الثقافية غازي القبالوي
العدد ()402
إعداد :عبد الباسط ابو بكر
ال�سنة الثالثة الأحد 6جمادى الآخرة 1435هـ املوافق � 6أبريل 2014ميالدية
مشهدية عند حافة الجحيم
إىل عبد الدائم اكواص
-1 بداية الطريق ال تنتهي ..هنا عند ما قبل الحافة بكابوس أجدني أسرع إىل الجحيم وهناك ما هو مزيد مما ال يقال ..يف البعد تلوح شمس باردة تبحث عن دفء ظل يعيد جحيمها الملتهب. يف اليوم األول من القيامة التي تسبق اليقين ضربت موعد ًا معه ..مالك بال أجنحة يسير أشعث ينحني فوق الرمال يذروها فوق رأسه ..يصيح أن الصاخة قادمة ..يف اليوم األول قبل القيامة الميتة التقيته ،بعد الموعد غادرني وقد حمل معه لعنة المكان ..قال يل :أال أفيق من الكابوس ،الحلم ال يجدي فتمسك بكابوسك خالصك بعد أربعين ..لم يحلق يف السماء كما المالئكة ..سار مبتعد ًا مطأطئ الرأس يعلوه سواد الفرح المستحيل .سئمت لعبة االنتظار فقررت أن أبدأ الرحلة حتى الحافة فالقيامة لن تأتي يف هذا الموضع من األرض المجدبة ..تذكرت قبلها حياة سابقة عاشتني وتركت ذاكرتها بأطراف أصابعي.. قريب ًا ..بعيد ًا ..مستوي ًا عىل بقايا البحيرة الجافة ..بعد األلف بخطوة وقفت أفتش آث��اري ..بال أثر تابعت ما يجب أن أمشيه ..بعد البداية وقبل القيامة بحافة. -2لم تتضح الصورة يف البداية ..مشاهد مبعثرة تستميت لتقوم عىل أنقاض عوراتها المستباحة ..أمامي ما يشبه الجبل ..مرتفع ثم منحدر ..ما كان يمكن أن يطلق عليه بحر ًا استحال إىل بخار خانق من الغازات السامة ..هل هذا الجحيم؟! ..ال أدري لما أخبرونا أنه مكان قبيح ..ما إن بدأت رحلة عودتي إىل قارتي الصغيرة يف اتساعها الالمنتهي حتى وجدتني بالقرب من البحيرة ..هنا قفزنا يف المياه الضحلة نمنح لطفولتنا المراقة دماؤها بعض ًا من الحياة المنهوبة منها ..المكان لم يعد هو المكان، أس��وار عالية من األس�لاك المتشابكة تحيط به ..عند البوابة تقف مجموعة من الكائنات تحمل بنادقها ترقب ًا لفعل الخيانة .وراء األس��وار ألمح صورتي المنعكسة عىل صفحة البحيرة ،صورتي اآلخذة يف التضاؤل أمام الركام الذي يقبع يف قاع األخدود ..فعل الخيانة يتضخم، يسرع الوحش يف الهرب خوف ًا من وحشيته .أقف انتظر جحيمي أن يسود ويعلو ،أتركه هناك واقف ًا بالقرب من حماقته وأعود إىل ما تبقى من أشجار صنوبر أمسح عنها الحزن والحنين ،هل هذا هو الجحيم الذي أخافونا منه..؟! كم هو رائق وهادئ ..تذكرت مالكي المذموم ..المطرود من صحبة اإلله ..كاد أن يقع يف المعصية لكنه أبى أن
يسلم باألمر ..أتخذ مكانه بين جحيمي والبحيرة وراح يعد القطرات المتساقطة من سماء ال تعرف الرحمة ..لوحت بيدي عله يراني ..كان وجهه بعيد ًا عني ..مولي ًا إياه شطر األفق المغبر من قطع الصخور بالمحجر ..أمسكت األسالك المتشابكة تبعثرت أصابعي ..ه��ززت الشباك ..لكن خيانتي وصلت حدها الذي يجب أن ينتهي عنده ..خرجت ً مكتومة ..حدث كل هذا بعد أن سألني" ..هل أنت صرختي بخير..؟!!" أجبته" إنها تمطر وقد ال نرى الشمس الليلة". -3ما أن فرغت من نفسي جاءني يطلب المزيد من النعيم بحثت بين أرج��اء الصحراء المترامية ،حجارة خشنة عىل مدى األفق الذي يبتلع المياه الساقطة من حميم السماء ..هنا ال حياة إال للملح ..يتكلس عىل امتداد الالشيء ..بقع من مياه هنا وهناك ال جدوى من رشفها فهي ليست أكثر ملوحة من مياهنا ..صورتي تنعكس عىل الصفحة السوداء للبحيرة ..أعمق ..أعمق يغوص بجسده يف الساحقة ..تركته بحث ًا عن مياه أشد ً ملوحة ..عند الخمسين كيلومتر ًا من الواحة استوقفني وأجبرني عىل النزول من دابتي المعدنية ..منحني نظرة الفرح وأحالني عىل نزقه الغوغائي ،أدخل يده يف جرابي واستخرج أحشائي ..بعثر سوءتي عىل األرض أمام الجميع ..رمقني بنظرته التائهة مجدد ًا حاول نزع شعري ..ظنه مستعار ًا ..استسلمت له ..أدخل يده يف فمي أحسست بها تخرج من مؤخرتي ..التفتيش دقيق ..ال شيء ..تشرق شمس ال تحمل الضوء ..ظالل من التفاؤل الحذر تمنحني ركعتين لإلله ..طفق عيل بحجارة الجحيم ألملم سوءتي ،أعود ألستقل دابتي ..أتجه شما ًال حيث البحر يشق طريق ًا لألمل.. -4يندفع اخضرار مشع من أشجار زيتون بعمر الكيان، أقف عىل عتبات المدخل األمامي تقابلني األعمدة المرمرية تأتيني نفحات لحظات النهاية قبل البداية تلك ..أرت��دي البياض وأواص��ل السير بوثوق عىل البياض ..أسمع صوت الجد يأمرني بمواصلة التحرك.. ألتقط ابتسامة المعاىف وألصقها عىل وجهي ألعود نظر ًا ..أخرج ولم تزل الشمس يف مسيرها نحو الشروق.. عبق صنوبر بعشرات السنين ..صورة أخرى للنعيم، قهقهة الجد وهو يغمس يل قطعة عجين الشعير يف بياض اللبن ..وأنا أحملق بطفولتي يف شعيرات لحيته البيضاء ..أكلها وأمضى خارج أسوار الزاوية ابتلع ذلك الزمان الجديد..
ثنائية الوجع أنت أم أنا ..كالنا فراغ متشابه ..ذوات حائرة ال أعلم من الذي رحل أو ًال ِ ..نافذتان مشرعتان لشيء ال يأتي على الرغم من إحساسنا به. يتجول داخلنا ..الكلمات األخيرة ال زلت أتذكرها ..لم أصدق عندما أراك ثانية ..إلهي لم يبق مني سوى هذا الجسد الباحث عن شعرت أني لن ِ معك ..عن اللحظات التي موت رخيص ..عجول لرؤيتك ..تواق للحديث ِ ِ تحبينها واألخرى التي تكرهيها ..عن البدء والختام ..النهايات السعيدة والالسعيدة ..الليل والنهار المتشابهان ..الحلم الناسي ظالله فضاع في أنت .. مفترق كارثة ..الطيف الزائر أول الليل والمغادر آخره ربما يكون ِ أحدثك عن العمر الذى نهشته مخالب الشوق ..اإللهام الرافض أريد أن ِ بعدك لم أسرج فرسا وال امتطيت مطية تنفستْ من .. أنت دونما النزول ِ ِ هواء هذه العصية المالحة ..هناك ربما سبحتُ في خراب الذاكرة البائسة بعريها ..لم أخن ..كان يقيدني عه ٌد نقشت الروح حروفه في بطحاء قلبي ..لست منتميا كي أحدد مجال إدراكي ..أنا ال شيء بالنسبة لي ..ذرة سابحة بقيدها في مجرة ال متناهية ..اللعنة على هذه القوانين الهرمة ..كل الذين نحبهم يرحلون ..أنصاف الذوات ..بيوتنا القديمة ..طفولتنا المغرر بها ..العصافير التي ربتها جدتي ..رحاها الحجرية الطاحنة زلط العوز والفاقة ..وشمها بين العينين وفوق األنف ..كلب جارنا النابح ألدنى تنفس ..القطط الالحسة بقايا قطيرات بيضاء من أثداء األمنيات ..عالم بأسره يشد الرحال لدروب مجهولة الخارطة ..برزخ بلون الظمأ ..هوة من
وبعد !!
-5جلست بالقرب منه ..عند الحافة ..وجدته يتأمل السكون الذي امتد بعد أن دوى االنفجار ..أسقط.. أحمله عىل الكالم ..أنظر إليه ال أبايل بما حدث "..هل قررت السفر أخير ًا؟" ..أحسبه لم يشعر بوجودي قربه.. أحسست به يرتعد ربما من حجم ما سيأتي ..زفر ثم تململ يف مكانه " نعم يبدو أن ال مفر" قلت له" تتساقطون مثل الذباب أمامي" محي ًال ذاكراته إىل األصدقاء يرحلون من أمامي دون وداع ،قررت حينها أن أقطف أوراقهم وألقي بها يف الهاوية وراء الحافة.. نظر إىل بدا أنني ال أعرفه ،ورقة أخرى تسقط هناك.. "يبدو أننا غير جديرين بهذه األرض ..لذا نخونها".. هززت رأسي أعدت عىل مخيلتي ما كتبته يف زمن ما وأهديته إياه" ..كنا هناك أطفا ًال علقوا أحالمهم يف ذيل خطيفة ،وتاهوا بين األشكال السداسية واأللوان البرتقالية والبنية والخضراء" ... "..بما تفكر ؟" ،أجبته بال تردد " أفكر بالرحيل "،قرأت االستغراب عىل وجهه " هل سترحل أنت كذلك "..كانت الحافة ت��زاد حد ًة ونحن بالكاد نحمل أنفسنا عىل أال نقع يف الهاوية القريبة ..أجبرت ابتسامة موءودة عىل االلتصاق" .. ال بد من الرحيل زمرة نحن َ الش َمال، الشمال وفرد نحو ِ زمرة نحو الشروق ..نحو الوميض ..البصيص ..البريق.. الشهيق ..نحو النحو ،وفر ٌد نحو الداخل ..نحو الباطن.. نحو المغزى ،فر ٌد اختار أن يكون رحيله كبير ًا ..كبير".. تذكرت أحدهم يوم سقطت ورقته بالقرب من البحر عند الميناء وأنا أحاول أن أعيد بعض ًا من أحالمه القديمة".. أمازلت يف ضاللك القديم..؟!" هكذا صاح بي ..لم أكن أعلم أن األوراق تتساقط بسهولة ما إن تهب الرياح الجليدية من الشمال ..قررت أن أكون ورقة أنا اآلخر وأن أناي الباطني. أسقط يف ّ حملت حقيبته اليتيمة حتى باب الطائرة ..كالنا يكره المطارات وصخبها ..قبل أن ننطق ب��وداع ال يليق بنا كانت الطائرة قد أقلعت ،كان النصل ينزف دم � ًا ،انعكس وجهي القتيل عىل أحد حوافه بينما كانت ابتسامته قاتيل تشع عند تلك الحافة األخرى.. سمعت الصيحة الثانية ..اعتقدت أن الجميع سينهض من أجداثه ،يعودون من حيث أتوا يعلو وجههم سواد الندم ..لكن ال شيء يحدث ..هذه خدعة أخرى تغتالني.. اتفق عىل العودة لوحدي ..بعد سؤاله المفاجئ" ماذا عن حالة الجو عندكم" أجبته" أنا لست بخير "..علمت حينها أنني قط سقطت...
فتحي الورشفاني الزالل تجرنا لسقوط آخر ..رؤية عمياء ترانا وال نراها ..تكون قريبة بعيدة ..تحت الخطى ..أسفل الرمش ..يمين الذراع يسار الفؤاد ..حول الحول ..في بصيص األشياء ..مجاالت غير منتظمة ..من تكون هذه الهالة المتسللة إلي أعرفه ..النور ربما رأيته من قبل الطوفان عبر شرفتي ..الصوت يخيل َّ ..النسمة العابرة آتية من جوف المالئكة . إليك أجيبي أيتها الهالة ..أتوسل ِمنك ونصف مني ..نصف التقارب ..بإمكاننا وأنت الضوء ِ أنا النافذة ِ ..واحد هو القدر ..كالنا شهقتان من رئة واحدة ..الزمن ثنائي الوجود .. ليس ثمة زمن ثالث ..بدء وختام ..يقظة وغياب ..فرح ووجْ د ..أنا وأنت ..ربيع يابس وخريف قائض ..صيف وشتاء متالزمان ..نار وماء .. ِ أرض وسماء ..حرية منسوخة وقفص مبرمج ..عطش وارتواء ..مهد ولحد ..قلم وورقة ..تبغ مقلد وجيب مثقوب ..قبل وبعد ..ماض وماض قديم منسي وجديد منقاد ..ليس سوى أنفاس جدتي وصراخ أطفال بابل !!.. (ف ،اثنتان ،ثالثة ،أربعة ،ة ) ..ال أحد غيري الصارخ يا هالة ..بكى القلب وبكت النجوم ..بكاؤك أشد غربة ..أرفف جليستي المألى بقصص الجياع وأساطير المعذبين هي الوحيدة التي تشاركني الصراخ ..كل ما هنا هناك ..وكل ما هناك رماد وأنَّات ..في الصباح وجدتها ..نعم وجدتها دافئة تحت الوسادة ..حينها قبلتها وغنيت أغنيتها القديمة ()............................ النهاية كما تريد أنتَ .
12
وبعد عطرك ال أثر للحنين غير قبضة الوقت تلتهم ما تبقى من الفرح وغي ُر يد الحلم ترسم خطواتها ُ على صفحة الصبح عطرك بعد ِ أتوس ُد بقايا الرؤى وأنث ُر تثاؤبي وسادتك على ِ ً ً فجرا وليدا !!
اإلبداع داخل قفص!!
ال أعرف السبب بالضبط ،لكن تجربة السجن التي تعرض له مجموعة من شباب هذا الوطن في فترة من فترات حكم النظام السابق تشعرني بالفضول واإلثارة األم��ر ال��ذي دفعنا إلى الغوص خلف تفاصيلها مرات ومرات ومع شخوص كثيرة عاشت هذه التجربة قرأت عن هذه التجربة أغلب ما كتب وخصوص ًا تجربة المثقفين الذين عاصروا تلك التجربة ،قرأت لـ ( البشتي ،قباصة ،اعتيقة ،السنوسي حبيب ، الككلي). وأخير ًا ها هو ( د.محمد محمد المفتي ) يصدر كتابه الجديد عن هذه المرحلة بعنوان ( وراء جدار السنين، الكتاب يعتبر مساحة هائلة للبوح والتحليل ،لكن هناك جزئيات أحسست أن الكتاب فقد السيطرة عليها ولم يتعامل معه بمهارته المعهودة ،هناك شخوص تكلم عنها عرض ًا ،وأهمل الكثير من الوقائع البارزة ،رويت لي عن تلك المرحلة ،وهناك تفاصيل تسربت من بين يديه. الكتاب اعتمد على التحليل النفسي لمجموعة من الحاالت النفسية للسجين ،حاول فيها ( المفتي ) رصد هذه الحاالت بحرص وحساسية جميلة !! السجن هنا ..كائن مغاير يختلف بتعدد أمكنة السجن والسجانين ،ورؤى وأفكار وحاالت المساجين النفسية. الكتاب ..كتب بعين راصدة ،مهتمة برصد التفاصيل في الغالب ،لكن الكتاب غ ّلب طابع التحليل مقابل أهمام حوادث وشخوص مهمة جد ًا في حياة ( البشتي ) مث ًال أو ( خنفر ) أو ( الككلي ) ،هناك تعامل مع الشخوص ببعض الترفع على الرغم من وجودها في مكان واحد وفترة زمنية واحدة ومنها ( الحزر ،بوسريرة ،والككلي ) فمث ًال تعتبر شهادة ( عبدالعاطي خنفر ) عن السجن وثيقة مهمة كتبت بنبرة إبداعية عالية ،كان من الممكن أن يتضمنها الكتاب ،وباألخص توفر هذه الشهادة عند أبنائه !! ومع كل هذا الكتاب يعد وثيقة مهمة ،ورصد من زاوية مختلفة لتجربة السجن !!