الملحق الثقافي العدد 6

Page 3

‫الملحق الثقافي‬

‫لويس أراغون‪:‬‬

‫دريئة العدد‬

‫إعداد ‪ :‬مبارك وساط‬

‫‪ l‬العدد ‪ l 70 :‬الخميس ‪ 7‬فبراير ‪7 2013‬‬

‫انصرمت»‬ ‫«ستكو ُن هذه احلياة ُ قد‬ ‫ْ‬

‫‪ -1‬في البدء‪ ..‬كانت الكذبة الكبرى‬ ‫اس��� ٌم ملنطقة شاسعة بإسبانيا‪ .‬وليس‬ ‫أراغ���ون‪ْ :‬‬ ‫مصادفة أن يكون للشاعر والروائي لويس (أو‪ :‬لوي‪،‬‬ ‫حسب النطق الفرنسي) أراغ��ون (‪،)1982 -1897‬‬ ‫اسم عائلي هو اسم هذه املنطقة ِ‬ ‫نفسها‪ .‬فلويس‪،‬‬ ‫��دري��و‪،‬‬ ‫الصغير‪ ،‬ك��ان االب��ن غير الشرعي للويس َأن ِ‬ ‫مدير الشرطة (والي األمن) السابق والسفير السابق‬ ‫لفرنسا في إسبانيا‪ ..‬من مارغريت توكا‪ ،‬التي كانت‬ ‫َ‬ ‫أطلق الوالد على‬ ‫متزوجا‪ .‬وقد‬ ‫عشيق ًة له وكان هو‬ ‫ً‬ ‫الطفل الوليد‪ ،‬الذي لم يمُ كنه أن يعترف بأنه أبوه‪،‬‬ ‫اسما عائليا من ذكرى‬ ‫اسمه الشخصي‪ ،‬و«فبرك» له‬ ‫ً‬ ‫أيام سفارته بإسبانيا‪ .‬وهكذا‪ ،‬سيكون عا َل ُم لويس‬ ‫أراغون‪ ،‬من بدءِ طفولته التي قضاها في باريس‪ ،‬ثم‬ ‫في ُنويي (البلدة اللصيقة بباريس)‪ ،‬وحتى مطلع‬ ‫مؤسسا على كذبة كبيرة‪ :‬فأمه كانت تزع ُم‬ ‫شبابه‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫ِ‬ ‫للناس أن��ه أخ��وه��ا‪ ،‬وأب���وه ك��ان يدعي أن��ه عرابه‪،‬‬ ‫ولن يعرف أراغ��ون نفسه احلقيقة إال بعد جتاوزه‬ ‫العشرين‪ ،‬ومبناسبة التحاقه باجلبهة‪ ،‬ف��ي سنة‬ ‫‪1918‬؛ وكان قد حصل على البكالوريا سنة ‪،1916‬‬ ‫وشرع في دراسة الطب‪ ،‬مثلما كان أندري بريتون‬ ‫قد فعل في الفترة نفسها‪ .‬لكن أحدًا منهما لن ُينهي‬ ‫دراساته الطبية تلك‪.‬‬

‫‪ -2‬دادائية‪ ..‬سوريالية‪ ..‬قصائد أولى‬

‫نشر أراغون أولى قصائده‪« ،‬تعطش للغرب»‪ ،‬في‬ ‫م���ارس م��ن سنة ‪ .1918‬وب��ع��د التحاقه باجلبهة‪،‬‬ ‫اشتغل كمساعد طبيب‪ ،‬وسيتعرف بأندري بريتون في‬ ‫مستشفى «فال‪-‬دي‪ -‬غراس»‪ ،‬فقد كانا ُمكلفني باملهمة‬ ‫ذاتها‪ ،‬وقضيا عددًا من ليالي احلراسة في «جناح‬ ‫املجانني»‪ ،‬يقرآن «أناشيد مالدورور» لِلوتريامون‪،‬‬ ‫«وسط ما كانت اإلنذرات بالهجمات اجلوية املُ ْمكنة‬ ‫ُتثيره لدى املرضى من صرخات ونحيب» (ل‪ .‬أراغون)‪.‬‬ ‫الح ًقا‪ ،‬بعد احل��رب‪ ،‬وبعد أن انتميا معا‪ ،‬ومعهما‬ ‫فيليب سوبو‪ ،‬إلى الدادائية لفترة‪ ،‬سينفصل الثالثة‬ ‫(بريتون‪ ،‬سوبو وأراغون) عن هذه األخيرة‪ ،‬ويرحلون‬ ‫لإلقامة في َكنف السوريالية‪ ،‬التي كتب بيانها أندري‬ ‫زعيمها‪.‬‬ ‫بريتون سنة ‪ ،4192‬وكان‬ ‫َ‬ ‫سنة ‪ ،1920‬حل بباريس داعية الدادائية األكبر‪،‬‬ ‫الشاعر تريستان تزارا‪ ،‬الروماني األصل‪ ،‬الفرنسي‬ ‫أساسا‪ ،‬والذي سيكتسب اجلنسية الفرنسية‪.‬‬ ‫التعبير‬ ‫ً‬ ‫كان تزارا قد كتب يقول في «مانفستو دادا ‪:»1918‬‬ ‫«‪« ...‬دادا» ال تعني شي ًئا (‪ )...‬أنا ضد األنساق‪ ،‬أكث ُر‬ ‫األنساق مقبولِية‪ ،‬هو أال يكون للمرء أي نسق (‪)...‬‬ ‫هدم‬ ‫فل َيقل ُكل إنسان بصوت جهوري‪ :‬هنالك عمل ٍ‬ ‫س وتنظيف‪.»...‬‬ ‫كبير‪ ،‬عمل َسلبي‪ ،‬ينبغي إجنازه‪َ .‬ك ْن ٌ‬ ‫وقد حتمس أراغون (مثلما بريتون وفيليب سوبو)‪،‬‬ ‫��اس��ا مجال ِ ّ‬ ‫الشعر‬ ‫للتمرد ال��دادائ��ي ال��ذي ط��ال أس ً‬ ‫والفن‪ .‬وفي ‪ِ 1920‬‬ ‫نفسها‪ ،‬نشر أراغون مجموعته‬ ‫َ‬ ‫وتتضمن ‪ 23‬قصيدة‪ ،‬هي‬ ‫األول���ى‪« :‬ن���ا ُر ال��ف��رح»‪،‬‬ ‫القصائد األولى التي كتبها في مطلع حياته األدبية‪.‬‬ ‫نقرأ مقطعا من إحدى تلك القصائد‪ ،‬وهي املعنونة‬ ‫«خميس خالص»‪:‬‬ ‫«يا ش��وارعُ ‪ ،‬يا ُق�� ًرى‪ ،‬إلى أين ُ‬ ‫كنت َأ ْج��ري؟ كان‬ ‫اجلليد يطردني في املنعطفات‬ ‫نحو ِب َر ٍك ُأخرى‪)...( .‬‬ ‫إل��ى داخلي ينفذ النهار‪ .‬ما ال��ذي َتبتغيه مني‬ ‫املرايا البيضاء وتلك ِ ّ‬ ‫النسوة اللواتي صادفتهنّ ؟‬ ‫أهذه أكذوبة أم لعبة؟ دمي ليس له هذا اللون‪.‬‬ ‫على شوارع املريخ متوهجة اإلسفلت‪ ،‬يا زهرات‬ ‫الثلج! اجلميع فهموا ما بقلبي (‪»)...‬‬ ‫( ترجمة‪ :‬م‪ .‬وساط‪ ،‬كما هو احلال بالنسبة‬ ‫إلى سائر املقطوعات فرنسية األصل املدرجة في هذا‬ ‫املقال)‪.‬‬ ‫ف��ي ه��ذه السنة ِ‬ ‫نفسها‪ ،‬ح���اول االن��ض��م��ام إلى‬ ‫احل��زب الشيوعي‪ ،‬ونشر روايته األول��ى‪َ « ،‬أنيسيه‬ ‫أو البانوراما»‪ ،‬التي ظهر معها اقتداره في الكتابة‬ ‫الروائية‪ ،‬من جهة‪ ،‬واستقالليته عن رفاق املسيرة‬ ‫األدبية‪ ،‬إذ من املعلوم أن بريتون كان ي��زدري الفن‬ ‫الروائي‪.‬‬ ‫وفي باريس ما بعد احلرب العاملية األولى‪ ،‬عاش‬ ‫أراغ��ون عالقتني غراميتني فاشلتني‪ :‬مع الرسامة‬ ‫األمريكية إي��ي��ر دي الن��ي (ال��ت��ي ستتركه وترتبط‬ ‫ِبد ِْر ُيو ال روشيل)‪ ،‬ثم مع دنيز ليفي (التي ستفضل أن‬ ‫تتزوج ببيير نافيل)‪ .‬وفي ‪ ،1924‬تشكلت املجموعة‬ ‫السوريالية‪ ،‬التي ضمت شعراء وفنانني‪ ،‬من بينهم‬ ‫(بريتون‪ ،‬أراغ��ون‪ ،‬إيلوار وديسنوس‪ )...‬ووقتها‪،‬‬ ‫كان أراغون يقرأ بشغف كتب هيغل وماركس ولينني‬ ‫وف��روي��د‪ ،...‬وف��ي ‪ 1924‬و‪ ،1925‬كتب أه��م أعمال‬ ‫َّ‬ ‫«ف�ل�ا ُح ب��اري��س»‪ ،‬وه��و العمل‬ ‫مرحلته السوريالية‪:‬‬ ‫ِّ‬ ‫الشعري‪ -‬ال َّنثري‪ ،‬ال��ذي سيظهر سنة ‪ ،1926‬أي‬ ‫السنة نفسها التي ُن ِشرت له فيها مجموعته الشعرية‬

‫لويس أراغون مع رفيقته إلزا‬

‫«احلركة األبدية»‪.‬‬

‫‪َ -3‬فالح باريس‬

‫عن «فالح باريس»‪ ،‬قال الفيلسوف والناقد األملاني‬ ‫فالتر بنيامني‪« :‬لم أكن أستطيع أن أقرأ منه في املساء‪،‬‬ ‫وأنا في سريري‪ ،‬أكث َر من صفحتني أو ثالث‪ ،‬ذلك أن ما‬ ‫كنت أقرؤه كان يجعل قلبي يدق بقوة كبيرة‪ ،‬ح َّد أنني‬ ‫ُ‬ ‫كنت أضطر إلى َت ْرك الكتاب جانبا»‪ .‬وفي مالحظة‬ ‫درج��ت في طبعة ‪ 1966‬من «فالح باريس»‪،‬‬ ‫أولية ُأ ِ‬ ‫وال ش��ك ف��ي أن ال��ذي صاغها ك��ان أراغ���ون نفسه‪،‬‬ ‫(وإن حتدث فيها عن نفسه بضمير الغائب)‪ ،‬نقرأ‪:‬‬ ‫«‪ ...‬عن الذي ينظر إلى ُكل شيء بعينني مفتوحتني‬ ‫على ِسعتهما‪ ،‬نقول إنه َيخرج من قريته‪ .‬وهكذا‪،‬‬ ‫فالحا باريسيا‪ ،‬كان أراغون يجول في ممر‬ ‫فباعتباره‬ ‫ً‬ ‫أعمال َشق بولفار هوسمان ُت ُ‬ ‫ُ‬ ‫شكل‬ ‫األوبرا الذي كانت‬ ‫خط ًرا عليه‪ ،‬وكانت نظر ُته اجلديدة تلتقط وتسجل‬ ‫مئات املشاهد من الواجهات وامللصقات‪ ،‬التي كانت‬ ‫الصدفة جتع ُلها ُقبالته‪ .»...‬والكتاب ُيقدم لنا تأمالت‬ ‫السارد في املدينة التي يتجول فيها‪ ،‬وتأمالته في‬ ‫الزمن‪ ،‬ويبرز لنا قوة الرغبات العاطفية لديه‪ ،‬والتي‬ ‫ُ‬ ‫يتشبث بها ليتمكن من هَ زم اليأس واجلنون‪ ،‬وفي‬ ‫الكتاب‪ ،‬حرص على التقاط ما هو عجيب في املعيش‬ ‫ُ‬ ‫(انظر مقتط ًفا‬ ‫اليومي‪ ،‬وعلى الدفاع عن السوريالية‪.‬‬ ‫منه‪ ،‬مرفقا باملقال)‪.‬‬

‫‪ -4‬الواقعية‪ ،‬الحزب الشيوعي‪ ،‬إلْ زَ ا‬ ‫في يناير ‪ ،1927‬التحق أراغون باحلزب الشيوعي‬

‫الفرنسي‪ ،‬رفقة أندري بريتون‪ ،‬وإ ْثر إيلوار‪ ،‬ولن يبقى‬ ‫هذان األخيران في احلزب إال أشهرا معدودة‪ ،‬وإن‬ ‫كان إيلوار سيعود إليه في ما بعد‪ .‬وفي ‪ ،1928‬ظهر‬ ‫ص َّنف في األسلوب» (أو «رسالة في األسلوب»)‪،‬‬ ‫له ُ‬ ‫«م َ‬ ‫وهو‪ ،‬نوعً ا ما‪« ،‬مانفستو أراغون األدبي»‪ .‬وفيه هجوم‬ ‫على شخصيات أدبية‪ ،‬مثل ِجيد وفاليري‪ ،‬وإعادة‬ ‫نظر عنيفة في الفن السائد وفي احلضارة الغربية‪،‬‬ ‫وفيه هجاء قوي للرأسمالية‪ ،‬إلى جانب عناية كبيرة‬ ‫بالصورة الشعرية‪ ،‬فمما نقرؤه فيه‪ ،‬مثال‪:‬‬ ‫<<<<<<‬ ‫«أسلوبي هو مثل الطبيعة‪ ،‬ورمبا التما ُث ُل بينهما‬ ‫متبادَل‪ .‬اتبعوني بانتباه عبر املياه التي جتري‬ ‫الصخور‪ .‬إن َقطاعة الورق‬ ‫ج��داو َل‪ ،‬وعلى امتداد ّ‬ ‫ِ‬ ‫تع ُ‬ ‫رف القرية مبا‬ ‫الهائلة التي تعتمدُها الط ُرقات ال ْ‬ ‫فيه الكفاية‪ .‬يلزمك دليل وأنت جتتاز آباط الغابات‪.‬‬ ‫يتربص بك رجل ُم َت َذ ْأ ِبنٌ من َز َبد‪ ،‬وهنا سيأكلك‬ ‫هناك‬ ‫ُ‬ ‫ُف ْط ٌر‪-‬مِ ي ُنو ُتور‪ .‬بوارق غريبة تهيم في كل مكان تقري ًبا‬ ‫من ُسهولي»‪.‬‬ ‫‪.......‬‬ ‫متذأبن‪ :‬منقلِب إلى ذئب‪ .‬املينوتور‪ :‬في امليثولوجيا‬ ‫اليونانية‪ ،‬كائن له جسم إنسان ورأس َثور‪.‬‬ ‫في تلك الفترة نشر أراغون‪ِ ،‬باسم مستعار‪ ،‬كتابا‬ ‫إري��نْ »‪ ،‬منع ْت ُه الرقابة‪.‬‬ ‫إيروسيا حتت عنوان « َف ْرج ِ‬ ‫كما أنه حاول االنتحار بعد مغامرة عاطفية سيئة‬ ‫النهاية‪ ،‬وبعد تفاقم أزمتِ ه املادية‪ .‬إثر ذلك‪ ،‬عاد إلى‬ ‫نضاله السياسي وأدبه‪ .‬وقد التقى ِبالشاعر الروسي‬ ‫فالدميير ماياكوفسكي سنة ‪ ،1928‬وبعدها ب ُأ ِ‬ ‫خت‬

‫قرينةِ هذا األخير‪ ،‬إل��زا (هنالك من يكتبها‪ :‬إلسا)‬ ‫تر ُيولِيه‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫ُث�� َّم إنّ أراغ��ون سينحاز إل��ى التصور الواقعي‬ ‫االشتراكي لألدب‪ ،‬األمر الذي سيؤدي إلى القطيعة‬ ‫بينه وبني بريتون والسوريالية (‪ .)1930‬وفي سنة‬ ‫‪ ،1939‬سيرتبط بزواج رسمي بإلزا تريوليه (وهي‬ ‫روسية األصل‪ ،‬اكتسبت اجلنسية الفرنسية‪ ،‬وكانت‬ ‫ً‬ ‫أيضا (بالفرنسية) وحصلت على جائزة‬ ‫ِروائ��ي��ة‬ ‫«ال��غ��ون��ك��ور» سنة ‪ ،)1945‬ث��م يلتحق باجلبهة‬ ‫لِيحارب ُمجددا‪ .‬وبعدها‪ ،‬سيشارك‪ ،‬بطريقته‪ ،‬في‬ ‫املقاومة‪.‬‬ ‫وع��ل��ى ال��ع��م��وم‪ ،‬ف���إن ح��ي��اة أراغ�����ون سترتبط‬ ‫باألساس‪ ،‬بعد احلرب‪ ،‬بنشاطه في احلزب الشيوعي‬ ‫الفرنسي وبإلزا‪ ،‬وس َيزور االحتاد السوفياتي العدي َد‬ ‫من املرات‪ ،‬و ُي ْبدي مناصرته للخط الستاليني‪ ،‬ولن‬ ‫صبح ذا موقف نقدي إزاء ستالني‪ ،‬إال بعد وفاة‬ ‫ُي ِ‬ ‫هذا األخير و َك ْش ِف خروتشوف عما عُ رف بـ»جرائم‬ ‫س��ت��ال�ين»‪ .‬وس��ي��دي��ن أراغ����ون‪ ،‬سنة ‪ ،1968‬تدخل‬ ‫اجليش األحمر لقمع «ربيع براغ»‪ ،‬و َيكتب‪ ،‬في تلك‬ ‫السنة‪ ،‬مقدم ًة لرواية ميالن كونديرا‪« ،‬املزحة»‪ ،‬كما‬ ‫سيبدي تعاطفه مع حركة «م��اي ‪ ،»1968‬دون أن‬ ‫ُيغادِ َر احلزب الشيوعي‪ ،‬طبعً ا‪.‬‬ ‫ك��ت��ب أراغ�����ون‪ ،‬وق���د أص��ب��ح ع��ض��وا ب����ارزا في‬ ‫احلزب املذكور‪ ،‬وأصبحت إلزا رفيقته في احلياة‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫باحلب‪،‬‬ ‫قصائد ُت ِشيد بالشيوعية‪ ،‬وأخرى حتتفي‬ ‫وترتفع ب��ه إل��ى ذرى عالية‪ ،‬وك��ان��ت ه��ذه األخيرة‬ ‫غنائية الطابع‪ ،‬كالسيكية الشكل‪ ،‬وقد غنى عد ًدا‬ ‫منها مغنون م��ع��روف��ون‪ ،‬مثل لِيو فيري وج��ورج‬ ‫براسنس وجان فيرا‪ ...‬كان براسنس أول من غنى‬

‫عصب الكتابة‬

‫«أحرس يدي من ذئب الكتابة»‬ ‫ُ‬

‫بدء‬ ‫ِّ‬ ‫الشعر ماسوني مخادعٌ ‪ .‬ال يؤمن‬ ‫كثيرا باﻹكراهات اجلمالية‪ُ .‬يبـدد‬ ‫وقته في النحت أو الكسل‪ .‬أحيانا‬ ‫يتعب‪ ،‬وأحيانا ينام‪ :‬حتى ثمة‬ ‫أحالم وكوابيس‪ ..‬من عاداته أن‬ ‫يهمل حالقة ذقنه أليام‪ ،‬لكنه طبعا‬ ‫ُيصر على إغراء املرآة‪ .‬من هـواياته‬ ‫الـمشي‪ ..‬في الشمس أو في أروقـة‬ ‫ظليلة‪ ،‬في الضوء أو في سـراديب‬ ‫معتمة‪ .‬يمُ رن استعاراته علـى‬ ‫اخللود ويقايض حريته باحتياالت‬ ‫كثيرة‪ .‬ال ُيخيفه العيش هناك‪ ،‬على‬ ‫َأسـ ّرة مسكونة بأنفاس موتى‪ ،‬على‬ ‫أصابع مالعنة‬ ‫أثاث تحَ ّسسته‬ ‫ٍ‬ ‫ُ‬ ‫وممسوسـني‪ ...‬ومنذ أن ت َذوق‬

‫حسن ملهبي‬ ‫خطيئة احلداثة‪ ،‬صار يضع قناعا‪،‬‬ ‫ويهيم ‪-‬مستوحشا‪ -‬في أرض النثر‪.‬‬

‫درس سقراط‬ ‫سيكون نهارا مـختلفا‪ ،‬هذا ما‬ ‫أعتقده‪ .‬ألن مرآة تكسرت في نومي‪،‬‬ ‫واجلدران صارت شفافة‪ .‬أعيد‬ ‫صياغة الصباح لينسجم مع لون‬ ‫قميصي‪ ،‬أترك فنجان القهوة على‬ ‫حافة النافذة وأغادر الـبيت‪ .‬أمشي‬ ‫مثقال بسالسل غيابك‪ ،‬يسيل من‬ ‫أصابعي ما تبقى بداخلي من حنان‪.‬‬ ‫ليـس هـذا ما كنت أرغب في كتابته‪...‬‬ ‫ُ‬ ‫أردت أن أرتـب دوالب غرائزي‪،‬‬ ‫وأن أمنح للقسوة مبـررا أخالقيا‪،‬‬

‫حتى ينبت عشب من فكرة ذهابك‪.‬‬ ‫أستقبل األلم في أرض محايدة‪،‬‬ ‫في ذلك نوع من اخلداع‪ ..‬حتى ال‬ ‫يكون األلم سلطة أو تدميرا ذاتيا‪،‬‬ ‫وتكوني أنت فقط‪ ،‬دون فائض في‬ ‫املشاعر‪ .‬سأمشي وسأفكر كم سكبنا‬ ‫من نبيذ لتغرق السفن في نومنا‪،‬‬ ‫سأمشي وسأفكر كم كانت عالية‬ ‫أنقاض رغباتنا على السرير‪ .‬سأجد‬ ‫ممـرا يقود إلى أطـراف املتاهة‪ :‬كأن‬ ‫أرمم شروخ متثال اخليانة‪ ،‬كأن‬ ‫أخترع فلسفة للوهم‪ ،‬أو أسحب من‬ ‫املوت ما يجعله حقيقة‪ ..‬تعلمـني‬ ‫أن أنفاسك ما زالت محبوسة فـي‬ ‫صـدري‪ ،‬هــذا ما يترك لـي هــواء‬ ‫إضافيا‪ ...‬حتى حيـن تتكـسر مرآة‬ ‫في نومي أو تصير جدران هذا‬

‫البيت شفافة‪ .‬لست نائما اآلن‪ ،‬فقط‬ ‫أمرن كسلي على حب القطط‪ ،‬وأضع‬ ‫حليبا في الفنجان املتروك علـى‬ ‫ِ‬ ‫ارمتيت منهـا‪...‬‬ ‫حافة النـافذة التـي‬ ‫قبـل هذا‪ ،‬كـنت أعتقد أن فـالسفة‬ ‫اإلغريق وحدهم ينتحرون‪.‬‬

‫هامش الخطأ‬ ‫بعـد قـليل سنذهب‪ ،‬وسنترك‬ ‫وراءنا أثاثا غاليا‪ .‬سنذهب دون‬ ‫خرائط وال حقائب‪ ،‬لن نركـب قطارات‬ ‫أو سيارات‪ .‬سيكون معنا فقط خيال‬ ‫قليل وأســرار في جيوب املعاطف‪.‬‬ ‫حتى الذكريات سنتركها طعاما للقط‬ ‫العجوز‪ .‬لم تعد لنا أشياء لنعيش‬

‫من أجلها هنا‪ ،‬قد يكون في ذلك نوع‬ ‫من احلرية أو بعض من اليأس‪.‬‬ ‫عجوز آخر سنتـركـه وراءنـا‪ :‬إنه‬ ‫األمل‪ ،‬سنتركـه دون وداع وال طعام‪.‬‬ ‫صور كثيرة ستبقى عائمة على مياه‬ ‫الصنبور املعطـل‪ ،‬ومسودات وهـدايا‬ ‫وأحـذية قـدمية‪ .‬ماتزال زجاجة على‬ ‫رفـوف املطبخ‪ ،‬سنتقاسم نبي َذها‬ ‫قبل أن نغادر‪ .‬لن نبحث عن املفاتيح‬ ‫واألقفال‪ ،‬سنترك األبواب مشرعـة‬ ‫على الهواء والـضوء واللصوص‪،‬‬ ‫مع علمنا أال أحد بعدنا سيأتي‬ ‫إلعادة بناء الـسراب‪ .‬بعد قليل‬ ‫سنذهب‪ ،‬وسيظل ِ ّ‬ ‫الشعر هناك‪ ،‬في‬ ‫خلفية قليلة اإلضاءة‪.‬‬ ‫من مجموعة شعرية ستصدر قريبا‬ ‫بعنوان «النو ُم في أسـ ّرة اآلخرين»‬

‫له قصيد ًة‪ ،‬هي «ليس هنالك مِ ن ُحب سعيد»‪ ،‬التي‬ ‫كان أراغون قد كتبها في فترة أوشكت فيها عالقته‬ ‫بإلزا أن تنفرط‪ ،‬وتلك األزمة هي التي ستلهمه أيضا‬ ‫ورليان»‪ ،‬من قصيدة له ذات‬ ‫إحدى أهم رواياته‪ُ « ،‬أ ِ‬ ‫طابع «سياسي واقعي»‪ ،‬حتمل عنوان «جواب إلى‬ ‫اليعاقبة»‪ ،‬نقرأ‪:‬‬ ‫ِ‬ ‫املارسييز‪⁄‬‬ ‫«‪ ...‬أح�� ّي��ي هنا النشيد األمم��ي ض��د‬ ‫تراجعي يا مارسييز أمام‪ ⁄‬النشيد األممي‪ ،‬ذلك أن‬ ‫هذا‪ ⁄‬هو خريف أيامك‪»...‬‬ ‫<<<<<<‬ ‫أما إلزا‪ ،‬فستحضر‪ ،‬باالسم أو باإلشارة في العديد‬ ‫من قصائد أراغون‪ ،‬وباالسم في عناوين أعمال له‪،‬‬ ‫أشه ُرها «عيون إلزا» (وهذه ترجمة أحسن‪ ،‬شعريا‪،‬‬ ‫من «عينا إلزا»)‪ ،‬و«مجنون إلزا»‪ .‬من قصيدة «ليلة‬ ‫املنفى»‪ ،‬ضمن «عيون إلزا»‪ ،‬نقرأ‪:‬‬ ‫«(‪ )...‬ك��ان��ت ُخ��ط��ى احل��امل�ين َت ِ��ط��ن على ال��ب�لاط ‪⁄‬‬ ‫وع��ش ٌ‬ ‫ِ��ص َ‬ ‫��ق ال��ب��واب��ات العريضة ‪⁄‬‬ ‫��اق يتحاضنون ل ْ‬ ‫ُ‬ ‫وبياض ِك‬ ‫نحن االثنني كنا ُن َعمر الالنهاية بأيادينا ‪⁄‬‬ ‫يؤجج الظل اخلفيف األبدي (‪ )...‬أتذكرين تلك‬ ‫كان‬ ‫ّ‬ ‫الليالي التي كان يغلفنا خاللها ليل‪ ⁄‬يأتي من القلب‬ ‫وال يليه صباح؟‪»..‬‬ ‫وفي «مجنون إل��زا»‪ ،‬وهو كتاب شعري ُي ِ‬ ‫داخ ُل ُه‬ ‫س��رد نثري‪ -‬بل ويشكل السرد التاريخي عموده‬ ‫الفقري‪ ،-‬جند أراغون ُي ْن ِش ُد احلب‪ ،‬ويقيم جسو ًرا‬ ‫مع احلضارة العربية في األندلس‪ ،‬فثمة املجنون‬ ‫ِ‬ ‫والشخصية‬ ‫الغرناطي‪ ،‬الهائم في طرقات غرناطة –‬ ‫مستوحاة من «مجنون ليلى» (قيس بن عامر النجدي‪،‬‬ ‫أو قيس العامري‪ ،‬املذكور بكل من هاتني الصيغتني‬ ‫في الكتاب)‪ ،‬وهنالك أبو عبد الله الصغير‪ ،‬الذي‬ ‫ي��ن��ح��از إل��ي��ه أراغ�����ون‪ ،‬وي��رغ��ب ف��ي أن يعيد إليه‬ ‫االعتبار‪ ...‬وهنالك‪ً ،‬‬ ‫أيضا‪ ،‬الكلمات والصيغ العربية‬ ‫املكتوبة باحلروف الالتينية‪ ...‬بل و»افتراض» أن‬ ‫اس ِم اإللهة اجلاهلية‪،‬‬ ‫اس َم إلزا قد يكون مشتقا من ْ‬ ‫ْ‬ ‫«العُ ّزى»‪...‬‬ ‫ومعلوم أن أراغون كتب عددًا من الروايات‪ ،‬منها‬ ‫«أج���راس ب ْ‬ ‫ورل���ي���ان»‪...‬‬ ‫���ال»‪« ،‬األح��ي��اء اجلميلة» و» ُأ ِ‬ ‫وكما سبقت اإلش��ارة‪ ،‬فإن «أورليان» التي ( ُن ِش َرتْ‬ ‫سنة ‪ ،)1944‬من أهم روايات أراغون‪ ،‬وقد كتبها في‬ ‫فترة اضطراب في العالقة بينه وبني إلزا تريوليه‪...‬‬ ‫فأورليان‪« ،‬البطل»‪ ،‬هو ضابط فرنسي سابق خدم في‬ ‫بالد املشرق‪ ،‬يحل بعد انتهاء احلرب العاملية األولى‬ ‫ُ‬ ‫حيث يعيش‪ ،‬خ�لال فترة من عشرينات‬ ‫بباريس‪،‬‬ ‫القرن املاضي‪ ،‬حياة أعزب غني عامرة بالسهرات‬ ‫والعالقات الغرامية العابرة‪ ،‬إلى أن يلتقى ِب ِرينِ يس‪،‬‬ ‫التي ال ُيعجب بها في البداية‪ ،‬ولكنه سرعان ما‬ ‫بتعلق ش��دي��د‪ ...‬وهنا تبدأ تلك‬ ‫سيشعر جتاهها‬ ‫ٍ‬ ‫العالقة مستحيلة التح ّقق‪...‬‬ ‫وجدير بال ّذكر أن اس َم ِبرينيس يبدو مأخوذا‪ ،‬في‬ ‫هذه الرواية‪ ،‬من تراجيديا ل َر ِ‬ ‫اسنيْ‪ ،‬عنوا ُنها «برينيس»‬ ‫ً‬ ‫أيضا‪ ،‬وهي كذلك عن حب متع ّذر االستقرار‪ ...‬تبدأ‬ ‫«أورليان» كالتالي‪:‬‬ ‫«ف��ي امل��� ّرة األول���ى التي رأى أورل��ي��ان خاللها‬ ‫برينيس‪ ،‬بدتْ له قبيحة ح ًّقا‪ .‬لقد نفر منها‪ ،‬هذا ما‬ ‫حصل‪ .‬لم ُي ِحب أسلوبها في اللباس‪ُ .‬قماش لباسها‬ ‫ال يبدو له جدي ًرا بأن يقع عليه االختيار‪ .‬لقد كانت‬ ‫له أفكاره في ما يخص أصناف ال ُقماش‪ .‬وهذا كان‬ ‫ُق ً‬ ‫ماشا رأى نسوة كثيرات يرتدين مالبس مصنوعة‬ ‫مستحبا من‬ ‫يتوقع شي ًئا‬ ‫منه‪ .‬األمر الذي جعله ال‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫أميرة من الشرق‪ ،‬دون أن يبدو‬ ‫اس َم‬ ‫ٍ‬ ‫هذه التي حتمل ْ‬ ‫أنها تعتبر لزاما عليها‪ ،‬أن تكون ذات ذوق‪َ .‬ش ْع ُرها‬ ‫صفيف‪ .‬والشعر‬ ‫كان كاب ًيا في ذلك اليوم‪ ،‬وسيئ ال َّت ْ‬ ‫يتطلب عناية مستمرة‪ .‬ل ْم َي ُكنْ مبستطاع‬ ‫املقصوص‬ ‫ُ‬ ‫أورليان أن يقول إنها شقراء أو سمراء‪ .‬فهُ و لم ميأل‬ ‫ً‬ ‫غامضا‪،‬‬ ‫منها عينيه‪ .‬وقد تركت في نفسه ِإحساسا‬ ‫عاما‪ ،‬بالب َرم واحل َنق‪ .‬وتساءل عن السبب في ذلك‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫للتناسب‪ .‬فهي كانت َأم َيل إلى‬ ‫لقد كان هنالك انعدا ٌم‬ ‫ُ‬ ‫صر‪ ،‬وشاحب ًة (‪ )...‬لو كانت ُت َسمى جان أو ماري‪،‬‬ ‫القِ َ‬ ‫عاو َد التفكي َر فيها حلظ ًة واحد ًة‪ .‬لكن أن يكون‬ ‫ملا كانَ َ‬ ‫اسمها بيرينيس‪ .‬لديه شعو ٌر غريب بالتط ُّير‪ .‬وهذا‬ ‫ُ‬ ‫بالتحديد ما كان ُي ْحنِ ُقه‪.‬‬ ‫كان ُّ‬ ‫كل هذا ُيعي ُد إلى ذهنه بيتا ُم َعي ًنا ل ِ‬ ‫ِراسنيْ‪،‬‬ ‫وه��و البيت ال��ذي طاملا َف��� َر َ‬ ‫نفس ُه على ذاكرته‬ ‫ض‬ ‫َ‬ ‫أثناء احلرب‪ ،‬وهو في اخلنادق‪ ،‬ثم بعد أنْ ُس ِ ّر َح من‬ ‫اجليش‪ .‬بيت لم يكن حتى ِل َي ِج َد ُه جمي ً‬ ‫ال‪...‬‬ ‫ُتوفيت إل��زا تريوليه سنة ‪ ،1970‬وم��ع��روف أن‬ ‫أراغون ْ‬ ‫أظهر‪ ،‬بعد وفاتِ ها‪ ،‬ميوله املثلية‪ .‬وقد توفي‬ ‫بدوره سنة ‪َ ،1982‬‬ ‫مخ ِ ّلفا أكث َر من ‪ 80‬عمال أدبيا‪.‬‬ ‫وك��ان ق��د حصل على ج��ائ��زة «لينني» سنة ‪.6591‬‬ ‫ووفا ُته قد ُت َذكر قارئ ِشعره بقصيدة له‪ ،‬عنوا ُنها‬ ‫«ستكون هذه ااحلياة قد انصرمتْ »‪ ،‬يقول مطلعها‪:‬‬ ‫انصرمتْ مثلما حصن كبير‬ ‫«ستكون هذه احلياة قد‬ ‫َ‬ ‫حزين ُت ِر َك لِتعبره كل الرياح ‪ ⁄‬التيارات الهوائية فيه‬ ‫صفِ ُق األبواب‪ ،‬ومع ذلك ليست هنالك غرفة واحدة‬ ‫َت ْ‬ ‫مغلقة‪ )...( ⁄‬في هذا املسكن سواء أكنا ُقدامى أم ُج ُددًا‪،‬‬ ‫ما من أحد منا ُيقيم في بيت هو ح ًّقا بي ُته (‪.»)...‬‬


Issuu converts static files into: digital portfolios, online yearbooks, online catalogs, digital photo albums and more. Sign up and create your flipbook.