Portal 9 Issue #3 Fiction Arabic

Page 1


‫الب ّوابة التّاسعة‬

‫رسد‪ :‬كتابات عرب ّية وروس ّية معارصة‬ ‫العدد الثالث‪ ،‬خريف‬

‫‪2013‬‬

‫مقاالت املدينة وأخبارها‬



‫افتتاحية‬ ‫ّ‬

‫تبدأ الب ّوابة التاسعة يف عددها الثالث هذا اختبا ًرا جدي ًدا ميكن تلخيصه باآليت‪ :‬ت َ َق ُّد ٌم من‬ ‫تفصيل وقُربًا‪ ،‬إىل‬ ‫ً‬ ‫إطار الثيمة الواسعة‪ ،‬التي ك ّنا بدأناها يف عددينا األ َّولني‪ ،‬إىل ما هو أكرث‬ ‫النمط اإلبداعي الذي يواكب اهتامماتنا الثقاف ّية املدين ّية ويُغنيها (كتابة كان هذا النمط‬ ‫أم إنتاجات أخرى)‪ .‬وهذا يعني وضع إيقاع لتسلسل أعداد الب ّوابة التّاسعة الصادرة م ّرتني‬ ‫كل إصدار‪ ،‬قوامه عد ُد ثيم ٍة ُمعتاد‬ ‫كل خريف وربيع‪ .‬إيقا ٌع يسري متن ّو ًعا مع ّ‬ ‫يف العام‪ ،‬مع ّ‬ ‫واسع‪ ،‬يليه عدد “منط”‪ُ ،‬متك ّيف يف شكله مع موضوعه ‪ ...‬وهكذا‪.‬‬ ‫إىل هذا االختبار يف الشكل الجديد‪ ،‬امل ُتك ّيف مع النمط املطروح‪ ،‬ق ّررنا البدء مبا ارتأيناه‬ ‫ِ‬ ‫متقاط ًعا مع ما ك ّنا بدأنا به عددنا األ ّول – “امل ُتخ َّيل” – الذي استكتب باحثني وأكادمييني‬ ‫السد‪ ،‬ملا فيه من أبواب ُمرشعة‬ ‫وكتّاب‪ُ ،‬مستطل ًعا رؤاهم يف املدن‪ .‬فاخرتنا اآلن منط َ ْ‬ ‫لالختبار بالكلمة املكتوبة والخيال الخالص‪.‬‬ ‫وما قمنا به يف الحقيقة مثّل مغامرة استثنائ ّية ت ُشعرنا بيشء من الرضا‪ .‬فها نحن س ّباقون‬ ‫كمجلّة ت ُعنى بشؤون املدن والعمران واألمكنة‪ ،‬يف حثّ الروايئ حسن داوود عىل كتابة‬ ‫رواية كاملة باللغة العرب ّية‪ ،‬وس ّباقون يف ترجمتها بالتوازي مع كتابتها‪ ،‬ومن ث ّم نرشها‬ ‫يف وقت واحد بلغتني‪ ،‬العرب ّية واإلنكليزيّة‪ ،‬وذلك ضمن مهلة ُمح ّددة ال تتع ّدى األشهر‬ ‫قيايس‪.‬‬ ‫وقت‬ ‫الستّة‪ .‬وهذا للعارفني ٌ‬ ‫ّ‬ ‫وما أغنى تجربتنا يف هذا السياق‪ ،‬كان اختبارنا التواصل مع روا ّيئ يف وقت زامن كتابته‬ ‫فصل‪ .‬فك ّنا نقرأ الفصول توال ًيا‪ ،‬ومن ّررها‬ ‫فصل ً‬ ‫لنصه وهندسته إيّاه‪ ،‬ومرافقتنا ملا يكتب‪ً ،‬‬ ‫ّ‬ ‫إىل امل ُصممني وإىل املرتجمة‪ ،‬لينا ُمنذر‪ ،‬ملبارشة العمل عليها بالتنسيق مع املح ّرر العام‬ ‫للمجلّة‪.‬‬ ‫الرواية لكاتب لبنا ّين كان افتتح يف مطلع الثامنينيات موجة “رواية املكان” يف األدب‬ ‫اللبناين الحديث بعمله املشهود “بناية ماتيلد”‪ ،‬تلك الرواية التي دفعت بصوت الحرب‬ ‫والقضايا الكربى‪ ،‬املد ّوية يف بريوت آنذاك‪ ،‬إىل الخلف ّية يك ت ُص ّدر صوت املكان ونبض‬ ‫كائناته الحيّة من برش وأبنية‪ .‬وهو تابع هجسه مبا تؤول إليه املدينة بكتب أخرى‬ ‫نصا يوحي جزء كبري‬ ‫بينها “نزهة املالك” و”غناء البطريق”‪ .‬الروايئ نفسه اليوم يكتب ًّ‬ ‫من أجوائه بوسط مدينة بريوت الجديد‪ ،‬الناشئ بعد الحرب‪ ،‬والذي ما زالت ِج ّدت ُه‬ ‫ُمستعصية عىل الخيال الكتايب لكثريين‪.‬‬

‫‪5‬‬



‫افتتاحية‬ ‫ّ‬

‫وقائع شديدة التقاطع مع وقائع منطقتنا‪ .‬فروسيا الجديدة هذه‪ ،‬التي اختربنا يف األشهر‬ ‫املاضية مقدار تأثريها يف الجغرافيا السياسيّة ملنطقتنا‪ ،‬رغم حضورها الثقايف الصامت‬ ‫وامللتبس مقارنة بالحضور الغريب امل ُتعدد‪ ،‬هي روسيا أزمات تكاد تحايك أزمات عاملنا‪،‬‬ ‫من أوليغارشيات التحكّم بالغاز والنفط‪ ،‬إىل مظاهر الدولة البوليس ّية واغتيال الصحافيني‬ ‫واختفاء املعارضني واضطهاد املثليني‪ ،‬وصولً إىل السؤال القوقازي – اإلسالمي واإلثني‪.‬‬ ‫كام أنّها بالد كبرية ُمتن ّوعة شهدت‪ ،‬خالل العقدين األخريين‪ ،‬بروز حيويّات جديدة مل‬ ‫تعد ُمقترصة عىل املدن املركزيّة الكربى‪ ،‬كموسكو وسان بطرسربغ‪ ،‬بل تع ّدت يف حراكها‬ ‫إىل مدن أخرى‪ ،‬مثل كازان (حيث ولدت إيرينا بوغاترييفا) يف تتارستان‪ ،‬وسوتيش عىل‬ ‫ساحل البحر األسود‪.‬‬ ‫الكاتبان اللذان نق ّدمهام يف عددنا هذا‪ ،‬هام بالضبط من هذه الروسيا الجديدة (أرسالن‬ ‫خسافوف هو متا ًما مثل بطله الرتاجيدي أرتور‪ ،‬من إثنية الكوميك املسلمة)‪ ،‬وهام‬ ‫يعكسان تلك النزعة الروسية القامئة عىل املزيد من البحث والحراك والتنقّل إثر انهيار‬ ‫الستار الحديدي يف مطلع تسعينيات القرن العرشين‪.‬‬ ‫والواقع إننا نضع تجربة هذين الكاتبني الروسيني الجديدين‪ ،‬بالتامس مع تجربة جيل‬ ‫كتايب – ف ّني عريب متن ّوع‪ ،‬هاجسه اخرتاق عبث الوقائع املتيبّس ومداعبته تهك ًّم (يزن‬ ‫خلييل)‪ ،‬والعبور يف طبقات العيش واملكان املرتاكمة للوصول إىل “التفاصيل الصغرية‬ ‫املعامري‪،‬‬ ‫املخف ّية”‪ ،‬عىل ما تكتب منصورة ع ّز الدين يف “طيف الصقيل” عىل لسان بطلها‬ ‫ّ‬ ‫“الذي ترافقه القاهرة الفاطميّة كهوس قديم”‪.‬‬ ‫ونحن يف هذا السياق ال ننرش رواية ومجموعة من القصص وحسب‪ ،‬بل إننا نتسبب يف‬ ‫إيجاد روايتني اثنتني‪ .‬فإىل “نَق ِّْل فؤاد َ​َك” لحسن داوود‪ ،‬ها هي الكاتبة املرصيّة منصورة‬ ‫خصته للب ّوابة التّاسعة‪ ،‬إىل كتابة رواية كاملة بطلها‬ ‫النص الذي ّ‬ ‫ع ّز الدين تنطلق من ّ‬ ‫ِ‬ ‫القاهري ذاك‪ ،‬الذي يظهر يف األحالم ُمط ًّل من نافذة يف “رمسيس هيلتون”‬ ‫معامريّها‬ ‫ّ‬ ‫شهب تنطفئ مبالمستها األرض‪.‬‬ ‫لريمي أوراقًا مثل ٍ‬

‫فادي طفييل‬ ‫‪7‬‬


‫البوابة التّاسعة‪ :‬مقاالت المدينة وأخبارها‬ ‫ّ‬

‫إىل حسن داوود‪ ،‬املهجوس يف “نَق ِّْل فؤاد َ​َك” بالعمر والبحث عن حب مستحيل ضائع‪،‬‬ ‫وباملكان والبدايات التي ال ّ‬ ‫نصوصا‬ ‫تنفك تتناسل‪ُ ،‬مطلّة برأسها من هنا وهناك‪ ،‬اخرتنا‬ ‫ً‬ ‫لكتّاب من جيل كتا ّيب – ف ّني ُمختلف و ُمتف ّرق‪ ،‬لكن ُمتفاعل ومتواصل يف خيط حساس ّيات‬ ‫“صغرية”‪ ،‬نابضة من الداخل يف كوامنها‪ .‬وهذا االختيار ت ّم عىل نحو تلقايئ‪ ،‬اعتامدًا عىل‬ ‫االنحياز لهذه الحساسيّات التي ال ت ِ‬ ‫ُقص استعراضها عند القرشة الخارجيّة ويستهويها‬ ‫كل يشء‪ ،‬بد ًءا من الذات واآلخر‪ ،‬وصولً إىل املكان‬ ‫البقاء هناك‪ ،‬بل تبدأ بالحفر يف ّ‬ ‫الذي يُحيطهام‪ .‬فتُق ّدم هذه النصوص املختارة اختبارات ُملفتة توغل يف لغة الجسد‬ ‫والتفاصيل (حسن داوود)‪ ،‬ويف املدينة املحجوبة امل ُكتنفة باألرسار (منصورة ع ّز الدين)‪،‬‬ ‫كام يف مالمسة األغراض الحميمة واللفتات واألنفاس والرعشات (إيرينا بوغاترييفا)‬ ‫والرقّة اإلنسانيّة والرباءة وهشاشة الفرد امل ُنكشف (أرسالن خسافوف ويزن خلييل)‪ .‬إذ‬ ‫أ ّن الجميع يحيا يف زمن خفتت فيه الشعارات الهادرة‪ ،‬امل ُن ّمقة‪ ،‬والقرشويّة‪ ،‬والفرد أصبح‬ ‫هو “ذاته” فقط من دون تنميق‪“ .‬مل تعد الشعارات القدمية عن كرامة العمل ط ّنانة‬ ‫العرشيني‪،‬‬ ‫كام يف السابق”‪ ،‬يكتب أرسالن خسافوف‪ ،‬عىل لسان بطله أرتور‪ ،‬الشاب‬ ‫ّ‬ ‫ربا يق ّربه‬ ‫موسكو‬ ‫“الرويس” املسلم الداغستاين‪ ،‬امل ُطارد األب‪ ،‬والباحث عن عمل يف‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫قليل من حلمه املثايل عن نفسه ككاتب موهوب‪ٌّ .‬‬ ‫رصفاته”‪ ،‬تكتب إيرينا‬ ‫و“كل ح ٌّر بت ّ‬ ‫ِّ‬ ‫نصها‪،‬‬ ‫بوغاترييفا وتك ّرر جملتها هذه كمحط كالم بني الفينة واألخرى عىل لسان بطل ّ‬ ‫ذاك الدليل السياحي الرصني الذي يحاول تأدية وظيفته بانفصال عن مشاعره الشخص ّية‬ ‫كل م ّرة‪ ،‬والتي يقودها ذهابًا وإيابًا من روسيا عرب‬ ‫تجاه مجموعات السيّاح املتب ّدلة يف ّ‬ ‫علم أ ّن “حريّة الترصف” تلك قد تتض ّمن‪ ،‬يف بعض األحيان‪ ،‬اختفا ًء‬ ‫البلدان اإلسكندنافية‪ً .‬‬ ‫طوع ًيا أبديًا (انتحا ًرا؟)‪.‬‬ ‫والواقع أن الجهد الذي بذلته الب ّوابة التاسعة للوصول إىل كتّاب من خارج الفضاء الثقايف‬ ‫العريب‪ُ ،‬يثّل أيضً ا مغامرة تعلّمنا منها‪ .‬فبالرغم من الجهد امل ُضاعف يف هذه امل ُه ّمة‪،‬‬ ‫وامل ُتمثّل يف الرتجمة من الروس ّية إىل اإلنكليزيّة فالعرب ّية‪ ،‬فإننا عىل األقل طرقنا بابًا‬ ‫يُهمل طرقه يف العادة‪ ،‬ليس فقط من ِقبل املتكلّمني بالعربية‪ ،‬بل أيضً ا من قبل الغربيني‬ ‫التاريخي امل ُطم ّنئ إىل الحضور الراسخ للرتاث الكالسييك‬ ‫وسواهم‪ .‬إذ مث ّة ما يشبه الخدر‬ ‫ّ‬ ‫الرويس العاملي (بوشكني‪ ،‬دوستويوفسيك‪ ،‬تورغينيف‪ ،‬تولستوي‪ ،)... ،‬وذلك عىل حساب‬ ‫روسيا الجديدة‪ ،‬أو روسيا ما بعد االتحاد السوفييتي‪ .‬وهذه بحسبنا‪ ،‬عىل األقل بالنسبة لنا‬ ‫يف العامل العريب‪ ،‬بات اكتشافها أكرث إلحا ًحا من ذي قَبلٍ ‪ ،‬ملا أظهرته أحوالها املستج ّدة من‬ ‫‪6‬‬



‫أيرينا بوغاتيريفا‬

‫‪8‬‬


‫طيف الصقلي‬

‫هززت رأيس باإليجاب‪ ،‬فعاود التحديق يف الشجرة‪ ،‬قبل أن يقول إنه مل‬ ‫قبل بيشء مامثل‪ .‬مل أكن مهت ّمة فعل ًيا باملسألة‪ ،‬أقنعت نفيس أنها‬ ‫يسمع ً‬ ‫تهيؤات عقل مرهق‪ .‬تسكّعت أمس يف “قرص النيل” لساعتني‪ ،‬ومع كل‬ ‫خطوة كانت ظالل الطريق املتع ّرج شبه املعتم تذوي ح ّد التاليش‪.‬‬ ‫لدهشتي كانت أجوبته عىل أسئلتي حول القاهرة وعامرتها مختلفة عنها‬ ‫يف لقائنا األول‪ ،‬أسهب يف الحديث عن قاهرة الخديوي إسامعيل باعتبارها‬ ‫“توق املدينة إىل التحديث واللحاق بركب العامل املتحرض”‪ ،‬وعن حي‬ ‫هليوبوليس حيث قىض طفولته وصباه‪ .‬ومرشوعه الهادف إىل مضاعفة‬ ‫املساحات الخرضاء يف القاهرة الكربى‪ .‬لربهة شككت يف أنه الشخص نفسه‬ ‫الذي تحدثت معه من قبل‪ .‬كان أكرث اتزانًا وارتباطًا بالواقع‪ .‬مل يأت عىل‬ ‫ذكر عاصمة الفاطميني إلّ عندما سألته عن خططه املستقبلية فقال إنه‬ ‫يحلم ببناء نسخة أخرى من قاهرة جوهر الصقيل باستخدام مواد البناء‬ ‫نفسها والتصميم ذاته مؤكّ ًدا أن مغامرة كهذه سوف تحظى باهتامم‬ ‫عاملي‪.‬‬ ‫***‬

‫ليل باألوراق املشتعلة تتساقط من “رمسيس هيلتون”‪ .‬كانت أشد‬ ‫حلمت ً‬ ‫بريقًا وتأج ًجا مام عاينته يف الواقع‪ .‬قطع نار عىل خلفية معتمة وقفت‬ ‫رفعت رأيس‪ .‬عىل الرغم من بعد املسافة رأيت آدم‬ ‫أتابعها بانبهار وقد‬ ‫ُ‬ ‫خليفة يطل من إحدى النوافذ ويرمي مزي ًدا من األوراق الشبيهة بشهب‬ ‫تنطفئ مبالمستها لألرض‪ .‬بعد لحظات وجدتني يف غرفة الفندق بحثاً عنه‪.‬‬ ‫‪19‬‬



‫طيف الصقلي‬

‫أمام صيدلية “يرثب” وقف آدم خليفة يرشح لجمهور متحمس خطته‬ ‫لبناء “قاهرة جديدة”‪ .‬مع كل كلمة يضيفها كان جزء من مدينته املشتهاة‬ ‫يتوسطها قرص هائل بسور عا ٍل‬ ‫ميثل يف الفراغ أمامي‪ ،‬حتى تشكلت ساحة ّ‬ ‫تدور حوله فرقة موسيقية تعزف موسيقى صاخبة‪ .‬استيقظت واللحن‬ ‫يرتدد يف رأيس بال توقف‪.‬‬ ‫عىل هاتفي الج ّوال كانت هناك رسالة قصرية من خليفة يلفت نظري فيها‬ ‫لفقرة بعثها عىل بريدي اإللكرتوين ويرغب يف إضافتها للحوار‪.‬‬ ‫مل أكن أفقت متا ًما من أثر النوم حني قرأت ما كتب‪:‬‬ ‫“مدينتي هي تلك التي تنطبع خريطتها يف ذهني‬ ‫وتسكن أزقتها أحالمي‪ .‬هي ما أحمله معي أينام‬ ‫رحلت‪ ،‬وأجعل منه معيا ًرا أقيس عليه مدين العابرة‪.‬‬ ‫أينام حللت صاحبتني القاهرة الفاطمية كهوس‬ ‫لكل مكان عربته‪ ،‬كأنها مايض‬ ‫مقيم‪ .‬كانت مرجعية ّ‬ ‫األماكن وفكرة املدينة عن نفسها‪ .‬مثَّل شارع املعز‬ ‫نواة العامل بالنسبة يل‪ .‬كان محو ًرا تتفرع منه بقية‬ ‫الشوارع‪ ،‬وتتوزع حوله األحياء والبلدان‪.‬‬ ‫مل أضع يدي عىل هذا إلّ بسفري للدراسة يف أملانيا‪.‬‬ ‫يف ميونيخ الصامتة ملست صخب القاهرة‪ .‬هناك‪،‬‬ ‫تالىش رشيط الصوت املصاحب لحيايت فيها‪ .‬كدت‬ ‫أجن‪ ،‬كأن الضجيج وحده كان الجوهر الذي يكفل‬ ‫متاسيك ومينع تح ّويل إىل غبار متطاير يف هواء مدينتي‬ ‫العتيقة‪ .‬مل أعرف أين شفيت من اعتيادي الصخب ّإل‬

‫‪21‬‬


‫منصورة عزّ الدين‬

‫كانت مرتبة وخالية وتشبه غرفة رأيتها يف فيلم أمرييك ذبلت تفاصيله‬ ‫األخرى يف ذاكريت‪ .‬بجوار مرآة الحائط الطولية‪ ،‬كان مثة باب موارب‬ ‫أسلمني إىل رسداب ض ّيق‪ ،‬جدرانه مصقولة والمعة كأمنا بُنيت من أحجار‬ ‫كرمية‪ .‬ومنه انتقلت إىل طريق مبانيه تشبه القالع‪ ،‬خطوت فيه بألفة كام‬ ‫لو كان بيتي‪ .‬بنهايته بان يل شارع “العطور” حيث سكنت لخمس سنوات‪،‬‬ ‫فعاودين اختناقي القديم‪.‬‬ ‫مل يكن لـ“العطور” من اسمه نصيب‪.‬‬ ‫كنت أدخله فأكاد ال أرى السامء وال أشم إلّ روائح كريهة تنبعث من‬ ‫محل “فرارجي” اعتدت أن أعربه بقفزات رسيعة هربًا من مجال رائحته‪.‬‬ ‫شوارع “فيصل” الجانبية املحيطة بـ“العطور” واملوصلة منه وإليه كانت‬ ‫أقرب ألمعاء متداخلة وملتفّة حول بعضها البعض منها إىل طرقات ُخطت‬ ‫لتأسيس حي صالح لسكنى البرش‪ .‬لسنوات خمس الزمني شعور أين أقيم‬ ‫تحت األرض‪ ،‬حيث ال سامء وال هواء وال ضوء‪ .‬مل أكن أسرتد إحسايس بأين‬ ‫يف عامل األحياء‪ ،‬إلّ بخروجي من “فيصل” وعشوائيته‪.‬‬ ‫كنت أشرتي منتجات األلبان من “الخري والربكة”‪ ،‬والبقالة من سوبر ماركت‬ ‫“الحرمني الرشيفني”‪ ،‬واألدوية من صيدلية “يرثب”‪ ،‬فأشعر أن آلة الزمن‬ ‫نقلتني إىل القرن السابع امليالدي‪.‬‬ ‫يف منامي بدوت أكرث تسام ًحا مع “العطور”‪ ،‬باألحرى مل يكن قبي ًحا‬ ‫كصورته يف ذهني‪ ،‬أو كان كذلك بشكل فني‪ ،‬ج ّمله الحلم وأزال شوائبه‪.‬‬

‫‪20‬‬



‫منصورة عزّ الدين‬

‫حني انزعجت من ضجة خلفتها سيارة مرسعة رسعان‬ ‫ما ابتلعها سكون الليل ألواصل نومي‪.‬‬ ‫قبل مغادرة مرص حىك يل أستاذي أنه درس يف الجامعة‬ ‫نفسها عقب الحرب مبارشة‪ ،‬حينها كانت أملانيا ورشة‬ ‫معامر مفتوحة إلعادة بناء ما تدمر‪ .‬حسدته ومتنيت‬ ‫لو رجع الزمن ثالثة عقود يك أرافقه وأرى ما رآه‪.‬‬ ‫سافرت ويف ذهني ما رواه يل‪ .‬كنت أدقق يف طبقات‬ ‫املعامر وبصامت التح ّوالت التاريخية عليه‪ ،‬فيتضاعف‬ ‫شوقي لـ“قاهريت”‪.‬‬ ‫لكن املدن ليست أحجا ًرا فقط‪ .‬أستعيد ميونيخ اآلن‪،‬‬ ‫فأهجس بأنها الجميلة الشقراء بفستان من حرير‬ ‫أخرض التي رافقتني يف القطار إىل النمسا‪ ،‬بل ميونيخ‬ ‫هي الثوب األخرض نفسه‪ .‬بينام نعرب الحدود بني‬ ‫بافاريا وإقليم التريول‪ ،‬أصيبت رفيقتي بلوثة حنني‪.‬‬ ‫بجزل طفويل؛ راحت تشدو بأغنية شعبية تسخر من‬ ‫أهايل التريول‪ ،‬ثم استدارت نحوي شارح ًة أن لألغنية‬ ‫عالقة بالرصاعات القدمية بني اإلقليمني‪ .‬من دون أن‬ ‫تقصد دلتني عىل منهجي يف العامرة‪ :‬املشاعر والتاريخ‬ ‫الشفاهي بتفاصيله الصغرية املخفية‪ .‬لحظتها‪ ،‬تجسد‬ ‫يخصه من‬ ‫شارع املع ّز يف رأيس‪ ،‬وقررت جمع كل ما ّ‬ ‫حكايات منسية”‪.‬‬

‫للبوابة التّاسعة أوحى للمؤلّفة بفكرة رواية هي االن قيد الكتابة‪.‬‬ ‫النص‬ ‫تأليف هذا‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬

‫‪22‬‬


‫منصورة عز الدين‪ ،‬كاتبة وصحافية مرصية‪ .‬ت ُرجمت‬ ‫نصوصها إىل لغات أجنبية عدة‪ .‬العام ‪ ،2009‬اختريت‬ ‫من جانب مرشوع بريوت ‪ 39‬ضمن أفضل الكتاب‬ ‫العرب تحت سن األربعني‪ .‬يف العام ‪ ،2010‬وصلت‬ ‫روايتها الثانية إىل القامئة القصرية لجائزة “البوكر‬ ‫العربية”‪ .‬روايتها الثالثة “جبل الزمرد” سوف تصدر‬ ‫قريبًا عن دار التنوير للنرش‪.‬‬

‫رسد‪ :‬كتابات عربيّة وروسيّة معارصة‬

‫طيف الصقيل‬ ‫منصورة ع ّز الدين‬

‫منصورة ع ّز الدين‬

‫ُخيِّل يل أن القاهرة تهمس ساخر ًة أين لن أعرفها‪ ،‬سأعيش‬ ‫فيها كعابرة سبيل‪ ،‬كمخمورة لن تستفيق أبدًا‪.‬‬

‫الب ّوابة التّاسعة‪ :‬مقاالت املدينة وأخبارها‬ ‫العدد الثالث‪ ،‬خريف ‪2013‬‬

‫نصها‬ ‫تكتب منصورة ع ّز الدين يف ّ‬ ‫قاهري‪ ،‬يُدعى آدم‬ ‫معامري‬ ‫هذا عن‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫خليفة‪ ،‬ه ّمه رصد املدينة املحجوبة‬ ‫امل ُكتنفة باألرسار‪ .‬ويرتاءى خليفة يف‬ ‫طل من نافذة يف “رمسيس‬ ‫األحالم ُم ًّ‬ ‫هيلتون” لريمي أوراقًا مثل شهب‬ ‫تنطفئ مبالمستها األرض‪.‬‬


‫منصورة عز الدين‪ ،‬كاتبة وصحافية مرصية‪ .‬تُرجمت‬ ‫نصوصها إىل لغات أجنبية عدة‪ .‬العام ‪ ،2009‬اختريت‬ ‫من جانب مرشوع بريوت ‪ 39‬ضمن أفضل الكتاب‬ ‫العرب تحت سن األربعني‪ .‬يف العام ‪ ،2010‬وصلت‬ ‫روايتها الثانية إىل القامئة القصرية لجائزة “البوكر‬ ‫العربية”‪ .‬روايتها الثالثة “جبل الزمرد” سوف تصدر‬ ‫قري ًبا عن دار التنوير للنرش‪.‬‬




‫خرج‬ ‫الم َ‬ ‫َ‬

‫‪-8-‬‬

‫غادر سافا دون أن يب ّدل ثيابه‪ ،‬بالروب الذي كان يرتديه‪ .‬مل يب ّدل ثيابه‬ ‫مخافة إيقاظها‪ .‬مل يكن ليغادر لو مل تكن نامئة‪ .‬أدرك هذا‪ .‬هو لن يكون‬ ‫استقل املصعد إىل طابق السفينة العلوي‪ .‬القاعة حيث‬ ‫ّ‬ ‫راغبًا يف ذلك‪.‬‬ ‫كنتوار االستقبال كانت خالية‪ .‬الديسكو كان هاد ًرا يف األعىل‪ .‬استدار سافا‬ ‫حول النافورة وانحرف يسا ًرا يف املم ّر الضيق حيث رأى الالفتة وعليها‬ ‫عبارة “ َم ْخ َرج”‪.‬‬ ‫وقف كورنيف عند الباب الزجاجي‪ ،‬متف ّح ًصا إطار الباب ومحاولً خلخلة‬ ‫الرشيط الكاوتشوك بني الباب واإلطار‪ .‬التفت ومل يُفاجأ برؤية سافا‪.‬‬ ‫“أرأيت؟ لقد أقفلوه”‪ ،‬قال شا ًّدا مسكة الباب كدليل عىل ما يقول‪“ .‬إنّه‬ ‫وقت الليل”‪ ،‬قال‪“ .‬إنّهم يقفلونه يك يبقى الثملون يف الداخل”‪.‬‬ ‫اقرتب سافا من كورنيف‪ ،‬وم ًعا ضغطا برأسيهام عىل الزجاج ونظرا‪ .‬يف‬ ‫منصة معدنية رماديّة رطبة‪ ،‬وخلفها ظالم دامس عميم‪“ .‬ال‬ ‫الخارج شاهدا ّ‬ ‫أي يشء‪ ،‬انظر إىل هذا”‪ ،‬قال كورنيف‪“ .‬حتّى لو كان هناك‬ ‫ميكنك رؤية ّ‬ ‫يشء‪ ،‬فلن يكون بوسعك رؤيته”‪.‬‬ ‫ضوء من السفينة اخرتق الفضاء خلف هيكلها‪ ،‬شعاعات بطول نصف مرت‪،‬‬ ‫رطبة وبيضاء وامضة تتألأل يف السواد الحالك وهي تتطاير من اليسار إىل‬ ‫اليمني‪ .‬هكذا أدركوا أن الرياح كانت ناشطة يف الجهة األخرى من الزجاج‪.‬‬ ‫ومل يالحظوا حركة السفينة ّإل من خالل التم ّوجات‪.‬‬ ‫‪31‬‬


‫أيرينا بوغاتيريفا‬

‫تق ّدم يف املم ّر بني املقاعد عا ًّدا رؤوس الحارضين وفيه إحساس أنّه يقوم‬ ‫بإجراء شكيل‪ .‬هو لن يقوم حتّى باللحاق بهم الصطيادهم‪ .‬قد يذهب‬ ‫ويغيب خلف بناء ليلتقط أنفاسه مدخ ًنا سيكارة‪ ،‬ثم يعود إىل الباص‪،‬‬ ‫ويقول أن ال أحد عىل السفينة يعرف شيئًا‪ .‬وهذا سيكون حقيق ًيا‪ .‬ما الذي‬ ‫ميكن لهم أن يعرفوه؟ الذين يهربون يف العادة ُهم بأعامر يافعة‪ ،‬ولن‬ ‫رصفاته‪.‬‬ ‫يصيبهم مكروه‪ٌّ .‬‬ ‫كل ح ٌّر بت ّ‬ ‫لك ّنه بلغ مؤ ّخرة الباص‪ ،‬وقال عبارة “تسعة عرش” بصوت عال‪ ،‬وتوقّف‪،‬‬ ‫ُمح ِّدقًا بالفتيات‪.‬‬ ‫وهم برصيًا‪ .‬ك ّن أشبه بدعائم مرسح‪ .‬مثل متاثيل شمع‪.‬‬ ‫كان ذلك ً‬ ‫نظرن إليه باستخفاف‪.‬‬ ‫“من الذي نسيناه؟” قال موج ًها سؤاله للركاب يف الباص‪.‬‬ ‫“كورنيف”‪ ،‬سمع الجواب‪.‬‬ ‫غدا متنب ًها‪ .‬فكّر يف نفسه‪ :‬ال بأس إن كان الغائب هو كورنيف‪ .‬كورنيف‬ ‫سيعود ويظهر‪ .‬لكن الفتيات هنا‪ .‬اكتشف أنّه اآلن بات عاج ًزا عن معرفة‬ ‫وأحس أنّه تأكّد‬ ‫ما سيتوقّعه‪ .‬ما الذي ميكن توقّعه من هؤالء األشخاص؟‬ ‫ّ‬ ‫كل واحد منهم يف الحال‪.‬‬ ‫من حضور ّ‬ ‫عاد برسعة إىل السائق‪ ،‬مال نحوه‪ ،‬وقال‪“ ،‬أنت إبحث هنا‪ ،‬وأنا سأبحث يف‬ ‫السفينة”‪ .‬وإىل الركّاب تو ّجه يف القول‪“ ،‬أرجوكم ال تبتعدوا‪ .‬لن نتأ ّخر كث ًريا”‪.‬‬ ‫‪30‬‬


‫خرج‬ ‫الم َ‬ ‫َ‬

‫صوتها صاد ًرا بالقرب من النافورة‪.‬‬ ‫خرج شابان من املصعد برفقة فتايت الباص‪“ .‬لك ّني أخىش أن نكون يف بلد‬ ‫آخر غ ًدا‪ .‬غري أنّنا سنفكّر باملوضوع‪ ،‬أليس كذلك يا سفيتا؟”‬ ‫“نعم بالتأكيد”‪ ،‬قالت سفيتا وضحكا م ًعا‪ .‬صعدا الدرج وغابا خلف باب‬ ‫يف الديسكو‪.‬‬ ‫سافا‪ ،‬غائب الذهن‪ ،‬رضب يده عىل جيب روبه‪ .‬ربت كورنيف عىل كتفه‬ ‫وأخرج علبة سجائر‪ .‬د ّخنا صامتني‪ ،‬ومل ينظر واحدهام إىل اآلخر‪.‬‬ ‫ربا هذا ليس املخرج الذي ك ّنا نبحث عنه”‪.‬‬ ‫“إنّه مغلق ً‬ ‫فعل‪ ،‬سافا‪ .‬أو ّ‬ ‫“بل إنّه هو”‪.‬‬ ‫محمحم لسبب غري واضح‪ .‬قذف عقب‬ ‫“إذن هو ال يناسبنا”‪ ،‬قال كورنيف‬ ‫ً‬ ‫سيجارته نحو سلّة املهمالت عىل بعد خمس خطوات من حيث يقفان‪،‬‬ ‫كل يشء سيكون عىل ما يرام”‪.‬‬ ‫وأصابها‪“ .‬هيا عد إىل زوجتك‪ّ .‬‬ ‫يف املصعد خطرت لسافا فكرة أن األمور قد تسري عىل نحو مختلف‪.‬‬ ‫‪-9-‬‬

‫أي شخص‪ ،‬أفضل ما ميكن فعله هو التو ّجه إىل‬ ‫قيل له‪ ،‬ويف حالة اختفاء ّ‬ ‫الرشطة‪ .‬لو كانت األمور عائدة إليه‪ .‬نظر الدليل إىل آلة الحالقة الكهربائيّة‪،‬‬ ‫فرشاة األسنان الحمراء‪ ،‬الباهتة اللون‪ ،‬وإىل أنبوب معجون األسنان‪ .‬مل‬ ‫‪33‬‬


‫أيرينا بوغاتيريفا‬

‫كل يوم هنا؟” سأل كورنيف فجأة‪ ،‬مركّ ًزا برصه يف‬ ‫“أتعرف مباذا أفكّر يف ّ‬ ‫الظالم املتثائب‪“ .‬أفكّر كيف علّمني ج ّدي استخدام املنجل‪ .‬كان يأخذين‬ ‫معه ونعمل من الصباح حتّى وقت اسرتاحة الغداء‪ .‬أذكر هذا‪ ،‬متق ّد ًما‬ ‫حريصا عىل إبقاء ج ّدي أمامي يف‬ ‫واملنجل يف يدي‪ ،‬وال أفكار يف رأيس‪،‬‬ ‫ً‬ ‫مرمى نظري‪ ،‬إىل ميني عيني‪ .‬ومركّ ًزا عىل املنجل يف األثناء”‪.‬‬ ‫“عليك أن تكون خفيف الحركة‪ ،‬ومتيض بانتظام يف خ ّط مستقيم‪ .‬وش‪.‬‬ ‫وش‪ .‬وش‪ .‬برقّة كام تقطع الزبدة‪ .‬محافظًا عىل موقع الشفرة فوق األرض‬ ‫قصته‪.‬‬ ‫مبارشة”‪ ،‬أكمل سافا ّ‬ ‫التفتا إىل بعضهام البعض‪ .‬كان كورنيف هادئًا‪ .‬انتبه سافا إىل هذا‪.‬‬ ‫“ث ّم كنا ننتقل إىل مساحة ظليلة”‪ ،‬قال كورنيف‪“ .‬ونحتيس الكفاس‪ .‬كان‬ ‫يستلقي عىل األرقطيون تحت سيقان البتوال”‪.‬‬ ‫“كنا نأكل السندويتشات والبصل األخرض”‪.‬‬ ‫“الدجاج املح ّمر والبطاطا املسلوقة‪ .‬باردة وملساء”‪.‬‬ ‫“مملّحة”‪.‬‬ ‫“ث ّم كنا نستلقي عىل األرض‪ .‬ال نتكلّم‪ ،‬فقط نح ّدق بالسامء”‪.‬‬ ‫“أمل الجسد‪ .‬أحلم بنهر”‪.‬‬ ‫“هذا الذي تتكلّم عنه مغ ٍر ج ّدا”‪ ،‬قالت امرأة باللغة اإلنكليزيّة سمعا‬ ‫‪32‬‬


‫خرج‬ ‫الم َ‬ ‫َ‬

‫إىل فوق ركبتيه بقليل‪ .‬ويبدو مضحكًا ج ًّدا‪.‬‬ ‫املوسيقى استم ّرت‪ .‬باتت اآلن أكرث بطئًا وخفوت ًا‪ .‬نس ّمي هذا تحمية‬ ‫بطيئة‪ .‬ميكنك أن تعانق وترقص دامئًا يف غاية البطء‪ .‬إن سألك أحد أن‬ ‫تفعل‪ .‬معظمهم كانوا خجولني ج ًّدا ليسألوا‪ .‬أصوات البحر اختلطت أيضً ا‬ ‫يف األجواء‪ .‬موسيقى وبحر‪ .‬مع خرمشات الجليد املتساقط وزبد املاء عىل‬ ‫هيكل السفينة‪ .‬موسيقى يف أعامق الظالم‪.‬‬ ‫ه ّيا نرقص‪.‬‬ ‫ربا قال ذلك بصوت عال‪ ،‬لك ّنها كانت نامئة وسمعته عىل نحو مختلف‬ ‫ّ‬ ‫وكأنّه داخل رأسها‪ .‬جاءت أيضً ا‪ .‬وكان مي ّد يده إليها‪.‬‬ ‫وقفا م ًعا‪ ،‬راحة يدها عىل كتفه‪ ،‬ويده عىل خرصها‪ .‬متايال إىل الوراء وإىل‬ ‫رسة‪.‬‬ ‫األمام‪ ،‬من القدم إىل القدم‪ ،‬وراحا يدوران يف املساحة الضيّقة بني األ ّ‬ ‫قليل‪.‬‬ ‫كان يرتدي خفّيه وروبه األصفر الذي يصل إىل أعىل من ركبتيه ً‬ ‫كانت حافية القدمني عىل املوكيت الرمادي الرديء والخشن وجسدها‬ ‫يغل‬ ‫األبيض يش ّع من خالل ثوب النوم الطويل الذي ترتديه‪ .‬وجهها كان ّ‬ ‫يف املساحة فوق كتفه‪.‬‬ ‫كم من الوقت مىض‪ ،‬كم من الوقت ‪ ...‬ال ميكنني أن أذكر‪.‬‬ ‫“هل تبكني؟”‬ ‫“أنا؟ ال‪ .‬يوجد ماء عىل كتف روبك‪ .‬من أين هذا املاء؟”‬ ‫‪35‬‬


‫أيرينا بوغاتيريفا‬

‫أي كلمة روسيّة ال عىل الفرشاة وال عىل أنبوب معجون األسنان‪.‬‬ ‫يكن مث ّة ّ‬ ‫وحدها آلة الحالقة الكهربائ ّية كانت الدليل املبارش عىل أنّها تعود إىل‬ ‫الحقبة السوفيات ّية‪ .‬لكن كيف لهم أن يعرفوا ذلك؟‬ ‫“أنا لست متأك ًدا من أن هذه األشياء هي أغراضه”‪ ،‬قال‪.‬‬ ‫“ال بأس‪ ،‬إذن ليكن بعلمكم أنّها ستكون هنا يف قسم املوجودات يف حال‬ ‫عاد يبحث عنها‪ ،‬وأنتم تؤكّدون أنّها أغراضه”‪.‬‬ ‫قال‪“ ،‬حس ًنا” باللغة الفنلنديّة وغادر وهو متأكّد أنّه لن يرى كورنيف‬ ‫م ّرة أخرى‪ .‬كان لديه شعور أن ذلك مل يكن مج ّرد تأ ّخر عن الباص‪ .‬وبأنّه‬ ‫اختفى حني كان عىل منت السفينة‪ .‬وبأن ذلك كان متع ّم ًدا‪ .‬لكن ملاذا‪،‬‬ ‫كل هذا التعقيد؟ لغ ٌز هو قلب اإلنسان‪ ،‬فكّر الدليل‪ .‬لو أخذ‬ ‫فقط ملاذا ّ‬ ‫أغراضه معه عىل األقل‪ .‬يك ال يرتك أث ًرا‪ .‬لكن ما حاجة املرء إىل آلة الحالقة‬ ‫يف حياته األخرى؟‬ ‫كان ذلك يف أثناء مغادرته السفينة حني وضع يده يف جيبه واكتشف فرشاة‬ ‫األسنان‪.‬‬ ‫أي كتابة‪.‬‬ ‫الفرشاة التي ال كلامت روسيّة عليها‪ .‬الفرشاة التي ال تحوي ّ‬ ‫‪- 10 -‬‬

‫“هل خرجت؟ يبدو أنني غفوت؟”‪ ،‬قالت ميال‪ .‬كان سافا صامتًا‪ .‬كان‬ ‫جالسا عىل رسيره مرتديًا روبه األصفر‪ .‬اشرتياه السنة الفائتة‪ ،‬وهو يصل‬ ‫ً‬ ‫‪34‬‬



‫أيرينا بوغاتيريفا‬

‫البحر البارد كان يهدر قريبًا منهام‪ ،‬غري مر ٍّيئ‪ ،‬لكن بإيقاع ماىش حركاتهام‪.‬‬ ‫‪- 11 -‬‬

‫واح ًدا إثر اآلخر‪ ،‬تق ّدم الس ّياح منه يك يو ّدعوه‪ .‬كان الدليل ير ّد عليهم‬ ‫بابتسامة‪ .‬وصلوا إىل سان بطرسربغ متا ًما يف الوقت املح ّدد‪ ،‬عند الساعة‬ ‫الرابعة والنصف فج ًرا‪ ،‬رغم تأ ّخر ساعة ونصف الساعة إثر نزولهم من‬ ‫السفينة‪ .‬منهكان وشاحبان بعد الرحلة طوال الليل‪ ،‬جمعا أغراضهام وغابا‬ ‫عىل مهل يف الظالم‪ ،‬حيث يحتشد سائقو التاكيس وترتاءى أضواء فوانيس‬ ‫الشوارع الصفراء كأنّها يف مستنقع‪ .‬آخرون عربوا الشارع نحو محطّة قطار‬ ‫موسكوفسيك‪ .‬شاهدهم كيف وصلوا إىل هناك واح ًدا إثر آخر كام كانوا‬ ‫يفعلون خالل رحلة سفرهم‪ .‬كأنّهم اعتادوا ذلك‪ .‬وهي عادة ستزول‪.‬‬ ‫“إىل اللقاء”‪ ،‬قالت ميال مقرتبة منه‪“ .‬شك ًرا”‪.‬‬ ‫“حظًا سعي ًدا”‪ ،‬صافحها سافا قائالً‪“ .‬كانت رحلة عظيمة‪ .‬كام أردناها”‪.‬‬ ‫كلامت لطيفة وجوفاء وبالغة الشكل ّية‪ .‬ابتسم الدليل‪ ،‬قال شك ًرا وفكّر‪،‬‬ ‫خصيصا لكم‪.‬‬ ‫كل يشء كان مع ًّدا‬ ‫بالتأكيد‪ّ ،‬‬ ‫ً‬ ‫متا ًما كام فكّرت‪ ،‬أجاب سافا يف عينيه فقط‪.‬‬

‫‪36‬‬


‫إيرينا بوغاترييفا‪ ،‬ولدت يف كازان‪ ،‬تاتارستان‪ ،‬يف‬ ‫روسيا‪ .‬كاتبة حازت جوائز عدّة وبلغت الالئحة‬ ‫القصرية لجائزة ‪ .Debut Prize‬أصدرت كتابني‪،‬‬ ‫‪ AutoSTOP‬و‪.Comrade Anna‬‬

‫رسد‪ :‬كتابات عربيّة وروسيّة معارصة‬

‫املَخ َرج‬

‫إيرينا بوغاترييفا‬

‫إيرينا بوغاترييفا‬

‫ناد ًرا ما حفظ أسامء‪ .‬بالنسبة إليه‪ ،‬كانوا جمي ًعا‬ ‫ميثّلون تنويعة صفات ومقاعد يشغلونها‪.‬‬

‫الب ّوابة التّاسعة‪ :‬مقاالت املدينة وأخبارها‬ ‫العدد الثالث‪ ،‬خريف ‪2013‬‬

‫رصفاته”‪ ،‬تكتب إيرينا‬ ‫ٌّ‬ ‫“كل ح ٌّر بت ّ‬ ‫بوغاترييفا وت ُك ّرر جملتها هذه كمح ِّط‬ ‫كالم بني الفينة واألخرى عىل لسان‬ ‫نصها‪ ،‬ذاك الدليل السياحي‬ ‫بطل ّ‬ ‫الرصني الذي يحاول تأدية وظيفته‬ ‫بانفصال عن مشاعره الشخصيّة تجاه‬ ‫كل‬ ‫مجموعات الس ّياح املتب ّدلة يف ّ‬ ‫م ّرة‪ ،‬والتي يقودها ذهابًا وإيابًا من‬ ‫علم‬ ‫روسيا عرب البلدان اإلسكندنافية‪ً .‬‬ ‫رصف” تلك قد تتض ّمن‪،‬‬ ‫أ ّن “حرية الت ّ‬ ‫يف بعض األحيان‪ ،‬اختفا ًء طوع ًّيا أبديًّا‬ ‫(انتحا ًرا؟)‪.‬‬


‫إيرينا بوغاترييفا‪ ،‬ولدت يف كازان‪ ،‬تاتارستان‪ ،‬يف‬ ‫روسيا‪ .‬كاتبة حازت جوائز عدّة وبلغت الالئحة‬ ‫القصرية لجائزة ‪ .Debut Prize‬أصدرت كتابني‪،‬‬ ‫‪ AutoSTOP‬و‪.Comrade Anna‬‬




‫حسن داوود‬

‫أرجف رأسه عالمة عىل أنّه مل يفهم‪.‬‬ ‫كل يوم بينباعوا كل الغاتويات اليل تحت بال ّرباد؟‬ ‫ـ ‪..‬قصدي ّ‬ ‫فهم‪ ،‬وجعل يفكّر مباذا يجيب‪ ،‬ثم بدلً من ذلك أعاد سؤايل إ ّيل‪:‬‬ ‫كل يوم؟‬ ‫ـ ّ‬ ‫ـ نعم‪ ..‬كل يوم‪.‬‬ ‫ـ أنا ما بعرف‪ ،‬ب ّدك إسأل الشب اليل تحت؟‬ ‫ـ مش رضوري‪.‬‬ ‫ظل واقفًا يف مكانه‪ ،‬إذ رأى أ ّن جوايب ال يكفيه ليعرف ماذا عليه أن يفعل‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫ـ إذا ب ّدك اسأله‪ ،‬قلت ما بدا أنّه سيبقيه واقفًا أمامي منتظ ًرا‪.‬‬ ‫ـ إليل بيبقوا بينباعوا تاين يوم‪ ،‬قال الصوت الذي طلع من طاولة الصب ّيتني‪.‬‬ ‫كانتا تسمعانني متابعتني ذلك الحوار الذي بدوت به كأنّني أستجوب‬ ‫النادل‪ .‬ثم استدارت تلك التي مل أكن أرى منها إلّ شعرها وأعىل ظهرها‬ ‫لتقول يل‪ ،‬غري مهتمة بوجود النادل قريبًا م ّني‪:‬‬ ‫ـ وإذا ما انباعوا بكرا بينباعوا بعد بكرا‪.‬‬ ‫معني مبا سمعه‪ ،‬ثم أدار‬ ‫ومل يعلّق النادل بيشء‪ ،‬بل ومل يب ُد عليه أنّه‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫وجهه إ ّيل بعد ذلك لريى إن كنت سأسأله شيئًا بعد‪ .‬وأنا‪ ،‬من أجل أن أبقي‬ ‫‪156‬‬


‫فؤاد َ‬ ‫ك‬ ‫نقّ ْل‬ ‫َ‬

‫عىل الدرج مستبقًا النادل يف النزول‪ ،‬تن ّحيت ليك مت ّر الصبيتّان الصاعدتان‬ ‫إىل األعىل‪ .‬ستجلسان قري ًبا من طاولتي فكّرت‪ ،‬طاملا أ ّن الطاوالت األخرى‬ ‫تطل عىل يشء‪ .‬يف األسفل‬ ‫املتاحة للجلوس‪ ،‬باتت يف الوسط فقط وال ّ‬ ‫رحت أقلّب نظري بني القطع املصطفّة مرت ّبة‪ ،‬كام هي‪ ،‬كام كانت يف امل ّرة‬ ‫السابقة‪ ،‬ومل يشملها قرار اإلهامل الذي ات ّخذه أصحاب املقهى‪ .‬فكّرت أن‬ ‫أي طعم لذلك اللون‬ ‫أشري إىل اثنتني من القطع املل ّونة‪ ،‬راغ ًبا يف أن أعرف ّ‬ ‫خصوصا‪ ،‬الداكن الخرضة وامللتمع‪ .‬لك ّنني أحجمت عن ذلك‪ ،‬ظانًّا‬ ‫األخرض‬ ‫ً‬ ‫رسهام‪ ،‬إن شاهدتا تلك األلوان يف‬ ‫أ ّن الصب ّيتني يف األعىل ستتضاحكان يف ّ‬ ‫الصحن أمامي‪.‬‬ ‫ـ آخذ هذه‪ ..‬وهذه‪.‬‬ ‫كانت القطعتان متجاورتني ومغطّاتني بطبقة من الشوكوال مختلفة الكثافة‪.‬‬ ‫يف األعىل كانت الصبيتان قد جلستا تاركتني بيني وبينهام طاولة خالية‬ ‫واحدة‪ ،‬مبتعدتني هكذا ما أمكنهام عن الطاولة التي يشغلها فنجان قهويت‬ ‫حامل عىل صين ّيته صحن‬ ‫املمتلئ ما زال حتى منتصفه‪ .‬حني عاد النادل ً‬ ‫الغاتو‪ ،‬قلت له بصوت ميكن للصبيّتني سامعه‪:‬‬ ‫ـ ب ّدي إسألك يش؟‬ ‫ـ نعم‪ ،‬قالها لتبدو مثل “ب ّدك تسألني أنا؟”‪.‬‬ ‫ـ قطع الغاتو التي تحت بال ّرباد رح يخلصوا كلهن اليوم؟‬

‫‪155‬‬


‫حسن داوود‬

‫والشوكوال الذي ُحشيت به كان طيّبًا وبار ًدا ما يزال‪ .‬عندما جاء النادل‬ ‫لسؤالهام عن طلبهام مل يلتفت إ ّيل‪ ،‬بل بدا أنّه يتع ّمد تجاهيل‪ .‬هناك عىل‬ ‫طاولتهام رفع الورقة أمام عينيه كأنّه يستعجلهام الطلب‪ .‬وهام مل متتثال‪،‬‬ ‫بل راحتا تتشاوران تاركتني إيّاه متأه ًبا مستع ًّدا مع ورقته‪.‬‬ ‫ـ راح نطلب متلك‪ ،‬قالت األوىل‪ ،‬التي التفتت نصف التفاتة لتفهمني أنّها‬ ‫تكلّمني أنا‪ .‬ثم قالت للنادل الواقف‪:‬‬ ‫ـ متل األستاذ‪ ،‬غاتو‪.‬‬ ‫ـ بتحبّوا إنتو تنزلوا تنقّوهن؟‬ ‫ات ّفقتا عىل أن تنزل هي‪ ،‬تلك األوىل‪ ،‬تاركة رفيقتها الجالسة يف مواجهتي‪.‬‬ ‫يل أن أكلّمها‪ ،‬لكن مبج ّرد أن وطأت رفيقتها الدرجات النازلة‬ ‫كان ً‬ ‫سهل ع ّ‬ ‫إىل األسفل‪ ،‬رفعت أمامها تلفونها وبدأت تح ّدق يف شاشته‪.‬‬ ‫***‬

‫جالسا منتظ ًرا أن تأتيني كلمة منهام ثم‬ ‫مل يكن يفيد يف يشء أن ّ‬ ‫أظل ً‬ ‫تعودان بعدها إىل ما كانتا تتكلّامن فيه‪ .‬كنت أر ّد عىل ما تقوالنه يل‪،‬‬ ‫بكلمة مقابل كلمتهام‪ ،‬أو بكلمتني إن كان ما قالتاه كلمتني‪ ،‬ثم أعود إىل‬ ‫جلويس الذي بدا يل محر ًجا يف ح ّد ذاته‪ ،‬طاملا أنّني ال أفعل شيئًا وال أحد‬ ‫معي أكلّمه‪ .‬مل نكن نتق ّدم إىل يشء‪ ،‬ونحن نتبادل تلك الكلامت التي ال‬ ‫ترتك أث ًرا‪ ،‬وال تستدعي كال ًما بيننا يأيت من بعدها‪ .‬ثم إنني أدركت وأنا‬

‫‪158‬‬


‫فؤاد َ‬ ‫ك‬ ‫نقّ ْل‬ ‫َ‬

‫الصبية معنا‪ ،‬مديرة وجهها نحونا‪ ،‬سألتُه‪ ،‬بصوت حرصت عىل أن يكون‬ ‫مسمو ًعا منها ومن رفيقتها‪:‬‬ ‫ـ صحيح هيك متل ما قالت؟‬ ‫مل يعجبه سؤايل األخري هذا‪ .‬رمبا بدا له أنّني منذ البداية كنت أتل ّهى‬ ‫بإحراجه والتمسخر عليه‪ .‬أخفض الصينية الفارغة لتصري إىل جانب ساقه‪،‬‬ ‫نزول إىل األسفل‪ ،‬من دون أن‬ ‫واستدار ليذهب مبتع ًدا عن الطاوالت‪ً ،‬‬ ‫يسأل الصبيتني عن طلبهام‪.‬‬ ‫ـ ز ّعلناه‪ ،‬قلت جام ًعا هكذا ما بيني وبينهام‪.‬‬ ‫ـ ك ّنا عم منزح‪ ،‬قالت ملتفتة بوجهها إ ّيل‪ ،‬كأنّ ا من أجل أن تراين رؤية‬ ‫كاملة‪.‬‬ ‫يل أن أخترب ذلك‪ ،‬أن أخترب ماذا رأت‪:‬‬ ‫كان ع ّ‬ ‫ـ ط ّيب هالقطعتني قدامي شغل مبارح أو أ ّول مبارح؟‬ ‫ـ إنت وحظّك‪ ،‬قالت رفيقتها املواجهة يل يف جلوسها‪.‬‬ ‫محيا‪ .‬هل ما قالته يعني رغبتهام بالعودة إىل ما كانتا تتكلّامن‬ ‫كان ذلك ّ ً‬ ‫فيه؟ هل يعني أنهام تضعان ح ًّدا للحوار الرسيع الذي جمع بيننا‪ .‬كان‬ ‫يل أن أسكت إذن‪ .‬أن أعود إىل القطعتني يف صحني‪ ،‬وأنتظر‪.‬‬ ‫ع ّ‬ ‫وقد رحت أقسم الغاتو قط ًعا صغرية ألطيل وقت أكلها‪ .‬كان طعمها لذيذًا‪،‬‬ ‫‪157‬‬


‫حسن داوود‬

‫سياريت‪ .‬مل يجب أيضً ا‪ .‬ال يه ّم‪ .‬يف وقت الحق أقول له إنني كنت هنا يف‬ ‫املقهى وحدي‪ ،‬وإنّه قري ًبا سيقفل‪ ،‬مبلّغًا إياه‪ ،‬أنا هذه امل ّرة‪ ،‬شيئًا عن‬ ‫هذه املدينة‪.‬‬ ‫***‬

‫ليك أصري متآلفًا مع املحالت املحيطة بالساحة حيث ألتقي البنات الثالث‪،‬‬ ‫رحت أدخل من طريق متف ّرع وأخرج من آخر‪ .‬يف م ّرات أميش الطريق‬ ‫الواحدة م ّرتني‪ ،‬ذهابًا وإيابًا‪ ،‬ناظ ًرا عىل الدوام إىل الواجهات عىل الجانبني‪.‬‬ ‫أي حال‪ ،‬كنت أدخل إىل‬ ‫بل إنّني‪ ،‬وقد حدث ذلك يف م ّرات قليلة عىل ّ‬ ‫املحلت وأصري أتج ّول بني الرفوف التي اصطفّت عليها الثياب‪ ،‬أو‬ ‫أحد ّ‬ ‫أنظر إىل الثياب املعلّقة ظاهرة كام ستكون حني يرتديها من سيشرتونها‪.‬‬ ‫رصف كأنني واحد من هؤالء املشرتين‪ .‬ال أملس القامش بيدي‪ ،‬بل‬ ‫وأنا أت ّ‬ ‫أق ّرب إليه نظري كأنني أتحقّق هكذا من جودته‪ .‬بل وأسأل املوظّفة التي‬ ‫تالزمني يف تنقّيل عن البلد الذي صنع فيه هذا الثوب‪ .‬وحني يعجبني‪ ،‬أو‬ ‫أ ّدعي أنّه أعجبني‪ ،‬أقول للموظّفة إنني سأعود ألشرتيه بعد أن أتحقّق من‬ ‫قياس من أفكّر يف إهدائه لها‪.‬‬ ‫ومل أتأ ّخر عن الدخول حتى إىل املحالت التي تبيع ثياب األطفال‪ ،‬وأيضً ا‬ ‫تلك التي تفوح منها روائح الصابون والعطور التي تستخدمها النساء يف‬ ‫تعي حدود‬ ‫الحاممات‪ .‬وقد ابتعدت يف تج ّويل إىل ما بعد الدرجات التي ّ‬ ‫الساحة‪ ،‬هناك حيث املحالت التي تبيع الجواهر والساعات التي أعرف‪،‬‬ ‫حني أسأل الرجل الواقف هناك عن سعر إحداها‪ ،‬أنّه سيذكر مبلغًا صعب‬ ‫‪160‬‬


‫فؤاد َ‬ ‫ك‬ ‫نقّ ْل‬ ‫َ‬

‫وإن سأبدأ أبحث عن‬ ‫جالس منتظ ًرا أن تكلّامين‪ّ ،‬إن ال أريد منهام شيئًا‪ّ ،‬‬ ‫مخرج يل من لحظة ما يوصل الكالم بيننا إىل أبعد من الكلامت الطائرة‬ ‫كل ما انشغلت به قبل قيامي‪ ،‬هو‬ ‫التي يزول وقعها مبج ّرد أن أر ّد عليها‪ّ .‬‬ ‫رشفنا‪ ،‬أو أقول “باي”‪،‬‬ ‫ماذا أقول لهام حني تريانني وقد وقفت‪ .‬هل أقول ت ّ‬ ‫رصا ذلك‪ ،‬ليسهل خروجي فيام هام تقوالن “باي” بدورهام‪ .‬هل أقوم‬ ‫مخت ً‬ ‫وأغادر من دون أن أكلّمهام‪ .‬أقوم هكذا كأنني ذاهب إىل الحامم وسأعود‬ ‫منه بعد قليل‪ ،‬ومن هناك أرسع إىل الخروج‪.‬‬ ‫لكنني مع ذلك كنت مرسو ًرا‪ ،‬ليس ألنّني حقّقت شيئًا‪ ،‬فأنا مل أكن أريد‬ ‫أن يحصل يشء‪ .‬كان كافيًا يل أن أعرف أ ّن من املمكن يل التع ّرف إىل من‬ ‫مل أكن قد عرفتهم من قبل‪ .‬وأن أذهب رمبا يف الكالم معهم إىل أبعد‬ ‫مام وصلت إليه‪ .‬ليس يف هذا املقهى الذي‪ ،‬بحسب ما بدا يل‪ ،‬سيزيل يف‬ ‫اليومني املقبلني األغطية عن مزيد من الطاوالت‪ .‬كام أنّه سيهمل ذلك‬ ‫الرتتيب‪ ،‬ال ب ّد‪ ،‬الرتتيب املنهك‪ ،‬والذي ال معنى له مع ذلك‪ ،‬والذي استغرقه‬ ‫كل واحدة عىل حدة‪ ،‬ثم تصفيفها هكذا يف واجهة‬ ‫صنع حبات الغاتو ّ‬ ‫ال ّرباد‪.‬‬ ‫وأنا عىل الطريق‪ ،‬سائ ًرا نحو مرآب السيارات‪ ،‬أخرجت تلفوين من جيبي‬ ‫وطلبت رقم وائل‪ .‬أردت أن أخربه عن زياريت املقهى وعن البنتني اللتني‬ ‫كانتا هناك‪ ،‬وأيضً ا عن الطاوالت التي رفعوا األغطية عنها‪“ .‬هذا املقهى‬ ‫سيقفل يا وائل‪ ..‬بعد أسبوع أو أسبوعني سيقفل‪ ”...‬لك ّنه مل ير ّد عىل‬ ‫الرنني‪ .‬ج ّربت م ّرة ثانية وأنا أقف عند الدرج الكهربايئ مؤ ّج ًل نزويل إىل‬

‫‪159‬‬


‫حسن داوود‬

‫عام وضع يف داخلها‪ ،‬كام من التأ ّمل يف الواجهات التي تحيط به ّن فيام ه ّن‬ ‫محل تلك املرأة التي ظننت أنّهن يقضني‬ ‫يقمن بشغله ّن‪ .‬مل يك ّن يعملن يف ّ‬ ‫وقت الصباح يف انتظار وصولها‪ .‬ال أكرث من أنّها كانت تستعني به ّن لرفع‬ ‫الغبار وكنس األرضية‪ ،‬وأيضً ا لتسلّم ما يصل من بريدها يف أثناء غيابها‪ .‬ما‬ ‫يل أن‬ ‫كنت أظ ّنه من سطوة املرأة عليه ّن مل يكن صحي ًحا‪ .‬املرأة التي كان ع ّ‬ ‫أعرفها هي أيضً ا‪ ،‬وأن أعرف محلّها كيف هو من الداخل‪ ،‬لكنني مل أفعل‪،‬‬ ‫جالسا مع البنات‪ّ ،‬أن مل أكن‬ ‫إذ‬ ‫سيتبي لها بعد يوم أو يومني‪ ،‬حني تراين ً‬ ‫ّ‬ ‫ّإل م ّدع ًيا ومتطف ًّل‪.‬‬ ‫جالسا وحدي عىل ذلك‬ ‫حني أجيء وال أجده ّن أروح أنتظر عودته ّن ً‬ ‫تغي يف ما‬ ‫املقعد‪ .‬أو أتل ّهى بأن أسري يف الطرقات املتف ّرعة ألرى ماذا ّ‬ ‫تعرضه الواجهات‪ .‬أو أذهب إىل ذلك البناء الضخم يف آخر الساحة‪ ،‬يف‬ ‫طرفها األخري‪ ،‬ألرى إ ّن كانوا قد بدأوا بوضع ما قد ّ‬ ‫يدل عىل شكله من‬ ‫الخارج كيف سيكون‪.‬‬ ‫***‬

‫يف أيام‪ ،‬حني ينتهني من شغله ّن وأكون أنا هناك معه ّن‪ ،‬نتّجه م ًعا إىل‬ ‫املرآب ليك أوصلهن إىل البيت الذي يسك ّن فيه‪ .‬آيتون‪ ،‬التي ال أعرف إن‬ ‫كانت رفيقتاها قد سلّمتا لها قيادتهام يف أمورهام األخرى‪ ،‬تنتظر ركوبه ّن‬ ‫يف الخلف حتى تصعد هي إىل املقعد بجانبي‪ .‬يف امل ّرات األوىل كانت‬ ‫تظل مبتعدة ملتصقة بالباب وأنا أروح أبالغ يف إعالء صويت مامز ًحا إيّاها‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫فتضحك‪ ،‬وتلتفت إىل رفيقتيها لتشاركاها الضحك‪ .‬اآلن باتت أكرث راحة يف‬ ‫‪162‬‬


‫فؤاد َ‬ ‫ك‬ ‫نقّ ْل‬ ‫َ‬

‫كل تقدير كنت قد انتظرت سامعه‪ .‬لك ّنني ال أترك‬ ‫التصديق‪ ،‬ويفوق ّ‬ ‫للدهشة أن تظهر عىل وجهي‪ ،‬بل أبدو طبيع ًّيا حني أسمع ما أسمعه‬ ‫وأقول للرجل البائع‪ ،‬متّخذًا هيئة التفكري‪“ ،‬سأعود‪ ...‬سأعود عىل األرجح”‪.‬‬ ‫ذلك من أجل أن أكون متآلفًا مع الساحة التي سأقيض فيها الكثري من‬ ‫الوقت‪ .‬أنتظر معه ّن‪ ،‬أو بينه ّن‪ ،‬ه ّن البنات الثالث‪ ،‬يف أوقات اسرتاحتهن‬ ‫من الشغل‪ .‬أو حتى أقعد منتظ ًرا عودته ّن من شغله ّن الذي يبقني مرتافقات‬ ‫فيه متنقّالت م ًعا من املكان الذي ينظّفنه إىل مكان آخر سينظّفنه‪ .‬ما كنت‬ ‫ظننت‪ ،‬يف األيام الكثرية التي سبقت‪ ،‬أنه وقت انتظاره ّن لبدء عمله ّن كان‬ ‫وقت راحته ّن‪ ،‬أو وقت اسرتاحته ّن الطويل‪ ،‬إىل حني معاودته ّن تنظيف‬ ‫ما ك ّن قد نظّفنه يف الصباح‪ .‬ك ّن يأتني مب ّكرات إذن‪ ،‬قبل أن يأيت أ ّول‬ ‫قاصد إىل هنا‪ .‬ذاك القادم األ ّول‪ ،‬حتى لو كان زائ ًرا عاب ًرا مل يأت إلّ لقضاء‬ ‫كل يشء الم ًعا هنا‪ .‬ال ورقة مجعلكة عىل الطريق‬ ‫حاجته‪ ،‬ينتظر أن يجد ّ‬ ‫املبلّطة رمتها يد واحدة من متس ّوقات األمس‪ ،‬ال بصامت ثقيلة دامغة عىل‬ ‫لوحات املصاعد‪ ،‬وال أثر ّ‬ ‫يدل عىل أ ّن أبواب املراحيض املوزّعة هنا وهناك‬ ‫قد فُتحت قبله لدخول أحد‪.‬‬ ‫كل يشء‪ ،‬لك ّنهن عرفن كيف يبقني نظيفات ه ّن‬ ‫كان عليه ّن أن ينظّفن ّ‬ ‫املحل املواجه ملقعده ّن‪ ،‬من‬ ‫أنفسه ّن‪ .‬ما كنت ظننته عن املرأة صاحبة ّ‬ ‫أنّها هي التي جعلته ّن مختلفات عن البنات األخريات اللوايت قدمن معه ّن‬ ‫حصلنه من النظر إىل‬ ‫حصلن ما ّ‬ ‫عىل الطائرة‪ ،‬مل يكن صحي ًحا إذن‪ .‬لقد ّ‬ ‫تقل رهافة‬ ‫النساء العابرات اللوايت يرحن ويجنئ حامالت األكياس التي ال ّ‬

‫‪161‬‬


‫حسن داوود‬

‫عىل ما يجري بيني وبينها‪ .‬وهي تبتسم حني تراين أُرجع يدي يك تصافحها‪،‬‬ ‫مبا يشبه الصفع املامزح‪ ،‬ي ُد تلك الجالسة عىل املقعد خلفي‪.‬‬ ‫وال أتأ ّخر عن أن أقول كلمة عابرة‪ ،‬أو كلمة هامسة‪ ،‬لهذه أو لتلك أجعلها‬ ‫رس بيننا يجب أن ترتكه لنفسها‪ .‬ذاك ألين‬ ‫تتساءل من بعدها هل هذا ّ‬ ‫لن أكون هكذا معه ّن‪ ،‬مصاحبًا واحدة منه ّن ومبقيًا رفيقتيها مثل أختني‬ ‫مباركتني ملا يجري أمام أعينهام‪ .‬من أجل ذلك مل أقم بحركة واحدة ّ‬ ‫تدل‬ ‫عىل أنني اخرتت آيتون من بينه ّن‪ .‬مل أم ّد يدي إىل يدها حني أراها قريبة‬ ‫من يدي‪ ،‬هناك عىل طرف مقعدها‪ .‬ومل أدعها م ّرة إىل أن تبقى معي من‬ ‫دونهام‪ ،‬ومل أقل لها أن نذهب سويًا لرشاء ما قد نأكله يف وقت اسرتاحته ّن‪.‬‬ ‫أريدها أن تبقى مثلام هي‪ ،‬تجلس عىل املقعد األمامي وتق ّرر أين يجب‬ ‫أن أوقف السيارة لنزولهن‪ .‬لكن ما أريده أيضً ا هو أن تتقدم رفيقتاها عام‬ ‫هام فيه لتصريا مثلام هي‪ ،‬قريبتني إ ّيل قربها ذاته‪.‬‬ ‫رسقه‬ ‫وال أعرف كيف سأكون معه ّن ه ّن الثالث بعد ذلك‪ .‬ذاك أن ما يت ّ‬ ‫أظل حافظًا له إىل حني‬ ‫نظري من هذه وتلك‪ ،‬كام من آيتون نفسها‪ّ ،‬‬ ‫يأيت وقت أعرف فيه ماذا أفعل به‪ .‬اآلن ال أق ّرب يدي من يد آيتون‪،‬‬ ‫رسق النظر إليها تاركًا مالمستها إىل وقت سيأيت‪ .‬هكذا أفعل مع‬ ‫لكني أت ّ‬ ‫الجالستني خلفي حني تكونان هنا يف السيارة معي‪ .‬وهكذا أفعل حني‬ ‫أكون أنتظر أن يبتعدن ماشيات‪ ،‬ه ّن الثالث‪ ،‬من أ ّول السهل الرميل‪ ،‬منق ًّل‬ ‫نظري بينه ّن‪ ،‬من واحدة إىل أخرى‪ ،‬حتى ال أعود قاد ًرا عىل رؤيته ّن رؤية‬ ‫واضحة‪.‬‬

‫‪164‬‬


‫فؤاد َ‬ ‫ك‬ ‫نقّ ْل‬ ‫َ‬

‫جلوسها‪ ،‬أقصد أنّها ترتك جسمها يسرتخي عىل املقعد ثم تستدير بجسمها‬ ‫كلّه إىل الخلف لتخرب رفيقتيها عن يشء‪ .‬كام أنّها‪ ،‬وهي يف جلوسها‬ ‫املسرتخي ذاك‪ ،‬مت ّد يدها لتدير الراديو ولتقلّب محطاته وتسألني‪ ،‬عندما‬ ‫تقف عند إحدى محطّاته‪“ ،‬أويك؟”‪ ،‬فأجيبها بحركة من رأيس تفهم منها‬ ‫أنّها ح ّرة يف أن تفعل ما تشاء‪.‬‬ ‫“ننزل هنا” تقول يل حني نصري عند مدخل السهل الرميل الذي تج ّمعت‬ ‫فيه هياكل سيارات وبقايا عربات محطّمة وكوم زبالة أُخرجت من البيوت‬ ‫يل‪ .‬كنت أستطيع أن أتق ّدم بسيّاريت‬ ‫التي هناك‪ ،‬بادئة من آخر السهل الرم ّ‬ ‫رص عىل أن أتوقّف حيث تقول‪.‬‬ ‫عاب ًرا السهل من طرفه‪ ،‬غري أ ّن آيتون ت ّ‬ ‫ال تريدين أن أقرتب من تج ّمع البيوت ذاك‪ ،‬الذي يخجلها ال ب ّد اكتظاظه‬ ‫وفقره‪ .‬وهي تقول لرفيقتيها‪ ،‬حني أوقف السيارة‪ ،‬أن تنزال‪ ،‬آمرة هكذا‬ ‫كأنهام ترغبان بأن أكمل سريي حتى أصل به ّن إىل أ ّول البيوت‪.‬‬ ‫غري أنّني أبقى وقتًا ناظ ًرا إليه ّن ه ّن الثالث يعربن السهل‪ .‬ويف أحيان أطلق‬ ‫الزمور ليسمعنه وليعرفن ّأن ما زلت واقفًا هنا أنتظره ّن‪ .‬ال أعرف إن‬ ‫كانت قيادتها لهام مقترصة عىل العالقة يب‪ .‬يف م ّرات أروح أمازح واحدة‬ ‫أخصها بالكالم‪ .‬يف م ّرات أخرى أتجاهل‬ ‫منهام ألعرف كيف تستجيب حني ّ‬ ‫آيتون فأسألهام‪ ،‬مقلّ ًبا نظري بينهام‪ ،‬إن كانتا ترغبان يف أن أجيء بفطور‬ ‫نأكله ونحن هناك عند املقعد‪ ،‬أو أقول لواحدة منهام إنّني ال ب ّد سأجد‬ ‫مكانًا عىل الشاطئ يستطعن أن يسبحن فيه‪ .‬رمبا تظ ّن هي‪ ،‬آيتون‪ ،‬أنّني‬ ‫أتع ّمد القيام بتلك االلتفاتات العابرة نحوهام يك ال تبقيا مج ّرد شاهدتني‬

‫‪163‬‬



‫فؤاد َ‬ ‫ك‬ ‫نقّ ْل‬ ‫َ‬

‫***‬

‫يف أحيان يخطر يل أ ّن ما أنا فيه لن يوصلني إىل يشء معه ّن‪ .‬فجأة‪ ،‬يف يوم‬ ‫ما أو يف لحظة ما‪ ،‬سأتوقّف عن النزول إىل هناك‪ ،‬حيث ألتقيه ّن‪ .‬هذا‬ ‫كل يشء أقوله له عنه ّن‪ .‬يف املقهى‬ ‫سيحدث أكيد‪ ،‬يقول يل وائل مستغربًا ّ‬ ‫الجديد الذي انتقل إليه بعد أن عاف مقهانا ذاك‪ ،‬ال حرص لعدد امل ّرات‬ ‫تعب عن مدى استهجانه‪ ،‬ال عن‬ ‫التي قال فيها “أكيد”‪ ،‬تلك الكلمة التي ّ‬ ‫كل منها‬ ‫رغبته يف أن يص ّدق ما أصفه له‪ .‬وهو‪ ،‬يف تعليقاته التي يبدو ّ‬ ‫مستخف به ّن‪ ،‬وأن ال‬ ‫أقرب إىل كلمة الختام يف كالمنا عنه ّن‪ ،‬يقول يل إنّني‬ ‫ّ‬ ‫سبب لتعلّقي به ّن إال أنّه ّن ال يطالبنني بيشء‪ .‬هل تعرف أسامءه ّن‪ ،‬هل‬ ‫تناديه ّن بأسامئه ّن‪ ،‬يسألني‪ .‬وإذ أذكر له تلك األسامء‪ ،‬مامز ًحا يف نطقها‪،‬‬ ‫يروح يقول يل‪ ،‬فيام هو يضحك‪ :‬أعدها‪ ،‬قلها م ّرة ثانية‪ .‬وأنا أعيدها عليه‬ ‫أحب أن ألفظها‪ ،‬بل ّإن أخرتع شيئًا أقوله ليك أذكرها معه‪.‬‬ ‫ً‬ ‫قائل له إين ّ‬ ‫كنت أقول لهازارا إنّني يف يوم قريب سأ ّع ِ‬ ‫لمك عىل سواقة الس ّيارة ياهازارا‪،‬‬ ‫أو أقول لرنجيس أنت تح ّبني السباحة يا نرجيس وأنا سأجد مكانًا تسبحني‬ ‫فيه‪ ،‬بل نسبح كلّنا فيه‪ ،‬أنا وأنت وهازارا وآيتون‪.‬‬

‫‪165‬‬


‫حسن داوود‪ ،‬روايئ لبناين‪ .‬صدرت له روايات عدّة كانت‬ ‫أوالها “بناية ماتيلد”‪ ،‬كام أصدر ثالث مجموعات قصص ّية‪.‬‬ ‫ت ُرجمت أعامله إىل لغات عدّة‪.‬‬




‫حسن داوود‪ ،‬روايئ لبناين‪ .‬صدرت له روايات‬ ‫عدّة كانت أوالها “بناية ماتيلد”‪ ،‬كام أصدر ثالث‬ ‫مجموعات قصصيّة‪ .‬تُرجمت أعامله إىل لغات عدّة‪.‬‬

‫رسد‪ :‬كتابات عربيّة وروسيّة معارصة‬

‫نق ّْل فؤا َد َك‬ ‫حسن داوود‬

‫حسن داوود‬

‫الحب يا وائل‪ ،‬أن ننتظر أن يحصل يشء من تلقائه‪.‬‬ ‫هكذا كان ّ‬

‫رواية‬ ‫الب ّوابة التّاسعة‪ :‬مقاالت املدينة وأخبارها‬ ‫العدد الثالث‪ ،‬خريف ‪2013‬‬

‫نصا يوحي‬ ‫يكتب الروايئ حسن داوود ًّ‬ ‫جزء كبري من أجوائه بوسط مدينة‬ ‫بريوت الجديد‪ ،‬الناشئ بعد الحرب‪،‬‬ ‫والذي ما زالت ِج ّدت ُه ُمستعصية عىل‬ ‫الخيال الكتايب لكثريين‪ .‬ويبدو الكاتب‬ ‫مهجوسا بالعمر‬ ‫يف روايته هذه‬ ‫ً‬ ‫حب مستحيل ضائع‪،‬‬ ‫والبحث عن ّ‬ ‫وباملكان والبدايات التي ال ّ‬ ‫تنفك‬ ‫تتناسل‪ُ ،‬مطلّة برأسها من هنا وهناك‪.‬‬


‫مساعد ستيفن سيغال‬

‫كانت ظرويف عسرية‪ .‬حتى ميزانية األرسة املتواضعة التي بقيت بعد رحيل‬ ‫والدي املتع ّجل إثر التهم التي وجهت إليه‪ ،‬وجدتها يف منأى عن يدي‪ ،‬إذ‬ ‫كانت يف عهدة والديت‪.‬‬ ‫استنسبَ ْت الوالدة متريرها يل‪ ،‬كانت مجرد فواتري‬ ‫األوراق الوحيدة التي‬ ‫َ‬ ‫ترتاكم بال هوادة عىل املنضدة قرب الرسير‪ .‬فواتري الكهرباء‪ ،‬واالشرتاك‬ ‫الثابت للهاتف‪ ،‬وأجر املساحة التي ك ّنا ته ّورنا واشرتيناها يف موقف‬ ‫سيارات تحت األرض قبل أن تسري األمور عىل نحو خاطئ‪ .‬وهذه كلّها‬ ‫تستطيع االنتظار‪ .‬أما التأ ّخر يف تسديد إيجار املنزل‪ ،‬فكان يشري بوضوح‬ ‫إىل اقرتاب دخولنا يف معرتك اإلجراءات القانونية‪.‬‬ ‫بدأت تصلني بالربيد‪ ،‬وعىل نحو شديد التواتر‪ ،‬مغلفات تض ّم صو ًرا باألسود‬ ‫واألبيض التقطتها كامريات املراقبة عىل الطرقات الرسيعة يف موسكو‪ .‬ومن‬ ‫دون أي اعتبار لظرويف الراهنة‪ ،‬قاموا بضبط مخالفات تجاوز الرسعة‬ ‫التي ارتكبتها‪ُ ،‬مصدرين بحقّي ما بدا أنّه غرامات بسيطة‪ ،‬لك ّنها رسعان‬ ‫ما بدأت ترتاكم‪ .‬سياريت املتواضعة مثّلت يل رفاهيتي الوحيدة وملكيتي‬ ‫األوحد‪ .‬وعىل الرغم من املعاناة التي كنت أتك ّبدها لالستمرار يف تزويدها‬ ‫مستعجل يف التخيل عنها‪.‬‬ ‫ً‬ ‫بالوقود الباهظ الثمن‪ ،‬مل أكن‬ ‫الكحول الرخيصة والوقود باهظ الثمن‪ ،‬كانا آنذاك الدعامتني السائلتني‬ ‫اللتني تقومان بعاملي املتزعزع‪ .‬هذا‪ ،‬وتوقّف بغتة الدخل الذي كنت أتلقاه‬ ‫من متجر بيع يف التجزئة‪ ،‬كان قد افتتح قبل بضع سنوات يف القوقاز‪ .‬إذ‬ ‫إن األفراد الذين يحملون اسم عائلتنا‪ ،‬وجدوا أنفسهم فجأة ممنوعني من‬ ‫‪11‬‬



‫مساعد ستيفن سيغال‬

‫األليفة‪ .‬حتى إنني لعبت لفرتة دور الرومانيس السطحي لسائق سيارة‬ ‫أجرة غري مر ّخص لها يف شوارع موسكو‪.‬‬ ‫ربا توافقونني‬ ‫مجموعة أعامل ال بأس بها لسليل عائلة معروفة إىل ح ّد ما‪ّ .‬‬ ‫يف ذلك‪.‬‬ ‫أي حال فإنني رسعان ما أدركت مقدار الوقت الثمني الذي أضعته‬ ‫عىل ّ‬ ‫أج ًريا لصال ِح أصحاب مشاريع أثرياء‪ ،‬من دون أن مينحني تعوييض يف‬ ‫أي إحساس بالرضا‪.‬‬ ‫مقابل ذلك ّ‬ ‫رحت أفكر والحزن يعترص يف قلبي “آه‪ ،‬لو كانت يل القدرة طوال هذا‬ ‫الوقت عىل التف ّرغ للتأليف‪ ،‬من دون مغادرة طاولة الكتابة أب ًدا‪ ،‬لكنت‬ ‫رسعة‪،‬‬ ‫اآلن مليون ًريا بالتأكيد”‪ .‬وألنقذ نفيس من تلك الفكرة الط ّنانة املت ّ‬ ‫واملجافية للواقع‪ ،‬قمت بتخفيض طموحي من صاحب ماليني إىل امرئ‬ ‫قاد ٍر عىل إعالة نفسه‪.‬‬ ‫حتى الكتابة‪ ،‬املجال الذي أتقنته مبج ّرد اتباع ميويل الطبيعية‪ ،‬فقد رحت‬ ‫أتراجع فيها‪ .‬إذ إنني مل أكن قاد ًرا عىل إمتام روايتي الثانية‪ ،‬الرواية الطويلة‬ ‫التي أعلن عنها قبل صدورها‪ ،‬فيام راحت ترتاكم عىل القرص الصلب‬ ‫لجهاز الكومبيوتر مس ّودات الروايات القصرية والقصص‪ ،‬من دون أن أشعر‬ ‫برغبة بلورتها وتطويرها‪.‬‬ ‫أخذت األدلة ترتاكم بال هوادة‪ُ ،‬مشرية إىل فشيل يف امتحان كتايب الثاين‪.‬‬

‫‪13‬‬


‫أرسالن خسافوف‬

‫مامرسة األعامل يف تلك املنطقة‪.‬‬ ‫أي يشء‪ ،‬وعىل الرغم‬ ‫أي متجر لبيع ّ‬ ‫يف الحقيقة‪ ،‬أنا أكذب‪ .‬مل أملك يو ًما ّ‬ ‫من كوين راش ًدا باعرتاف الجميع‪ ،‬إلّ أنني ما زلت أعيش عىل حساب أهيل‪،‬‬ ‫كل عام‪.‬‬ ‫واألمر يزداد تكلفة‪ ،‬أكرث فأكرث‪ ،‬مبرور ّ‬ ‫يبق يل دخل أعيش منه سوى ما يردين من الكتابات األدبية‪ ،‬أو ما‬ ‫فجأة مل َ‬ ‫يشبهها‪ .‬يف حني أن مجرد ذكر الدخل ذاك‪ ،‬املتأيت من تلك املصادر‪ ،‬أثار عىل‬ ‫الدوام ضحك السامعني‪ ،‬أو يف أحسن األحوال رسم عىل وجوههم ابتسامة‬ ‫أي حال‪ ،‬فقد متكنت يف السنوات املاضية من بناء‬ ‫العارف مبا يجري‪ .‬عىل ّ‬ ‫يش ٍء من السمعة الحسنة خالل مثابريت يف صقل موهبتي اإلبداعية‪ .‬وذاك‬ ‫أم ّدين بح ٍّد أدىن من املال أبقاين عىل قيد الحياة‪.‬‬ ‫منط حيايت املنفتح الذي قادين بانتظام إىل أشهر مقاهي موسكو ومطاعمها‬ ‫تقلّص عىل نحو حاد‪ .‬أما قلبي الكبري الذي طاملا سخى يف كرم الضيافة‬ ‫كل من شاركني املائدة ومع ندماء الرشاب‪ ،‬فقد أضحى ذاب ًال ُمتع ًبا‬ ‫مع ّ‬ ‫يُحايك حال شحيح ِ‬ ‫اليد الذي أضحيته‪ .‬وما أذهلني أن أولئك الذين سبق‬ ‫وأوملت عىل رشفهم‪ ،‬مل يكونوا اآلن مستعجلني لر ّد الجميل‪ ،‬حتى اتضح‬ ‫يل أن هؤالء الفتية والفتيات تع ّودوا كفاف العيش‪ ،‬مثلام هي حايل اآلن‪.‬‬ ‫يل لتحميل‬ ‫رحت‪ ،‬عىل نحو‬ ‫تدريجي‪ ،‬أقبل القيام ّ‬ ‫بأي عمل أجده‪ :‬دوام لي ّ‬ ‫ّ‬ ‫محل‪ ،‬بعض الغزوات املته ّورة للصق اإلعالنات‬ ‫البضائع يف سوبرماركت ّ ّ‬ ‫عىل أعمدة اإلنارة‪ ،‬مساعد مص ّور‪ ،‬كمبارس‪ ،‬وحارس يف متجر للحيوانات‬

‫‪12‬‬


‫مساعد ستيفن سيغال‬

‫“هل ميكنك الوثوق مبا يقوم به اآلن!‪ ،”...‬ويتبع ذلك موجة من الرثثرة بني‬ ‫مستعجل يف منحهم هكذا ورقة‬ ‫ً‬ ‫أفراد هذه الزمرة الفظّة أو تلك‪ .‬مل أكن‬ ‫رابحة‪ ،‬حتى لو كانت تافهة إىل هذا الح ّد‪.‬‬ ‫ال ّ‬ ‫شك يف أ ّن مستواي العلمي وسعة معرفتي بالكاد تالءما مع فرتة العمل‬ ‫اليدوي التي أنزلت يب آالم الظهر وتش ّنج العضالت‪ .‬لكن حتى هنا‪ ،‬فقد‬ ‫تب ّينت األىس يف ابتسامة القدر الذي دفعني يف اتجاهات شتّى مل أكن أجرؤ‬ ‫عىل استكشافها مبحض إراديت‪.‬‬ ‫أذكر أنّني يف ربيع العمر‪ ،‬ويف ذروة إحسايس بالرضا عن نفيس (حتى لو‬ ‫التخل يو ًما عن تأنّقي املكلف‪ ،‬فأمتشق‬ ‫وهم)‪ ،‬كنت ألهو بفكرة ّ‬ ‫كان ذلك ً‬ ‫كيس التقشّ ف شبه فارغٍ‪ ،‬وال يشء فيه سوى طقم مالبس داخلية‪ ،‬ذاه ًبا‬ ‫من دون مواربة يف عمق الحياة لالنضامم إىل عامة الناس‪.‬‬ ‫كانت فكريت يف االندماج مع “الناس” بسيطة‪ ،‬الناس العاديني األقرب إىل‬ ‫قلبي‪ ،‬والذين كنت أعتقد أ ّن الوصول إليهم ال يت ّم إال عرب السفر يف عربة‬ ‫علوي يف إحدى مقصوراته‪ ،‬حيث‬ ‫قطار من الدرجة الثانية والنوم يف رسير ّ‬ ‫ميكنني رؤيتهم ميشون متثاقلني بأحذية بالية أمام بيوت متداعية عند‬ ‫أطراف القرى البائسة‪.‬‬ ‫وذاك تخلّلته لحظات من املرح‪ .‬كأن أنتقل إىل وظيفة الحارس اللييل‬ ‫فأقذف عىل الطاولة‪ ،‬بني الحني واآلخر‪ ،‬صحيفة تضم مقالة كتبتها تناقش‬ ‫حال السياسة الدوليّة‪ ،‬أو أن أسمع‪ ،‬خالل إنزايل حمولة صناديق برية قذرة‬

‫‪15‬‬


‫أرسالن خسافوف‬

‫وعىل الرغم من جميع األزمات يف هذا الجانب من حيايت‪ ،‬مل أهمل الدور‬ ‫يل تأديته يف املجتمع‪ .‬رحت أحرص عىل اختيار كلاميت بعناية‪،‬‬ ‫الذي كان ع ّ‬ ‫ألعب عن آرايئ برصاحة‪ .‬وأثناء تناويل الطعام يف املطاعم الفاخرة‪ ،‬كنت‬ ‫ّ‬ ‫يدي الخشنتني‪ ،‬املوسومتني بالعمل اليدوي‪ ،‬محاولً تصحيح الرضر‬ ‫أخفي‬ ‫ّ‬ ‫الالحق بوالدي‪ ،‬ذاك الرضر البادي غري قابل للتصحيح‪.‬‬ ‫عند التقدم للوظائف‪ ،‬كنت أتق ّيد بأصول القواعد املتّبعة لتعبئة الطلب‪.‬‬ ‫يف االستامرات‪ ،‬اختار “املرحلة الثانوية” يف املربع املخصص لـ “التحصيل‬ ‫العلمي”‪ ،‬وال آيت أب ًدا عىل ذكر شهاديت من إحدى الكليات املرموقة يف‬ ‫املخصص للـ“خربة”‪ .‬ويف إحدى‬ ‫جامعة موسكو‪ .‬أضع إشارة يف املربّع‬ ‫ّ‬ ‫امل ّرات‪ ،‬وبلحظة المباالة تا ّمة‪ ،‬وضعت عالمة إكس عوضً ا عن توقيعي‪.‬‬ ‫كنت مستع ًدا للمبارشة يف أيّة وظيفة‪ .‬وليك أوفّر املزيد من االطمئنان‬ ‫ألرباب العمل رحت أطلب دامئًا الحصول عىل وظيفة غري مسجلة رسميًا‪.‬‬ ‫مل يكن السبب الوحيد يف ذلك تج ّنب جهد تأمني األوراق املطلوبة‪ ،‬بل‬ ‫أردت عدم إظهار اسم عائلتي يف سياق غري مالئم يلفت انتباه األعداء‪.‬‬ ‫إذ مل تعد الشعارات القدمية عن كرامة العمل ط ّنانة كام يف السابق‪ .‬وأنا‬ ‫كنت عىل يقني بأن من يناوئونني سياسيًا (هؤالء موجودون أيضً ا‪ ،‬وهم‬ ‫مثيل جاهروا‪ ،‬م ّرة إثر أخرى‪ ،‬بآرائهم عالنية عرب وسائل اإلعالم) سيجدون‬ ‫طريقة لالستفادة من هذه املعلومات‪ ،‬وإن مل يكن عىل نحو مبارش فمن‬ ‫خالل األساليب املواربة يف إطالق الشائعات‪.‬‬

‫‪14‬‬


‫مساعد ستيفن سيغال‬

‫التي كانت هامئة يف أثري اإلنرتنت منذ نحو ستة أشهر‪ .‬أجريت املقابالت‬ ‫ونظرت مرعوبًا إىل مكاتب الصحف الرئيسية فيام كنت أخضع المتحاناتها‬ ‫الزائفة‪ .‬غرف فسيحة تزدحم بأثاث بسيط يض ّم أجهزة كومبيوتر مث ّبتة‬ ‫فيه‪ ،‬يكت ّظ يف مواجهتها مراسلون ومح ّررون ومص ّححون ومدقّقون‬ ‫لغويّون ومص ّممون‪ ،‬والله يعلم من غريهم‪ ،‬محشورين ببعضهم بعضً ا‬ ‫بقرب يصعب تخ ّيله‪ ،‬ومنهالني عىل لوحات مفاتيح الكومبيوتر أمامهم‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫عاجل‬ ‫يوم من األيّام‪ً ،‬‬ ‫تخ ّيلت جميع أولئك األفراد املبدعني يُستبدلون يف ٍ‬ ‫أقل نجا ًحا يف إنتاج‬ ‫تقل إبدا ًعا‪ ،‬وهذه األخرية ال تكون ّ‬ ‫آجل‪ ،‬بآالت ال ّ‬ ‫أم ً‬ ‫ما ّدة متأل البوابات الرقميّة‪ .‬إذ من الواضح أ ّن البرش بقلوبهم النابضة هم‬ ‫مك ّونات آيلة إىل الزوال يف هذه البيئات ذات التقنيات العالية‪.‬‬ ‫انسحبت مذعو ًرا‪ ،‬مدركًا يف قرارة نفيس أنّني امرؤ بعادات عملٍ عفا عنها‬ ‫الزمن‪ .‬كيف ميكنني الرتكيز من دون حيزي الشخيص؟ وأرباب العمل‬ ‫املحتملون مل يزيدوا إىل ذلك سوى الريبة‪ .‬أمكنني القول إنّهم كانوا قد‬ ‫ٍ‬ ‫لشخص مق ّر ٍب‬ ‫أوكلوا النشاط الفكري الذي تتطلّبه وظيفتهم املريحة‬ ‫منهم‪ .‬الوضع كان مناس ًبا يل ولهم‪ :‬وعدوين بالتفكري باألمر‪ ،‬وأنا هربت‬ ‫النقي‪ ،‬متخل ًّصا من قيود خفيّة كانت تكبّلني‪.‬‬ ‫ألتنشّ ق الهواء ّ‬ ‫كنت مضط ًّرا آلالف املرات عىل عدم اختيار الحياة التي أريد‪ ،‬شا ًّدا أحزمتي‬ ‫أكرث فأكرث‪ ،‬معاو ًدا االتصال بأرباب عمل محتملني‪ ،‬معربًا عن استعدادي‬ ‫بأي عمل ينقذين من هذا البؤس الذي ال يُطاق‪.‬‬ ‫للقيام ّ‬

‫‪17‬‬


‫أرسالن خسافوف‬

‫من شاحنة قذرة‪ ،‬صويت منبعثًا من الراديو يف مقابلة أجريت معي يف وقت‬ ‫سابق من النهار‪ ،‬ويُعاد إذ ذاك بثّها‪.‬‬ ‫بالطبع‪ ،‬مل أكن ألكرتث إىل األمر كث ًريا‪ ،‬فلم أرضب يدي عىل صدري مطال ًبا‬ ‫خاصة لن يكون مردودها سوى إبعاد رشكايئ يف الح ّظ العاثر ع ّني‪،‬‬ ‫مبعاملة ّ‬ ‫تحسس نبض‬ ‫لك ّنني يف الصميم كنت منتشيًا‪ .‬إذ يف النهاية كان بوسعي ّ‬ ‫الحياة‪ ،‬خافقًا يف داخيل وحويل‪.‬‬ ‫مل يكن بوسعي التفكري بعظيم من العظامء مل يُثمله كأس العوز واملعاناة‪،‬‬ ‫وذاك أم ّدين بالطأمنينة‪ .‬وما جعل هؤالء العظامء حقًّا عظامء‪ ،‬كان‬ ‫تصميمهم الذي ال يلني عىل مواجهة أقدارهم القصوى وإنجاز الهدف‬ ‫صنت إمياين اليقني برسالتي يف الحياة‪ ،‬عىل‬ ‫الذي ولدوا من أجله‪ .‬هكذا ُ‬ ‫عام مي ّر‪.‬‬ ‫الرغم من ازدياد غموضها مع ّ‬ ‫كل ٍ‬ ‫بعد تأميني حصص املياه للحيوانات التي يض ّمها متجر الحيوانات األليفة‬ ‫فإن إذا استلقيت يف الغرفة الخلفية عىل أريكة بالية وفكّرت‬ ‫حيث أعمل‪ّ ،‬‬ ‫بأ ّن الرتجمة اإلنكليزيّة لباكورة أعاميل الروائ ّية باتت اآلن منذ أشهر عىل‬ ‫رفوف جميع املكتبات الرئيسيّة ومتاجر بيع الكتب يف الواليات املتّحدة‬ ‫وبريطانيا‪ ،‬فقد تأرسين الغبطة‪ .‬عامل من األضواء الزاهية يصطخب أمام‬ ‫عيني ويرتاقص عىل خلف ّية من الظالم املباغت‪ .‬أنثني‪ ،‬م ّرة واثنتني وثالث ًا‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫من الضحك‪ ،‬كممثّل يبالغ يف دوره مبرسح ّية كوميديا سوداء رديئة‪.‬‬ ‫انتعش سوق العمل أخ ًريا وجاءين ر ّد من بعض الرشكات عىل سرييت الذاتية‬

‫‪16‬‬


‫مساعد ستيفن سيغال‬

‫مل أكن محر ًجا البتة‪ .‬بل كنت جائ ًعا‪ .‬عندما بدأت مناوبتي الثانية‪ ،‬ذات‬ ‫محاول املزاح يف املوضوع‪:‬‬ ‫ً‬ ‫املتدن‪ ،‬راسلتها من هاتفي النقّال‬ ‫ّ‬ ‫األجر‬ ‫“سريتفع مثنه إن كنت تريدينه مع توقيعي‪ ،‬لكن سيكون بوسع أحفادك‬ ‫بيعه وبناء منزل من مثنه”‪.‬‬ ‫“سأشرتيه! وأنا ال أبايل مبقاسه حتّى”‪ ،‬كتبت الشابة بحامسة‪“ .‬إىل هذا‬ ‫الح ّد أريده!”‬ ‫ولتأكيد مدى حامستها املفرطة تلك‪ ،‬أردفت قائلة‪“ :‬يا الله!”‬ ‫ال اهتاممها بشخيص وال حامستها حاال دون اختفائها التام والفوري من‬ ‫حيايت إىل األبد‪.‬‬ ‫متكّنت مرتني من الحصول عىل وظيفة يف محطات تلفزيونية جديدة تبث‬ ‫عىل اإلنرتنت‪ ،‬وذلك لزيادة خربيت املهنيّة‪ .‬طُردت من إحداهام بعد بضعة‬ ‫أيام لعدم قدريت عىل تليني حرف الـ“ر” بالطريقة التي تُريض املح ّرر الشاب‪.‬‬ ‫“كام ترى يا أرتور”‪ ،‬قال امل ُح ّرر‪ ،‬شابكًا يديه أمامه عىل املكتب بتأ ّن تام‪،‬‬ ‫“عيوب النطق عند بعض الناس جذّابة ج ًّدا‪ ،‬لكن عند آخرين فإنّها ليست‬ ‫قليل يك مينحني وقتًا للتفكري مبا قال قبل أن‬ ‫جذّابة عىل اإلطالق”‪ .‬سكت ً‬ ‫يختم‪ ،‬وكأنّه يُطلق حبل مقصلة حا ّدة‪:‬‬ ‫“لسوء الحظ‪ ،‬أنت تنتمي إىل الفئة الثانية”‪.‬‬

‫‪19‬‬


‫أرسالن خسافوف‬

‫تكب‪ ،‬حني يت ّم إعالمي‬ ‫ومع ذلك مل أكن ألغفر ملا أبديته يف السابق من ّ‬ ‫بفتور أ ّن الوظيفة التي كانت شاغرة مل تعد موجودة‪ ،‬وأنّهم سيبقونني‬ ‫يف جداولهم‪ ،‬وما إن تشغر وظيفة جديدة يبلغونني يف الحال‪ .‬بالطبع‬ ‫سيفعلون‪.‬‬ ‫لدي خالل سنوات‬ ‫ولتدعيم دخيل غري املنتظم‪ ،‬رحت أبيع أغراضً ا تراكمت ّ‬ ‫اليرس‪ .‬مل أست ِنث شيئًا‪ :‬ثياب مستعملة‪ ،‬أجهزة إلكرتونية غري مستخدمة‪،‬‬ ‫وكتب نادرة‪ ،‬ما لبثت أن وجدت طريقها إىل مطحنة اإلنرتنت‪ .‬جرت‬ ‫مبايض‪ ،‬ثم أتلقّى بدله املايل‪،‬‬ ‫الصفقات ببساطة‪ :‬أسلّم غرضً ا يربطني‬ ‫ّ‬ ‫فأمتكّن من تناول الطعام عىل نحو مقبول مل ّدة يومني‪ ،‬قبل أن يعود الوضع‬ ‫إىل ما كان عليه‪.‬‬ ‫وكانت األمور أحيانًا تجري عىل نحو مضحك‪ .‬املشرتون املحتملون الذين‬ ‫استطلعوا معلومايت الشخصيّة من خالل عنوان بريدي اإللكرتوين الذي‬ ‫استخدمته لهذا العمل كانت تتملّكهم الدهشة‪:‬‬ ‫حب للبطولة‪ ،‬أو هكذا‬ ‫“مرحبا‪ ،‬أرى أنّك ثوري حقيقي‪ ،‬رجل رومنيس‪ُ ،‬م ٌ‬ ‫يبدو!”‪ ،‬كتبت يل إحدى الفتيات يف رسالة إلكرتونيّة‪ .‬كانت تسعى للحصول‬ ‫عىل حزام إيطايل مل ِ‬ ‫ارتده منذ فرتة طويلة‪“ .‬أنا أشاهد فقط أخبار العامل‬ ‫وال أكرتث أب ًدا مبا يجري يف روسيا‪ ،‬لكن يبدو أ ّن مروحة اهتامماتك واسعة‬ ‫كل هذه األمور! أال يحرجك عرض حزامك للبيع؟” كتبت يل يف رسالتها‪.‬‬ ‫يف ّ‬

‫‪18‬‬


‫مساعد ستيفن سيغال‬

‫كريس‪ ،‬مف ّك ًرا بالطريقة امل ُثىل إلنهاء هذا املشهد‪.‬‬ ‫متلملت عىل ّ‬ ‫“نحن نقوم بعلميات بث مبارش‪ ،‬ونتلقى مكاملات عرب الهواء‪ ،‬وميكنك فهم‬ ‫أن‪ ،”...‬راح يرشح ما كان جل ًّيا للعيان‪“ .‬ال أريد ملحطتنا الدخول يف متاهة‬ ‫بأي شكل من األشكال”‪.‬‬ ‫أمور كهذه ّ‬ ‫“هل لديك سيكارة؟” سألته‪ ،‬وأنا أع ّدل جلستي ببساطة عىل الكريس‪.‬‬ ‫أخرج علبة سجائر معدن ّية قدمية الطراز‪ ،‬أخذ سيكارة رفيعة وق ّدم يل‬ ‫الش ّعالة‪ .‬أخذت م ّجتني‪ ،‬وببطء نفثت غاممات كثيفة من الدخان‪ ،‬مراقبًا‬ ‫تعابري الدهشة التي بدت عليه‪ ،‬وعيناه الغائرتان الصغريتان تطرفان فوق‬ ‫اصطنعت ابتسامة ُمتعجرفة‬ ‫وجنتني أشبه بفطريتني مدهونتني بالزبدة‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫عصبي‪ ،‬يطرق عىل الطاولة بأصابعه شبيهة النقانق‪.‬‬ ‫فيام راح‪ ،‬عىل نحو‬ ‫ّ‬ ‫نهضت ومشيت نحو الباب‪ .‬يف الرواق نزعت من رقبتي رشيط‬ ‫برت ٍّو تام‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫بطاقة إذن الزيارة التي أصدرت قبل قليل ورميتها‪.‬‬ ‫ويف ما كان قد صار تقلي ًدا‪ ،‬صافحت املرافقني اللذين كانا ينتظرانه عند‬ ‫املدخل‪ ،‬أنهيت سيكاريت‪ ،‬بصقت من خالل أسناين‪ ،‬وغادرت‪ .‬باب آخر يف‬ ‫حيايت أقفل يف وجهي‪.‬‬ ‫***‬

‫اشرتيت علبة برية باردة من كشك قريب‪ ،‬وذهبت يف جولة يف املتن ّزه‬ ‫الغريب املحيط باملركز الوطني للفنون‪ ،‬مقتفيًا صوت شخص يؤ ّدي عىل‬ ‫‪21‬‬


‫أرسالن خسافوف‬

‫الغصة املتض ّخمة يف حنجريت ج ّراء تصنيفه املفاجئ هذا‪ ،‬ودمع‬ ‫وحدها ّ‬ ‫عيني‪ ،‬منعاين من إنزال املزيد من‬ ‫األذى الطفويل الذي كاد ينهمر من ّ‬ ‫التشويه يف أسنانه غري املتناسقة‪ ،‬الشبيهة بأسنان القرش‪.‬‬ ‫“لكن ُعد غ ًدا‪ ...‬احرص عىل ذلك”‪ ،‬نطق كلامته هذ ًرا فيام أدرت ظهري‬ ‫ُمغاد ًرا ومتو ًّجها نحو الباب‪.‬‬ ‫مدير محطّة إلكرتون ّية أخرى استدعاين ملقابلته يف لحظة زامنت اللغط‬ ‫امل ُثار حول والدي‪.‬‬ ‫“إنني أتلقّى معلومات”‪ ،‬قال يل‪ ،‬وهو يرتشف الشاي من كوب زجاجي‬ ‫طويل يف حاملة أكواب عليها شعار سكك الحديد الروس ّية‪“ ،‬تفيد أ ّن‬ ‫والدك سوف يُطارد ويُغتال‪ .‬القرار ات ُِّخذ”‪.‬‬ ‫همهمت‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫“سوف يُقتل بالتأكيد‪ .‬إنهم يبحثون عنه اآلن‪ .‬هذه معلومات موثوقة من‬ ‫صديق مق ّرب يل يعمل يف األمن الفدرايل لالتحاد الرويس”‪.‬‬ ‫“أيب غادر روسيا”‪ ،‬أجبته باختصار‪“ .‬أح ٌد لن يعرث عليه”‪.‬‬ ‫قائل‪“ .‬إن مل يعرثوا عليه فسوف‬ ‫“هذه هي املشكلة بالتحديد”‪ ،‬تابع ً‬ ‫يالحقون ابنه‪ ،‬أنت‪ .‬ووالدك س ُيذعن إىل حيث يريدون‪ُ ،‬م ِق ًّرا كالحمل‬ ‫الوديع‪ .‬هذا ما سيحدث”‪.‬‬

‫‪20‬‬



‫أرسالن خسافوف‬

‫املرسح‪ .‬جلست عىل مقعد خشبي يف الصف الخلفي‪ ،‬أخذت ارتشافة‬ ‫كبرية من البرية‪ ،‬وشاهدت يف الواقع شابًا بدي ًنا يرقص يف املكان‪ .‬بدا‬ ‫مستمت ًعا بوقته‪ ،‬مداع ًبا أوتار غيتاره الكهربايئ‪ ،‬راف ًعا ساقًا سمينة عال ًيا يف‬ ‫الهواء ومح ّركًا رأسه لتهت ّز خصل شعره كثرية الطبقات‪ .‬بدا وجهه مألوفًا‬ ‫بالنسبة يل يشبه ابن أحد رجال األعامل املعروفني‪ .‬أحدهم كان قد أخربين‬ ‫أ ّن االبن هذا زير نساء‪.‬‬ ‫مثلت برسعة ورحت أنقّل نظري ض ِج ًرا بني الناس املوجودين هناك‪ .‬بعض‬ ‫الفتيات اللوايت جلسن أمامي بصفني أو ثالثة ك ّن يلتفنت إىل الخلف‪ ،‬حيث‬ ‫أي اهتامم‪.‬‬ ‫أثار انتباهه ّن أم ٌر ما‪ ،‬ويتهامسن‪ .‬مل أعر ذلك ّ‬ ‫متّع شبابك بالرقص‪ ،‬أيّها الفتى‪.‬‬ ‫أنهيت علبة برية ثانية‪ ،‬سحقت العلبة يف قبضة يدي ورميتها يف برميل‬ ‫ُت صوت املوسيقى وتالىش أخ ًريا‬ ‫النفايات القريب وغادرت املتن ّزه‪َ .‬خف َ‬ ‫يف الهواء‪ُ ،‬مفس ًحا املجال ألصوات حيايت اليوم ّية االعتياديّة‪ :‬ضجيج حركة‬ ‫السري عىل الطرقات والرصير املعد ّين ألفكاري‪.‬‬ ‫تعب كاد مينعني‬ ‫كنت أسري بال وجهة‪ ،‬متنق ًّل بال هدف‪ ،‬وفجأة أدركني ٌ‬ ‫ذاهب طو ًعا نحو اختطايف وما سيعقبه‬ ‫من نقل قدم أمام األخرى‪ ،‬وأنا‬ ‫ٌ‬ ‫من جرمية قتل والدي‪ ،‬إن كان يل أن أص ّدق ما أُ ِ‬ ‫خبت َه‪ .‬غري أنّني مل أص ّدق‪،‬‬ ‫وبالتايل فإنني مل أستسلم‪.‬‬ ‫***‬

‫‪22‬‬


‫أرسالن خسافوف‪ ،‬كاتب وصحايف ولد يف آغغابات‪،‬‬ ‫تركامنستان‪ .‬روايته ‪ Sense‬التي حازت جائزة تقدير‪،‬‬ ‫نُرشت يف روسيا والواليات املتّحدة األمريكيّة‪.‬‬

‫رسد‪ :‬كتابات عربيّة وروسيّة معارصة‬

‫مساعد ستيفن سيغال‬ ‫أرسالن خسافوف‬

‫أرسالن خسافوف‬

‫مل يكن بوسعي التفكري بعظيم من العظامء مل يُثمله كأس‬ ‫العوز واملعاناة‪ ،‬وذاك أمدّين بالطأمنينة‪.‬‬

‫الب ّوابة التّاسعة‪ :‬مقاالت املدينة وأخبارها‬ ‫العدد الثالث‪ ،‬خريف ‪2013‬‬

‫يحيا الجميع يف زمن خفتت‬ ‫فيه الشعارات الهادرة‪ ،‬امل ُن ّمقة‪،‬‬ ‫والقرشويّة‪ ،‬والفرد أصبح هو “ذاته”‬ ‫فقط من دون تنميق‪“ .‬مل تعد‬ ‫الشعارات القدمية عن كرامة العمل‬ ‫ط ّنانة كام يف السابق”‪ ،‬يكتب أرسالن‬ ‫خسافوف‪ ،‬عىل لسان بطله أرتور‪،‬‬ ‫العرشيني‪“ ،‬الرويس” املسلم‬ ‫الشاب‬ ‫ّ‬ ‫الداغستاين‪ ،‬امل ُطارد األب‪ ،‬والباحث‬ ‫قليل‬ ‫ربا يق ّربه ً‬ ‫عن عمل يف موسكو ّ‬ ‫من حلمه املثايل عن نفسه ككاتب‬ ‫موهوب‪.‬‬


‫أرسالن خسافوف‪ ،‬كاتب وصحايف ولد يف آغغابات‪،‬‬ ‫تركامنستان‪ .‬روايته ‪ Sense‬التي حازت جائزة تقدير‪،‬‬ ‫نُرشت يف روسيا والواليات املتّحدة األمريك ّية‪.‬‬




‫الشارة‬

‫ُغلق يف مواقيت محدّدة‪ ،‬تنتمي إىل حقبة آفلة‪ .‬الكالم عن “بوابة” للمدينة‬ ‫ُفتح وت ُ‬ ‫جدران املدن وأسوارها والبوابات التي كانت تتخلّلها‪ ،‬فتُحرس وت ُ‬ ‫كل سبيل لدخولها‪ .‬لبريوت األسوار كان مث ّة أبواب سبعة‪ ،‬مع ميل من قبل بعض املؤ ّرخني إىل التشديد عىل الرقم‬ ‫اليوم هو كالم يف املجاز يصيب ّ‬ ‫تتول حراسة مداخل املدينة‪ .‬ث ّم أضيفت إىل تلك البوابات‪ ،‬يف مرحلة متأخّرة من‬ ‫املذكور‪ ،‬باعتباره رم ًزا لالكتامل‪ ،‬والرتباطه بعائالت بريوتيّة سبع‪ ،‬كانت ّ‬ ‫عمر السور‪ ،‬بوابة ثامنة‪“ .‬البوابة التاسعة” هي البوابة امل ُتخ َّيلة التي مل تكن‪ .‬وهي البوابة التي مضت خانة إضاف ّية يف تخطّي رمزيّة الرقم واكتامله‪،‬‬ ‫فغدت مفتوحة عىل احتامالت كثرية‪ ،‬عىل ما يفرتض الخيال‪.‬‬ ‫املديني وآدابه وفنونه وتواريخه‬ ‫لتواكب العمران مبضمون معريف يتناول أفكار العيش‬ ‫البوابة التاسعة‪ ،‬مجلّة ثقافة مدينيّة‪ ،‬تصدر من وسط بريوت‪،‬‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫املديني تحديدًا‪ ،‬املكان الذي شهد سجاالت بدت مهدورة يف معظم األحيان‪ ،‬تارة بسبب حدّتها‬ ‫واقرتاحاته املستقبل ّية‪ .‬موقعها يف بريوت‪ ،‬يف الوسط‬ ‫ّ‬ ‫أو مغاالتها وقلّة حذاقتها‪ ،‬وطو ًرا بسبب هامشيّتها وانسحابها وافتقارها إىل سياق نرشي مثابر مخصص لها وساع إىل ترويج اإلقبال عىل نوعها الثقايف‪،‬‬ ‫مديني عريب ‪ -‬دويل مت ّيزت به بريوت دامئًا‪ ،‬وتتنبه إىل وجوب االبتعاد عن املغاالة والحدّة الضا ّجة وقلّة االتّزان‪ .‬كام يجعلها‬ ‫يجعلها تطمح إىل تواصل‬ ‫ّ‬ ‫كل عام‪ ،‬متيحة أمام كتّابها واملشاركني يف صناعتها‪ ،‬الوقت املالئم لنتاج يدمج‬ ‫تقدّم بديلها يف إصدار مثابر متمحور حول ثيمة واحدة‪ ،‬يتك ّرر م ّرتني يف ّ‬ ‫البحث األكادميي املع ّمق بالكتابة اإلبداع ّية والنقديّة والصحاف ّية والغوص عميقاً يف عصب املدينة وطبقاتها‪ .‬هذا‪ ،‬وتأيت البوابة التاسعة‪ ،‬لتتب ّنى زمنها‬ ‫كل مكان‪ ،‬متقاطعة يف كثري من الوجوه واملظاهر‪ .‬من هنا تأيت جهودها‬ ‫األوسع الذي دخل فيه العامل حقبته املدينيّة‪ ،‬وباتت ثقافات املدن وقضاياها يف ّ‬ ‫نصه األصيل (روحه األصل ّية)‪،‬‬ ‫يف الرتجمة التي ت ُنتج ثنائ ّيتها اللغويّة الهادفة إىل تعريف ما يؤلّف “هنا” عن املدينة‪ ،‬مع املحافظة عىل نضارته عرب نرش ّ‬ ‫يل (ة) أيضً ا‪ ،‬وإخراج هذا كلّه يف هويّة متداخلة واحدة ت ُصاغ عرب أفكار تصميميّة مبتكرة‪.‬‬ ‫عىل ما يؤلّف “هناك” عن مدن أخرى‪ّ ،‬‬ ‫بنصه (روحه) األص ّ‬ ‫مؤسس ورئيس التحرير فادي طفييل‬ ‫ِّ‬ ‫مؤسسة ومديرة اإلخراج الف ّني ناتايل املري‬ ‫ِّ‬ ‫امل ُح ّرر العام إياد حسامي‬ ‫التصميم أنطوان غانم‬ ‫االنتاج دينا بستاين‪ ،‬زينة نقاش‪ ،‬ماريو رزّوق‬ ‫إدارة العمل ليامسول ذوق‬ ‫شؤون مال ّية سمية بارودي‬ ‫تنسيق وتوزيع محمد رحيمي‬ ‫مح ّرر خُطط تود رايس‬ ‫ُمحرر مساهم هشام عوض‬ ‫مراجعة لغوية مح ّمد حمدان‪ ،‬تراييس داندو‬ ‫تدقيق لغوي مح ّمد حمدان‪ ،‬جوديت ريوتو‬ ‫رسومات األغلفة هبة ف ّران‬

‫تنرش مجلّة البوابة ‪)ISSN 2305 - 5219( 9‬‬ ‫مرتني يف السنة يف بريوت‪ ،‬لبنان‪،‬‬ ‫من قبل رشكة سوليدير مانجمنت سريفيسز ش‪.‬م‪.‬ل‪.‬‬

‫وسط بريوت‪ ،‬مبنى ‪ ،149‬شارع سعد زغلول‬ ‫صندوق بريد ‪ 119493‬بريوت ‪ 2012 7305‬لبنان‬ ‫هاتف‪00961 1 980 650 / 60 :‬‬

‫شكر خاص‬ ‫عمر خليف‪ ،‬سمر عواضة‪ ،‬رايتشل كروز‪ ،‬مالو هلسا‬

‫ترخيص رقم ‪465‬‬ ‫املدير املسؤول جورج علم‬ ‫حقوق النرش والتأليف عائدة لرشكة سوليدير مانجمنت‬ ‫سريفيسيز ش‪.‬م‪.‬ل‪ .‬جميع الحقوق محفوظة © ‪.2013‬‬

‫مينع نسخ أو استعامل أي جزء من هذه املطبوعة بأي وسيلة تصويريّة أو‬ ‫إلكرتونيّة أو ميكانيكيّة مبا فيها التسجيل الفوتوغرايف والتسجيل عىل أرشطة أو‬ ‫أقراص مقروءة أو أي وسيلة نرش أخرى مبا فيها حفظ املعلومات واسرتجاعها من‬ ‫دون إذن خطّي من النارش‪.‬‬

‫التوزيع يف الرشق األوسط‬

‫‪Compagnie libanaise de distribution de la presse‬‬ ‫‪et des imprimés s.a.l. - Lebanon‬‬

‫تعب عن آراء أصحابها وحدهم وال توافق بالرضورة آراء هيئة‬ ‫املقاالت املنشورة ّ‬ ‫التحرير ومواقفها‪ .‬النارش غري مسؤول عن ص ّحة املعلومات الواردة يف املقاالت‬ ‫أي أخطاء أو هفوات ترد‪ .‬يشرتط يف‬ ‫وهو ال يتح ّمل أي مسؤوليّة قانونيّة عن ّ‬ ‫قبل يف أي مجلّة أو كتاب‪.‬‬ ‫املساهامت التي تردنا أن ال تكون قد نرشت ً‬

‫التوزيع الدويل‬ ‫‪Idea Books‬‬

‫ال تراجع املجلّة يف شأن املساهامت التي تردها طوعًا‪ ،‬من دون طلب منها‪.‬‬ ‫وهذه املساهامت ال تُردّ‪.‬‬

‫البوابة التاسعة طبعت وطويت يف لبنان‬

‫‪42‬‬


‫خاص لـ ‪portal9journal.org‬‬

‫كتابات نقديّة‪ :‬تود رايس‪ُ ،‬مح ِّرر خُطط يف الب ّوابة التّاسعة‪ ،‬يُراجع‬ ‫العدد األخري من ‪Comparative Studies of South Asia, Africa‬‬ ‫‪ and the Middle East‬الذي ح ّررته نيليدا فوكارو‪ ،‬الباحثة‬ ‫واملختصة يف عمران الخليج العريب‪ .‬هذا ويراجع عمر خُليف الدورة‬ ‫ّ‬ ‫الرابعة لبينايل مراكش الذي انعقد تحت ثيمة “أين نحن اآلن؟”‬ ‫مراجعة خليف تأيت قبيل االستعداد النطالق الدورة الخامسة من‬ ‫هذا البينايل‪.‬‬ ‫مرويّات‪ :‬من حمص يكتب جابر غصن عن ساحة الساعة وليلة‬ ‫الفجر املؤ ّجل‪.‬‬ ‫زوروا موقعنا اإللكرتوين‬ ‫‪portal9journal.org‬‬

‫الب ّوابة التّاسعة عىل فايس بوك‬

‫‪facebook.com/portal9journal‬‬

‫الب ّوابة التّاسعة عىل تويرت‬

‫‪twitter.com/portal9journal‬‬

‫‪41‬‬


Issuu converts static files into: digital portfolios, online yearbooks, online catalogs, digital photo albums and more. Sign up and create your flipbook.