اإلخوان لم يحدثوا قطيعة معرفية معها ،وأن من جاءوا من خلفيات أخرى منهم لم يحافظوا على القطيعة املعرفية التي كانت تفصلهم عنها قبل تحولهم إلى الفكر اإلسالمي .فلم يختلف فكرهم عن توجهات جماعة اإلخوان واإلسالم السياسي عموما في جوهرها، ُبل قدم بعضهم رؤى بدت أكثر تشددا في صيغتها الفكرية التي طرحت بها مقارنة بالتوجهات السياسية املعادلة لها في خطاب اإلخوان وغيرهم من قوى اإلسالم السياسي. خ��ذ مثال امل��وق��ف م��ن «اآلخ ��ر» .فقد ظ��ل ك��ل م��ن البشري وعمارة يعتبران فكر العلمانيني املصريني واف��دا من الغرب وغريبا على الشرق ،بل تعدى األمر الفكر إلى من يؤمنون به حيث اعتبروهم غرباء .وأذكر أننا كنا في ندوة نظمتها صحيفة «الحياة» في مكتبها بالقاهرة عام 1994حني فاجأنا دكتور محمد عمارة بترديد القول املأثور شعبيا «البيت بيت أبونا ..والغرب بيطردونا» ،قاصدا أن «العلمانيني» الغرباء يسعون إلى إقصاء اإلسالميني األصالء .وقد شرحت له يومها أن الدار (الوطن) للجميع وليست ألحد ،ولم يرثها أي طرف عن أبيه وليس فيها غرباء ألن من يعيشون فيها كلهم شعب واحد. وي�ك�ش��ف ك�ت��اب دك �ت��ور ع �م��ارة «م�ع��رك��ة املصطلحات ب�ين ال�غ��رب واإلسالم» الصادر عام 1996رفضا دفينا لكل ما تعبر عنه مفاهيم التنوير والديمقراطية وحقوق اإلنسان والعقالنية واإلبداع ،وليس تاريخ جماعة اإلخوان ومراجعة ما كتبه عن هذا التاريخ باعتباره فقط مفهوم العلمانية ،ونفورا شديدا من املضمون التحرري لهذه مؤرخا .فقد تضمن أحد كتبه التأريخية (الحركة السياسية في املفاهيم .فالتنوير مثال هو محض اتجاه مادي ال ديني. مصر )1952-1945في طبعته األول��ى الصادرة عام 1972رؤية نقدية ص��ارم��ة لتوجهات جماعة اإلخ ��وان وممارساتها ف��ي تلك وق��ل مثل ذل��ك عن بعض أفكار املستشار ط��ارق البشري الذي الفترة .فقد انتقد مصادرتها الدين ملصلحتها وسعيها للسيطرة ينظر إلى العلمانية باعتبارها «واف��دا غريبا اقتحم حياة مصر على اإلسالم وعدم احترام أعضائها إال أهداف جماعتهم كتنظيم ،وشعبها في القرن التاسع عشر» .ويعتبر كتابه «الحوار اإلسالمي والغموض الذي اكتنف نظرتها لطبيعة الدعوة ،وهل هي سياسية أم العلماني» الصادر عام 1996مثاال للغلو في هذا املجال .فقد ربط دينية .واعتبر البشري هذا الغموض مقصودا لتسهيل النمو تحت بني ما سماه وفود الفكر العلماني وحضور االستعمار ،ورأى أن ستار الدعوة الدينية وج��ذب كثير من الناس بعيدا عن صراعات البحث عن أمر الفكر الوافد في مجمله (أي كل األفكار اإلنسانية السياسة املباشرة ومراوغة الحكومة واألح��زاب وال��رأي العام رغم امل��دن�ي��ة) ال يتيسر إال باستحضار قصة امل��واج�ه��ة السياسية أنها كانت – في نظره حينئذ – ليست إال تنظيما سياسيا يسعى والعسكرية املستمرة مع الغرب على مدى القرنني األخيرين ،في للسلطة .كما انتقد عدم اهتمامها باملسألة الوطنية ،معتبرا أنها إطار ما يسميه «عصر مقاومة االستعمار». رغم ما كان يصدر عن قادتها من تعريض باالستعمار أحيانا أو هجوم عليه كانت أقل التنظيمات تعرضا للمسألة الوطنية وتحديدا ويعني ذل��ك أن الكثير من املفاهيم األساسية التي تقوم عليها للموقف إزاءها في وقت كانت هذه املسألة هي بؤرة االهتمام العام .الدولة الوطنية في هذا العصر ليست إال فكرا وافدا ارتبط بالغزوة وليس هذا إال غيض من فيض االنتقادات التي وجهها البشري إلى االس�ت�ع�م��اري��ة ،وأن م�ق��اوم��ة ه��ذه ال �غ��زوة ت��رت�ب��ط ب��ال�ت��ال��ي (وه��ذا اإلخوان في الطبعة األولى من الكتاب. استنتاجنا وليس قوله الصريح) بمواجهة تلك املفاهيم التي ال يستقيم بناء ال��دول واملجتمعات في العصر الراهن في غيابها. غير أنه لم يلبث أن ّ راجع نظرته هذه إلى اإلخوان مراجعة جذرية ولعله ينسى أن من بني هذه املفاهيم ما كان سالحا في مواجهة تقريبا .ولذلك ص��در الطبعة الثانية للكتاب الصادرة عام 1983االستعمار مثل السيادة الوطنية وتقرير املصير فضال عن مفهوم بمقدمة طويلة في 68صفحة أفصح فيها عن تغيير نظرته إلى الديمقراطية الذي يرتبط بالضرورة باستقالل الوطن ألنه يقوم جماعة اإلخ��وان .وأوضح في هذه املقدمة ،التي لم تكن من حيث على مبدأ السيادة للشعب ال��ذي تنفر منه بعض ق��وى اإلس�لام حجمها ووظيفتها مجرد مقدمة بل فصال جديدا ،أن فكره تغير .السياسي صراحة وبعضها اآلخر ضمنا أو ثورية. وقال« :دار فكري دورة كبيرة» فيما يتعلق بفهم طبيعة جماعة اإلخوان ودورها ،موضحا أنه أدرك أن من ينظر إليها من خارج وك�ث�ي��رة ه��ي ف��ي ال��واق��ع األم�ث�ل��ة ال��دال��ة على أن ال�ت��وج�ه��ات الفكرية ّ إطارها الفكري والعقيدي والحضاري «ال يستطيع أن يستصحب للمثقفني وال�ك��ت��اب ال��ذي��ن اش�ت�ه��روا بأنهم وس�ط�ي��ون ،ب��ل بكونهم منطقها» ،وال يعي الفرق «بني املنهج اإلسالمي كما يراه اإلخوان النماذج األبرز للوسطية ،ليست إال تعبيرا عن التوجهات السياسية واملنهج العلماني الذي انطبع به فكر الكثيرين من أبناء املؤسسات لجماعات اإلسالم السياسي بما فيها جماعة اإلخوان. الحديثة في بلدنا» .ومضى بعد ذلك «يصحح» ما أخطأ فيه عندما فالوسطية اإلسالمية ،التي تقوم على فكرة عامة بسيطة مؤداها لم يستصحب منطق اإلخ��وان ،ويراجع ما ورد عنهم في الطبعة أن��ه ال إف ��راط وال ت�ف��ري��ط ،ه��ي ن�م��ط ح�ي��اة يعيشه م�ئ��ات امل�لاي�ين األولى «بهذا النظر» الجديد ،ويوضح أنه صار يفهم ما غفل عنه من املسلمني بشكل طبيعي وليست توجها فكريا أو سياسيا. من قبل. فاإلنسان املسلم وسطي بفطرته إال إذا تعرض ملا يفسد هذه ويعني ذل��ك أن املثقفني «ال��وس�ط�ي�ين» ال��ذي��ن انشقوا على جماعة الفطرة التي فطره الله عليها <
,,
تحدث محمد عمارة في كتاباته وتصريحاته كثيرا عما سماه الوسطية الجامعة دون أن يوضح ما الذي تجمعه على وجه التحديد
,,
فهمي هويدي
المجلة /العدد 1594أبريل -نيسان 2014
35