Portal 9 Issue #2 The Square Arabic

Page 1

‫البّوابة التّاسعة‬ ‫مقاﻻت اﳌدينة وأخبارها‬

‫الساحة البريوتّية الطارئة مركز اﳌواصﻼت الفوضوي‬ ‫بلغراد وسلطة الضجيج‬ ‫مسارات ميدان التحرير القاهري‬ ‫الديوانّيات وفسحات الكويت البديلة‬ ‫كوناوت بﻼيس ﰲ نيودلهي مكان الزمن الدائرّي‬ ‫تأّمﻼت منفيّ برازيﲇ ﰲ ساحة باريسيّة‬ ‫وذكريات من حلب اﳌحاﴏة بالدمار‬

‫الﱠساحة‬

‫العدد الثاين ربيع ‪2013‬‬


‫الساحة العدد الثاني ربيع ‪2013‬‬ ‫ّ‬

‫العدد الثّاين‬

‫املحتويات‬ ‫ربيع ‪2013‬‬

‫إفتتاح ّية‬ ‫ ‪5‬‬

‫الساحة‬ ‫ّ‬

‫ ‬ ‫ ‬

‫أسئلة كثرية تبقى يف طور التشكّل ما دام الحدث ‬ ‫يف الساحات‪ ،‬أو يف أشباهها‪ ،‬ال ّ‬ ‫ينفك يتفاعل‪.‬‬

‫ ‬

‫محاورة‬

‫فادي طفييل‬

‫‪ 62‬‬

‫مخططات تبتلعها األرض‬

‫ ‬ ‫ ‬

‫محادثة مع ُمخ َِطط مدينة أبو ظبي عبد الرحمن ‬ ‫مخلوف‪.‬‬

‫ ‬

‫مرو ّيات‬ ‫‪ 11‬‬

‫ ‬

‫املط ِّوف‬

‫الحضارة يف مواجهة االبتذال‬

‫‪ 79‬‬

‫غورانا فويزيتش – شيربد‬

‫ ‬

‫ سلطة الضجيج الذي أص ّم اآلذان يف شوارع بلغراد‪.‬‬ ‫‪ 23‬‬

‫ ‬

‫تود رايس‬

‫مكان الزمن الدائري‬

‫وسام سعادة‬

‫ يف "كوناوت باليس"‪ ،‬نيودلهي‪ ،‬يدور املرء حول‬ ‫الساحة ويدور أيضً ا حول نفسه‪.‬‬

‫محطّة للنقل ومواسم للعنف‬

‫طارق أيب سمرا‬

‫كتابات‬

‫ يف منطقة الكوال البريوت ّية يحرض التباسان‪ :‬ساحة‬ ‫عا ّمة ال تبدو مثل الساحات وتسمى باسم معمل‬ ‫مل يعد موجودًا‪.‬‬

‫ البحث عن ميدانٍ للتحرير‬ ‫‪87‬‬

‫وثائق‬

‫ يسألونني إىل أين؟ ال أملك ّإل جوا ًبا واحدًا‪ :‬نبحث‬ ‫عن ساحة التحرير‪.‬‬

‫‪3 5‬‬

‫ ‬

‫ ‬ ‫ ‬

‫ ‬

‫عندما هزم األسد أملا وعنرت‬

‫‪ 93‬‬

‫جورج عربيد‬

‫ ‬

‫تصاميم من املسابقة املعامرية لبناء املتحف ‬ ‫الوطني اللبناين يف عرشينيات القرن املايض‪.‬‬

‫ ‬

‫خُطط‬

‫ ‬

‫ ‬ ‫ ‬

‫فادي طفييل‬

‫اضطراب العامل املحجوب يف جذور ساحة ريف ّية‪.‬‬

‫‪ 101‬ساحة قرص بوربون‬ ‫ماريو سابينو‬

‫أرصاد‬

‫خالد أدهم‬

‫القاهري الذي تراكمت معانيه املكان ّية ‬ ‫امليدان‬ ‫ّ‬ ‫واالقتصاد ّية عرب الزمن‪.‬‬

‫‪ 107‬الفضاء العام وتح ّوالته‬

‫ ‬

‫السلطة‪:‬‬ ‫‪ 49‬مشاهد من ُ‬ ‫تجلّيات االعرتاض يف تونس بن عيل‬ ‫الريسا تشومياك‬ ‫ ‬ ‫ ‬ ‫ ‬

‫عظام‬

‫ يبدو القمر فوق ساحة قرص بوربون صخرة م ّيتة‬ ‫تعكس ضوءها امليت عىل الحجارة امليتة‪.‬‬

‫ منعزل مايئ‪ ،‬طرف‪ ،‬ثم مركز‪:‬‬ ‫‪37‬‬ ‫نشوء ميدان التحرير‬

‫ ‬

‫خالد خليفة‬

‫ ‬

‫لحظات تظاهر وتنظيم م ّهدت الطريق أمام ‬ ‫التونسيني للعودة إىل األمكنة العامة‪.‬‬

‫‪3‬‬

‫ل ّيان الغصني‬

‫فسحات بديلة لبثّ الرؤى واألفكار يف الكويت‪.‬‬


‫البوابة التّاسعة مقاالت المدينة وأخبارها‬ ‫ّ‬

‫للبوابة التّاسعة‬ ‫الغالف الخارجي تفصيل من "ديسكو"‪ ،‬دفتر صبا عنّاب‬ ‫ّ‬

‫‪2‬‬


‫إفتتاحية‬ ‫ّ‬

‫الساحة‬ ‫َّ‬ ‫فادي طفييل‬

‫يتوسط كتل العمران‪ ،‬تربطها بالسيولة‬ ‫تربط اللغة العرب ّية الساحة كمكان‪ ،‬أو كناحية وفضاء ّ‬ ‫اشتق منها اسم الساحة‪،‬‬ ‫يح‪ ،‬العبارة األصل التي ّ‬ ‫والجريان والتنقّل عىل وجه أرض مستوية‪َّ .‬‬ ‫فالس ُ‬ ‫عىل ما يذهب لسان العرب‪ ،‬هو املا ُء الظاهر الجاري عىل وجه األرض‪ .‬والسياحة هي الذهاب‬ ‫يف األرض للعبادة والرت ّهب‪ .‬فإذا ساح املرء فقد َذ َه َب يف الوجهة التي تقوده األرض إليها‪،‬‬ ‫مثل ماء ُس ِف َح‬ ‫وانصب بق ّوة عىل سطح مستوٍ‪ .‬وال يبتع ُد اإلسم العر ّيب الشائع اآلخر للساحة‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫مشتق من َم ْيد التي لها معنيان‪ ،‬أحدهام ّ‬ ‫أي امليدان‪ ،‬كث ًريا عن هذه املعاين‪ .‬إذ إنّه‬ ‫يدل عىل‬ ‫ٌّ‬ ‫ّ‬ ‫حرك ٍة يف اليشء‪ ،‬والثاين عىل نفعٍ وعطاء‪ .‬فإذا ماد اليشء فقد تح ّرك ومال‪ ،‬أو أنّه زاغ وزكا‪.‬‬ ‫وإذا أم َّد فال ٌن فالنًا بيشء فقد أعطاه إيّاه‪ .‬كام تأيت أم ّد أيضً ا مبعنى أوسع وأت ّم‪ .‬واملَيَ َدا ُن هو‬ ‫يحل بأطراف األرض إذ تجري وتتسابق الخيول عليها‪ ،‬وقد غدا امل ْي َدا ُن هذا‪،‬‬ ‫االضطراب الذي ّ‬ ‫اسم لتلك الفسحة الفضاء ملا شكّلته من مرسح عمومي‪ ،‬إذ كانت‬ ‫مع كرس ميمه وتسكني يائه‪ً ،‬‬ ‫الوسطي يف قلب‬ ‫ت ُعرض الخيول فيها وتُستعرض مهارات الفروسيّة‪ .‬أ ّما موقع امليدان (الساحة)‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫املديني "العر ّيب" ‪-‬‬ ‫العمران‪ ،‬وتحدي ًدا يف النموذج‬ ‫"اإلسالمي" متع ّدد األوجه واملتن ّوع كحال‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫العامل اإلسالمي‪ ،‬فَفَرضه موقع مساكن أصحاب املقامات واألعضاء البارزين يف األرستقراط ّية‬ ‫العسكريّة املرتبطني بالحاكم والسلطة‪ .‬وهؤالء‪،‬‬ ‫خصوصا يف الحقبة اململوك ّية يف مرص وسوريا‪،‬‬ ‫ً‬ ‫مثل‪ ،‬هم من خ ُّصصت لهم حول مساكنهم يف أوساط املدن مساحات كبرية للتمرين‪ ،‬ورحاب‬ ‫ً‬ ‫وميادين خيل ت ُعرض فيها فرقهم أو تقام فيها ألعاب الفروسيّة وأسواق الخيل‪ .‬وقد تجاورت‬ ‫تلك املساحات وتضافرت مع ما تطلبته‬ ‫الرصوح الدين ّية املركزيّة يف األوساط من فسحات‬ ‫ُ‬ ‫مستوية‪ ،‬ومقا ُّر الحكم من باحات عروض واستقباالت‪.‬‬ ‫والحال‪ ،‬فإ ّن املعاين هذه كلّها‪ ،‬يف اللغة كام يف مواضع العمران ووقائع االجتامع والسياسة‪،‬‬ ‫بد ًءا من السيولة وجريان املاء والتنقّل والذهاب عىل وجه األرض وما ربطته اللغة بها من‬ ‫دواعي انصباب وعبادة وتر ّهب‪ ،‬وصولً إىل امل َ َيدان والحركة واالضطراب ومظاهر السلطة‬ ‫ومسارحها‪ ،‬لها وشائج ضمنية وثيقة مبا جرى ويجري يف ساحات مدن وبلدات املنطقة العرب ّية‬ ‫ابتدا ًء من كانون األول (ديسمرب) ‪ .2010‬فانطالقًا من تونس ومرص‪ ،‬ثم ليبيا واليمن والبحرين‪،‬‬ ‫فسوريا‪ ،‬وغريها من البلدان بوتائر أقل‪ ،‬راح الناس يف املدن والبلدات‪ ،‬وعىل مدار أيّام وأسابيع‬ ‫وأشهر متتالية وفاقًا إليقاع ناشط غري مسبوق‪ ،‬يخرجون مبجموعات تراوح بني عرشات األفراد‬ ‫ومئات ألوفهم‪ ،‬محاولني جاهدين بلوغ الساحات العا ّمة‪ ،‬متفاوتة األحجام بحسب مقاييس‬ ‫مواقف حاسمة مبارشة ال‬ ‫املدن والبلدات والقرى التي تقع فيها‪ ،‬و ُمعلنني‪ ،‬بأشكال مختلفة‪،‬‬ ‫َ‬ ‫فتَضني يف بلدانهم‬ ‫لبس فيها تتعلّق بأنظمتهم السياسيّة ومستقبلها‪ ،‬وبأحوالهم كمواطنني ُم َ‬ ‫املأزومة‪ .‬كام محاولني تأكيد عالقتهم الوطيدة بالساحات التي بلغوها وانتامئهم األ ّو ّيل إليها‪ ،‬إذ‬

‫‪5‬‬


‫البوابة التّاسعة مقاالت المدينة وأخبارها‬ ‫ّ‬

‫مراجعات ونقد‬

‫‪ 109‬معرض شامل لحسن‬ ‫خان يف اسطنبول‬ ‫أتش دجي ماسرتز‬

‫ تجربة الف ّنان املرصي تُعرض متكاملة‬ ‫يف حارضة البوسفور‪.‬‬ ‫‪ 113‬‬

‫مسح لإلمكانيات يف البيئة املبن ّية‬

‫ِدين شا ْرب‬

‫ ‬

‫ مراجعة كتاب "العامرة والتمدين املعارصين‬ ‫يف الرشق األوسط" ملح ّمد األسد‪.‬‬

‫‪ 117‬هريوشيام متن ّزه السالم‪:‬‬ ‫ب ّوابة إىل مستقبل محفوف باملخاطر‬ ‫يويك سومرن‬

‫ ما عادت "ق ّبة القنبلة" أث ًرا أو طَل ًَل‪ ،‬بل وعاء مصون‬ ‫لخرافة‪ ،‬تحرسه أ ّمة عازمة عىل كتامن األرسار‪.‬‬ ‫ ‬ ‫‪121‬‬

‫ ‬

‫ ‬

‫ األزمنة مل تتب ّدل يف الحقيقة‬ ‫مالو هلسا‬

‫ صندوق التظاهر‪ :‬كتب تظاهرات الستينيات‬ ‫والسبعينيات يف إصدار جديد باذخ‪.‬‬

‫مالحق مرفقة بالنسخة اإلنكليزيّة‬

‫‪ 126‬سبتة ومليلية‪:‬‬ ‫جيبا سيادة أوروبيّة يف املغرب‪.‬‬

‫ ‬

‫ ‬

‫عزيزة الشاعوين وآدم برين وماين تربيزي‬

‫‪ 127‬ديسكو‪ :‬فضاء اليوتوبيا املحفوف ‬ ‫ باملفاجآت واحتامالت التح ّول‬ ‫ ‬

‫صبا ع ّناب‬

‫‪4‬‬


‫البوابة التّاسعة مقاالت المدينة وأخبارها‬ ‫ّ‬

‫عىل مدى عقود افرتضت صدا ًما بني حالتها الطبيع ّية امل ُثابرة وبني أوضاعها املركّبة العالقة‪.‬‬ ‫وهذه وتلك مؤتلفتان‪ ،‬عىل فصامهام‪ ،‬يف الساحات العامة والفسحات املفتوحة‪ .‬وقد تو ّجهت‬ ‫الجامعات إىل هذه األخرية يف محاولة للتعامل مع املسألة‪.‬‬ ‫ث ّم إن الجامعات العربيّة قبل عقد عزمها النها ّيئ عىل التو ّجه إىل الساحات‪ ،‬راحت تتذ ّوق‬ ‫افرتاض ًيا طعم اللقاءات يف فضاء عام مفتوح‪ ،‬وتج ّرب احتامالتها وإمكان ّياتها التغيرييّة من خالل‬ ‫ما أتاحته لها فسحات التواصل االجتامعي وتقنيات االتصاالت املستج ّدة‪ .‬وهي استفادت من‬ ‫ذلك التذ ّوق ومن متارين التواصل يف حركتها الواقعيّة العا ّمة للمطالبة بالتغيري‪ ،‬والتي ال ّ‬ ‫شك‬ ‫يف أنّها أعادت من خاللها تعريف ماهيّة الساحات وأدوارها وذكّرت بالحاجة إليها‪ .‬والسؤال‬ ‫طرح هاهنا‪ ،‬بعد نحو عامني من هذه الحركة‪ ،‬هل ستصيب عمل ّية إعادة التعريف باقي‬ ‫الذي يُ ُ‬ ‫أجزاء املدن والبلدات والبيئات العمران ّية التي تض ّم الساحات يف أوساطها؟ كام مث ّة أسئلة أخرى‬ ‫عبت عمليّة إعادة التعريف هذه عن عودة الحياة إىل الساحة كمكان عام‬ ‫تتبادر‪ ،‬كمثل‪ :‬هل ّ‬ ‫ما ّدي ال غنى عنه للتواصل الفعيل والتعبري وإعادة التأسيس؟ هل أكّدت هذه الحركة دور‬ ‫يك الثابت املفرتض‪ ،‬والذي كان ُمعط ًّل‪ ،‬أم أنّها عملت وستعمل عىل تغيريه؟‬ ‫الساحة الكالسي ّ‬ ‫وهل تشري مظاهر التعامل مع ما هو ليس ساحة يف األصل عىل أنّه ساحة للتج ّمع‪ ،‬إىل الحاجة‬ ‫املل ّحة لوجود األخرية وإحياء دورها؟‬ ‫وأيضً ا هناك أسئلة تتعلّق بتوقيت الحركة نحو الساحات‪ :‬ملاذا اآلن؟ ماذا استج ّد وكيف؟‬ ‫وما هو سياقه ومنطقه التاريخ ّيان؟ وأسئلة أخرى تتعلّق بالعنف وباالحتامل اليسري لتح ّول‬ ‫هذه الساحات إىل مسارح للموت والقتل‪.‬‬ ‫"الب ّوابة التّاسعة" ستسلّط الضوء يف عددها هذا‪ ،‬املتمحور حول الساحات‪ ،‬عىل مسارات‬ ‫هذه الفضاءات املفتوحة‪ ،‬املفعمة باملعاين واألطياف والصور واالحتامالت‪ .‬علّها يف استعراض‬ ‫معبة‬ ‫تجارب ساحات مختلفة يف مدن وبلدات متفاوتة األحجام واملواقع‪ ،‬تستخلص صورة ّ‬ ‫لهذه األمكنة تساهم التفاصيل الحكائ ّية والبحث ّية والف ّن ّية يف توضيح معاملها أكرث فأكرث‪.‬‬

‫‪The Square‬‬ ‫‪Portal 9 page 5‬‬

‫‪7‬‬


‫إفتتاحية‬ ‫ّ‬

‫راحوا يف كثري من األحيان يفرتشون أرضها ويخ ّيمون فيها‪ ،‬أو يهشّ مون ن ُ​ُص ُبها التي اعتربوها زوائد‬ ‫يغيون أسامءها إذا ما اقرتنت تلك األسامء بذلك‬ ‫طارئة إذا ما تعلّقت بحاكم يثورون عليه‪ ،‬أو ّ‬ ‫الحاكم‪ .‬كام راحوا يف حاالت عديدة أخرى ينظّفونها بعد احتشادهم وإقامتهم املرتجلة فيها‪،‬‬ ‫ومتثيل‪،‬‬ ‫ً‬ ‫محاولني إعادتها إىل حالتها "النقيّة" األوىل التي اعتربوها جامعة وأكرث دميوقراطيّة‬ ‫كونهم يف األصل يتح ّركون ضد طغمة حاكمة حرصت السلطة بأفرا ٍد قبضوا عليها بالق ّوة‬ ‫وتوارثوها مع عائالت مق ّربة وحلقات ض ّيقة حولهم‪ .‬وقد حاولت الحشود يف بعض األحيان‬ ‫التعامل مع ما هو ليس ساحة عا ّمة يف األصل‪ ،‬كمثل الد ّوارات التي تربط بني تقاطعات الطرق‪،‬‬ ‫عبة بذلك عن حاجتها لوجود هكذا مساحة ضمن مجالها العمرا ّين‪.‬‬ ‫عىل أنّه ساحة‪ُ ،‬م ّ‬ ‫وذلك بال ريب مشه ٌد كبري ومؤث ّر يساهم يف إثارة أسئلة كثرية ستبقى يف طور التشكّل ما‬ ‫دام الحدث يف الساحات‪ ،‬أو يف أشباهها‪ ،‬ال ّ‬ ‫ينفك يتفاعل وينتقل من طور إىل آخر عىل نحو‬ ‫دراماتي ّ‬ ‫يك حا ّد‪ .‬عىل أن الواضح واملحسوم بالنسبة لنا إىل اآلن‪ ،‬ومنذ البداية يف أواخر ‪ ،2010‬أ ّن‬ ‫ٍ‬ ‫مث ّة ما كان راك ًدا منذ زمن مديد‪ ،‬فجرى‪ ،‬بأساليب مختلفة‪ ،‬التو ّجه لتحريكه ودفعه يك يجري‬ ‫ساح أمامه من حشود عىل وجه األرض املفتوحة‪ .‬إذ إن األخرية‪ ،‬بحسب املحتشدين‬ ‫بفعل ما َ‬ ‫الطبيعي واألصيل‬ ‫واملتح ّركني فيها والذاهبني إليها‪ ،‬يف تلك اللحظة الربيع ّية العرب ّية‪ ،‬هي املكان‬ ‫ّ‬ ‫الذي ينبغي التو ّجه إليه بغية تنفيذ هذه امله ّمة‪ .‬مه ّمة تحريك الراكد املتيبّس وه ّز ‪ ،‬أو دفعه‬ ‫وقذفه وتبديل حالته اليابسة الحجريّة‪.‬‬ ‫املستوى‬ ‫نحن إذن أمام مكان يالئم هذا‬ ‫الجذري من القضايا التي تأتلف يف ط ّياتها‬ ‫ّ‬ ‫مك ّونات كثرية تبدأ من حقوق العيش البديه ّية األوىل (غذاء‪ ،‬سكن‪ ،‬استشفاء ‪ ،)...‬وتبلغ حقوق‬ ‫املواطنة مبستوياتها املتن ّوعة امل ُساهمة يف تشكيل نسق املؤسسات الكربى القامئة بأعمدة‬ ‫مزيج معانٍ‬ ‫الدولة‪ .‬إذ إن الساحة مثّلت عىل مدى األزمنة‪ ،‬يف فضائها العام بني العمران‪َ ،‬‬ ‫تتضافر فيه استعارات الصور الطبيع ّية املفتوحة وتلك املنضبطة واملركّبة‪ ،‬امل ُشرية إىل منت‬ ‫السلطة العا ّمة‪ .‬ومزيج هذين النوعني من الصور واإليحاءات جمع يف مكان واحد استدعاءات‬ ‫التخفّف والحركة مع رمزيّة السلطة املرغوبة الجامعة‪.‬‬ ‫ربا يشري إىل ما استدعى الجامعات العربيّة‪ ،‬أو جامعات ما اصطُلح‬ ‫عىل أن األمر األخري ّ‬ ‫عىل تسميته "الربيع العريب"‪ ،‬يف بلدانها املختلفة‪ ،‬لكن املتشابهة يف إقامة أنظمتها السياس ّية‬ ‫املديدة وامل ُتحكّمة‪ ،‬إىل التح ّرك نحو ساحات املدن والبلدات والقرى‪ ،‬أو نحو ما افرتضوه أنّه‬ ‫قل نظريه يف تاريخها الحديث سوى يف‬ ‫ساحات‪ ،‬منذ كانون األول (ديسمرب) ‪ 2010‬مبشهد ّ‬ ‫حاالت تشييع الزعامء وتوديعهم أو استقبالهم أو مبايعتهم‪ ،‬أو يف حاالت التعبئة القوميّة‬ ‫االحتفال ّية والتناحرات األهل ّية املحتدمة‪ .‬فصريورة الجامعات العرب ّية ومسارها الواقعي‬

‫‪6‬‬


‫البوابة التّاسعة مقاالت المدينة وأخبارها‬ ‫ّ‬

‫الشّ ارة‬ ‫ال ّبوابة التّاسعة‪ ،‬مجلّة ثقافة مدين ّية‪ ،‬تصدر من وسط بريوت‪،‬‬ ‫املديني‬ ‫لتواكب العمران مبضمون معريف يتناول أفكار العيش‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫وآدابه وفنونه وتواريخه واقرتاحاته املستقبليّة‪ .‬موقعها يف‬ ‫املديني تحديدًا‪ ،‬املكان الذي شهد سجاالت‬ ‫بريوت‪ ،‬يف الوسط‬ ‫ّ‬ ‫بدت مهدورة يف معظم األحيان‪ ،‬تارة بسبب حدّتها أو‬ ‫مغاالتها وقلّة حذاقتها‪ ،‬وطو ًرا بسبب هامش ّيتها وانسحابها‬ ‫وافتقارها إىل سياق نرشي مثابر مخصص لها وساع إىل ترويج‬ ‫مديني‬ ‫اإلقبال عىل نوعها الثقايف‪ ،‬يجعلها تطمح إىل تواصل‬ ‫ّ‬ ‫عريب ‪ -‬دويل مت ّيزت به بريوت دامئًا‪ ،‬وتتنبه إىل وجوب االبتعاد‬ ‫عن املغاالة والحدّة الضا ّجة وقلّة االتّزان‪ .‬كام يجعلها تقدّم‬ ‫بديلها يف إصدار مثابر متمحور حول ثيمة واحدة يتك ّرر‬ ‫كل عام‪ ،‬متيحة أمام كتّابها واملشاركني يف صناعتها‬ ‫م ّرتني يف ّ‬ ‫الوقت املالئم لنتاج يدمج البحث األكادميي املع ّمق بالكتابة‬ ‫اإلبداع ّية والنقديّة والصحاف ّية والغوص عميقاً يف عصب‬ ‫املدينة وطبقاتها‪.‬‬ ‫هذا‪ ،‬وتأيت البوابة التاسعة‪ ،‬لتتب ّنى زمنها األوسع الذي دخل‬ ‫فيه العامل حقبته املدين ّية‪ ،‬وباتت ثقافات املدن وقضاياها‬ ‫كل مكان متقاطعة يف كثري من الوجوه واملظاهر‪ .‬من هنا‬ ‫يف ّ‬ ‫تأيت جهودها يف الرتجمة التي ت ُنتج ثنائيّتها اللغويّة الهادفة‬ ‫إىل تعريف ما يؤلّف "هنا" عن املدينة‪ ،‬مع املحافظة عىل‬ ‫نصه األصيل (روحه األصل ّية)‪ ،‬عىل ما يؤلّف‬ ‫نضارته عرب نرش ّ‬ ‫يل (ة) أيضً ا‪،‬‬ ‫"هناك" عن مدن أخرى‪ّ ،‬‬ ‫بنصه (روحه) األص ّ‬ ‫وإخراج هذا كلّه يف هويّة متداخلة واحدة ت ُصاغ عرب أفكار‬ ‫تصميميّة مبتكرة‪.‬‬

‫تنرش مجلّة البوابة ‪)ISSN 2305 - 5219( 9‬‬ ‫مرتني يف السنة يف بريوت‪ ،‬لبنان‪ ،‬من قبل‬ ‫رشكة سوليدير مانجمنت سريفيسز ش‪.‬م‪.‬ل‪.‬‬

‫رئيس التحرير‬

‫امل ّحرر العام‬

‫مدير اإلبداع‬

‫مح ّرر خُطط‬

‫مدير التحرير‬

‫مح ّرر مراجعات ونقد‬

‫التصميم‬

‫مح ّرر‬

‫مالو هلسا‬

‫فادي طفييل‬

‫تود رايس‬

‫ناتايل املري‬

‫عمر خُليف‬

‫إياد حسامي‬

‫هشام عوض‬

‫زينة نقاش‬ ‫أنطوان غانم‬

‫املح ّرر الفوتوغرايف‬

‫االنتاج‬

‫زيا جافيتش‬

‫دينا بستاين‬

‫مساعد املح ّرر‬

‫شؤون إدارية‬

‫الفوتوغرايف‬

‫إدارة العمل‬

‫شؤون التوزيع‬ ‫والعالقات العا ّمة‬

‫ماريو رزّوق‬

‫سمية بارودي‬ ‫محمد رحيمي‬

‫ألحان رشارة‬

‫ليامسول ذوق‬

‫تدقيق لغوي‬

‫مح ّمد حمدان‬

‫شكر خاص‬ ‫برنامج اآلغا خان‬ ‫للعامرة اإلسالم ّية يف‬ ‫جامعة هارفرد‪،‬‬ ‫آرش أوف كويت‬ ‫غارين أيفازيان‬ ‫هال بزري‬ ‫تاكاكو تاجيام‬ ‫سام ثورن‬ ‫ماجدة مح ّمد‬ ‫الجمل‬ ‫لورانس جويف‬ ‫دالل حشّ اش‬ ‫أنطوين دوين‬ ‫نارص ر ّباط‬ ‫براك الزايد‬ ‫لورا سوسني‬ ‫زهرة عيل بابا‬ ‫هشام عوض‬ ‫يوسف الغصني‬ ‫دميا الغنيم‬ ‫عليا فريد‬ ‫نيليدا فوكارو‬ ‫سلطان سعود‬ ‫القاسمي‬ ‫عزيز القطمي‬ ‫كارولني ماتسوموتو‬ ‫الياس كاتب‬ ‫عبد العزيز الكندري‬ ‫أسيل اليعقوب‬

‫التوزيع يف الرشق األوسط‬ ‫‪Compagnie libanaise de distribution de la‬‬ ‫‪presse et des imprimés s.a.l. - Lebanon‬‬ ‫التوزيع الدويل‬ ‫‪Idea Books‬‬

‫وسط بريوت‪ ،‬مبنى ‪ ،149‬شارع سعد زغلول‬ ‫صندوق بريد ‪ 119493‬بريوت ‪ 2012 7305‬لبنان‬ ‫هاتف‪00961 1 980 650 / 60 :‬‬

‫ترخيص رقم‪465 :‬‬ ‫املدير املسؤول‪ :‬جورج علم‬ ‫حقوق النرش والتأليف عائدة لرشكة سوليدير مانجمنت‬ ‫سريفيسيز ش‪.‬م‪.‬ل‪ .‬جميع الحقوق محفوظة © ‪.2013‬‬

‫مينع نسخ أو استعامل أي جزء من هذه املطبوعة بأي وسيلة تصويريّة أو إلكرتون ّية أو ميكانيك ّية مبا‬ ‫فيها التسجيل الفوتوغرايف والتسجيل عىل أرشطة أو أقراص مقروءة أو أي وسيلة نرش أخرى مبا فيها‬ ‫حفظ املعلومات واسرتجاعها من دون إذن خطّي من النارش‪.‬‬ ‫تعب عن آراء أصحابها وحدهم وال توافق بالرضورة آراء هيئة التحرير ومواقفها‪.‬‬ ‫املقاالت املنشورة ّ‬ ‫النارش غري مسؤول عن ص ّحة املعلومات الواردة يف املقاالت وهو ال يتح ّمل أي مسؤوليّة قانون ّية عن‬ ‫قبل يف أي مجلّة‬ ‫أي أخطاء أو هفوات ترد‪ .‬يشرتط يف املساهامت التي تردنا ألّ تكون قد نرشت ً‬ ‫ّ‬ ‫أو كتاب‪.‬‬ ‫ال تراجع املجلّة يف شأن املساهامت التي تردها طو ًعا‪ ،‬من دون طلب منها‪ .‬وهذه املساهامت ال ت ُردّ‪.‬‬ ‫الب ّوابة التّاسعة طبعت وطويت يف لبنان‬

‫‪9‬‬


‫خاص لـ ‪portal9journal.org‬‬

‫نص فوتوغرايف‬ ‫من حمص يكتب جابر غصن عن ساحة الساعة وليلة الفجر املؤ ّجل‪ّ .‬‬ ‫من برازيليا لزيا جافيتش‪ ،‬ومقاالت لبشري مفتي وغريتشن هيد وجامل جربان وريّا‬ ‫بدران ودانييال روز كينغ‪ ،‬من الجزائر واملغرب واليمن ولبنان ومرص‪ .‬إضافة إىل ُمقاربتني‬ ‫بالفيديو من صنعاء ونيودلهي لزرياب الغابري وجافيتش ترفدان امل ُط ِّوف يف باب اليمن‬ ‫وكوناوت باليس باإليحاءات البرصيّة‪.‬‬

‫الب ّوابة التّاسعة عىل فايس بوك‬ ‫‪facebook.com/portal9journal‬‬ ‫الب ّوابة التّاسعة عىل تويرت‬ ‫‪twitter.com/portal9journal‬‬ ‫زوروا موقعنا االلكرتوين‬ ‫‪Portal 9 journal.org‬‬

‫‪8‬‬


‫غورانا فويزيتش‪ -‬شيبرد‬

‫الحضارة في مواجهة االبتذال‪ :‬نزاع في شوارع بلغراد‬

‫الحضارة يف مواجهة االبتذال‪ :‬نزاع يف شوارع بلغراد‬ ‫رأسا عىل عقب‪.‬‬ ‫يف التسعينات‪ّ ،‬‬ ‫غيت ديكتاتورية ميلوسوفيتش الناعمة والخفية وجه العاصمة الرصبية وقلبتها ً‬

‫غورانا فويزيتش – شيربد‬

‫تفاعل اتخذ أشكالً مختلفة‪:‬‬ ‫وتفاعل الرصبيون مع هذه الكوارث ً‬ ‫بعضهم صار قوميًا وشارك يف الحروب‪ ،‬وبعض آخر غادر‬ ‫البالد وسعى وراء رزقه يف أمكنة أخرى من العامل مل يبلغها م ّد‬ ‫الحروب‪ .‬وبعض ثالث أنشد أغاين املعارضة ونزل إىل الشارع‪.‬‬ ‫ولطاملا ناوأت بلغراد ميلوسوفيتش وطغيان القوميّة‪ .‬ولكن‬ ‫أصوات املعارضة الصاخبة مل تتنا َه إىل آذان ميلوسوفيتش‬ ‫والصحافة الدولية‪ ،‬وأجمعا عىل تجاهلها وكأنها مل تكن‪.‬‬ ‫وتقع مدينة بلغراد القدمية (ومعنى اسمها هو "املدينة‬ ‫البيضاء") يف منحدر التالل املحاذية اللتقاء نهري السافا والدانوب‪.‬‬ ‫وقبيل الحرب العاملية الثانية‪ ،‬مل تتجاوز حدودها ضفتي النهرين‬ ‫َوسع‬ ‫هذين‪ .‬ويف ختامها (الحرب هذه)‪ ،‬دارت عجلة العمران وت ّ‬ ‫إىل األرايض الخرضاء املطلّة عىل السافا‪ .‬فتضاعفت مرتني مساح ُة‬ ‫هذا الجزء من املدينة املعروف بـ"بلغراد الجديدة"‪ .‬واملدينة‬ ‫الجديدة هذه احتضنت جادات واسعة ومباين حكومية ضخمة‬ ‫وتباهت بها‪ .‬وتفاىن مهندسو يوغوسالفيا ما بعد الحرب يف‬ ‫التزام املعايري الهندسية الحداثويّة التي أرساها مجمع الهندسة‬ ‫الحديثة الدويل‪" ،‬سيام" ‪ ،CIAM‬ويعود تاريخ تأسيسه إىل‬ ‫‪ .1928‬فهم حرصوا عىل االبتعاد عن نهج الواقعية السوفياتية‬ ‫منذ خروج يوغوسالفيا عن فلك روسيا الستالينية يف ‪.1948‬‬ ‫وساهمت سياسة املارشال تيتو يف حياد يوغوسالفيا السيايس إىل‬ ‫حني أفولها وتفكّكها‪.‬‬ ‫وما مل يتغري يف بلغراد عىل مر العصور‪ ،‬وحتى يف املرحلة‬ ‫الشيوعية‪ ،‬هو جاذبية وسطها وانتخابه منطقة سكنية راقية تصبغ‬ ‫قاطنيها بلون الوجاهة وتُعيل مرتبتهم يف السلم االجتامعي‪ ،‬شأن‬ ‫باريس وفيينا وغريها من املدن القاريّة األوروبية‪ .‬ومل تنخفض‬ ‫األسعار أو تتهاوى عن عتبتها املرتفعة ارتفا ًعا "فلكيًا"‪ ،‬بعد‬ ‫بلوغ ميلوسوفيتش السلطة يف ‪ .1989‬وأبناء الطبقة الوسطى‬ ‫من البلغراديني األقحاح ال يسعهم السكن بعيدًا من وسط‬ ‫مدينتهم‪ .‬وكأن االنتساب إليها وإىل الطبقة الوسطى ال تقوم له‬ ‫قامئة خارج الوسط‪ .‬وأكرث املناطق البلغرادية جاذبية كام لو أنها‬ ‫نواة تختزل املدينة كلّها هي تلك املعروفة بـ"دائرة االثنني"‪ ،‬أي‬ ‫املنطقة التي يحدها خط الرتام رقم ‪ .2‬ومل يفز ميلوسوفيتش‬ ‫يو ًما يف االنتخابات املحلية يف هذا الجزء من املدينة‪ .‬ولطاملا‬ ‫خرج الشطر األكرب من املؤسسات الحكومية املحليّة‪ ،‬ومنها تلك‬

‫إىل الجحيم يا تسعينيات‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫وانقضيت‪.‬‬ ‫انرصمت‬ ‫وأدعو الله أن يطوي النسيان‬ ‫أولئك املجرمني واألوغاد؛‬ ‫حني ميحو القانون أثرهم؛‬ ‫أو نرتكهم لتصفية بعضهم بعضً ا‪...‬‬ ‫وهذا لعمري خيار معقول‪.‬‬ ‫ ‬

‫"ديفيديزيتي"‪ ،‬دجرجي باالسيفيتش‪.‬‬

‫كلامت هذه األغنية كتبها باالسيفيتش‪ ،‬املغني الرصيب ذائع الصيت‪،‬‬ ‫وهو كذلك ناشط سيايس‪ ،‬يف العام ‪ .2000‬وآذنت األغنية‬ ‫هذه املوسومة بـ"ديفيديزيتي" (التسعينيات بالرصبية)‪،‬‬ ‫ببدء عهد جديد‪ ،‬وكان وقعها وق َع نبوءة بأفول نجم الرئيس‬ ‫الرصيب القومي‪ ،‬سلوبودان ميلوسوفيتش‪ ،‬يف ثورة الخامس من‬ ‫ترشين األول (أوكتوبر) ‪ .2000‬واستقالته الرسمية صبيحة اليوم‬ ‫التايل طوت عقدًا يرى كرث يف بلغراد أنه مثابة "ثقب أسود"‬ ‫يف حيواتهم‪َ ،‬فيجون نسيانه وأال يخلف أث ًرا يف الذاكرة‪ .‬وحني‬ ‫يُسأل هؤالء عن التسعينيات‪ ،‬ترتنح األجوبة بني تشاؤم لسان‬ ‫"شطبت التسعينيات البائسة وامللعونة من ذاكريت"‪ ،‬وبني‬ ‫حاله‪:‬‬ ‫ُ‬ ‫"نظرة متفائلة إليها وكأنها تقول "أشعر أنني أصغر س ًّنا بعرش‬ ‫بعثت من جديد‬ ‫سنوات‪ .‬وكأن حيايت توقفت يف ربيع ‪ ،1991‬ثم ُ‬ ‫يف ‪ ،2000‬حني غادر ميلوسوفيتش إىل الهاي"‪.‬‬ ‫قبل عرش سنوات‪ ،‬بدأت سريورة تفكك يوغوسالفيا‬ ‫وانتهت إىل سلسلة حروب عىل جبهات مختلفة‪ :‬بد ًءا بسلوفينيا‬ ‫(‪ ،)1991‬مرو ًرا بكرواتيا (‪ ،)95-1991‬والبوسنة (‪،)95 – 1992‬‬ ‫وصولً إىل كوسوفو (‪ .)99-1998‬ومل تدخل رصبيا يو ًما الحرب‪،‬‬ ‫"رسم ًيا" عىل ما درج ميلوسوفيتش عىل القول‪ ،‬ومل تدُر النزاعات‬ ‫عىل أرضها‪ .‬ولكن املجتمع الدويل خالف هذه الخالصة‪ ،‬ورأى أن‬ ‫رصبيا هي محرض االعتداءات اإلقليمية‪ .‬ولذا‪ ،‬فرض عليها طوال‬ ‫عقد عقوبات تجارية دولية نجم عنها شح السلع األساسية‪.‬‬ ‫وخرس الناس وظائفهم‪ ،‬يف وقت ازدهرت السوق السوداء‪.‬‬ ‫وتقلّصت قيمة متوسط الرواتب نحو ‪ 5‬دوالرات شهريًا‪ .‬وع ّمت‬ ‫الناس مشاعر اليأس والذعر إزاء التدهور الفجايئ يف مستويات‬ ‫املعيشة واألمن‪.‬‬

‫‪11‬‬


‫مرويات‬ ‫ّ‬

‫ساحة ‪ Trg Republike‬كانت واحدة من أولى الساحات التي شهدت حركة المسيرات الحاشدة في بلغراد التسعينيات‪ .‬في وسط‬

‫الساحة يقوم تمثال األمير ميهايلو الذي أخرج األتراك من المدينة‪ .‬اللوحة على قاعدة التمثال تشير إلى المدن الصربية السبع التي‬

‫قبعة على رأس‬ ‫تحررت من الحكم التركي عام ‪ُ .1867‬‬ ‫ويروى أن الفنان الذي صنع التمثال أقدم على تحار بعد انتباهه إلى نسيان إضافة ّ‬ ‫ّ‬ ‫األمير‪ .‬هذا التمثال شبه المنسي اليوم ُيعرف باللغة‬ ‫الصربية ‪ ،Kod Konja‬أو "على الحصان"‪.‬‬ ‫ّ‬

‫تصوير زيا جافيتش‬

‫‪10‬‬


‫غورانا فويزيتش‪ -‬شيبرد‬

‫الحضارة في مواجهة االبتذال‪ :‬نزاع في شوارع بلغراد‬

‫ويتذكر شخص آخر شارك يف التظاهرات‪" :‬أشعر أن التسعينيات‬ ‫بدأت لحظة انهالت عصا الرشطي عىل رأيس‪ ...‬أتذكر قنابل الغاز‬ ‫والهرب بعيدًا منها‪ .‬وقطعنا رشيطًا معدنيًا ودخلنا شقة أحدهم‪.‬‬ ‫وكان البحث عنا جاريًا عىل قدم وساق‪ .‬ثم خرجنا من الشقة‬ ‫ومعدالت األدرينالني العالية ترسي يف عروقنا‪ .‬وكأنني أمضيت‬ ‫تلك السنوات العرش وأنا أميش يف الشوارع"‪.‬‬ ‫كانت هذه التظاهرات فاتحة الدعوات املتواصلة املنادية‬ ‫باستقالة ميلوسوفيتش‪ .‬وجولة التظاهرات الثانية بدأت من‬ ‫حزيران (يونيو) إىل ترشين األول (أوكتوبر) ‪ .1992‬وبعد ‪4‬‬ ‫أعوام‪ ،‬نزل ‪ 60‬ألفًا إىل الشوارع ُمتحدّين التهديدات والتلويح‬ ‫بالقصاص والرضب املربح‪ .‬فألزم ميلوسوفيتش األساتذة‬ ‫الجامعيني توقيع إعالن طاعة للدولة‪ .‬وسار املتظاهرون يف‬ ‫شوارع بلغراد رافعني شعار "أفكر‪ ،‬إذًا أنا أميش" أو "أفكر‪ ،‬إذًا‬ ‫أنا مشّ اء"‪ .‬ويقول سربميو‪ ،‬وكان يومها طالب هندسة‪ ،‬معقبًا‬ ‫عىل هذا الشعار وشار ًحا له‪" :‬يومها كان القصد من امليش‬ ‫مختلفًا‪ .‬فشأن املشاركني يف عمل كبري‪ ،‬كنا منيش يف برد الشتاء‬ ‫نحتج عىل إطالق النار ونرمي البيض‪ .‬سعينا إىل إسقاط‬ ‫القارس ّ‬ ‫الحكومة‪ .‬ورسعان ما نيس الجميع ما فعلناه"‪.‬‬ ‫ويف هذه املسريات‪ ،‬لجأ املتظاهرون إىل أدوات املقاومة‬ ‫املدن ّية عىل اختالف أنواعها‪ :‬سيل فكاهة ال ينقطع ومرسح‬ ‫الشارع والنكات و"املقالب"‪ .‬ويف كتابه "التظاهرات ظاهرة‬ ‫مدينيّة" (‪ ،)1999‬رأى باحث االجتامعيات‪ ،‬سرتينت فوجوفيتش‪،‬‬ ‫أن تظاهرات التسعينيات يف بلغراد هي رضب من االضطراب‬ ‫املدين النموذجي يف الحركات املدينيّة‪ .‬فهي حملة أصحاب‬ ‫الثقافة املدينيّة السرتداد املدينة من الجامعات الريفية التي‬ ‫تدفقت عليها واجتاحتها‪ ،‬وشطر راجح منهم من املتطرفني‬ ‫القوميني الرصبيني وسكان األرياف السابقني‪.‬‬

‫انترش العمران غري املرشوع يف منطقة "بادينا روز"‪ .‬فكل يشء‬ ‫كان مبا ًحا بد ًءا بالتجارة "السوداء" مرو ًرا بحفالت باالسيفيتش‬ ‫وصولً إىل البناء العشوايئ من غري رخص‪.‬‬ ‫ويف كتابه "هندسة عىل وجه التقريب أو أشباه العمران"‬ ‫(‪ ،)2006‬يرى املهندس املعامر واملفكر واألكادميي‪ ،‬رسدجان‬ ‫جوفانوفيش ويس‪ ،‬أن ميلوسوفيتش "بسط نفوذه من طريق‬ ‫قل‬ ‫الغياب املتواصل وليس من طريق الظهور املتكرر‪ .‬وكلام ّ‬ ‫كالمه يف العلن‪ ،‬تعاظمت سطوته عىل الجموع‪ .‬واقتصاده‬ ‫يف تشييد الرصوح والتامثيل‪ ،‬فاقم الفراغ املرشع عىل البناء‬ ‫املديني يف‬ ‫العشوايئ املنفلت من كل عقال‪ .‬فانحرس التخطيط‬ ‫ّ‬ ‫املديني وتبدّد‪ .‬وأخذت‬ ‫املجال العام‪ .‬وذوى النازع إىل الطابع‬ ‫ّ‬ ‫بلغراد تشبه بلدة متضخمة"‪ .‬وهذا مصري رهيب للعاصمة‬ ‫الرصبية التي‪ ،‬وعىل الرغم من وقوعها يف البلقان‪ ،‬لطاملا اعتربت‬ ‫أن روح أناقة إرث االمرباطورية النمسويّة ‪ -‬املجرية وحساسية‬ ‫أو رفاهة مدن أوروبا الوسطى ترسيان فيها‪ .‬وكانت العاصمة‬ ‫الرصبية تسرتق النظر إىل فيينا‪ ،‬وتحسب أنها تفوقت عىل براغ‬ ‫أو بودابست اثناء سباتهام وراء الستار الحديدي‪.‬‬ ‫أنا أُفكر‪ ،‬إ ًذا أنا مشّ اء‬ ‫بلغراد مدينة شوارع وجادات وليست مدينة ساحات‪ .‬ولسان‬ ‫حال النازلني فيها هو القول إن ساحاتها ليست ساحات "فعلية"‪.‬‬ ‫فشطر راجح من ساحات املدينة هو شوارع مرور عامة‬ ‫وليس أمكنة التقاء‪ .‬وساحاتها كلّها تقع عند تقاطع الشوارع‬ ‫تنظيم‪ ،‬أي‬ ‫العريضة‪ .‬وال يش ّذ عن القاعدة هذه أكرث ساحاتها‬ ‫ً‬ ‫ساحة الجمهورية املعروفة بـ ‪ Trg republike‬والتي تستضيف‬ ‫املتحف واملرسح الوطنيني‪ .‬فهي تقع يف ختام شارع املشاة‬ ‫الرئييس يف بلغراد‪ .‬والساحة هذه شُ قت يف طريق القسطنطينية‬ ‫يف ‪ ،1866‬إثر دمار بوابة ستامبول (اسطنبول) يف القرن الثامن‬ ‫عرش‪ ،‬وأُهملت يف التسعينيات‪.‬‬ ‫وانتُخب دور جديد للساحات يف التظاهرات التي بدأت يف‬ ‫وسميت باملشية أو املسرية‪ .‬فإثر اندالع حرب البوسنة يف‬ ‫‪ُ ،1991‬‬ ‫‪ 9‬آذار (مارس) ‪ ،1991‬شارك ‪ 6‬آالف طالب يف مسرية احتجاجية‬ ‫الطلب" وانتهت‬ ‫انطلقت من منطقة يف بلغراد تعرف بـ"مدينة ّ‬ ‫يف مركز املدينة‪ .‬وأهملت وسائل اإلعالم الغربية نقل أخبار "ثورة‬ ‫املشاة" هذه‪ ،‬وسلّطت األضواء عىل النزاع "الساخن"‪ .‬فساد‬ ‫انطباع ضعيف الصلة بالواقع مفاده أن سكان بلغراد يؤيّدون‬ ‫والتوسعيّة‪ .‬والحزن يعلو‬ ‫نزوات ميلوسوفيتش األمرباطورية‬ ‫ّ‬ ‫وجه نبوجتسا سربميو‪ ،‬معامري مستقر يف بلغراد‪ ،‬حني يتذكر‬ ‫االضطرابات التي ع ّمت املدينة طوال شهر‪" :‬حني ترسل الدولة‬ ‫لفض التظاهرات‪ ،‬يتحول كل مواطن‬ ‫الدبابات إىل الشوارع ّ‬ ‫عد ًّوا لها‪ ،‬عىل الرغم من أنه ابن املدينة وجذوره راسخة فيها"‪.‬‬

‫جيل الـ"توربو"‬ ‫وأبرز َعلَمٍ عىل نهج بث االبتذال املمنهج يف أوصال املدينة هو‬ ‫ثقافة الـ"توربو"‪ ،‬أي جاملية التفاهة الفقرية املفتقرة إىل الخيال‬ ‫التي تفشت تفشيًا وبائيًا‪ ،‬فطاولت املوسيقى عالية النربة والبناء‬ ‫رديء املواصفات والقبيح جامل ًيا واملظاهر االستعراضية الخاوية‬ ‫ولغة الجسد‪ .‬واشتق اسم الثقافة هذه من املوسيقى الشعبية‬ ‫املعروفة بـ "توربو‪ -‬فولك" وتناولها بالوصف عد ٌد من الكتّاب‬ ‫من أمثال فوجوفيتش‪ ،‬وكرونجا‪ ،‬وسباتسك‪ ،‬وجوفانوفيتش‬ ‫ويس‪ .‬واألخري وث ّق بروز ثقافة "توربو‪ -‬فولك" يف كتابه " هندسة‬ ‫عىل وجه التقريب" (‪ ،)2006‬وقال إنها " مبثابة الجمع بني‬ ‫مفتعل ال‬ ‫ً‬ ‫أشكال املوسيقى التقليدية واملعارصة املتنافرة جم ًعا‬ ‫يراعي حقوق امللكية"‪ .‬وانتقلت عدواه (الجمع هذا) إىل صميم‬ ‫التعبري الفني‪ .‬والصلة وثيقة بني هذا النوع من الثقافة وأشكال‬

‫‪13‬‬


‫مرويات‬ ‫ّ‬

‫املشهد الذي خلّفته الحروب اعترب انتقا ًما قام به الريف من املدينة‬ ‫ومن روحها‪.‬‬ ‫كأنه يتأمل مسألة عميقة محاطًا باألطفال‪ .‬وما أطلق له العنان‬ ‫املديني والتنظيم‬ ‫ميلوسوفيتش جراء إهامله سياسات التخطيط‬ ‫ّ‬ ‫املديني أجواء الفوىض‬ ‫هو اجتياح "ناعم" أو بارد‪ .‬فعمت الح ّيز‬ ‫ّ‬ ‫والضجيج‪ ،‬وانترش يف كل مكان البائعون املتج ّولون والنازحون‬ ‫الرصبيون الهاربون من الحروب يف الجمهوريات املجاورة‪ .‬وظهر‬ ‫أثر العقوبات التجارية الدولية جل ًيا يف شوارع املدينة وجاداتها‬ ‫التي أغرقت بسلع االقتصاد األسود‪.‬‬ ‫ويف جامعة بلغراد‪ ،‬غزت أكشاك تبيع أقراص برمجيات‬ ‫الكمبيوتر واملوسيقى املقرصنة الهضبة الواقعة مقابل مركز‬ ‫الطالب الثقايف‪ .‬ومعظم العاملني يف هذه األكشاك كانوا من‬ ‫الطالب‪ .‬ورمبا كان إقبالهم عىل هذا العمل عامالً من عوامل‬ ‫ازدهار قطاع الربمجيات اليوم‪ .‬والسلع املعروضة يف جادة الثورة‬ ‫كانت أكرث تنو ًعا‪ ،‬وكانت تبيع السلع املنزلية مثل الشامبو‬ ‫(صابون سائل) والجوارب والشوكوال والسجائر طب ًعا‪ .‬وحاىك‬ ‫بائعو الوقود خارطة التوزّع املكاين ملحطات الوقود‪ .‬فدرجوا عىل‬ ‫الوقوف يف زوايا الشوارع يف متناول حركة السيارات‪ .‬وانترشت‬ ‫املركبات الباهظة الثمن جن ًبا إىل جنب سيارات "ترابانت"‬ ‫األملانية الرشقية القدمية‪ ،‬عىل الرغم من شح الوقود‪.‬‬ ‫يف مدينة لندن عام ‪ ،2008‬تناول الكاتب الرصيب فالدميري‬ ‫أرسنجيفيتش اسرتاتيجية ميلوسوفيتش التي بثّت الفوىض يف‬ ‫بلغراد التسعينيات‪ .‬فعىل خالف ما كان جليًا يف الخارج‪ ،‬كانت‬ ‫أوجه الشبه بني نظام ميلوسوفيتش واألنظمة الديكتاتورية‬ ‫ضعيفة يف الداخل‪ ،‬عىل زعمه (أرسنجيفيتش)‪ .‬فهو مل يُقيد‬ ‫حريّة الصحافة واألعامل الف ّنية‪ ،‬ومل يتوسل الرقابة والحظر‪.‬‬ ‫فعيص عىل املعارضة تحديد موضوع نضالها‪ ،‬والتبس عليها‪.‬‬ ‫وساد "ضجيج يص ّم اآلذان" حال دون صوغ املعارضة ردًا واض ًحا‬ ‫وملتبسا‪.‬‬ ‫عىل ما بدا غامضً ا‬ ‫ً‬ ‫وهذا الرضب من الفوىض الخفية أوقف عجلة التخطيط‬ ‫املديني والعمراين يف بلغراد‪ .‬وصارت منازل األثرياء الجدد‬ ‫ّ‬ ‫لم عىل الذوق‬ ‫ع‬ ‫الحرب‪،‬‬ ‫من‬ ‫استفادوا‬ ‫الذين‬ ‫االنتهازيني‬ ‫َ‬ ‫ً‬ ‫الهابط والدخيل عىل نسيج املدينة‪ .‬واحتل مكانة الصدارة‬ ‫منزل مجرم الحرب أركان‪ ،‬وهو يحايك‪ ،‬يف آن‪ ،‬طراز املعبد‬ ‫اإلغريقي الكالسييك وشكل أسطوانة صاروخ باليستي‪،‬‬ ‫ويستنسخ طراز فندق ميامي بيتش‪ .‬وعىل مشارف املدينة‪،‬‬

‫الواقعة يف منطقة "دائرة االثنني"‪ ،‬عن طوق ميلوسوفيتش‪ ،‬عىل‬ ‫الرغم من أنها كانت مقر نفوذه‪ .‬وكان مثابة الرجل الخفي يف‬ ‫املدينة‪ .‬فأثره غري مريئ فيها‪.‬‬ ‫وانتهى قصف الناتو رصبيا بني ‪ 24‬آذار (مارس) إىل ‪10‬‬ ‫حزيران (يونيو) ‪ ،1999‬إىل تنحي ميلوسوفيتش ورفع العقوبات‬ ‫الدولية عن البالد‪ .‬واليوم‪ ،‬املغني باالسيفيتش متقاعد عىل‬ ‫األرجح‪ ،‬وصار جدًا له أحفاد‪ .‬ويف التسعينيات‪ ،‬نظّم حفالت‬ ‫السنة الجديدة "املشبوهة" يف املبنى املعروف بـ"سافا سانتار"‪.‬‬ ‫وهذا تحفة معامرية حداثوية مشيدة يف السبعينيات عىل ضفة‬ ‫السافا بعيدًا من املدينة القدمية‪ .‬وصمم املبنى هذا‪ -‬وهو أكرب‬ ‫صالة يف يوغوسالفيا اآلفلة ‪ -‬املعامري ستوجان ماكسيموفيتش‪.‬‬ ‫وتزامن تشييده مع استضافته وفندق "انرتكونتينانتال" مؤمتر‬ ‫صندوق النقد الدويل‪ .‬والفندق هذا هو كذلك من الرصوح‬ ‫املعامرية الهندسية التي آذنت باالنفتاح عىل الغرب والرأساملية‬ ‫الدولية‪ .‬واستضاف سافا سانتار مسابقة "يوروفيجن" الغنائية يف‬ ‫‪ .2008‬ويف التسعينيات‪ ،‬مل يكن الحصول عىل بطاقات الدخول‬ ‫إىل حفالت باالسيفتيش التي تحمل يف طياتها رسائل سياسية‪،‬‬ ‫يس ًريا‪.‬‬ ‫يخف عىل أحد معارضة باالسيفيتش وجمهوره حكم‬ ‫ومل َ‬ ‫ميلوسوفيتش‪ .‬ولكن هذه الحفالت مل ت ُحظر‪ ،‬ومل تضطر إىل‬ ‫االنعقاد يف الرس وراء األبواب املغلقة‪ ،‬بل ُعرضت يف العلن‬ ‫يف إطار باهر‪ :‬ارتدت النساء البلغراديات أبهى الحلل املسائية‬ ‫الفاخرة واختلطن بالشباب واألكرب س ًنا‪ .‬فموسيقى باالسيفيتش‬ ‫املتنوعة املصادر والكلامت كانت قاطبة رشائح عمرية‬ ‫وإجتامعية مختلفة‪ .‬ولكن فور انتهاء الحفالت‪ ،‬كان عقد‬ ‫الجمع ينفرط فتتبدد سبحاته يف غياهب الخفاء‪ ،‬عىل ما الحظ‬ ‫باالسيفيتش نفسه‪ ،‬ثم يعود إىل االنعقاد يف العام املقبل‪.‬‬ ‫ووترية اللجوء إىل الخفاء والخروج منه وتحديد مواعيد‬ ‫اجتامعات املعارضة غري الرسمية ومكانها يف بلغراد كانا مرآة‬ ‫الرد عىل ميلوسوفيتش وطراز حكمه الديكتاتوري الخاص‬ ‫به‪ .‬وهو مل يسع إىل ترك بصمته يف دوائر العالنية والساحات‬ ‫العامة أو يف العمران‪ .‬فطموحاته كانت إقليمية‪ .‬ومل يزرع يف‬ ‫املدينة متاثيل ستالينية الطراز أو صو ًرا صدّامية عمالقة تصوره‬ ‫عىل ظهر جواد يف الحقول أو مسرتسل النظر إىل مكان بعيد‬

‫‪12‬‬


‫غورانا فويزيتش‪ -‬شيبرد‬

‫الحضارة في مواجهة االبتذال‪ :‬نزاع في شوارع بلغراد‬

‫العمرانية الكبيرة وبشوارعها العريضة‪.‬‬ ‫تتميز بمشاريعها‬ ‫"نوفي بيوغراد"‪ ،‬أو بلغراد الجديدة‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬

‫تصوير زيا جافيتش‬

‫‪17‬‬


‫مرويات‬ ‫ّ‬

‫عدة‬ ‫مشهد من منطقة "بلغراد الجديدة" التي ُبنيت في أعوام الثمانينيات‬ ‫والم َّ‬ ‫ُ‬ ‫عالمة فارقة في نمط الواقعية االشتراكية المعماري في صربيا‪.‬‬

‫تصوير زيا جافيتش‬

‫‪16‬‬


‫طارق أبي سمرا‬

‫محطة للنقل ومواسم للعنف‬

‫محطّة للنقل ومواسم للعنف‬ ‫ساحة الكوال واحدة من أهم مراكز النقل يف بريوت‪ ،‬لكن من دون تنظيم وال ترتيب وبأقل قدر من التجهيز واإلدارة‪.‬‬

‫طارق أيب سمرا‬ ‫تظهر يف جنباته وجوه من "عامل سفيل" هاميش‪ .‬فساحة الكوال‬ ‫واحدة من أهم مراكز النقل يف بريوت‪ ،‬لكن من دون تنظيم‬ ‫وال ترتيب وبأقل قدر من التجهيز واإلدارة‪ .‬هي قيم سائقي‬ ‫السيارات العمومية والفانات والباصات‪ ،‬عاداتهم‪ ،‬عالقاتهم‪،‬‬ ‫تزاحمهم‪ ،‬مشاحناتهم العنيفة أحيانًا‪ ،‬ما يهيمن عىل الساحة‬ ‫كلها تقري ًبا ويطبعها بطابعه‪ :‬أخالط من السائقني والناس‬ ‫املتوافدين من جهات املدينة‪ ،‬فرادى ومجموعات‪ ،‬لبنانيني‪،‬‬ ‫سوريني‪ ،‬فلسطينيني‪ ،‬يؤ ّمون الساحة لالنتقال منها إىل أحياء‬ ‫بريوت والضواحي وإىل مناطق لبنان األخرى‪ .‬وال بد من مالحظة‬ ‫الحضور الكثيف لطالب وطالبات جامعة بريوت العربية يف‬ ‫الساحة ويف الشوارع املتّصلة بها‪.‬‬ ‫الجامعة هذه ال تبعد أكرث من عرشات األمتار من الساحة‪.‬‬ ‫وعضوي يف تاريخ املنطقة القريب‪ ،‬منذ نشوئها‪ ،‬يف‬ ‫قوي‬ ‫ّ‬ ‫أثرها ّ‬ ‫العام ‪ .1958‬فتحت الجامعة أبوابها يف مطالع الستينيات‪ .‬وهي‬ ‫وخصوصا الفلسطينيني‬ ‫مذّاك لعبت – بخليط طلبتها العرب‪،‬‬ ‫ً‬ ‫واللبنانيني‪ ،‬وسكنهم املتقطع حول الجامعة – دو ًرا بارزًا يف‬ ‫نشوء فُسحة أساسية ملنظامت املقاومة الفلسطينية‪ ،‬وملؤسساتها‬ ‫االعالمية والتنظيمية والقيادية يف لبنان ما بعد العام ‪ .1967‬كام‬ ‫أن اسم "الجامعة العربية" نافس سواه من تسميات املنطقة‪:‬‬ ‫الكوال‪ ،‬الطريق الجديدة‪ .‬وحتى اليوم ال يزال دور الجامعة‬ ‫قوي الحضور يف املنطقة والساحة‪ .‬فبعد ظهر نهارات الجمعة‬ ‫ّ‬ ‫ترى طلبة جامعيني كثريين يج ّرون حقائب ثيابهم وكتبهم‪،‬‬ ‫مغادرين شقق سكنهم الطالبي املشرتك يف املنطقة‪ ،‬لتمضية‬ ‫العطل األسبوعية عند أهلهم يف مدن وبلدات بعيدة‪ ،‬ويعودون‬ ‫منها إىل جامعتهم وسكنهم املوقت‪ ،‬صبيحة نهارات االثنني‪.‬‬ ‫ويف الساحة – املحطّة يتكاثر الرجال املنشغلون بأعامل النقل‬ ‫ورصف العمالت وبيع الطعام‪ ...‬والكحول‪ .‬وهناك أيضً ا من ال‬ ‫ت ُعلم لهم مهنة قط‪ ،‬أولئك الذين تراهم يفرتشون الرصيف‬ ‫الواسع قاعدين أو متمدّدين أو نامئني عىل فرش وحرامات بالية‬ ‫أو قطع كرتون قرب أعمدة الجرس‪ ،‬فتقول إنهم من املنقطعني‬ ‫الهامئني بال مأوى‪ ،‬بعد وصولهم من بالد بعيدة‪.‬‬

‫كنت يف طفولتي أستغرب كلمة "الكوال" تسمية للمنطقة التي‬ ‫نسكن فيها‪ .‬كام أنني كنت أستغرب تلك الرصخات التي تصل إىل‬ ‫بيتنا من الشارع يف كثري من أوقات النهار‪" :‬حلب‪ ،‬حلب‪ ...‬منبج"‪.‬‬ ‫اليوم ال يشء يف املكان الذي يحمل اسم "الكوال" يوحي‬ ‫بأنه ساحة عامة‪ ،‬وفقًا للمواصفات واملعايري املعامرية للساحات‬ ‫العامة يف املدن‪ .‬فاملكان املمتد طول ًيا‪ ،‬يعلوه ويشطره قسمني‬ ‫متساويني تقريبًا‪ ،‬جرس تجثم أعمدته يف املكان‪ ،‬ثقيلة كالحة‪ ،‬ما‬ ‫يفقده الفضاء املكشوف ال ُح ّر الذي مي ّيز الساحات‪.‬‬ ‫استمدت الساحة اسمها من معمل كوكا كوال منذ اختفائه‬ ‫قبل بضعة عقود‪ .‬يف بادئ األمر‪ ،‬بعد إزالة املعمل‪ ،‬احتل موقعه‬ ‫موقف واسع للسيارات‪ .‬الحقًا ربض يف املكان سريك طوال‬ ‫شهور‪ ،‬ثم اختفى السريك‪ ،‬فأخذ رجال الرشطة يوقفون يف مكانه‬ ‫السيارات والدراجات النارية املخالفة‪ ،‬املصادرة أو املحتجزة‪.‬‬ ‫أخ ًريا شيد يف املكان مبنى حديث هائل الضخامة واالرتفاع‪،‬‬ ‫وشيدت إىل جانبه بناية زجاجية لجامعة خاصة‪ .‬قبالة املبنى‬ ‫الضخم والجامعة الزجاجية أقامت جمعية أهلية دينية مسجدًا‬ ‫مبئذنتني‪ ،‬فكادت طبقاته الكثرية تلتصق بالجرس‪.‬‬ ‫يحرض يف ساحة الكوال املستطيلة املخرتقة بالجرس‪ ،‬التباسان‪:‬‬ ‫إنها ساحة عامة‪ ،‬ال تبدو مثل الساحات‪ ،‬وتسمى باسم معمل‬ ‫مل يعد موجودًا منه سوى االسم‪ ،‬وقبل ‪ 40‬عا ًما مل يكن املكان‬ ‫اسم عىل اإلطالق‪.‬‬ ‫يحمل ً‬ ‫يروي قدامى سكّان محلّة الطريق الجديدة أن املكان صار‬ ‫يف حاجة إىل تسمية‪ ،‬حينام نشبت ذات يوم من العام ‪1969‬‬ ‫معركة بني الفدائيني الفلسطينيني والجيش اللبناين‪ ،‬من ضحاياها‬ ‫دبابة متف ّحمة ظلت يف مكانها طوال ثالثة أيام‪ .‬شخص ما‪،‬‬ ‫مجهول وسيبقى مجهولً إىل األبد‪ ،‬ألهمه ذاك املعمل الكبري‬ ‫األشهر يف املنطقة‪ ،‬فقال‪" :‬إنهم يتقاتلون عند الكوال"‪ .‬منذ تلك‬ ‫اسم طيف ًيا هامئًا يف املكان‪ ،‬قبل‬ ‫اللحظة أصبحت كلمة "الكوال" ً‬ ‫أن يهيمن عليه وينغرس فيه بعد مدة قصرية من زوال مبنى‬ ‫معمل كوكا كوال‪.‬‬ ‫اليوم تنبعث من تسمية الكوال يف املخيلة البريوتية صور‬ ‫عامل فوضوي مكتظ مبحطّات وحوادث طبعت تاريخ املنطقة‬ ‫القريب وتكوينها العمراين‪ .‬أما إذا اقرتبنا اآلن متج ّولني يف‬ ‫نواحي الساحة‪ ،‬تطالعنا تفاصيل مالمح عامل النقل الشعبي الذي‬

‫***‬

‫‪23‬‬


‫مرويات‬ ‫ّ‬

‫المخطط لها‪ّ ،‬‬ ‫التنوع في األشياء والسلع والبشر والمنشات‪.‬‬ ‫كل هذا‬ ‫مدهش في هذه الساحة‬ ‫البيروتية‪ ،‬الطارئة وغير ُ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬

‫تصوير زيا جافيتش‬

‫‪22‬‬


‫طارق أبي سمرا‬

‫محطة للنقل ومواسم للعنف‬

‫األذان وخطب صلوات الجمعة يف هذا املسجد ويف مسجد‬ ‫الحوري يف الطبقة السفىل من مبنى الجامعة العربية القريب‪،‬‬ ‫متتزج بضجيج أصوات متنافرة يجمع هدير السيّارات وأبواقها‬ ‫الحادة وجلبة املارة ونداءات السائقني والباعة ودوي الدراجات‬ ‫تصل الجموع الفائضة عن سعة مسجد الحوري‬ ‫الناريّة‪ ،‬فيام ّ‬ ‫عىل األرصفة قبالة مطعم شهري للفول يقصده الزبائن من أحياء‬ ‫وخصوصا يف صباحات نهارات األحد‪.‬‬ ‫ومناطق بعيدة‪،‬‬ ‫ً‬ ‫يلح السائقون سائلني العابرين‪ ،‬ما دام‬ ‫"إىل أين‪ ،‬إىل أين"‪ُّ ،‬‬ ‫الساحة‪ .‬أكان أولئك السائلون‬ ‫النقل ووسائله يشكالن روح ّ‬ ‫سائقي سيارات أم باصات أم فانات‪ ،‬ال يوفّرون كل من يلمحونه‬ ‫من سؤالهم العشوايئ املستبد الذي تشعرون حياله بالخجل يف‬ ‫أي مكان"‪ .‬وغال ًبا ما ينتابكم شعور‬ ‫حال أجبتم قائلني‪" :‬ليس إىل ّ‬ ‫بالذنب‪ ،‬حني يبادركم السائقون رافعني أصواتهم‪" :‬إىل صيدا‪ ،‬إىل‬ ‫طرابلس‪ ،‬إىل دمشق‪ ،‬مبارشة إىل حلب"‪ ،‬أو "إىل الغبريي‪ ،‬أوتوسرتاد‬ ‫السيد هادي‪ ،‬إىل حي السلّم" (يف ضاحية بريوت الجنوب ّية)‪.‬‬ ‫ليس من برنامج محدّد ينظم انتظار الركّاب يف مواقف‬ ‫املحطّة شبه العرفية والعشوائية يف معظمها‪ .‬حصول السائقني‬ ‫عىل امتيازات متعارف عليها نسب ًيا‪ ،‬ليس باألمر السهل املنال‪،‬‬ ‫واملحافظة عىل االمتياز تتطلب تضامنات عصبويّة بني جامعات‬ ‫السائقني‪ ،‬يشوبها عنف لفظي وجسامين مسترت‪ .‬عنف‪ ،‬بالرغم‬ ‫من عدم ظهوره إلّ يف بعض املناسبات‪ ،‬يظل دائم الحضور‬ ‫كطيف يف املكان الفوضوي املزدحم واملتنازع‪ ،‬حيث تستبطن‬ ‫عالقات البرش العابرين فيه التوتر الدائم والشعور بعدم األمان‪.‬‬ ‫ينصبون أنفسهم أسيادًا عىل أجزاء من هذه‬ ‫بعض االشخاص ّ‬ ‫الساحة‪ ،‬السيام عىل املواقف العشوائية للفانات املتّجهة إىل‬ ‫الضاحية الجنوبية وإىل بلدات الطريق الساحلية‪ ،‬وصولً إىل‬ ‫صيدا والنبطية وصور‪ .‬وقبل أن يُطاح هؤالء األسياد‪ ،‬وفقًا‬ ‫لقول أحد سائقي الفانات‪ ،‬فهم يفرضون إتاوات عىل السائقني‬ ‫الراغبني يف ركن مركباتهم لوقت قليل ميكّنهم من اصطياد بعض‬ ‫الركّاب‪ .‬البعض من السائقني تع ّرض لالعتداء‪ ،‬بعد محاولته‬ ‫ركن مركبته‪ ،‬قال سائق الفان نفسه الذي أضاف‪ :‬من ال ميلكون‬ ‫لوحات عمومية حمراء‪ ،‬يعملون يف الكوال من دون أن يجرؤ‬ ‫أحد عىل اعرتاضهم‪ .‬وذلك بفعل سطوة التهويل التي يفرضونها‬ ‫باملسدسات عندما تقتيض الحاجة أحيانًا‪ ،‬لكن بالعيص يف غالب‬ ‫توسع استعامل الفانات يف النقل‪ ،‬يكاد ال يخلو‬ ‫األحيان‪ .‬فمنذ ّ‬ ‫عصا هي السالح التقليدي للسائقني‪.‬‬ ‫فان واحد من ً‬

‫التقاء عدد من الطرق يف املكان‪ .‬ثم تظافرت عوامل وتشابكت‬ ‫عىل نحو غري متوقع طوال ‪ 75‬سنة‪ ،‬فجعلت من الكوال ساحة‬ ‫عىل صورتها الراهنة‪.‬‬ ‫يف الحقبة املمتدّة ما بني العرشينيات ونهاية الخمسينيات‬ ‫مهمل بال اسم‪ ،‬تغطيه‬ ‫من القرن العرشين‪ ،‬كانت الكوال مكانًا ً‬ ‫الكثبان الرمليّة‪ .‬ولوال بعض من مصانع اإلسمنت والخشب يف‬ ‫الجوار القريب‪ ،‬لكان املكان خال ًء مقف ًرا آنذاك‪ .‬يف وقت ما‬ ‫من الحقبة نفسها‪ ،‬بعيد االنتداب الفرنيس عىل لبنان‪ ،‬بدأت‬ ‫منطقة الطريق الجديدة تتحول تدري ًجا وعىل نحو بطيء‬ ‫منطقة سكنية‪ .‬حدث ذلك بعدما قامت سلطات االنتداب‬ ‫الفرنيس مببادرتني اثنتني ال تزال آثارهام بادية حتى اليوم‪ :‬شق‬ ‫طريق من الروشة وشوران عىل الساحل البريويت الغريب‪ ،‬مرو ًرا‬ ‫قرب ثكنات الجيش الفرنيس (ال يزال بعضها للجيش اللبناين‬ ‫وصول إىل منطقة‬ ‫ً‬ ‫قرب قرص األونيسكو) ويف وطى املصيطبة‪،‬‬ ‫الطريق الجديدة وامللعب البلدي وحبس الرمل يف مكان‬ ‫جامعة بريوت العربية اليوم‪ .‬املبادرة الثانية متثلت باستكامل‬ ‫هذه الطريق وصولً إىل قصقص وشاتيال‪ ،‬حيث أقيمت مقابر‬ ‫الجنود الفرنسيني يف الحرب العاملية الثانية‪ ،‬غري بعيد من مقر‬ ‫إقامة املندوب السامي الفرنيس يف قرص الصنوبر‪ .‬اآلثار أو املعامل‬ ‫البادية حتى اليوم من األونيسكو حتى قصقص‪ ،‬هي بقايا أشجار‬ ‫الكينا الهرمة التي غرسها الفرنس ّيون عىل جانبي هذه الطريق‪.‬‬ ‫تبعت هاتني املبادرتني مبادرتان يف الخمسينيات والستينيات‬ ‫من القرن العرشين‪ ،‬قامت بهام الدولة اللبنانية املستقلة‪ :‬شق‬ ‫طريق من كنيسة مار مخايل يف الشياح‪ ،‬وصولً إىل السفارة‬ ‫الكويتية‪ ،‬ومنها إىل الكوال‪ ،‬مرو ًرا أمام مطار بريوت القديم يف‬ ‫منطقة الجناح‪ ،‬والذي استُخدمت الحقًا قاعة مسافريه مب ًنى‬ ‫لدار املعلّمني واملعلّامت قبالة مدينة كميل شمعون الرياضية‪.‬‬ ‫هدفت هذه الطريق إىل وصل بلدات وقرى املنت الجنويب يف‬ ‫جبل لبنان‪ ،‬مبطار بريوت القديم يف الجناح‪ .‬أما املبادرة الثانية‬ ‫فتمثّلت بشق الطريق – األوتوسرتاد الساحيل القديم من مثلّث‬ ‫خلدة إىل السفارة الكويتية‪ ،‬بعدما كانت طريق صيدا القدمية‬ ‫الداخلية‪ ،‬مرو ًرا بالشويفات ووصولً إىل طريق الشام‪ ،‬هي‬ ‫وحدها طريق صيدا – الجنوب – بريوت‪ .‬كان الهدف من إنشاء‬ ‫هذه الطريق وصل جنوب لبنان ببريوت عرب طريق ساحلية‬ ‫تصل إىل املطار القديم‪ ،‬و إىل ضاحية الطريق الجديدة‪.‬‬ ‫شبكة الطرق هذه التقت وتقاطعت كلها قرب معمل‬ ‫كوكا كوال‪ ،‬حيث نشأت صلة وصل بني مناطق كثرية من بريوت‬ ‫والضواحي واملناطق يف الجنوب والجبل‪ ،‬وبني املنشآت الكثرية‬ ‫التي قامت عىل هذه الطرق‪ :‬املطار القديم‪( ،‬دار املعلّمني‬ ‫واملعلّامت الحقًا) مدينة كميل شمعون الرياضية‪ ،‬ملعب بريوت‬ ‫البلدي‪ ،‬جامعة بريوت العربية (مكان حبس الرمل)‪ ،‬ومعمل‬ ‫الكوال نفسه‪.‬‬

‫***‬

‫الساحة عىل ما هي عليه اليوم‪ :‬مرك ًزا‬ ‫كيف وملاذا أصبحت هذه ّ‬ ‫مهم للنقل؟‬ ‫ًّ‬ ‫إذا أردنا اإليجاز ال بد من القول رسي ًعا‪ :‬املصادفة‪ ،‬نعم مصادفات‬

‫‪25‬‬


‫مرويات‬ ‫ّ‬

‫ختقة بالجرس‪ ،‬التباسان‪ :‬إنها ساحة عا ّمة‪،‬‬ ‫يحرض يف ساحة الكوال املستطيلة امل ُ َ َ‬ ‫ال تبدو مثل الساحات‪ ،‬وتسمى باسم معمل مل يعد موجو ًدا منه سوى االسم‪.‬‬ ‫اسم عىل اإلطالق‪.‬‬ ‫وقبل ‪ 40‬عا ًما مل يكن املكان يحمل ً‬ ‫الساحة هي مركز النقل األكرث حيوية يف العاصمة‪ .‬أ ّما ساحة‬ ‫ّ‬ ‫الدورة‪ ،‬مكافئتها يف الشطر الرشقي من بريوت‪ ،‬فأقل منها كثافة‬ ‫واستقطابًا‪ .‬هذه املراكز الثالثة (الكوال‪ ،‬شارل الحلو‪ ،‬الدورة) هي‬ ‫األهم يف شبكة النقل يف لبنان كلّه‪ ،‬منذ أخلت الحرب (‪)1975‬‬ ‫ساحة الربج أو الشهداء‪ ،‬ود ّمرتها‪.‬‬

‫للمرة الثانية أشعر باالستغراب وأنا أقتفي معامل املكان‬ ‫بوصفه ساحة عامة‪ .‬ليك يصري هذا االستغراب مفهو ًما‪ ،‬من‬ ‫الرضوري استحضار املخيلة العمرانية املرتبطة مبفهوم الساحة‬ ‫العامة ملقارنتها مبظهر ساحة الكوال وبالنشاطات القامئة فيها‪.‬‬ ‫الساحة العامة يف الذهن فضا ًء واس ًعا مفتو ًحا‪،‬‬ ‫تستحرض ّ‬ ‫مستطيل‪ ،‬تزنّره البنايات وتتقاطع فيه‬ ‫ً‬ ‫هنديس الشكل‪ ،‬دائريًا أو‬ ‫َّ‬ ‫الطرق‪ .‬ال بد من أن تتخيّلوا مكانًا تتحرك فيه جموع برشية‬ ‫أشخاص‬ ‫معتربة‪ :‬مشاة يتنزهون يف هدوء‪ ،‬منفردين‪ ،‬مجموعات‪،‬‬ ‫ٌ‬ ‫آخرون يرتادون املقاهي واملطاعم ومنشآت مختلفة‪ .‬ميكن‬ ‫للباعة وأصحاب املتاجر أن يلفتوا أنظار املتن ّزهني وانتباههم‪.‬‬ ‫قد يدخل أحدهم إىل متجر‪ ،‬أو يتابع السري بال هدف محدّد‪ ،‬أو‬ ‫إىل هدف مجهول‪ .‬وال بد أن يرتسم يف مخيلتكم مكان مرحب‪،‬‬ ‫عىل األقل يف شكله‪ ،‬لتزجية الوقت‪ ،‬للرتفيه‪ ،‬حيث مييض الوقت‬ ‫ناعم‪ ،‬خال ًيا من الهموم واملشاغل‪ ،‬فتتسلّل نعومة شهوانية إىل‬ ‫ً‬ ‫املخيّلة والحواس‪.‬‬ ‫هذا كله ال تبديه وال توفره ساحة الكوال يف ترتيبها املعامري‬ ‫الذي ال تحرض فيه خصائص الساحات العامة العادية‪ .‬الجرس‬ ‫املستقيم لعبور السيارات الرسيعة يحتل فضاءها‪ ،‬يشطرها‬ ‫شطرين‪ ،‬ممتدًا من املدينة الرياضية إىل نفق سليم سالم‪ ،‬فيفرض‬ ‫الساحة ويجعلها مثله مع ًربا لناس مبعرثين‬ ‫حضوره‬ ‫ّ‬ ‫القوي عىل ّ‬ ‫يخرتقهم ويجمع بينهم تيار فوضوي يبديهم منشغلني وعىل‬ ‫عجلة من أمرهم‪ .‬انها ساحة للنقل واالنتقال‪ ،‬يقصدها الناس‪،‬‬ ‫ميكثون فيها‪ ،‬وغايتهم املغادرة فو ًرا إىل أماكن أخرى‪ .‬النقل‬ ‫الساحة‪ ،‬قلبها النابض‪ ،‬طوال النهار‪ ،‬وأقل نبضً ا يف الليل‪.‬‬ ‫روح ّ‬ ‫للساحة‪.‬‬ ‫الطاغية‬ ‫الوظيفة‬ ‫بهذه‬ ‫ا‬ ‫ب‬ ‫غال‬ ‫تتعلق‬ ‫األخرى‬ ‫النشاطات‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫انطالقًا من الكوال يستطيع املرء أن يصل إىل أي مكان‪:‬‬ ‫"إىل القمر"‪ ،‬قال سائق تاكيس‪ .‬لكن هذه املبالغة تنطوي عىل‬ ‫يشء من الصحة‪ :‬إن كنتم تريدون الذهاب إىل الشامل‪ ،‬الجنوب‪،‬‬ ‫الجبل‪ ،‬البقاع‪ ،‬إىل سوريا واألردن‪ ،‬إىل أماكن من بريوت‪ ،‬عليكم‬ ‫بالكوال‪ .‬فسائق التاكيس (الرسفيس) الذي يقلّكم إليها ال بد من‬ ‫أن يسألكم يف الطريق‪" :‬بعد الكوال لوين؟" هو يعلم أن الكوال‬ ‫يندر أن تكون وجهتكم األخرية‪ .‬إذا كانت محطة شارل الحلو‬ ‫قرب مرفأ بريوت أكرث أهمية واستقطابًا من ساحة الكوال يف‬ ‫مجال النقل إىل خارج بريوت ولبنان‪ ،‬فام من ّ‬ ‫شك يف أن هذه‬

‫***‬

‫أرتال السيّارات والفانات والحافالت العابرة‪ ،‬املتكدّسة‪ ،‬املتزاحمة‪،‬‬ ‫املتوقّفة عىل جنبات ساحة الكوال‪ ،‬يف الشوارع املؤدية إليها‪،‬‬ ‫تتخاطف البرص‪ ،‬وترهق الحواس‪ .‬ضجيج متصل تخرتقه أبواق‬ ‫السيارات املفاجئة اآلتية من كل صوب لتتوزع يف الجهات‪ .‬عىل‬ ‫الساحة مواقف للباصات‪ ،‬للفانات‪ ،‬لسيارات الرسفيس‪،‬‬ ‫جنبات ّ‬ ‫وها هم سائقوها يرتبّصون بالركاب‪ .‬هناك أيضً ا أعداد من‬ ‫السائقني املنتظرين وقوفًا‪ ،‬مجموعات وفرادى‪ .‬أضف إىل هذا‬ ‫حشود العابرين والواقفني أمام دكاكني املأكوالت الرسيعة‪،‬‬ ‫الساحة‪ ،‬ود ّراجات‬ ‫ومتاجر السلع الرخيصة املنترشة يف نواحي ّ‬ ‫نارية تظهر فجأة من العدم‪ ،‬وتندفع عىل غري هدى‪ ،‬كأن‬ ‫سائقيها‪ ،‬الشبان غالبًا‪ ،‬يسرتخصون املجازفات الفوضوية‪ .‬هذا‬ ‫يف النهار‪ .‬أ ّما يف الليل فيغتنم بعض من الشبان ضآلة السري‬ ‫لينطلقوا بد ّراجاتهم النارية متسابقني ما بني االوتوسرتاد الجديد‬ ‫وصول إىل وسط بريوت‪ ،‬مرو ًرا‬ ‫ً‬ ‫اآليت من املطار جنوب العاصمة‪،‬‬ ‫بنفق سليم سالم‪ ،‬فيح ّولون مجازفاتهم هواية ذكورية مجانية‬ ‫موتورة يف تسابقهم عىل صهوات الد ّراجات املنطلق دويها‬ ‫املرعب كطعنة عمياء يف قلب الظالم ويف أجسام الساهرين‬ ‫والنامئني يف البيوت‪ .‬وصار للد ّراجات النارية ما يشبه سوق‬ ‫مطل عىل ساحة الكوال‪ ،‬ويبيع أنوا ًعا مختلفة منها‪،‬‬ ‫– متجر ّ‬ ‫بعدما صارت من وسائل النقل من دون أن تتمكن إدارة السري‬ ‫من تنظيم استعاملها‪ .‬كان املتجر هذا سوبرماركت محل ًيا‪ ،‬قبل‬ ‫تحوله إىل فرع من أحد املطاعم املتسلسلة‪ .‬هذه التحوالت هي‬ ‫مبثابة مرآة لتقلبات وظيفة الساحة وأدوارها الفوضوية‪.‬‬ ‫سوف يذهلكم يف الساحة ويف دائرة جوارها القريب‪ ،‬مقدرتهام‬ ‫عىل استيعاب كل هذا التنوع يف األشياء والسلع والبرش واملنشآت‪.‬‬ ‫وإذا كان املسجد الجديد املنتصب عموديًا عىل مساحة ضيقة‪،‬‬ ‫الساحة‪ ،‬أخذ يستقبل املصلّني قبل اكتامل بنائه‪ ،‬فإن‬ ‫يف طرف ّ‬ ‫‪24‬‬


‫مرويات‬ ‫ّ‬

‫شطري العاصمة‬ ‫المتنوعة تنتقل منه وتتوزّع على‬ ‫حولت الحرب وسط مدينة بيروت ساحة معارك‪ ،‬أخذت وظائف الوسط‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫بعدما ّ‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫المديني‪.‬‬ ‫مركزية في وسطها‬ ‫عما فقدته بيروت من‬ ‫تشكل مركزً ا‬ ‫المنقسمة‪ .‬منطقة الكوال راحت‬ ‫ّ‬ ‫ُعوض ّ‬ ‫بديل وت ّ‬ ‫ّ‬

‫تصوير زيا جافيتش‬

‫‪30‬‬


‫طارق أبي سمرا‬

‫محطة للنقل ومواسم للعنف‬

‫االثار أو المعالم البادية حتى اليوم من منطقة األونيسكو إلى الغرب حتى قصقص شرقًا‪ ،‬هي بقايا أشجار الكينا‬ ‫الهرمة التي غرسها الفرنسيون على جانبي هذه الطريق إبان حقبة انتدابهم‪.‬‬

‫تصوير زيا جافيتش‬

‫‪31‬‬


‫جورج عربيد‬

‫عندما هزم األسد ألما وعنتر‬

‫معمارية شاركت في مسابقة تصميم المتحف‬ ‫مشاريع‬ ‫ّ‬ ‫الوطني اللبناني في عشرينيات القرن الماضي‪ .‬إنّه زمن‬ ‫الهوية‪ ،‬والعمارة مثّلت أحد وجوهه‪.‬‬ ‫البحث القلق عن‬ ‫ّ‬

‫ترجمة فادي طفييل‬ ‫‪When Lion Defeated Alma and Antar‬‬ ‫‪Portal 9 page 178‬‬

‫‪35‬‬


‫وثائق‬

‫‪34‬‬


‫خُ طط‬

‫‪01‬‬

‫‪03‬‬

‫‪02‬‬

‫‪ 01‬مرفأ بوالق‪ 02 ،‬مرفأ الفسطاط‪ 03 ،‬املوقع النهايئ مليدان التحرير‪.‬‬ ‫الداخلية‬ ‫الحضرية في القاهرة‪ ،‬أوغلت في األرض‬ ‫التطورات‬ ‫غربا‪.‬‬ ‫الخارطة رقم ‪( 1‬تستند إلى خارطة للقاهرة من العام ‪ :)1846‬في القرنين الثالث عشر والرابع عشر‪ ،‬انحرف النيل‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬

‫ثم مرفأ بوالق‪ ،‬وتكثّفت في الداخل حول محور شمالي – جنوبي حتّى أواسط القرن التاسع عشر‪.‬‬ ‫من مرفأ الفسطاط األقدم ومن ّ‬ ‫تطورات ميدان التحرير‪.‬‬ ‫وتحديدا‬ ‫مرت على وسط القاهرة‪،‬‬ ‫المعدة‬ ‫المقالة مرفقة بسلسلة من الخرائط‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫خصيصا لتبيان المراحل التي ّ‬

‫‪36‬‬


‫خالد أدهم‬

‫منعزل مائي‪ ،‬طرف‪ ،‬ثم مركز‪ :‬نشوء ميدان التحرير‬

‫اﻟﻤﺘﻮﺳﻂ‬ ‫اﻟﺒﺤﺮ اﻷﺑﻴﺾ‬ ‫ﹼ‬

‫ﺑﻮﺭ ﺳﻌﻴﺪ‬

‫اﻟ‬

‫ﺒﺤ‬

‫ﺮا‬ ‫ﻷﺣ‬

‫ﻤﺮ‬

‫اﻟﻘﺎﻫﺮة‬

‫ﺃﺳﻮاﻥ‬

‫منعزل مايئ‪ ،‬طرف‪ ،‬ثم مركز‪:‬‬ ‫نشوء ميدان التحرير‬ ‫مل تتق ّيد املساحة األكرث شهرة وامل ُثقلة بالداللة السياس ّية يف القاهرة‪ ،‬مبخطّط محدّد‪ ،‬بل اكتسبت‬ ‫تدريجي للمعاين املكان ّية واالقتصاد ّية‪.‬‬ ‫داللتها باألحرى عرب تراكم‬ ‫ّ‬

‫خالد أدهم‬ ‫عام‪ .‬وبحسب منشور لـ"اللجنة الوطن ّية للعامل والطلبة"‪ ،‬عقد‬ ‫الشعب املرصي العزم عىل جعله "يو ًما لليقظة الشاملة‪ ،‬فيوضح‬ ‫بذلك أنه ال يقبل انحرافًا وال تراج ًعا عن مطالبه باالستقالل‬ ‫والحريّة"‪.3‬‬ ‫تج ّمع املتظاهرون يف "ميدان اإلسامعيلية" الذي سيحمل‬ ‫بعد سبع سنوات‪ ،‬اسم "ميدان التحرير"‪ .‬وبعد ‪ 65‬سنة من "يوم‬ ‫الجالء"‪ ،‬استعاد املحت ّجون عىل نظام مبارك تلك املناسبة‪ ،‬عندما‬ ‫س ّموا يوم الجمعة الرابع من شباط (فرباير)‪" ،‬يوم الرحيل"‪.‬‬ ‫يؤش مؤ ّرخو املدن يف املستقبل عىل هذين "الفربايرين"‬ ‫رمبا ّ‬ ‫بوصفهام عالمات طريق يف االنتقال عرب ثالث حقب تاريخية‬ ‫مه ّمة يف التاريخ املرصي الحديث‪ :‬االستعامر‪ ،‬ما بعد االستعامر‪،‬‬ ‫محصلة مكانيّة‬ ‫وما بعد بعد االستعامر‪ .‬كان "ميدان التحرير" ّ‬

‫"يف القاهرة‪ ،‬تقاطر عرشات اآلالف إىل وسط املدينة‪ ...‬وعندما‬ ‫وصل املتظاهرون‪ ...‬إىل (امليدان)‪ ...‬ات ّجهت نحوهم أربع‬ ‫مركبات عسكرية‪ ،‬وص ّبت عليهم نريان مدافع رشاشة‪ .‬وبحسب‬ ‫التقديرات األكرث مصداقية‪ ،‬قُ ِتل ‪ 23‬متظا ِه ًرا و ُجرِح قرابة‬ ‫تنصلت الحكومة من أية مسؤولية‪ُ ،‬ملق ّية باللوم عىل‬ ‫‪ّ ...120‬‬ ‫الطلبة الذين سمحوا بأن تنحدر تظاهراتهم السلم ّية إىل‬ ‫‪1‬‬ ‫العنف‪"...‬‬

‫ال‪ ،‬الكلامت هذه ليست تقري ًرا عن حوادث شباط (فرباير)‪2011‬‬ ‫يف "ميدان التحرير"‪ ،2‬مركز الثورة التي أطاحت نظام الرئيس‬ ‫املرصي السابق حسني مبارك‪ .‬إذ إنها تصف ‪21‬شباط (فرباير)‬ ‫‪" ،1946‬يوم الجالء" بحسب تسمية للمتظاهرين يف استباقٍ‬ ‫ملغادرة القوات الربيطانية الثكنات العسكرية القريبة‪ ،‬بعد‬

‫حضري كائن في "حي التحرير"‪ .‬في اللغة العربية‪ ،‬توحي كلمة "ميدان" بمعنى الـ"ساحة" أكثر من أي لفظ‬ ‫آخر‪ .‬ففيما يوحي المعنى القاموسي لكلمة "ساحة" بالمستديرة والساحة العامة‪ ،‬تشي كلمة "ميدان"‬ ‫بشكل أكثر مرونة‪،‬‬ ‫معا الساحة‬ ‫والدوار‪ ،‬والمساحة‪ ،‬ومضمار سباق الخيل‪ ،‬والحقل أو‬ ‫يتضمن في آن ً‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬

‫‪1- Ahmad Abdulla, The Student Movement & the National Politics in Egypt 1923‬‬‫‪1973, (Cairo: AUC Press, 2008), 66-67.‬‬ ‫‪ -2‬في هذا النص‪ ،‬آثرنا استعمال كلمة "ميدان" ترجمة لكلمة ‪ SQUARE‬في اللغة االنكليزية‪ ،‬بدالً من‬

‫المدى‪.‬‬

‫ترجمتها تقليديًا بـ"ساحة"‪ .‬إذ تستعمل كلمة "ميدان" في اللغة اليومية للقاهريين لإلشارة الى فضاء‬

‫‪37‬‬

‫‪3- Abdalla, The Student Movement, 66‬‬


‫خُ طط‬

‫‪01‬‬

‫‪01‬‬

‫‪02‬‬ ‫‪03‬‬

‫‪03‬‬

‫‪05‬‬

‫‪06‬‬

‫‪07‬‬

‫‪04‬‬

‫‪09‬‬

‫‪08‬‬

‫‪02‬‬

‫‪ 01‬حدائق األزبك ّية‪ 02 ،‬ميدان األوبرا‪ 03 ،‬ميدان العتبة‪ 04 ،‬ميدان عابدين‪ 05 ،‬املوقع النهايئ مليدان التحرير‪ 06 ،‬قرص النيل (الذي غدا ثكنة عسكر ّية)‪ 07 ،‬قرص اإلسامعيل ّية‪ 08 ،‬قرص الدوبارة‪ 09 ،‬مكاتب الوزارة‪.‬‬ ‫تمتد إلى الغرب من قاهرة تلك‬ ‫اإلسماعيلية‪ ،‬المحاكية لباريس‪،‬‬ ‫الحضرية األولى في منطقة‬ ‫تاريخية ُمحقّ قة قرابة العام ‪ :)1870‬الشوارع والكتل‬ ‫الخارطة رقم ‪( 2‬تستند إلى خرائط‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬

‫باريسية‬ ‫اإلسماعيلية ثالث ساحات‬ ‫وضمت‬ ‫أوروبية الطراز‪.‬‬ ‫مستنقعية بمحاذاة النيل‪ .‬أنصار المنطقة الجديدة هذه من القاهرة أرادوا تضمينها حداثة‬ ‫ض ّم من أرض‬ ‫الحقبة نحو ما ُ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬

‫هامشية في منطقة حافلة بالقصور‪.‬‬ ‫النمط هدفت إلى وسم المنطقة بـ "وسط" القاهرة‪ .‬المساحة الواقعة إلى جنوب ما سيعرف بميدان التحرير بقيت مساحة‬ ‫ّ‬

‫‪38‬‬


‫خالد أدهم‬

‫منعزل مائي‪ ،‬طرف‪ ،‬ثم مركز‪ :‬نشوء ميدان التحرير‬

‫للحقبتني األوليني املمتدتني عرب ما يزيد عىل قرن ونصف القرن‬ ‫من التاريخ الحرضي‪ .‬وتحاجج هذه املقالة ملصلحة القول بأن‬ ‫شكل وداللةً‪ ،‬ابتدأ يف حقبة االستعامر‬ ‫التك ّون التدريجي للميدان ً‬ ‫بأثر من تبدّالت يف القوى السياسية واالقتصادية يف املدينة‪،‬‬ ‫عىل الرغم من حقيقة أن ثورة ‪ 1952‬ك ّرست "ميدان التحرير"‬ ‫بوصفه مركز املدينة الرمزي والثقايف والسيايس‪ .‬لكن هذا الربوز‬ ‫الرتاكمي للميدان‪ ،‬اجتامع ًيا وجغراف ًيا‪ُ ،‬و ِض َع يف دائرة التهديد يف‬ ‫مرحلة ما قبل تظاهرات ‪ ،2011‬بأثر من قرارات يف التخطيط‬ ‫الحرضي شملت "رؤية القاهرة ‪ ."2050‬وهو ُمخطط أرشفت‬ ‫ُش قبل أسابيع من بداية التظاهرات يف كانون‬ ‫عليه الحكومة ون ِ َ‬ ‫الثاين (يناير)‪ .2011‬تطرح هذه املقالة األسئلة اآلتية‪ :‬متى‬ ‫والسيايس‬ ‫الرمزي‬ ‫أصبح "ميدان التحرير" يشكّل الفراغ العمراين‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫املركزي للمدينة‪ ،‬وملاذا حدث ذلك؟‬ ‫ّ‬ ‫يربهن رسم خريطة لصعود "ميدان التحرير" كمركز رمزي‬ ‫مبتغيات يف‬ ‫للقاهرة‪ ،‬أن التبدّالت يف الرتاتبيات املكان ّية تتصل ّ‬ ‫األحوال السياسية واالقتصادية للمدينة‪ .4‬ولدعم هذه املحاججة‪،‬‬ ‫تتتبّع املقالة ظهور هذه املركزية الحرضية وتح ّوالتها سياسيًا‬ ‫وثقاف ًيا‪ ،‬عرب التاريخ الحديث للمدينة‪ .‬وتلقي عملية التت ّبع هذه‬ ‫الضوء عىل الكيفية التي ات ّخذ بها التط ّور السيايس واالقتصادي‬ ‫شكل ماديًا واجتامع ًيا‪ .‬ويتمثّل الهدف النهايئ للمقالة‬ ‫للمدينة‪ً ،‬‬ ‫يف املساهمة يف زيادة النصوص التي تتفحص كيفية تأثري اإلرادة‬ ‫السياسية والقوى االقتصادية عىل الشكل الحرضي والفراغات‬ ‫العامة يف قاهرة اليوم‪ .‬يف ما يأيت‪ ،‬ثالثة مشاهد من تاريخ‬ ‫القاهرة الكثيف واملتشابك‪ ،‬الذي قاد إىل "ميدان التحرير" الذي‬ ‫نشهده اليوم‪.‬‬

‫التحرير"‪ ،‬و ُمتسبّبًا أيضً ا يف تراكم الطمي مبيناء الفسطاط يف‬ ‫الجنوب‪ .‬ونجم عن ذلك رضورة إنشاء ميناء بوالق الجديد‬ ‫يف الشامل‪ ،‬خالل فرتة حكم األيوبيني‪ .5‬يف ذلك الوقت‪ ،‬بدت‬ ‫ميل إىل اتّخاذ شكل قوس يقع‬ ‫الكتلة الحرضية للمدينة أكرث ً‬ ‫مرفأ بوالق والفسطاط عند طرفيه‪.‬‬ ‫تو ّجب انتظار منتصف القرن التاسع عرش‪ ،‬يك ترشع املساحة‬ ‫املمتدة بني النيل ومدينة القرون الوسطى‪ ،‬يف إثارة االهتامم‬ ‫بتطويرها‪ .‬ومبجرد انحسار املاء عن القسم األعظم من هذه‬ ‫األرض‪ ،‬وامتالئها وزراعتها‪ ،‬بنى إبراهيم باشا‪ ،‬اإلبن األكرب ملحمد‬ ‫رصا ملك ًّيا هو‬ ‫عيل‪ّ ،‬‬ ‫مؤسس مرص الحديثة‪ ،‬ووريثه أيضً ا‪ ،‬ق ً‬ ‫"القرص العايل"‪ ،‬فوق تلك األرض التي كانت يف السابق موحلة‪.‬‬ ‫كان ذلك أول مبنى يف تلك املنطقة‪ .‬بعد بضع سنوات‪ ،‬بنى‬ ‫رصا آخر‪ ،‬هو "قرص النيل"‪،‬‬ ‫الحاكم التايل‪ ،‬الخديوي سعيد‪ ،‬ق ً‬ ‫الذي ُح ّول بعد عقد إىل مقر للجيش املرصي‪ ،‬وثكنات الجند‪،‬‬ ‫ووزارة الحرب‪.‬‬ ‫عىل الرغم من قيام خليفة الخديوي سعيد‪ ،‬إسامعيل‪ ،‬ببناء‬ ‫قرص أيضً ا فوق أرض مستصلحة من السبخات‪" ،‬قرص اإلسامعيلية"‪،‬‬ ‫إال أن الخديوي إسامعيل ترك أث ًرا فعل ًيا عىل التط ّور الحرضي‬ ‫للقاهرة‪ ،‬يف مكان آخر‪ .‬وإذ عزم عىل جعل القاهرة مرآة لعالقاتها‬ ‫االقتصادية والثقافية مع أوروبا‪ ،‬وكذلك تعزيز صورته كحاكم‬ ‫ألمة حديثة‪ ،‬مستبقًا بالتحديد افتتاح قناة السويس يف ‪،1869‬‬ ‫فقد أراد إسامعيل للمدينة أن تتط ّور بحسب املبادئ األوروبية‪.‬‬ ‫زرعت الحكومة أساليب حرضية وهندسة عمران ّية من باريس‬ ‫القرن التاسع عرش‪ ،‬يف أرض مستنقع ممتد بني النيل واملدينة‬ ‫القدمية املنتمية إىل القرون الوسطى‪ ،‬داعية مقاولني من القطاع‬ ‫الخاص للبناء يف ٍ‬ ‫أرض جرى الحفاظ عىل رخصها بهدف التنمية‬ ‫الرسيعة‪ .‬سلك منو املدينة يف مساره الثابت نحو ما سيُعرف‬ ‫باسم "ميدان التحرير"‪ .‬وبتسجيله الخروج عن محور الشامل‪-‬‬ ‫غي مرشوع إسامعيل يف التنم ّية‪ ،‬املسار‬ ‫الجنوب التاريخي‪ّ ،‬‬ ‫التاريخي للنمو الحرضي للمدينة‪.‬‬ ‫أكرث من هذا‪ ،‬وعىل عكس الطرق الض ّيقة واملتع ّرجة‬ ‫للمدينة‪ُ ،‬عرِف امليدان الجديد‪ ،‬امل ُسمى "إسامعيلية"‪،‬‬ ‫ببولفاراته العريضة املتش ّعبة‪ ،‬وميادينه املفتوحة‪ ،‬وبشوارع‬ ‫مضاءة مبصابيح الغاز‪ ،‬وحدائق ودار لألوبرا‪ .6‬ووصف كث ٌري من‬ ‫املؤ ّرخني اإلسامعيلية بأنها "قاهرة ثانية"‪ُ ،‬مل ّمحني إىل امتالك‬ ‫‪7‬‬ ‫حي‬ ‫املدينة هوية مزدوجة‪ :‬محل ّية وحديثة ‪ .‬وقد توازى ظهور ّ‬ ‫أورويب الطابع مع صعود تدريجي لربجوازية مرصيّة أوروبية‬ ‫التو ّجه‪ ،‬وكذلك مع تدفّق جموع دوليّة تحتاج إىل فنادق‪ ،‬وتتوقّع‬ ‫أساليب حديثة يف الراحة والرتفيه‪ .‬وجيء بالرثوات الرضورية‬

‫‪4- Dona Stewart, “Changing Cairo: The Political Economy of Urban Form,” Interna‬‬‫‪tional Journal of Urban and Regional Research 23, no.1(1999):130.‬‬ ‫اللبنانية‪.)2003 ،‬‬ ‫المصرية‬ ‫‪ -5‬عباس الطرابلي‪" ،‬أحياء القاهرة المحروسة" (القاهرة‪ :‬الدار‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬

‫‪6- Max Rodenbeck, Cairo: The City Victorious (New York: Picardo, 1998).‬‬ ‫‪7- Janet Abu-Lughod, Cairo (Princeton: Princeton University Press, 1971).‬‬

‫املشهد ‪ :1‬املراكز الحرضية قبل االستعامر‬ ‫قاهري معارص عرب الزمان‪ ،‬رجو ًعا إىل مطلع القرن‬ ‫لو نُ ِقل‬ ‫ّ‬ ‫رضا "ميدان التحرير"‪،‬‬ ‫التاسع عرش‪ ،‬ليصل إىل املوقع امل ُسمى حا ً‬ ‫فلسوف تُد ِهشه رؤية مكان تؤلّفَه مفازات من الوحل منترشة‬ ‫بني سبخات واسعة يف مستنقع كبري‪ ،‬واألكرث أهمية‪ ،‬حالته‬ ‫كمكان بعيد عن الكتلة الحرضية للمدينة يف الرشق‪ .‬منذ‬ ‫إنشاء "الفسطاط"‪ ،‬قاهرة القرون الوسطى وأول مدينة ملك ّية‪،‬‬ ‫يف العام ‪ 640‬م‪ ،‬إىل منتصف القرن التاسع عرش‪ ،‬سار النمو‬ ‫الحرضي للمدينة ملتز ًما محور الشامل‪ -‬الجنوب‪ ،‬منضغطًا‬ ‫بني تالل املقطّم يف الرشق‪ ،‬واألرايض امل ُع ّرضة للفيضان وتراكم‬ ‫الطمي‪ ،‬يف الغرب‪ .‬خالل القرنني ‪ 13‬و‪ ،14‬انتقل مجرى نهر النيل‬ ‫رسا عن األرض التي ستُصبِح "ميدان‬ ‫تدريج ًيا باتجاه الغرب‪ ،‬منح ً‬

‫‪39‬‬


‫خُ طط‬

‫ّ‬ ‫كل فسحة عند تقاطع طرق مثّلت لنظام بن علي فرصة للدعاية‪.‬‬ ‫السياسية‪.‬‬ ‫الرقم سبعة كان بمثابة شعار ورمز لسيرة النظام‬ ‫ّ‬

‫تصوير ربيكا ديلون‬

‫‪48‬‬


‫السلطة‪ :‬تج ّليات االعتراض في تونس بن علي‬ ‫مشاهد من ّ‬

‫الريسا تشومياك‬

‫ﺗﻮﻧﺲ‬ ‫اﻟﺤﻤﺎﻣﺎﺕ‬ ‫ﹼ‬ ‫ﺳﻮﺳﺔ‬

‫ﺳﻴﺪﻱ ﺑﻮ ﺯﻳﺪ‬ ‫اﻟﻤﺘﻮﺳﻂ‬ ‫اﻟﺒﺤﺮ اﻷﺑﻴﺾ‬ ‫ﹼ‬

‫السلطة‪:‬‬ ‫مشاهد من ّ‬ ‫تجلّيات االعرتاض يف تونس بن عيل‬ ‫خلف مشهد الوقائع الذي نقله اإلعالم عن الثورة التونس ّية مث ّة لحظات تظاهر وتنظيم سبقت‪ ،‬م ّهدت الطريق أمام التونسيني للعودة إىل‬ ‫األمكنة العامة‪ .‬لكن السؤال يبقى‪ :‬هل اسرت ّد التونسيون أمكنتهم العا ّمة ً‬ ‫فعل؟‬

‫الريسا تشومياك‬ ‫مجسامت الرقم ‪ 7‬الذي كان‬ ‫الصور الضخمة لرئيسهم‪ ،‬ويد ّمرون ّ‬ ‫يرمز إىل توقيت استالم بن عيل السلطة يف السابع من ترشين‬ ‫الثاين (نوفمرب) سنة ‪ .1987‬هذه الحملة لتفكيك وتدمري هالة بن‬ ‫رسا‪ ،‬وصلت إىل ذروتها يف التظاهرات الحاشدة‬ ‫عيل املفروضة ق ً‬ ‫التي أعقبت السابع عرش من شهر كانون األول (ديسمرب) ‪،2010‬‬ ‫تاريخ إقدام البوعزيزي عىل إحراق نفسه يف بلدة سيدي بوزيد‬ ‫الجنوبية ‪.‬‬ ‫يف خضم تلك األحداث‪ ،‬وجد التونسيون أنفسهم منخرطني‬ ‫يف التعبري عن مطالبهم يف األماكن العا ّمة عىل نح ٍو مل يسبق‬ ‫لهم أن اختربوه من قبل‪ ،‬يف الوقت الذي كانت فيه مثل هذه‬ ‫األفعال ت ُص ّنف خالل حكم بن عيل يف خانة الجرمية واألفعال‬ ‫أصل‪.‬‬ ‫املنافية للعقل‪ ،‬هذا إن مل تكن خارج نطاق تخيّل حدوثها ً‬ ‫ذاك التدمري املوث ّق ملظاهر السلطة السياسية‪ ،‬والذي إن ّ‬ ‫دل‬

‫يف العارش من شهر كانون الثاين (يناير) من سنة ‪ ،2011‬وقبل أربعة‬ ‫أيّام عىل اندالع الثورة التونسية التي أطاحت ثالثة وعرشين‬ ‫عا ًما من الحكم الديكتاتوري لزين العابدين بن عيل‪ ،‬بدأت‬ ‫حممات‬ ‫أرشطة فيديو ملجموعة من املواطنني التونسيني يف بلدة ّ‬ ‫الساحلية باالنتشار عىل موقع اليوتيوب وهم يتسلّقون لوحة‬ ‫إعالنات كبرية‪ ،‬مم ّزقني صورة عمالقة لنب عيل ومتع ّمدين ش ّد‬ ‫االنتباه إىل هذا العمل الذي كان يع ّد إجراميًا آنذاك‪ .‬بناء عىل‬ ‫هذه األحداث‪ ،‬واكبت األقامر الصناع ّية التونسية يف منطقة‬ ‫الساحل انبثاق حركات املقاومة السياسية والتي بدورها‬ ‫ستشق طريقها إىل العاصمة‪ .1‬فبعد أيام قليلة عىل بثّ مقاطع‬ ‫ّ‬ ‫اليوتيوب األوىل‪ ،‬أخذت مقاطع وصور أخرى بالظهور‪ ،‬هذه امل ّرة‬ ‫ملواطنني من تونس العاصمة ومختلف املناطق واملدن‪ .‬حشود‬ ‫من التونسيني أظهرتهم هذه الفيديوات و ُهم مي ّزقون ويحرقون‬

‫السياسية‬ ‫تطورت هذه البلدة في أعوام الستينيات كموقع للسياحة غير المكلفة للزائرين الغربيين وللميسورين التونسيين وأعضاء النخبة‬ ‫كيلومترا عن تونس العاصمة‪ ،‬وقد‬ ‫‪ -1‬الحمامات هي بلدة تبعد سبعين‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬

‫المقربين لبن علي في الحمامات كان من أول المواقع التي هاجمها المتظاهرون في ‪ 13‬كانون الثاني (يناير)‪.2011 ،‬‬ ‫المقربين من الديكتاتور‪ .‬قصر الشاطئ الذي كان يملكه أحد‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬

‫‪49‬‬


‫خُ طط‬

‫شخصية بن علي على مدى أعوام قبل ثورة العام ‪.2011‬‬ ‫أعالم وصور بين البيوت واألبنية احتفلت بنموذج‬ ‫ّ‬

‫تصوير كارسنت تن برينك‪ ،‬فليكر‬

‫‪50‬‬


‫السلطة‪ :‬تج ّليات االعتراض في تونس بن علي‬ ‫مشاهد من ّ‬

‫الريسا تشومياك‬

‫الرتاكم التدريجي للمقاومة السياس ّية يف تونس بن عيل‪ ،‬نشأ يف األصل خلف‬ ‫األمكنة العا ّمة ومساحات التواصل االجتامعي التقليديّة‪.‬‬ ‫عىل يشء‪ ،‬فعىل حالة السخط الجامعي التي بدورها تعكس طمس الفضاء السيايس‬ ‫ما أطلق عليه آصف بيات مصطلح الـ "ال حركة االجتامعية"‪ ،‬خالل حكم بن عيل‪ ،‬وجد التونس ّيون أنفسهم محارصين بأشكال‬ ‫أو "زحف العا ّمة البطيء" يف مواجهة الرئيس السابق وسياساته‬ ‫تجسد‬ ‫مختلفة من فعل تأليه الحاكم‪ .‬برصيًا‪ ،‬ع ّمت البالد ملصقات ّ‬ ‫‪2‬‬ ‫الديكتاتورية ‪ .‬متزيق وإتالف مظاهر االحتفاء بحكم بن عيل إ ّما الحاكم نفسه أو ما ميثّله‪ ،‬كتاريخ اعتالئه الحكم يف ‪ 7‬ترشين‬ ‫يدلن‬ ‫من لوحات وإعالنات ومتاثيل منترشة يف األماكن العامة‪ّ ،‬‬ ‫يل البالد إثر انقالب غري‬ ‫ا عىل ما ميكن أن نسميه أفعالً بدائية للتحدّي الجامعي الثاين (نوفمرب) ‪ 1987‬حني استلم بن ع ّ‬ ‫أيضً‬ ‫‪3‬‬ ‫دموي أطاح الحبيب بورقيبة (‪ . )1987 – 1956‬ويف حركة اكتساح‬ ‫وخطوة متهيدية القتالع بن عيل‪ ،‬وهو املطلب الجامعي الذي لألماكن العامة‪ ،‬كانت مظاهر االحتفاء بنب عيل إىل حد العبادة‬ ‫أق ّر الرابع عرش من كانون الثاين (يناير) يو ًما للتظاهر وللدعوة تظهر عىل شكل ملصقات عمالقة يصل حجمها وارتفاعها أحيانًا‬ ‫لرحيل الرئيس ويف الوقت نفسه مقدمة الستعادة األماكن العا ّمة إىل حجم طابقني وارتفاعهام‪ ،‬نجدها عىل املباين ولوحات االعالنات‬ ‫من قبضة السياسة‪.‬‬ ‫يف الشوارع‪ ،‬باإلضافة إىل أعدا ٍد ال تحىص من أعالم بنفسجية‬ ‫تونس‬ ‫يف‬ ‫السياسية‬ ‫املقاومة‬ ‫لفعل‬ ‫التدريجي‬ ‫بيد أن الرتاكم‬ ‫صغرية تحمل صورة القائد أو الرقم ‪ُ 7‬محتلّة الشوارع والساحات‬ ‫التقليدية‬ ‫ة‬ ‫م‬ ‫العا‬ ‫األماكن‬ ‫خارج‬ ‫من‬ ‫انطلق‬ ‫عيل‪،‬‬ ‫أثناء حكم بن‬ ‫ّ‬ ‫العا ّمة وأماكن التج ّمع والحدائق‪ .‬كام انترشت بني املباين لوحات‬ ‫ِ‬ ‫ّ‬ ‫كالساحات والحدائق‪ ،‬والتي غالبًا ما كانت تُنتخب وتُع ّد مناسبة تحمل املقوالت السياسية‪ .‬وكانت ملصقات الديكتاتور السابق‬ ‫األماكن‬ ‫معظم‬ ‫أن‬ ‫نجد‬ ‫‪،2011‬‬ ‫عام‬ ‫قبل‬ ‫الشعبية‪.‬‬ ‫ات‬ ‫ر‬ ‫للتظاه‬ ‫تخضع لتعديالت بواسطة الفوتوشوب إلظهاره أكرث شبابًا‬ ‫العامة املتعارف عليها كانت مساحات للدعاية السياسية‬ ‫بالزي الغريب الحديث مع ربطة عنق وتارة أخرى‬ ‫وصحة‪ ،‬تارة ّ‬ ‫للحكومة وبقيت كذلك طوال فرتة الحكم‪ .‬أحد امليادين البديلة‬ ‫بالزي التونيس التقليدي‪ .‬أشكال تقديم الرئيس يف الصور كانت‬ ‫ّ‬ ‫لذلك كان ملعب كرة القدم‪ ،‬حيث مل يكتف الجمهور بتشجيع مقترصة عىل ثالث وضعيّات‪ :‬واحدة تظهره واض ًعا يده عىل قلبه‬ ‫فريقه‪ ،‬بل وجدها فرصة لتأليف ونرش أناشيد وأغان تتناول وكأنه يقول إن الشعب دامئًا يف قلبي‪ .‬الثانية بيدين مشبوكتني‬ ‫الحياة السياسية وتنتقد الحكّام‪ ،‬مواجهني بذلك أفراد الرشطة يف إشارة مفرتضة إىل وحدة الشعب‪ .‬والثالثة تُظهره وذراعيه يف‬ ‫الذين بدورهم ّ‬ ‫يجسدون قمع بن عيل‪ .‬قبل نشوب أشكال األعىل مفتوحتني يف داللة مفرتضة أيضً ا عىل الرخاء واالزدهار‬ ‫متوقعة أخرى من التنديدات يف ساحات تونس العامة‪ ،‬قامت الذي ع ّم البالد أثناء حكمه‪ .‬أ ّما الرسائل أو املقوالت السياسية‬ ‫أشكال ّ‬ ‫رسية ومشفّرة من املقاومة بتمهيد الطريق لتظاهرات التي غالبًا ما رافقت لوحات صوره‪ ،‬فكانت تُقترص عىل تبشري‬ ‫أكرث وضو ًحا يف مطالبها‪ .‬وما لبثت أن انصهرت جميع هذه الرئيس شعبه بالتقدّم والتطور‪ .‬وامتدّت مظاهر التأليه هذه‬ ‫الحركات‪ ،‬شيئًا فشيئًا‪ ،‬يف حركة ثورية جريئة وقويّة حطّمت لتبلغ أيضً ا الكتب املدرس ّية واملشهد السيايس العام يف البالد‪،‬‬ ‫مظاهر عبادة الفرد يف األماكن العا ّمة لتصل الحقًا إىل املطالبة كمسريات الرشطة واالنتخابات‪ ،‬ومطبوعات يكرث انتشارها مليئة‬ ‫برحيل الديكتاتور‪ .‬وإن كان الفضل يف اكتساح التظاهرات بصور الديكتاتور‪ .‬وقد بلغ ذلك األمر درجة إرغام الشعب عىل‬ ‫للشارع العريب‪ ،‬يعود إىل حادثة إحراق البوعزيزي نفسه‪ ،‬فإن رشاء بطاقات أنشطة ثقافية وسياسية مقامة تحت رعاية حزب‬ ‫أسبابًا تراكمية أكرث درامية من ذلك كانت سب ًبا يف تصعيد التجمع الدستوري الدميقراطي‪ )RCD( 4‬الذي ميثل بن عيل‪.‬‬ ‫حمالت املقاومة يف تونس‪.‬‬ ‫يف دراستها ملظاهر عبادة الفرد يف سوريا تحت حكم‬ ‫حافظ األسد‪ ،‬كتبت ليزا ويدين أ ّن طقوس التأليه السيايس هذه‬ ‫علي السلطة في ‪ 7‬تشرين الثاني (نوفمبر)‪.‬‬ ‫فورا إلى تاريخ استالم بن‬ ‫وأحد عشر) مما يحيل السامع‬ ‫ً‬ ‫ّ‬

‫‪2- Asef Bayat, Life as Politics: How Ordinary People Change the Middle East (Stan‬‬‫‪ford, CA: Stanford University Press, 2010), 4346.‬‬ ‫‪ -3‬نظام بن علي الحاكم‪ ،‬استخدم الرقم سبعة في مواضع وطرق ال تحصى ليبقي تاريخ استالمه‬ ‫الجوية التونسية السابقة‪،Seven Gel ،‬‬ ‫حاضرا‪ .‬األمثال كثيرة‪ ،‬منها‪ ،Seven Air :‬الخطوط‬ ‫السلطة‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫مستحضر تجميلي منتشر لشعر الرجال‪ ،‬ومقاه تحمل اسم الرقم سبعة مثل ‪ Seven Sky Café‬و ‪Café‬‬ ‫‪ . November‬في نهاية عام ‪ ،1990‬تحول مفتاح رقم الهاتف في تونس إلى ‪ ،71‬يلفظ بالفرنسية (سبعة‬

‫‪ -4‬فاز بن علي بجميع االنتخابات الرئاسية خالل فترة حكمه بنسبة تراوح بين ‪ 95‬و‪ 99‬في المئة من‬

‫األصوات‪ ،‬والحزب الحاكم ‪ RCD‬حصد أكثر من ‪ 90‬في المئة من المقاعد في المجلس التشريعي في كل‬ ‫دورة انتخابات‪ ،‬مع السماح ببعض المقاعد الرمزية لألحزاب المعارضة التي كانت تحت حكمه‪.‬‬

‫‪51‬‬


‫السلطة‪ :‬تج ّليات االعتراض في تونس بن علي‬ ‫مشاهد من ّ‬

‫الريسا تشومياك‬

‫تشري اندفاعات التح ّدي الجامع ّية إىل تلك اللحظات املحوريّة التي أُفصح‬ ‫فيها عىل املأل مبا كُبت من مواقف‪.‬‬ ‫واالستقرار‪ .‬وأدّت تلك األعامل عىل نحو غري مقصود إىل تذكري‬ ‫التونسيني بعبثيّة بن عيل السياسيّة التي استدعت التظاهرات‬ ‫الدراماتيك ّية يف العامني ‪ 2010‬و‪ .2011‬فرتاصف فضاءات‬ ‫السيطرة وتداخلها‪ ،‬مبواجهة فضاءات التم ّرد‪ ،‬وهي الفضاءات‬ ‫املتناولة يف هذه املقالة‪ ،‬تكشف ثقافة مقاوم ٍة عا ّمة يف تونس‬ ‫لها ماضيها ومسارها التط ّوري‪ .‬فسواء بدأ األمر بالسخرية‬ ‫الرسية من بن عيل ونظامه يف البيوت واملقاهي والحانات‬ ‫الصغرية وسط العاصمة‪ ،‬أو من خالل الهتافات التي تستحرض‬ ‫السياسة يف الفضاءات اآلمنة نسب ًيا ملالعب كرة القدم‪ ،‬فإ ّن‬ ‫التونسيني كانوا‪ ،‬بال ّ‬ ‫شك‪ ،‬قد بدأوا بالنيل من نظام بن عيل قبل‬ ‫سنوات من ثورة ‪ 14‬كانون الثاين (يناير) ‪.21 2011‬‬ ‫اليوم يبدو استخدام املساحات العامة من قبل املواطنني‬ ‫متغيا عىل نحو جذري‪ ،‬لكن ليس بالرضورة إىل‬ ‫التونسيني ّ ً‬ ‫األفضل‪ .‬يف نظرة إىل التغيري الحاصل يف املناخني االجتامعي‬ ‫والسيايس يف تونس عقب الثورة‪ ،‬نجد أن األمكنة العامة التي‬ ‫كانت يف فرتة ما خاضعة للتنظيم والسيطرة‪ ،‬قد غدت مسارح‬ ‫شغب‪ .‬فيام احتجاجات الشوارع قد أضحت أسلوب ٍ‬ ‫تعاط‪.‬‬ ‫وحاولت الحكومة املوقتة التي يقودها اإلسالميون املمثلون‬ ‫بحزب "النهضة" السيطرة من جديد عىل هذه األمكنة عرب‬ ‫طرد املتظاهرين منها وحظر التظاهر يف جادة بورقيبة‪ ،‬النواة‬ ‫املكانية لثورة ‪ .2011‬ويف الوقت الذي كانت فيه التحليالت‬ ‫الخارجية تشيد بتقدم تونس نحو الدميقراطية عقب االنتخابات‬ ‫التي جرت يف ‪ 23‬ترشين األ ّول (أوكتوبر)‪ ،2011‬بقي العديد‬ ‫من التونسيني يف موقع انتقاد لالئتالف الحكومي‪ .22‬أسباب‬ ‫كثرية دعت للريبة من هذه الحكومة‪ ،‬منها الدور السيايس غري‬ ‫املحدّد متا ًما لإلسالميني‪ ،‬وانخفاض مستوى الحفاظ عىل األمن‬ ‫عقب هجامت عىل السفارة األمريكية واملعارض الف ّنية والحانات‬ ‫ومراكز الرشطة‪ ،‬كام أمكنة عامة أخرى‪ ،‬وصولً إىل اغتيال‬ ‫املعارض السيايس العلامين شكري بلعيد‪ .‬األهم من هذا كلّه‪،‬‬ ‫هو أن تونسيني ك ًرثا اليوم باتوا يخشون عودة الديكتاتورية من‬ ‫جديد وخسارة مكتسبات الثورة‪ ،‬بل أكرث من ذلك‪ ،‬باتوا يخشون‬

‫كل من يرتدي األبيض يف ذاك املكان‪ ،‬لك ّن التحذيرات مل ت ِنث‬ ‫جميع املتعاطفني مع التح ّرك‪ .‬يف صباح اليوم التايل‪ ،‬ما إن بدأت‬ ‫الحشود املرتدية الثياب البيض بالتوافد حتى سارعت الرشطة‬ ‫إىل مالحقتهم وتفريقهم منذ الساعة األوىل لظهورهم‪ .‬ومل مت ّيز‬ ‫الرشطة بني املشاركني الفعليني وبني غريهم من الناس العاديني‬ ‫الذين ال عالقة لهم باملوضوع وصادف ارتداؤهم األبيض يف ذاك‬ ‫النهار‪ ،‬األمر الذي فاقم حالة الغضب الشعبي عند الجميع‪ .‬لكن‬ ‫ال الحشد األبيض وال االحتجاج التقليدي تحقّق بالطريقة التي‬ ‫كان يأملها املنظمون‪ .‬مع ذلك‪ ،‬وقبل مثانية أشهر من التظاهرات‬ ‫التي أدت إىل سقوط بن عيل‪ ،‬ق ّرر املواطنون التونسيّون أ ّن قمع‬ ‫الرشطة لن مينعهم من النزول إىل الشوارع‪.‬‬ ‫يف ‪ 14‬كانون الثاين (يناير) ‪ ،2011‬عاد التونسيون مرة ثانية‬ ‫إىل جادة الحبيب بورقيبة‪ ،‬مز ّودين هذه امل ّرة بتجربة أكرث‬ ‫تنظيمي‬ ‫نض ًجا يف اختبار احتامالت املقاومة‪ ،‬وسائرين يف سياق‬ ‫ّ‬ ‫وضعه الناشطون أنفسهم الذين نظّموا تح ّرك "تونس البيضاء"‪.‬‬ ‫ص ّعد املتظاهرون هتافاتهم إىل ح ّد املطالبة بسقوط بن عيل‪،‬‬ ‫مح ّولني كلامت أغاين كرة القدم الحامسية وهتافاتها إىل كلامت‬ ‫أغنيات وهتافات ثوريّة‪ .‬ساهمت ثقافة كرة القدم بتزويدهم‬ ‫توسع فضاءات املقاومة وانتقالها من‬ ‫بنغامت مو ّحدة‪ .‬وعرب ّ‬ ‫امللعب إىل الشارع‪ ،‬ساهم اختالط الوالءات الكرويّة بالهموم‬ ‫مواطني يف أبهى مراحل‬ ‫الجامعيّة املشرتكة يف نشوء تضامن‬ ‫ّ‬ ‫تونس السياس ّية‪.‬‬ ‫أفكار ختامية عن املكان والسياسة‬ ‫بعد سنتني من اندالع ثورة ‪ ،2011‬حافظت الوثائقيات التي‬ ‫صنعها هواة لرتوي الحدث العام املتمثّل باقتالع بن عيل من‬ ‫الحكم عىل أوج شعبيّتها‪ ،‬إذ غدت وسيلة لتذكري التونسيني‬ ‫مبدى االستياء الذي عانوه نتيجة سيطرة بن عيل عىل كافة‬ ‫جوانب حياتهم‪ .‬الهيمنة عىل األماكن العامة يف العاصمة‬ ‫بشعارات جوفاء عن الليربالية السياسية والتقدّم االقتصادي‬ ‫ببث المباريات على التلفزيون‪ .‬في البيئة‬ ‫‪ -21‬منذ قيام الثورة‪ ،‬أُغلقت جميع مالعب كرة القدم‪ ،‬واكتفي‬ ‫ّ‬

‫‪22- Alfred Stepan, “Tunisia’s Transition and the Twin Tolerations,” Journal of‬‬ ‫‪Democracy 23, no. 2 (April 2012): 89–103.‬‬

‫الثورية الهشة لتونس تقول الدولة إن ليس لديها ما يكفي من قوات األمن للسيطرة على المواجهات‬

‫مشجعي المالعب والشرطة‪ .‬سجاالت الهوية التي جرت في مالعب كرة القدم قبل الثورة‬ ‫المحتملة بين‬ ‫ّ‬

‫لم تختف‪ ،‬واستمرت تدور على ألسنة المشجعين عبر هتافات كرة القدم خارج الملعب‪.‬‬

‫‪59‬‬


‫خُ طط‬

‫‪58‬‬


‫تود رايس‬

‫ُمخططات تبتلعها األرض‬

‫‪63‬‬


‫محاورة‬

‫مقابلة مع عبد الرحمن مخلوف‬

‫ُمخططات تبتلعها األرض‬

‫ابن مفتي مرص اختري ليكون مرشد اململكة العربية السعودية ومرص وأبو ظبي إىل الحداثة العمران ّية‪.‬‬ ‫طي أفكاره عن املدينة العربية وطمس أثرها؟‬ ‫ولكن كيف انتهت األمور إىل ّ‬

‫تود رايس‬ ‫مجسم اقتراحه التخطيطي لساحل أبو ظبي الشمالي‪.‬‬ ‫(فوق) مخلوف يشرح أمام الشيخ زايد ومسؤولين آخرين‬ ‫ّ‬

‫الخاصة للدكتور عبد الرحمن مخلوف‪.‬‬ ‫الصورة من املجموعة‬ ‫ّ‬

‫جوية ألبو ظبي تعود إلى العام ‪ .1973‬خالل‬ ‫والمخطط د‪ .‬عبد الرحمن مخلوف يشير إلى صورة‬ ‫(يسار) المهندس المعماري‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫جليا على أرض الواقع حضور الخطوط الحديثة التي ُك ّلف في وضعها‪.‬‬ ‫األعوام الخمسة التي عمل فيها بأبو ظبي‪ ،‬بات‬ ‫ًّ‬

‫تصوير زيا جافيتش‬

‫‪62‬‬


‫تود رايس‬

‫ُمخططات تبتلعها األرض‬

‫املديني عىل‬ ‫الرصوح العظيمة وأطاللها هي الشاهد عىل التاريخ الحرضي‪ .‬وإذا جاز أ ّن التاريخ هو قصة الغالبني‪ ،‬جىل التاريخ‬ ‫ّ‬ ‫تضمحل مع مرور الزمن‪ ،‬عىل ما تتبدد الذكريات‪ ،‬وتتآكل‬ ‫ّ‬ ‫وقصته‪ .‬فاألبراج والجسور والطرق الطويلة املع ّبدة ال‬ ‫صورة العمران ّ‬ ‫صفحات األرشيف ويصيبها التلف‪ .‬ولكن الذكريات واألرشيف هي مستودع أرسار املباين التي نُقبل عىل النزول فيها والبُنى التحتيّة‬ ‫التي نستخدمها‪.‬‬ ‫املديني يف مدن الخليج‪ ،‬ال ّ‬ ‫أنفك أشعر بالهول ازاء انسياب التاريخ وتبدّده‬ ‫والتنظيم‬ ‫ان‬ ‫ر‬ ‫العم‬ ‫حول‬ ‫املتواصلة‬ ‫عميل‬ ‫ويف فصول‬ ‫ّ‬ ‫ديني‪ ،‬مرصي‪ ،‬تعود‬ ‫من غري حفظ أو تدوين‪ .‬ولذا‪ ،‬عقدتُ آماالً كبرية عىل اللقاء بعبد الرحمن مخلوف‪ ،‬وهو مهندس معامري َم ّ‬ ‫إقامته يف أبو ظبي إىل عقود خلت‪ .‬وأول لقاء يل به كان يف ‪ ،2010‬بعد أن بلغني أنه ساهم يف مرشوع مد َّرج الشيخ زايد‪ ،‬وهو‬ ‫من أبهى املباين يف اإلمارات العربيّة املتّحدة‪ .‬وقادنا الحديث إىل عدد من املوضوعات التي أخذت أعدادها يف التزايد شيئًا فشيئًا‬ ‫عىل وقع تناسل الكالم وتداعيه‪ .‬فهو تتلمذ عىل يد جورغ فرنر يف "تكنيش هوسكول" ميونيخ (الكلية التقنيّة مبيونيخ)‪ 1‬بأملانيا ما‬ ‫املديني يف القاهرة التي كانت تسعى إىل استيعاب‬ ‫بعد الحرب العاملية الثانية‪ .‬وبدأ مسريته املهنية معامريًّا وخب ًريا يف التخطيط‬ ‫ّ‬ ‫تعاظم عدد سكّانها واللّحاق بركب حاجاتهم‪ .‬وهناك صادف معامريني مرصيني ذائعي الصيت من أمثال حسن فتحي وسيد‬ ‫كريم‪ .‬وأوكَلَت إليه األمم املتّحدة رسم أ ّول مخطط معامري شامل للمدن السعودية‪ .‬ثم انتقل إىل أبو ظبي مسؤولً عن التخطيط‬ ‫املديني‪ ،‬يف وقت كانت املدينة تسعى إىل اللّحاق بقاطرة الحداثة وطموحاتها‪ .‬خلّف د‪ .‬مخلوف بصمته يف مرحلة استثنائية من‬ ‫ّ‬ ‫املديني يف الخليج ومرص‪ ،‬وكان شاهدًا عليها‪ .‬وهو سعى إىل التوفيق بني ما يسمى طراز الحداثة الغربيّة والذائقة‬ ‫تاريخ التنظيم‬ ‫ّ‬ ‫املحلّية واإلقليم ّية‪.‬‬ ‫طي الكتامن يف أوساط جيل يشارف‬ ‫وخربة رجل واحد طوال عقود من العمل يف التخطيط‬ ‫املديني تروي تاريخًا مدينيًّا بقي ّ‬ ‫ّ‬ ‫الغني‬ ‫عىل الرحيل‪ .‬فهو يجمع بني التزام مبادئ التخطيط‬ ‫املديني األورويب وبني االنتساب إىل والده‪ ،‬وهو شيخ من شيوخ األزهر ّ‬ ‫ّ‬ ‫الديني‪ .‬ورحب د‪ .‬مخلوف بإطالعنا عىل قضايا وثيقة‬ ‫الرصح‬ ‫هذا‬ ‫عىل‬ ‫ل‬ ‫و‬ ‫أ‬ ‫وقت‬ ‫عن التعريف‪ .‬وإىل هذين املك ّونني‪ ،‬كان تتلمذه يف‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫املديني يف العامل العريب‪ .‬وهو اليوم رجل ودود يشارف عىل عامه التاسع والثامنني‪ ،‬ولكن الناظر إىل عينيه يرى‬ ‫الصلة بالتخطيط‬ ‫ّ‬ ‫ذهني وحضور‪ .‬فهو ال يزال الرجل الثاقب النظر واليقظ الذي يظهر يف عدد كبري من الصور القدمية‪،‬‬ ‫ّقاد‬ ‫ت‬ ‫ا‬ ‫مرآة‬ ‫بريقًا الم ًعا هو‬ ‫ّ‬ ‫تفصيل دقيقًا وشعره األسود املجعد ُمصفف بالزيت‪ ،‬إىل جانب الشيوخ والوجهاء العرب‪ .‬فهو كان معام ًرا‬ ‫ً‬ ‫مفصلة‬ ‫بدلة‬ ‫وهو يرتدي‬ ‫ّ‬ ‫طمو ًحا والم ًعا‪.‬‬ ‫ويقول د‪ .‬مخلوف إنه ال ينىس أن الله عاقب قارون جزاء غطرسته‪ ،‬فاجتافته األرض وابتلعته‪ .‬والقصص القرآين شاهد عىل‬ ‫أن القدير هو الذي يُعطي ويأخذ‪ .‬والذاكرة هي أُعطية كذلك‪ .‬ويشعر د‪.‬مخلوف باإلحباط‪ .‬فذاكرته ال تسعفه وتخونه فتنخرها‬ ‫فجوات النسيان‪ .‬وهذا ما ال يستسيغ اإلقرار به‪ .‬فهو ال يرغب يف أن ينىس‪ ،‬عىل قدر ما ال يرغب يف أن يُنىس ويضيع أثره‪ .‬ولذا‪ ،‬ال‬ ‫يرتدّد يف الكالم عىل أعامله‪ .‬فهو يعرف أن أحدًا لن يبادر إىل ذلك نيابة عنه‪ ،‬ولن يقول الفضل يعود إىل فالن‪ .‬فالنسيان طوى الطرق‬ ‫تصميم يف بعض الحاالت‪.‬‬ ‫التي خطّها‪ ،‬واملباين السكنيّة التي ص ّممها اندثرت‪ ،‬وتربّع محلّها نظري لها أوسع منها وأعىل ارتفا ًعا وأفضل‬ ‫ً‬ ‫املديني أن طفرة البناء املقبلة هي صنو ابتالع األرض لقارون‪.‬‬ ‫ويرى هذا امل ُخطط‬ ‫ّ‬ ‫ويف لقائنا‪ ،‬ح ّول د‪ .‬مخلوف قاعة االجتامعات الخاصة به إىل ما يشبه مركز معلومات زرعه بألواح تحمل تفاصيل أعامله‪،‬‬ ‫وتجمع بني النصوص والصور‪ ،‬وكأنها بيان سريته املهنية والشخصية‪ :‬تحدُّره من شيوخ يف األزهر‪ ،‬الجد والوالد‪ ،‬ودراسته يف أملانيا‪،‬‬ ‫تول‬ ‫وعرضه الخُطط املعامرية يف قصور أبو ظبي‪ .‬ودارت املقابلة وسط غابة األلواح هذه‪ .‬وعلت طاولة االجتامعات وثائق مكدسة ّ‬ ‫املديني يف متناوله‪ .‬ولكن ال يُخفى أن ُرزم الوثائق ال تحمل غري شطر ضئيل من قصة‬ ‫تنظيم دقيقًا‪ .‬وبدا أن التاريخ‬ ‫هو تنظيمها‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫ومم ال شك فيه‬ ‫العمران‪ .‬وال متيط األلواح والوثائق اللّثام عن تاريخ العمران عىل الرغم من إيحائها بأنها مستودع كل ما حصل‪ّ .‬‬ ‫التأن يف النظر إليها والفحص لسربها التاريخ‪.‬‬ ‫رشا إىل التاريخ‪ ،‬بل هي مراجع تقتيض ّ‬ ‫رسا مبا ً‬ ‫فإنّها ليست ج ً‬ ‫املديني ينساب من أيدينا‪ .‬حني ينظر املرء إىل جدّة ومكّة وأبو ظبي‪ ،‬يحسب أنّه يعرف هذه املدن وقصصها من‬ ‫والتاريخ‬ ‫ّ‬ ‫طريق إلقاء نظرة إىل برج الساعة أو الطريق الرسيع الضخم أو ساحات التزلج‪ .‬ولكن املرء يغفل التفاعل العابر للثقافات الذي‬ ‫رسم مسار هذه املدن املعقّد وخلّف هذه الشواهد العمرانية‪ .‬قصص األمكنة طُويت من غري أثر‪ ،‬فأضعنا فصولً طويلة من مالحم‬ ‫الحداثة‪.‬‬ ‫ت‪ .‬ر‪.‬‬

‫‪ -1‬إثر عمله في عدد من الوزارات في برلين في ألمانيا الهتلرية‪ ،‬أشرف فيرنر على إعادة إعمار مدينة أوغسبورغ بعد الحرب‪ .‬وبدأ التعليم في "تي أتش ميونيخ" في ‪ ،1951‬وتولى منصب اإلشراف والتخطيط المدني اثناء‬

‫إقامة مخلوف في ألمانيا‪.‬‬

‫‪65‬‬


‫محاورة‬

‫ً‬ ‫محاطا بذكرى إنجازات الماضي‪ .‬اللوحات‬ ‫صورة التقطت في السادس من تشرين الثاني (نوفمبر) ‪ ،2012‬للدكتور مخلوف في قاعة االجتماعات بمكتبه في أبو ظبي‬

‫عدة ألبو ظبي‪ .‬في أقصى اليسار إلى‬ ‫حصلها في القاهرة‪ ،‬دراسة الدكتوراه في ألمانيا‪ ،‬ومخططاته‬ ‫المبكرة التي‬ ‫الدينية‬ ‫المعروضة تُشير إلى ثقافته‬ ‫الم ّ‬ ‫ّ‬ ‫التوجيهية ُ‬ ‫والعربية ُ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫جوية لإلمارة التي يقيم فيها منذ العام ‪.1968‬‬ ‫األعلى تظهر صورة‬ ‫ّ‬

‫تصوير زيا جافيتش‬

‫‪64‬‬


‫تود رايس‬

‫ُمخططات تبتلعها األرض‬

‫واقتىض التقدّم يف مسرييت املهنية متابعة تعليمٍ عالٍ‪ ،‬وحيازة‬ ‫شهادة دكتوراه‪.‬‬ ‫وصارحت مدير الكلية بأنّني أرغب يف الدراسة‬ ‫ُ‬ ‫يف انكلرتا‪ ،‬وهي كانت يومها قبل َة معظم الطالب لدراسات‬ ‫يل الذهاب إىل أملانيا‪ .‬وك ّنا يف مطلع‬ ‫ما بعد التخ ّرج‪ .‬فاقرتح ع ّ‬ ‫الخمسينيات وأملانيا خرجت للت ّو من الحرب العامليّة الثانية‪.‬‬ ‫وقال إ ّن االطالع عىل تجربة أملانيا يف إعادة بناء ُمدنها مفيد‬ ‫وال غنى عنه‪.‬‬ ‫بعد العودة من ميونيخ مل ت ُِطل املكوث يف القاهرة‪..‬‬ ‫بعد عام عىل عوديت ُرشّ حت إىل التعاون مع األمم املتّحدة يف‬ ‫اململكة العربية السعودية حيث برزت الحاجة إىل خبري مسلم‬ ‫للعمل يف مكّة واملدينة‪ .‬وكان وراء فوزي باملنصب توصية من‬ ‫سيد كريم‪ 3‬ردفها كون والدي مفتي‪ 4‬مرص‪.‬‬ ‫وخالل إقامتي يف ميونيخ‪ ،‬راودين حلامن عن رسوم‬ ‫أصل كل صباح قبل أن تفتح‬ ‫املدينتني املقدّستني‪ .‬وكنت ّ‬ ‫الجامعة أبوابها‪ ،‬وقبلة صاليت مكّة‪ .‬وكنت آمل أن أكون ُمخطط‬ ‫هاتني املدينتني‪ ،‬وحلمت بذلك‪ .‬وتحقّق الحلم‪.‬‬

‫الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان (الرابع إلى اليسار)‪ ،‬حاكم أبو ظبي من ‪ 1966‬إلى‬ ‫صممها‬ ‫‪ ،2004‬يزور موقع العمل في ورشة بناء أسواق أبو ظبي الحديثة التي‬ ‫ّ‬ ‫وأشرف عليها عبد الرحمن مخلوف (الثاني إلى اليسار)‪ .‬هذه األسواق أزيلت‬

‫صممته شركة ‪.Foster + Partners‬‬ ‫بمجمع السوق المركزي الذي‬ ‫واستبدلت‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬

‫الخاصة للدكتور عبد الرحمن مخلوف‪.‬‬ ‫الصورة من املجموعة‬ ‫ّ‬

‫هل كانت مكّة منذ تلك االيام‪ ،‬يف ‪ ،1958‬قاطبة ملراكمة‬ ‫الرثوات يف قطاع العقارات؟‬ ‫آه‪ ،‬نعم‪ .‬وكان عدد كبري من الناس يطمح إىل مراكمة الرثوات‬ ‫واالرتقاء إىل مصاف املليونري‪ .‬ولذا‪ ،‬كان عدد من يريد التخلّص‬ ‫م ّني كب ًريا‪.‬‬ ‫يف أعوام قليلة رسمت مخطّطات لتوسيع عدد من املدن‬ ‫(السعودية) وتطويرها‪ .‬أي مدن هي؟‬ ‫كل املدن‪.‬‬ ‫مل تقترص أعاملك إذن عىل مكّة واملدينة وجدّ ة؟‬ ‫ال‪ ،‬شملت كل املدن‪ ،‬منها ينبع وجازان‪...‬‬

‫‪ -2‬األزهر اليوم ُيعرف بجامعة األزهر‪ ،‬وهو جامع يقع‬

‫في الجانب القديم من القاهرة الذي يعود إلى القرون‬

‫والرياض كذلك؟‬

‫الوسطى‪ .‬وهو لطالما اعتبر مركز التحصيل اإلسالمي‬ ‫منذ تأسيسه في القرن العاشر‪ .‬ويزعم د‪.‬مخلوف أن‬

‫والده أدخل الرياضيات إلى الدراسات الدينية يوم كان‬ ‫مسؤو ً‬ ‫ال فيه‪.‬‬

‫ال‪ ،‬باستثناء الرياض‪.‬‬

‫‪ -3‬سيد كريم هو أول مصري ينال شهادة دكتوراه في‬

‫الهندسة المعمارية‪ .‬وكان ذائع الصيت معماراً حداثوياً في‬

‫وهل أثرت املشكالت الناجمة عن التنافس والطمع يف‬ ‫تصميامتك املدين ّية يف اململكة العربية السعودية؟‬

‫القاهرة‪ .‬وتناولت مقالة "بور سعيد ‪ :1957‬مركز الحداثة‬

‫البوابة التّاسعة السابق‪ ،‬خريف‪،2012 ،‬‬ ‫المصرية" في عدد‬ ‫ّ‬

‫مشاريعه "القاهرية" وأعماله في بور سعيد‪.‬‬

‫‪ -4‬والد د‪.‬مخلوف‪ ،‬شيخ حسين محمد مخلوف‪ ،‬كان‬

‫مفتي مصر بين ‪ 1946‬إلى الخمسينات‪ .‬وفي مرحلة الحقة‪،‬‬

‫هذا الج ّو الذي يشوبه الطمع مل يكن حك ًرا عىل اململكة‬ ‫السعودية‪ ،‬بل كان متفشّ يًا يف املنطقة كلّها‪ .‬فهذه الدول كانت‬

‫تزامن عمل د‪.‬مخلوف في الخارج مع سفر والده إلى‬

‫الخليج والسعودية العربية للمساهمة في تأسيس رابطة‬ ‫العالم االسالمي‪.‬‬

‫‪67‬‬


‫محاورة‬

‫املديني هو‬ ‫التخطيط‬ ‫ّ‬ ‫رسالة اجتامعية‬

‫(استقبلني د‪ .‬مخلوف يف غرفة االجتامعات الخاصة به‪ .‬وبدأ يعرض ألواحه)‪.‬‬

‫شببت يف ما أس ّميه "منزل األجيال‬ ‫عبد الرحمن مخلوف‪:‬‬ ‫ُ‬ ‫الثالثة" يف القاهرة بضاحية العباسيّة‪ .‬ونزلت ثالثة أجيال يف‬ ‫مبنى واحد‪ ،‬فتجاورت يف السكن‪ .‬وانتقلت يف وقت الحق‬ ‫إىل مجموعة مبان متجاورة كأنها مجمع سكني‪.‬‬ ‫وعشت يف‬ ‫ُ‬ ‫الطابق األريض يف مبنى من طابقني‪ .‬ويف الدار صالتان الستقبال‬ ‫الضيوف‪ ،‬األوىل للرجال والثانية للنساء والخدم‪ .‬وس ّورت‬ ‫حديقة املنزل‪.‬‬ ‫‪2‬‬ ‫وجدّي كان عىل رأس األزهر وأستاذًا فيه‪ .‬وتتلمذت عليه‬ ‫يف حفظ القرآن وأصول اللغة العربية‪ .‬وكان يحثّني عىل الكالم‬ ‫باللغة الفصحى وترك العامية املحكية‪ .‬فساهم يف اكتسايب أصول‬ ‫الكتابة‪ .‬ومثل هذا اإلملام يقتيض التحصيل والتعلّم‪ ،‬عىل الرغم‬ ‫من أن شط ًرا راج ًحا من الكتابة هو ملكة من الله‪ .‬والكتابة‬ ‫الجذلة تقتيض اإلملام بالقرآن والحديث‪ .‬والقرآن يتف ّوق عىل‬ ‫التفكري البرشي ويعىص البرش تص ّوره‪ .‬وساهمت ملكة التنظيم‬ ‫أتحل بها يف يُرس كتابايت‪ .‬وأجد نفيس مشغولً بتنظيم كل‬ ‫التي ّ‬ ‫ما حويل يف الحياة الفعلية وعىل الورق‪ .‬فأنا ال أحتمل الفوىض‬ ‫وسوء التنظيم‪.‬‬ ‫تود رايس‪ :‬هل قادك الهوس بالنظام والتنظيم إىل عامل العامرة‬ ‫والهندسة؟‬ ‫ما قادين إىل الهندسة هو زيارة قرية جدّي‪ .‬ففي زياراتنا‪ ،‬كنت‬ ‫أشاهد املنازل مبنية من طني وليس من طوب‪ .‬ومع الوقت‬ ‫بادر عدد من الناس إىل البناء بالطوب‪ .‬فشعرت بالرغبة يف‬ ‫أن أحذو حذوهم‪ .‬ولك ّنني تساءلت ماذا عن منازل الجريان؟‬ ‫ستبقى عىل حالها ولو شيدنا منزلً من الطوب‪ .‬وأدركت يومها‪،‬‬ ‫وكنت ال أزال ياف ًعا‪ ،‬أن السبيل إىل تحسني معايري العيش‪،‬‬ ‫يحسن‬ ‫يقتيض تغيري طريقة البناء يف القرية كلّها‪ ،‬وال يكفي أن ّ‬ ‫واحدنا منزله‪.‬‬ ‫يبدو أنّك كنت منذ الصغر ُم ِ‬ ‫مهندسا‬ ‫خططًا عمران ًيا أكرث منك‬ ‫ً‬ ‫معامر ًيا‪.‬‬ ‫صحيح‪ ،‬كنت أقرب إىل ُم ِ‬ ‫خطط‬ ‫مديني‪ .‬ولسان حايل هو القول‬ ‫ّ‬ ‫إ ّن التخطيط‬ ‫املديني هو رسالة اجتامعية‪ .‬ويوم دخلت كلّية‬ ‫ّ‬ ‫طلب تدرس‬ ‫الهندسة يف جامعة القاهرة‪ ،‬انتسبت إىل مجموعة ّ‬ ‫املديني‪ .‬واخرتت فرع الهندسة والعمران لتعزيز‬ ‫التخطيط‬ ‫ّ‬ ‫املديني‬ ‫باملحيط‬ ‫االرتقاء‬ ‫عىل‬ ‫قدرايت‬ ‫يحسن رشوط‬ ‫ء‬ ‫ارتقا‬ ‫ً ّ‬ ‫ّ‬ ‫العيش فيه‪ .‬وهذا ما صبوتُ إليه وحلمت به‪.‬‬

‫أعدها‪ُ ،‬مستكشفً ا فيها‬ ‫الدكتور مخلوف يستعرض أطروحة الدكتوراه التي ّ‬

‫المصرية‪.‬‬ ‫قترحا تطبيقها في منطقة الجيزة‬ ‫وم‬ ‫نظرية‬ ‫تاريخ‬ ‫الحي السكني ُ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫تتضمن المزيد‬ ‫الصيغة التي ننشرها في موقعنا االلكتروني لهذه المحاورة‬ ‫ّ‬ ‫من النقاشات المتع ّلقة بعمل مخلوف في مصر‪.‬‬

‫تصوير زيا جافيتش‬

‫‪66‬‬


‫وسام سعادة‬

‫مكان الزمن الدائري‬

‫مكان الزمن الدائري‬ ‫هنا‪ ،‬يف كوناوت باليس‪ ،‬تشعر بحرية أكرب نسبيًا يف ابتكار‪ ،‬بل تلفيق‪ ،‬حكايتك مع املكان‪.‬‬

‫وسام سعادة‬ ‫يبيت فيها‬ ‫هذه الساحة بالذات هي مكا ٌن للوقت‪.‬‬ ‫الوقت ُ‬ ‫ُ‬ ‫ويتخ ّزن‪.‬‬ ‫صعب أن تح ّدد لساحة كوناوت يف وسط العاصمة‬ ‫ٌ‬ ‫يل الذي تحيلك إليه‪ .‬كولونيال ّية‬ ‫الهندية‬ ‫نيودلهي الوقت الفع ّ‬ ‫ّ‬ ‫العامرة ليست بح ّد ذاتها داللة عىل توقّف الساعة‪ .‬الحيوية‬ ‫التجاريّة للمكان ليست من النوع الذي مييض حتى آخر النهار‬ ‫من دون أن يرتك أبوابًا للضجر فيه‪ .‬كوناوت بدائرتيها‪ ،‬أو‬ ‫موسعة للطواف‪ ،‬لكنها أيضً ا مجموعة‬ ‫تا َجيها‪ ،‬هي مساحة ّ‬ ‫مداخل ومخارج للضجر‪ .‬ليس فيها إيقاع أحياء كوالبا‬ ‫وفورت يف مومباي‪ .‬ليس فيها زحمة وتقوى و"مجون" أزقة‬ ‫وحوانيت شاندين شوق يف دلهي القدمية‪ .‬كوناوت ببياض‬ ‫جدرانها الباهت‪ ،‬املتآكلة مبرور الزمن‪ ،‬وتوايل املواسم‪ ،‬ورحيل‬ ‫املستعمر‪ ،‬وقيام الرسدية االستقاللية ثم تص ّدعها‪ ،‬وإغفال‬ ‫االستقالل "التنموي" العناية مبراكز املدن وتراثاتها الحضارية‬ ‫والعمرانية لعقود‪ .‬كوناوت هي "الوسط املنسحب" ملدينة‬ ‫بأوساط ع ّدة‪ ،‬ولعلّها املنطقة "املحايدة ايجاب ًيا" بني مراكز‬ ‫دلهي األخرى‪ ،‬وبني أزمنة دلهي املتجاورة مكان ًيا‪ ،‬واملتداخلة‬ ‫بفعل التهافت والتداعي‪ .‬ففي دلهي‪ ،‬كام يف مومباي‪ ،‬عدسة‬ ‫الناظر بنظرتني‪ :‬املشهد الجامع املحيط كام هو يرتاءى بكليته‬ ‫وتفاصيل "عجقته" أمامك‪ ،‬واملشهد ذاته فيام لو " ُر ّمم"‪.‬‬ ‫صحيح أنك قد تنربي‪ ،‬من ث ّم‪ ،‬للدفاع عن "جاملية" املشهد‬ ‫كام هو‪ .‬جاملية تهافت العمران وبهتان الجدران ونعاس‬ ‫األروقة تحت البهو املمتد بشكل دائري‪ ،‬يف تاجني داخيل‬

‫‪79‬‬


‫المطوف‬ ‫ِّ‬

‫وأيضا مجموعة مداخل ومخارج‪.‬‬ ‫موسعة للطواف‪،‬‬ ‫في كوناوت باليس يبيت الوقت ويختزن‪ .‬المكان بدائريته هو مساحة‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫أنت في ساحة تمنعك من النظر إلى وسطها‪ ،‬إلى مركزها‪.‬‬

‫الصور من فيديو لزيا جافيتش‬

‫‪78‬‬


‫وسام سعادة‬

‫مكان الزمن الدائري‬

‫التساؤل هل نفذ إىل تلك العامرة الكولونيالية ال سيام يف دلهي‬ ‫وخصوصا "الحصن األحمر" أو‬ ‫يشء من عبق القالع املغولية‪،‬‬ ‫ً‬ ‫"الرد فورت" املهيمن عىل "دلهي القدمية"؟ تختلف العامرة‬ ‫الكولونيالية الربيطانية يف دلهي ومومباي وكولكاتا عن‬ ‫سواها‪ ،‬وعن األمناط الربتغالية (غووا) أو الهولندية (كرياال) أو‬ ‫الفرنسية (بونديتشريي)‪ ،‬يف أنها اسرتسلت يف إظهار الطابع‬ ‫األمرباطوري إىل درجة مل تعد ترمي فيه إىل إظهار "أمرباطورية‬ ‫بريطانيا" إمنا "أمرباطورية الهند الربيطانية"‪ .‬مبعنى من املعاين‪،‬‬ ‫ما كانت الهند "مستعمرة" مرتبطة بـ"أمرباطورية بريطانية"‬ ‫بل إن بريطانيا بنت يف الهند "أمرباطورية كاملة"‪ ،‬إمنا ملحقة‬ ‫بها‪ ،‬وتعاملت مع عاصمة "الراج" الربيطاين "نيو دلهي"‬ ‫ليس كـ"طرف ملحق بالحارضة"‪ ،‬أي باملرتوبول اللّندين‪ ،‬إمنا‬ ‫كمرتوبول من نوع آخر‪ .‬هذا الطابع املرتوبويل للفن املعامري‬ ‫الربيطاين يف دلهي قد ال يضاهي األبعاد األكرث تض ّم ًنا لألجواء‬ ‫االسترشاقية كام يف مومباي‪ّ ،‬إل أنه يحاول أن يقبض‪ ،‬عىل‬ ‫نحو أكرث حز ًما‪ ،‬عىل فكرة بناء أمرباطورية هنديّة بالتوليد‬ ‫"التوليفي" الربيطاين‪ .‬وبذلك فإ ّن اصطالح "األمرباطورية" يرتجم‬ ‫ّ‬ ‫هنا ببعد "إحيايئ روماين" ميكن تل ّمسه يف دلهي الربيطانية‬ ‫بالتحديد‪ ،‬ويف ساحة كوناوت ولو عىل شكل ترايث‪.‬‬ ‫يف أول مهبطي بالهند‪ ،‬أيلول (سبتمرب) ‪ ،2008‬كنت تح ّريت‬ ‫عن هذه الساحة بالتحديد قبل السفر‪ ،‬ورسمت لها انطبا ًعا‬ ‫أساسا من تعريفاتها وصورها عىل‬ ‫يف مخيّلتي‪ ،‬استمددته ً‬ ‫اإلنرتنت‪ .‬اصطدمت وقتها‪ ،‬عندما وصلت إليها يف الصباح‬ ‫الباكر بأمرين‪ .‬إنها أكرب كث ًريا مام كنت أتخيّل‪ .‬وإنها تبدو‬ ‫يف الصباح ليس فقط كساحة تستفيق بتثاؤب‪ ،‬بل كساحة‬ ‫هجرها أهلها يف الليل‪ .‬ساحة هجرتها الحياة منذ عقود‪،‬‬ ‫ورمبا مع جالء املستعمر‪ ،‬حيث أخذت العامرة الكولونيالية‬ ‫الربيطانية تأكل نفسها بنفسها وعىل نحو مزمن‪ .‬غري أين أذكر‬ ‫‪81‬‬


‫المطوف‬ ‫ِّ‬

‫وخارجي‪ ،‬بكوناوت‪ ،‬وبخط مستقيم‪ ،‬يف كوالبا مبومباي‪ّ .‬إل أن‬ ‫اندفاعك لتربير "الجاملية اآلن" ال تحدث مبعزل عن "إغراء‬ ‫ترميم" يسبقها‪ ،‬ويحملها‪ ،‬ويتسلّل اليها‪ ،‬وهو ترميم‪ ،‬أغرب‬ ‫ما فيه أن عينيك تصطنعه‪ ،‬إحيائيًّا باألبيض واألسود‪ ،‬أو يشء‬ ‫يعج بكل األلوان‪،‬‬ ‫من هذا‪ ،‬فيام الراهن‪ ،‬عىل بهتان جدرانه‪ّ ،‬‬ ‫وبكل الروائح‪ ،‬وبهذه "الروح" التي مث ّة "إجامع" بني املسافرين‬ ‫عىل وصفها بـ"رائحة الهند"‪ ،‬وهي رائحة من املمكن القول‬ ‫معي مشرتك حيثام تو ّجهت يف هذه‬ ‫إنها تحافظ عىل منسوب ّ‬ ‫البالد‪ ،‬من كشمري إىل كرياال‪ .‬رائحة "ميتافيزيقية" بعض اليشء‪،‬‬ ‫حسية متا ًما‪ ،‬تشت ّمها بأنفك‪ ،‬وتغلظ عليك بالنوستالجيا‬ ‫لكنها ّ‬ ‫كحب قديم‪ ،‬بشقاوة مهدوية‬ ‫كلام ابتعدت عن الهند‪ّ ،‬‬ ‫ملحاحة‪ ،‬ترتجم بنوبات من الرجعة‪.‬‬ ‫من الصعب متا ًما أن تنقل "رائحة الهند" بالكالم عنها‪ .‬لكنك‬ ‫إذا "سويت" املوضوع بوصفها رائحة املزيج بني التوابل‪،‬‬ ‫والعطور‪ ،‬واألجسام‪ ،‬البرشية منها والحيوانية‪ ،‬وكصدى ملزيج‬ ‫لو ّين‪ ،‬وصويتّ‪ ،‬فإ ّن كوناوت الدلهوية تلفت نظرك إىل معطًى‬ ‫أسايس "يركّب" رائحة الهند‪ :‬رائحة الجدران‪ .‬وهي يف جزء‬ ‫منها رائحة الكولونيالية‪ .‬ويف كوناوت تحدي ًدا‪ ،‬رائحة مجمع‬ ‫كولونيا ّيل البناء بالكامل‪ .‬ال يحتاج املرء لإلملام بحثيًا بتاريخ‬ ‫العامرة الكولونيالية الربيطانية من الناحية الفنية والجاملية‬ ‫ليدرك كم أتاحت هذه العامرة يف الهند للربيطانيني إطالق‬ ‫العنان ملخيال تخليطي بني أزمنة معامرية أوروبية مختلفة‪،‬‬ ‫كام لو أن التاريخ األورويب حني يص ّدره املستعمر يف فنه‬ ‫املعامري يصري زم ًنا دائريًا‪ .‬هذه العامرة الكولونيالية طرحت‬ ‫عىل نفسها تحدي ًدا يف الهند مسألة كيفية التناغم‪ ،‬وأيضً ا‬ ‫التنافس‪ ،‬وبينهام أمناط املحاكاة‪ ،‬مع أشكال العامرة املزدهرة‬ ‫يف شبه القارة عشية االستعامر الربيطاين‪ ،‬أو يف غضون متدده‬ ‫يف أنحائها شيئًا بعد يشء‪ ،‬ما احتاج إىل قرن كامل‪ .‬وميكن‬ ‫‪80‬‬


‫وسام سعادة‬

‫مكان الزمن الدائري‬

‫ويسد عليك المنافذ‪.‬‬ ‫دائري‪ .‬وهو يطرح نفسه عليك كسؤال‪ .‬أحيانًا تجده يحاصرك‬ ‫المكان أحيانًا ال يبدو ساحة‪ ،‬بل فقط طريق‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬

‫الصور من فيديو لزيا جافيتش‬

‫‪85‬‬


‫المطوف‬ ‫ِّ‬

‫دلهي‪ .‬مثة عدد من "امليغالوبوالت" التي تولد إحساس املركز‬ ‫يف الهند‪ .‬من فرادة كل مركز‪ ،‬سواء باملعنى األول أو باملعنى‬ ‫"لب املكان"‪ .‬ما مييز‬ ‫الثاين‪ ،‬إشعارك بأنك دخلت للت ّو إىل ّ‬ ‫كوناوت يف هذا ليس أنها مركز ملراكز ع ّدة‪ ،‬بل يف إنها معرب‬ ‫واصل وفاصل بني املراكز الدلهوية‪ .‬هي ليست داون تاون‬ ‫أو وسطًا‪ .‬هي وسط ملدينة بال وسط‪ .‬مدينة ال قسمة نهائية‬ ‫اصة‬ ‫بينها وبني الريف‪ .‬الريف يزحف حتى هنا‪ .‬البلوكات املرت ّ‬ ‫تتحول حني "عجنها" بالتجربة الطوافيّة أكرث إىل مجموعة‬ ‫من القرى‪ .‬الساحة دائرية نعم‪ .‬العامرة يخطفها الشكل‬ ‫الهنديس‪ ،‬نعم‪ .‬هندسة شاملة أمرباطورية‪ ،‬نعم‪ .‬لكنها أيضً ا‬ ‫مفكّكة‪ ،‬متداعية‪ ،‬متهافتة‪ ،‬وإىل ح ّد ما ميكن القول إنها "ساحة‬ ‫ممسوحة"‪ .‬ليس بسبب مرور الزمن‪ ،‬أو لوطأة مروره الثقيلة‬ ‫ربا لش ّدة احتجازه‪ّ ،‬‬ ‫لتخثه من فرط الطواف‬ ‫يف املكان‪ .‬بل ّ‬ ‫تحت الشمس‪.‬‬

‫‪Circular Time in Connaught Place‬‬ ‫‪Portal9journal.org‬‬

‫‪84‬‬


‫كتابات‬

‫البحث عن ميدانٍ للتحرير‬ ‫خالد خليفة‬

‫‪87‬‬



‫خالد خليفة‬

‫البحث عن ميدان للتحرير‬

‫األزقّة املتداخلة والحارات‪ ،‬ودو ًما يف نهاية ضياعنا ك ّنا نصل إىل الحديقة العا ّمة التي خطّطها الفرنس ّيون وتركوها‬ ‫منطقتي محطّة بغداد والعزيزيّة‪.‬‬ ‫مكانًا مثاليًّا للتائهني وعابري السبيل واملشّ ائني املبكّرين صبا ًحا من أبناء‬ ‫ّ‬ ‫حجري‬ ‫السقف‬ ‫ا‪.‬‬ ‫رت‬ ‫األوركس‬ ‫عازيف‬ ‫لوقوف‬ ‫يتوسط هذه الحديقة الرائعة سياج حجري ومقاعد صغرية حجريّة‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫مص ّمم لتوزيع الصوت عىل نحو ممتاز‪ .‬وأعترب نفيس من املحظوظني الذين شاهدوا ذات يوم فرقة رباعي وتري‬ ‫تعزف يف املكان ألحانًا كالسيك ّية‪ .‬ومن الناحية الجنوب ّية يفتح باب الحديقة عىل ساحة سعد الله الجابري‪ ،‬وهي‬ ‫عبارة عن مكان مفتوح حتّى سوق الهال جنوب سنرت حلب‪ ،‬مزروع باألشجار وتتوزّع فيه النوافري‪ .‬وبأقل من‬ ‫خمس دقائق س ًريا عىل األقدام ميكن الوصول إىل باب انطاكية الذي يوصلك السري فيه إىل القلعة بعد أن تخرتق‬ ‫أي مكان يف العامل‪.‬‬ ‫سوق املدينة الشهري‪ .‬مكان متشابك وال تشبه ذاكرته ّ‬ ‫‪III‬‬ ‫الصف‬ ‫أتحسس الطعم األ ّول لألمكنة‪ .‬أ ّول م ّرة التُقطت صورة يل يف الحديقة العامة كنت يف ّ‬ ‫ما زلت حتّى اآلن ّ‬ ‫الخامس‪ ،‬أُ ُ‬ ‫مسك بعنان بغل يؤ ّجره صاحبه للمص ّورين عىل أنّه حصان واقف عند باب الحديقة العامة الباذخ‪،‬‬ ‫املتد ّرج بنوافري وشالالت ماء يسبح فيها الب ّط وقريبًا منها متثال للشاعر أيب فراس الحمداين‪ .‬مل أعد أعرف إن‬ ‫كان الب ّط حقًا يسبح يف ماء تلك الشالالت والنوافري الصغرية‪ ،‬أم أنّه حلم يقظة يتل ّبسني‪ .‬ال أريد استيضاح األمر‬ ‫من أصدقاء طفولتي الذين ميتلكون ذاكرة قويّة تدهشني كلام طلبت معلومة عن أماكن حلب تجعلني ّ‬ ‫أشك‬ ‫يف قدريت عىل حفظ األمكنة‪ .‬لكنني عندما استسلم إلغواء السؤال أكتشف أ ّن لديهم الولع ذاته بإعادة تركيب‬ ‫األمكنة كام يحلو لهم وتبادل الذكريات التي يجب إعادة رسدها مئات امل ّرات لتبقى عالقة يف الذاكرة‪ .‬وغال ًبا ما‬ ‫تكون أسئلتي مفاجئة‪ ،‬إذ يحدث فيام بعد منتصف الليل أن أت ّصل بالهاتف بصديق طفولتي زكريّا وأسأله عن‬ ‫املحل الذي كان يبيع الع ّجة عند مدخل باب النرص‪ .‬يفاجأ الصديق باتصايل يف هذا الوقت‪ ،‬لك ّنه رسعان ما‬ ‫اسم ّ‬ ‫وقصصا قدمية أذكر أنّني ركّبتها بطريقة مختلفة متا ًما‪.‬‬ ‫تفاصيل‬ ‫فيه‬ ‫يستحرض‬ ‫طويل‬ ‫بحديث‬ ‫ويرشع‬ ‫يسرتخي‬ ‫ً‬ ‫‪IV‬‬ ‫كنت وصديق طفولتي زكريّا كرزون نقيض أيّام األعياد مع شلّتنا يف مركز املدينة‪ .‬تقليد صارم ثابرنا عليه ومل‬ ‫نحد عنه حتّى ودّعنا الطفولة وأيّام املراهقة‪ .‬نبحث عن أفالم نجالء فتحي ومحمود ياسني ومريفت أمني وسعاد‬ ‫حسني يف سينام أوبرا‪ .‬نلتهم السندويش اللذيذ متابعني طريقنا لرشب العصري عند ع ّبارة سينام حلب‪ ،‬تلك‬ ‫الفسحة املفتوحة من الجهتني تحت بناء ضخم‪ ،‬والحافلة باملحال واملتاجر املتن ّوعة‪ .‬لكن قبل أن تتّسخ ثيابنا‬ ‫نقف أمام كامريات مص ّوري الحديقة العامة الج ّوالني لنلتقط ألنفسنا صو ًرا تذكاريّة‪ ،‬ونعود آخر الليل إىل املنزل‬ ‫منهكني‪ .‬وأكاد أجزم بأنّه لوال تلك املغامرات الرائعة لكانت طفولتي من دون أيّة صور‪ .‬عائلتي مل متتلك كامريا يف‬ ‫أي يوم من األيّام‪ .‬حتّى اآلن حني أشرتي كامريا جديدة رسعان ما يكسوها‬ ‫حياتها‪ ،‬وأنا مل أكن مول ًعا بالتصوير يف ّ‬ ‫أي اكرتاث‪ .‬كأ ّن من الطبيعي أن‬ ‫الغبار وتغدو بالية‪ ،‬فأفقدها بني أشيايئ التي تضيع عىل نحو‬ ‫دوري من دون ّ‬ ‫ّ‬ ‫تضيع األشياء يك تكسب قيمتها‪.‬‬ ‫‪V‬‬ ‫بعد التقاط الصور‪ ،‬نغادر الحديقة العامة دو ًما من الباب الغريب القريب من مبنى رشكة الكهرباء‪ .‬ندور حول‬ ‫سورها لنصل إىل ساحة سعدالله الجابري‪ .‬مل أشعر يف يوم من األيّام بأيّة عالقة مودة مع هذه الساحة‪ .‬بل كنت‬

‫‪89‬‬


‫كتابات‬

‫‪I‬‬ ‫يتغي منذ خمسني عا ًما‪ .‬يف‬ ‫عادت السياسة لتجلس عىل األرائك‪ .‬أرائك املنازل التي فتحت أبوابها كأ ّن شيئًا مل ّ‬ ‫يتحسس حجم الخسارة الذات ّية‪ .‬مل نعد سوى بقايا عظام تحتاج إىل ترميم‪ .‬ساحة‬ ‫اللحظات الصعبة كان الجميع ّ‬ ‫التحرير القاهريّة يف أيّامها التي مل تتجاوز العرشين‪ ،‬أعادت الحلم إىل الهياكل العظميّة‪ .‬لحظة سقوط مبارك‬ ‫أمل بإمكان ّية التغيري‪ .‬احتفلنا أليّام عدّة‪ .‬رقصنا وغ ّنينا بصوت عا ٍل من دون خوف‪ ،‬ورفعنا‬ ‫منحت السوريني ً‬ ‫نخب مرص وتونس وثورتيهام‪ .‬تناقشنا لساعات طويلة‪ .‬تحدّثت بيقني كامل عن الثورة السوريّة املقبلة وسط‬ ‫نظرات ّ‬ ‫تاريخي‪ .‬بعد النقاشات املبتهجة والحا ّرة ساد صمت عميق يف‬ ‫الشك التي يرمقني بها رفاقي كحامل‬ ‫ّ‬ ‫متجاهل‬ ‫ً‬ ‫السوري‪ .‬كان ذلك بالنسبة يل لحظة تأ ّمل يف البنية التي بدأت أراقب إمكان ّية تفكيكها‪،‬‬ ‫املجتمع‬ ‫أوساط‬ ‫ّ‬ ‫كل األسئلة ملا بعد الرشارة األوىل التي كنت مقتن ًعا متا ًما بأنها تشبه بداية حريق يف تنب‬ ‫املخاطر الكربى ومؤ ّج ًل ّ‬ ‫أي نظام إخامدها‪.‬‬ ‫عفن ورطب‪ ،‬لن تشتعل دفعة واحدة لكن يف لحظة لن يستطيع ّ‬ ‫تدب رويدًا رويدًا يف األقبية العفنة‪ .‬ش ّبان وصبايا مل أعتقد للحظة بأ ّن السياسة ته ّمهم‪ ،‬اقرتبوا‬ ‫بدأت الروح ّ‬ ‫م ّنا واقرتبنا منهم أكرث‪ .‬تحاورنا‪ ،‬ويف نهاية السهرات يف املطاعم واملقاهي والبارات كانت الطاوالت تنض ّم إىل‬ ‫األكف‬ ‫بعضها بعضً ا من دون سابق معرفة‪ ،‬ويسري ّ‬ ‫كل يشء عىل ما يرام‪ .‬رأيت الحامسة والق ّوة يف العيون‪ ،‬يف ّ‬ ‫التي تصافح‪ ،‬واألذرع التي تحتضن‪.‬‬ ‫ليل وأشري بالتحية إىل أصدقاء بعيدين‪ .‬يسألونني إىل‬ ‫حقًّا إنّها رائحة جديدة تنبعث يف البالد‪ .‬أرفع يدي ً‬ ‫بكل ج ّديّة‪ .‬يقيسون املسافات‪،‬‬ ‫أين؟ ال أملك إلّ جوابًا واحدًا‪ :‬نبحث عن ساحة التحرير‪ .‬رفاقي يأخذون امله ّمة ّ‬ ‫ونستعني مبهندسني يحلّلون ساحة األمويني ويؤكّدون أنّها ال تصلح‪ .‬إنّها مكان مفتوح عىل جهات عديدة وقريبة‬ ‫أي روح‪ .‬أفكّر بروح الساحات حني تتح ّول إىل رمز‬ ‫حساسة للنظام‪ .‬ستكون مكلفة الثمن‪ ،‬وليس فيها ّ‬ ‫من مراكز ّ‬ ‫لالنعتاق‪.‬‬ ‫بعد أيّام أكتشف أ ّن آالف السوريني فعلوا اليشء نفسه‪ .‬بحثوا عن ساحة التحرير بحزن مشوب بالخذالن‬ ‫الدموي‪ .‬نعرف يف أعامقنا أ ّن ساحة التحرير التي تن ّعم بها ثوار مرص ستكون مكلفة‬ ‫وواقع ّية معرفة نظامهم‬ ‫ّ‬ ‫عيني محاولة اقتحام ساحة العباسيني أواسط نيسان (أبريل)‬ ‫م‬ ‫بأ‬ ‫رأيت‬ ‫الثمن‪.‬‬ ‫هذا‬ ‫كل‬ ‫ّ‬ ‫جدًّا لنا‪ .‬لكننا مل نتخ ّيل‬ ‫ّ ّ‬ ‫الحي عرشات اآلالف القادمني كنهر هادر من‬ ‫من السنة الفائتة‪ .‬تساقطت جثث املتظاهرين‪ ،‬وف ّرق الرصاص ّ‬ ‫جوبر ودوما وحرستا يف ريف دمشق‪ .‬باصات الشبيحة ترتاصف متالصقة يف ساحة الع ّباسيني إىل درجة مل ترتك‬ ‫سنتمرتًا واحدًا بني باص وآخر‪ .‬وبعد أحداث ساحة الساعة يف حمص‪ ،‬وساحة العايص يف حامه‪ ،‬وساحة التحرير‬ ‫ول وزمن رومنس ّية الثورة التي حلمنا بها قد‬ ‫يف دير الزور‪ ،‬أدركت وللم ّرة األخرية أ ّن حلمنا بساحة تحرير قد ّ‬ ‫انتهى‪.‬‬ ‫أشكال ال تع ّد‬ ‫ً‬ ‫قوي عىل الحب والثورة السلميّة التي أبدع السوريّون‬ ‫عبثي‪ ،‬لك ّنه مترين ّ‬ ‫نعم قام بيننا نقاش ّ‬ ‫وال ت ُحىص لتفاصيلها‪ .‬غري أنّها اآلن تبدو حلم شباب ونساء اكتشفوا فجأة أنّهم يعيشون مع مجموعة وحوش‬ ‫كل هذه السنوات‪ .‬ال أجد تعب ًريا أفضل من الذهول الذي سيبقى سمة أساس ّية للحياة السوريّة عىل مدى عقود‬ ‫ّ‬ ‫قصة بحثنا املرِح عن ساحة التحرير‪.‬‬ ‫طويلة‪ ،‬إلّ أنني سأبقى أروي برباءة ّ‬ ‫‪II‬‬ ‫مل يصطحبني أيب من يدي كباقي األطفال إىل اكتشاف حلب‪ .‬أ ّمي عاشت وماتت يف مدينتها وال تعرف الوصول‬ ‫إىل بيت ابنتها يف الطرف اآلخر من املدينة‪ .‬ت ُركنا الكتشاف زوايا مدينتنا مبفردنا‪ .‬أضيع مع أصدقاء طفولتي يف‬

‫‪88‬‬


‫خالد خليفة‬

‫البحث عن ميدان للتحرير‬

‫ليل عن قصد‪ ،‬لتُوقّع اللجان املرتشية‬ ‫حلب‪ .‬دُمرت أشجار املنش ّية املع ّمرة‪ ،‬وراحت نقوش البيوت القدمية تُخ ّرب ً‬ ‫رشب كوب ماء‪ ،‬فقدنا‬ ‫صبا ًحا عىل تقرير يشري إىل فقدان البناء قيمته األثريّة‪ ،‬ما يجيز هدمه‪ .‬هكذا ببساطة ِ‬ ‫حي تختلط فيه‬ ‫إىل‬ ‫حي الجميل ّية امل ُفيض إىل ساحة سعد الله الجابري‬ ‫ّ‬ ‫طعم املدينة‪ .‬وبعد سنوات قليلة تح ّول ّ‬ ‫طرز من البناء توحي بالفقر الروحي والقبح‪ ،‬كام توحي ملن يعرف حلب بأن ال بد لهذه املدينة أن تكون قد‬ ‫وقعت تحت حكم غزاة‪.‬‬ ‫‪VIII‬‬ ‫ساحة سعد الله الجابري الجديدة ص ّممها مهندسون من مؤسسة اإلسكان العسكريّة يف نهاية سبعينيات القرن‬ ‫املايض‪ ،‬حني كان رئيس قسم دراساتها املهندس املعامري الحلبي وصديقي هيثم قطاع‪ .‬وهيثم ال يعرفه الكثريون‬ ‫ألي حامل وصاحب خيال عظيم‪ ،‬وذلك رغم تصميمه‬ ‫من أبناء مدينته وال يعرفون شيئًا عن فكره‪ ،‬كام ال يكرتثون ّ‬ ‫ساحة سعد الله الجابري ومرشوع تغطية نهر قويق وعرشات املباين الجميلة يف املدينة التي منها القرص البلدي‬ ‫الجديد‪.‬‬ ‫يف منتصف تسعينيات القرن املايض ك ّنا نخرج يف منتصف الليل من مكتبه واملدينة يف صمت عميق‪ .‬نركن‬ ‫السيارة قرب املتحف‪ ،‬ونتفقّد مبنى القرص البلدي الجديد الذي دامت عمل ّية إكسائه ثالثني عا ًما‪ .‬بحرقة يشري‬ ‫بيده إىل أخطاء التنفيذ الفاحشة وكنت أتضامن مع صديقي دو ًما‪ .‬لك ّنني ذات يوم يف إحدى الليايل وجدت‬ ‫نفيس أخربه أنني أكره ساحة سعد الله الجابري الجديدة وأكره التمثال الذي نُصب فيها وهو عبارة عن عمل‬ ‫طويل وأخربين فيام بعد بأنّه ص ّمم‬ ‫نحتي سوفيايت الطراز يفتقد ألدىن مق ّومات الذوق والفن‪ .‬صمت هيثم ً‬ ‫بكل ما ميلكونه من كراهيّة‪ ،‬غري آبهني ّإل بكيفيّة إيجاد‬ ‫بكل ما ميلكه من شغف‪ ،‬وهم نفّذوها ّ‬ ‫ساحات مدينته ّ‬ ‫مكان لتجميع قطعان األغنام البرشيّة ليخطب فيها عىل الدوام رجل فاسد‪.‬‬ ‫يف زياريت األخرية إىل حلب يف نيسان السنة الفائتة كان الشبيحة قد احتلوا الساحة ونصبوا فيها خيا ًما‬ ‫استوطنوها لقمع أية تظاهرة قريبة‪ .‬ذهبت صبا ًحا وجلست إىل الطاولة نفسها التي كنت أداوم عليها يف مقهى‬ ‫يتغيوا يق ِّبلونني كصديق قديم ومهاجر‪ .‬مل أُطق الكالم مع قهويت‪ .‬جلست‬ ‫الفندق السياحي‪ .‬الندَّل الذين مل ّ‬ ‫وتأ ّملت يف ما حدث‪ .‬كانت املدينة تستيقظ‪ ،‬والشبيحة يستيقظون ويبدأون بثّ األغاين التي مت ّجد قائدهم‪.‬‬ ‫حقًّا لقد أصبحت الساحة تشبههم‪ ،‬وهي قطعة ستزول من تاريخ املدينة كام هم زائلون‪ .‬بعدها بأسابيع قامت‬ ‫إحدى الكتائب املسلحة التي ت ُطلق عىل نفسها اسم "كتائب جبهة النرصة" بتفجري الساحة واملباين املحيطة بها‪.‬‬ ‫كل يشء أصبح ركا ًما‪ .‬الفندق السياحي غدا مج ّرد هيكل والساحة مد ّمرة بالكامل‪ .‬ببساطة مل يعد هناك مكان‬ ‫ّ‬ ‫يحلم به أصدقايئ كساحة تحرير‪ .‬فكرت بهم‪ ،‬يف آخر لقاء كان األمل يش ّع يف عيونهم بعد أن صنعوا ثورتهم يف‬ ‫كل العسف الذي رأيناه وخربناه‪ .‬هم اآلن ضائعون‪ ،‬يبحثون م ّرة أخرى عن‬ ‫الجامعة ونقلوها إىل املدينة رغم ّ‬ ‫ساحة للتحرير يف مدينة مل تنحن يو ًما أمام الغزاة‪.‬‬

‫‪In Search of a Tahrir Square‬‬ ‫‪Portal 9 page 131‬‬

‫‪91‬‬


‫كتابات‬

‫التخل عنها‪ .‬أشعر أنّها إهانة لشارع القوتيل‬ ‫يف أعامقي أكرهها‪ .‬صورتها القدمية ما زالت ثابتة يف رأيس وال أريد ّ‬ ‫األنيق الذي ميت ّد من باب الحديد إىل الجميليّة‪ ،‬والذي ما زال محاطًا باألبنية القدمية األنيقة املتبقية من زمن‬ ‫الثالثينات حني كانت بلدية حلب ت ُخطط عمران املدينة بإتقان ودون رشاوى ومحسوبيات‪.‬‬ ‫املكان القديم ما زال حيًّا يف ذاكريت‪ .‬مشفى يعود إىل الحقبة الفرنسيّة‪ ،‬تراسات حجريّة ودرابزونات من‬ ‫تصطف بأناقة إىل جانب بعضها بعضً ا‪ ،‬وأمامها ساحة سعد الله‬ ‫حديد مشغول‪ ،‬وأبنية متناسقة الطراز املعامري‬ ‫ّ‬ ‫الجابري القدمية املجاورة لسور الحديقة العا ّمة‪ ،‬وعند إحدى الزوايا يقوم الفندق السياحي بطوابقه العرشة‪،‬‬ ‫أو الثامنية ال أدري بالضبط‪ ،‬وعند زاوية أخرى مقابلة مبنى الربيد الضخم‪ ،‬ويف الخلف من جهة اليسار كازينو‬ ‫صيفي مفتوح عىل حدائق متت ّد حتّى سوق الهال‪ .‬وعىل خشبة مرسح هذا الكازينو مات مح ّمد خريي‪ ،‬أعظم‬ ‫موهبة غنائ ّية حلب ّية يف النصف الثاين من القرن العرشين‪ ،‬وارتبط هذا املكان يف ذهني بحدث موت مغ ّن عىل‬ ‫اجيدي‪ .‬والناظر من ذلك املرسح إىل جهة اليمني سريى األبنية مصفوفة‬ ‫املرسح أمام جمهوره عىل هذا النحو الرت‬ ‫ّ‬ ‫طويل‪ ،‬ومل أسع يو ًما إىل‬ ‫بتناسق وترتيب واحد‪ ،‬لتصل إىل باب الحديد والجميل ّية‪ .‬بقيت هذه الصورة يف ذهني ً‬ ‫إعادة رؤية صور تلك الساحة التي‪ ،‬مثلها مثل أمكنة كثرية يف مدن سوريا‪ ،‬مل تعد مكانًا رحبًا يتواجد فيه الناس‪،‬‬ ‫بل مرس ًحا رمزيًّا للحزب‪ ،‬ميثّل يل وألبناء جييل موق ًعا لحرشنا كاألغنام يف املسريات الحزب ّية‪.‬‬ ‫‪VI‬‬ ‫طلب مدينة حلب وعاملها وموظفو مؤسسات الدولة يأتون من جهات املدينة األربع ليص ّبوا يف ساحة سعد‬ ‫كان ّ‬ ‫الله الجابري‪ .‬يقودوننا كخراف اعتادت اللعب مع الذئاب‪ ،‬لك ّن املرح كان دو ًما ينقذنا‪ ،‬إذ ال سبيل لخالصنا ّإل‬ ‫السخرية‪ .‬حني نصل إىل منطقة التقاء طوفان مدارس البنات مع مدارس الشباب نُضيّع أنفسنا يف الزحام‪ .‬غالبًا‬ ‫نكون قد اتفقنا قبل يوم من االحتفال مع شلّة من بنات مدرستي معاوية ونابلس للهرب ومتابعة عبثنا الساخر‪.‬‬ ‫الخاصة مع بنات‬ ‫خصيصا للقاء مراهقي مدارس املتن ّبي واملأمون وحلب‬ ‫نهرب إىل الكافترييات القريبة الناشئة‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫مدرسة معاوية ومدارس الجميليّة واإلسامعيليّة‪ ،‬مادّين ألسننا للمخربين الذين يتناسون غيابنا ونراهم عالقني‬ ‫يف صور قائدهم ومتو ّرطني بحمل أعالم والفتات يجب إعادتها إىل غرفة الشبيبة بعد العودة من نضال شتم‬ ‫السادات والقادة العرب الذين يختلفون مع القيادة الحكيمة‪ ،‬وطب ًعا األهم والدائم هو متجيد القائد والحزب‬ ‫ليصطف مع مجموعة مسؤولني عىل رشفة الفندق السياحي‪.‬‬ ‫القائد والبلد القائد والرفيق القائد الذي يرسلونه‬ ‫ّ‬ ‫وحني يجتمع "الطوفان البرشي"‪ ،‬كام يُعلن التلفزيون الرسمي يف جملة أبديّة‪ ،‬يبدأ الرفيق القائد بإلقاء كلمته‬ ‫التي تهتك عرض اإلمربياليّة وتح ّرر الجوالن عرشات امل ّرات‪ ،‬حينها نكون غارقني وسط أجواء رومانسيّة مفعمة‬ ‫باملوسيقى الفرنس ّية‪ ،‬محاولني ترك العنان ليدنا يك تصطدم بيد فتاة قربنا‪ ،‬ودامئًا مع تبادل نظرات خاطفة‬ ‫حب بريئة‪.‬‬ ‫تتقاطع لتشكّل أحال ًما ورديّة لعالقات ّ‬ ‫‪VII‬‬ ‫ّ‬ ‫احتل البعث ّيون أجمل أبنية حلب‪ .‬قيادة فرع حلب للشبيبة‪ ،‬ومبنى األمن الجنايئ يف العزيزيّة‪ .‬رابطة عبد املنعم‬ ‫حي الجميليّة‪ ،‬الذي حافظ عىل رونقه حتّى‬ ‫رياض للشبيبة التي تتبع لها مدرستنا‪ ،‬احتلّت بنا ًء قدميًا من أبنية ّ‬ ‫تطل عىل الشوارع‬ ‫مطلع الثامنينيات‪ ،‬قبل أن تبدأ أعامل تخريبه‪ .‬أبنية قدمية وجميلة مشادة بحجر حلبي متني ّ‬ ‫بنوافذ صغرية وعالية‪ ،‬وتزدان بزخارف وتيجان وكتابات قدمية‪ ،‬تح ّولت بلمحة عني إىل أبنية قبيحة تفوح منها‬ ‫رائحة الكراهية ويلفّها اإلسمنت الرخيص‪ .‬الجميع يف حلب يعرف أسامء املتع ّهدين وت ّجار البناء املتواطئني مع‬ ‫أثري واحد يف مركز‬ ‫املسؤولني الفاسدين الذين وضع أحدهم تسعرية صارمة ّ‬ ‫لكل مخالفة‪ ،‬ويف عهده مل يبق بناء ّ‬

‫‪90‬‬


‫معرض شامل لحسن خان في اسطنبول‬

‫معرض شامل لحسن‬ ‫خان يف اسطنبول‬ ‫غالريي "سولت بيوغلو"‪،‬اسطنبول‬ ‫من ‪ 21‬أيلول (سبتمرب)‪،2012 ،‬‬ ‫إىل ‪ 6‬كانون الثاين (يناير)‪.2013 ،‬‬

‫أتش دجي ماسرتز‬

‫"االلتواء" (‪ ،)2012‬من معرض حسن خان‪" ،‬سولت بيوغلو"‪.2012 ،‬‬

‫تصوير رسكان تايكان‬

‫أتش دجي ماسترز‬

‫هل تعرفون هؤالء األشخاص الذين ال‬ ‫يُح ُّيون وال يودّعون أبدًا‪ ،‬ألنّهم يف الوقت‬ ‫الذي يقرتبون منك مبا فيه الكفاية‬ ‫لتسمعهم يكونون قد صاروا يف نصف‬ ‫الحديث‪ ،‬وبعدها‪ ،‬حني يه ّمون باملغادرة‪،‬‬ ‫ينسحب صوتهم ببساطة معهم؟ وهل‬ ‫تعرفون كيف أن املرء بسبب دوام دخوله‬ ‫يف أشياء تتك ّون وتثري حامسته‪ ،‬يجد نفسه‬ ‫ضائ ًعا يف املناقشات الدائرة؟‬ ‫هذا ما يشعره املرء إزاء املعرض‬ ‫الشامل لحسن خان يف "سولت بيوغلو"‬ ‫يف اسطنبول‪ ،‬الذي نُظم بني أيلول‬ ‫(سبتمرب) ‪ 2012‬وكانون الثاين (يناير)‬ ‫أي من طبقات "سولت بيوغلو"‬ ‫‪ .2013‬يف ٍّ‬ ‫داخل‪،‬‬ ‫الثالث يبدأ الزائر‪ ،‬فسيجد نفسه ً‬ ‫عىل نحو مفاجئ‪ ،‬يف املحاورة الساخنة‬ ‫بني الف ّنان والعامل‪ ،‬وهي التي أجراها عرب‬ ‫وسائط كثرية‪ ،‬يف الصور الثابتة واملتح ّركة‪،‬‬ ‫النصوص‪ ،‬واألغراض‪ ،‬واألصوات‪،‬‬ ‫كام يف ّ‬ ‫منذ أواسط التسعينيات‪.‬‬ ‫وألنّك تجد نفسك يف خضم محاورة‬ ‫سبق أن انطلقت‪ ،‬فعليك أن تختار األمور‬ ‫يف الشكل الذي تظهر فيه‪ .‬ورسعان ما‬ ‫يدي خان خضع‬ ‫تالحظ أن ّ‬ ‫كل يشء بني ّ‬ ‫ملقدار الفت من املعالجة‪ .‬فاملادة التي‬ ‫تحويل تلو التحويل‪ ،‬كام‬ ‫ً‬ ‫يتناولها تشهد‬ ‫ُحتل غرفة‬ ‫هو الحال يف التجهيز الصويت امل ّ‬ ‫كاملة‪" ،‬دوم تك تك دوم تك" (‪.)2005‬‬ ‫ست مقطوعات‬ ‫اختار خان يف هذا العمل ّ‬ ‫كالسيكيّة من املوسيقى الشعبيّة‪ ،‬فأعاد‬ ‫تسجيل دقّاتها‪ ،‬واستعان مبوسيقيي شارع‬ ‫لالرتجال فوقها‪ ،‬ث ّم أجرى الـ"رمييكسينغ"‬ ‫(إعادة الخلط‪ ،‬أو التعديل) عليها‪.‬‬ ‫ست‬ ‫وهذا قُدِّم يف صالة العرض ضمن ّ‬ ‫كل منها ثالثون ثانية‪،‬‬ ‫مقطوعات‪ ،‬مدّة ّ‬ ‫جرى لعبها مع فواصل دقّات متسارعة‬ ‫من "ميرتونوم"‪ ،‬واستُتبعت بدفق من‬ ‫اإلضاءة الحمراء‪.‬‬ ‫يحاول خان يف أعامله االشتغال عىل‬ ‫تجاربه الشخصيّة وتناولها عىل نحو يكاد‬ ‫ٍ‬ ‫تعقيد مضجر‪ .‬فلتحقيق‬ ‫يبلغ مستوى‬ ‫عمله امل ُ َعن َون "‪ 17‬ويف ‪)2003( "AUC‬‬ ‫ت‬

‫‪109‬‬

‫كل ليلة عىل مدى أسبوعني‬ ‫قىض خان ّ‬ ‫خالل نيسان (أبريل) ‪ ،2003‬أربع ساعات‪،‬‬ ‫يحتيس البرية ويدخّن ويتذ ّمر‪ ،‬يف صندوق‬ ‫زجاجي ُمجهز مبرآة تواجهه‪ ،‬فريى نفسه‬ ‫فيها ويراه اآلخرون خارج الصندوق‪ ،‬لك ّنه‬ ‫ال يراهم‪ .‬ويف إحدى لحظات املكاشفة‬ ‫خالل املونولوغ – والتي كان ميكن‬ ‫مشاهدتها يف "سولت" من خالل شاشة‬ ‫صغرية ُمرفقة بخمس نسخ من كتاب‬ ‫يض ّم فيض كالمه الالواعي غري املضبوط‬ ‫بنقاط وفواصل – يُعيد خان تسجيل سريه‬ ‫إىل الجامعة وهو يتلقّى رشقات الحجارة‪،‬‬ ‫ويتصاعد ذعره عىل طول الطريق‪.‬‬ ‫مهم يف‬ ‫يبدو الوعي بالذات مك ّونًا ًّ‬ ‫عمل خان امل ُعنون "غري آمن" ‪Insecure‬‬ ‫(‪ )2002‬وهو املؤتلف من إحدى عرشة‬ ‫جملة مطبوعة بدقّة عىل جدار‪ .‬من بني‬ ‫هذه الجمل‪" :‬انظر إىل نفسك يف املرآة‬ ‫وحاول التخيّل بأنّك امرؤ تلتقيه للم ّرة‬ ‫األوىل"‪" ،‬يف الصباح أمام املرآة‪َ ،‬مثّل شيئًا‬ ‫ُمحر ًجا قمت به الليلة الفائتة"‪ ،‬و"تفكّر‬ ‫يف ما تريده يف الحقيقة من الشخص‬ ‫األكرث قربًا منك"‪.‬‬ ‫خالل التجوال يف املعرض يبدأ املرء‬ ‫بتكوين انطباع مفاده أن لحسن خان‬ ‫ه ّمني ف ّنيني رئيسني هام‪ :‬عمل ّية الخلق‬ ‫الف ّني‪ ،‬وموقع الف ّنان كصانع معنى‬ ‫بالنسبة للمجتمع‪ .‬يف الغالب مث ّة رفض‬ ‫مبارش للعب الدور األخري‪ ،‬عىل ما يظهر‬ ‫يف "شبق" ‪ )2008( Lust‬العمل املتض ّمن‬ ‫خمسني صورة رقم ّية من هواتف نقّالة‪،‬‬ ‫ت ُظهر‪ ،‬بني غريها من املشاهد الكثرية‪،‬‬ ‫مهمل‪ ،‬سيقان عابرين يف الشارع‪،‬‬ ‫بيانو ً‬ ‫ستائر رمادية اللون‪ ،‬ثريا قدمية‪ ،‬مقاعد‬ ‫مرسح خالية‪ ،‬شجرة مبتورة الطرف‬ ‫يف متن ّز ‪ ،‬وأصابع ضاغطة عىل مرآة‪.‬‬ ‫ويف أسلوب متقارب يأيت "ب ّينة الب ّينة"‬ ‫‪ ،)2012( Evidence of Evidence‬الذي‬ ‫هو عمل يتألّف من نسخة رقم ّية بارتفاع‬ ‫رضرة تظهر‬ ‫ثالثة أمتار ونصف للوحة مت ّ‬ ‫نبتة جريانيوم يف قدر‪ ،‬وقد ت ّم تكبريها إىل‬ ‫ما يفوق حجمها الطبيعي بعرش‬ ‫۽‬

‫۽‬


‫مراجعات ونقد‬

‫"درابزين مصرف" (‪ ،)2010‬من معرض حسن خان‪" ،‬سولت بيوغلو‪.2012 ،‬‬

‫تصوير رسكان تايكان‬

‫‪108‬‬


‫معرض شامل لحسن خان في اسطنبول‬

‫علّقت خمس قصص قصرية كتبها خان‪،‬‬ ‫ت ُقرأ وكأنها مقاطع‪ ،‬كمثل األغراض تحتها‪،‬‬ ‫كام لو جرى اقتطاعها من عرشة نصوص‬ ‫مختلفة‪ .‬ومهام بدت عليه بعض األغراض‬ ‫من سحر وثقل‪ ،‬فإن عواملها األكرب تبقى‬ ‫ضائعة‪ .‬وكمثل االستيقاظ من حلم‪ ،‬حيث‬ ‫لن ينفعك إلحاح رغبتك يف استعادة معامل‬ ‫ذلك الحلم يف يشء‪ ،‬بعد أن يطويه الغياب‬ ‫عىل نحو تام‪.‬‬ ‫ويف حال صعدت سلّم غالريي‬ ‫"سولت" إىل الطبقة األوىل‪ ،‬فستكون قد‬ ‫انضممت إىل املحادثة يف ذروة انرشاحها‬ ‫ضمن عمل الفيديو "جوهرة" ‪Jewel‬‬ ‫(‪ .)2010‬يف هذا العمل يؤدّي شخصان‬ ‫مكب صوت ميضء ومتح ّرك‬ ‫رقصة حول ّ‬ ‫(والذي تستدعي أضواؤه شكل سمكة‬ ‫الشص ُمضيئة تسبح خالل املشهد‬ ‫أبو ّ‬ ‫االفتتاحي) يبثّ مقطوعة من املوسيقى‬ ‫الشعبيّة‪ .‬الشخصان‪ ،‬أحدهام بدين واآلخر‬ ‫نحيف‪ ،‬يرقصان عىل نحو اعتباطي‪ ،‬ويف‬ ‫وقت واحد وبغرابة ونشوة قصوى‪،‬‬ ‫ويبدوان مفتونني ببعضهام بعضً ا وبالجهاز‬ ‫كل التحرر وال‬ ‫بينهام‪ .‬وهام متح ّرران ّ‬ ‫أي وعي‪ .‬هذا الفيديو بال شكّ‬ ‫يظهران ّ‬ ‫ميثّل عمل خان األكرث جمو ًحا وغرابة‪ .‬وهو‬ ‫آرس ومعطاء‪ .‬عمل ال تنقصه الغرابة أبدًا‪،‬‬ ‫وال الجرأة عىل تجاوز املكبوتات‪ .‬فتمثّل‬ ‫هذه األمور السبب األعمق ليكون أكرث‬ ‫من مج ّرد عمل لخان‪ .‬ويف الحقيقة‪ ،‬فإ ّن‬ ‫سحره ّربا يستم ّد من اكتنافه هذا القدر‬ ‫من الكثافة وتحويلها إىل يشء ال تفسري‬ ‫له‪ .‬مشاهدة "جوهرة"‪ ،‬مثّلت اللحظات‬ ‫الوحيدة خالل زيارة املعرض التي ال يعود‬ ‫مهم مقدار عدم فهمك ملا تراه‪،‬‬ ‫فيها ًّ‬ ‫ومقدار األمور التي ال تعرفها‪ ،‬ومقدار‬ ‫املسافة التي ينبغي عليك قطعها يك تغدو‬ ‫يف املستوى الذي يقف فيه الفنان نفسه‪.‬‬ ‫فأنت كنت هناك‪ ،‬يف محاورة مع الفنان‪،‬‬ ‫حتّى لو كنت وحدك يف الغرفة‪ ،‬ترقص‬ ‫مبفردك‪.‬‬ ‫باعتبار ما شاهدناه قدّم املجموعة‬ ‫األشمل من أعامل خان حتّى تاريخه‪ ،‬كام‬

‫أتش دجي ماسترز‬

‫ومثّل العرض األكرب الذي قدّمه غالريي‬ ‫"سولت" ألعامل ف ّنان واحد منذ أن‬ ‫افتتح يف العام ‪ ،2011‬فإ ّن هذا املعرض‬ ‫مثّل معرضً ا معلم ًّيا يف التنظيم كام يف‬ ‫املضمون‪ .‬القليل من منتديات العرض يف‬ ‫املنطقة‪ ،‬بنظرة متفائلة‪( ،‬ومهام كانت‬ ‫هذه املنتديات) سيقدم‪ ،‬أو قد يفكّر‪،‬‬ ‫بدعم هكذا مسا ٍع فنيّة ضخمة‪ ،‬خاصة إذا‬ ‫ما أخذنا باالعتبار التعقيد املفهومي الذي‬ ‫تتم ّيز به أعامل خان واملتطلبات التقن ّية‬ ‫لبعض األعامل‪ .‬وعىل الرغم من استثنائيّة‬ ‫غالريي "سولت" يف هذا السياق‪ ،‬يأيت هكذا‬ ‫معرض‪ ،‬لف ّنان عىل قيد الحياة‪ ،‬ليثبت‬ ‫أنّه يكاد يكون تع ّهدًا غري محصور بزمن‬ ‫مؤسسة بذلت جهدها لتك ّرس‬ ‫جاءت به ّ‬ ‫نفسها كمنرب للتفكري النقدي والبحثي‪،‬‬ ‫الذي يتناول الفن‪ ،‬بالدرجة األوىل‪ ،‬ث ّم‬ ‫العامرة والتصميم يف التاريخ الرتيك‬ ‫الحديث‪ ،‬وليس مج ّرد صالة إلقامة معارض‬ ‫الفن املعارص‪.‬‬ ‫يف السنتني األوليني من عمر الغالريي‪،‬‬ ‫ات ّبعت "سولت" سبالً مبتكرة لتقديم‬ ‫مواضيعها وتصديرها يف السجاالت التي‬ ‫تحتاج إىل تجديد وإعادة صياغة –‬ ‫بالتاميش مع امله ّمة التي أعلنتها والتزمت‬ ‫بها كمنرب "للبحث والتفكري االختباري"‪.‬‬ ‫عىل أن هذين الهدفني التوأمني بدوا‬ ‫متصادمني يف معرض لفنان واحد عىل‬ ‫قيد الحياة ما زالت مامرسته الفن ّية‬ ‫يف طور التط ّور‪ .‬يف هذه الحال ميكن‬ ‫أي طرف هنا مسؤول عن هدف‬ ‫التساؤل‪ّ :‬‬ ‫وأي من الطرفني ينتهج "التفكري‬ ‫"البحث"؟ ّ‬ ‫االختباري"؟ فقد أثبت املعرض أن خان‪،‬‬ ‫فيام كان يقدّم أكرث من رشيكه امل ُنظِّم يف‬ ‫دليل‬ ‫إطار التفكري االختباري‪ ،‬فإنّه مل يظهر ً‬ ‫مقن ًعا من جهة "البحث" – وذلك فيام‬ ‫خص املواد الجديدة (تاريخ ّيا كان ذاك أو‬ ‫ّ‬ ‫ثقافيًّا) التي ميكن طرحها بالرتافق مع ما‬ ‫النص التصديري‬ ‫يقدّمه الف ّنان‪ .‬فلنأخذ ّ‬ ‫الذي ميكن قراءته يف الطبقة الثالثة من‬ ‫النص‬ ‫غالريي "سولت"‪ .‬فام أىت به هذا ّ‬ ‫خاص‬ ‫ّ‬ ‫وربا غري ّ‬ ‫ظل ضباب ًيا‪ ،‬غري واضح‪ّ ،‬‬ ‫‪111‬‬

‫ومحدّد بالنسبة للف ّنان نفسه‪" :‬مناهج‬ ‫حسن خان املتعدّدة التخصصات يف نتاجه‬ ‫الف ّني تستند إىل املشاهدات‪ ،‬والتفاعل ‪،‬‬ ‫وإىل االنخراط‪ ،‬كام إىل املزيد من املصادر‬ ‫الداخل ّية‪ .‬بعض املراجع املقدّمة يف أعامله‬ ‫يصدر من سريته الشخصيّة‪ ،‬فيام يصدر‬ ‫غريها من أشخاص وصور تستحرض‬ ‫سياقات منفصلة"‪.‬‬ ‫النص إياه‪ ،‬وفيام يت ّم تج ّنب‬ ‫يف ّ‬ ‫اإلشارة املبارشة إىل الذروة الثقافية والفن ّية‬ ‫التي ط ّورها خان – مع التلميح الغريب‬ ‫إىل ما معناه أن ليس للفنان صنو سابق أو‬ ‫مثيل‪ ،‬وأنّه فريد العبقريّة ‪- sui generis‬‬ ‫النص أ ّن الفنان "يعيش ويعمل‬ ‫يُذكَر يف ّ‬ ‫يف القاهرة"‪ .‬وهذا عىل ما بدا أمر مه ّم‬ ‫كان يجب اإلشارة إليه‪ ،‬لكن ما بدا أنّه‬ ‫مهم كان تقديم ورشح وقائع‬ ‫مل يعد ًّ‬ ‫الوسط الثقايف املرصي األوسع والسجاالت‬ ‫التي يفرتضها املرء ُمرافقة لحقبة خان‬ ‫وما سبقها‪ .‬من دون ّ‬ ‫شك مث ّة سياق ف ّني‬ ‫وثقايف ألعامل خان‪ ،‬لكن إ ّما أن املنظّمني‬ ‫يف غالريي "سولت" مل يفهموا ذلك عىل‬ ‫نحو واف يخ ّولهم التطرق إليه‪ ،‬أو أنّهم‬ ‫فشلوا يف إيصاله كام ينبغي – واألمر يف‬ ‫كلتا الحالتني إشكا ّيل‪ .‬تناول السياقات‬ ‫يحتاج إىل االختصار أو االنضباط‪ .‬ويف حالة‬ ‫تناول عمل ف ّنان واحد‪ ،‬ينبغي أن يت ّم ذلك‬ ‫من قبل طرف ثالث‪ .‬كان هؤالء املحرتفون‬ ‫و"منسقون ف ّنيون"‪،‬‬ ‫يس ّمون "مؤ ّرخو الفن"‬ ‫ّ‬ ‫لكن ميكن أن يكونوا فقط "باحثني"‬ ‫السياقي هذا‬ ‫و"مربمجني"‪ .‬غياب املسعى‬ ‫ّ‬ ‫جعل املعرض يجري حوا ًرا مع نفسه‪،‬‬ ‫ومع املؤسسة التي تع ّهدت دور املضيف‬ ‫وامل ُج ِّهز‪ ،‬بدل دور امل ُدقّق وامل ُحفّز‪.‬‬

‫ترجمة فادي طفييل‬

‫‪Hassan Khan:‬‬ ‫‪Half a Life in Art Reviewed‬‬ ‫‪Portal 9 page 167‬‬


‫مراجعات ونقد‬

‫"االتّفاق" (‪ ،)2011‬من معرض حسن خان‪"،‬سولت بيوغلو"‪.2012 ،‬‬

‫طيفيّة ملفروشات بيت ذهبية اللون‪ .‬ويبدأ‬ ‫امل ُشاهد بالشعور أن الرجل‪ ،‬ذي البذلة‬ ‫الزرقاء الناظر إىل الداخل من الخارج‪،‬‬ ‫يسرتق السمع إىل شذرات أحاديث يف‬ ‫يتلصص عىل‬ ‫مواضيع ال أمل لك بفهمها‪ ،‬أو ّ‬ ‫مشاهد البيت الداخليّة التي ال تحوي شيئًا‬ ‫يثري اهتاممك‪.‬‬ ‫وإذا ما دخلت إىل الطبقة الثانية‬ ‫من املعرض‪ ،‬فستكون مبواجهة مجموعة‬ ‫أعامل ليس لها‪ ،‬بالتطابق مع األعامل‬ ‫زمني‪ .‬عىل أن الج ّو‬ ‫األخرى‪ّ ،‬‬ ‫أي نسق ّ‬ ‫هنا يبدو أكرث سوريال ّية – ومشغولً أكرث‬ ‫لالمنطقي الظاهر‪ .‬وعىل‬ ‫بالبنية الكامنة‬ ‫ّ‬ ‫نحو متناسب مع األجواء بقدر كاف‪ ،‬يبدو‬ ‫كل يشء طاف ًيا‪ .‬فعمل "درابزين املرصف"‬ ‫ّ‬ ‫‪ ،)2010( Bank Bannister‬هو نسخة‬ ‫طبق األصل للدرابزين النحايس عند مدخل‬ ‫"بنك مرص"‪ ،‬امل ُعلّق يف الهواء من دون‬ ‫سلّم تحته‪ .‬يف "الكلب امليت يتكلّم" ‪The‬‬ ‫‪ ،)2010( Dead Dog Speaks‬تخوض‬ ‫أشياء كمثل رسوم متح ّركة لرأس رجل‬ ‫(نجم سيناميئ مرصي ال يُذكر اسمه)‪ ،‬متثال‬ ‫امرأة‪ ،‬وكلب يقفز ويتح ّرك هنا وهناك عىل‬ ‫أرض حمراء‪ ،‬يف محادثة "كالميّة"‪" :‬هو لن‬ ‫ينىس‪ .‬أنا لن أنىس‪ .‬ال‪ ،‬عليك أن تنىس"‪.‬‬ ‫وهم ال يتحاورون مع بعضهم بعضً ا‪ ،‬بل إن‬ ‫األصوات الثالثة املفرتضة تتو ّجه‪ ،‬عىل نحو‬ ‫هويس‬ ‫دوري‪ ،‬إليك‪ ،‬وكأنها تصدر من جهاز‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫مصطنع‪ .‬وهناك قري ًبا من هذا العمل‪،‬‬ ‫صورتان فوتوغرافيتان كبريتان لتمثالني‬ ‫يُزعم أن ملكيتهام تعود للفنان منذ عام‬ ‫‪ ،1989‬وقد أزيلت الظالل عنهام بواسطة‬ ‫التقنيات الرقميّة‪ ،‬فباتا يطفوان عىل أرض‬ ‫بيضاء‪.‬‬ ‫ذروة هذه املساعي جميعها تتمثّل‬ ‫يف عمل يحمل عنوان "االتفاق" ‪The‬‬ ‫‪ .)2011( Agreement‬العمل هو عبارة‬ ‫عن ّ‬ ‫رف يحوي عرشة أغراض‪ ،‬منها‪ :‬صحن‬ ‫مع صورة لخرضوات‪ ،‬وعاء نصفه من‬ ‫الخشب ونصفه اآلخر من الكريستال‪،‬‬ ‫علقة‪ ،‬متثال لحصان مكسور نصفه وجزؤه‬ ‫ّ‬ ‫الداخيل مرشوش بدهان أحمر‪ .‬فوق ّ‬ ‫الرف‬ ‫۽‬

‫تصوير رسكان تايكان‬

‫۽‬

‫م ّرات‪ .‬وفيام يبقى أمر االحتفاظ مبشهد‬ ‫مكبا إىل‬ ‫الطبيعة الصامتة الهاوي هذا‪ً ّ ،‬‬ ‫حسا من الفكاهة‪،‬‬ ‫نصبي‪ ،‬أم ًرا يثري ًّ‬ ‫حجم ّ‬ ‫فإ ّن الصورة تُطمس عىل نحو تام‪ ،‬فال تظهر‬ ‫معلومات ال عن والدة اللوحة األصلية وال‬ ‫عن راسمها‪.‬‬ ‫ما يجعل أعامل خان تطرح تح ّديًا‬ ‫وتثري االبتعاد‪ ،‬هو أنّها ال تأيت تجريديّة‬ ‫عىل نحو كامل أبدًا – ما يسمح لها يف‬ ‫أن تكون قابلة للمشاهدة واجتذاب‬ ‫الخاصة – كام‬ ‫الجمهور بحسب رشوطها ّ‬ ‫أنّها ليست رسديات عىل الدوام‪ .‬عمل‬ ‫تجهيز الفيديو الرباعي التقسيم‪ ،‬امل ُعنون‬ ‫بـ "املوقع املحجوب" ‪Hidden Location‬‬ ‫(‪ ،)2004‬يتبع معالجة ُمطابقة تتميّز بعدم‬ ‫الشفاف ّية املحسوبة‪ :‬الفنان وأحد أصدقائه‬ ‫يجريان محادثة مبعرثة يف إمكانية الوصول‬ ‫إىل افرتاضات متن ّوعة‪ ،‬كام يناقشان أمر‬ ‫مواعدة فتاة‪ ،‬فيام يظهر أفراد عائلتها يف‬ ‫الخلفيّة‪ .‬عىل الشاشتني األخريني مث ّة شخص‬ ‫يرتدي بذلة قفز زرقاء يقوم برتتيب رسير‪،‬‬ ‫وينظر من خالل ثقب الباب‪ ،‬ومشاهد‬ ‫۽‬

‫"دوم تك تك دوم تك" (‪ ،)2005‬من معرض حسن خان‪،‬‬ ‫"سولت بيوغلو‪.2012 ،‬‬

‫تصوير رسكان تايكان‬

‫‪110‬‬

‫۽‬


‫دفتر‬

‫ملحق مرفق بالنسخة اإلنكليزيّة‬

‫ديسكو‬

‫صبا ع ّناب‬

‫املعامري‬ ‫عي واحد يف حقبة الستينيات اعتربه‬ ‫أي حال‪ ،‬مكا ٌن ُم ّ ٌ‬ ‫"مث ّة‪ ،‬عىل ّ‬ ‫ّ‬ ‫معامري راديكايل‬ ‫كل‬ ‫مؤه ًّل يف التعبري عن مفهوم الحداثة‪ :‬نادي الديسكو‪ّ .‬‬ ‫ّ‬ ‫قام بتصميم أحدها"‪.‬‬ ‫إميانويل بيكاردو‪،‬‬

‫‪Archphoto 2.0, Radical City, Number 01,3.‬‬

‫تخل عدد من املعامريني‬ ‫يف سعيهم ملناوأة املنطق النفعي يف مجتمع االستهالك‪ ،‬ولتخيّل ما قد يكون عليه الفضاء "العادل"‪ّ ،‬‬ ‫اإليطاليني الراديكاليني يف حقبة الستينيات عن املكان العام واختباريته‪ ،‬وفضّ لوا املدينة السفليّة‪ .‬فبنوا أندية ديسكو‪ .‬أعامل هؤالء‪،‬‬ ‫بالنسبة لجيلهم الراديكايل‪ ،‬متثّل الصلة بني النظريّة والتطبيق‪ .‬التقاطعات بني الفضاءات اليوتوب ّية‪ ،‬يف مشاريعهم املدين ّية الشاملة‪،‬‬ ‫وبني الديسكو‪ ،‬يصعب تجاهلها‪ .‬وتتشارك مبادراتهم‪ ،‬يف كال الح ّيزين‪ ،‬مبنطقٍ فراغي وخلفيات مفهوم ّية متقاربة‪ .‬كام تتشارك‬ ‫مبقاصدها لتجسيد "املدينة الديناميّة"‪ ،‬حيث اللعب والح ّريّة أداة لقلب األنظمة‪ .‬وكمثل "بابل الجديدة" ‪ new Babylon‬التي‬ ‫ص ّممها كونستانت نيووينهويس ‪ ،Nieuwenhuys‬يتميّز تصميم الديسكو بوحدات فضائية يقوم داخلها عىل أجواء ُمختلقة تتحكّم‬ ‫بها التكنولوجيا‪.‬‬ ‫فعل رافضً ا للواقع‪ ،‬وهل نجح يف ذلك؟‬ ‫هل مثّل الديسكو تجسيدًا واعيًا للفضاء اليوتويب الذي سعى إليه الراديكاليون؟ هل كان ً‬ ‫ٍ‬ ‫ومستهلك‪ ،‬وحتّى ُمتب ّنى من قبل النظام عينه الذي كانت تحاول شجبه؟‬ ‫لكل يوتوبيا التح ّول إىل نقيضها‪ ،‬نقيض خرب‬ ‫هل قُيِّض ّ‬

‫‪Disco‬‬ ‫‪Portal 9 Insert page 151‬‬

‫‪127‬‬


‫أرقام‬

‫ملحق مرفق بالنسخة اإلنكليزيّة‬

‫سبتة ومليلية‪:‬‬ ‫جيبا سيادة أوروبيّة يف املغرب‬

‫عزيزة الشاعوين وآدم برين وماين تربيزي‬

‫الحدود شديدة الحراسة للمدينتني البحريتني املتمتّعتني بالحكم الذايت والخاضعتني للسيادة اإلسبانيّة يف شامل املغرب‪ ،‬سبتة ومليلية‪،‬‬ ‫متثّالن بقايا من حقبة االستعامر‪ .‬لك ّن التفاوتات االقتصاديّة واالجتامعيّة الكبرية‪ ،‬معطوفة عىل التح ّوالت الدميوغرافيّة وحركة الهجرة‪،‬‬ ‫توحي أن املستقبل هناك‪ ،‬بني ضفّتي جبل طارق‪ ،‬هو مستقبل تواصل ال مت ُرتس‪ .‬هذا امللحق هو مراجعة وتص ّورات باألرقام ألحوال‬ ‫مدينتي سبتة ومليلية بني إسبانيا واملغرب‪.‬‬ ‫ومستقبل‬ ‫ّ‬

‫‪European Exclaves in the‬‬ ‫‪Maghreb: Ceuta and Melilla‬‬ ‫‪Portal 9 Insert page 53‬‬

‫‪126‬‬


Issuu converts static files into: digital portfolios, online yearbooks, online catalogs, digital photo albums and more. Sign up and create your flipbook.