ميلهــم إلي ـران ومحاولــة األمريكيي ــن الســتقطابهم عب ــر املــدارس ،فــكان أن قطــع السـ ُ ـلطان الطريـ َـق علــى هــؤالء بمــا فعلــه مــن محاولــة إصالحهــم(.)23 هــذا مــا أراه ً فهمــا إلعمـ ِـال قواعــد األصــول فــي اســتنباط األحــكام مــن النصــوص ،وهــي قواعــد ضابطــة لالســتنباط منضبطــة ً ب ــنفسها وليســت فضفاضــة بحيــث نقــول مثــا( :حيثمــا وجــدت املصلحــة فثـ َّـم وجــه الشـ ِـرع) دون تفصيــل وب ــيان ودون النظــر فــي آحــاد النصــوص علــى وفــق قواعــد الداللــة والب ــيان ،كمــا أودعهــا األصليــون فــي كتبهــم ...بــل الحـ ُّـق فــي النظــر فــي النصــوص وتحكيــم قواعــد العرب ــية فــي فهمهــا ،والتــزام ب ــيان الرســول صلــى هللا عليــه وســلم ،والنظــر فــي الجمــع بـي ــن ذلــك وبـي ــن املصلحــة العامــة ،فــإن أمكــن الجمــع دون تحريــف وتغيي ــر ملنطــوق النصــوص ومفهومهــا فحيهــا ،وإن لــم يمكــن فاملرجعيــة للنــص ً وآخـ ًـرا ،واملصلحــة فــي مقابلــة النــص موهومــة غي ــر حقيقيــة. أول ِ َّإن علــم أصــول الفقــه مــن حيــث أسســه ومنطلقاتــه قطعــي ال َّ مرجعي ِتـ ِـهِ ،لكــن الجمــود علــى كالم املتقدمي ــن دون سب ــيل إللغــاء ٌ ً مالحظــة تطب ــيقهم لقواعــده أكان ســديدا أم دخلــه الخطــأ؛ آفــة َ علقــت ببعــض املسلمي ــن وال بــد مــن اجتثاثهــا بالحكمــة واملوعظــة ِ الحســنة ...وهللا أعلــم وهــو يهــدي السب ــيل.
( )20أحكام القرآن البـن العربـي ،482/2والحديث أخرجه البخاري رقم ،5634ومسلم ،بـرقم 5016بألفاظ قريبة ،ولفظ البخاري، ولداَّ ، وهو األقرب للمذكور« ،ليس أحد ـ أو ليس �شيء ـ أصبـر على أذى سمعه من هللاَّ ،إنهم ليدعون له ً وإنه ليعافيهم ويـرزقهم». ( )21الفروق للقرافي .10/3 ( )22كان الشيخ صافي حيدر ـ رحمه هللا ـ ً إماما في صالة الفجر في جامع منجك في منطقة امليدان من أحياء دمشق القديمة، ً حافظا لكتاب هللا .وهذا مثال واقعي رصدته بـنف�سيَّ ، كما كان ولدي أمثلة متعددة في هذا الباب. ( ) 23خطط الشام ،)58/6( ،)106_105/3( ،سوريا والعهد العثماني ،يوسف الحكيم ،ص .71_70
71
اإلسالم من َّ ُ الظاهرة القوم ّية موقف ِ
اإلسالم من َّ ُ الظاهرة القوم ّية موقف ِ
العدد 2رجب 1439هـ
ُ اإلسالم من موقف ِ
َّ القومية اهرة الظ ّ د .حسيـن عبد الهادي آل بكر -رئيس التحريـر عضو األمانة العامة للمجلس اإلسالمي السوري
مــن النافــذة القرآن ــية نســتلهم مفهومنــا للظاهــرة القوميــة مــن حيــث كونهــا ظاهــرة اجتماعيــة وفطــرة إنسان ــية مشــروعة فــي حدودهــا الت ــي شــرعها هللا لهــا ،وإذا كان اإلســام قــد اعت ــرف بالفطــرة الجنســية ،والفطــرة العائليــة ،وفطــرة التملــك ،ووضــع لــكل فطــرة قوانـي ــنها ،فهــل يعقــل وهــودي ــن الفطــرة أن ي ــنكرالفطــرة االجتماعيــة واللغويــة الت ــي اصطلــح علــى تســميتها بالقوميــة؟ فالقوميــة ظاهــرة اجتماعيــة ولغويــة ولكنهــا ليست عقيدة ،وال بد لها من عقيدة تستلهمها وتســتهدي بهــا ،وعندمــا تتحــول هــي بذاتهــا إلــى عقيدة تق�ضي على نفســها كما فعلت النازية. وكل قوميــة مســلمة تســتوعب الــروح اإلسالمية الحقة يمكن أن تحقق ذاتها وتفجر طاقاتهــا ،وتأخــذ امتدادهــا الطب ــيعي دون أن تقــع فــي محــذور القوميــات العنصريــة النازيــة والفاشية ،أو القوميات اإللحادية والعلمانـية. الخطــأ الــذي وقــع فيــه القوميــون فــي العالــم اإلســامي هــو اســتخدامهم تعبـي ــر العقيــدة القوميــة ،فاصطدمــوا مــع اإلســام عقيــدة ً ً ونظامــا وســلوكا ،وخاضــوا معــارك خاســرة فــي هــذا امليــدان ،وأصبحــت شــعاراتهم وأطروحاتهــم شــيكات بــدون رصيــد ألنهــا تتعــارض مــع الفطــرة ومــع العقيــدة. وإذا كان القوميــون قــد أخطــؤوا عندمــا حولــوا القوميــة مــن ظاهــرة إلــى عقيــدة ،فــإن بعــض اإلسالميي ــن أخطــؤوا أيضــا عندمــا ذهبــوا إلــى تجاوز الحقيقة ،فألغوها نهائيا كأنها لم تكن، ( )1رواه أبو داوود والنسائي وابـن ماجه.
ووضعــوا اإلســام فــي خــاف معهــا بــدون مب ــرر خالفــا ملنطــق اإلســام نفســه الــذي اعت ــرف بهــذه الظاهــرة الت ــي تحــدث عنهــا الق ـرآن فــي َ َ ((يــا أ ُّي َهــا العديــد مــن آياتــه ،قــال هللا ســبحانه: َّ ُ َّ َ َ ْ َ ُ ْ ْ َ َ َ ُ ْ َ َ َ َ ْ َ ُْ الناس ِإنا خلقناكم ِمن ذك ٍر وأنثى وجعلناكم َ َْ ُ ُ ُ شـ ُـع ًوبا َوق َبا ِئـ َـل ِل َت َع َارفــوا ِإ َّن أك َر َمكـ ْـم ِع ْنـ َـد َ هللا َأ ْت َق ُاكـ ْـم إ َّن َ هللا َع ِليـ ٌـم خ ِبي ـ ٌـر)) [ ســورة ِ ِ الحج ـرات :آيــة .]13 يمكــن أن نســتنبط مــن هــذه اآليــة الكريمــة االعت ـراف بالقوميــة الفطريــة واللغويــة وأيضــا الدعــوة إلــى تعــارف القوميــات والحضــارات، ولذلــك ال يمكــن إلغــاء القوميــة كظاهــرة اجتماعيــة و لغويــة ،وإال فلمــاذا لــم يســتعرب الت ــرك والكــرد والفــرس والبـرب ــر فــي تاريخنــا اإلسالمي؟! فمن املفهوم أن ّ تتصدى الحقيقة اإلســامية للماركســية والليب ـرالية والعلمان ــية وغي ــرها ،أمــا تصديهــا للحقيقــة القوميــة فــي مفهومهــا الــذي أوضحنــاه فغي ــر صحيــح.
ما هي القومية التـي يعتـرف بها اإلسالم؟ ال بــد مــن التفريــق بـي ــن قوميتـي ــن ،األولــى:
القومية الجنسية كظاهرة فطرية اجتماعية لغويــة ،والثان ــية :القوميــة العصب ــية كظاهــرة سلب ــية فــي املجتمــع اإلنسان ــي. فأمــا األولــى فقــد اعت ــرف بهــا اإلســام ،وأمــا الثان ــية فقــد حاربهــا اإلســام ،وقــال عنهــا الرســول صلــى هللا عليــه وســلم(( :ليــس منــا مــن دعــا إلــى عصب ــية ،وليــس منــا مــن قاتــل علــى عصبـية ،وليس منا من مات على عصبـية))(.)1 وأعتقــد أن النصــوص القرآن ــية وأحاديــث الرسول صلى هللا عليه وسلم ومسيـرة التاريخ اإلســامي يمكــن أن تحســم الجــدل حــول هــذا املوضوع الذي دار حوله خالف كبـيـر وخطيـر فــي الحيــاة اإلســامية اليــوم ،ومــا زال يثي ــر الخالفــات واملشــاكل ويعرقــل سي ــر هــذه األمــة فــي طريــق التطــور الســليم.
حقيقةالقومية كمــا أن هللا تعالــى خلــق الثنائيــة بـي ــن الذكــر واألنثى لحفظ النوع البشري من خالل التزاوج والتناســل فإنــه خلــق التعدديــة بـي ــن الشــعوب والقبائــل لتسي ــر غايــة االنتمــاء الفــردي 72
لإلنســان إلــى جماعــة طب ــيعية تحميــه وتنمــي شــخصيته. وتتحقــق غايــة الجماعــات فــي إطــار الرابطــة اإلنسان ــية والقوانـي ــن اإللهيــة؛ حيــث يتقــرر التمايــز والتفاضــل بـي ــن جماعــة وأخــرى بمــدى اقت ـرابها مــن املثــل العليــا ،وأمــا تعـ ّـدد الشــعوب وتنوعهــا فــإن ذلــك موجــود بأمــر َ َ ((يــا أ ُّي َهــا الخالــق وحكمتــه ...قــال هللا ســبحانه: َّ ُ َّ َ َ ْ َ ُ ْ ْ َ َ َ ُ ْ َ َ َ َ ْ َ ُْ النــاس ِإنــا خلقناكــم ِمــن ذكـ ٍـر وأنثــى وجعلناكــم َ َ ُ َّ َ ْ َ ُ ْ َ ُ ُ ً َََ هللا َشــعوبا وقبا ِئـ َـل ِلتع َارفــوا ِإن أك َرمكـ ْـم ِعنــد ِ َْ ُ أتقاكـ ْـم [ ))...ســورة الحج ـرات :آيــة.]13 َ ْ ُ «ج َعل َناك ْم» فعل إلهي ال ر ّاد له لتحقيق وفعل َ َ َُ التعــاون«ِ ،لتعارفــوا» بــدل الحــروب والنزاعــات والتنافس للوصول إلى هدف الســبق إلى املثل العليــا املتمثلــة باالســتقامة فــي أمــور الدي ــن َّ َ ْ َ َ ُ ْ ْ َ َ ْ َ ُ هللا أتقاكـ ْـم». والدن ــيا ِ«إن أكرمكــم ِعنــد ِ إن اختــاف اللغــات يشي ــر إلــى جوهــر التباي ــن القومي بـيـن الشعوب ،وباإلضافة إلى هذا فإن اختــاف األلــوان يشي ــر إلــى التباي ــن الطب ــيعي بـي ــن األقــوام ،قــال هللا تعالــىَ (( :و ِمـ ْـن َآيا ِتـ ِـه ْ َ ُ َْ َ ُ َخ ْلـ ُـق َّ السـ َـم َاو ِ َ ْ َ ْ ض َواخ ِتــاف أل ِســن ِتك ْم ات والر ِ َْ ُ َوأل َوا ِنكـ ْـم)) [ســورة الــروم :اآليــة.]22 وعندمــا ثــاب النــاس إلــى إلــه واحــد ،وقــف الجميــع رافعــي الــرؤوس أمــام بعضهــم البعض، وانتهــت أســطورة الدمــاء املتفاضلــة ،واألجنــاس املتفاضلــة ...كانــت قريــش تســمي نفســها الحمــس ،وتفــرض لنفســها حقوقــا وتقاليــد ليســت لســائر العــرب ،وكانــت األرض كلهــا مــن حولالجزيـرةالعربـيةتعجبالعصبـياتالقائمة علــى اختــاف الدمــاء واألجنــاس وتفاضلهــا، وبـي ــنما كان هــذا الواقــع سـ ً ـائدا فــي األرض كلهــا، كان اإلســام يخاطــب الفطــرة مــن تحــت ركام الواقــع ،الفطــرة الت ــي تنكــر هــذا كلــه وال تعرفــه. وكانــت اســتجابة الفطــرة لنــداء اإلســام أقــوى ( )2رواه اإلمام أحمد في مسنده.
مــن هــذا الواقــع الثقيــل واســتمعت إلــى قــول رســول هللا صلــى هللا عليــه وســلم يقــول للنــاس جميعــا(( :أيهــا النــاس إن ربكــم واحــد ،وأباكــم واحــد ،كلكــم آلدم وآدم مــن ت ـراب ،إن أكرمكــم عند هللا أتقاكم ،وليس لعربـي على عجمي وال لعجمي على عرب ــي ،وال ألحمر على أب ــيض ،وال ألب ــيض علــى أحمــر فضــل إال بالتقــوى))(.)2 ودخــل النــاس فــي دي ــن هللا أفواجــا بعــد أن حررهــم اإلســام مــن عصب ــية القب ــيلة، وعصب ــية البلــد ،وعصب ــية الوطــن ،وعصب ــية اللــون ،وعصب ــية الجنــس الت ــي كانــت تســود وجــه األرض كلــه ،جــاء اإلســام ليقــول للنــاس: إن هنــاك إنسان ــية واحــدة ت ــرجع إلــى أصــل واحــد ،وتتجــه إلــى إلــه واحــد. ولــم تقــف وراثــة لــون ،وال وراثــة جنــس ،وال وراثــة طبقــة ،وال وراثــة ب ــيت ،دون أن يعيــش النــاس إخوانــا. ومــن املؤســف ًّ حقــا أن نجــد اليــوم بـي ــننا نحــن املسلمي ــن عصب ــيات شــتى صغي ــرة مــا زالــت تعيــش عصب ــيات األرض والوطــن ،وعصب ــيات الجنــس والقــوم ،وعصب ــيات اللــون و اللســان. ي ــنبغي أن نــدرك ً تمامــا أن فكــرة املســاواة فــي ظــل الحكــم العــادل مــا زالــت مــن أولويــات املسلمي ــن اليــوم؛ باســتثناء الفلــول التائهــة مــن بقايــا دعــاة القوميات في العالم اإلسالمي ،ولكنهم على أرض الواقع اليوم غثاء ال وزن لهم وال قيمة وال كرامة. لقــد قــال اإلســام كلمتــه املدويــة :إن كرامــة اإلنســان مســتمدة مــن إنسان ــيته ذاتهــا ال مــن أي عــرض آخــر كالجنــس واللــون أو الطبقــة واملنصــب ،والحقــوق األصليــة لإلنســان مســتمدة مــن تلــك اإلنسان ــية الت ــي ت ــرجع إلــى أصل واحد .وعلم منذئذ أن اإلنسان بجنسه كريم على هللا ،وأن كرامته ذاتـية أصلية ،ألنها ََ تنبــع مــن كونــه إنسـ ًـانا ،قــال ســبحانهَ ((:ولقـ ْـد
العدد 2رجب 1439هـ
َ ك َّر ْم َنــا َب ِن ــي َآد َم)) [ســورة اإلس ـراء.]70/ ـادا جديـ ًـدا لإلنســان ،ميـ ً وكان هــذا ميـ ً ـادا ّ أعظم من امليالد الح�سي ،فما اإلنسان إذا لم تكــن لــه حقــوق اإلنســان وكرامــة اإلنســان. وقــد كــون اإلســام األمــة الواحــدة ،وجمعهــا علــى آصــرة العقيــدة ،فقــال ســبحانهِ (( :إ َّن ً ََ ُ َ ُ ُ ُ ً َهـ ِـذ ِه أ َّم ُتكـ ْـم أ َّمــة َو ِاحـ َـدة َوأنــا َ ُّربكـ ْـم ف ْاع ُبـ ُـدو ِن)) [سورة األنبـياء ]92/ولكن اإلسالم حيـن جمع النــاس علــى آصــرة العقيــدة وجعلهــا هــي قاعــدة التجمــع ،ولــم يجعــل اإلك ـراه علــى العقيــدة قاعــدة الحركــة فيــه ،وال قاعــدة التعامــل ،لــم يجعــل شـريعة الغــاب هــي الت ــي تحكــم عالقتــه باآلخري ــن الذي ــن ال يعتنقــون عقيدتــه. لقــد فــرض هللا الجهــاد علــى املسلمي ــن ال ليكرهــوا النــاس علــى اعتنــاق اإلســام ،ولكــن ليقيمــوا فــي األرض نظامــه الشــامخ العــادل القويــم ،علــى أن يختــار النــاس عقيدتهــم الت ــي يحبــون ،فــي ظــل هــذا النظــام الــذي يشــمل املســلم و غي ــر املســلم فــي عــدل تــام، قــال ســبحانهَ (( :ل إ ْكـ َـر َاه فــي ّ الدي ـ ِـن)) [ســورة ِ ِ ِ البقــرة ،]256/وبالتالــي ال إك ـراه فــي السياســة وهــو مــن بــاب أولــى. إن البش ـرية بــكل أنظمهــا السياســية واالجتماعيــة لــم ت ـرتفع إلــى املســتوى األخالقــي الــذي بلغتــه الجماعــة املســلمة فــي التعامــل اإلنسانـيمعكلالبشراآلخريـنالذيـنعاشوافي عصر قوتها ،وإننا في هذا العصر وفي ظل تحكم غيـراملسلميـنفياملصيـرالعالمينشهدكليوم نكساتمخزيةتقعأمامأعيـنناحتىفيالقوانـيـن الدوليــة النظريــة ،بحيــث أصبحــت حالنــا أسـوأ بكثي ــر مــن حالــة الوحــوش فــي الغابــات. إنــه رغــم كل مــا يدعيــه الغــرب مــن حــرص علــى العدالــة اإلنسان ــية فــإن كل دوافعــه فــي الحــرب والســلم لــم ت ـرتفع قــط عــن املصالــح واملغانــم، 73
اإلسالم من َّ ُ الظاهرة القوم ّية موقف ِ
اإلسالم من َّ ُ الظاهرة القوم ّية موقف ِ
العدد 2رجب 1439هـ
ُ اإلسالم من موقف ِ
َّ القومية اهرة الظ ّ د .حسيـن عبد الهادي آل بكر -رئيس التحريـر عضو األمانة العامة للمجلس اإلسالمي السوري
مــن النافــذة القرآن ــية نســتلهم مفهومنــا للظاهــرة القوميــة مــن حيــث كونهــا ظاهــرة اجتماعيــة وفطــرة إنسان ــية مشــروعة فــي حدودهــا الت ــي شــرعها هللا لهــا ،وإذا كان اإلســام قــد اعت ــرف بالفطــرة الجنســية ،والفطــرة العائليــة ،وفطــرة التملــك ،ووضــع لــكل فطــرة قوانـي ــنها ،فهــل يعقــل وهــودي ــن الفطــرة أن ي ــنكرالفطــرة االجتماعيــة واللغويــة الت ــي اصطلــح علــى تســميتها بالقوميــة؟ فالقوميــة ظاهــرة اجتماعيــة ولغويــة ولكنهــا ليست عقيدة ،وال بد لها من عقيدة تستلهمها وتســتهدي بهــا ،وعندمــا تتحــول هــي بذاتهــا إلــى عقيدة تق�ضي على نفســها كما فعلت النازية. وكل قوميــة مســلمة تســتوعب الــروح اإلسالمية الحقة يمكن أن تحقق ذاتها وتفجر طاقاتهــا ،وتأخــذ امتدادهــا الطب ــيعي دون أن تقــع فــي محــذور القوميــات العنصريــة النازيــة والفاشية ،أو القوميات اإللحادية والعلمانـية. الخطــأ الــذي وقــع فيــه القوميــون فــي العالــم اإلســامي هــو اســتخدامهم تعبـي ــر العقيــدة القوميــة ،فاصطدمــوا مــع اإلســام عقيــدة ً ً ونظامــا وســلوكا ،وخاضــوا معــارك خاســرة فــي هــذا امليــدان ،وأصبحــت شــعاراتهم وأطروحاتهــم شــيكات بــدون رصيــد ألنهــا تتعــارض مــع الفطــرة ومــع العقيــدة. وإذا كان القوميــون قــد أخطــؤوا عندمــا حولــوا القوميــة مــن ظاهــرة إلــى عقيــدة ،فــإن بعــض اإلسالميي ــن أخطــؤوا أيضــا عندمــا ذهبــوا إلــى تجاوز الحقيقة ،فألغوها نهائيا كأنها لم تكن، ( )1رواه أبو داوود والنسائي وابـن ماجه.
ووضعــوا اإلســام فــي خــاف معهــا بــدون مب ــرر خالفــا ملنطــق اإلســام نفســه الــذي اعت ــرف بهــذه الظاهــرة الت ــي تحــدث عنهــا الق ـرآن فــي َ َ ((يــا أ ُّي َهــا العديــد مــن آياتــه ،قــال هللا ســبحانه: َّ ُ َّ َ َ ْ َ ُ ْ ْ َ َ َ ُ ْ َ َ َ َ ْ َ ُْ الناس ِإنا خلقناكم ِمن ذك ٍر وأنثى وجعلناكم َ َْ ُ ُ ُ شـ ُـع ًوبا َوق َبا ِئـ َـل ِل َت َع َارفــوا ِإ َّن أك َر َمكـ ْـم ِع ْنـ َـد َ هللا َأ ْت َق ُاكـ ْـم إ َّن َ هللا َع ِليـ ٌـم خ ِبي ـ ٌـر)) [ ســورة ِ ِ الحج ـرات :آيــة .]13 يمكــن أن نســتنبط مــن هــذه اآليــة الكريمــة االعت ـراف بالقوميــة الفطريــة واللغويــة وأيضــا الدعــوة إلــى تعــارف القوميــات والحضــارات، ولذلــك ال يمكــن إلغــاء القوميــة كظاهــرة اجتماعيــة و لغويــة ،وإال فلمــاذا لــم يســتعرب الت ــرك والكــرد والفــرس والبـرب ــر فــي تاريخنــا اإلسالمي؟! فمن املفهوم أن ّ تتصدى الحقيقة اإلســامية للماركســية والليب ـرالية والعلمان ــية وغي ــرها ،أمــا تصديهــا للحقيقــة القوميــة فــي مفهومهــا الــذي أوضحنــاه فغي ــر صحيــح.
ما هي القومية التـي يعتـرف بها اإلسالم؟ ال بــد مــن التفريــق بـي ــن قوميتـي ــن ،األولــى:
القومية الجنسية كظاهرة فطرية اجتماعية لغويــة ،والثان ــية :القوميــة العصب ــية كظاهــرة سلب ــية فــي املجتمــع اإلنسان ــي. فأمــا األولــى فقــد اعت ــرف بهــا اإلســام ،وأمــا الثان ــية فقــد حاربهــا اإلســام ،وقــال عنهــا الرســول صلــى هللا عليــه وســلم(( :ليــس منــا مــن دعــا إلــى عصب ــية ،وليــس منــا مــن قاتــل علــى عصبـية ،وليس منا من مات على عصبـية))(.)1 وأعتقــد أن النصــوص القرآن ــية وأحاديــث الرسول صلى هللا عليه وسلم ومسيـرة التاريخ اإلســامي يمكــن أن تحســم الجــدل حــول هــذا املوضوع الذي دار حوله خالف كبـيـر وخطيـر فــي الحيــاة اإلســامية اليــوم ،ومــا زال يثي ــر الخالفــات واملشــاكل ويعرقــل سي ــر هــذه األمــة فــي طريــق التطــور الســليم.
حقيقةالقومية كمــا أن هللا تعالــى خلــق الثنائيــة بـي ــن الذكــر واألنثى لحفظ النوع البشري من خالل التزاوج والتناســل فإنــه خلــق التعدديــة بـي ــن الشــعوب والقبائــل لتسي ــر غايــة االنتمــاء الفــردي 72
لإلنســان إلــى جماعــة طب ــيعية تحميــه وتنمــي شــخصيته. وتتحقــق غايــة الجماعــات فــي إطــار الرابطــة اإلنسان ــية والقوانـي ــن اإللهيــة؛ حيــث يتقــرر التمايــز والتفاضــل بـي ــن جماعــة وأخــرى بمــدى اقت ـرابها مــن املثــل العليــا ،وأمــا تعـ ّـدد الشــعوب وتنوعهــا فــإن ذلــك موجــود بأمــر َ َ ((يــا أ ُّي َهــا الخالــق وحكمتــه ...قــال هللا ســبحانه: َّ ُ َّ َ َ ْ َ ُ ْ ْ َ َ َ ُ ْ َ َ َ َ ْ َ ُْ النــاس ِإنــا خلقناكــم ِمــن ذكـ ٍـر وأنثــى وجعلناكــم َ َ ُ َّ َ ْ َ ُ ْ َ ُ ُ ً َََ هللا َشــعوبا وقبا ِئـ َـل ِلتع َارفــوا ِإن أك َرمكـ ْـم ِعنــد ِ َْ ُ أتقاكـ ْـم [ ))...ســورة الحج ـرات :آيــة.]13 َ ْ ُ «ج َعل َناك ْم» فعل إلهي ال ر ّاد له لتحقيق وفعل َ َ َُ التعــاون«ِ ،لتعارفــوا» بــدل الحــروب والنزاعــات والتنافس للوصول إلى هدف الســبق إلى املثل العليــا املتمثلــة باالســتقامة فــي أمــور الدي ــن َّ َ ْ َ َ ُ ْ ْ َ َ ْ َ ُ هللا أتقاكـ ْـم». والدن ــيا ِ«إن أكرمكــم ِعنــد ِ إن اختــاف اللغــات يشي ــر إلــى جوهــر التباي ــن القومي بـيـن الشعوب ،وباإلضافة إلى هذا فإن اختــاف األلــوان يشي ــر إلــى التباي ــن الطب ــيعي بـي ــن األقــوام ،قــال هللا تعالــىَ (( :و ِمـ ْـن َآيا ِتـ ِـه ْ َ ُ َْ َ ُ َخ ْلـ ُـق َّ السـ َـم َاو ِ َ ْ َ ْ ض َواخ ِتــاف أل ِســن ِتك ْم ات والر ِ َْ ُ َوأل َوا ِنكـ ْـم)) [ســورة الــروم :اآليــة.]22 وعندمــا ثــاب النــاس إلــى إلــه واحــد ،وقــف الجميــع رافعــي الــرؤوس أمــام بعضهــم البعض، وانتهــت أســطورة الدمــاء املتفاضلــة ،واألجنــاس املتفاضلــة ...كانــت قريــش تســمي نفســها الحمــس ،وتفــرض لنفســها حقوقــا وتقاليــد ليســت لســائر العــرب ،وكانــت األرض كلهــا مــن حولالجزيـرةالعربـيةتعجبالعصبـياتالقائمة علــى اختــاف الدمــاء واألجنــاس وتفاضلهــا، وبـي ــنما كان هــذا الواقــع سـ ً ـائدا فــي األرض كلهــا، كان اإلســام يخاطــب الفطــرة مــن تحــت ركام الواقــع ،الفطــرة الت ــي تنكــر هــذا كلــه وال تعرفــه. وكانــت اســتجابة الفطــرة لنــداء اإلســام أقــوى ( )2رواه اإلمام أحمد في مسنده.
مــن هــذا الواقــع الثقيــل واســتمعت إلــى قــول رســول هللا صلــى هللا عليــه وســلم يقــول للنــاس جميعــا(( :أيهــا النــاس إن ربكــم واحــد ،وأباكــم واحــد ،كلكــم آلدم وآدم مــن ت ـراب ،إن أكرمكــم عند هللا أتقاكم ،وليس لعربـي على عجمي وال لعجمي على عرب ــي ،وال ألحمر على أب ــيض ،وال ألب ــيض علــى أحمــر فضــل إال بالتقــوى))(.)2 ودخــل النــاس فــي دي ــن هللا أفواجــا بعــد أن حررهــم اإلســام مــن عصب ــية القب ــيلة، وعصب ــية البلــد ،وعصب ــية الوطــن ،وعصب ــية اللــون ،وعصب ــية الجنــس الت ــي كانــت تســود وجــه األرض كلــه ،جــاء اإلســام ليقــول للنــاس: إن هنــاك إنسان ــية واحــدة ت ــرجع إلــى أصــل واحــد ،وتتجــه إلــى إلــه واحــد. ولــم تقــف وراثــة لــون ،وال وراثــة جنــس ،وال وراثــة طبقــة ،وال وراثــة ب ــيت ،دون أن يعيــش النــاس إخوانــا. ومــن املؤســف ًّ حقــا أن نجــد اليــوم بـي ــننا نحــن املسلمي ــن عصب ــيات شــتى صغي ــرة مــا زالــت تعيــش عصب ــيات األرض والوطــن ،وعصب ــيات الجنــس والقــوم ،وعصب ــيات اللــون و اللســان. ي ــنبغي أن نــدرك ً تمامــا أن فكــرة املســاواة فــي ظــل الحكــم العــادل مــا زالــت مــن أولويــات املسلمي ــن اليــوم؛ باســتثناء الفلــول التائهــة مــن بقايــا دعــاة القوميات في العالم اإلسالمي ،ولكنهم على أرض الواقع اليوم غثاء ال وزن لهم وال قيمة وال كرامة. لقــد قــال اإلســام كلمتــه املدويــة :إن كرامــة اإلنســان مســتمدة مــن إنسان ــيته ذاتهــا ال مــن أي عــرض آخــر كالجنــس واللــون أو الطبقــة واملنصــب ،والحقــوق األصليــة لإلنســان مســتمدة مــن تلــك اإلنسان ــية الت ــي ت ــرجع إلــى أصل واحد .وعلم منذئذ أن اإلنسان بجنسه كريم على هللا ،وأن كرامته ذاتـية أصلية ،ألنها ََ تنبــع مــن كونــه إنسـ ًـانا ،قــال ســبحانهَ ((:ولقـ ْـد
العدد 2رجب 1439هـ
َ ك َّر ْم َنــا َب ِن ــي َآد َم)) [ســورة اإلس ـراء.]70/ ـادا جديـ ًـدا لإلنســان ،ميـ ً وكان هــذا ميـ ً ـادا ّ أعظم من امليالد الح�سي ،فما اإلنسان إذا لم تكــن لــه حقــوق اإلنســان وكرامــة اإلنســان. وقــد كــون اإلســام األمــة الواحــدة ،وجمعهــا علــى آصــرة العقيــدة ،فقــال ســبحانهِ (( :إ َّن ً ََ ُ َ ُ ُ ُ ً َهـ ِـذ ِه أ َّم ُتكـ ْـم أ َّمــة َو ِاحـ َـدة َوأنــا َ ُّربكـ ْـم ف ْاع ُبـ ُـدو ِن)) [سورة األنبـياء ]92/ولكن اإلسالم حيـن جمع النــاس علــى آصــرة العقيــدة وجعلهــا هــي قاعــدة التجمــع ،ولــم يجعــل اإلك ـراه علــى العقيــدة قاعــدة الحركــة فيــه ،وال قاعــدة التعامــل ،لــم يجعــل شـريعة الغــاب هــي الت ــي تحكــم عالقتــه باآلخري ــن الذي ــن ال يعتنقــون عقيدتــه. لقــد فــرض هللا الجهــاد علــى املسلمي ــن ال ليكرهــوا النــاس علــى اعتنــاق اإلســام ،ولكــن ليقيمــوا فــي األرض نظامــه الشــامخ العــادل القويــم ،علــى أن يختــار النــاس عقيدتهــم الت ــي يحبــون ،فــي ظــل هــذا النظــام الــذي يشــمل املســلم و غي ــر املســلم فــي عــدل تــام، قــال ســبحانهَ (( :ل إ ْكـ َـر َاه فــي ّ الدي ـ ِـن)) [ســورة ِ ِ ِ البقــرة ،]256/وبالتالــي ال إك ـراه فــي السياســة وهــو مــن بــاب أولــى. إن البش ـرية بــكل أنظمهــا السياســية واالجتماعيــة لــم ت ـرتفع إلــى املســتوى األخالقــي الــذي بلغتــه الجماعــة املســلمة فــي التعامــل اإلنسانـيمعكلالبشراآلخريـنالذيـنعاشوافي عصر قوتها ،وإننا في هذا العصر وفي ظل تحكم غيـراملسلميـنفياملصيـرالعالمينشهدكليوم نكساتمخزيةتقعأمامأعيـنناحتىفيالقوانـيـن الدوليــة النظريــة ،بحيــث أصبحــت حالنــا أسـوأ بكثي ــر مــن حالــة الوحــوش فــي الغابــات. إنــه رغــم كل مــا يدعيــه الغــرب مــن حــرص علــى العدالــة اإلنسان ــية فــإن كل دوافعــه فــي الحــرب والســلم لــم ت ـرتفع قــط عــن املصالــح واملغانــم، 73
اإلسالم من َّ ُ الظاهرة القوم ّية موقف ِ واألســاب و األســواق ،ولــم ت ــرتفع قــط إلــى أفــق الفكــر والعقيــدة والخي ــر والعــدل والصــاح ،تلــك القيــم اإلنسان ــية الت ــي يســتهدفها الجهــاد فــي اإلســام. فاألمــم اليــوم ال تتعامــل إال بقانــون الســيف وحــده ،أو قانــون الغــاب ،فمــن كان يملــك القــوة كل �شــيء لــه حــال ،واملظلــوم ال حقــوق لــه علــى اإلطــاق كمــا هــو الحــال فــي ســورية. إن الــركام الــذي يـري ــن علــى الفطــرة أثقــل وأظلــم مــن ركام الجاهليــات القديمــة ،وإن البش ـرية اليــوم نت ــيجة هــذا الــركام تعان ــي مــن التميع واالســتهتار واالســتخفاف بكل عقيدة، وكل رأي وكل مذهــب ،كمــا تعان ــي مــن نفــاق القلــب ،وخبــث االحت ــيال ،وكلهــا عقبــات فــي طريق الفطرة والدعوة إلى هللا ،ومعوقات عن االســتقامة علــى منهــج هللا. ولــدى معاي ــنة أســاس هــذه الفو�ضــى الت ــي تعيشــها اإلنسان ــية نجــد القوميــة املتطرفــة القائمــة علــى أســس عرقيــة أو إقليميــة أو حتــى ديـنـية بمفهومهااملتطرف الذي حذرمنهالديـن سـ ًـببا أساسـ ًّـيا فــي الظلــم الــذي تمارســه األمــم القوية على األمم الضعيفة ،باعتقاد أن تفوق النوع والعنصر يعطيهم الحق في االعتداء على األضعــف واالست ــيالء علــى مــا فــي يــده.
النظام الرأسمالي والقومية إن انقســام املجتمــع إلــى دول قوميــة كان مــن املظاهــر الالزمــة لنشــأة النظــام الرأســمالي، وهــذه القوميــة الحــادة هــي الت ــي حملــت معهــا نظــام االســتعمار لالست ــيالء علــى الخامــات و احتــكار األســواق ،باعتبــار االســتعمار أعلــى مراحــل الرأســمالية كمــا يقــول ليـنـي ــن ...بـي ــنما اإلســام ي ــنكر التعصــب القومــي ،ويتجــه اتجاهــا عامليــا ،ويجعــل حــدوده فــي حــدود ( )3األدب املفرد 87
الفكــرة ال تخــوم األرض ،ومــن ثــم يســتبعد فكــرة االســتعمار الحتــكار األســواق ،وبذلــك يتجــه اتجاهــا مضــادا للتفكي ــر الرأســمالي. وهــذا وحــده كاف فــي الداللــة علــى أن النظــام االجتماعــي فــي اإلســام ليــس واحــدا مــن النظــام الرأســمالي أو الشــيوعي أو االشت ـراكي ،ألن أســبقية النظــام اإلســامي تمنــع إعطــاءه وصفــا الحقــا ،هــذا مــن ناحيــة الشــكل أمــا مــن ناحيــة املوضوع فاإلسالم نظام متكامل تـركز تعاليمه ّ علــى أصــول ثابتــة ومعتمــدة علــى فكــرة كليــة متناسقة األجزاء ّمتصلة بعقيدة اإليمان باهلل. املجتمــع اإلســامي هــو مجتمــع عالمــي ،بمعنــى أنــه مجتمــع غي ــر عنصــري وال قومــي وال قائــم علــى الحــدود الجغرافيــة ،فهــو مجتمــع مفتــوح لجميع بـنـي اإلنسان ،دون النظر إلى جنس ،أو لون ،أو لغة ،بل دون النظر إلى ديـن أو عقيدة. إن اإلســام ي ــنفي منــذ اللحظــة األولــى كل ثغــرة قوميــة عنصريــة عصب ــية ،وي ــرد البشـرية كلهــا إلــى أصــل واحــد ،ويبـي ــن أن اختــاف األلــوان واألع ـراق واللغــات ال يــدل علــى ميــزة وال أفضليــة ،ولــم ي ــرد بــه إال التعــارف ال التناكــر، وأن هنــاك ميز ًانــا واحـ ًـدا لتقدي ـراألفضلية هــو تقــوى هللا وطاعتــه. وليــس أكــره للحــس اإلســامي مــن ذلــك التعصب الذي تثبـره نعرة الجنس على طريقة النــازي ،أو طريقــة اليهــود ،أو نعــرة اللــون علــى طريقــة األمريــكان مــع الهنــود الحمــر والزنــوج، أو طريقة أفريقيا الجنوبـية مع امللونـيـن عامة. وبديهــي أن الواقــع األول للصـراع االســتعماري فــي العصــر الحديــث كان هــو شــعور القوميــة الحــاد ،وبديهــي أن الحــروب الحديثــة كلهــا قــد قامــت علــى هــذا األســاس ،وأن الشــر الــذي أصاب البشرية في الحربـيـن املاضيتـيـن ،والذي يوشــك أن يدمرهــا فــي الحــرب املقبلــة ،كلــه قــد
اإلسالم من َّ ُ الظاهرة القوم ّية موقف ِ
العدد 2رجب 1439هـ
نشــأ مــن ذلــك الشــعور القومــي الحــاد ،ومــن ضعــف الــروح العامليــة ،والــروح اإلنسان ــية. الجنــس البشــري كلــه مســتخلف فــي هــذه األرض لعمارتهــا وإنمائهــا واســتغالل كنوزهــا، والناس كلهم أخوة ،ال يـنالون رحمة هللا ما لم يتـراحموابـيـنهم،ويتعاونواعلىالعملالصالح. والرســول صلــى هللا عليــه وســلم يقــول: ((ارحموا أهل األرض يـرحمكم من في السماء)) ( )3بــدون تخصيــص لجنــس وال عنصــر ،بــل بــدون تخصيــص ألتباعــه املسلمي ــن. ومــن ثــم فاالســتعمار والحــرب االســتعمارية ال مجال لهما في التفكيـر اإلسالمي ألن البشر في عــرف اإلســام أمــة واحــدة. وحيث يزيل اإلسالم تلك الحواجز الجغرافية أو العنصريــة الت ــي تقــوم عليهــا فكــرة الوطــن القومــي ،فإنــه ال يلغــي فكــرة الوطــن علــى اإلطــاق ،إنــه يبقــي علــى املعنــى الطيــب وحــده لهذه الفكرة ،معنى التجمع و التآخي والتعاون والتعــارف والنظــام. فيجعــل الوطــن فكــرة فــي الشــعور ،ال رقعــة فــي األرض ،فــإذا النــاس كلهــم أب ــناء وطــن واحــد.
شبهةعصبـيةالديـن وهنــا نعــرض شــبهة ،أليــس اإلســام يقيــم عصب ــية مــكان عصب ــية؟! أليــس يحطــم التعصــب العنصــري والتعصــب القومــي لي ــن�شئ فــي مكانهمــا تعصبــا ديـن ـ ًّـيا ،فقــد يكــون أخطــر علــى اإلخــاء البشــري مــن عصب ــية الجنس وعصبـية الوطن؟ ألم تعانـي البشرية من ويالت التعصب الديـنـي ً قديما في الحروب ً الصليب ــية وحديثــا فــي الحــروب االســتعمارية؟ والجــواب :إن اإلســام رســالة عامليــة للبشــر ّ كافــة ،فلــم يجـ ْـئ محمــد صلــى هللا عليــه وســلم رســوال لقريــش وال للعــرب ،وال للجنــس 74
َ َ َ ْ َ ْ َ َ َّ اك ِإل الســامي ،قــال ســبحانه (( :ومــا أرســلن ً ْ َ َر ْح َمة ِلل َع ِالي َـن)) [سورة األنبـياء ،]107/وقال َ َ َ ْ َ ْ َ َ َّ َ َّ ً َّ اس َب ِشي ًـرا سبحانه(( :وما أرسلناك ِإل كافة ِللن ِ َ َون ِذي ـ ًـرا)) [ســورة ســبأ ،]28/ولكــن فــي الوقــت ذاتــه ال يحــاول أن يقســر النــاس قسـ ًـرا علــى َ ّ ((ل إ ْكـ َـر َاه فــي ّ الدي ـ ِـن)) ِاتباعــه ،قــال ســبحانهِ ِ ِ : [ســورة البقــرة ،]256/وكل مــا ي ـريده اإلســام أن تت ــرك لــه حريــة الدعــوة بـي ــن أهــل األرض ً جميعــا ،وأن تكفــل ألتباعــه حريــة العقيــدة، فــا َ يفتنــوا عــن دي ــنهم بالقــوة. إن املهمــة الثان ــية الت ــي أنــاط هللا بهــا األمــة املســلمة ليــس مجــرد هدايــة النــاس إلــى الخي ــر الــذي جــاء بــه اإلســام وحمايــة العقيــدة اإلســامية وأصحابهــا ،إنمــا هــي أكب ــر مــن ذلــك وأشــمل ،إنهــا كذلــك حمايــة العبــادة واالعتقــاد للناس ً جميعا ،واستبعاد عنصر القوة املادية مــن ميــدان االعتقــاد والعقيــدة ،وحمايــة الضعفــاء مــن النــاس مــن عســف األقويــاء، هــذه هــي مهمــة األمــة املســلمة بقولــه ســبحانه: (( ُك ْن ُتـ ْـم َخ ْيـ َـر ُأ َّمــة ُأ ْخر َجـ ْـت ل َّلنــاس َت ْأ ُمـ ُـر َ ون ِ ِ ٍ ِ ْ َ ْ ُ َ َ ْ َ ْ َن َ ْ ُ ْ َ َ ُ ْ ُ نَ ـاهلل)) ِبالعــر ِ وف وتنهــو عـ ِـن النكـ ِـر وتؤ ِمنــو ِبـ ِ [ســورة آل عم ـران ،]110/وقولــه ســبحانه: ََ َ ْ ُ ُ ً ً ُ ُ ُ ((وكذ ِل َك َج َعل َناك ْم أ َّمة َو َسطا ِل َتكونوا ش َه َد َاء َ َ َّ ـاس)) [ســورة البقــرة.]143/ علــى النـ ِ تجمعــات إسـ ّ هنــاك ّ ـامية إذن ،ولكنــه انتمــاء علــى هــذا املعنــى وفــي تلــك الحــدود ،إن التجمــع واالنتمــاء اإلســامي ليــس عصب ــية الكراهــة لألجنــاس األخــرى -فاألمــة اإلســامية خليــط مــن جميــع األجنــاس -وليــس العــداوة ألتبــاع دي ــن معي ــن ملجــرد أنهــم ال يعتنقــون اإلســام، إن الشعور اإلسالمي مبـن ّـي في تعامله مع اآلخر على الرغبة في اجتذاب البشرية كلها إلى الخيـر املشت ــرك بــدون إك ـراه ،والرغبــة فــي تحقيــق العدل الكامل لكل فرد وكل شعب وكل جنس
حتــى لــو بقــي هــؤالء جميعــا علــى دياناتهــم بعــد اســتماعهم لدعــوة اإلســام ،فمجــرد كونهــم آدمييـن يوجب على األمة اإلسالمية أن تحميهم مــن الظلــم ،وملثــل هــذه األهــداف وحدهــا خــرج الصحابة الكرام من جزيـرة العرب مجاهديـن وداعي ــن إلــى هللا. ّ وليســت غايــة اإلســام إك ـراه أحــد علــى ِاتبــاع َ َ َ اإلســام ألن هللا يقــولَ (( :ولـ ْـو شـ َـاء َ ُّربـ َـك ل َمـ َـن َ ْ َْ يعــا َأ َف َأ ْنـ َـت ُت ْكــر ُه َّ ال ْرض ُك ُّل ُهـ ْـم َجم ً النـ َ ـاس ِ مــن ِفــي ِ ِ َ َّ َ ُ ُ ُ ْ َ حتــى يكونــوا مؤ ِم ِني ــن)) [ســورة يونــس.]99/ أمــا القتــال فقــد شــرع لغــرض آخــر ،شــرع ً للدفاع عن حرية املسلمي ــن ،الذي ــن أوذوا فعل بســبب عقيدتهــم ،وأخرجــوا مــن ديارهــم لغي ــر مــا ســبب إال أن يقولــوا رب ــنا هللا ،قــال ســبحانه: َّ َ َّ َ ُ ْ (( ال ِذي ـ َـن أخ ِر ُجــوا ِمـ ْـن ِد َي ِار ِهـ ْـم ِبغ ْيـ ِـر َحـ ٍ ّـق ِإل أ ْن ـاس َب ْع َ هللا َوَلـ ْ َـول َد ْفـ ُـع هللا َّ َي ُق ُولــوا َ ُّرب َنــا ُ النـ َ ض ُهـ ْـم ِ ص َل َو ٌ ص َوام ُع َوب َي ٌع َو َ ب َب ْعض َل ُه ّد َم ْت َ ات َو َم َس ِاج ُد ِ ٍ ِ ِ َ ِ َُْ ْ ُ ً هللا ك ِثي ــرا)) [ســورة الحــج.]40/ يذكـ ُـر ِف َيهــا اســم ِ ً إن القتــال ألجــل ضمــان حريــة العقيــدة عامــة للمسلمي ــن وغي ــرهم؛ دعــوة إلــى حريــة العبــادة للجميــع ،واحت ـرام أماكــن العبــادة جميعــا، فاإلســام ال ي ـريد حريــة العبــادة ألتباعــه وحدهــم ،وإنمــا يقــرر هــذا الحــق ألصحــاب الديانــات املخالفــة ً أيضــا ،ويكلــف املسلمي ــن أن يدافعــوا عــن حــق الجميــع فــي هــذه الحريــة، وبذلك يحقق هدفه في كونه ً نظاما ًّ عامليا ًّ حرا يســتطيع الجميــع أن يعيشــوا فــي ظلــه آمنـي ــن. والغايــة مــن القتــال هــي دفــع العــدوان بــدون اعتــداء ،والقاعــدة العامــة هــي :أن ال حــرب إال مــع املحاربـي ــن ومــع الطغــاة الظاملي ــن. وهنــاك رايــة أخــرى يحــارب تحتهــا اإلســام وهــي حمايــة الضعفــاء مــن الظلــم ،إذن هــي حــرب لدفع الظلم والطغيان ال لإلكراه على العقيدة.
العدد 2رجب 1439هـ
النظــام اإلســامي غي ــر قابــل للت ــرقيع ،غي ــر قابــل ألن نستعي ــر لــه قطــع غيــار مــن أي نظــام وضعــي ،ألن االعتقــاد والعبــادة ،والســلوك واملعاملة كلها متـرابطة ،وكلها متناسقة ،وكلها نابعــة مــن عقيــدة واحــدة. ومــع هــذا فــإن اإلســام ال يحــرم االنتفــاع بالتجــارب البش ـرية فــي كل مــا ال يمــس أصــا مــن أصــول الش ـريعة ،فــا حــرج مــن االنتفــاع بتجــارب البشــر. إن اإلســام مثــا يجعــل الشــورى أساســا مــن أسس الحكم في الدولة اإلسالمية ،فأما كيف تتحقق الشورى على الوجه األمثل فهذا ما ال يـنص عليه. ولقــد وقعــت فــي املجتمــع اإلســامي علــى عهــد رســول هللا صلــى هللا عليــه وســلم وبعــده ألــوان مــن الشــورى ،ولكــن هــذا الــذي وقــع ال يحــدد جميــع وســائل الشــورى بــل إن ذلــك مت ــروك ملــا يجد من تطورات في جســم املجتمع اإلســامي وهنــاك قضايــا كثي ــرة ممــا لــم ي ــرد فيــه نــص يحــدد طريقــة التنفيــذ ووســيلة التطب ــيق ممــا يحقــق املرونــة الكاملــة للنظــام اإلســامي. أمــا فــي النظــام الثيوقراطــي فيســتلهم الحاكــم ســلطته إمــا مــن رجــال الدي ــن وإمــا مــن الحــق اإللهــي بوصفــه ظــل هللا فــي األرض. فمعنــى الربان ــية فــي اإلســام متعلــق بالنظــام ذاته ،ال بالحاكم وسلطة الحكم ،فالحاكم في النظــام اإلســامي ال يتلقــى ســلطته مــن رجــال الدي ــن ،ألنــه ال يوجــد فــي اإلســام رجــال دي ــن وإنمــا يوجــد علمــاء متخصصــون ال يدعــون بحــق إلهــي لهــم ،إنمــا يســتمدون حقوقهــم مــن تولــي الحكــم مــن الب ــيعة الحــرة. وفرق كبـيـر بـيـن هذه القاعدة وقاعدة النظام الثيوقراطــي كمــا عرفتــه أوروبــا ،إن الربان ــية 75
اإلسالم من َّ ُ الظاهرة القوم ّية موقف ِ واألســاب و األســواق ،ولــم ت ــرتفع قــط إلــى أفــق الفكــر والعقيــدة والخي ــر والعــدل والصــاح ،تلــك القيــم اإلنسان ــية الت ــي يســتهدفها الجهــاد فــي اإلســام. فاألمــم اليــوم ال تتعامــل إال بقانــون الســيف وحــده ،أو قانــون الغــاب ،فمــن كان يملــك القــوة كل �شــيء لــه حــال ،واملظلــوم ال حقــوق لــه علــى اإلطــاق كمــا هــو الحــال فــي ســورية. إن الــركام الــذي يـري ــن علــى الفطــرة أثقــل وأظلــم مــن ركام الجاهليــات القديمــة ،وإن البش ـرية اليــوم نت ــيجة هــذا الــركام تعان ــي مــن التميع واالســتهتار واالســتخفاف بكل عقيدة، وكل رأي وكل مذهــب ،كمــا تعان ــي مــن نفــاق القلــب ،وخبــث االحت ــيال ،وكلهــا عقبــات فــي طريق الفطرة والدعوة إلى هللا ،ومعوقات عن االســتقامة علــى منهــج هللا. ولــدى معاي ــنة أســاس هــذه الفو�ضــى الت ــي تعيشــها اإلنسان ــية نجــد القوميــة املتطرفــة القائمــة علــى أســس عرقيــة أو إقليميــة أو حتــى ديـنـية بمفهومهااملتطرف الذي حذرمنهالديـن سـ ًـببا أساسـ ًّـيا فــي الظلــم الــذي تمارســه األمــم القوية على األمم الضعيفة ،باعتقاد أن تفوق النوع والعنصر يعطيهم الحق في االعتداء على األضعــف واالست ــيالء علــى مــا فــي يــده.
النظام الرأسمالي والقومية إن انقســام املجتمــع إلــى دول قوميــة كان مــن املظاهــر الالزمــة لنشــأة النظــام الرأســمالي، وهــذه القوميــة الحــادة هــي الت ــي حملــت معهــا نظــام االســتعمار لالست ــيالء علــى الخامــات و احتــكار األســواق ،باعتبــار االســتعمار أعلــى مراحــل الرأســمالية كمــا يقــول ليـنـي ــن ...بـي ــنما اإلســام ي ــنكر التعصــب القومــي ،ويتجــه اتجاهــا عامليــا ،ويجعــل حــدوده فــي حــدود ( )3األدب املفرد 87
الفكــرة ال تخــوم األرض ،ومــن ثــم يســتبعد فكــرة االســتعمار الحتــكار األســواق ،وبذلــك يتجــه اتجاهــا مضــادا للتفكي ــر الرأســمالي. وهــذا وحــده كاف فــي الداللــة علــى أن النظــام االجتماعــي فــي اإلســام ليــس واحــدا مــن النظــام الرأســمالي أو الشــيوعي أو االشت ـراكي ،ألن أســبقية النظــام اإلســامي تمنــع إعطــاءه وصفــا الحقــا ،هــذا مــن ناحيــة الشــكل أمــا مــن ناحيــة املوضوع فاإلسالم نظام متكامل تـركز تعاليمه ّ علــى أصــول ثابتــة ومعتمــدة علــى فكــرة كليــة متناسقة األجزاء ّمتصلة بعقيدة اإليمان باهلل. املجتمــع اإلســامي هــو مجتمــع عالمــي ،بمعنــى أنــه مجتمــع غي ــر عنصــري وال قومــي وال قائــم علــى الحــدود الجغرافيــة ،فهــو مجتمــع مفتــوح لجميع بـنـي اإلنسان ،دون النظر إلى جنس ،أو لون ،أو لغة ،بل دون النظر إلى ديـن أو عقيدة. إن اإلســام ي ــنفي منــذ اللحظــة األولــى كل ثغــرة قوميــة عنصريــة عصب ــية ،وي ــرد البشـرية كلهــا إلــى أصــل واحــد ،ويبـي ــن أن اختــاف األلــوان واألع ـراق واللغــات ال يــدل علــى ميــزة وال أفضليــة ،ولــم ي ــرد بــه إال التعــارف ال التناكــر، وأن هنــاك ميز ًانــا واحـ ًـدا لتقدي ـراألفضلية هــو تقــوى هللا وطاعتــه. وليــس أكــره للحــس اإلســامي مــن ذلــك التعصب الذي تثبـره نعرة الجنس على طريقة النــازي ،أو طريقــة اليهــود ،أو نعــرة اللــون علــى طريقــة األمريــكان مــع الهنــود الحمــر والزنــوج، أو طريقة أفريقيا الجنوبـية مع امللونـيـن عامة. وبديهــي أن الواقــع األول للصـراع االســتعماري فــي العصــر الحديــث كان هــو شــعور القوميــة الحــاد ،وبديهــي أن الحــروب الحديثــة كلهــا قــد قامــت علــى هــذا األســاس ،وأن الشــر الــذي أصاب البشرية في الحربـيـن املاضيتـيـن ،والذي يوشــك أن يدمرهــا فــي الحــرب املقبلــة ،كلــه قــد
اإلسالم من َّ ُ الظاهرة القوم ّية موقف ِ
العدد 2رجب 1439هـ
نشــأ مــن ذلــك الشــعور القومــي الحــاد ،ومــن ضعــف الــروح العامليــة ،والــروح اإلنسان ــية. الجنــس البشــري كلــه مســتخلف فــي هــذه األرض لعمارتهــا وإنمائهــا واســتغالل كنوزهــا، والناس كلهم أخوة ،ال يـنالون رحمة هللا ما لم يتـراحموابـيـنهم،ويتعاونواعلىالعملالصالح. والرســول صلــى هللا عليــه وســلم يقــول: ((ارحموا أهل األرض يـرحمكم من في السماء)) ( )3بــدون تخصيــص لجنــس وال عنصــر ،بــل بــدون تخصيــص ألتباعــه املسلمي ــن. ومــن ثــم فاالســتعمار والحــرب االســتعمارية ال مجال لهما في التفكيـر اإلسالمي ألن البشر في عــرف اإلســام أمــة واحــدة. وحيث يزيل اإلسالم تلك الحواجز الجغرافية أو العنصريــة الت ــي تقــوم عليهــا فكــرة الوطــن القومــي ،فإنــه ال يلغــي فكــرة الوطــن علــى اإلطــاق ،إنــه يبقــي علــى املعنــى الطيــب وحــده لهذه الفكرة ،معنى التجمع و التآخي والتعاون والتعــارف والنظــام. فيجعــل الوطــن فكــرة فــي الشــعور ،ال رقعــة فــي األرض ،فــإذا النــاس كلهــم أب ــناء وطــن واحــد.
شبهةعصبـيةالديـن وهنــا نعــرض شــبهة ،أليــس اإلســام يقيــم عصب ــية مــكان عصب ــية؟! أليــس يحطــم التعصــب العنصــري والتعصــب القومــي لي ــن�شئ فــي مكانهمــا تعصبــا ديـن ـ ًّـيا ،فقــد يكــون أخطــر علــى اإلخــاء البشــري مــن عصب ــية الجنس وعصبـية الوطن؟ ألم تعانـي البشرية من ويالت التعصب الديـنـي ً قديما في الحروب ً الصليب ــية وحديثــا فــي الحــروب االســتعمارية؟ والجــواب :إن اإلســام رســالة عامليــة للبشــر ّ كافــة ،فلــم يجـ ْـئ محمــد صلــى هللا عليــه وســلم رســوال لقريــش وال للعــرب ،وال للجنــس 74
َ َ َ ْ َ ْ َ َ َّ اك ِإل الســامي ،قــال ســبحانه (( :ومــا أرســلن ً ْ َ َر ْح َمة ِلل َع ِالي َـن)) [سورة األنبـياء ،]107/وقال َ َ َ ْ َ ْ َ َ َّ َ َّ ً َّ اس َب ِشي ًـرا سبحانه(( :وما أرسلناك ِإل كافة ِللن ِ َ َون ِذي ـ ًـرا)) [ســورة ســبأ ،]28/ولكــن فــي الوقــت ذاتــه ال يحــاول أن يقســر النــاس قسـ ًـرا علــى َ ّ ((ل إ ْكـ َـر َاه فــي ّ الدي ـ ِـن)) ِاتباعــه ،قــال ســبحانهِ ِ ِ : [ســورة البقــرة ،]256/وكل مــا ي ـريده اإلســام أن تت ــرك لــه حريــة الدعــوة بـي ــن أهــل األرض ً جميعــا ،وأن تكفــل ألتباعــه حريــة العقيــدة، فــا َ يفتنــوا عــن دي ــنهم بالقــوة. إن املهمــة الثان ــية الت ــي أنــاط هللا بهــا األمــة املســلمة ليــس مجــرد هدايــة النــاس إلــى الخي ــر الــذي جــاء بــه اإلســام وحمايــة العقيــدة اإلســامية وأصحابهــا ،إنمــا هــي أكب ــر مــن ذلــك وأشــمل ،إنهــا كذلــك حمايــة العبــادة واالعتقــاد للناس ً جميعا ،واستبعاد عنصر القوة املادية مــن ميــدان االعتقــاد والعقيــدة ،وحمايــة الضعفــاء مــن النــاس مــن عســف األقويــاء، هــذه هــي مهمــة األمــة املســلمة بقولــه ســبحانه: (( ُك ْن ُتـ ْـم َخ ْيـ َـر ُأ َّمــة ُأ ْخر َجـ ْـت ل َّلنــاس َت ْأ ُمـ ُـر َ ون ِ ِ ٍ ِ ْ َ ْ ُ َ َ ْ َ ْ َن َ ْ ُ ْ َ َ ُ ْ ُ نَ ـاهلل)) ِبالعــر ِ وف وتنهــو عـ ِـن النكـ ِـر وتؤ ِمنــو ِبـ ِ [ســورة آل عم ـران ،]110/وقولــه ســبحانه: ََ َ ْ ُ ُ ً ً ُ ُ ُ ((وكذ ِل َك َج َعل َناك ْم أ َّمة َو َسطا ِل َتكونوا ش َه َد َاء َ َ َّ ـاس)) [ســورة البقــرة.]143/ علــى النـ ِ تجمعــات إسـ ّ هنــاك ّ ـامية إذن ،ولكنــه انتمــاء علــى هــذا املعنــى وفــي تلــك الحــدود ،إن التجمــع واالنتمــاء اإلســامي ليــس عصب ــية الكراهــة لألجنــاس األخــرى -فاألمــة اإلســامية خليــط مــن جميــع األجنــاس -وليــس العــداوة ألتبــاع دي ــن معي ــن ملجــرد أنهــم ال يعتنقــون اإلســام، إن الشعور اإلسالمي مبـن ّـي في تعامله مع اآلخر على الرغبة في اجتذاب البشرية كلها إلى الخيـر املشت ــرك بــدون إك ـراه ،والرغبــة فــي تحقيــق العدل الكامل لكل فرد وكل شعب وكل جنس
حتــى لــو بقــي هــؤالء جميعــا علــى دياناتهــم بعــد اســتماعهم لدعــوة اإلســام ،فمجــرد كونهــم آدمييـن يوجب على األمة اإلسالمية أن تحميهم مــن الظلــم ،وملثــل هــذه األهــداف وحدهــا خــرج الصحابة الكرام من جزيـرة العرب مجاهديـن وداعي ــن إلــى هللا. ّ وليســت غايــة اإلســام إك ـراه أحــد علــى ِاتبــاع َ َ َ اإلســام ألن هللا يقــولَ (( :ولـ ْـو شـ َـاء َ ُّربـ َـك ل َمـ َـن َ ْ َْ يعــا َأ َف َأ ْنـ َـت ُت ْكــر ُه َّ ال ْرض ُك ُّل ُهـ ْـم َجم ً النـ َ ـاس ِ مــن ِفــي ِ ِ َ َّ َ ُ ُ ُ ْ َ حتــى يكونــوا مؤ ِم ِني ــن)) [ســورة يونــس.]99/ أمــا القتــال فقــد شــرع لغــرض آخــر ،شــرع ً للدفاع عن حرية املسلمي ــن ،الذي ــن أوذوا فعل بســبب عقيدتهــم ،وأخرجــوا مــن ديارهــم لغي ــر مــا ســبب إال أن يقولــوا رب ــنا هللا ،قــال ســبحانه: َّ َ َّ َ ُ ْ (( ال ِذي ـ َـن أخ ِر ُجــوا ِمـ ْـن ِد َي ِار ِهـ ْـم ِبغ ْيـ ِـر َحـ ٍ ّـق ِإل أ ْن ـاس َب ْع َ هللا َوَلـ ْ َـول َد ْفـ ُـع هللا َّ َي ُق ُولــوا َ ُّرب َنــا ُ النـ َ ض ُهـ ْـم ِ ص َل َو ٌ ص َوام ُع َوب َي ٌع َو َ ب َب ْعض َل ُه ّد َم ْت َ ات َو َم َس ِاج ُد ِ ٍ ِ ِ َ ِ َُْ ْ ُ ً هللا ك ِثي ــرا)) [ســورة الحــج.]40/ يذكـ ُـر ِف َيهــا اســم ِ ً إن القتــال ألجــل ضمــان حريــة العقيــدة عامــة للمسلمي ــن وغي ــرهم؛ دعــوة إلــى حريــة العبــادة للجميــع ،واحت ـرام أماكــن العبــادة جميعــا، فاإلســام ال ي ـريد حريــة العبــادة ألتباعــه وحدهــم ،وإنمــا يقــرر هــذا الحــق ألصحــاب الديانــات املخالفــة ً أيضــا ،ويكلــف املسلمي ــن أن يدافعــوا عــن حــق الجميــع فــي هــذه الحريــة، وبذلك يحقق هدفه في كونه ً نظاما ًّ عامليا ًّ حرا يســتطيع الجميــع أن يعيشــوا فــي ظلــه آمنـي ــن. والغايــة مــن القتــال هــي دفــع العــدوان بــدون اعتــداء ،والقاعــدة العامــة هــي :أن ال حــرب إال مــع املحاربـي ــن ومــع الطغــاة الظاملي ــن. وهنــاك رايــة أخــرى يحــارب تحتهــا اإلســام وهــي حمايــة الضعفــاء مــن الظلــم ،إذن هــي حــرب لدفع الظلم والطغيان ال لإلكراه على العقيدة.
العدد 2رجب 1439هـ
النظــام اإلســامي غي ــر قابــل للت ــرقيع ،غي ــر قابــل ألن نستعي ــر لــه قطــع غيــار مــن أي نظــام وضعــي ،ألن االعتقــاد والعبــادة ،والســلوك واملعاملة كلها متـرابطة ،وكلها متناسقة ،وكلها نابعــة مــن عقيــدة واحــدة. ومــع هــذا فــإن اإلســام ال يحــرم االنتفــاع بالتجــارب البش ـرية فــي كل مــا ال يمــس أصــا مــن أصــول الش ـريعة ،فــا حــرج مــن االنتفــاع بتجــارب البشــر. إن اإلســام مثــا يجعــل الشــورى أساســا مــن أسس الحكم في الدولة اإلسالمية ،فأما كيف تتحقق الشورى على الوجه األمثل فهذا ما ال يـنص عليه. ولقــد وقعــت فــي املجتمــع اإلســامي علــى عهــد رســول هللا صلــى هللا عليــه وســلم وبعــده ألــوان مــن الشــورى ،ولكــن هــذا الــذي وقــع ال يحــدد جميــع وســائل الشــورى بــل إن ذلــك مت ــروك ملــا يجد من تطورات في جســم املجتمع اإلســامي وهنــاك قضايــا كثي ــرة ممــا لــم ي ــرد فيــه نــص يحــدد طريقــة التنفيــذ ووســيلة التطب ــيق ممــا يحقــق املرونــة الكاملــة للنظــام اإلســامي. أمــا فــي النظــام الثيوقراطــي فيســتلهم الحاكــم ســلطته إمــا مــن رجــال الدي ــن وإمــا مــن الحــق اإللهــي بوصفــه ظــل هللا فــي األرض. فمعنــى الربان ــية فــي اإلســام متعلــق بالنظــام ذاته ،ال بالحاكم وسلطة الحكم ،فالحاكم في النظــام اإلســامي ال يتلقــى ســلطته مــن رجــال الدي ــن ،ألنــه ال يوجــد فــي اإلســام رجــال دي ــن وإنمــا يوجــد علمــاء متخصصــون ال يدعــون بحــق إلهــي لهــم ،إنمــا يســتمدون حقوقهــم مــن تولــي الحكــم مــن الب ــيعة الحــرة. وفرق كبـيـر بـيـن هذه القاعدة وقاعدة النظام الثيوقراطــي كمــا عرفتــه أوروبــا ،إن الربان ــية 75
اإلسالم من َّ ُ الظاهرة القوم ّية موقف ِ فــي النظــام اإلســامي ربان ــية شـريعة ونظــام ،ال ربان ــية أمـراء وحــكام.
القومية ووحدة األمة ال بــد مــن توحيــد كل قوميــة فــي إطارهــا الطب ــيعي، ثــم التطلــع إلــى تكوي ــن رابطــة إســامية أعــم مــن القومياتالشقيقةفيإطارداراإلسالم(الواليات اإلســامية املتحــدة) الت ــي هــي أرحــب مــن أي نظــام سيا�سي،هذاهوالحلاألمثلللشعوباإلسالمية وملســتقبلها للخــروج مــن صـراع القوميــات. مــا الــذي يمنــع أصحــاب كل فطــرة اجتماعيــة عامــة مــن املسلمي ــن أن ي ــنظموا شــؤونهم املشت ــركة علــى أســاس اإلســام ،ثــم يلتقــوا مــع إخوانهــم فــي الدي ــن مــن أب ــناء القوميــات األخــرى ،فــي إطــار الرابطــة اإلســامية ّ يوفــق الشــاملة أليــس فــي هــذه الرؤيــا مــا ِ بـي ــن القوميــة والدي ــن ،ويــؤدي إلــى تجنــب الصراعــات القوميــة واللغويــة املتداخلــة الت ــي أدت إلــى تفكيــك األمــة اإلســامية. إن الوجــود القومــي ألي شــعب مــن الشــعوب مــن حيــث هــو وجــود اجتماعــي تاريخــي �شــيء، وتحويــل القوميــة إلــى عقيــدة وأيديولوجيــة وشعوب ــية �شــيء آخــر ،والخطــر كل الخطــر فــي تجزئــة مصلحــة األمــة ممــا ســيؤدي حتمــا إلــى تجزئــة فــي اإلرادة. ّ يخلــص القضيــة إن اعتمــاد وحــدة األمــة ِ القوميــة مــن الحــرص الزائــف ،ويمنــع وجــود عصب ــية تؤث ــر علــى وحــدة األمــة ،وهــذا يلغــي مفهــوم األقليــة باملعنــى الســائد حاليــا ،فوحــدة األمــة قائمــة علــى شــعوب مــع اإلقـرار بتداخــل هــذه الشــعوب بعضهــا ببعــض ،فنحــن ال نتعامل مع أقلية محددة بل مجموعة عناصر بش ـرية تشــكل األمــة بكاملهــا. فــكل قوميــة بتاريخهــا وثقافتهــا ومجموعهــا َّ النســق الحضــاري بشــكل عــام ،تعتب ــر ضمــن
َُ ّ الواحــد املشـ ِـكل لألمــة ،واملؤث ــر بهــا وبخــط ّ ارتقائها،وبهذاتسقطدعاوى القومييـنالذيـن يعتب ــرون أب ــناء القوميــات األخــرى دخــاء ،ألن قاعــدة وحــدة األمــة تضــع الجميــع علــى قاعــدة املســاواة مــع بعضهــم البعــض ،ومــع األســف ٌ فإن هذه القاعدة اإلســامية اإليجاب ــية غائبة اليــوم فــي ظــل النهــج السيا�ســي املفــروض عليهــا. إنــك عندمــا تجــرد قوميــة مــن حقوقهــا لتصبــح حقــوق أقليــات ،فــإن األمــر يصبــح خــارج إطــار القواعــد األساســية الت ــي تقــوم عليهــا وحــدة األمــة ألن إنــكار الحقــوق للبعــض ســيؤدي إلــى تجزئــة الوطــن واألمــة شــئنا أم أبـي ــنا. فإذا أردنا وحدة الت ـراب ووحدة األمة فلنطرح تصورنا وفق القاعدة السابقة ،الحقوق قبل كل �شيء ،ووحدة اإلنسان قبل وحدة التـراب، ألن اإلنســان عندمــا يحصــل علــى حقوقــه، هــو الــذي ســيحمي وحــدة األرض وســيادة االســتقالل ،أمــا وحــدة األرض املزعومــة اليــوم فهــي ال توحــد األمــة ،وال تحافــظ علــى ســيادة االســتقالل ،والواقــع خي ــر دليــل علــى ذلــك. عندمــا ي ــنطلق الطــرح مــن قاعــدة الحقــوق والواجبات سي ــر�ضى جميع األطراف وســتتوحد املشاعر ،وتتقارب النفوس مع العدل واملساواة.
املسألة القومية وأوهام
االستـيعاب السيا�سي السياســة وســيلة ال غايــة ،وإنهــا بالدرجــة األولــى علــم تمتــاز بــه املجتمعــات الراقيــة ،فهــي تتطور بقدر ارتقاء األمة ومؤسساتها ،فالعمل السيا�ســي املبـن ــي علــى وفــق مصلحــة األمــة ومنهجها هو وحده القادر على قيادة املســائل نحو الحل النهائي ،والسياسة الراقية هي التـي ال تجعل الحاكم يمنح هوية املجتمع وانتماءه بــل املجتمــع يمنــح هويــة الحاكــم.
اإلسالم من َّ ُ الظاهرة القوم ّية موقف ِ
العدد 2رجب 1439هـ
وإذا نظرنا لواقعنا وفق هذه القاعدة نجد أن أمتنا واجهت كافة تعقيدات القرن العشريـن بعــد ســقوط الخالفــة اإلســامية ،حيــث ظهــر التعــارض بـي ــن وحــدة األمــة ومصالحهــا وبـي ــن الــدول القوميــة ،وبهــذا الوضــع وصلنــا إلــى ذروة التــأزم دون وضــع حــدود واضحــة ألســباب املشــاكل الداخليــة والخارجيــة. إن مخططــات تقســيم األمــة مــن قبــل األعــداء فــي القــرن العشري ــن كانــت بدايــة أزمــة املنطقــة كلهــا ،وهــي النقطــة الفاصلــة لظهــور الدولــة القوميــة ،وتجزئــة املصلحــة الواحــدة ،واإلرادة الواحــدة ،وبمــا أن هــذه املخططــات لــم تكــن تملــك األســاس الحقوقــي لوضــع الحــدود ،لــذا فإنهــا جــاءت تفتــت حتــى األشــكال القبائليــة املوجــودة فــي املنطقــة ،ألنهــا لــم ت ـراع الواقــع االجتماعــي ،وإنمــا تجســد مصالــح األمــم الواضعــة لهــا ،فليــس الت ــرك وحدهــم تمزقــوا بهــذا التآمــر -وإن كانــوا أكث ــر مــن تضــرر -وإنمــا الكــرد أيضــا تــم تقســيمهم بـي ــن عــدة دول قوميــة ،وأمــا العــرب فقــد تــم تقســيمهم إلــى اثنـتي ــن وعشري ــن دولــة. وأدى هــذا التقســيم الجائــر إلــى خلــق توت ـرات دائمــة فــي كل منطقــة ،وهكــذا قامــت الدولــة القوميــة وفــق نســق ســلطة خارجيــة. إنشرعيةالدولةالقوميةتنبعمناملخططات الدوليــة ،لــذا فإنهــا تفــرض قسـ ًـرا علــى الواقــع، وهــي بالتالــي تفــرز فئــة حاكمــة تعطــل التفاعــل االجتماعي والحضاري بـيـن أبـناء األمة الواحدة، ألن هــذه الــدول غي ــر قائمــة علــى أســاس حقوقــي واضــح ،فهــي ال تعب ــر عــن املجتمــع ووحدتــه، لذلــك تكــون ت ـربة خصبــة لظهــور مختلــف النزاعــات العرقيــة والفئويــة ،فاألحـزاب أحـزاب فئــات ،واملؤسســات مقصــورة علــى جــزء فاســد من أبـناء األمة املنتفعيـن املنافقيـن ،وال تحقق 76
مصالــح الجميــع. فالواقع القبلي أو الطائفي أو العرقي أو الحزبـي يتجســد مباشــرة داخــل هيكليــة الدولــة ،فهــل يمكــن است ــيعاب اآلخــر وفــق هــذه السياســة؟ وهــل يمكــن حــل القضايــا مــن خــال الدفــاع عــن الوضــع القائــم جغرافيــا واقتصاديــا؟ أم ال بــد أن نطــرح كل قضايانــا ومشــاكلنا بج ـرأة وواقعية وشفافية على بساط البحث ،لنضع النقــاط علــى الحــروف مــن خــال الحــوار وفــق القاعــدة الحقوقيــة ووحــدة األمــة ،بعيــدا عــن الثقافــات املغلوطــة واملشــاعر البــاردة. نستطيع اليوم قراءة مشاكلنا املتـراكمة بـرؤية علميــة األمــر الــذي لــم يكــن ممكنــا فــي القــرن َ ُ وعينا مع موجات العشريـن عندما بدأ تشويه ِ التنكيل والتزويـر. إن إج ـراءات الــدول القوميــة وريثــة املنهــج الغربـي زادت من قوة االنتماء املشتت والرؤية املج ـزأة وأدت إلــى تخلــف حضــاري واســتعمار عســكري واقتصــادي وثقافــي ألن اتفاقــات املستعمري ــن ومعاهداتهــم فــي املنطقــة كانــت بدايــة تفريــق جغرافــي وثقافــي واضــح ،ســاعدت علــى حــرق كافــة اإلمكانــات لوحــدة األمــة، ولذلــك أصبــح تدوي ــن التاريــخ إرثــا دمويــا عب ــر املذابــح واالقتتــال الــذي دار بـي ــن الحكومــات املســتبدة مــن جانــب ،وبـي ــن هــذه الحكومــات وشــعوبها مــن جهــة أخــرى. ولتصحيــح املســار ال بــد مــن جعــل التاريــخ ً ً وواضحــا لكافــة أب ــناء األمــة بــكل جـرأة مفتوحــا ً ووضوح ،وإال فسيبقى التاريخ أحداثا متفرقة وعرضــة لالســتغالل مــن قبــل األعــداء. ومــن هــذا املنطلــق يجــب أن نفهــم الوضــع السيا�ســي فــي املنطقــة لكــي ال نقــع فــي فــخ ً وخصوصــا بعــد تدخل التفسي ـرات الخاطئــة، أمريــكا وروســيا وإي ـران فــي املنطقــة.
فالوضــع السيا�ســي هــو كمــا يلــي :املنطقــة ال تملــك ضمانــات اســتقرار أو أمــان مــن قبــل الــدول القوميــة الحاكمــة ،وسياســة التذويــب واالضطهــاد مســتمرة فيهــا ،والت ــي ال تحمــل ســوى املآ�ســي ،والص ـراع فــي الظاهــر والباطــن مستمربـيـنالقومياتواملذهبـياتواألقليات، وخصوصــا أن اإلسالميي ــن ليــس ب ــيدهم األمــر فــي إنقــاذ املنطقــة مــن وضعهــا املأســاوي. لقد سادت املنطقة حالة عدم الثقة ،فالفرز القائم يضمن البقاء للمجموعة األقوى التـي تسندها جهات خارجية. إن قضايانا ومشاكلنا االجتماعية والسياسية واالقتصادية والقومية وغيـرها لم تعد مجرد خــاف علــى الحقــوق ،بــل تجاوزتــه لتدخــل فــي اإلطــار النف�ســي االجتماعــي العــام القائــم علــى عــدم الثقــة أو الشــعور باألمــان.
كيف نطرح قضايانا؟ يمكــن أن نطــرح حلنــا لهــا مــن القاعــدة الحقوقيــة الت ــي تحــدد العالقــة بـي ــن األف ـراد مــن جانــب وبـي ــن الشــعوب مــن جانــب آخــر، فغيــاب هــذه القاعــدة يدخــل مســائلنا فــي حكم املســتحيل املســتع�صي. املسألة املستحيلة ال توضح العالقة مع اآلخر لعدم استنادها لقاعدة حقوقية ،األمر الذي يجعلهــا مشــاعا لتدخــات مــن الخــارج فيســهل اســتغاللها ،فانفجار الثورة الســورية وارتفاع وتـيـرة التوجه نحوها واستغاللها؛ يدل بشكل واضح على عمق السياسة الدولية في املسألة، علــى الرغــم مــن أن التدويــل فــي هــذه املســائل غي ــر مفيــد ،وخصوصــا أننــا نملــك إرثــا تاريخيــا مــن سياســة التدويــل ،فاألمــم املتحــدة وقــوى االســتكبار العالمــي عــن طريــق مجلــس األمــم ّ سببت مزيدا من التدهور والضياع للحقوق، ألن املسألة املستحيلة تفرز حلوال دبلوماسية
العدد 2رجب 1439هـ
ال عالقــة لهــا بالواقــع ،فضيــاع القاعــدة الحقوقيــة يجعــل كافــة املبــادرات والحلــول ً متعلقــة باآلخــر وليــس بأصحــاب املســألة ،ممــا يجعل الحلول صفقات سياسية ال عالقة لها بمصي ــر املجتمــع واألمــة. ولهذا ال بد من مبادرات سياسية واقعية وفق القاعــدة الحقوقيــة ووحــدة األمــة للمســألة التحليليــة ،ألنهــا فــي حقيقتهــا تعب ــر عــن مــأزق سيا�ســي بالدرجــة األولــى. وأرى أن تطرح املبادرة وفق األسس التالية: َ َ َْ ْ )1الحريــة لقولــه تعالــى (( :ف َمـ ْـن شـ َـاء فل ُيؤ ِمـ ْـن َ َْ ْ َو َم ْن شـ َـاء فل َيك ُف ْر)) [ ســورة الكهف :آية ،]29 وقولــه تعالــىَ (( :ل إ ْكـ َـر َاه فــي ّ الدي ـ ِـن)) [ســورة ِ ِ ِ البقرة :آية ]256وبالتالي ال إكراه في السياسة. )2الكرامــة اإلنسان ــية لقولــه تعالــى(( :ولقــد كرمنــا بـن ــي آدم)) [ســورة اإلس ـراء :آيــة .]70 )3التعــارف لقولــه تعالــى (( :إنــا خلقناكــم مــن ذكــر وأنثــى وجعلناكــم شــعوبا وقبائــل لتعارفوا إن أكرمكم عند هللا أتقاكم)) [سورة الحج ـرات :آيــة .]13 دعــوة إلــى تعــارف القوميــات والحضــارات علــى أســاس الحــوار والتفاهــم والتعــاون بــدال مــن الحــروب والصــدام الحضــاري ،وهــذه الدعــوة قائمــة علــى أســاس الحقــوق والواجبــات ،فهــل نحن مستعدون لطرح مشاكلنا ووضع حلول لهــا وفــق هــذا الطــرح؟ وإذا نجحنــا فلمــاذا ال نقدمــه للعالــم كمشــروع حضــاري لهــذه األمــة. إن النظر في مشاكلنا وفق القاعدة الحقوقية مــع النظــر فــي مصلحــة األمــة هــو أســاس كل التصويبــات الت ــي يمكــن أن تصحــح املســار. إننــا أمــام محاولــة إيضــاح استـرات ــيجية الحــل اإلسالمي لقضايانا؛ نجد أنفسنا أمام ّ كم من ٍ ً قاموسا ضباب ًـيا ألبعد املعالجات التـي أفرزت الحــدود ،ألن قضايانــا داخلهــا الشــأن الداخلــي 77
اإلسالم من َّ ُ الظاهرة القوم ّية موقف ِ فــي النظــام اإلســامي ربان ــية شـريعة ونظــام ،ال ربان ــية أمـراء وحــكام.
القومية ووحدة األمة ال بــد مــن توحيــد كل قوميــة فــي إطارهــا الطب ــيعي، ثــم التطلــع إلــى تكوي ــن رابطــة إســامية أعــم مــن القومياتالشقيقةفيإطارداراإلسالم(الواليات اإلســامية املتحــدة) الت ــي هــي أرحــب مــن أي نظــام سيا�سي،هذاهوالحلاألمثلللشعوباإلسالمية وملســتقبلها للخــروج مــن صـراع القوميــات. مــا الــذي يمنــع أصحــاب كل فطــرة اجتماعيــة عامــة مــن املسلمي ــن أن ي ــنظموا شــؤونهم املشت ــركة علــى أســاس اإلســام ،ثــم يلتقــوا مــع إخوانهــم فــي الدي ــن مــن أب ــناء القوميــات األخــرى ،فــي إطــار الرابطــة اإلســامية ّ يوفــق الشــاملة أليــس فــي هــذه الرؤيــا مــا ِ بـي ــن القوميــة والدي ــن ،ويــؤدي إلــى تجنــب الصراعــات القوميــة واللغويــة املتداخلــة الت ــي أدت إلــى تفكيــك األمــة اإلســامية. إن الوجــود القومــي ألي شــعب مــن الشــعوب مــن حيــث هــو وجــود اجتماعــي تاريخــي �شــيء، وتحويــل القوميــة إلــى عقيــدة وأيديولوجيــة وشعوب ــية �شــيء آخــر ،والخطــر كل الخطــر فــي تجزئــة مصلحــة األمــة ممــا ســيؤدي حتمــا إلــى تجزئــة فــي اإلرادة. ّ يخلــص القضيــة إن اعتمــاد وحــدة األمــة ِ القوميــة مــن الحــرص الزائــف ،ويمنــع وجــود عصب ــية تؤث ــر علــى وحــدة األمــة ،وهــذا يلغــي مفهــوم األقليــة باملعنــى الســائد حاليــا ،فوحــدة األمــة قائمــة علــى شــعوب مــع اإلقـرار بتداخــل هــذه الشــعوب بعضهــا ببعــض ،فنحــن ال نتعامل مع أقلية محددة بل مجموعة عناصر بش ـرية تشــكل األمــة بكاملهــا. فــكل قوميــة بتاريخهــا وثقافتهــا ومجموعهــا َّ النســق الحضــاري بشــكل عــام ،تعتب ــر ضمــن
َُ ّ الواحــد املشـ ِـكل لألمــة ،واملؤث ــر بهــا وبخــط ّ ارتقائها،وبهذاتسقطدعاوى القومييـنالذيـن يعتب ــرون أب ــناء القوميــات األخــرى دخــاء ،ألن قاعــدة وحــدة األمــة تضــع الجميــع علــى قاعــدة املســاواة مــع بعضهــم البعــض ،ومــع األســف ٌ فإن هذه القاعدة اإلســامية اإليجاب ــية غائبة اليــوم فــي ظــل النهــج السيا�ســي املفــروض عليهــا. إنــك عندمــا تجــرد قوميــة مــن حقوقهــا لتصبــح حقــوق أقليــات ،فــإن األمــر يصبــح خــارج إطــار القواعــد األساســية الت ــي تقــوم عليهــا وحــدة األمــة ألن إنــكار الحقــوق للبعــض ســيؤدي إلــى تجزئــة الوطــن واألمــة شــئنا أم أبـي ــنا. فإذا أردنا وحدة الت ـراب ووحدة األمة فلنطرح تصورنا وفق القاعدة السابقة ،الحقوق قبل كل �شيء ،ووحدة اإلنسان قبل وحدة التـراب، ألن اإلنســان عندمــا يحصــل علــى حقوقــه، هــو الــذي ســيحمي وحــدة األرض وســيادة االســتقالل ،أمــا وحــدة األرض املزعومــة اليــوم فهــي ال توحــد األمــة ،وال تحافــظ علــى ســيادة االســتقالل ،والواقــع خي ــر دليــل علــى ذلــك. عندمــا ي ــنطلق الطــرح مــن قاعــدة الحقــوق والواجبات سي ــر�ضى جميع األطراف وســتتوحد املشاعر ،وتتقارب النفوس مع العدل واملساواة.
املسألة القومية وأوهام
االستـيعاب السيا�سي السياســة وســيلة ال غايــة ،وإنهــا بالدرجــة األولــى علــم تمتــاز بــه املجتمعــات الراقيــة ،فهــي تتطور بقدر ارتقاء األمة ومؤسساتها ،فالعمل السيا�ســي املبـن ــي علــى وفــق مصلحــة األمــة ومنهجها هو وحده القادر على قيادة املســائل نحو الحل النهائي ،والسياسة الراقية هي التـي ال تجعل الحاكم يمنح هوية املجتمع وانتماءه بــل املجتمــع يمنــح هويــة الحاكــم.
اإلسالم من َّ ُ الظاهرة القوم ّية موقف ِ
العدد 2رجب 1439هـ
وإذا نظرنا لواقعنا وفق هذه القاعدة نجد أن أمتنا واجهت كافة تعقيدات القرن العشريـن بعــد ســقوط الخالفــة اإلســامية ،حيــث ظهــر التعــارض بـي ــن وحــدة األمــة ومصالحهــا وبـي ــن الــدول القوميــة ،وبهــذا الوضــع وصلنــا إلــى ذروة التــأزم دون وضــع حــدود واضحــة ألســباب املشــاكل الداخليــة والخارجيــة. إن مخططــات تقســيم األمــة مــن قبــل األعــداء فــي القــرن العشري ــن كانــت بدايــة أزمــة املنطقــة كلهــا ،وهــي النقطــة الفاصلــة لظهــور الدولــة القوميــة ،وتجزئــة املصلحــة الواحــدة ،واإلرادة الواحــدة ،وبمــا أن هــذه املخططــات لــم تكــن تملــك األســاس الحقوقــي لوضــع الحــدود ،لــذا فإنهــا جــاءت تفتــت حتــى األشــكال القبائليــة املوجــودة فــي املنطقــة ،ألنهــا لــم ت ـراع الواقــع االجتماعــي ،وإنمــا تجســد مصالــح األمــم الواضعــة لهــا ،فليــس الت ــرك وحدهــم تمزقــوا بهــذا التآمــر -وإن كانــوا أكث ــر مــن تضــرر -وإنمــا الكــرد أيضــا تــم تقســيمهم بـي ــن عــدة دول قوميــة ،وأمــا العــرب فقــد تــم تقســيمهم إلــى اثنـتي ــن وعشري ــن دولــة. وأدى هــذا التقســيم الجائــر إلــى خلــق توت ـرات دائمــة فــي كل منطقــة ،وهكــذا قامــت الدولــة القوميــة وفــق نســق ســلطة خارجيــة. إنشرعيةالدولةالقوميةتنبعمناملخططات الدوليــة ،لــذا فإنهــا تفــرض قسـ ًـرا علــى الواقــع، وهــي بالتالــي تفــرز فئــة حاكمــة تعطــل التفاعــل االجتماعي والحضاري بـيـن أبـناء األمة الواحدة، ألن هــذه الــدول غي ــر قائمــة علــى أســاس حقوقــي واضــح ،فهــي ال تعب ــر عــن املجتمــع ووحدتــه، لذلــك تكــون ت ـربة خصبــة لظهــور مختلــف النزاعــات العرقيــة والفئويــة ،فاألحـزاب أحـزاب فئــات ،واملؤسســات مقصــورة علــى جــزء فاســد من أبـناء األمة املنتفعيـن املنافقيـن ،وال تحقق 76
مصالــح الجميــع. فالواقع القبلي أو الطائفي أو العرقي أو الحزبـي يتجســد مباشــرة داخــل هيكليــة الدولــة ،فهــل يمكــن است ــيعاب اآلخــر وفــق هــذه السياســة؟ وهــل يمكــن حــل القضايــا مــن خــال الدفــاع عــن الوضــع القائــم جغرافيــا واقتصاديــا؟ أم ال بــد أن نطــرح كل قضايانــا ومشــاكلنا بج ـرأة وواقعية وشفافية على بساط البحث ،لنضع النقــاط علــى الحــروف مــن خــال الحــوار وفــق القاعــدة الحقوقيــة ووحــدة األمــة ،بعيــدا عــن الثقافــات املغلوطــة واملشــاعر البــاردة. نستطيع اليوم قراءة مشاكلنا املتـراكمة بـرؤية علميــة األمــر الــذي لــم يكــن ممكنــا فــي القــرن َ ُ وعينا مع موجات العشريـن عندما بدأ تشويه ِ التنكيل والتزويـر. إن إج ـراءات الــدول القوميــة وريثــة املنهــج الغربـي زادت من قوة االنتماء املشتت والرؤية املج ـزأة وأدت إلــى تخلــف حضــاري واســتعمار عســكري واقتصــادي وثقافــي ألن اتفاقــات املستعمري ــن ومعاهداتهــم فــي املنطقــة كانــت بدايــة تفريــق جغرافــي وثقافــي واضــح ،ســاعدت علــى حــرق كافــة اإلمكانــات لوحــدة األمــة، ولذلــك أصبــح تدوي ــن التاريــخ إرثــا دمويــا عب ــر املذابــح واالقتتــال الــذي دار بـي ــن الحكومــات املســتبدة مــن جانــب ،وبـي ــن هــذه الحكومــات وشــعوبها مــن جهــة أخــرى. ولتصحيــح املســار ال بــد مــن جعــل التاريــخ ً ً وواضحــا لكافــة أب ــناء األمــة بــكل جـرأة مفتوحــا ً ووضوح ،وإال فسيبقى التاريخ أحداثا متفرقة وعرضــة لالســتغالل مــن قبــل األعــداء. ومــن هــذا املنطلــق يجــب أن نفهــم الوضــع السيا�ســي فــي املنطقــة لكــي ال نقــع فــي فــخ ً وخصوصــا بعــد تدخل التفسي ـرات الخاطئــة، أمريــكا وروســيا وإي ـران فــي املنطقــة.
فالوضــع السيا�ســي هــو كمــا يلــي :املنطقــة ال تملــك ضمانــات اســتقرار أو أمــان مــن قبــل الــدول القوميــة الحاكمــة ،وسياســة التذويــب واالضطهــاد مســتمرة فيهــا ،والت ــي ال تحمــل ســوى املآ�ســي ،والص ـراع فــي الظاهــر والباطــن مستمربـيـنالقومياتواملذهبـياتواألقليات، وخصوصــا أن اإلسالميي ــن ليــس ب ــيدهم األمــر فــي إنقــاذ املنطقــة مــن وضعهــا املأســاوي. لقد سادت املنطقة حالة عدم الثقة ،فالفرز القائم يضمن البقاء للمجموعة األقوى التـي تسندها جهات خارجية. إن قضايانا ومشاكلنا االجتماعية والسياسية واالقتصادية والقومية وغيـرها لم تعد مجرد خــاف علــى الحقــوق ،بــل تجاوزتــه لتدخــل فــي اإلطــار النف�ســي االجتماعــي العــام القائــم علــى عــدم الثقــة أو الشــعور باألمــان.
كيف نطرح قضايانا؟ يمكــن أن نطــرح حلنــا لهــا مــن القاعــدة الحقوقيــة الت ــي تحــدد العالقــة بـي ــن األف ـراد مــن جانــب وبـي ــن الشــعوب مــن جانــب آخــر، فغيــاب هــذه القاعــدة يدخــل مســائلنا فــي حكم املســتحيل املســتع�صي. املسألة املستحيلة ال توضح العالقة مع اآلخر لعدم استنادها لقاعدة حقوقية ،األمر الذي يجعلهــا مشــاعا لتدخــات مــن الخــارج فيســهل اســتغاللها ،فانفجار الثورة الســورية وارتفاع وتـيـرة التوجه نحوها واستغاللها؛ يدل بشكل واضح على عمق السياسة الدولية في املسألة، علــى الرغــم مــن أن التدويــل فــي هــذه املســائل غي ــر مفيــد ،وخصوصــا أننــا نملــك إرثــا تاريخيــا مــن سياســة التدويــل ،فاألمــم املتحــدة وقــوى االســتكبار العالمــي عــن طريــق مجلــس األمــم ّ سببت مزيدا من التدهور والضياع للحقوق، ألن املسألة املستحيلة تفرز حلوال دبلوماسية
العدد 2رجب 1439هـ
ال عالقــة لهــا بالواقــع ،فضيــاع القاعــدة الحقوقيــة يجعــل كافــة املبــادرات والحلــول ً متعلقــة باآلخــر وليــس بأصحــاب املســألة ،ممــا يجعل الحلول صفقات سياسية ال عالقة لها بمصي ــر املجتمــع واألمــة. ولهذا ال بد من مبادرات سياسية واقعية وفق القاعــدة الحقوقيــة ووحــدة األمــة للمســألة التحليليــة ،ألنهــا فــي حقيقتهــا تعب ــر عــن مــأزق سيا�ســي بالدرجــة األولــى. وأرى أن تطرح املبادرة وفق األسس التالية: َ َ َْ ْ )1الحريــة لقولــه تعالــى (( :ف َمـ ْـن شـ َـاء فل ُيؤ ِمـ ْـن َ َْ ْ َو َم ْن شـ َـاء فل َيك ُف ْر)) [ ســورة الكهف :آية ،]29 وقولــه تعالــىَ (( :ل إ ْكـ َـر َاه فــي ّ الدي ـ ِـن)) [ســورة ِ ِ ِ البقرة :آية ]256وبالتالي ال إكراه في السياسة. )2الكرامــة اإلنسان ــية لقولــه تعالــى(( :ولقــد كرمنــا بـن ــي آدم)) [ســورة اإلس ـراء :آيــة .]70 )3التعــارف لقولــه تعالــى (( :إنــا خلقناكــم مــن ذكــر وأنثــى وجعلناكــم شــعوبا وقبائــل لتعارفوا إن أكرمكم عند هللا أتقاكم)) [سورة الحج ـرات :آيــة .]13 دعــوة إلــى تعــارف القوميــات والحضــارات علــى أســاس الحــوار والتفاهــم والتعــاون بــدال مــن الحــروب والصــدام الحضــاري ،وهــذه الدعــوة قائمــة علــى أســاس الحقــوق والواجبــات ،فهــل نحن مستعدون لطرح مشاكلنا ووضع حلول لهــا وفــق هــذا الطــرح؟ وإذا نجحنــا فلمــاذا ال نقدمــه للعالــم كمشــروع حضــاري لهــذه األمــة. إن النظر في مشاكلنا وفق القاعدة الحقوقية مــع النظــر فــي مصلحــة األمــة هــو أســاس كل التصويبــات الت ــي يمكــن أن تصحــح املســار. إننــا أمــام محاولــة إيضــاح استـرات ــيجية الحــل اإلسالمي لقضايانا؛ نجد أنفسنا أمام ّ كم من ٍ ً قاموسا ضباب ًـيا ألبعد املعالجات التـي أفرزت الحــدود ،ألن قضايانــا داخلهــا الشــأن الداخلــي 77
اإلسالم من َّ ُ الظاهرة القوم ّية موقف ِ والخارجــي ،ولهــذا ال بــد مــن صواب ــية املنهــج مــن جهــة والوضــوح مــن جهــة ثان ــية لحلهــا. إن الحــل اإلســامي يحــاول إعــادة التفاعــل داخــل األمــة عب ــر توضيــح ماهيــة األمــة ،وإب ـراز الهويــة داخــل العناصــر املكونــة لهــا ثــم يأت ــي األمــر الحقوقــي ليثبــت توا ًزنــا فــي الحقــوق والواجبــات ،ويزيــل كافــة أشــكال اللبــس، ويعطــي ً زخمــا لألمــة مــن خــال االســتفادة مــن كافــة اإلمكانــات املتوفــرة. فاألمــة بــدون الجامــع العقيــدي تصبــح قطعانا بشـرية تتحكــم فيهــا النــزوات املريضــة واإلرادة الخارجيــة ،وهــذا مــا حصــل خــال القــرن العشري ــن عندمــا ضاعــت أو ضعفــت الهويــة. إن قواعــد الحــل اإلســامي ال تصبــح مجديــة دون املؤسسة الجامعة التـي تضمن استمرار العمــل وتصونــه مــن رغبــات األشــخاص ،ألن ماهيــة األمــة ال تعــود إلــى أصــل ســالي واحــد ومعي ــن ،بــل هــي مزيــج مــن كافــة الشــعوب والعناصــر منــذ فجــر اإلســام ،وال يمكــن فهــم األمــة بتعــدد الــوالءات ،ألن األمــة الواحــدة تفــرض الــوالء الواحــد علــى أي والء آخــر ،إن تعــدد الــوالءات داخــل األمــة اإلســامية مزقهــا وجعلهــا أجـزاء مبعث ــرة مــا بـي ــن الــوالء الطائفــي والعشــائري والقبلــي واألســري والحزب ــي. إن إزالــة الحواجــز بـي ــن مختلــف العناصــر املكونــة لألمــة هــو التكت ــيك العملــي لتطب ــيق استـرات ــيجية املجتمــع الواحــد .فتمزيــق الجغرافيــا هــو حكــم علــى األمــة بالتفــرق والتقســيم واالنعـزال ،وهــذا مــا حصــل رســميا فــي اتفاقيــة ســايكس ب ــيكو ،حيــث انقســمت األمــة وأصبحــت تعيــش حالــة املســألة املســتحيلة فــي قضاياهــا ومشــاكلها. َّ إن جغرافية الوطن وحدوده ليست مسلمات ت ــرسمها السياســات الدوليــة واإلقليميــة ،إنمــا
هي حياة األمة ووحدتها ،ألن الجغرافيا هي كل ً متكامــل ،فــا يمكــن مثــا أن نفهــم كردســتان فــي ظــل تقســيم إقليمــي ألن هــذا التمــزق يمــزق القاعــدة لوحــدة األمــة. وليس الشأن الكوردي سوى واحدا من األمور الت ــي تحتــاج إلــى حــل حقيقــي ،ألنــه فــي النهايــة يخصنــا كأمــة تحــرص علــى وحدتهــاُ ... فالقــوى األجنب ــية عب ــر الســلطات اإلقليميــة قامــت بالفصل ما بـيـنهم وبـيـن األمة عبـر خلق نقاط تعســفية ،ولهــذا فــإن الحــل اإلســامي ي ــرفض كافة املبادئ والقواعد االستبدادية ،ويعارض التدخــات الخارجيــة لحــل هــذه القضيــة. الحل اإلسالمي يأخذ األمور من أساسها فيعتبـر أن عليــه مواجهــة النزعــات العنصريــة لــدى الــدول اإلقليميــة الت ــي أدت إلــى ت ــرسيخ تمزيــق األمــة فــي النفــوس بعــد أن كان فــي الجغرافيــا. فعندمــا تنعــدم الحــدود اإلقليميــة السياســية وتكــون هنــاك واليــات إســامية متحــدة ،يصبــح ً مفتوحا دون قيود عرقية، التعامل بـيـن األفراد وعندئذ تقوم الوحدة داخل الوطن اإلسالمي. إن العشــوائية واالنقيــاد وراء ت ــيار املشــاعر فقــط ال يجــدي فــي مجــال تنفيــذ الحــل اإلســامي ،فــا بــد مــن التنظيــم والتخطيــط لكافــة مســائلنا املســتعصية ،ـكـي يكــون الحــل إســاميا متكامــا ،والطــرح اإلســامي يكــون ً واقعيــا ألنــه ي ــرفض كافــة الحــاالت املجت ـزأة والفوضويــة املوجــودة فــي األمــة. إن ما عرضناه هو املخارج التـي نصل إليها عبـر هــذا الحــل ،وهــو طــرح فكــري بالدرجــة األولــى، فمشاكلنا بعد أشكال املعاناة واالضطهاد التـي طـرأت عليهــا ،وبعــد األحــداث السياســية الت ــي ضربتهــا تشــابكت بحيــث أصبــح املنهــج العلمــي واملوضوعــي غائبــا عنها. وهنا ال نسجل قوالب جاهزة للحل ،وال صيغا
القدس ..أرض رباط وجهاد
العدد 2رجب 1439هـ
سياسية يمكن اتباعها لتصبح األحالم واقعا، إنمــا ننــوه باملنهــج الغائــب بــكل مــا يعن ــيه غيابــه من غموض في مشــاكلنا. فالشــأن الســوري اليــوم هــو خــط النضــال واملعانــاة فــي جــزء مــن أمتنــا ،وهــو عرضــة ملختلــف أنــواع املســاومات والضغــوط واملبــادرات ،بـي ــنما يبقــى النظــر فيــه مقصــورا علــى فكــرة ضيقــة ،هــي التشــكيل السيا�ســي والظــرف السيا�ســي دون أي اعتبــار لت ـرابط هــذا الشــأن مــع قضايــا األمــة. واملطلــوب منــا اليــوم إعــادة صياغــة ذاكرتنــا املعاصــرة ،وبالتالــي ت ــركيب العقــل املســلم وفق املنهج السليم بحيث يستطيع صياغة حاضرنــا ومســتقبلنا بشــكل جــدي وواضــح، وقضيــة مــن هــذا النــوع يحتــاج فهمهــا فهمــا كامــا إلــى درس طويــل عميــق ،ولذلــك يجــب أن ال نت ــركها ملجــرد اســتنتاجات األمزجــة الشخصية أوالحاالت السياسية العارضة، فــا بــد مــن دعــوة كافــة املهتمي ــن بهــا للكتابــة حول مسألة الحقوق والواجبات لكي نصل إلــى فهــم صحيــح فــي ضــوء الواقــع ،ألنــه ب ــناء علــى الغمــوض والســكوت نشــأت الشــركات السياسية الستثمارالنزعات املختلفة باسم الوطن ــية والقوميــة. فإذا كانت الشرعية تبحث عن شكل إنسانـي ً ملكونــات أمتنــا ،فــإن الوضــوح يقت�ضــي أول وأخي ـ ًـرا دخــول الجميــع فــي صياغــة الحيــاة الت ــي تطمــح إليهــا وليــس األمــرمجــرد حقــوق سياســية أومدن ــية ملكــون مــا فــي األمــة ،وإنمــا إرادة كل مكــون هــي جــزء مــن إرادة األمــة، ومصلحتــه هــو مصلحــة األمــة كلهــا ...وهللا املوفــق والهــادي إلــى صــراط مســتقيم. 78
العدد 2رجب 1439هـ
ُ القدس
أرض رباط وجهاد إلى يوم القيامة
الدكتور ليث سعود جاسم
محاضر يف جامعة السلطان محمد الفاتح الوقفية
ملحات ً عميقا في ّ حس املسلم، املسجد األق�صى يمثل معنى فهــو ثان ــي ب ــيت بـن ــي بعــد ب ــيت هللا الحــرام لحديــث أب ــي ذر ر�ضــي هللا عنــه قلــت :يــا رســول هللا! أي مســجد وضــع فــي األرض أول؟ قــال(( :املســجد الحــرام)) قلــت :ثــم ّ أي؟ قــال(( :املســجد األق�صــى)) قلــت :كــم بـي ــنهما؟ قــال: ((أربعــون ســنة ،وأي ــنما أدركتــك الصــاة فصـ ِ ّـل فهــو مســجد))(.)1 ولذلــك ربــط هللا بـي ــنهما فــي قرآنــه الكريــم ،قــال تعالــى: َ َّ َ ْ َ ً َْ ُ ((سـ ْـب َحان الـ ِـذي أ ْسـ َـرى ِب َع ْبـ ِـد ِه ل ْيــا ِمـ َـن ال ْسـ ِـج ِد ال َحـ َـر ِام
ْ َ ْ َ َّ َ ُ َ َْ َ َْ ِإلــى ال ْسـ ِـج ِد الق �صــى الـ ِـذي َب َاركنــا َح ْولـ ُـه ِلن ِرَيـ ُـه ِمـ ْـن َآيا ِتنــا ْ إ َّنـ ُـه ُهـ َـو َّ السـ ِـم ُيع ال َب ِصي ـ ُـر))[سورة اإلســراء :آيــة .]1 ِ ونالــت فلسطي ــن التشــريف بكونهــا أرض اإلســراء ،والت ــي ً ـاميا مــن يــوم َتسـ َّـلم مفتـ َ وقفــا إسـ ّ ـاح ب ــيت املقــدس غــدت ُ أمي ـ ُـر املؤمنـي ــن عمــر ب ــن الخطــاب ر�ضــي هللا عنــه... ومنــذ ذلــك العهــد حافــظ املســلمون علــى قبلتهــم األولــى الت ــي وجههــم هللا تعالــى إليهــا ســنوات مــن صــدر اإلســام تشريفا لهم بصالتهم إلى قبلة أب ــي األنب ــياء إب ــراهيم عليه الســام ،ولربطهــم روحيــا وعمليــا باملســجد الــذي يلــي
( )1رواه البخاري باب َق ْول هللا َت َع َالى َ[و َو َه ْب َنا ل َد ُاو َد ُس َل ْي َم َ ان ِن ْع َم ْال َع ْب ُد إ َّن ُه َأ َّو ٌ اب] رقم ( )3243ومسلم باب املساجد ومواضع الصالة رقم (.)520/1 ِ ِ ِ ِ
79
اإلسالم من َّ ُ الظاهرة القوم ّية موقف ِ والخارجــي ،ولهــذا ال بــد مــن صواب ــية املنهــج مــن جهــة والوضــوح مــن جهــة ثان ــية لحلهــا. إن الحــل اإلســامي يحــاول إعــادة التفاعــل داخــل األمــة عب ــر توضيــح ماهيــة األمــة ،وإب ـراز الهويــة داخــل العناصــر املكونــة لهــا ثــم يأت ــي األمــر الحقوقــي ليثبــت توا ًزنــا فــي الحقــوق والواجبــات ،ويزيــل كافــة أشــكال اللبــس، ويعطــي ً زخمــا لألمــة مــن خــال االســتفادة مــن كافــة اإلمكانــات املتوفــرة. فاألمــة بــدون الجامــع العقيــدي تصبــح قطعانا بشـرية تتحكــم فيهــا النــزوات املريضــة واإلرادة الخارجيــة ،وهــذا مــا حصــل خــال القــرن العشري ــن عندمــا ضاعــت أو ضعفــت الهويــة. إن قواعــد الحــل اإلســامي ال تصبــح مجديــة دون املؤسسة الجامعة التـي تضمن استمرار العمــل وتصونــه مــن رغبــات األشــخاص ،ألن ماهيــة األمــة ال تعــود إلــى أصــل ســالي واحــد ومعي ــن ،بــل هــي مزيــج مــن كافــة الشــعوب والعناصــر منــذ فجــر اإلســام ،وال يمكــن فهــم األمــة بتعــدد الــوالءات ،ألن األمــة الواحــدة تفــرض الــوالء الواحــد علــى أي والء آخــر ،إن تعــدد الــوالءات داخــل األمــة اإلســامية مزقهــا وجعلهــا أجـزاء مبعث ــرة مــا بـي ــن الــوالء الطائفــي والعشــائري والقبلــي واألســري والحزب ــي. إن إزالــة الحواجــز بـي ــن مختلــف العناصــر املكونــة لألمــة هــو التكت ــيك العملــي لتطب ــيق استـرات ــيجية املجتمــع الواحــد .فتمزيــق الجغرافيــا هــو حكــم علــى األمــة بالتفــرق والتقســيم واالنعـزال ،وهــذا مــا حصــل رســميا فــي اتفاقيــة ســايكس ب ــيكو ،حيــث انقســمت األمــة وأصبحــت تعيــش حالــة املســألة املســتحيلة فــي قضاياهــا ومشــاكلها. َّ إن جغرافية الوطن وحدوده ليست مسلمات ت ــرسمها السياســات الدوليــة واإلقليميــة ،إنمــا
هي حياة األمة ووحدتها ،ألن الجغرافيا هي كل ً متكامــل ،فــا يمكــن مثــا أن نفهــم كردســتان فــي ظــل تقســيم إقليمــي ألن هــذا التمــزق يمــزق القاعــدة لوحــدة األمــة. وليس الشأن الكوردي سوى واحدا من األمور الت ــي تحتــاج إلــى حــل حقيقــي ،ألنــه فــي النهايــة يخصنــا كأمــة تحــرص علــى وحدتهــاُ ... فالقــوى األجنب ــية عب ــر الســلطات اإلقليميــة قامــت بالفصل ما بـيـنهم وبـيـن األمة عبـر خلق نقاط تعســفية ،ولهــذا فــإن الحــل اإلســامي ي ــرفض كافة املبادئ والقواعد االستبدادية ،ويعارض التدخــات الخارجيــة لحــل هــذه القضيــة. الحل اإلسالمي يأخذ األمور من أساسها فيعتبـر أن عليــه مواجهــة النزعــات العنصريــة لــدى الــدول اإلقليميــة الت ــي أدت إلــى ت ــرسيخ تمزيــق األمــة فــي النفــوس بعــد أن كان فــي الجغرافيــا. فعندمــا تنعــدم الحــدود اإلقليميــة السياســية وتكــون هنــاك واليــات إســامية متحــدة ،يصبــح ً مفتوحا دون قيود عرقية، التعامل بـيـن األفراد وعندئذ تقوم الوحدة داخل الوطن اإلسالمي. إن العشــوائية واالنقيــاد وراء ت ــيار املشــاعر فقــط ال يجــدي فــي مجــال تنفيــذ الحــل اإلســامي ،فــا بــد مــن التنظيــم والتخطيــط لكافــة مســائلنا املســتعصية ،ـكـي يكــون الحــل إســاميا متكامــا ،والطــرح اإلســامي يكــون ً واقعيــا ألنــه ي ــرفض كافــة الحــاالت املجت ـزأة والفوضويــة املوجــودة فــي األمــة. إن ما عرضناه هو املخارج التـي نصل إليها عبـر هــذا الحــل ،وهــو طــرح فكــري بالدرجــة األولــى، فمشاكلنا بعد أشكال املعاناة واالضطهاد التـي طـرأت عليهــا ،وبعــد األحــداث السياســية الت ــي ضربتهــا تشــابكت بحيــث أصبــح املنهــج العلمــي واملوضوعــي غائبــا عنها. وهنا ال نسجل قوالب جاهزة للحل ،وال صيغا
القدس ..أرض رباط وجهاد
العدد 2رجب 1439هـ
سياسية يمكن اتباعها لتصبح األحالم واقعا، إنمــا ننــوه باملنهــج الغائــب بــكل مــا يعن ــيه غيابــه من غموض في مشــاكلنا. فالشــأن الســوري اليــوم هــو خــط النضــال واملعانــاة فــي جــزء مــن أمتنــا ،وهــو عرضــة ملختلــف أنــواع املســاومات والضغــوط واملبــادرات ،بـي ــنما يبقــى النظــر فيــه مقصــورا علــى فكــرة ضيقــة ،هــي التشــكيل السيا�ســي والظــرف السيا�ســي دون أي اعتبــار لت ـرابط هــذا الشــأن مــع قضايــا األمــة. واملطلــوب منــا اليــوم إعــادة صياغــة ذاكرتنــا املعاصــرة ،وبالتالــي ت ــركيب العقــل املســلم وفق املنهج السليم بحيث يستطيع صياغة حاضرنــا ومســتقبلنا بشــكل جــدي وواضــح، وقضيــة مــن هــذا النــوع يحتــاج فهمهــا فهمــا كامــا إلــى درس طويــل عميــق ،ولذلــك يجــب أن ال نت ــركها ملجــرد اســتنتاجات األمزجــة الشخصية أوالحاالت السياسية العارضة، فــا بــد مــن دعــوة كافــة املهتمي ــن بهــا للكتابــة حول مسألة الحقوق والواجبات لكي نصل إلــى فهــم صحيــح فــي ضــوء الواقــع ،ألنــه ب ــناء علــى الغمــوض والســكوت نشــأت الشــركات السياسية الستثمارالنزعات املختلفة باسم الوطن ــية والقوميــة. فإذا كانت الشرعية تبحث عن شكل إنسانـي ً ملكونــات أمتنــا ،فــإن الوضــوح يقت�ضــي أول وأخي ـ ًـرا دخــول الجميــع فــي صياغــة الحيــاة الت ــي تطمــح إليهــا وليــس األمــرمجــرد حقــوق سياســية أومدن ــية ملكــون مــا فــي األمــة ،وإنمــا إرادة كل مكــون هــي جــزء مــن إرادة األمــة، ومصلحتــه هــو مصلحــة األمــة كلهــا ...وهللا املوفــق والهــادي إلــى صــراط مســتقيم. 78
العدد 2رجب 1439هـ
ُ القدس
أرض رباط وجهاد إلى يوم القيامة
الدكتور ليث سعود جاسم
محاضر يف جامعة السلطان محمد الفاتح الوقفية
ملحات ً عميقا في ّ حس املسلم، املسجد األق�صى يمثل معنى فهــو ثان ــي ب ــيت بـن ــي بعــد ب ــيت هللا الحــرام لحديــث أب ــي ذر ر�ضــي هللا عنــه قلــت :يــا رســول هللا! أي مســجد وضــع فــي األرض أول؟ قــال(( :املســجد الحــرام)) قلــت :ثــم ّ أي؟ قــال(( :املســجد األق�صــى)) قلــت :كــم بـي ــنهما؟ قــال: ((أربعــون ســنة ،وأي ــنما أدركتــك الصــاة فصـ ِ ّـل فهــو مســجد))(.)1 ولذلــك ربــط هللا بـي ــنهما فــي قرآنــه الكريــم ،قــال تعالــى: َ َّ َ ْ َ ً َْ ُ ((سـ ْـب َحان الـ ِـذي أ ْسـ َـرى ِب َع ْبـ ِـد ِه ل ْيــا ِمـ َـن ال ْسـ ِـج ِد ال َحـ َـر ِام
ْ َ ْ َ َّ َ ُ َ َْ َ َْ ِإلــى ال ْسـ ِـج ِد الق �صــى الـ ِـذي َب َاركنــا َح ْولـ ُـه ِلن ِرَيـ ُـه ِمـ ْـن َآيا ِتنــا ْ إ َّنـ ُـه ُهـ َـو َّ السـ ِـم ُيع ال َب ِصي ـ ُـر))[سورة اإلســراء :آيــة .]1 ِ ونالــت فلسطي ــن التشــريف بكونهــا أرض اإلســراء ،والت ــي ً ـاميا مــن يــوم َتسـ َّـلم مفتـ َ وقفــا إسـ ّ ـاح ب ــيت املقــدس غــدت ُ أمي ـ ُـر املؤمنـي ــن عمــر ب ــن الخطــاب ر�ضــي هللا عنــه... ومنــذ ذلــك العهــد حافــظ املســلمون علــى قبلتهــم األولــى الت ــي وجههــم هللا تعالــى إليهــا ســنوات مــن صــدر اإلســام تشريفا لهم بصالتهم إلى قبلة أب ــي األنب ــياء إب ــراهيم عليه الســام ،ولربطهــم روحيــا وعمليــا باملســجد الــذي يلــي
( )1رواه البخاري باب َق ْول هللا َت َع َالى َ[و َو َه ْب َنا ل َد ُاو َد ُس َل ْي َم َ ان ِن ْع َم ْال َع ْب ُد إ َّن ُه َأ َّو ٌ اب] رقم ( )3243ومسلم باب املساجد ومواضع الصالة رقم (.)520/1 ِ ِ ِ ِ
79
القدس ..أرض رباط وجهاد املســجد الحــرام بالقــدم ،ويلــي مســجد رســول هللا صلــى هللا عليــه وســلم بالفضيلــة ،فكانــت الصــاة فــي املســجد الحــرام بمائــة ألــف صــاة ،وفــي املســجد النبــوي بألــف صــاة وفــي املســجد األق�صــى بخمســمائة صــاة.
ولقد عمق رســول هللا صلى هللا عليه وســلم الصلــة الديـن ــية بـي ــن املســجد األق�صــى والب ــيت الح ـرام ومســجده أن جعلــه ممــا تشــد الرحــال إليــه عبــادة هلل لحديــث أب ــي ســعيد الخــدري ر�ضــي هللا عنــه (( :ال تشــد الرحــال إال لثــاث مســاجد؛ املســجد الحـرام ومســجدي هــذا واملســجد االق�صــى))(.)2 أمــا تكريــم املســجد األق�صــى والدليــل علــى كونــه ً أرضــا إسـ ّ ـامية حتــى قيــام الســاعة؛ صــاة رســول هللا صلــى هللا عليــه وســلم فيــه ً إمامــا بجميــع األنب ــياء ،فنــال املســجد ً األق�صــى بذلــك شــرفا علــى شــرف ،وفيهــم أولــو العــزم مــن الرســل نــوح وإب ـراهيم ومو�ســى وعي�ســى عليهــم الســام ...إن اقتــداء األنب ــياء ب ــرسولنا محمــد صلــى هللا عليــه وســلم فــي املســجد األق�صــى عبــارة عــن شــهادة مــن هــؤالء األنب ــياء الك ـرام بأنــه خاتــم األنب ــياء وكتابــه خاتــم الكتــب، وأن شـريعته خاتمــة الشـرائع الناســخة ملــا قبلهــا ...وأنــه وأمتــه وراث النبــوات واألرض املباركــة واملســجد األق�صــى. ولقــد أخب ــر النب ــي صلــى هللا عليــه وســلم أن خي ــر أنــواع الجهــاد هــو الربــاط وهــو مراقبــة العــدو ومنعــه مــن انتهــاك حرمــات األمــة، وأن خي ــر هــذا الربــاط مــا كان قريبــا مــن ب ــيت ـالَ :قـ َ املقــدسَ ،عــن ْابــن َع َّبــاسَ ،قـ َ ـال َر ُســو ُل َ َّ ُِ َ َ ِْ َ َ َّ ٍ َ َ َّ ُ َ َ ْ َ ْ هللا صلــى هللا عليـ ِـه وســلم(( :أول هــذا المـ ِـر ِ ُن ُبـ َّـو ٌة َو َر ْح َمـ ٌـةُ ،ثـ َّـم َي ُكــو ُن ِخ َل َفـ ًـة َو َر ْح َمـ ًـةُ ،ثــمَّ ً ُ ُ ًْ ً ُ ُ ُ ً َيكــون ُملــكا َو َر ْح َمــة ،ثـ َّـم َيكــون ِإ َمـ َـارة َو َر ْح َمة، ُ َّ َ َ َ ُ َ َ َ ْ َ ُ ْ َ َ ُ ـكاد َم ال ُح ُمـ ِـر ف َعل ْيكـ ْـم ثــم يتكادمــون عليـ ِـه تـ ُ ُ ب ْالج َهــادَ ،وإ َّن َأ ْف َ ضـ َـل جهادكـ ُـم ّ َ الربــاطَ ،وِإ َّن ِ َِ ِ ِ ِ ِ ْ َ ُ ْ َ ْ َ َ ُ ()3 باطكــم عســقلن)) . أفضـ َـل ر ِ
( )2رواه البخاري ومسلم وبقية الستة عن أبـي هريـرة وأبـي سعيد الخدري ر�ضي هللا عنهما. ( )3رواه الطبـرانـي في املعجم الكبـيـر ،رقم (.)11138 ( )4رواه البخاري ومسلم إال قوله (وأيـن هم )....ألخ؛ فهو من رواية أحمد في مسنده رقم (.)22320
القدس ..أرض رباط وجهاد
العدد 2رجب 1439هـ
وقــد جــاء فــي الســنة أن طائفــة منصــورة مــن أمــة اإلســام ســتكون ظاهــرة علــى الحــق إلــى قيــام الســاعة وأنهــم علــى أط ـراف ب ــيت ـالَ :قـ َ املقــدسَ ،عـ ْـن َأبــي ُأ َم َامـ َـة َقـ َ ـال َر ُســو ُل َ َّ ُ َ َ ِ ْ َ َ َّ َ َ َ َ ُ َ َ ٌ ال طا ِئفــة هللا صلــى هللا عليـ ِـه وســلم(( :ل تــز ِ َ مـ ْـن ُأ َّمت ــي َع َلــى ّ ُ الدي ــن َظاهري ـ َـن ل َعد ّوهــمْ ِ ِ ِِ ِ ِ ِ ِ َقاهري ـ َـن َل َي ُ ض ُّر ُهـ ْـم َمـ ْـن َخ َال َف ُهـ ْـم إ َّل مــاَ ِ َ ِ ِ أ َ ص َاب ُه ْم ِم ْن َ ْل َو َاء -أي أذى َ -ح َّتى َي ْأ ِت َي ُه ْم َأ ْمرُ َ َُ َ َ َ َ ُ َ ُ َ هللا َوأ ْيـ َـن هللا وهـ ْـم كذ ِلــك)) .قالــوا :يــا َرسـ َـول ِ ِ َ ْ ُ ْ َ َ َْ َْ ْ َ ْ َ ـاف بيـ ِـت ((ببيـ ِـت القـ ِـد ِس وأكنـ ِ ْهــم؟ قــالِ : َْ القـ ِـد ِس))(. )4
منازعة الباطل الحق وأهله: لقــد فتــح املســلمون ب ــيت املقــدس فــي خالفــة عمــر ب ــن الخطــاب ر�ضــي هللا عنــه، واســتخلصوه مــرة أخــرى مــن الرومــان والصليبـييـن بأمر هللا في زمن الناصر لديـن هللا صالح الدي ــن األيوب ــيّ ، وقدموا في سب ــيل ذلــك اآلالف مــن الشــهداء الذي ــن َّروت دماؤهــم الزاكيــة أرض فلسطي ــن وحافظــوا ّ ً يدنــس أرضــه �شـ ٌ عليــه ّ ـيء مصونــا ال مكر ًمــا حتــى القــرن الخامــس عشــر امليــادي... فــي القــرن الخامــس عشــر امليــادي وبعــد احتــال األندلــس وتهجي ــر أهلهــا قسـ ًـرا أو تنصي ــرهم جب ـ ًّريا مسلمي ــن وب ــروتستانت ويهــود قامــت الدولــة العثمان ــية باســتقبال هــؤالء املهجري ــن وكثي ــر منهــم مــن اليهــود لي ــنعموا باألمــان والحريــة فــي أرض اإلســام. كان اليهــود املشــتتون فــي العالــم يحســدون يهــود الدونمــة الذي ــن يعيشــون مكرمي ــن فــي سالنـيك التـي كانت إحدى مدن العثمانـييـن املهمــة ،ويتمنــون أن يعيشــوا عيشــتهم، وبالفعــل مــا أن اضطهــد اليهــود فــي إسبان ــيا
80
العدد 2رجب 1439هـ
حتــى قامــت الخالفــة العثمان ــية بتحقيــق أمانـيهم في العيش بأمان وسالم فاستقبلتهم ورعتهــم وحفظتهــم مــن االضطهــاد ووقفــت بجانبهــم ،ولكــن اليهــود قــوم غــدر يســيئون إلــى مــن أحســن إليهــم ويطعنــون مــن ائتمنهــم فــي ظهــره. مــا أن كشــرت أوروبــا عــن أن ــيابها ضــد الدولــة العثمان ــية حتــى صــار اليهــود مخالــب شري ــرة لتنفيــذ أطمــاع أوروبــا فــي قلــب بــاد املسلميـن ،قامت أوربا بالتواصل مع هؤالء الخونة ووعدتهم بإنشــاء وطن قومي لهم في أرض فلسطي ــن إن هــم ســاندوها فــي حربهــا علــى الخالفــة العثمان ــية ...وكانــت تهــدف أوربــا مــن ذلــك أن تحتــل نقطــة التقــاء لهــا بـي ــن الشــرق والغــرب ،وهكــذا خططــت ً الحتــال فلسطي ــن احتــال طويــل األمــد عب ــر غــرز خنجرهــا اليهــودي املســموم فــي قلب الشرق املسلم في فلسطيـن وسويدائه القــدس الش ـريفة... إن فلسطي ــن بالنســبة ألوربــا مفتــاح استـراتـيجيمهمملنطقةالشرقاألوسط،وإن التقــاء مصالــح األوروبـيي ــن مــع مطامــع اليهــود ّ ً الصهاي ــنة فــي فلسطي ــن شــكل فرصــة ذهب ـ ّـية أمــام اإلنكليــز الســتخدام الوجــود اليهــودي فــي الشــرق األوســط وأموالهــم الضخمــة فــي أوربــا فــي حربهــا علــى الخالفــة العثمان ــية. ومــن أجــل تنفيــذ هــذا املخطــط فقــد ابتكــر الصهاي ــنة خطــة تجميــع يهــود الشــتات عب ــر مشــروع (الدولــة اليهوديــة فــي فلسطي ــن) التخاذهــا ً ًّ قوميــا لهــم ،إذ هــذا هــو وطنــا الهــدف العقائــدي للحركــة الصهيون ــية الت ــي ّ أسســها الصحافــي اليهــودي ت ــيودور
لقطة من املؤتمر الصهيونـي السادس املنعقد في بازل عام 1903
هرتــزل ســنه 1895م؛ بدعــم وتوجيــه مــن الحكومــة البـريطان ــية والقيــادات اليهوديــة فــي أوربــا ...وقــد اتخــذت هــذه الحركــة اســمها مــن جبــل صهيــون القريــب مــن القــدس، وباعتبــار هرتــزل قائـ ًـدا لهــذه الحركــة فقــد دعــا إلــى مؤتمــر يوضــح فيــه مشــروعه فــي بــازل السويس ـرية ســنة 1897م ( ،)5تلتــه عــدة مؤتم ـرات أخــرى.
اليهود والبحث عن وطن: إن احتالل بالد فلسطي ــن والقدس املباركة لم يكن طفرة في ّ السياسة البـريطانـية أو قفزة ِ خارقــة فــي القــدرة اليهوديــة؛ وإنمــا كان نت ــيجة لتخطيــط بـريطان ــي طويــل األمــد واتفاقــات س ـرية ومعلنــة بـي ــن الساســة البـريطانـيي ــن وأباطــرة املــال اليهــود ،ولــم يكــن هرتــزل إال ُّ الصــورة الظاهــرة لهــذا االتفــاق العميــق. إن كتــاب (الدولــة اليهوديــة) لت ــيودور هرتــزل فيه التفاصيل الكافية لالطالع على مراحل التخطيط للسيطرة على فلسطيـن. لقــد بــدأت الفكــرة حي ــنما أعلــن هرتــزل عــن حاجــة اليهــود للعيــش فــي وطــن قومــي لهــم يجمــع شــتاتهم وتحكمــه دولــة يهوديــة
(( )5املوسوعة الثقافية) مؤسسه فرانكليـن ،طبعة القاهرة ،1972بإشراف الدكتور حسيـن سعيد (ص )624 ( )6كتاب الدولة اليهودية ،تأليف تـيودور هرتزل (ص )101وما بعدها ،طبعة مكتبة اإلمام البخاري .2009 ( )7كتاب الدولة اليهودية( ،ص .)102
خالصــة ،وعندمــا قــام هرتــزل بوضــع مشروعه إلقامة دولة يهودية وضع خياريـن لهذا الوطن ،وهما فلسطي ــن أو األرجنتـي ــن. لقــد قــام هرتــزل فــي كتابــه (الدولــة اليهوديــة) بطــرح تســاؤله عــن اخت ــيار اليهــود بـي ــن فلسطي ــن واألرجنتـي ــن ،ثــم أجــاب علــى ذلــك فقــال( :إننــا ســنأخذ مــا ُيعطــى لنــا ومــا يختــاره ال ـرأي العــام اليهــودي ،وســوف تقرره الجمعية)( )6وقد تكلم عن األرجنتـيـن ذاكـ ًـرا مزاياهــا الت ــي تخــدم مشــروع الدولــة اليهوديــة ،ولكنــه عندمــا تكلــم عــن فلسطي ــن قــال( :هــي وطننــا التاريخــي الــذي ال تمحــى ذك ـراه ،فمجــرد ذكــر اســمها يجــذب شعب ــنا بقــوة هائلــة)( ،)7ولكنــه وبتوجيــه مــن البـريطانـييـن والقيادات الصهيونـية في أوربا لهرتــزل تــم التخلــي عــن فكــرة األرجنتـي ــن والت ــركيز علــى فلسطي ــن. وقــد تكلــم فــي كتابــه عــن ضــرورة الرعايــة الدوليــة لهجــرة اليهــود فقــال( :عندمــا يشــعر الســكان املحليــون أنهــم مهــددون ســوف يجب ــرون الحكومــة علــى إيقــاف أي تدفــق جديــد لليهــود ،وبالتالــي فــإن الهجــرة ال جــدوى منهــا مــا لــم تقــم علــى أســاس مــن
81
القدس ..أرض رباط وجهاد املســجد الحــرام بالقــدم ،ويلــي مســجد رســول هللا صلــى هللا عليــه وســلم بالفضيلــة ،فكانــت الصــاة فــي املســجد الحــرام بمائــة ألــف صــاة ،وفــي املســجد النبــوي بألــف صــاة وفــي املســجد األق�صــى بخمســمائة صــاة.
ولقد عمق رســول هللا صلى هللا عليه وســلم الصلــة الديـن ــية بـي ــن املســجد األق�صــى والب ــيت الح ـرام ومســجده أن جعلــه ممــا تشــد الرحــال إليــه عبــادة هلل لحديــث أب ــي ســعيد الخــدري ر�ضــي هللا عنــه (( :ال تشــد الرحــال إال لثــاث مســاجد؛ املســجد الحـرام ومســجدي هــذا واملســجد االق�صــى))(.)2 أمــا تكريــم املســجد األق�صــى والدليــل علــى كونــه ً أرضــا إسـ ّ ـامية حتــى قيــام الســاعة؛ صــاة رســول هللا صلــى هللا عليــه وســلم فيــه ً إمامــا بجميــع األنب ــياء ،فنــال املســجد ً األق�صــى بذلــك شــرفا علــى شــرف ،وفيهــم أولــو العــزم مــن الرســل نــوح وإب ـراهيم ومو�ســى وعي�ســى عليهــم الســام ...إن اقتــداء األنب ــياء ب ــرسولنا محمــد صلــى هللا عليــه وســلم فــي املســجد األق�صــى عبــارة عــن شــهادة مــن هــؤالء األنب ــياء الك ـرام بأنــه خاتــم األنب ــياء وكتابــه خاتــم الكتــب، وأن شـريعته خاتمــة الشـرائع الناســخة ملــا قبلهــا ...وأنــه وأمتــه وراث النبــوات واألرض املباركــة واملســجد األق�صــى. ولقــد أخب ــر النب ــي صلــى هللا عليــه وســلم أن خي ــر أنــواع الجهــاد هــو الربــاط وهــو مراقبــة العــدو ومنعــه مــن انتهــاك حرمــات األمــة، وأن خي ــر هــذا الربــاط مــا كان قريبــا مــن ب ــيت ـالَ :قـ َ املقــدسَ ،عــن ْابــن َع َّبــاسَ ،قـ َ ـال َر ُســو ُل َ َّ ُِ َ َ ِْ َ َ َّ ٍ َ َ َّ ُ َ َ ْ َ ْ هللا صلــى هللا عليـ ِـه وســلم(( :أول هــذا المـ ِـر ِ ُن ُبـ َّـو ٌة َو َر ْح َمـ ٌـةُ ،ثـ َّـم َي ُكــو ُن ِخ َل َفـ ًـة َو َر ْح َمـ ًـةُ ،ثــمَّ ً ُ ُ ًْ ً ُ ُ ُ ً َيكــون ُملــكا َو َر ْح َمــة ،ثـ َّـم َيكــون ِإ َمـ َـارة َو َر ْح َمة، ُ َّ َ َ َ ُ َ َ َ ْ َ ُ ْ َ َ ُ ـكاد َم ال ُح ُمـ ِـر ف َعل ْيكـ ْـم ثــم يتكادمــون عليـ ِـه تـ ُ ُ ب ْالج َهــادَ ،وإ َّن َأ ْف َ ضـ َـل جهادكـ ُـم ّ َ الربــاطَ ،وِإ َّن ِ َِ ِ ِ ِ ِ ْ َ ُ ْ َ ْ َ َ ُ ()3 باطكــم عســقلن)) . أفضـ َـل ر ِ
( )2رواه البخاري ومسلم وبقية الستة عن أبـي هريـرة وأبـي سعيد الخدري ر�ضي هللا عنهما. ( )3رواه الطبـرانـي في املعجم الكبـيـر ،رقم (.)11138 ( )4رواه البخاري ومسلم إال قوله (وأيـن هم )....ألخ؛ فهو من رواية أحمد في مسنده رقم (.)22320
القدس ..أرض رباط وجهاد
العدد 2رجب 1439هـ
وقــد جــاء فــي الســنة أن طائفــة منصــورة مــن أمــة اإلســام ســتكون ظاهــرة علــى الحــق إلــى قيــام الســاعة وأنهــم علــى أط ـراف ب ــيت ـالَ :قـ َ املقــدسَ ،عـ ْـن َأبــي ُأ َم َامـ َـة َقـ َ ـال َر ُســو ُل َ َّ ُ َ َ ِ ْ َ َ َّ َ َ َ َ ُ َ َ ٌ ال طا ِئفــة هللا صلــى هللا عليـ ِـه وســلم(( :ل تــز ِ َ مـ ْـن ُأ َّمت ــي َع َلــى ّ ُ الدي ــن َظاهري ـ َـن ل َعد ّوهــمْ ِ ِ ِِ ِ ِ ِ ِ َقاهري ـ َـن َل َي ُ ض ُّر ُهـ ْـم َمـ ْـن َخ َال َف ُهـ ْـم إ َّل مــاَ ِ َ ِ ِ أ َ ص َاب ُه ْم ِم ْن َ ْل َو َاء -أي أذى َ -ح َّتى َي ْأ ِت َي ُه ْم َأ ْمرُ َ َُ َ َ َ َ ُ َ ُ َ هللا َوأ ْيـ َـن هللا وهـ ْـم كذ ِلــك)) .قالــوا :يــا َرسـ َـول ِ ِ َ ْ ُ ْ َ َ َْ َْ ْ َ ْ َ ـاف بيـ ِـت ((ببيـ ِـت القـ ِـد ِس وأكنـ ِ ْهــم؟ قــالِ : َْ القـ ِـد ِس))(. )4
منازعة الباطل الحق وأهله: لقــد فتــح املســلمون ب ــيت املقــدس فــي خالفــة عمــر ب ــن الخطــاب ر�ضــي هللا عنــه، واســتخلصوه مــرة أخــرى مــن الرومــان والصليبـييـن بأمر هللا في زمن الناصر لديـن هللا صالح الدي ــن األيوب ــيّ ، وقدموا في سب ــيل ذلــك اآلالف مــن الشــهداء الذي ــن َّروت دماؤهــم الزاكيــة أرض فلسطي ــن وحافظــوا ّ ً يدنــس أرضــه �شـ ٌ عليــه ّ ـيء مصونــا ال مكر ًمــا حتــى القــرن الخامــس عشــر امليــادي... فــي القــرن الخامــس عشــر امليــادي وبعــد احتــال األندلــس وتهجي ــر أهلهــا قسـ ًـرا أو تنصي ــرهم جب ـ ًّريا مسلمي ــن وب ــروتستانت ويهــود قامــت الدولــة العثمان ــية باســتقبال هــؤالء املهجري ــن وكثي ــر منهــم مــن اليهــود لي ــنعموا باألمــان والحريــة فــي أرض اإلســام. كان اليهــود املشــتتون فــي العالــم يحســدون يهــود الدونمــة الذي ــن يعيشــون مكرمي ــن فــي سالنـيك التـي كانت إحدى مدن العثمانـييـن املهمــة ،ويتمنــون أن يعيشــوا عيشــتهم، وبالفعــل مــا أن اضطهــد اليهــود فــي إسبان ــيا
80
العدد 2رجب 1439هـ
حتــى قامــت الخالفــة العثمان ــية بتحقيــق أمانـيهم في العيش بأمان وسالم فاستقبلتهم ورعتهــم وحفظتهــم مــن االضطهــاد ووقفــت بجانبهــم ،ولكــن اليهــود قــوم غــدر يســيئون إلــى مــن أحســن إليهــم ويطعنــون مــن ائتمنهــم فــي ظهــره. مــا أن كشــرت أوروبــا عــن أن ــيابها ضــد الدولــة العثمان ــية حتــى صــار اليهــود مخالــب شري ــرة لتنفيــذ أطمــاع أوروبــا فــي قلــب بــاد املسلميـن ،قامت أوربا بالتواصل مع هؤالء الخونة ووعدتهم بإنشــاء وطن قومي لهم في أرض فلسطي ــن إن هــم ســاندوها فــي حربهــا علــى الخالفــة العثمان ــية ...وكانــت تهــدف أوربــا مــن ذلــك أن تحتــل نقطــة التقــاء لهــا بـي ــن الشــرق والغــرب ،وهكــذا خططــت ً الحتــال فلسطي ــن احتــال طويــل األمــد عب ــر غــرز خنجرهــا اليهــودي املســموم فــي قلب الشرق املسلم في فلسطيـن وسويدائه القــدس الش ـريفة... إن فلسطي ــن بالنســبة ألوربــا مفتــاح استـراتـيجيمهمملنطقةالشرقاألوسط،وإن التقــاء مصالــح األوروبـيي ــن مــع مطامــع اليهــود ّ ً الصهاي ــنة فــي فلسطي ــن شــكل فرصــة ذهب ـ ّـية أمــام اإلنكليــز الســتخدام الوجــود اليهــودي فــي الشــرق األوســط وأموالهــم الضخمــة فــي أوربــا فــي حربهــا علــى الخالفــة العثمان ــية. ومــن أجــل تنفيــذ هــذا املخطــط فقــد ابتكــر الصهاي ــنة خطــة تجميــع يهــود الشــتات عب ــر مشــروع (الدولــة اليهوديــة فــي فلسطي ــن) التخاذهــا ً ًّ قوميــا لهــم ،إذ هــذا هــو وطنــا الهــدف العقائــدي للحركــة الصهيون ــية الت ــي ّ أسســها الصحافــي اليهــودي ت ــيودور
لقطة من املؤتمر الصهيونـي السادس املنعقد في بازل عام 1903
هرتــزل ســنه 1895م؛ بدعــم وتوجيــه مــن الحكومــة البـريطان ــية والقيــادات اليهوديــة فــي أوربــا ...وقــد اتخــذت هــذه الحركــة اســمها مــن جبــل صهيــون القريــب مــن القــدس، وباعتبــار هرتــزل قائـ ًـدا لهــذه الحركــة فقــد دعــا إلــى مؤتمــر يوضــح فيــه مشــروعه فــي بــازل السويس ـرية ســنة 1897م ( ،)5تلتــه عــدة مؤتم ـرات أخــرى.
اليهود والبحث عن وطن: إن احتالل بالد فلسطي ــن والقدس املباركة لم يكن طفرة في ّ السياسة البـريطانـية أو قفزة ِ خارقــة فــي القــدرة اليهوديــة؛ وإنمــا كان نت ــيجة لتخطيــط بـريطان ــي طويــل األمــد واتفاقــات س ـرية ومعلنــة بـي ــن الساســة البـريطانـيي ــن وأباطــرة املــال اليهــود ،ولــم يكــن هرتــزل إال ُّ الصــورة الظاهــرة لهــذا االتفــاق العميــق. إن كتــاب (الدولــة اليهوديــة) لت ــيودور هرتــزل فيه التفاصيل الكافية لالطالع على مراحل التخطيط للسيطرة على فلسطيـن. لقــد بــدأت الفكــرة حي ــنما أعلــن هرتــزل عــن حاجــة اليهــود للعيــش فــي وطــن قومــي لهــم يجمــع شــتاتهم وتحكمــه دولــة يهوديــة
(( )5املوسوعة الثقافية) مؤسسه فرانكليـن ،طبعة القاهرة ،1972بإشراف الدكتور حسيـن سعيد (ص )624 ( )6كتاب الدولة اليهودية ،تأليف تـيودور هرتزل (ص )101وما بعدها ،طبعة مكتبة اإلمام البخاري .2009 ( )7كتاب الدولة اليهودية( ،ص .)102
خالصــة ،وعندمــا قــام هرتــزل بوضــع مشروعه إلقامة دولة يهودية وضع خياريـن لهذا الوطن ،وهما فلسطي ــن أو األرجنتـي ــن. لقــد قــام هرتــزل فــي كتابــه (الدولــة اليهوديــة) بطــرح تســاؤله عــن اخت ــيار اليهــود بـي ــن فلسطي ــن واألرجنتـي ــن ،ثــم أجــاب علــى ذلــك فقــال( :إننــا ســنأخذ مــا ُيعطــى لنــا ومــا يختــاره ال ـرأي العــام اليهــودي ،وســوف تقرره الجمعية)( )6وقد تكلم عن األرجنتـيـن ذاكـ ًـرا مزاياهــا الت ــي تخــدم مشــروع الدولــة اليهوديــة ،ولكنــه عندمــا تكلــم عــن فلسطي ــن قــال( :هــي وطننــا التاريخــي الــذي ال تمحــى ذك ـراه ،فمجــرد ذكــر اســمها يجــذب شعب ــنا بقــوة هائلــة)( ،)7ولكنــه وبتوجيــه مــن البـريطانـييـن والقيادات الصهيونـية في أوربا لهرتــزل تــم التخلــي عــن فكــرة األرجنتـي ــن والت ــركيز علــى فلسطي ــن. وقــد تكلــم فــي كتابــه عــن ضــرورة الرعايــة الدوليــة لهجــرة اليهــود فقــال( :عندمــا يشــعر الســكان املحليــون أنهــم مهــددون ســوف يجب ــرون الحكومــة علــى إيقــاف أي تدفــق جديــد لليهــود ،وبالتالــي فــإن الهجــرة ال جــدوى منهــا مــا لــم تقــم علــى أســاس مــن
81
القدس ..أرض رباط وجهاد هيمنــة مضمونــة) ويقصــد بذلــك ضمــان وجــود دولــة تكفــل لهــم ذلــك. ومــن خــال الــكالم التالــي لهرتــزل نســتطيع أن نعــرف موضــع خطــة إقامــة وطــن لليهــود فــي فلسطي ــن مــن السياســة الدوليــة فــي الحــرب علــى الشــرق املســلم ،يقــول هرتــزل: (إذا أخذنــا فلسطي ــن ســوف ُتشــكل جـ ً ـزءا مــن اســتحكامات أوروبــا فــي مواجهــة آســيا كموقــع أمامــي للحضــارة الغرب ــية فــي مواجهه البـرب ـرية ،وعلي ــنا كدولــة طب ــيعية أن نبقــى علــى اتصــال بــكل أوروبــا الت ــي ســيكون مــن واجبهــا أن تضمــن وجودنــا)(.)8 املفاوضــات مــع الســلطان عبــد الحميــد خــان الثان ــي: بعــد االتفــاق البـريطان ــي الصهيون ــي علــى تأســيس وطــن لليهــود علــى أرض فلسطي ــن انتقلوا إلى مرحلة املساومة مع السلطان عبد الحميــد ،والــذي كان بــدوره ي ــرصد تحركاتهــم ومحاوالتهــم فــي إثــارة األقليــة األرمن ــية ،وشـراء ذمــم بعــض األت ـراك املاسونـيي ــن ،للضغــط عليــه وإجبــاره علــى إعطائهــم مــا ي ـريدون، يقــول هرتــزل عــن خطــة مســاومة الســلطان عبــد الحميــد (فــإذا منحنــا جاللــة الســلطان فلسطي ــن ســنأخذ علــى عاتقنــا باملقابــل تنظيــم ماليــة ت ــركيا)(.)9 وأمــا عــن رؤيــة الســلطان عبــد الحميــد لتحــركات وعــروض اليهــود فقــد قــال( :إذا ً كنــا نريــد أن يبقــى العنصــر العرب ــي متفوقــا؛ علي ــنا أن نصــرف النظــر عــن فكــرة توطي ــن املهاجري ــن في فلسطي ــن ،وإال فإن اليهود إذا اســتوطنوا ً أرضــا تملكــوا كافــة قدراتهــا خــال وقــت قصي ــر ،ولــذا نكــون قــد حكمنــا علــى إخواننــا فــي الدي ــن باملــوت املحتــم)(. )10
لقــد أدرك الســلطان أبعــاد املشــروع الصهيونـي وتداعياته رغم العروض املغرية الت ــي قدموهــا إلنقــاذ الخالفــة مــن مشــاكلها االقتصاديــة ...وملــا ســاوموه باملــال بعــد مقابلــة هرتــزل لــه قــال( :لــن يســتطيع رئيــس الصهاي ــنة هرتــزل أن يقنعن ــي بأفــكاره... لــن يكتفــي الصهاي ــنة بممارســة األعمــال الزراعيــة فــي فلسطي ــن بــل ي ـريدون أمـ ً ـورا مثــل تشــكيل حكومــة وانتخــاب ممثلي ــن، إنن ــي أدرك أطماعهــم جيـ ًـدا)(.)11 ً وردا علــى رفــض الســلطان لعــروض اليهــود قــام اليهــود بضــم جمعيــة االتحــاد والت ــرقي إلــى مخططهــم للضغــط علــى عبــد الحميــد خــان ،يقــول الســلطان فــي رســالة لــه لشــيخه أب ــي الشــامات( :إن هــؤالء االتحاديي ــن قــد أصــروا علــي بــأن أصــادق علــى تأســيس وطــن قومي لليهود في األرض املقدسة (فلسطيـن)، ورغــم إصرارهــم لــم أقبــل بصــورة قطعيــة هــذا التكليــف ،وأخي ـ ًـرا وعــدوا بتقديــم مائــة و خمسي ــن مليــون لي ــرة إنجليزيــة ً ذهبــا، فرفضــت هــذا التكليــف بصــورة قطعيــة ً أيضــا ،و أجبتهــم بهــذا الجــواب القطعــي: إنكــم لــو دفعتــم مـ ْـلء الدن ــيا ً ذهبــا فلــن أقبــل بتكليفكــم هــذا بوجــه قطعــي ،لقــد خدمــت امللة اإلسالمية و امللة املحمدية ما يزيد على ثالثيـن سنة فلن أسود صحائف املسلميـن آبائــي وأجــدادي مــن السالطي ــن والخلفــاء العثمانـيي ــن ...و بعــد جواب ــي هــذا اتفقــوا علــى خلعــي ،و أبلغون ــي أنهــم سيبعدونن ــي إلــى سالن ــيك ،فقبلــت بهــذا التكليــف األخي ــر، و حمدت املولى ،و أحمده أننـي لم أقبل بأن ألطــخ العالــم اإلســامي بهــذا العــار األبــدي النا�شــئ عــن تكليفهــم بإقامــة دولــة يهوديــة فــي
( )8كتاب الدولة اليهودية( ،ص )9( - .)102املصدر السابق (ص .)102 ( )10السلطان عبد الحميد ،مذكراتـي السياسية (ص )11( - .)24املصدر السابق (ص 34و .)35
القدس ..أرض رباط وجهاد
العدد 2رجب 1439هـ
األرا�ضــي املقدســة.)... وحقيقــة لــم تمــض ســنوات حتــى دفــع الســلطان عبــد الحميــد ثمــن رفضــه ً غاليــا، لقــد خلــع عــن عرشــه وحبــس ،وعلــى إث ــر ذلــك انهــارت الخالفــة وتال�شــى ســلطانها.
لنصــرة مشــاريع الحركــة الصهيون ــية ...كمــا اســتخدمت هــذه الفكــرة فيمــا بعــد فــي تجريــم أوربا ووظفت للحصول على وطن قومي لهم فــي أمريــكا الجنوب ــية أو إفريقيــا أو فلسطي ــن. وخالل فتـرات الحقة استطاع اليهود تحريك ال ـرأي العــام األورب ــي ومؤسســات حقــوق اإلنسان تجاه مصالحهم عب ــر تسويق فكرة العداء للســامية في أوربا محتجي ــن بما فعله هتلــر وبمــا ســمي بالهولوكوســت ...وبالفعــل فقــد تعاطفــت معهــم الكثي ــر مــن الشــعوب والحكومــات الغرب ــية الليب ـرالية املعاديــة للنازيــة وبــدأت الــدول األورب ــية تشـ ِ ّـجع الصهاي ــنة أكث ــر مــن ذي قبــل علــى الهجــرة إلــى ُّ فلسطي ــن وتملــك أراضيهــا.
ّادعاء اليهود أن فلسطيـن لهم:
السطان عبد الحميد الثانـي
دعوى عداء السامية: إن الطب ــيعة الشــخصية اليهوديــة الت ــي اتصفــت بالغــدر والبخــل وحــب االنتقــام واملخاتلــة واملكــر والجب ــن؛ أدت إلــى عيشــهم كمنبوذيـن بـيـن الشعوب التـي ُو ِجدوا فيها في عمــوم أوربــا ،وقــد أشــار هرتــزل فــي كتابــه عــن الدولــة اليهوديــة إلــى ذلــك ،ولكنــه بــدل أن يتحــدث عــن دور األخــاق اليهوديــة فــي خلــق هــذه الحالــة قــام بإلقــاء اللــوم علــى اآلخري ــن واتهامهم بالعنصرية والتطرف ضد الوجود اليهــودي الــذي يســتحق العطــف والرحمــة. وقــد عمــل هرتــزل واليهــود علــى صنــع حالــة تحــدي للمجتمعــات الت ــي يعيشــون فيهــا مــن خــال اتهامهــم بالعــداء للســامية اليهوديــة، وقــد قصــدوا مــن ذلــك أن ي ــنشروا بـي ــن اليهود اإلحساس باملظلومية بغية تجميعهم علــى فكــرة موحــدة تحملهــم علــى التكاتــف 82
وبعــد دعــوى أرض امليعــاد واضطهــاد الســامية خرجــت الصهيون ــية بدعــوى أخــرى وهــي أن أرض فلسطي ــن ليســت للفلسطيـنـيي ــن وإنمــا هــي أرض يهوديــة، وأنهــا ملــك لهــم ب ــنصوص التــوراة ،مــع أن املكتشــفات اآلثاريــة تثبــت غي ــر ذلــك. لقــد دأب قــادة إس ـرائيل السياســيون والديـن ــيون علــى القــول بــأن أرض فلسطي ــن هــي أرض إس ـرائيل التاريخيــة أرض آبائهــم وأجدادهــم ،وأن هــذه األرض أرض بــا شــعب لشــعب بــا أرض ،وهــي ليســت لشــعب مــن الشعوبسواهم،لذافهمأصحابهاالشرعيون، وأن العــرب الفلسطيـنـيي ــن أغ ـراب عنهــا. وعليه فدولة إسرائيل قامت على مجموعة مــن األساطي ــر واالدعــاءات الديـن ــية والتاريخية منها ...تبدأ االسطورة باآلية رقم ( )18من اإلصحاح ( )15من سفر التكويـن والت ــي نصهــا ( فــي ذلــك اليــوم قطــع الــرب
ُ ً َ مــع إب ـرام ميثاقــا قائــا :لن ْسـ ِـل َك أعطــي هــذه االرض مــن نهــر مصــر الــى النهــر الكبـي ــر نهــر الفـرات) ،بـي ــنما ً أيضــا ورد فــي ســفر التكوي ــن (ظهــر الــرب -أي إلب ـراهيم -وقــال لــهّ :إن نســلك ســيكون غر ًيبــا فــي أرض ليســت لهــم) وهــذا دليــل علــى ان االدعــاء الــذي يســتندون عليــه باطــل ...وبالرغــم مــن ذلــك فقــد بــدأ قــادة الصهيون ــية يجمعــون يهــود العالــم فــي هــذه األرض ب ـ ً ـناء علــى تلــك األساطي ــر وأخــذوا يزيفون التا يخ ويزعمون ّأن لهم ً حقا تار ً يخيا ر في أرض فلسطيـن ...وإن فكرة الحق التاريخي لهــم فــي فلسطي ــن مــن أهـ ّـم الذرائــع الت ــي تقــوم عليهــا الحركــة الصهيون ــية (.)12
لقــد حــاول أنصــار اليهوديــة كثيـــ ًرا أن يثبتــوا ملكيـــــــة القــدس لليهــود عبـــر البحــث عــن أي آثــار قــد تثبــت وجودهــم فيهــا مبــا يتناســـــب مــع الروايــات الــواردة يف التــوراة ولكــــــن عبثــا مــا فــــعلوا إن املكتشــفات األث ــرية تثبــت أن األحــداث الفاصلــة الت ــي ي ــرويها اليهــود عــن تاريخهــم ليــس لهــا أي مؤيــد فــي املكتشــفات األث ــرية، بــل إنهــا أث ــر مــن الوهــم أو مــن التمن ــي أو التطلــع الــذي اســتحوذ علــى أحبــار اليهــود فــي املنفــى ،كمــا وصفهــم هللا تعالــى بقولــه: َُُْ َ ْ َ َ َ ُ ُ ـاب ِبأ ْي ِد ِيهـ ْـم ثـ َّـم َي ُقولــو َن (( يكتبــون ال ِكتـ ًََ َ ً َ ْ َُ َ َ ْ ْ هللا ِليشــتروا ِبـ ِـه ثمنــا ق ِليــا)) هــذا ِمــن ِعنـ ِـد ِ [ســورة البقــرة :آيــة .]78
( )12دحض ادعاءات اليهود بأحقيتهم في أرض فلسطيـن ،بحث للدكتور عدنان عياش منشور على الشابكة. ( )13تاريخ القدس القديم ،عفيف بهن�سي (ص 8و .)9
العدد 2رجب 1439هـ
لقــد أثبــت اآلثاريــون أن اســم القــدس القديــم هــو (يبــوس) نســبة لليبوسيي ــن العرب ،وهم الكنعان ــيون الذي ــن نزلوا أرض فلسطي ــن مــع منتصــف األلــف الثالثــة قبــل امليــاد ( 3500ق .م) أي قبــل قــرون مــن ظهــور مو�ســى وداود. وحصــن اليبوسيي ــن هــو حصــن صهيــون وتعن ــي بالكنعان ــية املــكان العالــي وقــد تحقــق مــن ذلــك اآلثاريــون ،وفــي التــوراة إن داوود دعــا فــي عــام ( 1555ق.م) قومــه الحتــال يبــوس ،أي إن هــذه املدي ــنة كانــت عرب ــية منــذ عــام ( 2400ق .م) وحتــى ( 1555ق.م) عرب ــية كنعان ــية(.)13 وأمــا اســم فلسطي ــن فقــد جــاء مــن هجــرة بعــض قبائــل جزي ــرة (قريطــش) أو مــا يعــرف اليــوم بجزي ــرة (كريــت) اليونان ــية املطلــة علــى بحــر إيجــة ،والت ــي تعــرف بقبائــل (فلستـي ــن) إذ نزلت بـي ــن يافا وغزة واختلطت بالشــعب الكنعان ــي األصلــي وبمــرور السنـي ــن تحدثــت لغتــه وصــاروا شـ ً ـعبا واحـ ًـدا يتكلــم العرب ــية القديمــة ويغلــب عليــه العنصــر الكنعان ــي، وأمــا الشــهرة واالســم فقــد غلبــت عليهمــا القبائــل الوافــدة وعرفــت تلــك األرض فيمــا بعــد بــأرض (فلسطي ــن). وأمــا أول وجــود للعبـرانـيي ــن فــي فلسطي ــن بحسب التوراة فقد كان بعد هجرة إبـراهيم عليــه الســام مــن بــاد العـراق إلــى فلسطي ــن قبــل امليــاد بحوالــي 1800عامــا ،وكان هــو وأوالده عبــارة عــن ضيــوف مكثــوا فيهــا فت ــرة مــن الزمــن ثــم هاجــروا منهــا إلــى مصــر ...وأمــا قبــل هــذا التاريــخ بمئــات السنـي ــن فلــم يكــن فــي هــذه البــاد إال العــرب الكنعان ــيون. لقــد حــاول أنصــار اليهوديــة كثي ـ ًـرا أن يثبتــوا 83
القدس ..أرض رباط وجهاد هيمنــة مضمونــة) ويقصــد بذلــك ضمــان وجــود دولــة تكفــل لهــم ذلــك. ومــن خــال الــكالم التالــي لهرتــزل نســتطيع أن نعــرف موضــع خطــة إقامــة وطــن لليهــود فــي فلسطي ــن مــن السياســة الدوليــة فــي الحــرب علــى الشــرق املســلم ،يقــول هرتــزل: (إذا أخذنــا فلسطي ــن ســوف ُتشــكل جـ ً ـزءا مــن اســتحكامات أوروبــا فــي مواجهــة آســيا كموقــع أمامــي للحضــارة الغرب ــية فــي مواجهه البـرب ـرية ،وعلي ــنا كدولــة طب ــيعية أن نبقــى علــى اتصــال بــكل أوروبــا الت ــي ســيكون مــن واجبهــا أن تضمــن وجودنــا)(.)8 املفاوضــات مــع الســلطان عبــد الحميــد خــان الثان ــي: بعــد االتفــاق البـريطان ــي الصهيون ــي علــى تأســيس وطــن لليهــود علــى أرض فلسطي ــن انتقلوا إلى مرحلة املساومة مع السلطان عبد الحميــد ،والــذي كان بــدوره ي ــرصد تحركاتهــم ومحاوالتهــم فــي إثــارة األقليــة األرمن ــية ،وشـراء ذمــم بعــض األت ـراك املاسونـيي ــن ،للضغــط عليــه وإجبــاره علــى إعطائهــم مــا ي ـريدون، يقــول هرتــزل عــن خطــة مســاومة الســلطان عبــد الحميــد (فــإذا منحنــا جاللــة الســلطان فلسطي ــن ســنأخذ علــى عاتقنــا باملقابــل تنظيــم ماليــة ت ــركيا)(.)9 وأمــا عــن رؤيــة الســلطان عبــد الحميــد لتحــركات وعــروض اليهــود فقــد قــال( :إذا ً كنــا نريــد أن يبقــى العنصــر العرب ــي متفوقــا؛ علي ــنا أن نصــرف النظــر عــن فكــرة توطي ــن املهاجري ــن في فلسطي ــن ،وإال فإن اليهود إذا اســتوطنوا ً أرضــا تملكــوا كافــة قدراتهــا خــال وقــت قصي ــر ،ولــذا نكــون قــد حكمنــا علــى إخواننــا فــي الدي ــن باملــوت املحتــم)(. )10
لقــد أدرك الســلطان أبعــاد املشــروع الصهيونـي وتداعياته رغم العروض املغرية الت ــي قدموهــا إلنقــاذ الخالفــة مــن مشــاكلها االقتصاديــة ...وملــا ســاوموه باملــال بعــد مقابلــة هرتــزل لــه قــال( :لــن يســتطيع رئيــس الصهاي ــنة هرتــزل أن يقنعن ــي بأفــكاره... لــن يكتفــي الصهاي ــنة بممارســة األعمــال الزراعيــة فــي فلسطي ــن بــل ي ـريدون أمـ ً ـورا مثــل تشــكيل حكومــة وانتخــاب ممثلي ــن، إنن ــي أدرك أطماعهــم جيـ ًـدا)(.)11 ً وردا علــى رفــض الســلطان لعــروض اليهــود قــام اليهــود بضــم جمعيــة االتحــاد والت ــرقي إلــى مخططهــم للضغــط علــى عبــد الحميــد خــان ،يقــول الســلطان فــي رســالة لــه لشــيخه أب ــي الشــامات( :إن هــؤالء االتحاديي ــن قــد أصــروا علــي بــأن أصــادق علــى تأســيس وطــن قومي لليهود في األرض املقدسة (فلسطيـن)، ورغــم إصرارهــم لــم أقبــل بصــورة قطعيــة هــذا التكليــف ،وأخي ـ ًـرا وعــدوا بتقديــم مائــة و خمسي ــن مليــون لي ــرة إنجليزيــة ً ذهبــا، فرفضــت هــذا التكليــف بصــورة قطعيــة ً أيضــا ،و أجبتهــم بهــذا الجــواب القطعــي: إنكــم لــو دفعتــم مـ ْـلء الدن ــيا ً ذهبــا فلــن أقبــل بتكليفكــم هــذا بوجــه قطعــي ،لقــد خدمــت امللة اإلسالمية و امللة املحمدية ما يزيد على ثالثيـن سنة فلن أسود صحائف املسلميـن آبائــي وأجــدادي مــن السالطي ــن والخلفــاء العثمانـيي ــن ...و بعــد جواب ــي هــذا اتفقــوا علــى خلعــي ،و أبلغون ــي أنهــم سيبعدونن ــي إلــى سالن ــيك ،فقبلــت بهــذا التكليــف األخي ــر، و حمدت املولى ،و أحمده أننـي لم أقبل بأن ألطــخ العالــم اإلســامي بهــذا العــار األبــدي النا�شــئ عــن تكليفهــم بإقامــة دولــة يهوديــة فــي
( )8كتاب الدولة اليهودية( ،ص )9( - .)102املصدر السابق (ص .)102 ( )10السلطان عبد الحميد ،مذكراتـي السياسية (ص )11( - .)24املصدر السابق (ص 34و .)35
القدس ..أرض رباط وجهاد
العدد 2رجب 1439هـ
األرا�ضــي املقدســة.)... وحقيقــة لــم تمــض ســنوات حتــى دفــع الســلطان عبــد الحميــد ثمــن رفضــه ً غاليــا، لقــد خلــع عــن عرشــه وحبــس ،وعلــى إث ــر ذلــك انهــارت الخالفــة وتال�شــى ســلطانها.
لنصــرة مشــاريع الحركــة الصهيون ــية ...كمــا اســتخدمت هــذه الفكــرة فيمــا بعــد فــي تجريــم أوربا ووظفت للحصول على وطن قومي لهم فــي أمريــكا الجنوب ــية أو إفريقيــا أو فلسطي ــن. وخالل فتـرات الحقة استطاع اليهود تحريك ال ـرأي العــام األورب ــي ومؤسســات حقــوق اإلنسان تجاه مصالحهم عب ــر تسويق فكرة العداء للســامية في أوربا محتجي ــن بما فعله هتلــر وبمــا ســمي بالهولوكوســت ...وبالفعــل فقــد تعاطفــت معهــم الكثي ــر مــن الشــعوب والحكومــات الغرب ــية الليب ـرالية املعاديــة للنازيــة وبــدأت الــدول األورب ــية تشـ ِ ّـجع الصهاي ــنة أكث ــر مــن ذي قبــل علــى الهجــرة إلــى ُّ فلسطي ــن وتملــك أراضيهــا.
ّادعاء اليهود أن فلسطيـن لهم:
السطان عبد الحميد الثانـي
دعوى عداء السامية: إن الطب ــيعة الشــخصية اليهوديــة الت ــي اتصفــت بالغــدر والبخــل وحــب االنتقــام واملخاتلــة واملكــر والجب ــن؛ أدت إلــى عيشــهم كمنبوذيـن بـيـن الشعوب التـي ُو ِجدوا فيها في عمــوم أوربــا ،وقــد أشــار هرتــزل فــي كتابــه عــن الدولــة اليهوديــة إلــى ذلــك ،ولكنــه بــدل أن يتحــدث عــن دور األخــاق اليهوديــة فــي خلــق هــذه الحالــة قــام بإلقــاء اللــوم علــى اآلخري ــن واتهامهم بالعنصرية والتطرف ضد الوجود اليهــودي الــذي يســتحق العطــف والرحمــة. وقــد عمــل هرتــزل واليهــود علــى صنــع حالــة تحــدي للمجتمعــات الت ــي يعيشــون فيهــا مــن خــال اتهامهــم بالعــداء للســامية اليهوديــة، وقــد قصــدوا مــن ذلــك أن ي ــنشروا بـي ــن اليهود اإلحساس باملظلومية بغية تجميعهم علــى فكــرة موحــدة تحملهــم علــى التكاتــف 82
وبعــد دعــوى أرض امليعــاد واضطهــاد الســامية خرجــت الصهيون ــية بدعــوى أخــرى وهــي أن أرض فلسطي ــن ليســت للفلسطيـنـيي ــن وإنمــا هــي أرض يهوديــة، وأنهــا ملــك لهــم ب ــنصوص التــوراة ،مــع أن املكتشــفات اآلثاريــة تثبــت غي ــر ذلــك. لقــد دأب قــادة إس ـرائيل السياســيون والديـن ــيون علــى القــول بــأن أرض فلسطي ــن هــي أرض إس ـرائيل التاريخيــة أرض آبائهــم وأجدادهــم ،وأن هــذه األرض أرض بــا شــعب لشــعب بــا أرض ،وهــي ليســت لشــعب مــن الشعوبسواهم،لذافهمأصحابهاالشرعيون، وأن العــرب الفلسطيـنـيي ــن أغ ـراب عنهــا. وعليه فدولة إسرائيل قامت على مجموعة مــن األساطي ــر واالدعــاءات الديـن ــية والتاريخية منها ...تبدأ االسطورة باآلية رقم ( )18من اإلصحاح ( )15من سفر التكويـن والت ــي نصهــا ( فــي ذلــك اليــوم قطــع الــرب
ُ ً َ مــع إب ـرام ميثاقــا قائــا :لن ْسـ ِـل َك أعطــي هــذه االرض مــن نهــر مصــر الــى النهــر الكبـي ــر نهــر الفـرات) ،بـي ــنما ً أيضــا ورد فــي ســفر التكوي ــن (ظهــر الــرب -أي إلب ـراهيم -وقــال لــهّ :إن نســلك ســيكون غر ًيبــا فــي أرض ليســت لهــم) وهــذا دليــل علــى ان االدعــاء الــذي يســتندون عليــه باطــل ...وبالرغــم مــن ذلــك فقــد بــدأ قــادة الصهيون ــية يجمعــون يهــود العالــم فــي هــذه األرض ب ـ ً ـناء علــى تلــك األساطي ــر وأخــذوا يزيفون التا يخ ويزعمون ّأن لهم ً حقا تار ً يخيا ر في أرض فلسطيـن ...وإن فكرة الحق التاريخي لهــم فــي فلسطي ــن مــن أهـ ّـم الذرائــع الت ــي تقــوم عليهــا الحركــة الصهيون ــية (.)12
لقــد حــاول أنصــار اليهوديــة كثيـــ ًرا أن يثبتــوا ملكيـــــــة القــدس لليهــود عبـــر البحــث عــن أي آثــار قــد تثبــت وجودهــم فيهــا مبــا يتناســـــب مــع الروايــات الــواردة يف التــوراة ولكــــــن عبثــا مــا فــــعلوا إن املكتشــفات األث ــرية تثبــت أن األحــداث الفاصلــة الت ــي ي ــرويها اليهــود عــن تاريخهــم ليــس لهــا أي مؤيــد فــي املكتشــفات األث ــرية، بــل إنهــا أث ــر مــن الوهــم أو مــن التمن ــي أو التطلــع الــذي اســتحوذ علــى أحبــار اليهــود فــي املنفــى ،كمــا وصفهــم هللا تعالــى بقولــه: َُُْ َ ْ َ َ َ ُ ُ ـاب ِبأ ْي ِد ِيهـ ْـم ثـ َّـم َي ُقولــو َن (( يكتبــون ال ِكتـ ًََ َ ً َ ْ َُ َ َ ْ ْ هللا ِليشــتروا ِبـ ِـه ثمنــا ق ِليــا)) هــذا ِمــن ِعنـ ِـد ِ [ســورة البقــرة :آيــة .]78
( )12دحض ادعاءات اليهود بأحقيتهم في أرض فلسطيـن ،بحث للدكتور عدنان عياش منشور على الشابكة. ( )13تاريخ القدس القديم ،عفيف بهن�سي (ص 8و .)9
العدد 2رجب 1439هـ
لقــد أثبــت اآلثاريــون أن اســم القــدس القديــم هــو (يبــوس) نســبة لليبوسيي ــن العرب ،وهم الكنعان ــيون الذي ــن نزلوا أرض فلسطي ــن مــع منتصــف األلــف الثالثــة قبــل امليــاد ( 3500ق .م) أي قبــل قــرون مــن ظهــور مو�ســى وداود. وحصــن اليبوسيي ــن هــو حصــن صهيــون وتعن ــي بالكنعان ــية املــكان العالــي وقــد تحقــق مــن ذلــك اآلثاريــون ،وفــي التــوراة إن داوود دعــا فــي عــام ( 1555ق.م) قومــه الحتــال يبــوس ،أي إن هــذه املدي ــنة كانــت عرب ــية منــذ عــام ( 2400ق .م) وحتــى ( 1555ق.م) عرب ــية كنعان ــية(.)13 وأمــا اســم فلسطي ــن فقــد جــاء مــن هجــرة بعــض قبائــل جزي ــرة (قريطــش) أو مــا يعــرف اليــوم بجزي ــرة (كريــت) اليونان ــية املطلــة علــى بحــر إيجــة ،والت ــي تعــرف بقبائــل (فلستـي ــن) إذ نزلت بـي ــن يافا وغزة واختلطت بالشــعب الكنعان ــي األصلــي وبمــرور السنـي ــن تحدثــت لغتــه وصــاروا شـ ً ـعبا واحـ ًـدا يتكلــم العرب ــية القديمــة ويغلــب عليــه العنصــر الكنعان ــي، وأمــا الشــهرة واالســم فقــد غلبــت عليهمــا القبائــل الوافــدة وعرفــت تلــك األرض فيمــا بعــد بــأرض (فلسطي ــن). وأمــا أول وجــود للعبـرانـيي ــن فــي فلسطي ــن بحسب التوراة فقد كان بعد هجرة إبـراهيم عليــه الســام مــن بــاد العـراق إلــى فلسطي ــن قبــل امليــاد بحوالــي 1800عامــا ،وكان هــو وأوالده عبــارة عــن ضيــوف مكثــوا فيهــا فت ــرة مــن الزمــن ثــم هاجــروا منهــا إلــى مصــر ...وأمــا قبــل هــذا التاريــخ بمئــات السنـي ــن فلــم يكــن فــي هــذه البــاد إال العــرب الكنعان ــيون. لقــد حــاول أنصــار اليهوديــة كثي ـ ًـرا أن يثبتــوا 83
القدس ..أرض رباط وجهاد ملكيــة القــدس لليهــود عب ــر البحــث عــن أي آثار قد تثبت وجودهم فيها بما يتناسب مع الروايــات الــواردة فــي التــوراة ولكــن عبثــا مــا فعلــوا إذ لــم توجــد أي آثــار عمران ــية للفت ــرة الت ــي يدعــي اليهــود أنهــم كانــوا يســكنون فيهــا القــدس ...وأمــا فــي غي ــرها مــن املــدن الفلسطيـن ــية فإن كل املكتشفات تدل على الوجود العربـي القديم في هذه األرض ،وقد جاءت الجهود البحثية التـي أجراها اآلثاري البـريطان ــي واري ــن عــام 1876م فــي هــذا الســياق ،وتبعتهــا حملــة اآلثــاري الفرن�ســي تـي ــري عــام 1890م ،ولكــن كال الحملتـي ــن باءتــا بالفشــل ولــم تجــدا شــيئا يــدل علــى اآلثــار اليهوديــة فــي أرض فلسطي ــن فــي املواقــع التـي تذكرها التوراة وبالتاريخ الذي تحدده.
قــد قــام اليهــود بالضغــط عــى كثيـــر مــن اآلثارييـــن اآلخريـــن الذيـــن قدمــوا تقاريـــر صادقــة عــن نتائــج البحــوث اآلثاريــة يف فلسطيـــن ،فطُــرد بعضهــم مــن عملــه وتــــــــم اغتـــيال البعــــــــض اآل خـــــــر وتلــت تلــك البعثــات بعثــات أورب ــية كثي ــرة وكلهــا وصلــت إلــى نفــس النت ــيجة الســابقة، ممــا أدى بإسـرائيل إلــى إيقــاف تلــك البعثــات وطردهــا ،األمــر الــذي أدى إلــى ظهــور علمــاء آثــار كثيـري ــن أثبتــوا بالدليــل زيــف علــم اآلثــار التورات ــي الــذي تنطــق كل األدلــة بكذبــه. مــن ذلــك قيــام اإلسرائيليي ــن بإيقــاف عمــل اآلثاريــة البـريطان ــية كي ــنون عــام 1967م،
التـي كشفت أوهام التوراة إثـر إعالن نتائج الحفريــات الت ــي قامــت بهــا فــي مدي ــنة أريحــا الفلسطيـن ــية عــام 1952م. وقــد قــام اليهــود بالضغــط علــى كثي ــر مــن اآلثاريي ــن اآلخري ــن الذي ــن قدمــوا تقاري ــر صادقــة عــن نتائــج البحــوث اآلثاريــة فــي ُ فلسطي ــن ،فطــرد بعضهــم مــن عملــه وتــم اغت ــيال البعــض اآلخــر منهــم ،ومــن أب ــرز مــن كشــف تزييــف اليهــود للحقائــق اآلثــاري األمريكــي (بــوب الب) الــذي كان رئيســا لبعثــة آثاريــة قــرب نابلــس ،حيــث أوضــح فــي تقاري ــره دور اليهــود فــي االعتــداء علــى اآلثــار الفلسطيـن ــية وتدمي ــر الشــواهد التاريخيــة علــى وجودهــم القديــم فيهــا ،ممــا أدى الحقــا لطــرد إس ـرائيل مــن منظمــة اليون ــيسكو، وقــد فقــد حياتــه نت ــيجة لذلــك فــي ظــروف غامضــة فــي قب ــرص. كمــا اغت ــيل مــن بعــده عالــم اآلثــار األمريكــي (ألب ــرت غلــوك) عــام 1992للســبب نفســه، وأما مؤلف كتاب (التوراة في التاريخ ..كيف ً ماضيــا) اآلثــاري األمي ــركي يخلــق الكتــاب (تومــاس تومســن) فقــد طــرد مــن عملــه وعمــل دهانــا بعــد أن كشــف دور التــوراة وأحبارهــا فــي صنــع تاريــخ مزيــف لليهــود. بعــد وقــوف الحقائــق التاريخيــة كلهــا فــي وجــه االعتــداء اإلس ـرائيلي علــى القــدس وتهويدهــا لــم يبـ َـق إلس ـرائيل مــن حجــة فــي احتاللهــا القــدس وإعالنهــا عاصمــة لهــا إال قــوة الســاح ،وتعزيــز الكــذب اليهــودي بواقع القوة والضعف الذي يفرضونه على أرض فلسطي ــن بدعــم قــوى الظلــم العالمــي الكب ــرى وعلــى رأســها الواليــات املتحــدة. إن قـرار نقــل الســفارة األمريكيــة إلــى القــدس بق ـرار مــن الرئيــس األمريكــي ت ـرامب لــم
من الفرد إلى الدولة
العدد 2رجب 1439هـ
يكــن صدفــة إنمــا هــو مــن ثمــار االتفاقيــات االستـرات ــيجية بـي ــن الواليــات املتحــدة وإسـرائيل لخدمــة مصالــح بعضهــم البعــض والت ــي تعــززت فــي اتفاقيــة 1984م للتحالــف االستـرات ــيجي بـي ــنهما.
ما بعد الصبـرإال النصر إن تداعيات املواقف الدولية والهجمة التـي يشــكلها مثلــث الشــر فــي املنطقــة املكــون مــن املثلــث املغــرور (أمريــكا وإي ـران وإس ـرائيل) تشي ــر إلــى انفراجــة بعــد املعانــاة والضغــوط املصنوعــة إلجبــار الفلسطيـنـيي ــن علــى التنــازل عــن الثوابــت لتحقيــق مصالــح إقليميــة ودوليــة ،فأمريــكا تحلــم بالهيمنــة وإي ـران تحلــم بالهــال الشــيعي وإس ـرائيل بالقــدس. وإن وقوف الفلسطيـنـييـن في وجه املخطط الصهيون ــي ووقــوف األمــة معهــم يشــكالن الحاجــز الــذي يمنــع الوضــع فــي فلسطي ــن والقــدس مــن الذهــاب نحــو املزيــد مــن الســوء ،وعلــى األمــة كل بحســب اســتطاعته أن يقــدم الدعــم اإلعالمــي واملالــي والسيا�ســي والعســكري الــازم لبقــاء قضيــة فلسطي ــن والقدس على ســلم أولويات الوجود املســلم فالعاقبــة لنــا والنصــر لنــا بــإذن هللا. إن األمــة املســلمة أمــة التحديــات وإن َ ك َبــت وضعفــت ،فاجمعــوا الصفــوف أيهــا املســلمون وحولــوا الحــزن استبشـ ًـارا ً والت ـراجع اســتدراكا واإلحبــاط نصـ ًـرا وإن النصــر مــع الصب ــر ،فــأرض فلسطي ــن املباركــة أرض رباطنــا وجهادنــا إلــى قيــام الســاعة ،رويــت بدمائنــا وشــهدت عدالتنــا ً ً وحب ــنا لهــا ً قرونــا طويلــة وستشــهدها مــرة أخــرى بــإذن هللا. 84
العدد 2رجب 1439هـ
اإلسالمي بـنياننا ّ
الدولة من الفرد إلى ّ الدكتور محمد العبدة
عضو املجلس اإلسالمي السوري
يتســاءل بعــض النــاس وربمــا يســتغرب :ملــاذا لــم ُي ّ فصــل القـرآن الكريــم فــي أمــور السياســة والحكــم واالقتصــاد ،مــع أهميــة هــذه األمــور لحيــاة اإلنســانّ ، وفصـ َـل فــي شــأن العبادات واألسرة وما يحيط بها وفي شأن األخالق الفردية وقصص األنبـياء مع أقوامهم، وربما تمادى األمربهؤالء املستغربـيـن فقالوا :ليس في اإلسالم نظرية للحكم ،فالشورى لم تذكرإالفي آيتـيـن ،وآيات عامة عن العدل وأداء األمانات والحكم بما أنزل هللا ...وكأنهم ً ي ّ ً ـرددون ما قاله طه حسيـن ً تنظيما مجمل قديما من أن القرآن لم يـنظم أمور السياسة ً أومفصل ،ويقال لهؤالء :هل يتـرك القرآن املشكلة الكبـرى لإلنسان دون وضع القواعد األساســية الت ــي تهديــه إلــى ســواء السب ــيل؟ ثــم ليبـن ـ َـي عليهــا اإلنســان مــا يحتاجــه فــي حياتــه ً الدنـيا ؟ وهل يـناسب جوهرالديـن أن ّ يفصل للناس نظم االقتصاد والسياسة تفصيل مب ً ـرما ال يملكون فيه االجتهاد في التفاصيل حسب الزمان واملكان؟ إنمــا ي ــناسب الدي ــن أن يبـي ــن للنــاس املبــادئ العامــة الت ــي يســتقر عليهــا كل نظــام صالــح يأت ــي فــي املســتقبل (والرســول صلــى هللا عليــه وســلم بـي ـ َـن بعــض هــذه األســس وت ــرك ً بعضــا للفكــر اإلنسان ــي لئــا يضيــق وي ــنحصر ويخمــد إذا أتــاه بالتفاصيــل كلهــا ،وال يوحــي هللا إلــى رســول مــن رســله بــكل شــؤون الحيــاة مفصلة )( )1وهذه فضيلة لإلســام وميزة له . فــرض اإلســام أن يقـ َ ـوم الحكــم علــى أســاس الشــورى وأن يقــوم التش ـريع علــى أســاس الكتاب والسنة ،وال ضي َـر بعد ذلك أن يجتهد ( )1محمود محمد شاكر :جمهرة املقاالت 673/2 ( )2الطاهر إبـن عاشور :النظام االجتماعي في اإلسالم 187/ ( )3بـرتـراند َر ْسل :مختارات من أفضل ما كتب 101/
املسلمون في طريقة اختـيار الحاكم أو العمل بدســتور مكتــوب أو غي ــر مكتــوب. والقـرآن الكريــم منهــج حيــاة يهــدي إلــى الرشــد ً وليــس ً متخصصــا فــي السياســة أو كتابــا االقتصــاد ،وقولــه تعالــى ((ونزلنــا عليــك ً الكتــاب تب ــيانا لــكل �شــيء)) [ســورة النحــل: ً آيــة ( ]89أي تب ــيانا ألصــول كل �شــيء، ً وجعــل الب ــيان والتفصيــل منوطــا بأســباب الحــوادث)(.)2 ً إن مــا يســأل عنــه هــؤالء النــاس جــاء مفصــا ولكــن بطريقــة الق ـرآن الخاصــة ،كان الت ــركيز
علــى تأســيس الفــرد ليكــون جـ ً ـزءا مــن البـن ــيان املرصــوص ،ولتحري ــره مــن الضــاالت الت ــي تعرقــل طريقــة تفكي ــره ،فــإن إصــاح عقــل اإلنســان هــو أســاس إصــاح أعمالــه ،وبهــذا نفهــم دعــوة الق ـرآن للنظــر والتعقــل والعلــم ّ يتحمــل الفــرد املســؤولية واالعتبــار ،وأن ّ الكاملــة عــن أعمالــه وتصرفاتــه ،وألن تأســيس إســامية الحكــم دون إسـ ّ ـامية الفــرد هــو ب ـ ٌ ـناء ِ على غي ــر أساس ،كيف يقوم سلطان الحكم دون أن تت ــرسخ القيــم واملبــادئ العليــا فــي نفســية الفرد ،كما قال تعالى (( :يا أيها الذي ــن آمنــوا كونــوا قوامي ــن بالقســط شــهداء هلل ولــو علــى أنفســكم )) [ ســورة النســاء :آيــة ]135 الفــرد هنــا مطلــوب منــه العمــل وال يغن ــي عنــه مال أو نسب أو قبـيلة أو أرض ،وهذا اإلصالح للفــرد ســيؤول ً حتمــا إلــى صــاح املجتمــع ،فــإن مــن املشــاكل الكب ــرى فــي السياســة كمــا يقــول الفيلسوف البـريطان ــي رسل هي( :كيف نجمع بـيـن املبادرات الفردية الضرورية للتقدم وبـيـن التالحــم االجتماعــي الضــروري للبقــاء(. )3 إن فــي تقدي ــر هــذا الكتــاب الــذي أنزلــه هللا ســبحانه أن هــذه األمــة هــي أمــة صاحبــة رســالة 85
القدس ..أرض رباط وجهاد ملكيــة القــدس لليهــود عب ــر البحــث عــن أي آثار قد تثبت وجودهم فيها بما يتناسب مع الروايــات الــواردة فــي التــوراة ولكــن عبثــا مــا فعلــوا إذ لــم توجــد أي آثــار عمران ــية للفت ــرة الت ــي يدعــي اليهــود أنهــم كانــوا يســكنون فيهــا القــدس ...وأمــا فــي غي ــرها مــن املــدن الفلسطيـن ــية فإن كل املكتشفات تدل على الوجود العربـي القديم في هذه األرض ،وقد جاءت الجهود البحثية التـي أجراها اآلثاري البـريطان ــي واري ــن عــام 1876م فــي هــذا الســياق ،وتبعتهــا حملــة اآلثــاري الفرن�ســي تـي ــري عــام 1890م ،ولكــن كال الحملتـي ــن باءتــا بالفشــل ولــم تجــدا شــيئا يــدل علــى اآلثــار اليهوديــة فــي أرض فلسطي ــن فــي املواقــع التـي تذكرها التوراة وبالتاريخ الذي تحدده.
قــد قــام اليهــود بالضغــط عــى كثيـــر مــن اآلثارييـــن اآلخريـــن الذيـــن قدمــوا تقاريـــر صادقــة عــن نتائــج البحــوث اآلثاريــة يف فلسطيـــن ،فطُــرد بعضهــم مــن عملــه وتــــــــم اغتـــيال البعــــــــض اآل خـــــــر وتلــت تلــك البعثــات بعثــات أورب ــية كثي ــرة وكلهــا وصلــت إلــى نفــس النت ــيجة الســابقة، ممــا أدى بإسـرائيل إلــى إيقــاف تلــك البعثــات وطردهــا ،األمــر الــذي أدى إلــى ظهــور علمــاء آثــار كثيـري ــن أثبتــوا بالدليــل زيــف علــم اآلثــار التورات ــي الــذي تنطــق كل األدلــة بكذبــه. مــن ذلــك قيــام اإلسرائيليي ــن بإيقــاف عمــل اآلثاريــة البـريطان ــية كي ــنون عــام 1967م،
التـي كشفت أوهام التوراة إثـر إعالن نتائج الحفريــات الت ــي قامــت بهــا فــي مدي ــنة أريحــا الفلسطيـن ــية عــام 1952م. وقــد قــام اليهــود بالضغــط علــى كثي ــر مــن اآلثاريي ــن اآلخري ــن الذي ــن قدمــوا تقاري ــر صادقــة عــن نتائــج البحــوث اآلثاريــة فــي ُ فلسطي ــن ،فطــرد بعضهــم مــن عملــه وتــم اغت ــيال البعــض اآلخــر منهــم ،ومــن أب ــرز مــن كشــف تزييــف اليهــود للحقائــق اآلثــاري األمريكــي (بــوب الب) الــذي كان رئيســا لبعثــة آثاريــة قــرب نابلــس ،حيــث أوضــح فــي تقاري ــره دور اليهــود فــي االعتــداء علــى اآلثــار الفلسطيـن ــية وتدمي ــر الشــواهد التاريخيــة علــى وجودهــم القديــم فيهــا ،ممــا أدى الحقــا لطــرد إس ـرائيل مــن منظمــة اليون ــيسكو، وقــد فقــد حياتــه نت ــيجة لذلــك فــي ظــروف غامضــة فــي قب ــرص. كمــا اغت ــيل مــن بعــده عالــم اآلثــار األمريكــي (ألب ــرت غلــوك) عــام 1992للســبب نفســه، وأما مؤلف كتاب (التوراة في التاريخ ..كيف ً ماضيــا) اآلثــاري األمي ــركي يخلــق الكتــاب (تومــاس تومســن) فقــد طــرد مــن عملــه وعمــل دهانــا بعــد أن كشــف دور التــوراة وأحبارهــا فــي صنــع تاريــخ مزيــف لليهــود. بعــد وقــوف الحقائــق التاريخيــة كلهــا فــي وجــه االعتــداء اإلس ـرائيلي علــى القــدس وتهويدهــا لــم يبـ َـق إلس ـرائيل مــن حجــة فــي احتاللهــا القــدس وإعالنهــا عاصمــة لهــا إال قــوة الســاح ،وتعزيــز الكــذب اليهــودي بواقع القوة والضعف الذي يفرضونه على أرض فلسطي ــن بدعــم قــوى الظلــم العالمــي الكب ــرى وعلــى رأســها الواليــات املتحــدة. إن قـرار نقــل الســفارة األمريكيــة إلــى القــدس بق ـرار مــن الرئيــس األمريكــي ت ـرامب لــم
من الفرد إلى الدولة
العدد 2رجب 1439هـ
يكــن صدفــة إنمــا هــو مــن ثمــار االتفاقيــات االستـرات ــيجية بـي ــن الواليــات املتحــدة وإسـرائيل لخدمــة مصالــح بعضهــم البعــض والت ــي تعــززت فــي اتفاقيــة 1984م للتحالــف االستـرات ــيجي بـي ــنهما.
ما بعد الصبـرإال النصر إن تداعيات املواقف الدولية والهجمة التـي يشــكلها مثلــث الشــر فــي املنطقــة املكــون مــن املثلــث املغــرور (أمريــكا وإي ـران وإس ـرائيل) تشي ــر إلــى انفراجــة بعــد املعانــاة والضغــوط املصنوعــة إلجبــار الفلسطيـنـيي ــن علــى التنــازل عــن الثوابــت لتحقيــق مصالــح إقليميــة ودوليــة ،فأمريــكا تحلــم بالهيمنــة وإي ـران تحلــم بالهــال الشــيعي وإس ـرائيل بالقــدس. وإن وقوف الفلسطيـنـييـن في وجه املخطط الصهيون ــي ووقــوف األمــة معهــم يشــكالن الحاجــز الــذي يمنــع الوضــع فــي فلسطي ــن والقــدس مــن الذهــاب نحــو املزيــد مــن الســوء ،وعلــى األمــة كل بحســب اســتطاعته أن يقــدم الدعــم اإلعالمــي واملالــي والسيا�ســي والعســكري الــازم لبقــاء قضيــة فلسطي ــن والقدس على ســلم أولويات الوجود املســلم فالعاقبــة لنــا والنصــر لنــا بــإذن هللا. إن األمــة املســلمة أمــة التحديــات وإن َ ك َبــت وضعفــت ،فاجمعــوا الصفــوف أيهــا املســلمون وحولــوا الحــزن استبشـ ًـارا ً والت ـراجع اســتدراكا واإلحبــاط نصـ ًـرا وإن النصــر مــع الصب ــر ،فــأرض فلسطي ــن املباركــة أرض رباطنــا وجهادنــا إلــى قيــام الســاعة ،رويــت بدمائنــا وشــهدت عدالتنــا ً ً وحب ــنا لهــا ً قرونــا طويلــة وستشــهدها مــرة أخــرى بــإذن هللا. 84
العدد 2رجب 1439هـ
اإلسالمي بـنياننا ّ
الدولة من الفرد إلى ّ الدكتور محمد العبدة
عضو املجلس اإلسالمي السوري
يتســاءل بعــض النــاس وربمــا يســتغرب :ملــاذا لــم ُي ّ فصــل القـرآن الكريــم فــي أمــور السياســة والحكــم واالقتصــاد ،مــع أهميــة هــذه األمــور لحيــاة اإلنســانّ ، وفصـ َـل فــي شــأن العبادات واألسرة وما يحيط بها وفي شأن األخالق الفردية وقصص األنبـياء مع أقوامهم، وربما تمادى األمربهؤالء املستغربـيـن فقالوا :ليس في اإلسالم نظرية للحكم ،فالشورى لم تذكرإالفي آيتـيـن ،وآيات عامة عن العدل وأداء األمانات والحكم بما أنزل هللا ...وكأنهم ً ي ّ ً ـرددون ما قاله طه حسيـن ً تنظيما مجمل قديما من أن القرآن لم يـنظم أمور السياسة ً أومفصل ،ويقال لهؤالء :هل يتـرك القرآن املشكلة الكبـرى لإلنسان دون وضع القواعد األساســية الت ــي تهديــه إلــى ســواء السب ــيل؟ ثــم ليبـن ـ َـي عليهــا اإلنســان مــا يحتاجــه فــي حياتــه ً الدنـيا ؟ وهل يـناسب جوهرالديـن أن ّ يفصل للناس نظم االقتصاد والسياسة تفصيل مب ً ـرما ال يملكون فيه االجتهاد في التفاصيل حسب الزمان واملكان؟ إنمــا ي ــناسب الدي ــن أن يبـي ــن للنــاس املبــادئ العامــة الت ــي يســتقر عليهــا كل نظــام صالــح يأت ــي فــي املســتقبل (والرســول صلــى هللا عليــه وســلم بـي ـ َـن بعــض هــذه األســس وت ــرك ً بعضــا للفكــر اإلنسان ــي لئــا يضيــق وي ــنحصر ويخمــد إذا أتــاه بالتفاصيــل كلهــا ،وال يوحــي هللا إلــى رســول مــن رســله بــكل شــؤون الحيــاة مفصلة )( )1وهذه فضيلة لإلســام وميزة له . فــرض اإلســام أن يقـ َ ـوم الحكــم علــى أســاس الشــورى وأن يقــوم التش ـريع علــى أســاس الكتاب والسنة ،وال ضي َـر بعد ذلك أن يجتهد ( )1محمود محمد شاكر :جمهرة املقاالت 673/2 ( )2الطاهر إبـن عاشور :النظام االجتماعي في اإلسالم 187/ ( )3بـرتـراند َر ْسل :مختارات من أفضل ما كتب 101/
املسلمون في طريقة اختـيار الحاكم أو العمل بدســتور مكتــوب أو غي ــر مكتــوب. والقـرآن الكريــم منهــج حيــاة يهــدي إلــى الرشــد ً وليــس ً متخصصــا فــي السياســة أو كتابــا االقتصــاد ،وقولــه تعالــى ((ونزلنــا عليــك ً الكتــاب تب ــيانا لــكل �شــيء)) [ســورة النحــل: ً آيــة ( ]89أي تب ــيانا ألصــول كل �شــيء، ً وجعــل الب ــيان والتفصيــل منوطــا بأســباب الحــوادث)(.)2 ً إن مــا يســأل عنــه هــؤالء النــاس جــاء مفصــا ولكــن بطريقــة الق ـرآن الخاصــة ،كان الت ــركيز
علــى تأســيس الفــرد ليكــون جـ ً ـزءا مــن البـن ــيان املرصــوص ،ولتحري ــره مــن الضــاالت الت ــي تعرقــل طريقــة تفكي ــره ،فــإن إصــاح عقــل اإلنســان هــو أســاس إصــاح أعمالــه ،وبهــذا نفهــم دعــوة الق ـرآن للنظــر والتعقــل والعلــم ّ يتحمــل الفــرد املســؤولية واالعتبــار ،وأن ّ الكاملــة عــن أعمالــه وتصرفاتــه ،وألن تأســيس إســامية الحكــم دون إسـ ّ ـامية الفــرد هــو ب ـ ٌ ـناء ِ على غي ــر أساس ،كيف يقوم سلطان الحكم دون أن تت ــرسخ القيــم واملبــادئ العليــا فــي نفســية الفرد ،كما قال تعالى (( :يا أيها الذي ــن آمنــوا كونــوا قوامي ــن بالقســط شــهداء هلل ولــو علــى أنفســكم )) [ ســورة النســاء :آيــة ]135 الفــرد هنــا مطلــوب منــه العمــل وال يغن ــي عنــه مال أو نسب أو قبـيلة أو أرض ،وهذا اإلصالح للفــرد ســيؤول ً حتمــا إلــى صــاح املجتمــع ،فــإن مــن املشــاكل الكب ــرى فــي السياســة كمــا يقــول الفيلسوف البـريطان ــي رسل هي( :كيف نجمع بـيـن املبادرات الفردية الضرورية للتقدم وبـيـن التالحــم االجتماعــي الضــروري للبقــاء(. )3 إن فــي تقدي ــر هــذا الكتــاب الــذي أنزلــه هللا ســبحانه أن هــذه األمــة هــي أمــة صاحبــة رســالة 85
من الفرد إلى الدولة وهــذا يتطلــب الفــرد الــذي يتأســس إيمان ـ ًّـيا ّ ًّ ًّ وعقليــا ،قــال تعالــى (( :ومــا يذكــر إال وأخالقيــا أولوا األلباب)) [سورة آل عمران :آية ]7وقال: (( وال تقــف مــا ليــس لــك بــه علــم إن الســمع ً والبصر والفؤاد كل اولئك كان عنه مسؤول)) [ســورة اإلس ـراء :آيــة (( ]36وعبــاد الرحمــن الذي ــن يمشــون علــى األرض ً هونــا وإذا خاطبهــم الجاهلــون قالــوا ســاما)) [ســورة الفرقــان: ّ ـش (( ،]67وال تصعــر خــدك للنــاس وال تمـ ِ فــي األرض ً مرحــا إن هللا ال يحــب كل مختــال فخــور)) [ســورة لقمــان :آيــة ]18واآليــات الت ــي تعنى بالتوجيهات التـربوية البـناءة كثيـرة ً جدا، وقــد ّزود القـر ُآن املسـ َ ـلم مــن البدايــة ب ــنظرة إلــى الكون قائمة على فهم السنن الربانـية ،وأن كل مــا فــي هــذا الكــون مســخر لإلنســان ليتمتــع بــه ولكن ليس على الطريقة النفعية الغربـية ،بل بطرائق تب ــرز مســؤوليته في عمارة هذه األرض بالعمــل الصالــح . إن الحديــث املتكـ ّـرر عــن اليــوم اآلخــر البــد أن يلجــم النفــس حتــى ال تقــع فــي اآلثــام والشــرور، وهــو ً أيضــا حمايــة لإلنســان مــن محنــة العــدم ،وعندمــا ال يكــون األمــر كذلــك فــإن هــذا اإلنســان سيســخر العلــم الخت ـراع أفظــع الوســائل لتنفيــذ أقبــح املآ�ســي والجرائــم... وعندما ّ يتأسس اإلنسان على القرآن والسنة علــى مــكارم األخــاق وذلــك ليبتعد عن األعمال الت ــي توصلــه ألســفل سافلي ــن ،أليــس هــذا ممــا يســاعد علــى االســتقرار واألمــن واألعمــال املفيــدة ،وتكــون عاقبــة ذلــك خي ـ ًـرا ،إذ التغن ــي القوانـي ــن والزواجــر غنــاء االقتنــاع الداخلــي امللتــزم بمــا ي ــر�ضي هللا ســبحانه . هذا االســتقرار يجعل الفرد املســلم ً قادرا على أن ي ــرسم الخطط ويســاعد على إيجاد اإلدارة
ّ فالقضية ليست شعارات سياسية املناسبة، بــل هــي واقــع أسا�ســي وهــو تحري ــر اإلنســان مــن املعوقــات الت ــي تحيــط بــه ليتخــذ الخيــارات ً الصحيحــة ،وإذا بقــي جاهــا فســرعان مــا يستســلم لآلخري ــن ويخســر ّ حريتــه ويذهــب اخت ــياره ّ للدجالي ــن املنافقي ــن. كانت صلة الرسول صلى هللا عليه وسلم باهلل أســبق مــن صلتــه باملجتمــع الــذي ســيكلف بدعوتــه وإصالحــه ،وقــد بــدأ املســلمون بفتــح آفــاق أنفســهم قبــل أن يفتحــوا العالــم وقبــل أن يتجــردوا لذلــك العمــل الضخــم ...كانــت الصلــة بــاهلل وإقامــة العبــادات املطلوبــة بمثابــة الجــذور العميقــة الت ــي أنبتــت وأثمــرت تلــك الحضــارة فــي دمشــق وبغــداد وقرطبــة، وإذا لــم ي ــنشأ الفــرد هــذه التنشــئة اإليمان ــية األخالقيــة فكيــف ســيكون حالــه إذا وصــل إلــى الحكــم وأعجبــه التســلط علــى النــاس، وأعجبتــه األوامــر والنواهــي. ً إن تأســيس الفــرد املســلم ليــس منفصــا عــن تأســيس األســرة وتأســيس املجتمــع ،فالــكل يسيـر في خطوط متشابكة منسجمة يساعد بعضهــا ً بعضــا ،وهــو تأســيس يخــدم الجانــب السيا�ســي والدولــة. ً ً اهتمامــا بالغــا، كان اهتمــام الق ـرآن باألســرة ولذلــك أحاطهــا بــكل الضمانــات األخالقيــة والتش ـريعية ،وتحــدث عــن الــزواج والطــاق والحجــاب وصلــة األرحــام وتوزيــع املي ـراث وب ــر الوالدي ــن واالســتئذان فــي الدخــول علــى الب ــيوت ...كمــا فــي ســور :البقــرة والنســاء والنــور والطالق وغيـرها ،ذلك ألن األسرة هي املؤسسة االجتماعيــة الوحيــدة القائمــة مــا بـي ــن الفــرد واألمــة ،وكل هــذه األهميــة لألســرة والعنايــة بهــا ألنتماسكهاواستقرارهاهواستقرارللمجتمع.
( )4هروبـي إلى الحرية )5( - 49/كتب هذا قبل سقوط االتحاد السوفيتـي ( )6اسماعيل الفاروقي :التوحيد )7( - 283/الشيخ محمد عبده :األعمال الكاملة 159/3
من الفرد إلى الدولة
العدد 2رجب 1439هـ
كان مجتمــع املدي ــنة زمــن الرســول صلــى هللا عليــه وســلم مكتمــل الشــروط ملجتمــع صالــح بالنظــر لصــاح الفــرد وصــاح األســرة ،يقــول الرئيــس علــي عــزت ب ــيكوفتش رحمــه هللا: (الرجــل وامل ـرأة همــا الخليــة األساســية للعالــم والحيــاة ،وإن أقــل تغيي ــر لهــذه املــادة الحيات ــية ســيقود إلــى االنقــاب العــام) (. )4
ً الكياناالجتماعيلألمةاملسلمةمتماسكارغم ً ما حل به من نكبات ،فاملجتمع الرومانـي مثل انهــار أمــام ضربــات بـراب ــرة الشــمال أمــا عالــم ّ اإلســام فلــم تتفــكك وحــدة مجتمعــه تحــت ضربات املغول ،ذلك ألن الخلية (األسرة) التـي يتكــون منهــا املجتمــع اإلســامي هــي خليــة قويــة متماســكة تســتع�صي علــى الفســاد .
ومــن املالحــظ أن الحضــارة الغرب ــية تعان ــي مــن تدهــور األســرة الــذي يســبب املشــاكل االجتماعية والسياسية( ،طرأ تحول جذري ()5 فــي كل أرجــاء العاملي ــن الشــيوعي والغرب ــي وتعان ــي األســرة اليوم من الوهن العام الذي أصــاب املجتمــع ،وبصــرف النظــرعن تحديد مــن يمثــل العلــة ومــن يمثــل املعلــول فــي ثنائــي األســرة والحضــارة ،فــإن مــن املقطــوع بــه أن قــدرالحضــارة واألســرة هــوأن تنهضــا ً معــا أو تســقطا ً معــا) (.)6
إن املجتمع الذي ستبـنى عليه الدولة يجب أن ً مجتمعا ًّ يكون قويا ،الدولة ال تتشكل وال تدار بمعــزل عــن حركــة املجتمــع وقــواه وتنظيماتــه األهلية ،املجتمع السيا�سي هو ( الكل) والدولة هــي البـن ــيان الفوقــي َّ املؤســس علــى ب ــنى املجتمــع التحت ــية ،ولذلــك تكـ ّـررت اآليــات الت ــي تفضــح وتدي ــن الذي ــن يضـ ّـادون إصــاح هــذا املجتمــع (( وإذا تولى سعى في األرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل وهللا ال يحب الفساد)) [سورة البقرة :آية ،]205ومن املالحظ أن التشريعات َ َ فــي املدي ــنة أ ْولــت جانــب املجتمــع وتماســكه االهتمام الكبـيـر فبعد فرض الزكاة والحديث عن الصدقات جاء الحديث عن املال والثـروة والت ــركيز علــى الضمــان االجتماعــي وحقــوق الفقـراء ألن عــدم التــوازن فــي هــذه األمــور الت ــي تمس حياة اإلنسان هو أحد األسباب الكبـرى ملشــاكل البشــر ،وقــد قامــت دول وانهــارت دول بســبب هــذا األمــر (االشت ـراكية والشــيوعية والرأسمالية). ُّ ّ االجتماعيــة ركــز الق ـرآن الكريــم علــى اللحمــة
إنــه مــن الطب ــيعي أن مــن فســدت فطرتــه فــا يقــدم الخي ــر ألهلــه أو أس ـرته فــأي خي ــر ي ــرجى منــه للبعــداء (وهــل يمكــن بعــد أن نفقــد الروابــط الضروريــة بـي ــن العائــات أن نبحــث ()7 عــن الروابــط للجامعــة الكب ــرى «األمــة» ) وكمــا أن الغلــو فــي حقــوق الفــرد -كمــا تؤكــد الليب ـرالية الغرب ــية -أدى إلــى تفتــت األســرة، وكذلــك كان نفــي الفرديــة فــي األنظمــة الجماعية يعنـي تجريد اإلنسان من إنسانـيته، ً وجــاء اإلســام وســطا فــي ذلــك ،وعندمــا أعطــى ً ً اإلســام حقوقا ثابتة في مجال اإلرث مثل كان ً هذا متطابقا مع التكوي ــن الجســدي والنف�ســي لإلنســان ،وفــي توزيــع اإلرث يســتفيد أكب ــر عــدد ممكــن مــن األقــارب حتــى ال يكــون الجــو مسـ ً ـموما بـي ــن هــؤالء وحتــى ال تتفــكك روابــط الرحمــة واإليثــار ،وهــذا هــو التعليــل لبقــاء 86
ونعــى التفــرق واالختــاف الــذي يمــزق األمــة، ويكفي في هذا قوله تعالى ((واعتصموا بحبل ً جميعــا وال تفرقــوا)) [ ســورة آل عم ـران: هللا آيــة ،]103وأقــام اإلســام مفهــوم األمــة علــى أســاس الدي ــن وليــس علــى أســاس العــرق أو اللون أو الحدود الجغرافية ...هذا املفهوم هو أداة إلعــادة تشــكيل العالــم وإصالحــه. ( )8رواه الطبـرانـي في الكبـيـر والحاكم في املستدرك وصححه الذهبـي.
ً تنظيمــا إن األمــة هــي األصــل ثــم تجــيء الدولــة إدا ًريــا لهــا ،وإن دعــوة جــزء مــن األمــة ليكــون مــن اآلمري ــن باملعــروف الناهي ــن عــن املنكــر لهــو مــن أعظــم الوســائل لحمايــة املجتمــع وإصالحــه قبــل أن تتدخــل الدولــة بقوتهــا ّ وأجهزتها ،وهي مسؤولية كبـيـرة حتى ال ُيتـرك ّ االنحــراف يــزداد ويتف�شــى. وحتــى يكــون هــذا املجتمــع ًّ نقيــا؛ طلــب مــن ّ أف ـراده أن يتحلــوا بالعــدل حتــى مــع أعدائهــم ((يا أيها الذي ــن آمنوا كونوا قوامي ــن هلل شهداء بالقســط وال يجرمنكــم شــنآن قــوم علــى أال تعدلــوا اعدلــوا هــو أقــرب للتقــوى)) [ســورة املائــدة :آيــة .]8
تكونــت األمــة يف اإلســام قبــل الســلطة التنفيذيــة ،وكانت الرشيعة هي ال َحكَــم بـيـــن املسلميـــن قبــل شــكل الحكــم ،وجــاءت اآليــات كأســس للدولــة وللسياســة فــي هــذا املجتمــع يتوفــر للفــرد قــدر مــن العنايــة بــكل الوســائل املاديــة واملعنويــة ،كمــا جــاء فــي الحديــث ((مــا آمــن ب ــي مــن بــات شــبعان وجــاره جائــع إلــى جنبــه وهــو يعلــم بــه))( )8فــي هــذا ّ املجتمــع يقــال ألف ـراده (( :ليــس الب ــر أن تولــوا وجوهكــم قبــل املشــرق واملغــرب ولكــن الب ــر مــن آمــن بــاهلل واليــوم اآلخــر واملالئكــة والكتــاب والنبـيي ــن وآتــى املــال علــى حبــه ذوي القربــى واليتامى واملساكيـن وابـن السبـيل وفي الرقاب وأقــام الصــاة وآتــى الــزكاة واملوفــون بعهدهــم إذا عاهــدوا والصابـري ــن فــي البأســاء والض ـراء وحيـن البأس)) [سورة البقرة :آية ]177أي إن
العدد 2رجب 1439هـ
هذه العبادة ال بد أن تنتج آثارها االجتماعية، فالتضامن وإقامة العدل والوفاء بالعهود من أعظــم العبــادات ،وإن إنفــاق املــال والصب ــر فــي البأســاء والض ـراء هــو الــذي يجعــل صاحبــه مسـ ّ ـتحقا ألن يوصــف بالصــدق والتقــوى . ّ إن نصــوص الق ـرآن والســنة تؤكــدان علــى مصلحة الجماعة ،فإذا اســتوت على ســوق تنشــئة الفــرد وتقويــة املجتمــع ،عندئــذ يصبح أمرالحكم والدولة هوالنت ــيجة الت ــي ال بــد منهــا للمحافظــة علــى ذلــك األســاس، ألننــا ال نســتطيع أن ّ نرمــم الدولــة إذا كانــت األساســات واهيــة ضعيفــة. ّ لقــد بــث الق ـرآن الكريــم فــي آياتــه قيــم العــدل والتشن ــيع علــى الظلــم والظاملي ــن الذي ــن يجــب أال يتولــوا أمــور النــاس (( وإذ ابتلــى إب ـراهيم ربــه فأتمهن قال إنـي جاعلك للناس ً بكلمات ّ إماما قال ومن ذريتـي قال ال يـنال عهدي الظامليـن)) [سورة البقرة :آية (( ]124يا داود إنا جعلناك خليفــة فــي األرض فاحكــم بـي ــن النــاس بالحــق وال تتبــع الهــوى فيضلــك عــن سب ــيل هللا)) [ســورة ص :آيــة ،]26وتحــدث الق ـرآن عــن قيــم الشــورى والبعــد عــن االســتبداد وثقافــة االســتبداد ،وقــد اســتجاب الرســول صلــى هللا عليــه وســلم للشــورى رغــم مخالفتهــا لرأيــه فــي موضوع الخروج إلى أحد ملقابلة جموع قريش أو البقــاء فــي املدي ــنة والدفــاع عنهــا ،وتنزلــت اآليــات بعــد أحــد لتقــول للرســول صلــى هللا َ عليــه وســلم :أدم علــى مشــاورتك لهــم رغــم مــا حصــل (( فبمــا رحمــة مــن هللا لنــت لهــم ولــو ًّ كنــت فظــا غليــظ القلــب النفضــوا مــن حولــك فاعــف عنهــم واســتغفر لهــم وشــاورهم فــي األمــر)) [ســورة آل عمـران :آيــة ]159ووصفــت حالــة املسلمي ــن فــي أحوالهــم العاديــة بــأن أمرهم شورى بـيـنهم ،وليس أيسر من تطبـيق 87
من الفرد إلى الدولة وهــذا يتطلــب الفــرد الــذي يتأســس إيمان ـ ًّـيا ّ ًّ ًّ وعقليــا ،قــال تعالــى (( :ومــا يذكــر إال وأخالقيــا أولوا األلباب)) [سورة آل عمران :آية ]7وقال: (( وال تقــف مــا ليــس لــك بــه علــم إن الســمع ً والبصر والفؤاد كل اولئك كان عنه مسؤول)) [ســورة اإلس ـراء :آيــة (( ]36وعبــاد الرحمــن الذي ــن يمشــون علــى األرض ً هونــا وإذا خاطبهــم الجاهلــون قالــوا ســاما)) [ســورة الفرقــان: ّ ـش (( ،]67وال تصعــر خــدك للنــاس وال تمـ ِ فــي األرض ً مرحــا إن هللا ال يحــب كل مختــال فخــور)) [ســورة لقمــان :آيــة ]18واآليــات الت ــي تعنى بالتوجيهات التـربوية البـناءة كثيـرة ً جدا، وقــد ّزود القـر ُآن املسـ َ ـلم مــن البدايــة ب ــنظرة إلــى الكون قائمة على فهم السنن الربانـية ،وأن كل مــا فــي هــذا الكــون مســخر لإلنســان ليتمتــع بــه ولكن ليس على الطريقة النفعية الغربـية ،بل بطرائق تب ــرز مســؤوليته في عمارة هذه األرض بالعمــل الصالــح . إن الحديــث املتكـ ّـرر عــن اليــوم اآلخــر البــد أن يلجــم النفــس حتــى ال تقــع فــي اآلثــام والشــرور، وهــو ً أيضــا حمايــة لإلنســان مــن محنــة العــدم ،وعندمــا ال يكــون األمــر كذلــك فــإن هــذا اإلنســان سيســخر العلــم الخت ـراع أفظــع الوســائل لتنفيــذ أقبــح املآ�ســي والجرائــم... وعندما ّ يتأسس اإلنسان على القرآن والسنة علــى مــكارم األخــاق وذلــك ليبتعد عن األعمال الت ــي توصلــه ألســفل سافلي ــن ،أليــس هــذا ممــا يســاعد علــى االســتقرار واألمــن واألعمــال املفيــدة ،وتكــون عاقبــة ذلــك خي ـ ًـرا ،إذ التغن ــي القوانـي ــن والزواجــر غنــاء االقتنــاع الداخلــي امللتــزم بمــا ي ــر�ضي هللا ســبحانه . هذا االســتقرار يجعل الفرد املســلم ً قادرا على أن ي ــرسم الخطط ويســاعد على إيجاد اإلدارة
ّ فالقضية ليست شعارات سياسية املناسبة، بــل هــي واقــع أسا�ســي وهــو تحري ــر اإلنســان مــن املعوقــات الت ــي تحيــط بــه ليتخــذ الخيــارات ً الصحيحــة ،وإذا بقــي جاهــا فســرعان مــا يستســلم لآلخري ــن ويخســر ّ حريتــه ويذهــب اخت ــياره ّ للدجالي ــن املنافقي ــن. كانت صلة الرسول صلى هللا عليه وسلم باهلل أســبق مــن صلتــه باملجتمــع الــذي ســيكلف بدعوتــه وإصالحــه ،وقــد بــدأ املســلمون بفتــح آفــاق أنفســهم قبــل أن يفتحــوا العالــم وقبــل أن يتجــردوا لذلــك العمــل الضخــم ...كانــت الصلــة بــاهلل وإقامــة العبــادات املطلوبــة بمثابــة الجــذور العميقــة الت ــي أنبتــت وأثمــرت تلــك الحضــارة فــي دمشــق وبغــداد وقرطبــة، وإذا لــم ي ــنشأ الفــرد هــذه التنشــئة اإليمان ــية األخالقيــة فكيــف ســيكون حالــه إذا وصــل إلــى الحكــم وأعجبــه التســلط علــى النــاس، وأعجبتــه األوامــر والنواهــي. ً إن تأســيس الفــرد املســلم ليــس منفصــا عــن تأســيس األســرة وتأســيس املجتمــع ،فالــكل يسيـر في خطوط متشابكة منسجمة يساعد بعضهــا ً بعضــا ،وهــو تأســيس يخــدم الجانــب السيا�ســي والدولــة. ً ً اهتمامــا بالغــا، كان اهتمــام الق ـرآن باألســرة ولذلــك أحاطهــا بــكل الضمانــات األخالقيــة والتش ـريعية ،وتحــدث عــن الــزواج والطــاق والحجــاب وصلــة األرحــام وتوزيــع املي ـراث وب ــر الوالدي ــن واالســتئذان فــي الدخــول علــى الب ــيوت ...كمــا فــي ســور :البقــرة والنســاء والنــور والطالق وغيـرها ،ذلك ألن األسرة هي املؤسسة االجتماعيــة الوحيــدة القائمــة مــا بـي ــن الفــرد واألمــة ،وكل هــذه األهميــة لألســرة والعنايــة بهــا ألنتماسكهاواستقرارهاهواستقرارللمجتمع.
( )4هروبـي إلى الحرية )5( - 49/كتب هذا قبل سقوط االتحاد السوفيتـي ( )6اسماعيل الفاروقي :التوحيد )7( - 283/الشيخ محمد عبده :األعمال الكاملة 159/3
من الفرد إلى الدولة
العدد 2رجب 1439هـ
كان مجتمــع املدي ــنة زمــن الرســول صلــى هللا عليــه وســلم مكتمــل الشــروط ملجتمــع صالــح بالنظــر لصــاح الفــرد وصــاح األســرة ،يقــول الرئيــس علــي عــزت ب ــيكوفتش رحمــه هللا: (الرجــل وامل ـرأة همــا الخليــة األساســية للعالــم والحيــاة ،وإن أقــل تغيي ــر لهــذه املــادة الحيات ــية ســيقود إلــى االنقــاب العــام) (. )4
ً الكياناالجتماعيلألمةاملسلمةمتماسكارغم ً ما حل به من نكبات ،فاملجتمع الرومانـي مثل انهــار أمــام ضربــات بـراب ــرة الشــمال أمــا عالــم ّ اإلســام فلــم تتفــكك وحــدة مجتمعــه تحــت ضربات املغول ،ذلك ألن الخلية (األسرة) التـي يتكــون منهــا املجتمــع اإلســامي هــي خليــة قويــة متماســكة تســتع�صي علــى الفســاد .
ومــن املالحــظ أن الحضــارة الغرب ــية تعان ــي مــن تدهــور األســرة الــذي يســبب املشــاكل االجتماعية والسياسية( ،طرأ تحول جذري ()5 فــي كل أرجــاء العاملي ــن الشــيوعي والغرب ــي وتعان ــي األســرة اليوم من الوهن العام الذي أصــاب املجتمــع ،وبصــرف النظــرعن تحديد مــن يمثــل العلــة ومــن يمثــل املعلــول فــي ثنائــي األســرة والحضــارة ،فــإن مــن املقطــوع بــه أن قــدرالحضــارة واألســرة هــوأن تنهضــا ً معــا أو تســقطا ً معــا) (.)6
إن املجتمع الذي ستبـنى عليه الدولة يجب أن ً مجتمعا ًّ يكون قويا ،الدولة ال تتشكل وال تدار بمعــزل عــن حركــة املجتمــع وقــواه وتنظيماتــه األهلية ،املجتمع السيا�سي هو ( الكل) والدولة هــي البـن ــيان الفوقــي َّ املؤســس علــى ب ــنى املجتمــع التحت ــية ،ولذلــك تكـ ّـررت اآليــات الت ــي تفضــح وتدي ــن الذي ــن يضـ ّـادون إصــاح هــذا املجتمــع (( وإذا تولى سعى في األرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل وهللا ال يحب الفساد)) [سورة البقرة :آية ،]205ومن املالحظ أن التشريعات َ َ فــي املدي ــنة أ ْولــت جانــب املجتمــع وتماســكه االهتمام الكبـيـر فبعد فرض الزكاة والحديث عن الصدقات جاء الحديث عن املال والثـروة والت ــركيز علــى الضمــان االجتماعــي وحقــوق الفقـراء ألن عــدم التــوازن فــي هــذه األمــور الت ــي تمس حياة اإلنسان هو أحد األسباب الكبـرى ملشــاكل البشــر ،وقــد قامــت دول وانهــارت دول بســبب هــذا األمــر (االشت ـراكية والشــيوعية والرأسمالية). ُّ ّ االجتماعيــة ركــز الق ـرآن الكريــم علــى اللحمــة
إنــه مــن الطب ــيعي أن مــن فســدت فطرتــه فــا يقــدم الخي ــر ألهلــه أو أس ـرته فــأي خي ــر ي ــرجى منــه للبعــداء (وهــل يمكــن بعــد أن نفقــد الروابــط الضروريــة بـي ــن العائــات أن نبحــث ()7 عــن الروابــط للجامعــة الكب ــرى «األمــة» ) وكمــا أن الغلــو فــي حقــوق الفــرد -كمــا تؤكــد الليب ـرالية الغرب ــية -أدى إلــى تفتــت األســرة، وكذلــك كان نفــي الفرديــة فــي األنظمــة الجماعية يعنـي تجريد اإلنسان من إنسانـيته، ً وجــاء اإلســام وســطا فــي ذلــك ،وعندمــا أعطــى ً ً اإلســام حقوقا ثابتة في مجال اإلرث مثل كان ً هذا متطابقا مع التكوي ــن الجســدي والنف�ســي لإلنســان ،وفــي توزيــع اإلرث يســتفيد أكب ــر عــدد ممكــن مــن األقــارب حتــى ال يكــون الجــو مسـ ً ـموما بـي ــن هــؤالء وحتــى ال تتفــكك روابــط الرحمــة واإليثــار ،وهــذا هــو التعليــل لبقــاء 86
ونعــى التفــرق واالختــاف الــذي يمــزق األمــة، ويكفي في هذا قوله تعالى ((واعتصموا بحبل ً جميعــا وال تفرقــوا)) [ ســورة آل عم ـران: هللا آيــة ،]103وأقــام اإلســام مفهــوم األمــة علــى أســاس الدي ــن وليــس علــى أســاس العــرق أو اللون أو الحدود الجغرافية ...هذا املفهوم هو أداة إلعــادة تشــكيل العالــم وإصالحــه. ( )8رواه الطبـرانـي في الكبـيـر والحاكم في املستدرك وصححه الذهبـي.
ً تنظيمــا إن األمــة هــي األصــل ثــم تجــيء الدولــة إدا ًريــا لهــا ،وإن دعــوة جــزء مــن األمــة ليكــون مــن اآلمري ــن باملعــروف الناهي ــن عــن املنكــر لهــو مــن أعظــم الوســائل لحمايــة املجتمــع وإصالحــه قبــل أن تتدخــل الدولــة بقوتهــا ّ وأجهزتها ،وهي مسؤولية كبـيـرة حتى ال ُيتـرك ّ االنحــراف يــزداد ويتف�شــى. وحتــى يكــون هــذا املجتمــع ًّ نقيــا؛ طلــب مــن ّ أف ـراده أن يتحلــوا بالعــدل حتــى مــع أعدائهــم ((يا أيها الذي ــن آمنوا كونوا قوامي ــن هلل شهداء بالقســط وال يجرمنكــم شــنآن قــوم علــى أال تعدلــوا اعدلــوا هــو أقــرب للتقــوى)) [ســورة املائــدة :آيــة .]8
تكونــت األمــة يف اإلســام قبــل الســلطة التنفيذيــة ،وكانت الرشيعة هي ال َحكَــم بـيـــن املسلميـــن قبــل شــكل الحكــم ،وجــاءت اآليــات كأســس للدولــة وللسياســة فــي هــذا املجتمــع يتوفــر للفــرد قــدر مــن العنايــة بــكل الوســائل املاديــة واملعنويــة ،كمــا جــاء فــي الحديــث ((مــا آمــن ب ــي مــن بــات شــبعان وجــاره جائــع إلــى جنبــه وهــو يعلــم بــه))( )8فــي هــذا ّ املجتمــع يقــال ألف ـراده (( :ليــس الب ــر أن تولــوا وجوهكــم قبــل املشــرق واملغــرب ولكــن الب ــر مــن آمــن بــاهلل واليــوم اآلخــر واملالئكــة والكتــاب والنبـيي ــن وآتــى املــال علــى حبــه ذوي القربــى واليتامى واملساكيـن وابـن السبـيل وفي الرقاب وأقــام الصــاة وآتــى الــزكاة واملوفــون بعهدهــم إذا عاهــدوا والصابـري ــن فــي البأســاء والض ـراء وحيـن البأس)) [سورة البقرة :آية ]177أي إن
العدد 2رجب 1439هـ
هذه العبادة ال بد أن تنتج آثارها االجتماعية، فالتضامن وإقامة العدل والوفاء بالعهود من أعظــم العبــادات ،وإن إنفــاق املــال والصب ــر فــي البأســاء والض ـراء هــو الــذي يجعــل صاحبــه مسـ ّ ـتحقا ألن يوصــف بالصــدق والتقــوى . ّ إن نصــوص الق ـرآن والســنة تؤكــدان علــى مصلحة الجماعة ،فإذا اســتوت على ســوق تنشــئة الفــرد وتقويــة املجتمــع ،عندئــذ يصبح أمرالحكم والدولة هوالنت ــيجة الت ــي ال بــد منهــا للمحافظــة علــى ذلــك األســاس، ألننــا ال نســتطيع أن ّ نرمــم الدولــة إذا كانــت األساســات واهيــة ضعيفــة. ّ لقــد بــث الق ـرآن الكريــم فــي آياتــه قيــم العــدل والتشن ــيع علــى الظلــم والظاملي ــن الذي ــن يجــب أال يتولــوا أمــور النــاس (( وإذ ابتلــى إب ـراهيم ربــه فأتمهن قال إنـي جاعلك للناس ً بكلمات ّ إماما قال ومن ذريتـي قال ال يـنال عهدي الظامليـن)) [سورة البقرة :آية (( ]124يا داود إنا جعلناك خليفــة فــي األرض فاحكــم بـي ــن النــاس بالحــق وال تتبــع الهــوى فيضلــك عــن سب ــيل هللا)) [ســورة ص :آيــة ،]26وتحــدث الق ـرآن عــن قيــم الشــورى والبعــد عــن االســتبداد وثقافــة االســتبداد ،وقــد اســتجاب الرســول صلــى هللا عليــه وســلم للشــورى رغــم مخالفتهــا لرأيــه فــي موضوع الخروج إلى أحد ملقابلة جموع قريش أو البقــاء فــي املدي ــنة والدفــاع عنهــا ،وتنزلــت اآليــات بعــد أحــد لتقــول للرســول صلــى هللا َ عليــه وســلم :أدم علــى مشــاورتك لهــم رغــم مــا حصــل (( فبمــا رحمــة مــن هللا لنــت لهــم ولــو ًّ كنــت فظــا غليــظ القلــب النفضــوا مــن حولــك فاعــف عنهــم واســتغفر لهــم وشــاورهم فــي األمــر)) [ســورة آل عمـران :آيــة ]159ووصفــت حالــة املسلمي ــن فــي أحوالهــم العاديــة بــأن أمرهم شورى بـيـنهم ،وليس أيسر من تطبـيق 87
من الفرد إلى الدولة مؤمنــا ّ الشــورى إذا كان اإلنســان ً حقــا يعــرف أنــه يتعامــل مــع هللا فــي كل مــا يصــدر عنــه مــن تصــرف. لقــد وضــع القـرآن األســس الكب ــرى واألصــول الجامعــة الت ــي يســتنبط منهــا العلمــاء فــي كل ً ً صحيحــا للعمــل ،يقــول اإلمــام زمــان طريقــا الجويـن ــي( :معظــم مســائل اإلمامــة َ عريــة مــن مســالك القطــعّ ، خليــة مــن مــدارك اليقي ــن) إنهــا اجتهاديــة وليــس فيهــا نصــوص قطعيــة. وقــد تكونــت األمــة فــي اإلســام قبــل الســلطة َ َ الحكــم بـي ــن التنفيذيــة ،وكانــت الش ـريعة هــي املسلمي ــن قبــل شــكل الحكــم ،وجــاءت اآليــات كأســس للدولــة وللسياســة قــال تعالــى (( :إن هللا يأمركــم أن تــؤدوا األمانــات إلــى أهلهــا وإذا حكمتــم بـي ــن النــاس أن تحكمــوا بالعــدل)) [ســورة النســاء :آية (( ،]58يا أيها الذي ــن آمنوا أطيعوا هللا وأطيعوا الرسول وأولي األمر منكم فــإن تنازعتــم فــي �شــيء فــردوه إلــى هللا والرســول إن كنتــم تؤمنــون بــاهلل واليــوم اآلخــر)) [ســورة النساء :آية (( ،]59وإذا جاءهم أمر من األمن أو الخــوف أذاعــوا بــه ولــو ّردوه إلــى الرســول وإلى أولي األمر منهم لعلمه الذي ــن يســتنبطونه منهم)) [سورة النساء :آية (( ،]83ثم جعلناك علــى شـريعة مــن األمــر فاتبعهــا وال تتبــع أهــواء الذي ــن ال يعلمــون)) [ســورة الجاثيــة :آيــة .]18 دعا القرآن إلى مقاومة الظلم وعدم القبول بحالــة االســتضعاف فقــال (( :إن الذي ــن توفاهــم املالئكــة ظالمــي أنفســهم قالــوا فيــم كنتم قالوا كنا مستضعفيـن في األرض قالوا ألــم تكــن أرض هللا واســعة فتهاجــروا فيهــا)) [ســورة النســاء :آيــة .]97 لقــد طــاف القـرآن باملسلمي ــن خــال العصــور لي ــنظروا فــي أحــوال األمــم ونتائــج أعمالهــا، ويفكــروا فــي أســباب تطورهــا وتقدمهــا أو أســباب تأخرهــا وت ـراجعها ،وتحــدث القـرآن
ً طويــا عــن الســنن اإللهيــة فــي تاريــخ البشــر، وســنته تعالــى فــي هــاك األمــم إذا بطــرت معيشــتها وعاثــت فسـ ًـادا فــي األرض فقــال: (( وال تفســدوا فــي األرض بعــد إصالحهــا)) [ســورة األع ـراف :آيــة (( ،]85وقــال مو�ســى ألخيــه هــارون اخلفن ــي فــي قومــي وأصلــح وال تتبــع سب ــيل املفسدي ــن)) [ســورة األع ـراف: آيــة .]142 ومــن الســنن أن التمكي ــن فــي األرض يكــون ألهــل الصــاح واإلصــاح (( ولقــد كتب ــنا فــي الزبــور مــن بعــد الذكــر أن األرض ي ــرثها عبــادي الصالحون)) [سورة األنبـياء :آية ،]105وذكر ســبحانه ســنة التدافــع والص ـراع بـي ــن الحــق والباطــل ((ولــوال دفــع هللا النــاس بعضهــم ببعــض لفســدت األرض)) أليــس هــذا ممــا يخدم السياسة ،بل هو من قواعد السياسة، ألن هــذه الســنة تطهــر األرض مــن الفاسدي ــن، كما كان تطهيـر املجتمع اإلسالمي من الداخل لــه األولويــة ،فــإن أول ســورة نزلــت فــي املدي ــنة (البقرة) تحدثت عن املنافقيـن واليهود ،وتتنزل آخــر ســورة (ب ـراءة) وتتحــدث عــن املنافقي ــن واليهــود ،أليــس هــذا حمايــة للدولــة مــن الغــدر ونكــث العهــود ونقــض املواثيــق . أشــار الق ـرآن إلــى العالقــات الدوليــة ،إلــى االمب ــراطوريات املجــاورة للمسلمي ــن، وأن الصــراع بـي ــنهما هــو لصالــح املسلمي ــن ((غلبــت الــروم فــي أدنــى األرض وهــم مــن بعــد غلبهــم ســيغلبون)) [ســورة الــروم :آيــة ،]3-2 وهذا يعنـي أن املسلميـن ال يمكن أن يكونوا بمنــأى عــن هــذا التدافــع والصــراع وال بــد أن يتصرفــوا التصــرف الصحيــح حيــال ذلــك، وفــي العالقــات الدوليــة أوجــب الق ـرآن علــى املسلميـن الوفاء بعهودهم (( وأوفوا بالعهد ً إن العهــد كان مســؤول)) [ســورة اإلســراء: آيــة .]34
شبهة إهانة أهل الذمة
العدد 2رجب 1439هـ
ّ أصـ َـل الق ـرآن القواعــد األساســية لالقتصــاد والث ــروة وت ــرك التفاصيــل فــي املعامــات ومعايــش النــاس الجتهــاد العلمــاء والخب ـراء حســب مــا يكــون فيــه تـيسي ـ ًـرا علــى النــاس فــي أمــور دن ــياهم ،قــال تعالــى عــن أهميــة املــال ملجموع األمة ((وال تؤتوا السفهاء أموالكم التـي جعــل هللا لكــم ً قيامــا)) [ســورة النســاء :آيــة ،]5 ونهــى الق ـرآن عــن أكل أمــوال النــاس بالباطــل وحـ ّـرم الربــا وأحــل الطيبــات وحـ ّـرم الخبائــث، ودعــا املسلمي ــن إلــى توثيــق العقــود وهــذا فيــه حفــظ للمــال وابتعــاد عــن الخصومــات وهــو أمــر بالــغ التحضــر واملدن ــية قــال تعالــى (( :يــا أيهــا الذي ــن آمنــوا إذا تداي ــنتم بدي ــن إلــى أجــل مسـ ّـمى فاكتبــوه)) [ســورة البقــرة :آيــة ،]282 وفــي ســورة الحشــر أمــر هللا ســبحانه بتوزيــع الفـ ْـيء علــى مســتحقيه ليــدور املــال وال يجتمــع ب ــيد أفـراد محدودي ــن (( ـكـي ال يكــون دولــة بـي ــن األغن ــياء منكــم)) [ســورة الحشــر :آيــة .]7 واإلســام ال يشــعر بالحــرج أمــام نظــم اقتصادية رأسمالية أو اشتـراكية ألن األسس التـي وضعها تختلف عن أسس الرأسمالية أو االشت ـراكية ،وليــس هــو الدي ــن الــذي يضطــر لتغيي ــر منهجــه مــع كل نظــام اقتصــادي يطـرأ علــى البش ـرية أو كل نظــام سيا�ســي . وأمــا تطب ــيقات الرســول صلــى هللا عليــه وســلم للقواعد واألسس التـي جاء بها القرآن لتنتظم بهــا أمــور املسلمي ــن؛ تطب ـ ًـيقا ًّ عمليــا فــي واقــع املدي ــنة النبويــة وواقــع الجزي ــرة العرب ــية آنئــذ، ومــا قــام بــه الخلفــاء الراشــدون مــن متابعــة لســنته صلــى هللا عليــه وســلم واجتهــاد فــي أمــور حدثــت مــع توســع الدولــة اإلســامية ،كل هــذا لــه حديــث آخــر أعــان هللا علــى ذلــك .
88
العدد 2رجب 1439هـ
الرد ىلع ُشبهة ُّ
األمر بإهانة أهل الذمة يف الس ّنة النبوية
والفلسف ِة ـ َجا ِم ُ َ األزهر قيد ِة الدكتور علي محمد حسن األزهري | ِقسم اْل َع َ عــة َ
إن الحــرب الفكريــة علــى دي ــن اإلســام لــم تتوقــف ً الرســالة ّ يومــا منــذ بـ ْـد ِء ّ املحمديــة وإلــى َ ـراهيم وشــعيب ومو�ســى اليــوم ،كمــا هــو حــال دعــوات الحـ ِ ّـق الســابقة؛ دعــوة نــوح وإب ـ وعي�ســى عليهــم الســام. ً ً في القرن املا�ضي شــن املستشــرقون هجوما عن ــيفا على اإلســام ولكنهم خســروا حربهم علــى أبــواب اإلســام املن ــيعة ،وقــد خلفهــم اليــوم أشـ ُ ـباههم مــن َّ الزنادقــة والعلمانـيي ــن ّ والحداثيي ــن فــا يــكاد يم�ضــي يــوم إال وتســمع منهــم شــبهة جديــدة تعتمــد الكــذب والتزوي ــر ّ ً أساسا في التضليل والتشكيك بديـن هللا القويم ،وأنى لهم ذلك واإلسالم ديـن هللا الخاتم الــذي حفظــه َّ وهيــأ لــه مــن أهــل العلــم واإليمــان مــن يــذود عنــه ويفديــه بالغالــي والنفيــس؟ ومــن هــذه الشــبهات الت ــي تثــاراليــوم ادعـ ُـاء التضــار ِب بـي ــن مبــادئ اإلســام فــي التعامــل مــع أب ــناء الديانــات األخــرى حيــث تأمــرالســنة النبويــة بإهانتهــم بـي ــنما يأمــرالقـرآن بالتعامــل معهم بالحسنى مما يوجب عليـنا التخلي عن السنة النبوية ورميها! ...فما حقيقة هذه الشبهة؟
نص الشبهة
إن األحاديــث فــي كتــب الســنة جــاءت مناقضــة ملــا جــاء بــه صريــح اإلســام ،والــذي أوصانــا َ َّ بأصحــاب الديانــات األخــرى خي ـ ًـرا ،ومــن ذلــك قــول هللا تعالــى (( :ال َي ْن َه ُاكـ ُـم ُ هللا َعـ ِـن ال ِذي ـ َـن لـ ْـم ْ َ ُ ْ َ ْ َ َ ُّ ُ ْ َ ُ ْ ُ ّ ََ ْ ُ ْ ُ ُ َُ ُ ُ ـطوا إ َل ْيهـ ْـم إ َّن َ هللا ُي ِحـ ُّـب يقا ِتلوكـ ْـم ِفــي ِ الدي ـ ِـن ولــم يخ ِرجوكــم ِمــن ِدي ِاركــم أن تبروهــم وتق ِسـ ِ ِ ِ ُْ ال ْق ِس ِطي َـن)) [املمتحنة :آية ،]8فجاء األمر باإلحسان إليهم طاملا ليس بـيـننا وبـيـنهم عداوة حرب، َُ ُ ـاس ُح ْسـ ًـنا)) [البقــرة :آيــة ]83واملعنــى كمــا قــال أهــل التفسي ــر ومنهــم ((وقولــوا ِل َّلنـ وقــال تعالــى : ِ َ َ ُْ ُ َ َ َ َ ُ ُ ُ ْ ً َ ْ َّ ُ ُ ْ ًَّ ُ َُ ْ َ ً ََ ْ ُ َّ ُ اس حسنا)) أي :ك ِلموهم ط ِيبا وليـنوا لهم جا ِنبا ويدخل ِفي ابـن كثيـر ( :وقوله تعالى(( :وقولوا ِللن ِ َُ ُ َ َ َ َ ْ َ َ ُ ْ َ ْ ُّ َ َ َ ْ َ ْ ُ ْ َ ْ ُ َ َّ ْ ُ َ ْ ُ ْ َ ْ َ ْ ْ ُ وف ،كمــا قــال الحســن البصـ ِـري ِفــي قوِلـ ِـه(( :وقولوا وف والنهــي عـ ِـن النكـ ِـر ِبالعــر ِ ذ ِلــك المــر ِبالعــر ِ َ ْ َ ْ ل ُ ْ َ ْ ُ َ َ ْ َ َ ْ ُ ْ َ َ َ ْ ُ ُ َ َ ْ ُ َ َ ْ َُ ل َّلنـ ُ ْ ً ُ ْ وف وينهــى عـ ِـن النكـ ِـر ويحلــم ويعفــو ويصفــح ـاس حســنا)) فالحســن ِمــن القــو ِ :يأمــر ِبالعــر ِ ِ ِ
ـال ُ َو َي ُقــو ُل ِل َّلنــاس ُح ْسـ ًـنا َك َمــا َقـ َ هللاَ ،و ُهـ َـو ِ ُ ُُ ُ َ ُ ()1 َ ك ُّل خلــق َح َسـ ٍـن ر ِضيــه هللا) ،وغي ــر ذلــك مــن اآليــات الت ــي تــدل علــى وجــوب اإلحســان لغي ــر املسلمي ــن - ،وب ــناء علــى ذلــك يقــول َّ الطاعنــون -ومــع هــذا جــاءت كتــب الحديــث تنشـ ُـر ثقافــة الكراهيــة بـي ــن َّ النــاس ،وتحــث املسلمي ــن على ظلم غي ــر املسلمي ــن واإلعراض عنهــم والتضييــق عليهــم حتــى فــي الطرقــات، َ ْ َ ُ ْ َ َ َّ ُ َ هللا ففــي الحديــث عــن أ ِبــي ه َريـ َـرة ،أن َرســول ِ َ َّ ُ َ َ ْ َ َ َّ َ َ َ َ ((ل َت ْبـ َـدؤوا ْال َي ُهـ َ صلــى هللا عليــه وســلم قــال: ـود َ َ َّ َ َ ِ َّ َ َ َ َ ُ ْ َ َ ُ َ ْ ول النصــارى ِبالســا ِم ،فـ ِـإذا ل ِقيتــم أحدهــم ِفــي َ وه إ َلى َأ ْ َ ْ َ ُّ ُ ض َي ِق ِه))( ،)2فهل جاءت ط ِر ٍيق ،فاضطر ِ السنة لتقرر استخدام الوحشية البـربـرية مع غي ــر املسلمي ــن ،هــذا تعنــت وتمييــز لــم يقرهمــا َّ الشــرع ،وال يمكــن ألي عاقــل أن يقبــل بهــذا. َّ ويقــول هــؤالء الطاعنــونّ :إن هللا أمرنــا باإلحســان للجميــع ،فلمــاذا تنــادي كتــب الحديــث بضــرورة كراهيــة غي ــر املسلمي ــن والحـ ّ ـض علــى التضييــق عليهــم حتــى فــي ِ الطرقــات ،فمــن هنــا نقــول إن هــذه أحاديــث غي ــر صحيحــة تــم ُّ دســها علــى رســول هللا صلــى َّ ُ وإنها تعارض اإلســام وتدعو هللا عليه وســلم، للكراهيــة والعنــف مــع اإلنسان ـ َّـية.
( )1ابـن كثيـر ـ تفسيـر القرآن العظيم ـ جـ 1ـ صـ .317 َّ َ َ َ َ ْ ّ َ ُ َّ َ َ ُ َّ ْ َ ْ َ َ ْ ْ َ َ ْ َ ُ َّ َّ َ َ َ ْ َ ُ َ ُّ َ َ ْ ْ الن ْوم ـ َب ٌ الذ َّم ِة اب ِفي السل ِم على أه ِل ِ ( )2أخرجه مسلم في صحيحه ـ ِكتاب السل ِم ـ باب النه ِي ع ِن اب ِتد ِاء أه ِل ال ِكت ِ اب ِبالسل ِم وكيف يرد علي ِهم ـ جـ 4ـ صـ 1707ـ حديث رقم ،2167وأخرجه أبو داود في سننه ـ أبواب ِ َ َ َ َ ْ ُ َ َ َ َ َّ َ َ َ ُ َ ُ ُّ َ َ َ َ َ َ َ َ َ ُ َ ّ ُ َ َ َ ْ ْ َ َ َ َ َ َ ْ َ ُ ْ َّ َ َ َ َ َ ـ جـ 4ـ صـ 352ـ حديث رقم ،5205وجاء َع ْن ُس َه ْيل ْبن َأبي َ ص ِال ٍح ،قال :خرجت مع أ ِبي ِإلى الش ِام ،فجعلوا يمرون ِبصو ِامع ِفيها نصارى فيس ِلمون علي ِهم ،فقال :أ ِبي ل تبدؤوهم ِب السل ِم ،ف ِإ َّن أ َبا ُه َ ْري َرةَ ،ح َّدث َنا َع ْن ِ ِ َ َ َ َ َ َ َّ ُ َ َ ْ َ َ َّ َ َ َ َ َ ْ َ ُ ْ َّ ِ َ َ َّ َّ َ َّ َ َّ ُ ْ ْ ُ ُ ُ َ ْ َ َ َ َ َ َ َ َ َ ْ ُ ُ َ ّ َ ْ ْ هللا صلى هللا عل ْي ِه وسل َم ـ ب ُ ُ اب ما ج َاء هللا صلى هللا علي ِه وسلم ،ق السي ِر عن َرسو ِل ِ َرسو ِل ِ ال« :ل تبدؤوهم ِبالسل ِمِ ،وإذا ل ِقيت ُموهم ِفي الط ِر ِيق فاضط ُّروهم ِإلى أضي ِق الط ِر ِيق» ،وأخرجه التـرمذي في سننه ـ أبواب ِ َ َ َّ في الت ْسليم َعلى أ ْهل َ اب ـ جـ 4ـ صـ 154ـ حديث رقم ،1602وأخرجه أحمد في املسند ـ جـ 14ـ صـ 233ـ حديث رقم .8562 ِ ِ ِ ِ ِ الكت ِ
89
من الفرد إلى الدولة مؤمنــا ّ الشــورى إذا كان اإلنســان ً حقــا يعــرف أنــه يتعامــل مــع هللا فــي كل مــا يصــدر عنــه مــن تصــرف. لقــد وضــع القـرآن األســس الكب ــرى واألصــول الجامعــة الت ــي يســتنبط منهــا العلمــاء فــي كل ً ً صحيحــا للعمــل ،يقــول اإلمــام زمــان طريقــا الجويـن ــي( :معظــم مســائل اإلمامــة َ عريــة مــن مســالك القطــعّ ، خليــة مــن مــدارك اليقي ــن) إنهــا اجتهاديــة وليــس فيهــا نصــوص قطعيــة. وقــد تكونــت األمــة فــي اإلســام قبــل الســلطة َ َ الحكــم بـي ــن التنفيذيــة ،وكانــت الش ـريعة هــي املسلمي ــن قبــل شــكل الحكــم ،وجــاءت اآليــات كأســس للدولــة وللسياســة قــال تعالــى (( :إن هللا يأمركــم أن تــؤدوا األمانــات إلــى أهلهــا وإذا حكمتــم بـي ــن النــاس أن تحكمــوا بالعــدل)) [ســورة النســاء :آية (( ،]58يا أيها الذي ــن آمنوا أطيعوا هللا وأطيعوا الرسول وأولي األمر منكم فــإن تنازعتــم فــي �شــيء فــردوه إلــى هللا والرســول إن كنتــم تؤمنــون بــاهلل واليــوم اآلخــر)) [ســورة النساء :آية (( ،]59وإذا جاءهم أمر من األمن أو الخــوف أذاعــوا بــه ولــو ّردوه إلــى الرســول وإلى أولي األمر منهم لعلمه الذي ــن يســتنبطونه منهم)) [سورة النساء :آية (( ،]83ثم جعلناك علــى شـريعة مــن األمــر فاتبعهــا وال تتبــع أهــواء الذي ــن ال يعلمــون)) [ســورة الجاثيــة :آيــة .]18 دعا القرآن إلى مقاومة الظلم وعدم القبول بحالــة االســتضعاف فقــال (( :إن الذي ــن توفاهــم املالئكــة ظالمــي أنفســهم قالــوا فيــم كنتم قالوا كنا مستضعفيـن في األرض قالوا ألــم تكــن أرض هللا واســعة فتهاجــروا فيهــا)) [ســورة النســاء :آيــة .]97 لقــد طــاف القـرآن باملسلمي ــن خــال العصــور لي ــنظروا فــي أحــوال األمــم ونتائــج أعمالهــا، ويفكــروا فــي أســباب تطورهــا وتقدمهــا أو أســباب تأخرهــا وت ـراجعها ،وتحــدث القـرآن
ً طويــا عــن الســنن اإللهيــة فــي تاريــخ البشــر، وســنته تعالــى فــي هــاك األمــم إذا بطــرت معيشــتها وعاثــت فسـ ًـادا فــي األرض فقــال: (( وال تفســدوا فــي األرض بعــد إصالحهــا)) [ســورة األع ـراف :آيــة (( ،]85وقــال مو�ســى ألخيــه هــارون اخلفن ــي فــي قومــي وأصلــح وال تتبــع سب ــيل املفسدي ــن)) [ســورة األع ـراف: آيــة .]142 ومــن الســنن أن التمكي ــن فــي األرض يكــون ألهــل الصــاح واإلصــاح (( ولقــد كتب ــنا فــي الزبــور مــن بعــد الذكــر أن األرض ي ــرثها عبــادي الصالحون)) [سورة األنبـياء :آية ،]105وذكر ســبحانه ســنة التدافــع والص ـراع بـي ــن الحــق والباطــل ((ولــوال دفــع هللا النــاس بعضهــم ببعــض لفســدت األرض)) أليــس هــذا ممــا يخدم السياسة ،بل هو من قواعد السياسة، ألن هــذه الســنة تطهــر األرض مــن الفاسدي ــن، كما كان تطهيـر املجتمع اإلسالمي من الداخل لــه األولويــة ،فــإن أول ســورة نزلــت فــي املدي ــنة (البقرة) تحدثت عن املنافقيـن واليهود ،وتتنزل آخــر ســورة (ب ـراءة) وتتحــدث عــن املنافقي ــن واليهــود ،أليــس هــذا حمايــة للدولــة مــن الغــدر ونكــث العهــود ونقــض املواثيــق . أشــار الق ـرآن إلــى العالقــات الدوليــة ،إلــى االمب ــراطوريات املجــاورة للمسلمي ــن، وأن الصــراع بـي ــنهما هــو لصالــح املسلمي ــن ((غلبــت الــروم فــي أدنــى األرض وهــم مــن بعــد غلبهــم ســيغلبون)) [ســورة الــروم :آيــة ،]3-2 وهذا يعنـي أن املسلميـن ال يمكن أن يكونوا بمنــأى عــن هــذا التدافــع والصــراع وال بــد أن يتصرفــوا التصــرف الصحيــح حيــال ذلــك، وفــي العالقــات الدوليــة أوجــب الق ـرآن علــى املسلميـن الوفاء بعهودهم (( وأوفوا بالعهد ً إن العهــد كان مســؤول)) [ســورة اإلســراء: آيــة .]34
شبهة إهانة أهل الذمة
العدد 2رجب 1439هـ
ّ أصـ َـل الق ـرآن القواعــد األساســية لالقتصــاد والث ــروة وت ــرك التفاصيــل فــي املعامــات ومعايــش النــاس الجتهــاد العلمــاء والخب ـراء حســب مــا يكــون فيــه تـيسي ـ ًـرا علــى النــاس فــي أمــور دن ــياهم ،قــال تعالــى عــن أهميــة املــال ملجموع األمة ((وال تؤتوا السفهاء أموالكم التـي جعــل هللا لكــم ً قيامــا)) [ســورة النســاء :آيــة ،]5 ونهــى الق ـرآن عــن أكل أمــوال النــاس بالباطــل وحـ ّـرم الربــا وأحــل الطيبــات وحـ ّـرم الخبائــث، ودعــا املسلمي ــن إلــى توثيــق العقــود وهــذا فيــه حفــظ للمــال وابتعــاد عــن الخصومــات وهــو أمــر بالــغ التحضــر واملدن ــية قــال تعالــى (( :يــا أيهــا الذي ــن آمنــوا إذا تداي ــنتم بدي ــن إلــى أجــل مسـ ّـمى فاكتبــوه)) [ســورة البقــرة :آيــة ،]282 وفــي ســورة الحشــر أمــر هللا ســبحانه بتوزيــع الفـ ْـيء علــى مســتحقيه ليــدور املــال وال يجتمــع ب ــيد أفـراد محدودي ــن (( ـكـي ال يكــون دولــة بـي ــن األغن ــياء منكــم)) [ســورة الحشــر :آيــة .]7 واإلســام ال يشــعر بالحــرج أمــام نظــم اقتصادية رأسمالية أو اشتـراكية ألن األسس التـي وضعها تختلف عن أسس الرأسمالية أو االشت ـراكية ،وليــس هــو الدي ــن الــذي يضطــر لتغيي ــر منهجــه مــع كل نظــام اقتصــادي يطـرأ علــى البش ـرية أو كل نظــام سيا�ســي . وأمــا تطب ــيقات الرســول صلــى هللا عليــه وســلم للقواعد واألسس التـي جاء بها القرآن لتنتظم بهــا أمــور املسلمي ــن؛ تطب ـ ًـيقا ًّ عمليــا فــي واقــع املدي ــنة النبويــة وواقــع الجزي ــرة العرب ــية آنئــذ، ومــا قــام بــه الخلفــاء الراشــدون مــن متابعــة لســنته صلــى هللا عليــه وســلم واجتهــاد فــي أمــور حدثــت مــع توســع الدولــة اإلســامية ،كل هــذا لــه حديــث آخــر أعــان هللا علــى ذلــك .
88
العدد 2رجب 1439هـ
الرد ىلع ُشبهة ُّ
األمر بإهانة أهل الذمة يف الس ّنة النبوية
والفلسف ِة ـ َجا ِم ُ َ األزهر قيد ِة الدكتور علي محمد حسن األزهري | ِقسم اْل َع َ عــة َ
إن الحــرب الفكريــة علــى دي ــن اإلســام لــم تتوقــف ً الرســالة ّ يومــا منــذ بـ ْـد ِء ّ املحمديــة وإلــى َ ـراهيم وشــعيب ومو�ســى اليــوم ،كمــا هــو حــال دعــوات الحـ ِ ّـق الســابقة؛ دعــوة نــوح وإب ـ وعي�ســى عليهــم الســام. ً ً في القرن املا�ضي شــن املستشــرقون هجوما عن ــيفا على اإلســام ولكنهم خســروا حربهم علــى أبــواب اإلســام املن ــيعة ،وقــد خلفهــم اليــوم أشـ ُ ـباههم مــن َّ الزنادقــة والعلمانـيي ــن ّ والحداثيي ــن فــا يــكاد يم�ضــي يــوم إال وتســمع منهــم شــبهة جديــدة تعتمــد الكــذب والتزوي ــر ّ ً أساسا في التضليل والتشكيك بديـن هللا القويم ،وأنى لهم ذلك واإلسالم ديـن هللا الخاتم الــذي حفظــه َّ وهيــأ لــه مــن أهــل العلــم واإليمــان مــن يــذود عنــه ويفديــه بالغالــي والنفيــس؟ ومــن هــذه الشــبهات الت ــي تثــاراليــوم ادعـ ُـاء التضــار ِب بـي ــن مبــادئ اإلســام فــي التعامــل مــع أب ــناء الديانــات األخــرى حيــث تأمــرالســنة النبويــة بإهانتهــم بـي ــنما يأمــرالقـرآن بالتعامــل معهم بالحسنى مما يوجب عليـنا التخلي عن السنة النبوية ورميها! ...فما حقيقة هذه الشبهة؟
نص الشبهة
إن األحاديــث فــي كتــب الســنة جــاءت مناقضــة ملــا جــاء بــه صريــح اإلســام ،والــذي أوصانــا َ َّ بأصحــاب الديانــات األخــرى خي ـ ًـرا ،ومــن ذلــك قــول هللا تعالــى (( :ال َي ْن َه ُاكـ ُـم ُ هللا َعـ ِـن ال ِذي ـ َـن لـ ْـم ْ َ ُ ْ َ ْ َ َ ُّ ُ ْ َ ُ ْ ُ ّ ََ ْ ُ ْ ُ ُ َُ ُ ُ ـطوا إ َل ْيهـ ْـم إ َّن َ هللا ُي ِحـ ُّـب يقا ِتلوكـ ْـم ِفــي ِ الدي ـ ِـن ولــم يخ ِرجوكــم ِمــن ِدي ِاركــم أن تبروهــم وتق ِسـ ِ ِ ِ ُْ ال ْق ِس ِطي َـن)) [املمتحنة :آية ،]8فجاء األمر باإلحسان إليهم طاملا ليس بـيـننا وبـيـنهم عداوة حرب، َُ ُ ـاس ُح ْسـ ًـنا)) [البقــرة :آيــة ]83واملعنــى كمــا قــال أهــل التفسي ــر ومنهــم ((وقولــوا ِل َّلنـ وقــال تعالــى : ِ َ َ ُْ ُ َ َ َ َ ُ ُ ُ ْ ً َ ْ َّ ُ ُ ْ ًَّ ُ َُ ْ َ ً ََ ْ ُ َّ ُ اس حسنا)) أي :ك ِلموهم ط ِيبا وليـنوا لهم جا ِنبا ويدخل ِفي ابـن كثيـر ( :وقوله تعالى(( :وقولوا ِللن ِ َُ ُ َ َ َ َ ْ َ َ ُ ْ َ ْ ُّ َ َ َ ْ َ ْ ُ ْ َ ْ ُ َ َّ ْ ُ َ ْ ُ ْ َ ْ َ ْ ْ ُ وف ،كمــا قــال الحســن البصـ ِـري ِفــي قوِلـ ِـه(( :وقولوا وف والنهــي عـ ِـن النكـ ِـر ِبالعــر ِ ذ ِلــك المــر ِبالعــر ِ َ ْ َ ْ ل ُ ْ َ ْ ُ َ َ ْ َ َ ْ ُ ْ َ َ َ ْ ُ ُ َ َ ْ ُ َ َ ْ َُ ل َّلنـ ُ ْ ً ُ ْ وف وينهــى عـ ِـن النكـ ِـر ويحلــم ويعفــو ويصفــح ـاس حســنا)) فالحســن ِمــن القــو ِ :يأمــر ِبالعــر ِ ِ ِ
ـال ُ َو َي ُقــو ُل ِل َّلنــاس ُح ْسـ ًـنا َك َمــا َقـ َ هللاَ ،و ُهـ َـو ِ ُ ُُ ُ َ ُ ()1 َ ك ُّل خلــق َح َسـ ٍـن ر ِضيــه هللا) ،وغي ــر ذلــك مــن اآليــات الت ــي تــدل علــى وجــوب اإلحســان لغي ــر املسلمي ــن - ،وب ــناء علــى ذلــك يقــول َّ الطاعنــون -ومــع هــذا جــاءت كتــب الحديــث تنشـ ُـر ثقافــة الكراهيــة بـي ــن َّ النــاس ،وتحــث املسلمي ــن على ظلم غي ــر املسلمي ــن واإلعراض عنهــم والتضييــق عليهــم حتــى فــي الطرقــات، َ ْ َ ُ ْ َ َ َّ ُ َ هللا ففــي الحديــث عــن أ ِبــي ه َريـ َـرة ،أن َرســول ِ َ َّ ُ َ َ ْ َ َ َّ َ َ َ َ ((ل َت ْبـ َـدؤوا ْال َي ُهـ َ صلــى هللا عليــه وســلم قــال: ـود َ َ َّ َ َ ِ َّ َ َ َ َ ُ ْ َ َ ُ َ ْ ول النصــارى ِبالســا ِم ،فـ ِـإذا ل ِقيتــم أحدهــم ِفــي َ وه إ َلى َأ ْ َ ْ َ ُّ ُ ض َي ِق ِه))( ،)2فهل جاءت ط ِر ٍيق ،فاضطر ِ السنة لتقرر استخدام الوحشية البـربـرية مع غي ــر املسلمي ــن ،هــذا تعنــت وتمييــز لــم يقرهمــا َّ الشــرع ،وال يمكــن ألي عاقــل أن يقبــل بهــذا. َّ ويقــول هــؤالء الطاعنــونّ :إن هللا أمرنــا باإلحســان للجميــع ،فلمــاذا تنــادي كتــب الحديــث بضــرورة كراهيــة غي ــر املسلمي ــن والحـ ّ ـض علــى التضييــق عليهــم حتــى فــي ِ الطرقــات ،فمــن هنــا نقــول إن هــذه أحاديــث غي ــر صحيحــة تــم ُّ دســها علــى رســول هللا صلــى َّ ُ وإنها تعارض اإلســام وتدعو هللا عليه وســلم، للكراهيــة والعنــف مــع اإلنسان ـ َّـية.
( )1ابـن كثيـر ـ تفسيـر القرآن العظيم ـ جـ 1ـ صـ .317 َّ َ َ َ َ ْ ّ َ ُ َّ َ َ ُ َّ ْ َ ْ َ َ ْ ْ َ َ ْ َ ُ َّ َّ َ َ َ ْ َ ُ َ ُّ َ َ ْ ْ الن ْوم ـ َب ٌ الذ َّم ِة اب ِفي السل ِم على أه ِل ِ ( )2أخرجه مسلم في صحيحه ـ ِكتاب السل ِم ـ باب النه ِي ع ِن اب ِتد ِاء أه ِل ال ِكت ِ اب ِبالسل ِم وكيف يرد علي ِهم ـ جـ 4ـ صـ 1707ـ حديث رقم ،2167وأخرجه أبو داود في سننه ـ أبواب ِ َ َ َ َ ْ ُ َ َ َ َ َّ َ َ َ ُ َ ُ ُّ َ َ َ َ َ َ َ َ َ ُ َ ّ ُ َ َ َ ْ ْ َ َ َ َ َ َ ْ َ ُ ْ َّ َ َ َ َ َ ـ جـ 4ـ صـ 352ـ حديث رقم ،5205وجاء َع ْن ُس َه ْيل ْبن َأبي َ ص ِال ٍح ،قال :خرجت مع أ ِبي ِإلى الش ِام ،فجعلوا يمرون ِبصو ِامع ِفيها نصارى فيس ِلمون علي ِهم ،فقال :أ ِبي ل تبدؤوهم ِب السل ِم ،ف ِإ َّن أ َبا ُه َ ْري َرةَ ،ح َّدث َنا َع ْن ِ ِ َ َ َ َ َ َ َّ ُ َ َ ْ َ َ َّ َ َ َ َ َ ْ َ ُ ْ َّ ِ َ َ َّ َّ َ َّ َ َّ ُ ْ ْ ُ ُ ُ َ ْ َ َ َ َ َ َ َ َ َ ْ ُ ُ َ ّ َ ْ ْ هللا صلى هللا عل ْي ِه وسل َم ـ ب ُ ُ اب ما ج َاء هللا صلى هللا علي ِه وسلم ،ق السي ِر عن َرسو ِل ِ َرسو ِل ِ ال« :ل تبدؤوهم ِبالسل ِمِ ،وإذا ل ِقيت ُموهم ِفي الط ِر ِيق فاضط ُّروهم ِإلى أضي ِق الط ِر ِيق» ،وأخرجه التـرمذي في سننه ـ أبواب ِ َ َ َّ في الت ْسليم َعلى أ ْهل َ اب ـ جـ 4ـ صـ 154ـ حديث رقم ،1602وأخرجه أحمد في املسند ـ جـ 14ـ صـ 233ـ حديث رقم .8562 ِ ِ ِ ِ ِ الكت ِ
89
شبهة إهانة أهل الذمة
الرد عىل الشبهة
ً أول :ال ننكــر أن الحديــث صحيــح وقــد روي فــي كل مــن صحيــح مســلم وســنن أب ــي داود وســنن الت ــرمذي وفــي مســند اإلمــام أحمــد وفــي غي ــرها مــن كتــب الســنة. ثان ـ ًـيا :إن ســبب هــذا الفهــم الخاطــئ للحديــث هــو الجهــل بســبب وروده ،فالحديــث خـ ٌّ ـاص بواقعــة بعي ــنها وذلــك ملــا ســار املســلمون إلــى بـنـي قريظة بعد أن نقضوا العهد ووقفوا إلى جانــب الكفــار للقضــاء علــى املسلمي ــن ،كمــا َ َ ْ َ َ ْ َ ْ َ صـ َـرة ال ِغفـ ِـار ّ ِي ،أ َّن عنــد الت ــرمذي عــن أبــي ب َ َّ ُ ِ َ َ ْ َ َ َّ َ َ َ ّ ُ َ ((إ ِنــي َرســول ِ هللا صلــى هللا عل َ َيـ ِـه وســلم قــالِ : َ َّ َ ٌ َ َُ َ ْ ود ،ف َم ِن انطل َق َم ِعي ،ف ِإ ْن َسل ُموا ر ِاكب ِإلى يه ٍ ََْ ُ ْ َ ُ ُ َ َ َ ْ ُ ْ ()3 عليكــم فقولــوا :وعليكــم)) ،وجــاء عنــد أحمــد فــي روايتـي ــن متعاقبتـي ــن بلفظــة ((إنــا الَ :ق َ ُ ُ غادون))َ ،ع ْن َأبي َب ْ ص َر َة َق َ هللا ال َرسول ِ ِ هللا َع َل ْيــه َو َسـ َّـل َم(( :إ َّنــا َغـ ُـادو َن َع َلــى َي ُهــودَ ص َّلــى ُ َ ِ ِ َ َ َ ْ َ ُ ْ َّ َ َ َ َّ َ ُ فــا تبدؤوهــم ِب الســا ِم ،فـ ِـإذا َســل ُموا َعل ْيكـ ْـم َ ُ َ ُ ف ُقولــواَ :و َعل ْيكـ ْـم))( ،)4وأورده الطبـران ــي فــي الر ْح َمــن ْال ُج َه ِن ـ ّـيَ ،قـ َ املعجــم َعـ ْـن َأبــي َع ْبـ ِـد َّ ـال: ِ ِ هللا َع َل ْيــه َو َسـ َّـل َم(( :إنــاَّ ص َّلــى ُ ـال َر ُســو ُل هللا َ َقـ َ ِ ِ َِ َغـ ُـادو َن َغـ ًـدا إ َلــى َي ُهــود َفـ َ َ ْ َ ُ ؤوهـ ْـم ب َّ الســا ِم، ٍ ـا تبد َ ِ َ ْ َ َّ ُ ِ َ َ ْ ُ ْ َ ُ ُ َ َ ْ ُ ْ ()5 فـ ِـإن ســلموا عليكــم فقولــوا وعليكــم)) ،وبه َ ْ َ َ ْ َ َ ضـ َـرة ،أ َّن قــال الب ــيهقي فــي الشــعب عــن أ ِبــي ن ص َّلــى ُ َر ُســو َل هللا َ ـال َل ُهــمْ: هللا َع َل ْيـ ِـه َو َسـ َّـل َم َقـ َ ِ ((إ ّني َراك ٌب إ َلى َي ُه َ ودَ ،ف َمن ْان َط َل َق َم ِعي م ْن ُكمْ ِ َِ ِ ِ ِ ِ َفــا َت ْب َد ُ السـ َـامَ ،فــإ ْن َسـ َّـل ُموا َع َل ْي ُكــمْ ؤوهـ ْـم ب َّ ِ ِ ِ َ ُ َ َ ُ ََ َّ ف ُقولواَ :و َعل ْيك ْم)) فل َّما ِج ْئ َن ُاه ْم َسل ُموا َعل ْي َنا َ ْ َ ُ ف ُقل َناَ :و َعل ْيك ْم( ،)6وأخرجه البخاري في األدب صـ َـر َة ْالغ َفــار ّيَ ،عــن َّ املفــرد َعـ ْـن َأبــي َب ْ النب ـ ّ ِـي ِ ِ ِ ِ ِ
َ َّ ُ َ َ ْ َ َ َّ َ َ َ ّ َ ((إ ِنــي َر ِاكـ ٌـب غـ ًـدا صلــى هللا عليـ ِـه وســلم قــالِ : َ َ ُ َ َ َ َ ْ َ ُ ْ َّ َ َ َ َ َّ ُ ِإلى يهود ،فل تبدؤوهم ِبالسل ِم ،ف ِإذا سلموا َ ُ َ ُ َ ُ َعل ْيكـ ْـم ف ُقولــواَ :و َعل ْيكـ ْـم))(.)7 ً ثالثــا :إن النهــي هنــا ال ي ــنسحب علــى الجميــع وذلــك: -1لقــوة األدلــة الــواردة فــي األمــر بب ـ ّ ِـر اليهــود َّ والنصــارى وغي ــرهم واإلحســان إليهــم كمــا فــي الق ـرآن الكريــم فــي قــول هللا تعالــى (( :ال َ ْ ُ ُ َ َّ َ َ ُ َ ُ ُ وك ْم في ّ الدي ِـن ين َهاك ُم هللا ع ِن ال ِذيـن ل ْم يقا ِتل َ ِ ِ ََ ْ ُ ْ ُ ُ وكـ ْـم مـ ْـن د َيار ُكـ ْـم أ ْن َت َب ُّر ُ وهـ ْـم ولــم يخرج ِ ِ ِ َ ُ ْ ُ ِ َ ْ ْ َّ َ ُ ُّ ْ ُ ْ َ وتق ِســطوا ِإلي ِهــم ِإن هللا ي ِحــب الق ِس ِطي ــن)) [املمتحنة :آية ،]8أال تـرى أن من أوجه الب ّ ِـر َّ الســام عليهــم واإلحســان إليهــم وذلــك لعمــوم اآليــة الكريمــة طاملــا َّأنهــم يعيشــون معنــا دون ممــاألة أعدائنــا علي ــنا!. -2ولكث ــرة األحاديــث الصحيحــة الــواردة فــي إلقــاء الســام علــى اليهــود َّ والنصــارى ،ومــن َ ْ َْ هللا ْب ِن ذلك ما جاء في الصحيحَيـن عن عب َِد ِ هللا َع ْن ُه َمــا ،أ َّن َر ُجـ ًـا َســأ َل َّ َع ْمــرو َر�ضـ َـي ُ الن ِبـ َّـي ٍ ِ َ َ َّ َ َ ص َّلــى ُ َ اإل ْســا ِم خ ْي ـ ٌـر؟ هللا َعل ْيـ ِـه َو َســل َم :أ ُّي ِ ُ َ َ ُ ْ ُ َّ َ َ َ َ ْ َ َّ َ َ قــال(( :تط ِعــم الطعــام وتقــرأ الســا َم َعلــى ْ َ َ ْ َمـ ْـن َع َرفـ َـت َو َمـ ْـن لـ ْـم ت ْعـ ِـرف))( ،)8فاألمــر عــام وتقرأ السالم على من عرفت ومن لم تعرف، قــال اب ــن عبــد الب ــر( :وقــد روي عــن جماعــة مــن الصحابــة والتابعي ــن رضــوان هللا عليهــم أنهــم كانــوا يبــدؤون بالســام كل مــن لقــوه مــن مســلم أو ذمــي ،فاملعنــى فــي ذلــك -وهللا أعلــم -أنــه ليــس بواجــب أن يبــدأ املسـ ُ ـلم املـ ُّـار ُ بالسالم على القاعد الذمي ،والر ُ املسلم اكب الذمـ َّـي املا�شـ َـي بالســام ،كمــا يجــب ذلــك
شبهة إهانة أهل الذمة
العدد 2رجب 1439هـ
بالســنة علــى مــن كان علــى دي ــنه ،فــإن فعــل فــا حــرج عليــه ،فكأنــه قــال صلــى هللا عليــه وســلم( :ليــس عليكــم أن تبدؤوهــم بالســام) بدليــل مــا روى الوليــد ب ــن مســلم عــن عــروة ب ــن رويــم ،قــال :رأيــت أبــا أمامــة الباهلــي يســلم علــى كل مــن لقــي مــن مســلم وذمـ ّـي ،ويقــول: ٌ هــي تحيــة ألهــل ملتنــا وأمــان ألهــل ذمتنــا واســم مــن أســماء هللا نفشــيه بـي ــننا ،ومحــال أن يخالــف أبــو أمامــة الســنة ،لــو صحــت فــي ذلك ،بل املعنى على تأويلنا وهللا أعلم ،وعلى هــذا يصــح تخريــج هــذه األخبــار ووجوههــا، ذكــر اب ــن أب ــي شب ــيب ،عــن إســماعيل ب ــن عيــاش ،عــن محمــد ب ــن زيــاد األلهان ــي، وشرحب ــيل ب ــن مســلم ،عــن أب ــي أمامــة أنــه كان ال يمــر بمسـ ٍـلم وال يهــودي وال نصران ــي إال بــدأه بالســام ،وروي عــن اب ــن مســعود وأب ــي الــدرداء وفضالــة ب ــن عب ــيد أنهــم كانــوا يبــدؤون أهــل الذمــة بالســام ،وقــال اب ــن مســعود :إن مــن التواضــع أن تبــدأ بالســام َّ كل مــن لقيــت ،وعــن اب ــن عبــاس أنــه كتــب إلــى رجــل مــن أهــل الكتــاب :الســام عليــك، وسئل عبد هللا ب ــن وهب صاحب مالك عن غيبــة النصران ــي فقــال :أو ليــس مــن النــاس؟ قالــوا :بلــى .قــال :فــإن هللا عــز وجــل يقــول َ ُ ُ َّ اس ُح ْسـ ًـنا)) [البقرة :آية ،]83 (( وقولوا ِللن ِ وقيــل ملحمــد ب ــن كعــب القرظــي :إن عمــر ب ــن عبــد العزيــز ســئل عــن ابتــداء أهــل الذمــة بالســام فقــال :ت ــرد عليهــم وال تبدؤوهــم! فقــال محمــد ب ــن كعــب :أمــا أنــا فــا أرى ً بأســا أن تبدأهــم بالســام ،قيــل لــه :لــم؟ فقــال: ُ َ َ َْ اصفـ ْـح َع ْن ُهـ ْـم َوقـ ْـل َســا ٌم لقولــه عــز وجــل(( :ف
( )3أخرجه النسائي في السنن الكبـرى ـ ـ جـ 9ـ صـ 150ـ حديث رقم .10148 ( )4أخرجه أحمد في املسند ـ ـ جـ 45ـ صـ 211ـ حديث رقم 27236و بـرقم .27237 ( )5أخرجه الطبـرنـي في املعجم الكبـيـر ـ جـ 22ـ صـ 291ـ حديث رقم .744 ي ( )6أخرجه البـيهقي في شعب اإليمان ـ جـ 11ـ صـ 260ـ 261ـ حديث رقم )7( - .8513أخرجه البخار في األدب املفرد ـ جـ 1ـ صـ 377ـ حديث رقم .1102 َ َ اب َ َ ٌ ْ َ ُ َّ َ ( )8أخرجه البخاري في صحيحه ـ ِك َت ُ اإل ْسال ِم ـ جـ 1ـ صـ 12ـ حديث رقم ،12وأخرجه مسلم في صحيحه اإليم ِان ـ باب ِإطعام الطع ِام ِمن ِ ِ َ ُ َ َ ُ َ َ َ َ ُ ْ ْ َ َ َ ُّ ُ ُ َ ْ َ ُ ور ِه أفضل ـ جـ 1ـ صـ 65ـ حديث رقم .39 السل ِم ،وأي أم ِ ِكتاب ِ اإليم ِان ـ باب بي ِان تفاض ِل ِ
90
َ َ َ َ ف َسـ ْـوف َي ْعل ُمــون)) [الزخــرف :آيــة ،]89ومــن حجة من ذهب إلى هذا قوله عز وجل (( :ال َ ْ ُ ُ َ َّ َ َ ُ َ ُ ُ وك ْم في ّ الدي ِـن ين َهاك ُم هللا ع ِن ال ِذيـن ل ْم يقا ِتل َ ِ ِ ََ ْ ُ ْ ُ ُ وكـ ْـم مـ ْـن د َيار ُكـ ْـم أ ْن َت َب ُّر ُ وهـ ْـم ولــم يخرج ِ ِ ِ َ ُ ْ ُ ِ َ ْ ْ َّ َ ُ ُّ ْ ُ ْ َ وتق ِســطوا ِإلي ِهــم ِإن هللا ي ِحــب الق ِس ِطي ــن)) [املمتحنــة :آيــة ،] 8وذهــب جماعــة مــن العلمــاء إلــى مثــل مــا ذهــب إليــه عمــر ب ــن عبــد العزيــز فــي ذلــك) اه ـ(.)9 ر ً ابعــا :عمــوم األحاديــث الــواردة فــي حســن تعامل النب ــي صلى هللا عليه وسلم مع اليهود ونهيه أم املؤمنـي ــن الســيدة عائشــة ر�ضي هللا عنهــا أن تســبهم ملــا قالــوا لرســول هللا صلــى هللا عليــه وســلم (الســام عليــك) ،أي :املــوت َ ْ ُ ْ َ َ ْ ُّ َ ْ َ َّ َ َ َ َ �ضـ َـي عليــك ،عــن عــروة بـ ِـن الزبيـ ِـر أن عا ِئشــة ر ِ ُ َ َّ ُ َ ْ َ َ ْ َ َّ ّ َ َّ هللا َعل ْيـ ِـه َو َســل َم صلــى اهلل عنهــا زوج الن ِبـ ِـي َ َ َ ْ َ َ َ َْ ٌ َ ـط ِمــن َ ـود َعلــى َر ُســو ِل قالــت( :دخــل رهـ الي ُهـ ِ ُ َ َّ َ ص َّلــى ُ َ َ هللا َ َ الســامُ هللا َع َل ْيـ ِـه وســلم ،فقالــواَّ : ِ َع َل ْي ُكـ ْـمَ ،ق َالـ ْـت َعائ َشـ ُـةَ :ف َفه ْم ُت َهــا َف ُق ْلــتُ: ِ ِ َ َ َ ْ ُ ُ َّ ُ َ َّ الل ْع َنـ ُـةَ ،ق َالـ ْـتَ :ف َقــالَ وعليكــم الســام و َ ً َّ ص َّلــى ُ َ َ َر ُســو ُل هللا َ هللا عل ْيــه و َســل َمَ : ((م ْهــا َيــا ِ ِ َ ْ ُّ َ َ ُ َّ َ ُ ُّ ّ ْ َ الرفــق ِفــي األمـ ِـر ك ِلـ ِـه)) عا ِئشــةِ ،إن هللا ي ِحــب َ َ َِ ْ َ ْ َ ْ َ َ ُ َُْ ُ َ ُ َ هللا ،أولــم تســمع مــا قالــوا؟ فقلــت :يــا َرســول ِ َ َّ ُ َ َ َّ َقـ َ ُ ُ هللا َعل ْيـ ِـه َو َســل َم(( :قـ ْـد هللا صلــى ـال َرســول ِ ُْ َ ُ قلـ ُـتَ :و َعل ْيكـ ْـم))( ،)10فالنب ــي صلــى هللا عليــه وســلم نهــى أم املؤمنـي ــن الســيدة عائشــة ر�ضــي هللا عنهــا أن تست ــرسل عليهــم فــي الدعــاء ،وإن كانــوا هــم مــن ابتــدؤوا بالدعــاء علــى رســول هللا صلــى هللا عليــه وســلم.
ً َ خامســا :أ َمـ َـر النب ـ ّـي صلــى هللا عليــه وســلم بوجــوب صلــة األرحــام مــن املشركي ــن، فــإن رســول هللا صلــى هللا عليــه وســلم لــم َي ْنـ َـه الســيدة أســماء ب ــنت أب ــي بكــر الصديــق ر�ضــي هللا عنهمــا عــن صلــة أمهــا ،بــل أمرهــا بب ـ ّـرها ووجــوب صلتهــا ومــا زالــت علــى الشــرك يومئــذ ،ففــي ْ َ َ ْ الحديــث َعـ ْـن أ ْسـ َـم َاء ِبنـ ِـت أ ِبــي َبكـ ٍـر َ َ َ َ َر�ضـ َـي ُ هللا َع ْن ُه َمــا قالـ ْـت ( :ق ِد َمـ ْـت َعلـ َّـي ِ ُّ َ َ ُ ْ َ ٌ َ ُ َ ْ هللا أ ِمــي و ِهــي مشـ ِـركة ِفــي عهـ ِـد رســو ِل ِ ص َّلــى ُ َ هللا َع َل ْيــه َو َسـ َّـل َم َ ،ف ْ اسـ َـت ْف َت ْي ُت ِ ُ َ َّ َ َّ ُ َ هللا َعل ْيـ ِـه َو َســل َم ، صلــى هللا َرســول ِ َ َ ُْ ُ َ اغ َبـ ٌـة ،أ َفأ صـ ُـل ُأ ِّمــي؟ َقـ َ ـال : قلــت :و ِهـ َـي َ ُر ِ ِ َ ((ن َعـ ْـم ِص ِلــي أ َّمـ ِـك )) ( ،)11وقيــل إنهــا ماتــت علــى الشــرك ولــم تســلم ،قــال الحافــظ َ َ ٌ ْ َ ـاخط ُت ُه، النــووي( :ك ِار َهــة ِل ِل ْســا ِم َسـ ِ ُ ُْ ْ َ َْ َو ِفيـ ِـه َ :جـ َـو ُاز ِصلـ ِـة الق ِريـ ِـب الشـ ِـر ِكَ ،وأ ُّم َ َ ُ َ َ ُ َأ ْسـ َـم َاء ْ اسـ ُـم َها (ق ْيلــة) َو ِقيـ َـل ( :ق ِتيلــة) َ َ ُ َ َ َ ُ َْ ـاف َوتـ ِـاء ُمث َّنـ ٍـاة ِمـ ْـن فـ ْـوقَ ...و ُهــي ق ْيلــة ِبالقـ ِ ُ ْ ْ ْ ُ ْ ِبنـ ُـت َع ْبـ ِـد ال ُعـ َّـزى ال ُق َر ِشـ َّـية ال َع ِام ِر َّيــة ، َ َ َ َ ْ َ َ ْ َ َواخ َتلــف ال ُعل َمـ ُـاء ِفــي أ َّن َهــا أ ْســل َم ْت أ ْم َ َ ْ ََ ُ ْ َ َ َْ َْ ُ َ َ ون َعلــى ماتــت علــى كف ِرهــا ،وال كثــر ْ َ َم ْو ِت َهــا ُمشـ ِـركة) ( ،)12ونقــل اب ــن حجــر عــن َ َ َ ْ َ َّ ـال الخط ِابـ ُّـي ِفيـ ِـه الخطاب ــي مــا نصــه ( :وقـ َ َّ َّ َ ْ َ َ َ ُ َ ُ َ ْ َ أن الر ِحــم الكا ِفــرة توصــل ِمــن الـ ِـال ْ ُ ُ َ َ ُ َ ُْ َ وصـ ُـل ال ْسـ ِـل َمة َو ُي ْسـ َـتن َبط َون ْحـ ِـو ِه؛ كمــا ت ُْ ْ ُ ُ ُ ُ َََ َْ َْ ِمنــه وجـ ـوب نفقـ ِـة ال ِب الكا ِفـ ِـر َوال ِ ّم َ ْ َ َْ َ ْ ُ الكا ِفـ َـر ِة َو ِإن كان ال َولــد ُم ْسـ ِـل ًما)(.)13
العدد 2رجب 1439هـ
خامتة
ومــن هنــا يمكــن القــول :إن هــذا الحديث يختــص بواقعــة دون غي ــرها ،وأن النب ــي صلــى هللا عليــه وســلم كان فــي حالــة حــرب معهــم ،وأن مســألة عــدم بدئهــم بالســام والتضييــق عليهــم فــي الطرقــات لــم يثبــت أن النب ــي صلــى هللا عليــه وســلم فعلهــا فــي حالــة الســلم ،واآليــات دلــت علــى عكــس مــا َّادعــاه أصحــاب هــذه الشــبهة وكــذا ُّ َّ النبوية في ضرورة اإلحســان إليهم الســنة وعــدم اإلســاءة إليهــم ،وفعــل الصحابــة والتابعي ــن فــي ضــرورة الســام عليهــم ومعاملتهــم ب ــرفق ولي ــن ،وأن مــن اعتــدى علــى معاهـ ٍـد فلــن يجــد رائحــة الجنــة، َ ْ َْ هللا ْبـ ِـن روى البخــاري بســنده عــن عبـ ِـد ِ َّ َّ َع ْمــرو َ �ضـ َـي ُ هللا َع ْن ُه َمــاَ ،عـ ِـن النب ـ ّ ِـي صلــى ٍ َر ِ َ َّ ُ اهــداً ((مـ ْـن َق َتـ َـل ُم َع َ َ َ ـالَ : َ هللا َعل ْيـ ِـه وســلم قـ َ الج َّنةَ ،وإ َّن ر َ يح َها ُت َ َل ْم َير ْح َرائ َح َة َ وج ُد ِم ْن ِ َِ ِ ِ ِ َ َ ُ َ ً ُ ()14 َم ِسي ـ َـرِة أ ْرب ِعي ــن عامــا)) ،فهــل يعقــل أن يأمرالنبـي صلى هللا عليه وسلم بضرورة عــدم ظلمهــم؛ وفــي موضــع آخــر يأمــر بالتضييــق عليهــم ومقاطعتهــم!. وبعــد هــذه اإلضــاءة الســريعة علــى جوانب املسألة يتضح لنا أن هذه الشبهة التستقيم وصريح الشرع الحنـيف ،إذ إن اإلحســان الــذي أمــرهللا تعالــى بــه بقولــه: ً َ ُ ُ َّ اس ُح ْسنا)) [البقرة :آية ]83 ((وقولوا ِللن ِ عــام يشــمل املسلمي ــن وغي ــرهم.
( )9ابـن عبد البـر ـ بهجة املجالس وأنس املجالس وشحذ الذاهن والهاجس ـ تحقيق :محمد مر�سي الخولي ـ طبعة دار الكتب العلمية بـيـروت ـ لبـنان ـ جـ 1ـ صـ 752ـ .753 َ ُّ َ ُ ََ َ ُ ّْ الرف ِق ِفي األ ْم ِر ك ِل ِه ـ جـ 8ـ صـ 13ـ حديث رقم ،6024 ( )10أخرجه البخاري في صحيحه ـ ِكتاب األد ِب ـ باب ِ َ َ ْ َ َ َ َ َ اب َّ ْ َ َ ُّ الس َالم ـ َب ُ وأخرجه مسلم في صحيحه ـ ِك َت ُ الن ْهي عن ْاب ِتد ِاء أهل ال ِكتاب ب َّ اب َّ السل ِم َوك ْيف ُي َرد عل ْي ِه ْم ـ جـ 4ـ صـ 1706ـ حديث رقم .2165 ِ ِ ِ ِ ِ ِ َ ْ َ ْ اب َ َ ْ َ َ َّ الت ْحريض َعل ْي َها ـ َب ُ ( )11أخرجه البخاري في صحيحه ـ ِك َت ُ اب َ اله ِد َّي ِة ِلل ُمش ِر ِكي َـن ـ جـ 3ـ صـ 164ـ حديث رقم ،2620 الهب ِة وفض ِلها و ِ ِ ِ َ ُ َّ َ َ ُ َ ْ َّ َ َ َ َّ َ َ َ َ ْ َ ْ َ َ َ َّ ْو َ ْ َ ْ َ َ ْ َ َ ْ َ َ ْ َ ُ ُ ْ َ وأخرجه مسلم في صحيحه ـ ِكتاب الزك ِاة ـ باب فض ِل النفق ِة والصدق ِة على القرِبيـن والز ِج والول ِد ،والو ِالدي ِن ولو كانوا مش ِر ِكيـن ـ جـ 2ـ صـ 696ـ حديث رقم .1003 ( )12النووي ـ املنهاج شرح صحيح مسلم بـن الحجاج ـ جـ 7ـ صـ 89ـ حديث رقم .1003 ( )13ابـن حجر ـ فتح الباري شرح صحيح البخاري ـ جـ 5ـ صـ .234 َْ َ ُ ْ َ ْ َ َ َ ُ َ َ ً َ ْ ُ َ ُ ْ الجزي ِة ـ باب ِإث ِم من قتل معاهدا ِبغي ِر جر ٍم ـ جـ 4ـ صـ 99ـ حديث .3166 ( )14أخرجه البخاري في صحيحه ـ ِكتاب ِ
91
شبهة إهانة أهل الذمة
الرد عىل الشبهة
ً أول :ال ننكــر أن الحديــث صحيــح وقــد روي فــي كل مــن صحيــح مســلم وســنن أب ــي داود وســنن الت ــرمذي وفــي مســند اإلمــام أحمــد وفــي غي ــرها مــن كتــب الســنة. ثان ـ ًـيا :إن ســبب هــذا الفهــم الخاطــئ للحديــث هــو الجهــل بســبب وروده ،فالحديــث خـ ٌّ ـاص بواقعــة بعي ــنها وذلــك ملــا ســار املســلمون إلــى بـنـي قريظة بعد أن نقضوا العهد ووقفوا إلى جانــب الكفــار للقضــاء علــى املسلمي ــن ،كمــا َ َ ْ َ َ ْ َ ْ َ صـ َـرة ال ِغفـ ِـار ّ ِي ،أ َّن عنــد الت ــرمذي عــن أبــي ب َ َّ ُ ِ َ َ ْ َ َ َّ َ َ َ ّ ُ َ ((إ ِنــي َرســول ِ هللا صلــى هللا عل َ َيـ ِـه وســلم قــالِ : َ َّ َ ٌ َ َُ َ ْ ود ،ف َم ِن انطل َق َم ِعي ،ف ِإ ْن َسل ُموا ر ِاكب ِإلى يه ٍ ََْ ُ ْ َ ُ ُ َ َ َ ْ ُ ْ ()3 عليكــم فقولــوا :وعليكــم)) ،وجــاء عنــد أحمــد فــي روايتـي ــن متعاقبتـي ــن بلفظــة ((إنــا الَ :ق َ ُ ُ غادون))َ ،ع ْن َأبي َب ْ ص َر َة َق َ هللا ال َرسول ِ ِ هللا َع َل ْيــه َو َسـ َّـل َم(( :إ َّنــا َغـ ُـادو َن َع َلــى َي ُهــودَ ص َّلــى ُ َ ِ ِ َ َ َ ْ َ ُ ْ َّ َ َ َ َّ َ ُ فــا تبدؤوهــم ِب الســا ِم ،فـ ِـإذا َســل ُموا َعل ْيكـ ْـم َ ُ َ ُ ف ُقولــواَ :و َعل ْيكـ ْـم))( ،)4وأورده الطبـران ــي فــي الر ْح َمــن ْال ُج َه ِن ـ ّـيَ ،قـ َ املعجــم َعـ ْـن َأبــي َع ْبـ ِـد َّ ـال: ِ ِ هللا َع َل ْيــه َو َسـ َّـل َم(( :إنــاَّ ص َّلــى ُ ـال َر ُســو ُل هللا َ َقـ َ ِ ِ َِ َغـ ُـادو َن َغـ ًـدا إ َلــى َي ُهــود َفـ َ َ ْ َ ُ ؤوهـ ْـم ب َّ الســا ِم، ٍ ـا تبد َ ِ َ ْ َ َّ ُ ِ َ َ ْ ُ ْ َ ُ ُ َ َ ْ ُ ْ ()5 فـ ِـإن ســلموا عليكــم فقولــوا وعليكــم)) ،وبه َ ْ َ َ ْ َ َ ضـ َـرة ،أ َّن قــال الب ــيهقي فــي الشــعب عــن أ ِبــي ن ص َّلــى ُ َر ُســو َل هللا َ ـال َل ُهــمْ: هللا َع َل ْيـ ِـه َو َسـ َّـل َم َقـ َ ِ ((إ ّني َراك ٌب إ َلى َي ُه َ ودَ ،ف َمن ْان َط َل َق َم ِعي م ْن ُكمْ ِ َِ ِ ِ ِ ِ َفــا َت ْب َد ُ السـ َـامَ ،فــإ ْن َسـ َّـل ُموا َع َل ْي ُكــمْ ؤوهـ ْـم ب َّ ِ ِ ِ َ ُ َ َ ُ ََ َّ ف ُقولواَ :و َعل ْيك ْم)) فل َّما ِج ْئ َن ُاه ْم َسل ُموا َعل ْي َنا َ ْ َ ُ ف ُقل َناَ :و َعل ْيك ْم( ،)6وأخرجه البخاري في األدب صـ َـر َة ْالغ َفــار ّيَ ،عــن َّ املفــرد َعـ ْـن َأبــي َب ْ النب ـ ّ ِـي ِ ِ ِ ِ ِ
َ َّ ُ َ َ ْ َ َ َّ َ َ َ ّ َ ((إ ِنــي َر ِاكـ ٌـب غـ ًـدا صلــى هللا عليـ ِـه وســلم قــالِ : َ َ ُ َ َ َ َ ْ َ ُ ْ َّ َ َ َ َ َّ ُ ِإلى يهود ،فل تبدؤوهم ِبالسل ِم ،ف ِإذا سلموا َ ُ َ ُ َ ُ َعل ْيكـ ْـم ف ُقولــواَ :و َعل ْيكـ ْـم))(.)7 ً ثالثــا :إن النهــي هنــا ال ي ــنسحب علــى الجميــع وذلــك: -1لقــوة األدلــة الــواردة فــي األمــر بب ـ ّ ِـر اليهــود َّ والنصــارى وغي ــرهم واإلحســان إليهــم كمــا فــي الق ـرآن الكريــم فــي قــول هللا تعالــى (( :ال َ ْ ُ ُ َ َّ َ َ ُ َ ُ ُ وك ْم في ّ الدي ِـن ين َهاك ُم هللا ع ِن ال ِذيـن ل ْم يقا ِتل َ ِ ِ ََ ْ ُ ْ ُ ُ وكـ ْـم مـ ْـن د َيار ُكـ ْـم أ ْن َت َب ُّر ُ وهـ ْـم ولــم يخرج ِ ِ ِ َ ُ ْ ُ ِ َ ْ ْ َّ َ ُ ُّ ْ ُ ْ َ وتق ِســطوا ِإلي ِهــم ِإن هللا ي ِحــب الق ِس ِطي ــن)) [املمتحنة :آية ،]8أال تـرى أن من أوجه الب ّ ِـر َّ الســام عليهــم واإلحســان إليهــم وذلــك لعمــوم اآليــة الكريمــة طاملــا َّأنهــم يعيشــون معنــا دون ممــاألة أعدائنــا علي ــنا!. -2ولكث ــرة األحاديــث الصحيحــة الــواردة فــي إلقــاء الســام علــى اليهــود َّ والنصــارى ،ومــن َ ْ َْ هللا ْب ِن ذلك ما جاء في الصحيحَيـن عن عب َِد ِ هللا َع ْن ُه َمــا ،أ َّن َر ُجـ ًـا َســأ َل َّ َع ْمــرو َر�ضـ َـي ُ الن ِبـ َّـي ٍ ِ َ َ َّ َ َ ص َّلــى ُ َ اإل ْســا ِم خ ْي ـ ٌـر؟ هللا َعل ْيـ ِـه َو َســل َم :أ ُّي ِ ُ َ َ ُ ْ ُ َّ َ َ َ َ ْ َ َّ َ َ قــال(( :تط ِعــم الطعــام وتقــرأ الســا َم َعلــى ْ َ َ ْ َمـ ْـن َع َرفـ َـت َو َمـ ْـن لـ ْـم ت ْعـ ِـرف))( ،)8فاألمــر عــام وتقرأ السالم على من عرفت ومن لم تعرف، قــال اب ــن عبــد الب ــر( :وقــد روي عــن جماعــة مــن الصحابــة والتابعي ــن رضــوان هللا عليهــم أنهــم كانــوا يبــدؤون بالســام كل مــن لقــوه مــن مســلم أو ذمــي ،فاملعنــى فــي ذلــك -وهللا أعلــم -أنــه ليــس بواجــب أن يبــدأ املسـ ُ ـلم املـ ُّـار ُ بالسالم على القاعد الذمي ،والر ُ املسلم اكب الذمـ َّـي املا�شـ َـي بالســام ،كمــا يجــب ذلــك
شبهة إهانة أهل الذمة
العدد 2رجب 1439هـ
بالســنة علــى مــن كان علــى دي ــنه ،فــإن فعــل فــا حــرج عليــه ،فكأنــه قــال صلــى هللا عليــه وســلم( :ليــس عليكــم أن تبدؤوهــم بالســام) بدليــل مــا روى الوليــد ب ــن مســلم عــن عــروة ب ــن رويــم ،قــال :رأيــت أبــا أمامــة الباهلــي يســلم علــى كل مــن لقــي مــن مســلم وذمـ ّـي ،ويقــول: ٌ هــي تحيــة ألهــل ملتنــا وأمــان ألهــل ذمتنــا واســم مــن أســماء هللا نفشــيه بـي ــننا ،ومحــال أن يخالــف أبــو أمامــة الســنة ،لــو صحــت فــي ذلك ،بل املعنى على تأويلنا وهللا أعلم ،وعلى هــذا يصــح تخريــج هــذه األخبــار ووجوههــا، ذكــر اب ــن أب ــي شب ــيب ،عــن إســماعيل ب ــن عيــاش ،عــن محمــد ب ــن زيــاد األلهان ــي، وشرحب ــيل ب ــن مســلم ،عــن أب ــي أمامــة أنــه كان ال يمــر بمسـ ٍـلم وال يهــودي وال نصران ــي إال بــدأه بالســام ،وروي عــن اب ــن مســعود وأب ــي الــدرداء وفضالــة ب ــن عب ــيد أنهــم كانــوا يبــدؤون أهــل الذمــة بالســام ،وقــال اب ــن مســعود :إن مــن التواضــع أن تبــدأ بالســام َّ كل مــن لقيــت ،وعــن اب ــن عبــاس أنــه كتــب إلــى رجــل مــن أهــل الكتــاب :الســام عليــك، وسئل عبد هللا ب ــن وهب صاحب مالك عن غيبــة النصران ــي فقــال :أو ليــس مــن النــاس؟ قالــوا :بلــى .قــال :فــإن هللا عــز وجــل يقــول َ ُ ُ َّ اس ُح ْسـ ًـنا)) [البقرة :آية ،]83 (( وقولوا ِللن ِ وقيــل ملحمــد ب ــن كعــب القرظــي :إن عمــر ب ــن عبــد العزيــز ســئل عــن ابتــداء أهــل الذمــة بالســام فقــال :ت ــرد عليهــم وال تبدؤوهــم! فقــال محمــد ب ــن كعــب :أمــا أنــا فــا أرى ً بأســا أن تبدأهــم بالســام ،قيــل لــه :لــم؟ فقــال: ُ َ َ َْ اصفـ ْـح َع ْن ُهـ ْـم َوقـ ْـل َســا ٌم لقولــه عــز وجــل(( :ف
( )3أخرجه النسائي في السنن الكبـرى ـ ـ جـ 9ـ صـ 150ـ حديث رقم .10148 ( )4أخرجه أحمد في املسند ـ ـ جـ 45ـ صـ 211ـ حديث رقم 27236و بـرقم .27237 ( )5أخرجه الطبـرنـي في املعجم الكبـيـر ـ جـ 22ـ صـ 291ـ حديث رقم .744 ي ( )6أخرجه البـيهقي في شعب اإليمان ـ جـ 11ـ صـ 260ـ 261ـ حديث رقم )7( - .8513أخرجه البخار في األدب املفرد ـ جـ 1ـ صـ 377ـ حديث رقم .1102 َ َ اب َ َ ٌ ْ َ ُ َّ َ ( )8أخرجه البخاري في صحيحه ـ ِك َت ُ اإل ْسال ِم ـ جـ 1ـ صـ 12ـ حديث رقم ،12وأخرجه مسلم في صحيحه اإليم ِان ـ باب ِإطعام الطع ِام ِمن ِ ِ َ ُ َ َ ُ َ َ َ َ ُ ْ ْ َ َ َ ُّ ُ ُ َ ْ َ ُ ور ِه أفضل ـ جـ 1ـ صـ 65ـ حديث رقم .39 السل ِم ،وأي أم ِ ِكتاب ِ اإليم ِان ـ باب بي ِان تفاض ِل ِ
90
َ َ َ َ ف َسـ ْـوف َي ْعل ُمــون)) [الزخــرف :آيــة ،]89ومــن حجة من ذهب إلى هذا قوله عز وجل (( :ال َ ْ ُ ُ َ َّ َ َ ُ َ ُ ُ وك ْم في ّ الدي ِـن ين َهاك ُم هللا ع ِن ال ِذيـن ل ْم يقا ِتل َ ِ ِ ََ ْ ُ ْ ُ ُ وكـ ْـم مـ ْـن د َيار ُكـ ْـم أ ْن َت َب ُّر ُ وهـ ْـم ولــم يخرج ِ ِ ِ َ ُ ْ ُ ِ َ ْ ْ َّ َ ُ ُّ ْ ُ ْ َ وتق ِســطوا ِإلي ِهــم ِإن هللا ي ِحــب الق ِس ِطي ــن)) [املمتحنــة :آيــة ،] 8وذهــب جماعــة مــن العلمــاء إلــى مثــل مــا ذهــب إليــه عمــر ب ــن عبــد العزيــز فــي ذلــك) اه ـ(.)9 ر ً ابعــا :عمــوم األحاديــث الــواردة فــي حســن تعامل النب ــي صلى هللا عليه وسلم مع اليهود ونهيه أم املؤمنـي ــن الســيدة عائشــة ر�ضي هللا عنهــا أن تســبهم ملــا قالــوا لرســول هللا صلــى هللا عليــه وســلم (الســام عليــك) ،أي :املــوت َ ْ ُ ْ َ َ ْ ُّ َ ْ َ َّ َ َ َ َ �ضـ َـي عليــك ،عــن عــروة بـ ِـن الزبيـ ِـر أن عا ِئشــة ر ِ ُ َ َّ ُ َ ْ َ َ ْ َ َّ ّ َ َّ هللا َعل ْيـ ِـه َو َســل َم صلــى اهلل عنهــا زوج الن ِبـ ِـي َ َ َ ْ َ َ َ َْ ٌ َ ـط ِمــن َ ـود َعلــى َر ُســو ِل قالــت( :دخــل رهـ الي ُهـ ِ ُ َ َّ َ ص َّلــى ُ َ َ هللا َ َ الســامُ هللا َع َل ْيـ ِـه وســلم ،فقالــواَّ : ِ َع َل ْي ُكـ ْـمَ ،ق َالـ ْـت َعائ َشـ ُـةَ :ف َفه ْم ُت َهــا َف ُق ْلــتُ: ِ ِ َ َ َ ْ ُ ُ َّ ُ َ َّ الل ْع َنـ ُـةَ ،ق َالـ ْـتَ :ف َقــالَ وعليكــم الســام و َ ً َّ ص َّلــى ُ َ َ َر ُســو ُل هللا َ هللا عل ْيــه و َســل َمَ : ((م ْهــا َيــا ِ ِ َ ْ ُّ َ َ ُ َّ َ ُ ُّ ّ ْ َ الرفــق ِفــي األمـ ِـر ك ِلـ ِـه)) عا ِئشــةِ ،إن هللا ي ِحــب َ َ َِ ْ َ ْ َ ْ َ َ ُ َُْ ُ َ ُ َ هللا ،أولــم تســمع مــا قالــوا؟ فقلــت :يــا َرســول ِ َ َّ ُ َ َ َّ َقـ َ ُ ُ هللا َعل ْيـ ِـه َو َســل َم(( :قـ ْـد هللا صلــى ـال َرســول ِ ُْ َ ُ قلـ ُـتَ :و َعل ْيكـ ْـم))( ،)10فالنب ــي صلــى هللا عليــه وســلم نهــى أم املؤمنـي ــن الســيدة عائشــة ر�ضــي هللا عنهــا أن تست ــرسل عليهــم فــي الدعــاء ،وإن كانــوا هــم مــن ابتــدؤوا بالدعــاء علــى رســول هللا صلــى هللا عليــه وســلم.
ً َ خامســا :أ َمـ َـر النب ـ ّـي صلــى هللا عليــه وســلم بوجــوب صلــة األرحــام مــن املشركي ــن، فــإن رســول هللا صلــى هللا عليــه وســلم لــم َي ْنـ َـه الســيدة أســماء ب ــنت أب ــي بكــر الصديــق ر�ضــي هللا عنهمــا عــن صلــة أمهــا ،بــل أمرهــا بب ـ ّـرها ووجــوب صلتهــا ومــا زالــت علــى الشــرك يومئــذ ،ففــي ْ َ َ ْ الحديــث َعـ ْـن أ ْسـ َـم َاء ِبنـ ِـت أ ِبــي َبكـ ٍـر َ َ َ َ َر�ضـ َـي ُ هللا َع ْن ُه َمــا قالـ ْـت ( :ق ِد َمـ ْـت َعلـ َّـي ِ ُّ َ َ ُ ْ َ ٌ َ ُ َ ْ هللا أ ِمــي و ِهــي مشـ ِـركة ِفــي عهـ ِـد رســو ِل ِ ص َّلــى ُ َ هللا َع َل ْيــه َو َسـ َّـل َم َ ،ف ْ اسـ َـت ْف َت ْي ُت ِ ُ َ َّ َ َّ ُ َ هللا َعل ْيـ ِـه َو َســل َم ، صلــى هللا َرســول ِ َ َ ُْ ُ َ اغ َبـ ٌـة ،أ َفأ صـ ُـل ُأ ِّمــي؟ َقـ َ ـال : قلــت :و ِهـ َـي َ ُر ِ ِ َ ((ن َعـ ْـم ِص ِلــي أ َّمـ ِـك )) ( ،)11وقيــل إنهــا ماتــت علــى الشــرك ولــم تســلم ،قــال الحافــظ َ َ ٌ ْ َ ـاخط ُت ُه، النــووي( :ك ِار َهــة ِل ِل ْســا ِم َسـ ِ ُ ُْ ْ َ َْ َو ِفيـ ِـه َ :جـ َـو ُاز ِصلـ ِـة الق ِريـ ِـب الشـ ِـر ِكَ ،وأ ُّم َ َ ُ َ َ ُ َأ ْسـ َـم َاء ْ اسـ ُـم َها (ق ْيلــة) َو ِقيـ َـل ( :ق ِتيلــة) َ َ ُ َ َ َ ُ َْ ـاف َوتـ ِـاء ُمث َّنـ ٍـاة ِمـ ْـن فـ ْـوقَ ...و ُهــي ق ْيلــة ِبالقـ ِ ُ ْ ْ ْ ُ ْ ِبنـ ُـت َع ْبـ ِـد ال ُعـ َّـزى ال ُق َر ِشـ َّـية ال َع ِام ِر َّيــة ، َ َ َ َ ْ َ َ ْ َ َواخ َتلــف ال ُعل َمـ ُـاء ِفــي أ َّن َهــا أ ْســل َم ْت أ ْم َ َ ْ ََ ُ ْ َ َ َْ َْ ُ َ َ ون َعلــى ماتــت علــى كف ِرهــا ،وال كثــر ْ َ َم ْو ِت َهــا ُمشـ ِـركة) ( ،)12ونقــل اب ــن حجــر عــن َ َ َ ْ َ َّ ـال الخط ِابـ ُّـي ِفيـ ِـه الخطاب ــي مــا نصــه ( :وقـ َ َّ َّ َ ْ َ َ َ ُ َ ُ َ ْ َ أن الر ِحــم الكا ِفــرة توصــل ِمــن الـ ِـال ْ ُ ُ َ َ ُ َ ُْ َ وصـ ُـل ال ْسـ ِـل َمة َو ُي ْسـ َـتن َبط َون ْحـ ِـو ِه؛ كمــا ت ُْ ْ ُ ُ ُ ُ َََ َْ َْ ِمنــه وجـ ـوب نفقـ ِـة ال ِب الكا ِفـ ِـر َوال ِ ّم َ ْ َ َْ َ ْ ُ الكا ِفـ َـر ِة َو ِإن كان ال َولــد ُم ْسـ ِـل ًما)(.)13
العدد 2رجب 1439هـ
خامتة
ومــن هنــا يمكــن القــول :إن هــذا الحديث يختــص بواقعــة دون غي ــرها ،وأن النب ــي صلــى هللا عليــه وســلم كان فــي حالــة حــرب معهــم ،وأن مســألة عــدم بدئهــم بالســام والتضييــق عليهــم فــي الطرقــات لــم يثبــت أن النب ــي صلــى هللا عليــه وســلم فعلهــا فــي حالــة الســلم ،واآليــات دلــت علــى عكــس مــا َّادعــاه أصحــاب هــذه الشــبهة وكــذا ُّ َّ النبوية في ضرورة اإلحســان إليهم الســنة وعــدم اإلســاءة إليهــم ،وفعــل الصحابــة والتابعي ــن فــي ضــرورة الســام عليهــم ومعاملتهــم ب ــرفق ولي ــن ،وأن مــن اعتــدى علــى معاهـ ٍـد فلــن يجــد رائحــة الجنــة، َ ْ َْ هللا ْبـ ِـن روى البخــاري بســنده عــن عبـ ِـد ِ َّ َّ َع ْمــرو َ �ضـ َـي ُ هللا َع ْن ُه َمــاَ ،عـ ِـن النب ـ ّ ِـي صلــى ٍ َر ِ َ َّ ُ اهــداً ((مـ ْـن َق َتـ َـل ُم َع َ َ َ ـالَ : َ هللا َعل ْيـ ِـه وســلم قـ َ الج َّنةَ ،وإ َّن ر َ يح َها ُت َ َل ْم َير ْح َرائ َح َة َ وج ُد ِم ْن ِ َِ ِ ِ ِ َ َ ُ َ ً ُ ()14 َم ِسي ـ َـرِة أ ْرب ِعي ــن عامــا)) ،فهــل يعقــل أن يأمرالنبـي صلى هللا عليه وسلم بضرورة عــدم ظلمهــم؛ وفــي موضــع آخــر يأمــر بالتضييــق عليهــم ومقاطعتهــم!. وبعــد هــذه اإلضــاءة الســريعة علــى جوانب املسألة يتضح لنا أن هذه الشبهة التستقيم وصريح الشرع الحنـيف ،إذ إن اإلحســان الــذي أمــرهللا تعالــى بــه بقولــه: ً َ ُ ُ َّ اس ُح ْسنا)) [البقرة :آية ]83 ((وقولوا ِللن ِ عــام يشــمل املسلمي ــن وغي ــرهم.
( )9ابـن عبد البـر ـ بهجة املجالس وأنس املجالس وشحذ الذاهن والهاجس ـ تحقيق :محمد مر�سي الخولي ـ طبعة دار الكتب العلمية بـيـروت ـ لبـنان ـ جـ 1ـ صـ 752ـ .753 َ ُّ َ ُ ََ َ ُ ّْ الرف ِق ِفي األ ْم ِر ك ِل ِه ـ جـ 8ـ صـ 13ـ حديث رقم ،6024 ( )10أخرجه البخاري في صحيحه ـ ِكتاب األد ِب ـ باب ِ َ َ ْ َ َ َ َ َ اب َّ ْ َ َ ُّ الس َالم ـ َب ُ وأخرجه مسلم في صحيحه ـ ِك َت ُ الن ْهي عن ْاب ِتد ِاء أهل ال ِكتاب ب َّ اب َّ السل ِم َوك ْيف ُي َرد عل ْي ِه ْم ـ جـ 4ـ صـ 1706ـ حديث رقم .2165 ِ ِ ِ ِ ِ ِ َ ْ َ ْ اب َ َ ْ َ َ َّ الت ْحريض َعل ْي َها ـ َب ُ ( )11أخرجه البخاري في صحيحه ـ ِك َت ُ اب َ اله ِد َّي ِة ِلل ُمش ِر ِكي َـن ـ جـ 3ـ صـ 164ـ حديث رقم ،2620 الهب ِة وفض ِلها و ِ ِ ِ َ ُ َّ َ َ ُ َ ْ َّ َ َ َ َّ َ َ َ َ ْ َ ْ َ َ َ َّ ْو َ ْ َ ْ َ َ ْ َ َ ْ َ َ ْ َ ُ ُ ْ َ وأخرجه مسلم في صحيحه ـ ِكتاب الزك ِاة ـ باب فض ِل النفق ِة والصدق ِة على القرِبيـن والز ِج والول ِد ،والو ِالدي ِن ولو كانوا مش ِر ِكيـن ـ جـ 2ـ صـ 696ـ حديث رقم .1003 ( )12النووي ـ املنهاج شرح صحيح مسلم بـن الحجاج ـ جـ 7ـ صـ 89ـ حديث رقم .1003 ( )13ابـن حجر ـ فتح الباري شرح صحيح البخاري ـ جـ 5ـ صـ .234 َْ َ ُ ْ َ ْ َ َ َ ُ َ َ ً َ ْ ُ َ ُ ْ الجزي ِة ـ باب ِإث ِم من قتل معاهدا ِبغي ِر جر ٍم ـ جـ 4ـ صـ 99ـ حديث .3166 ( )14أخرجه البخاري في صحيحه ـ ِكتاب ِ
91
الفتح أم االنتصار للمظلوم؟
الفتح أم االنتصار للمظلوم؟
العدد 2رجب 1439هـ
الفتح
أم االنتصار للمظلوم؟
الجمال محمد أيمن ّ الدكتور ّ
محمد الفاتح الوقف ّية يف إسطنبول األستاذ يف جامعة السلطان ّ
ّ تتنــازع املسـ َ ـلم هواجـ ُ ـس مختلفــة حي ــن يســمع أننــا فتحنــا ّ ُ ُ بــاد الدن ــيا وقاتلنــا حتــى ق ِتلنــا وكان املــوت فــي سب ــيل هللا أحـ ّـب إلي ــنا مــن الحيــاة! وقــد يخلــط ذلــك بشــعارات الذي ــن يحتكــرون ّ مفهــوم الجهــاد ومصطلحــه فــي زماننــا! فيظـ ُّـن للوهلــة األولــى أن عقلية الدعشنة من ّ تاريخنا أقرب إلى ّ عقلية الرحمة للعامليـن!. ولقــد ُخــد َع كثي ـ ٌـر مــن شباب ــنا بذلــك الفكــر املجت ـ َـزأ املسـ ّـيس؛ ّ فظنــوه ِ ِ ّ ُ َ الفكــر الــذي يمثــل صفــاء اإلســام واندفاعــه نحــو تحقيــق الخي ــر ّ يتعلــق بخالــق األســباب ّ فيتصــل بــه للبش ـ ّرية؛ وحســبوه املنهــج الــذي ّ ً اتصــال يمنــع مــن خذالنــه وإن ت ــرك األخــذ باألســباب الت ــي وضعهــا هللا وربــط بهــا مسـ ّـبباتها! فتحـ ّـدوا لذلــك -بالــكالم -سـ َـنن هللا وأمـ َـم األرض ً دفعــة واحــدة ،وحســبوا ّأن بإمكانهــم رفـ َـع رايــات التوحيــد فــوق أب ـراج ّ أوربــة وتماثيــل أمريــكا! ُ ّ ّ ـام أن معاركنــا وفــي صفحــات التاريــخ املشـ ِـر ِ ـوح تـ ٍ قة مــا يصـ ّـرخ بوضـ ٍ ً ّ لــم تكــن يومــا إال مــع الظاملي ــن مــن الحــكام لألخــذ علــى يدهــم ...فلــم ّ ّ ً ُ نسمع قط أن املسلميـن فتحوا بالدا فيها ملك ال يظلم عنده أحد! وفــي حي ــن وصلتنــا آالف الصفحــات عــن فتــح فــارس والــروم لــم نقــرأ ً شــيئا عــن فتــح الحبشــة! في صفحات التاريخ ما ُيشي ـ ُـر إلى ّأن مفهوم ّ محبة املوت في سب ـ ِـيل هللا ّ ً ليــس رغبـ ًـة فــي االنتحــار وال ً يأســا مــن الدن ــيا وال رغبــة فــي التخلــص مــن تبعــات الحيــاة ،بــل هــو اندفـ ٌ محبــة اإلســام ،حيـ ُـث ّ ـاع فــي ّ املحبــة للدي ــن ُ ّ ـنفس ِه من أجل أن يبقى الديـن ويـنتشر، تقت�ضي أن يضحي اإلنسان ب ِ ً َ ُ ُ ّ َ ُ ـور ِه إلــى العاملي ــن وأن يقــدم نفســه رخيصــة ليصــل الخي ــر فــي أبهــى صـ ِ ّ مضطرب في املفاهيم ـرغبات النفس وال شهواتها وغي ــر غي ــر مدن س بـ ِ ٍ ٍ ّ وال فــي الــرؤى بــل هــو دي ـ ٌـن كلــه هلل ،ال مطمــع دن ــيو َّي فــي نشــره ألحـ ٍـد مــن ّ ُ ـوم! وحي ــن يكــون هــدف الفتــح أن يكــون الدي ــن كلــه هلل حاكـ ٍـم أو محكـ ٍ
ّ تتدخــل الحاجــات الشـ ّ ـخصية فــي تفاصيــل هــذا الدي ــن. فحتمــا لــن ّ ومــن املهـ ّـم اإلشــارة إلــى ّأن كتـ َـب التاريــخ لــم تنقــل إال مــا تهتـ ّـم بــه النخــب السياسـ ّـية والعســك ّرية ،ومــا يبعــث علــى االفتخــار العســكر ّي أو تعزيــز ّ ّ إال نـ ً ـادرا وقائـ َـع مــا قبـ َـل االتصــال بــاهلل تعالــى ،ولــم نقـرأ فــي كتــب التاريــخ ّ َ الفتــح ،أو تاريــخ البــاد املفتوحــة قبــل فتحهــا ،وكيــف كان حكامهــا َ يعاملــون أهلهــا ويســومونهم ســوء العــذاب ،وكيــف طلــب أهلهــا أو ّ ُ َ نخ ُبهــم مــن املسلمي ــن أن يأتــوا ليحموهــم مــن ظلــم حكامهــم ،وكيــف ّ ّ أال يحكمهــا الحاكمــون ســلموهم مفات ــيح مدنهــم واشت ــرطوا عليهــم الســابقون ،وأال ُيســاكنهم فيهــا اليهــود!. ُ ّ ّ ّ الحضاريــة فــي األرض، التعليميــة علــى آثارنــا لــم تركــز مناهجنــا ولــم ُتعـ ِـط ّ ـرة عــن التواصــل الــذي وقــع بـي ــن الشــعوب الت ــي أي فكـ ٍ ُ ّ ف ِتحــت وبـي ــن الفاتحي ــن ،ولــم تتكلــم عــن اآلثــارالباقيــة مــن قبـ ِـل ّ ّ ّ والثقافيــة الحضاريــة الفاتحي ـ َـن ،وال عــن اآلثــار واالقتصاديــة َ ّ َُ ّ والبنــى التحت ـ ّـي ِة الت ــي أقامهــا الفاتحــون ،فيمــا ت ــركزت والتنمويــة أحاديــث املناهـ ِـج فــي أحســن أحوالهــا حــو َل دخــول النــاس فــي دي ــن الفاتحي ــن بــا إجبـ ٍـاروال إكــراه. ّ ّ لم ّ التفصيلية اإلسالمية ووقائعها تتعرض مناهجنا لتاريخ الفتوحات إال من الجانب العسكر ّي؛ فظهرت الصورة مبتورة موتورة!. ولإلنصــاف فقــد عاشــت شــعوب األرض فت ـرات ظلــم عظيــم جـ ًّـدا، تنازعــت البش ـ ّرية فيهــا قــوى عظمــى ســيطرت علــى النــاس بذريعــة تطب ــيق مــا ي ـريده (اإللــه!) ،وأكلــت حقــوق النــاس تحــت شــعار الدي ــن، َ ْ ـات ومنعــت النــاس مــن التفكي ــر باســم الكن ــيسة! وح َر َمت ُهــم مــن الح ّريـ ِ ات! فــي عصــور الظــام الوســطى حي ــن كان مــرو ًرا بأوهـ ِـام االنتصــار ِ ً نموذجــا فريـ ًـدا فــي الحكــم الرشــيد ،وفــي الحكــم القائــم اإلســام ُيقـ ّـدم علــى الح ّريــات الجز ّئيــة واملحكــوم بقواعــد ّ كليــة تحافــظ علــى أعـراض 92
ُ النــاس ودي ــنهم وأنفســهم وأموالهــم كانــت البش ـ ّرية تحلـ ُـم أن يأت ــي مــن ّ ّ ّ َ ـور الحــكام ،ولــم يكــن ّثمــة مــن يهتـ ّـم لدي ــن املخلــص! إذا يخلصهــا مــن جـ ِ َ ّ سيحقق ً قدرا من كرامة الح ّرية ويعيد للبش ّرية شرف إنسان ّـيتها. كان ّإن وجــود اآلثــار مــن التاريــخ الحضــار ّي ألمــم األرض الت ــي فتحهــا املســلمون لت�شــي بـ ّ ًّ همجيــا ،ولــم يكــن يســعى لفــرض ـأن الفاتــح لــم يكــن الســيطرة ،بل كان ّ يهتم بتحقيق املبادئ قبل فرض دي ــن ،كان الفاتح املســلم ي ـ ُ ـرغب فــي تحقيــق الح ّريــة والكرامــة اإلنسان ـ ّـية ،وي ـريد للنــاس ّ أن ُي ّ طبقــوا مــا يختارونــه ،وأن يبحثــوا ويتعلمــوا ،وأن ي ــنطلقوا فــي ب ــناء ّ حياتهــم وإعمــار األرض ،فلــم يكــن الفاتــح ي ــركز علــى انتمــاء النــاس إلــى دي ـنه بقــدر مــا يهتـ ّـم بمــا سـ ُـي ّ قدمه لهــم. ِِ ُ ُ ُ يعة للواقع الذي تعيشه الحركات التـي تحتكر قراءة سر ٍ ومن خالل ٍ ّ ـوح ضيــاع البوصلــة الت ــي ي ــنبغي أن مســمى الجهـ ًـاد اليــوم نــرى بوضـ ٍ تكــون ّ ّ موجهــة لـ ّ جهاديــة فــي اإلســام! ونشــهد عظــم الت ــيه ـكل حركــة ِ ِ ّ ـات مــن الــذي تعيــش فيــه تلــك الحــركات حي ــن تســتجر رفــع الرايـ ِ تاريـ ٍـخ كان يعن ــي رفــع الرايــة فيــه الكثي ــرإلــى واقـ ٍـع ال يعن ــي فيــه رفــع ً ُ مرسوم ليجعلوا من وهم الراية شيئا ...فيعلنون استعداء العالم في ٍ ٍ شــعاراتهم رفــع راياتهــم فــوق أب ـراج باريــس أو تمثــال الح ّريــة! . ّإن البعــد عــن ق ـراءة تاريــخ الجهــاد النبــو ّي ثـ ّـم الراشـ ّ ـدي ثـ ّـم اإلسـ ّ ـامي ّ َ ً القطعيــة ،ل َيجعـ ُـل الجهــاد مجـ ّـرد عمومــا ،والنــأي عــن أحــكام الشـريعة ّ ّ املمثليـن بالبعد ّ ّ املسرحي الفن ـ ّـي وهم في نفوس املمثليـن له في الواقع، ٍ َ ُ ّ للكلمة واملمثليـن الزاعميـن أنهم يحملون رايته ويعيدون مجده! فأيـن هــم مــن جملــة اآليــات واألحاديــث الت ــي تمنــع مــن االعتــداء علــى النــاس، بــل تأمــر بب ـ ّـر غي ـ ِـر املحاربـي ــن مــن أب ــناء الديانــات األخــرى ،وأي ــن هــم مــن اآليــات واألحاديــث الت ــي تأمــر ب ــرفع الظلــم عــن املظلومي ــن ،واألخــذ علــى يــد الظالــم ،وإن كان أخــاك!. ّ كنــا ســادة العالــم لــم ُ يــوم نسـ ْـد ُه بالقـ ّـوة وحدهــا ،وال اســتعملنا ُ الســاح للســيادة ،بــل ســدناه باملبــادئ الت ــي جعلــت الشــعوب تهفــو إلــى حكــم اإلســام الــذي يزيــل عنهــا ظلــم الظاملي ــن ،فاســتعملنا الســاح إلزالــة الظلــم عــن املظلــوم ،ولــردع الظالــم عــن ظلمــه، ـراه ألحـ ٍـد ولألخــذ علــى يــده ،ولنشــرالنــور الــذي بـي ــن أيدي ــنا ،دون إكـ ٍ ّ علــى الدخــول فيــه ...ولــن نكــون ســادة العالــم مــن جديــد إال إذا أعدنــا اســتعمال مبادئنــا لســيادته ،ليحـ ّـل التوافــق والعــدل مــكان تجــارة الســاح وســباقاته! وليكــون اآلخــر هــو مــن ُيطالب ــنا أن نأت ــي لنرفــع عنــه الظلــم ونعيــد إليــه األمــن والســام.
العدد 2رجب 1439هـ
ونحــن نــرى فــي واقعنــا اليــوم ّأن األمــم املســيطرة علــى العالــم تبــذل ّ كل جهــد ممكــن إلنهــاء وجــود خصومهــا ،والســيطرة علــى تفكي ــرهم، َ وزعزعة استقرارهم! وهذا ما يجعل َّ همها األكبـر االستخفاف باآلخر ال الحــرص عليــه ،ومحاولــة اســتغالله ال النهــوض بــه! ولذلــك ّ فإنهــا ّ ـاب صنعتــه بأيديهــا. تظلــم وتب ــرر ظلمهــا بقضائهــا علــى إرهـ ٍ ّ ّإن وجــود اإلســام هــو وجــود رحمــة لألمــم كلهــا ،واالرتبــاط الوثيــق بـي ــن ّ تقدمــه فــي حكــم العالــم وانبهــار العالــم بإنجــازات القيــادات اإلسـ ّ ـامية ِِ ِ املتعاقبــة وبـي ــن زيــادة إنتاجــه الفقهـ ّـي ومواءمتــه للتقـ ّـدم العلمـ ّـي فــي ّ العالم؛ ٌ حتمي للنهوض بالعالم وتحقيق التوازن في أمم األرض مظهر بتغيي ــر النظام الذي يحكم العالم إلى نظام فيه �شيء من العدل ،إن ّ ّ ّ لــم نقــل إنــه يمثــل العــدل كلــه. ـامي الــذي ي ــنبغي أن يكــون ســبب ّ فالنظــام اإلسـ ّ كل تقـ ّـدم فــي العالــم اليــوم كمــا كان ســببه فيمــا ســبق تـ ّـم إقصــاؤه عــن موقــع القيــادة ّ ممثليــه ً أحيانــا ولفقدهــم فــي العالــم ،وتـ ّـم اســتثناؤه بســبب ضعــف ً أحيانــا أخــرى ،ولعــدم ّ قوتهــم الكافيــة لصنــع توازنــات فــي املشــروع ّ خريطــة العالــم السياســية فــي أحيــان ثالثــة! ولــن يعــود االســتقرار النسب ّـي إلى العالم إال إذا استطعنا إيجاد كيان جامع لهذه ّ األمة ،وأن يكــون هــذا الكيــان ّ معبـ ًـرا عــن جوهــر التدافــع مــع العالــم الغرب ـ ّـي ،وأن ّ يكــون ّ تطلعــات ّ األمــة وآالمهــا وآمالهــا. معبـ ًـرا عــن ّ ّ والحقيقــة الت ــي يجــب أن ندركهــا أنــه لــن تســتطيع ّأمــة مشــتتة متفرقــة ً أن تنهــض أو تتقــدم فــي عصــر الكيانــات السياسـ ّـية ّ املوحــدة ،فضــا ً ـض أجنحــة ّ عــن أن تقــدر بعـ ُ نموذجــا أو األمــة علــى أن تقـ ّـدم للعالــم ِ مشـ ً ّ املتفرقي ــن ليســت مســاوية إلمكانهــم ـروعا يحتــذى ...إذ إمكانــات حيـن ّ يتجمعون! وتضاعف القدرات ملموس عند اجتماع اإلمكانات، ّ نتوقــع مــن شــخص منعــزل عــن ب ــيئته أو مجتمعــه أن ُينتــج ً فــا إنتاجــا ٍ ٍ ُ ًّ ًّ فكريــا أو حضاريــا ي ِبهــر بــه العالــم!. ّ ّ ـكار ِه وحي ــن يدعــو اليــوم بعــض الذي ــن ّ يدعــون تبـن ــي فكــر الجهــاد واحتـ ِ إلــى االنتصــار علــى دول العالــم كلــه مــن خــال محاربتهــا دون امتــاك نموذجا ً األدوات ،فهذا ُي ّ اإلسالميةّ ، ً ّ لكن سيئا للفتوحات قدم للعالم ِ ّ ً ّ ما هو أســوأ منه أن نرســخ أفكارا بثها العالم الغرب ــي في شباب ــنا بأيدي ــنا ّ حــول همجيــة املحاربـي ــن وســيطرتهم بالقـ ّـوة وانتقامهــم مــن أهــل البــاد الت ــي يدخلونهــا ،وهــو مــا يفعلــه العالــم الغرب ـ ّـي حي ــن يدخــل بلـ ًـدا ،لكــنّ ً هــذه الصــورة لــم تكــن موجــودة عنــد أجدادنــا الفاتحي ــن وزرعها بعض ٌُ ُ أدعيــاء الجهــاد فــي شباب ــنا ،وهــذه جريمــة تضــاف إلــى جرائــم هــؤالء. 93
الفتح أم االنتصار للمظلوم؟
الفتح أم االنتصار للمظلوم؟
العدد 2رجب 1439هـ
الفتح
أم االنتصار للمظلوم؟
الجمال محمد أيمن ّ الدكتور ّ
محمد الفاتح الوقف ّية يف إسطنبول األستاذ يف جامعة السلطان ّ
ّ تتنــازع املسـ َ ـلم هواجـ ُ ـس مختلفــة حي ــن يســمع أننــا فتحنــا ّ ُ ُ بــاد الدن ــيا وقاتلنــا حتــى ق ِتلنــا وكان املــوت فــي سب ــيل هللا أحـ ّـب إلي ــنا مــن الحيــاة! وقــد يخلــط ذلــك بشــعارات الذي ــن يحتكــرون ّ مفهــوم الجهــاد ومصطلحــه فــي زماننــا! فيظـ ُّـن للوهلــة األولــى أن عقلية الدعشنة من ّ تاريخنا أقرب إلى ّ عقلية الرحمة للعامليـن!. ولقــد ُخــد َع كثي ـ ٌـر مــن شباب ــنا بذلــك الفكــر املجت ـ َـزأ املسـ ّـيس؛ ّ فظنــوه ِ ِ ّ ُ َ الفكــر الــذي يمثــل صفــاء اإلســام واندفاعــه نحــو تحقيــق الخي ــر ّ يتعلــق بخالــق األســباب ّ فيتصــل بــه للبش ـ ّرية؛ وحســبوه املنهــج الــذي ّ ً اتصــال يمنــع مــن خذالنــه وإن ت ــرك األخــذ باألســباب الت ــي وضعهــا هللا وربــط بهــا مسـ ّـبباتها! فتحـ ّـدوا لذلــك -بالــكالم -سـ َـنن هللا وأمـ َـم األرض ً دفعــة واحــدة ،وحســبوا ّأن بإمكانهــم رفـ َـع رايــات التوحيــد فــوق أب ـراج ّ أوربــة وتماثيــل أمريــكا! ُ ّ ّ ـام أن معاركنــا وفــي صفحــات التاريــخ املشـ ِـر ِ ـوح تـ ٍ قة مــا يصـ ّـرخ بوضـ ٍ ً ّ لــم تكــن يومــا إال مــع الظاملي ــن مــن الحــكام لألخــذ علــى يدهــم ...فلــم ّ ّ ً ُ نسمع قط أن املسلميـن فتحوا بالدا فيها ملك ال يظلم عنده أحد! وفــي حي ــن وصلتنــا آالف الصفحــات عــن فتــح فــارس والــروم لــم نقــرأ ً شــيئا عــن فتــح الحبشــة! في صفحات التاريخ ما ُيشي ـ ُـر إلى ّأن مفهوم ّ محبة املوت في سب ـ ِـيل هللا ّ ً ليــس رغبـ ًـة فــي االنتحــار وال ً يأســا مــن الدن ــيا وال رغبــة فــي التخلــص مــن تبعــات الحيــاة ،بــل هــو اندفـ ٌ محبــة اإلســام ،حيـ ُـث ّ ـاع فــي ّ املحبــة للدي ــن ُ ّ ـنفس ِه من أجل أن يبقى الديـن ويـنتشر، تقت�ضي أن يضحي اإلنسان ب ِ ً َ ُ ُ ّ َ ُ ـور ِه إلــى العاملي ــن وأن يقــدم نفســه رخيصــة ليصــل الخي ــر فــي أبهــى صـ ِ ّ مضطرب في املفاهيم ـرغبات النفس وال شهواتها وغي ــر غي ــر مدن س بـ ِ ٍ ٍ ّ وال فــي الــرؤى بــل هــو دي ـ ٌـن كلــه هلل ،ال مطمــع دن ــيو َّي فــي نشــره ألحـ ٍـد مــن ّ ُ ـوم! وحي ــن يكــون هــدف الفتــح أن يكــون الدي ــن كلــه هلل حاكـ ٍـم أو محكـ ٍ
ّ تتدخــل الحاجــات الشـ ّ ـخصية فــي تفاصيــل هــذا الدي ــن. فحتمــا لــن ّ ومــن املهـ ّـم اإلشــارة إلــى ّأن كتـ َـب التاريــخ لــم تنقــل إال مــا تهتـ ّـم بــه النخــب السياسـ ّـية والعســك ّرية ،ومــا يبعــث علــى االفتخــار العســكر ّي أو تعزيــز ّ ّ إال نـ ً ـادرا وقائـ َـع مــا قبـ َـل االتصــال بــاهلل تعالــى ،ولــم نقـرأ فــي كتــب التاريــخ ّ َ الفتــح ،أو تاريــخ البــاد املفتوحــة قبــل فتحهــا ،وكيــف كان حكامهــا َ يعاملــون أهلهــا ويســومونهم ســوء العــذاب ،وكيــف طلــب أهلهــا أو ّ ُ َ نخ ُبهــم مــن املسلمي ــن أن يأتــوا ليحموهــم مــن ظلــم حكامهــم ،وكيــف ّ ّ أال يحكمهــا الحاكمــون ســلموهم مفات ــيح مدنهــم واشت ــرطوا عليهــم الســابقون ،وأال ُيســاكنهم فيهــا اليهــود!. ُ ّ ّ ّ الحضاريــة فــي األرض، التعليميــة علــى آثارنــا لــم تركــز مناهجنــا ولــم ُتعـ ِـط ّ ـرة عــن التواصــل الــذي وقــع بـي ــن الشــعوب الت ــي أي فكـ ٍ ُ ّ ف ِتحــت وبـي ــن الفاتحي ــن ،ولــم تتكلــم عــن اآلثــارالباقيــة مــن قبـ ِـل ّ ّ ّ والثقافيــة الحضاريــة الفاتحي ـ َـن ،وال عــن اآلثــار واالقتصاديــة َ ّ َُ ّ والبنــى التحت ـ ّـي ِة الت ــي أقامهــا الفاتحــون ،فيمــا ت ــركزت والتنمويــة أحاديــث املناهـ ِـج فــي أحســن أحوالهــا حــو َل دخــول النــاس فــي دي ــن الفاتحي ــن بــا إجبـ ٍـاروال إكــراه. ّ ّ لم ّ التفصيلية اإلسالمية ووقائعها تتعرض مناهجنا لتاريخ الفتوحات إال من الجانب العسكر ّي؛ فظهرت الصورة مبتورة موتورة!. ولإلنصــاف فقــد عاشــت شــعوب األرض فت ـرات ظلــم عظيــم جـ ًّـدا، تنازعــت البش ـ ّرية فيهــا قــوى عظمــى ســيطرت علــى النــاس بذريعــة تطب ــيق مــا ي ـريده (اإللــه!) ،وأكلــت حقــوق النــاس تحــت شــعار الدي ــن، َ ْ ـات ومنعــت النــاس مــن التفكي ــر باســم الكن ــيسة! وح َر َمت ُهــم مــن الح ّريـ ِ ات! فــي عصــور الظــام الوســطى حي ــن كان مــرو ًرا بأوهـ ِـام االنتصــار ِ ً نموذجــا فريـ ًـدا فــي الحكــم الرشــيد ،وفــي الحكــم القائــم اإلســام ُيقـ ّـدم علــى الح ّريــات الجز ّئيــة واملحكــوم بقواعــد ّ كليــة تحافــظ علــى أعـراض 92
ُ النــاس ودي ــنهم وأنفســهم وأموالهــم كانــت البش ـ ّرية تحلـ ُـم أن يأت ــي مــن ّ ّ ّ َ ـور الحــكام ،ولــم يكــن ّثمــة مــن يهتـ ّـم لدي ــن املخلــص! إذا يخلصهــا مــن جـ ِ َ ّ سيحقق ً قدرا من كرامة الح ّرية ويعيد للبش ّرية شرف إنسان ّـيتها. كان ّإن وجــود اآلثــار مــن التاريــخ الحضــار ّي ألمــم األرض الت ــي فتحهــا املســلمون لت�شــي بـ ّ ًّ همجيــا ،ولــم يكــن يســعى لفــرض ـأن الفاتــح لــم يكــن الســيطرة ،بل كان ّ يهتم بتحقيق املبادئ قبل فرض دي ــن ،كان الفاتح املســلم ي ـ ُ ـرغب فــي تحقيــق الح ّريــة والكرامــة اإلنسان ـ ّـية ،وي ـريد للنــاس ّ أن ُي ّ طبقــوا مــا يختارونــه ،وأن يبحثــوا ويتعلمــوا ،وأن ي ــنطلقوا فــي ب ــناء ّ حياتهــم وإعمــار األرض ،فلــم يكــن الفاتــح ي ــركز علــى انتمــاء النــاس إلــى دي ـنه بقــدر مــا يهتـ ّـم بمــا سـ ُـي ّ قدمه لهــم. ِِ ُ ُ ُ يعة للواقع الذي تعيشه الحركات التـي تحتكر قراءة سر ٍ ومن خالل ٍ ّ ـوح ضيــاع البوصلــة الت ــي ي ــنبغي أن مســمى الجهـ ًـاد اليــوم نــرى بوضـ ٍ تكــون ّ ّ موجهــة لـ ّ جهاديــة فــي اإلســام! ونشــهد عظــم الت ــيه ـكل حركــة ِ ِ ّ ـات مــن الــذي تعيــش فيــه تلــك الحــركات حي ــن تســتجر رفــع الرايـ ِ تاريـ ٍـخ كان يعن ــي رفــع الرايــة فيــه الكثي ــرإلــى واقـ ٍـع ال يعن ــي فيــه رفــع ً ُ مرسوم ليجعلوا من وهم الراية شيئا ...فيعلنون استعداء العالم في ٍ ٍ شــعاراتهم رفــع راياتهــم فــوق أب ـراج باريــس أو تمثــال الح ّريــة! . ّإن البعــد عــن ق ـراءة تاريــخ الجهــاد النبــو ّي ثـ ّـم الراشـ ّ ـدي ثـ ّـم اإلسـ ّ ـامي ّ َ ً القطعيــة ،ل َيجعـ ُـل الجهــاد مجـ ّـرد عمومــا ،والنــأي عــن أحــكام الشـريعة ّ ّ املمثليـن بالبعد ّ ّ املسرحي الفن ـ ّـي وهم في نفوس املمثليـن له في الواقع، ٍ َ ُ ّ للكلمة واملمثليـن الزاعميـن أنهم يحملون رايته ويعيدون مجده! فأيـن هــم مــن جملــة اآليــات واألحاديــث الت ــي تمنــع مــن االعتــداء علــى النــاس، بــل تأمــر بب ـ ّـر غي ـ ِـر املحاربـي ــن مــن أب ــناء الديانــات األخــرى ،وأي ــن هــم مــن اآليــات واألحاديــث الت ــي تأمــر ب ــرفع الظلــم عــن املظلومي ــن ،واألخــذ علــى يــد الظالــم ،وإن كان أخــاك!. ّ كنــا ســادة العالــم لــم ُ يــوم نسـ ْـد ُه بالقـ ّـوة وحدهــا ،وال اســتعملنا ُ الســاح للســيادة ،بــل ســدناه باملبــادئ الت ــي جعلــت الشــعوب تهفــو إلــى حكــم اإلســام الــذي يزيــل عنهــا ظلــم الظاملي ــن ،فاســتعملنا الســاح إلزالــة الظلــم عــن املظلــوم ،ولــردع الظالــم عــن ظلمــه، ـراه ألحـ ٍـد ولألخــذ علــى يــده ،ولنشــرالنــور الــذي بـي ــن أيدي ــنا ،دون إكـ ٍ ّ علــى الدخــول فيــه ...ولــن نكــون ســادة العالــم مــن جديــد إال إذا أعدنــا اســتعمال مبادئنــا لســيادته ،ليحـ ّـل التوافــق والعــدل مــكان تجــارة الســاح وســباقاته! وليكــون اآلخــر هــو مــن ُيطالب ــنا أن نأت ــي لنرفــع عنــه الظلــم ونعيــد إليــه األمــن والســام.
العدد 2رجب 1439هـ
ونحــن نــرى فــي واقعنــا اليــوم ّأن األمــم املســيطرة علــى العالــم تبــذل ّ كل جهــد ممكــن إلنهــاء وجــود خصومهــا ،والســيطرة علــى تفكي ــرهم، َ وزعزعة استقرارهم! وهذا ما يجعل َّ همها األكبـر االستخفاف باآلخر ال الحــرص عليــه ،ومحاولــة اســتغالله ال النهــوض بــه! ولذلــك ّ فإنهــا ّ ـاب صنعتــه بأيديهــا. تظلــم وتب ــرر ظلمهــا بقضائهــا علــى إرهـ ٍ ّ ّإن وجــود اإلســام هــو وجــود رحمــة لألمــم كلهــا ،واالرتبــاط الوثيــق بـي ــن ّ تقدمــه فــي حكــم العالــم وانبهــار العالــم بإنجــازات القيــادات اإلسـ ّ ـامية ِِ ِ املتعاقبــة وبـي ــن زيــادة إنتاجــه الفقهـ ّـي ومواءمتــه للتقـ ّـدم العلمـ ّـي فــي ّ العالم؛ ٌ حتمي للنهوض بالعالم وتحقيق التوازن في أمم األرض مظهر بتغيي ــر النظام الذي يحكم العالم إلى نظام فيه �شيء من العدل ،إن ّ ّ ّ لــم نقــل إنــه يمثــل العــدل كلــه. ـامي الــذي ي ــنبغي أن يكــون ســبب ّ فالنظــام اإلسـ ّ كل تقـ ّـدم فــي العالــم اليــوم كمــا كان ســببه فيمــا ســبق تـ ّـم إقصــاؤه عــن موقــع القيــادة ّ ممثليــه ً أحيانــا ولفقدهــم فــي العالــم ،وتـ ّـم اســتثناؤه بســبب ضعــف ً أحيانــا أخــرى ،ولعــدم ّ قوتهــم الكافيــة لصنــع توازنــات فــي املشــروع ّ خريطــة العالــم السياســية فــي أحيــان ثالثــة! ولــن يعــود االســتقرار النسب ّـي إلى العالم إال إذا استطعنا إيجاد كيان جامع لهذه ّ األمة ،وأن يكــون هــذا الكيــان ّ معبـ ًـرا عــن جوهــر التدافــع مــع العالــم الغرب ـ ّـي ،وأن ّ يكــون ّ تطلعــات ّ األمــة وآالمهــا وآمالهــا. معبـ ًـرا عــن ّ ّ والحقيقــة الت ــي يجــب أن ندركهــا أنــه لــن تســتطيع ّأمــة مشــتتة متفرقــة ً أن تنهــض أو تتقــدم فــي عصــر الكيانــات السياسـ ّـية ّ املوحــدة ،فضــا ً ـض أجنحــة ّ عــن أن تقــدر بعـ ُ نموذجــا أو األمــة علــى أن تقـ ّـدم للعالــم ِ مشـ ً ّ املتفرقي ــن ليســت مســاوية إلمكانهــم ـروعا يحتــذى ...إذ إمكانــات حيـن ّ يتجمعون! وتضاعف القدرات ملموس عند اجتماع اإلمكانات، ّ نتوقــع مــن شــخص منعــزل عــن ب ــيئته أو مجتمعــه أن ُينتــج ً فــا إنتاجــا ٍ ٍ ُ ًّ ًّ فكريــا أو حضاريــا ي ِبهــر بــه العالــم!. ّ ّ ـكار ِه وحي ــن يدعــو اليــوم بعــض الذي ــن ّ يدعــون تبـن ــي فكــر الجهــاد واحتـ ِ إلــى االنتصــار علــى دول العالــم كلــه مــن خــال محاربتهــا دون امتــاك نموذجا ً األدوات ،فهذا ُي ّ اإلسالميةّ ، ً ّ لكن سيئا للفتوحات قدم للعالم ِ ّ ً ّ ما هو أســوأ منه أن نرســخ أفكارا بثها العالم الغرب ــي في شباب ــنا بأيدي ــنا ّ حــول همجيــة املحاربـي ــن وســيطرتهم بالقـ ّـوة وانتقامهــم مــن أهــل البــاد الت ــي يدخلونهــا ،وهــو مــا يفعلــه العالــم الغرب ـ ّـي حي ــن يدخــل بلـ ًـدا ،لكــنّ ً هــذه الصــورة لــم تكــن موجــودة عنــد أجدادنــا الفاتحي ــن وزرعها بعض ٌُ ُ أدعيــاء الجهــاد فــي شباب ــنا ،وهــذه جريمــة تضــاف إلــى جرائــم هــؤالء. 93
إلى رسول اهلل
إلى رسول اهلل
العدد 2رجب 1439هـ
ُ الطري��ق ُمطَّوًق��ا حبمام��ٍة كان تبـ��ن ُع ًّش��ا ب��ل بـ َ �نـ ْت حمراب��ا مل ِ
قصيدة
ّ الشاعر أنـس الـدغـيم
بـيـ��ن َ ش�� ّت َ �ين ِنـ��صابا ان َ املالك ْ ِ َ َ ميلك��ون ِرقاب��ا القل��وب و مل��ك َ وملك ُ ��رام قليَل��ه ��ت م��ن ه��ذا الغ ِ
فاس��تفَتحا بقليل��ِه األبواب��ا
قلبـ��ي وعقلي ،والق��وايف من ُذ ْ أن زم ْلَته��ا تتصيّ�� ُد ال ُك ّتاب��ا ّ
إىل َر ُسولِاهلل المس�� ُته أو ِك ُ ��دت ل��وال ْ أن رأى بُرهاَن��ه قلبـ��ي فع��اَد وتاب��ا َو َصف��ا إن��ا ُء ا ُ ��بَّ ، زجاج�� ُه رق حل ِّ ُ ُ ُ رأي��ت وم��ا ح ّت��ى رأي��ت ش��رابا َ ّ لك��ن م��اًء س��ال أو كامل��ا ِء ِم��ن؛ فش َّ وعل��ى حواش��يِه َ ��ف وطاب��ا
ال ُح َ ��زن في��ِه معيّ�� ُة امل��وىل هن��ا ��س األعصاب��ا ب��دم ال ّرض��ا ّ تتحس ُ ِ
ح��اف وم��ا ِم��ن حّب��ٍة يف م ّك��ٍة ٍ دم��ا و َعذاب��ا مل ِ حيتمْ��ل عنه��ا ً
ّل ِّ الدنـ��يا و أو َ ع��ا ٍر ع��ن ّ كل ��ارج باب��ا هلل ) يفت ُ ( بســ��م ا ِ ��ح يف املَع ِ
[],,,,
اخل ُّ ع��م اإلدا ُم َ ��ل اص�� ٌر َ حيـ��ن ُم َ ِن َ يف ِّ يفت��ح ��ع ِب للجي��اع ِش��عابا ُ الش ْ ِ
عّل ُ يـن مدائحي قت بـيـ َ ��ن ُ البدَت ِ س��واي َيعَل ُ و ��ق غ��ادًة و َكعاب��ا َ
أرجع ُت فيِه ّ الط َ رف و استـ��رجع ُت ُه ْ يـ��ن فغ��اب في��ِه وآب��ا َ يف ك ّرَت ِ
م��ا َ كان َع ّ اس ِل يؤم��ن قلُب�� ُه َ ��د ٌ الس َّ ��ك َر ال ُع ّناب��ا ل��و مل جي��دُه ُّ
بـيـ��ن منبـ��رِه وموض��ع قبـ�� ِرِه م��ا َ ِ ّ ُ خ��ط اجلم��ال لقارِئي��ِه ِكتاب��ا
أدن��اُه ِم��ن ق��وس اجلالل��ِة قاب��ا ِ
��س ّ ��رف ال��ذي بايع ُت��ه الط ِ ال ناع َ ��ت ،و مل ُ ��وم كن َ الس��يّابا أك ّ يف ال ّن ِ
َ إّن��ي وم��ا ُعِّل ْم ُ ��ت منط��ق طائ��ر َ بذك��رك َجيئ��ًة و ذهاب��ا أش��دو عط��رُه هلل ط ْبـ��عُ ال��ورِد ُيف��ي ِ َ
ويُقي�� ُم ِم��ن ألوان��ِه ُح ّجاب��ا
َّ فتح��درت ِم ْ ��د حاول ُت�� ُه ��ن ال َي ٍ قطراُت�� ُهَ ،ف َض َمم ُت�� ُه فا ْن َس��ابا
[],,,, اجلبل��ي مل ُ يف غ��ا ِرِه ي��ك خالًي��ا ِّ كان امل��دى يتعّل�� ُم اإلعراب��ا
ِم��ن ( ُق ْ��م فأن��ذ ْر) مل يُد ِّث ْ��ر عيـ َ�نـ ُه ��ر عارًي��ا و ُمصاب��ا ن��و ٌم و د ّث َ
ف��كأن ّ ّ كل مهاج�� ٍر يف أ ْو ِس��ِه ْ أصبحت َخّبابا يثـرب ) ( سع ٌد ) و ( َ
األس��ودان عل��ى خريط��ِة َفق��رِه ِ ع��ان َمآِذن��ا و ِقباب��ا يتو ّز ِ
كان ُّ جوف َ ما َ الفرا كل ّ يد يف ِ الص ِ ّ��ن واِت��ري فأصاب��ا ح ّت��ى متع َ
��رأت عل��ى يدِه ّ ��عوب ومل ْ ق ْ يزل الش ُ يف ِّ كل س��ط ٍر يش��ر ُح اآلداب��ا
َم��ن ص��اَغ ِم��ن َ ْ كم��ن ت�� ٍر ُس ً ��واعا ال َ با ُ ��ب واإلمي��ان ص��اَغ ش��بابا حل ِّ ِ
ُ تتف��اوت األق��دا ُر بال ّتق��وى وال َ يتفاوت��ون ُن ًه��ى وال أنس��ابا
ُصِن ْ كؤوس ُه حيق ُ ��ن ال ّر ِ عت على عيـ ِ ّ ش��ر َح ْت ب��ِه األس��بابا فكأن��ا َ
ه��ذا الف��ؤا ُد أن��ا ال��ذي خّبْأُت��ه ��ك فص َ ع��ن مقلَتي َ ��ادف األهداب��ا
ّات ويومه��ا ال��وداع ) َ ي��ا ( ِم��ن ثنـ��ي ِ ِ ي��ا راكًب��ا ال يُش��ب ُه ال ُّر ّكاب��ا
س��بحان َم��ن أس��رى ب��ه ً َ وم��ن لي�لا َ ليخص َ و ارَت َّ ��د ِم��ن أعل��ى ��ف نعَل�� ُه ِ
ْ ف��س ال تـ��رقى إذا مل تقتـ��رف وال ّن ُ الس��جوِد ُتراب��ا ب ُقب��اَء ِم��ن أَث�� ِر ُّ
ض��ج ِرداؤُه ي��وَم التق��ى اجلمع��ان ّ ِ
بدعائ��ِه ودع��ا اخلص��و ُم َس��رابا
العدد 2رجب 1439هـ
َ بال ُع��دوِة ّ عريش�� ُه الدنـ��يا أق��اَم َ أس��فل من�� ُه خ��اَر وخاب��ا ك��ب وال ّر ُ
َ أحيي��ت
بالق��رآن ِ
إنسانـ�� ّيًة
وتقامس��وا دُنـ��يا ال��ورى أقطاب��ا
ل��و أّنهم عرف َ ��وك العتاض��وا عن الـ
ُ واجمل��د ال يُؤت��ى ملَ ْ ��ن مل يأِت��ِه ��د ُر املعال��ي أن ُتق��اَد ِغالب��ا َق َ
ّم يامسيـ ً واحل��راب ُحباب��ا �نـا ِ دِ
ِم��ن بع��ده األزالَم واألنصاب��ا ِ
وألسس��وا للخيـ�� ِر أعظ��م دول��ٍة ّ َ الص ُ َ ُ قي��ل ِقراب��ا ص��احل وَل الس��يف ّ
م��ا كان ّ للطلق��ا ِء ْ يستقس��موا أن ِ
ملّ��ا عف��ا وه��و املَُق َّ ��د ُر رمح��ًة وبك��ى هل��م و ه��و العزي�� ُز َجناب��ا ي��ا أيه��ا ال ّري�� ُم ال��ذي مل يستتـ��ر ْ طال��ب ال يُش��ب ُه ُّ ع��ن الطّلب��ا ٍ
م��ا ّ ح��ل أزراَر البـ�نـفسج زائ�� ٌر ِ ّ وش��ق عل��ى إال األري��ج ثياب��ا ِ ّدا ��دا ي��ا رمح��ًة وحمم ً ي��ا س��ي ً ّ للعامليـ��ن و ِنعم��ًة وَثواب��ا َ
كان ص��د ٌر مث َ��ل ص َ م��ا َ ��درك عام ً��را با ُ ��ب ،ه��م َم��ن ص ّ��دروا اإلرهاب��ا حل ِّ
هلل يف أرواحن��ا ��ر َت َ آي ا ِ كوَث ْ و ختندق��وا ِم��ن حولن��ا أحزاب��ا
[],,,, ��ن مل أخ َ ْ مجل ُ �تر ل��ه ��ت ِش��عري حيـ َ ّ كأس َ ��ك ُس�� ّك ًرا و ُرضاب��ا م��ن غيـ�� ِر ِ
ي��ا ليتنـ��ي أُ ُح�� ٌد أَو اّن��ي فوَق�� ُه ��ب ،وحّب ٌ ��ة َتَتصاب��ى ي ُّ حج�� ٌر ُ َ ُ بالغ��ت يف ه��ذا ال ُّدُن�� ِّو ومل وال ُ ُ بلغ��ت وال كعًب��ا بلغ��ت ِكالب��ا ْ
م��ا كان ربّ��ي أن ي ّ ُع��ذ َب ش��يبًة حبّب َ ْ ��ك ش��ابا ش��ابت ب��ِه ودم��ي ُ [],,,,
��م الفق��راَء و األصحاب��ا ُطاع َ وي ِ
ُخُل ٌ ��ق ّ كأن ال��َود َ ْق م��ن أعطا ِف��ِه
وخالِل��ِه يُه��دي الوج��وَد َس��حابا ِ
ُخُل ٌ الق��رآن ّ ه��ذ َب ُحس ُ ُ ��ق ه��و �نـ ُه يُن�� ُه أعراب��ا عرًب��ا وز ّك��ى ُ ْ
احل��ب َيب��دأ و بالقل��وب فكّلم��ا ُّ ِ َ َ ْ وج��دت (بان��ت س��عادُ) قلب��ك ذاب��ا 94
95
إلى رسول اهلل
إلى رسول اهلل
العدد 2رجب 1439هـ
ُ الطري��ق ُمطَّوًق��ا حبمام��ٍة كان تبـ��ن ُع ًّش��ا ب��ل بـ َ �نـ ْت حمراب��ا مل ِ
قصيدة
ّ الشاعر أنـس الـدغـيم
بـيـ��ن َ ش�� ّت َ �ين ِنـ��صابا ان َ املالك ْ ِ َ َ ميلك��ون ِرقاب��ا القل��وب و مل��ك َ وملك ُ ��رام قليَل��ه ��ت م��ن ه��ذا الغ ِ
فاس��تفَتحا بقليل��ِه األبواب��ا
قلبـ��ي وعقلي ،والق��وايف من ُذ ْ أن زم ْلَته��ا تتصيّ�� ُد ال ُك ّتاب��ا ّ
إىل َر ُسولِاهلل المس�� ُته أو ِك ُ ��دت ل��وال ْ أن رأى بُرهاَن��ه قلبـ��ي فع��اَد وتاب��ا َو َصف��ا إن��ا ُء ا ُ ��بَّ ، زجاج�� ُه رق حل ِّ ُ ُ ُ رأي��ت وم��ا ح ّت��ى رأي��ت ش��رابا َ ّ لك��ن م��اًء س��ال أو كامل��ا ِء ِم��ن؛ فش َّ وعل��ى حواش��يِه َ ��ف وطاب��ا
ال ُح َ ��زن في��ِه معيّ�� ُة امل��وىل هن��ا ��س األعصاب��ا ب��دم ال ّرض��ا ّ تتحس ُ ِ
ح��اف وم��ا ِم��ن حّب��ٍة يف م ّك��ٍة ٍ دم��ا و َعذاب��ا مل ِ حيتمْ��ل عنه��ا ً
ّل ِّ الدنـ��يا و أو َ ع��ا ٍر ع��ن ّ كل ��ارج باب��ا هلل ) يفت ُ ( بســ��م ا ِ ��ح يف املَع ِ
[],,,,
اخل ُّ ع��م اإلدا ُم َ ��ل اص�� ٌر َ حيـ��ن ُم َ ِن َ يف ِّ يفت��ح ��ع ِب للجي��اع ِش��عابا ُ الش ْ ِ
عّل ُ يـن مدائحي قت بـيـ َ ��ن ُ البدَت ِ س��واي َيعَل ُ و ��ق غ��ادًة و َكعاب��ا َ
أرجع ُت فيِه ّ الط َ رف و استـ��رجع ُت ُه ْ يـ��ن فغ��اب في��ِه وآب��ا َ يف ك ّرَت ِ
م��ا َ كان َع ّ اس ِل يؤم��ن قلُب�� ُه َ ��د ٌ الس َّ ��ك َر ال ُع ّناب��ا ل��و مل جي��دُه ُّ
بـيـ��ن منبـ��رِه وموض��ع قبـ�� ِرِه م��ا َ ِ ّ ُ خ��ط اجلم��ال لقارِئي��ِه ِكتاب��ا
أدن��اُه ِم��ن ق��وس اجلالل��ِة قاب��ا ِ
��س ّ ��رف ال��ذي بايع ُت��ه الط ِ ال ناع َ ��ت ،و مل ُ ��وم كن َ الس��يّابا أك ّ يف ال ّن ِ
َ إّن��ي وم��ا ُعِّل ْم ُ ��ت منط��ق طائ��ر َ بذك��رك َجيئ��ًة و ذهاب��ا أش��دو عط��رُه هلل ط ْبـ��عُ ال��ورِد ُيف��ي ِ َ
ويُقي�� ُم ِم��ن ألوان��ِه ُح ّجاب��ا
َّ فتح��درت ِم ْ ��د حاول ُت�� ُه ��ن ال َي ٍ قطراُت�� ُهَ ،ف َض َمم ُت�� ُه فا ْن َس��ابا
[],,,, اجلبل��ي مل ُ يف غ��ا ِرِه ي��ك خالًي��ا ِّ كان امل��دى يتعّل�� ُم اإلعراب��ا
ِم��ن ( ُق ْ��م فأن��ذ ْر) مل يُد ِّث ْ��ر عيـ َ�نـ ُه ��ر عارًي��ا و ُمصاب��ا ن��و ٌم و د ّث َ
ف��كأن ّ ّ كل مهاج�� ٍر يف أ ْو ِس��ِه ْ أصبحت َخّبابا يثـرب ) ( سع ٌد ) و ( َ
األس��ودان عل��ى خريط��ِة َفق��رِه ِ ع��ان َمآِذن��ا و ِقباب��ا يتو ّز ِ
كان ُّ جوف َ ما َ الفرا كل ّ يد يف ِ الص ِ ّ��ن واِت��ري فأصاب��ا ح ّت��ى متع َ
��رأت عل��ى يدِه ّ ��عوب ومل ْ ق ْ يزل الش ُ يف ِّ كل س��ط ٍر يش��ر ُح اآلداب��ا
َم��ن ص��اَغ ِم��ن َ ْ كم��ن ت�� ٍر ُس ً ��واعا ال َ با ُ ��ب واإلمي��ان ص��اَغ ش��بابا حل ِّ ِ
ُ تتف��اوت األق��دا ُر بال ّتق��وى وال َ يتفاوت��ون ُن ًه��ى وال أنس��ابا
ُصِن ْ كؤوس ُه حيق ُ ��ن ال ّر ِ عت على عيـ ِ ّ ش��ر َح ْت ب��ِه األس��بابا فكأن��ا َ
ه��ذا الف��ؤا ُد أن��ا ال��ذي خّبْأُت��ه ��ك فص َ ع��ن مقلَتي َ ��ادف األهداب��ا
ّات ويومه��ا ال��وداع ) َ ي��ا ( ِم��ن ثنـ��ي ِ ِ ي��ا راكًب��ا ال يُش��ب ُه ال ُّر ّكاب��ا
س��بحان َم��ن أس��رى ب��ه ً َ وم��ن لي�لا َ ليخص َ و ارَت َّ ��د ِم��ن أعل��ى ��ف نعَل�� ُه ِ
ْ ف��س ال تـ��رقى إذا مل تقتـ��رف وال ّن ُ الس��جوِد ُتراب��ا ب ُقب��اَء ِم��ن أَث�� ِر ُّ
ض��ج ِرداؤُه ي��وَم التق��ى اجلمع��ان ّ ِ
بدعائ��ِه ودع��ا اخلص��و ُم َس��رابا
العدد 2رجب 1439هـ
َ بال ُع��دوِة ّ عريش�� ُه الدنـ��يا أق��اَم َ أس��فل من�� ُه خ��اَر وخاب��ا ك��ب وال ّر ُ
َ أحيي��ت
بالق��رآن ِ
إنسانـ�� ّيًة
وتقامس��وا دُنـ��يا ال��ورى أقطاب��ا
ل��و أّنهم عرف َ ��وك العتاض��وا عن الـ
ُ واجمل��د ال يُؤت��ى ملَ ْ ��ن مل يأِت��ِه ��د ُر املعال��ي أن ُتق��اَد ِغالب��ا َق َ
ّم يامسيـ ً واحل��راب ُحباب��ا �نـا ِ دِ
ِم��ن بع��ده األزالَم واألنصاب��ا ِ
وألسس��وا للخيـ�� ِر أعظ��م دول��ٍة ّ َ الص ُ َ ُ قي��ل ِقراب��ا ص��احل وَل الس��يف ّ
م��ا كان ّ للطلق��ا ِء ْ يستقس��موا أن ِ
ملّ��ا عف��ا وه��و املَُق َّ ��د ُر رمح��ًة وبك��ى هل��م و ه��و العزي�� ُز َجناب��ا ي��ا أيه��ا ال ّري�� ُم ال��ذي مل يستتـ��ر ْ طال��ب ال يُش��ب ُه ُّ ع��ن الطّلب��ا ٍ
م��ا ّ ح��ل أزراَر البـ�نـفسج زائ�� ٌر ِ ّ وش��ق عل��ى إال األري��ج ثياب��ا ِ ّدا ��دا ي��ا رمح��ًة وحمم ً ي��ا س��ي ً ّ للعامليـ��ن و ِنعم��ًة وَثواب��ا َ
كان ص��د ٌر مث َ��ل ص َ م��ا َ ��درك عام ً��را با ُ ��ب ،ه��م َم��ن ص ّ��دروا اإلرهاب��ا حل ِّ
هلل يف أرواحن��ا ��ر َت َ آي ا ِ كوَث ْ و ختندق��وا ِم��ن حولن��ا أحزاب��ا
[],,,, ��ن مل أخ َ ْ مجل ُ �تر ل��ه ��ت ِش��عري حيـ َ ّ كأس َ ��ك ُس�� ّك ًرا و ُرضاب��ا م��ن غيـ�� ِر ِ
ي��ا ليتنـ��ي أُ ُح�� ٌد أَو اّن��ي فوَق�� ُه ��ب ،وحّب ٌ ��ة َتَتصاب��ى ي ُّ حج�� ٌر ُ َ ُ بالغ��ت يف ه��ذا ال ُّدُن�� ِّو ومل وال ُ ُ بلغ��ت وال كعًب��ا بلغ��ت ِكالب��ا ْ
م��ا كان ربّ��ي أن ي ّ ُع��ذ َب ش��يبًة حبّب َ ْ ��ك ش��ابا ش��ابت ب��ِه ودم��ي ُ [],,,,
��م الفق��راَء و األصحاب��ا ُطاع َ وي ِ
ُخُل ٌ ��ق ّ كأن ال��َود َ ْق م��ن أعطا ِف��ِه
وخالِل��ِه يُه��دي الوج��وَد َس��حابا ِ
ُخُل ٌ الق��رآن ّ ه��ذ َب ُحس ُ ُ ��ق ه��و �نـ ُه يُن�� ُه أعراب��ا عرًب��ا وز ّك��ى ُ ْ
احل��ب َيب��دأ و بالقل��وب فكّلم��ا ُّ ِ َ َ ْ وج��دت (بان��ت س��عادُ) قلب��ك ذاب��ا 94
95
ثقافة النصر
العدد 2رجب 1439هـ
ثقافة النصر الدكتور عبد الكريم بكار
عضو األمانة العامة للمجلس اإلسالمي السوري
املقصــود بالثقافــة هنــا مجموعــة األفــكار واملفاهيــم واملالحظات واإلحاالت الذهنـية والشعورية والعادات املتعلقة بمســائل النصــر والهزيمــة. الثقافــة تشــكل الخلفيــة العميقــة لــكل القــرارات الت ــي نتخذهــا فــي صراعنــا مــع العــدو ،وإن ــي فــي هــذه املقاربــة أود التحــدث عــن َّ جوهريتـيـن. نقطتـي ــن األولــى :وهــي متعلقــة بمفهــوم النصــر فــي حــس معظــم العــرب واملسلمي ــن اليــوم ،وال ســيما علــى املســتوى الشعب ـ ّ ِـي أو مــا دون النخبــو ّي . الثان ــية :وهــي تتمحــور حــول متطلبــات النصــر الحرب ـ ّـي وشــروطه ّ وكيفيــة تعامــل الوعــي املســلم معهــا. ّ الثقافيــة حــول املعنــى إن مــن الواضــح أن مــا اســتقر فــي أعرافنــا املحـ ّ ـوري لكلمــة النصــر هــو النصــر الحرب ــي ،فــإذا طلــب منــك أحــد ّ النــاس الدعــاء بالنصــر فهــو يعن ــي النصــر العســكر َّي علــى األعــداء ليــس أكث ــر ،وهــذا التخصيــص للمعنــى مــوروث مــن الثقافــة الســائدة عب ــر القــرون املاضيــة ،وال ســيما الحقبــة العثمان ـ ّـية حيــث َّ ُّ الشــاغل َّ للدولــة. كان النصــر العســكري هــو الشــغل منــا هللا تعالــى ّ مــن النــادر اليــوم أن يســأل الواحــد َّ النصــر ويقصــد بــه ّ ّ النصــر علــى ُّ النفــوس ّ األمــارة ُّ بالســوء أو النصــر فــي ميادي ــن الترب ــية ِ والسياســة واالقتصــاد واالجتمــاع واإلبــداع واالخت ـراع َّ ّ والتنظيــم... وهــذا التمركــز -بقطــع َّ النظــر عــن أســبابه -خطي ــر للغايــة ،حيــث ّإن النصــر العســكر ّي يســتند اليــوم إلــى االقتصــاد والسياســة واإلبــداع فــي املعــدات الحرب ـ ّـية وحســاب مصالــح اإلقليــم واملصالــح َّ الد ّ وليــة ،كمــا يســتند إلــى املشــروعية الدوليــة ...ومــا ذلــك إال ألن ً الص ـراع بـي ــننا وبـي ــن أعدائنــا ليــس صر ً اعــا عسـ ًّ ـكريا معــزول وإنمــا هــو صـراع حضــار ٌّي شــامل ،وليــس القتــال ســوى أداة صغي ــرة وقــد
ّ ـدودا للغايــةَّ ، ـوء إليهــا اليــوم محـ ً اللجـ ُ ألن مــا ت ــريده دولــة مــن صــار ُ ناوئــة أو منافسـ ٍـة فــي هــذه األيــام -علــى العمــوم الغالــب - دولــة م ِ ّ ّ ليــس األرض؛ وإنمــا املــواد األوليــة الرخيصــة واألســواق املفتوحــة للمنتجــات والصــادرات. مــن املهــم اليــوم أن يــدرك ٌّ كل ِمــن العــرب واملسلمي ــن أن النصــر العســكر َّي الــذي يتطلعــون إليــه لــن يكــون لــه أي فائــدة مــا لــم يتخلصــوا مــن التخلــف املخيــم علــى معظــم جوانــب حيات ــهم ...فمــن يعجــز عــن إدارة شــؤونه فــي بــاده علــى نحــو ّ جيــد ســيكون عجــزه ِ أشـ َّـد عــن إدارة شــؤون شــعوب يبســط ســلطانه عليهــا. أما مســألة شــروط النصر العســكري وأســبابه ومقدماته وموانعه؛ فلــدى الوعــي املســلم الكثي ــر مــن االضطـراب فــي التعامــل معهــا؛ مــع أن القـرآن الكريــم وضــح فــي غــزوة أحــد وفــي غــزوة حنـي ــن وغي ــرهما مــن الغــزوات الكثي ــر مــن ذلــك ،كمــا أن الســلوك الشـ َّ ـخ�صي للنب ـ ّ ِـي يوضــح شــروط َّ صلــى هللا عليــه وسـ ّـلم ّ النصــر علــى نحــو تــام. ِ حي ــن يكــون لديــك مئــة جيــش وكل جيــش يفتــح معركــة فــي الوقــت ّ ـدوك جيــش واحــد خاضــع لقيــادة الــذي ي ــريد ،ويكــون لــدى عـ ِ ّ َّ ـدوك طي ـران وال يكــون لديــك ،ويكــون مركزيــة ،وحي ــن يكــون لــدى عـ ِ ُ ُ ّ ؤمنــه مــن لديــه جهــاز اســتخبار ٍ ات وحلفـ ُـاء يدعمونــه؛ بســبب مــا ي ِ مصالحهــم ،وال يكــون لديــك �شــيء مــن ذلــك؛ فــإن النصــر ســيكون ِ َ حليفــه وليــس حليفــك ،ألنــه أخــذ باألســباب املفضيــة إلــى النصــر ولــم تأخــذ أنــت... ّ فكريــة شــجاعة ملراجعــة ثقافــة إننــا فــي حاجــة إلــى وقفــة
النصــر ،والعمــل علــى ت ــرسيخ ثقافــة جديــدة تتــاءم مــع عقيدتنــا وآداب شــرعيتنا ،وهلل األمــر مــن قبــل ومــن بعــد.
96
مــع بدايــة الثــورة الســورية املباركــة تشــكلت فــي الداخــل الســوري الهيئــات والروابــط الشــرعية لتســد الفـراغ الحاصــل مــن غيــاب مؤسســات الدولــة وانحســارها فــي املناطــق املحــررة ،علــى صعيــد آخــر شــهد عــام 2011مبــادرات إليجــاد كيــان جامــع ّ موحــد مــن قبــل العلمــاء والروابــط الت ــي أجب ــرها النظــام علــى االغت ـراب ..وعلــى خطــى التوحيــد اجتمــع نحــو 40 ِ رابطــة وهيئــة شــرعية فــي منتصــف نيســان ،2014ليعلنــوا تأســيس «املجل ــس اإلس ــامي الس ــوري» ،الــذي ضــم العلمــاء ً والهيئــات الشــرعية والروابــط العلميــة الســورية ،ليكــون ق ـر ًارا مشت ــركا يعب ــر عــن إرادة موحــدة لرمــوز املــدارس الفكريــة اإلســامية املعتدلــة فــي ســوريا .
الهوية هيئــة مرجعيــة شــرعية وســطية ســورية ،تســعى إلــى جمــع كلمــة العلمــاء والدعــاة وممثلــي الكيانــات الشــرعية ،وتوجيــه الشــعب الســوري ،وإيجــاد الحلــول الشــرعية ملشــكالته وقضايــاه ،والحفــاظ علــى هويتــه ومســار ثورتــه.
الرسالة تـرسيخ املشروع اإلسالمي وتفعيل دور املؤسسة الديـنية في املجتمع السوري.
الرؤية تمكيـن املرجعية اإلسالمية للشعب السوري من االضطالع بدورها الريادي في املجتمع.
ثقافة النصر
العدد 2رجب 1439هـ
ثقافة النصر الدكتور عبد الكريم بكار
عضو األمانة العامة للمجلس اإلسالمي السوري
املقصــود بالثقافــة هنــا مجموعــة األفــكار واملفاهيــم واملالحظات واإلحاالت الذهنـية والشعورية والعادات املتعلقة بمســائل النصــر والهزيمــة. الثقافــة تشــكل الخلفيــة العميقــة لــكل القــرارات الت ــي نتخذهــا فــي صراعنــا مــع العــدو ،وإن ــي فــي هــذه املقاربــة أود التحــدث عــن َّ جوهريتـيـن. نقطتـي ــن األولــى :وهــي متعلقــة بمفهــوم النصــر فــي حــس معظــم العــرب واملسلمي ــن اليــوم ،وال ســيما علــى املســتوى الشعب ـ ّ ِـي أو مــا دون النخبــو ّي . الثان ــية :وهــي تتمحــور حــول متطلبــات النصــر الحرب ـ ّـي وشــروطه ّ وكيفيــة تعامــل الوعــي املســلم معهــا. ّ الثقافيــة حــول املعنــى إن مــن الواضــح أن مــا اســتقر فــي أعرافنــا املحـ ّ ـوري لكلمــة النصــر هــو النصــر الحرب ــي ،فــإذا طلــب منــك أحــد ّ النــاس الدعــاء بالنصــر فهــو يعن ــي النصــر العســكر َّي علــى األعــداء ليــس أكث ــر ،وهــذا التخصيــص للمعنــى مــوروث مــن الثقافــة الســائدة عب ــر القــرون املاضيــة ،وال ســيما الحقبــة العثمان ـ ّـية حيــث َّ ُّ الشــاغل َّ للدولــة. كان النصــر العســكري هــو الشــغل منــا هللا تعالــى ّ مــن النــادر اليــوم أن يســأل الواحــد َّ النصــر ويقصــد بــه ّ ّ النصــر علــى ُّ النفــوس ّ األمــارة ُّ بالســوء أو النصــر فــي ميادي ــن الترب ــية ِ والسياســة واالقتصــاد واالجتمــاع واإلبــداع واالخت ـراع َّ ّ والتنظيــم... وهــذا التمركــز -بقطــع َّ النظــر عــن أســبابه -خطي ــر للغايــة ،حيــث ّإن النصــر العســكر ّي يســتند اليــوم إلــى االقتصــاد والسياســة واإلبــداع فــي املعــدات الحرب ـ ّـية وحســاب مصالــح اإلقليــم واملصالــح َّ الد ّ وليــة ،كمــا يســتند إلــى املشــروعية الدوليــة ...ومــا ذلــك إال ألن ً الص ـراع بـي ــننا وبـي ــن أعدائنــا ليــس صر ً اعــا عسـ ًّ ـكريا معــزول وإنمــا هــو صـراع حضــار ٌّي شــامل ،وليــس القتــال ســوى أداة صغي ــرة وقــد
ّ ـدودا للغايــةَّ ، ـوء إليهــا اليــوم محـ ً اللجـ ُ ألن مــا ت ــريده دولــة مــن صــار ُ ناوئــة أو منافسـ ٍـة فــي هــذه األيــام -علــى العمــوم الغالــب - دولــة م ِ ّ ّ ليــس األرض؛ وإنمــا املــواد األوليــة الرخيصــة واألســواق املفتوحــة للمنتجــات والصــادرات. مــن املهــم اليــوم أن يــدرك ٌّ كل ِمــن العــرب واملسلمي ــن أن النصــر العســكر َّي الــذي يتطلعــون إليــه لــن يكــون لــه أي فائــدة مــا لــم يتخلصــوا مــن التخلــف املخيــم علــى معظــم جوانــب حيات ــهم ...فمــن يعجــز عــن إدارة شــؤونه فــي بــاده علــى نحــو ّ جيــد ســيكون عجــزه ِ أشـ َّـد عــن إدارة شــؤون شــعوب يبســط ســلطانه عليهــا. أما مســألة شــروط النصر العســكري وأســبابه ومقدماته وموانعه؛ فلــدى الوعــي املســلم الكثي ــر مــن االضطـراب فــي التعامــل معهــا؛ مــع أن القـرآن الكريــم وضــح فــي غــزوة أحــد وفــي غــزوة حنـي ــن وغي ــرهما مــن الغــزوات الكثي ــر مــن ذلــك ،كمــا أن الســلوك الشـ َّ ـخ�صي للنب ـ ّ ِـي يوضــح شــروط َّ صلــى هللا عليــه وسـ ّـلم ّ النصــر علــى نحــو تــام. ِ حي ــن يكــون لديــك مئــة جيــش وكل جيــش يفتــح معركــة فــي الوقــت ّ ـدوك جيــش واحــد خاضــع لقيــادة الــذي ي ــريد ،ويكــون لــدى عـ ِ ّ َّ ـدوك طي ـران وال يكــون لديــك ،ويكــون مركزيــة ،وحي ــن يكــون لــدى عـ ِ ُ ُ ّ ؤمنــه مــن لديــه جهــاز اســتخبار ٍ ات وحلفـ ُـاء يدعمونــه؛ بســبب مــا ي ِ مصالحهــم ،وال يكــون لديــك �شــيء مــن ذلــك؛ فــإن النصــر ســيكون ِ َ حليفــه وليــس حليفــك ،ألنــه أخــذ باألســباب املفضيــة إلــى النصــر ولــم تأخــذ أنــت... ّ فكريــة شــجاعة ملراجعــة ثقافــة إننــا فــي حاجــة إلــى وقفــة
النصــر ،والعمــل علــى ت ــرسيخ ثقافــة جديــدة تتــاءم مــع عقيدتنــا وآداب شــرعيتنا ،وهلل األمــر مــن قبــل ومــن بعــد.
96
مــع بدايــة الثــورة الســورية املباركــة تشــكلت فــي الداخــل الســوري الهيئــات والروابــط الشــرعية لتســد الفـراغ الحاصــل مــن غيــاب مؤسســات الدولــة وانحســارها فــي املناطــق املحــررة ،علــى صعيــد آخــر شــهد عــام 2011مبــادرات إليجــاد كيــان جامــع ّ موحــد مــن قبــل العلمــاء والروابــط الت ــي أجب ــرها النظــام علــى االغت ـراب ..وعلــى خطــى التوحيــد اجتمــع نحــو 40 ِ رابطــة وهيئــة شــرعية فــي منتصــف نيســان ،2014ليعلنــوا تأســيس «املجل ــس اإلس ــامي الس ــوري» ،الــذي ضــم العلمــاء ً والهيئــات الشــرعية والروابــط العلميــة الســورية ،ليكــون ق ـر ًارا مشت ــركا يعب ــر عــن إرادة موحــدة لرمــوز املــدارس الفكريــة اإلســامية املعتدلــة فــي ســوريا .
الهوية هيئــة مرجعيــة شــرعية وســطية ســورية ،تســعى إلــى جمــع كلمــة العلمــاء والدعــاة وممثلــي الكيانــات الشــرعية ،وتوجيــه الشــعب الســوري ،وإيجــاد الحلــول الشــرعية ملشــكالته وقضايــاه ،والحفــاظ علــى هويتــه ومســار ثورتــه.
الرسالة تـرسيخ املشروع اإلسالمي وتفعيل دور املؤسسة الديـنية في املجتمع السوري.
الرؤية تمكيـن املرجعية اإلسالمية للشعب السوري من االضطالع بدورها الريادي في املجتمع.