مجلّة مقاربات - العدد الثاني

Page 1


‫محتويات العدد‬ ‫حصاد قرن من الزمان ‪ -‬رئيس التحريـر ‪2 ..................................................................................................................................‬‬ ‫ُ‬ ‫َّ‬ ‫وضوابطه ‪ -‬الدكتور‪ :‬معاذ الخن ‪5 ..............................................................................................................................‬‬ ‫التكفي ُـر‬ ‫ِ‬ ‫ّ‬ ‫رعية في تقديم وجود َّ‬ ‫قواعد ّ‬ ‫الش َّ‬ ‫الدولة املسلمة‬ ‫السياسة‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ومصالحها على إقامة الحدود ‪ -‬الباحث‪ :‬محمد علي النجار‪16 ...................................................................................................‬‬ ‫اإلمام عبد القادر الجيالن ّـي وتالمذته في اإلصالح‬ ‫جهود ِ‬ ‫ُّ‬ ‫السن ّ ِـي وبـناء املدارس ‪ -‬الدكتور‪ :‬أيمن يزبك ‪28 ..........................................................................................................................‬‬ ‫ّ‬ ‫األصولييـن في االع ِتدال الفكر ّي ‪ -‬الدكتور‪ :‬حسن الخطاف ‪38 ................................................................................‬‬ ‫أثـر مناهج‬ ‫َّ‬ ‫حقوق ذوي االحتياجات‬ ‫الخاصة من منظور القرآن الكريم ‪ -‬الدكتور‪ :‬محمد محمود كالو ‪45 ....................................................‬‬ ‫َّ‬ ‫ُّ‬ ‫العلمي في زمن الثورات العرب َّـية ‪ -‬الدكتور‪ :‬عبد الجواد حردان ‪53 .....................................................................................‬‬ ‫الفراغ‬ ‫األصولي في تفسيـر ُّ‬ ‫ُّ‬ ‫النصوص وتطبـيقه على آية الجزية ‪ -‬الدكتور‪ :‬أحمد السعدي ‪65 ..................................................‬‬ ‫املنهج‬ ‫موقف اإلسالم من الظاهرة القومية ‪ -‬الدكتور‪ :‬حسيـن عبد الهادي آل بكر ‪72 .........................................................................‬‬

‫ﺃﺳﺮﺓ ﺍﻟﺘﺤﺮﻳﺮ‬ ‫رئيس التحـريـر‪ :‬الدكتور حسيـن عبد الهادي آل بكر‬ ‫مديـر التـ ـ ــحريـر‪ :‬ال ـ ــدكت ـ ـ ــور حس ـ ــن أحـمــد الخـط ـ ـ ــاف‬ ‫الـم ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـح ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــرر‪ :‬األس ـ ـت ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــاذ م ـ ـح ـ ـم ـ ــد ع ـ ـل ـ ــي الن ـ ـج ـ ــار‬ ‫مستشار علمـي‪ :‬الدكت ـ ـ ـ ــور م ــحم ـ ـ ـ ــد أيمـ ـ ـ ــن الجمـ ـ ـ ــال‬ ‫املدقق اللغوي‪ :‬األستـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــاذ أحـ ـم ـ ــد ع ـل ـ ــي ال ـيـوس ـ ــف‬ ‫ال ـبـريـ ـ ـ ـ ــد اإللك ـ ـ ـ ـتـرونـ ــي للـمجل ـ ـ ـ ــة‪jou@sy-sic.com :‬‬

‫العدد ‪2‬‬

‫رجب ‪1439‬هـ‬ ‫آذار ‪2018‬م‬

‫القدس أرض رباط وجهاد إلى يوم القيامة ‪ -‬الدكتور‪ :‬ليث سعود ‪79 ...........................................................................................‬‬ ‫اإلسالمي من الفرد إلى َّ‬ ‫ُّ‬ ‫بـنـياننا‬ ‫الدولة ‪ -‬الدكتور‪ :‬محمد العبدة ‪85 .............................................................................................‬‬ ‫الس َّنة ّ‬ ‫ُّ‬ ‫الن َّ‬ ‫الذمة في ُّ‬ ‫الرد على شبهة (األمر بإهانة أهل َّ‬ ‫بوية)‪ .‬الدكتور‪ :‬علي محمد حسن األزهري ‪89 ..........................................‬‬ ‫الفتح أم االنتصار للمظلوم؟ ‪ -‬الدكتور‪ :‬محمد أيمن الجمال ‪92 ..............................................................................................‬‬ ‫«إلى رسول هللا» قصيدة شع َّرية ‪ -‬الشاعر‪ :‬أنس الدغيم ‪94 ......................................................................................................‬‬ ‫بقايا مداد ‪ -‬الدكتور‪ :‬عبد الكريم بكار ‪96 ...................................................................................................................................‬‬


‫محتويات العدد‬ ‫حصاد قرن من الزمان ‪ -‬رئيس التحريـر ‪2 ..................................................................................................................................‬‬ ‫ُ‬ ‫َّ‬ ‫وضوابطه ‪ -‬الدكتور‪ :‬معاذ الخن ‪5 ..............................................................................................................................‬‬ ‫التكفي ُـر‬ ‫ِ‬ ‫ّ‬ ‫رعية في تقديم وجود َّ‬ ‫قواعد ّ‬ ‫الش َّ‬ ‫الدولة املسلمة‬ ‫السياسة‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ومصالحها على إقامة الحدود ‪ -‬الباحث‪ :‬محمد علي النجار‪16 ...................................................................................................‬‬ ‫اإلمام عبد القادر الجيالن ّـي وتالمذته في اإلصالح‬ ‫جهود ِ‬ ‫ُّ‬ ‫السن ّ ِـي وبـناء املدارس ‪ -‬الدكتور‪ :‬أيمن يزبك ‪28 ..........................................................................................................................‬‬ ‫ّ‬ ‫األصولييـن في االع ِتدال الفكر ّي ‪ -‬الدكتور‪ :‬حسن الخطاف ‪38 ................................................................................‬‬ ‫أثـر مناهج‬ ‫َّ‬ ‫حقوق ذوي االحتياجات‬ ‫الخاصة من منظور القرآن الكريم ‪ -‬الدكتور‪ :‬محمد محمود كالو ‪45 ....................................................‬‬ ‫َّ‬ ‫ُّ‬ ‫العلمي في زمن الثورات العرب َّـية ‪ -‬الدكتور‪ :‬عبد الجواد حردان ‪53 .....................................................................................‬‬ ‫الفراغ‬ ‫األصولي في تفسيـر ُّ‬ ‫ُّ‬ ‫النصوص وتطبـيقه على آية الجزية ‪ -‬الدكتور‪ :‬أحمد السعدي ‪65 ..................................................‬‬ ‫املنهج‬ ‫موقف اإلسالم من الظاهرة القومية ‪ -‬الدكتور‪ :‬حسيـن عبد الهادي آل بكر ‪72 .........................................................................‬‬

‫ﺃﺳﺮﺓ ﺍﻟﺘﺤﺮﻳﺮ‬ ‫رئيس التحـريـر‪ :‬الدكتور حسيـن عبد الهادي آل بكر‬ ‫مديـر التـ ـ ــحريـر‪ :‬ال ـ ــدكت ـ ـ ــور حس ـ ــن أحـمــد الخـط ـ ـ ــاف‬ ‫الـم ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـح ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــرر‪ :‬األس ـ ـت ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــاذ م ـ ـح ـ ـم ـ ــد ع ـ ـل ـ ــي الن ـ ـج ـ ــار‬ ‫مستشار علمـي‪ :‬الدكت ـ ـ ـ ــور م ــحم ـ ـ ـ ــد أيمـ ـ ـ ــن الجمـ ـ ـ ــال‬ ‫املدقق اللغوي‪ :‬األستـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــاذ أحـ ـم ـ ــد ع ـل ـ ــي ال ـيـوس ـ ــف‬ ‫ال ـبـريـ ـ ـ ـ ــد اإللك ـ ـ ـ ـتـرونـ ــي للـمجل ـ ـ ـ ــة‪jou@sy-sic.com :‬‬

‫العدد ‪2‬‬

‫رجب ‪1439‬هـ‬ ‫آذار ‪2018‬م‬

‫القدس أرض رباط وجهاد إلى يوم القيامة ‪ -‬الدكتور‪ :‬ليث سعود ‪79 ...........................................................................................‬‬ ‫اإلسالمي من الفرد إلى َّ‬ ‫ُّ‬ ‫بـنـياننا‬ ‫الدولة ‪ -‬الدكتور‪ :‬محمد العبدة ‪85 .............................................................................................‬‬ ‫الس َّنة ّ‬ ‫ُّ‬ ‫الن َّ‬ ‫الذمة في ُّ‬ ‫الرد على شبهة (األمر بإهانة أهل َّ‬ ‫بوية)‪ .‬الدكتور‪ :‬علي محمد حسن األزهري ‪89 ..........................................‬‬ ‫الفتح أم االنتصار للمظلوم؟ ‪ -‬الدكتور‪ :‬محمد أيمن الجمال ‪92 ..............................................................................................‬‬ ‫«إلى رسول هللا» قصيدة شع َّرية ‪ -‬الشاعر‪ :‬أنس الدغيم ‪94 ......................................................................................................‬‬ ‫بقايا مداد ‪ -‬الدكتور‪ :‬عبد الكريم بكار ‪96 ...................................................................................................................................‬‬


‫افتتاحية العدد‬

‫افتتاحية العدد‬

‫العدد ‪ 2‬رجب ‪1439‬هـ‬

‫ٍ‬ ‫قرن من الزّمان‬ ‫حصادُ‬ ‫د‪ .‬حسيـن عبد الهادي آل بكر ‪ -‬رئيس التحريـر‬

‫إن التدافــع بـي ــن البشــر فــي هــذه الحيــاة الدن ــيا ســنة َّ‬ ‫إلهيــة قاهــرة‪ ،‬تم�شــي علــى كل البشــرمؤمنهــم وكافرهــم قــال هللا تعالــى‪:‬‬ ‫َ َ ْ َ َ ْ ُ َّ َّ َ َ ْ َ ُ ْ َ ْ َ َ َ َ ْ َ ْ ُ َ َ َّ َّ َ ُ َ ْ َ ْ َ‬ ‫ضـ ٍـل َعلــى ال َع ِالي ـ َـن )) [ســورة البقــرة‪ ،]251 :‬وقــال تعالــى‪:‬‬ ‫ـض لفســد ِت الرض ول ِكــن الل ذو ف‬ ‫(( ولــول دفــع ِ‬ ‫الل النــاس بعضهــم ِببعـ ٍ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫ٌ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫َّ‬ ‫َ َ ْ َ َ ْ ُ َّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ٌ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫الل ك ِثي ًـرا )) [سورة الحج‪ :‬آية ‪.]40‬‬ ‫اجد يذك ُر ِفيها اسم ِ‬ ‫(( ولول دفع ِ‬ ‫ض له ِدمت صو ِامع و ِبيع وصلوات ومس ِ‬ ‫الل الناس بعضهم ِببع ٍ‬ ‫والحكمــة مــن هــذا التدافــع لــم يهتـ ِـد إليهــا أحـ ٌـد قبــل نــزول القـرآن‬ ‫الكريــم؛ ذلــك ألن هللا خلــق األنــواع وأراد لهــا البقــاء‪ ،‬فــأودع فيهــا‬ ‫قوى تدافع بها عن نفسها‪ ،‬ولوال هذه القوى التـي ّ‬ ‫ً‬ ‫خولها هللا تعالى‬ ‫األنــواع الشـ ّ‬ ‫ـتد طمــع القــوي فــي إهــاك الضعيــف‪ ...‬فبهــذا التدافــع‬ ‫حصلــت ســامة القــوي كمــا حصلــت ســامة الضعيــف ً‬ ‫أيضــا‪ ،‬ألن‬ ‫القــوي إذا وجــد التعــب واألذى فــي االعتــداء علــى الضعفــاء ســئمت‬ ‫نفســه ودعتــه إلــى الكــف واالقتصــار علــى مــا فــي يــده‪.‬‬ ‫ولعــل الحــروب بأنواعهــا مــن أعظــم مظاهــر ســنة التدافــع بـي ــن‬ ‫البشــر‪ ،‬فبالحــروب الجائــرة يطلــب املعتــدي االســتحواذ علــى‬ ‫مــا فــي أيــدي الضعفــاء‪ ،‬وبالحــروب العادلــة ي ــنتصف املحــق مــن‬ ‫املبطــل والضعيــف مــن القــوي‪.‬‬ ‫ولعلــه ال يمكــن املــرور علــى هــذه املســألة دون التوقــف علــى‬ ‫البــون الشاســع فــي اختــاف مفاهيــم الصـراع والتدافــع بـي ــن الغــرب‬ ‫واملسلمي ــن‪ ...‬فاملســلمون هدفهــم تبليــغ دي ــن هللا لعبــاده وتحري ــر‬ ‫اإلنســان ونشــر الرخــاء والســام‪ ،‬وقــد لخــص ربعــي ب ــن عامــر ر�ضــي‬ ‫ْ‬ ‫هللا عنه ذلك عندما سأله رستم‪ :‬ما جاء بكم؟ فقال‪ُ َّ :‬‬ ‫(الل ْاب َت َعث َنا‬ ‫ُّ ْ‬ ‫ل ُن ْخر َج َم ْن َش َاء م ْن ع َب َادة ْالع َباد إ َلى ع َب َادة َّ َ ْ‬ ‫الدن َيا‬ ‫يق‬ ‫ِ ِ ِ ِ ِ ِ ِ ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫الل‪ ،‬و ِمن ِض ِ‬ ‫َ ِ َ َ َ ْ َ ْ ََْْ َ َ ْ ْ ْ َ‬ ‫الســا ِم)‪.‬‬ ‫ِإلــى ِســع ِتها‪ ،‬و ِمــن جــو ِر الديـ ِـان ِإلــى عــد ِل ِ‬ ‫بـي ــنما نجــد أهــداف الغــرب فــي الحــروب تــكاد تنحصــر فــي القضــاء‬ ‫علــى اآلخــر وإلغائــه والســيطرة علــى مــا فــي يــده مــن خــال فلســفة‬ ‫البقاء لألقوى حسب نظرية دارون‪ ،‬ونظرية هوبز الذي يـرى أن‬

‫اإلنســان ذئــب ألخيــه اإلنســان وأنــه مجبــول بطبعــه علــى األنان ــية‬ ‫والطمــع وليســت الحيــاة إال مســرح لحــرب الــكل علــى الــكل‪ ...‬وهــذا‬ ‫هــو الفــارق بـي ــن دوافعنــا نحــن املسلمي ــن فــي الجهــاد ومجالــدة‬ ‫الظاملي ــن وبـي ــن دوافــع الغــرب فــي الحــرب والصـراع‪.‬‬ ‫لقــد بــدأ العالــم الغرب ــي التفافــه حــول العالــم اإلســامي فــي العــام‬ ‫الــذي ســقطت فيــه غرناطــة وتــم فيــه اقتــاع اإلســام مــن غــرب أوربــا‬ ‫فــي القــرن الخامــس عشــر امليــادي‪ ،‬ثــم ُ‬ ‫اقت ِحــم العالــم اإلســامي‬ ‫مــن خــال حملــة نابليــون علــى مصــر فــي أواخــر القــرن الثامــن عشــر‬ ‫امليــادي ‪ ،‬واسـ ّ‬ ‫ـتمر التآمــر علــى العالــم اإلســامي املتهــاوي حتــى‬ ‫معاهــدة ســايكس ب ــيكو عــام ‪1916/‬م‪ /‬ووعــد بلفــور ‪1917/‬م‪./‬‬ ‫لقــد ّ‬ ‫حقــق الغــرب فــي حربــه علــى اإلســام أهدافــا عــدة وتقــدم فيهــا‬ ‫خطــوات خطي ــرة‪ ...‬وكانــت أكب ــر ضربــة وجههــا للمسلي ــن إســقاطه‬ ‫الخالفــة اإلســامية عــام ‪1924/‬م‪ /‬حيــث حقــق هدفــه األول وهــو‬ ‫إســقاط إســطنبول العاصمــة السياســية للمسلمي ــن وقبــل ذلــك ‪-‬‬ ‫وبواســطة الحملتـي ــن الفرنســية والبـريطان ــية ومــا تبعهمــا ‪ -‬حقــق‬ ‫هدفــه بإخ ـراج القاهــرة العاصمــة العلميــة للمسلمي ــن مــن دائــرة‬ ‫الصراع اإلســامي الغرب ــي‪ ...‬ونتج عن ذلك تحقيقه لهدفه الثالث‬ ‫فــي اتفاقيــة ســايكس ب ــيكو أال وهــو تمزيــق األمــة إلــى دويــات بحــدود‬ ‫سياسية وجغرافية أصبحت مقدسة عند بعض املسلميـن أكثـر‬ ‫من قداسة األمة نفسها‪ ،‬ولم يكتف بذلك حتى زرع في فلسطي ــن‬ ‫ً‬ ‫كيانــا ًّ‬ ‫ً‬ ‫غاصبــا ي ـراقب تنفيــذ خططــه بكافــة مراحلهــا‪.‬‬ ‫يهوديــا‬ ‫‪2‬‬

‫ولقــد تحــول الغــرب بعــد هــذه االنتصارات‬ ‫إلــى املرحلــة الالحقــة واألخطــر أال وهــي‬ ‫ًّ‬ ‫ًّ‬ ‫وعقائديــا وإزالــة‬ ‫فكريــا‬ ‫تدمي ــر األمــة‬ ‫اإلســام مــن الحيــاة وإحــال الثقافــة‬ ‫الغرب ــية محلــه‪ ،‬ولكنــه فشــل فــي هــذه‬ ‫املرحلــة وهــا هــو منــذ أكث ــر مــن نصــف‬ ‫قــرن يحــاول ذلــك ولكــن دون جــدوى‪...‬‬ ‫ومــا الصحــوة اإلســامية إال دليــل علــى‬ ‫هــذا الفشــل‪ ،‬كمــا أصبــح سماســرته‬ ‫ً‬ ‫الذي ــن طبلــوا وزمــروا لــه ً‬ ‫منــا طويــا فلــول‬ ‫ز‬ ‫منبــوذة فــي الواقــع ال أث ــر لهــم إال علــى‬ ‫طبقــات قليلــة فــي املجتمــع‪ ،‬ويــدل علــى‬ ‫ذلــك نتائــج االنتخابــات فــي عمــوم بلــدان‬ ‫العالــم اإلســامي‪.‬‬ ‫ورغــم كل املصائــب الت ــي حلــت ب ــنا مــن‬ ‫الغــرب وعمالئــه ال زال هنــاك مــن بعــض‬ ‫املحسوبـي ــن علــى هــذه األمــة مــن يتفلســف‬ ‫وي ــنكر وجــود أي تآمــر علــى هــذه األمــة بــل‬ ‫ويزعــم أن كل مــا أصاب ــنا مــن نكبــات مــا‬ ‫هــو إال أحــداث طب ــيعية يجــب أن نعتــاد‬ ‫عليهــا وال نظلــم حمــاة اإلنسان ــية ‪ -‬الغــرب‬ ‫وطفلتهــم إس ـرائيل ‪ -‬ونحملهــم مــا أصاب ــنا‬ ‫وباقــي األمــم الضعيفــة مــن فقــر وتخلــف‬ ‫ودمــار‪ ،‬مــع العلــم أننــا خرجنــا مــن مرحلــة‬ ‫التآمــر إلــى مرحلــة التالحــم ‪.‬‬ ‫وإن قضيــة فلسطي ــن لهــي أوضــح هــذه‬ ‫امليادي ــن الت ــي اجتمــع فيهــا العالــم الغرب ــي‬ ‫واليهــودي بــكل أطيافــه وتآمــر عليهــا عب ــر‬ ‫مخطــط مــدروس ال يجهلــه عاقــل‪...‬‬ ‫وسأســتعرض مخطــط التآمــر علــى‬ ‫ّ‬ ‫فلسطي ــن‪ ،‬وكيــف تــم تنفيــذه بدقــة كل‬ ‫عشــر ســنوات أو عشري ــن ســنة حتــى‬

‫العدد ‪ 2‬رجب ‪1439‬هـ‬

‫وصــل العــدو إلــى مرحلــة إعــان مدي ــنة‬ ‫القــدس عاصمــة إلس ـرائيل‪:‬‬ ‫‪ -1‬لقــد بــدأت خطــة اليهــود والغــرب فــي‬ ‫التآمــر علــى فلسطي ــن بخطوتهــا العمليــة‬ ‫األولى باملؤتمر الصهيون ــي األول في مدي ــنة‬ ‫بــال بسويس ـرا عــام ‪1897‬م‪.‬‬ ‫‪ -2‬ثم مؤتمر نبـرمان عام ‪1907‬م‪.‬‬ ‫‪ -3‬ثم وعد بلفور عام ‪1917‬م‪.‬‬ ‫‪ -4‬وتلتهــا مرحلــة التأســيس عب ــر اقت ـراح‬ ‫لجنة بـيل تقسيم فلسطيـن عام ‪1937‬م‪.‬‬ ‫‪ -5‬وتمــت مرحلــة التنفيــذ عب ــر والدة‬ ‫الكيــان الصهيون ــي عــام ‪1948‬م‪.‬‬ ‫‪ -6‬وأمــا مرحلــة التمــدد فقــد كانــت فــي‬ ‫حــرب حزي ـران وهزيمــة األنظمــة القوميــة‬ ‫العلمان ــية‪ ،‬حــرب الســت ســاعات عــام‬ ‫‪1967‬م‪.‬‬ ‫‪ -7‬ليصلــوا بعدهــا إلــى االعت ـراف الرســمي‬ ‫بوجــوده مــن خــال زيــارة الســادات‬ ‫للقــدس عــام ‪1977‬م‪.‬‬ ‫‪ -8‬إعــان انتهــاء الحــرب معــه بتوقيــع‬ ‫اتفــاق الســلطة الفلسطيـن ــية مــع اليهــود‬ ‫عــام ‪1997‬م‪.‬‬ ‫‪ -9‬وإجمــاع حكومــي عرب ــي علــى اســتجداء‬ ‫الســام مــع إسـرائيل عب ــر مــا ســمي (بســام‬ ‫الشــجعان) أو ســام املتخاذلي ــن في مؤتمر‬ ‫القمــة العرب ــية فــي بـي ــروت عــام ‪2002‬م‪.‬‬ ‫ً‬ ‫‪ -10‬وأخيـر ــا اعت ـراف ت ـرامب بالقــدس‬ ‫عاصمــة إلس ـرائيل عــام ‪2017‬م‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫إن الخطــوات الســابقة تبـي ــن مخطــط‬ ‫التآمــر الصهيون ــي والعالمــي علــى‬ ‫فلسطي ــن خــال أكث ــر مــن قــرن مــن‬

‫الزمــان‪ ،‬وقــد شــارك فــي هــذا التآمــر‬ ‫الغــرب الرأســمالي والشــرق الشــيوعي‬ ‫واألنظمــة الت ــي كشــفت عــن ســقوطها فــي‬ ‫قمــة بـي ــروت عــام ‪2002‬م‪.‬‬ ‫هــذا مــا خلفتــه األنظمــة االســتبدادية‬ ‫املتخلفــة بعــد رحلــة قــرن مــن الزمــن‬ ‫لشــعوبها جهــل وضعــف وفتنــة فضاعــت‬ ‫األرض ودنســت املقدســات وهــدرت‬ ‫ُ‬ ‫الكرامــة وفقــد األمــن‪.‬‬ ‫إن املتتبــع ملسي ــرة األحــداث العامليــة‬ ‫فــي عصــر العوملــة فــي القــرن الحــادي‬ ‫والعشري ــن يجدهــا تصــب جميعهــا‬ ‫فــي مصــب واحـ ٍـد وهــو تطويــق العالــم‬ ‫اإلســامي‪ ،‬واســتنزاف مــوارده وخي ـراته‪.‬‬ ‫وتــزداد الحســرة وامل ـرارة فــي قلــب املســلم‬ ‫ً‬ ‫مدعومــا‬ ‫حي ــن ي ــرى الوجــود الصهيون ــي‬ ‫بتأييــد ومباركــة األنظمــة العامليــة‬ ‫والعرب ــية علــى الســواء‪ ،‬دون أن تلــوح فــي‬ ‫األفــق بارقــة أمــل بتغي ــر هــذا الواقــع علــى‬ ‫املــدى القريــب علــى األقــل‪.‬‬ ‫وليــت األمــر وقــف عنــد ضعــف هــؤالء‬ ‫الحــكام أو ســكوتهم بــل تعـ ّـداه اليــوم‬ ‫ّ‬ ‫ـداء ورضاهــم ون ــيل‬ ‫إلــى مخاطبــة ود األعـ ِ‬ ‫الحظــوة واملكانــة لديهــم‪ ،‬وقــد آن األوان‬ ‫ حســب زعمهــم ‪ -‬لت ــرفرف رايــات الســام‬‫واالزدهــار والرخــاء علــى املنطقــة‪ ،‬وفــي‬ ‫ً‬ ‫املقابــل تــزداد إس ـرائيل ّ‬ ‫تعن ًتــا ووحشـ ّـية‬ ‫ضـ ّـد الوجــود الفلسطيـن ـ ّ ِـي وكل مــن‬ ‫َّ‬ ‫يتحدث عنه أو ّ‬ ‫يؤيده‪ ،‬بل إن أي شخص‬ ‫ِ‬ ‫أو جهــة تطالــب بإنقــاذ القــدس واألق�صــى‬ ‫َّ‬ ‫باألصوليــة واإلرهــاب‬ ‫مــن اليهــود تتهــم‬ ‫َّ‬ ‫والرجعيــة والعيــش خــارج الواقــع‪.‬‬ ‫‪3‬‬


‫افتتاحية العدد‬

‫افتتاحية العدد‬

‫العدد ‪ 2‬رجب ‪1439‬هـ‬

‫ٍ‬ ‫قرن من الزّمان‬ ‫حصادُ‬ ‫د‪ .‬حسيـن عبد الهادي آل بكر ‪ -‬رئيس التحريـر‬

‫إن التدافــع بـي ــن البشــر فــي هــذه الحيــاة الدن ــيا ســنة َّ‬ ‫إلهيــة قاهــرة‪ ،‬تم�شــي علــى كل البشــرمؤمنهــم وكافرهــم قــال هللا تعالــى‪:‬‬ ‫َ َ ْ َ َ ْ ُ َّ َّ َ َ ْ َ ُ ْ َ ْ َ َ َ َ ْ َ ْ ُ َ َ َّ َّ َ ُ َ ْ َ ْ َ‬ ‫ضـ ٍـل َعلــى ال َع ِالي ـ َـن )) [ســورة البقــرة‪ ،]251 :‬وقــال تعالــى‪:‬‬ ‫ـض لفســد ِت الرض ول ِكــن الل ذو ف‬ ‫(( ولــول دفــع ِ‬ ‫الل النــاس بعضهــم ِببعـ ٍ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫ٌ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫َّ‬ ‫َ َ ْ َ َ ْ ُ َّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ٌ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫الل ك ِثي ًـرا )) [سورة الحج‪ :‬آية ‪.]40‬‬ ‫اجد يذك ُر ِفيها اسم ِ‬ ‫(( ولول دفع ِ‬ ‫ض له ِدمت صو ِامع و ِبيع وصلوات ومس ِ‬ ‫الل الناس بعضهم ِببع ٍ‬ ‫والحكمــة مــن هــذا التدافــع لــم يهتـ ِـد إليهــا أحـ ٌـد قبــل نــزول القـرآن‬ ‫الكريــم؛ ذلــك ألن هللا خلــق األنــواع وأراد لهــا البقــاء‪ ،‬فــأودع فيهــا‬ ‫قوى تدافع بها عن نفسها‪ ،‬ولوال هذه القوى التـي ّ‬ ‫ً‬ ‫خولها هللا تعالى‬ ‫األنــواع الشـ ّ‬ ‫ـتد طمــع القــوي فــي إهــاك الضعيــف‪ ...‬فبهــذا التدافــع‬ ‫حصلــت ســامة القــوي كمــا حصلــت ســامة الضعيــف ً‬ ‫أيضــا‪ ،‬ألن‬ ‫القــوي إذا وجــد التعــب واألذى فــي االعتــداء علــى الضعفــاء ســئمت‬ ‫نفســه ودعتــه إلــى الكــف واالقتصــار علــى مــا فــي يــده‪.‬‬ ‫ولعــل الحــروب بأنواعهــا مــن أعظــم مظاهــر ســنة التدافــع بـي ــن‬ ‫البشــر‪ ،‬فبالحــروب الجائــرة يطلــب املعتــدي االســتحواذ علــى‬ ‫مــا فــي أيــدي الضعفــاء‪ ،‬وبالحــروب العادلــة ي ــنتصف املحــق مــن‬ ‫املبطــل والضعيــف مــن القــوي‪.‬‬ ‫ولعلــه ال يمكــن املــرور علــى هــذه املســألة دون التوقــف علــى‬ ‫البــون الشاســع فــي اختــاف مفاهيــم الصـراع والتدافــع بـي ــن الغــرب‬ ‫واملسلمي ــن‪ ...‬فاملســلمون هدفهــم تبليــغ دي ــن هللا لعبــاده وتحري ــر‬ ‫اإلنســان ونشــر الرخــاء والســام‪ ،‬وقــد لخــص ربعــي ب ــن عامــر ر�ضــي‬ ‫ْ‬ ‫هللا عنه ذلك عندما سأله رستم‪ :‬ما جاء بكم؟ فقال‪ُ َّ :‬‬ ‫(الل ْاب َت َعث َنا‬ ‫ُّ ْ‬ ‫ل ُن ْخر َج َم ْن َش َاء م ْن ع َب َادة ْالع َباد إ َلى ع َب َادة َّ َ ْ‬ ‫الدن َيا‬ ‫يق‬ ‫ِ ِ ِ ِ ِ ِ ِ ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫الل‪ ،‬و ِمن ِض ِ‬ ‫َ ِ َ َ َ ْ َ ْ ََْْ َ َ ْ ْ ْ َ‬ ‫الســا ِم)‪.‬‬ ‫ِإلــى ِســع ِتها‪ ،‬و ِمــن جــو ِر الديـ ِـان ِإلــى عــد ِل ِ‬ ‫بـي ــنما نجــد أهــداف الغــرب فــي الحــروب تــكاد تنحصــر فــي القضــاء‬ ‫علــى اآلخــر وإلغائــه والســيطرة علــى مــا فــي يــده مــن خــال فلســفة‬ ‫البقاء لألقوى حسب نظرية دارون‪ ،‬ونظرية هوبز الذي يـرى أن‬

‫اإلنســان ذئــب ألخيــه اإلنســان وأنــه مجبــول بطبعــه علــى األنان ــية‬ ‫والطمــع وليســت الحيــاة إال مســرح لحــرب الــكل علــى الــكل‪ ...‬وهــذا‬ ‫هــو الفــارق بـي ــن دوافعنــا نحــن املسلمي ــن فــي الجهــاد ومجالــدة‬ ‫الظاملي ــن وبـي ــن دوافــع الغــرب فــي الحــرب والصـراع‪.‬‬ ‫لقــد بــدأ العالــم الغرب ــي التفافــه حــول العالــم اإلســامي فــي العــام‬ ‫الــذي ســقطت فيــه غرناطــة وتــم فيــه اقتــاع اإلســام مــن غــرب أوربــا‬ ‫فــي القــرن الخامــس عشــر امليــادي‪ ،‬ثــم ُ‬ ‫اقت ِحــم العالــم اإلســامي‬ ‫مــن خــال حملــة نابليــون علــى مصــر فــي أواخــر القــرن الثامــن عشــر‬ ‫امليــادي ‪ ،‬واسـ ّ‬ ‫ـتمر التآمــر علــى العالــم اإلســامي املتهــاوي حتــى‬ ‫معاهــدة ســايكس ب ــيكو عــام ‪1916/‬م‪ /‬ووعــد بلفــور ‪1917/‬م‪./‬‬ ‫لقــد ّ‬ ‫حقــق الغــرب فــي حربــه علــى اإلســام أهدافــا عــدة وتقــدم فيهــا‬ ‫خطــوات خطي ــرة‪ ...‬وكانــت أكب ــر ضربــة وجههــا للمسلي ــن إســقاطه‬ ‫الخالفــة اإلســامية عــام ‪1924/‬م‪ /‬حيــث حقــق هدفــه األول وهــو‬ ‫إســقاط إســطنبول العاصمــة السياســية للمسلمي ــن وقبــل ذلــك ‪-‬‬ ‫وبواســطة الحملتـي ــن الفرنســية والبـريطان ــية ومــا تبعهمــا ‪ -‬حقــق‬ ‫هدفــه بإخ ـراج القاهــرة العاصمــة العلميــة للمسلمي ــن مــن دائــرة‬ ‫الصراع اإلســامي الغرب ــي‪ ...‬ونتج عن ذلك تحقيقه لهدفه الثالث‬ ‫فــي اتفاقيــة ســايكس ب ــيكو أال وهــو تمزيــق األمــة إلــى دويــات بحــدود‬ ‫سياسية وجغرافية أصبحت مقدسة عند بعض املسلميـن أكثـر‬ ‫من قداسة األمة نفسها‪ ،‬ولم يكتف بذلك حتى زرع في فلسطي ــن‬ ‫ً‬ ‫كيانــا ًّ‬ ‫ً‬ ‫غاصبــا ي ـراقب تنفيــذ خططــه بكافــة مراحلهــا‪.‬‬ ‫يهوديــا‬ ‫‪2‬‬

‫ولقــد تحــول الغــرب بعــد هــذه االنتصارات‬ ‫إلــى املرحلــة الالحقــة واألخطــر أال وهــي‬ ‫ًّ‬ ‫ًّ‬ ‫وعقائديــا وإزالــة‬ ‫فكريــا‬ ‫تدمي ــر األمــة‬ ‫اإلســام مــن الحيــاة وإحــال الثقافــة‬ ‫الغرب ــية محلــه‪ ،‬ولكنــه فشــل فــي هــذه‬ ‫املرحلــة وهــا هــو منــذ أكث ــر مــن نصــف‬ ‫قــرن يحــاول ذلــك ولكــن دون جــدوى‪...‬‬ ‫ومــا الصحــوة اإلســامية إال دليــل علــى‬ ‫هــذا الفشــل‪ ،‬كمــا أصبــح سماســرته‬ ‫ً‬ ‫الذي ــن طبلــوا وزمــروا لــه ً‬ ‫منــا طويــا فلــول‬ ‫ز‬ ‫منبــوذة فــي الواقــع ال أث ــر لهــم إال علــى‬ ‫طبقــات قليلــة فــي املجتمــع‪ ،‬ويــدل علــى‬ ‫ذلــك نتائــج االنتخابــات فــي عمــوم بلــدان‬ ‫العالــم اإلســامي‪.‬‬ ‫ورغــم كل املصائــب الت ــي حلــت ب ــنا مــن‬ ‫الغــرب وعمالئــه ال زال هنــاك مــن بعــض‬ ‫املحسوبـي ــن علــى هــذه األمــة مــن يتفلســف‬ ‫وي ــنكر وجــود أي تآمــر علــى هــذه األمــة بــل‬ ‫ويزعــم أن كل مــا أصاب ــنا مــن نكبــات مــا‬ ‫هــو إال أحــداث طب ــيعية يجــب أن نعتــاد‬ ‫عليهــا وال نظلــم حمــاة اإلنسان ــية ‪ -‬الغــرب‬ ‫وطفلتهــم إس ـرائيل ‪ -‬ونحملهــم مــا أصاب ــنا‬ ‫وباقــي األمــم الضعيفــة مــن فقــر وتخلــف‬ ‫ودمــار‪ ،‬مــع العلــم أننــا خرجنــا مــن مرحلــة‬ ‫التآمــر إلــى مرحلــة التالحــم ‪.‬‬ ‫وإن قضيــة فلسطي ــن لهــي أوضــح هــذه‬ ‫امليادي ــن الت ــي اجتمــع فيهــا العالــم الغرب ــي‬ ‫واليهــودي بــكل أطيافــه وتآمــر عليهــا عب ــر‬ ‫مخطــط مــدروس ال يجهلــه عاقــل‪...‬‬ ‫وسأســتعرض مخطــط التآمــر علــى‬ ‫ّ‬ ‫فلسطي ــن‪ ،‬وكيــف تــم تنفيــذه بدقــة كل‬ ‫عشــر ســنوات أو عشري ــن ســنة حتــى‬

‫العدد ‪ 2‬رجب ‪1439‬هـ‬

‫وصــل العــدو إلــى مرحلــة إعــان مدي ــنة‬ ‫القــدس عاصمــة إلس ـرائيل‪:‬‬ ‫‪ -1‬لقــد بــدأت خطــة اليهــود والغــرب فــي‬ ‫التآمــر علــى فلسطي ــن بخطوتهــا العمليــة‬ ‫األولى باملؤتمر الصهيون ــي األول في مدي ــنة‬ ‫بــال بسويس ـرا عــام ‪1897‬م‪.‬‬ ‫‪ -2‬ثم مؤتمر نبـرمان عام ‪1907‬م‪.‬‬ ‫‪ -3‬ثم وعد بلفور عام ‪1917‬م‪.‬‬ ‫‪ -4‬وتلتهــا مرحلــة التأســيس عب ــر اقت ـراح‬ ‫لجنة بـيل تقسيم فلسطيـن عام ‪1937‬م‪.‬‬ ‫‪ -5‬وتمــت مرحلــة التنفيــذ عب ــر والدة‬ ‫الكيــان الصهيون ــي عــام ‪1948‬م‪.‬‬ ‫‪ -6‬وأمــا مرحلــة التمــدد فقــد كانــت فــي‬ ‫حــرب حزي ـران وهزيمــة األنظمــة القوميــة‬ ‫العلمان ــية‪ ،‬حــرب الســت ســاعات عــام‬ ‫‪1967‬م‪.‬‬ ‫‪ -7‬ليصلــوا بعدهــا إلــى االعت ـراف الرســمي‬ ‫بوجــوده مــن خــال زيــارة الســادات‬ ‫للقــدس عــام ‪1977‬م‪.‬‬ ‫‪ -8‬إعــان انتهــاء الحــرب معــه بتوقيــع‬ ‫اتفــاق الســلطة الفلسطيـن ــية مــع اليهــود‬ ‫عــام ‪1997‬م‪.‬‬ ‫‪ -9‬وإجمــاع حكومــي عرب ــي علــى اســتجداء‬ ‫الســام مــع إسـرائيل عب ــر مــا ســمي (بســام‬ ‫الشــجعان) أو ســام املتخاذلي ــن في مؤتمر‬ ‫القمــة العرب ــية فــي بـي ــروت عــام ‪2002‬م‪.‬‬ ‫ً‬ ‫‪ -10‬وأخيـر ــا اعت ـراف ت ـرامب بالقــدس‬ ‫عاصمــة إلس ـرائيل عــام ‪2017‬م‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫إن الخطــوات الســابقة تبـي ــن مخطــط‬ ‫التآمــر الصهيون ــي والعالمــي علــى‬ ‫فلسطي ــن خــال أكث ــر مــن قــرن مــن‬

‫الزمــان‪ ،‬وقــد شــارك فــي هــذا التآمــر‬ ‫الغــرب الرأســمالي والشــرق الشــيوعي‬ ‫واألنظمــة الت ــي كشــفت عــن ســقوطها فــي‬ ‫قمــة بـي ــروت عــام ‪2002‬م‪.‬‬ ‫هــذا مــا خلفتــه األنظمــة االســتبدادية‬ ‫املتخلفــة بعــد رحلــة قــرن مــن الزمــن‬ ‫لشــعوبها جهــل وضعــف وفتنــة فضاعــت‬ ‫األرض ودنســت املقدســات وهــدرت‬ ‫ُ‬ ‫الكرامــة وفقــد األمــن‪.‬‬ ‫إن املتتبــع ملسي ــرة األحــداث العامليــة‬ ‫فــي عصــر العوملــة فــي القــرن الحــادي‬ ‫والعشري ــن يجدهــا تصــب جميعهــا‬ ‫فــي مصــب واحـ ٍـد وهــو تطويــق العالــم‬ ‫اإلســامي‪ ،‬واســتنزاف مــوارده وخي ـراته‪.‬‬ ‫وتــزداد الحســرة وامل ـرارة فــي قلــب املســلم‬ ‫ً‬ ‫مدعومــا‬ ‫حي ــن ي ــرى الوجــود الصهيون ــي‬ ‫بتأييــد ومباركــة األنظمــة العامليــة‬ ‫والعرب ــية علــى الســواء‪ ،‬دون أن تلــوح فــي‬ ‫األفــق بارقــة أمــل بتغي ــر هــذا الواقــع علــى‬ ‫املــدى القريــب علــى األقــل‪.‬‬ ‫وليــت األمــر وقــف عنــد ضعــف هــؤالء‬ ‫الحــكام أو ســكوتهم بــل تعـ ّـداه اليــوم‬ ‫ّ‬ ‫ـداء ورضاهــم ون ــيل‬ ‫إلــى مخاطبــة ود األعـ ِ‬ ‫الحظــوة واملكانــة لديهــم‪ ،‬وقــد آن األوان‬ ‫ حســب زعمهــم ‪ -‬لت ــرفرف رايــات الســام‬‫واالزدهــار والرخــاء علــى املنطقــة‪ ،‬وفــي‬ ‫ً‬ ‫املقابــل تــزداد إس ـرائيل ّ‬ ‫تعن ًتــا ووحشـ ّـية‬ ‫ضـ ّـد الوجــود الفلسطيـن ـ ّ ِـي وكل مــن‬ ‫َّ‬ ‫يتحدث عنه أو ّ‬ ‫يؤيده‪ ،‬بل إن أي شخص‬ ‫ِ‬ ‫أو جهــة تطالــب بإنقــاذ القــدس واألق�صــى‬ ‫َّ‬ ‫باألصوليــة واإلرهــاب‬ ‫مــن اليهــود تتهــم‬ ‫َّ‬ ‫والرجعيــة والعيــش خــارج الواقــع‪.‬‬ ‫‪3‬‬


‫افتتاحية العدد‬ ‫وأصبحــت الواقعيــة عنــد كثي ــر مــن‬ ‫املثقفي ــن واملفكري ــن فــي أن تق�ضــي‬ ‫الشــعوب العرب ــية واإلســامية عمرهــا‬ ‫وهــي تتذبــذب فــي اللهــاث خلــف االتحــاد‬ ‫األورب ــي أو اقتــاع لألبــواب والنوافــذ أمــام‬ ‫تأمــرك اقتصــادي سيا�ســي ثقافــي يتبــارى‬ ‫فيــه الصغــار والكبــار‪.‬‬ ‫وفيمــا تــا أحــداث الرب ــيع العرب ــي مــن‬ ‫هجمة علمانـية غربـية شرسة على ثوابتنا‬ ‫األصيلــة؛ يبــدو أن آليــة التآمــر تمتــد حتــى‬ ‫نجــد قسـ ًـما مــن املثقفي ــن املذبذبـي ــن‬ ‫ي ــنفيها ألســباب غي ــر مقنعــه‪ ...‬وحســب‬ ‫ّ‬ ‫اطالعــي فــإن هــؤالء املفتونـي ــن بالقيــم‬ ‫الغرب ــية مقلــدون وليســوا مبتدعي ــن‬ ‫فــي هــذا الطــرح؛ فهــم ي ـ ّ‬ ‫ـرددون فــي هــذه‬ ‫املســألة أقــوال ّ‬ ‫كتــاب يعيشــون فــي الغــرب‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫بخلفيــات‬ ‫ويكتبــون وي ــنظرون لواقعنــا‬ ‫ّ‬ ‫إيديولوجيــة غرب ـ ّـية؛ فهــم عندمــا ي ــنفون‬ ‫خطــط التآمــر علــى ّأمتنــا يبغــون مــن‬ ‫وراء نفيهــم هــذا قتــل روح التحــدي في ــنا‬ ‫واالســتكانة للواقــع األليــم حيــث ننســلق‬ ‫ً‬ ‫ونشــوى وال نبــدي ح ـراكا‪ ،‬ونذبــح ونحــن‬ ‫نقبــل يــد جالدنــا‪.‬‬ ‫إن مواجهــة الواقــع بالحقيقــة املــرة‬ ‫هــي الحــل‪ ،‬بــل إن فتــح ملفــات التآمــر‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫قديمــا وحديثــا ومحاســبة‬ ‫علــى أمتنــا‬ ‫العمــاء واألغب ــياء الذي ــن ســاهموا‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫حقيقيــا لوضــع‬ ‫فتحــا‬ ‫فيــه؛ يعتب ــر‬ ‫النقــاط علــى الحــروف بــدل الــدوران فــي‬ ‫حلقــة مفرغــة فــي دائــرة ثقافــة الثـرث ــرة‬ ‫والتفلســف الهابــط‪.‬‬

‫التكفيـر وضوابطه‬

‫العدد ‪ 2‬رجب ‪1439‬هـ‬

‫ثورة الشعب السوري قد أسقطت‬ ‫األقنعة عن املتاجريـن بحقوق اإلنسان‬ ‫وفضحت النظام العاملي الجديد‬ ‫وإن قضيــة فلسطي ــن والقــدس ال تحتــاج‬ ‫إلــى تفسي ــر‪ ،‬فقــد وقعــت ضحيــة جهــل‬ ‫وضعــف املحسوبـي ــن عليهــا بــل وتآمــر‬ ‫بعضهــم مــع أعدائهــا‪ ،‬أمــا ثــورة الشــعب‬ ‫الســوري فقــد أســقطت األقنعــة عــن‬ ‫املتاجري ــن بحقــوق اإلنســان وفضحــت‬ ‫النظــام العالمــي الجديــد وأثبتــت أن‬ ‫العالــم يعيــش فــي غابــة وأصبــح مفلســا‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫وقيميــا وحضارّيــا ويحتــاج إلــى‬ ‫أخالقيــا‬ ‫منقــذ ‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫وأريــد أن أشي ــر إلــى أن املؤامــرة قــد نفــذت‬ ‫وانتهــت‪ ،‬ونحــن اليــوم قــد انتقلنــا مــن‬ ‫مرحلــة املؤامــرة إلــى مرحلــة املواجهــة‬ ‫املكشــوفة مــع املتآمري ــن لقــد ســقطت‬ ‫ورقــة التــوت ولــم تبــق حجــة إال ألعمــى‪.‬‬ ‫إن الهاجــس األكب ــر للغــرب فــي هــذه‬ ‫األيــام هــو مشــكلة الصحــوة اإلســامية‬ ‫الت ــي ت ــرفضها القيــادة الغرب ــية بــل‬ ‫وتواجههــا بعنــف بالــغ وهــي فــي داخــل‬ ‫الب ــناء االجتماعــي الغرب ــي‪ ،‬وهــذا‬ ‫الخــوف بــدوره يــؤدي إلــى هاجــس‬ ‫أكث ــر تعقيـ ًـدا وهــو خــوف الغــرب‬ ‫مــن اإليديولوجيــا اإلســامية الت ــي‬ ‫تشــكل خطـ ًـرا علــى اإليديولوجيــا‬ ‫الليب ــرالية‪ ...‬وليــس مــا أطرحــه هنــا‬ ‫مــن وحــي اجتهــادي‪ ،‬وإنمــا هــو اســتقراء‬

‫واســتنتاج لطروحــات الغربـيي ــن‬ ‫أنفســهم أمثــال فوكويامــا وصامويــل‬ ‫هنتنغتــون وتومــاس فريدمــان وغي ــرهم‬ ‫كثي ــر؛ حيــث يقــول مصرفــي غرب ــي‪ :‬لــو‬ ‫عــرف االقتصاديــون فــي الغــرب املزيــد‬ ‫عــن الق ـرآن لفهمــوا قيمــة االقتصــاد‬ ‫اإلســامي(‪ ،)1‬وبــدوري أنصــح الكتــاب‬ ‫املنهزمي ــن نفسـ ًّـيا دعــاة الثقافــة الغرب ــية‬ ‫أن ي ـراجعوا أفكارهــم مــن خــال الواقــع‪،‬‬ ‫وأال يجلــدوا أنفســهم كثي ـ ًـرا فإنهــم بذلــك‬ ‫يــدورون فــي دائــرة ثقافــة الهزيمــة الت ــي‬ ‫حملهــا ونشــرها سماســرة الغــزو الفكــري‬ ‫فــي ســاحتنا‪ ،‬وقــد أصبحــوا ضحيــة لهــا مــن‬ ‫حيــث ال يشــعرون‪.‬‬ ‫ـآس‬ ‫وعلــى رغــم مــا يمــر باألمــة مــن مـ ٍ‬ ‫وعراقيــل منــذ حقبــة االســتقالل‪،‬‬ ‫ورغــم مــا نشــاهده مــن تعاظــم ســطوة‬ ‫َ‬ ‫وخد ِمهــا مــن‬ ‫املؤسســات التغريب ــية‬ ‫متطرفي ــن وإرهابـيي ــن؛ فإننــا اليــوم فــي‬ ‫مرحلــة است ــيقاظ إســامي شــامل‪ ،‬وحــال‬ ‫مثقفي ــنا املتغربـي ــن هــو اآلن أكث ــر ً‬ ‫بؤســا‬ ‫ً‬ ‫إفالســا مــن حالهــم إبــان بواكي ــر‬ ‫وأعظــم‬ ‫االنبهــار بالغــرب‪.‬‬ ‫وفــي الختــام أقــول‪ :‬مــن ســنن هللا فــي الحيــاة‬ ‫أن يـنتصر أصحاب املبادئ على أصحاب‬ ‫القــوة هــذا هــو منطــق ســنن التاريــخ‪.‬‬

‫العدد ‪ 2‬رجب ‪1439‬هـ‬

‫التّكفيـ ُر و ضوابِ ُطه‬ ‫د‪ .‬معاذ الخن ‪ -‬رئيس مجلس اإلفتاء السوري‬

‫بـيـن يدي البحث‬ ‫الحمــد هلل رب العاملي ــن والصــاة‬ ‫والســام علــى نبـي ــنا محمــد إمــام األنب ــياء‬ ‫واملرسلي ــن وعلــى آلــه وأصحابــه أجمعي ــن‪،‬‬ ‫َ َ َّ َ َ‬ ‫اطــي‬ ‫يقــول هللا تعالــى‪(( :‬وأن هــذا ِص َر ِ‬ ‫يما َف َّاتب ُعـ ُ‬ ‫ـوه َو َل َت َّتب ُعــوا ُّ‬ ‫ُم ْسـ َـت ِق ً‬ ‫السـ ُـب َل‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َ​َ​َ َ ُ‬ ‫َ ُ ْ َ َّ ُ‬ ‫صاكـ ْـم‬ ‫فتفـ َّـرق ِبكـ ْـم َعـ ْـن َسـ ِـب ِيل ِه ذ ِلكــم و‬ ‫َ َّ ُ َ َّ ُ َ‬ ‫ِبـ ِـه ل َعلكـ ْـم تتقــون)) [ســورة األنعــام‪ :‬آيــة‬ ‫‪ ]153‬أمــا بعــد‪:‬‬ ‫فلــكل دي ــن حــدوده مــن تجاوزهــا عـ ّـد خار ًجــا‬ ‫ً‬ ‫معرضــا عــن شــرائعه مسـ ً‬ ‫ـتوجبا‬ ‫عــن الدي ــن‬ ‫للعقوبــة‪ ،‬والقــرآن الكريــم عب ــر عــن أحكامــه‬ ‫بالحــدود فقــال‪(( :‬تلــك حــدود هللا فــا‬ ‫تقربوهــا)) [ســورة البقــرة‪ :‬آيــة ‪ ]187‬وقــال‪:‬‬ ‫((تلــك حــدود هللا فــا تعتدوهــا)) [ســورة‬ ‫البقــرة‪ :‬آيــة ‪ ]229‬وأهــل الســنة والجماعــة‬ ‫بمنهجهــم الــذي يقــوم علــى الحــق والعــدل‬ ‫وإنصــاف املخالــف يقفــون موقــف الوســط‬ ‫بـي ــن منهجــي اإلفــراط والتفريــط‪ ،‬فهنــاك مــن‬

‫يغالــي فــي التكفي ــر ويحكــم بــه علــى مــن ال يســتحقه شـ ً‬ ‫ـرعا‪ ،‬وهنــاك مــن‬ ‫ي ــريد أن يجعــل مــن اإلســام ً‬ ‫مائعــا ليــس لــه حــدود وال ضوابــط بدعــوى‬ ‫ســماحته ويســره‪ ،‬فــكان ال بـ ّـد مــن منهــج ضابــط لهــذه املســألة يكــون‬ ‫ً‬ ‫متوافقــا مــع نصــوص الكتــاب والســنة وفهــم الســلف وعلمــاء األمــة‬ ‫املشــهود لهــم بالصــدق واإلمامــة والفقــه فــي الدي ــن؛ ألن هــذه املســألة‬ ‫مــن الخطــورة بمــكان إذ تســتباح فيهــا الدمــاء وتنــزع فيهــا الحقــوق؛‬ ‫لــذا كتــب كثي ــر مــن العلمــاء فــي القديــم والحديــث حــول هــذا املوضــوع‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫تأصيــا وضبطــا‪ ،‬وجــاءت بعــض هــذه البحــوث مــا بـي ــن طويــل ممـ ٍ ّـل أو‬ ‫قصي ــر مخـ ّـل‪ ،‬وقــد زادت الحاجــة فــي زماننــا لهــذا املوضــوع بســبب ب ــروز‬ ‫ت ــيارات غاليــة فــي األمــة تســلك مســلك التكفي ــر بغي ــر علــم وال ضبــط‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫الصافيــة ّ‬ ‫ـورة اإلســام ّ‬ ‫فكث ــر املظلومــون وشــوهت صـ‬ ‫النقيــة‪ ،‬وصــار‬ ‫يفت ــي فــي هــذه املســألة حدثــاء األســنان ســفهاء األحــام جهــاء املعرفــة‪،‬‬ ‫فــكان البـ ّـد مــن تأصيــل شــرعي لهــذه املســألة يبـي ــن خطورتهــا وأحكامهــا‬ ‫وضوابطهــا‪ ..‬وقــد تكلمــت عــن هــذه املســألة فــي مبحثي ــن‪:‬‬ ‫األول‪ :‬مقدمــة فــي التعريــف باملســألة ومكانهــا مــن أحــكام الشــرع‬ ‫وخطــورة التعامــل معهــا‪ ،‬وب ــيان معنــى اإليمــان ومــا يتعلــق بــه مــن‬ ‫مســائل‪.‬‬ ‫والثان ــي‪ :‬تكلمــت فيــه عــن أهــم القواعــد والضوابــط املعتب ــرة فــي‬ ‫مســألة التكفي ــر‪ ،‬وذلــك مــن خــال مجموعــة قواعــد نــص عليهــا‬ ‫علمــاء الســنة فــي مواضــع مختلفــة مــن مباحــث العقائــد أو األحــكام‪.‬‬

‫(‪ ) 1‬اإلسالم والغرب والديمقراطية ص‪2‬ـ ‪ 4‬عبد الواحد علوانـي‬

‫‪4‬‬

‫‪5‬‬


‫افتتاحية العدد‬ ‫وأصبحــت الواقعيــة عنــد كثي ــر مــن‬ ‫املثقفي ــن واملفكري ــن فــي أن تق�ضــي‬ ‫الشــعوب العرب ــية واإلســامية عمرهــا‬ ‫وهــي تتذبــذب فــي اللهــاث خلــف االتحــاد‬ ‫األورب ــي أو اقتــاع لألبــواب والنوافــذ أمــام‬ ‫تأمــرك اقتصــادي سيا�ســي ثقافــي يتبــارى‬ ‫فيــه الصغــار والكبــار‪.‬‬ ‫وفيمــا تــا أحــداث الرب ــيع العرب ــي مــن‬ ‫هجمة علمانـية غربـية شرسة على ثوابتنا‬ ‫األصيلــة؛ يبــدو أن آليــة التآمــر تمتــد حتــى‬ ‫نجــد قسـ ًـما مــن املثقفي ــن املذبذبـي ــن‬ ‫ي ــنفيها ألســباب غي ــر مقنعــه‪ ...‬وحســب‬ ‫ّ‬ ‫اطالعــي فــإن هــؤالء املفتونـي ــن بالقيــم‬ ‫الغرب ــية مقلــدون وليســوا مبتدعي ــن‬ ‫فــي هــذا الطــرح؛ فهــم ي ـ ّ‬ ‫ـرددون فــي هــذه‬ ‫املســألة أقــوال ّ‬ ‫كتــاب يعيشــون فــي الغــرب‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫بخلفيــات‬ ‫ويكتبــون وي ــنظرون لواقعنــا‬ ‫ّ‬ ‫إيديولوجيــة غرب ـ ّـية؛ فهــم عندمــا ي ــنفون‬ ‫خطــط التآمــر علــى ّأمتنــا يبغــون مــن‬ ‫وراء نفيهــم هــذا قتــل روح التحــدي في ــنا‬ ‫واالســتكانة للواقــع األليــم حيــث ننســلق‬ ‫ً‬ ‫ونشــوى وال نبــدي ح ـراكا‪ ،‬ونذبــح ونحــن‬ ‫نقبــل يــد جالدنــا‪.‬‬ ‫إن مواجهــة الواقــع بالحقيقــة املــرة‬ ‫هــي الحــل‪ ،‬بــل إن فتــح ملفــات التآمــر‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫قديمــا وحديثــا ومحاســبة‬ ‫علــى أمتنــا‬ ‫العمــاء واألغب ــياء الذي ــن ســاهموا‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫حقيقيــا لوضــع‬ ‫فتحــا‬ ‫فيــه؛ يعتب ــر‬ ‫النقــاط علــى الحــروف بــدل الــدوران فــي‬ ‫حلقــة مفرغــة فــي دائــرة ثقافــة الثـرث ــرة‬ ‫والتفلســف الهابــط‪.‬‬

‫التكفيـر وضوابطه‬

‫العدد ‪ 2‬رجب ‪1439‬هـ‬

‫ثورة الشعب السوري قد أسقطت‬ ‫األقنعة عن املتاجريـن بحقوق اإلنسان‬ ‫وفضحت النظام العاملي الجديد‬ ‫وإن قضيــة فلسطي ــن والقــدس ال تحتــاج‬ ‫إلــى تفسي ــر‪ ،‬فقــد وقعــت ضحيــة جهــل‬ ‫وضعــف املحسوبـي ــن عليهــا بــل وتآمــر‬ ‫بعضهــم مــع أعدائهــا‪ ،‬أمــا ثــورة الشــعب‬ ‫الســوري فقــد أســقطت األقنعــة عــن‬ ‫املتاجري ــن بحقــوق اإلنســان وفضحــت‬ ‫النظــام العالمــي الجديــد وأثبتــت أن‬ ‫العالــم يعيــش فــي غابــة وأصبــح مفلســا‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫وقيميــا وحضارّيــا ويحتــاج إلــى‬ ‫أخالقيــا‬ ‫منقــذ ‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫وأريــد أن أشي ــر إلــى أن املؤامــرة قــد نفــذت‬ ‫وانتهــت‪ ،‬ونحــن اليــوم قــد انتقلنــا مــن‬ ‫مرحلــة املؤامــرة إلــى مرحلــة املواجهــة‬ ‫املكشــوفة مــع املتآمري ــن لقــد ســقطت‬ ‫ورقــة التــوت ولــم تبــق حجــة إال ألعمــى‪.‬‬ ‫إن الهاجــس األكب ــر للغــرب فــي هــذه‬ ‫األيــام هــو مشــكلة الصحــوة اإلســامية‬ ‫الت ــي ت ــرفضها القيــادة الغرب ــية بــل‬ ‫وتواجههــا بعنــف بالــغ وهــي فــي داخــل‬ ‫الب ــناء االجتماعــي الغرب ــي‪ ،‬وهــذا‬ ‫الخــوف بــدوره يــؤدي إلــى هاجــس‬ ‫أكث ــر تعقيـ ًـدا وهــو خــوف الغــرب‬ ‫مــن اإليديولوجيــا اإلســامية الت ــي‬ ‫تشــكل خطـ ًـرا علــى اإليديولوجيــا‬ ‫الليب ــرالية‪ ...‬وليــس مــا أطرحــه هنــا‬ ‫مــن وحــي اجتهــادي‪ ،‬وإنمــا هــو اســتقراء‬

‫واســتنتاج لطروحــات الغربـيي ــن‬ ‫أنفســهم أمثــال فوكويامــا وصامويــل‬ ‫هنتنغتــون وتومــاس فريدمــان وغي ــرهم‬ ‫كثي ــر؛ حيــث يقــول مصرفــي غرب ــي‪ :‬لــو‬ ‫عــرف االقتصاديــون فــي الغــرب املزيــد‬ ‫عــن الق ـرآن لفهمــوا قيمــة االقتصــاد‬ ‫اإلســامي(‪ ،)1‬وبــدوري أنصــح الكتــاب‬ ‫املنهزمي ــن نفسـ ًّـيا دعــاة الثقافــة الغرب ــية‬ ‫أن ي ـراجعوا أفكارهــم مــن خــال الواقــع‪،‬‬ ‫وأال يجلــدوا أنفســهم كثي ـ ًـرا فإنهــم بذلــك‬ ‫يــدورون فــي دائــرة ثقافــة الهزيمــة الت ــي‬ ‫حملهــا ونشــرها سماســرة الغــزو الفكــري‬ ‫فــي ســاحتنا‪ ،‬وقــد أصبحــوا ضحيــة لهــا مــن‬ ‫حيــث ال يشــعرون‪.‬‬ ‫ـآس‬ ‫وعلــى رغــم مــا يمــر باألمــة مــن مـ ٍ‬ ‫وعراقيــل منــذ حقبــة االســتقالل‪،‬‬ ‫ورغــم مــا نشــاهده مــن تعاظــم ســطوة‬ ‫َ‬ ‫وخد ِمهــا مــن‬ ‫املؤسســات التغريب ــية‬ ‫متطرفي ــن وإرهابـيي ــن؛ فإننــا اليــوم فــي‬ ‫مرحلــة است ــيقاظ إســامي شــامل‪ ،‬وحــال‬ ‫مثقفي ــنا املتغربـي ــن هــو اآلن أكث ــر ً‬ ‫بؤســا‬ ‫ً‬ ‫إفالســا مــن حالهــم إبــان بواكي ــر‬ ‫وأعظــم‬ ‫االنبهــار بالغــرب‪.‬‬ ‫وفــي الختــام أقــول‪ :‬مــن ســنن هللا فــي الحيــاة‬ ‫أن يـنتصر أصحاب املبادئ على أصحاب‬ ‫القــوة هــذا هــو منطــق ســنن التاريــخ‪.‬‬

‫العدد ‪ 2‬رجب ‪1439‬هـ‬

‫التّكفيـ ُر و ضوابِ ُطه‬ ‫د‪ .‬معاذ الخن ‪ -‬رئيس مجلس اإلفتاء السوري‬

‫بـيـن يدي البحث‬ ‫الحمــد هلل رب العاملي ــن والصــاة‬ ‫والســام علــى نبـي ــنا محمــد إمــام األنب ــياء‬ ‫واملرسلي ــن وعلــى آلــه وأصحابــه أجمعي ــن‪،‬‬ ‫َ َ َّ َ َ‬ ‫اطــي‬ ‫يقــول هللا تعالــى‪(( :‬وأن هــذا ِص َر ِ‬ ‫يما َف َّاتب ُعـ ُ‬ ‫ـوه َو َل َت َّتب ُعــوا ُّ‬ ‫ُم ْسـ َـت ِق ً‬ ‫السـ ُـب َل‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َ​َ​َ َ ُ‬ ‫َ ُ ْ َ َّ ُ‬ ‫صاكـ ْـم‬ ‫فتفـ َّـرق ِبكـ ْـم َعـ ْـن َسـ ِـب ِيل ِه ذ ِلكــم و‬ ‫َ َّ ُ َ َّ ُ َ‬ ‫ِبـ ِـه ل َعلكـ ْـم تتقــون)) [ســورة األنعــام‪ :‬آيــة‬ ‫‪ ]153‬أمــا بعــد‪:‬‬ ‫فلــكل دي ــن حــدوده مــن تجاوزهــا عـ ّـد خار ًجــا‬ ‫ً‬ ‫معرضــا عــن شــرائعه مسـ ً‬ ‫ـتوجبا‬ ‫عــن الدي ــن‬ ‫للعقوبــة‪ ،‬والقــرآن الكريــم عب ــر عــن أحكامــه‬ ‫بالحــدود فقــال‪(( :‬تلــك حــدود هللا فــا‬ ‫تقربوهــا)) [ســورة البقــرة‪ :‬آيــة ‪ ]187‬وقــال‪:‬‬ ‫((تلــك حــدود هللا فــا تعتدوهــا)) [ســورة‬ ‫البقــرة‪ :‬آيــة ‪ ]229‬وأهــل الســنة والجماعــة‬ ‫بمنهجهــم الــذي يقــوم علــى الحــق والعــدل‬ ‫وإنصــاف املخالــف يقفــون موقــف الوســط‬ ‫بـي ــن منهجــي اإلفــراط والتفريــط‪ ،‬فهنــاك مــن‬

‫يغالــي فــي التكفي ــر ويحكــم بــه علــى مــن ال يســتحقه شـ ً‬ ‫ـرعا‪ ،‬وهنــاك مــن‬ ‫ي ــريد أن يجعــل مــن اإلســام ً‬ ‫مائعــا ليــس لــه حــدود وال ضوابــط بدعــوى‬ ‫ســماحته ويســره‪ ،‬فــكان ال بـ ّـد مــن منهــج ضابــط لهــذه املســألة يكــون‬ ‫ً‬ ‫متوافقــا مــع نصــوص الكتــاب والســنة وفهــم الســلف وعلمــاء األمــة‬ ‫املشــهود لهــم بالصــدق واإلمامــة والفقــه فــي الدي ــن؛ ألن هــذه املســألة‬ ‫مــن الخطــورة بمــكان إذ تســتباح فيهــا الدمــاء وتنــزع فيهــا الحقــوق؛‬ ‫لــذا كتــب كثي ــر مــن العلمــاء فــي القديــم والحديــث حــول هــذا املوضــوع‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫تأصيــا وضبطــا‪ ،‬وجــاءت بعــض هــذه البحــوث مــا بـي ــن طويــل ممـ ٍ ّـل أو‬ ‫قصي ــر مخـ ّـل‪ ،‬وقــد زادت الحاجــة فــي زماننــا لهــذا املوضــوع بســبب ب ــروز‬ ‫ت ــيارات غاليــة فــي األمــة تســلك مســلك التكفي ــر بغي ــر علــم وال ضبــط‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫الصافيــة ّ‬ ‫ـورة اإلســام ّ‬ ‫فكث ــر املظلومــون وشــوهت صـ‬ ‫النقيــة‪ ،‬وصــار‬ ‫يفت ــي فــي هــذه املســألة حدثــاء األســنان ســفهاء األحــام جهــاء املعرفــة‪،‬‬ ‫فــكان البـ ّـد مــن تأصيــل شــرعي لهــذه املســألة يبـي ــن خطورتهــا وأحكامهــا‬ ‫وضوابطهــا‪ ..‬وقــد تكلمــت عــن هــذه املســألة فــي مبحثي ــن‪:‬‬ ‫األول‪ :‬مقدمــة فــي التعريــف باملســألة ومكانهــا مــن أحــكام الشــرع‬ ‫وخطــورة التعامــل معهــا‪ ،‬وب ــيان معنــى اإليمــان ومــا يتعلــق بــه مــن‬ ‫مســائل‪.‬‬ ‫والثان ــي‪ :‬تكلمــت فيــه عــن أهــم القواعــد والضوابــط املعتب ــرة فــي‬ ‫مســألة التكفي ــر‪ ،‬وذلــك مــن خــال مجموعــة قواعــد نــص عليهــا‬ ‫علمــاء الســنة فــي مواضــع مختلفــة مــن مباحــث العقائــد أو األحــكام‪.‬‬

‫(‪ ) 1‬اإلسالم والغرب والديمقراطية ص‪2‬ـ ‪ 4‬عبد الواحد علوانـي‬

‫‪4‬‬

‫‪5‬‬


‫التكفيـر وضوابطه‬

‫املبحث األول‪:‬‬ ‫تعريف عام‬ ‫مبسألة التكفيـر‬ ‫ومعنى اإلميان‬ ‫‪ )1‬تعريف التكفيـر‪:‬‬ ‫هــو‪ :‬الحكــم بالكفــر‪ ،‬قــال الغزالــي‪ :‬التكفي ــر‬ ‫حكــم شــرعي كالــرق والحريــة(‪.)1‬‬ ‫‪ )2‬خطورة التكفيـر‪:‬‬ ‫إن التساهل في الحكم بالتكفيـر خروج عن‬ ‫منهــج هللا وال نت ــيجة لهــذا الخــروج إال الفرقــة‬ ‫والشــقاء واقتتــال اإلخــوة وضعفهــم وتســلط‬ ‫عدوهــم عليهــم‪ ،‬فالحكــم علــى مســلم بالكفــر‬ ‫بمثابة قتله‪ ،‬كما أخبـرنا بذلك النبـي صلى هللا‬ ‫عليــه وســلم بقولــه‪(( :‬ومــن مــى ً‬ ‫مؤمنــا بكفــر‬ ‫ر‬ ‫فهــو كقتلــه))( ‪ )2‬لــذا ال يصــار إليــه بالتشــهي‬ ‫والهــوى والظــن‪ ،‬وقــد حــذر النب ــي صلــى هللا‬ ‫عليــه وســلم مــن الوقــوع فيــه حتــى قــال‪(( :‬إذا‬ ‫قــال الرجــل ألخيــه املؤمــن يــا كافــر فقــد بــاء‬ ‫بهــا أحدهمــا‪ ،‬فــإن كان كمــا قــال أو رجعــت‬ ‫عليــه))(‪ )3‬أي‪ :‬رجعــت عليــه معصيــة تكفي ــره‪،‬‬ ‫فالراجــع التكفي ــر ال الكفــر كمــا ذكــر أكث ــر‬ ‫املحققيـن كالنووي والقرطبـي وابـن حجر ( ‪.)4‬‬ ‫ً‬ ‫وإدراكا من العلماء لخطورة التكفيـرفقد‬ ‫أعملوا فيه قاعدة (الخطأ في العفو خي ــر‬ ‫مــن الخطــأ فــي العقوبــة) يقــول اإلمــام أبــو‬ ‫حامد الغزالي رحمه هللا‪( :‬ويـنبغي االحتـراز‬

‫مــن التكفي ــر مــا وجــد اإلنســان إلــى ذلــك‬ ‫سب ــيال‪ ،‬فــإن اســتباحة الدمــاء واألمــوال‬ ‫مــن املصلي ــن إلــى القبلــة املصرحي ــن بقــول‬ ‫ٌ‬ ‫(ال إلــه إال هللا محمــد رســول هللا) خطــأ ‪،‬‬ ‫والخطأ في ت ــرك ألف كافرفي الحياة أهون‬ ‫مــن ســفك محجمــة مــن دم مســلم)(‪.)5‬‬ ‫كما أن الحكم به تتـرتب عليه الكثيـرمن‬ ‫األحــكام الشــرعية‪ ،‬كقطــع املــواالة والتفريق‬ ‫بـي ــن الزوجي ــن ومنــع التــوارث وإباحــة الــدم‬ ‫وغي ــر ذلــك‪ ،‬لهــذا تــورع علمــاء الســنة فــي‬ ‫كل العصــور عــن الحكــم بكفــر مســلم إال فــي‬ ‫حــاالت قليلــة ممــن تطاولــت أعناقهــم علــى‬ ‫الديـن ولم يتـركوا لإليمان في أعناقهم شيئا‪.‬‬ ‫ولعــل التكفي ــر بــا دليــل معتب ــر هــو إحــدى‬ ‫مالمــح الخــوارج البــارزة والت ــي نتجــت عــن‬ ‫الجهــل بأحــكام الدي ــن وقواعــده ومقاصــده‬ ‫وقــد أخب ــر النب ــي صلــى هللا عليــه وســلم‬ ‫عــن هــؤالء الخارجي ــن عــن الجــادة بقولــه‬ ‫(‪)6‬‬ ‫((يقــرؤون الق ـرآن ال يجــاوز حناجرهــم))‬ ‫َ ْ‬ ‫َ‬ ‫وفــي روايــة َ‬ ‫((ي ْقـ َـرؤون ال ُقـ ْـر َآن ال ُي َجـ ِـاو ُز‬ ‫َح َناج َر ُهـ ْـم َي ْم ُر ُقــو َن مـ َـن اإل ْسـ َـام ُمـ ُـر َ‬ ‫وق‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫َ َّ َّ َ ْ ُ ُ َ َ ْ َ ْ َ‬ ‫َّ ْ‬ ‫اإلســا ِم‬ ‫الســه ِم ِمـ َـن الر ِميـ َ ِـة يقتلــون أهــل ِ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َو َي َد ُعــون أ ْهـ َـل األ ْوثـ ِـان))(‪.)7‬‬ ‫‪ )3‬التكفيـربـيـن اإلفراط والتفريط‪:‬‬ ‫قــد ت ــرى بعــض املتأثـري ــن بالفكــر الحداثــي‬ ‫ي ــنكر أن يكــون هنــاك حكــم اســمه‬ ‫(التكفي ــر) ويعتب ــر ذلــك مــن االعتــداء‬ ‫علــى حريــة اآلخــر‪ ...‬والحقيقــة أن قضيــة‬

‫(‪ )1‬فيصل التفرقة بـيـن اإلسالم والزندقة للغزالي (ص‪.)128‬‬ ‫(‪ )2‬صحيح البخاري‪ ،‬باب من أكفر أخاه بغيـر تأويل فهو كما قال‪ ،‬رقم (‪ ،)5754‬تحقيق البغا‪ ،‬طبعة دار ابـن كثيـر ‪.1987‬‬ ‫(‪ )3‬متفق عليه عن ابـن عمر ر�ضي هللا عنه‪ ،‬أخرجه البخاري في باب من أكفر أخاه بغيـر تأويل فهو كما قال‪ ،‬رقم (‪.)5753‬‬ ‫(‪ )4‬فتح الباري (ص‪.)466/10‬‬ ‫(‪ )5‬االقتصاد في االعتقاد للغزالي (ص‪.)135‬‬ ‫(‪ )6‬متفق عليه عن أبـي سعيد الخدري ر�ضي هللا عنه‪ ،‬أخرجه البخاري في باب قتل الخوارج وامللحديـن بعد إقامة الحجة عليهم‪ ،‬رقم (‪.)6532‬‬ ‫(‪ )7‬متفق عليه عن أبـي سعيد الخدري ر�ضي هللا عنه كما سبق‪ ،‬وقوله (يقتلون أهل اإلسالم‪ )...‬رواها النسائي والحاكم وغيـرهما‪.‬‬

‫التكفيـر وضوابطه‬

‫العدد ‪ 2‬رجب ‪1439‬هـ‬

‫َّ‬ ‫التكفي ــر مســألة تــكاد تكــون مطــردة‬ ‫الوجــود لــدى كل أتبــاع الديانــات؛ إذ‬ ‫الناس في نظرهم مؤمن وغيـر مؤمن وليس‬ ‫هــذا حكـ ًـرا علــى اإلســام‪ ...‬والدي ــن الــذي ال‬ ‫ضوابــط فيــه لإليمــان أو الكفــر دي ــن هالمــي‬ ‫ليــس لــه حــدود‪ ...‬وكمــا أن تمييــع الدي ــن‬ ‫انحراف خطيـر فإن تجاوز الحد في التكفيـر‬ ‫والغلــو فيــه انح ـراف ً‬ ‫أيضــا عــن املنهــج‬ ‫الصحيــح‪ ...‬فاملذهــب العــدل الوســط هــو‬ ‫تكفيـرمنيستحقالتكفيـرباألدلةاملعتبـرةمع‬ ‫االحتـياطوعدمتكفيـرمناليستحقه‪،‬ويمثل‬ ‫الخ ـوارج واملرجئــة فــي هــذه املســألة نموذجــي‬ ‫اإلف ـراط والتفريــط فــي التاريــخ اإلسـ ّ‬ ‫ـامي‪.‬‬ ‫‪ )4‬املرجــع فــي ضبــط املصطلحــات‬ ‫الشــرعية الكتــاب والســنة واآلثــار‪:‬‬ ‫فــي محاولــة مــن امللحدي ــن فــي الدي ــن لطمــس‬ ‫معالــم الشــريعة يحــاول بعضهــم تفسي ــر‬ ‫مــا ورد مــن مصطلحــات ديـن ــية كالكفــر‬ ‫واإليمــان والفســق وغي ــرها فــي الق ـرآن‬ ‫الكريــم تفسي ـ ًـرا ًّ‬ ‫لغويــا بعيـ ًـدا عــن املعنــى‬ ‫االصطالحـ ّ ِـي الــذي ب ـ ّـينته نصــوص الكتــاب‬ ‫والســنة‪ ،‬والحقيقــة أن كالمهــم مــردود‬ ‫عليهــم ألن الضابــط فــي تحديــد معان ــي هــذه‬ ‫املصطلحــات هــو النصــوص الشـ َّ‬ ‫ـرعية‬ ‫وال يصــار إلــى املعنــى اللغــو ّ ِي واشــتقاقاته‬ ‫وشــواهده إال فــي حــال عــدم وجــود النــص‬ ‫املفســر لهــا‪ ...‬يقــول اب ــن ت ــيمية رحمــه هللا‪:‬‬ ‫(ومــا ي ــنبغي أن يعلــم أن األلفــاظ املوجــودة‬ ‫فــي القـرآن والحديــث إذا عــرف تفسي ــرها ومــا‬

‫‪6‬‬

‫أريد بها من جهة النبـي صلى هللا عليه وسلم‬ ‫لــم يحتــج فــي ذلــك إلــى االســتدالل بأقــوال أهــل‬ ‫اللغــة وال غي ــرهم)(‪.)8‬‬ ‫‪ )5‬ما هي حقيقة اإليمان؟‬ ‫ال تــدرك حقيقــة الكفــر إال بمعرفــة حقيقــة‬ ‫اإليمــان‪ ،‬ولهــذا ال بــد لنــا مــن التعريــف‬ ‫بــه‪ ،‬فهــو فــي اللغــة‪ :‬مطلــق التصديــق‪ ،‬وفــي‬ ‫االصطــاح‪ :‬تصديــق القلــب وقــول اللســان‬ ‫وعمــل القلــب والجــوارح‪.‬‬ ‫فتصديــق القلــب إق ـراره وقــول اللســان‬ ‫النطــق بالشهادتـي ــن وعمــل القلــب اإلذعــان‬ ‫والقبــول واالنقيــاد وعمــل الجــوارح إت ــيانها‬ ‫باملأمــورات وت ــرك املنهيــات‪ ،‬قــال اإلمــام‬ ‫البخــاري‪( :‬لقيــت أكث ــر مــن ألــف رجــل مــن‬ ‫العلمــاء باألمصــار فمــا رأيــت أن أحـ ًـدا منهــم‬ ‫يختلــف فــي أن اإليمــان قــول وعمــل يزيــد‬ ‫وي ــنقص(‪ )9‬وهــذا نقلــه الاللكائــي عــن‬ ‫ّ‬ ‫ـافعي وأحمــد وإســحق وأب ــي عب ــيد وأب ــي‬ ‫الشـ ِ‬ ‫زرعــة وغي ــرهم(‪.)10‬‬ ‫‪ )6‬تحقيــق مســألة (اإليمــان تصديــق‬ ‫للخب ــر وانقيــاد لآلمــر) ‪:‬‬ ‫إن التصديــق بوحدان ــية هللا ونبــوة رســول‬ ‫هللا صلــى هللا عليــه وســلم وحدهمــا ال يكفــي‬ ‫ليدخــل اإلنســان تحــت اســم اإلســام‪ ،‬حتــى‬ ‫يؤديه هذا التصديق إلى التسليم هلل وانعقاد‬ ‫القلب على التصديق بمقت�ضى الشهادة من‬ ‫اإليمان بكل ما جاء عن هللا ورسوله‪ ،‬قال هللا‬ ‫تعالــى‪(( :‬فــا وربــك ال يؤمنــون حتــى يحكمــوك‬ ‫فيمــا شــجر بـي ــنهم ثــم ال يجــدوا فــي أنفســهم‬ ‫(‪ )8‬اإليمان البـن تـيمية (ص‪.)271‬‬ ‫(‪ )9‬فتح الباري (ص‪.)47/1‬‬ ‫(‪ )10‬كتاب السنة لاللكائي (ص‪.)151/1‬‬ ‫(‪ )11‬إرشاد الساري للقسطالنـي (ص‪.)82/1‬‬ ‫(‪ )12‬حاشية ابـن عابديـن (ص‪)221/4‬‬

‫ً‬ ‫حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما)) [سورة‬ ‫النساء‪:‬آية‪]65‬يقولالتفتازانـي‪(:‬اإليمانلغة‬ ‫التصديق وهو إذعان لحكم املخبـر وقبوله‪،‬‬ ‫فليــس حقيقــة التصديــق أن يقــع فــي القلــب‬ ‫نسبة التصديق إلى الخبـر أو املخبـر من غيـر‬ ‫إذعــان وقبــول‪ ،‬بــل هــو إذعــان وقبــول لذلــك‬ ‫بحيــث يقــع عليــه اســم التســليم)(‪.)11‬‬ ‫إن مــن اقتصــر فــي تعريــف اإليمــان علــى‬ ‫التصديق ‪ -‬من أهل السنة والجماعة ‪ -‬كان‬ ‫مقصــوده التصديــق االنقيــادي املســتلزم‬ ‫ًّ‬ ‫لفظيــا‪،‬‬ ‫لقبــول األحــكام فيكــون الخــاف‬ ‫فلــم يؤث ــر عــن أحدهــم إخ ـراج عمــل القلــب‬ ‫مــن حقيقــة اإليمــان ولــم يقصــره أحــد علــى‬ ‫التصديــق الخب ــري ســوى الجهميــة‪ ،‬وهــذا‬ ‫ما نقله ابـن الهمام الحنفي وابـن عابديـن في‬ ‫حاشــيته حيــث قــال‪( :‬معنــى التصديــق قبول‬ ‫القلب وإذعانه ملا علم بالضرورة أنه من ديـن‬ ‫محمــد صلــى هللا عليــه وســلم بحيــث تعلمــه‬ ‫العامة من غيـر نظر واستدالل كالوحدانـية‬ ‫والنبــوة والبعــث والج ـزاء ووجــوب الصــاة‬ ‫والــزكاة وحرمــة الخمــر ونحوهــا)(‪.)12‬‬ ‫‪ )7‬مسألة زيادة اإليمان ونقصانه وعالقتها‬ ‫بالتكفيـر‪:‬‬ ‫إن اإليمان في قلب املسلم يزيد ويـنقص وقد‬ ‫جاءذلكبـنصالقرآنالكريمكمافيقولهتعالى‬ ‫((وإذا تليــت عليهــم آياتــه ادتهــم ً‬ ‫إيمانــا)) [ســورة‬ ‫ز‬ ‫األنفــال‪ :‬اآليــة‪ ]2‬وقولــه تعالــى ((هــو الــذي أنــزل‬ ‫السكي ــنة فــي قلــوب املؤمنـي ــن ليــزدادوا ً‬ ‫إيمانــا))‬ ‫[سورة الفتح‪ :‬آية‪ ]4‬فإذا كان يزيد فهو يـنقص‪.‬‬

‫العدد ‪ 2‬رجب ‪1439‬هـ‬

‫وي ــنتج عــن قضيــة زيــادة اإليمــان ونقصــه‬ ‫تقســيم اإليمــان إلــى مراتــب مثــل أضعــف‬ ‫اإليمــان‪ ،‬فقــد جــاء فــي الحديــث الصحيــح‬ ‫((مــن رأى منكــم منكـ ًـرا فليغي ــره ب ــيده فــإن‬ ‫لــم يســتطع فبلســانه فــإن لــم يســتطع‬ ‫فبقلبــه وذلــك أضعــف اإليمــان))( ‪ ،)13‬وأدنى‬ ‫اإليمــان كمــا جــاء فــي أحاديــث الشــفاعة‪،‬‬ ‫َ​َ‬ ‫يقول النبـي صلى هللا عليه وسلم‪(( :‬فأ ُقو ُل‬ ‫ُ ُ‬ ‫َ‬ ‫ْ َ َ​َ ْ‬ ‫َيا َر ِ ّب أ َّم ِتي أ َّم ِتي! ف َي ُقو ُل‪ :‬انط ِل ْق فأخ ِر ْج َم ْن‬ ‫َ‬ ‫َْ َ َ َ َ َ َ َْ‬ ‫ك َان ِفــي قل ِبـ ِـه أ ْدنــى أ ْدنــى أ ْدنــى ِمثقـ ِـال َح َّبـ ِـة‬ ‫َخـ ْـر َدل مـ ْـن إ َيمــان َف َأ ْخر ْجـ ُـه مـ َـن َّ‬ ‫النـ ِـار))(‪.)14‬‬ ‫ِ ِ‬ ‫ٍ ِ ِ ٍ‬ ‫فاإليمــان يزيــد وي ــنقص‪ ،‬وكان ضــال فــرق‬ ‫الخــوارج اعتقادهــم أن اإليمــان منزلــة‬ ‫واحــدة وأن أعمــال الجــوارح جــزء مــن‬ ‫أصلــه‪ ،‬فمــن ارتكــب معصيــة كبـي ــرة خــرج‬ ‫مــن اإليمــان وكفــر‪ ...‬ولــم يكــن ذلــك منهــم إال‬ ‫َّ‬ ‫تعلقــا بظواهــر نصــوص الوعيــد‪.‬‬ ‫وكان ضــال املرجئــة فــي إخراجهــم كل‬ ‫ّ‬ ‫األعمــال مــن معنــى اإليمــان تعل ًقــا بظاهــر‬ ‫نصــوص الوعــد فقالــوا بصحــة اإليمــان‬ ‫ً‬ ‫إطالقــا بمجــرد التصديــق بــا انقيــاد وال‬ ‫عمــل‪ ،‬قــال اب ــن ت ــيمية ‪( :‬وهــذا هــو األصــل‬ ‫الــذي تفــرع عنــه البــدع فــي اإليمــان)( ‪.)15‬‬

‫إن التصديــق‬ ‫بوحدانـــية اللــه ونبــوة رســوله‬ ‫وحدهــا ال يكفــي ليدخــل‬ ‫اإلنســان تحــت اســم اإلســام‬

‫(‪ )13‬صحيح مسلم‪ ،‬باب بـيان كون النهي عن املنكر من اإليمان‪ ..‬رقم (‪ ،)49-78‬تـرقيم عبد الباقي طبعة دار إحياء التـراث العربـي‪.‬‬ ‫(‪ )14‬أخرجه البخاري في باب كالم الرب عز و جل يوم القيامة مع األنبـياء وغيـرهم‪ ،‬عن أنس بـن مالك ر�ضي هللا عنه‪ ،‬رقم (‪.)7072‬‬ ‫(‪ )15‬كتاب اإليمان البـن تـيمية (ص‪)209‬‬

‫‪7‬‬


‫التكفيـر وضوابطه‬

‫املبحث األول‪:‬‬ ‫تعريف عام‬ ‫مبسألة التكفيـر‬ ‫ومعنى اإلميان‬ ‫‪ )1‬تعريف التكفيـر‪:‬‬ ‫هــو‪ :‬الحكــم بالكفــر‪ ،‬قــال الغزالــي‪ :‬التكفي ــر‬ ‫حكــم شــرعي كالــرق والحريــة(‪.)1‬‬ ‫‪ )2‬خطورة التكفيـر‪:‬‬ ‫إن التساهل في الحكم بالتكفيـر خروج عن‬ ‫منهــج هللا وال نت ــيجة لهــذا الخــروج إال الفرقــة‬ ‫والشــقاء واقتتــال اإلخــوة وضعفهــم وتســلط‬ ‫عدوهــم عليهــم‪ ،‬فالحكــم علــى مســلم بالكفــر‬ ‫بمثابة قتله‪ ،‬كما أخبـرنا بذلك النبـي صلى هللا‬ ‫عليــه وســلم بقولــه‪(( :‬ومــن مــى ً‬ ‫مؤمنــا بكفــر‬ ‫ر‬ ‫فهــو كقتلــه))( ‪ )2‬لــذا ال يصــار إليــه بالتشــهي‬ ‫والهــوى والظــن‪ ،‬وقــد حــذر النب ــي صلــى هللا‬ ‫عليــه وســلم مــن الوقــوع فيــه حتــى قــال‪(( :‬إذا‬ ‫قــال الرجــل ألخيــه املؤمــن يــا كافــر فقــد بــاء‬ ‫بهــا أحدهمــا‪ ،‬فــإن كان كمــا قــال أو رجعــت‬ ‫عليــه))(‪ )3‬أي‪ :‬رجعــت عليــه معصيــة تكفي ــره‪،‬‬ ‫فالراجــع التكفي ــر ال الكفــر كمــا ذكــر أكث ــر‬ ‫املحققيـن كالنووي والقرطبـي وابـن حجر ( ‪.)4‬‬ ‫ً‬ ‫وإدراكا من العلماء لخطورة التكفيـرفقد‬ ‫أعملوا فيه قاعدة (الخطأ في العفو خي ــر‬ ‫مــن الخطــأ فــي العقوبــة) يقــول اإلمــام أبــو‬ ‫حامد الغزالي رحمه هللا‪( :‬ويـنبغي االحتـراز‬

‫مــن التكفي ــر مــا وجــد اإلنســان إلــى ذلــك‬ ‫سب ــيال‪ ،‬فــإن اســتباحة الدمــاء واألمــوال‬ ‫مــن املصلي ــن إلــى القبلــة املصرحي ــن بقــول‬ ‫ٌ‬ ‫(ال إلــه إال هللا محمــد رســول هللا) خطــأ ‪،‬‬ ‫والخطأ في ت ــرك ألف كافرفي الحياة أهون‬ ‫مــن ســفك محجمــة مــن دم مســلم)(‪.)5‬‬ ‫كما أن الحكم به تتـرتب عليه الكثيـرمن‬ ‫األحــكام الشــرعية‪ ،‬كقطــع املــواالة والتفريق‬ ‫بـي ــن الزوجي ــن ومنــع التــوارث وإباحــة الــدم‬ ‫وغي ــر ذلــك‪ ،‬لهــذا تــورع علمــاء الســنة فــي‬ ‫كل العصــور عــن الحكــم بكفــر مســلم إال فــي‬ ‫حــاالت قليلــة ممــن تطاولــت أعناقهــم علــى‬ ‫الديـن ولم يتـركوا لإليمان في أعناقهم شيئا‪.‬‬ ‫ولعــل التكفي ــر بــا دليــل معتب ــر هــو إحــدى‬ ‫مالمــح الخــوارج البــارزة والت ــي نتجــت عــن‬ ‫الجهــل بأحــكام الدي ــن وقواعــده ومقاصــده‬ ‫وقــد أخب ــر النب ــي صلــى هللا عليــه وســلم‬ ‫عــن هــؤالء الخارجي ــن عــن الجــادة بقولــه‬ ‫(‪)6‬‬ ‫((يقــرؤون الق ـرآن ال يجــاوز حناجرهــم))‬ ‫َ ْ‬ ‫َ‬ ‫وفــي روايــة َ‬ ‫((ي ْقـ َـرؤون ال ُقـ ْـر َآن ال ُي َجـ ِـاو ُز‬ ‫َح َناج َر ُهـ ْـم َي ْم ُر ُقــو َن مـ َـن اإل ْسـ َـام ُمـ ُـر َ‬ ‫وق‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫َ َّ َّ َ ْ ُ ُ َ َ ْ َ ْ َ‬ ‫َّ ْ‬ ‫اإلســا ِم‬ ‫الســه ِم ِمـ َـن الر ِميـ َ ِـة يقتلــون أهــل ِ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َو َي َد ُعــون أ ْهـ َـل األ ْوثـ ِـان))(‪.)7‬‬ ‫‪ )3‬التكفيـربـيـن اإلفراط والتفريط‪:‬‬ ‫قــد ت ــرى بعــض املتأثـري ــن بالفكــر الحداثــي‬ ‫ي ــنكر أن يكــون هنــاك حكــم اســمه‬ ‫(التكفي ــر) ويعتب ــر ذلــك مــن االعتــداء‬ ‫علــى حريــة اآلخــر‪ ...‬والحقيقــة أن قضيــة‬

‫(‪ )1‬فيصل التفرقة بـيـن اإلسالم والزندقة للغزالي (ص‪.)128‬‬ ‫(‪ )2‬صحيح البخاري‪ ،‬باب من أكفر أخاه بغيـر تأويل فهو كما قال‪ ،‬رقم (‪ ،)5754‬تحقيق البغا‪ ،‬طبعة دار ابـن كثيـر ‪.1987‬‬ ‫(‪ )3‬متفق عليه عن ابـن عمر ر�ضي هللا عنه‪ ،‬أخرجه البخاري في باب من أكفر أخاه بغيـر تأويل فهو كما قال‪ ،‬رقم (‪.)5753‬‬ ‫(‪ )4‬فتح الباري (ص‪.)466/10‬‬ ‫(‪ )5‬االقتصاد في االعتقاد للغزالي (ص‪.)135‬‬ ‫(‪ )6‬متفق عليه عن أبـي سعيد الخدري ر�ضي هللا عنه‪ ،‬أخرجه البخاري في باب قتل الخوارج وامللحديـن بعد إقامة الحجة عليهم‪ ،‬رقم (‪.)6532‬‬ ‫(‪ )7‬متفق عليه عن أبـي سعيد الخدري ر�ضي هللا عنه كما سبق‪ ،‬وقوله (يقتلون أهل اإلسالم‪ )...‬رواها النسائي والحاكم وغيـرهما‪.‬‬

‫التكفيـر وضوابطه‬

‫العدد ‪ 2‬رجب ‪1439‬هـ‬

‫َّ‬ ‫التكفي ــر مســألة تــكاد تكــون مطــردة‬ ‫الوجــود لــدى كل أتبــاع الديانــات؛ إذ‬ ‫الناس في نظرهم مؤمن وغيـر مؤمن وليس‬ ‫هــذا حكـ ًـرا علــى اإلســام‪ ...‬والدي ــن الــذي ال‬ ‫ضوابــط فيــه لإليمــان أو الكفــر دي ــن هالمــي‬ ‫ليــس لــه حــدود‪ ...‬وكمــا أن تمييــع الدي ــن‬ ‫انحراف خطيـر فإن تجاوز الحد في التكفيـر‬ ‫والغلــو فيــه انح ـراف ً‬ ‫أيضــا عــن املنهــج‬ ‫الصحيــح‪ ...‬فاملذهــب العــدل الوســط هــو‬ ‫تكفيـرمنيستحقالتكفيـرباألدلةاملعتبـرةمع‬ ‫االحتـياطوعدمتكفيـرمناليستحقه‪،‬ويمثل‬ ‫الخ ـوارج واملرجئــة فــي هــذه املســألة نموذجــي‬ ‫اإلف ـراط والتفريــط فــي التاريــخ اإلسـ ّ‬ ‫ـامي‪.‬‬ ‫‪ )4‬املرجــع فــي ضبــط املصطلحــات‬ ‫الشــرعية الكتــاب والســنة واآلثــار‪:‬‬ ‫فــي محاولــة مــن امللحدي ــن فــي الدي ــن لطمــس‬ ‫معالــم الشــريعة يحــاول بعضهــم تفسي ــر‬ ‫مــا ورد مــن مصطلحــات ديـن ــية كالكفــر‬ ‫واإليمــان والفســق وغي ــرها فــي الق ـرآن‬ ‫الكريــم تفسي ـ ًـرا ًّ‬ ‫لغويــا بعيـ ًـدا عــن املعنــى‬ ‫االصطالحـ ّ ِـي الــذي ب ـ ّـينته نصــوص الكتــاب‬ ‫والســنة‪ ،‬والحقيقــة أن كالمهــم مــردود‬ ‫عليهــم ألن الضابــط فــي تحديــد معان ــي هــذه‬ ‫املصطلحــات هــو النصــوص الشـ َّ‬ ‫ـرعية‬ ‫وال يصــار إلــى املعنــى اللغــو ّ ِي واشــتقاقاته‬ ‫وشــواهده إال فــي حــال عــدم وجــود النــص‬ ‫املفســر لهــا‪ ...‬يقــول اب ــن ت ــيمية رحمــه هللا‪:‬‬ ‫(ومــا ي ــنبغي أن يعلــم أن األلفــاظ املوجــودة‬ ‫فــي القـرآن والحديــث إذا عــرف تفسي ــرها ومــا‬

‫‪6‬‬

‫أريد بها من جهة النبـي صلى هللا عليه وسلم‬ ‫لــم يحتــج فــي ذلــك إلــى االســتدالل بأقــوال أهــل‬ ‫اللغــة وال غي ــرهم)(‪.)8‬‬ ‫‪ )5‬ما هي حقيقة اإليمان؟‬ ‫ال تــدرك حقيقــة الكفــر إال بمعرفــة حقيقــة‬ ‫اإليمــان‪ ،‬ولهــذا ال بــد لنــا مــن التعريــف‬ ‫بــه‪ ،‬فهــو فــي اللغــة‪ :‬مطلــق التصديــق‪ ،‬وفــي‬ ‫االصطــاح‪ :‬تصديــق القلــب وقــول اللســان‬ ‫وعمــل القلــب والجــوارح‪.‬‬ ‫فتصديــق القلــب إق ـراره وقــول اللســان‬ ‫النطــق بالشهادتـي ــن وعمــل القلــب اإلذعــان‬ ‫والقبــول واالنقيــاد وعمــل الجــوارح إت ــيانها‬ ‫باملأمــورات وت ــرك املنهيــات‪ ،‬قــال اإلمــام‬ ‫البخــاري‪( :‬لقيــت أكث ــر مــن ألــف رجــل مــن‬ ‫العلمــاء باألمصــار فمــا رأيــت أن أحـ ًـدا منهــم‬ ‫يختلــف فــي أن اإليمــان قــول وعمــل يزيــد‬ ‫وي ــنقص(‪ )9‬وهــذا نقلــه الاللكائــي عــن‬ ‫ّ‬ ‫ـافعي وأحمــد وإســحق وأب ــي عب ــيد وأب ــي‬ ‫الشـ ِ‬ ‫زرعــة وغي ــرهم(‪.)10‬‬ ‫‪ )6‬تحقيــق مســألة (اإليمــان تصديــق‬ ‫للخب ــر وانقيــاد لآلمــر) ‪:‬‬ ‫إن التصديــق بوحدان ــية هللا ونبــوة رســول‬ ‫هللا صلــى هللا عليــه وســلم وحدهمــا ال يكفــي‬ ‫ليدخــل اإلنســان تحــت اســم اإلســام‪ ،‬حتــى‬ ‫يؤديه هذا التصديق إلى التسليم هلل وانعقاد‬ ‫القلب على التصديق بمقت�ضى الشهادة من‬ ‫اإليمان بكل ما جاء عن هللا ورسوله‪ ،‬قال هللا‬ ‫تعالــى‪(( :‬فــا وربــك ال يؤمنــون حتــى يحكمــوك‬ ‫فيمــا شــجر بـي ــنهم ثــم ال يجــدوا فــي أنفســهم‬ ‫(‪ )8‬اإليمان البـن تـيمية (ص‪.)271‬‬ ‫(‪ )9‬فتح الباري (ص‪.)47/1‬‬ ‫(‪ )10‬كتاب السنة لاللكائي (ص‪.)151/1‬‬ ‫(‪ )11‬إرشاد الساري للقسطالنـي (ص‪.)82/1‬‬ ‫(‪ )12‬حاشية ابـن عابديـن (ص‪)221/4‬‬

‫ً‬ ‫حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما)) [سورة‬ ‫النساء‪:‬آية‪]65‬يقولالتفتازانـي‪(:‬اإليمانلغة‬ ‫التصديق وهو إذعان لحكم املخبـر وقبوله‪،‬‬ ‫فليــس حقيقــة التصديــق أن يقــع فــي القلــب‬ ‫نسبة التصديق إلى الخبـر أو املخبـر من غيـر‬ ‫إذعــان وقبــول‪ ،‬بــل هــو إذعــان وقبــول لذلــك‬ ‫بحيــث يقــع عليــه اســم التســليم)(‪.)11‬‬ ‫إن مــن اقتصــر فــي تعريــف اإليمــان علــى‬ ‫التصديق ‪ -‬من أهل السنة والجماعة ‪ -‬كان‬ ‫مقصــوده التصديــق االنقيــادي املســتلزم‬ ‫ًّ‬ ‫لفظيــا‪،‬‬ ‫لقبــول األحــكام فيكــون الخــاف‬ ‫فلــم يؤث ــر عــن أحدهــم إخ ـراج عمــل القلــب‬ ‫مــن حقيقــة اإليمــان ولــم يقصــره أحــد علــى‬ ‫التصديــق الخب ــري ســوى الجهميــة‪ ،‬وهــذا‬ ‫ما نقله ابـن الهمام الحنفي وابـن عابديـن في‬ ‫حاشــيته حيــث قــال‪( :‬معنــى التصديــق قبول‬ ‫القلب وإذعانه ملا علم بالضرورة أنه من ديـن‬ ‫محمــد صلــى هللا عليــه وســلم بحيــث تعلمــه‬ ‫العامة من غيـر نظر واستدالل كالوحدانـية‬ ‫والنبــوة والبعــث والج ـزاء ووجــوب الصــاة‬ ‫والــزكاة وحرمــة الخمــر ونحوهــا)(‪.)12‬‬ ‫‪ )7‬مسألة زيادة اإليمان ونقصانه وعالقتها‬ ‫بالتكفيـر‪:‬‬ ‫إن اإليمان في قلب املسلم يزيد ويـنقص وقد‬ ‫جاءذلكبـنصالقرآنالكريمكمافيقولهتعالى‬ ‫((وإذا تليــت عليهــم آياتــه ادتهــم ً‬ ‫إيمانــا)) [ســورة‬ ‫ز‬ ‫األنفــال‪ :‬اآليــة‪ ]2‬وقولــه تعالــى ((هــو الــذي أنــزل‬ ‫السكي ــنة فــي قلــوب املؤمنـي ــن ليــزدادوا ً‬ ‫إيمانــا))‬ ‫[سورة الفتح‪ :‬آية‪ ]4‬فإذا كان يزيد فهو يـنقص‪.‬‬

‫العدد ‪ 2‬رجب ‪1439‬هـ‬

‫وي ــنتج عــن قضيــة زيــادة اإليمــان ونقصــه‬ ‫تقســيم اإليمــان إلــى مراتــب مثــل أضعــف‬ ‫اإليمــان‪ ،‬فقــد جــاء فــي الحديــث الصحيــح‬ ‫((مــن رأى منكــم منكـ ًـرا فليغي ــره ب ــيده فــإن‬ ‫لــم يســتطع فبلســانه فــإن لــم يســتطع‬ ‫فبقلبــه وذلــك أضعــف اإليمــان))( ‪ ،)13‬وأدنى‬ ‫اإليمــان كمــا جــاء فــي أحاديــث الشــفاعة‪،‬‬ ‫َ​َ‬ ‫يقول النبـي صلى هللا عليه وسلم‪(( :‬فأ ُقو ُل‬ ‫ُ ُ‬ ‫َ‬ ‫ْ َ َ​َ ْ‬ ‫َيا َر ِ ّب أ َّم ِتي أ َّم ِتي! ف َي ُقو ُل‪ :‬انط ِل ْق فأخ ِر ْج َم ْن‬ ‫َ‬ ‫َْ َ َ َ َ َ َ َْ‬ ‫ك َان ِفــي قل ِبـ ِـه أ ْدنــى أ ْدنــى أ ْدنــى ِمثقـ ِـال َح َّبـ ِـة‬ ‫َخـ ْـر َدل مـ ْـن إ َيمــان َف َأ ْخر ْجـ ُـه مـ َـن َّ‬ ‫النـ ِـار))(‪.)14‬‬ ‫ِ ِ‬ ‫ٍ ِ ِ ٍ‬ ‫فاإليمــان يزيــد وي ــنقص‪ ،‬وكان ضــال فــرق‬ ‫الخــوارج اعتقادهــم أن اإليمــان منزلــة‬ ‫واحــدة وأن أعمــال الجــوارح جــزء مــن‬ ‫أصلــه‪ ،‬فمــن ارتكــب معصيــة كبـي ــرة خــرج‬ ‫مــن اإليمــان وكفــر‪ ...‬ولــم يكــن ذلــك منهــم إال‬ ‫َّ‬ ‫تعلقــا بظواهــر نصــوص الوعيــد‪.‬‬ ‫وكان ضــال املرجئــة فــي إخراجهــم كل‬ ‫ّ‬ ‫األعمــال مــن معنــى اإليمــان تعل ًقــا بظاهــر‬ ‫نصــوص الوعــد فقالــوا بصحــة اإليمــان‬ ‫ً‬ ‫إطالقــا بمجــرد التصديــق بــا انقيــاد وال‬ ‫عمــل‪ ،‬قــال اب ــن ت ــيمية ‪( :‬وهــذا هــو األصــل‬ ‫الــذي تفــرع عنــه البــدع فــي اإليمــان)( ‪.)15‬‬

‫إن التصديــق‬ ‫بوحدانـــية اللــه ونبــوة رســوله‬ ‫وحدهــا ال يكفــي ليدخــل‬ ‫اإلنســان تحــت اســم اإلســام‬

‫(‪ )13‬صحيح مسلم‪ ،‬باب بـيان كون النهي عن املنكر من اإليمان‪ ..‬رقم (‪ ،)49-78‬تـرقيم عبد الباقي طبعة دار إحياء التـراث العربـي‪.‬‬ ‫(‪ )14‬أخرجه البخاري في باب كالم الرب عز و جل يوم القيامة مع األنبـياء وغيـرهم‪ ،‬عن أنس بـن مالك ر�ضي هللا عنه‪ ،‬رقم (‪.)7072‬‬ ‫(‪ )15‬كتاب اإليمان البـن تـيمية (ص‪)209‬‬

‫‪7‬‬


‫التكفيـر وضوابطه‬

‫املبحث الثانـي ‪ :‬قواعد وضوابط يف التكفيـر‬ ‫القاعدة األولى‪( :‬ال نكفرإال من كفره هللا ورسوله)‬ ‫َّ‬ ‫فمــن جــاءت النصــوص بكفــره فهــو كافــر‪ ،‬ومــن لــم يكفــره هللا ورســوله فــا يكفــر‪...‬‬ ‫وعلــى هــذا فأهــل الســنة ال ّ‬ ‫يكفــرون مــن يكفرهــم مــن غي ــرهم ملجــرد ّأن اآلخــر قــد‬ ‫ً‬ ‫كفرهــم‪ ،‬ألن التكفي ــر حكــم شــرعي ليــس داخــا فــي بــاب العقوبــة باملثــل‪ ،‬فالتكفي ــر‬ ‫ّ‬ ‫يكفــر الصحابــة الخــوارج مــع أن الخــوارج كفــروا ًّ‬ ‫عليــا ر�ضــي هللا‬ ‫حــق هللا‪ ،‬لــذا لــم ِ‬ ‫عنــه ومــن معــه مــن الصحابــة‪ ،‬فاملعـ ّـول عليــه فــي مســألة التكفي ــر النــص الصريــح أو‬ ‫اإلجمــاع أو القيــاس الجلــي الصحيــح علــى منصــوص عليــه(‪.)16‬‬ ‫القاعدة الثانـية ‪ :‬التفريق بـيـن التكفيـر‬ ‫املطلــق «األوصــاف» أو «تكفي ــرالفعــل»‬ ‫والتكفي ــر املعي ــن «األشــخاص» أو‬ ‫«تكفي ــر الفاعــل» وضوابــط كل منهمــا ‪:‬‬ ‫‪ )1‬تكفي ــر األوصــاف يحتــاج إلــى دليــل‬ ‫وتكفي ــر املعي ــن يحتــاج إلــى تحقيــق منــاط‬ ‫(اجتمــاع شــروط وانتفــاء موانــع)‪.‬‬ ‫‪ )2‬التفصيــل فــي التكفي ــر املطلــق والتضييــق‬ ‫فــي تكفي ــر األعيــان فــا يطلــب فــي ذلــك‬ ‫االســتقصاء‪.‬‬ ‫‪ )3‬تكفي ــر األوصــاف مــن اختصــاص العلمــاء‬ ‫والفقهــاء وتكفي ــر األشــخاص مــن مســؤولية‬ ‫األئمــة والقضــاة ال عامــة النــاس والوعــاظ‪.‬‬ ‫ال تالزم بـيـن التكفيـر املطلق وتكفيـر املعيـن‬ ‫ومثالــه قــول اإلمــام أحمــد بكفــر مــن قــال‬ ‫بخلــق الق ـرآن‪ ،‬لكنــه لــم ّ‬ ‫يكفــر أعيانهــم مــع‬ ‫أنــه ناظــر بعضهــم‪ ،‬وذلــك لعــدم اجتمــاع‬ ‫الشــروط وانتفــاء املوانــع‪ ،‬وهــؤالء لــم يكذبــوا‬ ‫النصــوص وإنمــا أخطــؤوا فــي فهمهــا وتأويلهــا‪،‬‬ ‫فقد كان اإلمام أحمد يصلي خلف الخليفة‬

‫الــذي كان يمتحــن النــاس بهــذه املســألة وكان‬ ‫يدعــو هللا لــه باملغفــرة‪.‬‬ ‫القاعــدة الثالثــة ‪ :‬الفــرق بـي ــن الكفــر‬ ‫األكب ــر والكفــر األصغــر‬ ‫ليــس كل مــا وردت النصــوص بتســميته‬ ‫َ‬ ‫ً‬ ‫كفـ ًـرا أو شــركا فهــو عمــل ُمك ِّفـ ٌـر مخــرج مــن‬ ‫امللة‪ ...‬إذ إن بعض األعمال ورد وصفها بذلك‬ ‫ملشــابهتها أفعــال الكفــار أو باعتبــار مــا تــؤدي‬ ‫إليه أو ألسباب أخرى‪ ...‬ومن هنا قسم بعض‬ ‫العلمــاء الكفــر إلــى قسمي ــن‪ :‬كفــر أكب ــر وهــو‬ ‫املخــرج مــن امللــة‪ ،‬وكفــر أصغــر وضابطــه‪ :‬مــا‬ ‫ً‬ ‫وردت النصــوص بتســميته كفـ ًـرا أو شــركا‪،‬‬ ‫واتفــق العلمــاء علــى أنــه ال يخــرج مرتكبــه مــن‬ ‫امللة إال باالستحالل‪ ،‬ولبـيان هذه القاعدة ال‬ ‫بــد مــن الحديــث عــن عــدة مســائل‪:‬‬ ‫‪ )1‬إن هــذا التقســيم الــذي مــر فــي الكفــر‬ ‫يكــون فــي الشــرك والنفــاق والظلــم والفســق‬ ‫ً‬ ‫أيضا‪ ،‬فمنها ما هو أصغر ومنها ما هو أكبـر‪...‬‬ ‫وهــذا التقســيم منــه مــا صرحــت بــه النصــوص‬ ‫ومنــه مــا هــو مفهــوم مــن قواعــد تفسي ــر‬

‫التكفيـر وضوابطه‬

‫العدد ‪ 2‬رجب ‪1439‬هـ‬

‫النصوص‪ ،‬وقد جاء في األحاديث ذكر الشرك‬ ‫األصغــر كمــا فــي قولــه عليــه الصــاة والســام‪:‬‬ ‫((إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك األصغر‪،‬‬ ‫قالوا‪ :‬يا رســول هللا وما الشــرك األصغر؟ قال‪:‬‬ ‫الريــاء))(‪ )17‬وهــذا النــوع ال يخــرج مــن امللــة وال‬ ‫ي ــنفي عــن صاحبــه أصــل اإلســام ولكــن ي ــنافي‬ ‫كماله لكونه من الكبائر‪ ،‬وال يغفر ملرتكبه إال‬ ‫بالتوبــة ومــن مــات ولــم يتــب فهــو تحــت مشــيئة‬ ‫هللا تعالــى إن شــاء عاقبــه أو غفــر لــه‪.‬‬ ‫‪ )2‬ممــا يتفــرع علــى هــذه القاعــدة عــدم‬ ‫تكفي ــر أهــل القبلــة بمطلــق الذنــوب أو بمــا‬ ‫وصــف مــن الذنــوب بالكفــر أو الشــرك إال‬ ‫بجحــود األمــر أو اســتحالل املحـ ّـرم‪ ،‬فقــد‬ ‫أجمــع الصحابــة والتابعــون ومــن بعدهــم‬ ‫علــى أن املعا�صــي مــن أمــور الجاهليــة‬ ‫وال يكفــر صاحبهــا بارتكابهــا إال بالشــرك‪،‬‬ ‫بـ ّـوب البخــاري (بــاب املعا�صــي مــن أمــر‬ ‫الجاهليــة)(‪ )18‬وأورد حديــث‪(( :‬إنــك امــرؤ‬ ‫فيــك جاهليــة))( ‪ )19‬وقــد فــرق الق ـرآن بـي ــن‬ ‫الشــرك وســائر املعا�صــي‪ ،‬وجــاء فــي أحاديــث‬ ‫الشــفاعة حديــث‪(( :‬شفاعت ــي ألهــل الكبائــر‬ ‫مــن أمت ــي))(‪ ،)20‬يقــول اب ــن ت ــيمية‪( :‬إنــه قــد‬ ‫تقــرر مــن مذهــب أهــل الســنة والجماعــة مــا‬ ‫دل عليــه الكتــاب والســنة أنهــم ال يكفــرون‬ ‫أحـ ًـدا مــن أهــل القبلــة بذنــب وال يخرجونــه‬ ‫مــن اإلســام بعمــل إذا كان فعـ ًـا ًّ‬ ‫منهيــا‬ ‫عنــه مثــل الزنــا والســرقة وشــرب الخمــر مــا‬ ‫لــم يتضمــن ت ــرك اإليمــان‪ ...‬وقــد ثبــت فــي‬ ‫الصحيحي ــن حديــث أب ــي ذر ‪(( :‬مــن قــال ال‬ ‫إلــه إال هللا دخــل الجنــة وإن زنــا وإن ســرق‬ ‫وإن شــرب الخمــر رغــم أنــف أب ــي ذر))( ‪.)21‬‬ ‫‪ )3‬للعلمــاء فــي تأويــل النصــوص الت ــي صرحــت‬

‫(‪ )16‬فيصل التفرقة بـيـن اإلسالم والزندقة للغزالي (ص ‪ )17( .)128‬رواه اإلمام أحمد بسند صحيح عن محمود بـن لبـيد رقم (‪ )23630‬طبعة دار الرسالة‪ ،‬ورواه الحاكم في املستدرك‬ ‫عن شداد بـن أوس وقال صحيح على شرطهما ولم يخرجاه‪ ،‬رقم (‪ )7937‬تحقيق العطا طبعة دار الكتب العلمية‪.‬‬ ‫(‪ )18‬فتح الباري (ص‪ )19( - )84/1‬أخرجه البخاري عن املعرور بـن سويد ر�ضي هللا عنه‪ ،‬رقم (‪.)30‬‬ ‫(‪ )20‬رواه أبو داود باب في الشفاعة رقم (‪ ،)4739‬والتـرمذي باب شفاعتـي ألهل الكبائر من أمتـي رقم (‪ ،)2623‬وابـن ماجه في باب ذكر الشفاعة (‪.)4310‬‬ ‫(‪ )21‬مجموع الفتاوى البـن تـيمية (ص‪.)90/20‬‬

‫‪8‬‬

‫بتكفي ــر مرتكب ــي بعــض الذنــوب مذاهــب‬ ‫عــدة‪ :‬األول‪ :‬املـراد أنهــا مــن أعمــال أهــل الكفــر‬ ‫كمــا فــي الحديــث‪(( :‬ال ت ــرجعوا بعــدي كفــا ًرا‬ ‫يضــرب بعضكــم رقــاب بعــض))(‪ ،)22‬وحديــث‪:‬‬ ‫((سباب املسلم فسوق وقتاله كفر))( ‪ )23‬وقد‬ ‫قــال هللا تعالــى فــي حــق املسلمي ــن املتقاتلي ــن‪:‬‬ ‫((وإن طائفتــان مــن املؤمنـي ــن اقتتلــوا))‬ ‫[ســورة الحج ـرات‪ :‬آيــة ‪ ]9‬فلــم ي ــنف عنهــم‬ ‫وصــف اإليمــان مــع اقتتالهــم‪ ،‬الثان ــي‪ :‬الكفــر‬ ‫أو الشــرك املذكــور فــي الحديــث هــو فــي حــق‬ ‫املســتحل‪ ،‬الثالــث‪ :‬هــذا الفعــل يــؤدي إلــى‬ ‫الكفر أو الشرك‪(( :‬من حلف بغي ــر هللا فقد‬ ‫كفــر أو أشــرك))( ‪ ،)24‬الرابــع‪ :‬هــو بمعنــى كفــر‬ ‫اإلحســان والنعمــة‪ ،‬وهــو مــا يعب ــر عنــه بعبــارة‪:‬‬ ‫(كفــر دون كفــر) كقولــه تعالــى‪(( :‬ضــرب هللا‬ ‫ً‬ ‫مثــا قريــة كانــت آمنــة مطمئنــة يأت ــيها رزقهــا‬ ‫رغـ ًـدا مــن كل مــكان فكفــرت بأنعــم هللا))‬ ‫[سورة النحل‪ :‬آية ‪ ،]112‬الخامس‪ :‬املقصود‬ ‫نفــي كمــال اإليمــان مــع بقــاء أصلــه فــا يكــون‬ ‫بذلــك العا�صــي خار ًجــا مــن امللــة‪ ،‬كقولــه عليــه‬ ‫الصــاة والســام‪(( :‬ال يزن ــي الزان ــي حي ــن يزن ــي‬ ‫وهو مؤمن))( ‪ )25‬قال ابـن حجر في تعليقه على‬ ‫هــذا الحديــث‪( :‬وهــذا يوافــق قول الجمهــور إن‬ ‫امل ـراد باإليمــان هنــا كمالــه ال أصلــه)(‪.)26‬‬ ‫الســادس‪ :‬إن املقصــود بــه هــو التغليــظ‬ ‫والزجــر ففــي مقــام الوعــظ تذكــر هــذه‬ ‫النصــوص كمــا هــي دون تفصيــل فيهــا لتحقــق‬ ‫الغايــة منهــا كمــا نقــل ذلــك عــن اإلمــام أحمــد‬ ‫وســفيان‪(:‬يقرونها ويمرونهــا كمــا جــاءت‬ ‫ويكرهــون تأويلهــا بمــا يخرجهــا عن مقصودها‬

‫فــي التغليــظ والزجــر)(‪ ،)27‬وأمــا فــي مقــام ب ــيان‬ ‫الحكــم فتجمــع النصــوص الــواردة فــي كل‬ ‫مسألة منها ثم تفسر بحسب قواعد تفسيـر‬ ‫نصــوص الوعــد والوعيــد‪ ...‬ولجهــل كثي ــر مــن‬ ‫املتصدريـن للوعظ بهذه الضوابط فقد أدى‬ ‫بهــم ذلــك إلــى التكفي ــر بمــا ال يجــوز التكفي ــر‬ ‫بــه‪ ،‬ومثــال هــذا الخلــط املتســبب عــن الجهــل‬ ‫بأســاليب العــرب أن يخــرج مــن هــؤالء مــن‬ ‫يظــن أن قــول علــي ألهــل الكوفــة (يــا أشــباه‬ ‫الرجــال وال رجــال‪ ) ..‬يدعــو إلــى تنزيــل أحــكام‬ ‫الخنثــى عليهــم فــي املواريــث!‪.‬‬ ‫مســألة مــواالة الكفــار‪ :‬يتفــرع علــى القاعــدة‬ ‫السابقةالحديثعن(الكفراالعتقادي)وهو‬ ‫الكفــر األكب ــر‪( ،‬والكفــر العملــي) وهــو الكفــر‬ ‫األصغر‪ ...‬ولعل من أشهر املسائل التـي حصل‬ ‫الخلــط فيهــا بـي ــن الكفــر االعتقــادي والكفــر‬ ‫العملــي مســألة نقــض اإليمــان بمـواالة الكفــار!‬ ‫فهل مطلق مواالة املســلم للكفار يخرجه من‬ ‫امللة باعتباره ً‬ ‫كفرا أكبـر؟ أم أن فيه تفصيال؟‬ ‫لقــد نهــى هللا ســبحانه عــن مــواالة الكفــار‬ ‫فقــال‪ ((:‬يــا أيهــا الذي ــن آمنــوا ال تتخــذوا عــدوي‬ ‫وعدوكــم أوليــاء)) [ســورة املمتحنــة‪ :‬آيــة ‪]1‬‬ ‫وقــال‪(( :‬ومــن يتولهــم منكــم فإنــه منهــم))‬ ‫[ســورة املائــدة‪ :‬آيــة ‪ ،]51‬وقــد فهــم البعــض‬ ‫مــن ظاهــر هــذه النصــوص تكفي ــر كل مــن‬ ‫عمــل عمــا يفســر علــى أنــه مــواالة للكفــار‪،‬‬ ‫وليــس األمــر كذلــك إذ جــاء فــي الســنة تفصيــل‬ ‫هــذه املســألة بمــا ال يــدع للشــبهة مجــاال! ‪.‬‬ ‫جاء في قصة حاطب ب ــن أب ــي بلتعة ر�ضي هللا‬ ‫عنــه يــوم الفتــح أنــه أرســل ً‬ ‫كتابــا يخب ــر أهــل‬

‫العدد ‪ 2‬رجب ‪1439‬هـ‬

‫إ ّن الحاكم الذي يوصف‬ ‫بأنه مســلم ثم يـــرفض رشيعة‬ ‫اللــه ويعتقــد بأن غيـــرها أفضل‬ ‫منهــا وأجــدر بالتطبـــيق وأنهــا‬ ‫غيـــر صالحــة للعمــل بهــا وال‬ ‫شــبهة لــه يف ذلــك فهــذا كافــر‬ ‫وإن صــام وصــى‬ ‫مكــة بمسي ــر الرســول صلــى هللا عليــه وســلم‬ ‫واملسلمي ــن إليهــم‪ ،‬وهــذا مــن املــواالة الظاهــرة‪،‬‬ ‫لكــن املــواالة منــه لهــم لم تكن بســبب اعتقــاده‬ ‫مــا هــم عليــه مــن الكفــر‪ ،‬إنمــا حمايــة ألهلــه‬ ‫كمــا جــاء فــي الحديــث الصحيــح فقــد قــال‬ ‫حاطب‪( :‬وهللا ما فعلته شـ ًّـكا في ديـن ــي وال ر ً‬ ‫ضا‬ ‫بالكفــر بعــد اإلســام) فقــال عليــه الصــاة‬ ‫والســام‪(( :‬إنــه قــد صــدق))(‪ ،)28‬وأمــا منــع‬ ‫قتلــه فــكان بســبب شــهوده بــد ًرا فلــو حكــم‬ ‫بكفــره فشــهوده بــد ًرا ال يمنــع مــن إطــاق‬ ‫الكفــر عليــه وكذلــك لــو حكــم بكفــره لحبــط‬ ‫عملــه ومــن جملــة ذلــك جهــاده وشــهوده بــد ًرا‬ ‫قــال تعالــى‪(( :‬ومــن يكفــر باإليمــان فقــد حبــط‬ ‫عمله)) [ســورة املائدة‪ :‬آية ‪ ]5‬فلم يعد ي ــنفعه‬ ‫عملــه شـ ًـيئا‪ ،‬فلمــا لــم يكــن مــا فعلــه كفـ ًـرا كانت‬ ‫حسنة شهوده بدرا ماحية لهذه السيئة‪ ،‬قال‬ ‫ّ ُ‬ ‫الداللــة‬ ‫اإلمــام الشــافعي رحمــه هللا‪( :‬وليــس ِ‬ ‫علــى عــورة ُمســلم وال تأييـ ُـد كافــر بـ َـأن ُي َحـ ّـذ َر َأنَّ‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬ ‫ٍِ‬ ‫ْالُسلمي َـن ُيريدو َن م ُنه غ َّر ًة ليحذ َرها أو َّ‬ ‫يتقدمَ‬ ‫ِ ِ ِ‬

‫(‪ )22‬رواه البخاري في باب حجة الوداع‪ ،‬رقم (‪ ،)4143‬ومسلم في باب بـيان معنى قول النبـي صلى اله عليه وسلم ال تـرجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض رقم (‪.)65 -118‬‬ ‫(‪ )23‬رواه البخاري في باب ما يـنهى من السباب واللعن رقم (‪ ،)5697‬ورواه مسلم في باب بـيان قول النبـي صلى هللا عليه و سلم سباب املسلم فسوق وقتاله كفر‪ ،‬رقم (‪.)64-116‬‬ ‫(‪ )24‬أخرجه ابـن حبان في صحيحه عن ابـن عمر ر�ضي هللا عنه‪ ،‬وفي مسند أحمد وسنن أبـي داود والتـرمذي ‪ ،‬وصححه الحاكم في مستدركه على شرطهما‪.‬‬ ‫(‪ )25‬متفق عليه عن أبـي هريـرة ر�ضي هللا عنه‪ ،‬رواه البخاري في باب النبهى بغيـر إذن صاحبه‪ ،‬رقم (‪ ،)2343‬ومسلم في باب بـيان نقصان اإليمان باملعا�صي رقم (‪.)57-100‬‬ ‫(‪ )26‬فتح الباري (ص‪)115/12‬‬ ‫(‪ )27‬مجموع الفتاوى (ص‪.)673/7‬‬ ‫(‪ )28‬القصة موجودة في صحيح البخاري وفي كل كتب السيـرة وبهذا اللفظ في السنن الكبـرى للبـيهقي وفي شرح السنة للبغوي‪.‬‬

‫‪9‬‬


‫التكفيـر وضوابطه‬

‫املبحث الثانـي ‪ :‬قواعد وضوابط يف التكفيـر‬ ‫القاعدة األولى‪( :‬ال نكفرإال من كفره هللا ورسوله)‬ ‫َّ‬ ‫فمــن جــاءت النصــوص بكفــره فهــو كافــر‪ ،‬ومــن لــم يكفــره هللا ورســوله فــا يكفــر‪...‬‬ ‫وعلــى هــذا فأهــل الســنة ال ّ‬ ‫يكفــرون مــن يكفرهــم مــن غي ــرهم ملجــرد ّأن اآلخــر قــد‬ ‫ً‬ ‫كفرهــم‪ ،‬ألن التكفي ــر حكــم شــرعي ليــس داخــا فــي بــاب العقوبــة باملثــل‪ ،‬فالتكفي ــر‬ ‫ّ‬ ‫يكفــر الصحابــة الخــوارج مــع أن الخــوارج كفــروا ًّ‬ ‫عليــا ر�ضــي هللا‬ ‫حــق هللا‪ ،‬لــذا لــم ِ‬ ‫عنــه ومــن معــه مــن الصحابــة‪ ،‬فاملعـ ّـول عليــه فــي مســألة التكفي ــر النــص الصريــح أو‬ ‫اإلجمــاع أو القيــاس الجلــي الصحيــح علــى منصــوص عليــه(‪.)16‬‬ ‫القاعدة الثانـية ‪ :‬التفريق بـيـن التكفيـر‬ ‫املطلــق «األوصــاف» أو «تكفي ــرالفعــل»‬ ‫والتكفي ــر املعي ــن «األشــخاص» أو‬ ‫«تكفي ــر الفاعــل» وضوابــط كل منهمــا ‪:‬‬ ‫‪ )1‬تكفي ــر األوصــاف يحتــاج إلــى دليــل‬ ‫وتكفي ــر املعي ــن يحتــاج إلــى تحقيــق منــاط‬ ‫(اجتمــاع شــروط وانتفــاء موانــع)‪.‬‬ ‫‪ )2‬التفصيــل فــي التكفي ــر املطلــق والتضييــق‬ ‫فــي تكفي ــر األعيــان فــا يطلــب فــي ذلــك‬ ‫االســتقصاء‪.‬‬ ‫‪ )3‬تكفي ــر األوصــاف مــن اختصــاص العلمــاء‬ ‫والفقهــاء وتكفي ــر األشــخاص مــن مســؤولية‬ ‫األئمــة والقضــاة ال عامــة النــاس والوعــاظ‪.‬‬ ‫ال تالزم بـيـن التكفيـر املطلق وتكفيـر املعيـن‬ ‫ومثالــه قــول اإلمــام أحمــد بكفــر مــن قــال‬ ‫بخلــق الق ـرآن‪ ،‬لكنــه لــم ّ‬ ‫يكفــر أعيانهــم مــع‬ ‫أنــه ناظــر بعضهــم‪ ،‬وذلــك لعــدم اجتمــاع‬ ‫الشــروط وانتفــاء املوانــع‪ ،‬وهــؤالء لــم يكذبــوا‬ ‫النصــوص وإنمــا أخطــؤوا فــي فهمهــا وتأويلهــا‪،‬‬ ‫فقد كان اإلمام أحمد يصلي خلف الخليفة‬

‫الــذي كان يمتحــن النــاس بهــذه املســألة وكان‬ ‫يدعــو هللا لــه باملغفــرة‪.‬‬ ‫القاعــدة الثالثــة ‪ :‬الفــرق بـي ــن الكفــر‬ ‫األكب ــر والكفــر األصغــر‬ ‫ليــس كل مــا وردت النصــوص بتســميته‬ ‫َ‬ ‫ً‬ ‫كفـ ًـرا أو شــركا فهــو عمــل ُمك ِّفـ ٌـر مخــرج مــن‬ ‫امللة‪ ...‬إذ إن بعض األعمال ورد وصفها بذلك‬ ‫ملشــابهتها أفعــال الكفــار أو باعتبــار مــا تــؤدي‬ ‫إليه أو ألسباب أخرى‪ ...‬ومن هنا قسم بعض‬ ‫العلمــاء الكفــر إلــى قسمي ــن‪ :‬كفــر أكب ــر وهــو‬ ‫املخــرج مــن امللــة‪ ،‬وكفــر أصغــر وضابطــه‪ :‬مــا‬ ‫ً‬ ‫وردت النصــوص بتســميته كفـ ًـرا أو شــركا‪،‬‬ ‫واتفــق العلمــاء علــى أنــه ال يخــرج مرتكبــه مــن‬ ‫امللة إال باالستحالل‪ ،‬ولبـيان هذه القاعدة ال‬ ‫بــد مــن الحديــث عــن عــدة مســائل‪:‬‬ ‫‪ )1‬إن هــذا التقســيم الــذي مــر فــي الكفــر‬ ‫يكــون فــي الشــرك والنفــاق والظلــم والفســق‬ ‫ً‬ ‫أيضا‪ ،‬فمنها ما هو أصغر ومنها ما هو أكبـر‪...‬‬ ‫وهــذا التقســيم منــه مــا صرحــت بــه النصــوص‬ ‫ومنــه مــا هــو مفهــوم مــن قواعــد تفسي ــر‬

‫التكفيـر وضوابطه‬

‫العدد ‪ 2‬رجب ‪1439‬هـ‬

‫النصوص‪ ،‬وقد جاء في األحاديث ذكر الشرك‬ ‫األصغــر كمــا فــي قولــه عليــه الصــاة والســام‪:‬‬ ‫((إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك األصغر‪،‬‬ ‫قالوا‪ :‬يا رســول هللا وما الشــرك األصغر؟ قال‪:‬‬ ‫الريــاء))(‪ )17‬وهــذا النــوع ال يخــرج مــن امللــة وال‬ ‫ي ــنفي عــن صاحبــه أصــل اإلســام ولكــن ي ــنافي‬ ‫كماله لكونه من الكبائر‪ ،‬وال يغفر ملرتكبه إال‬ ‫بالتوبــة ومــن مــات ولــم يتــب فهــو تحــت مشــيئة‬ ‫هللا تعالــى إن شــاء عاقبــه أو غفــر لــه‪.‬‬ ‫‪ )2‬ممــا يتفــرع علــى هــذه القاعــدة عــدم‬ ‫تكفي ــر أهــل القبلــة بمطلــق الذنــوب أو بمــا‬ ‫وصــف مــن الذنــوب بالكفــر أو الشــرك إال‬ ‫بجحــود األمــر أو اســتحالل املحـ ّـرم‪ ،‬فقــد‬ ‫أجمــع الصحابــة والتابعــون ومــن بعدهــم‬ ‫علــى أن املعا�صــي مــن أمــور الجاهليــة‬ ‫وال يكفــر صاحبهــا بارتكابهــا إال بالشــرك‪،‬‬ ‫بـ ّـوب البخــاري (بــاب املعا�صــي مــن أمــر‬ ‫الجاهليــة)(‪ )18‬وأورد حديــث‪(( :‬إنــك امــرؤ‬ ‫فيــك جاهليــة))( ‪ )19‬وقــد فــرق الق ـرآن بـي ــن‬ ‫الشــرك وســائر املعا�صــي‪ ،‬وجــاء فــي أحاديــث‬ ‫الشــفاعة حديــث‪(( :‬شفاعت ــي ألهــل الكبائــر‬ ‫مــن أمت ــي))(‪ ،)20‬يقــول اب ــن ت ــيمية‪( :‬إنــه قــد‬ ‫تقــرر مــن مذهــب أهــل الســنة والجماعــة مــا‬ ‫دل عليــه الكتــاب والســنة أنهــم ال يكفــرون‬ ‫أحـ ًـدا مــن أهــل القبلــة بذنــب وال يخرجونــه‬ ‫مــن اإلســام بعمــل إذا كان فعـ ًـا ًّ‬ ‫منهيــا‬ ‫عنــه مثــل الزنــا والســرقة وشــرب الخمــر مــا‬ ‫لــم يتضمــن ت ــرك اإليمــان‪ ...‬وقــد ثبــت فــي‬ ‫الصحيحي ــن حديــث أب ــي ذر ‪(( :‬مــن قــال ال‬ ‫إلــه إال هللا دخــل الجنــة وإن زنــا وإن ســرق‬ ‫وإن شــرب الخمــر رغــم أنــف أب ــي ذر))( ‪.)21‬‬ ‫‪ )3‬للعلمــاء فــي تأويــل النصــوص الت ــي صرحــت‬

‫(‪ )16‬فيصل التفرقة بـيـن اإلسالم والزندقة للغزالي (ص ‪ )17( .)128‬رواه اإلمام أحمد بسند صحيح عن محمود بـن لبـيد رقم (‪ )23630‬طبعة دار الرسالة‪ ،‬ورواه الحاكم في املستدرك‬ ‫عن شداد بـن أوس وقال صحيح على شرطهما ولم يخرجاه‪ ،‬رقم (‪ )7937‬تحقيق العطا طبعة دار الكتب العلمية‪.‬‬ ‫(‪ )18‬فتح الباري (ص‪ )19( - )84/1‬أخرجه البخاري عن املعرور بـن سويد ر�ضي هللا عنه‪ ،‬رقم (‪.)30‬‬ ‫(‪ )20‬رواه أبو داود باب في الشفاعة رقم (‪ ،)4739‬والتـرمذي باب شفاعتـي ألهل الكبائر من أمتـي رقم (‪ ،)2623‬وابـن ماجه في باب ذكر الشفاعة (‪.)4310‬‬ ‫(‪ )21‬مجموع الفتاوى البـن تـيمية (ص‪.)90/20‬‬

‫‪8‬‬

‫بتكفي ــر مرتكب ــي بعــض الذنــوب مذاهــب‬ ‫عــدة‪ :‬األول‪ :‬املـراد أنهــا مــن أعمــال أهــل الكفــر‬ ‫كمــا فــي الحديــث‪(( :‬ال ت ــرجعوا بعــدي كفــا ًرا‬ ‫يضــرب بعضكــم رقــاب بعــض))(‪ ،)22‬وحديــث‪:‬‬ ‫((سباب املسلم فسوق وقتاله كفر))( ‪ )23‬وقد‬ ‫قــال هللا تعالــى فــي حــق املسلمي ــن املتقاتلي ــن‪:‬‬ ‫((وإن طائفتــان مــن املؤمنـي ــن اقتتلــوا))‬ ‫[ســورة الحج ـرات‪ :‬آيــة ‪ ]9‬فلــم ي ــنف عنهــم‬ ‫وصــف اإليمــان مــع اقتتالهــم‪ ،‬الثان ــي‪ :‬الكفــر‬ ‫أو الشــرك املذكــور فــي الحديــث هــو فــي حــق‬ ‫املســتحل‪ ،‬الثالــث‪ :‬هــذا الفعــل يــؤدي إلــى‬ ‫الكفر أو الشرك‪(( :‬من حلف بغي ــر هللا فقد‬ ‫كفــر أو أشــرك))( ‪ ،)24‬الرابــع‪ :‬هــو بمعنــى كفــر‬ ‫اإلحســان والنعمــة‪ ،‬وهــو مــا يعب ــر عنــه بعبــارة‪:‬‬ ‫(كفــر دون كفــر) كقولــه تعالــى‪(( :‬ضــرب هللا‬ ‫ً‬ ‫مثــا قريــة كانــت آمنــة مطمئنــة يأت ــيها رزقهــا‬ ‫رغـ ًـدا مــن كل مــكان فكفــرت بأنعــم هللا))‬ ‫[سورة النحل‪ :‬آية ‪ ،]112‬الخامس‪ :‬املقصود‬ ‫نفــي كمــال اإليمــان مــع بقــاء أصلــه فــا يكــون‬ ‫بذلــك العا�صــي خار ًجــا مــن امللــة‪ ،‬كقولــه عليــه‬ ‫الصــاة والســام‪(( :‬ال يزن ــي الزان ــي حي ــن يزن ــي‬ ‫وهو مؤمن))( ‪ )25‬قال ابـن حجر في تعليقه على‬ ‫هــذا الحديــث‪( :‬وهــذا يوافــق قول الجمهــور إن‬ ‫امل ـراد باإليمــان هنــا كمالــه ال أصلــه)(‪.)26‬‬ ‫الســادس‪ :‬إن املقصــود بــه هــو التغليــظ‬ ‫والزجــر ففــي مقــام الوعــظ تذكــر هــذه‬ ‫النصــوص كمــا هــي دون تفصيــل فيهــا لتحقــق‬ ‫الغايــة منهــا كمــا نقــل ذلــك عــن اإلمــام أحمــد‬ ‫وســفيان‪(:‬يقرونها ويمرونهــا كمــا جــاءت‬ ‫ويكرهــون تأويلهــا بمــا يخرجهــا عن مقصودها‬

‫فــي التغليــظ والزجــر)(‪ ،)27‬وأمــا فــي مقــام ب ــيان‬ ‫الحكــم فتجمــع النصــوص الــواردة فــي كل‬ ‫مسألة منها ثم تفسر بحسب قواعد تفسيـر‬ ‫نصــوص الوعــد والوعيــد‪ ...‬ولجهــل كثي ــر مــن‬ ‫املتصدريـن للوعظ بهذه الضوابط فقد أدى‬ ‫بهــم ذلــك إلــى التكفي ــر بمــا ال يجــوز التكفي ــر‬ ‫بــه‪ ،‬ومثــال هــذا الخلــط املتســبب عــن الجهــل‬ ‫بأســاليب العــرب أن يخــرج مــن هــؤالء مــن‬ ‫يظــن أن قــول علــي ألهــل الكوفــة (يــا أشــباه‬ ‫الرجــال وال رجــال‪ ) ..‬يدعــو إلــى تنزيــل أحــكام‬ ‫الخنثــى عليهــم فــي املواريــث!‪.‬‬ ‫مســألة مــواالة الكفــار‪ :‬يتفــرع علــى القاعــدة‬ ‫السابقةالحديثعن(الكفراالعتقادي)وهو‬ ‫الكفــر األكب ــر‪( ،‬والكفــر العملــي) وهــو الكفــر‬ ‫األصغر‪ ...‬ولعل من أشهر املسائل التـي حصل‬ ‫الخلــط فيهــا بـي ــن الكفــر االعتقــادي والكفــر‬ ‫العملــي مســألة نقــض اإليمــان بمـواالة الكفــار!‬ ‫فهل مطلق مواالة املســلم للكفار يخرجه من‬ ‫امللة باعتباره ً‬ ‫كفرا أكبـر؟ أم أن فيه تفصيال؟‬ ‫لقــد نهــى هللا ســبحانه عــن مــواالة الكفــار‬ ‫فقــال‪ ((:‬يــا أيهــا الذي ــن آمنــوا ال تتخــذوا عــدوي‬ ‫وعدوكــم أوليــاء)) [ســورة املمتحنــة‪ :‬آيــة ‪]1‬‬ ‫وقــال‪(( :‬ومــن يتولهــم منكــم فإنــه منهــم))‬ ‫[ســورة املائــدة‪ :‬آيــة ‪ ،]51‬وقــد فهــم البعــض‬ ‫مــن ظاهــر هــذه النصــوص تكفي ــر كل مــن‬ ‫عمــل عمــا يفســر علــى أنــه مــواالة للكفــار‪،‬‬ ‫وليــس األمــر كذلــك إذ جــاء فــي الســنة تفصيــل‬ ‫هــذه املســألة بمــا ال يــدع للشــبهة مجــاال! ‪.‬‬ ‫جاء في قصة حاطب ب ــن أب ــي بلتعة ر�ضي هللا‬ ‫عنــه يــوم الفتــح أنــه أرســل ً‬ ‫كتابــا يخب ــر أهــل‬

‫العدد ‪ 2‬رجب ‪1439‬هـ‬

‫إ ّن الحاكم الذي يوصف‬ ‫بأنه مســلم ثم يـــرفض رشيعة‬ ‫اللــه ويعتقــد بأن غيـــرها أفضل‬ ‫منهــا وأجــدر بالتطبـــيق وأنهــا‬ ‫غيـــر صالحــة للعمــل بهــا وال‬ ‫شــبهة لــه يف ذلــك فهــذا كافــر‬ ‫وإن صــام وصــى‬ ‫مكــة بمسي ــر الرســول صلــى هللا عليــه وســلم‬ ‫واملسلمي ــن إليهــم‪ ،‬وهــذا مــن املــواالة الظاهــرة‪،‬‬ ‫لكــن املــواالة منــه لهــم لم تكن بســبب اعتقــاده‬ ‫مــا هــم عليــه مــن الكفــر‪ ،‬إنمــا حمايــة ألهلــه‬ ‫كمــا جــاء فــي الحديــث الصحيــح فقــد قــال‬ ‫حاطب‪( :‬وهللا ما فعلته شـ ًّـكا في ديـن ــي وال ر ً‬ ‫ضا‬ ‫بالكفــر بعــد اإلســام) فقــال عليــه الصــاة‬ ‫والســام‪(( :‬إنــه قــد صــدق))(‪ ،)28‬وأمــا منــع‬ ‫قتلــه فــكان بســبب شــهوده بــد ًرا فلــو حكــم‬ ‫بكفــره فشــهوده بــد ًرا ال يمنــع مــن إطــاق‬ ‫الكفــر عليــه وكذلــك لــو حكــم بكفــره لحبــط‬ ‫عملــه ومــن جملــة ذلــك جهــاده وشــهوده بــد ًرا‬ ‫قــال تعالــى‪(( :‬ومــن يكفــر باإليمــان فقــد حبــط‬ ‫عمله)) [ســورة املائدة‪ :‬آية ‪ ]5‬فلم يعد ي ــنفعه‬ ‫عملــه شـ ًـيئا‪ ،‬فلمــا لــم يكــن مــا فعلــه كفـ ًـرا كانت‬ ‫حسنة شهوده بدرا ماحية لهذه السيئة‪ ،‬قال‬ ‫ّ ُ‬ ‫الداللــة‬ ‫اإلمــام الشــافعي رحمــه هللا‪( :‬وليــس ِ‬ ‫علــى عــورة ُمســلم وال تأييـ ُـد كافــر بـ َـأن ُي َحـ ّـذ َر َأنَّ‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬ ‫ٍِ‬ ‫ْالُسلمي َـن ُيريدو َن م ُنه غ َّر ًة ليحذ َرها أو َّ‬ ‫يتقدمَ‬ ‫ِ ِ ِ‬

‫(‪ )22‬رواه البخاري في باب حجة الوداع‪ ،‬رقم (‪ ،)4143‬ومسلم في باب بـيان معنى قول النبـي صلى اله عليه وسلم ال تـرجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض رقم (‪.)65 -118‬‬ ‫(‪ )23‬رواه البخاري في باب ما يـنهى من السباب واللعن رقم (‪ ،)5697‬ورواه مسلم في باب بـيان قول النبـي صلى هللا عليه و سلم سباب املسلم فسوق وقتاله كفر‪ ،‬رقم (‪.)64-116‬‬ ‫(‪ )24‬أخرجه ابـن حبان في صحيحه عن ابـن عمر ر�ضي هللا عنه‪ ،‬وفي مسند أحمد وسنن أبـي داود والتـرمذي ‪ ،‬وصححه الحاكم في مستدركه على شرطهما‪.‬‬ ‫(‪ )25‬متفق عليه عن أبـي هريـرة ر�ضي هللا عنه‪ ،‬رواه البخاري في باب النبهى بغيـر إذن صاحبه‪ ،‬رقم (‪ ،)2343‬ومسلم في باب بـيان نقصان اإليمان باملعا�صي رقم (‪.)57-100‬‬ ‫(‪ )26‬فتح الباري (ص‪)115/12‬‬ ‫(‪ )27‬مجموع الفتاوى (ص‪.)673/7‬‬ ‫(‪ )28‬القصة موجودة في صحيح البخاري وفي كل كتب السيـرة وبهذا اللفظ في السنن الكبـرى للبـيهقي وفي شرح السنة للبغوي‪.‬‬

‫‪9‬‬


‫التكفيـر وضوابطه‬ ‫ُ‬ ‫ِفــي ِنكايـ ِـة املسلمي ـ َـن ِبك ْفـ ٍـر َب ِّيـ ٍـن)‪ ،‬وقــال اب ـ ُـن‬ ‫ْ َ ُ َ َ ُّ ُ َ‬ ‫وراتاملسلمي َـن‬ ‫العربـي‪(َ :‬منكث َرتطل ُعهعلىع َ ِ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫عليهــم ُوي َعـ ّ ِـرف َع ُد َّو ُهــم ِبأخبا ِر ِهـ ْـم لـ ْـم‬ ‫ُوين ِّبـ ُـه‬ ‫ِ‬ ‫َ ُ ْ َ َ ً َ َ َ َ َ​َ ُ َ َ‬ ‫ض ُدنـيو ّي‪،‬‬ ‫يكن ِبذ ِلك كا ِفرا ِإذا كان فعل َه ِلغ َر ٍ‬ ‫َ‬ ‫واعتقـ ُـاد ُه علــى ذلـ َـك َسـ ٌ‬ ‫حاطـ ٌـب‬ ‫ـليم‪ ،‬كمــا فعـ َـل ِ‬ ‫ّ َ‬ ‫حي ـ َـن َق َ‬ ‫صـ َـد ِبذلـ َـك ِاتخــاذ اليـ ِـد ولــم ي ــنو الـ ّـردة‬ ‫ِ‬ ‫ّ‬ ‫‪)29‬‬ ‫(‬ ‫عــن الدي ــن) ‪ ،‬وقــال اب ــن ت ــيمية فــي الفتــاوى‪:‬‬ ‫َّ‬ ‫ُ ّ‬ ‫حاجة‬ ‫لرحم أو ٍ‬ ‫(وقد تحصل للرجل موادتهم ٍ‬ ‫ُ‬ ‫فتكــون ً‬ ‫ذنبــا ي ــنقص بــه إيمانــه‪ ،‬وال يكــون بــه‬ ‫كافـ ًـرا كمــا حصــل ِمــن حاطــب ب ــن أب ــي بلتعــة‬ ‫ملــا كاتــب املشركي ــن ببعــض أخبــار النب ــي صلــى‬ ‫َ َّ‬ ‫هللا عليه وســلم وأنزل هللا فيه ((يا أ ُّي َها ال ِذي ـ َـن‬ ‫َ ُ َ َّ ُ َ ُ ّ َ َ ُ َّ ُ ْ َ ْ َ ْ‬ ‫ياء ُتل ُقو َن‬ ‫آمنوا ال تت ِخذوا عد ِوي وعدوكم أوِل‬ ‫َ‬ ‫َْ‬ ‫ِإل ْي ِهـ ْـم ِبالـ َـو َّد ِة)) [ســورة املمتحنــة‪ :‬آيــة ‪ ]1‬وقــد‬ ‫ناقــش اإلمــام اب ــن القيــم هــذه املســألة فــي زاد‬ ‫املعــاد( ‪ )30‬ثــم ب ـ ّـين حكــم الجاســوس ورجــح أنــه‬ ‫مــن أحــكام اإلمامــة فاإلمــام يمكــن أن يقتلــه أو‬ ‫يستبقيه بحسب املصلحة‪ ،‬ولو حكم بكفره‬ ‫ملــا جــاز االســتبقاء‪.‬‬ ‫ومثــل قصــة حاطــب مــا حصــل مــن ســعد ب ــن‬ ‫عبــادة فــي (حديــث اإلفــك) فقــد جــاء فيــه‪ :‬قــال‬ ‫ســعد ب ــن معــاذ‪( :‬دعن ــي أقتــل هــذا املنافــق)‬ ‫يقصــد عبــدهللا ب ــن أب ـ ّـي! فقــال لــه ســعد ب ــن‬ ‫عبــادة‪( :‬كذبــت وهللا ال تقتلــه وال تقــدر علــى‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫قتلــه) قالــت عائشــة‪(( :‬وكان رجــا‬ ‫صالحــا‬ ‫ولكــن احتملتــه الحميــة))( ‪ ،)31‬يفهــم مــن ذلــك‬ ‫أنــه لــم يكــن دفــاع ســعد عــن املنافــق مــواالة لــه‬ ‫فــي نفاقــه‪ ،‬ولكــن لســبب خــارج عنــه‪.‬‬ ‫مســألة الحكــم بغي ــر مــا أنــزل هللا‪ :‬ومــن‬ ‫املســائل املهمــة املتفرعــة عــن قاعــدة الكفــر‬

‫االعتقــادي والكفــر العملــي مســألة الحكــم‬ ‫بغيـر ما أنزل هللا‪ ،‬فهل كل من تـرك حكم هللا‬ ‫هــو كافــر أم أن فــي ذلــك تفصيــا؟‬ ‫ّإن الحاكــم الــذي يوصــف بأنــه مســلم ثــم‬ ‫يـرفض شريعة هللا ويعتقد بأن غيـرها أفضل‬ ‫منهــا وأجــدر بالتطب ــيق وأنهــا غي ــر صالحــة‬ ‫للعمــل بهــا وال شــبهة لــه فــي ذلــك فهــذا كافــر‬ ‫وإن صــام وصلــى وزعــم أنــه مســلم‪ ،‬قــال تعالــى‪:‬‬ ‫(( فــا وربــك ال يؤمنــون حتــى يحكمــوك فيمــا‬ ‫شــجر بـي ــنهم ثــم ال يجــدوا فــي أنفســهم ً‬ ‫حرجــا‬ ‫ممــا قضيــت ويســلموا تســليما)) [ســورة‬ ‫النســاء‪ :‬آيــة ‪ ...]65‬ولكنــه إن كان يعتقــد‬ ‫أحقيتها ويؤمن بها ولكنه ال يعمل بمقتضاها‬ ‫تقصي ـ ًـرا أو لوضــع مــا يمنعــه مــن ذلــك؛‬ ‫عاصيــا أو ظال ـ ًـما مر ً‬ ‫ً‬ ‫فهــذا يكــون‬ ‫تكبــا للكبـي ــرة‬ ‫أو فاسـ ًـقا وال يدخــل تحــت مســمى الكفــر‬ ‫االعتقــادي األكب ــر‪ ،‬قــال شــارح الطحاويــة ‪:‬‬ ‫(وهنا أمر يجب أن يتفطن له وهو أن الحكم‬ ‫بغي ــر مــا أنــزل هللا قــد يكــون كفـ ًـرا ي ــنقل عــن‬ ‫امللــة‪ ،‬وقــد يكــون معصيــة كبـي ــرة أو صغي ــرة‪،‬‬ ‫ويكــون كفـ ًـرا إمــا مجا ًّزي ــا وإمــا كفـ ًـرا أصغــر علــى‬ ‫القولي ــن املذكوري ــن‪ ،‬وذلــك بحســب حــال‬ ‫الحاكــم‪ ،‬فإنــه إن اعتقــد أن الحكــم بمــا أنــزل‬ ‫هللا غي ــر واجب وأنه مخي ــر فيه أو استهان به‬ ‫مــع ت ــيقنه أنــه حكــم هللا فهــذا كفــر أكب ــر‪ ،‬وإن‬ ‫اعتقــد وجــوب الحكــم بمــا أنــزل هللا وعلمــه‬ ‫فــي هــذه الواقعــة وعــدل عنــه مــع اعت ـرافه بأنــه‬ ‫مســتحق للعقوبــة فهــذا عــاص ويســمى كافـ ًـرا‬ ‫كفـ ًـرا مجا ًّزيــا أو كفـ ًـرا أصغــر‪ ،‬وإن جهــل حكــم‬ ‫هللا فيهــا مــع بــذل جهــده واســتفراغ وســعه فــي‬

‫التكفيـر وضوابطه‬

‫العدد ‪ 2‬رجب ‪1439‬هـ‬

‫معرفــة الحكــم وأخطــأ فهــذا مخطــئ لــه أجــر‬ ‫علــى اجتهــاده وخطــؤه مغفــور)( ‪.)32‬‬ ‫القاعدة الرابعة‪ :‬من عرف إيمانه بـيقيـن‬ ‫فاليحكم بكفره إالبـيقيـن‪.‬‬ ‫ويتـرتب على ذلك‪:‬‬ ‫‪ -1‬ثبــوت عقــد اإليمــان لــكل مــن أقــر‬ ‫بالشهادتـي ــن حتــى يتلبــس ب ــناقض جلــي مــن‬ ‫نواقــض اإليمــان‪ ،‬إذ يكفــي مــن لــم يكــن ً‬ ‫مؤمنــا‬ ‫اإلق ـرار املجمــل بالشهادتـي ــن ليعصــم دمــه‬ ‫ومالــه‪ ،‬وأدلــة ذلــك كثي ــرة منهــا حديــث أســامة‬ ‫ب ــن زيــد (بعثنــا رســول هللا صلــى هللا عليــه‬ ‫وسلم إلى َ‬ ‫الحرقة من جهي ــنة فصبحنا القوم‬ ‫فهزمناهــم‪ ،‬ولحقــت أنــا ورجـ ٌـل مــن األنصــار‬ ‫ً‬ ‫رجل منهم‪ ،‬فلما غشي ــناه قال ‪ :‬ال إله إال هللا‪،‬‬ ‫فكــف عنــه األنصــاري وطعنتــه ب ــرمحي حتــى‬ ‫قتلتــه‪ ،‬قــال‪ :‬فلمــا قدمنــا بلــغ ذلــك النب ــي صلــى‬ ‫هللا عليــه وســلم فقــال لــي ‪(( :‬يــا أســامة أقتلتــه‬ ‫بعدما قال ال إله إال هللا؟)) قال‪ :‬قلت يا رسول‬ ‫ً‬ ‫هللا إنمــا كان متعــوذا! قــال‪(( :‬أقتلتــه بعدمــا‬ ‫قــال ال إلــه إال هللا؟)) قــال‪ :‬قلــت يــا رســول هللا‬ ‫ً‬ ‫إنما كان متعوذا‪ ،‬قال‪(( :‬أقتلته بعدما قال ال‬ ‫إله إال هللا؟)) فما زال يكررها حتى تمنـيت أنـي‬ ‫لــم أكــن أســلمت قبــل ذلــك اليــوم)( ‪ ،)33‬ومثلــه‬ ‫حديث معاوية بـن الحكم السلمي والذي جاء‬ ‫فيــه أنــه لطــم جاريتــه ثــم نــدم وأراد أن يعتقهــا‬ ‫فســأل النب ــي صلــى هللا عليــه وســلم عــن ذلــك‬ ‫ثم جاء في الحديث‪(( :‬أن النبـي صلى هللا عليه‬ ‫وســلم ســألها‪ :‬أي ــن هللا؟ قالــت‪ :‬فــي الســماء ثــم‬ ‫قــال‪ :‬مــن أنــا؟ قالــت‪ :‬أنــت رســول هللا‪ ،‬قــال‪:‬‬ ‫أعتقهــا فإنهــا مؤمنــة))(‪ ) 34‬فقــد اكتفــى مــن‬

‫(‪ )29‬أحكام القرآن البـن العربـي تحقيق العطا‪ ،‬طبعة دار الكتب العلمية ‪( ،2003‬ص ‪.)225/4‬‬ ‫(‪ )30‬زاد املعاد (ص‪.)423/3 ،114/3‬‬ ‫(‪ )31‬متفق عليه عن عائشة ر�ضي هللا عنها‪ ،‬رواه البخاري في باب تعديل النساء بعضهن بعضا رقم (‪ ،)2518‬ومسلم في باب حديث اإلفك‪ ...‬رقم (‪.)2770-56‬‬ ‫(‪ )32‬شرح العقيدة الطحاوية (ص‪.)446/2‬‬ ‫(‪ )33‬متفق عليه عن أسامة بـن زيد ر�ضي هللا عنه‪ ،‬رواه البخاري باب قول هللا تعالى (ومن أحياها) رقم (‪ ،)6478‬ومسلم باب تحريم قتل الكافر بعد أن قال ال إله إال هللا‪ ،‬رقم (‪.)96-159‬‬ ‫(‪ )34‬أخرجه مسلم عن معاوية بـن الحكم السلمي ر�ضي هللا عنه‪ ،‬باب تحريم الكالم في الصالة ونسخ ما كان من إباحة‪ ،‬رقم (‪.)537-33‬‬

‫‪10‬‬

‫الجاريــة إقرارهــا ومــن الرجــل فــي حديــث‬ ‫أســامة إق ـراره‪ ،‬يقــول اب ــن رجــب‪( :‬مــن‬ ‫املعلــوم بالضــرورة ّأن النب ــي صلــى هللا عليــه‬ ‫وسلم كان يقبل كل من جاءه يـريد الدخول‬ ‫فــي اإلســام بالشهادتـي ــن فقــط‪ ،‬ويعصــم‬ ‫دمــه بذلــك ويجعلــه مسـ ًـلما‪ ،‬فقــد أنكــر علــى‬ ‫أســامة ب ــن زيــد قتلــه ملــن قــال ال إلــه إال هللا‬ ‫ّ‬ ‫لـ ــا رفــع عليــه الســيف واشــتد نكي ــره عليــه‪،‬‬ ‫ولــم يكــن صلــى هللا عليــه وســلم ليشت ــرط‬ ‫علــى مــن جــاءه ي ـريد اإلســام)(‪ ،)35‬وهــذا‬ ‫قصــد كل مــن قــال مــن الســلف أن اإلق ـرار‬ ‫باإلســام يكفيــه لثبــوت وصــف اإلســام لــه‪.‬‬ ‫‪ -2‬لــو حدثــت لوثــة فــي اإلق ـرار املجمــل ملــن‬ ‫أراد الدخــول فــي الدي ــن فــا بــد مــن التحقيــق‬ ‫املفصــل‪ ،‬فالوثن ــي تقبــل منــه الشــهادتان‬ ‫واإلق ـرار املجمــل بهمــا‪ ،‬وأمــا الكتاب ــي فــا‬ ‫يكتفــى منــه بذلــك لوجــود شــبهة إقرارهــم‬ ‫ب ــنبوته عليــه الصــاة والســام وإنكارهــم‬ ‫بعثتــه إليهــم وأنــه بعــث للعــرب خاصــة‪،‬‬ ‫وهكــذا كل مــن لــه لوثــة أو شــبهة علــى اإلقـرار‬ ‫املجمــل فــا بــد أن يقــر بالحــق ويتب ـرأ مــن كل‬ ‫مــا خالفــه كالباطن ــية بطوائفهــا والقاديان ــية‪،‬‬ ‫يقــول النــووي‪( :‬أمــا إذا أتــى بالشهادتـي ــن فــا‬ ‫يشتـرط معهما أن يقول وأنا بـريء من كل ما‬ ‫خالــف دي ــن اإلســام إال إذا كان مــن الكفــار‬ ‫الذي ــن يعتقــدون اختصــاص رســالة نبـي ــنا‬ ‫صلــى هللا عليــه وســلم بالعــرب فإنــه ال يحكــم‬ ‫بإســامه حتــى يتب ـرأ)(‪.)36‬‬ ‫‪ -3‬االحت ــياط بالتكفي ــر‪ :‬قــال اب ــن عبــد الب ــر‪:‬‬ ‫(ومــن وجهــة النظــر الصحيــح الــذي ال مدفــع‬

‫لــه أن كل مــن ثبــت لــه عقــد اإلســام فــي وقــت‬ ‫بإجمــاع مــن املسلمي ــن ثــم أذنــب ً‬ ‫ذنبــا أو‬ ‫ً‬ ‫تـ ّـأول تأويــا فاختلفــوا بعـ ُـد فــي خروجــه مــن‬ ‫اإلســام لــم يكــن الختالفهــم بعــد إجماعهــم‬ ‫معنــى‪ ،‬وال يخــرج مــن اإلســام املتفــق عليــه‬ ‫إال باتفــاق آخــر أو ســنة ثابتــة ال معــارض‬ ‫لهــا‪ ،‬وقــد اتفــق أهــل الســنة والجماعــة وهــم‬ ‫أهــل الفقــه واألث ــر علــى أن أحــدا ال يخرجــه‬ ‫ذنبــه وإن عظــم مــن اإلســام‪ ،‬فالواجــب فــي‬ ‫النظــر أال ُي َّ‬ ‫كفــر إال مــن اتفــق علــى تكفي ــره‬ ‫أو قــام علــى تكفي ــره دليــل ال مدفــع لــه مــن‬ ‫كتــاب أو ســنة)( ‪.)37‬‬ ‫‪ -4‬وعلــى هــذا فاملســلم الــذي نجهــل حالــه‬ ‫يكفــي فــي معرفتنــا إســامه أي داللــة‬ ‫علــى ذلــك كمــن يصلــي أو يصــوم‪ ،‬وعليــه‬ ‫يحمــل حديــث النب ــي صلــى هللا عليــه وســلم‬ ‫((مــن صلــى صالتنــا واســتقبل قبلتنــا وأكل‬ ‫ذب ــيحتنا فذلــك املســلم الــذي لــه ذمــة هللا‬ ‫ورســوله))( ‪ )38‬يقــول اب ــن حجــر فــي تعليقــه‬ ‫علــى هــذا الحديــث‪( :‬وفيــه أن أمــور النــاس‬ ‫محمولــة علــى الظاهــر‪ ،‬فمــن أظهــر شــعائر‬ ‫الدي ــن أجريــت عليــه أحــكام أهلــه مــا لــم‬ ‫يظهــر منــه خــاف ذلــك(‪ ،)39‬ولقــد نهــى‬ ‫الق ـرآن الكريــم عــن نفــي اإليمــان عمــن‬ ‫ابتدأنــا بالســام ألن الســام مــن عالمــات‬ ‫اإليمــان‪ ،‬قــال هللا تعالــى‪(( :‬وال تقولـوا ملــن ألقــى‬ ‫إليكــم الســام لســت ً‬ ‫مؤمنــا)) [ســورة النســاء‪:‬‬ ‫آية ‪ ]94‬وهذا في حق كافر ألقى الســام كما‬ ‫يــدل عليــه ســبب النــزول فكيــف بمســلم‬ ‫يعيــش فــي بــاد اإلســام‪ ،‬وعلــى هــذا فليــس‬

‫(‪ )35‬جامع العلوم والحكم البـن رجب (ص‪.)228‬‬ ‫(‪ )36‬صحيح مسلم بشرح النووي (ص‪.)149/1‬‬ ‫(‪ )37‬التمهيد البـن عبد البـر (ص ‪.)21/17‬‬ ‫(‪ )38‬أخرجه البخاري عن أنس بـن مالك ر�ضي هللا عنه‪ ،‬باب فضل استقبال القبلة رقم (‪ )384‬ومسلم باب وقتها ‪-‬أي األضحية‪ -‬رقم (‪.)1961-6‬‬ ‫(‪ )39‬فتح الباري البـن حجر (ص ‪.)496/1‬‬ ‫(‪ )40‬انظر تاريخ املذاهب اإلسالمية ملحمد أبـي زهرة (ص‪.)74‬‬

‫العدد ‪ 2‬رجب ‪1439‬هـ‬

‫مــن الهــدي النبــوي امتحــان النــاس ملعرفــة‬ ‫إيمانهــم طاملــا أنهــم يعيشــون بـي ــن املسلمي ــن‬ ‫ويظهــرون لنــا مــا يــدل علــى إســامهم‪،‬‬ ‫وامتحان اإليمان كان في حاالت خاصة أمر‬ ‫هللا تعالــى بهــا كامتحــان املـرأة املهاجــرة وذلــك‬ ‫ملصلحــة الوفــاء بالعهــد الــذي أب ــرم فــي صلــح‬ ‫الحديب ــية‪ ،‬وكذلك عند الريبة لتنزيل حكم‬ ‫شــرعي كمــا فــي قصــة عتــق الجاريــة‪.‬‬ ‫‪ -5‬التفريق في الحكم بـيـن من أراد الدخول في‬ ‫اإلســام مــن غي ــر أهلــه؛ وبـي ــن الحكــم بكفــر‬ ‫مــن هــو مــن أهــل اإليمــان‪ ،‬وتنزيــل قاعــدة‪:‬‬ ‫ّ‬ ‫يكفرالكافرأوشك في تكفيـره فهو‬ ‫(من لم ِ‬ ‫كافــر) فــإن هــذه القاعــدة إنمــا تصــدق علــى‬ ‫من شك في كفر الكافر األصلي املجمع على‬ ‫كفــره كاليهــود والنصــارى‪( ...‬وهــذه القاعــدة‬ ‫ملــا توســع بهــا الخــوارج ّ‬ ‫كفــر بعضهــم ً‬ ‫بعضــا‬ ‫واســتباحوا دمــاء بعضهــم ً‬ ‫بعضــا وصــاروا مــا‬ ‫يزيــد علــى عشري ــن فرقــة‪ ،‬وقــد فطــن بعــض‬ ‫الدهــاة كاملهلــب ب ــن أب ــي صفــرة لهــذا النهــم‬ ‫الشــديد وهــذه السلســة التكفي ـرية‪ ،‬فصــار‬ ‫يـ ُّ‬ ‫ـدس لهــم مــن يســألهم عــن املعضــات‬ ‫فيختلفــون فــي اإلجابــة فيكفــر بعضهــم‬ ‫َ‬ ‫ً‬ ‫بعضــا ومــن ثـ ّـم يفت ــرقون)(‪.)40‬‬ ‫‪ -6‬مســألة‪ :‬شــاع عن البعض القول بجاهلية‬ ‫املجتمعــات اإلســامية والت ــي يجعلــون مــن‬ ‫لوازمهــا تكفي ــر املسلمي ــن‪ ،‬بــل واعتبارهــم‬ ‫كفــا ًرا حتــى يثبــت العكــس‪ ،‬وهــذه املســألة‬ ‫منقوضــة بأمــور كثي ــرة منهــا أن الحكــم علــى‬ ‫َّ‬ ‫الجاهلية‬ ‫عمل فرد أو جماعة بأنه من عمل‬ ‫ال يلــزم منــه تكفي ــر املعي ــن مــا لــم يكــن األمــر‬

‫‪11‬‬


‫التكفيـر وضوابطه‬ ‫ُ‬ ‫ِفــي ِنكايـ ِـة املسلمي ـ َـن ِبك ْفـ ٍـر َب ِّيـ ٍـن)‪ ،‬وقــال اب ـ ُـن‬ ‫ْ َ ُ َ َ ُّ ُ َ‬ ‫وراتاملسلمي َـن‬ ‫العربـي‪(َ :‬منكث َرتطل ُعهعلىع َ ِ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫عليهــم ُوي َعـ ّ ِـرف َع ُد َّو ُهــم ِبأخبا ِر ِهـ ْـم لـ ْـم‬ ‫ُوين ِّبـ ُـه‬ ‫ِ‬ ‫َ ُ ْ َ َ ً َ َ َ َ َ​َ ُ َ َ‬ ‫ض ُدنـيو ّي‪،‬‬ ‫يكن ِبذ ِلك كا ِفرا ِإذا كان فعل َه ِلغ َر ٍ‬ ‫َ‬ ‫واعتقـ ُـاد ُه علــى ذلـ َـك َسـ ٌ‬ ‫حاطـ ٌـب‬ ‫ـليم‪ ،‬كمــا فعـ َـل ِ‬ ‫ّ َ‬ ‫حي ـ َـن َق َ‬ ‫صـ َـد ِبذلـ َـك ِاتخــاذ اليـ ِـد ولــم ي ــنو الـ ّـردة‬ ‫ِ‬ ‫ّ‬ ‫‪)29‬‬ ‫(‬ ‫عــن الدي ــن) ‪ ،‬وقــال اب ــن ت ــيمية فــي الفتــاوى‪:‬‬ ‫َّ‬ ‫ُ ّ‬ ‫حاجة‬ ‫لرحم أو ٍ‬ ‫(وقد تحصل للرجل موادتهم ٍ‬ ‫ُ‬ ‫فتكــون ً‬ ‫ذنبــا ي ــنقص بــه إيمانــه‪ ،‬وال يكــون بــه‬ ‫كافـ ًـرا كمــا حصــل ِمــن حاطــب ب ــن أب ــي بلتعــة‬ ‫ملــا كاتــب املشركي ــن ببعــض أخبــار النب ــي صلــى‬ ‫َ َّ‬ ‫هللا عليه وســلم وأنزل هللا فيه ((يا أ ُّي َها ال ِذي ـ َـن‬ ‫َ ُ َ َّ ُ َ ُ ّ َ َ ُ َّ ُ ْ َ ْ َ ْ‬ ‫ياء ُتل ُقو َن‬ ‫آمنوا ال تت ِخذوا عد ِوي وعدوكم أوِل‬ ‫َ‬ ‫َْ‬ ‫ِإل ْي ِهـ ْـم ِبالـ َـو َّد ِة)) [ســورة املمتحنــة‪ :‬آيــة ‪ ]1‬وقــد‬ ‫ناقــش اإلمــام اب ــن القيــم هــذه املســألة فــي زاد‬ ‫املعــاد( ‪ )30‬ثــم ب ـ ّـين حكــم الجاســوس ورجــح أنــه‬ ‫مــن أحــكام اإلمامــة فاإلمــام يمكــن أن يقتلــه أو‬ ‫يستبقيه بحسب املصلحة‪ ،‬ولو حكم بكفره‬ ‫ملــا جــاز االســتبقاء‪.‬‬ ‫ومثــل قصــة حاطــب مــا حصــل مــن ســعد ب ــن‬ ‫عبــادة فــي (حديــث اإلفــك) فقــد جــاء فيــه‪ :‬قــال‬ ‫ســعد ب ــن معــاذ‪( :‬دعن ــي أقتــل هــذا املنافــق)‬ ‫يقصــد عبــدهللا ب ــن أب ـ ّـي! فقــال لــه ســعد ب ــن‬ ‫عبــادة‪( :‬كذبــت وهللا ال تقتلــه وال تقــدر علــى‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫قتلــه) قالــت عائشــة‪(( :‬وكان رجــا‬ ‫صالحــا‬ ‫ولكــن احتملتــه الحميــة))( ‪ ،)31‬يفهــم مــن ذلــك‬ ‫أنــه لــم يكــن دفــاع ســعد عــن املنافــق مــواالة لــه‬ ‫فــي نفاقــه‪ ،‬ولكــن لســبب خــارج عنــه‪.‬‬ ‫مســألة الحكــم بغي ــر مــا أنــزل هللا‪ :‬ومــن‬ ‫املســائل املهمــة املتفرعــة عــن قاعــدة الكفــر‬

‫االعتقــادي والكفــر العملــي مســألة الحكــم‬ ‫بغيـر ما أنزل هللا‪ ،‬فهل كل من تـرك حكم هللا‬ ‫هــو كافــر أم أن فــي ذلــك تفصيــا؟‬ ‫ّإن الحاكــم الــذي يوصــف بأنــه مســلم ثــم‬ ‫يـرفض شريعة هللا ويعتقد بأن غيـرها أفضل‬ ‫منهــا وأجــدر بالتطب ــيق وأنهــا غي ــر صالحــة‬ ‫للعمــل بهــا وال شــبهة لــه فــي ذلــك فهــذا كافــر‬ ‫وإن صــام وصلــى وزعــم أنــه مســلم‪ ،‬قــال تعالــى‪:‬‬ ‫(( فــا وربــك ال يؤمنــون حتــى يحكمــوك فيمــا‬ ‫شــجر بـي ــنهم ثــم ال يجــدوا فــي أنفســهم ً‬ ‫حرجــا‬ ‫ممــا قضيــت ويســلموا تســليما)) [ســورة‬ ‫النســاء‪ :‬آيــة ‪ ...]65‬ولكنــه إن كان يعتقــد‬ ‫أحقيتها ويؤمن بها ولكنه ال يعمل بمقتضاها‬ ‫تقصي ـ ًـرا أو لوضــع مــا يمنعــه مــن ذلــك؛‬ ‫عاصيــا أو ظال ـ ًـما مر ً‬ ‫ً‬ ‫فهــذا يكــون‬ ‫تكبــا للكبـي ــرة‬ ‫أو فاسـ ًـقا وال يدخــل تحــت مســمى الكفــر‬ ‫االعتقــادي األكب ــر‪ ،‬قــال شــارح الطحاويــة ‪:‬‬ ‫(وهنا أمر يجب أن يتفطن له وهو أن الحكم‬ ‫بغي ــر مــا أنــزل هللا قــد يكــون كفـ ًـرا ي ــنقل عــن‬ ‫امللــة‪ ،‬وقــد يكــون معصيــة كبـي ــرة أو صغي ــرة‪،‬‬ ‫ويكــون كفـ ًـرا إمــا مجا ًّزي ــا وإمــا كفـ ًـرا أصغــر علــى‬ ‫القولي ــن املذكوري ــن‪ ،‬وذلــك بحســب حــال‬ ‫الحاكــم‪ ،‬فإنــه إن اعتقــد أن الحكــم بمــا أنــزل‬ ‫هللا غي ــر واجب وأنه مخي ــر فيه أو استهان به‬ ‫مــع ت ــيقنه أنــه حكــم هللا فهــذا كفــر أكب ــر‪ ،‬وإن‬ ‫اعتقــد وجــوب الحكــم بمــا أنــزل هللا وعلمــه‬ ‫فــي هــذه الواقعــة وعــدل عنــه مــع اعت ـرافه بأنــه‬ ‫مســتحق للعقوبــة فهــذا عــاص ويســمى كافـ ًـرا‬ ‫كفـ ًـرا مجا ًّزيــا أو كفـ ًـرا أصغــر‪ ،‬وإن جهــل حكــم‬ ‫هللا فيهــا مــع بــذل جهــده واســتفراغ وســعه فــي‬

‫التكفيـر وضوابطه‬

‫العدد ‪ 2‬رجب ‪1439‬هـ‬

‫معرفــة الحكــم وأخطــأ فهــذا مخطــئ لــه أجــر‬ ‫علــى اجتهــاده وخطــؤه مغفــور)( ‪.)32‬‬ ‫القاعدة الرابعة‪ :‬من عرف إيمانه بـيقيـن‬ ‫فاليحكم بكفره إالبـيقيـن‪.‬‬ ‫ويتـرتب على ذلك‪:‬‬ ‫‪ -1‬ثبــوت عقــد اإليمــان لــكل مــن أقــر‬ ‫بالشهادتـي ــن حتــى يتلبــس ب ــناقض جلــي مــن‬ ‫نواقــض اإليمــان‪ ،‬إذ يكفــي مــن لــم يكــن ً‬ ‫مؤمنــا‬ ‫اإلق ـرار املجمــل بالشهادتـي ــن ليعصــم دمــه‬ ‫ومالــه‪ ،‬وأدلــة ذلــك كثي ــرة منهــا حديــث أســامة‬ ‫ب ــن زيــد (بعثنــا رســول هللا صلــى هللا عليــه‬ ‫وسلم إلى َ‬ ‫الحرقة من جهي ــنة فصبحنا القوم‬ ‫فهزمناهــم‪ ،‬ولحقــت أنــا ورجـ ٌـل مــن األنصــار‬ ‫ً‬ ‫رجل منهم‪ ،‬فلما غشي ــناه قال ‪ :‬ال إله إال هللا‪،‬‬ ‫فكــف عنــه األنصــاري وطعنتــه ب ــرمحي حتــى‬ ‫قتلتــه‪ ،‬قــال‪ :‬فلمــا قدمنــا بلــغ ذلــك النب ــي صلــى‬ ‫هللا عليــه وســلم فقــال لــي ‪(( :‬يــا أســامة أقتلتــه‬ ‫بعدما قال ال إله إال هللا؟)) قال‪ :‬قلت يا رسول‬ ‫ً‬ ‫هللا إنمــا كان متعــوذا! قــال‪(( :‬أقتلتــه بعدمــا‬ ‫قــال ال إلــه إال هللا؟)) قــال‪ :‬قلــت يــا رســول هللا‬ ‫ً‬ ‫إنما كان متعوذا‪ ،‬قال‪(( :‬أقتلته بعدما قال ال‬ ‫إله إال هللا؟)) فما زال يكررها حتى تمنـيت أنـي‬ ‫لــم أكــن أســلمت قبــل ذلــك اليــوم)( ‪ ،)33‬ومثلــه‬ ‫حديث معاوية بـن الحكم السلمي والذي جاء‬ ‫فيــه أنــه لطــم جاريتــه ثــم نــدم وأراد أن يعتقهــا‬ ‫فســأل النب ــي صلــى هللا عليــه وســلم عــن ذلــك‬ ‫ثم جاء في الحديث‪(( :‬أن النبـي صلى هللا عليه‬ ‫وســلم ســألها‪ :‬أي ــن هللا؟ قالــت‪ :‬فــي الســماء ثــم‬ ‫قــال‪ :‬مــن أنــا؟ قالــت‪ :‬أنــت رســول هللا‪ ،‬قــال‪:‬‬ ‫أعتقهــا فإنهــا مؤمنــة))(‪ ) 34‬فقــد اكتفــى مــن‬

‫(‪ )29‬أحكام القرآن البـن العربـي تحقيق العطا‪ ،‬طبعة دار الكتب العلمية ‪( ،2003‬ص ‪.)225/4‬‬ ‫(‪ )30‬زاد املعاد (ص‪.)423/3 ،114/3‬‬ ‫(‪ )31‬متفق عليه عن عائشة ر�ضي هللا عنها‪ ،‬رواه البخاري في باب تعديل النساء بعضهن بعضا رقم (‪ ،)2518‬ومسلم في باب حديث اإلفك‪ ...‬رقم (‪.)2770-56‬‬ ‫(‪ )32‬شرح العقيدة الطحاوية (ص‪.)446/2‬‬ ‫(‪ )33‬متفق عليه عن أسامة بـن زيد ر�ضي هللا عنه‪ ،‬رواه البخاري باب قول هللا تعالى (ومن أحياها) رقم (‪ ،)6478‬ومسلم باب تحريم قتل الكافر بعد أن قال ال إله إال هللا‪ ،‬رقم (‪.)96-159‬‬ ‫(‪ )34‬أخرجه مسلم عن معاوية بـن الحكم السلمي ر�ضي هللا عنه‪ ،‬باب تحريم الكالم في الصالة ونسخ ما كان من إباحة‪ ،‬رقم (‪.)537-33‬‬

‫‪10‬‬

‫الجاريــة إقرارهــا ومــن الرجــل فــي حديــث‬ ‫أســامة إق ـراره‪ ،‬يقــول اب ــن رجــب‪( :‬مــن‬ ‫املعلــوم بالضــرورة ّأن النب ــي صلــى هللا عليــه‬ ‫وسلم كان يقبل كل من جاءه يـريد الدخول‬ ‫فــي اإلســام بالشهادتـي ــن فقــط‪ ،‬ويعصــم‬ ‫دمــه بذلــك ويجعلــه مسـ ًـلما‪ ،‬فقــد أنكــر علــى‬ ‫أســامة ب ــن زيــد قتلــه ملــن قــال ال إلــه إال هللا‬ ‫ّ‬ ‫لـ ــا رفــع عليــه الســيف واشــتد نكي ــره عليــه‪،‬‬ ‫ولــم يكــن صلــى هللا عليــه وســلم ليشت ــرط‬ ‫علــى مــن جــاءه ي ـريد اإلســام)(‪ ،)35‬وهــذا‬ ‫قصــد كل مــن قــال مــن الســلف أن اإلق ـرار‬ ‫باإلســام يكفيــه لثبــوت وصــف اإلســام لــه‪.‬‬ ‫‪ -2‬لــو حدثــت لوثــة فــي اإلق ـرار املجمــل ملــن‬ ‫أراد الدخــول فــي الدي ــن فــا بــد مــن التحقيــق‬ ‫املفصــل‪ ،‬فالوثن ــي تقبــل منــه الشــهادتان‬ ‫واإلق ـرار املجمــل بهمــا‪ ،‬وأمــا الكتاب ــي فــا‬ ‫يكتفــى منــه بذلــك لوجــود شــبهة إقرارهــم‬ ‫ب ــنبوته عليــه الصــاة والســام وإنكارهــم‬ ‫بعثتــه إليهــم وأنــه بعــث للعــرب خاصــة‪،‬‬ ‫وهكــذا كل مــن لــه لوثــة أو شــبهة علــى اإلقـرار‬ ‫املجمــل فــا بــد أن يقــر بالحــق ويتب ـرأ مــن كل‬ ‫مــا خالفــه كالباطن ــية بطوائفهــا والقاديان ــية‪،‬‬ ‫يقــول النــووي‪( :‬أمــا إذا أتــى بالشهادتـي ــن فــا‬ ‫يشتـرط معهما أن يقول وأنا بـريء من كل ما‬ ‫خالــف دي ــن اإلســام إال إذا كان مــن الكفــار‬ ‫الذي ــن يعتقــدون اختصــاص رســالة نبـي ــنا‬ ‫صلــى هللا عليــه وســلم بالعــرب فإنــه ال يحكــم‬ ‫بإســامه حتــى يتب ـرأ)(‪.)36‬‬ ‫‪ -3‬االحت ــياط بالتكفي ــر‪ :‬قــال اب ــن عبــد الب ــر‪:‬‬ ‫(ومــن وجهــة النظــر الصحيــح الــذي ال مدفــع‬

‫لــه أن كل مــن ثبــت لــه عقــد اإلســام فــي وقــت‬ ‫بإجمــاع مــن املسلمي ــن ثــم أذنــب ً‬ ‫ذنبــا أو‬ ‫ً‬ ‫تـ ّـأول تأويــا فاختلفــوا بعـ ُـد فــي خروجــه مــن‬ ‫اإلســام لــم يكــن الختالفهــم بعــد إجماعهــم‬ ‫معنــى‪ ،‬وال يخــرج مــن اإلســام املتفــق عليــه‬ ‫إال باتفــاق آخــر أو ســنة ثابتــة ال معــارض‬ ‫لهــا‪ ،‬وقــد اتفــق أهــل الســنة والجماعــة وهــم‬ ‫أهــل الفقــه واألث ــر علــى أن أحــدا ال يخرجــه‬ ‫ذنبــه وإن عظــم مــن اإلســام‪ ،‬فالواجــب فــي‬ ‫النظــر أال ُي َّ‬ ‫كفــر إال مــن اتفــق علــى تكفي ــره‬ ‫أو قــام علــى تكفي ــره دليــل ال مدفــع لــه مــن‬ ‫كتــاب أو ســنة)( ‪.)37‬‬ ‫‪ -4‬وعلــى هــذا فاملســلم الــذي نجهــل حالــه‬ ‫يكفــي فــي معرفتنــا إســامه أي داللــة‬ ‫علــى ذلــك كمــن يصلــي أو يصــوم‪ ،‬وعليــه‬ ‫يحمــل حديــث النب ــي صلــى هللا عليــه وســلم‬ ‫((مــن صلــى صالتنــا واســتقبل قبلتنــا وأكل‬ ‫ذب ــيحتنا فذلــك املســلم الــذي لــه ذمــة هللا‬ ‫ورســوله))( ‪ )38‬يقــول اب ــن حجــر فــي تعليقــه‬ ‫علــى هــذا الحديــث‪( :‬وفيــه أن أمــور النــاس‬ ‫محمولــة علــى الظاهــر‪ ،‬فمــن أظهــر شــعائر‬ ‫الدي ــن أجريــت عليــه أحــكام أهلــه مــا لــم‬ ‫يظهــر منــه خــاف ذلــك(‪ ،)39‬ولقــد نهــى‬ ‫الق ـرآن الكريــم عــن نفــي اإليمــان عمــن‬ ‫ابتدأنــا بالســام ألن الســام مــن عالمــات‬ ‫اإليمــان‪ ،‬قــال هللا تعالــى‪(( :‬وال تقولـوا ملــن ألقــى‬ ‫إليكــم الســام لســت ً‬ ‫مؤمنــا)) [ســورة النســاء‪:‬‬ ‫آية ‪ ]94‬وهذا في حق كافر ألقى الســام كما‬ ‫يــدل عليــه ســبب النــزول فكيــف بمســلم‬ ‫يعيــش فــي بــاد اإلســام‪ ،‬وعلــى هــذا فليــس‬

‫(‪ )35‬جامع العلوم والحكم البـن رجب (ص‪.)228‬‬ ‫(‪ )36‬صحيح مسلم بشرح النووي (ص‪.)149/1‬‬ ‫(‪ )37‬التمهيد البـن عبد البـر (ص ‪.)21/17‬‬ ‫(‪ )38‬أخرجه البخاري عن أنس بـن مالك ر�ضي هللا عنه‪ ،‬باب فضل استقبال القبلة رقم (‪ )384‬ومسلم باب وقتها ‪-‬أي األضحية‪ -‬رقم (‪.)1961-6‬‬ ‫(‪ )39‬فتح الباري البـن حجر (ص ‪.)496/1‬‬ ‫(‪ )40‬انظر تاريخ املذاهب اإلسالمية ملحمد أبـي زهرة (ص‪.)74‬‬

‫العدد ‪ 2‬رجب ‪1439‬هـ‬

‫مــن الهــدي النبــوي امتحــان النــاس ملعرفــة‬ ‫إيمانهــم طاملــا أنهــم يعيشــون بـي ــن املسلمي ــن‬ ‫ويظهــرون لنــا مــا يــدل علــى إســامهم‪،‬‬ ‫وامتحان اإليمان كان في حاالت خاصة أمر‬ ‫هللا تعالــى بهــا كامتحــان املـرأة املهاجــرة وذلــك‬ ‫ملصلحــة الوفــاء بالعهــد الــذي أب ــرم فــي صلــح‬ ‫الحديب ــية‪ ،‬وكذلك عند الريبة لتنزيل حكم‬ ‫شــرعي كمــا فــي قصــة عتــق الجاريــة‪.‬‬ ‫‪ -5‬التفريق في الحكم بـيـن من أراد الدخول في‬ ‫اإلســام مــن غي ــر أهلــه؛ وبـي ــن الحكــم بكفــر‬ ‫مــن هــو مــن أهــل اإليمــان‪ ،‬وتنزيــل قاعــدة‪:‬‬ ‫ّ‬ ‫يكفرالكافرأوشك في تكفيـره فهو‬ ‫(من لم ِ‬ ‫كافــر) فــإن هــذه القاعــدة إنمــا تصــدق علــى‬ ‫من شك في كفر الكافر األصلي املجمع على‬ ‫كفــره كاليهــود والنصــارى‪( ...‬وهــذه القاعــدة‬ ‫ملــا توســع بهــا الخــوارج ّ‬ ‫كفــر بعضهــم ً‬ ‫بعضــا‬ ‫واســتباحوا دمــاء بعضهــم ً‬ ‫بعضــا وصــاروا مــا‬ ‫يزيــد علــى عشري ــن فرقــة‪ ،‬وقــد فطــن بعــض‬ ‫الدهــاة كاملهلــب ب ــن أب ــي صفــرة لهــذا النهــم‬ ‫الشــديد وهــذه السلســة التكفي ـرية‪ ،‬فصــار‬ ‫يـ ُّ‬ ‫ـدس لهــم مــن يســألهم عــن املعضــات‬ ‫فيختلفــون فــي اإلجابــة فيكفــر بعضهــم‬ ‫َ‬ ‫ً‬ ‫بعضــا ومــن ثـ ّـم يفت ــرقون)(‪.)40‬‬ ‫‪ -6‬مســألة‪ :‬شــاع عن البعض القول بجاهلية‬ ‫املجتمعــات اإلســامية والت ــي يجعلــون مــن‬ ‫لوازمهــا تكفي ــر املسلمي ــن‪ ،‬بــل واعتبارهــم‬ ‫كفــا ًرا حتــى يثبــت العكــس‪ ،‬وهــذه املســألة‬ ‫منقوضــة بأمــور كثي ــرة منهــا أن الحكــم علــى‬ ‫َّ‬ ‫الجاهلية‬ ‫عمل فرد أو جماعة بأنه من عمل‬ ‫ال يلــزم منــه تكفي ــر املعي ــن مــا لــم يكــن األمــر‬

‫‪11‬‬


‫التكفيـر وضوابطه‬ ‫ّ‬ ‫مكفـ ًـرا بذاتــه بعــد اجتمــاع شــروطه وانتفــاء‬ ‫ِ‬ ‫موانعــه‪ ،‬وعليــه يحمــل قولــه عليــه الصــاة‬ ‫والسالم ألبـي ذر‪(( :‬إنك امرؤ فيك جاهلية))‬ ‫ولــم يقــل أحــد بكفــر أب ــي ذر‪ ،‬وكذلــك ال يلــزم‬ ‫َّ ُ‬ ‫جاهليــة‬ ‫مــن القــول بجاهليـ ِـة املجتمعــات‬ ‫كل األف ـراد‪ ،‬فاملجتمعــات مركبــة مــن أف ـراد‬ ‫وجماعــات ومنــاط الحكــم علــى املجتمعــات‬ ‫غي ــر مناطــه علــى األف ـراد‪ ،‬وكذلــك لــم يقــل‬ ‫أحــد مــن أهــل العلــم أن الحكــم علــى دار‬ ‫بأنها دار كفر يلزم منه كفر كل ساكنـيها‪،‬‬ ‫وعلــى هــذا فاألصــل فــي النــاس فــي بــاد‬ ‫املسلمي ــن اإلســام‪ ،‬والحكــم بالكفــر هــو‬ ‫خــاف األصــل فيحتــاج إلــى دليــل واجتمــاع‬ ‫شــروط وانتفــاء موانــع فــي حــق ّ‬ ‫املعيــن‪.‬‬ ‫وعلــى هــذا لــو صــدر قــول أو فعــل محتمـ ٌـل‬ ‫للكفــر وعدمــه‪ ،‬فــا بـ ّـد مــن االســتفصال فــي‬ ‫الحامــل علــى ذلــك ألن وجــود االحتمــال يمنــع‬ ‫مــن القطــع كمــا فــي حديــث ســجود معــاذ‬ ‫ر�ضــي هللا عنــه للنب ــي عليــه الصــاة والســام‬ ‫بعــد مقــدم معــاذ مــن الشــام‪ ،‬فلمــا ســأله‬ ‫النبـي عليه الصالة والسالم عن سبب ذلك؛‬ ‫ذكــر لــه رؤيتــه النــاس فــي الشــام يســجدون‬ ‫ألســاقفتهم ورأى أنــه عليــه الصــاة والســام‬ ‫أولــى بالســجود منهــم‪ ،‬فقــال لــه عليــه الصــاة‬ ‫والسالم‪(( :‬ال تفعل)) فمن الواضح أن سجود‬ ‫معــاذ كان مــن بــاب التعظيــم واالحت ـرام وليــس‬ ‫مــن قب ــيل العبــادة يقي ـ ًـنا‪ ،‬فقــد كان ســجود‬ ‫االحت ـرام والتعظيــم جائـ ًـزا فــي األمــم الســابقة‬ ‫كمــا فــي ســجود أبـ َـوي يوســف وإخوتــه لــه‪ ،‬قــال‬ ‫َ َ‬ ‫َ َ‬ ‫َ ْ‬ ‫تعالــى‪َ (( :‬و َرفـ َـع أ َب َو ْيـ ِـه َعلــى ال َعـ ْـر ِش َوخـ ُّـروا لـ ُـه‬ ‫ُسـ َّـج ًدا)) [ســورة يوســف‪ :‬اآليــة ‪ ]100‬وعلــى‬

‫هــذا فســجود التعظيــم يحكــم علــى فاعلــه‬ ‫بأنــه ارتكــب حر ًامــا للنهــي عنــه وال يحكــم‬ ‫ً‬ ‫عليه بالكفر خالفا لســجود العبادة‪ ،‬فاألمر‬ ‫مــن حيــث الظاهــر يحتمــل األمري ــن‪ ،‬وعلــى‬ ‫هــذا فمجــرد الســجود ال يســتلزم الحكــم‬ ‫علــى فاعلــه بأنــه قصــد العبــادة فــا بـ ّـد مــن‬ ‫االستفصال‪ ،‬يقول ابـن تـيمية‪( :‬فكيف يقال‬ ‫يلــزم مــن الســجود ل�شــيء عبادتــه !! وقــد قــال‬ ‫النب ــي صلــى هللا عليــه وســلم‪(( :‬لــو كنــت آمـ ًـرا‬ ‫ً‬ ‫أحدا أن يسجد ألحد ألمرت املرأة أن تسجد‬ ‫لزوجهــا لعظــم حقــه عليهــا))(‪ )41‬ومعلــوم أنــه‬ ‫(‪.)42‬‬ ‫لــم يقــل‪ :‬لــو كنــت آمـ ًـرا أحـ ًـدا أن يعبــد‪)...‬‬ ‫القاعــدة الخامســة‪ :‬ال يكفــر فــي مســائل‬ ‫الخالفاملعتبـرفيأصولالعقائدأوالفقه‪.‬‬ ‫يقــول اب ــن ت ــيمية بعــد عرضــه الخــاف فــي‬ ‫بعــض مســائل التوســل (فاملكفــر فــي مثــل هــذه‬ ‫األمور يستحق من غليظ العقوبة والتعزيـر ما‬ ‫(‪.)43‬‬ ‫يســتحقه أمثالــه مــن املفتـري ــن علــى الدي ــن)‬ ‫ولعــل مــن أشــهر املســائل الت ــي تنــدرج تحــت‬ ‫هــذه القاعــدة مســألة تــارك الصــاة هــل‬ ‫هــو كافــر أم ال؟ لحديــث النب ــي صلــى هللا‬ ‫عليــه وســلم‪( :‬بـي ــن الرجــل وبـي ــن الشــرك‬ ‫والكفــر ت ــرك الصــاة)(‪ ،)44‬وقولــه عليــه‬ ‫الصالة والسالم‪( :‬العهد الذي بـي ــننا وبـي ــنهم‬ ‫الصــاة فمــن ت ــركها فقــد كفــر)(‪ ،)45‬حيــث‬ ‫ذهــب الجمهــور إلــى عــدم كفــره مــا لــم يجحــد‬ ‫وجــوب الصــاة وخالفهــم الحنابلــة فحكمــوا‬ ‫على تارك الصالة بظاهر الحديث‪ ...‬فإن هذه‬ ‫املســألة مــن القضايــا الخالفيــة ومهمــا قيــل‬ ‫فــي أدلــة هــذه األق ـوال فســوف يبقــى الخــاف‬ ‫فيها معتب ـ ًـرا‪ ،‬فهل يجري التكفي ــر فيها؟ الذي‬

‫التكفيـر وضوابطه‬

‫العدد ‪ 2‬رجب ‪1439‬هـ‬

‫أراه أن الحكــم بالتكفي ــر فيهــا ومــا يلــزم عنــه‬ ‫مــن أحــكام ال يقــع؛ ألنــه ال يكفــر بمســائل‬ ‫ً‬ ‫الخــاف ب ــناء علــى أصــل القاعــدة‪ ،‬وعمــا‬ ‫بقاعــدة مــن ثبــت إيمانــه بـيقي ــن ال يخــرج عنــه‬ ‫إال بـيقي ــن‪ ،‬ومســائل الخــاف ال يقي ــن فيهــا‪.‬‬

‫أحــكام الرشيعــة تجــري‬ ‫عــى حســب األعــال الظاهــرة‬ ‫للنــاس وليــس عــى مــا يبطنونــه‬ ‫القاعــدة السادســة‪ :‬معاملــة النــاس علــى‬ ‫الظاهــروهللا يتولــى الســرائر‪.‬‬ ‫إن أحــكام الش ـريعة تجــري علــى حســب‬ ‫األعمــال الظاهــرة للنــاس وليــس علــى مــا‬ ‫يبطنونــه‪ ،‬وهــذا مــا شــرعه النب ــي صلــى هللا‬ ‫عليــه وســلم ألمتــه مــن خــال طريقــة تعاملــه‬ ‫مــع املنافقي ــن مــع علمــه اليقيـن ــي ب ــنفاقهم‬ ‫َ ْ ُ َ َّ‬ ‫الل‬ ‫الكفري‪ ،‬قال هللا تعالى عنهم‪(( :‬يح ِلفون ِب ِ‬ ‫َ ُ َ​َ َ ُ َ َ ُْ َ‬ ‫َمــا قالــوا َولقـ ْـد قالــوا ك ِل َمــة الك ْفـ ِـر َوك َفـ ُـروا َب ْعـ َـد‬ ‫َ‬ ‫ِإ ْســا ِم ِه ْم)) [ســورة التوبــة‪ :‬آيــة ‪ ...]74‬ومــع ذلــك‬ ‫كان عليه الصالة والسالم يجري عليهم أحكام‬ ‫املسلميـن من حيث األنكحة وامليـراث والجنائز‬ ‫ولــوال النهــي لبقــي يســتغفر لهــم‪ ،‬وهــذا مــا نــص‬ ‫عليــه اإلمــام الشــافعي رحمــه هللا(‪ ،)46‬يقــول‬ ‫الشاطب ــي‪( :‬ومــن هنــا جعلــت األعمــال الظاهــرة‬ ‫ً‬ ‫فــي الشــرع دليــا علــى مــا فــي الباطــن‪ ،‬فــإن كان‬ ‫ً‬ ‫الظاهــر منحرفــا حكــم علــى الباطــن بذلــك‪ ،‬أو‬ ‫مستقيما حكم على الباطن بذلك ً‬ ‫ً‬ ‫أيضا‪ ،‬وهو‬ ‫أصــل عــام فــي الفقــه وســائر األحــكام ّ‬ ‫العاديــات‬ ‫والتجريب ــيات‪ ،‬بــل هــو كليــة التش ـريع وعمــدة‬

‫(‪ )41‬تتمة حديث سجود معاذ للنبـي عليه الصالة والسالم وهو في مسند اإلمام أحمد وسنن ابـن ماجة والبـيهقي وصحيح ابـن حبان عن عبدهللا بـن أبـي أوفي وهو صحيح‪.‬‬ ‫(‪ )42‬مجموع الفتاوى (ص‪ )43( - )360/4‬مجموع الفتاوى البـن تـيمية (ص‪.)106/1‬‬ ‫(‪ )44‬أخرجه مسلم عن جابـر ر�ضي هللا عنه‪ ،‬باب بـيان إطالق اسم الكفر على من تـرك الصالة‪ ،‬رقم (‪.)82 - 134‬‬ ‫(‪ )45‬أخرجه ابـن ماجة وأحمد والتـرمذي وابـن حبان وغيـرهم عن بـريدة ر�ضي هللا عنه وهو صحيح‪.‬‬ ‫(‪ )46‬األم للشافعي (ص‪)296/1‬‬

‫‪12‬‬

‫التكليــف بالنســبة إلــى إقامــة حــدود الشــعائر‬ ‫اإلســامية الخاصــة والعامــة)( ‪.)47‬‬ ‫القاعــدة الســابعة‪ :‬ليــس هنــاك تــازم بـي ــن‬ ‫املقاتلــة والحكــم بالكفــر‪.‬‬ ‫ويدخــل تحــت هــذه القاعــدة مجموعــة مــن‬ ‫املســائل املشــهورة منهــا قتــال أهــل البغــي‬ ‫وقتــل الزنادقــة وقتــال مانعــي الــزكاة‪.‬‬ ‫‪ )1‬قتال مانعي الزكاة‪:‬‬ ‫قتــال مانعــي الــزكاة فــي عهــد أب ــي بكــر الصديــق‬ ‫ر�ضــي هللا عنــه ال يســتدل بــه علــى كفــر تــارك‬ ‫الواجــب‪ ،‬إذ إن ت ــركها لــم يكــن عــن جحــود‬ ‫لهــا ولكــن ألنهــم تأولوهــا بأنهــا كانــت خاصــة‬ ‫بزمــن النب ــي صلــى هللا عليــه وســلم‪ ،‬وهــؤالء‬ ‫هــم الذي ــن اختلــف الصحابــة فــي قتالهــم‬ ‫ً‬ ‫ابتداء‪ ...‬وجمهور العلماء لم يحكموا بكفرهم‬ ‫كالنــووي والخطاب ــي واب ــن حجــر واب ــن قدامــة‬ ‫والشوكانـي(‪ )48‬ولم يجعلوا تالز ًما بـيـن التكفيـر‬ ‫واملقاتلــة‪ ،‬وأطلــق عليهــم لقــب مرتدي ــن مــن‬ ‫قب ــيل التغليــب واملجــاز كمــا جــزم بذلــك اب ــن‬ ‫حجــر فــي فتــح البــاري‪ ،‬ويقــول الخطاب ــي‪( :‬هــم‬ ‫أهــل بغــي وإن لــم يدعــوا بهــذا االســم ذلــك‬ ‫الزمــان لدخولهــم فــي غمــرة املرتدي ــن‪ ،‬وأول مــا‬ ‫ُ‬ ‫أ ّرخ لقتــال البغــاة زمــن علــي)‪.‬‬ ‫‪ )2‬قتل أحد الخليفتـيـن‪:‬‬ ‫يقــول النب ــي صلــى هللا عليــه وســلم‪(( :‬إذا بويــع‬ ‫لخليفتـي ــن فاقتلــوا اآلخــر منهمــا))(‪ )49‬فــإن هــذا‬ ‫ال يلــزم منــه الحكــم بكفــر الثان ــي‪.‬‬ ‫‪ )3‬قتال علي للخوارج‪:‬‬ ‫وقد قاتل علي ر�ضي هللا عنه الخوارج وقاتلوه‬

‫ومــع هــذا فإنــه لــم يحكــم عليهــم بالكفــر‪( ،‬وملــا‬ ‫ســئل عنهــم أكفـ ٌـار هــم؟ قــال‪(( :‬مــن الكفــر‬ ‫َ‬ ‫فـ ُّـروا)) وقــال عنهــم‪(( :‬إخواننــا بغــوا علي ــنا))(‪.)50‬‬ ‫ومثــل ذلــك فــي الحكــم مــا وقــع مــن قتــال بـي ــن‬ ‫الصحابــة رضــوان هللا عليهــم‪ ،‬فقــد كانــوا‬ ‫متأولي ــن فيــه ولــم ّ‬ ‫يكفــر بعضهــم ً‬ ‫ّ‬ ‫بعضــا‪ ،‬بــل‬ ‫ِ‬ ‫قالالقرآنالكريم‪((:‬وإنطائفتانمناملؤمنـيـن‬ ‫اقتتلوا)) [ســورة الحجرات‪ :‬آية ‪ ]9‬فلم يســلب‬ ‫عنهم وصف اإليمان مع وقوع االقتتال بـيـنهم‪،‬‬ ‫وعلى هذا يحمل كالم الشــافعي كما نقله اب ــن‬ ‫حجــر‪( :‬ليــس القتــال مــن القتــل بسب ــيل‪ ،‬قــد‬ ‫(‪.)51‬‬ ‫يحــل قتــال الرجــل وال يحــل قتلــه)‬ ‫القاعــدة الثامنــة‪ :‬الزم القــول ليــس بقــول‬ ‫والزم املذهــب ليــس بمذهــب‪.‬‬ ‫فقــد يقــول القائــل القــول فيلــزم منــه الزم‬ ‫مكفــر فــا يحكــم بكفــره إال إن أقــره‪ ،‬فالــازم‬ ‫يستعمل في االحتجاج وإبطال دعوى الخصم‬ ‫ال في الحكم عليه‪ ،‬وألن اللوازم قد يغفل عنها‬ ‫صاحــب املقالــة ولــم يكــن يقصدهــا فــي كالمــه‬ ‫وتقريـره‪ ،‬وهذا يـنسجم مع قاعدة‪( :‬ال يـنسب‬ ‫لســاكت قــول)‪.‬‬ ‫ومثالــه‪ :‬لــو ابتــدع إنســان بدعــة وزعــم أن فيهــا‬ ‫خي ـ ًـرا‪ ،‬فإنــه يلــزم مــن قولــه أن النب ــي صلــى هللا‬ ‫عليــه وســلم خــان األمانــة لعــدم تبليغــه بهــذا‬ ‫الخي ــر الــذي ابتدعــه املبتــدع‪ ،‬وهــذا القــول‬ ‫ال ريــب مــن الكفــر‪ ،‬لكــن هــذه اللــوازم منهــا مــا‬ ‫يلتزمــه صاحــب القــول فهــو لــه مذهــب‪ ،‬ومنهــا‬ ‫ما يـنكره أو يجهله أو يـرده فهو ليس بقول له‬ ‫ً‬ ‫مستلزما له حقيقة‪ ،‬وإضافة‬ ‫ولو كان مذهبه‬ ‫الــازم إليــه فــي هــذه الحــال كــذب عليــه‪ ،‬وغايــة‬

‫(‪ )47‬املوافقات للشاطبـي (ص‪.)233/1‬‬ ‫(‪ )48‬شرح النووي لصحيح مسلم (ص‪ )203/1‬وما بعدها‪ ،‬فتح الباري (ص‪ ،)277/12‬املغنـي البـن قدامة (ص‪ ،)434/2‬ونـيل األوطار (ص‪.)127/4‬‬ ‫(‪ )49‬أخرجه مسلم عن أبـي سعيد الخدري ر�ضي هللا عنه‪ ،‬باب إذا بويع لخليفتـيـن‪ ،‬رقم (‪.)1853-61‬‬ ‫(‪ )50‬مصنف ابـن أبـي شيبة باب مسيـر عائشة وعلي وطلحة والزبـيـر ر�ضي هللا عنهم رقم (‪ ،)38918‬وسنن البـيهقي الكبـرى عن أبـي البختـري‪،‬‬ ‫باب الدليل على أن الفئة الباغية منهما ال تخرج بالبغي عن تسمية اإلسالم‪ ،‬رقم (‪.)16490‬‬ ‫(‪ )51‬فتح الباري (ص‪ )52( - )76/1‬االعتصام للشاطبـي (ص‪ )53( - )549/2‬شرح العقيدة الطحاوية (ص‪ )54( - )354/2‬الفصل (ص‪.)294/3‬‬ ‫(‪ )55‬صحيح مسلم عن عائشة ر�ضي هللا عنه‪ ،‬باب ما يقال عند دخول القبـر‪ ...‬رقم (‪.)974 -103‬‬

‫العدد ‪ 2‬رجب ‪1439‬هـ‬

‫مــا يمكننــا القــول أنــه تناقــض فــي قولــه وال‬ ‫سبـيل للقول بتكفيـره في هذه الحال ذكر هذا‬ ‫املثــال الشاطب ــي(‪.)52‬‬ ‫وقــد نقــل عــن الشــافعي ‪ -‬وبعضهــم نســبه‬ ‫إلــى اإلمــام أحمــد ‪ -‬أنــه قــال‪( :‬ناظــروا القدريــة‬ ‫ُ‬ ‫بالعلــم‪ ،‬فــإن أقــروا بــه خصمــوا وإن أنكــروا‬ ‫كفــروا)(‪ )53‬فالحكــم مت ـرتب علــى إنكارهــم ال‬ ‫علــى الزم قولهــم فحســب‪ ،‬وقــال اب ــن حــزم‪:‬‬ ‫(وأمــا مــن ّ‬ ‫كفــر النــاس بمــا تــؤول إليــه أقوالهــم‬ ‫َ‬ ‫فخطــأ‪ ،‬ألنــه كـ ِـذب علــى الخصــم وتقويـ ٌـل له ما‬ ‫لــم يقــل بــه وإن لزمــه‪ ،‬فلــم يحصــل علــى غي ــر‬ ‫التناقض فقط والتناقض ليس ً‬ ‫كفرا‪ ،‬بل قد‬ ‫(‪.)54‬‬ ‫أحســن إذ فــر مــن الكفــر)‬ ‫القاعدة التاسعة‪ :‬ال بد في مسألة التكفي ــر‬ ‫مراعــاة املوانــع‪.‬‬ ‫‪ )1‬ومن هذه املوانع الجهل‪:‬‬ ‫فإنــه عــارض معتب ــر عنــد إج ـراء األحــكام‪،‬‬ ‫فــا يحكــم علــى جاهــل بالكفــر وال غي ــره فيمــا‬ ‫جهلــه‪ ،‬ولــه أشــكال عــدة‪:‬‬ ‫الجهل في بعض العقائد ‪:‬‬ ‫كســجود معــاذ للنب ــي عليــه الصــاة والســام‬ ‫بعــد مجيئــه مــن الشــام ولــم يكــن يعلــم الحكم‬ ‫كما سبق بـيانه‪ ،‬وجهل بعض الصحابة بـرؤية‬ ‫هللا يــوم القيامــة‪ ،‬وجهــل عائشــة أن هللا قــد‬ ‫أحــاط بــكل �شــيء ً‬ ‫علمــا حتــى مــا يكتمــه النــاس‬ ‫َ‬ ‫فقــد ســألت النب ــي صلــى هللا عليــه وســلم عــن‬ ‫ذلــك؛ فبـي ــن لهــا وكان ممــا قــال‪(( :‬أتخافي ــن أن‬ ‫يحيــف هللا عليــك ورســوله))(‪ ،)55‬وكجهــل‬ ‫ُ‬ ‫ـلمة الفتح عند مرورهم في غزوة حنـي ــن‬ ‫مسـ ِ‬

‫‪13‬‬


‫التكفيـر وضوابطه‬ ‫ّ‬ ‫مكفـ ًـرا بذاتــه بعــد اجتمــاع شــروطه وانتفــاء‬ ‫ِ‬ ‫موانعــه‪ ،‬وعليــه يحمــل قولــه عليــه الصــاة‬ ‫والسالم ألبـي ذر‪(( :‬إنك امرؤ فيك جاهلية))‬ ‫ولــم يقــل أحــد بكفــر أب ــي ذر‪ ،‬وكذلــك ال يلــزم‬ ‫َّ ُ‬ ‫جاهليــة‬ ‫مــن القــول بجاهليـ ِـة املجتمعــات‬ ‫كل األف ـراد‪ ،‬فاملجتمعــات مركبــة مــن أف ـراد‬ ‫وجماعــات ومنــاط الحكــم علــى املجتمعــات‬ ‫غي ــر مناطــه علــى األف ـراد‪ ،‬وكذلــك لــم يقــل‬ ‫أحــد مــن أهــل العلــم أن الحكــم علــى دار‬ ‫بأنها دار كفر يلزم منه كفر كل ساكنـيها‪،‬‬ ‫وعلــى هــذا فاألصــل فــي النــاس فــي بــاد‬ ‫املسلمي ــن اإلســام‪ ،‬والحكــم بالكفــر هــو‬ ‫خــاف األصــل فيحتــاج إلــى دليــل واجتمــاع‬ ‫شــروط وانتفــاء موانــع فــي حــق ّ‬ ‫املعيــن‪.‬‬ ‫وعلــى هــذا لــو صــدر قــول أو فعــل محتمـ ٌـل‬ ‫للكفــر وعدمــه‪ ،‬فــا بـ ّـد مــن االســتفصال فــي‬ ‫الحامــل علــى ذلــك ألن وجــود االحتمــال يمنــع‬ ‫مــن القطــع كمــا فــي حديــث ســجود معــاذ‬ ‫ر�ضــي هللا عنــه للنب ــي عليــه الصــاة والســام‬ ‫بعــد مقــدم معــاذ مــن الشــام‪ ،‬فلمــا ســأله‬ ‫النبـي عليه الصالة والسالم عن سبب ذلك؛‬ ‫ذكــر لــه رؤيتــه النــاس فــي الشــام يســجدون‬ ‫ألســاقفتهم ورأى أنــه عليــه الصــاة والســام‬ ‫أولــى بالســجود منهــم‪ ،‬فقــال لــه عليــه الصــاة‬ ‫والسالم‪(( :‬ال تفعل)) فمن الواضح أن سجود‬ ‫معــاذ كان مــن بــاب التعظيــم واالحت ـرام وليــس‬ ‫مــن قب ــيل العبــادة يقي ـ ًـنا‪ ،‬فقــد كان ســجود‬ ‫االحت ـرام والتعظيــم جائـ ًـزا فــي األمــم الســابقة‬ ‫كمــا فــي ســجود أبـ َـوي يوســف وإخوتــه لــه‪ ،‬قــال‬ ‫َ َ‬ ‫َ َ‬ ‫َ ْ‬ ‫تعالــى‪َ (( :‬و َرفـ َـع أ َب َو ْيـ ِـه َعلــى ال َعـ ْـر ِش َوخـ ُّـروا لـ ُـه‬ ‫ُسـ َّـج ًدا)) [ســورة يوســف‪ :‬اآليــة ‪ ]100‬وعلــى‬

‫هــذا فســجود التعظيــم يحكــم علــى فاعلــه‬ ‫بأنــه ارتكــب حر ًامــا للنهــي عنــه وال يحكــم‬ ‫ً‬ ‫عليه بالكفر خالفا لســجود العبادة‪ ،‬فاألمر‬ ‫مــن حيــث الظاهــر يحتمــل األمري ــن‪ ،‬وعلــى‬ ‫هــذا فمجــرد الســجود ال يســتلزم الحكــم‬ ‫علــى فاعلــه بأنــه قصــد العبــادة فــا بـ ّـد مــن‬ ‫االستفصال‪ ،‬يقول ابـن تـيمية‪( :‬فكيف يقال‬ ‫يلــزم مــن الســجود ل�شــيء عبادتــه !! وقــد قــال‬ ‫النب ــي صلــى هللا عليــه وســلم‪(( :‬لــو كنــت آمـ ًـرا‬ ‫ً‬ ‫أحدا أن يسجد ألحد ألمرت املرأة أن تسجد‬ ‫لزوجهــا لعظــم حقــه عليهــا))(‪ )41‬ومعلــوم أنــه‬ ‫(‪.)42‬‬ ‫لــم يقــل‪ :‬لــو كنــت آمـ ًـرا أحـ ًـدا أن يعبــد‪)...‬‬ ‫القاعــدة الخامســة‪ :‬ال يكفــر فــي مســائل‬ ‫الخالفاملعتبـرفيأصولالعقائدأوالفقه‪.‬‬ ‫يقــول اب ــن ت ــيمية بعــد عرضــه الخــاف فــي‬ ‫بعــض مســائل التوســل (فاملكفــر فــي مثــل هــذه‬ ‫األمور يستحق من غليظ العقوبة والتعزيـر ما‬ ‫(‪.)43‬‬ ‫يســتحقه أمثالــه مــن املفتـري ــن علــى الدي ــن)‬ ‫ولعــل مــن أشــهر املســائل الت ــي تنــدرج تحــت‬ ‫هــذه القاعــدة مســألة تــارك الصــاة هــل‬ ‫هــو كافــر أم ال؟ لحديــث النب ــي صلــى هللا‬ ‫عليــه وســلم‪( :‬بـي ــن الرجــل وبـي ــن الشــرك‬ ‫والكفــر ت ــرك الصــاة)(‪ ،)44‬وقولــه عليــه‬ ‫الصالة والسالم‪( :‬العهد الذي بـي ــننا وبـي ــنهم‬ ‫الصــاة فمــن ت ــركها فقــد كفــر)(‪ ،)45‬حيــث‬ ‫ذهــب الجمهــور إلــى عــدم كفــره مــا لــم يجحــد‬ ‫وجــوب الصــاة وخالفهــم الحنابلــة فحكمــوا‬ ‫على تارك الصالة بظاهر الحديث‪ ...‬فإن هذه‬ ‫املســألة مــن القضايــا الخالفيــة ومهمــا قيــل‬ ‫فــي أدلــة هــذه األق ـوال فســوف يبقــى الخــاف‬ ‫فيها معتب ـ ًـرا‪ ،‬فهل يجري التكفي ــر فيها؟ الذي‬

‫التكفيـر وضوابطه‬

‫العدد ‪ 2‬رجب ‪1439‬هـ‬

‫أراه أن الحكــم بالتكفي ــر فيهــا ومــا يلــزم عنــه‬ ‫مــن أحــكام ال يقــع؛ ألنــه ال يكفــر بمســائل‬ ‫ً‬ ‫الخــاف ب ــناء علــى أصــل القاعــدة‪ ،‬وعمــا‬ ‫بقاعــدة مــن ثبــت إيمانــه بـيقي ــن ال يخــرج عنــه‬ ‫إال بـيقي ــن‪ ،‬ومســائل الخــاف ال يقي ــن فيهــا‪.‬‬

‫أحــكام الرشيعــة تجــري‬ ‫عــى حســب األعــال الظاهــرة‬ ‫للنــاس وليــس عــى مــا يبطنونــه‬ ‫القاعــدة السادســة‪ :‬معاملــة النــاس علــى‬ ‫الظاهــروهللا يتولــى الســرائر‪.‬‬ ‫إن أحــكام الش ـريعة تجــري علــى حســب‬ ‫األعمــال الظاهــرة للنــاس وليــس علــى مــا‬ ‫يبطنونــه‪ ،‬وهــذا مــا شــرعه النب ــي صلــى هللا‬ ‫عليــه وســلم ألمتــه مــن خــال طريقــة تعاملــه‬ ‫مــع املنافقي ــن مــع علمــه اليقيـن ــي ب ــنفاقهم‬ ‫َ ْ ُ َ َّ‬ ‫الل‬ ‫الكفري‪ ،‬قال هللا تعالى عنهم‪(( :‬يح ِلفون ِب ِ‬ ‫َ ُ َ​َ َ ُ َ َ ُْ َ‬ ‫َمــا قالــوا َولقـ ْـد قالــوا ك ِل َمــة الك ْفـ ِـر َوك َفـ ُـروا َب ْعـ َـد‬ ‫َ‬ ‫ِإ ْســا ِم ِه ْم)) [ســورة التوبــة‪ :‬آيــة ‪ ...]74‬ومــع ذلــك‬ ‫كان عليه الصالة والسالم يجري عليهم أحكام‬ ‫املسلميـن من حيث األنكحة وامليـراث والجنائز‬ ‫ولــوال النهــي لبقــي يســتغفر لهــم‪ ،‬وهــذا مــا نــص‬ ‫عليــه اإلمــام الشــافعي رحمــه هللا(‪ ،)46‬يقــول‬ ‫الشاطب ــي‪( :‬ومــن هنــا جعلــت األعمــال الظاهــرة‬ ‫ً‬ ‫فــي الشــرع دليــا علــى مــا فــي الباطــن‪ ،‬فــإن كان‬ ‫ً‬ ‫الظاهــر منحرفــا حكــم علــى الباطــن بذلــك‪ ،‬أو‬ ‫مستقيما حكم على الباطن بذلك ً‬ ‫ً‬ ‫أيضا‪ ،‬وهو‬ ‫أصــل عــام فــي الفقــه وســائر األحــكام ّ‬ ‫العاديــات‬ ‫والتجريب ــيات‪ ،‬بــل هــو كليــة التش ـريع وعمــدة‬

‫(‪ )41‬تتمة حديث سجود معاذ للنبـي عليه الصالة والسالم وهو في مسند اإلمام أحمد وسنن ابـن ماجة والبـيهقي وصحيح ابـن حبان عن عبدهللا بـن أبـي أوفي وهو صحيح‪.‬‬ ‫(‪ )42‬مجموع الفتاوى (ص‪ )43( - )360/4‬مجموع الفتاوى البـن تـيمية (ص‪.)106/1‬‬ ‫(‪ )44‬أخرجه مسلم عن جابـر ر�ضي هللا عنه‪ ،‬باب بـيان إطالق اسم الكفر على من تـرك الصالة‪ ،‬رقم (‪.)82 - 134‬‬ ‫(‪ )45‬أخرجه ابـن ماجة وأحمد والتـرمذي وابـن حبان وغيـرهم عن بـريدة ر�ضي هللا عنه وهو صحيح‪.‬‬ ‫(‪ )46‬األم للشافعي (ص‪)296/1‬‬

‫‪12‬‬

‫التكليــف بالنســبة إلــى إقامــة حــدود الشــعائر‬ ‫اإلســامية الخاصــة والعامــة)( ‪.)47‬‬ ‫القاعــدة الســابعة‪ :‬ليــس هنــاك تــازم بـي ــن‬ ‫املقاتلــة والحكــم بالكفــر‪.‬‬ ‫ويدخــل تحــت هــذه القاعــدة مجموعــة مــن‬ ‫املســائل املشــهورة منهــا قتــال أهــل البغــي‬ ‫وقتــل الزنادقــة وقتــال مانعــي الــزكاة‪.‬‬ ‫‪ )1‬قتال مانعي الزكاة‪:‬‬ ‫قتــال مانعــي الــزكاة فــي عهــد أب ــي بكــر الصديــق‬ ‫ر�ضــي هللا عنــه ال يســتدل بــه علــى كفــر تــارك‬ ‫الواجــب‪ ،‬إذ إن ت ــركها لــم يكــن عــن جحــود‬ ‫لهــا ولكــن ألنهــم تأولوهــا بأنهــا كانــت خاصــة‬ ‫بزمــن النب ــي صلــى هللا عليــه وســلم‪ ،‬وهــؤالء‬ ‫هــم الذي ــن اختلــف الصحابــة فــي قتالهــم‬ ‫ً‬ ‫ابتداء‪ ...‬وجمهور العلماء لم يحكموا بكفرهم‬ ‫كالنــووي والخطاب ــي واب ــن حجــر واب ــن قدامــة‬ ‫والشوكانـي(‪ )48‬ولم يجعلوا تالز ًما بـيـن التكفيـر‬ ‫واملقاتلــة‪ ،‬وأطلــق عليهــم لقــب مرتدي ــن مــن‬ ‫قب ــيل التغليــب واملجــاز كمــا جــزم بذلــك اب ــن‬ ‫حجــر فــي فتــح البــاري‪ ،‬ويقــول الخطاب ــي‪( :‬هــم‬ ‫أهــل بغــي وإن لــم يدعــوا بهــذا االســم ذلــك‬ ‫الزمــان لدخولهــم فــي غمــرة املرتدي ــن‪ ،‬وأول مــا‬ ‫ُ‬ ‫أ ّرخ لقتــال البغــاة زمــن علــي)‪.‬‬ ‫‪ )2‬قتل أحد الخليفتـيـن‪:‬‬ ‫يقــول النب ــي صلــى هللا عليــه وســلم‪(( :‬إذا بويــع‬ ‫لخليفتـي ــن فاقتلــوا اآلخــر منهمــا))(‪ )49‬فــإن هــذا‬ ‫ال يلــزم منــه الحكــم بكفــر الثان ــي‪.‬‬ ‫‪ )3‬قتال علي للخوارج‪:‬‬ ‫وقد قاتل علي ر�ضي هللا عنه الخوارج وقاتلوه‬

‫ومــع هــذا فإنــه لــم يحكــم عليهــم بالكفــر‪( ،‬وملــا‬ ‫ســئل عنهــم أكفـ ٌـار هــم؟ قــال‪(( :‬مــن الكفــر‬ ‫َ‬ ‫فـ ُّـروا)) وقــال عنهــم‪(( :‬إخواننــا بغــوا علي ــنا))(‪.)50‬‬ ‫ومثــل ذلــك فــي الحكــم مــا وقــع مــن قتــال بـي ــن‬ ‫الصحابــة رضــوان هللا عليهــم‪ ،‬فقــد كانــوا‬ ‫متأولي ــن فيــه ولــم ّ‬ ‫يكفــر بعضهــم ً‬ ‫ّ‬ ‫بعضــا‪ ،‬بــل‬ ‫ِ‬ ‫قالالقرآنالكريم‪((:‬وإنطائفتانمناملؤمنـيـن‬ ‫اقتتلوا)) [ســورة الحجرات‪ :‬آية ‪ ]9‬فلم يســلب‬ ‫عنهم وصف اإليمان مع وقوع االقتتال بـيـنهم‪،‬‬ ‫وعلى هذا يحمل كالم الشــافعي كما نقله اب ــن‬ ‫حجــر‪( :‬ليــس القتــال مــن القتــل بسب ــيل‪ ،‬قــد‬ ‫(‪.)51‬‬ ‫يحــل قتــال الرجــل وال يحــل قتلــه)‬ ‫القاعــدة الثامنــة‪ :‬الزم القــول ليــس بقــول‬ ‫والزم املذهــب ليــس بمذهــب‪.‬‬ ‫فقــد يقــول القائــل القــول فيلــزم منــه الزم‬ ‫مكفــر فــا يحكــم بكفــره إال إن أقــره‪ ،‬فالــازم‬ ‫يستعمل في االحتجاج وإبطال دعوى الخصم‬ ‫ال في الحكم عليه‪ ،‬وألن اللوازم قد يغفل عنها‬ ‫صاحــب املقالــة ولــم يكــن يقصدهــا فــي كالمــه‬ ‫وتقريـره‪ ،‬وهذا يـنسجم مع قاعدة‪( :‬ال يـنسب‬ ‫لســاكت قــول)‪.‬‬ ‫ومثالــه‪ :‬لــو ابتــدع إنســان بدعــة وزعــم أن فيهــا‬ ‫خي ـ ًـرا‪ ،‬فإنــه يلــزم مــن قولــه أن النب ــي صلــى هللا‬ ‫عليــه وســلم خــان األمانــة لعــدم تبليغــه بهــذا‬ ‫الخي ــر الــذي ابتدعــه املبتــدع‪ ،‬وهــذا القــول‬ ‫ال ريــب مــن الكفــر‪ ،‬لكــن هــذه اللــوازم منهــا مــا‬ ‫يلتزمــه صاحــب القــول فهــو لــه مذهــب‪ ،‬ومنهــا‬ ‫ما يـنكره أو يجهله أو يـرده فهو ليس بقول له‬ ‫ً‬ ‫مستلزما له حقيقة‪ ،‬وإضافة‬ ‫ولو كان مذهبه‬ ‫الــازم إليــه فــي هــذه الحــال كــذب عليــه‪ ،‬وغايــة‬

‫(‪ )47‬املوافقات للشاطبـي (ص‪.)233/1‬‬ ‫(‪ )48‬شرح النووي لصحيح مسلم (ص‪ )203/1‬وما بعدها‪ ،‬فتح الباري (ص‪ ،)277/12‬املغنـي البـن قدامة (ص‪ ،)434/2‬ونـيل األوطار (ص‪.)127/4‬‬ ‫(‪ )49‬أخرجه مسلم عن أبـي سعيد الخدري ر�ضي هللا عنه‪ ،‬باب إذا بويع لخليفتـيـن‪ ،‬رقم (‪.)1853-61‬‬ ‫(‪ )50‬مصنف ابـن أبـي شيبة باب مسيـر عائشة وعلي وطلحة والزبـيـر ر�ضي هللا عنهم رقم (‪ ،)38918‬وسنن البـيهقي الكبـرى عن أبـي البختـري‪،‬‬ ‫باب الدليل على أن الفئة الباغية منهما ال تخرج بالبغي عن تسمية اإلسالم‪ ،‬رقم (‪.)16490‬‬ ‫(‪ )51‬فتح الباري (ص‪ )52( - )76/1‬االعتصام للشاطبـي (ص‪ )53( - )549/2‬شرح العقيدة الطحاوية (ص‪ )54( - )354/2‬الفصل (ص‪.)294/3‬‬ ‫(‪ )55‬صحيح مسلم عن عائشة ر�ضي هللا عنه‪ ،‬باب ما يقال عند دخول القبـر‪ ...‬رقم (‪.)974 -103‬‬

‫العدد ‪ 2‬رجب ‪1439‬هـ‬

‫مــا يمكننــا القــول أنــه تناقــض فــي قولــه وال‬ ‫سبـيل للقول بتكفيـره في هذه الحال ذكر هذا‬ ‫املثــال الشاطب ــي(‪.)52‬‬ ‫وقــد نقــل عــن الشــافعي ‪ -‬وبعضهــم نســبه‬ ‫إلــى اإلمــام أحمــد ‪ -‬أنــه قــال‪( :‬ناظــروا القدريــة‬ ‫ُ‬ ‫بالعلــم‪ ،‬فــإن أقــروا بــه خصمــوا وإن أنكــروا‬ ‫كفــروا)(‪ )53‬فالحكــم مت ـرتب علــى إنكارهــم ال‬ ‫علــى الزم قولهــم فحســب‪ ،‬وقــال اب ــن حــزم‪:‬‬ ‫(وأمــا مــن ّ‬ ‫كفــر النــاس بمــا تــؤول إليــه أقوالهــم‬ ‫َ‬ ‫فخطــأ‪ ،‬ألنــه كـ ِـذب علــى الخصــم وتقويـ ٌـل له ما‬ ‫لــم يقــل بــه وإن لزمــه‪ ،‬فلــم يحصــل علــى غي ــر‬ ‫التناقض فقط والتناقض ليس ً‬ ‫كفرا‪ ،‬بل قد‬ ‫(‪.)54‬‬ ‫أحســن إذ فــر مــن الكفــر)‬ ‫القاعدة التاسعة‪ :‬ال بد في مسألة التكفي ــر‬ ‫مراعــاة املوانــع‪.‬‬ ‫‪ )1‬ومن هذه املوانع الجهل‪:‬‬ ‫فإنــه عــارض معتب ــر عنــد إج ـراء األحــكام‪،‬‬ ‫فــا يحكــم علــى جاهــل بالكفــر وال غي ــره فيمــا‬ ‫جهلــه‪ ،‬ولــه أشــكال عــدة‪:‬‬ ‫الجهل في بعض العقائد ‪:‬‬ ‫كســجود معــاذ للنب ــي عليــه الصــاة والســام‬ ‫بعــد مجيئــه مــن الشــام ولــم يكــن يعلــم الحكم‬ ‫كما سبق بـيانه‪ ،‬وجهل بعض الصحابة بـرؤية‬ ‫هللا يــوم القيامــة‪ ،‬وجهــل عائشــة أن هللا قــد‬ ‫أحــاط بــكل �شــيء ً‬ ‫علمــا حتــى مــا يكتمــه النــاس‬ ‫َ‬ ‫فقــد ســألت النب ــي صلــى هللا عليــه وســلم عــن‬ ‫ذلــك؛ فبـي ــن لهــا وكان ممــا قــال‪(( :‬أتخافي ــن أن‬ ‫يحيــف هللا عليــك ورســوله))(‪ ،)55‬وكجهــل‬ ‫ُ‬ ‫ـلمة الفتح عند مرورهم في غزوة حنـي ــن‬ ‫مسـ ِ‬

‫‪13‬‬


‫التكفيـر وضوابطه‬ ‫علــى ذات أنــواط فقالــوا‪( :‬اجعــل لنــا ذات‬ ‫أنواط كما لهم ذات أنواط فقال لهم‪(( :‬لقد‬ ‫قلتــم كمــا قــال ب ــنو إسـرائيل ملو�ســى‪.)56( )...‬‬ ‫الجهل في مسائل الصفات ‪:‬‬ ‫وذلــك كجهــل بعــض الحواريي ــن بقــدرة هللا‬ ‫تعالــى عندمــا قالــوا لعي�ســى ب ــن مريــم‪َ :‬‬ ‫((هـ ْـل‬ ‫َ‬ ‫َ َ‬ ‫ً‬ ‫َي ْسـ َـت ِط ُيع َ ُّربـ َـك أ ْن ُينـ ّ ِـز َل َعل ْي َنــا َما ِئـ َـدة ِمـ َـن‬ ‫َّ َ َ َ َّ ُ َّ َ ُ‬ ‫ْ‬ ‫الل ِإ ْن ك ْن ُتـ ْـم ُمؤ ِم ِني ـ َـن))‬ ‫الســم ِاء قــال اتقــوا‬ ‫[ســورة املائــدة‪ :‬اآليــة ‪ ]112‬فلــم يكفرهــم‬ ‫لجهلهــم بكمــال قدرتــه ســبحانه وتعالــى‪...‬‬ ‫قــال اإلمــام الشــافعي رحمــه هللا‪( :‬هلل أســماء‬ ‫وصفات ال يسع ً‬ ‫أحدا ر ُّدها‪ ،‬ومن خالف بعد‬ ‫ثبوت الحجة عليه فقد كفر‪ ،‬وأما قبل قيام‬ ‫الحجــة فإنــه يعــذر بالجهــل‪ ،‬ألن علــم ذلــك ال‬ ‫يــدرك بالعقــل‪ ،‬وال الرؤيــة والفكــر)(‪.)57‬‬ ‫ومــن الجهــل بصفــات هللا قصــة الرجــل‬ ‫الــذي أو�صــى أب ــناءه إذا مــات أن يحرقــوه‬ ‫َ َ‬ ‫ويــذروه كمــا جــاء فــي الحديــث‪(( :‬أ ْسـ َـرف‬ ‫َْ‬ ‫َ ُجـ ٌـل َع َلــى َن ْفســه‪َ ،‬ف َل َّمــا َح َ‬ ‫ضـ َـر ُه الـ ْـو ُت‬ ‫ر‬ ‫ِ ِ‬ ‫َ ْ َ َ َ َ َ َ َ َ ُ ُّ َ َ ْ ُ‬ ‫أو�صــى ب ِنيـ ِـه فقــال‪ِ :‬إذا أنــا مــت فأح ِرقو ِنــي‬ ‫ُثـ َّـم ْ‬ ‫اسـ َـح ُقو ِني‪ُ ،‬ثـ َّـم ْاذ ُرو ِنــي فــي ّ‬ ‫الريـ ِـح ِفــي‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫َْ ْ َ َ َ َ‬ ‫َ ّ‬ ‫هللا ل ِئـ ْـن قـ َـد َر َعلـ َّـي َرِّبــي ل ُي َع ِذ ُب ِنــي‬ ‫البحــر‪ ،‬فــو ِ‬ ‫َ َ ً ِ َ َ َّ َ ُ َ َ َ‬ ‫ـال‪َ :‬ف َف َع ُلــوا َذلــكَ‬ ‫َ‬ ‫عذابــا مــا عذبــه أحــد‪ ،‬قـ‬ ‫ِ‬ ‫َ َ‬ ‫َ َ َ ْ َْ َ ّ َ َ َ ْ‬ ‫ض‪ :‬أ ِدي مــا أخــذ ِت‪ ،‬فـ ِـإذا‬ ‫ِبـ ِـه‪َ ،‬فقــال ِ َلــأر ِ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُهـ َـو قا ِئـ ٌـم! ف َقـ َ‬ ‫ـال لــه‪(َ :‬مــا ح َملــك علــى َمــا‬ ‫َ‬ ‫ـال‪َ :‬خ ْشـ َـي ُت َك‪َ ،‬يــا َر ّب ‪َ -‬أ ْو َقـ َ‬ ‫ص َن ْعـ َـت؟) َف َقـ َ‬ ‫ـال‬ ‫ِ‬ ‫َ َ‬ ‫َ َ​َ َ َ‬ ‫َمخاف ُت َك ‪ -‬فغف َر ل ُه ِبذ ِل َك))(‪ )58‬فهذا الرجل‬ ‫ً‬ ‫كان جاهــا بعمــوم قــدرة هللا تعالــى فظــن أن‬ ‫هللا ال يقــدر علــى أن يجمعــه إذا صــار رمـ ًـادا‬ ‫مذ ًّيــا فــي البحــر مــع أنــه كان ً‬ ‫مؤمنــا باملعــاد‪،‬‬ ‫ر‬ ‫فعــذره هللا بجهلــه فــي املســألة األولــى‪ ،‬وأثابــه‬ ‫علــى خشــيته فــي الثان ــية فغفــر لــه‪.‬‬

‫الجهل في مسائل األحكام ‪:‬‬ ‫ومــن أمثلتــه تلــك امل ـرأة النوب ــية الت ــي أقــرت‬ ‫بالزنــا علــى نفســها وبمــن زنــا بهــا كمــا جــاء فــي‬ ‫َ​َ ْ َ َْ ٌ ُ َ ُ َ َ َ ْ ُ ٌ َ‬ ‫وش‪ ،‬ف َج َاء ْت‬ ‫األثـر‪(( :‬زنت مولة يقال لها مرك‬ ‫َ ْ َ ُّ ّ َ‬ ‫الزنــا‪َ ،‬ف َسـ َـأ َل َع ْن َهــا ُع َمـ ُـر َعل ًّيــا َو َع ْبــدَ‬ ‫تســتهل ب‬ ‫ِ‬ ‫َّ ْ ِ َ ِ ْ ِ َ َ ْ َ َ َ ُ َ ُّ َ َ َ​َ‬ ‫الرحمـ ِـن بــن عــو ٍف! فقــال‪« :‬تحــد» فســأل‬ ‫َ​َ‬ ‫َ َْ ُ ْ َ َ َ َ َ ُ َ‬ ‫ـال‪« :‬أ َر َاهــا ت ْسـ َـت ِه ُّل ِبـ ِـه كأ َّن َهــا‬ ‫عنهــا عثمــان فقـ‬ ‫َل َت ْع َلـ ُـم َوإ َّن َمــا ْال َحـ ُّـد َع َلــى َمـ ْـن َعل َمـ ُـه» َف َو َافــقَ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ُ َ ُ َ َ َ َ َ َ َ ْ َ ْ ُ ْ َ (‪)59‬‬ ‫عمــر فضربهــا ولــم يرجمهــا)) ‪.‬‬ ‫وتحقيــق األمــر أن هــذه املســألة ممــا تتغي ــر‬ ‫ً‬ ‫مانــا ً‬ ‫بــه الفتــوى ً‬ ‫ومكانــا وحــال‪ ،‬فمــا علــم مــن‬ ‫ز‬ ‫الدي ــن بالضــرورة ال عــذر بجهلــه‪ ....‬ويتفــرع‬ ‫على ما سبق من اعتبار الجهل ً‬ ‫مانعا التفريق‬ ‫بـيـن دعاة البدع وعامة أتباعها‪ ،‬ولهذا تبايـن‬ ‫الحكــم عنــد كثي ــر مــن العلمــاء فــي حكمهــم‬ ‫علــى الشــيعة الرافضــة ّ‬ ‫وفرقــوا بـي ــن عامتهــم‬ ‫وخاصتهــم ودعاتهــم العتبــار مانــع الجهــل‪.‬‬ ‫‪ )2‬من موانع التكفيـراإلكراه‪:‬‬ ‫يعتب ــر اإلك ـراه مــن العــوارض املانعــة مــن‬ ‫التكفي ــر وهــذا محــل اتفــاق بـي ــن العلمــاء‪،‬‬ ‫لكــن اختلفــوا فــي تحديــد معنــى اإلك ـراه ثــم‬ ‫بحثــوا فــي ضوابــط اإلك ـراه وفرقــوا بـي ــن‬ ‫اإلك ـراه امللجــئ وغي ــر امللجــئ‪ ،‬وبحثــوا فيمــا‬ ‫يعتب ــر فيــه ومــا ال يعتب ــر‪ ...‬كمــا اختلفــوا‬ ‫فــي مقــدار مــا يبــاح للمســلم حــال اإلك ـراه‪،‬‬ ‫َ ْ َ َ َّ‬ ‫الل‬ ‫ودليله في القرآن قوله ُتعالى‪(( :‬من كف َر ِب ِ‬ ‫ْ‬ ‫ْ َْ‬ ‫َّ‬ ‫ِمـ ْـن َب ْعـ ِـد ِإ َيما ِنـ ِـه ِإل َمـ ْـن أكـ ِـر َه َوقل ُبـ ُـه ُمط َم ِئـ ٌّـن‬ ‫ْ‬ ‫ال َيمـ ِـان)) [ســورة النحــل‪ :‬آيــة ‪ ]106‬وأهــل‬ ‫ِب ِ‬ ‫التفسي ــر متفقــون علــى أنهــا نزلــت فــي عمــار‬ ‫ب ــن ياســر ملــا أكــره علــى مــدح آلهــة املشركي ــن‬ ‫وســب النب ــي عليه الصالة والســام كما ثبت‬ ‫فــي حديــث املســتدرك وغي ــره‪.‬‬

‫(‪ )56‬أخرجه أحمد رقم (‪ )21897‬والتـرمذي وابـن حبان عن أبـي واقد الليثي ر�ضي هللا عنه وهو صحيح ‪ )57( -‬فتح الباري (ص‪.)407/13‬‬ ‫(‪ )58‬متفق عليه عن أبـي هريـرة ر�ضي هللا عنه‪ ،‬رواه البخاري باب الخوف من هللا رقم (‪ ،)6116‬ومسلم في باب سعة رحمة هللا‪ ...‬رقم (‪.)2756-25‬‬ ‫(‪ )59‬مسند الشافعي (ص‪ )275/3‬رقم (‪ ،)1552‬ومصنف عبدالرزاق (ص‪ )403/7‬رقم (‪ )13644‬عن يحيى بـن حاطب عن أبـيه‪.‬‬ ‫(‪ )60‬االقتصاد في االعتقاد للغزالي (ص‪.)223‬‬

‫التكفيـر وضوابطه‬

‫العدد ‪ 2‬رجب ‪1439‬هـ‬

‫‪ )3‬اعتبارعارض التأويل عند إجراء األحكام‪:‬‬ ‫إن التأويــل مــن العــوارض واملوانــع املعتب ــرة‬ ‫عنــد إج ـراء األحــكام‪ ،‬ولكــن ال بــد لــه مــن‬ ‫َّ‬ ‫ضابــط حتــى ال يصي ــر ســل ًما للباطن ــية‬ ‫والزنادقــة‪ ...‬وقــد فـ ّـرق العلمــاء بـي ــن مــن كان‬ ‫تأويلــه مــن قب ــيل رد النصــوص والتكذيــب بهــا‬ ‫وبـيـن من كان تأويله للنصوص من قبـيل عدم‬ ‫ً‬ ‫صحيحــا‪ ،‬فقــد جعلــوا‬ ‫تنزيلهــا وإجرائهــا إجـر ًاء‬ ‫لذلــك ضوابــط منهــا‪:‬‬ ‫‪)1‬عدم مخالفة نص قطعي الثبوت والداللة‪.‬‬ ‫‪)2‬عــدم مخالفــة مــا ثبــت علمــه مــن الدي ــن‬ ‫بالضــرو رة‪.‬‬ ‫‪ )3‬عدم خروجه عن طريقة العرب وأساليبها‬ ‫في الكالم‪.‬‬ ‫‪)4‬اعتبــار الفــرق بـي ــن مــن َّأول ً‬ ‫تنزيهــا لــرب‬ ‫العاملي ــن ومــن أول ً‬ ‫هدمــا لش ـرائع الدي ــن‪.‬‬ ‫قــال أبــو حامــد الغزالــي‪( :‬ولــم يثبــت لنــا أن‬ ‫الخطــأ فــي التأويــل موجــب للتكفي ــر‪ ،‬فــا‬ ‫بــد مــن دليــل عليــه‪ ،‬وثبــت أن العصمــة‬ ‫مســتفادة مــن قــول‪ :‬ال إلــه إال هللا ً‬ ‫قطعــا فــا‬ ‫يدفــع ذلــك إال بقاطــع‪ ،‬وهــذا القــدر كاف فــي‬ ‫التنبـيه على أن إسراف من بالغ في التكفيـر‬ ‫ليــس عــن ب ــرهان(‪.)60‬‬ ‫واعتبــا ًرا للخطــأ فــي التأويــل مــع قصــد الحــق‬ ‫عــذر املســلمون أصحــاب النب ــي صلــى هللا‬ ‫عليه وسلم الذيـن شاركوا في الفتنة وتـرضوا‬ ‫عــن ســائرهم‪ ،‬ولــم يوقعــوا فيهــم النصــوص‬ ‫التـي ذمت قاتل النفس املؤمنة كقوله عليه‬ ‫الصــاة والســام‪(( :‬ال ت ــرجعوا بعــدي كفــا ًرا‪،‬‬ ‫يضــرب بعضكــم رقــاب بعــض))‪.‬‬ ‫والضابــط املعتب ــر فــي التفريــق بـي ــن مــا يعتب ــر‬ ‫مــن التأويــات في ــنفي عــن أصحابــه وصــف‬

‫‪14‬‬

‫الكفــر وبـي ــن مــا ال يعتب ــر اإلجمــاع‪ ،‬فهنــاك‬ ‫فــرق أجمــع العلمــاء علــى كفــر تأويالتهــا‬ ‫كتأويــل القاديان ــية آيــة ختــم النبــوة بمعنــى‬ ‫خاتــم الحليــة والزي ــنة فقالــوا ب ــنبوة ّ‬ ‫دعيهــم‬ ‫ِ‬ ‫مي ــرزا غــام أحمــد ومثلهــا تأويــات البهائيــة‬ ‫والقرامطــة وطوائــف الباطن ــية‪.‬‬ ‫ومــن املشــهور فــي ذلــك اســتحالل قدامــة ب ــن‬ ‫ً‬ ‫مظعــون شــرب الخمــر تأويــا لقولــه تعالــى‪:‬‬ ‫َ‬ ‫ـس َع َلــى َّالذي ـ َـن َآم ُنــوا َو َعم ُلــوا َّ َ‬ ‫((ل ْيـ َ‬ ‫ـات‬ ‫الص ِالحـ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُج َنـ ٌ‬ ‫ـاح ِف َيمــا ط ِع ُمــوا ِإذا َمــا َّاتقـ ْـوا َو َآم ُنــوا‬ ‫َو َعم ُلوا َّ َ‬ ‫ات))[سورة املائدة‪ :‬آية ‪]93‬‬ ‫الص ِالح ِ‬ ‫ِ‬ ‫كما ذكر في تفسي ــر اآلية‪ ،‬وجاء في الحديث‬ ‫أن عمــر ب ــن الخطــاب قــال لــه‪(( :‬أمــا إنــك لــو‬ ‫اتقيــت هللا الجتنبــت مــا حــرم هللا عليــك))‪،‬‬ ‫فأمــر بجلــده حـ ًّـدا ولــم يحكــم بكفــره لكونــه‬ ‫ّ‬ ‫لــم يكــن ً‬ ‫مكذبــا وإنمــا شــربها متــأوال حلهــا‪،‬‬ ‫فقــد ب ـ ّـين لــه فقهــاء الصحابــة أن اآليــة نزلــت‬ ‫بعد تحريم الخمر فتحرج بعضهم ألنه كان‬ ‫يشــربها قبــل التحريــم وبعضهــم مــات وهــي‬ ‫فــي بطنــه فأنــزل هللا اآليــة إلزالــة هــذا الحــرج‬ ‫بســبب شــربها قبــل التحريــم‪ّ ،‬‬ ‫فخيــره عمــر‬ ‫بـي ــن قتلــه كفـ ًـرا بعــد ب ــيان الحكــم إذا أصـ ّـر‬ ‫أو حــد الشــرب إن اعت ــرف بخطــأ تصرفــه‪.‬‬ ‫وقــد اعتب ــر علــي ر�ضــي هللا عنــه عــارض‬ ‫التأويــل فــي قضيــة الخــوارج‪ ،‬فــإن الصحابة لم‬ ‫يحكمــوا عليهــم بالكفــر رغــم تكفي ــرهم لألمــة‬ ‫وقتالهــم لهــا ألنهــم خرجــوا متأولي ــن‪ ،‬وال يفهــم‬ ‫من اعتبار التأويل عا ًضا تـرك مرتكبه ً‬ ‫طليقا‬ ‫ر‬ ‫فيمــا يفعــل إذ ال تعــارض بـي ــن اعتبــار عــارض‬ ‫التأويــل فــي إجـراء األحــكام ووجــوب منعــه مــن‬ ‫نشــر خطئــه وتأويلــه الباطــل‪.‬‬

‫‪ )4‬عارض الخطأ أو(القصد) معتبـرعند‬ ‫إجــراء األحــكام ‪:‬‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫صـ َـد الفعــل ال ق ْ‬ ‫بــأن يكــون الخطــأ ق ْ‬ ‫صـ َـد‬ ‫ِ‬ ‫الكفـ ِـر‪ ،‬ألنــه ال يقصــد الكفــر مؤمــن‬ ‫ً‬ ‫عمومــا‪ ،‬وذلــك كقــول الرجــل الــذي فــرح‬ ‫بعــودة راحلتــه‪(( :‬اللهــم أنــت عبــدي وأنــا‬ ‫ربــك)) فــي حديــث التوبــة‪(( :‬هلل أفــرح بتوبــة‬ ‫(‪)61‬‬ ‫عبــده مــن رجــل أضــل راحلتــه ‪))...‬‬ ‫ وإن كان للعلمــاء تفصيــل فــي قاعــدة (أخــذ‬‫األحــكام مــن ضــرب األمثــال) ‪ -‬قــال اب ــن‬ ‫القيــم‪( :‬ومــن تدب ــر مصــادر الشــرع ومــوارده‬ ‫تبـي ــن لــه أن الشــارع ألغــى األلفــاظ الت ــي لــم‬ ‫يقصــد املتكلــم بهــا معان ــيها‪ ،‬بــل جــرت علــى‬ ‫غيـر قصد منه كالنائم والنا�سي والسكران‬ ‫والجاهــل واملكــره واملخطــئ مــن شــدة الفــرح‬ ‫أو الغضــب أو املــرض ونحوهــم)(‪.)62‬‬ ‫ومثــل هــذا ُّ‬ ‫ـوء فــي القــول مــا يصــدر‬ ‫السـ ِ‬ ‫يــوم القيامــة مــن آخــر أهــل الجنــة دخــوال‬ ‫ً‬ ‫إليهــا‪ ،‬فيقــول‬ ‫مخاطبــا ربــه جـ ّـل وعــا‪:‬‬ ‫((أتسخر ب ــي أو أتضحك ب ــي وأنت امللك؟‬ ‫قــال‪ :‬لقــد رأيــت رســول هللا صلــى هللا عليــه‬ ‫(‪)63‬‬ ‫وســلم ضحــك حتــى بــدت نواجــذه))‬ ‫َ‬ ‫وهــذا القــول املســتقبح ال يخاطــب بــه‬ ‫هللا العظيــم لكنــه عفــي عــن قائلــه لفــرط‬ ‫ذهولــه‪ ،‬ونقــل النــووي عــن القا�ضــي‬ ‫عيــاض قولــه فــي معنــى الحديــث‪( :‬هــذا‬ ‫الــكالم صــدر مــن هــذا ّ‬ ‫الرجــل وهــو غي ــر‬ ‫ضابــط ملــا قالــه ملــا نالــه مــن ّ‬ ‫الســرور ببلــوغ‬ ‫مــا لــم يخطــر ببالــه‪ ،‬فلــم يضبــط لســانه‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫وفرحــا‪ ،‬فقالــه وهــو ال يعتقــد‬ ‫دهشــا‬ ‫حقيقــة معنــاه وجــرى علــى عادتــه فــي‬

‫(‪ )61‬أخرجه مسلم عن أنس بـن مالك ر�ض ي هللا عنه‪ ،‬باب ف ي الحض عل ى التوبة والفرح بها‪ ،‬رقم ( ‪.)2747-7‬‬ ‫(‪ )62‬إعالم املوقعيـن (ص‪.)124/3‬‬ ‫(‪ )63‬متفق عليه عن ابـن مسعود‪ ،‬رواه البخاري ف ي باب صفة الجنة والنار رقم (‪ )6202‬ومسلم باب آخر أهل النار خروجا رقم (‪.)186-308‬‬ ‫(‪ )64‬شرح النووي لصحيح مسلم (ص‪.)40/3‬‬ ‫(‪ )65‬فتاوى السبكي (ص‪.)591/2‬‬

‫العدد ‪ 2‬رجب ‪1439‬هـ‬

‫ّ‬ ‫الدن ــيا فــي مخاطبــة املخلــوق)(‪.)64‬‬ ‫َ‬ ‫كمــا أنــه لــم ُيك َّفــر الذي ــن خاضــوا باإلفــك‪،‬‬ ‫وآذوا النبـي صلى هللا عليه وسلم كحسان‬ ‫ب ــن ثابــت ومســطح ب ــن أثاثــة وحمنــة ب ــنت‬ ‫جحــش لعــدم قصدهــم إيــذاءه‪ ...‬ومثلهــم‬ ‫حــال أولئــك األصحــاب رضــوان هللا عليهــم‬ ‫الذي ــن أطالــوا الجلــوس عنــده صلــى هللا‬ ‫َ‬ ‫عليــه وســلم فــي يــوم زواجــه‪ ،‬فــآذوه بذلــك‪:‬‬ ‫َّ َ‬ ‫َّ َ ُ ْ َ َ ْ‬ ‫الن ِبـ َّـي ف َي ْسـ َـت ْح ِيي‬ ‫ان ُيــؤ ِذي‬ ‫((إن ذ ِلكــم ك‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫َ ْ‬ ‫ْ ُ ْ َ َّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫ِمنكــم والل ل يســتح ِيي ِمــن الحـ ِـق))‬ ‫[سورة األحزاب‪ :‬آية ‪ ،]53‬يقول السبكي‪:‬‬ ‫(لكن األذى على قسمي ــن‪ ،‬أحدهما يكون‬ ‫فاعلــه قاصـ ًـدا ألذى النب ـ ّـي صلــى هللا عليــه‬ ‫وســلم‪ ،‬والشــك أن هــذا يقت�ضــي القتــل‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫وهــذا كأذى عبــد هللا ب ــن أب ـ ّـي فــي قصــة‬ ‫اإلفــك‪ ،‬واآلخــر أن ال يكــون فاعلــه قاصـ ًـدا‬ ‫ألذى النب ـ ّـي صلــى هللا عليــه وســلم مثــل‬ ‫كالم مســطح وحمنــة فــي اإلفــك‪ ،‬فهــذا ال‬ ‫يقت�ضــي قتــا)(‪.)65‬‬

‫تم البحث‬ ‫والحمد هلل رب العامليـن‬

‫‪15‬‬


‫التكفيـر وضوابطه‬ ‫علــى ذات أنــواط فقالــوا‪( :‬اجعــل لنــا ذات‬ ‫أنواط كما لهم ذات أنواط فقال لهم‪(( :‬لقد‬ ‫قلتــم كمــا قــال ب ــنو إسـرائيل ملو�ســى‪.)56( )...‬‬ ‫الجهل في مسائل الصفات ‪:‬‬ ‫وذلــك كجهــل بعــض الحواريي ــن بقــدرة هللا‬ ‫تعالــى عندمــا قالــوا لعي�ســى ب ــن مريــم‪َ :‬‬ ‫((هـ ْـل‬ ‫َ‬ ‫َ َ‬ ‫ً‬ ‫َي ْسـ َـت ِط ُيع َ ُّربـ َـك أ ْن ُينـ ّ ِـز َل َعل ْي َنــا َما ِئـ َـدة ِمـ َـن‬ ‫َّ َ َ َ َّ ُ َّ َ ُ‬ ‫ْ‬ ‫الل ِإ ْن ك ْن ُتـ ْـم ُمؤ ِم ِني ـ َـن))‬ ‫الســم ِاء قــال اتقــوا‬ ‫[ســورة املائــدة‪ :‬اآليــة ‪ ]112‬فلــم يكفرهــم‬ ‫لجهلهــم بكمــال قدرتــه ســبحانه وتعالــى‪...‬‬ ‫قــال اإلمــام الشــافعي رحمــه هللا‪( :‬هلل أســماء‬ ‫وصفات ال يسع ً‬ ‫أحدا ر ُّدها‪ ،‬ومن خالف بعد‬ ‫ثبوت الحجة عليه فقد كفر‪ ،‬وأما قبل قيام‬ ‫الحجــة فإنــه يعــذر بالجهــل‪ ،‬ألن علــم ذلــك ال‬ ‫يــدرك بالعقــل‪ ،‬وال الرؤيــة والفكــر)(‪.)57‬‬ ‫ومــن الجهــل بصفــات هللا قصــة الرجــل‬ ‫الــذي أو�صــى أب ــناءه إذا مــات أن يحرقــوه‬ ‫َ َ‬ ‫ويــذروه كمــا جــاء فــي الحديــث‪(( :‬أ ْسـ َـرف‬ ‫َْ‬ ‫َ ُجـ ٌـل َع َلــى َن ْفســه‪َ ،‬ف َل َّمــا َح َ‬ ‫ضـ َـر ُه الـ ْـو ُت‬ ‫ر‬ ‫ِ ِ‬ ‫َ ْ َ َ َ َ َ َ َ َ ُ ُّ َ َ ْ ُ‬ ‫أو�صــى ب ِنيـ ِـه فقــال‪ِ :‬إذا أنــا مــت فأح ِرقو ِنــي‬ ‫ُثـ َّـم ْ‬ ‫اسـ َـح ُقو ِني‪ُ ،‬ثـ َّـم ْاذ ُرو ِنــي فــي ّ‬ ‫الريـ ِـح ِفــي‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫َْ ْ َ َ َ َ‬ ‫َ ّ‬ ‫هللا ل ِئـ ْـن قـ َـد َر َعلـ َّـي َرِّبــي ل ُي َع ِذ ُب ِنــي‬ ‫البحــر‪ ،‬فــو ِ‬ ‫َ َ ً ِ َ َ َّ َ ُ َ َ َ‬ ‫ـال‪َ :‬ف َف َع ُلــوا َذلــكَ‬ ‫َ‬ ‫عذابــا مــا عذبــه أحــد‪ ،‬قـ‬ ‫ِ‬ ‫َ َ‬ ‫َ َ َ ْ َْ َ ّ َ َ َ ْ‬ ‫ض‪ :‬أ ِدي مــا أخــذ ِت‪ ،‬فـ ِـإذا‬ ‫ِبـ ِـه‪َ ،‬فقــال ِ َلــأر ِ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُهـ َـو قا ِئـ ٌـم! ف َقـ َ‬ ‫ـال لــه‪(َ :‬مــا ح َملــك علــى َمــا‬ ‫َ‬ ‫ـال‪َ :‬خ ْشـ َـي ُت َك‪َ ،‬يــا َر ّب ‪َ -‬أ ْو َقـ َ‬ ‫ص َن ْعـ َـت؟) َف َقـ َ‬ ‫ـال‬ ‫ِ‬ ‫َ َ‬ ‫َ َ​َ َ َ‬ ‫َمخاف ُت َك ‪ -‬فغف َر ل ُه ِبذ ِل َك))(‪ )58‬فهذا الرجل‬ ‫ً‬ ‫كان جاهــا بعمــوم قــدرة هللا تعالــى فظــن أن‬ ‫هللا ال يقــدر علــى أن يجمعــه إذا صــار رمـ ًـادا‬ ‫مذ ًّيــا فــي البحــر مــع أنــه كان ً‬ ‫مؤمنــا باملعــاد‪،‬‬ ‫ر‬ ‫فعــذره هللا بجهلــه فــي املســألة األولــى‪ ،‬وأثابــه‬ ‫علــى خشــيته فــي الثان ــية فغفــر لــه‪.‬‬

‫الجهل في مسائل األحكام ‪:‬‬ ‫ومــن أمثلتــه تلــك امل ـرأة النوب ــية الت ــي أقــرت‬ ‫بالزنــا علــى نفســها وبمــن زنــا بهــا كمــا جــاء فــي‬ ‫َ​َ ْ َ َْ ٌ ُ َ ُ َ َ َ ْ ُ ٌ َ‬ ‫وش‪ ،‬ف َج َاء ْت‬ ‫األثـر‪(( :‬زنت مولة يقال لها مرك‬ ‫َ ْ َ ُّ ّ َ‬ ‫الزنــا‪َ ،‬ف َسـ َـأ َل َع ْن َهــا ُع َمـ ُـر َعل ًّيــا َو َع ْبــدَ‬ ‫تســتهل ب‬ ‫ِ‬ ‫َّ ْ ِ َ ِ ْ ِ َ َ ْ َ َ َ ُ َ ُّ َ َ َ​َ‬ ‫الرحمـ ِـن بــن عــو ٍف! فقــال‪« :‬تحــد» فســأل‬ ‫َ​َ‬ ‫َ َْ ُ ْ َ َ َ َ َ ُ َ‬ ‫ـال‪« :‬أ َر َاهــا ت ْسـ َـت ِه ُّل ِبـ ِـه كأ َّن َهــا‬ ‫عنهــا عثمــان فقـ‬ ‫َل َت ْع َلـ ُـم َوإ َّن َمــا ْال َحـ ُّـد َع َلــى َمـ ْـن َعل َمـ ُـه» َف َو َافــقَ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ُ َ ُ َ َ َ َ َ َ َ ْ َ ْ ُ ْ َ (‪)59‬‬ ‫عمــر فضربهــا ولــم يرجمهــا)) ‪.‬‬ ‫وتحقيــق األمــر أن هــذه املســألة ممــا تتغي ــر‬ ‫ً‬ ‫مانــا ً‬ ‫بــه الفتــوى ً‬ ‫ومكانــا وحــال‪ ،‬فمــا علــم مــن‬ ‫ز‬ ‫الدي ــن بالضــرورة ال عــذر بجهلــه‪ ....‬ويتفــرع‬ ‫على ما سبق من اعتبار الجهل ً‬ ‫مانعا التفريق‬ ‫بـيـن دعاة البدع وعامة أتباعها‪ ،‬ولهذا تبايـن‬ ‫الحكــم عنــد كثي ــر مــن العلمــاء فــي حكمهــم‬ ‫علــى الشــيعة الرافضــة ّ‬ ‫وفرقــوا بـي ــن عامتهــم‬ ‫وخاصتهــم ودعاتهــم العتبــار مانــع الجهــل‪.‬‬ ‫‪ )2‬من موانع التكفيـراإلكراه‪:‬‬ ‫يعتب ــر اإلك ـراه مــن العــوارض املانعــة مــن‬ ‫التكفي ــر وهــذا محــل اتفــاق بـي ــن العلمــاء‪،‬‬ ‫لكــن اختلفــوا فــي تحديــد معنــى اإلك ـراه ثــم‬ ‫بحثــوا فــي ضوابــط اإلك ـراه وفرقــوا بـي ــن‬ ‫اإلك ـراه امللجــئ وغي ــر امللجــئ‪ ،‬وبحثــوا فيمــا‬ ‫يعتب ــر فيــه ومــا ال يعتب ــر‪ ...‬كمــا اختلفــوا‬ ‫فــي مقــدار مــا يبــاح للمســلم حــال اإلك ـراه‪،‬‬ ‫َ ْ َ َ َّ‬ ‫الل‬ ‫ودليله في القرآن قوله ُتعالى‪(( :‬من كف َر ِب ِ‬ ‫ْ‬ ‫ْ َْ‬ ‫َّ‬ ‫ِمـ ْـن َب ْعـ ِـد ِإ َيما ِنـ ِـه ِإل َمـ ْـن أكـ ِـر َه َوقل ُبـ ُـه ُمط َم ِئـ ٌّـن‬ ‫ْ‬ ‫ال َيمـ ِـان)) [ســورة النحــل‪ :‬آيــة ‪ ]106‬وأهــل‬ ‫ِب ِ‬ ‫التفسي ــر متفقــون علــى أنهــا نزلــت فــي عمــار‬ ‫ب ــن ياســر ملــا أكــره علــى مــدح آلهــة املشركي ــن‬ ‫وســب النب ــي عليه الصالة والســام كما ثبت‬ ‫فــي حديــث املســتدرك وغي ــره‪.‬‬

‫(‪ )56‬أخرجه أحمد رقم (‪ )21897‬والتـرمذي وابـن حبان عن أبـي واقد الليثي ر�ضي هللا عنه وهو صحيح ‪ )57( -‬فتح الباري (ص‪.)407/13‬‬ ‫(‪ )58‬متفق عليه عن أبـي هريـرة ر�ضي هللا عنه‪ ،‬رواه البخاري باب الخوف من هللا رقم (‪ ،)6116‬ومسلم في باب سعة رحمة هللا‪ ...‬رقم (‪.)2756-25‬‬ ‫(‪ )59‬مسند الشافعي (ص‪ )275/3‬رقم (‪ ،)1552‬ومصنف عبدالرزاق (ص‪ )403/7‬رقم (‪ )13644‬عن يحيى بـن حاطب عن أبـيه‪.‬‬ ‫(‪ )60‬االقتصاد في االعتقاد للغزالي (ص‪.)223‬‬

‫التكفيـر وضوابطه‬

‫العدد ‪ 2‬رجب ‪1439‬هـ‬

‫‪ )3‬اعتبارعارض التأويل عند إجراء األحكام‪:‬‬ ‫إن التأويــل مــن العــوارض واملوانــع املعتب ــرة‬ ‫عنــد إج ـراء األحــكام‪ ،‬ولكــن ال بــد لــه مــن‬ ‫َّ‬ ‫ضابــط حتــى ال يصي ــر ســل ًما للباطن ــية‬ ‫والزنادقــة‪ ...‬وقــد فـ ّـرق العلمــاء بـي ــن مــن كان‬ ‫تأويلــه مــن قب ــيل رد النصــوص والتكذيــب بهــا‬ ‫وبـيـن من كان تأويله للنصوص من قبـيل عدم‬ ‫ً‬ ‫صحيحــا‪ ،‬فقــد جعلــوا‬ ‫تنزيلهــا وإجرائهــا إجـر ًاء‬ ‫لذلــك ضوابــط منهــا‪:‬‬ ‫‪)1‬عدم مخالفة نص قطعي الثبوت والداللة‪.‬‬ ‫‪)2‬عــدم مخالفــة مــا ثبــت علمــه مــن الدي ــن‬ ‫بالضــرو رة‪.‬‬ ‫‪ )3‬عدم خروجه عن طريقة العرب وأساليبها‬ ‫في الكالم‪.‬‬ ‫‪)4‬اعتبــار الفــرق بـي ــن مــن َّأول ً‬ ‫تنزيهــا لــرب‬ ‫العاملي ــن ومــن أول ً‬ ‫هدمــا لش ـرائع الدي ــن‪.‬‬ ‫قــال أبــو حامــد الغزالــي‪( :‬ولــم يثبــت لنــا أن‬ ‫الخطــأ فــي التأويــل موجــب للتكفي ــر‪ ،‬فــا‬ ‫بــد مــن دليــل عليــه‪ ،‬وثبــت أن العصمــة‬ ‫مســتفادة مــن قــول‪ :‬ال إلــه إال هللا ً‬ ‫قطعــا فــا‬ ‫يدفــع ذلــك إال بقاطــع‪ ،‬وهــذا القــدر كاف فــي‬ ‫التنبـيه على أن إسراف من بالغ في التكفيـر‬ ‫ليــس عــن ب ــرهان(‪.)60‬‬ ‫واعتبــا ًرا للخطــأ فــي التأويــل مــع قصــد الحــق‬ ‫عــذر املســلمون أصحــاب النب ــي صلــى هللا‬ ‫عليه وسلم الذيـن شاركوا في الفتنة وتـرضوا‬ ‫عــن ســائرهم‪ ،‬ولــم يوقعــوا فيهــم النصــوص‬ ‫التـي ذمت قاتل النفس املؤمنة كقوله عليه‬ ‫الصــاة والســام‪(( :‬ال ت ــرجعوا بعــدي كفــا ًرا‪،‬‬ ‫يضــرب بعضكــم رقــاب بعــض))‪.‬‬ ‫والضابــط املعتب ــر فــي التفريــق بـي ــن مــا يعتب ــر‬ ‫مــن التأويــات في ــنفي عــن أصحابــه وصــف‬

‫‪14‬‬

‫الكفــر وبـي ــن مــا ال يعتب ــر اإلجمــاع‪ ،‬فهنــاك‬ ‫فــرق أجمــع العلمــاء علــى كفــر تأويالتهــا‬ ‫كتأويــل القاديان ــية آيــة ختــم النبــوة بمعنــى‬ ‫خاتــم الحليــة والزي ــنة فقالــوا ب ــنبوة ّ‬ ‫دعيهــم‬ ‫ِ‬ ‫مي ــرزا غــام أحمــد ومثلهــا تأويــات البهائيــة‬ ‫والقرامطــة وطوائــف الباطن ــية‪.‬‬ ‫ومــن املشــهور فــي ذلــك اســتحالل قدامــة ب ــن‬ ‫ً‬ ‫مظعــون شــرب الخمــر تأويــا لقولــه تعالــى‪:‬‬ ‫َ‬ ‫ـس َع َلــى َّالذي ـ َـن َآم ُنــوا َو َعم ُلــوا َّ َ‬ ‫((ل ْيـ َ‬ ‫ـات‬ ‫الص ِالحـ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُج َنـ ٌ‬ ‫ـاح ِف َيمــا ط ِع ُمــوا ِإذا َمــا َّاتقـ ْـوا َو َآم ُنــوا‬ ‫َو َعم ُلوا َّ َ‬ ‫ات))[سورة املائدة‪ :‬آية ‪]93‬‬ ‫الص ِالح ِ‬ ‫ِ‬ ‫كما ذكر في تفسي ــر اآلية‪ ،‬وجاء في الحديث‬ ‫أن عمــر ب ــن الخطــاب قــال لــه‪(( :‬أمــا إنــك لــو‬ ‫اتقيــت هللا الجتنبــت مــا حــرم هللا عليــك))‪،‬‬ ‫فأمــر بجلــده حـ ًّـدا ولــم يحكــم بكفــره لكونــه‬ ‫ّ‬ ‫لــم يكــن ً‬ ‫مكذبــا وإنمــا شــربها متــأوال حلهــا‪،‬‬ ‫فقــد ب ـ ّـين لــه فقهــاء الصحابــة أن اآليــة نزلــت‬ ‫بعد تحريم الخمر فتحرج بعضهم ألنه كان‬ ‫يشــربها قبــل التحريــم وبعضهــم مــات وهــي‬ ‫فــي بطنــه فأنــزل هللا اآليــة إلزالــة هــذا الحــرج‬ ‫بســبب شــربها قبــل التحريــم‪ّ ،‬‬ ‫فخيــره عمــر‬ ‫بـي ــن قتلــه كفـ ًـرا بعــد ب ــيان الحكــم إذا أصـ ّـر‬ ‫أو حــد الشــرب إن اعت ــرف بخطــأ تصرفــه‪.‬‬ ‫وقــد اعتب ــر علــي ر�ضــي هللا عنــه عــارض‬ ‫التأويــل فــي قضيــة الخــوارج‪ ،‬فــإن الصحابة لم‬ ‫يحكمــوا عليهــم بالكفــر رغــم تكفي ــرهم لألمــة‬ ‫وقتالهــم لهــا ألنهــم خرجــوا متأولي ــن‪ ،‬وال يفهــم‬ ‫من اعتبار التأويل عا ًضا تـرك مرتكبه ً‬ ‫طليقا‬ ‫ر‬ ‫فيمــا يفعــل إذ ال تعــارض بـي ــن اعتبــار عــارض‬ ‫التأويــل فــي إجـراء األحــكام ووجــوب منعــه مــن‬ ‫نشــر خطئــه وتأويلــه الباطــل‪.‬‬

‫‪ )4‬عارض الخطأ أو(القصد) معتبـرعند‬ ‫إجــراء األحــكام ‪:‬‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫صـ َـد الفعــل ال ق ْ‬ ‫بــأن يكــون الخطــأ ق ْ‬ ‫صـ َـد‬ ‫ِ‬ ‫الكفـ ِـر‪ ،‬ألنــه ال يقصــد الكفــر مؤمــن‬ ‫ً‬ ‫عمومــا‪ ،‬وذلــك كقــول الرجــل الــذي فــرح‬ ‫بعــودة راحلتــه‪(( :‬اللهــم أنــت عبــدي وأنــا‬ ‫ربــك)) فــي حديــث التوبــة‪(( :‬هلل أفــرح بتوبــة‬ ‫(‪)61‬‬ ‫عبــده مــن رجــل أضــل راحلتــه ‪))...‬‬ ‫ وإن كان للعلمــاء تفصيــل فــي قاعــدة (أخــذ‬‫األحــكام مــن ضــرب األمثــال) ‪ -‬قــال اب ــن‬ ‫القيــم‪( :‬ومــن تدب ــر مصــادر الشــرع ومــوارده‬ ‫تبـي ــن لــه أن الشــارع ألغــى األلفــاظ الت ــي لــم‬ ‫يقصــد املتكلــم بهــا معان ــيها‪ ،‬بــل جــرت علــى‬ ‫غيـر قصد منه كالنائم والنا�سي والسكران‬ ‫والجاهــل واملكــره واملخطــئ مــن شــدة الفــرح‬ ‫أو الغضــب أو املــرض ونحوهــم)(‪.)62‬‬ ‫ومثــل هــذا ُّ‬ ‫ـوء فــي القــول مــا يصــدر‬ ‫السـ ِ‬ ‫يــوم القيامــة مــن آخــر أهــل الجنــة دخــوال‬ ‫ً‬ ‫إليهــا‪ ،‬فيقــول‬ ‫مخاطبــا ربــه جـ ّـل وعــا‪:‬‬ ‫((أتسخر ب ــي أو أتضحك ب ــي وأنت امللك؟‬ ‫قــال‪ :‬لقــد رأيــت رســول هللا صلــى هللا عليــه‬ ‫(‪)63‬‬ ‫وســلم ضحــك حتــى بــدت نواجــذه))‬ ‫َ‬ ‫وهــذا القــول املســتقبح ال يخاطــب بــه‬ ‫هللا العظيــم لكنــه عفــي عــن قائلــه لفــرط‬ ‫ذهولــه‪ ،‬ونقــل النــووي عــن القا�ضــي‬ ‫عيــاض قولــه فــي معنــى الحديــث‪( :‬هــذا‬ ‫الــكالم صــدر مــن هــذا ّ‬ ‫الرجــل وهــو غي ــر‬ ‫ضابــط ملــا قالــه ملــا نالــه مــن ّ‬ ‫الســرور ببلــوغ‬ ‫مــا لــم يخطــر ببالــه‪ ،‬فلــم يضبــط لســانه‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫وفرحــا‪ ،‬فقالــه وهــو ال يعتقــد‬ ‫دهشــا‬ ‫حقيقــة معنــاه وجــرى علــى عادتــه فــي‬

‫(‪ )61‬أخرجه مسلم عن أنس بـن مالك ر�ض ي هللا عنه‪ ،‬باب ف ي الحض عل ى التوبة والفرح بها‪ ،‬رقم ( ‪.)2747-7‬‬ ‫(‪ )62‬إعالم املوقعيـن (ص‪.)124/3‬‬ ‫(‪ )63‬متفق عليه عن ابـن مسعود‪ ،‬رواه البخاري ف ي باب صفة الجنة والنار رقم (‪ )6202‬ومسلم باب آخر أهل النار خروجا رقم (‪.)186-308‬‬ ‫(‪ )64‬شرح النووي لصحيح مسلم (ص‪.)40/3‬‬ ‫(‪ )65‬فتاوى السبكي (ص‪.)591/2‬‬

‫العدد ‪ 2‬رجب ‪1439‬هـ‬

‫ّ‬ ‫الدن ــيا فــي مخاطبــة املخلــوق)(‪.)64‬‬ ‫َ‬ ‫كمــا أنــه لــم ُيك َّفــر الذي ــن خاضــوا باإلفــك‪،‬‬ ‫وآذوا النبـي صلى هللا عليه وسلم كحسان‬ ‫ب ــن ثابــت ومســطح ب ــن أثاثــة وحمنــة ب ــنت‬ ‫جحــش لعــدم قصدهــم إيــذاءه‪ ...‬ومثلهــم‬ ‫حــال أولئــك األصحــاب رضــوان هللا عليهــم‬ ‫الذي ــن أطالــوا الجلــوس عنــده صلــى هللا‬ ‫َ‬ ‫عليــه وســلم فــي يــوم زواجــه‪ ،‬فــآذوه بذلــك‪:‬‬ ‫َّ َ‬ ‫َّ َ ُ ْ َ َ ْ‬ ‫الن ِبـ َّـي ف َي ْسـ َـت ْح ِيي‬ ‫ان ُيــؤ ِذي‬ ‫((إن ذ ِلكــم ك‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫َ ْ‬ ‫ْ ُ ْ َ َّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫ِمنكــم والل ل يســتح ِيي ِمــن الحـ ِـق))‬ ‫[سورة األحزاب‪ :‬آية ‪ ،]53‬يقول السبكي‪:‬‬ ‫(لكن األذى على قسمي ــن‪ ،‬أحدهما يكون‬ ‫فاعلــه قاصـ ًـدا ألذى النب ـ ّـي صلــى هللا عليــه‬ ‫وســلم‪ ،‬والشــك أن هــذا يقت�ضــي القتــل‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫وهــذا كأذى عبــد هللا ب ــن أب ـ ّـي فــي قصــة‬ ‫اإلفــك‪ ،‬واآلخــر أن ال يكــون فاعلــه قاصـ ًـدا‬ ‫ألذى النب ـ ّـي صلــى هللا عليــه وســلم مثــل‬ ‫كالم مســطح وحمنــة فــي اإلفــك‪ ،‬فهــذا ال‬ ‫يقت�ضــي قتــا)(‪.)65‬‬

‫تم البحث‬ ‫والحمد هلل رب العامليـن‬

‫‪15‬‬


‫قواعد السياسة الشرعية‬

‫قواعد السياسة الشرعية‬

‫العدد ‪ 2‬رجب ‪1439‬هـ‬

‫في إدارة الدولة وإنزال العقوبات على مستحقيها أو تـرك هذه العقوبات‬ ‫بحســب الحــال‪ ،‬وهــي كالتالــي‪:‬‬ ‫املبحــث األول‪ :‬ت ــرك الحــد ً‬ ‫تأليفــا لقلــوب النــاس وحـ ً‬ ‫ـذرا مــن النفــور عــن‬

‫ياس ِة َّ‬ ‫رعية‬ ‫َق‬ ‫ُ‬ ‫الش َّ‬ ‫الس َ‬ ‫واعد ِّ‬ ‫تقديم ُوجوِد َّ‬ ‫الدولِة املُسِلمِة‬ ‫يف‬ ‫ِ‬ ‫صاحلها على إِقامِة ا ُ‬ ‫حلدود‬ ‫َ‬ ‫وم ِ‬

‫الدي ــن‪ ،‬وفيــه ذكــر واقعت ــي ت ــرك قتــل عبــد هللا ب ــن أب ــي ب ــن ســلول ومنــع‬ ‫الصحابــة مــن قتــل ذي الخويصــرة التميمــي‪.‬‬ ‫املبحــث الثان ــي‪ :‬درء الحــد بســبب شــيوع الحاجــة‪ ،‬وفيــه ذكــر قصــة‬ ‫الســرقة فــي عــام الرمــادة‪.‬‬ ‫املبحث الثالث‪ :‬وحدة الدولة مقدمة على إقامة الحدود‪ ،‬وفيه الحديث عن‬ ‫مسألة القصاص من قتلة عثمان بـن عفان ر�ضي هللا عنه‪.‬‬

‫محمد علي النجار‬

‫محرر مجلة مقاربات ‪ -‬باحث ماجستـيـر‬

‫املقدمة‬

‫الحمــد هلل رب العاملي ــن والصــاة والســام علــى نبـي ــنا الهــادي‬ ‫األمي ــن ســيدنا محمــد وعلــى آلــه وصحبــه أجمعي ــن‪ ،‬والتابعي ــن لهــم‬ ‫بإحســان إلــى يــوم الدي ــن وبعــد‪:‬‬ ‫إن املراقــب للثــورة الســورية فــي ســنواتها الســبع املاضيــة ي ــرى بوضــوح‬ ‫الحالــة املأســاوية الت ــي وصلــت إليهــا حالنــا بفعــل الجماعــات التكفي ـرية‬ ‫ّ ً‬ ‫املتطرفــة الدخيلــة علــى ّ‬ ‫خاصــة‪ ،‬حيــث عملــت‬ ‫أمتنــا جمعـ َـاء وعلــى بالدنــا‬ ‫علــى بــث الفتــن وتفريــق الصفــوف ثــم قامــت بالغــدر بأهل الســنة وطعنهم‬ ‫في ظهورهم وتمكيـن عدوهم من رقابهم‪ ...‬مما انعكس ً‬ ‫سلبا على الوضع‬ ‫ً‬ ‫خصوصــا وفــي منطقــة الشــرق‬ ‫العــام ألهــل الســنة والجماعــة فــي ســوريا‬ ‫األوســط ً‬ ‫عمومــا‪ ...‬وإذا مــا رجــع ب ــنا الزمــان قليــا نجــد املأســاة الت ــي حلــت‬ ‫ببالد الشام تتكرر بتفاصيلها اململة مع أهل السنة في العراق وقبل ذلك‬ ‫فــي أفغانســتان والصومــال والســبب هــذه الجماعــات املتطرفــة نفســها‪،‬‬ ‫تختلف األرض وتتنوع الوجوه وتتعدد األسماء ولكن النت ــيجة واحدة ال‬ ‫تختلف‪ ...‬مما أدى إلى االستـياء العام واليأس القاتل‪ ،‬والذي أدى بدوره‬ ‫إلى موجة من اإللحاد والردة عن املبادئ والثوابت الديـنـية في ظل حرب‬ ‫إعالميــة شــعواء تســتغل الظــروف املأســاوية الت ــي نمــر بهــا‪ ،‬لتحويلهــا إلــى‬ ‫ســم قاتــل ي ــنتشر فــي جميــع أنحــاء الجســد اإلســامي املريــض‪ ...‬وفــي أوار‬ ‫هــذه الحــروب املســتعرة علــى كافــة الصعــد وفــي كل ميادي ــن الحيــاة‪،‬‬ ‫بــدأت تطفــو علــى الســطح مجموعــة مــن التســاؤالت الخطي ــرة‪ ...‬منهــا علــى‬ ‫سب ــيل املثــال‪ :‬أي ــن الخطــأ؟ وكيــف نصححــه؟ هــل العلــة فــي اإلســام أم‬ ‫في املسلمي ــن؟ وهل انتهت صالحية تعاليم اإلســام املتعلقة بأســس ب ــناء‬

‫املجتمــع أو السياســة الداخليــة والخارجيــة لألمــة؟ أال يجــب أن نجنــب‬ ‫اإلســام أي إصــاح سيا�ســي مأمــول إذا مــا أردنــا االســتقرار؟ والحقيقــة‬ ‫أن كل هــذه األســئلة نشــأت نت ــيجة ملمارســات خاطئــة ومفاهيــم مشــوهة‬ ‫عــن الدي ــن‪ ،‬قامــت بهــا هــذه الجماعــات املتطرفــة الت ــي ال تمــت بأفعالهــا‬ ‫ومفاهيمهــا إلــى اإلســام بصلــة‪ ،‬وقــد حاولــت فــي هــذا البحــث الصغي ــر‬ ‫اإلجابة على هذه األسئلة‪ ،‬والتأكيد على أن التشريع السيا�سي عند أهل‬ ‫الســنة والجماعــة ال يمــت بصلــة إلــى مــا آلــت إليــه حــال معظــم فصائــل‬ ‫ً‬ ‫املتطرفي ــن املقاتلــة علــى األرض‪ ،‬كمــا أن فكرهــم املشــوه ال يتقــارب أصــا‬ ‫مــع الفكــر الــذي يحملــه علمــاء الثــورة وفقهاؤهــا‪.‬‬ ‫ال بــد لنــا أن نعــرف أن ســبب مــا وصلــت إليــه الجماعــات املتطرفــة اليــوم‬ ‫مــن فرقــة وتخلــف ودمويــة؛ ومــا نتــج عــن ذلــك مــن ســقوط وت ـراجع لكثي ــر‬ ‫مــن الشــعوب اإلســامية الت ــي ظهــروا فيهــا؛ هــو املفاهيــم والتصــورات‬ ‫الخاطئــة لهــذه الجماعــات‪ ،‬وليــس الســبب فــي ذلــك املنهــج القويــم‬ ‫للتش ـريع اإلســامي والــذي كان نـ ً‬ ‫ـورا ً‬ ‫هاديــا لــكل الــدول العظمــى الت ــي‬ ‫شهدها تا يخنا املجيد‪ ...‬فلم َ‬ ‫يحتج أسالفنا ً‬ ‫يوما إلى تغيي ــر قاعدة ثابتة‬ ‫ر‬ ‫أو التخلــي عــن بعــض الشــرع بداعــي اختــاف الزمــان وتغي ــر األحــوال‪ ،‬أو‬ ‫بحجــة أن الشــرع قاصــر عــن مواكبــة عصورهــم‪.‬‬ ‫وقد بـيـنت في هذا البحث معالم الفكر السيا�سي ألهل السنة والجماعة‬ ‫وخاصــة مــا يتعلــق منهــا ب ــنشوء الـ ُّـدول وطــرق إدارتهــا‪ ،‬وكان ذلــك فــي ســياق‬ ‫حديثــي عــن إقامــة الحــدود علــى الجنــاة أو القصــاص منهــم‪ ...‬وقــد تــم ذلــك‬ ‫مــن خــال مدخــل يســلط الضــوء علــى مــا وصلــت إليــه حــال الجماعــات‬ ‫املتطرفــة اليــوم‪ ،‬ثــم خمســة مباحــث يتنــاول كل منهــا واقعــة أو أكث ــر مــن‬ ‫زمــن النب ــي صلــى هللا عليــه وســلم أو الخلفــاء الراشدي ــن‪ ،‬لب ــيان منهجهــم‬ ‫‪16‬‬

‫املبحــث الرابــع‪ :‬شــؤون الحكــم والحــدود مــن أمــور السياســة الت ــي ال‬ ‫تحمــل مسـ َّ‬ ‫ـؤولياتها لعامــة النــاس‪ ،‬وفيــه ذكــر لقصــة حدثــت فــي موســم‬ ‫الحــج فــي آخــر عهــد عمــر ب ــن الخطــاب ر�ضــي هللا عنــه‪.‬‬ ‫ُ َّ‬ ‫املبحــث الخامــس‪ :‬األنــاة والتــدرج فــي إقامــة الش ـريعة ضمــن ســلم‬ ‫ّ‬ ‫األولويــات فــي التشـريع اإلســامي‪ ،‬وفيــه ذكــر قصــة عمــر ب ــن عبــد العزيــز‬ ‫ر�ضــي هللا عنــه مــع اب ــنه عبــد امللــك‪.‬‬ ‫وعقبت ذلك بذكرالنتائج والخاتمة‪.‬‬

‫املدخل ‪..‬‬ ‫أسئلة كثيـرة تطرح منها ما هو بـريء ومنها ما هو مشبوه‪ ،‬تحاول الكثيـر‬ ‫مــن مراكــز اإلعــام العامليــة تحويلهــا إلــى ســهام قاتلــة تصــوب نحــو الجســد‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫اإلســامي املمــدد‪ ...‬وقــد اتبــع أعــداء اإلســام خططــا محكمــة للقضــاء علــى‬ ‫أهل السنة فك ًّريا ً‬ ‫تمهيدا لتشتـيتهم والتحكم بمصيـرهم‪ ،‬وذلك من خالل‬ ‫مجموعة من اإلجراءات الخطي ــرة منها دعم بعض الحكام التابعي ــن لهم‬ ‫ملنــع أي تحــرك إســامي ســليم‪ ،‬ومنهــا تمكي ــن مجموعــة مــن رجــال الدي ــن‬ ‫الفاسدي ــن مــن تســلم أهــم املناصــب الديـن ــية والعلميــة عنــد أهــل الســنة‬ ‫والجماعــة‪ ،‬وأخطرهــا اســتخدام اإلعــام كســاح لتشــويش العقــول وبــث‬ ‫الفتن والفساد‪ ،‬حيث تم تأسيس بعض الفضائيات الديـنـية في السنوات‬ ‫األخي ــرة لــكل مــن متطرفــي الســنة والشــيعة علــى الســواء‪ ،‬بدعــم مــن دول‬ ‫ورجــال أعمــال مشــبوهي التوجــه واالرتباطــات‪.‬‬ ‫ومــن ي ـراقب خريطــة هــذه الفضائيــات يالحــظ أن نســبة منهــا تــؤدي ً‬ ‫دورا‬ ‫مشـ ً‬ ‫ـبوها فــي تضليــل األمــة إمــا عب ــر بــث التطــرف والفتنــة والتكفي ــر‪ ،‬وإمــا‬

‫العدد ‪ 2‬رجب ‪1439‬هـ‬

‫بالــرد علــى هــذا التطــرف بمزيــد مــن العلمنــة والحداثــة الغرب ــية املغلفــة‬ ‫بغــاف البحــث العقلــي واملنطقــي فــي النصــوص الشــرعية ومراجعــة كتــب‬ ‫التـراث‪ ،‬حتى غدا اإلفراط والتفريط هو السمة العامة لنسبة ال يستهان‬ ‫بها من الفضائيات املحسوبة على اإلعالم اإلسالمي اليوم‪ ،‬في ظل حصار‬ ‫إعالمــي وحكومــي مطبــق علــى كل األصــوات الناطقــة بالحــق وبمنهــج أهــل‬ ‫ً‬ ‫ـات‪.‬‬ ‫الســنة القويــم ســواء كانــوا أفـرادا أو جماعـ ٍ‬ ‫كما ظهرت في عصرنا بعض الجماعات واألحزاب املنادية بإقامة الخالفة‬ ‫اإلسالمية وإيجاب السعي إلى هذا الهدف على كل صغيـر وكبـيـر وجاهل‬ ‫وعالم؛ حتى أصبح مقام الخالفة السامي عند هؤالء حديث كل منتسب‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫لهم سواء أكان جاهل أم عال ـا أم متدي ًـنا أم غيـر متدي ٍـن أصل‪ ،‬وال يذكر‬ ‫الديـن عند هؤالء إال مقرونا باسم الخالفة في ظل نسيان شبه كامل لكل‬ ‫واجبــات الفــرد واألمــة األخــرى‪ ،‬بــل وغيــاب كامــل ملفهــوم الدولــة أو املجتمــع‬ ‫املســلم‪ ...‬فتــم تقزيــم مفهــوم الدي ــن عنــد هــؤالء ليتحــول إلــى مجموعــة مــن‬ ‫القوانـيـن واألحكام السياسية التـي يتـربع على عرشها مصطلح الخالفة‪،‬‬ ‫وظهرت عندنا معادلة غريبة تقول (اإلسالم = الخالفة)‪.‬‬ ‫ومــع مــرور الســنوات وتســليط الضــوء علــى جماعــات الهجــرة والتكفي ــر‬ ‫بعــد تفجي ــر ب ــرجي التجــارة وحــرب أفغانســتان والع ـراق والصومــال؛ تــم‬ ‫ً‬ ‫تباطــا ً‬ ‫وثيقــا بعــدة‬ ‫تضخيــم دور هــذه الجماعــات املتطرفــة‪ ،‬واملرتبطــة ار‬ ‫أجهــزة مخاب ـرات عامليــة وإقليميــة علــى رأســها الواليــات املتحــدة وإي ـران‪...‬‬ ‫كمــا قامــت فضائيــات أخباريــة وديـن ــية شهي ــرة بإظهارهــم بمظهــر الجيــش‬ ‫الحامــي ألهــل الســنة والجماعــة‪.‬‬ ‫وقــد كان مــن مقصــد وجــود هــذه الجماعــات املشــبوهة تقزيــم مفهــوم كل‬ ‫من الديـن والخالفة‪ ،‬ليقتـرنا في ذهن املسلم وغيـر املسلم بتنفيذ الحدود‬ ‫والقصــاص بقطــع الــرؤوس واأليــادي ورجــم الزان ــي‪ ،‬حيــث بــدأت تظهــر‬ ‫فيديوهات قتل وذبح عجيبة تتصدر خلفياتها رايات مختلفة كتبت عليها‬ ‫شــهادة التوحيــد وعبــارات إســامية أخــرى‪ ...‬وكل هــذا الذبــح والقتــل كان‬ ‫بحجــة إقامــة الدولــة اإلســامية ومــا يقتضيــه وجودهــا مــن عمــل بأحــكام‬ ‫الحــدود والقصــاص‪ ...‬ولهــذا كان لز ًامــا علي ــنا أن نبـي ــن مفهــوم كل مــن‬ ‫الدولة والحدود والقصاص عند املسلميـن قبل البدء بالبحث وتفرعاته‪.‬‬ ‫ً‬ ‫أول‪ :‬تعريف الدولة‪.‬‬ ‫َ ْ (‪َ ْ َّ )1‬‬ ‫ُْ ُ‬ ‫َُ َ‬ ‫الغ َل َب ُة‪ُ ،‬ي َقال‪ُ :‬‬ ‫الله ّم‬ ‫واإلدالــة‪:‬‬ ‫َلغــة هــي العقبــة فــي املــال والحــرب ‪ ،‬والدولــة ِ‬ ‫َ‬ ‫ُ َ ْ َّ َ َ ُ ُ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ْ ُ َ​َْ‬ ‫داولها‬ ‫أ ِدلنـي على ف َ ٍ‬ ‫الن وانصرنـي علي ِه‪ ،‬ودالت األيام‪ :‬دارت‪ ،‬والل تعالى ((ي ِ‬ ‫َ‬ ‫الناس)) أي ُي ِدي ُـرها(‪ ،)2‬وأما تعريف الدولة في االصطالح فإن الباحث‬ ‫بـيـن ِ‬

‫(‪ )1‬لسان العرب‪ ،‬املؤلف ‪ :‬محمد بـن مكرم بـن منظور األفريقي املصري‪ ،‬الناشر ‪ :‬دار صادر ‪ -‬بـيـروت‪ ،‬الطبعة األول ى (‪)252/11‬‬ ‫الرزاق الحسيـنـي‪ ،‬أبو الفيض‪ّ ،‬‬ ‫محم د بـن عبد ّ‬ ‫امللق ب بمرت�ض ى‪َّ ،‬‬ ‫محم د بـن ّ‬ ‫(‪ )2‬الكتاب‪ :‬تاج العروس من جواهر القاموس‪ ،‬املؤلف‪ّ :‬‬ ‫الزبـيدي‬ ‫(املتوف ى‪1205 :‬هـ)‪ ،‬املحقق‪ :‬مجموعة من املحققيـن‪ ،‬الناش ر‪ :‬دار الهداية (‪- )511/28‬‬

‫‪17‬‬


‫قواعد السياسة الشرعية‬

‫قواعد السياسة الشرعية‬

‫العدد ‪ 2‬رجب ‪1439‬هـ‬

‫في إدارة الدولة وإنزال العقوبات على مستحقيها أو تـرك هذه العقوبات‬ ‫بحســب الحــال‪ ،‬وهــي كالتالــي‪:‬‬ ‫املبحــث األول‪ :‬ت ــرك الحــد ً‬ ‫تأليفــا لقلــوب النــاس وحـ ً‬ ‫ـذرا مــن النفــور عــن‬

‫ياس ِة َّ‬ ‫رعية‬ ‫َق‬ ‫ُ‬ ‫الش َّ‬ ‫الس َ‬ ‫واعد ِّ‬ ‫تقديم ُوجوِد َّ‬ ‫الدولِة املُسِلمِة‬ ‫يف‬ ‫ِ‬ ‫صاحلها على إِقامِة ا ُ‬ ‫حلدود‬ ‫َ‬ ‫وم ِ‬

‫الدي ــن‪ ،‬وفيــه ذكــر واقعت ــي ت ــرك قتــل عبــد هللا ب ــن أب ــي ب ــن ســلول ومنــع‬ ‫الصحابــة مــن قتــل ذي الخويصــرة التميمــي‪.‬‬ ‫املبحــث الثان ــي‪ :‬درء الحــد بســبب شــيوع الحاجــة‪ ،‬وفيــه ذكــر قصــة‬ ‫الســرقة فــي عــام الرمــادة‪.‬‬ ‫املبحث الثالث‪ :‬وحدة الدولة مقدمة على إقامة الحدود‪ ،‬وفيه الحديث عن‬ ‫مسألة القصاص من قتلة عثمان بـن عفان ر�ضي هللا عنه‪.‬‬

‫محمد علي النجار‬

‫محرر مجلة مقاربات ‪ -‬باحث ماجستـيـر‬

‫املقدمة‬

‫الحمــد هلل رب العاملي ــن والصــاة والســام علــى نبـي ــنا الهــادي‬ ‫األمي ــن ســيدنا محمــد وعلــى آلــه وصحبــه أجمعي ــن‪ ،‬والتابعي ــن لهــم‬ ‫بإحســان إلــى يــوم الدي ــن وبعــد‪:‬‬ ‫إن املراقــب للثــورة الســورية فــي ســنواتها الســبع املاضيــة ي ــرى بوضــوح‬ ‫الحالــة املأســاوية الت ــي وصلــت إليهــا حالنــا بفعــل الجماعــات التكفي ـرية‬ ‫ّ ً‬ ‫املتطرفــة الدخيلــة علــى ّ‬ ‫خاصــة‪ ،‬حيــث عملــت‬ ‫أمتنــا جمعـ َـاء وعلــى بالدنــا‬ ‫علــى بــث الفتــن وتفريــق الصفــوف ثــم قامــت بالغــدر بأهل الســنة وطعنهم‬ ‫في ظهورهم وتمكيـن عدوهم من رقابهم‪ ...‬مما انعكس ً‬ ‫سلبا على الوضع‬ ‫ً‬ ‫خصوصــا وفــي منطقــة الشــرق‬ ‫العــام ألهــل الســنة والجماعــة فــي ســوريا‬ ‫األوســط ً‬ ‫عمومــا‪ ...‬وإذا مــا رجــع ب ــنا الزمــان قليــا نجــد املأســاة الت ــي حلــت‬ ‫ببالد الشام تتكرر بتفاصيلها اململة مع أهل السنة في العراق وقبل ذلك‬ ‫فــي أفغانســتان والصومــال والســبب هــذه الجماعــات املتطرفــة نفســها‪،‬‬ ‫تختلف األرض وتتنوع الوجوه وتتعدد األسماء ولكن النت ــيجة واحدة ال‬ ‫تختلف‪ ...‬مما أدى إلى االستـياء العام واليأس القاتل‪ ،‬والذي أدى بدوره‬ ‫إلى موجة من اإللحاد والردة عن املبادئ والثوابت الديـنـية في ظل حرب‬ ‫إعالميــة شــعواء تســتغل الظــروف املأســاوية الت ــي نمــر بهــا‪ ،‬لتحويلهــا إلــى‬ ‫ســم قاتــل ي ــنتشر فــي جميــع أنحــاء الجســد اإلســامي املريــض‪ ...‬وفــي أوار‬ ‫هــذه الحــروب املســتعرة علــى كافــة الصعــد وفــي كل ميادي ــن الحيــاة‪،‬‬ ‫بــدأت تطفــو علــى الســطح مجموعــة مــن التســاؤالت الخطي ــرة‪ ...‬منهــا علــى‬ ‫سب ــيل املثــال‪ :‬أي ــن الخطــأ؟ وكيــف نصححــه؟ هــل العلــة فــي اإلســام أم‬ ‫في املسلمي ــن؟ وهل انتهت صالحية تعاليم اإلســام املتعلقة بأســس ب ــناء‬

‫املجتمــع أو السياســة الداخليــة والخارجيــة لألمــة؟ أال يجــب أن نجنــب‬ ‫اإلســام أي إصــاح سيا�ســي مأمــول إذا مــا أردنــا االســتقرار؟ والحقيقــة‬ ‫أن كل هــذه األســئلة نشــأت نت ــيجة ملمارســات خاطئــة ومفاهيــم مشــوهة‬ ‫عــن الدي ــن‪ ،‬قامــت بهــا هــذه الجماعــات املتطرفــة الت ــي ال تمــت بأفعالهــا‬ ‫ومفاهيمهــا إلــى اإلســام بصلــة‪ ،‬وقــد حاولــت فــي هــذا البحــث الصغي ــر‬ ‫اإلجابة على هذه األسئلة‪ ،‬والتأكيد على أن التشريع السيا�سي عند أهل‬ ‫الســنة والجماعــة ال يمــت بصلــة إلــى مــا آلــت إليــه حــال معظــم فصائــل‬ ‫ً‬ ‫املتطرفي ــن املقاتلــة علــى األرض‪ ،‬كمــا أن فكرهــم املشــوه ال يتقــارب أصــا‬ ‫مــع الفكــر الــذي يحملــه علمــاء الثــورة وفقهاؤهــا‪.‬‬ ‫ال بــد لنــا أن نعــرف أن ســبب مــا وصلــت إليــه الجماعــات املتطرفــة اليــوم‬ ‫مــن فرقــة وتخلــف ودمويــة؛ ومــا نتــج عــن ذلــك مــن ســقوط وت ـراجع لكثي ــر‬ ‫مــن الشــعوب اإلســامية الت ــي ظهــروا فيهــا؛ هــو املفاهيــم والتصــورات‬ ‫الخاطئــة لهــذه الجماعــات‪ ،‬وليــس الســبب فــي ذلــك املنهــج القويــم‬ ‫للتش ـريع اإلســامي والــذي كان نـ ً‬ ‫ـورا ً‬ ‫هاديــا لــكل الــدول العظمــى الت ــي‬ ‫شهدها تا يخنا املجيد‪ ...‬فلم َ‬ ‫يحتج أسالفنا ً‬ ‫يوما إلى تغيي ــر قاعدة ثابتة‬ ‫ر‬ ‫أو التخلــي عــن بعــض الشــرع بداعــي اختــاف الزمــان وتغي ــر األحــوال‪ ،‬أو‬ ‫بحجــة أن الشــرع قاصــر عــن مواكبــة عصورهــم‪.‬‬ ‫وقد بـيـنت في هذا البحث معالم الفكر السيا�سي ألهل السنة والجماعة‬ ‫وخاصــة مــا يتعلــق منهــا ب ــنشوء الـ ُّـدول وطــرق إدارتهــا‪ ،‬وكان ذلــك فــي ســياق‬ ‫حديثــي عــن إقامــة الحــدود علــى الجنــاة أو القصــاص منهــم‪ ...‬وقــد تــم ذلــك‬ ‫مــن خــال مدخــل يســلط الضــوء علــى مــا وصلــت إليــه حــال الجماعــات‬ ‫املتطرفــة اليــوم‪ ،‬ثــم خمســة مباحــث يتنــاول كل منهــا واقعــة أو أكث ــر مــن‬ ‫زمــن النب ــي صلــى هللا عليــه وســلم أو الخلفــاء الراشدي ــن‪ ،‬لب ــيان منهجهــم‬ ‫‪16‬‬

‫املبحــث الرابــع‪ :‬شــؤون الحكــم والحــدود مــن أمــور السياســة الت ــي ال‬ ‫تحمــل مسـ َّ‬ ‫ـؤولياتها لعامــة النــاس‪ ،‬وفيــه ذكــر لقصــة حدثــت فــي موســم‬ ‫الحــج فــي آخــر عهــد عمــر ب ــن الخطــاب ر�ضــي هللا عنــه‪.‬‬ ‫ُ َّ‬ ‫املبحــث الخامــس‪ :‬األنــاة والتــدرج فــي إقامــة الش ـريعة ضمــن ســلم‬ ‫ّ‬ ‫األولويــات فــي التشـريع اإلســامي‪ ،‬وفيــه ذكــر قصــة عمــر ب ــن عبــد العزيــز‬ ‫ر�ضــي هللا عنــه مــع اب ــنه عبــد امللــك‪.‬‬ ‫وعقبت ذلك بذكرالنتائج والخاتمة‪.‬‬

‫املدخل ‪..‬‬ ‫أسئلة كثيـرة تطرح منها ما هو بـريء ومنها ما هو مشبوه‪ ،‬تحاول الكثيـر‬ ‫مــن مراكــز اإلعــام العامليــة تحويلهــا إلــى ســهام قاتلــة تصــوب نحــو الجســد‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫اإلســامي املمــدد‪ ...‬وقــد اتبــع أعــداء اإلســام خططــا محكمــة للقضــاء علــى‬ ‫أهل السنة فك ًّريا ً‬ ‫تمهيدا لتشتـيتهم والتحكم بمصيـرهم‪ ،‬وذلك من خالل‬ ‫مجموعة من اإلجراءات الخطي ــرة منها دعم بعض الحكام التابعي ــن لهم‬ ‫ملنــع أي تحــرك إســامي ســليم‪ ،‬ومنهــا تمكي ــن مجموعــة مــن رجــال الدي ــن‬ ‫الفاسدي ــن مــن تســلم أهــم املناصــب الديـن ــية والعلميــة عنــد أهــل الســنة‬ ‫والجماعــة‪ ،‬وأخطرهــا اســتخدام اإلعــام كســاح لتشــويش العقــول وبــث‬ ‫الفتن والفساد‪ ،‬حيث تم تأسيس بعض الفضائيات الديـنـية في السنوات‬ ‫األخي ــرة لــكل مــن متطرفــي الســنة والشــيعة علــى الســواء‪ ،‬بدعــم مــن دول‬ ‫ورجــال أعمــال مشــبوهي التوجــه واالرتباطــات‪.‬‬ ‫ومــن ي ـراقب خريطــة هــذه الفضائيــات يالحــظ أن نســبة منهــا تــؤدي ً‬ ‫دورا‬ ‫مشـ ً‬ ‫ـبوها فــي تضليــل األمــة إمــا عب ــر بــث التطــرف والفتنــة والتكفي ــر‪ ،‬وإمــا‬

‫العدد ‪ 2‬رجب ‪1439‬هـ‬

‫بالــرد علــى هــذا التطــرف بمزيــد مــن العلمنــة والحداثــة الغرب ــية املغلفــة‬ ‫بغــاف البحــث العقلــي واملنطقــي فــي النصــوص الشــرعية ومراجعــة كتــب‬ ‫التـراث‪ ،‬حتى غدا اإلفراط والتفريط هو السمة العامة لنسبة ال يستهان‬ ‫بها من الفضائيات املحسوبة على اإلعالم اإلسالمي اليوم‪ ،‬في ظل حصار‬ ‫إعالمــي وحكومــي مطبــق علــى كل األصــوات الناطقــة بالحــق وبمنهــج أهــل‬ ‫ً‬ ‫ـات‪.‬‬ ‫الســنة القويــم ســواء كانــوا أفـرادا أو جماعـ ٍ‬ ‫كما ظهرت في عصرنا بعض الجماعات واألحزاب املنادية بإقامة الخالفة‬ ‫اإلسالمية وإيجاب السعي إلى هذا الهدف على كل صغيـر وكبـيـر وجاهل‬ ‫وعالم؛ حتى أصبح مقام الخالفة السامي عند هؤالء حديث كل منتسب‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫لهم سواء أكان جاهل أم عال ـا أم متدي ًـنا أم غيـر متدي ٍـن أصل‪ ،‬وال يذكر‬ ‫الديـن عند هؤالء إال مقرونا باسم الخالفة في ظل نسيان شبه كامل لكل‬ ‫واجبــات الفــرد واألمــة األخــرى‪ ،‬بــل وغيــاب كامــل ملفهــوم الدولــة أو املجتمــع‬ ‫املســلم‪ ...‬فتــم تقزيــم مفهــوم الدي ــن عنــد هــؤالء ليتحــول إلــى مجموعــة مــن‬ ‫القوانـيـن واألحكام السياسية التـي يتـربع على عرشها مصطلح الخالفة‪،‬‬ ‫وظهرت عندنا معادلة غريبة تقول (اإلسالم = الخالفة)‪.‬‬ ‫ومــع مــرور الســنوات وتســليط الضــوء علــى جماعــات الهجــرة والتكفي ــر‬ ‫بعــد تفجي ــر ب ــرجي التجــارة وحــرب أفغانســتان والع ـراق والصومــال؛ تــم‬ ‫ً‬ ‫تباطــا ً‬ ‫وثيقــا بعــدة‬ ‫تضخيــم دور هــذه الجماعــات املتطرفــة‪ ،‬واملرتبطــة ار‬ ‫أجهــزة مخاب ـرات عامليــة وإقليميــة علــى رأســها الواليــات املتحــدة وإي ـران‪...‬‬ ‫كمــا قامــت فضائيــات أخباريــة وديـن ــية شهي ــرة بإظهارهــم بمظهــر الجيــش‬ ‫الحامــي ألهــل الســنة والجماعــة‪.‬‬ ‫وقــد كان مــن مقصــد وجــود هــذه الجماعــات املشــبوهة تقزيــم مفهــوم كل‬ ‫من الديـن والخالفة‪ ،‬ليقتـرنا في ذهن املسلم وغيـر املسلم بتنفيذ الحدود‬ ‫والقصــاص بقطــع الــرؤوس واأليــادي ورجــم الزان ــي‪ ،‬حيــث بــدأت تظهــر‬ ‫فيديوهات قتل وذبح عجيبة تتصدر خلفياتها رايات مختلفة كتبت عليها‬ ‫شــهادة التوحيــد وعبــارات إســامية أخــرى‪ ...‬وكل هــذا الذبــح والقتــل كان‬ ‫بحجــة إقامــة الدولــة اإلســامية ومــا يقتضيــه وجودهــا مــن عمــل بأحــكام‬ ‫الحــدود والقصــاص‪ ...‬ولهــذا كان لز ًامــا علي ــنا أن نبـي ــن مفهــوم كل مــن‬ ‫الدولة والحدود والقصاص عند املسلميـن قبل البدء بالبحث وتفرعاته‪.‬‬ ‫ً‬ ‫أول‪ :‬تعريف الدولة‪.‬‬ ‫َ ْ (‪َ ْ َّ )1‬‬ ‫ُْ ُ‬ ‫َُ َ‬ ‫الغ َل َب ُة‪ُ ،‬ي َقال‪ُ :‬‬ ‫الله ّم‬ ‫واإلدالــة‪:‬‬ ‫َلغــة هــي العقبــة فــي املــال والحــرب ‪ ،‬والدولــة ِ‬ ‫َ‬ ‫ُ َ ْ َّ َ َ ُ ُ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ْ ُ َ​َْ‬ ‫داولها‬ ‫أ ِدلنـي على ف َ ٍ‬ ‫الن وانصرنـي علي ِه‪ ،‬ودالت األيام‪ :‬دارت‪ ،‬والل تعالى ((ي ِ‬ ‫َ‬ ‫الناس)) أي ُي ِدي ُـرها(‪ ،)2‬وأما تعريف الدولة في االصطالح فإن الباحث‬ ‫بـيـن ِ‬

‫(‪ )1‬لسان العرب‪ ،‬املؤلف ‪ :‬محمد بـن مكرم بـن منظور األفريقي املصري‪ ،‬الناشر ‪ :‬دار صادر ‪ -‬بـيـروت‪ ،‬الطبعة األول ى (‪)252/11‬‬ ‫الرزاق الحسيـنـي‪ ،‬أبو الفيض‪ّ ،‬‬ ‫محم د بـن عبد ّ‬ ‫امللق ب بمرت�ض ى‪َّ ،‬‬ ‫محم د بـن ّ‬ ‫(‪ )2‬الكتاب‪ :‬تاج العروس من جواهر القاموس‪ ،‬املؤلف‪ّ :‬‬ ‫الزبـيدي‬ ‫(املتوف ى‪1205 :‬هـ)‪ ،‬املحقق‪ :‬مجموعة من املحققيـن‪ ،‬الناش ر‪ :‬دار الهداية (‪- )511/28‬‬

‫‪17‬‬


‫قواعد السياسة الشرعية‬ ‫فــي كتــب الفقــه والسياســة الشــرعية ال يــكاد يجــد التعبـي ــر عــن الســلطة‬ ‫الحاكمــة بهــذا اللفــظ إال ً‬ ‫ملامــا؛ إذ كان يعب ــر عــن مفهومهــا بمصطلحــات‬ ‫أخــرى كاإلمامــة والخالفــة وامللــك ومــا إلــى ذلــك ولكنهــا أصبحــت اليــوم هــي‬ ‫اللفــظ واملصطلــح الــذي يعب ــر عــن مفاهيــم اإلدارة السياســية والســلطة‬ ‫بجميــع أنواعهــا‪...‬‬ ‫ً‬ ‫اصطالحــا‪ :‬مجمــوع كبـي ــر مــن األفـراد يقطــن بصفــة دائمــة إقليمــا‬ ‫والدولــة‬ ‫َّ‬ ‫معي ًنــا‪ ،‬ويتمتــع بالشــخصية املعنويــة وب ــنظام حكومــي وباالســتقالل‬ ‫ُ‬ ‫َ َ َ َ َّ ُ َّ ْ َ ُ ْ ْ َ َ ُّ ُ َ ْ َ َ‬ ‫ـات ِب َح ْيــث‬ ‫السيا�ســي(‪ ،)3‬وتتألــف الدولــة ِمــن َمج ُموعـ ٍـة ِمــن النظـ ِـم وال ِواليـ ِ‬ ‫ُ َ ّ ُ َ َ ْ َ َ َ ً َ َّ ً ْ َ َ‬ ‫َّ َ َ‬ ‫ً‬ ‫الد ْولـ ِـة‪َ ،‬وت ْع َمــل ُم ْج َت ِم َعــة‬ ‫ـف‬ ‫تــؤ ِدي كل ِواليـ ٍـة ِمنهــا و ِظيفــة خ‬ ‫اصــة ِمــن وظا ِئـ ِ‬ ‫َ ّ َ ُ َ َ َ ُ َ َ ْ ُ ْ َ ّ َّ َ ُّ ْ‬ ‫َْ‬ ‫َ ْ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫الدي ـ ِني ِة والدني ِويـ ِـة‪،‬‬ ‫ِلتح ِقيـ ِـق مق ِصـ ٍـد عـ ٍـام‪ ،‬وهــو ِرعايــة مص ِالـ ِـح الس ِل ِمي ــن ِ‬ ‫َُ‬ ‫اســة ّ‬ ‫َ َ ُ َ ْ ُ َ ٌ َ َ ُّ‬ ‫َ‬ ‫َْ َ ْ‬ ‫الدي ـ ِـن‬ ‫يقــول الــاور ِد ُّي‪( :‬اإلمامــة موضوعــة ِل ِخالفـ ِـة الن ُبـ َّـو ِة ِفــي ِح َر ِ ِ‬ ‫ُّ ْ‬ ‫َوس َي َ‬ ‫اسـ ِـة‬ ‫الدن َيــا) (‪ ،)4‬وقــد لخــص اإلمــام املــاوردي فكــرة الفقهــاء عــن‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫الد ْن َيــا َحتــىَّ‬ ‫ص ُلـ ُـح ُّ‬ ‫األركان الت ــي تقــوم عليهــا الدولــة بقولــه‪ْ :‬‬ ‫(اع َلـ ْـم أ َّن َمــا بــه َت ْ‬ ‫ِ​ِ‬ ‫َتصي َـر َأ ْح َو ُال َها ُم ْن َتظ َم ًة‪َ ،‬وُأ ُم ُور َها ُم ْل َتئ َم ًة‪ ،‬س َّت ُة َأ ْش َي َاء ه َي َق َواع ُد َها‪َ ،‬وإنْ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َت َف َّر َع ْت‪َ ،‬وه َي‪ :‬دي ٌـن ُم َّت َب ٌع َو ُس ْل َط ٌان َقاه ٌر َو َع ْد ٌل َشام ٌل َوَأ ْم ٌن َع ٌّام َوخ ْ‬ ‫صبٌ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َ َ‬ ‫ٌ (‪)5‬‬ ‫َدا ِئـ ٌـم َوأ َمـ ٌـل ف ِســيح) ‪.‬‬ ‫ثان ًـيا‪:‬تعريفالحد‪.‬‬ ‫هــو فــي اللغــة‪ :‬املنــع‪ ،‬وأمــا فــي الشــرع‪ :‬فهــو عقوبــة مقــدرة وجبــت ًّ‬ ‫حقــا هلل(‪،)6‬‬ ‫َّ َ َ ْ ُ َ َ ُ َ َ َ َّ َ ُ َ َّ ُ َ َ َ َ ُ ّ َ ّ َ ْ َ ْ‬ ‫الزنــى َوالقــذ ِف‬ ‫وقــد اتفــق الفقهــاء علـ ْـى أن مــا يطبــق علــى ج ِريمـ ِـة ك ٍل ِمــن ِ‬ ‫ْ َ‬ ‫َّ‬ ‫َ ُّ ْ َ َّ َ َ‬ ‫َ َ​َ َ َ‬ ‫َ‬ ‫السـ ِـرق ِة َوقطـ ِـع الط ِريـ ِـق ُي ْع َت َبـ ُـر َحـ ًّـدا َواخ َتل ُفــوا ِفيمــا وراء ذ ِلــك‪،‬‬ ‫والســك ِر و‬ ‫َ َ َ َ ْ َ َ َّ ُ َ َ َّ َ َّ ٌ َ َ َ َ َ َ ّ ُّ ْ ْ َ ْ َ َّ ً‬ ‫فذهب الحن ِفية ِإلى أنها ِستة‪ ،‬وذ ِلك ِب ِإضاف ِة ح ِد الشر ِب ِللخم ِر خاصة‪،‬‬ ‫َْ ُ َ ْ‬ ‫َ‬ ‫ٌ َ‬ ‫َ‬ ‫َ َ ُْ َ‬ ‫َو َيـ َـرى ال ِال ِك َّيــة أ َّن ال ُحـ ُـد َود َسـ ْـب َعة‪ ،‬ف ُي ِض ُيفــون ِإلــى ال َّتفـ ِـق َعل ْيـ ِـه الـ ّ ِـر َّدة‬ ‫ْ‬ ‫ْ ْ‬ ‫َ ْ َ ُ َ ْ ُ َّ‬ ‫ـاص َأ ْي ً‬ ‫الشــافع َّية ْالق َ‬ ‫صـ َ‬ ‫ضــا ِمـ َـن ال ُحـ ُـد ِود‪،‬‬ ‫َوال َبغـ َـي‪ِ ،‬فــي ِحي ـ ِـن يعت ِبــر بعــض‬ ‫ِ​ِ ِ ِ‬ ‫ُ َ ُ ْ‬ ‫ُ َ‬ ‫َ ٌ‬ ‫ْ َ ُ َّ‬ ‫َح ْيث قالوا‪ :‬ال ُح ُد ُود ث َما ِن َية َو َع ُّد ُوه َب ْي َن َها‪َ ،‬و ْاع َت َب َر ال ِال ِك َّية َوالشا ِف ِع َّية ق ْتل‬ ‫ْ‬ ‫َّ َ‬ ‫َ‬ ‫الصال ِة َع ْم ًدا ِم َن ال ُح ُد ِود(‪ ،)7‬وإذا درجنا على ما قاله الشافعية فإن‬ ‫ت ِار ِك‬ ‫القصــاص نــوع مــن أنــواع الحــدود‪.‬‬ ‫ً‬ ‫ثالثا‪:‬تعريفالقصاص‪.‬‬ ‫َ ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ـاص َأ ْن ُي ْؤ َخـ َـذ َلــك الق َ‬ ‫واإل ْق َ‬ ‫صـ ُ‬ ‫صـ ُ‬ ‫القـ ّ‬ ‫ـاص‪،‬‬ ‫ـص وهــو القطــع‪،‬‬ ‫لغــة هــو مــن‬ ‫ِ‬ ‫ُ َ َ َ َّ َ ُ ُ ً ْ ُ‬ ‫ْ َ َّ َ ُ ْ َ َ َ ُ ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫يقال‪ :‬أقص األ ِميـر فالنا ِمن فالن‪ِ ،‬إذا اقتص له ِمنه فجرحه ِمثل جر ِحه‪،‬‬ ‫َ َ َ َ‬ ‫أو ق َتلــه قـ َـو ًدا (‪ ...)8‬وأمــا فــي كتــب التشـريع اإلســامي فقــد تعــددت تعريفاتــه‬

‫قواعد السياسة الشرعية‬

‫العدد ‪ 2‬رجب ‪1439‬هـ‬

‫ْ‬ ‫ُ َ َْ َْ َ َْ‬ ‫اعـ ِـل ِمثـ َـل‬ ‫عنــد العلمــاء ومــن أخصرهــا قــول الجرجان ــي‪( :‬هــو أن يفعـ َـل ِبالف ِ‬ ‫َ َ َ َ (‪ّ )9‬‬ ‫ُ‬ ‫ولعلــي مــن خــال اســتقراء مــا ذكــر فــي تعريفــه عنــد الفقهــاء‬ ‫مــا فعــل) ‪ِ ،‬‬ ‫يمكننـي أن أقول‪ ،‬إن القصاص‪ :‬هو عقوبة مقدرة ثابتة بالكتاب والسنة‬ ‫ً‬ ‫قابلة لإلسقاط تقت�ضي َ‬ ‫أو أحدهما وجبت ًّ‬ ‫عقوبة على‬ ‫أيقاع‬ ‫حقا آلدمي‬ ‫ٍ‬ ‫الجانـي بمقدار جنايته‪.‬‬ ‫َّ‬ ‫ٌ‬ ‫صحيــح أن الحــدود وأحــكام القصــاص كلهــا ثابتــة بالنــص فــي الق ـرآن‬ ‫والســنة أو فــي أحدهمــا‪ ،‬وال إشـ َّ‬ ‫ـكالية تعتب ــر فــي ثبوتهــا‪ ،‬ولكــن اإلشــكالية فــي‬ ‫تـرت ــيبها مــن حيــث األولويــة‪ ،‬وفــي طريقــة تنفيذهــا ومــا يعــرض لوقائعهــا مــن‬ ‫قواعــد َّ‬ ‫كليــة قــد تؤث ــر علــى طريقــة العمــل بهــا‪.‬‬ ‫وعلى ّ‬ ‫كل فلم تمض سنوات حتى تم عبـر هذه الجماعات املتطرفة تقزيم‬ ‫ٍ‬ ‫مصطلح الخالفة اإلسالمية وما تحمله من معانـي سامية من إقامة دولة‬ ‫اإليمــان والعــدل والحضــارة اإلنسان ــية إلــى مفهــوم الحــدود عب ــر معادلــة‬ ‫بســيطة كالتالــي‪( :‬إســام = خالفــة = قطــع الــرؤوس واأليــادي والرجــم)‬ ‫ونتـيجتها (اإلسالم= قطع الرؤوس واأليادي ورجم البشر) ومعادلة أخرى‬ ‫تقول‪( :‬عدم تنفيذ الحدود = حكم بغيـر ما أنزل هللا = الكفر)‪ ،‬ونتـيجتها‬ ‫(عــدم تنفيــذ الحــدود = كفــر)‪.‬‬ ‫ومن املؤسف ًّ‬ ‫حقا أن هذه املعادلة الغريبة عن التشريع اإلسالمي ‪ -‬وتحت‬ ‫ً ّ‬ ‫أمرا مسل ًما لدى الكثيـريـن من‬ ‫الضغط اإلعالمي وقلة التوعية ‪ -‬أصبحت‬ ‫أبـناء األمة الغيوريـن والعامليـن على رفعة الديـن بل والكثيـريـن من صغار‬ ‫طلبة العلوم الشــرعية‪ ،‬مما أدى إلى فشــل كل مشــاريع التحرر السن ــي في‬ ‫العراق والصومال وأفغانستان وسوريا‪.‬‬ ‫ً‬ ‫واســتغالل منهــم لليــأس القاتــل الــذي أصــاب شــباب األمــة نت ــيجة لفشــل‬ ‫هــذه الجماعــات الت ــي ب ــنوا آمالهــم عليهــا؛ بــل وظهــور عمالــة الكثي ــر منهــا؛‬ ‫أطلــق اإلعــام املشــبوه العشـرات مــن دعــاة الحداثــة والتجديــد ُون َ‬ ‫صرائهــم‬ ‫لتشــكيك أهــل الســنة والجماعــة بثوابتهــم واالســتدالل بعظــم املأســاة‬ ‫وقتامــة الواقــع علــى صــدق كالمهــم‪ ،‬فأنكــروا ضروريــات الدي ــن واعتــدوا‬ ‫عليهــا بالبت ــر والتشــويه كصــورة جديــدة لالستش ـراق الــذي غ ـزا األمــة‬ ‫فــي بدايــات القــرن املا�ضــي‪ ،‬والواجــب علــى فقهــاء األمــة ودعاتهــا اليــوم‬ ‫أن يقومــوا بإعــادة البحــث والق ـراءة فــي قواعــد االجتهــاد عنــد أهــل الســنة‬ ‫والجماعــة؛ لتقديمهــا إلــى الباحثي ــن وتقريبهــا إلــى أذهانهــم وتعريفهــم علــى‬

‫(‪ )3‬املعجم الوسيط املؤلف ‪ :‬إبـراهيم مصطفى ـ أحمد الزيات ـ حامد عبد القادر ـ محمد النجار‪ ،‬دار النشر ‪ :‬دار الدعوة‪ ،‬تحقيق ‪ :‬مجمع اللغة العربـية (‪)304/1‬‬ ‫(‪ )4‬املوسوعة الفقهية الكويتـية (‪ 36/21‬وما بعدها) ‪ )5( -‬أدب الدنـيا والديـن‪ ،‬لإلمام املاوردي‪ ،‬نش ر‪ :‬دار مكتبة الحياة‪ ،‬طبعة عام ‪1986‬م (‪.)133‬‬ ‫(‪ )6‬أنـيس الفقهاء ف ي تعريفات األلفاظ املتداولة بـيـن الفقهاء للقاسم بـن عبد هللا بـن أميـر عل ي القونوي الرومي الحنفي‬ ‫(املتوف ى‪978 :‬هـ)‪،‬املحقق‪ :‬يحي ى حسن مراد‪ ،‬الناش ر‪ :‬دار الكتب العلمية‪ ،‬الطبعة‪2004 :‬م‪1424-‬هـ (ص ‪.)61‬‬ ‫(‪ )7‬املوسوعة الفقهية الكويتـية (‪ )8( - .)132/17‬تاج العروس من جواهر القاموس‪ ،‬املحقق‪ :‬مجموعة من املحققيـن‪ ،‬الناش ر‪ :‬دار الهداية‪( ،‬ص ‪ 105/18‬و‪.)108‬‬ ‫(‪ )9‬الفروق للقراف ي‪ ،‬طبعة عالم الكتب‪.)213/4( ،‬‬

‫‪18‬‬

‫الصورة املشرقة ملسيـرة التشريع عند أهل السنة والجماعة بما فيها من‬ ‫ضوابط كلية ودراسات جزئية تكفل تطور التشريع بتطور الحياة والسيـر‬ ‫ً‬ ‫تنظيمــا وإرشـ ًـادا خطــوة بخطــوة‪ ،‬لعــل فــي نــور العلــم مــا يزيــل غشــاوة‬ ‫معهــا‬ ‫الجهل والشك الت ــي بدأت تنسج خيوطها على عقول أب ــناء جيلنا وقلوبهم‪.‬‬ ‫وإذا مــا طالعنــا كتــب التش ـريع اإلســامي ودققنــا فــي مباحــث السياســة‬ ‫الشــرعية وتطب ــيقاتها فإننــا نجــد قضيــة املحافظــة علــى الدولــة واألمــة‬ ‫َّ ً‬ ‫َّ ً‬ ‫ّ‬ ‫أولويــة إسـ‬ ‫ـامية مقدمــة علــى الشــكليات السياســية والجزئيــات الشــرعية‪،‬‬ ‫وقــد أثبتــت الجماعــات اإلســامية الت ــي نشــأت علــى أرضنــا أثنــاء الثــورة‬ ‫الســورية فشـ ًـا ذر ً‬ ‫يعــا فــي مجــال العمــل السيا�ســي لتجاهلهــا هــذه األولويــة‬ ‫وتقديمالكثيـرمنالجزئياتالديـنـيةالفرعيةعلىأصولالديـنومقاصده‬ ‫الكلية‪ ،‬ونتـيجةلهذاالخلطفيتـرتـيب َّ‬ ‫األولوياتلمتستطعهذهالجماعات‬ ‫ّ‬ ‫إسالمي شامل يجمع شتاتها ويوحد صفوفها‪،‬‬ ‫إلى اليوم أن تتفق على فكر‬ ‫ٍ‬ ‫بل لم تستطع أن تؤسس في مناطق سيطرتها دولة بأدنى أشكالها لها رئيس‬ ‫واحــد وجيــش واحــد ومؤسســات منتظمــة‪ ،‬تضمــن أدنــى مقومــات الحيــاة‬ ‫اإلنسانـيةالكريمةملواطنـيها‪...‬يـرتكزالفكرالسيا�سيفياإلسالمعلىمقاصد‬ ‫أساسية وهي‪( :‬حفظ الديـن والنفس واملال والعقل والنسب)‪ ،‬فال يتحرك‬ ‫الساســة املســلمون إال وفــق هــذا املبــدأ العظيــم‪ ،‬الــذي يحكــم كل جزئيــات‬ ‫الشــرع وقوانـي ــنه املتفرعــة عــن أدلتهــا الخاصــة‪ ،‬وقــد كان الحفــاظ علــى هــذه‬ ‫الكليــات الخمــس هــو املنــار الــذي يهــدي السب ــيل لــكل الخلفــاء الصالحي ــن‬ ‫وامللــوك العظمــاء الذي ــن نقـرأ عنهــم فــي تاريخنــا املشــرف املمتــد ألربعــة عشــر‬ ‫ق ًرنــا مــن الزمــان‪.‬‬ ‫عندما فهم املسلمون هذا املبدأ استطاع ساستهم العظماء أن ُيخرجوا‬ ‫األمــة مــن تحــت الــركام م ـرات وم ـرات‪ ،‬ويعيدوهــا إلــى مركــز الصــدارة‬ ‫والقيــادة‪ ،‬ومــا تأخــرت األمــة فــي عصرنــا وتفرقــت إال عندمــا أغفلــت‬ ‫قياداتهــا هــذا األصــل فــي عملهــم السيا�ســي لتحــل محلــه شــعارات ب ـراقة‬ ‫ال حقيقــة لهــا وال مضمــون‪.‬‬ ‫وإذا مــا تأملنــا بعــض هــذه الشــعارات املنتشــرة اليــوم نجدهــا مأخــوذة مــن‬ ‫أدلة جزئية ال يصح االستدالل بها خارج اإلطار املتكامل لفقه السياسة‬ ‫اإلســامية‪ ،‬حيــث تجــد األولويــة عنــد بعــض الجماعــات املنتشــرة فــي بالدنا‬ ‫لشعار دولة إسالمية وعند بعضهم األولوية لكلمة خالفة وعند بعضهم‬ ‫األولوية لكلمة أميـر أو أميـر املؤمنـيـن‪ ...‬فال يمكن أن تكون الدولة مرضية‬ ‫مــن قبــل هللا بحســب ظــن هــؤالء إذا لــم يطلــق عليهــا اســم الخالفــة وعلــى‬ ‫رئيســها لقــب أمي ــر املؤمنـي ــن وعلــى قيــادات جيشــها األم ـراء ويعتب ــرون‬

‫العدد ‪ 2‬رجب ‪1439‬هـ‬

‫العمل على نشر العدالة والفضيلة غيـر مر�ضي من قبل هللا إذا لم َّ‬ ‫يسم‬ ‫ُ‬ ‫ً‬ ‫وجنوده مجاهديـن والقضاء بالنسبة لهم نوع من الكفر وتحكيم‬ ‫جهادا‬ ‫أحكامــه حـ ً‬ ‫ـدودا ومـ ُّ‬ ‫ُ‬ ‫ـواده ً‬ ‫الطاغــوت إذا لــم تسـ َّـم‬ ‫فقهــا‪ ،‬وكذلــك االقتصــاد‬ ‫ُ‬ ‫فليس إسـ ًّ‬ ‫ـاميا إذا لم تسـ َّـم مؤسســته الحســبة ولم تسـ َّـم مصارفه ب ــيوت‬ ‫املال‪ ،‬وهكذا حلت األسماء ‪ -‬عند هؤالء املتطرفيـن‪ -‬مكان الحقائق وضاع‬ ‫النــاس وضاعــت البلــد ومــأت جثــث مهجري ــنا الب ــر والبحــر‪ ،‬وتعرضــت‬ ‫شعوبـنا للذل في مشارق األرض ومغاربها‪ ،‬ولم ت َ‬ ‫ـرع ِو هذه الجماعات ولم‬ ‫تغيــر املآ�ســي مــن واقعهــا شـ ًـيئا‪ ،‬وإنمــا ادهــا الواقــع جهـ ًـا وجب ـ ً‬ ‫ّ‬ ‫ـروتا‪ ،‬وألقــوا‬ ‫ز‬ ‫ِ‬ ‫بالالئمــة علــى الداخــل والخــارج ونزهــوا أنفســهم وكب ـراءهم عــن الخطــأ‪،‬‬ ‫ورفضــوا اإلذعــان لصــوت الحــق‪ ،‬وهللا املســتعان‪.‬‬ ‫بعــد أن ســلطت الضــوء علــى واقعنــا املؤلــم ومــا وصــل إليــه حالنــا؛ ســأقوم‬ ‫بق ـراءة متأن ــية فــي بعــض قواعــد السياســة اإلســامية ومحاكماتهــا بـي ــن‬ ‫مصالح الدولة وإقامة الحدود‪ ...‬وذلك من خالل وقائع مشهورة في سيـرة‬ ‫النب ــي صلــى هللا عليــه وســلم وخلفائــه الراشدي ــن وحكامنــا املؤمنـي ــن عب ــر‬ ‫التاريخ اإلسالمي الطويل‪ ...‬لعلنا نتبصر معالم طريقنا الذي بدأنا نفقده‬ ‫فــي ظــل هــذه الحــرب الفكريــة الت ــي تشــن علــى اإلســام اليــوم‪.‬‬

‫املبحث األول‬

‫ّ‬ ‫ً‬ ‫تـرك ّ‬ ‫حد ّ‬ ‫لقلوب الناس‬ ‫الردة تأليفا‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ُّ‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫فور عن الديـن‬ ‫وحذرا من الن ِ‬ ‫أجمع أهل السنة والجماعة على قتل املرتد واستدلوا لذلك بالكثيـر من‬ ‫النصــوص وأفعــال النب ــي صلــى هللا عليــه وســلم وخلفائــه‪ ،‬منهــا مــا رواه‬ ‫البخــاري وغي ــره عــن النب ــي صلــى هللا عليــه وســلم قــال‪(( :‬مــن بــدل دي ــنه‬ ‫فاقتلــوه))(‪ ،)10‬وهــو َحـ ُّـد َحـ ٍ ّـق شـ َـرعه الدي ــن لحفــظ املجتمــع املســلم مــن‬ ‫الفتنــة وردع الفســقة مــن التالعــب بالدي ــن‪ ...‬وهــو مــن جملــة أحــكام‬ ‫السياســة الشــرعية الت ــي ي ــرجع األمر فيها إلى الحاكم املســلم ملا يعرض‬ ‫للحكــم مــن أمــور دقيقــة وخطي ــرة قــد تنقــل حكمــه مــن بــاب إلــى بــاب‬ ‫آخــر فــي الفقــه اإلســامي كمــا ســنرى فــي فعــل النب ــي صلــى هللا عليــه‬ ‫وســلم؛ مــن خــال واقعتـي ــن شهيـرتـي ــن فــي السي ــرة النبويــة‪.‬‬ ‫الواقعة األولى‪ :‬تـرك قتل عبد هللا بـن أبـي بـن سلول‬ ‫َ َْ‬ ‫َ‬ ‫(غ َز ْو َنــا َمـ َـع َّ‬ ‫عــن َجابــر َر�ضـ َـي َّ ُ‬ ‫الن ِبـ ّ ِـي صلــى هللا عليــه وســلم وقــد‬ ‫الل َع ْنـ ُـه قــال‪:‬‬ ‫ٍِ ِ‬ ‫َثـ َ‬ ‫ـاس ِمــن ْ ُال َهاجري ـ َـن َح َّتــى َك ُثـ ُـروا َو َك َان ِمـ َـن ْالُ َهاجري ـ َـن َر ُجـ ٌـل َل َّعــابٌ‬ ‫ـاب َم َعـ ُـه َنـ ٌ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫َ َ َ َ ْ َ ُّي َ َ َ‬ ‫َ‬ ‫َف َك َس َع َأ ْن َ‬ ‫ص ًّ‬ ‫ض ًبا ش ِد ًيدا َح َّتى ت َد َاع ْوا‪،‬‬ ‫اريا ‪ -‬أي ضربه ‪ -‬فغ ِضب األنص ِار غ‬ ‫ِ‬

‫َ ُ َ َّ ُ َ َ‬ ‫َّ‬ ‫الل رقم (‪)2854‬‬ ‫اب ِ‬ ‫(‪ )10‬صحيح البخاري‪ ،‬تحقيق البغا طبعة دار ابـن كثيـر ‪ ،1987‬كتاب الجهاد والسيـر‪ ،‬باب ال يعذب ِبعذ ِ‬

‫‪19‬‬


‫قواعد السياسة الشرعية‬ ‫فــي كتــب الفقــه والسياســة الشــرعية ال يــكاد يجــد التعبـي ــر عــن الســلطة‬ ‫الحاكمــة بهــذا اللفــظ إال ً‬ ‫ملامــا؛ إذ كان يعب ــر عــن مفهومهــا بمصطلحــات‬ ‫أخــرى كاإلمامــة والخالفــة وامللــك ومــا إلــى ذلــك ولكنهــا أصبحــت اليــوم هــي‬ ‫اللفــظ واملصطلــح الــذي يعب ــر عــن مفاهيــم اإلدارة السياســية والســلطة‬ ‫بجميــع أنواعهــا‪...‬‬ ‫ً‬ ‫اصطالحــا‪ :‬مجمــوع كبـي ــر مــن األفـراد يقطــن بصفــة دائمــة إقليمــا‬ ‫والدولــة‬ ‫َّ‬ ‫معي ًنــا‪ ،‬ويتمتــع بالشــخصية املعنويــة وب ــنظام حكومــي وباالســتقالل‬ ‫ُ‬ ‫َ َ َ َ َّ ُ َّ ْ َ ُ ْ ْ َ َ ُّ ُ َ ْ َ َ‬ ‫ـات ِب َح ْيــث‬ ‫السيا�ســي(‪ ،)3‬وتتألــف الدولــة ِمــن َمج ُموعـ ٍـة ِمــن النظـ ِـم وال ِواليـ ِ‬ ‫ُ َ ّ ُ َ َ ْ َ َ َ ً َ َّ ً ْ َ َ‬ ‫َّ َ َ‬ ‫ً‬ ‫الد ْولـ ِـة‪َ ،‬وت ْع َمــل ُم ْج َت ِم َعــة‬ ‫ـف‬ ‫تــؤ ِدي كل ِواليـ ٍـة ِمنهــا و ِظيفــة خ‬ ‫اصــة ِمــن وظا ِئـ ِ‬ ‫َ ّ َ ُ َ َ َ ُ َ َ ْ ُ ْ َ ّ َّ َ ُّ ْ‬ ‫َْ‬ ‫َ ْ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫الدي ـ ِني ِة والدني ِويـ ِـة‪،‬‬ ‫ِلتح ِقيـ ِـق مق ِصـ ٍـد عـ ٍـام‪ ،‬وهــو ِرعايــة مص ِالـ ِـح الس ِل ِمي ــن ِ‬ ‫َُ‬ ‫اســة ّ‬ ‫َ َ ُ َ ْ ُ َ ٌ َ َ ُّ‬ ‫َ‬ ‫َْ َ ْ‬ ‫الدي ـ ِـن‬ ‫يقــول الــاور ِد ُّي‪( :‬اإلمامــة موضوعــة ِل ِخالفـ ِـة الن ُبـ َّـو ِة ِفــي ِح َر ِ ِ‬ ‫ُّ ْ‬ ‫َوس َي َ‬ ‫اسـ ِـة‬ ‫الدن َيــا) (‪ ،)4‬وقــد لخــص اإلمــام املــاوردي فكــرة الفقهــاء عــن‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫الد ْن َيــا َحتــىَّ‬ ‫ص ُلـ ُـح ُّ‬ ‫األركان الت ــي تقــوم عليهــا الدولــة بقولــه‪ْ :‬‬ ‫(اع َلـ ْـم أ َّن َمــا بــه َت ْ‬ ‫ِ​ِ‬ ‫َتصي َـر َأ ْح َو ُال َها ُم ْن َتظ َم ًة‪َ ،‬وُأ ُم ُور َها ُم ْل َتئ َم ًة‪ ،‬س َّت ُة َأ ْش َي َاء ه َي َق َواع ُد َها‪َ ،‬وإنْ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َت َف َّر َع ْت‪َ ،‬وه َي‪ :‬دي ٌـن ُم َّت َب ٌع َو ُس ْل َط ٌان َقاه ٌر َو َع ْد ٌل َشام ٌل َوَأ ْم ٌن َع ٌّام َوخ ْ‬ ‫صبٌ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َ َ‬ ‫ٌ (‪)5‬‬ ‫َدا ِئـ ٌـم َوأ َمـ ٌـل ف ِســيح) ‪.‬‬ ‫ثان ًـيا‪:‬تعريفالحد‪.‬‬ ‫هــو فــي اللغــة‪ :‬املنــع‪ ،‬وأمــا فــي الشــرع‪ :‬فهــو عقوبــة مقــدرة وجبــت ًّ‬ ‫حقــا هلل(‪،)6‬‬ ‫َّ َ َ ْ ُ َ َ ُ َ َ َ َّ َ ُ َ َّ ُ َ َ َ َ ُ ّ َ ّ َ ْ َ ْ‬ ‫الزنــى َوالقــذ ِف‬ ‫وقــد اتفــق الفقهــاء علـ ْـى أن مــا يطبــق علــى ج ِريمـ ِـة ك ٍل ِمــن ِ‬ ‫ْ َ‬ ‫َّ‬ ‫َ ُّ ْ َ َّ َ َ‬ ‫َ َ​َ َ َ‬ ‫َ‬ ‫السـ ِـرق ِة َوقطـ ِـع الط ِريـ ِـق ُي ْع َت َبـ ُـر َحـ ًّـدا َواخ َتل ُفــوا ِفيمــا وراء ذ ِلــك‪،‬‬ ‫والســك ِر و‬ ‫َ َ َ َ ْ َ َ َّ ُ َ َ َّ َ َّ ٌ َ َ َ َ َ َ ّ ُّ ْ ْ َ ْ َ َّ ً‬ ‫فذهب الحن ِفية ِإلى أنها ِستة‪ ،‬وذ ِلك ِب ِإضاف ِة ح ِد الشر ِب ِللخم ِر خاصة‪،‬‬ ‫َْ ُ َ ْ‬ ‫َ‬ ‫ٌ َ‬ ‫َ‬ ‫َ َ ُْ َ‬ ‫َو َيـ َـرى ال ِال ِك َّيــة أ َّن ال ُحـ ُـد َود َسـ ْـب َعة‪ ،‬ف ُي ِض ُيفــون ِإلــى ال َّتفـ ِـق َعل ْيـ ِـه الـ ّ ِـر َّدة‬ ‫ْ‬ ‫ْ ْ‬ ‫َ ْ َ ُ َ ْ ُ َّ‬ ‫ـاص َأ ْي ً‬ ‫الشــافع َّية ْالق َ‬ ‫صـ َ‬ ‫ضــا ِمـ َـن ال ُحـ ُـد ِود‪،‬‬ ‫َوال َبغـ َـي‪ِ ،‬فــي ِحي ـ ِـن يعت ِبــر بعــض‬ ‫ِ​ِ ِ ِ‬ ‫ُ َ ُ ْ‬ ‫ُ َ‬ ‫َ ٌ‬ ‫ْ َ ُ َّ‬ ‫َح ْيث قالوا‪ :‬ال ُح ُد ُود ث َما ِن َية َو َع ُّد ُوه َب ْي َن َها‪َ ،‬و ْاع َت َب َر ال ِال ِك َّية َوالشا ِف ِع َّية ق ْتل‬ ‫ْ‬ ‫َّ َ‬ ‫َ‬ ‫الصال ِة َع ْم ًدا ِم َن ال ُح ُد ِود(‪ ،)7‬وإذا درجنا على ما قاله الشافعية فإن‬ ‫ت ِار ِك‬ ‫القصــاص نــوع مــن أنــواع الحــدود‪.‬‬ ‫ً‬ ‫ثالثا‪:‬تعريفالقصاص‪.‬‬ ‫َ ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ـاص َأ ْن ُي ْؤ َخـ َـذ َلــك الق َ‬ ‫واإل ْق َ‬ ‫صـ ُ‬ ‫صـ ُ‬ ‫القـ ّ‬ ‫ـاص‪،‬‬ ‫ـص وهــو القطــع‪،‬‬ ‫لغــة هــو مــن‬ ‫ِ‬ ‫ُ َ َ َ َّ َ ُ ُ ً ْ ُ‬ ‫ْ َ َّ َ ُ ْ َ َ َ ُ ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫يقال‪ :‬أقص األ ِميـر فالنا ِمن فالن‪ِ ،‬إذا اقتص له ِمنه فجرحه ِمثل جر ِحه‪،‬‬ ‫َ َ َ َ‬ ‫أو ق َتلــه قـ َـو ًدا (‪ ...)8‬وأمــا فــي كتــب التشـريع اإلســامي فقــد تعــددت تعريفاتــه‬

‫قواعد السياسة الشرعية‬

‫العدد ‪ 2‬رجب ‪1439‬هـ‬

‫ْ‬ ‫ُ َ َْ َْ َ َْ‬ ‫اعـ ِـل ِمثـ َـل‬ ‫عنــد العلمــاء ومــن أخصرهــا قــول الجرجان ــي‪( :‬هــو أن يفعـ َـل ِبالف ِ‬ ‫َ َ َ َ (‪ّ )9‬‬ ‫ُ‬ ‫ولعلــي مــن خــال اســتقراء مــا ذكــر فــي تعريفــه عنــد الفقهــاء‬ ‫مــا فعــل) ‪ِ ،‬‬ ‫يمكننـي أن أقول‪ ،‬إن القصاص‪ :‬هو عقوبة مقدرة ثابتة بالكتاب والسنة‬ ‫ً‬ ‫قابلة لإلسقاط تقت�ضي َ‬ ‫أو أحدهما وجبت ًّ‬ ‫عقوبة على‬ ‫أيقاع‬ ‫حقا آلدمي‬ ‫ٍ‬ ‫الجانـي بمقدار جنايته‪.‬‬ ‫َّ‬ ‫ٌ‬ ‫صحيــح أن الحــدود وأحــكام القصــاص كلهــا ثابتــة بالنــص فــي الق ـرآن‬ ‫والســنة أو فــي أحدهمــا‪ ،‬وال إشـ َّ‬ ‫ـكالية تعتب ــر فــي ثبوتهــا‪ ،‬ولكــن اإلشــكالية فــي‬ ‫تـرت ــيبها مــن حيــث األولويــة‪ ،‬وفــي طريقــة تنفيذهــا ومــا يعــرض لوقائعهــا مــن‬ ‫قواعــد َّ‬ ‫كليــة قــد تؤث ــر علــى طريقــة العمــل بهــا‪.‬‬ ‫وعلى ّ‬ ‫كل فلم تمض سنوات حتى تم عبـر هذه الجماعات املتطرفة تقزيم‬ ‫ٍ‬ ‫مصطلح الخالفة اإلسالمية وما تحمله من معانـي سامية من إقامة دولة‬ ‫اإليمــان والعــدل والحضــارة اإلنسان ــية إلــى مفهــوم الحــدود عب ــر معادلــة‬ ‫بســيطة كالتالــي‪( :‬إســام = خالفــة = قطــع الــرؤوس واأليــادي والرجــم)‬ ‫ونتـيجتها (اإلسالم= قطع الرؤوس واأليادي ورجم البشر) ومعادلة أخرى‬ ‫تقول‪( :‬عدم تنفيذ الحدود = حكم بغيـر ما أنزل هللا = الكفر)‪ ،‬ونتـيجتها‬ ‫(عــدم تنفيــذ الحــدود = كفــر)‪.‬‬ ‫ومن املؤسف ًّ‬ ‫حقا أن هذه املعادلة الغريبة عن التشريع اإلسالمي ‪ -‬وتحت‬ ‫ً ّ‬ ‫أمرا مسل ًما لدى الكثيـريـن من‬ ‫الضغط اإلعالمي وقلة التوعية ‪ -‬أصبحت‬ ‫أبـناء األمة الغيوريـن والعامليـن على رفعة الديـن بل والكثيـريـن من صغار‬ ‫طلبة العلوم الشــرعية‪ ،‬مما أدى إلى فشــل كل مشــاريع التحرر السن ــي في‬ ‫العراق والصومال وأفغانستان وسوريا‪.‬‬ ‫ً‬ ‫واســتغالل منهــم لليــأس القاتــل الــذي أصــاب شــباب األمــة نت ــيجة لفشــل‬ ‫هــذه الجماعــات الت ــي ب ــنوا آمالهــم عليهــا؛ بــل وظهــور عمالــة الكثي ــر منهــا؛‬ ‫أطلــق اإلعــام املشــبوه العشـرات مــن دعــاة الحداثــة والتجديــد ُون َ‬ ‫صرائهــم‬ ‫لتشــكيك أهــل الســنة والجماعــة بثوابتهــم واالســتدالل بعظــم املأســاة‬ ‫وقتامــة الواقــع علــى صــدق كالمهــم‪ ،‬فأنكــروا ضروريــات الدي ــن واعتــدوا‬ ‫عليهــا بالبت ــر والتشــويه كصــورة جديــدة لالستش ـراق الــذي غ ـزا األمــة‬ ‫فــي بدايــات القــرن املا�ضــي‪ ،‬والواجــب علــى فقهــاء األمــة ودعاتهــا اليــوم‬ ‫أن يقومــوا بإعــادة البحــث والق ـراءة فــي قواعــد االجتهــاد عنــد أهــل الســنة‬ ‫والجماعــة؛ لتقديمهــا إلــى الباحثي ــن وتقريبهــا إلــى أذهانهــم وتعريفهــم علــى‬

‫(‪ )3‬املعجم الوسيط املؤلف ‪ :‬إبـراهيم مصطفى ـ أحمد الزيات ـ حامد عبد القادر ـ محمد النجار‪ ،‬دار النشر ‪ :‬دار الدعوة‪ ،‬تحقيق ‪ :‬مجمع اللغة العربـية (‪)304/1‬‬ ‫(‪ )4‬املوسوعة الفقهية الكويتـية (‪ 36/21‬وما بعدها) ‪ )5( -‬أدب الدنـيا والديـن‪ ،‬لإلمام املاوردي‪ ،‬نش ر‪ :‬دار مكتبة الحياة‪ ،‬طبعة عام ‪1986‬م (‪.)133‬‬ ‫(‪ )6‬أنـيس الفقهاء ف ي تعريفات األلفاظ املتداولة بـيـن الفقهاء للقاسم بـن عبد هللا بـن أميـر عل ي القونوي الرومي الحنفي‬ ‫(املتوف ى‪978 :‬هـ)‪،‬املحقق‪ :‬يحي ى حسن مراد‪ ،‬الناش ر‪ :‬دار الكتب العلمية‪ ،‬الطبعة‪2004 :‬م‪1424-‬هـ (ص ‪.)61‬‬ ‫(‪ )7‬املوسوعة الفقهية الكويتـية (‪ )8( - .)132/17‬تاج العروس من جواهر القاموس‪ ،‬املحقق‪ :‬مجموعة من املحققيـن‪ ،‬الناش ر‪ :‬دار الهداية‪( ،‬ص ‪ 105/18‬و‪.)108‬‬ ‫(‪ )9‬الفروق للقراف ي‪ ،‬طبعة عالم الكتب‪.)213/4( ،‬‬

‫‪18‬‬

‫الصورة املشرقة ملسيـرة التشريع عند أهل السنة والجماعة بما فيها من‬ ‫ضوابط كلية ودراسات جزئية تكفل تطور التشريع بتطور الحياة والسيـر‬ ‫ً‬ ‫تنظيمــا وإرشـ ًـادا خطــوة بخطــوة‪ ،‬لعــل فــي نــور العلــم مــا يزيــل غشــاوة‬ ‫معهــا‬ ‫الجهل والشك الت ــي بدأت تنسج خيوطها على عقول أب ــناء جيلنا وقلوبهم‪.‬‬ ‫وإذا مــا طالعنــا كتــب التش ـريع اإلســامي ودققنــا فــي مباحــث السياســة‬ ‫الشــرعية وتطب ــيقاتها فإننــا نجــد قضيــة املحافظــة علــى الدولــة واألمــة‬ ‫َّ ً‬ ‫َّ ً‬ ‫ّ‬ ‫أولويــة إسـ‬ ‫ـامية مقدمــة علــى الشــكليات السياســية والجزئيــات الشــرعية‪،‬‬ ‫وقــد أثبتــت الجماعــات اإلســامية الت ــي نشــأت علــى أرضنــا أثنــاء الثــورة‬ ‫الســورية فشـ ًـا ذر ً‬ ‫يعــا فــي مجــال العمــل السيا�ســي لتجاهلهــا هــذه األولويــة‬ ‫وتقديمالكثيـرمنالجزئياتالديـنـيةالفرعيةعلىأصولالديـنومقاصده‬ ‫الكلية‪ ،‬ونتـيجةلهذاالخلطفيتـرتـيب َّ‬ ‫األولوياتلمتستطعهذهالجماعات‬ ‫ّ‬ ‫إسالمي شامل يجمع شتاتها ويوحد صفوفها‪،‬‬ ‫إلى اليوم أن تتفق على فكر‬ ‫ٍ‬ ‫بل لم تستطع أن تؤسس في مناطق سيطرتها دولة بأدنى أشكالها لها رئيس‬ ‫واحــد وجيــش واحــد ومؤسســات منتظمــة‪ ،‬تضمــن أدنــى مقومــات الحيــاة‬ ‫اإلنسانـيةالكريمةملواطنـيها‪...‬يـرتكزالفكرالسيا�سيفياإلسالمعلىمقاصد‬ ‫أساسية وهي‪( :‬حفظ الديـن والنفس واملال والعقل والنسب)‪ ،‬فال يتحرك‬ ‫الساســة املســلمون إال وفــق هــذا املبــدأ العظيــم‪ ،‬الــذي يحكــم كل جزئيــات‬ ‫الشــرع وقوانـي ــنه املتفرعــة عــن أدلتهــا الخاصــة‪ ،‬وقــد كان الحفــاظ علــى هــذه‬ ‫الكليــات الخمــس هــو املنــار الــذي يهــدي السب ــيل لــكل الخلفــاء الصالحي ــن‬ ‫وامللــوك العظمــاء الذي ــن نقـرأ عنهــم فــي تاريخنــا املشــرف املمتــد ألربعــة عشــر‬ ‫ق ًرنــا مــن الزمــان‪.‬‬ ‫عندما فهم املسلمون هذا املبدأ استطاع ساستهم العظماء أن ُيخرجوا‬ ‫األمــة مــن تحــت الــركام م ـرات وم ـرات‪ ،‬ويعيدوهــا إلــى مركــز الصــدارة‬ ‫والقيــادة‪ ،‬ومــا تأخــرت األمــة فــي عصرنــا وتفرقــت إال عندمــا أغفلــت‬ ‫قياداتهــا هــذا األصــل فــي عملهــم السيا�ســي لتحــل محلــه شــعارات ب ـراقة‬ ‫ال حقيقــة لهــا وال مضمــون‪.‬‬ ‫وإذا مــا تأملنــا بعــض هــذه الشــعارات املنتشــرة اليــوم نجدهــا مأخــوذة مــن‬ ‫أدلة جزئية ال يصح االستدالل بها خارج اإلطار املتكامل لفقه السياسة‬ ‫اإلســامية‪ ،‬حيــث تجــد األولويــة عنــد بعــض الجماعــات املنتشــرة فــي بالدنا‬ ‫لشعار دولة إسالمية وعند بعضهم األولوية لكلمة خالفة وعند بعضهم‬ ‫األولوية لكلمة أميـر أو أميـر املؤمنـيـن‪ ...‬فال يمكن أن تكون الدولة مرضية‬ ‫مــن قبــل هللا بحســب ظــن هــؤالء إذا لــم يطلــق عليهــا اســم الخالفــة وعلــى‬ ‫رئيســها لقــب أمي ــر املؤمنـي ــن وعلــى قيــادات جيشــها األم ـراء ويعتب ــرون‬

‫العدد ‪ 2‬رجب ‪1439‬هـ‬

‫العمل على نشر العدالة والفضيلة غيـر مر�ضي من قبل هللا إذا لم َّ‬ ‫يسم‬ ‫ُ‬ ‫ً‬ ‫وجنوده مجاهديـن والقضاء بالنسبة لهم نوع من الكفر وتحكيم‬ ‫جهادا‬ ‫أحكامــه حـ ً‬ ‫ـدودا ومـ ُّ‬ ‫ُ‬ ‫ـواده ً‬ ‫الطاغــوت إذا لــم تسـ َّـم‬ ‫فقهــا‪ ،‬وكذلــك االقتصــاد‬ ‫ُ‬ ‫فليس إسـ ًّ‬ ‫ـاميا إذا لم تسـ َّـم مؤسســته الحســبة ولم تسـ َّـم مصارفه ب ــيوت‬ ‫املال‪ ،‬وهكذا حلت األسماء ‪ -‬عند هؤالء املتطرفيـن‪ -‬مكان الحقائق وضاع‬ ‫النــاس وضاعــت البلــد ومــأت جثــث مهجري ــنا الب ــر والبحــر‪ ،‬وتعرضــت‬ ‫شعوبـنا للذل في مشارق األرض ومغاربها‪ ،‬ولم ت َ‬ ‫ـرع ِو هذه الجماعات ولم‬ ‫تغيــر املآ�ســي مــن واقعهــا شـ ًـيئا‪ ،‬وإنمــا ادهــا الواقــع جهـ ًـا وجب ـ ً‬ ‫ّ‬ ‫ـروتا‪ ،‬وألقــوا‬ ‫ز‬ ‫ِ‬ ‫بالالئمــة علــى الداخــل والخــارج ونزهــوا أنفســهم وكب ـراءهم عــن الخطــأ‪،‬‬ ‫ورفضــوا اإلذعــان لصــوت الحــق‪ ،‬وهللا املســتعان‪.‬‬ ‫بعــد أن ســلطت الضــوء علــى واقعنــا املؤلــم ومــا وصــل إليــه حالنــا؛ ســأقوم‬ ‫بق ـراءة متأن ــية فــي بعــض قواعــد السياســة اإلســامية ومحاكماتهــا بـي ــن‬ ‫مصالح الدولة وإقامة الحدود‪ ...‬وذلك من خالل وقائع مشهورة في سيـرة‬ ‫النب ــي صلــى هللا عليــه وســلم وخلفائــه الراشدي ــن وحكامنــا املؤمنـي ــن عب ــر‬ ‫التاريخ اإلسالمي الطويل‪ ...‬لعلنا نتبصر معالم طريقنا الذي بدأنا نفقده‬ ‫فــي ظــل هــذه الحــرب الفكريــة الت ــي تشــن علــى اإلســام اليــوم‪.‬‬

‫املبحث األول‬

‫ّ‬ ‫ً‬ ‫تـرك ّ‬ ‫حد ّ‬ ‫لقلوب الناس‬ ‫الردة تأليفا‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ُّ‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫فور عن الديـن‬ ‫وحذرا من الن ِ‬ ‫أجمع أهل السنة والجماعة على قتل املرتد واستدلوا لذلك بالكثيـر من‬ ‫النصــوص وأفعــال النب ــي صلــى هللا عليــه وســلم وخلفائــه‪ ،‬منهــا مــا رواه‬ ‫البخــاري وغي ــره عــن النب ــي صلــى هللا عليــه وســلم قــال‪(( :‬مــن بــدل دي ــنه‬ ‫فاقتلــوه))(‪ ،)10‬وهــو َحـ ُّـد َحـ ٍ ّـق شـ َـرعه الدي ــن لحفــظ املجتمــع املســلم مــن‬ ‫الفتنــة وردع الفســقة مــن التالعــب بالدي ــن‪ ...‬وهــو مــن جملــة أحــكام‬ ‫السياســة الشــرعية الت ــي ي ــرجع األمر فيها إلى الحاكم املســلم ملا يعرض‬ ‫للحكــم مــن أمــور دقيقــة وخطي ــرة قــد تنقــل حكمــه مــن بــاب إلــى بــاب‬ ‫آخــر فــي الفقــه اإلســامي كمــا ســنرى فــي فعــل النب ــي صلــى هللا عليــه‬ ‫وســلم؛ مــن خــال واقعتـي ــن شهيـرتـي ــن فــي السي ــرة النبويــة‪.‬‬ ‫الواقعة األولى‪ :‬تـرك قتل عبد هللا بـن أبـي بـن سلول‬ ‫َ َْ‬ ‫َ‬ ‫(غ َز ْو َنــا َمـ َـع َّ‬ ‫عــن َجابــر َر�ضـ َـي َّ ُ‬ ‫الن ِبـ ّ ِـي صلــى هللا عليــه وســلم وقــد‬ ‫الل َع ْنـ ُـه قــال‪:‬‬ ‫ٍِ ِ‬ ‫َثـ َ‬ ‫ـاس ِمــن ْ ُال َهاجري ـ َـن َح َّتــى َك ُثـ ُـروا َو َك َان ِمـ َـن ْالُ َهاجري ـ َـن َر ُجـ ٌـل َل َّعــابٌ‬ ‫ـاب َم َعـ ُـه َنـ ٌ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫َ َ َ َ ْ َ ُّي َ َ َ‬ ‫َ‬ ‫َف َك َس َع َأ ْن َ‬ ‫ص ًّ‬ ‫ض ًبا ش ِد ًيدا َح َّتى ت َد َاع ْوا‪،‬‬ ‫اريا ‪ -‬أي ضربه ‪ -‬فغ ِضب األنص ِار غ‬ ‫ِ‬

‫َ ُ َ َّ ُ َ َ‬ ‫َّ‬ ‫الل رقم (‪)2854‬‬ ‫اب ِ‬ ‫(‪ )10‬صحيح البخاري‪ ،‬تحقيق البغا طبعة دار ابـن كثيـر ‪ ،1987‬كتاب الجهاد والسيـر‪ ،‬باب ال يعذب ِبعذ ِ‬

‫‪19‬‬


‫قواعد السياسة الشرعية‬ ‫ـال ْ ُال َهاجــر ُّي‪َ :‬يــا َل ْل ُم َهاجري ـ َـن! َف َخـ َـر َج َّ‬ ‫َ َ َ َ ْ َ ُّ َ َ َ ْ َ‬ ‫صــار! َو َقـ َ‬ ‫الن ِبـ ُّـي‬ ‫وقــال األنصـ ِـاري‪ :‬يــا لألن ِ‬ ‫ِ َِ ْ ِ ِ‬ ‫ـال‪َ :‬‬ ‫ـال‪َ :‬‬ ‫صلــى هللا عليــه وســلم َف َقـ َ‬ ‫ـال َد ْعـ َـوى أ ْهــل ال َجاه ِل َّيـ ِـة؟)) ُثـ َّـم َقـ َ‬ ‫((مــا َبـ ُ‬ ‫((مــا‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َ ُْ​ُ ْ َ ُ ْ َ َ ْ َ َُْ ّ َ‬ ‫ـال َّ‬ ‫األ ْن َ‬ ‫ـال‪َ :‬ف َقـ َ‬ ‫صــار َّي‪َ ،‬قـ َ‬ ‫شــأنهم؟)) فأخ ِبــر ِبكســع ِة اله ِاجـ ِـر ِي‬ ‫الن ِبـ ُّـي صلــى هللا‬ ‫ِ‬ ‫وها َفإ َّن َها َخب َيث ٌة!))‪َ ،‬و َق َال َع ْب ُد هللا ْب ُن ُأ َب ّي ْاب ُن َس ُلو َل‪َ :‬أ َقدْ‬ ‫((د ُع َ‬ ‫عليه وسلم‪َ :‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ٍَ‬ ‫َ َ َ ْ َ َ ْ َ َ ْ َ َ ْ َ َ ْ َ َ َ ُ ْ َ َّ َ‬ ‫األ َعـ ُّـز ِم ْن َهــا األ َذ َّل! َف َقـ َ‬ ‫ـال ُع َمـ ُـر‪:‬‬ ‫تداعــوا علينــا! ل ِئــن رجعنــا ِإلــى ال ِدي ــن ِة ليخ ِرجــن‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫َأ َال َن ْق ُت ُل َيا َر ُسو َل َ َ ْ َ َ َ ْ‬ ‫هللا ‪ -‬؟ فق َال الن ِب ُّي صلى هللا عليه‬ ‫هللا هذا الخ ِبيث ‪ِ -‬لعب ِد ِ‬ ‫ِ‬ ‫َ َ َ َ َّ ُ َّ ُ َ َّ ُ َ َ َ ْ ُ ُ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫(‪)11‬‬ ‫وســلم‪(( :‬ال يتحــدث النــاس أنــه كان يقتــل أصحابــه)) ‪ ،‬وفــي روايــة اإلمــام‬ ‫((يــا ُع َمـ ُـر‪َ ،‬د ْعـ ُـه َل َي َت َحـ َّـد ُث َّ‬ ‫أحمــد َ‬ ‫ـاس َأ َّن ُم َح َّمـ ًـدا َي ْق ُتـ ُـل َأ ْ‬ ‫النـ ُ‬ ‫ص َح َابـ ُـه))(‪.)12‬‬ ‫وقــد نقــل اإلمــام اب ــن العرب ــي رحمــه هللا أقــوال العلمــاء فــي تحليــل هــذه‬ ‫َْ‬ ‫َ َ​َ َ َ‬ ‫َ ْ َ​َ َ ْ َ‬ ‫َ‬ ‫ـف ال ُعل َمـ ُـاء ِفــي ذ ِلـ َـك َعلــى ثلثـ ِـة أ ْقـ َـو ٍال‪ ...‬ال َّو ُل‪:‬‬ ‫الحادثــة فقــال‪( :‬واختلـ‬ ‫َأ َّنـ ُـه َلـ ْـم َي ْق ُت ْل ُهـ ْـم ِ َل َّنـ ُـه َلـ ْـم َي ْع َلـ ْـم َح َال ُهـ ْـم ِسـ َـو ُاه‪َ ،‬و َقـ ْـد َّات َفـ َـق ْال ُع َل َمـ ُـاء َعـ ْـن َب ْكــر ِةَ‬ ‫َ‬ ‫ْ َ‬ ‫ْ‬ ‫َْ َ‬ ‫َ ْ َ َ َ َّ ْ َ‬ ‫ا�ضـ َـي ل َي ْق ُتـ ُـل ِب ِعل ِمـ ِـه‪َ ،‬وِإ ْن اخ َتل ُفــوا ِفــي َســا ِئ ِر ال ْحــك ِام‬ ‫أ ِب ِيهــم علــى أن الق َ ِ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫َهـ ْـل َي ْحكـ ُـم ِب ِعل ِمـ ِـه أ ْم ل؟ ‪.‬‬ ‫َّ َ َّ ُ َ ْ َ ْ ُ ْ ُ ْ َ ْ َ َ َ َ ُّ ْ ُ‬ ‫َ‬ ‫َ َ َّ َ‬ ‫ـف ال ُقلـ‬ ‫ـوب َعل ْيـ ِـه ِلئــا ت ْن ِفـ َـر َع ْنـ ُـه‪َ ،‬وقـ ْـد‬ ‫الثا ِنــي‪ :‬أنــه لــم يقتلهــم ِلصلحـ ِـة َتألـ ِ‬ ‫ِ‬ ‫َ َ َ ُ َ َ َّ َّ ُ َ َ ْ َ َ َّ َ َ َ َ ْ َ ْ َ َ َ َ َ َ ُ َ ْ َ َ َ َّ َ‬ ‫أشــار هــو صلــى الل عليـ ِـه وســلم إلــى هــذا العنــى فقــال‪(( :‬أخــاف أن يتحــدث‬ ‫َّ‬ ‫ص َّلــى َّ ُ‬ ‫ـاس َأ َّن ُم َح َّمـ ًـدا َ‬ ‫الل َع َل ْيــه َو َسـ َّـل َم َي ْق ُتـ ُـل َأ ْ‬ ‫النـ ُ‬ ‫ص َح َابـ ُـه))‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫َّ‬ ‫َّ ُ َ َ َ ْ َ ُ َّ ّ َّ َ َ ْ َ ْ ُ ْ ُ ْ َ َّ ّ ْ‬ ‫الزن ِديـ َـق َو ُهـ َـو الـ ِـذي‬ ‫الث ِالــث‪ :‬قــال أصحــاب الشــا ِف ِعي‪ :‬إنمــا لــم يقتلهــم ِلن ِ‬ ‫ُ ُّ ْ ُ ْ َ َ ُ ْ ُ ْ َ َ ُ ِْ َ َ ُ َ َ ُ ْ َ ُ َ َ َ َ ْ ٌ ْ ُ َ‬ ‫َ‬ ‫اليمــان يســتتاب ول يقتــل‪ ،‬وهــذا وهــم ِمــن علمـ ِـاء‬ ‫ي ِســر الكفــر ويظ ِهــر ِ‬ ‫َ ْ َ َ َّ َّ َّ َ َّ َُّ‬ ‫الل َع َل ْيــه َو َسـ َّـل َم َلـ ْـم َي ْسـ َـتت ْب ُه ْم‪َ َ ،‬ول َي ُقــو ُل َأ َحـ ٌـد إنَّ‬ ‫أصح ِابـ ِـه فـ ِـإن الن ِبــي صلــى‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫ْ َ َ َ ّْ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫ً‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫الزن ِد ِيق غ ْي ُر َو ِاج َب ٍة‪ ،‬وكان الن ِب ُّي صلى الل عل ْي ِه وسل َم ُم ْع ِرضا عن ُه ْم‬ ‫اس ِتتابة‬ ‫َ َ ْ ِ ْ َ َ َ َُْ َ ّ ُ ْ َ‬ ‫َّ ّ َّ َ َ َّ ْ َ َ َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ـاب الشــا ِف ِع ِي الـ ِـذي قــال إن اسـ ِتتابة‬ ‫مــع ِعل ِمـ ِـه ِب ِهــم‪ ،‬فهــذا التأ ِخــر ِمــن أصحـ ِ‬ ‫َ ٌَ َ َ َ‬ ‫َ ً‬ ‫ّْ‬ ‫ً‬ ‫الزن ِديـ ِـق جا ِئــزة قـ‬ ‫ـال َمــا لـ ْـم َي ِصـ َّـح قـ ْـول َو ِاحــدا‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫َ َ َّ َ ْ ُ َ ْ َ َ َّ ُ َ ْ َ ْ ُ ْ ُ ْ َ َّ ْ َ َ َ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫�ضي ِب ِعل ِم ِه ِفي الحد ِود‪،‬‬ ‫وأما قول من قال إنه لم يقتلهم ِلن الح ِاكم ل يق ِ‬ ‫ْ ْ‬ ‫َ​َ َ‬ ‫ُْ ّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫َّ‬ ‫فقـ ْـد ق َتـ َـل ِبال َجـ ِـذ ِر ْبـ ِـن ِزَيـ ٍـاد ِب ِعل ِمـ ِـه ال َحـ ِـارث ْبـ َـن ســويد بـ ِـن الص ِامـ ِـت؛‬ ‫َ ُْ ّ َ َ‬ ‫َ َ​َ َ ْ‬ ‫ُ َ َْ​َ‬ ‫ِل َّن ال َجـ ِـذ َر ق َتـ َـل أ َبـ ُـاه ُسـ َـو ْي ًدا َيـ ْـو َم ُب َعــاث‪ ،‬فأ ْســل َم ال َحـ ِـارث َوأغفلـ ُـه‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫ْ ُ َّ َّ َ َّ َّ ُ َ‬ ‫ُ َ َ َ َ​َ ْ‬ ‫الل َعل ْيـ ِـه‬ ‫َيـ ْـو َم أ ُحـ ٍـد ال َحـ ِـارث فق َتلـ ُـه‪ ،‬فأخ َبـ َـر ِبـ ِـه ِجب ِريــل الن ِبــي صلــى‬ ‫َّ َ َ َ‬ ‫َ َّ َ ْ َ ُ َ َ َ ً َ ْ َ‬ ‫ان ِغيلــة‪َ ،‬وق ْتـ ُـل ال ِغيلـ ِـة َحـ ٌّـد ِمـ ْـن ُحـ ُـد ِود‬ ‫َو َســل َم فق َتلـ ُـه ِبـ ِـه ِلن قتلــه ك‬ ‫َّ‬ ‫الل َعـ َّـز َو َجـ َّـل ‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫َ َ ُّ‬ ‫َ ًَ‬ ‫َ َّ ُ َ َّ َّ‬ ‫ص َّلى َّ ُ‬ ‫النب َّي َ‬ ‫الل َع َل ْيه َو َس َّل َم َّإن َما َأ ْع َر َ‬ ‫ض َع ْن ُه ْم تأل ًفا َو َمخافة‬ ‫ِ‬ ‫والص ِحيح‪ ْ :‬أن َ ِْ‬ ‫َ َ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ​َ‬ ‫ْ‬ ‫وج َبـ ِـة ِل َّلت ْن ِفي ـ ِـر‪ ،‬ك َمــا َسـ َـب َق ِمـ ْـن ق ْ ِولـ ِـه‪َ ،‬و َهــذا ك َمــا ك َان‬ ‫ِمــن ُسـ ِ‬ ‫ـوء القالـ ِـة ال ِ‬

‫قواعد السياسة الشرعية‬

‫العدد ‪ 2‬رجب ‪1439‬هـ‬

‫َ َ ُّ َ‬ ‫َ ْ‬ ‫َّ َ َ َ ْ َ َّ َ ُ ُ‬ ‫َ‬ ‫ـوء ْاع ِتق ِاد ِهـ ْـم تأل ًفــا ل ُهـ ْـم‪،‬‬ ‫ُي ْع ِطــي‬ ‫الصدقــة ِلل ُمؤلفـ ِـة قل ُوب ُهـ ْـم َمــع ِعل ِمـ ِـه ِب ُسـ ِ‬ ‫ضـ ًـاء ل َق َ‬ ‫الل ُسـ ْـب َح َان ُه َأ ْح َك َامـ ُـه َع َلــى ْال َفائـ َـدة َّالتــي َسـ َّـن َها ْإم َ‬ ‫َأ ْجـ َـرى َّ ُ‬ ‫ض َايـ ُـاه‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ ِ‬ ‫َ‬ ‫ُّ َّ َ َ‬ ‫ِب‬ ‫السـ َّـن ِة ال ِتــي ل ت ْب ِديـ َـل ل َهــا) (‪.)13‬‬ ‫ولعــل مــن يقــول إن هــذا الرجــل منافــق‪ ،‬وال عالقــة لهــذه الحادثــة بحكــم‬ ‫الردة‪ ،‬والجواب على ذلك من وجهي ــن‪ ،‬األول‪ :‬نعم كان اب ــن سلول ً‬ ‫منافقا‬ ‫يبطن الكفر ويظهر اإليمان‪ ،‬ولكن تلفظه بهذه الكلمة في هذا املوقف زاد‬ ‫له وصف الكفر والردة الظاهرة‪ ،‬حيث أعلن الحرب على رسول هللا صلى‬ ‫هللا عليــه وســلم وال يختلــف اثنــان فــي أن عــداوة رســول هللا صلــى هللا عليــه‬ ‫وســلم ردة‪ ،‬والثان ــي‪ :‬لقــد بـي ــن رســول هللا صلــى هللا عليــه وســلم علــة ت ــركه‬ ‫لقتلهــم أال وهــو [حديــث النــاس!] ((أت ـريد أن يتحــدث النــاس أن محمــدا‬ ‫يقتــل أصحابــه؟)) وال أدري كيــف ُي َّدعــى بــأن األخــذ ب ــنص الحديــث خطــأ‪،‬‬ ‫ومخالفــة نصــه صــواب؟ وقــال اإلمــام النــووي رحمــه هللا معلقــا علــى هــذه‬ ‫َ َ َ َ َ ْ َ َّ َّ ُ َ‬ ‫ْ ْ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫الل َعل ْيـ ِـه َو َســل َم ِمـ َـن ال ِحلـ ِـم‪َ ،‬و ِفيـ ِـه تـ ْـر ُك‬ ‫الحادثــة‪ِ ( :‬فيـ ِـه مــا كان عليـ ِـه صلــى‬ ‫َ ْ ً ْ َ ْ َ َ َ َّ َ َ َ‬ ‫َ ْ ْ ُ ُ ور ْ ُ ْ َ َ َ َّ ْ َ َ َ ْ ْ َ َ‬ ‫ض الف ِاس ِد خوفا ِمن أن تترتب على‬ ‫بع ِ‬ ‫ض الم ِ َالختار ِة والصب ِر على بع ِ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫ٌ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫َّ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫اس وي ْ‬ ‫َذ ِل َك َمفسدة أعظ ُم ِمنه وكان صلى الل عل ْي ِه وسل َم يتألف الن َ‬ ‫ص ِب ُر‬ ‫َ​َ َ َ ْ َ ْ َ ُْ‬ ‫َ َ ُ ُْ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫اب َوال َنا ِف ِقي َـن َوغ ْي ِر ِه ْم ِل َت ْق َوى ش ْوكة ال ْس ِل ِمي َـن َوت ِت َّم َد ْع َوة‬ ‫على جف ِاء العر ِ‬ ‫ْ ُ َ َّ َ َ َ ْ َ َ َ ْ ُ ُ ْ ْ ْ َ‬ ‫ْ ْ َ َ َ َ َ َّ َ ْ َ ُ ْ ُ ُ‬ ‫الســا ِم‬ ‫اليمــان ِمــن قلـ ِ‬ ‫ـوب الؤلفـ ِـة ويرغــب غيرهــم ِفــي ِ‬ ‫الســا ِم ويتمكــن ِ‬ ‫ِ‬ ‫َ َ َ ْ َْ‬ ‫َ َ َ ُ ْ ُ ْ َْ َ َ ْ َ َ َ َ َ َ َ ْ َ ْ ُ ْ ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫وكان يع ِط ِيهــم المــوال الج ِزيلــة ِلذ ِلــك ولــم يقتـ ِـل النا ِف ِقي ــن ِلهــذا العنــى‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫َ َْ ُ ْ َ َ ُ ْ ْ‬ ‫الظاهر َوَا َّ ُ‬ ‫لل َي َت َو َّلى َّ‬ ‫الس َرا ِئ َر‪.)14()...‬‬ ‫ال ْسل َم َوق ْد أ ِم َر ِبال ُحك ِم ِب‬ ‫ِ​ِ‬ ‫وِ ِلظه ِار ِهم ِ‬ ‫وعلق اإلمام ابـن حجر باملعنى نفسه على تـرك النبـي صلى هللا عليه وسلم‬ ‫َ َّ َ ْ َ َ ْ َ ْ ْ َ‬ ‫ال ْع َ‬ ‫قتل الساحر لبـيد بـن األعصم حيث قال‪(ِ :‬لن ترك قت ِل ل ِب ِيد ب ِن‬ ‫ص ِم‬ ‫ُ‬ ‫َك َان ل َخ ْش َية َأ ْن ُيثي َـر ب َس َبب َق ْتله ف ْت َن ًة َأ ْو ل َئ َّل ُي َن ّف َر َّ‬ ‫ُّ‬ ‫الن َ‬ ‫اس َع ِن الدخو ِل ِفي‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ ِ ِ ِ​ِ ِ‬ ‫ْ ْ َ َ ُ َ ْ ْ َ َ َ ُ َّ ُّ َ َّ َّ ُ َ َ ْ َ َ َّ َ ْ َ ْ َ‬ ‫ْ‬ ‫س ما راعاه الن ِبي صلى الل علي ِه وسلم ِمن من ِع قت ِل‬ ‫السلم‪ ،‬وهو ِمن جن‬ ‫ْ ُِ َ ِ َ َ ْ ُ َ ِ َ َ ِ َ َ َ َّ ُ َّ ُ َ َّ ُ َ َّ ً َ ْ ُ ُ َ‬ ‫ْ َ َ ُ (‪)15‬‬ ‫النا ِف ِقيـن حيث قال‪ :‬ل يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه)) ‪.‬‬ ‫وقــال اإلمــام اب ــن القيــم رحمــه هللا‪( :‬وقيــل بــل َتـ َـرك حـ َّـده ملصلحــة هــي ُ‬ ‫أعظم‬ ‫وتكلمــه بمــا ُيوجــب قتلــه مـر ًارا‪،‬‬ ‫ـور نفاقــه ِ‬ ‫ِمــن إقامتــه كمــا ت ــرك قتلــه مــع ظهـ ِ‬ ‫ُ‬ ‫ً‬ ‫ـف قومــه وعـ ُ‬ ‫وهــي تأليـ‬ ‫ـدم تنفي ــرهم عــن اإلســام‪ ،‬فإنــه كان مطاعــا فيهــم‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫ر ً‬ ‫ئيســا عليهــم‪ ،‬فلــم تؤمــن إثــارة الفتنــة فــي حـ ِـده)(‪.)16‬‬ ‫الواقعة الثانـية «منع الصحابة من قتل ذي الخويصرة التميمي»‪:‬‬ ‫َ َ َ َ ُ ُ َ َّ‬ ‫َ ْ َ ْ َ ْ َّ‬ ‫الل صلــى هللا‬ ‫الل ر�ضــي هللا عنــه قـ‬ ‫ـال‪ :‬أتــى َرجـ ٌـل َرســول ِ‬ ‫عــن ج ِابـ ِـر بـ ِـن عبـ ِـد ِ‬

‫(‪ )11‬رواه البخاري ومسلم صحيح البخاري‪ ،‬كتاب املناقب باب ما يـنهى من دعوى الجاهلية حديث رقم الحديث (‪ ...)3330‬وفي صحيح مسلم‪ ،‬طبعة دار الخيـر ‪ ،1996‬كتاب البـر والصلة‬ ‫َ ْ َ َ ً‬ ‫الا َأ ْو َم ْظ ُل ً‬ ‫وما‪ ،‬رقم الحديث (‪.)2584‬‬ ‫واآلداب‪ ،‬باب نص ِر األ ِخ ظ ِ‬ ‫(‪ )12‬مسند اإلمام أحمد‪ ،‬تحقيق شعيب األرناؤوط‪ ،‬طبعة الرسالة‪ ،‬مسند جابـر بـن عبد هللا (ص ‪ )389/23‬رقم الحديث (‪.)15223‬‬ ‫(‪ )13‬أحكام القرآن البـن عربـي‪ ،‬تحقيق العطا‪ ،‬نشر دار الكتب العلمية ‪( ،2003‬ص ‪ 21/1‬و ‪ )14( - .)22‬شرح النووي على مسلم‪ ،‬طبعة دار إحياء التـراث العربـي ‪( ،1392‬ص ‪.)139/16‬‬ ‫(‪ )15‬فتح الباري البـن حجر‪ ،‬تحقيق محب الديـن الخطيب‪ ،‬تـرقيم محمد فؤاد عبد الباقي طبعة دار املعرفة ‪( 1379‬ص ‪.)231/10‬‬ ‫(‪ )16‬زاد املعاد البـن القيم طبعة مؤسسة الرسالة ‪( ،1994‬ص ‪.)263/3‬‬

‫‪20‬‬

‫ص َر َفـ ُـه مـ ْـن ُح َن ْيــن َوفــى َثـ ْـوب بـ َـال ف َّ‬ ‫عليــه وســلم ب ْالج ْع َر َانــة ُم ْن َ‬ ‫ضـ ٌـة َو َر ُســو ُل‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ ٍ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ٍ ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫َّ‬ ‫الل صلــى هللا عليــه وســلم َيقبـْ‬ ‫ـال‪َ :‬يــا ُم َح َّمــدُ‬ ‫ـض م ْن َهــا ُي ْعطــى َّ‬ ‫ُ‬ ‫ـاس‪َ ،‬ف َقـ َ‬ ‫النـ َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫َ َ َُ َ‬ ‫ْ ْ َ َ َ َ‬ ‫َ‬ ‫َ​َ‬ ‫((و ْيل َك َو َم ْن َي ْع ِد ُل ِإذا ل ْم أك ْن أ ْع ِد ُل‪ ،‬لق ْد ِخ ْب َت َوخ ِس ْر َت ِإ ْن‬ ‫اع ِدل! قال‪:‬‬ ‫ـال ُع َمـ ُـر ْبـ ُـن ْال َخ َّطــاب ر�ضــي هللا عنــه‪َ :‬د ْعنــي َيــا َر ُســولَ‬ ‫َلـ ْـم َأ ُكـ ْـن َأ ْعـ ِـد ُل))‪َ ،‬ف َقـ َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َّ َ َ ْ ُ َ َ َ ْ ُ َ َ َ َ َ َ َ َ َّ‬ ‫الل َأ ْن َي َت َحـ َّـد َث َّ‬ ‫ـاس َأ ِّنــي َأ ْق ُتــلُ‬ ‫النـ ُ‬ ‫الل فأقتــل هــذا النا ِفــق! فقــال‪(( :‬معــاذ ِ‬ ‫ِ‬ ‫َّ َ َ َ َ ْ َ َ ُ َ ْ َ َن ْ ُ ْ َ َ ُ َ ُ َ َ َ ُ ْ َ ْ ُ ُ نَ‬ ‫َ‬ ‫َأ ْ‬ ‫صح ِابي‪ِ ،‬إن هذا وأصحابه يقرؤو القرآن ال يج ِاوز حن ِاجرهم‪ ،‬يمرقو‬ ‫م ْنـ ُـه َك َمــا َي ْمـ ُـر ُق َّ‬ ‫السـ ْـه ُم ِمـ َـن َّ‬ ‫الر ِم َّيـ ِـة))(‪.)17‬‬ ‫ِ‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫معلــا ت ــرك النب ـ ّـي صلــى هللا عليــه وســلم‬ ‫قــال اإلمــام اب ــن حجــر رحمــه هللا ِ‬ ‫الل َع َل ْيــه َو َسـ َّـل َم َق ْتـ َـل ْالَ ْذ ُكــور َل َّنــهُ‬ ‫قتــل هــذا الرجــل‪(َ :‬وإ َّن َمــا َتـ َـر َك َّ‬ ‫ص َّلــى َّ ُ‬ ‫النبـ ُّـي َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ​ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫الصـ َـاحُ‬ ‫َلـ ْـم َي ُكـ ْـن َأ ْظ َهـ َـر َمــا ُي ْسـ َـت َد ُّل بـ ِـه َع َلــى َمــا َو َر َاء ُه‪َ ،‬ف َلـ ْـو َق َتـ َـل َمـ ْـن َظاهـ ُـر ُه َّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ُْ​ُ َ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫ع ْنـ َـد َّ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫النــاس َق ْبـ َـل ْاس ـت ْح َكام َأ ْمــر ْال ْسـ َـام َو ُر ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ـوب لنفرهــم عـ ِـن‬ ‫ـ‬ ‫ل‬ ‫ق‬ ‫ال‬ ‫ـي‬ ‫ـ‬ ‫ف‬ ‫ه‬ ‫ـوخ‬ ‫ـ‬ ‫س‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ​ِ‬ ‫ِ‬ ‫َِ ِ ِ ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ُّ‬ ‫ص َّلــى َّ ُ‬ ‫الد ُخــول فــي ْال ْسـ َـام‪َ ،‬وأ َّمــا َب ْعـ َـد ُه َ‬ ‫الل َع َل ْيــه َو َسـ َّـل َم َفـ َـا َي ُجـ ُـوز َتـ ْـر ُك ِق َت ِالهــمْ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫َ ُ ْ َ ْ َ ُ َ ْ َ ُ ْ َ َ َ ُ ْ َ َ َ َ َ َ َ ُ ْ َ َّ َ َ َ ْ ُ ْ َ َ َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ِإذا هم أظهروا رأيهم وتركوا الجماعة وخالفوا ال ِئمة مع القدر ِة على ِقت ِال ِهم‪...‬‬ ‫َ‬ ‫َ َّ َ ْ ُ َ َّ َ َ َّ َ ُّ ُ‬ ‫َ ْ َ َ َ​َ‬ ‫التألف ِإ َّن َما ك َان ِفي أ َّو ِل ِال ْسل ِم ِإذا كان ِت‬ ‫َوقد ذكر ابـن بط ٍال ع ِن الهل ِب قال‪:‬‬ ‫َ َ ْ َ ْ َ َّ ُ ْ َ َ َ‬ ‫ْ َ َ ُ َ َّ ً َ‬ ‫الل ِال ْســا َم فــا َي ِجـ ُـب‬ ‫اســة لذ ِلــك لدفــع مضرتهــم‪ ،‬فأمــا ِإذ أعلــى‬ ‫الحاجــة م‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َّ َ ُّ ُ َّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫ٌ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ َّ‬ ‫النــاس َح َ‬ ‫اجــة ِلذ ِلــك‪ ،‬ف ِ ِل َمـ ِـام ال َوقـ ِـت ذ ِلــك)(‪.)18‬‬ ‫التألــف ِإل أن تنـ ِـزل ِب ِ‬ ‫َ َّ ْ ْ َ‬ ‫اسـ َـتأذ َن ُع َمـ ُـر‬ ‫وقــال اإلمــام النــووي فــي شــرحه علــى صحيــح مســلم‪( :‬حتــى‬ ‫َ َ ٌ َّ َّ َ َّ َّ ُ َ َ ْ َ َ َّ َ َ ْ َ َ َ َ َ َ َّ َ ْ َ َ َ َّ َ‬ ‫الل أن يتحــدث‬ ‫وخ ِالــد الن ِبــي صلــى الل عليـ ِـه وســلم ِفــي قت ِلـ ِـه فقــال‪(( :‬معــاذ ِ‬ ‫َّ‬ ‫ص َح َاب ُه)) َف َهذه ه َي العلة‪ ،‬وسلك َم َع ُه َم ْس َل َك ُه َمعَ‬ ‫اس َأ َّن ُم َح َّم ًدا َي ْق ُت ُل َأ ْ‬ ‫الن ُ‬ ‫ِ​ِ ِ‬ ‫َ َ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫ُْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫غ ْيـ ِـر ِه ِمـ َـن ال َنا ِف ِقي ـ َـن ال ِذي ـ َـن آذ ْو ُه َو َسـ ِـم َع ِم ْن ُهـ ْـم ِفــي غ ْيـ ِـر َم ْو ِطـ ِـن َمــا ك ِر َهـ ُـه ل ِك َّنـ ُـه‬ ‫َ َ َ ْ ْ َ ً ْ َ ْ َ َ ْ ً َ ْ ْ َ َّ َ َ َ َّ َ َّ ُ َ‬ ‫ـاس أ َّنـ ُـه َي ْق ُتـ ُـل‬ ‫صبــر اس ـ ِتبقاء ِلن ِقي ِاد ِهــم وتأ ِليفــا ِلغي ِر ِهــم ِلئــا يتحــدث النـ‬ ‫َ‬ ‫َأ ْ‬ ‫ص َح َابـ ُـه ف َي ْن ِفـ ُـروا)(‪.)19‬‬ ‫إن تصرف النبـي صلى هللا عليه وسلم في هذه املواقف وأمثالها‪ ،‬باإلضافة‬ ‫ملا ورد في القرآن الكريم من تقديـر األضرار كان األصل الذي بـنـيت عليه‬ ‫قاعــدة‪ ،‬إذا َتعــارض مفســدتان روعــي أعظمهمــا َ‬ ‫ضـ َـر ًرا بارتــكاب أخفهمــا‬ ‫ِ‬ ‫أو يختار أهون الشريـن‪ ،‬وغيـرها من األلفاظ التـي جاءت بهذا املعنى‪.‬‬ ‫قال الشيخ مصطفى الزرقا في تطبـيقه على قاعدة ِإذا َتعارض مفسدتان‬ ‫َ‬ ‫َْ‬ ‫َ​َ‬ ‫روعــي أعظمهمــا َ‬ ‫(يتفـ َّـرع علــى َهـ ِـذه الق ِاعـ َـدة ت ْج ِويــز‬ ‫ضـ َـر ًرا بارتــكاب أخفهمــا‪:‬‬ ‫َ ُْ‬ ‫َّ‬ ‫ال ْجـ َـرة علــى َمــا دعــت إ َل ْيــه َّ‬ ‫الضـ ُـرو َرة مــن الط َاعــات كاألذان واإلمامــة‬ ‫أخــذ‬ ‫ِ ِ‬ ‫َ​َ ْ ُْ ْ َ ْ‬ ‫َ َ َ َ​َ‬ ‫ُّ ُ‬ ‫ُْ‬ ‫ْ‬ ‫َّ‬ ‫وتع ِليــم القــرآن وال ِفقــه‪ ،‬وتجويــز الســكوت علــى النكــر ِإذا كان يترتــب علــى‬ ‫َْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ َ‬ ‫إ ْنـ َـكاره َ‬ ‫ضـ َـرر أعظــم‪ ،‬ك َمــا تجــوز ط َاعــة ال ِمي ــر الجائــر ِإذا ك َان َيت َ َّرتــب علــى‬ ‫ِ‬

‫العدد ‪ 2‬رجب ‪1439‬هـ‬

‫ْ‬ ‫ْ َ‬ ‫َ َ‬ ‫ْ‬ ‫ْ ُ‬ ‫الخـ ُـروج َعل ْيـ ِـه شـ ّـر أعظــم‪َ ،‬و ِم ْنــه َجـ َـواز شـ ّـق بطــن ال َيتــة ِإلخـ َـراج ال َولــد ِإذا‬ ‫َ‬ ‫ك َان ت ــرجى َح َياتــه)(‪.)20‬‬ ‫وقــد قــرر اإلمــام اب ــن ت ــيمية رحمــه هللا هــذه القاعــدة فقــال‪( :‬فــا يجــوز دفــع‬ ‫الفساد القليل بالفساد الكثيـر‪ ،‬وال دفع أخف الضرريـن بتحصيل أعظم‬ ‫الضرري ــن‪ ،‬فــإن الش ـريعة جــاءت بتحصيــل املصالــح وتكميلهــا وتعطيــل‬ ‫املفاســد وتقليلهــا بقــدر اإلمــكان‪ ،‬ومطلوبهــا ت ــرجيح خي ــر الخيـري ــن إذا لــم‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫جميعــا‪ ،‬ودفــع شــر الشري ــن إذا لــم ي ــندفعا‬ ‫يمكــن أن يجتمعــا‬ ‫جميعــا)(‪.)21‬‬ ‫اعتـراض ورد‪:‬‬ ‫وقــد اعت ــرض بعضهــم علــى األحــكام املســتفادة مــن هــذه الحادثــة بفعــل‬ ‫خليفة رسول هللا صلى هللا عليه وسلم أبـي بكر الصديق ر�ضي هللا عنه؛‬ ‫إذ قاتــل أهــل الــردة ولــم يلتفــت إلــى حديــث النــاس وقولهــم إن أبــا بكــر يقتــل‬ ‫أصحابه‪ ،‬وفعله هذا حجة على وجوب تطبـيق الحدود وعدم اعتبار كالم‬ ‫النــاس وتأليبهــم علــى اإلســام! ‪.‬‬ ‫ويجــاب علــى ذلــك بــأن قصــة حــوار أب ــي بكــر وعمــر ر�ضــي هللا عنهمــا حــول‬ ‫حــرب املرتدي ــن لهــي أوضــح دليــل علــى أن حــد الــردة مــن أحــكام السياســة‬ ‫الشــرعية الت ــي يســوغ للحاكم االجتهاد فيها‪ ،‬بحســب ما ي ـراه من املصلحة‬ ‫َ‬ ‫والخيـر للمسلميـن‪ ،‬فإنه مع اتفاق أبـي بكر وعمر على ارتداد كل من ف َّر َق‬ ‫بـي ــن الصــاة والــزكاة وتالعــب بأحــكام الدي ــن فأقـ َّـر ببعضهــا وأنكــر بعضهــا‬ ‫ً‬ ‫بدون شبهة؛ فقد طالب عمر بتأخيـر قتالهم عن الذيـن ارتدوا ًّ‬ ‫اعتمادا‬ ‫كليا‬ ‫منــه للمصلحــة فــي ذلــك‪ ،‬إذ رأى أن املصلحــة تكمــن فــي قتــال املرتدي ــن علــى‬ ‫ً‬ ‫جميعا‪.‬‬ ‫مراحــل نظـ ًـرا لضعــف املسلمي ــن عــن مواجهتهــم‬ ‫ولكن أبا بكر الصديق ر�ضي هللا عنه بـنظرته الحكيمة لواقع األمة في ذلك‬ ‫الوقت كان أبعد في النظر من عمر ‪ -‬وكالهما على خيـر ‪ -‬ولذلك قرر قتالهم‬ ‫ً‬ ‫جميعــا‪ ،‬ملــا فــي ذلــك مــن املصلحــة وســرعة القضــاء علــى املــرض مــن أصلــه‪،‬‬ ‫وتثبـيت أحكام الديـن في أذهان املسلميـن الجدد‪ ...‬فقد أدرك الصديق أن أي‬ ‫تساهل مع أي طائفة من املرتديـن‪ ،‬أو حتى العصاة غيـر املرتديـن سيؤدي إلى‬ ‫سقوط هيبة الدولة وانهيار مفاهيم الدي ــن وضياع الدعوة اإلسالمية‪ ،‬لهذا‬ ‫لم يفرق بـيـنهم في القتال‪ ،‬بل إن أبا بكر ر�ضي هللا عنه شمل في قتاله من ليس‬ ‫مر ًّتدا‪ ،‬وهم الناس الذي ــن لم ي ــنكروا فرائض اإلسالم‪ ،‬ولكنهم فقط امتنعوا‬ ‫عن أداء الزكاة إلى الخليفة‪ ،‬فقد شملهم أبو بكر بالحرب مع املرتديـن‪ ،‬ملا في‬ ‫فعلهم من تطاول على مركزية الدولة اإلسالمية‪ُّ ،‬‬ ‫وتمرٍد عليها‪.‬‬

‫(‪ )17‬صحيح البخاري باب عالمات النبوة في اإلسالم‪ ،‬رقم الحديث (‪ ،)3414‬ومسلم في باب ذكر الخوارج وصفاتهم‪ ،‬رقم الحديث (‪،)1063‬‬ ‫وقوله َ(م َع َاذ َّ َ ْ َ َ َ َّ َ َّ‬ ‫اس َأ ّنى َأ ْق ُت ُل َأ ْ‬ ‫ص َح ِابي) ليست في البخاري‪.‬‬ ‫الل أن يتحدث الن ُ ِ‬ ‫ِ‬ ‫(‪ )18‬فتح الباري شرح صحيح البخاري (ص ‪ )19( - .)291/12‬شرح النووي على مسلم (ص ‪.)159/7‬‬ ‫(‪ )20‬شرح القواعد الفقهية‪ ،‬للشيخ أحمد بـن الشيخ محمد الزرقا‪ ،‬طبعة دار القلم ‪1409‬هـ ‪1989 -‬م‪( ،‬ص ‪.)202‬‬ ‫(‪ )21‬مجموع الفتاوى البـن تـيمية تحقيق أنور الباز وعامر الجزار‪ ،‬طبعة دار الوفاء ‪( ،2005‬ص ‪.)343/23‬‬

‫‪21‬‬


‫قواعد السياسة الشرعية‬ ‫ـال ْ ُال َهاجــر ُّي‪َ :‬يــا َل ْل ُم َهاجري ـ َـن! َف َخـ َـر َج َّ‬ ‫َ َ َ َ ْ َ ُّ َ َ َ ْ َ‬ ‫صــار! َو َقـ َ‬ ‫الن ِبـ ُّـي‬ ‫وقــال األنصـ ِـاري‪ :‬يــا لألن ِ‬ ‫ِ َِ ْ ِ ِ‬ ‫ـال‪َ :‬‬ ‫ـال‪َ :‬‬ ‫صلــى هللا عليــه وســلم َف َقـ َ‬ ‫ـال َد ْعـ َـوى أ ْهــل ال َجاه ِل َّيـ ِـة؟)) ُثـ َّـم َقـ َ‬ ‫((مــا َبـ ُ‬ ‫((مــا‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َ ُْ​ُ ْ َ ُ ْ َ َ ْ َ َُْ ّ َ‬ ‫ـال َّ‬ ‫األ ْن َ‬ ‫ـال‪َ :‬ف َقـ َ‬ ‫صــار َّي‪َ ،‬قـ َ‬ ‫شــأنهم؟)) فأخ ِبــر ِبكســع ِة اله ِاجـ ِـر ِي‬ ‫الن ِبـ ُّـي صلــى هللا‬ ‫ِ‬ ‫وها َفإ َّن َها َخب َيث ٌة!))‪َ ،‬و َق َال َع ْب ُد هللا ْب ُن ُأ َب ّي ْاب ُن َس ُلو َل‪َ :‬أ َقدْ‬ ‫((د ُع َ‬ ‫عليه وسلم‪َ :‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ٍَ‬ ‫َ َ َ ْ َ َ ْ َ َ ْ َ َ ْ َ َ ْ َ َ َ ُ ْ َ َّ َ‬ ‫األ َعـ ُّـز ِم ْن َهــا األ َذ َّل! َف َقـ َ‬ ‫ـال ُع َمـ ُـر‪:‬‬ ‫تداعــوا علينــا! ل ِئــن رجعنــا ِإلــى ال ِدي ــن ِة ليخ ِرجــن‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫َأ َال َن ْق ُت ُل َيا َر ُسو َل َ َ ْ َ َ َ ْ‬ ‫هللا ‪ -‬؟ فق َال الن ِب ُّي صلى هللا عليه‬ ‫هللا هذا الخ ِبيث ‪ِ -‬لعب ِد ِ‬ ‫ِ‬ ‫َ َ َ َ َّ ُ َّ ُ َ َّ ُ َ َ َ ْ ُ ُ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫(‪)11‬‬ ‫وســلم‪(( :‬ال يتحــدث النــاس أنــه كان يقتــل أصحابــه)) ‪ ،‬وفــي روايــة اإلمــام‬ ‫((يــا ُع َمـ ُـر‪َ ،‬د ْعـ ُـه َل َي َت َحـ َّـد ُث َّ‬ ‫أحمــد َ‬ ‫ـاس َأ َّن ُم َح َّمـ ًـدا َي ْق ُتـ ُـل َأ ْ‬ ‫النـ ُ‬ ‫ص َح َابـ ُـه))(‪.)12‬‬ ‫وقــد نقــل اإلمــام اب ــن العرب ــي رحمــه هللا أقــوال العلمــاء فــي تحليــل هــذه‬ ‫َْ‬ ‫َ َ​َ َ َ‬ ‫َ ْ َ​َ َ ْ َ‬ ‫َ‬ ‫ـف ال ُعل َمـ ُـاء ِفــي ذ ِلـ َـك َعلــى ثلثـ ِـة أ ْقـ َـو ٍال‪ ...‬ال َّو ُل‪:‬‬ ‫الحادثــة فقــال‪( :‬واختلـ‬ ‫َأ َّنـ ُـه َلـ ْـم َي ْق ُت ْل ُهـ ْـم ِ َل َّنـ ُـه َلـ ْـم َي ْع َلـ ْـم َح َال ُهـ ْـم ِسـ َـو ُاه‪َ ،‬و َقـ ْـد َّات َفـ َـق ْال ُع َل َمـ ُـاء َعـ ْـن َب ْكــر ِةَ‬ ‫َ‬ ‫ْ َ‬ ‫ْ‬ ‫َْ َ‬ ‫َ ْ َ َ َ َّ ْ َ‬ ‫ا�ضـ َـي ل َي ْق ُتـ ُـل ِب ِعل ِمـ ِـه‪َ ،‬وِإ ْن اخ َتل ُفــوا ِفــي َســا ِئ ِر ال ْحــك ِام‬ ‫أ ِب ِيهــم علــى أن الق َ ِ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫َهـ ْـل َي ْحكـ ُـم ِب ِعل ِمـ ِـه أ ْم ل؟ ‪.‬‬ ‫َّ َ َّ ُ َ ْ َ ْ ُ ْ ُ ْ َ ْ َ َ َ َ ُّ ْ ُ‬ ‫َ‬ ‫َ َ َّ َ‬ ‫ـف ال ُقلـ‬ ‫ـوب َعل ْيـ ِـه ِلئــا ت ْن ِفـ َـر َع ْنـ ُـه‪َ ،‬وقـ ْـد‬ ‫الثا ِنــي‪ :‬أنــه لــم يقتلهــم ِلصلحـ ِـة َتألـ ِ‬ ‫ِ‬ ‫َ َ َ ُ َ َ َّ َّ ُ َ َ ْ َ َ َّ َ َ َ َ ْ َ ْ َ َ َ َ َ َ ُ َ ْ َ َ َ َّ َ‬ ‫أشــار هــو صلــى الل عليـ ِـه وســلم إلــى هــذا العنــى فقــال‪(( :‬أخــاف أن يتحــدث‬ ‫َّ‬ ‫ص َّلــى َّ ُ‬ ‫ـاس َأ َّن ُم َح َّمـ ًـدا َ‬ ‫الل َع َل ْيــه َو َسـ َّـل َم َي ْق ُتـ ُـل َأ ْ‬ ‫النـ ُ‬ ‫ص َح َابـ ُـه))‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫َّ‬ ‫َّ ُ َ َ َ ْ َ ُ َّ ّ َّ َ َ ْ َ ْ ُ ْ ُ ْ َ َّ ّ ْ‬ ‫الزن ِديـ َـق َو ُهـ َـو الـ ِـذي‬ ‫الث ِالــث‪ :‬قــال أصحــاب الشــا ِف ِعي‪ :‬إنمــا لــم يقتلهــم ِلن ِ‬ ‫ُ ُّ ْ ُ ْ َ َ ُ ْ ُ ْ َ َ ُ ِْ َ َ ُ َ َ ُ ْ َ ُ َ َ َ َ ْ ٌ ْ ُ َ‬ ‫َ‬ ‫اليمــان يســتتاب ول يقتــل‪ ،‬وهــذا وهــم ِمــن علمـ ِـاء‬ ‫ي ِســر الكفــر ويظ ِهــر ِ‬ ‫َ ْ َ َ َّ َّ َّ َ َّ َُّ‬ ‫الل َع َل ْيــه َو َسـ َّـل َم َلـ ْـم َي ْسـ َـتت ْب ُه ْم‪َ َ ،‬ول َي ُقــو ُل َأ َحـ ٌـد إنَّ‬ ‫أصح ِابـ ِـه فـ ِـإن الن ِبــي صلــى‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫ْ َ َ َ ّْ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫ً‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫الزن ِد ِيق غ ْي ُر َو ِاج َب ٍة‪ ،‬وكان الن ِب ُّي صلى الل عل ْي ِه وسل َم ُم ْع ِرضا عن ُه ْم‬ ‫اس ِتتابة‬ ‫َ َ ْ ِ ْ َ َ َ َُْ َ ّ ُ ْ َ‬ ‫َّ ّ َّ َ َ َّ ْ َ َ َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ـاب الشــا ِف ِع ِي الـ ِـذي قــال إن اسـ ِتتابة‬ ‫مــع ِعل ِمـ ِـه ِب ِهــم‪ ،‬فهــذا التأ ِخــر ِمــن أصحـ ِ‬ ‫َ ٌَ َ َ َ‬ ‫َ ً‬ ‫ّْ‬ ‫ً‬ ‫الزن ِديـ ِـق جا ِئــزة قـ‬ ‫ـال َمــا لـ ْـم َي ِصـ َّـح قـ ْـول َو ِاحــدا‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫َ َ َّ َ ْ ُ َ ْ َ َ َّ ُ َ ْ َ ْ ُ ْ ُ ْ َ َّ ْ َ َ َ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫�ضي ِب ِعل ِم ِه ِفي الحد ِود‪،‬‬ ‫وأما قول من قال إنه لم يقتلهم ِلن الح ِاكم ل يق ِ‬ ‫ْ ْ‬ ‫َ​َ َ‬ ‫ُْ ّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫َّ‬ ‫فقـ ْـد ق َتـ َـل ِبال َجـ ِـذ ِر ْبـ ِـن ِزَيـ ٍـاد ِب ِعل ِمـ ِـه ال َحـ ِـارث ْبـ َـن ســويد بـ ِـن الص ِامـ ِـت؛‬ ‫َ ُْ ّ َ َ‬ ‫َ َ​َ َ ْ‬ ‫ُ َ َْ​َ‬ ‫ِل َّن ال َجـ ِـذ َر ق َتـ َـل أ َبـ ُـاه ُسـ َـو ْي ًدا َيـ ْـو َم ُب َعــاث‪ ،‬فأ ْســل َم ال َحـ ِـارث َوأغفلـ ُـه‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫ْ ُ َّ َّ َ َّ َّ ُ َ‬ ‫ُ َ َ َ َ​َ ْ‬ ‫الل َعل ْيـ ِـه‬ ‫َيـ ْـو َم أ ُحـ ٍـد ال َحـ ِـارث فق َتلـ ُـه‪ ،‬فأخ َبـ َـر ِبـ ِـه ِجب ِريــل الن ِبــي صلــى‬ ‫َّ َ َ َ‬ ‫َ َّ َ ْ َ ُ َ َ َ ً َ ْ َ‬ ‫ان ِغيلــة‪َ ،‬وق ْتـ ُـل ال ِغيلـ ِـة َحـ ٌّـد ِمـ ْـن ُحـ ُـد ِود‬ ‫َو َســل َم فق َتلـ ُـه ِبـ ِـه ِلن قتلــه ك‬ ‫َّ‬ ‫الل َعـ َّـز َو َجـ َّـل ‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫َ َ ُّ‬ ‫َ ًَ‬ ‫َ َّ ُ َ َّ َّ‬ ‫ص َّلى َّ ُ‬ ‫النب َّي َ‬ ‫الل َع َل ْيه َو َس َّل َم َّإن َما َأ ْع َر َ‬ ‫ض َع ْن ُه ْم تأل ًفا َو َمخافة‬ ‫ِ‬ ‫والص ِحيح‪ ْ :‬أن َ ِْ‬ ‫َ َ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ​َ‬ ‫ْ‬ ‫وج َبـ ِـة ِل َّلت ْن ِفي ـ ِـر‪ ،‬ك َمــا َسـ َـب َق ِمـ ْـن ق ْ ِولـ ِـه‪َ ،‬و َهــذا ك َمــا ك َان‬ ‫ِمــن ُسـ ِ‬ ‫ـوء القالـ ِـة ال ِ‬

‫قواعد السياسة الشرعية‬

‫العدد ‪ 2‬رجب ‪1439‬هـ‬

‫َ َ ُّ َ‬ ‫َ ْ‬ ‫َّ َ َ َ ْ َ َّ َ ُ ُ‬ ‫َ‬ ‫ـوء ْاع ِتق ِاد ِهـ ْـم تأل ًفــا ل ُهـ ْـم‪،‬‬ ‫ُي ْع ِطــي‬ ‫الصدقــة ِلل ُمؤلفـ ِـة قل ُوب ُهـ ْـم َمــع ِعل ِمـ ِـه ِب ُسـ ِ‬ ‫ضـ ًـاء ل َق َ‬ ‫الل ُسـ ْـب َح َان ُه َأ ْح َك َامـ ُـه َع َلــى ْال َفائـ َـدة َّالتــي َسـ َّـن َها ْإم َ‬ ‫َأ ْجـ َـرى َّ ُ‬ ‫ض َايـ ُـاه‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ ِ‬ ‫َ‬ ‫ُّ َّ َ َ‬ ‫ِب‬ ‫السـ َّـن ِة ال ِتــي ل ت ْب ِديـ َـل ل َهــا) (‪.)13‬‬ ‫ولعــل مــن يقــول إن هــذا الرجــل منافــق‪ ،‬وال عالقــة لهــذه الحادثــة بحكــم‬ ‫الردة‪ ،‬والجواب على ذلك من وجهي ــن‪ ،‬األول‪ :‬نعم كان اب ــن سلول ً‬ ‫منافقا‬ ‫يبطن الكفر ويظهر اإليمان‪ ،‬ولكن تلفظه بهذه الكلمة في هذا املوقف زاد‬ ‫له وصف الكفر والردة الظاهرة‪ ،‬حيث أعلن الحرب على رسول هللا صلى‬ ‫هللا عليــه وســلم وال يختلــف اثنــان فــي أن عــداوة رســول هللا صلــى هللا عليــه‬ ‫وســلم ردة‪ ،‬والثان ــي‪ :‬لقــد بـي ــن رســول هللا صلــى هللا عليــه وســلم علــة ت ــركه‬ ‫لقتلهــم أال وهــو [حديــث النــاس!] ((أت ـريد أن يتحــدث النــاس أن محمــدا‬ ‫يقتــل أصحابــه؟)) وال أدري كيــف ُي َّدعــى بــأن األخــذ ب ــنص الحديــث خطــأ‪،‬‬ ‫ومخالفــة نصــه صــواب؟ وقــال اإلمــام النــووي رحمــه هللا معلقــا علــى هــذه‬ ‫َ َ َ َ َ ْ َ َّ َّ ُ َ‬ ‫ْ ْ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫الل َعل ْيـ ِـه َو َســل َم ِمـ َـن ال ِحلـ ِـم‪َ ،‬و ِفيـ ِـه تـ ْـر ُك‬ ‫الحادثــة‪ِ ( :‬فيـ ِـه مــا كان عليـ ِـه صلــى‬ ‫َ ْ ً ْ َ ْ َ َ َ َّ َ َ َ‬ ‫َ ْ ْ ُ ُ ور ْ ُ ْ َ َ َ َّ ْ َ َ َ ْ ْ َ َ‬ ‫ض الف ِاس ِد خوفا ِمن أن تترتب على‬ ‫بع ِ‬ ‫ض الم ِ َالختار ِة والصب ِر على بع ِ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫ٌ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫َّ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫اس وي ْ‬ ‫َذ ِل َك َمفسدة أعظ ُم ِمنه وكان صلى الل عل ْي ِه وسل َم يتألف الن َ‬ ‫ص ِب ُر‬ ‫َ​َ َ َ ْ َ ْ َ ُْ‬ ‫َ َ ُ ُْ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫اب َوال َنا ِف ِقي َـن َوغ ْي ِر ِه ْم ِل َت ْق َوى ش ْوكة ال ْس ِل ِمي َـن َوت ِت َّم َد ْع َوة‬ ‫على جف ِاء العر ِ‬ ‫ْ ُ َ َّ َ َ َ ْ َ َ َ ْ ُ ُ ْ ْ ْ َ‬ ‫ْ ْ َ َ َ َ َ َّ َ ْ َ ُ ْ ُ ُ‬ ‫الســا ِم‬ ‫اليمــان ِمــن قلـ ِ‬ ‫ـوب الؤلفـ ِـة ويرغــب غيرهــم ِفــي ِ‬ ‫الســا ِم ويتمكــن ِ‬ ‫ِ‬ ‫َ َ َ ْ َْ‬ ‫َ َ َ ُ ْ ُ ْ َْ َ َ ْ َ َ َ َ َ َ َ ْ َ ْ ُ ْ ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫وكان يع ِط ِيهــم المــوال الج ِزيلــة ِلذ ِلــك ولــم يقتـ ِـل النا ِف ِقي ــن ِلهــذا العنــى‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫َ َْ ُ ْ َ َ ُ ْ ْ‬ ‫الظاهر َوَا َّ ُ‬ ‫لل َي َت َو َّلى َّ‬ ‫الس َرا ِئ َر‪.)14()...‬‬ ‫ال ْسل َم َوق ْد أ ِم َر ِبال ُحك ِم ِب‬ ‫ِ​ِ‬ ‫وِ ِلظه ِار ِهم ِ‬ ‫وعلق اإلمام ابـن حجر باملعنى نفسه على تـرك النبـي صلى هللا عليه وسلم‬ ‫َ َّ َ ْ َ َ ْ َ ْ ْ َ‬ ‫ال ْع َ‬ ‫قتل الساحر لبـيد بـن األعصم حيث قال‪(ِ :‬لن ترك قت ِل ل ِب ِيد ب ِن‬ ‫ص ِم‬ ‫ُ‬ ‫َك َان ل َخ ْش َية َأ ْن ُيثي َـر ب َس َبب َق ْتله ف ْت َن ًة َأ ْو ل َئ َّل ُي َن ّف َر َّ‬ ‫ُّ‬ ‫الن َ‬ ‫اس َع ِن الدخو ِل ِفي‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ ِ ِ ِ​ِ ِ‬ ‫ْ ْ َ َ ُ َ ْ ْ َ َ َ ُ َّ ُّ َ َّ َّ ُ َ َ ْ َ َ َّ َ ْ َ ْ َ‬ ‫ْ‬ ‫س ما راعاه الن ِبي صلى الل علي ِه وسلم ِمن من ِع قت ِل‬ ‫السلم‪ ،‬وهو ِمن جن‬ ‫ْ ُِ َ ِ َ َ ْ ُ َ ِ َ َ ِ َ َ َ َّ ُ َّ ُ َ َّ ُ َ َّ ً َ ْ ُ ُ َ‬ ‫ْ َ َ ُ (‪)15‬‬ ‫النا ِف ِقيـن حيث قال‪ :‬ل يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه)) ‪.‬‬ ‫وقــال اإلمــام اب ــن القيــم رحمــه هللا‪( :‬وقيــل بــل َتـ َـرك حـ َّـده ملصلحــة هــي ُ‬ ‫أعظم‬ ‫وتكلمــه بمــا ُيوجــب قتلــه مـر ًارا‪،‬‬ ‫ـور نفاقــه ِ‬ ‫ِمــن إقامتــه كمــا ت ــرك قتلــه مــع ظهـ ِ‬ ‫ُ‬ ‫ً‬ ‫ـف قومــه وعـ ُ‬ ‫وهــي تأليـ‬ ‫ـدم تنفي ــرهم عــن اإلســام‪ ،‬فإنــه كان مطاعــا فيهــم‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫ر ً‬ ‫ئيســا عليهــم‪ ،‬فلــم تؤمــن إثــارة الفتنــة فــي حـ ِـده)(‪.)16‬‬ ‫الواقعة الثانـية «منع الصحابة من قتل ذي الخويصرة التميمي»‪:‬‬ ‫َ َ َ َ ُ ُ َ َّ‬ ‫َ ْ َ ْ َ ْ َّ‬ ‫الل صلــى هللا‬ ‫الل ر�ضــي هللا عنــه قـ‬ ‫ـال‪ :‬أتــى َرجـ ٌـل َرســول ِ‬ ‫عــن ج ِابـ ِـر بـ ِـن عبـ ِـد ِ‬

‫(‪ )11‬رواه البخاري ومسلم صحيح البخاري‪ ،‬كتاب املناقب باب ما يـنهى من دعوى الجاهلية حديث رقم الحديث (‪ ...)3330‬وفي صحيح مسلم‪ ،‬طبعة دار الخيـر ‪ ،1996‬كتاب البـر والصلة‬ ‫َ ْ َ َ ً‬ ‫الا َأ ْو َم ْظ ُل ً‬ ‫وما‪ ،‬رقم الحديث (‪.)2584‬‬ ‫واآلداب‪ ،‬باب نص ِر األ ِخ ظ ِ‬ ‫(‪ )12‬مسند اإلمام أحمد‪ ،‬تحقيق شعيب األرناؤوط‪ ،‬طبعة الرسالة‪ ،‬مسند جابـر بـن عبد هللا (ص ‪ )389/23‬رقم الحديث (‪.)15223‬‬ ‫(‪ )13‬أحكام القرآن البـن عربـي‪ ،‬تحقيق العطا‪ ،‬نشر دار الكتب العلمية ‪( ،2003‬ص ‪ 21/1‬و ‪ )14( - .)22‬شرح النووي على مسلم‪ ،‬طبعة دار إحياء التـراث العربـي ‪( ،1392‬ص ‪.)139/16‬‬ ‫(‪ )15‬فتح الباري البـن حجر‪ ،‬تحقيق محب الديـن الخطيب‪ ،‬تـرقيم محمد فؤاد عبد الباقي طبعة دار املعرفة ‪( 1379‬ص ‪.)231/10‬‬ ‫(‪ )16‬زاد املعاد البـن القيم طبعة مؤسسة الرسالة ‪( ،1994‬ص ‪.)263/3‬‬

‫‪20‬‬

‫ص َر َفـ ُـه مـ ْـن ُح َن ْيــن َوفــى َثـ ْـوب بـ َـال ف َّ‬ ‫عليــه وســلم ب ْالج ْع َر َانــة ُم ْن َ‬ ‫ضـ ٌـة َو َر ُســو ُل‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ ٍ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ٍ ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫َّ‬ ‫الل صلــى هللا عليــه وســلم َيقبـْ‬ ‫ـال‪َ :‬يــا ُم َح َّمــدُ‬ ‫ـض م ْن َهــا ُي ْعطــى َّ‬ ‫ُ‬ ‫ـاس‪َ ،‬ف َقـ َ‬ ‫النـ َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫َ َ َُ َ‬ ‫ْ ْ َ َ َ َ‬ ‫َ‬ ‫َ​َ‬ ‫((و ْيل َك َو َم ْن َي ْع ِد ُل ِإذا ل ْم أك ْن أ ْع ِد ُل‪ ،‬لق ْد ِخ ْب َت َوخ ِس ْر َت ِإ ْن‬ ‫اع ِدل! قال‪:‬‬ ‫ـال ُع َمـ ُـر ْبـ ُـن ْال َخ َّطــاب ر�ضــي هللا عنــه‪َ :‬د ْعنــي َيــا َر ُســولَ‬ ‫َلـ ْـم َأ ُكـ ْـن َأ ْعـ ِـد ُل))‪َ ،‬ف َقـ َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َّ َ َ ْ ُ َ َ َ ْ ُ َ َ َ َ َ َ َ َ َّ‬ ‫الل َأ ْن َي َت َحـ َّـد َث َّ‬ ‫ـاس َأ ِّنــي َأ ْق ُتــلُ‬ ‫النـ ُ‬ ‫الل فأقتــل هــذا النا ِفــق! فقــال‪(( :‬معــاذ ِ‬ ‫ِ‬ ‫َّ َ َ َ َ ْ َ َ ُ َ ْ َ َن ْ ُ ْ َ َ ُ َ ُ َ َ َ ُ ْ َ ْ ُ ُ نَ‬ ‫َ‬ ‫َأ ْ‬ ‫صح ِابي‪ِ ،‬إن هذا وأصحابه يقرؤو القرآن ال يج ِاوز حن ِاجرهم‪ ،‬يمرقو‬ ‫م ْنـ ُـه َك َمــا َي ْمـ ُـر ُق َّ‬ ‫السـ ْـه ُم ِمـ َـن َّ‬ ‫الر ِم َّيـ ِـة))(‪.)17‬‬ ‫ِ‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫معلــا ت ــرك النب ـ ّـي صلــى هللا عليــه وســلم‬ ‫قــال اإلمــام اب ــن حجــر رحمــه هللا ِ‬ ‫الل َع َل ْيــه َو َسـ َّـل َم َق ْتـ َـل ْالَ ْذ ُكــور َل َّنــهُ‬ ‫قتــل هــذا الرجــل‪(َ :‬وإ َّن َمــا َتـ َـر َك َّ‬ ‫ص َّلــى َّ ُ‬ ‫النبـ ُّـي َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ​ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫الصـ َـاحُ‬ ‫َلـ ْـم َي ُكـ ْـن َأ ْظ َهـ َـر َمــا ُي ْسـ َـت َد ُّل بـ ِـه َع َلــى َمــا َو َر َاء ُه‪َ ،‬ف َلـ ْـو َق َتـ َـل َمـ ْـن َظاهـ ُـر ُه َّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ُْ​ُ َ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫ع ْنـ َـد َّ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫النــاس َق ْبـ َـل ْاس ـت ْح َكام َأ ْمــر ْال ْسـ َـام َو ُر ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ـوب لنفرهــم عـ ِـن‬ ‫ـ‬ ‫ل‬ ‫ق‬ ‫ال‬ ‫ـي‬ ‫ـ‬ ‫ف‬ ‫ه‬ ‫ـوخ‬ ‫ـ‬ ‫س‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ​ِ‬ ‫ِ‬ ‫َِ ِ ِ ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ُّ‬ ‫ص َّلــى َّ ُ‬ ‫الد ُخــول فــي ْال ْسـ َـام‪َ ،‬وأ َّمــا َب ْعـ َـد ُه َ‬ ‫الل َع َل ْيــه َو َسـ َّـل َم َفـ َـا َي ُجـ ُـوز َتـ ْـر ُك ِق َت ِالهــمْ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫َ ُ ْ َ ْ َ ُ َ ْ َ ُ ْ َ َ َ ُ ْ َ َ َ َ َ َ َ ُ ْ َ َّ َ َ َ ْ ُ ْ َ َ َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ِإذا هم أظهروا رأيهم وتركوا الجماعة وخالفوا ال ِئمة مع القدر ِة على ِقت ِال ِهم‪...‬‬ ‫َ‬ ‫َ َّ َ ْ ُ َ َّ َ َ َّ َ ُّ ُ‬ ‫َ ْ َ َ َ​َ‬ ‫التألف ِإ َّن َما ك َان ِفي أ َّو ِل ِال ْسل ِم ِإذا كان ِت‬ ‫َوقد ذكر ابـن بط ٍال ع ِن الهل ِب قال‪:‬‬ ‫َ َ ْ َ ْ َ َّ ُ ْ َ َ َ‬ ‫ْ َ َ ُ َ َّ ً َ‬ ‫الل ِال ْســا َم فــا َي ِجـ ُـب‬ ‫اســة لذ ِلــك لدفــع مضرتهــم‪ ،‬فأمــا ِإذ أعلــى‬ ‫الحاجــة م‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َّ َ ُّ ُ َّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫ٌ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ َّ‬ ‫النــاس َح َ‬ ‫اجــة ِلذ ِلــك‪ ،‬ف ِ ِل َمـ ِـام ال َوقـ ِـت ذ ِلــك)(‪.)18‬‬ ‫التألــف ِإل أن تنـ ِـزل ِب ِ‬ ‫َ َّ ْ ْ َ‬ ‫اسـ َـتأذ َن ُع َمـ ُـر‬ ‫وقــال اإلمــام النــووي فــي شــرحه علــى صحيــح مســلم‪( :‬حتــى‬ ‫َ َ ٌ َّ َّ َ َّ َّ ُ َ َ ْ َ َ َّ َ َ ْ َ َ َ َ َ َ َّ َ ْ َ َ َ َّ َ‬ ‫الل أن يتحــدث‬ ‫وخ ِالــد الن ِبــي صلــى الل عليـ ِـه وســلم ِفــي قت ِلـ ِـه فقــال‪(( :‬معــاذ ِ‬ ‫َّ‬ ‫ص َح َاب ُه)) َف َهذه ه َي العلة‪ ،‬وسلك َم َع ُه َم ْس َل َك ُه َمعَ‬ ‫اس َأ َّن ُم َح َّم ًدا َي ْق ُت ُل َأ ْ‬ ‫الن ُ‬ ‫ِ​ِ ِ‬ ‫َ َ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫ُْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫غ ْيـ ِـر ِه ِمـ َـن ال َنا ِف ِقي ـ َـن ال ِذي ـ َـن آذ ْو ُه َو َسـ ِـم َع ِم ْن ُهـ ْـم ِفــي غ ْيـ ِـر َم ْو ِطـ ِـن َمــا ك ِر َهـ ُـه ل ِك َّنـ ُـه‬ ‫َ َ َ ْ ْ َ ً ْ َ ْ َ َ ْ ً َ ْ ْ َ َّ َ َ َ َّ َ َّ ُ َ‬ ‫ـاس أ َّنـ ُـه َي ْق ُتـ ُـل‬ ‫صبــر اس ـ ِتبقاء ِلن ِقي ِاد ِهــم وتأ ِليفــا ِلغي ِر ِهــم ِلئــا يتحــدث النـ‬ ‫َ‬ ‫َأ ْ‬ ‫ص َح َابـ ُـه ف َي ْن ِفـ ُـروا)(‪.)19‬‬ ‫إن تصرف النبـي صلى هللا عليه وسلم في هذه املواقف وأمثالها‪ ،‬باإلضافة‬ ‫ملا ورد في القرآن الكريم من تقديـر األضرار كان األصل الذي بـنـيت عليه‬ ‫قاعــدة‪ ،‬إذا َتعــارض مفســدتان روعــي أعظمهمــا َ‬ ‫ضـ َـر ًرا بارتــكاب أخفهمــا‬ ‫ِ‬ ‫أو يختار أهون الشريـن‪ ،‬وغيـرها من األلفاظ التـي جاءت بهذا املعنى‪.‬‬ ‫قال الشيخ مصطفى الزرقا في تطبـيقه على قاعدة ِإذا َتعارض مفسدتان‬ ‫َ‬ ‫َْ‬ ‫َ​َ‬ ‫روعــي أعظمهمــا َ‬ ‫(يتفـ َّـرع علــى َهـ ِـذه الق ِاعـ َـدة ت ْج ِويــز‬ ‫ضـ َـر ًرا بارتــكاب أخفهمــا‪:‬‬ ‫َ ُْ‬ ‫َّ‬ ‫ال ْجـ َـرة علــى َمــا دعــت إ َل ْيــه َّ‬ ‫الضـ ُـرو َرة مــن الط َاعــات كاألذان واإلمامــة‬ ‫أخــذ‬ ‫ِ ِ‬ ‫َ​َ ْ ُْ ْ َ ْ‬ ‫َ َ َ َ​َ‬ ‫ُّ ُ‬ ‫ُْ‬ ‫ْ‬ ‫َّ‬ ‫وتع ِليــم القــرآن وال ِفقــه‪ ،‬وتجويــز الســكوت علــى النكــر ِإذا كان يترتــب علــى‬ ‫َْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ َ‬ ‫إ ْنـ َـكاره َ‬ ‫ضـ َـرر أعظــم‪ ،‬ك َمــا تجــوز ط َاعــة ال ِمي ــر الجائــر ِإذا ك َان َيت َ َّرتــب علــى‬ ‫ِ‬

‫العدد ‪ 2‬رجب ‪1439‬هـ‬

‫ْ‬ ‫ْ َ‬ ‫َ َ‬ ‫ْ‬ ‫ْ ُ‬ ‫الخـ ُـروج َعل ْيـ ِـه شـ ّـر أعظــم‪َ ،‬و ِم ْنــه َجـ َـواز شـ ّـق بطــن ال َيتــة ِإلخـ َـراج ال َولــد ِإذا‬ ‫َ‬ ‫ك َان ت ــرجى َح َياتــه)(‪.)20‬‬ ‫وقــد قــرر اإلمــام اب ــن ت ــيمية رحمــه هللا هــذه القاعــدة فقــال‪( :‬فــا يجــوز دفــع‬ ‫الفساد القليل بالفساد الكثيـر‪ ،‬وال دفع أخف الضرريـن بتحصيل أعظم‬ ‫الضرري ــن‪ ،‬فــإن الش ـريعة جــاءت بتحصيــل املصالــح وتكميلهــا وتعطيــل‬ ‫املفاســد وتقليلهــا بقــدر اإلمــكان‪ ،‬ومطلوبهــا ت ــرجيح خي ــر الخيـري ــن إذا لــم‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫جميعــا‪ ،‬ودفــع شــر الشري ــن إذا لــم ي ــندفعا‬ ‫يمكــن أن يجتمعــا‬ ‫جميعــا)(‪.)21‬‬ ‫اعتـراض ورد‪:‬‬ ‫وقــد اعت ــرض بعضهــم علــى األحــكام املســتفادة مــن هــذه الحادثــة بفعــل‬ ‫خليفة رسول هللا صلى هللا عليه وسلم أبـي بكر الصديق ر�ضي هللا عنه؛‬ ‫إذ قاتــل أهــل الــردة ولــم يلتفــت إلــى حديــث النــاس وقولهــم إن أبــا بكــر يقتــل‬ ‫أصحابه‪ ،‬وفعله هذا حجة على وجوب تطبـيق الحدود وعدم اعتبار كالم‬ ‫النــاس وتأليبهــم علــى اإلســام! ‪.‬‬ ‫ويجــاب علــى ذلــك بــأن قصــة حــوار أب ــي بكــر وعمــر ر�ضــي هللا عنهمــا حــول‬ ‫حــرب املرتدي ــن لهــي أوضــح دليــل علــى أن حــد الــردة مــن أحــكام السياســة‬ ‫الشــرعية الت ــي يســوغ للحاكم االجتهاد فيها‪ ،‬بحســب ما ي ـراه من املصلحة‬ ‫َ‬ ‫والخيـر للمسلميـن‪ ،‬فإنه مع اتفاق أبـي بكر وعمر على ارتداد كل من ف َّر َق‬ ‫بـي ــن الصــاة والــزكاة وتالعــب بأحــكام الدي ــن فأقـ َّـر ببعضهــا وأنكــر بعضهــا‬ ‫ً‬ ‫بدون شبهة؛ فقد طالب عمر بتأخيـر قتالهم عن الذيـن ارتدوا ًّ‬ ‫اعتمادا‬ ‫كليا‬ ‫منــه للمصلحــة فــي ذلــك‪ ،‬إذ رأى أن املصلحــة تكمــن فــي قتــال املرتدي ــن علــى‬ ‫ً‬ ‫جميعا‪.‬‬ ‫مراحــل نظـ ًـرا لضعــف املسلمي ــن عــن مواجهتهــم‬ ‫ولكن أبا بكر الصديق ر�ضي هللا عنه بـنظرته الحكيمة لواقع األمة في ذلك‬ ‫الوقت كان أبعد في النظر من عمر ‪ -‬وكالهما على خيـر ‪ -‬ولذلك قرر قتالهم‬ ‫ً‬ ‫جميعــا‪ ،‬ملــا فــي ذلــك مــن املصلحــة وســرعة القضــاء علــى املــرض مــن أصلــه‪،‬‬ ‫وتثبـيت أحكام الديـن في أذهان املسلميـن الجدد‪ ...‬فقد أدرك الصديق أن أي‬ ‫تساهل مع أي طائفة من املرتديـن‪ ،‬أو حتى العصاة غيـر املرتديـن سيؤدي إلى‬ ‫سقوط هيبة الدولة وانهيار مفاهيم الدي ــن وضياع الدعوة اإلسالمية‪ ،‬لهذا‬ ‫لم يفرق بـيـنهم في القتال‪ ،‬بل إن أبا بكر ر�ضي هللا عنه شمل في قتاله من ليس‬ ‫مر ًّتدا‪ ،‬وهم الناس الذي ــن لم ي ــنكروا فرائض اإلسالم‪ ،‬ولكنهم فقط امتنعوا‬ ‫عن أداء الزكاة إلى الخليفة‪ ،‬فقد شملهم أبو بكر بالحرب مع املرتديـن‪ ،‬ملا في‬ ‫فعلهم من تطاول على مركزية الدولة اإلسالمية‪ُّ ،‬‬ ‫وتمرٍد عليها‪.‬‬

‫(‪ )17‬صحيح البخاري باب عالمات النبوة في اإلسالم‪ ،‬رقم الحديث (‪ ،)3414‬ومسلم في باب ذكر الخوارج وصفاتهم‪ ،‬رقم الحديث (‪،)1063‬‬ ‫وقوله َ(م َع َاذ َّ َ ْ َ َ َ َّ َ َّ‬ ‫اس َأ ّنى َأ ْق ُت ُل َأ ْ‬ ‫ص َح ِابي) ليست في البخاري‪.‬‬ ‫الل أن يتحدث الن ُ ِ‬ ‫ِ‬ ‫(‪ )18‬فتح الباري شرح صحيح البخاري (ص ‪ )19( - .)291/12‬شرح النووي على مسلم (ص ‪.)159/7‬‬ ‫(‪ )20‬شرح القواعد الفقهية‪ ،‬للشيخ أحمد بـن الشيخ محمد الزرقا‪ ،‬طبعة دار القلم ‪1409‬هـ ‪1989 -‬م‪( ،‬ص ‪.)202‬‬ ‫(‪ )21‬مجموع الفتاوى البـن تـيمية تحقيق أنور الباز وعامر الجزار‪ ،‬طبعة دار الوفاء ‪( ،2005‬ص ‪.)343/23‬‬

‫‪21‬‬


‫قواعد السياسة الشرعية‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫ـرعي‬ ‫ونت ــيجة ملــا ســبق فــإن قتــال أب ــي بكــر ألهــل الــردة كان تنفيــذا لحكــم شـ ٍ‬ ‫توفرت أسباب تطبـيقه‪ ،‬ويحقق مصلحة ناجزة للمسلميـن أكبـر من تلك‬ ‫املصلحــة الت ــي ظنهــا عمــر ر�ضــي هللا عنــه وأهـ ّـم مــن كالم النــاس‪ ،‬ولــو َو َجــد‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫الصديــق ر�ضــي هللا عنــه املصلحــة فــي غي ــر ذلــك ملــا وســعه إال ِاتبــاع النب ــي‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫صلــى هللا عليــه فــي تقدي ــر املصلحــة‪ ،‬وهــو أهــل املحبــة واالتبــاع والطاعــة‬ ‫املطلقــة هلل ســبحانه ولنب ــيه صلــى هللا عليــه وآلــه وصحبــه وســلم‪.‬‬

‫املبحثالثانـي‬

‫رء ّ‬ ‫َ‬ ‫الحاجة‬ ‫شيوع‬ ‫الحد‬ ‫د ُ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫بسبب ِ‬ ‫فــي خالفــة عمــر ب ــن الخطــاب ر�ضــي هللا عنــه‪ ،‬وفــي العــام الثامــن عشــر مــن‬ ‫جوعــا شـ ً‬ ‫الهجــرة أجدبــت األرض وقحطــت الســماء فجــاع النــاس ً‬ ‫ـديدا‪،‬‬ ‫اضطـ ّـر بعــض ّ‬ ‫النــاس بســببه َّ‬ ‫للســرقة‪ ،‬وقــد اشــتهر أن عمــر ر�ضــي هللا عنــه‬ ‫قــام بــدرء حـ ّـد الســرقة عــن بعــض العب ــيد ّالذي ــن ســرقوا فــي تلــك ّ‬ ‫الســنة‬ ‫ِ‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫املجدبــة‪ ،‬حيــث اعتب ــر انتشــار الجــوع شــبهة مانعــة مــن إقامــة الحـ ِـد‪ ...‬ولــم‬ ‫يكتــف بإســقاط الحـ ِّـد عنهــم بــل عاقــب سـ ّـيدهم َّ‬ ‫وغرمــه ألنــه كان متسـ ّـب ًبا‬ ‫فيمــا فعلــه عب ــيده إذ كان يتعبهــم وال يشــبعهم‪(( ،‬عــن َم ِالــك ر�ضــي هللا عنــه‬ ‫َ‬ ‫َعـ ْـن ِه َشــام ْبــن ُعـ ْـر َو َة َعـ ْـن َأبيـ ِـه َعـ ْـن َي ْح َيــى ْبــن َع ْبـ ِـد َّ‬ ‫الر ْح َمـ ِـن ْبـ ِـن َح ِاطـ ٍـب‪ ،‬أ َّن‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫َرق ًيقــا ل َحاطــب ب ــن أب ــي بلتعــة َسـ َـر ُقوا َن َاقـ ًـة ل َر ُجــل مـ ْـن ُم َ ْزي َنـ َـة َف ْان َت َح ُر َ‬ ‫وهــا‪،‬‬ ‫ِ ٍ ِ‬ ‫ِ ِ ِ ٍ‬ ‫الص ْل ِت َأ ْن َي ْق َط َع َأ ْي ِد َي ُهم‪ْ،‬‬ ‫َف ُر ِف َع َذ ِل َك إ َلى ُع َم َر ْبن ْال َخ َّطاب َف َأ َم َر َك ِثي َـر ْب َن َّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َ َ َ ُ ُ ُ ْ َ َّ‬ ‫ُثـ َّـم َقـ َ ُ‬ ‫الل ُأل َغ ّر َم َّنـ َـك ُغ ْر ًمــا َي ُشـ ُّـق َع َل ْيـ َـك) ُثــمَّ‬ ‫ُ‬ ‫ـال ع َمــر‪( :‬إن ــي أراك ت ِجيعهــم‪ ،‬و ِ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫َ َ ْ ُ َ ّ َ ْ َ َ ُ َ َ َ َ َ َ َْ َ‬ ‫عمائــة ِد ْر َهــم‪َ ،‬قـ َ‬ ‫ـال ُع َمـ ُـر‪( :‬أ ْع ِطـ ِـه‬ ‫قــال ِللم ِزنـ ِـي‪( :‬كــم ثمــن ناق ِتــك؟) قــال‪ :‬أرب‬ ‫ٍ‬ ‫َ َ َ‬ ‫ث َمان ِمائــة ِد ْر َهـ ٍـم))(‪.)22‬‬ ‫فعلمنــا مــن ذلــك أنــه قــد تطـرأ علــى املجتمــع ظــروف يكــون تطب ــيق الحــدود‬ ‫فيهــا ً‬ ‫ظلمــا للنــاس‪ ،‬ليــس ألن الحــدود غي ــر عادلــة أو غي ــر واجبــة‪ ،‬بــل ألن‬ ‫َ‬ ‫حمــل الفـ ُ‬ ‫املجتمــع أصبــح هــو بحـ ِّـد ذاتــه ســبب الجنايــة‪ ،‬فــا ُي َّ‬ ‫ـرد مســؤولية‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫مجتم ِعه‪ ...‬ونالحظ أن عمر قد جعل من شــيوع الجوع شــبهة كافية لدرء‬ ‫الحد‪ ،‬وكذلك يكون النظر في كل جناية وعقوبتها فإن كان ُ‬ ‫سببها املجتمع‬ ‫عقوبات تعزيـ َّرية مناسبة تعتمد املوازنة في تحميل الخطأ‬ ‫لجأ الحاكم إلى‬ ‫ٍ‬ ‫ّ‬ ‫ملرتكبه أو للمتسبب به كل بمقداره‪ ...‬ولكن إن كانت السرقة أو غيـرها من‬ ‫الجنايــات مســببة عــن الشــخص نفســه وليــس للمجتمــع دخــل فيهــا؛ ثبــت‬ ‫ً‬ ‫ُّ‬ ‫الحد على مرتكبها كأن يسرق لغي ــر حاجة ً‬ ‫طمعا وزيادة في الث ــروة‪...‬‬ ‫والحقيقــة أنــه ي ــنبغي ألهــل العلــم أن يقفــوا فــي القضيــة حيــث وقــف عمــر‬

‫قواعد السياسة الشرعية‬

‫العدد ‪ 2‬رجب ‪1439‬هـ‬

‫ر�ضــي هللا عنــه وال يتجــاوزوا ذلــك‪ ...‬إذ يســتدل بعــض الحداثيي ــن بهــذه‬ ‫الواقعــة علــى إلغــاء الحــدود ً‬ ‫تمامــا‪ ،‬وجــواز االجتهــاد علــى خــاف النـ ّ‬ ‫ـص‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫القرآن ـ ّـي ب ـ ً‬ ‫ـناء علــى املصلحــة أو علــى التش ـريع بال ـرأي‪ ،‬وليــس األمــر كمــا‬ ‫ِ‬ ‫ً‬ ‫أوهمتهــم نفوســهم‪( ...‬والحــق أن األمــر ليــس تقديمــا للمصلحــة علــى النــص‬ ‫ً‬ ‫وال تعطيــا لحــد مــن حــدود هللا‪ ..‬ولكنــه بواليتــه العامــة وجــد أن شــروط‬ ‫النــص غي ــر منطبقــة‪ ،‬إذ توجــد شــبهة قويــة تحــول دون تطب ــيق الحــد أو‬ ‫تــدرؤه‪ ،‬وهــو الــذي ســمع رســول هللا صلــى هللا عليــه وســلم يقــول‪(( :‬ادرؤوا‬ ‫الحدود بالشبهات ما استطعتم)) وسمعه كذلك يقول‪(( :‬ألن يخطئ اإلمام‬ ‫فــي العفــو خي ــر مــن أن يخطــئ فــي العقوبــة)) وهــو الــذي ت ــرجمه القانون ــيون‬ ‫املحدثون بقولهم‪[ :‬إن العدالة تتأذى من إدانة بـريء واحد لكنها ال تتأذى‬ ‫من تبـرئة مائة متهم] وهو الذي جاءه صاحب بستان يشكو سرقة خادمه‬ ‫لثمــار البســتان‪ ،‬فلمــا حقــق القضيــة وجــد أن صاحــب البســتان ال يعطــي‬ ‫خادمــه مــا يكفيــه‪ ،‬فقــال لــه عمــر‪ :‬لــو ســرق بعــد ذلــك لقطعــت يــدك أنــت!‬ ‫هذا الفقه السليم إلقامة الحدود اإلسالمية هو الذي فقهه عمر فوجد‬ ‫أن الرمــادة شــبهة كبـي ــرة تــدرأ الحــد‪ ..‬فوجــد أن شــروط النــص ال تنطبــق‪،‬‬ ‫وليــس معنــى ذلــك تقديــم املصلحــة علــى النــص‪ ،‬إنمــا هــو اجتهــاد داخــل‬ ‫النــص نفســه للبحــث فــي توافــر شــروط الجريمــة وشــروط العقوبــة)(‪.)23‬‬ ‫َّ‬ ‫اإلسالمي يعيش الرمادة واملجاعة على كل‬ ‫ومن يتأمل واقعنا يـرى مجتمعنا‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫واألخالقية والفكرية‪ ،‬وهذا ما يدعونا اليوم إلى إعادة‬ ‫املستويات الديـن َّـية‬ ‫النظر في ّ‬ ‫ّ‬ ‫اإلسالمية وطريقة تعاملها مع املجتمع‪ ...‬فيا‬ ‫أولويات الجماعات‬ ‫من تنادون باإلســام صباح مســاء! بدل أن تلوموا ّ‬ ‫الناس لوموا أنفســكم‪،‬‬ ‫هل فعلتم ما يتوجب عليكم لتثبـيت اإليمان في القلوب حتى يفعل الناس‬ ‫مــا يتوجــب عليهــم مــن العمــل بأحــكام هللا؟ أم أنكــم بخالفاتكــم ونزاعاتكــم‬ ‫والفضائــح الت ــي تنــال كباركــم والخرافــات الت ــي تعــج بهــا عقــول أتباعكــم؛ قــد‬ ‫أفقدتــم َّ‬ ‫النــاس الثقــة بــكل مــن يتكلــم باســم الدي ــن! نعــم نحــن اليــوم جـ ٌ‬ ‫ـزء مــن‬ ‫ّ‬ ‫َّ‬ ‫نحملهالآلخريـن‪.‬‬ ‫املشكلةالتـينتكلمعنهاوعليـناأننتحملمسؤولياتنابدلأن ِ‬ ‫فاحذر أيها املسلم الغيور إن ُوّل َ‬ ‫يت ً‬ ‫شيئا من أمر املسلميـن أن تجور عليهم‬ ‫ِ‬ ‫أو تظلمهــم‪ ،‬فتبــوء بغضــب هللا مــن حيــث قصــدت رضــاه‪ ،‬واعلــم أن‬ ‫ـات كثي ــرة قبــل أن تصــل إلــى مرحلــة تطب ــيق‬ ‫للمجتمــع عليــك واجبـ ٍ‬ ‫الحــدود‪ ،‬فقبــل أن تقطــع يــد الســارق أطعمــه‪ ،‬وقبــل أن تجلــد الزان ــي‬ ‫أو ت ــرجمه علمــه وأدبــه‪ ،‬وقبــل أن تجلــد شــارب الخمــر هيــئ لــه ظــروف‬ ‫صالحــه‪ ،‬وقبــل أن تحكــم بالــردة علــى مــن يســب الدي ــن علمــه حرمــة‬ ‫ً‬ ‫مجتمعا‬ ‫الدي ــن‪ ،‬فــإن أقمــت عليهــم الحــدود قبــل أن تعلمهــم وتيهــئ لهــم‬

‫(‪ )22‬موطأ اإلمام مالك‪ ،‬تحقيق بشار عواد معروف ومحمود خليل‪ ،‬طبعة مؤسسة الرسالة ‪( ،1412‬ص ‪.)470/2‬‬ ‫(‪ )23‬املصلحة املرسلة محاولة لبسطها ونظرة فيها‪ ،‬املؤلف‪ :‬علي محمد جريشة‪ ،‬الناشر‪ :‬الجامعة اإلسالمية باملديـنة املنورة‪ ،‬طبعة السنة العاشرة ‪ -‬العدد الثالث‪ ،‬ذو الحجة ‪1397‬هـ (ص ‪.)48‬‬

‫‪22‬‬

‫ً‬ ‫َّ‬ ‫وأولويتــك اليــوم أن تيهــئ املجتمــع‬ ‫نظيفــا يعيشــون فيــه فقــد ظلمتهــم‪،‬‬ ‫ليتحمل أعباء الحكم اإلسالمي ويتقبل مفاهيمه بدل أن تكرهه على ما‬ ‫ُ‬ ‫يجهــل وتأطــره عليــه أطـ ًـرا فتكــون ســبب فتنــة لــه فــي دي ــنه‪...‬‬ ‫اعتـراض ورد‪:‬‬ ‫االعت ـراض‪ :‬يحــاول البعــض الطعــن فــي روايــة درء عمــر ر�ضــي هللا عنــه لحــد‬ ‫الســرقة بشــبهة الجــوع بقولهــم‪ :‬إنهــا غي ــر ثابتــة لضعــف ســندها‪ ،‬بــل جــزم‬ ‫بعضهــم بأنهــا مكذوبــة مختلقــة علــى عمــر ر�ضــي هللا عنــه! وتلــك هــي حجــة‬ ‫الضعفــاء وأهــل البــدع فــي كل زمــان‪ ،‬إن لــم يوافــق النــص فهمهــم ّ‬ ‫ضعفــوه‪،‬‬ ‫فــإن لــم يجــدوا سب ـ ًـيل لذلــك َّأولــوه َّ‬ ‫وحملــوه مــن األحــكام مــا ليــس فيــه‪،‬‬ ‫كحــال ذي الخويصــرة التميمــي الــذي لــم يمنعــه �شــيء مــن االعتــداء علــى‬ ‫حرمــة النب ــي صلــى هللا عليــه وســلم واتهامــه بالجــور والبعــد عــن العدالــة‪.‬‬ ‫الــرد‪ :‬رغــم مــا ذكــر فــي ســند هــذه القصــة فإنــه ال يطعــن فيهــا ألنهــا ثابتــة‬ ‫معتمدة عند مجتهدي فقهاء السلف الصالح‪ ،‬إذ جعلوها ً‬ ‫أساسا تستنبط‬ ‫منه األحكام في مسألة تغريم العبد بجنايته أو تغريم سيده‪ ،‬وحكم تغريم‬ ‫السيدبضعفقيمةال�شيءاملتلف‪،‬باإلضافةإلىتقريـرهمدرءحدالسرقة‬ ‫بالجــوع‪ ...‬وممــن احتــج بهــذه الروايــة اإلمــام مالــك واإلمــام الشــافعي واإلمــام‬ ‫َّ ّ‬ ‫يؤكــد مــا نقــل مــن اجتهــاد عمــر فــي هــذه املســألة؛ تقري ــره هــذه‬ ‫أحمــد‪ ،‬وممــا ِ‬ ‫َُْ َ‬ ‫ُ‬ ‫الفتــوى فــي مواضــع أخــرى وروايــة األئمــة لذلــك عنــه كقولــه‪(( :‬ال يقطــع ِفــي‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ِعــذ ٍق‪َ ،‬وال ِفــي َعـ ِـام َسـ َـن ٍة))(‪.)24‬‬ ‫وقــد تحــدث اب ــن ّ‬ ‫القيــم طويــا عــن اجتهــاد عمــر ر�ضــي هللا عنــه فــي هــذه‬ ‫َ ْ ٌِ ْ َ‬ ‫ْ َ ّ َ َ َْ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ال َج َاعـ ِـة] ْ ِال َثــالُ‬ ‫وط الحـ ِـد عــام‬ ‫اب ســق ِ‬ ‫املســألة َفقــال‪( :‬فصــل ِ[مــن أســب ِ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫الثالـ ُـث‪ :‬أ َّن ُع َمـ َـر ْبـ َـن ْال َخ َّطــاب َر�ضـ َـي ُ‬ ‫الل َعنــه أ ْســقط القطـ َـع َعـ ْـن َّ‬ ‫السـ ِـار ِق‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ْ َ‬ ‫َ َْ َ َ َ ْ ُ َ َ َ َ َ ُ َ ْ‬ ‫ـال‪(( :‬ل ت ْقطـ ُـع ال َيـ ُـد ِفــي ِعــذ ٍق َول َعـ ِـام َسـ َـن ٍة))‪،‬‬ ‫ِفــي عـ ِـام الجاعـ ِـة‪ ...‬عــن عمــر قـ‬ ‫َ​َ َ ْ‬ ‫َ َ َّ ْ ُّ َ َ ْ َ ْ َ َ ْ َ َ ْ َ َ ْ َ َ ْ‬ ‫(العـ ْـذق‪ُ:‬‬ ‫َ‬ ‫قــال الســع ِدي‪ :‬ســألت أحمــد بــن حنبـ ٍـل عــن هــذا الح ِديـ ِـث فقــال‪ِ :‬‬ ‫َْ ُ َ ْ َ‬ ‫َ​َ َ َ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫الن ْخ َل ُة) و َ‬ ‫ْ‬ ‫ال‪ :‬إي ل َعم ِري‪،‬‬ ‫(ع ُام َس َن ٍة‪ :‬ال َج َاعة)‪ ،‬ف ُقلت ِل ْح َم َد‪ :‬ت ُقول ِب ِه؟ فق‬ ‫ْ َ َ َ َ َ َ َ َْ َ ُ ُ َ​َ َ َ َ َ َ​َْ ُ ْ َ َ ُ َ‬ ‫ُْ‬ ‫اجــة َعلــى‬ ‫قلــت‪ :‬إن ســرق ِفــي مجاعـ ٍـة ل تقطعــه؟ فقــال‪ :‬ل‪ ،‬إذا حملتــه الح‬ ‫َذلـ َـك َو َّ‬ ‫النـ ُ‬ ‫ـاس ِفــي َم َج َاعـ ٍـة َو ِشـ َّـد ٍة‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ـال َّ‬ ‫َقـ َ‬ ‫السـ ْـع ِد ُّي‪َ :‬و َهــذا َعلــى ن ْحـ ِـو ق ِض َّيـ ِـة ُع َمـ َـر ِفــي ِغل َمـ ِـان َح ِاطـ ٍـب‪َ ...‬وذ َهـ َـب‬ ‫يعــا‪ ،‬فــي َم َســائل ْ‬ ‫َأ ْح َمـ ُـد َإلــى ُم َو َاف َقــة ُع َمـ َـر فــي ْال َف ْ‬ ‫ص َل ْيــن َجم ً‬ ‫إسـ َـم ِاع َ‬ ‫يل ْبـ ِـن‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َّ َ ْ ّ َّ َ َ َ َ َّ ْ ُّ َ َ َّ ُ ْ ُ َ ْ ُ َ َ َ َ ْ‬ ‫َ‬ ‫اب سماه التر ِجم‪ ،‬قال‪ :‬سألت‬ ‫َس ِع ٍيد الشالن ِج ِي ال ِتي شرحها السع ِدي ِب ِكت ٍ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫ْ َ َ ْ َ َ ْ َ َ ْ َّ ُ َ ْ ُ َّ‬ ‫الث َمـ َـر ِمـ ْـن أ ْك َم ِامـ ِـه‪َ ،‬ف َقـ َ‬ ‫ـال‪ِ :‬فيـ ِـه الث َمـ ُـن‬ ‫أحمــد بــن حنبـ ٍـل عــن الرجـ ِـل يح ِمــل‬ ‫َ َّ َ ْ َ َ ْ ُ َ َ َ َ َ َ ُ ُّ َ ْ َ َ ْ َ َ ْ ُ ْ َ ُّ َ ْ َ َ ُ َ ْ َ ْ َ َ َ‬ ‫ْ‬ ‫مرتيـ ِـن وضــرب نــك ٍال‪ ،‬وقــال‪ :‬وكل مــن درأنــا عنــه الحــد والقــود أضعفنــا عليـ ِـه‬ ‫َْ ْ‬ ‫َ‬ ‫َْ‬ ‫َْ َ‬ ‫ْ ُ َ َ َ ْ َ َ َ َ ْ َ َ​َ ُ ُ‬ ‫وط القطـ ِـع ِفــي ال َج َاعـ ِـة ال ْوز ِاعـ ُّـي‪َ ،‬و َهــذا‬ ‫الغـ ْـرم‪ ،‬وقــد وافــق أح َمــد علــى ســق ِ‬

‫العدد ‪ 2‬رجب ‪1439‬هـ‬

‫َ‬ ‫َ ْ ُ ْ َ ََُْ َ َ‬ ‫َّ ْ َ َّ َّ َ َ َ َ‬ ‫السـ َـنة إذا كانـ ْـت َسـ َـنة‬ ‫�ضــى ق َو ِاعـ ِـد الشــرِع؛ فـ ِـإن‬ ‫ـاس ومقت‬ ‫محــض ال ِقيـ ِ‬ ‫َ َ َ َ َّ َ َ َ َ َ َّ ْ َ َ ُ َ َّ ُ َ ُ َ َ ُ ْ َ َ َ َ ْ ُ​ُ‬ ‫ـاس الحاجــة والضــرورة‪ ...‬وعــام الجاعـ ِـة يكثــر‬ ‫مجاعـ ٍـة و ِشــد ٍة غلــب علــى النـ ِ‬ ‫ْ َ َ ُ َ ْ ُ ْ َ ُّ َ َ َ َ َ َ َّ ُ ْ ُ ْ َ ْ ْ ُ ْ َ َّ ُق َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ِف ِيه الح ِاويج والضطرون‪ ،‬ول يتميز الستغ ِني ِمنهم والس ِار ِلغي ِر حاج ٍة‬ ‫َ‬ ‫َ ْ‬ ‫َ َ‬ ‫َ َ َْ‬ ‫َ َ‬ ‫ِم ْن غ ْي ِر ِه‪ ،‬فاشت َب َه َم ْن َي ِج ُب َعل ْي ِه ال َح ُّد ِب َم ْن ل َي ِج ُب َعل ْي ِه ف ُد ِر َئ‪ ،‬ن َع ْم إذا‬ ‫َ َ َ َّ َّ َق َ َ َ َ َ ُ َ ُ ْ َ ْ َ ْ َّ َ ُ‬ ‫السـ ِـرق ِة ق ِطـ َـع)(‪.)25‬‬ ‫بــان أن السـ ِـار ل حاجــة ِبـ ِـه وهــو مســتغ ٍن عــن‬ ‫لعل في هذا العرض املوجز لألحكام التـي استنبطها مجتهدو سلفنا الصالح‬ ‫ً‬ ‫كفاية لباغي ّ‬ ‫الحق َّ‬ ‫والرشاد‪ ،‬وأما من استحكمت بدعته‬ ‫من هذه القصة‬ ‫ِ‬ ‫فــي قلبــه فــا يقنعــه �شــيء مــن ذلــك‪ ،‬ولــو كان صر ً‬ ‫يحــا فــي كتــاب هللا وســنة‬ ‫رسوله ألن مرضه كمرض ذي الخويصرة الذي لم يمنعه �شيء من االفتـراء‬ ‫على رسول هللا صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬إنه العجب والكبـر على عباد هللا كما‬ ‫أخبـر النبـي صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬نسأل هللا السالمة من ذلك‪.‬‬

‫املبحثالثالث‬

‫َّ ٌ‬ ‫ُ َّ‬ ‫الحدود‬ ‫إقامة‬ ‫ِ‬ ‫ولة مقدمة على ِ‬ ‫وحدة الد ِ‬ ‫عندما بويع الصحاب ُّـي الجليل ّ‬ ‫علي بـن أبـي طالب كرم هللا وجهه بالخالفة‪،‬‬ ‫كان أول عمل سيقوم به هو االقتصاص من قتلة عثمان بـن عفان ر�ضي‬ ‫هللا عنه‪ّ ،‬‬ ‫ولكنه رأى في تطب ــيق القصاص في تلك املرحلة مفســدة أكب ــر‬ ‫مــن املصلحــة املرتجــاة مــن تطب ــيقه‪ ،‬أال وهــي خــروج عشــائر القتلــة علــى‬ ‫الدولــة اإلســامية‪ ،‬وبالتالــي دخــول األمــة فــي حــروب طاحنــة قــد تــؤدي‬ ‫إلــى انهيــار الدولــة‪ ،‬ورأى أن الحـ َ‬ ‫ـروب مــع املطالبـي ــن بتعجيــل القصــاص‬ ‫وهــم طلحــة والزبـي ــر ومعاويــة ‪ -‬ر�ضــي هللا عــن الجميــع ‪ -‬أقـ ُّـل ضـ ًـررا‬ ‫مــن تطب ــيق القصــاص فــي تلــك املرحلــة الحرجــة‪ ،‬بــل وأقــل ضـ ًـررا مــن‬ ‫ـقوط ملكانــة الخالفــة‬ ‫االســتجابة لهــم‪ ،‬ملــا فــي االســتجابة ملخالفيــه مــن سـ ٍ‬ ‫وهيبــة ُ‬ ‫الحكـ ِـم‪ ،‬فيدفــع ذلــك كل ذي هــوى إلــى التطــاول علــى مكانــة‬ ‫الدولــة فــي قابــل َّأيامهــا‪ ،‬ومعلــوم مــا فــي هــذا األمــر مــن ضيــاع للســلطة‬ ‫وانف ـراط لعقــد األمــة وإطمــاع للعــدو فــي بالدهــا َّ‬ ‫ورعيتهــا‪.‬‬ ‫فت ـ ْـر ُك القصــاص شــر‪ ،‬والحــرب ضــد معاويــة وغي ــره شــر آخــر‪ ،‬ولكــن أمي ــر‬ ‫املؤمنـي ــن ًّ‬ ‫عليــا كــرم هللا وجهــه دفــع أعظــم الشري ــن بأهونهمــا‪ ،‬فرفــض‬ ‫االقتصــاص مــن القتلــة فــي تلــك املرحلــة ور�ضــي بمواجهــة اآلخري ــن علــى‬ ‫القاعدة املشهورة‪( :‬إذا تعارضت مفسدتان دفع أعظمهما ً‬ ‫ضررا بارتكاب‬ ‫أخفهمــا)‪ ...‬وال بــد لنــا مــن الوقــوف علــى أقــوال أهــل العلــم فــي هــذه الواقعــة‪،‬‬ ‫لعل في أقوالهم ً‬ ‫نورا مبـي ـ ًـنا يبدد ظلمات الجهل‪ ،‬ويكشف الحق لطالب ــيه‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫الباقلن ـ ُّـي رحمــه هللا‪َ :‬‬ ‫(وعلــى َأنــه إذا َثبــت َأن ًّ‬ ‫عليــا ِم َّمــن ي ــرى‬ ‫يقــول اإلمــام‬ ‫ِ‬

‫(‪ )24‬مصنف ابـن أبـي شيبة‪ ،‬بتـرقيم دار القبلة‪ ،‬باب في الرجل يسرق الثمر والطعام رقم الحديث (‪ ،)29179‬وفي مصنف عبد الرزاق‪ ،‬تحقيق األعظمي طبعة املجلس العلمي في الهند ‪ ،1403‬رقم الحديث (‪.)18990‬‬ ‫(‪ )25‬إعالم املوقعيـن عن رب العامليـن البـن القيم‪ ،‬تحقيق محمد عبد السالم إبـراهيم‪ ،‬طبعة دار الكتب العلمية ‪( ،1991‬ص ‪ 18/3‬و‪ )53(.)19‬شرح العقيدة الطحاوية (ص‪)354/2‬‬

‫‪23‬‬


‫قواعد السياسة الشرعية‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫ـرعي‬ ‫ونت ــيجة ملــا ســبق فــإن قتــال أب ــي بكــر ألهــل الــردة كان تنفيــذا لحكــم شـ ٍ‬ ‫توفرت أسباب تطبـيقه‪ ،‬ويحقق مصلحة ناجزة للمسلميـن أكبـر من تلك‬ ‫املصلحــة الت ــي ظنهــا عمــر ر�ضــي هللا عنــه وأهـ ّـم مــن كالم النــاس‪ ،‬ولــو َو َجــد‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫الصديــق ر�ضــي هللا عنــه املصلحــة فــي غي ــر ذلــك ملــا وســعه إال ِاتبــاع النب ــي‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫صلــى هللا عليــه فــي تقدي ــر املصلحــة‪ ،‬وهــو أهــل املحبــة واالتبــاع والطاعــة‬ ‫املطلقــة هلل ســبحانه ولنب ــيه صلــى هللا عليــه وآلــه وصحبــه وســلم‪.‬‬

‫املبحثالثانـي‬

‫رء ّ‬ ‫َ‬ ‫الحاجة‬ ‫شيوع‬ ‫الحد‬ ‫د ُ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫بسبب ِ‬ ‫فــي خالفــة عمــر ب ــن الخطــاب ر�ضــي هللا عنــه‪ ،‬وفــي العــام الثامــن عشــر مــن‬ ‫جوعــا شـ ً‬ ‫الهجــرة أجدبــت األرض وقحطــت الســماء فجــاع النــاس ً‬ ‫ـديدا‪،‬‬ ‫اضطـ ّـر بعــض ّ‬ ‫النــاس بســببه َّ‬ ‫للســرقة‪ ،‬وقــد اشــتهر أن عمــر ر�ضــي هللا عنــه‬ ‫قــام بــدرء حـ ّـد الســرقة عــن بعــض العب ــيد ّالذي ــن ســرقوا فــي تلــك ّ‬ ‫الســنة‬ ‫ِ‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫املجدبــة‪ ،‬حيــث اعتب ــر انتشــار الجــوع شــبهة مانعــة مــن إقامــة الحـ ِـد‪ ...‬ولــم‬ ‫يكتــف بإســقاط الحـ ِّـد عنهــم بــل عاقــب سـ ّـيدهم َّ‬ ‫وغرمــه ألنــه كان متسـ ّـب ًبا‬ ‫فيمــا فعلــه عب ــيده إذ كان يتعبهــم وال يشــبعهم‪(( ،‬عــن َم ِالــك ر�ضــي هللا عنــه‬ ‫َ‬ ‫َعـ ْـن ِه َشــام ْبــن ُعـ ْـر َو َة َعـ ْـن َأبيـ ِـه َعـ ْـن َي ْح َيــى ْبــن َع ْبـ ِـد َّ‬ ‫الر ْح َمـ ِـن ْبـ ِـن َح ِاطـ ٍـب‪ ،‬أ َّن‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫َرق ًيقــا ل َحاطــب ب ــن أب ــي بلتعــة َسـ َـر ُقوا َن َاقـ ًـة ل َر ُجــل مـ ْـن ُم َ ْزي َنـ َـة َف ْان َت َح ُر َ‬ ‫وهــا‪،‬‬ ‫ِ ٍ ِ‬ ‫ِ ِ ِ ٍ‬ ‫الص ْل ِت َأ ْن َي ْق َط َع َأ ْي ِد َي ُهم‪ْ،‬‬ ‫َف ُر ِف َع َذ ِل َك إ َلى ُع َم َر ْبن ْال َخ َّطاب َف َأ َم َر َك ِثي َـر ْب َن َّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َ َ َ ُ ُ ُ ْ َ َّ‬ ‫ُثـ َّـم َقـ َ ُ‬ ‫الل ُأل َغ ّر َم َّنـ َـك ُغ ْر ًمــا َي ُشـ ُّـق َع َل ْيـ َـك) ُثــمَّ‬ ‫ُ‬ ‫ـال ع َمــر‪( :‬إن ــي أراك ت ِجيعهــم‪ ،‬و ِ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫َ َ ْ ُ َ ّ َ ْ َ َ ُ َ َ َ َ َ َ َْ َ‬ ‫عمائــة ِد ْر َهــم‪َ ،‬قـ َ‬ ‫ـال ُع َمـ ُـر‪( :‬أ ْع ِطـ ِـه‬ ‫قــال ِللم ِزنـ ِـي‪( :‬كــم ثمــن ناق ِتــك؟) قــال‪ :‬أرب‬ ‫ٍ‬ ‫َ َ َ‬ ‫ث َمان ِمائــة ِد ْر َهـ ٍـم))(‪.)22‬‬ ‫فعلمنــا مــن ذلــك أنــه قــد تطـرأ علــى املجتمــع ظــروف يكــون تطب ــيق الحــدود‬ ‫فيهــا ً‬ ‫ظلمــا للنــاس‪ ،‬ليــس ألن الحــدود غي ــر عادلــة أو غي ــر واجبــة‪ ،‬بــل ألن‬ ‫َ‬ ‫حمــل الفـ ُ‬ ‫املجتمــع أصبــح هــو بحـ ِّـد ذاتــه ســبب الجنايــة‪ ،‬فــا ُي َّ‬ ‫ـرد مســؤولية‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫مجتم ِعه‪ ...‬ونالحظ أن عمر قد جعل من شــيوع الجوع شــبهة كافية لدرء‬ ‫الحد‪ ،‬وكذلك يكون النظر في كل جناية وعقوبتها فإن كان ُ‬ ‫سببها املجتمع‬ ‫عقوبات تعزيـ َّرية مناسبة تعتمد املوازنة في تحميل الخطأ‬ ‫لجأ الحاكم إلى‬ ‫ٍ‬ ‫ّ‬ ‫ملرتكبه أو للمتسبب به كل بمقداره‪ ...‬ولكن إن كانت السرقة أو غيـرها من‬ ‫الجنايــات مســببة عــن الشــخص نفســه وليــس للمجتمــع دخــل فيهــا؛ ثبــت‬ ‫ً‬ ‫ُّ‬ ‫الحد على مرتكبها كأن يسرق لغي ــر حاجة ً‬ ‫طمعا وزيادة في الث ــروة‪...‬‬ ‫والحقيقــة أنــه ي ــنبغي ألهــل العلــم أن يقفــوا فــي القضيــة حيــث وقــف عمــر‬

‫قواعد السياسة الشرعية‬

‫العدد ‪ 2‬رجب ‪1439‬هـ‬

‫ر�ضــي هللا عنــه وال يتجــاوزوا ذلــك‪ ...‬إذ يســتدل بعــض الحداثيي ــن بهــذه‬ ‫الواقعــة علــى إلغــاء الحــدود ً‬ ‫تمامــا‪ ،‬وجــواز االجتهــاد علــى خــاف النـ ّ‬ ‫ـص‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫القرآن ـ ّـي ب ـ ً‬ ‫ـناء علــى املصلحــة أو علــى التش ـريع بال ـرأي‪ ،‬وليــس األمــر كمــا‬ ‫ِ‬ ‫ً‬ ‫أوهمتهــم نفوســهم‪( ...‬والحــق أن األمــر ليــس تقديمــا للمصلحــة علــى النــص‬ ‫ً‬ ‫وال تعطيــا لحــد مــن حــدود هللا‪ ..‬ولكنــه بواليتــه العامــة وجــد أن شــروط‬ ‫النــص غي ــر منطبقــة‪ ،‬إذ توجــد شــبهة قويــة تحــول دون تطب ــيق الحــد أو‬ ‫تــدرؤه‪ ،‬وهــو الــذي ســمع رســول هللا صلــى هللا عليــه وســلم يقــول‪(( :‬ادرؤوا‬ ‫الحدود بالشبهات ما استطعتم)) وسمعه كذلك يقول‪(( :‬ألن يخطئ اإلمام‬ ‫فــي العفــو خي ــر مــن أن يخطــئ فــي العقوبــة)) وهــو الــذي ت ــرجمه القانون ــيون‬ ‫املحدثون بقولهم‪[ :‬إن العدالة تتأذى من إدانة بـريء واحد لكنها ال تتأذى‬ ‫من تبـرئة مائة متهم] وهو الذي جاءه صاحب بستان يشكو سرقة خادمه‬ ‫لثمــار البســتان‪ ،‬فلمــا حقــق القضيــة وجــد أن صاحــب البســتان ال يعطــي‬ ‫خادمــه مــا يكفيــه‪ ،‬فقــال لــه عمــر‪ :‬لــو ســرق بعــد ذلــك لقطعــت يــدك أنــت!‬ ‫هذا الفقه السليم إلقامة الحدود اإلسالمية هو الذي فقهه عمر فوجد‬ ‫أن الرمــادة شــبهة كبـي ــرة تــدرأ الحــد‪ ..‬فوجــد أن شــروط النــص ال تنطبــق‪،‬‬ ‫وليــس معنــى ذلــك تقديــم املصلحــة علــى النــص‪ ،‬إنمــا هــو اجتهــاد داخــل‬ ‫النــص نفســه للبحــث فــي توافــر شــروط الجريمــة وشــروط العقوبــة)(‪.)23‬‬ ‫َّ‬ ‫اإلسالمي يعيش الرمادة واملجاعة على كل‬ ‫ومن يتأمل واقعنا يـرى مجتمعنا‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫واألخالقية والفكرية‪ ،‬وهذا ما يدعونا اليوم إلى إعادة‬ ‫املستويات الديـن َّـية‬ ‫النظر في ّ‬ ‫ّ‬ ‫اإلسالمية وطريقة تعاملها مع املجتمع‪ ...‬فيا‬ ‫أولويات الجماعات‬ ‫من تنادون باإلســام صباح مســاء! بدل أن تلوموا ّ‬ ‫الناس لوموا أنفســكم‪،‬‬ ‫هل فعلتم ما يتوجب عليكم لتثبـيت اإليمان في القلوب حتى يفعل الناس‬ ‫مــا يتوجــب عليهــم مــن العمــل بأحــكام هللا؟ أم أنكــم بخالفاتكــم ونزاعاتكــم‬ ‫والفضائــح الت ــي تنــال كباركــم والخرافــات الت ــي تعــج بهــا عقــول أتباعكــم؛ قــد‬ ‫أفقدتــم َّ‬ ‫النــاس الثقــة بــكل مــن يتكلــم باســم الدي ــن! نعــم نحــن اليــوم جـ ٌ‬ ‫ـزء مــن‬ ‫ّ‬ ‫َّ‬ ‫نحملهالآلخريـن‪.‬‬ ‫املشكلةالتـينتكلمعنهاوعليـناأننتحملمسؤولياتنابدلأن ِ‬ ‫فاحذر أيها املسلم الغيور إن ُوّل َ‬ ‫يت ً‬ ‫شيئا من أمر املسلميـن أن تجور عليهم‬ ‫ِ‬ ‫أو تظلمهــم‪ ،‬فتبــوء بغضــب هللا مــن حيــث قصــدت رضــاه‪ ،‬واعلــم أن‬ ‫ـات كثي ــرة قبــل أن تصــل إلــى مرحلــة تطب ــيق‬ ‫للمجتمــع عليــك واجبـ ٍ‬ ‫الحــدود‪ ،‬فقبــل أن تقطــع يــد الســارق أطعمــه‪ ،‬وقبــل أن تجلــد الزان ــي‬ ‫أو ت ــرجمه علمــه وأدبــه‪ ،‬وقبــل أن تجلــد شــارب الخمــر هيــئ لــه ظــروف‬ ‫صالحــه‪ ،‬وقبــل أن تحكــم بالــردة علــى مــن يســب الدي ــن علمــه حرمــة‬ ‫ً‬ ‫مجتمعا‬ ‫الدي ــن‪ ،‬فــإن أقمــت عليهــم الحــدود قبــل أن تعلمهــم وتيهــئ لهــم‬

‫(‪ )22‬موطأ اإلمام مالك‪ ،‬تحقيق بشار عواد معروف ومحمود خليل‪ ،‬طبعة مؤسسة الرسالة ‪( ،1412‬ص ‪.)470/2‬‬ ‫(‪ )23‬املصلحة املرسلة محاولة لبسطها ونظرة فيها‪ ،‬املؤلف‪ :‬علي محمد جريشة‪ ،‬الناشر‪ :‬الجامعة اإلسالمية باملديـنة املنورة‪ ،‬طبعة السنة العاشرة ‪ -‬العدد الثالث‪ ،‬ذو الحجة ‪1397‬هـ (ص ‪.)48‬‬

‫‪22‬‬

‫ً‬ ‫َّ‬ ‫وأولويتــك اليــوم أن تيهــئ املجتمــع‬ ‫نظيفــا يعيشــون فيــه فقــد ظلمتهــم‪،‬‬ ‫ليتحمل أعباء الحكم اإلسالمي ويتقبل مفاهيمه بدل أن تكرهه على ما‬ ‫ُ‬ ‫يجهــل وتأطــره عليــه أطـ ًـرا فتكــون ســبب فتنــة لــه فــي دي ــنه‪...‬‬ ‫اعتـراض ورد‪:‬‬ ‫االعت ـراض‪ :‬يحــاول البعــض الطعــن فــي روايــة درء عمــر ر�ضــي هللا عنــه لحــد‬ ‫الســرقة بشــبهة الجــوع بقولهــم‪ :‬إنهــا غي ــر ثابتــة لضعــف ســندها‪ ،‬بــل جــزم‬ ‫بعضهــم بأنهــا مكذوبــة مختلقــة علــى عمــر ر�ضــي هللا عنــه! وتلــك هــي حجــة‬ ‫الضعفــاء وأهــل البــدع فــي كل زمــان‪ ،‬إن لــم يوافــق النــص فهمهــم ّ‬ ‫ضعفــوه‪،‬‬ ‫فــإن لــم يجــدوا سب ـ ًـيل لذلــك َّأولــوه َّ‬ ‫وحملــوه مــن األحــكام مــا ليــس فيــه‪،‬‬ ‫كحــال ذي الخويصــرة التميمــي الــذي لــم يمنعــه �شــيء مــن االعتــداء علــى‬ ‫حرمــة النب ــي صلــى هللا عليــه وســلم واتهامــه بالجــور والبعــد عــن العدالــة‪.‬‬ ‫الــرد‪ :‬رغــم مــا ذكــر فــي ســند هــذه القصــة فإنــه ال يطعــن فيهــا ألنهــا ثابتــة‬ ‫معتمدة عند مجتهدي فقهاء السلف الصالح‪ ،‬إذ جعلوها ً‬ ‫أساسا تستنبط‬ ‫منه األحكام في مسألة تغريم العبد بجنايته أو تغريم سيده‪ ،‬وحكم تغريم‬ ‫السيدبضعفقيمةال�شيءاملتلف‪،‬باإلضافةإلىتقريـرهمدرءحدالسرقة‬ ‫بالجــوع‪ ...‬وممــن احتــج بهــذه الروايــة اإلمــام مالــك واإلمــام الشــافعي واإلمــام‬ ‫َّ ّ‬ ‫يؤكــد مــا نقــل مــن اجتهــاد عمــر فــي هــذه املســألة؛ تقري ــره هــذه‬ ‫أحمــد‪ ،‬وممــا ِ‬ ‫َُْ َ‬ ‫ُ‬ ‫الفتــوى فــي مواضــع أخــرى وروايــة األئمــة لذلــك عنــه كقولــه‪(( :‬ال يقطــع ِفــي‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ِعــذ ٍق‪َ ،‬وال ِفــي َعـ ِـام َسـ َـن ٍة))(‪.)24‬‬ ‫وقــد تحــدث اب ــن ّ‬ ‫القيــم طويــا عــن اجتهــاد عمــر ر�ضــي هللا عنــه فــي هــذه‬ ‫َ ْ ٌِ ْ َ‬ ‫ْ َ ّ َ َ َْ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ال َج َاعـ ِـة] ْ ِال َثــالُ‬ ‫وط الحـ ِـد عــام‬ ‫اب ســق ِ‬ ‫املســألة َفقــال‪( :‬فصــل ِ[مــن أســب ِ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫الثالـ ُـث‪ :‬أ َّن ُع َمـ َـر ْبـ َـن ْال َخ َّطــاب َر�ضـ َـي ُ‬ ‫الل َعنــه أ ْســقط القطـ َـع َعـ ْـن َّ‬ ‫السـ ِـار ِق‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ْ َ‬ ‫َ َْ َ َ َ ْ ُ َ َ َ َ َ ُ َ ْ‬ ‫ـال‪(( :‬ل ت ْقطـ ُـع ال َيـ ُـد ِفــي ِعــذ ٍق َول َعـ ِـام َسـ َـن ٍة))‪،‬‬ ‫ِفــي عـ ِـام الجاعـ ِـة‪ ...‬عــن عمــر قـ‬ ‫َ​َ َ ْ‬ ‫َ َ َّ ْ ُّ َ َ ْ َ ْ َ َ ْ َ َ ْ َ َ ْ َ َ ْ‬ ‫(العـ ْـذق‪ُ:‬‬ ‫َ‬ ‫قــال الســع ِدي‪ :‬ســألت أحمــد بــن حنبـ ٍـل عــن هــذا الح ِديـ ِـث فقــال‪ِ :‬‬ ‫َْ ُ َ ْ َ‬ ‫َ​َ َ َ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫الن ْخ َل ُة) و َ‬ ‫ْ‬ ‫ال‪ :‬إي ل َعم ِري‪،‬‬ ‫(ع ُام َس َن ٍة‪ :‬ال َج َاعة)‪ ،‬ف ُقلت ِل ْح َم َد‪ :‬ت ُقول ِب ِه؟ فق‬ ‫ْ َ َ َ َ َ َ َ َْ َ ُ ُ َ​َ َ َ َ َ َ​َْ ُ ْ َ َ ُ َ‬ ‫ُْ‬ ‫اجــة َعلــى‬ ‫قلــت‪ :‬إن ســرق ِفــي مجاعـ ٍـة ل تقطعــه؟ فقــال‪ :‬ل‪ ،‬إذا حملتــه الح‬ ‫َذلـ َـك َو َّ‬ ‫النـ ُ‬ ‫ـاس ِفــي َم َج َاعـ ٍـة َو ِشـ َّـد ٍة‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ـال َّ‬ ‫َقـ َ‬ ‫السـ ْـع ِد ُّي‪َ :‬و َهــذا َعلــى ن ْحـ ِـو ق ِض َّيـ ِـة ُع َمـ َـر ِفــي ِغل َمـ ِـان َح ِاطـ ٍـب‪َ ...‬وذ َهـ َـب‬ ‫يعــا‪ ،‬فــي َم َســائل ْ‬ ‫َأ ْح َمـ ُـد َإلــى ُم َو َاف َقــة ُع َمـ َـر فــي ْال َف ْ‬ ‫ص َل ْيــن َجم ً‬ ‫إسـ َـم ِاع َ‬ ‫يل ْبـ ِـن‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َّ َ ْ ّ َّ َ َ َ َ َّ ْ ُّ َ َ َّ ُ ْ ُ َ ْ ُ َ َ َ َ ْ‬ ‫َ‬ ‫اب سماه التر ِجم‪ ،‬قال‪ :‬سألت‬ ‫َس ِع ٍيد الشالن ِج ِي ال ِتي شرحها السع ِدي ِب ِكت ٍ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫ْ َ َ ْ َ َ ْ َ َ ْ َّ ُ َ ْ ُ َّ‬ ‫الث َمـ َـر ِمـ ْـن أ ْك َم ِامـ ِـه‪َ ،‬ف َقـ َ‬ ‫ـال‪ِ :‬فيـ ِـه الث َمـ ُـن‬ ‫أحمــد بــن حنبـ ٍـل عــن الرجـ ِـل يح ِمــل‬ ‫َ َّ َ ْ َ َ ْ ُ َ َ َ َ َ َ ُ ُّ َ ْ َ َ ْ َ َ ْ ُ ْ َ ُّ َ ْ َ َ ُ َ ْ َ ْ َ َ َ‬ ‫ْ‬ ‫مرتيـ ِـن وضــرب نــك ٍال‪ ،‬وقــال‪ :‬وكل مــن درأنــا عنــه الحــد والقــود أضعفنــا عليـ ِـه‬ ‫َْ ْ‬ ‫َ‬ ‫َْ‬ ‫َْ َ‬ ‫ْ ُ َ َ َ ْ َ َ َ َ ْ َ َ​َ ُ ُ‬ ‫وط القطـ ِـع ِفــي ال َج َاعـ ِـة ال ْوز ِاعـ ُّـي‪َ ،‬و َهــذا‬ ‫الغـ ْـرم‪ ،‬وقــد وافــق أح َمــد علــى ســق ِ‬

‫العدد ‪ 2‬رجب ‪1439‬هـ‬

‫َ‬ ‫َ ْ ُ ْ َ ََُْ َ َ‬ ‫َّ ْ َ َّ َّ َ َ َ َ‬ ‫السـ َـنة إذا كانـ ْـت َسـ َـنة‬ ‫�ضــى ق َو ِاعـ ِـد الشــرِع؛ فـ ِـإن‬ ‫ـاس ومقت‬ ‫محــض ال ِقيـ ِ‬ ‫َ َ َ َ َّ َ َ َ َ َ َّ ْ َ َ ُ َ َّ ُ َ ُ َ َ ُ ْ َ َ َ َ ْ ُ​ُ‬ ‫ـاس الحاجــة والضــرورة‪ ...‬وعــام الجاعـ ِـة يكثــر‬ ‫مجاعـ ٍـة و ِشــد ٍة غلــب علــى النـ ِ‬ ‫ْ َ َ ُ َ ْ ُ ْ َ ُّ َ َ َ َ َ َ َّ ُ ْ ُ ْ َ ْ ْ ُ ْ َ َّ ُق َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ِف ِيه الح ِاويج والضطرون‪ ،‬ول يتميز الستغ ِني ِمنهم والس ِار ِلغي ِر حاج ٍة‬ ‫َ‬ ‫َ ْ‬ ‫َ َ‬ ‫َ َ َْ‬ ‫َ َ‬ ‫ِم ْن غ ْي ِر ِه‪ ،‬فاشت َب َه َم ْن َي ِج ُب َعل ْي ِه ال َح ُّد ِب َم ْن ل َي ِج ُب َعل ْي ِه ف ُد ِر َئ‪ ،‬ن َع ْم إذا‬ ‫َ َ َ َّ َّ َق َ َ َ َ َ ُ َ ُ ْ َ ْ َ ْ َّ َ ُ‬ ‫السـ ِـرق ِة ق ِطـ َـع)(‪.)25‬‬ ‫بــان أن السـ ِـار ل حاجــة ِبـ ِـه وهــو مســتغ ٍن عــن‬ ‫لعل في هذا العرض املوجز لألحكام التـي استنبطها مجتهدو سلفنا الصالح‬ ‫ً‬ ‫كفاية لباغي ّ‬ ‫الحق َّ‬ ‫والرشاد‪ ،‬وأما من استحكمت بدعته‬ ‫من هذه القصة‬ ‫ِ‬ ‫فــي قلبــه فــا يقنعــه �شــيء مــن ذلــك‪ ،‬ولــو كان صر ً‬ ‫يحــا فــي كتــاب هللا وســنة‬ ‫رسوله ألن مرضه كمرض ذي الخويصرة الذي لم يمنعه �شيء من االفتـراء‬ ‫على رسول هللا صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬إنه العجب والكبـر على عباد هللا كما‬ ‫أخبـر النبـي صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬نسأل هللا السالمة من ذلك‪.‬‬

‫املبحثالثالث‬

‫َّ ٌ‬ ‫ُ َّ‬ ‫الحدود‬ ‫إقامة‬ ‫ِ‬ ‫ولة مقدمة على ِ‬ ‫وحدة الد ِ‬ ‫عندما بويع الصحاب ُّـي الجليل ّ‬ ‫علي بـن أبـي طالب كرم هللا وجهه بالخالفة‪،‬‬ ‫كان أول عمل سيقوم به هو االقتصاص من قتلة عثمان بـن عفان ر�ضي‬ ‫هللا عنه‪ّ ،‬‬ ‫ولكنه رأى في تطب ــيق القصاص في تلك املرحلة مفســدة أكب ــر‬ ‫مــن املصلحــة املرتجــاة مــن تطب ــيقه‪ ،‬أال وهــي خــروج عشــائر القتلــة علــى‬ ‫الدولــة اإلســامية‪ ،‬وبالتالــي دخــول األمــة فــي حــروب طاحنــة قــد تــؤدي‬ ‫إلــى انهيــار الدولــة‪ ،‬ورأى أن الحـ َ‬ ‫ـروب مــع املطالبـي ــن بتعجيــل القصــاص‬ ‫وهــم طلحــة والزبـي ــر ومعاويــة ‪ -‬ر�ضــي هللا عــن الجميــع ‪ -‬أقـ ُّـل ضـ ًـررا‬ ‫مــن تطب ــيق القصــاص فــي تلــك املرحلــة الحرجــة‪ ،‬بــل وأقــل ضـ ًـررا مــن‬ ‫ـقوط ملكانــة الخالفــة‬ ‫االســتجابة لهــم‪ ،‬ملــا فــي االســتجابة ملخالفيــه مــن سـ ٍ‬ ‫وهيبــة ُ‬ ‫الحكـ ِـم‪ ،‬فيدفــع ذلــك كل ذي هــوى إلــى التطــاول علــى مكانــة‬ ‫الدولــة فــي قابــل َّأيامهــا‪ ،‬ومعلــوم مــا فــي هــذا األمــر مــن ضيــاع للســلطة‬ ‫وانف ـراط لعقــد األمــة وإطمــاع للعــدو فــي بالدهــا َّ‬ ‫ورعيتهــا‪.‬‬ ‫فت ـ ْـر ُك القصــاص شــر‪ ،‬والحــرب ضــد معاويــة وغي ــره شــر آخــر‪ ،‬ولكــن أمي ــر‬ ‫املؤمنـي ــن ًّ‬ ‫عليــا كــرم هللا وجهــه دفــع أعظــم الشري ــن بأهونهمــا‪ ،‬فرفــض‬ ‫االقتصــاص مــن القتلــة فــي تلــك املرحلــة ور�ضــي بمواجهــة اآلخري ــن علــى‬ ‫القاعدة املشهورة‪( :‬إذا تعارضت مفسدتان دفع أعظمهما ً‬ ‫ضررا بارتكاب‬ ‫أخفهمــا)‪ ...‬وال بــد لنــا مــن الوقــوف علــى أقــوال أهــل العلــم فــي هــذه الواقعــة‪،‬‬ ‫لعل في أقوالهم ً‬ ‫نورا مبـي ـ ًـنا يبدد ظلمات الجهل‪ ،‬ويكشف الحق لطالب ــيه‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫الباقلن ـ ُّـي رحمــه هللا‪َ :‬‬ ‫(وعلــى َأنــه إذا َثبــت َأن ًّ‬ ‫عليــا ِم َّمــن ي ــرى‬ ‫يقــول اإلمــام‬ ‫ِ‬

‫(‪ )24‬مصنف ابـن أبـي شيبة‪ ،‬بتـرقيم دار القبلة‪ ،‬باب في الرجل يسرق الثمر والطعام رقم الحديث (‪ ،)29179‬وفي مصنف عبد الرزاق‪ ،‬تحقيق األعظمي طبعة املجلس العلمي في الهند ‪ ،1403‬رقم الحديث (‪.)18990‬‬ ‫(‪ )25‬إعالم املوقعيـن عن رب العامليـن البـن القيم‪ ،‬تحقيق محمد عبد السالم إبـراهيم‪ ،‬طبعة دار الكتب العلمية ‪( ،1991‬ص ‪ 18/3‬و‪ )53(.)19‬شرح العقيدة الطحاوية (ص‪)354/2‬‬

‫‪23‬‬


‫قواعد السياسة الشرعية‬ ‫َ‬ ‫َّ َ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫قتــل ال َج َم َاعــة ِبال َو ِاحـ ِـد؛ لــم يجــز أن يقتــل َج ِميــع قتلــة ُعث َمــان ِإل ِبــأن تقــوم‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ال َب ِّي َنــة علــى القتلــة بأعيانهــم‪َ ،‬و ِبــأن يحضــر أ ْوِل َيــاء الـ َّـدم َم ْج ِلســه‪ ،‬ويطالبــوا‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ّ َ ُ ُ‬ ‫ووليهــم‪َ ،‬ول َيكونــوا ِفــي حكــم مــن ْيع َتقــد أنهــم بغــاة َعل ْيـ ِـه َو ِم َّمـ ْـن ل‬ ‫ِبـ َـدم أ ِب ِيهــم‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫َّ‬ ‫ْ ْ‬ ‫اسـ ِتخ َراج حــق ل ُهــم دون أن يدخلــوا ِفــي الط َاعــة وي ــرجعوا َعــن ال َبغــي‪،‬‬ ‫يجــب‬ ‫َ َ َُّ َ َ ْ َ ُ َ َ ْ َ َ​َ َُْ َ َُّ َ‬ ‫َ‬ ‫اإلمــام اج ِتهــاده ِإلــى أن قتــل قتلـ ِـة عثمــان ل يــؤ ِدي ِإلــى هــرج ع ِظيــم‬ ‫و ِبــأن يــؤ ِدي ِ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫َّ‬ ‫َوف َســاد شـ ِـديد؛ قــد يكــون ِفيـ ِـه مثــل قتــل ُعث َمــان أو أعظــم ِمنــه‪ِ َ ،‬وإن تأ ِخي ـ َـر‬ ‫َ ْ َ‬ ‫ْ‬ ‫َ ْ ْ‬ ‫َ‬ ‫ِإق َامــة ال َحــد ِإلــى َوقــت ِإ ْمكانــه وتق�صــي الحــق ِفيـ ِـه أولــى و‬ ‫أصلـ ُـح للمــة وألـ ُّـم‬ ‫َ ْ‬ ‫َْ َ‬ ‫َ ُْ َ ُ ُ‬ ‫اإل َمــام ِفــي إقامــة‬ ‫لشــعثهم وأنفــى للفســاد والتهمــة عنهــم‪ ،‬هـ ِـذه أ َمــور كلهــا تلــزم ِ‬ ‫ْ ْ‬ ‫ْال ُحـ ُـدود واســتخراج ْال ُح ُقــوق‪َ ،‬وَل ْيـ َ‬ ‫ال َم َامــة لرجــل مــن‬ ‫ـس ألحــد أن يعقــد‬ ‫ِ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُْ‬ ‫السلمي ــن بشـريطة ت ْع ِجيــل ِإق َامــة حــد مــن ُحـ ُـدود هللا‪َ ،‬وال َع َمـ ِـل ِفيـ ِـه ِبـ َـرأي‬ ‫ْ‬ ‫َ َّ‬ ‫الرعيــة‪َ َ ،‬ول للمعقــود َلـ ُـه َأن ْ‬ ‫ّ‬ ‫ـي‬ ‫ـ‬ ‫ف‬ ‫ـل‬ ‫ـ‬ ‫خ‬ ‫يد‬ ‫ال َم َامــة ِب َهــذا الشـ ْـرط‪.)26()..‬‬ ‫ِ ِ‬ ‫َّ‬ ‫وقــد تكلــم اإلمــام الطحــاوي رحمــه هللا عــن أســباب امتنــاع اإلمــام علـ ّ ٍـي كــرم‬ ‫هللا وجهــه عــن القصــاص فــي تلــك الفت ــرة الحرجــة مــن تاريــخ األمــة بقولــه‪:‬‬ ‫ُ َ‬ ‫َّ‬ ‫ُّ َ ْ َ‬ ‫َ(و َك َان فــي َع ْسـ َـكر َعلـ ّـي َر�ضـ َـي َّ ُ‬ ‫الل َع ْنـ ُـه ‪ِ -‬مـ ْـن أول ِئـ َـك الطغـ ِـاة الخـ َـو ِار ِج ال ِذي ـ َـن‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ ٍ ِ‬ ‫َق َت ُلــوا ُع ْث َمـ َ‬ ‫ـان ‪َ -‬مـ ْـن َلـ ْـم ُي ْعـ َـر ْف ب َع ْي ِنـ ِـه‪َ ،‬و َمـ ْـن َت ْن َتصـ ُـر َلـ ُـه َقب َيل ُتـ ُـه‪َ ،‬و َمـ ْـن َلـ ْـم َت ُقــمْ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َ َ ْ ُ َّ ٌ َ َ َ َ ُ َ َ ْ َ ْ َ ٌ َ ْ َ َ َ َّ ْ ْ ْ‬ ‫ُ ّ (‪)27‬‬ ‫َ‬ ‫عليـ ِـه حجــة ِبمــا فعلــه‪ ،‬ومــن ِفــي قل ِبـ ِـه ِنفــاق لــم يتمكــن ِمــن ِإظهـ ِـار ِه ك ِلـ ِـه) ‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫يقــول اب ــن ت ــيمية‪( :‬بــل لــم يكــن علـ ٌّـي مــع تفــرق النــاس عليــه متمك ًنــا مــن قتـ ِـل‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫شرا ً‬ ‫بفتنة تزيد األمر ًّ‬ ‫وبالء‪ ،‬ودفع أفسد الفاسديـن بالتزام‬ ‫تلة عثمان إال ٍ‬ ‫ق ِ‬ ‫ً‬ ‫عسكرا وكان لهم قبائل تغضب لهم‪،‬‬ ‫أدناهما أولى من العكس‪ ،‬ألنهم كانوا‬ ‫ً‬ ‫َّ‬ ‫واملباشر منهم للقتل وإن كان قليل فكان ِر ْد ُؤهم أهل الشوكة‪ ،‬ولوال ذلك‬ ‫َ‬ ‫لــم يتمكنــوا‪ ...‬وملــا ســار طلحــة والزبـي ــر إلــى البصــرة ليقتلــوا قتلــة عثمــان قــام‬ ‫بســبب ذلــك حـ ٌ‬ ‫ـرب قتــل فيهــا خلــق‪ ،‬وممــا يبـي ــن ذلــك أن معاويــة قــد أجمــع‬ ‫ّ‬ ‫علي وصار أمي ًـرا على جميع املسلميـن ومع هذا فلم‬ ‫الناس عليه بعد موت ٍ‬ ‫يقتل قتلــة عثمــان)(‪.)28‬‬ ‫ّ‬ ‫الخالصــة‪ :‬ال بــد لهــذا الــدرس أن يكــون نـ ً‬ ‫ـورا َّ‬ ‫واملتبصري ــن‪ ،‬فهــذا‬ ‫للسالكي ــن‬ ‫اإلمــام علـ ٌّـي كــرم هللا وجهــه لــم يقــل بــأن القصــاص غي ــر واجــب تبـري ـ ًـرا لعــدم‬ ‫قــدرة الدولــة علــى تنفيــذه‪ ،‬كمــا لــم يدفعــه التزامــه بكافــة أوامــر الشــرع إلــى‬ ‫القيام بأعمال قد تؤدي إلى انهيار دولته‪ ...‬وإنما أخذ بكل ما جاء في الشرع‬ ‫مــن نصــوص ومــن قواعــد املصلحــة ّ‬ ‫الكليــة املعروفــة عنــد املجتهدي ــن مــن‬ ‫ٍ‬ ‫الصحابــة ومــن علــى دربهــم‪.‬‬ ‫وهذا ما نقوله اليوم في سوريا واليمن وليبـيا وغيـرها من بالد اإلسالم التـي‬ ‫تعانـي من االضطرابات‪ ،‬ال تجوز إقامة الحدود في فتـرة فتنة ومحسوبـيات‬

‫قواعد السياسة الشرعية‬

‫العدد ‪ 2‬رجب ‪1439‬هـ‬

‫وتصفيةحساباتتحتاسماملحاكمالشرعية‪،‬ملافيذلكمنإشعالللفتن‬ ‫وتحكيمللهوىوعصيانهللورسولهوبعدعننهجالخلفاءالراشديـن‪،‬وإنما‬ ‫تقام على املذنبـيـن عقوبات مؤقتة من حجز وتعزيـر تكفي لضبط املجتمع‬ ‫ريثمايستقرالوضع‪،‬وتنفذفيهمالعقوباتاملناسبةلجرائمهم‪...‬‬

‫املبحث الرابع‬

‫ُ‬ ‫الحدود من أمور ّ‬ ‫ياسة التـي ال ُت َّ‬ ‫حمل‬ ‫الس ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫َّ‬ ‫مسؤولياتها لعامة الناس‬ ‫عندمــا نتتبــع أوامــر الش ـريعة اإلســامية فإننــا نــرى مــن نصوصهــا مــا هــو‬ ‫عــام لــكل مســلم كاألمــر باإليمــان والصــاة‪ ،‬ومنهــا مــا هــو خـ ّ‬ ‫ـاص موجــه لفئة‬ ‫َّ‬ ‫معينـ ٍـة مــن األمــة كاألمــر بالــزكاة والحــج واألمــر باملعــروف والنهــي عــن املنكــر‬ ‫والجهــاد واإلنفــاق فإنــه وإن كان األمــر فيــه ًّ‬ ‫عامــا لــكل األمــة‪ ،‬فــإن هــذا األمــر‬ ‫ال يفيد الوجوب في حق املكلف بعيـنه حتى يكون ً‬ ‫قادرا على أدائه أو ممن‬ ‫اجتمعــت فيهــم شــروط التكليــف‪ ،‬كاألمــر بالحــج والــزكاة فإنــه موجــه إلــى‬ ‫األغنـياء والقادريـن‪...‬‬ ‫وكذلك أمور الحكم وإدارة الدول فإنها موجهة إلى الحكام والقضاة وأولي‬ ‫مخصوص من أحكامها‪...‬‬ ‫األمر وأصحاب القدرة‪ ،‬وكل منهم مكلف بجزء‬ ‫ٍ‬ ‫أما أن ُي َّدعى َّأن األمر بهذه األحكام َّ‬ ‫موج ٌه إلى كل أحد من املسلميـن‪ ،‬فيظن‬ ‫ًّ‬ ‫البعض نفســه ًّ‬ ‫ووصيا على إقامة الشــرع‪ ،‬فإن في هذا‬ ‫وصيا على الخالفة‬ ‫ً‬ ‫أنواعا من الفساد ال تح�صى‪ ،‬وقد رأيـناها في بالد الشام‪ُ ،‬‬ ‫وقبل في العراق‬ ‫والجزائر والصومال ومالي وأفغانستان‪ ،‬فكلما تغلبت مجموعة من هؤالء‬ ‫ً‬ ‫َّ‬ ‫إسالمي ًة تعقد فيها بـيعة لنكرة ُّ‬ ‫يسمونه‬ ‫القاصريـن على قرية أعلنوها إمارة‬ ‫أمي ًـرا‪ ،‬تجب طاعته في اليسر والعسر واملنشط واملكره على حد تعبـيـرهم‪،‬‬ ‫َّ ً‬ ‫ـرعية يعقــدون فيهــا مجالــس القضــاء الت ــي تتطاي ــر‬ ‫ثــم ي ــنشئون محاكـ َـم شـ‬ ‫فيهــا رؤوس املخالفي ــن يمنــة ويســرة تحــت شــعار إقامــة الحــدود والحكــم‬ ‫بمــا أنــزل هللا‪.‬‬ ‫وقد عد النبـي صلى هللا عليه وسلم حديث رعاع الناس في شؤون املسلميـن‬ ‫العامةمنعالماتفسادالزمانوانقالباملوازيـنقربظهورالدجال‪،‬يقول‬ ‫َ‬ ‫ات َخ ّد َاع ٌ‬ ‫الناس َس َن َو ٌ‬ ‫((ت ْأتي َع َلى َّ‬ ‫ات ُي َ‬ ‫ص َّد ُق ِف َيها‬ ‫النبـي صلى هللا عليه وسلم‪ِ :‬‬ ‫ِ‬ ‫َْ‬ ‫َ ُ‬ ‫ْ َ‬ ‫َْ‬ ‫ْالـ َـك ِاذ ُب‪َ ،‬وُي َكـ َّـذ ُب ِف َيهــا َّ‬ ‫الصـ ِـاد ُق‪َ ،‬وُيؤت َمـ ُـن ِف َيهــا الخا ِئـ ُـن‪َ ،‬وُيخـ َّـون ِف َيهــا ال ِمي ـ ُـن‪،‬‬ ‫الر َو ْيب َ‬ ‫الر َو ْيب َ‬ ‫ضـ ُـة؟ َقـ َ‬ ‫ضـ ُـة)) ِقيـ َـل‪َ :‬يــا َر ُســو َل َّ ِ َ َ ُّ‬ ‫ـال‪َّ :‬‬ ‫َ َ ْ ُ ُ ُّ‬ ‫((الر ُجـ ُـل‬ ‫الل ومــا ِ‬ ‫وين ِطــق ِف ِيهــم َ ِ‬ ‫ْ‬ ‫َ َّ‬ ‫َّ‬ ‫التا ِف ُه َي َتكل ُم ِفي أ ْم ِر ال َع َّام ِة))(‪.)29‬‬

‫(‪ )26‬تمهيد األوائل في تلخيص الدالئل للباقالنـي‪ ،‬طبعة مؤسسة الكتب الثقافية ‪ -‬لبـنان ‪1987‬م‪( ،‬ص ‪.)551‬‬ ‫(‪ )27‬شرح العقيدة الطحاوية البـن أبـي العز الحنفي‪ ،‬طبعة مؤسسة الرسالة ‪1997‬م‪( ،‬ص ‪ )28( - .)723/2‬منهاج السنة البـن تـيمية تحقيق محمد رشاد سالم‪ ،‬الطبعة األولى‪ ،‬مؤسسة قرطبة‪( ،‬ص ‪.)236/4‬‬ ‫(‪ )29‬املستدرك على الصحيحيـن للحاكم النـيسابوري‪ ،‬تحقيق مصطفى العطا‪ ،‬طبعة دار الكتب العلمية ‪1990‬م‪( ،‬ص ‪ )512/4‬رقم الحديث ( ‪ )8439‬وقد صححه الحاكم ووافقه الذهبـي‪...‬‬ ‫وفي سنن ابـن ماجه تحقيق األرناؤوط طبعة دار الرسالة ‪2009‬م‪ ،‬باب شدة الزمان‪( ،‬ص ‪ )162/5‬رقم الحديث (‪.)4036‬‬

‫‪24‬‬

‫ولهذا فإنه من اإلجرام في حق األمة واملجتمع ما تقوم به بعض الجماعات‬ ‫مــن تحميــل مســؤولية إقامــة «منصــب الخالفــة» لــكل فــرد‪ ،‬ممــا جعــل‬ ‫َّ‬ ‫الخالفة كلمة مبتذلة على األفواه وفي أذهان الناس بعد أن َ‬ ‫حملها وتكلم‬ ‫ً‬ ‫بهــا مــن ليــس أهــا للحديــث عنهــا‪ ،‬وهــي إنمــا يخاطــب بهــا أهــل القــدرة مــن‬ ‫األمـراء والعلمــاء وأهــل الســطوة فــي األمــة‪ ...‬والحــدود فــي ذلــك كالخالفــة ‪ -‬إذ‬ ‫هي جزء من مهامها‪ -‬إنما يخاطب بها أهل ُ‬ ‫الحكم من ملوك وأمراء وقضاة‬ ‫وأصحــاب الســلطة االجتماعيــة مــن علمــاء ورجــال سياســة وأعمــال‪ ،‬وال‬ ‫يخاطــب بهــا الجهلــة ومــن ليــس مــن أهــل االختصــاص‪ ،‬ممــن لــم يتوجــه‬ ‫خطــاب الشــارع إليــه فــي هــذا املســائل‪.‬‬ ‫قال اإلمام النووي رحمه هللا في املجموع‪( :‬ال يقيم الحدود على األحرار إال‬ ‫اإلمام أو من فوض إليه اإلمام‪ ،‬ألنه لم ُي َقم ٌّ‬ ‫حد على حر على عهد رسول‬ ‫هللا صلــى هللا عليــه وســلم إال بإذنــه‪ ،‬وال فــي أيــام الخلفــاء إال بإذنهــم‪ ،‬وألنــه‬ ‫حـ ٌّـق هلل تعالــى يفتقــر إلــى االجتهــاد وال يؤمــن فــي است ــيفائه الحيــف فلــم يجــز‬ ‫بغي ــر إذن اإلمام‪.)30()...‬‬ ‫ولعل في الواقعة التـي نقلت عن عمر بـن الخطاب ر�ضي هللا عنه في حجته‬ ‫األخيـرة ب ً‬ ‫ـيانا ً‬ ‫شافيا لنا في هذه املسألة‪ ،‬روى اإلمام البخار ُّي بسنده إلى ْاب ِن‬ ‫َ َ ُ ُْ‬ ‫ُْ‬ ‫َ َّ‬ ‫ـاس ر�ضــي هللا عنهمــا قـ‬ ‫ـال‪( :‬ك ْنـ ُـت أقـ ِـر ُئ ِر َجــاال ِمـ َـن ال َه ِاج ِري ـ َـن ِم ْن ُهـ ْـم َع ْبـ ُـد‬ ‫عبـ ٍ‬ ‫َ‬ ‫ً َ ْ َ ْ َ ُ َ َ ْ ْ َ َّ‬ ‫َّ ْ َ ْ ُ َ ْ َ َ ْ َ َ َ َ ْ‬ ‫ـاب‬ ‫الرحمـ ِـن بــن عــو ٍف فبينمــا أنــا ِفــي من ِزلـ ِـه ِب ِمنــى‪ ،‬وهــو ِعنــد عمـ َـر بـ ِـن الخطـ َ ِ‬ ‫َ َّ َ َّ َ ْ َ َ َ َ َّ َ ْ ُ َّ ْ َ َ َ َ َ‬ ‫ً َ‬ ‫ِفــي ِآخـ ِـر حجـ ٍـة حجهــا؛ ِإذ رجــع ِإلــي عبــد الرحمـ ِـن فقـ‬ ‫ـال‪ :‬لـ ْـو َرأ ْيـ َـت َر ُجــا أتــى‬ ‫َ‬ ‫ُْْ َ ْ َ ْ َ َ َ‬ ‫ـال‪َ :‬يــا َأمي ـ َـر ْالُ ْؤمني ـ َـن َهـ ْـل َلـ َـك فــي ُفـ َـان! َي ُقــو ُل‪َ :‬لــوْ‬ ‫ِ​ِ‬ ‫أ ِمي ـ َـر الؤ ِم ِني ــن اليــوم فقـ َ ِ‬ ‫َِ ٍ‬ ‫ُ‬ ‫ْ َّ َ ْ ً‬ ‫َ ْ َ َ ُ َ ُ َ َ ْ َ َ ْ ُ ُ َ ً َ َ َّ َ َ‬ ‫الل َمــا كانـ ْـت َب ْي َعــة أ ِبــي َبكـ ٍـر ِإال فل َتــة‬ ‫قــد مــات عمــر لقــد بايعــت فالنــا فــو ِ‬ ‫َ َ َّ ْ َ َ َ ُ َ ُ ُ َّ َ َ ّ ْ َ َ َّ ُ َ َ ٌ ْ َ َّ َ‬ ‫َّ‬ ‫ـاس‬ ‫فتمــت! فغ ِضــب عمــر ثــم قــال‪ِ :‬‬ ‫((إَ ِنــي ِإن شــاء الل ُلقا ِئــم الع ِشــية ِفــي النـ ِ‬ ‫ُ َ َّ‬ ‫َ ّ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫ف ُم َح ِذ ُر ُهـ ْـم َهــؤال ِء ال ِذي ـ َـن ُي ِريـ ُـدون أن يغ ِصبوهــم أمورهــم))‪.‬‬ ‫بهــذه الكلمــات البســيطة يقــرر عمــر ب ــن الخطــاب ر�ضــي هللا عنــه قاعــدة‬ ‫كبـرى من قواعد السياسة اإلسالمية وهي‪ :‬أن السلطة في تنصيب الحاكم‬ ‫لألمة‪ ،‬مما يتـرتب على ذلك عدم شرعية الحكام الذيـن يأخذون السلطة‬ ‫ً‬ ‫غصبــا دون أن يكــون للمجتمــع أو لقادتــه ر ٌ‬ ‫أي فــي اخت ــيارهم‪ ...‬ولكــن ملــا أراد‬ ‫عمــر أن يخطــب وقــف فــي وجهــه مستشــاره األمي ــن عبــد الرحمــن ب ــن عــوف‬ ‫َ َْ‬ ‫َ​َ‬ ‫َ ُْْ‬ ‫ر�ضي هللا عنه وقال له‪(َ :‬يا أ ِمي َـر الؤ ِم ِني َـن ال ت ْف َع ْل ف ِإ َّن ال ْو ِس َم َي ْج َم ُع َر َع َاع‬ ‫َّ‬ ‫النــاس َو َغ ْو َغ َاء ُهـ ْـم‪َ ،‬فإ َّن ُهـ ْـم ُهـ ُـم َّال ِذي ـ َـن َي ْغل ُبــو َن َع َلــى ُق ْربـ َـك حي ـ َـن َت ُقـ ُ‬ ‫ـوم ِفــي‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ُ َ َ‬ ‫َ َ ً َ‬ ‫َ​َ​َ َ ْ َ َ ْ َ ُ َ َ‬ ‫َّ‬ ‫ـوم ف َت ُقــو َل َمقالــة ُيط ِّي ُر َهــا َع ْنـ َـك ك ُّل ُمط ِّيـ ٍـر‪َ ،‬وأ ْن‬ ‫النـ‬ ‫ـاس‪ ،‬وأنــا أخ�شــى أن تقـ‬ ‫ِ‬ ‫َ​َ‬ ‫َْ َ َ‬ ‫َ‬ ‫َ َ ُ َ َ​َ ْ َ َ َ ُ َ َ​َ َ َ‬ ‫اض ِع َهــا فأ ْم ِهـ ْـل َح َّتــى ت ْقـ ُـد َم ال ِدي ـ َـنة ف ِإ َّن َهــا‬ ‫ال يعوهــا‪ ،‬وأن ال يضعوهــا علــى مو ِ‬ ‫ُْ‬ ‫َّ َ‬ ‫َ ُ ْ ْ َ َ ُّ َّ َ َ ْ ُ َ َ ْ ْ ْ َ َ ْ‬ ‫اس ف َت ُقو َل َما قل َت‬ ‫دار ال ِهجر ِة و‬ ‫السن ِة‪ ،‬فتخلص ِبأه ِل ال ِفق ِه وأش َر ِ‬ ‫اف الن ِ‬ ‫(‪ )30‬املجموع شرح املهذب لإلمام النووي طبعة دار الفكر‪( ،‬ص ‪.)34/20‬‬ ‫(‪ )31‬صحيح البخاري‪ ،‬باب رجم الحبلى في الزنا إذا أحصنت‪ ،‬رقم الحديث (‪.)6442‬‬

‫العدد ‪ 2‬رجب ‪1439‬هـ‬

‫ُ َ َ ّ ً َ​َ َ ْ ُ ْ ْ َ َ َ​َ َ َ​َ َ ُ َ​َ َ​َ َ َ‬ ‫اض ِع َهــا!) (‪.)31‬‬ ‫متم ِكنــا‪ ،‬في ِعــي أهــل ال ِعلـ ِـم مقالتــك ويضعونهــا علــى مو ِ‬ ‫وبالفعــل فقــد رأى عمــر ر�ضــي هللا عنــه الصــواب فــي نصيحــة مستشــاره‬ ‫األمي ــن َّ‬ ‫فأجــل الخطبــة حتــى ي ــرجع إلــى املدي ــنة ويتكلــم مــع أهــل الفهــم‬ ‫واالختصــاص‪ ،‬وهــذا الــكالم مــن اب ــن عــوف وعمــر ر�ضــي هللا عنهمــا واضــح‬ ‫ُ‬ ‫الداللــة علــى أنــه ليــس مــن الحكمــة الحديــث أمــام عامــة النــاس فــي أمــور‬ ‫تخــص الحاكــم والدولــة والسياســة‪ ،‬فالعامــة ال يفهمونهــا بــل قــد يثي ــرون‬ ‫الفتــن عنــد ســماعها‪ ،‬وإنمــا املختصــون بمناقشــة أمــور الحكــم والسياســة‬ ‫هــم طبقــة خاصــة مــن املجتمــع تتمتــع بالفهــم والعقــل والعلــم‪.‬‬ ‫ً‬ ‫َ‬ ‫ثــم كان مــن كالم عمــر فــي خطبتــه يــوم رجــع إلــى املدي ــنة‪(( :‬ف َمـ ْـن َب َايـ َـع َر ُجــا‬ ‫َ ًَ‬ ‫َ َّ‬ ‫َ َ‬ ‫ُْ‬ ‫َع َلــى َغ ْيــر َم ُشـ َ‬ ‫ـور ٍة ِمـ َـن ال ْس ِل ِمي ـ َـن فــا ُي َت َابـ ُـع ُهـ َـو‪َ ،‬وال الـ ِـذي َب َاي َعـ ُـه ت ِغـ َّـرة أ ْن‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫ُي ْق َتال)) فأيما رجل خرج يطلب الحكم بدون مشــورة املجتمع وأهل الرأي‬ ‫والحكمــة فيــه فحقــه القتــل هــو ومــن بايعــه‪.‬‬ ‫وهــذان األم ـران وهمــا وجــوب مشــورة أهــل ال ـرأي والحكمــة فــي اخت ــيار‬ ‫َ‬ ‫الحاكــم‪ ،‬وعــدم إدخــال عامــة َّ‬ ‫النــاس فــي أمــور سياسـ َّـية ال يفقهونهــا؛ ل ُهمــا‬ ‫من أبـرز معالم نظام الحكم في اإلسالم‪ ،‬الذي اختص بتشريعات حكيمة‬ ‫تحوي في ثناياها كل مزايا االتجاهات السياسية األخرى وتتجنب مساوئها‪.‬‬ ‫مســألة‪ :‬إن تجن ــيب العامــة مســائل الحكــم وتطب ــيق الحــدود ال يعن ــي أبـ ًـدا‬ ‫ّ‬ ‫َّ‬ ‫ّ ُ ّ‬ ‫ونعل َمهــم إياهــا ونعرفهــم علــى حكمــة اإلســام فــي تشـريعها‪،‬‬ ‫فقههــم بهــا ِ‬ ‫أل ن ِ‬ ‫بــل إن تعليمهــم هــذه األمــور مــن واجبــات الدي ــن الت ــي تعـ ّـرف املــرء بأحــكام‬ ‫ربه وتحفظ له ديـنه فال تلتبس عليه الشبهات التـي تثار حول التشريعات‬ ‫حم َل مسؤولية تطبـيقها أو َ‬ ‫اإلسالمية اليوم‪ ،‬وإنما املمنوع هو أن ُي َّ‬ ‫يوهم‬ ‫بــأن هللا سيحاســبه إن لــم يســع لهــا؛ وهــو أصــا ليــس مــن أهــل هــذا الشــأن‬ ‫وال ممــن ّ‬ ‫توجـ َـه إليــه التكليــف بذلــك‪.‬‬

‫املبحثالخامس‬ ‫َّ‬ ‫ُ َّ ّ ُ‬ ‫إقامة الشريعة‬ ‫األناة والتدرج في ِ‬

‫إن القــارئ فــي مسي ــرة التشـريع اإلســامي يعلــم أن األنــاة والتــدرج أساســان‬ ‫مهمان من أسس الدعوة لم يستغن عنهما اإلسالم في مرحلة من مراحله‪،‬‬ ‫إذ لم ي ــنزل القرآن دفعة واحدة ولم تحرم الخبائث كلها ب ــنص واحد‪ ،‬كما‬ ‫لــم تنــزل الفرائــض جميعــا فــي يــوم واحــد ولــو أراد هللا ذلــك لــكان‪ ...‬ولعــل فــي‬ ‫مهــام وأهــداف الدعــوة اإلســامية فــي كل مــن املرحلــة املكيــة واملدن ــية أوضــح‬ ‫دليــل علــى ذلــك‪...‬‬

‫‪25‬‬


‫قواعد السياسة الشرعية‬ ‫َ‬ ‫َّ َ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫قتــل ال َج َم َاعــة ِبال َو ِاحـ ِـد؛ لــم يجــز أن يقتــل َج ِميــع قتلــة ُعث َمــان ِإل ِبــأن تقــوم‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ال َب ِّي َنــة علــى القتلــة بأعيانهــم‪َ ،‬و ِبــأن يحضــر أ ْوِل َيــاء الـ َّـدم َم ْج ِلســه‪ ،‬ويطالبــوا‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ّ َ ُ ُ‬ ‫ووليهــم‪َ ،‬ول َيكونــوا ِفــي حكــم مــن ْيع َتقــد أنهــم بغــاة َعل ْيـ ِـه َو ِم َّمـ ْـن ل‬ ‫ِبـ َـدم أ ِب ِيهــم‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫َّ‬ ‫ْ ْ‬ ‫اسـ ِتخ َراج حــق ل ُهــم دون أن يدخلــوا ِفــي الط َاعــة وي ــرجعوا َعــن ال َبغــي‪،‬‬ ‫يجــب‬ ‫َ َ َُّ َ َ ْ َ ُ َ َ ْ َ َ​َ َُْ َ َُّ َ‬ ‫َ‬ ‫اإلمــام اج ِتهــاده ِإلــى أن قتــل قتلـ ِـة عثمــان ل يــؤ ِدي ِإلــى هــرج ع ِظيــم‬ ‫و ِبــأن يــؤ ِدي ِ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫َّ‬ ‫َوف َســاد شـ ِـديد؛ قــد يكــون ِفيـ ِـه مثــل قتــل ُعث َمــان أو أعظــم ِمنــه‪ِ َ ،‬وإن تأ ِخي ـ َـر‬ ‫َ ْ َ‬ ‫ْ‬ ‫َ ْ ْ‬ ‫َ‬ ‫ِإق َامــة ال َحــد ِإلــى َوقــت ِإ ْمكانــه وتق�صــي الحــق ِفيـ ِـه أولــى و‬ ‫أصلـ ُـح للمــة وألـ ُّـم‬ ‫َ ْ‬ ‫َْ َ‬ ‫َ ُْ َ ُ ُ‬ ‫اإل َمــام ِفــي إقامــة‬ ‫لشــعثهم وأنفــى للفســاد والتهمــة عنهــم‪ ،‬هـ ِـذه أ َمــور كلهــا تلــزم ِ‬ ‫ْ ْ‬ ‫ْال ُحـ ُـدود واســتخراج ْال ُح ُقــوق‪َ ،‬وَل ْيـ َ‬ ‫ال َم َامــة لرجــل مــن‬ ‫ـس ألحــد أن يعقــد‬ ‫ِ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُْ‬ ‫السلمي ــن بشـريطة ت ْع ِجيــل ِإق َامــة حــد مــن ُحـ ُـدود هللا‪َ ،‬وال َع َمـ ِـل ِفيـ ِـه ِبـ َـرأي‬ ‫ْ‬ ‫َ َّ‬ ‫الرعيــة‪َ َ ،‬ول للمعقــود َلـ ُـه َأن ْ‬ ‫ّ‬ ‫ـي‬ ‫ـ‬ ‫ف‬ ‫ـل‬ ‫ـ‬ ‫خ‬ ‫يد‬ ‫ال َم َامــة ِب َهــذا الشـ ْـرط‪.)26()..‬‬ ‫ِ ِ‬ ‫َّ‬ ‫وقــد تكلــم اإلمــام الطحــاوي رحمــه هللا عــن أســباب امتنــاع اإلمــام علـ ّ ٍـي كــرم‬ ‫هللا وجهــه عــن القصــاص فــي تلــك الفت ــرة الحرجــة مــن تاريــخ األمــة بقولــه‪:‬‬ ‫ُ َ‬ ‫َّ‬ ‫ُّ َ ْ َ‬ ‫َ(و َك َان فــي َع ْسـ َـكر َعلـ ّـي َر�ضـ َـي َّ ُ‬ ‫الل َع ْنـ ُـه ‪ِ -‬مـ ْـن أول ِئـ َـك الطغـ ِـاة الخـ َـو ِار ِج ال ِذي ـ َـن‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ ٍ ِ‬ ‫َق َت ُلــوا ُع ْث َمـ َ‬ ‫ـان ‪َ -‬مـ ْـن َلـ ْـم ُي ْعـ َـر ْف ب َع ْي ِنـ ِـه‪َ ،‬و َمـ ْـن َت ْن َتصـ ُـر َلـ ُـه َقب َيل ُتـ ُـه‪َ ،‬و َمـ ْـن َلـ ْـم َت ُقــمْ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َ َ ْ ُ َّ ٌ َ َ َ َ ُ َ َ ْ َ ْ َ ٌ َ ْ َ َ َ َّ ْ ْ ْ‬ ‫ُ ّ (‪)27‬‬ ‫َ‬ ‫عليـ ِـه حجــة ِبمــا فعلــه‪ ،‬ومــن ِفــي قل ِبـ ِـه ِنفــاق لــم يتمكــن ِمــن ِإظهـ ِـار ِه ك ِلـ ِـه) ‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫يقــول اب ــن ت ــيمية‪( :‬بــل لــم يكــن علـ ٌّـي مــع تفــرق النــاس عليــه متمك ًنــا مــن قتـ ِـل‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫شرا ً‬ ‫بفتنة تزيد األمر ًّ‬ ‫وبالء‪ ،‬ودفع أفسد الفاسديـن بالتزام‬ ‫تلة عثمان إال ٍ‬ ‫ق ِ‬ ‫ً‬ ‫عسكرا وكان لهم قبائل تغضب لهم‪،‬‬ ‫أدناهما أولى من العكس‪ ،‬ألنهم كانوا‬ ‫ً‬ ‫َّ‬ ‫واملباشر منهم للقتل وإن كان قليل فكان ِر ْد ُؤهم أهل الشوكة‪ ،‬ولوال ذلك‬ ‫َ‬ ‫لــم يتمكنــوا‪ ...‬وملــا ســار طلحــة والزبـي ــر إلــى البصــرة ليقتلــوا قتلــة عثمــان قــام‬ ‫بســبب ذلــك حـ ٌ‬ ‫ـرب قتــل فيهــا خلــق‪ ،‬وممــا يبـي ــن ذلــك أن معاويــة قــد أجمــع‬ ‫ّ‬ ‫علي وصار أمي ًـرا على جميع املسلميـن ومع هذا فلم‬ ‫الناس عليه بعد موت ٍ‬ ‫يقتل قتلــة عثمــان)(‪.)28‬‬ ‫ّ‬ ‫الخالصــة‪ :‬ال بــد لهــذا الــدرس أن يكــون نـ ً‬ ‫ـورا َّ‬ ‫واملتبصري ــن‪ ،‬فهــذا‬ ‫للسالكي ــن‬ ‫اإلمــام علـ ٌّـي كــرم هللا وجهــه لــم يقــل بــأن القصــاص غي ــر واجــب تبـري ـ ًـرا لعــدم‬ ‫قــدرة الدولــة علــى تنفيــذه‪ ،‬كمــا لــم يدفعــه التزامــه بكافــة أوامــر الشــرع إلــى‬ ‫القيام بأعمال قد تؤدي إلى انهيار دولته‪ ...‬وإنما أخذ بكل ما جاء في الشرع‬ ‫مــن نصــوص ومــن قواعــد املصلحــة ّ‬ ‫الكليــة املعروفــة عنــد املجتهدي ــن مــن‬ ‫ٍ‬ ‫الصحابــة ومــن علــى دربهــم‪.‬‬ ‫وهذا ما نقوله اليوم في سوريا واليمن وليبـيا وغيـرها من بالد اإلسالم التـي‬ ‫تعانـي من االضطرابات‪ ،‬ال تجوز إقامة الحدود في فتـرة فتنة ومحسوبـيات‬

‫قواعد السياسة الشرعية‬

‫العدد ‪ 2‬رجب ‪1439‬هـ‬

‫وتصفيةحساباتتحتاسماملحاكمالشرعية‪،‬ملافيذلكمنإشعالللفتن‬ ‫وتحكيمللهوىوعصيانهللورسولهوبعدعننهجالخلفاءالراشديـن‪،‬وإنما‬ ‫تقام على املذنبـيـن عقوبات مؤقتة من حجز وتعزيـر تكفي لضبط املجتمع‬ ‫ريثمايستقرالوضع‪،‬وتنفذفيهمالعقوباتاملناسبةلجرائمهم‪...‬‬

‫املبحث الرابع‬

‫ُ‬ ‫الحدود من أمور ّ‬ ‫ياسة التـي ال ُت َّ‬ ‫حمل‬ ‫الس ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫َّ‬ ‫مسؤولياتها لعامة الناس‬ ‫عندمــا نتتبــع أوامــر الش ـريعة اإلســامية فإننــا نــرى مــن نصوصهــا مــا هــو‬ ‫عــام لــكل مســلم كاألمــر باإليمــان والصــاة‪ ،‬ومنهــا مــا هــو خـ ّ‬ ‫ـاص موجــه لفئة‬ ‫َّ‬ ‫معينـ ٍـة مــن األمــة كاألمــر بالــزكاة والحــج واألمــر باملعــروف والنهــي عــن املنكــر‬ ‫والجهــاد واإلنفــاق فإنــه وإن كان األمــر فيــه ًّ‬ ‫عامــا لــكل األمــة‪ ،‬فــإن هــذا األمــر‬ ‫ال يفيد الوجوب في حق املكلف بعيـنه حتى يكون ً‬ ‫قادرا على أدائه أو ممن‬ ‫اجتمعــت فيهــم شــروط التكليــف‪ ،‬كاألمــر بالحــج والــزكاة فإنــه موجــه إلــى‬ ‫األغنـياء والقادريـن‪...‬‬ ‫وكذلك أمور الحكم وإدارة الدول فإنها موجهة إلى الحكام والقضاة وأولي‬ ‫مخصوص من أحكامها‪...‬‬ ‫األمر وأصحاب القدرة‪ ،‬وكل منهم مكلف بجزء‬ ‫ٍ‬ ‫أما أن ُي َّدعى َّأن األمر بهذه األحكام َّ‬ ‫موج ٌه إلى كل أحد من املسلميـن‪ ،‬فيظن‬ ‫ًّ‬ ‫البعض نفســه ًّ‬ ‫ووصيا على إقامة الشــرع‪ ،‬فإن في هذا‬ ‫وصيا على الخالفة‬ ‫ً‬ ‫أنواعا من الفساد ال تح�صى‪ ،‬وقد رأيـناها في بالد الشام‪ُ ،‬‬ ‫وقبل في العراق‬ ‫والجزائر والصومال ومالي وأفغانستان‪ ،‬فكلما تغلبت مجموعة من هؤالء‬ ‫ً‬ ‫َّ‬ ‫إسالمي ًة تعقد فيها بـيعة لنكرة ُّ‬ ‫يسمونه‬ ‫القاصريـن على قرية أعلنوها إمارة‬ ‫أمي ًـرا‪ ،‬تجب طاعته في اليسر والعسر واملنشط واملكره على حد تعبـيـرهم‪،‬‬ ‫َّ ً‬ ‫ـرعية يعقــدون فيهــا مجالــس القضــاء الت ــي تتطاي ــر‬ ‫ثــم ي ــنشئون محاكـ َـم شـ‬ ‫فيهــا رؤوس املخالفي ــن يمنــة ويســرة تحــت شــعار إقامــة الحــدود والحكــم‬ ‫بمــا أنــزل هللا‪.‬‬ ‫وقد عد النبـي صلى هللا عليه وسلم حديث رعاع الناس في شؤون املسلميـن‬ ‫العامةمنعالماتفسادالزمانوانقالباملوازيـنقربظهورالدجال‪،‬يقول‬ ‫َ‬ ‫ات َخ ّد َاع ٌ‬ ‫الناس َس َن َو ٌ‬ ‫((ت ْأتي َع َلى َّ‬ ‫ات ُي َ‬ ‫ص َّد ُق ِف َيها‬ ‫النبـي صلى هللا عليه وسلم‪ِ :‬‬ ‫ِ‬ ‫َْ‬ ‫َ ُ‬ ‫ْ َ‬ ‫َْ‬ ‫ْالـ َـك ِاذ ُب‪َ ،‬وُي َكـ َّـذ ُب ِف َيهــا َّ‬ ‫الصـ ِـاد ُق‪َ ،‬وُيؤت َمـ ُـن ِف َيهــا الخا ِئـ ُـن‪َ ،‬وُيخـ َّـون ِف َيهــا ال ِمي ـ ُـن‪،‬‬ ‫الر َو ْيب َ‬ ‫الر َو ْيب َ‬ ‫ضـ ُـة؟ َقـ َ‬ ‫ضـ ُـة)) ِقيـ َـل‪َ :‬يــا َر ُســو َل َّ ِ َ َ ُّ‬ ‫ـال‪َّ :‬‬ ‫َ َ ْ ُ ُ ُّ‬ ‫((الر ُجـ ُـل‬ ‫الل ومــا ِ‬ ‫وين ِطــق ِف ِيهــم َ ِ‬ ‫ْ‬ ‫َ َّ‬ ‫َّ‬ ‫التا ِف ُه َي َتكل ُم ِفي أ ْم ِر ال َع َّام ِة))(‪.)29‬‬

‫(‪ )26‬تمهيد األوائل في تلخيص الدالئل للباقالنـي‪ ،‬طبعة مؤسسة الكتب الثقافية ‪ -‬لبـنان ‪1987‬م‪( ،‬ص ‪.)551‬‬ ‫(‪ )27‬شرح العقيدة الطحاوية البـن أبـي العز الحنفي‪ ،‬طبعة مؤسسة الرسالة ‪1997‬م‪( ،‬ص ‪ )28( - .)723/2‬منهاج السنة البـن تـيمية تحقيق محمد رشاد سالم‪ ،‬الطبعة األولى‪ ،‬مؤسسة قرطبة‪( ،‬ص ‪.)236/4‬‬ ‫(‪ )29‬املستدرك على الصحيحيـن للحاكم النـيسابوري‪ ،‬تحقيق مصطفى العطا‪ ،‬طبعة دار الكتب العلمية ‪1990‬م‪( ،‬ص ‪ )512/4‬رقم الحديث ( ‪ )8439‬وقد صححه الحاكم ووافقه الذهبـي‪...‬‬ ‫وفي سنن ابـن ماجه تحقيق األرناؤوط طبعة دار الرسالة ‪2009‬م‪ ،‬باب شدة الزمان‪( ،‬ص ‪ )162/5‬رقم الحديث (‪.)4036‬‬

‫‪24‬‬

‫ولهذا فإنه من اإلجرام في حق األمة واملجتمع ما تقوم به بعض الجماعات‬ ‫مــن تحميــل مســؤولية إقامــة «منصــب الخالفــة» لــكل فــرد‪ ،‬ممــا جعــل‬ ‫َّ‬ ‫الخالفة كلمة مبتذلة على األفواه وفي أذهان الناس بعد أن َ‬ ‫حملها وتكلم‬ ‫ً‬ ‫بهــا مــن ليــس أهــا للحديــث عنهــا‪ ،‬وهــي إنمــا يخاطــب بهــا أهــل القــدرة مــن‬ ‫األمـراء والعلمــاء وأهــل الســطوة فــي األمــة‪ ...‬والحــدود فــي ذلــك كالخالفــة ‪ -‬إذ‬ ‫هي جزء من مهامها‪ -‬إنما يخاطب بها أهل ُ‬ ‫الحكم من ملوك وأمراء وقضاة‬ ‫وأصحــاب الســلطة االجتماعيــة مــن علمــاء ورجــال سياســة وأعمــال‪ ،‬وال‬ ‫يخاطــب بهــا الجهلــة ومــن ليــس مــن أهــل االختصــاص‪ ،‬ممــن لــم يتوجــه‬ ‫خطــاب الشــارع إليــه فــي هــذا املســائل‪.‬‬ ‫قال اإلمام النووي رحمه هللا في املجموع‪( :‬ال يقيم الحدود على األحرار إال‬ ‫اإلمام أو من فوض إليه اإلمام‪ ،‬ألنه لم ُي َقم ٌّ‬ ‫حد على حر على عهد رسول‬ ‫هللا صلــى هللا عليــه وســلم إال بإذنــه‪ ،‬وال فــي أيــام الخلفــاء إال بإذنهــم‪ ،‬وألنــه‬ ‫حـ ٌّـق هلل تعالــى يفتقــر إلــى االجتهــاد وال يؤمــن فــي است ــيفائه الحيــف فلــم يجــز‬ ‫بغي ــر إذن اإلمام‪.)30()...‬‬ ‫ولعل في الواقعة التـي نقلت عن عمر بـن الخطاب ر�ضي هللا عنه في حجته‬ ‫األخيـرة ب ً‬ ‫ـيانا ً‬ ‫شافيا لنا في هذه املسألة‪ ،‬روى اإلمام البخار ُّي بسنده إلى ْاب ِن‬ ‫َ َ ُ ُْ‬ ‫ُْ‬ ‫َ َّ‬ ‫ـاس ر�ضــي هللا عنهمــا قـ‬ ‫ـال‪( :‬ك ْنـ ُـت أقـ ِـر ُئ ِر َجــاال ِمـ َـن ال َه ِاج ِري ـ َـن ِم ْن ُهـ ْـم َع ْبـ ُـد‬ ‫عبـ ٍ‬ ‫َ‬ ‫ً َ ْ َ ْ َ ُ َ َ ْ ْ َ َّ‬ ‫َّ ْ َ ْ ُ َ ْ َ َ ْ َ َ َ َ ْ‬ ‫ـاب‬ ‫الرحمـ ِـن بــن عــو ٍف فبينمــا أنــا ِفــي من ِزلـ ِـه ِب ِمنــى‪ ،‬وهــو ِعنــد عمـ َـر بـ ِـن الخطـ َ ِ‬ ‫َ َّ َ َّ َ ْ َ َ َ َ َّ َ ْ ُ َّ ْ َ َ َ َ َ‬ ‫ً َ‬ ‫ِفــي ِآخـ ِـر حجـ ٍـة حجهــا؛ ِإذ رجــع ِإلــي عبــد الرحمـ ِـن فقـ‬ ‫ـال‪ :‬لـ ْـو َرأ ْيـ َـت َر ُجــا أتــى‬ ‫َ‬ ‫ُْْ َ ْ َ ْ َ َ َ‬ ‫ـال‪َ :‬يــا َأمي ـ َـر ْالُ ْؤمني ـ َـن َهـ ْـل َلـ َـك فــي ُفـ َـان! َي ُقــو ُل‪َ :‬لــوْ‬ ‫ِ​ِ‬ ‫أ ِمي ـ َـر الؤ ِم ِني ــن اليــوم فقـ َ ِ‬ ‫َِ ٍ‬ ‫ُ‬ ‫ْ َّ َ ْ ً‬ ‫َ ْ َ َ ُ َ ُ َ َ ْ َ َ ْ ُ ُ َ ً َ َ َّ َ َ‬ ‫الل َمــا كانـ ْـت َب ْي َعــة أ ِبــي َبكـ ٍـر ِإال فل َتــة‬ ‫قــد مــات عمــر لقــد بايعــت فالنــا فــو ِ‬ ‫َ َ َّ ْ َ َ َ ُ َ ُ ُ َّ َ َ ّ ْ َ َ َّ ُ َ َ ٌ ْ َ َّ َ‬ ‫َّ‬ ‫ـاس‬ ‫فتمــت! فغ ِضــب عمــر ثــم قــال‪ِ :‬‬ ‫((إَ ِنــي ِإن شــاء الل ُلقا ِئــم الع ِشــية ِفــي النـ ِ‬ ‫ُ َ َّ‬ ‫َ ّ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫ف ُم َح ِذ ُر ُهـ ْـم َهــؤال ِء ال ِذي ـ َـن ُي ِريـ ُـدون أن يغ ِصبوهــم أمورهــم))‪.‬‬ ‫بهــذه الكلمــات البســيطة يقــرر عمــر ب ــن الخطــاب ر�ضــي هللا عنــه قاعــدة‬ ‫كبـرى من قواعد السياسة اإلسالمية وهي‪ :‬أن السلطة في تنصيب الحاكم‬ ‫لألمة‪ ،‬مما يتـرتب على ذلك عدم شرعية الحكام الذيـن يأخذون السلطة‬ ‫ً‬ ‫غصبــا دون أن يكــون للمجتمــع أو لقادتــه ر ٌ‬ ‫أي فــي اخت ــيارهم‪ ...‬ولكــن ملــا أراد‬ ‫عمــر أن يخطــب وقــف فــي وجهــه مستشــاره األمي ــن عبــد الرحمــن ب ــن عــوف‬ ‫َ َْ‬ ‫َ​َ‬ ‫َ ُْْ‬ ‫ر�ضي هللا عنه وقال له‪(َ :‬يا أ ِمي َـر الؤ ِم ِني َـن ال ت ْف َع ْل ف ِإ َّن ال ْو ِس َم َي ْج َم ُع َر َع َاع‬ ‫َّ‬ ‫النــاس َو َغ ْو َغ َاء ُهـ ْـم‪َ ،‬فإ َّن ُهـ ْـم ُهـ ُـم َّال ِذي ـ َـن َي ْغل ُبــو َن َع َلــى ُق ْربـ َـك حي ـ َـن َت ُقـ ُ‬ ‫ـوم ِفــي‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ُ َ َ‬ ‫َ َ ً َ‬ ‫َ​َ​َ َ ْ َ َ ْ َ ُ َ َ‬ ‫َّ‬ ‫ـوم ف َت ُقــو َل َمقالــة ُيط ِّي ُر َهــا َع ْنـ َـك ك ُّل ُمط ِّيـ ٍـر‪َ ،‬وأ ْن‬ ‫النـ‬ ‫ـاس‪ ،‬وأنــا أخ�شــى أن تقـ‬ ‫ِ‬ ‫َ​َ‬ ‫َْ َ َ‬ ‫َ‬ ‫َ َ ُ َ َ​َ ْ َ َ َ ُ َ َ​َ َ َ‬ ‫اض ِع َهــا فأ ْم ِهـ ْـل َح َّتــى ت ْقـ ُـد َم ال ِدي ـ َـنة ف ِإ َّن َهــا‬ ‫ال يعوهــا‪ ،‬وأن ال يضعوهــا علــى مو ِ‬ ‫ُْ‬ ‫َّ َ‬ ‫َ ُ ْ ْ َ َ ُّ َّ َ َ ْ ُ َ َ ْ ْ ْ َ َ ْ‬ ‫اس ف َت ُقو َل َما قل َت‬ ‫دار ال ِهجر ِة و‬ ‫السن ِة‪ ،‬فتخلص ِبأه ِل ال ِفق ِه وأش َر ِ‬ ‫اف الن ِ‬ ‫(‪ )30‬املجموع شرح املهذب لإلمام النووي طبعة دار الفكر‪( ،‬ص ‪.)34/20‬‬ ‫(‪ )31‬صحيح البخاري‪ ،‬باب رجم الحبلى في الزنا إذا أحصنت‪ ،‬رقم الحديث (‪.)6442‬‬

‫العدد ‪ 2‬رجب ‪1439‬هـ‬

‫ُ َ َ ّ ً َ​َ َ ْ ُ ْ ْ َ َ َ​َ َ َ​َ َ ُ َ​َ َ​َ َ َ‬ ‫اض ِع َهــا!) (‪.)31‬‬ ‫متم ِكنــا‪ ،‬في ِعــي أهــل ال ِعلـ ِـم مقالتــك ويضعونهــا علــى مو ِ‬ ‫وبالفعــل فقــد رأى عمــر ر�ضــي هللا عنــه الصــواب فــي نصيحــة مستشــاره‬ ‫األمي ــن َّ‬ ‫فأجــل الخطبــة حتــى ي ــرجع إلــى املدي ــنة ويتكلــم مــع أهــل الفهــم‬ ‫واالختصــاص‪ ،‬وهــذا الــكالم مــن اب ــن عــوف وعمــر ر�ضــي هللا عنهمــا واضــح‬ ‫ُ‬ ‫الداللــة علــى أنــه ليــس مــن الحكمــة الحديــث أمــام عامــة النــاس فــي أمــور‬ ‫تخــص الحاكــم والدولــة والسياســة‪ ،‬فالعامــة ال يفهمونهــا بــل قــد يثي ــرون‬ ‫الفتــن عنــد ســماعها‪ ،‬وإنمــا املختصــون بمناقشــة أمــور الحكــم والسياســة‬ ‫هــم طبقــة خاصــة مــن املجتمــع تتمتــع بالفهــم والعقــل والعلــم‪.‬‬ ‫ً‬ ‫َ‬ ‫ثــم كان مــن كالم عمــر فــي خطبتــه يــوم رجــع إلــى املدي ــنة‪(( :‬ف َمـ ْـن َب َايـ َـع َر ُجــا‬ ‫َ ًَ‬ ‫َ َّ‬ ‫َ َ‬ ‫ُْ‬ ‫َع َلــى َغ ْيــر َم ُشـ َ‬ ‫ـور ٍة ِمـ َـن ال ْس ِل ِمي ـ َـن فــا ُي َت َابـ ُـع ُهـ َـو‪َ ،‬وال الـ ِـذي َب َاي َعـ ُـه ت ِغـ َّـرة أ ْن‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫ُي ْق َتال)) فأيما رجل خرج يطلب الحكم بدون مشــورة املجتمع وأهل الرأي‬ ‫والحكمــة فيــه فحقــه القتــل هــو ومــن بايعــه‪.‬‬ ‫وهــذان األم ـران وهمــا وجــوب مشــورة أهــل ال ـرأي والحكمــة فــي اخت ــيار‬ ‫َ‬ ‫الحاكــم‪ ،‬وعــدم إدخــال عامــة َّ‬ ‫النــاس فــي أمــور سياسـ َّـية ال يفقهونهــا؛ ل ُهمــا‬ ‫من أبـرز معالم نظام الحكم في اإلسالم‪ ،‬الذي اختص بتشريعات حكيمة‬ ‫تحوي في ثناياها كل مزايا االتجاهات السياسية األخرى وتتجنب مساوئها‪.‬‬ ‫مســألة‪ :‬إن تجن ــيب العامــة مســائل الحكــم وتطب ــيق الحــدود ال يعن ــي أبـ ًـدا‬ ‫ّ‬ ‫َّ‬ ‫ّ ُ ّ‬ ‫ونعل َمهــم إياهــا ونعرفهــم علــى حكمــة اإلســام فــي تشـريعها‪،‬‬ ‫فقههــم بهــا ِ‬ ‫أل ن ِ‬ ‫بــل إن تعليمهــم هــذه األمــور مــن واجبــات الدي ــن الت ــي تعـ ّـرف املــرء بأحــكام‬ ‫ربه وتحفظ له ديـنه فال تلتبس عليه الشبهات التـي تثار حول التشريعات‬ ‫حم َل مسؤولية تطبـيقها أو َ‬ ‫اإلسالمية اليوم‪ ،‬وإنما املمنوع هو أن ُي َّ‬ ‫يوهم‬ ‫بــأن هللا سيحاســبه إن لــم يســع لهــا؛ وهــو أصــا ليــس مــن أهــل هــذا الشــأن‬ ‫وال ممــن ّ‬ ‫توجـ َـه إليــه التكليــف بذلــك‪.‬‬

‫املبحثالخامس‬ ‫َّ‬ ‫ُ َّ ّ ُ‬ ‫إقامة الشريعة‬ ‫األناة والتدرج في ِ‬

‫إن القــارئ فــي مسي ــرة التشـريع اإلســامي يعلــم أن األنــاة والتــدرج أساســان‬ ‫مهمان من أسس الدعوة لم يستغن عنهما اإلسالم في مرحلة من مراحله‪،‬‬ ‫إذ لم ي ــنزل القرآن دفعة واحدة ولم تحرم الخبائث كلها ب ــنص واحد‪ ،‬كما‬ ‫لــم تنــزل الفرائــض جميعــا فــي يــوم واحــد ولــو أراد هللا ذلــك لــكان‪ ...‬ولعــل فــي‬ ‫مهــام وأهــداف الدعــوة اإلســامية فــي كل مــن املرحلــة املكيــة واملدن ــية أوضــح‬ ‫دليــل علــى ذلــك‪...‬‬

‫‪25‬‬


‫قواعد السياسة الشرعية‬ ‫والتــدرج فــي قضيــة تحريــم الخمــر وزواج املتعــة ‪ -‬كنمــاذج لهــذا القانــون‬ ‫اإللهــي ‪ -‬أشــهر مــن أن يحتــاج لذكرهمــا هنــا‪ ...‬ولكــن ظهــر اليــوم مــن دعــاة‬ ‫ّ‬ ‫التكفي ــر وغي ــرهم مــن يدعــون إلــى إقامــة الدي ــن ِكلــه علــى النــاس جمي ِعهــم‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫دفعــة واحــدة دون اعتبــار لتعاليــم النب ــي صلــى هللا عليــه وســلم أو نظــر فــي‬ ‫مآالت األمور ونتائجها‪َ ،‬وي َّدعون أن مبدأ التدرج ال يعدو أن يكون تشـر ًيعا‬ ‫ً‬ ‫وتقديمــا للعقــل علــى النقــل‪ ،‬وأنــه ال قيمــة لــه بعــد قــول هللا تعالــى‬ ‫بال ـرأي‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫((ال َيـ ْـو َم َأ ْك َم ْلـ ُـت َل ُكـ ْـم دي ـ َـن ُك ْم َوأ ْت َم ْمـ ُـت َع َل ْي ُكـ ْـم ن ْع َمتــي َو َرضيـ ُـت َل ُكـ ُـم ْال ْسـ َـامَ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِدي ـ ًـنا)) [املائــدة‪ :‬اآليــة ‪.]3‬‬ ‫والحقيقــة أن االســتدالل بآيــة إكمــال الدي ــن علــى إنــكار اعتبــار التــدرج فــي‬ ‫الشــرع والواقــع نــوع مــن تحميــل النــص مــا ال يحتملــه‪ ،‬إذ ال يعن ــي تمــام علــم‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫مــا (كالجب ــر والهندســة) أنــه يجــب أن ُيعطــى دفعــة واحــدة لطالــب مبتــدئ‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫احتجاجــا بكونــه ً‬ ‫فــي الســنة األولــى‬ ‫علمــا متكامــا‪ ،‬وعلــى الجهــة املقابلــة ال‬ ‫يســتقيم إنــكار أج ـزاء أصيلــة مــن علــم الرياضيــات وبت ــرها منــه بحجــة أن‬ ‫عقــل الطالــب ال يستســيغها فــي هــذه الفت ــرة‪ ،‬وهــذا حالنــا اليــوم بـي ــن طرفــي‬ ‫النقيض «التكفيـرييـن والحداثييـن» كالهما َّ‬ ‫تطرف في فهمه للديـن فأخطأ‬ ‫الطريــق وضـ َّـل وأضـ َّـل ً‬ ‫خلقــا كثي ـ ًـرا‪ ،‬وقــد أكــدت الســيدة عائشــة ر�ضــي هللا‬ ‫عنهــا هــذا املبــدأ اإلسـ َّ‬ ‫ـامي العظيــم فــي مراعــاة أحــوال النــاس عندمــا قالــت‪:‬‬ ‫ْ ْ‬ ‫((إ َّن َما َن َز َل َأ َّو َل َما َن َز َل منه ‪ -‬أي القرآن ‪ُ -‬س َور ٌة م َن ْ ُال َف َّ‬ ‫ص ِل ِف َيها ِذك ُر ال َج َّن ِة‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ـاب َّ‬ ‫َو َّ‬ ‫ـاس إ َلــى اإل ْسـ َـام َنـ َـز َل ْال َحـ َـا ُل َو ْال َحـ َـر ُام‪َ ،‬وَلـ ْـو َنـ َـز َل َأ َّولَ‬ ‫النــار‪َ ،‬ح َّتــى إ َذا َثـ َ‬ ‫النـ ُ‬ ‫ِ ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َ ْ َ َ ْ َُ ْ َ ْ َ َ َ ُ َ َ َ ُ ْ َ ْ َ َ​َ ً َ َ ْ َ َ َ َ َ ُْ َ َ ُ َ‬ ‫�شي ٍء ال تشربوا الخمر لقالوا ال ندع الخمر أبدا‪ ،‬ولو نزل ال تزنوا لقالوا ال‬ ‫َ َ ُ َّ َ‬ ‫الزنــا أ َبـ ًـدا))(‪.)32‬‬ ‫نــدع ِ‬ ‫َ ُ َّ ُ‬ ‫ف َّ ُ‬ ‫الل َن ْفساً‬ ‫ومع هذا سأتجاوز مسألة التدرج لنستمع لقوله تعالى ((ل يك ِل‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫((ف َّات ُقــوا َّ َ‬ ‫الل مــاَ‬ ‫ِإل ُو ْسـ َـع َها)) [ســورة البقــرة‪ :‬آيــة ‪ ]286‬ولقولــه ســبحانه‪:‬‬ ‫ٌ‬ ‫َْ َ ُ‬ ‫اآليات واضحة في وجوب اإلتـيان‬ ‫استط ْعت ْم )) [سورة التغابـن‪ :‬آية ‪ ]16‬إن ِ‬ ‫من الشرع ما استطعنا وعدم تكليفنا ما ال نستطيع‪ ،‬وقد أخذ العلماء من‬ ‫ُّ‬ ‫هذه اآليات وغيـرها القاعدة الفقهية الشهيـرة (ما ال يدرك كله ال يتـرك كله‬ ‫ُّ‬ ‫أو جله)‪ ...‬فيجب اإلتـيان باملستطاع من التكاليف الشرعية ما يختص منها‬ ‫بعالقــة املــرء مــع ربــه‪ ،‬أو مــا ي ــنظم عالقتــه باآلخري ــن‪ ،‬وال بــد عنــد العمــل‬ ‫بقاعــدة االســتطاعة أن نعتب ــر قواعــد الشــرع األخــرى ونالحــظ تعلقهــا‬ ‫بتقريـر أحكام الوقائع التـي تعرض لنا في حياتنا‪ ،‬كقاعدة (درء املفاسد‬ ‫مقــدم علــى جلــب املصالــح) وكقاعــدة (الضــرورات تب ــيح املحظــورات)‬ ‫وكقاعدة (يختار أهون الشريـن) وقاعدة (يتحمل الضرر الخاص لدفع‬ ‫الضــرر العــام) وغي ــرها‪.‬‬

‫قواعد السياسة الشرعية‬

‫العدد ‪ 2‬رجب ‪1439‬هـ‬

‫ولنستمع لهذا الحوار بـيـن خامس الخلفاء الراشديـن عمر بـن عبد العزيز‬ ‫ر�ضــي هللا عنــه واب ــنه عبــد امللــك لنتعــرف علــى منهــج الســلف فــي تحكيــم‬ ‫الشــرع والقيــام بأوامــر هللا ســبحانه‪( ...‬دخــل عبــد امللــك ب ــن ُع َمــر ب ــن عبــد‬ ‫العزيــز علــى أب ــيه وقــال لــه‪ :‬يــا أمي ــر املؤمنـي ــن مــا أنــت قائــل لربــك غـ ًـدا إذا‬ ‫ً‬ ‫ســألك! فقــال‪ :‬رأيــت بدعــة فلــم تمتهــا أو سـ ّـنة لــم تحيهــا؟ فقــال لــه‪ :‬يــا بـن ـ ّـي‬ ‫إلي أم ٌ َ‬ ‫الر َّ‬ ‫أ�شيء َّ‬ ‫حم ْلت َك ُه َّ‬ ‫نفسك؟ قال‪ :‬ال وهللا! ولكن‬ ‫عية َّ ر‬ ‫أي رأيته من قبل ِ‬ ‫َ ْأ ٌي ُ‬ ‫أيتــه مــن قبــل نف�ســي وعرفـ ُـت أنــك مســؤول‪ ،‬فمــا أنــت قائــل؟ فقــال‬ ‫ر ر‬ ‫ً‬ ‫لــه أبــوه‪ :‬رحمــك هللا وجـزاك مــن ولــد خي ــرا‪ ،‬فـوهللا إن ــي ألرجــو أن تكــون مــن‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫األعــوان علــى الخي ــر يــا بـن ــي‪ ،‬إن قومــك قــد شـ ُّـدوا هــذا األمــر عقــدة عقــدة‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫وعــروة عــروة! ومتــى مــا أريــد مكاب ــرتهم علــى انت ـزاع مــا فــي أيديهــم لــم آمــن أن‬ ‫يفتقــوا علــي ً‬ ‫فتقــا تكث ــر فيــه الدمــاء‪ ،‬وهللا لــزوال الدن ــيا أهــون علـ َّـي مــن أن‬ ‫يهراق في سببـي محجمة من ٍدم‪ ،‬أو ما تـر�ضى أن ال يأتـي على أبـيك يوم من‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫سنة حتى َ‬ ‫يحكم هللا بـيـننا‬ ‫ّأيام الدنـيا إال وهو يميت فيه بدعة ويحيي فيه‬ ‫وبـي ــن قومنــا بالحــق وهــو خي ــر الحاكمي ــن)(‪.)33‬‬ ‫َ َ َ ْ َ ْ َ َ ْ ُ َ ْ َ َ َّ ُ َ‬ ‫ات َعلى‬ ‫قال اإلمام الشاطبـي رحمه هللا‪( :‬ف ِلهذا العنى ِبعي ِن ِه و ِضع ِت العم ِلي‬ ‫َ َ َّ‬ ‫َ َ َ‬ ‫َ ُ ْ ْ ُ َ َّ َ َ َ‬ ‫َو ْجـ ٍـه ل تخـ ِـر ُج الكلــف ِإلــى َمشـ َّـق ٍة َي َمـ ُّـل ِب َسـ َـب ِب َها‪ ،‬أ ْو ِإلــى ت ْع ِطيـ ِـل عادا ِتـ ِـه ال ِتــي‬ ‫َ َ ُْ‬ ‫َْ ُ ُ‬ ‫َ َ ُ َُْ ُ َ​َ​َ َ ُ َ َ‬ ‫َُ ُ‬ ‫وظـ ِـه‪َ ،‬وذ ِلـ َـك أ َّن ال ِّمـ َّـي‬ ‫يقــوم ِب َهــا صــاح دنيــاه‪ ،‬ويتو َّســع ِبســب ِب َها ِفــي نيـ ِـل حظ ِ‬ ‫َ ْ‬ ‫ْ َ َْ‬ ‫َّ‬ ‫َّ َ ْ ُ َ ْ َ ْ ً َ ْ ُ ُ‬ ‫ـور الشـ ْـر ِع َّي ِة َول ال َع ْق ِل َّيـ ِـة َ‪-‬و ُر َّب َمــا اشـ َـمأ َّز قل ُبـ ُـه‬ ‫الـ ِـذي لــم يــز ِاول شــيئا ِمــن المـ ِ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ َ َ‬ ‫ْ‬ ‫َع َّمــا ُيخ ِر ُجـ ُـه َعـ ْـن ُم ْع َتـ ِـاد ِه ‪ِ -‬ب ِخــا ِف َمـ ْـن ك َان لـ ُـه ِبذ ِلـ َـك َع ْهـ ٌـد‪َ ،‬و ِمـ ْـن ُه َنــا ك َان‬ ‫ْ َ َ َ ً َ َ َ َ ْ َ ْ َ ُ َّ ْ ُ‬ ‫َ‬ ‫ول ْال ُق ْرآن ُن ُج ً‬ ‫ُن ُز ُ‬ ‫التك ِل ِيف َّية ِف َيها ش ْي ًئا‬ ‫وما ِفي ِعش ِريـن سنة‪ ،‬وورد ِت الحكام‬ ‫ِ‬ ‫َ َ ْ ً َ َ ْ َ ْ ْ َ ْ َ ً َ َ ً َ َ َ َ َّ َ ْ َ َ ْ َ ُّ ُ ُ ْ ً‬ ‫ً‬ ‫وس َدف َعة َو ِاح َدة‪،‬‬ ‫فشيئا ولم تن ِزل دفعة و ِاحدة‪ ،‬وذ ِلك ِلئل تن ِفر عنها النف‬ ‫ـال َلـ ُـه‪َ :‬مــا َلــكَ‬ ‫َو ِف َيمــا ُي ْح َكــى َعـ ْـن ُع َمـ َـر ْبــن َع ْبـ ِـد ْال َعزيــز َأ َّن ْاب َنـ ُـه َع ْبـ َـد ْ َال ِلـ ِـك َقـ َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫َ ُ َ ّ ُ ْ ُ ُ َ َ َ َّ‬ ‫الل َمــا ُأ َبالــي َلـ ْـو َأ َّن ْال ُقـ ُـد َور َغ َلـ ْـت بــي َوبـ َـك فــي ْال َحـ ّـق! َقـ َ‬ ‫ـال‬ ‫ل تن ِفــذ المــور؟ فــو ِ‬ ‫ِ ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ْ‬ ‫َ ُ ُ َ ُ َ َ ْ َ ْ َ ُ َ َّ َ َّ َّ َ َ ْ َ‬ ‫َ‬ ‫الل ذ َّم الخ ْمـ َـر ِفــي ال ُقـ ْـر ِآن َم َّرت ْيـ ِـن َو َح َّر َم َهــا ِفــي‬ ‫لــه عمــر‪( :‬ل تعجــل يــا بنــي‪ ،‬فـ ِـإن‬ ‫َّ َ َ َّ َ َ ُ َ ْ َ ْ َ ْ َ َّ َ َ‬ ‫ُ ْ َ ً َ َ ْ َُ‬ ‫َّ‬ ‫ُ‬ ‫ـاس جملــة‪ ،‬فيدفعــوه جملــة‪،‬‬ ‫الث ِالثـ ِـة‪ِ ،‬وإنــي أخــاف أن أح ِمــل الحــق علــى النـ ِ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ويكــون مــن ذا فتنـ ًـة‪َ )...‬و َهـ َـذا َم ْع ًنــى َ‬ ‫ْ‬ ‫ص ِحيـ ٌـح ُم ْع َت َبـ ٌـر ِفــي ِالسـ ِتق َر ِاء العـ ِـاد ّ ِي)(‪.)34‬‬ ‫وجاء في سيـرة عمر بـن عبد العزيز عند أبـي محمد عبد هللا بـن عبد الحكم‬ ‫قال‪( :‬ملا ولي عمر بـن عبد العزيز قال له ابـنه عبد امللك‪ :‬إنـي ألراك يا أبتاه‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫ـاعة مــن َّ‬ ‫قــد أخــرت أمـ ً‬ ‫النهــار عجلتهــا‪،‬‬ ‫ـورا كثي ــرة كنــت أحســبك لــو وليــت سـ‬ ‫َ‬ ‫ولـ َـو ِد ْد ُت أنــك قــد فعلــت ذلــك ولــو فــارت ب ــي وبــك القــدور! قــال لــه عمــر‪:‬‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫أي أهـ ِـل الحداثـ ِـة‪،‬‬ ‫أي بـن ــي! إنــك علـ َـى ح ُسـ ِـن قسـ ِـم هللا لــك‪ ،‬وفيــك بعــض ر ِ‬ ‫ٌ‬ ‫ـتطيع أ ْن أ َ‬ ‫وهللا ما أسـ ُ‬ ‫خرج لهم شـ ًـيئا من الدي ــن إال ومعه طرف من الدن ــيا‬ ‫ِ‬ ‫ً‬ ‫أستلي ــن بــه قلوبهــم؛ خوفــا أن ي ــنخرق علـ َّـي منهــم مــا ال طاقــة لــي بــه)(‪.)35‬‬

‫(‪ )32‬رواه البخاري في كتاب فضائل القرآن‪ ،‬باب تأليف القرآن رقم الحديث (‪.)4707‬‬ ‫(‪ )33‬حلية األولياء ألبـي نعيم‪ ،‬طبعة دار الكتب العربـي ‪1405‬هـ (ص ‪ ،)283/5‬وتاريخ الخلفاء للسيوطي‪ ،‬تحقيق الدمرداش‪ ،‬طبعة مكتبة نزار الباز ‪2004‬م‪( ،‬ص ‪.)180‬‬ ‫(‪ )34‬املوافقات للشاطبـي طبعة دار ابـن عفان ‪1997‬م‪( ،‬ص ‪.)184/2‬‬ ‫(‪ )35‬سيـرة عمر بـن عبد العزيز‪ ،‬لإلمام أبـي محمد عبد هللا بـن عبد الحكم‪ ،‬تحقيق أحمد عبـيد‪ ،‬طبعة عالم الكتب ‪1984‬م‪( ،‬ص‪.)57‬‬

‫‪26‬‬

‫النتائج‬ ‫‪ )1‬أحــكام الحــدود والقصــاص جــزء مــن تشــريع اإلســام ال ي ــنكرها‬ ‫عالــم متفقــه علــى منهــج أهــل الســنة والجماعــة‪ ،‬وإنمــا ي ــنكرها أهــل‬ ‫ـبهات‪ ،‬وال علــم‬ ‫األهــواء أو الضعفــاء ممــن وقعــوا تحــت ضغــط الشـ ِ‬ ‫لهــم بقواعــد اســتنباط األحــكام الشــرعية ليدافعــوا بهــا عــن دي ــنهم‪.‬‬ ‫‪ )2‬النتائــج الت ــي وصــل إليهــا املتطرفــون ال تمــت إلــى اإلســام بصلــة‪،‬‬ ‫ألنهــا ال تعــدو أن تكــون اجت ـز ًاء لألدلــة وإخر ً‬ ‫اجــا لهــا مــن ســياقها‪.‬‬ ‫‪ )3‬كل واحــدة مــن املســائل الشــرعية هــي عبــارة عــن وحــدة متكاملــة‬ ‫ً‬ ‫َّ‬ ‫مكونــة مــن مجموعــة مــن األج ـزاء املت ـرابطة فيمــا بـي ــنها ت ـرابطا ال‬ ‫انفــكاك فيــه‪ ،‬فــإذا مــا ُحكــم علــى مســألة مــا مــن غي ــر إحاطــة شــاملة‬ ‫بــكل مــا ورد فيهــا مــن أدلــة خاصــة ومــا ي ــنطبق عليهــا مــن قواعــد عامــة؛‬ ‫ً‬ ‫ناقصــا وبعيـ ًـدا عــن م ـراد الشــرع الكريــم‪.‬‬ ‫فســيكون الحكــم‬ ‫‪ )4‬القواعــد الفقهيــة هــي الحاكمــة علــى قوانـي ــن الشــريعة الجزئيــة‪،‬‬ ‫وال حكــم بــدون اعتبارهــا وعــرض الوقائــع عليهــا‪.‬‬ ‫ٌ‬ ‫‪ )5‬فــي السي ــرة النبويــة وتاريــخ خلفائنــا كفايــة للتعــرف علــى منهــج‬ ‫اإلســام فــي سياســة األمــة وإدارة شــؤونها ومنهــا قضايــا الحــدود‪.‬‬ ‫‪ )6‬بعــض أمــور السياســة والحكــم ال يجــوز الحديــث بهــا أمــام العامــة‬ ‫لعــدم توجــه الخطــاب إليهــم فيهــا‪ ،‬ومنعــا مــن إثــارة الفتــن‪.‬‬ ‫‪ )7‬هللا كلفنــا بمــا نســتطيع ولــم يكلفنــا فــوق طاقتنــا‪ ،‬ومــن يكلــف‬ ‫نفســه فــوق طاقتــه يخــرج عــن منهــج هللا ويخســر دي ــنه ودن ــياه‪.‬‬ ‫َ‬ ‫‪ )8‬اإلسالم جاء لسعادتنا فإذا ش ِقيت املجتمعات املسلمة فالسبب‬ ‫هو تخلفها وفهمها الخاطئ للديـن وليس اإلسالم‪.‬‬

‫خامتة‬

‫إن املســلم حي ــن يتأمــل نصــوص الق ـرآن والســنة يجــد أن‬ ‫مقصــود الشــرع مــن الحــدود ليــس االنتقــام مــن الجان ــي وليــس‬ ‫العقوبــة بحــد ذاتهــا‪ ،‬ولكــن هدفــه األول مــن تشــريعها ردع املجــرم‬ ‫عــن التمــادي فــي خطئــه‪ ،‬والحفــاظ علــى املجتمــع مــن أن تتحــول‬ ‫هــذه األخطــاء فيــه مــن حــاالت فرديــة طب ــيعية ال يخلــو منهــا‬ ‫مجتمــع إلــى ظاهــرة مرضيــة مستشــرية تهتــك النســيج األخالقــي‬ ‫ّ‬ ‫لألمــة املســلمة‪ ...‬روى اإلمــام مالــك فــي املوطــأ عــن زيــد ب ــن أســلم‪،‬‬

‫العدد ‪ 2‬رجب ‪1439‬هـ‬

‫ً‬ ‫أن رجــا اعت ــرف علــى نفســه بالزنــا علــى عهــد رســول هللا صلــى هللا‬ ‫عليــه وســلم‪ ،‬فأمــر بــه فجلــد ثــم قــال‪(( :‬أيهــا النــاس قــد آن لكــم‬ ‫أن تنتهــوا عــن حــدود هللا‪ ،‬مــن أصــاب مــن هــذه القــاذورات شــيئا‬ ‫فليستت ــر بست ــر هللا‪ ،‬فإنــه مــن يبــدي لنــا صفحتــه نقــم عليــه‬ ‫كتــاب هللا))‪.‬‬ ‫مــن هنــا أســتطيع أن أقــول‪ :‬إن كتــب الفقــه أو الحديــث ال تكفــي‬ ‫ً‬ ‫قارئهــا ليصبــح ً‬ ‫فقيهــا أو عال ـ ــا‪ ،‬فمــن اكتفــى بالق ـراءة والحفــظ‬ ‫َُ‬ ‫َ‬ ‫ال يعــدو َمثلـ ُـه آلــة الحاســوب‪ ،‬يخــزن املعلومــات ثــم يخرجهــا ال‬ ‫فقـ َـه وال فهـ َـم‪ ...‬وإنمــا علــى املتفقــه أن يقـرأ سي ــرة النب ــي صلــى هللا‬ ‫عليــه وســلم وسي ــر خلفائــه الراشدي ــن ومناقــب الســلف واألئمــة‬ ‫املجتهدي ــن والعلمــاء العاملي ــن بقصــد االســتفادة ال بغــرض‬ ‫النقــد والتنقــص‪ ،‬ثــم يثن ــي بق ـراءة كتــب القواعــد الفقهيــة ألنهــا‬ ‫هــي الحاكمــة علــى مــا قـرأه فــي كتــب الفقــه‪ ،‬كمــا أنــه ال بــد لــه مــن‬ ‫ق ـراءة علــم أصــول الفقــه ليعــرف كيــف وصــل املجتهــدون إلــى‬ ‫األحــكام‪ ،‬فــا يتهمهــم بالتفريــط والحكــم بغي ــر مــا أنــزل هللا كمــا‬ ‫يفعــل حدثــاء األســنان‪ ،‬وال يقــوده رأيــه إلــى مــا يخرجــه عــن قواعــد‬ ‫فهــم النصــوص عنــد أهــل الســنة كمــا يفعــل دعــاة الحداثــة‪ ...‬ثــم‬ ‫بعــد ذلــك يتفكــر فــي ســنن هللا فــي نشــوء األمــم وســقوطها وقـراءة‬ ‫تواريخهــا كمــا أمــر هللا بذلــك فــي كتابــه‪ ،‬لعلــه يــدرك علــم ت ـ ُّـرت ِب‬ ‫النتائــج علــى األســباب ضمــن قانــون هللا فــي خلقــه‪ ،‬والــذي أثبتــه‬ ‫َُ‬ ‫ْ َ َ َّ َ َ َ َ َ َ‬ ‫َُ‬ ‫ُ ًّ ُ‬ ‫ان َعطـ ُـاء‬ ‫بقولــه ((كل ن ِمـ ُّـد َهــؤل ِء َو َهــؤل ِء ِمــن عطـ ِـاء رِبــك ومــا ك‬ ‫َرّبـ َـك َم ْح ُظـ ً‬ ‫ـورا)) [اإلس ـراء‪ :‬اآليــة ‪ ...]20‬عندمــا يسي ــر اإلنســان‬ ‫ِ‬ ‫فــي هــذا الطريــق بصحبــة أهــل العلــم والصــدق لــن تلتبــس عليــه‬ ‫ُ‬ ‫األمــور ولــن تســقطه شــبه امللحدي ــن كمــا لــن تغ�شــي عيـن ــيه‬ ‫ُ َُ ّ‬ ‫املفرطي ــن‪...‬‬ ‫اســتدالالت املتطرفي ــن وال شــبه ِ‬ ‫نسأل هللا سبحانه التوفيق‬ ‫والهداية لكل املسلميـن والحمد هلل رب العامليـن‪.‬‬

‫‪27‬‬


‫قواعد السياسة الشرعية‬ ‫والتــدرج فــي قضيــة تحريــم الخمــر وزواج املتعــة ‪ -‬كنمــاذج لهــذا القانــون‬ ‫اإللهــي ‪ -‬أشــهر مــن أن يحتــاج لذكرهمــا هنــا‪ ...‬ولكــن ظهــر اليــوم مــن دعــاة‬ ‫ّ‬ ‫التكفي ــر وغي ــرهم مــن يدعــون إلــى إقامــة الدي ــن ِكلــه علــى النــاس جمي ِعهــم‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫دفعــة واحــدة دون اعتبــار لتعاليــم النب ــي صلــى هللا عليــه وســلم أو نظــر فــي‬ ‫مآالت األمور ونتائجها‪َ ،‬وي َّدعون أن مبدأ التدرج ال يعدو أن يكون تشـر ًيعا‬ ‫ً‬ ‫وتقديمــا للعقــل علــى النقــل‪ ،‬وأنــه ال قيمــة لــه بعــد قــول هللا تعالــى‬ ‫بال ـرأي‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫((ال َيـ ْـو َم َأ ْك َم ْلـ ُـت َل ُكـ ْـم دي ـ َـن ُك ْم َوأ ْت َم ْمـ ُـت َع َل ْي ُكـ ْـم ن ْع َمتــي َو َرضيـ ُـت َل ُكـ ُـم ْال ْسـ َـامَ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِدي ـ ًـنا)) [املائــدة‪ :‬اآليــة ‪.]3‬‬ ‫والحقيقــة أن االســتدالل بآيــة إكمــال الدي ــن علــى إنــكار اعتبــار التــدرج فــي‬ ‫الشــرع والواقــع نــوع مــن تحميــل النــص مــا ال يحتملــه‪ ،‬إذ ال يعن ــي تمــام علــم‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫مــا (كالجب ــر والهندســة) أنــه يجــب أن ُيعطــى دفعــة واحــدة لطالــب مبتــدئ‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫احتجاجــا بكونــه ً‬ ‫فــي الســنة األولــى‬ ‫علمــا متكامــا‪ ،‬وعلــى الجهــة املقابلــة ال‬ ‫يســتقيم إنــكار أج ـزاء أصيلــة مــن علــم الرياضيــات وبت ــرها منــه بحجــة أن‬ ‫عقــل الطالــب ال يستســيغها فــي هــذه الفت ــرة‪ ،‬وهــذا حالنــا اليــوم بـي ــن طرفــي‬ ‫النقيض «التكفيـرييـن والحداثييـن» كالهما َّ‬ ‫تطرف في فهمه للديـن فأخطأ‬ ‫الطريــق وضـ َّـل وأضـ َّـل ً‬ ‫خلقــا كثي ـ ًـرا‪ ،‬وقــد أكــدت الســيدة عائشــة ر�ضــي هللا‬ ‫عنهــا هــذا املبــدأ اإلسـ َّ‬ ‫ـامي العظيــم فــي مراعــاة أحــوال النــاس عندمــا قالــت‪:‬‬ ‫ْ ْ‬ ‫((إ َّن َما َن َز َل َأ َّو َل َما َن َز َل منه ‪ -‬أي القرآن ‪ُ -‬س َور ٌة م َن ْ ُال َف َّ‬ ‫ص ِل ِف َيها ِذك ُر ال َج َّن ِة‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ـاب َّ‬ ‫َو َّ‬ ‫ـاس إ َلــى اإل ْسـ َـام َنـ َـز َل ْال َحـ َـا ُل َو ْال َحـ َـر ُام‪َ ،‬وَلـ ْـو َنـ َـز َل َأ َّولَ‬ ‫النــار‪َ ،‬ح َّتــى إ َذا َثـ َ‬ ‫النـ ُ‬ ‫ِ ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َ ْ َ َ ْ َُ ْ َ ْ َ َ َ ُ َ َ َ ُ ْ َ ْ َ َ​َ ً َ َ ْ َ َ َ َ َ ُْ َ َ ُ َ‬ ‫�شي ٍء ال تشربوا الخمر لقالوا ال ندع الخمر أبدا‪ ،‬ولو نزل ال تزنوا لقالوا ال‬ ‫َ َ ُ َّ َ‬ ‫الزنــا أ َبـ ًـدا))(‪.)32‬‬ ‫نــدع ِ‬ ‫َ ُ َّ ُ‬ ‫ف َّ ُ‬ ‫الل َن ْفساً‬ ‫ومع هذا سأتجاوز مسألة التدرج لنستمع لقوله تعالى ((ل يك ِل‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫((ف َّات ُقــوا َّ َ‬ ‫الل مــاَ‬ ‫ِإل ُو ْسـ َـع َها)) [ســورة البقــرة‪ :‬آيــة ‪ ]286‬ولقولــه ســبحانه‪:‬‬ ‫ٌ‬ ‫َْ َ ُ‬ ‫اآليات واضحة في وجوب اإلتـيان‬ ‫استط ْعت ْم )) [سورة التغابـن‪ :‬آية ‪ ]16‬إن ِ‬ ‫من الشرع ما استطعنا وعدم تكليفنا ما ال نستطيع‪ ،‬وقد أخذ العلماء من‬ ‫ُّ‬ ‫هذه اآليات وغيـرها القاعدة الفقهية الشهيـرة (ما ال يدرك كله ال يتـرك كله‬ ‫ُّ‬ ‫أو جله)‪ ...‬فيجب اإلتـيان باملستطاع من التكاليف الشرعية ما يختص منها‬ ‫بعالقــة املــرء مــع ربــه‪ ،‬أو مــا ي ــنظم عالقتــه باآلخري ــن‪ ،‬وال بــد عنــد العمــل‬ ‫بقاعــدة االســتطاعة أن نعتب ــر قواعــد الشــرع األخــرى ونالحــظ تعلقهــا‬ ‫بتقريـر أحكام الوقائع التـي تعرض لنا في حياتنا‪ ،‬كقاعدة (درء املفاسد‬ ‫مقــدم علــى جلــب املصالــح) وكقاعــدة (الضــرورات تب ــيح املحظــورات)‬ ‫وكقاعدة (يختار أهون الشريـن) وقاعدة (يتحمل الضرر الخاص لدفع‬ ‫الضــرر العــام) وغي ــرها‪.‬‬

‫قواعد السياسة الشرعية‬

‫العدد ‪ 2‬رجب ‪1439‬هـ‬

‫ولنستمع لهذا الحوار بـيـن خامس الخلفاء الراشديـن عمر بـن عبد العزيز‬ ‫ر�ضــي هللا عنــه واب ــنه عبــد امللــك لنتعــرف علــى منهــج الســلف فــي تحكيــم‬ ‫الشــرع والقيــام بأوامــر هللا ســبحانه‪( ...‬دخــل عبــد امللــك ب ــن ُع َمــر ب ــن عبــد‬ ‫العزيــز علــى أب ــيه وقــال لــه‪ :‬يــا أمي ــر املؤمنـي ــن مــا أنــت قائــل لربــك غـ ًـدا إذا‬ ‫ً‬ ‫ســألك! فقــال‪ :‬رأيــت بدعــة فلــم تمتهــا أو سـ ّـنة لــم تحيهــا؟ فقــال لــه‪ :‬يــا بـن ـ ّـي‬ ‫إلي أم ٌ َ‬ ‫الر َّ‬ ‫أ�شيء َّ‬ ‫حم ْلت َك ُه َّ‬ ‫نفسك؟ قال‪ :‬ال وهللا! ولكن‬ ‫عية َّ ر‬ ‫أي رأيته من قبل ِ‬ ‫َ ْأ ٌي ُ‬ ‫أيتــه مــن قبــل نف�ســي وعرفـ ُـت أنــك مســؤول‪ ،‬فمــا أنــت قائــل؟ فقــال‬ ‫ر ر‬ ‫ً‬ ‫لــه أبــوه‪ :‬رحمــك هللا وجـزاك مــن ولــد خي ــرا‪ ،‬فـوهللا إن ــي ألرجــو أن تكــون مــن‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫األعــوان علــى الخي ــر يــا بـن ــي‪ ،‬إن قومــك قــد شـ ُّـدوا هــذا األمــر عقــدة عقــدة‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫وعــروة عــروة! ومتــى مــا أريــد مكاب ــرتهم علــى انت ـزاع مــا فــي أيديهــم لــم آمــن أن‬ ‫يفتقــوا علــي ً‬ ‫فتقــا تكث ــر فيــه الدمــاء‪ ،‬وهللا لــزوال الدن ــيا أهــون علـ َّـي مــن أن‬ ‫يهراق في سببـي محجمة من ٍدم‪ ،‬أو ما تـر�ضى أن ال يأتـي على أبـيك يوم من‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫سنة حتى َ‬ ‫يحكم هللا بـيـننا‬ ‫ّأيام الدنـيا إال وهو يميت فيه بدعة ويحيي فيه‬ ‫وبـي ــن قومنــا بالحــق وهــو خي ــر الحاكمي ــن)(‪.)33‬‬ ‫َ َ َ ْ َ ْ َ َ ْ ُ َ ْ َ َ َّ ُ َ‬ ‫ات َعلى‬ ‫قال اإلمام الشاطبـي رحمه هللا‪( :‬ف ِلهذا العنى ِبعي ِن ِه و ِضع ِت العم ِلي‬ ‫َ َ َّ‬ ‫َ َ َ‬ ‫َ ُ ْ ْ ُ َ َّ َ َ َ‬ ‫َو ْجـ ٍـه ل تخـ ِـر ُج الكلــف ِإلــى َمشـ َّـق ٍة َي َمـ ُّـل ِب َسـ َـب ِب َها‪ ،‬أ ْو ِإلــى ت ْع ِطيـ ِـل عادا ِتـ ِـه ال ِتــي‬ ‫َ َ ُْ‬ ‫َْ ُ ُ‬ ‫َ َ ُ َُْ ُ َ​َ​َ َ ُ َ َ‬ ‫َُ ُ‬ ‫وظـ ِـه‪َ ،‬وذ ِلـ َـك أ َّن ال ِّمـ َّـي‬ ‫يقــوم ِب َهــا صــاح دنيــاه‪ ،‬ويتو َّســع ِبســب ِب َها ِفــي نيـ ِـل حظ ِ‬ ‫َ ْ‬ ‫ْ َ َْ‬ ‫َّ‬ ‫َّ َ ْ ُ َ ْ َ ْ ً َ ْ ُ ُ‬ ‫ـور الشـ ْـر ِع َّي ِة َول ال َع ْق ِل َّيـ ِـة َ‪-‬و ُر َّب َمــا اشـ َـمأ َّز قل ُبـ ُـه‬ ‫الـ ِـذي لــم يــز ِاول شــيئا ِمــن المـ ِ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ َ َ‬ ‫ْ‬ ‫َع َّمــا ُيخ ِر ُجـ ُـه َعـ ْـن ُم ْع َتـ ِـاد ِه ‪ِ -‬ب ِخــا ِف َمـ ْـن ك َان لـ ُـه ِبذ ِلـ َـك َع ْهـ ٌـد‪َ ،‬و ِمـ ْـن ُه َنــا ك َان‬ ‫ْ َ َ َ ً َ َ َ َ ْ َ ْ َ ُ َّ ْ ُ‬ ‫َ‬ ‫ول ْال ُق ْرآن ُن ُج ً‬ ‫ُن ُز ُ‬ ‫التك ِل ِيف َّية ِف َيها ش ْي ًئا‬ ‫وما ِفي ِعش ِريـن سنة‪ ،‬وورد ِت الحكام‬ ‫ِ‬ ‫َ َ ْ ً َ َ ْ َ ْ ْ َ ْ َ ً َ َ ً َ َ َ َ َّ َ ْ َ َ ْ َ ُّ ُ ُ ْ ً‬ ‫ً‬ ‫وس َدف َعة َو ِاح َدة‪،‬‬ ‫فشيئا ولم تن ِزل دفعة و ِاحدة‪ ،‬وذ ِلك ِلئل تن ِفر عنها النف‬ ‫ـال َلـ ُـه‪َ :‬مــا َلــكَ‬ ‫َو ِف َيمــا ُي ْح َكــى َعـ ْـن ُع َمـ َـر ْبــن َع ْبـ ِـد ْال َعزيــز َأ َّن ْاب َنـ ُـه َع ْبـ َـد ْ َال ِلـ ِـك َقـ َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫َ ُ َ ّ ُ ْ ُ ُ َ َ َ َّ‬ ‫الل َمــا ُأ َبالــي َلـ ْـو َأ َّن ْال ُقـ ُـد َور َغ َلـ ْـت بــي َوبـ َـك فــي ْال َحـ ّـق! َقـ َ‬ ‫ـال‬ ‫ل تن ِفــذ المــور؟ فــو ِ‬ ‫ِ ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ْ‬ ‫َ ُ ُ َ ُ َ َ ْ َ ْ َ ُ َ َّ َ َّ َّ َ َ ْ َ‬ ‫َ‬ ‫الل ذ َّم الخ ْمـ َـر ِفــي ال ُقـ ْـر ِآن َم َّرت ْيـ ِـن َو َح َّر َم َهــا ِفــي‬ ‫لــه عمــر‪( :‬ل تعجــل يــا بنــي‪ ،‬فـ ِـإن‬ ‫َّ َ َ َّ َ َ ُ َ ْ َ ْ َ ْ َ َّ َ َ‬ ‫ُ ْ َ ً َ َ ْ َُ‬ ‫َّ‬ ‫ُ‬ ‫ـاس جملــة‪ ،‬فيدفعــوه جملــة‪،‬‬ ‫الث ِالثـ ِـة‪ِ ،‬وإنــي أخــاف أن أح ِمــل الحــق علــى النـ ِ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ويكــون مــن ذا فتنـ ًـة‪َ )...‬و َهـ َـذا َم ْع ًنــى َ‬ ‫ْ‬ ‫ص ِحيـ ٌـح ُم ْع َت َبـ ٌـر ِفــي ِالسـ ِتق َر ِاء العـ ِـاد ّ ِي)(‪.)34‬‬ ‫وجاء في سيـرة عمر بـن عبد العزيز عند أبـي محمد عبد هللا بـن عبد الحكم‬ ‫قال‪( :‬ملا ولي عمر بـن عبد العزيز قال له ابـنه عبد امللك‪ :‬إنـي ألراك يا أبتاه‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫ـاعة مــن َّ‬ ‫قــد أخــرت أمـ ً‬ ‫النهــار عجلتهــا‪،‬‬ ‫ـورا كثي ــرة كنــت أحســبك لــو وليــت سـ‬ ‫َ‬ ‫ولـ َـو ِد ْد ُت أنــك قــد فعلــت ذلــك ولــو فــارت ب ــي وبــك القــدور! قــال لــه عمــر‪:‬‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫أي أهـ ِـل الحداثـ ِـة‪،‬‬ ‫أي بـن ــي! إنــك علـ َـى ح ُسـ ِـن قسـ ِـم هللا لــك‪ ،‬وفيــك بعــض ر ِ‬ ‫ٌ‬ ‫ـتطيع أ ْن أ َ‬ ‫وهللا ما أسـ ُ‬ ‫خرج لهم شـ ًـيئا من الدي ــن إال ومعه طرف من الدن ــيا‬ ‫ِ‬ ‫ً‬ ‫أستلي ــن بــه قلوبهــم؛ خوفــا أن ي ــنخرق علـ َّـي منهــم مــا ال طاقــة لــي بــه)(‪.)35‬‬

‫(‪ )32‬رواه البخاري في كتاب فضائل القرآن‪ ،‬باب تأليف القرآن رقم الحديث (‪.)4707‬‬ ‫(‪ )33‬حلية األولياء ألبـي نعيم‪ ،‬طبعة دار الكتب العربـي ‪1405‬هـ (ص ‪ ،)283/5‬وتاريخ الخلفاء للسيوطي‪ ،‬تحقيق الدمرداش‪ ،‬طبعة مكتبة نزار الباز ‪2004‬م‪( ،‬ص ‪.)180‬‬ ‫(‪ )34‬املوافقات للشاطبـي طبعة دار ابـن عفان ‪1997‬م‪( ،‬ص ‪.)184/2‬‬ ‫(‪ )35‬سيـرة عمر بـن عبد العزيز‪ ،‬لإلمام أبـي محمد عبد هللا بـن عبد الحكم‪ ،‬تحقيق أحمد عبـيد‪ ،‬طبعة عالم الكتب ‪1984‬م‪( ،‬ص‪.)57‬‬

‫‪26‬‬

‫النتائج‬ ‫‪ )1‬أحــكام الحــدود والقصــاص جــزء مــن تشــريع اإلســام ال ي ــنكرها‬ ‫عالــم متفقــه علــى منهــج أهــل الســنة والجماعــة‪ ،‬وإنمــا ي ــنكرها أهــل‬ ‫ـبهات‪ ،‬وال علــم‬ ‫األهــواء أو الضعفــاء ممــن وقعــوا تحــت ضغــط الشـ ِ‬ ‫لهــم بقواعــد اســتنباط األحــكام الشــرعية ليدافعــوا بهــا عــن دي ــنهم‪.‬‬ ‫‪ )2‬النتائــج الت ــي وصــل إليهــا املتطرفــون ال تمــت إلــى اإلســام بصلــة‪،‬‬ ‫ألنهــا ال تعــدو أن تكــون اجت ـز ًاء لألدلــة وإخر ً‬ ‫اجــا لهــا مــن ســياقها‪.‬‬ ‫‪ )3‬كل واحــدة مــن املســائل الشــرعية هــي عبــارة عــن وحــدة متكاملــة‬ ‫ً‬ ‫َّ‬ ‫مكونــة مــن مجموعــة مــن األج ـزاء املت ـرابطة فيمــا بـي ــنها ت ـرابطا ال‬ ‫انفــكاك فيــه‪ ،‬فــإذا مــا ُحكــم علــى مســألة مــا مــن غي ــر إحاطــة شــاملة‬ ‫بــكل مــا ورد فيهــا مــن أدلــة خاصــة ومــا ي ــنطبق عليهــا مــن قواعــد عامــة؛‬ ‫ً‬ ‫ناقصــا وبعيـ ًـدا عــن م ـراد الشــرع الكريــم‪.‬‬ ‫فســيكون الحكــم‬ ‫‪ )4‬القواعــد الفقهيــة هــي الحاكمــة علــى قوانـي ــن الشــريعة الجزئيــة‪،‬‬ ‫وال حكــم بــدون اعتبارهــا وعــرض الوقائــع عليهــا‪.‬‬ ‫ٌ‬ ‫‪ )5‬فــي السي ــرة النبويــة وتاريــخ خلفائنــا كفايــة للتعــرف علــى منهــج‬ ‫اإلســام فــي سياســة األمــة وإدارة شــؤونها ومنهــا قضايــا الحــدود‪.‬‬ ‫‪ )6‬بعــض أمــور السياســة والحكــم ال يجــوز الحديــث بهــا أمــام العامــة‬ ‫لعــدم توجــه الخطــاب إليهــم فيهــا‪ ،‬ومنعــا مــن إثــارة الفتــن‪.‬‬ ‫‪ )7‬هللا كلفنــا بمــا نســتطيع ولــم يكلفنــا فــوق طاقتنــا‪ ،‬ومــن يكلــف‬ ‫نفســه فــوق طاقتــه يخــرج عــن منهــج هللا ويخســر دي ــنه ودن ــياه‪.‬‬ ‫َ‬ ‫‪ )8‬اإلسالم جاء لسعادتنا فإذا ش ِقيت املجتمعات املسلمة فالسبب‬ ‫هو تخلفها وفهمها الخاطئ للديـن وليس اإلسالم‪.‬‬

‫خامتة‬

‫إن املســلم حي ــن يتأمــل نصــوص الق ـرآن والســنة يجــد أن‬ ‫مقصــود الشــرع مــن الحــدود ليــس االنتقــام مــن الجان ــي وليــس‬ ‫العقوبــة بحــد ذاتهــا‪ ،‬ولكــن هدفــه األول مــن تشــريعها ردع املجــرم‬ ‫عــن التمــادي فــي خطئــه‪ ،‬والحفــاظ علــى املجتمــع مــن أن تتحــول‬ ‫هــذه األخطــاء فيــه مــن حــاالت فرديــة طب ــيعية ال يخلــو منهــا‬ ‫مجتمــع إلــى ظاهــرة مرضيــة مستشــرية تهتــك النســيج األخالقــي‬ ‫ّ‬ ‫لألمــة املســلمة‪ ...‬روى اإلمــام مالــك فــي املوطــأ عــن زيــد ب ــن أســلم‪،‬‬

‫العدد ‪ 2‬رجب ‪1439‬هـ‬

‫ً‬ ‫أن رجــا اعت ــرف علــى نفســه بالزنــا علــى عهــد رســول هللا صلــى هللا‬ ‫عليــه وســلم‪ ،‬فأمــر بــه فجلــد ثــم قــال‪(( :‬أيهــا النــاس قــد آن لكــم‬ ‫أن تنتهــوا عــن حــدود هللا‪ ،‬مــن أصــاب مــن هــذه القــاذورات شــيئا‬ ‫فليستت ــر بست ــر هللا‪ ،‬فإنــه مــن يبــدي لنــا صفحتــه نقــم عليــه‬ ‫كتــاب هللا))‪.‬‬ ‫مــن هنــا أســتطيع أن أقــول‪ :‬إن كتــب الفقــه أو الحديــث ال تكفــي‬ ‫ً‬ ‫قارئهــا ليصبــح ً‬ ‫فقيهــا أو عال ـ ــا‪ ،‬فمــن اكتفــى بالق ـراءة والحفــظ‬ ‫َُ‬ ‫َ‬ ‫ال يعــدو َمثلـ ُـه آلــة الحاســوب‪ ،‬يخــزن املعلومــات ثــم يخرجهــا ال‬ ‫فقـ َـه وال فهـ َـم‪ ...‬وإنمــا علــى املتفقــه أن يقـرأ سي ــرة النب ــي صلــى هللا‬ ‫عليــه وســلم وسي ــر خلفائــه الراشدي ــن ومناقــب الســلف واألئمــة‬ ‫املجتهدي ــن والعلمــاء العاملي ــن بقصــد االســتفادة ال بغــرض‬ ‫النقــد والتنقــص‪ ،‬ثــم يثن ــي بق ـراءة كتــب القواعــد الفقهيــة ألنهــا‬ ‫هــي الحاكمــة علــى مــا قـرأه فــي كتــب الفقــه‪ ،‬كمــا أنــه ال بــد لــه مــن‬ ‫ق ـراءة علــم أصــول الفقــه ليعــرف كيــف وصــل املجتهــدون إلــى‬ ‫األحــكام‪ ،‬فــا يتهمهــم بالتفريــط والحكــم بغي ــر مــا أنــزل هللا كمــا‬ ‫يفعــل حدثــاء األســنان‪ ،‬وال يقــوده رأيــه إلــى مــا يخرجــه عــن قواعــد‬ ‫فهــم النصــوص عنــد أهــل الســنة كمــا يفعــل دعــاة الحداثــة‪ ...‬ثــم‬ ‫بعــد ذلــك يتفكــر فــي ســنن هللا فــي نشــوء األمــم وســقوطها وقـراءة‬ ‫تواريخهــا كمــا أمــر هللا بذلــك فــي كتابــه‪ ،‬لعلــه يــدرك علــم ت ـ ُّـرت ِب‬ ‫النتائــج علــى األســباب ضمــن قانــون هللا فــي خلقــه‪ ،‬والــذي أثبتــه‬ ‫َُ‬ ‫ْ َ َ َّ َ َ َ َ َ َ‬ ‫َُ‬ ‫ُ ًّ ُ‬ ‫ان َعطـ ُـاء‬ ‫بقولــه ((كل ن ِمـ ُّـد َهــؤل ِء َو َهــؤل ِء ِمــن عطـ ِـاء رِبــك ومــا ك‬ ‫َرّبـ َـك َم ْح ُظـ ً‬ ‫ـورا)) [اإلس ـراء‪ :‬اآليــة ‪ ...]20‬عندمــا يسي ــر اإلنســان‬ ‫ِ‬ ‫فــي هــذا الطريــق بصحبــة أهــل العلــم والصــدق لــن تلتبــس عليــه‬ ‫ُ‬ ‫األمــور ولــن تســقطه شــبه امللحدي ــن كمــا لــن تغ�شــي عيـن ــيه‬ ‫ُ َُ ّ‬ ‫املفرطي ــن‪...‬‬ ‫اســتدالالت املتطرفي ــن وال شــبه ِ‬ ‫نسأل هللا سبحانه التوفيق‬ ‫والهداية لكل املسلميـن والحمد هلل رب العامليـن‪.‬‬

‫‪27‬‬


‫اإلمام الجيالنـي‬

‫اإلمام الجيالنـي‬

‫العدد ‪ 2‬رجب ‪1439‬هـ‬

‫جهود اإلمام‬

‫الق ِ‬ ‫َع ِ‬ ‫الج ْي َل ِني‬ ‫بد َ‬ ‫ادر َ‬

‫السنـي وبـناء املدارس‬ ‫وتالمذتِه‪ ،‬يف اإلصالح ُّ‬ ‫الدكتور أيمن يزبك‬

‫ً‬ ‫سابقا‬ ‫دكتوراه يف التاريخ اإلسالمي محاضر يف جامعة دمشق‬

‫ً ّ ً‬ ‫ُ‬ ‫فعــال‬ ‫تعــد املدرســة القادريــة إحــدى أهــم املراكــز العلميــة الت ــي لعبــت دورا‬ ‫فــي حركــة اإلصــاح والتجديــد فــي مرحلــة مــن الزمــن سـ ّـماها بعــض الباحثي ــن‬ ‫املعاصري ــن عصــر الجمــود‪ ،‬وكان بعــض الحــكام ممــن قــادوا حركــة اإلصــاح‬ ‫الدي ــن زن ـكـي وصــاح ّ‬ ‫والتجديــد أمثــال نــور ّ‬ ‫الدي ــن ّ‬ ‫األيوب ــي يعتمــدون عليهــا فــي‬ ‫رفدهــم باألجيــال الواعيــة لب ــناء مشــروعهم النهضــوي وإتمــام مسي ــرة اإلصــاح‪...‬‬ ‫ـوادر ّ‬ ‫األمــة اإلسـ ّ‬ ‫وقــد أمـ َّـدت هــذه املدرســة ّ‬ ‫ـامية بكـ َ‬ ‫علميــة تعــدى تأثي ــرها‬ ‫جغرافيــة العالــم السن ــي ووصلــوا إلــى مناطــق النفــوذ الشــيعي‪ ،‬وأســهموا بشــكل‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫التحــول السيا�سـ ّـي والفكــر ّي لتلــك الشــعوب‪ ...‬والحديــث هنــا يــدور‬ ‫فعــال فــي‬ ‫عــن حيـ ِـاة مؤســس هــذه املدرســة الشــيخ عبــد القــادرالجيالن ــي ودوره الت ــربوي‬ ‫والتعليمــي‪ ،‬وعــن ب ــناء مشــروع النهضــة الــذي بــدأه الوزي ــرنظــام امللــك الطو�ســي‬ ‫ٌ‬ ‫وأكملــه نــور الدي ــن وصــاح الدي ــن ومعهــم ثلــة مــن العلمــاء‪ ،‬وعــن الخطــوط الت ــي‬ ‫ســارت عليهــا حركــة اإلصــاح والتجديــد‪.‬‬ ‫وســيكون الحديــث عــن اإلمــام الجيالن ــي ومنهجــه اإلصالحــي مــن خــال خمســة مباحــث‪،‬‬ ‫ُ ُ‬ ‫األول‪ :‬أ َعــرف فيــه بأمــور الشــيخ العامــة‪ ،‬والثان ــي‪ :‬أتحــدث فيــه عــن منهجــه فــي الب ــناء‬ ‫العقائــدي لتالمذتــه‪ ،‬وأمــا فــي املبحــث الثالــث‪ :‬فأتحــدث فيــه عــن مفهــوم التصــوف‬ ‫عنــد الشــيخ إذ كان أب ــرز مــا اشــتهر بــه منهجــه اإلصالحــي‪ ،‬وأمــا املبحــث الرابــع‪ْ :‬‬ ‫فتكلمــت‬ ‫فيــه عــن معالــم الطريقــة القادريــة وأهــم مــا يتعلمــه املريــد فيهــا‪ ،‬وأمــا املبحــث الخامــس‬ ‫ْ‬ ‫واألخيـر ‪ :‬فعرفت فيه بأهم املدارس القادرية في العالم اإلسالمي في ذلك الوقت ونبذة‬ ‫عــن حيــاة مؤسســيها‪ ،‬ثــم عقبــت ذلــك بخاتمــة فيهــا أهــم النتائــج والتوصيــات‪.‬‬

‫املبحث األول‬ ‫اسماإلمامونسبهوشيوخهومكانتهالعلمية‬ ‫‪ )1‬اسمه ونسبه ‪:‬‬ ‫هــو أبــو محمــد عبــد القــادر ب ــن أب ــي صالــح عبــد هللا‬ ‫ب ــن جنكــي دوســت الجيلــي الحنبلــي شــيخ بغــداد‪،‬‬ ‫لقبــه محيــي الدي ــن (‪ ،)1‬مولــده فــي جيــان(‪ )2‬مــن بــاد ما‬ ‫وراء طب ــرستان عــام ‪471‬هــ‪1078/‬م‪ ،‬وفيهــا كانــت‬ ‫نشــأته وبدايــة طلبــه للعلــم‪.‬‬ ‫وقــد نشــأ فــي كنــف أســرة ُعرفــت بالزهــد والصــاح‬ ‫والتقــوى‪ ،‬وقــد وصــف الشــيخ عبــد القــادر عائلتــه‬ ‫بقولــه‪َّ :‬‬ ‫(أهلن ــي هللا عــز وجــل بب ــركات متابعت ــي‬ ‫للرســول صلــى هللا عليــه وســلم وب ــري بوالــدي‬ ‫ووالدات ــي رحمهمــا هللا عــز وجــل‪ ،‬والــدي زاهــد فــي‬ ‫الدن ــيا مــع قدرتــه عليهــا ووالدت ــي وافقتــه علــى ذلــك‬ ‫ورضيــت بفعلــه‪ ،‬كانــا مــن أهــل الصــاح والديانــة‬ ‫والشــفقة علــى الخلــق) (‪.)3‬‬ ‫‪28‬‬

‫وفــي ســن الشــباب رحــل الشــيخ إلــى بغــداد عــام ‪488‬هــ‪1095/‬م‪،‬‬ ‫وهــي يومئــذ ملتقــى العلمــاء‪ ،‬حيــث تتلمــذ علــى شــيخه فــي املذهــب‬ ‫اب ــن عقيــل الحنبلــي وعنــه أخــذ فقــه املذهــب‪ ،‬كمــا تتلمــذ علــى‬ ‫الشــيخ أب ــي ســعيد ّ‬ ‫املخرمــي صاحــب املدرســة‪.‬‬ ‫عــاش عبــد القــادر الجيالن ــي تسعي ــن ســنة وتوفــي عــام ‪561‬هــ‪1165/‬م‪،‬‬ ‫وكانكثيـرالولدانفكانلهمنالذكورسبعةوعشرونومناإلناثواحد‬ ‫وعشرون‪،‬وكانمنأوالدهأحدعشرحملوارسالتهوفقههإلىالعامليـن‪.‬‬ ‫و حظي الشيخ بثناء العلماء سواء من معاصريه أم ّ‬ ‫ممن جاء بعدهم‬ ‫فقــال عنــه السمعان ــي‪ - :‬وهــو مــن معاصريــه ‪( -‬إمــام الحنابلــة فــي‬ ‫زمانــه)‪ ،‬وقــال عنــه الذهب ــي [ت‪748‬هــ]‪( :‬الشــيخ اإلمــام العالــم‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫الزاهــد العــارف القــدوة شــيخ اإلســام وعلــم األوليــاء ومحيــي‬ ‫الدي ــن(‪ ،)4‬وقــال اب ــن رجــب [ت‪795‬هــ] فــي وصفــه‪( :‬شــيخ العصــر‬ ‫وقدوة العارفيـن وسلطان املشايخ صاحب املقامات والكرامات)(‪.)5‬‬ ‫وقــد كابــد الشــيخ الجيالن ــي مصاعــب الحيــاة فــي سب ــيل طلــب العلــم‬ ‫الشــرعي الــذي سـ ّ‬ ‫ـيؤهله فيمــا بعــد لالنضمــام لصفــوف عظــام‬ ‫َ‬ ‫الدعــاة املنافحي ــن عــن دي ــن هللا وشـريعته وال ُـمث ِّبتـي ــن ملذهــب أهــل‬ ‫الســنة والجماعــة‪ ...‬ولــم يكــن اإلمــام عبــد القــادر ً‬ ‫بدعــا فــي ذلــك‪،‬‬ ‫فقــد أصابــه مــن املشــقة والعنــت مــا أصــاب الذي ــن ســبقوه فــي‬ ‫العلمــاء العاملي ــن كاب ــن جري ــر الطب ــري وأبــو حاتــم الـرازي ونظــام‬ ‫امللــك والغزالــي‪.‬‬ ‫وقــد وصــف اإلمــام الجيالن ــي معاناتــه فــي سب ــيل طلــب العلــم فقــال‪:‬‬ ‫(وكنت أقتات بخرنوب الشــوك‪ ،‬وقمامة البقل‪ ،‬وورق الخس من‬ ‫جانــب النهــر والشــط‪ ،‬وبلغــت الضائقــة فــي غــاء نــزل ببغــداد إلــى أن‬ ‫أياما لم آكل فيها ً‬ ‫بقيت ً‬ ‫طعاما‪ ،‬بل كنت أتتبع املنبوذات أطعمها‪،‬‬ ‫فخرجــت ً‬ ‫يومــا مــن شــدة الجــوع إلــى الشــط لعلــي أجــد ورق الخــس‬ ‫أو البقــل‪ ،‬أو غي ــر ذلــك فأتقـ ّـوت بــه‪ .‬فمــا ذهبــت إلــى موضــع إال‬ ‫وغي ــري قــد سبقن ــي إليــه وإن وجــدت أجــد الفقـراء يتزاحمــون عليــه‬ ‫ً‬ ‫فأت ــركه ُح ًّبــا‪ ،‬فرجعــت أم�شــي وســط البلــد ال أدرك منبــوذا إال وقــد‬

‫العدد ‪ 2‬رجب ‪1439‬هـ‬

‫ســبقت إليــه‪ ،‬حتــى وصلــت إلــى مســجد ياسي ــن بســوق الريحانـيي ــن‬ ‫ببغــداد وقــد أجهدن ــي الضعــف‪ ،‬وعجــزت عــن التماســك‪ ،‬فدخلــت‬ ‫إليــه وقعــدت فــي جانــب منــه وقــد كــدت أصافــح املــوت‪ ،‬إذ دخــل شــاب‬ ‫ٌ‬ ‫صاف وشواء‪ ،‬وجلس يأكل‪ ،‬فكنت أكاد كلما رفع‬ ‫أعجمي ومعه خبز ٍ‬ ‫يــده باللقمــة أن أفتــح فمــي مــن شــدة الجــوع‪ ،‬حتــى أنكــرت ذلــك علــى‬ ‫نف�سي‪ :‬فقلت ما هذا؟ وقلت‪ :‬ما ههنا إال هللا أو ما قضاه من املوت‪ ،‬إذ‬ ‫التفت إلى العجمي فرآنـي فقال‪ :‬بسم هللا يا أخي! فأبـيت فأقسم علي‬ ‫فبــادرت نف�ســي فخالفتهــا فأقســم ً‬ ‫أيضــا فأجبتــه‪ ،‬فأكلــت متقاصـ ًـرا‪،‬‬ ‫فأخــذ يسألن ــي‪ :‬مــا شــغلك؟ ومــن أي ــن أنــت؟ وبمــن تعــرف؟ فقلــت‪ :‬أنــا‬ ‫ّ‬ ‫متفقـ ٌـه مــن جيــان! فقــال‪ :‬وأنــا مــن جيــان فهــل تعــرف شـ ًّـابا جيالن ـ ًّـيا‬ ‫يســمى عبــد القــادر ُيعــرف بســبط أب ــي عبــد هللا الصومعــي الزاهــد؟‬ ‫فقلــت‪ :‬أنــا هــو‪ ،‬فاضطــرب وتغي ــر وجهــه وقــال‪ :‬وهللا لقــد وصلــت إلــى‬ ‫بغــداد معــي بقيــة نفقــة لــي‪ ،‬فســألت عنــك فلــم يـرشدن ــي أحــد ونفــذت‬ ‫َّ‬ ‫عقت ــي‪ ،‬ولــي ثالثــة أيــام ال أجــد ثمــن قوت ــي‪ ،‬إال ممــا كان لــك معــي‪ ،‬وقــد‬ ‫حلــت لــي امليتــة وأخــذت مــن وديعتــك هــذا الخبــز والشــواء‪ ،‬فــكل ً‬ ‫طيبــا‬ ‫فإنمــا هــو لــك وأنــا ضيفــك اآلن بعــد أن كنــت ضيفــي‪ ،‬فقلــت لــه‪ :‬ومــا‬ ‫ذاك؟ فقال‪ُّ :‬أمك وجهت لك معي ثمان ــية دنانـي ــر فاشت ـريت منها هذا‬ ‫لالضطـرار‪ ،‬فأنــا معتــذر إليــك! فسـ َّـك ُّته ّ‬ ‫وطيبـ ُـت نفســه ودفعــت إليــه‬ ‫باقــي الطعــام وشـ ًـيئا مــن الذهــب ب ــرسم النفقــة فقبلــه وانصــرف) (‪.)6‬‬

‫‪ )2‬شيوخه‪:‬‬ ‫اســتقى الشــيخ عبــد القــادر العلــم واملعرفــة مــن يـناب ــيع عــدة‪ ،‬وكان‬ ‫أولهــا فــي بغــداد‪:‬‬ ‫أ‪ -‬شــيخه أبــو ســعيد‪ :‬املبــارك ب ــن علــي املخرمــي شــيخ الحنابلــة‪،‬‬ ‫وهــو الــذي ب ــنى مدرســة فــي بــاب األزج وجلــس فيهــا للتدريــس ثــم‬ ‫تولــى املهمــة بعــده تلميــذه عبــد القــادر‪ ،‬وكانــت وفــاة أب ــي ســعيد‬ ‫عام‪510‬هــ‪1116/‬م(‪.)7‬‬ ‫ب‪ -‬أبو الوفاء علي بـن عقيل بـن عبد هللا البغدادي شيخ الحنابلة في‬ ‫عصره‪،‬وصاحبالتصانـيفوصفهالذهبـيبقوله‪:‬بحراملعرفة(‪.)8‬‬

‫(‪ )1‬وقــد توقــف اب ــن كثي ــر وأبــو الفــداء الحمــوي عنــد هــذا النســب‪ ،‬فــي حي ــن أن اب ــن الــوردي والصفــدي والشعران ــي ي ــنسبه إلــى آل الب ــيت‪ ،‬وأنــه مــن ولــد الحســن ب ــن علــي ب ــن أب ــي طالــب‪ :‬قــال الذهب ــي‪( :‬وزاد بعــض النــاس فــي‬ ‫نســبه إلــى أن وصلــه بالحســن ب ــن علــي ر�ضــي هللا عنــه فقــال ‪ :‬اب ــن أب ــي عبــد هللا ب ــن عبــد هللا ب ــن يحيــى الزاهــد ب ــن محمــد ب ــن داود ب ــن مو�ســى ب ــن عبــد هللا ب ــن مو�ســى ب ــن‬ ‫عبد هللا املحض بـن الحسن املثنى بـن الحسن بـن علي بـن أبـي طالب ر�ضي هللا عنه) انظر‪ :‬الذهبـي‪ :‬تاريخ اإلسالم‪ ،‬ج‪ ،12‬ص‪.252‬‬ ‫(‪ )2‬كورة فارسية تقع جنوبـي بحر الخزر وشمالي جبال البـرز ويحدها من الشرق طبـرستان أو مازندران‪ ،‬ومن الشمال ملتقى نهر (الكر) بـنهر (الرس)‪ ،‬وهذه الكورة حافلة باملستنقعات‪،‬‬ ‫ومنه اشتق اسمها (جيل) وهو الطيـن أو الوحل وتعرف البقاع الجبلية منه باسم الديلم‪ .‬انظر ابـن شمائل‪ :‬مراصد االطالع‪ ،‬ج‪ ،1‬ص‪.368‬‬ ‫(‪ )3‬انظر‪ :‬ابـن رجب ‪ :‬ذيل طبقات الحنابلة‪ ،‬ج‪ ،1‬ص‪ )4( - .298‬سيـر أعالم النبالء‪ ،‬ج‪ ،20‬ص‪.439‬‬ ‫(‪ )5‬ابـن رجب ‪ :‬ذيل طبقات الحنابلة‪ ،‬ج‪ ،1‬ص‪ )6( - 290‬انظر‪ :‬ذيل طبقات الحنابلة‪ ،‬ج‪ ،1‬ص‪.298‬‬ ‫(‪ )7‬الذهبـي‪ :‬سيـر أعالم النبالء‪ ،‬ج‪ ،19‬ص‪ )8( - 428‬الذهبـي‪ :‬املصدر السابق‪ ،‬ج‪ ،19‬ص‪.446‬‬

‫‪29‬‬


‫اإلمام الجيالنـي‬

‫اإلمام الجيالنـي‬

‫العدد ‪ 2‬رجب ‪1439‬هـ‬

‫جهود اإلمام‬

‫الق ِ‬ ‫َع ِ‬ ‫الج ْي َل ِني‬ ‫بد َ‬ ‫ادر َ‬

‫السنـي وبـناء املدارس‬ ‫وتالمذتِه‪ ،‬يف اإلصالح ُّ‬ ‫الدكتور أيمن يزبك‬

‫ً‬ ‫سابقا‬ ‫دكتوراه يف التاريخ اإلسالمي محاضر يف جامعة دمشق‬

‫ً ّ ً‬ ‫ُ‬ ‫فعــال‬ ‫تعــد املدرســة القادريــة إحــدى أهــم املراكــز العلميــة الت ــي لعبــت دورا‬ ‫فــي حركــة اإلصــاح والتجديــد فــي مرحلــة مــن الزمــن سـ ّـماها بعــض الباحثي ــن‬ ‫املعاصري ــن عصــر الجمــود‪ ،‬وكان بعــض الحــكام ممــن قــادوا حركــة اإلصــاح‬ ‫الدي ــن زن ـكـي وصــاح ّ‬ ‫والتجديــد أمثــال نــور ّ‬ ‫الدي ــن ّ‬ ‫األيوب ــي يعتمــدون عليهــا فــي‬ ‫رفدهــم باألجيــال الواعيــة لب ــناء مشــروعهم النهضــوي وإتمــام مسي ــرة اإلصــاح‪...‬‬ ‫ـوادر ّ‬ ‫األمــة اإلسـ ّ‬ ‫وقــد أمـ َّـدت هــذه املدرســة ّ‬ ‫ـامية بكـ َ‬ ‫علميــة تعــدى تأثي ــرها‬ ‫جغرافيــة العالــم السن ــي ووصلــوا إلــى مناطــق النفــوذ الشــيعي‪ ،‬وأســهموا بشــكل‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫التحــول السيا�سـ ّـي والفكــر ّي لتلــك الشــعوب‪ ...‬والحديــث هنــا يــدور‬ ‫فعــال فــي‬ ‫عــن حيـ ِـاة مؤســس هــذه املدرســة الشــيخ عبــد القــادرالجيالن ــي ودوره الت ــربوي‬ ‫والتعليمــي‪ ،‬وعــن ب ــناء مشــروع النهضــة الــذي بــدأه الوزي ــرنظــام امللــك الطو�ســي‬ ‫ٌ‬ ‫وأكملــه نــور الدي ــن وصــاح الدي ــن ومعهــم ثلــة مــن العلمــاء‪ ،‬وعــن الخطــوط الت ــي‬ ‫ســارت عليهــا حركــة اإلصــاح والتجديــد‪.‬‬ ‫وســيكون الحديــث عــن اإلمــام الجيالن ــي ومنهجــه اإلصالحــي مــن خــال خمســة مباحــث‪،‬‬ ‫ُ ُ‬ ‫األول‪ :‬أ َعــرف فيــه بأمــور الشــيخ العامــة‪ ،‬والثان ــي‪ :‬أتحــدث فيــه عــن منهجــه فــي الب ــناء‬ ‫العقائــدي لتالمذتــه‪ ،‬وأمــا فــي املبحــث الثالــث‪ :‬فأتحــدث فيــه عــن مفهــوم التصــوف‬ ‫عنــد الشــيخ إذ كان أب ــرز مــا اشــتهر بــه منهجــه اإلصالحــي‪ ،‬وأمــا املبحــث الرابــع‪ْ :‬‬ ‫فتكلمــت‬ ‫فيــه عــن معالــم الطريقــة القادريــة وأهــم مــا يتعلمــه املريــد فيهــا‪ ،‬وأمــا املبحــث الخامــس‬ ‫ْ‬ ‫واألخيـر ‪ :‬فعرفت فيه بأهم املدارس القادرية في العالم اإلسالمي في ذلك الوقت ونبذة‬ ‫عــن حيــاة مؤسســيها‪ ،‬ثــم عقبــت ذلــك بخاتمــة فيهــا أهــم النتائــج والتوصيــات‪.‬‬

‫املبحث األول‬ ‫اسماإلمامونسبهوشيوخهومكانتهالعلمية‬ ‫‪ )1‬اسمه ونسبه ‪:‬‬ ‫هــو أبــو محمــد عبــد القــادر ب ــن أب ــي صالــح عبــد هللا‬ ‫ب ــن جنكــي دوســت الجيلــي الحنبلــي شــيخ بغــداد‪،‬‬ ‫لقبــه محيــي الدي ــن (‪ ،)1‬مولــده فــي جيــان(‪ )2‬مــن بــاد ما‬ ‫وراء طب ــرستان عــام ‪471‬هــ‪1078/‬م‪ ،‬وفيهــا كانــت‬ ‫نشــأته وبدايــة طلبــه للعلــم‪.‬‬ ‫وقــد نشــأ فــي كنــف أســرة ُعرفــت بالزهــد والصــاح‬ ‫والتقــوى‪ ،‬وقــد وصــف الشــيخ عبــد القــادر عائلتــه‬ ‫بقولــه‪َّ :‬‬ ‫(أهلن ــي هللا عــز وجــل بب ــركات متابعت ــي‬ ‫للرســول صلــى هللا عليــه وســلم وب ــري بوالــدي‬ ‫ووالدات ــي رحمهمــا هللا عــز وجــل‪ ،‬والــدي زاهــد فــي‬ ‫الدن ــيا مــع قدرتــه عليهــا ووالدت ــي وافقتــه علــى ذلــك‬ ‫ورضيــت بفعلــه‪ ،‬كانــا مــن أهــل الصــاح والديانــة‬ ‫والشــفقة علــى الخلــق) (‪.)3‬‬ ‫‪28‬‬

‫وفــي ســن الشــباب رحــل الشــيخ إلــى بغــداد عــام ‪488‬هــ‪1095/‬م‪،‬‬ ‫وهــي يومئــذ ملتقــى العلمــاء‪ ،‬حيــث تتلمــذ علــى شــيخه فــي املذهــب‬ ‫اب ــن عقيــل الحنبلــي وعنــه أخــذ فقــه املذهــب‪ ،‬كمــا تتلمــذ علــى‬ ‫الشــيخ أب ــي ســعيد ّ‬ ‫املخرمــي صاحــب املدرســة‪.‬‬ ‫عــاش عبــد القــادر الجيالن ــي تسعي ــن ســنة وتوفــي عــام ‪561‬هــ‪1165/‬م‪،‬‬ ‫وكانكثيـرالولدانفكانلهمنالذكورسبعةوعشرونومناإلناثواحد‬ ‫وعشرون‪،‬وكانمنأوالدهأحدعشرحملوارسالتهوفقههإلىالعامليـن‪.‬‬ ‫و حظي الشيخ بثناء العلماء سواء من معاصريه أم ّ‬ ‫ممن جاء بعدهم‬ ‫فقــال عنــه السمعان ــي‪ - :‬وهــو مــن معاصريــه ‪( -‬إمــام الحنابلــة فــي‬ ‫زمانــه)‪ ،‬وقــال عنــه الذهب ــي [ت‪748‬هــ]‪( :‬الشــيخ اإلمــام العالــم‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫الزاهــد العــارف القــدوة شــيخ اإلســام وعلــم األوليــاء ومحيــي‬ ‫الدي ــن(‪ ،)4‬وقــال اب ــن رجــب [ت‪795‬هــ] فــي وصفــه‪( :‬شــيخ العصــر‬ ‫وقدوة العارفيـن وسلطان املشايخ صاحب املقامات والكرامات)(‪.)5‬‬ ‫وقــد كابــد الشــيخ الجيالن ــي مصاعــب الحيــاة فــي سب ــيل طلــب العلــم‬ ‫الشــرعي الــذي سـ ّ‬ ‫ـيؤهله فيمــا بعــد لالنضمــام لصفــوف عظــام‬ ‫َ‬ ‫الدعــاة املنافحي ــن عــن دي ــن هللا وشـريعته وال ُـمث ِّبتـي ــن ملذهــب أهــل‬ ‫الســنة والجماعــة‪ ...‬ولــم يكــن اإلمــام عبــد القــادر ً‬ ‫بدعــا فــي ذلــك‪،‬‬ ‫فقــد أصابــه مــن املشــقة والعنــت مــا أصــاب الذي ــن ســبقوه فــي‬ ‫العلمــاء العاملي ــن كاب ــن جري ــر الطب ــري وأبــو حاتــم الـرازي ونظــام‬ ‫امللــك والغزالــي‪.‬‬ ‫وقــد وصــف اإلمــام الجيالن ــي معاناتــه فــي سب ــيل طلــب العلــم فقــال‪:‬‬ ‫(وكنت أقتات بخرنوب الشــوك‪ ،‬وقمامة البقل‪ ،‬وورق الخس من‬ ‫جانــب النهــر والشــط‪ ،‬وبلغــت الضائقــة فــي غــاء نــزل ببغــداد إلــى أن‬ ‫أياما لم آكل فيها ً‬ ‫بقيت ً‬ ‫طعاما‪ ،‬بل كنت أتتبع املنبوذات أطعمها‪،‬‬ ‫فخرجــت ً‬ ‫يومــا مــن شــدة الجــوع إلــى الشــط لعلــي أجــد ورق الخــس‬ ‫أو البقــل‪ ،‬أو غي ــر ذلــك فأتقـ ّـوت بــه‪ .‬فمــا ذهبــت إلــى موضــع إال‬ ‫وغي ــري قــد سبقن ــي إليــه وإن وجــدت أجــد الفقـراء يتزاحمــون عليــه‬ ‫ً‬ ‫فأت ــركه ُح ًّبــا‪ ،‬فرجعــت أم�شــي وســط البلــد ال أدرك منبــوذا إال وقــد‬

‫العدد ‪ 2‬رجب ‪1439‬هـ‬

‫ســبقت إليــه‪ ،‬حتــى وصلــت إلــى مســجد ياسي ــن بســوق الريحانـيي ــن‬ ‫ببغــداد وقــد أجهدن ــي الضعــف‪ ،‬وعجــزت عــن التماســك‪ ،‬فدخلــت‬ ‫إليــه وقعــدت فــي جانــب منــه وقــد كــدت أصافــح املــوت‪ ،‬إذ دخــل شــاب‬ ‫ٌ‬ ‫صاف وشواء‪ ،‬وجلس يأكل‪ ،‬فكنت أكاد كلما رفع‬ ‫أعجمي ومعه خبز ٍ‬ ‫يــده باللقمــة أن أفتــح فمــي مــن شــدة الجــوع‪ ،‬حتــى أنكــرت ذلــك علــى‬ ‫نف�سي‪ :‬فقلت ما هذا؟ وقلت‪ :‬ما ههنا إال هللا أو ما قضاه من املوت‪ ،‬إذ‬ ‫التفت إلى العجمي فرآنـي فقال‪ :‬بسم هللا يا أخي! فأبـيت فأقسم علي‬ ‫فبــادرت نف�ســي فخالفتهــا فأقســم ً‬ ‫أيضــا فأجبتــه‪ ،‬فأكلــت متقاصـ ًـرا‪،‬‬ ‫فأخــذ يسألن ــي‪ :‬مــا شــغلك؟ ومــن أي ــن أنــت؟ وبمــن تعــرف؟ فقلــت‪ :‬أنــا‬ ‫ّ‬ ‫متفقـ ٌـه مــن جيــان! فقــال‪ :‬وأنــا مــن جيــان فهــل تعــرف شـ ًّـابا جيالن ـ ًّـيا‬ ‫يســمى عبــد القــادر ُيعــرف بســبط أب ــي عبــد هللا الصومعــي الزاهــد؟‬ ‫فقلــت‪ :‬أنــا هــو‪ ،‬فاضطــرب وتغي ــر وجهــه وقــال‪ :‬وهللا لقــد وصلــت إلــى‬ ‫بغــداد معــي بقيــة نفقــة لــي‪ ،‬فســألت عنــك فلــم يـرشدن ــي أحــد ونفــذت‬ ‫َّ‬ ‫عقت ــي‪ ،‬ولــي ثالثــة أيــام ال أجــد ثمــن قوت ــي‪ ،‬إال ممــا كان لــك معــي‪ ،‬وقــد‬ ‫حلــت لــي امليتــة وأخــذت مــن وديعتــك هــذا الخبــز والشــواء‪ ،‬فــكل ً‬ ‫طيبــا‬ ‫فإنمــا هــو لــك وأنــا ضيفــك اآلن بعــد أن كنــت ضيفــي‪ ،‬فقلــت لــه‪ :‬ومــا‬ ‫ذاك؟ فقال‪ُّ :‬أمك وجهت لك معي ثمان ــية دنانـي ــر فاشت ـريت منها هذا‬ ‫لالضطـرار‪ ،‬فأنــا معتــذر إليــك! فسـ َّـك ُّته ّ‬ ‫وطيبـ ُـت نفســه ودفعــت إليــه‬ ‫باقــي الطعــام وشـ ًـيئا مــن الذهــب ب ــرسم النفقــة فقبلــه وانصــرف) (‪.)6‬‬

‫‪ )2‬شيوخه‪:‬‬ ‫اســتقى الشــيخ عبــد القــادر العلــم واملعرفــة مــن يـناب ــيع عــدة‪ ،‬وكان‬ ‫أولهــا فــي بغــداد‪:‬‬ ‫أ‪ -‬شــيخه أبــو ســعيد‪ :‬املبــارك ب ــن علــي املخرمــي شــيخ الحنابلــة‪،‬‬ ‫وهــو الــذي ب ــنى مدرســة فــي بــاب األزج وجلــس فيهــا للتدريــس ثــم‬ ‫تولــى املهمــة بعــده تلميــذه عبــد القــادر‪ ،‬وكانــت وفــاة أب ــي ســعيد‬ ‫عام‪510‬هــ‪1116/‬م(‪.)7‬‬ ‫ب‪ -‬أبو الوفاء علي بـن عقيل بـن عبد هللا البغدادي شيخ الحنابلة في‬ ‫عصره‪،‬وصاحبالتصانـيفوصفهالذهبـيبقوله‪:‬بحراملعرفة(‪.)8‬‬

‫(‪ )1‬وقــد توقــف اب ــن كثي ــر وأبــو الفــداء الحمــوي عنــد هــذا النســب‪ ،‬فــي حي ــن أن اب ــن الــوردي والصفــدي والشعران ــي ي ــنسبه إلــى آل الب ــيت‪ ،‬وأنــه مــن ولــد الحســن ب ــن علــي ب ــن أب ــي طالــب‪ :‬قــال الذهب ــي‪( :‬وزاد بعــض النــاس فــي‬ ‫نســبه إلــى أن وصلــه بالحســن ب ــن علــي ر�ضــي هللا عنــه فقــال ‪ :‬اب ــن أب ــي عبــد هللا ب ــن عبــد هللا ب ــن يحيــى الزاهــد ب ــن محمــد ب ــن داود ب ــن مو�ســى ب ــن عبــد هللا ب ــن مو�ســى ب ــن‬ ‫عبد هللا املحض بـن الحسن املثنى بـن الحسن بـن علي بـن أبـي طالب ر�ضي هللا عنه) انظر‪ :‬الذهبـي‪ :‬تاريخ اإلسالم‪ ،‬ج‪ ،12‬ص‪.252‬‬ ‫(‪ )2‬كورة فارسية تقع جنوبـي بحر الخزر وشمالي جبال البـرز ويحدها من الشرق طبـرستان أو مازندران‪ ،‬ومن الشمال ملتقى نهر (الكر) بـنهر (الرس)‪ ،‬وهذه الكورة حافلة باملستنقعات‪،‬‬ ‫ومنه اشتق اسمها (جيل) وهو الطيـن أو الوحل وتعرف البقاع الجبلية منه باسم الديلم‪ .‬انظر ابـن شمائل‪ :‬مراصد االطالع‪ ،‬ج‪ ،1‬ص‪.368‬‬ ‫(‪ )3‬انظر‪ :‬ابـن رجب ‪ :‬ذيل طبقات الحنابلة‪ ،‬ج‪ ،1‬ص‪ )4( - .298‬سيـر أعالم النبالء‪ ،‬ج‪ ،20‬ص‪.439‬‬ ‫(‪ )5‬ابـن رجب ‪ :‬ذيل طبقات الحنابلة‪ ،‬ج‪ ،1‬ص‪ )6( - 290‬انظر‪ :‬ذيل طبقات الحنابلة‪ ،‬ج‪ ،1‬ص‪.298‬‬ ‫(‪ )7‬الذهبـي‪ :‬سيـر أعالم النبالء‪ ،‬ج‪ ،19‬ص‪ )8( - 428‬الذهبـي‪ :‬املصدر السابق‪ ،‬ج‪ ،19‬ص‪.446‬‬

‫‪29‬‬


‫اإلمام الجيالنـي‬ ‫ج‪ -‬حمــاد ب ــن مســلم ّ‬ ‫الدبــاس‪ ،‬وكان علــى درجــة عاليــة مــن العلــم‬ ‫واالســتقامة وقــد تحــدث عنــه اب ــن ت ــيمية حيــث ذكــره وتلميــذه‬ ‫الجيالن ــي بقولــه‪( :‬فأمــر الشــيخ عبــد القــادر وشــيخه حمــاد‬ ‫الدبــاس وغي ــرهما مــن املشــايخ أهــل االســتقامة ‪ -‬ر�ضــي هللا عنهــم‬ ‫ُّ‬ ‫ بأنــه ال ي ــريد الســالك مـر ًادا قــط‪ ،‬وأنــه ال ي ــريد مــع إرادة هللا عــز‬‫وجــل ســواها بــل يجــري فعلــه فيــه فيكــون هــو م ـراد الحــق)(‪.)9‬‬ ‫د‪ -‬أبو محمد جعفر بـن أحمد البغدادي السراج محدث بغداد‪،‬‬ ‫وصاحــب التصان ــيف كان مــن يلتقــي بــه مــن التالميــذ‪ ،‬ويأخــذ عنــه‬ ‫يتفاخر بذلك وتصبح هذه منقبة له بـي ــن طلبة العلم(‪.)10‬‬ ‫ه‪ -‬أبــو عبــد هللا يحيــى ب ــن اإلمــام أب ــي علــي الحســن ب ــن أحمــد ب ــن‬ ‫الب ــناء البغــدادي الحنبلــي‪ ،‬وكان مــن أكث ــر مــن أثنــى عليــه مــن‬ ‫العلمــاء وذكــروا فضائلــه كب ــنائه للمســاجد(‪.)11‬‬ ‫يالحــظ مــن ذكــر هــؤالء أن اإلمــام عبــد القــادر الجيالن ــي قــد أخــذ‬ ‫فقــه الحنابلــة عــن أكث ــر مــن شــيخ ممــا جعلــه علــى قــدر كبـي ــر مــن‬ ‫العلــم واإلحاطــة بفــروع املذهــب واجتهــادات أئمتــه ومصنفاتهــم‬ ‫فــي ذلــك‪.‬‬

‫‪ )3‬مكانته العلمية وثناء العلماء عليه‪:‬‬

‫ومــن رحــم املعانــاة وضيــق الفاقــة ُوِلــد هــذا الفقيــه النحري ــر‬ ‫ً‬ ‫فقيهــا ّ‬ ‫محد ًثــا ّ‬ ‫الشــيخ عبــد القــادر الجيالن ــي ً‬ ‫مفسـ ًـرا واعظــا جمــع‬ ‫بـي ــن صنــوف العلــم والتبحــر فيهــا‪ ،‬وتشــهد لــه تصان ــيفه بذلــك‬ ‫إضافــة إلــى ثنــاء كبــار علمــاء اإلســام عليــه‪ ،‬فهــذا تلميــذه موفــق‬ ‫الدي ــن ب ــن قدامــة املقد�ســي صاحــب املغن ــي يقــول‪( :‬دخلنــا بغــداد‬ ‫ســنة ( ‪561‬ه ـ ) فــإذا الشــيخ اإلمــام محيــي الدي ــن عبــد القــادر‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ممــن انتهــت إليــه الرئاســة بهــا ً‬ ‫علمــا وعمــا وحــال وافتـ ًـاء‪ ،‬وكان‬ ‫يكفــي طالــب العلــم عــن قصــده غي ــره مــن كث ــرة مــا اجتمــع فيــه‬ ‫مــن العلــوم والصب ــر علــى املشتغلي ــن وســعة الصــدر‪ ،‬وكان مــلء‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫العي ــن وجمــع هللا فيــه أوصافــا جميلــة وأحــوال عزيــزة‪ ،‬ومــا رأيــت‬ ‫بعــده مثلــه وكل الصيــد فــي جــوف الف ـراء)(‪.)12‬‬ ‫وهــذا اب ــنه عبــد الوهــاب الــذي ورث أبــاه عبــد القــادر فــي املذهــب‪،‬‬ ‫يقــول‪( :‬كان والــدي رحمــه هللا يتكلــم فــي األســبوع ثــاث م ـرات‬ ‫بكــرة الجمعــة وعشــية الثالثــاء وبالربــاط بكــرة األحــد‪ ،‬وكان‬ ‫(‪ )9‬ابـن تـيمية‪:‬الفتاوى‪،‬ج‪ ،10‬ص‪.455‬‬ ‫(‪ )10‬الذهبـي‪ :‬سيـر أعالم النبالء‪ ،‬ج‪ ،19‬ص‪.228‬‬ ‫(‪ )11‬الذهبـي‪ :‬املصدر السابق‪ ،‬ج‪ ،20‬ص‪.6‬‬ ‫(‪ )12‬ابـن رجب ‪ :‬ذيل طبقات الحنابلة‪ ،‬ج‪ ،1‬ص‪.294‬‬ ‫(‪ )13‬الشطنوفي‪ :‬بهجة األسرار‪ ،‬ص‪.95‬‬

‫اإلمام الجيالنـي‬

‫العدد ‪ 2‬رجب ‪1439‬هـ‬

‫يحضــره العلمــاء والفقهــاء واملشــايخ وغي ــرهم‪ ،‬ومــدة كالمــه‬ ‫علــى النــاس أربعــون ســنة أولهــا ‪521‬ه ـ وآخرهــا ‪561‬هــ‪ ،‬ومـ ّـدة‬ ‫تصــدره للتدريــس والفتــوى بمدرســته ‪ 33‬ســنة أولهــا ‪528‬هــ‪،‬‬ ‫وآخرها‪561‬هــ‪ ،‬وكان يكتــب مــا يقــول فــي مجلســه أربعمائــة‬ ‫ً‬ ‫محب ــرة) (‪ .)13‬وأثنــى عليــه اب ــن ت ــيمية ثنـ ًـاء جميــا فقــال‪( :‬الشــيخ‬ ‫عبــد القــادر ونحــوه مــن أعظــم مشــايخ زمانهــم أمـ ًـرا بالتـزام الشــرع‬ ‫واألمــر والنهــي وتقديمــه علــى الــذوق والقــدر‪ ،‬مــن أعظــم املشــايخ‬ ‫أمـ ًـرا بت ــرك الهــوى واإلرادة النفســية) (‪.)14‬‬

‫املبحث الثانـي‬ ‫منهجهفيالعقائد‬ ‫لقــد تميــز منهــج اإلمــام فــي عــرض العقيــدة اإلســامية بالبســاطة‬ ‫والصفــاء الــذي كانــت عليــه فــي عصــر النب ــي صلــى هللا عليــه وســلم‬ ‫والصــدر األول مــن الســلف قبــل أن تدخلهــا الجدليــات الت ــي‬ ‫لحقــت بهــذا العلــم فيمــا بعــد‪ ...‬وكان اإلمــام ًّ‬ ‫محبــا ملنهــج الســلف‬ ‫ً‬ ‫وخصوصا منهم اإلمام‬ ‫وكان على منهج أهل الحديث في العقائد‬ ‫أحمــد ب ــن حنبــل‪ ،‬ويتجلــى ذلــك فــي قولــه‪( :‬قــال اإلمــام أبــو عبــد‬ ‫هللا أحمــد ب ــن محمــد ب ــن حنبــل الشيبان ــي رحمــه هللا وأماتنــا علــى‬ ‫وفرعــا وحشــرنا فــي زمرتــه)(‪ ،)15‬وكان يتحــدث ً‬ ‫مذهبــه أصـ ًـا ً‬ ‫أيضــا‬ ‫عــن الســلف فيقــول‪( :‬عليكــم باالتبــاع مــن غي ــر ابتــداع عليكــم‬ ‫بمذهــب الســلف الصالــح امشــوا فــي الجــادة املســتقيمة)(‪.)16‬‬ ‫‪)1‬التوحيد‪:‬‬ ‫كان اإلمام الجيالنـي يـرى أن توحيد هللا يأتـي بالفطرة‪ ،‬وهو يـنبع‬ ‫مــن أعمــاق النفــس البشــرية‪ ،‬وفــي هــذا يقــول‪( :‬النفــس بأجمعهــا‬ ‫تابعــة لربهــا موافقــة لــه إذ هــو خالقهــا ومنشــئها وهــي مفتقــرة لــه‬ ‫بالعبوديــة)‪ ،‬ثــم يبـي ــن الجيالن ــي رأيــه فــي أن معرفــة اإلنســان لربــه‬ ‫فــي املرحلــة الثان ــية بعــد الفطــرة تكــون مــن خــال تأملــه فــي آيــات‬ ‫هللا فــي الكــون والنفــس‪ ،‬حيــث يقــول الجيالن ــي‪( :‬أن يعــرف ويت ــيقن‬ ‫أن هللا واحــد أحــد فــرد صمــد‪ ...‬ال شب ــيه لــه وال نظي ــر‪ ،‬وال عــون‬ ‫وال ظهي ــر‪ ،‬وال شــريك وال وزي ــر‪ ،‬وال َّنــد وال مشي ــر)(‪ ،)17‬وهــذا‬ ‫كمــا فــي قولــه تعالــى‪(( :‬ليــس كمثلـ ِـه �شــيء وهــو الســميع البصي ــر))‬

‫(‪ )14‬ابـن تـيمية‪ :‬الفتاوى‪ ،‬ج‪ ،10‬ص‪.488‬‬ ‫(‪ )15‬عبد القادر الجيالنـي‪ :‬الغنـية‪ ،‬ج‪ ،1‬ص‪.55‬‬ ‫(‪ )16‬الفتح الربانـي‪ ،‬ص‪.35‬‬ ‫(‪ )17‬الغنـية‪ ،‬ج‪ ،1‬ص‪.54‬‬

‫‪30‬‬

‫[ســورة الشــورى‪ :‬اآليــة ‪ ،]11‬وهــذا تمــام التوحيــد‪ُ ،‬ويتابــع الشــيخ‬ ‫الجيالن ــي قولــه‪( :‬إن الواجــب علــى مــن أراد الدخــول فــي دي ــن‬ ‫اإلســام أن يتلفــظ بكلمــة التوحيــد‪ ،‬وأن يتب ـ ّـرأ مــن كل دي ــن غي ــر‬ ‫اإلســام معتقـ ًـدا بقلبــه وحدان ــية هللا‪.)18()...‬‬

‫‪ )2‬قوله في اإليمان‪:‬‬ ‫وأمــا عــن قولــه فــي اإليمــان فــكان ال يخــرج عــن قــول جمهــور‬ ‫الســلف الصالــح فــي ذلــك حيــث يقــول‪( :‬ونعتقــد أن اإليمــان‬ ‫قــول باللســان ومعرفــة بالجنــان وعمــل بــاألركان‪ ،‬وهــذا هــو‬ ‫القــول املعتمــد عنــد الســلف الصالــح)‪ ،‬وفــي موضــع آخــر يقــول‬ ‫الجيالن ــي‪( :‬اإليمــان قــول وعمــل‪ :‬فالقــول دعــوى والعمــل هــو‬ ‫روحهــا)‪ ،‬ويقــول ً‬ ‫الب ـ ّـينة‪ ،‬والقــول صــورة والعمــل ُ‬ ‫أيضــا‪( :‬ونعتقــد‬ ‫أن اإليمــان قــول باللســان ومعرفــة بالجنــان وعمــل بــاألركان يزيــد‬ ‫بالطاعــة وي ــنقص باملعصيــة)(‪ ،)19‬وقــد اســتدل علــى ذلــك بقولــه‬ ‫تعالــى‪(( :‬فأمــا الذي ــن آمنــوا فزادتهــم ً‬ ‫إيمانــا وهــم يستبشــرون))‬ ‫[ســورة التوبــة‪ :‬آيــة ‪ ]124‬وقولــه تعالــى‪(( :‬وإذا تليــت عليهــم آياتــه‬ ‫ادتهــم ً‬ ‫إيمانــا وعلــى ربهــم يتوكلــون)) [ســورة األنفــال‪ :‬آيــة ‪. ]2‬‬ ‫ز‬

‫‪ )3‬موقفه من علم الكالم‪:‬‬

‫لــم يكــن اإلمــام عبــد القــادر مــن ّ‬ ‫محبــي علــم الــكالم وال مــن‬ ‫ّ‬ ‫الخائضي ــن فيــه بــل كان يعارضــه بشـ ّـدة‪ ،‬وكان يتمثــل بقــول اإلمــام‬ ‫أحمــد ب ــن حنبــل وهــو‪( :‬لســت بصاحــب كالم وال أرى الــكالم فــي �شـ ْـيء‬ ‫مــن هــذا ّإل مــا كان فــي كتــاب هللا عــز وجــل أو حديــث عــن ّ‬ ‫النب ـ ّـي صلــى‬ ‫هللا عليه وسلم أو عن أصحابه ر�ضي هللا عنهم أو عن التابعيـن‪ّ ،‬‬ ‫فأما‬ ‫غي ــر ذلــك فــإن الــكالم فيــه غي ــر محمــود)(‪.)20‬‬

‫‪ )4‬التفويض في املتشابه‪:‬‬ ‫وقــد التــزم الجيالن ــي منهــج التفويــض بمــا جــاء فــي الكتــاب والســنة‬ ‫بخصــوص صفــات هللا حيــث يقــول‪( :‬وال نخــرج عــن الكتــاب والســنة‪،‬‬ ‫َ‬ ‫نقـرأ اآليــة والخب ــر ونؤمــن بمــا فيهمــا ونـ ِـكل الكيفيــة فــي الصفــات إلــى علــم‬ ‫هللا عــز وجــل)(‪ ،)21‬ويقــول أيضــا‪( :‬انفــوا ثــم أثبتــوا‪ ،‬انفــوا عنــه مــاال يليــق‬ ‫به‪ ،‬وأثبتوا له ما يليق به‪ ،‬وهو ما رضيه لنفسه ورضيه له رسوله صلى‬ ‫هللا عليه وسلم‪ ،‬إذا فعلتم هذا زال التشبـيه والتعطيل من قلوبكم)(‪.)22‬‬ ‫(‪ )18‬الغنـية‪ ،‬ج‪ ،1‬ص‪.2‬‬ ‫(‪ ) 19‬املصدر نفسه‪ ،‬ج‪ ،1‬ص‪.62‬‬ ‫(‪ )20‬الغنـية‪ ،‬ج‪ ،1‬ص‪.57‬‬ ‫(‪ )21‬الغنـية‪ ،‬ج‪ ،1‬ص‪.62‬‬

‫العدد ‪ 2‬رجب ‪1439‬هـ‬

‫‪ )5‬شروط قبول العمل‪:‬‬ ‫لقــد وافــق الجيالن ــي علمــاء الســلف فيمــا ذهبــوا إليــه حــول شــرط‬ ‫ً‬ ‫قبــول العمــل وهــو اإلخــاص هلل أول ثــم االتبــاع أي موافقــة العمــل‬ ‫للســنة وفــي هــذا يقــول‪( :‬إذا عملــت هــذه األعمــال ‪ -‬يعن ــي اإلت ــيان‬ ‫باألوامــر وت ــرك النواهــي ‪ -‬ال يقبــل منــك إال اإلخــاص فــا يقبــل قــول‬ ‫بــا عمــل‪ ،‬وال عمــل بــا إخــاص وإصابــة الســنة) ويقــول فــي موضــع‬ ‫آخــر‪( :‬وجميــع مــا ذكرنــاه مــن صيــام األشــهر واألضحيــة والعبــادات‬ ‫من الصالة واألذكار وغيـر ذلك ال يقبل إال بعد التوبة وطهارة القلب‬ ‫وإخالص العمل هلل تعالى وتـرك الرياء والسمعة) ثم يستشهد على‬ ‫وجــوب اإلخــاص بقــول هللا تعالــى‪(( :‬ومــا أمــروا إال ليعبــدوا هللا‬ ‫مخلصيـن له الديـن)) [سورة البـيـنة‪ :‬آية ‪ ]5‬وقوله سبحانه (أال هلل‬ ‫الدي ــن الخالــص) [ســورة الزمــر‪ :‬آيــة ‪ ]3‬ثــم ذكــر الشــيخ عبــد القــادر‬ ‫الجيالنـي في كتابه الغنـية أقوال العلماء في اإلخالص مب ّـي ًنا منهجه‬ ‫الذي ال يـنفصل عن منهج السلف الصالح‪ ،‬ومن ذلك قول سعيد‬ ‫بـن جبـيـر [ت‪96‬هـ] (اإلخالص أن يخلص العبد ديـنه هلل وعمله هلل‬ ‫تعالــى‪ ،‬وال يشــرك بــه فــي دي ــنه وال ي ـرائي بعملــه أحـ ًـدا)(‪.)23‬‬

‫‪ )6‬مرتكب الكبـيـرة‪:‬‬ ‫ومــن أب ــرز مــا خالــف بــه الجيالن ــي فــرق الخــوارج واملعتزلــة حكــم‬ ‫مرتكبالكبـيـرة‪،‬فأهلالسنةوالجماعةيـرونه ً‬ ‫فاسقاالتخرجهالكبـيـرة‬ ‫مــن ملــة اإلســام‪ ،‬وإنمــا هــو واقــع تحــت رحمــة هللا فــي اآلخــرة إن شــاء‬ ‫عذبه وإن شاء غفر له ويقول الشيخ الجيالنـي في هذا‪( :‬ونعتقد أن من‬ ‫أدخله هللا النار بكبـيـرته مع اإليمان فإنه ال يخلد فيها بل يخرجه منها؛‬ ‫ألن النار في حقه كالسجن في الدنـيا يستوفى منه بقدر كبـيـرته وجريمته‬ ‫ً‬ ‫ثــم يخــرج ب ــرحمة هللا تعالــى وال يخلــد فيهــا) ثــم يتابــع قائــا‪( :‬ونعتقــد أن‬ ‫ذنوبــا كثي ـ ًـرة مــن الكبائــر والصغائــر ال ُ‬ ‫املؤمــن وإن أذنــب ً‬ ‫يكفــر بهــا‪ ،‬وإن‬ ‫خــرج مــن الدن ــيا بغي ــر توبــة‪ ،‬إذا مــات علــى التوحيــد واإلخــاص)(‪.)24‬‬ ‫هــذه باقــة مــن عقائــد اإلمــام الجيالن ــي نلحــظ مــن خاللهــا االلت ـزام الكامــل‬ ‫بعقيدة أهل السنة والجماعة ومفاهيمهم على طريقة السلف مع البعد عن‬ ‫كل مــا قــد لحــق ببعــض العلــوم اإلســامية مــن َج َد ّليــات ال طائــل منهــا‪ ...‬وهــذا‬ ‫هو املنهج الذي قامت عليه مدرسة الشيخ عبد القادر وحملها تالميذه إلى‬ ‫أرجــاء العالــم اإلســامي فكانـوا خي ــر قــادة لحركــة اإلصــاح والنهــوض السن ــي‪.‬‬

‫(‪ )22‬الفتح الربانـي مجلس ‪ ،47‬ص‪.62‬‬ ‫(‪ )23‬الجيالنـي‪ :‬الغنـية‪ ،‬ج‪ ،2‬ص‪.66‬‬ ‫(‪ )24‬الجيالنـي‪ :‬املصدر السابق‪ ،‬ج‪ ،1‬ص‪.65‬‬

‫‪31‬‬


‫اإلمام الجيالنـي‬ ‫ج‪ -‬حمــاد ب ــن مســلم ّ‬ ‫الدبــاس‪ ،‬وكان علــى درجــة عاليــة مــن العلــم‬ ‫واالســتقامة وقــد تحــدث عنــه اب ــن ت ــيمية حيــث ذكــره وتلميــذه‬ ‫الجيالن ــي بقولــه‪( :‬فأمــر الشــيخ عبــد القــادر وشــيخه حمــاد‬ ‫الدبــاس وغي ــرهما مــن املشــايخ أهــل االســتقامة ‪ -‬ر�ضــي هللا عنهــم‬ ‫ُّ‬ ‫ بأنــه ال ي ــريد الســالك مـر ًادا قــط‪ ،‬وأنــه ال ي ــريد مــع إرادة هللا عــز‬‫وجــل ســواها بــل يجــري فعلــه فيــه فيكــون هــو م ـراد الحــق)(‪.)9‬‬ ‫د‪ -‬أبو محمد جعفر بـن أحمد البغدادي السراج محدث بغداد‪،‬‬ ‫وصاحــب التصان ــيف كان مــن يلتقــي بــه مــن التالميــذ‪ ،‬ويأخــذ عنــه‬ ‫يتفاخر بذلك وتصبح هذه منقبة له بـي ــن طلبة العلم(‪.)10‬‬ ‫ه‪ -‬أبــو عبــد هللا يحيــى ب ــن اإلمــام أب ــي علــي الحســن ب ــن أحمــد ب ــن‬ ‫الب ــناء البغــدادي الحنبلــي‪ ،‬وكان مــن أكث ــر مــن أثنــى عليــه مــن‬ ‫العلمــاء وذكــروا فضائلــه كب ــنائه للمســاجد(‪.)11‬‬ ‫يالحــظ مــن ذكــر هــؤالء أن اإلمــام عبــد القــادر الجيالن ــي قــد أخــذ‬ ‫فقــه الحنابلــة عــن أكث ــر مــن شــيخ ممــا جعلــه علــى قــدر كبـي ــر مــن‬ ‫العلــم واإلحاطــة بفــروع املذهــب واجتهــادات أئمتــه ومصنفاتهــم‬ ‫فــي ذلــك‪.‬‬

‫‪ )3‬مكانته العلمية وثناء العلماء عليه‪:‬‬

‫ومــن رحــم املعانــاة وضيــق الفاقــة ُوِلــد هــذا الفقيــه النحري ــر‬ ‫ً‬ ‫فقيهــا ّ‬ ‫محد ًثــا ّ‬ ‫الشــيخ عبــد القــادر الجيالن ــي ً‬ ‫مفسـ ًـرا واعظــا جمــع‬ ‫بـي ــن صنــوف العلــم والتبحــر فيهــا‪ ،‬وتشــهد لــه تصان ــيفه بذلــك‬ ‫إضافــة إلــى ثنــاء كبــار علمــاء اإلســام عليــه‪ ،‬فهــذا تلميــذه موفــق‬ ‫الدي ــن ب ــن قدامــة املقد�ســي صاحــب املغن ــي يقــول‪( :‬دخلنــا بغــداد‬ ‫ســنة ( ‪561‬ه ـ ) فــإذا الشــيخ اإلمــام محيــي الدي ــن عبــد القــادر‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ممــن انتهــت إليــه الرئاســة بهــا ً‬ ‫علمــا وعمــا وحــال وافتـ ًـاء‪ ،‬وكان‬ ‫يكفــي طالــب العلــم عــن قصــده غي ــره مــن كث ــرة مــا اجتمــع فيــه‬ ‫مــن العلــوم والصب ــر علــى املشتغلي ــن وســعة الصــدر‪ ،‬وكان مــلء‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫العي ــن وجمــع هللا فيــه أوصافــا جميلــة وأحــوال عزيــزة‪ ،‬ومــا رأيــت‬ ‫بعــده مثلــه وكل الصيــد فــي جــوف الف ـراء)(‪.)12‬‬ ‫وهــذا اب ــنه عبــد الوهــاب الــذي ورث أبــاه عبــد القــادر فــي املذهــب‪،‬‬ ‫يقــول‪( :‬كان والــدي رحمــه هللا يتكلــم فــي األســبوع ثــاث م ـرات‬ ‫بكــرة الجمعــة وعشــية الثالثــاء وبالربــاط بكــرة األحــد‪ ،‬وكان‬ ‫(‪ )9‬ابـن تـيمية‪:‬الفتاوى‪،‬ج‪ ،10‬ص‪.455‬‬ ‫(‪ )10‬الذهبـي‪ :‬سيـر أعالم النبالء‪ ،‬ج‪ ،19‬ص‪.228‬‬ ‫(‪ )11‬الذهبـي‪ :‬املصدر السابق‪ ،‬ج‪ ،20‬ص‪.6‬‬ ‫(‪ )12‬ابـن رجب ‪ :‬ذيل طبقات الحنابلة‪ ،‬ج‪ ،1‬ص‪.294‬‬ ‫(‪ )13‬الشطنوفي‪ :‬بهجة األسرار‪ ،‬ص‪.95‬‬

‫اإلمام الجيالنـي‬

‫العدد ‪ 2‬رجب ‪1439‬هـ‬

‫يحضــره العلمــاء والفقهــاء واملشــايخ وغي ــرهم‪ ،‬ومــدة كالمــه‬ ‫علــى النــاس أربعــون ســنة أولهــا ‪521‬ه ـ وآخرهــا ‪561‬هــ‪ ،‬ومـ ّـدة‬ ‫تصــدره للتدريــس والفتــوى بمدرســته ‪ 33‬ســنة أولهــا ‪528‬هــ‪،‬‬ ‫وآخرها‪561‬هــ‪ ،‬وكان يكتــب مــا يقــول فــي مجلســه أربعمائــة‬ ‫ً‬ ‫محب ــرة) (‪ .)13‬وأثنــى عليــه اب ــن ت ــيمية ثنـ ًـاء جميــا فقــال‪( :‬الشــيخ‬ ‫عبــد القــادر ونحــوه مــن أعظــم مشــايخ زمانهــم أمـ ًـرا بالتـزام الشــرع‬ ‫واألمــر والنهــي وتقديمــه علــى الــذوق والقــدر‪ ،‬مــن أعظــم املشــايخ‬ ‫أمـ ًـرا بت ــرك الهــوى واإلرادة النفســية) (‪.)14‬‬

‫املبحث الثانـي‬ ‫منهجهفيالعقائد‬ ‫لقــد تميــز منهــج اإلمــام فــي عــرض العقيــدة اإلســامية بالبســاطة‬ ‫والصفــاء الــذي كانــت عليــه فــي عصــر النب ــي صلــى هللا عليــه وســلم‬ ‫والصــدر األول مــن الســلف قبــل أن تدخلهــا الجدليــات الت ــي‬ ‫لحقــت بهــذا العلــم فيمــا بعــد‪ ...‬وكان اإلمــام ًّ‬ ‫محبــا ملنهــج الســلف‬ ‫ً‬ ‫وخصوصا منهم اإلمام‬ ‫وكان على منهج أهل الحديث في العقائد‬ ‫أحمــد ب ــن حنبــل‪ ،‬ويتجلــى ذلــك فــي قولــه‪( :‬قــال اإلمــام أبــو عبــد‬ ‫هللا أحمــد ب ــن محمــد ب ــن حنبــل الشيبان ــي رحمــه هللا وأماتنــا علــى‬ ‫وفرعــا وحشــرنا فــي زمرتــه)(‪ ،)15‬وكان يتحــدث ً‬ ‫مذهبــه أصـ ًـا ً‬ ‫أيضــا‬ ‫عــن الســلف فيقــول‪( :‬عليكــم باالتبــاع مــن غي ــر ابتــداع عليكــم‬ ‫بمذهــب الســلف الصالــح امشــوا فــي الجــادة املســتقيمة)(‪.)16‬‬ ‫‪)1‬التوحيد‪:‬‬ ‫كان اإلمام الجيالنـي يـرى أن توحيد هللا يأتـي بالفطرة‪ ،‬وهو يـنبع‬ ‫مــن أعمــاق النفــس البشــرية‪ ،‬وفــي هــذا يقــول‪( :‬النفــس بأجمعهــا‬ ‫تابعــة لربهــا موافقــة لــه إذ هــو خالقهــا ومنشــئها وهــي مفتقــرة لــه‬ ‫بالعبوديــة)‪ ،‬ثــم يبـي ــن الجيالن ــي رأيــه فــي أن معرفــة اإلنســان لربــه‬ ‫فــي املرحلــة الثان ــية بعــد الفطــرة تكــون مــن خــال تأملــه فــي آيــات‬ ‫هللا فــي الكــون والنفــس‪ ،‬حيــث يقــول الجيالن ــي‪( :‬أن يعــرف ويت ــيقن‬ ‫أن هللا واحــد أحــد فــرد صمــد‪ ...‬ال شب ــيه لــه وال نظي ــر‪ ،‬وال عــون‬ ‫وال ظهي ــر‪ ،‬وال شــريك وال وزي ــر‪ ،‬وال َّنــد وال مشي ــر)(‪ ،)17‬وهــذا‬ ‫كمــا فــي قولــه تعالــى‪(( :‬ليــس كمثلـ ِـه �شــيء وهــو الســميع البصي ــر))‬

‫(‪ )14‬ابـن تـيمية‪ :‬الفتاوى‪ ،‬ج‪ ،10‬ص‪.488‬‬ ‫(‪ )15‬عبد القادر الجيالنـي‪ :‬الغنـية‪ ،‬ج‪ ،1‬ص‪.55‬‬ ‫(‪ )16‬الفتح الربانـي‪ ،‬ص‪.35‬‬ ‫(‪ )17‬الغنـية‪ ،‬ج‪ ،1‬ص‪.54‬‬

‫‪30‬‬

‫[ســورة الشــورى‪ :‬اآليــة ‪ ،]11‬وهــذا تمــام التوحيــد‪ُ ،‬ويتابــع الشــيخ‬ ‫الجيالن ــي قولــه‪( :‬إن الواجــب علــى مــن أراد الدخــول فــي دي ــن‬ ‫اإلســام أن يتلفــظ بكلمــة التوحيــد‪ ،‬وأن يتب ـ ّـرأ مــن كل دي ــن غي ــر‬ ‫اإلســام معتقـ ًـدا بقلبــه وحدان ــية هللا‪.)18()...‬‬

‫‪ )2‬قوله في اإليمان‪:‬‬ ‫وأمــا عــن قولــه فــي اإليمــان فــكان ال يخــرج عــن قــول جمهــور‬ ‫الســلف الصالــح فــي ذلــك حيــث يقــول‪( :‬ونعتقــد أن اإليمــان‬ ‫قــول باللســان ومعرفــة بالجنــان وعمــل بــاألركان‪ ،‬وهــذا هــو‬ ‫القــول املعتمــد عنــد الســلف الصالــح)‪ ،‬وفــي موضــع آخــر يقــول‬ ‫الجيالن ــي‪( :‬اإليمــان قــول وعمــل‪ :‬فالقــول دعــوى والعمــل هــو‬ ‫روحهــا)‪ ،‬ويقــول ً‬ ‫الب ـ ّـينة‪ ،‬والقــول صــورة والعمــل ُ‬ ‫أيضــا‪( :‬ونعتقــد‬ ‫أن اإليمــان قــول باللســان ومعرفــة بالجنــان وعمــل بــاألركان يزيــد‬ ‫بالطاعــة وي ــنقص باملعصيــة)(‪ ،)19‬وقــد اســتدل علــى ذلــك بقولــه‬ ‫تعالــى‪(( :‬فأمــا الذي ــن آمنــوا فزادتهــم ً‬ ‫إيمانــا وهــم يستبشــرون))‬ ‫[ســورة التوبــة‪ :‬آيــة ‪ ]124‬وقولــه تعالــى‪(( :‬وإذا تليــت عليهــم آياتــه‬ ‫ادتهــم ً‬ ‫إيمانــا وعلــى ربهــم يتوكلــون)) [ســورة األنفــال‪ :‬آيــة ‪. ]2‬‬ ‫ز‬

‫‪ )3‬موقفه من علم الكالم‪:‬‬

‫لــم يكــن اإلمــام عبــد القــادر مــن ّ‬ ‫محبــي علــم الــكالم وال مــن‬ ‫ّ‬ ‫الخائضي ــن فيــه بــل كان يعارضــه بشـ ّـدة‪ ،‬وكان يتمثــل بقــول اإلمــام‬ ‫أحمــد ب ــن حنبــل وهــو‪( :‬لســت بصاحــب كالم وال أرى الــكالم فــي �شـ ْـيء‬ ‫مــن هــذا ّإل مــا كان فــي كتــاب هللا عــز وجــل أو حديــث عــن ّ‬ ‫النب ـ ّـي صلــى‬ ‫هللا عليه وسلم أو عن أصحابه ر�ضي هللا عنهم أو عن التابعيـن‪ّ ،‬‬ ‫فأما‬ ‫غي ــر ذلــك فــإن الــكالم فيــه غي ــر محمــود)(‪.)20‬‬

‫‪ )4‬التفويض في املتشابه‪:‬‬ ‫وقــد التــزم الجيالن ــي منهــج التفويــض بمــا جــاء فــي الكتــاب والســنة‬ ‫بخصــوص صفــات هللا حيــث يقــول‪( :‬وال نخــرج عــن الكتــاب والســنة‪،‬‬ ‫َ‬ ‫نقـرأ اآليــة والخب ــر ونؤمــن بمــا فيهمــا ونـ ِـكل الكيفيــة فــي الصفــات إلــى علــم‬ ‫هللا عــز وجــل)(‪ ،)21‬ويقــول أيضــا‪( :‬انفــوا ثــم أثبتــوا‪ ،‬انفــوا عنــه مــاال يليــق‬ ‫به‪ ،‬وأثبتوا له ما يليق به‪ ،‬وهو ما رضيه لنفسه ورضيه له رسوله صلى‬ ‫هللا عليه وسلم‪ ،‬إذا فعلتم هذا زال التشبـيه والتعطيل من قلوبكم)(‪.)22‬‬ ‫(‪ )18‬الغنـية‪ ،‬ج‪ ،1‬ص‪.2‬‬ ‫(‪ ) 19‬املصدر نفسه‪ ،‬ج‪ ،1‬ص‪.62‬‬ ‫(‪ )20‬الغنـية‪ ،‬ج‪ ،1‬ص‪.57‬‬ ‫(‪ )21‬الغنـية‪ ،‬ج‪ ،1‬ص‪.62‬‬

‫العدد ‪ 2‬رجب ‪1439‬هـ‬

‫‪ )5‬شروط قبول العمل‪:‬‬ ‫لقــد وافــق الجيالن ــي علمــاء الســلف فيمــا ذهبــوا إليــه حــول شــرط‬ ‫ً‬ ‫قبــول العمــل وهــو اإلخــاص هلل أول ثــم االتبــاع أي موافقــة العمــل‬ ‫للســنة وفــي هــذا يقــول‪( :‬إذا عملــت هــذه األعمــال ‪ -‬يعن ــي اإلت ــيان‬ ‫باألوامــر وت ــرك النواهــي ‪ -‬ال يقبــل منــك إال اإلخــاص فــا يقبــل قــول‬ ‫بــا عمــل‪ ،‬وال عمــل بــا إخــاص وإصابــة الســنة) ويقــول فــي موضــع‬ ‫آخــر‪( :‬وجميــع مــا ذكرنــاه مــن صيــام األشــهر واألضحيــة والعبــادات‬ ‫من الصالة واألذكار وغيـر ذلك ال يقبل إال بعد التوبة وطهارة القلب‬ ‫وإخالص العمل هلل تعالى وتـرك الرياء والسمعة) ثم يستشهد على‬ ‫وجــوب اإلخــاص بقــول هللا تعالــى‪(( :‬ومــا أمــروا إال ليعبــدوا هللا‬ ‫مخلصيـن له الديـن)) [سورة البـيـنة‪ :‬آية ‪ ]5‬وقوله سبحانه (أال هلل‬ ‫الدي ــن الخالــص) [ســورة الزمــر‪ :‬آيــة ‪ ]3‬ثــم ذكــر الشــيخ عبــد القــادر‬ ‫الجيالنـي في كتابه الغنـية أقوال العلماء في اإلخالص مب ّـي ًنا منهجه‬ ‫الذي ال يـنفصل عن منهج السلف الصالح‪ ،‬ومن ذلك قول سعيد‬ ‫بـن جبـيـر [ت‪96‬هـ] (اإلخالص أن يخلص العبد ديـنه هلل وعمله هلل‬ ‫تعالــى‪ ،‬وال يشــرك بــه فــي دي ــنه وال ي ـرائي بعملــه أحـ ًـدا)(‪.)23‬‬

‫‪ )6‬مرتكب الكبـيـرة‪:‬‬ ‫ومــن أب ــرز مــا خالــف بــه الجيالن ــي فــرق الخــوارج واملعتزلــة حكــم‬ ‫مرتكبالكبـيـرة‪،‬فأهلالسنةوالجماعةيـرونه ً‬ ‫فاسقاالتخرجهالكبـيـرة‬ ‫مــن ملــة اإلســام‪ ،‬وإنمــا هــو واقــع تحــت رحمــة هللا فــي اآلخــرة إن شــاء‬ ‫عذبه وإن شاء غفر له ويقول الشيخ الجيالنـي في هذا‪( :‬ونعتقد أن من‬ ‫أدخله هللا النار بكبـيـرته مع اإليمان فإنه ال يخلد فيها بل يخرجه منها؛‬ ‫ألن النار في حقه كالسجن في الدنـيا يستوفى منه بقدر كبـيـرته وجريمته‬ ‫ً‬ ‫ثــم يخــرج ب ــرحمة هللا تعالــى وال يخلــد فيهــا) ثــم يتابــع قائــا‪( :‬ونعتقــد أن‬ ‫ذنوبــا كثي ـ ًـرة مــن الكبائــر والصغائــر ال ُ‬ ‫املؤمــن وإن أذنــب ً‬ ‫يكفــر بهــا‪ ،‬وإن‬ ‫خــرج مــن الدن ــيا بغي ــر توبــة‪ ،‬إذا مــات علــى التوحيــد واإلخــاص)(‪.)24‬‬ ‫هــذه باقــة مــن عقائــد اإلمــام الجيالن ــي نلحــظ مــن خاللهــا االلت ـزام الكامــل‬ ‫بعقيدة أهل السنة والجماعة ومفاهيمهم على طريقة السلف مع البعد عن‬ ‫كل مــا قــد لحــق ببعــض العلــوم اإلســامية مــن َج َد ّليــات ال طائــل منهــا‪ ...‬وهــذا‬ ‫هو املنهج الذي قامت عليه مدرسة الشيخ عبد القادر وحملها تالميذه إلى‬ ‫أرجــاء العالــم اإلســامي فكانـوا خي ــر قــادة لحركــة اإلصــاح والنهــوض السن ــي‪.‬‬

‫(‪ )22‬الفتح الربانـي مجلس ‪ ،47‬ص‪.62‬‬ ‫(‪ )23‬الجيالنـي‪ :‬الغنـية‪ ،‬ج‪ ،2‬ص‪.66‬‬ ‫(‪ )24‬الجيالنـي‪ :‬املصدر السابق‪ ،‬ج‪ ،1‬ص‪.65‬‬

‫‪31‬‬


‫اإلمام الجيالنـي‬

‫املبحثالثالث‬ ‫مفهومالتصوفعندالشيخالجيالنـي‬ ‫قــال الجيالن ــي فــي معـ ِـرض حديثــه عــن التصــوف ‪(:‬التصــوف هــو‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫وعرفه ً‬ ‫الخ ُ‬ ‫الخ ْلق)(‪ّ ،)25‬‬ ‫أيضا بقوله‪:‬‬ ‫لق مع‬ ‫الصدق مع الحق وحسن‬ ‫(هــو تقــوى هللا وطاعتــه ولــزوم ظاهــر الشــرع وســامة الصــدر وســخاء‬ ‫ّ‬ ‫وكف األذى ّ‬ ‫وتحمل األذى والفقر‬ ‫النفس وبشاشة الوجه وبذل الندى‬ ‫وحفــظ ُحرمــات املشــايخ والعشــرة مــع اإلخــوان والنصيحــة لألصاغــر‬ ‫واألكاب ــر وت ــرك الخصومــة واإلرفــاق‪ ،‬ومالزمــة اإليثــار ومجانبــة ّ‬ ‫االدخــار‬ ‫وت ــرك صحبة من ليس من طبقتهم واملعاونة في أمر الدي ــن والدن ــيا)‪.‬‬ ‫يوضح الشيخ الجيالنـي معالم التصوف الحقيقي‪ ،‬والذي ال يحيد‬ ‫عن منهج سلفنا الصالح مبـيـنا ذلك في ثمان صفات هي‪ -1 :‬السخاء‬ ‫‪ -2‬والر�ضى ‪ -3‬والصب ــر ‪ -4‬وســرعة الفهم باإلشــارة ‪ -5‬وصفاء النفس‬ ‫‪ -6‬واصطفاؤهــا‪ -7 ،‬والتأمــل والتفكــر فــي آيــات هللا فــي الكــون والنفــس‬ ‫ً‬ ‫ويسميها الصوفية السياحة‪ -8 ،‬وأخي ًـرا الفقر ويكون فيه العبد ذليل‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫مخلصا في دعائه وتضرعه‪.‬‬ ‫معتمدا عليه‬ ‫منكسرا بـيـن يدي ربه‬ ‫وهــذه املعان ــي أو الصفــات إذا تحققــت فــي العبــد بلــغ مرحلــة‬ ‫االصطفــاء كمــا ي ــرى الشــيخ الجيالن ــي‪ ،‬فالصوفــي عنــده (مــن صفــاء‬ ‫صافيــا مــن آفــات النفــس ً‬ ‫ً‬ ‫خاليــا مــن‬ ‫النفــس أو العبــد الــذي أصبــح‬ ‫ً‬ ‫مذموماتهــا ســالكا لحميــد مذاهبــه مالز ًمــا للحقائــق غي ــر ســاكن إلــى‬ ‫ّ‬ ‫اصطالحيــا للصوفــي‬ ‫أحــد مــن الخالئــق)(‪)26‬؛ ولذلــك وضــع معنــى‬ ‫ّ‬ ‫(الصوفي من صفا باطنه وظاهره بمتابعة كتاب هللا وســنة‬ ‫بقوله‪:‬‬ ‫رســوله صلــى هللا عليــه وســلم‪ ،‬والصوفــي الصــادق فــي تصوفــه‬ ‫يصفو قلبه عما سوى مواله عز وجل‪ ،‬وهذا �شيء ال يجيء بتغييـر‬ ‫الخــرق وتعفي ــر الوجــوه وجمــع األكتــاف ولقلقــة اللســان وحكايــات‬ ‫الصالحي ــن وتحريــك األصابــع بالتسب ــيح والتهليــل‪ ،‬وإنمــا يجــيء‬ ‫بالصــدق فــي طلــب الحــق عــز وجــل والزهــد فــي الدن ــيا وإخـراج الخلــق‬ ‫مــن القلــب وتجـ ّـرده ّ‬ ‫عمــا ســوى مــواله عــز وجــل)(‪.)27‬‬ ‫ومن هذه املعان ــي واملفاهيم وضع الشــيخ الجيالن ــي كتابـي ــن يانعي ــن‬ ‫ماتعيـن هما‪( :‬الغنـية) و (فتوح الغيب)‪ ،‬واللذان كانا ً‬ ‫منهاجا ملدرسة‬ ‫ت ـربوية ســعى مــن خاللهــا لتنقيــة التصــوف مــن شــوائب البــدع‬ ‫(‪ )25‬ابـن القيم‪ :‬زاد املعاد‪ ،‬ج‪ ،1‬ص‪.71‬‬ ‫(‪ )26‬الصالبـي‪ :‬عصر الدولة الزنكية‪ ،‬ص‪.381‬‬ ‫(‪ )27‬الفتح الربانـي‪ ،‬مجلس ‪ ،25‬ص‪.90‬‬ ‫(‪ )28‬الجيالنـي‪ :‬فتوح الغيب‪ ،‬ص‪.50‬‬

‫اإلمام الجيالنـي‬

‫العدد ‪ 2‬رجب ‪1439‬هـ‬

‫والخرافات والشطحات البعيدة عن الكتاب والسنة وإظهار معدن‬ ‫التصــوف األصيــل‪ ...‬فالفهــم الصحيــح ي ــنتج عنــه ســلوك صحيــح‪،‬‬ ‫وال يكــون هــذا إال مــن خــال تهذيــب النفــس وتنشــئتها علــى األخــاق‬ ‫الحميدةوالعقيدةالصحيحة؛لذاقررالجيالنـيعلىتالميذهجملة‬ ‫مــن اآلداب والواجبــات الت ــي تنقــي النفــس وتســمو بهــا إلــى مراتــب‬ ‫الصفاء الروحي والنف�سي وهي‪ :‬التمسك بالكتاب والسنة والتزامهما‬ ‫كمنهــج عملــي فــي األمــر باملعــروف والنهــي عــن املنكــر‪ ،‬والصــدق‬ ‫مــع هللا وإخــاص العمــل لــه ومجاهــدة النفــس فــي سب ــيل مرضاتــه‬ ‫ً‬ ‫وصحبة الصالحيـن؛ ألن في صحبتهم حفظا للنفس من التقصيـر‬ ‫في الطاعة‪ ،‬وتـرك أصحاب القيل والقال واالبتعاد عن مجالسهم‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫والتحلــي واالتصــاف باليقي ــن والكــرم‪ ،‬فبهمــا تســمو النفــس فــا‬ ‫تخ�شــى قلــة بعــد عطــاء وبــذل‪ ،‬وتهذيــب النفــس عــن طريــق الجــوع‬ ‫ُ‬ ‫والحرمان فال ت ّلبى بكل ما تطلبه‪ ،‬وفي هذا يقول الشاعر‪( :‬والنفس‬ ‫راغبـ ٌـة إذا ر ّغبتهــا ** وإذا ت ـ ُّ‬ ‫ـرد إلــى قليـ ٍـل تقنـ ُـع) كمــا كان يأمــر تالمذتــه‬ ‫باالبتعــاد عــن مجالــس الشــهرة ـكـي ال يصــل ُ‬ ‫العجـ ُـب إلــى النفــس‬ ‫فيدخلها الهوى ُ‬ ‫وحب الظهور‪ ،‬وأن يتضرع الفرد منهم ً‬ ‫دائما إلى هللا‬ ‫بأن يستـره ويعيـنه على تـرك الذنوب واملعا�صي وأن ي ُ‬ ‫ـرزقه التوفيق‬ ‫َ‬ ‫والصــاح‪ ،‬ويأمرهــم باإليثــار وهــو أن يؤ ِثــر املريــد أقرانــه علــى نفســه‬ ‫فــا يتقدمهــم فــي مجلــس شــيخ وال فــي ب ــيت عالــم وأن يكرمهــم قــدر‬ ‫املستطاع‪ ،‬وعلى املريد أن يتعلم كظم الغيظ واملسارعة في الصفح‬ ‫والعفو‪ ،‬وتنا�سي إساءات الناس إليه ثم التحبب إليهم‪ ،‬كما أن من‬ ‫أدب العلــم مالزمــة الشــيوخ ون ــيل الرضــا والتــودد إليهــم‪ ...‬كمــا علــى‬ ‫كل منهــم أن يعامــل النــاس علــى قاعــدة الحــب فــي هللا والبغــض فيــه‪،‬‬ ‫يقــول الشــيخ الجيالن ــي ّ‬ ‫موض ًحــا ذلــك‪( :‬إذا وجــدت فــي قلبــك بغــض‬ ‫شــخص أو َّ‬ ‫حبــه فاعــرض أعمالــه علــى الكتــاب والســنة‪ ،‬فــإن كانــت‬ ‫فيهمــا مبغوضــة‪ ،‬فأبشــر بموافقتــك هلل عــز وجــل ولرســوله‪ ،‬وإن‬ ‫كانــت أعمالــه فيهمــا محبوبــة وأنــت تبغضــه‪ ،‬فاعلــم بأنــك صاحــب‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫وعاصيــا هلل عــز وجــل‬ ‫هــوى تبغضــه بهــواك ظالـ ــا لــه ببغضــك ّإيــاه‬ ‫مخالفــا لهمــا ُ‬ ‫ً‬ ‫فتـ ْـب إلــى هللا عــز وجــل)(‪.)28‬‬ ‫ولرســوله‬ ‫هذا هو موقف الشيخ عبد القادر الجيالنـي من التصوف ومفهومه‬ ‫ومقاصــده‪ ،‬تصــوف يســمو بالعبــد إلــى أعلــى درجــات العبوديــة هلل‬ ‫ً‬ ‫موقنــا حـ ّـق اليقي ــن أنــه ال معبــود بحــق ســوى هللا‪ ،‬ومت ـ ً‬ ‫ـرجما هــذا‬

‫‪32‬‬

‫بســلوكه مــع نفســه ومــع النــاس ومــع الب ــيئة املحيطــة بــه زاهـ ًـدا بمتــاع‬ ‫الدن ــيا‪ ،‬وليــس الزهــد الــذي ّ‬ ‫يغيــب صاحبــه عــن همــوم أمتــه والنظــر‬ ‫في أحوالها فهذا الصوفي الزاهد يبقى ً‬ ‫واحدا من أفراد األمة يصيبه‬ ‫ً‬ ‫بمنأى ّ‬ ‫عما يـنزل فيها من بالء‪.‬‬ ‫ما يصيب املسلميـن‪ ،‬وال يظن نفسه‬

‫املبحثالرابع‬ ‫الطريقةالقادريةوتصحيحاملفاهيم‬ ‫‪ )1‬نشأة الطريقة‪:‬‬

‫ّ‬ ‫َّ‬ ‫الصوفية‬ ‫ُيعتبـر الشيخ عبد القادر الجيالنـي من أول وأشهر من نظم‬ ‫فــي جماعــات ُم َ‬ ‫منهجــة تسي ــر وفــق طريقــة منضبطــة‪ ،‬تضبــط ســلوك‬ ‫ٍ‬ ‫املريد مع شيخه وسلوك الشيخ مع تلميذه وسلوك االثنـيـن مع الناس‬ ‫والبـيئة املحيطة بهم‪ ،‬ويتجلى ذلك في وصيته البـنه عبد الرزاق حيث‬ ‫قــال‪( :‬أوصيــك بتقــوى هللا‪ ،‬وطاعتــه ولــزوم الشــرع وحفــظ حــدوده‪،‬‬ ‫ٌ‬ ‫وأعلم يا ولدي ‪ -‬وفقنا هللا وإياك واملسلميـن ‪ -‬أن طريقتنا هذه مبـن ّـية‬ ‫على الكتاب والســنة وســامة الصدر وســخاء اليد وبذل الندى وكف‬ ‫الجفــا وحمــل األذى والصفــح عــن عث ـرات اإلخــوان)‪.‬‬ ‫ً‬ ‫وقد ّ‬ ‫أصل الجيالنـي لطريقته تأصيل يقوم على الكتاب والسنة وال‬ ‫يحيــد فيــه عــن فهــم ســلف األمــة‪ ،‬حيــث يقــول فــي وصيتــه‪( :‬أدخــل‬ ‫الظلمة باملصباح وهو كتاب هللا وسنة رسوله صلى هللا عليه وسلم؛‬ ‫فــإن خطــر خاطــر أو جـ ّـد إلهـ ٌ‬ ‫ـام فاعرضــه علــى الكتــاب والســنة؛ فــإن‬ ‫وجــدت فيهمــا تحريــم ذلــك مثــل أن تلهــم الزنــا والريــاء ومخالطــة أهــل‬ ‫الفسق والفجور وغيـر ذلك من املعا�صي فادفعه عنك واهجره وال‬ ‫تقبله وال تعمل به واقطع بأنه من الشيطان اللعيـن)(‪.)29‬‬

‫‪ )2‬حثه على األمرباملعروف والنهي عن املنكر‪:‬‬

‫ّ‬ ‫كان الشــيخ الجيالن ــي كثي ـ ًـرا مــا يحــث أتبــاع طريقتــه علــى وجــوب‬ ‫األمر باملعروف‪ ،‬واجتناب ما نهى ُ‬ ‫هللا عنه واالستسالم والتسليم‬ ‫لـ ُـه بقضائــه فــا مــرد لقضائــه‪ ،‬ولكنــه ســبحانه يلطــف بالنــاس‬ ‫بقــدر دعائهــم وتضرعهــم لـ ُـه عــز وجــل‪ ،‬فــكان يقــول لتالميــذه‪:‬‬ ‫(البــد لــكل مؤمــن فــي ســائر أحوالــه مــن ثالثــة أشــياء‪ :‬أمــر يمتثلــه‬ ‫ونهي يجتنبه وقدر يـر�ضى به‪ ،‬فأقل حالة املؤمن ال يخلو فيها من‬ ‫قلبه ّ‬ ‫همها َ‬ ‫أحد هذه األشياء الثالثة‪ ،‬فيـنبغي أن ُيلزم َّ‬ ‫ويحدث بها‬ ‫ِ‬ ‫(‪ )29‬الجيالنـي‪ :‬املصدر السابق‪ ،‬ص‪.640‬‬ ‫(‪ )30‬الجيالنـي‪ :‬املصدر السابق‪ ،‬ص‪.6‬‬ ‫(‪ )31‬قالئد الجواهر‪ ،‬ص‪.19‬‬

‫العدد ‪ 2‬رجب ‪1439‬هـ‬

‫نفســه ويؤاخــذ الجــوارح بهــا فــي ســائر أحوالــه)(‪.)30‬‬

‫‪ )3‬إقبال الناس على طريقته‪:‬‬

‫ّ‬ ‫اتبع الشيخ الجيالنـي أسلوب الوعظ واإلرشاد والنصح والغيـرة على‬ ‫عبــاد هللا وحمــل همهــم وهــم آخرتهــم‪ ،‬لذلــك ازداد التفــاف النــاس‬ ‫حولــه‪ ،‬وكان يقــول لهــم‪ ( :‬أال إن ــي راع لكــم ســاق لكــم ناطــور لكــم‪،‬‬ ‫مــا ت ــرقيت هــا هنــا وأرى لكــم وجـ ً‬ ‫ـودا فــي الضــر والنفــع بعــد مــا قطعــت‬ ‫الكل بسيف التوحيد‪ ...‬حمدكم وذمكم وإقبالكم وإدباركم عندي‬ ‫كم َمن يذمن ــي كثي ـ ًـرا ثم ي ــنقلب ذمه ً‬ ‫ســواء‪ْ ،‬‬ ‫حمدا‪ ،‬كالهما من هللا‬ ‫ال منه‪ ،‬إقبالي عليكم هلل أخذي منكم هلل لو أمكننـي دخلت مع كل‬ ‫منكم القب ــر وجاوبت عنه ً‬ ‫منكرا ونكي ـ ًـرا رحمة وشفقة عليكم)‪.‬‬ ‫بهذه املعانـي ّربى الجيالنـي أتباعه‪ ،‬وغرس في نفوسهم مفهوم اإلخاء‬ ‫والبــذل والعطــاء‪ ،‬والتناصــح والشــفقة وحســن التعامــل وطيــب‬ ‫الكالم‪،‬وتجريدالنفسعنالهوى‪،‬وانقيادهالخالقهاوباريهابصدق‬ ‫وإخالص‪ ،‬وقد وصل صدى وعظ اإلمام إلى قلوب جماعة األحداث‬ ‫وقطاع الطرق‪ ،‬فأســلم من لم يكن مسـ ًـلما وتاب على يده من ن�ســي‬ ‫دي ــنه حتــى قــال الجيالن ــي‪( :‬وتــاب علــى يــدي مــن ّ‬ ‫العياري ــن واملســالحة‬ ‫أكث ــر مــن مائــة ألــف‪ ،‬وهــذا خي ــر كثي ــر)(‪ ،)31‬ولذلــك انتشــرت طريقــة‬ ‫الشــيخ‪ ،‬وحيــث مــا تــوزع أتباعــه ووصلــوا وجــدت طريقتــه بمعان ــيها‬ ‫وأسســها البســيطة والخاليــة مــن أي فكــر فلســفي معقــد الكثي ــر‬ ‫من األتباع املخلصي ــن‪ ...‬وقد كان الشــيخ كثي ـ ًـرا ما ي ــنهى أتباعه عن‬ ‫الفلســفة ويحذرهــم مــن خطــر دخولهــا علــى النفــس والعقــل‪.‬‬

‫املبحثالخامس‬ ‫املدرسةالقادريةوفروعهافيالبلدان‬ ‫لقدكانتاملدارسالديـنـيةهياملراكزالتـيانتشرمنهامنهجاإلمامالتـربوي‬ ‫ـات متخصصــة فــي صناعة الوعي‬ ‫واإلصالحــي‪ ،‬وكانــت هــذه املــدارس محطـ ٍ‬ ‫وتـربـية الجيل على اإليمان والعلم واالستعداد لخدمة األمة‪ ...‬وسأعرض‬ ‫اآلن لبـناء املدرسة القادرية األولى وأهم فروعها في املدن واألرياف‪.‬‬

‫‪ )1‬املدرسة القاد َّرية األولى‪:‬‬

‫ً‬ ‫منــذ أن جلــس الشــيخ عبــد القــادر الجيالن ــي للتدريــس وارثــا‬

‫‪33‬‬


‫اإلمام الجيالنـي‬

‫املبحثالثالث‬ ‫مفهومالتصوفعندالشيخالجيالنـي‬ ‫قــال الجيالن ــي فــي معـ ِـرض حديثــه عــن التصــوف ‪(:‬التصــوف هــو‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫وعرفه ً‬ ‫الخ ُ‬ ‫الخ ْلق)(‪ّ ،)25‬‬ ‫أيضا بقوله‪:‬‬ ‫لق مع‬ ‫الصدق مع الحق وحسن‬ ‫(هــو تقــوى هللا وطاعتــه ولــزوم ظاهــر الشــرع وســامة الصــدر وســخاء‬ ‫ّ‬ ‫وكف األذى ّ‬ ‫وتحمل األذى والفقر‬ ‫النفس وبشاشة الوجه وبذل الندى‬ ‫وحفــظ ُحرمــات املشــايخ والعشــرة مــع اإلخــوان والنصيحــة لألصاغــر‬ ‫واألكاب ــر وت ــرك الخصومــة واإلرفــاق‪ ،‬ومالزمــة اإليثــار ومجانبــة ّ‬ ‫االدخــار‬ ‫وت ــرك صحبة من ليس من طبقتهم واملعاونة في أمر الدي ــن والدن ــيا)‪.‬‬ ‫يوضح الشيخ الجيالنـي معالم التصوف الحقيقي‪ ،‬والذي ال يحيد‬ ‫عن منهج سلفنا الصالح مبـيـنا ذلك في ثمان صفات هي‪ -1 :‬السخاء‬ ‫‪ -2‬والر�ضى ‪ -3‬والصب ــر ‪ -4‬وســرعة الفهم باإلشــارة ‪ -5‬وصفاء النفس‬ ‫‪ -6‬واصطفاؤهــا‪ -7 ،‬والتأمــل والتفكــر فــي آيــات هللا فــي الكــون والنفــس‬ ‫ً‬ ‫ويسميها الصوفية السياحة‪ -8 ،‬وأخي ًـرا الفقر ويكون فيه العبد ذليل‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫مخلصا في دعائه وتضرعه‪.‬‬ ‫معتمدا عليه‬ ‫منكسرا بـيـن يدي ربه‬ ‫وهــذه املعان ــي أو الصفــات إذا تحققــت فــي العبــد بلــغ مرحلــة‬ ‫االصطفــاء كمــا ي ــرى الشــيخ الجيالن ــي‪ ،‬فالصوفــي عنــده (مــن صفــاء‬ ‫صافيــا مــن آفــات النفــس ً‬ ‫ً‬ ‫خاليــا مــن‬ ‫النفــس أو العبــد الــذي أصبــح‬ ‫ً‬ ‫مذموماتهــا ســالكا لحميــد مذاهبــه مالز ًمــا للحقائــق غي ــر ســاكن إلــى‬ ‫ّ‬ ‫اصطالحيــا للصوفــي‬ ‫أحــد مــن الخالئــق)(‪)26‬؛ ولذلــك وضــع معنــى‬ ‫ّ‬ ‫(الصوفي من صفا باطنه وظاهره بمتابعة كتاب هللا وســنة‬ ‫بقوله‪:‬‬ ‫رســوله صلــى هللا عليــه وســلم‪ ،‬والصوفــي الصــادق فــي تصوفــه‬ ‫يصفو قلبه عما سوى مواله عز وجل‪ ،‬وهذا �شيء ال يجيء بتغييـر‬ ‫الخــرق وتعفي ــر الوجــوه وجمــع األكتــاف ولقلقــة اللســان وحكايــات‬ ‫الصالحي ــن وتحريــك األصابــع بالتسب ــيح والتهليــل‪ ،‬وإنمــا يجــيء‬ ‫بالصــدق فــي طلــب الحــق عــز وجــل والزهــد فــي الدن ــيا وإخـراج الخلــق‬ ‫مــن القلــب وتجـ ّـرده ّ‬ ‫عمــا ســوى مــواله عــز وجــل)(‪.)27‬‬ ‫ومن هذه املعان ــي واملفاهيم وضع الشــيخ الجيالن ــي كتابـي ــن يانعي ــن‬ ‫ماتعيـن هما‪( :‬الغنـية) و (فتوح الغيب)‪ ،‬واللذان كانا ً‬ ‫منهاجا ملدرسة‬ ‫ت ـربوية ســعى مــن خاللهــا لتنقيــة التصــوف مــن شــوائب البــدع‬ ‫(‪ )25‬ابـن القيم‪ :‬زاد املعاد‪ ،‬ج‪ ،1‬ص‪.71‬‬ ‫(‪ )26‬الصالبـي‪ :‬عصر الدولة الزنكية‪ ،‬ص‪.381‬‬ ‫(‪ )27‬الفتح الربانـي‪ ،‬مجلس ‪ ،25‬ص‪.90‬‬ ‫(‪ )28‬الجيالنـي‪ :‬فتوح الغيب‪ ،‬ص‪.50‬‬

‫اإلمام الجيالنـي‬

‫العدد ‪ 2‬رجب ‪1439‬هـ‬

‫والخرافات والشطحات البعيدة عن الكتاب والسنة وإظهار معدن‬ ‫التصــوف األصيــل‪ ...‬فالفهــم الصحيــح ي ــنتج عنــه ســلوك صحيــح‪،‬‬ ‫وال يكــون هــذا إال مــن خــال تهذيــب النفــس وتنشــئتها علــى األخــاق‬ ‫الحميدةوالعقيدةالصحيحة؛لذاقررالجيالنـيعلىتالميذهجملة‬ ‫مــن اآلداب والواجبــات الت ــي تنقــي النفــس وتســمو بهــا إلــى مراتــب‬ ‫الصفاء الروحي والنف�سي وهي‪ :‬التمسك بالكتاب والسنة والتزامهما‬ ‫كمنهــج عملــي فــي األمــر باملعــروف والنهــي عــن املنكــر‪ ،‬والصــدق‬ ‫مــع هللا وإخــاص العمــل لــه ومجاهــدة النفــس فــي سب ــيل مرضاتــه‬ ‫ً‬ ‫وصحبة الصالحيـن؛ ألن في صحبتهم حفظا للنفس من التقصيـر‬ ‫في الطاعة‪ ،‬وتـرك أصحاب القيل والقال واالبتعاد عن مجالسهم‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫والتحلــي واالتصــاف باليقي ــن والكــرم‪ ،‬فبهمــا تســمو النفــس فــا‬ ‫تخ�شــى قلــة بعــد عطــاء وبــذل‪ ،‬وتهذيــب النفــس عــن طريــق الجــوع‬ ‫ُ‬ ‫والحرمان فال ت ّلبى بكل ما تطلبه‪ ،‬وفي هذا يقول الشاعر‪( :‬والنفس‬ ‫راغبـ ٌـة إذا ر ّغبتهــا ** وإذا ت ـ ُّ‬ ‫ـرد إلــى قليـ ٍـل تقنـ ُـع) كمــا كان يأمــر تالمذتــه‬ ‫باالبتعــاد عــن مجالــس الشــهرة ـكـي ال يصــل ُ‬ ‫العجـ ُـب إلــى النفــس‬ ‫فيدخلها الهوى ُ‬ ‫وحب الظهور‪ ،‬وأن يتضرع الفرد منهم ً‬ ‫دائما إلى هللا‬ ‫بأن يستـره ويعيـنه على تـرك الذنوب واملعا�صي وأن ي ُ‬ ‫ـرزقه التوفيق‬ ‫َ‬ ‫والصــاح‪ ،‬ويأمرهــم باإليثــار وهــو أن يؤ ِثــر املريــد أقرانــه علــى نفســه‬ ‫فــا يتقدمهــم فــي مجلــس شــيخ وال فــي ب ــيت عالــم وأن يكرمهــم قــدر‬ ‫املستطاع‪ ،‬وعلى املريد أن يتعلم كظم الغيظ واملسارعة في الصفح‬ ‫والعفو‪ ،‬وتنا�سي إساءات الناس إليه ثم التحبب إليهم‪ ،‬كما أن من‬ ‫أدب العلــم مالزمــة الشــيوخ ون ــيل الرضــا والتــودد إليهــم‪ ...‬كمــا علــى‬ ‫كل منهــم أن يعامــل النــاس علــى قاعــدة الحــب فــي هللا والبغــض فيــه‪،‬‬ ‫يقــول الشــيخ الجيالن ــي ّ‬ ‫موض ًحــا ذلــك‪( :‬إذا وجــدت فــي قلبــك بغــض‬ ‫شــخص أو َّ‬ ‫حبــه فاعــرض أعمالــه علــى الكتــاب والســنة‪ ،‬فــإن كانــت‬ ‫فيهمــا مبغوضــة‪ ،‬فأبشــر بموافقتــك هلل عــز وجــل ولرســوله‪ ،‬وإن‬ ‫كانــت أعمالــه فيهمــا محبوبــة وأنــت تبغضــه‪ ،‬فاعلــم بأنــك صاحــب‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫وعاصيــا هلل عــز وجــل‬ ‫هــوى تبغضــه بهــواك ظالـ ــا لــه ببغضــك ّإيــاه‬ ‫مخالفــا لهمــا ُ‬ ‫ً‬ ‫فتـ ْـب إلــى هللا عــز وجــل)(‪.)28‬‬ ‫ولرســوله‬ ‫هذا هو موقف الشيخ عبد القادر الجيالنـي من التصوف ومفهومه‬ ‫ومقاصــده‪ ،‬تصــوف يســمو بالعبــد إلــى أعلــى درجــات العبوديــة هلل‬ ‫ً‬ ‫موقنــا حـ ّـق اليقي ــن أنــه ال معبــود بحــق ســوى هللا‪ ،‬ومت ـ ً‬ ‫ـرجما هــذا‬

‫‪32‬‬

‫بســلوكه مــع نفســه ومــع النــاس ومــع الب ــيئة املحيطــة بــه زاهـ ًـدا بمتــاع‬ ‫الدن ــيا‪ ،‬وليــس الزهــد الــذي ّ‬ ‫يغيــب صاحبــه عــن همــوم أمتــه والنظــر‬ ‫في أحوالها فهذا الصوفي الزاهد يبقى ً‬ ‫واحدا من أفراد األمة يصيبه‬ ‫ً‬ ‫بمنأى ّ‬ ‫عما يـنزل فيها من بالء‪.‬‬ ‫ما يصيب املسلميـن‪ ،‬وال يظن نفسه‬

‫املبحثالرابع‬ ‫الطريقةالقادريةوتصحيحاملفاهيم‬ ‫‪ )1‬نشأة الطريقة‪:‬‬

‫ّ‬ ‫َّ‬ ‫الصوفية‬ ‫ُيعتبـر الشيخ عبد القادر الجيالنـي من أول وأشهر من نظم‬ ‫فــي جماعــات ُم َ‬ ‫منهجــة تسي ــر وفــق طريقــة منضبطــة‪ ،‬تضبــط ســلوك‬ ‫ٍ‬ ‫املريد مع شيخه وسلوك الشيخ مع تلميذه وسلوك االثنـيـن مع الناس‬ ‫والبـيئة املحيطة بهم‪ ،‬ويتجلى ذلك في وصيته البـنه عبد الرزاق حيث‬ ‫قــال‪( :‬أوصيــك بتقــوى هللا‪ ،‬وطاعتــه ولــزوم الشــرع وحفــظ حــدوده‪،‬‬ ‫ٌ‬ ‫وأعلم يا ولدي ‪ -‬وفقنا هللا وإياك واملسلميـن ‪ -‬أن طريقتنا هذه مبـن ّـية‬ ‫على الكتاب والســنة وســامة الصدر وســخاء اليد وبذل الندى وكف‬ ‫الجفــا وحمــل األذى والصفــح عــن عث ـرات اإلخــوان)‪.‬‬ ‫ً‬ ‫وقد ّ‬ ‫أصل الجيالنـي لطريقته تأصيل يقوم على الكتاب والسنة وال‬ ‫يحيــد فيــه عــن فهــم ســلف األمــة‪ ،‬حيــث يقــول فــي وصيتــه‪( :‬أدخــل‬ ‫الظلمة باملصباح وهو كتاب هللا وسنة رسوله صلى هللا عليه وسلم؛‬ ‫فــإن خطــر خاطــر أو جـ ّـد إلهـ ٌ‬ ‫ـام فاعرضــه علــى الكتــاب والســنة؛ فــإن‬ ‫وجــدت فيهمــا تحريــم ذلــك مثــل أن تلهــم الزنــا والريــاء ومخالطــة أهــل‬ ‫الفسق والفجور وغيـر ذلك من املعا�صي فادفعه عنك واهجره وال‬ ‫تقبله وال تعمل به واقطع بأنه من الشيطان اللعيـن)(‪.)29‬‬

‫‪ )2‬حثه على األمرباملعروف والنهي عن املنكر‪:‬‬

‫ّ‬ ‫كان الشــيخ الجيالن ــي كثي ـ ًـرا مــا يحــث أتبــاع طريقتــه علــى وجــوب‬ ‫األمر باملعروف‪ ،‬واجتناب ما نهى ُ‬ ‫هللا عنه واالستسالم والتسليم‬ ‫لـ ُـه بقضائــه فــا مــرد لقضائــه‪ ،‬ولكنــه ســبحانه يلطــف بالنــاس‬ ‫بقــدر دعائهــم وتضرعهــم لـ ُـه عــز وجــل‪ ،‬فــكان يقــول لتالميــذه‪:‬‬ ‫(البــد لــكل مؤمــن فــي ســائر أحوالــه مــن ثالثــة أشــياء‪ :‬أمــر يمتثلــه‬ ‫ونهي يجتنبه وقدر يـر�ضى به‪ ،‬فأقل حالة املؤمن ال يخلو فيها من‬ ‫قلبه ّ‬ ‫همها َ‬ ‫أحد هذه األشياء الثالثة‪ ،‬فيـنبغي أن ُيلزم َّ‬ ‫ويحدث بها‬ ‫ِ‬ ‫(‪ )29‬الجيالنـي‪ :‬املصدر السابق‪ ،‬ص‪.640‬‬ ‫(‪ )30‬الجيالنـي‪ :‬املصدر السابق‪ ،‬ص‪.6‬‬ ‫(‪ )31‬قالئد الجواهر‪ ،‬ص‪.19‬‬

‫العدد ‪ 2‬رجب ‪1439‬هـ‬

‫نفســه ويؤاخــذ الجــوارح بهــا فــي ســائر أحوالــه)(‪.)30‬‬

‫‪ )3‬إقبال الناس على طريقته‪:‬‬

‫ّ‬ ‫اتبع الشيخ الجيالنـي أسلوب الوعظ واإلرشاد والنصح والغيـرة على‬ ‫عبــاد هللا وحمــل همهــم وهــم آخرتهــم‪ ،‬لذلــك ازداد التفــاف النــاس‬ ‫حولــه‪ ،‬وكان يقــول لهــم‪ ( :‬أال إن ــي راع لكــم ســاق لكــم ناطــور لكــم‪،‬‬ ‫مــا ت ــرقيت هــا هنــا وأرى لكــم وجـ ً‬ ‫ـودا فــي الضــر والنفــع بعــد مــا قطعــت‬ ‫الكل بسيف التوحيد‪ ...‬حمدكم وذمكم وإقبالكم وإدباركم عندي‬ ‫كم َمن يذمن ــي كثي ـ ًـرا ثم ي ــنقلب ذمه ً‬ ‫ســواء‪ْ ،‬‬ ‫حمدا‪ ،‬كالهما من هللا‬ ‫ال منه‪ ،‬إقبالي عليكم هلل أخذي منكم هلل لو أمكننـي دخلت مع كل‬ ‫منكم القب ــر وجاوبت عنه ً‬ ‫منكرا ونكي ـ ًـرا رحمة وشفقة عليكم)‪.‬‬ ‫بهذه املعانـي ّربى الجيالنـي أتباعه‪ ،‬وغرس في نفوسهم مفهوم اإلخاء‬ ‫والبــذل والعطــاء‪ ،‬والتناصــح والشــفقة وحســن التعامــل وطيــب‬ ‫الكالم‪،‬وتجريدالنفسعنالهوى‪،‬وانقيادهالخالقهاوباريهابصدق‬ ‫وإخالص‪ ،‬وقد وصل صدى وعظ اإلمام إلى قلوب جماعة األحداث‬ ‫وقطاع الطرق‪ ،‬فأســلم من لم يكن مسـ ًـلما وتاب على يده من ن�ســي‬ ‫دي ــنه حتــى قــال الجيالن ــي‪( :‬وتــاب علــى يــدي مــن ّ‬ ‫العياري ــن واملســالحة‬ ‫أكث ــر مــن مائــة ألــف‪ ،‬وهــذا خي ــر كثي ــر)(‪ ،)31‬ولذلــك انتشــرت طريقــة‬ ‫الشــيخ‪ ،‬وحيــث مــا تــوزع أتباعــه ووصلــوا وجــدت طريقتــه بمعان ــيها‬ ‫وأسســها البســيطة والخاليــة مــن أي فكــر فلســفي معقــد الكثي ــر‬ ‫من األتباع املخلصي ــن‪ ...‬وقد كان الشــيخ كثي ـ ًـرا ما ي ــنهى أتباعه عن‬ ‫الفلســفة ويحذرهــم مــن خطــر دخولهــا علــى النفــس والعقــل‪.‬‬

‫املبحثالخامس‬ ‫املدرسةالقادريةوفروعهافيالبلدان‬ ‫لقدكانتاملدارسالديـنـيةهياملراكزالتـيانتشرمنهامنهجاإلمامالتـربوي‬ ‫ـات متخصصــة فــي صناعة الوعي‬ ‫واإلصالحــي‪ ،‬وكانــت هــذه املــدارس محطـ ٍ‬ ‫وتـربـية الجيل على اإليمان والعلم واالستعداد لخدمة األمة‪ ...‬وسأعرض‬ ‫اآلن لبـناء املدرسة القادرية األولى وأهم فروعها في املدن واألرياف‪.‬‬

‫‪ )1‬املدرسة القاد َّرية األولى‪:‬‬

‫ً‬ ‫منــذ أن جلــس الشــيخ عبــد القــادر الجيالن ــي للتدريــس وارثــا‬

‫‪33‬‬


‫اإلمام الجيالنـي‬ ‫شــيخه أبــا ســعيد املخرمــي فــي مدرســته صــار املــكان يضيــق‬ ‫باملجتمعيـن من شدة االزدحام وكثـرة إقبال الناس على مجلس‬ ‫الشــيخ الجيالن ــي‪ ،‬حتــى خــرج بهــم إلــى ســور بغــداد الجنوب ــي‪...‬‬ ‫وهنــاك أقــام اإلمــام مدرســته الجديــدة الت ــي عرفــت باســم‬ ‫(املدرسة القادرية) وأقبلت عليها جموع الناس غنـيهم وفقيـرهم‬ ‫كل يبــذل مــا اســتطاع لب ــناء املدرســة ّ‬ ‫وكبـي ــرهم وصغي ــرهم ٌّ‬ ‫حبــا‬ ‫ً‬ ‫وكرامــة وتقدي ـ ًـرا وإجــال لإلمــام ومنهجــه‪ ...‬فهــذا الغن ــي يتصــدق‬ ‫بمالــه ويســتأجر العمــال‪ ،‬وهــذا الفقي ــر املعــدوم الــذي ال يجــد‬ ‫قــوت يومــه يبــذل نفســه وجهــده‪ ،‬حتــى امل ـرأة كانــت تتصــدق‬ ‫بمهرهــا لزوجهــا مقابــل أن يعمــل فــي ب ــناء املدرســة‪ ،‬فــي مشــهد‬ ‫مــن التكافــل والتعــاون والتــآزر والتالحــم والتكاتــف َع َكـ َ‬ ‫ـس روح‬ ‫العمــل الجماعــي الــذي أثمــر عــن إنشــاء وتشــييد صــرح علمــي غــدا‬ ‫مــع الزمــن مركــز إشــعاع دعــوي رفــد األمــة اإلســامية بالكثي ــر مــن‬ ‫الدعاة اللذيـن كان لهم دور كبـيـر في بـناء املدارس وتوحيد األمة‪،‬‬ ‫ورفــد مشــروع الزنكيي ــن واأليوبـيي ــن لحمايــة الدي ــن ومواجهــة‬ ‫ّ‬ ‫كل مــن الخطــر الصليب ــي والراف�ضــي علــى الســواء‪ ...‬لذلــك عمــل‬ ‫ٍ‬ ‫الشــيخ الجيالن ــي بعد إتمام ب ــناء املدرســة عام (‪528‬هـ‪1133/‬م)‬ ‫علــى اســتقبال كل مــن يقصــد هــذه املدرســة مــن طلبــة العلــم‬ ‫القادمي ــن مــن كل أنحــاء العالــم اإلســامي‪ ،‬وتوفي ــر كل مــا يلــزم‬ ‫طالــب العلــم مــن مســكن ومــأكل وملبــس ومســتلزمات الدراســة‬ ‫ومرتــب يعي ــن بــه أهلــه‪ ،‬حتــى كبــار الســن كانــت لهــم مجالــس‬ ‫تعليــم خاصــة بهــم‪ ...‬كل ذلــك مــن أجــل أن يصــل العلــم الشــرعي‬ ‫للكبــار والصغــار ُ‬ ‫فيق�ضــى علــى َّ‬ ‫األمية‪،‬ويتبـ َّـدد الجهــل‪ ،‬فتستنـي ــر‬ ‫قلوب الناس ب ــنور العلم واملعرفة ويعرف املرء ما هو أصل دي ــنه‬ ‫ومــا ليــس مــن دي ــنه‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫ويهيئهــا للعمــل‬ ‫وصــار الشــيخ عبــد القــادر يعــد الكــوادر ِ‬ ‫الدعــوي وفــق منهــج ّ‬ ‫مؤصــل واضــح حتــى يوصلــوا هــذا املنهــج‬ ‫إلــى مناطقهــم‪ ،‬وكان اهتمــام الجيالن ــي يت ــركز علــى األريــاف أكث ــر‬ ‫مــن املــدن الت ــي تكث ــر فيهــا املــدارس ومراكــز الدعــوة‪ ،‬وأكث ــر أهــل‬ ‫العلــم يقطنــون فيهــا بخــاف األريــاف الت ــي تكــون مراكــز التعليــم‬ ‫فيهــا أقــل‪ ...‬ومــن أجــل هــذا كان الطالــب ُي َعـ ُّـد إعـ ً‬ ‫ً‬ ‫صحيحــا‬ ‫ـدادا‬ ‫ً‬ ‫منضبطــا ثــم ُيرســل إلــى منطقتــه ـكـي ي ــن�شئ فيهــا ً‬ ‫فرعــا للمدرســة‬ ‫القادريــة ومنهجهــا املؤصــل‪.‬‬ ‫(‪ )32‬ابـن كثيـر‪ :‬البداية والنهاية‪ ،‬ج‪ ،12‬ص‪.302‬‬ ‫(‪ )33‬ابـن العماد‪ :‬شذرات الذهب‪،‬ج‪ ،6‬ص‪.300‬‬ ‫(‪ )34‬الذهبـي‪ :‬العبـر‪ ،‬ج‪ ،3‬ص‪- .28‬‬

‫اإلمام الجيالنـي‬

‫العدد ‪ 2‬رجب ‪1439‬هـ‬

‫َّ‬ ‫العدوية‪:‬‬ ‫‪ )2‬املدرسة‬

‫يل ْبــن ُم َ‬ ‫أسســها عــدي ب ــن مســافر‪ ،‬وهــو اب ــن إ ْسـ َـم ِ َ‬ ‫و�ســى ْبـ ِـن‬ ‫ْ َّ ِ‬ ‫اع ِ‬ ‫ان ْبــن ْال َح َســن ْبــن َمـ ْـر َو َ‬ ‫َمـ ْـر َو َ‬ ‫ُّ‬ ‫ان ال َهــك ِاري‪ ،‬مؤســس الطريقــة‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫العدويــة أصلــه مــن بعلبــك غــرب دمشــق مــن قريــة فيهــا تســمى‬ ‫ب ــيت نــار‪ ،‬وقــد اختلــف املؤرخــون فــي عــام مولــده ولكنهــم اتفقــوا‬ ‫على تاريخ وفاته ‪557‬هـ وهو املهم(‪ ،)32‬وحظي بألقاب كثيـرة عند‬ ‫العلمــاء ومنهــا قطــب املشــايخ وب ــركة الوقــت وقــدوة العلمــاء(‪.)33‬‬ ‫ومــن بعلبــك ارتحــل الشــيخ عــدي إلــى بغــداد‪ ،‬وفيهــا حضــر‬ ‫مجالــس شــيخه حمــاد ّ‬ ‫الدبا�ســي الحنبلــي والشــيخ عقيــل‬ ‫املنبجــي(‪ ،)34‬كمــا التقــى بالشــيخ عبــد القــادر الجيالن ــي والشــيخ‬ ‫أب ــي الوفــاء الحلوان ــي والشــيخ أب ــي نجيــب الســهروردي(‪ ،)35‬حــدث‬ ‫عنــه الحافــظ عبــد القــادر الرهــاوي الــذي صاحــب عــدي ب ــن‬ ‫ً‬ ‫مســافر ً‬ ‫منــا طويــا فوصــف لنــا حالــه وأحوالــه حيــث يقــول‪:‬‬ ‫ز‬ ‫ً‬ ‫وصحــب املشــايخ‪ ،‬وجاهــد أنواعــا مــن‬ ‫(ســاح ِسنـي ــن كثي ــرة‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫َْ‬ ‫ُ ّ‬ ‫املجاهــدات‪ ،‬ثـ َّـم إنــه ســكن بعــض جبــال املو ِصــل ِفــي موضــع ليــس‬ ‫ـس هللا تلــك املواضــع بــه ّ‬ ‫بــه أن ــيس‪ُ ،‬ثـ َّـم آنـ َ‬ ‫وعمرهــا بب ــركاته َح َّتــى‬ ‫ْ‬ ‫قطــع ّ‬ ‫السب ــيل‪ ،‬وارتــدع جماعــة‬ ‫صــار ال يخــاف أحـ ٌـد بهــا بعــد‬ ‫ْ‬ ‫مــن مفســدي األك ـراد بب ــركاته‪ّ ،‬‬ ‫وعمــره هللا َح َّتــى انتفــع بــه خلــق‬ ‫ّ‬ ‫ناصحــا‪ ،‬متشـ ّـر ًعا‪ ،‬شـ ً‬ ‫ً‬ ‫ـديدا ِفــي‬ ‫وانتشــر ِذكــره‪ ،‬وكان معل ًمــا للخي ــر‬ ‫أمــر هللا‪ ،‬ال تأخــذه فــي هللا لومـ ُـة الئــم‪ ،‬عــاش ً‬ ‫قريبــا مــن ثمانـي ــن‬ ‫ِ‬ ‫ّ‬ ‫ســنة‪ ...‬ورأيتــه إذا أقبــل إلــى القريــة يتلقــاه أهلهــا مــن قبــل أن‬ ‫يســمعوا كالمــه تائبـي ــن‪ ،‬رجالهــم ونســاؤهم إال مــن شــاء هللا‬ ‫منهــم‪ ،‬ولقــد أتـي ــنا معــه علــى َد ْيــر فيــه ُ ْهبــان ّ‬ ‫فتلقــاه منهــم راهبــان‪،‬‬ ‫ٍ ِ ِر‬ ‫َ​َ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫وق ّبــا ْج َليــه وقــاال‪ْ :‬ادعُ‬ ‫فل ّمــا وصــا إلــى الشـ ْـيخ كشــفا رأســيهما‬ ‫ِر‬ ‫لنــا فمــا َن ْحـ ُـن إال فــي ب ــركاتك وأخرجــا ً‬ ‫طبقــا فيــه ُخ ْبـ ٌـز َ‬ ‫وع َســل فــأكل‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫الجماعــة)(‪.)36‬‬ ‫بهــذه الصفــات واألحــوال الت ــي ُعرفــت عــن الشــيخ عــدي أقــام‬ ‫مدرســة ســلوكية تعنــى بتزكيــة القلــوب وتهذيــب النفــوس‪ ،‬و ُر ِّبيــت‬ ‫فيهــا أجيــال عــدة مــن أب ــناء الكــرد وغي ــرهم مــن أب ــناء املناطــق‬ ‫املجاورة‪ ،‬وقد عرفت هذه املدرسة بعد ذلك باملدرسة العدوية‬ ‫نســبة ملؤسســها حيــث تخــرج منهــا أعــداد جمــة مــن األكـراد الذي ــن‬ ‫عملــوا فــي خدمــة الدولتـي ــن الزنكيــة واأليوب ــية‪ ،‬ومــن أعــام هــذه‬ ‫املدرســة أســرة صــاح الدي ــن الــذي طــال انتظــار القــدس لــه فــي‬

‫(‪ )35‬ابـن خلكان‪ :‬وفيات األعيان‪ ،‬ج‪ ،3‬ص‬ ‫(‪ )36‬الذهبـي‪ :‬تاريخ اإلسالم‪ ،‬ج‪ ،12‬ص‪.129 -128‬‬

‫‪34‬‬

‫العدد ‪ 2‬رجب ‪1439‬هـ‬

‫حي ــنها‪ ،‬ومــا زالــت القــدس تنتظــر فــي زماننــا مثلــه‪ ...‬وكان عــدي ب ــن‬ ‫مســافر يحــرص علــى تعليــم أتباعــه نهــج التصــوف املبـن ــي علــى صفــاء‬ ‫النفــس واصطفائهــا والعقيــدة املبـن ــية علــى الكتــاب والســنة والت ــي‬ ‫تلقاهــا عــن شــيخه عبــد القــادر الجيالن ــي وفــي مدرســته القادريــة‪،‬‬ ‫لــذا وضــع ألتباعــه كتابـي ــن همــا (عقيــدة أهــل الســنة والجماعــة)‬ ‫وكتــاب (الوصايــة) كمنهــج تعليمــي ت ــربوي فــي مدرســته‪ ...‬وبعــد وفــاة‬ ‫الشــيخ بزمــن تــوزع أتباعــه فــي األمصــار والتحــق قســم كبـي ــر منهــم‬ ‫بجيــوش األيوبـيي ــن‪...‬‬

‫‪ )4‬املدرسة النجائية‪:‬‬

‫وهــي مدرســة عثمــان ب ــن مــرزوق القر�شــي الحنبلــي الفقيــه الزاهــد‪،‬‬ ‫وصفــه الشعران ــي صاحــب الطبقــات بقولــه‪( :‬مــن أكاب ــر مشــايخ‬ ‫مصــر املشهوري ــن‪ ،‬وصــدور العارفي ــن‪ ،‬وأعيــان العلمــاء املحققي ــن‬ ‫صاحــب الكرامــات الظاهــرة واألحــوال الفاخــرة واألفعــال الخارقــة‬ ‫واألنفــاس الصادقــة‪ ،‬وهــو أحــد العلمــاء املصنفي ــن والفضــاء‬ ‫املفتـي ــن أفتــى بمصــر علــى مذهــب اإلمــام أحمــد ر�ضــي هللا عنــه‪،‬‬ ‫ودرس وناظــر وأملــى وخــرق هللا تعالــى لــه العوائــد وقلــب لــه األعيــان)‪.‬‬ ‫واإلمــام القر�شــي هــو أحــد أصحــاب الشــيخ عبــد القــادر الجيالن ــي‪،‬‬ ‫وكان قــد اجتمــع بــه فــي بغــداد فــي جملــة مــن جمعهــم الشــيخ الجيالن ــي‬ ‫ّ‬ ‫للتباحــث والتشــاور فــي أمــر إصــاح املجتمــع وبـ ِـث روح الســنة‬ ‫فــي نفــوس النــاس(‪ ،)37‬فــكان الشــيخ عثمــان قــد أخــذ علــى عاتقــه‬ ‫إحيــاء النشــاط السن ــي فــي مصــر‪ - ،‬وكانــت مصــر يومئـ ٍـذ تحــت حكــم‬ ‫العبـيديي ــن ‪ -‬ولــم يكــن الشــيخ عثمــان أول السابقي ــن فــي هــذا املجــال‬ ‫َّ‬ ‫نظاميــة‬ ‫بــل قــد مهــد لــه ولغي ــره الفقيــه أبــو بكــر الطرطو�شــي اب ــن‬ ‫بغــداد‪ ،‬والــذي أوقــد شــعلة املذهــب السن ــي فــي مصــر أوائــل القــرن‬ ‫الســادس الهجــري والحــادي عشــر امليــادي‪ ،‬وجــاءت جهــود عثمــان‬ ‫ب ــن مــرزوق القر�شــي متممــة لجهــود ســابقيه فعقــد مجالــس الوعــظ‬ ‫والفقــه والتفسي ــر وكانــت مجالســه تزدحــم باملستمعي ــن وطــاب‬ ‫العلم‪ ،‬وراح يلقنهم معانـي التـربـية الروحية والسلوكية والفكرية‪...‬‬ ‫َّ‬ ‫حتــى اســتخلص لنفســه ثلــة مــن طالبــه أعتمــد عليهــم فــي نشــر أصــول‬ ‫الســنة والوعــي الديـن ــي‪ ،‬ومنهــم اب ــن القسطالن ــي وأبــو الطاهــر واب ــن‬ ‫الصابون ــي وأبو عبد هللا القرطب ــي‪ ،‬كما كان الب ــن مرزوق دو ٌر كبـي ـ ٌـر‬ ‫فــي تثب ــيت حكــم نــور الدي ــن زنكــي فــي مصــر مــن خــال حشــد التأييــد‬

‫وهــي مدرســة الفقيــه الواعــظ زي ــن الدي ــن علــي ب ــن إب ـراهيم ب ــن‬ ‫نجــا ب ــن الغنائــم الدمشــقي الفقيــه الحنبلــي‪ ،‬ولــد فــي دمشــق عــام‬ ‫‪508‬ه ـ وتعلــم علــى خالــه عبــد الوهــاب اب ــن الشــيخ أب ــي الفــرج‬ ‫عبــد الواحــد ب ــن محمــد الحنبلــي‪ ،‬وعنــه أخــذ فقــه الحنابلــة‪،‬‬ ‫كمــا أخــذ فقــه املالكيــة عــن الشــيخ علــي ب ــن أحمــد ب ــن قب ــيس‬ ‫املالكــي‪.‬‬ ‫وعندمــا دخــل نــور الدي ــن زنكــي دمشــق اتصــل بعلمائهــا وكان‬ ‫منهــم الشــيخ اب ــن نجــا الــذي اختــاره نــور الدي ــن ليكــون سفي ــره‬ ‫لــدى الخليفــة العبا�ســي فــي بغــداد عــام ‪564‬هــ‪1168/‬م‪ ،‬وكان‬ ‫لــه دور كبـي ــر فــي ب ــناء العالقــات الدبلوماســية بـي ــن الخالفــة‬ ‫العباســية والدولــة الزنكيــة‪.‬‬ ‫وفــي بغــداد اجتمــع اب ــن نجــا بالشــيخ الجيالن ــي صاحــب املدرســة‬ ‫القادريــة واملرب ــي األول لرجــال الدولــة الزنكيــة‪ ،‬وطلــب الشــيخ‬ ‫الجيالن ــي مــن اب ــن نجــا أن يتوجــه إلــى مصــر ويقابــل الشــيخ‬ ‫عثمــان ب ــن مــرزوق القر�شــي ويعمــل معــه لتهيئــة األجــواء لقــدوم‬ ‫جيــش نــور الدي ــن زنكــي‪ ،‬وهــذا مــا حــدث بالفعــل فقــد التقــى اب ــن‬ ‫نجــا بالشــيخ عثمــان وبــدأ معــه التخطيــط الدقيــق لهــذه املهمــة‬ ‫إال أن أيامــه مــع اب ــن مــرزوق لــم تكــن طويلــة حيــث وافــت املن ــية‬ ‫اب ــن مــرزوق القر�شــي ولــم يقــدر لــه أن يشــاهد أركان الدولــة‬ ‫الفاطميــة وهــي تتهــاوى علــى أيــدي صــاح الدي ــن األيوب ــي ورجالــه‬ ‫كمــا شــاهدها اب ــن نجــا‪...‬‬ ‫لــم تنتـ ِـه مهمــة الشــيخ اب ــن نجــا بتهيئــة األجــواء لقــدوم الفاتحي ــن‬ ‫بــل كان لــه الــدور األكب ــر واألهــم بعــد ســقوط الفاطميي ــن عــام‬ ‫‪567‬هــ‪1171/‬م ليبــدأ مرحلــة التأســيس السيا�ســي لإلســام‬

‫‪ )3‬املدرسة القرشية‪:‬‬

‫(‪ )37‬الصالبـي‪ :‬القائد املجاهد نور الديـن محمود‪ ،‬ص‪.396‬‬ ‫(‪ )38‬الصالبـي‪ :‬عصر الدولة الزنكية‪ ،‬ص‪.413‬‬

‫الشعب ــي لــه عنــد مجــيء أســد الدي ــن شي ــركوه(‪ ...)38‬لكــن لــم يقــدر‬ ‫لهــذا الشــيخ الفقيــه الواعــظ أن يشــهد ســقوط الدولــة العب ــيدية‬ ‫الت ــي أم�ضــى فــي أراضيهــا نصــف عمــره وهــو ي ــنافح عــن أصــول الســنة‬ ‫فــي وسـ ٍـط كانــت تخــرج منــه دعــوة التشــيع ودعاتــه‪ ...‬وقــد توفــي اب ــن‬ ‫شاغرا بل ّ‬ ‫ً‬ ‫أعد ملدرسة اإلصالح‬ ‫مرزوق عام‪564‬هـ ولم يتـرك مكانه‬ ‫السن ــي أســاتذة يقودونهــا‪ ،‬ولتبقــى مســتمرة علــى يــد تلميــذه الفقيــه‬ ‫الواعــظ زي ــن الدي ــن علــي ب ــن نجــا‪.‬‬

‫‪35‬‬


‫اإلمام الجيالنـي‬ ‫شــيخه أبــا ســعيد املخرمــي فــي مدرســته صــار املــكان يضيــق‬ ‫باملجتمعيـن من شدة االزدحام وكثـرة إقبال الناس على مجلس‬ ‫الشــيخ الجيالن ــي‪ ،‬حتــى خــرج بهــم إلــى ســور بغــداد الجنوب ــي‪...‬‬ ‫وهنــاك أقــام اإلمــام مدرســته الجديــدة الت ــي عرفــت باســم‬ ‫(املدرسة القادرية) وأقبلت عليها جموع الناس غنـيهم وفقيـرهم‬ ‫كل يبــذل مــا اســتطاع لب ــناء املدرســة ّ‬ ‫وكبـي ــرهم وصغي ــرهم ٌّ‬ ‫حبــا‬ ‫ً‬ ‫وكرامــة وتقدي ـ ًـرا وإجــال لإلمــام ومنهجــه‪ ...‬فهــذا الغن ــي يتصــدق‬ ‫بمالــه ويســتأجر العمــال‪ ،‬وهــذا الفقي ــر املعــدوم الــذي ال يجــد‬ ‫قــوت يومــه يبــذل نفســه وجهــده‪ ،‬حتــى امل ـرأة كانــت تتصــدق‬ ‫بمهرهــا لزوجهــا مقابــل أن يعمــل فــي ب ــناء املدرســة‪ ،‬فــي مشــهد‬ ‫مــن التكافــل والتعــاون والتــآزر والتالحــم والتكاتــف َع َكـ َ‬ ‫ـس روح‬ ‫العمــل الجماعــي الــذي أثمــر عــن إنشــاء وتشــييد صــرح علمــي غــدا‬ ‫مــع الزمــن مركــز إشــعاع دعــوي رفــد األمــة اإلســامية بالكثي ــر مــن‬ ‫الدعاة اللذيـن كان لهم دور كبـيـر في بـناء املدارس وتوحيد األمة‪،‬‬ ‫ورفــد مشــروع الزنكيي ــن واأليوبـيي ــن لحمايــة الدي ــن ومواجهــة‬ ‫ّ‬ ‫كل مــن الخطــر الصليب ــي والراف�ضــي علــى الســواء‪ ...‬لذلــك عمــل‬ ‫ٍ‬ ‫الشــيخ الجيالن ــي بعد إتمام ب ــناء املدرســة عام (‪528‬هـ‪1133/‬م)‬ ‫علــى اســتقبال كل مــن يقصــد هــذه املدرســة مــن طلبــة العلــم‬ ‫القادمي ــن مــن كل أنحــاء العالــم اإلســامي‪ ،‬وتوفي ــر كل مــا يلــزم‬ ‫طالــب العلــم مــن مســكن ومــأكل وملبــس ومســتلزمات الدراســة‬ ‫ومرتــب يعي ــن بــه أهلــه‪ ،‬حتــى كبــار الســن كانــت لهــم مجالــس‬ ‫تعليــم خاصــة بهــم‪ ...‬كل ذلــك مــن أجــل أن يصــل العلــم الشــرعي‬ ‫للكبــار والصغــار ُ‬ ‫فيق�ضــى علــى َّ‬ ‫األمية‪،‬ويتبـ َّـدد الجهــل‪ ،‬فتستنـي ــر‬ ‫قلوب الناس ب ــنور العلم واملعرفة ويعرف املرء ما هو أصل دي ــنه‬ ‫ومــا ليــس مــن دي ــنه‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫ويهيئهــا للعمــل‬ ‫وصــار الشــيخ عبــد القــادر يعــد الكــوادر ِ‬ ‫الدعــوي وفــق منهــج ّ‬ ‫مؤصــل واضــح حتــى يوصلــوا هــذا املنهــج‬ ‫إلــى مناطقهــم‪ ،‬وكان اهتمــام الجيالن ــي يت ــركز علــى األريــاف أكث ــر‬ ‫مــن املــدن الت ــي تكث ــر فيهــا املــدارس ومراكــز الدعــوة‪ ،‬وأكث ــر أهــل‬ ‫العلــم يقطنــون فيهــا بخــاف األريــاف الت ــي تكــون مراكــز التعليــم‬ ‫فيهــا أقــل‪ ...‬ومــن أجــل هــذا كان الطالــب ُي َعـ ُّـد إعـ ً‬ ‫ً‬ ‫صحيحــا‬ ‫ـدادا‬ ‫ً‬ ‫منضبطــا ثــم ُيرســل إلــى منطقتــه ـكـي ي ــن�شئ فيهــا ً‬ ‫فرعــا للمدرســة‬ ‫القادريــة ومنهجهــا املؤصــل‪.‬‬ ‫(‪ )32‬ابـن كثيـر‪ :‬البداية والنهاية‪ ،‬ج‪ ،12‬ص‪.302‬‬ ‫(‪ )33‬ابـن العماد‪ :‬شذرات الذهب‪،‬ج‪ ،6‬ص‪.300‬‬ ‫(‪ )34‬الذهبـي‪ :‬العبـر‪ ،‬ج‪ ،3‬ص‪- .28‬‬

‫اإلمام الجيالنـي‬

‫العدد ‪ 2‬رجب ‪1439‬هـ‬

‫َّ‬ ‫العدوية‪:‬‬ ‫‪ )2‬املدرسة‬

‫يل ْبــن ُم َ‬ ‫أسســها عــدي ب ــن مســافر‪ ،‬وهــو اب ــن إ ْسـ َـم ِ َ‬ ‫و�ســى ْبـ ِـن‬ ‫ْ َّ ِ‬ ‫اع ِ‬ ‫ان ْبــن ْال َح َســن ْبــن َمـ ْـر َو َ‬ ‫َمـ ْـر َو َ‬ ‫ُّ‬ ‫ان ال َهــك ِاري‪ ،‬مؤســس الطريقــة‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫العدويــة أصلــه مــن بعلبــك غــرب دمشــق مــن قريــة فيهــا تســمى‬ ‫ب ــيت نــار‪ ،‬وقــد اختلــف املؤرخــون فــي عــام مولــده ولكنهــم اتفقــوا‬ ‫على تاريخ وفاته ‪557‬هـ وهو املهم(‪ ،)32‬وحظي بألقاب كثيـرة عند‬ ‫العلمــاء ومنهــا قطــب املشــايخ وب ــركة الوقــت وقــدوة العلمــاء(‪.)33‬‬ ‫ومــن بعلبــك ارتحــل الشــيخ عــدي إلــى بغــداد‪ ،‬وفيهــا حضــر‬ ‫مجالــس شــيخه حمــاد ّ‬ ‫الدبا�ســي الحنبلــي والشــيخ عقيــل‬ ‫املنبجــي(‪ ،)34‬كمــا التقــى بالشــيخ عبــد القــادر الجيالن ــي والشــيخ‬ ‫أب ــي الوفــاء الحلوان ــي والشــيخ أب ــي نجيــب الســهروردي(‪ ،)35‬حــدث‬ ‫عنــه الحافــظ عبــد القــادر الرهــاوي الــذي صاحــب عــدي ب ــن‬ ‫ً‬ ‫مســافر ً‬ ‫منــا طويــا فوصــف لنــا حالــه وأحوالــه حيــث يقــول‪:‬‬ ‫ز‬ ‫ً‬ ‫وصحــب املشــايخ‪ ،‬وجاهــد أنواعــا مــن‬ ‫(ســاح ِسنـي ــن كثي ــرة‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫َْ‬ ‫ُ ّ‬ ‫املجاهــدات‪ ،‬ثـ َّـم إنــه ســكن بعــض جبــال املو ِصــل ِفــي موضــع ليــس‬ ‫ـس هللا تلــك املواضــع بــه ّ‬ ‫بــه أن ــيس‪ُ ،‬ثـ َّـم آنـ َ‬ ‫وعمرهــا بب ــركاته َح َّتــى‬ ‫ْ‬ ‫قطــع ّ‬ ‫السب ــيل‪ ،‬وارتــدع جماعــة‬ ‫صــار ال يخــاف أحـ ٌـد بهــا بعــد‬ ‫ْ‬ ‫مــن مفســدي األك ـراد بب ــركاته‪ّ ،‬‬ ‫وعمــره هللا َح َّتــى انتفــع بــه خلــق‬ ‫ّ‬ ‫ناصحــا‪ ،‬متشـ ّـر ًعا‪ ،‬شـ ً‬ ‫ً‬ ‫ـديدا ِفــي‬ ‫وانتشــر ِذكــره‪ ،‬وكان معل ًمــا للخي ــر‬ ‫أمــر هللا‪ ،‬ال تأخــذه فــي هللا لومـ ُـة الئــم‪ ،‬عــاش ً‬ ‫قريبــا مــن ثمانـي ــن‬ ‫ِ‬ ‫ّ‬ ‫ســنة‪ ...‬ورأيتــه إذا أقبــل إلــى القريــة يتلقــاه أهلهــا مــن قبــل أن‬ ‫يســمعوا كالمــه تائبـي ــن‪ ،‬رجالهــم ونســاؤهم إال مــن شــاء هللا‬ ‫منهــم‪ ،‬ولقــد أتـي ــنا معــه علــى َد ْيــر فيــه ُ ْهبــان ّ‬ ‫فتلقــاه منهــم راهبــان‪،‬‬ ‫ٍ ِ ِر‬ ‫َ​َ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫وق ّبــا ْج َليــه وقــاال‪ْ :‬ادعُ‬ ‫فل ّمــا وصــا إلــى الشـ ْـيخ كشــفا رأســيهما‬ ‫ِر‬ ‫لنــا فمــا َن ْحـ ُـن إال فــي ب ــركاتك وأخرجــا ً‬ ‫طبقــا فيــه ُخ ْبـ ٌـز َ‬ ‫وع َســل فــأكل‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫الجماعــة)(‪.)36‬‬ ‫بهــذه الصفــات واألحــوال الت ــي ُعرفــت عــن الشــيخ عــدي أقــام‬ ‫مدرســة ســلوكية تعنــى بتزكيــة القلــوب وتهذيــب النفــوس‪ ،‬و ُر ِّبيــت‬ ‫فيهــا أجيــال عــدة مــن أب ــناء الكــرد وغي ــرهم مــن أب ــناء املناطــق‬ ‫املجاورة‪ ،‬وقد عرفت هذه املدرسة بعد ذلك باملدرسة العدوية‬ ‫نســبة ملؤسســها حيــث تخــرج منهــا أعــداد جمــة مــن األكـراد الذي ــن‬ ‫عملــوا فــي خدمــة الدولتـي ــن الزنكيــة واأليوب ــية‪ ،‬ومــن أعــام هــذه‬ ‫املدرســة أســرة صــاح الدي ــن الــذي طــال انتظــار القــدس لــه فــي‬

‫(‪ )35‬ابـن خلكان‪ :‬وفيات األعيان‪ ،‬ج‪ ،3‬ص‬ ‫(‪ )36‬الذهبـي‪ :‬تاريخ اإلسالم‪ ،‬ج‪ ،12‬ص‪.129 -128‬‬

‫‪34‬‬

‫العدد ‪ 2‬رجب ‪1439‬هـ‬

‫حي ــنها‪ ،‬ومــا زالــت القــدس تنتظــر فــي زماننــا مثلــه‪ ...‬وكان عــدي ب ــن‬ ‫مســافر يحــرص علــى تعليــم أتباعــه نهــج التصــوف املبـن ــي علــى صفــاء‬ ‫النفــس واصطفائهــا والعقيــدة املبـن ــية علــى الكتــاب والســنة والت ــي‬ ‫تلقاهــا عــن شــيخه عبــد القــادر الجيالن ــي وفــي مدرســته القادريــة‪،‬‬ ‫لــذا وضــع ألتباعــه كتابـي ــن همــا (عقيــدة أهــل الســنة والجماعــة)‬ ‫وكتــاب (الوصايــة) كمنهــج تعليمــي ت ــربوي فــي مدرســته‪ ...‬وبعــد وفــاة‬ ‫الشــيخ بزمــن تــوزع أتباعــه فــي األمصــار والتحــق قســم كبـي ــر منهــم‬ ‫بجيــوش األيوبـيي ــن‪...‬‬

‫‪ )4‬املدرسة النجائية‪:‬‬

‫وهــي مدرســة عثمــان ب ــن مــرزوق القر�شــي الحنبلــي الفقيــه الزاهــد‪،‬‬ ‫وصفــه الشعران ــي صاحــب الطبقــات بقولــه‪( :‬مــن أكاب ــر مشــايخ‬ ‫مصــر املشهوري ــن‪ ،‬وصــدور العارفي ــن‪ ،‬وأعيــان العلمــاء املحققي ــن‬ ‫صاحــب الكرامــات الظاهــرة واألحــوال الفاخــرة واألفعــال الخارقــة‬ ‫واألنفــاس الصادقــة‪ ،‬وهــو أحــد العلمــاء املصنفي ــن والفضــاء‬ ‫املفتـي ــن أفتــى بمصــر علــى مذهــب اإلمــام أحمــد ر�ضــي هللا عنــه‪،‬‬ ‫ودرس وناظــر وأملــى وخــرق هللا تعالــى لــه العوائــد وقلــب لــه األعيــان)‪.‬‬ ‫واإلمــام القر�شــي هــو أحــد أصحــاب الشــيخ عبــد القــادر الجيالن ــي‪،‬‬ ‫وكان قــد اجتمــع بــه فــي بغــداد فــي جملــة مــن جمعهــم الشــيخ الجيالن ــي‬ ‫ّ‬ ‫للتباحــث والتشــاور فــي أمــر إصــاح املجتمــع وبـ ِـث روح الســنة‬ ‫فــي نفــوس النــاس(‪ ،)37‬فــكان الشــيخ عثمــان قــد أخــذ علــى عاتقــه‬ ‫إحيــاء النشــاط السن ــي فــي مصــر‪ - ،‬وكانــت مصــر يومئـ ٍـذ تحــت حكــم‬ ‫العبـيديي ــن ‪ -‬ولــم يكــن الشــيخ عثمــان أول السابقي ــن فــي هــذا املجــال‬ ‫َّ‬ ‫نظاميــة‬ ‫بــل قــد مهــد لــه ولغي ــره الفقيــه أبــو بكــر الطرطو�شــي اب ــن‬ ‫بغــداد‪ ،‬والــذي أوقــد شــعلة املذهــب السن ــي فــي مصــر أوائــل القــرن‬ ‫الســادس الهجــري والحــادي عشــر امليــادي‪ ،‬وجــاءت جهــود عثمــان‬ ‫ب ــن مــرزوق القر�شــي متممــة لجهــود ســابقيه فعقــد مجالــس الوعــظ‬ ‫والفقــه والتفسي ــر وكانــت مجالســه تزدحــم باملستمعي ــن وطــاب‬ ‫العلم‪ ،‬وراح يلقنهم معانـي التـربـية الروحية والسلوكية والفكرية‪...‬‬ ‫َّ‬ ‫حتــى اســتخلص لنفســه ثلــة مــن طالبــه أعتمــد عليهــم فــي نشــر أصــول‬ ‫الســنة والوعــي الديـن ــي‪ ،‬ومنهــم اب ــن القسطالن ــي وأبــو الطاهــر واب ــن‬ ‫الصابون ــي وأبو عبد هللا القرطب ــي‪ ،‬كما كان الب ــن مرزوق دو ٌر كبـي ـ ٌـر‬ ‫فــي تثب ــيت حكــم نــور الدي ــن زنكــي فــي مصــر مــن خــال حشــد التأييــد‬

‫وهــي مدرســة الفقيــه الواعــظ زي ــن الدي ــن علــي ب ــن إب ـراهيم ب ــن‬ ‫نجــا ب ــن الغنائــم الدمشــقي الفقيــه الحنبلــي‪ ،‬ولــد فــي دمشــق عــام‬ ‫‪508‬ه ـ وتعلــم علــى خالــه عبــد الوهــاب اب ــن الشــيخ أب ــي الفــرج‬ ‫عبــد الواحــد ب ــن محمــد الحنبلــي‪ ،‬وعنــه أخــذ فقــه الحنابلــة‪،‬‬ ‫كمــا أخــذ فقــه املالكيــة عــن الشــيخ علــي ب ــن أحمــد ب ــن قب ــيس‬ ‫املالكــي‪.‬‬ ‫وعندمــا دخــل نــور الدي ــن زنكــي دمشــق اتصــل بعلمائهــا وكان‬ ‫منهــم الشــيخ اب ــن نجــا الــذي اختــاره نــور الدي ــن ليكــون سفي ــره‬ ‫لــدى الخليفــة العبا�ســي فــي بغــداد عــام ‪564‬هــ‪1168/‬م‪ ،‬وكان‬ ‫لــه دور كبـي ــر فــي ب ــناء العالقــات الدبلوماســية بـي ــن الخالفــة‬ ‫العباســية والدولــة الزنكيــة‪.‬‬ ‫وفــي بغــداد اجتمــع اب ــن نجــا بالشــيخ الجيالن ــي صاحــب املدرســة‬ ‫القادريــة واملرب ــي األول لرجــال الدولــة الزنكيــة‪ ،‬وطلــب الشــيخ‬ ‫الجيالن ــي مــن اب ــن نجــا أن يتوجــه إلــى مصــر ويقابــل الشــيخ‬ ‫عثمــان ب ــن مــرزوق القر�شــي ويعمــل معــه لتهيئــة األجــواء لقــدوم‬ ‫جيــش نــور الدي ــن زنكــي‪ ،‬وهــذا مــا حــدث بالفعــل فقــد التقــى اب ــن‬ ‫نجــا بالشــيخ عثمــان وبــدأ معــه التخطيــط الدقيــق لهــذه املهمــة‬ ‫إال أن أيامــه مــع اب ــن مــرزوق لــم تكــن طويلــة حيــث وافــت املن ــية‬ ‫اب ــن مــرزوق القر�شــي ولــم يقــدر لــه أن يشــاهد أركان الدولــة‬ ‫الفاطميــة وهــي تتهــاوى علــى أيــدي صــاح الدي ــن األيوب ــي ورجالــه‬ ‫كمــا شــاهدها اب ــن نجــا‪...‬‬ ‫لــم تنتـ ِـه مهمــة الشــيخ اب ــن نجــا بتهيئــة األجــواء لقــدوم الفاتحي ــن‬ ‫بــل كان لــه الــدور األكب ــر واألهــم بعــد ســقوط الفاطميي ــن عــام‬ ‫‪567‬هــ‪1171/‬م ليبــدأ مرحلــة التأســيس السيا�ســي لإلســام‬

‫‪ )3‬املدرسة القرشية‪:‬‬

‫(‪ )37‬الصالبـي‪ :‬القائد املجاهد نور الديـن محمود‪ ،‬ص‪.396‬‬ ‫(‪ )38‬الصالبـي‪ :‬عصر الدولة الزنكية‪ ،‬ص‪.413‬‬

‫الشعب ــي لــه عنــد مجــيء أســد الدي ــن شي ــركوه(‪ ...)38‬لكــن لــم يقــدر‬ ‫لهــذا الشــيخ الفقيــه الواعــظ أن يشــهد ســقوط الدولــة العب ــيدية‬ ‫الت ــي أم�ضــى فــي أراضيهــا نصــف عمــره وهــو ي ــنافح عــن أصــول الســنة‬ ‫فــي وسـ ٍـط كانــت تخــرج منــه دعــوة التشــيع ودعاتــه‪ ...‬وقــد توفــي اب ــن‬ ‫شاغرا بل ّ‬ ‫ً‬ ‫أعد ملدرسة اإلصالح‬ ‫مرزوق عام‪564‬هـ ولم يتـرك مكانه‬ ‫السن ــي أســاتذة يقودونهــا‪ ،‬ولتبقــى مســتمرة علــى يــد تلميــذه الفقيــه‬ ‫الواعــظ زي ــن الدي ــن علــي ب ــن نجــا‪.‬‬

‫‪35‬‬


‫اإلمام الجيالنـي‬ ‫السن ــي املتمثــل بالدولــة الزنكيــة ثــم األيوب ــية بعدهــا‪ ،‬واســتطاع‬ ‫أن يكتشــف محاوالت فلول العبـيديي ــن لالنقالب على صالح الدي ــن‬ ‫وإعادة السلطة العب ــيدية‪ ،‬ومن ذلك كشفه مؤامرة عمارة اليمان ــي‬ ‫ّ‬ ‫عــام ‪569‬هــ‪1173/‬م حي ــن كان يخطــط مــع بعــض أصحابــه لقتــل‬ ‫صالح الدي ــن والقبض على مساعديه‪ ...‬وفي أثناء التحضي ــر ملعركة‬ ‫حطي ــن كان الب ــن نجــا دور هــام فــي التوجيــه املعنــوي للجيــش وشــحذ‬ ‫الهمــم ورفــع معنويــات الجنــود حتــى فتحــت القــدس وبلــغ اب ــن نجــا‬ ‫مقــام الشــرف األعظــم ملــا كان خطيــب أول جمعــة تقــام فــي املســجد‬ ‫األق�صــى بعــد تحري ــره مــن الصليبـيي ــن‪ ،‬ثــم عــاد إلــى مصــر ليثبــت‬ ‫دعائــم املذهــب السن ــي حتــى توفــاه هللا عــام ‪599‬هــ‪1202/‬م‪.‬‬

‫‪ )5‬مدرسة أبـي السعود الحريمي‪:‬‬ ‫تتلمــذ مؤسســها علــى الشــيخ عبــد القــادر الجيالن ــي والزمــه فــي‬ ‫املدرســة القادريــة حتــى ُعــد مــن أق ـران الشــيخ الجيالن ــي فــي الزهــد‬ ‫والتصــوف‪ ،‬وصــارت إليــه املشــورة بعــد وفــاة الجيالن ــي‪ ،‬فكتــب ُ‬ ‫هللا‬ ‫ً‬ ‫لــه القبــول عنــد الخاصــة والعامــة‪ ،‬وكان ب ــيته مــاذا للفق ـراء(‪،)39‬‬ ‫وقــد أنشــأ مدرســته علــى غـرار املدرســة القادريــة حتــى صــارت ً‬ ‫فرعــا‬ ‫منهــا فــي منهجهــا التعليمــي والت ــربوي‪ ،‬وظــل الشــيخ أبــو الســعود‬ ‫علــى هــذا املنهــج حتــى وفاتــه عــام ‪582‬هــ‪1186/‬م(‪.)40‬‬

‫‪ )6‬مدرسة عمربـن مسعود البزاز‪:‬‬ ‫كان مؤسســها مــن املقربـي ــن عنــد الشــيخ عبــد القــادر والزمــه فــي‬ ‫مجالســه حتــى عــا شــأنه وأقبــل النــاس عليــه‪ ،‬وقــد أنشــأ مدرســة‬ ‫علــى نهــج املدرســة القادريــة الت ــي تخــرج منهــا‪ ،‬وكان لــه تأثي ــر‬ ‫كبـي ــر فــي حيــاة النــاس وتــاب علــى يــده خلــق كثي ــر‪.‬‬

‫‪ )7‬املدرسة الجبائية‪:‬‬ ‫أنشــأها عبــد هللا الجبائــي‪ ،‬وعبــد هللا هــذا أصلــه مــن جبــل لب ــنان‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫وكان نصران ـ ًـيا أ ِســر ونقــل إلــى دمشــق‪ ،‬وفيهــا اعتنــق اإلســام‬ ‫فاشت ـراه علــي ب ــن إب ـراهيم ب ــن نجــا وأرســله إلــى الشــيخ عبدالقــادر‬ ‫الجيالن ــي ـكـي يالزمــه فــي مجالســه‪ ،‬وصــار عبــد هللا مــن املقربـي ــن مــن‬ ‫الشــيخ الجيالن ــي‪ ،‬وكانــت مالزمتــه للشــيخ أكث ــر مــن عشري ــن ً‬ ‫عامــا‪،‬‬ ‫َ​َ‬ ‫وبعــد وفــاة الجيالن ــي ارتحــل إلــى أصبهــان ليــد ّرس ويفت ــي فيهــا‪ ،‬وأنشــأ‬

‫اإلمام الجيالنـي‬

‫العدد ‪ 2‬رجب ‪1439‬هـ‬

‫العدد ‪ 2‬رجب ‪1439‬هـ‬

‫فيهــا مدرســة شب ــيهة باملدرســة القادريــة الت ــي تتلمــذ فيهــا منــذ عــام‬ ‫‪540‬هــ‪1145/‬م وظــل يــدرس فيهــا حتــى وفاتــه عــام ‪605‬هــ‪1208/‬م‪.‬‬ ‫‪ )8‬مدرســة ماجــد الكــردي أو املاجديــة‪:‬‬ ‫أسســها أبــو محمــد ماجــد الكــردي فــي منطقتــه الت ــي ولــد فيهــا وهــي‬ ‫قوســان مــن الع ـراق‪ ،‬وكان الشــيخ ماجـ ُـد هــذا مــن الذي ــن تواصلــوا‬ ‫مع الشــيخ الجيالن ــي‪ ،‬وكانت بـي ــنهما عالقة حميمة‪ ،‬وقد تب ــنى ماجد‬ ‫نهــج الشــيخ الجيالن ــي‪ ،‬وكانــت مدرســته علــى هــذا النحــو حتــى وفاتــه‬ ‫عام‪562‬هــ‪1166/‬م‪ ،‬وهــو يتصــدر للتدريــس فيهــا(‪.)41‬‬

‫رســم للشــيخ عبد القادر الجيالن ــي‬ ‫كمــا ورد فــي مخطوطــة قديمــة فــي‬ ‫متحــف إســطنبول ‪ -‬ت ــركيا‬

‫‪ )9‬املدرسة َّ‬ ‫الحران ّـية‪:‬‬

‫أنشــأ هــذه املدرســة حيــاة ب ــن قيــس الحران ــي صاحــب الكرامــات‬ ‫واألحــوال حتــى إن امللــوك والسالطي ــن كانــوا يزورونــه تب ـ ّـر ًكا بــه ً‬ ‫وطلبــا‬ ‫للدعاء منه‪ ،‬حيث كان الســلطان نور الدي ــن زنكي يزوره باســتمرار‪،‬‬ ‫وكان الشــيخ يحثــه علــى الجهــاد ضــد الصليبـيي ــن‪ ،‬كذلــك فعــل مــع‬ ‫السلطان صالح الديـن األيوبـي(‪ ،)42‬وعلى يده تتلمذ جمع غفيـر من‬ ‫طلبة العلم وكث ــر إقبال الناس عليه وكان ذلك ً‬ ‫سببا في نشر العلم‬ ‫ونهــج التصــوف والزهــد‪ ،‬وتحريــض النــاس علــى الجهــاد فــي سب ــيل هللا‬ ‫مــع السلطانـي ــن نــور الدي ــن وصــاح الدي ــن‪ ،‬ولــم يقــدر لــه أن يشــهد‬ ‫فرحــة النصــر فــي حطي ــن‪ ،‬فقــد وافتــه املن ــية عــام ‪581‬هــ‪1185/‬م‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫أنشــئت كذلــك العديــد مــن املــدارس األخــرى علــى يــد تالميــذ الشــيخ‬ ‫الجيالن ــي ومريديــه(‪ ...)43‬وقــد أســهمت هــذه املــدارس فــي رفــد مشــروع‬ ‫النهضــة الــذي بــدأ علــى أيــدي العلمــاء أمثــال نظــام امللــك والغزالــي‬ ‫والجيالن ــي‪ ،‬وأكملــه السالطي ــن الصالحــون أمثــال نــور الدي ــن زنكــي‬ ‫وصــاح الدي ــن األيوب ــي‪ ...‬ذلــك املشــروع العظيــم الــذي ُعن ــي بإعــداد‬ ‫جيــل اإلصــاح السن ــي ملقاومــة كل مــن الجبهــة الباطن ــية والزحــف‬ ‫الصليب ــي وإحــداث نقلــة نوعيــة فــي املجتمــع اإلســامي والحفــاظ‬ ‫علــى الكيــان السن ــي فــي مشــرق العالــم اإلســامي ومغربــه‪...‬‬ ‫جزاهــم هللا عــن أمــة اإلســام كل خي ــر‪...‬‬

‫(‪ )39‬الذهبـي‪ :‬تاريخ اإلسالم‪ ،‬ج‪ ،12‬ص‪ )40( - .745‬ماجد عرسان‪ :‬هكذا ظهر جيل صالح الديـن‪ ،‬ص‪237‬‬ ‫(‪ )41‬ابـن املستوفي‪ :‬تاريخ أربـيل‪ ،‬تحقيق سامي السيد خماس‪ ،‬دار الرشيد‪ ،‬العراق‪1980 ،‬م‪ ،‬ج‪ ،2‬ص‪- 454‬‬ ‫(‪ )42‬ابـن امللقن‪ :‬طبقات األولياء‪ ،‬تحقيق نور الديـن شريبه‪ ،‬مكتبة الخانجي‪ ،‬ط‪2،1994‬م‪ ،‬ص‪430‬‬ ‫(‪ )43‬من هذه املدارس‪ :‬مدرسة الشيخ رسالن الجعبـري‪ ،‬ومدرسة عقيل املنـيحي‪ ،‬ومدرسة الشيخ علي بـن الهيتـي‪ ،‬ومدرسة الحسن بـن مسلم‪ ،‬ومدرسة الجوسقي‪ ،‬ومدرسة الشيخ عبد الرحمن الطفسونجي‪،‬‬ ‫ومدرسة مولى الزولي‪ ،‬ومدرسة محمد بـن عبد البصري‪ ،‬ومدرسة القيلوي‪ ،‬ومدرسة علي بـن وهب الربـيعي‪ ،‬ومدرسة الشيخ بقا بـن بطو‪ .‬انظر كتاب‪ :‬هكذا ظهر جيل صالح الديـن‪ ،‬ص‪.238 -224‬‬

‫املدرسة القادرية وإلى جانبها ضريح اإلمام عبد القادر الجيالنـي في مديـنة بغداد ‪ -‬الصورة عام ‪1914‬م‬

‫‪36‬‬

‫‪37‬‬


‫اإلمام الجيالنـي‬ ‫السن ــي املتمثــل بالدولــة الزنكيــة ثــم األيوب ــية بعدهــا‪ ،‬واســتطاع‬ ‫أن يكتشــف محاوالت فلول العبـيديي ــن لالنقالب على صالح الدي ــن‬ ‫وإعادة السلطة العب ــيدية‪ ،‬ومن ذلك كشفه مؤامرة عمارة اليمان ــي‬ ‫ّ‬ ‫عــام ‪569‬هــ‪1173/‬م حي ــن كان يخطــط مــع بعــض أصحابــه لقتــل‬ ‫صالح الدي ــن والقبض على مساعديه‪ ...‬وفي أثناء التحضي ــر ملعركة‬ ‫حطي ــن كان الب ــن نجــا دور هــام فــي التوجيــه املعنــوي للجيــش وشــحذ‬ ‫الهمــم ورفــع معنويــات الجنــود حتــى فتحــت القــدس وبلــغ اب ــن نجــا‬ ‫مقــام الشــرف األعظــم ملــا كان خطيــب أول جمعــة تقــام فــي املســجد‬ ‫األق�صــى بعــد تحري ــره مــن الصليبـيي ــن‪ ،‬ثــم عــاد إلــى مصــر ليثبــت‬ ‫دعائــم املذهــب السن ــي حتــى توفــاه هللا عــام ‪599‬هــ‪1202/‬م‪.‬‬

‫‪ )5‬مدرسة أبـي السعود الحريمي‪:‬‬ ‫تتلمــذ مؤسســها علــى الشــيخ عبــد القــادر الجيالن ــي والزمــه فــي‬ ‫املدرســة القادريــة حتــى ُعــد مــن أق ـران الشــيخ الجيالن ــي فــي الزهــد‬ ‫والتصــوف‪ ،‬وصــارت إليــه املشــورة بعــد وفــاة الجيالن ــي‪ ،‬فكتــب ُ‬ ‫هللا‬ ‫ً‬ ‫لــه القبــول عنــد الخاصــة والعامــة‪ ،‬وكان ب ــيته مــاذا للفق ـراء(‪،)39‬‬ ‫وقــد أنشــأ مدرســته علــى غـرار املدرســة القادريــة حتــى صــارت ً‬ ‫فرعــا‬ ‫منهــا فــي منهجهــا التعليمــي والت ــربوي‪ ،‬وظــل الشــيخ أبــو الســعود‬ ‫علــى هــذا املنهــج حتــى وفاتــه عــام ‪582‬هــ‪1186/‬م(‪.)40‬‬

‫‪ )6‬مدرسة عمربـن مسعود البزاز‪:‬‬ ‫كان مؤسســها مــن املقربـي ــن عنــد الشــيخ عبــد القــادر والزمــه فــي‬ ‫مجالســه حتــى عــا شــأنه وأقبــل النــاس عليــه‪ ،‬وقــد أنشــأ مدرســة‬ ‫علــى نهــج املدرســة القادريــة الت ــي تخــرج منهــا‪ ،‬وكان لــه تأثي ــر‬ ‫كبـي ــر فــي حيــاة النــاس وتــاب علــى يــده خلــق كثي ــر‪.‬‬

‫‪ )7‬املدرسة الجبائية‪:‬‬ ‫أنشــأها عبــد هللا الجبائــي‪ ،‬وعبــد هللا هــذا أصلــه مــن جبــل لب ــنان‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫وكان نصران ـ ًـيا أ ِســر ونقــل إلــى دمشــق‪ ،‬وفيهــا اعتنــق اإلســام‬ ‫فاشت ـراه علــي ب ــن إب ـراهيم ب ــن نجــا وأرســله إلــى الشــيخ عبدالقــادر‬ ‫الجيالن ــي ـكـي يالزمــه فــي مجالســه‪ ،‬وصــار عبــد هللا مــن املقربـي ــن مــن‬ ‫الشــيخ الجيالن ــي‪ ،‬وكانــت مالزمتــه للشــيخ أكث ــر مــن عشري ــن ً‬ ‫عامــا‪،‬‬ ‫َ​َ‬ ‫وبعــد وفــاة الجيالن ــي ارتحــل إلــى أصبهــان ليــد ّرس ويفت ــي فيهــا‪ ،‬وأنشــأ‬

‫اإلمام الجيالنـي‬

‫العدد ‪ 2‬رجب ‪1439‬هـ‬

‫العدد ‪ 2‬رجب ‪1439‬هـ‬

‫فيهــا مدرســة شب ــيهة باملدرســة القادريــة الت ــي تتلمــذ فيهــا منــذ عــام‬ ‫‪540‬هــ‪1145/‬م وظــل يــدرس فيهــا حتــى وفاتــه عــام ‪605‬هــ‪1208/‬م‪.‬‬ ‫‪ )8‬مدرســة ماجــد الكــردي أو املاجديــة‪:‬‬ ‫أسســها أبــو محمــد ماجــد الكــردي فــي منطقتــه الت ــي ولــد فيهــا وهــي‬ ‫قوســان مــن الع ـراق‪ ،‬وكان الشــيخ ماجـ ُـد هــذا مــن الذي ــن تواصلــوا‬ ‫مع الشــيخ الجيالن ــي‪ ،‬وكانت بـي ــنهما عالقة حميمة‪ ،‬وقد تب ــنى ماجد‬ ‫نهــج الشــيخ الجيالن ــي‪ ،‬وكانــت مدرســته علــى هــذا النحــو حتــى وفاتــه‬ ‫عام‪562‬هــ‪1166/‬م‪ ،‬وهــو يتصــدر للتدريــس فيهــا(‪.)41‬‬

‫رســم للشــيخ عبد القادر الجيالن ــي‬ ‫كمــا ورد فــي مخطوطــة قديمــة فــي‬ ‫متحــف إســطنبول ‪ -‬ت ــركيا‬

‫‪ )9‬املدرسة َّ‬ ‫الحران ّـية‪:‬‬

‫أنشــأ هــذه املدرســة حيــاة ب ــن قيــس الحران ــي صاحــب الكرامــات‬ ‫واألحــوال حتــى إن امللــوك والسالطي ــن كانــوا يزورونــه تب ـ ّـر ًكا بــه ً‬ ‫وطلبــا‬ ‫للدعاء منه‪ ،‬حيث كان الســلطان نور الدي ــن زنكي يزوره باســتمرار‪،‬‬ ‫وكان الشــيخ يحثــه علــى الجهــاد ضــد الصليبـيي ــن‪ ،‬كذلــك فعــل مــع‬ ‫السلطان صالح الديـن األيوبـي(‪ ،)42‬وعلى يده تتلمذ جمع غفيـر من‬ ‫طلبة العلم وكث ــر إقبال الناس عليه وكان ذلك ً‬ ‫سببا في نشر العلم‬ ‫ونهــج التصــوف والزهــد‪ ،‬وتحريــض النــاس علــى الجهــاد فــي سب ــيل هللا‬ ‫مــع السلطانـي ــن نــور الدي ــن وصــاح الدي ــن‪ ،‬ولــم يقــدر لــه أن يشــهد‬ ‫فرحــة النصــر فــي حطي ــن‪ ،‬فقــد وافتــه املن ــية عــام ‪581‬هــ‪1185/‬م‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫أنشــئت كذلــك العديــد مــن املــدارس األخــرى علــى يــد تالميــذ الشــيخ‬ ‫الجيالن ــي ومريديــه(‪ ...)43‬وقــد أســهمت هــذه املــدارس فــي رفــد مشــروع‬ ‫النهضــة الــذي بــدأ علــى أيــدي العلمــاء أمثــال نظــام امللــك والغزالــي‬ ‫والجيالن ــي‪ ،‬وأكملــه السالطي ــن الصالحــون أمثــال نــور الدي ــن زنكــي‬ ‫وصــاح الدي ــن األيوب ــي‪ ...‬ذلــك املشــروع العظيــم الــذي ُعن ــي بإعــداد‬ ‫جيــل اإلصــاح السن ــي ملقاومــة كل مــن الجبهــة الباطن ــية والزحــف‬ ‫الصليب ــي وإحــداث نقلــة نوعيــة فــي املجتمــع اإلســامي والحفــاظ‬ ‫علــى الكيــان السن ــي فــي مشــرق العالــم اإلســامي ومغربــه‪...‬‬ ‫جزاهــم هللا عــن أمــة اإلســام كل خي ــر‪...‬‬

‫(‪ )39‬الذهبـي‪ :‬تاريخ اإلسالم‪ ،‬ج‪ ،12‬ص‪ )40( - .745‬ماجد عرسان‪ :‬هكذا ظهر جيل صالح الديـن‪ ،‬ص‪237‬‬ ‫(‪ )41‬ابـن املستوفي‪ :‬تاريخ أربـيل‪ ،‬تحقيق سامي السيد خماس‪ ،‬دار الرشيد‪ ،‬العراق‪1980 ،‬م‪ ،‬ج‪ ،2‬ص‪- 454‬‬ ‫(‪ )42‬ابـن امللقن‪ :‬طبقات األولياء‪ ،‬تحقيق نور الديـن شريبه‪ ،‬مكتبة الخانجي‪ ،‬ط‪2،1994‬م‪ ،‬ص‪430‬‬ ‫(‪ )43‬من هذه املدارس‪ :‬مدرسة الشيخ رسالن الجعبـري‪ ،‬ومدرسة عقيل املنـيحي‪ ،‬ومدرسة الشيخ علي بـن الهيتـي‪ ،‬ومدرسة الحسن بـن مسلم‪ ،‬ومدرسة الجوسقي‪ ،‬ومدرسة الشيخ عبد الرحمن الطفسونجي‪،‬‬ ‫ومدرسة مولى الزولي‪ ،‬ومدرسة محمد بـن عبد البصري‪ ،‬ومدرسة القيلوي‪ ،‬ومدرسة علي بـن وهب الربـيعي‪ ،‬ومدرسة الشيخ بقا بـن بطو‪ .‬انظر كتاب‪ :‬هكذا ظهر جيل صالح الديـن‪ ،‬ص‪.238 -224‬‬

‫املدرسة القادرية وإلى جانبها ضريح اإلمام عبد القادر الجيالنـي في مديـنة بغداد ‪ -‬الصورة عام ‪1914‬م‬

‫‪36‬‬

‫‪37‬‬


‫أثـر مناهج األصولييـن‬

‫أثـر مناهج األصولييـن‬

‫العدد ‪ 2‬رجب ‪1439‬هـ‬

‫لرســالة معمقــة‪ ،‬ومــن هنــا ســأقتصر علــى بعضهــا لب ــيان أهميتهــا فــي‬ ‫ضبط مسيـرة االجتهاد وحفظه من الزيغ أو االنحراف‪ ،‬وقد اختـرت‬ ‫الحديــث عــن َ‬ ‫مبح َثــي حمــل العــام علــى الخــاص واملطلــق علــى املُ ّ‬ ‫قيــد‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫واملنهــج فــي هــذا أننــا ســنأخذ بعــض النصــوص ونب ِّـيي ــن كيــف تفهــم‬ ‫ُ‬ ‫منفصلــة وكيــف تفهــم مضمومــة إلــى النصــوص األخــرى‪.‬‬

‫أثـر مناهج األصول ّييـن‬ ‫يف االعتدال الفكري‬

‫وستكون الدراسة ضمن مبحثيـن‪:‬‬ ‫األول‪ :‬االعتدال الفكري ومعياره‪.‬‬ ‫ُّ‬ ‫الثانـي‪ :‬حمل النصوص على بعضها‪.‬‬

‫الدكتور حسن الخطاف‬

‫أستاذ مشارك باختصاص العقيدة اإلسالمية‪ ،‬مدرس يف جامعة آرتقلو مارديـن‬

‫ ‬

‫مقدمة‬

‫الحمد هلل رب العامليـن وأفضل الصالة وأتم التسليم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعيـن‪ ،‬وبعد‪:‬‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫فإن هللا تعالى شــاءت قدرته أن ال يبقى هذا اإلنســان ‪ -‬الذي هو أكرم مخلوق ‪ -‬أسي ــرالتفكي ــراإلنسان ــي‪ ،‬فأراد هللا تعالى أن‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫يمـ َّـن عليــه فأرســل رســله وأنــزل كتبــه هدايــة لــه وصونــا مــن التقلبــات الفكريــة الت ــي يجنــح إليهــا انطالقــا مــن فكــره وخيالــه‪...‬‬ ‫ونظــرة واحــدة فــي العصــرالــذي بعــث فيــه رســول هللا صلــى هللا عليــه وســلم كافيـ ٌـة ل َ‬ ‫تطلعنــا علــى هــذه التقلبــات علــى مســتوى‬ ‫َ ْ َ َّ ُ َ َ ْ ُ ْ َ ْ َ َ ِ َ ْ َ ُ ً ْ َ ْ ُ ْ َ ْ ُ َ َ ْ ْ َ‬ ‫َ‬ ‫الفكروالسلوك‪ ،‬وصدق هللا العظيم إذ يقول‪ (( :‬قد من هللا على الؤ ِم ِنيـن ِإذ بعث ِف ِيهم رسول ِمن أنف ِس ِهم يتلوعلي ِهم آيا ِت ِه‬ ‫َ​َ‬ ‫َ َ‬ ‫َُ َّ ْ َُ َّ ُ ُ ُ ْ َ َ ْ ْ َ ْ َ ُ‬ ‫ويز ِك ِيهــم ويع ِلمهــم ال ِكتـ‬ ‫ـاب َوال ِحك َمــة َوِإن كانــوا ِمـ ْـن ق ْبـ ُـل ل ِفــي ضــا ٍل ُم ِبي ـ ٍـن)) [آل عمــران‪ :‬اآليــة‪]164‬‬

‫أهمية البحث وإطاره ومنهجه ‪:‬‬ ‫تأت ــي أهميــة البحــث فــي إب ـراز أهميــة الشــريعة ودورهــا فــي شـ َّـتى‬ ‫مجــاالت الحيــاة‪ ،‬ومــن أب ــرز مجــاالت حيــاة اإلنســان الجانــب‬ ‫الفكــري‪ ،‬ذلــك ألن الفكــر هــو املحـ ّ ِـرك األسا�ســي للســلوك‪،‬‬ ‫فاســتقامة الســلوك راجعــة إلــى اســتقامة الفكــر واعوجــاج‬ ‫الســلوك راجــع إلــى اعوجــاج الفكــر ‪.‬‬ ‫ُّ‬ ‫والتخبــط الــذي يلحظــه املــرء فــي بعــض الفتــاوى الفقهيــة‪ ،‬أو‬ ‫فــي بعــض املذاهــب الفكريــة العقديــة الت ــي َّأرخ لهــا املهتمــون فــي‬ ‫ســياق امللــل والنحــل كالخــوارج واملعتزلــة راجـ ٌـع إلــى عــدم تحكيــم‬ ‫ّ‬ ‫األصوليــون فــي فهــم النصــوص الشــرعية‪.‬‬ ‫املوازي ــن الت ــي وضعهــا‬ ‫ّ‬ ‫بالذكــر َّأن غــاة الخــوارج ومــن علــى خطاهــم مــن‬ ‫ومــن الجدي ــر ِ‬ ‫غــاة العصــر‪ -‬والســيما املنتمي ــن لداعــش وأشــباهها‪ -‬يجهلــون‬ ‫ُج َّل العلوم الشرعية وعلى رأسها أصول الفقه‪ ،‬فضياع أصول‬ ‫الفقــه هــو تضييــع للشــريعة الت ــي َّ‬ ‫تكفــل هللا تعالــى بحفظهــا‪.‬‬ ‫كما َّأن حفظ الشريعة يقوم ً‬ ‫أساسا على أصول الفقه باعتباره‬

‫آلــة فــي فهــم النصــوص الشــرعية وربطهــا مــع بعضهــا‪ ،‬وهــدم أصــول‬ ‫الفقــه هــو هــدم للشـريعة‪ ،‬يقــول القرافــي رحمــه هللا‪( :‬ومــا علمــوا أنــه لــوال‬ ‫أصول الفقه لم يثبت من الشريعة قليل وال كثيـر‪ ،‬فإن كل حكم شرعي‬ ‫ال ُبـ َّـد لــه مــن ســبب موضــوع ودليــل يــدل عليــه وعلــى ســببه‪ ،‬فــإذا ألغي ــنا‬ ‫أصــول الفقــه ألغي ــنا األدلــة‪ ،‬فــا يبقــى لنــا حكــم وال ســبب‪ ،‬فــإن إثبـ َ‬ ‫ـات‬ ‫ُ‬ ‫وقواعدهــا بمجــرد الهــوى خــاف اإلجمــاع‪ ،‬ولعلهــم ال‬ ‫الشــرع بغي ــر أدلتــه‬ ‫ِ‬ ‫يعبــؤون باإلجمــاع‪ ،‬فإنــه مــن جملــة أصــول الفقــه‪ ،‬أو مــا علمــوا أنــه أول‬ ‫مراتــب املجتهدي ــن‪ ،‬فلــو عدمــه مجتهــد لــم يكــن مجتهـ ًـدا ً‬ ‫قطعــا‪ ،‬غايــة مــا فــي‬ ‫الباب أن الصحابة والتابعيـن ر�ضي هللا عنهم لم يكونوا يتخاطبون بهذه‬ ‫االصطالحات‪ ،‬أما املعانـي فكانت عندهم قطعا‪ ،‬ومن مناقب الشافعي ‪-‬‬ ‫ر�ضــي هللا عنــه ‪ -‬أنــه أول مــن صنــف فــي أصــول الفقــه)(‪.)1‬‬ ‫فالبحــث يأت ــي مب ـ ّـينا ّ‬ ‫أهميــة هــذا املنهــج فــي ضبــط الفهــم الصحيــح‬ ‫ّ‬ ‫للنصــوص الشــرعية املتمثلــة بكتــاب هللا تعالــى وســنة رســوله‪ ،‬وهــذا‬ ‫ّ‬ ‫األصوليي ــن‪.‬‬ ‫يعن ــي َّأن إطــار البحــث ال يخــرج عــن مناهــج‬ ‫والحقيقــة أن الوقــوف علــى كل مباحــث األصوليي ــن ومكانتهــا يحتــاج‬

‫(‪ )1‬نفائس األصول في شرح املحصول‪ ،‬شهاب الديـن أحمد بـن إدريس القرافي‪ ،‬تح‪ :‬عادل أحمد عبد املوجود‪ ،‬علي محمد معوض‪،‬‬ ‫الناشر‪ :‬مكتبة نزار مصطفى الباز‪ ،‬الطبعة‪ :‬األولى‪1416 ،‬هـ ‪1995 -‬م‪( ،‬ص‪.)100 /1‬‬

‫‪38‬‬

‫املبحث األول‬ ‫االعتدال الفكري ومعياره‬

‫االعتــدال موجــود فــي الشــريعة اإلســامية‪ ،‬واألدلــة علــى هــذا كثي ــرة‬ ‫مــن أب ــرزها ‪:‬‬ ‫‪ )1‬أن التكليف في الشريعة في حدود االستطاعة اإلنسانـية‪:‬‬ ‫عندمــا ننظــر فــي مفــردات التكليــف فــي الشــريعة اإلســامية نجدهــا‬ ‫فــي حــدود اســتطاعة اإلنســان ومقدرتــه‪ ،‬وهــذا يــدل علــى ســماحة‬ ‫الشــريعة وبعدها عن إرهاق اإلنســان‪ُّ ،‬‬ ‫فكل ما طلب الشــارع فعله أو‬ ‫ً‬ ‫صريحا في قوله‬ ‫ت ــركه جاء ضمن االســتطاعة البشــرية‪ ،‬وهذا ما جاء‬ ‫((صـ ّـل َقائ ًمــا َفــإ ْن َلـ ْـم َت ْسـ َـتط ْع َف َقاعـ ًـدا َفــإنْ‬ ‫صلــى هللا عليــه وســلم‪َ :‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َلـ ْـم َت ْسـ َـتط ْع َف َع َلــى َج ْنــب))(‪ )2‬وفــي قولــه تعالــى‪َ (( :‬و َّ َ َ َّ‬ ‫ـاس ِحـ ُّـج‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ٍ‬ ‫ل علــى النـ ِ‬ ‫َْْ َ ْ َ َ َ َْ َ ً‬ ‫البيـ ِـت مـ ِـن اســتطاع ِإليـ ِـه سـ ِـبيل)) [آل عمـران‪ :‬اآليــة ‪ ]97‬هــذا التــدرج‬ ‫فــي التخفيــف تابــع لحالــة اإلنســان‪ ،‬ولــو بحثنــا فــي كل النصــوص‬ ‫الدالــة علــى ذلــك لكتب ــنا الكثي ــر فحسـ ُـبنا مــا ذكرنــا‪.‬‬ ‫‪ )2‬مبدأ اليسرورفع الحرج في الشريعة ‪:‬‬ ‫اليســر فــي الشــريعة ورفــع الحــرج مبــدأ مــن مبادئهــا ومقصــد مــن‬ ‫مقاصدها‪ ،‬فاملشقة التـي تثقل كاهل اإلنسان ويعجز عن القيام بها‬ ‫ليســت مــن الشــرع‪ ،‬قــال هللا تعالــى‪َ (( :‬و َمــا َج َعـ َـل َع َل ْي ُكـ ْـم فــي ّ‬ ‫الدي ـ ِـن ِمـ ْـن‬ ‫ِ ِ‬ ‫َّ َ َ ُ‬ ‫َحـ َـر ٍج ِملــة أ ِبيكـ ْـم ِإ ْب َر ِاهيـ َـم)) [ســورة الحــج‪ :‬اآليــة ‪ ،]78‬والواضــح مــن‬

‫العدد ‪ 2‬رجب ‪1439‬هـ‬

‫اآليــة ((م َّلـ َـة َأب ُيكـ ْـم إ ْب َراهيـ َـم)) َّأن رفــع الحــرج ليــس ًّ‬ ‫خاصــا بالشــريعة‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫اإلســامية‪ ،‬بــل هــو ســمة مــن ســمات رســاالت األنب ــياء‪ ...‬وقــد جــاءت‬ ‫أحاديــث كثي ــرة عــن رســول هللا صلــى هللا عليــه وســلم تؤكــد مبــدأ‬ ‫اليســر فــي الشــريعة وأن الدي ــن مبـن ــي علــى اليســر‪ ،‬وأن األخــذ بالعســر‬ ‫َ‬ ‫((إ َّن‬ ‫ال يتفــق ويسـ َـر الدي ــن‪ ،‬مــن ذلـ َـك قو َّلــه َصلــى هللا عليــه وســلم‪ِ :‬‬ ‫َ‬ ‫الدي ـ َـن ُي ْسـ ٌـر َولـ ْـن ُي َشـ َّـاد ّ‬ ‫ّ‬ ‫الدي ـ َـن أ َحـ ٌـد ِإل غل َبـ ُـه))(‪.)3‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫‪ )3‬معياراالعتدال الفكري وعدمه‪:‬‬ ‫املرجعيــة الت ــي ســنحتكم إليهــا فــي قضيــة االعتــدال الفكــري هــي‬ ‫ُ‬ ‫النصـ ُ‬ ‫ـوص الشــرعية وفــق مناهــج األصوليي ــن الت ــي تمثــل جمهــور‬ ‫علمــاء املسلمي ــن‪ ،‬فبقــدر مــا يكــون الفهــم متفقــا مــع مناهــج جمهــور‬ ‫األصوليي ــن يكــون االعتــدال موجـ ً‬ ‫ـودا والعكــس صحيــح‪ ،‬ومـ َّ‬ ‫ـؤدى هــذا‬ ‫ً‬ ‫َّأن الدعوة إلى عدم العمل بالنصوص الشرعية أصل هو ِق ِّمة الغلو‬ ‫الفكــري‪ ،‬أو العمــل بــه مــن غي ــر ضابــط لهــا هــو غلــو فكــري ً‬ ‫أيضــا‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫وكــذا األخــذ بالنصــوص العامــة مــن غي ــر البحــث عــن تخصيصهــا أو‬ ‫األخــذ بالنصــوص املطلقــة مــن غي ــر البحــث عــن تقييدهــا هــو غلــو‬ ‫كذلــك‪ ،‬وموطــن هــذا الغلــو أنــه تجـ ٌ‬ ‫ـاوز إلرادة الشــارع وفهـ ٌـم خــارج عنهــا‬ ‫وحكــم بمــا ال ي ــريده هللا تعالــى وال رســوله صلــى هللا عليــه وســلم(‪. )4‬‬ ‫َّ‬ ‫ومــن الواضــح َّأن الغلــو ال يعن ــي التزيــد بــل يعن ــي الت ــرك‪ ،‬مــع مالحظــة‬

‫أنــه ال ي ــنبغي ْأن ُيفهــم مــن هــذا البحــث بــأي حــال مــن األحــوال أن كل‬ ‫ـص مــن الكتــاب والســنة ي ــنبغي أن يكــون لــه نــص آخــر يخصصــه‬ ‫نـ ٍ‬ ‫ْ‬ ‫أو يقيــده فهــذا أمــر ال نقصــده‪ ،‬لكــن مــا نقصــده هــو أال ننطلــق فــي‬ ‫البحــث عــن حكــم هللا مــن نــص واحــد بمعــزل عــن النصــوص األخــرى‬ ‫الت ــي جــاءت ضمــن الوحــدة املوضوعيــة‪.‬‬ ‫كمــا ال ي ــنبغي ْأن يفهــم بحــال مــن األحــوال أننــا نســعى إلــى تمييــع‬ ‫نصــوص الشــرع عندمــا نتحــدث عــن قضيــة االعتــدال فــي الشــريعة‪،‬‬ ‫فمــا نقصــده باالعتــدال هنــا هــو األخــذ بالنصــوص املتكاملــة فــي‬ ‫الحكــم ولــو كان مــؤدى هــذه النصــوص ال ي ــروق للبعــض‪ ،‬أي أنــه مــن‬ ‫االعتــدال فــي حكــم الشــريعة أن تحكــم علــى الشــخص بأنــه كافــر إذا‬ ‫ّ‬ ‫تكفــر مســلما أو تحكــم‬ ‫توافــرت األدلــة القطعيــة علــى ذلــك‪ ،‬لكــن أن ِ‬ ‫علــى كافــر باإلســام فهــذا هــو الغلــو‪ ،‬ألنــه تجــاوز ملــا ي ــريده هللا تعالــى‪.‬‬

‫َ ُ َ َ ْ ُ ْ َ ً َ َّ َ‬ ‫صلــى َعلــى َج ْنـ ٍـب‪ ،‬رقــم‪ ،1117:‬وســلم وســننه وأيامــه‪ ،‬تــح‪ :‬محمــد زهي ــر ب ــن ناصــر الناصــر‪ ،‬الناشــر‪ :‬دار طــوق‬ ‫اعــدا‬ ‫(‪ )2‬محمــد ب ــن إســماعيل أبــو عبــدهللا البخــاري الجعفــي‪ ،‬صحيــح البخــاري‪ ،‬كتــاب الصــاة‪ ،‬بــاب ِإذا لــم ي ِطــق ق ِ‬ ‫النجاة‪،‬الطبعة‪ :‬األولى‪1422 ،‬هـن تعليق‪ :‬الدكتور‪:‬مصطفى ديب البغا‪.‬‬ ‫اب‪ّ :‬‬ ‫َ‬ ‫الدي ُـن ُي ْسر‪ٌ ،‬رقم‪. 39 :‬‬ ‫(‪ )3‬صحيح البخاري‪ ،‬كتاب اإليمان‪ ،‬ب ٌ ِ‬ ‫َ َ َْ ُ ُ‬ ‫َ زَ‬ ‫َّ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ًّ‬ ‫(‪ )4‬جاء في القاموس املحيط « غال في األم ِر غلوا ‪ :‬جاو حده» القاموس املحيط‪ ،‬مادة (غال)‬

‫‪39‬‬


‫أثـر مناهج األصولييـن‬

‫أثـر مناهج األصولييـن‬

‫العدد ‪ 2‬رجب ‪1439‬هـ‬

‫لرســالة معمقــة‪ ،‬ومــن هنــا ســأقتصر علــى بعضهــا لب ــيان أهميتهــا فــي‬ ‫ضبط مسيـرة االجتهاد وحفظه من الزيغ أو االنحراف‪ ،‬وقد اختـرت‬ ‫الحديــث عــن َ‬ ‫مبح َثــي حمــل العــام علــى الخــاص واملطلــق علــى املُ ّ‬ ‫قيــد‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫واملنهــج فــي هــذا أننــا ســنأخذ بعــض النصــوص ونب ِّـيي ــن كيــف تفهــم‬ ‫ُ‬ ‫منفصلــة وكيــف تفهــم مضمومــة إلــى النصــوص األخــرى‪.‬‬

‫أثـر مناهج األصول ّييـن‬ ‫يف االعتدال الفكري‬

‫وستكون الدراسة ضمن مبحثيـن‪:‬‬ ‫األول‪ :‬االعتدال الفكري ومعياره‪.‬‬ ‫ُّ‬ ‫الثانـي‪ :‬حمل النصوص على بعضها‪.‬‬

‫الدكتور حسن الخطاف‬

‫أستاذ مشارك باختصاص العقيدة اإلسالمية‪ ،‬مدرس يف جامعة آرتقلو مارديـن‬

‫ ‬

‫مقدمة‬

‫الحمد هلل رب العامليـن وأفضل الصالة وأتم التسليم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعيـن‪ ،‬وبعد‪:‬‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫فإن هللا تعالى شــاءت قدرته أن ال يبقى هذا اإلنســان ‪ -‬الذي هو أكرم مخلوق ‪ -‬أسي ــرالتفكي ــراإلنسان ــي‪ ،‬فأراد هللا تعالى أن‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫يمـ َّـن عليــه فأرســل رســله وأنــزل كتبــه هدايــة لــه وصونــا مــن التقلبــات الفكريــة الت ــي يجنــح إليهــا انطالقــا مــن فكــره وخيالــه‪...‬‬ ‫ونظــرة واحــدة فــي العصــرالــذي بعــث فيــه رســول هللا صلــى هللا عليــه وســلم كافيـ ٌـة ل َ‬ ‫تطلعنــا علــى هــذه التقلبــات علــى مســتوى‬ ‫َ ْ َ َّ ُ َ َ ْ ُ ْ َ ْ َ َ ِ َ ْ َ ُ ً ْ َ ْ ُ ْ َ ْ ُ َ َ ْ ْ َ‬ ‫َ‬ ‫الفكروالسلوك‪ ،‬وصدق هللا العظيم إذ يقول‪ (( :‬قد من هللا على الؤ ِم ِنيـن ِإذ بعث ِف ِيهم رسول ِمن أنف ِس ِهم يتلوعلي ِهم آيا ِت ِه‬ ‫َ​َ‬ ‫َ َ‬ ‫َُ َّ ْ َُ َّ ُ ُ ُ ْ َ َ ْ ْ َ ْ َ ُ‬ ‫ويز ِك ِيهــم ويع ِلمهــم ال ِكتـ‬ ‫ـاب َوال ِحك َمــة َوِإن كانــوا ِمـ ْـن ق ْبـ ُـل ل ِفــي ضــا ٍل ُم ِبي ـ ٍـن)) [آل عمــران‪ :‬اآليــة‪]164‬‬

‫أهمية البحث وإطاره ومنهجه ‪:‬‬ ‫تأت ــي أهميــة البحــث فــي إب ـراز أهميــة الشــريعة ودورهــا فــي شـ َّـتى‬ ‫مجــاالت الحيــاة‪ ،‬ومــن أب ــرز مجــاالت حيــاة اإلنســان الجانــب‬ ‫الفكــري‪ ،‬ذلــك ألن الفكــر هــو املحـ ّ ِـرك األسا�ســي للســلوك‪،‬‬ ‫فاســتقامة الســلوك راجعــة إلــى اســتقامة الفكــر واعوجــاج‬ ‫الســلوك راجــع إلــى اعوجــاج الفكــر ‪.‬‬ ‫ُّ‬ ‫والتخبــط الــذي يلحظــه املــرء فــي بعــض الفتــاوى الفقهيــة‪ ،‬أو‬ ‫فــي بعــض املذاهــب الفكريــة العقديــة الت ــي َّأرخ لهــا املهتمــون فــي‬ ‫ســياق امللــل والنحــل كالخــوارج واملعتزلــة راجـ ٌـع إلــى عــدم تحكيــم‬ ‫ّ‬ ‫األصوليــون فــي فهــم النصــوص الشــرعية‪.‬‬ ‫املوازي ــن الت ــي وضعهــا‬ ‫ّ‬ ‫بالذكــر َّأن غــاة الخــوارج ومــن علــى خطاهــم مــن‬ ‫ومــن الجدي ــر ِ‬ ‫غــاة العصــر‪ -‬والســيما املنتمي ــن لداعــش وأشــباهها‪ -‬يجهلــون‬ ‫ُج َّل العلوم الشرعية وعلى رأسها أصول الفقه‪ ،‬فضياع أصول‬ ‫الفقــه هــو تضييــع للشــريعة الت ــي َّ‬ ‫تكفــل هللا تعالــى بحفظهــا‪.‬‬ ‫كما َّأن حفظ الشريعة يقوم ً‬ ‫أساسا على أصول الفقه باعتباره‬

‫آلــة فــي فهــم النصــوص الشــرعية وربطهــا مــع بعضهــا‪ ،‬وهــدم أصــول‬ ‫الفقــه هــو هــدم للشـريعة‪ ،‬يقــول القرافــي رحمــه هللا‪( :‬ومــا علمــوا أنــه لــوال‬ ‫أصول الفقه لم يثبت من الشريعة قليل وال كثيـر‪ ،‬فإن كل حكم شرعي‬ ‫ال ُبـ َّـد لــه مــن ســبب موضــوع ودليــل يــدل عليــه وعلــى ســببه‪ ،‬فــإذا ألغي ــنا‬ ‫أصــول الفقــه ألغي ــنا األدلــة‪ ،‬فــا يبقــى لنــا حكــم وال ســبب‪ ،‬فــإن إثبـ َ‬ ‫ـات‬ ‫ُ‬ ‫وقواعدهــا بمجــرد الهــوى خــاف اإلجمــاع‪ ،‬ولعلهــم ال‬ ‫الشــرع بغي ــر أدلتــه‬ ‫ِ‬ ‫يعبــؤون باإلجمــاع‪ ،‬فإنــه مــن جملــة أصــول الفقــه‪ ،‬أو مــا علمــوا أنــه أول‬ ‫مراتــب املجتهدي ــن‪ ،‬فلــو عدمــه مجتهــد لــم يكــن مجتهـ ًـدا ً‬ ‫قطعــا‪ ،‬غايــة مــا فــي‬ ‫الباب أن الصحابة والتابعيـن ر�ضي هللا عنهم لم يكونوا يتخاطبون بهذه‬ ‫االصطالحات‪ ،‬أما املعانـي فكانت عندهم قطعا‪ ،‬ومن مناقب الشافعي ‪-‬‬ ‫ر�ضــي هللا عنــه ‪ -‬أنــه أول مــن صنــف فــي أصــول الفقــه)(‪.)1‬‬ ‫فالبحــث يأت ــي مب ـ ّـينا ّ‬ ‫أهميــة هــذا املنهــج فــي ضبــط الفهــم الصحيــح‬ ‫ّ‬ ‫للنصــوص الشــرعية املتمثلــة بكتــاب هللا تعالــى وســنة رســوله‪ ،‬وهــذا‬ ‫ّ‬ ‫األصوليي ــن‪.‬‬ ‫يعن ــي َّأن إطــار البحــث ال يخــرج عــن مناهــج‬ ‫والحقيقــة أن الوقــوف علــى كل مباحــث األصوليي ــن ومكانتهــا يحتــاج‬

‫(‪ )1‬نفائس األصول في شرح املحصول‪ ،‬شهاب الديـن أحمد بـن إدريس القرافي‪ ،‬تح‪ :‬عادل أحمد عبد املوجود‪ ،‬علي محمد معوض‪،‬‬ ‫الناشر‪ :‬مكتبة نزار مصطفى الباز‪ ،‬الطبعة‪ :‬األولى‪1416 ،‬هـ ‪1995 -‬م‪( ،‬ص‪.)100 /1‬‬

‫‪38‬‬

‫املبحث األول‬ ‫االعتدال الفكري ومعياره‬

‫االعتــدال موجــود فــي الشــريعة اإلســامية‪ ،‬واألدلــة علــى هــذا كثي ــرة‬ ‫مــن أب ــرزها ‪:‬‬ ‫‪ )1‬أن التكليف في الشريعة في حدود االستطاعة اإلنسانـية‪:‬‬ ‫عندمــا ننظــر فــي مفــردات التكليــف فــي الشــريعة اإلســامية نجدهــا‬ ‫فــي حــدود اســتطاعة اإلنســان ومقدرتــه‪ ،‬وهــذا يــدل علــى ســماحة‬ ‫الشــريعة وبعدها عن إرهاق اإلنســان‪ُّ ،‬‬ ‫فكل ما طلب الشــارع فعله أو‬ ‫ً‬ ‫صريحا في قوله‬ ‫ت ــركه جاء ضمن االســتطاعة البشــرية‪ ،‬وهذا ما جاء‬ ‫((صـ ّـل َقائ ًمــا َفــإ ْن َلـ ْـم َت ْسـ َـتط ْع َف َقاعـ ًـدا َفــإنْ‬ ‫صلــى هللا عليــه وســلم‪َ :‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َلـ ْـم َت ْسـ َـتط ْع َف َع َلــى َج ْنــب))(‪ )2‬وفــي قولــه تعالــى‪َ (( :‬و َّ َ َ َّ‬ ‫ـاس ِحـ ُّـج‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ٍ‬ ‫ل علــى النـ ِ‬ ‫َْْ َ ْ َ َ َ َْ َ ً‬ ‫البيـ ِـت مـ ِـن اســتطاع ِإليـ ِـه سـ ِـبيل)) [آل عمـران‪ :‬اآليــة ‪ ]97‬هــذا التــدرج‬ ‫فــي التخفيــف تابــع لحالــة اإلنســان‪ ،‬ولــو بحثنــا فــي كل النصــوص‬ ‫الدالــة علــى ذلــك لكتب ــنا الكثي ــر فحسـ ُـبنا مــا ذكرنــا‪.‬‬ ‫‪ )2‬مبدأ اليسرورفع الحرج في الشريعة ‪:‬‬ ‫اليســر فــي الشــريعة ورفــع الحــرج مبــدأ مــن مبادئهــا ومقصــد مــن‬ ‫مقاصدها‪ ،‬فاملشقة التـي تثقل كاهل اإلنسان ويعجز عن القيام بها‬ ‫ليســت مــن الشــرع‪ ،‬قــال هللا تعالــى‪َ (( :‬و َمــا َج َعـ َـل َع َل ْي ُكـ ْـم فــي ّ‬ ‫الدي ـ ِـن ِمـ ْـن‬ ‫ِ ِ‬ ‫َّ َ َ ُ‬ ‫َحـ َـر ٍج ِملــة أ ِبيكـ ْـم ِإ ْب َر ِاهيـ َـم)) [ســورة الحــج‪ :‬اآليــة ‪ ،]78‬والواضــح مــن‬

‫العدد ‪ 2‬رجب ‪1439‬هـ‬

‫اآليــة ((م َّلـ َـة َأب ُيكـ ْـم إ ْب َراهيـ َـم)) َّأن رفــع الحــرج ليــس ًّ‬ ‫خاصــا بالشــريعة‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫اإلســامية‪ ،‬بــل هــو ســمة مــن ســمات رســاالت األنب ــياء‪ ...‬وقــد جــاءت‬ ‫أحاديــث كثي ــرة عــن رســول هللا صلــى هللا عليــه وســلم تؤكــد مبــدأ‬ ‫اليســر فــي الشــريعة وأن الدي ــن مبـن ــي علــى اليســر‪ ،‬وأن األخــذ بالعســر‬ ‫َ‬ ‫((إ َّن‬ ‫ال يتفــق ويسـ َـر الدي ــن‪ ،‬مــن ذلـ َـك قو َّلــه َصلــى هللا عليــه وســلم‪ِ :‬‬ ‫َ‬ ‫الدي ـ َـن ُي ْسـ ٌـر َولـ ْـن ُي َشـ َّـاد ّ‬ ‫ّ‬ ‫الدي ـ َـن أ َحـ ٌـد ِإل غل َبـ ُـه))(‪.)3‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫‪ )3‬معياراالعتدال الفكري وعدمه‪:‬‬ ‫املرجعيــة الت ــي ســنحتكم إليهــا فــي قضيــة االعتــدال الفكــري هــي‬ ‫ُ‬ ‫النصـ ُ‬ ‫ـوص الشــرعية وفــق مناهــج األصوليي ــن الت ــي تمثــل جمهــور‬ ‫علمــاء املسلمي ــن‪ ،‬فبقــدر مــا يكــون الفهــم متفقــا مــع مناهــج جمهــور‬ ‫األصوليي ــن يكــون االعتــدال موجـ ً‬ ‫ـودا والعكــس صحيــح‪ ،‬ومـ َّ‬ ‫ـؤدى هــذا‬ ‫ً‬ ‫َّأن الدعوة إلى عدم العمل بالنصوص الشرعية أصل هو ِق ِّمة الغلو‬ ‫الفكــري‪ ،‬أو العمــل بــه مــن غي ــر ضابــط لهــا هــو غلــو فكــري ً‬ ‫أيضــا‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫وكــذا األخــذ بالنصــوص العامــة مــن غي ــر البحــث عــن تخصيصهــا أو‬ ‫األخــذ بالنصــوص املطلقــة مــن غي ــر البحــث عــن تقييدهــا هــو غلــو‬ ‫كذلــك‪ ،‬وموطــن هــذا الغلــو أنــه تجـ ٌ‬ ‫ـاوز إلرادة الشــارع وفهـ ٌـم خــارج عنهــا‬ ‫وحكــم بمــا ال ي ــريده هللا تعالــى وال رســوله صلــى هللا عليــه وســلم(‪. )4‬‬ ‫َّ‬ ‫ومــن الواضــح َّأن الغلــو ال يعن ــي التزيــد بــل يعن ــي الت ــرك‪ ،‬مــع مالحظــة‬

‫أنــه ال ي ــنبغي ْأن ُيفهــم مــن هــذا البحــث بــأي حــال مــن األحــوال أن كل‬ ‫ـص مــن الكتــاب والســنة ي ــنبغي أن يكــون لــه نــص آخــر يخصصــه‬ ‫نـ ٍ‬ ‫ْ‬ ‫أو يقيــده فهــذا أمــر ال نقصــده‪ ،‬لكــن مــا نقصــده هــو أال ننطلــق فــي‬ ‫البحــث عــن حكــم هللا مــن نــص واحــد بمعــزل عــن النصــوص األخــرى‬ ‫الت ــي جــاءت ضمــن الوحــدة املوضوعيــة‪.‬‬ ‫كمــا ال ي ــنبغي ْأن يفهــم بحــال مــن األحــوال أننــا نســعى إلــى تمييــع‬ ‫نصــوص الشــرع عندمــا نتحــدث عــن قضيــة االعتــدال فــي الشــريعة‪،‬‬ ‫فمــا نقصــده باالعتــدال هنــا هــو األخــذ بالنصــوص املتكاملــة فــي‬ ‫الحكــم ولــو كان مــؤدى هــذه النصــوص ال ي ــروق للبعــض‪ ،‬أي أنــه مــن‬ ‫االعتــدال فــي حكــم الشــريعة أن تحكــم علــى الشــخص بأنــه كافــر إذا‬ ‫ّ‬ ‫تكفــر مســلما أو تحكــم‬ ‫توافــرت األدلــة القطعيــة علــى ذلــك‪ ،‬لكــن أن ِ‬ ‫علــى كافــر باإلســام فهــذا هــو الغلــو‪ ،‬ألنــه تجــاوز ملــا ي ــريده هللا تعالــى‪.‬‬

‫َ ُ َ َ ْ ُ ْ َ ً َ َّ َ‬ ‫صلــى َعلــى َج ْنـ ٍـب‪ ،‬رقــم‪ ،1117:‬وســلم وســننه وأيامــه‪ ،‬تــح‪ :‬محمــد زهي ــر ب ــن ناصــر الناصــر‪ ،‬الناشــر‪ :‬دار طــوق‬ ‫اعــدا‬ ‫(‪ )2‬محمــد ب ــن إســماعيل أبــو عبــدهللا البخــاري الجعفــي‪ ،‬صحيــح البخــاري‪ ،‬كتــاب الصــاة‪ ،‬بــاب ِإذا لــم ي ِطــق ق ِ‬ ‫النجاة‪،‬الطبعة‪ :‬األولى‪1422 ،‬هـن تعليق‪ :‬الدكتور‪:‬مصطفى ديب البغا‪.‬‬ ‫اب‪ّ :‬‬ ‫َ‬ ‫الدي ُـن ُي ْسر‪ٌ ،‬رقم‪. 39 :‬‬ ‫(‪ )3‬صحيح البخاري‪ ،‬كتاب اإليمان‪ ،‬ب ٌ ِ‬ ‫َ َ َْ ُ ُ‬ ‫َ زَ‬ ‫َّ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ًّ‬ ‫(‪ )4‬جاء في القاموس املحيط « غال في األم ِر غلوا ‪ :‬جاو حده» القاموس املحيط‪ ،‬مادة (غال)‬

‫‪39‬‬


‫أثـر مناهج األصولييـن‬

‫املبحث الثانـي‬

‫ُّ‬ ‫حمل النصوص على بعضها‬

‫أوال‪ .‬حمل النصوص على بعضها في‬ ‫مسائل أصول ّ‬ ‫الديـن‪:‬‬ ‫ِ‬ ‫حمل املطلق على املقيد والعام على الخاص واملتشابه على املحكم (‪ )5‬من‬ ‫أب ــرز مناهــج األصوليي ــن‪ ،‬وذلــك أن القـرآن اســتمر نزولــه مــا يقــرب مــن‬ ‫ثــاث وعشري ــن ســنة‪ ،‬وخــال هــذه الفت ــرة كانــت تصــدر عــن رســول‬ ‫هللا صلــى هللا عليــه وســلم أقــوال وأفعــال وتقري ـرات كثي ــرة بحســب‬ ‫وقائــع مختلفــة باعتبــاره مشـ ّـر ًعا‪ ،‬وال يمكــن أن نقــف فــي إثبــات األحــكام‬ ‫عنــد آيــة واحــدة أو بضــع آيــات بمعــزل عــن اآليــات األخــرى الت ــي جــاءت‬ ‫للحديــث عــن نفــس املســألة‪ ،‬وال عنــد بعــض اآليــات أو عنــد النصــوص‬ ‫القرآن ــية بمعــزل عــن الســنة النبويــة‪ ،‬فالتش ـريع عبــارة عــن وحــدة‬ ‫متكاملــة‪ ،‬ومــن الخطــأ والحـ ُ‬ ‫ـال هــذه ْأن يقــف املــرء عنــد البعــض‬ ‫متجـ ً‬ ‫ـاوزا ّ‬ ‫بقيــة النصــوص ‪.‬‬ ‫وباختصــار البــد مــن جمــع النصــوص‪ -‬سـ ً‬ ‫ـواء أكانــت مــن القـرآن نفســه‬ ‫أو من الســنة أو من الســنة والقرآن‪ -‬الت ــي تتحدث عن موضوع واحد‬ ‫ليتــم التوفيــق بـي ــنها‪ ،‬ضمــن قواعــد عــدة مــن أب ــرزها حمــل املطلــق علــى‬ ‫املقيــد والعــام علــى الخــاص واملتشــابه فــي ضــوء املحكــم‪.‬‬ ‫هذه املناهج من أبـرز مناهج األصولييـن في التنسيق بـيـن النصوص‪،‬‬ ‫وعــدم األخــذ بهــا والعمــل بمقتضاهــا هــو الــذي جـ َّـر كثي ـ ًـرا مــن‬ ‫أصحــاب الفــرق إلــى أخطـ ٍـاء شن ــيعة‪ ،‬وهــذا األمــر هــو رأس املشــاكل‬ ‫فــي أيامنــا هــذه‪...‬‬ ‫إن جميع املسلميـن يعلمون أن الديـن يقوم على مصدريـن أساسييـن‬ ‫هما الكتاب والسنة وال خالف بـيـنهم في ذلك! لكن املسألة كيف نفهم‬ ‫هذي ــن املصدري ــن؟ وبمعنــى آخــر هــل يحتــاج فهــم هذي ــن املصدري ــن إلــى‬ ‫آليــات أخــرى‪ ،‬أم يكفــي للواحــد َّ‬ ‫منــا أن يفهــم هذي ــن املصدري ــن بمجــرد‬ ‫ّ‬ ‫واالطــاع عليهما؟‬ ‫قراءتهمــا ِ‬

‫أثـر مناهج األصولييـن‬

‫العدد ‪ 2‬رجب ‪1439‬هـ‬

‫ً‬ ‫شابا أعرفه ّ‬ ‫وأذكر ّأن ًّ‬ ‫جي ًدا صعد املنب ــر وخطب في الناس قائل لهم‪:‬‬ ‫ّإن ّ‬ ‫الدرج الذي وضع لرسول هللا صلى هللا عليه وسلم عندما صنعوا‬ ‫لــه منب ـ ًـرا كان ثــاث درجــات‪ ،‬فالزيــادة علــى ذلــك ليســت مــن هــدي‬ ‫الرســول صلــى هللا عليــه وســلم‪ ،‬وأمثــال هــؤالء الشــباب عندمــا تعطيــه‬ ‫ً‬ ‫ُ‬ ‫جاهدا لفهمه من تلقاء نفسه ً‬ ‫دليل يسعى ً‬ ‫بعيدا عن ش ّراح الحديث‬ ‫ّ‬ ‫األصوليي ــن وعلــم اللغــة‪.‬‬ ‫ومناهــج‬ ‫ُ ّ‬ ‫عول بعض هؤالء على صحة حديث واحد بمعزل عما يتصل به‬ ‫وقد ي ِ‬ ‫من نصوص أخرى‪ ،‬فيـنسف بذلك كثي ًـرا من أسس الديـن وأحكامه‪.‬‬ ‫ً‬ ‫وهــذا املنهــج ليــس ً‬ ‫صوابــا فالحديــث قــد ال يكــون‬ ‫صحيحــا‪ ،‬وحتــى لــو‬ ‫ً‬ ‫صحيحــا ليــس لنــا أن نأخــذ منــه ً‬ ‫حكمــا مــن غي ــر الرجــوع إلــى‬ ‫كان‬ ‫ُ‬ ‫شـ َّـراح الحديــث وعلمــاء الفقــه واللغــة واألصــول ومعرفــة ســبب‬ ‫وروده‪ ،‬ألن الحديــث وإن صـ َّـح فقــد يكــون هنــاك ســبب يمنعنــا مــن‬ ‫ً‬ ‫مخصوصــا وقــد يكــون ّ‬ ‫مقيـ ًـدا‪ ،‬وقــد‬ ‫األخــذ بــه‪ ،‬فقــد يكــون الحديــث‬ ‫ًّ‬ ‫ً‬ ‫يكــون منســوخا وقــد يكــون شــاذا‪ ...‬ومــن هنــا نجــد أن مناهــج الفقهــاء‬ ‫فــي اســتنباط األحــكام مــن الحديــث النبــوي تختلــف ً‬ ‫تمامــا عــن مناهــج‬ ‫املحدثي ــن فــي الحكــم علــى الحديــث‪ ...‬فمــا هــي جوانــب االختــاف بـي ــن‬ ‫كل مــن منهجـ ّ ِـي املحدثي ــن والفقهــاء؟‬ ‫إن املحــدث ي ــنظر إلــى الشــروط املتوافــرة فــي الحديــث فــإذا مــا كان‬ ‫ً‬ ‫صحيحــا بمعنــى توفــر الشــروط الخمســة فيــه‪ ،‬وهــي‪ :‬اتصــال‬ ‫الحديــث‬ ‫الســند مــع عدالــة وضبــط ال ـراوي والســامة مــن الشــذوذ والعلــة‬ ‫فالحديــث عنــده صحيــح‪ ،‬مــن غي ــر أن ي ــنظر املحــدث إلــى جملــة‬ ‫األحاديــث األخــرى الــواردة فــي ذات الســياق ومــن غي ــر أن ي ــنظر إلــى‬ ‫اآليــات القرآن ــية الت ــي تتنــاول املســألة نفســها‪ ...‬فاملحــدث يحكــم علــى‬ ‫ً‬ ‫الحديــث انطالقــا مــن الحديــث ذاتــه بســنده ومتنــه‪ ،‬بـي ــنما الفقيــه‬ ‫ال يكتفــي بالنظــر إلــى ســند الحديــث وألفاظــه فقــط‪ ،‬وإنمــا ي ــنظر‬ ‫إلــى مدلــوالت الحديــث وضــرورة انســجامها مــع آيــات الق ـرآن الكريــم‬ ‫ونصــوص الســنة األخــرى‪ ،‬فــا يتعــارض مــع حديـ ٍـث أصــح منــه‪ ،‬وال مــع‬ ‫القواعــد الكليــة املتصلــة بالعقيــدة‪ ،‬فهــو ال ي ــنظر إلــى حديـ ٍـث بمفــرده‪،‬‬ ‫وإنمــا ي ــنظر إلــى ضــرورة توافــق هــذا الحديــث مــع جملــة مــن الشــروط‬ ‫مــن أب ــرزها التوافــق مــع نصــوص الق ـرآن الكريــم والســنة املُ َّ‬ ‫طهــرة‪.‬‬

‫(‪ )5‬العــام هــو» اللفــظ املســتغرق لجميــع مــا يصلــح لــه بحســب وضــع واحــد» كقولنــا الرجــال فإنــه مســتغرق لجميــع مــا يصلــح لــه « الـرازي‪ ،‬املحصــول‪ ،‬دراســة وتحقيــق‪ :‬الدكتــور طــه جاب ــر فيــاض العلوان ــي‪ ،‬الناشــر‪ :‬مؤسســة‬ ‫الرســالة‪،‬الطبعة‪ :‬الثالثــة‪ 1418 ،‬ه ـ ‪ 1997 -‬م‪ ،514-513 /2 :‬امــا املطلــق فهــو» اللفــظ الــدال علــى مدلــول شــائع فــي جنســه» اآلمــدي‪ ،‬إحــكام األحــكام‪ ،‬املحقــق‪ :‬عبــد الــرزاق عفيفــي‪ ،‬الناشــر‪ :‬املكتــب اإلســامي‪ ،‬بـي ــروت‪-‬‬ ‫دمشــق‪ -‬لب ــنان ‪ ،6-5 /3:‬وعليــه يكــون َّ‬ ‫املقيــد « مــا َّ‬ ‫دل ال علــى شــائع فــي جنســه « الشوكان ــي‪ ،‬إرشــاد الفحــول‪ ،‬املحقــق‪ :‬الشــيخ أحمــد عــزو عنايــة‪ ،‬دمشــق ‪ -‬كفــر بطنــا‪ ،‬قــدم لــه‪ :‬الشــيخ خليــل امليــس والدكتــور ولــي الدي ــن صالــح‬ ‫فرفــور‪ ،‬الناشــر‪ :‬دار الكتــاب العرب ــي‪ ،‬الطبعــة‪ :‬الطبعــة األولــى ‪1419‬ه ـ ‪1999 -‬م‪ ،443 :‬أمــا عــن الخــاص والتخصيــص فيقــول الشي ـرازي فــي اللمــع‪ »:‬التخصيــص تمييــز بعــض الجملــة بالحكــم مــن الجملــة ولهــذا القــول خــصًّ‬ ‫رســول هللا صلــى هللا عليــه وســلم بكــذا وكــذا ‪...‬‬ ‫وأما تخصيص العموم فهو بـيان مالم يـرد باللفظ العام « الشيـرازي‪ ،‬اللمع في أصول الفقه‪ ،‬الناشر‪ :‬دار الكتب العلمية‪ ،‬الطبعة‪ :‬الطبعة الثانـية ‪ 2003‬م ‪ 1424 -‬هـ‪.‬ص‪.77 .‬‬

‫‪40‬‬

‫ولــو قــام إنســان مــا باألخــذ بظواهــر بعــض النصــوص مــن غي ــر العمــل‬ ‫بقواعد األصوليي ــن في الجمع والتوفيق بـي ــنها لوقع في تناقض عجيب‬ ‫ثــم قــام ب ــنسبة هــذا النقــص إلــى الش ـريعة املطهــرة عــن كل عيــب‬ ‫ونقصــان‪ ،‬ولنأخــذ بعــض األمثلــة علــى ذلــك‪:‬‬ ‫املثال األول‪:‬‬ ‫ُ‬ ‫روى اإلمــام مســلم عــن جاب ــر ر�ضــي هللا عنــه قــال‪َ :‬ســم ْعت َّ‬ ‫النب ـ َّـي صلــى‬ ‫ِ‬ ‫َ ُ ُل َّ َ ْ َ َّ ُ َ َ ْ َ ّ‬ ‫الشـ ْـرك َو ْال ُك ْفــر َتـ ْـركَ‬ ‫((إن بيــن‬ ‫الرجـ ِـل وبيــن ِ ِ‬ ‫هللا عليــه وســلم يقــو ِ‬ ‫ِ‬ ‫َّ َ‬ ‫الصــا ِة))(‪ .)6‬فلــو أخذنــا بظاهــر هــذا الحديــث لقمنــا بتكفي ــر تــارك‬ ‫الصــاة مــن غي ــر أن نســتفصل عــن ســبب الت ــرك‪ ،‬فاملعنــى املتبــادر إلــى‬ ‫الذهــن مــن ظاهــر الحديــث هــو الحكــم بكفــر تــارك الصــاة‪ ..‬وتكفي ــره‬ ‫يت ـرتب عليــه أمــور عــدة مــن ذلــك عــدم دفنــه ‪ -‬لــو مــات علــى ذلــك ‪ -‬فــي‬ ‫مقابـر املسلميـن وعدم الصالة عليه وعدم التوارث‪ ،‬وربما يجر ذلك‬ ‫إلــى اعتبــار أموالــه غنائــم للمسلمي ــن لكونــه كافـ ًـرا ‪.‬‬ ‫فالقول ّ‬ ‫بالتكفي ــر بشكل مطلق من غي ــر َّ‬ ‫النظر إلى النصوص األخرى‬ ‫ّ‬ ‫يمثــل املنهــج العــام لعلمــاء األمــة فــي التعامــل‬ ‫الــواردة فــي هــذه املســألة ال ِ‬ ‫مــع النصــوص‪ ...‬ومــن هنــا لــم يأخــذ جماهي ــر األصوليي ــن والفقهــاء‬ ‫بظاهــر هــذا النــص‪ ،‬يقــول اإلمــام النــووي فــي شــرحه لهــذا الحديــث‪:‬‬ ‫(وأمــا تــارك الصــاة فــإن كان منكـ ًـرا لوجوبهــا فهــو كافــر بإجمــاع‬ ‫املسلمي ــن‪ ،‬خــارج مــن ملــة اإلســام إال أن يكــون قريــب عهــد باإلســام‪،‬‬ ‫ً‬ ‫ولــم يخالــط املسلمي ــن مـ ّـدة يبلغــه فيهــا وجــوب الصــاة عليــه‪ ،‬وإن كان‬ ‫ً‬ ‫ت ـ ْـركه تكاســا مــع اعتقــاده وجوبهــا كمــا هــو حــال كثي ــر مــن النــاس فقــد‬ ‫اختلف العلماء فيه‪ ،‬فذهب مالك والشافعي رحمهما هللا والجماهيـر‬ ‫مــن الســلف والخلــف إلــى أنــه ال يكفــر بــل يفســق ويســتتاب فــإن تــاب‪،‬‬ ‫وإال قتلنــاه حـ ًّـدا كالزان ــي املحصــن‪ ...‬وذهــب جماعــة مــن الســلف إلــى‬ ‫أنــه يكفــر وهــو إحــدى الروايتـي ــن عــن أحمــد ب ــن حنبــل(‪ ... )7‬وذهــب أبــو‬ ‫حن ــيفة وجماعــة مــن أهــل الكوفــة واملزن ــي صاحــب الشــافعي رحمهمــا‬ ‫هللا أنــه ال يكفــر وال يقتــل بــل يعــزر ويحبــس حتــى يصلــي ‪ ...‬واحتــج‬ ‫الجمهــور علــى أنــه ال يكفــر بقولــه تعالــى ((إن هللا ال يغفــر أن يشــرك بــه‬ ‫ويغفــر مــا دون ذلــك ملــن يشــاء)) وبقولــه صلــى هللا عليــه و ســلم‪(( :‬مــن‬ ‫قــال ال إلــه اال هللا دخــل الجنــة)) ((مــن مــات وهــو يعلــم أن ال إلــه اال‬ ‫هللا دخــل الجنــة)) ((وال يلقــى هللا تعالــى عبــد بهمــا غي ــر شــاك فيحجــب‬ ‫عــن الجنــة)) ((حــرم هللا علــى النــار مــن قــال ال إلــه اال هللا)) وغي ــر ذلــك‬

‫العدد ‪ 2‬رجب ‪1439‬هـ‬

‫ّ‬ ‫وتأولــوا قولــه صلــى هللا عليــه وســلم ((بـي ــن العبــد وبـي ــن الكفــر ت ــرك‬ ‫الصــاة)) علــى معنــى أنــه يســتحق بت ــرك الصــاة عقوبــة الكافــر وهــي‬ ‫ـتح ِ ّل أو علــى أنــه قــد يــؤول بــه إلــى الكفر‬ ‫القتــل أو أنــه محمــول علــى املسـ ِ‬ ‫أو أن فعلــه فعــل الكفــار وهللا أعلــم)(‪.)8‬‬ ‫ومــن الب ـ ِّـين أننــا ال نســتخف بقــول مــن قــال بكفــره وهــي الروايــة األخــرى‬ ‫عنــد اإلمــام أحمــد رحمــه هللا‪ ،‬فليــس هــذا مــن مقصــود البحــث بــل‬ ‫ً‬ ‫القصــد َّأن الحكــم عليــه ّ‬ ‫بالتكفي ــر انطالقــا مــن الحديــث ذاتــه مــع‬ ‫ّ‬ ‫َّ‬ ‫يمثــل الوجهــة العامــة عنــد علمــاء‬ ‫تجاهــل النصــوص األخــرى ال ِ‬ ‫املسلمي ــن‪ ،‬ولــذا لــم يأخــذ الجمهــور بظاهــره‪ ،‬والــذي دعــا الجمهــور إلــى‬ ‫عــدم األخــذ بظاهــر هــذا الحديــث هــو ضــرورة فهمــه فــي ضــوء نصــوص‬ ‫َّ َ َ ْ َ ْ‬ ‫ْ‬ ‫هللا ل َيغ ِف ُر أ ْن ُيش َر َك ِب ِه َو َيغ ِف ُر‬ ‫((إن‬ ‫الشرع األخرى‪ ،‬ومنها قوله تعالى ِ‬ ‫َ َ ْ َ َّ َ َ ً‬ ‫َ ُ َ َ َ َْ َ َ َ​َ ْ ُ ْ‬ ‫ْ‬ ‫ً‬ ‫َ‬ ‫ـاهلل فقــد ضــل ضــال ب ِعيــدا))‬ ‫مــا دون ذ ِلــك ِلــن يشـ ُـاء ومــن يشـ ِـرك ِبـ ِ‬ ‫[النســاء‪ :‬اآليــة ‪.]116‬‬ ‫وهــذا الــذي ذكــره النـ ُّ‬ ‫ـووي مــن عــدم الحكــم علــى مرتكــب الكبـي ــرة بأنــه‬ ‫مــن الكفــار مالــم يكــن ارتكابــه للذنــب مــن بــاب االســتخفاف أو اإلنــكار‬ ‫ألصــل املشــروعية يمثــل أصـ ًـا مــن أصــول أهــل الســنة‪ ...‬وقــد َّ‬ ‫عبــر عــن‬ ‫هــذا اإلمــام النــووي بقولــه‪( :‬واعلــم أن مذهــب أهــل الســنة‪ ،‬ومــا عليــه‬ ‫أهــل الحــق مــن الســلف والخلــف أن مــن مــات ّ‬ ‫موحـ ًـدا دخــل الجنــة‬ ‫ِ‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫قطعا على كل حال‪ ،‬فإن كان سال ـا من املعا�صي كالصغيـر واملجنون‬ ‫والــذي اتصــل جنونــه بالبلــوغ والتائــب توبــة صحيحــة مــن الشــرك أو‬ ‫غيـره من املعا�صي إذا لم يحدث معصية بعد توبته‪ ،‬واملوفق الذي لم‬ ‫ً‬ ‫ُي َبتـ َـل بمعصيــة أصــا فــكل هــذا الصنــف يدخلــون الجنــة‪ ،‬وال يدخلــون‬ ‫ً‬ ‫النــار أصــا‪ ...‬وأمــا مــن كانــت لــه معصيــة كبـي ــرة‪ ،‬ومــات مــن غي ــر توبــة‬ ‫َ ً‬ ‫فهو في مشيئة هللا تعالى فإن شاء عفا عنه وأدخله الجنة أ َّول وجعله‬ ‫كالقســم األول‪ ،‬وإن شــاء عذبــه القــدر الــذى ي ـريده ســبحانه وتعالــى ثــم‬ ‫يدخلــه الجنــة‪ ،‬فــا يخلــد فــي النــار أحــد مــات علــى التوحيــد ولــو عمــل‬ ‫مــن املعا�صــي مــا عمــل‪ ،‬كمــا أنــه ال يدخــل الجنــة أحــد مــات علــى الكفــر‬ ‫ولــو عمــل مــن أعمــال الب ــر مــا عمــل‪ ،‬هــذا مختصــر جامــع ملذهــب أهــل‬ ‫الحــق فــي هــذه املســألة‪ ،‬وقــد تظاهــرت أدلــة الكتــاب والســنة وإجمــاع‬ ‫مــن يعتــد بــه مــن األمــة علــى هــذه القاعــدة‪ ،‬وتوات ــرت بذلــك نصـ ٌ‬ ‫ـوص‬ ‫تحصــل العلــم القطعــي فــإذا تقــررت هــذه القاعــدة حمــل عليهــا جميــع‬ ‫مــا ورد مــن أحاديــث البــاب وغي ــره فــإذا ورد حديــث فــي ظاهــره مخالفــة‬

‫َْ‬ ‫ْ ْ ُ ْ َ َ َ ْ َ َ َ َّ َ َ‬ ‫(‪ )6‬مسلم‪ ،‬صحيح مسلم‪ ،‬كتاب الصالة‪َ ،‬ب ُ‬ ‫الصلة رقم‪ ،134 :‬املحقق‪ :‬محمد فؤاد عبد الباقي‪ ،‬الناشر‪ :‬دار إحياء التـراث العربـي‪.‬‬ ‫اب َب َي ِان ِإطل ِق اس ِم الكف ِر على من ترك‬ ‫(‪ )7‬انظر في مذهب اإلمام أحمد ‪:‬الكافي في فقه اإلمام أحمد‪ ،‬ابـن قدامة املقد�سي‪ ،‬الناشر‪ :‬دار الكتب العلمية‪ ،‬الطبعة‪ :‬األولى‪ 1414 ،‬هـ ‪ 1994 -‬م‪.178 /1 : ،‬‬ ‫(‪ )8‬النووي‪ ،‬شرح النووي على مسلم‪ ،‬دار إحياء التـراث العربـي ‪ -‬بـيـروت الطبعة‪ :‬الثانـية‪.71 /2 ،1392 ،‬‬

‫‪41‬‬


‫أثـر مناهج األصولييـن‬

‫املبحث الثانـي‬

‫ُّ‬ ‫حمل النصوص على بعضها‬

‫أوال‪ .‬حمل النصوص على بعضها في‬ ‫مسائل أصول ّ‬ ‫الديـن‪:‬‬ ‫ِ‬ ‫حمل املطلق على املقيد والعام على الخاص واملتشابه على املحكم (‪ )5‬من‬ ‫أب ــرز مناهــج األصوليي ــن‪ ،‬وذلــك أن القـرآن اســتمر نزولــه مــا يقــرب مــن‬ ‫ثــاث وعشري ــن ســنة‪ ،‬وخــال هــذه الفت ــرة كانــت تصــدر عــن رســول‬ ‫هللا صلــى هللا عليــه وســلم أقــوال وأفعــال وتقري ـرات كثي ــرة بحســب‬ ‫وقائــع مختلفــة باعتبــاره مشـ ّـر ًعا‪ ،‬وال يمكــن أن نقــف فــي إثبــات األحــكام‬ ‫عنــد آيــة واحــدة أو بضــع آيــات بمعــزل عــن اآليــات األخــرى الت ــي جــاءت‬ ‫للحديــث عــن نفــس املســألة‪ ،‬وال عنــد بعــض اآليــات أو عنــد النصــوص‬ ‫القرآن ــية بمعــزل عــن الســنة النبويــة‪ ،‬فالتش ـريع عبــارة عــن وحــدة‬ ‫متكاملــة‪ ،‬ومــن الخطــأ والحـ ُ‬ ‫ـال هــذه ْأن يقــف املــرء عنــد البعــض‬ ‫متجـ ً‬ ‫ـاوزا ّ‬ ‫بقيــة النصــوص ‪.‬‬ ‫وباختصــار البــد مــن جمــع النصــوص‪ -‬سـ ً‬ ‫ـواء أكانــت مــن القـرآن نفســه‬ ‫أو من الســنة أو من الســنة والقرآن‪ -‬الت ــي تتحدث عن موضوع واحد‬ ‫ليتــم التوفيــق بـي ــنها‪ ،‬ضمــن قواعــد عــدة مــن أب ــرزها حمــل املطلــق علــى‬ ‫املقيــد والعــام علــى الخــاص واملتشــابه فــي ضــوء املحكــم‪.‬‬ ‫هذه املناهج من أبـرز مناهج األصولييـن في التنسيق بـيـن النصوص‪،‬‬ ‫وعــدم األخــذ بهــا والعمــل بمقتضاهــا هــو الــذي جـ َّـر كثي ـ ًـرا مــن‬ ‫أصحــاب الفــرق إلــى أخطـ ٍـاء شن ــيعة‪ ،‬وهــذا األمــر هــو رأس املشــاكل‬ ‫فــي أيامنــا هــذه‪...‬‬ ‫إن جميع املسلميـن يعلمون أن الديـن يقوم على مصدريـن أساسييـن‬ ‫هما الكتاب والسنة وال خالف بـيـنهم في ذلك! لكن املسألة كيف نفهم‬ ‫هذي ــن املصدري ــن؟ وبمعنــى آخــر هــل يحتــاج فهــم هذي ــن املصدري ــن إلــى‬ ‫آليــات أخــرى‪ ،‬أم يكفــي للواحــد َّ‬ ‫منــا أن يفهــم هذي ــن املصدري ــن بمجــرد‬ ‫ّ‬ ‫واالطــاع عليهما؟‬ ‫قراءتهمــا ِ‬

‫أثـر مناهج األصولييـن‬

‫العدد ‪ 2‬رجب ‪1439‬هـ‬

‫ً‬ ‫شابا أعرفه ّ‬ ‫وأذكر ّأن ًّ‬ ‫جي ًدا صعد املنب ــر وخطب في الناس قائل لهم‪:‬‬ ‫ّإن ّ‬ ‫الدرج الذي وضع لرسول هللا صلى هللا عليه وسلم عندما صنعوا‬ ‫لــه منب ـ ًـرا كان ثــاث درجــات‪ ،‬فالزيــادة علــى ذلــك ليســت مــن هــدي‬ ‫الرســول صلــى هللا عليــه وســلم‪ ،‬وأمثــال هــؤالء الشــباب عندمــا تعطيــه‬ ‫ً‬ ‫ُ‬ ‫جاهدا لفهمه من تلقاء نفسه ً‬ ‫دليل يسعى ً‬ ‫بعيدا عن ش ّراح الحديث‬ ‫ّ‬ ‫األصوليي ــن وعلــم اللغــة‪.‬‬ ‫ومناهــج‬ ‫ُ ّ‬ ‫عول بعض هؤالء على صحة حديث واحد بمعزل عما يتصل به‬ ‫وقد ي ِ‬ ‫من نصوص أخرى‪ ،‬فيـنسف بذلك كثي ًـرا من أسس الديـن وأحكامه‪.‬‬ ‫ً‬ ‫وهــذا املنهــج ليــس ً‬ ‫صوابــا فالحديــث قــد ال يكــون‬ ‫صحيحــا‪ ،‬وحتــى لــو‬ ‫ً‬ ‫صحيحــا ليــس لنــا أن نأخــذ منــه ً‬ ‫حكمــا مــن غي ــر الرجــوع إلــى‬ ‫كان‬ ‫ُ‬ ‫شـ َّـراح الحديــث وعلمــاء الفقــه واللغــة واألصــول ومعرفــة ســبب‬ ‫وروده‪ ،‬ألن الحديــث وإن صـ َّـح فقــد يكــون هنــاك ســبب يمنعنــا مــن‬ ‫ً‬ ‫مخصوصــا وقــد يكــون ّ‬ ‫مقيـ ًـدا‪ ،‬وقــد‬ ‫األخــذ بــه‪ ،‬فقــد يكــون الحديــث‬ ‫ًّ‬ ‫ً‬ ‫يكــون منســوخا وقــد يكــون شــاذا‪ ...‬ومــن هنــا نجــد أن مناهــج الفقهــاء‬ ‫فــي اســتنباط األحــكام مــن الحديــث النبــوي تختلــف ً‬ ‫تمامــا عــن مناهــج‬ ‫املحدثي ــن فــي الحكــم علــى الحديــث‪ ...‬فمــا هــي جوانــب االختــاف بـي ــن‬ ‫كل مــن منهجـ ّ ِـي املحدثي ــن والفقهــاء؟‬ ‫إن املحــدث ي ــنظر إلــى الشــروط املتوافــرة فــي الحديــث فــإذا مــا كان‬ ‫ً‬ ‫صحيحــا بمعنــى توفــر الشــروط الخمســة فيــه‪ ،‬وهــي‪ :‬اتصــال‬ ‫الحديــث‬ ‫الســند مــع عدالــة وضبــط ال ـراوي والســامة مــن الشــذوذ والعلــة‬ ‫فالحديــث عنــده صحيــح‪ ،‬مــن غي ــر أن ي ــنظر املحــدث إلــى جملــة‬ ‫األحاديــث األخــرى الــواردة فــي ذات الســياق ومــن غي ــر أن ي ــنظر إلــى‬ ‫اآليــات القرآن ــية الت ــي تتنــاول املســألة نفســها‪ ...‬فاملحــدث يحكــم علــى‬ ‫ً‬ ‫الحديــث انطالقــا مــن الحديــث ذاتــه بســنده ومتنــه‪ ،‬بـي ــنما الفقيــه‬ ‫ال يكتفــي بالنظــر إلــى ســند الحديــث وألفاظــه فقــط‪ ،‬وإنمــا ي ــنظر‬ ‫إلــى مدلــوالت الحديــث وضــرورة انســجامها مــع آيــات الق ـرآن الكريــم‬ ‫ونصــوص الســنة األخــرى‪ ،‬فــا يتعــارض مــع حديـ ٍـث أصــح منــه‪ ،‬وال مــع‬ ‫القواعــد الكليــة املتصلــة بالعقيــدة‪ ،‬فهــو ال ي ــنظر إلــى حديـ ٍـث بمفــرده‪،‬‬ ‫وإنمــا ي ــنظر إلــى ضــرورة توافــق هــذا الحديــث مــع جملــة مــن الشــروط‬ ‫مــن أب ــرزها التوافــق مــع نصــوص الق ـرآن الكريــم والســنة املُ َّ‬ ‫طهــرة‪.‬‬

‫(‪ )5‬العــام هــو» اللفــظ املســتغرق لجميــع مــا يصلــح لــه بحســب وضــع واحــد» كقولنــا الرجــال فإنــه مســتغرق لجميــع مــا يصلــح لــه « الـرازي‪ ،‬املحصــول‪ ،‬دراســة وتحقيــق‪ :‬الدكتــور طــه جاب ــر فيــاض العلوان ــي‪ ،‬الناشــر‪ :‬مؤسســة‬ ‫الرســالة‪،‬الطبعة‪ :‬الثالثــة‪ 1418 ،‬ه ـ ‪ 1997 -‬م‪ ،514-513 /2 :‬امــا املطلــق فهــو» اللفــظ الــدال علــى مدلــول شــائع فــي جنســه» اآلمــدي‪ ،‬إحــكام األحــكام‪ ،‬املحقــق‪ :‬عبــد الــرزاق عفيفــي‪ ،‬الناشــر‪ :‬املكتــب اإلســامي‪ ،‬بـي ــروت‪-‬‬ ‫دمشــق‪ -‬لب ــنان ‪ ،6-5 /3:‬وعليــه يكــون َّ‬ ‫املقيــد « مــا َّ‬ ‫دل ال علــى شــائع فــي جنســه « الشوكان ــي‪ ،‬إرشــاد الفحــول‪ ،‬املحقــق‪ :‬الشــيخ أحمــد عــزو عنايــة‪ ،‬دمشــق ‪ -‬كفــر بطنــا‪ ،‬قــدم لــه‪ :‬الشــيخ خليــل امليــس والدكتــور ولــي الدي ــن صالــح‬ ‫فرفــور‪ ،‬الناشــر‪ :‬دار الكتــاب العرب ــي‪ ،‬الطبعــة‪ :‬الطبعــة األولــى ‪1419‬ه ـ ‪1999 -‬م‪ ،443 :‬أمــا عــن الخــاص والتخصيــص فيقــول الشي ـرازي فــي اللمــع‪ »:‬التخصيــص تمييــز بعــض الجملــة بالحكــم مــن الجملــة ولهــذا القــول خــصًّ‬ ‫رســول هللا صلــى هللا عليــه وســلم بكــذا وكــذا ‪...‬‬ ‫وأما تخصيص العموم فهو بـيان مالم يـرد باللفظ العام « الشيـرازي‪ ،‬اللمع في أصول الفقه‪ ،‬الناشر‪ :‬دار الكتب العلمية‪ ،‬الطبعة‪ :‬الطبعة الثانـية ‪ 2003‬م ‪ 1424 -‬هـ‪.‬ص‪.77 .‬‬

‫‪40‬‬

‫ولــو قــام إنســان مــا باألخــذ بظواهــر بعــض النصــوص مــن غي ــر العمــل‬ ‫بقواعد األصوليي ــن في الجمع والتوفيق بـي ــنها لوقع في تناقض عجيب‬ ‫ثــم قــام ب ــنسبة هــذا النقــص إلــى الش ـريعة املطهــرة عــن كل عيــب‬ ‫ونقصــان‪ ،‬ولنأخــذ بعــض األمثلــة علــى ذلــك‪:‬‬ ‫املثال األول‪:‬‬ ‫ُ‬ ‫روى اإلمــام مســلم عــن جاب ــر ر�ضــي هللا عنــه قــال‪َ :‬ســم ْعت َّ‬ ‫النب ـ َّـي صلــى‬ ‫ِ‬ ‫َ ُ ُل َّ َ ْ َ َّ ُ َ َ ْ َ ّ‬ ‫الشـ ْـرك َو ْال ُك ْفــر َتـ ْـركَ‬ ‫((إن بيــن‬ ‫الرجـ ِـل وبيــن ِ ِ‬ ‫هللا عليــه وســلم يقــو ِ‬ ‫ِ‬ ‫َّ َ‬ ‫الصــا ِة))(‪ .)6‬فلــو أخذنــا بظاهــر هــذا الحديــث لقمنــا بتكفي ــر تــارك‬ ‫الصــاة مــن غي ــر أن نســتفصل عــن ســبب الت ــرك‪ ،‬فاملعنــى املتبــادر إلــى‬ ‫الذهــن مــن ظاهــر الحديــث هــو الحكــم بكفــر تــارك الصــاة‪ ..‬وتكفي ــره‬ ‫يت ـرتب عليــه أمــور عــدة مــن ذلــك عــدم دفنــه ‪ -‬لــو مــات علــى ذلــك ‪ -‬فــي‬ ‫مقابـر املسلميـن وعدم الصالة عليه وعدم التوارث‪ ،‬وربما يجر ذلك‬ ‫إلــى اعتبــار أموالــه غنائــم للمسلمي ــن لكونــه كافـ ًـرا ‪.‬‬ ‫فالقول ّ‬ ‫بالتكفي ــر بشكل مطلق من غي ــر َّ‬ ‫النظر إلى النصوص األخرى‬ ‫ّ‬ ‫يمثــل املنهــج العــام لعلمــاء األمــة فــي التعامــل‬ ‫الــواردة فــي هــذه املســألة ال ِ‬ ‫مــع النصــوص‪ ...‬ومــن هنــا لــم يأخــذ جماهي ــر األصوليي ــن والفقهــاء‬ ‫بظاهــر هــذا النــص‪ ،‬يقــول اإلمــام النــووي فــي شــرحه لهــذا الحديــث‪:‬‬ ‫(وأمــا تــارك الصــاة فــإن كان منكـ ًـرا لوجوبهــا فهــو كافــر بإجمــاع‬ ‫املسلمي ــن‪ ،‬خــارج مــن ملــة اإلســام إال أن يكــون قريــب عهــد باإلســام‪،‬‬ ‫ً‬ ‫ولــم يخالــط املسلمي ــن مـ ّـدة يبلغــه فيهــا وجــوب الصــاة عليــه‪ ،‬وإن كان‬ ‫ً‬ ‫ت ـ ْـركه تكاســا مــع اعتقــاده وجوبهــا كمــا هــو حــال كثي ــر مــن النــاس فقــد‬ ‫اختلف العلماء فيه‪ ،‬فذهب مالك والشافعي رحمهما هللا والجماهيـر‬ ‫مــن الســلف والخلــف إلــى أنــه ال يكفــر بــل يفســق ويســتتاب فــإن تــاب‪،‬‬ ‫وإال قتلنــاه حـ ًّـدا كالزان ــي املحصــن‪ ...‬وذهــب جماعــة مــن الســلف إلــى‬ ‫أنــه يكفــر وهــو إحــدى الروايتـي ــن عــن أحمــد ب ــن حنبــل(‪ ... )7‬وذهــب أبــو‬ ‫حن ــيفة وجماعــة مــن أهــل الكوفــة واملزن ــي صاحــب الشــافعي رحمهمــا‬ ‫هللا أنــه ال يكفــر وال يقتــل بــل يعــزر ويحبــس حتــى يصلــي ‪ ...‬واحتــج‬ ‫الجمهــور علــى أنــه ال يكفــر بقولــه تعالــى ((إن هللا ال يغفــر أن يشــرك بــه‬ ‫ويغفــر مــا دون ذلــك ملــن يشــاء)) وبقولــه صلــى هللا عليــه و ســلم‪(( :‬مــن‬ ‫قــال ال إلــه اال هللا دخــل الجنــة)) ((مــن مــات وهــو يعلــم أن ال إلــه اال‬ ‫هللا دخــل الجنــة)) ((وال يلقــى هللا تعالــى عبــد بهمــا غي ــر شــاك فيحجــب‬ ‫عــن الجنــة)) ((حــرم هللا علــى النــار مــن قــال ال إلــه اال هللا)) وغي ــر ذلــك‬

‫العدد ‪ 2‬رجب ‪1439‬هـ‬

‫ّ‬ ‫وتأولــوا قولــه صلــى هللا عليــه وســلم ((بـي ــن العبــد وبـي ــن الكفــر ت ــرك‬ ‫الصــاة)) علــى معنــى أنــه يســتحق بت ــرك الصــاة عقوبــة الكافــر وهــي‬ ‫ـتح ِ ّل أو علــى أنــه قــد يــؤول بــه إلــى الكفر‬ ‫القتــل أو أنــه محمــول علــى املسـ ِ‬ ‫أو أن فعلــه فعــل الكفــار وهللا أعلــم)(‪.)8‬‬ ‫ومــن الب ـ ِّـين أننــا ال نســتخف بقــول مــن قــال بكفــره وهــي الروايــة األخــرى‬ ‫عنــد اإلمــام أحمــد رحمــه هللا‪ ،‬فليــس هــذا مــن مقصــود البحــث بــل‬ ‫ً‬ ‫القصــد َّأن الحكــم عليــه ّ‬ ‫بالتكفي ــر انطالقــا مــن الحديــث ذاتــه مــع‬ ‫ّ‬ ‫َّ‬ ‫يمثــل الوجهــة العامــة عنــد علمــاء‬ ‫تجاهــل النصــوص األخــرى ال ِ‬ ‫املسلمي ــن‪ ،‬ولــذا لــم يأخــذ الجمهــور بظاهــره‪ ،‬والــذي دعــا الجمهــور إلــى‬ ‫عــدم األخــذ بظاهــر هــذا الحديــث هــو ضــرورة فهمــه فــي ضــوء نصــوص‬ ‫َّ َ َ ْ َ ْ‬ ‫ْ‬ ‫هللا ل َيغ ِف ُر أ ْن ُيش َر َك ِب ِه َو َيغ ِف ُر‬ ‫((إن‬ ‫الشرع األخرى‪ ،‬ومنها قوله تعالى ِ‬ ‫َ َ ْ َ َّ َ َ ً‬ ‫َ ُ َ َ َ َْ َ َ َ​َ ْ ُ ْ‬ ‫ْ‬ ‫ً‬ ‫َ‬ ‫ـاهلل فقــد ضــل ضــال ب ِعيــدا))‬ ‫مــا دون ذ ِلــك ِلــن يشـ ُـاء ومــن يشـ ِـرك ِبـ ِ‬ ‫[النســاء‪ :‬اآليــة ‪.]116‬‬ ‫وهــذا الــذي ذكــره النـ ُّ‬ ‫ـووي مــن عــدم الحكــم علــى مرتكــب الكبـي ــرة بأنــه‬ ‫مــن الكفــار مالــم يكــن ارتكابــه للذنــب مــن بــاب االســتخفاف أو اإلنــكار‬ ‫ألصــل املشــروعية يمثــل أصـ ًـا مــن أصــول أهــل الســنة‪ ...‬وقــد َّ‬ ‫عبــر عــن‬ ‫هــذا اإلمــام النــووي بقولــه‪( :‬واعلــم أن مذهــب أهــل الســنة‪ ،‬ومــا عليــه‬ ‫أهــل الحــق مــن الســلف والخلــف أن مــن مــات ّ‬ ‫موحـ ًـدا دخــل الجنــة‬ ‫ِ‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫قطعا على كل حال‪ ،‬فإن كان سال ـا من املعا�صي كالصغيـر واملجنون‬ ‫والــذي اتصــل جنونــه بالبلــوغ والتائــب توبــة صحيحــة مــن الشــرك أو‬ ‫غيـره من املعا�صي إذا لم يحدث معصية بعد توبته‪ ،‬واملوفق الذي لم‬ ‫ً‬ ‫ُي َبتـ َـل بمعصيــة أصــا فــكل هــذا الصنــف يدخلــون الجنــة‪ ،‬وال يدخلــون‬ ‫ً‬ ‫النــار أصــا‪ ...‬وأمــا مــن كانــت لــه معصيــة كبـي ــرة‪ ،‬ومــات مــن غي ــر توبــة‬ ‫َ ً‬ ‫فهو في مشيئة هللا تعالى فإن شاء عفا عنه وأدخله الجنة أ َّول وجعله‬ ‫كالقســم األول‪ ،‬وإن شــاء عذبــه القــدر الــذى ي ـريده ســبحانه وتعالــى ثــم‬ ‫يدخلــه الجنــة‪ ،‬فــا يخلــد فــي النــار أحــد مــات علــى التوحيــد ولــو عمــل‬ ‫مــن املعا�صــي مــا عمــل‪ ،‬كمــا أنــه ال يدخــل الجنــة أحــد مــات علــى الكفــر‬ ‫ولــو عمــل مــن أعمــال الب ــر مــا عمــل‪ ،‬هــذا مختصــر جامــع ملذهــب أهــل‬ ‫الحــق فــي هــذه املســألة‪ ،‬وقــد تظاهــرت أدلــة الكتــاب والســنة وإجمــاع‬ ‫مــن يعتــد بــه مــن األمــة علــى هــذه القاعــدة‪ ،‬وتوات ــرت بذلــك نصـ ٌ‬ ‫ـوص‬ ‫تحصــل العلــم القطعــي فــإذا تقــررت هــذه القاعــدة حمــل عليهــا جميــع‬ ‫مــا ورد مــن أحاديــث البــاب وغي ــره فــإذا ورد حديــث فــي ظاهــره مخالفــة‬

‫َْ‬ ‫ْ ْ ُ ْ َ َ َ ْ َ َ َ َّ َ َ‬ ‫(‪ )6‬مسلم‪ ،‬صحيح مسلم‪ ،‬كتاب الصالة‪َ ،‬ب ُ‬ ‫الصلة رقم‪ ،134 :‬املحقق‪ :‬محمد فؤاد عبد الباقي‪ ،‬الناشر‪ :‬دار إحياء التـراث العربـي‪.‬‬ ‫اب َب َي ِان ِإطل ِق اس ِم الكف ِر على من ترك‬ ‫(‪ )7‬انظر في مذهب اإلمام أحمد ‪:‬الكافي في فقه اإلمام أحمد‪ ،‬ابـن قدامة املقد�سي‪ ،‬الناشر‪ :‬دار الكتب العلمية‪ ،‬الطبعة‪ :‬األولى‪ 1414 ،‬هـ ‪ 1994 -‬م‪.178 /1 : ،‬‬ ‫(‪ )8‬النووي‪ ،‬شرح النووي على مسلم‪ ،‬دار إحياء التـراث العربـي ‪ -‬بـيـروت الطبعة‪ :‬الثانـية‪.71 /2 ،1392 ،‬‬

‫‪41‬‬


‫أثـر مناهج األصولييـن‬ ‫وجــب تأويلــه عليهــا ليجمــع بـي ــن نصــوص الشــرع)(‪.)9‬‬ ‫وهــذا املنهــج الــذي ذكــره النــووي رحمــه هللا ال يتفــق مــع منهــج املعتزلــة‬ ‫القائل‪ :‬بأن صاحب الكبـيـرة ْإن مات عليها فهو في منزلة بـيـن املنزلتـيـن‪،‬‬ ‫وعليــه فهــو مخلــد فــي نــار جهنــم ال يخــرج منهــا أبـ ًـدا‪ ،‬ويســتحق العقوبــة‬ ‫علــى الــدوام وال ي ــنال الشــفاعة (‪ - )10‬وإن كان عذابــه أخــف مــن عــذاب‬ ‫الكفــار‪ -‬وهــذا املنهــج فيــه غلــو وعــدم اعتــدال ‪.‬‬ ‫وأساس ذلك عدم االعتداد بمناهج األصولييـن وهو حمل األحاديث‬ ‫واآليــات الت ــي يوهــم ظاهرهــا كفـ َـر صاحبهــا علــى اآليــات واألحاديــث‬ ‫األخــرى كمــا هــو منهــج األصوليي ــن مــن أهــل الســنة ‪.‬‬ ‫بــل نلحــظ أن اآليــة القرآن ــية الت ــي ذكرهــا النــووي ‪ -‬آيــة النســاء‪ -‬والت ــي‬ ‫ً‬ ‫أساســا فــي حمــل النصــوص األخــرى عليهــا هــي عنــد املعتزلــة‬ ‫كانــت‬ ‫ْ‬ ‫(‪)11‬‬ ‫مصنفــة مــع اآليــات املتشــابهة وجعلهــا كذلــك يعن ــي أنهــا ال تفهــم‬ ‫إال فــي ضــوء اآليــات املحكمــة عندهــم‪ ،‬يقــول القا�ضــي‪( :‬واعلــم أن‬ ‫مشــايخنا رحمهــم هللا قالــوا إن اآليــة مجملــة مفتقــرة إلــى الب ــيان‪ ،‬ألنــه‬ ‫َ َ َ َ‬ ‫َ ْ‬ ‫((و َيغ ِفـ ُـر َمــا ُدون ذ ِلـ َـك ِلـ ْـن َيشـ ُـاء)) ولــم يبـي ــن مــن الــذي َيغفــر لــه‪،‬‬ ‫قــال‪:‬‬ ‫فاحتمــل أن يكــون امل ـراد بــه أصحــاب الصغائــر‪ ،‬واحتمــل أن يكــون‬ ‫امل ـراد بــه أصحــاب الكبائــر‪ ،‬فســقط احتجاجهــم باآليــة) (‪.)12‬‬ ‫ّ ٌ‬ ‫وقــول القا�ضــي هــذا فيــه ُبعـ ٌـد وتكلــف ألن القضيــة ليســت هــي تمييــز‬ ‫الكبائــر عــن الصغائــر‪ ،‬وإنمــا القضيــة هــي أن مــا دون الشــرك تحــت‬ ‫املشيئة‪ ،‬فهذا هو وجه داللة اآلية وما قاله بعيد عن سياقها وداللتها‪،‬‬ ‫ويبــدو أن القا�ضــي شــعر ب ــركاكة الــرد‪ ،‬فحــاول أن يعضــد دليلــه بدليــل‬ ‫آخــر فقــال‪( :‬ووجــه آخــر وهــو أن أكث ــر مــا فــي اآليــة تجويــز أن يغفــر هللا‬ ‫تعالــى مــا دون الشــرك علــى مــا هــو مقــرر فــي العقــل‪ ،‬فلــو خلي ــنا وقضيــة‬ ‫ُ‬ ‫العقــل لك ّنــا نجــوز أن يغفــر هللا تعالــى مــا دون الشــرك ملــن يشــاء إذا‬ ‫ســمعنا هــذه اآليــة‪ ،‬غي ــر َّأن عمومــات الوعيــد تنقلنــا مــن التجويــز إلــى‬ ‫القطــع علــى أن أصحــاب الكبائــر يفعــل بهــم مــا يســتحقونه‪ ،‬وأنــه تعالــى‬ ‫ال يغفر لهم إال بالتوبة واإلنابة‪ ،‬ومتى قيل فما تلك العمومات؟ قلنا‪:‬‬ ‫َ‬ ‫َ َ َ َ‬ ‫((و َمـ ْـن َي ْعــص َ‬ ‫نحــو قولــه‪َ :‬‬ ‫هللا َو َر ُســول ُه فـ ِـإ َّن لـ ُـه نـ َـار َج َه َّنـ َـم خ ِال ِدي ـ َـن ِف َيهــا‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫أ َبـ ًـدا)) [الجــن‪ :‬اآليــة ‪.)13( ]23‬‬

‫أثـر مناهج األصولييـن‬

‫العدد ‪ 2‬رجب ‪1439‬هـ‬

‫وإذ كانــت هــذه العمومــات تنقــل مــن التجويــز إلــى القطــع فمــؤدى هــذا‬ ‫حمــل اآليــة الســابقة علــى هــذه العمومــات‪ ،‬وهــذا هــو التأويــل بحيــث‬ ‫ُ‬ ‫تحمل داللتها من التجويز إلى القطع‪ ،‬وهذا التجويز هو الذي جعلها‬ ‫مــن املتشــابه فــي نظــر القا�ضــي (‪.)14‬‬ ‫والشــك أن املنهــج الــذي ســار عليــه املعتزلــة فــي القــول بــأن أصحــاب‬ ‫الكبائــر فــي منزلــة بـي ــن منزلتـي ــن‪ ،‬وأنهــم ال ي ــنالون الشــفاعة فيــه غلـ ٌّـو‬ ‫ّ‬ ‫األصوليي ــن من أهل السنة الذي ــن حملوا‬ ‫فكر ٌّي‪ ،‬وهو بعيد عن منهج‬ ‫النصــوص علــى بعضهــا ووفقــوا بي ــنها‪ ،‬وكان املســتند لهــم فــي ذلــك‬ ‫النصــوص‪.‬‬ ‫يقول الشاطبـي‪( :‬قوله‪(( :‬إن هللا ال يغفر أن يشرك به)) اآلية [النساء‪:‬‬ ‫‪ ]48‬جامع للتخويف والتـرجية من حيث قيد غفران ما سوى الشرك‬ ‫باملشــيئة)(‪ )15‬ويقــول الباقالن ــي فــي اآليــة الســابقة‪( :‬فاســتثنى هللا تعالــى‬ ‫من املعا�صي التـي يجوز أن يغفرها الشرك‪ ،‬فألحقت األمة به ما كان‬ ‫َّ َ َ ْ ُ ُّ‬ ‫الذ ُنـ َ‬ ‫ـوب‬ ‫((إن هللا يغ ِفــر‬ ‫بمثابتــه مــن ضــروب الكفــر والشــرك‪ ،‬وقــال ِ‬ ‫َجم ً‬ ‫يعا))[الزمــر‪ ]53 :‬فلــم يخــرج ذلــك إال الكفــر والشــرك)(‪.)16‬‬ ‫ِ‬ ‫والذي حمل جمهور أهل الســنة على ذلك نصوص كثي ــرة من أب ــرزها‬ ‫قــول رســول هللا صلــى هللا عليــه وســلم فــي الحديــث املتفــق عليــه مــن‬ ‫((م ْن َشه َد َأ ْن ال إ َله إ َّال ُ‬ ‫َ‬ ‫هللا‬ ‫حديث عبادة بـن‬ ‫ِ ِ‬ ‫الصامت ر�ضي هللا عنه‪َِ ُ :‬‬ ‫َ‬ ‫َ ْ َُ َ َ َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ً‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫هللا‬ ‫وحــده ال شـريك َلــه‪ ،‬وأن مح َّمــدا عبــده ورســوله‪ ،‬وأن ِعي�ســى عبــد ِ‬ ‫َ​َ ُ ُ​ُ َ​َ َُ ُ ْ‬ ‫وح م ْنـ ُـه‪َ ،‬و ْال َج َّنـ ُـة َحـ ٌّـق‪َ ،‬و َّ‬ ‫َ َ َ َُ ٌ‬ ‫النـ ُـار َحـ ٌّـق‪،‬‬ ‫َورســوله وك ِلمتــه ألقاهــا ِإلــى م ْريــم ور ِ‬ ‫ْ‬ ‫ْ َ​َ ُ ُ ْ َ‬ ‫َ‬ ‫أدخلــه‬ ‫هللا ال َج َّنــة َعلــى َمــا ك َان ِمـ َـن ال َع َمــل))(‪ ،)17‬يقــول الب ــيضاوي عــن‬ ‫هذا الحديث‪( :‬فيه دليل على املعتزلة في مقاميـن أحدهما أن العصاة‬ ‫مــن أهــل القبلــة ال يخلــدون فــي النــار لعمــوم قولــه مــن شــهد)(‪.)18‬‬ ‫َ ْ َ َ َ ُ َ َ ْ َ ُ َ َّ ُ َ َ َ َّ ُ َ‬ ‫هللا َدخـ َـل‬ ‫ومــن ذلــك حديــث مســلم ((مــن مــات وهــو يعلــم أنــه ال ِإلــه ِإال‬ ‫ْ َ‬ ‫ال َج َّنــة))(‪ ،)19‬يقــول بــدر الدي ــن العيـن ــي‪( :‬فيــه حجــة ألهــل الســنة أن‬ ‫أصحاب الكبائر ال يقطع لهم بالنار وأنهم إن دخلوها خرجوا منها) (‪.)20‬‬ ‫هــذه نظــرة س ـريعة علــى قواعــد الغلــو عنــد املعتزلــة‪ ،‬ولكــن أكث ــر مــا‬ ‫واضحــا وصر ً‬ ‫ً‬ ‫يبــدو الغلـ ُّـو الفكــر ُّي‬ ‫يحــا عنــد الخــوارج‪ ،‬ومــا ذاك إال‬ ‫لبعدهــم عــن مناهــج األصوليي ــن فــي حمــل النصــوص علــى بعضهــا‬

‫(‪ )9‬شرح النووي على مسلم‪ )10( - .217 /1:‬القا�ضي عبد الجبار‪ ،‬شرح األصول الخمسة‪666:‬‬ ‫(‪ )11‬القا�ضي عبد الجبار‪ ،‬متشابه القرآن‪ )12( - .187:‬شرح األصول الخمسة‪.678:‬‬ ‫(‪ )13‬شرح األصول الخمسة‪ )14( - .678:‬متشابه القرآن‪.187:‬‬ ‫(‪ )15‬املوافقات‪ ،‬املؤلف‪ :‬إب ـراهيم ب ــن مو�ســى ب ــن محمد اللخمي الغرناطي الشهي ــر بالشاطب ــي‪،‬املحقق‪ :‬أبو عب ــيدة مشــهور ب ــن حســن آل ســلمان‪ ،‬الناشــر‪ :‬دار اب ــن عفان‪ ،‬الطبعة‪ :‬الطبعة األولى ‪1417‬هـ‪1997 /‬م‪.175 /4 .‬‬ ‫ويقــول فــي االعتصــام‪ »:‬مــن مــات علــى الكفــر ال غفـران لــه البتــة وإنمــا ي ــرجى الغفـران ملــن لــم يخرجــه عملــه عــن اإلســام لقــول هللا تعالــى ‪ (( :‬إن هللا ال يغفــر أن يشــرك بــه ويغفــر مــا دون ذلــك ملــن يشــاء )) االعتصــام‪.90/1:‬‬ ‫(‪ )16‬الباقالنـي‪ ،‬تمهيد األوائل وتلخيص الدالئل‪ )17( - .404 /1 :‬اللؤلؤ واملرجان فيما اتفق عليه الشيخان‪.12 /1 :‬‬ ‫َ ُ َ ْ َ‬ ‫َ َ َ ْ َ َّ َ َ ُ ّ َ َ َ‬ ‫هللا ب ْال َيمان َو ُهو َغ ْي ُر َش ّ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫اك ِف ِيه دخل الجنة وح ِرم على النار‪ ،‬رقم‪.43 :‬‬ ‫ٍ‬ ‫(‪)18‬فيض القديـر‪)19( - .205 /6 :‬صحيح مسلم‪ ،‬كتاب اإليمان‪ ،‬باب من ل ِقي ِ ِ ِ‬ ‫(‪ )20‬عمدة القاري شرح صحيح البخاري‪.120 /12:‬‬

‫‪42‬‬

‫وتفسيـرها وفقا لذلك‪ ،‬إذ إنهم قد تمسكوا بظواهر بعض النصوص‬ ‫وتجاهلــوا أخــرى‪ ،‬وهــذا التمســك هــو الــذي َّ‬ ‫جرهــم إلــى فهــم عجيــب‬ ‫لنصــوص الشـريعة‪ ،‬حيــث حملــوا آيــات الوعيــد علــى ظاهرهــا مــن غي ــر‬ ‫ْ‬ ‫أن يجمعــوا بـي ــن اآليــات واألحاديــث‪ ...‬ومــن هــؤالء (املك َرميــة أصحــاب‬ ‫مكــرم ب ــن عبــد هللا العجلــي الــذي كان مــن جملــة الثعالبــة وتفــرد عنهــم‬ ‫بــأن قــال‪ :‬تــارك الصــاة كافــر ال مــن أجــل ت ــرك الصــاة ولكــن مــن أجــل‬ ‫جهلــه بــاهلل تعالــى وطــرد هــذا فــي كل كبـي ــرة ي ـرتكبها اإلنســان‪ ،‬وقــال‪ :‬إنمــا‬ ‫يكفــر لجهلــه بــاهلل تعالــى وذلــك أن العــارف بوحدان ــية هللا تعالــى وأنــه‬ ‫املطلــع علــى ســره وعالن ــيته املجــازي علــى طاعتــه ومعصيتــه لــن يتصــور‬ ‫منــه اإلقــدام علــى املعصيــة واالجت ـراء علــى املخالفــة مــا لــم يغفــل عــن‬ ‫هــذه املعرفــة وال يبالــي بالتكليــف منــه‪ ،‬وعــن هــذا قــال النب ــي عليــه‬ ‫الصــاة و الســام‪(( :‬ال يزن ــي الزان ــي حي ــن يزن ــي وهــو مؤمــن وال يســرق‬ ‫الســارق حي ــن يســرق وهــو مؤمــن))(‪.)21‬‬ ‫يقــول الشــيخ الطاهــر ب ــن عاشــور‪( :‬فكمــا ال يجــوز حمــل كلماتــه علــى‬ ‫خصوصيــات جزئيــة ألن ذلــك يبطــل مـراد هللا‪ ،‬كذلــك ال يجــوز تعميــم‬ ‫مــا قصــد منــه الخصــوص وال إطــاق مــا قصــد منــه التقييــد؛ ألن ذلــك‬ ‫قــد يف�ضــي إلــى التخليــط فــي املـراد أو إلــى إبطالــه مــن أصلــه‪ ،‬وقــد اغت ــر‬ ‫بعــض الفــرق بذلــك‪ ،‬قــال اب ــن سيـري ــن فــي الخــوارج‪ :‬إنهــم عمــدوا إلــى‬ ‫آيــات الوعيــد النازلــة فــي املشركي ــن فوضعوهــا علــى املسلمي ــن فجــاؤوا‬ ‫ببدعــة القــول بالتكفي ــر بالذنــب)(‪.)22‬‬ ‫وهكــذا بــات مــن الواضــح بعــد مــا ذكرنــاه ضــرورة الرجــوع إلــى مناهــج‬ ‫ّ‬ ‫األصوليي ــن فــي حمــل النصــوص علــى بعضهــا‪ ،‬لنصــل إلــى م ـراد هللا‬ ‫وأحكامــه‪.‬‬

‫ثانـيا‪ .‬حمل النصوص على بعضها في مسائل الفقه‬ ‫مــن الجدي ــر ذكــره َّأن الخلــط عنــد عــدم حمــل النصــوص علــى بعضهــا‬ ‫ليس ًّ‬ ‫خاصا في مسائل أصول الدي ــن‪ ،‬بل االضطراب سيكون أكث ــر في‬ ‫َ َ‬ ‫مسائل الفقه نظرا إلى كث ــرة النصوص الواردة في دقائقه وتفاصيله‪،‬‬ ‫ويمكن ْأن نأخذ أمثلة كثي ــرة منها‪.‬‬ ‫املثال األول‪:‬‬ ‫َ‬ ‫قولــه ‪ْ َّ ُ ْ َ َ ُ ْ َ ْ َ ٌ ْ َ ُ َّ َ َ ْ َ ْ ُ ُ ْ َّ َ َ :‬‬ ‫س‬ ‫ِ‬ ‫((إذا صليتــم الفجــر ف ِإنــه وقــت ِإلــى أن يطلــع قــرن الشــم ِ‬

‫العدد ‪ 2‬رجب ‪1439‬هـ‬

‫َ َّ ُ ُ َّ َ َ َّ ْ ُ ُ ُّ ْ َ َ َّ ُ َ ْ ٌ َ َ ْ َ ْ ُ َ ْ َ ْ َ َ‬ ‫صـ ُـر‪ ،‬فـ ِـإذا‬ ‫األول‪ ،‬ثــم ِإذا صليتــم الظهــر ف ِإنــه وقــت ِإلــى أن يحضــر الع‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫َ َّ ْ ُ ُ ْ َ ْ َ َ َّ ُ َ ْ ٌ َ َ ْ َ ْ َ َّ َّ‬ ‫س‪َ ،‬فــإذا َ‬ ‫الشـ ْـم ُ‬ ‫صل ْي ُتـ ُـم‬ ‫صليتــم العصــر ف ِإنــه وقــت ِإلــى أن تصفــر‬ ‫ِْ‬ ‫َ‬ ‫ْ َ ْ َ َ َّ ُ َ ْ ٌ َ َ ْ َ ْ ُ َ َّ‬ ‫ص َّل ْي ُتـ ُـم الع َشـ َـاء َفإ َّنــهُ‬ ‫الشـ َـف ُق‪َ ،‬فــإذا َ‬ ‫الغـ ِـرب ف ِإنــه وقــت ِإلــى أن يســقط‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َّ‬ ‫َْ ٌ َ ْ‬ ‫ـف الل ْيـ ِـل))(‪.)23‬‬ ‫وقــت ِإلــى ِنصـ ِ‬ ‫يقــول اإلمــام النــووي‪(( :‬قولــه ‪ :‬فــإذا صليتــم العشــاء فإنــه وقــت إلــى‬ ‫نصــف الليــل معنــاه‪ :‬وقــت ألدائهــا اخت ـ ً‬ ‫ـيارا‪ ،‬أمــا وقــت الجــواز فيمتــد إلــى‬ ‫طلــوع الفجــر الثان ــي‪ ،‬لحديــث أب ــي قتــادة الــذي ذكــره مســلم بعــد هــذا‬ ‫فــي بــاب «مــن ن�ســي صــاة أو نــام عنهــا» ((أنــه ليــس فــي النــوم تفريــط إنمــا‬ ‫التفريــط علــى مــن لــم يصــل الصــاة حتــى يجــيء وقــت الصــاة األخــرى))(‪.)24‬‬ ‫يقــول الحافــظ العراقــي فــي الفتــح‪(( :‬قلــت وعمــوم حديــث أب ــي قتــادة‬ ‫مخصــوص باإلجمــاع فــي الصبــح)) (‪.)25‬‬ ‫املثال الثانـي‪:‬‬ ‫جــاء فــي الحديــث الــذي رواه اإلمــام مســلم مــن طريــق أب ــي مســعود‬ ‫األنصــاري ر�ضــي هللا عنــه‪ ،‬أن رســول هللا صلــى هللا عليــه وســلم قــال‪:‬‬ ‫ْ‬ ‫َ​َ َ‬ ‫َُ َْ َْ ُ‬ ‫َ َ ُ‬ ‫هللا‪ ،‬ف ِإ ْن كانوا ِفي ال ِق َر َاء ِة َس َو ًاء فأ ْعل ُم ُه ْم‬ ‫اب‬ ‫((يؤ ُّم الق ْو َم أق َرؤ ُه ْم ِل ِك َت‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َ​َْ‬ ‫ً َ َ ُ‬ ‫السـ َّـن ِة‪َ ،‬فــإ ْن َك ُانــوا فــي ُّ‬ ‫ب ُّ‬ ‫السـ َّـن ِة َسـ َـو ًاء فأق َد ُم ُهـ ْـم ِه ْجـ َـرة‪ ،‬فـ ِـإ ْن كانــوا ِفــي‬ ‫ِ َ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ْ ْ َ َ َ ً َ ْ َ ُ ُ ْ ْ ً َ َ َ ُ َّ َّ َّ ُ ُ َّ ُ َ ُ ْ َ َ َ‬ ‫ال ِهجر ِة ســواء فأقدمهم ِســلما‪ ،‬وال يؤمن الرجل الرجل ِفي ســلطا ِن ِه وال‬ ‫َ َْ‬ ‫َّ ْ‬ ‫َي ْق ُعـ ْـد ِفــي َب ْي ِتـ ِـه َعلــى تك ِر َم ِتـ ِـه ِإال ِب ِإذ ِنـ ِـه)) (‪.)26‬‬ ‫ظاهــر هــذا الحديــث أن األق ـرأ يقــدم فــي اإلمامــة ً‬ ‫مطلقــا ســواء أكان‬ ‫ُُْ ُ ْ َ‬ ‫ـور ال ُفق َهـ ِـاء‬ ‫عنــده فقــه أم ال‪ ،‬هــذا هــو ظاهــر الحديــث لكــن قــال َجمهـ‬ ‫ْ َ َ َّ َ ْ َ َّ َ َّ َّ َّ ْ ْ َ َ َ ْ َ ْ ْ َ ْ َ‬ ‫مــن الحن ِفيـ ِـة وال ِال ِكيـ ِـة والشــا ِف ِعي ِة‪ :‬إن األعلــم ِبأحــك ِام ال ِفقـ ِـه أولــى‬ ‫ْ​ْ‬ ‫ْ‬ ‫ِباإل َم َامـ ِـة ِمـ َـن األقـ َ ِـرأ‪ ،‬بــل إننــا نجــد اب ــن حجــر الهيتمــي وهــو مــن فقهــاء‬ ‫الشــافعية يقــول‪( :‬واألصــح أن األفقــه فــي الصــاة ومــا يتعلــق بهــا وإن‬ ‫لــم يحفــظ غي ــر الفاتحــة أولــى مــن األقـرأ غي ــر األفقــه وإن حفــظ جميــع‬ ‫الق ـرآن‪ ،)27( )...‬وهنــا قــد يســأل البعــض مــن أي ــن جــاء الفقهــاء بهــذا‬ ‫األمــر‪ ،‬أليــس قولهــم هــذا مخالــف للحديــث‪ ،‬ومصــادم لــه مــن حيــث‬ ‫ً‬ ‫مخالفــا للحديــث بــل هــو‬ ‫الظاهــر؟ والجــواب‪ :‬إن قــول الفقهــاء ليــس‬ ‫تطب ــيق عملــي للحديــث ومتفــق مــع الواقــع‪ ،‬وأدلتهــم علــى ذلــك ‪ :‬أوال‪:‬‬ ‫ً‬ ‫محصورا‬ ‫الحاجة إلى الفقه أهم لكون الواجب من القرآن في الصالة‬ ‫َّ ْ َ َ َ َّ َ ُ ْ َ ُ َ ْ َ َ‬ ‫َ‬ ‫والحــوادث فــي الصــاة ال تنحصــر‪ِ ،‬ألن ال ِقــراءة ِإنمــا يحتــاج ِإليهــا ِإلقامـ ِـة‬

‫(‪ )21‬الشهرستانـي‪ ،‬امللل والنحل‪ ،107:‬دار الفكر‪ ،‬دمشق‪ )22( - .2002 ،‬التحريـر والتنويـر ـ الطبعة التونسية ‪.50 /1 :‬‬ ‫َ ُ َْ َ‬ ‫ات َّ‬ ‫الص َل َو ِ ْ َ ْ‬ ‫س‪ ،‬رقم‪.171 :‬‬ ‫(‪ )23‬صحيح مسلم‪ ،‬كتاب الصالة‪ ،‬ب‬ ‫اب أوق ِ‬ ‫ات الخم ِ‬ ‫(‪ )24‬شرح صحيح مسلم‪ )25( - .138 /2:‬فتح الباري البـن حجر العسقالنـي‪.52 /2 :‬‬ ‫(‪ )26‬صحيح مسلم‪ ،‬طبعة دار الجيل كتاب املساجد ومواضع الصالة‪ ،‬باب من أحق باإلمامة رقم (‪)1564‬‬ ‫(‪ )27‬تحفة املحتاج في شرح املنهاج‪ ،‬طبعة املكتبة التجارية الكبـرى بمصر‪ ،‬عام النشر‪ 1357 :‬هـ ‪ 1983 -‬م‬

‫‪43‬‬


‫أثـر مناهج األصولييـن‬ ‫وجــب تأويلــه عليهــا ليجمــع بـي ــن نصــوص الشــرع)(‪.)9‬‬ ‫وهــذا املنهــج الــذي ذكــره النــووي رحمــه هللا ال يتفــق مــع منهــج املعتزلــة‬ ‫القائل‪ :‬بأن صاحب الكبـيـرة ْإن مات عليها فهو في منزلة بـيـن املنزلتـيـن‪،‬‬ ‫وعليــه فهــو مخلــد فــي نــار جهنــم ال يخــرج منهــا أبـ ًـدا‪ ،‬ويســتحق العقوبــة‬ ‫علــى الــدوام وال ي ــنال الشــفاعة (‪ - )10‬وإن كان عذابــه أخــف مــن عــذاب‬ ‫الكفــار‪ -‬وهــذا املنهــج فيــه غلــو وعــدم اعتــدال ‪.‬‬ ‫وأساس ذلك عدم االعتداد بمناهج األصولييـن وهو حمل األحاديث‬ ‫واآليــات الت ــي يوهــم ظاهرهــا كفـ َـر صاحبهــا علــى اآليــات واألحاديــث‬ ‫األخــرى كمــا هــو منهــج األصوليي ــن مــن أهــل الســنة ‪.‬‬ ‫بــل نلحــظ أن اآليــة القرآن ــية الت ــي ذكرهــا النــووي ‪ -‬آيــة النســاء‪ -‬والت ــي‬ ‫ً‬ ‫أساســا فــي حمــل النصــوص األخــرى عليهــا هــي عنــد املعتزلــة‬ ‫كانــت‬ ‫ْ‬ ‫(‪)11‬‬ ‫مصنفــة مــع اآليــات املتشــابهة وجعلهــا كذلــك يعن ــي أنهــا ال تفهــم‬ ‫إال فــي ضــوء اآليــات املحكمــة عندهــم‪ ،‬يقــول القا�ضــي‪( :‬واعلــم أن‬ ‫مشــايخنا رحمهــم هللا قالــوا إن اآليــة مجملــة مفتقــرة إلــى الب ــيان‪ ،‬ألنــه‬ ‫َ َ َ َ‬ ‫َ ْ‬ ‫((و َيغ ِفـ ُـر َمــا ُدون ذ ِلـ َـك ِلـ ْـن َيشـ ُـاء)) ولــم يبـي ــن مــن الــذي َيغفــر لــه‪،‬‬ ‫قــال‪:‬‬ ‫فاحتمــل أن يكــون امل ـراد بــه أصحــاب الصغائــر‪ ،‬واحتمــل أن يكــون‬ ‫امل ـراد بــه أصحــاب الكبائــر‪ ،‬فســقط احتجاجهــم باآليــة) (‪.)12‬‬ ‫ّ ٌ‬ ‫وقــول القا�ضــي هــذا فيــه ُبعـ ٌـد وتكلــف ألن القضيــة ليســت هــي تمييــز‬ ‫الكبائــر عــن الصغائــر‪ ،‬وإنمــا القضيــة هــي أن مــا دون الشــرك تحــت‬ ‫املشيئة‪ ،‬فهذا هو وجه داللة اآلية وما قاله بعيد عن سياقها وداللتها‪،‬‬ ‫ويبــدو أن القا�ضــي شــعر ب ــركاكة الــرد‪ ،‬فحــاول أن يعضــد دليلــه بدليــل‬ ‫آخــر فقــال‪( :‬ووجــه آخــر وهــو أن أكث ــر مــا فــي اآليــة تجويــز أن يغفــر هللا‬ ‫تعالــى مــا دون الشــرك علــى مــا هــو مقــرر فــي العقــل‪ ،‬فلــو خلي ــنا وقضيــة‬ ‫ُ‬ ‫العقــل لك ّنــا نجــوز أن يغفــر هللا تعالــى مــا دون الشــرك ملــن يشــاء إذا‬ ‫ســمعنا هــذه اآليــة‪ ،‬غي ــر َّأن عمومــات الوعيــد تنقلنــا مــن التجويــز إلــى‬ ‫القطــع علــى أن أصحــاب الكبائــر يفعــل بهــم مــا يســتحقونه‪ ،‬وأنــه تعالــى‬ ‫ال يغفر لهم إال بالتوبة واإلنابة‪ ،‬ومتى قيل فما تلك العمومات؟ قلنا‪:‬‬ ‫َ‬ ‫َ َ َ َ‬ ‫((و َمـ ْـن َي ْعــص َ‬ ‫نحــو قولــه‪َ :‬‬ ‫هللا َو َر ُســول ُه فـ ِـإ َّن لـ ُـه نـ َـار َج َه َّنـ َـم خ ِال ِدي ـ َـن ِف َيهــا‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫أ َبـ ًـدا)) [الجــن‪ :‬اآليــة ‪.)13( ]23‬‬

‫أثـر مناهج األصولييـن‬

‫العدد ‪ 2‬رجب ‪1439‬هـ‬

‫وإذ كانــت هــذه العمومــات تنقــل مــن التجويــز إلــى القطــع فمــؤدى هــذا‬ ‫حمــل اآليــة الســابقة علــى هــذه العمومــات‪ ،‬وهــذا هــو التأويــل بحيــث‬ ‫ُ‬ ‫تحمل داللتها من التجويز إلى القطع‪ ،‬وهذا التجويز هو الذي جعلها‬ ‫مــن املتشــابه فــي نظــر القا�ضــي (‪.)14‬‬ ‫والشــك أن املنهــج الــذي ســار عليــه املعتزلــة فــي القــول بــأن أصحــاب‬ ‫الكبائــر فــي منزلــة بـي ــن منزلتـي ــن‪ ،‬وأنهــم ال ي ــنالون الشــفاعة فيــه غلـ ٌّـو‬ ‫ّ‬ ‫األصوليي ــن من أهل السنة الذي ــن حملوا‬ ‫فكر ٌّي‪ ،‬وهو بعيد عن منهج‬ ‫النصــوص علــى بعضهــا ووفقــوا بي ــنها‪ ،‬وكان املســتند لهــم فــي ذلــك‬ ‫النصــوص‪.‬‬ ‫يقول الشاطبـي‪( :‬قوله‪(( :‬إن هللا ال يغفر أن يشرك به)) اآلية [النساء‪:‬‬ ‫‪ ]48‬جامع للتخويف والتـرجية من حيث قيد غفران ما سوى الشرك‬ ‫باملشــيئة)(‪ )15‬ويقــول الباقالن ــي فــي اآليــة الســابقة‪( :‬فاســتثنى هللا تعالــى‬ ‫من املعا�صي التـي يجوز أن يغفرها الشرك‪ ،‬فألحقت األمة به ما كان‬ ‫َّ َ َ ْ ُ ُّ‬ ‫الذ ُنـ َ‬ ‫ـوب‬ ‫((إن هللا يغ ِفــر‬ ‫بمثابتــه مــن ضــروب الكفــر والشــرك‪ ،‬وقــال ِ‬ ‫َجم ً‬ ‫يعا))[الزمــر‪ ]53 :‬فلــم يخــرج ذلــك إال الكفــر والشــرك)(‪.)16‬‬ ‫ِ‬ ‫والذي حمل جمهور أهل الســنة على ذلك نصوص كثي ــرة من أب ــرزها‬ ‫قــول رســول هللا صلــى هللا عليــه وســلم فــي الحديــث املتفــق عليــه مــن‬ ‫((م ْن َشه َد َأ ْن ال إ َله إ َّال ُ‬ ‫َ‬ ‫هللا‬ ‫حديث عبادة بـن‬ ‫ِ ِ‬ ‫الصامت ر�ضي هللا عنه‪َِ ُ :‬‬ ‫َ‬ ‫َ ْ َُ َ َ َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ً‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫هللا‬ ‫وحــده ال شـريك َلــه‪ ،‬وأن مح َّمــدا عبــده ورســوله‪ ،‬وأن ِعي�ســى عبــد ِ‬ ‫َ​َ ُ ُ​ُ َ​َ َُ ُ ْ‬ ‫وح م ْنـ ُـه‪َ ،‬و ْال َج َّنـ ُـة َحـ ٌّـق‪َ ،‬و َّ‬ ‫َ َ َ َُ ٌ‬ ‫النـ ُـار َحـ ٌّـق‪،‬‬ ‫َورســوله وك ِلمتــه ألقاهــا ِإلــى م ْريــم ور ِ‬ ‫ْ‬ ‫ْ َ​َ ُ ُ ْ َ‬ ‫َ‬ ‫أدخلــه‬ ‫هللا ال َج َّنــة َعلــى َمــا ك َان ِمـ َـن ال َع َمــل))(‪ ،)17‬يقــول الب ــيضاوي عــن‬ ‫هذا الحديث‪( :‬فيه دليل على املعتزلة في مقاميـن أحدهما أن العصاة‬ ‫مــن أهــل القبلــة ال يخلــدون فــي النــار لعمــوم قولــه مــن شــهد)(‪.)18‬‬ ‫َ ْ َ َ َ ُ َ َ ْ َ ُ َ َّ ُ َ َ َ َّ ُ َ‬ ‫هللا َدخـ َـل‬ ‫ومــن ذلــك حديــث مســلم ((مــن مــات وهــو يعلــم أنــه ال ِإلــه ِإال‬ ‫ْ َ‬ ‫ال َج َّنــة))(‪ ،)19‬يقــول بــدر الدي ــن العيـن ــي‪( :‬فيــه حجــة ألهــل الســنة أن‬ ‫أصحاب الكبائر ال يقطع لهم بالنار وأنهم إن دخلوها خرجوا منها) (‪.)20‬‬ ‫هــذه نظــرة س ـريعة علــى قواعــد الغلــو عنــد املعتزلــة‪ ،‬ولكــن أكث ــر مــا‬ ‫واضحــا وصر ً‬ ‫ً‬ ‫يبــدو الغلـ ُّـو الفكــر ُّي‬ ‫يحــا عنــد الخــوارج‪ ،‬ومــا ذاك إال‬ ‫لبعدهــم عــن مناهــج األصوليي ــن فــي حمــل النصــوص علــى بعضهــا‬

‫(‪ )9‬شرح النووي على مسلم‪ )10( - .217 /1:‬القا�ضي عبد الجبار‪ ،‬شرح األصول الخمسة‪666:‬‬ ‫(‪ )11‬القا�ضي عبد الجبار‪ ،‬متشابه القرآن‪ )12( - .187:‬شرح األصول الخمسة‪.678:‬‬ ‫(‪ )13‬شرح األصول الخمسة‪ )14( - .678:‬متشابه القرآن‪.187:‬‬ ‫(‪ )15‬املوافقات‪ ،‬املؤلف‪ :‬إب ـراهيم ب ــن مو�ســى ب ــن محمد اللخمي الغرناطي الشهي ــر بالشاطب ــي‪،‬املحقق‪ :‬أبو عب ــيدة مشــهور ب ــن حســن آل ســلمان‪ ،‬الناشــر‪ :‬دار اب ــن عفان‪ ،‬الطبعة‪ :‬الطبعة األولى ‪1417‬هـ‪1997 /‬م‪.175 /4 .‬‬ ‫ويقــول فــي االعتصــام‪ »:‬مــن مــات علــى الكفــر ال غفـران لــه البتــة وإنمــا ي ــرجى الغفـران ملــن لــم يخرجــه عملــه عــن اإلســام لقــول هللا تعالــى ‪ (( :‬إن هللا ال يغفــر أن يشــرك بــه ويغفــر مــا دون ذلــك ملــن يشــاء )) االعتصــام‪.90/1:‬‬ ‫(‪ )16‬الباقالنـي‪ ،‬تمهيد األوائل وتلخيص الدالئل‪ )17( - .404 /1 :‬اللؤلؤ واملرجان فيما اتفق عليه الشيخان‪.12 /1 :‬‬ ‫َ ُ َ ْ َ‬ ‫َ َ َ ْ َ َّ َ َ ُ ّ َ َ َ‬ ‫هللا ب ْال َيمان َو ُهو َغ ْي ُر َش ّ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫اك ِف ِيه دخل الجنة وح ِرم على النار‪ ،‬رقم‪.43 :‬‬ ‫ٍ‬ ‫(‪)18‬فيض القديـر‪)19( - .205 /6 :‬صحيح مسلم‪ ،‬كتاب اإليمان‪ ،‬باب من ل ِقي ِ ِ ِ‬ ‫(‪ )20‬عمدة القاري شرح صحيح البخاري‪.120 /12:‬‬

‫‪42‬‬

‫وتفسيـرها وفقا لذلك‪ ،‬إذ إنهم قد تمسكوا بظواهر بعض النصوص‬ ‫وتجاهلــوا أخــرى‪ ،‬وهــذا التمســك هــو الــذي َّ‬ ‫جرهــم إلــى فهــم عجيــب‬ ‫لنصــوص الشـريعة‪ ،‬حيــث حملــوا آيــات الوعيــد علــى ظاهرهــا مــن غي ــر‬ ‫ْ‬ ‫أن يجمعــوا بـي ــن اآليــات واألحاديــث‪ ...‬ومــن هــؤالء (املك َرميــة أصحــاب‬ ‫مكــرم ب ــن عبــد هللا العجلــي الــذي كان مــن جملــة الثعالبــة وتفــرد عنهــم‬ ‫بــأن قــال‪ :‬تــارك الصــاة كافــر ال مــن أجــل ت ــرك الصــاة ولكــن مــن أجــل‬ ‫جهلــه بــاهلل تعالــى وطــرد هــذا فــي كل كبـي ــرة ي ـرتكبها اإلنســان‪ ،‬وقــال‪ :‬إنمــا‬ ‫يكفــر لجهلــه بــاهلل تعالــى وذلــك أن العــارف بوحدان ــية هللا تعالــى وأنــه‬ ‫املطلــع علــى ســره وعالن ــيته املجــازي علــى طاعتــه ومعصيتــه لــن يتصــور‬ ‫منــه اإلقــدام علــى املعصيــة واالجت ـراء علــى املخالفــة مــا لــم يغفــل عــن‬ ‫هــذه املعرفــة وال يبالــي بالتكليــف منــه‪ ،‬وعــن هــذا قــال النب ــي عليــه‬ ‫الصــاة و الســام‪(( :‬ال يزن ــي الزان ــي حي ــن يزن ــي وهــو مؤمــن وال يســرق‬ ‫الســارق حي ــن يســرق وهــو مؤمــن))(‪.)21‬‬ ‫يقــول الشــيخ الطاهــر ب ــن عاشــور‪( :‬فكمــا ال يجــوز حمــل كلماتــه علــى‬ ‫خصوصيــات جزئيــة ألن ذلــك يبطــل مـراد هللا‪ ،‬كذلــك ال يجــوز تعميــم‬ ‫مــا قصــد منــه الخصــوص وال إطــاق مــا قصــد منــه التقييــد؛ ألن ذلــك‬ ‫قــد يف�ضــي إلــى التخليــط فــي املـراد أو إلــى إبطالــه مــن أصلــه‪ ،‬وقــد اغت ــر‬ ‫بعــض الفــرق بذلــك‪ ،‬قــال اب ــن سيـري ــن فــي الخــوارج‪ :‬إنهــم عمــدوا إلــى‬ ‫آيــات الوعيــد النازلــة فــي املشركي ــن فوضعوهــا علــى املسلمي ــن فجــاؤوا‬ ‫ببدعــة القــول بالتكفي ــر بالذنــب)(‪.)22‬‬ ‫وهكــذا بــات مــن الواضــح بعــد مــا ذكرنــاه ضــرورة الرجــوع إلــى مناهــج‬ ‫ّ‬ ‫األصوليي ــن فــي حمــل النصــوص علــى بعضهــا‪ ،‬لنصــل إلــى م ـراد هللا‬ ‫وأحكامــه‪.‬‬

‫ثانـيا‪ .‬حمل النصوص على بعضها في مسائل الفقه‬ ‫مــن الجدي ــر ذكــره َّأن الخلــط عنــد عــدم حمــل النصــوص علــى بعضهــا‬ ‫ليس ًّ‬ ‫خاصا في مسائل أصول الدي ــن‪ ،‬بل االضطراب سيكون أكث ــر في‬ ‫َ َ‬ ‫مسائل الفقه نظرا إلى كث ــرة النصوص الواردة في دقائقه وتفاصيله‪،‬‬ ‫ويمكن ْأن نأخذ أمثلة كثي ــرة منها‪.‬‬ ‫املثال األول‪:‬‬ ‫َ‬ ‫قولــه ‪ْ َّ ُ ْ َ َ ُ ْ َ ْ َ ٌ ْ َ ُ َّ َ َ ْ َ ْ ُ ُ ْ َّ َ َ :‬‬ ‫س‬ ‫ِ‬ ‫((إذا صليتــم الفجــر ف ِإنــه وقــت ِإلــى أن يطلــع قــرن الشــم ِ‬

‫العدد ‪ 2‬رجب ‪1439‬هـ‬

‫َ َّ ُ ُ َّ َ َ َّ ْ ُ ُ ُّ ْ َ َ َّ ُ َ ْ ٌ َ َ ْ َ ْ ُ َ ْ َ ْ َ َ‬ ‫صـ ُـر‪ ،‬فـ ِـإذا‬ ‫األول‪ ،‬ثــم ِإذا صليتــم الظهــر ف ِإنــه وقــت ِإلــى أن يحضــر الع‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫َ َّ ْ ُ ُ ْ َ ْ َ َ َّ ُ َ ْ ٌ َ َ ْ َ ْ َ َّ َّ‬ ‫س‪َ ،‬فــإذا َ‬ ‫الشـ ْـم ُ‬ ‫صل ْي ُتـ ُـم‬ ‫صليتــم العصــر ف ِإنــه وقــت ِإلــى أن تصفــر‬ ‫ِْ‬ ‫َ‬ ‫ْ َ ْ َ َ َّ ُ َ ْ ٌ َ َ ْ َ ْ ُ َ َّ‬ ‫ص َّل ْي ُتـ ُـم الع َشـ َـاء َفإ َّنــهُ‬ ‫الشـ َـف ُق‪َ ،‬فــإذا َ‬ ‫الغـ ِـرب ف ِإنــه وقــت ِإلــى أن يســقط‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َّ‬ ‫َْ ٌ َ ْ‬ ‫ـف الل ْيـ ِـل))(‪.)23‬‬ ‫وقــت ِإلــى ِنصـ ِ‬ ‫يقــول اإلمــام النــووي‪(( :‬قولــه ‪ :‬فــإذا صليتــم العشــاء فإنــه وقــت إلــى‬ ‫نصــف الليــل معنــاه‪ :‬وقــت ألدائهــا اخت ـ ً‬ ‫ـيارا‪ ،‬أمــا وقــت الجــواز فيمتــد إلــى‬ ‫طلــوع الفجــر الثان ــي‪ ،‬لحديــث أب ــي قتــادة الــذي ذكــره مســلم بعــد هــذا‬ ‫فــي بــاب «مــن ن�ســي صــاة أو نــام عنهــا» ((أنــه ليــس فــي النــوم تفريــط إنمــا‬ ‫التفريــط علــى مــن لــم يصــل الصــاة حتــى يجــيء وقــت الصــاة األخــرى))(‪.)24‬‬ ‫يقــول الحافــظ العراقــي فــي الفتــح‪(( :‬قلــت وعمــوم حديــث أب ــي قتــادة‬ ‫مخصــوص باإلجمــاع فــي الصبــح)) (‪.)25‬‬ ‫املثال الثانـي‪:‬‬ ‫جــاء فــي الحديــث الــذي رواه اإلمــام مســلم مــن طريــق أب ــي مســعود‬ ‫األنصــاري ر�ضــي هللا عنــه‪ ،‬أن رســول هللا صلــى هللا عليــه وســلم قــال‪:‬‬ ‫ْ‬ ‫َ​َ َ‬ ‫َُ َْ َْ ُ‬ ‫َ َ ُ‬ ‫هللا‪ ،‬ف ِإ ْن كانوا ِفي ال ِق َر َاء ِة َس َو ًاء فأ ْعل ُم ُه ْم‬ ‫اب‬ ‫((يؤ ُّم الق ْو َم أق َرؤ ُه ْم ِل ِك َت‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َ​َْ‬ ‫ً َ َ ُ‬ ‫السـ َّـن ِة‪َ ،‬فــإ ْن َك ُانــوا فــي ُّ‬ ‫ب ُّ‬ ‫السـ َّـن ِة َسـ َـو ًاء فأق َد ُم ُهـ ْـم ِه ْجـ َـرة‪ ،‬فـ ِـإ ْن كانــوا ِفــي‬ ‫ِ َ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ْ ْ َ َ َ ً َ ْ َ ُ ُ ْ ْ ً َ َ َ ُ َّ َّ َّ ُ ُ َّ ُ َ ُ ْ َ َ َ‬ ‫ال ِهجر ِة ســواء فأقدمهم ِســلما‪ ،‬وال يؤمن الرجل الرجل ِفي ســلطا ِن ِه وال‬ ‫َ َْ‬ ‫َّ ْ‬ ‫َي ْق ُعـ ْـد ِفــي َب ْي ِتـ ِـه َعلــى تك ِر َم ِتـ ِـه ِإال ِب ِإذ ِنـ ِـه)) (‪.)26‬‬ ‫ظاهــر هــذا الحديــث أن األق ـرأ يقــدم فــي اإلمامــة ً‬ ‫مطلقــا ســواء أكان‬ ‫ُُْ ُ ْ َ‬ ‫ـور ال ُفق َهـ ِـاء‬ ‫عنــده فقــه أم ال‪ ،‬هــذا هــو ظاهــر الحديــث لكــن قــال َجمهـ‬ ‫ْ َ َ َّ َ ْ َ َّ َ َّ َّ َّ ْ ْ َ َ َ ْ َ ْ ْ َ ْ َ‬ ‫مــن الحن ِفيـ ِـة وال ِال ِكيـ ِـة والشــا ِف ِعي ِة‪ :‬إن األعلــم ِبأحــك ِام ال ِفقـ ِـه أولــى‬ ‫ْ​ْ‬ ‫ْ‬ ‫ِباإل َم َامـ ِـة ِمـ َـن األقـ َ ِـرأ‪ ،‬بــل إننــا نجــد اب ــن حجــر الهيتمــي وهــو مــن فقهــاء‬ ‫الشــافعية يقــول‪( :‬واألصــح أن األفقــه فــي الصــاة ومــا يتعلــق بهــا وإن‬ ‫لــم يحفــظ غي ــر الفاتحــة أولــى مــن األقـرأ غي ــر األفقــه وإن حفــظ جميــع‬ ‫الق ـرآن‪ ،)27( )...‬وهنــا قــد يســأل البعــض مــن أي ــن جــاء الفقهــاء بهــذا‬ ‫األمــر‪ ،‬أليــس قولهــم هــذا مخالــف للحديــث‪ ،‬ومصــادم لــه مــن حيــث‬ ‫ً‬ ‫مخالفــا للحديــث بــل هــو‬ ‫الظاهــر؟ والجــواب‪ :‬إن قــول الفقهــاء ليــس‬ ‫تطب ــيق عملــي للحديــث ومتفــق مــع الواقــع‪ ،‬وأدلتهــم علــى ذلــك ‪ :‬أوال‪:‬‬ ‫ً‬ ‫محصورا‬ ‫الحاجة إلى الفقه أهم لكون الواجب من القرآن في الصالة‬ ‫َّ ْ َ َ َ َّ َ ُ ْ َ ُ َ ْ َ َ‬ ‫َ‬ ‫والحــوادث فــي الصــاة ال تنحصــر‪ِ ،‬ألن ال ِقــراءة ِإنمــا يحتــاج ِإليهــا ِإلقامـ ِـة‬

‫(‪ )21‬الشهرستانـي‪ ،‬امللل والنحل‪ ،107:‬دار الفكر‪ ،‬دمشق‪ )22( - .2002 ،‬التحريـر والتنويـر ـ الطبعة التونسية ‪.50 /1 :‬‬ ‫َ ُ َْ َ‬ ‫ات َّ‬ ‫الص َل َو ِ ْ َ ْ‬ ‫س‪ ،‬رقم‪.171 :‬‬ ‫(‪ )23‬صحيح مسلم‪ ،‬كتاب الصالة‪ ،‬ب‬ ‫اب أوق ِ‬ ‫ات الخم ِ‬ ‫(‪ )24‬شرح صحيح مسلم‪ )25( - .138 /2:‬فتح الباري البـن حجر العسقالنـي‪.52 /2 :‬‬ ‫(‪ )26‬صحيح مسلم‪ ،‬طبعة دار الجيل كتاب املساجد ومواضع الصالة‪ ،‬باب من أحق باإلمامة رقم (‪)1564‬‬ ‫(‪ )27‬تحفة املحتاج في شرح املنهاج‪ ،‬طبعة املكتبة التجارية الكبـرى بمصر‪ ،‬عام النشر‪ 1357 :‬هـ ‪ 1983 -‬م‬

‫‪43‬‬


‫أثـر مناهج األصولييـن‬ ‫ْ ْ َ َ ْ َ َ َ ُّ َ‬ ‫َ ْ ْ ُ َْ ُ َ َ‬ ‫ْ َ‬ ‫الســن ِن ‪.‬‬ ‫ـات و‬ ‫ُركـ ٍـن و ِاحـ ٍـد‪ ،‬وال ِفقــه ُيحتــاج ِإل ْيـ ِـه ِلج ِميـ ِـع األرك ِان والو ِاجبـ ِ‬ ‫الثان ــي‪ :‬أن النب ــي صلــى هللا عليــه وســلم فــي مرضــه طلــب مــن أب ــي بكــر‬ ‫أن يـ َّ‬ ‫ـؤم النــاس وفــي القــوم مــن هــو أق ـرأ منــه‪ ،‬لكــن أبــا بكــر كان أعلــم‬ ‫النــاس‪ ،‬وقــد قــال هــذا أبــو ســعيد الخــدري فــي الحديــث املتفــق عليــه‪.‬‬ ‫لكن قد يقال هنا‪ ،‬كيف أجاب جمهور الفقهاء عن حديث يؤم القوم‬ ‫ّ‬ ‫أقرؤهــم لكتــاب هللا؟ الجــواب عــن ذلــك نجــده عنــد الخطاب ـ ّ ِـي وغي ــره‪،‬‬ ‫يقــول الخطاب ــي‪( :‬وإنمــا قـ ِّـدم القــارئ فــي الذكــر ألن عامــة الصحابــة إذا‬ ‫اعتب ــرت أحوالهــم وجــدت أق َرأهــم َ‬ ‫أفقههــم‪ ،‬وقــال أبــو مســعود‪ :‬كان‬ ‫أحدنــا إذا حفــظ ســورة مــن الق ـرآن لــم يخــرج عنهــا إلــى غي ــرها حتــى‬ ‫يحكم علمها أو يعرف حاللها وحرامها أو كما قال‪ ،‬فأما غيـرهم ممن‬ ‫َ‬ ‫تأخــر بهــم الزمــان فــإن أكث ــرهم يقــرؤون القـرآن وال يفقهــون‪ ،‬ف ُق َّراؤهــم‬ ‫ً‬ ‫كثي ــر والفقهــاء منهــم قليــل)(‪ّ ،)28‬‬ ‫وكأنهــم جعلــوا الحديــث مرتبطــا بعلــة‬ ‫ُمحـ َّـددة وهــي َّأن القــارئ كان ً‬ ‫فقهيــا‪ ،‬ومــا وجــد فــي العصــور املتأخــرة على‬ ‫خالف ما كان األمر عليه في صدر اإلسالم إذ تجد في زمننا من يحفظ‬ ‫القـرآن بالقـراءات املتوات ــرة مــن خــال املعاهــد والجامعــات املختصــة‬ ‫بالق ـراءات بعيـ ًـدا عــن األحــكام الفقهيــة‪ ،‬ومــن هنــا نــدرك أهميــة مــا‬ ‫ذكــره جمهــور الفقهــاء مــن املالكيــة والشــافعية والحنفيــة مــن تقديــم‬ ‫الفقــه علــى القـراءة(‪.)29‬‬ ‫املثال الثالث‪:‬‬ ‫َ َ َ َ ُ ُ َ َّ‬ ‫لل صلــى هللا عليــه وســلم‬ ‫َعـ ْـن َج ِابـ ٍـر ر�ضــي هللا عنــه قــال‪ :‬قـ‬ ‫ـال َرســو َل ا ِ‬ ‫َ َ َ َ َ َ ُ ُ ُ َْ َْ َ َ ْ ْ َ َ َ ْ َ ْ ُ َ َْ َ َ ْ ُ ُ َ‬ ‫ـوه ِإلــى‬ ‫((إذا خطــب أحدكــم الــرأة فـ ِـإن ِاســتطاع أن ينظــر ِمنهــا مــا يدعـ‬ ‫ِ‬ ‫ص َّح َحــهُ‬ ‫ن َكاح َهــا ‪َ ,‬ف ْل َي ْف َعـ ْـل)) َر َو ُاه َأ ْح َمـ ُـد َوَأ ُبــو َد ُاو َد َور َج ُالـ ُـه ث َقـ ٌ‬ ‫ـات َو َ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َ ْ َ ُ َ َ ُ َ ٌ ْ َ َ ّ ْ ّ َ َّ َ ّ َ ْ ُ‬ ‫َ (‪)30‬‬ ‫الح ِاكم وله ش ِاهد ِعند ا ِلتر ِم ِذ ِي والنسا ِئ ِي ع ِن ال ِغيـر ِة‪ .‬وذكره ابـن‬ ‫حجــر فــي الفتــح وقــال ‪ :‬ســنده حســن(‪.) 31‬‬ ‫ظاهــر الحديــث ُم ْشــكل حيــث إنــه يجيــز َّ‬ ‫النظــر إلــى أماكــن أخــرى مــن‬ ‫الجســم كالصــدر والظهــر‪.‬‬ ‫ألن هــذه املواضــع قــد تكــون مدعــاة إلــى الــزواج‪ ،‬ولكــن ظاهــره ليــس‬ ‫مـر ًادا بــل هــو ُم ّ‬ ‫قيــد بالوجــه واليدي ــن‪ ،‬يقــول اب ــن قدامــة‪( :‬ويجــوز ملــن‬ ‫أراد خطبــة ام ـرأة النظــر إلــى وجههــا مــن غي ــر خلــوة بهــا‬

‫حقوق ذوي االحتياجات الخاصة‬

‫العدد ‪ 2‬رجب ‪1439‬هـ‬

‫ملــا روى جاب ــر قــال‪ :‬قــال رســول هللا صلــى هللا عليــه وســلم‪(( :‬إذا‬ ‫خطــب أحدكــم املـرأة فــان اســتطاع أن ي ــنظر إلــى مــا يدعــوه إلــى نكاحهــا‬ ‫فليفعــل))‪ ...‬وال بــأس بالنظــر إليهــا بإذنهــا وغي ــر إذنهــا ألن ّ‬ ‫النب ـ ّـي صلــى‬ ‫هللا عليه وســلم أمر بالنظر وأطلق‪ ...‬وال ي ــنظر إليها نظر تلذذ وشــهوة‬ ‫وال لريبــة‪ ،‬قــال أحمــد فــي روايــة صالــح‪( :‬ي ــنظر إلــى الوجــه وال تكــون علــى‬ ‫طريــق لــذة ولــه تك ـرار النظــر إليهــا وتأمــل محاســنها ألن املقصــود إنمــا‬ ‫يحصــل بذلــك‪ ...‬وال خــاف بـي ــن أهــل العلــم فــي إباحــة النظــر إلــى وجههــا‬ ‫ألنــه ليــس بعــورة وهــو مجمــع املحاســن وموضــع النظــر)(‪.)32‬‬ ‫ولــو أردنــا ْأن نقــف عنــد النصــوص وضــرب األمثلــة لطــال ب ــنا املقــام‬ ‫ولــذا نكتفــي بمــا تقــدم‪.‬‬

‫ ‬

‫الخامتة‬

‫كاف للتعــرف علــى علــم أصــول الفقــه ودور‬ ‫إن مــا ســبق ٍ‬ ‫قواعــده فــي فهــم نصــوص القــرآن والســنة وضبــط أحكامهمــا‪،‬‬ ‫ً‬ ‫ســواء املتصــل منهــا بأصــول الدي ــن أم بفروعــه‪ ...‬وانطالقــا مــن‬ ‫معرفتنــا بهــذه القيمــة الكب ــرى ألصــول الفقــه فــي ضبــط مسي ــرة‬ ‫االجتهــاد فإننــا ندعــو املؤسســات العلميــة والديـن ــية إلــى تفعيــل‬ ‫دور أصــول الفقــه وتدريســه وإنشــاء املراكــزوالكليــات الخاصــة‬ ‫بــه‪ ،‬لعلــه يخفــف مــن حــدة موجــة الجهــل والغلــو الت ــي تجتــاح‬ ‫العالــم اإلســامي اليــوم‪.‬‬ ‫وقــد الحظنــا مــن خــال مــا جــاء بــه الخــوارج واملعتزلــة أن معظــم‬ ‫مــا وقعــوا فيــه ســببه تجاهــل قواعــد أصــول الفقــه وتفسي ــر‬ ‫ّ‬ ‫النصــوص بعيـ ًـدا عــن ضوابطــه‪ ...‬ومــن املجــزوم بــه أن مناهــج‬ ‫أصــول الفقــه العامــة ُمفتقــدة عنــد معظــم غــاة العصــر مــن‬ ‫ً‬ ‫دواعش وغي ــرهم‪ ،‬فضل عن معرفتهم بالخاص والعام واملطلق‬ ‫ُ‬ ‫وامل َّ‬ ‫قيــد والناســخ واملنســوخ‪ ،‬وقــد كان لذلــك أث ـ ٌـركبـي ــرفــي تكفي ــر‬ ‫النــاس واســتباحة دمائهــم‪.‬‬

‫(‪ )28‬معالم السنن‪ ،‬الخطابـي‪،‬الناشر‪ :‬املطبعة العلمية ‪ /‬حلب‪ ،‬الطبعة‪ :‬األولى ‪ 1351‬هـ ‪ 1932 -‬م‪.167 /1 .‬‬ ‫(‪ )29‬يقــول اب ــن الجــوزي عــن الحديــث الســابق ‪ »:‬هــذا الحديــث يــدل علــى تقديــم القــارئ علــى الفقيــه‪ ،‬وهــو مذهــب أحمــد ب ــن حنبــل‪ ،‬وإنمــا يقــدم إذا كان يعــرف أحــكام الصــاة‪ ،‬فذلــك الــذي هــو أولــى مــن الفقيــه الــذي ال يحســن إال‬ ‫الفاتحة‪ .‬وقال أبو حنـيفة ومالك والشافعي‪ :‬الفقيه أولى « كشف املشكل من حديث الصحيحيـن‪ ،207 /2 :‬وفي مذاهب الفقهاء في املسألة انظر‪ :‬الهداية في شرح بداية املبتدي‪ ،‬للمرغيـنانـي‪ .57 /1 :‬مغنـي املحتاج إلى معرفة‬ ‫معانـي ألفاظ املنهاج‪ ،‬للخطيب الشربـيـنـي‪ ،.486 /1 :‬الروض املربع شرح زاد املستقنع‪ ،129 /1 :‬بداية املجتهد ونهاية املقتصد‪.154 /1:‬‬ ‫(‪ )30‬بلوغ املرام من أدلة األحكام‪.379 /1:‬‬ ‫(‪ )31‬فتح الباري‪.171 /9:‬‬ ‫(‪ )32‬الشرح الكبـيـر البـن قدامة‪.342/7 :‬‬

‫‪44‬‬

‫العدد ‪ 2‬رجب ‪1439‬هـ‬

‫اخلاصة‬ ‫االحتياجات‬ ‫ُحقوق َذوي‬ ‫َّ‬ ‫ِ‬

‫القرآن الكريم‬ ‫مــن َمنظو ِر‬ ‫ِ‬ ‫الدكتور محمد محمود كالو‬

‫أستاذ مشارك يف كلية العلوم اإلسالمية بجامعة أديامان‪ -‬تـركيا‬

‫ ‬

‫مقدمة‬

‫الحمد هلل رب العاملـيـن‪ ،‬وأفضل الصالة وأتم التسليم على نب ّـينا محمد وعلى آله وصحبه‬ ‫أجمعيـن‪،‬وبعد‪:‬‬ ‫فعندما ّ‬ ‫نتتبع أحوال ذوي االحتـياجات الخاصة عبـرالتاريخ نجد أن الدولة الرومانـية التـي‬ ‫ُّ‬ ‫تمـيزت بالصبغة الحربـية حاولت التخلص من ذوي االحتـياجات الخاصة‪ ،‬وكان القانون‬ ‫َ‬ ‫حرم بعض ذوي االحتـياجات الخاصة من الحقوق والواجبات التـي‬ ‫اإلنجليـزي القديم ي ِ‬ ‫لهم‪ ،‬أما اليونان فكانت فلسفاتهم وقوانـيـنهم تسمح بالتخلص ممن بهم نقص جسمـي‪،‬‬ ‫وقــد أعلــن أفالطــون وأرســطوطاليــس موافقتهمــا علــى هــذا العمــل‪ ،‬وكانــت الســال تبــاع‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫علنا في أسواق إسبـرطة وأثيـنا‪ ،‬ليوضع فيها الصغاراملشوهون خارج املديـنة إهالكا لهم‪،‬‬ ‫ً‬ ‫وفــي رومــا ظــل النــاس أجيــال عديــدة يغرقــون األطفال غي ــرمكتملي النمــو (‪.)1‬‬ ‫وكان املجذومــون فــي أوربــا املسـ ّ‬ ‫ـيحية ُي َ‬ ‫عاملــون معاملــة قاســية فــي كثي ــر مــن األحيــان‬ ‫ويتعرضــون للمــوت بقــرارات مــن ملوكهــم بطريقــة وحشــية‪ ،‬فقــد قــام امللــك فيليــب‬ ‫الخامــس ملــك فرنســا (‪1322-1316‬م) بجمعهــم وحرقهــم أحيــاء‪ ،‬وأمــربتكــرارذلــك إن‬ ‫وجــدوا‪ ،‬وكذلــك فعــل امللــك تشــارلز الخامــس(‪.)2‬‬ ‫أمــا فــي العهــد اإلسالم ــي فقــد كان االهتمــام بــكل فئــات املجتمــع وخاصــة الضعفــاء وذوي‬ ‫َْ َ َ‬ ‫ـس َعلــى‬ ‫االحت ــياجات الخاصــة مــن أســس الدي ــن‪ ،‬وممــا يؤكــد ذلــك قولــه تعالــى‪ (( :‬ليـ‬ ‫ُّ َ َ َ َ َ َ ْ َ ْ َ َ َ َ َ َّ َ َ َ ُ َ َ ُ ُ َ َ َ ٌ َ َ َ ُ َّ‬ ‫نفقــون حــرج ِإذا نصحــوا ِلل ـ ِـه‬ ‫الضعفـ ِـاء ول علــى الر�ضــى ول علــى ال ِذي ــن ل ي ِجــدون مــا ي ِ‬ ‫َ َ​َ ُْ‬ ‫ال ْحسني ـ َـن مــن َســبيل َو ُ‬ ‫َ​َ ُ‬ ‫هللا َغ ُفـ ٌ‬ ‫ـور َّر ِحيـ ٌـم)) [ســورة التوبــة‪.]91:‬‬ ‫ـول ِه مــا علــى‬ ‫ورسـ ِ‬ ‫ِ ِ ِ‬ ‫ِ ٍ‬ ‫وب ـ َّـين النب ــي صلــى هللا عليــه وســلم أن هــؤالء الضعفــاء مــن أســباب الــرزق والنصــر‪َ ،‬‬ ‫فعـ ْـن‬ ‫َ َّ ُ َ‬ ‫ُ َْ ْ ُ َ ْ ْ َ ْ‬ ‫َ َّ ُ َ َ َ َ َّ َ َ ُ ُ َ ْ ُ ُ َ‬ ‫هللا َعل ْيـ ِـه‬ ‫هللا صلــى‬ ‫جبيـ ِـربـ ِـن نفيـ ٍـرالحض َر ِمـ ّ ِـي‪ ،‬أنــه سـ ِـمع أبــا الــد ْرد ِاء‪ ،‬يقــول‪ :‬سـ ِـمعت َرســول ِ‬ ‫ُّ َ َ َ َ َّ َ ُ ْ َ ُ َ َ ُ ْ َ َ ُ َ ُ‬ ‫َ َ َّ َ َ ُ ُ ْ ُ‬ ‫((ابغو ِنــي الضعفــاء‪ ،‬ف ِإنمــا ترزقــون وتن‬ ‫وســلم يقــول‪:‬‬ ‫صـ ُـرون ِبض َعفا ِئكـ ْـم)) (‪.)3‬‬ ‫ـاب‬ ‫ولقــد نــزل فــي حــق بعــض ذوي االحت ــياجات الخاصــة آيــات تتلــى إلــى يــوم القيامــة‪ ،‬بــل مــع عتـ ٍ‬ ‫للنب ــي صلــى هللا عليــه وســلم‪ ،‬وال َّ‬ ‫أدل علــى ذلــك مــن قصــة الصحاب ــي الجليــل عبــد هللا ب ــن أم‬ ‫َ َ َ َ َ َ َّ َ َ َ ُ ْ َ ْ َ َ َ ُ ْ َ َ َ َّ ُ َ َّ َّ‬ ‫مكتوم ر�ضي هللا عنه‪ ،‬قال هللا تعالى‪(( :‬عبس وتولى* أن جاءه العمى* وما يد ِريك لعله يزكى *‬ ‫(‪ )1‬الرعاية الطبية والصحية ودور الخدمة االجتماعية‪ ،‬إقبال محمد بشيـر وغيـره‪ ،‬اإلسكندرية‪ ،‬املكتب الجامعي الحديث‪ ،‬د‪.‬ت‪( ،‬ص‪.)3-2‬‬ ‫(‪ )2‬ذوو االحتياجات الخاصة باملغرب واألندلس‪ ،‬د‪.‬نجالء سامي النبـراوي‪ ،‬من منشورات األلوكة‪( ،‬ص ‪.)23‬‬ ‫ْ َ ُ ُ ْ َ ْ َ َّ َ‬ ‫(‪ )3‬سنن أبي داود‪ ،‬كتاب الجهاد‪َ ،‬ب ٌ‬ ‫الض َعف ِة‪ ،‬رقم (‪.)2594‬‬ ‫اب ِفي ِالن ِتص ِار ِبرذ ِل الخي ِل و‬ ‫(‪ )4‬ذكره الديلمي في الفردوس‪( ،‬ج‪ ،4‬ص‪ ،)164‬رقم (‪ )6510‬من حديث أنس ر�ضي هللا عنه‪.‬‬

‫َ ْ َ َّ َّ ُ َ َ َ َ ُ ّ‬ ‫اس َت ْغ َنى* َف َأ َ‬ ‫الذ ْك َرى* َأ َّما َمن ْ‬ ‫نت‬ ‫أو يذكر فتنفعه ِ‬ ‫ِ‬ ‫صـ َّـدى * َو َمــا َع َل ْيـ َـك َأ َّل َي َّز َّ ـكـى * َوَأ َّمــا َمــن َجـ َـاءكَ‬ ‫َلـ ُـه َت َ‬ ‫َ ْ َ َ ُ َ َ ْ َ َ​َ‬ ‫َ​َ‬ ‫�شــى * فأنـ َـت َع ْنـ ُـه تل َّهــى)) [ســورة‬ ‫يســعى * وهــو يخ‬ ‫ً‬ ‫عبــس‪ ،]10-1:‬ولــو تفكرنــا قليــا فــي هــذه اآليــة‬ ‫الكريمــة‪ ،‬لوجدنــا أن األعمــى لــم يكــن لــه ْأن ي ــرى‬ ‫ُع ُبــوس الرســول عليــه أفضــل الصــاة والســام؛‬ ‫ومــع ذلــك الم هللا تعالــى نب ـ َّـيه علــى ذلــك التصــرف‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫وهنــا نــرى علــة املعاتبــة؛ لكونــه صلــى هللا عليــه‬ ‫وســلم انشــغل بدعــوة الوجهــاء عــن قضــاء حاجــة‬ ‫ُ‬ ‫هــذا الكفيــف‪ ،‬وكان األولــى أن تق�ضــى حاجتــه‪،‬‬ ‫َُ‬ ‫وتق َّد َم على حاجات من سواه من الناس‪ ،‬ألنه من‬ ‫ذوي االحتـياجات الخاصة‪َ ،‬وو َر َد أن الرسول عليه‬ ‫أفضل الصالة والسالم كان بعد نزول تلك اآليات‬ ‫يستبشر حي ــن يقابل «اب ــن أم مكتوم» ويقول له‪:‬‬ ‫َ‬ ‫((مر َح ًبا بك َيا بـن َم ْك ُتوم ْ‬ ‫ْ‬ ‫مر َح ًبا ِب َر ُجل َعات َب ِني ِف ِيه‬ ‫َ ِّربــي عــز َوجــل))(‪ ،)4‬وكان إذا غــاب عــن املدي ــنة‪ -‬بعــد‬ ‫ّ‬ ‫يوليــه عليهــا إكر ًامــا لــه حتــى يعــود‪.‬‬ ‫الهجــرة‪ِ -‬‬ ‫وفي التاريخ اإلسالمـي نجد النماذج املثلى في العناية‬ ‫والرعايــة لــذوي االحت ــياجات الخاصــة‪ ،‬فالخليفــة‬ ‫عمــر ب ــن الخطــاب ر�ضــي هللا عنــه رعــى األمــة كلهــا‬ ‫ومنهــم هــذه الش ـريحة مــن ذوي االحت ــياجات‬ ‫ُ‬ ‫الخاصــة‪ ،‬جــاء فــي تاريــخ دمشــق‪( :‬قتــل الطفيــل‬ ‫ب ــن عمــرو باليمامــة شـ ً‬ ‫ـهيدا‪ ،‬وجــرح اب ــنه عمــرو ب ــن‬

‫‪45‬‬


‫أثـر مناهج األصولييـن‬ ‫ْ ْ َ َ ْ َ َ َ ُّ َ‬ ‫َ ْ ْ ُ َْ ُ َ َ‬ ‫ْ َ‬ ‫الســن ِن ‪.‬‬ ‫ـات و‬ ‫ُركـ ٍـن و ِاحـ ٍـد‪ ،‬وال ِفقــه ُيحتــاج ِإل ْيـ ِـه ِلج ِميـ ِـع األرك ِان والو ِاجبـ ِ‬ ‫الثان ــي‪ :‬أن النب ــي صلــى هللا عليــه وســلم فــي مرضــه طلــب مــن أب ــي بكــر‬ ‫أن يـ َّ‬ ‫ـؤم النــاس وفــي القــوم مــن هــو أق ـرأ منــه‪ ،‬لكــن أبــا بكــر كان أعلــم‬ ‫النــاس‪ ،‬وقــد قــال هــذا أبــو ســعيد الخــدري فــي الحديــث املتفــق عليــه‪.‬‬ ‫لكن قد يقال هنا‪ ،‬كيف أجاب جمهور الفقهاء عن حديث يؤم القوم‬ ‫ّ‬ ‫أقرؤهــم لكتــاب هللا؟ الجــواب عــن ذلــك نجــده عنــد الخطاب ـ ّ ِـي وغي ــره‪،‬‬ ‫يقــول الخطاب ــي‪( :‬وإنمــا قـ ِّـدم القــارئ فــي الذكــر ألن عامــة الصحابــة إذا‬ ‫اعتب ــرت أحوالهــم وجــدت أق َرأهــم َ‬ ‫أفقههــم‪ ،‬وقــال أبــو مســعود‪ :‬كان‬ ‫أحدنــا إذا حفــظ ســورة مــن الق ـرآن لــم يخــرج عنهــا إلــى غي ــرها حتــى‬ ‫يحكم علمها أو يعرف حاللها وحرامها أو كما قال‪ ،‬فأما غيـرهم ممن‬ ‫َ‬ ‫تأخــر بهــم الزمــان فــإن أكث ــرهم يقــرؤون القـرآن وال يفقهــون‪ ،‬ف ُق َّراؤهــم‬ ‫ً‬ ‫كثي ــر والفقهــاء منهــم قليــل)(‪ّ ،)28‬‬ ‫وكأنهــم جعلــوا الحديــث مرتبطــا بعلــة‬ ‫ُمحـ َّـددة وهــي َّأن القــارئ كان ً‬ ‫فقهيــا‪ ،‬ومــا وجــد فــي العصــور املتأخــرة على‬ ‫خالف ما كان األمر عليه في صدر اإلسالم إذ تجد في زمننا من يحفظ‬ ‫القـرآن بالقـراءات املتوات ــرة مــن خــال املعاهــد والجامعــات املختصــة‬ ‫بالق ـراءات بعيـ ًـدا عــن األحــكام الفقهيــة‪ ،‬ومــن هنــا نــدرك أهميــة مــا‬ ‫ذكــره جمهــور الفقهــاء مــن املالكيــة والشــافعية والحنفيــة مــن تقديــم‬ ‫الفقــه علــى القـراءة(‪.)29‬‬ ‫املثال الثالث‪:‬‬ ‫َ َ َ َ ُ ُ َ َّ‬ ‫لل صلــى هللا عليــه وســلم‬ ‫َعـ ْـن َج ِابـ ٍـر ر�ضــي هللا عنــه قــال‪ :‬قـ‬ ‫ـال َرســو َل ا ِ‬ ‫َ َ َ َ َ َ ُ ُ ُ َْ َْ َ َ ْ ْ َ َ َ ْ َ ْ ُ َ َْ َ َ ْ ُ ُ َ‬ ‫ـوه ِإلــى‬ ‫((إذا خطــب أحدكــم الــرأة فـ ِـإن ِاســتطاع أن ينظــر ِمنهــا مــا يدعـ‬ ‫ِ‬ ‫ص َّح َحــهُ‬ ‫ن َكاح َهــا ‪َ ,‬ف ْل َي ْف َعـ ْـل)) َر َو ُاه َأ ْح َمـ ُـد َوَأ ُبــو َد ُاو َد َور َج ُالـ ُـه ث َقـ ٌ‬ ‫ـات َو َ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َ ْ َ ُ َ َ ُ َ ٌ ْ َ َ ّ ْ ّ َ َّ َ ّ َ ْ ُ‬ ‫َ (‪)30‬‬ ‫الح ِاكم وله ش ِاهد ِعند ا ِلتر ِم ِذ ِي والنسا ِئ ِي ع ِن ال ِغيـر ِة‪ .‬وذكره ابـن‬ ‫حجــر فــي الفتــح وقــال ‪ :‬ســنده حســن(‪.) 31‬‬ ‫ظاهــر الحديــث ُم ْشــكل حيــث إنــه يجيــز َّ‬ ‫النظــر إلــى أماكــن أخــرى مــن‬ ‫الجســم كالصــدر والظهــر‪.‬‬ ‫ألن هــذه املواضــع قــد تكــون مدعــاة إلــى الــزواج‪ ،‬ولكــن ظاهــره ليــس‬ ‫مـر ًادا بــل هــو ُم ّ‬ ‫قيــد بالوجــه واليدي ــن‪ ،‬يقــول اب ــن قدامــة‪( :‬ويجــوز ملــن‬ ‫أراد خطبــة ام ـرأة النظــر إلــى وجههــا مــن غي ــر خلــوة بهــا‬

‫حقوق ذوي االحتياجات الخاصة‬

‫العدد ‪ 2‬رجب ‪1439‬هـ‬

‫ملــا روى جاب ــر قــال‪ :‬قــال رســول هللا صلــى هللا عليــه وســلم‪(( :‬إذا‬ ‫خطــب أحدكــم املـرأة فــان اســتطاع أن ي ــنظر إلــى مــا يدعــوه إلــى نكاحهــا‬ ‫فليفعــل))‪ ...‬وال بــأس بالنظــر إليهــا بإذنهــا وغي ــر إذنهــا ألن ّ‬ ‫النب ـ ّـي صلــى‬ ‫هللا عليه وســلم أمر بالنظر وأطلق‪ ...‬وال ي ــنظر إليها نظر تلذذ وشــهوة‬ ‫وال لريبــة‪ ،‬قــال أحمــد فــي روايــة صالــح‪( :‬ي ــنظر إلــى الوجــه وال تكــون علــى‬ ‫طريــق لــذة ولــه تك ـرار النظــر إليهــا وتأمــل محاســنها ألن املقصــود إنمــا‬ ‫يحصــل بذلــك‪ ...‬وال خــاف بـي ــن أهــل العلــم فــي إباحــة النظــر إلــى وجههــا‬ ‫ألنــه ليــس بعــورة وهــو مجمــع املحاســن وموضــع النظــر)(‪.)32‬‬ ‫ولــو أردنــا ْأن نقــف عنــد النصــوص وضــرب األمثلــة لطــال ب ــنا املقــام‬ ‫ولــذا نكتفــي بمــا تقــدم‪.‬‬

‫ ‬

‫الخامتة‬

‫كاف للتعــرف علــى علــم أصــول الفقــه ودور‬ ‫إن مــا ســبق ٍ‬ ‫قواعــده فــي فهــم نصــوص القــرآن والســنة وضبــط أحكامهمــا‪،‬‬ ‫ً‬ ‫ســواء املتصــل منهــا بأصــول الدي ــن أم بفروعــه‪ ...‬وانطالقــا مــن‬ ‫معرفتنــا بهــذه القيمــة الكب ــرى ألصــول الفقــه فــي ضبــط مسي ــرة‬ ‫االجتهــاد فإننــا ندعــو املؤسســات العلميــة والديـن ــية إلــى تفعيــل‬ ‫دور أصــول الفقــه وتدريســه وإنشــاء املراكــزوالكليــات الخاصــة‬ ‫بــه‪ ،‬لعلــه يخفــف مــن حــدة موجــة الجهــل والغلــو الت ــي تجتــاح‬ ‫العالــم اإلســامي اليــوم‪.‬‬ ‫وقــد الحظنــا مــن خــال مــا جــاء بــه الخــوارج واملعتزلــة أن معظــم‬ ‫مــا وقعــوا فيــه ســببه تجاهــل قواعــد أصــول الفقــه وتفسي ــر‬ ‫ّ‬ ‫النصــوص بعيـ ًـدا عــن ضوابطــه‪ ...‬ومــن املجــزوم بــه أن مناهــج‬ ‫أصــول الفقــه العامــة ُمفتقــدة عنــد معظــم غــاة العصــر مــن‬ ‫ً‬ ‫دواعش وغي ــرهم‪ ،‬فضل عن معرفتهم بالخاص والعام واملطلق‬ ‫ُ‬ ‫وامل َّ‬ ‫قيــد والناســخ واملنســوخ‪ ،‬وقــد كان لذلــك أث ـ ٌـركبـي ــرفــي تكفي ــر‬ ‫النــاس واســتباحة دمائهــم‪.‬‬

‫(‪ )28‬معالم السنن‪ ،‬الخطابـي‪،‬الناشر‪ :‬املطبعة العلمية ‪ /‬حلب‪ ،‬الطبعة‪ :‬األولى ‪ 1351‬هـ ‪ 1932 -‬م‪.167 /1 .‬‬ ‫(‪ )29‬يقــول اب ــن الجــوزي عــن الحديــث الســابق ‪ »:‬هــذا الحديــث يــدل علــى تقديــم القــارئ علــى الفقيــه‪ ،‬وهــو مذهــب أحمــد ب ــن حنبــل‪ ،‬وإنمــا يقــدم إذا كان يعــرف أحــكام الصــاة‪ ،‬فذلــك الــذي هــو أولــى مــن الفقيــه الــذي ال يحســن إال‬ ‫الفاتحة‪ .‬وقال أبو حنـيفة ومالك والشافعي‪ :‬الفقيه أولى « كشف املشكل من حديث الصحيحيـن‪ ،207 /2 :‬وفي مذاهب الفقهاء في املسألة انظر‪ :‬الهداية في شرح بداية املبتدي‪ ،‬للمرغيـنانـي‪ .57 /1 :‬مغنـي املحتاج إلى معرفة‬ ‫معانـي ألفاظ املنهاج‪ ،‬للخطيب الشربـيـنـي‪ ،.486 /1 :‬الروض املربع شرح زاد املستقنع‪ ،129 /1 :‬بداية املجتهد ونهاية املقتصد‪.154 /1:‬‬ ‫(‪ )30‬بلوغ املرام من أدلة األحكام‪.379 /1:‬‬ ‫(‪ )31‬فتح الباري‪.171 /9:‬‬ ‫(‪ )32‬الشرح الكبـيـر البـن قدامة‪.342/7 :‬‬

‫‪44‬‬

‫العدد ‪ 2‬رجب ‪1439‬هـ‬

‫اخلاصة‬ ‫االحتياجات‬ ‫ُحقوق َذوي‬ ‫َّ‬ ‫ِ‬

‫القرآن الكريم‬ ‫مــن َمنظو ِر‬ ‫ِ‬ ‫الدكتور محمد محمود كالو‬

‫أستاذ مشارك يف كلية العلوم اإلسالمية بجامعة أديامان‪ -‬تـركيا‬

‫ ‬

‫مقدمة‬

‫الحمد هلل رب العاملـيـن‪ ،‬وأفضل الصالة وأتم التسليم على نب ّـينا محمد وعلى آله وصحبه‬ ‫أجمعيـن‪،‬وبعد‪:‬‬ ‫فعندما ّ‬ ‫نتتبع أحوال ذوي االحتـياجات الخاصة عبـرالتاريخ نجد أن الدولة الرومانـية التـي‬ ‫ُّ‬ ‫تمـيزت بالصبغة الحربـية حاولت التخلص من ذوي االحتـياجات الخاصة‪ ،‬وكان القانون‬ ‫َ‬ ‫حرم بعض ذوي االحتـياجات الخاصة من الحقوق والواجبات التـي‬ ‫اإلنجليـزي القديم ي ِ‬ ‫لهم‪ ،‬أما اليونان فكانت فلسفاتهم وقوانـيـنهم تسمح بالتخلص ممن بهم نقص جسمـي‪،‬‬ ‫وقــد أعلــن أفالطــون وأرســطوطاليــس موافقتهمــا علــى هــذا العمــل‪ ،‬وكانــت الســال تبــاع‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫علنا في أسواق إسبـرطة وأثيـنا‪ ،‬ليوضع فيها الصغاراملشوهون خارج املديـنة إهالكا لهم‪،‬‬ ‫ً‬ ‫وفــي رومــا ظــل النــاس أجيــال عديــدة يغرقــون األطفال غي ــرمكتملي النمــو (‪.)1‬‬ ‫وكان املجذومــون فــي أوربــا املسـ ّ‬ ‫ـيحية ُي َ‬ ‫عاملــون معاملــة قاســية فــي كثي ــر مــن األحيــان‬ ‫ويتعرضــون للمــوت بقــرارات مــن ملوكهــم بطريقــة وحشــية‪ ،‬فقــد قــام امللــك فيليــب‬ ‫الخامــس ملــك فرنســا (‪1322-1316‬م) بجمعهــم وحرقهــم أحيــاء‪ ،‬وأمــربتكــرارذلــك إن‬ ‫وجــدوا‪ ،‬وكذلــك فعــل امللــك تشــارلز الخامــس(‪.)2‬‬ ‫أمــا فــي العهــد اإلسالم ــي فقــد كان االهتمــام بــكل فئــات املجتمــع وخاصــة الضعفــاء وذوي‬ ‫َْ َ َ‬ ‫ـس َعلــى‬ ‫االحت ــياجات الخاصــة مــن أســس الدي ــن‪ ،‬وممــا يؤكــد ذلــك قولــه تعالــى‪ (( :‬ليـ‬ ‫ُّ َ َ َ َ َ َ ْ َ ْ َ َ َ َ َ َّ َ َ َ ُ َ َ ُ ُ َ َ َ ٌ َ َ َ ُ َّ‬ ‫نفقــون حــرج ِإذا نصحــوا ِلل ـ ِـه‬ ‫الضعفـ ِـاء ول علــى الر�ضــى ول علــى ال ِذي ــن ل ي ِجــدون مــا ي ِ‬ ‫َ َ​َ ُْ‬ ‫ال ْحسني ـ َـن مــن َســبيل َو ُ‬ ‫َ​َ ُ‬ ‫هللا َغ ُفـ ٌ‬ ‫ـور َّر ِحيـ ٌـم)) [ســورة التوبــة‪.]91:‬‬ ‫ـول ِه مــا علــى‬ ‫ورسـ ِ‬ ‫ِ ِ ِ‬ ‫ِ ٍ‬ ‫وب ـ َّـين النب ــي صلــى هللا عليــه وســلم أن هــؤالء الضعفــاء مــن أســباب الــرزق والنصــر‪َ ،‬‬ ‫فعـ ْـن‬ ‫َ َّ ُ َ‬ ‫ُ َْ ْ ُ َ ْ ْ َ ْ‬ ‫َ َّ ُ َ َ َ َ َّ َ َ ُ ُ َ ْ ُ ُ َ‬ ‫هللا َعل ْيـ ِـه‬ ‫هللا صلــى‬ ‫جبيـ ِـربـ ِـن نفيـ ٍـرالحض َر ِمـ ّ ِـي‪ ،‬أنــه سـ ِـمع أبــا الــد ْرد ِاء‪ ،‬يقــول‪ :‬سـ ِـمعت َرســول ِ‬ ‫ُّ َ َ َ َ َّ َ ُ ْ َ ُ َ َ ُ ْ َ َ ُ َ ُ‬ ‫َ َ َّ َ َ ُ ُ ْ ُ‬ ‫((ابغو ِنــي الضعفــاء‪ ،‬ف ِإنمــا ترزقــون وتن‬ ‫وســلم يقــول‪:‬‬ ‫صـ ُـرون ِبض َعفا ِئكـ ْـم)) (‪.)3‬‬ ‫ـاب‬ ‫ولقــد نــزل فــي حــق بعــض ذوي االحت ــياجات الخاصــة آيــات تتلــى إلــى يــوم القيامــة‪ ،‬بــل مــع عتـ ٍ‬ ‫للنب ــي صلــى هللا عليــه وســلم‪ ،‬وال َّ‬ ‫أدل علــى ذلــك مــن قصــة الصحاب ــي الجليــل عبــد هللا ب ــن أم‬ ‫َ َ َ َ َ َ َّ َ َ َ ُ ْ َ ْ َ َ َ ُ ْ َ َ َ َّ ُ َ َّ َّ‬ ‫مكتوم ر�ضي هللا عنه‪ ،‬قال هللا تعالى‪(( :‬عبس وتولى* أن جاءه العمى* وما يد ِريك لعله يزكى *‬ ‫(‪ )1‬الرعاية الطبية والصحية ودور الخدمة االجتماعية‪ ،‬إقبال محمد بشيـر وغيـره‪ ،‬اإلسكندرية‪ ،‬املكتب الجامعي الحديث‪ ،‬د‪.‬ت‪( ،‬ص‪.)3-2‬‬ ‫(‪ )2‬ذوو االحتياجات الخاصة باملغرب واألندلس‪ ،‬د‪.‬نجالء سامي النبـراوي‪ ،‬من منشورات األلوكة‪( ،‬ص ‪.)23‬‬ ‫ْ َ ُ ُ ْ َ ْ َ َّ َ‬ ‫(‪ )3‬سنن أبي داود‪ ،‬كتاب الجهاد‪َ ،‬ب ٌ‬ ‫الض َعف ِة‪ ،‬رقم (‪.)2594‬‬ ‫اب ِفي ِالن ِتص ِار ِبرذ ِل الخي ِل و‬ ‫(‪ )4‬ذكره الديلمي في الفردوس‪( ،‬ج‪ ،4‬ص‪ ،)164‬رقم (‪ )6510‬من حديث أنس ر�ضي هللا عنه‪.‬‬

‫َ ْ َ َّ َّ ُ َ َ َ َ ُ ّ‬ ‫اس َت ْغ َنى* َف َأ َ‬ ‫الذ ْك َرى* َأ َّما َمن ْ‬ ‫نت‬ ‫أو يذكر فتنفعه ِ‬ ‫ِ‬ ‫صـ َّـدى * َو َمــا َع َل ْيـ َـك َأ َّل َي َّز َّ ـكـى * َوَأ َّمــا َمــن َجـ َـاءكَ‬ ‫َلـ ُـه َت َ‬ ‫َ ْ َ َ ُ َ َ ْ َ َ​َ‬ ‫َ​َ‬ ‫�شــى * فأنـ َـت َع ْنـ ُـه تل َّهــى)) [ســورة‬ ‫يســعى * وهــو يخ‬ ‫ً‬ ‫عبــس‪ ،]10-1:‬ولــو تفكرنــا قليــا فــي هــذه اآليــة‬ ‫الكريمــة‪ ،‬لوجدنــا أن األعمــى لــم يكــن لــه ْأن ي ــرى‬ ‫ُع ُبــوس الرســول عليــه أفضــل الصــاة والســام؛‬ ‫ومــع ذلــك الم هللا تعالــى نب ـ َّـيه علــى ذلــك التصــرف‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫وهنــا نــرى علــة املعاتبــة؛ لكونــه صلــى هللا عليــه‬ ‫وســلم انشــغل بدعــوة الوجهــاء عــن قضــاء حاجــة‬ ‫ُ‬ ‫هــذا الكفيــف‪ ،‬وكان األولــى أن تق�ضــى حاجتــه‪،‬‬ ‫َُ‬ ‫وتق َّد َم على حاجات من سواه من الناس‪ ،‬ألنه من‬ ‫ذوي االحتـياجات الخاصة‪َ ،‬وو َر َد أن الرسول عليه‬ ‫أفضل الصالة والسالم كان بعد نزول تلك اآليات‬ ‫يستبشر حي ــن يقابل «اب ــن أم مكتوم» ويقول له‪:‬‬ ‫َ‬ ‫((مر َح ًبا بك َيا بـن َم ْك ُتوم ْ‬ ‫ْ‬ ‫مر َح ًبا ِب َر ُجل َعات َب ِني ِف ِيه‬ ‫َ ِّربــي عــز َوجــل))(‪ ،)4‬وكان إذا غــاب عــن املدي ــنة‪ -‬بعــد‬ ‫ّ‬ ‫يوليــه عليهــا إكر ًامــا لــه حتــى يعــود‪.‬‬ ‫الهجــرة‪ِ -‬‬ ‫وفي التاريخ اإلسالمـي نجد النماذج املثلى في العناية‬ ‫والرعايــة لــذوي االحت ــياجات الخاصــة‪ ،‬فالخليفــة‬ ‫عمــر ب ــن الخطــاب ر�ضــي هللا عنــه رعــى األمــة كلهــا‬ ‫ومنهــم هــذه الش ـريحة مــن ذوي االحت ــياجات‬ ‫ُ‬ ‫الخاصــة‪ ،‬جــاء فــي تاريــخ دمشــق‪( :‬قتــل الطفيــل‬ ‫ب ــن عمــرو باليمامــة شـ ً‬ ‫ـهيدا‪ ،‬وجــرح اب ــنه عمــرو ب ــن‬

‫‪45‬‬


‫حقوق ذوي االحتياجات الخاصة‬ ‫الطفيــل وقطعــت يــده‪ ،‬ثــم اســتبل وصحــت‬ ‫يده‪ ،‬فبـيـنا هو عند عمر بـن الخطاب إذ أتـي‬ ‫بطعام فتنحى عنه‪ ،‬فقال عمر‪ :‬ما لك لعلك‬ ‫تنحيــت ملــكان يــدك؟ قــال‪ :‬أجــل‪ ،‬قــال‪ :‬وهللا‬ ‫ال أذوقــه حتــى تســوطه ب ــيدك‪ ،‬فــو هللا مــا فــي‬ ‫القــوم أحــد بعضــه فــي الجنــة غي ــرك)(‪.)5‬‬ ‫أمــا عمــر ب ــن عبــد العزيــز فقــد حــث علــى‬ ‫إحصــاء عــدد ذوي االحت ــياجات الخاصــة فــي‬ ‫الدولــة اإلسالم ــية‪( ،‬وكتــب إلــى أمصــار الشــام‬ ‫أن ارفعــوا إلـ ّـي كل أعمــى فــي الديــوان أو مقعــد‬ ‫أو مــن بــه الفالــج أو مــن بــه زمانــة تحــول بـي ــنه‬ ‫وبـي ــن القيــام إلــى الصــاة فرفعــوا إليــه‪ ،‬فأمــر‬ ‫لــكل أعمــى بقائــد‪ ،‬وأمــر لــكل اثنـي ــن مــن الزمنــى‬ ‫بخــادم)(‪ ،)6‬ووضــع اإلمــام أبــو حن ــيفة تش ـر ًيعا‬ ‫يق�ضــي بــأن ب ــيت مــال املسلمـي ــن مســؤول عــن‬ ‫النفقــة علــى ذوي االحت ــياجات الخاصــة‪ ،‬أمــا‬ ‫الخليفــة الوليــد ب ــن عبــد امللــك فقــد ب ــنى أول‬ ‫مستشــفى للمجذومـي ــن عــام ‪88‬ه ـ وأعطــى كل‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫مقعـ ٍـد ً‬ ‫خادمــا َّ‬ ‫وكل أعمــى قائـ ًـدا‪ ،‬و ولــى الوليـ ُـد‬ ‫إسـ َ‬ ‫ـحاق ب ــن قب ــيصة الخزاعــي «ديــوان الزمنــى‬ ‫َّ ّ َ‬ ‫أهلـ ِـه‬ ‫بدمشــق» وقــال‪( :‬ألدعــن الز ِمــن أحـ َّـب إلــى ِ‬ ‫مـ َـن َّ‬ ‫الص ِحيـ ِـح)(‪.)7‬‬ ‫ِ‬ ‫وأنشــأ املأمــون مــآو َي للعم ــيان والنســاء‬ ‫العاجزات في بغداد واملدن الكبـيـرة‪ ،‬وقام أبو‬ ‫جعفر املنصور ببـناء مستشفى للمكفوفيـن‬ ‫ومأوىللمجذومـيـنوملجأللعجائزفيبغداد‪،‬‬ ‫كما قام السلطان قالوون بب ــناء ب ــيمارستان‬ ‫لرعايــة ذوي االحت ــياجات الخاصــة‪...‬‬ ‫واألوقاف مفخرة املسلمـيـن؛ كان من منافعها‬ ‫مؤسســات إلمــداد العم ــيان واملقعدي ــن بمــن‬ ‫يقودهــم ويخدمهــم‪ ،‬بــل وكتــب كثي ــر مــن‬ ‫علمــاء املسلمـي ــن عــن ذوي االحت ــياجات‬

‫الخاصــة؛ ممــا يــدل علــى اهتمامهــم بهــم‬ ‫كالـرازي (املتوفى‪311‬هــ) الــذي صنــف كتابــه‪:‬‬ ‫(درجــات فقــدان الســمع)‪ ،‬وشــرح اب ــن سي ــنا‬ ‫(املتوفى‪427‬هــ) (أســباب حــدوث الصمــم)‪،‬‬ ‫واب ــن وافــد اللخم ــي (املتوفى‪466‬هــ) صاحــب‬ ‫كتاب‪( :‬تدقيق النظر في علل حاسة البصر)‬ ‫وكتــاب‪( :‬نزهــة األفــكار فــي عــاج األبصــار)‪.‬‬ ‫وتختلــف هــذه االحت ــياجات الخاصــة مــن‬ ‫شــخص آلخــر‪ ،‬وقــد كان كثي ــر مــن علمــاء‬ ‫املسلمـي ــن مــن ذوي االحت ــياجات الخاصــة‪،‬‬ ‫منهــم علــى سب ــيل املثــال‪ :‬أبــان ب ــن عثمــان‪،‬‬ ‫فقــد كان لديــه ضعــف فــي الســمع ومــع ذلــك‬ ‫كان عالـ ًــا ً‬ ‫فقيهــا‪ ،‬وكان محمــد ب ــن سيـري ــن ذا‬ ‫صعوبة شديدة في سمعه؛ ومع ذلك كان ر ً‬ ‫اويا‬ ‫للحديث ّ‬ ‫ومعب ًرا للرؤيا‪ ،‬والزاهد القدوة حاتم‬ ‫ِ‬ ‫األصــم البلخــي الواعــظ الناطــق بالحكمــة‪،‬‬ ‫ومجــد الدي ــن أبــو الســعادات املبــارك ب ــن‬ ‫محمــد املشــهور باب ــن األثي ــر كان ُم َ‬ ‫قعـ ًـدا ال‬ ‫يستطيع القيام‪ ،‬ومن أعالم العصر الحديث‬ ‫مصطفــى صــادق الرافعــي الــذي فقــد ســمعه‬ ‫لكــن ُســمعته وشــهرته طبقــت اآلفــاق‪.‬‬ ‫ودراست ــي هــذه تت ــركز حــول حقــوق ذوي‬ ‫االحتـياجات الخاصة في منظور القرآن الكريم‪،‬‬ ‫فهي ذات أهمـية كبـرى للتعامل األمثل مع هذه‬ ‫الفئــة مــن النــاس‪ ،‬مــن خــال دراســتها دراســة‬ ‫موضوعيــة متأن ــية ومعمقــة‪ ،‬وقــد قســمت‬ ‫الدراســة بعــد هــذه املقدمــة إلــى ثالثــة مباحــث‬ ‫وخاتمــة شــاملة ألهــم النتائــج والتوصيــات‪.‬‬

‫املبحث األول‪:‬‬

‫مفهوم ذوي االحتـياجات الخاصة‬ ‫ً‬ ‫فــي جم ــيع املجتمعــات ً‬ ‫قديمــا وحديثــا تظهــر‬

‫حقوق ذوي االحتياجات الخاصة‬

‫العدد ‪ 2‬رجب ‪1439‬هـ‬

‫ش ـريحة مــن البشــر املصابـي ــن ب ــنقص أو‬ ‫ضعــف ســواء فــي أجســادهم أو فــي عقولهــم‪،‬‬ ‫وهذا االبتالء من هللا تعالى امتحان لغيـرهم‪،‬‬ ‫فــا بـ َّـد للمجتمــع أن ي ــرعاهم ويعــرف قدرهــم‪.‬‬ ‫ً‬ ‫أول‪ :‬ذوو االحتـياجات الخاصة لغة‪:‬‬ ‫ذو‪ :‬بمعنــى صاحــب‪ ،‬وذوو أي أصحــاب‪ ،‬جــاء‬ ‫فــي املعجــم الوســيط‪(ُ « :‬ذو)كلمــة َيت َو َّ‬ ‫صــل َبهــا‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫إ َلــى ْال َو ْ‬ ‫صــف باألجنــاس ُمل َزمــة لإلضافــة ِإلــى‬ ‫ِ‬ ‫َُ َ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ِالســم الظ ِاهر ومعناها صاحب‪ ،‬يقال فلن‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ذو َمــال َوذو فضــل»(‪.)8‬‬ ‫االحتـياجات‪ :‬جمع احتـياج‪ ،‬قال في مقاييس‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫اللغــة‪َ « :‬‬ ‫[حـ َـو َج] ال َحـ ُـاء َوالـ َـو ُاو َوال ِجيـ ُـم‬ ‫صـ ٌـل َواحـ ٌـد‪َ ،‬و ُهـ َـو ال ْ‬ ‫َأ ْ‬ ‫ضطـ َـر ُار إ َلــى َّ‬ ‫ال�شـ ْـي ِء‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َ ْ َ َ ُ َ َُ ْ َ َ‬ ‫ـات‪َ .‬و ْال َح ْو َجــاء‪ُ:‬‬ ‫فالحاجــة و ِاحــدة الحاجـ ِ‬ ‫ْال َح َ‬ ‫اح َتـ َ‬ ‫الر ُجـ ُـل‪ْ :‬‬ ‫اجـ ُـة‪َ .‬و ُي َقـ ُ‬ ‫ـال َأ ْحـ َـو َج َّ‬ ‫ـاج‪.‬‬ ‫اح َتـ َ‬ ‫ـوج‪ ،‬ب َم ْع َنــى ْ‬ ‫َُ َ ُ َْ ً َ َ َ ُ ُ‬ ‫ـاج‪.‬‬ ‫ويقــال أيضــا‪ :‬حـَـاج َيحـ ِ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ َ َ‬ ‫ْ‬ ‫ـال‪[ :‬غ ِنيـ ُـت فلـ ْـم أ ْر ُد ْدكـ ُـم ِع ْنـ َـد ُبغ َيـ ٍـة ‪...‬‬ ‫قـ‬ ‫َ ُ ْ ُ َ​َ ْ َْ ُ ْ ُ ُ َْ‬ ‫َ‬ ‫(‪)9‬‬ ‫وحجــت فلــم أكددكــم ِبالص ِابـ ِـع]» ‪.‬‬

‫الخاصــة‪ :‬ضــد العامــة‪ ،‬قــال فــي املعجــم‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫َّ‬ ‫[ال َخ َّ‬ ‫اصــة] خــاف ال َع َّامــة َوالـ ِـذي‬ ‫الوســيط‪« :‬‬ ‫َّ ْ َ ْ‬ ‫َ‬ ‫تخصــه َلنفســك وخاصــة ال�شــيء مــا يختــص‬ ‫َ‬ ‫ِبـ ِـه دون غي ــره»(‪.)10‬‬ ‫وب ــناء علــى مــا ســبق يظهــر لنــا أن ذوي‬ ‫االحت ــياجات الخاصــة هــم شـريحة مــن النــاس‬ ‫يفتقــرون إلــى بعــض األشــياء فيطلبونهــا‪ ،‬أو‬ ‫ُ َْ‬ ‫ّ‬ ‫ليحققــوا احت ــياجاتهم ومطالبهــم‪.‬‬ ‫تطلــب لهــم ِ‬ ‫وأطلــق علــى ذوي االحت ــياجات الخاصــة فيمــا‬ ‫م�ضــى اســم ْ‬ ‫(املق َعدي ــن)‪ ،‬كمــا كانــت كلمــة‬ ‫(املعاقيـن) من أشهر ما عرفوا به‪ ،‬وفي اللغة‪:‬‬ ‫ُ‬ ‫« [املعــاق] مفــرد اســم مفعــول مــن أعــاق‪َ ،‬مـ ْـن‬ ‫َّ‬ ‫ّ‬ ‫جسدية أو َّ‬ ‫عقلية عن النشاط‬ ‫تمنعه عاهة‬ ‫اإلنسان ـ ّـي املعتــاد»(‪.)11‬‬

‫(‪ )5‬تاريخ دمشق‪ ،‬البـن عساكر تحقيق‪ :‬عمرو بـن غرامة العمروي‪ ،‬دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع‪1995 ،‬م (ج‪ ،25‬ص‪.)13‬‬ ‫(‪ )6‬املصدر السابق‪( :‬ج‪ ،45‬ص‪ )7( - .)218‬املصدر نفسه‪( :‬ج‪ ،8‬ص‪.)270‬‬ ‫(‪ )8‬املعجم الوسيط‪ ،‬مجمع اللغة العربية بالقاهرة‪ ،‬دار الدعوة‪ ،‬د‪.‬ت‪( :‬ج‪ -1‬ص‪.)317‬‬ ‫(‪ )9‬معجم مقاييس اللغة‪ ،‬أحمد بـن فارس‪ ،‬تحقيق‪ :‬عبد السالم هارون‪ ،‬دار الفكر ‪1979‬م (ج‪ -2‬ص‪.)114‬‬ ‫ (‪ )11‬معجم اللغة العربية املعاصرة‪ ،‬د أحمد مختار عبد الحميد عمر (املتوفى‪1424 :‬هـ)‪ ،‬دار الكتب‪ ،‬الطبعة األولى‪ 2008 ،‬م‪( :‬ج‪ -2‬ص‪.)1577‬‬‫(‪ )10‬املعجم الوسيط‪( :‬ج‪ ،1‬ص‪ .)238‬‬

‫‪46‬‬

‫ً‬ ‫اصطالحا‪:‬‬ ‫ثان ًـيا‪ :‬ذوو االحتـياجات الخاصة‬ ‫باعتبــار أن جم ــيع املصطلحــات املاضيــة تعن ــي‬ ‫(ذوي االحت ــياجات الخاصــة) وأكث ــر املصــادر‬ ‫واملراجــع يذكرونهــم باملعاقي ــن؛ فســندرس‬ ‫ً‬ ‫اصطالحــا‪ً ،‬‬ ‫علمــا أن هنــاك‬ ‫تعريــف املعاقي ــن‬ ‫عالقــة وثيقــة بـي ــن املعنــى اللغــوي واملعنــى‬ ‫االصطالحي ملفهوم ذوي االحتـياجات الخاصة‪.‬‬ ‫اإلعاقــة هــي‪« :‬عيــب ي ــرجع إلــى العجــز الــذي‬ ‫يمنــع الفــرد أو يحــد مــن قدرتــه علــى أداء دور‬ ‫طب ــيعي بالنســبة للســن والجنــس والعوامــل‬ ‫االجتماعيــة والثقافيــة»(‪.)12‬‬ ‫ويشــار بأنها «كل قصور جسم ــي أو نف�ســي أو‬ ‫عقلــي أو خلقــي يمثــل عقبــة فــي سب ــيل قيــام‬ ‫ً‬ ‫قاصرا عن‬ ‫الفرد بواجبه في املجتمع ويجعله‬ ‫األف ـراد األســوياء الذي ــن يتمتعــون بســامة‬ ‫األعضــاء وصحــة وظائفهــا»(‪.)13‬‬ ‫وبالجملــة فــذوو االحت ــياجات الخاصــة‬ ‫َ‬ ‫(اإلعاقــة)‪ :‬هــم مــن لديهــم قصــور أو خلــل‬ ‫َ‬ ‫فــي ُ‬ ‫القــدرات الجسم ـ َّـية أو الذهن ـ َّـية‪ ،‬ت ْر ِجـ ُـع‬ ‫ـيئية ُتعيـ ُـق الفـ َ‬ ‫وراثيـ ٍـة أو ب ـ َّ‬ ‫إلــى عوامـ َـل َّ‬ ‫ـرد عــن‬ ‫ُّ‬ ‫تعلــم األنشــطة الت ــي يقــوم بهــا الفــرد الســليم‬ ‫املشـ ِـابه فــي السـ ِ ّـن‪.‬‬ ‫ً‬ ‫ثالثا‪ :‬مصطلحات إسالمـية لها عالقة بذوي‬ ‫االحتـياجاتالخاصة‪:‬‬ ‫لقــد ســمى الق ـرآن الكريــم ذوي االحت ــياجات‬ ‫الخاصــة بـ(املصابـي ــن) فقــال هللا تعالــى‪:‬‬ ‫�شـ ْـي ٍء ّمـ َـن ْال َخـ ْـوف َو ْال ُ‬ ‫َ‬ ‫((وَل َن ْب ُل َو َّن ُكــم ب َ‬ ‫ـوع‬ ‫ـ‬ ‫ج‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ّ ِ‬ ‫َ َ ْ ّ َ ْ َ ْ َ َ ْ َ ُ َ َّ‬ ‫ات َو َب ِش ِر‬ ‫ونقص ِمن المو ِال والنف‬ ‫س والث َم َر ِ‬ ‫َّ ٍ َ َّ َ َ َ َ َ ِ ْ ُ ُّ َ ٌ َ ُ‬ ‫الص ِاب ِري ــن‪ .‬ال ِذي ــن ِإذا أصابتهم م ِصيبة قالوا‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫ِإ َّنــا ِلل ـ ِـه َوِإ َّنــا ِإل ْيـ ِـه َر ِاج ُعــون)) [ســورة البقــرة‪:‬‬

‫‪ ]156-155‬وكل �شيء يؤذي املؤمن ويصيبه‬ ‫فهو مصيبة‪ ،‬وقد تضمنت اآلية ثناء هللا تعالى‬ ‫علــى ذوي االحت ــياجات الخاصــة (املصابـي ــن)‬ ‫َّ‬ ‫وامتدحهم بصفة الصبـر إن سلموا أمرهم هلل‬ ‫تعالــى‪ ،‬ألن الصب ــر ت ــرك الشــكوى‪.‬‬ ‫كمــا ســماهم (أولــي الضــرر) فقــال هللا تعالــى‪:‬‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َْ‬ ‫ُْْ‬ ‫َ َ ْ َ‬ ‫اعـ ُـدون ِمـ َـن الؤ ِم ِني ـ َـن غ ْيـ ُـر‬ ‫ُ((ل يســت ِوي الق ِ‬ ‫َّ َ ْ ُ َ ُ َ‬ ‫َ‬ ‫هللا‬ ‫أ َ ِولــي الضـ َ َـر ِر والج ِاهــدون ِفــي سـ ِـب ِيل ِ‬ ‫ِبأ ْم َو ِال ِهـ ْـم َوأ ُنف ِسـ ِـه ْم‪[ ))...‬ســورة النســاء‪،]95:‬‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ ْ َ‬ ‫اعـ ُـدون مــن املؤمنـي ــن‬ ‫واملعنــى‪ :‬ال يســت ِوي الق ِ‬ ‫ُ‬ ‫وامل َجاهـ ُـدون‪ ،‬إال أولــو َّ‬ ‫الضـ َـرر أي‪ :‬غي ــر ذوي‬ ‫ِ‬ ‫الضرر الذيـن فيهم َ‬ ‫ضرر يمنعهم من الجهاد‬ ‫كاملر�ضــى وذوي األعــذار؛ َّ‬ ‫فإنهــم يســاوون‬ ‫ُ‬ ‫امل َج ِاه ِدي ــن‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫ال ْ َربــة) قــال هللا تعالــى‪:‬‬ ‫ومنهــا صفــة (أ ِولــي‬ ‫ِ‬ ‫َ ْ ُ ْ ْ َ َ ّ َ َ ّ َّ‬ ‫الرب ِة ِمن‬ ‫الط ْف ِل ال ِذي َـن‬ ‫الرج ِال أ ِو ِ‬ ‫((‪ ...‬غي ِر أ ِولي ِ‬ ‫َ ْ َ َْ ُ َ​َ َ َْ ِ ّ‬ ‫َ‬ ‫ات ال ِنسـ ِـاء‪[ ))...‬ســورة‬ ‫لــم يظهــروا علــى عــور ِ‬ ‫النــور‪(َ ،]31 :‬و ْ َال ْأ َ َبـ ُـة َو ْالَ ْأ ُ َبـ ُـة َو ْال ْ َبـ ُـة‪ُ ،‬ك ُّل َذلــكَ‬ ‫ر ِر‬ ‫ر‬ ‫ِ‬ ‫ْ َ َ ُ‬ ‫الح‬ ‫اجــة)(‪ )14‬أي‪ :‬غي ــر القادري ــن علــى املباشــرة‬ ‫الجنســية ممــن ال حاجــة لهــم إلــى النســاء‪.‬‬ ‫ُ ْ‬ ‫(صـ ٌّـم ُبكـ ٌـم ُع ْمـ ٌـي) فــي قولــه‬ ‫أمــا الوصــم ب ـ‬ ‫َ َ َ ُ َّ َ َ َ ُ َ َ َ َّ‬ ‫تعالــى‪(( :‬ومثــل ال ِذي ــن كفــروا كمثـ ِـل الـ ِـذي‬ ‫َي ْنعـ ُـق ب َمــا َل َي ْسـ َـم ُع إ َّل ُد َعـ ًـاء َونـ َـد ًاء ُ‬ ‫صـ ٌّـم‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ُ ْ ٌ ُ ْ ٌ َ ُ ْ َ َ ْ ُ نَ‬ ‫بكــم عمــي فهــم ل يع ِقلــو )) [ســورة‬

‫البقــرة‪ ]171:‬ففــي حــق الكافري ــن‪ ،‬ولــم‬ ‫ْ‬ ‫يكونــوا ُ‬ ‫ص ًّمــا وال ُبك ًمــا وال ُع ْم ًيــا إال عــن‬ ‫الحــق والهــدى‪ ،‬كمــا قــال الشــاعر أحمــد‬ ‫أبــو الوفــا(‪:)15‬‬ ‫ْ َ َ‬ ‫َوما َفا ِق ُد َّ‬ ‫ص ِار ن ْح َس ُب ُه‬ ‫الس ْم ِع واإلب‬ ‫َ ْ ْ َْ ْ‬ ‫َ‬ ‫اف‬ ‫بـيـن ال ُـمعا ِقيـن أو ِمن فق ِد أط َر ِ‬

‫(‪ )12‬اإلعاقات العقلية واالضطرابات االرتقائية‪ ،‬لويس كامل مليكه‪ ،‬مطبعة فيكتوركيـرس‪ ،‬القاهرة‪( :1998 ،‬ص ‪.)18‬‬ ‫(‪ )13‬تنمية األطفال املعاقيـن‪ ،‬عبداملجيد عبدالرحيم‪ ،‬القاهرة‪ ،‬دار غريب للطباعة والنشر والتوزيع‪1997‬م‪( :‬ص ‪.)9‬‬ ‫(‪ )14‬معجم مقاييس اللغة‪ ،‬أحمد بـن فارس‪( :‬ج‪ ،1‬ص‪.)89‬‬ ‫(‪ )15‬هو شاعر فلسطيـني معاصر‪ُ ّ ،‬‬ ‫تقاعد‪ ،‬من بلدة السيلة الحارثية‪ ،‬قضاء جنيـن‪.‬‬ ‫مدرس م ِ‬ ‫ِ‬ ‫(‪ )16‬رواه البخاري‪ ،‬كتاب الجهاد والسيـر‪ ،‬باب من حبسه العذر عن الغزو‪ ،‬رقم (‪.)2839‬‬ ‫(‪ )17‬تفسيـر القرآن العظيم‪ ،‬البـن كثيـر‪( ،‬ص ج‪.)396 - 7‬‬

‫العدد ‪ 2‬رجب ‪1439‬هـ‬

‫ُ‬ ‫َّ َ َ‬ ‫اق الذي َ‬ ‫ض َ‬ ‫اع ْت َب ِصي َـرت ُه‬ ‫إن ال ُـمع ِ‬ ‫َ‬ ‫اإلر َادة‪ُ ،‬‬ ‫َ َ‬ ‫وهللا ُه ـ َـو الك ـ ِـافي‬ ‫م ــع َ ِ‬ ‫وأطلــق النب ــي صلــى هللا عليــه وســلم عليهــم‬ ‫مصطلح (أصحاب األعذار) َ‬ ‫فع ْن َأ َن َ‬ ‫�ض َي‬ ‫سر ِ‬ ‫ٍ‬ ‫ُ َ ْ ُ َ َّ َّ َّ َ َّ ُ َ‬ ‫َّ َ‬ ‫هللا َعل ْيـ ِـه َو َســل َم ك َان‬ ‫هللا عنــه‪ :‬أن الن ِبــي صلــى‬ ‫َ َ َ َ َ َّ َ ْ َ ً ْ َ َ َ ْ َ‬ ‫َ‬ ‫((إن أقوامــا ِبال ِدي ــن ِة خلفنــا‪،‬‬ ‫ِفــي غــز ٍاة‪ ،‬فقــال‪:‬‬ ‫َ َ َ ْ َ ْ ً َ ِ َ َ ً َّ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫مــا ســلكنا ِشــعبا وال و ِاديــا ِإل وهــم معنــا ِفيـ ِـه‪،‬‬ ‫َ​َ َ ُ ُ ُ ْ‬ ‫حبســهم‬ ‫العــذ ُر))(‪.)16‬‬

‫املبحث الثانـي‪:‬‬

‫حقوق ذوي االحتـياجات الخاصة‬ ‫جعــل هللا تعالــى التقــوى منــاط التفضيــل‬ ‫بـي ــن بـن ــي البشــر‪ ،‬فقــال ســبحانه وتعالــى‪:‬‬ ‫َ​َ‬ ‫َ​َ ُ‬ ‫(( َيــا َأ ُّي َهــا َّ‬ ‫النـ ُ‬ ‫ـاس ِإ َّنــا خل ْق َناكــم ِّمــن ذكـ ٍـر‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ َ‬ ‫ْ ُ ُ‬ ‫َوأنثــى َو َج َعل َناكـ ْـم شـ ُـع ًوبا َوق َبا ِئـ َـل ِل َت َع َارفــوا‬ ‫إ َّن َأ ْك َر َم ُكـ ْـم عنـ َـد هللا َأ ْت َق ُاكـ ْـم إ َّن َ‬ ‫هللا َع ِليـ ٌـم‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫ٌ‬ ‫خ ِبي ــر)) [ســورة الحج ـرات‪ ]13 :‬وذوو‬ ‫االحت ــياجات الخاصــة كغي ــرهم لهــم حقــوق‬ ‫وعليهــم واجبــات‪ ،‬إال مــا اســتثناهم هللا‬ ‫ً‬ ‫تخفيفــا عليهــم‪،‬‬ ‫تعالــى منــه كالجهــاد والحــج‬ ‫فمــن حقوقهــم‪:‬‬ ‫‪-1‬حــق العقيــدة الصحيحــة‪ :‬وهــو مــن‬ ‫أعظــم الحقــوق الت ــي يجــب علــى املســلم‬ ‫معرفتهــا واعتقادهــا‪ ،‬قــال هللا تعالــى‪َ :‬‬ ‫((و َمــا‬ ‫َ َ ْ ُ ْ َّ َ ْ َ َّ‬ ‫ـس ِإل ِل َي ْع ُبـ ُـدو ِن))‬ ‫النـ‬ ‫خلقــت ال ِجــن و ِ‬ ‫[ســورة الذاريــات‪ ]56 :‬ذكــر اب ــن كثي ــر فــي‬ ‫َ َْ َ‬ ‫تفسي ــرها‪(َ :‬قـ َ‬ ‫ـال َع ِلـ ُّـي ْبـ ُـن أ ِبــي طل َحــة َعـ ِـن‬ ‫َ َّ‬ ‫َّ‬ ‫ـاس ِإل ِل َي ْع ُبـ ُـدو ِن أ ْي‪ِ :‬إل ِل ُي ِقـ ُّـروا‬ ‫ْابـ ِـن َع َّبـ‬ ‫ٍ‬ ‫َ‬ ‫َ َ‬ ‫ِب ِع َب َاد ِتــي ط ْو ًعــا أ ْو ك ْر ًهــا)(‪.)17‬‬

‫‪47‬‬


‫حقوق ذوي االحتياجات الخاصة‬ ‫الطفيــل وقطعــت يــده‪ ،‬ثــم اســتبل وصحــت‬ ‫يده‪ ،‬فبـيـنا هو عند عمر بـن الخطاب إذ أتـي‬ ‫بطعام فتنحى عنه‪ ،‬فقال عمر‪ :‬ما لك لعلك‬ ‫تنحيــت ملــكان يــدك؟ قــال‪ :‬أجــل‪ ،‬قــال‪ :‬وهللا‬ ‫ال أذوقــه حتــى تســوطه ب ــيدك‪ ،‬فــو هللا مــا فــي‬ ‫القــوم أحــد بعضــه فــي الجنــة غي ــرك)(‪.)5‬‬ ‫أمــا عمــر ب ــن عبــد العزيــز فقــد حــث علــى‬ ‫إحصــاء عــدد ذوي االحت ــياجات الخاصــة فــي‬ ‫الدولــة اإلسالم ــية‪( ،‬وكتــب إلــى أمصــار الشــام‬ ‫أن ارفعــوا إلـ ّـي كل أعمــى فــي الديــوان أو مقعــد‬ ‫أو مــن بــه الفالــج أو مــن بــه زمانــة تحــول بـي ــنه‬ ‫وبـي ــن القيــام إلــى الصــاة فرفعــوا إليــه‪ ،‬فأمــر‬ ‫لــكل أعمــى بقائــد‪ ،‬وأمــر لــكل اثنـي ــن مــن الزمنــى‬ ‫بخــادم)(‪ ،)6‬ووضــع اإلمــام أبــو حن ــيفة تش ـر ًيعا‬ ‫يق�ضــي بــأن ب ــيت مــال املسلمـي ــن مســؤول عــن‬ ‫النفقــة علــى ذوي االحت ــياجات الخاصــة‪ ،‬أمــا‬ ‫الخليفــة الوليــد ب ــن عبــد امللــك فقــد ب ــنى أول‬ ‫مستشــفى للمجذومـي ــن عــام ‪88‬ه ـ وأعطــى كل‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫مقعـ ٍـد ً‬ ‫خادمــا َّ‬ ‫وكل أعمــى قائـ ًـدا‪ ،‬و ولــى الوليـ ُـد‬ ‫إسـ َ‬ ‫ـحاق ب ــن قب ــيصة الخزاعــي «ديــوان الزمنــى‬ ‫َّ ّ َ‬ ‫أهلـ ِـه‬ ‫بدمشــق» وقــال‪( :‬ألدعــن الز ِمــن أحـ َّـب إلــى ِ‬ ‫مـ َـن َّ‬ ‫الص ِحيـ ِـح)(‪.)7‬‬ ‫ِ‬ ‫وأنشــأ املأمــون مــآو َي للعم ــيان والنســاء‬ ‫العاجزات في بغداد واملدن الكبـيـرة‪ ،‬وقام أبو‬ ‫جعفر املنصور ببـناء مستشفى للمكفوفيـن‬ ‫ومأوىللمجذومـيـنوملجأللعجائزفيبغداد‪،‬‬ ‫كما قام السلطان قالوون بب ــناء ب ــيمارستان‬ ‫لرعايــة ذوي االحت ــياجات الخاصــة‪...‬‬ ‫واألوقاف مفخرة املسلمـيـن؛ كان من منافعها‬ ‫مؤسســات إلمــداد العم ــيان واملقعدي ــن بمــن‬ ‫يقودهــم ويخدمهــم‪ ،‬بــل وكتــب كثي ــر مــن‬ ‫علمــاء املسلمـي ــن عــن ذوي االحت ــياجات‬

‫الخاصــة؛ ممــا يــدل علــى اهتمامهــم بهــم‬ ‫كالـرازي (املتوفى‪311‬هــ) الــذي صنــف كتابــه‪:‬‬ ‫(درجــات فقــدان الســمع)‪ ،‬وشــرح اب ــن سي ــنا‬ ‫(املتوفى‪427‬هــ) (أســباب حــدوث الصمــم)‪،‬‬ ‫واب ــن وافــد اللخم ــي (املتوفى‪466‬هــ) صاحــب‬ ‫كتاب‪( :‬تدقيق النظر في علل حاسة البصر)‬ ‫وكتــاب‪( :‬نزهــة األفــكار فــي عــاج األبصــار)‪.‬‬ ‫وتختلــف هــذه االحت ــياجات الخاصــة مــن‬ ‫شــخص آلخــر‪ ،‬وقــد كان كثي ــر مــن علمــاء‬ ‫املسلمـي ــن مــن ذوي االحت ــياجات الخاصــة‪،‬‬ ‫منهــم علــى سب ــيل املثــال‪ :‬أبــان ب ــن عثمــان‪،‬‬ ‫فقــد كان لديــه ضعــف فــي الســمع ومــع ذلــك‬ ‫كان عالـ ًــا ً‬ ‫فقيهــا‪ ،‬وكان محمــد ب ــن سيـري ــن ذا‬ ‫صعوبة شديدة في سمعه؛ ومع ذلك كان ر ً‬ ‫اويا‬ ‫للحديث ّ‬ ‫ومعب ًرا للرؤيا‪ ،‬والزاهد القدوة حاتم‬ ‫ِ‬ ‫األصــم البلخــي الواعــظ الناطــق بالحكمــة‪،‬‬ ‫ومجــد الدي ــن أبــو الســعادات املبــارك ب ــن‬ ‫محمــد املشــهور باب ــن األثي ــر كان ُم َ‬ ‫قعـ ًـدا ال‬ ‫يستطيع القيام‪ ،‬ومن أعالم العصر الحديث‬ ‫مصطفــى صــادق الرافعــي الــذي فقــد ســمعه‬ ‫لكــن ُســمعته وشــهرته طبقــت اآلفــاق‪.‬‬ ‫ودراست ــي هــذه تت ــركز حــول حقــوق ذوي‬ ‫االحتـياجات الخاصة في منظور القرآن الكريم‪،‬‬ ‫فهي ذات أهمـية كبـرى للتعامل األمثل مع هذه‬ ‫الفئــة مــن النــاس‪ ،‬مــن خــال دراســتها دراســة‬ ‫موضوعيــة متأن ــية ومعمقــة‪ ،‬وقــد قســمت‬ ‫الدراســة بعــد هــذه املقدمــة إلــى ثالثــة مباحــث‬ ‫وخاتمــة شــاملة ألهــم النتائــج والتوصيــات‪.‬‬

‫املبحث األول‪:‬‬

‫مفهوم ذوي االحتـياجات الخاصة‬ ‫ً‬ ‫فــي جم ــيع املجتمعــات ً‬ ‫قديمــا وحديثــا تظهــر‬

‫حقوق ذوي االحتياجات الخاصة‬

‫العدد ‪ 2‬رجب ‪1439‬هـ‬

‫ش ـريحة مــن البشــر املصابـي ــن ب ــنقص أو‬ ‫ضعــف ســواء فــي أجســادهم أو فــي عقولهــم‪،‬‬ ‫وهذا االبتالء من هللا تعالى امتحان لغيـرهم‪،‬‬ ‫فــا بـ َّـد للمجتمــع أن ي ــرعاهم ويعــرف قدرهــم‪.‬‬ ‫ً‬ ‫أول‪ :‬ذوو االحتـياجات الخاصة لغة‪:‬‬ ‫ذو‪ :‬بمعنــى صاحــب‪ ،‬وذوو أي أصحــاب‪ ،‬جــاء‬ ‫فــي املعجــم الوســيط‪(ُ « :‬ذو)كلمــة َيت َو َّ‬ ‫صــل َبهــا‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫إ َلــى ْال َو ْ‬ ‫صــف باألجنــاس ُمل َزمــة لإلضافــة ِإلــى‬ ‫ِ‬ ‫َُ َ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ِالســم الظ ِاهر ومعناها صاحب‪ ،‬يقال فلن‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ذو َمــال َوذو فضــل»(‪.)8‬‬ ‫االحتـياجات‪ :‬جمع احتـياج‪ ،‬قال في مقاييس‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫اللغــة‪َ « :‬‬ ‫[حـ َـو َج] ال َحـ ُـاء َوالـ َـو ُاو َوال ِجيـ ُـم‬ ‫صـ ٌـل َواحـ ٌـد‪َ ،‬و ُهـ َـو ال ْ‬ ‫َأ ْ‬ ‫ضطـ َـر ُار إ َلــى َّ‬ ‫ال�شـ ْـي ِء‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َ ْ َ َ ُ َ َُ ْ َ َ‬ ‫ـات‪َ .‬و ْال َح ْو َجــاء‪ُ:‬‬ ‫فالحاجــة و ِاحــدة الحاجـ ِ‬ ‫ْال َح َ‬ ‫اح َتـ َ‬ ‫الر ُجـ ُـل‪ْ :‬‬ ‫اجـ ُـة‪َ .‬و ُي َقـ ُ‬ ‫ـال َأ ْحـ َـو َج َّ‬ ‫ـاج‪.‬‬ ‫اح َتـ َ‬ ‫ـوج‪ ،‬ب َم ْع َنــى ْ‬ ‫َُ َ ُ َْ ً َ َ َ ُ ُ‬ ‫ـاج‪.‬‬ ‫ويقــال أيضــا‪ :‬حـَـاج َيحـ ِ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ َ َ‬ ‫ْ‬ ‫ـال‪[ :‬غ ِنيـ ُـت فلـ ْـم أ ْر ُد ْدكـ ُـم ِع ْنـ َـد ُبغ َيـ ٍـة ‪...‬‬ ‫قـ‬ ‫َ ُ ْ ُ َ​َ ْ َْ ُ ْ ُ ُ َْ‬ ‫َ‬ ‫(‪)9‬‬ ‫وحجــت فلــم أكددكــم ِبالص ِابـ ِـع]» ‪.‬‬

‫الخاصــة‪ :‬ضــد العامــة‪ ،‬قــال فــي املعجــم‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫َّ‬ ‫[ال َخ َّ‬ ‫اصــة] خــاف ال َع َّامــة َوالـ ِـذي‬ ‫الوســيط‪« :‬‬ ‫َّ ْ َ ْ‬ ‫َ‬ ‫تخصــه َلنفســك وخاصــة ال�شــيء مــا يختــص‬ ‫َ‬ ‫ِبـ ِـه دون غي ــره»(‪.)10‬‬ ‫وب ــناء علــى مــا ســبق يظهــر لنــا أن ذوي‬ ‫االحت ــياجات الخاصــة هــم شـريحة مــن النــاس‬ ‫يفتقــرون إلــى بعــض األشــياء فيطلبونهــا‪ ،‬أو‬ ‫ُ َْ‬ ‫ّ‬ ‫ليحققــوا احت ــياجاتهم ومطالبهــم‪.‬‬ ‫تطلــب لهــم ِ‬ ‫وأطلــق علــى ذوي االحت ــياجات الخاصــة فيمــا‬ ‫م�ضــى اســم ْ‬ ‫(املق َعدي ــن)‪ ،‬كمــا كانــت كلمــة‬ ‫(املعاقيـن) من أشهر ما عرفوا به‪ ،‬وفي اللغة‪:‬‬ ‫ُ‬ ‫« [املعــاق] مفــرد اســم مفعــول مــن أعــاق‪َ ،‬مـ ْـن‬ ‫َّ‬ ‫ّ‬ ‫جسدية أو َّ‬ ‫عقلية عن النشاط‬ ‫تمنعه عاهة‬ ‫اإلنسان ـ ّـي املعتــاد»(‪.)11‬‬

‫(‪ )5‬تاريخ دمشق‪ ،‬البـن عساكر تحقيق‪ :‬عمرو بـن غرامة العمروي‪ ،‬دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع‪1995 ،‬م (ج‪ ،25‬ص‪.)13‬‬ ‫(‪ )6‬املصدر السابق‪( :‬ج‪ ،45‬ص‪ )7( - .)218‬املصدر نفسه‪( :‬ج‪ ،8‬ص‪.)270‬‬ ‫(‪ )8‬املعجم الوسيط‪ ،‬مجمع اللغة العربية بالقاهرة‪ ،‬دار الدعوة‪ ،‬د‪.‬ت‪( :‬ج‪ -1‬ص‪.)317‬‬ ‫(‪ )9‬معجم مقاييس اللغة‪ ،‬أحمد بـن فارس‪ ،‬تحقيق‪ :‬عبد السالم هارون‪ ،‬دار الفكر ‪1979‬م (ج‪ -2‬ص‪.)114‬‬ ‫ (‪ )11‬معجم اللغة العربية املعاصرة‪ ،‬د أحمد مختار عبد الحميد عمر (املتوفى‪1424 :‬هـ)‪ ،‬دار الكتب‪ ،‬الطبعة األولى‪ 2008 ،‬م‪( :‬ج‪ -2‬ص‪.)1577‬‬‫(‪ )10‬املعجم الوسيط‪( :‬ج‪ ،1‬ص‪ .)238‬‬

‫‪46‬‬

‫ً‬ ‫اصطالحا‪:‬‬ ‫ثان ًـيا‪ :‬ذوو االحتـياجات الخاصة‬ ‫باعتبــار أن جم ــيع املصطلحــات املاضيــة تعن ــي‬ ‫(ذوي االحت ــياجات الخاصــة) وأكث ــر املصــادر‬ ‫واملراجــع يذكرونهــم باملعاقي ــن؛ فســندرس‬ ‫ً‬ ‫اصطالحــا‪ً ،‬‬ ‫علمــا أن هنــاك‬ ‫تعريــف املعاقي ــن‬ ‫عالقــة وثيقــة بـي ــن املعنــى اللغــوي واملعنــى‬ ‫االصطالحي ملفهوم ذوي االحتـياجات الخاصة‪.‬‬ ‫اإلعاقــة هــي‪« :‬عيــب ي ــرجع إلــى العجــز الــذي‬ ‫يمنــع الفــرد أو يحــد مــن قدرتــه علــى أداء دور‬ ‫طب ــيعي بالنســبة للســن والجنــس والعوامــل‬ ‫االجتماعيــة والثقافيــة»(‪.)12‬‬ ‫ويشــار بأنها «كل قصور جسم ــي أو نف�ســي أو‬ ‫عقلــي أو خلقــي يمثــل عقبــة فــي سب ــيل قيــام‬ ‫ً‬ ‫قاصرا عن‬ ‫الفرد بواجبه في املجتمع ويجعله‬ ‫األف ـراد األســوياء الذي ــن يتمتعــون بســامة‬ ‫األعضــاء وصحــة وظائفهــا»(‪.)13‬‬ ‫وبالجملــة فــذوو االحت ــياجات الخاصــة‬ ‫َ‬ ‫(اإلعاقــة)‪ :‬هــم مــن لديهــم قصــور أو خلــل‬ ‫َ‬ ‫فــي ُ‬ ‫القــدرات الجسم ـ َّـية أو الذهن ـ َّـية‪ ،‬ت ْر ِجـ ُـع‬ ‫ـيئية ُتعيـ ُـق الفـ َ‬ ‫وراثيـ ٍـة أو ب ـ َّ‬ ‫إلــى عوامـ َـل َّ‬ ‫ـرد عــن‬ ‫ُّ‬ ‫تعلــم األنشــطة الت ــي يقــوم بهــا الفــرد الســليم‬ ‫املشـ ِـابه فــي السـ ِ ّـن‪.‬‬ ‫ً‬ ‫ثالثا‪ :‬مصطلحات إسالمـية لها عالقة بذوي‬ ‫االحتـياجاتالخاصة‪:‬‬ ‫لقــد ســمى الق ـرآن الكريــم ذوي االحت ــياجات‬ ‫الخاصــة بـ(املصابـي ــن) فقــال هللا تعالــى‪:‬‬ ‫�شـ ْـي ٍء ّمـ َـن ْال َخـ ْـوف َو ْال ُ‬ ‫َ‬ ‫((وَل َن ْب ُل َو َّن ُكــم ب َ‬ ‫ـوع‬ ‫ـ‬ ‫ج‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ّ ِ‬ ‫َ َ ْ ّ َ ْ َ ْ َ َ ْ َ ُ َ َّ‬ ‫ات َو َب ِش ِر‬ ‫ونقص ِمن المو ِال والنف‬ ‫س والث َم َر ِ‬ ‫َّ ٍ َ َّ َ َ َ َ َ ِ ْ ُ ُّ َ ٌ َ ُ‬ ‫الص ِاب ِري ــن‪ .‬ال ِذي ــن ِإذا أصابتهم م ِصيبة قالوا‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫ِإ َّنــا ِلل ـ ِـه َوِإ َّنــا ِإل ْيـ ِـه َر ِاج ُعــون)) [ســورة البقــرة‪:‬‬

‫‪ ]156-155‬وكل �شيء يؤذي املؤمن ويصيبه‬ ‫فهو مصيبة‪ ،‬وقد تضمنت اآلية ثناء هللا تعالى‬ ‫علــى ذوي االحت ــياجات الخاصــة (املصابـي ــن)‬ ‫َّ‬ ‫وامتدحهم بصفة الصبـر إن سلموا أمرهم هلل‬ ‫تعالــى‪ ،‬ألن الصب ــر ت ــرك الشــكوى‪.‬‬ ‫كمــا ســماهم (أولــي الضــرر) فقــال هللا تعالــى‪:‬‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َْ‬ ‫ُْْ‬ ‫َ َ ْ َ‬ ‫اعـ ُـدون ِمـ َـن الؤ ِم ِني ـ َـن غ ْيـ ُـر‬ ‫ُ((ل يســت ِوي الق ِ‬ ‫َّ َ ْ ُ َ ُ َ‬ ‫َ‬ ‫هللا‬ ‫أ َ ِولــي الضـ َ َـر ِر والج ِاهــدون ِفــي سـ ِـب ِيل ِ‬ ‫ِبأ ْم َو ِال ِهـ ْـم َوأ ُنف ِسـ ِـه ْم‪[ ))...‬ســورة النســاء‪،]95:‬‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ ْ َ‬ ‫اعـ ُـدون مــن املؤمنـي ــن‬ ‫واملعنــى‪ :‬ال يســت ِوي الق ِ‬ ‫ُ‬ ‫وامل َجاهـ ُـدون‪ ،‬إال أولــو َّ‬ ‫الضـ َـرر أي‪ :‬غي ــر ذوي‬ ‫ِ‬ ‫الضرر الذيـن فيهم َ‬ ‫ضرر يمنعهم من الجهاد‬ ‫كاملر�ضــى وذوي األعــذار؛ َّ‬ ‫فإنهــم يســاوون‬ ‫ُ‬ ‫امل َج ِاه ِدي ــن‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫ال ْ َربــة) قــال هللا تعالــى‪:‬‬ ‫ومنهــا صفــة (أ ِولــي‬ ‫ِ‬ ‫َ ْ ُ ْ ْ َ َ ّ َ َ ّ َّ‬ ‫الرب ِة ِمن‬ ‫الط ْف ِل ال ِذي َـن‬ ‫الرج ِال أ ِو ِ‬ ‫((‪ ...‬غي ِر أ ِولي ِ‬ ‫َ ْ َ َْ ُ َ​َ َ َْ ِ ّ‬ ‫َ‬ ‫ات ال ِنسـ ِـاء‪[ ))...‬ســورة‬ ‫لــم يظهــروا علــى عــور ِ‬ ‫النــور‪(َ ،]31 :‬و ْ َال ْأ َ َبـ ُـة َو ْالَ ْأ ُ َبـ ُـة َو ْال ْ َبـ ُـة‪ُ ،‬ك ُّل َذلــكَ‬ ‫ر ِر‬ ‫ر‬ ‫ِ‬ ‫ْ َ َ ُ‬ ‫الح‬ ‫اجــة)(‪ )14‬أي‪ :‬غي ــر القادري ــن علــى املباشــرة‬ ‫الجنســية ممــن ال حاجــة لهــم إلــى النســاء‪.‬‬ ‫ُ ْ‬ ‫(صـ ٌّـم ُبكـ ٌـم ُع ْمـ ٌـي) فــي قولــه‬ ‫أمــا الوصــم ب ـ‬ ‫َ َ َ ُ َّ َ َ َ ُ َ َ َ َّ‬ ‫تعالــى‪(( :‬ومثــل ال ِذي ــن كفــروا كمثـ ِـل الـ ِـذي‬ ‫َي ْنعـ ُـق ب َمــا َل َي ْسـ َـم ُع إ َّل ُد َعـ ًـاء َونـ َـد ًاء ُ‬ ‫صـ ٌّـم‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ُ ْ ٌ ُ ْ ٌ َ ُ ْ َ َ ْ ُ نَ‬ ‫بكــم عمــي فهــم ل يع ِقلــو )) [ســورة‬

‫البقــرة‪ ]171:‬ففــي حــق الكافري ــن‪ ،‬ولــم‬ ‫ْ‬ ‫يكونــوا ُ‬ ‫ص ًّمــا وال ُبك ًمــا وال ُع ْم ًيــا إال عــن‬ ‫الحــق والهــدى‪ ،‬كمــا قــال الشــاعر أحمــد‬ ‫أبــو الوفــا(‪:)15‬‬ ‫ْ َ َ‬ ‫َوما َفا ِق ُد َّ‬ ‫ص ِار ن ْح َس ُب ُه‬ ‫الس ْم ِع واإلب‬ ‫َ ْ ْ َْ ْ‬ ‫َ‬ ‫اف‬ ‫بـيـن ال ُـمعا ِقيـن أو ِمن فق ِد أط َر ِ‬

‫(‪ )12‬اإلعاقات العقلية واالضطرابات االرتقائية‪ ،‬لويس كامل مليكه‪ ،‬مطبعة فيكتوركيـرس‪ ،‬القاهرة‪( :1998 ،‬ص ‪.)18‬‬ ‫(‪ )13‬تنمية األطفال املعاقيـن‪ ،‬عبداملجيد عبدالرحيم‪ ،‬القاهرة‪ ،‬دار غريب للطباعة والنشر والتوزيع‪1997‬م‪( :‬ص ‪.)9‬‬ ‫(‪ )14‬معجم مقاييس اللغة‪ ،‬أحمد بـن فارس‪( :‬ج‪ ،1‬ص‪.)89‬‬ ‫(‪ )15‬هو شاعر فلسطيـني معاصر‪ُ ّ ،‬‬ ‫تقاعد‪ ،‬من بلدة السيلة الحارثية‪ ،‬قضاء جنيـن‪.‬‬ ‫مدرس م ِ‬ ‫ِ‬ ‫(‪ )16‬رواه البخاري‪ ،‬كتاب الجهاد والسيـر‪ ،‬باب من حبسه العذر عن الغزو‪ ،‬رقم (‪.)2839‬‬ ‫(‪ )17‬تفسيـر القرآن العظيم‪ ،‬البـن كثيـر‪( ،‬ص ج‪.)396 - 7‬‬

‫العدد ‪ 2‬رجب ‪1439‬هـ‬

‫ُ‬ ‫َّ َ َ‬ ‫اق الذي َ‬ ‫ض َ‬ ‫اع ْت َب ِصي َـرت ُه‬ ‫إن ال ُـمع ِ‬ ‫َ‬ ‫اإلر َادة‪ُ ،‬‬ ‫َ َ‬ ‫وهللا ُه ـ َـو الك ـ ِـافي‬ ‫م ــع َ ِ‬ ‫وأطلــق النب ــي صلــى هللا عليــه وســلم عليهــم‬ ‫مصطلح (أصحاب األعذار) َ‬ ‫فع ْن َأ َن َ‬ ‫�ض َي‬ ‫سر ِ‬ ‫ٍ‬ ‫ُ َ ْ ُ َ َّ َّ َّ َ َّ ُ َ‬ ‫َّ َ‬ ‫هللا َعل ْيـ ِـه َو َســل َم ك َان‬ ‫هللا عنــه‪ :‬أن الن ِبــي صلــى‬ ‫َ َ َ َ َ َّ َ ْ َ ً ْ َ َ َ ْ َ‬ ‫َ‬ ‫((إن أقوامــا ِبال ِدي ــن ِة خلفنــا‪،‬‬ ‫ِفــي غــز ٍاة‪ ،‬فقــال‪:‬‬ ‫َ َ َ ْ َ ْ ً َ ِ َ َ ً َّ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫مــا ســلكنا ِشــعبا وال و ِاديــا ِإل وهــم معنــا ِفيـ ِـه‪،‬‬ ‫َ​َ َ ُ ُ ُ ْ‬ ‫حبســهم‬ ‫العــذ ُر))(‪.)16‬‬

‫املبحث الثانـي‪:‬‬

‫حقوق ذوي االحتـياجات الخاصة‬ ‫جعــل هللا تعالــى التقــوى منــاط التفضيــل‬ ‫بـي ــن بـن ــي البشــر‪ ،‬فقــال ســبحانه وتعالــى‪:‬‬ ‫َ​َ‬ ‫َ​َ ُ‬ ‫(( َيــا َأ ُّي َهــا َّ‬ ‫النـ ُ‬ ‫ـاس ِإ َّنــا خل ْق َناكــم ِّمــن ذكـ ٍـر‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ َ‬ ‫ْ ُ ُ‬ ‫َوأنثــى َو َج َعل َناكـ ْـم شـ ُـع ًوبا َوق َبا ِئـ َـل ِل َت َع َارفــوا‬ ‫إ َّن َأ ْك َر َم ُكـ ْـم عنـ َـد هللا َأ ْت َق ُاكـ ْـم إ َّن َ‬ ‫هللا َع ِليـ ٌـم‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫ٌ‬ ‫خ ِبي ــر)) [ســورة الحج ـرات‪ ]13 :‬وذوو‬ ‫االحت ــياجات الخاصــة كغي ــرهم لهــم حقــوق‬ ‫وعليهــم واجبــات‪ ،‬إال مــا اســتثناهم هللا‬ ‫ً‬ ‫تخفيفــا عليهــم‪،‬‬ ‫تعالــى منــه كالجهــاد والحــج‬ ‫فمــن حقوقهــم‪:‬‬ ‫‪-1‬حــق العقيــدة الصحيحــة‪ :‬وهــو مــن‬ ‫أعظــم الحقــوق الت ــي يجــب علــى املســلم‬ ‫معرفتهــا واعتقادهــا‪ ،‬قــال هللا تعالــى‪َ :‬‬ ‫((و َمــا‬ ‫َ َ ْ ُ ْ َّ َ ْ َ َّ‬ ‫ـس ِإل ِل َي ْع ُبـ ُـدو ِن))‬ ‫النـ‬ ‫خلقــت ال ِجــن و ِ‬ ‫[ســورة الذاريــات‪ ]56 :‬ذكــر اب ــن كثي ــر فــي‬ ‫َ َْ َ‬ ‫تفسي ــرها‪(َ :‬قـ َ‬ ‫ـال َع ِلـ ُّـي ْبـ ُـن أ ِبــي طل َحــة َعـ ِـن‬ ‫َ َّ‬ ‫َّ‬ ‫ـاس ِإل ِل َي ْع ُبـ ُـدو ِن أ ْي‪ِ :‬إل ِل ُي ِقـ ُّـروا‬ ‫ْابـ ِـن َع َّبـ‬ ‫ٍ‬ ‫َ‬ ‫َ َ‬ ‫ِب ِع َب َاد ِتــي ط ْو ًعــا أ ْو ك ْر ًهــا)(‪.)17‬‬

‫‪47‬‬


‫حقوق ذوي االحتياجات الخاصة‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫والــذي يؤكــد مــا ســبق؛ مــا رواه أبــو ُه َ ْريـ َـرة‬ ‫َ َّ ُ ً َ َ ُ َ‬ ‫هللا‬ ‫ر�ضــي هللا عنــه أن َرجــا أتــى َرســول ِ‬ ‫َ‬ ‫ُ َ‬ ‫َّ‬ ‫َ َّ‬ ‫هللا َعل ْيـ ِـه َو َســل َم ِب َج ِارَيـ ٍـة َع ْج َمـ َـاء ل‬ ‫صلــى‬ ‫َ َ ً ْ ً‬ ‫ُت ْفصـ ُـح‪َ ،‬ف َقـ َ‬ ‫((إ َّن َعلـ َّـي َرق َبــة ُمؤ ِم َنــة‪،‬‬ ‫ـال‪:‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َ​َ‬ ‫ص َّلــى ُ‬ ‫ـال َل َهــا َر ُســو ُل هللا َ‬ ‫هللا َع َل ْيــه َو َسـ َّـلم‪َ:‬‬ ‫َ‬ ‫فقـ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َأ ْيـ َـن ُ‬ ‫هللا َعـ َّـز َو َجـ َّـل؟ َف َأ َشـ َـار ْت إ َلــى َّ‬ ‫السـ َـم ِاء‪،‬‬ ‫َ َ َ َ َ َ ْ َ​َ َ​َ َ َ ْ َِ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫فقــال لهــا‪ :‬مــن أنــا؟ فأشــارت ِإلــى الســم ِاء‪،‬‬ ‫َ‬ ‫َف َقـ َ ُ ُ‬ ‫هللا‪ :‬أ ْع ِت ْق َهــا))(‪ ،)18‬فالواجــب‬ ‫ـال َرســول ِ‬ ‫العقــدي أمــر هــام يلــزم كل فــرد‪ ،‬وذوو‬ ‫االحت ــياجات الخاصــة ال يســقط عنهــم‬ ‫هــذا الحــق والتكليــف‪ ،‬كمــا أن العقيــدة‬ ‫الصحيحــة تمنــع بعــض ذوي االحت ــياجات‬ ‫الخاصــة أو َمــن يقــوم بشــؤونهم مــن‬ ‫التــداوي بمــا يخالــف اإليمــان بــاهلل‪ ،‬كمــن‬ ‫يبغــي الشــفاء علــى أيــدي أهــل الزيــغ مــن‬ ‫املشعوذي ــن والســحرة‪.‬‬ ‫كمــا أن العقيــدة الصحيحــة لإلنســان‬ ‫طمأنـي ــنة نفســية وراحــة قلب ــية فــي الصب ــر‬ ‫علــى االبتــاء‪ ،‬وال َّ‬ ‫أدل علــى هــذا ِمــن حديــث‬ ‫َ‬ ‫َ َ َ‬ ‫امل ـرأة َ‬ ‫ـال َعطـ ُـاء ْبـ ُـن أ ِب ــي‬ ‫الســوداء‪ ،‬فقــد قـ‬ ‫ِ‬ ‫َ َ ُ َ ْ َ ًَ‬ ‫َ​َ َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫ـاس‪(( :‬أال أ ِريــك امــرأة‬ ‫ـاح َ‪ :‬قــال ِلــي ابــن عبـ ٍ‬ ‫ربـ ٍ‬ ‫َ َّ ُ ْ ُ َ َ َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ِمـ ْـن أهـ ِـل الجنـ ِـة؟ قلــت‪ :‬بلــى‪ ،‬قــال‪ :‬هـ ِـذ ِه‬ ‫َّ َّ َ َّ ُ َ‬ ‫َ​َ‬ ‫املَـ ْ َـرأ ُة َّ‬ ‫هللا َعل ْيـ ِـه‬ ‫السـ ْـو َد ُاء‪ ،‬أتـ ِـت الن ِب ــي صلــى‬ ‫ّ َ َ َ َّ ُ‬ ‫َو َسـ َّـل َم َف َق َالـ ْـت‪ :‬إ ّنــي ُأ ْ‬ ‫صـ َـر ُع‪َ ،‬وِإ ِنــي أتكشــف‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫َِ َ ْ ْ َ َ ْ َ َ‬ ‫َفـ ْـاد ُع َ‬ ‫هللا ِل ــي‪ ،‬قــال‪«ِ :‬إن ِشــئ ِت صبــر ِت ولـ ِـك‬ ‫َ َّ ُ َ ْ ْ َ َ ْ ُ َ َ‬ ‫هللا أ ْن ُي َعا ِف َيـ ِـك»‬ ‫الجنــة‪ ،‬وِإن ِشــئ ِت دعــوت‬ ‫َ َ َ ْ َ ْ ُ َ َ َ ْ ّ َ َ َ َّ ُ‬ ‫فقالــت‪ :‬أص ِبــر‪ ،‬فقالــت‪ِ :‬إ ِنــي أتكشــف‪،‬‬ ‫َ ْ ُ َ َ َ َ َ َ َّ َ َ َ‬ ‫فادع‬ ‫هللا ِلي أ ْن ال أتكشــف‪ ،‬ف َد َعا ل َها))(‪.)19‬‬ ‫‪-2‬حــق الحيــاة‪ :‬لقــد كانــت فلســفات اليونــان‬ ‫وقوانـي ــنهم تســمح بالتخلــص ممــن بهــم‬ ‫نقــص جسم ــي‪ ،‬وقــد أعلــن أفالطــون‬ ‫وأرســطو طاليــس موافقتهمــا علــى هــذا‬

‫ً‬ ‫العمــل‪ ،‬وفــي رومــا ظــل النــاس أجيــال‬ ‫عديــدة يغرقــون األطفــال غي ــر مكتملــي‬ ‫النمــو‪.‬‬ ‫أما في اإلسالم فإن قيمة الحياة لإلنسان لها‬ ‫قدســية خاصــة‪ ،‬وهــي حــق لــكل فــرد ســواء‬ ‫كان من ذوي االحتـياجات الخاصة أو غيـرهم‪،‬‬ ‫َ َ َ ْ ُ ُ َّ ْ َ َّ‬ ‫ـس التِــي َحـ َّـر َم‬ ‫قــال هللا تعالــى‪ (( :‬ول تقتلــوا النفـ‬ ‫ُ َّ ْ‬ ‫هللا ِإل ِبال َحـ ِ ّـق)) [ســورة اإلس ـراء‪ ،]33 :‬كمــا‬ ‫ال يجــوز لغي ــره أن يعتــدي عليــه‪ ،‬قــال‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ َ‬ ‫ســبحانه‪ِ (( :‬مـ ْـن أ ْجـ ِـل ذ ِلـ َـك ك َت ْب َنــا َعلــى َبنِــي‬ ‫ْ َ َ َ َّ ُ َ َ َ َ َ ْ ً َ ْ َ ْ َ‬ ‫ـس أ ْو‬ ‫ِإســرا ِئيل أْنـ َـه مــن ق َتــل نفســا ِبغيـ ِـر نفـ ٍ‬ ‫َف َســاد فــي ال ْرض َف َكأ َّن َمــا َق َتـ َـل َّ‬ ‫ـاس َجم ً‬ ‫النـ َ‬ ‫يعــا‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬ ‫َ َ ْ َ ِ ْ َ َ َ ِ َ َ َّ َ َ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ً‬ ‫َ‬ ‫ومــن أحياهــا فكأنمــا أحيــا النــاس ج ِميعــا))‬ ‫[ســورة املائــدة‪.]32 :‬‬ ‫‪-3‬حــق الكرامــة‪ :‬كل النــاس متســاوون‬ ‫فــي الكرامــة ذوو االحت ــياجات الخاصــة‬ ‫َ​َ َ‬ ‫وغيـرهم‪ ،‬قال هللا تعالى‪َ (( :‬ولق ْد ك َّر ْم َنا َبنِـي‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫َآد َم َو َح َمل َن ُاهـ ْـم ِفــي ال َبـ ّ ِـر َوال َب ْحـ ِـر َو َر َزق َن ُاهــم‬ ‫ّ َ َّ ّ َ َ َ َّ ْ‬ ‫َ َ‬ ‫ضل َن ُاهـ ْـم َعلــى ك ِثي ـ ٍـر ِّم َّمـ ْـن‬ ‫ـات وف‬ ‫ِمــن الط ِيبـ ِ‬ ‫َ​ََْ َْ ً‬ ‫خلقنــا تف ِضيــا)) (اإلس ـراء‪ ،)70:‬قــال‬ ‫اب ــن عاشــور‪( :‬وقــد جمعــت اآليــة خمــس‬ ‫ِمنــن‪ :‬التكريــم‪ ،‬وتسخي ــر املراكــب فــي الب ــر‪،‬‬ ‫وتسخي ــر املراكــب فــي البحــر‪ ،‬والــرزق‬ ‫مــن الطيبــات‪ ،‬والتفضيــل علــى كثي ــر مــن‬ ‫املخلوقــات‪ ...‬فالتكريــم‪ :‬جعلــه ً‬ ‫كريمــا‪ ،‬أي‬ ‫ً‬ ‫نفيســا غي ــر مبــذول وال ذليــل فــي صورتــه‬ ‫وال فــي حركــة مشــيه وفــي بشــرته‪ ...‬وأمــا‬ ‫التفضيــل فجماعــه تمكي ــن اإلنســان مــن‬ ‫ُّ‬ ‫التســلط علــى جم ــيع املخلوقــات األرضيــة‬ ‫ً‬ ‫ب ـرأيه وحيلتــه‪ ،‬وكفــى بذلــك تفضيــا علــى‬ ‫البقيــة‪ ،‬والفــرق بـي ــن التفضيــل والتكريــم‬ ‫بالعمــوم والخصــوص؛ فالتكريــم منظــور‬

‫(‪ )18‬شرح مشكل اآلثار‪ ،‬للطحاوي‪ ،‬تحقيق‪ :‬األرنؤوط‪ ،‬طبعة الرسالة‪ 1415 ،‬هـ (ج‪ ،12‬ص‪.)521‬‬ ‫َ ْ َ ْ ُ َُْ َ ّ‬ ‫الر ِيح‪ ،‬بـرقم‪.)5652( :‬‬ ‫(‪ )19‬رواه البخاري‪ ،‬في كتاب املر�ضى‪ ،‬باب فض ِل من يصرع ِمن ِ‬ ‫(‪ )20‬تفسيـر ابـن عاشور‪( ،‬املتوفى‪1393‬هـ)‪ ،‬الدار التونسية للنشر‪ ،‬تونس ‪1984‬م‪( ،‬ج‪ -15‬ص‪.)166-164‬‬ ‫(‪ )21‬رواه البخاري‪ ،‬في كتاب األذان‪ ،‬باب َه ْل َي ْأ ُخ ُذ َ ُ َ َ َّ َ ْ َّ‬ ‫اس؟ بـرقم‪( )714( :‬ج‪ ،1‬ص‪.)144‬‬ ‫ِ‬ ‫اإلمام ِإذا شك ِبقو ِل الن ِ‬

‫حقوق ذوي االحتياجات الخاصة‬

‫العدد ‪ 2‬رجب ‪1439‬هـ‬

‫فيــه إلــى تكريمــه فــي ذاتــه‪ ،‬والتفضيــل‬ ‫منظــور فيــه إلــى تشــريفه فــوق غي ــره)(‪،)20‬‬ ‫فتكريــم هللا لبـن ــي آدم هــو تفضيلــه لهــم‬ ‫َْ‬ ‫بالنطــق والعقــل والعلــم واعتــدال الخلــق‪.‬‬ ‫‪ -4‬حــق الحريــة‪ :‬فــذوو االحت ــياجات الخاصــة‬ ‫أحـرار كغي ــرهم‪ ،‬يتمتعــون بحريــة أنفســهم‬ ‫كمــا يتمتعــون بحريــة الـرأي وحريــة القـرار‪،‬‬ ‫وحريــة التفكي ــر والتعبـي ــر‪ ،‬قــال هللا تعالــى‪:‬‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ ُ‬ ‫ْ ّ َ‬ ‫هللا ِلنـ َـت ل ُهـ ْـم َولـ ْـو كنـ َـت‬ ‫(( ف ِب َمــا َرح َمـ ٍـة ِمــن ِ‬ ‫َ ًّ َ َ‬ ‫ـظ ْال َق ْلــب َل َنف ُّ‬ ‫فظــا غ ِليـ‬ ‫ضــوا ِمـ ْـن َح ْوِلـ َـك‬ ‫ِ‬ ‫َ ْ ُ‬ ‫ـف َع ْن ُهـ ْـم َو ْ‬ ‫اسـ َـت ْغ ِف ْر َل ُهـ ْـم َو َشــاو ْر ُهمْ‬ ‫فاعـ‬ ‫َ ِ‬ ‫َْ‬ ‫ال ْمــر َفــإ َذا َع َز ْمـ َـت َف َتـ َـو َّك ْل َعلــى هللا إنَّ‬ ‫ِفــي‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫َ ُ ِ ُّ ْ ُ َ َ ّ‬ ‫َ‬ ‫هللا ي ِحــب التو ِك ِلي ــن)) [آل عم ـران‪،]159:‬‬ ‫َْ‬ ‫َ‬ ‫فقولــه تعالــى‪َ (( :‬وشـ ِـاو ْر ُه ْم ِفــي ال ْمـ ِـر)) أي‪:‬‬ ‫اســتخرج آراءهــم‪ ،‬فاملشــورة‪ :‬تلقيــح ال ـرأي‬ ‫بــآراء متعــددة‪ ،‬وهــذا دليــل علــى حريــة الرأي‬ ‫فــي التعبـي ــر وتبــادل اآلراء مــع اآلخري ــن‪،‬‬ ‫وال فــرق فــي ذلــك بـي ــن ذوي االحت ــياجات‬ ‫الخاصــة وغي ــرهم‪ ،‬وهــذا منهــج النب ــي صلــى‬ ‫هللا عليه وسلم في التعامل وإعطاء الحرية‬ ‫لآلخري ــن ليعب ــروا عــن آرائهــم‪ ،‬والدليــل علــى‬ ‫َ َ‬ ‫َ‬ ‫فعـ ْـن أ ِبــي ُه َرْيـ َـرة‬ ‫ذلــك قصــة ذي اليدي ــن‪،‬‬ ‫َ‬ ‫ص َّلــى هللاُ‬ ‫((أ َّن َر ُســو َل هللا َ‬ ‫ر�ضــي هللا عنــه‪:‬‬ ‫ِ‬ ‫َ َ ْ َ َ َّ َ ْ َ َ َ َ ْ َ َ ْ َ َ َ َُ‬ ‫عليـ ِـه وســلم انصــرف ِمــن اثنتيـ ِـن‪ ،‬فقــال لــه‬ ‫الصـ َـا ُة‪َ ،‬أ ْم َنسـ َ‬ ‫الي َد ْيــن‪َ :‬أ َق ُ‬ ‫ُذو َ‬ ‫صـ َـر ِت َّ‬ ‫ـيت‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ص َّلــى ُ‬ ‫ـال َر ُســو ُل هللا َ‬ ‫هللا؟ َف َقـ َ‬ ‫َيــا َر ُســو َل‬ ‫هللا‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َع َل ْيــه َو َسـ َّـل َم‪«َ :‬أ َ‬ ‫صـ َـد َق ُذو َ‬ ‫الي َد ْيــن؟» َف َقـ َ‬ ‫ـال‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َّ‬ ‫ص َّلــى هللاُ‬ ‫ـام َر ُســو ُل هللا َ‬ ‫ـاس‪َ :‬ن َعـ ْـم‪َ ،‬ف َقـ َ‬ ‫ُ‬ ‫النـ‬ ‫ُ ِ‬ ‫ْ‬ ‫َع َل ْيــه َو َسـ َّـل َم‪َ ،‬ف َ َّ ْ َ َ‬ ‫صلــى اثنت ْيـ ِـن أخ َرَي ْيـ ِـن))(‪.)21‬‬ ‫ِ‬ ‫أمــا حريــة اتخــاذ الق ـرار فتتجلــى فــي موقــف‬ ‫َ َ‬ ‫َع ْمرو ْبن ْال َج ُ‬ ‫وح ر�ضي هللا عنه‪( ،‬وك َان أ ْع َر َج‬ ‫م‬ ‫ِ‬ ‫َشـ ِـد َيد ْال َعـ َـرج‪َ ،‬و َك َان َلـ ُـه َأ ْ َرب َعـ ُـة َب ِني ـ َـن َشـ َـب ٌ‬ ‫اب‬ ‫ِ‬

‫‪48‬‬

‫َ َّ ُ َ‬ ‫َّ‬ ‫َي ْغـ ُـز َ‬ ‫ون َمـ َـع َر ُ‬ ‫هللا َعل ْيـ ِـه َو َســل َم‬ ‫هللا صلــى‬ ‫ســو ِل ِ‬ ‫َ َّ ُ َ‬ ‫َ َ َ َ​َ َ َ ُ ُ‬ ‫هللا َعل ْي ِه‬ ‫هللا صلى‬ ‫ِإذا غزا‪ ،‬فل َّما أ َراد َرســو ُل ِ‬ ‫ـال َلـ ُـه َب ُنـ ُ‬ ‫َو َسـ َّـل َم أن َي َت َو َّجـ ُـه إ َلــى أ ُحـ ٍـد‪َ ،‬قـ َ‬ ‫ـوه‪:‬‬ ‫ِ‬ ‫إ َّن َ‬ ‫هللا َعـ َّـز َو َجـ َّـل َقـ ْـد َج َعـ َـل َلـ َـك ُر ْخ َ‬ ‫صـ ًـة َف َلــوْ‬ ‫ِ‬ ‫هللا َع ْنــكَ‬ ‫َق َعـ ْـد َت َف َن ْحـ ُـن َن ْكفيـ َـك َف َقـ ْـد َو َ‬ ‫ضـ َـع ُ‬ ‫ِ‬ ‫ْ َ َ َ​َ​َ َ ْ ُ ْ ُ ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫هللا‬ ‫ـوح رســول ِ‬ ‫ال ِ َّجهــاد‪ ،‬فأ َتــى عمــر َّو بــن َ َالجمـ ِ‬ ‫صلــى ُ‬ ‫َ‬ ‫هللا َعل ْيــه َو َســل َم‪ ،‬فقـ َ َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫هللا‪،‬‬ ‫ـال‪َ :‬يــا رســول ِ‬ ‫ِ‬ ‫َُ‬ ‫َ َ ْ‬ ‫ِإ َّن َبنِـ َّـي َهــؤل ِء َي ْم َن ُعــون أ ْن أخـ ُـر َج َم َعـ َـك‪،‬‬ ‫َ ّ َ​َ َ ُ َ ْ َ​َ َ​َ‬ ‫هللا ِإ ِنــي ل ْر ُجــو أ ْن أ ْستشـ َـه َد فأطــأ ِب َع ْر َجتِــي‬ ‫و ِ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ َّ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َهـ ِـذ ِه فــي الجنـ ِـة! فقـ َ‬ ‫هللا صلــى‬ ‫ـال َلــه َرســول ِ‬ ‫ُ َ ِ َ ْ َ َ َّ َ َ‬ ‫((أ َّمــا أ ْنـ َـت َف َقـ ْـد َو َ‬ ‫ضـ َـع هللاُ‬ ‫هللا عليـ ِـه وســلم‪:‬‬ ‫َْ َ ْ َ َ َ​َ‬ ‫ـال ل َبنيــه‪َ :‬‬ ‫((و َمــا َع َل ْي ُكــمْ‬ ‫َ‬ ‫َعنــك ال ِجهــاد))‪ .‬وقـ ِ ِ ِ‬ ‫َ‬ ‫ْ َ َ ُ ُ َ َ َّ َ ُ ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫هللا َي ْرزق ُه الش َهادة))‪ .‬فخ َر َج‬ ‫أن تدعوه لعل‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ َ ُ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫هللا صلــى هللا عليـ ِـه وســلم‪ ،‬فق ِتـ َـل‬ ‫مــع َر ُســو ِل ِ‬ ‫َيـ ْـو َم أ ُحــد َشــه ً‬ ‫يدا)(‪ ،)22‬فهــذه حريــة اتخــاذ‬ ‫ٍ ِ‬ ‫الق ـرار لــذوي االحت ــياجات الخاصــة‪.‬‬ ‫ُّ‬ ‫‪-5‬حــق التعلــم والتعليــم‪ :‬مــن حقــوق ذوي‬ ‫ُّ‬ ‫االحت ــياجات الخاصــة التعلــم والتعليــم‬ ‫لجم ــيع العلــوم املفيــدة‪ ،‬فــأول مــا نــزل مــن‬ ‫ْ‬ ‫((اقـ َ ْـرأ ب ْ‬ ‫اسـ ِـم‬ ‫الق ـرآن الكريــم قولــه تعالــى‪:‬‬ ‫ِ‬ ‫َ​َ‬ ‫َّ‬ ‫َّْ‬ ‫َرِّبـ َـك الـ ِـذي خلـ َـق)) [العلــق‪ ]2:‬أي‪ :‬تعلــم‬ ‫ْ َ َ‬ ‫وارق وارتـ ِـق‪ ،‬وهــذا عبــد هللا ب ــن أم مكتــوم‬ ‫مــن ذوي االحت ــياجات الخاصــة (الضري ــر)‬ ‫ُّ‬ ‫ً‬ ‫حريصــا علــى التعلــم مــن رســول هللا‬ ‫كان‬ ‫َّ‬ ‫ليزكـي نفســه‪ ،‬وقولــه‬ ‫صلــى هللا عليــه وســلم ـ‬ ‫َ َّ َّ َ َ ْ َ ٌ‬ ‫تعالــى‪(( :‬كل ِإنهــا تذ ِكــرة)) [عبــس‪]11:‬‬ ‫َ‬ ‫ُّ َ ُ َ ْ‬ ‫ُ ُْ‬ ‫(أ ْي َهـ ِـذ ِه السـ‬ ‫ـورة أ ِو ال َو ِص َّيــة ِبال َسـ َـاو ِاة‬ ‫َ ْ ْ‬ ‫َ‬ ‫َ ْ َ َّ‬ ‫ـاس ِفــي ِإ ْبــا ِغ ال ِعلـ ِـم ِمـ ْـن شـ ِـر ِيف ِه ْم‬ ‫بيــن النـ ِ‬ ‫َو َو ِضي ِع ِهـ ْـم ) (‪.)22‬‬ ‫وعـ ْـن ُع ْث َمـ َ‬ ‫هللا َع ْنـ ُـه‪َ ،‬عــن َّ‬ ‫ـان َر�ضـ َـي ُ‬ ‫َ‬ ‫النب ـ ّ ِـي‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬

‫ُ َ َ ْ َ َ َّ َ َ َ َ ُ‬ ‫َ َّ‬ ‫ـال‪« :‬خ ْي ُركـ ْـم َمـ ْـن‬ ‫صلــى هللا عليـ ِـه وســلم قـ‬ ‫َ َ َّ َ ُ ْ َ َّ‬ ‫آن َو َعل َمـ ُـه»(‪.)24‬‬ ‫تعلــم القــر‬ ‫وقــد كان أبــو عبــد الرحمــن عبــد هللا ب ــن‬ ‫حب ــيب السلم ــي أعمــى‪ ،‬لكنــه كان مقــرئ‬ ‫َ َ َ‬ ‫الكوفــة‪ ،‬وهــو مــن أوالد الصحابــة‪ ،‬أخــذ‬ ‫َع ْنـ ُـه ُ‬ ‫القـ ْـر َ‬ ‫(عاصـ ُـم ب ـ ُـن َأبــي َّ‬ ‫آن‪َ :‬‬ ‫الن ُجـ ْـو ِد‪،‬‬ ‫ِ َ ِ‬ ‫َو َي ْح َيــى ب ـ ُـن َو َّثــاب‪َ ،‬و َعطـ ُـاء ب ـ ُـن َّ‬ ‫الســا ِئ ِب‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫َو َع ْبـ ُـد‬ ‫هللا ب ـ ُـن ِع ْي�ســى ب ـ ِـن عبـ ِـد الرحمـ ِـن ب ـ ِـن‬ ‫ِ‬ ‫َ َ‬ ‫َّ‬ ‫أب ــي ليلــى َو ُم َح َّمـ ُـد ب ـ ُـن أ ِبــي أ ُّيـ ْـو َب َوالش ْعب ـ ُّـي‬ ‫َ َ َ َ َ‬ ‫َ َ‬ ‫َ ْ‬ ‫ض َعل ْيـ ِـه‬ ‫اع ْي ُل ب ـ ُـن أ ِبــي خ ِالـ ٍـد‪ ،‬وعــر‬ ‫وِإسـ َـم ِ‬ ‫الح َسـ ْـي ُن َر�ضـ َـي ُ‬ ‫َ‬ ‫الح َسـ ُـن َو ُ‬ ‫هللا َع ْن ُه َمــا)(‪.)25‬‬ ‫ِ‬ ‫ُّ‬ ‫فمــن حــق ذوي االحت ــياجات الخاصــة التعلــم‬ ‫والتعليــم‪ ،‬وتوفي ــر الظــروف املناســبة لهــم‬ ‫ـكـي يتعلمــوا وي ــنالوا أعلــى املراتــب‪ ،‬في ــنفعوا‬ ‫أنفســهم وأمتهــم‪.‬‬ ‫‪-6‬حــق العمــل والكســب‪ :‬ي ــنبغي علــى‬ ‫املجتمــع أن يوفــر لــذوي االحت ــياجات‬ ‫الخاصــة فــرص عمــل خاصــة بهــم‪ ،‬لئــا‬ ‫يكونــوا عالــة علــى أحــد‪ ،‬وليســاهموا فــي‬ ‫ب ــناء هــذا املجتمــع وإعمــاره‪ ،‬قــال هللا‬ ‫َُ ْ ُ َ‬ ‫ُ َُ‬ ‫اع َملــوا ف َسـ َـي َرى‬ ‫تعالــى‪ (( :‬وقـ ِـل‬ ‫هللا َع َملكـ ْـم‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ ُْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫َو َر ُســول ُه َوالؤ ِمنــون َو َســت َر ُّدون ِإلــى َع ِالـ ِـم‬ ‫ُ‬ ‫َ ُ‬ ‫َْ‬ ‫َّ‬ ‫الغ ْيـ ِـب َوالشـ َـه َاد ِة ف ُي َن ِّب ُئكــم ِب َمــا ك ُنتـ ْـم‬ ‫َ ُ‬ ‫ت ْع َملــو َن)) [التوبــة‪ ،]105:‬والعمــل الدن ــيوي‬ ‫واألخــروي مطلــوب مــن الجم ــيع‪ ،‬ومنهــم‬ ‫ذوو االحت ــياجات الخاصــة‪ ،‬حيــث يملــؤون‬ ‫أوقــات فراغهــم بمــا هــو مفيــد ونافــع‬ ‫للنــاس‪ ،‬وبالعمــل يســتعيدون صحتهــم ألن‬ ‫العضــو الــذي ال يعمــل يضمــر ويضعــف‪،‬‬ ‫ويحافظــون علــى صحــة نفوســهم؛‬

‫(‪ )22‬رواه البيهقي في السنن الكبـرى‪ ،‬تحقيق‪ :‬محمد عطا‪ ،‬دار الكتب العلمية‪ ،‬الطبعة الثالثة‪2003 ،‬م‪ ،‬كتاب السيـر‪،‬‬ ‫َّ ْ َ ْ َ َ َ َّ َ ْ ْ َ ْ‬ ‫َ َْ​َ​َ‬ ‫الز َمان ِة َوال ُعذ ِر ِفي ت ْر ِك ال ِج َه ِاد‪ ،‬بـرقم‪( ،)17821( :‬ج‪ ،9‬ص‪.)42‬‬ ‫ضو‬ ‫باب م ِن اعتذر ِبالضع ِ‬ ‫ف والر ِ‬ ‫(‪ )23‬تفسيـر القرآن العظيم (ابـن كثيـر)‪ ،‬تحقيق‪ :‬محمد حسيـن شمس الديـن‪ ،‬دار الكتب العلمية‪ ،‬الطبعة األولى‪1419 ،‬هـ‪( ،‬ج‪ ،8‬ص‪.)322‬‬ ‫َّ‬ ‫(‪ )24‬رواه البخاري‪ ،‬في كتاب فضائل القرآن‪ ،‬باب َخ ْي ُر ُك ْم َم ْن َت َع َّل َم ُ‬ ‫الق ْر َآن َو َعل َم ُه‪ ،‬بـرقم‪( )5027( :‬ج‪ - 6‬ص‪.)192‬‬ ‫(‪ )25‬سيـر أعالم النبالء‪ ،‬للذهبي‪ ،‬دار الحديث‪ ،‬القاهرة‪2006 ،‬م (ج‪ - 5‬ص‪.)153‬‬ ‫(‪ )26‬التكاليف والحقوق الشرعية للمعاقيـن‪ ،‬د‪ .‬طارق بـن عبد هللا حجار‪ ،‬بحث منشور في مجلة الجامعة اإلسالمية‪ ،‬العدد‪( ،130:‬ص‪.)474-473‬‬

‫العدد ‪ 2‬رجب ‪1439‬هـ‬

‫ألنهــم بخروجهــم للعمــل ي ــندمجون فــي‬ ‫املجتمــع‪ ،‬ويعيشــون بعيـ ًـدا عــن إصابتهــم‬ ‫فــا يشــعرون ب ــنقص وال ضعــف‪ ،‬كمــا‬ ‫أنهــم ي ــنتجون ويكســبون‪ ،‬ولغي ــرهم ال‬ ‫يحتاجــون‪ ،‬وهــذا نب ــي هللا مو�ســى عليــه‬ ‫الســام عمــل فــي رعــي األغنــام عشــر سنـي ــن‪،‬‬ ‫وفــي لســانه ُع ْقـ َـدة‪ ،‬قــال هللا تعالــى حكايــة‬ ‫َ َ َ ّ ْ‬ ‫اشـ َـر ْح لــي َ‬ ‫صـ ْـد ِري‪َ .‬و َي ِ ّسـ ْـر‬ ‫عنــه‪ (( :‬قــال رب‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫َ ْ ُ ْ ِ ُ ْ َ ً ّ َّ‬ ‫َ ْ َُ‬ ‫ِلــي أ ْمـ ِـري‪ .‬واحلــل عقــدة ِمــن ِلســا ِني‪ .‬يفقهــوا‬ ‫َ‬ ‫ق ْو ِلــي)) [طــه‪ ،]28-25:‬فــذوو االحت ــياجات‬ ‫الخاصــة ال تمنعهــم إصابتهــم مــن العمــل‬ ‫والكســب الحــال‪.‬‬ ‫وهــذا عبــد الرحمــن ب ــن عــوف ر�ضــي هللا عنــه‬ ‫(علــى الرغــم مــن َعـ َـر ٍج أصابــه بعــد غــزوة‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ً‬ ‫أحــد‪ُ ،‬‬ ‫واضحــا‬ ‫وســقوط أســنا ِن ِه تـ َـر َك أث ـ ًـرا‬ ‫فــي نطقــه وحديثــه‪ ،‬إال أن هــذه اإلعاقــات‬ ‫لــم تمنعــه مــن طلــب الــرزق والســعي إلــى‬ ‫الكســب الحــال حتــى كان مــن أغنــى أغن ــياء‬ ‫املسلمـي ــن)(‪.)26‬‬ ‫‪-7‬حــق التصــرف والتملــك‪ :‬املؤهــل للتصــرف‬ ‫ُ‬ ‫البالــغ العا ِقــل الر ِاشــد‪ ،‬ومــا دام‬ ‫هــو الحـ ُّـر ِ‬ ‫ذوو االحت ــياجات الخاصــة كذلــك‪ ،‬فلهــم‬ ‫حــق التصــرف التــام فــي الب ــيع والش ـراء‬ ‫ُّ‬ ‫والتملــك وســائر التصرفــات‪َّ ،‬أمــا إن‬ ‫كان يحــول بـي ــنه وبـي ــن التصــرف �شــيء؛‬ ‫فإنــه ي ــنوب عنــه غي ــره‪ ،‬قــال هللا تعالــى فــي‬ ‫َ ْ‬ ‫َ َ َّ‬ ‫آيــة املداي ــنة‪ ...(( :‬فـ ِـإن ك َان الـ ِـذي َعل ْيـ ِـه ال َحـ ُّـق‬ ‫َ‬ ‫َ َ‬ ‫َســف ًيها َأ ْو َ‬ ‫ض ِع ًيفــا أ ْو ل َي ْسـ َـت ِط ُيع أن ُي ِمـ َّـل‬ ‫ِ‬ ‫ُ َ َ ْ ُ ْ ْ َ ُّ ُ ْ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫هــو فليم ِلــل وِليــه ِبالعــد ِل‪[ ))...‬البقــرة‪]282:‬‬ ‫ُ‬ ‫ُ ّ‬ ‫ـف ال ـرأي‪ ،‬أي َمــن ال‬ ‫وف ِســر الســفيه بضعيـ ِ‬

‫‪49‬‬


‫حقوق ذوي االحتياجات الخاصة‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫والــذي يؤكــد مــا ســبق؛ مــا رواه أبــو ُه َ ْريـ َـرة‬ ‫َ َّ ُ ً َ َ ُ َ‬ ‫هللا‬ ‫ر�ضــي هللا عنــه أن َرجــا أتــى َرســول ِ‬ ‫َ‬ ‫ُ َ‬ ‫َّ‬ ‫َ َّ‬ ‫هللا َعل ْيـ ِـه َو َســل َم ِب َج ِارَيـ ٍـة َع ْج َمـ َـاء ل‬ ‫صلــى‬ ‫َ َ ً ْ ً‬ ‫ُت ْفصـ ُـح‪َ ،‬ف َقـ َ‬ ‫((إ َّن َعلـ َّـي َرق َبــة ُمؤ ِم َنــة‪،‬‬ ‫ـال‪:‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َ​َ‬ ‫ص َّلــى ُ‬ ‫ـال َل َهــا َر ُســو ُل هللا َ‬ ‫هللا َع َل ْيــه َو َسـ َّـلم‪َ:‬‬ ‫َ‬ ‫فقـ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َأ ْيـ َـن ُ‬ ‫هللا َعـ َّـز َو َجـ َّـل؟ َف َأ َشـ َـار ْت إ َلــى َّ‬ ‫السـ َـم ِاء‪،‬‬ ‫َ َ َ َ َ َ ْ َ​َ َ​َ َ َ ْ َِ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫فقــال لهــا‪ :‬مــن أنــا؟ فأشــارت ِإلــى الســم ِاء‪،‬‬ ‫َ‬ ‫َف َقـ َ ُ ُ‬ ‫هللا‪ :‬أ ْع ِت ْق َهــا))(‪ ،)18‬فالواجــب‬ ‫ـال َرســول ِ‬ ‫العقــدي أمــر هــام يلــزم كل فــرد‪ ،‬وذوو‬ ‫االحت ــياجات الخاصــة ال يســقط عنهــم‬ ‫هــذا الحــق والتكليــف‪ ،‬كمــا أن العقيــدة‬ ‫الصحيحــة تمنــع بعــض ذوي االحت ــياجات‬ ‫الخاصــة أو َمــن يقــوم بشــؤونهم مــن‬ ‫التــداوي بمــا يخالــف اإليمــان بــاهلل‪ ،‬كمــن‬ ‫يبغــي الشــفاء علــى أيــدي أهــل الزيــغ مــن‬ ‫املشعوذي ــن والســحرة‪.‬‬ ‫كمــا أن العقيــدة الصحيحــة لإلنســان‬ ‫طمأنـي ــنة نفســية وراحــة قلب ــية فــي الصب ــر‬ ‫علــى االبتــاء‪ ،‬وال َّ‬ ‫أدل علــى هــذا ِمــن حديــث‬ ‫َ‬ ‫َ َ َ‬ ‫امل ـرأة َ‬ ‫ـال َعطـ ُـاء ْبـ ُـن أ ِب ــي‬ ‫الســوداء‪ ،‬فقــد قـ‬ ‫ِ‬ ‫َ َ ُ َ ْ َ ًَ‬ ‫َ​َ َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫ـاس‪(( :‬أال أ ِريــك امــرأة‬ ‫ـاح َ‪ :‬قــال ِلــي ابــن عبـ ٍ‬ ‫ربـ ٍ‬ ‫َ َّ ُ ْ ُ َ َ َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ِمـ ْـن أهـ ِـل الجنـ ِـة؟ قلــت‪ :‬بلــى‪ ،‬قــال‪ :‬هـ ِـذ ِه‬ ‫َّ َّ َ َّ ُ َ‬ ‫َ​َ‬ ‫املَـ ْ َـرأ ُة َّ‬ ‫هللا َعل ْيـ ِـه‬ ‫السـ ْـو َد ُاء‪ ،‬أتـ ِـت الن ِب ــي صلــى‬ ‫ّ َ َ َ َّ ُ‬ ‫َو َسـ َّـل َم َف َق َالـ ْـت‪ :‬إ ّنــي ُأ ْ‬ ‫صـ َـر ُع‪َ ،‬وِإ ِنــي أتكشــف‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫َِ َ ْ ْ َ َ ْ َ َ‬ ‫َفـ ْـاد ُع َ‬ ‫هللا ِل ــي‪ ،‬قــال‪«ِ :‬إن ِشــئ ِت صبــر ِت ولـ ِـك‬ ‫َ َّ ُ َ ْ ْ َ َ ْ ُ َ َ‬ ‫هللا أ ْن ُي َعا ِف َيـ ِـك»‬ ‫الجنــة‪ ،‬وِإن ِشــئ ِت دعــوت‬ ‫َ َ َ ْ َ ْ ُ َ َ َ ْ ّ َ َ َ َّ ُ‬ ‫فقالــت‪ :‬أص ِبــر‪ ،‬فقالــت‪ِ :‬إ ِنــي أتكشــف‪،‬‬ ‫َ ْ ُ َ َ َ َ َ َ َّ َ َ َ‬ ‫فادع‬ ‫هللا ِلي أ ْن ال أتكشــف‪ ،‬ف َد َعا ل َها))(‪.)19‬‬ ‫‪-2‬حــق الحيــاة‪ :‬لقــد كانــت فلســفات اليونــان‬ ‫وقوانـي ــنهم تســمح بالتخلــص ممــن بهــم‬ ‫نقــص جسم ــي‪ ،‬وقــد أعلــن أفالطــون‬ ‫وأرســطو طاليــس موافقتهمــا علــى هــذا‬

‫ً‬ ‫العمــل‪ ،‬وفــي رومــا ظــل النــاس أجيــال‬ ‫عديــدة يغرقــون األطفــال غي ــر مكتملــي‬ ‫النمــو‪.‬‬ ‫أما في اإلسالم فإن قيمة الحياة لإلنسان لها‬ ‫قدســية خاصــة‪ ،‬وهــي حــق لــكل فــرد ســواء‬ ‫كان من ذوي االحتـياجات الخاصة أو غيـرهم‪،‬‬ ‫َ َ َ ْ ُ ُ َّ ْ َ َّ‬ ‫ـس التِــي َحـ َّـر َم‬ ‫قــال هللا تعالــى‪ (( :‬ول تقتلــوا النفـ‬ ‫ُ َّ ْ‬ ‫هللا ِإل ِبال َحـ ِ ّـق)) [ســورة اإلس ـراء‪ ،]33 :‬كمــا‬ ‫ال يجــوز لغي ــره أن يعتــدي عليــه‪ ،‬قــال‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ َ‬ ‫ســبحانه‪ِ (( :‬مـ ْـن أ ْجـ ِـل ذ ِلـ َـك ك َت ْب َنــا َعلــى َبنِــي‬ ‫ْ َ َ َ َّ ُ َ َ َ َ َ ْ ً َ ْ َ ْ َ‬ ‫ـس أ ْو‬ ‫ِإســرا ِئيل أْنـ َـه مــن ق َتــل نفســا ِبغيـ ِـر نفـ ٍ‬ ‫َف َســاد فــي ال ْرض َف َكأ َّن َمــا َق َتـ َـل َّ‬ ‫ـاس َجم ً‬ ‫النـ َ‬ ‫يعــا‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬ ‫َ َ ْ َ ِ ْ َ َ َ ِ َ َ َّ َ َ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ً‬ ‫َ‬ ‫ومــن أحياهــا فكأنمــا أحيــا النــاس ج ِميعــا))‬ ‫[ســورة املائــدة‪.]32 :‬‬ ‫‪-3‬حــق الكرامــة‪ :‬كل النــاس متســاوون‬ ‫فــي الكرامــة ذوو االحت ــياجات الخاصــة‬ ‫َ​َ َ‬ ‫وغيـرهم‪ ،‬قال هللا تعالى‪َ (( :‬ولق ْد ك َّر ْم َنا َبنِـي‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫َآد َم َو َح َمل َن ُاهـ ْـم ِفــي ال َبـ ّ ِـر َوال َب ْحـ ِـر َو َر َزق َن ُاهــم‬ ‫ّ َ َّ ّ َ َ َ َّ ْ‬ ‫َ َ‬ ‫ضل َن ُاهـ ْـم َعلــى ك ِثي ـ ٍـر ِّم َّمـ ْـن‬ ‫ـات وف‬ ‫ِمــن الط ِيبـ ِ‬ ‫َ​ََْ َْ ً‬ ‫خلقنــا تف ِضيــا)) (اإلس ـراء‪ ،)70:‬قــال‬ ‫اب ــن عاشــور‪( :‬وقــد جمعــت اآليــة خمــس‬ ‫ِمنــن‪ :‬التكريــم‪ ،‬وتسخي ــر املراكــب فــي الب ــر‪،‬‬ ‫وتسخي ــر املراكــب فــي البحــر‪ ،‬والــرزق‬ ‫مــن الطيبــات‪ ،‬والتفضيــل علــى كثي ــر مــن‬ ‫املخلوقــات‪ ...‬فالتكريــم‪ :‬جعلــه ً‬ ‫كريمــا‪ ،‬أي‬ ‫ً‬ ‫نفيســا غي ــر مبــذول وال ذليــل فــي صورتــه‬ ‫وال فــي حركــة مشــيه وفــي بشــرته‪ ...‬وأمــا‬ ‫التفضيــل فجماعــه تمكي ــن اإلنســان مــن‬ ‫ُّ‬ ‫التســلط علــى جم ــيع املخلوقــات األرضيــة‬ ‫ً‬ ‫ب ـرأيه وحيلتــه‪ ،‬وكفــى بذلــك تفضيــا علــى‬ ‫البقيــة‪ ،‬والفــرق بـي ــن التفضيــل والتكريــم‬ ‫بالعمــوم والخصــوص؛ فالتكريــم منظــور‬

‫(‪ )18‬شرح مشكل اآلثار‪ ،‬للطحاوي‪ ،‬تحقيق‪ :‬األرنؤوط‪ ،‬طبعة الرسالة‪ 1415 ،‬هـ (ج‪ ،12‬ص‪.)521‬‬ ‫َ ْ َ ْ ُ َُْ َ ّ‬ ‫الر ِيح‪ ،‬بـرقم‪.)5652( :‬‬ ‫(‪ )19‬رواه البخاري‪ ،‬في كتاب املر�ضى‪ ،‬باب فض ِل من يصرع ِمن ِ‬ ‫(‪ )20‬تفسيـر ابـن عاشور‪( ،‬املتوفى‪1393‬هـ)‪ ،‬الدار التونسية للنشر‪ ،‬تونس ‪1984‬م‪( ،‬ج‪ -15‬ص‪.)166-164‬‬ ‫(‪ )21‬رواه البخاري‪ ،‬في كتاب األذان‪ ،‬باب َه ْل َي ْأ ُخ ُذ َ ُ َ َ َّ َ ْ َّ‬ ‫اس؟ بـرقم‪( )714( :‬ج‪ ،1‬ص‪.)144‬‬ ‫ِ‬ ‫اإلمام ِإذا شك ِبقو ِل الن ِ‬

‫حقوق ذوي االحتياجات الخاصة‬

‫العدد ‪ 2‬رجب ‪1439‬هـ‬

‫فيــه إلــى تكريمــه فــي ذاتــه‪ ،‬والتفضيــل‬ ‫منظــور فيــه إلــى تشــريفه فــوق غي ــره)(‪،)20‬‬ ‫فتكريــم هللا لبـن ــي آدم هــو تفضيلــه لهــم‬ ‫َْ‬ ‫بالنطــق والعقــل والعلــم واعتــدال الخلــق‪.‬‬ ‫‪ -4‬حــق الحريــة‪ :‬فــذوو االحت ــياجات الخاصــة‬ ‫أحـرار كغي ــرهم‪ ،‬يتمتعــون بحريــة أنفســهم‬ ‫كمــا يتمتعــون بحريــة الـرأي وحريــة القـرار‪،‬‬ ‫وحريــة التفكي ــر والتعبـي ــر‪ ،‬قــال هللا تعالــى‪:‬‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ ُ‬ ‫ْ ّ َ‬ ‫هللا ِلنـ َـت ل ُهـ ْـم َولـ ْـو كنـ َـت‬ ‫(( ف ِب َمــا َرح َمـ ٍـة ِمــن ِ‬ ‫َ ًّ َ َ‬ ‫ـظ ْال َق ْلــب َل َنف ُّ‬ ‫فظــا غ ِليـ‬ ‫ضــوا ِمـ ْـن َح ْوِلـ َـك‬ ‫ِ‬ ‫َ ْ ُ‬ ‫ـف َع ْن ُهـ ْـم َو ْ‬ ‫اسـ َـت ْغ ِف ْر َل ُهـ ْـم َو َشــاو ْر ُهمْ‬ ‫فاعـ‬ ‫َ ِ‬ ‫َْ‬ ‫ال ْمــر َفــإ َذا َع َز ْمـ َـت َف َتـ َـو َّك ْل َعلــى هللا إنَّ‬ ‫ِفــي‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫َ ُ ِ ُّ ْ ُ َ َ ّ‬ ‫َ‬ ‫هللا ي ِحــب التو ِك ِلي ــن)) [آل عم ـران‪،]159:‬‬ ‫َْ‬ ‫َ‬ ‫فقولــه تعالــى‪َ (( :‬وشـ ِـاو ْر ُه ْم ِفــي ال ْمـ ِـر)) أي‪:‬‬ ‫اســتخرج آراءهــم‪ ،‬فاملشــورة‪ :‬تلقيــح ال ـرأي‬ ‫بــآراء متعــددة‪ ،‬وهــذا دليــل علــى حريــة الرأي‬ ‫فــي التعبـي ــر وتبــادل اآلراء مــع اآلخري ــن‪،‬‬ ‫وال فــرق فــي ذلــك بـي ــن ذوي االحت ــياجات‬ ‫الخاصــة وغي ــرهم‪ ،‬وهــذا منهــج النب ــي صلــى‬ ‫هللا عليه وسلم في التعامل وإعطاء الحرية‬ ‫لآلخري ــن ليعب ــروا عــن آرائهــم‪ ،‬والدليــل علــى‬ ‫َ َ‬ ‫َ‬ ‫فعـ ْـن أ ِبــي ُه َرْيـ َـرة‬ ‫ذلــك قصــة ذي اليدي ــن‪،‬‬ ‫َ‬ ‫ص َّلــى هللاُ‬ ‫((أ َّن َر ُســو َل هللا َ‬ ‫ر�ضــي هللا عنــه‪:‬‬ ‫ِ‬ ‫َ َ ْ َ َ َّ َ ْ َ َ َ َ ْ َ َ ْ َ َ َ َُ‬ ‫عليـ ِـه وســلم انصــرف ِمــن اثنتيـ ِـن‪ ،‬فقــال لــه‬ ‫الصـ َـا ُة‪َ ،‬أ ْم َنسـ َ‬ ‫الي َد ْيــن‪َ :‬أ َق ُ‬ ‫ُذو َ‬ ‫صـ َـر ِت َّ‬ ‫ـيت‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ص َّلــى ُ‬ ‫ـال َر ُســو ُل هللا َ‬ ‫هللا؟ َف َقـ َ‬ ‫َيــا َر ُســو َل‬ ‫هللا‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َع َل ْيــه َو َسـ َّـل َم‪«َ :‬أ َ‬ ‫صـ َـد َق ُذو َ‬ ‫الي َد ْيــن؟» َف َقـ َ‬ ‫ـال‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َّ‬ ‫ص َّلــى هللاُ‬ ‫ـام َر ُســو ُل هللا َ‬ ‫ـاس‪َ :‬ن َعـ ْـم‪َ ،‬ف َقـ َ‬ ‫ُ‬ ‫النـ‬ ‫ُ ِ‬ ‫ْ‬ ‫َع َل ْيــه َو َسـ َّـل َم‪َ ،‬ف َ َّ ْ َ َ‬ ‫صلــى اثنت ْيـ ِـن أخ َرَي ْيـ ِـن))(‪.)21‬‬ ‫ِ‬ ‫أمــا حريــة اتخــاذ الق ـرار فتتجلــى فــي موقــف‬ ‫َ َ‬ ‫َع ْمرو ْبن ْال َج ُ‬ ‫وح ر�ضي هللا عنه‪( ،‬وك َان أ ْع َر َج‬ ‫م‬ ‫ِ‬ ‫َشـ ِـد َيد ْال َعـ َـرج‪َ ،‬و َك َان َلـ ُـه َأ ْ َرب َعـ ُـة َب ِني ـ َـن َشـ َـب ٌ‬ ‫اب‬ ‫ِ‬

‫‪48‬‬

‫َ َّ ُ َ‬ ‫َّ‬ ‫َي ْغـ ُـز َ‬ ‫ون َمـ َـع َر ُ‬ ‫هللا َعل ْيـ ِـه َو َســل َم‬ ‫هللا صلــى‬ ‫ســو ِل ِ‬ ‫َ َّ ُ َ‬ ‫َ َ َ َ​َ َ َ ُ ُ‬ ‫هللا َعل ْي ِه‬ ‫هللا صلى‬ ‫ِإذا غزا‪ ،‬فل َّما أ َراد َرســو ُل ِ‬ ‫ـال َلـ ُـه َب ُنـ ُ‬ ‫َو َسـ َّـل َم أن َي َت َو َّجـ ُـه إ َلــى أ ُحـ ٍـد‪َ ،‬قـ َ‬ ‫ـوه‪:‬‬ ‫ِ‬ ‫إ َّن َ‬ ‫هللا َعـ َّـز َو َجـ َّـل َقـ ْـد َج َعـ َـل َلـ َـك ُر ْخ َ‬ ‫صـ ًـة َف َلــوْ‬ ‫ِ‬ ‫هللا َع ْنــكَ‬ ‫َق َعـ ْـد َت َف َن ْحـ ُـن َن ْكفيـ َـك َف َقـ ْـد َو َ‬ ‫ضـ َـع ُ‬ ‫ِ‬ ‫ْ َ َ َ​َ​َ َ ْ ُ ْ ُ ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫هللا‬ ‫ـوح رســول ِ‬ ‫ال ِ َّجهــاد‪ ،‬فأ َتــى عمــر َّو بــن َ َالجمـ ِ‬ ‫صلــى ُ‬ ‫َ‬ ‫هللا َعل ْيــه َو َســل َم‪ ،‬فقـ َ َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫هللا‪،‬‬ ‫ـال‪َ :‬يــا رســول ِ‬ ‫ِ‬ ‫َُ‬ ‫َ َ ْ‬ ‫ِإ َّن َبنِـ َّـي َهــؤل ِء َي ْم َن ُعــون أ ْن أخـ ُـر َج َم َعـ َـك‪،‬‬ ‫َ ّ َ​َ َ ُ َ ْ َ​َ َ​َ‬ ‫هللا ِإ ِنــي ل ْر ُجــو أ ْن أ ْستشـ َـه َد فأطــأ ِب َع ْر َجتِــي‬ ‫و ِ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ َّ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َهـ ِـذ ِه فــي الجنـ ِـة! فقـ َ‬ ‫هللا صلــى‬ ‫ـال َلــه َرســول ِ‬ ‫ُ َ ِ َ ْ َ َ َّ َ َ‬ ‫((أ َّمــا أ ْنـ َـت َف َقـ ْـد َو َ‬ ‫ضـ َـع هللاُ‬ ‫هللا عليـ ِـه وســلم‪:‬‬ ‫َْ َ ْ َ َ َ​َ‬ ‫ـال ل َبنيــه‪َ :‬‬ ‫((و َمــا َع َل ْي ُكــمْ‬ ‫َ‬ ‫َعنــك ال ِجهــاد))‪ .‬وقـ ِ ِ ِ‬ ‫َ‬ ‫ْ َ َ ُ ُ َ َ َّ َ ُ ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫هللا َي ْرزق ُه الش َهادة))‪ .‬فخ َر َج‬ ‫أن تدعوه لعل‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ َ ُ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫هللا صلــى هللا عليـ ِـه وســلم‪ ،‬فق ِتـ َـل‬ ‫مــع َر ُســو ِل ِ‬ ‫َيـ ْـو َم أ ُحــد َشــه ً‬ ‫يدا)(‪ ،)22‬فهــذه حريــة اتخــاذ‬ ‫ٍ ِ‬ ‫الق ـرار لــذوي االحت ــياجات الخاصــة‪.‬‬ ‫ُّ‬ ‫‪-5‬حــق التعلــم والتعليــم‪ :‬مــن حقــوق ذوي‬ ‫ُّ‬ ‫االحت ــياجات الخاصــة التعلــم والتعليــم‬ ‫لجم ــيع العلــوم املفيــدة‪ ،‬فــأول مــا نــزل مــن‬ ‫ْ‬ ‫((اقـ َ ْـرأ ب ْ‬ ‫اسـ ِـم‬ ‫الق ـرآن الكريــم قولــه تعالــى‪:‬‬ ‫ِ‬ ‫َ​َ‬ ‫َّ‬ ‫َّْ‬ ‫َرِّبـ َـك الـ ِـذي خلـ َـق)) [العلــق‪ ]2:‬أي‪ :‬تعلــم‬ ‫ْ َ َ‬ ‫وارق وارتـ ِـق‪ ،‬وهــذا عبــد هللا ب ــن أم مكتــوم‬ ‫مــن ذوي االحت ــياجات الخاصــة (الضري ــر)‬ ‫ُّ‬ ‫ً‬ ‫حريصــا علــى التعلــم مــن رســول هللا‬ ‫كان‬ ‫َّ‬ ‫ليزكـي نفســه‪ ،‬وقولــه‬ ‫صلــى هللا عليــه وســلم ـ‬ ‫َ َّ َّ َ َ ْ َ ٌ‬ ‫تعالــى‪(( :‬كل ِإنهــا تذ ِكــرة)) [عبــس‪]11:‬‬ ‫َ‬ ‫ُّ َ ُ َ ْ‬ ‫ُ ُْ‬ ‫(أ ْي َهـ ِـذ ِه السـ‬ ‫ـورة أ ِو ال َو ِص َّيــة ِبال َسـ َـاو ِاة‬ ‫َ ْ ْ‬ ‫َ‬ ‫َ ْ َ َّ‬ ‫ـاس ِفــي ِإ ْبــا ِغ ال ِعلـ ِـم ِمـ ْـن شـ ِـر ِيف ِه ْم‬ ‫بيــن النـ ِ‬ ‫َو َو ِضي ِع ِهـ ْـم ) (‪.)22‬‬ ‫وعـ ْـن ُع ْث َمـ َ‬ ‫هللا َع ْنـ ُـه‪َ ،‬عــن َّ‬ ‫ـان َر�ضـ َـي ُ‬ ‫َ‬ ‫النب ـ ّ ِـي‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬

‫ُ َ َ ْ َ َ َّ َ َ َ َ ُ‬ ‫َ َّ‬ ‫ـال‪« :‬خ ْي ُركـ ْـم َمـ ْـن‬ ‫صلــى هللا عليـ ِـه وســلم قـ‬ ‫َ َ َّ َ ُ ْ َ َّ‬ ‫آن َو َعل َمـ ُـه»(‪.)24‬‬ ‫تعلــم القــر‬ ‫وقــد كان أبــو عبــد الرحمــن عبــد هللا ب ــن‬ ‫حب ــيب السلم ــي أعمــى‪ ،‬لكنــه كان مقــرئ‬ ‫َ َ َ‬ ‫الكوفــة‪ ،‬وهــو مــن أوالد الصحابــة‪ ،‬أخــذ‬ ‫َع ْنـ ُـه ُ‬ ‫القـ ْـر َ‬ ‫(عاصـ ُـم ب ـ ُـن َأبــي َّ‬ ‫آن‪َ :‬‬ ‫الن ُجـ ْـو ِد‪،‬‬ ‫ِ َ ِ‬ ‫َو َي ْح َيــى ب ـ ُـن َو َّثــاب‪َ ،‬و َعطـ ُـاء ب ـ ُـن َّ‬ ‫الســا ِئ ِب‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫َو َع ْبـ ُـد‬ ‫هللا ب ـ ُـن ِع ْي�ســى ب ـ ِـن عبـ ِـد الرحمـ ِـن ب ـ ِـن‬ ‫ِ‬ ‫َ َ‬ ‫َّ‬ ‫أب ــي ليلــى َو ُم َح َّمـ ُـد ب ـ ُـن أ ِبــي أ ُّيـ ْـو َب َوالش ْعب ـ ُّـي‬ ‫َ َ َ َ َ‬ ‫َ َ‬ ‫َ ْ‬ ‫ض َعل ْيـ ِـه‬ ‫اع ْي ُل ب ـ ُـن أ ِبــي خ ِالـ ٍـد‪ ،‬وعــر‬ ‫وِإسـ َـم ِ‬ ‫الح َسـ ْـي ُن َر�ضـ َـي ُ‬ ‫َ‬ ‫الح َسـ ُـن َو ُ‬ ‫هللا َع ْن ُه َمــا)(‪.)25‬‬ ‫ِ‬ ‫ُّ‬ ‫فمــن حــق ذوي االحت ــياجات الخاصــة التعلــم‬ ‫والتعليــم‪ ،‬وتوفي ــر الظــروف املناســبة لهــم‬ ‫ـكـي يتعلمــوا وي ــنالوا أعلــى املراتــب‪ ،‬في ــنفعوا‬ ‫أنفســهم وأمتهــم‪.‬‬ ‫‪-6‬حــق العمــل والكســب‪ :‬ي ــنبغي علــى‬ ‫املجتمــع أن يوفــر لــذوي االحت ــياجات‬ ‫الخاصــة فــرص عمــل خاصــة بهــم‪ ،‬لئــا‬ ‫يكونــوا عالــة علــى أحــد‪ ،‬وليســاهموا فــي‬ ‫ب ــناء هــذا املجتمــع وإعمــاره‪ ،‬قــال هللا‬ ‫َُ ْ ُ َ‬ ‫ُ َُ‬ ‫اع َملــوا ف َسـ َـي َرى‬ ‫تعالــى‪ (( :‬وقـ ِـل‬ ‫هللا َع َملكـ ْـم‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ ُْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫َو َر ُســول ُه َوالؤ ِمنــون َو َســت َر ُّدون ِإلــى َع ِالـ ِـم‬ ‫ُ‬ ‫َ ُ‬ ‫َْ‬ ‫َّ‬ ‫الغ ْيـ ِـب َوالشـ َـه َاد ِة ف ُي َن ِّب ُئكــم ِب َمــا ك ُنتـ ْـم‬ ‫َ ُ‬ ‫ت ْع َملــو َن)) [التوبــة‪ ،]105:‬والعمــل الدن ــيوي‬ ‫واألخــروي مطلــوب مــن الجم ــيع‪ ،‬ومنهــم‬ ‫ذوو االحت ــياجات الخاصــة‪ ،‬حيــث يملــؤون‬ ‫أوقــات فراغهــم بمــا هــو مفيــد ونافــع‬ ‫للنــاس‪ ،‬وبالعمــل يســتعيدون صحتهــم ألن‬ ‫العضــو الــذي ال يعمــل يضمــر ويضعــف‪،‬‬ ‫ويحافظــون علــى صحــة نفوســهم؛‬

‫(‪ )22‬رواه البيهقي في السنن الكبـرى‪ ،‬تحقيق‪ :‬محمد عطا‪ ،‬دار الكتب العلمية‪ ،‬الطبعة الثالثة‪2003 ،‬م‪ ،‬كتاب السيـر‪،‬‬ ‫َّ ْ َ ْ َ َ َ َّ َ ْ ْ َ ْ‬ ‫َ َْ​َ​َ‬ ‫الز َمان ِة َوال ُعذ ِر ِفي ت ْر ِك ال ِج َه ِاد‪ ،‬بـرقم‪( ،)17821( :‬ج‪ ،9‬ص‪.)42‬‬ ‫ضو‬ ‫باب م ِن اعتذر ِبالضع ِ‬ ‫ف والر ِ‬ ‫(‪ )23‬تفسيـر القرآن العظيم (ابـن كثيـر)‪ ،‬تحقيق‪ :‬محمد حسيـن شمس الديـن‪ ،‬دار الكتب العلمية‪ ،‬الطبعة األولى‪1419 ،‬هـ‪( ،‬ج‪ ،8‬ص‪.)322‬‬ ‫َّ‬ ‫(‪ )24‬رواه البخاري‪ ،‬في كتاب فضائل القرآن‪ ،‬باب َخ ْي ُر ُك ْم َم ْن َت َع َّل َم ُ‬ ‫الق ْر َآن َو َعل َم ُه‪ ،‬بـرقم‪( )5027( :‬ج‪ - 6‬ص‪.)192‬‬ ‫(‪ )25‬سيـر أعالم النبالء‪ ،‬للذهبي‪ ،‬دار الحديث‪ ،‬القاهرة‪2006 ،‬م (ج‪ - 5‬ص‪.)153‬‬ ‫(‪ )26‬التكاليف والحقوق الشرعية للمعاقيـن‪ ،‬د‪ .‬طارق بـن عبد هللا حجار‪ ،‬بحث منشور في مجلة الجامعة اإلسالمية‪ ،‬العدد‪( ،130:‬ص‪.)474-473‬‬

‫العدد ‪ 2‬رجب ‪1439‬هـ‬

‫ألنهــم بخروجهــم للعمــل ي ــندمجون فــي‬ ‫املجتمــع‪ ،‬ويعيشــون بعيـ ًـدا عــن إصابتهــم‬ ‫فــا يشــعرون ب ــنقص وال ضعــف‪ ،‬كمــا‬ ‫أنهــم ي ــنتجون ويكســبون‪ ،‬ولغي ــرهم ال‬ ‫يحتاجــون‪ ،‬وهــذا نب ــي هللا مو�ســى عليــه‬ ‫الســام عمــل فــي رعــي األغنــام عشــر سنـي ــن‪،‬‬ ‫وفــي لســانه ُع ْقـ َـدة‪ ،‬قــال هللا تعالــى حكايــة‬ ‫َ َ َ ّ ْ‬ ‫اشـ َـر ْح لــي َ‬ ‫صـ ْـد ِري‪َ .‬و َي ِ ّسـ ْـر‬ ‫عنــه‪ (( :‬قــال رب‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫َ ْ ُ ْ ِ ُ ْ َ ً ّ َّ‬ ‫َ ْ َُ‬ ‫ِلــي أ ْمـ ِـري‪ .‬واحلــل عقــدة ِمــن ِلســا ِني‪ .‬يفقهــوا‬ ‫َ‬ ‫ق ْو ِلــي)) [طــه‪ ،]28-25:‬فــذوو االحت ــياجات‬ ‫الخاصــة ال تمنعهــم إصابتهــم مــن العمــل‬ ‫والكســب الحــال‪.‬‬ ‫وهــذا عبــد الرحمــن ب ــن عــوف ر�ضــي هللا عنــه‬ ‫(علــى الرغــم مــن َعـ َـر ٍج أصابــه بعــد غــزوة‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ً‬ ‫أحــد‪ُ ،‬‬ ‫واضحــا‬ ‫وســقوط أســنا ِن ِه تـ َـر َك أث ـ ًـرا‬ ‫فــي نطقــه وحديثــه‪ ،‬إال أن هــذه اإلعاقــات‬ ‫لــم تمنعــه مــن طلــب الــرزق والســعي إلــى‬ ‫الكســب الحــال حتــى كان مــن أغنــى أغن ــياء‬ ‫املسلمـي ــن)(‪.)26‬‬ ‫‪-7‬حــق التصــرف والتملــك‪ :‬املؤهــل للتصــرف‬ ‫ُ‬ ‫البالــغ العا ِقــل الر ِاشــد‪ ،‬ومــا دام‬ ‫هــو الحـ ُّـر ِ‬ ‫ذوو االحت ــياجات الخاصــة كذلــك‪ ،‬فلهــم‬ ‫حــق التصــرف التــام فــي الب ــيع والش ـراء‬ ‫ُّ‬ ‫والتملــك وســائر التصرفــات‪َّ ،‬أمــا إن‬ ‫كان يحــول بـي ــنه وبـي ــن التصــرف �شــيء؛‬ ‫فإنــه ي ــنوب عنــه غي ــره‪ ،‬قــال هللا تعالــى فــي‬ ‫َ ْ‬ ‫َ َ َّ‬ ‫آيــة املداي ــنة‪ ...(( :‬فـ ِـإن ك َان الـ ِـذي َعل ْيـ ِـه ال َحـ ُّـق‬ ‫َ‬ ‫َ َ‬ ‫َســف ًيها َأ ْو َ‬ ‫ض ِع ًيفــا أ ْو ل َي ْسـ َـت ِط ُيع أن ُي ِمـ َّـل‬ ‫ِ‬ ‫ُ َ َ ْ ُ ْ ْ َ ُّ ُ ْ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫هــو فليم ِلــل وِليــه ِبالعــد ِل‪[ ))...‬البقــرة‪]282:‬‬ ‫ُ‬ ‫ُ ّ‬ ‫ـف ال ـرأي‪ ،‬أي َمــن ال‬ ‫وف ِســر الســفيه بضعيـ ِ‬

‫‪49‬‬


‫حقوق ذوي االحتياجات الخاصة‬ ‫ُ‬ ‫الختالل في عقله‪،‬‬ ‫حســن التصرف في املال‬ ‫ي ِ‬ ‫ٍ‬ ‫َْ‬ ‫ُ‬ ‫واألبكم واألعمى واأللك ُن‬ ‫الجاهل‬ ‫وقيل‪ :‬هو‬ ‫ِ‬ ‫ُّ َ ْ ُ ْ ْ َ ُّ ُ ْ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫واألخـ ُ‬ ‫ـرس واألصــم‪ ،‬فليم ِلــل وِليــه ِبالعــد ِل‪.‬‬ ‫فبتمكيـن ذوي االحتـياجات الخاصة من حق‬ ‫التصــرف‪ ،‬يصبحــون فاعلي ــن منتجي ــن‬ ‫ولجهدهم وأوقاتهم مستثمريـن‪ ،‬وبأموالهم‬ ‫منتفعي ــن وال يكونــون عالــة علــى اآلخري ــن‪.‬‬ ‫‪-8‬الحــق املالــي‪ :‬لقــد خـ َّ‬ ‫ـص هللا تعالــى ذوي‬ ‫االحت ــياجات الخاصــة بالحــق املالــي‪ ،‬ألنهــم‬ ‫يحتاجونــه فــي نفقتهــم وعالجهــم وأدويتهــم‬ ‫ُ َّ‬ ‫وأجهزتهــم كالســماعة‬ ‫والعــكازة والكر�سـ ّـي‬ ‫املتحـ ّ ِـرك‪ ،‬واســتحقوا ذلــك ألنهــم ال‬ ‫يســتطيعون أن يتحركــوا‪ ،‬قــال هللا تعالــى‪:‬‬ ‫َُْ‬ ‫َّ َ ُ ْ‬ ‫َ‬ ‫هللا‬ ‫(( ِللفقـ َـر ِاء ال ِذي ــن أح ِصـ ُـروا َ ِفــي سـ ِـب ِيل ِ‬ ‫ْ‬ ‫َل َي ْسـ َـتط ُ َ َ‬ ‫ض َي ْح َسـ ُـب ُه ُم‬ ‫يعون ض ْ ًربــا ِفــي ال ْر‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َْ ُ‬ ‫ْ َ ُ َْ‬ ‫ُّ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ـف تع ِرفهــم‬ ‫الج ِاهــل أغ ِنيــاء ِمــن التعفـ ِ‬ ‫َ ُ ْ َ َ ْ َ ُ َن َّ َ ْ َ ً‬ ‫ِب ِســيماهم ل يســألو النــاس ِإلحافــا‬ ‫َو َمــا ُتنف ُقــوا مـ ْـن َخ ْيــر َفــإ َّن َ‬ ‫هللا ِبـ ِـه َع ِليـ ٌـم))‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ٍ ِ‬ ‫ّ‬ ‫[البقــرة‪ ]273:‬قــال اب ــن عاشــور‪( :‬أنهــم‬ ‫ّ‬ ‫عاجــزون عــن التجــارة لقلــة ذات اليــد‪،‬‬ ‫الت ْجــر؛ ّ‬ ‫والضـ ْـر ُب فــي األرض كنايــة عــن َّ‬ ‫ألن‬ ‫شـ َ‬ ‫ـأن التاجــر أن يســافر ليبتــاع ويب ــيع فهــو‬ ‫يضــرب األرض ب ــرجليه أو ّ‬ ‫دابتــه)(‪.)27‬‬ ‫َّ َ َ ُ ْ َ‬ ‫ـات ِلل ُفقـ َـر ِاء‬ ‫قــال هللا تعالــى‪ِ (( :‬إ َّن َمــا الصدقـ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َْ‬ ‫ْ ُ َ َّ َ‬ ‫َوال َس ِاكي ـ ِـن َوال َع ِام ِلي ـ َـن َعل ْي َهــا َوالؤلفـ ِـة‬ ‫ُ​ُ‬ ‫َّ‬ ‫َْ‬ ‫ـاب َوالغ ِار ِمي ـ َـن َو ِفــي‬ ‫الرقـ‬ ‫قل ُوب ُهـ ْـم َو ِفــي‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َ َ ً‬ ‫َ‬ ‫هللا َو ْابــن َّ‬ ‫يضــة ِّمـ َـن‬ ‫السـ ِـب ِيل ف ِر‬ ‫سـ ِـب ِيل ِ‬ ‫ِ‬ ‫هللا َو ُ‬ ‫هللا َع ِليـ ٌـم َح ِكيـ ٌـم)) [التوبــة‪،]60:‬‬ ‫ِ‬ ‫وذوو االحت ــياجات الخاصــة هــم الفق ـراء‬ ‫واملساكي ــن الحقيقيــون‪ ،‬فاملعنــى األصلــي‬ ‫للفقي ــر هــو مــن يشــتكي ِف َقـ َـار ْ‬ ‫ظهــره‪ ،‬لعــدم‬ ‫وجــود مــا يكفيــه بحســب حالــه‪ ،‬وا ِمل ْسكي ـ ُـن‪:‬‬ ‫هــو مــن سـ ْ‬ ‫ُ‬ ‫جوارحــه‪ ،‬فالســكون‬ ‫ـكنت‬

‫َّ ُ‬ ‫ضعــف وعجــز وقلــة حركــة‪.‬‬ ‫‪-9‬حــق الــزواج واإلنجــاب‪ :‬حي ــنما أمــر هللا‬ ‫تعالــى بالــزواج شــمل ذوي االحت ــياجات‬ ‫الخاصــة وغي ــرهم‪ ،‬بــل ربمــا ذوو‬ ‫االحت ــياجات ْ‬ ‫أحــوج إلــى الــزواج واإلنجــاب‬ ‫مــن غي ــرهم إذا كانــوا قادري ــن َّ‬ ‫ومهيئي ــن‬ ‫لذلك‪ ،‬ألنهم بهذا الزواج يجدون من يقف‬ ‫بجانبهــم مــن الزوجــة واألوالد‪ ،‬فيعي ــنوهم‬ ‫فــي حوائجهــم ويســاعدونهم ويســاندونهم‪،‬‬ ‫كمــا أن الــزواج مصـ ٌ‬ ‫ـدر مــن مصــادر الــرزق‬ ‫َ​َ‬ ‫َْ‬ ‫والغنــى‪ ،‬قــال هللا تعالــى‪:‬‬ ‫((وأ ِنك ُحــوا ال َي َامــى‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫نكـ ْـم َو َّ‬ ‫الص ِال ِحي ـ َـن ِمـ ْـن ِع َب ِادكـ ْـم َوِإ َما ِئكـ ْـم‬ ‫ِم‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ِإن َيكونــوا فقـ َـر َاء يغ ِن ِهـ ُـم هللا ِمــن فض ِلـ ِـه‬ ‫َو ُ‬ ‫هللا َو ِاسـ ٌـع َع ِليـ ٌـم)) [ســورة النــور‪]32:‬‬ ‫ومعظــم التشــريعات والقوانـي ــن املتعلقــة‬ ‫بحقــوق األشــخاص ذوي االحت ــياجات‬ ‫الخاصــة فــي جم ــيع الــدول قــد َّ‬ ‫نصـ ْـت علــى‬ ‫حــق األشــخاص املعاقي ــن بالــزواج وتكوي ــن‬ ‫األســرة الت ــي تســودها املحبــة واالســتقرار‪.‬‬

‫املبحث الثالث‬

‫واقعذوياالحتـياجاتالخاصةفيسوريا‬

‫لقــد عانــى الشــعب الســوري بمختلــف فئاتــه‬ ‫مــن ويــات الحــرب عب ــر الســنوات املاضيــة‪،‬‬ ‫ومــن هــذه الفئــات ذوو االحت ــياجات الخاصــة‬ ‫الذي ــن فقــدوا الرعايــة الالزمــة‪ ،‬والــذي فاقــم‬ ‫الوضــع أكث ــر مــا يتعــرض لــه الشــعب الســوري‬ ‫من قصف مستمر بمختلف األسلحة ‪ -‬وحتى‬ ‫الســاح الكيمــاوي ‪ -‬مــن قبــل النظــام املجــرم‬ ‫وحلفائــه‪ ،‬ممــا ســبب ازديـ ًـادا خطي ـ ًـرا فــي أعــداد‬ ‫املصابـي ــن بالعاهــات الدائمــة واإلعاقــات‬ ‫َ‬ ‫املزمنــة‪ ،‬فمنهــم مــن فقـ َـد أطرافــه كبت ــر اليــد‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫والرجــل‪ ،‬ومنهــم مــن فقـ َـد حواســه كالســمع‬ ‫ِ‬

‫حقوق ذوي االحتياجات الخاصة‬

‫العدد ‪ 2‬رجب ‪1439‬هـ‬

‫والبصــر‪ ،‬ومنهــم مــن تعـ ّـرض ألم ـراض نفســية‬ ‫قاســية نت ــيجة الصدمــة والخــوف والرعــب‬ ‫الشــديد‪ ،‬وهكــذا تنوعــت األســباب الت ــي أدت‬ ‫الــى حــاالت اإلعاقــة بفعــل الحــرب الدائــرة فــي‬ ‫ســوريا‪ ،‬وقــد تعـ َّـرض بعضهــم إلعاقــات نت ــيجة‬ ‫التعذيــب فــي ســجون نظــام اإلج ـرام‪.‬‬ ‫وقد تحدث أحد األطباء العامليـن في منظمة‬ ‫اإلعاقــة الدوليــة (الدكتــور أســعد ممــدوح)‬ ‫للمكتــب اإلعالم ــي لقــوى الثــورة السـ َّ‬ ‫ـورية‬ ‫ً‬ ‫قائــا‪ :‬إن تقري ــر منظمــة الصحــة العامل ــية‬ ‫ومنظمــة اإلعاقــة الدوليــة والــذي صــدر‬ ‫ّ‬ ‫عــام ‪ ،2015‬وثــق ثمانـي ــن ألــف حادثــة‬ ‫إعاقــة ناتجــة عــن اســتهداف املدنـيي ــن بـي ــن‬ ‫عام ــي ‪ 2012‬و‪2015‬م‪ ،‬وكان ملدي ــنة حلــب‬ ‫وريفها النصيب األكبـر من عدد املعاقيـن‪،‬‬ ‫حيــث تعــرض أهالــي املدي ــنة لحملــة واســعة‬ ‫مــن القصــف بالبـرام ــيل املتفجــرة والقنابــل‬ ‫الفتاكــة مــع بدايــة عــام ‪2014‬م (‪.)28‬‬ ‫وال زال الدمــار والقصــف بكافــة صنــوف‬ ‫األســلحة هــو مــا يعن ــي ازديـ ًـادا مضطـ ً‬ ‫ـردا‬ ‫فــي عــدد املعاقي ــن بشــكل يوم ـ ّـي‪ ،‬ومــع كل‬ ‫هــذا لــم يحـ ّـرك املجتمــع الدولــي سـ ً‬ ‫ـاكنا‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫ولــم يقـ ِّـدم الرعايــة املناســبة لتحسي ــن‬ ‫وضــع ذوي االحت ــياجات الخاصــة كإنشــاء‬ ‫مراكــز لألط ـراف الصناعيــة‪ ،‬أو إنشــاء‬ ‫مــدارس خاصــة للصــم والبكــم أو فاقــدي‬ ‫البصــر‪ ،‬بغيــة احتضانهــم وتقديــم مــا‬ ‫يلزمهــم مــن احت ــياجات صحيــة وتعليم ــية‬ ‫ورعايــة نفســية لدمجهــم فــي املجتمــع‪،‬‬ ‫اللهــم إال مــا تقدمــه بعــض املنظمــات‬ ‫اإلنسان ــية الت ــي بذلــت قصــارى جهدهــا‬ ‫لتقديــم الدعــم النف�ســي لألطفــال ذوي‬ ‫االحت ــياجات الخاصــة‪ ،‬حيــث أسســت‬

‫(‪ )27‬املصدر السابق‪ :‬ج‪ ،3‬ص‪.74‬‬ ‫(‪ )28‬موقع املكتب اإلعالمي لقوى الثورة السورية (‪« :)RFS‬ذوي االحتياجات الخاصة في سوريا‪ ..‬واقع أليم ومعاناة مستمرة»مصطفى عبد الحق‪ 25 ،‬فبـرايـر‪2016 ,‬م‪.‬‬

‫‪50‬‬

‫مدرست ـ ْـين فــي مدي ــنة حلــب‪ ،‬ومنهــا مدرســة‬ ‫(الجســر الذهب ــي لــذوي االحت ــياجات‬ ‫الخاصــة)‪ ،‬إذ بعــد تهجي ــر أهــل حلــب‬ ‫لــم يستســلم القائمــون عليهــا لظــروف‬ ‫التهجي ــر؛ فأعــادوا افتتــاح املدرســة فــي‬ ‫مدي ــنة األتــارب فــي ريــف حلــب الغرب ــي فــي‬ ‫أيــار‪ /‬مايــو ‪2017‬م‪ ،‬واحتضنــوا هــذه‬ ‫الفئــة املهمشــة مــن املجتمــع‪ ،‬وخاصــة‬ ‫األطفــال الذي ــن تعرضــوا ألزمــات نفســية‪،‬‬ ‫باذلي ــن جهدهــم لتقديــم الرعايــة الخاصــة‬ ‫لهــم‪ ،‬والقيــام بخلــط األطفــال املصابـي ــن‬ ‫بأقرانهــم السليمـي ــن ضمــن أجــواء مــن‬ ‫اللعــب واملــرح واألنشــطة املفيــدة‪ ،‬فكانــت‬ ‫النتائــج إيجاب ــية بشــكل كبـي ــر(‪.)29‬‬ ‫أمــا أصحــاب اإلعاقــات الجســدية وفاقدي‬ ‫األعضــاء وخاصــة األرجــل الضروريــة‬ ‫ً‬ ‫للحركــة‪ ،‬فــا يجــدون أطرافــا صناعيــة‬ ‫تعي ــنهم علــى امل�شــي مجـ ّـد ًدا إال نـ ً‬ ‫ـادرا حيــث‬ ‫يــكاد يكــون الدعــم املقــدم ملراكــز األطـراف‬ ‫الصناعيــة شــبه معــدوم‪ ،‬ممــا يجعــل‬ ‫صاحــب اإلعاقــة مضطـ ًـرا للتوجــه إلــى دول‬ ‫الجــوار كت ــركيا للحصــول علــى الطــرف‬ ‫الصناعــي‪ ،‬وكثي ـ ًـرا مــا يجــد املعــاق نفســه‬ ‫أمام باب مسدود ً‬ ‫تماما مع إغالق الحدود‬ ‫أمــام الحــاالت املرضيــة البــاردة والســماح‬ ‫فقــط للحــاالت اإلســعافية الســاخنة أو‬ ‫الحــاالت املرضيــة الت ــي تهــدد حيــاة املريــض‬ ‫بالدخــول إلــى األرا�ضــي الت ــركية‪.‬‬ ‫علــى أن الفئــة املنسـ ّـية مــن ذوي‬ ‫االحت ــياجات الخاصــة هــم الصــم والبكــم‬ ‫وخاصــة كبــار الســن منهــم‪ ،‬فكثي ــر منهــم‬

‫مت ــزوج ولديــه أوالد ومســؤوليات عائليــة‪،‬‬ ‫توجــب عليهــم الســعي لطلــب الــرزق‬ ‫وتأمـي ــن لقمــة العيــش لعوائلهــم‪ ،‬وعــاوة‬ ‫علــى أنهــم ال يجــدون مــن يقــدم لهــم يــد‬ ‫العــون واملســاعدة؛ فإنهــم يواجهــون‬ ‫جمــة فــي ّ‬ ‫صعوبــات ّ‬ ‫التكيــف مــع مــا يحيــط‬ ‫بهــم مــن ظــروف قاســية‪ ،‬ويعانــون مــن‬ ‫مشــكلة التواصــل مــع اآلخري ــن مــن أب ــناء‬ ‫ّ‬ ‫األصحــاء‪.‬‬ ‫جلدتهــم‬ ‫ً‬ ‫ُ‬ ‫وقــد َأنشــأ َّ‬ ‫مؤخـ ًـرا قرابــة أربعي ــن ناشــطا‬ ‫َّ‬ ‫جمعيــة للصـ ِ ّـم والبكـ ِـم فــي بلــدة (التوامــة)‬ ‫ب ــريف حلــب الغرب ــي حيــث املناطــق‬ ‫املحــررة‪ ،‬والالفــت للنظــر أن رئيــس هــذه‬ ‫الجمعيــة هــو أصــم وأبكــم يدعــى (ناصــر‬ ‫الدقــس) ويشــاركه أوالده األصحــاء‬ ‫الذي ــن يعملــون علــى مــد جســر التواصــل‬ ‫مــع العالــم الخارجــي؛ مــن خــال ت ــرجمة‬ ‫لغــة اإلشــارة الت ــي يتقنونهــا‪ ،‬فيســاعدون‬ ‫والدهــم فــي إدارة شــؤون الجمعيــة(‪.)30‬‬ ‫ويعــد (مركــز التـرب ــية الخاصــة لإلعاقــات‬ ‫الســمعية والنطقيــة والذهن ــية) لتأهيــل‬ ‫ذوي االحت ــياجات الخاصــة‪ ،‬والــذي ّ‬ ‫أسـ َ‬ ‫ـس‬ ‫ِ‬ ‫أواخــر أب ــريل‪ /‬ن ــيسان ‪2016‬م فــي بلــدة‬ ‫(معربــة) فــي ريــف درعــا الشــرقي‪ ،‬بــادرة‬ ‫غي ــر مســبوقة فــي املنطقــة‪ ،‬يهــدف إلــى دمــج‬ ‫ذوي االحت ــياجات الخاصــة فــي املجتمــع‪،‬‬ ‫مــن خــال تأهيــل أف ـراد هــذه الشــريحة‬ ‫وتعليمهــا وفــق األســاليب الحديثــة‬ ‫املتعلقــة بهــذا املجــال(‪.)31‬‬ ‫ومــع ارتفــاع أعــداد ذوي االحت ــياجات‬ ‫الخاصة نتـيجة القصف العنـيف من قبل‬

‫العدد ‪ 2‬رجب ‪1439‬هـ‬

‫قــوات النظــام علــى الغوطــة الشــرقية‪ ،‬تــم‬ ‫تشــكيل رابطــة ذوي االحت ــياجات الخاصــة‬ ‫فــي الغوطــة مــع نهايــة عــام ‪2015‬م»(‪.)32‬‬ ‫وال شـ َّـك أن الحـ َّـل الجــذري ملشــكلة ذوي‬ ‫االحت ــياجات الخاصــة فــي ســوريا يكمــن‪:‬‬ ‫ً‬ ‫أول‪ :‬في وقف القتل والتدمـي ــر‪ ،‬والقصف‬ ‫ّ‬ ‫ـوائي املمنهج‪.‬‬ ‫العشـ ِ‬ ‫ثان ـ ًـيا‪ :‬تأســيس مراكــز طب ــية ومــدارس‬ ‫خاصــة‪ ،‬تقـ ِّـدم الرعايــة الكاملــة لهــم‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫وتؤمـ ُـن احت ــياجاتهم األساســية مــن مــأكل‬ ‫ِ‬ ‫وملبــس ومــأوى‪.‬‬ ‫ً‬ ‫ثالثــا‪ :‬تأمـي ــن فــرص عمــل مناســبة لــذوي‬ ‫االحت ــياجات الخاصــة‪ ،‬ـكـي ال يشــعروا‬ ‫بأنهــم عالــة علــى املجتمــع‪ ،‬فيكونــون‬ ‫فاعلي ــن ومنتجي ــن‪ ،‬بــل ومساهمـي ــن فــي‬ ‫نهضــة أمتهــم علــى جم ــيع األصعــدة‪.‬‬

‫الخامتة‬

‫بعــد االنتهــاء مــن هــذه الدراســة َ‬ ‫الع ْجلــى‬ ‫حــول حقــوق ذوي االحت ــياجات الخاصــة‬ ‫مــن منظــور القــرآن الكريــم‪ ،‬قـ ُ‬ ‫ـرأت تقري ـ ًـرا‬ ‫في اليوم العامل ــي للمعاقي ــن‪ ،‬فلفت نظري‬ ‫ّ‬ ‫أن نســبة اإلعاقــة فــي البلــدان العرب ــية‬ ‫مــا بـي ــن (‪ )%0.4‬فــي بعــض البلــدان‪ ،‬و‬ ‫(‪ )%4.9‬فــي بلــدان أخــرى؛ نســبة لعــدد‬ ‫الســكان عــام ‪2014‬م حســب ب ــيانات‬ ‫االســكوا (‪ ،)33()ESCWA‬كل هــذا كان‬ ‫قبــل الحــرب فــي ســوريا والبــاد العرب ــية‪،‬‬ ‫فمــاذا عــن اإلحصائيــات اآلن؟ إن مــا‬ ‫تت ــركه الحــرب مــن إعاقــات وتشــوهات‬ ‫يفــوق الخيــال‪.‬‬

‫(‪ )29‬مقال‪« :‬ذوو االحتياجات الخاصة ومعاناتهم في ظل الحرب السورية»‪ ،‬أحمد الصوراني‪ ،‬موقع ن بوست‪ 25 ،‬أغسطس ‪2017‬م ‪https://www.noonpost.org/content/19560‬‬ ‫(‪ )30‬املصدر السابق‪.‬‬ ‫(‪ )31‬موقع الخليج أوناليـن‪« :‬سوريا‪..‬أول مركز لذوي االحتياجات الخاصة في درعا املحررة» عطاف األحمد‪2016/06/21،‬م‪.‬‬ ‫(‪ )32‬مقال‪« :‬ذوي االحتياجات الخاصة في سوريا‪ ..‬واقع أليم ومعاناة مستمرة»مصطفى عبد الحق‪ ،‬مصدر سابق‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫(‪ )33‬اليوم العالمي لإلعاقة‪ ،‬ويب طب‪ ،2015-12-3 ،‬اطلع عليه بتاريخ ‪2017-7-21‬م‪.‬‬

‫‪51‬‬


‫حقوق ذوي االحتياجات الخاصة‬ ‫ُ‬ ‫الختالل في عقله‪،‬‬ ‫حســن التصرف في املال‬ ‫ي ِ‬ ‫ٍ‬ ‫َْ‬ ‫ُ‬ ‫واألبكم واألعمى واأللك ُن‬ ‫الجاهل‬ ‫وقيل‪ :‬هو‬ ‫ِ‬ ‫ُّ َ ْ ُ ْ ْ َ ُّ ُ ْ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫واألخـ ُ‬ ‫ـرس واألصــم‪ ،‬فليم ِلــل وِليــه ِبالعــد ِل‪.‬‬ ‫فبتمكيـن ذوي االحتـياجات الخاصة من حق‬ ‫التصــرف‪ ،‬يصبحــون فاعلي ــن منتجي ــن‬ ‫ولجهدهم وأوقاتهم مستثمريـن‪ ،‬وبأموالهم‬ ‫منتفعي ــن وال يكونــون عالــة علــى اآلخري ــن‪.‬‬ ‫‪-8‬الحــق املالــي‪ :‬لقــد خـ َّ‬ ‫ـص هللا تعالــى ذوي‬ ‫االحت ــياجات الخاصــة بالحــق املالــي‪ ،‬ألنهــم‬ ‫يحتاجونــه فــي نفقتهــم وعالجهــم وأدويتهــم‬ ‫ُ َّ‬ ‫وأجهزتهــم كالســماعة‬ ‫والعــكازة والكر�سـ ّـي‬ ‫املتحـ ّ ِـرك‪ ،‬واســتحقوا ذلــك ألنهــم ال‬ ‫يســتطيعون أن يتحركــوا‪ ،‬قــال هللا تعالــى‪:‬‬ ‫َُْ‬ ‫َّ َ ُ ْ‬ ‫َ‬ ‫هللا‬ ‫(( ِللفقـ َـر ِاء ال ِذي ــن أح ِصـ ُـروا َ ِفــي سـ ِـب ِيل ِ‬ ‫ْ‬ ‫َل َي ْسـ َـتط ُ َ َ‬ ‫ض َي ْح َسـ ُـب ُه ُم‬ ‫يعون ض ْ ًربــا ِفــي ال ْر‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َْ ُ‬ ‫ْ َ ُ َْ‬ ‫ُّ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ـف تع ِرفهــم‬ ‫الج ِاهــل أغ ِنيــاء ِمــن التعفـ ِ‬ ‫َ ُ ْ َ َ ْ َ ُ َن َّ َ ْ َ ً‬ ‫ِب ِســيماهم ل يســألو النــاس ِإلحافــا‬ ‫َو َمــا ُتنف ُقــوا مـ ْـن َخ ْيــر َفــإ َّن َ‬ ‫هللا ِبـ ِـه َع ِليـ ٌـم))‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ٍ ِ‬ ‫ّ‬ ‫[البقــرة‪ ]273:‬قــال اب ــن عاشــور‪( :‬أنهــم‬ ‫ّ‬ ‫عاجــزون عــن التجــارة لقلــة ذات اليــد‪،‬‬ ‫الت ْجــر؛ ّ‬ ‫والضـ ْـر ُب فــي األرض كنايــة عــن َّ‬ ‫ألن‬ ‫شـ َ‬ ‫ـأن التاجــر أن يســافر ليبتــاع ويب ــيع فهــو‬ ‫يضــرب األرض ب ــرجليه أو ّ‬ ‫دابتــه)(‪.)27‬‬ ‫َّ َ َ ُ ْ َ‬ ‫ـات ِلل ُفقـ َـر ِاء‬ ‫قــال هللا تعالــى‪ِ (( :‬إ َّن َمــا الصدقـ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َْ‬ ‫ْ ُ َ َّ َ‬ ‫َوال َس ِاكي ـ ِـن َوال َع ِام ِلي ـ َـن َعل ْي َهــا َوالؤلفـ ِـة‬ ‫ُ​ُ‬ ‫َّ‬ ‫َْ‬ ‫ـاب َوالغ ِار ِمي ـ َـن َو ِفــي‬ ‫الرقـ‬ ‫قل ُوب ُهـ ْـم َو ِفــي‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َ َ ً‬ ‫َ‬ ‫هللا َو ْابــن َّ‬ ‫يضــة ِّمـ َـن‬ ‫السـ ِـب ِيل ف ِر‬ ‫سـ ِـب ِيل ِ‬ ‫ِ‬ ‫هللا َو ُ‬ ‫هللا َع ِليـ ٌـم َح ِكيـ ٌـم)) [التوبــة‪،]60:‬‬ ‫ِ‬ ‫وذوو االحت ــياجات الخاصــة هــم الفق ـراء‬ ‫واملساكي ــن الحقيقيــون‪ ،‬فاملعنــى األصلــي‬ ‫للفقي ــر هــو مــن يشــتكي ِف َقـ َـار ْ‬ ‫ظهــره‪ ،‬لعــدم‬ ‫وجــود مــا يكفيــه بحســب حالــه‪ ،‬وا ِمل ْسكي ـ ُـن‪:‬‬ ‫هــو مــن سـ ْ‬ ‫ُ‬ ‫جوارحــه‪ ،‬فالســكون‬ ‫ـكنت‬

‫َّ ُ‬ ‫ضعــف وعجــز وقلــة حركــة‪.‬‬ ‫‪-9‬حــق الــزواج واإلنجــاب‪ :‬حي ــنما أمــر هللا‬ ‫تعالــى بالــزواج شــمل ذوي االحت ــياجات‬ ‫الخاصــة وغي ــرهم‪ ،‬بــل ربمــا ذوو‬ ‫االحت ــياجات ْ‬ ‫أحــوج إلــى الــزواج واإلنجــاب‬ ‫مــن غي ــرهم إذا كانــوا قادري ــن َّ‬ ‫ومهيئي ــن‬ ‫لذلك‪ ،‬ألنهم بهذا الزواج يجدون من يقف‬ ‫بجانبهــم مــن الزوجــة واألوالد‪ ،‬فيعي ــنوهم‬ ‫فــي حوائجهــم ويســاعدونهم ويســاندونهم‪،‬‬ ‫كمــا أن الــزواج مصـ ٌ‬ ‫ـدر مــن مصــادر الــرزق‬ ‫َ​َ‬ ‫َْ‬ ‫والغنــى‪ ،‬قــال هللا تعالــى‪:‬‬ ‫((وأ ِنك ُحــوا ال َي َامــى‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫نكـ ْـم َو َّ‬ ‫الص ِال ِحي ـ َـن ِمـ ْـن ِع َب ِادكـ ْـم َوِإ َما ِئكـ ْـم‬ ‫ِم‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ِإن َيكونــوا فقـ َـر َاء يغ ِن ِهـ ُـم هللا ِمــن فض ِلـ ِـه‬ ‫َو ُ‬ ‫هللا َو ِاسـ ٌـع َع ِليـ ٌـم)) [ســورة النــور‪]32:‬‬ ‫ومعظــم التشــريعات والقوانـي ــن املتعلقــة‬ ‫بحقــوق األشــخاص ذوي االحت ــياجات‬ ‫الخاصــة فــي جم ــيع الــدول قــد َّ‬ ‫نصـ ْـت علــى‬ ‫حــق األشــخاص املعاقي ــن بالــزواج وتكوي ــن‬ ‫األســرة الت ــي تســودها املحبــة واالســتقرار‪.‬‬

‫املبحث الثالث‬

‫واقعذوياالحتـياجاتالخاصةفيسوريا‬

‫لقــد عانــى الشــعب الســوري بمختلــف فئاتــه‬ ‫مــن ويــات الحــرب عب ــر الســنوات املاضيــة‪،‬‬ ‫ومــن هــذه الفئــات ذوو االحت ــياجات الخاصــة‬ ‫الذي ــن فقــدوا الرعايــة الالزمــة‪ ،‬والــذي فاقــم‬ ‫الوضــع أكث ــر مــا يتعــرض لــه الشــعب الســوري‬ ‫من قصف مستمر بمختلف األسلحة ‪ -‬وحتى‬ ‫الســاح الكيمــاوي ‪ -‬مــن قبــل النظــام املجــرم‬ ‫وحلفائــه‪ ،‬ممــا ســبب ازديـ ًـادا خطي ـ ًـرا فــي أعــداد‬ ‫املصابـي ــن بالعاهــات الدائمــة واإلعاقــات‬ ‫َ‬ ‫املزمنــة‪ ،‬فمنهــم مــن فقـ َـد أطرافــه كبت ــر اليــد‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫والرجــل‪ ،‬ومنهــم مــن فقـ َـد حواســه كالســمع‬ ‫ِ‬

‫حقوق ذوي االحتياجات الخاصة‬

‫العدد ‪ 2‬رجب ‪1439‬هـ‬

‫والبصــر‪ ،‬ومنهــم مــن تعـ ّـرض ألم ـراض نفســية‬ ‫قاســية نت ــيجة الصدمــة والخــوف والرعــب‬ ‫الشــديد‪ ،‬وهكــذا تنوعــت األســباب الت ــي أدت‬ ‫الــى حــاالت اإلعاقــة بفعــل الحــرب الدائــرة فــي‬ ‫ســوريا‪ ،‬وقــد تعـ َّـرض بعضهــم إلعاقــات نت ــيجة‬ ‫التعذيــب فــي ســجون نظــام اإلج ـرام‪.‬‬ ‫وقد تحدث أحد األطباء العامليـن في منظمة‬ ‫اإلعاقــة الدوليــة (الدكتــور أســعد ممــدوح)‬ ‫للمكتــب اإلعالم ــي لقــوى الثــورة السـ َّ‬ ‫ـورية‬ ‫ً‬ ‫قائــا‪ :‬إن تقري ــر منظمــة الصحــة العامل ــية‬ ‫ومنظمــة اإلعاقــة الدوليــة والــذي صــدر‬ ‫ّ‬ ‫عــام ‪ ،2015‬وثــق ثمانـي ــن ألــف حادثــة‬ ‫إعاقــة ناتجــة عــن اســتهداف املدنـيي ــن بـي ــن‬ ‫عام ــي ‪ 2012‬و‪2015‬م‪ ،‬وكان ملدي ــنة حلــب‬ ‫وريفها النصيب األكبـر من عدد املعاقيـن‪،‬‬ ‫حيــث تعــرض أهالــي املدي ــنة لحملــة واســعة‬ ‫مــن القصــف بالبـرام ــيل املتفجــرة والقنابــل‬ ‫الفتاكــة مــع بدايــة عــام ‪2014‬م (‪.)28‬‬ ‫وال زال الدمــار والقصــف بكافــة صنــوف‬ ‫األســلحة هــو مــا يعن ــي ازديـ ًـادا مضطـ ً‬ ‫ـردا‬ ‫فــي عــدد املعاقي ــن بشــكل يوم ـ ّـي‪ ،‬ومــع كل‬ ‫هــذا لــم يحـ ّـرك املجتمــع الدولــي سـ ً‬ ‫ـاكنا‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫ولــم يقـ ِّـدم الرعايــة املناســبة لتحسي ــن‬ ‫وضــع ذوي االحت ــياجات الخاصــة كإنشــاء‬ ‫مراكــز لألط ـراف الصناعيــة‪ ،‬أو إنشــاء‬ ‫مــدارس خاصــة للصــم والبكــم أو فاقــدي‬ ‫البصــر‪ ،‬بغيــة احتضانهــم وتقديــم مــا‬ ‫يلزمهــم مــن احت ــياجات صحيــة وتعليم ــية‬ ‫ورعايــة نفســية لدمجهــم فــي املجتمــع‪،‬‬ ‫اللهــم إال مــا تقدمــه بعــض املنظمــات‬ ‫اإلنسان ــية الت ــي بذلــت قصــارى جهدهــا‬ ‫لتقديــم الدعــم النف�ســي لألطفــال ذوي‬ ‫االحت ــياجات الخاصــة‪ ،‬حيــث أسســت‬

‫(‪ )27‬املصدر السابق‪ :‬ج‪ ،3‬ص‪.74‬‬ ‫(‪ )28‬موقع املكتب اإلعالمي لقوى الثورة السورية (‪« :)RFS‬ذوي االحتياجات الخاصة في سوريا‪ ..‬واقع أليم ومعاناة مستمرة»مصطفى عبد الحق‪ 25 ،‬فبـرايـر‪2016 ,‬م‪.‬‬

‫‪50‬‬

‫مدرست ـ ْـين فــي مدي ــنة حلــب‪ ،‬ومنهــا مدرســة‬ ‫(الجســر الذهب ــي لــذوي االحت ــياجات‬ ‫الخاصــة)‪ ،‬إذ بعــد تهجي ــر أهــل حلــب‬ ‫لــم يستســلم القائمــون عليهــا لظــروف‬ ‫التهجي ــر؛ فأعــادوا افتتــاح املدرســة فــي‬ ‫مدي ــنة األتــارب فــي ريــف حلــب الغرب ــي فــي‬ ‫أيــار‪ /‬مايــو ‪2017‬م‪ ،‬واحتضنــوا هــذه‬ ‫الفئــة املهمشــة مــن املجتمــع‪ ،‬وخاصــة‬ ‫األطفــال الذي ــن تعرضــوا ألزمــات نفســية‪،‬‬ ‫باذلي ــن جهدهــم لتقديــم الرعايــة الخاصــة‬ ‫لهــم‪ ،‬والقيــام بخلــط األطفــال املصابـي ــن‬ ‫بأقرانهــم السليمـي ــن ضمــن أجــواء مــن‬ ‫اللعــب واملــرح واألنشــطة املفيــدة‪ ،‬فكانــت‬ ‫النتائــج إيجاب ــية بشــكل كبـي ــر(‪.)29‬‬ ‫أمــا أصحــاب اإلعاقــات الجســدية وفاقدي‬ ‫األعضــاء وخاصــة األرجــل الضروريــة‬ ‫ً‬ ‫للحركــة‪ ،‬فــا يجــدون أطرافــا صناعيــة‬ ‫تعي ــنهم علــى امل�شــي مجـ ّـد ًدا إال نـ ً‬ ‫ـادرا حيــث‬ ‫يــكاد يكــون الدعــم املقــدم ملراكــز األطـراف‬ ‫الصناعيــة شــبه معــدوم‪ ،‬ممــا يجعــل‬ ‫صاحــب اإلعاقــة مضطـ ًـرا للتوجــه إلــى دول‬ ‫الجــوار كت ــركيا للحصــول علــى الطــرف‬ ‫الصناعــي‪ ،‬وكثي ـ ًـرا مــا يجــد املعــاق نفســه‬ ‫أمام باب مسدود ً‬ ‫تماما مع إغالق الحدود‬ ‫أمــام الحــاالت املرضيــة البــاردة والســماح‬ ‫فقــط للحــاالت اإلســعافية الســاخنة أو‬ ‫الحــاالت املرضيــة الت ــي تهــدد حيــاة املريــض‬ ‫بالدخــول إلــى األرا�ضــي الت ــركية‪.‬‬ ‫علــى أن الفئــة املنسـ ّـية مــن ذوي‬ ‫االحت ــياجات الخاصــة هــم الصــم والبكــم‬ ‫وخاصــة كبــار الســن منهــم‪ ،‬فكثي ــر منهــم‬

‫مت ــزوج ولديــه أوالد ومســؤوليات عائليــة‪،‬‬ ‫توجــب عليهــم الســعي لطلــب الــرزق‬ ‫وتأمـي ــن لقمــة العيــش لعوائلهــم‪ ،‬وعــاوة‬ ‫علــى أنهــم ال يجــدون مــن يقــدم لهــم يــد‬ ‫العــون واملســاعدة؛ فإنهــم يواجهــون‬ ‫جمــة فــي ّ‬ ‫صعوبــات ّ‬ ‫التكيــف مــع مــا يحيــط‬ ‫بهــم مــن ظــروف قاســية‪ ،‬ويعانــون مــن‬ ‫مشــكلة التواصــل مــع اآلخري ــن مــن أب ــناء‬ ‫ّ‬ ‫األصحــاء‪.‬‬ ‫جلدتهــم‬ ‫ً‬ ‫ُ‬ ‫وقــد َأنشــأ َّ‬ ‫مؤخـ ًـرا قرابــة أربعي ــن ناشــطا‬ ‫َّ‬ ‫جمعيــة للصـ ِ ّـم والبكـ ِـم فــي بلــدة (التوامــة)‬ ‫ب ــريف حلــب الغرب ــي حيــث املناطــق‬ ‫املحــررة‪ ،‬والالفــت للنظــر أن رئيــس هــذه‬ ‫الجمعيــة هــو أصــم وأبكــم يدعــى (ناصــر‬ ‫الدقــس) ويشــاركه أوالده األصحــاء‬ ‫الذي ــن يعملــون علــى مــد جســر التواصــل‬ ‫مــع العالــم الخارجــي؛ مــن خــال ت ــرجمة‬ ‫لغــة اإلشــارة الت ــي يتقنونهــا‪ ،‬فيســاعدون‬ ‫والدهــم فــي إدارة شــؤون الجمعيــة(‪.)30‬‬ ‫ويعــد (مركــز التـرب ــية الخاصــة لإلعاقــات‬ ‫الســمعية والنطقيــة والذهن ــية) لتأهيــل‬ ‫ذوي االحت ــياجات الخاصــة‪ ،‬والــذي ّ‬ ‫أسـ َ‬ ‫ـس‬ ‫ِ‬ ‫أواخــر أب ــريل‪ /‬ن ــيسان ‪2016‬م فــي بلــدة‬ ‫(معربــة) فــي ريــف درعــا الشــرقي‪ ،‬بــادرة‬ ‫غي ــر مســبوقة فــي املنطقــة‪ ،‬يهــدف إلــى دمــج‬ ‫ذوي االحت ــياجات الخاصــة فــي املجتمــع‪،‬‬ ‫مــن خــال تأهيــل أف ـراد هــذه الشــريحة‬ ‫وتعليمهــا وفــق األســاليب الحديثــة‬ ‫املتعلقــة بهــذا املجــال(‪.)31‬‬ ‫ومــع ارتفــاع أعــداد ذوي االحت ــياجات‬ ‫الخاصة نتـيجة القصف العنـيف من قبل‬

‫العدد ‪ 2‬رجب ‪1439‬هـ‬

‫قــوات النظــام علــى الغوطــة الشــرقية‪ ،‬تــم‬ ‫تشــكيل رابطــة ذوي االحت ــياجات الخاصــة‬ ‫فــي الغوطــة مــع نهايــة عــام ‪2015‬م»(‪.)32‬‬ ‫وال شـ َّـك أن الحـ َّـل الجــذري ملشــكلة ذوي‬ ‫االحت ــياجات الخاصــة فــي ســوريا يكمــن‪:‬‬ ‫ً‬ ‫أول‪ :‬في وقف القتل والتدمـي ــر‪ ،‬والقصف‬ ‫ّ‬ ‫ـوائي املمنهج‪.‬‬ ‫العشـ ِ‬ ‫ثان ـ ًـيا‪ :‬تأســيس مراكــز طب ــية ومــدارس‬ ‫خاصــة‪ ،‬تقـ ِّـدم الرعايــة الكاملــة لهــم‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫وتؤمـ ُـن احت ــياجاتهم األساســية مــن مــأكل‬ ‫ِ‬ ‫وملبــس ومــأوى‪.‬‬ ‫ً‬ ‫ثالثــا‪ :‬تأمـي ــن فــرص عمــل مناســبة لــذوي‬ ‫االحت ــياجات الخاصــة‪ ،‬ـكـي ال يشــعروا‬ ‫بأنهــم عالــة علــى املجتمــع‪ ،‬فيكونــون‬ ‫فاعلي ــن ومنتجي ــن‪ ،‬بــل ومساهمـي ــن فــي‬ ‫نهضــة أمتهــم علــى جم ــيع األصعــدة‪.‬‬

‫الخامتة‬

‫بعــد االنتهــاء مــن هــذه الدراســة َ‬ ‫الع ْجلــى‬ ‫حــول حقــوق ذوي االحت ــياجات الخاصــة‬ ‫مــن منظــور القــرآن الكريــم‪ ،‬قـ ُ‬ ‫ـرأت تقري ـ ًـرا‬ ‫في اليوم العامل ــي للمعاقي ــن‪ ،‬فلفت نظري‬ ‫ّ‬ ‫أن نســبة اإلعاقــة فــي البلــدان العرب ــية‬ ‫مــا بـي ــن (‪ )%0.4‬فــي بعــض البلــدان‪ ،‬و‬ ‫(‪ )%4.9‬فــي بلــدان أخــرى؛ نســبة لعــدد‬ ‫الســكان عــام ‪2014‬م حســب ب ــيانات‬ ‫االســكوا (‪ ،)33()ESCWA‬كل هــذا كان‬ ‫قبــل الحــرب فــي ســوريا والبــاد العرب ــية‪،‬‬ ‫فمــاذا عــن اإلحصائيــات اآلن؟ إن مــا‬ ‫تت ــركه الحــرب مــن إعاقــات وتشــوهات‬ ‫يفــوق الخيــال‪.‬‬

‫(‪ )29‬مقال‪« :‬ذوو االحتياجات الخاصة ومعاناتهم في ظل الحرب السورية»‪ ،‬أحمد الصوراني‪ ،‬موقع ن بوست‪ 25 ،‬أغسطس ‪2017‬م ‪https://www.noonpost.org/content/19560‬‬ ‫(‪ )30‬املصدر السابق‪.‬‬ ‫(‪ )31‬موقع الخليج أوناليـن‪« :‬سوريا‪..‬أول مركز لذوي االحتياجات الخاصة في درعا املحررة» عطاف األحمد‪2016/06/21،‬م‪.‬‬ ‫(‪ )32‬مقال‪« :‬ذوي االحتياجات الخاصة في سوريا‪ ..‬واقع أليم ومعاناة مستمرة»مصطفى عبد الحق‪ ،‬مصدر سابق‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫(‪ )33‬اليوم العالمي لإلعاقة‪ ،‬ويب طب‪ ،2015-12-3 ،‬اطلع عليه بتاريخ ‪2017-7-21‬م‪.‬‬

‫‪51‬‬


‫حقوق ذوي االحتياجات الخاصة‬ ‫أهم ما توصل إليه الباحث‬ ‫من النتائج‪:‬‬

‫‪ -1‬أن هللا تعالــى كـ َّـرم اب ــن آدم َّ‬ ‫وفضلــه علــى‬ ‫ســائر املخلوقــات بعــدة أمــور منهــا‪ :‬النطــق‬ ‫َْ‬ ‫والعقــل والعلــم واعتــدال الخلــق وســوية‬ ‫الجســم‪.‬‬ ‫‪ -2‬أن اإلســام اهتـ ّـم بــكل فئــات املجتمــع‬ ‫وخاصــة الضعفــاء وذوي االحت ــياجات‬ ‫الخاصــة‪ ،‬وقــد نــزل فــي حــق بعضهــم آيــات‬ ‫تتلــى إلــى يــوم القيامــة‪.‬‬ ‫‪ -3‬أن التسمـيات السلبـية مثل‪( :‬املكفوفون‪،‬‬ ‫الصــم والبكــم‪ ،‬املشــلولون‪ ،‬املعاقــون‪،‬‬ ‫املقعــدون‪ ،‬العجــزة‪ ،‬ذوو العاهــات)‬ ‫وغي ــرها تت ــرك أث ـ ًـرا سلب ـ ًّـيا يلصــق باملصــاب‪،‬‬ ‫ً‬ ‫وخاصــة إذا كان طفــا فتؤث ــر علــى عالقاتــه‬ ‫ً‬ ‫االجتماعيــة مســتقبل‪ ،‬لذلــك اســتخدم‬ ‫القـرآن الكريــم األوصــاف اإليجاب ــية‪ ،‬مثــل‪:‬‬ ‫(املصابـي ــن‪ ،‬أولــي الضــرر‪ ،‬أولــي اإلربــة)‬ ‫وقــد سـ َّـماهم النب ــي صلــى هللا عليــه وســلم‬ ‫(أصحـ َ‬ ‫ـاب األعــذار)‪.‬‬ ‫‪ -4‬أن الق ـرآن الكريــم جــاء هدايــة للبشــرية‬ ‫جمعــاء‪ ،‬ومنهــم شــريحة ذوي االحت ــياجات‬ ‫الخاصــة‪ ،‬حيــث َّ‬ ‫وجــه لهــم نصائــح‬ ‫وإرشــادات‪ ،‬وأوالهم القرآن عناية خاصة‪،‬‬ ‫واستثناهم من بعض التكاليف لضعفهم‪.‬‬ ‫‪ -5‬أن الق ـرآن الكريــم ب ـ َّـين أســس املجتمــع‬ ‫املســلم بمــا فيهــم ذوو االحت ــياجات‬ ‫الخاصــة؛ ـكـي ُيسـ َـعدوا فــي الدن ــيا ويفلحــوا‬ ‫فــي اآلخــرة‪ ،‬وأهمهــا‪ :‬املــودة والرحمــة‬ ‫والتعاطــف والتكافــل والتعــاون‪ ،‬مــع‬ ‫االحت ـرام والتقدي ــر وعدم الســخرية‪ ،‬وقبل‬ ‫ذلــك العدالــة مــع الجم ــيع‪.‬‬ ‫‪ -6‬أن اإلســام ضمــن لــذوي االحت ــياجات‬ ‫الخاصــة حقوقهــم املشــروعة فــي الحيــاة‪،‬‬

‫ُّ‬ ‫والكرامــة والحريــة‪ ،‬والتعلــم والتعليــم‬ ‫ُّ‬ ‫والعمــل‪ ،‬والتصــرف والتملــك‪ ،‬والــزواج‬ ‫واإلنجــاب وغي ــر ذلــك‪.‬‬ ‫‪ -7‬أن الشعب السوري بمختلف فئاته عانى‬ ‫مــن ويــات الحــرب عب ــر الســنوات املاضيــة‪،‬‬ ‫ومــن هــذه الفئــات ذوو االحت ــياجات‬ ‫الخاصــة‪ ،‬الذي ــن فقــدوا الرعايــة الالزمــة‪.‬‬ ‫‪ -8‬أن املجتمــع الدولــي لــم يقـ ِّـدم الرعايــة‬ ‫املناسبة لتحسي ــن وضع ذوي االحت ــياجات‬ ‫الخاصــة كإنشــاء مراكــز‪ ،‬أو إنشــاء مــدارس‬ ‫خاصــة‪ ،‬بغيــة احتضانهــم وتقديــم مــا‬ ‫يلزمهــم مــن احت ــياجات صحيــة وتعليم ــية‬ ‫ورعايــة نفســية لدمجهــم فــي املجتمــع‪.‬‬ ‫‪ -9‬أن املنظمــات اإلنسان ــية بذلــت قصــارى‬ ‫جهدهــا لتقديــم الدعــم النف�ســي لألطفــال‬ ‫ذوي االحت ــياجات الخاصــة‪ ،‬حيــث أسســت‬ ‫مراكــز ومؤسســات ومــدارس‪.‬‬

‫من َّ‬ ‫ُ‬ ‫رات العربـ َّية‬ ‫الث ْو ِ‬ ‫الفراغ ِ‬ ‫لمي في َز ِ‬ ‫الع ُّ‬

‫العدد ‪ 2‬رجب ‪1439‬هـ‬

‫‪ -4‬إجـراء دراســات وإحصائيــات موثقــة حــول‬ ‫أســباب ازديــاد أعــداد ذوي االحت ــياجات‬ ‫الخاصــة فــي العالــم‪ ،‬وخاصــة فــي البــاد‬ ‫العرب ــية واإلسالم ــية‪.‬‬

‫‪- 7‬‬

‫ ‬

‫العدد ‪ 2‬رجب ‪1439‬هـ‬

‫من َّ‬ ‫ُ‬ ‫العربـية‬ ‫رات‬ ‫الث ْو ِ‬ ‫الفراغ ِ‬ ‫َّ‬ ‫الع ُّ‬ ‫لمي يف َز ِ‬

‫وآخردعوانا أن الحمد هلل رب العاملـيـن‪.‬‬ ‫الدكتور عبد الجواد حردان‬

‫مدرس أصول الفقه بكلية اإللهيات‪ ،‬جامعة صوتجو إمام ‪ -‬كهرمان مرعش‬

‫ُمق ِّدم ٌة‬

‫ُ‬ ‫رب العامليـن‪ ،‬والصالة ّ‬ ‫والس ُ‬ ‫الحمد هلل ّ‬ ‫األكمالن‬ ‫األتمان‬ ‫الم‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫علــى ســيدنا محمــد ســيد األولي ــن واآلخري ــن‪ ،‬وعلــى آلــه وصحبـ ِـه‬ ‫أجمعي ــن‪ُ ،‬‬ ‫وبعد ْ‬ ‫‪:‬هب َج َد ًل أن ظالم االســتبداد َأ َل َّ‬ ‫ـريق‬ ‫ـ‬ ‫ب‬ ‫ب‬ ‫م‬ ‫األمل‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ـس فــي َّ‬ ‫فــي التغيي ــر أو كاد َي ِحيــق بــه‪َ :‬أ َوليـ َ‬ ‫الصحــوة الفكريــة الت ــي‬ ‫ُ ّ‬ ‫تبشــربميــاد نجـ ٍـم ســاطع يتســلل مــن بـي ــن‬ ‫أثمرتهــا ثوراتنــا بــوارق ِ‬ ‫ْ‬ ‫ُ َْ‬ ‫ً‬ ‫السـ ُـدف ُ‬ ‫ُّ‬ ‫والح ُجــب؟ َووفقــا لرؤيــة تومــاس كــون فــي كتابــه (بنيــة‬ ‫ِ‬ ‫َّ‬ ‫والدة نهضـ ٍـة‬ ‫ـية‬ ‫الثــورة العلميــة) فــإن التفسي ـ َـر العلمـ َّـي إلمكان ـ ِ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫الك ْبــوة أو لإلقــاع بعــد الهبــوط‪َّ :‬‬ ‫أن األنمـ َ‬ ‫ـوذج (الثــورة‬ ‫بعــد‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫َّ ً‬ ‫البارادايـ َـم) كشــفت بمــرور الزمــن أحــوال وأنماطــا شــاذة عــن‬ ‫َّ‬ ‫ـوري وأهدافــه الســامية‪ ،‬ومــا زالــت هــذه ُّ‬ ‫النســق الثـ ّ‬ ‫الصــور‬ ‫ِ​ِ‬ ‫ِ‬ ‫َّ‬ ‫ّ‬ ‫ْ‬ ‫َّ‬ ‫تبشـ ُـر‬ ‫تت ــراكم حتــى غــدت ظاهــرة يتوقــع أن تتولــد عنهــا أزمــة ِ‬ ‫ً‬ ‫َ‬ ‫آخــرال يقـ َـوى االسـ ُ‬ ‫ـتبداد وقــوى الشـ ِّـرمجتمعــة‬ ‫ـورة مــن نمـ ٍـط‬ ‫بثـ ٍ‬ ‫االدعــاء شــواهده فــي الثــورة الفرنســية؛ فــإنَّ‬ ‫علــى قمعهــا‪ ،‬ولهــذا ّ‬ ‫ِ‬ ‫َّ ٌ‬ ‫أقــرب مــا قيــل فــي تفسي ــرها أنهــا ثــورة عقليــة تنوي ــرية علــى عصــور‬ ‫ظالمهــم‪.‬‬ ‫َُ‬ ‫َّ َّ ُ‬ ‫ـاب قضيــة البحـ ِـث هــو كتــاب (رســالة فــي‬ ‫ولعــل أهــم مــا ك ِتــب فــي لبـ ِ‬ ‫الطريــق إلــى ثقافتنــا) للعالمــة محمــود شــاكر رحمــه هللا تعالــى‪ ،‬فــا‬ ‫لألمــة فــي ليالــي َّ‬ ‫َ‬ ‫أنفــع وال أجـ َـدى َّ‬ ‫يتدارســه َّرواد‬ ‫الدواهــي هــذه مــن أن‬ ‫نهضتهــا ليســتلهموا منــه ال ِعب ــر وي ــرسموا بفرجــاره دوائــر انبعاثهــم‬ ‫املتداخلــة ويقفــوا مــن خاللهــا علــى مركــز نهضتهــم ومحورهــا‬ ‫َ‬ ‫اءتــه م ـرات وكـ َّـرات ُّ‬ ‫بتدبـ ٍـر واســتنطاق‪،‬‬ ‫وأقطارهــا‪ ،‬ثــم يعيــدوا قر‬ ‫ِ‬ ‫َّ‬ ‫ُ‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫ويتـرجموه إلى أنشطة َّ‬ ‫َّ‬ ‫وفعاليات بحثية وفكرية ثـرية تتولد منها رؤى‬ ‫عميقة تحملهم على التخطيط لبـرامج عملية واستـراتـيجيات قابلة‬ ‫َ‬ ‫ْ ُ‬ ‫ـإن ك َّنــا كمــا قالــت أ َمــل‪( :‬ربما‬ ‫للتطب ــيق علــى املــدى القريــب والبعيــد‪ ،‬فـ‬

‫أما ُّ‬ ‫أهم التوصيات فيمكن‬ ‫تلخيصها في اآلتـي‪:‬‬ ‫‪ -1‬تعليــم القائمـي ــن علــى ذوي االحت ــياجات‬ ‫الخاصــة األحــكام الخاصــة باملعاقي ــن‪،‬‬ ‫ســواء فــي اإليمــان والعقيــدة أو فــي العبــادة‬ ‫والصب ــر واألخــاق‪.‬‬ ‫‪ -2‬الت ـزام القائمـي ــن علــى رعايــة ذوي‬ ‫االحت ــياجات الخاصــة بتقــوى هللا تعالــى فــي‬ ‫الســر والعلــن‪ ،‬ألنهــم علــى ثغــرة عظيمــة‪،‬‬ ‫ولهــم أجــر كبـي ــر فــي توجيههــم التوجيــه‬ ‫ا لصحيــح ‪.‬‬ ‫‪ -3‬الحــث علــى دراســات علم ـ َّـية معمقــة‬ ‫لــذوي االحت ــياجات الخاصــة‪ ،‬واســتنباط‬ ‫العــاج لهــم مــن خــال اآليــات القرآن ــية‬ ‫أو الدراســات الحديثــة‪ ،‬وخاصــة ذوو‬ ‫األم ـراض النفســية‪.‬‬ ‫‪52‬‬

‫ً‬ ‫ً‬ ‫ـرة ُ‬ ‫ُننفــق َّ‬ ‫ليمـ َّـر النــور لألجيــال مـ َّـرة) فلنجعـ ْـل‬ ‫كل العمــر ـكـي نثقـ َـب ثغـ‬ ‫مــن هــذه الرســالة َم ْسـ ًـرى لجيـ ٍـل راشـ ٍـد إلــى مســتقبل واعـ ٍـد‪.‬‬ ‫ومــن الدراســات املهمــة ً‬ ‫أيضــا كتــاب «العلــم وب ــناء األمــم» للدكتــور‬ ‫راغــب السرجان ــي‪ ،‬وال بـ َّـد مــن القــول بــأن كتــاب تومــاس كــون «بـن ــية‬ ‫الثــورة العلميــة» ذو قــدر فــي هــذا البــاب ْ‬ ‫وإن لــم يكــن فــي صلــب‬ ‫ٍ‬ ‫املوضــوع؛ ففيــه إيحــاءات تنـي ــر زوايــا مظلمــة فــي الفكــر العلمــي‬ ‫لثــورات التغيي ــر َّ‬ ‫الفعــال‪.‬‬ ‫الكم والكيف ّ‬ ‫محددان رئيسان ومعياران مقبوالن للحكم الصحيح‬ ‫ِ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫ات العرب ــية‪ ،‬فــا بديــل‬ ‫علــى واقعيـ ِـة العلــم والتعليــم فــي زمـ ِـن الثــور ِ‬ ‫إحصائيــا‪ ،‬وال َ‬ ‫عــن االســتبانات الحاصــرة ّ‬ ‫ًّ‬ ‫معنــى‬ ‫ملتغيراتهمــا ودراســتها‬ ‫ِ‬ ‫ـدد العلمــاء واألســاتذة املخلصي ــن املرابطي ــن‬ ‫ـتغال بتخمي ــن عـ ِ‬ ‫لالشـ ِ‬ ‫الجاثميـن على صدور املستبديـن في َخ َفاء‪ ،‬وال ْ‬ ‫لحد ِس ما يمكن وما‬ ‫ٍ‬ ‫ً‬ ‫ال يمكــن أدلجتــه مــن مناهــج التعليــم ومؤسســاته؛ فمنعــا لالعت ـراض‬ ‫علــى بعــض أحــكام البحــث بتخمي ــن كهــذا وجــب َّ‬ ‫النـ ُ‬ ‫ـص عليــه‪ ،‬فهــو‬ ‫ٍ‬ ‫احتـراس أو احتـر ٌاز وليس من املصادرة على املطلوب في �شيء‪ ،‬واآلن‬ ‫َ‬ ‫إليــك مشــكلة البحــث فــي األســئلة اآلت ــية‪:‬‬ ‫َّ‬ ‫ّ َّ‬ ‫ّ‬ ‫اغر التـربو ّي‬ ‫التعليمي الواقع واملتوقع‬ ‫ ما مدى الفر ِاغ‬‫العلمي والش ِ‬ ‫ِ‬ ‫ً‬ ‫فــي األزمنــة الثالثــة بــدءا مــن عــام ‪2011‬م حتــى اليــوم؟‬ ‫ ومــا التصــورات املقت ــرحة لسـ ِّـد هــذا الف ـراغ فــي ضــوء اختــاف‬‫ّ‬ ‫ـوال إلــى أخــرى؟‬ ‫املتغي ـرات مــن بلـ ٍـد إلــى آخــر ومــن ظـ ٍ‬ ‫ـروف وأحـ ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ وما الوسائل املتاحة إلسقاط هذه التصورات على الواقع؟‬‫َ‬ ‫ ومــن املســؤول عــن ت ــرجمة هــذه التصــورات إلــى واقــع فــي ن ْي ـ ِـر حالـ ِـة‬‫َّ َ‬ ‫ات والهجـ ِـرة وقهـ ِـر االســتبداد؟‬ ‫الشــت ِ‬ ‫‪53‬‬


‫حقوق ذوي االحتياجات الخاصة‬ ‫أهم ما توصل إليه الباحث‬ ‫من النتائج‪:‬‬

‫‪ -1‬أن هللا تعالــى كـ َّـرم اب ــن آدم َّ‬ ‫وفضلــه علــى‬ ‫ســائر املخلوقــات بعــدة أمــور منهــا‪ :‬النطــق‬ ‫َْ‬ ‫والعقــل والعلــم واعتــدال الخلــق وســوية‬ ‫الجســم‪.‬‬ ‫‪ -2‬أن اإلســام اهتـ ّـم بــكل فئــات املجتمــع‬ ‫وخاصــة الضعفــاء وذوي االحت ــياجات‬ ‫الخاصــة‪ ،‬وقــد نــزل فــي حــق بعضهــم آيــات‬ ‫تتلــى إلــى يــوم القيامــة‪.‬‬ ‫‪ -3‬أن التسمـيات السلبـية مثل‪( :‬املكفوفون‪،‬‬ ‫الصــم والبكــم‪ ،‬املشــلولون‪ ،‬املعاقــون‪،‬‬ ‫املقعــدون‪ ،‬العجــزة‪ ،‬ذوو العاهــات)‬ ‫وغي ــرها تت ــرك أث ـ ًـرا سلب ـ ًّـيا يلصــق باملصــاب‪،‬‬ ‫ً‬ ‫وخاصــة إذا كان طفــا فتؤث ــر علــى عالقاتــه‬ ‫ً‬ ‫االجتماعيــة مســتقبل‪ ،‬لذلــك اســتخدم‬ ‫القـرآن الكريــم األوصــاف اإليجاب ــية‪ ،‬مثــل‪:‬‬ ‫(املصابـي ــن‪ ،‬أولــي الضــرر‪ ،‬أولــي اإلربــة)‬ ‫وقــد سـ َّـماهم النب ــي صلــى هللا عليــه وســلم‬ ‫(أصحـ َ‬ ‫ـاب األعــذار)‪.‬‬ ‫‪ -4‬أن الق ـرآن الكريــم جــاء هدايــة للبشــرية‬ ‫جمعــاء‪ ،‬ومنهــم شــريحة ذوي االحت ــياجات‬ ‫الخاصــة‪ ،‬حيــث َّ‬ ‫وجــه لهــم نصائــح‬ ‫وإرشــادات‪ ،‬وأوالهم القرآن عناية خاصة‪،‬‬ ‫واستثناهم من بعض التكاليف لضعفهم‪.‬‬ ‫‪ -5‬أن الق ـرآن الكريــم ب ـ َّـين أســس املجتمــع‬ ‫املســلم بمــا فيهــم ذوو االحت ــياجات‬ ‫الخاصــة؛ ـكـي ُيسـ َـعدوا فــي الدن ــيا ويفلحــوا‬ ‫فــي اآلخــرة‪ ،‬وأهمهــا‪ :‬املــودة والرحمــة‬ ‫والتعاطــف والتكافــل والتعــاون‪ ،‬مــع‬ ‫االحت ـرام والتقدي ــر وعدم الســخرية‪ ،‬وقبل‬ ‫ذلــك العدالــة مــع الجم ــيع‪.‬‬ ‫‪ -6‬أن اإلســام ضمــن لــذوي االحت ــياجات‬ ‫الخاصــة حقوقهــم املشــروعة فــي الحيــاة‪،‬‬

‫ُّ‬ ‫والكرامــة والحريــة‪ ،‬والتعلــم والتعليــم‬ ‫ُّ‬ ‫والعمــل‪ ،‬والتصــرف والتملــك‪ ،‬والــزواج‬ ‫واإلنجــاب وغي ــر ذلــك‪.‬‬ ‫‪ -7‬أن الشعب السوري بمختلف فئاته عانى‬ ‫مــن ويــات الحــرب عب ــر الســنوات املاضيــة‪،‬‬ ‫ومــن هــذه الفئــات ذوو االحت ــياجات‬ ‫الخاصــة‪ ،‬الذي ــن فقــدوا الرعايــة الالزمــة‪.‬‬ ‫‪ -8‬أن املجتمــع الدولــي لــم يقـ ِّـدم الرعايــة‬ ‫املناسبة لتحسي ــن وضع ذوي االحت ــياجات‬ ‫الخاصــة كإنشــاء مراكــز‪ ،‬أو إنشــاء مــدارس‬ ‫خاصــة‪ ،‬بغيــة احتضانهــم وتقديــم مــا‬ ‫يلزمهــم مــن احت ــياجات صحيــة وتعليم ــية‬ ‫ورعايــة نفســية لدمجهــم فــي املجتمــع‪.‬‬ ‫‪ -9‬أن املنظمــات اإلنسان ــية بذلــت قصــارى‬ ‫جهدهــا لتقديــم الدعــم النف�ســي لألطفــال‬ ‫ذوي االحت ــياجات الخاصــة‪ ،‬حيــث أسســت‬ ‫مراكــز ومؤسســات ومــدارس‪.‬‬

‫من َّ‬ ‫ُ‬ ‫رات العربـ َّية‬ ‫الث ْو ِ‬ ‫الفراغ ِ‬ ‫لمي في َز ِ‬ ‫الع ُّ‬

‫العدد ‪ 2‬رجب ‪1439‬هـ‬

‫‪ -4‬إجـراء دراســات وإحصائيــات موثقــة حــول‬ ‫أســباب ازديــاد أعــداد ذوي االحت ــياجات‬ ‫الخاصــة فــي العالــم‪ ،‬وخاصــة فــي البــاد‬ ‫العرب ــية واإلسالم ــية‪.‬‬

‫‪- 7‬‬

‫ ‬

‫العدد ‪ 2‬رجب ‪1439‬هـ‬

‫من َّ‬ ‫ُ‬ ‫العربـية‬ ‫رات‬ ‫الث ْو ِ‬ ‫الفراغ ِ‬ ‫َّ‬ ‫الع ُّ‬ ‫لمي يف َز ِ‬

‫وآخردعوانا أن الحمد هلل رب العاملـيـن‪.‬‬ ‫الدكتور عبد الجواد حردان‬

‫مدرس أصول الفقه بكلية اإللهيات‪ ،‬جامعة صوتجو إمام ‪ -‬كهرمان مرعش‬

‫ُمق ِّدم ٌة‬

‫ُ‬ ‫رب العامليـن‪ ،‬والصالة ّ‬ ‫والس ُ‬ ‫الحمد هلل ّ‬ ‫األكمالن‬ ‫األتمان‬ ‫الم‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫علــى ســيدنا محمــد ســيد األولي ــن واآلخري ــن‪ ،‬وعلــى آلــه وصحبـ ِـه‬ ‫أجمعي ــن‪ُ ،‬‬ ‫وبعد ْ‬ ‫‪:‬هب َج َد ًل أن ظالم االســتبداد َأ َل َّ‬ ‫ـريق‬ ‫ـ‬ ‫ب‬ ‫ب‬ ‫م‬ ‫األمل‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ـس فــي َّ‬ ‫فــي التغيي ــر أو كاد َي ِحيــق بــه‪َ :‬أ َوليـ َ‬ ‫الصحــوة الفكريــة الت ــي‬ ‫ُ ّ‬ ‫تبشــربميــاد نجـ ٍـم ســاطع يتســلل مــن بـي ــن‬ ‫أثمرتهــا ثوراتنــا بــوارق ِ‬ ‫ْ‬ ‫ُ َْ‬ ‫ً‬ ‫السـ ُـدف ُ‬ ‫ُّ‬ ‫والح ُجــب؟ َووفقــا لرؤيــة تومــاس كــون فــي كتابــه (بنيــة‬ ‫ِ‬ ‫َّ‬ ‫والدة نهضـ ٍـة‬ ‫ـية‬ ‫الثــورة العلميــة) فــإن التفسي ـ َـر العلمـ َّـي إلمكان ـ ِ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫الك ْبــوة أو لإلقــاع بعــد الهبــوط‪َّ :‬‬ ‫أن األنمـ َ‬ ‫ـوذج (الثــورة‬ ‫بعــد‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫َّ ً‬ ‫البارادايـ َـم) كشــفت بمــرور الزمــن أحــوال وأنماطــا شــاذة عــن‬ ‫َّ‬ ‫ـوري وأهدافــه الســامية‪ ،‬ومــا زالــت هــذه ُّ‬ ‫النســق الثـ ّ‬ ‫الصــور‬ ‫ِ​ِ‬ ‫ِ‬ ‫َّ‬ ‫ّ‬ ‫ْ‬ ‫َّ‬ ‫تبشـ ُـر‬ ‫تت ــراكم حتــى غــدت ظاهــرة يتوقــع أن تتولــد عنهــا أزمــة ِ‬ ‫ً‬ ‫َ‬ ‫آخــرال يقـ َـوى االسـ ُ‬ ‫ـتبداد وقــوى الشـ ِّـرمجتمعــة‬ ‫ـورة مــن نمـ ٍـط‬ ‫بثـ ٍ‬ ‫االدعــاء شــواهده فــي الثــورة الفرنســية؛ فــإنَّ‬ ‫علــى قمعهــا‪ ،‬ولهــذا ّ‬ ‫ِ‬ ‫َّ ٌ‬ ‫أقــرب مــا قيــل فــي تفسي ــرها أنهــا ثــورة عقليــة تنوي ــرية علــى عصــور‬ ‫ظالمهــم‪.‬‬ ‫َُ‬ ‫َّ َّ ُ‬ ‫ـاب قضيــة البحـ ِـث هــو كتــاب (رســالة فــي‬ ‫ولعــل أهــم مــا ك ِتــب فــي لبـ ِ‬ ‫الطريــق إلــى ثقافتنــا) للعالمــة محمــود شــاكر رحمــه هللا تعالــى‪ ،‬فــا‬ ‫لألمــة فــي ليالــي َّ‬ ‫َ‬ ‫أنفــع وال أجـ َـدى َّ‬ ‫يتدارســه َّرواد‬ ‫الدواهــي هــذه مــن أن‬ ‫نهضتهــا ليســتلهموا منــه ال ِعب ــر وي ــرسموا بفرجــاره دوائــر انبعاثهــم‬ ‫املتداخلــة ويقفــوا مــن خاللهــا علــى مركــز نهضتهــم ومحورهــا‬ ‫َ‬ ‫اءتــه م ـرات وكـ َّـرات ُّ‬ ‫بتدبـ ٍـر واســتنطاق‪،‬‬ ‫وأقطارهــا‪ ،‬ثــم يعيــدوا قر‬ ‫ِ‬ ‫َّ‬ ‫ُ‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫ويتـرجموه إلى أنشطة َّ‬ ‫َّ‬ ‫وفعاليات بحثية وفكرية ثـرية تتولد منها رؤى‬ ‫عميقة تحملهم على التخطيط لبـرامج عملية واستـراتـيجيات قابلة‬ ‫َ‬ ‫ْ ُ‬ ‫ـإن ك َّنــا كمــا قالــت أ َمــل‪( :‬ربما‬ ‫للتطب ــيق علــى املــدى القريــب والبعيــد‪ ،‬فـ‬

‫أما ُّ‬ ‫أهم التوصيات فيمكن‬ ‫تلخيصها في اآلتـي‪:‬‬ ‫‪ -1‬تعليــم القائمـي ــن علــى ذوي االحت ــياجات‬ ‫الخاصــة األحــكام الخاصــة باملعاقي ــن‪،‬‬ ‫ســواء فــي اإليمــان والعقيــدة أو فــي العبــادة‬ ‫والصب ــر واألخــاق‪.‬‬ ‫‪ -2‬الت ـزام القائمـي ــن علــى رعايــة ذوي‬ ‫االحت ــياجات الخاصــة بتقــوى هللا تعالــى فــي‬ ‫الســر والعلــن‪ ،‬ألنهــم علــى ثغــرة عظيمــة‪،‬‬ ‫ولهــم أجــر كبـي ــر فــي توجيههــم التوجيــه‬ ‫ا لصحيــح ‪.‬‬ ‫‪ -3‬الحــث علــى دراســات علم ـ َّـية معمقــة‬ ‫لــذوي االحت ــياجات الخاصــة‪ ،‬واســتنباط‬ ‫العــاج لهــم مــن خــال اآليــات القرآن ــية‬ ‫أو الدراســات الحديثــة‪ ،‬وخاصــة ذوو‬ ‫األم ـراض النفســية‪.‬‬ ‫‪52‬‬

‫ً‬ ‫ً‬ ‫ـرة ُ‬ ‫ُننفــق َّ‬ ‫ليمـ َّـر النــور لألجيــال مـ َّـرة) فلنجعـ ْـل‬ ‫كل العمــر ـكـي نثقـ َـب ثغـ‬ ‫مــن هــذه الرســالة َم ْسـ ًـرى لجيـ ٍـل راشـ ٍـد إلــى مســتقبل واعـ ٍـد‪.‬‬ ‫ومــن الدراســات املهمــة ً‬ ‫أيضــا كتــاب «العلــم وب ــناء األمــم» للدكتــور‬ ‫راغــب السرجان ــي‪ ،‬وال بـ َّـد مــن القــول بــأن كتــاب تومــاس كــون «بـن ــية‬ ‫الثــورة العلميــة» ذو قــدر فــي هــذا البــاب ْ‬ ‫وإن لــم يكــن فــي صلــب‬ ‫ٍ‬ ‫املوضــوع؛ ففيــه إيحــاءات تنـي ــر زوايــا مظلمــة فــي الفكــر العلمــي‬ ‫لثــورات التغيي ــر َّ‬ ‫الفعــال‪.‬‬ ‫الكم والكيف ّ‬ ‫محددان رئيسان ومعياران مقبوالن للحكم الصحيح‬ ‫ِ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫ات العرب ــية‪ ،‬فــا بديــل‬ ‫علــى واقعيـ ِـة العلــم والتعليــم فــي زمـ ِـن الثــور ِ‬ ‫إحصائيــا‪ ،‬وال َ‬ ‫عــن االســتبانات الحاصــرة ّ‬ ‫ًّ‬ ‫معنــى‬ ‫ملتغيراتهمــا ودراســتها‬ ‫ِ‬ ‫ـدد العلمــاء واألســاتذة املخلصي ــن املرابطي ــن‬ ‫ـتغال بتخمي ــن عـ ِ‬ ‫لالشـ ِ‬ ‫الجاثميـن على صدور املستبديـن في َخ َفاء‪ ،‬وال ْ‬ ‫لحد ِس ما يمكن وما‬ ‫ٍ‬ ‫ً‬ ‫ال يمكــن أدلجتــه مــن مناهــج التعليــم ومؤسســاته؛ فمنعــا لالعت ـراض‬ ‫علــى بعــض أحــكام البحــث بتخمي ــن كهــذا وجــب َّ‬ ‫النـ ُ‬ ‫ـص عليــه‪ ،‬فهــو‬ ‫ٍ‬ ‫احتـراس أو احتـر ٌاز وليس من املصادرة على املطلوب في �شيء‪ ،‬واآلن‬ ‫َ‬ ‫إليــك مشــكلة البحــث فــي األســئلة اآلت ــية‪:‬‬ ‫َّ‬ ‫ّ َّ‬ ‫ّ‬ ‫اغر التـربو ّي‬ ‫التعليمي الواقع واملتوقع‬ ‫ ما مدى الفر ِاغ‬‫العلمي والش ِ‬ ‫ِ‬ ‫ً‬ ‫فــي األزمنــة الثالثــة بــدءا مــن عــام ‪2011‬م حتــى اليــوم؟‬ ‫ ومــا التصــورات املقت ــرحة لسـ ِّـد هــذا الف ـراغ فــي ضــوء اختــاف‬‫ّ‬ ‫ـوال إلــى أخــرى؟‬ ‫املتغي ـرات مــن بلـ ٍـد إلــى آخــر ومــن ظـ ٍ‬ ‫ـروف وأحـ ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ وما الوسائل املتاحة إلسقاط هذه التصورات على الواقع؟‬‫َ‬ ‫ ومــن املســؤول عــن ت ــرجمة هــذه التصــورات إلــى واقــع فــي ن ْي ـ ِـر حالـ ِـة‬‫َّ َ‬ ‫ات والهجـ ِـرة وقهـ ِـر االســتبداد؟‬ ‫الشــت ِ‬ ‫‪53‬‬


‫من َّ‬ ‫ُ‬ ‫رات العربـ َّية‬ ‫الث ْو ِ‬ ‫الفراغ ِ‬ ‫لمي في َز ِ‬ ‫الع ُّ‬ ‫ْ‬ ‫ّ‬ ‫ـور صـ ْـد َر‬ ‫ولتـيسي ــر االســتدالل علــى ِصــدق التفسي ــر العلمـ ِـي املذكـ ِ‬ ‫ّ‬ ‫ـرصد أهـ ِ ّـم األنمــاط (الفـر ِاغ العلمـ ّ ِـي فــي هــذه‬ ‫املقدمـ ِـة فــي هــذا البحــث ب ـ ِ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫ً‬ ‫َّ‬ ‫فتضمــن تمهيــدا شـ ِـمل أهـ َّـم الدراســات الســابقة وأســئلة‬ ‫الفت ــرة)‪،‬‬ ‫الدراســة‪ ،‬ومباحــث‪:‬‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ ُ َّ‬ ‫الدولة(االستخالففياألرض)‬ ‫املبحثاألول‪:‬العلموالتعليموبـناء األم ِةو ِ‬ ‫َّ‬ ‫املبحــث الثان ــي‪ :‬الواقـ ُـع املنظــور واملتوقـ ُـع املأمــول للتعليــم فــي‬ ‫الثــورة‪ ،‬وفيــه مطالــب‪:‬‬ ‫املطلب األول‪ :‬الواقع املنظور للتعليم في الثورة‪.‬‬ ‫املطلب الثانـي‪ :‬املستقبل التعليمي من زاوية الواقع في هذه الفتـرة‪.‬‬ ‫َّ‬ ‫املطلب الثالث‪ :‬املتوقع املأمول ملستقبل التعليم في الثورة‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫السنوات َّ‬ ‫ُ‬ ‫الس ْبع‪.‬‬ ‫السبع في‬ ‫ظواهرالتعليم‬ ‫املبحث الثالث‪:‬‬ ‫ِ‬ ‫خاتمة البحث ونتائجه وتوصياته‪.‬‬

‫املبحثُ األول‬ ‫موقع التعليم من بـناء األمة والدولة‬

‫ً‬ ‫تأت ــي أهميــة هــذه الدراسـ ِـة مــن كونهــا منوطــة بالتعليــم والتـرب ــية‬ ‫ً َّ ً‬ ‫قويــة‬ ‫ـورات إقليميـ ٍـة تهــدف إلــى تغيي ــر إيجاب ــي َي ْب ِن ــي دول‬ ‫فــي زمــن ثـ ٍ‬ ‫ُ َْ َ‬ ‫ُ ّ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫ـرب‬ ‫يحتــذى بهــا‪ ،‬والجدي ــر ِ‬ ‫بالذكــر أن الحديــث عـ ْـن هــذا الضـ ِ‬ ‫َْ‬ ‫ـيد والتعليـ ِـم‬ ‫مــن التغيي ــر عندمــا يـنبـن ــي علــى أســس العلـ ِـم الشـ ِ‬ ‫الرشــيد يغــدو مــن املسـ َّـلمات وثوابــت َّ‬ ‫ّ‬ ‫الجيـ ِـد َّ‬ ‫النمـ ِـط الحضــار ّ ِي‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ّ ْ‬ ‫ٌ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫الســل ِم وحملــة‬ ‫للثــورات‪ ،‬وهــذا مــا ذهــب إليــه كوكبــة مــن دعـ ِـاة ِ‬ ‫رايــة اإلصــاح والســام فــي العالــم أمثــال ن ــيلسون مانديــا القائــل‪:‬‬ ‫(التعليــم هــو أقــوى ســاح يمكــن أن تســتخدمه لتغيي ــر العالــم)‪...‬‬ ‫ُّ‬ ‫أيضــا َّ‬ ‫وبــات مــن املسـ َّـل َمات ً‬ ‫أن الغـ َ‬ ‫ـرض مــن العلـ ِـم والتعلــم هــو‬ ‫َّ‬ ‫ُّ‬ ‫التحكــم بالطب ــيعة وعناصرهــا واســتغاللها وتسخي ــرها لصالــح‬ ‫اإلنســان؛ ليسـ ّـخ َر اإلنســان َ‬ ‫نفســه ملعرفــة ذا ِتـ ِـه وخالقــه مــن‬ ‫ِ‬ ‫خــال عمارتــه للكــون عــن علــم وخب ــرة ودرايــة (( َأ َلـ ْـم َتـ َـر ْوا َأ َّن هللاَ‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫َْ‬ ‫ال ْ ض َو َأ ْسـ َـب َغ َع َل ْي ُكـ ْـم ن َع َمــهُ‬ ‫َ‬ ‫َسـ َّـخ َر َل ُكـ ْـم َمــا فــي َّ َ‬ ‫َ‬ ‫السـ َـماو ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ات ومــا ِفــي ر ِ‬ ‫َْ ْ َ​َ‬ ‫َ ًَ َ​َ َ ً‬ ‫ً‬ ‫َّ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫هللا ِبغيـ ِـر ِعلـ ٍـم ول هــدى‬ ‫ـاس مــن يجـ ِـادل ِفــي ِ‬ ‫ظ ِاهــرة وب ِ‬ ‫اطنــة و ِمــن النـ ِ‬ ‫َ​َ َ‬ ‫ـاب ُم ِني ـ ٍـر)) [لقمــان‪ :‬اآليــة ‪ ]20‬وتلــك هــي أولــى خطــوات ب ــناء‬ ‫ول ِكتـ ٍ‬ ‫وقو ِتــه ووعيــه وعقلــه َّ‬ ‫اإلنســان (الدولـ ِـة) الــذي بســواعده َّ‬ ‫تؤسـ ُ‬ ‫ـس‬ ‫ِ‬

‫ ‬

‫من َّ‬ ‫ُ‬ ‫رات العربـ َّية‬ ‫الث ْو ِ‬ ‫الفراغ ِ‬ ‫لمي في َز ِ‬ ‫الع ُّ‬

‫العدد ‪ 2‬رجب ‪1439‬هـ‬

‫َ‬ ‫َ ُ َ َّ ُ ُ َ ْ ُ ْ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫وقاعدتهــا‬ ‫الدولــة‬ ‫وقيادتهــا (( قالــوا أنــى َيكــون لـ ُـه اللـ ُـك َعل ْي َنــا))‬ ‫َ‬ ‫ـص فيــه َ‬ ‫فــكان الجــواب‪َّ :‬إنــه اصطفــاء ُخـ َّ‬ ‫ذاك املصطفــى بعلـ ٍـم‬ ‫ْ ْ‬ ‫ًَ‬ ‫َ ُ َ‬ ‫َ َ َّ َ ْ َ َ‬ ‫اصطفـ ُـاه َعل ْيكـ ْـم َوز َاد ُه َب ْســطة ِفــي ال ِعلـ ِـم‬ ‫ـوة ((قــال ِإن هللا‬ ‫وقـ ٍ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫َّ‬ ‫َوال ِجسـ ِـم)) [البقــرة‪ ]247 :‬ومــن علـ ِـم طالــوت الــذي خــص بــه‬ ‫ُ‬ ‫التخطيــط العســكري وفـ ُّـن القيــادة واإلدارة(‪ ،)1‬فأي ــن تخصصــات‬ ‫َّ‬ ‫ـاص‬ ‫التعليــم كلهــا مــن إعــداد ِخطـ ٍـة شـ ٍ‬ ‫ـاملة لــكل مجـ ٍـال واختصـ ٍ‬ ‫َّ‬ ‫علميــا وت ـ ًّ‬ ‫ًّ‬ ‫ـربويا؟ وهــل كان لهــذه العلــوم‬ ‫لدعــم الثــورات‬ ‫وأســاتذتها ٌ‬ ‫دور َّ‬ ‫ـيس الدولــة؟ بــل‬ ‫فعــال فــي دحـ ِـر االسـ ِ‬ ‫ـتبداد وتأسـ ِ‬ ‫أي ً‬ ‫ـوام َّ‬ ‫معنــى لالســتخالف فــي األرض الــذي بــه يحلــم أقـ ٌ‬ ‫ُّ‬ ‫منــا إذا‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َّ‬ ‫ّ‬ ‫ـدو ي ــنازعه‬ ‫اتـ َـكأ الخليفــة (اإلنســان) علــى صناعـ ِـة واخت ـر ِاع عـ ٍ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ِخلفـ َـة األرض اتـ ً‬ ‫متخل ًفــا ال ُمســتخل ًفا أو إذا لــم يكــن‬ ‫ـكاء ُي َعـ ُّـد بــه‬ ‫ِ‬ ‫َِ‬ ‫َْ‬ ‫َّ‬ ‫ـتخلف علــى علــم ودرايــة بمسـ َ‬ ‫هــذا املسـ‬ ‫ـتوى (( َو َعلـ َـم َآد َم ال ْسـ َـم َاء‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫َ‬ ‫ُك َّل َهــا)) [البقــرة‪ :‬آيــة ‪َ ]31‬لي ْعــرف بهمــا كيــف يعمــر األرض ُ‬ ‫((هـ َـو‬ ‫َ ْ َ َ ُ ْ َ ْ َ ْ َ ْ َ ْ َ َِ ُ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ـدرك‬ ‫أنشــأكم ِمـ َـن الر ِ‬ ‫ض واســتعمركم ِفيهــا)) [هــود‪ :‬آيــة ‪ ]61‬وليـ ِ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ـات الت ــي‬ ‫ـات الصالحـ ِ‬ ‫بهمــا ماهيــة وأنــواع وأشــكال وضــروب ودرجـ ِ‬ ‫ُ‬ ‫َ َ َ ُ َّ‬ ‫ُ‬ ‫هللا ال ِذي ـ َـن َآم ُنــوا ِم ْنكـ ْـم َو َع ِملــوا‬ ‫تؤهلــه لالســتخالف املوعــود ((وعــد‬ ‫الص ِال َحـ ِ َ َ ْ َ ْ َ َّ ُ ْ‬ ‫َّ‬ ‫ْ َْ‬ ‫ض)) [النــور‪.]55 :‬‬ ‫ـات ليســتخ ِلفنهم ِفــي الر ِ‬ ‫َ ُ‬ ‫َ‬ ‫مقت�ضــى االســتخالف أن يكــون املســتخلف علــى علـ ٍـم‬ ‫وإذا كان‬ ‫بمــا تقــوم بــه األرض وجـ َـب البحـ ُـث فــي أمري ــن َّربمــا ال يكــون أحــدٌ‬ ‫ِ‬ ‫ً‬ ‫حقيقــا بالخالفــة بدونهمــا‪:‬‬ ‫ّ‬ ‫ـتخالف مــن أهــل اإليمـ ِـان الوعـ ُـي‬ ‫املتطلعي ــن لالسـ‬ ‫األول‪ :‬علــى‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬ ‫ـيعتها‬ ‫خلفوا فيهــا‬ ‫ِ‬ ‫وبحدودهــا وطب ـ ِ‬ ‫بمدلــو ِل األرض الت ــي اســت ِ‬ ‫ُ‬ ‫وكنوزهــا ومفات ــيحها وعناصرهــا ونشــأتها ّ‬ ‫وكل مــا عليهــا‪(( ،‬قـ ْـل‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ْ َْ َ ْ ُ ُ َ ِْ َ َ َ َ ْ َ ْ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ض فانظــروا كيــف بــدأ الخلــق)) [العنكبــوت‪]20 :‬‬ ‫ِس ْي ــروا ِفــي الر ِ‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫َو ِتل ُكـ ْـم فريضـ ٌـة تقت�ضــي ً‬ ‫علمــا وبحثــا وإحاطــة بقــارات األرض‬ ‫َ‬ ‫ـتخلف إعـ َ‬ ‫ـداد علمــاء باحثي ــن‬ ‫املكتشــفة كمــا تفــرض علــى املسـ‬ ‫ِ‬ ‫َّ‬ ‫كشــافة َّ‬ ‫رحالــة مــن أجــل البحــث عــن مناطــق يحتمــل أنهــا لــم‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫ُ‬ ‫ليبلغهــا الرســالة الت ــي صــار بهــا مســتخل ًفا فــي‬ ‫تكتشــف بعــد؛ ِ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ّ‬ ‫ـات يعمرهــا بهــا ـكـي‬ ‫األرض ِول ُيقـ ِـد َم لهــا مــا تحــت يـ ِـده ِمــن ِخدمـ ٍ‬ ‫َّ‬ ‫ـأي ً‬ ‫ّ‬ ‫معنــى ُي َسـ ِ ّـمي‬ ‫يصــدق عليــه ًأنــه خليفــة هللا فــي األرض‪ ،‬وإال فبـ ِ‬ ‫َ‬ ‫نفسـ ُـه خليفــة؟‬ ‫وهــذه الوظيفــة املنوطــة باالســتخالف هــي عي ــنها الت ــي َ‬ ‫حملــت‬ ‫علمــاء املسلمي ــن األمويي ــن األندلسيي ــن ثــم العثمانـيي ــن علــى‬

‫(‪ )1‬راغب السرجانـي‪ :‬العلم وبـناء األمم‪ ،‬دراسة تأصيلية لدور العلم في بـناء الدولة‪ ،‬مؤسسة اقرأ‪ ،‬القاهرة ‪2007‬م ط‪ ،1‬ص‪.76‬‬

‫‪54‬‬

‫َّ‬ ‫الضـ ْـرب فــي مشــارق األرض ومغاربهــا سـ ً‬ ‫ـعيا منهــم إلــى امتثــال أمـ ٍـر‬ ‫َ‬ ‫َ ْ‬ ‫َ َ َّ‬ ‫َ َُ‬ ‫ورد بأســلوب الخب ــر والبشــارة‪(( :‬ل َي ْبلغـ َّـن َهــذا ال ْمـ ُـر َمــا َبلــغ الل ْيـ ُـل‬ ‫هللا َه َذا ّ‬ ‫هللا َب ْي َت َم َدر َوَل َو َبر إ َّل َأ ْد َخ َل ُه ُ‬ ‫الن َه ُار‪َ ،‬وَل َي ْت ُر ُك ُ‬ ‫َو َّ‬ ‫الدي َـن‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬ ‫ْ َ‬ ‫ُ ًّ‬ ‫ّ َ َْ ُ ّ َ‬ ‫ًّ ُ ُّ ُ‬ ‫ال ْســا َم‪َ ،‬وذل ُيـ ِـذ ُّل‬ ‫ِب ِعـ ِـز ع ِز ْيـ ٍـز أو ِبــذ ِل ذ ِليـ ٍـل‪ِ ،‬عــزا ي ِعــز هللا ِبـ ِـه ِ‬ ‫ُ‬ ‫هللا بـ ِـه ال ُك ْفـ َـر))(‪ )2‬فـرأى أولــو األمــر مــن َّ‬ ‫الســلف أمـر ًاء وعلمــاء فــي‬ ‫ِ‬ ‫مثــل هــذه األحاديــث ً‬ ‫تكليفــا يفــرض عليهــم البحــث والتنقيــب عــن‬ ‫املعلــوم واملجهــول مــن األرض‪ ،‬فهــذا طــارق ب ــن زيــاد ي ــناجي َّربــه‬ ‫ِمــن ســواحل البحــار (اللهــم إنــك تعلــم أن ــي قــد بلغــت املجهــود‪،‬‬ ‫ولــو أن ــي أعلــم أن خلــف هــذا البحــر بـ ً‬ ‫ـادا لخضتهــا‪ ،‬أقاتــل فــي‬ ‫سب ــيلك‪ ،‬حتــى ال يبقــى علــى وجــه األرض مــن يكفــر بــك) َّ‬ ‫وأمــا ِمــن‬ ‫بعــد طــارق فمــا حالــت البحــار دون محاولتهــم اكتشــاف أمريــكا‬ ‫والقــارة القطب ــية الجنوب ــية‪ ،‬وأشــهرهم‪ :‬العالمــة البـيـرون ـ ّـي(‪،)3‬‬ ‫قبلـ ِـه خشـ ٌ‬ ‫ـخاش البحــر ّي يــوم أن أبحــر بسفي ــنته مــن‬ ‫ومــن ِ‬ ‫لشــبونة إلــى بحــر الظلمــات (املحيــط األطلنطــي) ســنة (‪235‬ه ـ‬ ‫ً‬ ‫‪850‬م)‪ ،‬فاكتشــف هنــاك جزي ــرة عامــرة بالســكان‪ ،‬ثــم عــاد منهــا‬ ‫بهدايــا َّ‬ ‫قدمهــا لحاكــم األندلــس عبــد الرحمــن الثان ــي‪ ،‬فكافــأه‬ ‫األمي ــر بتعيي ــنه أمي ـ ًـرا للبحريــة اإلســامية‪ ،‬ثــم تتابــع الكشــف‬ ‫علــى يــد ُعصبــة مــن عــرب املغــرب ثــم فريــق مــن الفت ــية َّ‬ ‫املغرري ــن‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬ ‫الذي ــن َّ‬ ‫َّ‬ ‫تقدمــوا علــى غي ــرهم كالغــر ِة وعــادوا إلــى لشــبونة‪ ،‬فاحتفــى‬ ‫بهــم أهــل األندلــس أواخــر القــرن العاشــر امليــادي(‪ ،)4‬وعندمــا‬ ‫تحـ َّـدث كريســتوفر كولومبــوس عــن الهنــود الحمــر فــي أمريــكا‬ ‫قــال‪َّ :‬إنــه كان يعتقــد أنهــم مــن ســالة العــرب الذي ــن ســبقوه(‪،)5‬‬ ‫وممــا يب ــرهن علــى ذلــك خرائــط البحــارة العثمان ـ ّـي بـي ــري ريــس فــي‬ ‫القــرن الخامــس عشــر امليــادي‪ ،‬وتاريـ ُـخ رســمها املـ َّ‬ ‫ـدون فيهــا ُيثبــت‬ ‫ِ‬ ‫َ​َ‬ ‫َّ‬ ‫أنــه أتـ َّـم رسـ َـمها قبــل كولومبــوس بثالثـ ِـة عقــود‪ ،‬بــل إن فــي خرائطــه‬ ‫خريطــة تفصيليــة للقــارة القطب ــية الجنوب ــية الت ــي تعــرف بقــارة‬ ‫ً‬ ‫أنتـركت ــيكا وتضاريســها‪ ،‬وأثبتـ ْـت صــور األقمــار الصناعيــة حديثــا‬ ‫ُ‬ ‫ـلف َّ‬ ‫األمــة‬ ‫دقــة هــذه الخرائــط(‪ ،)6‬أليــس هــذا الــذي ســعى إليــه سـ‬

‫ ‬

‫العدد ‪ 2‬رجب ‪1439‬هـ‬

‫أمـر ًاء وعلمـ َـاء هــو االمتثـ َ‬ ‫ـال العلمـ َّـي العملـ َّـي لتحقيــق بشــارة رســول‬ ‫ّ‬ ‫واالتبـ َ‬ ‫ـاع‬ ‫هللا صلــى هللا عليــه وســلم‬ ‫وتمثيلـ ِـه فــي مقــام الخالفــة‪ِ ،‬‬ ‫ِ‬ ‫ْ‬ ‫األقـ َـو َم لقولــه تعالــى‪َ (( :‬و ُأوحـ َـي إ َلـ َّـي َهـ َـذا ْال ُقـ ْـر ُ‬ ‫آن ُل ْنذ َر ُكـ ْـم بــه َو َمــنْ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ​ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫َ​َ‬ ‫َبلــغ)) [األنعــام‪ :‬آيــة ‪ ]19‬وهــي تحتمــل العطــف علــى املنـ ِـذر أو‬ ‫َ َ‬ ‫َ َ َّ ُ ْ ُ َ َ‬ ‫َ‬ ‫(حـ ٌّـق َعلــى َمـ ِـن َّات َبـ َـع‬ ‫ـس‪:‬‬ ‫املنــذر‪ ،‬ففــي َّهــذه اآليـ َـة قــال َّالرِب َيــع بــن أنـ َ ٍَّ‬ ‫ُ َ‬ ‫َ َ ُ ُ‬ ‫ُ َ ْ َ َ َ ْ َْ َُ‬ ‫َ‬ ‫هللا‬ ‫هللا صلــى هللا عليـ ِـه وســلم أن يدعــو كالـ ِـذي دعــا َرســول ِ‬ ‫َرســول ِ‬ ‫َّ َ‬ ‫ُ َ‬ ‫َ َّ َ ْ َ‬ ‫َ َّ‬ ‫َ َ َ‬ ‫وعـ ْـن ق َتـ َـادة ِفــي‬ ‫هللا َعل ْيـ ِـه َو َســل َم‪َ ،‬وأ ْن ُي ْنـ ِـذ َر كالـ ِـذي أنــذ َر)‪،‬‬ ‫صلــى‬ ‫ُ َ‬ ‫ْ َُ‬ ‫َ َّ‬ ‫َ َ ْ َ​َ َ‬ ‫َّ ُ َ‬ ‫َْ‬ ‫هللا َعل ْيـ ِـه‬ ‫صلــى‬ ‫هللا‬ ‫قوِلـ ِـه‪(( :‬ألن ِذركـ ْـم ِبـ ِـه ومــن بلــغ))‪(ِ :‬إن َرســول ِ‬ ‫َ​َ‬ ‫َ َ ْ َ​َ َْ ُ َ ٌ ْ َ‬ ‫َو َسـ َّـل َم َقـ َ َ ّ ُ َ‬ ‫هللا فقـ ْـد‬ ‫ـاب ِ‬ ‫ـال‪(( :‬ب ِلغــوا عـ ِـن ِ‬ ‫هللا)) فمــن بلغتــه آيــة ِمــن ِكتـ ِ‬ ‫َ​َ َ ْ‬ ‫هللا)(‪.)7‬‬ ‫بلغــه أمـ ُـر ِ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫يؤمـ ُـل االســتخالف فــي األرض مــا‬ ‫الثان ــي‪ :‬أن يكــون للمؤمـ ِـن الــذي ِ‬ ‫ودرء‬ ‫ألهلهــا ِ‬ ‫يؤهلــه لعمــارة األرض بالصالحـ ِ‬ ‫ـات بجلـ ِـب املصالـ ِـح ِ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫املفاســد عنهــم (( َو َعـ َـد ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫هللا َّال ِذي ـ َـن َآمنــوا منكـ ْـم وعملــوا َّ‬ ‫ـات‬ ‫الص ِالحـ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َ َ ْ َ ْ َ َّ ُ ْ ْ َ‬ ‫ْ‬ ‫ض )) والــذي يؤهلــه لعمارتهــا أم ـران‪ ،‬أولهمــا‬ ‫ليســتخ ِلفنهم ِفــي الر ِ‬ ‫أصــل وثان ــيهما بــدل‪:‬‬ ‫َ ُ‬ ‫ُ َ َ َّ َ ْ َ َ‬ ‫اصطفـ ُـاه َعل ْيكـ ْـم‬ ‫أولهمــا‪ :‬العلـ ُـم والتعليـ ُـم والقــوة (( قــال ِإن هللا‬ ‫َ​َ َُ َ ْ َ‬ ‫ـط ًة فــي ْالع ْلــم َو ْالج ْســم)) [البقــرة‪ :‬آيــة ‪َ (( ]247‬و َد ُاو َ‬ ‫ود‬ ‫وزاده بسـ ِ ِ ِ ِ ِ‬ ‫ْ‬ ‫َ ُ ََْ َ ْ ُ‬ ‫َ‬ ‫ْ َ​َ َ‬ ‫َْ‬ ‫ان ِإذ َي ْحك َمـ ِـان ِفــي ال َحـ ْـر ِث ِإذ نفشـ ْـت ِفيـ ِـه غ َنـ ُـم القـ ْـو ِم‬ ‫وســليم‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫َ َ َّ ْ َ َ ُ َ ْ َ َ َ ُ ًّ َ ْ َ ُ ًْ‬ ‫َ‬ ‫َوك َّنــا ِل ُحك ِم ِهـ ْـم ش ِاه ِدي ـ َـن (‪ )78‬ففهمناهــا ســليمان وكل آتينــا حكمــا‬ ‫َ​َ​َ ْ ََْ َ ُ َ َ ُ َْ َ َ ْ‬ ‫ْ‬ ‫ان ِعل ًما))‬ ‫َو ِعل ًما)) [األنبـياء‪ :‬آية ‪ (( ]79 ،78‬ولقد آتينا داوود وسليم‬ ‫((و َو َث ُسـ َـل ْي َم ُ‬ ‫ان َد ُاو َ‬ ‫ود)) [النمــل‪ :‬آيــة ‪.]16‬‬ ‫[النمــل‪ :‬آيــة ‪ِ َ ]15‬ر‬ ‫ثان ــيهما‪ :‬أن يستعي ــن بأهــل العلــم والقـ َّـو ِة املختصي ــن فــي كل فـ ٍ ّـن‬ ‫َّ‬ ‫ّ‬ ‫وييهـ َـئ َّ‬ ‫لرعيتــه أن تتعلــم مــن ذلــك مــا تعمــر بــه األرض ومــا يجعلــه‬ ‫ِ‬ ‫َ​َ‬ ‫جدي ـ ًـرا باالســتخالف بمعنــاه األتـ ِ ّـم األكمــل‪ ،‬قــال اب ــن القيــم‪( :‬ذكـ َـر‬ ‫َ‬ ‫َ َ‬ ‫ً‬ ‫َّ‬ ‫مالــك ِفــي ُم َوط ِئـ ِـه َعـ ْـن َزْيـ ِـد ْبـ ِـن أ ْســل َم‪(( :‬أ َّن َر ُجــا ِفــي َز َمـ ِـان َر ُســو ِل‬ ‫ُ َ َ ْ َ َ َّ َ َ َ َ ُ ُ ْ ٌ َ ْ َ ْ‬ ‫َ َّ‬ ‫اح َتقـ َـن ال ُجـ ْـر ُح الـ َّـد َم‪،‬‬ ‫صلــى هللا عليـ ِـه وســلم أصابــه جــرح‪ ،‬ف‬ ‫هللا‬ ‫ِ‬ ‫الر ُجـ َـل َد َعــا َر ُج َل ْيــن مـ ْـن َبن ــي َأ ْن َمـ َـار‪َ ،‬ف َن َظـ َـرا إ َل ْيــه‪َ ،‬ف َز َع َمــا َأنَّ‬ ‫َو َأنَّ‬ ‫َّ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ ِ ِ‬ ‫ص َّلــى ُ‬ ‫َر ُســو َل هللا َ‬ ‫ـال َل ُه َمــا‪َ :‬أ ُّي ُك َمــا َأ َطـ ُّـب؟ َف َقــال‪َ:‬‬ ‫هللا َع َل ْيـ ِـه َو َسـ َّـل َم َقـ َ‬ ‫ِ‬

‫(‪ )2‬أحمد بـن حنبل‪ :‬املسند‪ ،‬تح‪ :‬شعيب األرنؤوط وآخرون‪ ،‬مؤسسة الرسالة‪ ،‬ط‪ 1421 ،1‬هـ ‪ 2001 -‬م‪ )154 /28( ،‬رقم ‪ ،16957‬إسناده صحيح على شرط مسلم‪.‬‬ ‫(‪ )3‬راغــب السرجان ــي‪ :‬العلــم وب ــناء األمــم‪ ،‬مرجــع ســابق‪ ،‬ص‪ ،155‬ي ــنظر‪ :‬األب أنســتاس الكرملــي البغــدادي‪ :‬عــرف العــرب أمريــكا قبــل أن يعرفهــا أب ــناء الغــرب‪ ،‬مجلــة املقتطــف‪ ،‬العــدد الثان ــي‪ ،‬املجلــد ‪ ،106‬دولــت حســن‬ ‫الصغي ــر‪ :‬اقتحــم العــرب املحيــط قبــل أن يقتحمــه كوملبــس‪ ،‬مجلــة الرســالة‪ ،‬مصــر‪ ،‬العــدد(‪. )612‬‬ ‫ُ‬ ‫(‪ )4‬علي بـن الحسيـن املسعودي‪ :‬مروج الذهب ومعادن الجواهر‪ ،‬تح‪ :‬يوسف أسعد داغر‪ ،‬دار النشر‪ :‬مؤسسة دار الهجرة‪ ،‬ق ْم‪1409 ،‬هـ ‪.135/1‬‬ ‫(‪ )5‬راغب السرجانـي‪ :‬العلم وبـناء األمم‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.157‬‬ ‫(‪( https://www.turkpress.co/node/14112 )6‬املستكشف التـركي بـيـري ريس عالم البحر والحرب)‬ ‫(‪ )7‬أبو الفداء إسماعيل بـن عمر بـن كثيـر‪ :‬تفسيـر القرآن العظيم‪ ،‬تح‪ :‬محمد حسيـن شمس الديـن‪ ،‬دار الكتب العلمية‪ ،‬بـيـروت‪ ،‬ط‪1419 1‬ه (‪.)245 /3‬‬ ‫(‪ )8‬زاد املعاد في هدي خيـر العباد‪ :‬محمد بـن أبـي بكر شمس الديـن ابـن قيم الجوزية‪ ،‬مؤسسة الرسالة بـيـروت‪ ،‬مكتبة املنار اإلسالمية الكويت‪ ،‬ط‪1415 ،27‬هـ ‪1994/‬م‪.121/4 ،‬‬ ‫(‪ )9‬أحمد بـن حنبل‪ :‬املسند‪ ،‬مرجع سابق‪ )46 /45( ،‬رقم الحديث (‪.)26450 ،27095‬‬

‫‪55‬‬


‫من َّ‬ ‫ُ‬ ‫رات العربـ َّية‬ ‫الث ْو ِ‬ ‫الفراغ ِ‬ ‫لمي في َز ِ‬ ‫الع ُّ‬ ‫ْ‬ ‫ّ‬ ‫ـور صـ ْـد َر‬ ‫ولتـيسي ــر االســتدالل علــى ِصــدق التفسي ــر العلمـ ِـي املذكـ ِ‬ ‫ّ‬ ‫ـرصد أهـ ِ ّـم األنمــاط (الفـر ِاغ العلمـ ّ ِـي فــي هــذه‬ ‫املقدمـ ِـة فــي هــذا البحــث ب ـ ِ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫ً‬ ‫َّ‬ ‫فتضمــن تمهيــدا شـ ِـمل أهـ َّـم الدراســات الســابقة وأســئلة‬ ‫الفت ــرة)‪،‬‬ ‫الدراســة‪ ،‬ومباحــث‪:‬‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ ُ َّ‬ ‫الدولة(االستخالففياألرض)‬ ‫املبحثاألول‪:‬العلموالتعليموبـناء األم ِةو ِ‬ ‫َّ‬ ‫املبحــث الثان ــي‪ :‬الواقـ ُـع املنظــور واملتوقـ ُـع املأمــول للتعليــم فــي‬ ‫الثــورة‪ ،‬وفيــه مطالــب‪:‬‬ ‫املطلب األول‪ :‬الواقع املنظور للتعليم في الثورة‪.‬‬ ‫املطلب الثانـي‪ :‬املستقبل التعليمي من زاوية الواقع في هذه الفتـرة‪.‬‬ ‫َّ‬ ‫املطلب الثالث‪ :‬املتوقع املأمول ملستقبل التعليم في الثورة‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫السنوات َّ‬ ‫ُ‬ ‫الس ْبع‪.‬‬ ‫السبع في‬ ‫ظواهرالتعليم‬ ‫املبحث الثالث‪:‬‬ ‫ِ‬ ‫خاتمة البحث ونتائجه وتوصياته‪.‬‬

‫املبحثُ األول‬ ‫موقع التعليم من بـناء األمة والدولة‬

‫ً‬ ‫تأت ــي أهميــة هــذه الدراسـ ِـة مــن كونهــا منوطــة بالتعليــم والتـرب ــية‬ ‫ً َّ ً‬ ‫قويــة‬ ‫ـورات إقليميـ ٍـة تهــدف إلــى تغيي ــر إيجاب ــي َي ْب ِن ــي دول‬ ‫فــي زمــن ثـ ٍ‬ ‫ُ َْ َ‬ ‫ُ ّ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫ـرب‬ ‫يحتــذى بهــا‪ ،‬والجدي ــر ِ‬ ‫بالذكــر أن الحديــث عـ ْـن هــذا الضـ ِ‬ ‫َْ‬ ‫ـيد والتعليـ ِـم‬ ‫مــن التغيي ــر عندمــا يـنبـن ــي علــى أســس العلـ ِـم الشـ ِ‬ ‫الرشــيد يغــدو مــن املسـ َّـلمات وثوابــت َّ‬ ‫ّ‬ ‫الجيـ ِـد َّ‬ ‫النمـ ِـط الحضــار ّ ِي‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ّ ْ‬ ‫ٌ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫الســل ِم وحملــة‬ ‫للثــورات‪ ،‬وهــذا مــا ذهــب إليــه كوكبــة مــن دعـ ِـاة ِ‬ ‫رايــة اإلصــاح والســام فــي العالــم أمثــال ن ــيلسون مانديــا القائــل‪:‬‬ ‫(التعليــم هــو أقــوى ســاح يمكــن أن تســتخدمه لتغيي ــر العالــم)‪...‬‬ ‫ُّ‬ ‫أيضــا َّ‬ ‫وبــات مــن املسـ َّـل َمات ً‬ ‫أن الغـ َ‬ ‫ـرض مــن العلـ ِـم والتعلــم هــو‬ ‫َّ‬ ‫ُّ‬ ‫التحكــم بالطب ــيعة وعناصرهــا واســتغاللها وتسخي ــرها لصالــح‬ ‫اإلنســان؛ ليسـ ّـخ َر اإلنســان َ‬ ‫نفســه ملعرفــة ذا ِتـ ِـه وخالقــه مــن‬ ‫ِ‬ ‫خــال عمارتــه للكــون عــن علــم وخب ــرة ودرايــة (( َأ َلـ ْـم َتـ َـر ْوا َأ َّن هللاَ‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫َْ‬ ‫ال ْ ض َو َأ ْسـ َـب َغ َع َل ْي ُكـ ْـم ن َع َمــهُ‬ ‫َ‬ ‫َسـ َّـخ َر َل ُكـ ْـم َمــا فــي َّ َ‬ ‫َ‬ ‫السـ َـماو ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ات ومــا ِفــي ر ِ‬ ‫َْ ْ َ​َ‬ ‫َ ًَ َ​َ َ ً‬ ‫ً‬ ‫َّ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫هللا ِبغيـ ِـر ِعلـ ٍـم ول هــدى‬ ‫ـاس مــن يجـ ِـادل ِفــي ِ‬ ‫ظ ِاهــرة وب ِ‬ ‫اطنــة و ِمــن النـ ِ‬ ‫َ​َ َ‬ ‫ـاب ُم ِني ـ ٍـر)) [لقمــان‪ :‬اآليــة ‪ ]20‬وتلــك هــي أولــى خطــوات ب ــناء‬ ‫ول ِكتـ ٍ‬ ‫وقو ِتــه ووعيــه وعقلــه َّ‬ ‫اإلنســان (الدولـ ِـة) الــذي بســواعده َّ‬ ‫تؤسـ ُ‬ ‫ـس‬ ‫ِ‬

‫ ‬

‫من َّ‬ ‫ُ‬ ‫رات العربـ َّية‬ ‫الث ْو ِ‬ ‫الفراغ ِ‬ ‫لمي في َز ِ‬ ‫الع ُّ‬

‫العدد ‪ 2‬رجب ‪1439‬هـ‬

‫َ‬ ‫َ ُ َ َّ ُ ُ َ ْ ُ ْ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫وقاعدتهــا‬ ‫الدولــة‬ ‫وقيادتهــا (( قالــوا أنــى َيكــون لـ ُـه اللـ ُـك َعل ْي َنــا))‬ ‫َ‬ ‫ـص فيــه َ‬ ‫فــكان الجــواب‪َّ :‬إنــه اصطفــاء ُخـ َّ‬ ‫ذاك املصطفــى بعلـ ٍـم‬ ‫ْ ْ‬ ‫ًَ‬ ‫َ ُ َ‬ ‫َ َ َّ َ ْ َ َ‬ ‫اصطفـ ُـاه َعل ْيكـ ْـم َوز َاد ُه َب ْســطة ِفــي ال ِعلـ ِـم‬ ‫ـوة ((قــال ِإن هللا‬ ‫وقـ ٍ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫َّ‬ ‫َوال ِجسـ ِـم)) [البقــرة‪ ]247 :‬ومــن علـ ِـم طالــوت الــذي خــص بــه‬ ‫ُ‬ ‫التخطيــط العســكري وفـ ُّـن القيــادة واإلدارة(‪ ،)1‬فأي ــن تخصصــات‬ ‫َّ‬ ‫ـاص‬ ‫التعليــم كلهــا مــن إعــداد ِخطـ ٍـة شـ ٍ‬ ‫ـاملة لــكل مجـ ٍـال واختصـ ٍ‬ ‫َّ‬ ‫علميــا وت ـ ًّ‬ ‫ًّ‬ ‫ـربويا؟ وهــل كان لهــذه العلــوم‬ ‫لدعــم الثــورات‬ ‫وأســاتذتها ٌ‬ ‫دور َّ‬ ‫ـيس الدولــة؟ بــل‬ ‫فعــال فــي دحـ ِـر االسـ ِ‬ ‫ـتبداد وتأسـ ِ‬ ‫أي ً‬ ‫ـوام َّ‬ ‫معنــى لالســتخالف فــي األرض الــذي بــه يحلــم أقـ ٌ‬ ‫ُّ‬ ‫منــا إذا‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َّ‬ ‫ّ‬ ‫ـدو ي ــنازعه‬ ‫اتـ َـكأ الخليفــة (اإلنســان) علــى صناعـ ِـة واخت ـر ِاع عـ ٍ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ِخلفـ َـة األرض اتـ ً‬ ‫متخل ًفــا ال ُمســتخل ًفا أو إذا لــم يكــن‬ ‫ـكاء ُي َعـ ُّـد بــه‬ ‫ِ‬ ‫َِ‬ ‫َْ‬ ‫َّ‬ ‫ـتخلف علــى علــم ودرايــة بمسـ َ‬ ‫هــذا املسـ‬ ‫ـتوى (( َو َعلـ َـم َآد َم ال ْسـ َـم َاء‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫َ‬ ‫ُك َّل َهــا)) [البقــرة‪ :‬آيــة ‪َ ]31‬لي ْعــرف بهمــا كيــف يعمــر األرض ُ‬ ‫((هـ َـو‬ ‫َ ْ َ َ ُ ْ َ ْ َ ْ َ ْ َ ْ َ َِ ُ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ـدرك‬ ‫أنشــأكم ِمـ َـن الر ِ‬ ‫ض واســتعمركم ِفيهــا)) [هــود‪ :‬آيــة ‪ ]61‬وليـ ِ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ـات الت ــي‬ ‫ـات الصالحـ ِ‬ ‫بهمــا ماهيــة وأنــواع وأشــكال وضــروب ودرجـ ِ‬ ‫ُ‬ ‫َ َ َ ُ َّ‬ ‫ُ‬ ‫هللا ال ِذي ـ َـن َآم ُنــوا ِم ْنكـ ْـم َو َع ِملــوا‬ ‫تؤهلــه لالســتخالف املوعــود ((وعــد‬ ‫الص ِال َحـ ِ َ َ ْ َ ْ َ َّ ُ ْ‬ ‫َّ‬ ‫ْ َْ‬ ‫ض)) [النــور‪.]55 :‬‬ ‫ـات ليســتخ ِلفنهم ِفــي الر ِ‬ ‫َ ُ‬ ‫َ‬ ‫مقت�ضــى االســتخالف أن يكــون املســتخلف علــى علـ ٍـم‬ ‫وإذا كان‬ ‫بمــا تقــوم بــه األرض وجـ َـب البحـ ُـث فــي أمري ــن َّربمــا ال يكــون أحــدٌ‬ ‫ِ‬ ‫ً‬ ‫حقيقــا بالخالفــة بدونهمــا‪:‬‬ ‫ّ‬ ‫ـتخالف مــن أهــل اإليمـ ِـان الوعـ ُـي‬ ‫املتطلعي ــن لالسـ‬ ‫األول‪ :‬علــى‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬ ‫ـيعتها‬ ‫خلفوا فيهــا‬ ‫ِ‬ ‫وبحدودهــا وطب ـ ِ‬ ‫بمدلــو ِل األرض الت ــي اســت ِ‬ ‫ُ‬ ‫وكنوزهــا ومفات ــيحها وعناصرهــا ونشــأتها ّ‬ ‫وكل مــا عليهــا‪(( ،‬قـ ْـل‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ْ َْ َ ْ ُ ُ َ ِْ َ َ َ َ ْ َ ْ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ض فانظــروا كيــف بــدأ الخلــق)) [العنكبــوت‪]20 :‬‬ ‫ِس ْي ــروا ِفــي الر ِ‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫َو ِتل ُكـ ْـم فريضـ ٌـة تقت�ضــي ً‬ ‫علمــا وبحثــا وإحاطــة بقــارات األرض‬ ‫َ‬ ‫ـتخلف إعـ َ‬ ‫ـداد علمــاء باحثي ــن‬ ‫املكتشــفة كمــا تفــرض علــى املسـ‬ ‫ِ‬ ‫َّ‬ ‫كشــافة َّ‬ ‫رحالــة مــن أجــل البحــث عــن مناطــق يحتمــل أنهــا لــم‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫ُ‬ ‫ليبلغهــا الرســالة الت ــي صــار بهــا مســتخل ًفا فــي‬ ‫تكتشــف بعــد؛ ِ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ّ‬ ‫ـات يعمرهــا بهــا ـكـي‬ ‫األرض ِول ُيقـ ِـد َم لهــا مــا تحــت يـ ِـده ِمــن ِخدمـ ٍ‬ ‫َّ‬ ‫ـأي ً‬ ‫ّ‬ ‫معنــى ُي َسـ ِ ّـمي‬ ‫يصــدق عليــه ًأنــه خليفــة هللا فــي األرض‪ ،‬وإال فبـ ِ‬ ‫َ‬ ‫نفسـ ُـه خليفــة؟‬ ‫وهــذه الوظيفــة املنوطــة باالســتخالف هــي عي ــنها الت ــي َ‬ ‫حملــت‬ ‫علمــاء املسلمي ــن األمويي ــن األندلسيي ــن ثــم العثمانـيي ــن علــى‬

‫(‪ )1‬راغب السرجانـي‪ :‬العلم وبـناء األمم‪ ،‬دراسة تأصيلية لدور العلم في بـناء الدولة‪ ،‬مؤسسة اقرأ‪ ،‬القاهرة ‪2007‬م ط‪ ،1‬ص‪.76‬‬

‫‪54‬‬

‫َّ‬ ‫الضـ ْـرب فــي مشــارق األرض ومغاربهــا سـ ً‬ ‫ـعيا منهــم إلــى امتثــال أمـ ٍـر‬ ‫َ‬ ‫َ ْ‬ ‫َ َ َّ‬ ‫َ َُ‬ ‫ورد بأســلوب الخب ــر والبشــارة‪(( :‬ل َي ْبلغـ َّـن َهــذا ال ْمـ ُـر َمــا َبلــغ الل ْيـ ُـل‬ ‫هللا َه َذا ّ‬ ‫هللا َب ْي َت َم َدر َوَل َو َبر إ َّل َأ ْد َخ َل ُه ُ‬ ‫الن َه ُار‪َ ،‬وَل َي ْت ُر ُك ُ‬ ‫َو َّ‬ ‫الدي َـن‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬ ‫ْ َ‬ ‫ُ ًّ‬ ‫ّ َ َْ ُ ّ َ‬ ‫ًّ ُ ُّ ُ‬ ‫ال ْســا َم‪َ ،‬وذل ُيـ ِـذ ُّل‬ ‫ِب ِعـ ِـز ع ِز ْيـ ٍـز أو ِبــذ ِل ذ ِليـ ٍـل‪ِ ،‬عــزا ي ِعــز هللا ِبـ ِـه ِ‬ ‫ُ‬ ‫هللا بـ ِـه ال ُك ْفـ َـر))(‪ )2‬فـرأى أولــو األمــر مــن َّ‬ ‫الســلف أمـر ًاء وعلمــاء فــي‬ ‫ِ‬ ‫مثــل هــذه األحاديــث ً‬ ‫تكليفــا يفــرض عليهــم البحــث والتنقيــب عــن‬ ‫املعلــوم واملجهــول مــن األرض‪ ،‬فهــذا طــارق ب ــن زيــاد ي ــناجي َّربــه‬ ‫ِمــن ســواحل البحــار (اللهــم إنــك تعلــم أن ــي قــد بلغــت املجهــود‪،‬‬ ‫ولــو أن ــي أعلــم أن خلــف هــذا البحــر بـ ً‬ ‫ـادا لخضتهــا‪ ،‬أقاتــل فــي‬ ‫سب ــيلك‪ ،‬حتــى ال يبقــى علــى وجــه األرض مــن يكفــر بــك) َّ‬ ‫وأمــا ِمــن‬ ‫بعــد طــارق فمــا حالــت البحــار دون محاولتهــم اكتشــاف أمريــكا‬ ‫والقــارة القطب ــية الجنوب ــية‪ ،‬وأشــهرهم‪ :‬العالمــة البـيـرون ـ ّـي(‪،)3‬‬ ‫قبلـ ِـه خشـ ٌ‬ ‫ـخاش البحــر ّي يــوم أن أبحــر بسفي ــنته مــن‬ ‫ومــن ِ‬ ‫لشــبونة إلــى بحــر الظلمــات (املحيــط األطلنطــي) ســنة (‪235‬ه ـ‬ ‫ً‬ ‫‪850‬م)‪ ،‬فاكتشــف هنــاك جزي ــرة عامــرة بالســكان‪ ،‬ثــم عــاد منهــا‬ ‫بهدايــا َّ‬ ‫قدمهــا لحاكــم األندلــس عبــد الرحمــن الثان ــي‪ ،‬فكافــأه‬ ‫األمي ــر بتعيي ــنه أمي ـ ًـرا للبحريــة اإلســامية‪ ،‬ثــم تتابــع الكشــف‬ ‫علــى يــد ُعصبــة مــن عــرب املغــرب ثــم فريــق مــن الفت ــية َّ‬ ‫املغرري ــن‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬ ‫الذي ــن َّ‬ ‫َّ‬ ‫تقدمــوا علــى غي ــرهم كالغــر ِة وعــادوا إلــى لشــبونة‪ ،‬فاحتفــى‬ ‫بهــم أهــل األندلــس أواخــر القــرن العاشــر امليــادي(‪ ،)4‬وعندمــا‬ ‫تحـ َّـدث كريســتوفر كولومبــوس عــن الهنــود الحمــر فــي أمريــكا‬ ‫قــال‪َّ :‬إنــه كان يعتقــد أنهــم مــن ســالة العــرب الذي ــن ســبقوه(‪،)5‬‬ ‫وممــا يب ــرهن علــى ذلــك خرائــط البحــارة العثمان ـ ّـي بـي ــري ريــس فــي‬ ‫القــرن الخامــس عشــر امليــادي‪ ،‬وتاريـ ُـخ رســمها املـ َّ‬ ‫ـدون فيهــا ُيثبــت‬ ‫ِ‬ ‫َ​َ‬ ‫َّ‬ ‫أنــه أتـ َّـم رسـ َـمها قبــل كولومبــوس بثالثـ ِـة عقــود‪ ،‬بــل إن فــي خرائطــه‬ ‫خريطــة تفصيليــة للقــارة القطب ــية الجنوب ــية الت ــي تعــرف بقــارة‬ ‫ً‬ ‫أنتـركت ــيكا وتضاريســها‪ ،‬وأثبتـ ْـت صــور األقمــار الصناعيــة حديثــا‬ ‫ُ‬ ‫ـلف َّ‬ ‫األمــة‬ ‫دقــة هــذه الخرائــط(‪ ،)6‬أليــس هــذا الــذي ســعى إليــه سـ‬

‫ ‬

‫العدد ‪ 2‬رجب ‪1439‬هـ‬

‫أمـر ًاء وعلمـ َـاء هــو االمتثـ َ‬ ‫ـال العلمـ َّـي العملـ َّـي لتحقيــق بشــارة رســول‬ ‫ّ‬ ‫واالتبـ َ‬ ‫ـاع‬ ‫هللا صلــى هللا عليــه وســلم‬ ‫وتمثيلـ ِـه فــي مقــام الخالفــة‪ِ ،‬‬ ‫ِ‬ ‫ْ‬ ‫األقـ َـو َم لقولــه تعالــى‪َ (( :‬و ُأوحـ َـي إ َلـ َّـي َهـ َـذا ْال ُقـ ْـر ُ‬ ‫آن ُل ْنذ َر ُكـ ْـم بــه َو َمــنْ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ​ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫َ​َ‬ ‫َبلــغ)) [األنعــام‪ :‬آيــة ‪ ]19‬وهــي تحتمــل العطــف علــى املنـ ِـذر أو‬ ‫َ َ‬ ‫َ َ َّ ُ ْ ُ َ َ‬ ‫َ‬ ‫(حـ ٌّـق َعلــى َمـ ِـن َّات َبـ َـع‬ ‫ـس‪:‬‬ ‫املنــذر‪ ،‬ففــي َّهــذه اآليـ َـة قــال َّالرِب َيــع بــن أنـ َ ٍَّ‬ ‫ُ َ‬ ‫َ َ ُ ُ‬ ‫ُ َ ْ َ َ َ ْ َْ َُ‬ ‫َ‬ ‫هللا‬ ‫هللا صلــى هللا عليـ ِـه وســلم أن يدعــو كالـ ِـذي دعــا َرســول ِ‬ ‫َرســول ِ‬ ‫َّ َ‬ ‫ُ َ‬ ‫َ َّ َ ْ َ‬ ‫َ َّ‬ ‫َ َ َ‬ ‫وعـ ْـن ق َتـ َـادة ِفــي‬ ‫هللا َعل ْيـ ِـه َو َســل َم‪َ ،‬وأ ْن ُي ْنـ ِـذ َر كالـ ِـذي أنــذ َر)‪،‬‬ ‫صلــى‬ ‫ُ َ‬ ‫ْ َُ‬ ‫َ َّ‬ ‫َ َ ْ َ​َ َ‬ ‫َّ ُ َ‬ ‫َْ‬ ‫هللا َعل ْيـ ِـه‬ ‫صلــى‬ ‫هللا‬ ‫قوِلـ ِـه‪(( :‬ألن ِذركـ ْـم ِبـ ِـه ومــن بلــغ))‪(ِ :‬إن َرســول ِ‬ ‫َ​َ‬ ‫َ َ ْ َ​َ َْ ُ َ ٌ ْ َ‬ ‫َو َسـ َّـل َم َقـ َ َ ّ ُ َ‬ ‫هللا فقـ ْـد‬ ‫ـاب ِ‬ ‫ـال‪(( :‬ب ِلغــوا عـ ِـن ِ‬ ‫هللا)) فمــن بلغتــه آيــة ِمــن ِكتـ ِ‬ ‫َ​َ َ ْ‬ ‫هللا)(‪.)7‬‬ ‫بلغــه أمـ ُـر ِ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫يؤمـ ُـل االســتخالف فــي األرض مــا‬ ‫الثان ــي‪ :‬أن يكــون للمؤمـ ِـن الــذي ِ‬ ‫ودرء‬ ‫ألهلهــا ِ‬ ‫يؤهلــه لعمــارة األرض بالصالحـ ِ‬ ‫ـات بجلـ ِـب املصالـ ِـح ِ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫املفاســد عنهــم (( َو َعـ َـد ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫هللا َّال ِذي ـ َـن َآمنــوا منكـ ْـم وعملــوا َّ‬ ‫ـات‬ ‫الص ِالحـ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َ َ ْ َ ْ َ َّ ُ ْ ْ َ‬ ‫ْ‬ ‫ض )) والــذي يؤهلــه لعمارتهــا أم ـران‪ ،‬أولهمــا‬ ‫ليســتخ ِلفنهم ِفــي الر ِ‬ ‫أصــل وثان ــيهما بــدل‪:‬‬ ‫َ ُ‬ ‫ُ َ َ َّ َ ْ َ َ‬ ‫اصطفـ ُـاه َعل ْيكـ ْـم‬ ‫أولهمــا‪ :‬العلـ ُـم والتعليـ ُـم والقــوة (( قــال ِإن هللا‬ ‫َ​َ َُ َ ْ َ‬ ‫ـط ًة فــي ْالع ْلــم َو ْالج ْســم)) [البقــرة‪ :‬آيــة ‪َ (( ]247‬و َد ُاو َ‬ ‫ود‬ ‫وزاده بسـ ِ ِ ِ ِ ِ‬ ‫ْ‬ ‫َ ُ ََْ َ ْ ُ‬ ‫َ‬ ‫ْ َ​َ َ‬ ‫َْ‬ ‫ان ِإذ َي ْحك َمـ ِـان ِفــي ال َحـ ْـر ِث ِإذ نفشـ ْـت ِفيـ ِـه غ َنـ ُـم القـ ْـو ِم‬ ‫وســليم‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫َ َ َّ ْ َ َ ُ َ ْ َ َ َ ُ ًّ َ ْ َ ُ ًْ‬ ‫َ‬ ‫َوك َّنــا ِل ُحك ِم ِهـ ْـم ش ِاه ِدي ـ َـن (‪ )78‬ففهمناهــا ســليمان وكل آتينــا حكمــا‬ ‫َ​َ​َ ْ ََْ َ ُ َ َ ُ َْ َ َ ْ‬ ‫ْ‬ ‫ان ِعل ًما))‬ ‫َو ِعل ًما)) [األنبـياء‪ :‬آية ‪ (( ]79 ،78‬ولقد آتينا داوود وسليم‬ ‫((و َو َث ُسـ َـل ْي َم ُ‬ ‫ان َد ُاو َ‬ ‫ود)) [النمــل‪ :‬آيــة ‪.]16‬‬ ‫[النمــل‪ :‬آيــة ‪ِ َ ]15‬ر‬ ‫ثان ــيهما‪ :‬أن يستعي ــن بأهــل العلــم والقـ َّـو ِة املختصي ــن فــي كل فـ ٍ ّـن‬ ‫َّ‬ ‫ّ‬ ‫وييهـ َـئ َّ‬ ‫لرعيتــه أن تتعلــم مــن ذلــك مــا تعمــر بــه األرض ومــا يجعلــه‬ ‫ِ‬ ‫َ​َ‬ ‫جدي ـ ًـرا باالســتخالف بمعنــاه األتـ ِ ّـم األكمــل‪ ،‬قــال اب ــن القيــم‪( :‬ذكـ َـر‬ ‫َ‬ ‫َ َ‬ ‫ً‬ ‫َّ‬ ‫مالــك ِفــي ُم َوط ِئـ ِـه َعـ ْـن َزْيـ ِـد ْبـ ِـن أ ْســل َم‪(( :‬أ َّن َر ُجــا ِفــي َز َمـ ِـان َر ُســو ِل‬ ‫ُ َ َ ْ َ َ َّ َ َ َ َ ُ ُ ْ ٌ َ ْ َ ْ‬ ‫َ َّ‬ ‫اح َتقـ َـن ال ُجـ ْـر ُح الـ َّـد َم‪،‬‬ ‫صلــى هللا عليـ ِـه وســلم أصابــه جــرح‪ ،‬ف‬ ‫هللا‬ ‫ِ‬ ‫الر ُجـ َـل َد َعــا َر ُج َل ْيــن مـ ْـن َبن ــي َأ ْن َمـ َـار‪َ ،‬ف َن َظـ َـرا إ َل ْيــه‪َ ،‬ف َز َع َمــا َأنَّ‬ ‫َو َأنَّ‬ ‫َّ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ ِ ِ‬ ‫ص َّلــى ُ‬ ‫َر ُســو َل هللا َ‬ ‫ـال َل ُه َمــا‪َ :‬أ ُّي ُك َمــا َأ َطـ ُّـب؟ َف َقــال‪َ:‬‬ ‫هللا َع َل ْيـ ِـه َو َسـ َّـل َم َقـ َ‬ ‫ِ‬

‫(‪ )2‬أحمد بـن حنبل‪ :‬املسند‪ ،‬تح‪ :‬شعيب األرنؤوط وآخرون‪ ،‬مؤسسة الرسالة‪ ،‬ط‪ 1421 ،1‬هـ ‪ 2001 -‬م‪ )154 /28( ،‬رقم ‪ ،16957‬إسناده صحيح على شرط مسلم‪.‬‬ ‫(‪ )3‬راغــب السرجان ــي‪ :‬العلــم وب ــناء األمــم‪ ،‬مرجــع ســابق‪ ،‬ص‪ ،155‬ي ــنظر‪ :‬األب أنســتاس الكرملــي البغــدادي‪ :‬عــرف العــرب أمريــكا قبــل أن يعرفهــا أب ــناء الغــرب‪ ،‬مجلــة املقتطــف‪ ،‬العــدد الثان ــي‪ ،‬املجلــد ‪ ،106‬دولــت حســن‬ ‫الصغي ــر‪ :‬اقتحــم العــرب املحيــط قبــل أن يقتحمــه كوملبــس‪ ،‬مجلــة الرســالة‪ ،‬مصــر‪ ،‬العــدد(‪. )612‬‬ ‫ُ‬ ‫(‪ )4‬علي بـن الحسيـن املسعودي‪ :‬مروج الذهب ومعادن الجواهر‪ ،‬تح‪ :‬يوسف أسعد داغر‪ ،‬دار النشر‪ :‬مؤسسة دار الهجرة‪ ،‬ق ْم‪1409 ،‬هـ ‪.135/1‬‬ ‫(‪ )5‬راغب السرجانـي‪ :‬العلم وبـناء األمم‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.157‬‬ ‫(‪( https://www.turkpress.co/node/14112 )6‬املستكشف التـركي بـيـري ريس عالم البحر والحرب)‬ ‫(‪ )7‬أبو الفداء إسماعيل بـن عمر بـن كثيـر‪ :‬تفسيـر القرآن العظيم‪ ،‬تح‪ :‬محمد حسيـن شمس الديـن‪ ،‬دار الكتب العلمية‪ ،‬بـيـروت‪ ،‬ط‪1419 1‬ه (‪.)245 /3‬‬ ‫(‪ )8‬زاد املعاد في هدي خيـر العباد‪ :‬محمد بـن أبـي بكر شمس الديـن ابـن قيم الجوزية‪ ،‬مؤسسة الرسالة بـيـروت‪ ،‬مكتبة املنار اإلسالمية الكويت‪ ،‬ط‪1415 ،27‬هـ ‪1994/‬م‪.121/4 ،‬‬ ‫(‪ )9‬أحمد بـن حنبل‪ :‬املسند‪ ،‬مرجع سابق‪ )46 /45( ،‬رقم الحديث (‪.)26450 ،27095‬‬

‫‪55‬‬


‫من َّ‬ ‫ُ‬ ‫رات العربـ َّية‬ ‫الث ْو ِ‬ ‫الفراغ ِ‬ ‫لمي في َز ِ‬ ‫الع ُّ‬ ‫َّ َ‬ ‫َ​َ َ َ‬ ‫َأ َو فــي ّ َ ْ َ ُ َ‬ ‫ـال‪ :‬أ ْنـ َـز َل الـ َّـد َو َاء الـ ِـذي أ ْنـ َـز َل‬ ‫هللا؟ فقـ‬ ‫الطـ ِ ّـب خيـ ٌـر يــا َرســول ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫الـ َّـداء)) ففــي هــذا الحديــث أنــه ي ــنبغي االســتعانة فــي كل علــم‬ ‫وصناعــة بأحــذق مــن فيهــا فاألحــذق؛ َّ‬ ‫(‪)8‬‬ ‫فإنــه إلــى اإلصابــة أقــرب)‬ ‫ورى اإلمــام أحمــد أن النب ــي صلــى هللا عليــه وســلم قــال للشــفاء‬ ‫ّ‬ ‫َ َ‬ ‫(عل ْ‬ ‫ميهــا حفصــة ك َمــا‬ ‫ب ــنت عبــد هللا وهــي عاملــة طب ــيبة يومئـ ٍـذ‪ِ :‬‬ ‫َع َّل ْم ِت َيهــا ْال ِك َت َابـ َـة)(‪ ،)9‬فـ ُّ‬ ‫ـأي مؤمــن يحلــم بوعـ ِـد هللا باالســتخالف‬ ‫َّ‬ ‫ـات فقــد‬ ‫ـتكم ْل هــذه الصالحـ ِ‬ ‫وبب ــناء أمـ ٍـة أو نهضـ ٍـة أو دولـ ٍـة ولــم يسـ ِ‬ ‫َ ُّ ْ َ َ‬ ‫أبعــد النجعــة‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫ًإذا ال مـ َـر َاء َّ‬ ‫أن أســاس الدولــة وأ َّســها العلـ ُـم والبحــث والتعليـ ُـم‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬ ‫َّ‬ ‫والتـرب ــية والقــوة بمعناهــا الشــامل للقضايــا املاديــة واملعنويــة‬ ‫َّ‬ ‫الثـ ّ‬ ‫ـوري املأمــول‬ ‫واالقتصاديــة وغي ــرها‪ ،‬وهــذا هــو جوهــر التغيي ــر‬ ‫والخيــار البديــل إلســقاط االســتبداد والعصب ــية والعصابــات‬ ‫وتحري ــر البشــرية مــن اســتعباد الفــرس والـ ُّـروم ُ‬ ‫الجـ ُـدد ً‬ ‫معــا‪.‬‬ ‫َ‬ ‫لقــد ســبق الســفر ُاء تشــريف الرســول صلــى هللا عليــه وســلم‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫معلمي ــن‬ ‫للمدي ــنة وتأسيســه قاعــدة األمـ ِـة بسنـي ــن ليكونــوا ِ‬ ‫مربي ــن‪َّ ،‬‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫وصحبــه لب ــناء إنسـ ٍـان‬ ‫تقد َمـ ُـه هــؤالء املعلمــون مصعـ ٌـب‬ ‫ِ‬ ‫َّ‬ ‫ـدة ألمـ ٍـة‬ ‫ـية متـي ـ ٍ‬ ‫يحكمــه الوعــي ال العصب ــية ولتأســيس بـن ـ ٍ‬ ‫ـنة وقاعـ ٍ‬ ‫َّ‬ ‫َُ‬ ‫َّ‬ ‫ودولـ ٍـة تنتصــب علــى قوائـ ِـم مجتمـ ٍـع مســل ٍح بالعلــم‪ ،‬يؤهــل ألن‬ ‫يقــود األمــم وال يقــاد كالغنــم لعصابــات الجاهليي ــن وعصب ــيتهم‬ ‫َّ‬ ‫الجاهليــة‪ ،‬ثــم إنــه مــا ْ‬ ‫إن شـ َّـرف النب ــي صلــى هللا عليــه وســلم‬ ‫املدي ــنة حتــى شــرع فــي ب ــناء املســجد وغــدا املؤسســة التعليميــة‬ ‫ـناء‬ ‫األولــى يومئـ ٍـذ‪ ،‬فــكان أهـ ُّـم مــا امتــاز بــه الدي ــن الجديــد فــي ب ـ ِ‬ ‫ُ َّ‬ ‫ـئة ودولـ ٍـة مدن ـ َّـي ٍة لــم ولــن تدنــس بهرطقــات الكهنوت ــية‬ ‫أمـ ٍـة ناشـ ٍ‬ ‫َّ‬ ‫الكنسـ َّـية أو الفارسـ َّـية؛ أنــه قــام علــى العلــم والتعليــم وصناعــة‬ ‫الوعــي واالنســاخ مــن ظلمــات الوهــم إلــى أنــوار الحقيقــة‬ ‫ّ‬ ‫ـؤرخ اإلنجليــزي ويلــز‪( :‬اإلســام هــو‬ ‫والعقــل والعلــم‪ ،‬يقــول املـ ِ‬ ‫َ‬ ‫املدن ـ َّـية‪ ،‬ومــن أراد الدليــل فليقــرأ القــرآن ومــا فيــه مــن نظــرات‬ ‫ومناهــج علميــة وقوانـي ــن اجتماعيــة)(‪.)10‬‬

‫املبحث الثانـي‬

‫َّ‬ ‫الواقــع املنظــور واملتوقــع املأمــول للتعليــم فــي الثــورة‬ ‫ّ‬ ‫يغذيــه املســتبد‬ ‫كان التعليــم قبــل الثــورات ومــا ي ـزال‪ ،‬لكنــه تعليــم ِ‬ ‫(‪ )10‬عبد املنعم النمر‪ :‬اإلسالم واملبادئ املستوردة‪ ،‬القاهرة‪ ،‬دار الشروق ‪ ،1981‬ص‪.84‬‬ ‫(‪http://www.aljazeera.net )11‬‬

‫ ‬

‫من َّ‬ ‫ُ‬ ‫رات العربـ َّية‬ ‫الث ْو ِ‬ ‫الفراغ ِ‬ ‫لمي في َز ِ‬ ‫الع ُّ‬

‫العدد ‪ 2‬رجب ‪1439‬هـ‬

‫بعقيدتــه َّ‬ ‫السرطان ــية وبفلســفة القائــد األوحــد‪َ ،‬وي ْم َسـ ُـخ جوهـ َـر ُه‬ ‫ُ‬ ‫ً‬ ‫َُْ‬ ‫أحيانــا مــن خــال َ‬ ‫رصـ ِـه وميزان ــيته‬ ‫العبـ ِـث‬ ‫بمناهجـ ِـه وبني ِتــه وف ِ‬ ‫ِ‬ ‫قيت ال تحكمه ضوابط تـربوية ِص ْرفة‪،‬‬ ‫نحو َم ٍ‬ ‫وبالقائميـن عليه على ٍ‬ ‫وال يختلــف مــن هــذه َّ‬ ‫ُ‬ ‫الزاويـ ِـة تعليــم دولـ ِـة اإلرهــاب عــن تعليــم تنظيــم‬ ‫ِ‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫ّ‬ ‫ْ‬ ‫ـات املؤطـ ِـرة ب ــرؤى منغلقــة أو املســي ِرة‬ ‫الدولــة وال ِعر ِق ِيي ــن والجماعـ ِ‬ ‫َّ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫عــن بعــد أو الت ــي ت ــرى َ‬ ‫نفســها هــي األمــة والدولــة واملدن ــية ومــن ســواها‬ ‫ً‬ ‫رعاعــا‪ ،‬وإذا مــا ُمســت مصالحهــا بســوء لــم تبـ ِـال بالعلــم وأدب ـ َّـياته‬ ‫َ‬ ‫ودأبـ ْـت تسـ ُ‬ ‫ـوم الوطـ َـن واألمــة ســوء املؤامــرة والخ ـراب باســتغاللها‬ ‫َ‬ ‫التعليـ َـم وجيشــه املب ــرمج‪.‬‬ ‫املطلــب األول‪ :‬الواقــع املنظــور للتعليــم فــي الثــورة‬ ‫ُ َّ ّ‬ ‫نقلب األوراق ونستنطق التـربوييـن ونستذكر التاريخ منذ عام‬ ‫هلم ِ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫‪2011‬م‪ :‬لقــد كان مــن املالحــظ يــوم أن قامــت الثــورات أن خريطــة‬ ‫فمـ ْـن أكث ــر‬ ‫املظاهـرات ضــد االســتبداد رســمها املثقفــون ال األميــون‪ِ ،‬‬ ‫َ‬ ‫َ ْ‬ ‫ّ‬ ‫الخريجــون‪،‬‬ ‫مــن دعــا وشــارك واستبســل هــم طــاب الجامعــات أو ِ‬ ‫لكن هل يمكن القول بأن هذه الصفوة أخطأت القياس والتقديـر‬ ‫َ َ ْ‬ ‫أيام أو أسابـيع وتسقط األنظمة‬ ‫وحدست أنها ليست سوى بضعة ٍ‬ ‫عودة ويعودون إلى مقاعد الدراســة أو التدريس؟‬ ‫وأقنعتها ِ‬ ‫لألبد بال ٍ‬ ‫وإذا فرضنــا أنهــم َّ‬ ‫فوهمــوا فــي التقييــم فهــل أخطــؤوا التقويــم‬ ‫خمنــوا ِ‬ ‫ً‬ ‫أيضــا؟ ومــاذا دهاهــم عندمــا رأوا أنــه قيــاس مــع الفــارق وأن أيــام‬ ‫َ‬ ‫املســتبد تطــول وتســتطيل؟! ِلـ َـم لـ ْـم يجعلوهــا ثــورة علــى الجهــل‬ ‫ومصالح الجهلة الجاهلييـن املؤيديـن لالستبداد؟ أعنـي كيف غفل‬ ‫َ‬ ‫ـئة‬ ‫كثي ــرون منهــم عــن هــذا ومــا عــادوا للتعليــم وال قــدروا تعليــم الناشـ ِ‬ ‫قـ ْـد َر ُه وهــم أعــرف النــاس بــأن الجهــل هــو د ْم َنـ ُـة االســتبداد ُ‬ ‫وسـ ْـف َع ُته‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫فمنــذ أن قامــت الثــورة املصريــة كتــب تومــاس فريدمــان (الخطــوة‬ ‫الثان ــية الت ــي قــد تعــزز قــوة الشــباب العرب ــي بعــد الثــورات قــد تكــون‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫الثــورة التعليميــة الت ــي قــد تيهــئ لهــم فــرص العمــل)‪ ،‬وتحــدث عــن‬ ‫مبــادرة تدريــب معلمــي املــدارس علــى تعليــم التفكي ــر الخــاق وحــل‬ ‫املشــكالت فــي الفصــول الدراســية بــاألردن فقــال‪( :‬إن ذلــك ســيكون‬ ‫رب ـ ً‬ ‫ًّ‬ ‫حقيقيــا‪ ،‬وإن الثــورات العرب ــية ربمــا ال تنجــح فــي خلــع‬ ‫ـيعا عرب ـ ًّـيا‬ ‫الحكام املستبديـن بدون تمكيـن الجيل الجديد من الشباب العرب‬ ‫بهــذا النــوع مــن الثــورة فــي التعليــم‪ ،‬فالثــورات لــن تعـ ّ ِـزز بــأي‬ ‫َ‬ ‫حــال مــن األحــوال قــوة الجيــل الجديــد فــي ظــل غيــاب الثــورة فــي‬ ‫َّ َ‬ ‫ّ‬ ‫التعليــم)(‪َ )11‬ومـ ْـن للثـ َـو ِار أ َّنــه إن انقشــعت ظلمــات هــذا املســتبد أل‬ ‫‪56‬‬

‫يأت ــي جيــل الجهــل بمســتبد أدهــى وأعتــى ْ‬ ‫وإن بالطــرق الديمقراطيــة؛‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫ـوت جاهــل‬ ‫فــإن مــن عيوبهــا مســاواة صـ ٍ‬ ‫ـوت ثمنــه رغيــف خبــز أو صـ ِ‬ ‫ـوت أعلــى النــاس‬ ‫خانــع قابــع بــل قانــع بســطوة املســتبد عابـ ٍـد لــه بصـ ِ‬ ‫علمــا ونزاهـ ًـة وح َّريـ ًـة فــي الفكــر وال ـرأي؟! ومــن َ‬ ‫ً‬ ‫أدرى هــؤالء الصفــوة‬ ‫الجامعيي ــن أنــه ‪ -‬فــي غفلـ ٍـة منهــم وليــس ببعيــد عــن ضــروب هــذا‬ ‫الجاهل ‪َ -‬ت َك َاث َر ٌ‬ ‫أناس على ِضفاف الثورة مسخوا التعليم وناصبوا‬ ‫َ​َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ َ‬ ‫س‬ ‫العرب ــية العداء وحالفوا‬ ‫األعداء‪ ،‬وآخرون ابت ِسروا في‬ ‫ِ‬ ‫كهوف غل ٍ‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫إيمانهــم ورســالة فــي‬ ‫ال ي ــرون فيهــا العلــم إال ورقــة تســرد نواقــض ِ‬ ‫عقيدة مذهبـية‪ ،‬وبهما يغدو تحريـر الشام واليمن والقدس وأراكان‬ ‫َ‬ ‫كلمــح البصــر أو هــو أقــرب‪ ،‬بــل بهمــا ســيفتحون العالــم بغــزوات‬ ‫َّ َ َ ُّ َ ُ ْ َ ْ َ‬ ‫اسـ َـتط ْع ُت ْم ِمـ ْـن‬ ‫ـاح‪ ...‬وأمــا (( وأ ِعــدوا لهــم مــا‬ ‫ُمباركــة‪ ،‬فهمــا أم�ضــى سـ ٍ‬ ‫ُّ‬ ‫َّ‬ ‫ـداع فــي صناعــة‬ ‫قــو ٍة)) [األنفــال‪ :‬آيــة ‪ ]60‬فــا تحفزهــم لتعلـ ٍ ًـم أو إبـ ٍ‬ ‫ُ ْ‬ ‫بعلم العدو‬ ‫سالح أو اخت ـراع في تقن ــيات حرب ــية م ِعينة مثل بل إنهم ِ‬ ‫َ‬ ‫ـرجل يقتــل‬ ‫وصناع ِتــه وســاحه ســيقاتلون وي ــنتصرون‪ ،‬ومــن لــك ب ـ ٍ‬ ‫عدوه بسالحه فهل ثمة أشجع منه! َّ‬ ‫َّ‬ ‫وكأن عيـن الشاعر الهراوي لم تقع‬ ‫َ‬ ‫على من هو جدي ــر باملديح سواه‪ ،‬فأشبعه إطر ًاء حتى جعل منه ُه ْزأة‪:‬‬ ‫َّ‬ ‫ـرب بغي ــر حســام‬ ‫وأخــو الجهالــة فــي الحيــاة كأنــه سـ ٍـاع إلــى حـ ٍ‬

‫املطلب الثانـي‪ :‬املستقبل التعليمي من زاوية‬ ‫الواقع في هذه الفتـرة‬ ‫َ‬ ‫فــي ضــوء محـ ِّـد َدات مشــكلة البحــث املطروحـ ِـة يتب ـ َّـين َّأن املعضلــة‬ ‫ٌ‬ ‫موضـ َ‬ ‫بوية ال تعليميــة فحســب‪ ،‬فلهيـ ُـب ُأوارهــا يسـ ُ‬ ‫ـفع‬ ‫ـوع البحـ ِـث ت ـر‬ ‫ّ‬ ‫ـف وقاعـ ٍـة َد ْر ِسـ َّـية‪ ،‬وال َي ِه َمـ َّـن واهـ ٌـم َّأن‬ ‫ـدان وصـ ٍ‬ ‫ـص وميـ ٍ‬ ‫كل تخصـ ٍ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫الب ــيت وحـ َـده «رغــم َّ‬ ‫أهميتــه» يصـ ِـوب مــا ت ِلقنــه املدرســة للطفــل؛‬ ‫صوابــا ًّ‬ ‫فـ َّ‬ ‫ً‬ ‫ـإن أحـ ًـدا ال يجهــل َّأن الطفــل يــكاد ال ي ــرى‬ ‫وحقــا فــي �شــيء‬ ‫َ ُ ُْ ُ‬ ‫يقــال لــه مــا لــم يطابـ ْـق مــا قيــل لــه فــي املدرســة‪ ،‬وعليــه؛ ف َهــاؤ ُم انظـ ْـر‬ ‫بعي ــن حصيــف ثــم أجـ ْـب إن وجــدت للــكالم ً‬ ‫منزعــا‪ :‬هــل ّ‬ ‫تخيلـ َـت ً‬ ‫يومــا‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬ ‫َّ ُ ْ ّ‬ ‫ُ‬ ‫َّ‬ ‫ُ‬ ‫معلمون‬ ‫ٍ‬ ‫عصابات كدستهم أنظمة االستبداد أو االحتالل على أنهم ِ‬ ‫ْ‬ ‫َّ‬ ‫ُ‬ ‫بعدمــا ُمنحــوا بـي ــن غســق الليــل وســدف ِت ِه بطــر ٍق شــتى شــهادات ال‬ ‫ُ َّ‬ ‫تبلــغ قيمــة املــداد الــذي خطــت بــه‪ ،‬فــإذا بأروقة الجامعــات واملدارس‬ ‫ُْ‬ ‫ّ‬ ‫فــي وطنــك ّ‬ ‫األم تغـ ّ‬ ‫الصادي ــن عــن سب ــيل العلــم‪،‬‬ ‫ـص بهــؤالء ال ْر ِج ِف ْيـ َـن‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫املعوقي ــن امل ِثبطي ــن‬ ‫وتســتغيث بالعلــم وأ َربابــه‪ ،‬ومــن ســموم أولئــك ِ‬ ‫َ َ‬ ‫تســتعيذ وتستجي ــر؟ أ َت َ‬ ‫ـيد الق َتلــة علــى منصــات‬ ‫صـ َّـورت هــؤالء العب ـ‬ ‫التعليــم ي ـ ُّربون أب ـ َ‬ ‫ـناءك بعدمــا عــادوا إلــى مدارســهم أو جامعاتهــم فــي‬

‫ ‬

‫العدد ‪ 2‬رجب ‪1439‬هـ‬

‫ّ‬ ‫ُّ‬ ‫يعلـ َـم أولئــك أحفـ َـاد َك‪ ،‬وعــام تظـ ُّـن أن‬ ‫وطنهــم األ ِم؟ مــاذا ع�ســى أن ِ‬ ‫ي ـربوهم وي ــنشئوهم؟ ال أحســبك نســيت أن املثــل األعلــى بــل الــرب‬ ‫األعلــى لقــوم فرعــون هــو هــو معبــود هــؤالء! أت ـراك نســيت مقالتــه‬ ‫َ‬ ‫ُ ُ َّ‬ ‫(( َقـ َ‬ ‫ـال ِف ْر َعـ ْـو ُن َمــا أ ِريكـ ْـم ِإل َمــا أ َرى)) [غافــر‪ :‬آيــة ‪ ]29‬فلئــن غـ ِـرق‬ ‫فرعــون وســقط حكمــه فــإن مــن ورائــه فراعنــة ال ي ــرون إال مــا َيــرى‬ ‫هذا املستبد‪ ،‬وهم إن لم يحكموا الرقاب واألشباح فإنهم يحكمون‬ ‫ويفســدون األرواح باعتالئهــم منصــات التعليــم ليســتأنف‬ ‫العقــول‪ِ ،‬‬ ‫َح َف َد ُتــك مسي ــرة الخنــوع والعبوديــة لسـ ّ‬ ‫ـتبد آخــر يصنعــه هــذا‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫الفراغ‪َ ،‬‬ ‫فبعد قمع الثورات املناهضة للفرنسييـن في الريف املغربـي‬ ‫َ‬ ‫استدعى قائد الحملة املسؤول عن التعليم وقال له‪ :‬لقد أخضعنا‬ ‫لكــم األبــدان‪ ،‬وقضي ــنا علــى مقاومــة الشــعب‪ ،‬فعليكــم إخضــاع‬ ‫العقــول عــن طريــق التعليــم(‪.)12‬‬ ‫َ‬ ‫أتـ َـرى هــذا الوطــن قـ َّـد َم كل مــا ت ــرى مــن شــهداء وتضحيــات ليعتلـ َـي‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ـتبداد مناب ــر العلــم والتـرب ــية ويحتكــروا تـرب ــية أب ــنائك‬ ‫عب ــيد االسـ ِ‬ ‫وتعليمهــم وهــا أنـ َـت مــا زلــت ُتقســم أن َت َبقــى أنــت وأوالدك اليـ َ‬ ‫ـوم‬ ‫ُّ‬ ‫ـروش مــن هنــاك‪،‬‬ ‫أ ِميي ــن لتنفقــوا العمــر فــي كســب لي ـ ٍـرة مــن هنــا أو قـ َ ٍ‬ ‫وتعــودوا غـ ًـدا بعقـ ٍـل خـ ٍـاو وجيـ ٍـب مــآن‪ ،‬بـي ــنما قــد ســطا أولئــك علــى‬ ‫ٌ‬ ‫ً َّ ٌ‬ ‫عــروش العلــم ومراكــز بحوثــه ومختب ـراته؟؟! تلــك إذا كـ َّـرة خاســرة‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ـوم اشت ــروا‬ ‫وســوق بائــرة ال رواج لهــا وال نفــاق! فمــا ربحــت تجــارة قـ ٍ‬ ‫َ‬ ‫الجهالــة بالعلــم والتعليــم‪.‬‬ ‫ّ ً‬ ‫عمــال‬ ‫وبـي ــنما يستحسـ ُـن هــؤالء اآلبــاء فــي أب ــنائهم أن ي ــروا فيهــم‬ ‫مجهودي ــن ُجبـ ًـاة للمــال وإن عاشــوا وماتــوا ّ‬ ‫أميي ـ َـن‪ ،‬وي ــرى الذي ــن‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َ ْ‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫َّ‬ ‫ً‬ ‫َ‬ ‫عسكروا الثورات أسيـر الحرب مغنما وكنزا ثميـنا‪ ،‬وجدنا أن النبـي‬ ‫ـدر مــا هــو أثمــن مــن الفــداء‬ ‫صلــى هللا عليــه وســلم رأى فــي أســرى بـ ٍ‬ ‫َ‬ ‫ًّ‬ ‫ـداء أسي ــرها مــاال جمــا‪،‬‬ ‫باملــال‪ ،‬ولــو شــاء ألخــذ مــن كل قب ــيلة علــى فـ ِ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫يعلــم األســرى القــرءاة والكتابــة ألطفـ ِـال الصحابــة‬ ‫لكنــه اكتفــى بــأن ِ‬ ‫ً‬ ‫ثمنــا للح َّريــة‪ ،‬ولــو شــاء لقــال‪ :‬إن دولتنــا وليــدة ناشــئة وأمــوال‬ ‫مواطنـيها مصادرة فاملال ُّ‬ ‫أهم من محو األمية ملجموعة من األطفال‬ ‫ال ســيما أننــا علــى أبــواب تأســيس دولــة قويــة‪ ،‬لكنــه َّ‬ ‫التعليــم الــذي بــه‬ ‫ٍ‬ ‫َّ‬ ‫تقــوم الدولــة وعليــه ت ـرتفع رايــة األمــة‪ ...‬وفــي اليابــان خاصــة وماليزيــة‬ ‫وت ــركية تجـ ُ‬ ‫ـارب مشــهودة‪ ،‬فهــي مــا قامــت وال نهضــت وال تحـ َّـر َر ْت‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫وال َّ‬ ‫أس َسـ ْـت دولــة مهيبــة محت ــرمة وال ازدهــر اقتصادهــا إال بالعلــم‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫النهضــة آتــت أكلهــا حتــى َ‬ ‫وجــودة التعليــم واإلبــداع‪ ،‬وهــذه َّ‬ ‫جنــى مــن‬ ‫جنانها كل مواطنـيها ال سيما املتعلميـن واملبدعيـن واملختـرعيـن؛ ْ‬ ‫لقد‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬

‫(‪ )12‬حسن إبـراهيم أحمد‪ :‬استمرارية التاريخ ما بـيـن صدام املصالح وحوار الحضارات‪ ،‬دار رسالن‪2016 ،‬م‪ ،‬ص ‪.183‬‬

‫‪57‬‬


‫من َّ‬ ‫ُ‬ ‫رات العربـ َّية‬ ‫الث ْو ِ‬ ‫الفراغ ِ‬ ‫لمي في َز ِ‬ ‫الع ُّ‬ ‫َّ َ‬ ‫َ​َ َ َ‬ ‫َأ َو فــي ّ َ ْ َ ُ َ‬ ‫ـال‪ :‬أ ْنـ َـز َل الـ َّـد َو َاء الـ ِـذي أ ْنـ َـز َل‬ ‫هللا؟ فقـ‬ ‫الطـ ِ ّـب خيـ ٌـر يــا َرســول ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫الـ َّـداء)) ففــي هــذا الحديــث أنــه ي ــنبغي االســتعانة فــي كل علــم‬ ‫وصناعــة بأحــذق مــن فيهــا فاألحــذق؛ َّ‬ ‫(‪)8‬‬ ‫فإنــه إلــى اإلصابــة أقــرب)‬ ‫ورى اإلمــام أحمــد أن النب ــي صلــى هللا عليــه وســلم قــال للشــفاء‬ ‫ّ‬ ‫َ َ‬ ‫(عل ْ‬ ‫ميهــا حفصــة ك َمــا‬ ‫ب ــنت عبــد هللا وهــي عاملــة طب ــيبة يومئـ ٍـذ‪ِ :‬‬ ‫َع َّل ْم ِت َيهــا ْال ِك َت َابـ َـة)(‪ ،)9‬فـ ُّ‬ ‫ـأي مؤمــن يحلــم بوعـ ِـد هللا باالســتخالف‬ ‫َّ‬ ‫ـات فقــد‬ ‫ـتكم ْل هــذه الصالحـ ِ‬ ‫وبب ــناء أمـ ٍـة أو نهضـ ٍـة أو دولـ ٍـة ولــم يسـ ِ‬ ‫َ ُّ ْ َ َ‬ ‫أبعــد النجعــة‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫ًإذا ال مـ َـر َاء َّ‬ ‫أن أســاس الدولــة وأ َّســها العلـ ُـم والبحــث والتعليـ ُـم‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬ ‫َّ‬ ‫والتـرب ــية والقــوة بمعناهــا الشــامل للقضايــا املاديــة واملعنويــة‬ ‫َّ‬ ‫الثـ ّ‬ ‫ـوري املأمــول‬ ‫واالقتصاديــة وغي ــرها‪ ،‬وهــذا هــو جوهــر التغيي ــر‬ ‫والخيــار البديــل إلســقاط االســتبداد والعصب ــية والعصابــات‬ ‫وتحري ــر البشــرية مــن اســتعباد الفــرس والـ ُّـروم ُ‬ ‫الجـ ُـدد ً‬ ‫معــا‪.‬‬ ‫َ‬ ‫لقــد ســبق الســفر ُاء تشــريف الرســول صلــى هللا عليــه وســلم‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫معلمي ــن‬ ‫للمدي ــنة وتأسيســه قاعــدة األمـ ِـة بسنـي ــن ليكونــوا ِ‬ ‫مربي ــن‪َّ ،‬‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫وصحبــه لب ــناء إنسـ ٍـان‬ ‫تقد َمـ ُـه هــؤالء املعلمــون مصعـ ٌـب‬ ‫ِ‬ ‫َّ‬ ‫ـدة ألمـ ٍـة‬ ‫ـية متـي ـ ٍ‬ ‫يحكمــه الوعــي ال العصب ــية ولتأســيس بـن ـ ٍ‬ ‫ـنة وقاعـ ٍ‬ ‫َّ‬ ‫َُ‬ ‫َّ‬ ‫ودولـ ٍـة تنتصــب علــى قوائـ ِـم مجتمـ ٍـع مســل ٍح بالعلــم‪ ،‬يؤهــل ألن‬ ‫يقــود األمــم وال يقــاد كالغنــم لعصابــات الجاهليي ــن وعصب ــيتهم‬ ‫َّ‬ ‫الجاهليــة‪ ،‬ثــم إنــه مــا ْ‬ ‫إن شـ َّـرف النب ــي صلــى هللا عليــه وســلم‬ ‫املدي ــنة حتــى شــرع فــي ب ــناء املســجد وغــدا املؤسســة التعليميــة‬ ‫ـناء‬ ‫األولــى يومئـ ٍـذ‪ ،‬فــكان أهـ ُّـم مــا امتــاز بــه الدي ــن الجديــد فــي ب ـ ِ‬ ‫ُ َّ‬ ‫ـئة ودولـ ٍـة مدن ـ َّـي ٍة لــم ولــن تدنــس بهرطقــات الكهنوت ــية‬ ‫أمـ ٍـة ناشـ ٍ‬ ‫َّ‬ ‫الكنسـ َّـية أو الفارسـ َّـية؛ أنــه قــام علــى العلــم والتعليــم وصناعــة‬ ‫الوعــي واالنســاخ مــن ظلمــات الوهــم إلــى أنــوار الحقيقــة‬ ‫ّ‬ ‫ـؤرخ اإلنجليــزي ويلــز‪( :‬اإلســام هــو‬ ‫والعقــل والعلــم‪ ،‬يقــول املـ ِ‬ ‫َ‬ ‫املدن ـ َّـية‪ ،‬ومــن أراد الدليــل فليقــرأ القــرآن ومــا فيــه مــن نظــرات‬ ‫ومناهــج علميــة وقوانـي ــن اجتماعيــة)(‪.)10‬‬

‫املبحث الثانـي‬

‫َّ‬ ‫الواقــع املنظــور واملتوقــع املأمــول للتعليــم فــي الثــورة‬ ‫ّ‬ ‫يغذيــه املســتبد‬ ‫كان التعليــم قبــل الثــورات ومــا ي ـزال‪ ،‬لكنــه تعليــم ِ‬ ‫(‪ )10‬عبد املنعم النمر‪ :‬اإلسالم واملبادئ املستوردة‪ ،‬القاهرة‪ ،‬دار الشروق ‪ ،1981‬ص‪.84‬‬ ‫(‪http://www.aljazeera.net )11‬‬

‫ ‬

‫من َّ‬ ‫ُ‬ ‫رات العربـ َّية‬ ‫الث ْو ِ‬ ‫الفراغ ِ‬ ‫لمي في َز ِ‬ ‫الع ُّ‬

‫العدد ‪ 2‬رجب ‪1439‬هـ‬

‫بعقيدتــه َّ‬ ‫السرطان ــية وبفلســفة القائــد األوحــد‪َ ،‬وي ْم َسـ ُـخ جوهـ َـر ُه‬ ‫ُ‬ ‫ً‬ ‫َُْ‬ ‫أحيانــا مــن خــال َ‬ ‫رصـ ِـه وميزان ــيته‬ ‫العبـ ِـث‬ ‫بمناهجـ ِـه وبني ِتــه وف ِ‬ ‫ِ‬ ‫قيت ال تحكمه ضوابط تـربوية ِص ْرفة‪،‬‬ ‫نحو َم ٍ‬ ‫وبالقائميـن عليه على ٍ‬ ‫وال يختلــف مــن هــذه َّ‬ ‫ُ‬ ‫الزاويـ ِـة تعليــم دولـ ِـة اإلرهــاب عــن تعليــم تنظيــم‬ ‫ِ‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫ّ‬ ‫ْ‬ ‫ـات املؤطـ ِـرة ب ــرؤى منغلقــة أو املســي ِرة‬ ‫الدولــة وال ِعر ِق ِيي ــن والجماعـ ِ‬ ‫َّ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫عــن بعــد أو الت ــي ت ــرى َ‬ ‫نفســها هــي األمــة والدولــة واملدن ــية ومــن ســواها‬ ‫ً‬ ‫رعاعــا‪ ،‬وإذا مــا ُمســت مصالحهــا بســوء لــم تبـ ِـال بالعلــم وأدب ـ َّـياته‬ ‫َ‬ ‫ودأبـ ْـت تسـ ُ‬ ‫ـوم الوطـ َـن واألمــة ســوء املؤامــرة والخ ـراب باســتغاللها‬ ‫َ‬ ‫التعليـ َـم وجيشــه املب ــرمج‪.‬‬ ‫املطلــب األول‪ :‬الواقــع املنظــور للتعليــم فــي الثــورة‬ ‫ُ َّ ّ‬ ‫نقلب األوراق ونستنطق التـربوييـن ونستذكر التاريخ منذ عام‬ ‫هلم ِ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫‪2011‬م‪ :‬لقــد كان مــن املالحــظ يــوم أن قامــت الثــورات أن خريطــة‬ ‫فمـ ْـن أكث ــر‬ ‫املظاهـرات ضــد االســتبداد رســمها املثقفــون ال األميــون‪ِ ،‬‬ ‫َ‬ ‫َ ْ‬ ‫ّ‬ ‫الخريجــون‪،‬‬ ‫مــن دعــا وشــارك واستبســل هــم طــاب الجامعــات أو ِ‬ ‫لكن هل يمكن القول بأن هذه الصفوة أخطأت القياس والتقديـر‬ ‫َ َ ْ‬ ‫أيام أو أسابـيع وتسقط األنظمة‬ ‫وحدست أنها ليست سوى بضعة ٍ‬ ‫عودة ويعودون إلى مقاعد الدراســة أو التدريس؟‬ ‫وأقنعتها ِ‬ ‫لألبد بال ٍ‬ ‫وإذا فرضنــا أنهــم َّ‬ ‫فوهمــوا فــي التقييــم فهــل أخطــؤوا التقويــم‬ ‫خمنــوا ِ‬ ‫ً‬ ‫أيضــا؟ ومــاذا دهاهــم عندمــا رأوا أنــه قيــاس مــع الفــارق وأن أيــام‬ ‫َ‬ ‫املســتبد تطــول وتســتطيل؟! ِلـ َـم لـ ْـم يجعلوهــا ثــورة علــى الجهــل‬ ‫ومصالح الجهلة الجاهلييـن املؤيديـن لالستبداد؟ أعنـي كيف غفل‬ ‫َ‬ ‫ـئة‬ ‫كثي ــرون منهــم عــن هــذا ومــا عــادوا للتعليــم وال قــدروا تعليــم الناشـ ِ‬ ‫قـ ْـد َر ُه وهــم أعــرف النــاس بــأن الجهــل هــو د ْم َنـ ُـة االســتبداد ُ‬ ‫وسـ ْـف َع ُته‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫فمنــذ أن قامــت الثــورة املصريــة كتــب تومــاس فريدمــان (الخطــوة‬ ‫الثان ــية الت ــي قــد تعــزز قــوة الشــباب العرب ــي بعــد الثــورات قــد تكــون‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫الثــورة التعليميــة الت ــي قــد تيهــئ لهــم فــرص العمــل)‪ ،‬وتحــدث عــن‬ ‫مبــادرة تدريــب معلمــي املــدارس علــى تعليــم التفكي ــر الخــاق وحــل‬ ‫املشــكالت فــي الفصــول الدراســية بــاألردن فقــال‪( :‬إن ذلــك ســيكون‬ ‫رب ـ ً‬ ‫ًّ‬ ‫حقيقيــا‪ ،‬وإن الثــورات العرب ــية ربمــا ال تنجــح فــي خلــع‬ ‫ـيعا عرب ـ ًّـيا‬ ‫الحكام املستبديـن بدون تمكيـن الجيل الجديد من الشباب العرب‬ ‫بهــذا النــوع مــن الثــورة فــي التعليــم‪ ،‬فالثــورات لــن تعـ ّ ِـزز بــأي‬ ‫َ‬ ‫حــال مــن األحــوال قــوة الجيــل الجديــد فــي ظــل غيــاب الثــورة فــي‬ ‫َّ َ‬ ‫ّ‬ ‫التعليــم)(‪َ )11‬ومـ ْـن للثـ َـو ِار أ َّنــه إن انقشــعت ظلمــات هــذا املســتبد أل‬ ‫‪56‬‬

‫يأت ــي جيــل الجهــل بمســتبد أدهــى وأعتــى ْ‬ ‫وإن بالطــرق الديمقراطيــة؛‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫ـوت جاهــل‬ ‫فــإن مــن عيوبهــا مســاواة صـ ٍ‬ ‫ـوت ثمنــه رغيــف خبــز أو صـ ِ‬ ‫ـوت أعلــى النــاس‬ ‫خانــع قابــع بــل قانــع بســطوة املســتبد عابـ ٍـد لــه بصـ ِ‬ ‫علمــا ونزاهـ ًـة وح َّريـ ًـة فــي الفكــر وال ـرأي؟! ومــن َ‬ ‫ً‬ ‫أدرى هــؤالء الصفــوة‬ ‫الجامعيي ــن أنــه ‪ -‬فــي غفلـ ٍـة منهــم وليــس ببعيــد عــن ضــروب هــذا‬ ‫الجاهل ‪َ -‬ت َك َاث َر ٌ‬ ‫أناس على ِضفاف الثورة مسخوا التعليم وناصبوا‬ ‫َ​َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ َ‬ ‫س‬ ‫العرب ــية العداء وحالفوا‬ ‫األعداء‪ ،‬وآخرون ابت ِسروا في‬ ‫ِ‬ ‫كهوف غل ٍ‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫إيمانهــم ورســالة فــي‬ ‫ال ي ــرون فيهــا العلــم إال ورقــة تســرد نواقــض ِ‬ ‫عقيدة مذهبـية‪ ،‬وبهما يغدو تحريـر الشام واليمن والقدس وأراكان‬ ‫َ‬ ‫كلمــح البصــر أو هــو أقــرب‪ ،‬بــل بهمــا ســيفتحون العالــم بغــزوات‬ ‫َّ َ َ ُّ َ ُ ْ َ ْ َ‬ ‫اسـ َـتط ْع ُت ْم ِمـ ْـن‬ ‫ـاح‪ ...‬وأمــا (( وأ ِعــدوا لهــم مــا‬ ‫ُمباركــة‪ ،‬فهمــا أم�ضــى سـ ٍ‬ ‫ُّ‬ ‫َّ‬ ‫ـداع فــي صناعــة‬ ‫قــو ٍة)) [األنفــال‪ :‬آيــة ‪ ]60‬فــا تحفزهــم لتعلـ ٍ ًـم أو إبـ ٍ‬ ‫ُ ْ‬ ‫بعلم العدو‬ ‫سالح أو اخت ـراع في تقن ــيات حرب ــية م ِعينة مثل بل إنهم ِ‬ ‫َ‬ ‫ـرجل يقتــل‬ ‫وصناع ِتــه وســاحه ســيقاتلون وي ــنتصرون‪ ،‬ومــن لــك ب ـ ٍ‬ ‫عدوه بسالحه فهل ثمة أشجع منه! َّ‬ ‫َّ‬ ‫وكأن عيـن الشاعر الهراوي لم تقع‬ ‫َ‬ ‫على من هو جدي ــر باملديح سواه‪ ،‬فأشبعه إطر ًاء حتى جعل منه ُه ْزأة‪:‬‬ ‫َّ‬ ‫ـرب بغي ــر حســام‬ ‫وأخــو الجهالــة فــي الحيــاة كأنــه سـ ٍـاع إلــى حـ ٍ‬

‫املطلب الثانـي‪ :‬املستقبل التعليمي من زاوية‬ ‫الواقع في هذه الفتـرة‬ ‫َ‬ ‫فــي ضــوء محـ ِّـد َدات مشــكلة البحــث املطروحـ ِـة يتب ـ َّـين َّأن املعضلــة‬ ‫ٌ‬ ‫موضـ َ‬ ‫بوية ال تعليميــة فحســب‪ ،‬فلهيـ ُـب ُأوارهــا يسـ ُ‬ ‫ـفع‬ ‫ـوع البحـ ِـث ت ـر‬ ‫ّ‬ ‫ـف وقاعـ ٍـة َد ْر ِسـ َّـية‪ ،‬وال َي ِه َمـ َّـن واهـ ٌـم َّأن‬ ‫ـدان وصـ ٍ‬ ‫ـص وميـ ٍ‬ ‫كل تخصـ ٍ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫الب ــيت وحـ َـده «رغــم َّ‬ ‫أهميتــه» يصـ ِـوب مــا ت ِلقنــه املدرســة للطفــل؛‬ ‫صوابــا ًّ‬ ‫فـ َّ‬ ‫ً‬ ‫ـإن أحـ ًـدا ال يجهــل َّأن الطفــل يــكاد ال ي ــرى‬ ‫وحقــا فــي �شــيء‬ ‫َ ُ ُْ ُ‬ ‫يقــال لــه مــا لــم يطابـ ْـق مــا قيــل لــه فــي املدرســة‪ ،‬وعليــه؛ ف َهــاؤ ُم انظـ ْـر‬ ‫بعي ــن حصيــف ثــم أجـ ْـب إن وجــدت للــكالم ً‬ ‫منزعــا‪ :‬هــل ّ‬ ‫تخيلـ َـت ً‬ ‫يومــا‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬ ‫َّ ُ ْ ّ‬ ‫ُ‬ ‫َّ‬ ‫ُ‬ ‫معلمون‬ ‫ٍ‬ ‫عصابات كدستهم أنظمة االستبداد أو االحتالل على أنهم ِ‬ ‫ْ‬ ‫َّ‬ ‫ُ‬ ‫بعدمــا ُمنحــوا بـي ــن غســق الليــل وســدف ِت ِه بطــر ٍق شــتى شــهادات ال‬ ‫ُ َّ‬ ‫تبلــغ قيمــة املــداد الــذي خطــت بــه‪ ،‬فــإذا بأروقة الجامعــات واملدارس‬ ‫ُْ‬ ‫ّ‬ ‫فــي وطنــك ّ‬ ‫األم تغـ ّ‬ ‫الصادي ــن عــن سب ــيل العلــم‪،‬‬ ‫ـص بهــؤالء ال ْر ِج ِف ْيـ َـن‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫املعوقي ــن امل ِثبطي ــن‬ ‫وتســتغيث بالعلــم وأ َربابــه‪ ،‬ومــن ســموم أولئــك ِ‬ ‫َ َ‬ ‫تســتعيذ وتستجي ــر؟ أ َت َ‬ ‫ـيد الق َتلــة علــى منصــات‬ ‫صـ َّـورت هــؤالء العب ـ‬ ‫التعليــم ي ـ ُّربون أب ـ َ‬ ‫ـناءك بعدمــا عــادوا إلــى مدارســهم أو جامعاتهــم فــي‬

‫ ‬

‫العدد ‪ 2‬رجب ‪1439‬هـ‬

‫ّ‬ ‫ُّ‬ ‫يعلـ َـم أولئــك أحفـ َـاد َك‪ ،‬وعــام تظـ ُّـن أن‬ ‫وطنهــم األ ِم؟ مــاذا ع�ســى أن ِ‬ ‫ي ـربوهم وي ــنشئوهم؟ ال أحســبك نســيت أن املثــل األعلــى بــل الــرب‬ ‫األعلــى لقــوم فرعــون هــو هــو معبــود هــؤالء! أت ـراك نســيت مقالتــه‬ ‫َ‬ ‫ُ ُ َّ‬ ‫(( َقـ َ‬ ‫ـال ِف ْر َعـ ْـو ُن َمــا أ ِريكـ ْـم ِإل َمــا أ َرى)) [غافــر‪ :‬آيــة ‪ ]29‬فلئــن غـ ِـرق‬ ‫فرعــون وســقط حكمــه فــإن مــن ورائــه فراعنــة ال ي ــرون إال مــا َيــرى‬ ‫هذا املستبد‪ ،‬وهم إن لم يحكموا الرقاب واألشباح فإنهم يحكمون‬ ‫ويفســدون األرواح باعتالئهــم منصــات التعليــم ليســتأنف‬ ‫العقــول‪ِ ،‬‬ ‫َح َف َد ُتــك مسي ــرة الخنــوع والعبوديــة لسـ ّ‬ ‫ـتبد آخــر يصنعــه هــذا‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫الفراغ‪َ ،‬‬ ‫فبعد قمع الثورات املناهضة للفرنسييـن في الريف املغربـي‬ ‫َ‬ ‫استدعى قائد الحملة املسؤول عن التعليم وقال له‪ :‬لقد أخضعنا‬ ‫لكــم األبــدان‪ ،‬وقضي ــنا علــى مقاومــة الشــعب‪ ،‬فعليكــم إخضــاع‬ ‫العقــول عــن طريــق التعليــم(‪.)12‬‬ ‫َ‬ ‫أتـ َـرى هــذا الوطــن قـ َّـد َم كل مــا ت ــرى مــن شــهداء وتضحيــات ليعتلـ َـي‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ـتبداد مناب ــر العلــم والتـرب ــية ويحتكــروا تـرب ــية أب ــنائك‬ ‫عب ــيد االسـ ِ‬ ‫وتعليمهــم وهــا أنـ َـت مــا زلــت ُتقســم أن َت َبقــى أنــت وأوالدك اليـ َ‬ ‫ـوم‬ ‫ُّ‬ ‫ـروش مــن هنــاك‪،‬‬ ‫أ ِميي ــن لتنفقــوا العمــر فــي كســب لي ـ ٍـرة مــن هنــا أو قـ َ ٍ‬ ‫وتعــودوا غـ ًـدا بعقـ ٍـل خـ ٍـاو وجيـ ٍـب مــآن‪ ،‬بـي ــنما قــد ســطا أولئــك علــى‬ ‫ٌ‬ ‫ً َّ ٌ‬ ‫عــروش العلــم ومراكــز بحوثــه ومختب ـراته؟؟! تلــك إذا كـ َّـرة خاســرة‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ـوم اشت ــروا‬ ‫وســوق بائــرة ال رواج لهــا وال نفــاق! فمــا ربحــت تجــارة قـ ٍ‬ ‫َ‬ ‫الجهالــة بالعلــم والتعليــم‪.‬‬ ‫ّ ً‬ ‫عمــال‬ ‫وبـي ــنما يستحسـ ُـن هــؤالء اآلبــاء فــي أب ــنائهم أن ي ــروا فيهــم‬ ‫مجهودي ــن ُجبـ ًـاة للمــال وإن عاشــوا وماتــوا ّ‬ ‫أميي ـ َـن‪ ،‬وي ــرى الذي ــن‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َ ْ‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫َّ‬ ‫ً‬ ‫َ‬ ‫عسكروا الثورات أسيـر الحرب مغنما وكنزا ثميـنا‪ ،‬وجدنا أن النبـي‬ ‫ـدر مــا هــو أثمــن مــن الفــداء‬ ‫صلــى هللا عليــه وســلم رأى فــي أســرى بـ ٍ‬ ‫َ‬ ‫ًّ‬ ‫ـداء أسي ــرها مــاال جمــا‪،‬‬ ‫باملــال‪ ،‬ولــو شــاء ألخــذ مــن كل قب ــيلة علــى فـ ِ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫يعلــم األســرى القــرءاة والكتابــة ألطفـ ِـال الصحابــة‬ ‫لكنــه اكتفــى بــأن ِ‬ ‫ً‬ ‫ثمنــا للح َّريــة‪ ،‬ولــو شــاء لقــال‪ :‬إن دولتنــا وليــدة ناشــئة وأمــوال‬ ‫مواطنـيها مصادرة فاملال ُّ‬ ‫أهم من محو األمية ملجموعة من األطفال‬ ‫ال ســيما أننــا علــى أبــواب تأســيس دولــة قويــة‪ ،‬لكنــه َّ‬ ‫التعليــم الــذي بــه‬ ‫ٍ‬ ‫َّ‬ ‫تقــوم الدولــة وعليــه ت ـرتفع رايــة األمــة‪ ...‬وفــي اليابــان خاصــة وماليزيــة‬ ‫وت ــركية تجـ ُ‬ ‫ـارب مشــهودة‪ ،‬فهــي مــا قامــت وال نهضــت وال تحـ َّـر َر ْت‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫وال َّ‬ ‫أس َسـ ْـت دولــة مهيبــة محت ــرمة وال ازدهــر اقتصادهــا إال بالعلــم‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫النهضــة آتــت أكلهــا حتــى َ‬ ‫وجــودة التعليــم واإلبــداع‪ ،‬وهــذه َّ‬ ‫جنــى مــن‬ ‫جنانها كل مواطنـيها ال سيما املتعلميـن واملبدعيـن واملختـرعيـن؛ ْ‬ ‫لقد‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬

‫(‪ )12‬حسن إبـراهيم أحمد‪ :‬استمرارية التاريخ ما بـيـن صدام املصالح وحوار الحضارات‪ ،‬دار رسالن‪2016 ،‬م‪ ،‬ص ‪.183‬‬

‫‪57‬‬


‫من َّ‬ ‫ُ‬ ‫رات العربـ َّية‬ ‫الث ْو ِ‬ ‫الفراغ ِ‬ ‫لمي في َز ِ‬ ‫الع ُّ‬ ‫قــدرت دراسـ ٌـة ملؤسســة أنقــذوا األطفــال عـ َ‬ ‫ـام ‪َّ 2015‬أن السوريي ــن‬ ‫الذي ــن لــم ُي ْكم ُلــوا تعليـ َـم املرحلــة األساســية مــن َّ‬ ‫املرجـ ِـح أن يحصلــوا‬ ‫ِ‬ ‫علــى أجــور أقــل ب ــنسبة ‪ %32‬مــن أجــور نظرائهــم ممــن أنهــوا دراســتهم‬ ‫الثانويــة‪ ،‬وأقــل ب ــنسبة ‪ %56‬مقارنــة بمــن َّ‬ ‫تخرجــوا فــي الجامعــة(‪.)13‬‬ ‫ٌ‬ ‫ـاف َ‬ ‫ناصــر العالــم املتحضــر فيهــا‬ ‫واليــوم هــا قــد انصرمــت ســبع عجـ‬ ‫َ َ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫املستبدي ــن َّ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫السفاحي ــن قتلــة املدن ِـيي ــن‬ ‫النيــام‬ ‫ِ‬ ‫املسالي ــن واألطفــال ِ‬ ‫ِ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫بالكيمــاو ِي واملحـ ِـارق الجماعيــة‪ ،‬وعــاد الســؤال يطــرح نفســه كــرة‬ ‫أخــرى‪ :‬أيهمــا ســقط االســتبداد أم التعليــم؟ وهــل فــات ثوارنــا‬ ‫ّ‬ ‫فــي البــاد العرب ــية ِكلهــا يومئـ ٍـذ أن يضعــوا خطــة بديلــة إلســقاط‬ ‫االســتبداد‪ ،‬وقوامهــا التعليــم والتـرب ــية واالخت ـراق؟ ال ســيما أن‬ ‫التهجيـر واالغتـراب أتاح لكثيـريـن ً‬ ‫ّ‬ ‫تعليمية نادرة رغم أنه كان‬ ‫فرصا‬ ‫سـ ًـببا للحرمــان مــن التعليــم فــي حــاالت ليســت قليلــة لعوامــل أهمهــا‬ ‫اللغــة وظــروف أخــرى‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫ـواب القــول بــأنَّ‬ ‫فلنؤكــد صـ َ‬ ‫وإذ إن الثــورة والتعليــم متالزمــان‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫االحتفــاظ بجوهــر يســتع�صي علــى التغيي ــر فــي عالــم كثي ـ ِـر التحــول‬ ‫َ‬ ‫ٌ‬ ‫ـداره أو قلـ ٍـب علــى نظــام حركتــه(‪،)14‬‬ ‫�شــيء يعــادل بقــاء كوكـ ٍـب فــي مـ ِ‬ ‫َّ‬ ‫وأن صمـ َ‬ ‫ـام أمــان هــذا الجوهــر هــو ب ــناء الشــخصية الرياديــة الت ــي‬ ‫ِ‬ ‫ُّ‬ ‫مــن أهـ ِ ّـم أركانهــا العلـ ُـم وملكــة الفهــم والشــعور باملســؤولية‪ ،‬وكلهــا‬ ‫ّ ّ‬ ‫منوطـ ٌـة بالتعليــم والتـرب ــية ً‬ ‫معــا؛ وب ـ ً‬ ‫نؤكـ ُـد َّأن الثائــر‬ ‫ـناء علــى هــذا ِكلــه ِ‬ ‫ً‬ ‫يشة في ّ‬ ‫مهب ريح‪ ،‬لون الحرباء‬ ‫الجاهل املستهت ــر ال يعدو أن يكون ر‬ ‫َ َِ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫ُ​ُ ُ​ُ‬ ‫ُّ‬ ‫َ‬ ‫وإنــي لذكــر أنــه بـي ــنما كان‬ ‫ِصبغتــه والتغيـ ُـر طبعــه وثباتــه مســتغرب؛ ِ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫درب الثــورة‬ ‫ثو َرانــا الجامعيــون يقضــون العجــب ‪ -‬وهــم ي ــرون رفــاق ِ‬ ‫صالحــوا دولــة اإلرهــاب واالســتبداد واصطفــوا فــي خنــدق مليشــياتها‬ ‫ـوة األمــس األحـرار ‪ -‬كنـ ُـت أكـ ّ ِـرر‪:‬‬ ‫أو لحقــوا بتنظيــم الدولــة لقتــال إخـ ِ‬ ‫َ‬ ‫َ َّ‬ ‫ستغرب‪ ،‬تتبعوا ما�ضي وحاضر هؤالء القتلى‬ ‫ال�شيء من معدنه ال ُي‬ ‫َْ‬ ‫ّ‬ ‫املصطفي ــن فــي ركاب إرهــاب الدولــة وتنظيــم‬ ‫الهلكــى املصالحي ــن‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫متعل ًمــا أو‬ ‫عالــا أو ِ‬ ‫الدولــة علــى جبهــات القتــال‪ ،‬فلــن ت َجــدوا فيهــم ِ‬ ‫ُ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫مسـ ً‬ ‫ـتمعا‪ ،‬وهــذا سـ ُّـر هالكهــم‪َ ،‬عـ ْـن أبــي َب ْكـ َـر َة َقـ َ‬ ‫ـال‪« :‬سـ ِـمعت النـبِـ َّـي‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫َّ‬ ‫ً‬ ‫ْ‬ ‫ص َّلــى ُ‬‫َ‬ ‫هللا َعل ْيـ ِـه َو َســل َم‪َ -‬ي ُقــو ُل‪(( :‬اغـ ُـد َع ِالــا أ ْو ُم َت َع ِل ًمــا أ ْو ُم ْسـ َـت ِم ًعا‬ ‫ـال َع َطـ ٌـاء‪(َ :‬قـ َ‬ ‫َأ ْو ُم ِح ًّبــا‪َ َ ،‬ول َت ُكــن ْال َخ ِام َسـ َـة َف َت ْه ِلـ َـك)) َقـ َ‬ ‫ـال ِلــي ِم ْسـ َـع ٌر‪:‬‬ ‫ْ َ َ َ َ ً َ ِْ َ ُ ْ ْ َ َ َ‬ ‫ـض ْالع ْلــمَ‬ ‫ـال‪«َ :‬و ْال َخام َسـ ُـة َأ ْن ُت ْبغـ َ‬ ‫َ‬ ‫ِزدتنــا خ ِامســة لــم تكــن ِعندنــا‪ ،‬قـ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬

‫ ‬

‫من َّ‬ ‫ُ‬ ‫رات العربـ َّية‬ ‫الث ْو ِ‬ ‫الفراغ ِ‬ ‫لمي في َز ِ‬ ‫الع ُّ‬

‫العدد ‪ 2‬رجب ‪1439‬هـ‬

‫َو َأ ْه َل ُه)(‪ ،)15‬وال َّ‬ ‫أدل على الهالك الناجم عن الجهل من هذا التقلب‬ ‫ـوار ُ‬ ‫ُ َ‬ ‫ـاد َ‬ ‫حكمهــا ثـ ٌ‬ ‫قادت ُهــم‬ ‫العجــاب وذاك األداء اإلداري الضعيــف فــي بـ ٍ‬ ‫َّ‬ ‫ٌ‬ ‫ًُ‬ ‫َّإمــا ِح ْر ِف ُّيــون لــم تخــط أيديهــم كلمــة تــدار بهــا غرفــة يقطنهــا بضعــة‬ ‫ً ّ‬ ‫أنفــار َّ‬ ‫ُّ‬ ‫يكفــرون‬ ‫وإمــا‬ ‫ظالميــون ال ي ــرون العلــم ســوى جهـ ٍ‬ ‫ـاالت مطبقــة ِ‬ ‫َ‬ ‫وعرضــه‪.‬‬ ‫بهــا مــن شــاء ليستب ــيحوا دمــه ومالــه‬ ‫َ‬ ‫وفشـ ِـت األميــة وأعـ َ‬ ‫ـرض القــوم عــن املدرســة‬ ‫واليــوم وقــد كان مــا كان‬ ‫وشــغلتهم دن ــيا الوهــم فــي جمــع قــروش أو إســقاط عــروش ســرعان‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫صنع ْتــه هتافــات مخلصــة‬ ‫مــا تعــود ِلتشـ َّـيد علــى جماجــم جهـ ٍـل‬ ‫َّ‬ ‫خطــت بمعــاول تجهيــل َّ‬ ‫هدامــة (ال دراســة وال تدريــس‬ ‫هـ َّـدارة؛ لكنهــا‬ ‫ٍ‬ ‫الرئيــس)‪ ،‬فهــل مــن مغيــث اليــوم تحملــه ّ‬ ‫حتــى يســقط َّ‬ ‫حميــة الغي ــرة‬ ‫علــى عقــول تســتغيث لدفــع الصائلي ــن عليهــا؟! لقــد عـ َّـز ْ‬ ‫زت هــذه‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ـف التسـ ُّـر َب مــن التعليــم حتــى‬ ‫الشــعارات وخشــية االعتقـ ِـال والقصـ ِ‬ ‫وصلــت نســبة األطفــال املحرومي ــن مــن الدراســة بســبب الصراعــات‬ ‫فــي هــذه الــدول ‪ً %40‬‬ ‫وفقــا لتقري ــر منظمــة األمــم املتحــدة لألمومــة‬ ‫والطفولــة فــي ‪ 3‬أيلــول ‪ 2015‬بعنــوان (التعليــم تحــت النــار)(‪،)16‬‬ ‫ومـ ُّ‬ ‫ـرد هــذه املعضلـ ِـة إلــى موانــع وعقبــات بعضهــا ال مفـ َّـر منهــا كمــا فــي‬ ‫ّ‬ ‫املتولد من قصف الطائرات عشـرات املرات للمدارس أثناء‬ ‫الرعب ِ‬ ‫الــدوام‪ ،‬ولبعضهــا مخــارج محــدودة األث ــر عمــل الثــوار ومؤسســات‬ ‫املجتمــع املدن ــي علــى تجاوزهــا مــا أمكــن كمــا فــي تدمي ــر املنشــآت‬ ‫التعليميــة واســتهداف املعلمي ــن واســتنزاف املــوارد‪ ،‬ولتذليــل هــذه‬ ‫العقبــات انبعثــت مــدارس املخيمــات ومبــادرة جيــل غي ــر ضائــع‬ ‫وحمــات العــودة للتعليــم وعمليــات إعــادة إعمــار بعــض املــدارس‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫لكن من لم ّ‬ ‫تحصنهم هذه املؤسسات تلقفتهم التنظيمات اإلرهابـية‬ ‫ِ‬ ‫فــي صفوفهــا كمــا فــي اليمــن والعـراق وســورية‪ ،‬ويجــري توظيــف هــؤالء‬ ‫األطفــال لتكريــس ســموم التطــرف والتكفي ــر والصـراع واالنفصــال‬ ‫واالنتمــاءات والــوالءات الطائفيــة والعرقيــة ورفــض اآلخــر لــدى‬ ‫األجيــال الناشــئة‪.‬‬ ‫َّ‬ ‫املطلب الثالث‪ :‬املتوقع املأمول ملستقبل التعليم في الثورة‬ ‫ٌ‬ ‫ُ‬ ‫ٌ ْ ٌ ْ‬ ‫ُ‬ ‫بقيم‬ ‫تعليــم دولــة الثــورة املنشــود تعليــم ِصــرف ِقي ِمـ ُّـي محايــد محــاط ٍ‬ ‫ُ‬ ‫بوية ال يختلــف عليهــا اثنــان‪ ،‬هدفـ ُـه تكوي ـ ُـن العقليــة املوضوعيــة‬ ‫ت ـر ٍ‬ ‫العلميــة املؤسســة علــى النظــر واالســتنباط والب ــرهنة واالســتدالل‪،‬‬

‫(‪/http://midan.aljazeera.net/reality/community/2017/1/28 )13‬‬ ‫(‪ )14‬د‪ .‬عبد الكريم بكار‪ :‬منشورات صفحته على الفيس بوك‪.‬‬ ‫(‪ )15‬أبو الحسن نور الديـن علي بـن أبـي بكر الهيثمي‪ :‬مجمع الزوائد ومنبع الفوائد‪ ،‬تح‪ :‬حسام الديـن القد�سي‪ ،‬الناشر‪ :‬مكتبة القد�سي‪،‬‬ ‫َّ َ َ ْ‬ ‫َّ‬ ‫ُ َّ َ‬ ‫القاهرة‪1414 ،‬هـ ‪1994‬م (‪ ،)122 /1‬وقال الهيثمي‪َ :‬ر َو ُاه الط َب َرا ِن ُّي ِفي الثلث ِة َوال َب َّز ُار‪َ ،‬و ِر َجال ُه ُم َوث ُقون‪.‬‬ ‫(‪ /https://aawsat.com/home/article/988056 )16‬رياح الحروب تقفل أبواب املدارس‪.‬‬

‫‪58‬‬

‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫وب ـ ُ‬ ‫وقاعدتهــا وقيادتهــا‬ ‫ـناء اإلنســان الــذي بــه ت ْب َنــى الحضــارة والدولــة‬ ‫ًّأيــا كان عـ ْـر ُق هــذا اإلنســان املسـ َ‬ ‫ـتهدف بالتعليــم أو دي ـ ُـنه؛ فالعلــوم‬ ‫ِ‬ ‫َّ‬ ‫َ ْ‬ ‫ً‬ ‫الحياتـية ميـراث إنسانـي ليس حكرا على ِمل ٍة أو ديـن‪ ،‬يقول أبو بكر‬ ‫ال ـرازي فــي كتابــه املوســوعي الحــاوي فــي تاريــخ الطــب‪( :‬لقــد جمعــت‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫وعيونــا مــن صناعــة الطــب ممــا اســتخرجته‬ ‫فــي كتاب ــي هــذا جمــا‬ ‫مــن كتــب أبق ـراط وجالي ــنوس وأرماســوس ومــن دونهــم مــن قدمــاء‬ ‫فالســفة األطبــاء‪ ،‬ومــن بعدهــم مــن املحدثي ــن فــي أحــكام الطــب مثــل‬ ‫(‪)17‬‬ ‫بولــس وآهــرون وحنـي ــن ب ــن إســحاق ويحيــى ب ــن ماســويه وغي ــرهم‬ ‫وملــا دخــل الناصــر صــاح الدي ــن األيوب ــي رحمــه هللا تعالــى مصــر كان‬ ‫ً‬ ‫بصحبتــه ثمان ــية عشــر عال ـ ــا فــي الطــب‪ ،‬منهــم ثمان ــية مســلمون‬ ‫وخمســة يهــود وأربعــة مــن النصــارى وســامر ٌّي واحــد(‪.)18‬‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ومــا ْإن ْأن أنهكـ ِـت الثــورة الســنون وكادت تتــآكل بأن ــياب املتآمري ــن‬ ‫بقصـ ٍـد أو عــن جهالـ ٍـة حتــى عـ َـاد الثــوار ليست ــيقنوا مــا ب ــرهنت عليــه‬ ‫ســنن التاريــخ م ـر ًارا ِمـ ْـن َّأن التعليــم ســاح التغيي ــر‪ ،‬وأنــه كان ِل َز ًامــا‬ ‫علــى الثـ ْـو َرات لتحقــق انتصـ ًـارا ال هزيمـ َـة بعـ ُ‬ ‫ـده أن تتخــذ مــن العلــم‬ ‫َ‬ ‫ً‬ ‫َ‬ ‫منــارة لهــا حتــى يبلــغ العلـ ُـم بهــا مبلغــا‪ ،‬ويكــون للتعليــم ومؤسســاته‬ ‫ّ‬ ‫ـتقلة ال غي ــر القــو ُل الفصــل فــي التغيي ــر مــن الجــذور لـ ّ‬ ‫ـكل مــن‬ ‫املسـ‬ ‫ٍ‬ ‫املفاهيــم والســلوك‪ ،‬وليغـ َ‬ ‫ـدو البحــث العلمــي َّ‬ ‫بقوتــه الت ــي يذعــن لهــا‬ ‫العامــة والخاصــة موئـ ًـا للساســة ورجــال األعمــال ً‬ ‫معــا‪ ،‬ويمكــن‬ ‫تصـ ُّـور مرجعيـ ِـة العلــم ومؤسســاته علــى النحــو اآلت ــي‪:‬‬ ‫ٌ‬ ‫ُ‬ ‫ً‬ ‫وخصوصــا التجريب ــية هيئــة‬ ‫ـوث العلميــة‬ ‫‪ )1‬تصبــح ملؤسســة البحـ ِ‬ ‫ٌ‬ ‫قانون ــية لتقييــم األداء الحكومـ ّ ِـي فــي مجــال التعليــم والبحــث العلمــي‬ ‫ً‬ ‫ُ ُْ‬ ‫ّ‬ ‫ـئ‬ ‫ـ‬ ‫ج‬ ‫ل‬ ‫بحيــث ت‬ ‫السياسيي ــن مثــا إلــى أن يجعلــوا رضــا املؤسســات‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ً‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫َّ‬ ‫وإدارت ِهــم للدولــة الحقــا‪.‬‬ ‫هم ِهــم فــي‬ ‫ـية ِ‬ ‫دعايات ِهــم االنتخاب ـ ِ‬ ‫ِ‬ ‫العلميــة جــل ِ‬ ‫ُ‬ ‫َ ْ‬ ‫اءات االخت ـراع‬ ‫‪ )2‬تح ِمـ ُـل منزلــة مراكـ ِـز البحــوث ومؤسســة ب ـر ِ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ـركات واملصانـ َـع العمالقــة علــى أ ْن تلتمــس مــن املؤسســات‬ ‫الشـ ِ‬ ‫َ‬ ‫العلميــة املختصــة إش ـراكها فــي اإلبــداع ونفقا ِتــه لتحصــل منهــا علــى‬ ‫تزكيـ ٍـة فــي مجالهــا تسـ ّ ِـوق بهــا لنفســها‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫ّ ْ َ‬ ‫ـياء‬ ‫‪ )3‬تبعــث منزلــة العلــوم الســامقة الوعـ َـي فــي‬ ‫املتدي ِنيــن األغن ـ ِ‬ ‫ِ‬ ‫َّ‬ ‫ـوث‬ ‫ـات الداعمــة للثــورة ليست ــيقنوا أن اإلنفــاق علــى البحـ ِ‬ ‫واملنظمـ ِ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ـف مــرة مــن‬ ‫واملختب ـرات وعلــى الباحثي ــن املغتـربـي ــن هــو أفضــل بألـ ِ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫ـوة‬ ‫نفـ ِـل ألـ ِ‬ ‫ـاق التب ــرعات ِكلهــا علــى القـ ِ‬ ‫ـف حــج وعمــرة وأعــدل مــن إنفـ ِ‬

‫ ‬

‫العدد ‪ 2‬رجب ‪1439‬هـ‬

‫ملقاومــة العــدو املســتبد وأعوانــه املحتلي ــن ((إ َّن َ‬ ‫هللا َعـ َّـز َو َجـ َّـل ُي ْد ِخـ ُـل‬ ‫ِ‬ ‫َّ‬ ‫صان َعـ ُـه َي ْح َتسـ ُـب فــي َ‬ ‫ْ َ َّ َ َ‬ ‫الث َل َثـ َـة ب َّ ْ َ‬ ‫ص ْن َع ِتـ ِـه ْال َخ ْيــر‪َ،‬‬ ‫السـ ْـه ِم الو ِاحـ ِـد الجنــة‪ِ :‬‬ ‫ِ ِ‬ ‫ْ ِ‬ ‫َوالُ ِمـ َّـد بـ ِـه‪َ ،‬و َّ‬ ‫الر ِامـ َـي ِبـ ِـه))(‪.)19‬‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫‪ )4‬يب ـ ُ‬ ‫ـرهن العلـ ُـم بأث ــره فــي الدي ــن والدن ــيا ِلــن كان فــي َم ْي َسـ ٍـرة مــن‬ ‫ّ‬ ‫املفسري ــن القائلي ــن‪:‬‬ ‫املتقي ــن علــى وجهـ ِـة نظـ ِـر فريـ ٍـق مــن فقهــاء ِ‬ ‫ّ‬ ‫َّإن للعلــم وأهلــه ومؤسســاته بأنواعهــا ِكلهــا الشــرعية والحيات ـ ّـية‬ ‫ً ْ‬ ‫َ َ َ‬ ‫هللا َو ْابـ ِـن‬ ‫مــن الزكــوات املفروضـ ِـة‬ ‫نصيبــا ِمــن ســهم ْي (( و ِفــي سـ ِـب ِيل ِ‬ ‫ً‬ ‫َّ‬ ‫ً‬ ‫السـ ِـب ِيل)) [التوبــة‪ ]60 :‬ال ســهما واحــدا فحســب كالفق ـراء ناهيــك‬ ‫عــن األوقــاف والتب ــرعات‪( ،‬حـ َّـدث اب ــن جبـي ــر فــي رحلتــه الت ــي قــام بهــا‬ ‫ســنة ‪ 580‬ه ـ تقر ًيبــا أنــه رأى فــي بغــداد عاصمــة الخالفــة العباســية‬ ‫ًّ ً‬ ‫حيا كامل من أحيائها يشبه املديـنة الصغيـرة‪ ،‬يتوسطه قصر فخم‬ ‫جميل‪ ،‬تحيط به الحدائق والبـيوت املتعددة‪ ،‬وكان ذلك َو ً‬ ‫قفا على‬ ‫املر�ضــى‪ ،‬وكان يؤمــه األطبــاء مــن مختلــف التخصصــات فضــا عــن‬ ‫ً‬ ‫الصيادلة وطلبة الطب وكانت النفقة جارية عليهم من الدولة ومن‬ ‫األوقاف الت ــي يجعلها األغن ــياء من األمة لعالج الفقراء وغي ــرهم)(‪.)20‬‬ ‫هــذا والحكــم العــام فــي املطلــب الســابق علــى الثــوار الجامعيي ــن بأنهم‬ ‫ـيب األولويــات َّإبـ َ‬ ‫ـان الثــورة إنمــا هــو مقصـ ٌ‬ ‫أخطــؤوا التقويـ َـم وتـرت ـ َ‬ ‫ـور‬ ‫ِ‬ ‫الج ْيــل‪ ،‬أمــا إطــاق هــذا الحكــم علــى‬ ‫علــى مــدى اهتمامهــم بتعليــم ِ‬ ‫ً‬ ‫دراســتهم الشــخصية فليــس صحيحــا‪ ،‬فقــد كان فيهــم مــن يغامــر بــل‬ ‫َّ‬ ‫انفضــت أكمــل طريقــه‬ ‫يقامــر بحياتــه وهــو يتصـ َّـدر مظاهــرة‪ ،‬فــإذا‬ ‫ً ُ‬ ‫ماضيــا ق ُد ًمــا إلــى كليــة الهندســة‬ ‫إلــى املحاض ـرات فــي جامعــة الثــورة‬ ‫املعماريــة الت ــي ُم ِن َيــت بحصــة األســد مــن قصــف الطي ـران مطلــع‬ ‫عــام ‪2013‬م مـ ّ‬ ‫ـرد ًدا العلــم طريــق الخــاص‪ ،‬ومثــل هــذه القناعــة هــي‬ ‫ِ‬ ‫الت ــي حملــت السوريي ــن علــى خــوض غمــار هــذه املجازفـ ِـة التظاهـ ِـر‬ ‫معــا‪ ،‬فهــم يتظاهــرون ثــم يهرولــون إلــى القاعــات َّ‬ ‫والدراســة ً‬ ‫الد ْرســية‬ ‫ِ‬ ‫وهــم موقنــون أن االعتقــال ليــس عنهــم ببعيــد‪.‬‬ ‫َ َ‬ ‫وث َّمــة آخــرون ت ــركوا كليــات الطــب ونشــطوا فــي اإلغاثــة لكــن ملــا حانــت‬ ‫فرصــة املنــح ملتابعــة التعليــم الجامعــي أو الحصــول علــى الدكتــوراه‬ ‫فــي املهجــر ُهرعــوا إليهــا كمــا فعــل كثي ــرون فــي ســورية وفلسطي ــن‬ ‫املحتلــة ال ســيما أهــل غــزة املحاصــرة؛ ألن العلــم طريــق الخــاص‬ ‫فبــه ســيخدمون وطنهــم مــن طريــق أقــوى وأقــوم‪ ،‬ال ســيما أنهــم‬ ‫أتقنــوا لغــات شـ َّـتى‪ ،‬فت ــرجمة العلــوم أول خطــوة للبــدء مــن حيــث‬

‫(‪ )17‬أحمد بـن القاسم أبو العباس ابـن أبـي أصيبعة‪ :‬عيون األنباء في طبقات األطباء‪ ،‬تح‪ :‬الدكتور نزار رضا‪ ،‬دار مكتبة الحياة‪ ،‬بـيـروت ‪.70/1‬‬ ‫(‪ )18‬راغب السرجانـي‪ :‬العلم وبـناء األمم‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.112‬‬ ‫(‪ )19‬أحمد بـن حنبل‪ :‬املسند‪ ،‬مرجع سابق‪ )532 /28( ،‬رقم الحديث (‪ )17300‬قال محققه‪ :‬حسن بشواهده ومتابعاته‪.‬‬ ‫(‪ )20‬مصطفى السباعي‪ :‬من روائع حضارتنا‪ ،‬دار الوراق للنشر والتوزيع‪-‬املكتب اإلسالمي‪ ،1999-1420 ،‬ط‪ ،1‬ص‪.118‬‬

‫‪59‬‬


‫من َّ‬ ‫ُ‬ ‫رات العربـ َّية‬ ‫الث ْو ِ‬ ‫الفراغ ِ‬ ‫لمي في َز ِ‬ ‫الع ُّ‬ ‫قــدرت دراسـ ٌـة ملؤسســة أنقــذوا األطفــال عـ َ‬ ‫ـام ‪َّ 2015‬أن السوريي ــن‬ ‫الذي ــن لــم ُي ْكم ُلــوا تعليـ َـم املرحلــة األساســية مــن َّ‬ ‫املرجـ ِـح أن يحصلــوا‬ ‫ِ‬ ‫علــى أجــور أقــل ب ــنسبة ‪ %32‬مــن أجــور نظرائهــم ممــن أنهــوا دراســتهم‬ ‫الثانويــة‪ ،‬وأقــل ب ــنسبة ‪ %56‬مقارنــة بمــن َّ‬ ‫تخرجــوا فــي الجامعــة(‪.)13‬‬ ‫ٌ‬ ‫ـاف َ‬ ‫ناصــر العالــم املتحضــر فيهــا‬ ‫واليــوم هــا قــد انصرمــت ســبع عجـ‬ ‫َ َ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫املستبدي ــن َّ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫السفاحي ــن قتلــة املدن ِـيي ــن‬ ‫النيــام‬ ‫ِ‬ ‫املسالي ــن واألطفــال ِ‬ ‫ِ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫بالكيمــاو ِي واملحـ ِـارق الجماعيــة‪ ،‬وعــاد الســؤال يطــرح نفســه كــرة‬ ‫أخــرى‪ :‬أيهمــا ســقط االســتبداد أم التعليــم؟ وهــل فــات ثوارنــا‬ ‫ّ‬ ‫فــي البــاد العرب ــية ِكلهــا يومئـ ٍـذ أن يضعــوا خطــة بديلــة إلســقاط‬ ‫االســتبداد‪ ،‬وقوامهــا التعليــم والتـرب ــية واالخت ـراق؟ ال ســيما أن‬ ‫التهجيـر واالغتـراب أتاح لكثيـريـن ً‬ ‫ّ‬ ‫تعليمية نادرة رغم أنه كان‬ ‫فرصا‬ ‫سـ ًـببا للحرمــان مــن التعليــم فــي حــاالت ليســت قليلــة لعوامــل أهمهــا‬ ‫اللغــة وظــروف أخــرى‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫ـواب القــول بــأنَّ‬ ‫فلنؤكــد صـ َ‬ ‫وإذ إن الثــورة والتعليــم متالزمــان‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫االحتفــاظ بجوهــر يســتع�صي علــى التغيي ــر فــي عالــم كثي ـ ِـر التحــول‬ ‫َ‬ ‫ٌ‬ ‫ـداره أو قلـ ٍـب علــى نظــام حركتــه(‪،)14‬‬ ‫�شــيء يعــادل بقــاء كوكـ ٍـب فــي مـ ِ‬ ‫َّ‬ ‫وأن صمـ َ‬ ‫ـام أمــان هــذا الجوهــر هــو ب ــناء الشــخصية الرياديــة الت ــي‬ ‫ِ‬ ‫ُّ‬ ‫مــن أهـ ِ ّـم أركانهــا العلـ ُـم وملكــة الفهــم والشــعور باملســؤولية‪ ،‬وكلهــا‬ ‫ّ ّ‬ ‫منوطـ ٌـة بالتعليــم والتـرب ــية ً‬ ‫معــا؛ وب ـ ً‬ ‫نؤكـ ُـد َّأن الثائــر‬ ‫ـناء علــى هــذا ِكلــه ِ‬ ‫ً‬ ‫يشة في ّ‬ ‫مهب ريح‪ ،‬لون الحرباء‬ ‫الجاهل املستهت ــر ال يعدو أن يكون ر‬ ‫َ َِ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫ُ​ُ ُ​ُ‬ ‫ُّ‬ ‫َ‬ ‫وإنــي لذكــر أنــه بـي ــنما كان‬ ‫ِصبغتــه والتغيـ ُـر طبعــه وثباتــه مســتغرب؛ ِ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫درب الثــورة‬ ‫ثو َرانــا الجامعيــون يقضــون العجــب ‪ -‬وهــم ي ــرون رفــاق ِ‬ ‫صالحــوا دولــة اإلرهــاب واالســتبداد واصطفــوا فــي خنــدق مليشــياتها‬ ‫ـوة األمــس األحـرار ‪ -‬كنـ ُـت أكـ ّ ِـرر‪:‬‬ ‫أو لحقــوا بتنظيــم الدولــة لقتــال إخـ ِ‬ ‫َ‬ ‫َ َّ‬ ‫ستغرب‪ ،‬تتبعوا ما�ضي وحاضر هؤالء القتلى‬ ‫ال�شيء من معدنه ال ُي‬ ‫َْ‬ ‫ّ‬ ‫املصطفي ــن فــي ركاب إرهــاب الدولــة وتنظيــم‬ ‫الهلكــى املصالحي ــن‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫متعل ًمــا أو‬ ‫عالــا أو ِ‬ ‫الدولــة علــى جبهــات القتــال‪ ،‬فلــن ت َجــدوا فيهــم ِ‬ ‫ُ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫مسـ ً‬ ‫ـتمعا‪ ،‬وهــذا سـ ُّـر هالكهــم‪َ ،‬عـ ْـن أبــي َب ْكـ َـر َة َقـ َ‬ ‫ـال‪« :‬سـ ِـمعت النـبِـ َّـي‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫َّ‬ ‫ً‬ ‫ْ‬ ‫ص َّلــى ُ‬‫َ‬ ‫هللا َعل ْيـ ِـه َو َســل َم‪َ -‬ي ُقــو ُل‪(( :‬اغـ ُـد َع ِالــا أ ْو ُم َت َع ِل ًمــا أ ْو ُم ْسـ َـت ِم ًعا‬ ‫ـال َع َطـ ٌـاء‪(َ :‬قـ َ‬ ‫َأ ْو ُم ِح ًّبــا‪َ َ ،‬ول َت ُكــن ْال َخ ِام َسـ َـة َف َت ْه ِلـ َـك)) َقـ َ‬ ‫ـال ِلــي ِم ْسـ َـع ٌر‪:‬‬ ‫ْ َ َ َ َ ً َ ِْ َ ُ ْ ْ َ َ َ‬ ‫ـض ْالع ْلــمَ‬ ‫ـال‪«َ :‬و ْال َخام َسـ ُـة َأ ْن ُت ْبغـ َ‬ ‫َ‬ ‫ِزدتنــا خ ِامســة لــم تكــن ِعندنــا‪ ،‬قـ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬

‫ ‬

‫من َّ‬ ‫ُ‬ ‫رات العربـ َّية‬ ‫الث ْو ِ‬ ‫الفراغ ِ‬ ‫لمي في َز ِ‬ ‫الع ُّ‬

‫العدد ‪ 2‬رجب ‪1439‬هـ‬

‫َو َأ ْه َل ُه)(‪ ،)15‬وال َّ‬ ‫أدل على الهالك الناجم عن الجهل من هذا التقلب‬ ‫ـوار ُ‬ ‫ُ َ‬ ‫ـاد َ‬ ‫حكمهــا ثـ ٌ‬ ‫قادت ُهــم‬ ‫العجــاب وذاك األداء اإلداري الضعيــف فــي بـ ٍ‬ ‫َّ‬ ‫ٌ‬ ‫ًُ‬ ‫َّإمــا ِح ْر ِف ُّيــون لــم تخــط أيديهــم كلمــة تــدار بهــا غرفــة يقطنهــا بضعــة‬ ‫ً ّ‬ ‫أنفــار َّ‬ ‫ُّ‬ ‫يكفــرون‬ ‫وإمــا‬ ‫ظالميــون ال ي ــرون العلــم ســوى جهـ ٍ‬ ‫ـاالت مطبقــة ِ‬ ‫َ‬ ‫وعرضــه‪.‬‬ ‫بهــا مــن شــاء ليستب ــيحوا دمــه ومالــه‬ ‫َ‬ ‫وفشـ ِـت األميــة وأعـ َ‬ ‫ـرض القــوم عــن املدرســة‬ ‫واليــوم وقــد كان مــا كان‬ ‫وشــغلتهم دن ــيا الوهــم فــي جمــع قــروش أو إســقاط عــروش ســرعان‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫صنع ْتــه هتافــات مخلصــة‬ ‫مــا تعــود ِلتشـ َّـيد علــى جماجــم جهـ ٍـل‬ ‫َّ‬ ‫خطــت بمعــاول تجهيــل َّ‬ ‫هدامــة (ال دراســة وال تدريــس‬ ‫هـ َّـدارة؛ لكنهــا‬ ‫ٍ‬ ‫الرئيــس)‪ ،‬فهــل مــن مغيــث اليــوم تحملــه ّ‬ ‫حتــى يســقط َّ‬ ‫حميــة الغي ــرة‬ ‫علــى عقــول تســتغيث لدفــع الصائلي ــن عليهــا؟! لقــد عـ َّـز ْ‬ ‫زت هــذه‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ـف التسـ ُّـر َب مــن التعليــم حتــى‬ ‫الشــعارات وخشــية االعتقـ ِـال والقصـ ِ‬ ‫وصلــت نســبة األطفــال املحرومي ــن مــن الدراســة بســبب الصراعــات‬ ‫فــي هــذه الــدول ‪ً %40‬‬ ‫وفقــا لتقري ــر منظمــة األمــم املتحــدة لألمومــة‬ ‫والطفولــة فــي ‪ 3‬أيلــول ‪ 2015‬بعنــوان (التعليــم تحــت النــار)(‪،)16‬‬ ‫ومـ ُّ‬ ‫ـرد هــذه املعضلـ ِـة إلــى موانــع وعقبــات بعضهــا ال مفـ َّـر منهــا كمــا فــي‬ ‫ّ‬ ‫املتولد من قصف الطائرات عشـرات املرات للمدارس أثناء‬ ‫الرعب ِ‬ ‫الــدوام‪ ،‬ولبعضهــا مخــارج محــدودة األث ــر عمــل الثــوار ومؤسســات‬ ‫املجتمــع املدن ــي علــى تجاوزهــا مــا أمكــن كمــا فــي تدمي ــر املنشــآت‬ ‫التعليميــة واســتهداف املعلمي ــن واســتنزاف املــوارد‪ ،‬ولتذليــل هــذه‬ ‫العقبــات انبعثــت مــدارس املخيمــات ومبــادرة جيــل غي ــر ضائــع‬ ‫وحمــات العــودة للتعليــم وعمليــات إعــادة إعمــار بعــض املــدارس‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫لكن من لم ّ‬ ‫تحصنهم هذه املؤسسات تلقفتهم التنظيمات اإلرهابـية‬ ‫ِ‬ ‫فــي صفوفهــا كمــا فــي اليمــن والعـراق وســورية‪ ،‬ويجــري توظيــف هــؤالء‬ ‫األطفــال لتكريــس ســموم التطــرف والتكفي ــر والصـراع واالنفصــال‬ ‫واالنتمــاءات والــوالءات الطائفيــة والعرقيــة ورفــض اآلخــر لــدى‬ ‫األجيــال الناشــئة‪.‬‬ ‫َّ‬ ‫املطلب الثالث‪ :‬املتوقع املأمول ملستقبل التعليم في الثورة‬ ‫ٌ‬ ‫ُ‬ ‫ٌ ْ ٌ ْ‬ ‫ُ‬ ‫بقيم‬ ‫تعليــم دولــة الثــورة املنشــود تعليــم ِصــرف ِقي ِمـ ُّـي محايــد محــاط ٍ‬ ‫ُ‬ ‫بوية ال يختلــف عليهــا اثنــان‪ ،‬هدفـ ُـه تكوي ـ ُـن العقليــة املوضوعيــة‬ ‫ت ـر ٍ‬ ‫العلميــة املؤسســة علــى النظــر واالســتنباط والب ــرهنة واالســتدالل‪،‬‬

‫(‪/http://midan.aljazeera.net/reality/community/2017/1/28 )13‬‬ ‫(‪ )14‬د‪ .‬عبد الكريم بكار‪ :‬منشورات صفحته على الفيس بوك‪.‬‬ ‫(‪ )15‬أبو الحسن نور الديـن علي بـن أبـي بكر الهيثمي‪ :‬مجمع الزوائد ومنبع الفوائد‪ ،‬تح‪ :‬حسام الديـن القد�سي‪ ،‬الناشر‪ :‬مكتبة القد�سي‪،‬‬ ‫َّ َ َ ْ‬ ‫َّ‬ ‫ُ َّ َ‬ ‫القاهرة‪1414 ،‬هـ ‪1994‬م (‪ ،)122 /1‬وقال الهيثمي‪َ :‬ر َو ُاه الط َب َرا ِن ُّي ِفي الثلث ِة َوال َب َّز ُار‪َ ،‬و ِر َجال ُه ُم َوث ُقون‪.‬‬ ‫(‪ /https://aawsat.com/home/article/988056 )16‬رياح الحروب تقفل أبواب املدارس‪.‬‬

‫‪58‬‬

‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫وب ـ ُ‬ ‫وقاعدتهــا وقيادتهــا‬ ‫ـناء اإلنســان الــذي بــه ت ْب َنــى الحضــارة والدولــة‬ ‫ًّأيــا كان عـ ْـر ُق هــذا اإلنســان املسـ َ‬ ‫ـتهدف بالتعليــم أو دي ـ ُـنه؛ فالعلــوم‬ ‫ِ‬ ‫َّ‬ ‫َ ْ‬ ‫ً‬ ‫الحياتـية ميـراث إنسانـي ليس حكرا على ِمل ٍة أو ديـن‪ ،‬يقول أبو بكر‬ ‫ال ـرازي فــي كتابــه املوســوعي الحــاوي فــي تاريــخ الطــب‪( :‬لقــد جمعــت‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫وعيونــا مــن صناعــة الطــب ممــا اســتخرجته‬ ‫فــي كتاب ــي هــذا جمــا‬ ‫مــن كتــب أبق ـراط وجالي ــنوس وأرماســوس ومــن دونهــم مــن قدمــاء‬ ‫فالســفة األطبــاء‪ ،‬ومــن بعدهــم مــن املحدثي ــن فــي أحــكام الطــب مثــل‬ ‫(‪)17‬‬ ‫بولــس وآهــرون وحنـي ــن ب ــن إســحاق ويحيــى ب ــن ماســويه وغي ــرهم‬ ‫وملــا دخــل الناصــر صــاح الدي ــن األيوب ــي رحمــه هللا تعالــى مصــر كان‬ ‫ً‬ ‫بصحبتــه ثمان ــية عشــر عال ـ ــا فــي الطــب‪ ،‬منهــم ثمان ــية مســلمون‬ ‫وخمســة يهــود وأربعــة مــن النصــارى وســامر ٌّي واحــد(‪.)18‬‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ومــا ْإن ْأن أنهكـ ِـت الثــورة الســنون وكادت تتــآكل بأن ــياب املتآمري ــن‬ ‫بقصـ ٍـد أو عــن جهالـ ٍـة حتــى عـ َـاد الثــوار ليست ــيقنوا مــا ب ــرهنت عليــه‬ ‫ســنن التاريــخ م ـر ًارا ِمـ ْـن َّأن التعليــم ســاح التغيي ــر‪ ،‬وأنــه كان ِل َز ًامــا‬ ‫علــى الثـ ْـو َرات لتحقــق انتصـ ًـارا ال هزيمـ َـة بعـ ُ‬ ‫ـده أن تتخــذ مــن العلــم‬ ‫َ‬ ‫ً‬ ‫َ‬ ‫منــارة لهــا حتــى يبلــغ العلـ ُـم بهــا مبلغــا‪ ،‬ويكــون للتعليــم ومؤسســاته‬ ‫ّ‬ ‫ـتقلة ال غي ــر القــو ُل الفصــل فــي التغيي ــر مــن الجــذور لـ ّ‬ ‫ـكل مــن‬ ‫املسـ‬ ‫ٍ‬ ‫املفاهيــم والســلوك‪ ،‬وليغـ َ‬ ‫ـدو البحــث العلمــي َّ‬ ‫بقوتــه الت ــي يذعــن لهــا‬ ‫العامــة والخاصــة موئـ ًـا للساســة ورجــال األعمــال ً‬ ‫معــا‪ ،‬ويمكــن‬ ‫تصـ ُّـور مرجعيـ ِـة العلــم ومؤسســاته علــى النحــو اآلت ــي‪:‬‬ ‫ٌ‬ ‫ُ‬ ‫ً‬ ‫وخصوصــا التجريب ــية هيئــة‬ ‫ـوث العلميــة‬ ‫‪ )1‬تصبــح ملؤسســة البحـ ِ‬ ‫ٌ‬ ‫قانون ــية لتقييــم األداء الحكومـ ّ ِـي فــي مجــال التعليــم والبحــث العلمــي‬ ‫ً‬ ‫ُ ُْ‬ ‫ّ‬ ‫ـئ‬ ‫ـ‬ ‫ج‬ ‫ل‬ ‫بحيــث ت‬ ‫السياسيي ــن مثــا إلــى أن يجعلــوا رضــا املؤسســات‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ً‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫َّ‬ ‫وإدارت ِهــم للدولــة الحقــا‪.‬‬ ‫هم ِهــم فــي‬ ‫ـية ِ‬ ‫دعايات ِهــم االنتخاب ـ ِ‬ ‫ِ‬ ‫العلميــة جــل ِ‬ ‫ُ‬ ‫َ ْ‬ ‫اءات االخت ـراع‬ ‫‪ )2‬تح ِمـ ُـل منزلــة مراكـ ِـز البحــوث ومؤسســة ب ـر ِ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ـركات واملصانـ َـع العمالقــة علــى أ ْن تلتمــس مــن املؤسســات‬ ‫الشـ ِ‬ ‫َ‬ ‫العلميــة املختصــة إش ـراكها فــي اإلبــداع ونفقا ِتــه لتحصــل منهــا علــى‬ ‫تزكيـ ٍـة فــي مجالهــا تسـ ّ ِـوق بهــا لنفســها‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫ّ ْ َ‬ ‫ـياء‬ ‫‪ )3‬تبعــث منزلــة العلــوم الســامقة الوعـ َـي فــي‬ ‫املتدي ِنيــن األغن ـ ِ‬ ‫ِ‬ ‫َّ‬ ‫ـوث‬ ‫ـات الداعمــة للثــورة ليست ــيقنوا أن اإلنفــاق علــى البحـ ِ‬ ‫واملنظمـ ِ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ـف مــرة مــن‬ ‫واملختب ـرات وعلــى الباحثي ــن املغتـربـي ــن هــو أفضــل بألـ ِ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫ـوة‬ ‫نفـ ِـل ألـ ِ‬ ‫ـاق التب ــرعات ِكلهــا علــى القـ ِ‬ ‫ـف حــج وعمــرة وأعــدل مــن إنفـ ِ‬

‫ ‬

‫العدد ‪ 2‬رجب ‪1439‬هـ‬

‫ملقاومــة العــدو املســتبد وأعوانــه املحتلي ــن ((إ َّن َ‬ ‫هللا َعـ َّـز َو َجـ َّـل ُي ْد ِخـ ُـل‬ ‫ِ‬ ‫َّ‬ ‫صان َعـ ُـه َي ْح َتسـ ُـب فــي َ‬ ‫ْ َ َّ َ َ‬ ‫الث َل َثـ َـة ب َّ ْ َ‬ ‫ص ْن َع ِتـ ِـه ْال َخ ْيــر‪َ،‬‬ ‫السـ ْـه ِم الو ِاحـ ِـد الجنــة‪ِ :‬‬ ‫ِ ِ‬ ‫ْ ِ‬ ‫َوالُ ِمـ َّـد بـ ِـه‪َ ،‬و َّ‬ ‫الر ِامـ َـي ِبـ ِـه))(‪.)19‬‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫‪ )4‬يب ـ ُ‬ ‫ـرهن العلـ ُـم بأث ــره فــي الدي ــن والدن ــيا ِلــن كان فــي َم ْي َسـ ٍـرة مــن‬ ‫ّ‬ ‫املفسري ــن القائلي ــن‪:‬‬ ‫املتقي ــن علــى وجهـ ِـة نظـ ِـر فريـ ٍـق مــن فقهــاء ِ‬ ‫ّ‬ ‫َّإن للعلــم وأهلــه ومؤسســاته بأنواعهــا ِكلهــا الشــرعية والحيات ـ ّـية‬ ‫ً ْ‬ ‫َ َ َ‬ ‫هللا َو ْابـ ِـن‬ ‫مــن الزكــوات املفروضـ ِـة‬ ‫نصيبــا ِمــن ســهم ْي (( و ِفــي سـ ِـب ِيل ِ‬ ‫ً‬ ‫َّ‬ ‫ً‬ ‫السـ ِـب ِيل)) [التوبــة‪ ]60 :‬ال ســهما واحــدا فحســب كالفق ـراء ناهيــك‬ ‫عــن األوقــاف والتب ــرعات‪( ،‬حـ َّـدث اب ــن جبـي ــر فــي رحلتــه الت ــي قــام بهــا‬ ‫ســنة ‪ 580‬ه ـ تقر ًيبــا أنــه رأى فــي بغــداد عاصمــة الخالفــة العباســية‬ ‫ًّ ً‬ ‫حيا كامل من أحيائها يشبه املديـنة الصغيـرة‪ ،‬يتوسطه قصر فخم‬ ‫جميل‪ ،‬تحيط به الحدائق والبـيوت املتعددة‪ ،‬وكان ذلك َو ً‬ ‫قفا على‬ ‫املر�ضــى‪ ،‬وكان يؤمــه األطبــاء مــن مختلــف التخصصــات فضــا عــن‬ ‫ً‬ ‫الصيادلة وطلبة الطب وكانت النفقة جارية عليهم من الدولة ومن‬ ‫األوقاف الت ــي يجعلها األغن ــياء من األمة لعالج الفقراء وغي ــرهم)(‪.)20‬‬ ‫هــذا والحكــم العــام فــي املطلــب الســابق علــى الثــوار الجامعيي ــن بأنهم‬ ‫ـيب األولويــات َّإبـ َ‬ ‫ـان الثــورة إنمــا هــو مقصـ ٌ‬ ‫أخطــؤوا التقويـ َـم وتـرت ـ َ‬ ‫ـور‬ ‫ِ‬ ‫الج ْيــل‪ ،‬أمــا إطــاق هــذا الحكــم علــى‬ ‫علــى مــدى اهتمامهــم بتعليــم ِ‬ ‫ً‬ ‫دراســتهم الشــخصية فليــس صحيحــا‪ ،‬فقــد كان فيهــم مــن يغامــر بــل‬ ‫َّ‬ ‫انفضــت أكمــل طريقــه‬ ‫يقامــر بحياتــه وهــو يتصـ َّـدر مظاهــرة‪ ،‬فــإذا‬ ‫ً ُ‬ ‫ماضيــا ق ُد ًمــا إلــى كليــة الهندســة‬ ‫إلــى املحاض ـرات فــي جامعــة الثــورة‬ ‫املعماريــة الت ــي ُم ِن َيــت بحصــة األســد مــن قصــف الطي ـران مطلــع‬ ‫عــام ‪2013‬م مـ ّ‬ ‫ـرد ًدا العلــم طريــق الخــاص‪ ،‬ومثــل هــذه القناعــة هــي‬ ‫ِ‬ ‫الت ــي حملــت السوريي ــن علــى خــوض غمــار هــذه املجازفـ ِـة التظاهـ ِـر‬ ‫معــا‪ ،‬فهــم يتظاهــرون ثــم يهرولــون إلــى القاعــات َّ‬ ‫والدراســة ً‬ ‫الد ْرســية‬ ‫ِ‬ ‫وهــم موقنــون أن االعتقــال ليــس عنهــم ببعيــد‪.‬‬ ‫َ َ‬ ‫وث َّمــة آخــرون ت ــركوا كليــات الطــب ونشــطوا فــي اإلغاثــة لكــن ملــا حانــت‬ ‫فرصــة املنــح ملتابعــة التعليــم الجامعــي أو الحصــول علــى الدكتــوراه‬ ‫فــي املهجــر ُهرعــوا إليهــا كمــا فعــل كثي ــرون فــي ســورية وفلسطي ــن‬ ‫املحتلــة ال ســيما أهــل غــزة املحاصــرة؛ ألن العلــم طريــق الخــاص‬ ‫فبــه ســيخدمون وطنهــم مــن طريــق أقــوى وأقــوم‪ ،‬ال ســيما أنهــم‬ ‫أتقنــوا لغــات شـ َّـتى‪ ،‬فت ــرجمة العلــوم أول خطــوة للبــدء مــن حيــث‬

‫(‪ )17‬أحمد بـن القاسم أبو العباس ابـن أبـي أصيبعة‪ :‬عيون األنباء في طبقات األطباء‪ ،‬تح‪ :‬الدكتور نزار رضا‪ ،‬دار مكتبة الحياة‪ ،‬بـيـروت ‪.70/1‬‬ ‫(‪ )18‬راغب السرجانـي‪ :‬العلم وبـناء األمم‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.112‬‬ ‫(‪ )19‬أحمد بـن حنبل‪ :‬املسند‪ ،‬مرجع سابق‪ )532 /28( ،‬رقم الحديث (‪ )17300‬قال محققه‪ :‬حسن بشواهده ومتابعاته‪.‬‬ ‫(‪ )20‬مصطفى السباعي‪ :‬من روائع حضارتنا‪ ،‬دار الوراق للنشر والتوزيع‪-‬املكتب اإلسالمي‪ ،1999-1420 ،‬ط‪ ،1‬ص‪.118‬‬

‫‪59‬‬


‫من َّ‬ ‫ُ‬ ‫رات العربـ َّية‬ ‫الث ْو ِ‬ ‫الفراغ ِ‬ ‫لمي في َز ِ‬ ‫الع ُّ‬ ‫انتهــى اآلخــرون‪ ،‬ومــا قولــك فــي َّأن الخليفــة املأمــون كان يو ِفــد َبعثــات‬ ‫َ‬ ‫ً‬ ‫َ‬ ‫وزنــه ً‬ ‫ذهبــا ومــا أدراك‬ ‫ـية‬ ‫علميــة(‪ )21‬وي َهـ ُـب مــن يت ــرجم كتابــا إلــى العرب ـ ِ‬ ‫بــوزن َور ِق ذلــك العصــر!(‪ )22‬وفــي عهــده صــارت بغــداد العاصمــة‬ ‫َ‬ ‫تح�صــى وقـ َّـرب إليــه‬ ‫العلميــة العظمــى فــي األرض فجمــع إليهــا كتبــا ال‬ ‫ّ‬ ‫العلمــاء وبالــغ فــي الحفــاوة بهــم(‪ )23‬بــل مــا قولــك فــي أن مــن الخلفــاء‬ ‫ّ‬ ‫ـدو املخطوطــات والكتــب العلميــة‬ ‫العباسيي ــن مــن كان يأخــذ مــن العـ ِ‬ ‫ً‬ ‫بــدل الجزيــة!(‪ ...)24‬إذا أليــس األجـ َـدى مــن التبا ـكـي علــى التعليــم فــي‬ ‫ّ‬ ‫الحقبـ ِـة هــو حــث منظمــات الثــورة واملجتمــع املدن ــي للعمــل علــى‬ ‫هــذه ِ‬ ‫ـداد ب ـرنامج اتصـ ٍـال وجــداول عمـ ٍـل ودعـ ٍـم إعالمـ ّ ٍـي ومـ ِ ّـاد ّ ٍي ومعنــو ّ ٍي‬ ‫إعـ ِ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ َْ ُ‬ ‫تست ِهدف االتصال باملغتـربـيـن الدارسيـن في املهجر والعناية الفائقة‬ ‫ّ‬ ‫جلهــم أو فريــق منهــم لوطنــه بعــد ُّ‬ ‫تخرجــه وإال‬ ‫بهــم لضمــان عــودة ِ‬ ‫عدنــا َّ‬ ‫بخفــي حنـي ــن‪.‬‬ ‫هــذا ولئــن كانــت العنايــة بالتعليــم واملنــح ُتعـ ُّـد ف ـر ًارا مــن َّ‬ ‫الزحــف‬ ‫ِ‬ ‫وري في رأي فئة يومئذ؛ َّ‬ ‫َّ ّ‬ ‫فإن كثي ًـرا من املهاجريـن يـرون في التعليم‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫الث ِ‬ ‫سـ ً‬ ‫ـاحا ًّ‬ ‫نوعيــا وخطــة بديلــة للتغيي ــر فــي املســتقبل‪ ،‬ولــو أن الفئــة‬ ‫َّ‬ ‫األولــى حكمــت العاطفــة والحمــاس والعقــل والتخطيــط املســتقبلي‬ ‫ً‬ ‫معــا لعلمــت أن كل املســارات ضــرورات ال خيــارات يجــوز إغفالهــا؛‬ ‫فمــا خــرج النب ــي صلــى هللا عليــه وســلم للقــاء عــدو فــي معركــة ً‬ ‫يومــا‬ ‫َ​َ َ َ ْ‬ ‫ّ‬ ‫َّ‬ ‫ان الُ ْؤ ِم ُنــو َن‬ ‫يعلــم النــاس والوفــود ((ومــا ك‬ ‫إال وخلــف فــي املدي ــنة مــن ِ‬ ‫ل َي ْنف ُروا َك َّاف ًة َف َل ْ َول َن َف َر م ْن ُك ّل ف ْر َقة م ْن ُه ْم َطائ َف ٌة ل َي َت َف َّق ُهوا في ّ‬ ‫الدي ِـن‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ ِ ِ ٍ ِ‬ ‫َ ُ ْ ُ َ ْ َ ُ ْ َ َ َ ُ َ ْ ْ َ َ َّ ُ ْ َ ْ َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫وِلينـ ِـذروا قومهــم ِإذا رجعــوا ِإلي ِهــم لعلهــم يحــذرون)) [التوبــة‪،]122 :‬‬ ‫ُْ ُ ّ‬ ‫املعلــم مــع‬ ‫وتلــك هــي وظيفــة الـ ّ ِـردء الت ــي كان يقــوم بهــا هــارون الب ـ ِـين ِ‬ ‫ً‬ ‫جميعــا يومئـ ٍـذ بمســار‬ ‫مو�ســى عليهمــا الســام‪ ،‬فمــن ألــزم النــاس‬ ‫واحــد ُرئـ َـي يتبا ـكـى علــى َ‬ ‫جرحــى يلفظــون أنفاســهم عندمــا لــم يجــد‬ ‫أطبــاء مــن حولــه‪ ،‬ومــن أي ــن لــه األطبــاء إن لــم يــدرس أحـ ٌـد الطــب علــى‬ ‫مذهبــه امللــزم للجميــع بالسي ــر فــي مســار واحــد؟ َّإن أعظـ َـم ثائـ ٍـر علــى‬ ‫ِ‬ ‫الباطنـيي ــن الــذي أصــاب ب ــنظرته الثاقبــة بــأن طريــق تحري ــر القــدس‬ ‫يبــدأ بالخــاص مــن كيــد الباطنـيي ــن هــو اإلمــام العــادل الشــهيد نــور‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫الزنكــي رحمــه هللا تعالــى‪ ،‬وبـي ــنما كان يم�ضــى ق ُد ًمــا فــي‬ ‫الدي ــن محمــود ِ‬ ‫ومن ورائهم الصليبـيـن واليهود كانت عنايته‬ ‫جهاده ضد الباطنـييـن ِ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫بالتعليــم فائقــة‪ ،‬ففــي ذلــك الوقــت عــام ‪ 549‬ه ـ أســس كليــة الطــب‬

‫ ‬

‫من َّ‬ ‫ُ‬ ‫رات العربـ َّية‬ ‫الث ْو ِ‬ ‫الفراغ ِ‬ ‫لمي في َز ِ‬ ‫الع ُّ‬

‫العدد ‪ 2‬رجب ‪1439‬هـ‬

‫العريقــة (املستشــفى النــوري الكبـي ــر) وهــو مــن أجــل املؤسســات‬ ‫الطب ــية وأعظمهــا فــي التاريــخ‪ ،‬ومــا زال يخـ ّ ِـرج األطبــاء فــي قاعاتــه‬ ‫العلميــة ويعالــج املر�ضــى حتــى عــام ‪ 1317‬هــ‪1899/‬م أي نحــو ثمان ــي‬ ‫مئــة ســنة(‪.)25‬‬ ‫فأي ــن ثوارنــا أصحــاب االتجــاه واملســار الواحــد مــن هــذا الوعــي‬ ‫الرشــيد؟ ثــم إنــك ســوف ت ــرى فيهــم مــن يتبا ـكـى وهــو يعاي ـ ُـن الشــركات‬ ‫األجنب ــية تأت ــي بمهندســيها وخب ـرائها إلعــادة األعمــار‪ ،‬وليــس ألب ــناء‬ ‫ُّ‬ ‫الوطــن يومئـ ٍـذ ســوى‬ ‫التحســر علــى مــا فــات‪:‬‬ ‫ُّ‬ ‫ً‬ ‫والج ــهل يخفــض أمة ويــذلها والعلم يـرفعها َّ‬ ‫أجل مقـ ِـام‬ ‫ُ‬ ‫انظر إلى األقوام كيف َ‬ ‫العلوم إلى ّ‬ ‫املحل السامي‬ ‫سم ْت بهم تلك‬ ‫ِ‬

‫املبحث الثالث‬

‫ُ‬ ‫ـنوات َّ‬ ‫السـ ْـبع‬ ‫ظواهـ ُـر التعليــم الســبع فــي السـ ِ‬

‫ً‬ ‫ـتطالعا‬ ‫إن اإلجابــة العلميــة عــن أســئلة البحــث تقت�ضــي اسـ‬ ‫ـتبانات ّ‬ ‫َّ‬ ‫ـات واملراحـ ِـل العمريــة‬ ‫علميــة‬ ‫واسـ‬ ‫ٍ‬ ‫مفصلــة لــكل التخصصـ ِ‬ ‫ـنوات الثــورات ومقارنــة كل ســنة بمــا قبلهــا واســتبانات‬ ‫علــى مــدى سـ ِ‬ ‫ـرب‬ ‫ـباب التسـ ِ‬ ‫خاصــة بمناطــق النــزوح وبــاد املهجــر‪ ،‬وأخــرى ألسـ ِ‬ ‫َّ‬ ‫وعوامل األمية وخط سيـر اإلنتاج العلمي املتوقع‬ ‫وانحسار التعليم‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ً ُ‬ ‫ًّ‬ ‫ًّ‬ ‫كما وكيفا تـراك ِميا فيما لو فرضنا أن هذه الحقبة حقبة استقرار‪،‬‬ ‫عملية على ّ‬ ‫ثم القيام بدراسة تجريبـية َّ‬ ‫عينات الدراسة في كل حالة‬ ‫ِ‬ ‫وإعــداد دراســات إحصائيــة لذلــك كلــه مــن أجــل إصــدار أحــكام‬ ‫َ‬ ‫صحيحــة‪ ،‬وتســتدعي اإلجابــة علــى األســئلة ً‬ ‫أيضــا مقارنــة التعليــم فــي‬ ‫اب بمــا هــو متــاح للموالي ــن لألنظمــة الحاكمــة خــال‬ ‫الثــورة واالغت ـر ِ‬ ‫ســنوات الثــورات‪ ،‬أمــا مقارنــة فــروق التعليــم فــي زمــن الســلم بزمــن‬ ‫الحــرب فتلــك مســألة أعمــق‪.‬‬ ‫َ‬ ‫وإنن ــي َ َل ُكـ ّـر ُر أنن ــي ال أكتمــك سـ ًّـرا بـ َّ‬ ‫ـأن الدراســة اقتصــرت علــى إثــارة‬ ‫ِ‬ ‫ّ‬ ‫املشــكلة ولــم تقـ ِـدم إجابــة علميــة عــن أي مــن األســئلة؛ ذلــك أن‬ ‫اإلجابات العلمية تستوجب القيام بكل ما سبق‪ ،‬وتلك أعمال بحثية‬ ‫ٌ‬ ‫ُمسـ ِـهبة حقيقــة ب ــرسائل جامعيــة فــي أقســام علــم التـرب ــية واالجتمــاع‬ ‫والسياســة‪ ،‬لكــن يمكــن ســرد ظواهــر تنكشــف بهــا حــدود البحــث‬

‫الق َّنوجي‪ :‬أبجد العلوم‪ ،‬دار ابـن حزم‪ ،‬ط‪ 1423 ،1‬هـ‪ 2002 -‬م‪ ،‬ص‪ .146 :‬وفيه قال‪( :‬أوفد املأمون الرسل‬ ‫(‪ )21‬أبو الطيب محمد صديق خان بـن حسن ِ‬ ‫على ملوك الروم في استخراج علوم اليونانـييـن وانتساخها بالخط العربـي‪ ،‬وبعث املتـرجميـن لذلك‪ ،‬فأوعى منه واستوعب)‪.‬‬ ‫(‪ )22‬شوقي أبو خليل‪ :‬الحضارة العربية اإلسالمية‪ ،‬دار الفكر املعاصر ودار الفكر‪2002 ،‬م‪ ،‬ص ‪.442‬‬ ‫(‪ )23‬راغب السرجاني‪ :‬العلم وبـناء األمم‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪ .185‬نقال عن دوبيـر في كتابه‪ :‬املنازعة بيـن العلم‪.‬‬ ‫(‪ )24‬علي عبد هللا الدفاع‪ :‬روائع الحضارة العربية اإلسالمية في العلوم‪ ،‬مؤسسة الرسالة القاهرة ط‪ ،1999 ،2‬ص‪.25‬‬ ‫(‪ )25‬مصطفى السباعي‪ :‬من روائع حضارتنا‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.116‬‬

‫‪60‬‬

‫مفصلـ ًـة وتصلــح ً‬ ‫َّ‬ ‫أساســا ملقاربــات ومدخــا لدراســات أكاديميــة بحتــة‪.‬‬ ‫الظاهرة األولى‪ :‬ضعف الفرص واإلمكان َّـيات‬ ‫َّ َ ُ‬ ‫ْ‬ ‫وجامعات ِهـ ْـم َوفـ َـق منــاخ وب ــيئة‬ ‫بـي ــنما يم�ضــي الطلبــة إلــى مدارســهم‬ ‫ِ‬ ‫َّ َ ْ ًّ‬ ‫ـلطان األنظمــة املســتبدة‪َ ،‬نـ َـرى‬ ‫تعليميــة مهيـ ٍـأة شــكليا تحــت سـ ِ‬ ‫زمالءهــم فــي املخيمــات ومناطــق الحــرب والحصــار وكهــوف النــزوح‬ ‫وبعــض دول اللجــوء يتكدســون فــي املنشــآت التعليميــة؛ فيضعــف‬ ‫َ‬ ‫مســتوى التعليــم والخ ْدمــات َّ‬ ‫املقدمــة أو تنعــدم‪ ،‬بــل ُي ْرفــض أكث ــر‬ ‫ِ‬ ‫ّ‬ ‫الطــاب لضيــق املنشــآت وشـ ِـح املــوارد التعليميــة كمــا فــي لب ــنان حتــى‬ ‫عــام ‪2015‬م‪ ،‬ثــم َّإنــه قلمــا يحظــى أحــد هــؤالء الطــاب بااللتحــاق‬ ‫ُ‬ ‫ـباب تحكيهــا ظــروف‬ ‫بالجامعــة ال ســيما التخصصــات املرموقــة ألسـ ٍ‬ ‫َ َّ َّ ٌ‬ ‫َّ‬ ‫ـوء والحيـ ِـاة الشــاقة‪ ،‬نعــم ثمــة قلــة آخــرون‬ ‫ـرب واالعتقـ ِـال واللجـ ِ‬ ‫الحـ ِ‬ ‫َ‬ ‫ـرص مــا كانــت لتتــاح لهــم لــو لــم يهاجــروا‪.‬‬ ‫حظــوا بفـ ٍ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫ُ ّ‬ ‫َّ‬ ‫ومنظمــات املجتمــع‬ ‫حمـ ُـل األف ـر َاد و ِفـ َـرق العمــل‬ ‫إن هــذا املشــهد لي ِ‬ ‫َ‬ ‫مسؤولية تدارك القصور ّ‬ ‫وسد الثغرات من خالل مجموعة‬ ‫املدنـي‬ ‫إجـراءات وب ـرامج مقت ــرحة‪ ،‬منهــا‪:‬‬ ‫ـزء مــن مواردهــا فــي التعليــم مــن خــال‬ ‫‪ )1‬اســتثمار املنظمــات لجـ ٍ‬ ‫ب ـرامج دقيقــة مبـن ــية علــى دراســة جــدوى إيجاب ــية وتفاعلهــا مــع‬ ‫مؤسســات حكوميــة وخي ـرية يســتفاد مــن مراكزهــا املتاحــة ً‬ ‫دائمــا أو‬ ‫خــارج ســاعات دوامهــا الرســمي‪.‬‬ ‫اهقي ــن‬ ‫‪ )2‬تنظيــم فــرق عمــل لدعــم املنقطعي ــن عــن الدراســة واملر ِ‬ ‫ُ‬ ‫األ ِّم ْيي ــن مــن خــال تـيسي ــر التعليــم البديــل أو املفتــوح أو املســتمر‬ ‫أو عــن بعــد مــن خــال املراســلة والــدروس التفاعليــة واملســجلة‬ ‫عب ــر وســائل التواصــل االجتماعــي‪ ،‬ويقــوم عليهــا مشــرف مجموعــة‬ ‫متخصــص للدعــم واملتابعــة‪.‬‬ ‫ً‬ ‫ـاعة ًّ‬ ‫ّ‬ ‫يوميــا‬ ‫ـدرس املتطـ ّ ِـوع) سـ‬ ‫‪ )3‬مبــادرات فرديــة لتفعيــل ب ـرامج (املـ ِ‬ ‫َ ْ‬ ‫العالــم الثائــر عبــد الحميــد‬ ‫مــع مبــدأ (األم مد َرســة)‪ ،‬اســتمر ًارا لفكــرة ِ‬ ‫َّ‬ ‫علمــت ولـ ًـدا فقــد علمــت فـ ً‬ ‫ـردا وإذا‬ ‫ب ــن باديــس رحمــه هللا تعالــى‪( :‬إذا‬ ‫علمت ب ًـنتا فقد علمت َّأمة)‪ ،‬وتهدف إلى تحسيـن سريع ألداء أولياء‬ ‫األمــور ليغــدوا مدرسي ــن فعليي ــن ألوالدهــم فــي الب ــيوت وفــق ب ـرنامج‬ ‫َّ‬ ‫ومدعــم بوســائل مســاعدة‬ ‫مكثــف يــوازي ب ـرامج الدراســة املنتظمــة‬ ‫َّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ـوكل مهمــة االســتمرار‬ ‫ـدرس املتطـ ِـوع ثــم يـ ِ‬ ‫مــن الشــبكة‪ ،‬يبــدأ بــه املـ ِ‬ ‫إلــى األســرة‪ ،‬وتغــدو مهمتــه التقويــم واملتابعــة الجماعيــة املباشــرة‬ ‫ًّ ً‬ ‫ـبوعيا مــرة فــي مراكــز متاحــة أو فــي بعــض الب ــيوت أيــام العطلــة‬ ‫أسـ‬ ‫األســبوعية أو املتابعــة عــن بعــد مــن خــال مواقــع التواصــل‪ ،‬و�شــيءٌ‬

‫ ‬

‫العدد ‪ 2‬رجب ‪1439‬هـ‬

‫مــن هــذا يقــوم بــه بعــض املغتـربـي ــن املصريي ــن املثقفي ــن‪ :‬يتخــذون‬ ‫مــن ب ــيوتهم مدرســة نموذجيــة بــإدارة األبوي ــن فقــط‪ ،‬فــإذا حانــت‬ ‫االمتحانــات التحقــوا باملراكــز الخارجيــة لهــا مــن خــال ســفارات‬ ‫بالدهــم‪.‬‬ ‫الظاهرة الثانـية‪ :‬أثـرالحرب على العملية التعليمية‬ ‫ي ــنبغي تحديــد مــدى تأثي ــر الحــرب ُّ‬ ‫والرعــب والنــزوح واللجــوء‬ ‫والظــروف املعيشــية القاســية والوضــع االجتماعــي الناجــم عنهــا علــى‬ ‫التعليم واألداء وعدد املعلمي ــن املتخصصي ــن‪ ،‬وتأثي ــر هذه األحوال‬ ‫علــى املتعلمي ــن ونفســيتهم ووعيهــم وأدمغتهــم وعقولهــم وتصورهــم‬ ‫للواقــع واملســتقبل‪.‬‬

‫الظاهرة الثالثة‪ :‬أثـراملحيط على الطالب املغتـرب‬ ‫ّ‬ ‫الرفــاق فــي العمليــة التعليميــة فــي بــاد االغت ـراب والنــزوح‬ ‫مجموعــات ِ‬ ‫تت ـ ُ‬ ‫ـرك فــي الطفــل أث ـ ًـرا تتباي ــن درجاتــه مــن بلــد إلــى آخــر‪ ،‬فبـي ــنما‬ ‫يكتسب في بعضها إيجابـيات املدنـية الحديثة؛ تتجذر فيه سلبـياتها‬ ‫ّ‬ ‫وقوميــات وانتمــاءات وطن ــية ليــس فيهــا خصوصيــة الوطــن األم وال‬ ‫ب ــيئته وال ثقافتــه‪ ،‬ويكابــد م ـرارة النظــرة السلب ــية والتفرقــة ً‬ ‫أحيانــا‪.‬‬ ‫الظاهرة الرابعة‪ :‬مشكلة االعتـراف بالشهادات‬

‫كمــا ً‬ ‫تتمثــل هــذه الظاهــرة فــي النظــر إلــى الشــهادات العلميــة ًّ‬ ‫ونوعــا‬ ‫ً‬ ‫واعت ـر ًافا وفاعليــة‪ ،‬ومــدى قناعــة الطــاب ب ــنجاعة الدراســة دون‬ ‫شــهادة معت ــرف بهــا‪ ،‬وتأثي ــر ذلــك علــى درجــة العنايــة واالهتمــام‬ ‫بالعلــم والتعليــم‪ ،‬فربمــا َّأدت مـرارة هــذا املشــهد إلــى أن ي ـ ّ‬ ‫ـردد بعــض‬ ‫ِ‬ ‫العامــة‪ :‬وهــل َ‬ ‫ً‬ ‫أغنــت الشـ ُ‬ ‫ـهادات عــن الدارسي ــن مــن قبـ ُـل شــيئا؟ فهــا‬ ‫الجامعيــون َ‬ ‫ُّ‬ ‫هــم‬ ‫وح َملــة الشــهادات العليــا فــي بــاد املهجــر والنــزوح‬ ‫ً‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫َّ‬ ‫ٌ‬ ‫عمال كاألمييـن بل أسوأ حال؛ فال هم خبروا املهن من قبل ليتقنوا‬ ‫إحداهــا وال فرصــة تتــاح لهــم فــي مناطــق النــزوح وال فــي بــاد املهجــر‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ملوانــع عــدة ُّ‬ ‫أهمهــا اللغــة األجنب ــية ونــدرة الفــرص فــي تخصصاتهــم‬ ‫وقوانـي ـ ُـن تلك الدول في تشغيل األجانب املتخصصي ــن‪ ...‬وهذا واقع‬ ‫مشهود صحيح نسب ـ ًّـيا َّ‬ ‫لكنه ليس ًّ‬ ‫عاما؛ َّ‬ ‫فثمة جامعيون استكملوا‬ ‫ُ‬ ‫املطلــوب منهــم‪ ،‬وآخــرون أتقنــوا اللغــات‪ ،‬وأت ــيحت لقســم آخــر‬ ‫فــرص عمــل مناســبة‪َّ ،‬‬ ‫وات َجــه بعضهــم للتعليــم مــرة أخــرى حســب‬ ‫ٍ‬ ‫ق‬ ‫التخصــص املرغــوب فــي ســو العمــل حيــث يقيــم هــو‪ ،‬فأســهر‬ ‫ّ‬ ‫متخص ً‬ ‫صــا فــي مجــال آخــر؛ ثــم َّإنــه رغــم‬ ‫ليلــه وأجهــد نفســه‪ ،‬وصــار‬ ‫ِ‬ ‫نسب ـ ّـية صــواب مــا ي ـ ّ‬ ‫ـردده العامــة عــن انعــدام الفــرص للمتعلمي ــن‬ ‫ِ‬ ‫‪61‬‬


‫من َّ‬ ‫ُ‬ ‫رات العربـ َّية‬ ‫الث ْو ِ‬ ‫الفراغ ِ‬ ‫لمي في َز ِ‬ ‫الع ُّ‬ ‫انتهــى اآلخــرون‪ ،‬ومــا قولــك فــي َّأن الخليفــة املأمــون كان يو ِفــد َبعثــات‬ ‫َ‬ ‫ً‬ ‫َ‬ ‫وزنــه ً‬ ‫ذهبــا ومــا أدراك‬ ‫ـية‬ ‫علميــة(‪ )21‬وي َهـ ُـب مــن يت ــرجم كتابــا إلــى العرب ـ ِ‬ ‫بــوزن َور ِق ذلــك العصــر!(‪ )22‬وفــي عهــده صــارت بغــداد العاصمــة‬ ‫َ‬ ‫تح�صــى وقـ َّـرب إليــه‬ ‫العلميــة العظمــى فــي األرض فجمــع إليهــا كتبــا ال‬ ‫ّ‬ ‫العلمــاء وبالــغ فــي الحفــاوة بهــم(‪ )23‬بــل مــا قولــك فــي أن مــن الخلفــاء‬ ‫ّ‬ ‫ـدو املخطوطــات والكتــب العلميــة‬ ‫العباسيي ــن مــن كان يأخــذ مــن العـ ِ‬ ‫ً‬ ‫بــدل الجزيــة!(‪ ...)24‬إذا أليــس األجـ َـدى مــن التبا ـكـي علــى التعليــم فــي‬ ‫ّ‬ ‫الحقبـ ِـة هــو حــث منظمــات الثــورة واملجتمــع املدن ــي للعمــل علــى‬ ‫هــذه ِ‬ ‫ـداد ب ـرنامج اتصـ ٍـال وجــداول عمـ ٍـل ودعـ ٍـم إعالمـ ّ ٍـي ومـ ِ ّـاد ّ ٍي ومعنــو ّ ٍي‬ ‫إعـ ِ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ َْ ُ‬ ‫تست ِهدف االتصال باملغتـربـيـن الدارسيـن في املهجر والعناية الفائقة‬ ‫ّ‬ ‫جلهــم أو فريــق منهــم لوطنــه بعــد ُّ‬ ‫تخرجــه وإال‬ ‫بهــم لضمــان عــودة ِ‬ ‫عدنــا َّ‬ ‫بخفــي حنـي ــن‪.‬‬ ‫هــذا ولئــن كانــت العنايــة بالتعليــم واملنــح ُتعـ ُّـد ف ـر ًارا مــن َّ‬ ‫الزحــف‬ ‫ِ‬ ‫وري في رأي فئة يومئذ؛ َّ‬ ‫َّ ّ‬ ‫فإن كثي ًـرا من املهاجريـن يـرون في التعليم‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫الث ِ‬ ‫سـ ً‬ ‫ـاحا ًّ‬ ‫نوعيــا وخطــة بديلــة للتغيي ــر فــي املســتقبل‪ ،‬ولــو أن الفئــة‬ ‫َّ‬ ‫األولــى حكمــت العاطفــة والحمــاس والعقــل والتخطيــط املســتقبلي‬ ‫ً‬ ‫معــا لعلمــت أن كل املســارات ضــرورات ال خيــارات يجــوز إغفالهــا؛‬ ‫فمــا خــرج النب ــي صلــى هللا عليــه وســلم للقــاء عــدو فــي معركــة ً‬ ‫يومــا‬ ‫َ​َ َ َ ْ‬ ‫ّ‬ ‫َّ‬ ‫ان الُ ْؤ ِم ُنــو َن‬ ‫يعلــم النــاس والوفــود ((ومــا ك‬ ‫إال وخلــف فــي املدي ــنة مــن ِ‬ ‫ل َي ْنف ُروا َك َّاف ًة َف َل ْ َول َن َف َر م ْن ُك ّل ف ْر َقة م ْن ُه ْم َطائ َف ٌة ل َي َت َف َّق ُهوا في ّ‬ ‫الدي ِـن‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ ِ ِ ٍ ِ‬ ‫َ ُ ْ ُ َ ْ َ ُ ْ َ َ َ ُ َ ْ ْ َ َ َّ ُ ْ َ ْ َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫وِلينـ ِـذروا قومهــم ِإذا رجعــوا ِإلي ِهــم لعلهــم يحــذرون)) [التوبــة‪،]122 :‬‬ ‫ُْ ُ ّ‬ ‫املعلــم مــع‬ ‫وتلــك هــي وظيفــة الـ ّ ِـردء الت ــي كان يقــوم بهــا هــارون الب ـ ِـين ِ‬ ‫ً‬ ‫جميعــا يومئـ ٍـذ بمســار‬ ‫مو�ســى عليهمــا الســام‪ ،‬فمــن ألــزم النــاس‬ ‫واحــد ُرئـ َـي يتبا ـكـى علــى َ‬ ‫جرحــى يلفظــون أنفاســهم عندمــا لــم يجــد‬ ‫أطبــاء مــن حولــه‪ ،‬ومــن أي ــن لــه األطبــاء إن لــم يــدرس أحـ ٌـد الطــب علــى‬ ‫مذهبــه امللــزم للجميــع بالسي ــر فــي مســار واحــد؟ َّإن أعظـ َـم ثائـ ٍـر علــى‬ ‫ِ‬ ‫الباطنـيي ــن الــذي أصــاب ب ــنظرته الثاقبــة بــأن طريــق تحري ــر القــدس‬ ‫يبــدأ بالخــاص مــن كيــد الباطنـيي ــن هــو اإلمــام العــادل الشــهيد نــور‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫الزنكــي رحمــه هللا تعالــى‪ ،‬وبـي ــنما كان يم�ضــى ق ُد ًمــا فــي‬ ‫الدي ــن محمــود ِ‬ ‫ومن ورائهم الصليبـيـن واليهود كانت عنايته‬ ‫جهاده ضد الباطنـييـن ِ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫بالتعليــم فائقــة‪ ،‬ففــي ذلــك الوقــت عــام ‪ 549‬ه ـ أســس كليــة الطــب‬

‫ ‬

‫من َّ‬ ‫ُ‬ ‫رات العربـ َّية‬ ‫الث ْو ِ‬ ‫الفراغ ِ‬ ‫لمي في َز ِ‬ ‫الع ُّ‬

‫العدد ‪ 2‬رجب ‪1439‬هـ‬

‫العريقــة (املستشــفى النــوري الكبـي ــر) وهــو مــن أجــل املؤسســات‬ ‫الطب ــية وأعظمهــا فــي التاريــخ‪ ،‬ومــا زال يخـ ّ ِـرج األطبــاء فــي قاعاتــه‬ ‫العلميــة ويعالــج املر�ضــى حتــى عــام ‪ 1317‬هــ‪1899/‬م أي نحــو ثمان ــي‬ ‫مئــة ســنة(‪.)25‬‬ ‫فأي ــن ثوارنــا أصحــاب االتجــاه واملســار الواحــد مــن هــذا الوعــي‬ ‫الرشــيد؟ ثــم إنــك ســوف ت ــرى فيهــم مــن يتبا ـكـى وهــو يعاي ـ ُـن الشــركات‬ ‫األجنب ــية تأت ــي بمهندســيها وخب ـرائها إلعــادة األعمــار‪ ،‬وليــس ألب ــناء‬ ‫ُّ‬ ‫الوطــن يومئـ ٍـذ ســوى‬ ‫التحســر علــى مــا فــات‪:‬‬ ‫ُّ‬ ‫ً‬ ‫والج ــهل يخفــض أمة ويــذلها والعلم يـرفعها َّ‬ ‫أجل مقـ ِـام‬ ‫ُ‬ ‫انظر إلى األقوام كيف َ‬ ‫العلوم إلى ّ‬ ‫املحل السامي‬ ‫سم ْت بهم تلك‬ ‫ِ‬

‫املبحث الثالث‬

‫ُ‬ ‫ـنوات َّ‬ ‫السـ ْـبع‬ ‫ظواهـ ُـر التعليــم الســبع فــي السـ ِ‬

‫ً‬ ‫ـتطالعا‬ ‫إن اإلجابــة العلميــة عــن أســئلة البحــث تقت�ضــي اسـ‬ ‫ـتبانات ّ‬ ‫َّ‬ ‫ـات واملراحـ ِـل العمريــة‬ ‫علميــة‬ ‫واسـ‬ ‫ٍ‬ ‫مفصلــة لــكل التخصصـ ِ‬ ‫ـنوات الثــورات ومقارنــة كل ســنة بمــا قبلهــا واســتبانات‬ ‫علــى مــدى سـ ِ‬ ‫ـرب‬ ‫ـباب التسـ ِ‬ ‫خاصــة بمناطــق النــزوح وبــاد املهجــر‪ ،‬وأخــرى ألسـ ِ‬ ‫َّ‬ ‫وعوامل األمية وخط سيـر اإلنتاج العلمي املتوقع‬ ‫وانحسار التعليم‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ً ُ‬ ‫ًّ‬ ‫ًّ‬ ‫كما وكيفا تـراك ِميا فيما لو فرضنا أن هذه الحقبة حقبة استقرار‪،‬‬ ‫عملية على ّ‬ ‫ثم القيام بدراسة تجريبـية َّ‬ ‫عينات الدراسة في كل حالة‬ ‫ِ‬ ‫وإعــداد دراســات إحصائيــة لذلــك كلــه مــن أجــل إصــدار أحــكام‬ ‫َ‬ ‫صحيحــة‪ ،‬وتســتدعي اإلجابــة علــى األســئلة ً‬ ‫أيضــا مقارنــة التعليــم فــي‬ ‫اب بمــا هــو متــاح للموالي ــن لألنظمــة الحاكمــة خــال‬ ‫الثــورة واالغت ـر ِ‬ ‫ســنوات الثــورات‪ ،‬أمــا مقارنــة فــروق التعليــم فــي زمــن الســلم بزمــن‬ ‫الحــرب فتلــك مســألة أعمــق‪.‬‬ ‫َ‬ ‫وإنن ــي َ َل ُكـ ّـر ُر أنن ــي ال أكتمــك سـ ًّـرا بـ َّ‬ ‫ـأن الدراســة اقتصــرت علــى إثــارة‬ ‫ِ‬ ‫ّ‬ ‫املشــكلة ولــم تقـ ِـدم إجابــة علميــة عــن أي مــن األســئلة؛ ذلــك أن‬ ‫اإلجابات العلمية تستوجب القيام بكل ما سبق‪ ،‬وتلك أعمال بحثية‬ ‫ٌ‬ ‫ُمسـ ِـهبة حقيقــة ب ــرسائل جامعيــة فــي أقســام علــم التـرب ــية واالجتمــاع‬ ‫والسياســة‪ ،‬لكــن يمكــن ســرد ظواهــر تنكشــف بهــا حــدود البحــث‬

‫الق َّنوجي‪ :‬أبجد العلوم‪ ،‬دار ابـن حزم‪ ،‬ط‪ 1423 ،1‬هـ‪ 2002 -‬م‪ ،‬ص‪ .146 :‬وفيه قال‪( :‬أوفد املأمون الرسل‬ ‫(‪ )21‬أبو الطيب محمد صديق خان بـن حسن ِ‬ ‫على ملوك الروم في استخراج علوم اليونانـييـن وانتساخها بالخط العربـي‪ ،‬وبعث املتـرجميـن لذلك‪ ،‬فأوعى منه واستوعب)‪.‬‬ ‫(‪ )22‬شوقي أبو خليل‪ :‬الحضارة العربية اإلسالمية‪ ،‬دار الفكر املعاصر ودار الفكر‪2002 ،‬م‪ ،‬ص ‪.442‬‬ ‫(‪ )23‬راغب السرجاني‪ :‬العلم وبـناء األمم‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪ .185‬نقال عن دوبيـر في كتابه‪ :‬املنازعة بيـن العلم‪.‬‬ ‫(‪ )24‬علي عبد هللا الدفاع‪ :‬روائع الحضارة العربية اإلسالمية في العلوم‪ ،‬مؤسسة الرسالة القاهرة ط‪ ،1999 ،2‬ص‪.25‬‬ ‫(‪ )25‬مصطفى السباعي‪ :‬من روائع حضارتنا‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.116‬‬

‫‪60‬‬

‫مفصلـ ًـة وتصلــح ً‬ ‫َّ‬ ‫أساســا ملقاربــات ومدخــا لدراســات أكاديميــة بحتــة‪.‬‬ ‫الظاهرة األولى‪ :‬ضعف الفرص واإلمكان َّـيات‬ ‫َّ َ ُ‬ ‫ْ‬ ‫وجامعات ِهـ ْـم َوفـ َـق منــاخ وب ــيئة‬ ‫بـي ــنما يم�ضــي الطلبــة إلــى مدارســهم‬ ‫ِ‬ ‫َّ َ ْ ًّ‬ ‫ـلطان األنظمــة املســتبدة‪َ ،‬نـ َـرى‬ ‫تعليميــة مهيـ ٍـأة شــكليا تحــت سـ ِ‬ ‫زمالءهــم فــي املخيمــات ومناطــق الحــرب والحصــار وكهــوف النــزوح‬ ‫وبعــض دول اللجــوء يتكدســون فــي املنشــآت التعليميــة؛ فيضعــف‬ ‫َ‬ ‫مســتوى التعليــم والخ ْدمــات َّ‬ ‫املقدمــة أو تنعــدم‪ ،‬بــل ُي ْرفــض أكث ــر‬ ‫ِ‬ ‫ّ‬ ‫الطــاب لضيــق املنشــآت وشـ ِـح املــوارد التعليميــة كمــا فــي لب ــنان حتــى‬ ‫عــام ‪2015‬م‪ ،‬ثــم َّإنــه قلمــا يحظــى أحــد هــؤالء الطــاب بااللتحــاق‬ ‫ُ‬ ‫ـباب تحكيهــا ظــروف‬ ‫بالجامعــة ال ســيما التخصصــات املرموقــة ألسـ ٍ‬ ‫َ َّ َّ ٌ‬ ‫َّ‬ ‫ـوء والحيـ ِـاة الشــاقة‪ ،‬نعــم ثمــة قلــة آخــرون‬ ‫ـرب واالعتقـ ِـال واللجـ ِ‬ ‫الحـ ِ‬ ‫َ‬ ‫ـرص مــا كانــت لتتــاح لهــم لــو لــم يهاجــروا‪.‬‬ ‫حظــوا بفـ ٍ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫ُ ّ‬ ‫َّ‬ ‫ومنظمــات املجتمــع‬ ‫حمـ ُـل األف ـر َاد و ِفـ َـرق العمــل‬ ‫إن هــذا املشــهد لي ِ‬ ‫َ‬ ‫مسؤولية تدارك القصور ّ‬ ‫وسد الثغرات من خالل مجموعة‬ ‫املدنـي‬ ‫إجـراءات وب ـرامج مقت ــرحة‪ ،‬منهــا‪:‬‬ ‫ـزء مــن مواردهــا فــي التعليــم مــن خــال‬ ‫‪ )1‬اســتثمار املنظمــات لجـ ٍ‬ ‫ب ـرامج دقيقــة مبـن ــية علــى دراســة جــدوى إيجاب ــية وتفاعلهــا مــع‬ ‫مؤسســات حكوميــة وخي ـرية يســتفاد مــن مراكزهــا املتاحــة ً‬ ‫دائمــا أو‬ ‫خــارج ســاعات دوامهــا الرســمي‪.‬‬ ‫اهقي ــن‬ ‫‪ )2‬تنظيــم فــرق عمــل لدعــم املنقطعي ــن عــن الدراســة واملر ِ‬ ‫ُ‬ ‫األ ِّم ْيي ــن مــن خــال تـيسي ــر التعليــم البديــل أو املفتــوح أو املســتمر‬ ‫أو عــن بعــد مــن خــال املراســلة والــدروس التفاعليــة واملســجلة‬ ‫عب ــر وســائل التواصــل االجتماعــي‪ ،‬ويقــوم عليهــا مشــرف مجموعــة‬ ‫متخصــص للدعــم واملتابعــة‪.‬‬ ‫ً‬ ‫ـاعة ًّ‬ ‫ّ‬ ‫يوميــا‬ ‫ـدرس املتطـ ّ ِـوع) سـ‬ ‫‪ )3‬مبــادرات فرديــة لتفعيــل ب ـرامج (املـ ِ‬ ‫َ ْ‬ ‫العالــم الثائــر عبــد الحميــد‬ ‫مــع مبــدأ (األم مد َرســة)‪ ،‬اســتمر ًارا لفكــرة ِ‬ ‫َّ‬ ‫علمــت ولـ ًـدا فقــد علمــت فـ ً‬ ‫ـردا وإذا‬ ‫ب ــن باديــس رحمــه هللا تعالــى‪( :‬إذا‬ ‫علمت ب ًـنتا فقد علمت َّأمة)‪ ،‬وتهدف إلى تحسيـن سريع ألداء أولياء‬ ‫األمــور ليغــدوا مدرسي ــن فعليي ــن ألوالدهــم فــي الب ــيوت وفــق ب ـرنامج‬ ‫َّ‬ ‫ومدعــم بوســائل مســاعدة‬ ‫مكثــف يــوازي ب ـرامج الدراســة املنتظمــة‬ ‫َّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ـوكل مهمــة االســتمرار‬ ‫ـدرس املتطـ ِـوع ثــم يـ ِ‬ ‫مــن الشــبكة‪ ،‬يبــدأ بــه املـ ِ‬ ‫إلــى األســرة‪ ،‬وتغــدو مهمتــه التقويــم واملتابعــة الجماعيــة املباشــرة‬ ‫ًّ ً‬ ‫ـبوعيا مــرة فــي مراكــز متاحــة أو فــي بعــض الب ــيوت أيــام العطلــة‬ ‫أسـ‬ ‫األســبوعية أو املتابعــة عــن بعــد مــن خــال مواقــع التواصــل‪ ،‬و�شــيءٌ‬

‫ ‬

‫العدد ‪ 2‬رجب ‪1439‬هـ‬

‫مــن هــذا يقــوم بــه بعــض املغتـربـي ــن املصريي ــن املثقفي ــن‪ :‬يتخــذون‬ ‫مــن ب ــيوتهم مدرســة نموذجيــة بــإدارة األبوي ــن فقــط‪ ،‬فــإذا حانــت‬ ‫االمتحانــات التحقــوا باملراكــز الخارجيــة لهــا مــن خــال ســفارات‬ ‫بالدهــم‪.‬‬ ‫الظاهرة الثانـية‪ :‬أثـرالحرب على العملية التعليمية‬ ‫ي ــنبغي تحديــد مــدى تأثي ــر الحــرب ُّ‬ ‫والرعــب والنــزوح واللجــوء‬ ‫والظــروف املعيشــية القاســية والوضــع االجتماعــي الناجــم عنهــا علــى‬ ‫التعليم واألداء وعدد املعلمي ــن املتخصصي ــن‪ ،‬وتأثي ــر هذه األحوال‬ ‫علــى املتعلمي ــن ونفســيتهم ووعيهــم وأدمغتهــم وعقولهــم وتصورهــم‬ ‫للواقــع واملســتقبل‪.‬‬

‫الظاهرة الثالثة‪ :‬أثـراملحيط على الطالب املغتـرب‬ ‫ّ‬ ‫الرفــاق فــي العمليــة التعليميــة فــي بــاد االغت ـراب والنــزوح‬ ‫مجموعــات ِ‬ ‫تت ـ ُ‬ ‫ـرك فــي الطفــل أث ـ ًـرا تتباي ــن درجاتــه مــن بلــد إلــى آخــر‪ ،‬فبـي ــنما‬ ‫يكتسب في بعضها إيجابـيات املدنـية الحديثة؛ تتجذر فيه سلبـياتها‬ ‫ّ‬ ‫وقوميــات وانتمــاءات وطن ــية ليــس فيهــا خصوصيــة الوطــن األم وال‬ ‫ب ــيئته وال ثقافتــه‪ ،‬ويكابــد م ـرارة النظــرة السلب ــية والتفرقــة ً‬ ‫أحيانــا‪.‬‬ ‫الظاهرة الرابعة‪ :‬مشكلة االعتـراف بالشهادات‬

‫كمــا ً‬ ‫تتمثــل هــذه الظاهــرة فــي النظــر إلــى الشــهادات العلميــة ًّ‬ ‫ونوعــا‬ ‫ً‬ ‫واعت ـر ًافا وفاعليــة‪ ،‬ومــدى قناعــة الطــاب ب ــنجاعة الدراســة دون‬ ‫شــهادة معت ــرف بهــا‪ ،‬وتأثي ــر ذلــك علــى درجــة العنايــة واالهتمــام‬ ‫بالعلــم والتعليــم‪ ،‬فربمــا َّأدت مـرارة هــذا املشــهد إلــى أن ي ـ ّ‬ ‫ـردد بعــض‬ ‫ِ‬ ‫العامــة‪ :‬وهــل َ‬ ‫ً‬ ‫أغنــت الشـ ُ‬ ‫ـهادات عــن الدارسي ــن مــن قبـ ُـل شــيئا؟ فهــا‬ ‫الجامعيــون َ‬ ‫ُّ‬ ‫هــم‬ ‫وح َملــة الشــهادات العليــا فــي بــاد املهجــر والنــزوح‬ ‫ً‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫َّ‬ ‫ٌ‬ ‫عمال كاألمييـن بل أسوأ حال؛ فال هم خبروا املهن من قبل ليتقنوا‬ ‫إحداهــا وال فرصــة تتــاح لهــم فــي مناطــق النــزوح وال فــي بــاد املهجــر‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ملوانــع عــدة ُّ‬ ‫أهمهــا اللغــة األجنب ــية ونــدرة الفــرص فــي تخصصاتهــم‬ ‫وقوانـي ـ ُـن تلك الدول في تشغيل األجانب املتخصصي ــن‪ ...‬وهذا واقع‬ ‫مشهود صحيح نسب ـ ًّـيا َّ‬ ‫لكنه ليس ًّ‬ ‫عاما؛ َّ‬ ‫فثمة جامعيون استكملوا‬ ‫ُ‬ ‫املطلــوب منهــم‪ ،‬وآخــرون أتقنــوا اللغــات‪ ،‬وأت ــيحت لقســم آخــر‬ ‫فــرص عمــل مناســبة‪َّ ،‬‬ ‫وات َجــه بعضهــم للتعليــم مــرة أخــرى حســب‬ ‫ٍ‬ ‫ق‬ ‫التخصــص املرغــوب فــي ســو العمــل حيــث يقيــم هــو‪ ،‬فأســهر‬ ‫ّ‬ ‫متخص ً‬ ‫صــا فــي مجــال آخــر؛ ثــم َّإنــه رغــم‬ ‫ليلــه وأجهــد نفســه‪ ،‬وصــار‬ ‫ِ‬ ‫نسب ـ ّـية صــواب مــا ي ـ ّ‬ ‫ـردده العامــة عــن انعــدام الفــرص للمتعلمي ــن‬ ‫ِ‬ ‫‪61‬‬


‫من َّ‬ ‫ُ‬ ‫رات العربـ َّية‬ ‫الث ْو ِ‬ ‫الفراغ ِ‬ ‫لمي في َز ِ‬ ‫الع ُّ‬ ‫كل َّ‬ ‫يعــود ٌّ‬ ‫منــا ليســائل ذاتــه فــي أعمــاق نفســه‪ :‬إذا رضي ــنا بالعاجلــة‬ ‫فمــن لآلجلــة؟ ْإن أعرضنــا عــن العلــم والتعليــم بدعـ َـاوى كهــذه فمــن‬ ‫ســيعلم أجيالنا القادمة بعد التحري ــر إن عدنا بال علم وال شــهادة؟‬ ‫أما املوالون ألنظمة االستبداد فمنهم من أعدوا أنفسهم ومنهم من‬ ‫ُ‬ ‫أقحمــوا فــي املؤسســات التعليميــة مــن غي ــر أبوابهــا‪ ،‬فحجــزوا مقاعــد‬ ‫التعليم في كل املؤسسات‪ ،‬ناهيك عن َّأن كيل املستبديـن قد طفح‬ ‫فاجتثوا من الهيئات التدريسية ومؤسسات التعليم كل من َّ‬ ‫خمنوا‬ ‫خفاء‪ ،‬فماذا ع�سى أن‬ ‫أنه معارض لظلمهم وطغيانهم وفسادهم في ٍ‬ ‫ّ‬ ‫يعلــم أعـ ُ‬ ‫ـوان القتلــة أب ـ َ‬ ‫ـناءنا وعــام سي ـربونهم؟! ويــل ثــم ويــل إن آلــت‬ ‫ِ‬ ‫فساد‬ ‫إليهم وحدهم زمام التعليم ليعودوا فيـربوا جيلنا القادم على ٍ‬ ‫ِ َّ‬ ‫ـات َرذلـ ٍـة‬ ‫ـتعباده وعلــى سـ‬ ‫ـلوكيات وصفـ ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ـوع للمســتبد واسـ ِ‬ ‫وخسـ ٍـة وخنـ ٍ‬ ‫توارثتهــا جي ــناتهم وقامــت عليهــا مصالحهــم كاب ـ ًـرا عــن كاب ــر‪.‬‬

‫الظاهرة الخامسة‪ :‬تحكم املستبد وأتباعه بالتعليم‬ ‫ي ــنبغي مالحظــة مــدى تكثيــف أنظمــة االســتبداد ألعــداد املوالي ــن‬ ‫ُّ‬ ‫القائمي ــن بالعملية التعليمية في التعليم الجامعي وما قبله وتحكم‬ ‫الحقبــة بفــرص التعليــم العالــي‪ ،‬وعلــى هــذا‪:‬‬ ‫تلــك األنظمــة فــي هــذه ِ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫كيــف ومتــى وأي ــن يمكــن أن ت َه َّيــأ فـ ٌ‬ ‫ـرص إلعــداد كفــاءات تدريســية‬ ‫فــي كل التخصصــات لتكــون مؤهلــة للمنافســة والتصحيــح املطلــق‬ ‫الشــامل للمفاهيــم والقيــم؟‬ ‫الظاهرة السادسة‪ :‬املناهج بـيـن األدلجة والتحريف‬ ‫وقعــت املناهــج تحــت ســياط األدلجــة ومباضــع عمليــات التشــويه‬ ‫عملية تعليمية َّ‬ ‫أي َّ‬ ‫والكذب والتحريف‪ ،‬وتلك ُّأم الخبائث‪ ،‬فعن ّ‬ ‫تتحدث‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫واملتعلــم والكتــاب ‪ -‬فــي ميــاه‬ ‫املعلــم‬ ‫ِ‬ ‫وقــد أغي ــر عليهــا حتــى غــارت أركانهــا ‪ِ -‬‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫آســنة؟ وليــس الكتــاب أحـ ُـد عناصــر املناهـ ِـج هــو وحــده مــن ِسـ ْـيم وبــال‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫التعليم َّيـ ِـة والتقويـ ِـم‬ ‫ـائل‬ ‫ِ‬ ‫املسـ ِـخ والتزوي ـ ِـر‪ ،‬بــل طــال العبــث توظيــف الوسـ ِ‬ ‫ّ‬ ‫الصف َّيــة َّ‬ ‫واملوجهــة والحـ َّـرة؛ ثــم َّإن األدلجــة والبـن ــية الفكريــة‬ ‫واألنشــطة ِ‬ ‫فــي املناهــج واملؤسســات والهيئــات التدريســية يتفــاوت أث ــرها فــي جيـ ِـل‬ ‫املستقبل لدى ّ‬ ‫وأنظمة ُّ‬ ‫التطرف‬ ‫كل من أنظمة االستبداد ودول اإلرهاب‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬ ‫ل‬ ‫العرقي أو الديـن ـ ّـي ولدى أنظمة دو االغت ـراب وجيل الثورة‪ ،‬وهي مسألة‬ ‫لها بصماتها في صناعة الوعي والتاريخ وبـناء الجيل أو تخريبه‪ ،‬فجدي ٌـر بها‬ ‫فرد بالبحث‪ ،‬فل َّربما يحتاج األمر إلى دراسة ميدانـية َّ‬ ‫أن ُت َ‬ ‫مفصلة سابـرة‬ ‫لجرائم ُد َول اإلرهاب وتنظيم الدولة والع ّ‬ ‫رقييـن العابثيـن باملناهج في ضوء‬ ‫ِ ِ‬ ‫حياد َّيــة إلعــداد املنهــج وبـن ــيته وإطــاره ومحتوياتــه‬ ‫معايي ــر علميــة ت ـربوية ِ‬

‫ ‬

‫من َّ‬ ‫ُ‬ ‫رات العربـ َّية‬ ‫الث ْو ِ‬ ‫الفراغ ِ‬ ‫لمي في َز ِ‬ ‫الع ُّ‬

‫العدد ‪ 2‬رجب ‪1439‬هـ‬

‫َ‬ ‫بعناصــره الســبع؛ ولهــذا وجـ َـب إفـراد هــذه الظاهــرة ب ـرأسها ببحـ ٍـث آخــر‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫الظاهرة السابعة‪ :‬اللغة األ ُّم واللغات األجنبـية‬ ‫ومــدار الحديــث هنــا عــن اللغــة األم ولغــات دول االغت ـراب‪َّ ،‬إن‬ ‫االحتــال واالنتحــال األلسن ــي مســألة َّ‬ ‫معقــدة فــي املهجــر والبــاد‬ ‫َّ‬ ‫ّ‬ ‫منفــرة لألطفــال مــن التعليــم قبــل‬ ‫املحتلــة‪ ،‬فاللغــات األجنب ــية ِ‬ ‫ً‬ ‫إتقانهــا‪َّ ،‬أمــا بعــد إتقانهــم لهــا فاملصيبــة األعظــم أنهــا تغــدو كارثــة‬ ‫َ‬ ‫علــى اللغــة األم‪ ،‬وقــد تمســخ الهويــة الوطن ــية وتضـ ُّـر بالب ــرمجة‬ ‫ُ‬ ‫اللغويــة األ ّم عنــد التفكي ــر ومعالجــة العلــوم ودراســتها وتدريســها‪،‬‬ ‫ُّ‬ ‫َُ‬ ‫ـدن تشــهد‬ ‫وأشــد وأنكــى مــا تــرى هــذه املعضلــة التعليميــة فــي مـ ٍ‬ ‫ً‬ ‫وحروبــا َّ‬ ‫مسـ ًـخا ًّ‬ ‫عرقيــة‪ ،‬نعــم إن مــن ســنن هللا فــي الكــون‬ ‫قوميــا‬ ‫اإلحيــاء واإلماتــة والبعــث والتدافــع والسبب ــية والصي ــرورة‪ ،‬وهــي‬ ‫ســنن تــكاد تكــون ضربــة الزب لــكل أفـراد الوجــود واأللسـ ُـن ُ‬ ‫أحدهــا‪،‬‬ ‫وتلبــس تلــك الســنن غالبــا لبــاس األســباب علــى يــد البشــر‪ ،‬لكــن ْ‬ ‫أن‬ ‫َُ‬ ‫تق َّمــص بهــا علــى أيديهــم بالســطو واإلرهــاب كمــا يجــري فــي مــدارس‬ ‫شــمال شــرق ســورية فتلــك مســألة ال تأت ــي فــي ســياق ســنن التغيي ــر‬ ‫َ‬ ‫بــل هــي احتــال مســتهجن مســتقذر‪.‬‬ ‫ُْ‬ ‫لقــد اندث ــر مــن األقــوام مــا ال يح�صــى وإن قلــت ومــن اللغــات نحــو‬ ‫ذلــك فلعلــك تصيــب‪ ،‬وتغي ــرت وتطــورت أنمــاط الحيــاة منــذ بــدء‬ ‫ّ‬ ‫الخلــق وكــذا ألســنتهم‪ ،‬ولهــذا كلــه عوامــل ال تنكــر‪ ،‬وجلهــا يعــود إلــى‬ ‫الســنن املذكــورة‪ ،‬وهــذا يب ــرهن أن علــى أهــل كل لســان أن يحفظــوا‬ ‫لســانهم أن يحــور أو يغــور أو يب ــيد‪ ،‬وللمحافظــة عوامــل مردهــا إلــى‬ ‫تلــك الســنن ً‬ ‫أيضــا؛ والعقــل يحــار فــي معضلــة الهيمنــة ‪ -‬العوملــة ‪-‬‬ ‫اللغويــة‪ :‬أت ـراها تــؤول إلــى ســنة التدافــع أم اإلماتــة؟ ولعــل ملفتــاح‬ ‫ً‬ ‫حـ ّـل هــذه األحجيــة وفـ ّـك موزهــا أسـ ً‬ ‫ـنانا‪ ،‬أكب ـ ُـرها دقــة تشــخيص‬ ‫ِ ر‬ ‫الواقعــة ليكــون العــاج أكث ــر مالءمــة ومطابقــة‪ ،‬وعمدتهــا سب ــر‬ ‫عوامــل انقطــاع األلســن أو إعجامهــا‪ ،‬ونقـ ّـدم لذلــك ّ‬ ‫بمقدمــة ربمــا‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َّ‬ ‫تنـي ــر هــذا الجانــب املظلــم يــوم حــط املحتــل األجنب ــي عصــا الت ــرحال‬ ‫املنتحــل العرب ــي‪ ،‬لــم َيـ ْـد ُع األو ُل الثان ـ َـي الســتبدال اللســان‬ ‫ُوِلــد‬ ‫ِ‬ ‫ـتعداه؛ َو َ‬ ‫ُ‬ ‫ض َعه بـي ــن َيدي‬ ‫األعجمي بالعرب ــي‪ ،‬لكنه اســتدعاه بل اسـ‬ ‫وعلوم باهرة‪ ،‬فاقتنع الثانـي أن ال وعاء لهذه الثقافة‬ ‫غازية‬ ‫ثقافة ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫َ ُّ‬ ‫وتعليمهــا إال العجمــة‪ ،‬وبـي ــنما كان ي ــرى‬ ‫والعلــوم وال طريــق لتعل ِمهــا‬ ‫ِ‬ ‫الثقافـ َـة والعلـ َ‬ ‫ـوم العرب ــية قــد اصفـ َّـرت فغــدت حطامــا بــل حصيـ ًـدا‬ ‫كأن لــم َت ْغـ َـن باألمــس‪ ،‬حكــم علــى وعائهــا «لســانها» بمثــل ذلــك ً‬ ‫أيضــا‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫‪62‬‬

‫فلــم يعــد ي ــرى فيــه لغــة علــم وال تعليــم؛ واملحتــل واملنتحــل شـريكان‬ ‫فــي هــذا العــدوان (كل الدالئــل تثبــت أن الفرنســية حققــت فــي مرحلــة‬ ‫اســتقالل املغــرب مــن االنتشــار والتوســع مــا لــم تكــن تحلــم بتحقيقــه‬ ‫فــي مرحلــة االحتــال‪ ...‬وبعــد الغــزو العســكري هنــاك أســلحة جديــدة‬ ‫ســتدخل الحلبــة وتقــود املعركــة‪ ،‬وهــي اللغــة والفكــر الفرن�ســي) كمــا‬ ‫ُ‬ ‫َ​َ‬ ‫َ ْ‬ ‫«مغــرب الغــد» الضابــط الفرن�ســي بــول مارت ــي‪.‬‬ ‫ذكــر فــي‬ ‫وعلــى يــد املحتــل واملنتحــل ولــد االنحــال مــن رحــم هــذا الغــزو‬ ‫ّ‬ ‫الفكــري واللسان ــي‪ ،‬ومعنــى االنحــال اللغــوي‪ :‬التفــكك واالنتقــال‬ ‫من املؤتلف إلى املختلف‪ ،‬ومن الصحيح إلى الفاسد‪ ،‬فاضمحلت‬ ‫لغــة العلــوم والتعليــم واإلعــام وانحلــت‪ ،‬وتآكلــت الهويــة فــي بــاد‬ ‫املغــرب مثــا والخليــج علــى دربــه‪ ،‬ذلــك ّ‬ ‫أن حـ َ‬ ‫ـروب اللغــة حـ ٌ‬ ‫ـروب‬ ‫ِ​ِ‬ ‫علــى الوطــن والشــعب وعلــى املا�ضــي والحاضــر واملســتقبل‪ ،‬أي‬ ‫علــى الهويــة بمعناهــا الشــامل للخصائــص الثقافيــة والحضاريــة‬ ‫والعرقيــة والجغرافيــة والتاريخيــة والديـن ــية‪ ،‬فاللغــة ليســت‬ ‫ثقافيــة ووســيلة ّ‬ ‫لسـ ًـانا فحســب بــل هــي ّ‬ ‫التعليــم ّ‬ ‫ّ‬ ‫األم ووعــاء‬ ‫هويــة‬ ‫ِ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫والخصوصيــات‪.‬‬ ‫الفكــر ومســتودع الت ـراث‬ ‫وتضاعفــت مشــكلة الهجي ــن اللغــوي باغت ـراب العــرب ولجوئهــم‬ ‫اليــوم وبوفــادة األعاجــم إلــى الخليــج أمــس‪ ،‬فهــؤالء العــرب وإن‬ ‫ـوج َّ‬ ‫عرفــوا لغتهــم واســتقام لســانهم؛ رطــن فكرهــم واعـ ّ‬ ‫ألن لغــة‬ ‫َّ‬ ‫التعليــم أجنب ــية‪ ،‬فت ـراه يفكــر بهــا ويت ــرجم مــا يفكــر بــه إلــى لغتــه‬ ‫األم‪ ،‬وقــد يفــر مــن ّأمــه إلــى تلــك إذا مــا أقفــر حضنهــا فلــم يجــد فــي‬ ‫معجمــه ذلــك املصطلـ َـح أو املعنــى األجنب ــي القائــم فــي ذهنــه‪.‬‬ ‫وفــي مزاحمــة األعاجــم وثقافتهــم ولغاتهــم األورديــة واإلنجليزيــة‬ ‫والفارســية للعرب ــية تهديـ ٌـد ِب َه ْتــك النســيج املجتمعــي والثقافــي‪،‬‬ ‫وهــذا فيــه مــا فيــه مــن زعزعــة األمــن والســلم األهلــي والعــدوان‬ ‫علــى العقــل العرب ــي ولغتــه الت ــي كانــت باألمــس لغــة العلــوم‬ ‫َ‬ ‫والتعليــم العال َّيــة؛ وخي ــر مــن وفــى البحــث َح َّقــه األســتاذ محمــود‬ ‫شــاكر فــي كتابــه (رســالة فــي الطريــق إلــى ثقافتنــا)‪ ،‬يقــول ســارتون‪:‬‬ ‫(كانــت اللغــة العرب ــية مــن منتصــف القــرن الثامــن حتــى نهايــة‬ ‫القــرن الحــادي عشــر لغــة العلــم االرتقائيــة للجنــس البشــري‪ ،‬حتــى‬ ‫لقــد كان ي ــنبغي ألي كائــن إذا أراد أن يلـ َّـم بثقافــة عصــره وبأحــدث‬ ‫(‪)26‬‬ ‫(‪)27‬‬ ‫(‪)28‬‬ ‫(‪)29‬‬ ‫(‪)30‬‬

‫ ‬

‫العدد ‪ 2‬رجب ‪1439‬هـ‬

‫صورهــا أن يتعلــم اللغــة العرب ــية)(‪ .)26‬وأبلــغ مــن ذلــك قــول العالمــة‬ ‫ب ــريفلوت عــن روجــر ب ــيكون أشـ ُ‬ ‫ـرب‪( :‬لــم يكــن‬ ‫ـهر ع َمـ ِ‬ ‫ـداء نهضـ ِـة الغـ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ً‬ ‫ُ‬ ‫ِب ْيكــون إال رســول مــن رســل العلــم واملنهــج اإلســامي إلــى أوروبــا‬ ‫املســيحية‪ ،‬وهــو لــم يمـ ّـل قــط مــن التصريــح بــأن اللغــة العرب ــية‬ ‫وعلــوم العــرب همــا الطريــق الوحيــد ملعرفــة الحــق)(‪.)27‬‬ ‫ـية‬ ‫ومــا عليــك لحـ ِ ّـل لغــز روجــر ب ــيكون وزمرِتــه والنهضـ ِـة الغرب ـ ِ‬ ‫ُّ‬ ‫ُّ‬ ‫والتأمــل فــي حالنــا اليــوم وحالهــم يومئـ ٍـذ‬ ‫والتدبــر‬ ‫ســوى التحليـ ِـل‬ ‫ّ‬ ‫ـاب‬ ‫تقلـ ُـب وجــوه املعان ــي عنــد قراءتــك بشـ ٍ‬ ‫وأنــت ِ‬ ‫ـغف وعمـ ٍـق لكتـ ِ‬ ‫َ‬ ‫ُْ‬ ‫َّ‬ ‫(رســالة فــي الطريــق إلــى ثقافتنــا)‪ ،‬وليكــن علــى ذكـ ٍـر منــك أن طريقــة‬ ‫ـود‬ ‫وبحثهــا ودراســتها علــى مــدى عقـ ٍ‬ ‫علومنــا ِ‬ ‫نهضتهــم بــدأت بت ــرجمة ِ‬ ‫ً‬ ‫َّ‬ ‫لقــد اكتســب العلــم الغرب ـ ُّـي مــادة أدت إلــى إث ـرائه بدرجــة ال نظي ــر‬ ‫لهــا بفضــل الت ــرجمات العرب ــية عــن اإلغريــق‪ ،‬وكذلــك بفضــل‬ ‫اإلنتــاج العلمـ ّـي املســتقل للمسلمي ــن(‪َّ )28‬‬ ‫وإن انتعـ َ‬ ‫ـاش العلــم فــي‬ ‫العالــم الغرب ــي سـ ُـببه الت ــرجمة الســريعة ملؤلفــات املسلمي ــن فــي‬ ‫ّ‬ ‫حقــل العلــوم ونقلهــا مــن العرب ــية إلــى اللتـيـن ــية لغــة التعليــم‬ ‫الدوليــة آنــذاك(‪ ،)29‬وهــي هــي الطريقــة ذاتهــا الت ــي قامــت بهــا نهضــة‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫املسلمي ــن األوائــل يــوم أن ت ــرجموا علــوم اآلخ ِري ــن وعلموهــا‬ ‫لألجيــال فبحثهــا كل جيــل وفــق معطيــات عصــره وبذلــوا املهــج‬ ‫ً‬ ‫صحيحــا أنهــا تتصــارع‬ ‫فــي تطوي ــرها؛ فالحضــارات تتالقــح وليــس‬ ‫أو تتناطــح‪ ،‬وال َّ‬ ‫أدل علــى ذلــك مــن صن ــيع العالمــة املوســوعي‬ ‫الفيزيائــي الفلكــي الفيلســوف الكنــدي أب ــي يوســف يعقــوب ب ــن‬ ‫إســحاق صاحــب املأمــون‪ ،‬لقــد قـرأ العلــوم املت ــرجمة عــن اليونان ـ ّـية‬ ‫ّ‬ ‫والسريان ـ ّـية‪ ،‬وأتقــن اليونان ـ ّـية ّ‬ ‫والهنديــة ّ‬ ‫والسريان ـ ّـية‪،‬‬ ‫والفارسـ ّـية‬ ‫ُ‬ ‫وت ـ َ‬ ‫وفريقـ ُـه البحثـ ُّـي منهــا ًّ‬ ‫جمــا غفي ـ ًـرا حتــى صــارت مكتبتــه‬ ‫ـرجم هــو‬ ‫تضاهــي أعظـ َـم مكتبـ ٍـة يومئــذ (مكتبـ ِـة ب ــيت الحكمــة) البغداديــة‪،‬‬ ‫بحثيــا وجامعـ ًـة ت ـر َّ‬ ‫وصــارت مكتبتــه مركـ ًـزا ًّ‬ ‫اثية(‪.)30‬‬ ‫ً‬ ‫وضوحــا فــي حــدود الدراســة‪،‬‬ ‫هــذه هــي الظواهــر الســبع األكث ــر‬ ‫ولـ ّ‬ ‫ـكل منهــا تفسي ـراتها وأســبابها وحلــول مقت ــرحة تســاعد علــى‬ ‫ٍ‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫تجــاوز عقباتهــا‪ ،‬وإنــه ليجــدر بمراكــز البحــوث املعن ــية بالثــورات‬ ‫ْ‬ ‫ّ‬ ‫تولــي هــذه الظواهــر قـ ْـد ًرا مــن العنايــة‬ ‫والحريــة والكرامــة أن ِ‬ ‫البحثيــة يالئــم أث ــر ّ‬ ‫كل منهــا فــي التعليــم‪.‬‬ ‫ٍ‬

‫أحمد علي املال‪ :‬أثـر العلماء املسلميـن في الحضارة األوربـية‪ ،‬دار الفكر ط‪ 1401 ،2‬هـ‪ ،1981/‬ص‪ ،111 ،110‬نقال عن سارتون‪ :‬املدخل إلى تاريخ العلوم‪.‬‬ ‫أنور الجندي‪ :‬مقدمات العلوم واملناهج‪ ،‬دار األنصار‪1409 ،‬ه‪.710/4 ،‬‬ ‫راغب السرجانـي‪ :‬العلم وبـناء األمم‪ ،‬مرجع سابق‪ 184 ،‬نقال عن بلسنر‪ :‬العلوم الطبـيعية والطب‪ ،‬دراسة منشورة بكتاب تـراث اإلسالم‪ ،‬إشراف شاخت و بوزوروث‪ ،‬ص‪.79،81‬‬ ‫راغب السرجانـي‪ :‬العلم وبـناء األمم‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪ 184‬نقال عن يبدي تومبسون ‪Yhompsonj/j/w/The Medioval Lirary N.Y Hafner publishing company 1976 p236‬‬ ‫رحاب العكاوي‪ :‬الكندي أعظم الحكماء في تاريخ البشرية‪ ،‬دار الفكر العربـي‪ ،2000 ،‬ص‪.16‬‬

‫‪63‬‬


‫من َّ‬ ‫ُ‬ ‫رات العربـ َّية‬ ‫الث ْو ِ‬ ‫الفراغ ِ‬ ‫لمي في َز ِ‬ ‫الع ُّ‬ ‫كل َّ‬ ‫يعــود ٌّ‬ ‫منــا ليســائل ذاتــه فــي أعمــاق نفســه‪ :‬إذا رضي ــنا بالعاجلــة‬ ‫فمــن لآلجلــة؟ ْإن أعرضنــا عــن العلــم والتعليــم بدعـ َـاوى كهــذه فمــن‬ ‫ســيعلم أجيالنا القادمة بعد التحري ــر إن عدنا بال علم وال شــهادة؟‬ ‫أما املوالون ألنظمة االستبداد فمنهم من أعدوا أنفسهم ومنهم من‬ ‫ُ‬ ‫أقحمــوا فــي املؤسســات التعليميــة مــن غي ــر أبوابهــا‪ ،‬فحجــزوا مقاعــد‬ ‫التعليم في كل املؤسسات‪ ،‬ناهيك عن َّأن كيل املستبديـن قد طفح‬ ‫فاجتثوا من الهيئات التدريسية ومؤسسات التعليم كل من َّ‬ ‫خمنوا‬ ‫خفاء‪ ،‬فماذا ع�سى أن‬ ‫أنه معارض لظلمهم وطغيانهم وفسادهم في ٍ‬ ‫ّ‬ ‫يعلــم أعـ ُ‬ ‫ـوان القتلــة أب ـ َ‬ ‫ـناءنا وعــام سي ـربونهم؟! ويــل ثــم ويــل إن آلــت‬ ‫ِ‬ ‫فساد‬ ‫إليهم وحدهم زمام التعليم ليعودوا فيـربوا جيلنا القادم على ٍ‬ ‫ِ َّ‬ ‫ـات َرذلـ ٍـة‬ ‫ـتعباده وعلــى سـ‬ ‫ـلوكيات وصفـ ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ـوع للمســتبد واسـ ِ‬ ‫وخسـ ٍـة وخنـ ٍ‬ ‫توارثتهــا جي ــناتهم وقامــت عليهــا مصالحهــم كاب ـ ًـرا عــن كاب ــر‪.‬‬

‫الظاهرة الخامسة‪ :‬تحكم املستبد وأتباعه بالتعليم‬ ‫ي ــنبغي مالحظــة مــدى تكثيــف أنظمــة االســتبداد ألعــداد املوالي ــن‬ ‫ُّ‬ ‫القائمي ــن بالعملية التعليمية في التعليم الجامعي وما قبله وتحكم‬ ‫الحقبــة بفــرص التعليــم العالــي‪ ،‬وعلــى هــذا‪:‬‬ ‫تلــك األنظمــة فــي هــذه ِ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫كيــف ومتــى وأي ــن يمكــن أن ت َه َّيــأ فـ ٌ‬ ‫ـرص إلعــداد كفــاءات تدريســية‬ ‫فــي كل التخصصــات لتكــون مؤهلــة للمنافســة والتصحيــح املطلــق‬ ‫الشــامل للمفاهيــم والقيــم؟‬ ‫الظاهرة السادسة‪ :‬املناهج بـيـن األدلجة والتحريف‬ ‫وقعــت املناهــج تحــت ســياط األدلجــة ومباضــع عمليــات التشــويه‬ ‫عملية تعليمية َّ‬ ‫أي َّ‬ ‫والكذب والتحريف‪ ،‬وتلك ُّأم الخبائث‪ ،‬فعن ّ‬ ‫تتحدث‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫واملتعلــم والكتــاب ‪ -‬فــي ميــاه‬ ‫املعلــم‬ ‫ِ‬ ‫وقــد أغي ــر عليهــا حتــى غــارت أركانهــا ‪ِ -‬‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫آســنة؟ وليــس الكتــاب أحـ ُـد عناصــر املناهـ ِـج هــو وحــده مــن ِسـ ْـيم وبــال‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫التعليم َّيـ ِـة والتقويـ ِـم‬ ‫ـائل‬ ‫ِ‬ ‫املسـ ِـخ والتزوي ـ ِـر‪ ،‬بــل طــال العبــث توظيــف الوسـ ِ‬ ‫ّ‬ ‫الصف َّيــة َّ‬ ‫واملوجهــة والحـ َّـرة؛ ثــم َّإن األدلجــة والبـن ــية الفكريــة‬ ‫واألنشــطة ِ‬ ‫فــي املناهــج واملؤسســات والهيئــات التدريســية يتفــاوت أث ــرها فــي جيـ ِـل‬ ‫املستقبل لدى ّ‬ ‫وأنظمة ُّ‬ ‫التطرف‬ ‫كل من أنظمة االستبداد ودول اإلرهاب‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬ ‫ل‬ ‫العرقي أو الديـن ـ ّـي ولدى أنظمة دو االغت ـراب وجيل الثورة‪ ،‬وهي مسألة‬ ‫لها بصماتها في صناعة الوعي والتاريخ وبـناء الجيل أو تخريبه‪ ،‬فجدي ٌـر بها‬ ‫فرد بالبحث‪ ،‬فل َّربما يحتاج األمر إلى دراسة ميدانـية َّ‬ ‫أن ُت َ‬ ‫مفصلة سابـرة‬ ‫لجرائم ُد َول اإلرهاب وتنظيم الدولة والع ّ‬ ‫رقييـن العابثيـن باملناهج في ضوء‬ ‫ِ ِ‬ ‫حياد َّيــة إلعــداد املنهــج وبـن ــيته وإطــاره ومحتوياتــه‬ ‫معايي ــر علميــة ت ـربوية ِ‬

‫ ‬

‫من َّ‬ ‫ُ‬ ‫رات العربـ َّية‬ ‫الث ْو ِ‬ ‫الفراغ ِ‬ ‫لمي في َز ِ‬ ‫الع ُّ‬

‫العدد ‪ 2‬رجب ‪1439‬هـ‬

‫َ‬ ‫بعناصــره الســبع؛ ولهــذا وجـ َـب إفـراد هــذه الظاهــرة ب ـرأسها ببحـ ٍـث آخــر‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫الظاهرة السابعة‪ :‬اللغة األ ُّم واللغات األجنبـية‬ ‫ومــدار الحديــث هنــا عــن اللغــة األم ولغــات دول االغت ـراب‪َّ ،‬إن‬ ‫االحتــال واالنتحــال األلسن ــي مســألة َّ‬ ‫معقــدة فــي املهجــر والبــاد‬ ‫َّ‬ ‫ّ‬ ‫منفــرة لألطفــال مــن التعليــم قبــل‬ ‫املحتلــة‪ ،‬فاللغــات األجنب ــية ِ‬ ‫ً‬ ‫إتقانهــا‪َّ ،‬أمــا بعــد إتقانهــم لهــا فاملصيبــة األعظــم أنهــا تغــدو كارثــة‬ ‫َ‬ ‫علــى اللغــة األم‪ ،‬وقــد تمســخ الهويــة الوطن ــية وتضـ ُّـر بالب ــرمجة‬ ‫ُ‬ ‫اللغويــة األ ّم عنــد التفكي ــر ومعالجــة العلــوم ودراســتها وتدريســها‪،‬‬ ‫ُّ‬ ‫َُ‬ ‫ـدن تشــهد‬ ‫وأشــد وأنكــى مــا تــرى هــذه املعضلــة التعليميــة فــي مـ ٍ‬ ‫ً‬ ‫وحروبــا َّ‬ ‫مسـ ًـخا ًّ‬ ‫عرقيــة‪ ،‬نعــم إن مــن ســنن هللا فــي الكــون‬ ‫قوميــا‬ ‫اإلحيــاء واإلماتــة والبعــث والتدافــع والسبب ــية والصي ــرورة‪ ،‬وهــي‬ ‫ســنن تــكاد تكــون ضربــة الزب لــكل أفـراد الوجــود واأللسـ ُـن ُ‬ ‫أحدهــا‪،‬‬ ‫وتلبــس تلــك الســنن غالبــا لبــاس األســباب علــى يــد البشــر‪ ،‬لكــن ْ‬ ‫أن‬ ‫َُ‬ ‫تق َّمــص بهــا علــى أيديهــم بالســطو واإلرهــاب كمــا يجــري فــي مــدارس‬ ‫شــمال شــرق ســورية فتلــك مســألة ال تأت ــي فــي ســياق ســنن التغيي ــر‬ ‫َ‬ ‫بــل هــي احتــال مســتهجن مســتقذر‪.‬‬ ‫ُْ‬ ‫لقــد اندث ــر مــن األقــوام مــا ال يح�صــى وإن قلــت ومــن اللغــات نحــو‬ ‫ذلــك فلعلــك تصيــب‪ ،‬وتغي ــرت وتطــورت أنمــاط الحيــاة منــذ بــدء‬ ‫ّ‬ ‫الخلــق وكــذا ألســنتهم‪ ،‬ولهــذا كلــه عوامــل ال تنكــر‪ ،‬وجلهــا يعــود إلــى‬ ‫الســنن املذكــورة‪ ،‬وهــذا يب ــرهن أن علــى أهــل كل لســان أن يحفظــوا‬ ‫لســانهم أن يحــور أو يغــور أو يب ــيد‪ ،‬وللمحافظــة عوامــل مردهــا إلــى‬ ‫تلــك الســنن ً‬ ‫أيضــا؛ والعقــل يحــار فــي معضلــة الهيمنــة ‪ -‬العوملــة ‪-‬‬ ‫اللغويــة‪ :‬أت ـراها تــؤول إلــى ســنة التدافــع أم اإلماتــة؟ ولعــل ملفتــاح‬ ‫ً‬ ‫حـ ّـل هــذه األحجيــة وفـ ّـك موزهــا أسـ ً‬ ‫ـنانا‪ ،‬أكب ـ ُـرها دقــة تشــخيص‬ ‫ِ ر‬ ‫الواقعــة ليكــون العــاج أكث ــر مالءمــة ومطابقــة‪ ،‬وعمدتهــا سب ــر‬ ‫عوامــل انقطــاع األلســن أو إعجامهــا‪ ،‬ونقـ ّـدم لذلــك ّ‬ ‫بمقدمــة ربمــا‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َّ‬ ‫تنـي ــر هــذا الجانــب املظلــم يــوم حــط املحتــل األجنب ــي عصــا الت ــرحال‬ ‫املنتحــل العرب ــي‪ ،‬لــم َيـ ْـد ُع األو ُل الثان ـ َـي الســتبدال اللســان‬ ‫ُوِلــد‬ ‫ِ‬ ‫ـتعداه؛ َو َ‬ ‫ُ‬ ‫ض َعه بـي ــن َيدي‬ ‫األعجمي بالعرب ــي‪ ،‬لكنه اســتدعاه بل اسـ‬ ‫وعلوم باهرة‪ ،‬فاقتنع الثانـي أن ال وعاء لهذه الثقافة‬ ‫غازية‬ ‫ثقافة ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫َ ُّ‬ ‫وتعليمهــا إال العجمــة‪ ،‬وبـي ــنما كان ي ــرى‬ ‫والعلــوم وال طريــق لتعل ِمهــا‬ ‫ِ‬ ‫الثقافـ َـة والعلـ َ‬ ‫ـوم العرب ــية قــد اصفـ َّـرت فغــدت حطامــا بــل حصيـ ًـدا‬ ‫كأن لــم َت ْغـ َـن باألمــس‪ ،‬حكــم علــى وعائهــا «لســانها» بمثــل ذلــك ً‬ ‫أيضــا‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫‪62‬‬

‫فلــم يعــد ي ــرى فيــه لغــة علــم وال تعليــم؛ واملحتــل واملنتحــل شـريكان‬ ‫فــي هــذا العــدوان (كل الدالئــل تثبــت أن الفرنســية حققــت فــي مرحلــة‬ ‫اســتقالل املغــرب مــن االنتشــار والتوســع مــا لــم تكــن تحلــم بتحقيقــه‬ ‫فــي مرحلــة االحتــال‪ ...‬وبعــد الغــزو العســكري هنــاك أســلحة جديــدة‬ ‫ســتدخل الحلبــة وتقــود املعركــة‪ ،‬وهــي اللغــة والفكــر الفرن�ســي) كمــا‬ ‫ُ‬ ‫َ​َ‬ ‫َ ْ‬ ‫«مغــرب الغــد» الضابــط الفرن�ســي بــول مارت ــي‪.‬‬ ‫ذكــر فــي‬ ‫وعلــى يــد املحتــل واملنتحــل ولــد االنحــال مــن رحــم هــذا الغــزو‬ ‫ّ‬ ‫الفكــري واللسان ــي‪ ،‬ومعنــى االنحــال اللغــوي‪ :‬التفــكك واالنتقــال‬ ‫من املؤتلف إلى املختلف‪ ،‬ومن الصحيح إلى الفاسد‪ ،‬فاضمحلت‬ ‫لغــة العلــوم والتعليــم واإلعــام وانحلــت‪ ،‬وتآكلــت الهويــة فــي بــاد‬ ‫املغــرب مثــا والخليــج علــى دربــه‪ ،‬ذلــك ّ‬ ‫أن حـ َ‬ ‫ـروب اللغــة حـ ٌ‬ ‫ـروب‬ ‫ِ​ِ‬ ‫علــى الوطــن والشــعب وعلــى املا�ضــي والحاضــر واملســتقبل‪ ،‬أي‬ ‫علــى الهويــة بمعناهــا الشــامل للخصائــص الثقافيــة والحضاريــة‬ ‫والعرقيــة والجغرافيــة والتاريخيــة والديـن ــية‪ ،‬فاللغــة ليســت‬ ‫ثقافيــة ووســيلة ّ‬ ‫لسـ ًـانا فحســب بــل هــي ّ‬ ‫التعليــم ّ‬ ‫ّ‬ ‫األم ووعــاء‬ ‫هويــة‬ ‫ِ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫والخصوصيــات‪.‬‬ ‫الفكــر ومســتودع الت ـراث‬ ‫وتضاعفــت مشــكلة الهجي ــن اللغــوي باغت ـراب العــرب ولجوئهــم‬ ‫اليــوم وبوفــادة األعاجــم إلــى الخليــج أمــس‪ ،‬فهــؤالء العــرب وإن‬ ‫ـوج َّ‬ ‫عرفــوا لغتهــم واســتقام لســانهم؛ رطــن فكرهــم واعـ ّ‬ ‫ألن لغــة‬ ‫َّ‬ ‫التعليــم أجنب ــية‪ ،‬فت ـراه يفكــر بهــا ويت ــرجم مــا يفكــر بــه إلــى لغتــه‬ ‫األم‪ ،‬وقــد يفــر مــن ّأمــه إلــى تلــك إذا مــا أقفــر حضنهــا فلــم يجــد فــي‬ ‫معجمــه ذلــك املصطلـ َـح أو املعنــى األجنب ــي القائــم فــي ذهنــه‪.‬‬ ‫وفــي مزاحمــة األعاجــم وثقافتهــم ولغاتهــم األورديــة واإلنجليزيــة‬ ‫والفارســية للعرب ــية تهديـ ٌـد ِب َه ْتــك النســيج املجتمعــي والثقافــي‪،‬‬ ‫وهــذا فيــه مــا فيــه مــن زعزعــة األمــن والســلم األهلــي والعــدوان‬ ‫علــى العقــل العرب ــي ولغتــه الت ــي كانــت باألمــس لغــة العلــوم‬ ‫َ‬ ‫والتعليــم العال َّيــة؛ وخي ــر مــن وفــى البحــث َح َّقــه األســتاذ محمــود‬ ‫شــاكر فــي كتابــه (رســالة فــي الطريــق إلــى ثقافتنــا)‪ ،‬يقــول ســارتون‪:‬‬ ‫(كانــت اللغــة العرب ــية مــن منتصــف القــرن الثامــن حتــى نهايــة‬ ‫القــرن الحــادي عشــر لغــة العلــم االرتقائيــة للجنــس البشــري‪ ،‬حتــى‬ ‫لقــد كان ي ــنبغي ألي كائــن إذا أراد أن يلـ َّـم بثقافــة عصــره وبأحــدث‬ ‫(‪)26‬‬ ‫(‪)27‬‬ ‫(‪)28‬‬ ‫(‪)29‬‬ ‫(‪)30‬‬

‫ ‬

‫العدد ‪ 2‬رجب ‪1439‬هـ‬

‫صورهــا أن يتعلــم اللغــة العرب ــية)(‪ .)26‬وأبلــغ مــن ذلــك قــول العالمــة‬ ‫ب ــريفلوت عــن روجــر ب ــيكون أشـ ُ‬ ‫ـرب‪( :‬لــم يكــن‬ ‫ـهر ع َمـ ِ‬ ‫ـداء نهضـ ِـة الغـ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ً‬ ‫ُ‬ ‫ِب ْيكــون إال رســول مــن رســل العلــم واملنهــج اإلســامي إلــى أوروبــا‬ ‫املســيحية‪ ،‬وهــو لــم يمـ ّـل قــط مــن التصريــح بــأن اللغــة العرب ــية‬ ‫وعلــوم العــرب همــا الطريــق الوحيــد ملعرفــة الحــق)(‪.)27‬‬ ‫ـية‬ ‫ومــا عليــك لحـ ِ ّـل لغــز روجــر ب ــيكون وزمرِتــه والنهضـ ِـة الغرب ـ ِ‬ ‫ُّ‬ ‫ُّ‬ ‫والتأمــل فــي حالنــا اليــوم وحالهــم يومئـ ٍـذ‬ ‫والتدبــر‬ ‫ســوى التحليـ ِـل‬ ‫ّ‬ ‫ـاب‬ ‫تقلـ ُـب وجــوه املعان ــي عنــد قراءتــك بشـ ٍ‬ ‫وأنــت ِ‬ ‫ـغف وعمـ ٍـق لكتـ ِ‬ ‫َ‬ ‫ُْ‬ ‫َّ‬ ‫(رســالة فــي الطريــق إلــى ثقافتنــا)‪ ،‬وليكــن علــى ذكـ ٍـر منــك أن طريقــة‬ ‫ـود‬ ‫وبحثهــا ودراســتها علــى مــدى عقـ ٍ‬ ‫علومنــا ِ‬ ‫نهضتهــم بــدأت بت ــرجمة ِ‬ ‫ً‬ ‫َّ‬ ‫لقــد اكتســب العلــم الغرب ـ ُّـي مــادة أدت إلــى إث ـرائه بدرجــة ال نظي ــر‬ ‫لهــا بفضــل الت ــرجمات العرب ــية عــن اإلغريــق‪ ،‬وكذلــك بفضــل‬ ‫اإلنتــاج العلمـ ّـي املســتقل للمسلمي ــن(‪َّ )28‬‬ ‫وإن انتعـ َ‬ ‫ـاش العلــم فــي‬ ‫العالــم الغرب ــي سـ ُـببه الت ــرجمة الســريعة ملؤلفــات املسلمي ــن فــي‬ ‫ّ‬ ‫حقــل العلــوم ونقلهــا مــن العرب ــية إلــى اللتـيـن ــية لغــة التعليــم‬ ‫الدوليــة آنــذاك(‪ ،)29‬وهــي هــي الطريقــة ذاتهــا الت ــي قامــت بهــا نهضــة‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫املسلمي ــن األوائــل يــوم أن ت ــرجموا علــوم اآلخ ِري ــن وعلموهــا‬ ‫لألجيــال فبحثهــا كل جيــل وفــق معطيــات عصــره وبذلــوا املهــج‬ ‫ً‬ ‫صحيحــا أنهــا تتصــارع‬ ‫فــي تطوي ــرها؛ فالحضــارات تتالقــح وليــس‬ ‫أو تتناطــح‪ ،‬وال َّ‬ ‫أدل علــى ذلــك مــن صن ــيع العالمــة املوســوعي‬ ‫الفيزيائــي الفلكــي الفيلســوف الكنــدي أب ــي يوســف يعقــوب ب ــن‬ ‫إســحاق صاحــب املأمــون‪ ،‬لقــد قـرأ العلــوم املت ــرجمة عــن اليونان ـ ّـية‬ ‫ّ‬ ‫والسريان ـ ّـية‪ ،‬وأتقــن اليونان ـ ّـية ّ‬ ‫والهنديــة ّ‬ ‫والسريان ـ ّـية‪،‬‬ ‫والفارسـ ّـية‬ ‫ُ‬ ‫وت ـ َ‬ ‫وفريقـ ُـه البحثـ ُّـي منهــا ًّ‬ ‫جمــا غفي ـ ًـرا حتــى صــارت مكتبتــه‬ ‫ـرجم هــو‬ ‫تضاهــي أعظـ َـم مكتبـ ٍـة يومئــذ (مكتبـ ِـة ب ــيت الحكمــة) البغداديــة‪،‬‬ ‫بحثيــا وجامعـ ًـة ت ـر َّ‬ ‫وصــارت مكتبتــه مركـ ًـزا ًّ‬ ‫اثية(‪.)30‬‬ ‫ً‬ ‫وضوحــا فــي حــدود الدراســة‪،‬‬ ‫هــذه هــي الظواهــر الســبع األكث ــر‬ ‫ولـ ّ‬ ‫ـكل منهــا تفسي ـراتها وأســبابها وحلــول مقت ــرحة تســاعد علــى‬ ‫ٍ‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫تجــاوز عقباتهــا‪ ،‬وإنــه ليجــدر بمراكــز البحــوث املعن ــية بالثــورات‬ ‫ْ‬ ‫ّ‬ ‫تولــي هــذه الظواهــر قـ ْـد ًرا مــن العنايــة‬ ‫والحريــة والكرامــة أن ِ‬ ‫البحثيــة يالئــم أث ــر ّ‬ ‫كل منهــا فــي التعليــم‪.‬‬ ‫ٍ‬

‫أحمد علي املال‪ :‬أثـر العلماء املسلميـن في الحضارة األوربـية‪ ،‬دار الفكر ط‪ 1401 ،2‬هـ‪ ،1981/‬ص‪ ،111 ،110‬نقال عن سارتون‪ :‬املدخل إلى تاريخ العلوم‪.‬‬ ‫أنور الجندي‪ :‬مقدمات العلوم واملناهج‪ ،‬دار األنصار‪1409 ،‬ه‪.710/4 ،‬‬ ‫راغب السرجانـي‪ :‬العلم وبـناء األمم‪ ،‬مرجع سابق‪ 184 ،‬نقال عن بلسنر‪ :‬العلوم الطبـيعية والطب‪ ،‬دراسة منشورة بكتاب تـراث اإلسالم‪ ،‬إشراف شاخت و بوزوروث‪ ،‬ص‪.79،81‬‬ ‫راغب السرجانـي‪ :‬العلم وبـناء األمم‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪ 184‬نقال عن يبدي تومبسون ‪Yhompsonj/j/w/The Medioval Lirary N.Y Hafner publishing company 1976 p236‬‬ ‫رحاب العكاوي‪ :‬الكندي أعظم الحكماء في تاريخ البشرية‪ ،‬دار الفكر العربـي‪ ،2000 ،‬ص‪.16‬‬

‫‪63‬‬


‫من َّ‬ ‫ُ‬ ‫رات العربـ َّية‬ ‫الث ْو ِ‬ ‫الفراغ ِ‬ ‫لمي في َز ِ‬ ‫الع ُّ‬

‫خامتة البحــث ونتائجه وتوصياته‬

‫هــذا ومــا كان ّ‬ ‫لثوا ِرنــا الجامعيي ــن بــل مــا ي ــنبغي لهــم أن تخمــد‬ ‫َ‬ ‫جــذوة نشــاطهم وهدي ــر أصواتهــم‪ ،‬أو أن ي ــرفع بعضهــم عقي ــرته‬ ‫ْ‬ ‫بفــوات األوان وال َع ْجـ ِـز عــن تقديــم ب ـرامج لتعليــم الجيــل املغــدور؛‬ ‫ُ‬ ‫َ َ‬ ‫ويوهـ َـن عزيمتــه وعــزم اآلخري ــن‪ ،‬فليكــن التعليـ ُـم والتـرب ــية‬ ‫في ِهــن ِ‬ ‫َ‬ ‫والت َج ُّنـ ُ‬ ‫ـس بجنسـ َّـيات أخــرى مــن أجــل االشت ـراك واالخت ـراق‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫َّ‬ ‫والدوليــة خط َت َنــا البديلــة لهزيمـ ِـة‬ ‫املحليــة‬ ‫ِ‬ ‫للمؤسســات واملحافــل ِ‬ ‫َّ‬ ‫وإدانة أنصاره الد ْوليي ــن وإدر ِاجهم في ســجالت التاريخ‬ ‫ـتبداد‬ ‫االسـ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬ ‫الســوداء‪ ،‬ولنصـ ِـرة شــعوب أخــرى تتــوق للحريــة فــي قابــل األيــام‪،‬‬ ‫َ‬ ‫ـف بــاء الحريــة والوسـ َ‬ ‫ـائل العلميــة‬ ‫ولتعليــم األمــم املســحوقة ألـ‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫العبودية‬ ‫ات‬ ‫السلمية لالنعتاق من االستبداد‪ ،‬ولتعريفهم‬ ‫أبجدي ِ‬ ‫ـرب امللــوك واملماليــك َّ‬ ‫لـ ّ‬ ‫وأنهــا ال تكــون ألحـ ٍـد ســواه‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫َ َ‬ ‫َّ‬ ‫ُ‬ ‫ويــا لــه مــن تشــريف! ومــا أجلــه مــن تكليــف! أن يقت�ضــي منــك‬ ‫إيمانــك بالحريــة واالنعتــاق مــن العبوديــة لغي ــر هللا‪ :‬أنــك كلمــا‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫فتنصــب لتعليــم الجيــل‬ ‫ـرنامجك اليومـ ّ ِـي تهـ ُّـب‬ ‫فرغــت مــن ب ـ ِ‬ ‫َّ‬ ‫َ ْ َ َّ‬ ‫ـتقبل‬ ‫املغــدور وفــق خطـ ٍـة منظمــة‪ ،‬وتنتصــب بــكل إبــاء لب ــناء مسـ ٍ‬ ‫تحكمــه مبــادئ حكيمــة للنهــوض والعطــاء‪.‬‬ ‫ولــك أن تســتهدي بمنــارات وقيــم ســامقة فــي سب ــيل نهضــة أمتنــا‪،‬‬ ‫ولنقبــس مــن جــذوة منشــورات الدكتــور عبــد الكريــم بــكار علــى‬ ‫صفحتــه ً‬ ‫قبســا لعـ َّـل فيــه إلــى هــذا السب ــيل هـ ً‬ ‫ـدى‪:‬‬ ‫* حي ــن يشــعر إنســان بأنــه حــر يكــون قــد َّ‬ ‫حقــق نصــف وجــوده‪،‬‬ ‫ويحقــق النصــف الثان ــي حي ــن ُينجــز مــا يجــب عليــه إنجــازه‪،‬‬ ‫ومعظــم اإلنجــازات الكب ــرى مدي ــنة ألمري ــن مهمي ــن‪ :‬االهتمــام‬ ‫والتنظيــم‪ ،‬فاالهتمــام يحملنــا علــى اتخــاذ موقــف‪ ،‬والتنظيــم‬ ‫ي ــرفع درجــة الكفــاءة فــي توظيــف املــوارد املتاحــة‪ ،‬وال يعب ــر عــن‬ ‫نوعية شخصيتك وال يوضح مقدار عظمتك �شيء كاهتماماتك‬ ‫وأولوياتــك‪ ،‬فالعديــد مــن األشــخاص يملكــون كل مقومــات‬ ‫العظمــة لكنهــم لــم يصبحــوا عظمــاء ألن اهتماماتهــم تافهــة‪ ،‬وفــي‬ ‫هــذا خســارة كبـي ــرة لهــم ولنــا‪.‬‬

‫ ‬

‫المنهج األصولي في تفسيـر النصوص‬

‫العدد ‪ 2‬رجب ‪1439‬هـ‬

‫الجاهلة يسهل سوقها وتصعب قيادتها؛ فالعلم يؤسس للتفاهم‪.‬‬ ‫*الوقــت يضيــع ســدى إذا لــم نضغــط عليــه بآمــال‬ ‫مســتقبلية‪ ،‬فالطب ــيعة تكــره الف ـراغ‪ ،‬وإذا لــم يمتلــئ القلــب‬ ‫باألفــكار العظيمــة امتــأ بالهمــوم والتطلعــات الصغي ــرة‪ ،‬وإذا‬ ‫لــم يمتلــئ العقــل باألفــكار النـي ــرة عششــت فيــه األوهــام‪ ،‬ولذلــك‬ ‫فإنــه ال خيــار أمامنــا ســوى ســلوك طريــق النبــاء والنابهي ــن‪.‬‬

‫أهـ ُّـم نتائــج البحــث‪:‬‬

‫َّ ُ‬ ‫مركزيــة العلــم والتعليــم فــي التغيي ــر والب ــناء‪.‬‬ ‫‪)1‬‬ ‫‪ )2‬ت ـ ُ‬ ‫ـرشيد الوعــي املجتمعــي بالفــرق بـي ــن دولتـي ــن‪ :‬دولـ ٍـة‬ ‫ُ‬ ‫مرغــوب فيهــا وأخــرى مرغــوب عنهــا‪ ،‬والكشــف عــن جوهرهذا‬ ‫الفــرق فــي ضــوء املــدى الحقيقــي لــه مــن خــال هــذه الثالثيـ ِـة‪:‬‬ ‫ـيس نهضتهــا عليــه‬ ‫أ) عنايـ ِـة األمــة بالعلــم والتعليــم‪ ،‬ب) وتأسـ ِ‬ ‫ـخائها فــي اإلنفــاق علــى طالبــه ومؤسســاته‪.‬‬ ‫ج) وسـ ِ‬ ‫‪ )3‬حصــر العوامــل املكتســبة والقهريــة املؤث ــرة فــي مشــكالت‬ ‫التعليــم بـي ــن عهدي ــن‪.‬‬ ‫ـات‬ ‫‪ )4‬اقت ــراح بدائــل متاحــة لحــاالت كانــت أو افت ــرضت عقبـ ٍ‬ ‫الحقبــة‪.‬‬ ‫فــي طريــق التعليــم فــي هــذه ِ‬ ‫ُ‬ ‫َّ‬ ‫وفــي ل َّجــة أفــكار هــذا البحــث وقضايــاه املكثفــة الجدي ــرة‬ ‫ـاث َّ‬ ‫معمقــة يتســلل شــعاع األمــل املعقــود علــى‬ ‫بدراســات وأبحـ ٍ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫هــذا الجيــل ليعــود فيبنِــي مــن جديــد جيــل الغــد املنشــود‪ ،‬ومــا‬ ‫يدري ــنا أن يعود العقل اإلسالمي الولود إلى‬ ‫إبداع املدن ــية من‬ ‫ِ‬ ‫جديــد؟ َّ‬ ‫إن فت ــرات االزدهــارواالنحــدارمـ َّـرت علــى جميــع األمــم‬ ‫كمــا ي ــرى رْينــان(‪ ،)31‬وهــذا ليــس بمسـ َ‬ ‫ـناء َّأمـ ٍـة قيــل‬ ‫ـتغرب مــن أب ـ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ّ‬ ‫عــن أســافها‪( :‬كل مستشــفى وكل مركــز علمــي فــي أيامنــا هــذه‬ ‫إنمــا هــوفــي حقيقــة األمــر ُن ُ‬ ‫صـ ٌـب تــذكاري للعبقرية العرب ــية)(‪.)32‬‬

‫* الشــعوب املتعلمة تســهل قيادتها ويصعب ســوقها‪ ،‬والشــعوب‬ ‫(‪ )31‬أنور الجندي‪ :‬مقدمات العلوم واملناهج‪ ،‬مرجع سابق‪.173/8 ،‬‬ ‫(‪ )32‬زيغريد هونكه‪ :‬شمس العرب تسطع على الغرب‪ ،‬دار اآلفاق الجديدة‪ ،‬ط‪ ،3‬بـيـروت‪1985 ،‬م‪ ،‬ص‪.354‬‬

‫‪64‬‬

‫العدد ‪ 2‬رجب ‪1439‬هـ‬

‫ُّ‬ ‫األصولي‬ ‫المنهج‬ ‫ُ‬ ‫الجزية‬ ‫يف تفسيـر النصوص‬ ‫وتطبـيق ُه ىلع ِ‬ ‫آية ِ‬ ‫الدكتور أحمد السعدي‬

‫بأكاديمية باشاك شهيـر‪ -‬إسطنبول‪.‬‬ ‫أستاذ مشارك يف قسم الفقه وأصوله‪ ،‬عميد كلية الشريعة‬ ‫َّ‬

‫ُمق ِّدم ٌة‬

‫ُ‬ ‫ّ ُ‬ ‫ّ‬ ‫ـان‬ ‫الحمــد ِ‬ ‫هلل ر ِب العاملي ــن‪ ،‬والصــاة والســام األتمـ ِـان األكمـ ِ‬ ‫علــى ســيدنا محمــد ســيد األولي ــن واآلخري ــن‪ ،‬وعلــى آلــه وصحبـ ِـه‬ ‫أجمعي ــن‪ ،‬وبعـ ُـد‪:‬‬ ‫ـدد مــن الباحثي ــن علــى القــول‪َّ :‬‬ ‫دأب عـ ٌ‬ ‫فقــد َ‬ ‫إن الفقهــاء‬ ‫ِ‬ ‫املعاصري ــن اســتطاعوا أن يجــددوا فــي الفقــه اإلسـ ّ‬ ‫ـامي لكنهــم‬ ‫جمــدوا أمــام أصولــه‪ ،‬ودعــوا إلــى شــمو ِل حركــة التجديـ ِـد ملباحــث‬ ‫َّ‬ ‫ليتحر َر الفقه من ربقة قيود األصول الذي ما زال‬ ‫أصول الفقه‬ ‫يعيــد ويكــرر مســائل الشــافعي الثابتــة منــذ أكث ــرمــن ألــف ومئت ــي‬ ‫َ‬ ‫ســنة‪ ،‬وقــد حــاول هــذا البحــث ب ــيان حقيقـ ٍـة مفادهــا َّأن ثبــات‬ ‫األصوليي ــن ليس ً‬ ‫ّ‬ ‫نابعا‬ ‫مسائل الشافعي ومن سارعلى نهجه من‬ ‫ّ​ّ‬ ‫َّ‬ ‫ٌ‬ ‫ْ‬ ‫متو ِلــد مــن‬ ‫ِمــن تقديـ ٍ‬ ‫ـس لقـ ْـول شــخص أو منهــج َّأفــراد‪ ،‬إنمــا هــو ِ‬ ‫بثباتها‪.‬‬ ‫طبـيعة هذا العل ِم الذي قام على ُمسل ٍ‬ ‫مات يحكم العقل ِ‬ ‫وقــد جهــد الباحــث فــي إيضــاح حقيقــة مفادهــا أن االحتفــاظ‬ ‫بالجانــب الثابــت مــن أصــول الفقــه ال يمنــع التجديــد فــي فــروع‬ ‫الفقــه ومســائله املبـن ــية علــى هــذا الجانــب‪ ،‬ذلــك ألن ثبــات هــذا‬ ‫الجانب اليعنـي عدم االختالف في تطبـيقه‪ ،‬واالختالف في تطبـيقه‬ ‫َّ َ‬ ‫هوما َج َع َل بعض املعاصريـن يـنكرون‬ ‫قطعيت ُه؛ لعدم مالحظتهم‬ ‫أن االختالف في التطبـيق اليعنـي ظن َّـية القاعدة‪ ،‬فحيـن نقو ُل َّ‬ ‫إن‬ ‫فهــم العــرب لكالمهــم إبــان نــزول القـرآن هــوالــذي يجــب تفسي ــر‬ ‫القرآن على أساسه ال نعنـي َّ‬ ‫ً‬ ‫جميعا‪،‬‬ ‫أن فهمهم واحد ثابت بـيـنهم‬ ‫ُ َّ‬ ‫بل يعنـي ‪ -‬كما سيبـيـن البحث ‪ -‬أنه ال يمكن تفسيـرالقرآن على‬ ‫ُ‬ ‫نســق يضــاد منطــق فهمهــم‪ ،‬ويخالــف عرفهــم فــي التخاطـ ِـب‪.‬‬ ‫ول ـكـي يب ــرهن البحــث علــى َّ‬ ‫أن االنضــواء تحــت قواعــد األصــول‬

‫ علــى اختــاف العلمــاء فــي جزئياتهــا ‪ -‬ال يحصــرالباحــث فــي خانــة‬‫ً‬ ‫ت ــرجع باملجتمــع أكث ــر مــن ألــف عــام إلــى الــوراء؛ ِاختــار مبحثــا‬ ‫ًّ‬ ‫خاصــا مــن مباحــث الفقــه يكث ــر الجــدل حولــه هــذه األيــام‪،‬‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫وحكـ َـم فيــه املنهـ َـج األصولـ َّـي دون لـ ّ ٍـي لقواعــده‪ ،‬وظهــرت نت ــيجة‬ ‫ٌ‬ ‫هــذا التحكيــم رؤيــة خالفــت فــي جوانــب مهمــة منهــا مــا اســتنبطه‬ ‫املتقدمــون وفــق املنهــج نفســه‪ ،‬ليقــول َّ‬ ‫إن أصــول الفقــه ال‬ ‫َ ُ‬ ‫سب ــيل لتجــاوزه‪َّ ،‬‬ ‫وإن ثبــات أ ِ ّسـ ِـه غي ــرمانـ ٍـع مــن تجديــد االجتهــاد‬ ‫وتقديــم رؤى تتفــق ومقاصــد الشــريعة فــي رعايــة مصالــح البشــر‬ ‫ومناســبة الشــرع لــكل زمــان ومــكان‪.‬‬ ‫ً‬ ‫َ‬ ‫ـتمل علــى جانبـي ــن‪ :‬نظــر ّ ٍي وتطب ـ ّ‬ ‫ن‬ ‫ـيقي‪ ،‬فقــد‬ ‫ـ‬ ‫ش‬ ‫م‬ ‫ـوع‬ ‫ـ‬ ‫ض‬ ‫املو‬ ‫ـو‬ ‫ـ‬ ‫ولك‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬ ‫قســمته إلــى مبحثي ــن‪ ،‬تحدثــت فــي املبحــث األول منهمــا عــن الجانــب‬ ‫َّ‬ ‫ـية‪:‬‬ ‫النظري‪ ،‬وخصصت الثانـي للجانب التطبـيقي وفق الخط ِة اآلت ِ‬

‫خطَّة البحث‪:‬‬ ‫يتألف البحث من مقدمة ومبحثيـن وخاتمة‪:‬‬ ‫‪ّ )1‬‬ ‫مقدمة حول مشكلة البحث وخطته‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫‪ )2‬املبحث َّ‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫األصولية على الفهم البشري‬ ‫حاكمية القواعد‬ ‫األو ُل‪:‬‬ ‫َّ‬ ‫للنصوص‬ ‫ومطلبان‪:‬‬ ‫الشرعية‪ .‬وفيه تمهيد‬ ‫ِ‬ ‫أ‪ -‬التمهيد ‪ :‬في ضرورة فهم كالم أي لغة وفق قواعد الداللة فيها‪.‬‬ ‫ب‪ -‬املطلــب َّ‬ ‫األو ُل‪ :‬الدليــل القرآن ــي علــى وجــوب تحكيــم قواعــد‬ ‫الداللــة للغــة العرب ــية‪.‬‬ ‫ج‪ -‬املطلب الثانـي‪ :‬املنهج األثـري واملنهج املقاصدي في فهم النص الشرعي‪.‬‬ ‫‪ )3‬املبحــث الثان ــي‪ :‬إعمــال املنهــج األصولــي فــي فهــم آيــة الجزيــة‪،‬‬ ‫‪65‬‬


‫من َّ‬ ‫ُ‬ ‫رات العربـ َّية‬ ‫الث ْو ِ‬ ‫الفراغ ِ‬ ‫لمي في َز ِ‬ ‫الع ُّ‬

‫خامتة البحــث ونتائجه وتوصياته‬

‫هــذا ومــا كان ّ‬ ‫لثوا ِرنــا الجامعيي ــن بــل مــا ي ــنبغي لهــم أن تخمــد‬ ‫َ‬ ‫جــذوة نشــاطهم وهدي ــر أصواتهــم‪ ،‬أو أن ي ــرفع بعضهــم عقي ــرته‬ ‫ْ‬ ‫بفــوات األوان وال َع ْجـ ِـز عــن تقديــم ب ـرامج لتعليــم الجيــل املغــدور؛‬ ‫ُ‬ ‫َ َ‬ ‫ويوهـ َـن عزيمتــه وعــزم اآلخري ــن‪ ،‬فليكــن التعليـ ُـم والتـرب ــية‬ ‫في ِهــن ِ‬ ‫َ‬ ‫والت َج ُّنـ ُ‬ ‫ـس بجنسـ َّـيات أخــرى مــن أجــل االشت ـراك واالخت ـراق‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫َّ‬ ‫والدوليــة خط َت َنــا البديلــة لهزيمـ ِـة‬ ‫املحليــة‬ ‫ِ‬ ‫للمؤسســات واملحافــل ِ‬ ‫َّ‬ ‫وإدانة أنصاره الد ْوليي ــن وإدر ِاجهم في ســجالت التاريخ‬ ‫ـتبداد‬ ‫االسـ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬ ‫الســوداء‪ ،‬ولنصـ ِـرة شــعوب أخــرى تتــوق للحريــة فــي قابــل األيــام‪،‬‬ ‫َ‬ ‫ـف بــاء الحريــة والوسـ َ‬ ‫ـائل العلميــة‬ ‫ولتعليــم األمــم املســحوقة ألـ‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫العبودية‬ ‫ات‬ ‫السلمية لالنعتاق من االستبداد‪ ،‬ولتعريفهم‬ ‫أبجدي ِ‬ ‫ـرب امللــوك واملماليــك َّ‬ ‫لـ ّ‬ ‫وأنهــا ال تكــون ألحـ ٍـد ســواه‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫َ َ‬ ‫َّ‬ ‫ُ‬ ‫ويــا لــه مــن تشــريف! ومــا أجلــه مــن تكليــف! أن يقت�ضــي منــك‬ ‫إيمانــك بالحريــة واالنعتــاق مــن العبوديــة لغي ــر هللا‪ :‬أنــك كلمــا‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫فتنصــب لتعليــم الجيــل‬ ‫ـرنامجك اليومـ ّ ِـي تهـ ُّـب‬ ‫فرغــت مــن ب ـ ِ‬ ‫َّ‬ ‫َ ْ َ َّ‬ ‫ـتقبل‬ ‫املغــدور وفــق خطـ ٍـة منظمــة‪ ،‬وتنتصــب بــكل إبــاء لب ــناء مسـ ٍ‬ ‫تحكمــه مبــادئ حكيمــة للنهــوض والعطــاء‪.‬‬ ‫ولــك أن تســتهدي بمنــارات وقيــم ســامقة فــي سب ــيل نهضــة أمتنــا‪،‬‬ ‫ولنقبــس مــن جــذوة منشــورات الدكتــور عبــد الكريــم بــكار علــى‬ ‫صفحتــه ً‬ ‫قبســا لعـ َّـل فيــه إلــى هــذا السب ــيل هـ ً‬ ‫ـدى‪:‬‬ ‫* حي ــن يشــعر إنســان بأنــه حــر يكــون قــد َّ‬ ‫حقــق نصــف وجــوده‪،‬‬ ‫ويحقــق النصــف الثان ــي حي ــن ُينجــز مــا يجــب عليــه إنجــازه‪،‬‬ ‫ومعظــم اإلنجــازات الكب ــرى مدي ــنة ألمري ــن مهمي ــن‪ :‬االهتمــام‬ ‫والتنظيــم‪ ،‬فاالهتمــام يحملنــا علــى اتخــاذ موقــف‪ ،‬والتنظيــم‬ ‫ي ــرفع درجــة الكفــاءة فــي توظيــف املــوارد املتاحــة‪ ،‬وال يعب ــر عــن‬ ‫نوعية شخصيتك وال يوضح مقدار عظمتك �شيء كاهتماماتك‬ ‫وأولوياتــك‪ ،‬فالعديــد مــن األشــخاص يملكــون كل مقومــات‬ ‫العظمــة لكنهــم لــم يصبحــوا عظمــاء ألن اهتماماتهــم تافهــة‪ ،‬وفــي‬ ‫هــذا خســارة كبـي ــرة لهــم ولنــا‪.‬‬

‫ ‬

‫المنهج األصولي في تفسيـر النصوص‬

‫العدد ‪ 2‬رجب ‪1439‬هـ‬

‫الجاهلة يسهل سوقها وتصعب قيادتها؛ فالعلم يؤسس للتفاهم‪.‬‬ ‫*الوقــت يضيــع ســدى إذا لــم نضغــط عليــه بآمــال‬ ‫مســتقبلية‪ ،‬فالطب ــيعة تكــره الف ـراغ‪ ،‬وإذا لــم يمتلــئ القلــب‬ ‫باألفــكار العظيمــة امتــأ بالهمــوم والتطلعــات الصغي ــرة‪ ،‬وإذا‬ ‫لــم يمتلــئ العقــل باألفــكار النـي ــرة عششــت فيــه األوهــام‪ ،‬ولذلــك‬ ‫فإنــه ال خيــار أمامنــا ســوى ســلوك طريــق النبــاء والنابهي ــن‪.‬‬

‫أهـ ُّـم نتائــج البحــث‪:‬‬

‫َّ ُ‬ ‫مركزيــة العلــم والتعليــم فــي التغيي ــر والب ــناء‪.‬‬ ‫‪)1‬‬ ‫‪ )2‬ت ـ ُ‬ ‫ـرشيد الوعــي املجتمعــي بالفــرق بـي ــن دولتـي ــن‪ :‬دولـ ٍـة‬ ‫ُ‬ ‫مرغــوب فيهــا وأخــرى مرغــوب عنهــا‪ ،‬والكشــف عــن جوهرهذا‬ ‫الفــرق فــي ضــوء املــدى الحقيقــي لــه مــن خــال هــذه الثالثيـ ِـة‪:‬‬ ‫ـيس نهضتهــا عليــه‬ ‫أ) عنايـ ِـة األمــة بالعلــم والتعليــم‪ ،‬ب) وتأسـ ِ‬ ‫ـخائها فــي اإلنفــاق علــى طالبــه ومؤسســاته‪.‬‬ ‫ج) وسـ ِ‬ ‫‪ )3‬حصــر العوامــل املكتســبة والقهريــة املؤث ــرة فــي مشــكالت‬ ‫التعليــم بـي ــن عهدي ــن‪.‬‬ ‫ـات‬ ‫‪ )4‬اقت ــراح بدائــل متاحــة لحــاالت كانــت أو افت ــرضت عقبـ ٍ‬ ‫الحقبــة‪.‬‬ ‫فــي طريــق التعليــم فــي هــذه ِ‬ ‫ُ‬ ‫َّ‬ ‫وفــي ل َّجــة أفــكار هــذا البحــث وقضايــاه املكثفــة الجدي ــرة‬ ‫ـاث َّ‬ ‫معمقــة يتســلل شــعاع األمــل املعقــود علــى‬ ‫بدراســات وأبحـ ٍ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫هــذا الجيــل ليعــود فيبنِــي مــن جديــد جيــل الغــد املنشــود‪ ،‬ومــا‬ ‫يدري ــنا أن يعود العقل اإلسالمي الولود إلى‬ ‫إبداع املدن ــية من‬ ‫ِ‬ ‫جديــد؟ َّ‬ ‫إن فت ــرات االزدهــارواالنحــدارمـ َّـرت علــى جميــع األمــم‬ ‫كمــا ي ــرى رْينــان(‪ ،)31‬وهــذا ليــس بمسـ َ‬ ‫ـناء َّأمـ ٍـة قيــل‬ ‫ـتغرب مــن أب ـ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ّ‬ ‫عــن أســافها‪( :‬كل مستشــفى وكل مركــز علمــي فــي أيامنــا هــذه‬ ‫إنمــا هــوفــي حقيقــة األمــر ُن ُ‬ ‫صـ ٌـب تــذكاري للعبقرية العرب ــية)(‪.)32‬‬

‫* الشــعوب املتعلمة تســهل قيادتها ويصعب ســوقها‪ ،‬والشــعوب‬ ‫(‪ )31‬أنور الجندي‪ :‬مقدمات العلوم واملناهج‪ ،‬مرجع سابق‪.173/8 ،‬‬ ‫(‪ )32‬زيغريد هونكه‪ :‬شمس العرب تسطع على الغرب‪ ،‬دار اآلفاق الجديدة‪ ،‬ط‪ ،3‬بـيـروت‪1985 ،‬م‪ ،‬ص‪.354‬‬

‫‪64‬‬

‫العدد ‪ 2‬رجب ‪1439‬هـ‬

‫ُّ‬ ‫األصولي‬ ‫المنهج‬ ‫ُ‬ ‫الجزية‬ ‫يف تفسيـر النصوص‬ ‫وتطبـيق ُه ىلع ِ‬ ‫آية ِ‬ ‫الدكتور أحمد السعدي‬

‫بأكاديمية باشاك شهيـر‪ -‬إسطنبول‪.‬‬ ‫أستاذ مشارك يف قسم الفقه وأصوله‪ ،‬عميد كلية الشريعة‬ ‫َّ‬

‫ُمق ِّدم ٌة‬

‫ُ‬ ‫ّ ُ‬ ‫ّ‬ ‫ـان‬ ‫الحمــد ِ‬ ‫هلل ر ِب العاملي ــن‪ ،‬والصــاة والســام األتمـ ِـان األكمـ ِ‬ ‫علــى ســيدنا محمــد ســيد األولي ــن واآلخري ــن‪ ،‬وعلــى آلــه وصحبـ ِـه‬ ‫أجمعي ــن‪ ،‬وبعـ ُـد‪:‬‬ ‫ـدد مــن الباحثي ــن علــى القــول‪َّ :‬‬ ‫دأب عـ ٌ‬ ‫فقــد َ‬ ‫إن الفقهــاء‬ ‫ِ‬ ‫املعاصري ــن اســتطاعوا أن يجــددوا فــي الفقــه اإلسـ ّ‬ ‫ـامي لكنهــم‬ ‫جمــدوا أمــام أصولــه‪ ،‬ودعــوا إلــى شــمو ِل حركــة التجديـ ِـد ملباحــث‬ ‫َّ‬ ‫ليتحر َر الفقه من ربقة قيود األصول الذي ما زال‬ ‫أصول الفقه‬ ‫يعيــد ويكــرر مســائل الشــافعي الثابتــة منــذ أكث ــرمــن ألــف ومئت ــي‬ ‫َ‬ ‫ســنة‪ ،‬وقــد حــاول هــذا البحــث ب ــيان حقيقـ ٍـة مفادهــا َّأن ثبــات‬ ‫األصوليي ــن ليس ً‬ ‫ّ‬ ‫نابعا‬ ‫مسائل الشافعي ومن سارعلى نهجه من‬ ‫ّ​ّ‬ ‫َّ‬ ‫ٌ‬ ‫ْ‬ ‫متو ِلــد مــن‬ ‫ِمــن تقديـ ٍ‬ ‫ـس لقـ ْـول شــخص أو منهــج َّأفــراد‪ ،‬إنمــا هــو ِ‬ ‫بثباتها‪.‬‬ ‫طبـيعة هذا العل ِم الذي قام على ُمسل ٍ‬ ‫مات يحكم العقل ِ‬ ‫وقــد جهــد الباحــث فــي إيضــاح حقيقــة مفادهــا أن االحتفــاظ‬ ‫بالجانــب الثابــت مــن أصــول الفقــه ال يمنــع التجديــد فــي فــروع‬ ‫الفقــه ومســائله املبـن ــية علــى هــذا الجانــب‪ ،‬ذلــك ألن ثبــات هــذا‬ ‫الجانب اليعنـي عدم االختالف في تطبـيقه‪ ،‬واالختالف في تطبـيقه‬ ‫َّ َ‬ ‫هوما َج َع َل بعض املعاصريـن يـنكرون‬ ‫قطعيت ُه؛ لعدم مالحظتهم‬ ‫أن االختالف في التطبـيق اليعنـي ظن َّـية القاعدة‪ ،‬فحيـن نقو ُل َّ‬ ‫إن‬ ‫فهــم العــرب لكالمهــم إبــان نــزول القـرآن هــوالــذي يجــب تفسي ــر‬ ‫القرآن على أساسه ال نعنـي َّ‬ ‫ً‬ ‫جميعا‪،‬‬ ‫أن فهمهم واحد ثابت بـيـنهم‬ ‫ُ َّ‬ ‫بل يعنـي ‪ -‬كما سيبـيـن البحث ‪ -‬أنه ال يمكن تفسيـرالقرآن على‬ ‫ُ‬ ‫نســق يضــاد منطــق فهمهــم‪ ،‬ويخالــف عرفهــم فــي التخاطـ ِـب‪.‬‬ ‫ول ـكـي يب ــرهن البحــث علــى َّ‬ ‫أن االنضــواء تحــت قواعــد األصــول‬

‫ علــى اختــاف العلمــاء فــي جزئياتهــا ‪ -‬ال يحصــرالباحــث فــي خانــة‬‫ً‬ ‫ت ــرجع باملجتمــع أكث ــر مــن ألــف عــام إلــى الــوراء؛ ِاختــار مبحثــا‬ ‫ًّ‬ ‫خاصــا مــن مباحــث الفقــه يكث ــر الجــدل حولــه هــذه األيــام‪،‬‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫وحكـ َـم فيــه املنهـ َـج األصولـ َّـي دون لـ ّ ٍـي لقواعــده‪ ،‬وظهــرت نت ــيجة‬ ‫ٌ‬ ‫هــذا التحكيــم رؤيــة خالفــت فــي جوانــب مهمــة منهــا مــا اســتنبطه‬ ‫املتقدمــون وفــق املنهــج نفســه‪ ،‬ليقــول َّ‬ ‫إن أصــول الفقــه ال‬ ‫َ ُ‬ ‫سب ــيل لتجــاوزه‪َّ ،‬‬ ‫وإن ثبــات أ ِ ّسـ ِـه غي ــرمانـ ٍـع مــن تجديــد االجتهــاد‬ ‫وتقديــم رؤى تتفــق ومقاصــد الشــريعة فــي رعايــة مصالــح البشــر‬ ‫ومناســبة الشــرع لــكل زمــان ومــكان‪.‬‬ ‫ً‬ ‫َ‬ ‫ـتمل علــى جانبـي ــن‪ :‬نظــر ّ ٍي وتطب ـ ّ‬ ‫ن‬ ‫ـيقي‪ ،‬فقــد‬ ‫ـ‬ ‫ش‬ ‫م‬ ‫ـوع‬ ‫ـ‬ ‫ض‬ ‫املو‬ ‫ـو‬ ‫ـ‬ ‫ولك‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬ ‫قســمته إلــى مبحثي ــن‪ ،‬تحدثــت فــي املبحــث األول منهمــا عــن الجانــب‬ ‫َّ‬ ‫ـية‪:‬‬ ‫النظري‪ ،‬وخصصت الثانـي للجانب التطبـيقي وفق الخط ِة اآلت ِ‬

‫خطَّة البحث‪:‬‬ ‫يتألف البحث من مقدمة ومبحثيـن وخاتمة‪:‬‬ ‫‪ّ )1‬‬ ‫مقدمة حول مشكلة البحث وخطته‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫‪ )2‬املبحث َّ‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫األصولية على الفهم البشري‬ ‫حاكمية القواعد‬ ‫األو ُل‪:‬‬ ‫َّ‬ ‫للنصوص‬ ‫ومطلبان‪:‬‬ ‫الشرعية‪ .‬وفيه تمهيد‬ ‫ِ‬ ‫أ‪ -‬التمهيد ‪ :‬في ضرورة فهم كالم أي لغة وفق قواعد الداللة فيها‪.‬‬ ‫ب‪ -‬املطلــب َّ‬ ‫األو ُل‪ :‬الدليــل القرآن ــي علــى وجــوب تحكيــم قواعــد‬ ‫الداللــة للغــة العرب ــية‪.‬‬ ‫ج‪ -‬املطلب الثانـي‪ :‬املنهج األثـري واملنهج املقاصدي في فهم النص الشرعي‪.‬‬ ‫‪ )3‬املبحــث الثان ــي‪ :‬إعمــال املنهــج األصولــي فــي فهــم آيــة الجزيــة‪،‬‬ ‫‪65‬‬


‫المنهج األصولي في تفسيـر النصوص‬ ‫وفيــه تمهيــد ومطلبـ ِـان‪.‬‬ ‫أ ‪ -‬التمهيــد‪ :‬فــي ضــرورة تحكيــم النـ ّ‬ ‫ـص فــي حكمنــا علــى مختلــف‬ ‫ِ‬ ‫ّ‬ ‫وخاصهــا‪.‬‬ ‫شــؤون الحيــاة عامهــا‬ ‫ِ‬ ‫ب ‪ -‬املطلـ ُـب َّ‬ ‫األو ُل‪ :‬اختــاف العلمــاء املتقدمي ــن فــي تفسي ــر آيــة‬ ‫الجزيــة‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫الشرعي ِة‪.‬‬ ‫ج ‪ -‬املطلب الثانـي‪ :‬موضوع الجزية جانب من جوانب السياسة‬ ‫ّ‬ ‫السوري‪.‬‬ ‫‪ )4‬خاتمة في تطبـيق نتائج البحث على الواقع‬ ‫ِ‬ ‫وأرجــو هللا عـ َّـز وجـ َّـل أن يكــون هــذا البحــث إضافــة جديــدة تخــدم‬ ‫الثوابــت مــن جانــب‪ ،‬وتنفتــح علــى العصــر فــي ضوئهــا مــن جانــب‬ ‫ّ‬ ‫املوفـ ُـق وهــو يهــدي السب ـ َ‬ ‫ـيل‪.‬‬ ‫آخــر‪ ،‬وهللا ِ‬

‫املبحث األ َّو ُل‬

‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫األصولي ّة على الفهم‬ ‫القواعد‬ ‫ة‬ ‫حاكمي‬ ‫ّي ُّ‬ ‫للنصوص الش َّ‬ ‫رعية‬ ‫ِ‬ ‫البشر ِ‬ ‫تمهيد‪:‬‬ ‫ً‬ ‫َّ‬ ‫ال أظــن أن عاقــا مهمــا اشــتط بــه الهــوى الفلســفي أو اســتهوته‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫َّ ُ‬ ‫منهجية ُي َف ِ ّسـ ُـر لفظا عرب ـ ًّـيا باالســتفادة من اشــتقاق التـيـن ـ ّ ٍـي دون‬ ‫الل‬ ‫ً‬ ‫أن يفت ــرض عالقة ما بـي ــن الجذر العرب ــي والجذر الالتـيـن ــي في مرحلة‬ ‫ســابقة علــى اســتعمال اللفــظ‪.‬‬ ‫ً‬ ‫َّإن َّ‬ ‫أي عاقــل ال يســتطيع أن يفســر كلمــة (‪ )when‬اإلنجليزيــة مثــا‬ ‫بلفظها في لغتنا ّ‬ ‫الدارجة ( ِوي ـ ْـن ) الت ــي تســتعملها للســؤال عن املكان‬ ‫دون الزمــان‪ ،‬وهــذا يعن ــي َّأن هنــاك إجماعــا علــى َّأن اللفــظ َّ‬ ‫يفســر‬ ‫وفــق اللغــة الت ــي جــاء فــي ســياقها‪ِ ،‬م َّمــا يفــرض االســتفادة مــن األنظمــة‬

‫أو املســتويات اللغويــة عنــد التفسي ــر مــن حيــث الجملــة‪ ،‬علــى خــاف‬ ‫فــي الكـ ِ ّـم والكيــف والتفصيــل‪.‬‬ ‫ً‬ ‫بدايــة يفــرض علي ــنا عقلنــا البشــري ‪ -‬ونحــن تحــت وطــأة حكمــه مهمــا‬ ‫ً‬ ‫مكتوبــا أو مسـ ً‬ ‫ً‬ ‫ـموعا‪.‬‬ ‫حاولنــا رفضــه ‪َ -‬ج ْب َّريــة فــي تفسي ــر النــص‬

‫نحــن أمــام حقيقــة ال يمكــن تجاهلهــا عنــد إرادة ب ــيان املعنــى الكامــن‬ ‫فــي اللفــظ أو الكلمــة ولــو غابــت القري ــنة‪ ،‬أال وهــي اعتمــاد اللغــة وســيلة‬ ‫َّ ْ‬ ‫ّ‬ ‫أي نــص كان ‪ -‬فهــذا يجعلنــا‬ ‫للفهــم‪ ،‬وإذا ســلمنا هــذا فــي تفسي ــر النــص ‪ِ -‬‬ ‫بمنأى عن تأكيد ذلك أو االستدالل له في حالة تفسيـرنا للنص القرآنـي‪.‬‬

‫المنهج األصولي في تفسيـر النصوص‬

‫العدد ‪ 2‬رجب ‪1439‬هـ‬

‫املطلب َّ‬ ‫األو ُل‪:‬‬

‫الدليل القرآنـي على وجوب تحكيم قواعد الداللة للغة العربـية‪.‬‬ ‫ورغــم مــا تقـ َّـد َم مــن عــدم الحاجــة لالســتدالل علــى هــذه املســألة‬ ‫َّ َ‬ ‫القطعيــة بطب ــيعتها‪َّ ،‬‬ ‫َّ‬ ‫النظـ ِـر إلــى تك ـرار الق ـرآن‬ ‫فإنن ــي أرى وجــوب لفـ ِـت‬ ‫التأكيـ َـد علــى عرب ـ َّـي ِت ِه‪ ،‬فاآليــات املفيــدة لوجــوب االعتمــاد علــى العرب ــية‬ ‫وســيلة لفهــم القـرآن غي ـ ُـر قليلــة‪ ،‬بــل قــد يحــار اإلنســان فــي كث ــرتها‪ ،‬وربمــا‬ ‫تزيل الحيـرة عندما نعلم أن هذه اآليات ‪ -‬وهي أكثـر من عشر آيات‪ -‬نزلت‬ ‫الع ْمـ َـد َة علــى صــدق ّ‬ ‫بمكــة حيــث كان التحـ ّـدي بالق ـرآن الدليـ َـل ُ‬ ‫النبــوة‪...‬‬ ‫ولكن هل جميع اآليات املفيدة لعربـية القرآن ًّ‬ ‫نصا ‪ -‬على املعنى األصولي‬ ‫ّ‬ ‫مك َّيــة؟ الجــواب‪ :‬نعــم‪ ،‬إذا لــم نعتب ــر آيــة الرعــد ّ‬ ‫نصــا فــي ذلــك‪.‬‬ ‫للنــص ‪ -‬هــي ِ‬ ‫ولكــن هــذا املقصــد‪ ،‬أعن ــي حجيــة القـرآن علــى صــدق الرســالة يجعــل‬ ‫تأكيــد القـرآن علــى عرب ــيته غي ــر متوجــه إلــى طريقــة التفسي ــر ابتــداء‪،‬‬ ‫وهــذا صحيــح ً‬ ‫أيضــا لــوال آيــة الرعــد‪.‬‬ ‫حكمــا اسـ ً‬ ‫إننــا ًإذا أمــام آيــة تشـ ِّـكل ً‬ ‫ـتثنائيا ال نســتطيع التعميــم معــه‪،‬‬ ‫ِم َّما يدفعنا للتأمل في هذه اآلية الستنباط معالم هذا االستثناء وأسبابه‪.‬‬ ‫َ ُ‬ ‫َ‬ ‫يقــول ســبحانه‪َ :‬‬ ‫((و َّال ِذي ـ َـن َآت ْي َن ُاهـ ُـم ْالك َتـ َ‬ ‫ـاب َي ْف َر ُحــون ِب َمــا أنـ ِـز َل ِإل ْيـ َـك‬ ‫ِ‬ ‫َ َ َ ْ َ َ ُ ُ َ ْ َ ُ ُ ْ َّ َ ُ ْ ُ َ ْ َ ْ ُ َ َ ُ ْ‬ ‫هللا َوال أش ِر َك‬ ‫نكر بعضه قل إنما أ ِمرت أن أعبد‬ ‫اب من ي ِ‬ ‫و ِمن َ األحَز ِ‬ ‫َ ِ َ َ َ َ َ ْ َ ُ ُ ْ ً َ َ ًّ َ َ‬ ‫َ‬ ‫ـآب (‪ )36‬وكذ ِلــك أنزلنــاه حكمــا ع ِربيــا ول ِئـ ِـن‬ ‫ِبـ ِـه ِإل ْيـ ِـه أ ْد ُعــو َوِإل ْيـ ِـه َمـ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫َّ َ ْ َ َ ْ َ ُ َ ْ َ َ َ َ َ ْ ْ َ َ َ َ‬ ‫هللا ِمــن َوِل ـ ّ ٍـي َوال‬ ‫اتبعــت أهواءهــم بعــد مــا جـ َـاءك ِمــن ال ِعلـ ِـم مــا لــك ِمــن ِ‬ ‫َو ٍاق)) [الرعــد‪ :‬اآليــة ‪ 36‬و ‪ ،]37‬نالحــظ فــي اآليــة األمــر بالتـزام العلــم‬ ‫ْ ْ‬ ‫مقابــل الهــوى (( َو َلئــن َّات َب ْعـ َـت َأ ْه َو ُ‬ ‫اءهــم َب ْعـ َـد َمــا َجـ َـاء َك ِمـ َـن ال ِعلـ ِـم))‬ ‫ِ​ِ‬ ‫ولكــن مــا املقصــود بالعلــم هنــا ومــا الهــوى املقابــل؟‬ ‫يفســر ذلــك سـ ٌ‬ ‫ـؤال يحضــر فــي الذهــن عنــد ق ـراءة اآليــة موازنــة‬ ‫باآليات املكية‪ ،‬ولنأخذ على سبـيل املثال اآليات املكية البادئة بكلمة‬ ‫َ َ‬ ‫(كذلــك) اللفــظ الــذي تبــدأ بــه هــذه اآليــة‪ ،‬يقــول ســبحانه‪َ (( :‬وكذ ِلـ َـك‬ ‫َ َ‬ ‫ْ‬ ‫َ َّ‬ ‫َ َ ْ َ ُ ُ ْ ً َ َ ًّ َ َ ْ‬ ‫ُ‬ ‫ص َّرف َنــا ِفيـ ِـه ِمـ َـن ال َو ِعيـ ِـد ل َعل ُهـ ْـم َي َّت ُقــون أ ْو ُي ْحـ ِـدث‬ ‫أنزلنــاه قرآنــا ع ِربيــا و‬ ‫َل ُه ْم ذ ْك ًرا)) [طه‪ :‬اآلية ‪ .]113‬ويقول ســبحانه‪َ (( :‬و َك َذل َك َأ ْو َح ْي َنا إ َل ْيكَ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ُ ْ ً َ َ ًّ ّ ُ َ ُ َّ ْ ُ َ َ َ ْ َ ْ َ َ َ ُ َ َ ْ َ ْ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫قرآنــا ع ِربيــا ِلتنـ ِـذر أم القــرى ومــن حولهــا وتنـ ِـذر يــوم الجمـ ِـع ال ريــب ِفيـ ِـه‬ ‫َفريـ ٌـق فــي ْال َج َّنـ ِـة َو َفريـ ٌـق فــي َّ‬ ‫الس ِعي ـ ِـر)) [الشــورى‪ :‬آيــة ‪ ]7‬واآليتــان بهــذا‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ً‬ ‫نزول وجمعا‪ً.‬‬ ‫التـرت ــيب‬ ‫دائمــا مــع وصــف القـرآن ًّ‬ ‫والســؤال‪ِ :‬لـ َـم جــاء لفــظ العرب ــية ً‬ ‫نصــا ‪ -‬كمــا‬ ‫قدمنــا ‪ -‬أمــا هنــا فجــاء مــع لفــظ ُ‬ ‫الحكــم؟ وملــاذا كانــت العرب ــية فــي‬ ‫الســور املكيــة تــازم الق ـرآن أمــا هنــا فتحولــت إلــى الحكــم؟‬ ‫‪66‬‬

‫َّإن م َّمــا ال يجهلــه َّ‬ ‫مثقــف مســلم َّأن اآليــات املدن ــية إنمــا تتحــدث فــي‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫مجملها عن األحكام بخالف اآليات املكية التـي تعنى بتثبـيت العقيدة‬ ‫وب ــيان صــدق الرســالة‪ ،‬هــذا يعن ــي َّأن العلــم هنــا‪ :‬اعتبــار اللفــظ كمــا‬ ‫توحــي بــه داللتــه اللغويــة فــي مجــال اســتنباط األحــكام الشــرعية‪.‬‬ ‫َ‬ ‫فــإذا تجــاوزت الحديــث عــن الحكــم الشــرعي حيــث اللغــة هنــا لغــة‬ ‫ـذوق اللغــة األدب ـ َّـية َّ‬ ‫العلــم فــي ســياق أدب ــي‪ ،‬لــك أن تتـ َّ‬ ‫حتــى فــي آيــات‬ ‫األحــكام علــى النحــو الــذي تقدمــه لــك جماليــات اللفــظ والســياق‬ ‫واملوســيقى واإليحــاءات والصــور الفن ــية ومــا إلــى ذلــك‪ ،‬فاســتنباط‬ ‫ّ‬ ‫العلميــة كالفيزيــاء‪ ،‬اللفــظ هنــا ال يــدل علــى‬ ‫الحكــم خاضــع للقواعــد‬ ‫�شــيء خــارج الداللــة اللغويــة الضيقــة‪ ،‬كمــا أن القــوة فــي الفيزيــاء ال‬ ‫ً‬ ‫يمكــن أن تعن ــي قــوة الب ــيان األدب ــي مثــا‪ ،‬فالتــذوق الجمالــي �شــيء‬ ‫َّ‬ ‫واســتنباط الحكــم الشــرعي �شــيء آخــر‪ ،‬واإلعجــاز القرآن ــي يتمثــل فــي‬ ‫الجمع بـي ــن لغة العلم الصارمة وبـي ــن لغة األدب البـيان ــية الجمالية‪.‬‬

‫املطلبالثانـي‪:‬‬

‫املنهج األثـري واملنهج املقاصدي في فهم النص الشرعي‪.‬‬ ‫ْ‬ ‫بعـ َـد هــذا الب ــيان ّ‬ ‫َّ‬ ‫الخاصـ ِـة بالقـرآن فــي جمعــه بـي ــن لغــة العلــم‬ ‫للســمة‬ ‫ِ‬ ‫ولغــة األدب‪ ،‬ممــا ُي ّ‬ ‫فســر ً‬ ‫جانبــا مــن أســباب عجــز العــرب عــن‬ ‫ِ‬ ‫ـوم مـ ْـن كــون ُ‬ ‫ـال أوجــه‪ ،‬فــإنَّ‬ ‫حمـ َ‬ ‫الق ـرآن ّ‬ ‫ٌ‬ ‫مجاراتـ ِـه‪ ،‬مــع مــا هــو معلـ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ً‬ ‫ُ‬ ‫باحث في تفسي ــر القرآن أو ب ــيان أحكامه‪ ،‬إذ ليس‬ ‫سؤال ي ـراود ك َّل ِ‬

‫مــن املعقــول أن يــدل الق ـرآن علــى ال�شــيء وضــده‪ ،‬فيقــول لل�شــيء‬ ‫ً‬ ‫مــرة هــو حــال ومـ َّـرة هــو ح ـرام‪ ،‬تعالــى هللا عــن ذلــك علـ ًّـوا كبـي ـ ًـرا‪.‬‬ ‫ً‬ ‫أقــو ُل‪َّ :‬إن هنــاك ســؤال ي ـراود الباحــث ُمفـ ُـاد ُه‪ :‬مــا الضوابــط الت ــي‬ ‫تعصــم النــص القرآن ــي مــن التعســف فــي التفسي ــر أو التأويــل عنــد‬ ‫انفتــاح النــص أمــام آليــات القـراءة اللغويــة؟ ومــا املنهــج املتبــع داخــل‬ ‫النــص وخــارج النــص‪ ،‬أعن ــي عالقــة النــص ب ــنصوص أخــرى؟ هــذا مــا‬ ‫يقدمــه لنــا علــم أصــول الفقــه بـنسخت ــيه األث ـ َّرية واملقصديــة‪.‬‬ ‫َّأما النسخة األثـ َّرية ُفيجمل الشافعي خالصة رؤيتها بجملته الشهيـرة‪:‬‬ ‫(ليــس ألحــد دون رســول هللا أن يقــول إال باالســتدالل)(‪ ،)1‬وهــذا يعن ــي‬ ‫َّ‬ ‫َّأن لرســول هللا صلــى هللا عليــه وســلم ‪ -‬وكالمــه عرب ــي تحكمــه طــرق‬ ‫الداللــة العرب ـ َّـية ‪ -‬أن ُ‬ ‫يحـ َّـد مــن آفـ ِـاق داللــة اللفــظ العرب ــي بمــا أعطــي‬ ‫مــن ســلطة التفسي ــر‪ ،‬وبذلــك يجعــل الشــافعي فصـ َـل املقـ ِـال فيمــا‬

‫العدد ‪ 2‬رجب ‪1439‬هـ‬

‫ً‬ ‫يخــرج عــن كونــه ًّ‬ ‫نصــا مــن كالم هللا مت ــروكا لب ــيان رســوله صلــى هللا‬ ‫عليــه وســلم‪ ،‬وإال فالقيــاس‪.‬‬ ‫وقد يقول قائل‪َّ :‬إن َّ‬ ‫السنة أغنت إذن عن االجتهاد بحصرها للداللة‬ ‫اللغوية‪ ،‬بل بمحاصرتها ّ‬ ‫واحد ال يحتمل‬ ‫لنص القرآن املطلق بوجه ٍ‬ ‫ِ‬ ‫َّ‬ ‫ُّ‬ ‫غيـره‪ ،‬والحقيقة َّأن هذا مجانب للصواب‪ ،‬وأظن أن ذلك سيتضح‬ ‫َّ‬ ‫ً‬ ‫الحقا غيـر أننـي أسارع للقول‪َّ :‬إن رسول هللا صلى هللا عليه وسلم لم‬ ‫َُ ّ‬ ‫نحو تفصيلي(‪.)2‬‬ ‫يف ِسر القرآن على ٍ‬ ‫ّ‬ ‫َّ‬ ‫فيؤكد رائدها قطعية علم‬ ‫َّأما النسخة الثانـية ‪ -‬إن صح التعبـيـر‪ِ -‬‬ ‫أصــول الفقــه‪ ،‬حيــث يقــول‪( :‬إن أصــول الفقــه فــي الدي ــن قطعيــة‬ ‫ال ظن ــية‪ ،‬والدليــل علــى ذلــك أنهــا راجعــة إلــى كليــات الشــريعة‪،‬‬ ‫ومــا كان كذلــك فهــو قطــع‪ ،‬ب ــيان األول ظاهــر باالســتقراء املفيــد‬ ‫للقطــع‪ ،‬وب ــيان الثان ــي مــن أوجــه أحدهــا أنهــا ت ــرجع َّإمــا إلــى أصــول‬ ‫عقليــة وهــي قطعيــة‪ ،‬وإمــا مــن االســتقراء الكلــي مــن أدلــة الشــريعة‬ ‫وذلــك قطعــي ً‬ ‫أيضــا‪ ،‬وال ثالــث لهذي ــن إال املجمــوع منهمــا‪ ،‬واملؤلــف‬ ‫مــن القطعيــات قطعـ ٌّـي‪ ،‬وذلــك أصــول الفقــه)(‪.)3‬‬ ‫وهــذا املوقــف مــن الشاطب ـ ّـي رحمــه ُ‬ ‫هللا ليــس َح ْجـ ًـرا و ًّ‬ ‫صائيــا‪ ،‬بــل‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َّ ُ ٌ‬ ‫القطعيــة آت ــية مــن طب ــيعة هــذا العلــم الــذي يســتمد ســلطته مــن‬ ‫ً‬ ‫النـ ّ‬ ‫ـص نفســه‪ ...‬العدالــة مثــا واجــب قطعــي علــى كل حاكــم فــي‬ ‫ِ‬ ‫ي‬ ‫مي ـزان العقــل البشــر ‪ ،‬الحديــث هنــا عــن العدالــة مــن حيــث هــي‬ ‫قيمــة أخالقيــة عامــة مطلقــة‪ ،‬يمكــن أن ي ــرفضها عاقــل داخــل‬ ‫الحــرب‪ ،‬والصــدق قيمــة أخالقيــة ُت ْر َفـ ُ‬ ‫ـض‪ ،‬أو يمكــن رفضهــا‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫أخالقيــة أعلــى‪.‬‬ ‫عندمــا تتعــارض مــع قيمــة‬ ‫وكذلــك القــول بقطعيــة أصــول الفقــه مــن حيــث الجملــة بعيـ ًـدا‬ ‫عــن التطب ــيقات الجزئيــة‪ ،‬ولذلــك نــرى الشاطب ـ َّـي رحمــه هللا يعــود‬ ‫للقــول‪( :‬فمــا جــرى فيهــا ممــا ليــس بقطعــي فمبـن ــي علــى القطعــي‬ ‫ً‬ ‫تفريعــا عليــه بالتبــع ال بالقصــد األول)(‪.)4‬‬ ‫ّ‬ ‫يؤكــد علمــاء األصــول ضمــن املدرستـي ــن أو الرؤيتـي ــن َّأن َّ‬ ‫النـ َّ‬ ‫ـص هــو‬ ‫ِ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫املؤســس لشــرعية مختلــف املصــادر التش ـريعية‪ ،‬حتــى تلــك الت ــي‬ ‫ِ‬ ‫تملــك ســلطة بـيان ــية أو تفسي ـرية‪ ،‬والعالقــات املتبادلــة بـي ــن النــصّ‬ ‫ِ‬ ‫ّ‬ ‫املؤسس ومجموعة الضوابط املنبثقة عن تحكيم املقاصد بصفتها‬ ‫ِ‬ ‫ّ‬ ‫َّ‬ ‫ســلطة تفسي ـرية مؤسســة؛ تشـ ِـكل املنظومــة الثان ــية الت ــي اســتمدها‬

‫(‪ )1‬الرسالة للشافعي‪( ،‬ص‪.)25 :‬‬ ‫َْ‬ ‫ُ َّ‬ ‫(‪ )2‬ومــا ُنسـ َـب إلــى اب ــن ت ــيمية رحمــه هللا مــن أنــه ي ــرى َّأن رســول هللا صلــى هللا عليــه وسـ َّـلم َّ‬ ‫فســر الق ـرآن كلــه فيــه نظــر‪ ،‬ذلــك أنــه رحمــه هللا قــال فــي مطلـ ِـع مقدمتــه املشــهورة فــي أصــول التفسي ــر [ي ــنظر‪ :‬مجمــوع الفتــاوى‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫ً‬ ‫َ‬ ‫‪( :]331/13‬يجــب أن ُيعلــم أن النب ــي ب ـ ّـين ألصحابــه معان ــي الق ـرآن كمــا بـي ــن لهــم ألفاظــه) ف ُح ِمــل قولــه هــذا علــى َّأنـ ُـه ي ــرى تفسي ــر رســول هللا لــكل الق ـرآن‪ ،‬وليــس قولــه دال علــى ذلــك‪ ...‬علــى َّأن هــذا الفهــم لعبارتــه إن كان‬ ‫ً‬ ‫صحيحــا فهــو يخالــف مــا ذهــب إليــه الجمهــور‪.‬‬ ‫(‪ )3‬املوافقات‪ ،‬مقدمات‪ ،‬القسم األول‪( ،‬ص‪ )4( - .)33/1 :‬املرجع السابق‪ ،‬املوضع نفسه‪.‬‬

‫‪67‬‬


‫المنهج األصولي في تفسيـر النصوص‬ ‫وفيــه تمهيــد ومطلبـ ِـان‪.‬‬ ‫أ ‪ -‬التمهيــد‪ :‬فــي ضــرورة تحكيــم النـ ّ‬ ‫ـص فــي حكمنــا علــى مختلــف‬ ‫ِ‬ ‫ّ‬ ‫وخاصهــا‪.‬‬ ‫شــؤون الحيــاة عامهــا‬ ‫ِ‬ ‫ب ‪ -‬املطلـ ُـب َّ‬ ‫األو ُل‪ :‬اختــاف العلمــاء املتقدمي ــن فــي تفسي ــر آيــة‬ ‫الجزيــة‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫الشرعي ِة‪.‬‬ ‫ج ‪ -‬املطلب الثانـي‪ :‬موضوع الجزية جانب من جوانب السياسة‬ ‫ّ‬ ‫السوري‪.‬‬ ‫‪ )4‬خاتمة في تطبـيق نتائج البحث على الواقع‬ ‫ِ‬ ‫وأرجــو هللا عـ َّـز وجـ َّـل أن يكــون هــذا البحــث إضافــة جديــدة تخــدم‬ ‫الثوابــت مــن جانــب‪ ،‬وتنفتــح علــى العصــر فــي ضوئهــا مــن جانــب‬ ‫ّ‬ ‫املوفـ ُـق وهــو يهــدي السب ـ َ‬ ‫ـيل‪.‬‬ ‫آخــر‪ ،‬وهللا ِ‬

‫املبحث األ َّو ُل‬

‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫األصولي ّة على الفهم‬ ‫القواعد‬ ‫ة‬ ‫حاكمي‬ ‫ّي ُّ‬ ‫للنصوص الش َّ‬ ‫رعية‬ ‫ِ‬ ‫البشر ِ‬ ‫تمهيد‪:‬‬ ‫ً‬ ‫َّ‬ ‫ال أظــن أن عاقــا مهمــا اشــتط بــه الهــوى الفلســفي أو اســتهوته‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫َّ ُ‬ ‫منهجية ُي َف ِ ّسـ ُـر لفظا عرب ـ ًّـيا باالســتفادة من اشــتقاق التـيـن ـ ّ ٍـي دون‬ ‫الل‬ ‫ً‬ ‫أن يفت ــرض عالقة ما بـي ــن الجذر العرب ــي والجذر الالتـيـن ــي في مرحلة‬ ‫ســابقة علــى اســتعمال اللفــظ‪.‬‬ ‫ً‬ ‫َّإن َّ‬ ‫أي عاقــل ال يســتطيع أن يفســر كلمــة (‪ )when‬اإلنجليزيــة مثــا‬ ‫بلفظها في لغتنا ّ‬ ‫الدارجة ( ِوي ـ ْـن ) الت ــي تســتعملها للســؤال عن املكان‬ ‫دون الزمــان‪ ،‬وهــذا يعن ــي َّأن هنــاك إجماعــا علــى َّأن اللفــظ َّ‬ ‫يفســر‬ ‫وفــق اللغــة الت ــي جــاء فــي ســياقها‪ِ ،‬م َّمــا يفــرض االســتفادة مــن األنظمــة‬

‫أو املســتويات اللغويــة عنــد التفسي ــر مــن حيــث الجملــة‪ ،‬علــى خــاف‬ ‫فــي الكـ ِ ّـم والكيــف والتفصيــل‪.‬‬ ‫ً‬ ‫بدايــة يفــرض علي ــنا عقلنــا البشــري ‪ -‬ونحــن تحــت وطــأة حكمــه مهمــا‬ ‫ً‬ ‫مكتوبــا أو مسـ ً‬ ‫ً‬ ‫ـموعا‪.‬‬ ‫حاولنــا رفضــه ‪َ -‬ج ْب َّريــة فــي تفسي ــر النــص‬

‫نحــن أمــام حقيقــة ال يمكــن تجاهلهــا عنــد إرادة ب ــيان املعنــى الكامــن‬ ‫فــي اللفــظ أو الكلمــة ولــو غابــت القري ــنة‪ ،‬أال وهــي اعتمــاد اللغــة وســيلة‬ ‫َّ ْ‬ ‫ّ‬ ‫أي نــص كان ‪ -‬فهــذا يجعلنــا‬ ‫للفهــم‪ ،‬وإذا ســلمنا هــذا فــي تفسي ــر النــص ‪ِ -‬‬ ‫بمنأى عن تأكيد ذلك أو االستدالل له في حالة تفسيـرنا للنص القرآنـي‪.‬‬

‫المنهج األصولي في تفسيـر النصوص‬

‫العدد ‪ 2‬رجب ‪1439‬هـ‬

‫املطلب َّ‬ ‫األو ُل‪:‬‬

‫الدليل القرآنـي على وجوب تحكيم قواعد الداللة للغة العربـية‪.‬‬ ‫ورغــم مــا تقـ َّـد َم مــن عــدم الحاجــة لالســتدالل علــى هــذه املســألة‬ ‫َّ َ‬ ‫القطعيــة بطب ــيعتها‪َّ ،‬‬ ‫َّ‬ ‫النظـ ِـر إلــى تك ـرار الق ـرآن‬ ‫فإنن ــي أرى وجــوب لفـ ِـت‬ ‫التأكيـ َـد علــى عرب ـ َّـي ِت ِه‪ ،‬فاآليــات املفيــدة لوجــوب االعتمــاد علــى العرب ــية‬ ‫وســيلة لفهــم القـرآن غي ـ ُـر قليلــة‪ ،‬بــل قــد يحــار اإلنســان فــي كث ــرتها‪ ،‬وربمــا‬ ‫تزيل الحيـرة عندما نعلم أن هذه اآليات ‪ -‬وهي أكثـر من عشر آيات‪ -‬نزلت‬ ‫الع ْمـ َـد َة علــى صــدق ّ‬ ‫بمكــة حيــث كان التحـ ّـدي بالق ـرآن الدليـ َـل ُ‬ ‫النبــوة‪...‬‬ ‫ولكن هل جميع اآليات املفيدة لعربـية القرآن ًّ‬ ‫نصا ‪ -‬على املعنى األصولي‬ ‫ّ‬ ‫مك َّيــة؟ الجــواب‪ :‬نعــم‪ ،‬إذا لــم نعتب ــر آيــة الرعــد ّ‬ ‫نصــا فــي ذلــك‪.‬‬ ‫للنــص ‪ -‬هــي ِ‬ ‫ولكــن هــذا املقصــد‪ ،‬أعن ــي حجيــة القـرآن علــى صــدق الرســالة يجعــل‬ ‫تأكيــد القـرآن علــى عرب ــيته غي ــر متوجــه إلــى طريقــة التفسي ــر ابتــداء‪،‬‬ ‫وهــذا صحيــح ً‬ ‫أيضــا لــوال آيــة الرعــد‪.‬‬ ‫حكمــا اسـ ً‬ ‫إننــا ًإذا أمــام آيــة تشـ ِّـكل ً‬ ‫ـتثنائيا ال نســتطيع التعميــم معــه‪،‬‬ ‫ِم َّما يدفعنا للتأمل في هذه اآلية الستنباط معالم هذا االستثناء وأسبابه‪.‬‬ ‫َ ُ‬ ‫َ‬ ‫يقــول ســبحانه‪َ :‬‬ ‫((و َّال ِذي ـ َـن َآت ْي َن ُاهـ ُـم ْالك َتـ َ‬ ‫ـاب َي ْف َر ُحــون ِب َمــا أنـ ِـز َل ِإل ْيـ َـك‬ ‫ِ‬ ‫َ َ َ ْ َ َ ُ ُ َ ْ َ ُ ُ ْ َّ َ ُ ْ ُ َ ْ َ ْ ُ َ َ ُ ْ‬ ‫هللا َوال أش ِر َك‬ ‫نكر بعضه قل إنما أ ِمرت أن أعبد‬ ‫اب من ي ِ‬ ‫و ِمن َ األحَز ِ‬ ‫َ ِ َ َ َ َ َ ْ َ ُ ُ ْ ً َ َ ًّ َ َ‬ ‫َ‬ ‫ـآب (‪ )36‬وكذ ِلــك أنزلنــاه حكمــا ع ِربيــا ول ِئـ ِـن‬ ‫ِبـ ِـه ِإل ْيـ ِـه أ ْد ُعــو َوِإل ْيـ ِـه َمـ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫َّ َ ْ َ َ ْ َ ُ َ ْ َ َ َ َ َ ْ ْ َ َ َ َ‬ ‫هللا ِمــن َوِل ـ ّ ٍـي َوال‬ ‫اتبعــت أهواءهــم بعــد مــا جـ َـاءك ِمــن ال ِعلـ ِـم مــا لــك ِمــن ِ‬ ‫َو ٍاق)) [الرعــد‪ :‬اآليــة ‪ 36‬و ‪ ،]37‬نالحــظ فــي اآليــة األمــر بالتـزام العلــم‬ ‫ْ ْ‬ ‫مقابــل الهــوى (( َو َلئــن َّات َب ْعـ َـت َأ ْه َو ُ‬ ‫اءهــم َب ْعـ َـد َمــا َجـ َـاء َك ِمـ َـن ال ِعلـ ِـم))‬ ‫ِ​ِ‬ ‫ولكــن مــا املقصــود بالعلــم هنــا ومــا الهــوى املقابــل؟‬ ‫يفســر ذلــك سـ ٌ‬ ‫ـؤال يحضــر فــي الذهــن عنــد ق ـراءة اآليــة موازنــة‬ ‫باآليات املكية‪ ،‬ولنأخذ على سبـيل املثال اآليات املكية البادئة بكلمة‬ ‫َ َ‬ ‫(كذلــك) اللفــظ الــذي تبــدأ بــه هــذه اآليــة‪ ،‬يقــول ســبحانه‪َ (( :‬وكذ ِلـ َـك‬ ‫َ َ‬ ‫ْ‬ ‫َ َّ‬ ‫َ َ ْ َ ُ ُ ْ ً َ َ ًّ َ َ ْ‬ ‫ُ‬ ‫ص َّرف َنــا ِفيـ ِـه ِمـ َـن ال َو ِعيـ ِـد ل َعل ُهـ ْـم َي َّت ُقــون أ ْو ُي ْحـ ِـدث‬ ‫أنزلنــاه قرآنــا ع ِربيــا و‬ ‫َل ُه ْم ذ ْك ًرا)) [طه‪ :‬اآلية ‪ .]113‬ويقول ســبحانه‪َ (( :‬و َك َذل َك َأ ْو َح ْي َنا إ َل ْيكَ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ُ ْ ً َ َ ًّ ّ ُ َ ُ َّ ْ ُ َ َ َ ْ َ ْ َ َ َ ُ َ َ ْ َ ْ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫قرآنــا ع ِربيــا ِلتنـ ِـذر أم القــرى ومــن حولهــا وتنـ ِـذر يــوم الجمـ ِـع ال ريــب ِفيـ ِـه‬ ‫َفريـ ٌـق فــي ْال َج َّنـ ِـة َو َفريـ ٌـق فــي َّ‬ ‫الس ِعي ـ ِـر)) [الشــورى‪ :‬آيــة ‪ ]7‬واآليتــان بهــذا‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ً‬ ‫نزول وجمعا‪ً.‬‬ ‫التـرت ــيب‬ ‫دائمــا مــع وصــف القـرآن ًّ‬ ‫والســؤال‪ِ :‬لـ َـم جــاء لفــظ العرب ــية ً‬ ‫نصــا ‪ -‬كمــا‬ ‫قدمنــا ‪ -‬أمــا هنــا فجــاء مــع لفــظ ُ‬ ‫الحكــم؟ وملــاذا كانــت العرب ــية فــي‬ ‫الســور املكيــة تــازم الق ـرآن أمــا هنــا فتحولــت إلــى الحكــم؟‬ ‫‪66‬‬

‫َّإن م َّمــا ال يجهلــه َّ‬ ‫مثقــف مســلم َّأن اآليــات املدن ــية إنمــا تتحــدث فــي‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫مجملها عن األحكام بخالف اآليات املكية التـي تعنى بتثبـيت العقيدة‬ ‫وب ــيان صــدق الرســالة‪ ،‬هــذا يعن ــي َّأن العلــم هنــا‪ :‬اعتبــار اللفــظ كمــا‬ ‫توحــي بــه داللتــه اللغويــة فــي مجــال اســتنباط األحــكام الشــرعية‪.‬‬ ‫َ‬ ‫فــإذا تجــاوزت الحديــث عــن الحكــم الشــرعي حيــث اللغــة هنــا لغــة‬ ‫ـذوق اللغــة األدب ـ َّـية َّ‬ ‫العلــم فــي ســياق أدب ــي‪ ،‬لــك أن تتـ َّ‬ ‫حتــى فــي آيــات‬ ‫األحــكام علــى النحــو الــذي تقدمــه لــك جماليــات اللفــظ والســياق‬ ‫واملوســيقى واإليحــاءات والصــور الفن ــية ومــا إلــى ذلــك‪ ،‬فاســتنباط‬ ‫ّ‬ ‫العلميــة كالفيزيــاء‪ ،‬اللفــظ هنــا ال يــدل علــى‬ ‫الحكــم خاضــع للقواعــد‬ ‫�شــيء خــارج الداللــة اللغويــة الضيقــة‪ ،‬كمــا أن القــوة فــي الفيزيــاء ال‬ ‫ً‬ ‫يمكــن أن تعن ــي قــوة الب ــيان األدب ــي مثــا‪ ،‬فالتــذوق الجمالــي �شــيء‬ ‫َّ‬ ‫واســتنباط الحكــم الشــرعي �شــيء آخــر‪ ،‬واإلعجــاز القرآن ــي يتمثــل فــي‬ ‫الجمع بـي ــن لغة العلم الصارمة وبـي ــن لغة األدب البـيان ــية الجمالية‪.‬‬

‫املطلبالثانـي‪:‬‬

‫املنهج األثـري واملنهج املقاصدي في فهم النص الشرعي‪.‬‬ ‫ْ‬ ‫بعـ َـد هــذا الب ــيان ّ‬ ‫َّ‬ ‫الخاصـ ِـة بالقـرآن فــي جمعــه بـي ــن لغــة العلــم‬ ‫للســمة‬ ‫ِ‬ ‫ولغــة األدب‪ ،‬ممــا ُي ّ‬ ‫فســر ً‬ ‫جانبــا مــن أســباب عجــز العــرب عــن‬ ‫ِ‬ ‫ـوم مـ ْـن كــون ُ‬ ‫ـال أوجــه‪ ،‬فــإنَّ‬ ‫حمـ َ‬ ‫الق ـرآن ّ‬ ‫ٌ‬ ‫مجاراتـ ِـه‪ ،‬مــع مــا هــو معلـ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ً‬ ‫ُ‬ ‫باحث في تفسي ــر القرآن أو ب ــيان أحكامه‪ ،‬إذ ليس‬ ‫سؤال ي ـراود ك َّل ِ‬

‫مــن املعقــول أن يــدل الق ـرآن علــى ال�شــيء وضــده‪ ،‬فيقــول لل�شــيء‬ ‫ً‬ ‫مــرة هــو حــال ومـ َّـرة هــو ح ـرام‪ ،‬تعالــى هللا عــن ذلــك علـ ًّـوا كبـي ـ ًـرا‪.‬‬ ‫ً‬ ‫أقــو ُل‪َّ :‬إن هنــاك ســؤال ي ـراود الباحــث ُمفـ ُـاد ُه‪ :‬مــا الضوابــط الت ــي‬ ‫تعصــم النــص القرآن ــي مــن التعســف فــي التفسي ــر أو التأويــل عنــد‬ ‫انفتــاح النــص أمــام آليــات القـراءة اللغويــة؟ ومــا املنهــج املتبــع داخــل‬ ‫النــص وخــارج النــص‪ ،‬أعن ــي عالقــة النــص ب ــنصوص أخــرى؟ هــذا مــا‬ ‫يقدمــه لنــا علــم أصــول الفقــه بـنسخت ــيه األث ـ َّرية واملقصديــة‪.‬‬ ‫َّأما النسخة األثـ َّرية ُفيجمل الشافعي خالصة رؤيتها بجملته الشهيـرة‪:‬‬ ‫(ليــس ألحــد دون رســول هللا أن يقــول إال باالســتدالل)(‪ ،)1‬وهــذا يعن ــي‬ ‫َّ‬ ‫َّأن لرســول هللا صلــى هللا عليــه وســلم ‪ -‬وكالمــه عرب ــي تحكمــه طــرق‬ ‫الداللــة العرب ـ َّـية ‪ -‬أن ُ‬ ‫يحـ َّـد مــن آفـ ِـاق داللــة اللفــظ العرب ــي بمــا أعطــي‬ ‫مــن ســلطة التفسي ــر‪ ،‬وبذلــك يجعــل الشــافعي فصـ َـل املقـ ِـال فيمــا‬

‫العدد ‪ 2‬رجب ‪1439‬هـ‬

‫ً‬ ‫يخــرج عــن كونــه ًّ‬ ‫نصــا مــن كالم هللا مت ــروكا لب ــيان رســوله صلــى هللا‬ ‫عليــه وســلم‪ ،‬وإال فالقيــاس‪.‬‬ ‫وقد يقول قائل‪َّ :‬إن َّ‬ ‫السنة أغنت إذن عن االجتهاد بحصرها للداللة‬ ‫اللغوية‪ ،‬بل بمحاصرتها ّ‬ ‫واحد ال يحتمل‬ ‫لنص القرآن املطلق بوجه ٍ‬ ‫ِ‬ ‫َّ‬ ‫ُّ‬ ‫غيـره‪ ،‬والحقيقة َّأن هذا مجانب للصواب‪ ،‬وأظن أن ذلك سيتضح‬ ‫َّ‬ ‫ً‬ ‫الحقا غيـر أننـي أسارع للقول‪َّ :‬إن رسول هللا صلى هللا عليه وسلم لم‬ ‫َُ ّ‬ ‫نحو تفصيلي(‪.)2‬‬ ‫يف ِسر القرآن على ٍ‬ ‫ّ‬ ‫َّ‬ ‫فيؤكد رائدها قطعية علم‬ ‫َّأما النسخة الثانـية ‪ -‬إن صح التعبـيـر‪ِ -‬‬ ‫أصــول الفقــه‪ ،‬حيــث يقــول‪( :‬إن أصــول الفقــه فــي الدي ــن قطعيــة‬ ‫ال ظن ــية‪ ،‬والدليــل علــى ذلــك أنهــا راجعــة إلــى كليــات الشــريعة‪،‬‬ ‫ومــا كان كذلــك فهــو قطــع‪ ،‬ب ــيان األول ظاهــر باالســتقراء املفيــد‬ ‫للقطــع‪ ،‬وب ــيان الثان ــي مــن أوجــه أحدهــا أنهــا ت ــرجع َّإمــا إلــى أصــول‬ ‫عقليــة وهــي قطعيــة‪ ،‬وإمــا مــن االســتقراء الكلــي مــن أدلــة الشــريعة‬ ‫وذلــك قطعــي ً‬ ‫أيضــا‪ ،‬وال ثالــث لهذي ــن إال املجمــوع منهمــا‪ ،‬واملؤلــف‬ ‫مــن القطعيــات قطعـ ٌّـي‪ ،‬وذلــك أصــول الفقــه)(‪.)3‬‬ ‫وهــذا املوقــف مــن الشاطب ـ ّـي رحمــه ُ‬ ‫هللا ليــس َح ْجـ ًـرا و ًّ‬ ‫صائيــا‪ ،‬بــل‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َّ ُ ٌ‬ ‫القطعيــة آت ــية مــن طب ــيعة هــذا العلــم الــذي يســتمد ســلطته مــن‬ ‫ً‬ ‫النـ ّ‬ ‫ـص نفســه‪ ...‬العدالــة مثــا واجــب قطعــي علــى كل حاكــم فــي‬ ‫ِ‬ ‫ي‬ ‫مي ـزان العقــل البشــر ‪ ،‬الحديــث هنــا عــن العدالــة مــن حيــث هــي‬ ‫قيمــة أخالقيــة عامــة مطلقــة‪ ،‬يمكــن أن ي ــرفضها عاقــل داخــل‬ ‫الحــرب‪ ،‬والصــدق قيمــة أخالقيــة ُت ْر َفـ ُ‬ ‫ـض‪ ،‬أو يمكــن رفضهــا‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫أخالقيــة أعلــى‪.‬‬ ‫عندمــا تتعــارض مــع قيمــة‬ ‫وكذلــك القــول بقطعيــة أصــول الفقــه مــن حيــث الجملــة بعيـ ًـدا‬ ‫عــن التطب ــيقات الجزئيــة‪ ،‬ولذلــك نــرى الشاطب ـ َّـي رحمــه هللا يعــود‬ ‫للقــول‪( :‬فمــا جــرى فيهــا ممــا ليــس بقطعــي فمبـن ــي علــى القطعــي‬ ‫ً‬ ‫تفريعــا عليــه بالتبــع ال بالقصــد األول)(‪.)4‬‬ ‫ّ‬ ‫يؤكــد علمــاء األصــول ضمــن املدرستـي ــن أو الرؤيتـي ــن َّأن َّ‬ ‫النـ َّ‬ ‫ـص هــو‬ ‫ِ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫املؤســس لشــرعية مختلــف املصــادر التش ـريعية‪ ،‬حتــى تلــك الت ــي‬ ‫ِ‬ ‫تملــك ســلطة بـيان ــية أو تفسي ـرية‪ ،‬والعالقــات املتبادلــة بـي ــن النــصّ‬ ‫ِ‬ ‫ّ‬ ‫املؤسس ومجموعة الضوابط املنبثقة عن تحكيم املقاصد بصفتها‬ ‫ِ‬ ‫ّ‬ ‫َّ‬ ‫ســلطة تفسي ـرية مؤسســة؛ تشـ ِـكل املنظومــة الثان ــية الت ــي اســتمدها‬

‫(‪ )1‬الرسالة للشافعي‪( ،‬ص‪.)25 :‬‬ ‫َْ‬ ‫ُ َّ‬ ‫(‪ )2‬ومــا ُنسـ َـب إلــى اب ــن ت ــيمية رحمــه هللا مــن أنــه ي ــرى َّأن رســول هللا صلــى هللا عليــه وسـ َّـلم َّ‬ ‫فســر الق ـرآن كلــه فيــه نظــر‪ ،‬ذلــك أنــه رحمــه هللا قــال فــي مطلـ ِـع مقدمتــه املشــهورة فــي أصــول التفسي ــر [ي ــنظر‪ :‬مجمــوع الفتــاوى‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫ً‬ ‫َ‬ ‫‪( :]331/13‬يجــب أن ُيعلــم أن النب ــي ب ـ ّـين ألصحابــه معان ــي الق ـرآن كمــا بـي ــن لهــم ألفاظــه) ف ُح ِمــل قولــه هــذا علــى َّأنـ ُـه ي ــرى تفسي ــر رســول هللا لــكل الق ـرآن‪ ،‬وليــس قولــه دال علــى ذلــك‪ ...‬علــى َّأن هــذا الفهــم لعبارتــه إن كان‬ ‫ً‬ ‫صحيحــا فهــو يخالــف مــا ذهــب إليــه الجمهــور‪.‬‬ ‫(‪ )3‬املوافقات‪ ،‬مقدمات‪ ،‬القسم األول‪( ،‬ص‪ )4( - .)33/1 :‬املرجع السابق‪ ،‬املوضع نفسه‪.‬‬

‫‪67‬‬


‫المنهج األصولي في تفسيـر النصوص‬ ‫ّ‬ ‫املتقدميـن وعلى رأسهم الشافعي الذي َّ‬ ‫تحدث‬ ‫الشاطبـي من أبحاث‬ ‫ِ‬ ‫باســتفاضة عــن املنظومــة األولــى فــي العالقــة بـي ــن النـ ّ‬ ‫ـص القرآن ــي‬ ‫ِ‬ ‫والنـ ّ‬ ‫ـص النبــو ّ ِي (الوحــي بشــكليه املتلـ ُّـو وغي ــر املتلـ ّ ِـو)‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫نخلــص مــن ذلــك إلــى أن اللفــظ القرآن ــي الــذي يحمــل فــي طياتــه‬ ‫اللغويــة إمكان ــيات عـ َّـدة أو بمعنــى آخــر يحمــل دالالت مختلفــة؛ ُي َّ‬ ‫َّ‬ ‫رجـ ُـح‬ ‫ِ‬ ‫فــي تفسي ــره مــا نـ َّ‬ ‫ـص عليــه الب ــيان النبــوي‪ ،‬وهــذا الب ــيان محكــوم بــدوره‬ ‫بآليات القراءة اللغوية‪ ،‬ومحدود بمعطيات املقاصد في رعاية مصالح‬ ‫البشــر‪ ،‬وهــذا مــا قالــه اب ــن القيــم‪َّ :‬‬ ‫(إن الشـريعة مب ــناها وأساســها علــى‬ ‫الح َكــم ومصالــح العبــاد فــي املعــاش واملعــاد‪ ...‬فـ ُّ‬ ‫ـكل مســألة خرجــت‬ ‫ِ ِ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫عــن العــدل إلــى الجــور‪ ،‬وعــن الرحمــة إلــى ضدهــا‪ ،‬وعــن املصلحــة إلــى‬ ‫املفســدة‪ ،‬وعــن الحكمــة إلــى العبــث فليســت مــن الش ـريعة)(‪.)5‬‬

‫املبحث الثّانـي‬

‫ّ‬ ‫األصولي في فهم آية الجزية‬ ‫إعمال املنهج‬ ‫ِ‬ ‫تمهيد‪:‬‬ ‫مــا َّ‬ ‫قد ْم ُتـ ُـه فــي املبحــث األول ‪ -‬وهــو الجانــب النظــر ُّي ِمـ ْـن هــذا البحـ ِـث‪-‬‬ ‫قد يعتـرف به الكثيـرون‪ ،‬سواء دعاة التقليد أم دعاة التحديث‪ ،‬بل‬ ‫حتــى بعــض دعــاة التغريــب‪ ،‬لكـ َّـن املشــكلة تكمــن ً‬ ‫دائمــا فــي التطب ــيق‪،‬‬ ‫وأود هنا أن أعرض لنموذج تطبـيقي َ‬ ‫ُّ‬ ‫وذلك ِخدمة للمبحث السابق‪،‬‬ ‫إذ به يظهر املراد بتحكيم قواعد الداللة من جانب ومقاصد الشرع‬ ‫َّ‬ ‫من جانب آخر‪ ،‬وال ُب َّد من التنبـيه على َّ‬ ‫األهمية‪ ،‬وهي‬ ‫قضية غاية في‬ ‫ـرعية ألفعــال َّ‬ ‫باملرجعيــة الشـ َّ‬ ‫َّ‬ ‫النــاس‪ ،‬وبالتالــي‬ ‫َّأن ب ــياننا هــذا ملــن يؤمــن‬ ‫فــإن ب ــيان حكــم الشــرع ال بــد فيــه مــن الرجــوع للنـ ّ‬ ‫ـص‪ ،‬ثـ َّـم محاولــة‬ ‫ِ‬ ‫نص ّ‬ ‫مؤســس عنه‬ ‫تنزيله على الواقع الذي ي ـراد الحكم عليه‪ ...‬لدي ــنا ٌّ ِ‬ ‫تصــدر رؤيتنــا ولدي ــنا واقــع ننظــر لــه علــى أنــه محـ ُّـل الرؤيــة ال الحاكـ ُـم‬ ‫عليهــا‪َّ ،‬‬ ‫لكننــا ال نهمــل الطــرف املحكــوم عليــه ال ألننــا نريــد التطب ــيع‬ ‫مــع الواقــع‪ ،‬بــل َّ‬ ‫ألن الواقــع هــو محــور بحثنــا وحولــه تت ــركز رؤيتنــا‪،‬‬ ‫ً ّ‬ ‫مؤثـ ًـرا‪ ،‬وال أريــد أن آت ــي باألدلــة‬ ‫ومــن غي ــر املعقــول أال يكــون طرفــا ِ‬ ‫علــى أهميــة فقــه الواقــع فــي تقري ــر الحكــم بأكث ــر ممــا قررتــه مــن أنَّ‬ ‫ّ‬ ‫مؤثــرة فــي فهــم النـ ّ‬ ‫ـص‪ ،‬ال بلـ ّ ِـي عنقــه بــل بإضــاءة مســاحات‬ ‫املصلحــة ِ‬ ‫ِ‬ ‫فيــه قــد تكــون غائبــة عــن أولئــك الذي ــن حكمــوا بــه علــى واقع مخالف‪.‬‬ ‫(‪ )5‬إعالم املوقعيـن‪ )6( - . 14/3‬لسان العرب‪ ،‬مادة جزي‪.‬‬ ‫(‪ )7‬األحكام السلطانـية‪ )8( - .142:‬املغنـي البـن قدامة‪.263 /9 ،‬‬ ‫(‪ )9‬أحكام أهل الذمة ص‪22‬‬

‫المنهج األصولي في تفسيـر النصوص‬

‫العدد ‪ 2‬رجب ‪1439‬هـ‬

‫املطلب َّ‬ ‫ُ‬ ‫األو ُل‪:‬‬ ‫اختالف العلماء املتقدميـن في تفسيـرآية الجزية‪.‬‬ ‫تختلــف أنظــار ّ‬ ‫املفسري ــن فــي كثي ــر مــن مواطــن شــرحهم آليــة الجزيــة‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫ّ‬ ‫لتوضــح مــا رميــت إليــه مــن تحكيــم آليـ ٍـة تعتمــد علــى‬ ‫وســأختار نمــاذج ِ‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫أول واألث ــر ثان ـ ًـيا واملصلحــة الحقيقيــة ثالثــا‪ ،‬علــى نحــو مــا َّ‬ ‫اللغــة‬ ‫قدمــت‬ ‫َ​َ‬ ‫َ ُ َّ َ َ ُ ْ ُ نَ‬ ‫َّ‬ ‫ـاهلل ول‬ ‫فــي املبحـ ِـث األو ِل‪ ،‬يقــول هللا تعالــى‪ (( :‬قا ِتلــوا ال ِذي ــن ل يؤ ِمنــو ِبـ ِ‬ ‫ُ َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ب ْال َيـ ْـوم ْالخــر َ َول ُي َح ّر ُمــو َن َمــا َحـ َّـر َم ُ‬ ‫هللا َو َر ُســول ُه َول َي ِدي ـ ُـنون ِدي ـ َـن ال َحـ ِ ّـق‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ َ َّ َ ُ ِ ُ ْ َِ َ َ َّ ُ ْ ُ ْ ْ َ َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ِمــن ال ِذي ــن أوتــوا ال ِكتــاب حتــى يعطــوا ال ِجزيــة عــن يـ ٍـد وهــم ص ِاغــرون))‬ ‫[ســورة التوبــة‪ :‬آيــة ‪.]29‬‬ ‫يختلــف ّ‬ ‫املفســرون وعلمــاء اللغــة فــي تحديــد أصــل اشــتقاق الجزيــة‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫فيقول ابـن منظور ‪( :‬هي عبارة عن املال الذي يعقد الكتابـي عليه الذمة‪،‬‬ ‫وهــي ف ْع َلــة مــن الجـزاء َّ‬ ‫كأنهــا جــزت عــن قتلــه) (‪ ،)6‬فهــو ي ــرى َّأنهــا مــن الجـزاء‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫إن الفقهــاء باالســتفادة مــن تحديــد اللغويي ــن ألصــل هــذه الكلمــة‬ ‫يت ــرددون فــي معنــى الجـزاء هنــا‪ ،‬يقــول املــاوردي‪« :‬فأمــا الجزيــة فهــي‬ ‫موضوعــة علــى الــرؤوس واســمها مشــتق مــن الجـزاء‪ ،‬إمــا جـزاء علــى‬ ‫كفرهــم ألخذهــا منهــم صغـ ًـارا‪ ،‬وإمــا ج ـزاء علــى أماننــا لهــم ألخذهــا‬ ‫منهــم ً‬ ‫رفقــا»(‪.)7‬‬ ‫وي ــرى بعــض اللغويي ــن َّأن الجزيــة هنــا ليســت مــن الج ـزاء بمعنــى‬ ‫املقابلــة‪ ،‬بــل هــي مــن جــزى بمعنــى ق�ضــى‪ ،‬كمــا فــي قولــه تعالــى‪َ (( :‬و َّات ُقــوا‬ ‫ًَْ َ َ ْ يَْ ٌ َ ْ َْ َ‬ ‫س شـ ْـي ًئا )) [ســورة البقرة‪ :‬آية ‪ ]48‬أي‪ :‬ال‬ ‫يوما ل تج ِز نفس عن نف ٍ‬ ‫تق�ضي عنها‪ ،‬واب ــن قدامة رحمه هللا ي ــنتصر لهذا املعنى حي ــن يقول‪:‬‬ ‫«وهــي الوظيفــة املأخــوذة مــن الكافــر إلقامتــه بــدار اإلســام فــي كل‬ ‫عــام‪ ،‬وهــي فعلــة مــن جــزى يجــزي إذا ق�ضــى‪ ،....‬تقــول العــرب‪ :‬جزيــت‬ ‫ديـنـي‪ ،‬إذا قضيته»(‪ .)8‬فإذا انتقلنا لتفسيـر قوله سبحانه ((عن يد))‬ ‫زاد االختــاف‪ ،‬وســأعرض ملــا أورده اب ــن القيــم مــن تفسي ـرات لهــذا‬ ‫ً‬ ‫نموذجــا لهــذه االختالفــات حيــث يــورد خمســة أقــوال فــي‬ ‫الت ــركيب‬ ‫تفسي ــرها ‪:‬‬ ‫ً‬ ‫‪ - 1‬يعطوهــا أذالء مقهوري ــن‪ - 2 .‬املعنــى مــن يــد إلــى يــد نقــدا غي ــر‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫نســيئة‪ - 3 .‬مــن يــده إلــى يــد اآلخــذ ال باعثــا بهــا وال مــوكل فــي دفعهــا‪.‬‬ ‫‪ - 4‬عــن إنعــام منكــم عليهــم بإقراركــم لهــم وبالقبــول منهــم‪ - 5 .‬عــن يــد‬ ‫منهــم أي عــن قــدرة علــى أدائهــا فــا تؤخــذ مــن عاجــز عنهــا ‪ .‬وقــد صحــح‬ ‫رحمــه هللا األول ورفــض األخي ــر(‪.)9‬‬

‫‪68‬‬

‫فــإذا انتقلنــا إلــى آخــر اآليــة لنــرى معنــى الصغــار فــي قولــه ((وهــم‬ ‫ً‬ ‫اختالفــا ً‬ ‫أيضــا فــي ب ــيانه‪ ،‬فقــد ذكــروا فــي تأويلــه‬ ‫صاغــرون))‪ ،‬ألفي ــنا‬ ‫معنـيي ــن‪ :‬أحدهما أذالء مستكيـنـي ــن‪ .‬والثان ــي أن تجري عليهم أحكام‬ ‫اإلســام(‪ ،)10‬أي أن يخضعــوا للنظــام العــام للدولــة‪.‬‬

‫العدد ‪ 2‬رجب ‪1439‬هـ‬

‫هذا جانب مهم في تقريـر املسألة‪ ،‬وربط لألحكام بمنظومة ّ‬ ‫تؤهلنا‬ ‫ِ‬ ‫للحديــث عــن الجزيــة فــي واقعنــا املعاصــر‪ ،‬فالحكــم ي ــنطلق مــن‬ ‫النــص ليصــادف ً‬ ‫واقعــا يحكــم عليــه‪ ،‬وأثنــاء حمــل النـ ّ‬ ‫ـص الحاكــم‬ ‫ِ‬ ‫علــى الواقــع املحكــوم ‪ -‬ممــا يســميه األصوليــون تحقيــق املنــاط ‪-‬‬ ‫َّتتضــح كمــا قدمنــا مســاحات قــد يضيئهــا الواقــع داخــل َّ‬ ‫النـ ّ‬ ‫ـص‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫وتطب ـ ً‬ ‫ـيقا علــى ذلــك ال بـ َّـد لنــا مــن نظــرة فقهيــة ســريعة ّ‬ ‫توضــح لنــا‬ ‫ِ‬ ‫كيــف يمكــن تطب ــيق َّ‬ ‫النـ ّ‬ ‫ـص علــى واقعنــا‪.‬‬ ‫ِ‬

‫ولنقــف وقفــة س ـريعة أمــام هــذا الخــاف فــي تفسي ــر (الصغــار)‪،‬‬ ‫وذلك ملا يت ـرتب على تفسي ــره ‪ -‬هنا ‪ -‬من أث ـ ٍـر في تطب ــيق أمرهم بدفع‬ ‫ُّ‬ ‫الجزيــة‪ ،‬فالذي ــن ّ‬ ‫يفســرون الصغــار هنــا بالــذ ِ ّل ملــؤوا كتــب الفقــه‬ ‫ِ‬ ‫ّ‬ ‫ـؤدي الجزيــة‪ ،‬وهــذه الشــروط نتجــت عــن‬ ‫بشــروط عجيبــة علــى مـ ِ‬ ‫التفسيـر اللغوي لكلمة الصغار‪ ،‬لكنها تجاوزت شرط تحكيم األثـر‬ ‫روي يف عقــود الجزيــة يف‬ ‫ ‬ ‫مــن جانــب‪ ،‬وأهملــت أهــم مقصــد مــن مقاصــد الشــرع وهــو الرحمــة‪،‬‬ ‫بل أظن َّأنها لم تتحقق من صالحية املعنى اللغوي ً‬ ‫القــوي‬ ‫صــدر اإلســام إســقاطها عــن‬ ‫أيضا‪ ،‬فتجاوزت‬ ‫ِّ‬ ‫املراحــل الثــاث الت ــي أقرهــا علــم أصــول الفقــه‪.‬‬ ‫ـي إذا افتقــر‪ ،‬فمــن‬ ‫إذا ض ُعــف‪ ،‬والغنــ ِّ‬ ‫ُّ‬ ‫فسـرنا َّ‬ ‫َّأمــا الجانــب اللغــوي فلــو َّ‬ ‫الصغــار بالــذ ِ ّل لوقفنــا أمــام مشــكلة‬ ‫الصلــح بـيـــن‬ ‫ذلــك مــا جــاء يف كتــاب ّ‬ ‫فــي تفسي ــر آيــة أخــرى‪ ،‬وأعلــى درجــات التفسي ــر تفسي ــر الق ـرآن‬ ‫خالــد بـــن الوليــد ريض اللــه عنــه وأهــل‬ ‫ْ ْ َ ْ ْ َ َ َ ْ َ َّ ُ ْ ُ ُ َ‬ ‫ـود ل‬ ‫بالق ـرآن‪ ،‬لنقــف أمــام قولــه تعالــى‪(( :‬ار ِجــع ِإلي ِهــم فلنأ ِتينهــم ِبجنـ ٍ‬ ‫َ َ‬ ‫صاغـ ُـر َ‬ ‫الحيـــرة‬ ‫َ َ ُ ْ َ َّ ْ َ َّ ً َ ُ َ‬ ‫ون)) [النمــل‪،]37:‬‬ ‫ِقبـ َـل ل ُهـ ْـم ِب َهــا ولنخ ِرجن ُهـ ْـم ِمن َهــا أ ِذلــة وهـ ْـم ِ‬ ‫فس ـرنا َّ‬ ‫ولنســأل كيــف يغــدو املعنــى لــو َّ‬ ‫الصغـ َـار هنــا بالـ ّ‬ ‫ـذل‪ ،‬ال شـ َّـك‬ ‫ِ‬ ‫َّأن املعنــى ســيكون‪ :‬ولنخرجنهــم منهــا أذلــة وهــم أذلــة‪ ،‬وهــو معنــى ال املطلبالثانـي‪:‬‬ ‫يتفق مع أسلوب القرآن وبالغته‪ ،‬ولو تجاوزنا هذا الجانب وانتقلنا موضوع الجزية جانب من جوانب السياسة الشرعية‪.‬‬ ‫َّ‬ ‫ً‬ ‫تب ـ َّـي َن لنــا فــي املطلــب ّ‬ ‫الســابق َّأن بعـ َ‬ ‫ـض الفقهــاء حي ــن تحدثــوا عــن‬ ‫إلــى جانــب األث ــر‪ ،‬لــم نجــد دليــا مــن الســنة أو مــن سي ــرة الخلفــاء‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ّ‬ ‫ُّ‬ ‫الراشديـن تطب ً‬ ‫فسروا بها كلمة َّ‬ ‫ـيقا لتلك الشروط التـي َّ‬ ‫أؤكــد فــي‬ ‫الصغار‪َّ ،‬أما الجزيــة لــم يعملــوا قواعــد األصــو ِل فــي فهمهــم لآليـ ِـة‪ ،‬وأود أن ِ‬ ‫ّ‬ ‫ويوضــح هــذا املطلــب أمـ ًـرا آخــر‪ ،‬وهــو َّأنهــم أغفلــوا ‪ -‬إلــى جانــب عــدم إعمالهــم‬ ‫مخالفــة ذلــك ملقصــد الرحمــة فمــا أظنــه يحتــاج إلــى ب ــيان‪ِ ،‬‬ ‫َّ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َّ‬ ‫ًّ‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫اإلمــام النــووي خالصــة ذلــك بقولــه‪ « :‬قلــت‪ :‬هــذه الهيئــة املذكــورة للقواعد األصولي ِة ‪ -‬أمرا م ِهما يتعلق بفلسفة املوقف‬ ‫الشرعي ‪ -‬إن‬ ‫ِ‬ ‫ً‬ ‫أول‪ ،‬ال نعلــم لهــا علــى هــذا الوجــه أصـ ًـا معتمـ ًـدا‪ ،‬وإنمــا ذكرهــا طائفــة صــح التعبـي ــر ‪ -‬مــن هــذا املصطلــح‪.‬‬ ‫من أصحاب ــنا الخراسانـيي ــن‪ ،‬وقال جمهور األصحاب‪ :‬تؤخذ الجزية إن الجزيــة حســب تفسي ــر الفقهـ ِـاء هــي «مــا يؤخــذ مــن أهــل الكفــر‬ ‫ب ــرفق‪ ،‬كأخــذ الديــون‪ ،‬فالصــواب الجــزم بــأن هــذه الهيئــة باطلــة جـز ًاء علــى تأمي ــنهم وحقــن دمائهــم مــع إقرارهــم علــى الكفر»(‪ .)12‬وهي‬ ‫مردودة على َم ْن اخت ــرعها‪ ،‬ولم ي ــنقل أن النب ــي صلى هللا عليه وسلم تؤخــذ مــن املقاتلي ــن‪ ،‬أعن ــي َمـ ْـن هــم قــادرون علــى القتــال‪ ،‬وفــي هــذا‬ ‫وال أحد من الخلفاء الراشدي ــن فعل ً‬ ‫شيئا منها مع أخذهم الجزية‪ ...‬يقــول اب ــن قدامــة ‪ -‬رحمــه هللا ‪« : -‬وال جزيــة علــى صب ــي وال زائــل‬ ‫ً‬ ‫قال الرافعي رحمه هللا في أول كتاب الجزية‪ :‬األصح عند األصحاب‪ :‬العقــل‪ ،‬وال امـرأة‪ ،‬ال نعلــم بـي ــن أهــل العلــم خالفــا فــي هــذا‪ ،‬وبــه قــال‬ ‫ّ‬ ‫تفسي ــر َّ‬ ‫والشـ ّ‬ ‫ـافعي وأحمــد وأبــو ثــور‪ ،‬وقــال اب ــن املنــذر‪،‬‬ ‫الصغــار بالت ـزام أحــكام اإلســام وجريانهــا عليهــم‪ ،‬وقالــوا‪ :‬أبــو حن ــيفة ومالــك‬ ‫َ‬ ‫أشــد َّ‬ ‫الصغــار علــى املــرء أن ُيحكـ َـم عليــه بمــا ال يعتقــده ُويضطـ َّـر إلــى ال أعلــم عــن غي ــرهم خالفهــم»(‪.)13‬‬ ‫احتمالــه‪ ،‬وهللا أعلــم(‪. )11‬‬ ‫(‪ )10‬األحكام السلطانـية للماوردي‪ ،‬ص‪ )11( - .143‬روضة الطالبـيـن ‪ 315/ 10‬ـ ‪.316‬‬ ‫َّ‬ ‫املالكية‪ ،‬يـنظر‪ :‬حاشية العدوي على شرح كفاية الطالب الربانـي ‪.33/4‬‬ ‫(‪ )12‬هذا تعريف ابـن رشد ـ رحمه هللا ـ من‬ ‫(‪ )13‬املغنـي البـن قدامة‪.572/10 ،‬‬

‫‪69‬‬


‫المنهج األصولي في تفسيـر النصوص‬ ‫ّ‬ ‫املتقدميـن وعلى رأسهم الشافعي الذي َّ‬ ‫تحدث‬ ‫الشاطبـي من أبحاث‬ ‫ِ‬ ‫باســتفاضة عــن املنظومــة األولــى فــي العالقــة بـي ــن النـ ّ‬ ‫ـص القرآن ــي‬ ‫ِ‬ ‫والنـ ّ‬ ‫ـص النبــو ّ ِي (الوحــي بشــكليه املتلـ ُّـو وغي ــر املتلـ ّ ِـو)‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫نخلــص مــن ذلــك إلــى أن اللفــظ القرآن ــي الــذي يحمــل فــي طياتــه‬ ‫اللغويــة إمكان ــيات عـ َّـدة أو بمعنــى آخــر يحمــل دالالت مختلفــة؛ ُي َّ‬ ‫َّ‬ ‫رجـ ُـح‬ ‫ِ‬ ‫فــي تفسي ــره مــا نـ َّ‬ ‫ـص عليــه الب ــيان النبــوي‪ ،‬وهــذا الب ــيان محكــوم بــدوره‬ ‫بآليات القراءة اللغوية‪ ،‬ومحدود بمعطيات املقاصد في رعاية مصالح‬ ‫البشــر‪ ،‬وهــذا مــا قالــه اب ــن القيــم‪َّ :‬‬ ‫(إن الشـريعة مب ــناها وأساســها علــى‬ ‫الح َكــم ومصالــح العبــاد فــي املعــاش واملعــاد‪ ...‬فـ ُّ‬ ‫ـكل مســألة خرجــت‬ ‫ِ ِ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫عــن العــدل إلــى الجــور‪ ،‬وعــن الرحمــة إلــى ضدهــا‪ ،‬وعــن املصلحــة إلــى‬ ‫املفســدة‪ ،‬وعــن الحكمــة إلــى العبــث فليســت مــن الش ـريعة)(‪.)5‬‬

‫املبحث الثّانـي‬

‫ّ‬ ‫األصولي في فهم آية الجزية‬ ‫إعمال املنهج‬ ‫ِ‬ ‫تمهيد‪:‬‬ ‫مــا َّ‬ ‫قد ْم ُتـ ُـه فــي املبحــث األول ‪ -‬وهــو الجانــب النظــر ُّي ِمـ ْـن هــذا البحـ ِـث‪-‬‬ ‫قد يعتـرف به الكثيـرون‪ ،‬سواء دعاة التقليد أم دعاة التحديث‪ ،‬بل‬ ‫حتــى بعــض دعــاة التغريــب‪ ،‬لكـ َّـن املشــكلة تكمــن ً‬ ‫دائمــا فــي التطب ــيق‪،‬‬ ‫وأود هنا أن أعرض لنموذج تطبـيقي َ‬ ‫ُّ‬ ‫وذلك ِخدمة للمبحث السابق‪،‬‬ ‫إذ به يظهر املراد بتحكيم قواعد الداللة من جانب ومقاصد الشرع‬ ‫َّ‬ ‫من جانب آخر‪ ،‬وال ُب َّد من التنبـيه على َّ‬ ‫األهمية‪ ،‬وهي‬ ‫قضية غاية في‬ ‫ـرعية ألفعــال َّ‬ ‫باملرجعيــة الشـ َّ‬ ‫َّ‬ ‫النــاس‪ ،‬وبالتالــي‬ ‫َّأن ب ــياننا هــذا ملــن يؤمــن‬ ‫فــإن ب ــيان حكــم الشــرع ال بــد فيــه مــن الرجــوع للنـ ّ‬ ‫ـص‪ ،‬ثـ َّـم محاولــة‬ ‫ِ‬ ‫نص ّ‬ ‫مؤســس عنه‬ ‫تنزيله على الواقع الذي ي ـراد الحكم عليه‪ ...‬لدي ــنا ٌّ ِ‬ ‫تصــدر رؤيتنــا ولدي ــنا واقــع ننظــر لــه علــى أنــه محـ ُّـل الرؤيــة ال الحاكـ ُـم‬ ‫عليهــا‪َّ ،‬‬ ‫لكننــا ال نهمــل الطــرف املحكــوم عليــه ال ألننــا نريــد التطب ــيع‬ ‫مــع الواقــع‪ ،‬بــل َّ‬ ‫ألن الواقــع هــو محــور بحثنــا وحولــه تت ــركز رؤيتنــا‪،‬‬ ‫ً ّ‬ ‫مؤثـ ًـرا‪ ،‬وال أريــد أن آت ــي باألدلــة‬ ‫ومــن غي ــر املعقــول أال يكــون طرفــا ِ‬ ‫علــى أهميــة فقــه الواقــع فــي تقري ــر الحكــم بأكث ــر ممــا قررتــه مــن أنَّ‬ ‫ّ‬ ‫مؤثــرة فــي فهــم النـ ّ‬ ‫ـص‪ ،‬ال بلـ ّ ِـي عنقــه بــل بإضــاءة مســاحات‬ ‫املصلحــة ِ‬ ‫ِ‬ ‫فيــه قــد تكــون غائبــة عــن أولئــك الذي ــن حكمــوا بــه علــى واقع مخالف‪.‬‬ ‫(‪ )5‬إعالم املوقعيـن‪ )6( - . 14/3‬لسان العرب‪ ،‬مادة جزي‪.‬‬ ‫(‪ )7‬األحكام السلطانـية‪ )8( - .142:‬املغنـي البـن قدامة‪.263 /9 ،‬‬ ‫(‪ )9‬أحكام أهل الذمة ص‪22‬‬

‫المنهج األصولي في تفسيـر النصوص‬

‫العدد ‪ 2‬رجب ‪1439‬هـ‬

‫املطلب َّ‬ ‫ُ‬ ‫األو ُل‪:‬‬ ‫اختالف العلماء املتقدميـن في تفسيـرآية الجزية‪.‬‬ ‫تختلــف أنظــار ّ‬ ‫املفسري ــن فــي كثي ــر مــن مواطــن شــرحهم آليــة الجزيــة‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫ّ‬ ‫لتوضــح مــا رميــت إليــه مــن تحكيــم آليـ ٍـة تعتمــد علــى‬ ‫وســأختار نمــاذج ِ‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫أول واألث ــر ثان ـ ًـيا واملصلحــة الحقيقيــة ثالثــا‪ ،‬علــى نحــو مــا َّ‬ ‫اللغــة‬ ‫قدمــت‬ ‫َ​َ‬ ‫َ ُ َّ َ َ ُ ْ ُ نَ‬ ‫َّ‬ ‫ـاهلل ول‬ ‫فــي املبحـ ِـث األو ِل‪ ،‬يقــول هللا تعالــى‪ (( :‬قا ِتلــوا ال ِذي ــن ل يؤ ِمنــو ِبـ ِ‬ ‫ُ َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ب ْال َيـ ْـوم ْالخــر َ َول ُي َح ّر ُمــو َن َمــا َحـ َّـر َم ُ‬ ‫هللا َو َر ُســول ُه َول َي ِدي ـ ُـنون ِدي ـ َـن ال َحـ ِ ّـق‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ َ َّ َ ُ ِ ُ ْ َِ َ َ َّ ُ ْ ُ ْ ْ َ َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ِمــن ال ِذي ــن أوتــوا ال ِكتــاب حتــى يعطــوا ال ِجزيــة عــن يـ ٍـد وهــم ص ِاغــرون))‬ ‫[ســورة التوبــة‪ :‬آيــة ‪.]29‬‬ ‫يختلــف ّ‬ ‫املفســرون وعلمــاء اللغــة فــي تحديــد أصــل اشــتقاق الجزيــة‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫فيقول ابـن منظور ‪( :‬هي عبارة عن املال الذي يعقد الكتابـي عليه الذمة‪،‬‬ ‫وهــي ف ْع َلــة مــن الجـزاء َّ‬ ‫كأنهــا جــزت عــن قتلــه) (‪ ،)6‬فهــو ي ــرى َّأنهــا مــن الجـزاء‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫إن الفقهــاء باالســتفادة مــن تحديــد اللغويي ــن ألصــل هــذه الكلمــة‬ ‫يت ــرددون فــي معنــى الجـزاء هنــا‪ ،‬يقــول املــاوردي‪« :‬فأمــا الجزيــة فهــي‬ ‫موضوعــة علــى الــرؤوس واســمها مشــتق مــن الجـزاء‪ ،‬إمــا جـزاء علــى‬ ‫كفرهــم ألخذهــا منهــم صغـ ًـارا‪ ،‬وإمــا ج ـزاء علــى أماننــا لهــم ألخذهــا‬ ‫منهــم ً‬ ‫رفقــا»(‪.)7‬‬ ‫وي ــرى بعــض اللغويي ــن َّأن الجزيــة هنــا ليســت مــن الج ـزاء بمعنــى‬ ‫املقابلــة‪ ،‬بــل هــي مــن جــزى بمعنــى ق�ضــى‪ ،‬كمــا فــي قولــه تعالــى‪َ (( :‬و َّات ُقــوا‬ ‫ًَْ َ َ ْ يَْ ٌ َ ْ َْ َ‬ ‫س شـ ْـي ًئا )) [ســورة البقرة‪ :‬آية ‪ ]48‬أي‪ :‬ال‬ ‫يوما ل تج ِز نفس عن نف ٍ‬ ‫تق�ضي عنها‪ ،‬واب ــن قدامة رحمه هللا ي ــنتصر لهذا املعنى حي ــن يقول‪:‬‬ ‫«وهــي الوظيفــة املأخــوذة مــن الكافــر إلقامتــه بــدار اإلســام فــي كل‬ ‫عــام‪ ،‬وهــي فعلــة مــن جــزى يجــزي إذا ق�ضــى‪ ،....‬تقــول العــرب‪ :‬جزيــت‬ ‫ديـنـي‪ ،‬إذا قضيته»(‪ .)8‬فإذا انتقلنا لتفسيـر قوله سبحانه ((عن يد))‬ ‫زاد االختــاف‪ ،‬وســأعرض ملــا أورده اب ــن القيــم مــن تفسي ـرات لهــذا‬ ‫ً‬ ‫نموذجــا لهــذه االختالفــات حيــث يــورد خمســة أقــوال فــي‬ ‫الت ــركيب‬ ‫تفسي ــرها ‪:‬‬ ‫ً‬ ‫‪ - 1‬يعطوهــا أذالء مقهوري ــن‪ - 2 .‬املعنــى مــن يــد إلــى يــد نقــدا غي ــر‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫نســيئة‪ - 3 .‬مــن يــده إلــى يــد اآلخــذ ال باعثــا بهــا وال مــوكل فــي دفعهــا‪.‬‬ ‫‪ - 4‬عــن إنعــام منكــم عليهــم بإقراركــم لهــم وبالقبــول منهــم‪ - 5 .‬عــن يــد‬ ‫منهــم أي عــن قــدرة علــى أدائهــا فــا تؤخــذ مــن عاجــز عنهــا ‪ .‬وقــد صحــح‬ ‫رحمــه هللا األول ورفــض األخي ــر(‪.)9‬‬

‫‪68‬‬

‫فــإذا انتقلنــا إلــى آخــر اآليــة لنــرى معنــى الصغــار فــي قولــه ((وهــم‬ ‫ً‬ ‫اختالفــا ً‬ ‫أيضــا فــي ب ــيانه‪ ،‬فقــد ذكــروا فــي تأويلــه‬ ‫صاغــرون))‪ ،‬ألفي ــنا‬ ‫معنـيي ــن‪ :‬أحدهما أذالء مستكيـنـي ــن‪ .‬والثان ــي أن تجري عليهم أحكام‬ ‫اإلســام(‪ ،)10‬أي أن يخضعــوا للنظــام العــام للدولــة‪.‬‬

‫العدد ‪ 2‬رجب ‪1439‬هـ‬

‫هذا جانب مهم في تقريـر املسألة‪ ،‬وربط لألحكام بمنظومة ّ‬ ‫تؤهلنا‬ ‫ِ‬ ‫للحديــث عــن الجزيــة فــي واقعنــا املعاصــر‪ ،‬فالحكــم ي ــنطلق مــن‬ ‫النــص ليصــادف ً‬ ‫واقعــا يحكــم عليــه‪ ،‬وأثنــاء حمــل النـ ّ‬ ‫ـص الحاكــم‬ ‫ِ‬ ‫علــى الواقــع املحكــوم ‪ -‬ممــا يســميه األصوليــون تحقيــق املنــاط ‪-‬‬ ‫َّتتضــح كمــا قدمنــا مســاحات قــد يضيئهــا الواقــع داخــل َّ‬ ‫النـ ّ‬ ‫ـص‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫وتطب ـ ً‬ ‫ـيقا علــى ذلــك ال بـ َّـد لنــا مــن نظــرة فقهيــة ســريعة ّ‬ ‫توضــح لنــا‬ ‫ِ‬ ‫كيــف يمكــن تطب ــيق َّ‬ ‫النـ ّ‬ ‫ـص علــى واقعنــا‪.‬‬ ‫ِ‬

‫ولنقــف وقفــة س ـريعة أمــام هــذا الخــاف فــي تفسي ــر (الصغــار)‪،‬‬ ‫وذلك ملا يت ـرتب على تفسي ــره ‪ -‬هنا ‪ -‬من أث ـ ٍـر في تطب ــيق أمرهم بدفع‬ ‫ُّ‬ ‫الجزيــة‪ ،‬فالذي ــن ّ‬ ‫يفســرون الصغــار هنــا بالــذ ِ ّل ملــؤوا كتــب الفقــه‬ ‫ِ‬ ‫ّ‬ ‫ـؤدي الجزيــة‪ ،‬وهــذه الشــروط نتجــت عــن‬ ‫بشــروط عجيبــة علــى مـ ِ‬ ‫التفسيـر اللغوي لكلمة الصغار‪ ،‬لكنها تجاوزت شرط تحكيم األثـر‬ ‫روي يف عقــود الجزيــة يف‬ ‫ ‬ ‫مــن جانــب‪ ،‬وأهملــت أهــم مقصــد مــن مقاصــد الشــرع وهــو الرحمــة‪،‬‬ ‫بل أظن َّأنها لم تتحقق من صالحية املعنى اللغوي ً‬ ‫القــوي‬ ‫صــدر اإلســام إســقاطها عــن‬ ‫أيضا‪ ،‬فتجاوزت‬ ‫ِّ‬ ‫املراحــل الثــاث الت ــي أقرهــا علــم أصــول الفقــه‪.‬‬ ‫ـي إذا افتقــر‪ ،‬فمــن‬ ‫إذا ض ُعــف‪ ،‬والغنــ ِّ‬ ‫ُّ‬ ‫فسـرنا َّ‬ ‫َّأمــا الجانــب اللغــوي فلــو َّ‬ ‫الصغــار بالــذ ِ ّل لوقفنــا أمــام مشــكلة‬ ‫الصلــح بـيـــن‬ ‫ذلــك مــا جــاء يف كتــاب ّ‬ ‫فــي تفسي ــر آيــة أخــرى‪ ،‬وأعلــى درجــات التفسي ــر تفسي ــر الق ـرآن‬ ‫خالــد بـــن الوليــد ريض اللــه عنــه وأهــل‬ ‫ْ ْ َ ْ ْ َ َ َ ْ َ َّ ُ ْ ُ ُ َ‬ ‫ـود ل‬ ‫بالق ـرآن‪ ،‬لنقــف أمــام قولــه تعالــى‪(( :‬ار ِجــع ِإلي ِهــم فلنأ ِتينهــم ِبجنـ ٍ‬ ‫َ َ‬ ‫صاغـ ُـر َ‬ ‫الحيـــرة‬ ‫َ َ ُ ْ َ َّ ْ َ َّ ً َ ُ َ‬ ‫ون)) [النمــل‪،]37:‬‬ ‫ِقبـ َـل ل ُهـ ْـم ِب َهــا ولنخ ِرجن ُهـ ْـم ِمن َهــا أ ِذلــة وهـ ْـم ِ‬ ‫فس ـرنا َّ‬ ‫ولنســأل كيــف يغــدو املعنــى لــو َّ‬ ‫الصغـ َـار هنــا بالـ ّ‬ ‫ـذل‪ ،‬ال شـ َّـك‬ ‫ِ‬ ‫َّأن املعنــى ســيكون‪ :‬ولنخرجنهــم منهــا أذلــة وهــم أذلــة‪ ،‬وهــو معنــى ال املطلبالثانـي‪:‬‬ ‫يتفق مع أسلوب القرآن وبالغته‪ ،‬ولو تجاوزنا هذا الجانب وانتقلنا موضوع الجزية جانب من جوانب السياسة الشرعية‪.‬‬ ‫َّ‬ ‫ً‬ ‫تب ـ َّـي َن لنــا فــي املطلــب ّ‬ ‫الســابق َّأن بعـ َ‬ ‫ـض الفقهــاء حي ــن تحدثــوا عــن‬ ‫إلــى جانــب األث ــر‪ ،‬لــم نجــد دليــا مــن الســنة أو مــن سي ــرة الخلفــاء‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ّ‬ ‫ُّ‬ ‫الراشديـن تطب ً‬ ‫فسروا بها كلمة َّ‬ ‫ـيقا لتلك الشروط التـي َّ‬ ‫أؤكــد فــي‬ ‫الصغار‪َّ ،‬أما الجزيــة لــم يعملــوا قواعــد األصــو ِل فــي فهمهــم لآليـ ِـة‪ ،‬وأود أن ِ‬ ‫ّ‬ ‫ويوضــح هــذا املطلــب أمـ ًـرا آخــر‪ ،‬وهــو َّأنهــم أغفلــوا ‪ -‬إلــى جانــب عــدم إعمالهــم‬ ‫مخالفــة ذلــك ملقصــد الرحمــة فمــا أظنــه يحتــاج إلــى ب ــيان‪ِ ،‬‬ ‫َّ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َّ‬ ‫ًّ‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫اإلمــام النــووي خالصــة ذلــك بقولــه‪ « :‬قلــت‪ :‬هــذه الهيئــة املذكــورة للقواعد األصولي ِة ‪ -‬أمرا م ِهما يتعلق بفلسفة املوقف‬ ‫الشرعي ‪ -‬إن‬ ‫ِ‬ ‫ً‬ ‫أول‪ ،‬ال نعلــم لهــا علــى هــذا الوجــه أصـ ًـا معتمـ ًـدا‪ ،‬وإنمــا ذكرهــا طائفــة صــح التعبـي ــر ‪ -‬مــن هــذا املصطلــح‪.‬‬ ‫من أصحاب ــنا الخراسانـيي ــن‪ ،‬وقال جمهور األصحاب‪ :‬تؤخذ الجزية إن الجزيــة حســب تفسي ــر الفقهـ ِـاء هــي «مــا يؤخــذ مــن أهــل الكفــر‬ ‫ب ــرفق‪ ،‬كأخــذ الديــون‪ ،‬فالصــواب الجــزم بــأن هــذه الهيئــة باطلــة جـز ًاء علــى تأمي ــنهم وحقــن دمائهــم مــع إقرارهــم علــى الكفر»(‪ .)12‬وهي‬ ‫مردودة على َم ْن اخت ــرعها‪ ،‬ولم ي ــنقل أن النب ــي صلى هللا عليه وسلم تؤخــذ مــن املقاتلي ــن‪ ،‬أعن ــي َمـ ْـن هــم قــادرون علــى القتــال‪ ،‬وفــي هــذا‬ ‫وال أحد من الخلفاء الراشدي ــن فعل ً‬ ‫شيئا منها مع أخذهم الجزية‪ ...‬يقــول اب ــن قدامــة ‪ -‬رحمــه هللا ‪« : -‬وال جزيــة علــى صب ــي وال زائــل‬ ‫ً‬ ‫قال الرافعي رحمه هللا في أول كتاب الجزية‪ :‬األصح عند األصحاب‪ :‬العقــل‪ ،‬وال امـرأة‪ ،‬ال نعلــم بـي ــن أهــل العلــم خالفــا فــي هــذا‪ ،‬وبــه قــال‬ ‫ّ‬ ‫تفسي ــر َّ‬ ‫والشـ ّ‬ ‫ـافعي وأحمــد وأبــو ثــور‪ ،‬وقــال اب ــن املنــذر‪،‬‬ ‫الصغــار بالت ـزام أحــكام اإلســام وجريانهــا عليهــم‪ ،‬وقالــوا‪ :‬أبــو حن ــيفة ومالــك‬ ‫َ‬ ‫أشــد َّ‬ ‫الصغــار علــى املــرء أن ُيحكـ َـم عليــه بمــا ال يعتقــده ُويضطـ َّـر إلــى ال أعلــم عــن غي ــرهم خالفهــم»(‪.)13‬‬ ‫احتمالــه‪ ،‬وهللا أعلــم(‪. )11‬‬ ‫(‪ )10‬األحكام السلطانـية للماوردي‪ ،‬ص‪ )11( - .143‬روضة الطالبـيـن ‪ 315/ 10‬ـ ‪.316‬‬ ‫َّ‬ ‫املالكية‪ ،‬يـنظر‪ :‬حاشية العدوي على شرح كفاية الطالب الربانـي ‪.33/4‬‬ ‫(‪ )12‬هذا تعريف ابـن رشد ـ رحمه هللا ـ من‬ ‫(‪ )13‬املغنـي البـن قدامة‪.572/10 ،‬‬

‫‪69‬‬


‫المنهج األصولي في تفسيـر النصوص‬ ‫وب ــناء علــى فهمنــا هــذا للجزيــة‪ ،‬حيــث بهــا حقــن دمــاء الكفــار مــع‬ ‫إقرارهــم علــى دي ــنهم‪ ،‬مــع كونهــا ال تؤخــذ إال ممــن يقاتــل‪ ،‬فــا تؤخــذ‬ ‫عــن صغي ــر وال عــن امـرأة‪ ،‬نــرى َّأنهــا ليســت ً‬ ‫عقابــا بطب ــيعتها‪ ،‬إذ لــو‬ ‫كانــت كذلــك لوجبــت علــى األنثــى كمــا تجــب علــى الذكــر‪ ،‬وإذ لــم‬ ‫ص َ‬ ‫ـرعي فلمــاذا َتقت ــر ُن بمــا ُ‬ ‫ً‬ ‫ورتــه ِعقـ ٌ‬ ‫ّ‬ ‫ـاب‬ ‫ِ‬ ‫تكــن عقابــا فــي املفهــوم الشـ ِ‬ ‫ْ‬ ‫ـف إلــى ذلــك مســألة َّ‬ ‫مهمــة تتصــل مــن هــذه الفكــرة‬ ‫أضـ‬ ‫وج ـزاء! ِ‬ ‫َّ‬ ‫بســبب‪ ،‬وهــي أن تحديــد الجزيــة ومــا يتصــل بهــذا العقــد فــي الجملــة‬ ‫َ‬ ‫ـرعية‪َّ ،‬‬ ‫هــو مــن بــاب السياســة الشـ َّ‬ ‫حتــى َّأن عمــر ر�ضــي هللا عنــه ق ِبــل‬ ‫مــن بعــض العــرب َّ‬ ‫النصــارى دفــع ضعــف زكاة املسلمي ــن بــدل دفــع‬ ‫الجزيــة؛ َأل َن َفتهــم مــن اســم الجزيــة َ‬ ‫كونهــم ً‬ ‫عربــا‪ ،‬قــال اب ــن قدامــة‪:‬‬ ‫ِ​ِ‬ ‫«ب ــنو تغلــب ب ــن وائــل مــن العــرب مــن رب ــيعة ب ــن ن ـزار انتقلــوا فــي‬ ‫الجاهليــة إلــى النصران ــية‪ ،‬فدعاهــم عمــر إلــى بــذل الجزيــة فأبــوا‬ ‫وأنفــوا وقالــوا‪« :‬نحــن عــرب خــذ منــا كمــا يأخــذ بعضكــم مــن بعــض‬ ‫باســم الصدقــة»‪ ،‬فقــال عمــر‪« :‬ال آخــذ مــن مشــرك صدقــة»؛ فلحــق‬ ‫بعضهــم بالــروم‪ ،‬فقــال النعمــان ب ــن زرعــة‪« :‬يــا أمي ــر املؤمنـي ــن‪َّ :‬إن‬ ‫القــوم لهــم بــأس وشـ َّـدة‪ ،‬وهــم عــرب يأنفــون مــن الجزيــة‪ ،‬فــا تعــن‬ ‫عليـ َـك عـ َّ‬ ‫ـدو َك بهــم وخــذ منهــم الجزيــة باســم الصدقــة‪ ،‬فبعــث عمــر‬ ‫فــي طلبهــم ّ‬ ‫فردهــم وضعــف عليهــم مــن اإلبــل مــن كل خمــس شاتـي ــن‪،‬‬ ‫‪ ..‬فاســتقر ذلــك مــن قــول عمــر‪ ،‬ولــم يخالفــه أحــد مــن الصحابــة‬ ‫ً‬ ‫فصــار‬ ‫إجماعــا‪ ،‬وقــال بــه الفقهــاء بعــد الصحابــة» (‪.)14‬‬ ‫َّ ّ‬ ‫يؤكــد ذلــك أنــه روي فــي عقــود الجزيــة فــي صــدر اإلســام‬ ‫وممــا ِ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫إســقاطها عــن القــو ِي إذا ضعــف‪ ،‬والغن ـ ّ ِـي إذا افتقــر‪ ،‬فمــن ذلــك‬ ‫مــا جــاء فــي كتــاب ّ‬ ‫الصلــح بـي ــن خالــد ب ــن الوليــد ر�ضــي هللا عنــه وأهــل‬ ‫الحي ــرة ‪« :‬وجعلــت لهــم ّأيمــا شــيخ ضعــف عــن العمــل‪ ،‬أو أصابتــه‬ ‫ّ‬ ‫يتصدقــون‬ ‫آفــة مــن اآلفــات‪ ،‬أو كان غن ـ ًّـيا فافتقــر‪ ،‬وصــار أهــل دي ــنه‬ ‫عليــه طرحــت جزيتــه‪ ،‬وعيــل مــن ب ــيت مــال املسلمي ــن وعيالــه مــا‬ ‫أقــام بــدار الهجــرة ودار اإلســام‪ ،‬فــإن خرجــوا إلــى غي ــر دار الهجــرة‬ ‫ودار اإلســام فليــس علــى املسلمي ــن ّ‬ ‫النفقــة علــى عيالهــم» (‪.)15‬‬ ‫كمــا دلــت هــذه العقــود‪ ،‬علــى َّأن عجــز املسلمي ــن عــن حمايتهــم‬ ‫يقت�ضــي إرجــاع أموالهــم الت ــي دفعوهــا علــى أنهــا جزيــة‪ ،‬ألنهــا إنمــا‬ ‫شــرعت فــي مقابــل دخولهــم تحــت حمايــة املسلمي ــن‪ ،‬وممــا ورد فــي‬ ‫ذلــك مــا ذكــره أبــو يوســف مــن َّأن أبــا عب ــيدة ب ــن الجـ ّـراح عندمــا‬

‫المنهج األصولي في تفسيـر النصوص‬

‫العدد ‪ 2‬رجب ‪1439‬هـ‬

‫ّ‬ ‫الشــام ّ‬ ‫بتجمــع الـ ّـروم ملقاتلــة املسلمي ــن كتب‬ ‫أعلمــه ّنوابــه علــى مــدن‬ ‫ّ‬ ‫خلفــه فــي املــدن الت ــي صالــح أهلهــا يأمرهــم أن ي ـ ّ‬ ‫ـردوا‬ ‫وال ممــن‬ ‫إلــى كل ٍ‬ ‫ُ‬ ‫عليهــم مــا جب ــي مــن الجزيــة والخ ـراج‪ ،‬وكتــب إليهــم أن يقولــوا لهــم‪:‬‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫«إنمــا رددنــا عليكــم أموالكــم‪ ،‬ألنــه قــد بلغنــا مــا ُج ِمــع لنــا مــن الجمــوع‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫وأنكــم اشت ــرطتم علي ــنا أن نمنعكــم‪ ،‬وإنــا ال نقــدر علــى ذلــك‪.)16( »..‬‬ ‫وورد من ذلك َّ‬ ‫أخبار دالة على َّأن عجز املسلميـن عن حمايتهم‬ ‫عدة‬ ‫ٍ‬ ‫يوجــب إرجــاع مــا دفعــوه مــن الجزيــة‪.‬‬ ‫وبـناء على ما َّ‬ ‫تقدم ُّ‬ ‫أود أن ّ‬ ‫أسجل املالحظات اآلتـية‪:‬‬ ‫ِ‬ ‫‪ - 1‬يجب أن يـنظر اإلمام في مصلحة املسلميـن ليحدد كيفية التعامل مع‬ ‫رعايا الدولة من غيـر املسلميـن‪ ،‬كما فعل عمر ر�ضي هللا عنه مع بـنـي تغلب‪.‬‬ ‫ً‬ ‫وب ــناء علــى ذلــك يمكنــه أن يأخــذ منهــم مــال باســم الضرائــب أو‬ ‫الصدقــة أو غي ــر ذلــك‪ ،‬مقابــل مــا يلــزم مــن حمايتهــم‪ ،‬ومــا ّ‬ ‫يعبــرون بــه‬ ‫ِ‬ ‫عــن مواطنتهــم (الخضــوع لنظــام الدولــة)‪.‬‬ ‫‪ - 2‬يدفــع املســلمون الــزكاة ُّ‬ ‫تعبـ ًـدا‪ ،‬ويمكــن أن تكــون الجزيــة فــي‬ ‫مقابلهــا؛ َّ‬ ‫ألن غي ــر املســلم ال ُت َ‬ ‫قبـ ُـل منــه القربــات‪.‬‬ ‫‪ - 3‬ظاهــر األدلــة تشي ــر إلــى َّأن الجزيــة تـ َّ‬ ‫ـؤدى بمقابــل الحمايــة‪ ،‬فهــي‬ ‫ال تؤخــذ إال ممــن يســتطيع القتــال‪ ،‬وت ـ ُّ‬ ‫ـرد فــي حالــة عــدم القــدرة علــى‬ ‫حمايتهــم‪ ،‬وهــم كانــوا إذ ذاك ال يقاتلــون مــع املسلمي ــن‪.‬‬ ‫وب ــناء علــى هــذه املالحظــات فـ َّ‬ ‫ـإن أهــل الطوائــف اليــوم‪ ،‬ممــن ثبــت‬ ‫ً‬ ‫كفــره‪ ،‬ي ــنظر فــي اآلليــة الت ــي ُيثبـ ُـت فيهــا َ‬ ‫والءه للدولــة‪ ،‬بــأن يدفــع مبلغــا‬ ‫ِ‬ ‫مقابــل إعفائــه مــن الخدمــة العســكرية‪ ،‬أو أن يشت ــرك مــع املسلمي ــن‬ ‫فــي حمايــة بلــده‪ ،‬وعندهــا تســقط عنهــم الجزيــة‪ ،‬إذ كانــت مقابــل‬ ‫حمايتنــا لهــم‪ ،‬وهــم يدفعونهــا بشــكل َبـ َـد ٍل عــن خدمــة العلــم علــى مــا‬ ‫تسـ َّـمى اليــوم‪ ،‬أو يشت ــركون فــي حمايــة البلــد أســوة باملسلمي ــن‪.‬‬ ‫وقــد ذهــب إلــى هــذا القــول عــدد مــن العلمــاء املعاصري ــن‪ ،‬منهــم‬ ‫الدكتــور عبــد الكريــم زيــدان(‪ )17‬والدكتــور القرضــاوي(‪.)18‬‬ ‫َّ‬ ‫ومما ُّ‬ ‫يدل على جواز إسقاط الجزية عنهم إذا اشتـركوا في حماية البلد‬ ‫املسلم‪،‬سوابقتار َّ‬ ‫يخيةمتعددة‪،‬ذكرهااملؤرخوناملسلمونكالطبـري‬ ‫وغي ــره‪ ،‬ومــن ذلــك مــا ذكــره البــاذري فــي فتــوح البلــدان(‪ )19‬مــن مصالحــة‬ ‫والي أبـي عبـيدة بـن الجراح ر�ضي هللا عنه للجراجمة (املسيحييـن) على‬ ‫عونا ً‬ ‫أن يكونوا ً‬ ‫وعيونا للمسلميـن مقابل إسقاط الجزية عنهم‪.‬‬

‫(‪ )14‬املرجع السابق‪ )15( - .581/10 ،‬الخراج ألبـي يوسف ص ‪.156‬‬ ‫كتابه‪ :‬أحكام الذمييـن واملستأمنـيـن في دار اإلسالم‪ ،‬ص ‪ 157‬ـ ‪.158‬‬ ‫(‪ )16‬املرجع السابق‪ ،‬ص ‪ )17( - .139‬وذلك في ِ‬ ‫(‪ )18‬وذلك في كتابه‪ :‬غيـر املسلميـن في املجتمع اإلسالمي ص ‪. 28‬‬ ‫(‪ )19‬فتوح البلدان ص ‪ .217‬وذكر د‪ .‬عبد الكريم زيدان رحمه هللا ً‬ ‫عددا من هذه السوابق في كتابه أحكام الذمييـن ‪ ...‬ص ‪ 155‬وما بعد‪.‬‬

‫‪70‬‬

‫ِ‬ ‫خات ٌة‬

‫ّ‬ ‫السوري‪:‬‬ ‫نظرة بإنزال هذا الحكم على الواقع‬ ‫ِ‬

‫َّ‬ ‫الواقعية اآلتـية‪:‬‬ ‫ال ّبد بعد بـيان الحكم من مالحظة املعطيات‬ ‫ً‬ ‫ـورية امتـ ٌ‬ ‫أول‪ :‬حــال الطوائــف املنتشــرة فــي الجغرافيــا السـ َّ‬ ‫ـداد‬ ‫إلق ـرار املسلمي ــن لهــا عب ــر القــرون‪ ،‬منــذ العصــر العبا�ســي‪ ،‬مــرو ًرا‬ ‫ً‬ ‫بالعصــر العثمان ــي ووصــول للعصــر الحديــث‪.‬‬ ‫فليــس إقرارهــا اليــوم ً‬ ‫بدعــا مــن األمــر‪ ،‬بــل هــو منهــج املسلمي ــن فــي‬ ‫التعامــل مــع غي ــر املسلمي ــن فــي املجتمــع اإلسـ ّ‬ ‫ـامي عب ــر العصــور‪.‬‬ ‫َّ‬ ‫األقليــات وال إلــى تهجي ــرهم‪ ،‬هنــاك‬ ‫ثان ـ ًـيا‪ :‬ال سب ــيل إلــى إفنــاء‬ ‫مئــات آالف السوريي ــن مــن هــذه األقليــات فــي ســوريا‪ ،‬بعضهــم‬ ‫ي ــريد التعايــش بصــدق‪ ،‬وإقرارهــم ضمــن تفاهمــات هــو السب ــيل‬ ‫لالســتفادة منهــم بــدل معاداتهــم‪.‬‬ ‫ً‬ ‫ـص الفقهــاء علــى َّ‬ ‫ثالثــا‪ :‬نـ َّ‬ ‫أن عقــد الجزيــة هــو مــا يحقــق مقاصــد‬ ‫الشــريعة الغ ـراء فــي هدايــة النــاس وإرشــادهم‪ ،‬فمــن ذلــك مــا قالــه‬ ‫ُ‬ ‫اب ــن العرب ــي‪« :‬لــو قتــل الكافــر ليئــس مــن الفــاح ووجــب عليــه‬ ‫الهلكــة‪ ،‬فــإذا أعطــى الجزيــة وأمهــل لعلــه أن يتدب ــر الحــق وي ــرجع‬ ‫إلــى الصــواب‪ ،‬ال ســيما بمراقبــة أهــل الدي ــن والتــدرب بســماع مــا‬ ‫عنــد املسلمي ــن؛ أال ت ــرى أن عظيــم كفرهــم لــم يمنــع مــن إدرار رزقــه‬ ‫ســبحانه عليهــم‪ ،‬وقــد قــال النب ــي صلــى هللا عليــه وســلم‪« :‬ليــس أحــد‬ ‫أصبـر على أذى من هللا يعافيهم ويـرزقهم وهم يدعون له الصاحبة‬ ‫والولــد»(‪ ،)20‬ومــا قالــه القرافـ ّـي رحمــه هللا ‪ّ « :‬إن قاعــدة الجزيــة مــن‬ ‫ّ‬ ‫بــاب التـزام املفســدة ّ‬ ‫الدن ــيا لدفــع املفســدة العليــا وتوقــع املصلحــة‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫الشـ ّ‬ ‫ـرعية‪ ،‬ب ــيانه‪ّ :‬أن الكافر إذا قتل انسـ ّـد‬ ‫وذلك هو شــأن القواعد‬ ‫ّ‬ ‫عليه باب اإليمان‪ ،‬وباب مقام ســعادة اإليمان‪ ،‬وتحتم عليه الكفر‬ ‫والخلــود فــي ّ‬ ‫النــار‪ ،‬وغضــب ّ‬ ‫الد ّيــان»(‪. )21‬‬ ‫ولــو ربطنــا كالمهــم هــذا بواقعنــا ألدركنــا َّأن املصلحــة الديـن ـ َّـية‬ ‫ـيوية ّ‬ ‫متحققــة بإقرارهــم‪ ،‬ولعلنــا نعلــم َّ‬ ‫أن عـ ً‬ ‫والدن ـ َّ‬ ‫ـددا مــن العائــات‬ ‫ِ‬ ‫النصي ـ َّـرية املشــهورة اختلطــت بأهــل السـ َّـنة فــي دمشــق فــكان منهــا‬ ‫علمــاء وتجــار مؤمنــون يســعون فــي مصالــح املسلمي ــن‪ ،‬ويدعمــون‬ ‫الدعــوة اإلسـ َّ‬ ‫ـامية كمــا يعــرف أهــل دمشــق وغي ــرهم(‪.)22‬‬

‫العدد ‪ 2‬رجب ‪1439‬هـ‬

‫ً‬ ‫َّ‬ ‫رابعــا‪ :‬كانــت‬ ‫األقليــات ‪ -‬وال ت ـزال ‪ -‬وســيلة األجنب ـ ّـي للتدخــل فــي‬ ‫ُّ‬ ‫البــاد وذريعتــه للتحكــم فــي قراراتهــا‪ ،‬وقــد يدفــع هــذا بعــض النــاس‬ ‫ُّ‬ ‫العتبارهــم خطـ ًـرا يجــب التخلــص منــه‪ ،‬وهــو تفكي ــر ثبــت خطــؤه‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫تاريخيــا‪ ،‬واألولــى است ــيعابهم ضمــن مواطن ــي الدولــة‪ ،‬وإقناعهــم‬ ‫ْ‬ ‫بصد ِقنــا فــي الرغبــة بالتعايــش معهــم دون مشــكالت‪ ،‬وهــذا يقطــع‬ ‫يــد التدخــل األجنب ـ ّـي بحجــة مســاعدتهم والدفــاع عنهــم‪ ،‬وبقاؤهــم‬ ‫فــي ظــل الدولــة الت ــي تحكــم بالعــدل مهــم لطمأنتهــم مــن جهــة‪،‬‬ ‫ولبقائهــم تحــت مراقبــة الدولــة مــن جهــة أخــرى‪ ،‬وقــد تقـ َّـدم معنــا‬ ‫َّ‬ ‫أن هــذا مــا دفــع عمــر ر�ضــي هللا عنــه لقبــول الجزيــة باســم الصدقــة‬ ‫مــن نصــارى بـن ــي تغلــب‪ ،‬وفــي التاريــخ شــواهد مماثلــة منهــا صن ــيع‬ ‫الســلطان عبــد الحميــد مــع بعــض الطوائــف فــي شــمال ســوريا‪،‬‬ ‫فـ َّ‬ ‫ـإن ضيــاء باشــا الــذي بعثــه ليستكشــف أمرهــم رأى ميلهــم إلي ـران‬ ‫ومحاولــة األمريكيي ــن الســتقطابهم عب ــر املــدارس‪ ،‬فــكان أن قطــع‬ ‫السـ ُ‬ ‫ـلطان الطريـ َـق علــى هــؤالء بمــا فعلــه مــن محاولــة إصالحهــم(‪.)23‬‬ ‫هــذا مــا أراه ً‬ ‫فهمــا إلعمـ ِـال قواعــد األصــول فــي اســتنباط األحــكام‬ ‫مــن النصــوص‪ ،‬وهــي قواعــد ضابطــة لالســتنباط منضبطــة‬ ‫ً‬ ‫ب ــنفسها وليســت فضفاضــة بحيــث نقــول مثــا‪( :‬حيثمــا وجــدت‬ ‫املصلحــة فثـ َّـم وجــه الشـ ِـرع) دون تفصيــل وب ــيان ودون النظــر‬ ‫فــي آحــاد النصــوص علــى وفــق قواعــد الداللــة والب ــيان‪ ،‬كمــا‬ ‫أودعهــا األصليــون فــي كتبهــم‪ ...‬بــل الحـ ُّـق فــي النظــر فــي النصــوص‬ ‫وتحكيــم قواعــد العرب ــية فــي فهمهــا‪ ،‬والتــزام ب ــيان الرســول صلــى‬ ‫هللا عليــه وســلم‪ ،‬والنظــر فــي الجمــع بـي ــن ذلــك وبـي ــن املصلحــة‬ ‫العامــة‪ ،‬فــإن أمكــن الجمــع دون تحريــف وتغيي ــر ملنطــوق‬ ‫النصــوص ومفهومهــا فحيهــا‪ ،‬وإن لــم يمكــن فاملرجعيــة للنــص‬ ‫ً‬ ‫وآخـ ًـرا‪ ،‬واملصلحــة فــي مقابلــة النــص موهومــة غي ــر حقيقيــة‪.‬‬ ‫أول ِ‬ ‫َّإن علــم أصــول الفقــه مــن حيــث أسســه ومنطلقاتــه قطعــي ال‬ ‫َّ‬ ‫مرجعي ِتـ ِـه‪ِ ،‬لكــن الجمــود علــى كالم املتقدمي ــن دون‬ ‫سب ــيل إللغــاء‬ ‫ٌ‬ ‫ً‬ ‫مالحظــة تطب ــيقهم لقواعــده أكان ســديدا أم دخلــه الخطــأ؛ آفــة‬ ‫َ‬ ‫علقــت ببعــض املسلمي ــن وال بــد مــن اجتثاثهــا بالحكمــة واملوعظــة‬ ‫ِ‬ ‫الحســنة‪ ...‬وهللا أعلــم وهــو يهــدي السب ــيل‪.‬‬

‫(‪ )20‬أحكام القرآن البـن العربـي ‪ ،482/2‬والحديث أخرجه البخاري رقم ‪ ،5634‬ومسلم‪ ،‬بـرقم ‪ 5016‬بألفاظ قريبة‪ ،‬ولفظ البخاري‪،‬‬ ‫ولدا‪َّ ،‬‬ ‫وهو األقرب للمذكور‪« ،‬ليس أحد ـ أو ليس �شيء ـ أصبـر على أذى سمعه من هللا‪َّ ،‬إنهم ليدعون له ً‬ ‫وإنه ليعافيهم ويـرزقهم»‪.‬‬ ‫(‪ )21‬الفروق للقرافي ‪.10/3‬‬ ‫(‪ )22‬كان الشيخ صافي حيدر ـ رحمه هللا ـ ً‬ ‫إماما في صالة الفجر في جامع منجك في منطقة امليدان من أحياء دمشق القديمة‪،‬‬ ‫ً‬ ‫حافظا لكتاب هللا‪ .‬وهذا مثال واقعي رصدته بـنف�سي‪َّ ،‬‬ ‫كما كان‬ ‫ولدي أمثلة متعددة في هذا الباب‪.‬‬ ‫(‪ ) 23‬خطط الشام‪ ،)58/6( ،)106_105/3( ،‬سوريا والعهد العثماني‪ ،‬يوسف الحكيم‪ ،‬ص ‪.71_70‬‬

‫‪71‬‬


‫المنهج األصولي في تفسيـر النصوص‬ ‫وب ــناء علــى فهمنــا هــذا للجزيــة‪ ،‬حيــث بهــا حقــن دمــاء الكفــار مــع‬ ‫إقرارهــم علــى دي ــنهم‪ ،‬مــع كونهــا ال تؤخــذ إال ممــن يقاتــل‪ ،‬فــا تؤخــذ‬ ‫عــن صغي ــر وال عــن امـرأة‪ ،‬نــرى َّأنهــا ليســت ً‬ ‫عقابــا بطب ــيعتها‪ ،‬إذ لــو‬ ‫كانــت كذلــك لوجبــت علــى األنثــى كمــا تجــب علــى الذكــر‪ ،‬وإذ لــم‬ ‫ص َ‬ ‫ـرعي فلمــاذا َتقت ــر ُن بمــا ُ‬ ‫ً‬ ‫ورتــه ِعقـ ٌ‬ ‫ّ‬ ‫ـاب‬ ‫ِ‬ ‫تكــن عقابــا فــي املفهــوم الشـ ِ‬ ‫ْ‬ ‫ـف إلــى ذلــك مســألة َّ‬ ‫مهمــة تتصــل مــن هــذه الفكــرة‬ ‫أضـ‬ ‫وج ـزاء! ِ‬ ‫َّ‬ ‫بســبب‪ ،‬وهــي أن تحديــد الجزيــة ومــا يتصــل بهــذا العقــد فــي الجملــة‬ ‫َ‬ ‫ـرعية‪َّ ،‬‬ ‫هــو مــن بــاب السياســة الشـ َّ‬ ‫حتــى َّأن عمــر ر�ضــي هللا عنــه ق ِبــل‬ ‫مــن بعــض العــرب َّ‬ ‫النصــارى دفــع ضعــف زكاة املسلمي ــن بــدل دفــع‬ ‫الجزيــة؛ َأل َن َفتهــم مــن اســم الجزيــة َ‬ ‫كونهــم ً‬ ‫عربــا‪ ،‬قــال اب ــن قدامــة‪:‬‬ ‫ِ​ِ‬ ‫«ب ــنو تغلــب ب ــن وائــل مــن العــرب مــن رب ــيعة ب ــن ن ـزار انتقلــوا فــي‬ ‫الجاهليــة إلــى النصران ــية‪ ،‬فدعاهــم عمــر إلــى بــذل الجزيــة فأبــوا‬ ‫وأنفــوا وقالــوا‪« :‬نحــن عــرب خــذ منــا كمــا يأخــذ بعضكــم مــن بعــض‬ ‫باســم الصدقــة»‪ ،‬فقــال عمــر‪« :‬ال آخــذ مــن مشــرك صدقــة»؛ فلحــق‬ ‫بعضهــم بالــروم‪ ،‬فقــال النعمــان ب ــن زرعــة‪« :‬يــا أمي ــر املؤمنـي ــن‪َّ :‬إن‬ ‫القــوم لهــم بــأس وشـ َّـدة‪ ،‬وهــم عــرب يأنفــون مــن الجزيــة‪ ،‬فــا تعــن‬ ‫عليـ َـك عـ َّ‬ ‫ـدو َك بهــم وخــذ منهــم الجزيــة باســم الصدقــة‪ ،‬فبعــث عمــر‬ ‫فــي طلبهــم ّ‬ ‫فردهــم وضعــف عليهــم مــن اإلبــل مــن كل خمــس شاتـي ــن‪،‬‬ ‫‪ ..‬فاســتقر ذلــك مــن قــول عمــر‪ ،‬ولــم يخالفــه أحــد مــن الصحابــة‬ ‫ً‬ ‫فصــار‬ ‫إجماعــا‪ ،‬وقــال بــه الفقهــاء بعــد الصحابــة» (‪.)14‬‬ ‫َّ ّ‬ ‫يؤكــد ذلــك أنــه روي فــي عقــود الجزيــة فــي صــدر اإلســام‬ ‫وممــا ِ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫إســقاطها عــن القــو ِي إذا ضعــف‪ ،‬والغن ـ ّ ِـي إذا افتقــر‪ ،‬فمــن ذلــك‬ ‫مــا جــاء فــي كتــاب ّ‬ ‫الصلــح بـي ــن خالــد ب ــن الوليــد ر�ضــي هللا عنــه وأهــل‬ ‫الحي ــرة ‪« :‬وجعلــت لهــم ّأيمــا شــيخ ضعــف عــن العمــل‪ ،‬أو أصابتــه‬ ‫ّ‬ ‫يتصدقــون‬ ‫آفــة مــن اآلفــات‪ ،‬أو كان غن ـ ًّـيا فافتقــر‪ ،‬وصــار أهــل دي ــنه‬ ‫عليــه طرحــت جزيتــه‪ ،‬وعيــل مــن ب ــيت مــال املسلمي ــن وعيالــه مــا‬ ‫أقــام بــدار الهجــرة ودار اإلســام‪ ،‬فــإن خرجــوا إلــى غي ــر دار الهجــرة‬ ‫ودار اإلســام فليــس علــى املسلمي ــن ّ‬ ‫النفقــة علــى عيالهــم» (‪.)15‬‬ ‫كمــا دلــت هــذه العقــود‪ ،‬علــى َّأن عجــز املسلمي ــن عــن حمايتهــم‬ ‫يقت�ضــي إرجــاع أموالهــم الت ــي دفعوهــا علــى أنهــا جزيــة‪ ،‬ألنهــا إنمــا‬ ‫شــرعت فــي مقابــل دخولهــم تحــت حمايــة املسلمي ــن‪ ،‬وممــا ورد فــي‬ ‫ذلــك مــا ذكــره أبــو يوســف مــن َّأن أبــا عب ــيدة ب ــن الجـ ّـراح عندمــا‬

‫المنهج األصولي في تفسيـر النصوص‬

‫العدد ‪ 2‬رجب ‪1439‬هـ‬

‫ّ‬ ‫الشــام ّ‬ ‫بتجمــع الـ ّـروم ملقاتلــة املسلمي ــن كتب‬ ‫أعلمــه ّنوابــه علــى مــدن‬ ‫ّ‬ ‫خلفــه فــي املــدن الت ــي صالــح أهلهــا يأمرهــم أن ي ـ ّ‬ ‫ـردوا‬ ‫وال ممــن‬ ‫إلــى كل ٍ‬ ‫ُ‬ ‫عليهــم مــا جب ــي مــن الجزيــة والخ ـراج‪ ،‬وكتــب إليهــم أن يقولــوا لهــم‪:‬‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫«إنمــا رددنــا عليكــم أموالكــم‪ ،‬ألنــه قــد بلغنــا مــا ُج ِمــع لنــا مــن الجمــوع‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫وأنكــم اشت ــرطتم علي ــنا أن نمنعكــم‪ ،‬وإنــا ال نقــدر علــى ذلــك‪.)16( »..‬‬ ‫وورد من ذلك َّ‬ ‫أخبار دالة على َّأن عجز املسلميـن عن حمايتهم‬ ‫عدة‬ ‫ٍ‬ ‫يوجــب إرجــاع مــا دفعــوه مــن الجزيــة‪.‬‬ ‫وبـناء على ما َّ‬ ‫تقدم ُّ‬ ‫أود أن ّ‬ ‫أسجل املالحظات اآلتـية‪:‬‬ ‫ِ‬ ‫‪ - 1‬يجب أن يـنظر اإلمام في مصلحة املسلميـن ليحدد كيفية التعامل مع‬ ‫رعايا الدولة من غيـر املسلميـن‪ ،‬كما فعل عمر ر�ضي هللا عنه مع بـنـي تغلب‪.‬‬ ‫ً‬ ‫وب ــناء علــى ذلــك يمكنــه أن يأخــذ منهــم مــال باســم الضرائــب أو‬ ‫الصدقــة أو غي ــر ذلــك‪ ،‬مقابــل مــا يلــزم مــن حمايتهــم‪ ،‬ومــا ّ‬ ‫يعبــرون بــه‬ ‫ِ‬ ‫عــن مواطنتهــم (الخضــوع لنظــام الدولــة)‪.‬‬ ‫‪ - 2‬يدفــع املســلمون الــزكاة ُّ‬ ‫تعبـ ًـدا‪ ،‬ويمكــن أن تكــون الجزيــة فــي‬ ‫مقابلهــا؛ َّ‬ ‫ألن غي ــر املســلم ال ُت َ‬ ‫قبـ ُـل منــه القربــات‪.‬‬ ‫‪ - 3‬ظاهــر األدلــة تشي ــر إلــى َّأن الجزيــة تـ َّ‬ ‫ـؤدى بمقابــل الحمايــة‪ ،‬فهــي‬ ‫ال تؤخــذ إال ممــن يســتطيع القتــال‪ ،‬وت ـ ُّ‬ ‫ـرد فــي حالــة عــدم القــدرة علــى‬ ‫حمايتهــم‪ ،‬وهــم كانــوا إذ ذاك ال يقاتلــون مــع املسلمي ــن‪.‬‬ ‫وب ــناء علــى هــذه املالحظــات فـ َّ‬ ‫ـإن أهــل الطوائــف اليــوم‪ ،‬ممــن ثبــت‬ ‫ً‬ ‫كفــره‪ ،‬ي ــنظر فــي اآلليــة الت ــي ُيثبـ ُـت فيهــا َ‬ ‫والءه للدولــة‪ ،‬بــأن يدفــع مبلغــا‬ ‫ِ‬ ‫مقابــل إعفائــه مــن الخدمــة العســكرية‪ ،‬أو أن يشت ــرك مــع املسلمي ــن‬ ‫فــي حمايــة بلــده‪ ،‬وعندهــا تســقط عنهــم الجزيــة‪ ،‬إذ كانــت مقابــل‬ ‫حمايتنــا لهــم‪ ،‬وهــم يدفعونهــا بشــكل َبـ َـد ٍل عــن خدمــة العلــم علــى مــا‬ ‫تسـ َّـمى اليــوم‪ ،‬أو يشت ــركون فــي حمايــة البلــد أســوة باملسلمي ــن‪.‬‬ ‫وقــد ذهــب إلــى هــذا القــول عــدد مــن العلمــاء املعاصري ــن‪ ،‬منهــم‬ ‫الدكتــور عبــد الكريــم زيــدان(‪ )17‬والدكتــور القرضــاوي(‪.)18‬‬ ‫َّ‬ ‫ومما ُّ‬ ‫يدل على جواز إسقاط الجزية عنهم إذا اشتـركوا في حماية البلد‬ ‫املسلم‪،‬سوابقتار َّ‬ ‫يخيةمتعددة‪،‬ذكرهااملؤرخوناملسلمونكالطبـري‬ ‫وغي ــره‪ ،‬ومــن ذلــك مــا ذكــره البــاذري فــي فتــوح البلــدان(‪ )19‬مــن مصالحــة‬ ‫والي أبـي عبـيدة بـن الجراح ر�ضي هللا عنه للجراجمة (املسيحييـن) على‬ ‫عونا ً‬ ‫أن يكونوا ً‬ ‫وعيونا للمسلميـن مقابل إسقاط الجزية عنهم‪.‬‬

‫(‪ )14‬املرجع السابق‪ )15( - .581/10 ،‬الخراج ألبـي يوسف ص ‪.156‬‬ ‫كتابه‪ :‬أحكام الذمييـن واملستأمنـيـن في دار اإلسالم‪ ،‬ص ‪ 157‬ـ ‪.158‬‬ ‫(‪ )16‬املرجع السابق‪ ،‬ص ‪ )17( - .139‬وذلك في ِ‬ ‫(‪ )18‬وذلك في كتابه‪ :‬غيـر املسلميـن في املجتمع اإلسالمي ص ‪. 28‬‬ ‫(‪ )19‬فتوح البلدان ص ‪ .217‬وذكر د‪ .‬عبد الكريم زيدان رحمه هللا ً‬ ‫عددا من هذه السوابق في كتابه أحكام الذمييـن ‪ ...‬ص ‪ 155‬وما بعد‪.‬‬

‫‪70‬‬

‫ِ‬ ‫خات ٌة‬

‫ّ‬ ‫السوري‪:‬‬ ‫نظرة بإنزال هذا الحكم على الواقع‬ ‫ِ‬

‫َّ‬ ‫الواقعية اآلتـية‪:‬‬ ‫ال ّبد بعد بـيان الحكم من مالحظة املعطيات‬ ‫ً‬ ‫ـورية امتـ ٌ‬ ‫أول‪ :‬حــال الطوائــف املنتشــرة فــي الجغرافيــا السـ َّ‬ ‫ـداد‬ ‫إلق ـرار املسلمي ــن لهــا عب ــر القــرون‪ ،‬منــذ العصــر العبا�ســي‪ ،‬مــرو ًرا‬ ‫ً‬ ‫بالعصــر العثمان ــي ووصــول للعصــر الحديــث‪.‬‬ ‫فليــس إقرارهــا اليــوم ً‬ ‫بدعــا مــن األمــر‪ ،‬بــل هــو منهــج املسلمي ــن فــي‬ ‫التعامــل مــع غي ــر املسلمي ــن فــي املجتمــع اإلسـ ّ‬ ‫ـامي عب ــر العصــور‪.‬‬ ‫َّ‬ ‫األقليــات وال إلــى تهجي ــرهم‪ ،‬هنــاك‬ ‫ثان ـ ًـيا‪ :‬ال سب ــيل إلــى إفنــاء‬ ‫مئــات آالف السوريي ــن مــن هــذه األقليــات فــي ســوريا‪ ،‬بعضهــم‬ ‫ي ــريد التعايــش بصــدق‪ ،‬وإقرارهــم ضمــن تفاهمــات هــو السب ــيل‬ ‫لالســتفادة منهــم بــدل معاداتهــم‪.‬‬ ‫ً‬ ‫ـص الفقهــاء علــى َّ‬ ‫ثالثــا‪ :‬نـ َّ‬ ‫أن عقــد الجزيــة هــو مــا يحقــق مقاصــد‬ ‫الشــريعة الغ ـراء فــي هدايــة النــاس وإرشــادهم‪ ،‬فمــن ذلــك مــا قالــه‬ ‫ُ‬ ‫اب ــن العرب ــي‪« :‬لــو قتــل الكافــر ليئــس مــن الفــاح ووجــب عليــه‬ ‫الهلكــة‪ ،‬فــإذا أعطــى الجزيــة وأمهــل لعلــه أن يتدب ــر الحــق وي ــرجع‬ ‫إلــى الصــواب‪ ،‬ال ســيما بمراقبــة أهــل الدي ــن والتــدرب بســماع مــا‬ ‫عنــد املسلمي ــن؛ أال ت ــرى أن عظيــم كفرهــم لــم يمنــع مــن إدرار رزقــه‬ ‫ســبحانه عليهــم‪ ،‬وقــد قــال النب ــي صلــى هللا عليــه وســلم‪« :‬ليــس أحــد‬ ‫أصبـر على أذى من هللا يعافيهم ويـرزقهم وهم يدعون له الصاحبة‬ ‫والولــد»(‪ ،)20‬ومــا قالــه القرافـ ّـي رحمــه هللا ‪ّ « :‬إن قاعــدة الجزيــة مــن‬ ‫ّ‬ ‫بــاب التـزام املفســدة ّ‬ ‫الدن ــيا لدفــع املفســدة العليــا وتوقــع املصلحــة‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫الشـ ّ‬ ‫ـرعية‪ ،‬ب ــيانه‪ّ :‬أن الكافر إذا قتل انسـ ّـد‬ ‫وذلك هو شــأن القواعد‬ ‫ّ‬ ‫عليه باب اإليمان‪ ،‬وباب مقام ســعادة اإليمان‪ ،‬وتحتم عليه الكفر‬ ‫والخلــود فــي ّ‬ ‫النــار‪ ،‬وغضــب ّ‬ ‫الد ّيــان»(‪. )21‬‬ ‫ولــو ربطنــا كالمهــم هــذا بواقعنــا ألدركنــا َّأن املصلحــة الديـن ـ َّـية‬ ‫ـيوية ّ‬ ‫متحققــة بإقرارهــم‪ ،‬ولعلنــا نعلــم َّ‬ ‫أن عـ ً‬ ‫والدن ـ َّ‬ ‫ـددا مــن العائــات‬ ‫ِ‬ ‫النصي ـ َّـرية املشــهورة اختلطــت بأهــل السـ َّـنة فــي دمشــق فــكان منهــا‬ ‫علمــاء وتجــار مؤمنــون يســعون فــي مصالــح املسلمي ــن‪ ،‬ويدعمــون‬ ‫الدعــوة اإلسـ َّ‬ ‫ـامية كمــا يعــرف أهــل دمشــق وغي ــرهم(‪.)22‬‬

‫العدد ‪ 2‬رجب ‪1439‬هـ‬

‫ً‬ ‫َّ‬ ‫رابعــا‪ :‬كانــت‬ ‫األقليــات ‪ -‬وال ت ـزال ‪ -‬وســيلة األجنب ـ ّـي للتدخــل فــي‬ ‫ُّ‬ ‫البــاد وذريعتــه للتحكــم فــي قراراتهــا‪ ،‬وقــد يدفــع هــذا بعــض النــاس‬ ‫ُّ‬ ‫العتبارهــم خطـ ًـرا يجــب التخلــص منــه‪ ،‬وهــو تفكي ــر ثبــت خطــؤه‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫تاريخيــا‪ ،‬واألولــى است ــيعابهم ضمــن مواطن ــي الدولــة‪ ،‬وإقناعهــم‬ ‫ْ‬ ‫بصد ِقنــا فــي الرغبــة بالتعايــش معهــم دون مشــكالت‪ ،‬وهــذا يقطــع‬ ‫يــد التدخــل األجنب ـ ّـي بحجــة مســاعدتهم والدفــاع عنهــم‪ ،‬وبقاؤهــم‬ ‫فــي ظــل الدولــة الت ــي تحكــم بالعــدل مهــم لطمأنتهــم مــن جهــة‪،‬‬ ‫ولبقائهــم تحــت مراقبــة الدولــة مــن جهــة أخــرى‪ ،‬وقــد تقـ َّـدم معنــا‬ ‫َّ‬ ‫أن هــذا مــا دفــع عمــر ر�ضــي هللا عنــه لقبــول الجزيــة باســم الصدقــة‬ ‫مــن نصــارى بـن ــي تغلــب‪ ،‬وفــي التاريــخ شــواهد مماثلــة منهــا صن ــيع‬ ‫الســلطان عبــد الحميــد مــع بعــض الطوائــف فــي شــمال ســوريا‪،‬‬ ‫فـ َّ‬ ‫ـإن ضيــاء باشــا الــذي بعثــه ليستكشــف أمرهــم رأى ميلهــم إلي ـران‬ ‫ومحاولــة األمريكيي ــن الســتقطابهم عب ــر املــدارس‪ ،‬فــكان أن قطــع‬ ‫السـ ُ‬ ‫ـلطان الطريـ َـق علــى هــؤالء بمــا فعلــه مــن محاولــة إصالحهــم(‪.)23‬‬ ‫هــذا مــا أراه ً‬ ‫فهمــا إلعمـ ِـال قواعــد األصــول فــي اســتنباط األحــكام‬ ‫مــن النصــوص‪ ،‬وهــي قواعــد ضابطــة لالســتنباط منضبطــة‬ ‫ً‬ ‫ب ــنفسها وليســت فضفاضــة بحيــث نقــول مثــا‪( :‬حيثمــا وجــدت‬ ‫املصلحــة فثـ َّـم وجــه الشـ ِـرع) دون تفصيــل وب ــيان ودون النظــر‬ ‫فــي آحــاد النصــوص علــى وفــق قواعــد الداللــة والب ــيان‪ ،‬كمــا‬ ‫أودعهــا األصليــون فــي كتبهــم‪ ...‬بــل الحـ ُّـق فــي النظــر فــي النصــوص‬ ‫وتحكيــم قواعــد العرب ــية فــي فهمهــا‪ ،‬والتــزام ب ــيان الرســول صلــى‬ ‫هللا عليــه وســلم‪ ،‬والنظــر فــي الجمــع بـي ــن ذلــك وبـي ــن املصلحــة‬ ‫العامــة‪ ،‬فــإن أمكــن الجمــع دون تحريــف وتغيي ــر ملنطــوق‬ ‫النصــوص ومفهومهــا فحيهــا‪ ،‬وإن لــم يمكــن فاملرجعيــة للنــص‬ ‫ً‬ ‫وآخـ ًـرا‪ ،‬واملصلحــة فــي مقابلــة النــص موهومــة غي ــر حقيقيــة‪.‬‬ ‫أول ِ‬ ‫َّإن علــم أصــول الفقــه مــن حيــث أسســه ومنطلقاتــه قطعــي ال‬ ‫َّ‬ ‫مرجعي ِتـ ِـه‪ِ ،‬لكــن الجمــود علــى كالم املتقدمي ــن دون‬ ‫سب ــيل إللغــاء‬ ‫ٌ‬ ‫ً‬ ‫مالحظــة تطب ــيقهم لقواعــده أكان ســديدا أم دخلــه الخطــأ؛ آفــة‬ ‫َ‬ ‫علقــت ببعــض املسلمي ــن وال بــد مــن اجتثاثهــا بالحكمــة واملوعظــة‬ ‫ِ‬ ‫الحســنة‪ ...‬وهللا أعلــم وهــو يهــدي السب ــيل‪.‬‬

‫(‪ )20‬أحكام القرآن البـن العربـي ‪ ،482/2‬والحديث أخرجه البخاري رقم ‪ ،5634‬ومسلم‪ ،‬بـرقم ‪ 5016‬بألفاظ قريبة‪ ،‬ولفظ البخاري‪،‬‬ ‫ولدا‪َّ ،‬‬ ‫وهو األقرب للمذكور‪« ،‬ليس أحد ـ أو ليس �شيء ـ أصبـر على أذى سمعه من هللا‪َّ ،‬إنهم ليدعون له ً‬ ‫وإنه ليعافيهم ويـرزقهم»‪.‬‬ ‫(‪ )21‬الفروق للقرافي ‪.10/3‬‬ ‫(‪ )22‬كان الشيخ صافي حيدر ـ رحمه هللا ـ ً‬ ‫إماما في صالة الفجر في جامع منجك في منطقة امليدان من أحياء دمشق القديمة‪،‬‬ ‫ً‬ ‫حافظا لكتاب هللا‪ .‬وهذا مثال واقعي رصدته بـنف�سي‪َّ ،‬‬ ‫كما كان‬ ‫ولدي أمثلة متعددة في هذا الباب‪.‬‬ ‫(‪ ) 23‬خطط الشام‪ ،)58/6( ،)106_105/3( ،‬سوريا والعهد العثماني‪ ،‬يوسف الحكيم‪ ،‬ص ‪.71_70‬‬

‫‪71‬‬


‫اإلسالم من َّ‬ ‫ُ‬ ‫الظاهرة القوم ّية‬ ‫موقف‬ ‫ِ‬

‫اإلسالم من َّ‬ ‫ُ‬ ‫الظاهرة القوم ّية‬ ‫موقف‬ ‫ِ‬

‫العدد ‪ 2‬رجب ‪1439‬هـ‬

‫ُ‬ ‫اإلسالم من‬ ‫موقف‬ ‫ِ‬

‫َّ‬ ‫القومية‬ ‫اهرة‬ ‫الظ‬ ‫ّ‬ ‫د‪ .‬حسيـن عبد الهادي آل بكر ‪ -‬رئيس التحريـر‬ ‫عضو األمانة العامة للمجلس اإلسالمي السوري‬

‫مــن النافــذة القرآن ــية نســتلهم مفهومنــا للظاهــرة القوميــة مــن حيــث كونهــا ظاهــرة اجتماعيــة وفطــرة إنسان ــية‬ ‫مشــروعة فــي حدودهــا الت ــي شــرعها هللا لهــا‪ ،‬وإذا كان اإلســام قــد اعت ــرف بالفطــرة الجنســية‪ ،‬والفطــرة العائليــة‪ ،‬وفطــرة‬ ‫التملــك‪ ،‬ووضــع لــكل فطــرة قوانـي ــنها‪ ،‬فهــل يعقــل وهــودي ــن الفطــرة أن ي ــنكرالفطــرة االجتماعيــة واللغويــة الت ــي اصطلــح‬ ‫علــى تســميتها بالقوميــة؟‬ ‫فالقوميــة ظاهــرة اجتماعيــة ولغويــة ولكنهــا‬ ‫ليست عقيدة‪ ،‬وال بد لها من عقيدة تستلهمها‬ ‫وتســتهدي بهــا‪ ،‬وعندمــا تتحــول هــي بذاتهــا إلــى‬ ‫عقيدة تق�ضي على نفســها كما فعلت النازية‪.‬‬ ‫وكل قوميــة مســلمة تســتوعب الــروح‬ ‫اإلسالمية الحقة يمكن أن تحقق ذاتها وتفجر‬ ‫طاقاتهــا‪ ،‬وتأخــذ امتدادهــا الطب ــيعي دون أن‬ ‫تقــع فــي محــذور القوميــات العنصريــة النازيــة‬ ‫والفاشية‪ ،‬أو القوميات اإللحادية والعلمانـية‪.‬‬ ‫الخطــأ الــذي وقــع فيــه القوميــون فــي العالــم‬ ‫اإلســامي هــو اســتخدامهم تعبـي ــر العقيــدة‬ ‫القوميــة‪ ،‬فاصطدمــوا مــع اإلســام عقيــدة‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ونظامــا وســلوكا‪ ،‬وخاضــوا معــارك خاســرة‬ ‫فــي هــذا امليــدان‪ ،‬وأصبحــت شــعاراتهم‬ ‫وأطروحاتهــم شــيكات بــدون رصيــد ألنهــا‬ ‫تتعــارض مــع الفطــرة ومــع العقيــدة‪.‬‬ ‫وإذا كان القوميــون قــد أخطــؤوا عندمــا حولــوا‬ ‫القوميــة مــن ظاهــرة إلــى عقيــدة‪ ،‬فــإن بعــض‬ ‫اإلسالميي ــن أخطــؤوا أيضــا عندمــا ذهبــوا إلــى‬ ‫تجاوز الحقيقة‪ ،‬فألغوها نهائيا كأنها لم تكن‪،‬‬ ‫(‪ )1‬رواه أبو داوود والنسائي وابـن ماجه‪.‬‬

‫ووضعــوا اإلســام فــي خــاف معهــا بــدون مب ــرر‬ ‫خالفــا ملنطــق اإلســام نفســه الــذي اعت ــرف‬ ‫بهــذه الظاهــرة الت ــي تحــدث عنهــا الق ـرآن فــي‬ ‫َ َ‬ ‫((يــا أ ُّي َهــا‬ ‫العديــد مــن آياتــه‪ ،‬قــال هللا ســبحانه‪:‬‬ ‫َّ ُ َّ َ َ ْ َ ُ ْ ْ َ َ َ ُ ْ َ َ َ َ ْ َ ُْ‬ ‫الناس ِإنا خلقناكم ِمن ذك ٍر وأنثى وجعلناكم‬ ‫َ‬ ‫َْ ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫شـ ُـع ًوبا َوق َبا ِئـ َـل ِل َت َع َارفــوا ِإ َّن أك َر َمكـ ْـم ِع ْنـ َـد‬ ‫َ‬ ‫هللا َأ ْت َق ُاكـ ْـم إ َّن َ‬ ‫هللا َع ِليـ ٌـم خ ِبي ـ ٌـر)) [ ســورة‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫الحج ـرات‪ :‬آيــة ‪.]13‬‬ ‫يمكــن أن نســتنبط مــن هــذه اآليــة الكريمــة‬ ‫االعت ـراف بالقوميــة الفطريــة واللغويــة وأيضــا‬ ‫الدعــوة إلــى تعــارف القوميــات والحضــارات‪،‬‬ ‫ولذلــك ال يمكــن إلغــاء القوميــة كظاهــرة‬ ‫اجتماعيــة و لغويــة‪ ،‬وإال فلمــاذا لــم يســتعرب‬ ‫الت ــرك والكــرد والفــرس والبـرب ــر فــي تاريخنــا‬ ‫اإلسالمي؟! فمن املفهوم أن ّ‬ ‫تتصدى الحقيقة‬ ‫اإلســامية للماركســية والليب ـرالية والعلمان ــية‬ ‫وغي ــرها‪ ،‬أمــا تصديهــا للحقيقــة القوميــة فــي‬ ‫مفهومهــا الــذي أوضحنــاه فغي ــر صحيــح‪.‬‬

‫ما هي القومية التـي يعتـرف بها اإلسالم؟‬ ‫ال بــد مــن التفريــق بـي ــن قوميتـي ــن‪ ،‬األولــى‪:‬‬

‫القومية الجنسية كظاهرة فطرية اجتماعية‬ ‫لغويــة‪ ،‬والثان ــية‪ :‬القوميــة العصب ــية كظاهــرة‬ ‫سلب ــية فــي املجتمــع اإلنسان ــي‪.‬‬ ‫فأمــا األولــى فقــد اعت ــرف بهــا اإلســام‪ ،‬وأمــا‬ ‫الثان ــية فقــد حاربهــا اإلســام‪ ،‬وقــال عنهــا‬ ‫الرســول صلــى هللا عليــه وســلم‪(( :‬ليــس منــا‬ ‫مــن دعــا إلــى عصب ــية‪ ،‬وليــس منــا مــن قاتــل علــى‬ ‫عصبـية‪ ،‬وليس منا من مات على عصبـية))(‪.)1‬‬ ‫وأعتقــد أن النصــوص القرآن ــية وأحاديــث‬ ‫الرسول صلى هللا عليه وسلم ومسيـرة التاريخ‬ ‫اإلســامي يمكــن أن تحســم الجــدل حــول هــذا‬ ‫املوضوع الذي دار حوله خالف كبـيـر وخطيـر‬ ‫فــي الحيــاة اإلســامية اليــوم‪ ،‬ومــا زال يثي ــر‬ ‫الخالفــات واملشــاكل ويعرقــل سي ــر هــذه األمــة‬ ‫فــي طريــق التطــور الســليم‪.‬‬

‫حقيقةالقومية‬ ‫كمــا أن هللا تعالــى خلــق الثنائيــة بـي ــن الذكــر‬ ‫واألنثى لحفظ النوع البشري من خالل التزاوج‬ ‫والتناســل فإنــه خلــق التعدديــة بـي ــن الشــعوب‬ ‫والقبائــل لتسي ــر غايــة االنتمــاء الفــردي‬ ‫‪72‬‬

‫لإلنســان إلــى جماعــة طب ــيعية تحميــه وتنمــي‬ ‫شــخصيته‪.‬‬ ‫وتتحقــق غايــة الجماعــات فــي إطــار الرابطــة‬ ‫اإلنسان ــية والقوانـي ــن اإللهيــة؛ حيــث يتقــرر‬ ‫التمايــز والتفاضــل بـي ــن جماعــة وأخــرى‬ ‫بمــدى اقت ـرابها مــن املثــل العليــا‪ ،‬وأمــا تعـ ّـدد‬ ‫الشــعوب وتنوعهــا فــإن ذلــك موجــود بأمــر‬ ‫َ َ‬ ‫((يــا أ ُّي َهــا‬ ‫الخالــق وحكمتــه‪ ...‬قــال هللا ســبحانه‪:‬‬ ‫َّ ُ َّ َ َ ْ َ ُ ْ ْ َ َ َ ُ ْ َ َ َ َ ْ َ ُْ‬ ‫النــاس ِإنــا خلقناكــم ِمــن ذكـ ٍـر وأنثــى وجعلناكــم‬ ‫َ َ ُ َّ َ ْ َ ُ ْ َ‬ ‫ُ ُ ً َ​َ​َ‬ ‫هللا‬ ‫َشــعوبا وقبا ِئـ َـل ِلتع َارفــوا ِإن أك َرمكـ ْـم ِعنــد ِ‬ ‫َْ ُ‬ ‫أتقاكـ ْـم‪ [ ))...‬ســورة الحج ـرات‪ :‬آيــة‪.]13‬‬ ‫َ ْ ُ‬ ‫«ج َعل َناك ْم» فعل إلهي ال ر ّاد له لتحقيق‬ ‫وفعل‬ ‫َ َ َُ‬ ‫التعــاون‪«ِ ،‬لتعارفــوا» بــدل الحــروب والنزاعــات‬ ‫والتنافس للوصول إلى هدف الســبق إلى املثل‬ ‫العليــا املتمثلــة باالســتقامة فــي أمــور الدي ــن‬ ‫َّ َ ْ َ َ ُ ْ ْ َ َ ْ َ ُ‬ ‫هللا أتقاكـ ْـم»‪.‬‬ ‫والدن ــيا ِ«إن أكرمكــم ِعنــد ِ‬ ‫إن اختــاف اللغــات يشي ــر إلــى جوهــر التباي ــن‬ ‫القومي بـيـن الشعوب‪ ،‬وباإلضافة إلى هذا فإن‬ ‫اختــاف األلــوان يشي ــر إلــى التباي ــن الطب ــيعي‬ ‫بـي ــن األقــوام‪ ،‬قــال هللا تعالــى‪َ (( :‬و ِمـ ْـن َآيا ِتـ ِـه‬ ‫ْ َ ُ َْ َ ُ‬ ‫َخ ْلـ ُـق َّ‬ ‫السـ َـم َاو ِ َ ْ َ ْ‬ ‫ض َواخ ِتــاف أل ِســن ِتك ْم‬ ‫ات والر ِ‬ ‫َْ ُ‬ ‫َوأل َوا ِنكـ ْـم)) [ســورة الــروم‪ :‬اآليــة‪.]22‬‬ ‫وعندمــا ثــاب النــاس إلــى إلــه واحــد‪ ،‬وقــف‬ ‫الجميــع رافعــي الــرؤوس أمــام بعضهــم البعض‪،‬‬ ‫وانتهــت أســطورة الدمــاء املتفاضلــة‪ ،‬واألجنــاس‬ ‫املتفاضلــة‪ ...‬كانــت قريــش تســمي نفســها‬ ‫الحمــس‪ ،‬وتفــرض لنفســها حقوقــا وتقاليــد‬ ‫ليســت لســائر العــرب‪ ،‬وكانــت األرض كلهــا مــن‬ ‫حولالجزيـرةالعربـيةتعجبالعصبـياتالقائمة‬ ‫علــى اختــاف الدمــاء واألجنــاس وتفاضلهــا‪،‬‬ ‫وبـي ــنما كان هــذا الواقــع سـ ً‬ ‫ـائدا فــي األرض كلهــا‪،‬‬ ‫كان اإلســام يخاطــب الفطــرة مــن تحــت ركام‬ ‫الواقــع‪ ،‬الفطــرة الت ــي تنكــر هــذا كلــه وال تعرفــه‪.‬‬ ‫وكانــت اســتجابة الفطــرة لنــداء اإلســام أقــوى‬ ‫(‪ )2‬رواه اإلمام أحمد في مسنده‪.‬‬

‫مــن هــذا الواقــع الثقيــل واســتمعت إلــى قــول‬ ‫رســول هللا صلــى هللا عليــه وســلم يقــول للنــاس‬ ‫جميعــا‪(( :‬أيهــا النــاس إن ربكــم واحــد‪ ،‬وأباكــم‬ ‫واحــد‪ ،‬كلكــم آلدم وآدم مــن ت ـراب‪ ،‬إن أكرمكــم‬ ‫عند هللا أتقاكم‪ ،‬وليس لعربـي على عجمي وال‬ ‫لعجمي على عرب ــي‪ ،‬وال ألحمر على أب ــيض‪ ،‬وال‬ ‫ألب ــيض علــى أحمــر فضــل إال بالتقــوى))(‪.)2‬‬ ‫ودخــل النــاس فــي دي ــن هللا أفواجــا بعــد أن‬ ‫حررهــم اإلســام مــن عصب ــية القب ــيلة‪،‬‬ ‫وعصب ــية البلــد‪ ،‬وعصب ــية الوطــن‪ ،‬وعصب ــية‬ ‫اللــون‪ ،‬وعصب ــية الجنــس الت ــي كانــت تســود‬ ‫وجــه األرض كلــه‪ ،‬جــاء اإلســام ليقــول للنــاس‪:‬‬ ‫إن هنــاك إنسان ــية واحــدة ت ــرجع إلــى أصــل‬ ‫واحــد‪ ،‬وتتجــه إلــى إلــه واحــد‪.‬‬ ‫ولــم تقــف وراثــة لــون‪ ،‬وال وراثــة جنــس‪ ،‬وال‬ ‫وراثــة طبقــة‪ ،‬وال وراثــة ب ــيت‪ ،‬دون أن يعيــش‬ ‫النــاس إخوانــا‪.‬‬ ‫ومــن املؤســف ًّ‬ ‫حقــا أن نجــد اليــوم بـي ــننا نحــن‬ ‫املسلمي ــن عصب ــيات شــتى صغي ــرة مــا زالــت‬ ‫تعيــش عصب ــيات األرض والوطــن‪ ،‬وعصب ــيات‬ ‫الجنــس والقــوم‪ ،‬وعصب ــيات اللــون و اللســان‪.‬‬ ‫ي ــنبغي أن نــدرك ً‬ ‫تمامــا أن فكــرة املســاواة فــي ظــل‬ ‫الحكــم العــادل مــا زالــت مــن أولويــات املسلمي ــن‬ ‫اليــوم؛ باســتثناء الفلــول التائهــة مــن بقايــا دعــاة‬ ‫القوميات في العالم اإلسالمي‪ ،‬ولكنهم على أرض‬ ‫الواقع اليوم غثاء ال وزن لهم وال قيمة وال كرامة‪.‬‬ ‫لقــد قــال اإلســام كلمتــه املدويــة‪ :‬إن كرامــة‬ ‫اإلنســان مســتمدة مــن إنسان ــيته ذاتهــا ال مــن‬ ‫أي عــرض آخــر كالجنــس واللــون أو الطبقــة‬ ‫واملنصــب‪ ،‬والحقــوق األصليــة لإلنســان‬ ‫مســتمدة مــن تلــك اإلنسان ــية الت ــي ت ــرجع إلــى‬ ‫أصل واحد‪ .‬وعلم منذئذ أن اإلنسان بجنسه‬ ‫كريم على هللا‪ ،‬وأن كرامته ذاتـية أصلية‪ ،‬ألنها‬ ‫َ​َ‬ ‫تنبــع مــن كونــه إنسـ ًـانا‪ ،‬قــال ســبحانه‪َ ((:‬ولقـ ْـد‬

‫العدد ‪ 2‬رجب ‪1439‬هـ‬

‫َ‬ ‫ك َّر ْم َنــا َب ِن ــي َآد َم)) [ســورة اإلس ـراء‪.]70/‬‬ ‫ـادا جديـ ًـدا لإلنســان‪ ،‬ميـ ً‬ ‫وكان هــذا ميـ ً‬ ‫ـادا‬ ‫ّ‬ ‫أعظم من امليالد‬ ‫الح�سي‪ ،‬فما اإلنسان إذا لم‬ ‫تكــن لــه حقــوق اإلنســان وكرامــة اإلنســان‪.‬‬ ‫وقــد كــون اإلســام األمــة الواحــدة‪ ،‬وجمعهــا‬ ‫علــى آصــرة العقيــدة‪ ،‬فقــال ســبحانه‪ِ (( :‬إ َّن‬ ‫ً َ​َ ُ َ‬ ‫ُ ُ ُ ً‬ ‫َهـ ِـذ ِه أ َّم ُتكـ ْـم أ َّمــة َو ِاحـ َـدة َوأنــا َ ُّربكـ ْـم ف ْاع ُبـ ُـدو ِن))‬ ‫[سورة األنبـياء‪ ]92/‬ولكن اإلسالم حيـن جمع‬ ‫النــاس علــى آصــرة العقيــدة وجعلهــا هــي قاعــدة‬ ‫التجمــع‪ ،‬ولــم يجعــل اإلك ـراه علــى العقيــدة‬ ‫قاعــدة الحركــة فيــه‪ ،‬وال قاعــدة التعامــل‪ ،‬لــم‬ ‫يجعــل شـريعة الغــاب هــي الت ــي تحكــم عالقتــه‬ ‫باآلخري ــن الذي ــن ال يعتنقــون عقيدتــه‪.‬‬ ‫لقــد فــرض هللا الجهــاد علــى املسلمي ــن ال‬ ‫ليكرهــوا النــاس علــى اعتنــاق اإلســام‪ ،‬ولكــن‬ ‫ليقيمــوا فــي األرض نظامــه الشــامخ العــادل‬ ‫القويــم‪ ،‬علــى أن يختــار النــاس عقيدتهــم‬ ‫الت ــي يحبــون‪ ،‬فــي ظــل هــذا النظــام الــذي‬ ‫يشــمل املســلم و غي ــر املســلم فــي عــدل تــام‪،‬‬ ‫قــال ســبحانه‪َ (( :‬ل إ ْكـ َـر َاه فــي ّ‬ ‫الدي ـ ِـن)) [ســورة‬ ‫ِ ِ ِ‬ ‫البقــرة‪ ،]256/‬وبالتالــي ال إك ـراه فــي السياســة‬ ‫وهــو مــن بــاب أولــى‪.‬‬ ‫إن البش ـرية بــكل أنظمهــا السياســية‬ ‫واالجتماعيــة لــم ت ـرتفع إلــى املســتوى األخالقــي‬ ‫الــذي بلغتــه الجماعــة املســلمة فــي التعامــل‬ ‫اإلنسانـيمعكلالبشراآلخريـنالذيـنعاشوافي‬ ‫عصر قوتها‪ ،‬وإننا في هذا العصر وفي ظل تحكم‬ ‫غيـراملسلميـنفياملصيـرالعالمينشهدكليوم‬ ‫نكساتمخزيةتقعأمامأعيـنناحتىفيالقوانـيـن‬ ‫الدوليــة النظريــة‪ ،‬بحيــث أصبحــت حالنــا أسـوأ‬ ‫بكثي ــر مــن حالــة الوحــوش فــي الغابــات‪.‬‬ ‫إنــه رغــم كل مــا يدعيــه الغــرب مــن حــرص علــى‬ ‫العدالــة اإلنسان ــية فــإن كل دوافعــه فــي الحــرب‬ ‫والســلم لــم ت ـرتفع قــط عــن املصالــح واملغانــم‪،‬‬ ‫‪73‬‬


‫اإلسالم من َّ‬ ‫ُ‬ ‫الظاهرة القوم ّية‬ ‫موقف‬ ‫ِ‬

‫اإلسالم من َّ‬ ‫ُ‬ ‫الظاهرة القوم ّية‬ ‫موقف‬ ‫ِ‬

‫العدد ‪ 2‬رجب ‪1439‬هـ‬

‫ُ‬ ‫اإلسالم من‬ ‫موقف‬ ‫ِ‬

‫َّ‬ ‫القومية‬ ‫اهرة‬ ‫الظ‬ ‫ّ‬ ‫د‪ .‬حسيـن عبد الهادي آل بكر ‪ -‬رئيس التحريـر‬ ‫عضو األمانة العامة للمجلس اإلسالمي السوري‬

‫مــن النافــذة القرآن ــية نســتلهم مفهومنــا للظاهــرة القوميــة مــن حيــث كونهــا ظاهــرة اجتماعيــة وفطــرة إنسان ــية‬ ‫مشــروعة فــي حدودهــا الت ــي شــرعها هللا لهــا‪ ،‬وإذا كان اإلســام قــد اعت ــرف بالفطــرة الجنســية‪ ،‬والفطــرة العائليــة‪ ،‬وفطــرة‬ ‫التملــك‪ ،‬ووضــع لــكل فطــرة قوانـي ــنها‪ ،‬فهــل يعقــل وهــودي ــن الفطــرة أن ي ــنكرالفطــرة االجتماعيــة واللغويــة الت ــي اصطلــح‬ ‫علــى تســميتها بالقوميــة؟‬ ‫فالقوميــة ظاهــرة اجتماعيــة ولغويــة ولكنهــا‬ ‫ليست عقيدة‪ ،‬وال بد لها من عقيدة تستلهمها‬ ‫وتســتهدي بهــا‪ ،‬وعندمــا تتحــول هــي بذاتهــا إلــى‬ ‫عقيدة تق�ضي على نفســها كما فعلت النازية‪.‬‬ ‫وكل قوميــة مســلمة تســتوعب الــروح‬ ‫اإلسالمية الحقة يمكن أن تحقق ذاتها وتفجر‬ ‫طاقاتهــا‪ ،‬وتأخــذ امتدادهــا الطب ــيعي دون أن‬ ‫تقــع فــي محــذور القوميــات العنصريــة النازيــة‬ ‫والفاشية‪ ،‬أو القوميات اإللحادية والعلمانـية‪.‬‬ ‫الخطــأ الــذي وقــع فيــه القوميــون فــي العالــم‬ ‫اإلســامي هــو اســتخدامهم تعبـي ــر العقيــدة‬ ‫القوميــة‪ ،‬فاصطدمــوا مــع اإلســام عقيــدة‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ونظامــا وســلوكا‪ ،‬وخاضــوا معــارك خاســرة‬ ‫فــي هــذا امليــدان‪ ،‬وأصبحــت شــعاراتهم‬ ‫وأطروحاتهــم شــيكات بــدون رصيــد ألنهــا‬ ‫تتعــارض مــع الفطــرة ومــع العقيــدة‪.‬‬ ‫وإذا كان القوميــون قــد أخطــؤوا عندمــا حولــوا‬ ‫القوميــة مــن ظاهــرة إلــى عقيــدة‪ ،‬فــإن بعــض‬ ‫اإلسالميي ــن أخطــؤوا أيضــا عندمــا ذهبــوا إلــى‬ ‫تجاوز الحقيقة‪ ،‬فألغوها نهائيا كأنها لم تكن‪،‬‬ ‫(‪ )1‬رواه أبو داوود والنسائي وابـن ماجه‪.‬‬

‫ووضعــوا اإلســام فــي خــاف معهــا بــدون مب ــرر‬ ‫خالفــا ملنطــق اإلســام نفســه الــذي اعت ــرف‬ ‫بهــذه الظاهــرة الت ــي تحــدث عنهــا الق ـرآن فــي‬ ‫َ َ‬ ‫((يــا أ ُّي َهــا‬ ‫العديــد مــن آياتــه‪ ،‬قــال هللا ســبحانه‪:‬‬ ‫َّ ُ َّ َ َ ْ َ ُ ْ ْ َ َ َ ُ ْ َ َ َ َ ْ َ ُْ‬ ‫الناس ِإنا خلقناكم ِمن ذك ٍر وأنثى وجعلناكم‬ ‫َ‬ ‫َْ ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫شـ ُـع ًوبا َوق َبا ِئـ َـل ِل َت َع َارفــوا ِإ َّن أك َر َمكـ ْـم ِع ْنـ َـد‬ ‫َ‬ ‫هللا َأ ْت َق ُاكـ ْـم إ َّن َ‬ ‫هللا َع ِليـ ٌـم خ ِبي ـ ٌـر)) [ ســورة‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫الحج ـرات‪ :‬آيــة ‪.]13‬‬ ‫يمكــن أن نســتنبط مــن هــذه اآليــة الكريمــة‬ ‫االعت ـراف بالقوميــة الفطريــة واللغويــة وأيضــا‬ ‫الدعــوة إلــى تعــارف القوميــات والحضــارات‪،‬‬ ‫ولذلــك ال يمكــن إلغــاء القوميــة كظاهــرة‬ ‫اجتماعيــة و لغويــة‪ ،‬وإال فلمــاذا لــم يســتعرب‬ ‫الت ــرك والكــرد والفــرس والبـرب ــر فــي تاريخنــا‬ ‫اإلسالمي؟! فمن املفهوم أن ّ‬ ‫تتصدى الحقيقة‬ ‫اإلســامية للماركســية والليب ـرالية والعلمان ــية‬ ‫وغي ــرها‪ ،‬أمــا تصديهــا للحقيقــة القوميــة فــي‬ ‫مفهومهــا الــذي أوضحنــاه فغي ــر صحيــح‪.‬‬

‫ما هي القومية التـي يعتـرف بها اإلسالم؟‬ ‫ال بــد مــن التفريــق بـي ــن قوميتـي ــن‪ ،‬األولــى‪:‬‬

‫القومية الجنسية كظاهرة فطرية اجتماعية‬ ‫لغويــة‪ ،‬والثان ــية‪ :‬القوميــة العصب ــية كظاهــرة‬ ‫سلب ــية فــي املجتمــع اإلنسان ــي‪.‬‬ ‫فأمــا األولــى فقــد اعت ــرف بهــا اإلســام‪ ،‬وأمــا‬ ‫الثان ــية فقــد حاربهــا اإلســام‪ ،‬وقــال عنهــا‬ ‫الرســول صلــى هللا عليــه وســلم‪(( :‬ليــس منــا‬ ‫مــن دعــا إلــى عصب ــية‪ ،‬وليــس منــا مــن قاتــل علــى‬ ‫عصبـية‪ ،‬وليس منا من مات على عصبـية))(‪.)1‬‬ ‫وأعتقــد أن النصــوص القرآن ــية وأحاديــث‬ ‫الرسول صلى هللا عليه وسلم ومسيـرة التاريخ‬ ‫اإلســامي يمكــن أن تحســم الجــدل حــول هــذا‬ ‫املوضوع الذي دار حوله خالف كبـيـر وخطيـر‬ ‫فــي الحيــاة اإلســامية اليــوم‪ ،‬ومــا زال يثي ــر‬ ‫الخالفــات واملشــاكل ويعرقــل سي ــر هــذه األمــة‬ ‫فــي طريــق التطــور الســليم‪.‬‬

‫حقيقةالقومية‬ ‫كمــا أن هللا تعالــى خلــق الثنائيــة بـي ــن الذكــر‬ ‫واألنثى لحفظ النوع البشري من خالل التزاوج‬ ‫والتناســل فإنــه خلــق التعدديــة بـي ــن الشــعوب‬ ‫والقبائــل لتسي ــر غايــة االنتمــاء الفــردي‬ ‫‪72‬‬

‫لإلنســان إلــى جماعــة طب ــيعية تحميــه وتنمــي‬ ‫شــخصيته‪.‬‬ ‫وتتحقــق غايــة الجماعــات فــي إطــار الرابطــة‬ ‫اإلنسان ــية والقوانـي ــن اإللهيــة؛ حيــث يتقــرر‬ ‫التمايــز والتفاضــل بـي ــن جماعــة وأخــرى‬ ‫بمــدى اقت ـرابها مــن املثــل العليــا‪ ،‬وأمــا تعـ ّـدد‬ ‫الشــعوب وتنوعهــا فــإن ذلــك موجــود بأمــر‬ ‫َ َ‬ ‫((يــا أ ُّي َهــا‬ ‫الخالــق وحكمتــه‪ ...‬قــال هللا ســبحانه‪:‬‬ ‫َّ ُ َّ َ َ ْ َ ُ ْ ْ َ َ َ ُ ْ َ َ َ َ ْ َ ُْ‬ ‫النــاس ِإنــا خلقناكــم ِمــن ذكـ ٍـر وأنثــى وجعلناكــم‬ ‫َ َ ُ َّ َ ْ َ ُ ْ َ‬ ‫ُ ُ ً َ​َ​َ‬ ‫هللا‬ ‫َشــعوبا وقبا ِئـ َـل ِلتع َارفــوا ِإن أك َرمكـ ْـم ِعنــد ِ‬ ‫َْ ُ‬ ‫أتقاكـ ْـم‪ [ ))...‬ســورة الحج ـرات‪ :‬آيــة‪.]13‬‬ ‫َ ْ ُ‬ ‫«ج َعل َناك ْم» فعل إلهي ال ر ّاد له لتحقيق‬ ‫وفعل‬ ‫َ َ َُ‬ ‫التعــاون‪«ِ ،‬لتعارفــوا» بــدل الحــروب والنزاعــات‬ ‫والتنافس للوصول إلى هدف الســبق إلى املثل‬ ‫العليــا املتمثلــة باالســتقامة فــي أمــور الدي ــن‬ ‫َّ َ ْ َ َ ُ ْ ْ َ َ ْ َ ُ‬ ‫هللا أتقاكـ ْـم»‪.‬‬ ‫والدن ــيا ِ«إن أكرمكــم ِعنــد ِ‬ ‫إن اختــاف اللغــات يشي ــر إلــى جوهــر التباي ــن‬ ‫القومي بـيـن الشعوب‪ ،‬وباإلضافة إلى هذا فإن‬ ‫اختــاف األلــوان يشي ــر إلــى التباي ــن الطب ــيعي‬ ‫بـي ــن األقــوام‪ ،‬قــال هللا تعالــى‪َ (( :‬و ِمـ ْـن َآيا ِتـ ِـه‬ ‫ْ َ ُ َْ َ ُ‬ ‫َخ ْلـ ُـق َّ‬ ‫السـ َـم َاو ِ َ ْ َ ْ‬ ‫ض َواخ ِتــاف أل ِســن ِتك ْم‬ ‫ات والر ِ‬ ‫َْ ُ‬ ‫َوأل َوا ِنكـ ْـم)) [ســورة الــروم‪ :‬اآليــة‪.]22‬‬ ‫وعندمــا ثــاب النــاس إلــى إلــه واحــد‪ ،‬وقــف‬ ‫الجميــع رافعــي الــرؤوس أمــام بعضهــم البعض‪،‬‬ ‫وانتهــت أســطورة الدمــاء املتفاضلــة‪ ،‬واألجنــاس‬ ‫املتفاضلــة‪ ...‬كانــت قريــش تســمي نفســها‬ ‫الحمــس‪ ،‬وتفــرض لنفســها حقوقــا وتقاليــد‬ ‫ليســت لســائر العــرب‪ ،‬وكانــت األرض كلهــا مــن‬ ‫حولالجزيـرةالعربـيةتعجبالعصبـياتالقائمة‬ ‫علــى اختــاف الدمــاء واألجنــاس وتفاضلهــا‪،‬‬ ‫وبـي ــنما كان هــذا الواقــع سـ ً‬ ‫ـائدا فــي األرض كلهــا‪،‬‬ ‫كان اإلســام يخاطــب الفطــرة مــن تحــت ركام‬ ‫الواقــع‪ ،‬الفطــرة الت ــي تنكــر هــذا كلــه وال تعرفــه‪.‬‬ ‫وكانــت اســتجابة الفطــرة لنــداء اإلســام أقــوى‬ ‫(‪ )2‬رواه اإلمام أحمد في مسنده‪.‬‬

‫مــن هــذا الواقــع الثقيــل واســتمعت إلــى قــول‬ ‫رســول هللا صلــى هللا عليــه وســلم يقــول للنــاس‬ ‫جميعــا‪(( :‬أيهــا النــاس إن ربكــم واحــد‪ ،‬وأباكــم‬ ‫واحــد‪ ،‬كلكــم آلدم وآدم مــن ت ـراب‪ ،‬إن أكرمكــم‬ ‫عند هللا أتقاكم‪ ،‬وليس لعربـي على عجمي وال‬ ‫لعجمي على عرب ــي‪ ،‬وال ألحمر على أب ــيض‪ ،‬وال‬ ‫ألب ــيض علــى أحمــر فضــل إال بالتقــوى))(‪.)2‬‬ ‫ودخــل النــاس فــي دي ــن هللا أفواجــا بعــد أن‬ ‫حررهــم اإلســام مــن عصب ــية القب ــيلة‪،‬‬ ‫وعصب ــية البلــد‪ ،‬وعصب ــية الوطــن‪ ،‬وعصب ــية‬ ‫اللــون‪ ،‬وعصب ــية الجنــس الت ــي كانــت تســود‬ ‫وجــه األرض كلــه‪ ،‬جــاء اإلســام ليقــول للنــاس‪:‬‬ ‫إن هنــاك إنسان ــية واحــدة ت ــرجع إلــى أصــل‬ ‫واحــد‪ ،‬وتتجــه إلــى إلــه واحــد‪.‬‬ ‫ولــم تقــف وراثــة لــون‪ ،‬وال وراثــة جنــس‪ ،‬وال‬ ‫وراثــة طبقــة‪ ،‬وال وراثــة ب ــيت‪ ،‬دون أن يعيــش‬ ‫النــاس إخوانــا‪.‬‬ ‫ومــن املؤســف ًّ‬ ‫حقــا أن نجــد اليــوم بـي ــننا نحــن‬ ‫املسلمي ــن عصب ــيات شــتى صغي ــرة مــا زالــت‬ ‫تعيــش عصب ــيات األرض والوطــن‪ ،‬وعصب ــيات‬ ‫الجنــس والقــوم‪ ،‬وعصب ــيات اللــون و اللســان‪.‬‬ ‫ي ــنبغي أن نــدرك ً‬ ‫تمامــا أن فكــرة املســاواة فــي ظــل‬ ‫الحكــم العــادل مــا زالــت مــن أولويــات املسلمي ــن‬ ‫اليــوم؛ باســتثناء الفلــول التائهــة مــن بقايــا دعــاة‬ ‫القوميات في العالم اإلسالمي‪ ،‬ولكنهم على أرض‬ ‫الواقع اليوم غثاء ال وزن لهم وال قيمة وال كرامة‪.‬‬ ‫لقــد قــال اإلســام كلمتــه املدويــة‪ :‬إن كرامــة‬ ‫اإلنســان مســتمدة مــن إنسان ــيته ذاتهــا ال مــن‬ ‫أي عــرض آخــر كالجنــس واللــون أو الطبقــة‬ ‫واملنصــب‪ ،‬والحقــوق األصليــة لإلنســان‬ ‫مســتمدة مــن تلــك اإلنسان ــية الت ــي ت ــرجع إلــى‬ ‫أصل واحد‪ .‬وعلم منذئذ أن اإلنسان بجنسه‬ ‫كريم على هللا‪ ،‬وأن كرامته ذاتـية أصلية‪ ،‬ألنها‬ ‫َ​َ‬ ‫تنبــع مــن كونــه إنسـ ًـانا‪ ،‬قــال ســبحانه‪َ ((:‬ولقـ ْـد‬

‫العدد ‪ 2‬رجب ‪1439‬هـ‬

‫َ‬ ‫ك َّر ْم َنــا َب ِن ــي َآد َم)) [ســورة اإلس ـراء‪.]70/‬‬ ‫ـادا جديـ ًـدا لإلنســان‪ ،‬ميـ ً‬ ‫وكان هــذا ميـ ً‬ ‫ـادا‬ ‫ّ‬ ‫أعظم من امليالد‬ ‫الح�سي‪ ،‬فما اإلنسان إذا لم‬ ‫تكــن لــه حقــوق اإلنســان وكرامــة اإلنســان‪.‬‬ ‫وقــد كــون اإلســام األمــة الواحــدة‪ ،‬وجمعهــا‬ ‫علــى آصــرة العقيــدة‪ ،‬فقــال ســبحانه‪ِ (( :‬إ َّن‬ ‫ً َ​َ ُ َ‬ ‫ُ ُ ُ ً‬ ‫َهـ ِـذ ِه أ َّم ُتكـ ْـم أ َّمــة َو ِاحـ َـدة َوأنــا َ ُّربكـ ْـم ف ْاع ُبـ ُـدو ِن))‬ ‫[سورة األنبـياء‪ ]92/‬ولكن اإلسالم حيـن جمع‬ ‫النــاس علــى آصــرة العقيــدة وجعلهــا هــي قاعــدة‬ ‫التجمــع‪ ،‬ولــم يجعــل اإلك ـراه علــى العقيــدة‬ ‫قاعــدة الحركــة فيــه‪ ،‬وال قاعــدة التعامــل‪ ،‬لــم‬ ‫يجعــل شـريعة الغــاب هــي الت ــي تحكــم عالقتــه‬ ‫باآلخري ــن الذي ــن ال يعتنقــون عقيدتــه‪.‬‬ ‫لقــد فــرض هللا الجهــاد علــى املسلمي ــن ال‬ ‫ليكرهــوا النــاس علــى اعتنــاق اإلســام‪ ،‬ولكــن‬ ‫ليقيمــوا فــي األرض نظامــه الشــامخ العــادل‬ ‫القويــم‪ ،‬علــى أن يختــار النــاس عقيدتهــم‬ ‫الت ــي يحبــون‪ ،‬فــي ظــل هــذا النظــام الــذي‬ ‫يشــمل املســلم و غي ــر املســلم فــي عــدل تــام‪،‬‬ ‫قــال ســبحانه‪َ (( :‬ل إ ْكـ َـر َاه فــي ّ‬ ‫الدي ـ ِـن)) [ســورة‬ ‫ِ ِ ِ‬ ‫البقــرة‪ ،]256/‬وبالتالــي ال إك ـراه فــي السياســة‬ ‫وهــو مــن بــاب أولــى‪.‬‬ ‫إن البش ـرية بــكل أنظمهــا السياســية‬ ‫واالجتماعيــة لــم ت ـرتفع إلــى املســتوى األخالقــي‬ ‫الــذي بلغتــه الجماعــة املســلمة فــي التعامــل‬ ‫اإلنسانـيمعكلالبشراآلخريـنالذيـنعاشوافي‬ ‫عصر قوتها‪ ،‬وإننا في هذا العصر وفي ظل تحكم‬ ‫غيـراملسلميـنفياملصيـرالعالمينشهدكليوم‬ ‫نكساتمخزيةتقعأمامأعيـنناحتىفيالقوانـيـن‬ ‫الدوليــة النظريــة‪ ،‬بحيــث أصبحــت حالنــا أسـوأ‬ ‫بكثي ــر مــن حالــة الوحــوش فــي الغابــات‪.‬‬ ‫إنــه رغــم كل مــا يدعيــه الغــرب مــن حــرص علــى‬ ‫العدالــة اإلنسان ــية فــإن كل دوافعــه فــي الحــرب‬ ‫والســلم لــم ت ـرتفع قــط عــن املصالــح واملغانــم‪،‬‬ ‫‪73‬‬


‫اإلسالم من َّ‬ ‫ُ‬ ‫الظاهرة القوم ّية‬ ‫موقف‬ ‫ِ‬ ‫واألســاب و األســواق‪ ،‬ولــم ت ــرتفع قــط إلــى‬ ‫أفــق الفكــر والعقيــدة والخي ــر والعــدل‬ ‫والصــاح‪ ،‬تلــك القيــم اإلنسان ــية الت ــي‬ ‫يســتهدفها الجهــاد فــي اإلســام‪.‬‬ ‫فاألمــم اليــوم ال تتعامــل إال بقانــون الســيف‬ ‫وحــده‪ ،‬أو قانــون الغــاب‪ ،‬فمــن كان يملــك‬ ‫القــوة كل �شــيء لــه حــال‪ ،‬واملظلــوم ال حقــوق‬ ‫لــه علــى اإلطــاق كمــا هــو الحــال فــي ســورية‪.‬‬ ‫إن الــركام الــذي يـري ــن علــى الفطــرة أثقــل‬ ‫وأظلــم مــن ركام الجاهليــات القديمــة‪ ،‬وإن‬ ‫البش ـرية اليــوم نت ــيجة هــذا الــركام تعان ــي مــن‬ ‫التميع واالســتهتار واالســتخفاف بكل عقيدة‪،‬‬ ‫وكل رأي وكل مذهــب‪ ،‬كمــا تعان ــي مــن نفــاق‬ ‫القلــب‪ ،‬وخبــث االحت ــيال‪ ،‬وكلهــا عقبــات فــي‬ ‫طريق الفطرة والدعوة إلى هللا‪ ،‬ومعوقات عن‬ ‫االســتقامة علــى منهــج هللا‪.‬‬ ‫ولــدى معاي ــنة أســاس هــذه الفو�ضــى الت ــي‬ ‫تعيشــها اإلنسان ــية نجــد القوميــة املتطرفــة‬ ‫القائمــة علــى أســس عرقيــة أو إقليميــة أو حتــى‬ ‫ديـنـية بمفهومهااملتطرف الذي حذرمنهالديـن‬ ‫سـ ًـببا أساسـ ًّـيا فــي الظلــم الــذي تمارســه األمــم‬ ‫القوية على األمم الضعيفة‪ ،‬باعتقاد أن تفوق‬ ‫النوع والعنصر يعطيهم الحق في االعتداء على‬ ‫األضعــف واالست ــيالء علــى مــا فــي يــده‪.‬‬

‫النظام الرأسمالي والقومية‬ ‫إن انقســام املجتمــع إلــى دول قوميــة كان مــن‬ ‫املظاهــر الالزمــة لنشــأة النظــام الرأســمالي‪،‬‬ ‫وهــذه القوميــة الحــادة هــي الت ــي حملــت معهــا‬ ‫نظــام االســتعمار لالست ــيالء علــى الخامــات و‬ ‫احتــكار األســواق‪ ،‬باعتبــار االســتعمار أعلــى‬ ‫مراحــل الرأســمالية كمــا يقــول ليـنـي ــن‪ ...‬بـي ــنما‬ ‫اإلســام ي ــنكر التعصــب القومــي‪ ،‬ويتجــه‬ ‫اتجاهــا عامليــا‪ ،‬ويجعــل حــدوده فــي حــدود‬ ‫(‪ )3‬األدب املفرد ‪87‬‬

‫الفكــرة ال تخــوم األرض‪ ،‬ومــن ثــم يســتبعد‬ ‫فكــرة االســتعمار الحتــكار األســواق‪ ،‬وبذلــك‬ ‫يتجــه اتجاهــا مضــادا للتفكي ــر الرأســمالي‪.‬‬ ‫وهــذا وحــده كاف فــي الداللــة علــى أن النظــام‬ ‫االجتماعــي فــي اإلســام ليــس واحــدا مــن النظــام‬ ‫الرأســمالي أو الشــيوعي أو االشت ـراكي‪ ،‬ألن‬ ‫أســبقية النظــام اإلســامي تمنــع إعطــاءه وصفــا‬ ‫الحقــا‪ ،‬هــذا مــن ناحيــة الشــكل أمــا مــن ناحيــة‬ ‫املوضوع فاإلسالم نظام متكامل تـركز تعاليمه‬ ‫ّ‬ ‫علــى أصــول ثابتــة ومعتمــدة علــى فكــرة كليــة‬ ‫متناسقة األجزاء ّمتصلة بعقيدة اإليمان باهلل‪.‬‬ ‫املجتمــع اإلســامي هــو مجتمــع عالمــي‪ ،‬بمعنــى‬ ‫أنــه مجتمــع غي ــر عنصــري وال قومــي وال قائــم‬ ‫علــى الحــدود الجغرافيــة‪ ،‬فهــو مجتمــع مفتــوح‬ ‫لجميع بـنـي اإلنسان‪ ،‬دون النظر إلى جنس‪ ،‬أو‬ ‫لون‪ ،‬أو لغة‪ ،‬بل دون النظر إلى ديـن أو عقيدة‪.‬‬ ‫إن اإلســام ي ــنفي منــذ اللحظــة األولــى كل ثغــرة‬ ‫قوميــة عنصريــة عصب ــية‪ ،‬وي ــرد البشـرية كلهــا‬ ‫إلــى أصــل واحــد‪ ،‬ويبـي ــن أن اختــاف األلــوان‬ ‫واألع ـراق واللغــات ال يــدل علــى ميــزة وال‬ ‫أفضليــة‪ ،‬ولــم ي ــرد بــه إال التعــارف ال التناكــر‪،‬‬ ‫وأن هنــاك ميز ًانــا واحـ ًـدا لتقدي ـراألفضلية هــو‬ ‫تقــوى هللا وطاعتــه‪.‬‬ ‫وليــس أكــره للحــس اإلســامي مــن ذلــك‬ ‫التعصب الذي تثبـره نعرة الجنس على طريقة‬ ‫النــازي‪ ،‬أو طريقــة اليهــود‪ ،‬أو نعــرة اللــون علــى‬ ‫طريقــة األمريــكان مــع الهنــود الحمــر والزنــوج‪،‬‬ ‫أو طريقة أفريقيا الجنوبـية مع امللونـيـن عامة‪.‬‬ ‫وبديهــي أن الواقــع األول للصـراع االســتعماري‬ ‫فــي العصــر الحديــث كان هــو شــعور القوميــة‬ ‫الحــاد‪ ،‬وبديهــي أن الحــروب الحديثــة كلهــا قــد‬ ‫قامــت علــى هــذا األســاس‪ ،‬وأن الشــر الــذي‬ ‫أصاب البشرية في الحربـيـن املاضيتـيـن‪ ،‬والذي‬ ‫يوشــك أن يدمرهــا فــي الحــرب املقبلــة‪ ،‬كلــه قــد‬

‫اإلسالم من َّ‬ ‫ُ‬ ‫الظاهرة القوم ّية‬ ‫موقف‬ ‫ِ‬

‫العدد ‪ 2‬رجب ‪1439‬هـ‬

‫نشــأ مــن ذلــك الشــعور القومــي الحــاد‪ ،‬ومــن‬ ‫ضعــف الــروح العامليــة‪ ،‬والــروح اإلنسان ــية‪.‬‬ ‫الجنــس البشــري كلــه مســتخلف فــي هــذه‬ ‫األرض لعمارتهــا وإنمائهــا واســتغالل كنوزهــا‪،‬‬ ‫والناس كلهم أخوة‪ ،‬ال يـنالون رحمة هللا ما لم‬ ‫يتـراحموابـيـنهم‪،‬ويتعاونواعلىالعملالصالح‪.‬‬ ‫والرســول صلــى هللا عليــه وســلم يقــول‪:‬‬ ‫((ارحموا أهل األرض يـرحمكم من في السماء))‬ ‫(‪ )3‬بــدون تخصيــص لجنــس وال عنصــر‪ ،‬بــل‬ ‫بــدون تخصيــص ألتباعــه املسلمي ــن‪.‬‬ ‫ومــن ثــم فاالســتعمار والحــرب االســتعمارية ال‬ ‫مجال لهما في التفكيـر اإلسالمي ألن البشر في‬ ‫عــرف اإلســام أمــة واحــدة‪.‬‬ ‫وحيث يزيل اإلسالم تلك الحواجز الجغرافية‬ ‫أو العنصريــة الت ــي تقــوم عليهــا فكــرة الوطــن‬ ‫القومــي‪ ،‬فإنــه ال يلغــي فكــرة الوطــن علــى‬ ‫اإلطــاق‪ ،‬إنــه يبقــي علــى املعنــى الطيــب وحــده‬ ‫لهذه الفكرة‪ ،‬معنى التجمع و التآخي والتعاون‬ ‫والتعــارف والنظــام‪.‬‬ ‫فيجعــل الوطــن فكــرة فــي الشــعور‪ ،‬ال رقعــة فــي‬ ‫األرض‪ ،‬فــإذا النــاس كلهــم أب ــناء وطــن واحــد‪.‬‬

‫شبهةعصبـيةالديـن‬ ‫وهنــا نعــرض شــبهة‪ ،‬أليــس اإلســام يقيــم‬ ‫عصب ــية مــكان عصب ــية؟! أليــس يحطــم‬ ‫التعصــب العنصــري والتعصــب القومــي‬ ‫لي ــن�شئ فــي مكانهمــا تعصبــا ديـن ـ ًّـيا‪ ،‬فقــد يكــون‬ ‫أخطــر علــى اإلخــاء البشــري مــن عصب ــية‬ ‫الجنس وعصبـية الوطن؟ ألم تعانـي البشرية‬ ‫من ويالت التعصب الديـنـي ً‬ ‫قديما في الحروب‬ ‫ً‬ ‫الصليب ــية وحديثــا فــي الحــروب االســتعمارية؟‬ ‫والجــواب‪ :‬إن اإلســام رســالة عامليــة للبشــر‬ ‫ّ‬ ‫كافــة‪ ،‬فلــم يجـ ْـئ محمــد صلــى هللا عليــه وســلم‬ ‫رســوال لقريــش وال للعــرب‪ ،‬وال للجنــس‬ ‫‪74‬‬

‫َ َ َ ْ َ ْ َ َ َّ‬ ‫اك ِإل‬ ‫الســامي‪ ،‬قــال ســبحانه‪ (( :‬ومــا أرســلن‬ ‫ً ْ َ‬ ‫َر ْح َمة ِلل َع ِالي َـن)) [سورة األنبـياء‪ ،]107/‬وقال‬ ‫َ َ َ ْ َ ْ َ َ َّ َ َّ ً َّ‬ ‫اس َب ِشي ًـرا‬ ‫سبحانه‪(( :‬وما أرسلناك ِإل كافة ِللن ِ‬ ‫َ‬ ‫َون ِذي ـ ًـرا)) [ســورة ســبأ‪ ،]28/‬ولكــن فــي الوقــت‬ ‫ذاتــه ال يحــاول أن يقســر النــاس قسـ ًـرا علــى‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫((ل إ ْكـ َـر َاه فــي ّ‬ ‫الدي ـ ِـن))‬ ‫ِاتباعــه‪ ،‬قــال ســبحانه‪ِ ِ ِ :‬‬ ‫[ســورة البقــرة‪ ،]256/‬وكل مــا ي ـريده اإلســام‬ ‫أن تت ــرك لــه حريــة الدعــوة بـي ــن أهــل األرض‬ ‫ً‬ ‫جميعــا‪ ،‬وأن تكفــل ألتباعــه حريــة العقيــدة‪،‬‬ ‫فــا َ‬ ‫يفتنــوا عــن دي ــنهم بالقــوة‪.‬‬ ‫إن املهمــة الثان ــية الت ــي أنــاط هللا بهــا األمــة‬ ‫املســلمة ليــس مجــرد هدايــة النــاس إلــى الخي ــر‬ ‫الــذي جــاء بــه اإلســام وحمايــة العقيــدة‬ ‫اإلســامية وأصحابهــا‪ ،‬إنمــا هــي أكب ــر مــن ذلــك‬ ‫وأشــمل‪ ،‬إنهــا كذلــك حمايــة العبــادة واالعتقــاد‬ ‫للناس ً‬ ‫جميعا‪ ،‬واستبعاد عنصر القوة املادية‬ ‫مــن ميــدان االعتقــاد والعقيــدة‪ ،‬وحمايــة‬ ‫الضعفــاء مــن النــاس مــن عســف األقويــاء‪،‬‬ ‫هــذه هــي مهمــة األمــة املســلمة بقولــه ســبحانه‪:‬‬ ‫(( ُك ْن ُتـ ْـم َخ ْيـ َـر ُأ َّمــة ُأ ْخر َجـ ْـت ل َّلنــاس َت ْأ ُمـ ُـر َ‬ ‫ون‬ ‫ِ ِ‬ ‫ٍ ِ‬ ‫ْ َ ْ ُ َ َ ْ َ ْ َن َ ْ ُ ْ َ َ ُ ْ ُ نَ‬ ‫ـاهلل))‬ ‫ِبالعــر ِ‬ ‫وف وتنهــو عـ ِـن النكـ ِـر وتؤ ِمنــو ِبـ ِ‬ ‫[ســورة آل عم ـران‪ ،]110/‬وقولــه ســبحانه‪:‬‬ ‫َ​َ َ‬ ‫ْ ُ ُ ً ً ُ ُ ُ‬ ‫((وكذ ِل َك َج َعل َناك ْم أ َّمة َو َسطا ِل َتكونوا ش َه َد َاء‬ ‫َ َ َّ‬ ‫ـاس)) [ســورة البقــرة‪.]143/‬‬ ‫علــى النـ ِ‬ ‫تجمعــات إسـ ّ‬ ‫هنــاك ّ‬ ‫ـامية إذن‪ ،‬ولكنــه انتمــاء‬ ‫علــى هــذا املعنــى وفــي تلــك الحــدود‪ ،‬إن التجمــع‬ ‫واالنتمــاء اإلســامي ليــس عصب ــية الكراهــة‬ ‫لألجنــاس األخــرى ‪ -‬فاألمــة اإلســامية خليــط‬ ‫مــن جميــع األجنــاس ‪ -‬وليــس العــداوة ألتبــاع‬ ‫دي ــن معي ــن ملجــرد أنهــم ال يعتنقــون اإلســام‪،‬‬ ‫إن الشعور اإلسالمي مبـن ّـي في تعامله مع اآلخر‬ ‫على الرغبة في اجتذاب البشرية كلها إلى الخيـر‬ ‫املشت ــرك بــدون إك ـراه‪ ،‬والرغبــة فــي تحقيــق‬ ‫العدل الكامل لكل فرد وكل شعب وكل جنس‬

‫حتــى لــو بقــي هــؤالء جميعــا علــى دياناتهــم بعــد‬ ‫اســتماعهم لدعــوة اإلســام‪ ،‬فمجــرد كونهــم‬ ‫آدمييـن يوجب على األمة اإلسالمية أن تحميهم‬ ‫مــن الظلــم‪ ،‬وملثــل هــذه األهــداف وحدهــا خــرج‬ ‫الصحابة الكرام من جزيـرة العرب مجاهديـن‬ ‫وداعي ــن إلــى هللا‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫وليســت غايــة اإلســام إك ـراه أحــد علــى ِاتبــاع‬ ‫َ‬ ‫َ َ‬ ‫اإلســام ألن هللا يقــول‪َ (( :‬ولـ ْـو شـ َـاء َ ُّربـ َـك ل َمـ َـن‬ ‫َ ْ َْ‬ ‫يعــا َأ َف َأ ْنـ َـت ُت ْكــر ُه َّ‬ ‫ال ْرض ُك ُّل ُهـ ْـم َجم ً‬ ‫النـ َ‬ ‫ـاس‬ ‫ِ‬ ‫مــن ِفــي ِ‬ ‫ِ‬ ‫َ َّ َ ُ ُ ُ ْ‬ ‫َ‬ ‫حتــى يكونــوا مؤ ِم ِني ــن)) [ســورة يونــس‪.]99/‬‬ ‫أمــا القتــال فقــد شــرع لغــرض آخــر‪ ،‬شــرع‬ ‫ً‬ ‫للدفاع عن حرية املسلمي ــن‪ ،‬الذي ــن أوذوا فعل‬ ‫بســبب عقيدتهــم‪ ،‬وأخرجــوا مــن ديارهــم لغي ــر‬ ‫مــا ســبب إال أن يقولــوا رب ــنا هللا‪ ،‬قــال ســبحانه‪:‬‬ ‫َّ َ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫ُ ْ‬ ‫(( ال ِذي ـ َـن أخ ِر ُجــوا ِمـ ْـن ِد َي ِار ِهـ ْـم ِبغ ْيـ ِـر َحـ ٍ ّـق ِإل أ ْن‬ ‫ـاس َب ْع َ‬ ‫هللا َوَلـ ْ َـول َد ْفـ ُـع هللا َّ‬ ‫َي ُق ُولــوا َ ُّرب َنــا ُ‬ ‫النـ َ‬ ‫ض ُهـ ْـم‬ ‫ِ‬ ‫ص َل َو ٌ‬ ‫ص َوام ُع َوب َي ٌع َو َ‬ ‫ب َب ْعض َل ُه ّد َم ْت َ‬ ‫ات َو َم َس ِاج ُد‬ ‫ِ ٍ ِ‬ ‫ِ‬ ‫َ ِ‬ ‫َُْ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ً‬ ‫هللا ك ِثي ــرا)) [ســورة الحــج‪.]40/‬‬ ‫يذكـ ُـر ِف َيهــا اســم ِ‬ ‫ً‬ ‫إن القتــال ألجــل ضمــان حريــة العقيــدة عامــة‬ ‫للمسلمي ــن وغي ــرهم؛ دعــوة إلــى حريــة العبــادة‬ ‫للجميــع‪ ،‬واحت ـرام أماكــن العبــادة جميعــا‪،‬‬ ‫فاإلســام ال ي ـريد حريــة العبــادة ألتباعــه‬ ‫وحدهــم‪ ،‬وإنمــا يقــرر هــذا الحــق ألصحــاب‬ ‫الديانــات املخالفــة ً‬ ‫أيضــا‪ ،‬ويكلــف املسلمي ــن‬ ‫أن يدافعــوا عــن حــق الجميــع فــي هــذه الحريــة‪،‬‬ ‫وبذلك يحقق هدفه في كونه ً‬ ‫نظاما ًّ‬ ‫عامليا ًّ‬ ‫حرا‬ ‫يســتطيع الجميــع أن يعيشــوا فــي ظلــه آمنـي ــن‪.‬‬ ‫والغايــة مــن القتــال هــي دفــع العــدوان بــدون‬ ‫اعتــداء‪ ،‬والقاعــدة العامــة هــي‪ :‬أن ال حــرب إال‬ ‫مــع املحاربـي ــن ومــع الطغــاة الظاملي ــن‪.‬‬ ‫وهنــاك رايــة أخــرى يحــارب تحتهــا اإلســام وهــي‬ ‫حمايــة الضعفــاء مــن الظلــم‪ ،‬إذن هــي حــرب‬ ‫لدفع الظلم والطغيان ال لإلكراه على العقيدة‪.‬‬

‫العدد ‪ 2‬رجب ‪1439‬هـ‬

‫النظــام اإلســامي غي ــر قابــل للت ــرقيع‪ ،‬غي ــر‬ ‫قابــل ألن نستعي ــر لــه قطــع غيــار مــن أي نظــام‬ ‫وضعــي‪ ،‬ألن االعتقــاد والعبــادة‪ ،‬والســلوك‬ ‫واملعاملة كلها متـرابطة‪ ،‬وكلها متناسقة‪ ،‬وكلها‬ ‫نابعــة مــن عقيــدة واحــدة‪.‬‬ ‫ومــع هــذا فــإن اإلســام ال يحــرم االنتفــاع‬ ‫بالتجــارب البش ـرية فــي كل مــا ال يمــس أصــا‬ ‫مــن أصــول الش ـريعة‪ ،‬فــا حــرج مــن االنتفــاع‬ ‫بتجــارب البشــر‪.‬‬ ‫إن اإلســام مثــا يجعــل الشــورى أساســا مــن‬ ‫أسس الحكم في الدولة اإلسالمية‪ ،‬فأما كيف‬ ‫تتحقق الشورى على الوجه األمثل فهذا ما ال‬ ‫يـنص عليه‪.‬‬ ‫ولقــد وقعــت فــي املجتمــع اإلســامي علــى عهــد‬ ‫رســول هللا صلــى هللا عليــه وســلم وبعــده ألــوان‬ ‫مــن الشــورى‪ ،‬ولكــن هــذا الــذي وقــع ال يحــدد‬ ‫جميــع وســائل الشــورى بــل إن ذلــك مت ــروك ملــا‬ ‫يجد من تطورات في جســم املجتمع اإلســامي‬ ‫وهنــاك قضايــا كثي ــرة ممــا لــم ي ــرد فيــه نــص‬ ‫يحــدد طريقــة التنفيــذ ووســيلة التطب ــيق ممــا‬ ‫يحقــق املرونــة الكاملــة للنظــام اإلســامي‪.‬‬ ‫أمــا فــي النظــام الثيوقراطــي فيســتلهم الحاكــم‬ ‫ســلطته إمــا مــن رجــال الدي ــن وإمــا مــن الحــق‬ ‫اإللهــي بوصفــه ظــل هللا فــي األرض‪.‬‬ ‫فمعنــى الربان ــية فــي اإلســام متعلــق بالنظــام‬ ‫ذاته‪ ،‬ال بالحاكم وسلطة الحكم‪ ،‬فالحاكم في‬ ‫النظــام اإلســامي ال يتلقــى ســلطته مــن رجــال‬ ‫الدي ــن‪ ،‬ألنــه ال يوجــد فــي اإلســام رجــال دي ــن‬ ‫وإنمــا يوجــد علمــاء متخصصــون ال يدعــون‬ ‫بحــق إلهــي لهــم‪ ،‬إنمــا يســتمدون حقوقهــم مــن‬ ‫تولــي الحكــم مــن الب ــيعة الحــرة‪.‬‬ ‫وفرق كبـيـر بـيـن هذه القاعدة وقاعدة النظام‬ ‫الثيوقراطــي كمــا عرفتــه أوروبــا‪ ،‬إن الربان ــية‬ ‫‪75‬‬


‫اإلسالم من َّ‬ ‫ُ‬ ‫الظاهرة القوم ّية‬ ‫موقف‬ ‫ِ‬ ‫واألســاب و األســواق‪ ،‬ولــم ت ــرتفع قــط إلــى‬ ‫أفــق الفكــر والعقيــدة والخي ــر والعــدل‬ ‫والصــاح‪ ،‬تلــك القيــم اإلنسان ــية الت ــي‬ ‫يســتهدفها الجهــاد فــي اإلســام‪.‬‬ ‫فاألمــم اليــوم ال تتعامــل إال بقانــون الســيف‬ ‫وحــده‪ ،‬أو قانــون الغــاب‪ ،‬فمــن كان يملــك‬ ‫القــوة كل �شــيء لــه حــال‪ ،‬واملظلــوم ال حقــوق‬ ‫لــه علــى اإلطــاق كمــا هــو الحــال فــي ســورية‪.‬‬ ‫إن الــركام الــذي يـري ــن علــى الفطــرة أثقــل‬ ‫وأظلــم مــن ركام الجاهليــات القديمــة‪ ،‬وإن‬ ‫البش ـرية اليــوم نت ــيجة هــذا الــركام تعان ــي مــن‬ ‫التميع واالســتهتار واالســتخفاف بكل عقيدة‪،‬‬ ‫وكل رأي وكل مذهــب‪ ،‬كمــا تعان ــي مــن نفــاق‬ ‫القلــب‪ ،‬وخبــث االحت ــيال‪ ،‬وكلهــا عقبــات فــي‬ ‫طريق الفطرة والدعوة إلى هللا‪ ،‬ومعوقات عن‬ ‫االســتقامة علــى منهــج هللا‪.‬‬ ‫ولــدى معاي ــنة أســاس هــذه الفو�ضــى الت ــي‬ ‫تعيشــها اإلنسان ــية نجــد القوميــة املتطرفــة‬ ‫القائمــة علــى أســس عرقيــة أو إقليميــة أو حتــى‬ ‫ديـنـية بمفهومهااملتطرف الذي حذرمنهالديـن‬ ‫سـ ًـببا أساسـ ًّـيا فــي الظلــم الــذي تمارســه األمــم‬ ‫القوية على األمم الضعيفة‪ ،‬باعتقاد أن تفوق‬ ‫النوع والعنصر يعطيهم الحق في االعتداء على‬ ‫األضعــف واالست ــيالء علــى مــا فــي يــده‪.‬‬

‫النظام الرأسمالي والقومية‬ ‫إن انقســام املجتمــع إلــى دول قوميــة كان مــن‬ ‫املظاهــر الالزمــة لنشــأة النظــام الرأســمالي‪،‬‬ ‫وهــذه القوميــة الحــادة هــي الت ــي حملــت معهــا‬ ‫نظــام االســتعمار لالست ــيالء علــى الخامــات و‬ ‫احتــكار األســواق‪ ،‬باعتبــار االســتعمار أعلــى‬ ‫مراحــل الرأســمالية كمــا يقــول ليـنـي ــن‪ ...‬بـي ــنما‬ ‫اإلســام ي ــنكر التعصــب القومــي‪ ،‬ويتجــه‬ ‫اتجاهــا عامليــا‪ ،‬ويجعــل حــدوده فــي حــدود‬ ‫(‪ )3‬األدب املفرد ‪87‬‬

‫الفكــرة ال تخــوم األرض‪ ،‬ومــن ثــم يســتبعد‬ ‫فكــرة االســتعمار الحتــكار األســواق‪ ،‬وبذلــك‬ ‫يتجــه اتجاهــا مضــادا للتفكي ــر الرأســمالي‪.‬‬ ‫وهــذا وحــده كاف فــي الداللــة علــى أن النظــام‬ ‫االجتماعــي فــي اإلســام ليــس واحــدا مــن النظــام‬ ‫الرأســمالي أو الشــيوعي أو االشت ـراكي‪ ،‬ألن‬ ‫أســبقية النظــام اإلســامي تمنــع إعطــاءه وصفــا‬ ‫الحقــا‪ ،‬هــذا مــن ناحيــة الشــكل أمــا مــن ناحيــة‬ ‫املوضوع فاإلسالم نظام متكامل تـركز تعاليمه‬ ‫ّ‬ ‫علــى أصــول ثابتــة ومعتمــدة علــى فكــرة كليــة‬ ‫متناسقة األجزاء ّمتصلة بعقيدة اإليمان باهلل‪.‬‬ ‫املجتمــع اإلســامي هــو مجتمــع عالمــي‪ ،‬بمعنــى‬ ‫أنــه مجتمــع غي ــر عنصــري وال قومــي وال قائــم‬ ‫علــى الحــدود الجغرافيــة‪ ،‬فهــو مجتمــع مفتــوح‬ ‫لجميع بـنـي اإلنسان‪ ،‬دون النظر إلى جنس‪ ،‬أو‬ ‫لون‪ ،‬أو لغة‪ ،‬بل دون النظر إلى ديـن أو عقيدة‪.‬‬ ‫إن اإلســام ي ــنفي منــذ اللحظــة األولــى كل ثغــرة‬ ‫قوميــة عنصريــة عصب ــية‪ ،‬وي ــرد البشـرية كلهــا‬ ‫إلــى أصــل واحــد‪ ،‬ويبـي ــن أن اختــاف األلــوان‬ ‫واألع ـراق واللغــات ال يــدل علــى ميــزة وال‬ ‫أفضليــة‪ ،‬ولــم ي ــرد بــه إال التعــارف ال التناكــر‪،‬‬ ‫وأن هنــاك ميز ًانــا واحـ ًـدا لتقدي ـراألفضلية هــو‬ ‫تقــوى هللا وطاعتــه‪.‬‬ ‫وليــس أكــره للحــس اإلســامي مــن ذلــك‬ ‫التعصب الذي تثبـره نعرة الجنس على طريقة‬ ‫النــازي‪ ،‬أو طريقــة اليهــود‪ ،‬أو نعــرة اللــون علــى‬ ‫طريقــة األمريــكان مــع الهنــود الحمــر والزنــوج‪،‬‬ ‫أو طريقة أفريقيا الجنوبـية مع امللونـيـن عامة‪.‬‬ ‫وبديهــي أن الواقــع األول للصـراع االســتعماري‬ ‫فــي العصــر الحديــث كان هــو شــعور القوميــة‬ ‫الحــاد‪ ،‬وبديهــي أن الحــروب الحديثــة كلهــا قــد‬ ‫قامــت علــى هــذا األســاس‪ ،‬وأن الشــر الــذي‬ ‫أصاب البشرية في الحربـيـن املاضيتـيـن‪ ،‬والذي‬ ‫يوشــك أن يدمرهــا فــي الحــرب املقبلــة‪ ،‬كلــه قــد‬

‫اإلسالم من َّ‬ ‫ُ‬ ‫الظاهرة القوم ّية‬ ‫موقف‬ ‫ِ‬

‫العدد ‪ 2‬رجب ‪1439‬هـ‬

‫نشــأ مــن ذلــك الشــعور القومــي الحــاد‪ ،‬ومــن‬ ‫ضعــف الــروح العامليــة‪ ،‬والــروح اإلنسان ــية‪.‬‬ ‫الجنــس البشــري كلــه مســتخلف فــي هــذه‬ ‫األرض لعمارتهــا وإنمائهــا واســتغالل كنوزهــا‪،‬‬ ‫والناس كلهم أخوة‪ ،‬ال يـنالون رحمة هللا ما لم‬ ‫يتـراحموابـيـنهم‪،‬ويتعاونواعلىالعملالصالح‪.‬‬ ‫والرســول صلــى هللا عليــه وســلم يقــول‪:‬‬ ‫((ارحموا أهل األرض يـرحمكم من في السماء))‬ ‫(‪ )3‬بــدون تخصيــص لجنــس وال عنصــر‪ ،‬بــل‬ ‫بــدون تخصيــص ألتباعــه املسلمي ــن‪.‬‬ ‫ومــن ثــم فاالســتعمار والحــرب االســتعمارية ال‬ ‫مجال لهما في التفكيـر اإلسالمي ألن البشر في‬ ‫عــرف اإلســام أمــة واحــدة‪.‬‬ ‫وحيث يزيل اإلسالم تلك الحواجز الجغرافية‬ ‫أو العنصريــة الت ــي تقــوم عليهــا فكــرة الوطــن‬ ‫القومــي‪ ،‬فإنــه ال يلغــي فكــرة الوطــن علــى‬ ‫اإلطــاق‪ ،‬إنــه يبقــي علــى املعنــى الطيــب وحــده‬ ‫لهذه الفكرة‪ ،‬معنى التجمع و التآخي والتعاون‬ ‫والتعــارف والنظــام‪.‬‬ ‫فيجعــل الوطــن فكــرة فــي الشــعور‪ ،‬ال رقعــة فــي‬ ‫األرض‪ ،‬فــإذا النــاس كلهــم أب ــناء وطــن واحــد‪.‬‬

‫شبهةعصبـيةالديـن‬ ‫وهنــا نعــرض شــبهة‪ ،‬أليــس اإلســام يقيــم‬ ‫عصب ــية مــكان عصب ــية؟! أليــس يحطــم‬ ‫التعصــب العنصــري والتعصــب القومــي‬ ‫لي ــن�شئ فــي مكانهمــا تعصبــا ديـن ـ ًّـيا‪ ،‬فقــد يكــون‬ ‫أخطــر علــى اإلخــاء البشــري مــن عصب ــية‬ ‫الجنس وعصبـية الوطن؟ ألم تعانـي البشرية‬ ‫من ويالت التعصب الديـنـي ً‬ ‫قديما في الحروب‬ ‫ً‬ ‫الصليب ــية وحديثــا فــي الحــروب االســتعمارية؟‬ ‫والجــواب‪ :‬إن اإلســام رســالة عامليــة للبشــر‬ ‫ّ‬ ‫كافــة‪ ،‬فلــم يجـ ْـئ محمــد صلــى هللا عليــه وســلم‬ ‫رســوال لقريــش وال للعــرب‪ ،‬وال للجنــس‬ ‫‪74‬‬

‫َ َ َ ْ َ ْ َ َ َّ‬ ‫اك ِإل‬ ‫الســامي‪ ،‬قــال ســبحانه‪ (( :‬ومــا أرســلن‬ ‫ً ْ َ‬ ‫َر ْح َمة ِلل َع ِالي َـن)) [سورة األنبـياء‪ ،]107/‬وقال‬ ‫َ َ َ ْ َ ْ َ َ َّ َ َّ ً َّ‬ ‫اس َب ِشي ًـرا‬ ‫سبحانه‪(( :‬وما أرسلناك ِإل كافة ِللن ِ‬ ‫َ‬ ‫َون ِذي ـ ًـرا)) [ســورة ســبأ‪ ،]28/‬ولكــن فــي الوقــت‬ ‫ذاتــه ال يحــاول أن يقســر النــاس قسـ ًـرا علــى‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫((ل إ ْكـ َـر َاه فــي ّ‬ ‫الدي ـ ِـن))‬ ‫ِاتباعــه‪ ،‬قــال ســبحانه‪ِ ِ ِ :‬‬ ‫[ســورة البقــرة‪ ،]256/‬وكل مــا ي ـريده اإلســام‬ ‫أن تت ــرك لــه حريــة الدعــوة بـي ــن أهــل األرض‬ ‫ً‬ ‫جميعــا‪ ،‬وأن تكفــل ألتباعــه حريــة العقيــدة‪،‬‬ ‫فــا َ‬ ‫يفتنــوا عــن دي ــنهم بالقــوة‪.‬‬ ‫إن املهمــة الثان ــية الت ــي أنــاط هللا بهــا األمــة‬ ‫املســلمة ليــس مجــرد هدايــة النــاس إلــى الخي ــر‬ ‫الــذي جــاء بــه اإلســام وحمايــة العقيــدة‬ ‫اإلســامية وأصحابهــا‪ ،‬إنمــا هــي أكب ــر مــن ذلــك‬ ‫وأشــمل‪ ،‬إنهــا كذلــك حمايــة العبــادة واالعتقــاد‬ ‫للناس ً‬ ‫جميعا‪ ،‬واستبعاد عنصر القوة املادية‬ ‫مــن ميــدان االعتقــاد والعقيــدة‪ ،‬وحمايــة‬ ‫الضعفــاء مــن النــاس مــن عســف األقويــاء‪،‬‬ ‫هــذه هــي مهمــة األمــة املســلمة بقولــه ســبحانه‪:‬‬ ‫(( ُك ْن ُتـ ْـم َخ ْيـ َـر ُأ َّمــة ُأ ْخر َجـ ْـت ل َّلنــاس َت ْأ ُمـ ُـر َ‬ ‫ون‬ ‫ِ ِ‬ ‫ٍ ِ‬ ‫ْ َ ْ ُ َ َ ْ َ ْ َن َ ْ ُ ْ َ َ ُ ْ ُ نَ‬ ‫ـاهلل))‬ ‫ِبالعــر ِ‬ ‫وف وتنهــو عـ ِـن النكـ ِـر وتؤ ِمنــو ِبـ ِ‬ ‫[ســورة آل عم ـران‪ ،]110/‬وقولــه ســبحانه‪:‬‬ ‫َ​َ َ‬ ‫ْ ُ ُ ً ً ُ ُ ُ‬ ‫((وكذ ِل َك َج َعل َناك ْم أ َّمة َو َسطا ِل َتكونوا ش َه َد َاء‬ ‫َ َ َّ‬ ‫ـاس)) [ســورة البقــرة‪.]143/‬‬ ‫علــى النـ ِ‬ ‫تجمعــات إسـ ّ‬ ‫هنــاك ّ‬ ‫ـامية إذن‪ ،‬ولكنــه انتمــاء‬ ‫علــى هــذا املعنــى وفــي تلــك الحــدود‪ ،‬إن التجمــع‬ ‫واالنتمــاء اإلســامي ليــس عصب ــية الكراهــة‬ ‫لألجنــاس األخــرى ‪ -‬فاألمــة اإلســامية خليــط‬ ‫مــن جميــع األجنــاس ‪ -‬وليــس العــداوة ألتبــاع‬ ‫دي ــن معي ــن ملجــرد أنهــم ال يعتنقــون اإلســام‪،‬‬ ‫إن الشعور اإلسالمي مبـن ّـي في تعامله مع اآلخر‬ ‫على الرغبة في اجتذاب البشرية كلها إلى الخيـر‬ ‫املشت ــرك بــدون إك ـراه‪ ،‬والرغبــة فــي تحقيــق‬ ‫العدل الكامل لكل فرد وكل شعب وكل جنس‬

‫حتــى لــو بقــي هــؤالء جميعــا علــى دياناتهــم بعــد‬ ‫اســتماعهم لدعــوة اإلســام‪ ،‬فمجــرد كونهــم‬ ‫آدمييـن يوجب على األمة اإلسالمية أن تحميهم‬ ‫مــن الظلــم‪ ،‬وملثــل هــذه األهــداف وحدهــا خــرج‬ ‫الصحابة الكرام من جزيـرة العرب مجاهديـن‬ ‫وداعي ــن إلــى هللا‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫وليســت غايــة اإلســام إك ـراه أحــد علــى ِاتبــاع‬ ‫َ‬ ‫َ َ‬ ‫اإلســام ألن هللا يقــول‪َ (( :‬ولـ ْـو شـ َـاء َ ُّربـ َـك ل َمـ َـن‬ ‫َ ْ َْ‬ ‫يعــا َأ َف َأ ْنـ َـت ُت ْكــر ُه َّ‬ ‫ال ْرض ُك ُّل ُهـ ْـم َجم ً‬ ‫النـ َ‬ ‫ـاس‬ ‫ِ‬ ‫مــن ِفــي ِ‬ ‫ِ‬ ‫َ َّ َ ُ ُ ُ ْ‬ ‫َ‬ ‫حتــى يكونــوا مؤ ِم ِني ــن)) [ســورة يونــس‪.]99/‬‬ ‫أمــا القتــال فقــد شــرع لغــرض آخــر‪ ،‬شــرع‬ ‫ً‬ ‫للدفاع عن حرية املسلمي ــن‪ ،‬الذي ــن أوذوا فعل‬ ‫بســبب عقيدتهــم‪ ،‬وأخرجــوا مــن ديارهــم لغي ــر‬ ‫مــا ســبب إال أن يقولــوا رب ــنا هللا‪ ،‬قــال ســبحانه‪:‬‬ ‫َّ َ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫ُ ْ‬ ‫(( ال ِذي ـ َـن أخ ِر ُجــوا ِمـ ْـن ِد َي ِار ِهـ ْـم ِبغ ْيـ ِـر َحـ ٍ ّـق ِإل أ ْن‬ ‫ـاس َب ْع َ‬ ‫هللا َوَلـ ْ َـول َد ْفـ ُـع هللا َّ‬ ‫َي ُق ُولــوا َ ُّرب َنــا ُ‬ ‫النـ َ‬ ‫ض ُهـ ْـم‬ ‫ِ‬ ‫ص َل َو ٌ‬ ‫ص َوام ُع َوب َي ٌع َو َ‬ ‫ب َب ْعض َل ُه ّد َم ْت َ‬ ‫ات َو َم َس ِاج ُد‬ ‫ِ ٍ ِ‬ ‫ِ‬ ‫َ ِ‬ ‫َُْ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ً‬ ‫هللا ك ِثي ــرا)) [ســورة الحــج‪.]40/‬‬ ‫يذكـ ُـر ِف َيهــا اســم ِ‬ ‫ً‬ ‫إن القتــال ألجــل ضمــان حريــة العقيــدة عامــة‬ ‫للمسلمي ــن وغي ــرهم؛ دعــوة إلــى حريــة العبــادة‬ ‫للجميــع‪ ،‬واحت ـرام أماكــن العبــادة جميعــا‪،‬‬ ‫فاإلســام ال ي ـريد حريــة العبــادة ألتباعــه‬ ‫وحدهــم‪ ،‬وإنمــا يقــرر هــذا الحــق ألصحــاب‬ ‫الديانــات املخالفــة ً‬ ‫أيضــا‪ ،‬ويكلــف املسلمي ــن‬ ‫أن يدافعــوا عــن حــق الجميــع فــي هــذه الحريــة‪،‬‬ ‫وبذلك يحقق هدفه في كونه ً‬ ‫نظاما ًّ‬ ‫عامليا ًّ‬ ‫حرا‬ ‫يســتطيع الجميــع أن يعيشــوا فــي ظلــه آمنـي ــن‪.‬‬ ‫والغايــة مــن القتــال هــي دفــع العــدوان بــدون‬ ‫اعتــداء‪ ،‬والقاعــدة العامــة هــي‪ :‬أن ال حــرب إال‬ ‫مــع املحاربـي ــن ومــع الطغــاة الظاملي ــن‪.‬‬ ‫وهنــاك رايــة أخــرى يحــارب تحتهــا اإلســام وهــي‬ ‫حمايــة الضعفــاء مــن الظلــم‪ ،‬إذن هــي حــرب‬ ‫لدفع الظلم والطغيان ال لإلكراه على العقيدة‪.‬‬

‫العدد ‪ 2‬رجب ‪1439‬هـ‬

‫النظــام اإلســامي غي ــر قابــل للت ــرقيع‪ ،‬غي ــر‬ ‫قابــل ألن نستعي ــر لــه قطــع غيــار مــن أي نظــام‬ ‫وضعــي‪ ،‬ألن االعتقــاد والعبــادة‪ ،‬والســلوك‬ ‫واملعاملة كلها متـرابطة‪ ،‬وكلها متناسقة‪ ،‬وكلها‬ ‫نابعــة مــن عقيــدة واحــدة‪.‬‬ ‫ومــع هــذا فــإن اإلســام ال يحــرم االنتفــاع‬ ‫بالتجــارب البش ـرية فــي كل مــا ال يمــس أصــا‬ ‫مــن أصــول الش ـريعة‪ ،‬فــا حــرج مــن االنتفــاع‬ ‫بتجــارب البشــر‪.‬‬ ‫إن اإلســام مثــا يجعــل الشــورى أساســا مــن‬ ‫أسس الحكم في الدولة اإلسالمية‪ ،‬فأما كيف‬ ‫تتحقق الشورى على الوجه األمثل فهذا ما ال‬ ‫يـنص عليه‪.‬‬ ‫ولقــد وقعــت فــي املجتمــع اإلســامي علــى عهــد‬ ‫رســول هللا صلــى هللا عليــه وســلم وبعــده ألــوان‬ ‫مــن الشــورى‪ ،‬ولكــن هــذا الــذي وقــع ال يحــدد‬ ‫جميــع وســائل الشــورى بــل إن ذلــك مت ــروك ملــا‬ ‫يجد من تطورات في جســم املجتمع اإلســامي‬ ‫وهنــاك قضايــا كثي ــرة ممــا لــم ي ــرد فيــه نــص‬ ‫يحــدد طريقــة التنفيــذ ووســيلة التطب ــيق ممــا‬ ‫يحقــق املرونــة الكاملــة للنظــام اإلســامي‪.‬‬ ‫أمــا فــي النظــام الثيوقراطــي فيســتلهم الحاكــم‬ ‫ســلطته إمــا مــن رجــال الدي ــن وإمــا مــن الحــق‬ ‫اإللهــي بوصفــه ظــل هللا فــي األرض‪.‬‬ ‫فمعنــى الربان ــية فــي اإلســام متعلــق بالنظــام‬ ‫ذاته‪ ،‬ال بالحاكم وسلطة الحكم‪ ،‬فالحاكم في‬ ‫النظــام اإلســامي ال يتلقــى ســلطته مــن رجــال‬ ‫الدي ــن‪ ،‬ألنــه ال يوجــد فــي اإلســام رجــال دي ــن‬ ‫وإنمــا يوجــد علمــاء متخصصــون ال يدعــون‬ ‫بحــق إلهــي لهــم‪ ،‬إنمــا يســتمدون حقوقهــم مــن‬ ‫تولــي الحكــم مــن الب ــيعة الحــرة‪.‬‬ ‫وفرق كبـيـر بـيـن هذه القاعدة وقاعدة النظام‬ ‫الثيوقراطــي كمــا عرفتــه أوروبــا‪ ،‬إن الربان ــية‬ ‫‪75‬‬


‫اإلسالم من َّ‬ ‫ُ‬ ‫الظاهرة القوم ّية‬ ‫موقف‬ ‫ِ‬ ‫فــي النظــام اإلســامي ربان ــية شـريعة ونظــام‪ ،‬ال‬ ‫ربان ــية أمـراء وحــكام‪.‬‬

‫القومية ووحدة األمة‬ ‫ال بــد مــن توحيــد كل قوميــة فــي إطارهــا الطب ــيعي‪،‬‬ ‫ثــم التطلــع إلــى تكوي ــن رابطــة إســامية أعــم مــن‬ ‫القومياتالشقيقةفيإطارداراإلسالم(الواليات‬ ‫اإلســامية املتحــدة) الت ــي هــي أرحــب مــن أي نظــام‬ ‫سيا�سي‪،‬هذاهوالحلاألمثلللشعوباإلسالمية‬ ‫وملســتقبلها للخــروج مــن صـراع القوميــات‪.‬‬ ‫مــا الــذي يمنــع أصحــاب كل فطــرة اجتماعيــة‬ ‫عامــة مــن املسلمي ــن أن ي ــنظموا شــؤونهم‬ ‫املشت ــركة علــى أســاس اإلســام‪ ،‬ثــم يلتقــوا‬ ‫مــع إخوانهــم فــي الدي ــن مــن أب ــناء القوميــات‬ ‫األخــرى‪ ،‬فــي إطــار الرابطــة اإلســامية‬ ‫ّ‬ ‫يوفــق‬ ‫الشــاملة أليــس فــي هــذه الرؤيــا مــا ِ‬ ‫بـي ــن القوميــة والدي ــن‪ ،‬ويــؤدي إلــى تجنــب‬ ‫الصراعــات القوميــة واللغويــة املتداخلــة‬ ‫الت ــي أدت إلــى تفكيــك األمــة اإلســامية‪.‬‬ ‫إن الوجــود القومــي ألي شــعب مــن الشــعوب‬ ‫مــن حيــث هــو وجــود اجتماعــي تاريخــي �شــيء‪،‬‬ ‫وتحويــل القوميــة إلــى عقيــدة وأيديولوجيــة‬ ‫وشعوب ــية �شــيء آخــر‪ ،‬والخطــر كل الخطــر فــي‬ ‫تجزئــة مصلحــة األمــة ممــا ســيؤدي حتمــا إلــى‬ ‫تجزئــة فــي اإلرادة‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫يخلــص القضيــة‬ ‫إن اعتمــاد وحــدة األمــة ِ‬ ‫القوميــة مــن الحــرص الزائــف‪ ،‬ويمنــع وجــود‬ ‫عصب ــية تؤث ــر علــى وحــدة األمــة‪ ،‬وهــذا يلغــي‬ ‫مفهــوم األقليــة باملعنــى الســائد حاليــا‪ ،‬فوحــدة‬ ‫األمــة قائمــة علــى شــعوب مــع اإلقـرار بتداخــل‬ ‫هــذه الشــعوب بعضهــا ببعــض‪ ،‬فنحــن ال‬ ‫نتعامل مع أقلية محددة بل مجموعة عناصر‬ ‫بش ـرية تشــكل األمــة بكاملهــا‪.‬‬ ‫فــكل قوميــة بتاريخهــا وثقافتهــا ومجموعهــا‬ ‫َّ‬ ‫النســق الحضــاري‬ ‫بشــكل عــام‪ ،‬تعتب ــر ضمــن‬

‫َُ ّ‬ ‫الواحــد املشـ ِـكل لألمــة‪ ،‬واملؤث ــر بهــا وبخــط‬ ‫ّ‬ ‫ارتقائها‪،‬وبهذاتسقطدعاوى‬ ‫القومييـنالذيـن‬ ‫يعتب ــرون أب ــناء القوميــات األخــرى دخــاء‪ ،‬ألن‬ ‫قاعــدة وحــدة األمــة تضــع الجميــع علــى قاعــدة‬ ‫املســاواة مــع بعضهــم البعــض‪ ،‬ومــع األســف‬ ‫ٌ‬ ‫فإن هذه القاعدة اإلســامية اإليجاب ــية غائبة‬ ‫اليــوم فــي ظــل النهــج السيا�ســي املفــروض عليهــا‪.‬‬ ‫إنــك عندمــا تجــرد قوميــة مــن حقوقهــا لتصبــح‬ ‫حقــوق أقليــات‪ ،‬فــإن األمــر يصبــح خــارج إطــار‬ ‫القواعــد األساســية الت ــي تقــوم عليهــا وحــدة‬ ‫األمــة ألن إنــكار الحقــوق للبعــض ســيؤدي إلــى‬ ‫تجزئــة الوطــن واألمــة شــئنا أم أبـي ــنا‪.‬‬ ‫فإذا أردنا وحدة الت ـراب ووحدة األمة فلنطرح‬ ‫تصورنا وفق القاعدة السابقة‪ ،‬الحقوق قبل‬ ‫كل �شيء‪ ،‬ووحدة اإلنسان قبل وحدة التـراب‪،‬‬ ‫ألن اإلنســان عندمــا يحصــل علــى حقوقــه‪،‬‬ ‫هــو الــذي ســيحمي وحــدة األرض وســيادة‬ ‫االســتقالل‪ ،‬أمــا وحــدة األرض املزعومــة اليــوم‬ ‫فهــي ال توحــد األمــة‪ ،‬وال تحافــظ علــى ســيادة‬ ‫االســتقالل‪ ،‬والواقــع خي ــر دليــل علــى ذلــك‪.‬‬ ‫عندمــا ي ــنطلق الطــرح مــن قاعــدة الحقــوق‬ ‫والواجبات سي ــر�ضى جميع األطراف وســتتوحد‬ ‫املشاعر‪ ،‬وتتقارب النفوس مع العدل واملساواة‪.‬‬

‫املسألة القومية وأوهام‬

‫االستـيعاب السيا�سي‬ ‫السياســة وســيلة ال غايــة‪ ،‬وإنهــا بالدرجــة‬ ‫األولــى علــم تمتــاز بــه املجتمعــات الراقيــة‪ ،‬فهــي‬ ‫تتطور بقدر ارتقاء األمة ومؤسساتها‪ ،‬فالعمل‬ ‫السيا�ســي املبـن ــي علــى وفــق مصلحــة األمــة‬ ‫ومنهجها هو وحده القادر على قيادة املســائل‬ ‫نحو الحل النهائي‪ ،‬والسياسة الراقية هي التـي‬ ‫ال تجعل الحاكم يمنح هوية املجتمع وانتماءه‬ ‫بــل املجتمــع يمنــح هويــة الحاكــم‪.‬‬

‫اإلسالم من َّ‬ ‫ُ‬ ‫الظاهرة القوم ّية‬ ‫موقف‬ ‫ِ‬

‫العدد ‪ 2‬رجب ‪1439‬هـ‬

‫وإذا نظرنا لواقعنا وفق هذه القاعدة نجد أن‬ ‫أمتنا واجهت كافة تعقيدات القرن العشريـن‬ ‫بعــد ســقوط الخالفــة اإلســامية‪ ،‬حيــث ظهــر‬ ‫التعــارض بـي ــن وحــدة األمــة ومصالحهــا وبـي ــن‬ ‫الــدول القوميــة‪ ،‬وبهــذا الوضــع وصلنــا إلــى ذروة‬ ‫التــأزم دون وضــع حــدود واضحــة ألســباب‬ ‫املشــاكل الداخليــة والخارجيــة‪.‬‬ ‫إن مخططــات تقســيم األمــة مــن قبــل األعــداء‬ ‫فــي القــرن العشري ــن كانــت بدايــة أزمــة املنطقــة‬ ‫كلهــا‪ ،‬وهــي النقطــة الفاصلــة لظهــور الدولــة‬ ‫القوميــة‪ ،‬وتجزئــة املصلحــة الواحــدة‪ ،‬واإلرادة‬ ‫الواحــدة‪ ،‬وبمــا أن هــذه املخططــات لــم تكــن‬ ‫تملــك األســاس الحقوقــي لوضــع الحــدود‪ ،‬لــذا‬ ‫فإنهــا جــاءت تفتــت حتــى األشــكال القبائليــة‬ ‫املوجــودة فــي املنطقــة‪ ،‬ألنهــا لــم ت ـراع الواقــع‬ ‫االجتماعــي‪ ،‬وإنمــا تجســد مصالــح األمــم‬ ‫الواضعــة لهــا‪ ،‬فليــس الت ــرك وحدهــم تمزقــوا‬ ‫بهــذا التآمــر ‪ -‬وإن كانــوا أكث ــر مــن تضــرر ‪ -‬وإنمــا‬ ‫الكــرد أيضــا تــم تقســيمهم بـي ــن عــدة دول‬ ‫قوميــة‪ ،‬وأمــا العــرب فقــد تــم تقســيمهم إلــى‬ ‫اثنـتي ــن وعشري ــن دولــة‪.‬‬ ‫وأدى هــذا التقســيم الجائــر إلــى خلــق توت ـرات‬ ‫دائمــة فــي كل منطقــة‪ ،‬وهكــذا قامــت الدولــة‬ ‫القوميــة وفــق نســق ســلطة خارجيــة‪.‬‬ ‫إنشرعيةالدولةالقوميةتنبعمناملخططات‬ ‫الدوليــة‪ ،‬لــذا فإنهــا تفــرض قسـ ًـرا علــى الواقــع‪،‬‬ ‫وهــي بالتالــي تفــرز فئــة حاكمــة تعطــل التفاعــل‬ ‫االجتماعي والحضاري بـيـن أبـناء األمة الواحدة‪،‬‬ ‫ألن هــذه الــدول غي ــر قائمــة علــى أســاس حقوقــي‬ ‫واضــح‪ ،‬فهــي ال تعب ــر عــن املجتمــع ووحدتــه‪،‬‬ ‫لذلــك تكــون ت ـربة خصبــة لظهــور مختلــف‬ ‫النزاعــات العرقيــة والفئويــة‪ ،‬فاألحـزاب أحـزاب‬ ‫فئــات‪ ،‬واملؤسســات مقصــورة علــى جــزء فاســد‬ ‫من أبـناء األمة املنتفعيـن املنافقيـن‪ ،‬وال تحقق‬ ‫‪76‬‬

‫مصالــح الجميــع‪.‬‬ ‫فالواقع القبلي أو الطائفي أو العرقي أو الحزبـي‬ ‫يتجســد مباشــرة داخــل هيكليــة الدولــة‪ ،‬فهــل‬ ‫يمكــن است ــيعاب اآلخــر وفــق هــذه السياســة؟‬ ‫وهــل يمكــن حــل القضايــا مــن خــال الدفــاع‬ ‫عــن الوضــع القائــم جغرافيــا واقتصاديــا؟ أم‬ ‫ال بــد أن نطــرح كل قضايانــا ومشــاكلنا بج ـرأة‬ ‫وواقعية وشفافية على بساط البحث‪ ،‬لنضع‬ ‫النقــاط علــى الحــروف مــن خــال الحــوار وفــق‬ ‫القاعــدة الحقوقيــة ووحــدة األمــة‪ ،‬بعيــدا عــن‬ ‫الثقافــات املغلوطــة واملشــاعر البــاردة‪.‬‬ ‫نستطيع اليوم قراءة مشاكلنا املتـراكمة بـرؤية‬ ‫علميــة األمــر الــذي لــم يكــن ممكنــا فــي القــرن‬ ‫َ ُ‬ ‫وعينا مع موجات‬ ‫العشريـن عندما بدأ تشويه ِ‬ ‫التنكيل والتزويـر‪.‬‬ ‫إن إج ـراءات الــدول القوميــة وريثــة املنهــج‬ ‫الغربـي زادت من قوة االنتماء املشتت والرؤية‬ ‫املج ـزأة وأدت إلــى تخلــف حضــاري واســتعمار‬ ‫عســكري واقتصــادي وثقافــي ألن اتفاقــات‬ ‫املستعمري ــن ومعاهداتهــم فــي املنطقــة كانــت‬ ‫بدايــة تفريــق جغرافــي وثقافــي واضــح‪ ،‬ســاعدت‬ ‫علــى حــرق كافــة اإلمكانــات لوحــدة األمــة‪،‬‬ ‫ولذلــك أصبــح تدوي ــن التاريــخ إرثــا دمويــا عب ــر‬ ‫املذابــح واالقتتــال الــذي دار بـي ــن الحكومــات‬ ‫املســتبدة مــن جانــب‪ ،‬وبـي ــن هــذه الحكومــات‬ ‫وشــعوبها مــن جهــة أخــرى‪.‬‬ ‫ولتصحيــح املســار ال بــد مــن جعــل التاريــخ‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫وواضحــا لكافــة أب ــناء األمــة بــكل جـرأة‬ ‫مفتوحــا‬ ‫ً‬ ‫ووضوح‪ ،‬وإال فسيبقى التاريخ أحداثا متفرقة‬ ‫وعرضــة لالســتغالل مــن قبــل األعــداء‪.‬‬ ‫ومــن هــذا املنطلــق يجــب أن نفهــم الوضــع‬ ‫السيا�ســي فــي املنطقــة لكــي ال نقــع فــي فــخ‬ ‫ً‬ ‫وخصوصــا بعــد تدخل‬ ‫التفسي ـرات الخاطئــة‪،‬‬ ‫أمريــكا وروســيا وإي ـران فــي املنطقــة‪.‬‬

‫فالوضــع السيا�ســي هــو كمــا يلــي‪ :‬املنطقــة ال‬ ‫تملــك ضمانــات اســتقرار أو أمــان مــن قبــل‬ ‫الــدول القوميــة الحاكمــة‪ ،‬وسياســة التذويــب‬ ‫واالضطهــاد مســتمرة فيهــا‪ ،‬والت ــي ال تحمــل‬ ‫ســوى املآ�ســي‪ ،‬والص ـراع فــي الظاهــر والباطــن‬ ‫مستمربـيـنالقومياتواملذهبـياتواألقليات‪،‬‬ ‫وخصوصــا أن اإلسالميي ــن ليــس ب ــيدهم األمــر‬ ‫فــي إنقــاذ املنطقــة مــن وضعهــا املأســاوي‪.‬‬ ‫لقد سادت املنطقة حالة عدم الثقة‪ ،‬فالفرز‬ ‫القائم يضمن البقاء للمجموعة األقوى التـي‬ ‫تسندها جهات خارجية‪.‬‬ ‫إن قضايانا ومشاكلنا االجتماعية والسياسية‬ ‫واالقتصادية والقومية وغيـرها لم تعد مجرد‬ ‫خــاف علــى الحقــوق‪ ،‬بــل تجاوزتــه لتدخــل فــي‬ ‫اإلطــار النف�ســي االجتماعــي العــام القائــم علــى‬ ‫عــدم الثقــة أو الشــعور باألمــان‪.‬‬

‫كيف نطرح قضايانا؟‬ ‫يمكــن أن نطــرح حلنــا لهــا مــن القاعــدة‬ ‫الحقوقيــة الت ــي تحــدد العالقــة بـي ــن األف ـراد‬ ‫مــن جانــب وبـي ــن الشــعوب مــن جانــب آخــر‪،‬‬ ‫فغيــاب هــذه القاعــدة يدخــل مســائلنا فــي حكم‬ ‫املســتحيل املســتع�صي‪.‬‬ ‫املسألة املستحيلة ال توضح العالقة مع اآلخر‬ ‫لعدم استنادها لقاعدة حقوقية‪ ،‬األمر الذي‬ ‫يجعلهــا مشــاعا لتدخــات مــن الخــارج فيســهل‬ ‫اســتغاللها‪ ،‬فانفجار الثورة الســورية وارتفاع‬ ‫وتـيـرة التوجه نحوها واستغاللها؛ يدل بشكل‬ ‫واضح على عمق السياسة الدولية في املسألة‪،‬‬ ‫علــى الرغــم مــن أن التدويــل فــي هــذه املســائل‬ ‫غي ــر مفيــد‪ ،‬وخصوصــا أننــا نملــك إرثــا تاريخيــا‬ ‫مــن سياســة التدويــل‪ ،‬فاألمــم املتحــدة وقــوى‬ ‫االســتكبار العالمــي عــن طريــق مجلــس األمــم‬ ‫ّ‬ ‫سببت مزيدا من التدهور والضياع للحقوق‪،‬‬ ‫ألن املسألة املستحيلة تفرز حلوال دبلوماسية‬

‫العدد ‪ 2‬رجب ‪1439‬هـ‬

‫ال عالقــة لهــا بالواقــع‪ ،‬فضيــاع القاعــدة‬ ‫الحقوقيــة يجعــل كافــة املبــادرات والحلــول‬ ‫ً‬ ‫متعلقــة باآلخــر وليــس بأصحــاب املســألة‪ ،‬ممــا‬ ‫يجعل الحلول صفقات سياسية ال عالقة لها‬ ‫بمصي ــر املجتمــع واألمــة‪.‬‬ ‫ولهذا ال بد من مبادرات سياسية واقعية وفق‬ ‫القاعــدة الحقوقيــة ووحــدة األمــة للمســألة‬ ‫التحليليــة‪ ،‬ألنهــا فــي حقيقتهــا تعب ــر عــن مــأزق‬ ‫سيا�ســي بالدرجــة األولــى‪.‬‬ ‫وأرى أن تطرح املبادرة وفق األسس التالية‪:‬‬ ‫َ َ َْ ْ‬ ‫‪ )1‬الحريــة لقولــه تعالــى‪ (( :‬ف َمـ ْـن شـ َـاء فل ُيؤ ِمـ ْـن‬ ‫َ َْ ْ‬ ‫َو َم ْن شـ َـاء فل َيك ُف ْر)) [ ســورة الكهف‪ :‬آية ‪،]29‬‬ ‫وقولــه تعالــى‪َ (( :‬ل إ ْكـ َـر َاه فــي ّ‬ ‫الدي ـ ِـن)) [ســورة‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫البقرة‪ :‬آية ‪ ]256‬وبالتالي ال إكراه في السياسة‪.‬‬ ‫‪ )2‬الكرامــة اإلنسان ــية لقولــه تعالــى‪(( :‬ولقــد‬ ‫كرمنــا بـن ــي آدم)) [ســورة اإلس ـراء‪ :‬آيــة ‪.]70‬‬ ‫‪ )3‬التعــارف لقولــه تعالــى‪ (( :‬إنــا خلقناكــم‬ ‫مــن ذكــر وأنثــى وجعلناكــم شــعوبا وقبائــل‬ ‫لتعارفوا إن أكرمكم عند هللا أتقاكم)) [سورة‬ ‫الحج ـرات‪ :‬آيــة ‪.]13‬‬ ‫دعــوة إلــى تعــارف القوميــات والحضــارات علــى‬ ‫أســاس الحــوار والتفاهــم والتعــاون بــدال مــن‬ ‫الحــروب والصــدام الحضــاري‪ ،‬وهــذه الدعــوة‬ ‫قائمــة علــى أســاس الحقــوق والواجبــات‪ ،‬فهــل‬ ‫نحن مستعدون لطرح مشاكلنا ووضع حلول‬ ‫لهــا وفــق هــذا الطــرح؟ وإذا نجحنــا فلمــاذا ال‬ ‫نقدمــه للعالــم كمشــروع حضــاري لهــذه األمــة‪.‬‬ ‫إن النظر في مشاكلنا وفق القاعدة الحقوقية‬ ‫مــع النظــر فــي مصلحــة األمــة هــو أســاس كل‬ ‫التصويبــات الت ــي يمكــن أن تصحــح املســار‪.‬‬ ‫إننــا أمــام محاولــة إيضــاح استـرات ــيجية الحــل‬ ‫اإلسالمي لقضايانا؛ نجد أنفسنا أمام ّ‬ ‫كم من‬ ‫ٍ‬ ‫ً‬ ‫قاموسا ضباب ًـيا ألبعد‬ ‫املعالجات التـي أفرزت‬ ‫الحــدود‪ ،‬ألن قضايانــا داخلهــا الشــأن الداخلــي‬ ‫‪77‬‬


‫اإلسالم من َّ‬ ‫ُ‬ ‫الظاهرة القوم ّية‬ ‫موقف‬ ‫ِ‬ ‫فــي النظــام اإلســامي ربان ــية شـريعة ونظــام‪ ،‬ال‬ ‫ربان ــية أمـراء وحــكام‪.‬‬

‫القومية ووحدة األمة‬ ‫ال بــد مــن توحيــد كل قوميــة فــي إطارهــا الطب ــيعي‪،‬‬ ‫ثــم التطلــع إلــى تكوي ــن رابطــة إســامية أعــم مــن‬ ‫القومياتالشقيقةفيإطارداراإلسالم(الواليات‬ ‫اإلســامية املتحــدة) الت ــي هــي أرحــب مــن أي نظــام‬ ‫سيا�سي‪،‬هذاهوالحلاألمثلللشعوباإلسالمية‬ ‫وملســتقبلها للخــروج مــن صـراع القوميــات‪.‬‬ ‫مــا الــذي يمنــع أصحــاب كل فطــرة اجتماعيــة‬ ‫عامــة مــن املسلمي ــن أن ي ــنظموا شــؤونهم‬ ‫املشت ــركة علــى أســاس اإلســام‪ ،‬ثــم يلتقــوا‬ ‫مــع إخوانهــم فــي الدي ــن مــن أب ــناء القوميــات‬ ‫األخــرى‪ ،‬فــي إطــار الرابطــة اإلســامية‬ ‫ّ‬ ‫يوفــق‬ ‫الشــاملة أليــس فــي هــذه الرؤيــا مــا ِ‬ ‫بـي ــن القوميــة والدي ــن‪ ،‬ويــؤدي إلــى تجنــب‬ ‫الصراعــات القوميــة واللغويــة املتداخلــة‬ ‫الت ــي أدت إلــى تفكيــك األمــة اإلســامية‪.‬‬ ‫إن الوجــود القومــي ألي شــعب مــن الشــعوب‬ ‫مــن حيــث هــو وجــود اجتماعــي تاريخــي �شــيء‪،‬‬ ‫وتحويــل القوميــة إلــى عقيــدة وأيديولوجيــة‬ ‫وشعوب ــية �شــيء آخــر‪ ،‬والخطــر كل الخطــر فــي‬ ‫تجزئــة مصلحــة األمــة ممــا ســيؤدي حتمــا إلــى‬ ‫تجزئــة فــي اإلرادة‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫يخلــص القضيــة‬ ‫إن اعتمــاد وحــدة األمــة ِ‬ ‫القوميــة مــن الحــرص الزائــف‪ ،‬ويمنــع وجــود‬ ‫عصب ــية تؤث ــر علــى وحــدة األمــة‪ ،‬وهــذا يلغــي‬ ‫مفهــوم األقليــة باملعنــى الســائد حاليــا‪ ،‬فوحــدة‬ ‫األمــة قائمــة علــى شــعوب مــع اإلقـرار بتداخــل‬ ‫هــذه الشــعوب بعضهــا ببعــض‪ ،‬فنحــن ال‬ ‫نتعامل مع أقلية محددة بل مجموعة عناصر‬ ‫بش ـرية تشــكل األمــة بكاملهــا‪.‬‬ ‫فــكل قوميــة بتاريخهــا وثقافتهــا ومجموعهــا‬ ‫َّ‬ ‫النســق الحضــاري‬ ‫بشــكل عــام‪ ،‬تعتب ــر ضمــن‬

‫َُ ّ‬ ‫الواحــد املشـ ِـكل لألمــة‪ ،‬واملؤث ــر بهــا وبخــط‬ ‫ّ‬ ‫ارتقائها‪،‬وبهذاتسقطدعاوى‬ ‫القومييـنالذيـن‬ ‫يعتب ــرون أب ــناء القوميــات األخــرى دخــاء‪ ،‬ألن‬ ‫قاعــدة وحــدة األمــة تضــع الجميــع علــى قاعــدة‬ ‫املســاواة مــع بعضهــم البعــض‪ ،‬ومــع األســف‬ ‫ٌ‬ ‫فإن هذه القاعدة اإلســامية اإليجاب ــية غائبة‬ ‫اليــوم فــي ظــل النهــج السيا�ســي املفــروض عليهــا‪.‬‬ ‫إنــك عندمــا تجــرد قوميــة مــن حقوقهــا لتصبــح‬ ‫حقــوق أقليــات‪ ،‬فــإن األمــر يصبــح خــارج إطــار‬ ‫القواعــد األساســية الت ــي تقــوم عليهــا وحــدة‬ ‫األمــة ألن إنــكار الحقــوق للبعــض ســيؤدي إلــى‬ ‫تجزئــة الوطــن واألمــة شــئنا أم أبـي ــنا‪.‬‬ ‫فإذا أردنا وحدة الت ـراب ووحدة األمة فلنطرح‬ ‫تصورنا وفق القاعدة السابقة‪ ،‬الحقوق قبل‬ ‫كل �شيء‪ ،‬ووحدة اإلنسان قبل وحدة التـراب‪،‬‬ ‫ألن اإلنســان عندمــا يحصــل علــى حقوقــه‪،‬‬ ‫هــو الــذي ســيحمي وحــدة األرض وســيادة‬ ‫االســتقالل‪ ،‬أمــا وحــدة األرض املزعومــة اليــوم‬ ‫فهــي ال توحــد األمــة‪ ،‬وال تحافــظ علــى ســيادة‬ ‫االســتقالل‪ ،‬والواقــع خي ــر دليــل علــى ذلــك‪.‬‬ ‫عندمــا ي ــنطلق الطــرح مــن قاعــدة الحقــوق‬ ‫والواجبات سي ــر�ضى جميع األطراف وســتتوحد‬ ‫املشاعر‪ ،‬وتتقارب النفوس مع العدل واملساواة‪.‬‬

‫املسألة القومية وأوهام‬

‫االستـيعاب السيا�سي‬ ‫السياســة وســيلة ال غايــة‪ ،‬وإنهــا بالدرجــة‬ ‫األولــى علــم تمتــاز بــه املجتمعــات الراقيــة‪ ،‬فهــي‬ ‫تتطور بقدر ارتقاء األمة ومؤسساتها‪ ،‬فالعمل‬ ‫السيا�ســي املبـن ــي علــى وفــق مصلحــة األمــة‬ ‫ومنهجها هو وحده القادر على قيادة املســائل‬ ‫نحو الحل النهائي‪ ،‬والسياسة الراقية هي التـي‬ ‫ال تجعل الحاكم يمنح هوية املجتمع وانتماءه‬ ‫بــل املجتمــع يمنــح هويــة الحاكــم‪.‬‬

‫اإلسالم من َّ‬ ‫ُ‬ ‫الظاهرة القوم ّية‬ ‫موقف‬ ‫ِ‬

‫العدد ‪ 2‬رجب ‪1439‬هـ‬

‫وإذا نظرنا لواقعنا وفق هذه القاعدة نجد أن‬ ‫أمتنا واجهت كافة تعقيدات القرن العشريـن‬ ‫بعــد ســقوط الخالفــة اإلســامية‪ ،‬حيــث ظهــر‬ ‫التعــارض بـي ــن وحــدة األمــة ومصالحهــا وبـي ــن‬ ‫الــدول القوميــة‪ ،‬وبهــذا الوضــع وصلنــا إلــى ذروة‬ ‫التــأزم دون وضــع حــدود واضحــة ألســباب‬ ‫املشــاكل الداخليــة والخارجيــة‪.‬‬ ‫إن مخططــات تقســيم األمــة مــن قبــل األعــداء‬ ‫فــي القــرن العشري ــن كانــت بدايــة أزمــة املنطقــة‬ ‫كلهــا‪ ،‬وهــي النقطــة الفاصلــة لظهــور الدولــة‬ ‫القوميــة‪ ،‬وتجزئــة املصلحــة الواحــدة‪ ،‬واإلرادة‬ ‫الواحــدة‪ ،‬وبمــا أن هــذه املخططــات لــم تكــن‬ ‫تملــك األســاس الحقوقــي لوضــع الحــدود‪ ،‬لــذا‬ ‫فإنهــا جــاءت تفتــت حتــى األشــكال القبائليــة‬ ‫املوجــودة فــي املنطقــة‪ ،‬ألنهــا لــم ت ـراع الواقــع‬ ‫االجتماعــي‪ ،‬وإنمــا تجســد مصالــح األمــم‬ ‫الواضعــة لهــا‪ ،‬فليــس الت ــرك وحدهــم تمزقــوا‬ ‫بهــذا التآمــر ‪ -‬وإن كانــوا أكث ــر مــن تضــرر ‪ -‬وإنمــا‬ ‫الكــرد أيضــا تــم تقســيمهم بـي ــن عــدة دول‬ ‫قوميــة‪ ،‬وأمــا العــرب فقــد تــم تقســيمهم إلــى‬ ‫اثنـتي ــن وعشري ــن دولــة‪.‬‬ ‫وأدى هــذا التقســيم الجائــر إلــى خلــق توت ـرات‬ ‫دائمــة فــي كل منطقــة‪ ،‬وهكــذا قامــت الدولــة‬ ‫القوميــة وفــق نســق ســلطة خارجيــة‪.‬‬ ‫إنشرعيةالدولةالقوميةتنبعمناملخططات‬ ‫الدوليــة‪ ،‬لــذا فإنهــا تفــرض قسـ ًـرا علــى الواقــع‪،‬‬ ‫وهــي بالتالــي تفــرز فئــة حاكمــة تعطــل التفاعــل‬ ‫االجتماعي والحضاري بـيـن أبـناء األمة الواحدة‪،‬‬ ‫ألن هــذه الــدول غي ــر قائمــة علــى أســاس حقوقــي‬ ‫واضــح‪ ،‬فهــي ال تعب ــر عــن املجتمــع ووحدتــه‪،‬‬ ‫لذلــك تكــون ت ـربة خصبــة لظهــور مختلــف‬ ‫النزاعــات العرقيــة والفئويــة‪ ،‬فاألحـزاب أحـزاب‬ ‫فئــات‪ ،‬واملؤسســات مقصــورة علــى جــزء فاســد‬ ‫من أبـناء األمة املنتفعيـن املنافقيـن‪ ،‬وال تحقق‬ ‫‪76‬‬

‫مصالــح الجميــع‪.‬‬ ‫فالواقع القبلي أو الطائفي أو العرقي أو الحزبـي‬ ‫يتجســد مباشــرة داخــل هيكليــة الدولــة‪ ،‬فهــل‬ ‫يمكــن است ــيعاب اآلخــر وفــق هــذه السياســة؟‬ ‫وهــل يمكــن حــل القضايــا مــن خــال الدفــاع‬ ‫عــن الوضــع القائــم جغرافيــا واقتصاديــا؟ أم‬ ‫ال بــد أن نطــرح كل قضايانــا ومشــاكلنا بج ـرأة‬ ‫وواقعية وشفافية على بساط البحث‪ ،‬لنضع‬ ‫النقــاط علــى الحــروف مــن خــال الحــوار وفــق‬ ‫القاعــدة الحقوقيــة ووحــدة األمــة‪ ،‬بعيــدا عــن‬ ‫الثقافــات املغلوطــة واملشــاعر البــاردة‪.‬‬ ‫نستطيع اليوم قراءة مشاكلنا املتـراكمة بـرؤية‬ ‫علميــة األمــر الــذي لــم يكــن ممكنــا فــي القــرن‬ ‫َ ُ‬ ‫وعينا مع موجات‬ ‫العشريـن عندما بدأ تشويه ِ‬ ‫التنكيل والتزويـر‪.‬‬ ‫إن إج ـراءات الــدول القوميــة وريثــة املنهــج‬ ‫الغربـي زادت من قوة االنتماء املشتت والرؤية‬ ‫املج ـزأة وأدت إلــى تخلــف حضــاري واســتعمار‬ ‫عســكري واقتصــادي وثقافــي ألن اتفاقــات‬ ‫املستعمري ــن ومعاهداتهــم فــي املنطقــة كانــت‬ ‫بدايــة تفريــق جغرافــي وثقافــي واضــح‪ ،‬ســاعدت‬ ‫علــى حــرق كافــة اإلمكانــات لوحــدة األمــة‪،‬‬ ‫ولذلــك أصبــح تدوي ــن التاريــخ إرثــا دمويــا عب ــر‬ ‫املذابــح واالقتتــال الــذي دار بـي ــن الحكومــات‬ ‫املســتبدة مــن جانــب‪ ،‬وبـي ــن هــذه الحكومــات‬ ‫وشــعوبها مــن جهــة أخــرى‪.‬‬ ‫ولتصحيــح املســار ال بــد مــن جعــل التاريــخ‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫وواضحــا لكافــة أب ــناء األمــة بــكل جـرأة‬ ‫مفتوحــا‬ ‫ً‬ ‫ووضوح‪ ،‬وإال فسيبقى التاريخ أحداثا متفرقة‬ ‫وعرضــة لالســتغالل مــن قبــل األعــداء‪.‬‬ ‫ومــن هــذا املنطلــق يجــب أن نفهــم الوضــع‬ ‫السيا�ســي فــي املنطقــة لكــي ال نقــع فــي فــخ‬ ‫ً‬ ‫وخصوصــا بعــد تدخل‬ ‫التفسي ـرات الخاطئــة‪،‬‬ ‫أمريــكا وروســيا وإي ـران فــي املنطقــة‪.‬‬

‫فالوضــع السيا�ســي هــو كمــا يلــي‪ :‬املنطقــة ال‬ ‫تملــك ضمانــات اســتقرار أو أمــان مــن قبــل‬ ‫الــدول القوميــة الحاكمــة‪ ،‬وسياســة التذويــب‬ ‫واالضطهــاد مســتمرة فيهــا‪ ،‬والت ــي ال تحمــل‬ ‫ســوى املآ�ســي‪ ،‬والص ـراع فــي الظاهــر والباطــن‬ ‫مستمربـيـنالقومياتواملذهبـياتواألقليات‪،‬‬ ‫وخصوصــا أن اإلسالميي ــن ليــس ب ــيدهم األمــر‬ ‫فــي إنقــاذ املنطقــة مــن وضعهــا املأســاوي‪.‬‬ ‫لقد سادت املنطقة حالة عدم الثقة‪ ،‬فالفرز‬ ‫القائم يضمن البقاء للمجموعة األقوى التـي‬ ‫تسندها جهات خارجية‪.‬‬ ‫إن قضايانا ومشاكلنا االجتماعية والسياسية‬ ‫واالقتصادية والقومية وغيـرها لم تعد مجرد‬ ‫خــاف علــى الحقــوق‪ ،‬بــل تجاوزتــه لتدخــل فــي‬ ‫اإلطــار النف�ســي االجتماعــي العــام القائــم علــى‬ ‫عــدم الثقــة أو الشــعور باألمــان‪.‬‬

‫كيف نطرح قضايانا؟‬ ‫يمكــن أن نطــرح حلنــا لهــا مــن القاعــدة‬ ‫الحقوقيــة الت ــي تحــدد العالقــة بـي ــن األف ـراد‬ ‫مــن جانــب وبـي ــن الشــعوب مــن جانــب آخــر‪،‬‬ ‫فغيــاب هــذه القاعــدة يدخــل مســائلنا فــي حكم‬ ‫املســتحيل املســتع�صي‪.‬‬ ‫املسألة املستحيلة ال توضح العالقة مع اآلخر‬ ‫لعدم استنادها لقاعدة حقوقية‪ ،‬األمر الذي‬ ‫يجعلهــا مشــاعا لتدخــات مــن الخــارج فيســهل‬ ‫اســتغاللها‪ ،‬فانفجار الثورة الســورية وارتفاع‬ ‫وتـيـرة التوجه نحوها واستغاللها؛ يدل بشكل‬ ‫واضح على عمق السياسة الدولية في املسألة‪،‬‬ ‫علــى الرغــم مــن أن التدويــل فــي هــذه املســائل‬ ‫غي ــر مفيــد‪ ،‬وخصوصــا أننــا نملــك إرثــا تاريخيــا‬ ‫مــن سياســة التدويــل‪ ،‬فاألمــم املتحــدة وقــوى‬ ‫االســتكبار العالمــي عــن طريــق مجلــس األمــم‬ ‫ّ‬ ‫سببت مزيدا من التدهور والضياع للحقوق‪،‬‬ ‫ألن املسألة املستحيلة تفرز حلوال دبلوماسية‬

‫العدد ‪ 2‬رجب ‪1439‬هـ‬

‫ال عالقــة لهــا بالواقــع‪ ،‬فضيــاع القاعــدة‬ ‫الحقوقيــة يجعــل كافــة املبــادرات والحلــول‬ ‫ً‬ ‫متعلقــة باآلخــر وليــس بأصحــاب املســألة‪ ،‬ممــا‬ ‫يجعل الحلول صفقات سياسية ال عالقة لها‬ ‫بمصي ــر املجتمــع واألمــة‪.‬‬ ‫ولهذا ال بد من مبادرات سياسية واقعية وفق‬ ‫القاعــدة الحقوقيــة ووحــدة األمــة للمســألة‬ ‫التحليليــة‪ ،‬ألنهــا فــي حقيقتهــا تعب ــر عــن مــأزق‬ ‫سيا�ســي بالدرجــة األولــى‪.‬‬ ‫وأرى أن تطرح املبادرة وفق األسس التالية‪:‬‬ ‫َ َ َْ ْ‬ ‫‪ )1‬الحريــة لقولــه تعالــى‪ (( :‬ف َمـ ْـن شـ َـاء فل ُيؤ ِمـ ْـن‬ ‫َ َْ ْ‬ ‫َو َم ْن شـ َـاء فل َيك ُف ْر)) [ ســورة الكهف‪ :‬آية ‪،]29‬‬ ‫وقولــه تعالــى‪َ (( :‬ل إ ْكـ َـر َاه فــي ّ‬ ‫الدي ـ ِـن)) [ســورة‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫البقرة‪ :‬آية ‪ ]256‬وبالتالي ال إكراه في السياسة‪.‬‬ ‫‪ )2‬الكرامــة اإلنسان ــية لقولــه تعالــى‪(( :‬ولقــد‬ ‫كرمنــا بـن ــي آدم)) [ســورة اإلس ـراء‪ :‬آيــة ‪.]70‬‬ ‫‪ )3‬التعــارف لقولــه تعالــى‪ (( :‬إنــا خلقناكــم‬ ‫مــن ذكــر وأنثــى وجعلناكــم شــعوبا وقبائــل‬ ‫لتعارفوا إن أكرمكم عند هللا أتقاكم)) [سورة‬ ‫الحج ـرات‪ :‬آيــة ‪.]13‬‬ ‫دعــوة إلــى تعــارف القوميــات والحضــارات علــى‬ ‫أســاس الحــوار والتفاهــم والتعــاون بــدال مــن‬ ‫الحــروب والصــدام الحضــاري‪ ،‬وهــذه الدعــوة‬ ‫قائمــة علــى أســاس الحقــوق والواجبــات‪ ،‬فهــل‬ ‫نحن مستعدون لطرح مشاكلنا ووضع حلول‬ ‫لهــا وفــق هــذا الطــرح؟ وإذا نجحنــا فلمــاذا ال‬ ‫نقدمــه للعالــم كمشــروع حضــاري لهــذه األمــة‪.‬‬ ‫إن النظر في مشاكلنا وفق القاعدة الحقوقية‬ ‫مــع النظــر فــي مصلحــة األمــة هــو أســاس كل‬ ‫التصويبــات الت ــي يمكــن أن تصحــح املســار‪.‬‬ ‫إننــا أمــام محاولــة إيضــاح استـرات ــيجية الحــل‬ ‫اإلسالمي لقضايانا؛ نجد أنفسنا أمام ّ‬ ‫كم من‬ ‫ٍ‬ ‫ً‬ ‫قاموسا ضباب ًـيا ألبعد‬ ‫املعالجات التـي أفرزت‬ ‫الحــدود‪ ،‬ألن قضايانــا داخلهــا الشــأن الداخلــي‬ ‫‪77‬‬


‫اإلسالم من َّ‬ ‫ُ‬ ‫الظاهرة القوم ّية‬ ‫موقف‬ ‫ِ‬ ‫والخارجــي‪ ،‬ولهــذا ال بــد مــن صواب ــية املنهــج مــن‬ ‫جهــة والوضــوح مــن جهــة ثان ــية لحلهــا‪.‬‬ ‫إن الحــل اإلســامي يحــاول إعــادة التفاعــل‬ ‫داخــل األمــة عب ــر توضيــح ماهيــة األمــة‪ ،‬وإب ـراز‬ ‫الهويــة داخــل العناصــر املكونــة لهــا ثــم يأت ــي‬ ‫األمــر الحقوقــي ليثبــت توا ًزنــا فــي الحقــوق‬ ‫والواجبــات‪ ،‬ويزيــل كافــة أشــكال اللبــس‪،‬‬ ‫ويعطــي ً‬ ‫زخمــا لألمــة مــن خــال االســتفادة مــن‬ ‫كافــة اإلمكانــات املتوفــرة‪.‬‬ ‫فاألمــة بــدون الجامــع العقيــدي تصبــح قطعانا‬ ‫بشـرية تتحكــم فيهــا النــزوات املريضــة واإلرادة‬ ‫الخارجيــة‪ ،‬وهــذا مــا حصــل خــال القــرن‬ ‫العشري ــن عندمــا ضاعــت أو ضعفــت الهويــة‪.‬‬ ‫إن قواعــد الحــل اإلســامي ال تصبــح مجديــة‬ ‫دون املؤسسة الجامعة التـي تضمن استمرار‬ ‫العمــل وتصونــه مــن رغبــات األشــخاص‪ ،‬ألن‬ ‫ماهيــة األمــة ال تعــود إلــى أصــل ســالي واحــد‬ ‫ومعي ــن‪ ،‬بــل هــي مزيــج مــن كافــة الشــعوب‬ ‫والعناصــر منــذ فجــر اإلســام‪ ،‬وال يمكــن فهــم‬ ‫األمــة بتعــدد الــوالءات‪ ،‬ألن األمــة الواحــدة‬ ‫تفــرض الــوالء الواحــد علــى أي والء آخــر‪ ،‬إن‬ ‫تعــدد الــوالءات داخــل األمــة اإلســامية مزقهــا‬ ‫وجعلهــا أجـزاء مبعث ــرة مــا بـي ــن الــوالء الطائفــي‬ ‫والعشــائري والقبلــي واألســري والحزب ــي‪.‬‬ ‫إن إزالــة الحواجــز بـي ــن مختلــف العناصــر‬ ‫املكونــة لألمــة هــو التكت ــيك العملــي لتطب ــيق‬ ‫استـرات ــيجية املجتمــع الواحــد‪ .‬فتمزيــق‬ ‫الجغرافيــا هــو حكــم علــى األمــة بالتفــرق‬ ‫والتقســيم واالنعـزال‪ ،‬وهــذا مــا حصــل رســميا‬ ‫فــي اتفاقيــة ســايكس ب ــيكو‪ ،‬حيــث انقســمت‬ ‫األمــة وأصبحــت تعيــش حالــة املســألة‬ ‫املســتحيلة فــي قضاياهــا ومشــاكلها‪.‬‬ ‫َّ‬ ‫إن جغرافية الوطن وحدوده ليست مسلمات‬ ‫ت ــرسمها السياســات الدوليــة واإلقليميــة‪ ،‬إنمــا‬

‫هي حياة األمة ووحدتها‪ ،‬ألن الجغرافيا هي كل‬ ‫ً‬ ‫متكامــل‪ ،‬فــا يمكــن مثــا أن نفهــم كردســتان‬ ‫فــي ظــل تقســيم إقليمــي ألن هــذا التمــزق يمــزق‬ ‫القاعــدة لوحــدة األمــة‪.‬‬ ‫وليس الشأن الكوردي سوى واحدا من األمور‬ ‫الت ــي تحتــاج إلــى حــل حقيقــي‪ ،‬ألنــه فــي النهايــة‬ ‫يخصنــا كأمــة تحــرص علــى وحدتهــا‪ُ ...‬‬ ‫فالقــوى‬ ‫األجنب ــية عب ــر الســلطات اإلقليميــة قامــت‬ ‫بالفصل ما بـيـنهم وبـيـن األمة عبـر خلق نقاط‬ ‫تعســفية‪ ،‬ولهــذا فــإن الحــل اإلســامي ي ــرفض‬ ‫كافة املبادئ والقواعد االستبدادية‪ ،‬ويعارض‬ ‫التدخــات الخارجيــة لحــل هــذه القضيــة‪.‬‬ ‫الحل اإلسالمي يأخذ األمور من أساسها فيعتبـر‬ ‫أن عليــه مواجهــة النزعــات العنصريــة لــدى‬ ‫الــدول اإلقليميــة الت ــي أدت إلــى ت ــرسيخ تمزيــق‬ ‫األمــة فــي النفــوس بعــد أن كان فــي الجغرافيــا‪.‬‬ ‫فعندمــا تنعــدم الحــدود اإلقليميــة السياســية‬ ‫وتكــون هنــاك واليــات إســامية متحــدة‪ ،‬يصبــح‬ ‫ً‬ ‫مفتوحا دون قيود عرقية‪،‬‬ ‫التعامل بـيـن األفراد‬ ‫وعندئذ تقوم الوحدة داخل الوطن اإلسالمي‪.‬‬ ‫إن العشــوائية واالنقيــاد وراء ت ــيار املشــاعر‬ ‫فقــط ال يجــدي فــي مجــال تنفيــذ الحــل‬ ‫اإلســامي‪ ،‬فــا بــد مــن التنظيــم والتخطيــط‬ ‫لكافــة مســائلنا املســتعصية‪ ،‬ـكـي يكــون الحــل‬ ‫إســاميا متكامــا‪ ،‬والطــرح اإلســامي يكــون‬ ‫ً‬ ‫واقعيــا ألنــه ي ــرفض كافــة الحــاالت املجت ـزأة‬ ‫والفوضويــة املوجــودة فــي األمــة‪.‬‬ ‫إن ما عرضناه هو املخارج التـي نصل إليها عبـر‬ ‫هــذا الحــل‪ ،‬وهــو طــرح فكــري بالدرجــة األولــى‪،‬‬ ‫فمشاكلنا بعد أشكال املعاناة واالضطهاد التـي‬ ‫طـرأت عليهــا‪ ،‬وبعــد األحــداث السياســية الت ــي‬ ‫ضربتهــا تشــابكت بحيــث أصبــح املنهــج العلمــي‬ ‫واملوضوعــي غائبــا عنها‪.‬‬ ‫وهنا ال نسجل قوالب جاهزة للحل‪ ،‬وال صيغا‬

‫القدس‪ ..‬أرض رباط وجهاد‬

‫العدد ‪ 2‬رجب ‪1439‬هـ‬

‫سياسية يمكن اتباعها لتصبح األحالم واقعا‪،‬‬ ‫إنمــا ننــوه باملنهــج الغائــب بــكل مــا يعن ــيه غيابــه‬ ‫من غموض في مشــاكلنا‪.‬‬ ‫فالشــأن الســوري اليــوم هــو خــط النضــال‬ ‫واملعانــاة فــي جــزء مــن أمتنــا‪ ،‬وهــو عرضــة‬ ‫ملختلــف أنــواع املســاومات والضغــوط‬ ‫واملبــادرات‪ ،‬بـي ــنما يبقــى النظــر فيــه مقصــورا‬ ‫علــى فكــرة ضيقــة‪ ،‬هــي التشــكيل السيا�ســي‬ ‫والظــرف السيا�ســي دون أي اعتبــار لت ـرابط‬ ‫هــذا الشــأن مــع قضايــا األمــة‪.‬‬ ‫واملطلــوب منــا اليــوم إعــادة صياغــة ذاكرتنــا‬ ‫املعاصــرة‪ ،‬وبالتالــي ت ــركيب العقــل املســلم‬ ‫وفق املنهج السليم بحيث يستطيع صياغة‬ ‫حاضرنــا ومســتقبلنا بشــكل جــدي وواضــح‪،‬‬ ‫وقضيــة مــن هــذا النــوع يحتــاج فهمهــا فهمــا‬ ‫كامــا إلــى درس طويــل عميــق‪ ،‬ولذلــك يجــب‬ ‫أن ال نت ــركها ملجــرد اســتنتاجات األمزجــة‬ ‫الشخصية أوالحاالت السياسية العارضة‪،‬‬ ‫فــا بــد مــن دعــوة كافــة املهتمي ــن بهــا للكتابــة‬ ‫حول مسألة الحقوق والواجبات لكي نصل‬ ‫إلــى فهــم صحيــح فــي ضــوء الواقــع‪ ،‬ألنــه ب ــناء‬ ‫علــى الغمــوض والســكوت نشــأت الشــركات‬ ‫السياسية الستثمارالنزعات املختلفة باسم‬ ‫الوطن ــية والقوميــة‪.‬‬ ‫فإذا كانت الشرعية تبحث عن شكل إنسانـي‬ ‫ً‬ ‫ملكونــات أمتنــا‪ ،‬فــإن الوضــوح يقت�ضــي أول‬ ‫وأخي ـ ًـرا دخــول الجميــع فــي صياغــة الحيــاة‬ ‫الت ــي تطمــح إليهــا وليــس األمــرمجــرد حقــوق‬ ‫سياســية أومدن ــية ملكــون مــا فــي األمــة‪ ،‬وإنمــا‬ ‫إرادة كل مكــون هــي جــزء مــن إرادة األمــة‪،‬‬ ‫ومصلحتــه هــو مصلحــة األمــة كلهــا‪ ...‬وهللا‬ ‫املوفــق والهــادي إلــى صــراط مســتقيم‪.‬‬ ‫‪78‬‬

‫العدد ‪ 2‬رجب ‪1439‬هـ‬

‫ُ‬ ‫القدس‬

‫أرض رباط وجهاد إلى يوم القيامة‬

‫الدكتور ليث سعود جاسم‬

‫محاضر يف جامعة السلطان محمد الفاتح الوقفية‬

‫ملحات‬ ‫ً‬ ‫عميقا في ّ‬ ‫حس املسلم‪،‬‬ ‫املسجد األق�صى يمثل معنى‬ ‫فهــو ثان ــي ب ــيت بـن ــي بعــد ب ــيت هللا الحــرام لحديــث أب ــي ذر‬ ‫ر�ضــي هللا عنــه قلــت‪ :‬يــا رســول هللا! أي مســجد وضــع فــي‬ ‫األرض أول؟ قــال‪(( :‬املســجد الحــرام)) قلــت‪ :‬ثــم ّ‬ ‫أي؟‬ ‫قــال‪(( :‬املســجد األق�صــى)) قلــت‪ :‬كــم بـي ــنهما؟ قــال‪:‬‬ ‫((أربعــون ســنة‪ ،‬وأي ــنما أدركتــك الصــاة فصـ ِ ّـل فهــو‬ ‫مســجد))(‪.)1‬‬ ‫ولذلــك ربــط هللا بـي ــنهما فــي قرآنــه الكريــم‪ ،‬قــال تعالــى‪:‬‬ ‫َ َّ َ‬ ‫ْ‬ ‫َ ً‬ ‫َْ‬ ‫ُ‬ ‫((سـ ْـب َحان الـ ِـذي أ ْسـ َـرى ِب َع ْبـ ِـد ِه ل ْيــا ِمـ َـن ال ْسـ ِـج ِد ال َحـ َـر ِام‬

‫ْ َ ْ َ َّ‬ ‫َ ُ‬ ‫َ َْ‬ ‫َ‬ ‫َْ‬ ‫ِإلــى ال ْسـ ِـج ِد الق‬ ‫�صــى الـ ِـذي َب َاركنــا َح ْولـ ُـه ِلن ِرَيـ ُـه ِمـ ْـن َآيا ِتنــا‬ ‫ْ‬ ‫إ َّنـ ُـه ُهـ َـو َّ‬ ‫السـ ِـم ُيع ال َب ِصي ـ ُـر))[سورة اإلســراء‪ :‬آيــة ‪.]1‬‬ ‫ِ‬ ‫ونالــت فلسطي ــن التشــريف بكونهــا أرض اإلســراء‪ ،‬والت ــي‬ ‫ً‬ ‫ـاميا مــن يــوم َتسـ َّـلم مفتـ َ‬ ‫وقفــا إسـ ّ‬ ‫ـاح ب ــيت املقــدس‬ ‫غــدت‬ ‫ُ‬ ‫أمي ـ ُـر املؤمنـي ــن عمــر ب ــن الخطــاب ر�ضــي هللا عنــه‪...‬‬ ‫ومنــذ ذلــك العهــد حافــظ املســلمون علــى قبلتهــم األولــى‬ ‫الت ــي وجههــم هللا تعالــى إليهــا ســنوات مــن صــدر اإلســام‬ ‫تشريفا لهم بصالتهم إلى قبلة أب ــي األنب ــياء إب ــراهيم عليه‬ ‫الســام‪ ،‬ولربطهــم روحيــا وعمليــا باملســجد الــذي يلــي‬

‫(‪ )1‬رواه البخاري باب َق ْول هللا َت َع َالى َ[و َو َه ْب َنا ل َد ُاو َد ُس َل ْي َم َ‬ ‫ان ِن ْع َم ْال َع ْب ُد إ َّن ُه َأ َّو ٌ‬ ‫اب] رقم (‪ )3243‬ومسلم باب املساجد ومواضع الصالة رقم (‪.)520/1‬‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬

‫‪79‬‬


‫اإلسالم من َّ‬ ‫ُ‬ ‫الظاهرة القوم ّية‬ ‫موقف‬ ‫ِ‬ ‫والخارجــي‪ ،‬ولهــذا ال بــد مــن صواب ــية املنهــج مــن‬ ‫جهــة والوضــوح مــن جهــة ثان ــية لحلهــا‪.‬‬ ‫إن الحــل اإلســامي يحــاول إعــادة التفاعــل‬ ‫داخــل األمــة عب ــر توضيــح ماهيــة األمــة‪ ،‬وإب ـراز‬ ‫الهويــة داخــل العناصــر املكونــة لهــا ثــم يأت ــي‬ ‫األمــر الحقوقــي ليثبــت توا ًزنــا فــي الحقــوق‬ ‫والواجبــات‪ ،‬ويزيــل كافــة أشــكال اللبــس‪،‬‬ ‫ويعطــي ً‬ ‫زخمــا لألمــة مــن خــال االســتفادة مــن‬ ‫كافــة اإلمكانــات املتوفــرة‪.‬‬ ‫فاألمــة بــدون الجامــع العقيــدي تصبــح قطعانا‬ ‫بشـرية تتحكــم فيهــا النــزوات املريضــة واإلرادة‬ ‫الخارجيــة‪ ،‬وهــذا مــا حصــل خــال القــرن‬ ‫العشري ــن عندمــا ضاعــت أو ضعفــت الهويــة‪.‬‬ ‫إن قواعــد الحــل اإلســامي ال تصبــح مجديــة‬ ‫دون املؤسسة الجامعة التـي تضمن استمرار‬ ‫العمــل وتصونــه مــن رغبــات األشــخاص‪ ،‬ألن‬ ‫ماهيــة األمــة ال تعــود إلــى أصــل ســالي واحــد‬ ‫ومعي ــن‪ ،‬بــل هــي مزيــج مــن كافــة الشــعوب‬ ‫والعناصــر منــذ فجــر اإلســام‪ ،‬وال يمكــن فهــم‬ ‫األمــة بتعــدد الــوالءات‪ ،‬ألن األمــة الواحــدة‬ ‫تفــرض الــوالء الواحــد علــى أي والء آخــر‪ ،‬إن‬ ‫تعــدد الــوالءات داخــل األمــة اإلســامية مزقهــا‬ ‫وجعلهــا أجـزاء مبعث ــرة مــا بـي ــن الــوالء الطائفــي‬ ‫والعشــائري والقبلــي واألســري والحزب ــي‪.‬‬ ‫إن إزالــة الحواجــز بـي ــن مختلــف العناصــر‬ ‫املكونــة لألمــة هــو التكت ــيك العملــي لتطب ــيق‬ ‫استـرات ــيجية املجتمــع الواحــد‪ .‬فتمزيــق‬ ‫الجغرافيــا هــو حكــم علــى األمــة بالتفــرق‬ ‫والتقســيم واالنعـزال‪ ،‬وهــذا مــا حصــل رســميا‬ ‫فــي اتفاقيــة ســايكس ب ــيكو‪ ،‬حيــث انقســمت‬ ‫األمــة وأصبحــت تعيــش حالــة املســألة‬ ‫املســتحيلة فــي قضاياهــا ومشــاكلها‪.‬‬ ‫َّ‬ ‫إن جغرافية الوطن وحدوده ليست مسلمات‬ ‫ت ــرسمها السياســات الدوليــة واإلقليميــة‪ ،‬إنمــا‬

‫هي حياة األمة ووحدتها‪ ،‬ألن الجغرافيا هي كل‬ ‫ً‬ ‫متكامــل‪ ،‬فــا يمكــن مثــا أن نفهــم كردســتان‬ ‫فــي ظــل تقســيم إقليمــي ألن هــذا التمــزق يمــزق‬ ‫القاعــدة لوحــدة األمــة‪.‬‬ ‫وليس الشأن الكوردي سوى واحدا من األمور‬ ‫الت ــي تحتــاج إلــى حــل حقيقــي‪ ،‬ألنــه فــي النهايــة‬ ‫يخصنــا كأمــة تحــرص علــى وحدتهــا‪ُ ...‬‬ ‫فالقــوى‬ ‫األجنب ــية عب ــر الســلطات اإلقليميــة قامــت‬ ‫بالفصل ما بـيـنهم وبـيـن األمة عبـر خلق نقاط‬ ‫تعســفية‪ ،‬ولهــذا فــإن الحــل اإلســامي ي ــرفض‬ ‫كافة املبادئ والقواعد االستبدادية‪ ،‬ويعارض‬ ‫التدخــات الخارجيــة لحــل هــذه القضيــة‪.‬‬ ‫الحل اإلسالمي يأخذ األمور من أساسها فيعتبـر‬ ‫أن عليــه مواجهــة النزعــات العنصريــة لــدى‬ ‫الــدول اإلقليميــة الت ــي أدت إلــى ت ــرسيخ تمزيــق‬ ‫األمــة فــي النفــوس بعــد أن كان فــي الجغرافيــا‪.‬‬ ‫فعندمــا تنعــدم الحــدود اإلقليميــة السياســية‬ ‫وتكــون هنــاك واليــات إســامية متحــدة‪ ،‬يصبــح‬ ‫ً‬ ‫مفتوحا دون قيود عرقية‪،‬‬ ‫التعامل بـيـن األفراد‬ ‫وعندئذ تقوم الوحدة داخل الوطن اإلسالمي‪.‬‬ ‫إن العشــوائية واالنقيــاد وراء ت ــيار املشــاعر‬ ‫فقــط ال يجــدي فــي مجــال تنفيــذ الحــل‬ ‫اإلســامي‪ ،‬فــا بــد مــن التنظيــم والتخطيــط‬ ‫لكافــة مســائلنا املســتعصية‪ ،‬ـكـي يكــون الحــل‬ ‫إســاميا متكامــا‪ ،‬والطــرح اإلســامي يكــون‬ ‫ً‬ ‫واقعيــا ألنــه ي ــرفض كافــة الحــاالت املجت ـزأة‬ ‫والفوضويــة املوجــودة فــي األمــة‪.‬‬ ‫إن ما عرضناه هو املخارج التـي نصل إليها عبـر‬ ‫هــذا الحــل‪ ،‬وهــو طــرح فكــري بالدرجــة األولــى‪،‬‬ ‫فمشاكلنا بعد أشكال املعاناة واالضطهاد التـي‬ ‫طـرأت عليهــا‪ ،‬وبعــد األحــداث السياســية الت ــي‬ ‫ضربتهــا تشــابكت بحيــث أصبــح املنهــج العلمــي‬ ‫واملوضوعــي غائبــا عنها‪.‬‬ ‫وهنا ال نسجل قوالب جاهزة للحل‪ ،‬وال صيغا‬

‫القدس‪ ..‬أرض رباط وجهاد‬

‫العدد ‪ 2‬رجب ‪1439‬هـ‬

‫سياسية يمكن اتباعها لتصبح األحالم واقعا‪،‬‬ ‫إنمــا ننــوه باملنهــج الغائــب بــكل مــا يعن ــيه غيابــه‬ ‫من غموض في مشــاكلنا‪.‬‬ ‫فالشــأن الســوري اليــوم هــو خــط النضــال‬ ‫واملعانــاة فــي جــزء مــن أمتنــا‪ ،‬وهــو عرضــة‬ ‫ملختلــف أنــواع املســاومات والضغــوط‬ ‫واملبــادرات‪ ،‬بـي ــنما يبقــى النظــر فيــه مقصــورا‬ ‫علــى فكــرة ضيقــة‪ ،‬هــي التشــكيل السيا�ســي‬ ‫والظــرف السيا�ســي دون أي اعتبــار لت ـرابط‬ ‫هــذا الشــأن مــع قضايــا األمــة‪.‬‬ ‫واملطلــوب منــا اليــوم إعــادة صياغــة ذاكرتنــا‬ ‫املعاصــرة‪ ،‬وبالتالــي ت ــركيب العقــل املســلم‬ ‫وفق املنهج السليم بحيث يستطيع صياغة‬ ‫حاضرنــا ومســتقبلنا بشــكل جــدي وواضــح‪،‬‬ ‫وقضيــة مــن هــذا النــوع يحتــاج فهمهــا فهمــا‬ ‫كامــا إلــى درس طويــل عميــق‪ ،‬ولذلــك يجــب‬ ‫أن ال نت ــركها ملجــرد اســتنتاجات األمزجــة‬ ‫الشخصية أوالحاالت السياسية العارضة‪،‬‬ ‫فــا بــد مــن دعــوة كافــة املهتمي ــن بهــا للكتابــة‬ ‫حول مسألة الحقوق والواجبات لكي نصل‬ ‫إلــى فهــم صحيــح فــي ضــوء الواقــع‪ ،‬ألنــه ب ــناء‬ ‫علــى الغمــوض والســكوت نشــأت الشــركات‬ ‫السياسية الستثمارالنزعات املختلفة باسم‬ ‫الوطن ــية والقوميــة‪.‬‬ ‫فإذا كانت الشرعية تبحث عن شكل إنسانـي‬ ‫ً‬ ‫ملكونــات أمتنــا‪ ،‬فــإن الوضــوح يقت�ضــي أول‬ ‫وأخي ـ ًـرا دخــول الجميــع فــي صياغــة الحيــاة‬ ‫الت ــي تطمــح إليهــا وليــس األمــرمجــرد حقــوق‬ ‫سياســية أومدن ــية ملكــون مــا فــي األمــة‪ ،‬وإنمــا‬ ‫إرادة كل مكــون هــي جــزء مــن إرادة األمــة‪،‬‬ ‫ومصلحتــه هــو مصلحــة األمــة كلهــا‪ ...‬وهللا‬ ‫املوفــق والهــادي إلــى صــراط مســتقيم‪.‬‬ ‫‪78‬‬

‫العدد ‪ 2‬رجب ‪1439‬هـ‬

‫ُ‬ ‫القدس‬

‫أرض رباط وجهاد إلى يوم القيامة‬

‫الدكتور ليث سعود جاسم‬

‫محاضر يف جامعة السلطان محمد الفاتح الوقفية‬

‫ملحات‬ ‫ً‬ ‫عميقا في ّ‬ ‫حس املسلم‪،‬‬ ‫املسجد األق�صى يمثل معنى‬ ‫فهــو ثان ــي ب ــيت بـن ــي بعــد ب ــيت هللا الحــرام لحديــث أب ــي ذر‬ ‫ر�ضــي هللا عنــه قلــت‪ :‬يــا رســول هللا! أي مســجد وضــع فــي‬ ‫األرض أول؟ قــال‪(( :‬املســجد الحــرام)) قلــت‪ :‬ثــم ّ‬ ‫أي؟‬ ‫قــال‪(( :‬املســجد األق�صــى)) قلــت‪ :‬كــم بـي ــنهما؟ قــال‪:‬‬ ‫((أربعــون ســنة‪ ،‬وأي ــنما أدركتــك الصــاة فصـ ِ ّـل فهــو‬ ‫مســجد))(‪.)1‬‬ ‫ولذلــك ربــط هللا بـي ــنهما فــي قرآنــه الكريــم‪ ،‬قــال تعالــى‪:‬‬ ‫َ َّ َ‬ ‫ْ‬ ‫َ ً‬ ‫َْ‬ ‫ُ‬ ‫((سـ ْـب َحان الـ ِـذي أ ْسـ َـرى ِب َع ْبـ ِـد ِه ل ْيــا ِمـ َـن ال ْسـ ِـج ِد ال َحـ َـر ِام‬

‫ْ َ ْ َ َّ‬ ‫َ ُ‬ ‫َ َْ‬ ‫َ‬ ‫َْ‬ ‫ِإلــى ال ْسـ ِـج ِد الق‬ ‫�صــى الـ ِـذي َب َاركنــا َح ْولـ ُـه ِلن ِرَيـ ُـه ِمـ ْـن َآيا ِتنــا‬ ‫ْ‬ ‫إ َّنـ ُـه ُهـ َـو َّ‬ ‫السـ ِـم ُيع ال َب ِصي ـ ُـر))[سورة اإلســراء‪ :‬آيــة ‪.]1‬‬ ‫ِ‬ ‫ونالــت فلسطي ــن التشــريف بكونهــا أرض اإلســراء‪ ،‬والت ــي‬ ‫ً‬ ‫ـاميا مــن يــوم َتسـ َّـلم مفتـ َ‬ ‫وقفــا إسـ ّ‬ ‫ـاح ب ــيت املقــدس‬ ‫غــدت‬ ‫ُ‬ ‫أمي ـ ُـر املؤمنـي ــن عمــر ب ــن الخطــاب ر�ضــي هللا عنــه‪...‬‬ ‫ومنــذ ذلــك العهــد حافــظ املســلمون علــى قبلتهــم األولــى‬ ‫الت ــي وجههــم هللا تعالــى إليهــا ســنوات مــن صــدر اإلســام‬ ‫تشريفا لهم بصالتهم إلى قبلة أب ــي األنب ــياء إب ــراهيم عليه‬ ‫الســام‪ ،‬ولربطهــم روحيــا وعمليــا باملســجد الــذي يلــي‬

‫(‪ )1‬رواه البخاري باب َق ْول هللا َت َع َالى َ[و َو َه ْب َنا ل َد ُاو َد ُس َل ْي َم َ‬ ‫ان ِن ْع َم ْال َع ْب ُد إ َّن ُه َأ َّو ٌ‬ ‫اب] رقم (‪ )3243‬ومسلم باب املساجد ومواضع الصالة رقم (‪.)520/1‬‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬

‫‪79‬‬


‫القدس‪ ..‬أرض رباط وجهاد‬ ‫املســجد الحــرام بالقــدم‪ ،‬ويلــي مســجد‬ ‫رســول هللا صلــى هللا عليــه وســلم‬ ‫بالفضيلــة‪ ،‬فكانــت الصــاة فــي املســجد‬ ‫الحــرام بمائــة ألــف صــاة‪ ،‬وفــي املســجد‬ ‫النبــوي بألــف صــاة وفــي املســجد‬ ‫األق�صــى بخمســمائة صــاة‪.‬‬

‫ولقد عمق رســول هللا صلى هللا عليه وســلم‬ ‫الصلــة الديـن ــية بـي ــن املســجد األق�صــى‬ ‫والب ــيت الح ـرام ومســجده أن جعلــه ممــا‬ ‫تشــد الرحــال إليــه عبــادة هلل لحديــث أب ــي‬ ‫ســعيد الخــدري ر�ضــي هللا عنــه‪ (( :‬ال تشــد‬ ‫الرحــال إال لثــاث مســاجد؛ املســجد الحـرام‬ ‫ومســجدي هــذا واملســجد االق�صــى))(‪.)2‬‬ ‫أمــا تكريــم املســجد األق�صــى والدليــل علــى‬ ‫كونــه ً‬ ‫أرضــا إسـ ّ‬ ‫ـامية حتــى قيــام الســاعة؛‬ ‫صــاة رســول هللا صلــى هللا عليــه وســلم‬ ‫فيــه ً‬ ‫إمامــا بجميــع األنب ــياء‪ ،‬فنــال املســجد‬ ‫ً‬ ‫األق�صــى بذلــك شــرفا علــى شــرف‪ ،‬وفيهــم‬ ‫أولــو العــزم مــن الرســل نــوح وإب ـراهيم‬ ‫ومو�ســى وعي�ســى عليهــم الســام‪ ...‬إن‬ ‫اقتــداء األنب ــياء ب ــرسولنا محمــد صلــى هللا‬ ‫عليــه وســلم فــي املســجد األق�صــى عبــارة‬ ‫عــن شــهادة مــن هــؤالء األنب ــياء الك ـرام‬ ‫بأنــه خاتــم األنب ــياء وكتابــه خاتــم الكتــب‪،‬‬ ‫وأن شـريعته خاتمــة الشـرائع الناســخة ملــا‬ ‫قبلهــا‪ ...‬وأنــه وأمتــه وراث النبــوات واألرض‬ ‫املباركــة واملســجد األق�صــى‪.‬‬ ‫ولقــد أخب ــر النب ــي صلــى هللا عليــه وســلم أن‬ ‫خي ــر أنــواع الجهــاد هــو الربــاط وهــو مراقبــة‬ ‫العــدو ومنعــه مــن انتهــاك حرمــات األمــة‪،‬‬ ‫وأن خي ــر هــذا الربــاط مــا كان قريبــا مــن ب ــيت‬ ‫ـال‪َ :‬قـ َ‬ ‫املقــدس‪َ ،‬عــن ْابــن َع َّبــاس‪َ ،‬قـ َ‬ ‫ـال َر ُســو ُل‬ ‫َ َّ ُِ َ َ ِْ َ َ َّ ٍ َ َ َّ ُ َ َ ْ َ‬ ‫ْ‬ ‫هللا صلــى هللا عليـ ِـه وســلم‪(( :‬أول هــذا المـ ِـر‬ ‫ِ‬ ‫ُن ُبـ َّـو ٌة َو َر ْح َمـ ٌـة‪ُ ،‬ثـ َّـم َي ُكــو ُن ِخ َل َفـ ًـة َو َر ْح َمـ ًـة‪ُ ،‬ثــمَّ‬ ‫ً‬ ‫ُ ُ ًْ‬ ‫ً ُ ُ ُ‬ ‫ً‬ ‫َيكــون ُملــكا َو َر ْح َمــة‪ ،‬ثـ َّـم َيكــون ِإ َمـ َـارة َو َر ْح َمة‪،‬‬ ‫ُ َّ َ َ َ ُ َ َ َ ْ َ ُ ْ‬ ‫َ َ ُ‬ ‫ـكاد َم ال ُح ُمـ ِـر ف َعل ْيكـ ْـم‬ ‫ثــم يتكادمــون عليـ ِـه تـ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ب ْالج َهــاد‪َ ،‬وإ َّن َأ ْف َ‬ ‫ضـ َـل جهادكـ ُـم ّ َ‬ ‫الربــاط‪َ ،‬وِإ َّن‬ ‫ِ‬ ‫َِ ِ ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ْ َ‬ ‫ُ ْ َ ْ َ َ ُ (‪)3‬‬ ‫باطكــم عســقلن)) ‪.‬‬ ‫أفضـ َـل ر ِ‬

‫(‪ )2‬رواه البخاري ومسلم وبقية الستة عن أبـي هريـرة وأبـي سعيد الخدري ر�ضي هللا عنهما‪.‬‬ ‫(‪ )3‬رواه الطبـرانـي في املعجم الكبـيـر‪ ،‬رقم (‪.)11138‬‬ ‫(‪ )4‬رواه البخاري ومسلم إال قوله (وأيـن هم‪ )....‬ألخ؛ فهو من رواية أحمد في مسنده رقم (‪.)22320‬‬

‫القدس‪ ..‬أرض رباط وجهاد‬

‫العدد ‪ 2‬رجب ‪1439‬هـ‬

‫وقــد جــاء فــي الســنة أن طائفــة منصــورة مــن‬ ‫أمــة اإلســام ســتكون ظاهــرة علــى الحــق‬ ‫إلــى قيــام الســاعة وأنهــم علــى أط ـراف ب ــيت‬ ‫ـال‪َ :‬قـ َ‬ ‫املقــدس‪َ ،‬عـ ْـن َأبــي ُأ َم َامـ َـة َقـ َ‬ ‫ـال َر ُســو ُل‬ ‫َ َّ ُ َ َ ِ ْ َ َ َّ َ َ َ َ ُ َ َ ٌ‬ ‫ال طا ِئفــة‬ ‫هللا صلــى هللا عليـ ِـه وســلم‪(( :‬ل تــز‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫مـ ْـن ُأ َّمت ــي َع َلــى ّ‬ ‫ُ‬ ‫الدي ــن َظاهري ـ َـن ل َعد ّوهــمْ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ​ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫َقاهري ـ َـن َل َي ُ‬ ‫ض ُّر ُهـ ْـم َمـ ْـن َخ َال َف ُهـ ْـم إ َّل مــاَ‬ ‫ِ‬ ‫َ ِ ِ‬ ‫أ َ‬ ‫ص َاب ُه ْم ِم ْن َ ْل َو َاء ‪ -‬أي أذى ‪َ -‬ح َّتى َي ْأ ِت َي ُه ْم َأ ْمرُ‬ ‫َ‬ ‫َُ َ َ َ َ ُ َ ُ َ‬ ‫هللا َوأ ْيـ َـن‬ ‫هللا وهـ ْـم كذ ِلــك))‪ .‬قالــوا‪ :‬يــا َرسـ َـول ِ‬ ‫ِ‬ ‫َ ْ‬ ‫ُ ْ َ َ َْ َْ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ـاف بيـ ِـت‬ ‫((ببيـ ِـت القـ ِـد ِس وأكنـ ِ‬ ‫ْهــم؟ قــال‪ِ :‬‬ ‫َْ‬ ‫القـ ِـد ِس))(‪. )4‬‬

‫منازعة الباطل الحق وأهله‪:‬‬ ‫لقــد فتــح املســلمون ب ــيت املقــدس فــي‬ ‫خالفــة عمــر ب ــن الخطــاب ر�ضــي هللا عنــه‪،‬‬ ‫واســتخلصوه مــرة أخــرى مــن الرومــان‬ ‫والصليبـييـن بأمر هللا في زمن الناصر لديـن‬ ‫هللا صالح الدي ــن األيوب ــي‪ّ ،‬‬ ‫وقدموا في سب ــيل‬ ‫ذلــك اآلالف مــن الشــهداء الذي ــن َّروت‬ ‫دماؤهــم الزاكيــة أرض فلسطي ــن وحافظــوا‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫يدنــس أرضــه �شـ ٌ‬ ‫عليــه ّ‬ ‫ـيء‬ ‫مصونــا ال‬ ‫مكر ًمــا‬ ‫حتــى القــرن الخامــس عشــر امليــادي‪...‬‬ ‫فــي القــرن الخامــس عشــر امليــادي وبعــد‬ ‫احتــال األندلــس وتهجي ــر أهلهــا قسـ ًـرا أو‬ ‫تنصي ــرهم جب ـ ًّريا مسلمي ــن وب ــروتستانت‬ ‫ويهــود قامــت الدولــة العثمان ــية باســتقبال‬ ‫هــؤالء املهجري ــن وكثي ــر منهــم مــن اليهــود‬ ‫لي ــنعموا باألمــان والحريــة فــي أرض اإلســام‪.‬‬ ‫كان اليهــود املشــتتون فــي العالــم يحســدون‬ ‫يهــود الدونمــة الذي ــن يعيشــون مكرمي ــن فــي‬ ‫سالنـيك التـي كانت إحدى مدن العثمانـييـن‬ ‫املهمــة‪ ،‬ويتمنــون أن يعيشــوا عيشــتهم‪،‬‬ ‫وبالفعــل مــا أن اضطهــد اليهــود فــي إسبان ــيا‬

‫‪80‬‬

‫العدد ‪ 2‬رجب ‪1439‬هـ‬

‫حتــى قامــت الخالفــة العثمان ــية بتحقيــق‬ ‫أمانـيهم في العيش بأمان وسالم فاستقبلتهم‬ ‫ورعتهــم وحفظتهــم مــن االضطهــاد ووقفــت‬ ‫بجانبهــم‪ ،‬ولكــن اليهــود قــوم غــدر يســيئون‬ ‫إلــى مــن أحســن إليهــم ويطعنــون مــن ائتمنهــم‬ ‫فــي ظهــره‪.‬‬ ‫مــا أن كشــرت أوروبــا عــن أن ــيابها ضــد‬ ‫الدولــة العثمان ــية حتــى صــار اليهــود مخالــب‬ ‫شري ــرة لتنفيــذ أطمــاع أوروبــا فــي قلــب بــاد‬ ‫املسلميـن‪ ،‬قامت أوربا بالتواصل مع هؤالء‬ ‫الخونة ووعدتهم بإنشــاء وطن قومي لهم في‬ ‫أرض فلسطي ــن إن هــم ســاندوها فــي حربهــا‬ ‫علــى الخالفــة العثمان ــية‪ ...‬وكانــت تهــدف‬ ‫أوربــا مــن ذلــك أن تحتــل نقطــة التقــاء لهــا‬ ‫بـي ــن الشــرق والغــرب‪ ،‬وهكــذا خططــت‬ ‫ً‬ ‫الحتــال فلسطي ــن احتــال طويــل األمــد‬ ‫عب ــر غــرز خنجرهــا اليهــودي املســموم فــي‬ ‫قلب الشرق املسلم في فلسطيـن وسويدائه‬ ‫القــدس الش ـريفة‪...‬‬ ‫إن فلسطي ــن بالنســبة ألوربــا مفتــاح‬ ‫استـراتـيجيمهمملنطقةالشرقاألوسط‪،‬وإن‬ ‫التقــاء مصالــح األوروبـيي ــن مــع مطامــع اليهــود‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫الصهاي ــنة فــي فلسطي ــن شــكل فرصــة ذهب ـ ّـية‬ ‫أمــام اإلنكليــز الســتخدام الوجــود اليهــودي فــي‬ ‫الشــرق األوســط وأموالهــم الضخمــة فــي أوربــا‬ ‫فــي حربهــا علــى الخالفــة العثمان ــية‪.‬‬ ‫ومــن أجــل تنفيــذ هــذا املخطــط فقــد ابتكــر‬ ‫الصهاي ــنة خطــة تجميــع يهــود الشــتات عب ــر‬ ‫مشــروع (الدولــة اليهوديــة فــي فلسطي ــن)‬ ‫التخاذهــا ً‬ ‫ًّ‬ ‫قوميــا لهــم‪ ،‬إذ هــذا هــو‬ ‫وطنــا‬ ‫الهــدف العقائــدي للحركــة الصهيون ــية‬ ‫الت ــي ّ‬ ‫أسســها الصحافــي اليهــودي ت ــيودور‬

‫لقطة من املؤتمر الصهيونـي السادس املنعقد في بازل عام ‪1903‬‬

‫هرتــزل ســنه ‪1895‬م؛ بدعــم وتوجيــه مــن‬ ‫الحكومــة البـريطان ــية والقيــادات اليهوديــة‬ ‫فــي أوربــا‪ ...‬وقــد اتخــذت هــذه الحركــة اســمها‬ ‫مــن جبــل صهيــون القريــب مــن القــدس‪،‬‬ ‫وباعتبــار هرتــزل قائـ ًـدا لهــذه الحركــة فقــد‬ ‫دعــا إلــى مؤتمــر يوضــح فيــه مشــروعه فــي‬ ‫بــازل السويس ـرية ســنة ‪1897‬م (‪ ،)5‬تلتــه‬ ‫عــدة مؤتم ـرات أخــرى‪.‬‬

‫اليهود والبحث عن وطن‪:‬‬ ‫إن احتالل بالد فلسطي ــن والقدس املباركة‬ ‫لم يكن طفرة في ّ‬ ‫السياسة البـريطانـية أو قفزة‬ ‫ِ‬ ‫خارقــة فــي القــدرة اليهوديــة؛ وإنمــا كان نت ــيجة‬ ‫لتخطيــط بـريطان ــي طويــل األمــد واتفاقــات‬ ‫س ـرية ومعلنــة بـي ــن الساســة البـريطانـيي ــن‬ ‫وأباطــرة املــال اليهــود‪ ،‬ولــم يكــن هرتــزل إال‬ ‫ُّ‬ ‫الصــورة الظاهــرة لهــذا االتفــاق العميــق‪.‬‬ ‫إن كتــاب (الدولــة اليهوديــة) لت ــيودور هرتــزل‬ ‫فيه التفاصيل الكافية لالطالع على مراحل‬ ‫التخطيط للسيطرة على فلسطيـن‪.‬‬ ‫لقــد بــدأت الفكــرة حي ــنما أعلــن هرتــزل‬ ‫عــن حاجــة اليهــود للعيــش فــي وطــن قومــي‬ ‫لهــم يجمــع شــتاتهم وتحكمــه دولــة يهوديــة‬

‫(‪( )5‬املوسوعة الثقافية) مؤسسه فرانكليـن‪ ،‬طبعة القاهرة ‪ ،1972‬بإشراف الدكتور حسيـن سعيد (ص ‪)624‬‬ ‫(‪ )6‬كتاب الدولة اليهودية‪ ،‬تأليف تـيودور هرتزل (ص ‪ )101‬وما بعدها‪ ،‬طبعة مكتبة اإلمام البخاري ‪.2009‬‬ ‫(‪ )7‬كتاب الدولة اليهودية‪( ،‬ص ‪.)102‬‬

‫خالصــة‪ ،‬وعندمــا قــام هرتــزل بوضــع‬ ‫مشروعه إلقامة دولة يهودية وضع خياريـن‬ ‫لهذا الوطن‪ ،‬وهما فلسطي ــن أو األرجنتـي ــن‪.‬‬ ‫لقــد قــام هرتــزل فــي كتابــه (الدولــة اليهوديــة)‬ ‫بطــرح تســاؤله عــن اخت ــيار اليهــود بـي ــن‬ ‫فلسطي ــن واألرجنتـي ــن‪ ،‬ثــم أجــاب علــى‬ ‫ذلــك فقــال‪( :‬إننــا ســنأخذ مــا ُيعطــى لنــا‬ ‫ومــا يختــاره ال ـرأي العــام اليهــودي‪ ،‬وســوف‬ ‫تقرره الجمعية)(‪ )6‬وقد تكلم عن األرجنتـيـن‬ ‫ذاكـ ًـرا مزاياهــا الت ــي تخــدم مشــروع الدولــة‬ ‫اليهوديــة‪ ،‬ولكنــه عندمــا تكلــم عــن فلسطي ــن‬ ‫قــال‪( :‬هــي وطننــا التاريخــي الــذي ال تمحــى‬ ‫ذك ـراه‪ ،‬فمجــرد ذكــر اســمها يجــذب شعب ــنا‬ ‫بقــوة هائلــة)(‪ ،)7‬ولكنــه وبتوجيــه مــن‬ ‫البـريطانـييـن والقيادات الصهيونـية في أوربا‬ ‫لهرتــزل تــم التخلــي عــن فكــرة األرجنتـي ــن‬ ‫والت ــركيز علــى فلسطي ــن‪.‬‬ ‫وقــد تكلــم فــي كتابــه عــن ضــرورة الرعايــة‬ ‫الدوليــة لهجــرة اليهــود فقــال‪( :‬عندمــا‬ ‫يشــعر الســكان املحليــون أنهــم مهــددون‬ ‫ســوف يجب ــرون الحكومــة علــى إيقــاف أي‬ ‫تدفــق جديــد لليهــود‪ ،‬وبالتالــي فــإن الهجــرة‬ ‫ال جــدوى منهــا مــا لــم تقــم علــى أســاس مــن‬

‫‪81‬‬


‫القدس‪ ..‬أرض رباط وجهاد‬ ‫املســجد الحــرام بالقــدم‪ ،‬ويلــي مســجد‬ ‫رســول هللا صلــى هللا عليــه وســلم‬ ‫بالفضيلــة‪ ،‬فكانــت الصــاة فــي املســجد‬ ‫الحــرام بمائــة ألــف صــاة‪ ،‬وفــي املســجد‬ ‫النبــوي بألــف صــاة وفــي املســجد‬ ‫األق�صــى بخمســمائة صــاة‪.‬‬

‫ولقد عمق رســول هللا صلى هللا عليه وســلم‬ ‫الصلــة الديـن ــية بـي ــن املســجد األق�صــى‬ ‫والب ــيت الح ـرام ومســجده أن جعلــه ممــا‬ ‫تشــد الرحــال إليــه عبــادة هلل لحديــث أب ــي‬ ‫ســعيد الخــدري ر�ضــي هللا عنــه‪ (( :‬ال تشــد‬ ‫الرحــال إال لثــاث مســاجد؛ املســجد الحـرام‬ ‫ومســجدي هــذا واملســجد االق�صــى))(‪.)2‬‬ ‫أمــا تكريــم املســجد األق�صــى والدليــل علــى‬ ‫كونــه ً‬ ‫أرضــا إسـ ّ‬ ‫ـامية حتــى قيــام الســاعة؛‬ ‫صــاة رســول هللا صلــى هللا عليــه وســلم‬ ‫فيــه ً‬ ‫إمامــا بجميــع األنب ــياء‪ ،‬فنــال املســجد‬ ‫ً‬ ‫األق�صــى بذلــك شــرفا علــى شــرف‪ ،‬وفيهــم‬ ‫أولــو العــزم مــن الرســل نــوح وإب ـراهيم‬ ‫ومو�ســى وعي�ســى عليهــم الســام‪ ...‬إن‬ ‫اقتــداء األنب ــياء ب ــرسولنا محمــد صلــى هللا‬ ‫عليــه وســلم فــي املســجد األق�صــى عبــارة‬ ‫عــن شــهادة مــن هــؤالء األنب ــياء الك ـرام‬ ‫بأنــه خاتــم األنب ــياء وكتابــه خاتــم الكتــب‪،‬‬ ‫وأن شـريعته خاتمــة الشـرائع الناســخة ملــا‬ ‫قبلهــا‪ ...‬وأنــه وأمتــه وراث النبــوات واألرض‬ ‫املباركــة واملســجد األق�صــى‪.‬‬ ‫ولقــد أخب ــر النب ــي صلــى هللا عليــه وســلم أن‬ ‫خي ــر أنــواع الجهــاد هــو الربــاط وهــو مراقبــة‬ ‫العــدو ومنعــه مــن انتهــاك حرمــات األمــة‪،‬‬ ‫وأن خي ــر هــذا الربــاط مــا كان قريبــا مــن ب ــيت‬ ‫ـال‪َ :‬قـ َ‬ ‫املقــدس‪َ ،‬عــن ْابــن َع َّبــاس‪َ ،‬قـ َ‬ ‫ـال َر ُســو ُل‬ ‫َ َّ ُِ َ َ ِْ َ َ َّ ٍ َ َ َّ ُ َ َ ْ َ‬ ‫ْ‬ ‫هللا صلــى هللا عليـ ِـه وســلم‪(( :‬أول هــذا المـ ِـر‬ ‫ِ‬ ‫ُن ُبـ َّـو ٌة َو َر ْح َمـ ٌـة‪ُ ،‬ثـ َّـم َي ُكــو ُن ِخ َل َفـ ًـة َو َر ْح َمـ ًـة‪ُ ،‬ثــمَّ‬ ‫ً‬ ‫ُ ُ ًْ‬ ‫ً ُ ُ ُ‬ ‫ً‬ ‫َيكــون ُملــكا َو َر ْح َمــة‪ ،‬ثـ َّـم َيكــون ِإ َمـ َـارة َو َر ْح َمة‪،‬‬ ‫ُ َّ َ َ َ ُ َ َ َ ْ َ ُ ْ‬ ‫َ َ ُ‬ ‫ـكاد َم ال ُح ُمـ ِـر ف َعل ْيكـ ْـم‬ ‫ثــم يتكادمــون عليـ ِـه تـ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ب ْالج َهــاد‪َ ،‬وإ َّن َأ ْف َ‬ ‫ضـ َـل جهادكـ ُـم ّ َ‬ ‫الربــاط‪َ ،‬وِإ َّن‬ ‫ِ‬ ‫َِ ِ ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ْ َ‬ ‫ُ ْ َ ْ َ َ ُ (‪)3‬‬ ‫باطكــم عســقلن)) ‪.‬‬ ‫أفضـ َـل ر ِ‬

‫(‪ )2‬رواه البخاري ومسلم وبقية الستة عن أبـي هريـرة وأبـي سعيد الخدري ر�ضي هللا عنهما‪.‬‬ ‫(‪ )3‬رواه الطبـرانـي في املعجم الكبـيـر‪ ،‬رقم (‪.)11138‬‬ ‫(‪ )4‬رواه البخاري ومسلم إال قوله (وأيـن هم‪ )....‬ألخ؛ فهو من رواية أحمد في مسنده رقم (‪.)22320‬‬

‫القدس‪ ..‬أرض رباط وجهاد‬

‫العدد ‪ 2‬رجب ‪1439‬هـ‬

‫وقــد جــاء فــي الســنة أن طائفــة منصــورة مــن‬ ‫أمــة اإلســام ســتكون ظاهــرة علــى الحــق‬ ‫إلــى قيــام الســاعة وأنهــم علــى أط ـراف ب ــيت‬ ‫ـال‪َ :‬قـ َ‬ ‫املقــدس‪َ ،‬عـ ْـن َأبــي ُأ َم َامـ َـة َقـ َ‬ ‫ـال َر ُســو ُل‬ ‫َ َّ ُ َ َ ِ ْ َ َ َّ َ َ َ َ ُ َ َ ٌ‬ ‫ال طا ِئفــة‬ ‫هللا صلــى هللا عليـ ِـه وســلم‪(( :‬ل تــز‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫مـ ْـن ُأ َّمت ــي َع َلــى ّ‬ ‫ُ‬ ‫الدي ــن َظاهري ـ َـن ل َعد ّوهــمْ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ​ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫َقاهري ـ َـن َل َي ُ‬ ‫ض ُّر ُهـ ْـم َمـ ْـن َخ َال َف ُهـ ْـم إ َّل مــاَ‬ ‫ِ‬ ‫َ ِ ِ‬ ‫أ َ‬ ‫ص َاب ُه ْم ِم ْن َ ْل َو َاء ‪ -‬أي أذى ‪َ -‬ح َّتى َي ْأ ِت َي ُه ْم َأ ْمرُ‬ ‫َ‬ ‫َُ َ َ َ َ ُ َ ُ َ‬ ‫هللا َوأ ْيـ َـن‬ ‫هللا وهـ ْـم كذ ِلــك))‪ .‬قالــوا‪ :‬يــا َرسـ َـول ِ‬ ‫ِ‬ ‫َ ْ‬ ‫ُ ْ َ َ َْ َْ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ـاف بيـ ِـت‬ ‫((ببيـ ِـت القـ ِـد ِس وأكنـ ِ‬ ‫ْهــم؟ قــال‪ِ :‬‬ ‫َْ‬ ‫القـ ِـد ِس))(‪. )4‬‬

‫منازعة الباطل الحق وأهله‪:‬‬ ‫لقــد فتــح املســلمون ب ــيت املقــدس فــي‬ ‫خالفــة عمــر ب ــن الخطــاب ر�ضــي هللا عنــه‪،‬‬ ‫واســتخلصوه مــرة أخــرى مــن الرومــان‬ ‫والصليبـييـن بأمر هللا في زمن الناصر لديـن‬ ‫هللا صالح الدي ــن األيوب ــي‪ّ ،‬‬ ‫وقدموا في سب ــيل‬ ‫ذلــك اآلالف مــن الشــهداء الذي ــن َّروت‬ ‫دماؤهــم الزاكيــة أرض فلسطي ــن وحافظــوا‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫يدنــس أرضــه �شـ ٌ‬ ‫عليــه ّ‬ ‫ـيء‬ ‫مصونــا ال‬ ‫مكر ًمــا‬ ‫حتــى القــرن الخامــس عشــر امليــادي‪...‬‬ ‫فــي القــرن الخامــس عشــر امليــادي وبعــد‬ ‫احتــال األندلــس وتهجي ــر أهلهــا قسـ ًـرا أو‬ ‫تنصي ــرهم جب ـ ًّريا مسلمي ــن وب ــروتستانت‬ ‫ويهــود قامــت الدولــة العثمان ــية باســتقبال‬ ‫هــؤالء املهجري ــن وكثي ــر منهــم مــن اليهــود‬ ‫لي ــنعموا باألمــان والحريــة فــي أرض اإلســام‪.‬‬ ‫كان اليهــود املشــتتون فــي العالــم يحســدون‬ ‫يهــود الدونمــة الذي ــن يعيشــون مكرمي ــن فــي‬ ‫سالنـيك التـي كانت إحدى مدن العثمانـييـن‬ ‫املهمــة‪ ،‬ويتمنــون أن يعيشــوا عيشــتهم‪،‬‬ ‫وبالفعــل مــا أن اضطهــد اليهــود فــي إسبان ــيا‬

‫‪80‬‬

‫العدد ‪ 2‬رجب ‪1439‬هـ‬

‫حتــى قامــت الخالفــة العثمان ــية بتحقيــق‬ ‫أمانـيهم في العيش بأمان وسالم فاستقبلتهم‬ ‫ورعتهــم وحفظتهــم مــن االضطهــاد ووقفــت‬ ‫بجانبهــم‪ ،‬ولكــن اليهــود قــوم غــدر يســيئون‬ ‫إلــى مــن أحســن إليهــم ويطعنــون مــن ائتمنهــم‬ ‫فــي ظهــره‪.‬‬ ‫مــا أن كشــرت أوروبــا عــن أن ــيابها ضــد‬ ‫الدولــة العثمان ــية حتــى صــار اليهــود مخالــب‬ ‫شري ــرة لتنفيــذ أطمــاع أوروبــا فــي قلــب بــاد‬ ‫املسلميـن‪ ،‬قامت أوربا بالتواصل مع هؤالء‬ ‫الخونة ووعدتهم بإنشــاء وطن قومي لهم في‬ ‫أرض فلسطي ــن إن هــم ســاندوها فــي حربهــا‬ ‫علــى الخالفــة العثمان ــية‪ ...‬وكانــت تهــدف‬ ‫أوربــا مــن ذلــك أن تحتــل نقطــة التقــاء لهــا‬ ‫بـي ــن الشــرق والغــرب‪ ،‬وهكــذا خططــت‬ ‫ً‬ ‫الحتــال فلسطي ــن احتــال طويــل األمــد‬ ‫عب ــر غــرز خنجرهــا اليهــودي املســموم فــي‬ ‫قلب الشرق املسلم في فلسطيـن وسويدائه‬ ‫القــدس الش ـريفة‪...‬‬ ‫إن فلسطي ــن بالنســبة ألوربــا مفتــاح‬ ‫استـراتـيجيمهمملنطقةالشرقاألوسط‪،‬وإن‬ ‫التقــاء مصالــح األوروبـيي ــن مــع مطامــع اليهــود‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫الصهاي ــنة فــي فلسطي ــن شــكل فرصــة ذهب ـ ّـية‬ ‫أمــام اإلنكليــز الســتخدام الوجــود اليهــودي فــي‬ ‫الشــرق األوســط وأموالهــم الضخمــة فــي أوربــا‬ ‫فــي حربهــا علــى الخالفــة العثمان ــية‪.‬‬ ‫ومــن أجــل تنفيــذ هــذا املخطــط فقــد ابتكــر‬ ‫الصهاي ــنة خطــة تجميــع يهــود الشــتات عب ــر‬ ‫مشــروع (الدولــة اليهوديــة فــي فلسطي ــن)‬ ‫التخاذهــا ً‬ ‫ًّ‬ ‫قوميــا لهــم‪ ،‬إذ هــذا هــو‬ ‫وطنــا‬ ‫الهــدف العقائــدي للحركــة الصهيون ــية‬ ‫الت ــي ّ‬ ‫أسســها الصحافــي اليهــودي ت ــيودور‬

‫لقطة من املؤتمر الصهيونـي السادس املنعقد في بازل عام ‪1903‬‬

‫هرتــزل ســنه ‪1895‬م؛ بدعــم وتوجيــه مــن‬ ‫الحكومــة البـريطان ــية والقيــادات اليهوديــة‬ ‫فــي أوربــا‪ ...‬وقــد اتخــذت هــذه الحركــة اســمها‬ ‫مــن جبــل صهيــون القريــب مــن القــدس‪،‬‬ ‫وباعتبــار هرتــزل قائـ ًـدا لهــذه الحركــة فقــد‬ ‫دعــا إلــى مؤتمــر يوضــح فيــه مشــروعه فــي‬ ‫بــازل السويس ـرية ســنة ‪1897‬م (‪ ،)5‬تلتــه‬ ‫عــدة مؤتم ـرات أخــرى‪.‬‬

‫اليهود والبحث عن وطن‪:‬‬ ‫إن احتالل بالد فلسطي ــن والقدس املباركة‬ ‫لم يكن طفرة في ّ‬ ‫السياسة البـريطانـية أو قفزة‬ ‫ِ‬ ‫خارقــة فــي القــدرة اليهوديــة؛ وإنمــا كان نت ــيجة‬ ‫لتخطيــط بـريطان ــي طويــل األمــد واتفاقــات‬ ‫س ـرية ومعلنــة بـي ــن الساســة البـريطانـيي ــن‬ ‫وأباطــرة املــال اليهــود‪ ،‬ولــم يكــن هرتــزل إال‬ ‫ُّ‬ ‫الصــورة الظاهــرة لهــذا االتفــاق العميــق‪.‬‬ ‫إن كتــاب (الدولــة اليهوديــة) لت ــيودور هرتــزل‬ ‫فيه التفاصيل الكافية لالطالع على مراحل‬ ‫التخطيط للسيطرة على فلسطيـن‪.‬‬ ‫لقــد بــدأت الفكــرة حي ــنما أعلــن هرتــزل‬ ‫عــن حاجــة اليهــود للعيــش فــي وطــن قومــي‬ ‫لهــم يجمــع شــتاتهم وتحكمــه دولــة يهوديــة‬

‫(‪( )5‬املوسوعة الثقافية) مؤسسه فرانكليـن‪ ،‬طبعة القاهرة ‪ ،1972‬بإشراف الدكتور حسيـن سعيد (ص ‪)624‬‬ ‫(‪ )6‬كتاب الدولة اليهودية‪ ،‬تأليف تـيودور هرتزل (ص ‪ )101‬وما بعدها‪ ،‬طبعة مكتبة اإلمام البخاري ‪.2009‬‬ ‫(‪ )7‬كتاب الدولة اليهودية‪( ،‬ص ‪.)102‬‬

‫خالصــة‪ ،‬وعندمــا قــام هرتــزل بوضــع‬ ‫مشروعه إلقامة دولة يهودية وضع خياريـن‬ ‫لهذا الوطن‪ ،‬وهما فلسطي ــن أو األرجنتـي ــن‪.‬‬ ‫لقــد قــام هرتــزل فــي كتابــه (الدولــة اليهوديــة)‬ ‫بطــرح تســاؤله عــن اخت ــيار اليهــود بـي ــن‬ ‫فلسطي ــن واألرجنتـي ــن‪ ،‬ثــم أجــاب علــى‬ ‫ذلــك فقــال‪( :‬إننــا ســنأخذ مــا ُيعطــى لنــا‬ ‫ومــا يختــاره ال ـرأي العــام اليهــودي‪ ،‬وســوف‬ ‫تقرره الجمعية)(‪ )6‬وقد تكلم عن األرجنتـيـن‬ ‫ذاكـ ًـرا مزاياهــا الت ــي تخــدم مشــروع الدولــة‬ ‫اليهوديــة‪ ،‬ولكنــه عندمــا تكلــم عــن فلسطي ــن‬ ‫قــال‪( :‬هــي وطننــا التاريخــي الــذي ال تمحــى‬ ‫ذك ـراه‪ ،‬فمجــرد ذكــر اســمها يجــذب شعب ــنا‬ ‫بقــوة هائلــة)(‪ ،)7‬ولكنــه وبتوجيــه مــن‬ ‫البـريطانـييـن والقيادات الصهيونـية في أوربا‬ ‫لهرتــزل تــم التخلــي عــن فكــرة األرجنتـي ــن‬ ‫والت ــركيز علــى فلسطي ــن‪.‬‬ ‫وقــد تكلــم فــي كتابــه عــن ضــرورة الرعايــة‬ ‫الدوليــة لهجــرة اليهــود فقــال‪( :‬عندمــا‬ ‫يشــعر الســكان املحليــون أنهــم مهــددون‬ ‫ســوف يجب ــرون الحكومــة علــى إيقــاف أي‬ ‫تدفــق جديــد لليهــود‪ ،‬وبالتالــي فــإن الهجــرة‬ ‫ال جــدوى منهــا مــا لــم تقــم علــى أســاس مــن‬

‫‪81‬‬


‫القدس‪ ..‬أرض رباط وجهاد‬ ‫هيمنــة مضمونــة) ويقصــد بذلــك ضمــان‬ ‫وجــود دولــة تكفــل لهــم ذلــك‪.‬‬ ‫ومــن خــال الــكالم التالــي لهرتــزل نســتطيع‬ ‫أن نعــرف موضــع خطــة إقامــة وطــن لليهــود‬ ‫فــي فلسطي ــن مــن السياســة الدوليــة فــي‬ ‫الحــرب علــى الشــرق املســلم‪ ،‬يقــول هرتــزل‪:‬‬ ‫(إذا أخذنــا فلسطي ــن ســوف ُتشــكل جـ ً‬ ‫ـزءا‬ ‫مــن اســتحكامات أوروبــا فــي مواجهــة آســيا‬ ‫كموقــع أمامــي للحضــارة الغرب ــية فــي مواجهه‬ ‫البـرب ـرية‪ ،‬وعلي ــنا كدولــة طب ــيعية أن نبقــى‬ ‫علــى اتصــال بــكل أوروبــا الت ــي ســيكون مــن‬ ‫واجبهــا أن تضمــن وجودنــا)(‪.)8‬‬ ‫املفاوضــات مــع الســلطان عبــد الحميــد‬ ‫خــان الثان ــي‪:‬‬ ‫بعــد االتفــاق البـريطان ــي الصهيون ــي علــى‬ ‫تأســيس وطــن لليهــود علــى أرض فلسطي ــن‬ ‫انتقلوا إلى مرحلة املساومة مع السلطان عبد‬ ‫الحميــد‪ ،‬والــذي كان بــدوره ي ــرصد تحركاتهــم‬ ‫ومحاوالتهــم فــي إثــارة األقليــة األرمن ــية‪ ،‬وشـراء‬ ‫ذمــم بعــض األت ـراك املاسونـيي ــن‪ ،‬للضغــط‬ ‫عليــه وإجبــاره علــى إعطائهــم مــا ي ـريدون‪،‬‬ ‫يقــول هرتــزل عــن خطــة مســاومة الســلطان‬ ‫عبــد الحميــد (فــإذا منحنــا جاللــة الســلطان‬ ‫فلسطي ــن ســنأخذ علــى عاتقنــا باملقابــل‬ ‫تنظيــم ماليــة ت ــركيا)(‪.)9‬‬ ‫وأمــا عــن رؤيــة الســلطان عبــد الحميــد‬ ‫لتحــركات وعــروض اليهــود فقــد قــال‪( :‬إذا‬ ‫ً‬ ‫كنــا نريــد أن يبقــى العنصــر العرب ــي متفوقــا؛‬ ‫علي ــنا أن نصــرف النظــر عــن فكــرة توطي ــن‬ ‫املهاجري ــن في فلسطي ــن‪ ،‬وإال فإن اليهود إذا‬ ‫اســتوطنوا ً‬ ‫أرضــا تملكــوا كافــة قدراتهــا خــال‬ ‫وقــت قصي ــر‪ ،‬ولــذا نكــون قــد حكمنــا علــى‬ ‫إخواننــا فــي الدي ــن باملــوت املحتــم)(‪. )10‬‬

‫لقــد أدرك الســلطان أبعــاد املشــروع‬ ‫الصهيونـي وتداعياته رغم العروض املغرية‬ ‫الت ــي قدموهــا إلنقــاذ الخالفــة مــن مشــاكلها‬ ‫االقتصاديــة‪ ...‬وملــا ســاوموه باملــال بعــد‬ ‫مقابلــة هرتــزل لــه قــال‪( :‬لــن يســتطيع رئيــس‬ ‫الصهاي ــنة هرتــزل أن يقنعن ــي بأفــكاره‪...‬‬ ‫لــن يكتفــي الصهاي ــنة بممارســة األعمــال‬ ‫الزراعيــة فــي فلسطي ــن بــل ي ـريدون أمـ ً‬ ‫ـورا‬ ‫مثــل تشــكيل حكومــة وانتخــاب ممثلي ــن‪،‬‬ ‫إنن ــي أدرك أطماعهــم جيـ ًـدا)(‪.)11‬‬ ‫ً‬ ‫وردا علــى رفــض الســلطان لعــروض اليهــود‬ ‫قــام اليهــود بضــم جمعيــة االتحــاد والت ــرقي‬ ‫إلــى مخططهــم للضغــط علــى عبــد الحميــد‬ ‫خــان‪ ،‬يقــول الســلطان فــي رســالة لــه لشــيخه‬ ‫أب ــي الشــامات‪( :‬إن هــؤالء االتحاديي ــن قــد‬ ‫أصــروا علــي بــأن أصــادق علــى تأســيس وطــن‬ ‫قومي لليهود في األرض املقدسة (فلسطيـن)‪،‬‬ ‫ورغــم إصرارهــم لــم أقبــل بصــورة قطعيــة‬ ‫هــذا التكليــف‪ ،‬وأخي ـ ًـرا وعــدوا بتقديــم مائــة‬ ‫و خمسي ــن مليــون لي ــرة إنجليزيــة ً‬ ‫ذهبــا‪،‬‬ ‫فرفضــت هــذا التكليــف بصــورة قطعيــة‬ ‫ً‬ ‫أيضــا‪ ،‬و أجبتهــم بهــذا الجــواب القطعــي‪:‬‬ ‫إنكــم لــو دفعتــم مـ ْـلء الدن ــيا ً‬ ‫ذهبــا فلــن أقبــل‬ ‫بتكليفكــم هــذا بوجــه قطعــي‪ ،‬لقــد خدمــت‬ ‫امللة اإلسالمية و امللة املحمدية ما يزيد على‬ ‫ثالثيـن سنة فلن أسود صحائف املسلميـن‬ ‫آبائــي وأجــدادي مــن السالطي ــن والخلفــاء‬ ‫العثمانـيي ــن‪ ...‬و بعــد جواب ــي هــذا اتفقــوا‬ ‫علــى خلعــي‪ ،‬و أبلغون ــي أنهــم سيبعدونن ــي إلــى‬ ‫سالن ــيك‪ ،‬فقبلــت بهــذا التكليــف األخي ــر‪،‬‬ ‫و حمدت املولى‪ ،‬و أحمده أننـي لم أقبل بأن‬ ‫ألطــخ العالــم اإلســامي بهــذا العــار األبــدي‬ ‫النا�شــئ عــن تكليفهــم بإقامــة دولــة يهوديــة فــي‬

‫(‪ )8‬كتاب الدولة اليهودية‪( ،‬ص ‪ )9( - .)102‬املصدر السابق (ص ‪.)102‬‬ ‫(‪ )10‬السلطان عبد الحميد‪ ،‬مذكراتـي السياسية (ص ‪ )11( - .)24‬املصدر السابق (ص ‪ 34‬و ‪.)35‬‬

‫القدس‪ ..‬أرض رباط وجهاد‬

‫العدد ‪ 2‬رجب ‪1439‬هـ‬

‫األرا�ضــي املقدســة‪.)...‬‬ ‫وحقيقــة لــم تمــض ســنوات حتــى دفــع‬ ‫الســلطان عبــد الحميــد ثمــن رفضــه ً‬ ‫غاليــا‪،‬‬ ‫لقــد خلــع عــن عرشــه وحبــس‪ ،‬وعلــى إث ــر‬ ‫ذلــك انهــارت الخالفــة وتال�شــى ســلطانها‪.‬‬

‫لنصــرة مشــاريع الحركــة الصهيون ــية‪ ...‬كمــا‬ ‫اســتخدمت هــذه الفكــرة فيمــا بعــد فــي تجريــم‬ ‫أوربا ووظفت للحصول على وطن قومي لهم‬ ‫فــي أمريــكا الجنوب ــية أو إفريقيــا أو فلسطي ــن‪.‬‬ ‫وخالل فتـرات الحقة استطاع اليهود تحريك‬ ‫ال ـرأي العــام األورب ــي ومؤسســات حقــوق‬ ‫اإلنسان تجاه مصالحهم عب ــر تسويق فكرة‬ ‫العداء للســامية في أوربا محتجي ــن بما فعله‬ ‫هتلــر وبمــا ســمي بالهولوكوســت‪ ...‬وبالفعــل‬ ‫فقــد تعاطفــت معهــم الكثي ــر مــن الشــعوب‬ ‫والحكومــات الغرب ــية الليب ـرالية املعاديــة‬ ‫للنازيــة وبــدأت الــدول األورب ــية تشـ ِ ّـجع‬ ‫الصهاي ــنة أكث ــر مــن ذي قبــل علــى الهجــرة إلــى‬ ‫ُّ‬ ‫فلسطي ــن وتملــك أراضيهــا‪.‬‬

‫ّادعاء اليهود أن فلسطيـن لهم‪:‬‬

‫السطان عبد الحميد الثانـي‬

‫دعوى عداء السامية‪:‬‬ ‫إن الطب ــيعة الشــخصية اليهوديــة الت ــي‬ ‫اتصفــت بالغــدر والبخــل وحــب االنتقــام‬ ‫واملخاتلــة واملكــر والجب ــن؛ أدت إلــى عيشــهم‬ ‫كمنبوذيـن بـيـن الشعوب التـي ُو ِجدوا فيها في‬ ‫عمــوم أوربــا‪ ،‬وقــد أشــار هرتــزل فــي كتابــه عــن‬ ‫الدولــة اليهوديــة إلــى ذلــك‪ ،‬ولكنــه بــدل أن‬ ‫يتحــدث عــن دور األخــاق اليهوديــة فــي خلــق‬ ‫هــذه الحالــة قــام بإلقــاء اللــوم علــى اآلخري ــن‬ ‫واتهامهم بالعنصرية والتطرف ضد الوجود‬ ‫اليهــودي الــذي يســتحق العطــف والرحمــة‪.‬‬ ‫وقــد عمــل هرتــزل واليهــود علــى صنــع حالــة‬ ‫تحــدي للمجتمعــات الت ــي يعيشــون فيهــا مــن‬ ‫خــال اتهامهــم بالعــداء للســامية اليهوديــة‪،‬‬ ‫وقــد قصــدوا مــن ذلــك أن ي ــنشروا بـي ــن‬ ‫اليهود اإلحساس باملظلومية بغية تجميعهم‬ ‫علــى فكــرة موحــدة تحملهــم علــى التكاتــف‬ ‫‪82‬‬

‫وبعــد دعــوى أرض امليعــاد واضطهــاد‬ ‫الســامية خرجــت الصهيون ــية بدعــوى‬ ‫أخــرى وهــي أن أرض فلسطي ــن ليســت‬ ‫للفلسطيـنـيي ــن وإنمــا هــي أرض يهوديــة‪،‬‬ ‫وأنهــا ملــك لهــم ب ــنصوص التــوراة‪ ،‬مــع أن‬ ‫املكتشــفات اآلثاريــة تثبــت غي ــر ذلــك‪.‬‬ ‫لقــد دأب قــادة إس ـرائيل السياســيون‬ ‫والديـن ــيون علــى القــول بــأن أرض فلسطي ــن‬ ‫هــي أرض إس ـرائيل التاريخيــة أرض آبائهــم‬ ‫وأجدادهــم‪ ،‬وأن هــذه األرض أرض بــا شــعب‬ ‫لشــعب بــا أرض‪ ،‬وهــي ليســت لشــعب مــن‬ ‫الشعوبسواهم‪،‬لذافهمأصحابهاالشرعيون‪،‬‬ ‫وأن العــرب الفلسطيـنـيي ــن أغ ـراب عنهــا‪.‬‬ ‫وعليه فدولة إسرائيل قامت على مجموعة‬ ‫مــن األساطي ــر واالدعــاءات الديـن ــية‬ ‫والتاريخية منها‪ ...‬تبدأ االسطورة باآلية رقم‬ ‫(‪ )18‬من اإلصحاح (‪ )15‬من سفر التكويـن‬ ‫والت ــي نصهــا ( فــي ذلــك اليــوم قطــع الــرب‬

‫ُ‬ ‫ً َ‬ ‫مــع إب ـرام ميثاقــا قائــا‪ :‬لن ْسـ ِـل َك أعطــي هــذه‬ ‫االرض مــن نهــر مصــر الــى النهــر الكبـي ــر نهــر‬ ‫الفـرات)‪ ،‬بـي ــنما ً‬ ‫أيضــا ورد فــي ســفر التكوي ــن‬ ‫(ظهــر الــرب ‪ -‬أي إلب ـراهيم ‪ -‬وقــال لــه‪ّ :‬إن‬ ‫نســلك ســيكون غر ًيبــا فــي أرض ليســت لهــم)‬ ‫وهــذا دليــل علــى ان االدعــاء الــذي يســتندون‬ ‫عليــه باطــل‪ ...‬وبالرغــم مــن ذلــك فقــد بــدأ‬ ‫قــادة الصهيون ــية يجمعــون يهــود العالــم فــي‬ ‫هــذه األرض ب ـ ً‬ ‫ـناء علــى تلــك األساطي ــر وأخــذوا‬ ‫يزيفون التا يخ ويزعمون ّأن لهم ً‬ ‫حقا تار ً‬ ‫يخيا‬ ‫ر‬ ‫في أرض فلسطيـن‪ ...‬وإن فكرة الحق التاريخي‬ ‫لهــم فــي فلسطي ــن مــن أهـ ّـم الذرائــع الت ــي تقــوم‬ ‫عليهــا الحركــة الصهيون ــية (‪.)12‬‬

‫لقــد حــاول‬ ‫ ‬ ‫أنصــار اليهوديــة كثيـــ ًرا أن‬ ‫يثبتــوا ملكيـــــــة القــدس‬ ‫لليهــود عبـــر البحــث عــن أي‬ ‫آثــار قــد تثبــت وجودهــم‬ ‫فيهــا مبــا يتناســـــب مــع‬ ‫الروايــات الــواردة يف التــوراة‬ ‫ولكــــــن عبثــا مــا فــــعلوا‬ ‫إن املكتشــفات األث ــرية تثبــت أن األحــداث‬ ‫الفاصلــة الت ــي ي ــرويها اليهــود عــن تاريخهــم‬ ‫ليــس لهــا أي مؤيــد فــي املكتشــفات األث ــرية‪،‬‬ ‫بــل إنهــا أث ــر مــن الوهــم أو مــن التمن ــي أو‬ ‫التطلــع الــذي اســتحوذ علــى أحبــار اليهــود‬ ‫فــي املنفــى‪ ،‬كمــا وصفهــم هللا تعالــى بقولــه‪:‬‬ ‫َُْ​ُ َ ْ َ َ َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ـاب ِبأ ْي ِد ِيهـ ْـم ثـ َّـم َي ُقولــو َن‬ ‫(( يكتبــون ال ِكتـ‬ ‫َ​ًَ َ ً‬ ‫َ ْ َُ‬ ‫َ َ ْ ْ‬ ‫هللا ِليشــتروا ِبـ ِـه ثمنــا ق ِليــا))‬ ‫هــذا ِمــن ِعنـ ِـد ِ‬ ‫[ســورة البقــرة‪ :‬آيــة ‪.]78‬‬

‫(‪ )12‬دحض ادعاءات اليهود بأحقيتهم في أرض فلسطيـن‪ ،‬بحث للدكتور عدنان عياش منشور على الشابكة‪.‬‬ ‫(‪ )13‬تاريخ القدس القديم‪ ،‬عفيف بهن�سي (ص ‪ 8‬و ‪.)9‬‬

‫العدد ‪ 2‬رجب ‪1439‬هـ‬

‫لقــد أثبــت اآلثاريــون أن اســم القــدس‬ ‫القديــم هــو (يبــوس) نســبة لليبوسيي ــن‬ ‫العرب‪ ،‬وهم الكنعان ــيون الذي ــن نزلوا أرض‬ ‫فلسطي ــن مــع منتصــف األلــف الثالثــة قبــل‬ ‫امليــاد (‪ 3500‬ق‪ .‬م) أي قبــل قــرون مــن‬ ‫ظهــور مو�ســى وداود‪.‬‬ ‫وحصــن اليبوسيي ــن هــو حصــن صهيــون‬ ‫وتعن ــي بالكنعان ــية املــكان العالــي وقــد تحقــق‬ ‫مــن ذلــك اآلثاريــون‪ ،‬وفــي التــوراة إن داوود‬ ‫دعــا فــي عــام (‪ 1555‬ق‪.‬م) قومــه الحتــال‬ ‫يبــوس‪ ،‬أي إن هــذه املدي ــنة كانــت عرب ــية‬ ‫منــذ عــام (‪ 2400‬ق‪ .‬م) وحتــى (‪ 1555‬ق‪.‬م)‬ ‫عرب ــية كنعان ــية(‪.)13‬‬ ‫وأمــا اســم فلسطي ــن فقــد جــاء مــن هجــرة‬ ‫بعــض قبائــل جزي ــرة (قريطــش) أو مــا يعــرف‬ ‫اليــوم بجزي ــرة (كريــت) اليونان ــية املطلــة علــى‬ ‫بحــر إيجــة‪ ،‬والت ــي تعــرف بقبائــل (فلستـي ــن)‬ ‫إذ نزلت بـي ــن يافا وغزة واختلطت بالشــعب‬ ‫الكنعان ــي األصلــي وبمــرور السنـي ــن تحدثــت‬ ‫لغتــه وصــاروا شـ ً‬ ‫ـعبا واحـ ًـدا يتكلــم العرب ــية‬ ‫القديمــة ويغلــب عليــه العنصــر الكنعان ــي‪،‬‬ ‫وأمــا الشــهرة واالســم فقــد غلبــت عليهمــا‬ ‫القبائــل الوافــدة وعرفــت تلــك األرض فيمــا‬ ‫بعــد بــأرض (فلسطي ــن)‪.‬‬ ‫وأمــا أول وجــود للعبـرانـيي ــن فــي فلسطي ــن‬ ‫بحسب التوراة فقد كان بعد هجرة إبـراهيم‬ ‫عليــه الســام مــن بــاد العـراق إلــى فلسطي ــن‬ ‫قبــل امليــاد بحوالــي ‪ 1800‬عامــا‪ ،‬وكان هــو‬ ‫وأوالده عبــارة عــن ضيــوف مكثــوا فيهــا فت ــرة‬ ‫مــن الزمــن ثــم هاجــروا منهــا إلــى مصــر‪ ...‬وأمــا‬ ‫قبــل هــذا التاريــخ بمئــات السنـي ــن فلــم يكــن‬ ‫فــي هــذه البــاد إال العــرب الكنعان ــيون‪.‬‬ ‫لقــد حــاول أنصــار اليهوديــة كثي ـ ًـرا أن يثبتــوا‬ ‫‪83‬‬


‫القدس‪ ..‬أرض رباط وجهاد‬ ‫هيمنــة مضمونــة) ويقصــد بذلــك ضمــان‬ ‫وجــود دولــة تكفــل لهــم ذلــك‪.‬‬ ‫ومــن خــال الــكالم التالــي لهرتــزل نســتطيع‬ ‫أن نعــرف موضــع خطــة إقامــة وطــن لليهــود‬ ‫فــي فلسطي ــن مــن السياســة الدوليــة فــي‬ ‫الحــرب علــى الشــرق املســلم‪ ،‬يقــول هرتــزل‪:‬‬ ‫(إذا أخذنــا فلسطي ــن ســوف ُتشــكل جـ ً‬ ‫ـزءا‬ ‫مــن اســتحكامات أوروبــا فــي مواجهــة آســيا‬ ‫كموقــع أمامــي للحضــارة الغرب ــية فــي مواجهه‬ ‫البـرب ـرية‪ ،‬وعلي ــنا كدولــة طب ــيعية أن نبقــى‬ ‫علــى اتصــال بــكل أوروبــا الت ــي ســيكون مــن‬ ‫واجبهــا أن تضمــن وجودنــا)(‪.)8‬‬ ‫املفاوضــات مــع الســلطان عبــد الحميــد‬ ‫خــان الثان ــي‪:‬‬ ‫بعــد االتفــاق البـريطان ــي الصهيون ــي علــى‬ ‫تأســيس وطــن لليهــود علــى أرض فلسطي ــن‬ ‫انتقلوا إلى مرحلة املساومة مع السلطان عبد‬ ‫الحميــد‪ ،‬والــذي كان بــدوره ي ــرصد تحركاتهــم‬ ‫ومحاوالتهــم فــي إثــارة األقليــة األرمن ــية‪ ،‬وشـراء‬ ‫ذمــم بعــض األت ـراك املاسونـيي ــن‪ ،‬للضغــط‬ ‫عليــه وإجبــاره علــى إعطائهــم مــا ي ـريدون‪،‬‬ ‫يقــول هرتــزل عــن خطــة مســاومة الســلطان‬ ‫عبــد الحميــد (فــإذا منحنــا جاللــة الســلطان‬ ‫فلسطي ــن ســنأخذ علــى عاتقنــا باملقابــل‬ ‫تنظيــم ماليــة ت ــركيا)(‪.)9‬‬ ‫وأمــا عــن رؤيــة الســلطان عبــد الحميــد‬ ‫لتحــركات وعــروض اليهــود فقــد قــال‪( :‬إذا‬ ‫ً‬ ‫كنــا نريــد أن يبقــى العنصــر العرب ــي متفوقــا؛‬ ‫علي ــنا أن نصــرف النظــر عــن فكــرة توطي ــن‬ ‫املهاجري ــن في فلسطي ــن‪ ،‬وإال فإن اليهود إذا‬ ‫اســتوطنوا ً‬ ‫أرضــا تملكــوا كافــة قدراتهــا خــال‬ ‫وقــت قصي ــر‪ ،‬ولــذا نكــون قــد حكمنــا علــى‬ ‫إخواننــا فــي الدي ــن باملــوت املحتــم)(‪. )10‬‬

‫لقــد أدرك الســلطان أبعــاد املشــروع‬ ‫الصهيونـي وتداعياته رغم العروض املغرية‬ ‫الت ــي قدموهــا إلنقــاذ الخالفــة مــن مشــاكلها‬ ‫االقتصاديــة‪ ...‬وملــا ســاوموه باملــال بعــد‬ ‫مقابلــة هرتــزل لــه قــال‪( :‬لــن يســتطيع رئيــس‬ ‫الصهاي ــنة هرتــزل أن يقنعن ــي بأفــكاره‪...‬‬ ‫لــن يكتفــي الصهاي ــنة بممارســة األعمــال‬ ‫الزراعيــة فــي فلسطي ــن بــل ي ـريدون أمـ ً‬ ‫ـورا‬ ‫مثــل تشــكيل حكومــة وانتخــاب ممثلي ــن‪،‬‬ ‫إنن ــي أدرك أطماعهــم جيـ ًـدا)(‪.)11‬‬ ‫ً‬ ‫وردا علــى رفــض الســلطان لعــروض اليهــود‬ ‫قــام اليهــود بضــم جمعيــة االتحــاد والت ــرقي‬ ‫إلــى مخططهــم للضغــط علــى عبــد الحميــد‬ ‫خــان‪ ،‬يقــول الســلطان فــي رســالة لــه لشــيخه‬ ‫أب ــي الشــامات‪( :‬إن هــؤالء االتحاديي ــن قــد‬ ‫أصــروا علــي بــأن أصــادق علــى تأســيس وطــن‬ ‫قومي لليهود في األرض املقدسة (فلسطيـن)‪،‬‬ ‫ورغــم إصرارهــم لــم أقبــل بصــورة قطعيــة‬ ‫هــذا التكليــف‪ ،‬وأخي ـ ًـرا وعــدوا بتقديــم مائــة‬ ‫و خمسي ــن مليــون لي ــرة إنجليزيــة ً‬ ‫ذهبــا‪،‬‬ ‫فرفضــت هــذا التكليــف بصــورة قطعيــة‬ ‫ً‬ ‫أيضــا‪ ،‬و أجبتهــم بهــذا الجــواب القطعــي‪:‬‬ ‫إنكــم لــو دفعتــم مـ ْـلء الدن ــيا ً‬ ‫ذهبــا فلــن أقبــل‬ ‫بتكليفكــم هــذا بوجــه قطعــي‪ ،‬لقــد خدمــت‬ ‫امللة اإلسالمية و امللة املحمدية ما يزيد على‬ ‫ثالثيـن سنة فلن أسود صحائف املسلميـن‬ ‫آبائــي وأجــدادي مــن السالطي ــن والخلفــاء‬ ‫العثمانـيي ــن‪ ...‬و بعــد جواب ــي هــذا اتفقــوا‬ ‫علــى خلعــي‪ ،‬و أبلغون ــي أنهــم سيبعدونن ــي إلــى‬ ‫سالن ــيك‪ ،‬فقبلــت بهــذا التكليــف األخي ــر‪،‬‬ ‫و حمدت املولى‪ ،‬و أحمده أننـي لم أقبل بأن‬ ‫ألطــخ العالــم اإلســامي بهــذا العــار األبــدي‬ ‫النا�شــئ عــن تكليفهــم بإقامــة دولــة يهوديــة فــي‬

‫(‪ )8‬كتاب الدولة اليهودية‪( ،‬ص ‪ )9( - .)102‬املصدر السابق (ص ‪.)102‬‬ ‫(‪ )10‬السلطان عبد الحميد‪ ،‬مذكراتـي السياسية (ص ‪ )11( - .)24‬املصدر السابق (ص ‪ 34‬و ‪.)35‬‬

‫القدس‪ ..‬أرض رباط وجهاد‬

‫العدد ‪ 2‬رجب ‪1439‬هـ‬

‫األرا�ضــي املقدســة‪.)...‬‬ ‫وحقيقــة لــم تمــض ســنوات حتــى دفــع‬ ‫الســلطان عبــد الحميــد ثمــن رفضــه ً‬ ‫غاليــا‪،‬‬ ‫لقــد خلــع عــن عرشــه وحبــس‪ ،‬وعلــى إث ــر‬ ‫ذلــك انهــارت الخالفــة وتال�شــى ســلطانها‪.‬‬

‫لنصــرة مشــاريع الحركــة الصهيون ــية‪ ...‬كمــا‬ ‫اســتخدمت هــذه الفكــرة فيمــا بعــد فــي تجريــم‬ ‫أوربا ووظفت للحصول على وطن قومي لهم‬ ‫فــي أمريــكا الجنوب ــية أو إفريقيــا أو فلسطي ــن‪.‬‬ ‫وخالل فتـرات الحقة استطاع اليهود تحريك‬ ‫ال ـرأي العــام األورب ــي ومؤسســات حقــوق‬ ‫اإلنسان تجاه مصالحهم عب ــر تسويق فكرة‬ ‫العداء للســامية في أوربا محتجي ــن بما فعله‬ ‫هتلــر وبمــا ســمي بالهولوكوســت‪ ...‬وبالفعــل‬ ‫فقــد تعاطفــت معهــم الكثي ــر مــن الشــعوب‬ ‫والحكومــات الغرب ــية الليب ـرالية املعاديــة‬ ‫للنازيــة وبــدأت الــدول األورب ــية تشـ ِ ّـجع‬ ‫الصهاي ــنة أكث ــر مــن ذي قبــل علــى الهجــرة إلــى‬ ‫ُّ‬ ‫فلسطي ــن وتملــك أراضيهــا‪.‬‬

‫ّادعاء اليهود أن فلسطيـن لهم‪:‬‬

‫السطان عبد الحميد الثانـي‬

‫دعوى عداء السامية‪:‬‬ ‫إن الطب ــيعة الشــخصية اليهوديــة الت ــي‬ ‫اتصفــت بالغــدر والبخــل وحــب االنتقــام‬ ‫واملخاتلــة واملكــر والجب ــن؛ أدت إلــى عيشــهم‬ ‫كمنبوذيـن بـيـن الشعوب التـي ُو ِجدوا فيها في‬ ‫عمــوم أوربــا‪ ،‬وقــد أشــار هرتــزل فــي كتابــه عــن‬ ‫الدولــة اليهوديــة إلــى ذلــك‪ ،‬ولكنــه بــدل أن‬ ‫يتحــدث عــن دور األخــاق اليهوديــة فــي خلــق‬ ‫هــذه الحالــة قــام بإلقــاء اللــوم علــى اآلخري ــن‬ ‫واتهامهم بالعنصرية والتطرف ضد الوجود‬ ‫اليهــودي الــذي يســتحق العطــف والرحمــة‪.‬‬ ‫وقــد عمــل هرتــزل واليهــود علــى صنــع حالــة‬ ‫تحــدي للمجتمعــات الت ــي يعيشــون فيهــا مــن‬ ‫خــال اتهامهــم بالعــداء للســامية اليهوديــة‪،‬‬ ‫وقــد قصــدوا مــن ذلــك أن ي ــنشروا بـي ــن‬ ‫اليهود اإلحساس باملظلومية بغية تجميعهم‬ ‫علــى فكــرة موحــدة تحملهــم علــى التكاتــف‬ ‫‪82‬‬

‫وبعــد دعــوى أرض امليعــاد واضطهــاد‬ ‫الســامية خرجــت الصهيون ــية بدعــوى‬ ‫أخــرى وهــي أن أرض فلسطي ــن ليســت‬ ‫للفلسطيـنـيي ــن وإنمــا هــي أرض يهوديــة‪،‬‬ ‫وأنهــا ملــك لهــم ب ــنصوص التــوراة‪ ،‬مــع أن‬ ‫املكتشــفات اآلثاريــة تثبــت غي ــر ذلــك‪.‬‬ ‫لقــد دأب قــادة إس ـرائيل السياســيون‬ ‫والديـن ــيون علــى القــول بــأن أرض فلسطي ــن‬ ‫هــي أرض إس ـرائيل التاريخيــة أرض آبائهــم‬ ‫وأجدادهــم‪ ،‬وأن هــذه األرض أرض بــا شــعب‬ ‫لشــعب بــا أرض‪ ،‬وهــي ليســت لشــعب مــن‬ ‫الشعوبسواهم‪،‬لذافهمأصحابهاالشرعيون‪،‬‬ ‫وأن العــرب الفلسطيـنـيي ــن أغ ـراب عنهــا‪.‬‬ ‫وعليه فدولة إسرائيل قامت على مجموعة‬ ‫مــن األساطي ــر واالدعــاءات الديـن ــية‬ ‫والتاريخية منها‪ ...‬تبدأ االسطورة باآلية رقم‬ ‫(‪ )18‬من اإلصحاح (‪ )15‬من سفر التكويـن‬ ‫والت ــي نصهــا ( فــي ذلــك اليــوم قطــع الــرب‬

‫ُ‬ ‫ً َ‬ ‫مــع إب ـرام ميثاقــا قائــا‪ :‬لن ْسـ ِـل َك أعطــي هــذه‬ ‫االرض مــن نهــر مصــر الــى النهــر الكبـي ــر نهــر‬ ‫الفـرات)‪ ،‬بـي ــنما ً‬ ‫أيضــا ورد فــي ســفر التكوي ــن‬ ‫(ظهــر الــرب ‪ -‬أي إلب ـراهيم ‪ -‬وقــال لــه‪ّ :‬إن‬ ‫نســلك ســيكون غر ًيبــا فــي أرض ليســت لهــم)‬ ‫وهــذا دليــل علــى ان االدعــاء الــذي يســتندون‬ ‫عليــه باطــل‪ ...‬وبالرغــم مــن ذلــك فقــد بــدأ‬ ‫قــادة الصهيون ــية يجمعــون يهــود العالــم فــي‬ ‫هــذه األرض ب ـ ً‬ ‫ـناء علــى تلــك األساطي ــر وأخــذوا‬ ‫يزيفون التا يخ ويزعمون ّأن لهم ً‬ ‫حقا تار ً‬ ‫يخيا‬ ‫ر‬ ‫في أرض فلسطيـن‪ ...‬وإن فكرة الحق التاريخي‬ ‫لهــم فــي فلسطي ــن مــن أهـ ّـم الذرائــع الت ــي تقــوم‬ ‫عليهــا الحركــة الصهيون ــية (‪.)12‬‬

‫لقــد حــاول‬ ‫ ‬ ‫أنصــار اليهوديــة كثيـــ ًرا أن‬ ‫يثبتــوا ملكيـــــــة القــدس‬ ‫لليهــود عبـــر البحــث عــن أي‬ ‫آثــار قــد تثبــت وجودهــم‬ ‫فيهــا مبــا يتناســـــب مــع‬ ‫الروايــات الــواردة يف التــوراة‬ ‫ولكــــــن عبثــا مــا فــــعلوا‬ ‫إن املكتشــفات األث ــرية تثبــت أن األحــداث‬ ‫الفاصلــة الت ــي ي ــرويها اليهــود عــن تاريخهــم‬ ‫ليــس لهــا أي مؤيــد فــي املكتشــفات األث ــرية‪،‬‬ ‫بــل إنهــا أث ــر مــن الوهــم أو مــن التمن ــي أو‬ ‫التطلــع الــذي اســتحوذ علــى أحبــار اليهــود‬ ‫فــي املنفــى‪ ،‬كمــا وصفهــم هللا تعالــى بقولــه‪:‬‬ ‫َُْ​ُ َ ْ َ َ َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ـاب ِبأ ْي ِد ِيهـ ْـم ثـ َّـم َي ُقولــو َن‬ ‫(( يكتبــون ال ِكتـ‬ ‫َ​ًَ َ ً‬ ‫َ ْ َُ‬ ‫َ َ ْ ْ‬ ‫هللا ِليشــتروا ِبـ ِـه ثمنــا ق ِليــا))‬ ‫هــذا ِمــن ِعنـ ِـد ِ‬ ‫[ســورة البقــرة‪ :‬آيــة ‪.]78‬‬

‫(‪ )12‬دحض ادعاءات اليهود بأحقيتهم في أرض فلسطيـن‪ ،‬بحث للدكتور عدنان عياش منشور على الشابكة‪.‬‬ ‫(‪ )13‬تاريخ القدس القديم‪ ،‬عفيف بهن�سي (ص ‪ 8‬و ‪.)9‬‬

‫العدد ‪ 2‬رجب ‪1439‬هـ‬

‫لقــد أثبــت اآلثاريــون أن اســم القــدس‬ ‫القديــم هــو (يبــوس) نســبة لليبوسيي ــن‬ ‫العرب‪ ،‬وهم الكنعان ــيون الذي ــن نزلوا أرض‬ ‫فلسطي ــن مــع منتصــف األلــف الثالثــة قبــل‬ ‫امليــاد (‪ 3500‬ق‪ .‬م) أي قبــل قــرون مــن‬ ‫ظهــور مو�ســى وداود‪.‬‬ ‫وحصــن اليبوسيي ــن هــو حصــن صهيــون‬ ‫وتعن ــي بالكنعان ــية املــكان العالــي وقــد تحقــق‬ ‫مــن ذلــك اآلثاريــون‪ ،‬وفــي التــوراة إن داوود‬ ‫دعــا فــي عــام (‪ 1555‬ق‪.‬م) قومــه الحتــال‬ ‫يبــوس‪ ،‬أي إن هــذه املدي ــنة كانــت عرب ــية‬ ‫منــذ عــام (‪ 2400‬ق‪ .‬م) وحتــى (‪ 1555‬ق‪.‬م)‬ ‫عرب ــية كنعان ــية(‪.)13‬‬ ‫وأمــا اســم فلسطي ــن فقــد جــاء مــن هجــرة‬ ‫بعــض قبائــل جزي ــرة (قريطــش) أو مــا يعــرف‬ ‫اليــوم بجزي ــرة (كريــت) اليونان ــية املطلــة علــى‬ ‫بحــر إيجــة‪ ،‬والت ــي تعــرف بقبائــل (فلستـي ــن)‬ ‫إذ نزلت بـي ــن يافا وغزة واختلطت بالشــعب‬ ‫الكنعان ــي األصلــي وبمــرور السنـي ــن تحدثــت‬ ‫لغتــه وصــاروا شـ ً‬ ‫ـعبا واحـ ًـدا يتكلــم العرب ــية‬ ‫القديمــة ويغلــب عليــه العنصــر الكنعان ــي‪،‬‬ ‫وأمــا الشــهرة واالســم فقــد غلبــت عليهمــا‬ ‫القبائــل الوافــدة وعرفــت تلــك األرض فيمــا‬ ‫بعــد بــأرض (فلسطي ــن)‪.‬‬ ‫وأمــا أول وجــود للعبـرانـيي ــن فــي فلسطي ــن‬ ‫بحسب التوراة فقد كان بعد هجرة إبـراهيم‬ ‫عليــه الســام مــن بــاد العـراق إلــى فلسطي ــن‬ ‫قبــل امليــاد بحوالــي ‪ 1800‬عامــا‪ ،‬وكان هــو‬ ‫وأوالده عبــارة عــن ضيــوف مكثــوا فيهــا فت ــرة‬ ‫مــن الزمــن ثــم هاجــروا منهــا إلــى مصــر‪ ...‬وأمــا‬ ‫قبــل هــذا التاريــخ بمئــات السنـي ــن فلــم يكــن‬ ‫فــي هــذه البــاد إال العــرب الكنعان ــيون‪.‬‬ ‫لقــد حــاول أنصــار اليهوديــة كثي ـ ًـرا أن يثبتــوا‬ ‫‪83‬‬


‫القدس‪ ..‬أرض رباط وجهاد‬ ‫ملكيــة القــدس لليهــود عب ــر البحــث عــن أي‬ ‫آثار قد تثبت وجودهم فيها بما يتناسب مع‬ ‫الروايــات الــواردة فــي التــوراة ولكــن عبثــا مــا‬ ‫فعلــوا إذ لــم توجــد أي آثــار عمران ــية للفت ــرة‬ ‫الت ــي يدعــي اليهــود أنهــم كانــوا يســكنون‬ ‫فيهــا القــدس‪ ...‬وأمــا فــي غي ــرها مــن املــدن‬ ‫الفلسطيـن ــية فإن كل املكتشفات تدل على‬ ‫الوجود العربـي القديم في هذه األرض‪ ،‬وقد‬ ‫جاءت الجهود البحثية التـي أجراها اآلثاري‬ ‫البـريطان ــي واري ــن عــام ‪1876‬م فــي هــذا‬ ‫الســياق‪ ،‬وتبعتهــا حملــة اآلثــاري الفرن�ســي‬ ‫تـي ــري عــام ‪1890‬م‪ ،‬ولكــن كال الحملتـي ــن‬ ‫باءتــا بالفشــل ولــم تجــدا شــيئا يــدل علــى‬ ‫اآلثــار اليهوديــة فــي أرض فلسطي ــن فــي املواقــع‬ ‫التـي تذكرها التوراة وبالتاريخ الذي تحدده‪.‬‬

‫قــد قــام اليهــود‬ ‫ ‬ ‫بالضغــط عــى كثيـــر مــن‬ ‫اآلثارييـــن اآلخريـــن الذيـــن‬ ‫قدمــوا تقاريـــر صادقــة عــن‬ ‫نتائــج البحــوث اآلثاريــة يف‬ ‫فلسطيـــن‪ ،‬فطُــرد بعضهــم‬ ‫مــن عملــه وتــــــــم اغتـــيال‬ ‫البعــــــــض اآل خـــــــر‬ ‫وتلــت تلــك البعثــات بعثــات أورب ــية كثي ــرة‬ ‫وكلهــا وصلــت إلــى نفــس النت ــيجة الســابقة‪،‬‬ ‫ممــا أدى بإسـرائيل إلــى إيقــاف تلــك البعثــات‬ ‫وطردهــا‪ ،‬األمــر الــذي أدى إلــى ظهــور علمــاء‬ ‫آثــار كثيـري ــن أثبتــوا بالدليــل زيــف علــم اآلثــار‬ ‫التورات ــي الــذي تنطــق كل األدلــة بكذبــه‪.‬‬ ‫مــن ذلــك قيــام اإلسرائيليي ــن بإيقــاف عمــل‬ ‫اآلثاريــة البـريطان ــية كي ــنون عــام ‪1967‬م‪،‬‬

‫التـي كشفت أوهام التوراة إثـر إعالن نتائج‬ ‫الحفريــات الت ــي قامــت بهــا فــي مدي ــنة أريحــا‬ ‫الفلسطيـن ــية عــام ‪1952‬م‪.‬‬ ‫وقــد قــام اليهــود بالضغــط علــى كثي ــر مــن‬ ‫اآلثاريي ــن اآلخري ــن الذي ــن قدمــوا تقاري ــر‬ ‫صادقــة عــن نتائــج البحــوث اآلثاريــة فــي‬ ‫ُ‬ ‫فلسطي ــن‪ ،‬فطــرد بعضهــم مــن عملــه وتــم‬ ‫اغت ــيال البعــض اآلخــر منهــم‪ ،‬ومــن أب ــرز‬ ‫مــن كشــف تزييــف اليهــود للحقائــق اآلثــاري‬ ‫األمريكــي (بــوب الب) الــذي كان رئيســا‬ ‫لبعثــة آثاريــة قــرب نابلــس‪ ،‬حيــث أوضــح فــي‬ ‫تقاري ــره دور اليهــود فــي االعتــداء علــى اآلثــار‬ ‫الفلسطيـن ــية وتدمي ــر الشــواهد التاريخيــة‬ ‫علــى وجودهــم القديــم فيهــا‪ ،‬ممــا أدى الحقــا‬ ‫لطــرد إس ـرائيل مــن منظمــة اليون ــيسكو‪،‬‬ ‫وقــد فقــد حياتــه نت ــيجة لذلــك فــي ظــروف‬ ‫غامضــة فــي قب ــرص‪.‬‬ ‫كمــا اغت ــيل مــن بعــده عالــم اآلثــار األمريكــي‬ ‫(ألب ــرت غلــوك) عــام ‪ 1992‬للســبب نفســه‪،‬‬ ‫وأما مؤلف كتاب (التوراة في التاريخ‪ ..‬كيف‬ ‫ً‬ ‫ماضيــا) اآلثــاري األمي ــركي‬ ‫يخلــق الكتــاب‬ ‫(تومــاس تومســن) فقــد طــرد مــن عملــه‬ ‫وعمــل دهانــا بعــد أن كشــف دور التــوراة‬ ‫وأحبارهــا فــي صنــع تاريــخ مزيــف لليهــود‪.‬‬ ‫بعــد وقــوف الحقائــق التاريخيــة كلهــا فــي‬ ‫وجــه االعتــداء اإلس ـرائيلي علــى القــدس‬ ‫وتهويدهــا لــم يبـ َـق إلس ـرائيل مــن حجــة فــي‬ ‫احتاللهــا القــدس وإعالنهــا عاصمــة لهــا‬ ‫إال قــوة الســاح‪ ،‬وتعزيــز الكــذب اليهــودي‬ ‫بواقع القوة والضعف الذي يفرضونه على‬ ‫أرض فلسطي ــن بدعــم قــوى الظلــم العالمــي‬ ‫الكب ــرى وعلــى رأســها الواليــات املتحــدة‪.‬‬ ‫إن قـرار نقــل الســفارة األمريكيــة إلــى القــدس‬ ‫بق ـرار مــن الرئيــس األمريكــي ت ـرامب لــم‬

‫من الفرد إلى الدولة‬

‫العدد ‪ 2‬رجب ‪1439‬هـ‬

‫يكــن صدفــة إنمــا هــو مــن ثمــار االتفاقيــات‬ ‫االستـرات ــيجية بـي ــن الواليــات املتحــدة‬ ‫وإسـرائيل لخدمــة مصالــح بعضهــم البعــض‬ ‫والت ــي تعــززت فــي اتفاقيــة ‪1984‬م للتحالــف‬ ‫االستـرات ــيجي بـي ــنهما‪.‬‬

‫ما بعد الصبـرإال النصر‬ ‫إن تداعيات املواقف الدولية والهجمة التـي‬ ‫يشــكلها مثلــث الشــر فــي املنطقــة املكــون مــن‬ ‫املثلــث املغــرور (أمريــكا وإي ـران وإس ـرائيل)‬ ‫تشي ــر إلــى انفراجــة بعــد املعانــاة والضغــوط‬ ‫املصنوعــة إلجبــار الفلسطيـنـيي ــن علــى‬ ‫التنــازل عــن الثوابــت لتحقيــق مصالــح‬ ‫إقليميــة ودوليــة‪ ،‬فأمريــكا تحلــم بالهيمنــة‬ ‫وإي ـران تحلــم بالهــال الشــيعي وإس ـرائيل‬ ‫بالقــدس‪.‬‬ ‫وإن وقوف الفلسطيـنـييـن في وجه املخطط‬ ‫الصهيون ــي ووقــوف األمــة معهــم يشــكالن‬ ‫الحاجــز الــذي يمنــع الوضــع فــي فلسطي ــن‬ ‫والقــدس مــن الذهــاب نحــو املزيــد مــن‬ ‫الســوء‪ ،‬وعلــى األمــة كل بحســب اســتطاعته‬ ‫أن يقــدم الدعــم اإلعالمــي واملالــي والسيا�ســي‬ ‫والعســكري الــازم لبقــاء قضيــة فلسطي ــن‬ ‫والقدس على ســلم أولويات الوجود املســلم‬ ‫فالعاقبــة لنــا والنصــر لنــا بــإذن هللا‪.‬‬ ‫إن األمــة املســلمة أمــة التحديــات وإن‬ ‫َ‬ ‫ك َبــت وضعفــت‪ ،‬فاجمعــوا الصفــوف‬ ‫أيهــا املســلمون وحولــوا الحــزن استبشـ ًـارا‬ ‫ً‬ ‫والت ـراجع اســتدراكا واإلحبــاط نصـ ًـرا وإن‬ ‫النصــر مــع الصب ــر‪ ،‬فــأرض فلسطي ــن‬ ‫املباركــة أرض رباطنــا وجهادنــا إلــى قيــام‬ ‫الســاعة‪ ،‬رويــت بدمائنــا وشــهدت عدالتنــا‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫وحب ــنا لهــا ً‬ ‫قرونــا طويلــة وستشــهدها مــرة‬ ‫أخــرى بــإذن هللا‪.‬‬ ‫‪84‬‬

‫العدد ‪ 2‬رجب ‪1439‬هـ‬

‫اإلسالمي‬ ‫بـنياننا‬ ‫ّ‬

‫الدولة‬ ‫من الفرد إلى ّ‬ ‫الدكتور محمد العبدة‬

‫عضو املجلس اإلسالمي السوري‬

‫يتســاءل بعــض النــاس وربمــا يســتغرب‪ :‬ملــاذا لــم ُي ّ‬ ‫فصــل القـرآن الكريــم فــي أمــور‬ ‫السياســة والحكــم واالقتصــاد‪ ،‬مــع أهميــة هــذه األمــور لحيــاة اإلنســان‪ّ ،‬‬ ‫وفصـ َـل فــي شــأن‬ ‫العبادات واألسرة وما يحيط بها وفي شأن األخالق الفردية وقصص األنبـياء مع أقوامهم‪،‬‬ ‫وربما تمادى األمربهؤالء املستغربـيـن فقالوا ‪ :‬ليس في اإلسالم نظرية للحكم‪ ،‬فالشورى‬ ‫لم تذكرإالفي آيتـيـن‪ ،‬وآيات عامة عن العدل وأداء األمانات والحكم بما أنزل هللا‪ ...‬وكأنهم‬ ‫ً‬ ‫ي ّ‬ ‫ً‬ ‫ـرددون ما قاله طه حسيـن ً‬ ‫تنظيما مجمل‬ ‫قديما من أن القرآن لم يـنظم أمور السياسة‬ ‫ً‬ ‫أومفصل‪ ،‬ويقال لهؤالء ‪ :‬هل يتـرك القرآن املشكلة الكبـرى لإلنسان دون وضع القواعد‬ ‫األساســية الت ــي تهديــه إلــى ســواء السب ــيل؟ ثــم ليبـن ـ َـي عليهــا اإلنســان مــا يحتاجــه فــي حياتــه‬ ‫ً‬ ‫الدنـيا ؟ وهل يـناسب جوهرالديـن أن ّ‬ ‫يفصل للناس نظم االقتصاد والسياسة تفصيل‬ ‫مب ً‬ ‫ـرما ال يملكون فيه االجتهاد في التفاصيل حسب الزمان واملكان؟‬ ‫إنمــا ي ــناسب الدي ــن أن يبـي ــن للنــاس املبــادئ‬ ‫العامــة الت ــي يســتقر عليهــا كل نظــام صالــح‬ ‫يأت ــي فــي املســتقبل (والرســول صلــى هللا عليــه‬ ‫وســلم بـي ـ َـن بعــض هــذه األســس وت ــرك ً‬ ‫بعضــا‬ ‫للفكــر اإلنسان ــي لئــا يضيــق وي ــنحصر‬ ‫ويخمــد إذا أتــاه بالتفاصيــل كلهــا‪ ،‬وال يوحــي‬ ‫هللا إلــى رســول مــن رســله بــكل شــؤون الحيــاة‬ ‫مفصلة )(‪ )1‬وهذه فضيلة لإلســام وميزة له ‪.‬‬ ‫فــرض اإلســام أن يقـ َ‬ ‫ـوم الحكــم علــى أســاس‬ ‫الشــورى وأن يقــوم التش ـريع علــى أســاس‬ ‫الكتاب والسنة‪ ،‬وال ضي َـر بعد ذلك أن يجتهد‬ ‫(‪ )1‬محمود محمد شاكر ‪ :‬جمهرة املقاالت ‪673/2‬‬ ‫(‪ )2‬الطاهر إبـن عاشور‪ :‬النظام االجتماعي في اإلسالم ‪187/‬‬ ‫(‪ )3‬بـرتـراند َر ْسل ‪ :‬مختارات من أفضل ما كتب ‪101/‬‬

‫املسلمون في طريقة اختـيار الحاكم أو العمل‬ ‫بدســتور مكتــوب أو غي ــر مكتــوب‪.‬‬ ‫والقـرآن الكريــم منهــج حيــاة يهــدي إلــى الرشــد‬ ‫ً‬ ‫وليــس ً‬ ‫متخصصــا فــي السياســة أو‬ ‫كتابــا‬ ‫االقتصــاد‪ ،‬وقولــه تعالــى ((ونزلنــا عليــك‬ ‫ً‬ ‫الكتــاب تب ــيانا لــكل �شــيء)) [ســورة النحــل‪:‬‬ ‫ً‬ ‫آيــة ‪( ]89‬أي تب ــيانا ألصــول كل �شــيء‪،‬‬ ‫ً‬ ‫وجعــل الب ــيان والتفصيــل منوطــا بأســباب‬ ‫الحــوادث)(‪.)2‬‬ ‫ً‬ ‫إن مــا يســأل عنــه هــؤالء النــاس جــاء مفصــا‬ ‫ولكــن بطريقــة الق ـرآن الخاصــة‪ ،‬كان الت ــركيز‬

‫علــى تأســيس الفــرد ليكــون جـ ً‬ ‫ـزءا مــن البـن ــيان‬ ‫املرصــوص‪ ،‬ولتحري ــره مــن الضــاالت الت ــي‬ ‫تعرقــل طريقــة تفكي ــره‪ ،‬فــإن إصــاح عقــل‬ ‫اإلنســان هــو أســاس إصــاح أعمالــه‪ ،‬وبهــذا‬ ‫نفهــم دعــوة الق ـرآن للنظــر والتعقــل والعلــم‬ ‫ّ‬ ‫يتحمــل الفــرد املســؤولية‬ ‫واالعتبــار‪ ،‬وأن‬ ‫ّ‬ ‫الكاملــة عــن أعمالــه وتصرفاتــه‪ ،‬وألن تأســيس‬ ‫إســامية الحكــم دون إسـ ّ‬ ‫ـامية الفــرد هــو ب ـ ٌ‬ ‫ـناء‬ ‫ِ‬ ‫على غي ــر أساس‪ ،‬كيف يقوم سلطان الحكم‬ ‫دون أن تت ــرسخ القيــم واملبــادئ العليــا فــي‬ ‫نفســية الفرد‪ ،‬كما قال تعالى ‪ (( :‬يا أيها الذي ــن‬ ‫آمنــوا كونــوا قوامي ــن بالقســط شــهداء هلل ولــو‬ ‫علــى أنفســكم )) [ ســورة النســاء‪ :‬آيــة ‪]135‬‬ ‫الفــرد هنــا مطلــوب منــه العمــل وال يغن ــي عنــه‬ ‫مال أو نسب أو قبـيلة أو أرض‪ ،‬وهذا اإلصالح‬ ‫للفــرد ســيؤول ً‬ ‫حتمــا إلــى صــاح املجتمــع‪ ،‬فــإن‬ ‫مــن املشــاكل الكب ــرى فــي السياســة كمــا يقــول‬ ‫الفيلسوف البـريطان ــي رسل هي‪( :‬كيف نجمع‬ ‫بـيـن املبادرات الفردية الضرورية للتقدم وبـيـن‬ ‫التالحــم االجتماعــي الضــروري للبقــاء(‪. )3‬‬ ‫إن فــي تقدي ــر هــذا الكتــاب الــذي أنزلــه هللا‬ ‫ســبحانه أن هــذه األمــة هــي أمــة صاحبــة رســالة‬ ‫‪85‬‬


‫القدس‪ ..‬أرض رباط وجهاد‬ ‫ملكيــة القــدس لليهــود عب ــر البحــث عــن أي‬ ‫آثار قد تثبت وجودهم فيها بما يتناسب مع‬ ‫الروايــات الــواردة فــي التــوراة ولكــن عبثــا مــا‬ ‫فعلــوا إذ لــم توجــد أي آثــار عمران ــية للفت ــرة‬ ‫الت ــي يدعــي اليهــود أنهــم كانــوا يســكنون‬ ‫فيهــا القــدس‪ ...‬وأمــا فــي غي ــرها مــن املــدن‬ ‫الفلسطيـن ــية فإن كل املكتشفات تدل على‬ ‫الوجود العربـي القديم في هذه األرض‪ ،‬وقد‬ ‫جاءت الجهود البحثية التـي أجراها اآلثاري‬ ‫البـريطان ــي واري ــن عــام ‪1876‬م فــي هــذا‬ ‫الســياق‪ ،‬وتبعتهــا حملــة اآلثــاري الفرن�ســي‬ ‫تـي ــري عــام ‪1890‬م‪ ،‬ولكــن كال الحملتـي ــن‬ ‫باءتــا بالفشــل ولــم تجــدا شــيئا يــدل علــى‬ ‫اآلثــار اليهوديــة فــي أرض فلسطي ــن فــي املواقــع‬ ‫التـي تذكرها التوراة وبالتاريخ الذي تحدده‪.‬‬

‫قــد قــام اليهــود‬ ‫ ‬ ‫بالضغــط عــى كثيـــر مــن‬ ‫اآلثارييـــن اآلخريـــن الذيـــن‬ ‫قدمــوا تقاريـــر صادقــة عــن‬ ‫نتائــج البحــوث اآلثاريــة يف‬ ‫فلسطيـــن‪ ،‬فطُــرد بعضهــم‬ ‫مــن عملــه وتــــــــم اغتـــيال‬ ‫البعــــــــض اآل خـــــــر‬ ‫وتلــت تلــك البعثــات بعثــات أورب ــية كثي ــرة‬ ‫وكلهــا وصلــت إلــى نفــس النت ــيجة الســابقة‪،‬‬ ‫ممــا أدى بإسـرائيل إلــى إيقــاف تلــك البعثــات‬ ‫وطردهــا‪ ،‬األمــر الــذي أدى إلــى ظهــور علمــاء‬ ‫آثــار كثيـري ــن أثبتــوا بالدليــل زيــف علــم اآلثــار‬ ‫التورات ــي الــذي تنطــق كل األدلــة بكذبــه‪.‬‬ ‫مــن ذلــك قيــام اإلسرائيليي ــن بإيقــاف عمــل‬ ‫اآلثاريــة البـريطان ــية كي ــنون عــام ‪1967‬م‪،‬‬

‫التـي كشفت أوهام التوراة إثـر إعالن نتائج‬ ‫الحفريــات الت ــي قامــت بهــا فــي مدي ــنة أريحــا‬ ‫الفلسطيـن ــية عــام ‪1952‬م‪.‬‬ ‫وقــد قــام اليهــود بالضغــط علــى كثي ــر مــن‬ ‫اآلثاريي ــن اآلخري ــن الذي ــن قدمــوا تقاري ــر‬ ‫صادقــة عــن نتائــج البحــوث اآلثاريــة فــي‬ ‫ُ‬ ‫فلسطي ــن‪ ،‬فطــرد بعضهــم مــن عملــه وتــم‬ ‫اغت ــيال البعــض اآلخــر منهــم‪ ،‬ومــن أب ــرز‬ ‫مــن كشــف تزييــف اليهــود للحقائــق اآلثــاري‬ ‫األمريكــي (بــوب الب) الــذي كان رئيســا‬ ‫لبعثــة آثاريــة قــرب نابلــس‪ ،‬حيــث أوضــح فــي‬ ‫تقاري ــره دور اليهــود فــي االعتــداء علــى اآلثــار‬ ‫الفلسطيـن ــية وتدمي ــر الشــواهد التاريخيــة‬ ‫علــى وجودهــم القديــم فيهــا‪ ،‬ممــا أدى الحقــا‬ ‫لطــرد إس ـرائيل مــن منظمــة اليون ــيسكو‪،‬‬ ‫وقــد فقــد حياتــه نت ــيجة لذلــك فــي ظــروف‬ ‫غامضــة فــي قب ــرص‪.‬‬ ‫كمــا اغت ــيل مــن بعــده عالــم اآلثــار األمريكــي‬ ‫(ألب ــرت غلــوك) عــام ‪ 1992‬للســبب نفســه‪،‬‬ ‫وأما مؤلف كتاب (التوراة في التاريخ‪ ..‬كيف‬ ‫ً‬ ‫ماضيــا) اآلثــاري األمي ــركي‬ ‫يخلــق الكتــاب‬ ‫(تومــاس تومســن) فقــد طــرد مــن عملــه‬ ‫وعمــل دهانــا بعــد أن كشــف دور التــوراة‬ ‫وأحبارهــا فــي صنــع تاريــخ مزيــف لليهــود‪.‬‬ ‫بعــد وقــوف الحقائــق التاريخيــة كلهــا فــي‬ ‫وجــه االعتــداء اإلس ـرائيلي علــى القــدس‬ ‫وتهويدهــا لــم يبـ َـق إلس ـرائيل مــن حجــة فــي‬ ‫احتاللهــا القــدس وإعالنهــا عاصمــة لهــا‬ ‫إال قــوة الســاح‪ ،‬وتعزيــز الكــذب اليهــودي‬ ‫بواقع القوة والضعف الذي يفرضونه على‬ ‫أرض فلسطي ــن بدعــم قــوى الظلــم العالمــي‬ ‫الكب ــرى وعلــى رأســها الواليــات املتحــدة‪.‬‬ ‫إن قـرار نقــل الســفارة األمريكيــة إلــى القــدس‬ ‫بق ـرار مــن الرئيــس األمريكــي ت ـرامب لــم‬

‫من الفرد إلى الدولة‬

‫العدد ‪ 2‬رجب ‪1439‬هـ‬

‫يكــن صدفــة إنمــا هــو مــن ثمــار االتفاقيــات‬ ‫االستـرات ــيجية بـي ــن الواليــات املتحــدة‬ ‫وإسـرائيل لخدمــة مصالــح بعضهــم البعــض‬ ‫والت ــي تعــززت فــي اتفاقيــة ‪1984‬م للتحالــف‬ ‫االستـرات ــيجي بـي ــنهما‪.‬‬

‫ما بعد الصبـرإال النصر‬ ‫إن تداعيات املواقف الدولية والهجمة التـي‬ ‫يشــكلها مثلــث الشــر فــي املنطقــة املكــون مــن‬ ‫املثلــث املغــرور (أمريــكا وإي ـران وإس ـرائيل)‬ ‫تشي ــر إلــى انفراجــة بعــد املعانــاة والضغــوط‬ ‫املصنوعــة إلجبــار الفلسطيـنـيي ــن علــى‬ ‫التنــازل عــن الثوابــت لتحقيــق مصالــح‬ ‫إقليميــة ودوليــة‪ ،‬فأمريــكا تحلــم بالهيمنــة‬ ‫وإي ـران تحلــم بالهــال الشــيعي وإس ـرائيل‬ ‫بالقــدس‪.‬‬ ‫وإن وقوف الفلسطيـنـييـن في وجه املخطط‬ ‫الصهيون ــي ووقــوف األمــة معهــم يشــكالن‬ ‫الحاجــز الــذي يمنــع الوضــع فــي فلسطي ــن‬ ‫والقــدس مــن الذهــاب نحــو املزيــد مــن‬ ‫الســوء‪ ،‬وعلــى األمــة كل بحســب اســتطاعته‬ ‫أن يقــدم الدعــم اإلعالمــي واملالــي والسيا�ســي‬ ‫والعســكري الــازم لبقــاء قضيــة فلسطي ــن‬ ‫والقدس على ســلم أولويات الوجود املســلم‬ ‫فالعاقبــة لنــا والنصــر لنــا بــإذن هللا‪.‬‬ ‫إن األمــة املســلمة أمــة التحديــات وإن‬ ‫َ‬ ‫ك َبــت وضعفــت‪ ،‬فاجمعــوا الصفــوف‬ ‫أيهــا املســلمون وحولــوا الحــزن استبشـ ًـارا‬ ‫ً‬ ‫والت ـراجع اســتدراكا واإلحبــاط نصـ ًـرا وإن‬ ‫النصــر مــع الصب ــر‪ ،‬فــأرض فلسطي ــن‬ ‫املباركــة أرض رباطنــا وجهادنــا إلــى قيــام‬ ‫الســاعة‪ ،‬رويــت بدمائنــا وشــهدت عدالتنــا‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫وحب ــنا لهــا ً‬ ‫قرونــا طويلــة وستشــهدها مــرة‬ ‫أخــرى بــإذن هللا‪.‬‬ ‫‪84‬‬

‫العدد ‪ 2‬رجب ‪1439‬هـ‬

‫اإلسالمي‬ ‫بـنياننا‬ ‫ّ‬

‫الدولة‬ ‫من الفرد إلى ّ‬ ‫الدكتور محمد العبدة‬

‫عضو املجلس اإلسالمي السوري‬

‫يتســاءل بعــض النــاس وربمــا يســتغرب‪ :‬ملــاذا لــم ُي ّ‬ ‫فصــل القـرآن الكريــم فــي أمــور‬ ‫السياســة والحكــم واالقتصــاد‪ ،‬مــع أهميــة هــذه األمــور لحيــاة اإلنســان‪ّ ،‬‬ ‫وفصـ َـل فــي شــأن‬ ‫العبادات واألسرة وما يحيط بها وفي شأن األخالق الفردية وقصص األنبـياء مع أقوامهم‪،‬‬ ‫وربما تمادى األمربهؤالء املستغربـيـن فقالوا ‪ :‬ليس في اإلسالم نظرية للحكم‪ ،‬فالشورى‬ ‫لم تذكرإالفي آيتـيـن‪ ،‬وآيات عامة عن العدل وأداء األمانات والحكم بما أنزل هللا‪ ...‬وكأنهم‬ ‫ً‬ ‫ي ّ‬ ‫ً‬ ‫ـرددون ما قاله طه حسيـن ً‬ ‫تنظيما مجمل‬ ‫قديما من أن القرآن لم يـنظم أمور السياسة‬ ‫ً‬ ‫أومفصل‪ ،‬ويقال لهؤالء ‪ :‬هل يتـرك القرآن املشكلة الكبـرى لإلنسان دون وضع القواعد‬ ‫األساســية الت ــي تهديــه إلــى ســواء السب ــيل؟ ثــم ليبـن ـ َـي عليهــا اإلنســان مــا يحتاجــه فــي حياتــه‬ ‫ً‬ ‫الدنـيا ؟ وهل يـناسب جوهرالديـن أن ّ‬ ‫يفصل للناس نظم االقتصاد والسياسة تفصيل‬ ‫مب ً‬ ‫ـرما ال يملكون فيه االجتهاد في التفاصيل حسب الزمان واملكان؟‬ ‫إنمــا ي ــناسب الدي ــن أن يبـي ــن للنــاس املبــادئ‬ ‫العامــة الت ــي يســتقر عليهــا كل نظــام صالــح‬ ‫يأت ــي فــي املســتقبل (والرســول صلــى هللا عليــه‬ ‫وســلم بـي ـ َـن بعــض هــذه األســس وت ــرك ً‬ ‫بعضــا‬ ‫للفكــر اإلنسان ــي لئــا يضيــق وي ــنحصر‬ ‫ويخمــد إذا أتــاه بالتفاصيــل كلهــا‪ ،‬وال يوحــي‬ ‫هللا إلــى رســول مــن رســله بــكل شــؤون الحيــاة‬ ‫مفصلة )(‪ )1‬وهذه فضيلة لإلســام وميزة له ‪.‬‬ ‫فــرض اإلســام أن يقـ َ‬ ‫ـوم الحكــم علــى أســاس‬ ‫الشــورى وأن يقــوم التش ـريع علــى أســاس‬ ‫الكتاب والسنة‪ ،‬وال ضي َـر بعد ذلك أن يجتهد‬ ‫(‪ )1‬محمود محمد شاكر ‪ :‬جمهرة املقاالت ‪673/2‬‬ ‫(‪ )2‬الطاهر إبـن عاشور‪ :‬النظام االجتماعي في اإلسالم ‪187/‬‬ ‫(‪ )3‬بـرتـراند َر ْسل ‪ :‬مختارات من أفضل ما كتب ‪101/‬‬

‫املسلمون في طريقة اختـيار الحاكم أو العمل‬ ‫بدســتور مكتــوب أو غي ــر مكتــوب‪.‬‬ ‫والقـرآن الكريــم منهــج حيــاة يهــدي إلــى الرشــد‬ ‫ً‬ ‫وليــس ً‬ ‫متخصصــا فــي السياســة أو‬ ‫كتابــا‬ ‫االقتصــاد‪ ،‬وقولــه تعالــى ((ونزلنــا عليــك‬ ‫ً‬ ‫الكتــاب تب ــيانا لــكل �شــيء)) [ســورة النحــل‪:‬‬ ‫ً‬ ‫آيــة ‪( ]89‬أي تب ــيانا ألصــول كل �شــيء‪،‬‬ ‫ً‬ ‫وجعــل الب ــيان والتفصيــل منوطــا بأســباب‬ ‫الحــوادث)(‪.)2‬‬ ‫ً‬ ‫إن مــا يســأل عنــه هــؤالء النــاس جــاء مفصــا‬ ‫ولكــن بطريقــة الق ـرآن الخاصــة‪ ،‬كان الت ــركيز‬

‫علــى تأســيس الفــرد ليكــون جـ ً‬ ‫ـزءا مــن البـن ــيان‬ ‫املرصــوص‪ ،‬ولتحري ــره مــن الضــاالت الت ــي‬ ‫تعرقــل طريقــة تفكي ــره‪ ،‬فــإن إصــاح عقــل‬ ‫اإلنســان هــو أســاس إصــاح أعمالــه‪ ،‬وبهــذا‬ ‫نفهــم دعــوة الق ـرآن للنظــر والتعقــل والعلــم‬ ‫ّ‬ ‫يتحمــل الفــرد املســؤولية‬ ‫واالعتبــار‪ ،‬وأن‬ ‫ّ‬ ‫الكاملــة عــن أعمالــه وتصرفاتــه‪ ،‬وألن تأســيس‬ ‫إســامية الحكــم دون إسـ ّ‬ ‫ـامية الفــرد هــو ب ـ ٌ‬ ‫ـناء‬ ‫ِ‬ ‫على غي ــر أساس‪ ،‬كيف يقوم سلطان الحكم‬ ‫دون أن تت ــرسخ القيــم واملبــادئ العليــا فــي‬ ‫نفســية الفرد‪ ،‬كما قال تعالى ‪ (( :‬يا أيها الذي ــن‬ ‫آمنــوا كونــوا قوامي ــن بالقســط شــهداء هلل ولــو‬ ‫علــى أنفســكم )) [ ســورة النســاء‪ :‬آيــة ‪]135‬‬ ‫الفــرد هنــا مطلــوب منــه العمــل وال يغن ــي عنــه‬ ‫مال أو نسب أو قبـيلة أو أرض‪ ،‬وهذا اإلصالح‬ ‫للفــرد ســيؤول ً‬ ‫حتمــا إلــى صــاح املجتمــع‪ ،‬فــإن‬ ‫مــن املشــاكل الكب ــرى فــي السياســة كمــا يقــول‬ ‫الفيلسوف البـريطان ــي رسل هي‪( :‬كيف نجمع‬ ‫بـيـن املبادرات الفردية الضرورية للتقدم وبـيـن‬ ‫التالحــم االجتماعــي الضــروري للبقــاء(‪. )3‬‬ ‫إن فــي تقدي ــر هــذا الكتــاب الــذي أنزلــه هللا‬ ‫ســبحانه أن هــذه األمــة هــي أمــة صاحبــة رســالة‬ ‫‪85‬‬


‫من الفرد إلى الدولة‬ ‫وهــذا يتطلــب الفــرد الــذي يتأســس إيمان ـ ًّـيا‬ ‫ّ‬ ‫ًّ‬ ‫ًّ‬ ‫وعقليــا‪ ،‬قــال تعالــى‪ (( :‬ومــا يذكــر إال‬ ‫وأخالقيــا‬ ‫أولوا األلباب)) [سورة آل عمران‪ :‬آية ‪ ]7‬وقال‪:‬‬ ‫(( وال تقــف مــا ليــس لــك بــه علــم إن الســمع‬ ‫ً‬ ‫والبصر والفؤاد كل اولئك كان عنه مسؤول))‬ ‫[ســورة اإلس ـراء‪ :‬آيــة ‪ (( ]36‬وعبــاد الرحمــن‬ ‫الذي ــن يمشــون علــى األرض ً‬ ‫هونــا وإذا خاطبهــم‬ ‫الجاهلــون قالــوا ســاما)) [ســورة الفرقــان‪:‬‬ ‫ّ‬ ‫ـش‬ ‫‪(( ،]67‬وال تصعــر خــدك للنــاس وال تمـ ِ‬ ‫فــي األرض ً‬ ‫مرحــا إن هللا ال يحــب كل مختــال‬ ‫فخــور)) [ســورة لقمــان‪ :‬آيــة ‪ ]18‬واآليــات الت ــي‬ ‫تعنى بالتوجيهات التـربوية البـناءة كثيـرة ً‬ ‫جدا‪،‬‬ ‫وقــد ّزود القـر ُآن املسـ َ‬ ‫ـلم مــن البدايــة ب ــنظرة إلــى‬ ‫الكون قائمة على فهم السنن الربانـية‪ ،‬وأن كل‬ ‫مــا فــي هــذا الكــون مســخر لإلنســان ليتمتــع بــه‬ ‫ولكن ليس على الطريقة النفعية الغربـية‪ ،‬بل‬ ‫بطرائق تب ــرز مســؤوليته في عمارة هذه األرض‬ ‫بالعمــل الصالــح ‪.‬‬ ‫إن الحديــث املتكـ ّـرر عــن اليــوم اآلخــر البــد أن‬ ‫يلجــم النفــس حتــى ال تقــع فــي اآلثــام والشــرور‪،‬‬ ‫وهــو ً‬ ‫أيضــا حمايــة لإلنســان مــن محنــة‬ ‫العــدم‪ ،‬وعندمــا ال يكــون األمــر كذلــك فــإن‬ ‫هــذا اإلنســان سيســخر العلــم الخت ـراع أفظــع‬ ‫الوســائل لتنفيــذ أقبــح املآ�ســي والجرائــم‪...‬‬ ‫وعندما ّ‬ ‫يتأسس اإلنسان على القرآن والسنة‬ ‫علــى مــكارم األخــاق وذلــك ليبتعد عن األعمال‬ ‫الت ــي توصلــه ألســفل سافلي ــن‪ ،‬أليــس هــذا‬ ‫ممــا يســاعد علــى االســتقرار واألمــن واألعمــال‬ ‫املفيــدة‪ ،‬وتكــون عاقبــة ذلــك خي ـ ًـرا‪ ،‬إذ التغن ــي‬ ‫القوانـي ــن والزواجــر غنــاء االقتنــاع الداخلــي‬ ‫امللتــزم بمــا ي ــر�ضي هللا ســبحانه ‪.‬‬ ‫هذا االســتقرار يجعل الفرد املســلم ً‬ ‫قادرا على‬ ‫أن ي ــرسم الخطط ويســاعد على إيجاد اإلدارة‬

‫ّ‬ ‫فالقضية ليست شعارات سياسية‬ ‫املناسبة‪،‬‬ ‫بــل هــي واقــع أسا�ســي وهــو تحري ــر اإلنســان مــن‬ ‫املعوقــات الت ــي تحيــط بــه ليتخــذ الخيــارات‬ ‫ً‬ ‫الصحيحــة‪ ،‬وإذا بقــي جاهــا فســرعان مــا‬ ‫يستســلم لآلخري ــن ويخســر ّ‬ ‫حريتــه ويذهــب‬ ‫اخت ــياره ّ‬ ‫للدجالي ــن املنافقي ــن‪.‬‬ ‫كانت صلة الرسول صلى هللا عليه وسلم باهلل‬ ‫أســبق مــن صلتــه باملجتمــع الــذي ســيكلف‬ ‫بدعوتــه وإصالحــه‪ ،‬وقــد بــدأ املســلمون بفتــح‬ ‫آفــاق أنفســهم قبــل أن يفتحــوا العالــم وقبــل‬ ‫أن يتجــردوا لذلــك العمــل الضخــم ‪ ...‬كانــت‬ ‫الصلــة بــاهلل وإقامــة العبــادات املطلوبــة‬ ‫بمثابــة الجــذور العميقــة الت ــي أنبتــت وأثمــرت‬ ‫تلــك الحضــارة فــي دمشــق وبغــداد وقرطبــة‪،‬‬ ‫وإذا لــم ي ــنشأ الفــرد هــذه التنشــئة اإليمان ــية‬ ‫األخالقيــة فكيــف ســيكون حالــه إذا وصــل‬ ‫إلــى الحكــم وأعجبــه التســلط علــى النــاس‪،‬‬ ‫وأعجبتــه األوامــر والنواهــي‪.‬‬ ‫ً‬ ‫إن تأســيس الفــرد املســلم ليــس منفصــا عــن‬ ‫تأســيس األســرة وتأســيس املجتمــع‪ ،‬فالــكل‬ ‫يسيـر في خطوط متشابكة منسجمة يساعد‬ ‫بعضهــا ً‬ ‫بعضــا‪ ،‬وهــو تأســيس يخــدم الجانــب‬ ‫السيا�ســي والدولــة‪.‬‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫اهتمامــا بالغــا‪،‬‬ ‫كان اهتمــام الق ـرآن باألســرة‬ ‫ولذلــك أحاطهــا بــكل الضمانــات األخالقيــة‬ ‫والتش ـريعية‪ ،‬وتحــدث عــن الــزواج والطــاق‬ ‫والحجــاب وصلــة األرحــام وتوزيــع املي ـراث‬ ‫وب ــر الوالدي ــن واالســتئذان فــي الدخــول علــى‬ ‫الب ــيوت ‪ ...‬كمــا فــي ســور‪ :‬البقــرة والنســاء والنــور‬ ‫والطالق وغيـرها‪ ،‬ذلك ألن األسرة هي املؤسسة‬ ‫االجتماعيــة الوحيــدة القائمــة مــا بـي ــن الفــرد‬ ‫واألمــة‪ ،‬وكل هــذه األهميــة لألســرة والعنايــة بهــا‬ ‫ألنتماسكهاواستقرارهاهواستقرارللمجتمع‪.‬‬

‫(‪ )4‬هروبـي إلى الحرية ‪ )5( - 49/‬كتب هذا قبل سقوط االتحاد السوفيتـي‬ ‫(‪ )6‬اسماعيل الفاروقي ‪ :‬التوحيد ‪ )7( - 283/‬الشيخ محمد عبده ‪ :‬األعمال الكاملة ‪159/3‬‬

‫من الفرد إلى الدولة‬

‫العدد ‪ 2‬رجب ‪1439‬هـ‬

‫كان مجتمــع املدي ــنة زمــن الرســول صلــى هللا‬ ‫عليــه وســلم مكتمــل الشــروط ملجتمــع صالــح‬ ‫بالنظــر لصــاح الفــرد وصــاح األســرة‪ ،‬يقــول‬ ‫الرئيــس علــي عــزت ب ــيكوفتش رحمــه هللا‪:‬‬ ‫(الرجــل وامل ـرأة همــا الخليــة األساســية للعالــم‬ ‫والحيــاة‪ ،‬وإن أقــل تغيي ــر لهــذه املــادة الحيات ــية‬ ‫ســيقود إلــى االنقــاب العــام) (‪. )4‬‬

‫ً‬ ‫الكياناالجتماعيلألمةاملسلمةمتماسكارغم‬ ‫ً‬ ‫ما حل به من نكبات‪ ،‬فاملجتمع الرومانـي مثل‬ ‫انهــار أمــام ضربــات بـراب ــرة الشــمال أمــا عالــم‬ ‫ّ‬ ‫اإلســام فلــم تتفــكك وحــدة مجتمعــه تحــت‬ ‫ضربات املغول‪ ،‬ذلك ألن الخلية (األسرة) التـي‬ ‫يتكــون منهــا املجتمــع اإلســامي هــي خليــة قويــة‬ ‫متماســكة تســتع�صي علــى الفســاد ‪.‬‬

‫ومــن املالحــظ أن الحضــارة الغرب ــية تعان ــي‬ ‫مــن تدهــور األســرة الــذي يســبب املشــاكل‬ ‫االجتماعية والسياسية‪( ،‬طرأ تحول جذري‬ ‫(‪)5‬‬ ‫فــي كل أرجــاء العاملي ــن الشــيوعي والغرب ــي‬ ‫وتعان ــي األســرة اليوم من الوهن العام الذي‬ ‫أصــاب املجتمــع‪ ،‬وبصــرف النظــرعن تحديد‬ ‫مــن يمثــل العلــة ومــن يمثــل املعلــول فــي ثنائــي‬ ‫األســرة والحضــارة‪ ،‬فــإن مــن املقطــوع بــه أن‬ ‫قــدرالحضــارة واألســرة هــوأن تنهضــا ً‬ ‫معــا أو‬ ‫تســقطا ً‬ ‫معــا) (‪.)6‬‬

‫إن املجتمع الذي ستبـنى عليه الدولة يجب أن‬ ‫ً‬ ‫مجتمعا ًّ‬ ‫يكون‬ ‫قويا‪ ،‬الدولة ال تتشكل وال تدار‬ ‫بمعــزل عــن حركــة املجتمــع وقــواه وتنظيماتــه‬ ‫األهلية‪ ،‬املجتمع السيا�سي هو ( الكل) والدولة‬ ‫هــي البـن ــيان الفوقــي َّ‬ ‫املؤســس علــى ب ــنى املجتمــع‬ ‫التحت ــية‪ ،‬ولذلــك تكـ ّـررت اآليــات الت ــي تفضــح‬ ‫وتدي ــن الذي ــن يضـ ّـادون إصــاح هــذا املجتمــع‬ ‫(( وإذا تولى سعى في األرض ليفسد فيها ويهلك‬ ‫الحرث والنسل وهللا ال يحب الفساد)) [سورة‬ ‫البقرة‪ :‬آية‪ ،]205‬ومن املالحظ أن التشريعات‬ ‫َ َ‬ ‫فــي املدي ــنة أ ْولــت جانــب املجتمــع وتماســكه‬ ‫االهتمام الكبـيـر فبعد فرض الزكاة والحديث‬ ‫عن الصدقات جاء الحديث عن املال والثـروة‬ ‫والت ــركيز علــى الضمــان االجتماعــي وحقــوق‬ ‫الفقـراء ألن عــدم التــوازن فــي هــذه األمــور الت ــي‬ ‫تمس حياة اإلنسان هو أحد األسباب الكبـرى‬ ‫ملشــاكل البشــر‪ ،‬وقــد قامــت دول وانهــارت دول‬ ‫بســبب هــذا األمــر (االشت ـراكية والشــيوعية‬ ‫والرأسمالية)‪.‬‬ ‫ُّ‬ ‫ّ‬ ‫االجتماعيــة‬ ‫ركــز الق ـرآن الكريــم علــى اللحمــة‬

‫إنــه مــن الطب ــيعي أن مــن فســدت فطرتــه‬ ‫فــا يقــدم الخي ــر ألهلــه أو أس ـرته فــأي خي ــر‬ ‫ي ــرجى منــه للبعــداء (وهــل يمكــن بعــد أن نفقــد‬ ‫الروابــط الضروريــة بـي ــن العائــات أن نبحــث‬ ‫(‪)7‬‬ ‫عــن الروابــط للجامعــة الكب ــرى «األمــة» )‬ ‫وكمــا أن الغلــو فــي حقــوق الفــرد ‪ -‬كمــا تؤكــد‬ ‫الليب ـرالية الغرب ــية ‪ -‬أدى إلــى تفتــت األســرة‪،‬‬ ‫وكذلــك كان نفــي الفرديــة فــي األنظمــة‬ ‫الجماعية يعنـي تجريد اإلنسان من إنسانـيته‪،‬‬ ‫ً‬ ‫وجــاء اإلســام وســطا فــي ذلــك‪ ،‬وعندمــا أعطــى‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫اإلســام حقوقا ثابتة في مجال اإلرث مثل كان‬ ‫ً‬ ‫هذا‬ ‫متطابقا مع التكوي ــن الجســدي والنف�ســي‬ ‫لإلنســان‪ ،‬وفــي توزيــع اإلرث يســتفيد أكب ــر‬ ‫عــدد ممكــن مــن األقــارب حتــى ال يكــون الجــو‬ ‫مسـ ً‬ ‫ـموما بـي ــن هــؤالء وحتــى ال تتفــكك روابــط‬ ‫الرحمــة واإليثــار‪ ،‬وهــذا هــو التعليــل لبقــاء‬ ‫‪86‬‬

‫ونعــى التفــرق واالختــاف الــذي يمــزق األمــة‪،‬‬ ‫ويكفي في هذا قوله تعالى ((واعتصموا بحبل‬ ‫ً‬ ‫جميعــا وال تفرقــوا)) [ ســورة آل عم ـران‪:‬‬ ‫هللا‬ ‫آيــة ‪ ،]103‬وأقــام اإلســام مفهــوم األمــة علــى‬ ‫أســاس الدي ــن وليــس علــى أســاس العــرق أو‬ ‫اللون أو الحدود الجغرافية‪ ...‬هذا املفهوم هو‬ ‫أداة إلعــادة تشــكيل العالــم وإصالحــه‪.‬‬ ‫(‪ )8‬رواه الطبـرانـي في الكبـيـر والحاكم في املستدرك وصححه الذهبـي‪.‬‬

‫ً‬ ‫تنظيمــا‬ ‫إن األمــة هــي األصــل ثــم تجــيء الدولــة‬ ‫إدا ًريــا لهــا‪ ،‬وإن دعــوة جــزء مــن األمــة ليكــون‬ ‫مــن اآلمري ــن باملعــروف الناهي ــن عــن املنكــر‬ ‫لهــو مــن أعظــم الوســائل لحمايــة املجتمــع‬ ‫وإصالحــه قبــل أن تتدخــل الدولــة بقوتهــا‬ ‫ّ‬ ‫وأجهزتها‪ ،‬وهي‬ ‫مسؤولية كبـيـرة حتى ال ُيتـرك‬ ‫ّ‬ ‫االنحــراف يــزداد ويتف�شــى‪.‬‬ ‫وحتــى يكــون هــذا املجتمــع ًّ‬ ‫نقيــا؛ طلــب مــن‬ ‫ّ‬ ‫أف ـراده أن يتحلــوا بالعــدل حتــى مــع أعدائهــم‬ ‫((يا أيها الذي ــن آمنوا كونوا قوامي ــن هلل شهداء‬ ‫بالقســط وال يجرمنكــم شــنآن قــوم علــى أال‬ ‫تعدلــوا اعدلــوا هــو أقــرب للتقــوى)) [ســورة‬ ‫املائــدة‪ :‬آيــة ‪.]8‬‬

‫تكونــت األمــة‬ ‫ ‬ ‫يف اإلســام قبــل الســلطة‬ ‫التنفيذيــة‪ ،‬وكانت الرشيعة هي‬ ‫ال َحكَــم بـيـــن املسلميـــن قبــل‬ ‫شــكل الحكــم‪ ،‬وجــاءت اآليــات‬ ‫كأســس للدولــة وللسياســة‬ ‫فــي هــذا املجتمــع يتوفــر للفــرد قــدر مــن العنايــة‬ ‫بــكل الوســائل املاديــة واملعنويــة‪ ،‬كمــا جــاء فــي‬ ‫الحديــث ((مــا آمــن ب ــي مــن بــات شــبعان وجــاره‬ ‫جائــع إلــى جنبــه وهــو يعلــم بــه))(‪ )8‬فــي هــذا‬ ‫ّ‬ ‫املجتمــع يقــال ألف ـراده‪ (( :‬ليــس الب ــر أن تولــوا‬ ‫وجوهكــم قبــل املشــرق واملغــرب ولكــن الب ــر‬ ‫مــن آمــن بــاهلل واليــوم اآلخــر واملالئكــة والكتــاب‬ ‫والنبـيي ــن وآتــى املــال علــى حبــه ذوي القربــى‬ ‫واليتامى واملساكيـن وابـن السبـيل وفي الرقاب‬ ‫وأقــام الصــاة وآتــى الــزكاة واملوفــون بعهدهــم‬ ‫إذا عاهــدوا والصابـري ــن فــي البأســاء والض ـراء‬ ‫وحيـن البأس)) [سورة البقرة‪ :‬آية ‪ ]177‬أي إن‬

‫العدد ‪ 2‬رجب ‪1439‬هـ‬

‫هذه العبادة ال بد أن تنتج آثارها االجتماعية‪،‬‬ ‫فالتضامن وإقامة العدل والوفاء بالعهود من‬ ‫أعظــم العبــادات‪ ،‬وإن إنفــاق املــال والصب ــر فــي‬ ‫البأســاء والض ـراء هــو الــذي يجعــل صاحبــه‬ ‫مسـ ّ‬ ‫ـتحقا ألن يوصــف بالصــدق والتقــوى ‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫إن نصــوص الق ـرآن والســنة تؤكــدان علــى‬ ‫مصلحة الجماعة‪ ،‬فإذا اســتوت على ســوق‬ ‫تنشــئة الفــرد وتقويــة املجتمــع‪ ،‬عندئــذ‬ ‫يصبح أمرالحكم والدولة هوالنت ــيجة الت ــي‬ ‫ال بــد منهــا للمحافظــة علــى ذلــك األســاس‪،‬‬ ‫ألننــا ال نســتطيع أن ّ‬ ‫نرمــم الدولــة إذا كانــت‬ ‫األساســات واهيــة ضعيفــة‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫لقــد بــث الق ـرآن الكريــم فــي آياتــه قيــم العــدل‬ ‫والتشن ــيع علــى الظلــم والظاملي ــن الذي ــن يجــب‬ ‫أال يتولــوا أمــور النــاس (( وإذ ابتلــى إب ـراهيم ربــه‬ ‫فأتمهن قال إنـي جاعلك للناس ً‬ ‫بكلمات ّ‬ ‫إماما‬ ‫قال ومن ذريتـي قال ال يـنال عهدي الظامليـن))‬ ‫[سورة البقرة‪ :‬آية ‪ (( ]124‬يا داود إنا جعلناك‬ ‫خليفــة فــي األرض فاحكــم بـي ــن النــاس بالحــق‬ ‫وال تتبــع الهــوى فيضلــك عــن سب ــيل هللا))‬ ‫[ســورة ص‪ :‬آيــة ‪ ،]26‬وتحــدث الق ـرآن عــن‬ ‫قيــم الشــورى والبعــد عــن االســتبداد وثقافــة‬ ‫االســتبداد‪ ،‬وقــد اســتجاب الرســول صلــى هللا‬ ‫عليــه وســلم للشــورى رغــم مخالفتهــا لرأيــه فــي‬ ‫موضوع الخروج إلى أحد ملقابلة جموع قريش‬ ‫أو البقــاء فــي املدي ــنة والدفــاع عنهــا‪ ،‬وتنزلــت‬ ‫اآليــات بعــد أحــد لتقــول للرســول صلــى هللا‬ ‫َ‬ ‫عليــه وســلم‪ :‬أدم علــى مشــاورتك لهــم رغــم مــا‬ ‫حصــل (( فبمــا رحمــة مــن هللا لنــت لهــم ولــو‬ ‫ًّ‬ ‫كنــت فظــا غليــظ القلــب النفضــوا مــن حولــك‬ ‫فاعــف عنهــم واســتغفر لهــم وشــاورهم فــي‬ ‫األمــر)) [ســورة آل عمـران‪ :‬آيــة ‪ ]159‬ووصفــت‬ ‫حالــة املسلمي ــن فــي أحوالهــم العاديــة بــأن‬ ‫أمرهم شورى بـيـنهم‪ ،‬وليس أيسر من تطبـيق‬ ‫‪87‬‬


‫من الفرد إلى الدولة‬ ‫وهــذا يتطلــب الفــرد الــذي يتأســس إيمان ـ ًّـيا‬ ‫ّ‬ ‫ًّ‬ ‫ًّ‬ ‫وعقليــا‪ ،‬قــال تعالــى‪ (( :‬ومــا يذكــر إال‬ ‫وأخالقيــا‬ ‫أولوا األلباب)) [سورة آل عمران‪ :‬آية ‪ ]7‬وقال‪:‬‬ ‫(( وال تقــف مــا ليــس لــك بــه علــم إن الســمع‬ ‫ً‬ ‫والبصر والفؤاد كل اولئك كان عنه مسؤول))‬ ‫[ســورة اإلس ـراء‪ :‬آيــة ‪ (( ]36‬وعبــاد الرحمــن‬ ‫الذي ــن يمشــون علــى األرض ً‬ ‫هونــا وإذا خاطبهــم‬ ‫الجاهلــون قالــوا ســاما)) [ســورة الفرقــان‪:‬‬ ‫ّ‬ ‫ـش‬ ‫‪(( ،]67‬وال تصعــر خــدك للنــاس وال تمـ ِ‬ ‫فــي األرض ً‬ ‫مرحــا إن هللا ال يحــب كل مختــال‬ ‫فخــور)) [ســورة لقمــان‪ :‬آيــة ‪ ]18‬واآليــات الت ــي‬ ‫تعنى بالتوجيهات التـربوية البـناءة كثيـرة ً‬ ‫جدا‪،‬‬ ‫وقــد ّزود القـر ُآن املسـ َ‬ ‫ـلم مــن البدايــة ب ــنظرة إلــى‬ ‫الكون قائمة على فهم السنن الربانـية‪ ،‬وأن كل‬ ‫مــا فــي هــذا الكــون مســخر لإلنســان ليتمتــع بــه‬ ‫ولكن ليس على الطريقة النفعية الغربـية‪ ،‬بل‬ ‫بطرائق تب ــرز مســؤوليته في عمارة هذه األرض‬ ‫بالعمــل الصالــح ‪.‬‬ ‫إن الحديــث املتكـ ّـرر عــن اليــوم اآلخــر البــد أن‬ ‫يلجــم النفــس حتــى ال تقــع فــي اآلثــام والشــرور‪،‬‬ ‫وهــو ً‬ ‫أيضــا حمايــة لإلنســان مــن محنــة‬ ‫العــدم‪ ،‬وعندمــا ال يكــون األمــر كذلــك فــإن‬ ‫هــذا اإلنســان سيســخر العلــم الخت ـراع أفظــع‬ ‫الوســائل لتنفيــذ أقبــح املآ�ســي والجرائــم‪...‬‬ ‫وعندما ّ‬ ‫يتأسس اإلنسان على القرآن والسنة‬ ‫علــى مــكارم األخــاق وذلــك ليبتعد عن األعمال‬ ‫الت ــي توصلــه ألســفل سافلي ــن‪ ،‬أليــس هــذا‬ ‫ممــا يســاعد علــى االســتقرار واألمــن واألعمــال‬ ‫املفيــدة‪ ،‬وتكــون عاقبــة ذلــك خي ـ ًـرا‪ ،‬إذ التغن ــي‬ ‫القوانـي ــن والزواجــر غنــاء االقتنــاع الداخلــي‬ ‫امللتــزم بمــا ي ــر�ضي هللا ســبحانه ‪.‬‬ ‫هذا االســتقرار يجعل الفرد املســلم ً‬ ‫قادرا على‬ ‫أن ي ــرسم الخطط ويســاعد على إيجاد اإلدارة‬

‫ّ‬ ‫فالقضية ليست شعارات سياسية‬ ‫املناسبة‪،‬‬ ‫بــل هــي واقــع أسا�ســي وهــو تحري ــر اإلنســان مــن‬ ‫املعوقــات الت ــي تحيــط بــه ليتخــذ الخيــارات‬ ‫ً‬ ‫الصحيحــة‪ ،‬وإذا بقــي جاهــا فســرعان مــا‬ ‫يستســلم لآلخري ــن ويخســر ّ‬ ‫حريتــه ويذهــب‬ ‫اخت ــياره ّ‬ ‫للدجالي ــن املنافقي ــن‪.‬‬ ‫كانت صلة الرسول صلى هللا عليه وسلم باهلل‬ ‫أســبق مــن صلتــه باملجتمــع الــذي ســيكلف‬ ‫بدعوتــه وإصالحــه‪ ،‬وقــد بــدأ املســلمون بفتــح‬ ‫آفــاق أنفســهم قبــل أن يفتحــوا العالــم وقبــل‬ ‫أن يتجــردوا لذلــك العمــل الضخــم ‪ ...‬كانــت‬ ‫الصلــة بــاهلل وإقامــة العبــادات املطلوبــة‬ ‫بمثابــة الجــذور العميقــة الت ــي أنبتــت وأثمــرت‬ ‫تلــك الحضــارة فــي دمشــق وبغــداد وقرطبــة‪،‬‬ ‫وإذا لــم ي ــنشأ الفــرد هــذه التنشــئة اإليمان ــية‬ ‫األخالقيــة فكيــف ســيكون حالــه إذا وصــل‬ ‫إلــى الحكــم وأعجبــه التســلط علــى النــاس‪،‬‬ ‫وأعجبتــه األوامــر والنواهــي‪.‬‬ ‫ً‬ ‫إن تأســيس الفــرد املســلم ليــس منفصــا عــن‬ ‫تأســيس األســرة وتأســيس املجتمــع‪ ،‬فالــكل‬ ‫يسيـر في خطوط متشابكة منسجمة يساعد‬ ‫بعضهــا ً‬ ‫بعضــا‪ ،‬وهــو تأســيس يخــدم الجانــب‬ ‫السيا�ســي والدولــة‪.‬‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫اهتمامــا بالغــا‪،‬‬ ‫كان اهتمــام الق ـرآن باألســرة‬ ‫ولذلــك أحاطهــا بــكل الضمانــات األخالقيــة‬ ‫والتش ـريعية‪ ،‬وتحــدث عــن الــزواج والطــاق‬ ‫والحجــاب وصلــة األرحــام وتوزيــع املي ـراث‬ ‫وب ــر الوالدي ــن واالســتئذان فــي الدخــول علــى‬ ‫الب ــيوت ‪ ...‬كمــا فــي ســور‪ :‬البقــرة والنســاء والنــور‬ ‫والطالق وغيـرها‪ ،‬ذلك ألن األسرة هي املؤسسة‬ ‫االجتماعيــة الوحيــدة القائمــة مــا بـي ــن الفــرد‬ ‫واألمــة‪ ،‬وكل هــذه األهميــة لألســرة والعنايــة بهــا‬ ‫ألنتماسكهاواستقرارهاهواستقرارللمجتمع‪.‬‬

‫(‪ )4‬هروبـي إلى الحرية ‪ )5( - 49/‬كتب هذا قبل سقوط االتحاد السوفيتـي‬ ‫(‪ )6‬اسماعيل الفاروقي ‪ :‬التوحيد ‪ )7( - 283/‬الشيخ محمد عبده ‪ :‬األعمال الكاملة ‪159/3‬‬

‫من الفرد إلى الدولة‬

‫العدد ‪ 2‬رجب ‪1439‬هـ‬

‫كان مجتمــع املدي ــنة زمــن الرســول صلــى هللا‬ ‫عليــه وســلم مكتمــل الشــروط ملجتمــع صالــح‬ ‫بالنظــر لصــاح الفــرد وصــاح األســرة‪ ،‬يقــول‬ ‫الرئيــس علــي عــزت ب ــيكوفتش رحمــه هللا‪:‬‬ ‫(الرجــل وامل ـرأة همــا الخليــة األساســية للعالــم‬ ‫والحيــاة‪ ،‬وإن أقــل تغيي ــر لهــذه املــادة الحيات ــية‬ ‫ســيقود إلــى االنقــاب العــام) (‪. )4‬‬

‫ً‬ ‫الكياناالجتماعيلألمةاملسلمةمتماسكارغم‬ ‫ً‬ ‫ما حل به من نكبات‪ ،‬فاملجتمع الرومانـي مثل‬ ‫انهــار أمــام ضربــات بـراب ــرة الشــمال أمــا عالــم‬ ‫ّ‬ ‫اإلســام فلــم تتفــكك وحــدة مجتمعــه تحــت‬ ‫ضربات املغول‪ ،‬ذلك ألن الخلية (األسرة) التـي‬ ‫يتكــون منهــا املجتمــع اإلســامي هــي خليــة قويــة‬ ‫متماســكة تســتع�صي علــى الفســاد ‪.‬‬

‫ومــن املالحــظ أن الحضــارة الغرب ــية تعان ــي‬ ‫مــن تدهــور األســرة الــذي يســبب املشــاكل‬ ‫االجتماعية والسياسية‪( ،‬طرأ تحول جذري‬ ‫(‪)5‬‬ ‫فــي كل أرجــاء العاملي ــن الشــيوعي والغرب ــي‬ ‫وتعان ــي األســرة اليوم من الوهن العام الذي‬ ‫أصــاب املجتمــع‪ ،‬وبصــرف النظــرعن تحديد‬ ‫مــن يمثــل العلــة ومــن يمثــل املعلــول فــي ثنائــي‬ ‫األســرة والحضــارة‪ ،‬فــإن مــن املقطــوع بــه أن‬ ‫قــدرالحضــارة واألســرة هــوأن تنهضــا ً‬ ‫معــا أو‬ ‫تســقطا ً‬ ‫معــا) (‪.)6‬‬

‫إن املجتمع الذي ستبـنى عليه الدولة يجب أن‬ ‫ً‬ ‫مجتمعا ًّ‬ ‫يكون‬ ‫قويا‪ ،‬الدولة ال تتشكل وال تدار‬ ‫بمعــزل عــن حركــة املجتمــع وقــواه وتنظيماتــه‬ ‫األهلية‪ ،‬املجتمع السيا�سي هو ( الكل) والدولة‬ ‫هــي البـن ــيان الفوقــي َّ‬ ‫املؤســس علــى ب ــنى املجتمــع‬ ‫التحت ــية‪ ،‬ولذلــك تكـ ّـررت اآليــات الت ــي تفضــح‬ ‫وتدي ــن الذي ــن يضـ ّـادون إصــاح هــذا املجتمــع‬ ‫(( وإذا تولى سعى في األرض ليفسد فيها ويهلك‬ ‫الحرث والنسل وهللا ال يحب الفساد)) [سورة‬ ‫البقرة‪ :‬آية‪ ،]205‬ومن املالحظ أن التشريعات‬ ‫َ َ‬ ‫فــي املدي ــنة أ ْولــت جانــب املجتمــع وتماســكه‬ ‫االهتمام الكبـيـر فبعد فرض الزكاة والحديث‬ ‫عن الصدقات جاء الحديث عن املال والثـروة‬ ‫والت ــركيز علــى الضمــان االجتماعــي وحقــوق‬ ‫الفقـراء ألن عــدم التــوازن فــي هــذه األمــور الت ــي‬ ‫تمس حياة اإلنسان هو أحد األسباب الكبـرى‬ ‫ملشــاكل البشــر‪ ،‬وقــد قامــت دول وانهــارت دول‬ ‫بســبب هــذا األمــر (االشت ـراكية والشــيوعية‬ ‫والرأسمالية)‪.‬‬ ‫ُّ‬ ‫ّ‬ ‫االجتماعيــة‬ ‫ركــز الق ـرآن الكريــم علــى اللحمــة‬

‫إنــه مــن الطب ــيعي أن مــن فســدت فطرتــه‬ ‫فــا يقــدم الخي ــر ألهلــه أو أس ـرته فــأي خي ــر‬ ‫ي ــرجى منــه للبعــداء (وهــل يمكــن بعــد أن نفقــد‬ ‫الروابــط الضروريــة بـي ــن العائــات أن نبحــث‬ ‫(‪)7‬‬ ‫عــن الروابــط للجامعــة الكب ــرى «األمــة» )‬ ‫وكمــا أن الغلــو فــي حقــوق الفــرد ‪ -‬كمــا تؤكــد‬ ‫الليب ـرالية الغرب ــية ‪ -‬أدى إلــى تفتــت األســرة‪،‬‬ ‫وكذلــك كان نفــي الفرديــة فــي األنظمــة‬ ‫الجماعية يعنـي تجريد اإلنسان من إنسانـيته‪،‬‬ ‫ً‬ ‫وجــاء اإلســام وســطا فــي ذلــك‪ ،‬وعندمــا أعطــى‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫اإلســام حقوقا ثابتة في مجال اإلرث مثل كان‬ ‫ً‬ ‫هذا‬ ‫متطابقا مع التكوي ــن الجســدي والنف�ســي‬ ‫لإلنســان‪ ،‬وفــي توزيــع اإلرث يســتفيد أكب ــر‬ ‫عــدد ممكــن مــن األقــارب حتــى ال يكــون الجــو‬ ‫مسـ ً‬ ‫ـموما بـي ــن هــؤالء وحتــى ال تتفــكك روابــط‬ ‫الرحمــة واإليثــار‪ ،‬وهــذا هــو التعليــل لبقــاء‬ ‫‪86‬‬

‫ونعــى التفــرق واالختــاف الــذي يمــزق األمــة‪،‬‬ ‫ويكفي في هذا قوله تعالى ((واعتصموا بحبل‬ ‫ً‬ ‫جميعــا وال تفرقــوا)) [ ســورة آل عم ـران‪:‬‬ ‫هللا‬ ‫آيــة ‪ ،]103‬وأقــام اإلســام مفهــوم األمــة علــى‬ ‫أســاس الدي ــن وليــس علــى أســاس العــرق أو‬ ‫اللون أو الحدود الجغرافية‪ ...‬هذا املفهوم هو‬ ‫أداة إلعــادة تشــكيل العالــم وإصالحــه‪.‬‬ ‫(‪ )8‬رواه الطبـرانـي في الكبـيـر والحاكم في املستدرك وصححه الذهبـي‪.‬‬

‫ً‬ ‫تنظيمــا‬ ‫إن األمــة هــي األصــل ثــم تجــيء الدولــة‬ ‫إدا ًريــا لهــا‪ ،‬وإن دعــوة جــزء مــن األمــة ليكــون‬ ‫مــن اآلمري ــن باملعــروف الناهي ــن عــن املنكــر‬ ‫لهــو مــن أعظــم الوســائل لحمايــة املجتمــع‬ ‫وإصالحــه قبــل أن تتدخــل الدولــة بقوتهــا‬ ‫ّ‬ ‫وأجهزتها‪ ،‬وهي‬ ‫مسؤولية كبـيـرة حتى ال ُيتـرك‬ ‫ّ‬ ‫االنحــراف يــزداد ويتف�شــى‪.‬‬ ‫وحتــى يكــون هــذا املجتمــع ًّ‬ ‫نقيــا؛ طلــب مــن‬ ‫ّ‬ ‫أف ـراده أن يتحلــوا بالعــدل حتــى مــع أعدائهــم‬ ‫((يا أيها الذي ــن آمنوا كونوا قوامي ــن هلل شهداء‬ ‫بالقســط وال يجرمنكــم شــنآن قــوم علــى أال‬ ‫تعدلــوا اعدلــوا هــو أقــرب للتقــوى)) [ســورة‬ ‫املائــدة‪ :‬آيــة ‪.]8‬‬

‫تكونــت األمــة‬ ‫ ‬ ‫يف اإلســام قبــل الســلطة‬ ‫التنفيذيــة‪ ،‬وكانت الرشيعة هي‬ ‫ال َحكَــم بـيـــن املسلميـــن قبــل‬ ‫شــكل الحكــم‪ ،‬وجــاءت اآليــات‬ ‫كأســس للدولــة وللسياســة‬ ‫فــي هــذا املجتمــع يتوفــر للفــرد قــدر مــن العنايــة‬ ‫بــكل الوســائل املاديــة واملعنويــة‪ ،‬كمــا جــاء فــي‬ ‫الحديــث ((مــا آمــن ب ــي مــن بــات شــبعان وجــاره‬ ‫جائــع إلــى جنبــه وهــو يعلــم بــه))(‪ )8‬فــي هــذا‬ ‫ّ‬ ‫املجتمــع يقــال ألف ـراده‪ (( :‬ليــس الب ــر أن تولــوا‬ ‫وجوهكــم قبــل املشــرق واملغــرب ولكــن الب ــر‬ ‫مــن آمــن بــاهلل واليــوم اآلخــر واملالئكــة والكتــاب‬ ‫والنبـيي ــن وآتــى املــال علــى حبــه ذوي القربــى‬ ‫واليتامى واملساكيـن وابـن السبـيل وفي الرقاب‬ ‫وأقــام الصــاة وآتــى الــزكاة واملوفــون بعهدهــم‬ ‫إذا عاهــدوا والصابـري ــن فــي البأســاء والض ـراء‬ ‫وحيـن البأس)) [سورة البقرة‪ :‬آية ‪ ]177‬أي إن‬

‫العدد ‪ 2‬رجب ‪1439‬هـ‬

‫هذه العبادة ال بد أن تنتج آثارها االجتماعية‪،‬‬ ‫فالتضامن وإقامة العدل والوفاء بالعهود من‬ ‫أعظــم العبــادات‪ ،‬وإن إنفــاق املــال والصب ــر فــي‬ ‫البأســاء والض ـراء هــو الــذي يجعــل صاحبــه‬ ‫مسـ ّ‬ ‫ـتحقا ألن يوصــف بالصــدق والتقــوى ‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫إن نصــوص الق ـرآن والســنة تؤكــدان علــى‬ ‫مصلحة الجماعة‪ ،‬فإذا اســتوت على ســوق‬ ‫تنشــئة الفــرد وتقويــة املجتمــع‪ ،‬عندئــذ‬ ‫يصبح أمرالحكم والدولة هوالنت ــيجة الت ــي‬ ‫ال بــد منهــا للمحافظــة علــى ذلــك األســاس‪،‬‬ ‫ألننــا ال نســتطيع أن ّ‬ ‫نرمــم الدولــة إذا كانــت‬ ‫األساســات واهيــة ضعيفــة‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫لقــد بــث الق ـرآن الكريــم فــي آياتــه قيــم العــدل‬ ‫والتشن ــيع علــى الظلــم والظاملي ــن الذي ــن يجــب‬ ‫أال يتولــوا أمــور النــاس (( وإذ ابتلــى إب ـراهيم ربــه‬ ‫فأتمهن قال إنـي جاعلك للناس ً‬ ‫بكلمات ّ‬ ‫إماما‬ ‫قال ومن ذريتـي قال ال يـنال عهدي الظامليـن))‬ ‫[سورة البقرة‪ :‬آية ‪ (( ]124‬يا داود إنا جعلناك‬ ‫خليفــة فــي األرض فاحكــم بـي ــن النــاس بالحــق‬ ‫وال تتبــع الهــوى فيضلــك عــن سب ــيل هللا))‬ ‫[ســورة ص‪ :‬آيــة ‪ ،]26‬وتحــدث الق ـرآن عــن‬ ‫قيــم الشــورى والبعــد عــن االســتبداد وثقافــة‬ ‫االســتبداد‪ ،‬وقــد اســتجاب الرســول صلــى هللا‬ ‫عليــه وســلم للشــورى رغــم مخالفتهــا لرأيــه فــي‬ ‫موضوع الخروج إلى أحد ملقابلة جموع قريش‬ ‫أو البقــاء فــي املدي ــنة والدفــاع عنهــا‪ ،‬وتنزلــت‬ ‫اآليــات بعــد أحــد لتقــول للرســول صلــى هللا‬ ‫َ‬ ‫عليــه وســلم‪ :‬أدم علــى مشــاورتك لهــم رغــم مــا‬ ‫حصــل (( فبمــا رحمــة مــن هللا لنــت لهــم ولــو‬ ‫ًّ‬ ‫كنــت فظــا غليــظ القلــب النفضــوا مــن حولــك‬ ‫فاعــف عنهــم واســتغفر لهــم وشــاورهم فــي‬ ‫األمــر)) [ســورة آل عمـران‪ :‬آيــة ‪ ]159‬ووصفــت‬ ‫حالــة املسلمي ــن فــي أحوالهــم العاديــة بــأن‬ ‫أمرهم شورى بـيـنهم‪ ،‬وليس أيسر من تطبـيق‬ ‫‪87‬‬


‫من الفرد إلى الدولة‬ ‫مؤمنــا ّ‬ ‫الشــورى إذا كان اإلنســان ً‬ ‫حقــا يعــرف‬ ‫أنــه يتعامــل مــع هللا فــي كل مــا يصــدر عنــه مــن‬ ‫تصــرف‪.‬‬ ‫لقــد وضــع القـرآن األســس الكب ــرى واألصــول‬ ‫الجامعــة الت ــي يســتنبط منهــا العلمــاء فــي كل‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫صحيحــا للعمــل‪ ،‬يقــول اإلمــام‬ ‫زمــان طريقــا‬ ‫الجويـن ــي‪( :‬معظــم مســائل اإلمامــة َ‬ ‫عريــة مــن‬ ‫مســالك القطــع‪ّ ،‬‬ ‫خليــة مــن مــدارك اليقي ــن)‬ ‫إنهــا اجتهاديــة وليــس فيهــا نصــوص قطعيــة‪.‬‬ ‫وقــد تكونــت األمــة فــي اإلســام قبــل الســلطة‬ ‫َ َ‬ ‫الحكــم بـي ــن‬ ‫التنفيذيــة‪ ،‬وكانــت الش ـريعة هــي‬ ‫املسلمي ــن قبــل شــكل الحكــم‪ ،‬وجــاءت اآليــات‬ ‫كأســس للدولــة وللسياســة قــال تعالــى‪ (( :‬إن‬ ‫هللا يأمركــم أن تــؤدوا األمانــات إلــى أهلهــا وإذا‬ ‫حكمتــم بـي ــن النــاس أن تحكمــوا بالعــدل))‬ ‫[ســورة النســاء‪ :‬آية ‪ (( ،]58‬يا أيها الذي ــن آمنوا‬ ‫أطيعوا هللا وأطيعوا الرسول وأولي األمر منكم‬ ‫فــإن تنازعتــم فــي �شــيء فــردوه إلــى هللا والرســول‬ ‫إن كنتــم تؤمنــون بــاهلل واليــوم اآلخــر)) [ســورة‬ ‫النساء‪ :‬آية ‪ (( ،]59‬وإذا جاءهم أمر من األمن‬ ‫أو الخــوف أذاعــوا بــه ولــو ّردوه إلــى الرســول‬ ‫وإلى أولي األمر منهم لعلمه الذي ــن يســتنبطونه‬ ‫منهم)) [سورة النساء‪ :‬آية ‪ (( ،]83‬ثم جعلناك‬ ‫علــى شـريعة مــن األمــر فاتبعهــا وال تتبــع أهــواء‬ ‫الذي ــن ال يعلمــون)) [ســورة الجاثيــة‪ :‬آيــة ‪.]18‬‬ ‫دعا القرآن إلى مقاومة الظلم وعدم القبول‬ ‫بحالــة االســتضعاف فقــال‪ (( :‬إن الذي ــن‬ ‫توفاهــم املالئكــة ظالمــي أنفســهم قالــوا فيــم‬ ‫كنتم قالوا كنا مستضعفيـن في األرض قالوا‬ ‫ألــم تكــن أرض هللا واســعة فتهاجــروا فيهــا))‬ ‫[ســورة النســاء‪ :‬آيــة ‪.]97‬‬ ‫لقــد طــاف القـرآن باملسلمي ــن خــال العصــور‬ ‫لي ــنظروا فــي أحــوال األمــم ونتائــج أعمالهــا‪،‬‬ ‫ويفكــروا فــي أســباب تطورهــا وتقدمهــا أو‬ ‫أســباب تأخرهــا وت ـراجعها‪ ،‬وتحــدث القـرآن‬

‫ً‬ ‫طويــا عــن الســنن اإللهيــة فــي تاريــخ البشــر‪،‬‬ ‫وســنته تعالــى فــي هــاك األمــم إذا بطــرت‬ ‫معيشــتها وعاثــت فسـ ًـادا فــي األرض فقــال‪:‬‬ ‫(( وال تفســدوا فــي األرض بعــد إصالحهــا))‬ ‫[ســورة األع ـراف‪ :‬آيــة ‪(( ،]85‬وقــال مو�ســى‬ ‫ألخيــه هــارون اخلفن ــي فــي قومــي وأصلــح وال‬ ‫تتبــع سب ــيل املفسدي ــن)) [ســورة األع ـراف‪:‬‬ ‫آيــة ‪.]142‬‬ ‫ومــن الســنن أن التمكي ــن فــي األرض يكــون‬ ‫ألهــل الصــاح واإلصــاح (( ولقــد كتب ــنا فــي‬ ‫الزبــور مــن بعــد الذكــر أن األرض ي ــرثها عبــادي‬ ‫الصالحون)) [سورة األنبـياء‪ :‬آية ‪ ،]105‬وذكر‬ ‫ســبحانه ســنة التدافــع والص ـراع بـي ــن الحــق‬ ‫والباطــل ((ولــوال دفــع هللا النــاس بعضهــم‬ ‫ببعــض لفســدت األرض)) أليــس هــذا ممــا‬ ‫يخدم السياسة‪ ،‬بل هو من قواعد السياسة‪،‬‬ ‫ألن هــذه الســنة تطهــر األرض مــن الفاسدي ــن‪،‬‬ ‫كما كان تطهيـر املجتمع اإلسالمي من الداخل‬ ‫لــه األولويــة‪ ،‬فــإن أول ســورة نزلــت فــي املدي ــنة‬ ‫(البقرة) تحدثت عن املنافقيـن واليهود‪ ،‬وتتنزل‬ ‫آخــر ســورة (ب ـراءة) وتتحــدث عــن املنافقي ــن‬ ‫واليهــود‪ ،‬أليــس هــذا حمايــة للدولــة مــن الغــدر‬ ‫ونكــث العهــود ونقــض املواثيــق ‪.‬‬ ‫أشــار الق ـرآن إلــى العالقــات الدوليــة‪ ،‬إلــى‬ ‫االمب ــراطوريات املجــاورة للمسلمي ــن‪،‬‬ ‫وأن الصــراع بـي ــنهما هــو لصالــح املسلمي ــن‬ ‫((غلبــت الــروم فــي أدنــى األرض وهــم مــن بعــد‬ ‫غلبهــم ســيغلبون)) [ســورة الــروم‪ :‬آيــة ‪،]3-2‬‬ ‫وهذا يعنـي أن املسلميـن ال يمكن أن يكونوا‬ ‫بمنــأى عــن هــذا التدافــع والصــراع وال بــد أن‬ ‫يتصرفــوا التصــرف الصحيــح حيــال ذلــك‪،‬‬ ‫وفــي العالقــات الدوليــة أوجــب الق ـرآن علــى‬ ‫املسلميـن الوفاء بعهودهم (( وأوفوا بالعهد‬ ‫ً‬ ‫إن العهــد كان مســؤول)) [ســورة اإلســراء‪:‬‬ ‫آيــة ‪.]34‬‬

‫شبهة إهانة أهل الذمة‬

‫العدد ‪ 2‬رجب ‪1439‬هـ‬

‫ّ‬ ‫أصـ َـل الق ـرآن القواعــد األساســية لالقتصــاد‬ ‫والث ــروة وت ــرك التفاصيــل فــي املعامــات‬ ‫ومعايــش النــاس الجتهــاد العلمــاء والخب ـراء‬ ‫حســب مــا يكــون فيــه تـيسي ـ ًـرا علــى النــاس فــي‬ ‫أمــور دن ــياهم‪ ،‬قــال تعالــى عــن أهميــة املــال‬ ‫ملجموع األمة ((وال تؤتوا السفهاء أموالكم التـي‬ ‫جعــل هللا لكــم ً‬ ‫قيامــا)) [ســورة النســاء‪ :‬آيــة ‪،]5‬‬ ‫ونهــى الق ـرآن عــن أكل أمــوال النــاس بالباطــل‬ ‫وحـ ّـرم الربــا وأحــل الطيبــات وحـ ّـرم الخبائــث‪،‬‬ ‫ودعــا املسلمي ــن إلــى توثيــق العقــود وهــذا فيــه‬ ‫حفــظ للمــال وابتعــاد عــن الخصومــات وهــو‬ ‫أمــر بالــغ التحضــر واملدن ــية قــال تعالــى‪ (( :‬يــا‬ ‫أيهــا الذي ــن آمنــوا إذا تداي ــنتم بدي ــن إلــى أجــل‬ ‫مسـ ّـمى فاكتبــوه)) [ســورة البقــرة‪ :‬آيــة ‪،]282‬‬ ‫وفــي ســورة الحشــر أمــر هللا ســبحانه بتوزيــع‬ ‫الفـ ْـيء علــى مســتحقيه ليــدور املــال وال يجتمــع‬ ‫ب ــيد أفـراد محدودي ــن (( ـكـي ال يكــون دولــة بـي ــن‬ ‫األغن ــياء منكــم)) [ســورة الحشــر‪ :‬آيــة ‪.]7‬‬ ‫واإلســام ال يشــعر بالحــرج أمــام نظــم‬ ‫اقتصادية رأسمالية أو اشتـراكية ألن األسس‬ ‫التـي وضعها تختلف عن أسس الرأسمالية أو‬ ‫االشت ـراكية‪ ،‬وليــس هــو الدي ــن الــذي يضطــر‬ ‫لتغيي ــر منهجــه مــع كل نظــام اقتصــادي يطـرأ‬ ‫علــى البش ـرية أو كل نظــام سيا�ســي ‪.‬‬ ‫وأمــا تطب ــيقات الرســول صلــى هللا عليــه وســلم‬ ‫للقواعد واألسس التـي جاء بها القرآن لتنتظم‬ ‫بهــا أمــور املسلمي ــن؛ تطب ـ ًـيقا ًّ‬ ‫عمليــا فــي واقــع‬ ‫املدي ــنة النبويــة وواقــع الجزي ــرة العرب ــية آنئــذ‪،‬‬ ‫ومــا قــام بــه الخلفــاء الراشــدون مــن متابعــة‬ ‫لســنته صلــى هللا عليــه وســلم واجتهــاد فــي أمــور‬ ‫حدثــت مــع توســع الدولــة اإلســامية‪ ،‬كل هــذا‬ ‫لــه حديــث آخــر أعــان هللا علــى ذلــك ‪.‬‬

‫‪88‬‬

‫العدد ‪ 2‬رجب ‪1439‬هـ‬

‫الرد ىلع ُشبهة‬ ‫ُّ‬

‫األمر بإهانة أهل الذمة‬ ‫يف الس ّنة النبوية‬

‫والفلسف ِة ـ َجا ِم ُ‬ ‫َ‬ ‫األزهر‬ ‫قيد ِة‬ ‫الدكتور علي محمد حسن األزهري | ِقسم اْل َع َ‬ ‫عــة َ‬

‫إن الحــرب الفكريــة علــى دي ــن اإلســام لــم تتوقــف ً‬ ‫الرســالة ّ‬ ‫يومــا منــذ بـ ْـد ِء ّ‬ ‫املحمديــة وإلــى‬ ‫َ‬ ‫ـراهيم وشــعيب ومو�ســى‬ ‫اليــوم‪ ،‬كمــا هــو حــال دعــوات الحـ ِ ّـق الســابقة؛ دعــوة نــوح وإب ـ‬ ‫وعي�ســى عليهــم الســام‪.‬‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫في القرن املا�ضي شــن املستشــرقون‬ ‫هجوما عن ــيفا على اإلســام ولكنهم خســروا حربهم‬ ‫علــى أبــواب اإلســام املن ــيعة‪ ،‬وقــد خلفهــم اليــوم أشـ ُ‬ ‫ـباههم مــن َّ‬ ‫الزنادقــة والعلمانـيي ــن‬ ‫ّ‬ ‫والحداثيي ــن فــا يــكاد يم�ضــي يــوم إال وتســمع منهــم شــبهة جديــدة تعتمــد الكــذب والتزوي ــر‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫أساسا في التضليل والتشكيك بديـن هللا القويم‪ ،‬وأنى لهم ذلك واإلسالم ديـن هللا الخاتم‬ ‫الــذي حفظــه َّ‬ ‫وهيــأ لــه مــن أهــل العلــم واإليمــان مــن يــذود عنــه ويفديــه بالغالــي والنفيــس؟‬ ‫ومــن هــذه الشــبهات الت ــي تثــاراليــوم ادعـ ُـاء التضــار ِب بـي ــن مبــادئ اإلســام فــي التعامــل مــع‬ ‫أب ــناء الديانــات األخــرى حيــث تأمــرالســنة النبويــة بإهانتهــم بـي ــنما يأمــرالقـرآن بالتعامــل‬ ‫معهم بالحسنى مما يوجب عليـنا التخلي عن السنة النبوية ورميها! ‪ ...‬فما حقيقة هذه‬ ‫الشبهة؟‬

‫نص الشبهة‬

‫إن األحاديــث فــي كتــب الســنة جــاءت مناقضــة ملــا جــاء بــه صريــح اإلســام‪ ،‬والــذي أوصانــا‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫بأصحــاب الديانــات األخــرى خي ـ ًـرا‪ ،‬ومــن ذلــك قــول هللا تعالــى ‪ (( :‬ال َي ْن َه ُاكـ ُـم ُ‬ ‫هللا َعـ ِـن ال ِذي ـ َـن لـ ْـم‬ ‫ْ َ ُ ْ َ ْ َ َ ُّ ُ ْ َ ُ ْ ُ‬ ‫ّ َ​َ ْ ُ ْ ُ ُ‬ ‫َُ ُ ُ‬ ‫ـطوا إ َل ْيهـ ْـم إ َّن َ‬ ‫هللا ُي ِحـ ُّـب‬ ‫يقا ِتلوكـ ْـم ِفــي ِ‬ ‫الدي ـ ِـن ولــم يخ ِرجوكــم ِمــن ِدي ِاركــم أن تبروهــم وتق ِسـ ِ ِ ِ‬ ‫ُْ‬ ‫ال ْق ِس ِطي َـن)) [املمتحنة‪ :‬آية‪ ،]8‬فجاء األمر باإلحسان إليهم طاملا ليس بـيـننا وبـيـنهم عداوة حرب‪،‬‬ ‫َُ ُ‬ ‫ـاس ُح ْسـ ًـنا)) [البقــرة ‪ :‬آيــة ‪ ]83‬واملعنــى كمــا قــال أهــل التفسي ــر ومنهــم‬ ‫((وقولــوا ِل َّلنـ‬ ‫وقــال تعالــى ‪:‬‬ ‫ِ‬ ‫َ َ ُْ ُ َ َ َ َ ُ ُ‬ ‫ُ ْ ً َ ْ َّ ُ ُ ْ ًَّ ُ َُ ْ َ ً َ​َ ْ ُ‬ ‫َّ‬ ‫ُ‬ ‫اس حسنا)) أي‪ :‬ك ِلموهم ط ِيبا وليـنوا لهم جا ِنبا ويدخل ِفي‬ ‫ابـن كثيـر ‪( :‬وقوله تعالى‪(( :‬وقولوا ِللن ِ‬ ‫َُ ُ‬ ‫َ َ َ َ ْ َ َ ُ ْ َ ْ ُّ َ‬ ‫َ َ ْ َ ْ ُ ْ َ ْ ُ َ َّ ْ ُ َ ْ ُ ْ َ ْ َ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫وف‪ ،‬كمــا قــال الحســن البصـ ِـري ِفــي قوِلـ ِـه‪(( :‬وقولوا‬ ‫وف والنهــي عـ ِـن النكـ ِـر ِبالعــر ِ‬ ‫ذ ِلــك المــر ِبالعــر ِ‬ ‫َ ْ َ ْ ل ُ ْ َ ْ ُ َ َ ْ َ َ ْ ُ ْ َ َ َ ْ ُ ُ َ َ ْ ُ َ َ ْ َُ‬ ‫ل َّلنـ ُ ْ ً‬ ‫ُ ْ‬ ‫وف وينهــى عـ ِـن النكـ ِـر ويحلــم ويعفــو ويصفــح‬ ‫ـاس حســنا)) فالحســن ِمــن القــو ِ ‪ :‬يأمــر ِبالعــر ِ‬ ‫ِ ِ‬

‫ـال ُ‬ ‫َو َي ُقــو ُل ِل َّلنــاس ُح ْسـ ًـنا َك َمــا َقـ َ‬ ‫هللا‪َ ،‬و ُهـ َـو‬ ‫ِ‬ ‫ُ ُ​ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ (‪)1‬‬ ‫َ‬ ‫ك ُّل خلــق َح َسـ ٍـن ر ِضيــه هللا) ‪ ،‬وغي ــر ذلــك‬ ‫مــن اآليــات الت ــي تــدل علــى وجــوب اإلحســان‬ ‫لغي ــر املسلمي ــن‪ - ،‬وب ــناء علــى ذلــك يقــول‬ ‫َّ‬ ‫الطاعنــون ‪ -‬ومــع هــذا جــاءت كتــب الحديــث‬ ‫تنشـ ُـر ثقافــة الكراهيــة بـي ــن َّ‬ ‫النــاس‪ ،‬وتحــث‬ ‫املسلمي ــن على ظلم غي ــر املسلمي ــن واإلعراض‬ ‫عنهــم والتضييــق عليهــم حتــى فــي الطرقــات‪،‬‬ ‫َ ْ َ ُ ْ َ َ َّ ُ َ‬ ‫هللا‬ ‫ففــي الحديــث عــن أ ِبــي ه َريـ َـرة‪ ،‬أن َرســول ِ‬ ‫َ َّ ُ َ َ ْ َ َ َّ َ َ َ َ‬ ‫((ل َت ْبـ َـدؤوا ْال َي ُهـ َ‬ ‫صلــى هللا عليــه وســلم قــال‪:‬‬ ‫ـود‬ ‫َ َ َّ َ َ ِ َّ َ َ َ َ ُ ْ َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ول النصــارى ِبالســا ِم‪ ،‬فـ ِـإذا ل ِقيتــم أحدهــم ِفــي‬ ‫َ‬ ‫وه إ َلى َأ ْ‬ ‫َ ْ َ ُّ ُ‬ ‫ض َي ِق ِه))(‪ ،)2‬فهل جاءت‬ ‫ط ِر ٍيق‪ ،‬فاضطر ِ‬ ‫السنة لتقرر استخدام الوحشية البـربـرية مع‬ ‫غي ــر املسلمي ــن‪ ،‬هــذا تعنــت وتمييــز لــم يقرهمــا‬ ‫َّ‬ ‫الشــرع‪ ،‬وال يمكــن ألي عاقــل أن يقبــل بهــذا‪.‬‬ ‫َّ‬ ‫ويقــول هــؤالء الطاعنــون‪ّ :‬إن هللا أمرنــا‬ ‫باإلحســان للجميــع‪ ،‬فلمــاذا تنــادي كتــب‬ ‫الحديــث بضــرورة كراهيــة غي ــر املسلمي ــن‬ ‫والحـ ّ‬ ‫ـض علــى التضييــق عليهــم حتــى فــي‬ ‫ِ‬ ‫الطرقــات‪ ،‬فمــن هنــا نقــول إن هــذه أحاديــث‬ ‫غي ــر صحيحــة تــم ُّ‬ ‫دســها علــى رســول هللا صلــى‬ ‫َّ ُ‬ ‫وإنها تعارض اإلســام وتدعو‬ ‫هللا عليه وســلم‪،‬‬ ‫للكراهيــة والعنــف مــع اإلنسان ـ َّـية‪.‬‬

‫(‪ )1‬ابـن كثيـر ـ تفسيـر القرآن العظيم ـ جـ ‪ 1‬ـ صـ ‪.317‬‬ ‫َّ َ َ َ َ ْ ّ‬ ‫َ ُ َّ َ َ ُ َّ ْ َ ْ َ َ ْ ْ َ‬ ‫َ ْ َ ُ َّ‬ ‫َّ َ َ َ ْ َ ُ َ ُّ َ َ ْ ْ‬ ‫الن ْوم ـ َب ٌ‬ ‫الذ َّم ِة‬ ‫اب ِفي السل ِم على أه ِل ِ‬ ‫(‪ )2‬أخرجه مسلم في صحيحه ـ ِكتاب السل ِم ـ باب النه ِي ع ِن اب ِتد ِاء أه ِل ال ِكت ِ‬ ‫اب ِبالسل ِم وكيف يرد علي ِهم ـ جـ ‪ 4‬ـ صـ ‪ 1707‬ـ حديث رقم ‪ ،2167‬وأخرجه أبو داود في سننه ـ أبواب ِ‬ ‫َ َ َ َ ْ ُ َ َ َ َ َّ َ َ َ ُ َ ُ ُّ َ َ َ َ َ َ َ َ َ ُ َ ّ ُ َ َ َ ْ ْ َ َ َ َ َ َ ْ َ ُ ْ َّ َ َ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ـ جـ ‪ 4‬ـ صـ ‪ 352‬ـ حديث رقم ‪ ،5205‬وجاء َع ْن ُس َه ْيل ْبن َأبي َ‬ ‫ص ِال ٍح‪ ،‬قال‪ :‬خرجت مع أ ِبي ِإلى الش ِام‪ ،‬فجعلوا يمرون ِبصو ِامع ِفيها نصارى فيس ِلمون علي ِهم‪ ،‬فقال‪ :‬أ ِبي ل تبدؤوهم ِب‬ ‫السل ِم‪ ،‬ف ِإ َّن أ َبا ُه َ ْري َرة‪َ ،‬ح َّدث َنا َع ْن‬ ‫ِ ِ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ َّ ُ َ َ ْ َ َ َّ َ َ َ َ َ ْ َ ُ ْ َّ ِ َ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫هللا صلى هللا عل ْي ِه وسل َم ـ ب ُ‬ ‫ُ‬ ‫اب ما ج َاء‬ ‫هللا صلى هللا علي ِه وسلم‪ ،‬ق‬ ‫السي ِر عن َرسو ِل ِ‬ ‫َرسو ِل ِ‬ ‫ال‪« :‬ل تبدؤوهم ِبالسل ِم‪ِ ،‬وإذا ل ِقيت ُموهم ِفي الط ِر ِيق فاضط ُّروهم ِإلى أضي ِق الط ِر ِيق»‪ ،‬وأخرجه التـرمذي في سننه ـ أبواب ِ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫في الت ْسليم َعلى أ ْهل َ‬ ‫اب ـ جـ ‪ 4‬ـ صـ ‪ 154‬ـ حديث رقم ‪ ،1602‬وأخرجه أحمد في املسند ـ جـ ‪ 14‬ـ صـ ‪ 233‬ـ حديث رقم ‪.8562‬‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫الكت ِ‬

‫‪89‬‬


‫من الفرد إلى الدولة‬ ‫مؤمنــا ّ‬ ‫الشــورى إذا كان اإلنســان ً‬ ‫حقــا يعــرف‬ ‫أنــه يتعامــل مــع هللا فــي كل مــا يصــدر عنــه مــن‬ ‫تصــرف‪.‬‬ ‫لقــد وضــع القـرآن األســس الكب ــرى واألصــول‬ ‫الجامعــة الت ــي يســتنبط منهــا العلمــاء فــي كل‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫صحيحــا للعمــل‪ ،‬يقــول اإلمــام‬ ‫زمــان طريقــا‬ ‫الجويـن ــي‪( :‬معظــم مســائل اإلمامــة َ‬ ‫عريــة مــن‬ ‫مســالك القطــع‪ّ ،‬‬ ‫خليــة مــن مــدارك اليقي ــن)‬ ‫إنهــا اجتهاديــة وليــس فيهــا نصــوص قطعيــة‪.‬‬ ‫وقــد تكونــت األمــة فــي اإلســام قبــل الســلطة‬ ‫َ َ‬ ‫الحكــم بـي ــن‬ ‫التنفيذيــة‪ ،‬وكانــت الش ـريعة هــي‬ ‫املسلمي ــن قبــل شــكل الحكــم‪ ،‬وجــاءت اآليــات‬ ‫كأســس للدولــة وللسياســة قــال تعالــى‪ (( :‬إن‬ ‫هللا يأمركــم أن تــؤدوا األمانــات إلــى أهلهــا وإذا‬ ‫حكمتــم بـي ــن النــاس أن تحكمــوا بالعــدل))‬ ‫[ســورة النســاء‪ :‬آية ‪ (( ،]58‬يا أيها الذي ــن آمنوا‬ ‫أطيعوا هللا وأطيعوا الرسول وأولي األمر منكم‬ ‫فــإن تنازعتــم فــي �شــيء فــردوه إلــى هللا والرســول‬ ‫إن كنتــم تؤمنــون بــاهلل واليــوم اآلخــر)) [ســورة‬ ‫النساء‪ :‬آية ‪ (( ،]59‬وإذا جاءهم أمر من األمن‬ ‫أو الخــوف أذاعــوا بــه ولــو ّردوه إلــى الرســول‬ ‫وإلى أولي األمر منهم لعلمه الذي ــن يســتنبطونه‬ ‫منهم)) [سورة النساء‪ :‬آية ‪ (( ،]83‬ثم جعلناك‬ ‫علــى شـريعة مــن األمــر فاتبعهــا وال تتبــع أهــواء‬ ‫الذي ــن ال يعلمــون)) [ســورة الجاثيــة‪ :‬آيــة ‪.]18‬‬ ‫دعا القرآن إلى مقاومة الظلم وعدم القبول‬ ‫بحالــة االســتضعاف فقــال‪ (( :‬إن الذي ــن‬ ‫توفاهــم املالئكــة ظالمــي أنفســهم قالــوا فيــم‬ ‫كنتم قالوا كنا مستضعفيـن في األرض قالوا‬ ‫ألــم تكــن أرض هللا واســعة فتهاجــروا فيهــا))‬ ‫[ســورة النســاء‪ :‬آيــة ‪.]97‬‬ ‫لقــد طــاف القـرآن باملسلمي ــن خــال العصــور‬ ‫لي ــنظروا فــي أحــوال األمــم ونتائــج أعمالهــا‪،‬‬ ‫ويفكــروا فــي أســباب تطورهــا وتقدمهــا أو‬ ‫أســباب تأخرهــا وت ـراجعها‪ ،‬وتحــدث القـرآن‬

‫ً‬ ‫طويــا عــن الســنن اإللهيــة فــي تاريــخ البشــر‪،‬‬ ‫وســنته تعالــى فــي هــاك األمــم إذا بطــرت‬ ‫معيشــتها وعاثــت فسـ ًـادا فــي األرض فقــال‪:‬‬ ‫(( وال تفســدوا فــي األرض بعــد إصالحهــا))‬ ‫[ســورة األع ـراف‪ :‬آيــة ‪(( ،]85‬وقــال مو�ســى‬ ‫ألخيــه هــارون اخلفن ــي فــي قومــي وأصلــح وال‬ ‫تتبــع سب ــيل املفسدي ــن)) [ســورة األع ـراف‪:‬‬ ‫آيــة ‪.]142‬‬ ‫ومــن الســنن أن التمكي ــن فــي األرض يكــون‬ ‫ألهــل الصــاح واإلصــاح (( ولقــد كتب ــنا فــي‬ ‫الزبــور مــن بعــد الذكــر أن األرض ي ــرثها عبــادي‬ ‫الصالحون)) [سورة األنبـياء‪ :‬آية ‪ ،]105‬وذكر‬ ‫ســبحانه ســنة التدافــع والص ـراع بـي ــن الحــق‬ ‫والباطــل ((ولــوال دفــع هللا النــاس بعضهــم‬ ‫ببعــض لفســدت األرض)) أليــس هــذا ممــا‬ ‫يخدم السياسة‪ ،‬بل هو من قواعد السياسة‪،‬‬ ‫ألن هــذه الســنة تطهــر األرض مــن الفاسدي ــن‪،‬‬ ‫كما كان تطهيـر املجتمع اإلسالمي من الداخل‬ ‫لــه األولويــة‪ ،‬فــإن أول ســورة نزلــت فــي املدي ــنة‬ ‫(البقرة) تحدثت عن املنافقيـن واليهود‪ ،‬وتتنزل‬ ‫آخــر ســورة (ب ـراءة) وتتحــدث عــن املنافقي ــن‬ ‫واليهــود‪ ،‬أليــس هــذا حمايــة للدولــة مــن الغــدر‬ ‫ونكــث العهــود ونقــض املواثيــق ‪.‬‬ ‫أشــار الق ـرآن إلــى العالقــات الدوليــة‪ ،‬إلــى‬ ‫االمب ــراطوريات املجــاورة للمسلمي ــن‪،‬‬ ‫وأن الصــراع بـي ــنهما هــو لصالــح املسلمي ــن‬ ‫((غلبــت الــروم فــي أدنــى األرض وهــم مــن بعــد‬ ‫غلبهــم ســيغلبون)) [ســورة الــروم‪ :‬آيــة ‪،]3-2‬‬ ‫وهذا يعنـي أن املسلميـن ال يمكن أن يكونوا‬ ‫بمنــأى عــن هــذا التدافــع والصــراع وال بــد أن‬ ‫يتصرفــوا التصــرف الصحيــح حيــال ذلــك‪،‬‬ ‫وفــي العالقــات الدوليــة أوجــب الق ـرآن علــى‬ ‫املسلميـن الوفاء بعهودهم (( وأوفوا بالعهد‬ ‫ً‬ ‫إن العهــد كان مســؤول)) [ســورة اإلســراء‪:‬‬ ‫آيــة ‪.]34‬‬

‫شبهة إهانة أهل الذمة‬

‫العدد ‪ 2‬رجب ‪1439‬هـ‬

‫ّ‬ ‫أصـ َـل الق ـرآن القواعــد األساســية لالقتصــاد‬ ‫والث ــروة وت ــرك التفاصيــل فــي املعامــات‬ ‫ومعايــش النــاس الجتهــاد العلمــاء والخب ـراء‬ ‫حســب مــا يكــون فيــه تـيسي ـ ًـرا علــى النــاس فــي‬ ‫أمــور دن ــياهم‪ ،‬قــال تعالــى عــن أهميــة املــال‬ ‫ملجموع األمة ((وال تؤتوا السفهاء أموالكم التـي‬ ‫جعــل هللا لكــم ً‬ ‫قيامــا)) [ســورة النســاء‪ :‬آيــة ‪،]5‬‬ ‫ونهــى الق ـرآن عــن أكل أمــوال النــاس بالباطــل‬ ‫وحـ ّـرم الربــا وأحــل الطيبــات وحـ ّـرم الخبائــث‪،‬‬ ‫ودعــا املسلمي ــن إلــى توثيــق العقــود وهــذا فيــه‬ ‫حفــظ للمــال وابتعــاد عــن الخصومــات وهــو‬ ‫أمــر بالــغ التحضــر واملدن ــية قــال تعالــى‪ (( :‬يــا‬ ‫أيهــا الذي ــن آمنــوا إذا تداي ــنتم بدي ــن إلــى أجــل‬ ‫مسـ ّـمى فاكتبــوه)) [ســورة البقــرة‪ :‬آيــة ‪،]282‬‬ ‫وفــي ســورة الحشــر أمــر هللا ســبحانه بتوزيــع‬ ‫الفـ ْـيء علــى مســتحقيه ليــدور املــال وال يجتمــع‬ ‫ب ــيد أفـراد محدودي ــن (( ـكـي ال يكــون دولــة بـي ــن‬ ‫األغن ــياء منكــم)) [ســورة الحشــر‪ :‬آيــة ‪.]7‬‬ ‫واإلســام ال يشــعر بالحــرج أمــام نظــم‬ ‫اقتصادية رأسمالية أو اشتـراكية ألن األسس‬ ‫التـي وضعها تختلف عن أسس الرأسمالية أو‬ ‫االشت ـراكية‪ ،‬وليــس هــو الدي ــن الــذي يضطــر‬ ‫لتغيي ــر منهجــه مــع كل نظــام اقتصــادي يطـرأ‬ ‫علــى البش ـرية أو كل نظــام سيا�ســي ‪.‬‬ ‫وأمــا تطب ــيقات الرســول صلــى هللا عليــه وســلم‬ ‫للقواعد واألسس التـي جاء بها القرآن لتنتظم‬ ‫بهــا أمــور املسلمي ــن؛ تطب ـ ًـيقا ًّ‬ ‫عمليــا فــي واقــع‬ ‫املدي ــنة النبويــة وواقــع الجزي ــرة العرب ــية آنئــذ‪،‬‬ ‫ومــا قــام بــه الخلفــاء الراشــدون مــن متابعــة‬ ‫لســنته صلــى هللا عليــه وســلم واجتهــاد فــي أمــور‬ ‫حدثــت مــع توســع الدولــة اإلســامية‪ ،‬كل هــذا‬ ‫لــه حديــث آخــر أعــان هللا علــى ذلــك ‪.‬‬

‫‪88‬‬

‫العدد ‪ 2‬رجب ‪1439‬هـ‬

‫الرد ىلع ُشبهة‬ ‫ُّ‬

‫األمر بإهانة أهل الذمة‬ ‫يف الس ّنة النبوية‬

‫والفلسف ِة ـ َجا ِم ُ‬ ‫َ‬ ‫األزهر‬ ‫قيد ِة‬ ‫الدكتور علي محمد حسن األزهري | ِقسم اْل َع َ‬ ‫عــة َ‬

‫إن الحــرب الفكريــة علــى دي ــن اإلســام لــم تتوقــف ً‬ ‫الرســالة ّ‬ ‫يومــا منــذ بـ ْـد ِء ّ‬ ‫املحمديــة وإلــى‬ ‫َ‬ ‫ـراهيم وشــعيب ومو�ســى‬ ‫اليــوم‪ ،‬كمــا هــو حــال دعــوات الحـ ِ ّـق الســابقة؛ دعــوة نــوح وإب ـ‬ ‫وعي�ســى عليهــم الســام‪.‬‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫في القرن املا�ضي شــن املستشــرقون‬ ‫هجوما عن ــيفا على اإلســام ولكنهم خســروا حربهم‬ ‫علــى أبــواب اإلســام املن ــيعة‪ ،‬وقــد خلفهــم اليــوم أشـ ُ‬ ‫ـباههم مــن َّ‬ ‫الزنادقــة والعلمانـيي ــن‬ ‫ّ‬ ‫والحداثيي ــن فــا يــكاد يم�ضــي يــوم إال وتســمع منهــم شــبهة جديــدة تعتمــد الكــذب والتزوي ــر‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫أساسا في التضليل والتشكيك بديـن هللا القويم‪ ،‬وأنى لهم ذلك واإلسالم ديـن هللا الخاتم‬ ‫الــذي حفظــه َّ‬ ‫وهيــأ لــه مــن أهــل العلــم واإليمــان مــن يــذود عنــه ويفديــه بالغالــي والنفيــس؟‬ ‫ومــن هــذه الشــبهات الت ــي تثــاراليــوم ادعـ ُـاء التضــار ِب بـي ــن مبــادئ اإلســام فــي التعامــل مــع‬ ‫أب ــناء الديانــات األخــرى حيــث تأمــرالســنة النبويــة بإهانتهــم بـي ــنما يأمــرالقـرآن بالتعامــل‬ ‫معهم بالحسنى مما يوجب عليـنا التخلي عن السنة النبوية ورميها! ‪ ...‬فما حقيقة هذه‬ ‫الشبهة؟‬

‫نص الشبهة‬

‫إن األحاديــث فــي كتــب الســنة جــاءت مناقضــة ملــا جــاء بــه صريــح اإلســام‪ ،‬والــذي أوصانــا‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫بأصحــاب الديانــات األخــرى خي ـ ًـرا‪ ،‬ومــن ذلــك قــول هللا تعالــى ‪ (( :‬ال َي ْن َه ُاكـ ُـم ُ‬ ‫هللا َعـ ِـن ال ِذي ـ َـن لـ ْـم‬ ‫ْ َ ُ ْ َ ْ َ َ ُّ ُ ْ َ ُ ْ ُ‬ ‫ّ َ​َ ْ ُ ْ ُ ُ‬ ‫َُ ُ ُ‬ ‫ـطوا إ َل ْيهـ ْـم إ َّن َ‬ ‫هللا ُي ِحـ ُّـب‬ ‫يقا ِتلوكـ ْـم ِفــي ِ‬ ‫الدي ـ ِـن ولــم يخ ِرجوكــم ِمــن ِدي ِاركــم أن تبروهــم وتق ِسـ ِ ِ ِ‬ ‫ُْ‬ ‫ال ْق ِس ِطي َـن)) [املمتحنة‪ :‬آية‪ ،]8‬فجاء األمر باإلحسان إليهم طاملا ليس بـيـننا وبـيـنهم عداوة حرب‪،‬‬ ‫َُ ُ‬ ‫ـاس ُح ْسـ ًـنا)) [البقــرة ‪ :‬آيــة ‪ ]83‬واملعنــى كمــا قــال أهــل التفسي ــر ومنهــم‬ ‫((وقولــوا ِل َّلنـ‬ ‫وقــال تعالــى ‪:‬‬ ‫ِ‬ ‫َ َ ُْ ُ َ َ َ َ ُ ُ‬ ‫ُ ْ ً َ ْ َّ ُ ُ ْ ًَّ ُ َُ ْ َ ً َ​َ ْ ُ‬ ‫َّ‬ ‫ُ‬ ‫اس حسنا)) أي‪ :‬ك ِلموهم ط ِيبا وليـنوا لهم جا ِنبا ويدخل ِفي‬ ‫ابـن كثيـر ‪( :‬وقوله تعالى‪(( :‬وقولوا ِللن ِ‬ ‫َُ ُ‬ ‫َ َ َ َ ْ َ َ ُ ْ َ ْ ُّ َ‬ ‫َ َ ْ َ ْ ُ ْ َ ْ ُ َ َّ ْ ُ َ ْ ُ ْ َ ْ َ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫وف‪ ،‬كمــا قــال الحســن البصـ ِـري ِفــي قوِلـ ِـه‪(( :‬وقولوا‬ ‫وف والنهــي عـ ِـن النكـ ِـر ِبالعــر ِ‬ ‫ذ ِلــك المــر ِبالعــر ِ‬ ‫َ ْ َ ْ ل ُ ْ َ ْ ُ َ َ ْ َ َ ْ ُ ْ َ َ َ ْ ُ ُ َ َ ْ ُ َ َ ْ َُ‬ ‫ل َّلنـ ُ ْ ً‬ ‫ُ ْ‬ ‫وف وينهــى عـ ِـن النكـ ِـر ويحلــم ويعفــو ويصفــح‬ ‫ـاس حســنا)) فالحســن ِمــن القــو ِ ‪ :‬يأمــر ِبالعــر ِ‬ ‫ِ ِ‬

‫ـال ُ‬ ‫َو َي ُقــو ُل ِل َّلنــاس ُح ْسـ ًـنا َك َمــا َقـ َ‬ ‫هللا‪َ ،‬و ُهـ َـو‬ ‫ِ‬ ‫ُ ُ​ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ (‪)1‬‬ ‫َ‬ ‫ك ُّل خلــق َح َسـ ٍـن ر ِضيــه هللا) ‪ ،‬وغي ــر ذلــك‬ ‫مــن اآليــات الت ــي تــدل علــى وجــوب اإلحســان‬ ‫لغي ــر املسلمي ــن‪ - ،‬وب ــناء علــى ذلــك يقــول‬ ‫َّ‬ ‫الطاعنــون ‪ -‬ومــع هــذا جــاءت كتــب الحديــث‬ ‫تنشـ ُـر ثقافــة الكراهيــة بـي ــن َّ‬ ‫النــاس‪ ،‬وتحــث‬ ‫املسلمي ــن على ظلم غي ــر املسلمي ــن واإلعراض‬ ‫عنهــم والتضييــق عليهــم حتــى فــي الطرقــات‪،‬‬ ‫َ ْ َ ُ ْ َ َ َّ ُ َ‬ ‫هللا‬ ‫ففــي الحديــث عــن أ ِبــي ه َريـ َـرة‪ ،‬أن َرســول ِ‬ ‫َ َّ ُ َ َ ْ َ َ َّ َ َ َ َ‬ ‫((ل َت ْبـ َـدؤوا ْال َي ُهـ َ‬ ‫صلــى هللا عليــه وســلم قــال‪:‬‬ ‫ـود‬ ‫َ َ َّ َ َ ِ َّ َ َ َ َ ُ ْ َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ول النصــارى ِبالســا ِم‪ ،‬فـ ِـإذا ل ِقيتــم أحدهــم ِفــي‬ ‫َ‬ ‫وه إ َلى َأ ْ‬ ‫َ ْ َ ُّ ُ‬ ‫ض َي ِق ِه))(‪ ،)2‬فهل جاءت‬ ‫ط ِر ٍيق‪ ،‬فاضطر ِ‬ ‫السنة لتقرر استخدام الوحشية البـربـرية مع‬ ‫غي ــر املسلمي ــن‪ ،‬هــذا تعنــت وتمييــز لــم يقرهمــا‬ ‫َّ‬ ‫الشــرع‪ ،‬وال يمكــن ألي عاقــل أن يقبــل بهــذا‪.‬‬ ‫َّ‬ ‫ويقــول هــؤالء الطاعنــون‪ّ :‬إن هللا أمرنــا‬ ‫باإلحســان للجميــع‪ ،‬فلمــاذا تنــادي كتــب‬ ‫الحديــث بضــرورة كراهيــة غي ــر املسلمي ــن‬ ‫والحـ ّ‬ ‫ـض علــى التضييــق عليهــم حتــى فــي‬ ‫ِ‬ ‫الطرقــات‪ ،‬فمــن هنــا نقــول إن هــذه أحاديــث‬ ‫غي ــر صحيحــة تــم ُّ‬ ‫دســها علــى رســول هللا صلــى‬ ‫َّ ُ‬ ‫وإنها تعارض اإلســام وتدعو‬ ‫هللا عليه وســلم‪،‬‬ ‫للكراهيــة والعنــف مــع اإلنسان ـ َّـية‪.‬‬

‫(‪ )1‬ابـن كثيـر ـ تفسيـر القرآن العظيم ـ جـ ‪ 1‬ـ صـ ‪.317‬‬ ‫َّ َ َ َ َ ْ ّ‬ ‫َ ُ َّ َ َ ُ َّ ْ َ ْ َ َ ْ ْ َ‬ ‫َ ْ َ ُ َّ‬ ‫َّ َ َ َ ْ َ ُ َ ُّ َ َ ْ ْ‬ ‫الن ْوم ـ َب ٌ‬ ‫الذ َّم ِة‬ ‫اب ِفي السل ِم على أه ِل ِ‬ ‫(‪ )2‬أخرجه مسلم في صحيحه ـ ِكتاب السل ِم ـ باب النه ِي ع ِن اب ِتد ِاء أه ِل ال ِكت ِ‬ ‫اب ِبالسل ِم وكيف يرد علي ِهم ـ جـ ‪ 4‬ـ صـ ‪ 1707‬ـ حديث رقم ‪ ،2167‬وأخرجه أبو داود في سننه ـ أبواب ِ‬ ‫َ َ َ َ ْ ُ َ َ َ َ َّ َ َ َ ُ َ ُ ُّ َ َ َ َ َ َ َ َ َ ُ َ ّ ُ َ َ َ ْ ْ َ َ َ َ َ َ ْ َ ُ ْ َّ َ َ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ـ جـ ‪ 4‬ـ صـ ‪ 352‬ـ حديث رقم ‪ ،5205‬وجاء َع ْن ُس َه ْيل ْبن َأبي َ‬ ‫ص ِال ٍح‪ ،‬قال‪ :‬خرجت مع أ ِبي ِإلى الش ِام‪ ،‬فجعلوا يمرون ِبصو ِامع ِفيها نصارى فيس ِلمون علي ِهم‪ ،‬فقال‪ :‬أ ِبي ل تبدؤوهم ِب‬ ‫السل ِم‪ ،‬ف ِإ َّن أ َبا ُه َ ْري َرة‪َ ،‬ح َّدث َنا َع ْن‬ ‫ِ ِ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ َّ ُ َ َ ْ َ َ َّ َ َ َ َ َ ْ َ ُ ْ َّ ِ َ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫هللا صلى هللا عل ْي ِه وسل َم ـ ب ُ‬ ‫ُ‬ ‫اب ما ج َاء‬ ‫هللا صلى هللا علي ِه وسلم‪ ،‬ق‬ ‫السي ِر عن َرسو ِل ِ‬ ‫َرسو ِل ِ‬ ‫ال‪« :‬ل تبدؤوهم ِبالسل ِم‪ِ ،‬وإذا ل ِقيت ُموهم ِفي الط ِر ِيق فاضط ُّروهم ِإلى أضي ِق الط ِر ِيق»‪ ،‬وأخرجه التـرمذي في سننه ـ أبواب ِ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫في الت ْسليم َعلى أ ْهل َ‬ ‫اب ـ جـ ‪ 4‬ـ صـ ‪ 154‬ـ حديث رقم ‪ ،1602‬وأخرجه أحمد في املسند ـ جـ ‪ 14‬ـ صـ ‪ 233‬ـ حديث رقم ‪.8562‬‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫الكت ِ‬

‫‪89‬‬


‫شبهة إهانة أهل الذمة‬

‫الرد عىل الشبهة‬

‫ً‬ ‫أول‪ :‬ال ننكــر أن الحديــث صحيــح وقــد روي فــي‬ ‫كل مــن صحيــح مســلم وســنن أب ــي داود وســنن‬ ‫الت ــرمذي وفــي مســند اإلمــام أحمــد وفــي غي ــرها‬ ‫مــن كتــب الســنة‪.‬‬ ‫ثان ـ ًـيا‪ :‬إن ســبب هــذا الفهــم الخاطــئ للحديــث‬ ‫هــو الجهــل بســبب وروده‪ ،‬فالحديــث خـ ٌّ‬ ‫ـاص‬ ‫بواقعــة بعي ــنها وذلــك ملــا ســار املســلمون إلــى‬ ‫بـنـي قريظة بعد أن نقضوا العهد ووقفوا إلى‬ ‫جانــب الكفــار للقضــاء علــى املسلمي ــن‪ ،‬كمــا‬ ‫َ‬ ‫َ ْ َ َ ْ َ ْ َ‬ ‫صـ َـرة ال ِغفـ ِـار ّ ِي‪ ،‬أ َّن‬ ‫عنــد الت ــرمذي عــن أبــي ب‬ ‫َ َّ ُ ِ َ َ ْ َ َ َّ َ َ َ ّ‬ ‫ُ َ‬ ‫((إ ِنــي‬ ‫َرســول ِ‬ ‫هللا صلــى هللا عل َ َيـ ِـه وســلم قــال‪ِ :‬‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫َ ٌ َ َُ َ ْ‬ ‫ود‪ ،‬ف َم ِن انطل َق َم ِعي‪ ،‬ف ِإ ْن َسل ُموا‬ ‫ر ِاكب ِإلى يه ٍ‬ ‫َ​َْ ُ ْ َ ُ ُ‬ ‫َ َ َ ْ ُ ْ (‪)3‬‬ ‫عليكــم فقولــوا‪ :‬وعليكــم)) ‪ ،‬وجــاء عنــد‬ ‫أحمــد فــي روايتـي ــن متعاقبتـي ــن بلفظــة ((إنــا‬ ‫ال‪َ :‬ق َ ُ ُ‬ ‫غادون))‪َ ،‬ع ْن َأبي َب ْ‬ ‫ص َر َة َق َ‬ ‫هللا‬ ‫ال َرسول ِ‬ ‫ِ‬ ‫هللا َع َل ْيــه َو َسـ َّـل َم‪(( :‬إ َّنــا َغـ ُـادو َن َع َلــى َي ُهــودَ‬ ‫ص َّلــى ُ‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َ َ َ ْ َ ُ ْ َّ َ َ َ َّ‬ ‫َ ُ‬ ‫فــا تبدؤوهــم ِب‬ ‫الســا ِم‪ ،‬فـ ِـإذا َســل ُموا َعل ْيكـ ْـم‬ ‫َ ُ‬ ‫َ ُ‬ ‫ف ُقولــوا‪َ :‬و َعل ْيكـ ْـم))(‪ ،)4‬وأورده الطبـران ــي فــي‬ ‫الر ْح َمــن ْال ُج َه ِن ـ ّـي‪َ ،‬قـ َ‬ ‫املعجــم َعـ ْـن َأبــي َع ْبـ ِـد َّ‬ ‫ـال‪:‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫هللا َع َل ْيــه َو َسـ َّـل َم‪(( :‬إنــاَّ‬ ‫ص َّلــى ُ‬ ‫ـال َر ُســو ُل هللا َ‬ ‫َقـ َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َِ‬ ‫َغـ ُـادو َن َغـ ًـدا إ َلــى َي ُهــود َفـ َ َ ْ َ ُ‬ ‫ؤوهـ ْـم ب َّ‬ ‫الســا ِم‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫ـا تبد َ ِ‬ ‫َ ْ َ َّ ُ ِ َ َ ْ ُ ْ َ ُ ُ‬ ‫َ َ ْ ُ ْ (‪)5‬‬ ‫فـ ِـإن ســلموا عليكــم فقولــوا وعليكــم)) ‪ ،‬وبه‬ ‫َ ْ َ َ ْ َ َ‬ ‫ضـ َـرة‪ ،‬أ َّن‬ ‫قــال الب ــيهقي فــي الشــعب عــن أ ِبــي ن‬ ‫ص َّلــى ُ‬ ‫َر ُســو َل هللا َ‬ ‫ـال َل ُهــم‪ْ:‬‬ ‫هللا َع َل ْيـ ِـه َو َسـ َّـل َم َقـ َ‬ ‫ِ‬ ‫((إ ّني َراك ٌب إ َلى َي ُه َ‬ ‫ود‪َ ،‬ف َمن ْان َط َل َق َم ِعي م ْن ُكمْ‬ ‫ِ‬ ‫َِ ِ ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫َفــا َت ْب َد ُ‬ ‫السـ َـام‪َ ،‬فــإ ْن َسـ َّـل ُموا َع َل ْي ُكــمْ‬ ‫ؤوهـ ْـم ب َّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َ ُ‬ ‫َ‬ ‫َ ُ َ​َ‬ ‫َّ‬ ‫ف ُقولوا‪َ :‬و َعل ْيك ْم)) فل َّما ِج ْئ َن ُاه ْم َسل ُموا َعل ْي َنا‬ ‫َ ْ‬ ‫َ ُ‬ ‫ف ُقل َنا‪َ :‬و َعل ْيك ْم(‪ ،)6‬وأخرجه البخاري في األدب‬ ‫صـ َـر َة ْالغ َفــار ّي‪َ ،‬عــن َّ‬ ‫املفــرد َعـ ْـن َأبــي َب ْ‬ ‫النب ـ ّ ِـي‬ ‫ِ ِ ِ ِ‬ ‫ِ‬

‫َ َّ ُ َ َ ْ َ َ َّ َ َ َ ّ‬ ‫َ‬ ‫((إ ِنــي َر ِاكـ ٌـب غـ ًـدا‬ ‫صلــى هللا عليـ ِـه وســلم قــال‪ِ :‬‬ ‫َ َ ُ َ َ َ َ ْ َ ُ ْ َّ َ َ َ َ َّ‬ ‫ُ‬ ‫ِإلى يهود‪ ،‬فل تبدؤوهم ِبالسل ِم‪ ،‬ف ِإذا سلموا‬ ‫َ ُ َ ُ‬ ‫َ ُ‬ ‫َعل ْيكـ ْـم ف ُقولــوا‪َ :‬و َعل ْيكـ ْـم))(‪.)7‬‬ ‫ً‬ ‫ثالثــا‪ :‬إن النهــي هنــا ال ي ــنسحب علــى الجميــع‬ ‫وذلــك‪:‬‬ ‫‪ -1‬لقــوة األدلــة الــواردة فــي األمــر بب ـ ّ ِـر اليهــود‬ ‫َّ‬ ‫والنصــارى وغي ــرهم واإلحســان إليهــم كمــا‬ ‫فــي الق ـرآن الكريــم فــي قــول هللا تعالــى ‪ (( :‬ال‬ ‫َ ْ ُ ُ َ َّ َ َ ُ َ ُ ُ‬ ‫وك ْم في ّ‬ ‫الدي ِـن‬ ‫ين َهاك ُم هللا ع ِن ال ِذيـن ل ْم يقا ِتل َ ِ ِ‬ ‫َ​َ ْ ُ ْ ُ ُ‬ ‫وكـ ْـم مـ ْـن د َيار ُكـ ْـم أ ْن َت َب ُّر ُ‬ ‫وهـ ْـم‬ ‫ولــم يخرج‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫َ ُ ْ ُ ِ َ ْ ْ َّ َ ُ ُّ ْ ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫وتق ِســطوا ِإلي ِهــم ِإن هللا ي ِحــب الق ِس ِطي ــن))‬ ‫[املمتحنة ‪ :‬آية ‪ ،]8‬أال تـرى أن من أوجه الب ّ ِـر‬ ‫َّ‬ ‫الســام عليهــم واإلحســان إليهــم وذلــك لعمــوم‬ ‫اآليــة الكريمــة طاملــا َّأنهــم يعيشــون معنــا دون‬ ‫ممــاألة أعدائنــا علي ــنا!‪.‬‬ ‫‪ -2‬ولكث ــرة األحاديــث الصحيحــة الــواردة فــي‬ ‫إلقــاء الســام علــى اليهــود َّ‬ ‫والنصــارى‪ ،‬ومــن‬ ‫َ ْ َْ‬ ‫هللا ْب ِن‬ ‫ذلك ما جاء في الصحيحَيـن عن عب َِد ِ‬ ‫هللا َع ْن ُه َمــا‪ ،‬أ َّن َر ُجـ ًـا َســأ َل َّ‬ ‫َع ْمــرو َر�ضـ َـي ُ‬ ‫الن ِبـ َّـي‬ ‫ٍ ِ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ص َّلــى ُ‬ ‫َ‬ ‫اإل ْســا ِم خ ْي ـ ٌـر؟‬ ‫هللا َعل ْيـ ِـه َو َســل َم‪ :‬أ ُّي‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬ ‫َ َ ُ ْ ُ َّ َ َ َ َ ْ َ َّ َ َ‬ ‫قــال‪(( :‬تط ِعــم الطعــام وتقــرأ‬ ‫الســا َم َعلــى‬ ‫ْ‬ ‫َ َ ْ‬ ‫َمـ ْـن َع َرفـ َـت َو َمـ ْـن لـ ْـم ت ْعـ ِـرف))(‪ ،)8‬فاألمــر عــام‬ ‫وتقرأ السالم على من عرفت ومن لم تعرف‪،‬‬ ‫قــال اب ــن عبــد الب ــر‪( :‬وقــد روي عــن جماعــة‬ ‫مــن الصحابــة والتابعي ــن رضــوان هللا عليهــم‬ ‫أنهــم كانــوا يبــدؤون بالســام كل مــن لقــوه‬ ‫مــن مســلم أو ذمــي‪ ،‬فاملعنــى فــي ذلــك ‪ -‬وهللا‬ ‫أعلــم ‪ -‬أنــه ليــس بواجــب أن يبــدأ املسـ ُ‬ ‫ـلم املـ ُّـار‬ ‫ُ‬ ‫بالسالم على القاعد الذمي‪ ،‬والر ُ‬ ‫املسلم‬ ‫اكب‬ ‫الذمـ َّـي املا�شـ َـي بالســام‪ ،‬كمــا يجــب ذلــك‬

‫شبهة إهانة أهل الذمة‬

‫العدد ‪ 2‬رجب ‪1439‬هـ‬

‫بالســنة علــى مــن كان علــى دي ــنه‪ ،‬فــإن فعــل‬ ‫فــا حــرج عليــه‪ ،‬فكأنــه قــال صلــى هللا عليــه‬ ‫وســلم‪( :‬ليــس عليكــم أن تبدؤوهــم بالســام)‬ ‫بدليــل مــا روى الوليــد ب ــن مســلم عــن عــروة‬ ‫ب ــن رويــم‪ ،‬قــال‪ :‬رأيــت أبــا أمامــة الباهلــي يســلم‬ ‫علــى كل مــن لقــي مــن مســلم وذمـ ّـي‪ ،‬ويقــول‪:‬‬ ‫ٌ‬ ‫هــي تحيــة ألهــل ملتنــا وأمــان ألهــل ذمتنــا‬ ‫واســم مــن أســماء هللا نفشــيه بـي ــننا‪ ،‬ومحــال‬ ‫أن يخالــف أبــو أمامــة الســنة‪ ،‬لــو صحــت فــي‬ ‫ذلك‪ ،‬بل املعنى على تأويلنا وهللا أعلم‪ ،‬وعلى‬ ‫هــذا يصــح تخريــج هــذه األخبــار ووجوههــا‪،‬‬ ‫ذكــر اب ــن أب ــي شب ــيب‪ ،‬عــن إســماعيل ب ــن‬ ‫عيــاش‪ ،‬عــن محمــد ب ــن زيــاد األلهان ــي‪،‬‬ ‫وشرحب ــيل ب ــن مســلم‪ ،‬عــن أب ــي أمامــة أنــه‬ ‫كان ال يمــر بمسـ ٍـلم وال يهــودي وال نصران ــي‬ ‫إال بــدأه بالســام‪ ،‬وروي عــن اب ــن مســعود‬ ‫وأب ــي الــدرداء وفضالــة ب ــن عب ــيد أنهــم كانــوا‬ ‫يبــدؤون أهــل الذمــة بالســام‪ ،‬وقــال اب ــن‬ ‫مســعود‪ :‬إن مــن التواضــع أن تبــدأ بالســام‬ ‫َّ‬ ‫كل مــن لقيــت‪ ،‬وعــن اب ــن عبــاس أنــه كتــب‬ ‫إلــى رجــل مــن أهــل الكتــاب‪ :‬الســام عليــك‪،‬‬ ‫وسئل عبد هللا ب ــن وهب صاحب مالك عن‬ ‫غيبــة النصران ــي فقــال‪ :‬أو ليــس مــن النــاس؟‬ ‫قالــوا‪ :‬بلــى‪ .‬قــال‪ :‬فــإن هللا عــز وجــل يقــول‬ ‫َ ُ ُ َّ‬ ‫اس ُح ْسـ ًـنا)) [البقرة ‪ :‬آية ‪،]83‬‬ ‫(( وقولوا ِللن ِ‬ ‫وقيــل ملحمــد ب ــن كعــب القرظــي‪ :‬إن عمــر ب ــن‬ ‫عبــد العزيــز ســئل عــن ابتــداء أهــل الذمــة‬ ‫بالســام فقــال‪ :‬ت ــرد عليهــم وال تبدؤوهــم!‬ ‫فقــال محمــد ب ــن كعــب‪ :‬أمــا أنــا فــا أرى ً‬ ‫بأســا‬ ‫أن تبدأهــم بالســام‪ ،‬قيــل لــه‪ :‬لــم؟ فقــال‪:‬‬ ‫ُ َ‬ ‫َ َْ‬ ‫اصفـ ْـح َع ْن ُهـ ْـم َوقـ ْـل َســا ٌم‬ ‫لقولــه عــز وجــل‪(( :‬ف‬

‫(‪ )3‬أخرجه النسائي في السنن الكبـرى ـ ـ جـ ‪ 9‬ـ صـ ‪ 150‬ـ حديث رقم ‪.10148‬‬ ‫(‪ )4‬أخرجه أحمد في املسند ـ ـ جـ ‪ 45‬ـ صـ ‪ 211‬ـ حديث رقم ‪ 27236‬و بـرقم ‪.27237‬‬ ‫(‪ )5‬أخرجه الطبـرنـي في املعجم الكبـيـر ـ جـ ‪ 22‬ـ صـ ‪ 291‬ـ حديث رقم ‪.744‬‬ ‫ي‬ ‫(‪ )6‬أخرجه البـيهقي في شعب اإليمان ـ جـ ‪ 11‬ـ صـ ‪ 260‬ـ ‪261‬ـ حديث رقم ‪ )7( - .8513‬أخرجه البخار في األدب املفرد ـ جـ ‪ 1‬ـ صـ ‪ 377‬ـ حديث رقم ‪.1102‬‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫اب َ َ ٌ ْ َ ُ َّ َ‬ ‫(‪ )8‬أخرجه البخاري في صحيحه ـ ِك َت ُ‬ ‫اإل ْسال ِم ـ جـ ‪ 1‬ـ صـ ‪ 12‬ـ حديث رقم ‪ ،12‬وأخرجه مسلم في صحيحه‬ ‫اإليم ِان ـ باب ِإطعام الطع ِام ِمن ِ‬ ‫ِ‬ ‫َ ُ َ َ ُ َ َ َ َ ُ ْ ْ َ َ َ ُّ ُ ُ َ ْ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ور ِه أفضل ـ جـ ‪ 1‬ـ صـ ‪ 65‬ـ حديث رقم ‪.39‬‬ ‫السل ِم‪ ،‬وأي أم ِ‬ ‫ِكتاب ِ‬ ‫اإليم ِان ـ باب بي ِان تفاض ِل ِ‬

‫‪90‬‬

‫َ‬ ‫َ َ َ‬ ‫ف َسـ ْـوف َي ْعل ُمــون)) [الزخــرف‪ :‬آيــة ‪ ،]89‬ومــن‬ ‫حجة من ذهب إلى هذا قوله عز وجل‪ (( :‬ال‬ ‫َ ْ ُ ُ َ َّ َ َ ُ َ ُ ُ‬ ‫وك ْم في ّ‬ ‫الدي ِـن‬ ‫ين َهاك ُم هللا ع ِن ال ِذيـن ل ْم يقا ِتل َ ِ ِ‬ ‫َ​َ ْ ُ ْ ُ ُ‬ ‫وكـ ْـم مـ ْـن د َيار ُكـ ْـم أ ْن َت َب ُّر ُ‬ ‫وهـ ْـم‬ ‫ولــم يخرج‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫َ ُ ْ ُ ِ َ ْ ْ َّ َ ُ ُّ ْ ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫وتق ِســطوا ِإلي ِهــم ِإن هللا ي ِحــب الق ِس ِطي ــن))‬ ‫[املمتحنــة ‪ :‬آيــة ‪ ،] 8‬وذهــب جماعــة مــن‬ ‫العلمــاء إلــى مثــل مــا ذهــب إليــه عمــر ب ــن عبــد‬ ‫العزيــز فــي ذلــك) اه ـ(‪.)9‬‬ ‫ر ً‬ ‫ابعــا‪ :‬عمــوم األحاديــث الــواردة فــي حســن‬ ‫تعامل النب ــي صلى هللا عليه وسلم مع اليهود‬ ‫ونهيه أم املؤمنـي ــن الســيدة عائشــة ر�ضي هللا‬ ‫عنهــا أن تســبهم ملــا قالــوا لرســول هللا صلــى‬ ‫هللا عليــه وســلم (الســام عليــك)‪ ،‬أي‪ :‬املــوت‬ ‫َ ْ ُ ْ َ َ ْ ُّ َ ْ َ َّ َ َ َ َ‬ ‫�ضـ َـي‬ ‫عليــك‪ ،‬عــن عــروة بـ ِـن الزبيـ ِـر أن عا ِئشــة ر ِ‬ ‫ُ َ‬ ‫َّ‬ ‫ُ َ ْ َ َ ْ َ َّ ّ َ َّ‬ ‫هللا َعل ْيـ ِـه َو َســل َم‬ ‫صلــى‬ ‫اهلل عنهــا زوج الن ِبـ ِـي‬ ‫َ‬ ‫َ َ ْ َ َ َ َْ ٌ‬ ‫َ‬ ‫ـط ِمــن َ‬ ‫ـود َعلــى َر ُســو ِل‬ ‫قالــت‪( :‬دخــل رهـ‬ ‫الي ُهـ ِ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫ص َّلــى ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫هللا َ‬ ‫َ‬ ‫الســامُ‬ ‫هللا َع َل ْيـ ِـه وســلم‪ ،‬فقالــوا‪َّ :‬‬ ‫ِ‬ ‫َع َل ْي ُكـ ْـم‪َ ،‬ق َالـ ْـت َعائ َشـ ُـة‪َ :‬ف َفه ْم ُت َهــا َف ُق ْلــت‪ُ:‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َ َ َ ْ ُ ُ َّ ُ َ َّ‬ ‫الل ْع َنـ ُـة‪َ ،‬ق َالـ ْـت‪َ :‬ف َقــالَ‬ ‫وعليكــم الســام و‬ ‫َ‬ ‫ً‬ ‫َّ‬ ‫ص َّلــى ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َر ُســو ُل هللا َ‬ ‫هللا عل ْيــه و َســل َم‪َ :‬‬ ‫((م ْهــا َيــا‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫ْ ُّ‬ ‫َ َ ُ َّ َ ُ ُّ ّ ْ‬ ‫َ‬ ‫الرفــق ِفــي األمـ ِـر ك ِلـ ِـه))‬ ‫عا ِئشــة‪ِ ،‬إن هللا ي ِحــب‬ ‫َ َ َِ ْ َ ْ َ ْ َ َ ُ‬ ‫َُْ ُ َ ُ َ‬ ‫هللا‪ ،‬أولــم تســمع مــا قالــوا؟‬ ‫فقلــت‪ :‬يــا َرســول ِ‬ ‫َ َّ ُ َ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫َقـ َ ُ ُ‬ ‫هللا َعل ْيـ ِـه َو َســل َم‪(( :‬قـ ْـد‬ ‫هللا صلــى‬ ‫ـال َرســول ِ‬ ‫ُْ‬ ‫َ ُ‬ ‫قلـ ُـت‪َ :‬و َعل ْيكـ ْـم))(‪ ،)10‬فالنب ــي صلــى هللا عليــه‬ ‫وســلم نهــى أم املؤمنـي ــن الســيدة عائشــة‬ ‫ر�ضــي هللا عنهــا أن تست ــرسل عليهــم فــي‬ ‫الدعــاء‪ ،‬وإن كانــوا هــم مــن ابتــدؤوا بالدعــاء‬ ‫علــى رســول هللا صلــى هللا عليــه وســلم‪.‬‬

‫ً َ‬ ‫خامســا‪ :‬أ َمـ َـر النب ـ ّـي صلــى هللا عليــه وســلم‬ ‫بوجــوب صلــة األرحــام مــن املشركي ــن‪،‬‬ ‫فــإن رســول هللا صلــى هللا عليــه وســلم‬ ‫لــم َي ْنـ َـه الســيدة أســماء ب ــنت أب ــي بكــر‬ ‫الصديــق ر�ضــي هللا عنهمــا عــن صلــة‬ ‫أمهــا‪ ،‬بــل أمرهــا بب ـ ّـرها ووجــوب صلتهــا‬ ‫ومــا زالــت علــى الشــرك يومئــذ‪ ،‬ففــي‬ ‫ْ َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫الحديــث َعـ ْـن أ ْسـ َـم َاء ِبنـ ِـت أ ِبــي َبكـ ٍـر‬ ‫َ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َر�ضـ َـي ُ‬ ‫هللا َع ْن ُه َمــا قالـ ْـت ‪( :‬ق ِد َمـ ْـت َعلـ َّـي‬ ‫ِ‬ ‫ُّ َ َ ُ ْ َ‬ ‫ٌ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫هللا‬ ‫أ ِمــي و ِهــي مشـ ِـركة ِفــي عهـ ِـد رســو ِل ِ‬ ‫ص َّلــى ُ‬ ‫َ‬ ‫هللا َع َل ْيــه َو َسـ َّـل َم ‪َ ،‬ف ْ‬ ‫اسـ َـت ْف َت ْي ُت‬ ‫ِ‬ ‫ُ َ‬ ‫َّ‬ ‫َ َّ‬ ‫ُ َ‬ ‫هللا َعل ْيـ ِـه َو َســل َم ‪،‬‬ ‫صلــى‬ ‫هللا‬ ‫َرســول ِ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُْ ُ َ‬ ‫اغ َبـ ٌـة ‪ ،‬أ َفأ صـ ُـل ُأ ِّمــي؟ َقـ َ‬ ‫ـال ‪:‬‬ ‫قلــت‪ :‬و ِهـ َـي َ ُر ِ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫((ن َعـ ْـم ِص ِلــي أ َّمـ ِـك )) (‪ ،)11‬وقيــل إنهــا ماتــت‬ ‫علــى الشــرك ولــم تســلم‪ ،‬قــال الحافــظ‬ ‫َ‬ ‫َ ٌ ْ َ‬ ‫ـاخط ُت ُه‪،‬‬ ‫النــووي‪( :‬ك ِار َهــة ِل ِل ْســا ِم َسـ‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬ ‫ُْ ْ‬ ‫َ َْ‬ ‫َو ِفيـ ِـه ‪َ :‬جـ َـو ُاز ِصلـ ِـة الق ِريـ ِـب الشـ ِـر ِك‪َ ،‬وأ ُّم‬ ‫َ َ ُ‬ ‫َ َ ُ‬ ‫َأ ْسـ َـم َاء ْ‬ ‫اسـ ُـم َها (ق ْيلــة) َو ِقيـ َـل ‪( :‬ق ِتيلــة)‬ ‫َ َ ُ‬ ‫َ َ‬ ‫َ ُ‬ ‫َْ‬ ‫ـاف َوتـ ِـاء ُمث َّنـ ٍـاة ِمـ ْـن فـ ْـوق‪َ ...‬و ُهــي ق ْيلــة‬ ‫ِبالقـ ِ‬ ‫ُ ْ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫ِبنـ ُـت َع ْبـ ِـد ال ُعـ َّـزى ال ُق َر ِشـ َّـية ال َع ِام ِر َّيــة ‪،‬‬ ‫َ‬ ‫َ َ َ‬ ‫ْ َ َ ْ َ‬ ‫َواخ َتلــف ال ُعل َمـ ُـاء ِفــي أ َّن َهــا أ ْســل َم ْت أ ْم‬ ‫َ َ ْ َ​َ ُ ْ َ َ َْ َْ ُ َ َ‬ ‫ون َعلــى‬ ‫ماتــت علــى كف ِرهــا‪ ،‬وال كثــر‬ ‫ْ َ‬ ‫َم ْو ِت َهــا ُمشـ ِـركة) (‪ ،)12‬ونقــل اب ــن حجــر عــن‬ ‫َ َ َ ْ َ َّ‬ ‫ـال الخط ِابـ ُّـي ِفيـ ِـه‬ ‫الخطاب ــي مــا نصــه ‪( :‬وقـ‬ ‫َ َّ َّ َ ْ َ َ َ ُ َ ُ َ ْ َ‬ ‫أن الر ِحــم الكا ِفــرة توصــل ِمــن الـ ِـال‬ ‫ْ ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ َ ُ َ ُْ‬ ‫َ‬ ‫وصـ ُـل ال ْسـ ِـل َمة َو ُي ْسـ َـتن َبط‬ ‫َون ْحـ ِـو ِه؛ كمــا ت‬ ‫ُْ‬ ‫ْ ُ ُ ُ ُ َ​َ​َ َْ َْ‬ ‫ِمنــه وجـ‬ ‫ـوب نفقـ ِـة ال ِب الكا ِفـ ِـر َوال ِ ّم‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َْ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫الكا ِفـ َـر ِة َو ِإن كان ال َولــد ُم ْسـ ِـل ًما)(‪.)13‬‬

‫العدد ‪ 2‬رجب ‪1439‬هـ‬

‫خامتة‬

‫ومــن هنــا يمكــن القــول ‪ :‬إن هــذا الحديث‬ ‫يختــص بواقعــة دون غي ــرها‪ ،‬وأن النب ــي‬ ‫صلــى هللا عليــه وســلم كان فــي حالــة حــرب‬ ‫معهــم‪ ،‬وأن مســألة عــدم بدئهــم بالســام‬ ‫والتضييــق عليهــم فــي الطرقــات لــم يثبــت‬ ‫أن النب ــي صلــى هللا عليــه وســلم فعلهــا فــي‬ ‫حالــة الســلم‪ ،‬واآليــات دلــت علــى عكــس‬ ‫مــا َّادعــاه أصحــاب هــذه الشــبهة وكــذا‬ ‫ُّ‬ ‫َّ‬ ‫النبوية في ضرورة اإلحســان إليهم‬ ‫الســنة‬ ‫وعــدم اإلســاءة إليهــم‪ ،‬وفعــل الصحابــة‬ ‫والتابعي ــن فــي ضــرورة الســام عليهــم‬ ‫ومعاملتهــم ب ــرفق ولي ــن‪ ،‬وأن مــن اعتــدى‬ ‫علــى معاهـ ٍـد فلــن يجــد رائحــة الجنــة‪،‬‬ ‫َ ْ َْ‬ ‫هللا ْبـ ِـن‬ ‫روى البخــاري بســنده عــن عبـ ِـد ِ‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫َع ْمــرو َ �ضـ َـي ُ‬ ‫هللا َع ْن ُه َمــا‪َ ،‬عـ ِـن النب ـ ّ ِـي صلــى‬ ‫ٍ َر ِ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫ُ‬ ‫اهــداً‬ ‫((مـ ْـن َق َتـ َـل ُم َع َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ـال‪َ :‬‬ ‫َ‬ ‫هللا َعل ْيـ ِـه وســلم قـ َ‬ ‫الج َّنة‪َ ،‬وإ َّن ر َ‬ ‫يح َها ُت َ‬ ‫َل ْم َير ْح َرائ َح َة َ‬ ‫وج ُد ِم ْن‬ ‫ِ َِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ً‬ ‫ُ‬ ‫(‪)14‬‬ ‫َم ِسي ـ َـرِة أ ْرب ِعي ــن عامــا)) ‪ ،‬فهــل يعقــل أن‬ ‫يأمرالنبـي صلى هللا عليه وسلم بضرورة‬ ‫عــدم ظلمهــم؛ وفــي موضــع آخــر يأمــر‬ ‫بالتضييــق عليهــم ومقاطعتهــم!‪.‬‬ ‫وبعــد هــذه اإلضــاءة الســريعة علــى‬ ‫جوانب املسألة يتضح لنا أن هذه الشبهة‬ ‫التستقيم وصريح الشرع الحنـيف‪ ،‬إذ إن‬ ‫اإلحســان الــذي أمــرهللا تعالــى بــه بقولــه‪:‬‬ ‫ً‬ ‫َ ُ ُ َّ‬ ‫اس ُح ْسنا)) [البقرة ‪ :‬آية ‪]83‬‬ ‫((وقولوا ِللن ِ‬ ‫عــام يشــمل املسلمي ــن وغي ــرهم‪.‬‬

‫(‪ )9‬ابـن عبد البـر ـ بهجة املجالس وأنس املجالس وشحذ الذاهن والهاجس ـ تحقيق ‪ :‬محمد مر�سي الخولي‬ ‫ـ طبعة دار الكتب العلمية بـيـروت ـ لبـنان ـ جـ ‪ 1‬ـ صـ ‪ 752‬ـ ‪.753‬‬ ‫َ ُّ‬ ‫َ ُ َ​َ َ ُ ّْ‬ ‫الرف ِق ِفي األ ْم ِر ك ِل ِه ـ جـ ‪ 8‬ـ صـ ‪ 13‬ـ حديث رقم ‪،6024‬‬ ‫(‪ )10‬أخرجه البخاري في صحيحه ـ ِكتاب األد ِب ـ باب ِ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫اب َّ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُّ‬ ‫الس َالم ـ َب ُ‬ ‫وأخرجه مسلم في صحيحه ـ ِك َت ُ‬ ‫الن ْهي عن ْاب ِتد ِاء أهل ال ِكتاب ب َّ‬ ‫اب َّ‬ ‫السل ِم َوك ْيف ُي َرد عل ْي ِه ْم ـ جـ ‪ 4‬ـ صـ ‪ 1706‬ـ حديث رقم ‪.2165‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫اب َ َ ْ َ َ َّ‬ ‫الت ْحريض َعل ْي َها ـ َب ُ‬ ‫(‪ )11‬أخرجه البخاري في صحيحه ـ ِك َت ُ‬ ‫اب َ‬ ‫اله ِد َّي ِة ِلل ُمش ِر ِكي َـن ـ جـ ‪ 3‬ـ صـ ‪164‬ـ حديث رقم ‪،2620‬‬ ‫الهب ِة وفض ِلها و ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫َ ُ َّ َ َ ُ َ ْ َّ َ َ َ َّ َ َ َ َ ْ َ ْ َ َ َ َّ ْو َ ْ َ ْ َ َ ْ َ َ ْ َ َ ْ َ ُ ُ ْ‬ ‫َ‬ ‫وأخرجه مسلم في صحيحه ـ ِكتاب الزك ِاة ـ باب فض ِل النفق ِة والصدق ِة على القرِبيـن والز ِج والول ِد‪ ،‬والو ِالدي ِن ولو كانوا مش ِر ِكيـن ـ جـ ‪ 2‬ـ صـ ‪ 696‬ـ حديث رقم ‪.1003‬‬ ‫(‪ )12‬النووي ـ املنهاج شرح صحيح مسلم بـن الحجاج ـ جـ ‪ 7‬ـ صـ ‪ 89‬ـ حديث رقم ‪.1003‬‬ ‫(‪ )13‬ابـن حجر ـ فتح الباري شرح صحيح البخاري ـ جـ ‪ 5‬ـ صـ ‪.234‬‬ ‫َْ َ ُ ْ َ ْ َ َ َ ُ َ َ ً َ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫َ ُ‬ ‫ْ‬ ‫الجزي ِة ـ باب ِإث ِم من قتل معاهدا ِبغي ِر جر ٍم ـ جـ ‪ 4‬ـ صـ ‪ 99‬ـ حديث ‪.3166‬‬ ‫(‪ )14‬أخرجه البخاري في صحيحه ـ ِكتاب ِ‬

‫‪91‬‬


‫شبهة إهانة أهل الذمة‬

‫الرد عىل الشبهة‬

‫ً‬ ‫أول‪ :‬ال ننكــر أن الحديــث صحيــح وقــد روي فــي‬ ‫كل مــن صحيــح مســلم وســنن أب ــي داود وســنن‬ ‫الت ــرمذي وفــي مســند اإلمــام أحمــد وفــي غي ــرها‬ ‫مــن كتــب الســنة‪.‬‬ ‫ثان ـ ًـيا‪ :‬إن ســبب هــذا الفهــم الخاطــئ للحديــث‬ ‫هــو الجهــل بســبب وروده‪ ،‬فالحديــث خـ ٌّ‬ ‫ـاص‬ ‫بواقعــة بعي ــنها وذلــك ملــا ســار املســلمون إلــى‬ ‫بـنـي قريظة بعد أن نقضوا العهد ووقفوا إلى‬ ‫جانــب الكفــار للقضــاء علــى املسلمي ــن‪ ،‬كمــا‬ ‫َ‬ ‫َ ْ َ َ ْ َ ْ َ‬ ‫صـ َـرة ال ِغفـ ِـار ّ ِي‪ ،‬أ َّن‬ ‫عنــد الت ــرمذي عــن أبــي ب‬ ‫َ َّ ُ ِ َ َ ْ َ َ َّ َ َ َ ّ‬ ‫ُ َ‬ ‫((إ ِنــي‬ ‫َرســول ِ‬ ‫هللا صلــى هللا عل َ َيـ ِـه وســلم قــال‪ِ :‬‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫َ ٌ َ َُ َ ْ‬ ‫ود‪ ،‬ف َم ِن انطل َق َم ِعي‪ ،‬ف ِإ ْن َسل ُموا‬ ‫ر ِاكب ِإلى يه ٍ‬ ‫َ​َْ ُ ْ َ ُ ُ‬ ‫َ َ َ ْ ُ ْ (‪)3‬‬ ‫عليكــم فقولــوا‪ :‬وعليكــم)) ‪ ،‬وجــاء عنــد‬ ‫أحمــد فــي روايتـي ــن متعاقبتـي ــن بلفظــة ((إنــا‬ ‫ال‪َ :‬ق َ ُ ُ‬ ‫غادون))‪َ ،‬ع ْن َأبي َب ْ‬ ‫ص َر َة َق َ‬ ‫هللا‬ ‫ال َرسول ِ‬ ‫ِ‬ ‫هللا َع َل ْيــه َو َسـ َّـل َم‪(( :‬إ َّنــا َغـ ُـادو َن َع َلــى َي ُهــودَ‬ ‫ص َّلــى ُ‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َ َ َ ْ َ ُ ْ َّ َ َ َ َّ‬ ‫َ ُ‬ ‫فــا تبدؤوهــم ِب‬ ‫الســا ِم‪ ،‬فـ ِـإذا َســل ُموا َعل ْيكـ ْـم‬ ‫َ ُ‬ ‫َ ُ‬ ‫ف ُقولــوا‪َ :‬و َعل ْيكـ ْـم))(‪ ،)4‬وأورده الطبـران ــي فــي‬ ‫الر ْح َمــن ْال ُج َه ِن ـ ّـي‪َ ،‬قـ َ‬ ‫املعجــم َعـ ْـن َأبــي َع ْبـ ِـد َّ‬ ‫ـال‪:‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫هللا َع َل ْيــه َو َسـ َّـل َم‪(( :‬إنــاَّ‬ ‫ص َّلــى ُ‬ ‫ـال َر ُســو ُل هللا َ‬ ‫َقـ َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َِ‬ ‫َغـ ُـادو َن َغـ ًـدا إ َلــى َي ُهــود َفـ َ َ ْ َ ُ‬ ‫ؤوهـ ْـم ب َّ‬ ‫الســا ِم‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫ـا تبد َ ِ‬ ‫َ ْ َ َّ ُ ِ َ َ ْ ُ ْ َ ُ ُ‬ ‫َ َ ْ ُ ْ (‪)5‬‬ ‫فـ ِـإن ســلموا عليكــم فقولــوا وعليكــم)) ‪ ،‬وبه‬ ‫َ ْ َ َ ْ َ َ‬ ‫ضـ َـرة‪ ،‬أ َّن‬ ‫قــال الب ــيهقي فــي الشــعب عــن أ ِبــي ن‬ ‫ص َّلــى ُ‬ ‫َر ُســو َل هللا َ‬ ‫ـال َل ُهــم‪ْ:‬‬ ‫هللا َع َل ْيـ ِـه َو َسـ َّـل َم َقـ َ‬ ‫ِ‬ ‫((إ ّني َراك ٌب إ َلى َي ُه َ‬ ‫ود‪َ ،‬ف َمن ْان َط َل َق َم ِعي م ْن ُكمْ‬ ‫ِ‬ ‫َِ ِ ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫َفــا َت ْب َد ُ‬ ‫السـ َـام‪َ ،‬فــإ ْن َسـ َّـل ُموا َع َل ْي ُكــمْ‬ ‫ؤوهـ ْـم ب َّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َ ُ‬ ‫َ‬ ‫َ ُ َ​َ‬ ‫َّ‬ ‫ف ُقولوا‪َ :‬و َعل ْيك ْم)) فل َّما ِج ْئ َن ُاه ْم َسل ُموا َعل ْي َنا‬ ‫َ ْ‬ ‫َ ُ‬ ‫ف ُقل َنا‪َ :‬و َعل ْيك ْم(‪ ،)6‬وأخرجه البخاري في األدب‬ ‫صـ َـر َة ْالغ َفــار ّي‪َ ،‬عــن َّ‬ ‫املفــرد َعـ ْـن َأبــي َب ْ‬ ‫النب ـ ّ ِـي‬ ‫ِ ِ ِ ِ‬ ‫ِ‬

‫َ َّ ُ َ َ ْ َ َ َّ َ َ َ ّ‬ ‫َ‬ ‫((إ ِنــي َر ِاكـ ٌـب غـ ًـدا‬ ‫صلــى هللا عليـ ِـه وســلم قــال‪ِ :‬‬ ‫َ َ ُ َ َ َ َ ْ َ ُ ْ َّ َ َ َ َ َّ‬ ‫ُ‬ ‫ِإلى يهود‪ ،‬فل تبدؤوهم ِبالسل ِم‪ ،‬ف ِإذا سلموا‬ ‫َ ُ َ ُ‬ ‫َ ُ‬ ‫َعل ْيكـ ْـم ف ُقولــوا‪َ :‬و َعل ْيكـ ْـم))(‪.)7‬‬ ‫ً‬ ‫ثالثــا‪ :‬إن النهــي هنــا ال ي ــنسحب علــى الجميــع‬ ‫وذلــك‪:‬‬ ‫‪ -1‬لقــوة األدلــة الــواردة فــي األمــر بب ـ ّ ِـر اليهــود‬ ‫َّ‬ ‫والنصــارى وغي ــرهم واإلحســان إليهــم كمــا‬ ‫فــي الق ـرآن الكريــم فــي قــول هللا تعالــى ‪ (( :‬ال‬ ‫َ ْ ُ ُ َ َّ َ َ ُ َ ُ ُ‬ ‫وك ْم في ّ‬ ‫الدي ِـن‬ ‫ين َهاك ُم هللا ع ِن ال ِذيـن ل ْم يقا ِتل َ ِ ِ‬ ‫َ​َ ْ ُ ْ ُ ُ‬ ‫وكـ ْـم مـ ْـن د َيار ُكـ ْـم أ ْن َت َب ُّر ُ‬ ‫وهـ ْـم‬ ‫ولــم يخرج‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫َ ُ ْ ُ ِ َ ْ ْ َّ َ ُ ُّ ْ ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫وتق ِســطوا ِإلي ِهــم ِإن هللا ي ِحــب الق ِس ِطي ــن))‬ ‫[املمتحنة ‪ :‬آية ‪ ،]8‬أال تـرى أن من أوجه الب ّ ِـر‬ ‫َّ‬ ‫الســام عليهــم واإلحســان إليهــم وذلــك لعمــوم‬ ‫اآليــة الكريمــة طاملــا َّأنهــم يعيشــون معنــا دون‬ ‫ممــاألة أعدائنــا علي ــنا!‪.‬‬ ‫‪ -2‬ولكث ــرة األحاديــث الصحيحــة الــواردة فــي‬ ‫إلقــاء الســام علــى اليهــود َّ‬ ‫والنصــارى‪ ،‬ومــن‬ ‫َ ْ َْ‬ ‫هللا ْب ِن‬ ‫ذلك ما جاء في الصحيحَيـن عن عب َِد ِ‬ ‫هللا َع ْن ُه َمــا‪ ،‬أ َّن َر ُجـ ًـا َســأ َل َّ‬ ‫َع ْمــرو َر�ضـ َـي ُ‬ ‫الن ِبـ َّـي‬ ‫ٍ ِ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ص َّلــى ُ‬ ‫َ‬ ‫اإل ْســا ِم خ ْي ـ ٌـر؟‬ ‫هللا َعل ْيـ ِـه َو َســل َم‪ :‬أ ُّي‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬ ‫َ َ ُ ْ ُ َّ َ َ َ َ ْ َ َّ َ َ‬ ‫قــال‪(( :‬تط ِعــم الطعــام وتقــرأ‬ ‫الســا َم َعلــى‬ ‫ْ‬ ‫َ َ ْ‬ ‫َمـ ْـن َع َرفـ َـت َو َمـ ْـن لـ ْـم ت ْعـ ِـرف))(‪ ،)8‬فاألمــر عــام‬ ‫وتقرأ السالم على من عرفت ومن لم تعرف‪،‬‬ ‫قــال اب ــن عبــد الب ــر‪( :‬وقــد روي عــن جماعــة‬ ‫مــن الصحابــة والتابعي ــن رضــوان هللا عليهــم‬ ‫أنهــم كانــوا يبــدؤون بالســام كل مــن لقــوه‬ ‫مــن مســلم أو ذمــي‪ ،‬فاملعنــى فــي ذلــك ‪ -‬وهللا‬ ‫أعلــم ‪ -‬أنــه ليــس بواجــب أن يبــدأ املسـ ُ‬ ‫ـلم املـ ُّـار‬ ‫ُ‬ ‫بالسالم على القاعد الذمي‪ ،‬والر ُ‬ ‫املسلم‬ ‫اكب‬ ‫الذمـ َّـي املا�شـ َـي بالســام‪ ،‬كمــا يجــب ذلــك‬

‫شبهة إهانة أهل الذمة‬

‫العدد ‪ 2‬رجب ‪1439‬هـ‬

‫بالســنة علــى مــن كان علــى دي ــنه‪ ،‬فــإن فعــل‬ ‫فــا حــرج عليــه‪ ،‬فكأنــه قــال صلــى هللا عليــه‬ ‫وســلم‪( :‬ليــس عليكــم أن تبدؤوهــم بالســام)‬ ‫بدليــل مــا روى الوليــد ب ــن مســلم عــن عــروة‬ ‫ب ــن رويــم‪ ،‬قــال‪ :‬رأيــت أبــا أمامــة الباهلــي يســلم‬ ‫علــى كل مــن لقــي مــن مســلم وذمـ ّـي‪ ،‬ويقــول‪:‬‬ ‫ٌ‬ ‫هــي تحيــة ألهــل ملتنــا وأمــان ألهــل ذمتنــا‬ ‫واســم مــن أســماء هللا نفشــيه بـي ــننا‪ ،‬ومحــال‬ ‫أن يخالــف أبــو أمامــة الســنة‪ ،‬لــو صحــت فــي‬ ‫ذلك‪ ،‬بل املعنى على تأويلنا وهللا أعلم‪ ،‬وعلى‬ ‫هــذا يصــح تخريــج هــذه األخبــار ووجوههــا‪،‬‬ ‫ذكــر اب ــن أب ــي شب ــيب‪ ،‬عــن إســماعيل ب ــن‬ ‫عيــاش‪ ،‬عــن محمــد ب ــن زيــاد األلهان ــي‪،‬‬ ‫وشرحب ــيل ب ــن مســلم‪ ،‬عــن أب ــي أمامــة أنــه‬ ‫كان ال يمــر بمسـ ٍـلم وال يهــودي وال نصران ــي‬ ‫إال بــدأه بالســام‪ ،‬وروي عــن اب ــن مســعود‬ ‫وأب ــي الــدرداء وفضالــة ب ــن عب ــيد أنهــم كانــوا‬ ‫يبــدؤون أهــل الذمــة بالســام‪ ،‬وقــال اب ــن‬ ‫مســعود‪ :‬إن مــن التواضــع أن تبــدأ بالســام‬ ‫َّ‬ ‫كل مــن لقيــت‪ ،‬وعــن اب ــن عبــاس أنــه كتــب‬ ‫إلــى رجــل مــن أهــل الكتــاب‪ :‬الســام عليــك‪،‬‬ ‫وسئل عبد هللا ب ــن وهب صاحب مالك عن‬ ‫غيبــة النصران ــي فقــال‪ :‬أو ليــس مــن النــاس؟‬ ‫قالــوا‪ :‬بلــى‪ .‬قــال‪ :‬فــإن هللا عــز وجــل يقــول‬ ‫َ ُ ُ َّ‬ ‫اس ُح ْسـ ًـنا)) [البقرة ‪ :‬آية ‪،]83‬‬ ‫(( وقولوا ِللن ِ‬ ‫وقيــل ملحمــد ب ــن كعــب القرظــي‪ :‬إن عمــر ب ــن‬ ‫عبــد العزيــز ســئل عــن ابتــداء أهــل الذمــة‬ ‫بالســام فقــال‪ :‬ت ــرد عليهــم وال تبدؤوهــم!‬ ‫فقــال محمــد ب ــن كعــب‪ :‬أمــا أنــا فــا أرى ً‬ ‫بأســا‬ ‫أن تبدأهــم بالســام‪ ،‬قيــل لــه‪ :‬لــم؟ فقــال‪:‬‬ ‫ُ َ‬ ‫َ َْ‬ ‫اصفـ ْـح َع ْن ُهـ ْـم َوقـ ْـل َســا ٌم‬ ‫لقولــه عــز وجــل‪(( :‬ف‬

‫(‪ )3‬أخرجه النسائي في السنن الكبـرى ـ ـ جـ ‪ 9‬ـ صـ ‪ 150‬ـ حديث رقم ‪.10148‬‬ ‫(‪ )4‬أخرجه أحمد في املسند ـ ـ جـ ‪ 45‬ـ صـ ‪ 211‬ـ حديث رقم ‪ 27236‬و بـرقم ‪.27237‬‬ ‫(‪ )5‬أخرجه الطبـرنـي في املعجم الكبـيـر ـ جـ ‪ 22‬ـ صـ ‪ 291‬ـ حديث رقم ‪.744‬‬ ‫ي‬ ‫(‪ )6‬أخرجه البـيهقي في شعب اإليمان ـ جـ ‪ 11‬ـ صـ ‪ 260‬ـ ‪261‬ـ حديث رقم ‪ )7( - .8513‬أخرجه البخار في األدب املفرد ـ جـ ‪ 1‬ـ صـ ‪ 377‬ـ حديث رقم ‪.1102‬‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫اب َ َ ٌ ْ َ ُ َّ َ‬ ‫(‪ )8‬أخرجه البخاري في صحيحه ـ ِك َت ُ‬ ‫اإل ْسال ِم ـ جـ ‪ 1‬ـ صـ ‪ 12‬ـ حديث رقم ‪ ،12‬وأخرجه مسلم في صحيحه‬ ‫اإليم ِان ـ باب ِإطعام الطع ِام ِمن ِ‬ ‫ِ‬ ‫َ ُ َ َ ُ َ َ َ َ ُ ْ ْ َ َ َ ُّ ُ ُ َ ْ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ور ِه أفضل ـ جـ ‪ 1‬ـ صـ ‪ 65‬ـ حديث رقم ‪.39‬‬ ‫السل ِم‪ ،‬وأي أم ِ‬ ‫ِكتاب ِ‬ ‫اإليم ِان ـ باب بي ِان تفاض ِل ِ‬

‫‪90‬‬

‫َ‬ ‫َ َ َ‬ ‫ف َسـ ْـوف َي ْعل ُمــون)) [الزخــرف‪ :‬آيــة ‪ ،]89‬ومــن‬ ‫حجة من ذهب إلى هذا قوله عز وجل‪ (( :‬ال‬ ‫َ ْ ُ ُ َ َّ َ َ ُ َ ُ ُ‬ ‫وك ْم في ّ‬ ‫الدي ِـن‬ ‫ين َهاك ُم هللا ع ِن ال ِذيـن ل ْم يقا ِتل َ ِ ِ‬ ‫َ​َ ْ ُ ْ ُ ُ‬ ‫وكـ ْـم مـ ْـن د َيار ُكـ ْـم أ ْن َت َب ُّر ُ‬ ‫وهـ ْـم‬ ‫ولــم يخرج‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫َ ُ ْ ُ ِ َ ْ ْ َّ َ ُ ُّ ْ ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫وتق ِســطوا ِإلي ِهــم ِإن هللا ي ِحــب الق ِس ِطي ــن))‬ ‫[املمتحنــة ‪ :‬آيــة ‪ ،] 8‬وذهــب جماعــة مــن‬ ‫العلمــاء إلــى مثــل مــا ذهــب إليــه عمــر ب ــن عبــد‬ ‫العزيــز فــي ذلــك) اه ـ(‪.)9‬‬ ‫ر ً‬ ‫ابعــا‪ :‬عمــوم األحاديــث الــواردة فــي حســن‬ ‫تعامل النب ــي صلى هللا عليه وسلم مع اليهود‬ ‫ونهيه أم املؤمنـي ــن الســيدة عائشــة ر�ضي هللا‬ ‫عنهــا أن تســبهم ملــا قالــوا لرســول هللا صلــى‬ ‫هللا عليــه وســلم (الســام عليــك)‪ ،‬أي‪ :‬املــوت‬ ‫َ ْ ُ ْ َ َ ْ ُّ َ ْ َ َّ َ َ َ َ‬ ‫�ضـ َـي‬ ‫عليــك‪ ،‬عــن عــروة بـ ِـن الزبيـ ِـر أن عا ِئشــة ر ِ‬ ‫ُ َ‬ ‫َّ‬ ‫ُ َ ْ َ َ ْ َ َّ ّ َ َّ‬ ‫هللا َعل ْيـ ِـه َو َســل َم‬ ‫صلــى‬ ‫اهلل عنهــا زوج الن ِبـ ِـي‬ ‫َ‬ ‫َ َ ْ َ َ َ َْ ٌ‬ ‫َ‬ ‫ـط ِمــن َ‬ ‫ـود َعلــى َر ُســو ِل‬ ‫قالــت‪( :‬دخــل رهـ‬ ‫الي ُهـ ِ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫ص َّلــى ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫هللا َ‬ ‫َ‬ ‫الســامُ‬ ‫هللا َع َل ْيـ ِـه وســلم‪ ،‬فقالــوا‪َّ :‬‬ ‫ِ‬ ‫َع َل ْي ُكـ ْـم‪َ ،‬ق َالـ ْـت َعائ َشـ ُـة‪َ :‬ف َفه ْم ُت َهــا َف ُق ْلــت‪ُ:‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َ َ َ ْ ُ ُ َّ ُ َ َّ‬ ‫الل ْع َنـ ُـة‪َ ،‬ق َالـ ْـت‪َ :‬ف َقــالَ‬ ‫وعليكــم الســام و‬ ‫َ‬ ‫ً‬ ‫َّ‬ ‫ص َّلــى ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َر ُســو ُل هللا َ‬ ‫هللا عل ْيــه و َســل َم‪َ :‬‬ ‫((م ْهــا َيــا‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫ْ ُّ‬ ‫َ َ ُ َّ َ ُ ُّ ّ ْ‬ ‫َ‬ ‫الرفــق ِفــي األمـ ِـر ك ِلـ ِـه))‬ ‫عا ِئشــة‪ِ ،‬إن هللا ي ِحــب‬ ‫َ َ َِ ْ َ ْ َ ْ َ َ ُ‬ ‫َُْ ُ َ ُ َ‬ ‫هللا‪ ،‬أولــم تســمع مــا قالــوا؟‬ ‫فقلــت‪ :‬يــا َرســول ِ‬ ‫َ َّ ُ َ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫َقـ َ ُ ُ‬ ‫هللا َعل ْيـ ِـه َو َســل َم‪(( :‬قـ ْـد‬ ‫هللا صلــى‬ ‫ـال َرســول ِ‬ ‫ُْ‬ ‫َ ُ‬ ‫قلـ ُـت‪َ :‬و َعل ْيكـ ْـم))(‪ ،)10‬فالنب ــي صلــى هللا عليــه‬ ‫وســلم نهــى أم املؤمنـي ــن الســيدة عائشــة‬ ‫ر�ضــي هللا عنهــا أن تست ــرسل عليهــم فــي‬ ‫الدعــاء‪ ،‬وإن كانــوا هــم مــن ابتــدؤوا بالدعــاء‬ ‫علــى رســول هللا صلــى هللا عليــه وســلم‪.‬‬

‫ً َ‬ ‫خامســا‪ :‬أ َمـ َـر النب ـ ّـي صلــى هللا عليــه وســلم‬ ‫بوجــوب صلــة األرحــام مــن املشركي ــن‪،‬‬ ‫فــإن رســول هللا صلــى هللا عليــه وســلم‬ ‫لــم َي ْنـ َـه الســيدة أســماء ب ــنت أب ــي بكــر‬ ‫الصديــق ر�ضــي هللا عنهمــا عــن صلــة‬ ‫أمهــا‪ ،‬بــل أمرهــا بب ـ ّـرها ووجــوب صلتهــا‬ ‫ومــا زالــت علــى الشــرك يومئــذ‪ ،‬ففــي‬ ‫ْ َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫الحديــث َعـ ْـن أ ْسـ َـم َاء ِبنـ ِـت أ ِبــي َبكـ ٍـر‬ ‫َ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َر�ضـ َـي ُ‬ ‫هللا َع ْن ُه َمــا قالـ ْـت ‪( :‬ق ِد َمـ ْـت َعلـ َّـي‬ ‫ِ‬ ‫ُّ َ َ ُ ْ َ‬ ‫ٌ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫هللا‬ ‫أ ِمــي و ِهــي مشـ ِـركة ِفــي عهـ ِـد رســو ِل ِ‬ ‫ص َّلــى ُ‬ ‫َ‬ ‫هللا َع َل ْيــه َو َسـ َّـل َم ‪َ ،‬ف ْ‬ ‫اسـ َـت ْف َت ْي ُت‬ ‫ِ‬ ‫ُ َ‬ ‫َّ‬ ‫َ َّ‬ ‫ُ َ‬ ‫هللا َعل ْيـ ِـه َو َســل َم ‪،‬‬ ‫صلــى‬ ‫هللا‬ ‫َرســول ِ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُْ ُ َ‬ ‫اغ َبـ ٌـة ‪ ،‬أ َفأ صـ ُـل ُأ ِّمــي؟ َقـ َ‬ ‫ـال ‪:‬‬ ‫قلــت‪ :‬و ِهـ َـي َ ُر ِ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫((ن َعـ ْـم ِص ِلــي أ َّمـ ِـك )) (‪ ،)11‬وقيــل إنهــا ماتــت‬ ‫علــى الشــرك ولــم تســلم‪ ،‬قــال الحافــظ‬ ‫َ‬ ‫َ ٌ ْ َ‬ ‫ـاخط ُت ُه‪،‬‬ ‫النــووي‪( :‬ك ِار َهــة ِل ِل ْســا ِم َسـ‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬ ‫ُْ ْ‬ ‫َ َْ‬ ‫َو ِفيـ ِـه ‪َ :‬جـ َـو ُاز ِصلـ ِـة الق ِريـ ِـب الشـ ِـر ِك‪َ ،‬وأ ُّم‬ ‫َ َ ُ‬ ‫َ َ ُ‬ ‫َأ ْسـ َـم َاء ْ‬ ‫اسـ ُـم َها (ق ْيلــة) َو ِقيـ َـل ‪( :‬ق ِتيلــة)‬ ‫َ َ ُ‬ ‫َ َ‬ ‫َ ُ‬ ‫َْ‬ ‫ـاف َوتـ ِـاء ُمث َّنـ ٍـاة ِمـ ْـن فـ ْـوق‪َ ...‬و ُهــي ق ْيلــة‬ ‫ِبالقـ ِ‬ ‫ُ ْ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫ِبنـ ُـت َع ْبـ ِـد ال ُعـ َّـزى ال ُق َر ِشـ َّـية ال َع ِام ِر َّيــة ‪،‬‬ ‫َ‬ ‫َ َ َ‬ ‫ْ َ َ ْ َ‬ ‫َواخ َتلــف ال ُعل َمـ ُـاء ِفــي أ َّن َهــا أ ْســل َم ْت أ ْم‬ ‫َ َ ْ َ​َ ُ ْ َ َ َْ َْ ُ َ َ‬ ‫ون َعلــى‬ ‫ماتــت علــى كف ِرهــا‪ ،‬وال كثــر‬ ‫ْ َ‬ ‫َم ْو ِت َهــا ُمشـ ِـركة) (‪ ،)12‬ونقــل اب ــن حجــر عــن‬ ‫َ َ َ ْ َ َّ‬ ‫ـال الخط ِابـ ُّـي ِفيـ ِـه‬ ‫الخطاب ــي مــا نصــه ‪( :‬وقـ‬ ‫َ َّ َّ َ ْ َ َ َ ُ َ ُ َ ْ َ‬ ‫أن الر ِحــم الكا ِفــرة توصــل ِمــن الـ ِـال‬ ‫ْ ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ َ ُ َ ُْ‬ ‫َ‬ ‫وصـ ُـل ال ْسـ ِـل َمة َو ُي ْسـ َـتن َبط‬ ‫َون ْحـ ِـو ِه؛ كمــا ت‬ ‫ُْ‬ ‫ْ ُ ُ ُ ُ َ​َ​َ َْ َْ‬ ‫ِمنــه وجـ‬ ‫ـوب نفقـ ِـة ال ِب الكا ِفـ ِـر َوال ِ ّم‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َْ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫الكا ِفـ َـر ِة َو ِإن كان ال َولــد ُم ْسـ ِـل ًما)(‪.)13‬‬

‫العدد ‪ 2‬رجب ‪1439‬هـ‬

‫خامتة‬

‫ومــن هنــا يمكــن القــول ‪ :‬إن هــذا الحديث‬ ‫يختــص بواقعــة دون غي ــرها‪ ،‬وأن النب ــي‬ ‫صلــى هللا عليــه وســلم كان فــي حالــة حــرب‬ ‫معهــم‪ ،‬وأن مســألة عــدم بدئهــم بالســام‬ ‫والتضييــق عليهــم فــي الطرقــات لــم يثبــت‬ ‫أن النب ــي صلــى هللا عليــه وســلم فعلهــا فــي‬ ‫حالــة الســلم‪ ،‬واآليــات دلــت علــى عكــس‬ ‫مــا َّادعــاه أصحــاب هــذه الشــبهة وكــذا‬ ‫ُّ‬ ‫َّ‬ ‫النبوية في ضرورة اإلحســان إليهم‬ ‫الســنة‬ ‫وعــدم اإلســاءة إليهــم‪ ،‬وفعــل الصحابــة‬ ‫والتابعي ــن فــي ضــرورة الســام عليهــم‬ ‫ومعاملتهــم ب ــرفق ولي ــن‪ ،‬وأن مــن اعتــدى‬ ‫علــى معاهـ ٍـد فلــن يجــد رائحــة الجنــة‪،‬‬ ‫َ ْ َْ‬ ‫هللا ْبـ ِـن‬ ‫روى البخــاري بســنده عــن عبـ ِـد ِ‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫َع ْمــرو َ �ضـ َـي ُ‬ ‫هللا َع ْن ُه َمــا‪َ ،‬عـ ِـن النب ـ ّ ِـي صلــى‬ ‫ٍ َر ِ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫ُ‬ ‫اهــداً‬ ‫((مـ ْـن َق َتـ َـل ُم َع َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ـال‪َ :‬‬ ‫َ‬ ‫هللا َعل ْيـ ِـه وســلم قـ َ‬ ‫الج َّنة‪َ ،‬وإ َّن ر َ‬ ‫يح َها ُت َ‬ ‫َل ْم َير ْح َرائ َح َة َ‬ ‫وج ُد ِم ْن‬ ‫ِ َِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ً‬ ‫ُ‬ ‫(‪)14‬‬ ‫َم ِسي ـ َـرِة أ ْرب ِعي ــن عامــا)) ‪ ،‬فهــل يعقــل أن‬ ‫يأمرالنبـي صلى هللا عليه وسلم بضرورة‬ ‫عــدم ظلمهــم؛ وفــي موضــع آخــر يأمــر‬ ‫بالتضييــق عليهــم ومقاطعتهــم!‪.‬‬ ‫وبعــد هــذه اإلضــاءة الســريعة علــى‬ ‫جوانب املسألة يتضح لنا أن هذه الشبهة‬ ‫التستقيم وصريح الشرع الحنـيف‪ ،‬إذ إن‬ ‫اإلحســان الــذي أمــرهللا تعالــى بــه بقولــه‪:‬‬ ‫ً‬ ‫َ ُ ُ َّ‬ ‫اس ُح ْسنا)) [البقرة ‪ :‬آية ‪]83‬‬ ‫((وقولوا ِللن ِ‬ ‫عــام يشــمل املسلمي ــن وغي ــرهم‪.‬‬

‫(‪ )9‬ابـن عبد البـر ـ بهجة املجالس وأنس املجالس وشحذ الذاهن والهاجس ـ تحقيق ‪ :‬محمد مر�سي الخولي‬ ‫ـ طبعة دار الكتب العلمية بـيـروت ـ لبـنان ـ جـ ‪ 1‬ـ صـ ‪ 752‬ـ ‪.753‬‬ ‫َ ُّ‬ ‫َ ُ َ​َ َ ُ ّْ‬ ‫الرف ِق ِفي األ ْم ِر ك ِل ِه ـ جـ ‪ 8‬ـ صـ ‪ 13‬ـ حديث رقم ‪،6024‬‬ ‫(‪ )10‬أخرجه البخاري في صحيحه ـ ِكتاب األد ِب ـ باب ِ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫اب َّ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُّ‬ ‫الس َالم ـ َب ُ‬ ‫وأخرجه مسلم في صحيحه ـ ِك َت ُ‬ ‫الن ْهي عن ْاب ِتد ِاء أهل ال ِكتاب ب َّ‬ ‫اب َّ‬ ‫السل ِم َوك ْيف ُي َرد عل ْي ِه ْم ـ جـ ‪ 4‬ـ صـ ‪ 1706‬ـ حديث رقم ‪.2165‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫اب َ َ ْ َ َ َّ‬ ‫الت ْحريض َعل ْي َها ـ َب ُ‬ ‫(‪ )11‬أخرجه البخاري في صحيحه ـ ِك َت ُ‬ ‫اب َ‬ ‫اله ِد َّي ِة ِلل ُمش ِر ِكي َـن ـ جـ ‪ 3‬ـ صـ ‪164‬ـ حديث رقم ‪،2620‬‬ ‫الهب ِة وفض ِلها و ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫َ ُ َّ َ َ ُ َ ْ َّ َ َ َ َّ َ َ َ َ ْ َ ْ َ َ َ َّ ْو َ ْ َ ْ َ َ ْ َ َ ْ َ َ ْ َ ُ ُ ْ‬ ‫َ‬ ‫وأخرجه مسلم في صحيحه ـ ِكتاب الزك ِاة ـ باب فض ِل النفق ِة والصدق ِة على القرِبيـن والز ِج والول ِد‪ ،‬والو ِالدي ِن ولو كانوا مش ِر ِكيـن ـ جـ ‪ 2‬ـ صـ ‪ 696‬ـ حديث رقم ‪.1003‬‬ ‫(‪ )12‬النووي ـ املنهاج شرح صحيح مسلم بـن الحجاج ـ جـ ‪ 7‬ـ صـ ‪ 89‬ـ حديث رقم ‪.1003‬‬ ‫(‪ )13‬ابـن حجر ـ فتح الباري شرح صحيح البخاري ـ جـ ‪ 5‬ـ صـ ‪.234‬‬ ‫َْ َ ُ ْ َ ْ َ َ َ ُ َ َ ً َ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫َ ُ‬ ‫ْ‬ ‫الجزي ِة ـ باب ِإث ِم من قتل معاهدا ِبغي ِر جر ٍم ـ جـ ‪ 4‬ـ صـ ‪ 99‬ـ حديث ‪.3166‬‬ ‫(‪ )14‬أخرجه البخاري في صحيحه ـ ِكتاب ِ‬

‫‪91‬‬


‫الفتح أم االنتصار للمظلوم؟‬

‫الفتح أم االنتصار للمظلوم؟‬

‫العدد ‪ 2‬رجب ‪1439‬هـ‬

‫الفتح‬

‫أم االنتصار للمظلوم؟‬

‫الجمال‬ ‫محمد أيمن ّ‬ ‫الدكتور ّ‬

‫محمد الفاتح الوقف ّية يف إسطنبول‬ ‫األستاذ يف جامعة السلطان ّ‬

‫ّ‬ ‫تتنــازع املسـ َ‬ ‫ـلم هواجـ ُ‬ ‫ـس مختلفــة حي ــن يســمع أننــا فتحنــا‬ ‫ّ ُ‬ ‫ُ‬ ‫بــاد الدن ــيا وقاتلنــا حتــى ق ِتلنــا وكان املــوت فــي سب ــيل هللا أحـ ّـب‬ ‫إلي ــنا مــن الحيــاة! وقــد يخلــط ذلــك بشــعارات الذي ــن يحتكــرون‬ ‫ّ‬ ‫مفهــوم الجهــاد ومصطلحــه فــي زماننــا! فيظـ ُّـن للوهلــة األولــى أن‬ ‫عقلية الدعشنة من ّ‬ ‫تاريخنا أقرب إلى ّ‬ ‫عقلية الرحمة للعامليـن!‪.‬‬ ‫ولقــد ُخــد َع كثي ـ ٌـر مــن شباب ــنا بذلــك الفكــر املجت ـ َـزأ املسـ ّـيس؛ ّ‬ ‫فظنــوه‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫الفكــر الــذي يمثــل صفــاء اإلســام واندفاعــه نحــو تحقيــق الخي ــر‬ ‫ّ‬ ‫يتعلــق بخالــق األســباب ّ‬ ‫فيتصــل بــه‬ ‫للبش ـ ّرية؛ وحســبوه املنهــج الــذي‬ ‫ّ ً‬ ‫اتصــال يمنــع مــن خذالنــه وإن ت ــرك األخــذ باألســباب الت ــي وضعهــا هللا‬ ‫وربــط بهــا مسـ ّـبباتها! فتحـ ّـدوا لذلــك ‪ -‬بالــكالم ‪ -‬سـ َـنن هللا وأمـ َـم األرض‬ ‫ً‬ ‫دفعــة واحــدة‪ ،‬وحســبوا ّأن بإمكانهــم رفـ َـع رايــات التوحيــد فــوق أب ـراج‬ ‫ّ‬ ‫أوربــة وتماثيــل أمريــكا!‬ ‫ُ‬ ‫ّ ّ‬ ‫ـام أن معاركنــا‬ ‫وفــي صفحــات التاريــخ املشـ ِـر ِ‬ ‫ـوح تـ ٍ‬ ‫قة مــا يصـ ّـرخ بوضـ ٍ‬ ‫ً ّ‬ ‫لــم تكــن‬ ‫يومــا إال مــع الظاملي ــن مــن الحــكام لألخــذ علــى يدهــم‪ ...‬فلــم‬ ‫ّ ّ‬ ‫ً‬ ‫ُ‬ ‫نسمع قط أن املسلميـن فتحوا بالدا فيها ملك ال يظلم عنده أحد!‬ ‫وفــي حي ــن وصلتنــا آالف الصفحــات عــن فتــح فــارس والــروم لــم نقــرأ‬ ‫ً‬ ‫شــيئا عــن فتــح الحبشــة!‬ ‫في صفحات التاريخ ما ُيشي ـ ُـر إلى ّأن مفهوم ّ‬ ‫محبة املوت في سب ـ ِـيل هللا‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫ليــس رغبـ ًـة فــي االنتحــار وال ً‬ ‫يأســا مــن الدن ــيا وال رغبــة فــي التخلــص مــن‬ ‫تبعــات الحيــاة‪ ،‬بــل هــو اندفـ ٌ‬ ‫محبــة اإلســام‪ ،‬حيـ ُـث ّ‬ ‫ـاع فــي ّ‬ ‫املحبــة للدي ــن‬ ‫ُ ّ‬ ‫ـنفس ِه من أجل أن يبقى الديـن ويـنتشر‪،‬‬ ‫تقت�ضي أن يضحي اإلنسان ب ِ‬ ‫ً‬ ‫َ ُ‬ ‫ُ ّ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ـور ِه إلــى العاملي ــن‬ ‫وأن يقــدم نفســه رخيصــة ليصــل الخي ــر فــي أبهــى صـ ِ‬ ‫ّ‬ ‫مضطرب في املفاهيم‬ ‫ـرغبات النفس وال شهواتها وغي ــر‬ ‫غي ــر مدن‬ ‫س بـ ِ‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ّ‬ ‫وال فــي الــرؤى بــل هــو دي ـ ٌـن كلــه هلل‪ ،‬ال مطمــع دن ــيو َّي فــي نشــره ألحـ ٍـد مــن‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫ـوم! وحي ــن يكــون هــدف الفتــح أن يكــون الدي ــن كلــه هلل‬ ‫حاكـ ٍـم أو محكـ ٍ‬

‫ّ‬ ‫تتدخــل الحاجــات الشـ ّ‬ ‫ـخصية فــي تفاصيــل هــذا الدي ــن‪.‬‬ ‫فحتمــا لــن‬ ‫ّ‬ ‫ومــن املهـ ّـم اإلشــارة إلــى ّأن كتـ َـب التاريــخ لــم تنقــل إال مــا تهتـ ّـم بــه النخــب‬ ‫السياسـ ّـية والعســك ّرية‪ ،‬ومــا يبعــث علــى االفتخــار العســكر ّي أو تعزيــز‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫إال نـ ً‬ ‫ـادرا وقائـ َـع مــا قبـ َـل‬ ‫االتصــال بــاهلل تعالــى‪ ،‬ولــم نقـرأ فــي كتــب التاريــخ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫الفتــح‪ ،‬أو تاريــخ البــاد املفتوحــة قبــل فتحهــا‪ ،‬وكيــف كان حكامهــا‬ ‫َ‬ ‫يعاملــون أهلهــا ويســومونهم ســوء العــذاب‪ ،‬وكيــف طلــب أهلهــا أو‬ ‫ّ‬ ‫ُ َ‬ ‫نخ ُبهــم مــن املسلمي ــن أن يأتــوا ليحموهــم مــن ظلــم حكامهــم‪ ،‬وكيــف‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫أال يحكمهــا الحاكمــون‬ ‫ســلموهم مفات ــيح مدنهــم واشت ــرطوا عليهــم‬ ‫الســابقون‪ ،‬وأال ُيســاكنهم فيهــا اليهــود!‪.‬‬ ‫ُ ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫الحضاريــة فــي األرض‪،‬‬ ‫التعليميــة علــى آثارنــا‬ ‫لــم تركــز مناهجنــا‬ ‫ولــم ُتعـ ِـط ّ‬ ‫ـرة عــن التواصــل الــذي وقــع بـي ــن الشــعوب الت ــي‬ ‫أي فكـ ٍ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫ف ِتحــت وبـي ــن الفاتحي ــن‪ ،‬ولــم تتكلــم عــن اآلثــارالباقيــة مــن قبـ ِـل‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫والثقافيــة‬ ‫الحضاريــة‬ ‫الفاتحي ـ َـن‪ ،‬وال عــن اآلثــار‬ ‫واالقتصاديــة‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫َُ‬ ‫ّ‬ ‫والبنــى التحت ـ ّـي ِة الت ــي أقامهــا الفاتحــون‪ ،‬فيمــا ت ــركزت‬ ‫والتنمويــة‬ ‫أحاديــث املناهـ ِـج فــي أحســن أحوالهــا حــو َل دخــول النــاس فــي دي ــن‬ ‫الفاتحي ــن بــا إجبـ ٍـاروال إكــراه‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫لم ّ‬ ‫التفصيلية‬ ‫اإلسالمية ووقائعها‬ ‫تتعرض مناهجنا لتاريخ الفتوحات‬ ‫إال من الجانب العسكر ّي؛ فظهرت الصورة مبتورة موتورة!‪.‬‬ ‫ولإلنصــاف فقــد عاشــت شــعوب األرض فت ـرات ظلــم عظيــم جـ ًّـدا‪،‬‬ ‫تنازعــت البش ـ ّرية فيهــا قــوى عظمــى ســيطرت علــى النــاس بذريعــة‬ ‫تطب ــيق مــا ي ـريده (اإللــه!)‪ ،‬وأكلــت حقــوق النــاس تحــت شــعار الدي ــن‪،‬‬ ‫َ ْ‬ ‫ـات‬ ‫ومنعــت النــاس مــن التفكي ــر باســم الكن ــيسة! وح َر َمت ُهــم مــن الح ّريـ ِ‬ ‫ات! فــي عصــور الظــام الوســطى حي ــن كان‬ ‫مــرو ًرا بأوهـ ِـام االنتصــار ِ‬ ‫ً‬ ‫نموذجــا فريـ ًـدا فــي الحكــم الرشــيد‪ ،‬وفــي الحكــم القائــم‬ ‫اإلســام ُيقـ ّـدم‬ ‫علــى الح ّريــات الجز ّئيــة واملحكــوم بقواعــد ّ‬ ‫كليــة تحافــظ علــى أعـراض‬ ‫‪92‬‬

‫ُ‬ ‫النــاس ودي ــنهم وأنفســهم وأموالهــم كانــت البش ـ ّرية تحلـ ُـم أن يأت ــي مــن‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ـور الحــكام‪ ،‬ولــم يكــن ّثمــة مــن يهتـ ّـم لدي ــن املخلــص! إذا‬ ‫يخلصهــا مــن جـ ِ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫سيحقق ً‬ ‫قدرا من كرامة الح ّرية ويعيد للبش ّرية شرف إنسان ّـيتها‪.‬‬ ‫كان‬ ‫ّإن وجــود اآلثــار مــن التاريــخ الحضــار ّي ألمــم األرض الت ــي فتحهــا‬ ‫املســلمون لت�شــي بـ ّ‬ ‫ًّ‬ ‫همجيــا‪ ،‬ولــم يكــن يســعى لفــرض‬ ‫ـأن الفاتــح لــم يكــن‬ ‫الســيطرة‪ ،‬بل كان ّ‬ ‫يهتم بتحقيق املبادئ قبل فرض دي ــن‪ ،‬كان الفاتح‬ ‫املســلم ي ـ ُ‬ ‫ـرغب فــي تحقيــق الح ّريــة والكرامــة اإلنسان ـ ّـية‪ ،‬وي ـريد للنــاس‬ ‫ّ‬ ‫أن ُي ّ‬ ‫طبقــوا مــا يختارونــه‪ ،‬وأن يبحثــوا ويتعلمــوا‪ ،‬وأن ي ــنطلقوا فــي ب ــناء‬ ‫ّ‬ ‫حياتهــم وإعمــار األرض‪ ،‬فلــم يكــن الفاتــح ي ــركز علــى انتمــاء النــاس إلــى‬ ‫دي ـنه بقــدر مــا يهتـ ّـم بمــا سـ ُـي ّ‬ ‫قدمه لهــم‪.‬‬ ‫ِ​ِ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫يعة للواقع الذي تعيشه الحركات التـي تحتكر‬ ‫قراءة سر ٍ‬ ‫ومن خالل ٍ‬ ‫ّ‬ ‫ـوح ضيــاع البوصلــة الت ــي ي ــنبغي أن‬ ‫مســمى الجهـ ًـاد اليــوم نــرى بوضـ ٍ‬ ‫تكــون ّ‬ ‫ّ‬ ‫موجهــة لـ ّ‬ ‫جهاديــة فــي اإلســام! ونشــهد عظــم الت ــيه‬ ‫ـكل حركــة‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ّ‬ ‫ـات مــن‬ ‫الــذي تعيــش فيــه تلــك الحــركات حي ــن تســتجر رفــع الرايـ ِ‬ ‫تاريـ ٍـخ كان يعن ــي رفــع الرايــة فيــه الكثي ــرإلــى واقـ ٍـع ال يعن ــي فيــه رفــع‬ ‫ً ُ‬ ‫مرسوم ليجعلوا من‬ ‫وهم‬ ‫الراية شيئا‪ ...‬فيعلنون استعداء العالم في ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫شــعاراتهم رفــع راياتهــم فــوق أب ـراج باريــس أو تمثــال الح ّريــة! ‪.‬‬ ‫ّإن البعــد عــن ق ـراءة تاريــخ الجهــاد النبــو ّي ثـ ّـم الراشـ ّ‬ ‫ـدي ثـ ّـم اإلسـ ّ‬ ‫ـامي‬ ‫ّ َ‬ ‫ً‬ ‫القطعيــة‪ ،‬ل َيجعـ ُـل الجهــاد مجـ ّـرد‬ ‫عمومــا‪ ،‬والنــأي عــن أحــكام الشـريعة‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫املمثليـن بالبعد ّ‬ ‫ّ‬ ‫املسرحي‬ ‫الفن ـ ّـي‬ ‫وهم في نفوس املمثليـن له في الواقع‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫للكلمة واملمثليـن الزاعميـن أنهم يحملون رايته ويعيدون مجده! فأيـن‬ ‫هــم مــن جملــة اآليــات واألحاديــث الت ــي تمنــع مــن االعتــداء علــى النــاس‪،‬‬ ‫بــل تأمــر بب ـ ّـر غي ـ ِـر املحاربـي ــن مــن أب ــناء الديانــات األخــرى‪ ،‬وأي ــن هــم مــن‬ ‫اآليــات واألحاديــث الت ــي تأمــر ب ــرفع الظلــم عــن املظلومي ــن‪ ،‬واألخــذ علــى‬ ‫يــد الظالــم‪ ،‬وإن كان أخــاك!‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫كنــا ســادة العالــم لــم ُ‬ ‫يــوم‬ ‫نسـ ْـد ُه بالقـ ّـوة وحدهــا‪ ،‬وال اســتعملنا‬ ‫ُ‬ ‫الســاح للســيادة‪ ،‬بــل ســدناه باملبــادئ الت ــي جعلــت الشــعوب تهفــو‬ ‫إلــى حكــم اإلســام الــذي يزيــل عنهــا ظلــم الظاملي ــن‪ ،‬فاســتعملنا‬ ‫الســاح إلزالــة الظلــم عــن املظلــوم‪ ،‬ولــردع الظالــم عــن ظلمــه‪،‬‬ ‫ـراه ألحـ ٍـد‬ ‫ولألخــذ علــى يــده‪ ،‬ولنشــرالنــور الــذي بـي ــن أيدي ــنا‪ ،‬دون إكـ ٍ‬ ‫ّ‬ ‫علــى الدخــول فيــه‪ ...‬ولــن نكــون ســادة العالــم مــن جديــد إال إذا أعدنــا‬ ‫اســتعمال مبادئنــا لســيادته‪ ،‬ليحـ ّـل التوافــق والعــدل مــكان تجــارة‬ ‫الســاح وســباقاته! وليكــون اآلخــر هــو مــن ُيطالب ــنا أن نأت ــي لنرفــع عنــه‬ ‫الظلــم ونعيــد إليــه األمــن والســام‪.‬‬

‫العدد ‪ 2‬رجب ‪1439‬هـ‬

‫ونحــن نــرى فــي واقعنــا اليــوم ّأن األمــم املســيطرة علــى العالــم تبــذل‬ ‫ّ‬ ‫كل جهــد ممكــن إلنهــاء وجــود خصومهــا‪ ،‬والســيطرة علــى تفكي ــرهم‪،‬‬ ‫َ‬ ‫وزعزعة استقرارهم! وهذا ما يجعل َّ‬ ‫همها األكبـر االستخفاف باآلخر‬ ‫ال الحــرص عليــه‪ ،‬ومحاولــة اســتغالله ال النهــوض بــه! ولذلــك ّ‬ ‫فإنهــا‬ ‫ّ‬ ‫ـاب صنعتــه بأيديهــا‪.‬‬ ‫تظلــم وتب ــرر ظلمهــا بقضائهــا علــى إرهـ ٍ‬ ‫ّ‬ ‫ّإن وجــود اإلســام هــو وجــود رحمــة لألمــم كلهــا‪ ،‬واالرتبــاط الوثيــق بـي ــن‬ ‫ّ‬ ‫تقدمــه فــي حكــم العالــم وانبهــار العالــم بإنجــازات القيــادات اإلسـ ّ‬ ‫ـامية‬ ‫ِ​ِ‬ ‫ِ‬ ‫املتعاقبــة وبـي ــن زيــادة إنتاجــه الفقهـ ّـي ومواءمتــه للتقـ ّـدم العلمـ ّـي فــي‬ ‫ّ‬ ‫العالم؛ ٌ‬ ‫حتمي للنهوض بالعالم وتحقيق التوازن في أمم األرض‬ ‫مظهر‬ ‫بتغيي ــر النظام الذي يحكم العالم إلى نظام فيه �شيء من العدل‪ ،‬إن‬ ‫ّ‬ ‫ّ ّ‬ ‫لــم نقــل إنــه يمثــل العــدل كلــه‪.‬‬ ‫ـامي الــذي ي ــنبغي أن يكــون ســبب ّ‬ ‫فالنظــام اإلسـ ّ‬ ‫كل تقـ ّـدم فــي العالــم‬ ‫اليــوم كمــا كان ســببه فيمــا ســبق تـ ّـم إقصــاؤه عــن موقــع القيــادة‬ ‫ّ‬ ‫ممثليــه ً‬ ‫أحيانــا ولفقدهــم‬ ‫فــي العالــم‪ ،‬وتـ ّـم اســتثناؤه بســبب ضعــف‬ ‫ً‬ ‫أحيانــا أخــرى‪ ،‬ولعــدم ّ‬ ‫قوتهــم الكافيــة لصنــع توازنــات فــي‬ ‫املشــروع‬ ‫ّ‬ ‫خريطــة العالــم السياســية فــي أحيــان ثالثــة! ولــن يعــود االســتقرار‬ ‫النسب ّـي إلى العالم إال إذا استطعنا إيجاد كيان جامع لهذه ّ‬ ‫األمة‪ ،‬وأن‬ ‫يكــون هــذا الكيــان ّ‬ ‫معبـ ًـرا عــن جوهــر التدافــع مــع العالــم الغرب ـ ّـي‪ ،‬وأن‬ ‫ّ‬ ‫يكــون ّ‬ ‫تطلعــات ّ‬ ‫األمــة وآالمهــا وآمالهــا‪.‬‬ ‫معبـ ًـرا عــن‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫والحقيقــة الت ــي يجــب أن ندركهــا أنــه لــن تســتطيع ّأمــة مشــتتة متفرقــة‬ ‫ً‬ ‫أن تنهــض أو تتقــدم فــي عصــر الكيانــات السياسـ ّـية ّ‬ ‫املوحــدة‪ ،‬فضــا‬ ‫ً‬ ‫ـض أجنحــة ّ‬ ‫عــن أن تقــدر بعـ ُ‬ ‫نموذجــا أو‬ ‫األمــة علــى أن تقـ ّـدم للعالــم‬ ‫ِ‬ ‫مشـ ً‬ ‫ّ‬ ‫املتفرقي ــن ليســت مســاوية إلمكانهــم‬ ‫ـروعا يحتــذى‪ ...‬إذ إمكانــات‬ ‫حيـن ّ‬ ‫يتجمعون! وتضاعف القدرات ملموس عند اجتماع اإلمكانات‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫نتوقــع مــن شــخص منعــزل عــن ب ــيئته أو مجتمعــه أن ُينتــج ً‬ ‫فــا‬ ‫إنتاجــا‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ُ‬ ‫ًّ‬ ‫ًّ‬ ‫فكريــا أو حضاريــا ي ِبهــر بــه العالــم!‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ـكار ِه‬ ‫وحي ــن يدعــو اليــوم بعــض الذي ــن ّ يدعــون تبـن ــي فكــر الجهــاد واحتـ ِ‬ ‫إلــى االنتصــار علــى دول العالــم كلــه مــن خــال محاربتهــا دون امتــاك‬ ‫نموذجا ً‬ ‫األدوات‪ ،‬فهذا ُي ّ‬ ‫اإلسالمية‪ّ ،‬‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫لكن‬ ‫سيئا للفتوحات‬ ‫قدم للعالم‬ ‫ِ‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫ما هو أســوأ منه أن نرســخ أفكارا بثها العالم الغرب ــي في شباب ــنا بأيدي ــنا‬ ‫ّ‬ ‫حــول‬ ‫همجيــة املحاربـي ــن وســيطرتهم بالقـ ّـوة وانتقامهــم مــن أهــل البــاد‬ ‫الت ــي يدخلونهــا‪ ،‬وهــو مــا يفعلــه العالــم الغرب ـ ّـي حي ــن يدخــل بلـ ًـدا‪ ،‬لكــنّ‬ ‫ً‬ ‫هــذه الصــورة لــم تكــن موجــودة عنــد أجدادنــا الفاتحي ــن وزرعها بعض‬ ‫ٌُ ُ‬ ‫أدعيــاء الجهــاد فــي شباب ــنا‪ ،‬وهــذه جريمــة تضــاف إلــى جرائــم هــؤالء‪.‬‬ ‫‪93‬‬


‫الفتح أم االنتصار للمظلوم؟‬

‫الفتح أم االنتصار للمظلوم؟‬

‫العدد ‪ 2‬رجب ‪1439‬هـ‬

‫الفتح‬

‫أم االنتصار للمظلوم؟‬

‫الجمال‬ ‫محمد أيمن ّ‬ ‫الدكتور ّ‬

‫محمد الفاتح الوقف ّية يف إسطنبول‬ ‫األستاذ يف جامعة السلطان ّ‬

‫ّ‬ ‫تتنــازع املسـ َ‬ ‫ـلم هواجـ ُ‬ ‫ـس مختلفــة حي ــن يســمع أننــا فتحنــا‬ ‫ّ ُ‬ ‫ُ‬ ‫بــاد الدن ــيا وقاتلنــا حتــى ق ِتلنــا وكان املــوت فــي سب ــيل هللا أحـ ّـب‬ ‫إلي ــنا مــن الحيــاة! وقــد يخلــط ذلــك بشــعارات الذي ــن يحتكــرون‬ ‫ّ‬ ‫مفهــوم الجهــاد ومصطلحــه فــي زماننــا! فيظـ ُّـن للوهلــة األولــى أن‬ ‫عقلية الدعشنة من ّ‬ ‫تاريخنا أقرب إلى ّ‬ ‫عقلية الرحمة للعامليـن!‪.‬‬ ‫ولقــد ُخــد َع كثي ـ ٌـر مــن شباب ــنا بذلــك الفكــر املجت ـ َـزأ املسـ ّـيس؛ ّ‬ ‫فظنــوه‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫الفكــر الــذي يمثــل صفــاء اإلســام واندفاعــه نحــو تحقيــق الخي ــر‬ ‫ّ‬ ‫يتعلــق بخالــق األســباب ّ‬ ‫فيتصــل بــه‬ ‫للبش ـ ّرية؛ وحســبوه املنهــج الــذي‬ ‫ّ ً‬ ‫اتصــال يمنــع مــن خذالنــه وإن ت ــرك األخــذ باألســباب الت ــي وضعهــا هللا‬ ‫وربــط بهــا مسـ ّـبباتها! فتحـ ّـدوا لذلــك ‪ -‬بالــكالم ‪ -‬سـ َـنن هللا وأمـ َـم األرض‬ ‫ً‬ ‫دفعــة واحــدة‪ ،‬وحســبوا ّأن بإمكانهــم رفـ َـع رايــات التوحيــد فــوق أب ـراج‬ ‫ّ‬ ‫أوربــة وتماثيــل أمريــكا!‬ ‫ُ‬ ‫ّ ّ‬ ‫ـام أن معاركنــا‬ ‫وفــي صفحــات التاريــخ املشـ ِـر ِ‬ ‫ـوح تـ ٍ‬ ‫قة مــا يصـ ّـرخ بوضـ ٍ‬ ‫ً ّ‬ ‫لــم تكــن‬ ‫يومــا إال مــع الظاملي ــن مــن الحــكام لألخــذ علــى يدهــم‪ ...‬فلــم‬ ‫ّ ّ‬ ‫ً‬ ‫ُ‬ ‫نسمع قط أن املسلميـن فتحوا بالدا فيها ملك ال يظلم عنده أحد!‬ ‫وفــي حي ــن وصلتنــا آالف الصفحــات عــن فتــح فــارس والــروم لــم نقــرأ‬ ‫ً‬ ‫شــيئا عــن فتــح الحبشــة!‬ ‫في صفحات التاريخ ما ُيشي ـ ُـر إلى ّأن مفهوم ّ‬ ‫محبة املوت في سب ـ ِـيل هللا‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫ليــس رغبـ ًـة فــي االنتحــار وال ً‬ ‫يأســا مــن الدن ــيا وال رغبــة فــي التخلــص مــن‬ ‫تبعــات الحيــاة‪ ،‬بــل هــو اندفـ ٌ‬ ‫محبــة اإلســام‪ ،‬حيـ ُـث ّ‬ ‫ـاع فــي ّ‬ ‫املحبــة للدي ــن‬ ‫ُ ّ‬ ‫ـنفس ِه من أجل أن يبقى الديـن ويـنتشر‪،‬‬ ‫تقت�ضي أن يضحي اإلنسان ب ِ‬ ‫ً‬ ‫َ ُ‬ ‫ُ ّ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ـور ِه إلــى العاملي ــن‬ ‫وأن يقــدم نفســه رخيصــة ليصــل الخي ــر فــي أبهــى صـ ِ‬ ‫ّ‬ ‫مضطرب في املفاهيم‬ ‫ـرغبات النفس وال شهواتها وغي ــر‬ ‫غي ــر مدن‬ ‫س بـ ِ‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ّ‬ ‫وال فــي الــرؤى بــل هــو دي ـ ٌـن كلــه هلل‪ ،‬ال مطمــع دن ــيو َّي فــي نشــره ألحـ ٍـد مــن‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫ـوم! وحي ــن يكــون هــدف الفتــح أن يكــون الدي ــن كلــه هلل‬ ‫حاكـ ٍـم أو محكـ ٍ‬

‫ّ‬ ‫تتدخــل الحاجــات الشـ ّ‬ ‫ـخصية فــي تفاصيــل هــذا الدي ــن‪.‬‬ ‫فحتمــا لــن‬ ‫ّ‬ ‫ومــن املهـ ّـم اإلشــارة إلــى ّأن كتـ َـب التاريــخ لــم تنقــل إال مــا تهتـ ّـم بــه النخــب‬ ‫السياسـ ّـية والعســك ّرية‪ ،‬ومــا يبعــث علــى االفتخــار العســكر ّي أو تعزيــز‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫إال نـ ً‬ ‫ـادرا وقائـ َـع مــا قبـ َـل‬ ‫االتصــال بــاهلل تعالــى‪ ،‬ولــم نقـرأ فــي كتــب التاريــخ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫الفتــح‪ ،‬أو تاريــخ البــاد املفتوحــة قبــل فتحهــا‪ ،‬وكيــف كان حكامهــا‬ ‫َ‬ ‫يعاملــون أهلهــا ويســومونهم ســوء العــذاب‪ ،‬وكيــف طلــب أهلهــا أو‬ ‫ّ‬ ‫ُ َ‬ ‫نخ ُبهــم مــن املسلمي ــن أن يأتــوا ليحموهــم مــن ظلــم حكامهــم‪ ،‬وكيــف‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫أال يحكمهــا الحاكمــون‬ ‫ســلموهم مفات ــيح مدنهــم واشت ــرطوا عليهــم‬ ‫الســابقون‪ ،‬وأال ُيســاكنهم فيهــا اليهــود!‪.‬‬ ‫ُ ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫الحضاريــة فــي األرض‪،‬‬ ‫التعليميــة علــى آثارنــا‬ ‫لــم تركــز مناهجنــا‬ ‫ولــم ُتعـ ِـط ّ‬ ‫ـرة عــن التواصــل الــذي وقــع بـي ــن الشــعوب الت ــي‬ ‫أي فكـ ٍ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫ف ِتحــت وبـي ــن الفاتحي ــن‪ ،‬ولــم تتكلــم عــن اآلثــارالباقيــة مــن قبـ ِـل‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫والثقافيــة‬ ‫الحضاريــة‬ ‫الفاتحي ـ َـن‪ ،‬وال عــن اآلثــار‬ ‫واالقتصاديــة‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫َُ‬ ‫ّ‬ ‫والبنــى التحت ـ ّـي ِة الت ــي أقامهــا الفاتحــون‪ ،‬فيمــا ت ــركزت‬ ‫والتنمويــة‬ ‫أحاديــث املناهـ ِـج فــي أحســن أحوالهــا حــو َل دخــول النــاس فــي دي ــن‬ ‫الفاتحي ــن بــا إجبـ ٍـاروال إكــراه‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫لم ّ‬ ‫التفصيلية‬ ‫اإلسالمية ووقائعها‬ ‫تتعرض مناهجنا لتاريخ الفتوحات‬ ‫إال من الجانب العسكر ّي؛ فظهرت الصورة مبتورة موتورة!‪.‬‬ ‫ولإلنصــاف فقــد عاشــت شــعوب األرض فت ـرات ظلــم عظيــم جـ ًّـدا‪،‬‬ ‫تنازعــت البش ـ ّرية فيهــا قــوى عظمــى ســيطرت علــى النــاس بذريعــة‬ ‫تطب ــيق مــا ي ـريده (اإللــه!)‪ ،‬وأكلــت حقــوق النــاس تحــت شــعار الدي ــن‪،‬‬ ‫َ ْ‬ ‫ـات‬ ‫ومنعــت النــاس مــن التفكي ــر باســم الكن ــيسة! وح َر َمت ُهــم مــن الح ّريـ ِ‬ ‫ات! فــي عصــور الظــام الوســطى حي ــن كان‬ ‫مــرو ًرا بأوهـ ِـام االنتصــار ِ‬ ‫ً‬ ‫نموذجــا فريـ ًـدا فــي الحكــم الرشــيد‪ ،‬وفــي الحكــم القائــم‬ ‫اإلســام ُيقـ ّـدم‬ ‫علــى الح ّريــات الجز ّئيــة واملحكــوم بقواعــد ّ‬ ‫كليــة تحافــظ علــى أعـراض‬ ‫‪92‬‬

‫ُ‬ ‫النــاس ودي ــنهم وأنفســهم وأموالهــم كانــت البش ـ ّرية تحلـ ُـم أن يأت ــي مــن‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ـور الحــكام‪ ،‬ولــم يكــن ّثمــة مــن يهتـ ّـم لدي ــن املخلــص! إذا‬ ‫يخلصهــا مــن جـ ِ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫سيحقق ً‬ ‫قدرا من كرامة الح ّرية ويعيد للبش ّرية شرف إنسان ّـيتها‪.‬‬ ‫كان‬ ‫ّإن وجــود اآلثــار مــن التاريــخ الحضــار ّي ألمــم األرض الت ــي فتحهــا‬ ‫املســلمون لت�شــي بـ ّ‬ ‫ًّ‬ ‫همجيــا‪ ،‬ولــم يكــن يســعى لفــرض‬ ‫ـأن الفاتــح لــم يكــن‬ ‫الســيطرة‪ ،‬بل كان ّ‬ ‫يهتم بتحقيق املبادئ قبل فرض دي ــن‪ ،‬كان الفاتح‬ ‫املســلم ي ـ ُ‬ ‫ـرغب فــي تحقيــق الح ّريــة والكرامــة اإلنسان ـ ّـية‪ ،‬وي ـريد للنــاس‬ ‫ّ‬ ‫أن ُي ّ‬ ‫طبقــوا مــا يختارونــه‪ ،‬وأن يبحثــوا ويتعلمــوا‪ ،‬وأن ي ــنطلقوا فــي ب ــناء‬ ‫ّ‬ ‫حياتهــم وإعمــار األرض‪ ،‬فلــم يكــن الفاتــح ي ــركز علــى انتمــاء النــاس إلــى‬ ‫دي ـنه بقــدر مــا يهتـ ّـم بمــا سـ ُـي ّ‬ ‫قدمه لهــم‪.‬‬ ‫ِ​ِ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫يعة للواقع الذي تعيشه الحركات التـي تحتكر‬ ‫قراءة سر ٍ‬ ‫ومن خالل ٍ‬ ‫ّ‬ ‫ـوح ضيــاع البوصلــة الت ــي ي ــنبغي أن‬ ‫مســمى الجهـ ًـاد اليــوم نــرى بوضـ ٍ‬ ‫تكــون ّ‬ ‫ّ‬ ‫موجهــة لـ ّ‬ ‫جهاديــة فــي اإلســام! ونشــهد عظــم الت ــيه‬ ‫ـكل حركــة‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ّ‬ ‫ـات مــن‬ ‫الــذي تعيــش فيــه تلــك الحــركات حي ــن تســتجر رفــع الرايـ ِ‬ ‫تاريـ ٍـخ كان يعن ــي رفــع الرايــة فيــه الكثي ــرإلــى واقـ ٍـع ال يعن ــي فيــه رفــع‬ ‫ً ُ‬ ‫مرسوم ليجعلوا من‬ ‫وهم‬ ‫الراية شيئا‪ ...‬فيعلنون استعداء العالم في ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫شــعاراتهم رفــع راياتهــم فــوق أب ـراج باريــس أو تمثــال الح ّريــة! ‪.‬‬ ‫ّإن البعــد عــن ق ـراءة تاريــخ الجهــاد النبــو ّي ثـ ّـم الراشـ ّ‬ ‫ـدي ثـ ّـم اإلسـ ّ‬ ‫ـامي‬ ‫ّ َ‬ ‫ً‬ ‫القطعيــة‪ ،‬ل َيجعـ ُـل الجهــاد مجـ ّـرد‬ ‫عمومــا‪ ،‬والنــأي عــن أحــكام الشـريعة‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫املمثليـن بالبعد ّ‬ ‫ّ‬ ‫املسرحي‬ ‫الفن ـ ّـي‬ ‫وهم في نفوس املمثليـن له في الواقع‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫للكلمة واملمثليـن الزاعميـن أنهم يحملون رايته ويعيدون مجده! فأيـن‬ ‫هــم مــن جملــة اآليــات واألحاديــث الت ــي تمنــع مــن االعتــداء علــى النــاس‪،‬‬ ‫بــل تأمــر بب ـ ّـر غي ـ ِـر املحاربـي ــن مــن أب ــناء الديانــات األخــرى‪ ،‬وأي ــن هــم مــن‬ ‫اآليــات واألحاديــث الت ــي تأمــر ب ــرفع الظلــم عــن املظلومي ــن‪ ،‬واألخــذ علــى‬ ‫يــد الظالــم‪ ،‬وإن كان أخــاك!‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫كنــا ســادة العالــم لــم ُ‬ ‫يــوم‬ ‫نسـ ْـد ُه بالقـ ّـوة وحدهــا‪ ،‬وال اســتعملنا‬ ‫ُ‬ ‫الســاح للســيادة‪ ،‬بــل ســدناه باملبــادئ الت ــي جعلــت الشــعوب تهفــو‬ ‫إلــى حكــم اإلســام الــذي يزيــل عنهــا ظلــم الظاملي ــن‪ ،‬فاســتعملنا‬ ‫الســاح إلزالــة الظلــم عــن املظلــوم‪ ،‬ولــردع الظالــم عــن ظلمــه‪،‬‬ ‫ـراه ألحـ ٍـد‬ ‫ولألخــذ علــى يــده‪ ،‬ولنشــرالنــور الــذي بـي ــن أيدي ــنا‪ ،‬دون إكـ ٍ‬ ‫ّ‬ ‫علــى الدخــول فيــه‪ ...‬ولــن نكــون ســادة العالــم مــن جديــد إال إذا أعدنــا‬ ‫اســتعمال مبادئنــا لســيادته‪ ،‬ليحـ ّـل التوافــق والعــدل مــكان تجــارة‬ ‫الســاح وســباقاته! وليكــون اآلخــر هــو مــن ُيطالب ــنا أن نأت ــي لنرفــع عنــه‬ ‫الظلــم ونعيــد إليــه األمــن والســام‪.‬‬

‫العدد ‪ 2‬رجب ‪1439‬هـ‬

‫ونحــن نــرى فــي واقعنــا اليــوم ّأن األمــم املســيطرة علــى العالــم تبــذل‬ ‫ّ‬ ‫كل جهــد ممكــن إلنهــاء وجــود خصومهــا‪ ،‬والســيطرة علــى تفكي ــرهم‪،‬‬ ‫َ‬ ‫وزعزعة استقرارهم! وهذا ما يجعل َّ‬ ‫همها األكبـر االستخفاف باآلخر‬ ‫ال الحــرص عليــه‪ ،‬ومحاولــة اســتغالله ال النهــوض بــه! ولذلــك ّ‬ ‫فإنهــا‬ ‫ّ‬ ‫ـاب صنعتــه بأيديهــا‪.‬‬ ‫تظلــم وتب ــرر ظلمهــا بقضائهــا علــى إرهـ ٍ‬ ‫ّ‬ ‫ّإن وجــود اإلســام هــو وجــود رحمــة لألمــم كلهــا‪ ،‬واالرتبــاط الوثيــق بـي ــن‬ ‫ّ‬ ‫تقدمــه فــي حكــم العالــم وانبهــار العالــم بإنجــازات القيــادات اإلسـ ّ‬ ‫ـامية‬ ‫ِ​ِ‬ ‫ِ‬ ‫املتعاقبــة وبـي ــن زيــادة إنتاجــه الفقهـ ّـي ومواءمتــه للتقـ ّـدم العلمـ ّـي فــي‬ ‫ّ‬ ‫العالم؛ ٌ‬ ‫حتمي للنهوض بالعالم وتحقيق التوازن في أمم األرض‬ ‫مظهر‬ ‫بتغيي ــر النظام الذي يحكم العالم إلى نظام فيه �شيء من العدل‪ ،‬إن‬ ‫ّ‬ ‫ّ ّ‬ ‫لــم نقــل إنــه يمثــل العــدل كلــه‪.‬‬ ‫ـامي الــذي ي ــنبغي أن يكــون ســبب ّ‬ ‫فالنظــام اإلسـ ّ‬ ‫كل تقـ ّـدم فــي العالــم‬ ‫اليــوم كمــا كان ســببه فيمــا ســبق تـ ّـم إقصــاؤه عــن موقــع القيــادة‬ ‫ّ‬ ‫ممثليــه ً‬ ‫أحيانــا ولفقدهــم‬ ‫فــي العالــم‪ ،‬وتـ ّـم اســتثناؤه بســبب ضعــف‬ ‫ً‬ ‫أحيانــا أخــرى‪ ،‬ولعــدم ّ‬ ‫قوتهــم الكافيــة لصنــع توازنــات فــي‬ ‫املشــروع‬ ‫ّ‬ ‫خريطــة العالــم السياســية فــي أحيــان ثالثــة! ولــن يعــود االســتقرار‬ ‫النسب ّـي إلى العالم إال إذا استطعنا إيجاد كيان جامع لهذه ّ‬ ‫األمة‪ ،‬وأن‬ ‫يكــون هــذا الكيــان ّ‬ ‫معبـ ًـرا عــن جوهــر التدافــع مــع العالــم الغرب ـ ّـي‪ ،‬وأن‬ ‫ّ‬ ‫يكــون ّ‬ ‫تطلعــات ّ‬ ‫األمــة وآالمهــا وآمالهــا‪.‬‬ ‫معبـ ًـرا عــن‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫والحقيقــة الت ــي يجــب أن ندركهــا أنــه لــن تســتطيع ّأمــة مشــتتة متفرقــة‬ ‫ً‬ ‫أن تنهــض أو تتقــدم فــي عصــر الكيانــات السياسـ ّـية ّ‬ ‫املوحــدة‪ ،‬فضــا‬ ‫ً‬ ‫ـض أجنحــة ّ‬ ‫عــن أن تقــدر بعـ ُ‬ ‫نموذجــا أو‬ ‫األمــة علــى أن تقـ ّـدم للعالــم‬ ‫ِ‬ ‫مشـ ً‬ ‫ّ‬ ‫املتفرقي ــن ليســت مســاوية إلمكانهــم‬ ‫ـروعا يحتــذى‪ ...‬إذ إمكانــات‬ ‫حيـن ّ‬ ‫يتجمعون! وتضاعف القدرات ملموس عند اجتماع اإلمكانات‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫نتوقــع مــن شــخص منعــزل عــن ب ــيئته أو مجتمعــه أن ُينتــج ً‬ ‫فــا‬ ‫إنتاجــا‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ُ‬ ‫ًّ‬ ‫ًّ‬ ‫فكريــا أو حضاريــا ي ِبهــر بــه العالــم!‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ـكار ِه‬ ‫وحي ــن يدعــو اليــوم بعــض الذي ــن ّ يدعــون تبـن ــي فكــر الجهــاد واحتـ ِ‬ ‫إلــى االنتصــار علــى دول العالــم كلــه مــن خــال محاربتهــا دون امتــاك‬ ‫نموذجا ً‬ ‫األدوات‪ ،‬فهذا ُي ّ‬ ‫اإلسالمية‪ّ ،‬‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫لكن‬ ‫سيئا للفتوحات‬ ‫قدم للعالم‬ ‫ِ‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫ما هو أســوأ منه أن نرســخ أفكارا بثها العالم الغرب ــي في شباب ــنا بأيدي ــنا‬ ‫ّ‬ ‫حــول‬ ‫همجيــة املحاربـي ــن وســيطرتهم بالقـ ّـوة وانتقامهــم مــن أهــل البــاد‬ ‫الت ــي يدخلونهــا‪ ،‬وهــو مــا يفعلــه العالــم الغرب ـ ّـي حي ــن يدخــل بلـ ًـدا‪ ،‬لكــنّ‬ ‫ً‬ ‫هــذه الصــورة لــم تكــن موجــودة عنــد أجدادنــا الفاتحي ــن وزرعها بعض‬ ‫ٌُ ُ‬ ‫أدعيــاء الجهــاد فــي شباب ــنا‪ ،‬وهــذه جريمــة تضــاف إلــى جرائــم هــؤالء‪.‬‬ ‫‪93‬‬


‫إلى رسول اهلل‬

‫إلى رسول اهلل‬

‫العدد ‪ 2‬رجب ‪1439‬هـ‬

‫ُ‬ ‫الطري��ق ُمطَّوًق��ا حبمام��ٍة‬ ‫كان‬ ‫تبـ��ن ُع ًّش��ا ب��ل بـ َ‬ ‫�نـ ْت حمراب��ا‬ ‫مل ِ‬

‫قصيدة‬

‫ّ‬ ‫الشاعر أنـس الـدغـيم‬

‫بـيـ��ن َ‬ ‫ش�� ّت َ‬ ‫�ين ِنـ��صابا‬ ‫ان‬ ‫َ‬ ‫املالك ْ ِ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ميلك��ون ِرقاب��ا‬ ‫القل��وب و‬ ‫مل��ك‬ ‫َ‬ ‫وملك ُ‬ ‫��رام قليَل��ه‬ ‫��ت م��ن ه��ذا الغ ِ‬

‫فاس��تفَتحا بقليل��ِه األبواب��ا‬

‫قلبـ��ي وعقلي‪ ،‬والق��وايف من ُذ ْ‬ ‫أن‬ ‫زم ْلَته��ا تتصيّ�� ُد ال ُك ّتاب��ا‬ ‫ّ‬

‫إىل َر ُسولِاهلل‬ ‫المس�� ُته أو ِك ُ‬ ‫��دت ل��وال ْ‬ ‫أن رأى‬ ‫بُرهاَن��ه قلبـ��ي فع��اَد وتاب��ا‬ ‫َو َصف��ا إن��ا ُء ا ُ‬ ‫��ب‪َّ ،‬‬ ‫زجاج�� ُه‬ ‫رق‬ ‫حل ِّ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫رأي��ت وم��ا‬ ‫ح ّت��ى‬ ‫رأي��ت ش��رابا‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫لك��ن م��اًء‬ ‫س��ال أو كامل��ا ِء ِم��ن؛‬ ‫فش َّ‬ ‫وعل��ى حواش��يِه َ‬ ‫��ف وطاب��ا‬

‫ال ُح َ‬ ‫��زن في��ِه معيّ�� ُة امل��وىل هن��ا‬ ‫��س األعصاب��ا‬ ‫ب��دم ال ّرض��ا‬ ‫ّ‬ ‫تتحس ُ‬ ‫ِ‬

‫ح��اف وم��ا ِم��ن حّب��ٍة يف م ّك��ٍة‬ ‫ٍ‬ ‫دم��ا و َعذاب��ا‬ ‫مل‬ ‫ِ‬ ‫حيتمْ��ل عنه��ا ً‬

‫ّل ِّ‬ ‫الدنـ��يا و أو َ‬ ‫ع��ا ٍر ع��ن ّ‬ ‫كل‬ ‫��ارج باب��ا‬ ‫هلل ) يفت ُ‬ ‫( بســ��م ا ِ‬ ‫��ح يف املَع ِ‬

‫[‪],,,,‬‬

‫اخل ُّ‬ ‫ع��م اإلدا ُم َ‬ ‫��ل‬ ‫اص�� ٌر‬ ‫َ‬ ‫حيـ��ن ُم َ‬ ‫ِن َ‬ ‫يف ِّ‬ ‫يفت��ح‬ ‫��ع ِب‬ ‫للجي��اع ِش��عابا‬ ‫ُ‬ ‫الش ْ‬ ‫ِ‬

‫عّل ُ‬ ‫يـن مدائحي‬ ‫قت بـيـ َ‬ ‫��ن ُ‬ ‫البدَت ِ‬ ‫س��واي َيعَل ُ‬ ‫و‬ ‫��ق غ��ادًة و َكعاب��ا‬ ‫َ‬

‫أرجع ُت فيِه ّ‬ ‫الط َ‬ ‫رف و استـ��رجع ُت ُه‬ ‫ْ‬ ‫يـ��ن‬ ‫فغ��اب في��ِه وآب��ا‬ ‫َ‬ ‫يف ك ّرَت ِ‬

‫م��ا َ‬ ‫كان َع ّ‬ ‫اس ِل‬ ‫يؤم��ن قلُب�� ُه‬ ‫َ‬ ‫��د ٌ‬ ‫الس َّ‬ ‫��ك َر ال ُع ّناب��ا‬ ‫ل��و مل جي��دُه ُّ‬

‫بـيـ��ن منبـ��رِه‬ ‫وموض��ع قبـ�� ِرِه‬ ‫م��ا َ‬ ‫ِ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫خ��ط‬ ‫اجلم��ال لقارِئي��ِه ِكتاب��ا‬

‫أدن��اُه ِم��ن‬ ‫ق��وس اجلالل��ِة قاب��ا‬ ‫ِ‬

‫��س ّ‬ ‫��رف ال��ذي بايع ُت��ه‬ ‫الط ِ‬ ‫ال ناع َ‬ ‫��ت‪ ،‬و مل ُ‬ ‫��وم كن َ‬ ‫الس��يّابا‬ ‫أك ّ‬ ‫يف ال ّن ِ‬

‫َ‬ ‫إّن��ي وم��ا ُعِّل ْم ُ‬ ‫��ت‬ ‫منط��ق طائ��ر‬ ‫َ‬ ‫بذك��رك َجيئ��ًة و ذهاب��ا‬ ‫أش��دو‬ ‫عط��رُه‬ ‫هلل ط ْبـ��عُ ال��ورِد ُيف��ي‬ ‫ِ‬ ‫َ‬

‫ويُقي�� ُم ِم��ن ألوان��ِه ُح ّجاب��ا‬

‫َّ‬ ‫فتح��درت ِم ْ‬ ‫��د‬ ‫حاول ُت�� ُه‬ ‫��ن ال َي ٍ‬ ‫قطراُت�� ُه‪َ ،‬ف َض َمم ُت�� ُه فا ْن َس��ابا‬

‫[‪],,,,‬‬ ‫اجلبل��ي مل ُ‬ ‫يف غ��ا ِرِه‬ ‫ي��ك خالًي��ا‬ ‫ِّ‬ ‫كان امل��دى يتعّل�� ُم اإلعراب��ا‬

‫ِم��ن ( ُق ْ��م فأن��ذ ْر) مل يُد ِّث ْ��ر عيـ َ�نـ ُه‬ ‫��ر عارًي��ا و ُمصاب��ا‬ ‫ن��و ٌم و د ّث َ‬

‫ف��كأن ّ‬ ‫ّ‬ ‫كل مهاج�� ٍر يف أ ْو ِس��ِه‬ ‫ْ‬ ‫أصبحت َخّبابا‬ ‫يثـرب )‬ ‫( سع ٌد ) و ( َ‬

‫األس��ودان عل��ى خريط��ِة َفق��رِه‬ ‫ِ‬ ‫ع��ان َمآِذن��ا و ِقباب��ا‬ ‫يتو ّز ِ‬

‫كان ُّ‬ ‫جوف َ‬ ‫ما َ‬ ‫الفرا‬ ‫كل ّ‬ ‫يد يف ِ‬ ‫الص ِ‬ ‫ّ��ن واِت��ري فأصاب��ا‬ ‫ح ّت��ى متع َ‬

‫��رأت عل��ى يدِه ّ‬ ‫��عوب ومل ْ‬ ‫ق ْ‬ ‫يزل‬ ‫الش ُ‬ ‫يف ِّ‬ ‫كل س��ط ٍر يش��ر ُح اآلداب��ا‬

‫َم��ن ص��اَغ ِم��ن َ ْ‬ ‫كم��ن‬ ‫ت�� ٍر ُس ً‬ ‫��واعا ال َ‬ ‫با ُ‬ ‫��ب‬ ‫واإلمي��ان ص��اَغ ش��بابا‬ ‫حل ِّ‬ ‫ِ‬

‫ُ‬ ‫تتف��اوت األق��دا ُر بال ّتق��وى وال‬ ‫َ‬ ‫يتفاوت��ون ُن ًه��ى وال أنس��ابا‬

‫ُصِن ْ‬ ‫كؤوس ُه‬ ‫حيق ُ‬ ‫��ن ال ّر ِ‬ ‫عت على عيـ ِ‬ ‫ّ‬ ‫ش��ر َح ْت ب��ِه األس��بابا‬ ‫فكأن��ا َ‬

‫ه��ذا الف��ؤا ُد أن��ا ال��ذي خّبْأُت��ه‬ ‫��ك فص َ‬ ‫ع��ن مقلَتي َ‬ ‫��ادف األهداب��ا‬

‫ّات‬ ‫ويومه��ا‬ ‫ال��وداع ) َ‬ ‫ي��ا ( ِم��ن ثنـ��ي ِ‬ ‫ِ‬ ‫ي��ا راكًب��ا ال يُش��ب ُه ال ُّر ّكاب��ا‬

‫س��بحان َم��ن أس��رى ب��ه ً‬ ‫َ‬ ‫وم��ن‬ ‫لي�لا َ‬ ‫ليخص َ‬ ‫و ارَت َّ‬ ‫��د ِم��ن أعل��ى‬ ‫��ف نعَل�� ُه‬ ‫ِ‬

‫ْ‬ ‫ف��س ال تـ��رقى إذا مل‬ ‫تقتـ��رف‬ ‫وال ّن ُ‬ ‫الس��جوِد ُتراب��ا‬ ‫ب ُقب��اَء ِم��ن أَث�� ِر ُّ‬

‫ض��ج ِرداؤُه‬ ‫ي��وَم التق��ى‬ ‫اجلمع��ان ّ‬ ‫ِ‬

‫بدعائ��ِه ودع��ا اخلص��و ُم َس��رابا‬

‫العدد ‪ 2‬رجب ‪1439‬هـ‬

‫َ‬ ‫بال ُع��دوِة ّ‬ ‫عريش�� ُه‬ ‫الدنـ��يا أق��اَم‬ ‫َ‬ ‫أس��فل من�� ُه خ��اَر وخاب��ا‬ ‫ك��ب‬ ‫وال ّر ُ‬

‫َ‬ ‫أحيي��ت‬

‫بالق��رآن‬ ‫ِ‬

‫إنسانـ�� ّيًة‬

‫وتقامس��وا دُنـ��يا ال��ورى أقطاب��ا‬

‫ل��و أّنهم عرف َ‬ ‫��وك العتاض��وا عن الـ‬

‫ُ‬ ‫واجمل��د ال يُؤت��ى ملَ ْ‬ ‫��ن مل يأِت��ِه‬ ‫��د ُر املعال��ي أن ُتق��اَد ِغالب��ا‬ ‫َق َ‬

‫ّم يامسيـ ً‬ ‫واحل��راب ُحباب��ا‬ ‫�نـا‬ ‫ِ‬ ‫دِ‬

‫ِم��ن‬ ‫بع��ده األزالَم واألنصاب��ا‬ ‫ِ‬

‫وألسس��وا للخيـ�� ِر‬ ‫أعظ��م دول��ٍة‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫الص ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫قي��ل ِقراب��ا‬ ‫ص��احل‬ ‫وَل‬ ‫الس��يف ّ‬

‫م��ا كان ّ‬ ‫للطلق��ا ِء ْ‬ ‫يستقس��موا‬ ‫أن‬ ‫ِ‬

‫ملّ��ا عف��ا وه��و املَُق َّ‬ ‫��د ُر رمح��ًة‬ ‫وبك��ى هل��م و ه��و العزي�� ُز َجناب��ا‬ ‫ي��ا أيه��ا ال ّري�� ُم ال��ذي مل‬ ‫يستتـ��ر‬ ‫ْ‬ ‫طال��ب ال يُش��ب ُه ُّ‬ ‫ع��ن‬ ‫الطّلب��ا‬ ‫ٍ‬

‫م��ا ّ‬ ‫ح��ل أزراَر‬ ‫البـ�نـفسج زائ�� ٌر‬ ‫ِ‬ ‫ّ‬ ‫وش��ق عل��ى‬ ‫إال‬ ‫األري��ج ثياب��ا‬ ‫ِ‬ ‫ّدا‬ ‫��دا ي��ا رمح��ًة‬ ‫وحمم ً‬ ‫ي��ا س��ي ً‬ ‫ّ‬ ‫للعامليـ��ن و ِنعم��ًة وَثواب��ا‬ ‫َ‬

‫كان ص��د ٌر مث َ��ل ص َ‬ ‫م��ا َ‬ ‫��درك عام ً��را‬ ‫با ُ‬ ‫��ب‪ ،‬ه��م َم��ن ص ّ��دروا اإلرهاب��ا‬ ‫حل ِّ‬

‫هلل يف أرواحن��ا‬ ‫��ر َت َ‬ ‫آي ا ِ‬ ‫كوَث ْ‬ ‫و ختندق��وا ِم��ن حولن��ا أحزاب��ا‬

‫[‪],,,,‬‬ ‫��ن مل أخ َ ْ‬ ‫مجل ُ‬ ‫�تر ل��ه‬ ‫��ت ِش��عري حيـ َ‬ ‫ّ‬ ‫كأس َ‬ ‫��ك ُس�� ّك ًرا و ُرضاب��ا‬ ‫م��ن غيـ�� ِر ِ‬

‫ي��ا ليتنـ��ي أُ ُح�� ٌد أَو اّن��ي فوَق�� ُه‬ ‫��ب‪ ،‬وحّب ٌ‬ ‫��ة َتَتصاب��ى‬ ‫ي ُّ‬ ‫حج�� ٌر ُ َ‬ ‫ُ‬ ‫بالغ��ت يف ه��ذا ال ُّدُن�� ِّو ومل وال‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫بلغ��ت وال‬ ‫كعًب��ا‬ ‫بلغ��ت ِكالب��ا‬ ‫ْ‬

‫م��ا كان ربّ��ي أن ي ّ‬ ‫ُع��ذ َب ش��يبًة‬ ‫حبّب َ‬ ‫ْ‬ ‫��ك ش��ابا‬ ‫ش��ابت ب��ِه ودم��ي ُ‬ ‫[‪],,,,‬‬

‫��م الفق��راَء و األصحاب��ا‬ ‫ُطاع َ‬ ‫وي ِ‬

‫ُخُل ٌ‬ ‫��ق ّ‬ ‫كأن ال��َود َ‬ ‫ْق م��ن أعطا ِف��ِه‬

‫وخالِل��ِه يُه��دي الوج��وَد َس��حابا‬ ‫ِ‬

‫ُخُل ٌ‬ ‫الق��رآن ّ‬ ‫ه��ذ َب ُحس ُ‬ ‫ُ‬ ‫��ق ه��و‬ ‫�نـ ُه‬ ‫يُن�� ُه أعراب��ا‬ ‫عرًب��ا وز ّك��ى ُ ْ‬

‫احل��ب َيب��دأ‬ ‫و‬ ‫بالقل��وب فكّلم��ا‬ ‫ُّ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫وج��دت‬ ‫(بان��ت س��عادُ)‬ ‫قلب��ك ذاب��ا‬ ‫‪94‬‬

‫‪95‬‬


‫إلى رسول اهلل‬

‫إلى رسول اهلل‬

‫العدد ‪ 2‬رجب ‪1439‬هـ‬

‫ُ‬ ‫الطري��ق ُمطَّوًق��ا حبمام��ٍة‬ ‫كان‬ ‫تبـ��ن ُع ًّش��ا ب��ل بـ َ‬ ‫�نـ ْت حمراب��ا‬ ‫مل ِ‬

‫قصيدة‬

‫ّ‬ ‫الشاعر أنـس الـدغـيم‬

‫بـيـ��ن َ‬ ‫ش�� ّت َ‬ ‫�ين ِنـ��صابا‬ ‫ان‬ ‫َ‬ ‫املالك ْ ِ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ميلك��ون ِرقاب��ا‬ ‫القل��وب و‬ ‫مل��ك‬ ‫َ‬ ‫وملك ُ‬ ‫��رام قليَل��ه‬ ‫��ت م��ن ه��ذا الغ ِ‬

‫فاس��تفَتحا بقليل��ِه األبواب��ا‬

‫قلبـ��ي وعقلي‪ ،‬والق��وايف من ُذ ْ‬ ‫أن‬ ‫زم ْلَته��ا تتصيّ�� ُد ال ُك ّتاب��ا‬ ‫ّ‬

‫إىل َر ُسولِاهلل‬ ‫المس�� ُته أو ِك ُ‬ ‫��دت ل��وال ْ‬ ‫أن رأى‬ ‫بُرهاَن��ه قلبـ��ي فع��اَد وتاب��ا‬ ‫َو َصف��ا إن��ا ُء ا ُ‬ ‫��ب‪َّ ،‬‬ ‫زجاج�� ُه‬ ‫رق‬ ‫حل ِّ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫رأي��ت وم��ا‬ ‫ح ّت��ى‬ ‫رأي��ت ش��رابا‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫لك��ن م��اًء‬ ‫س��ال أو كامل��ا ِء ِم��ن؛‬ ‫فش َّ‬ ‫وعل��ى حواش��يِه َ‬ ‫��ف وطاب��ا‬

‫ال ُح َ‬ ‫��زن في��ِه معيّ�� ُة امل��وىل هن��ا‬ ‫��س األعصاب��ا‬ ‫ب��دم ال ّرض��ا‬ ‫ّ‬ ‫تتحس ُ‬ ‫ِ‬

‫ح��اف وم��ا ِم��ن حّب��ٍة يف م ّك��ٍة‬ ‫ٍ‬ ‫دم��ا و َعذاب��ا‬ ‫مل‬ ‫ِ‬ ‫حيتمْ��ل عنه��ا ً‬

‫ّل ِّ‬ ‫الدنـ��يا و أو َ‬ ‫ع��ا ٍر ع��ن ّ‬ ‫كل‬ ‫��ارج باب��ا‬ ‫هلل ) يفت ُ‬ ‫( بســ��م ا ِ‬ ‫��ح يف املَع ِ‬

‫[‪],,,,‬‬

‫اخل ُّ‬ ‫ع��م اإلدا ُم َ‬ ‫��ل‬ ‫اص�� ٌر‬ ‫َ‬ ‫حيـ��ن ُم َ‬ ‫ِن َ‬ ‫يف ِّ‬ ‫يفت��ح‬ ‫��ع ِب‬ ‫للجي��اع ِش��عابا‬ ‫ُ‬ ‫الش ْ‬ ‫ِ‬

‫عّل ُ‬ ‫يـن مدائحي‬ ‫قت بـيـ َ‬ ‫��ن ُ‬ ‫البدَت ِ‬ ‫س��واي َيعَل ُ‬ ‫و‬ ‫��ق غ��ادًة و َكعاب��ا‬ ‫َ‬

‫أرجع ُت فيِه ّ‬ ‫الط َ‬ ‫رف و استـ��رجع ُت ُه‬ ‫ْ‬ ‫يـ��ن‬ ‫فغ��اب في��ِه وآب��ا‬ ‫َ‬ ‫يف ك ّرَت ِ‬

‫م��ا َ‬ ‫كان َع ّ‬ ‫اس ِل‬ ‫يؤم��ن قلُب�� ُه‬ ‫َ‬ ‫��د ٌ‬ ‫الس َّ‬ ‫��ك َر ال ُع ّناب��ا‬ ‫ل��و مل جي��دُه ُّ‬

‫بـيـ��ن منبـ��رِه‬ ‫وموض��ع قبـ�� ِرِه‬ ‫م��ا َ‬ ‫ِ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫خ��ط‬ ‫اجلم��ال لقارِئي��ِه ِكتاب��ا‬

‫أدن��اُه ِم��ن‬ ‫ق��وس اجلالل��ِة قاب��ا‬ ‫ِ‬

‫��س ّ‬ ‫��رف ال��ذي بايع ُت��ه‬ ‫الط ِ‬ ‫ال ناع َ‬ ‫��ت‪ ،‬و مل ُ‬ ‫��وم كن َ‬ ‫الس��يّابا‬ ‫أك ّ‬ ‫يف ال ّن ِ‬

‫َ‬ ‫إّن��ي وم��ا ُعِّل ْم ُ‬ ‫��ت‬ ‫منط��ق طائ��ر‬ ‫َ‬ ‫بذك��رك َجيئ��ًة و ذهاب��ا‬ ‫أش��دو‬ ‫عط��رُه‬ ‫هلل ط ْبـ��عُ ال��ورِد ُيف��ي‬ ‫ِ‬ ‫َ‬

‫ويُقي�� ُم ِم��ن ألوان��ِه ُح ّجاب��ا‬

‫َّ‬ ‫فتح��درت ِم ْ‬ ‫��د‬ ‫حاول ُت�� ُه‬ ‫��ن ال َي ٍ‬ ‫قطراُت�� ُه‪َ ،‬ف َض َمم ُت�� ُه فا ْن َس��ابا‬

‫[‪],,,,‬‬ ‫اجلبل��ي مل ُ‬ ‫يف غ��ا ِرِه‬ ‫ي��ك خالًي��ا‬ ‫ِّ‬ ‫كان امل��دى يتعّل�� ُم اإلعراب��ا‬

‫ِم��ن ( ُق ْ��م فأن��ذ ْر) مل يُد ِّث ْ��ر عيـ َ�نـ ُه‬ ‫��ر عارًي��ا و ُمصاب��ا‬ ‫ن��و ٌم و د ّث َ‬

‫ف��كأن ّ‬ ‫ّ‬ ‫كل مهاج�� ٍر يف أ ْو ِس��ِه‬ ‫ْ‬ ‫أصبحت َخّبابا‬ ‫يثـرب )‬ ‫( سع ٌد ) و ( َ‬

‫األس��ودان عل��ى خريط��ِة َفق��رِه‬ ‫ِ‬ ‫ع��ان َمآِذن��ا و ِقباب��ا‬ ‫يتو ّز ِ‬

‫كان ُّ‬ ‫جوف َ‬ ‫ما َ‬ ‫الفرا‬ ‫كل ّ‬ ‫يد يف ِ‬ ‫الص ِ‬ ‫ّ��ن واِت��ري فأصاب��ا‬ ‫ح ّت��ى متع َ‬

‫��رأت عل��ى يدِه ّ‬ ‫��عوب ومل ْ‬ ‫ق ْ‬ ‫يزل‬ ‫الش ُ‬ ‫يف ِّ‬ ‫كل س��ط ٍر يش��ر ُح اآلداب��ا‬

‫َم��ن ص��اَغ ِم��ن َ ْ‬ ‫كم��ن‬ ‫ت�� ٍر ُس ً‬ ‫��واعا ال َ‬ ‫با ُ‬ ‫��ب‬ ‫واإلمي��ان ص��اَغ ش��بابا‬ ‫حل ِّ‬ ‫ِ‬

‫ُ‬ ‫تتف��اوت األق��دا ُر بال ّتق��وى وال‬ ‫َ‬ ‫يتفاوت��ون ُن ًه��ى وال أنس��ابا‬

‫ُصِن ْ‬ ‫كؤوس ُه‬ ‫حيق ُ‬ ‫��ن ال ّر ِ‬ ‫عت على عيـ ِ‬ ‫ّ‬ ‫ش��ر َح ْت ب��ِه األس��بابا‬ ‫فكأن��ا َ‬

‫ه��ذا الف��ؤا ُد أن��ا ال��ذي خّبْأُت��ه‬ ‫��ك فص َ‬ ‫ع��ن مقلَتي َ‬ ‫��ادف األهداب��ا‬

‫ّات‬ ‫ويومه��ا‬ ‫ال��وداع ) َ‬ ‫ي��ا ( ِم��ن ثنـ��ي ِ‬ ‫ِ‬ ‫ي��ا راكًب��ا ال يُش��ب ُه ال ُّر ّكاب��ا‬

‫س��بحان َم��ن أس��رى ب��ه ً‬ ‫َ‬ ‫وم��ن‬ ‫لي�لا َ‬ ‫ليخص َ‬ ‫و ارَت َّ‬ ‫��د ِم��ن أعل��ى‬ ‫��ف نعَل�� ُه‬ ‫ِ‬

‫ْ‬ ‫ف��س ال تـ��رقى إذا مل‬ ‫تقتـ��رف‬ ‫وال ّن ُ‬ ‫الس��جوِد ُتراب��ا‬ ‫ب ُقب��اَء ِم��ن أَث�� ِر ُّ‬

‫ض��ج ِرداؤُه‬ ‫ي��وَم التق��ى‬ ‫اجلمع��ان ّ‬ ‫ِ‬

‫بدعائ��ِه ودع��ا اخلص��و ُم َس��رابا‬

‫العدد ‪ 2‬رجب ‪1439‬هـ‬

‫َ‬ ‫بال ُع��دوِة ّ‬ ‫عريش�� ُه‬ ‫الدنـ��يا أق��اَم‬ ‫َ‬ ‫أس��فل من�� ُه خ��اَر وخاب��ا‬ ‫ك��ب‬ ‫وال ّر ُ‬

‫َ‬ ‫أحيي��ت‬

‫بالق��رآن‬ ‫ِ‬

‫إنسانـ�� ّيًة‬

‫وتقامس��وا دُنـ��يا ال��ورى أقطاب��ا‬

‫ل��و أّنهم عرف َ‬ ‫��وك العتاض��وا عن الـ‬

‫ُ‬ ‫واجمل��د ال يُؤت��ى ملَ ْ‬ ‫��ن مل يأِت��ِه‬ ‫��د ُر املعال��ي أن ُتق��اَد ِغالب��ا‬ ‫َق َ‬

‫ّم يامسيـ ً‬ ‫واحل��راب ُحباب��ا‬ ‫�نـا‬ ‫ِ‬ ‫دِ‬

‫ِم��ن‬ ‫بع��ده األزالَم واألنصاب��ا‬ ‫ِ‬

‫وألسس��وا للخيـ�� ِر‬ ‫أعظ��م دول��ٍة‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫الص ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫قي��ل ِقراب��ا‬ ‫ص��احل‬ ‫وَل‬ ‫الس��يف ّ‬

‫م��ا كان ّ‬ ‫للطلق��ا ِء ْ‬ ‫يستقس��موا‬ ‫أن‬ ‫ِ‬

‫ملّ��ا عف��ا وه��و املَُق َّ‬ ‫��د ُر رمح��ًة‬ ‫وبك��ى هل��م و ه��و العزي�� ُز َجناب��ا‬ ‫ي��ا أيه��ا ال ّري�� ُم ال��ذي مل‬ ‫يستتـ��ر‬ ‫ْ‬ ‫طال��ب ال يُش��ب ُه ُّ‬ ‫ع��ن‬ ‫الطّلب��ا‬ ‫ٍ‬

‫م��ا ّ‬ ‫ح��ل أزراَر‬ ‫البـ�نـفسج زائ�� ٌر‬ ‫ِ‬ ‫ّ‬ ‫وش��ق عل��ى‬ ‫إال‬ ‫األري��ج ثياب��ا‬ ‫ِ‬ ‫ّدا‬ ‫��دا ي��ا رمح��ًة‬ ‫وحمم ً‬ ‫ي��ا س��ي ً‬ ‫ّ‬ ‫للعامليـ��ن و ِنعم��ًة وَثواب��ا‬ ‫َ‬

‫كان ص��د ٌر مث َ��ل ص َ‬ ‫م��ا َ‬ ‫��درك عام ً��را‬ ‫با ُ‬ ‫��ب‪ ،‬ه��م َم��ن ص ّ��دروا اإلرهاب��ا‬ ‫حل ِّ‬

‫هلل يف أرواحن��ا‬ ‫��ر َت َ‬ ‫آي ا ِ‬ ‫كوَث ْ‬ ‫و ختندق��وا ِم��ن حولن��ا أحزاب��ا‬

‫[‪],,,,‬‬ ‫��ن مل أخ َ ْ‬ ‫مجل ُ‬ ‫�تر ل��ه‬ ‫��ت ِش��عري حيـ َ‬ ‫ّ‬ ‫كأس َ‬ ‫��ك ُس�� ّك ًرا و ُرضاب��ا‬ ‫م��ن غيـ�� ِر ِ‬

‫ي��ا ليتنـ��ي أُ ُح�� ٌد أَو اّن��ي فوَق�� ُه‬ ‫��ب‪ ،‬وحّب ٌ‬ ‫��ة َتَتصاب��ى‬ ‫ي ُّ‬ ‫حج�� ٌر ُ َ‬ ‫ُ‬ ‫بالغ��ت يف ه��ذا ال ُّدُن�� ِّو ومل وال‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫بلغ��ت وال‬ ‫كعًب��ا‬ ‫بلغ��ت ِكالب��ا‬ ‫ْ‬

‫م��ا كان ربّ��ي أن ي ّ‬ ‫ُع��ذ َب ش��يبًة‬ ‫حبّب َ‬ ‫ْ‬ ‫��ك ش��ابا‬ ‫ش��ابت ب��ِه ودم��ي ُ‬ ‫[‪],,,,‬‬

‫��م الفق��راَء و األصحاب��ا‬ ‫ُطاع َ‬ ‫وي ِ‬

‫ُخُل ٌ‬ ‫��ق ّ‬ ‫كأن ال��َود َ‬ ‫ْق م��ن أعطا ِف��ِه‬

‫وخالِل��ِه يُه��دي الوج��وَد َس��حابا‬ ‫ِ‬

‫ُخُل ٌ‬ ‫الق��رآن ّ‬ ‫ه��ذ َب ُحس ُ‬ ‫ُ‬ ‫��ق ه��و‬ ‫�نـ ُه‬ ‫يُن�� ُه أعراب��ا‬ ‫عرًب��ا وز ّك��ى ُ ْ‬

‫احل��ب َيب��دأ‬ ‫و‬ ‫بالقل��وب فكّلم��ا‬ ‫ُّ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫وج��دت‬ ‫(بان��ت س��عادُ)‬ ‫قلب��ك ذاب��ا‬ ‫‪94‬‬

‫‪95‬‬


‫ثقافة النصر‬

‫العدد ‪ 2‬رجب ‪1439‬هـ‬

‫ثقافة النصر‬ ‫الدكتور عبد الكريم بكار‬

‫عضو األمانة العامة للمجلس اإلسالمي السوري‬

‫املقصــود بالثقافــة هنــا مجموعــة األفــكار واملفاهيــم‬ ‫واملالحظات واإلحاالت الذهنـية والشعورية والعادات املتعلقة‬ ‫بمســائل النصــر والهزيمــة‪.‬‬ ‫الثقافــة تشــكل الخلفيــة العميقــة لــكل القــرارات الت ــي نتخذهــا‬ ‫فــي صراعنــا مــع العــدو‪ ،‬وإن ــي فــي هــذه املقاربــة أود التحــدث عــن‬ ‫َّ‬ ‫جوهريتـيـن‪.‬‬ ‫نقطتـي ــن‬ ‫األولــى‪ :‬وهــي متعلقــة بمفهــوم النصــر فــي حــس معظــم العــرب‬ ‫واملسلمي ــن اليــوم‪ ،‬وال ســيما علــى املســتوى الشعب ـ ّ ِـي أو مــا دون‬ ‫النخبــو ّي ‪.‬‬ ‫الثان ــية‪ :‬وهــي تتمحــور حــول متطلبــات النصــر الحرب ـ ّـي وشــروطه‬ ‫ّ‬ ‫وكيفيــة تعامــل الوعــي املســلم معهــا‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫الثقافيــة حــول املعنــى‬ ‫إن مــن الواضــح أن مــا اســتقر فــي أعرافنــا‬ ‫املحـ ّ‬ ‫ـوري لكلمــة النصــر هــو النصــر الحرب ــي‪ ،‬فــإذا طلــب منــك‬ ‫أحــد ّ‬ ‫النــاس الدعــاء بالنصــر فهــو يعن ــي النصــر العســكر َّي علــى‬ ‫األعــداء ليــس أكث ــر‪ ،‬وهــذا التخصيــص للمعنــى مــوروث مــن الثقافــة‬ ‫الســائدة عب ــر القــرون املاضيــة‪ ،‬وال ســيما الحقبــة العثمان ـ ّـية حيــث‬ ‫َّ‬ ‫ُّ‬ ‫الشــاغل َّ‬ ‫للدولــة‪.‬‬ ‫كان النصــر العســكري هــو الشــغل‬ ‫منــا هللا تعالــى ّ‬ ‫مــن النــادر اليــوم أن يســأل الواحــد َّ‬ ‫النصــر ويقصــد بــه‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫النصــر علــى ُّ‬ ‫النفــوس ّ‬ ‫األمــارة ُّ‬ ‫بالســوء أو النصــر فــي ميادي ــن الترب ــية‬ ‫ِ‬ ‫والسياســة واالقتصــاد واالجتمــاع واإلبــداع واالخت ـراع َّ‬ ‫ّ‬ ‫والتنظيــم‪...‬‬ ‫وهــذا التمركــز ‪ -‬بقطــع َّ‬ ‫النظــر عــن أســبابه ‪ -‬خطي ــر للغايــة‪ ،‬حيــث‬ ‫ّإن النصــر العســكر ّي يســتند اليــوم إلــى االقتصــاد والسياســة‬ ‫واإلبــداع فــي املعــدات الحرب ـ ّـية وحســاب مصالــح اإلقليــم واملصالــح‬ ‫َّ‬ ‫الد ّ‬ ‫وليــة‪ ،‬كمــا يســتند إلــى املشــروعية الدوليــة‪ ...‬ومــا ذلــك إال ألن‬ ‫ً‬ ‫الص ـراع بـي ــننا وبـي ــن أعدائنــا ليــس صر ً‬ ‫اعــا عسـ ًّ‬ ‫ـكريا معــزول وإنمــا‬ ‫هــو صـراع حضــار ٌّي شــامل‪ ،‬وليــس القتــال ســوى أداة صغي ــرة وقــد‬

‫ّ‬ ‫ـدودا للغايــة‪َّ ،‬‬ ‫ـوء إليهــا اليــوم محـ ً‬ ‫اللجـ ُ‬ ‫ألن مــا ت ــريده دولــة مــن‬ ‫صــار‬ ‫ُ‬ ‫ناوئــة أو منافسـ ٍـة فــي هــذه األيــام ‪ -‬علــى العمــوم الغالــب ‪-‬‬ ‫دولــة م ِ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ليــس األرض؛ وإنمــا املــواد األوليــة الرخيصــة واألســواق املفتوحــة‬ ‫للمنتجــات والصــادرات‪.‬‬ ‫مــن املهــم اليــوم أن يــدرك ٌّ‬ ‫كل ِمــن العــرب واملسلمي ــن أن النصــر‬ ‫العســكر َّي الــذي يتطلعــون إليــه لــن يكــون لــه أي فائــدة مــا لــم‬ ‫يتخلصــوا مــن التخلــف املخيــم علــى معظــم جوانــب حيات ــهم‪ ...‬فمــن‬ ‫يعجــز عــن إدارة شــؤونه فــي بــاده علــى نحــو ّ‬ ‫جيــد ســيكون عجــزه‬ ‫ِ‬ ‫أشـ َّـد عــن إدارة شــؤون شــعوب يبســط ســلطانه عليهــا‪.‬‬ ‫أما مســألة شــروط النصر العســكري وأســبابه ومقدماته وموانعه؛‬ ‫فلــدى الوعــي املســلم الكثي ــر مــن االضطـراب فــي التعامــل معهــا؛ مــع‬ ‫أن القـرآن الكريــم وضــح فــي غــزوة أحــد وفــي غــزوة حنـي ــن وغي ــرهما‬ ‫مــن الغــزوات الكثي ــر مــن ذلــك‪ ،‬كمــا أن الســلوك الشـ َّ‬ ‫ـخ�صي للنب ـ ّ ِـي‬ ‫يوضــح شــروط َّ‬ ‫صلــى هللا عليــه وسـ ّـلم ّ‬ ‫النصــر علــى نحــو تــام‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫حي ــن يكــون لديــك مئــة جيــش وكل جيــش يفتــح معركــة فــي الوقــت‬ ‫ّ‬ ‫ـدوك جيــش واحــد خاضــع لقيــادة‬ ‫الــذي ي ــريد‪ ،‬ويكــون لــدى عـ ِ‬ ‫ّ‬ ‫َّ‬ ‫ـدوك طي ـران وال يكــون لديــك‪ ،‬ويكــون‬ ‫مركزيــة‪ ،‬وحي ــن يكــون لــدى عـ ِ‬ ‫ُ‬ ‫ُ ّ‬ ‫ؤمنــه مــن‬ ‫لديــه جهــاز اســتخبار ٍ‬ ‫ات وحلفـ ُـاء يدعمونــه؛ بســبب مــا ي ِ‬ ‫مصالحهــم‪ ،‬وال يكــون لديــك �شــيء مــن ذلــك؛ فــإن النصــر ســيكون‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫حليفــه وليــس حليفــك‪ ،‬ألنــه أخــذ باألســباب املفضيــة إلــى النصــر‬ ‫ولــم تأخــذ أنــت‪...‬‬ ‫ّ‬ ‫فكريــة شــجاعة ملراجعــة ثقافــة‬ ‫إننــا فــي حاجــة إلــى وقفــة‬

‫النصــر‪ ،‬والعمــل علــى ت ــرسيخ ثقافــة جديــدة تتــاءم مــع‬ ‫عقيدتنــا وآداب شــرعيتنا‪ ،‬وهلل األمــر مــن قبــل ومــن بعــد‪.‬‬

‫‪96‬‬

‫مــع بدايــة الثــورة الســورية املباركــة تشــكلت فــي الداخــل الســوري الهيئــات والروابــط الشــرعية لتســد الفـراغ الحاصــل‬ ‫مــن غيــاب مؤسســات الدولــة وانحســارها فــي املناطــق املحــررة‪ ،‬علــى صعيــد آخــر شــهد عــام ‪ 2011‬مبــادرات إليجــاد كيــان‬ ‫جامــع ّ‬ ‫موحــد مــن قبــل العلمــاء والروابــط الت ــي أجب ــرها النظــام علــى االغت ـراب‪ ..‬وعلــى خطــى التوحيــد اجتمــع نحــو ‪40‬‬ ‫ِ‬ ‫رابطــة وهيئــة شــرعية فــي منتصــف نيســان ‪ ،2014‬ليعلنــوا تأســيس «املجل ــس اإلس ــامي الس ــوري»‪ ،‬الــذي ضــم العلمــاء‬ ‫ً‬ ‫والهيئــات الشــرعية والروابــط العلميــة الســورية‪ ،‬ليكــون ق ـر ًارا مشت ــركا يعب ــر عــن إرادة موحــدة لرمــوز املــدارس الفكريــة‬ ‫اإلســامية املعتدلــة فــي ســوريا ‪.‬‬

‫الهوية‬ ‫هيئــة مرجعيــة شــرعية وســطية ســورية‪ ،‬تســعى إلــى جمــع كلمــة العلمــاء والدعــاة وممثلــي الكيانــات الشــرعية‪ ،‬وتوجيــه الشــعب‬ ‫الســوري‪ ،‬وإيجــاد الحلــول الشــرعية ملشــكالته وقضايــاه‪ ،‬والحفــاظ علــى هويتــه ومســار ثورتــه‪.‬‬

‫الرسالة‬ ‫تـرسيخ املشروع اإلسالمي وتفعيل دور املؤسسة الديـنية في املجتمع السوري‪.‬‬

‫الرؤية‬ ‫تمكيـن املرجعية اإلسالمية للشعب السوري من االضطالع بدورها الريادي في املجتمع‪.‬‬


‫ثقافة النصر‬

‫العدد ‪ 2‬رجب ‪1439‬هـ‬

‫ثقافة النصر‬ ‫الدكتور عبد الكريم بكار‬

‫عضو األمانة العامة للمجلس اإلسالمي السوري‬

‫املقصــود بالثقافــة هنــا مجموعــة األفــكار واملفاهيــم‬ ‫واملالحظات واإلحاالت الذهنـية والشعورية والعادات املتعلقة‬ ‫بمســائل النصــر والهزيمــة‪.‬‬ ‫الثقافــة تشــكل الخلفيــة العميقــة لــكل القــرارات الت ــي نتخذهــا‬ ‫فــي صراعنــا مــع العــدو‪ ،‬وإن ــي فــي هــذه املقاربــة أود التحــدث عــن‬ ‫َّ‬ ‫جوهريتـيـن‪.‬‬ ‫نقطتـي ــن‬ ‫األولــى‪ :‬وهــي متعلقــة بمفهــوم النصــر فــي حــس معظــم العــرب‬ ‫واملسلمي ــن اليــوم‪ ،‬وال ســيما علــى املســتوى الشعب ـ ّ ِـي أو مــا دون‬ ‫النخبــو ّي ‪.‬‬ ‫الثان ــية‪ :‬وهــي تتمحــور حــول متطلبــات النصــر الحرب ـ ّـي وشــروطه‬ ‫ّ‬ ‫وكيفيــة تعامــل الوعــي املســلم معهــا‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫الثقافيــة حــول املعنــى‬ ‫إن مــن الواضــح أن مــا اســتقر فــي أعرافنــا‬ ‫املحـ ّ‬ ‫ـوري لكلمــة النصــر هــو النصــر الحرب ــي‪ ،‬فــإذا طلــب منــك‬ ‫أحــد ّ‬ ‫النــاس الدعــاء بالنصــر فهــو يعن ــي النصــر العســكر َّي علــى‬ ‫األعــداء ليــس أكث ــر‪ ،‬وهــذا التخصيــص للمعنــى مــوروث مــن الثقافــة‬ ‫الســائدة عب ــر القــرون املاضيــة‪ ،‬وال ســيما الحقبــة العثمان ـ ّـية حيــث‬ ‫َّ‬ ‫ُّ‬ ‫الشــاغل َّ‬ ‫للدولــة‪.‬‬ ‫كان النصــر العســكري هــو الشــغل‬ ‫منــا هللا تعالــى ّ‬ ‫مــن النــادر اليــوم أن يســأل الواحــد َّ‬ ‫النصــر ويقصــد بــه‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫النصــر علــى ُّ‬ ‫النفــوس ّ‬ ‫األمــارة ُّ‬ ‫بالســوء أو النصــر فــي ميادي ــن الترب ــية‬ ‫ِ‬ ‫والسياســة واالقتصــاد واالجتمــاع واإلبــداع واالخت ـراع َّ‬ ‫ّ‬ ‫والتنظيــم‪...‬‬ ‫وهــذا التمركــز ‪ -‬بقطــع َّ‬ ‫النظــر عــن أســبابه ‪ -‬خطي ــر للغايــة‪ ،‬حيــث‬ ‫ّإن النصــر العســكر ّي يســتند اليــوم إلــى االقتصــاد والسياســة‬ ‫واإلبــداع فــي املعــدات الحرب ـ ّـية وحســاب مصالــح اإلقليــم واملصالــح‬ ‫َّ‬ ‫الد ّ‬ ‫وليــة‪ ،‬كمــا يســتند إلــى املشــروعية الدوليــة‪ ...‬ومــا ذلــك إال ألن‬ ‫ً‬ ‫الص ـراع بـي ــننا وبـي ــن أعدائنــا ليــس صر ً‬ ‫اعــا عسـ ًّ‬ ‫ـكريا معــزول وإنمــا‬ ‫هــو صـراع حضــار ٌّي شــامل‪ ،‬وليــس القتــال ســوى أداة صغي ــرة وقــد‬

‫ّ‬ ‫ـدودا للغايــة‪َّ ،‬‬ ‫ـوء إليهــا اليــوم محـ ً‬ ‫اللجـ ُ‬ ‫ألن مــا ت ــريده دولــة مــن‬ ‫صــار‬ ‫ُ‬ ‫ناوئــة أو منافسـ ٍـة فــي هــذه األيــام ‪ -‬علــى العمــوم الغالــب ‪-‬‬ ‫دولــة م ِ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ليــس األرض؛ وإنمــا املــواد األوليــة الرخيصــة واألســواق املفتوحــة‬ ‫للمنتجــات والصــادرات‪.‬‬ ‫مــن املهــم اليــوم أن يــدرك ٌّ‬ ‫كل ِمــن العــرب واملسلمي ــن أن النصــر‬ ‫العســكر َّي الــذي يتطلعــون إليــه لــن يكــون لــه أي فائــدة مــا لــم‬ ‫يتخلصــوا مــن التخلــف املخيــم علــى معظــم جوانــب حيات ــهم‪ ...‬فمــن‬ ‫يعجــز عــن إدارة شــؤونه فــي بــاده علــى نحــو ّ‬ ‫جيــد ســيكون عجــزه‬ ‫ِ‬ ‫أشـ َّـد عــن إدارة شــؤون شــعوب يبســط ســلطانه عليهــا‪.‬‬ ‫أما مســألة شــروط النصر العســكري وأســبابه ومقدماته وموانعه؛‬ ‫فلــدى الوعــي املســلم الكثي ــر مــن االضطـراب فــي التعامــل معهــا؛ مــع‬ ‫أن القـرآن الكريــم وضــح فــي غــزوة أحــد وفــي غــزوة حنـي ــن وغي ــرهما‬ ‫مــن الغــزوات الكثي ــر مــن ذلــك‪ ،‬كمــا أن الســلوك الشـ َّ‬ ‫ـخ�صي للنب ـ ّ ِـي‬ ‫يوضــح شــروط َّ‬ ‫صلــى هللا عليــه وسـ ّـلم ّ‬ ‫النصــر علــى نحــو تــام‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫حي ــن يكــون لديــك مئــة جيــش وكل جيــش يفتــح معركــة فــي الوقــت‬ ‫ّ‬ ‫ـدوك جيــش واحــد خاضــع لقيــادة‬ ‫الــذي ي ــريد‪ ،‬ويكــون لــدى عـ ِ‬ ‫ّ‬ ‫َّ‬ ‫ـدوك طي ـران وال يكــون لديــك‪ ،‬ويكــون‬ ‫مركزيــة‪ ،‬وحي ــن يكــون لــدى عـ ِ‬ ‫ُ‬ ‫ُ ّ‬ ‫ؤمنــه مــن‬ ‫لديــه جهــاز اســتخبار ٍ‬ ‫ات وحلفـ ُـاء يدعمونــه؛ بســبب مــا ي ِ‬ ‫مصالحهــم‪ ،‬وال يكــون لديــك �شــيء مــن ذلــك؛ فــإن النصــر ســيكون‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫حليفــه وليــس حليفــك‪ ،‬ألنــه أخــذ باألســباب املفضيــة إلــى النصــر‬ ‫ولــم تأخــذ أنــت‪...‬‬ ‫ّ‬ ‫فكريــة شــجاعة ملراجعــة ثقافــة‬ ‫إننــا فــي حاجــة إلــى وقفــة‬

‫النصــر‪ ،‬والعمــل علــى ت ــرسيخ ثقافــة جديــدة تتــاءم مــع‬ ‫عقيدتنــا وآداب شــرعيتنا‪ ،‬وهلل األمــر مــن قبــل ومــن بعــد‪.‬‬

‫‪96‬‬

‫مــع بدايــة الثــورة الســورية املباركــة تشــكلت فــي الداخــل الســوري الهيئــات والروابــط الشــرعية لتســد الفـراغ الحاصــل‬ ‫مــن غيــاب مؤسســات الدولــة وانحســارها فــي املناطــق املحــررة‪ ،‬علــى صعيــد آخــر شــهد عــام ‪ 2011‬مبــادرات إليجــاد كيــان‬ ‫جامــع ّ‬ ‫موحــد مــن قبــل العلمــاء والروابــط الت ــي أجب ــرها النظــام علــى االغت ـراب‪ ..‬وعلــى خطــى التوحيــد اجتمــع نحــو ‪40‬‬ ‫ِ‬ ‫رابطــة وهيئــة شــرعية فــي منتصــف نيســان ‪ ،2014‬ليعلنــوا تأســيس «املجل ــس اإلس ــامي الس ــوري»‪ ،‬الــذي ضــم العلمــاء‬ ‫ً‬ ‫والهيئــات الشــرعية والروابــط العلميــة الســورية‪ ،‬ليكــون ق ـر ًارا مشت ــركا يعب ــر عــن إرادة موحــدة لرمــوز املــدارس الفكريــة‬ ‫اإلســامية املعتدلــة فــي ســوريا ‪.‬‬

‫الهوية‬ ‫هيئــة مرجعيــة شــرعية وســطية ســورية‪ ،‬تســعى إلــى جمــع كلمــة العلمــاء والدعــاة وممثلــي الكيانــات الشــرعية‪ ،‬وتوجيــه الشــعب‬ ‫الســوري‪ ،‬وإيجــاد الحلــول الشــرعية ملشــكالته وقضايــاه‪ ،‬والحفــاظ علــى هويتــه ومســار ثورتــه‪.‬‬

‫الرسالة‬ ‫تـرسيخ املشروع اإلسالمي وتفعيل دور املؤسسة الديـنية في املجتمع السوري‪.‬‬

‫الرؤية‬ ‫تمكيـن املرجعية اإلسالمية للشعب السوري من االضطالع بدورها الريادي في املجتمع‪.‬‬



Issuu converts static files into: digital portfolios, online yearbooks, online catalogs, digital photo albums and more. Sign up and create your flipbook.