فصل من كاللولو (228-242)

Page 1

‫سبع شرائط في‬ ‫شعري‬ ‫‪ 9‬أغسطس‪1990 ،‬‬

‫ّ‬ ‫سخيا‪ ،‬ألبستين دون‬ ‫يف صبيحة اخلميس اثلاين للغزو‪ ،‬أطعمتين أيم فطورا‬ ‫أن ترد ىلع أسئليت عن املاكن اذلي سنذهب إيله‪ ،‬ثم فتحت علبة رشائط‬ ‫الشعر اليت أهدتها يل وسن ذات يوم‪ .‬اكنت وسن تتوق إىل طفلة‪ ،‬فاكنت‬ ‫َ‬ ‫تهبط عليها حاالت نادرة من اللطافة فتهديين بعض األشياء‪ .‬ق َدري سعيد؟‬ ‫مرزوقة؟ أجل‪ ،‬لكن قولوا ما شاء اهلل‪ ،‬فـ«العني حق»! وسن‪ ،‬رسمد‪ ،‬اذلباب؛‬ ‫«جناح داء وجناح دواء»‪.‬‬ ‫ْ‬ ‫مجعت شعري‬ ‫فتحت أيم العلبة‪ ،‬واكن فيها سبعة رشائط بلون قوس قزح‪.‬‬ ‫وربطته إىل أىلع رأيس‪ ،‬ثم وضعت الرشائط لكها واحدة تلو األخرى!‬ ‫تربمتُ‬ ‫«ال‪ ،‬ماما! هكذا لن يكون شعري ىلع 'املوضة'‪ ،‬ضيع واحدة فقط‪ّ ».‬‬ ‫بشدة‪.‬‬ ‫أردت أن أزيلها‪ ،‬فقد اكن منظري يثري السخرية‪ .‬جتاهلتين أيم ثم أخذت‬ ‫ّ‬ ‫أيم تضفر شعري‪ ،‬تضفره بصمت وبعنف! الزتمت السكوت‪ ،‬أنا اليت أرفض‬ ‫أن يُفرض انلظام ىلع شعري اثلائر‪ .‬ذاك احلزم اذلي اكن يقطر من ّ‬ ‫يدي ىلع‬ ‫رأيس أسكتتين‪ .‬اكن يمكنين أن أعرتض وأطلب منها أن تتعلم كيف تعمل‬

‫] ‪[ 228‬‬


‫ضفرية فرنسية قبل أن تتجرأ ىلع شعري‪ ،‬لكن رؤييت لوجهها املكفهر عرب‬ ‫املرآة عقص لساين‪.‬‬ ‫حني انتهت قالت يل‪:‬‬ ‫ ّ‬‫هيا‪ ،‬ارتدي حذاءك برسعة‪.‬‬ ‫ملحت يف الصالة حقيبة سفر صغرية جدا‪ ،‬ومكتزنة حىت اتلخمة‪ .‬وجبانبها‬ ‫َم ْط َرة ماء كبرية وكيس فيه بعض األطعمة‪ .‬ذهبت وارتديت حذايئ الوردي‪،‬‬ ‫فهو يالئم ثيايب‪ .‬لوال قوس قزح الساكن فوق قمة رأيس تلبخرتت مثل‬ ‫األمريات‪.‬‬

‫ّ‬ ‫لك توقيف عن قضم‬ ‫ ال‪ ،‬ال‪ .‬ارتدي حذاء الرياضة األسود‪ .‬وكم مرة قلت ِ‬‫أظافرك؟!‬

‫كنت سأجادهلا لوال أين رأيت شيئا لم أفهمه يف وجهها‪ ،‬فارتديت احلذاء‬ ‫املبغوض دون مراء‪ .‬يا للكآبة‪ ،‬ماذا حيق يل أن أختار إذا ُحرمت من‬ ‫اختيار ترسحية شعري اليت أصافح بها وجوه انلاس‪ ،‬أو حذايئ اذلي به أجته‬ ‫َ‬ ‫ٌ‬ ‫وأميش؟ أعبودية من قمة رأيس إىل أمخص قديم؟ كيف سأواجه املجتمع؟‬ ‫كيف سأواجه تعليقات الفتيات السمجة حول ذويق الرديء؟ فركت عيين‬ ‫وتثاءبت ونسيت األمر حينما أدركت أين لم أنل كفاييت من انلوم‪.‬‬ ‫ إذا سألك أحد عن وجهتنا‪ ،‬إياك أن تقويل سوى إننا ذاهبون إىل السعودية‬‫لزيارة أقاربنا هناك ّ‬ ‫يويم اخلميس واجلمعة وسنعود السبت‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫قالت يل أيم هذا حبزم يقرتب من اتلهديد‪ .‬لم يكن مع لك شخص منا إال‬ ‫ُ‬ ‫حقيبة واحدة‪ ،‬يك ال تثار الشبهات يف حال أوقفنا‪ ،‬بل يظهر األمر ىلع أنه‬ ‫زيارة اعئلية فقط‪ .‬يف علبة املحارم الورقية املكنوزة يف احلقيبة ّ‬ ‫خبأت أيم‬ ‫ُح ّ‬ ‫ليها اذلهبية بعناية بني الوريقات اخلفيفة‪ .‬آه من الشدائد‪ ،‬آه منها حني‬

‫] ‪[ 229‬‬


‫جتعل املرء يترصف كما اللصوص واملهربني‪.‬‬ ‫ حقا! دلينا أقارب يف السعودية؟ هل دليهم أطفال؟‬‫ املفروض‪.‬‬‫ من عمري؟‬‫ إن شاء اهلل‪.‬‬‫ اعصمة السعودية الرياض‪ ،‬أليس كذلك؟‬‫ شاطرة‪.‬‬‫ردت ّ‬ ‫يلع ردا آيلا مزنوع الروح‪.‬‬

‫كنت أعرف عواصم معظم ادلول العربية من اللعب ُ‬ ‫بـطيقة الوطن العريب‬

‫ىلع احلاسوب اليت أخربتكم عنها‪.‬‬

‫َ‬ ‫فتطوان‬ ‫مرص‬ ‫يمن إىل‬ ‫بالد العرب أوطاين من الشام‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫بلغدان *** ومن جند إىل ٍ‬ ‫كدت أترنم بابليت ىلع نغمة ُ‬ ‫ابلطيقة‪ ،‬لكن لم يرق يل األمر هذه املرة‪ ،‬ولم‬ ‫أعرف وقتها لِم‪.‬‬ ‫فأخذت أنشد‪:‬‬

‫«اهجم‪ ،‬اهجم‪ ،‬ال تلني‪.‬‬ ‫حنن معك‪ ،‬معك أمجعني‪.‬‬ ‫حطم األرشار‪ ،‬ساند األحرار‪.‬‬ ‫جونگر‪ ،‬جونگر‪ .‬ابلطل اجلبار‪».‬‬ ‫غريت رأيي‪ ،‬ال أريد أن أتزوج رايم حينما أكرب‪ ،‬سأتزوج جونگر!‬

‫] ‪[ 230‬‬


‫"فال حد يباعدنا * وال دين يفرّ قنا‬ ‫لسان العرب يجمعنا *‬ ‫وعدنان‬ ‫بغسان‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬

‫لنا مدنية سلفت * سنحييها وإن ُدثرت‬

‫والجان"‬ ‫ولو في وجهنا وقفت* دهاة اإلنس‬ ‫ِ‬ ‫الشاعر فخري البارودي‬ ‫ّ‬ ‫يحلق على مستوى الدين أو حتى فوقه؟‬ ‫هل كانت القومية العربية شيئا‬ ‫عبود الذي سمّ ى ابنه محمدا‪:‬‬ ‫يبدو أنها كانت كذلك‪ .‬ألم يقل الشاعر مارون ّ‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ُامّ ه ما َ‬ ‫ول ْ‬ ‫مسيحيا ولكن عربي‬ ‫مسلما * أو‬ ‫دت ُه‬

‫تكتب المستشرقة األلمانية سيگرد هونكه كتابها الشهير «شمس هللا تسطع‬ ‫على الغرب»‪ ،‬فنترجمه إلى «شمس العرب تسطع على الغرب»!‬ ‫وتداعت القومية العربية من تلقاء نفسها دون الحاجة لتدخل «دهاة‬ ‫اإلنس والجان»‪ .‬كان التحليق فوق مستوى الدين سببا في تفتت جناحيها‪.‬‬ ‫الطموح الزائد مَ ْه َلكة!‬ ‫الفراشة الجريئة‪ ،‬الفراشة ُ‬ ‫الشجاعة إلى حد التهور‪ ،‬الفراشة التي وقعت‬ ‫في غرام النور فأرادت أن تتماهى معه وأن تكو َنه‪ .‬لقد حرقت جناحيها‬ ‫بجرعة نورية زائدة‪ .‬قالت العرب «أجهل من فراشة»‪ ،‬أسعدهم هللا‪ ،‬أفال‬ ‫قالوا «أجرأ من فراشة»؟‬ ‫ُّ‬ ‫يرج المنابر‪ ،‬فتفيض‬ ‫إيهِ ناصر‪ ،‬حينما كان يخطب ناصر‪ ،‬ويهتف ناصر‪ ،‬كان‬ ‫المحاجر‪ ،‬وتصرخ الحناجر‪ .‬فراشتك الصنديدة يا ناصر قضت‪ ،‬احترقت‪،‬‬ ‫انتحرت!‬ ‫مذكرات بابا جاسم‪ 12 ،‬يونيو ‪1993‬‬

‫] ‪[ 231‬‬


‫َ‬ ‫«سبريبن» (أو «سوبر بان» كما‬ ‫جاء عيم عبد اللطيف يسوق سيارة من نوع‬ ‫كنا نسميها)‪ .‬ما لونها؟ «أدعم» طبعا! كنت أتمىن أن يكون عيم اغزي هو‬ ‫نكد من أوهل؛ رشائط رديئة‪،‬‬ ‫من سيصحبنا يف الرحلة‪ ،‬لكن يبدو أنه نهار ِ‬ ‫واحلذاء اذلي أكره‪ ،‬وعيم عبد اللطيف!‬

‫سيارة الضاحية إذا ترجمناها‪ ،‬لكن الكل كان‬ ‫اسمها «سبيربَن» «‪ »Suburban‬أو ّ‬ ‫يسميها «سوبر بان»‪ .‬بل أن هناك من قال لي أن اسمها الصحيح هو «سوپر‬ ‫ڤان» وحوّ رناه إلى «سوبر بان»‪ ،‬وتبين خطأ كليهما‪.‬‬ ‫تحوير وتغيير أسماء السيارات سمة كويتية وال فخر‪ ،‬فسيارة «رولس‬ ‫رويس» صارت «رز ريز»‪ ،‬و«ڤولكس ڤاگن» صارت «فولوكس»‪ ،‬و«بيوويك»‬ ‫صارت «بويك»‪ ،‬و«شيڤروليه» صارت «شفر»‪ ،‬و«پورشه» صارت «بورش»‪،‬‬ ‫و«ناينتي أيت» صارت «نايتي أيت»‪.‬‬ ‫لكن لهذه التحويرات طعم جميل‪ ،‬كنا نحب أن نحور ونغير كي تكون لما‬ ‫ننطق خصوصية‪ ،‬أما اآلن فصرنا نتنافس في نطق األسماء كنطق قومها‬ ‫لها‪ ،‬بل أشد تنطعا‪.‬‬ ‫من مذكرات بابا جاسم‪ 19 ،‬يوليو‪1994 ،‬‬

‫اكن دلى عيم عبد اللطيف الكثري من األطفال؛ ثالثة صبيان من زوجته‬ ‫ّ‬ ‫األوىل‪ ،‬ومن اثلانية اثنان من الصبيان وصبية‪ .‬اكن يفكر يف اثلاثلة قائال أن‬ ‫الرشع حلل هل أربع زوجات‪ .‬يقول هذا وهو ال يصيل! ذلا –ىلع ما يبدو‪ -‬لم‬ ‫يكن دليه يشء من احلنان يلقدمه يل أو ملشاري أو مويض‪ .‬اكن حياول أن‬ ‫يكون لطيفا‪ ،‬لكن اغبلا ما يفلت لسانه زاجرا إيانا‪ ،‬ولسان حاهل يلهج‬

‫] ‪[ 232‬‬


‫بالشعار‪« :‬اتلعنيف تهذيب وإصالح»! عيم اغزي خمتلف عنه تماما‪ .‬يلتهما‬ ‫تبادال األسماء!‬ ‫أخذت الشمس باتلوهج أكرث وأكرث‪ .‬اكن أبناء عيم عبد اللطيف اخلمسة‬ ‫مكدسني يف املقاعد االحتياطية يف اخللف أو ىلع أرضية اجلزء اخلليف من‬ ‫السيارة كما لو اكنوا أمتعة مشحونة‪ .‬يف حني جلست زوجته اثلانية جبانيب‬ ‫أنا وأيم‪ ،‬وجلست األوىل يف األمام‪ .‬لم تكن الصحبة ممتعة‪ ،‬فأبناء عيم‬ ‫حزبان متشاكسان واغبلا ما تقوم بينهما حرب شطون بتحريض غري ظاهر‬ ‫من وادلتيهما‪ .‬ذلا كنت أجتنب اللعب معهم مجيعا‪ ،‬فلعيب مع طرف يعين‬ ‫حماباة هل‪ ،‬ومعاداة للطرف اآلخر‪ .‬رغم ذلك‪ ،‬كنا يومها نتبادل انلظرات‬ ‫ونبتسم بلعضنا بني الفينة واألخرى ونود لو نلعب ولو قليال‪ .‬لكن لكما‬ ‫أحدثنا صوتا‪ ،‬اكن زجر عيم عبد اللطيف نلا باملرصاد‪ .‬اكن عيم يقول دائما‬ ‫«األبناء عزوة»‪ ،‬وكنت ‪-‬لسنوات طوال‪ -‬أظن أن معىن عزوة يه أن األبناء‬ ‫ّ‬ ‫يتلقون «العزاء» حني يموت الشخص‪ ،‬ومن هنا جاءت لكمة «عزوة»!‬ ‫يعب السجائر ّ‬ ‫اكن عيم ّ‬ ‫عبا ويمأل اجلو بدخان حيرق العيون والصدور‪،‬‬ ‫فتعاتبه أيم‪:‬‬ ‫‪ -‬أبا سالم‪ ،‬السيارة مليئة باألطفال!‬

‫ّ‬ ‫ يا أم معن‪ ،‬ال أستطيع أن أركز يف القيادة دون أن أدخن‪ .‬السجارة تدوزن‬‫مزايج‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫اتلدخني أفيون الفقراء‪ .‬أما اكن األجدر بعيم أن يتوىف ال أيب‪ ،‬خاصة وأن‬ ‫ّ‬ ‫عيم دليه «عزوة»؟ ّ‬ ‫الربي الربيء يف رأيس‪ .‬طال أزيز‬ ‫تمطى هذا التساؤل‬ ‫السيارة ىلع اإلسفلت الساخن‪ ،‬وفجأة احنرف عيم بها جتاه الرمال‪ .‬شهقت‬ ‫ملء ّ‬ ‫رئيت‪ ،‬ونادت أيم يف املوجودين‪:‬‬

‫] ‪[ 233‬‬


‫ داعء السفر يا مجاعة‪.‬‬‫ أيم‪ ،‬لم نأخذه يف املدرسة بعد‪.‬‬‫لقنتين أيم ادلاعء‪ .‬ماذا يعين «مقرنني»؟ وماذا يعين «وعثاء»؟ أردت أن أسأل‪.‬‬ ‫ال‪ ،‬بل الصمت أفضل‪ .‬هذه الوجوه الوامجة لن ّ‬ ‫تتقبل أمواج الفضول اليت‬ ‫تعرتيين‪.‬‬ ‫ ماما‪ ،‬ألم يقل لك اهلل يف االستخارة أال نسافر؟‬‫ صليت االستخارة مرة أخرى‪.‬‬‫تقفز ريشيم فجأة إىل فوهة تركزيي‪ .‬آه يا ريشيم‪ ،‬خترجني بسهولة عرب‬ ‫طريق السفر االعتيادي يف ثالث يوم للغزو‪ ،‬وحنن –أبناء األرض‪ّ -‬‬ ‫نفر عرب‬ ‫صليت االستخارة حىت تصيل‬ ‫الصحراء خوفا من األرس أو املوت؟ ال بد أنك‬ ‫ِ‬ ‫ّ‬ ‫إىل هذا القرار املوفق‪.‬‬ ‫طفقت الشمس تسفعنا وتصفعنا بأشعتها‪ .‬أليس قوس قزح يف شعري؟ أال‬ ‫يفرتض أن يسقط املطر وتغيب الشمس؟ هيا أيتها الشمس غييب‪ ،‬غييب‪ ،‬هيا‬ ‫ّ‬ ‫افرنقيع ويلهطل املطر‪ ،‬هيا ارحيل‪ .‬لكن هيهات‪ ،‬فقد كنا يف آب اللهاب‪.‬‬ ‫تذكرت المزيد مما دار أمس في ديوانية فيصل البارحة‪.‬‬ ‫كنت أظن أن «شهر ثمانية» كما نسميه ليس له إال اسمين هما «آب»‬

‫ُ‬ ‫السرياني و«أغسطس» الالتيني‪ .‬تفاجأت بأن الجزائريين يسمونه «أوت»‬

‫نقال عن الفرنسية‪ ،‬والمغربيون يسمونه ُ‬ ‫«غ ْشت»‪ ،‬أما الليبيون فيسمونه‬ ‫«هانبيال»‪.‬‬ ‫ما أحرّ هذا الشهر‪ ،‬وما أكثر أسماءه!‬ ‫من مذكرات بابا جاسم‪ 13 ،‬مايو‪1977 ،‬‬

‫] ‪[ 234‬‬


‫اكن املشهد ممال؛ ال يشء سوى الكثبان‪ .‬الكثري من الرمال انلاتئة يف ماكن‬ ‫قاحل ال ينبت اليفء فيه‪ .‬أحبث عن خنلة مشاكسة تنبت يف صلعة كثيب‬ ‫ما‪ ،‬فال أجد‪ .‬كنت أرى الكثبان ّ‬ ‫املجانة تنظر إيل بأنفة‪ .‬حيق هلا ذلك‪ ،‬فلك‬ ‫تموج فيها ال يشبه اآلخر‪.‬‬ ‫بالفرادة والندرة تكون األشياء عزيزة وباهظة الثمن‪ .‬ماذا يميز الصناعة‬ ‫أن أشباهها تندر؟‬ ‫اليدوية‪ ،‬أو المالبس الحصرية (‪ )Haute Couture‬سوى ّ‬ ‫االختالف مَ رْ بَح‪.‬‬ ‫كلما كثر الشيء ‪-‬مهما كان فاخر الجمال‪ -‬زهدت فيه النفس‪ .‬ولهذا تقوم‬ ‫بعض الدول بمهرجانات إلتالف جزء من محاصيل الطماطم والبرتقال كي‬ ‫بئس التفكير‪ ،‬أما كان خيرا لهم‬ ‫ال يزيد عرضه في السوق وينخفض سعره‪َ .‬‬ ‫لو تبرعوا به لبعض الدول الساغبة؟‬ ‫من مذكرات بابا جاسم‪ 18 ،‬مايو‪1992 ،‬‬

‫ترتجرج بنا «السوبر بان» كرتجرج سفينة قبيل هالكها يف إعصار‪ .‬اكنت تنئ‬ ‫ّ‬ ‫املتسجر‪ ،‬ومن سجائر‬ ‫من احلمولة البرشية‪ ،‬ومن الفرار من الرمل الزئبيق‬ ‫عيم‪ ،‬من «دوار الصحراء»! ما اكنت سيارة لرتى شيئا مثل هذا وال يف أسوأ‬ ‫كوابيسها‪ ،‬فالواقع كثريا ما يكون أصعب وأكرث إفزااع من الكوابيس‪.‬‬ ‫هزة عسرية‪ ،‬وخرت واقفة ماكنها‪ .‬أخذ عيم ّ‬ ‫اهزتت بنا السيارة ّ‬ ‫يزمر بنغمة‬

‫غريبة بشلك متواصل (ملن ّ‬ ‫يزمر يف هذه الصحراء الشاسعة؟! أم تراه يعرب‬ ‫عن غضبه بطريقة ّ‬ ‫فنية موسيقية؟)‪ ،‬ثم خرج ليستطلع األمر‪ .‬فتحت انلافذة‬ ‫وسأتله‪:‬‬

‫] ‪[ 235‬‬


‫ عيم‪ ،‬ماتت السيارة؟‬‫ خيالوه! السيارات ال تموت‪ ،‬هذا اسمه «بنچر»‪.‬‬‫كنت أظن أن «بنچر» أو «بنشر» كلمة هندية‪ .‬فاجأني منهل اليوم بقوله أنها‬ ‫كلمة إنكليزية (‪ )Puncture‬معناها ثقب‪ .‬وتحولت داللة الكلمة لدينا من الثقب‬ ‫الذي يطال اإلطار لتشمل أي عطل يصيب السيارة‪.‬‬ ‫من مذكرات بابا جاسم‪ 10 ،‬يوليو‪1988 ،‬‬

‫«اجلميع إىل خارج السيارة‪ّ ،‬‬ ‫هيا برسعة‪ ».‬صاح عيم عبد اللطيف فينا‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ويزمر من بعيد بلقية السيارات اليت اكنت تسري خلفنا يك‬ ‫ثم أخذ يؤرش‬ ‫تتوقف‪ .‬يف احلقيقة‪ ،‬لم أحلظ ذلك من قبل وكنت أظن أننا خرجنا وحدنا‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫لكن اخلروج ّ‬ ‫ّ‬ ‫تم ىلع شلك قافلة تتقدمها سيارة أحد اخلرباء يف الطرق‬ ‫الصحراوية‪ ،‬تليها سيارة عيم عبد اللطيف‪ ،‬وخلفنا أربع أو مخس سيارات‬ ‫نلتق أثناء الرحلة‪ .‬اكنت السيارات حريصة‬ ‫فيها بقية أفراد األرسة‪ ،‬هلذا لم ِ‬ ‫ىلع ترك مسافة مناسبة بني بعضها‪ ،‬مسافة تكفيها للهروب يف حال طرأ‬

‫خطر‪ ،‬وتكفيها يك ترى بعضها ابلعض فال تضل الطريق‪.‬‬ ‫نزنلا‪ ،‬وأخذت أتأمل رمل الصحراء‪ .‬اكن غريبا‪ ،‬خلته أن يكون جبمال‬ ‫الرمل اذلهيب اذلي يف الساعة الرملية اليت دلي‪ ،‬خلته جبمال الرمل يف‬ ‫مسلسل «مغامرات السندباد»‪ ،‬خلته مجيال ّ‬ ‫وطيعا مثل الصلصال يمكنين‬

‫أن أبين به قصورا‪ ،‬لكنه لم يكن أيا من ذلك‪ .‬اكن وفريا‪ ،‬وقاحال‪ ،‬وينظر ّ‬ ‫إيل‬

‫كما لو اكن يريد أن يقول يل شيئا ما!‬

‫] ‪[ 236‬‬


‫توقفت السيارات بعيدا نسبيا عن سيارتنا‪ ،‬وجاء بعض الرجال إيلنا مشيا‬ ‫ومنهم عيم اغزي‪ .‬وافرحتاه! عيم اغزي هنا؟ ملاذا لم نذهب بسيارته إذا؟‬ ‫ّ‬ ‫طفقت أقفز ّ‬ ‫بيدي‪ ،‬وأخذت أقفز وأدور حول نفيس فرحا‪ ،‬ثم‬ ‫وألوح هل‬ ‫نسيت لك يشء حني رأيت حيايل «يربواع»‪ ،‬وهو نوع من الفرئان الربية‪ .‬رأيته‬ ‫يقفز مثيل ىلع الرمل احلايف‪ ،‬فأخذت أحبث عن طريقة أكرس بها رهبة اللقاء‬ ‫األول‪ .‬رششت عليه حفنة من الرمل فوىل صاغرا‪ ،‬داغرا‪ .‬ال‪ ،‬ال‪ .‬لم أقصد‬ ‫إيذاءه‪ ،‬كنت أحاول عقد حديث مشرتك معه عن طريق العنرص املشرتك‬ ‫بيننا؛ الرمل‪ .‬لكن اعزتين احليل‪ ،‬وهذه هو حال املحاورات واملفاوضات‬ ‫اليت تمل اللغة املشرتكة‪ ،‬لكن ال حتسن استعماهلا‪ ،‬فيفشل احلوار‪ ،‬ويترضر‬ ‫الضعفاء‪ ،‬وينتيه األمر بمعادلة ِصفرية‪.‬‬

‫أرسعت وأخذت كيس «بفك» من السيارة‪ ،‬وبدأت أفتش عن الريبوع‬ ‫ً‬ ‫اعتذارا عن سلويك الفظ‪ ،‬فابتعدت قليال عن اجلمع‪ .‬وجدت‬ ‫يك أطعمه‬

‫الريبوع اذلي اكن يرمقين بنظرات غريبة‪ ،‬ثم اختذ سبيله يف الرمال سرَ َ با‪،‬‬ ‫َ‬ ‫فتبعته‪ .‬فجأة‪ ،‬تراءى أمايم «بيت ش َعر» جتتمع فيه بعض النسوة خيضضن‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫«د َّر َ‬ ‫ارتد ّ‬ ‫اعة»‬ ‫إيل طريف حىت وجدتين ألبس‬ ‫اللنب وينسجن «السدو»‪ .‬وما أن‬ ‫و«خبنقا»‪ .‬اعجلين «كندري» حيمل املاء ىلع منكبيه‪ ،‬وسألين إذا ما كنت‬ ‫عطىش‪ .‬كنت كذلك‪ ،‬لكن هول املفاجأة أنساين لك يشء‪ .‬هناك يشء‬ ‫يسحبين‪ ،‬خروف أقرن يمضغ طرف دراعيت ويبتسم! جاء «الشاوي»‬

‫(‪((7‬‬

‫َ‬ ‫‪  :73‬بيت شعر‪ :‬خيمة‪ .‬سدو‪ :‬نسيج صويف تقليدي‪ .‬د ّراعة‪ :‬ثوب نسايئ شائع يف اخلليج‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫وأصلها فصيح‪ :‬د َّراعة‪ .‬ابلخنق‪ :‬غطاء رأس اكنت تلبسه الفتيات الصغريات‪ .‬الكندري‪:‬‬ ‫بائع املياه‪ .‬الشاوي‪ :‬الرايع‪.‬‬

‫] ‪[ 237‬‬


‫ونهره‪ ،‬واغدر مع قطيعه باجتاه صبية يتهازجون ويتباهجون‪:‬‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫«ك جا شاوينا *** شاوي املطبة‬ ‫ْ ّْ‬ ‫ّ‬ ‫طبة»‬ ‫صيح ىلع أمه *** ييب هل ر‬ ‫ثم رأيت عبد اهلل يدفع عربته وحوهل ملسون ونعمان وعبلة وقرقور وكعيك‬ ‫والضفدع اكمل‪ .‬آه‪ ،‬نعمان‪ ،‬صدييق العزيز السمني‪ .‬رأيتين يف «شارع‬ ‫عرشين»‪ ،‬يف شارع افتح يا سمسم اذلي لكما هل وطل ىلع الشاشة انبطحنا‬ ‫ىلع جنوبنا وسندنا خدودنا ىلع أيدينا وامجني‪.‬‬ ‫رسى من بعيد صوت يرتنم‪ .‬اتلفتت إيله‪ ،‬وإذا بها سفينة كبرية‪ ،‬تمخر عباب‬ ‫الرمل‪ ،‬وهناك انلوخذة يف املقدمة يتبسم يل هو اآلخر ّ‬ ‫ويلوح‪َّ .‬‬ ‫انل َّهام وينشد‬

‫«هولو يا مليه‪ ،‬هولو يا مليه»‪ .‬ثمة غيص معلق حببل طويل وقد ّ‬ ‫زم منخريه‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫بالفطام‪ ،‬وربط رجله حبجر ثقيل ينبش يف حبات الرمل وينتىق احلبات‬

‫الالمعة والكبرية‪ِّ .‬‬ ‫السيب يكاد يسحب احلبل ويصيح ّ‬ ‫يف‪:‬‬ ‫ّ‬ ‫ مضت أربعة شهور‪ ،‬والقفال اقرتب‪ .‬إنا راحلون من هنا ولن نرجع قبل‬‫شهور‪ّ ،‬‬ ‫(‪((7‬‬ ‫هيا تعايل معنا برسعة! تعايل يا لولو‪ ،‬وشاهدي اللولو اذلي مجعنا‪.‬‬ ‫وتعاىل الصوت‪:‬‬ ‫«توب توب يا حبر‪ ،‬توب توب يا حبر‪.‬‬ ‫أربعة واخلامس شهر‪ ،‬جيبهم يا حبر‪.‬‬ ‫ما ختاف من اهلل يا حبر؟»‬

‫ال‪ ،‬لن أقول {‪ ...‬سآوي إىل جبل يعصمين ‪ ،}...‬ألين اآلن عرفت ماهية الكزن!‬ ‫‪  :74‬انلهام‪ :‬مطرب السفينة‪ .‬الغيص‪ّ :‬‬ ‫الغواص‪ .‬الفطام‪ :‬مشبك إلغالق األنف أثناء‬ ‫الغوص‪ .‬السيب‪ :‬املوكول بسحب احلبل اذلي يتدىل منه ّ‬ ‫الغواص‪.‬‬

‫] ‪[ 238‬‬


‫الرمل‪ ،‬الرمل! إنه رمل سحري‪ ،‬رمل ثمني‪ ،‬رمل الوطن‪ .‬أردت أن أثلمه‪ ،‬أن‬ ‫جييب ّ‬ ‫ّ‬ ‫حببات اللؤلؤ‪.‬‬ ‫أحتضنه‪ .‬جثوت ىلع ركبيت أمجع بعضا منه ألمأل‬ ‫وفجأة اعد الريبوع يتقافز وكأنه غفر يل وصار مستعدا يللعب ميع‪ .‬تراءت‬ ‫يل يف األفق خنلة خرضاء كبرية جدا‪ ،‬بل عمالقة‪ .‬أردت أن أتوجه حنوها‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫لكن بدأت أشعر بوهن يرسي يف جسدي‪ ،‬وأخذت عيناي تتغبشان من‬ ‫فرط قسوة الشمس‪.‬‬ ‫ذهبت بعيدا هكذا؟! ال توسيخ ثيابك بالرمل‪ ،‬تعايل هنا‬ ‫ خيال‪ ،‬ملاذا‬‫ِ‬ ‫برسعة!‬

‫ُ‬ ‫فعاجلت أيم بصوت مرهق‪:‬‬ ‫ أيم انظري هناك إىل انلخلة اخلرضاء‪ .‬اهلل! ما أكربها!‬‫ يا إليه! دبابة! يا مجاعة‪ ،‬يوجد دبابة هنالك!‬‫استنفر الكبار وماج بعضهم يف بعض يقولون‪:‬‬ ‫«إنها ال تتحرك‪ ،‬يف الغالب خايلة‪ ،‬ال ختافوا‪».‬‬ ‫«ال أعتقد أنهم سيكونون رأونا فاملسافة بعيدة‪».‬‬ ‫«من العبقري اذلي قال أن هذه الطريق آمنة؟»‬ ‫ُ َ‬ ‫«من خاف سلم‪ ،‬قد يكون قربها دبابات أخر!»‬

‫واكن قرارهم انلهايئ أن ال وقت إلصالح السيارة‪ .‬اكن علينا أن ّ‬ ‫نتوزع ىلع‬

‫السيارات ابلاقية وننىس أمر السيارة املتعطلة‪ .‬عدونا أمتارا حتت الشمس‬ ‫ّ‬ ‫قديم‪ .‬أظن أن هذا‬ ‫اجلاسئة‪ ،‬وال أزال حىت ايلوم أحس حبرارة األرض يف‬ ‫عقايب ىلع ريش الريبوع بالرمل الساخن‪ ،‬إنها «احلوبة» ّ‬ ‫مرة أخرى‪ .‬أعتذر‬

‫] ‪[ 239‬‬


‫إيلك أيها الاكئن الضعيف‪ ،‬أعتذر‪.‬‬ ‫وحدث ما كنت أتمىن‪ ،‬ركبت وأيم يف سيارة عيم اغزي‪ .‬ألم أقل لكم أن‬ ‫َ‬ ‫ق َدري سعيد؟ قولوا ما شاء اهلل مرة أخرى‪ ،‬فـ«العني حق»! بالاكد استطاعت‬ ‫أيم اجللوس بني النسوة املوجودات‪ ،‬وأجلستين يف حضنها‪ .‬كنت طويلة‬ ‫وسمينة‪ ،‬ومحلتين أيم {‪ ...‬وهنًا ىلع وهن ‪ .}...‬وكأن األلم اذلي سببته هلا يوم‬

‫ودلتين لم يكفين وجئت اآلن أؤودها بوزين‪ .‬أال يكفيين أنين ّ‬ ‫قطعت‬

‫روحها إىل شظايا إىل أن وضعتين؟ أال يكفيين أنين اضطررت األطباء إىل‬ ‫ْ‬ ‫َبقر بطنها يلخرجوين؟ ملاذا يلطفون األمر ويسمونه الوالدة القيرصية؟ اسمه‬ ‫َْ‬ ‫ابلقرية»! كيف زادتين حقن ادلكتور تيسري‬ ‫احلقييق جيب أن يكون «الوالدة‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫والغرز أيم إال حتنانا وحبا؟ يف‬ ‫واملباضع‪،‬‬ ‫احلقن‪،‬‬ ‫حقدا عليه‪ ،‬يف حني لم تزد‬ ‫األمر رس إليه‪ ،‬ال يمكن ألي مصنع برشي أن يُبدعه‪ .‬يه الرابطة الوحيدة‬ ‫اليت ال ترجو جزاء وال شكورا‪ ،‬يه احلب الوحيد غري املرشوط‪.‬‬ ‫أيم‪،‬‬

‫قبعت يف جوفك‪ ،‬ولم تطابليين ال بأجر أو إجيار‪ .‬احتللت حريتك‪ّ ،‬‬ ‫وكبلت‬ ‫راحتك‪ ،‬واستعمرت حياتك ووقتك تسعة أشهر وما بعدها‪ .‬ال أعرف أيضا‬ ‫ً‬ ‫كيف لم يدرجوا اسيم يف منهج االجتماعيات واحدة من القوى االستعمارية‬ ‫الغشوم‪.‬‬ ‫أيم‪،‬‬ ‫أمومتك وظيفة بدوام اكمل‪ ،‬ال إجازات فيه‪ ،‬وال استئذانات‪ ،‬وال حىت‬ ‫تقاعد طيب‪ .‬وظيفتك يا أيم عظيمة‪ ،‬حىت أنهم لم يستطيعوا أن جيدوا هلا‬ ‫ماكنا يف جدول املرتبات‪ ،‬أو يمنحوها» بدل خطر» أو «بدل مهنة شاقة»‪.‬‬ ‫ال أعرف كيف سقط لك هذا من حسابات اإلكتواريني‪ ،‬ال أعرف كيف‬

‫] ‪[ 240‬‬


‫سقطت األمهات من انلاتج القويم اإلمجايل‪.‬‬

‫*****‬ ‫«لقد زاد الوزن ىلع السيارة‪ ،‬سأضطر للقيادة برسعة كبرية ئلال تنغرس‬ ‫يف الرمال‪ ،‬تمسكن جيدا‪ ».‬قال عيم اغزي بيشء من الرصامة‪ .‬جلسيت‬ ‫غري مرحية ورأيس يناهز سقف السيارة‪ .‬اهلواء ثقيل‪ ،‬ورئتاي تطلبان‬ ‫هواء طازجا‪ ،‬هواء مؤكسجا‪ .‬لكين مع عيم اغزي‪ ،‬ومن يهمه لك هذا وهو‬ ‫بني األحباء؟ انطلق عيم برسعة جنونية وكنت فرحة جدا‪ ،‬فالوضع يشبه‬ ‫«سيارات اتلصادم» يف املاليه حني تعرتينا نشوة الرسعة‪ .‬أخذت أهز سايق‬ ‫ً‬ ‫َْ‬ ‫بهجة‪ ،‬وأقول يف نفيس «نهار ُم َسنفر»! إىل أن ارتطم رأيس بالسقف نتيجة‬ ‫حركة السيارة العنيفة ىلع األرض غري املستوية‪ ،‬فأطلقت رصخة مدوية‪.‬‬ ‫«اسكيت!» صاح عيم اغزي غضبًا من اليت قطعت عليه تركزيه‪ .‬ما رأيته‬ ‫اغضبا قبل ايلوم‪ .‬قال «اسكيت» ثم اغدر‪ .‬اكنت آخر لكمة وجهها يل‪ ،‬ثم‬ ‫استشهد بعد أقل من شهر من آخر لقاء نلا‪ .‬يلتك تشبعين نهرا وزجرا‬ ‫ولكن تعود يا ّ‬ ‫عماه‪ « .‬اسكيت» صارت لكمة مجيلة أحب أن أفتعل اجللبة‬ ‫أحيانا ألسمعها وأقارنها بتلك اليت قاهلا عيم اغزي‪ .‬قبيحة العيشة بعدك‬ ‫وماحلة! املوت صعب علينا ال عليك‪ .‬فأنت حني رحلت‪ ،‬صعدت هنالك‬ ‫إىل حيث األرواح اخلرضاء‪ .‬أنت هناك تنتظرنا‪ ،‬وتصلك بعض أخبارنا‪ .‬أما‬ ‫حنن فرنزح يف جهلنا ونظن أن املوت شاشة سوداء تمنعنا من اتلاليق ولو بعد‬ ‫حني‪.‬‬

‫جيد الرتاب نلفسه مسارب خفية‪ ،‬فيُ ّ‬ ‫هرب ذراته إىل داخل السيارة‪ .‬طعمه‬

‫] ‪[ 241‬‬


‫القرسي‪ ،‬وراحئته القرسية‪ ،‬لكها تقرقش يف مججميت حىت اآلن‪ .‬أخذ جهاز‬ ‫اتلكييف يتهافت من ازدحام األنفاس وانلفوس‪ .‬ثم أخذت السيارة تنئ‬ ‫مثل قرينتها ال لفرط ما ىلع متنها من وزن‪ ،‬بل من قلوبنا اثلقيلة‪ ،‬وأنفاسنا‬ ‫املثقلة‪ ،‬وزفراتنا األملية‪ .‬انلفوس اثلىلك ثقيلة‪ ،‬ال حتاولوا وزنها ئلال تصعقوا‪.‬‬ ‫أخذت أتسىل باالبتسام وحماولة اتلدلل ىلع املرأة اليت جتلس جبانب أيم‪.‬‬ ‫لم أكن أعرف من يه‪ ،‬بادتلين يف ابلداية بعض االبتسامات‪ ،‬ثم جتاهلتين‬ ‫ّ‬ ‫ويممت وجهها جتاه زجاج انلافذة‪ .‬ليس ىلع املحزون حرج‪ .‬ألم أقل لكم‬

‫ّ‬ ‫أن انلفوس اثلىلك ثقيلة؟ ثقيلة ومثقلة وال تقوى ىلع يشء‪ ،‬ثقيلة كعباءة‬ ‫صوفية هطل عليها املطر فزادها ثقال ىلع ثقل‪ .‬بدأت أشعر بأن رويح‬

‫تؤملين‪ ،‬رويح مرضوضة‪ ،‬رويح أضحت زرقاء مشوبة بابلنفسيج‪ .‬كدمايت‬ ‫حتتاج إىل ّ‬ ‫كمادة رمحانية مستعجلة‪ .‬أخذت أزفر مثل الكبار وأقول «يا رب»‪.‬‬ ‫ما أجمل الكربة حين تكون سببا في القربى‪.‬‬ ‫من مذكرات بابا جاسم‪ ،27 ،‬مارس‪1989 ،‬‬

‫حان وقت صالة الظهر‪ ،‬وال جمال للتوقف خوفا من أن تعلق السيارة يف‬ ‫حبر الرمال‪ .‬أخذت النسوة يلملمن شيئا من الرتاب املتسلل يلتيممن به‪ ،‬ثم‬ ‫صلني جالسات دون أن يعرفن اجتاه القبلة حىت‪ .‬فعلت مثلهن‪.‬‬ ‫َْ‬ ‫اخلوف ُمتكأ ِكئ ىلع صدورنا‪ .‬ذاب ما دلينا من ثلج‪ ،‬واصطىل املاء حىت صار‬ ‫يظ ِمئ بدال من أن يروي‪ .‬بدأت العصافري تغرد وتزقزق وتغين وترصخ ثم‬

‫أخذت تنعق! عصافري بطوننا أخذت تنشد النشيد الوطين جلمهورية اجلوع‪.‬‬ ‫أخذنا نأكل من بعض املؤن اجلافة اليت محلناها‪ ،‬خزب‪ ،‬بسكويت‪« ،‬بفك»‬

‫] ‪[ 242‬‬


Issuu converts static files into: digital portfolios, online yearbooks, online catalogs, digital photo albums and more. Sign up and create your flipbook.