الحكيم المصلح السيد محمد رضا فضل الله

Page 1

‫جمعية الإم�����ام ال�����ص��ادق‬ ‫لإح����ي����اء ال����ت����راث ال��ع��ل��م��ائ��ي‬

‫‪Q‬‬

‫السيد محمد رضا فضل الله‬

‫الحكيم والمصلح‬

‫تقديم و�إعداد‪:‬‬ ‫ال�شيخ ح�سن البغدادي العاملي‬


‫ال � � � � � �ك � � � � � �ت� � � � � ��اب‪:‬‬

‫ال�سيد محمد ر�ضا ف�ضل اهلل ‪ -‬الحكيم والم�صلح‬

‫إ�� � � � � � � � � �ص� � � � � � � � ��دار‪:‬‬

‫جمعية الإمام ال�صادق ‪ Q‬لإحياء التراث العلمائي‬

‫ت� ��اري� ��خ الإ�� � �ص � ��دار‪:‬‬

‫‪2017‬م ‪ 1438 -‬هـ‬

‫‪2‬‬


‫ةمدقملا‬

‫المقدمة‬

‫عندما نو ّثق ل�شخ�صية علمية و�إ�صالحية‪ ،‬كالعالمة الحجة ال�سيد محمد ر�ضا ف�ضل‬ ‫اهلل الح�سني (طاب ثراه)‪� ،‬إ ّنما نو ّثق لمرحلة كانت غاي ًة في الأهمية‪ ،‬و�أحوج ما تكون‬ ‫�إلى عالم‪ ،‬قد اجتمعت فيه موا�صفات �إ�ستثنائية؛ من الذكاء و�صفاء النف�س وطهارة‬ ‫القلب‪ ،‬وقادر على الإم�ساك بزمام العلوم على اختالف م�شاربها‪ ،‬وبلوغ الكماالت في‬ ‫�أعلى مراتبها‪.‬‬ ‫تلك المرحلة كانت مليئة بالأحداث‪ ،‬ولم ْ‬ ‫تزل تعي�ش تداعيات النكبة الكبرى التي‬ ‫م ّرت على جبل عامل‪ ،‬عندما حرق العثمانيون الأخ�ضر والياب�س �سنة ‪1781‬م ‪1195/‬هـ‪،‬‬ ‫و�ش ّردوا العلماء والنا�س‪ ،‬و�أحرقوا الكتب والمخطوطات‪ ،‬وقتلوا بع�ض العلماء‪ ،‬ونكلوا‬ ‫بالآخرين‪ .‬فاعتدوا على كرامة المجتمع العاملي‪ ،‬ولم ي�سلم من �شرهم �أحد‪ ،‬حتّى الذي‬ ‫تنجل هذه (الغبرة) �إال بهالك الوالي‬ ‫كان ُيحكم بالإعدام‪ ،‬كان يموت تحت التعذيب‪ ،‬ولم ِ‬ ‫العثماني (�أحمد با�شا الجزار) �سنة ‪1804‬م الموافق ل�سنة ‪1219‬هـ‪ ،‬وجد العثمانيون‬ ‫�أنف�سهم م�ضطرين لتغيير �سيا�ستهم‪ ،‬بعدما َق ّ�ض ْت م�ضاجعهم حركة (الطياح)(((‪،‬‬ ‫((( الطياح �أو حركة الطياح‪ :‬حركة مقاومة ت� ّأ�س�ست بعد نكبة جبل عامل على يد الوالي العثماني �أحمد با�شا الجزار وا�ست�شهاد‬ ‫الأمير في جبل عامل نا�صيف الن�صار‪ ،‬حيث عمد العثمانيون على التفكير الجدّي بو�ضع جبل عامل تحت الو�صاية المبا�شرة‪،‬‬ ‫وكانت النكبة من �سنة ‪1781‬م ــ ‪1804‬م ‪1195 /‬هـ ــ ‪1219‬هـ‪ ،‬وكان لهذه الحركة �إيجابياتها و�سلبياتها‪.‬‬

‫‪3‬‬


‫ال�سيد محمد ر�ضا ف�ضل اهلل الحكيم والم�صلح‬

‫فت�شكلت قناعة لديهم من عدم جدوى الإبقاء على هذا الو�ضع المزري لجبل عامل‪ ،‬الذي‬ ‫عد منتج ًا على ال�صعيد الإقت�صادي‪ ،‬وهو يتنافى مع الج�شع العثماني وح ّبهم للمال‪.‬‬ ‫لم َي ْ‬ ‫ال�سيد محمد ر�ضا من الذين �ساهموا في �إعادة الح�ضور العلمي‪ ،‬و�إعادة الحياة‬ ‫الطبيعية �إلى جبل عامل ــ كما �سنب ّين ــ كما كان له دور وا�ضح في المرحلة التي‬ ‫عا�شتها المنطقة‪ ،‬عندما الحت في الأفق �إرها�صات الحرب العالمية الأولى‪ ،‬وا�ست�شعر‬ ‫العثمانيون معها الوهن‪ ،‬والنا�س في جبل عامل بد�أوا يميلون نحو الإ�ستقالل‪ ،‬وبدل من‬ ‫�أن يعمدوا �إلى التو�سعة على النا�س‪ ،‬و�إ�شعارهم بمزيد من الحرية‪ ،‬عملوا على الت�ش ّدد‬ ‫وعقاب النا�س‪ ،‬من خالل �إطالق يد ال�سفاح (جمال با�شا)(((‪ ،‬مما ا�ستدعى اعترا�ض ًا‬ ‫من ال�سيد عبد الح�سين �شرف الدين‪ ،‬ومعه �إخوانه العلماء‪ ،‬ف�أر�سلوا كتاب ًا �إلى ال�سلطة‬ ‫العليا في ا�سطنبول‪ ،‬كما ذكر ــ رحمه اهلل ــ في كتابه بغية الراغبين(((‪.‬‬ ‫ا�ستمرت الحرب العالمية الأولى �أربع �سنوات من �سنة ‪1914‬م �إلى �سنة ‪1918‬م‪ ،‬وكانت‬ ‫مرحلة قا�سية على النا�س‪ ،‬وكان وجود علماء الدين‪ ،‬عام ًال �أ�سا�سي ًا في رفع الأعباء عن‬ ‫كاهل الفقراء والمعدومين‪ ،‬وم�ضاف ًا لهذا الت�صدي في رفع الأعباء الإقت�صادية‪ ،‬كان‬ ‫المجتمع العاملي بحاجة �إلى من ُيث ِّبت عقيدته و ُيذ ّكرهم بالآخرة‪ ،‬و ُيو ّلد عندهم حالة‬ ‫الأمل‪ ،‬وهنا لعبت المدار�س الدينية دور ًا مركزي ًا‪ ،‬في ن�شر الوعي‪ ،‬كما عملت على توليد‬ ‫الطاقات الفكرية والأدبية‪ ،‬كعامل م�ساعد في الإ�ستقرار‪ ،‬و�إعطاء الأمل كي تبقى هذه‬ ‫المنطقة (جبل عامل) �إحدى المراكز الأ�سا�سية التي ُيعتمد عليها في �إحياء هذا الدين‬ ‫ون�شر �شريعة �س ّيد المر�سلين ‪.P‬‬ ‫و�إذا كان ال�سيد محمد ر�ضا ف�ضل اهلل قد توفي �أثناء الحرب العالمية الأولى‪ ،‬ولم‬ ‫(( ( ال�سفاح جمال با�شا‪� :‬أحد �أركان جمعية الإتحاد والترقي التي قامت بالإنقالب العثماني على ال�سلطان عبد الحميد‪ ،‬ولد �سنة‬ ‫‪1872‬هـ‪ ،‬وقتل �سنة ‪1922‬م على يد �أرمني في تفلي�س‪ ،‬ولقب بال�سفاح لقيامه ب�أعمال العنف والق�سوة على العرب‪� ،‬صار وزير ًا‬ ‫للجي�ش الرابع العثماني في �سوريا ولبنان عند ن�شوب الحرب العالمية الأولى‪ ،‬وقد عانى من ظلمه وتع�سفه جميع �أهالي بالد‬ ‫ال�شام (لبنان و�سوريا)‪ ،‬حيث قام بفر�ض نظام ال�سخرة والتجنيد الإجباري‪ ،‬وقام �أي�ض ًا‪ ،‬بتعليق الم�شانق و�إ�صدار الأحكام‬ ‫العرفية لجماعة من الوطنيين في �ساحة ال�شهداء في بيروت و�ساحة المرجة في دم�شق‪.‬‬ ‫(( ( ال�سيد عبد الح�سين �شرف الدين‪ ،‬بغية الراغبين‪ ،‬ج‪� ،2‬ص‪.142‬‬

‫‪4‬‬


‫ةمدقملا‬

‫ي�شهد ُخ ّلو المنطقة من العثمانيين‪� ،‬إال �أنه كان �أحد الأعالم الذين �ساهموا في مواجهة‬ ‫تداعيات هذه الحرب‪ ،‬و�إر�ساء قواعد النه�ضة العلمية في جبل عامل‪ ،‬فعمل على ن�شر‬ ‫العلم والأدب وال�شعر‪ ،‬والإبقاء على جبل عامل حا�ضرة علمية وفكرية و�أدبية وجهادية‪،‬‬ ‫كانت ُت�شكل �ضمانة البقاء والمواجهة في العهد العثماني‪ ،‬كما ُت�شكل قوة جبل عامل‪،‬‬ ‫لمرحلة ما بعد العثمانيين‪ ،‬وهذا ما حدث بعد نهاية الحرب العالمية الأولى‪ ،‬حيث تمكن‬ ‫جبل عامل من ال�صمود والمواجهة لمرحلة الإنتداب الفرن�سي‪ .‬وال�سيد محمد ر�ضا في‬ ‫تلك المرحلة‪� ،‬ش ّكل مع بقية العلماء �ضمانة ا�ستمرار النه�ضة العلمية والأدبية التي � ّأ�س�س‬ ‫لها عميق ًا في جبل عامل العمالق ال�شيخ محمد بن مكي الجزيني المعروف بال�شهيد‬ ‫الأول‪ ،‬والذي قتله المماليك في دم�شق �سنة ‪786‬هـ‪ ،‬و�أُحرقوا ج�سده الطاهر بعد القتل‬ ‫وال�صلب(((‪ ،‬وكما نه�ض ال�شهيد الأول على الم�ستوى العلمي‪ ،‬كذلك حمل لواء الوحدة‬ ‫وعاظ ال�سالطين‪،‬‬ ‫الإ�سالمية والتقريب بين المذاهب من جاد بعده‪ ،‬لقطع الطريق على ِ‬ ‫ولجمهم من العبث بالأمن والإ�ستقرار القائم على الجهل والتع�صب‪ ،‬في قبال الح�صول‬ ‫على المال والمنا�صب‪ ،‬ولو كان ذلك على ح�ساب دماء الم�سلمين وهتك �أعرا�ضهم‪.‬‬ ‫و�سار على نف�س الخطى حام ًال م�شروع اال�ستمرار بالنه�ضة العلمية‪ ،‬والتقريب‬ ‫بين المذاهب الإ�سالمية ال�شيخ زين الدين بن علي (الجباعي) والمعروف بال�شهيد‬ ‫الثاني(((‪ ،‬والذي �أ�ص ّر على البقاء في جبل عامل رغم الخطر الذي �أحدق به‪ ،‬حيثُ‬ ‫�أدى �إلى مقتله في عا�صمة الدولة العثمانية �أمام الوزير الأعظم في ‪� 8‬شعبان من �سنة‬ ‫(( ( �شم�س الملة والدين �أبو عبد اهلل ال�شيخ محمد بن ال�شيخ جمال الدين مكي �إبن ال�شيخ �شم�س الدين محمد بن حامد بن‬ ‫�أحمدالجزيني العاملي المعروف بال�شهيد الأول‪� ،‬صاحب كتاب اللمعة الدم�شقية‪ ،‬كان عالم ًا ماهر ًا فقيه ًا محدث ًا مدقق ًا ثقة‬ ‫متبحر ًا كام ًال جامع ًا لفنون العقليات والنقليات زاهد ًا عابد ًا ورع ًا �شاعر ًا �أديب ًا من�ش�أً‪ ،‬فريد دهره‪ ،‬عديم النظير في زمانه‪،‬‬ ‫ا�ست�شهد �سنة ‪ 786‬هـ في اليوم التا�سع من جمادى الأولى في دم�شق في دولة بيدر و�سلطنة برقوق بفتوى القا�ضي برهان الدين‬ ‫المالكي وعباد بن جماعة ال�شافعي بعد ما حب�س �سنة كاملة في قلعة ال�شام‪�( .‬أعيان ال�شيعة‪ ،‬ج‪� ،14‬ص‪.)370‬‬ ‫((( ال�شيخ زين الدين بن نور الدين علي بن �أحمد ابن محمد بن علي بن جمال الدين بن تقي بن �صالح ابن م�شرف العاملي‬ ‫الجبعي المعروف وال�شهير بال�شهيد الثاني‪ ،‬قتله العثمانيون �سنة ‪965‬هـ في (ا�سطنبول) بعد اعتقاله من الم�سجد الحرام‪ ،‬ولد‬ ‫في ‪� 13‬شوال �سنة ‪911‬هـ‪ ،‬وكان عالم ًا جليل القدر عظيم ال�ش�أن رفيع المنزلة تقي ًا نقي ًا ورع ًا زاهد ًا عابد ًا حائز ًا �صفات الكمال‬ ‫وح�سنة من ح�سنات الزمان‪ ،‬فقيه ًا ماهر ًا في الدرجة العليا بين الفقهاء محدث ًا �أ�صولي ًا م�شارك ًا في جميع العلوم الإ�سالمية‪.‬‬

‫‪5‬‬


‫ال�سيد محمد ر�ضا ف�ضل اهلل الحكيم والم�صلح‬

‫‪965‬هـ‪� ،‬أو ما قام به علماء جبل عامل في العهد ال�صفوي في �إيران‪ ،‬فعملوا على ن�شر‬ ‫الفقه والأ�صول والحديث والتف�سير‪ ،‬كما �ش ّيدوا المدار�س والم�ساجد‪ ،‬و�أر�سوا م�شروع‬ ‫الوكالء‪ ،‬وت�صدوا لم�شيخة الإ�سالم‪ ،‬والق�ضاء والإفتاء‪ ،‬والإ�صالحات العامة‪ ،‬وتثبيت‬ ‫العقيدة‪ ،‬وبهذا و�ضعوا حد ًا للحركة ال�صوفية‪ ،‬وهذا ما ع ّبر عنه ال�شهيد مطهري بقوله‪:‬‬ ‫« لوال ما قام به علماء جبل عامل في العهد ال�صفوي‪ ،‬من ن�شر الفقه والحديث والتف�سير‪،‬‬ ‫وت�شييد المدار�س والم�ساجد‪ ،‬لكان �آل �أمرنا في �إيران كما هو حال العلويين في �سوريا»‪.‬‬ ‫ال�سيد محمد ر�ضا من علماء النه�ضة العلمية الثانية في جبل عامل‪ ،‬التي ت�شكلت بعد‬ ‫نهاية النكبة‪ ،‬حيث انطلقت فيها المدار�س الدينية مجدد ًا في مختلف القرى العاملية‪،‬‬ ‫وكانت المدر�سة الأولى في (كوثرية ال�سياد) التي �ش ّيدها ال�شيخ ح�سن القبي�سي‪ ،‬بعدما‬ ‫عاد من النجف الأ�شرف �سنة ‪1213‬هـ‪ ،‬حيث �شجعه علماء النجف على �ضرورة التوجه‬ ‫نحو جبل عامل لإعادة الحياة العلمية‪ ،‬وان�ضم �إليها العديد من الطالب‪ ،‬و�أبرزهم‬ ‫العالمين الجليلين ال�شيخ عبد اهلل نعمة وال�سيد علي �إبراهيم‪ ،‬حيث لم يكتفيا بما حازا‬ ‫عليه في جبل عامل‪ ،‬و�إ ّنما ذهبا �إلى النجف الأ�شرف للدر�س والتح�صيل‪ ،‬وبعد در�سهما‬ ‫على الأ�ساطين في النجف عادا �إلى جبل عامل عالمين كبيرين‪ ،‬ف�ش ّيد ال�شيخ عبد اهلل‬ ‫مدر�سة في (جباع)‪ ،‬وال�سيد علي �إبراهيم‪� ،‬ش ّيد مدر�سة في (النميرية)‪ ،‬وتخ ّرج عليهما‬ ‫طالب كثيرون‪ ،‬كانت لهم م�ساهمات �أ�سا�سية في �إعادة الحياة العلمية‪ :‬كال�شيخ محمد‬ ‫علي عز الدين‪ ،‬وال�سيد يو�سف �شرف الدين‪ ،‬وال�شيخ مهدي �شم�س الدين‪ ،‬وال�شيخ مو�سى‬ ‫�أمين �شرارة وغيرهم‪ ،‬م ّمن تخ ّرج على �أيديهم جيل من العلماء‪ ،‬كال�سيد محمد ر�ضا‬ ‫ف�ضل اهلل‪ ،‬وال�سيد مح�سن الأمين‪ ،‬وال�شيخ ح�سين مغنية وغيرهم‪ ،‬فقر�أوا في (حناويه)‬ ‫و(بنت جبيل) و(طورا)‪� .‬إذ ًا‪ ،‬هذه النخبة من الجيل الثاني‪ ،‬التي ثبتت الح�ضور العلمي‬ ‫في ع�صر النه�ضة العلمية الثانية‪ ،‬الذي واكب تلك المرحلة‪ ،‬وبذلوا جهود ًا كبيرة في‬ ‫ن�شر العلم والأدب‪ ،‬ومواجهة المخاطر التي مار�سها العثمانيون‪ ،‬من التع�صب والج�شع‬ ‫تم�سك ه�ؤالء الأعالم بالمقابل‪ ،‬بالوحدة الإ�سالمية والتقريب بين‬ ‫والظلم‪ ،‬حيث ّ‬ ‫المذاهب‪ ،‬والوقوف �إلى جنب المجتمع العاملي في معاناته‪.‬‬ ‫‪6‬‬


‫ةمدقملا‬

‫ولم ينته هذا الح�ضور العثماني �إال بالحرب العامة التي ا�ستمرت �أربع �سنوات‪ ،‬والم�ؤلم‬ ‫بالمو�ضوع �أنّ المنطقة لم تذهب �إلى الإ�ستقالل كما وعد الحلفاء‪ ،‬و�إ ّنما كان البديل‬ ‫االنتداب البريطاني على العراق وفل�سطين‪ ،‬واالنتداب الفرن�سي على �سوريا ولبنان‪.‬‬ ‫�إذ ًا‪ ،‬المرحلة التي عا�شها ال�سيد محمد ر�ضا‪ ،‬كانت �شديدة الخطورة على م�ستقبل‬ ‫جبل عامل والمنطقة‪ ،‬لهذا كان المجتمع العاملي يحتاج �إلى �صمام �أمان‪ ،‬ي�ضمن له‬ ‫عقيدته‪ ،‬ويحفظ له لغته التي هي الطريق المو�صل �إلى ال�شريعة المقد�سة‪ ،‬و�إلى كتاب‬ ‫اهلل العزيز‪ ،‬م�ضاف ًا لتثبيتهم في الأر�ض‪ ،‬وح ّثهم على الت�ضحية في �سبيل تحقيق تلك‬ ‫الأهداف‪ ،‬بما ُي�شكل بمجموعه المحافظة على الهوية‪.‬‬ ‫وال �شك وال ريب‪� ،‬أنّ ال�سيد ف�ضل اهلل كان �أحد الأعمدة الأ�سا�سية في �إطالق ما‬ ‫ُ�س ّمي بالنه�ضة اللغوية والأدبية‪ ،‬و�إن ا�شتهر في تلك المرحلة‪ ،‬ال�شيخ �أحمد ر�ضا وال�شيخ‬ ‫�سليمان ظاهر‪ ،‬وال�شيخ عبد اهلل العاليلي‪ّ � ،‬إل �أنّ ما ق ّدمه علماء جبل عامل‪ ،‬في ع�صور‬ ‫مختلفة‪ ،‬وفي مختلف العلوم يفوق الت�ص ّور والخيال‪ ،‬فما كتبه ال�سيد محمد ر�ضا من‬ ‫�شعر و�أدب ونثر‪ ،‬يحتاج القارئ معها �إلى (قامو�س لغوي)‪ ،‬كي ُيدرك المعاني لتلك‬ ‫الألفاظ التي �أطلقها ال�سيد على تلك الأفكار‪ ،‬وخ�صو�ص ًا �أن ال�سيد ف�ضل اهلل جمع �إلى‬ ‫اللغة والأدب‪ ،‬العلوم الأخرى من الفقه والأ�صول والفل�سفة وعلم الكالم‪ ،‬في الوقت الذي‬ ‫لم ُتتح الفر�صة لبع�ض علماء النه�ضة من الح�صول على هذه المكانة العلمية والح�صول‬ ‫على هذه العلوم المختلفة‪ ،‬فال�شيخ �سليمان ظاهر وال�شيخ �أحمد ر�ضا‪ ،‬حازا على �شيء‬ ‫من الف�ضيلة العلمية في الفقه والأ�صول عبر مدار�س جبل عامل‪ ،‬وبالأخ�ص المدر�سة‬ ‫الدينية في النبطية التي �ش ّيدها العالمة ال�سيد ح�سن يو�سف مكي(((‪.‬‬ ‫(( ( ال�سيد ح�سن بن ال�سيد يو�سف بن ال�سيد ابراهيم بن ال�سيد علي الح�سيني الحبو�شي المعروف بالمكي‪ ،‬ولد في حبو�ش �سنة‬ ‫‪ 1260‬هـ‪ ،‬وتوفي في النبطية التحتا �سنة ‪ 1324‬هـ‪ ،‬كان عالم ًا فا�ض ًال متقن ًا محمود ال�سيرة غاية في ح�سن الخلق و�سخاء النف�س‬ ‫وعلو الهمة وال�سعي في ق�ضاء حوائج الم�ؤمنين والتوا�ضع يخدم �أ�ضيافه بنف�سه‪ ،‬قر�أ المقدمات في جبل عامل في مدر�سة ال�شيخ‬ ‫عبد اهلل نعمة في جباع‪ ،‬ثم هاجر �إلى النجف وتتلمذ على ال�شيخ محمد ح�سين الكاظمي‪ ،‬وال�شيخ محمد طه نجف‪ ،‬وال�شيخ‬ ‫محمد كاظم الخرا�ساني وغيرهم‪ ،‬عاد �إلى جبل عامل وقام بت�أ�سي�س مدر�سة دينية في النبطية‪ ،‬وبالإ�ضافة �إلى ن�شاطه التبليغي‬ ‫كان له دوره في الجهاد الوطني حيث عرف بجر�أته في مقارعة المحتلين العثمانيين‪.‬‬

‫‪7‬‬


‫ال�سيد محمد ر�ضا ف�ضل اهلل الحكيم والم�صلح‬

‫ولع ّل ميزة ال�سيد محمد ر�ضا �أ ّنه كان عالم ًا مقتدر ًا و�شاعر ًا محترف ًا‪ ،‬وعندما عالج‬ ‫بع�ض الأمور‪ ،‬تراه عميق ًا في �أفكاره‪ ،‬ومت�سلط ًا على المفاهيم‪ ،‬وقد خرج من الروتين‬ ‫الموروث �إلى معالجة الأفكار بعمق‪ ،‬وبما ين�سجم مع م�صلحة وتطلعات المجتمع‪ ،‬فعلى‬ ‫�سبيل المثال‪ :‬مو�ضوع الإمامة‪ ،‬من خالل كتاب (الإمامة)(((‪ ،‬نجده لم يقت�صر في‬ ‫معالجة هذه الق�ضية الكبرى المرتبطة بم�صير الإ�سالم‪ ،‬وعقائد الم�سلمين بالروايات‬ ‫فقط التي وردت عن ر�سول اهلل ‪ ،P‬و�إنما م�ضاف ًا �إليها عالج هذه الق�ضية من ناحية‬ ‫فل�سفية واجتماعية‪ ،‬وحاجة النا�س �إلى الإمامة‪ ،‬كي ُيثبت �ضرورة �أن تفي هذه الحاجة‬ ‫بالغر�ض‪ ،‬فيكون هناك تنا�سب بين حاجة الم�سلمين‪ ،‬وبين اختيار ال�شخ�ص المنا�سب‪.‬‬ ‫ولع ّل كتاب (الإمامة ــ الأدلة العقلية والنقلية) للعالمة ال�سيد محمد ر�ضا ف�ضل‬ ‫اهلل‪ ،{ ‬كان مخطوطة قام بتحقيقها م�ؤخر ًا ال�سيد معروف محمد تقي ف�ضل اهلل‬ ‫في �إطار �إحياء تراث العالمة {‪ ،‬وهو ر�سالة يحاول فيها �سماحته �إثبات الإمامة من‬ ‫وجوه مختلفة‪ ،‬والر�سالة تقع في ق�سمين‪ ،‬مع مالحظة عدم وجود ترتيب وتبويب للكتاب‪،‬‬ ‫وعدم وجود مقدمة تم ّهد للمو�ضوع على خالف ما درج عليه �سماحة ال�سيد في بقية‬ ‫م�ؤلفاته‪ .‬ولع ّل ذلك ي�ؤ�شر على �إمكانية �ضياع جزء من هذه المخطوطة‪ ،‬ومما يق ّوي هذه‬ ‫الفر�ضية هو عدم ذكر الأدلة من ال�سنة النبوية على وجوب بعثة الأنبياء رغم الإ�شارة‬ ‫�إليها‪ ،‬مقت�صر ًا فقط على ذكر �أدلة الكتاب الكريم‪.‬‬ ‫يتم ّيز ال�سيد في ر�سالته بالعمق وقوة الإ�ستدالل ومتانة البيان‪� ،‬أ�ضف �إلى كونه كان‬ ‫�أديب ًا وبليغ ًا حاله حال �أكثر علماء جبل عامل‪.‬‬ ‫لقد قام محقق هذا الكتاب بتق�سيمه وجعله في بابين‪ :‬الباب الأول تحت عنوان‪:‬‬ ‫«الأدلة العقلية والنقلية» وهو من �سبعة ف�صول ق�صيرة‪.‬‬ ‫في الق�سم الأول من الكتاب‪ ،‬يعمد �سماحته في الف�صول ال�ستة الأولى �إلى ذكر الآيات‬ ‫(( ( كتاب الإمامة للعالمة ال�سيد محمد ر�ضا ف�ضل اهلل { المتوفى �سنة ‪1336‬هـ‪1917 /‬م‪ .‬كان مخطوطة‪ ،‬قام بتحقيقها‬ ‫م�ؤخر ًا ال�سيد معروف محمد تقي ف�ضل اهلل في �إطار �إحياء تراث العالمة‪.{ ‬‬

‫‪8‬‬


‫ةمدقملا‬

‫ك�شاهد على مبتغاه‪ ،‬مكتفي ًا بال�شرح في الف�صل ال�سابع فقط‪.‬‬ ‫القر�آنية من دون �شرح‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫في الف�صل الأول يذكر �أنّ العلة الداعية �إلى بعث الأنبياء‪ ،‬و�إر�سال الر�سل هي �إزاحة‬ ‫علل الخلق‪ ،‬وقطع معاذير العباد ودح�ض حججهم �إذا �أراد �أن يجازيهم ب�أعمالهم يوم‬ ‫الجزاء‪� ،‬أما الدليل العقلي فوا�ضح ب ّين لقبح العقاب من غير بيان‪ ،‬و�أما النقلي فالآيات‬ ‫متكاثرة وال�سنة مت�ضافرة‪ .‬وقد اكتفى بذكر الآيات دون الأحاديث في هذا الف�صل وبق ّية‬ ‫الف�صول‪.‬‬ ‫في الف�صل الثاني يذكر �أنّ الأدلة النقلية على ثبوت الإختيار من اهلل �سبحانه على‬ ‫حججه على عباده و�أمنائه في بالده‪ ،‬و�أنّ الإختيار هلل ال للخلق والعباد لعدم معرفتهم‬ ‫وق�صور عقولهم‪.‬‬ ‫وفي الف�صل الثالث يذكر الآيات الدالة على وجود الدليل وقيام الحجة‪.‬‬ ‫�أما في الف�صل الرابع‪ ،‬فيذكر الآيات الدالة على وجوب اتباع الأئمة الدعاة �إلى اهلل‬ ‫الأدالء على مر�ضاته‪.‬‬ ‫وفي الف�صل الخام�س يذكر الآيات التي ت�شير �إلى من ا�ستحق الإمامة من ذرية‬ ‫�إبراهيم ‪.Q‬‬ ‫وفي الف�صل ال�ساد�س يذكر الآيات الدالة على �أنّ الإختيار منه‪ ،‬و�أ ّنه في كل زمان ال‬ ‫ب ّد من حجة هلل في �أر�ضه على عباده وخلقه‪.‬‬ ‫�أما في الف�صل ال�سابع‪ ،‬فيعمد �إلى �شرح الآيات الدالة على �أنّ الخلق محتاج �إلى من‬ ‫يقوم به �صالحه ويرتفع ف�ساده ويب ّين به ر�شده ويمحي غ ّيه و�ضالله‪.‬‬ ‫يعر�ض �سماحته مجموعة من الآيات القر�آنية ذات ال�صلة بالمو�ضوع‪ ،‬ويقوم ب�شرح‬ ‫أ�سلوب يت�ض ّمن‬ ‫قلت ُ‬ ‫علمي على قاعدة (�إن َ‬ ‫كل �آية على حدى ب� ٍ‬ ‫قلت)‪ٌ � ،‬‬ ‫أ�سلوب ا�ستداللي ّ‬ ‫مفاهيم علم ّية ذات �أبعاد عميقة‪ .‬يخل�ص في نهاية هذا الف�صل �إلى �أنه يجب على اهلل‬ ‫وخا�صه‬ ‫ن�صب ق ّيم ًا على كتابه‪ ،‬عالم ًا بك ّل ما ت�ض ّمنه‪ ،‬عارف ًا بما حواه‪ ،‬خبير ًا بعا ّمه ّ‬ ‫�أن ُي ّ‬ ‫ون�صه‬ ‫ونا�سخه ومن�سوخه‪ ،‬ومحكمه ومت�شابهه‪ ،‬ومجمله ومب ّينه‪ ،‬ومطلقه ومق ّيده‪ّ ،‬‬ ‫‪9‬‬


‫ال�سيد محمد ر�ضا ف�ضل اهلل الحكيم والم�صلح‬

‫وظاهره‪ ،‬ومنطوقه ومفهومه‪ ،‬وجل ِّيه وم�ؤوله‪ ،‬علم ًا هادي ًا و�إمام ًا مر�شد ًا ونور ًا �ساطع ًا‬ ‫و�ضيا ًء المع ًا‪ :‬يب ّين للعباد منه �أحكامها‪ ،‬وحاللها وحرامها‪ ،‬وق�صا�صها ودياتها‪ ،‬وغير‬ ‫ذلك من الحدود التي ح ّدها‪ ،‬والغايات التي لزم العباد بالوقوف عندها‪.‬‬ ‫حب الجاه والريا�سة‬ ‫كما يخل�ص �إلى نتيجة مفادها �أنه بما «�أنّ النفو�س مجبولة على ّ‬ ‫وحب الهوى واللذات والميل‬ ‫والت�أ ّمر والرفعة والإ�ستيالء والغلبة من جهة القوة الغ�ضبية‪ّ ،‬‬ ‫�إلى ال�شهوات والطيبات‪ ،‬فلو فر�ضنا �أنّ اهلل ترك عباده بعد نب ّيهم هم ًال‪ ،‬و�أبقاهم بال‬ ‫�سائ�س ي�سو�سهم‪ ،‬وال �إمام لل�صالح يقودهم‪� ،‬إنت�شر الف�ساد واخت ّل نظام �أمورهم‪ ،‬لأنّ كل‬ ‫يحب وي�شتهي �أن تكون الإمارة وال�سلطنة مق�صورة عليه‪ ،‬كما هو الم�شاهد‬ ‫واحد منهم ّ‬ ‫من الملوك وال�سالطين‪ ،‬وهذا ي�ؤدي �إلى �أمرين‪� :‬إما �أنّ اختالفهم يعفيهم من رئي�س‪،‬‬ ‫و�إما �أن تكون الرئا�سة بالغلبة والقهر‪ ،‬وفي كال الأمرين من الف�ساد وخراب الكون‬ ‫وهالك الحرث والن�سل‪ ،‬ما ال يخفى على كل عقل‪.‬‬ ‫فحينئذ �إذا علم العقل �أوجب على اهلل �أن ين�صب لهم بعد نب ّيهم رئي�س ًا مطلق ًا ودلي ًال‬ ‫ٍ‬ ‫متبع ًا و�إمام ًا هادي ًا‪ ،‬يكون تم ّيز عنهم في ال�صفات الكاملة‪ ،‬وفاقهم في المعارف الدينية‬ ‫والدنيوية‪.»...‬‬ ‫وي�صل �إلى النتيجة �أنّ الإمام ال ب ّد �أن يكون �أكمل الخلق في جميع ال�صفات‪ ،‬كما �أنّ‬ ‫النبي ‪ P‬كذلك‪ ،‬لأنه بمنزلته‪ ،‬وقائم مقامه في حفظ الدين‪ ،‬ورعاية الم�سلمين لأنه‬ ‫�إذا كان كذلك كانوا �أقرب �إلى طاعته‪ ،‬و�أبعد عن مع�صيته‪ ...‬و ُيكمل �أنه ال ب ّد �أن يكون‬ ‫في الإمام �أربع خ�صال‪ ،‬وبدون واحدة منها يبطل كونه �إمام ًا‪ ،‬وهي‪ :‬الع�صمة‪� ،‬أعلم‬ ‫النا�س‪� ،‬أ�شجع النا�س‪ ،‬و�أ�سخى النا�س‪.‬‬ ‫�أما الق�سم الثاني من الر�سالة‪ ،‬وهو الباب الثاني من الكتاب ــ ح�سب تبويب المحقق‬ ‫أبيات مختارة من‬ ‫ــ وقد جعله تحت عنوان‪« :‬الإمامة من�صب �إلهي»‪ ،‬ي�سته ّله رحمه اهلل ب� ٍ‬ ‫�شرح جميل فيه نكات‬ ‫ق�صيد ٍة طويلة له في مدح الإمام المهدي |‪ ،‬ثم يعمد �إلى تقديم ٍ‬ ‫عقلي متين‬ ‫علمية وفل�سفية و�أخالقية وكالمية وق�ص�ص عقائدية‪ ،‬وب� ٍ‬ ‫أ�سلوب ا�ستداللي ّ‬ ‫‪10‬‬


‫ةمدقملا‬

‫يحاول من خالله �إثبات الإمامة من وجو ٍه مختلفة وزوايا متعددة‪ ،‬و�أنّ كل ما في الكون‬ ‫يحتاج �إلى مدير ومر�شد‪.‬‬ ‫فيبد�أ �شرحه ب�أنّ كل ذوي التكاليف من هذا العالم محتاجة �إلى رئي�س يق ّوم زيفها‪،‬‬ ‫وي�صلح اعوجاجها‪ ،‬وعليم عارف يب ّين ما �أخط�أه عقلها‪ ،‬ويو�ضح ما �أخفاه جهلها‪ ،‬ويجب‬ ‫�أن يكون موجود ًا بين �أظهرها‪ ،‬لئال يكون على اهلل حجة لها‪ ،‬وتكون لها الحجة البالغة‬ ‫عليها‪ ...‬ثم يربط بين هذا الإ�ستدالل وما يرمي الو�صول �إليه؛ ب�أنّ وجه الإحتجاج هو �أ ّنا‬ ‫نقول‪� :‬إنّ الجهة الداعية لإثبات �صانع لهذه المحدثات هي بعينها داعية لإثبات مفزع‬ ‫�إمام للأمة‪ ،‬ومرجع رئي�س للخا�صة والعامة‪ ،‬والجهة الداعية لإثبات ال�صانع كون هذا‬ ‫العالم ممكن‪ ،‬وكل ممكن مفتقر �إلى غيره بال�ضرورة‪ ،‬و�إال لكان واجب ًا ال ممكن ًا والثاني‬ ‫بال�ضرورة عند الملة الإ�سالمية‪.‬‬ ‫فافتقار هذا العالم �إلى غيره‪� ،‬أثبت له �صانع ًا متقن ًا ومد ّبر ًا حكيم ًا‪ ،‬كذلك نقول‪:‬‬ ‫�إنّ افتقاره يثبت �أنه ال ب ّد من رئي�س عام َمفزع للخا�ص والعام‪ ،‬ير�شده �إلى ما به نفعه‬ ‫و�صالحه‪ ،‬ويج ّنبه عاقبة �ض ّره وف�ساده‪ ،‬و�إن كنا لم ن�شاهده ولم نره‪ ،‬كما �أننا �أثبتنا‬ ‫له �صانع ًا من جهة افقتاره �إليه‪ ،‬و�إن كنا لم ن�شاهده ولم نره‪ ،‬بل بافتقاره �إليه حكمنا‬ ‫بوجوده‪ ،‬و�إال لكان الموجود للخلق غير حكيم‪.‬‬ ‫بعد ذلك يعمد ‪� M‬إلى تق�سيم العالم المح�سو�س �إلى �أق�سام ثالثة (جماد‪ ،‬نام‬ ‫وح�سا�س بق�سميه ال�صامت والناطق)‪ ،‬وي�شرع في ذكر و�شرح حاجة هذه المح�سو�سات‬ ‫ّ‬ ‫وافتقارها �إلى غيرها من جهات مع ّينة‪ ،‬ويب ّين �أنّ الناطق من جملة ما يفتقر �إليه المر�شد‬ ‫�إلى �أن ال يكون هاتك ًا لحرمة مبدعه‪ ،‬مرتكب ًا لما ي�ضا ّد �إرادة موجده‪.‬‬ ‫وهذا المر�شد هو الق ّيم والرئي�س الذي يد ّبر �أمر الأ ّمة‪ ،‬وي�صلح فا�سدها‪ ،‬والدليل‬ ‫ا�ستقرائي‪ ،‬يعني �أننا ا�ستقر�أنا المدركات من الموجودات‪ ،‬فوجدنا �أنّ لها‬ ‫على ذلك‬ ‫ّ‬ ‫رئي�س ًا ت�صدر منه ومرجع ًا ت�ؤوب �إليه قد جعلت فطرتها على الإنقياد �إليه واتباعه‪.‬‬ ‫ثم يذكر علة �أخرى لوجود رئي�س ومر�شد‪ ،‬وهذه العلة م�شتركة بين الحيوانات‬ ‫‪11‬‬


‫ال�سيد محمد ر�ضا ف�ضل اهلل الحكيم والم�صلح‬

‫ال�صامتة والناطقة‪ ،‬ووجه الإ�ستدالل بها‪� :‬أن ال�صانع ل�شيء والمبدع له‪� ،‬إذا كان حكيم ًا‬ ‫ال ب ّد �أن يكون متقن ًا لما �صنعه محكم ًا لما �أبدعه‪ ...‬والحكيم ال يكون حكيم ًا‪ ،‬وال يو�صف‬ ‫بالحكمة �إال الذي يحظر الف�ساد‪ ،‬وي�أمر بال�صالح ويزج عن الظلم وينهى عن الفح�شاء‪،‬‬ ‫وال يكون ذلك �إال بمن تخ�شى �سطوته وتهاب �صولته‪ ،‬ويهاب ب�أ�سه و�ض ّره‪ ،‬ويرجى نفعه‬ ‫وخيره‪ ،‬وهو الرئي�س المالك لأز ّمة �أمورها‪ ،‬والمذعنة لطاعته متم ّرداتُ نفو�سها‪...‬‬ ‫بمطلب من المطالب الحكمية وهو رئا�سة العقل‬ ‫بعد ذلك‪ ،‬يب�سط الكالم بالجملة‬ ‫ٍ‬ ‫على القوى الباطنة للنف�س‪ ،‬فالعقل بمنزلة الرئي�س المر�شد والملك المد ّبر‪ ،‬فمرجع‬ ‫مدركات هذه القوى �إليه‪ ...‬ثم ي�ست�شهد باحتجاج ه�شام بن الحكم على عمرو بن عبيد‬ ‫حول �أ ّنه كيف �أن اهلل تعالى لم يترك الجوارح حتى جعل لها �إمام ًا وهو القلب‪ ،‬فهل يمكن‬ ‫�أن يترك الخلق كلهم في حيرتهم و�شكهم واختالفهم‪ ،‬فال يقيم لهم �إمام ًا ير ّدون �إليه‬ ‫حيرتهم و�ش ّكهم واختالفهم؟!‬ ‫�أردت من هذا العر�ض الموجز عن كتاب الإمامة لل�سيد محمد ر�ضا ف�ضل اهلل‪� ،‬أن‬ ‫�أب ّين قدرة ال�سيد على تبيين المطالب‪ ،‬و�إي�صال الفكر �إلى الآخرين‪ ،‬و�أ ّنه يمتلك ذهن ّية‬ ‫وقادة‪ ،‬ولو �أتيحت له الفر�صة في العمر والعمل‪ ،‬لق ّدم ال�سيد محمد ر�ضا من الأفكار ما‬ ‫�أغنى به فهر�ست جبل عامل‪ ،‬ولربما كتب و�ضاع �أو تلف ب�سبب الأو�ضاع الأمن ّية وخوف‬ ‫النا�س على هذا التراث‪ ،‬فهناك الكثير من المخطوطات‪ ،‬وجدت تالفة ب�سبب الحر�ص‬ ‫عليها‪ ،‬ومنع و�صول �أهل البغي �إليها‪.‬‬ ‫وهذا المقدار‪ ،‬مما و�صل �إلينا عن ال�سيد محمد ر�ضا ف�ضل اهلل‪ ،‬يكفي للداللة على‬ ‫مكانته العلمية والأدبية‪ ،‬م�ضاف ًا المتالكه القلم والجر�أة في التعبير‪ ،‬وال�شجاعة في �أخذ‬ ‫المواقف‪.‬‬

‫‪12‬‬


‫���������������������� ‬ ‫االفتتاحية‬

‫السيد هاشم صفي الدين‬

‫(((‬

‫‪ó‬‬

‫َّ ٓ‬ ‫َ َ ۡ َ َ َ ۡ َ َ َ َ َّ ُ َ َ ٗ َ َ ٗ َ ّ َ ٗ َ َ َ َ َ ّ َ َ ۡ ُ َ َ ‪ُ َ ٞ‬‬ ‫ٱلس َماءِ‬ ‫ت َوف ۡرع َها ِف‬ ‫﴿ألم تر كيف ضب ٱلل مثل ك ِمة طيِبة كشجرة ٖ طيِب ٍة أصلها ثاب ِ‬ ‫ۡ َ ّ َ َ َ ۡ ُ َّ ُ ۡ َ َ َ‬ ‫ُ ۡ ٓ ُ ُ َ َ ُ َّ‬ ‫َ َ َّ ُ ۡ َ َ َ َّ ُ َ (((‬ ‫ٱلل ٱل ۡمثال ل َِّلن ِ‬ ‫ك‬ ‫‪ ٢٤‬تؤ ِت أكلها‬ ‫اس لعلهم يتذكرون ﴾‬ ‫ضب‬ ‫ي‬ ‫و‬ ‫اۗ‬ ‫ه‬ ‫ب‬ ‫ر‬ ‫ن‬ ‫ذ‬ ‫إ‬ ‫ب‬ ‫ِيِۢن‬ ‫ح‬ ‫ِ‬ ‫ِ​ِ ِ ِ‬

‫الكلمة الطيبة قبل �أ ن تكون حروف ًا ومعاني هي هداية و�أنوار تخرق حجاب القلب‬ ‫فت�ستقر في �أ�صول الفطرة وتنبت في ربوع التوحيد وتنفرج عن حقائق معارف تتكاثر‬ ‫وتنمو فروع ًا ال يت�سع لها المكان وال يقف عطا�ؤها عند حد ويطيب جناها ذكر ًا ي�أبي‬ ‫التال�شي ويزهر ثمرها فوح ًا ون�سيم ًا وعطر ًا �ألطف من الزمن و�أرق من خواطر الفكر‬ ‫لت�شق طريقها في م�سارب الحياة متعاظمة ومتجددة مع كل جديد فك�أنها تنبعث للتو‬ ‫فال تبلى مع االبدان وال تطوى في �صفحات التاريخ وق�ساوة �أيامه ووقائعه بل ان القهر‬ ‫واالجحاف والتنكر يزيدها اختمار ًا بقدر اندماجها مع الحق واالخال�ص وبم�ستوى‬ ‫قدرتها على غزل الفكر والروح والعلم واالدب والجمال والفن لتحيك من هذا كله �سمو ًا‬ ‫ي�شتد جالء و�سطوع ًا ويحفر في االن�سانية تجربة م�ضافة تراكم االكتمال االن�ساني نحو‬ ‫َ َ ُّ َ ۡ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ٱل َ ٰ‬ ‫الكمال ٰٓ‬ ‫نس ُن إِنَّ َك كد ٌِح إِ ٰل َر ّب ِ َك ك ۡد ٗحا َف ُملٰقِيهِ﴾(((‪.‬‬ ‫﴿يأيها ِ‬ ‫(( ( رئي�س المجل�س التنفيذي في حزب اهلل‬ ‫(( ( �سورة ابراهيم‪ ،‬الآيتان ‪.25/ 24‬‬ ‫(( ( �سورة الن�شقاق‪ ،‬الآية ‪.6‬‬

‫‪13‬‬


‫ال�سيد محمد ر�ضا ف�ضل اهلل الحكيم والم�صلح‬

‫ه�ؤالء هم الطيبون المت�أ�صلون والمتجذرون في منابت المعرفة واالخال�ص ال ينتهون‬ ‫وال يقفون عند حدود لقائهم لربهم والتحاقهم بمع�شوقهم‪ .‬حين يحققون غاياتهم‬ ‫و�أمانيهم في�سعدون في مقعد �صدق عند مليك مقتدر ذلك ان جوهرهم الحي والمتلألأ‬ ‫يت�ساقط على الب�شرية رحمة وحياة وا�ستقامة كماء المطر ال ينق�صه الهطول وال يوقف‬ ‫جريانه الزمن وال تن�أى به توارد االحداث وم�ضي ال�سنين وتعاقب االجيال فهم باقون ما‬ ‫بقي الدهر �أعيانهم مفقودة و�أمثالهم في القلوب موجودة‪.‬‬ ‫�إنهم العلماء الربانيون والحجج الظاهرة والنعم الوافرة واالنوار الهادية بهم‬ ‫ا�ستقام �أمر الدين وعلى �أيديهم حفظت ال�شريعة وانت�صبت اعالم االيمان ورايات الحق‬ ‫واال�صالح‪ ،‬هم �أوتاد الحقيقة الرا�سخة ومدار المعرفة الأ�صيلة‪ ،‬ودوام الذكر الجميل‬ ‫وتوازن الطباع وال�سجايا وميراث ال�شجاعة والعدل وال�شهامة وفي �أي مجتمع وجدوا �أو‬ ‫�أر�ض زرعوا تطيب الحياة وتعمر القلوب وتحيا االنف�س وتزهر العقول ولو بعد حين‪.‬‬ ‫لجبل عامل حظ وافر من ه�ؤالء االفذاذ فامتاز بهم علم ًا و�أدب ًا و�أخالق ًا وطيب ًا‬ ‫و�شهامة فجاوز ح�ضوره االفاق بف�ضل معدنهم ال�صافي ور�سوخهم في ميادين العلوم‬ ‫التي ق ّلبوها وجوه ًا وزرعوا فيها بذور ًا وانتجوا منها الآلىء وفيو�ضات غمرت �أجيالهم‬ ‫المتعاقبة ما �أن�ساهم ظلم القريب والبعيد وغالبوا قهرهم بالقناعة والتوا�ضع وال�صبر‬ ‫وتناقلوا القيم �إرث ًا باالنفا�س الطاهرة الممزوجة بوجع التاريخ وحب الآخر حتى لو كان‬ ‫من الذين ما انكف�أوا يوم ًا عن توجيه �سهامهم �إليهم فاحتملوها ت�ضحية واحت�ساب ًا و�أم ًال‬ ‫في ان ُيورق �شجرهم يوم ي�سفر الحق عن وجهه المنير كا�شف ًا عن مخبوئهم الر�صين‬ ‫ومحارهم المدخر والثمين مم�سوح ًا بلفحة الحب والحنين‪.‬‬ ‫ان عالمتنا المقد�س ال�سيد محمد ر�ضا ف�ضل اهلل{ �أحد ه�ؤالء االعالم العاملين‬ ‫بع�ض من مكنون علمه‬ ‫الذين �شاءت االقدار و�سنن اظهار وجه الحقيقة ان نتعرف على ٍ‬ ‫الغزير و�أدبه الوافر وفرادة قلمه بعد م�ضي قرن كامل لنكت�شف في �شخ�صيته هذا‬ ‫الجوهر المكتنز لأبعاد عديدة وعميقة و�ضعته في م�صاف العلماء الربانيين الذين مثلوا‬ ‫القدوة والنموذج واال�سوة‪.‬‬ ‫‪14‬‬


‫���������������������� ‬

‫قبل ان اتطرق الى بع�ض المميزات التي طبعت �شخ�صية و�إرث هذا العالم االلهي من‬ ‫ال�ضروري اال�شارة الى الظروف ال�سيا�سية واالجتماعية والمعي�شية التي رافقت مرحلة‬ ‫حياته وعطائه فكانت �صعبة و�شائكة و�ضاغطة ومعاك�سة تقت�ضي ان�صراف العلماء في‬ ‫جبل عامل الى اولويات وهموم وم�شاغل تفر�ض التقوقع واالنكفاء نتيجة الظلم المتالحق‬ ‫الذي ما غادرهم يوم ًا �أبد ًا في ظل متغيرات فكرية ودولية و�سيا�سية وارها�صات الحروب‬ ‫الكونية‪ ،‬ايذان ًا بتبدل خارطة المنطقة لح�ساب م�صالح الدول الكبرى‪ ،‬ففي مثل هذه‬ ‫الظروف نرى المقد�س ال�سيد محمدر�ضا{ حا�ضر ًا في مجاالت عديدة‪ ،‬ومهمة‬ ‫مثبت ًا ف�ضائله وفار�ض ًا لخ�صو�صياته ومقتحم ًا ل�ساحات ذهل عنه كثيرون وهذا ما يجعلنا‬ ‫نحتار �أمام قدرة �أمثاله على االبتكار والتميز‪.‬‬ ‫ومن خالل مراجعة ما ن�شر وكتب وعلم عن حياته �س�أتوقف عند ما يلي‪:‬‬ ‫في العلم‪:‬من خالل الت�أمل في م�ساره العلمي في اطار العائلة واال�ساتذة في لبنان‬ ‫وخارجه يمكن ان ن�ضع ايدينا على الم�ستوى العلمي الراقي الذي عا�ش في ظله فاذا‬ ‫ان�ضم الى هذا كله ذكا�ؤه الوقاد واخال�صه ال�صافي وقريحته المتفتقة فانه مدعاة النتاج‬ ‫فاخر من الطراز الرفيع الذي يح�ضر قوي ًا في م�صنفاته القليلة التي �سلمت وو�صلت‬ ‫�إلينا و�س�أكتفي في هذا المجال بالتوقف عند الكتاب الذي ن�شر تحت عنوان االمامة‬ ‫لنعرف ب�سهولة �أننا �أمام �شخ�صية ممتلئة وم�شبعة بالمعارف والعلوم النقلية والعقلية‬ ‫فطريقة اال�ستدالل التي اعتمدها تعتبر فريدة في �إحكامها حيث قدم لمق�صوده بذكر‬ ‫عدد كبير من االيات القر�آنية وا�ستخل�ص م�ضامينها وغاياتها بحذاقة ل ُيحكم عراها‬ ‫بالعقل والحكمة والفل�سفة والنظام العام و�سيرة العقالء واالمراء فينتج من ر�صف‬ ‫المقدمات ومحاكاتها للبديهيات ببراعة الو�صول الى مراده في اثبات البدية وحتمية‬ ‫االمامة ودورها وموقعها الديني ك�أ�صل ديني وقر�آني يغني الدليل عن كثير الحاجة‬ ‫ل�سلوك الطرق التقليدية المتبعة في تحقيق م�س�ألة عقائدية وتاريخية ومف�صلية و�أظن‬ ‫�أن هذا النمط غير م�سبوق و�أظن ان كتاب ًا كهذا جدير باالعتماد عليه در�س ًا وبحث ًا في‬ ‫‪15‬‬


‫ال�سيد محمد ر�ضا ف�ضل اهلل الحكيم والم�صلح‬

‫الحوزات والمعاهد العلمية ثم ان هذا التعمق ومالحقة المو�ضوع من زوايا عديدة‬ ‫ي�ؤ�س�س لمنهجية علمية نراها جلية في مختلف ابحاثه وقاعدة متينة تبنى عليها نتائج‬ ‫جليلة كمعالجته لمو�ضوع االجتهاد والعلماء وادوارهم ت�أ�سي�س ًا على فهم وا�سع وممتد‬ ‫لمو�ضوعة االمامة‪.‬‬ ‫في ال�سلوك والعرفان‪ :‬على ما يبدو من ن�صو�صه الجلية في مقا�صدها والم�شرقة‬ ‫في دالالتها م�ضاف ًا الى ما حظي به من ا�ساتذة لهم باع في هذا ال�ش�أن وما انطوت‬ ‫عليه نف�سه الهادئة وال�ساكنة جعلت اهتماماته من�صبة على غايات روحية وايمانية لم‬ ‫تغب عن ر�ؤيته ال�صافية لالمور كافة فتحلى بب�صيرة متيقظة اعانته على معالجة ادق‬ ‫و�أخطر الم�سائل االخالقية والحكمية وما يرتبط منها بتهذيب النف�س في كتابه (ميزان‬ ‫العدل) ال�سمكية) الذي يف�صح عن غور عميق وفهم دقيق وتجربة �صادقة في َ�سوق‬ ‫النف�س نحو التقوى والقناعة والزهد والتطلع دوم ًا الى ما بعد الموت وقد اعانه في ذلك‬ ‫ح�سن بيانه وعذب كالمه في ‪ ...‬المعنى وافا�ضة النف�س عما يختلج فيها وما ي�ساورها‬ ‫حب‬ ‫ويحك يا نف�س هذا عقلك �أطف�أ‬ ‫و�س�أكتفي بذكر مقطع واحد حين يقول‪ِ :‬‬ ‫م�صابيحه ُ‬ ‫َ‬ ‫وفكرك َك َّل من الخو�ض في مذاهب‬ ‫ال�شهوات وتراكمت عليها من الو�ساو�س الظلماتُ‬ ‫ِ‬ ‫ري لوارده‬ ‫الدنيا بخائبه و�أظلمت عليه الى الآخرة مذاهبه‬ ‫ِ‬ ‫إياب ل�شارده وال َّ‬ ‫ووهمك ال � َ‬ ‫وخيالك على تكرر الآناء يخبط الع�شواء ويت�سنم الظلماء ‪.‬ومالحظة ا�شعاره في هذا‬ ‫الم�ضمار تو�ضح مراداته اكثر فمن جملة ما يقول‪:‬‬ ‫ي�سكر ال�شباب وحر�ص ال�شيب واالم��ل ق��د �أ��ش�ك�ل��ت ع�ن��ده��ا ال �غ��اي��ات وال�سبل‬ ‫ك ��م م ��دل � ٍ�ج �� �س ��اد ٍر ف ��ي ف�ج�ه��ا فم�ضى ت �ه��وي ب��ه ف��ي ال �م �ه��اوي الأن��ي ��قُ ال�ب��زل‬ ‫الى �أن يقول‪:‬‬ ‫��ض�ل��ت م�ساعيك ي��ا م��ن راح يطلبها �إل � � ِو ال ���ُ�س��رى ق�ب��ل �أن ي�ل��وي ب��ك الأج ��ل‬ ‫ف��أم�ه��د لنف�سك م��ا دام ال �ح��راك بها م��ن ق�ب��ل ان ُتقب�ض اال� �س �م��اع والمقل‬ ‫ت�ل��ك ال �ق��رون ال�م��وا��ض��ي قبلنا درج��ت ع �ل��ى ال �م �ن��ون وف �ي �ه��ا ي �� �ض��رب ال�م�ث��ل‬ ‫‪16‬‬


‫���������������������� ‬

‫في االدب‪ :‬حين ت�أملت في ما ن�شر له من م�ؤلفات علمية �أو �شعرية �أو ر�سائل متعددة‬ ‫ادركت انه والبيان �صنوان فالبالغة العالية والف�صاحة البينة �أ�شربتا في مطالبه‬ ‫العلمية المتخ�ص�صة فهو �صاحب قلم ال يجري اال وزن ًا وايقاع ًا فا�ضاف الى �إحكام‬ ‫العقل وترا�صه متانة التعبير وجماله فال يكاد َيخرج من جعبته اال اللآلئ الفاخرة مع‬ ‫مقدرة نادرة على الجمع بين فنون الكالم وا�ساليبه ففي مو�ضوع واحد ينقلك من �شعر‬ ‫م�سبوك وافر وغزير على طريقة المتنبي �أو ابوالعتاهية الى نثر م�سجوع تتالطم فيه‬ ‫المعاني ازدحام ًا وااللفاظ فرادة على طريقة نهج البالغة ل�سيد البلغاء ‪ ،Q‬فترى‬ ‫في كالمه �أن�س ًا وجذب ًا وات�ساق ًا وان�سياب ًا يحبب �إليك المعنى ويربطك بالمق�صد وت�شعر‬ ‫معه انه قادر على اال�ستمرار الى ما �شاء اهلل لأن �أدبه اتك�أ على مخزون علمه وثقافته‬ ‫الغنية والوا�سعة‪.‬‬ ‫فلي�س بيانه عجيب ًا لأمثاله‪ ،‬اذ وجدته ثاوي ًا في العلم عند محرابه‪ ،‬يلثم من رحيق‬ ‫ن�شوه ما �صفى‪ ،‬يخرج من فم عقله �سحر ر�ضابه‪ ،‬يلوي الحرف ا�شكا ًال لمراده‪ ،‬يغزل‬ ‫المعنى في�ض ًا في �سبك جوابه‪ ،‬هلل دره في جمع ما بان وخفي‪ ،‬ك�أنه �سلطان الكالم في‬ ‫ذهابه و�إيابه‪.‬‬ ‫في دور الفقهاء والعلماء‪ :‬لقد ك ّون هذا العالم الرباني فهم ًا متقدم ًا وت�شخي�ص ًا‬ ‫كام ًال و�صائب ًا لدور ووظيفة الفقهاء والعلماء في زمن الغيبة الكبرى متجاوز ًا في ذلك‬ ‫الطابع التقليدي الذي �ساد في مراحل واجواء ح�شرت دور العلماء في زوايا محدودة‬ ‫وا�ستند { في ر�ؤيته على ادراكه الوا�سع ب�ضرورة حفظ ال�شريعة باالجتهاد والتبحر‬ ‫من�ضمين الى التقوى و�سالمة النف�س واالعرا�ض عن الدنيا وان يج�سد العالم القدوة‬ ‫للعمل والهداية وهذا بحد ذاته يتطلب ت�صدي ًا وح�ضور ًا في المجتمع وبين النا�س لبيان‬ ‫الحكم ال�شرعي ومواجهة الف�ساد والظلم والحيف ون�صرة المظلوم واقامة الحدود‬ ‫والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وكلها بنظره تعبر عن الوظيفة المتكاملة التي ال‬ ‫تقبل التفكيك كما ان النكو�ص والتراجع عن هذه الم�س�ؤولية �سيكون �سبب ًا ل�شيوع البدع‬ ‫‪17‬‬


‫ال�سيد محمد ر�ضا ف�ضل اهلل الحكيم والم�صلح‬

‫وهيمنة الظالمين وتمزق الأمة و�ضياعها‪ ،‬ان هذا الفهم يعد �سباق ًا وقادر ًا على مواكبة‬ ‫التحديات التي ال تجيز للعالم ان يقف منها وفيها موقف الحياد والمراقب فح�سب‪.‬‬ ‫الوعي والمواقف‪� :‬أهل جبل عامل في تلك الحقبة فقراء ومعدمو الحال تتالت عليهم‬ ‫النكبات والمجازر و�أريد لهم ان يقبعوا في زاوية معتمة من زوايا التاريخ وظلمه وق�سوته ولم‬ ‫يكن لهم حظ في ال�سلطة وال مكانة �أو اعتراف لهم بحقوقهم وال ب�أدوارهم ولم تكن �آنذاك‬ ‫و�سائل ات�صال واعالم‪ ،‬ال�سائد عندهم هو القهر والجوع واالوجاع وال�سالطين واالمراء‬ ‫يتخطفونهم ل�سبب �أو من دون �سبب ففي مثل هذه االحوال القا�سية اقتحمت العالم العربي‬ ‫واال�سالمي م�شاريع اال�ستعمار والهيمنة واالحتالل‪ ،‬في مثل هذه االجواء يتوجه العالمة‬ ‫المقد�س‪ { ‬بر�سالة الى ال�سلطة العثمانية م�ستنه�ض ًا و�صارخ ًا بوجه االحتالل االيطالي‬ ‫لليبيا ومحذر ًا من التهاون ومخاطره على االمة ووحدتها ومنبه ًا الى الغرب واطماعه‪:‬‬ ‫ف �ن �ه �� �ض � ًا ي� ��ا ل� �ي ��وث ال � �ع� ��رب ن �ه �� �ض � ًا ل� �ن ��ا ق � ��د ا� � �ض � �م� ��رت �� � �ش � ��ر ًا اوروب � � ��ا‬ ‫�ألي�س من حقنا ان ن�س�أل ما �ش�أن عالم في جبل عامل بما يجري في ليبيا‪ ،‬بل لنا‬ ‫�أن ن�س�أل كيف عرف طبيعة المخطط اال�ستعماري �آنذاك ؟ وهل كان �سالطين الدولة‬ ‫العثمانية الغارقون بظلمهم لجبل عامل قد �سمعوا ب�إ�سم هذا ال�سيد الجليل؟‬ ‫نحن �أمام م�شهد عظيم من م�شاهد الوعي المبكر والتعالي والت�ضحية من �أجل الأمة‬ ‫ووحدتها ففي الوقت الذي ا�ست�شهد فيه اخوه على �أيدي االتراك كما اعدموا ابن عمه‬ ‫وكثيرين من �أهله واحبائه ف�إنه يهب لنجدة الأمة ووحدتها‪ ،‬انه �صوت العلم والمعرفة‬ ‫والوعي واالخال�ص الذي لو تمت اال�ستجابة له لما تجرعت االمة ما تجرعته من ك�ؤو�س‬ ‫الذل والهوان والت�شتت ولما كنا اليوم في عالمنا العربي واال�سالمي نترع الغ�ص�ص‬ ‫واالالم والهزائم والعلقم وال�شوك وال�شجى‪.‬‬ ‫هذا الوعي هو ارث ومنهج المدر�سة العاملية اال�صيلة وهو ال�سيرة التي اقتدى فيها‬ ‫ال�سيد محمدر�ضا ب�أجداده واعمامه من العلماء وال�شعراء والمجاهدين ف�أحدهم الذي‬ ‫عمل على ح�شد الطاقات لمواجهة جي�ش �أبي الذهب المعري الذي حاول احتالل جبل‬ ‫‪18‬‬


‫���������������������� ‬

‫عامل كما وقف الى جانب ال�شيخ نا�صيف ن�صار بوجه احمد با�شا الجزار وهو ال�سيد‬ ‫فخرالدين الذي تحدث عن المقاومة في �سنة ‪1775‬م‪:‬‬ ‫ه��ي البي�ض ي ��روي ك��ل � �ص��اد �شرابها ك �م��ا ال �ن �م��ر ي� ��ردي ك ��ل ع� ��اد �شهابها‬ ‫وه� ��ل �أزه� � ��رت ب��ال �م �ج��د �أي � ��ام م��اج��د وم��ا ك��ان م��ن ب��رق الموا�ضي �سحابها‬ ‫�أب ��ت همتي �أن تقبل ال�ضيم �صاحب ًا ك � � ��أن ن �ع �ي��م ال �خ �ف ����ض ف �ي ��ه ع��ذاب �ه��ا‬ ‫الى �أن يقول‪:‬‬ ‫دع ال�ع�ي����ش ذ ًال ف��ال�م�ع��ال��ي وان ن���أت ل� �ك ��ل �أب� � � ��ي ف � ��ي ال� � ��رج� � ��ال �إي ��اب� �ه ��ا‬ ‫هذا هو خطاب المقاومة اليوم وهذه هي جذورها المت�أ�صلة وهذا هو التاريخ الذي‬ ‫يحكي علماءنا االطهار وينعك�س في مر�آة واقعنا مقاومة �صادقة في انتمائها بالعلم‬ ‫واالدب وال�شجاعة والت�ضحية والوعي والوحدة فمقاومتنا اليوم على �صورة العالم‬ ‫الرباني ال�سيد محمدر�ضا { هي مقاومة العلم والوعي والحكمة وتحمل الم�س�ؤولية‬ ‫بوجه المترب�صين بالأمة �شر ًا �سواء كانوا �صهاينة �أو ا�ستكبار غربي �أو ممن �أعمى اهلل‬ ‫قلوبهمو�أع�شى اب�صارهم و�سد نوافذ عقولهم فجعلهم يد ًا ب�أيدي اعدائهم يحركونهم‬ ‫لأهوائهم ي�شتدون على من اراد بها �شر ًا وتفتيت ًا وتق�سيم ًا‪.‬‬ ‫�إن الوفاء لتاريخ علمائنا الأطهار ي�ضعنا دائم ًا في موقع تحمل الم�س�ؤولية مهما كانت‬ ‫الت�ضحيات فيها ج�سيمة ويفر�ض علينا �أن نبقى على خط الإ�ستقامة والوعي فال تحرفنا‬ ‫درب خطه‬ ‫التهم واحفادها عن �سلوك ٍ‬ ‫الأحداث وق�ساوتها وال المظالم واوجاعها وال ُ‬ ‫�سلفنا ال�صالح بالمعرفة وااليمان واالخال�ص والكلمة ال�صادقة وعبروا عن كل ذلك‬ ‫وفن جميل ورفيع ليبقى الذكر الح�سن دائم العطاء واال�ستمرار مع كل جيل‬ ‫ب� ٍ‬ ‫أدب ر�صين ٍ‬ ‫فللعلم بيوت كما للأدب �شاهقات تزدان جما ًال وقبابا والقلوب �أوعي ٌة ال يت�سع منها لعلم‬ ‫�آل البيت �إال ما طهر وطابا‪ ،‬انه التوفيق ن�صيب من �أخل�ص وج ّد في العلم وابتغى �إلى ربه‬ ‫م�آبا هكذا يخلد ذكر من �أح�سن �صنع ًا ف�سطر في الملكوت كتاب ًا‪.‬‬ ‫والحمد هلل رب العالمين‪.‬‬ ‫‪19‬‬



‫������������������������ ‬

‫الشيخ عبد الحليم الزهيري‬

‫(((‬

‫‪ó‬‬ ‫‪ ...‬و�سجل بطوالتها المفتوح يوم ًا و�أبد ًا‪.‬‬ ‫‪ ...‬لبنان مدينة ق�صيرة الأطراف مترامية الأو�صاف‪ ،‬فحين تدنو للكالم عنها ترتدو‬ ‫حيا ًء من ف�صاحة �أهلها و�سمو �أرزها البا�سق‪ ،‬على الرغم من عتو الرياح القادمة من كل‬ ‫الجهات‪ ،‬لبنان مزيج من ال�سحر وال�شعر‪ ،‬ومنهل للعلم والمقاومة‪.‬‬ ‫جئتكم من العراق‪ ،‬وب�أطراف عبائتي غبا ُر الحرب‪ ،‬ودخان المفخخات و�أبخرة‬ ‫ال�سيا�سية‪ ،‬كما قال �شاعرنا ال�سيد م�صطفى جمال الدين ــ رحمه اهلل ــ في ق�صيدته من‬ ‫الجنوب �إلى الجنوب‪:‬‬ ‫�اب‬ ‫م ��ن ج �ن��وب ال� �ع ��راق ج�ئ�ت��ك ي ��ا لبنان وال � � �ظ � � �ل� � ��م ب � �ي � �ن � �ن� ��ا �أن � � �� � � �س� � � ُ‬ ‫ل �ك��م ف ��ي � �س �ه��ول �أه � ��وارن � ��ا ��ص��رع��ى ن � � �ح� � ��ول م � ��ري� � ��� � �ض � ��ة واح � � � �ت� � � ��راب‬ ‫ول��ن ��ا ف ��ي ت �ل�ال (ج �ب �� �ش �ي��ت) ج��رح��ى دم � � �ه� � ��م ف � � ��ي ع � ��روق� � �ن � ��ا �� �س� �ك ��اب‬ ‫�اب‬ ‫وم� � �ت � ��ى �أح� � � � ��رق ال� ��� �ص� �ن ��وب ��ر غ� ��از �� �ش � َّ�ب ف� ��ي ب ��ا���س ��ق ال �ن �خ �ي��ل ال��ل��ه � ُ‬ ‫(((‬ ‫�اب‬ ‫�اب م�����ص � ُ‬ ‫م� ��ن ج� �ن ��وب ال � �ع� ��راق ج� �ئ � ُ�ت وه��م � ّ�ي ه � � ُّم ل �ب �ن��ان وال��م�����ص � ُ‬ ‫م�صاب واحد‪...‬‬ ‫ٌ‬ ‫(( ( م�ست�شار رئي�س الوزراء العراقي‬ ‫((( هذه �أبيات من ق�صيدة لل�شاعر الأديب الدكتور م�صطفى جمال الدين‪ ،‬التي جاءت تحت عنوان‪ -‬من الجنوب �إلى الجنوب‪.‬‬

‫‪21‬‬


‫ال�سيد محمد ر�ضا ف�ضل اهلل الحكيم والم�صلح‬

‫‪ ...‬نعم جئت من العراق‪ ،‬ومن الجنوب‪ ،‬ومن النجف‪ ،‬ومن الحلة (الفيحاء)‪،‬‬ ‫باعتباري من �أهل (الحلة)‪� ،‬إلى لبنان و�إلى جبل عامل‪.‬‬ ‫جبل عامل �شقيقة �أمي (الحلة) (بابل)‪ ،‬ا�سمها التاريخي والح�ضاري الممت ُّد لآالف‬ ‫ال�سنين من الح�ضارة والنور والعطاء‪ ،‬الحلة ت�شبه جبل عامل‪ ،‬كما العراق ي�شبه لبنان‪،‬‬ ‫وبغداد ت�شبه بيروت‪ ،‬ولكن وجه ال�شبه مختلف‪ ،‬الحلة وجبل عامل مدينتان عالمتان‬ ‫مجتهدتان‪ ،‬فبين المحقق الحلي والعالمة الحلي وال�شهيدين العامليين‪ ،‬عالمة �شبه‬ ‫ت�صل �إلى حد التنا�سخ‪ ،‬تجمعهما مدر�سة �أهل البيت‪ ،‬ويلتقيان في بحر من العلم والفقه‬ ‫والأدب‪ ،‬هذه المدر�سة التي ز ّودت العالم �أجمع ب�آالف الفقهاء والمجتهدين‪ ،‬وتخ ّرج‬ ‫منها‪ :‬الإمامان ال�شهيدان الأول والثاني اللذان ينحدران ن�سب ًا من هذه الأر�ض الطيبة‪،‬‬ ‫فورثا منها علم ًا ومقاوم ًة وت�ضحية‪.‬‬ ‫�أما �شبه العراق بلبنان‪ ،‬فهما وجهان با�ستهداف واحد‪ ،‬وعدو م�شترك‪ ،‬ي�شتركان في‬ ‫م�صير واحد‪ ،‬لأننا ن�شم رائحة البارود في الأزقة والبيوت هنا وهناك‪.‬‬ ‫تواجه �أيها الأخوة‪� ،‬أمتنا الإ�سالمية �أخطار ًا كبيرة وم�شتركة‪ ،‬علينا �أن نع َّد لها‬ ‫م�شتركين ما ن�ستطيع من عزم وقوة ومقاومة وتخطيط ًا‪ ،‬لأنّ الم�ؤامرة تريد م�سخ هويتنا‬ ‫من داخلنا‪ ،‬ومن ت�شويه دين �إ�سالمي مت�سامح الذي جاء به ر�سول اهلل ‪ ،P‬رحمة‬ ‫للعالمين‪ ،‬يريدون �أن يلطخوا قبابه الخ�ضراء بلون الدم لكي ي�سلبوا منه لون الحياة‬ ‫ورائحة الربيع‪ ،‬ال يريدون لنا �أن ننطلق من جوهر هذا الدين لنحاور به الآخرين‪ ،‬كما‬ ‫علمتنا مدر�سة لبنان والعراق الحوزوية‪ ،‬اللتان تع ّلما ذلك من مدر�سة �أهل البيت ‪Q‬‬ ‫التي عا�صرت وعاي�شت وتعاي�شت مع جميع المذاهب والأديان‪.‬‬ ‫نحن في العراق‪ ،‬و�أنتم في لبنان‪ ،‬بل نحن في لبنان‪ ،‬و�أنتم في العراق‪ ،‬ال فرق‪،‬‬ ‫وجميعنا في العالم الإ�سالمي والعربي‪ ،‬نتعر�ض لهجمة �شر�سة ومنظمة وممنهجة بطم�س‬ ‫هويتنا‪ ،‬وا�ستالب المنظومة القيمية والأخالقية من ديننا‪ ،‬وت�شويه �صورته‪ ،‬وهي وجه �آخر‬ ‫من المواجهات‪ ،‬التي تتعر�ض لها الأمة‪ ،‬من التحديات الخارجية من خالل الإ�ستعماري‬ ‫‪22‬‬


‫������������������������ ‬

‫والإحتاللي‪ ،‬والأ�شكال الأخرى للمواجهة‪ ،‬فهناك �أ�صابع مجهولة �أو معلومة‪ ،‬اختطفت‬ ‫فجر تحت غطاء الإ�سالم‪ ،‬وعباءة الإ�سالم‪.‬‬ ‫هجر و ُت ّ‬ ‫الدين من داخله‪ ،‬و�أ�صبحت تقتل و ُت ّ‬ ‫ا�شتدت الهجمة في العراق‪ ،‬فت�صدى لها علماء الدين والمجاهدون‪ ،‬بقيادة المرجعية‬ ‫العليا في النجف الأ�شرف‪ ،‬التي نبهت وتنبهت من هذا الخطر الكبير من خالل بياناتها‬ ‫وتوجيهاتها‪ ،‬التي تحثّ على الإلتزام بالد�ستور والم�شاركة في الإنتخابات‪ ،‬وبناء الدولة‪،‬‬ ‫و�إقامة الحوار مع الجميع‪ ،‬لأن البناء الح�ضاري والد�ستوري يق�ضي على الف�ساد‪ ،‬والإرهاب‪،‬‬ ‫و�أخير ًا �صدرت الفتوى الجهادية الت�أريخية من قبل �سماحة �آية اهلل العظمى المرجع‬ ‫هب �أبناء العراق من كل‬ ‫الأعلى ال�سيد ال�سي�ستاني (حفظه اهلل)‪ ،‬لمحاربة الإرهاب‪ ،‬وقد ّ‬ ‫البقاع‪ ،‬تلبي ًة لهذا النداء معلنيين ا�ستعدادهم لل�شهادة‪ ،‬دفاع ًا عن الدين وعن اهلل‪.‬‬ ‫�أيها الأخوة الأعزاء‪� ،‬إنّ هناك خطة لإعادة ت�شكيل خارطة جديدة للمنطقة‪ ،‬وقد‬ ‫و�ضعت لها مالمح هنا‪ ،‬وهناك لت�شويه هويتنا‪ ،‬ولذا ي�أتي هذا الم�ؤتمر التكريمي للعالمة‬ ‫ال�سيد محمد ر�ضا ف�ضل اهلل { في �إطار الدفاع عن الهوية في �إحياء الرموز وتكريم‬ ‫العلماء‪ ،‬لأن ا�ستعادة ذكرى العالمة الفقيه والأديب ال�شاعر ال�سيد ف�ضل اهلل هي‬ ‫ا�ستعادة ذكرى لجيل ثامن من العلماء والعظماء‪ ،‬وا�ستعادة لذكرى ال�شهادة وال�شهداء‪،‬‬ ‫ولل�شهيدين العامليين الذين رووا لنا بدمائهم ومدادهم‪ ،‬م�سيرتنا العلمية والجهادية‪،‬‬ ‫وهو تكريم لآل ال�صدر‪ ،‬هذه الأ�سرة التي تركت عالمات فارقة في جبين الع�صر الإمام‬ ‫ال�سيد مو�سى ال�صدر‪ ،‬والإمام ال�سيد محمد باقر ال�صدر‪ ،‬وال�شهيد محمد �صادق‬ ‫ال�صدر (ر�ضوان اهلل تعالى عليهم)‪ ،‬وغيرهم من �أفذاذ هذه الأ�سرة‪ ،‬وهو تكريم لآ�سرة‬ ‫�آل (ف�ضل اهلل) التي �أ�سهمت في تطوير الحركة الفقهية والأدبية والحركي وتكريم ًا‪ ،‬لكل‬ ‫هذا الجيل الطيب المبارك‪.‬‬ ‫�أيها الأخوة الأعزاء‪ ،‬بين والدة ال�سيد ف�ضل اهلل‪ ،‬وهذا الم�ؤتمر قدر كامل من الزمن‬ ‫والمتقلبات والتحوالت من �شتى مجاالت الحياة‪ .‬لن ت�ستطيع هذه التلقبات‪� ،‬أن تمحوا‬ ‫ذكره وتجعل القائمين على عقد هذا الم�ؤتمر‪ ،‬ين�شغلون عنه في غيره من التحديات‬ ‫‪23‬‬


‫ال�سيد محمد ر�ضا ف�ضل اهلل الحكيم والم�صلح‬

‫في ظل الواقع المهزوم‪ ،‬من هنا نتقد بال�شكر الجزيل للقائمين على هذا الم�ؤتمر‪،‬‬ ‫و�أخ�ص بالذكر الم�شرف على جمعية الإمام ال�صادق ‪ Q‬لإحياء التراث العلمائي‬ ‫�سماحة ال�شيخ ح�سن بغدادي‪ ،‬وم�س�ؤوله ال�سيد ها�شم �صفي الدين (حفظه اهلل) على‬ ‫هذه المبادرة‪ .‬لأن العالمة لم يفارق الحياة بعد‪ ،‬فهم يحيون رمز ًا من رموزنا لإحياء‬ ‫هويتنا‪ ،‬وهذا هو ديدن كل الذين �ساهموا في رفد الحياة بقيمها علم ًا و�أدب ًا و�إبداع ًا‪،‬‬ ‫ومواقف ال تن�سى‪ ،‬كما يقول العالمة ال�سيد مح�سن الأمين‪:‬‬ ‫ك � ��ذا �إذا ان �ح �� �س��ر ال �ع �م ��ر اب � �ت� ��د�أت ك �م��ا ل ��و �أن ح �ي��ن ي�ح�ب��و ي��ب ��د�أ العمر‬ ‫وال��م��ب ��دع ��ون م �ن��اي��اه��م ت���ض��اع�ف�ه��م ف �ك �ل �م��ا ق� ��ل م� ��ن �أع � �م� ��اره� ��م ك��ث ��روا‬ ‫من �أر�ض والدته‪ ،‬هنا في جبل عامل‪� ،‬إلى النجف الأ�شرف التي عاد منها‪ ،‬ومعه جبل‬ ‫من العلم والأدب والفقه‪ ،‬جاء بهذا الجبل من العلم‪ ،‬ولي�س بمقدور كل �أحد من الذين‬ ‫ق�صدوا النجف‪ ،‬لأن النجف ال تعطي‪ ،‬لمن يبخل عليها �إال للتلقي الإ�ستعداد كثير ًا‪،‬‬ ‫الذين در�سوا‪ ،‬لم يح�صلوا على ما ح�صل عليه‪ ،‬كما هو مدون في �سيرته فقد ا�شتهر‬ ‫بال�شعر والمعرفة والبالغة‪ ،‬وقال عنه ال�سيد ح�سن ال�صدر‪ ،‬الم�ؤرخ الم�شهور في كتاب‬ ‫تكملة �أمل الآمل‪�« :‬إنه ذو علم‪ ،‬و�أدب و�شعر‪ ،‬ونثر‪ ،‬وقلم ح�سن‪ ،‬وهو �أحد ح�سنات هذا‬ ‫الع�صر»‪� ،‬أ ّما الم�ؤرخ علي الخاقاني في كتابه �شعراء الغري‪ ،‬فقال عنه‪�« :‬شاعر �شهير‪،‬‬ ‫وكاتب مبدع‪ ،‬وله نثر‪ ،‬ترك لنا ال�سيد �آثار ًا ي�ست�ضاء بها‪ ،‬وعلى الرغم من الظروف‬ ‫ال�سيا�سية القاهرة‪ ،‬والمعي�شية التي كان وكانوا يعي�شونها مع ًا‪ ،‬فقال �شاعرهم في تلك‬ ‫الفترة المظلمة‪:‬‬ ‫ق �ل��ب ال �ج �ن ��وب م ��ن ال �ظ �م��ا ق ��د ذاب ��ا وال��ط��ف ��ل ف �ي��ه م ��ن ال � �ح� ��وادث ��ش��اب��ا‬ ‫وال� �ف� �ق ��ر ح� �ك ��م ف� ��ي ج �م �ي ��ع ج �ه��ات��ه م � ��ن ج � �ل� ��ده الأظ � � �ف� � ��ار والأن � �ي� ��اب� ��ا‬ ‫�أول� � �ئ � ��ك �آب � ��ائ � ��ي ف �ج �ئ �ن ��ي ب �م �ث �ل �ه��م �إذا ج �م �ع �ت �ن��ا ي� ��ا ج ��ري ��ر ال �م �ج��ام��ع‬ ‫وال�سالم عليكم ورحمة اهلل وبركاته‪.‬‬ ‫‪24‬‬


‫����������������� ‬

‫الشيخ أحمد مبلغي‬

‫(((‬

‫عالم مجدد‪ ،‬م�صلح‪ ،‬جمع بين الفقه والفل�سفة‪ ،‬وجمع بين النظرية والتطبيق‪.‬‬ ‫في الأدبيات الدينية نجد كلم ًة ال بد في العلوم من �أن ننطلق منها؛ وهي العلم النافع‪.‬‬ ‫الإ�سالم ال يريد العلم لكي يطرح‪ ،‬وال ينزل �إلى الواقع‪ ،‬وال يطبق على الواقع‪ ،‬بل‬ ‫دائم ًا يريد �أن يحذف الو�سائط بين العلم والعمل‪ ،‬و�أن يجعل المجتمع والعلماء يحاولون‬ ‫تطيبق العلم ب�سرعة على ق�ضايا المجتمع‪.‬‬ ‫الإ�سالم عندما يطرح الفقه‪ ،‬ال يريد �أن يكون هناك فقهاء يجل�سون في بيوتهم‪ ،‬وهم‬ ‫غافلون عن واقع المجتمع‪ ،‬ف�أورثوا فقه ًا و�أوجدوا ق�ضايا فقهية التنفع المجتمع‪ ،‬الفقه‬ ‫ّ َ َ َ َّ ُ ْ‬ ‫ّ‬ ‫ِين ﴾‪ ،‬ثم بعده‬ ‫في الإ�سالم فقه هادف‪ ،‬ولذلك نجد في القر�آن الكريم ﴿ ِلتفقهوا ِف ٱدل ِ‬ ‫ْ‬ ‫﴿ َو ِلُنذ ُِروا قَ ۡو َم ُه ۡم ﴾‪ ،‬هنا تتب ّين الهدفية من الفقه‪ ،‬الهدف هو �إيجاد الأثر‪ ،‬هو الت�أثير‬ ‫على المجتمع‪ ،‬هو جعل المجتمع ينتفع بهذا العلم وهذا الفقه‪� .‬أما مج ّرد الفقه‪ ،‬هو‬ ‫مج ّرد كلمات‪ ،‬تُبثّ في الف�ضاء‪ ،‬وهي ال تنفع �أ�ص ًال‪ ،‬والهادفية للفقه‪� ،‬إنما ُيعلم حالها‬ ‫من القوم الذين هم الهدف‪ ،‬لأن الفقيه‪ ،‬ال ب ّد �أن ي�أتي �إلى القوم وينذرهم‪ ،‬فال ب ّد من‬ ‫�أن ينظر �إلى القوم‪.‬‬ ‫(( ( ع�ضو مجل�س الخبراء في الجمهورية الإ�سالمية في �إيران‬

‫‪25‬‬


‫ال�سيد محمد ر�ضا ف�ضل اهلل الحكيم والم�صلح‬

‫وهنا �شيء لطيف ال بد من الإلتفات �إليه‪ ،‬وهو �أنّ القوم ال �سيما في هذا الع�صر‪،‬‬ ‫وجملة من الع�صور الما�ضية المتقدمة علينا‪ ،‬القوم قد يتك ّونوا من ال�سنة وال�شيعة‪ ،‬وقد‬ ‫يتكونوا من الم�سلم وغير الم�سلم‪ ،‬فالفقيه �سواء كان فقيه ًا من ال�سنة �أو كان فقيه ًا‬ ‫من ال�شيعة‪ ،‬ال ب ّد �أن ينظر �إلى القوم‪ ،‬و�أن يوجه ويخاطب هذا القوم‪ ،‬و�أن يفهم هذا‬ ‫القوم‪ ،‬ولذلك نجد �أنّ الكثير من فقهائنا كانوا ينظرون �إلى واقع المجتمع‪ ،‬فال�شهيد‬ ‫الأول وال�شهيد الثاني‪ ،‬هما المثاالن البارزان لنا‪ ،‬هذان ال�شهيدان‪ ،‬كانا فقيهين بارزين‪،‬‬ ‫ولكنهما لما ر�أوا �أنّ المجتمع مك ّون من ال�سنة وال�شيعة‪ ،‬دخلوا في فقه المذهب‪� ،‬أي في‬ ‫مذهبهما (مذهب ال�شيعة)‪ ،‬كما دخلوا في فقه مذهب �أهل ال�سنة‪ ،‬ود ّر�سا هذا المذهب‬ ‫�أي�ض ًا‪ ،‬بل كانا عالمين‪ ،‬وفقيهين في جميع المذاهب‪ ،‬وكانا قد � ّأ�س�سا الفقه المقارن‪ ،‬مع‬ ‫لونه الخا�ص‪ ،‬وكانا قد �أعطيا هذا الفقه مرحلة متقدمة‪ ،‬بحيث ننتفع نحن اليوم من‬ ‫�آثار و نتائج فقههما في مجال الفقه المقارن‪.‬‬ ‫لبنان منطقة‪ ،‬خا�صة لل�شيعة وال�سنة مع ًا‪ ،‬مناخ لبنان مناخ خا�ص‪ ،‬ينتج الفقه‬ ‫وي�صرف ب�سرعة في المجتمع‪ ،‬هذا امتياز‪�ُ ،‬س ّجل لكم في التاريخ‪ ،‬علما�ؤكم لم يكونوا‬ ‫فقهاء منعزلين عن المجتمع‪ ،‬بل كانوا فقهاء يدخلون في الميادين الإجتماعية‪ ،‬ويب ّثون‬ ‫�أفكارهم‪ .‬ق ّلما يوجد فقيه لبناني‪ ،‬وهو غير م�صلح‪ ،‬وال�شيعة بل جميع العالم الإ�سالمي‬ ‫يلتفت لما ترك الفقهاء اللبنانيين على م ّر الزمن‪ .‬و�أنا �أقول‪ :‬حتى في الزمن المعا�صر‪،‬‬ ‫نجد �أن هذا المناخ‪ ،‬الم�ستعد للإ�ستفادة من العلوم‪ ،‬ل�صرف العلوم في مواقعها‪ ،‬وفي‬ ‫الق�ضايا الإجتماعية‪ ،‬هذا المناخ حتى في هذا الع�صر‪ ،‬قد كان له �أثره البارز والمميز‬ ‫في الجمع بين العلم والعمل‪.‬‬ ‫الإمام ال�سيد مو�سى ال�صدر (�أعاده اهلل)‪ ،‬عندما جاء �إلى هنا‪� ،‬صحيح �أنه كان‬ ‫م�صلح ًا‪ ،‬وذا ر�أي بالعالقات الإجتماعية‪ ،‬ب�صورة متم ّيزة‪� ،‬إال �أنّ �شخ�صية الإمام مو�سى‬ ‫ال�صدر‪ ،‬لي�ست كلها منه‪ ،‬بل �أي�ضا من هذا المناخ العلمي الجاد اللبناني‪ .‬ولذلك هو‬ ‫جاء‪ ،‬و�أحدث ثورة فكرية ق ّلما يوجد مثل هذه الأفكار التي تركها على هذه ال�ساحة‪.‬‬ ‫‪26‬‬


‫����������������� ‬

‫بالن�سبة للتعاي�ش الإ�سالمي‪ ،‬العالم دائم ًا بحاجة �إلى مثل درا�سة �أفكار الإمام مو�سى‬ ‫ال�صدر‪ ،‬لأن ما تركه لكم‪ ،‬وبف�ضل مناخكم الم�ستعد‪ ،‬هو المثال الأعلى حقيق ًة‪.‬‬ ‫حزب هو حركة‪ ،‬يمثل �إرادتكم لإبراز الفقه والعلوم الإ�سالمية ب�سرعة �إلى المجتمع‪،‬‬ ‫ف�إنّ الكثير من العلوم الإ�سالمية في هذه الحركة تتجلى وتتج�سد‪ ،‬وهذا بف�ضل العلماء‪،‬‬ ‫ولذلك نجد اليوم لبنان بف�ضل �إرادتكم يلمع نج ُمه في العالم الإ�سالمي‪ ،‬نحن نك ّرم هذا‬ ‫العالم‪ ،‬من ال�ساللة اللبنانية‪ ،‬وهوعال ٌم م�صلح‪ ،‬عال ٌم مج ّدد‪ ،‬عندما تقر�أ كتبه ترى �أنه‬ ‫لم يكن فقط فيل�سوف ًا‪ ،‬بل كان يحاول الإنطالق من الفل�سفة �إلى ما ينفع المجتمع‪.‬‬ ‫من خالل قراءتي لكتابه (ميزان العدل)‪ ،‬ر�أيت �أنه يمتلك ر�ؤية فل�سفية قوية‪ ،‬تعادل‬ ‫ما قاله الفال�سفة الما�ضون‪� ،‬إال �أنه قد حاول ت�سوية هذه المبادئ الفل�سفية �إلى واقع‬ ‫العمل‪.‬‬ ‫�أنا �أ�شكر هذا الحفل الكريم‪ ،‬و�أتقدم بال�شكر �إلى �سماحة ال�شيخ ح�سن بغدادي‪،‬‬ ‫لمحاولته عقد مثل هذه الندوات والم�ؤتمرات الق ّيمة‪ ،‬و�أتقدم بال�شكر � ً‬ ‫أي�ضا �إلى �سماحة‬ ‫ال�سيد ها�شم �صفي الدين والعلماء الآخرين‪ ،‬و�أ�شكركم جميع ًا وال�سالم عليكم ورحمة‬ ‫اهلل وبركاته‪.‬‬

‫‪27‬‬



‫����������������� ‬

‫الشيخ حسن بغدادي‬

‫(((‬

‫�أ ّيها الحفل الكريم‪..‬‬ ‫ي�أتي م�ؤتمرنا هذا تكريم ًا لأهل العلم‪ ،‬ولعطاءاتهم الم�ضيئة‪ ،‬التي ا�ستنار �أهل الجهل‬ ‫بنور علمهم‪ ،‬ف�أخرجوهم من الظلمات �إلى النور‪ ،‬و�أخرجوا من عقولهم ال�شبهات التي‬ ‫زرعها ال�شياطين‪ ،‬ور�سموا لهم طريق الخير‪ ،‬فكانوا الأدالء على اهلل تعالى‪ ،‬وهداة‬ ‫الدرب والحجة الظاهرة على الخلق في زمن غيبة المع�صوم |‪ ،‬فكان الراد عليهم‬ ‫را ًّدا على الأئمة الأطهار ‪ ،R‬وبالتالي هو را ٌّد على اهلل عز وجل‪.‬‬ ‫من هذا النور خرج عل ٌم من جبل عامل‪ ،‬هو ال�سيد محمد ر�ضا ف�ضل اهلل‪� ،‬صاحب‬ ‫المواهب المتعددة في الفقه والأ�صول والأدب والفل�سفة‪ ،‬من قرية (عيناثا) المتن ّورة‪،‬‬ ‫والتي خرج منها علماء وفطاحل‪ ،‬منذ النه�ضة العلمية الأولى التي ت� ّأ�س�ست في هذا‬ ‫الجبل على يد �شهيدنا الأول ال�شيخ محمد بن مكي الجزيني(((‪� ،‬إلى عهد النه�ضة العلمية‬ ‫الثانية التي انطلقت بعد نهاية النكبة �سنة ‪1804‬م‪1219/‬هـ(((‪.‬‬ ‫(( ( ع�ضو المجل�س المركزي في حزب اهلل‪ ،‬والم�شرف على �أعمال الم�ؤتمر‬ ‫((( �أبو عبد اهلل محمد بن ال�شيخ جمال الدين مكي �إبن ال�شيخ �شم�س الدين محمد بن حامد بن �أحمد المطلبي ن�سب ًا الحارثي‬ ‫الهمداني �أم ًا النباطي الجزيني العاملي موطن ًا المعروف بال�شهيد الأول‪� ،‬صاحب كتاب اللمعة الدم�شقية‪ ،‬كان عالم ًا ماهر ًا‬ ‫فقيه ًا محدث ًا مدقق ًا ثقة متبحر ًا كام ًال جامع ًا لفنون العقليات والنقليات زاهد ًا عابد ًا ورع ًا �شاعر ًا �أديب ًا من�شئ ًا‪ ،‬فريد دهره‪،‬‬ ‫عديم النظير في زمانه‪ ،‬ا�ست�شهد �سنة ‪ 786‬هـ في اليوم التا�سع من جمادى الأولى في دم�شق في دولة بيدر و�سلطنة برقوق‬ ‫بفتوى القا�ضي برهان الدين المالكي وعباد بن جماعة ال�شافعي بعد ما حب�س �سنة كاملة في قلعة ال�شام‪.‬‬ ‫(( ( المق�صود بها‪ ،‬نكبة جبل عامل على يد الوالي العثماني �أحمد با�شا الجزار وا�ست�شهاد الأمير نا�صيف الن�صار‪ ،‬حيث عمد العثمانيون‬ ‫�إلى التفكير الجدي بو�ضع جبل عامل تحت الو�صاية المبا�شرة‪ ،‬وكانت النكبة من �سنة ‪1781‬م ــ ‪1804‬م ‪1195 /‬هـ ــ ‪1219‬هـ‪.‬‬

‫‪29‬‬


‫ال�سيد محمد ر�ضا ف�ضل اهلل الحكيم والم�صلح‬

‫(عيناثا)‪ ،‬كانت �إحدى الحوا�ضر العلمية في هذا الجبل ال�شامخ‪ ،‬فلم تكن مج ّرد‬ ‫قرية ي�سكنها �أحد العلماء‪� ،‬إنما كانت م�شروع توليد لهذه الطاقات‪ ،‬في م�شروع‬ ‫ا�ستقطاب لح�ضور العلماء والطالب �إليها من خارج حدودها الجغرافية‪ ،‬فعلى �سبيل‬ ‫المثال‪ :‬ح�ضر �إلى (عيناثا) في �أيام �شبابه‪ ،‬ال�شيخ نا�صر بن �إبراهيم البويهي‪ ،‬وهو من‬ ‫�ساللة ملوك البويهيين(((‪ ،‬وبقي في (عيناثا) �إلى �أن توفي �سنة ‪853‬هـ‪ ،‬ودر�س فيها‬ ‫على ف�ضالئها‪ ،‬منهم‪ :‬ال�شيخ ظهير الدين العاملي‪ ،‬و�أ�صبح من ف�ضالء جبل عامل‪ ،‬ومن‬ ‫�أدبائه المعروفين‪ ،‬وهناك العديد من ال�شهادات بحقه‪.‬‬ ‫ومن الذين قدموا �إلى (عيناثا) ال�شريف ح�سن ــ ج ّد ال�سادة �آل ف�ضل اهلل الح�سني ــ‬ ‫قدم من مكة المكرمة‪ ،‬بداعي العالج‪ ،‬وكان على �صلة بعلماء (�آل خاتون)‪ ،‬حيث تع ّرف‬ ‫�إليهم عندما كانوا يذهبون لأداء منا�سك الحج والعمرة‪ ،‬حيث كانت زيارة الأماكن‬ ‫المقد�سة في ذلك الزمن‪ ،‬تختلف عن اليوم من حيث م ّدة البقاء‪ ،‬و�إن�شاء العالقات مع‬ ‫�أهالي و�أعيان تلك البالد‪.‬‬ ‫ال�سيد محمد ر�ضا‪ ،‬ولد في هذه القرية المتنورة‪ ،‬ومن هذه العائلة ال�شريفة وذلك‬ ‫�سنة ‪1281‬هـ ــ ‪1864‬م‪ ،‬ويعود ن�سبه �إلى الإمام الح�سن المجتبى ‪.Q‬‬ ‫�شاءت الإرادة الإلهية �أن يتوجه هذا ال�شاب نحو طلب العلم‪ ،‬مع �أنّ والده لم يكن من‬ ‫�أهل العلم‪ ،‬و�إنما وقع في قلبه‪ ،‬توجيه ولده نحو هذا الطريق‪ ،‬حيث تو ّقع له �أن يكون له‬ ‫أحد الذين �سينه�ضون‬ ‫أحد رجاالت الإ�صالح‪ ،‬وي�صبح � َ‬ ‫�ش�أ ٌن في يوم من الأيام‪ ،‬و ُي�صبح � َ‬ ‫بجبل عامل مجدد ًا‪ ،‬على ال�صعيدين العلمي والأدبي‪ ،‬م�ضاف ًا لمهام �إ�صالحية �أخرى في‬ ‫ال�ش�أن الإجتماعي وال�سيا�سي‪.‬‬ ‫لم يكن جبل عامل في تلك الفترة مه ّي ًئا لتوليد الطاقات العلمية‪ ،‬والإ�ستغناء عن‬ ‫مراكز العلم في الخارج‪ ،‬ب�سبب ق ّلة عدد العلماء المتم ّكنين من المتابعة في الدرجات‬ ‫(( ( ال�شيخ محمد بن الح�سن الحر (الحر العاملي)‪� ،‬أمل الآمل‪ ،‬ج‪� ،1‬ص‪.187‬‬

‫‪30‬‬


‫����������������� ‬

‫العليا‪ ،‬م�ضاف ًا للإن�صراف �إلى �أعمال �أ�سا�سية‪ ،‬كانت تقت�ضيها الم�صلحة بعد نهاية‬ ‫النكبة؛ فالتبيليغ الديني‪ ،‬و�إحياء المنا�سبات وتثبيت عقيدة النا�س‪ ،‬وبناء المدار�س‪،‬‬ ‫و�إعادة الحياة �إلى طبيعتها‪ ،‬تحتاج �إلى الكثير من بذل الجهد والوقت‪ ،‬لهذا كانت‬ ‫الم�صلحة تقت�ضي ا�ستنها�ض من يجدون فيهم الكفاءة �إلى طلب العلم‪ ،‬وتدري�سهم‬ ‫المقدمات ب�إتقان‪ّ ،‬ثم �إر�سالهم �إلى النجف الأ�شرف‪ ،‬للتفرغ الكامل والدر�س على‬ ‫الأفا�ضل والأ�ساطين الذين �أعطوا ك ّل وقتهم للتدري�س والت�صنيف‪.‬‬ ‫كان ال�سيد محمد ر�ضا من هذه الثلة الطيبة التي انت�سبت �إلى المدار�س الدينية‬ ‫في (عيناثا) و(حناويه) و(بنت جبيل)(((‪ ،‬وبعد رحيل العالمة ال�شيخ مو�سى �أمين‬ ‫�شرارة �سنة ‪1304‬هـ‪ ،‬تف ّرق الطالب‪ ،‬وبع�ضهم انت�سب �إلى مدر�سة ال�سيد يو�سف �شرف‬ ‫الدين في (طورا)(((‪ ،‬من �سنة ‪1305‬هـ �إلى �سنة ‪1308‬هـ‪ ،‬حيث ق ّرروا ترك جبل عامل‪،‬‬ ‫والتوجه �إلى النجف الأ�شرف‪.‬‬ ‫لم يكن قرار الهجرة �إلى العراق‪ ،‬بالأمر ال�سهل‪ ،‬فم�ش ّقة الطريق والمخاطر ال�صحية‬ ‫والأمنية‪ ،‬هذا ناهيك عن الحياة ال�صعبة في النجف‪ ،‬لكن هذه المعاناة كانت تنتهي عند‬ ‫م�شاهدة الق ّبتين ال�شريفتين للإمامين مو�سى الكاظم وحفيده محمد الجواد‪،L ‬‬ ‫عرجون على‬ ‫فبعد الزيارة والدعاء والتو�سل باهلل تعالى للتوفيق في هذا الطريق‪ُ ،‬ي ّ‬ ‫كربالء حيث المرقد المط ّهر ل�سيد ال�شهداء الإمام الح�سين ‪ ،Q‬و�أخيه قمر بني‬ ‫ها�شم �أبي الف�ضل العبا�س ‪.Q‬‬ ‫المحطة الأخيرة‪ ،‬تكون (النجف الأ�شرف)‪ ،‬حيث مرقد �أمير الم�ؤمنين ‪،Q‬‬ ‫(( ( مدر�سة (عيناثا) وكان ت�أ�سي�سها على يد ال�سيد نجيب الدين ف�ضل اهلل‪ ،‬ومدر�سة (حناويه) ت�أ�س�ست على يد ال�شيخ محمد على‬ ‫عز الدين‪ ،‬ومدر�سة (بنت جبيل) ت�أ�س�ست على يد ال�شيخ مو�سى �أمين �شرارة‪.‬‬ ‫((( ال�سيد يو�سف بن ال�سيد جواد بن ال�سيد �إ�سماعيل بن ال�سيد محمد الثاني بن ال�سيد محمد الكبير بن ال�سيد �شرف الدين‬ ‫المتوفى في ذي الحجة من �سنة ‪1334‬هـ‪ ،‬وهو والد ال�سيد عبد الح�سين �شرف الدين العالم العاملي ال�شهير‪ ،‬وكان عالم ًا‬ ‫فا�ض ًال تقي ًا نقي ًا و�شاعر ًا �شهم ًا كريم الأخالق‪� ،‬سخي اليد تلوح عليه �آثار النجابة وال�سيادة‪.‬‬ ‫ وبعد رحيل ال�شيخ مو�سى �أمين �شرارة‪� ،‬أ�شاد على ال�سيد يو�سف ال�شيخ محمد مغنية‪ ،‬ب�أن ي�شيدوا مدر�سة في و�سط البالد‪،‬‬ ‫فكانت (طورا)‪ ،‬وبالفعل انت�سب ال�سيد محمد ر�ضا �إليها مع بع�ض �إخوانه من �سنة ‪1305‬هـ �إلى �سنة ‪1308‬هـ‪.‬‬

‫‪31‬‬


‫ال�سيد محمد ر�ضا ف�ضل اهلل الحكيم والم�صلح‬

‫والحوزة العلمية ال�شريفة‪ ،‬وين�سى معهما طالب العلم معاناته و�آالمه‪ ،‬فل ّذة المجاورة‬ ‫للحرم ال�شريف‪ ،‬ول ّذة الح�صول على المراتب العلمية وكماالت النف�س‪ُ ،‬تن�سيه جوعه‬ ‫وعط�شه‪ ،‬وبرد وح ّر تلك البالد التي ال ُتطاق‪.‬‬ ‫وكان ال�سيد محمد ر�ضا ف�ضل اهلل يتمثل قول ال�شاعر‪:‬‬ ‫لأ�ست�سهلن ال�صعب �أو �أدرك المنى ف �م��ا ان � �ق� ��ادت الآم � � ��ال �إال ل���ص��اب��ر‬ ‫بقي ال�سيد محمد ر�ضا في النجف‪ ،‬منك ّب ًا عل الدر�س وتربية النف�س‪ ،‬وفي الغالب يهتم‬ ‫طالب العلم بعلمي الفقه والأ�صول‪ ،‬ويحوز على كثير من المعارف ب�شكل عام �سواء في‬ ‫الفل�سفة �أو علم الكالم والتف�سير �أو الأدب‪ ،‬من دون التركيز والخو�ض في تفا�صيلها‪ ،‬بينما‬ ‫نجد ال�سيد محمد ر�ضا‪ ،‬قد �أعطى الأمر ح ّيز ًا من وقته للح�صول على مالكات علوم‬ ‫مختلفة‪ ،‬من‪ :‬فل�سفة‪ ،‬وعلم كالم و�أدب‪ ،‬ومنهج �إ�صالحي وتربوي متكامل‪ ،‬وك�أنه كان َيع ّد‬ ‫نف�سه لمرحلة �سيكون فيها �أحد الذين يمتلكون القدرة على الن�صيحة للعلماء‪ ،‬والتوجيه‬ ‫للنا�س‪ ،‬وهذا ما ظهر في النجف الأ�شرف قبل العودة �إلى (لبنان)‪ .‬وهذه ميزة كبيرة‪،‬‬ ‫ففي النجف غالب ًا ال يت�صدى طالب العلم �إلى ال�ش�أن العام‪ ،‬فالمبادرة للإ�صالح والتوجيه‪،‬‬ ‫دل على �شيء َي ّ‬ ‫له هيبته وخ�شيته‪� ،‬أمام �أولئك الأعالم والأ�ساطين‪ .‬وهذا �إن ّ‬ ‫دل على مكانته‬ ‫العلمية والأدبية‪ ،‬وعلى قوة ح�ضوره ال�شخ�صي في عقول وقلوب ه�ؤالء الأعالم‪.‬‬ ‫الوقت هنا ال يتّ�سع لذكر تفا�صيل حول تلك المرحلة‪ ،‬ولكن �إن �شاء اهلل �سوف �أذكر‬ ‫بع�ض تفا�صيل تلك المرحلة في بحث ‪ -‬محطات م�ضيئة من حياته ال�شريفة(((‪.‬‬ ‫ولن �أتع ّر�ض في هذا المقام �إلى درا�سته في النجف الأ�شرف‪ ،‬و�إلى مكانته العلمية‪،‬‬ ‫و�إلى �أ�ساتذته‪ ،‬و�سلوكه التربوي‪ ،‬و�أترك الحديث عن هذه التفا�صيل �إلى ذلك البحث‬ ‫الذي �أ�شرت �إليه‪ ،‬مقدمة (الكتاب)‪ ،‬لكن في هذا اللقاء �س�أذكر نقطتين �أ�سا�سيتين‪ ،‬في‬ ‫�شخ�صية ال�سيد محمد ر�ضا‪ ،‬هما‪:‬‬ ‫(( ( بحث ال�شيخ ح�سن بغدادي‬

‫‪32‬‬


‫����������������� ‬

‫الأولى‪ :‬ما �أطلقه في كتاباته من ر�سائل وق�صائد‪ُ ،‬تد ّلل على ر�ؤيته لموقع الفقيه‬ ‫العادل في قيادة الأمة الذي هو �إمتداد لموقع الإمام المع�صوم ‪ Q‬في زمن الغيبة‪،‬‬ ‫و�أنّ العالم الديني الجامع لل�شرائط‪ ،‬هو الم�س�ؤول الأول عن حفظ هوية وق�ضية هذه‬ ‫الأمة‪ ،‬فعندما تفقد الأمة هويتها وق�ضيتها‪� ،‬سوف تتع ّر�ض للتمزيق والت�شتت‪ ،‬و�سيح ّل‬ ‫مكان عقالئها �صبيا ُنها‪ ،‬ونحن نتحدث عن عالم ينتمي �إلى مدر�سة‪ ،‬لم تتخ َّل يوم ًا عن‬ ‫دورها في �إ�صالح الأ ّمة‪ ،‬وحفظ كيانها‪ ،‬مهما كان الجور �ضاغط ًا عليهم‪ ،‬ومهما كانت‬ ‫المخاطر محدقة بهم‪،‬فهل كان يتخ ّيل �أح ٌد م ّنا‪� ،‬أنّ عالم ًا من قرية (جباع) في جبل‬ ‫عامل‪ ،‬يذهب �إلى عا�صمة الدولة العثمانية ليلتقي فقهاء البالط �سنة ‪ 952‬هـ‪ّ ،‬ثم يعود‬ ‫معزّز ًا مك ّرم ًا‪ ،‬هل هذا يمكن تحقيقه‪ ،‬لوال الإمكانيات العلمية المتعددة‪ ،‬وال�شجاعة‬ ‫الفريدة من نوعها‪ ،‬والدافع له هو الدفاع عن الدين‪ ،‬وعن الأ ّمة الإ�سالمية‪ ،‬ثم ي�سكن‬ ‫بعلبك ليد ّر�س طبق المذاهب الإ�سالمية الخم�سة‪� ،‬إ ّنه ال�شهيد الثاني‪ ،‬ال�شيخ زين الدين‬ ‫الجباعي‪ ،‬الذي قتله العثمانيون في عا�صمتهم (�إ�سطنبول) �سنة ‪965‬هـ‪.‬‬ ‫كذلك نجد ال�سيد محمد ر�ضا ف�ضل اهلل‪ ،‬الذي �سمع وعا�ش ك ّل هذا الظلم العثماني‪،‬‬ ‫ومع ذلك ال نجده يح ّر�ض عليهم في لحظة كان ُيمكن له الإنتقام منهم‪ ،‬والفر�صة‬ ‫م�ؤاتية‪ ،‬ومع ذلك لم يفعل ال هو‪ ،‬وال �إخوانه من العلماء‪ ،‬بل حاولوا ن�صرتهم �أمام‬ ‫الخطر الأكبر‪ .‬كان خائف ًا على هذه الأ ّمة من التمزّق‪ ،‬لذا كان التوجه مع �إخوانه العلماء‬ ‫على م�ساندة الدولة العثمانية‪ ،‬ومنعها �أن ت�سقط �أمام الغرب‪ ،‬عندما ظهرت مالمح‬ ‫أ�سوف عليها‪ ،‬لما ارتكبته من‬ ‫�سقوطها‪ ،‬وبوادر الحرب العالمية العامة‪ ،‬مع �أ ّنه غير م� ٍ‬ ‫وتع�ص ٍب طيلة قرون‪ ،‬وبالخ�صو�ص تلك الحقبة الم�ش�ؤومة‪ ،‬والتي لم تكن‬ ‫ٍ‬ ‫بط�ش وجهل‪ّ ،‬‬ ‫بعيدة زمن ًا عن ال�سيد محمد ر�ضا‪ ،‬وهي نكبة جبل عامل على �أيدي �أحمد با�شا الجزار‬ ‫�سنة ‪1195‬هـ‪1781/‬م‪.‬‬ ‫وعندما �شنّ الطليان غزوتهم على مدينة طرابل�س الغرب في ليبيا في �شوال �سنة‬ ‫‪1329‬هـ‪1911/‬م‪ ،‬وهتكوا فيها كرامة الم�سلمين‪ ،‬وقف ال�سيد محمد ر�ضا ف�ضل اهلل‬ ‫‪33‬‬


‫ال�سيد محمد ر�ضا ف�ضل اهلل الحكيم والم�صلح‬

‫مح ّر�ض ًا على الطليان‪ ،‬وم�ستنه�ض ًا الأمة حكومات و�شعو ًبا في �سبيل ن�صرة الم�سلمين‪،‬‬ ‫من خالل ق�صيدة ال زال �صداها �إلى اليوم‪ ،‬وم ّما جاء فيها‪:‬‬ ‫أرواح ن �ه �ب��ا‬ ‫�أث� � �ي � ��روه � ��ا ع� �ل ��ى ال� �ط� �ل� �ي ��ان ح ��ر ًب ��ا ع� � ��وا ًن� � ��ا ت � �ن � �ه� � ُ�ب ال َ‬ ‫�أث � �ي� ��روه� ��ا وغ� � ��ى ه��ي��ج ��ا ���ض ��رو���س�� ًا ت � �� � �ش� � ُّ�ب ب � �ح� ��وم� ��ة ال � �ط � �ل � �ي� ��ان ���ش�� ّب ��ا‬ ‫ع �ل �ي �ه��م ف ��ا�� �ض ��رب ��وا �� �س ��ور ال �م �ن��اي��ا ب� �ج� �ي� �� � ٍ�ش ي� � �م �ل ��أ الأك � � � � � ��وان رع � � ًب� ��ا‬ ‫�أث � � �ي� � ��روه� � ��ا �أث � � �ي� � ��روه� � ��ا ه � �ي� ��اج � � ًا ف� �م ��ا غ� �ي ��ر ال� ��� �س� �ي ��وف ل � �ه� ��نّ ِط� � ّب ��ا‬ ‫ل� �ن ��ا �إن �أرغ � � � ��م الآن� � � � � � َ‬ ‫�اف � �ض �ي � ٌم ع� ��ران � �ي� ��نٌ ���ش��م��ي � َ�م ال� �� َّ��ض� �ي ��م ت� ��أب ��ى‬ ‫ل � �ن� ��ا ال � � � �غ� � � ��ارات �� � �ش � ��اه � ��دة ب� � ��أ ّن � ��ا ر�أي � �ن� ��ا ال � �م� ��وت ف� ��ي ال� � �غ � ��ارات ع��ذب��ا‬ ‫�إذا ف� �ط ��م ال� ��ر� � �ض� ��اع ل� �ن ��ا ول � �ي� ��د ًا ع� �ل ��ى ال � � �غ� � ��ارات وال � � �غ� � ��زوات � �ش � ّب��ا‬ ‫الثانية‪ :‬كان ال�سيد محمد ر�ضا خائف ًا على (اللغة) من الت�ش ّوه‪ ،‬وبالتالي الخوف على‬ ‫(الهوية)‪ ،‬حيث الإحتالالت والثقافات المختلفة التي تعاقبت على منطقتنا‪ ،‬فكان ال ُب ّد‬ ‫من تح�صين اللغة من خالل ن�شر الأدب وال�شعر‪ ،‬وكيف ال يكون كذلك وهو من تالميذ‬ ‫تلك المدر�سة التي �ش ّيدها العالمة ال�شيخ مو�سى �أمين �شرارة‪ ،‬في (بنت جبيل)‪ ،‬حيث‬ ‫�أطلق العنان للأدب وال�شعر‪ ،‬والم�شروع الإ�صالحي الذي ع ّبر عنه ال�سيد مح�سن الأمين‬ ‫الذي كان �أحد تالميذ تلك المدر�سة‪ ،‬فقال‪« :‬لقد قام �سوق العلم والأدب في عهد ال�شيخ‬ ‫مو�سى �أمين �شرارة»(((‪.‬‬ ‫لم يكن ال�سيد ف�ضل اهلل من ال�شعراء العاديين الهاوين لل�شعر‪ ،‬بل كان �أديب ًا �شاعر ًا‬ ‫محترف ًا‪ ،‬وق�صائده ال تحتاج �إلى دليل وم�ؤيد‪.‬‬ ‫م�سارات‬ ‫هذه الإنجازات التي قام بها �أو ق ّدمها ك�أفكار في لبنان‪ ،‬ت�صلح في ر�سم‬ ‫ٍ‬ ‫�أخالقية وتربوية‪ ،‬و�إلى تح ّمل الم�س�ؤولية‪ ،‬وما كان هذا ليتم لوال �أن التفت �إلى نف�سه‬ ‫في النجف الأ�شرف‪ ،‬ف�أ ّدبها وعاقبها‪ ،‬ونمت فيها المالكات التي ُت�شكل �ضمانة عدم‬ ‫(( ( ال�سيد مح�سن الأمين‪� ،‬أعيان ال�شيعة‪ ،‬ج‪� ،15‬ص‪.53‬‬

‫‪34‬‬


‫����������������� ‬

‫الوقوع في الرذيلة بلحظة غ�ضب �أو �شهوة‪ ،‬فع�صمها عن الخط�أ من دون ع�صمة‪ ،‬وهذا‬ ‫يمكن فه ُمه من خالل كتابه (ال�سمك ّية)‪ ،‬حيث تلك الحادثة التي حدثت معه في النجف‪،‬‬ ‫وهي �أكلة �سمك‪� ،‬سقط في �شهوة �أكلها ُ‬ ‫بع�ض الطلبة تحت عنوان (المزاح الغليظ)‪،‬‬ ‫فتن ّبه‪� M ‬إلى مكامن ال�شيطان الخف ّية‪ ،‬عند من يرون �أنف�سهم بعيدين عن مكائده‬ ‫وحبائله‪ ،‬ف�ص ّنف كتاب ًا �سماه (ال�سمك ّية) ن�سب ًة �إلى الحادثة‪ .‬عالج المو�ضوع التربوي‬ ‫والأخالقي‪ ،‬من خارج الم�ألوف والمتعارف‪ .‬فالك ّل يعرف �أذ ّية الم�ؤمن حرام‪ ،‬والغيبة‬ ‫حرام‪ ،‬والكذب حرام‪ ،‬و�إنما عالج الخلفيات وال�سلوك الذي يو�صل �صاح َبه �إلى ارتكاب‬ ‫الح�س الإن�ساني‪ ،‬في مواجهة الرذائل الخفية التي ُتوقع‬ ‫هذه الرذائل‪ ،‬من خالل تنمية ّ‬ ‫بالإن�سان‪ .‬وهذه الرذائل‪ ،‬ال يرتدع �صاح ُبها عنها لمج ّرد معرفته الحالل والحرام‪ ،‬بل‬ ‫هو ٌ‬ ‫�سلوك يمنع من الوقوع في �أمثال هذه المح ّرمات‪ ،‬التي ت�صبح معها المالكات حاكمة‬ ‫على مو�ضوع المح ّرمات‪ ،‬فال يعود معها مكا ٌن للتفكير بالحرام‪ ،‬ف�ض ًال عن الوقوع به‪.‬‬ ‫في الختام‪:‬‬ ‫�شخ�صيات علمائية من ن�سيج ال�سيد محمد ر�ضا ف�ضل اهلل‪،‬‬ ‫ما �أحوجنا اليوم �إلى‬ ‫ٍ‬ ‫العالم الواعي والر�ؤوف‪ ،‬والقادر على معالجة الكثير من الق�ضايا‪ ،‬ذات ال�صلة بالتطور‬ ‫العلمي‪ ،‬وبالمنهج العقلي‪ ،‬وبتح ّمل الم�س�ؤولية من دون قلق وال وجل‪ ،‬وعلى �سبيل المثال‪:‬‬ ‫أهم العناوين المالزمة للإبقاء على الأ ّمة‬ ‫معالجته ق�ضية (الإمامة)‪ ،‬التي هي من � ّ‬ ‫مرتبطة بدينها وبنب ّيها‪ P ‬وبمعتقداتها‪ ،‬ف�س ّلط ال�ضوء عليها‪� ،‬إثبات ًا لها من خالل‬ ‫الن�صو�ص ال�شريفة‪ ،‬وحاجة الأمة �إليها‪ ،‬من خالل المنهج العقلي‪ ،‬لكونها حاجة �إن�سانية‬ ‫واجتماعية‪.‬‬ ‫إر�شاد‬ ‫وعظ و� ٍ‬ ‫كما كان ــ رحمه اهلل ــ �أحد مراجع جبل عامل‪ ،‬عام ًال بالتبليغ من ٍ‬ ‫و�إ�صالح ذات البين‪ ،‬وف�صل الخ�صومات‪ ،‬و�إحياء المنا�سبات الدينية‪ ،‬كما كان مت�ص ّدي ًا‬ ‫للم�س�ؤوليات العامة‪ ،‬من دون �أن يح�صر دوره بالحدود الجغرافية لجبل عامل‪� ،‬إ ّنما تعداه‬ ‫‪35‬‬


‫ال�سيد محمد ر�ضا ف�ضل اهلل الحكيم والم�صلح‬

‫وحكامها‪ ،‬ولو ُقدِّ َر �أن �أعطاه ُ‬ ‫اهلل تعالى ف�سح ًة‬ ‫لتكون م�س�ؤولي ًة تحاكي �شعوب المنطقة ُ‬ ‫من العمر‪ ،‬لربما ق ّدم الكثير من المطالب الفقهية والأ�صولية‪ ،‬وعناوين �أخرى مختلفة‪.‬‬ ‫لكن القدر‪ ،‬والع�شق الالمتناهي ل�سيد �شهداء �أهل الجنة الإمام الح�سين ‪ Q‬كان‬ ‫ال�سبب في تعجيل رحيله‪ ،‬فخ ّر يوم العا�شر من المحرم وهو يتلو الم�صرع على ُم�صاب‬ ‫�أبي عبد اهلل الح�سين ‪ ،Q‬من على المنبر‪ ،‬و�أ�صيب بر�أ�سه ال�شريف‪ ،‬معت ًال ع ّدة‬ ‫�أيام‪ّ ،‬ثم فارقت روحه الدنيا‪ ،‬وهي تلهج بحب الح�سين ‪ Q‬وال�شوق �إلى لقياه‪.‬‬

‫‪36‬‬


‫������������� ‬ ‫األبحاث‪:‬‬

‫أد‪.‬طراد حمادة‬

‫(((‬

‫«الفلسفة والعرفان في أدب العالمة الفقيه‬ ‫السيد محمد رضا فضل اهلل»‬

‫ذهبت التر�سيمة التقليد ّية لميادين الفكر الإن�ساني �إلى �إقامة فا�صل بين الفل�سفة‬ ‫والأدب‪ ،‬لإعتبار �أن الفل�سفة �إنتاج عقلي ي�ستوجب تقديم الدليل العقلي لإثبات الحقائق‬ ‫�أو اكت�شافها والغو�ص �إلى حقيقة ال�شيء في ذاته فيما الأدب �إنتاج القلب وعند �آخرين‬ ‫الخيال وعليه ال فر�صة لقيام ما ي�س َّمى الأدب الفل�سفي �أو الفل�سفة في الأدب وعندهم �أن‬ ‫الفل�سفة هي الفل�سفة والأدب هو الأدب‪.‬‬ ‫وتذهب التر�سيمة التقليدية (الر�سم ّية) للقول �أن �أداة الإف�صاح الم�شتركة بين‬ ‫الفل�سفة والأدب وهي اللغة‪ ،‬تمثل بدورها عامل الإت�صال والإنف�صال‪� ،‬إن للغة الفل�سفة‬ ‫خ�صائ�ص تختلف عن خ�صائ�ص لغة الأدب‪ ،‬وعليه يكون هذا الم�شترك في الإف�صاح‬ ‫عن الفكرة هو بدوره عامل الإئتالف والإختالف‪.‬‬ ‫ويذهب �أن�صار الفل�سفة �إلى �أن �أ�صولها وهي الده�شة وال�شك والقلق والت�أمل هي‬ ‫�أ�صول م�شتركة بين كل من التجربة الفل�سفية والتجربة الأدبية فيما تختلف النتائج‬ ‫والغايات بينهما‪� .‬إن غاية الفل�سفة الإنتقال من الده�شة �إلى المعرفة‪ ،‬فيما يغلب على‬ ‫(( ( وزير لبناني �سابق‪� ،‬أ�ستاذ الفل�سفة والت�صوف في الجامعة اللبنانية‬

‫‪37‬‬


‫ال�سيد محمد ر�ضا ف�ضل اهلل الحكيم والم�صلح‬

‫الأدب حب البقاء في حالة الده�شة‪ ،‬ويجعل من المعرفة هدف ًا ثانوي ًا‪� ،‬إن التجربة الأدب ّية‬ ‫تجربة ذاتية‪ ،‬ت�شغلها معاناة الحال والبقاء فيه‪ ،‬فيما التجربة الفل�سفية حركة في البحث‬ ‫حلول لأبعاد التجربة الإن�سانية على تعدد جهاتها‪ ..‬مقبولة لدى العقل وكذلك الأمر‬ ‫عن ٍ‬ ‫بالن�سبة لأ�صول القلق وال�شك والت�أمل �إن �شك هاملت لي�س �شك ًا فل�سفي ًا‪ ،‬بل �شك في‬ ‫تجربة القلق الأبدية التي ال خروج منها من ال�شك �إلى اليقين‪ .‬لقد طرح هاملت كل‬ ‫�أ�سباب ال�شك الفل�سفي‪ ،‬لكنه لم يخرج من دائرة القلق الوجودي‪ ،‬وكذلك �أبو العالء‬ ‫المعري الذي يختلف ال�شك عنده‪ ،‬عما هو في فل�سفة الإمام الغزالي �أو رينيه ديكارت‪.‬‬ ‫والقلق الهيدغري الوجودي ال يجد حله �إال في النف�س المطمئنة لأنه قلق ناتج عن‬ ‫وجود الموت‪� .‬إن �أ�سا�س كل هذه الأ�صول وجود الجهل الذي يطرده العقل بالمعرفة وهي‬ ‫هدف الفل�سفة في الو�صول �إلى الحقيقة ولعل ال�صراع بين جنود الجهل وجنود العقل‬ ‫يتفق مع هذا الأ�صل الفل�سفي‪.‬‬ ‫لنا على هذه المقدمات التي ن�سبناها (جد ً‬ ‫ال) �إلى ما �أ�سميناه التر�سيمة ‪shema‬‬ ‫بوجود واقعي للأدب الفل�سفي‬ ‫التقليدية‪ .‬مالحظات نقدية �أ�سا�سية ت�سمح لنا‪ ،‬بالقول‬ ‫ٍ‬ ‫وتكون مدخ ًال لدرا�سة الأبعاد الفل�سفية والعرفانية في �أدب العالمة الفقيه ال�سيد محمد‬ ‫ر�ضا ف�ضل اهلل‪.‬‬ ‫�إن التجربة الفل�سفية والأدب ّية ت�شتركان في الأ�صول وفي �أداة الإف�صاح‪ ،‬و�أن الإن�سان‬ ‫نف�سه محل هذه التجربة وهو يملك العقل‪ ،‬والقلب والذاكرة والخيال‪ ،‬وي�ستخدم اللغة‬ ‫على تعدد مواردها في الإف�صاح عن هذه التجربة‪.‬‬ ‫�إن الفل�سفة تقدم نف�سها م�ؤ�س�سة للعلوم وعليه ال يكون الأدب في من�أى عن اهتمامها‬ ‫ولكن كلما اقتربت الفل�سفة من الأدب �صبغها ب�ألوانه الذاتية حتى تغلب هذه الألوان‬ ‫�ألوان الفل�سفة نف�سها‪.‬‬ ‫و�إذا �أردنا �أن نح ّول هذه المقدمة �إلى الأ�سئلة الإ�شكالية في مقدمة بحثنا نطرح ما‬ ‫يلي منها‪:‬‬ ‫‪38‬‬


‫������������� ‬

‫هل يمكن �أن نع ِّبر عن مو�ضوعات فل�سفية‪ ،‬مثل‪ :‬الوجود والنف�س‪ ،‬والعالم‪ ،‬والحرية‪،‬‬ ‫والموت والحب‪ ،‬في �إنتاج �أدبي‪ ،‬ت�شترك فيها الأنواع الأدبية من �شعر ورواية وم�سرح‬ ‫وق�صة‪ ،‬وخاطرة‪ ،‬وحكاية‪ ،‬وملحمة‪ ،‬و�سواها‪� ،‬إ�ضافة �إلى الفنون الأخرى الوثيقة ال�صلة‬ ‫كفن �إن�ساني؟‬ ‫بالأدب ٍ‬ ‫هل تن�سب هذه الأعمال عند �إنتاجها �إلى الأدب �أو �إلى الفل�سفة‪ ،‬ومن هو الأ�صيل في‬ ‫ن�سبتها �إليه؟‬ ‫هل يتخلى الأدب عن خ�صائ�صه ليكون �أدب ًا فل�سفي ًا وهل تتخلى الفل�سفة عن قواعدها‬ ‫لتلب�س ثوب الأدب؟‬ ‫هل عرف الإنتاج الإن�ساني هذا النوع من الإنتاج الم�شترك بين الفل�سفة والأدب‬ ‫والذي ندعوه الأدب الفل�سفي �أو الفل�سفة في الأدب؟‪...‬‬ ‫�إن الأجوبة عندنا على هذه الأ�سئلة‪ ،‬الإ�شكالية‪� ،‬إيجابية بمعنى ثبوت القول عندنا‬ ‫بوجود العالقة الوثيقة وال�صلة الل�صيقة بين الأدب والفل�سفة‪ ،‬و�أنه ثمة �أدب فل�سفي في‬ ‫تعبير التجربة الإن�سانية عن نف�سها‪.‬‬ ‫ل�ست بحاجة لتقديم الدليل النظري على ما �أقول‪ ،‬النتفاء الحاجة في هذا المحل‪،‬‬ ‫ولتحقيق المراد فيه والمطلوب منه وذلك من خالل درا�سة الفل�سفة والعرفان في �أدب‬ ‫العالمة الفقيه ال�سيد محمد ر�ضا ف�ضل اهلل‪.‬‬ ‫وعليه تكون درا�ستنا للأدب الفل�سفة عند فيل�سوفنا الأديب و�شاعرنا الفيل�سوف هي‬ ‫الدليل والذي يقدم الأجوبة على الأ�سئلة الإ�شكالية محل البحث‪.‬‬ ‫العالمة الفقيه ال�سيد محمد ر�ضا ف�ضل اهلل ‪ M‬عالم فقيه‪� ،‬أديب �شاعر‪ ،‬فيل�سوف‬ ‫متك ِّلم‪ ،‬يعني م�شتغل في م�سائل الكالم الفل�سفي وعنده منحى عرفاني �صريح‪ ،‬و�إذا‬ ‫�أردنا تعيين مدر�سته الفكرية ومكانته في هذه المدر�سة بعد قراءة لإنتاجه القيم �أمكننا‬ ‫القول �أنه يمثل مدر�سة جبل عامل في تيارها النجفي‪.‬‬ ‫في فقهه عنا�صر المدر�سة العاملية ذات الأ�صول النجف ّية مع منحى تجديدي �صريح‬ ‫‪39‬‬


‫ال�سيد محمد ر�ضا ف�ضل اهلل الحكيم والم�صلح‬

‫وفي �أدبه تراث جبل عامل معطوف على �أدب النجف المتنوع الجمال‪.‬‬ ‫هو ذلك المزيج الرائع بين عاملة والنجف‪ ،‬حتى يمكن القول �أن في ثوب مدر�سة‬ ‫النجف �ألوان وخيوط عاملية المظهر نجدها ب�شكل وا�ضح في �إنتاج العالمة الفقيه‬ ‫ال�سيد محمد ر�ضا ف�ضل اهلل‪.‬‬ ‫يت�صف �شعر و�أدب الفقهاء بالبعد الفل�سفي ويندرج من حيث مو�ضوعاته في مجال‬ ‫الأدب الفل�سفي وذلك لأنه ي�شارك الفل�سفة مو�ضوعات �أ�سا�سية في البحث عن اهلل‬ ‫وفي اهلل‪ ،‬وم�سائل العالم والكون ‪ Cosmos‬والإن�سان وم�سائل النف�س الإن�سانية وهي‬ ‫مو�ضوعات م�شتركة في الواقع بين الفل�سفة والدين يمكن الإف�صاح عنها بالأدب على‬ ‫�أنواعه‪.‬‬ ‫و�إذا كان �شعر الفقهاء في بع�ض �أنواعه خ�سر بريقه الإبداعي ل�صالح الإتجاه‬ ‫التعليمي �أو الجدل الكالمي كالمناظرة والحكاية والأمثال ف�إنه يختلف في م�ستوى‬ ‫�إبداعه باختالف �أ�صحابه وعليه ف�إننا ال يمكن �أن ندرج �أدب ال�سيد محمد ر�ضا ف�ضل‬ ‫اهلل في هذا المحل باعتباره نموذج لأدب الفقهاء‪.‬‬ ‫درا�ستنا للفل�سفة والعرفان في �شعر العالمة ال�سيد محمد ر�ضا ف�ضل اهلل ت�ستند �إلى‬ ‫كتابيه‪:‬‬ ‫‪( .1‬ميزان العدل) الم�شهور «بال�سمك ّية»‪.‬‬ ‫‪ .2‬ديوانه المطبوع تحت عنوان (المجموعة) الق�صائد والر�سائل‪.‬‬ ‫كل من هذين الكتابين يت�ضمن ن�صو�ص �شعرية ونثرية مع مالحظة �أن الن�ص النثري‬ ‫عند ال�سيد محمد ر�ضا ف�ضل اهلل‪ ،‬في الكتابين له خ�صائ�ص النثر المفعم بال�شاعرية‬ ‫ال�صريحة‪ .‬لغة من�سوجة من خيوط عربية �أتقنت خياطتها ثوب ًا ّ‬ ‫مو�شى ب�ألوان الأدب‬ ‫الفل�سفي‪.‬‬ ‫تنوع الإنتاج في الكتابين الن�صو�ص النثرية‪ ،‬والإقتبا�سات ال�شعرية‪ ،‬والإنتاج‬ ‫ال�شعري والر�سائل �إلى جانب الق�صائد التي نظمت في �أبواب الغزل والرثاء‪ ،‬والمديح‪،‬‬ ‫‪40‬‬


‫������������� ‬

‫والمنا�سبات‪ ،‬والإخوانيات وال�شعر ال�صوفي العرفاني (�شعر التجليات‪ ،‬والع�شق الإلهي‪،‬‬ ‫وحب الوالية) كطريق �إلى حب الذات الإلهية المع�شوق الأول والأزلي‪.‬‬ ‫�إنه حديقة عامرة بالورد الجميل والثمار الطيبة و�إذا �أردت المتعة والفائدة ذهبت‬ ‫�إلى الت�أمل والقطاف‪ ،‬لكن يلزمك الوقت والبحث عن الدر المنثور في ب�ستان الجمال‪.‬‬ ‫و�إذا كان هذا الأمر ي�ستلزم ا�شتغا ًال وافي ًا‪ ،‬ف�إن حدود المقالة في هذا الم�ؤتمر تحمل‬ ‫على الإقت�صار في تبيان الأبعاد الفل�سفية والعرفانية لل�سمك ّية على وجه الإجمال‪ ،‬وفي‬ ‫ق�صائد مختارة من المجموعة الق�صائد والر�سائل ومنها‪:‬‬ ‫كمال التجلي (في العرفان) �ص‪.159‬‬ ‫وا�ضح النهج (غزل عرفاني) �ص‪.236‬‬ ‫المهدي |‪ ،‬و�أعقبها ب�شرح نظري في كتابه (الإمامة)‪.‬‬ ‫البعد الفل�سفي والعرفاني في ال�سمك ّية‪:‬‬ ‫ال�سمك ّية‪ ،‬ر�سالة في النف�س الإن�سانية‪ .‬وحكاية رحلتها مع قواها‪ ،‬و�سيرها و�سلوكها‬ ‫من مبد�أها �إلى معادها‪ ،‬وال�سمك ّية رواية تف�صح عن فل�سفتها في لغة تجمع ال�شعر‬ ‫والحكاية والأمثال‪� ،‬إلى جانب القر�آن والحديث وخبرة الحكماء وتجربة الأولياء‪ .‬و�إذا‬ ‫و�ضعناها في ميزان الإنتاج الأدبي الفل�سفي وجدنا �أنها قريبة من الق�ص�ص الأدبي‪،‬‬ ‫و�أدب الرحالت الميتافيزيقية التي تدور في عالم النف�س‪.‬‬ ‫وكذلك ما اعتمده فال�سفة الإ�شراق من �أ�سلوب القر�آن في التعلم من �ضرب الأمثلة‬ ‫للنا�س‪.‬‬ ‫لي�س ال�سيد محمد ر�ضا ف�ضل اهلل في الر�سالة عرفاني ًا من �أهل الإ�شراق‪ ،‬وال من‬ ‫مدر�سة ت�صوف التجليات بل يندرج في ت�ص ّوف المعامالت‪ ،‬قريب فيها من مدر�ستين‬ ‫�شهيرتين الت�صوف المعامالتي للغزالي‪ ،‬والت�ص ّوف العقلي لل�شيخ الرئي�س �إبن �سينا‪.‬‬ ‫أر�سطي �سينوي‪ ،‬النف�س النباتية والحيوانية‪ ،‬والناطقة‪،‬‬ ‫تق�سيم قوى النف�س عنده �‬ ‫ّ‬ ‫‪41‬‬


‫ال�سيد محمد ر�ضا ف�ضل اهلل الحكيم والم�صلح‬

‫وقوى النف�س‪ )1 :‬ال�شهوان ّية ‪ )2‬والغ�ضب ّية‪ ،‬والعاقلة (الحكمة)‪ ،‬لكن م�شرب ال�سيد‬ ‫في ال�سمك ّية يذهب �إلى �أبعد من هذا‪ .‬ي�شرح في الر�سالة �أبعاد ومراحل ال�صراع بين‬ ‫ال�شيطان والإن�سان و�أدوار النف�س الإن�سانية في هذا ال�صراع من‪ :‬النف�س الأمارة‪� ،‬إلى‬ ‫الل ّوامة‪� ،‬إلى المطمئنة ويجعل ال�صراع بين جنود العقل وجنود الجهل ثم ي�شبك كل هذا‬ ‫الم�سرح في �أحوال النف�س وم�صائرها ب�إف�صاح �أدبي متنوع فيه من كل ب�ستان زهرة �أو‬ ‫ثمرة‪.‬‬ ‫يلفتنا في الر�سالة �أنها بد�أت من حكاية (حفلة ال�سمك) واتفاق الأ�صحاب على‬ ‫تح�ضير مائدتها‪ ،‬في يوم له �أبعاد رمزية بدوره‪ ،‬هو يوم الخمي�س‪ ،‬وي�سرق ل�صو�ص‬ ‫ال�سمك طعام ال�صحبة كما ي�سرق ال�شيطان جهد الإن�سان في ال�سفر �إلى اهلل �سبحانه‬ ‫وهذه تعني في الأدب الفل�سفي �أن الأديب وال�شاعر ينطلق من رموز وحكاية ذات بعد �شبه‬ ‫�أ�سطوري محلي‪ ،‬ليبني �أفكاره على ركائز متح�صلة في التجربة الإن�سانية ال يبد�أ فيها‬ ‫من نقطة ال�صفر‪ ،‬والثانية �أنه يقدم الحكاية م�ستفيد ًا من الأ�سلوب الق�ص�صي القر�آني‬ ‫و�أ�سلوب «�ضرب الأمثال للنا�س»‪.‬‬ ‫يذكرني مو�ضوع ال�شيطان و�صراعه مع الإن�سان‪ ،‬في م�سرحية د‪ .‬فاو�ست لل�شاعر‬ ‫الألماني غوته �أن �أ�شخا�ص م�سرحية د‪ .‬فاو�ست ب�ش ٌر واقعيون فيما �أ�شخا�ص ال�سمكية‬ ‫قوى نف�سية تجد م�صاديقها في ب�شر واقعيين‪� ..‬إن �صراع ال�شيطان مع الإن�سان وم�سرحة‬ ‫النف�س الإن�سانية وقواها‪ ،‬وجنود الإن�سان الفعل وجنود ال�شيطان الجهل مدرجة في �إطار‬ ‫حكاية رمزية‪ ،‬معبرة‪ ،‬معطوفة على رموز �أخرى منها يوم الخمي�س و�صباحه يقول‪:‬‬ ‫ذاك ي� � ��وم �أ� � � �ض� � ��اء ل �ل��إن � ��� ��س ف �ي��ه � �ش �ع �ل��ة �أخ � �م� ��دت ���ش��ع ��اع ال �� �ش �م��و���س‬ ‫وب � � � � ��ه ل � � �ل � � �� � � �س� � ��رور ب � � � � ��در ع� � �ل � � ّ�ي � � �ش� ��ق ل � �ل � �ه� � ِّ�م ظ� �ل� �م ��ه ال �ح �ن ��دل �ي �� ��س‬ ‫في هذه الق�صيدة ا�ستخدم لغة النور وهي (لغة عرفانية بامتياز) �إ�شراقية لك�شف‬ ‫محا�سن يوم الخمي�س ثم يعقبها برمز الخمرة ولغة ال�شعر الخمري لبيان بهجته ولذته‪،‬‬ ‫فالندامى تحت�سي �صافي الك�ؤو�س مثل العقيق في الخمر (الخندري�س)‪ .‬لنخل�ص �أن‬ ‫‪42‬‬


‫������������� ‬

‫الخمي�س و�صباحه �أنوار في ظلمة الزمان (النور والظلمة)‪ ،‬هذا قامو�س ال�شعر ال�صوفي‬ ‫ال�صريح وا�ستخدام �أ�صرح لرموزه‪.‬‬ ‫كان ال�سيد قد �أخبرنا في مقدمة الر�سالة �أنه يبحث في �أ�صالة اللذة عند النف�س‬ ‫الإن�سانية �أو اعتباريتها‪ ،‬وهو لعمري بحث فل�سفي عالي القيمة‪ ،‬وقبلها كان يق ّدم النف�س‬ ‫كما هي عليه في مفاهيم �أحوالها عند كل من‪:‬‬ ‫المت�شرعة‬ ‫�أهل الفل�سفة وال�صوفية من المت�شرعة‪.‬‬ ‫وهذا تق�سيم جديد لم ي�أت غيره على �صريحة عبارته‪ ،‬كان التق�سيم يقوم بين الفقهاء‬ ‫من �أهل الظاهر‪ ،‬والعرفاء من �أهل الباطن‪ ،‬لكن ال�سيد بنوع من الم�شرب ال�صوفي‬ ‫والعرفاني في الفقه (المت�شرعة)‪.‬‬ ‫ثمة مت�شرعة مح�ض وح�سب و�أهل الت�ص ّوف والعرفاء من المت�شرعة‪ ،‬وهو ي�شير ب�شكل‬ ‫�صريح ال لب�س فيه �أنه واحد منهم‪.‬‬ ‫لن �أقف عند منهجية ال�سيد ف�ضل اهلل في �صياغة الإ�شكالية في �أ�سئلة تجعلها‬ ‫منهجية فل�سفية بامتياز مقولة‪ :‬هل هناك �أدلة وا�ضحة وحجج معتمدة تق�ضي برجحان‬ ‫التلب�س في لذات الدنيا �أم ال؟ وهذا قريب من منهج ّية �إبن ر�شد؛ في محاكمة الفقيه‬ ‫لمو�ضوعات الفل�سفة في ف�صل المقال‪.‬‬ ‫ثم يرتفع �إلى الأدب الفل�سفي �ص(‪� ،)39‬أن الغر�ض من ذكر ال�سمكية مجرد مثال‬ ‫للمق�صود للمطلوب‪ ،‬وقديم ًا كانت الحكمة �أمثا ًال ت�ضرب و�سير ًا تق�ص واقتفت الحكماء ذلك‪.‬‬ ‫طريق الحكماء‪ ،‬طريق المثل والق�صة وال�سيرة والرواية‪ ،‬وهي �أ�شكال و�أنواع �أدبية‬ ‫بامتياز �صالحة للك�شف عن �أ�سرار الحكمة‪.‬‬ ‫�س�أحاول �أن �أ�شير ب�إيجاز �إلى الأبعاد الفل�سفية والعرفانية في �شعره في ال�سمك ّية‪.‬‬ ‫ التخلي عن ال�س ّوى‪ :‬وفيه �أن التخلي عن ملذات الدنيا وعن ما �سوى اهلل مح�صل‬‫لل�سعادة الروحية الحقيقية‪.‬‬ ‫‪43‬‬


‫ال�سيد محمد ر�ضا ف�ضل اهلل الحكيم والم�صلح‬

‫يبد�أ رحلته في الت�ص ّوف والعرفان‪ ،‬بالزهد‪ ،‬وهو الخطوة الأولى على الطريق‪ ،‬عند‬ ‫كل العرفاء والزهد عنده انقالب من �شيء �إلى �آخر‪ ،‬زه ٌد في الدين ورغبة في الآخرة‪،‬‬ ‫وهو في ذلك قريب من مفهوم الزهد عند الغزالي؛ ويدعو �إلى اتباع منهج الزهد‬ ‫ال�صوفي بقوله ال�صريح‪.‬‬ ‫م ��ن ك� ��ان ي��ه ��واه ��م ي ��دل ��ف بنهجهم م��ا �أخ��ط���أ ال�ق���ص��د ف��ي نهجهم دلفا‬ ‫ويق ّدم للزهد تعريف لعله ينفرد به الرتباطه بمفهوم فل�سفة اللذة عنده في �سمكيته‪.‬‬ ‫ف �ل�ا ت � ��أ�� ��س ع �م ��ا ف � ��ات م� ��ن ك� ��ل ل � � ّذة وال �إن �أي ط �ب��ق ال �م �ن��ى �أن� ��ت ت�ف��رح‬ ‫يعني من يت�ساوى عنده ح�صول ال�شيء �أو حرمانه‪ ،‬وهو �صنف من الزهد‪ ،‬يجعلك‬ ‫�سيد ًا لنف�سك عبد ًا هلل وحده �سبحانه‪.‬‬ ‫�إن اختياره للت�ص ّوف ال يعني الإنقطاع عن الدنيا‪ ،‬وال عن الحديث بنعمة ربه ولذلك‬ ‫تناول ب�إ�سهاب في نقد غير مبا�شر لل�صوفية الذين ينكفئون عن الحياة ويلج�أون �إلى‬ ‫حرمان �أنف�سهم من نعم اهلل التي ال تح�صى‪ ،‬ولعله ي�شرح الأمر بطريقة �إيجابية من‬ ‫خالل مديح الإقبال على الدنيا‪� ،‬إنه الزاهد الذي ال تحكمه متاع الدنيا ولكن ال يحرم‬ ‫نف�سه منها‪ ،‬وتلك ت�ستلزم تزكية نف�سية عالية‪.‬‬ ‫نقد زيف ال�صوفية الظاهري‪ ،‬وهذا ما كان الإمام الخميني { قد انتقده ب�شدة‪،‬‬ ‫بقوله‪ :‬تح�سب نف�سك �إبن المن�صور‪ ،‬و�أنت لم ت�شق في الع�شق طرف ثوبك‪.‬‬ ‫هذا النقد لل�صوفية ال يتفق مع حرب الفقهاء على ال�صوفية لكنه ت�صحيح في‬ ‫الم�سلك ال�صوفي وما علق به من �شوائب الطرق و�شيوخها‪.‬‬ ‫في الحديث عن �أبي م ّرة (وهو ال�شيطان) يقدمه ب�شكل معا�صر رج ًال لكل المواقف‬ ‫والمنا�سبات‪ ،‬يلب�س لبو�سها لينفذ �إلى غاياته‪ ..‬كان �شيطان فاو�ست قد ظلم على �شكل‬ ‫رجل يفاو�ض فاو�ست‬ ‫كلب �أو خنزير وعندما اجتاز عتبة النجمة ال�سدا�سية يتح ّول �إلى ٍ‬ ‫على توقيع العقد بينهما‪ ،‬كان �شيطان فاو�ست يمنيه بال�شباب والخلود وال�سلطة والمال‬ ‫والن�ساء‪ ،‬وهي عنا�صر تتج َّمع في �أحوال قوى النف�س‪ ،‬التي يتوجه �إليها �إبن م ّرة في‬ ‫‪44‬‬


‫������������� ‬

‫ال�سمك ّية‪� ،‬إن �إبن م ّرة يخاطب القوى الغ�ضب ّية وال�شهوية الحيوانية والنبات ّية‪ ،‬ويعمل‬ ‫على �إ�ضعاف القوى العقلية والحكم ّية الفا�ضلة‪ ،‬وهو ي�ستخدم جنود الجهل للو�صول �إلى‬ ‫غايته‪� ،‬إنه يخرب النف�س الإن�سانية ويو�سو�س لقواها ويقودها‪ ،‬ت�سانده النف�س الأمارة‬ ‫عن يمينه والنف�س الل ّوامة عن �شماله والح�سية الحيوانية بين يديه والنباتية النامية من‬ ‫خلفه ويكون مركز الدائرة في �إدارة هذه النفو�س وتوجيه قواها‪.‬‬ ‫في هذا المحل كان �شيطان فاو�ست قادر ًا على ال�سيطرة على روح �إن�سان ولي�س‬ ‫روح الإن�سان ‪ Un home et pas l’home‬لأن ال�صراع في د‪ .‬فاو�ست عند غوته يبد�أ‬ ‫أر�ضي‪ ،‬ال�صراع بين ال�شيطان والإن�سان في‬ ‫بالرهان في ال�سماء ويجري في العالم ال ّ‬ ‫ال�سمكية يقوم داخل النف�س الإن�سانية‪ ،‬في عالم النف�س تحيط بها �أ�سباب ال�شقاوة‬ ‫و�أ�سباب ال�سعادة‪ ،‬وعليه ف�إذا كان غوته يريد‪ ،‬على ما ذهب النقاد من دار�سيه‪� ،‬إلى‬ ‫محاكمة العقل الأوروبي‪ ،‬ف�إن ال�سيد ف�ضل اهلل يريد تنبيه النف�س الإن�سانية وقيادتها �إلى‬ ‫خال�صها في الدارين‪ :‬الدنيا والآخرة‪ ،‬ولذلك ف�إن ال�شيطان غير قادر على تدمير النف�س‬ ‫الإن�سانية وال�سيطرة عليها‪ ،‬بل تحمل هذه النف�س كل �أ�سباب خال�صها و�سعادتها‪.‬‬ ‫و�إذا كانت الحياة المديدة‪ ،‬وال�شباب‪ ،‬وال�سلطة‪ ،‬والمال والن�ساء وهي ابتالءات‬ ‫ع�صر غوته جنود ال�شيطان مف�ستوفيك�س ف�إن جنود �إبن م ّرة من عالم النف�س بتعبير‬ ‫فل�سفي‪ :‬المائز بين الإثنين �أن ال�صراع يدور في فاو�ست في العالم الأكبر (العالم‬ ‫الإن�ساني‪ ،‬الإجتماع الإن�ساني) فيما ال�صراع يدور عند ف�ضل اهلل في العالم الأ�صغر‬ ‫(النف�س الإن�سانية)‪.‬‬ ‫�أت � �ح � �� � �س� ��ب �أن� � � � ��ك ج� � � ��رم � �ص �غ �ي��ر وب � � ��ك ان � � �ط� � ��وى ال� � �ع � ��ال � ��م الأك� � �ب � ��ر‬ ‫من ال�صعب متابعة الأبعاد الفل�سفية والعرفانية لل�سمكية في مقالة واحدة‪ ،‬لأنها ن�ص‬ ‫كثيف المبنى والمعنى‪.‬‬ ‫ا�ستطاع الكاتب فيه �أن يجمع �سعة الر�ؤيا في �ضيق العبارة وكل عملية تحليلية �أو‬ ‫تفكيكية‪ ،‬للن�ص �أو كل �شرح وتعليق عليه يحتاج �إلى �سعة وتدبير‪.‬‬ ‫‪45‬‬


‫ال�سيد محمد ر�ضا ف�ضل اهلل الحكيم والم�صلح‬

‫�أقول‪� :‬أن م�صير ال�صراع بين ال�شيطان �إبن م ّرة والإن�سان‪ ،‬ل�صالح الإن�سان الذي‬ ‫يغلب عنده جنود العقل على جنود الجهل‪ ،‬وتتمتع النف�س المطمئنة بما �أورده ال�سيد‬ ‫ف�ضل اهلل في ن�ص لل�شهيد الثاني في غاية الروعة يك�شف عن تراث عرفاني عاملي‪:‬‬ ‫وتت�سل�سل مراحل الطريق من ال�شوق والذوق �إلى الدخول في الطريقة بعد �صبر و�شكر‬ ‫وزهد وت�صفية للروح‪ ،‬و�س ّر الفقر والذكر والتالوة والخ�ضوع والتذلل والوقوف على عرفه‬ ‫والدخول في الطريقة‪ ،‬لتختم في خمرية عرفانية فيها‪:‬‬ ‫ف� � ��إن � �س �ق��اك م ��دي ��ر ال� � ��راح م ��ن ي��ده ك��أ���س التجلي فخذ بالك�أ�س واغ�ت��رف‬ ‫ري ف � ��وا �أ� �س �ف��ي‬ ‫وا� �ش��رب وا��س�ق��ي وال تبخل ع�ل��ى ظم�أ و�إن رج� �ع ��ت ب �ل�ا ّ‬ ‫�شرح ال�سيد ف�ضل اهلل �أحوال ال�سعادة بعدما �شرح لمرة ثانية قوى النف�س وفق المذهب‬ ‫الأر�سطي ال�سينوي وتعبير ًا عن انت�صار النف�س الإن�سانية على �إبن م ّرة (ال�شيطان)‪،‬‬ ‫ي�شرح خطة هجوم ال�شيطان وحنقه وانهزامه‪ ،‬وكان قد �سبقها �شرح الخطاب ويبد�أ‪:‬‬ ‫خطاب القنوع‪.‬‬ ‫خطاب العفه‪.‬‬ ‫خطاب الزهد‪.‬‬ ‫خطاب التقوى‪.‬‬ ‫تذكرنا م�س�ألة الخطاب بمنطق الطير للعطار‪ ،‬وتعاقب الطيور على الخطاب والكالم‬ ‫قبل الرحلة‪ ،‬وفي رواية لي‪ ،‬الجزء الثاني من قمة الرجال الع�شرة‪� ،‬أترك رجال الرحلة‬ ‫يقدم كل واحد منهم خطابه‪ ،‬لكن الخطبة عند ال�سيد لقوى النف�س والمعاني‪ ،‬ولي�ست‬ ‫للطير وهو رمز للنف�س‪� ،‬أو للرجال وهم قادة القافلة‪ ،‬لمعة لعلها تتفق مع المعنى المجرد‬ ‫في الفقه ال�صوري عند بع�ض العلماء �أبى محاكمة القول على القول بالقول وهذه‬ ‫�أفالطونية �صريحة �إلى جانب �إتفاقها مع الف�ضائل ال�شهيرة في النظرية الأر�سطية‬ ‫القائمة على الو�سطية �أو التو�سط ما بين حدي الإفراط والتفريط‪.‬‬ ‫�أختم‪ ،‬بذكر ما وجدته تالقي ًا مع �أبو العالء المعري في كتابه ر�سالة الغفران ومع‬ ‫‪46‬‬


‫������������� ‬

‫الكوميديا الإلهية لـ»دانته» مع وجود �أ�صول م�شتركة‪ ،‬مرتبطة بو�صف الجنة والنار في‬ ‫القر�آن الكريم وفي الحديث ال�شريف وتراث الأدب الإ�سالمي‪ ،‬ومع اختالف مقاربات‬ ‫كل من الكتب المذكورة و�أ�ساليبها‪ ،‬لكنها ت�شترك من ناحية النوع باعتبارها جزء من‬ ‫الأدب الفل�سفي �إن درا�سة �أبواب النار و �أبواب الجحيم معطوفة على فئات النا�س وك�أن‬ ‫لكل باب دخوله كما يحمل كل �إن�سان كتابه بيمينه وفيها مراتب درجات �أ�سفار النف�س‬ ‫التي ي�سلكها ال�صابرون وال�صادقون والمق َّربون و�أ�صحاب اليمين والأبرار �إن درا�سة‬ ‫المقارنة في هذا المو�ضع في غاية المتعة والفائدة الفل�سفية والأدبية‪.‬‬ ‫كان من المقرر �أن �أدر�س الأبعاد العرفانية في �شعره‪ ،‬وهذا ما �س�أكمله في بحث‬ ‫م�ستقل لأن المقالة ال تت�سع له‪ .‬ولأنني وقعت فيه على در ٍر مخب�أة‪..‬‬ ‫�أقول‪� :‬إن العالمة الفقيه ال�سيد محمد ر�ضا ف�ضل اهلل‪ ،‬عالم ًا فقيه ًا �شاعر ًا عارف ًا وقد‬ ‫�أح�سنت دار البالغة و�أهله على ن�شر م�ؤلفاته و�أن�صح �أهل العلم وخا�صة طالب الفل�سفة‬ ‫والأدب بدرا�ستها والغو�ص �إلى بحرها الزاخر لأنهم �سيجدون فيها كل ما يليق بالبحث‬ ‫والمعرفة والمتعة والفائدة‪.‬‬ ‫�إن مدر�سة جبل عامل (وهي رمز للمدر�سة الفكرية ال�شيعية في بالد ال�شام) َّ‬ ‫تتك�شف‬ ‫كل يوم عن عالم �شاعر عارف وفقيه مجتهد‪.‬‬ ‫رعى اهلل حوزتنا وعلمائنا‬ ‫و�س ّدد الخطى في ن�شر �إنتاجهم‬ ‫والعناية به حق العناية‬ ‫رحم اهلل ال�سيد محمد ر�ضا ف�ضل اهلل‪.‬‬

‫‪47‬‬



‫����������������� ‬

‫أ‪.‬د سالم المعوش‬

‫(((‬

‫«ميزان العدل «السمكية»‬

‫(((‬

‫رحلة إلى الداخل في محاولة سردية‬

‫ الإنتماء ال�صوغي لـ»ميزان العدل»‪:‬‬‫ميزان العدل «ال�سمكية» �أثر يعود �إلى النه�ضة العربية المن�شغلة ب�إعادة بناء المجتمع‬ ‫العربي في القرن التا�سع ع�شر‪ ،‬مرتكز ًا على �أمرين رئي�سين‪ :‬التراث العربي والإ�سالمي‬ ‫من جهة‪ ،‬و�إ�ستلهام تجارب الغرب وعلومه ومبتكراته لتوظيفها في تلك النه�ضة‪.‬‬ ‫وقد عمد الر ّواد العرب �إلى تقديم �آرائهم ومقترحاتهم في �سبيل هذا النهو�ض‪،‬‬ ‫و�إعتمد بع�ضهم على الأ�شكال الأدبية لإي�صال تقديماتهم �إلى النا�س‪ ،‬في قوالب‬ ‫الق�ص والرحلة‬ ‫ي�ست�سيغونها وت�ساعد على تقريب المق�صود من المفهوم ال�شعبي‪ ،‬وكان ّ‬ ‫و�سيلتين معتمدتين لبلوغ هذا الهدف البنائي‪ :‬ال�سيا�سي والإجتماعي والإقت�صادي‬ ‫والتربوي والتعليمي والعمراني والأخالقي‪...‬‬ ‫و�إذا كان البع�ض �أمثال الطهطاوي وعلي مبارك و�سليم الب�ستاني ومحمد المويلحي‬ ‫وفرن�سي�س مرا�ش و�أحمد فار�س ال�شدياق وخير الدين التون�سي‪ ..‬قد �إعتمدوا الرحلة �إلى‬ ‫((( �أ�ستاذ الدرا�سات العليا في الجامعة اللبنانية‬ ‫((( ميزان العدل‪ :‬ال�سمكية للعالمة الفقيه ال�سيد محمد ر�ضا ف�ضل اهلل‪ ،‬دار البالغة بيروت ‪.2013‬‬

‫‪49‬‬


‫ال�سيد محمد ر�ضا ف�ضل اهلل الحكيم والم�صلح‬

‫الخارج لتقديم المعارف والعلوم والآداب والفل�سفات وغيرها من مقومات النهو�ض‪،‬‬ ‫ف�إن �آخرين قد �إعتمدوا الرحلة �إلى الداخل‪ ،‬داخل بالد العرب لتقديم المعارف العربية‬ ‫والإ�سالمية‪ ،‬ومن ه�ؤالء العالمة الفقيه ال�سيد محمد ر�ضا ف�ضل اهلل في مجموعة‬ ‫كتبه وجرجي زيدان في مجموعة رواياته التاريخية العربية‪ ،‬و�شكيب �إر�سالن ومعروف‬ ‫الأرنا�ؤوط و�سواهم كثير‪.‬‬ ‫ومن يعد �إلى �إ�صدارات القرن التا�سع ع�شر يجدها �شديدة التنوع �إلى الحد الذي‬ ‫ملأ فراغات كثيرة في الثقافة العربية �آنذاك‪ ،‬وهي �إ�صدارات في العلم والمعرفة‬ ‫والدين وال�سيا�سة والإقت�صاد والإجتماع والفل�سفة ‪� ...‬إ�صدارات طغت عليها النزعة‬ ‫الإ�صالحية‪ ،‬وتناوب عليها الت�أليف والترجمة و�إعادة ال�صوغ‪ ،‬الأمر الذي جعلها تغطي‬ ‫معظم الميادين التي يحتاجها البناء الإجتماعي‪.‬‬ ‫وكان الدين والتم�سك بما لدى العرب م�س�ألة رئي�سية‪ ،‬بالإ�ضافة �إلى الحفاظ على‬ ‫اللغة العربية وتطويرها وتطويعها من طريق ال�صحافة والدربة و�إختيار الأ�ساليب‬ ‫التعبيرية المالئمة‪.‬‬ ‫وبالمقابل كانت الدعوة �إلى الإنغما�س بالغرب وما لديه �شديدة‪ ،‬في زمن كانت تحتاج‬ ‫النه�ضة �إليه‪ ،‬وقد تحولت الثقافة العربية �إلى ميدان وا�سع ت�صب فيه التيارات الفكرية‬ ‫والعلمية والتربوية‪ ،‬ولقد ظهرت في ميدان اللغة‪� ،‬إختبارات تراوحت بين المحافظة‬ ‫على القديم وبين التجديد المعتمد على الحياة الع�صرية والم�ستجدات الأ�سلوبية التي‬ ‫�إعتمدت على الواقع التعبيري الجديد في حياة العرب‪ ،‬و�صوغهم النه�ضة على �أ�س�س‬ ‫ع�صرية‪..‬‬ ‫ولقد تم ّيزت المدر�سة البيانية من بين هذه الإختيارات والإتجاهات‪ ،‬فحاولت الإرتكاز‬ ‫على نظرية البيان العربية عند ال�سلف‪ ،‬ولم تفتها الإ�ستفادة من الجديد في الأ�ساليب‪،‬‬ ‫بنثر مالئم متحلل من كثير من القيود اللغوية القديمة‪.‬‬ ‫والذي يطمح �إلى التعبير ٍ‬ ‫ولع ّلنا ال نخطىء �إذا حددنا �إنتماء ال�سيد ف�ضل اهلل الأ�سلوبي �إلى هذه المدر�سة‬ ‫‪50‬‬


‫����������������� ‬

‫البيانية التي كان من �أعالمها م�صطفى المنفلوطي والأمير �شكيب �إر�سالن وغيرهما‬ ‫كثير‪ ...‬وه�ؤالء جميعهم متعا�صرون‪ ،‬ومن رواد الكتابة العربية الرفيعة والأنيقة‬ ‫والمحافظة على الأ�سلوب البياني من دون �أن تحرمه م�ستج ّدات الع�صر‪ ،‬وقد ع ّبر‬ ‫ال�سيد ف�ضل اهلل عن هذا الإنتماء البياني في الغر�ض من كتابة ر�سالته (ال�سمكية) ب�أن‬ ‫«الكالم فيه تزيين من �ضروب البالغة ما تخر�س الأقالم عن نعته‪ ،‬وت�ستعجم العبائر‬ ‫عن و�صفه‪ ،‬مع كمال الإي�ضاح عن حقيقة مق�صده وتمام الك�شف ع ّما هو ب�صدده‪.(((»..‬‬ ‫وكان من الطبيعي �أن ين�ش�أ �صراع بين الداعين �إلى النه�ضة حول الطرق والأفكار‬ ‫والأ�ساليب التي من �ش�أنها �أن تقيم �صرح هذا البناء النه�ضوي على غير �صعيد‪ ،‬وقد‬ ‫و�صل هذا ال�صراع �إلى الحد الذي �أبرز مجموعة من المواقف �أبرزها‪:‬‬ ‫ المحافظة على ما لدى العرب بقوة من دون الإلتفات �إلى �سواهم‪.‬‬‫ الأخذ الكلي عن الغرب‪ ،‬في ح�سبان �أن ما لدى العرب غير نافع لبناء المجتمع الجديد‪.‬‬‫ الموقف المعتدل الذي يرى �أن ما لدى العرب غير كاف لهذا البناء‪ .‬وما يمكن �أخذه‬‫من الغرب يكمل النق�ص‪� ،‬شرط �أال يتعار�ض مع الموروث والواقع العربيين‪.‬‬ ‫وكما �أن الأو�ضاع العربية والعالمية الراهنة في حالة مميزة يمر بها العالم لإعادة‬ ‫بنائه‪ ،‬كذلك كانت �أو�ضاعه في تلك المراحل من النه�ضة ي�سودها القلق من كل ما‬ ‫يجري في خريطة العالم‪ ،‬خ�صو�ص ًا بالد العرب‪ ،‬حيث �أ�صبح الإنفتاح على الآخرين‬ ‫يحتاج �إلى �ضوابط تعقله وتوجهه التوجيه ال�صحيح‪.‬‬ ‫�صحيح �أن العلم والمعرفة والفكر والثقافة‪ ...‬عوامل �ضرورية في البناء‪� ،‬إال �أنها قد‬ ‫تدمر العالم �إن لم يكن هناك رادع �أخالقي يردعه ويوظف المعارف في خدمة الإن�سانية‪.‬‬ ‫في �ضوء ذلك كله ينبغي �إعادة قراءة «ميزان العدل» لل�سيد ف�ضل اهلل‪ ،‬وهو كتاب ال‬ ‫يخرج عن م�سار ال�سل�سلة الطويلة من الإ�صدارات التي � ّأ�س�ست للتربية والتعلم‪ ،‬وارتكزت‬ ‫على الأخالق الدينية التي كان المجتمع بحاجة ما�سة �إليها ل�ضبط الإنفالت على غير‬ ‫((( ال�سمكية �ص ‪217‬‬

‫‪51‬‬


‫ال�سيد محمد ر�ضا ف�ضل اهلل الحكيم والم�صلح‬

‫�صعيد‪ ،‬خ�صو�ص ًا الفكرة القائلة‪� :‬إن العلوم والمعارف والمبتكرات والح�ضارات‪ ...‬ال‬ ‫تفيد من دون �أخالق خوف ًا من توجهها ب�إتجاه ال�شر‪.‬‬ ‫�إذ ًا هو كتاب يملأ هذا الفراغ‪ ،‬وميزته عن الم�ؤلفات التي و�ضعت في ع�صر النه�ضة‪،‬‬ ‫ب�أن هذا الجانب الأخالقي كان موجود ًا‪ ،‬لكنه قلما �أفردت له ت�آليف تقت�صر عليه منفرد ًا‪.‬‬ ‫ هوية الكتاب‪:‬‬‫و»ميزان العدل» �أو «ال�سمكية» يعتمد على الحكاية في مجمله‪ ،‬ويجعل بنيته تقوم على‬ ‫الق�ص الذي ت�صرف به م�ؤلفه بما يالئم مق�صده‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫وعلى الرغم من ترداد لفظة «ر�سالة» في متن الكتاب غير مرة‪ ،‬مثل قوله‪« :‬ولما كانت‬ ‫الغاية الق�صوى والغر�ض المهم من هذه الر�سالة �أنه هل هناك �أدلة وا�ضحة وحجج‬ ‫معتمدة تق�ضي برجحان التلب�س في لذات الدنيا على تركها �أم ال؟»(((‪ ،‬وقوله‪« :‬والغر�ض‬ ‫من �إيراد هذا الكالم‪ ،‬وبديع هذا القول‪ ،‬تزيين هذه الر�سالة به‪.(((»....‬‬ ‫على الرغم من ذلك كله‪� ،‬أي �أن الكاتب يح�سب كتابه «ر�سالة»‪ ،‬ف�إن م�سالك �أخرى‬ ‫يتبعها‪ ،‬وفي ظنه‪ ،‬كما يقول �إنه �إعتمد الق�ص طريقة لأن «النف�س لإ�ستماع ال�سير‬ ‫والأمثال �أرغب و�إلى الوقوف عليها �أحب‪ ،‬وفي ذلك لهو للعامة وتذكرة لأولي الألباب‪،‬‬ ‫واهلل الهادي �إلى منهج ال�صواب»(((‪.‬‬ ‫وفي ذلك يكون ال�سيد ف�ضل اهلل قد �إقتفى �أثر القر�آن الكريم في عر�ض الأمثال‬ ‫والق�ص�ص «�أمثا ًال ت�ضرب و�سير ًا تق�ص»(((‪ ،‬ومن ثم الإن�صراف �إلى الحكم والمواعظ‬ ‫َۡ َُ‬ ‫َ َ‬ ‫وال�شروح الم�ستفي�ضة حول ق�ضاياتهم الإن�سان في مجمل حياته‪﴿ :‬ن ُن نق ُّص َعل ۡيك‬ ‫َ‬ ‫ۡ‬ ‫أ ۡح َس َن ٱل َق َص ِص﴾(((‪.‬‬ ‫(( ( ميزان العدل‪ :‬ال�سميكة‪� -‬ص‪.39‬‬ ‫((( (م‪.‬ن) �ص‪.217‬‬ ‫((( (م‪.‬ن) �ص ‪.40‬‬ ‫((( (م‪.‬ن) �ص ‪.40‬‬ ‫((( �سورة يو�سف الآية‪.3 :‬‬

‫‪52‬‬


‫����������������� ‬

‫بالإ�ضافة �إلى م�سرحة بع�ض الم�شاهد والحوادث‪ ،‬و�إ�ضفاء الخيال على ما يذهب‬ ‫�إليه‪ ،‬حيث يبدو كتابه خليط ًا من الق�ص الحكائي والم�سرحي والخطابي والمفارقات‬ ‫الموزعة على الخير وال�شر من جهة‪ ،‬وتجويد �أ�ساليب اللغة �إلى حد الف�صاحة العليا من‬ ‫جهة ثانية‪.‬‬ ‫ويبدو للدار�س �أن �صاحب الكتاب قد مال ب�صوغه ب�إتجاه ق�ص�ص الرومان�س المليء‬ ‫با�ستعمال الخيال والمبالغة‪ ،‬و�إهالة �أقبا�س الروح على العمل حتى �إقترب من الخيال‬ ‫العلمي في مكان والروحي في مكان �آخر‪ ،‬ويمكن تناول الكتاب على �أنه ر�سالة م�صوغة‬ ‫على هذا الأ�سا�س الق�ص�صي الذي يهدف �إلى الوعظ والإر�شاد الديني‪ ،‬والتوجيه‬ ‫الأخالقي والتربوي والتعليمي‪.‬‬ ‫تماثل الأنماط‪:‬‬ ‫�إن المطلع على فكر النه�ضة و�أدبها �سيجد مثي ًال لعمل ال�سيد ف�ضل اهلل‪ ،‬حيث كان‬ ‫الهدف التعليم والتوجيه‪ ،‬وقد كتب رفاعة الطهطاوي «تخلي�ص الإبريز في تلخي�ص‬ ‫باري�س» على هذا الأ�سا�س‪ ،‬وكان كتابه قد �سمي تجوز ًا رواية ل�ضعف العن�صر الروائي فيه‪،‬‬ ‫وكذلك فعل المف ّكر الم�صري علي مبارك في روايته «علم الدين»‪ ،‬عندما قام برحلتين‬ ‫متعاك�ستين‪ :‬واحدة �إلى ال�شرق و�أخرى �إلى الغرب‪ ،‬وقد �أعلن في مق ّدمة الرواية كما‬ ‫�أعلن ال�سيد ف�ضل اهلل في م�ستهل «ميزان العدل»‪ ،‬بقول قريب «لقد ر�أيت النفو�س كثير ًا‬ ‫ال�س َير والق�ص�ص وملح الكالم‪ .»..‬فحداني هذا عمل كتاب �أ�ضمنه كثير ًا من‬ ‫ما تميل �إلى ّ‬ ‫الفوائد في �أ�سلوب حكاية لطيف «ين�شط الناظر �إلى مطالعتها»(((‪.‬‬ ‫وكذلك فعل محمد المويلحي في روايته «عي�سى بن ه�شام»‪ ،‬معتمد ًا �أي�ض ًا على الخيال‬ ‫الأ�سطوري في �إخراج �أحد البا�شوات من القبر‪ ،‬وقد م�ضى على موته ثالثمائة �سنة‪،‬‬ ‫((( رواية «علم الدين» علي مبارك �ضمن المجموعة الكاملة لأعمال علي مبارك �ص ‪( 126‬الم�ؤ�س�سة العربية للدرا�سات والن�شر)‬ ‫القاهرة ‪.1883‬‬

‫‪53‬‬


‫ال�سيد محمد ر�ضا ف�ضل اهلل الحكيم والم�صلح‬

‫ليقوما برحلتين‪ :‬واحدة �إلى �أرجاء م�صر‪ ،‬و�أخرى �إلى �إنكلترا‪ ،‬وليكون تف�صيل الرواية‬ ‫قائم ًا على المقارنة بين الما�ضي والحا�ضر �أو ًال‪ ،‬وبين ال�شرق والغرب ثاني ًا‪ ،‬في قالب‬ ‫�إ�ستك�شافي حواري هدفه التعليم والمعرفة والإ�ستك�شاف‪.‬‬ ‫ولعل رواية فرن�سي�س م ّرا�ش(((‪« ،)1873-1836( ،‬غابة الحق» تكون المثيل‬ ‫الأقرب لعمل ال�سيد ف�ضل اهلل‪ ،‬فقد جعل الم ّرا�ش الحلم بنية روايته‪ ،‬حيث يحلم في‬ ‫غفلة منه‪ ،‬فيتخ ّيل �أ ّنه يطوف الدنيا منذ البدء‪ ،‬وحيث كان العمران يغ�شاها �إلى �أن‬ ‫�أ�صبحت دو ًال متنازعة ومت�صارعة تتقاتل ويغلب القوي ال�ضعيف وي�سود بع�سفه على‬ ‫الأر�ض قاطبة‪ ،‬وخالل تطوافه يتخيل باب ًا رحب ًا ينفتح لب�صيرته‪ ،‬قر�أ على قنطرته‬ ‫«والعقل يحكم»‪ ،‬وراءه ف�سحة وا�سعة عبارة عن ب ّرية‪ ،‬ثم يم�ضي ليلوح له على �أحد‬ ‫البيارق كتابة قر�أها‪« :‬العلم يغلب»‪ ،‬ووراءه تنب�سط جيو�ش من التمدن الزاهر تمتطي‬ ‫متون الإختراعات العجيبة والمعارف الكاملة‪ ،‬تخطر متموجة ب�أنوار �أ�سلحة الحكمة‬ ‫والعدل‪ ،‬متد ّرعة بدروع الحرية الإن�سانية‪ ...‬ويلمح ممالك الظالم تندحر �أمام‬ ‫الحكمة والعدل والحرية‪ ،‬حيث ي�سيطر العدل وينت�شر ال�سالم في الكون‪ ،‬ثم يب�صر‬ ‫عر�شين قرب �صخرة ين�سل منها غدير‪ ،‬كتب على العر�ش الأول‪« :‬يعي�ش ملك الحرية»‪،‬‬ ‫وعلى العر�ش الثاني جل�ست �إمر�أة كتب على �إكليلها الذهبي �سطر من �أحرف نارية‬ ‫«تحيا ملكة الحكمة»‪ ،‬ويظهر ملك الحرية غا�ضب ًا يحاول تحطيم مملكة العبودية‪،‬‬ ‫فيت�س َّنى له ذلك‪ ،‬لين�صرف الم ّرا�ش بعد ذلك �إلى التغني بنتائج ال�سالم من عمران‬ ‫ومعارف‪ ،‬وليبين م�ساوىء الحرب من تدمير وهالك‪ ،‬فيرجح لديه الإنتقام من ملوك‬ ‫ال�ش ّر‪ ،‬في�أتي بفيل�سوفه القا�ضي في «مدينة النور»‪ ،‬فيب�سط �آراءه العظيمة فيقنع‬ ‫الملك ب�إقامة العدل‪ ،‬فين�صرف عن �إنتقامه من «مملكة الروع»(((‪.‬‬ ‫((( «غابة الحق» (فرن�سي�س م ّرا�ش)»المكتبة العمومية» حلب ‪.1961‬‬ ‫((( �أنظر تف�صيل ذلك في كتاب «�صورة الغرب في الرواية العربية» ‪ -‬للدكتور �سالم المعو�ش ‪� -‬ص ‪ 220‬وما بعدها‪ -‬م�ؤ�س�سة‬ ‫الرحاب الحديثة‪ -‬بيروت‪.1980 -‬‬

‫‪54‬‬


‫����������������� ‬

‫تقترب بنية «ميزان العدل «من بنية»‪« ،‬غابة الحق» في قيامهما على التخ ّيل‪ ،‬وا�ستعمال‬ ‫الكلمات المفاتيح في العملين(العقل والحكمة والنور والظالم والظلم والعبودية وال�ش ّر‪،‬‬ ‫والجنود‪ ،‬والعلم والجهل وال�سعادة والقنوع والأبواب والقناطر والحق والأتباع‪.)...‬‬ ‫وتختلفان في الرحلة‪ ،‬فالم ّرا�ش �أقام رحلته �إلى فرن�سا‪� ،‬أي �إلى الخارج‪ ،‬وتع ّرف على‬ ‫د�ساتيرها وقوانينها وعاداتها‪ ..‬خ�صو�ص ًا تعاليم الثورة الفرن�سية (‪� ،)1789‬أما ال�سيد‬ ‫ف�ضل اهلل فقد �أقام رحلته �إلى الداخل‪ ،‬وهو هنا داخالن‪ :‬داخل التراث الديني وداخل‬ ‫حالتي الإيجاب وال�سلب‪.‬‬ ‫النف�س الإن�سانية بما فيها من نوازع وميول ورغبات في ّ‬ ‫والعمالن ي�ستعمالن تقنية ح�شد الجيو�ش للمعارك الوهمية‪ ،‬حيث تبرز م ّيزة ال�صراع‬ ‫جلي دالالته على ال�ض ّدية ال�سائدة في معترك الحياة بين قوى ال�ش ّر وقيم الخير‪،‬‬ ‫ب�شكل ّ‬ ‫والمنق�سمين �إلى مع�سكرين عنيفي التفاعل‪.‬‬ ‫ «ميزان العدل»‪ :‬ال�سمكية‪:‬‬‫ داللة العنوان‪:‬‬‫ثالث مفردات‪ ،‬تلخ�ص مجمل ما جاء في الكتاب‪ ،‬والمق�صود هو «العدل» و�إقامته‪،‬‬ ‫ولن يت�سنى ذلك �إال بوزن الأمور بميزان خا�ص �إتفق على ت�سميته بـ «ميزان العدل»‪ ،‬وهو‬ ‫الر�سم المرفوع على �أبواب المحاكم �إ�شارة �إلى �أنه‪ :‬هنا يتحقق العدل‪.‬‬ ‫وال�سمكية‪ :‬من ال�سمك‪ ،‬المخلوق المائي الذي ي�ستعمل طعام ًا للنا�س‪ ،‬والياء للن�سبة‪،‬‬ ‫والداللة هي �أن ما ينوى الحديث عنه هو �شيء ين�سب �إلى ال�سمك‪ ،‬وتف�سير ميزان العدل‬ ‫بال�سميكة يعني �أنّ هناك ترابط ًا بين التعبيرين‪.‬‬ ‫وقد تو�ضح العبارة التي تف�صل بينهما بع�ض العالقة‪ :‬ميزان العدل‪ ،‬في المحاكمة بين‬ ‫جنود العقل والجهل‪ ،‬فثمة فريقان مت�ضادان‪ :‬العقل والجهل «ولكل منهما جنود مج ّندون‬ ‫للإنت�صار لهما‪ ،‬لكنّ الح�صيلة تلخ�ص بلفظة «ال�سمكية»‪ ،‬التي تبتعد في مدلولها من‬ ‫العنوان الطويل‪ ،‬من دون �أن يوحي �إ�ستعمالها بعالقة ما بينهما‪ ،‬ومن دون �أن يو�ضع‬ ‫حرف العطف الإ�ستبدالي «�أو»‪ ،‬لكنّ الإنطباع العام ّ‬ ‫يدل على �أنّ �صاحب الق�صة �سوف‬ ‫‪55‬‬


‫ال�سيد محمد ر�ضا ف�ضل اهلل الحكيم والم�صلح‬

‫يتح ّدث عن العدل هدف ًا رئي�س ًا له‪ ،‬وكان على القارىء �أن ينتظر للتع ّرف على فكرة‬ ‫الق�صة كي يت�ضح مرمى العنوان‪.‬‬ ‫ فكرة الق�صة‪:‬‬‫لم ال�سمكية �إذ ًا؟‬ ‫تغدو لفظة ال�سمكية �سبب ًا رئي�سي ًا لت�أليف الكتاب‪ ،‬ومن هذا ال�سبب ينطلق الحكي‬ ‫وعظ ت�أتّى من نتيجة‬ ‫م�سوغ ًا للكاتب �أن ي�ضع حكايته‪ ،‬ويجعل بنيتها الأ�سا�سية تدور حول ٍ‬ ‫فعل م� ٍؤذ قام به البع�ض‪ ،‬ومفاده �أن مجموعة من ال�صحاب �إتفقت على �أن يكون غدا�ؤها‬ ‫�سمك ًا على نهر دجلة‪ ،‬فيتم �شراء ال�سمك و�إعداده للطعام‪� ،‬إال �أن مجموعة �أخرى من‬ ‫ال�صحاب ممن عرفت بالأمر �أخفت ال�سمك وحرمت المجموعة الأولى من �أطايبه‪.‬‬ ‫أحب �أن يترجم «هذه الواقعة ب�أنثار فائقة‬ ‫وقد �أ ّثرت هذه الحادثة في الكاتب‪ ،‬و� ّ‬ ‫و�أ�شعار رائقة‪ ،‬لما �إ�شتملت عليه من خيبة الظنّ وكذب الأمل‪ ،‬والغر�ض ما وراء �ألفاظها‬ ‫من المعنى‪ ،‬وما هو جدير �أن يق�صد ويعنى‪ ،‬من �أ ّنه كم يكدح المرء في جمع �شيئه ووزره‬ ‫عليه ومهنئوه لغيره‪ ،‬يتن َّعم به من لم ت�سع �أقدامه في مذاهب طلبه»(((‪.‬‬ ‫وهي حالة متفاقمة في المجتمع‪ ،‬حيث يعي�ش كثيرون على ح�ساب الآخرين‪ ،‬في�سلبون‬ ‫�أتعابهم وين�سبونها �إلى �أنف�سهم‪ ،‬وهو مو�ضوع نجده م�ست�شري ًا بين النا�س‪ ،‬فيعم‬ ‫الإ�ستغالل‪ ،‬ونهب الثروات وم�ضغ لحوم الأخرين‪.‬‬ ‫يلم فيه �شتات المحامد‬ ‫ولع ّل الكاتب قد �إرتفع في تناوله هذا المو�ضوع �إلى م�ستوى ٍ‬ ‫راق ّ‬ ‫وال�شرور الرائدة في زمنه و� ّأي زمن �آخر‪ ،‬لين ّبه �إلى مخاطر الزلل ويظهر ت�أثيرها في‬ ‫ما�سة‪ ،‬وهو‬ ‫ال�سلوك الإن�ساني‪� ،‬إن لم تجد �ضوابط تعقلها‪ ،‬وهذا الكالم حاجة كونية ّ‬ ‫ما ينطبق على زمن الكاتب �إ ّبان الحكم التركي في مرحلته الأخيرة حيث كان �أفوله‬ ‫�سبب ًا في �إ�ست�شراء الف�ساد والل�صو�صية والر�شوة‪ ،‬كما كان �سبب ًا في تكالب بع�ض الدول‬ ‫الغربية وت�سابقها للإ�ستيالء على ال�شرق ونهب ثرواته‪.‬‬ ‫(( ( ميزان العدل ‪� - .....‬ص ‪.35‬‬

‫‪56‬‬


‫����������������� ‬

‫وبناء على ذلك يم�ضي ال�سيد ف�ضل اهلل في مخ ّيله ال�سردي في خليط من النثر‬ ‫وال�شعر له ول�سواه من�صرف ًا عن ال�سمك‪� ،‬إال في بع�ض الموا�ضع‪ ،‬مقيم ًا حبكته على جوانب‬ ‫�صراعية في نف�س الإن�سان و�سلوكه‪ ،‬فيكون لهذا ال�صراع �أطراف متقاتلة ووقعات عديدة‬ ‫عنا�صرها الرئي�سة �أنواع النف�س‪ :‬من �أ ّمارة بال�سوء‪� ،‬إلى مطمئنة‪ ،‬جاع ًال لك ّل منهما‬ ‫جنود ًا تح�شد في القتال‪ ،‬جنود ًا موزعة على العقل والجهل والخير وال�ش ّر‪ ،‬وال�شيطان‬ ‫العد ّو‪ ،‬والإيمان الحامي الإن�سان من الزلل‪ ،‬ومو�صله �إلى ب ّر الأمان‪ :‬الج ّنة وما يوعد‬ ‫الم�ؤمنون به‪ ،‬في �أحاديث مط ّولة‪ ،‬عن الج�سد وال�شهوات والقنوع والعفة والزهد والتقوى‬ ‫والعلم‪ ،‬و�صو ًال �إلى الحديث عن م�صير كل واحدة منها‪ ،‬وبالتالي م�صير الإن�سان وطريقه‬ ‫�إلى الآخرة‪� :‬أهو في الجنة �أم في النار نتيجة لأعماله؟‬ ‫ويبدو للقارىء �أنّ هذا الأثر هو نوع من الق�ص�ص الذي ي�ستقى منابعه من القر�آن‬ ‫الكريم بهدف الوعظ الديني‪ :‬يبد�أ بعر�ض �أحوال الدنيا وما �أفا�ض به اهلل من طيبات وما‬ ‫ح ّدده من ممنوعات‪ ،‬لي�صل �إلى �أنّ الإن�سان ينحرف عن الطيب ويلج�أ �إلى الخبيث‪ ،‬وعن‬ ‫مف�صل‪ :‬حكمي وعظي في‬ ‫العقل �إلى الجهل‪ ،‬وعن الإيمان �إلى الع�صيان‪ ،‬في �شبه عر�ض ّ‬ ‫مجمل وقائعه قائم على ال�صراع بين الميول والرغبات‪ ،‬تلك ال�صادرة عن �أنواع النف�س‬ ‫الإن�سانية‪ ،‬ال �سيما الأمارة بال�سوء من جهة والمطمئنة من جهة ثانية‪ ،‬لي�صل �إلى بع�ض‬ ‫الحلول الكامنة في التعاليم الدينية والتوجيهات ال�صائبة من خالل تبيان الإيجابيات‬ ‫للملتزم وال�سلبيات للعا�صي‪.‬‬ ‫ بنية الحكاية‪:‬‬‫ البنية الكلية‪:‬‬‫تقوم الحكاية �إذ ًا على فكرة �سرقة ال�سمك وم�صير ال�سارق وعلى �أنّ ال�سرقة من‬ ‫مفاعيل الجهل الذي يقابله العلم والعقل ال�ضابطين الرئي�سين �سلوك النا�س في �ضوء‬ ‫التعاليم الدينية التي تتع ّمق في �أحوال النا�س وما فيها من ميول ونوازع و�إنحرافات‬ ‫و�إ�ستقامات‪...‬‬ ‫‪57‬‬


‫ال�سيد محمد ر�ضا ف�ضل اهلل الحكيم والم�صلح‬

‫ البنى الجزئية‪:‬‬‫وتندرج في �سياق البنية الكلية بنى �أخرى جزئية ت�ش ّكل مفا�صل رئي�سية في ال�سياق‬ ‫العام‪ ،‬و�أكثر هذه البنى �أهمية‪:‬‬ ‫ المقدمة التي ت�س ّوغ ال�سبب لكتابة الحكاية‪ ،‬وهي عقد العزم على تناول ال�سمك‬‫غدا ًء‪ ،‬ومن ثم �سرقة ال�سمك‪.‬‬ ‫ المف�صل الأول‪ :‬وفيه عودة �إلى �سبب ال�سرقة وهو الجهل‪ ،‬يت�ضمن هذا المف�صل‬‫حديث ًا مطو ًال عن الجهل الذي مر ّده في هذه الحكاية �إلى ف�ساد النفو�س �إ�ستجاب ًة لرغبة‬ ‫الج�سد في ال�شهوات‪ ،‬حيث يتب ّدى �أنه ينبني على لوازم ينبغي مراعاتها في حدود‬ ‫الحاجة والإكتفاء من غير �إ�ضطرار �إلى اللجوء �إلى العادات المقيتة التي يجب تجنبها‪،‬‬ ‫ومنها ال�سرقة‪ ،‬وذلك ال يكون � ّإل في نطاق خداع النف�س والتزيين لها ب�أن الحرام ي�صبح‬ ‫حال ًال‪ ،‬وال�سعادة الآنية زيف �إن قامت على فعل ال�سوء‪ .‬وذلك ك ّله من منتجات النف�س‬ ‫الح�سية الحيوانية‪ ،‬والتي يمكن الإ�ستغناء عنها‬ ‫الأ ّمارة بال�سوء التي تقوم على ال�شهوات ّ‬ ‫�أو تنظيمها ليكون �أدا�ؤها �أف�ضل �ضمن العقل والمنطق‪ ،‬وما عمل الأمارة بال�سوء � ّإل‬ ‫من خداع ال�شيطان الذي يرمز �إليه الكاتب «ب�أبي مرة»‪ ،‬وهو �أحد قطبي ال�صراع في‬ ‫الحكاية‪ ،‬وقائد جنود الجهل‪ ،‬ومو�صلها �إلى الطمع وال�شهوة ّ‬ ‫وال�شدة والمفا�سد والآثام‬ ‫وال�شرور(((‪.‬‬ ‫ المف�صل الثاني‪ :‬وفيه تحذير من �أنّ جنود الجهل ال تت�ص ّرف بح ّرية تامة‪ ،‬بل �إن‬‫هناك نقي�ض ًا �أ�سا�سي ًا لها يق ّيدها وي�ضبط �أعمالها ويمنعها من التمادي في �أعمالها‬ ‫ومح�صنة ومدعومة‬ ‫ال�سيئة‪ ،‬وقد رمز �إليه الكاتب «بالعقل» الذي بدوره له جنود مج ّندة‬ ‫ّ‬ ‫من قبل اهلل ع ّز وج ّل‪.‬‬ ‫والفكرة الرئي�سية هنا هي الإنطالق من العقل الإنفعالي الذي يجعل النف�س المطمئنة‬ ‫ال�سمكية‪� ,‬ص (‪.)82 - 37‬‬ ‫((( ّ‬

‫‪58‬‬


‫����������������� ‬

‫قوامه الرئي�س‪ ،‬تلك النف�س المنوط بها عقل الإنحراف ومنعه‪ ،‬ولها �أدواتها المرجعية‬ ‫�صدر �إال فع ًال نبي ًال ي�س ّور الإن�سان ويقوده �إلى ال�سعادة‬ ‫الروحية في ذلك‪ ،‬وهي ال ُت ِ‬ ‫الحقيقية الأبدية في رحاب اهلل‪ ،‬لذلك فهي تقود الفكر والنوازع �إلى الخير‪ ،‬ي�ؤازرها‬ ‫العقل بقواه ال�صارمة التي ال تت� ّأخر في المواجهة لتحقّ الحق‪ ،‬لذلك تجري المعارك بين‬ ‫جنود العقل وجنود الجهل‪ ،‬وينبري «�أبو م ّرة» (ال�شيطان) لمالقاة خ�صمه‪ ،‬وينك�شف‬ ‫الم�شهد عن �إنت�صار العقل المعتمد على �أمرين �أ�سا�سيين‪.‬‬ ‫ الأمر الأول‪ :‬على بنية النف�س المطمئنة الم�ستعينة دائم ًا باهلل‪ ،‬فيم ّدها بروح‬‫القد�س وين�صرها وي�ضيء لها م�صابيح الحكمة‪ ،‬وما ذلك � ّإل لأنّ المطمئنة مجبولة‬ ‫بجملة من المك ّونات التي هدفها فعل ال�صواب و�صالح العالم‪ ،‬فتبرز هذه المك ّونات‬ ‫من النور والمواعظ والطاعة والتعالي عن ال�شهوات والم�ساوىء والإيمان العميق الواثق‬ ‫باهلل‪ ،‬والإبتعاد من الإغترار بالنف�س‪ ،‬والتفكير بم�صير الإن�سان‪ ،‬ال �سيما ج�سده الذي‬ ‫هو �إلى الزوال ‪ ...‬لذلك هي منت�صرة دائم ًا على «داء الجهل»‪ ،‬وعالمة «بم�صير �أحوال‬ ‫الأمم والقادة الغابرين ونتائج �أعمالهم البائرة»‪ ،‬و�أنّ م�صير الجميع �إلى القبور‪ ،‬و�أنّ‬ ‫النف�س الأ ّمارة تلقى الم�صير نف�سه ‪ ...‬لذلك يدفع الكاتب بالعقل �إلى الواجهة ويجعله‬ ‫دائم ًا منت�صر ًا‪.‬‬ ‫في هذا الأمر يعطي الكاتب النف�س المطمئنة الإمكانات الوا�سعة والمطلقة‪ ،‬ويمنحها‬ ‫منبر ًا خا�ص ًا متمكن ًا من الثقافة الدينية الإ�سالمية‪ ،‬حيث ي�صبح العدل والحق والهدي‬ ‫وروح القد�س والأمثال والقبر والطوايا الح�سنة �أ�سلحة ما�ضية في تتفيه �آراء ومواقف‬ ‫النف�س الأ ّمارة بال�سوء‪ ،‬تلك التي ت�أتمر ب�أوامر �أبي م ّرة‪ ،‬فتحيد عن ال�صواب وتع�صي‬ ‫الرحمن‪ ،‬فهي لذلك ت�صاب بالخيبة والإخفاق‪ ،‬وتتع ّر�ض للتقريع والت�أنيب والهزيمة‪،‬‬ ‫وخ�سارة ال�سعادة الأبدية التي جعل الكاتب خطابها تف�سيري ًا لحقيقة الوجود الإن�ساني‪.‬‬ ‫ويتجلى ذلك بقوله‪:‬‬ ‫«الحمد هلل الذي عدل بين خلقه و�ساوى بين عباده‪ ،‬فجعل الدنيا ج ّنة ن�ضرة لمن‬ ‫‪59‬‬


‫ال�سيد محمد ر�ضا ف�ضل اهلل الحكيم والم�صلح‬

‫كفر به‪ ،‬وخميلة عطرة لمن َع َن َد عن طاعته‪ ،‬وبهجة مونقة لمن �أ�شرك بربوبيته‪ ،‬يتقلبون‬ ‫في نعيمها‪ ،‬ويبتهجون في زخارفها‪ ،‬ويعجبون بمناظرها‪ ،‬ويزدهون بزبرجدها‪ ،‬م�شغوفة‬ ‫�أنف�سهم بلذاتها‪ ،‬ومق�صورة �أب�صارها على ط ّيباتها‪ ،‬ي�أكلون ويتمتعون‪ ،‬ويلهيهم الأمل‬ ‫الكاذب‪ ،‬والغرور الحائل‪ ،‬كال ّنعم المهملة والإبل ال�ساهمة‪ ،‬ولو �شاء اهلل لزادهم فيها‬ ‫ب�سطة‪.»...‬‬ ‫ والأمر الثاني‪ :‬هو �إ�سهابه في الحديث عن الدار الآخرة‪ ،‬على ل�سان النف�س‬‫المطمئنة‪ ،‬وهي التي تحذر من نتائج �أعمال �أهل الع�صيان‪ ،‬و�أنّ عذاب القبر ينتظرهم‪،‬‬ ‫و�أبواب النار تفتح �أ�شداقها لتبتلعهم‪ ،‬وهي �أ�شداق تنفتح على �أخرى‪ ،‬وهي �سبعة �أبواب‪:‬‬ ‫جهنم واللظى والحطمة وال�سعير و�سقر والجحيم والهاوية(((‪ ،‬و�سبعة قناطر‪ :‬الح�ساب‬ ‫عن ال�صالة‪ ،‬وح�ساب عن الأمانة وعن �صلة الرحم وب ّر الوالدين وحفظ الل�سان وحفظ‬ ‫الجار وال�صدق(((‪.‬‬ ‫المف�صل الثالث‪ :‬ويتر ّكز حول ر ّدة فعل جنود العقل الذين ينبرون للدفاع عن القيم‬ ‫التي ينبغي �أن تكون ثابتة في ال�شخ�صية الإن�سانية‪ ،‬في هذا المف�صل عر�ض واثق من‬ ‫ح�سية‬ ‫الإنت�صار الحتمي لل�صحيح والباقي في �إدارة الكون‪ ،‬يقيمه الكاتب على مدركات ّ‬ ‫ومعنوية‪ ،‬تنتمي في مجملها �إلى الأر�ض الخ�صبة التي تكتنف عالم الإن�سان الباطني‪،‬‬ ‫وهي منطلقات تقود الإن�سان في الظاهر من خالل مح ّركات �سلوكية قوامها‪ :‬الوحدة‬ ‫و�صراع الأ�ضداد‪ ،‬ف�إلى جانب التكوين المتح ّرك‪ ،‬وغير الثابت للقوى الم�ؤقتة الناتجة‬ ‫عن المطامع والنوازع والميول والرغبات والإنحراف ب�إتجاه ال�ش ّر والمعا�صي والم�آتم‬ ‫وال�شرور ‪ ...‬ثمة قوى �أخرى �أكثر ثبوت ًا وديمومة‪ ،‬و�أكثر فاعلية‪ ،‬و�أقوى منطق ًا‪ ،‬تقف في‬ ‫النقي�ض من القوى الأولى العابرة‪ ،‬وهي ت�شكل الأر�ضية ال�صحيحة والحقيقية التي ُجبل‬ ‫عليها الإن�سان‪ ،‬وفي مقدمتها ي�أتي العقل ب�أ�سلحته اليقينية‪ ،‬والتي ي�سميها الكاتب «جنود‬ ‫((( ال�سمكية �ص ‪.23‬‬ ‫((( ال�سمكية �ص ‪.128‬‬

‫‪60‬‬


‫����������������� ‬

‫العقل»‪ ،‬وهي القائمة على الإيمان ال�صحيح المعتمد على القنوع والع ّفة والزهد والتقوى‪،‬‬ ‫و�إذا كانت هذه الأ�سلحة معنوية‪ ،‬من متعلقات النف�س المطمئنة الآيلة �إلى الإ�ستقرار‬ ‫الآدمي‪ ،‬ف�إ ّنها م�س ّورة ب�أبنية العلم القائمة على الأدلة والبراهين ال�ساطعة التي ال مهرب‬ ‫منها‪� ،‬إال بالإنحراف الب ّين عن جادة ال�صواب‪.‬‬ ‫يقوم هذا المف�صل �إذ ًا على هجوم جنود العقل على جنود الجهل‪ ،‬في نزال مميت‬ ‫ي�ؤدي �إلى تبيان حقائق الأفعال ونهاياتها‪ ،‬حيث ينه�ض العلم «و�سبحات �أنوار الهدى‬ ‫تتلألأ في جبينه‪ ،‬و�أ�شعة م�صابيح الر�شاد ي�ش ُع من �صفحات وجهه‪ ،‬وكواكب هممه تبزغ‬ ‫مزهرة من رجع لهواته‪ ،‬وتفي�ض جداولها من جوانبه‪ ،‬وتنطلق �أل�سنتها من نواحيه‬ ‫منحدر ًا في مقوله �سائ ًال في تر�سله‪ ،‬راكب ًا من البيان ثبج لجيه‪ ،‬ممتطي ًا كواهل غواربه‪،‬‬ ‫وق�صر �أعنة مقوله‬ ‫�ساطع ًا ب�صبح الإي�ضاح‪ ،‬و�شمو�س الك�شف‪ ،‬وقد ّقد �سوابق منطقه‪ّ ،‬‬ ‫وبنى مطالب مقا�صده على نظم مق ّدمات‪ ،‬وترتيب مقامات ببيانها ترتفع الغ�شاوات‬ ‫وت�ستنير الظلمات»(((‪.‬‬ ‫في هذا المقطع التقديمي للعقل‪ ،‬تنجلي حقيقة التعبير البياني الذي يعيد ال�سيد‬ ‫ف�ضل اهلل في �إنتمائه الأ�سلوبي �إلى المدر�سة البيانية في النثر‪ ،‬حيث نالحظ العبارة‬ ‫المج ّنحة والخيال الث ّر يهيمن على الأداء اللغوي‪�« :‬سائ ًال في تر�سله» وراكب ًا من البيان‬ ‫ثبج لجيه في هالة من الأ�ضواء التي تك�شف منطق القول القائم على جملة من الأمور التي‬ ‫يرتبها الكاتب‪ ،‬ويحيل �صدورها من ينابيع «�إرادة الإبداع»‪ ،‬وتناقلها �إلى «يد الإن�شاء»‪،‬‬ ‫في ظل �إكتناف نوراني فيه من ال�شفافية والأج�سام الروحانية ال�شيء الكثير(((‪.‬‬ ‫�أما هذه الأ�ضواء فجوهرها يف�صح عن تنبيه العقول ال�ساهية �إلى كبرياء اهلل ع ّز‬ ‫وج ّل وتوحيده و�أزليته و�سببية خلقه‪ ،‬وما و�ضعه في الب�شر من طبائع مت�ضادة و�صفات‬ ‫مختلفة‪ ،‬جعلها تنتقل بالوراثة عبر ال�ساللة الإن�سانية‪ .‬ذلك كله في �سلك منطقي قوامه‬ ‫((( ال�سمكية �ص ‪.203‬‬ ‫((( ال�سمكية �ص ‪.203‬‬

‫‪61‬‬


‫ال�سيد محمد ر�ضا ف�ضل اهلل الحكيم والم�صلح‬

‫البرهان العقلي على �صحة النتائج الكامنة في �صحة المقدمات(((‪ ،‬لي�صل في خال�صته‬ ‫�إلى القول‪� »:‬إن حقيقية النعيم �إنما هو بالمعارف الإلهية‪ ،‬والذات العقلية‪ ،‬ال بالعلوم‬ ‫الج�سدية واللذات الح�سية»(((‪ ،‬من دون �أن يغمط العلم ح ّقه في الإ�ستدالل على حقيقة‬ ‫اهلل والوجود‪ ،‬في �سل�سلة من ال�شواهد التي هي من �إنتاج العقل‪.‬‬ ‫في المف�صل الرابع‪:‬‬ ‫يوحي الكاتب ب�أن ال�صراع بين الخير وال�ش ّر �سي�ستمر ما دام «�أبو م ّرة» (ال�شيطان)‬ ‫موجود ًا يعيث في الأر�ض ف�ساد ًا‪ .‬فعلى الرغم من الأدلة الدامغة التي يتقدم بها‬ ‫العقل‪ ،‬وعلى الرغم من �إنت�صاره وق ّوة الحجج العلمية التي تقدمها النف�س المطمئنة‬ ‫‪ ...‬فال�صراع يجد �سبيله الدائم �إلى ال�شقاق والنفاق‪ ،‬والأمر بال�سوء‪ ،‬و�إغواء النفو�س‪،‬‬ ‫والميل بها ب�إتجاه الع�صيان والمجادلة من �أجل المجادلة و�إ�ستمرار النزاع‪.‬‬ ‫في هذا المف�صل نجد الهزيمة على ل�سان ال�شيطان‪ ،‬يع ّبر بها الكاتب �شعر ًا م�ستقى‬ ‫من ال�شاعر العبا�سي �أبي تمام‪:‬‬ ‫�وب �إذا الق� �ي� �ت� �ه ��ن رددن� �ن ��ي ج ��ري� �ح� � ًا ك � ��أ ِّن� ��ي ق ��د ل �ق �ي��ت ك�ت��ائ�ب��ا‬ ‫خ � �ط� � ٌ‬ ‫وم ��ن ل ��م ُي �� �س �ل� ِّ�م ل �ل �ن��وائ��ب �أ��ص�ب�ح��ت خ �ل��ائ� � �ق � ��ه ط� � � ��را ع � �ل � �ي� ��ه ن � � َوائ � �ب� ��ا‬ ‫وق� ��د ي��ك ��ون ال �� �س �ي��ف ال �م �� �س �م��ى منية وق ��د ي��رج��ع ال���س�ه��م ال �م �ظ � َّف � ُر خائبا‬ ‫(((‬ ‫و�آف � � ��ه ذا �أ ّال ي� ��� �ص ��ادف رام� �ي� � ًا و�آف� � � � ُة ذا �أ ّال ي�����ص ��ادف �� �ض ��ارب ��ا‬ ‫و�أبرز ما في هذا المقطع هو �إحتدام الجدال‪ ،‬في حوار �صدامي تعتلي فيه الحجج ٍّ‬ ‫لكل‬ ‫من جنود الجهل وجنود العقل‪ .‬وقد �س ّماه الكاتب بـ«الهجوم الم�ضاد»‪ ،‬وهو الذي حاولت‬ ‫فيه النف�س الأ ّمارة بال�سوء �إنقاذ ما يمكن �إنقاذه من �أفعال �إنحرافية تل�صقها بالإن�سان‪،‬‬ ‫وك�أ ّني بال�شيطان (�أبو م ّرة) يتج ّدد وينه�ض من خيبته وي�ؤكد م�سيرته الإغوائية في عالم‬ ‫النا�س‪ .‬يقول‪:‬‬ ‫((( ال�سمكية �ص ‪.204‬‬ ‫(( ( الم�صدر نف�سه ‪� -‬ص ‪.204‬‬ ‫((( الم�صدر نف�سه ‪.243‬‬

‫‪62‬‬


‫����������������� ‬

‫�أن� � ��ا �أب� � ��و م � � � � ّرة �إن ج � � � ّد ال ��وه ��ل خ � �ل � �ف� ��ت غ� � �ي � ��ر زم� � � � ��ل وال وك � ��ل‬ ‫َ (((‬ ‫ذو خ � ��دع � ��ة وذو ده� � � � ��اء وخ� �ت ��ل �إن م � َّل �ن��ي ال �� �ش � ّر ف � ��إ ّن� ��ي ال �أَم� � � ��ل‬ ‫وهو ما �أحيا جنود الجهل ودفع بالنف�س الأ ّمارة الى �أن تعود �إلى حلبة ال�صراع‪ ،‬وهكذا‬ ‫حتى ما ال نهاية‪ :‬يقوم ال�صراع فتنخفق‪ ،‬ثم تجد بواعث جديدة‪ ،‬فينق�ضي الزمان‪،‬‬ ‫وهي ال تغادر النفو�س وال الأمكنة‪ ،‬وها هي ذي اليوم في «ميزان العدل»‪ ،‬تعود في «هيئة‬ ‫ال�سمك» لتغوي الإن�سان وتدفعه �إلى ال�سرقة وفعل الموبقات‪.‬‬ ‫�أ ّما المف�صل الخام�س والأخير‪ ،‬في�أتي لي�ؤ ّكد حال الوجود منذ الأزل‪ ،‬و�أنّ النهايات‬ ‫م�آلها �إلى اهلل ع ّز وج ّل‪ ،‬و�أنّ هذه الدنيا مليئة بالأماني الكاذبة‪ ،‬وال ح ّل �إال ب�صحوة‬ ‫الروح‪.‬‬ ‫ذلك ك ّله ي�أتي في �شبه خاتمة للحكاية �س ّماها الكاتب «العبرة»‪ ،‬وهي خال�صة �ألآراء‬ ‫المتنوعة‪ ،‬ت�أتي على ل�سان مجموعة من ال�شخ�صيات عبر �أ�صوات تتناوب القول‪ ،‬ويدلي‬ ‫ك ٌّل منها بنوع تفكيره‪ ،‬كخال�صة م�ستفادة من التجارب العديدة التي يقوم بها �أ�شتات‬ ‫النا�س‪ .‬هذا المف�صل يبد�أ بمدخل للكاتب موجه ًا �إلى «الع�صابة المنغم�سة في لهوها»‬ ‫وهي تلك المجموعة من ال�صحاب التي �سرقت ال�سمك‪ .‬فيكون ر�أي الكاتب �أن �أماني‬ ‫هذه المجموعة هي كاذبة وواهمة وغ ٌّم وبالء‪ ،‬و�أنّ اللذات �سرعان ما تزول‪ ،‬وال يبقى‬ ‫التم�سك بطاعة اهلل‪ .‬وقد ع ّبر عن ذلك بقول‬ ‫م ّنها �إال الندم‪ .‬وال�صحيح الدائم هو ّ‬ ‫ال�شاعر لبيد ين ربيعة العامري(((‪:‬‬ ‫�أال ك� ��ل �� �ش ��يء م� ��ا خ �ل�ا اهلل ب��اط��ل وك � � � ��ل ن � �ع � �ي� ��م ال م� � �ح � ��ال � ��ة زائ � � ��ل‬ ‫(((‬ ‫���س ��وى ج�� ّن ��ة ال� �ف ��ردو� ��س �إنّ نعيمها �سيبقى و�إنّ ال �م��وت ال ��ش��ك ن� ��ازل‬ ‫و�أتاح الفر�صة لجمع الحا�ضرين �أن يع ّبروا‪ ،‬ك ٌّل بح�سب تجربته‪ ،‬عن حال الدنيا‪،‬‬ ‫((( ال�سمكية �ص ‪.246‬‬ ‫(( ( �شاعر مخ�ضرم (جاهلي �إ�سالمي) ‪.‬‬ ‫((( ال�سمكية �ص ‪.274‬‬

‫‪63‬‬


‫ال�سيد محمد ر�ضا ف�ضل اهلل الحكيم والم�صلح‬

‫فير ّد الأول ال�سوء في الكون �إلى المطامع‪ ،‬وي�ؤ ّكد الثاني مذهبه ب�إ�ضافة �سبب الزلل‬ ‫�إلى الميول ال�ش ّريرة‪ ،‬وير ّد الثالث ال�سبب �إلى نق�صان العقل وعدم ال�سعي �إلى الرزق‬ ‫والر�ضى بما ق�سمه اهلل من �أرزاق‪ ،‬وي�ؤ ّكد الرابع على الرزق المخ�ص�ص لك ّل �إن�سان‪،‬‬ ‫ويح�سب الخام�س �أن الف�ضل والتك ّرم عماد الحياة‪ ،‬و�أ ّنهما خير من الف�ضول‪ ،‬وال�ساد�س‬ ‫ي ّلخ�ص ر�أيه في القول ال�شعري التالي‪:‬‬ ‫ق� ��د وزع اهلل ب��ي ��ن ال��خ��ل ��ق رزق��ه ��م ل� ��م ي �خ �ل��ق اهلل م� ��ن خ� �ل ��ق ي �� �ض � ّي �ع��ه‬ ‫وفي المح�صلة نجد «العبرة» الخاتمة‪ ،‬نوع ّا من الو�صايا‪ ،‬وتلخي�ص ًا لمجمل ما ورد في‬ ‫أكيد على القيم والتم�سك بالتقوى‪ ،‬وهو ما يبقى للإن�سان‪ ،‬بينما ال�شرور‬ ‫الر�سالة من ت� ٍ‬ ‫والمعا�صي هي غ ٌّل للإن�سان في الدنيا والآخرة‪.‬‬ ‫«ميزان العدل» بو�صفه محاولة �سردية‪:‬‬

‫ ح�ضور ال�سرد العربي القديم‪:‬‬‫ما ورد �آنف ًا من تتبع المفا�صل يوحي ب�أنّ الكتاب قامت بنيته على ال�سرد الذي‬ ‫�إ�ستفاد من رافد الق�ص�ص العربي القديم‪ ،‬و�ش ّكل‪ ،‬هو ومجموعة الإ�صدارات في الزمن‬ ‫الأول للنه�ضة‪ ،‬توا�ص ًال فيما بين الق�ص�ص القر�آني والتراث الحكائي العربي‪ ،‬بما‬ ‫يالئم �أحد الإتجاهات القائلة ب�ضرورة ح�ضور هذا التراث من جهة‪ ،‬وما يت�ضمنه من‬ ‫قيم �أخالقية‪ ،‬معظمها ديني‪ ،‬من جهة ثانية‪ .‬فقد �إ�ستعار الم�ؤلف من الما�ضي الأ�سلوب‬ ‫وال�صورة والأجواء الق�ص�صية العامة‪ ،‬ولم يحاول الإ�ستفادة من الفنّ الق�ص�صي‬ ‫الحديث الذي �أخذ يتدفق‪ ،‬في تلك الآونة‪� ،‬إلى المجتمع العربي‪ ،‬فبقي يه ّوم في‬ ‫�سماءات خا�صة معنوية قيمية تهدف �إلى الوعظ وتقويم ال�سلوك الإن�ساني‪ ،‬م�ستفيدة‬ ‫مما يحتويه الق�ص�ص من عنا�صر ت�شويقية ت�سهل على القارىء عملية الدخول في‬ ‫الأجواء الفكرية والقيمية وال�سلوكية‪ ،‬لأنّ النفو�س‪ ،‬كما �أ�شار ال�سيد ف�ضل اهلل‪ ،‬تميل‬ ‫�إلى �إلتقاط المعارف على �شكل حكايات و�سير‪.‬‬ ‫‪64‬‬


‫����������������� ‬

‫ تعليمية المحاولة‪:‬‬‫وقد كان ال�سيد ف�ضل اهلل يعلن في تجربته عن �إمكانية تواجد هذا القديم في ع�صره‪،‬‬ ‫بو�صفه در�س ًا تعليمي ًا وتربوي ًا محدد ًا‪ ،‬م�ستفي�ض ًا في الحكي عنه على ح�ساب العن�صر‬ ‫الق�ص�صي �شك ًال وم�ضمون ًا‪ ،‬والجئ ًا �إلى الباطن في مهمة توجيهية تك�شف خبايا النفو�س‬ ‫وما �إنطوت عليه من ميول ورغبات و�أوهام و�إنحرافات ‪ ..‬من جهة‪ ،‬وما ق ّر فيها من‬ ‫�ضوابط وموانع تقف حائ ًال من دون �إنفالت ال�شهوات والآثام وال�شرور‪ ،‬من خالل العقل‬ ‫الإنفعالي المجلبب بالحلة الدينية الم�سهمة في تقويم ال�سلوك من جهة ثانية‪.‬‬ ‫لذلك �أخ�ضع ال�سيد ف�ضل اهلل ق�صته للفكر والوعظ‪ ،‬محاو ًال تقديم بع�ض منافع‬ ‫الأخالقيات و�سواها من العلوم المعروفة لدى العرب‪ ،‬خ�صو�ص ًا حول �إ�ستعمال العقل‬ ‫والمنطق‪ ،‬وحول الج�سد ول ّذاته الح�سية (�ص‪ )239-233‬والعنا�صر الطبيعية التي يتك ّون‬ ‫منها‪ ،‬كالماء والطين (�ص‪220‬و‪ ،)221‬وجعل �أدوات الج�سد في خدمة الروح (�ص‪.. )227‬‬ ‫كما ي�سهب في ب�سط الحديث عن المدركات النف�سية ويجعلها باطنية وظاهرية‪،‬‬ ‫الح�س الم�شترك والخيال والوهم والحافظة والفكر‪ ،‬والظاهرية هي‬ ‫فالباطنية هي‬ ‫ّ‬ ‫وال�شم واللم�س والذوق‪�( .‬ص‪.)221‬‬ ‫ال�سمع والب�صر‬ ‫ّ‬ ‫بالإ�ضافة �إلى الحديث الم�ستفي�ض عن الطبائع (�ص‪ ،)219‬والعلم ومظاهره في‬ ‫القر�آن الكريم (�ص ‪ )232-230‬وكنوزه وطرقه (�ص‪.)219‬‬ ‫وغير ذلك من الأمور المعرفية التي يتوجب على الإن�سان الت�س ّلح بها في �إقدامه على‬ ‫مبا�شرة حياته القديمة‪.‬‬ ‫ الواقع والرموز‪:‬‬‫وفي حديثه‪ ،‬بهذه الطريقة يقترب ال�سيد ف�ضل اهلل من الواقعية‪ ،‬حيث يكتمل لديه‬ ‫المعطيان‪ :‬الواقعي والمعنوي في �شبه تالحم ال يوحي ب�أ ّننا يجب � ّأل نبحث عنهما في‬ ‫مكانين مختلفين‪ ،‬وفي �سلوكين مختلفين‪ ،‬و�إ ّنما هما في ح ّيز واحد‪ ،‬ينطلقان مع ًا‬ ‫‪65‬‬


‫ال�سيد محمد ر�ضا ف�ضل اهلل الحكيم والم�صلح‬

‫ويح ّددان تجارب الإن�سان و�سلوكه‪ .‬كما يعتمد ال�س ّيد الرمز ب�شكل وا�سع‪ .‬فقد �إ�ستطاع‬ ‫ومعان ومدركات ‪ ...‬جعلها تم�شي على‬ ‫قلمه �أن يخلق عالم ًا من الرموز لقيم و�سلوكات ٍ‬ ‫الأر�ض وتتخاطب كما يتخاطب النا�س‪ ،‬وتغ�ضب وتر�ضى وتثور وت�شنّ الهجومات ‪ ...‬كما‬ ‫يفعل الب�شر تمام ًا‪.‬‬ ‫والرمز المق�صود هنا‪ ،‬ال يعني بال�ضرورة اللغز والتخ ّفي والمعاياة والمحاجاة ‪..‬‬ ‫بل يعني ما كان يت�ضمن حكاية لها غاية �أو وظيفة معينة‪ ،‬وهو �شكل مقنع من �أ�شكال‬ ‫الكتابة‪ ،‬يهدف �إلى غايات تعليمية ودينية و�سيا�سية و�أخالقية ‪ ...‬وهو يكثر في الأمثال‬ ‫وق�ص�ص الحيوان والق�ص�ص الديني في التوراة والإنجيل والقر�آن((( ‪ ...‬ولعل «ر�سالة‬ ‫الغفران» لأبي العالء المعري ومقامات ال�سيوطي تكونان الأقرب �إلى هذا المفهوم‪.‬‬ ‫ �إطالالت فل�سفية وت�ضمينات دينية‪:‬‬‫�إن قارىء الر�سالة ال يفوته �أمران رئي�سيان في نزوع الكاتب‪ ،‬وهما الإ ِّتكاء على‬ ‫الفل�سفة والفقه الديني‪� .‬صحيح �أن �أدب النه�ضة قد زخر بهاتين ال�سمتين‪ ،‬كما �ألمحنا‬ ‫لدى فرن�سي�س مرا�ش وفرح �أنطون و�أحمد فار�س ال�شدياق في نزوعهم �إلى الفل�سفة ك ّل‬ ‫من زاويته الخا�صة ومعتقده الفكري‪� ،‬إ ّال �أنّ ال�سيد ف�ضل اهلل قد غا�ص بها ب�شكل وا�ضح‪،‬‬ ‫و�أثقل �شخ�صياته الرمزية بها‪� ،‬إلى ح ّد ح ّولها �إلى منابر كالمية خطابية‪ ،‬حول الدين‬ ‫والفل�سفة وعلم النف�س وعلم الأخالق وغيرها من المعارف والعلوم التي قامت حول‬ ‫الإن�سان ظاهر ًا وباطن ًا‪.‬‬ ‫ بين الذات والمجموع‪:‬‬‫وال ريب في �أن �إ�ستقاء الحدث من الواقع ال يحتّم �أن يكون الأثر المكتوب واقعي ًا �شك ًال‬ ‫وم�ضمون ًا‪ .‬وهي ميزة تواجدت في ثنايا الر�سالة عن طريق �إتباع تقنية الت�شخي�ص‪:‬‬ ‫((( نورثرب فراي‪ -‬ت�شريح النقد (محاوالت �أربع)‪ -‬ترجمة محمد ع�صفور �ص ‪ -122‬عمادة البحث العلمي‪ -‬الجامعة الأردنية‪-‬‬ ‫‪.1991‬‬

‫‪66‬‬


‫����������������� ‬

‫فجاءت الأفكار واقعية‪ّ � ،‬إل �أنها �سبحت في فلوات �أخرى‪ ،‬فكانت �أرجلها على الأر�ض‬ ‫ور�أ�سها في ال�سماء‪ .‬وهي �سمة م ّيزت الأعمال الروائية في ذلك الزمن عبر الحديث‬ ‫عن الذات والتوغل في تجاربها ‪ ..‬وهي ذات تتقا�سمها تلك الخا�صية الأناوية والأخرى‬ ‫الجماعية‪ .‬فك�أنك تقتنع ب�أن ال�سيد ف�ضل اهلل يم�شي وحيد ًا لك ّنه مع الجميع‪ .‬تلك هي‬ ‫تجربته التي جعلها م�صب ًا لتجارب الآخرين‪ ،‬على الرغم من �أننا ن�سمع �صوت ًا واحد ًا‬ ‫مو ّزع ًا على �أ�صوات مختلفة لتع ّبر عن المختلف في النوازع والتفكير‪.‬‬ ‫ المتخ ّيل ال�سردي والبدايات الف ّنية‪:‬‬‫قد يميل القارىء �إلى ت�سمية «ميزان العدل» تج ّوز ًا رواية‪ ،‬وذلك لي�س غريب ًا بالن�سبة‬ ‫�إلى الع�صر الذي ولدت فيها كمثيالتها ناق�صات في الإنتاج الروائي العربي المبكر‪ ،‬لأن‬ ‫الفن الق�ص�صي كان يحبو في مدارجه الأولى‪ ،‬حيث �إنف�صل �أ�سلوب الكاتب عن م�ضمونه‪،‬‬ ‫ولم ي�ستطع �أن ينه�ض بف ّنه الق�ص�صي �إلى م�ستوى عباراته‪ ،‬لذلك جاءت �أو�صافه �إلى‬ ‫ال�شكلية �أقرب‪ ،‬و ُو ِ�س َم ب�أ ّنه مز ّوق ومن�شىء‪� ،‬أو �أنه «جدول يخرخر ونهر ثرثار تقطعه غير‬ ‫خالع نعليك»‪ ،‬كما يقول مارون عبود(((‪ ،‬تتك ّرر الأحداث من دون ترابط في �سياق البناء‬ ‫العام للرواية‪ ،‬حيث تغلب عليها نزعة الوعظ والخطابية والخروج بعبرة من كل حدث‪،‬‬ ‫تتالءم مع ظروف الموقف بغ�ض النظر عن الأبعاد الفنية‪.‬‬ ‫لقد تغ ّلب الوعي الديني على الع ّن�صر الفني ف�أ�ضعف بنيته الف ّنية‪ ،‬ف�أن�ضجه توجيه ًا‬ ‫ديني ًا ولم ين�ضجه وعي ًا فني ًا‪ ،‬فظ ّل في نطاق الذات التي هي‪ ،‬في ذلك الزمن‪ ،‬تتمحور‬ ‫حول الوعي الجماعي الذي ر�أى في الدين �سبي ًال �إلى �إعادة الإن�سجام �إلى الحياة‬ ‫الإجتماعية‪.‬‬ ‫وعدم القب�ض على ف ّنية العمل الق�ص�صي جعل �أثر ال�سيد ف�ضل اهلل خليط ًا من العديد‬ ‫من الفنون والإتجاهات‪ .‬لذلك كان «ميزان العدل» يحتوي على بع�ض العنا�صر الروائية‬ ‫(( ( جدد وقدماء‪ -‬مارون عبود‪� -‬ص ‪ -223‬دار الثقافة‪ -‬بيروت‪ -‬ط ‪.1975 -4‬‬

‫‪67‬‬


‫ال�سيد محمد ر�ضا ف�ضل اهلل الحكيم والم�صلح‬

‫والأخرى الم�سرحية‪ ،‬ويقيم �أداءه على الخطابية‪ ،‬وير�صعه بالآيات القر�آنية‪ ،‬ويدمجه‬ ‫بال�شعر في محاولة تركيبية تذ ّكر بال�سير ال�شعبية القديمة التي يختلط فيها النثر‬ ‫بال�شعر‪ ،‬ويحاول �أن يكون قريب ًا من المنطق والفل�سفة والعلمية‪ ،‬في نثر يقدم المزيد من‬ ‫المعلومات والمعارف‪ ،‬و�شعر ي�أتي وك�أنه يدعم بحث ًا �أكاديمي ًا للتدليل على �صحة القول‪،‬‬ ‫�أو ر�سم �سياق يحتاجه المقطع �أو المقام ال�سردي‪.‬‬ ‫لذلك كان عمل ال�سيد‪ ،‬في هذا الكتاب يقترب من ال�سردية‪ ،‬لك ّننا نلمح فيه �إفراط ًا‬ ‫في الو�صف الإن�شائي المنف�صل عن ال�سياق الع�ضوي للرواية‪ ،‬وعلو ًا لأ�صوات الوعظ‬ ‫الأخالقي الذي يقطع ال�سرد‪ ،‬بالتدخل الذاتي والخطابية المبا�شرة الوا�ضحة‪ ،‬وعدم‬ ‫تطابق الت�سل�سل المنطقي الروائي للزمن المو�ضوعي‪ ،‬وتواتر الأحداث والت�ضمينات‬ ‫المفتعلة‪ ،‬وتغليب للآراء والأحا�سي�س‪ ،‬ومبالغة في الحوار والوقائع وتقديمها على الحالة‬ ‫هم الأمانة‬ ‫والجو والتحليل والف�ضاء الروائي‪ ،‬وغل ّو ًا في الأخالقية المفرطة �إنطالق ًا من ّ‬ ‫الدينية التي غدت مق�صد الكاتب الرئي�س‪.‬‬ ‫وفي عمل ال�سيد ف�ضل نالحظ غياب العن�صر الزمني‪ّ � ،‬إل �أننا نلمح وجوده في مكانين‬ ‫للق�ص‪ :‬الأول حادثة �سرقة ال�سمك التي ت ّمت في حياة الكاتب‬ ‫يخرجان عن ال�سياق العام ّ‬ ‫بين عامي ‪ 1864‬و ‪ .1917‬والثاني ت�أريخ فراغه من كتابة الر�سالة في العام ‪ 1315‬هجرية‪.‬‬ ‫وهاتان الإ�شارتان ال عالقة لهما بالوحدة الع�ضوية والأخرى المو�ضوعية للعمل‪.‬‬ ‫الأدوات الفنية في «ميزان العدل»‪:‬‬

‫ الع�صر والرواية‪:‬‬‫وبما �أن الكاتب ال�سيد ف�ضل اهلل �أراد من كتابه تبيان العدل على حقيقته‪ ،‬ف�إنّ هذا‬ ‫العدل نف�سه يدعونا �إلى الإبتعاد من الإ�سقاط على عمله‪ ،‬ووزنه بميزان الزمن الذي‬ ‫�أبدعه �صاحبه فيه‪ .‬وهو زمن كان الفن الق�ص�صي فيه ي�شهد والدته الجديدة‪ ،‬ويتنازعه‬ ‫‪68‬‬


‫����������������� ‬

‫تياران رئي�سان‪ :‬الأول الوفاء للما�ضي الق�ص�صي العربي‪ ،‬والثاني‪ :‬الإ�ستجابة لنداءات‬ ‫الزمن الحديث(بالن�سبة �إلى ذلك الوقت)‪ ،‬والذي �أخذ بالإنفتاح على منتجات الغرب‬ ‫متم�سك ب�أ�صالته العربية والدينية‪ ،‬وموقن ب�أ ّنه يخدم الأمة‬ ‫الق�ص�صية ‪ ...‬وال�س ّيد ّ‬ ‫بتعزيز �إبداعها الأ�صيل وطرحه �أنموذج ًا في بناء الحياة الجديدة‪.‬‬ ‫ويبدو �أنّ ما ا�ستعمله الكاتب من عنا�صر ف ّنية ال تخرج عن نطاق الع�صر‪ ،‬وثقافته‬ ‫الف ّنية‪ ،‬حيث مقيا�س النجاح هو الإلتزام بهذا المحدود المتعارف عليه‪ .‬وفي تقديري‬ ‫�أنّ هذا المقدار من الإ�ستعمال الأدواتي الف ّني كان حاجة ع�صرية �أكثر مما هو حاجة‬ ‫ع�صر �آخر‪ .‬فما ُكتب كان مالئم ًا للثقافة الف ّنية التي ّ‬ ‫تف�شت في المجتمع وتق ّبل بع�ضها‪،‬‬ ‫لأنّ الرواية‪ ،‬و�سواها من الفنون الق�ص�صية‪ ،‬لم تكن رائجة كثير ًا �أو ًال‪ ،‬ولم تكن قراءة‬ ‫الروايات م�ست�ساغة لدى المحافظين‪ .‬وللتدليل على ذلك �أورد هذين المقطعين عن‬ ‫التحذير من قراءة الروايات‪ ،‬الأول في نطاق الن�صيحة لإحدى ال�س ِّيدات ورد فيها‪»:‬ال‬ ‫�أ�شير عليك �أن تقر�أي الروايات الخيالية لأ ّنها غالب ًا ما تح ّرك القلب حراك ًا �شديد ًا‬ ‫يخرجه عن طور المحبة المعتدل �إلى الإح�سا�س ال�شديد»(((‪ .‬والثانية تقويم عام للقراءة‬ ‫الروائية‪ّ �« :‬إل �أنّ بع�ضهم (�أي القراء) �شغفوا بما يخالف الغاية المحمودة‪ ،‬ف�أخذوا‬ ‫(((‬ ‫يطالعون الم�صنفات التي ت�ؤدي �إلى مهاوي الف�ساد والعار وال�شنار»‬ ‫وهذا ما ي�شير �إلى التر ّدد في الإقبال على الرواية‪ ،‬و�أن الف�ضالء ‪� ،‬أمثال ال�سيد ف�ضل‬ ‫اهلل‪ ،‬كانوا يحتاطون في خروجهم عن الم�ألوف‪.‬‬ ‫ عنا�صر ال�سرد في «ميزان العدل»‪:‬‬‫�سبقت الإ�شارة �إلى مق�صد الكاتب من �إخراج كتابه على �شكل ر�سالة‪ .‬وهذا يقت�ضي‬ ‫الوقوف قلي ًال عند هذه الت�سمية‪.‬‬ ‫(( ( مجلة «�صدى بابل»‪ -‬عام ‪( -1909‬عن مجلة الطريق‪ :‬عدد ‪ 3‬و ‪ 4‬بيروت‪� -1981 -‬ص ‪.44‬‬ ‫(( ( مجلة «لغة العرب» عام ‪(1913‬عن مجلة الطريق‪ -‬عدد ‪ 3‬و ‪ -4‬بيروت ‪� -1981‬ص ‪.44‬‬

‫‪69‬‬


‫ال�سيد محمد ر�ضا ف�ضل اهلل الحكيم والم�صلح‬

‫فالر�سالة نو ٌع من الإبالغ يت�ض ّمن معنى ُيراد �إي�صاله �إلى الآخرين‪ .‬و�إن كان �سارقو‬ ‫ال�سمك هم المثيرون لكتابة الر�سالة‪ ،‬ف�إنّ الهدف تخطاهم �إلى المجتمع ب�أ�سره‪ ،‬لأن‬ ‫يهم الجميع‪.‬‬ ‫م�ضمونها ّ‬ ‫ق�صة مفادها النهي عن ال�سلوك الإنحرافي با�ستعمال �أدوات‬ ‫وهي ر�سالة تت�ض ّمن ّ‬ ‫خا�صة‪ ،‬رمزية في �أكثر الأحيان‪� ،‬أتت على �شكل الفتات يحمل ك ٌّل منها جانب ًا قائم ًا في‬ ‫الحياة العامة‪ :‬الجهل والعقل والعلم والنف�س المطمئنة والنف�س الأمارة بال�سوء و�أبو م ّرة‬ ‫(ال�شيطان) وحاجات الج�سد ومل ّذاته وميوله ‪ ...‬ويمكن للدار�س �أن يالحظ في هذا‬ ‫العمل الق�ص�صي جملة من الأدوات الم�ستعملة‪ ،‬ح ّركت ف ّنية العمل‪ ،‬و�ساعدت على نم ِّو‬ ‫الأحداث وتقدمها ‪..‬‬ ‫ العر�ض‪:‬‬‫وال ريب في �أنّ الم�ؤلف قد وعى م�س�ألة التدرج في العمل الق�ص�صي‪ ،‬فجعل ق�صته‬ ‫تبد�أ ب�سرد الواقعة (�سرقة ال�سمك)‪ ،‬وتن�صرف �إلى تبيان وقائعها‪ .‬فهي من نتائج الجهل‬ ‫المحاط بجنوده و�أدواته‪ ،‬وهي لي�ست وحيدة في الميدان‪ ،‬و�إ ّنما يقابلها العقل الذي له‬ ‫جنوده �أي�ض ًا‪ .‬ونتيجة لإ�شتداد الجدال بين الجهل والعقل يت�أزم الموقف وت�صل الأمور‬ ‫�إلى ما ي�سمى العقدة القائمة على �س�ؤال‪ :‬من �سينت�صر في المواجهة بين الفريقين؟‬ ‫وت�أتي الإجابة ب�إتجاه الحل الذي يركن �إلى منطق الحياة نف�سها‪ ،‬تلك التي تقوم على‬ ‫ثنائية الخير وال�ش ّر‪ ،‬وهي التي تتواجد على �شكل �صراع ال ينهيه الإ الموت والإنتقال �إلى‬ ‫الآخرة‪ .‬مرور ًا ب�أيام الح�ساب في عهدة اهلل �سبحانه وتعالى‪ .‬فتكون الهزيمة لقوى ال�ش ّر‬ ‫في نقطة النهايات هذه‪ ،‬من دون �أن يح�سم ال�صراع في الدنيا المبتد�أ‪.‬‬ ‫ م�ضامين ال�سرد‪:‬‬‫ولقد �إقت�ضى ال�سرد وجود �أ�شياء كثيرة من لوازم المكونات الإن�سانية‪ ،‬وهي‬ ‫المنق�سمة بدورها �إلى لوازم نافعة و�أخرى غير نافعة‪ ،‬و�إلى مواقف عقلية ونف�سية‬ ‫‪70‬‬


‫����������������� ‬

‫ت�ستغرق الأحاديث ك ّلها‪ .‬لذلك كان الحديث مطو ًال عن النف�س و�أنواعها(�ص ‪ )38‬ولوازم‬ ‫الروح(�ص ‪ )39‬وك ّل من النف�س المطمئ ّنة والأخرى الأ ّمارة اللتين ت�ش ّكالن عن�صرين‬ ‫رئي�سيين من عنا�صر ال�صراع‪ ،‬و�إلى جانب ٍّ‬ ‫كل منهما قوى ت�ساعدها‪ .‬فالمطمئنة قوامها‬ ‫الزهد(�ص‪ ،)51-49‬وهي من جنود العقل‪ ،‬لج�أ �إليها المحتكمون‪ ،‬وهي تقيم في مدينة‬ ‫كلها �أبواب وح ّرا�س و�أجناد‪ ،‬ولها �صفات‪ ،‬وفي ح�ضرتها يخ�شع �أ�ضراب النا�س‪ .‬في بابها‬ ‫حاجب �سديد الر�أي‪ ،‬مكانه في مواجهة النف�س الأ ّمارة‪ ،‬مز ّودة بع�شرة من الجند هم‪:‬‬ ‫التوكيل والعفاف والحياء والرحمة والإ�ستقامة والبذل وال�سخاء والي�أ�س وذكر الموت‬ ‫والن�شاط في العمل(�ص‪.)85‬‬ ‫حب الدنيا‪،‬‬ ‫وقد جعلت هذه النف�س الزهد نديمها واو�صته ب�أن يكون في مواجهة ّ‬ ‫كما جعلت العلم في مواجهة الجهل (�ص‪ )86‬والقنوع في مواجهة الطمع (�ص ‪... )86‬‬ ‫وجعلت الجميع في مراكز دفاعية �إ�ستعداد ًا للمعركة مع الجهل ‪...‬‬ ‫وفي هذا العر�ض‪ ،‬و�ضمن الف�صل الأول‪ ،‬نجد �أي�ض ًا حديث ًا مط ّو ًال عن الج�سد‬ ‫ول ّذاته(�ص‪ )37‬ون ّموه (�ص ‪ )39‬وجنوده وحاجته وم�ساوىء الزيادة في متطلباته‪،‬‬ ‫وبواعث اللذات المت�صلة بال�شهوات (�ص ‪.)39‬‬ ‫يتابع الكاتب هذا العر�ض في المف�صل الثاني‪ ،‬جاع ًال من ال�سرد طريقة في تقديم‬ ‫المعلومات والمعارف والن�صائح والوقائع المتخ ّيلة‪ ،‬حيث ي�صبح الحديث عن الدار‬ ‫الآخرة �أ�سا�س ًا‪ ،‬وت�ستكمل النف�س المطمئنة دورها الوعظي في المقارنة بين الحياة الدنيا‬ ‫والآخرة‪ ،‬مر ّكزة على المعا�صي وم�صائر �أهلها و�إنق�سامهم في تو ّزعهم على الجنة �أو‬ ‫النار‪ .‬بينما يكون م�صير �أهل الطاعات �إلى الجنة نظر ًا لأنهم تز ّودوا من الدنيا بخير‬ ‫زاد ليقيموا في خير دار (�ص ‪ 134‬و ‪ ،)135‬حيث ال�سعادة الأبدية التي لها مق ّوماتها‬ ‫و�أ�سبابها‪ّ .‬ثم ينتقل الكاتب �إلى ت�سجيل وقائع ال�صراع بين الجهل والعقل في حركة فاعلة‬ ‫من جنود العقل ب�إتجاه جنود الجهل ‪ ..‬وهو �صراع كالمي قوامه الجدال العقيم الذي‬ ‫يف�ضي �إلى قلة حجة جنود الجهل‪ ،‬حيث ينبري القنوع والعفة والزهد والتقوى والعلم‬ ‫‪71‬‬


‫ال�سيد محمد ر�ضا ف�ضل اهلل الحكيم والم�صلح‬

‫بتقديم مرافعاتهم الطويلة على �شكل خطابات تف ّند �آراء الجهل ومواقفه (�ص‪ 159‬و‪173‬‬ ‫و‪ 180‬و‪ 191‬و‪ ،)202‬فيكتب لها الن�صر الذي يغيظ ال�شيطان (�أبو م ّرة)‪ ،‬في�ستعد للنزال‬ ‫والهجوم‪ ،‬حا�شد ًا ما تبقى له من و�سائل �إغوائية‪ ،‬ب�أداء �ضعيف ال يقوى على المواجهة‪،‬‬ ‫لك ّنه يبقى خبيث ًا مختبئ ًا في �شقوق النفو�س‪ :‬يعاود �إغواءها م ّرة تلو الأخرى ‪..‬‬ ‫توجه نحو النهاية‪� ،‬إلى رحاب اهلل القادر على ك ّل �شيء‪.‬‬ ‫وبذلك يكون العر�ض قد ّ‬ ‫ال�شخ�صيات‪:‬‬

‫ جبهات ورموز‪:‬‬‫عمد الكاتب �إلى الرمز في ر�سم �شخ�صياته الوهمية المعنوية التي �ألب�سها لبو�س الب�شر‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫و�شخ�صها لتكون �أدوات فاعلة‪ ،‬منق�سمة ق�سمين رئي�سين‪ :‬جنود الخير وجنود ال�ش ّر‪.‬‬ ‫فمن خالل العر�ض ال�سابق تب ّين �أنّ ال�سيد ف�ضل اهلل قد ح ّدد فريقي ال�صراع‪،‬‬ ‫وح�شدهما في �سلك ّ‬ ‫منظم ومو ّزع على جبهتين‪:‬‬ ‫‪ -1‬جبهة العقل‪ ،‬وفيها النف�س المطمئنة‪ ،‬و�إلى جانبها التقوى وله جنوده وهم‪ :‬التوكيل‬ ‫والعفاف والحياء والرحمة ‪ ...‬‬ ‫والزهد وله جنوده وهم‪ :‬الإخال�ص والإحتفاء وال�شكر والقوام والخوف من عذاب‬ ‫اهلل والج ّد والقناعة وال�صدق وال�سالمة والنظر في العواقب ‪ ...‬‬ ‫وكذلك كان العلم والقنوع وال�سعادة الأبدية ‪ ..‬جنودها الم�ستع ّدة دائم ًا للدفاع‬ ‫والهجوم‪.‬‬ ‫‪ -2‬وجبهة الجهل وقائدها �أبو م ّرة (ال�شيطان) و�أداته النف�س الأ ّمارة بال�سوء‪ ،‬و�أهل‬ ‫المع�صية و�سارقو ال�سمك ‪...‬‬ ‫وهي �شخ�صيات رموز ينطقها الكاتب بما يريد‪ ،‬ويهيل عليها من ال�صفات الإن�سانية‬ ‫�إلى ح ّد الت�شخي�ص‪ .‬حيث تغدو ال�شخ�صية بحث ًا في مو�ضوع مع ّين مكتنزة بالمعلومات‪،‬‬ ‫في تر�سيمات خيالية وجدلية و�إجتماعية‪ ،‬تنهل من التراث الديني خطوطها و�ألوانها‪،‬‬ ‫‪72‬‬


‫����������������� ‬

‫وتقيم ال�صراعات فيما بينها‪ ،‬ك�أ ّنها تدل على ما يجري من �إنق�سام النا�س في تعاملهم‬ ‫ول�ص ‪ ...‬وهو كثير في الحياة الإجتماعية‪،‬‬ ‫ومعتد‬ ‫بين خ ّير و�ش ّرير‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫وم�سالم و�أمين ّ‬ ‫ٍ‬ ‫و�أكثره بروز ًا تلك الحالة ال�سيئة التي �إ�ست�شرت في نهايات حكم الأتراك‪ ،‬فع ّمت الفو�ضى‬ ‫وكثرت الفتن و�إنت�شرت الر�شوة‪ ،‬وطمع البا�شوات الأتراك في جمع المال ب�أي طريقة‬ ‫كانت‪ ،‬وفتحت البالد �أمام المطامع الأجنبية فكثرت الإمتيازات‪ ،‬و�إنق�سم النا�س في‬ ‫تبعيتهم ال�سيا�سية‪ ،‬و�أقيم عهد المت�صرفية نتيجة للم�شكالت الحادة بين بع�ض الطوائف‬ ‫اللبنانية‪ ،‬خ�صو�ص ًا في العام ‪� ،1864‬سنة والدة الكاتب ال�سيد ف�ضل اهلل‪.‬‬ ‫وهو �أمر ي�سترعي الإنتباه في اللجوء �إلى الرمز والت ّقية في مهاجمة القوى الأجنبية‬ ‫والإحتالل التركي الذي بد�أت �شم�سه تغيب‪ .‬وما يلفت في هذا ال�صدد �أنّ الكاتب غ ّيب‬ ‫�شخ�صية القا�ضي الذي يف�صل بين النزاعات‪ ،‬تارك ًا الحكم هلل على المذنبين والع�صاة‪.‬‬ ‫ولقد �إنعك�ست هذه الأحوال ال�سيا�سية العامة على لبنان‪ ،‬موطن ال�سيد ف�ضل اهلل‪،‬‬ ‫ف�ساد التقاتل بين الأمراء على الم�صالح الخا�صة‪ ،‬ون ّكلوا ببع�ضهم‪ ،‬و�أ ّدى ذلك �إلى‬ ‫فقدان الأمن و�سوء الإدارة و�إنت�شار الر�شوة والف�ساد وال�سرقة والنهب ‪..‬‬ ‫ ال�شخ�صية بين الواقع والرمز‪:‬‬‫لذلك ف�إنني �أرى �أنّ �شخ�صيات «ميزان العدل» �أتت لتك�شف هذا الإختالل في‬ ‫�شجع عليه الأتراك و�أ�صحاب الإمتيازات الأجنبية‪ ،‬الأمر الذي‬ ‫الميزان الق�ضائي الذي ّ‬ ‫دفع ال�سيد ف�ضل اهلل �إلى �إ�ستعمال الرموز ل�شخ�صياته‪.‬‬ ‫ف «ميزان العدل» هو المق�صود �إيجاده في زمن ال يراعي عد ًال وال يقيم وزن ًا للقيم‬ ‫الأخالقية الدينية وغير الدينية‪.‬‬ ‫وال�سمكة �أو ال�سمكية لي�ست �إال رمز ًا للمطامع والم�صالح الدنيوية التي تراعي الج�سد‬ ‫وال تراعي العقل والإيمان‪ ،‬تنطلق من الجهل وتبعد العلم من دائرة ال�ضوء كي يف�سح في‬ ‫المجال لل�سرقة والف�ساد والإنحراف‪.‬‬ ‫‪73‬‬


‫ال�سيد محمد ر�ضا ف�ضل اهلل الحكيم والم�صلح‬

‫وما القوانين الجائرة التي يحميها الجهل و�أبو م ّرة(ال�شيطان) � ّإل �صورة الختالل‬ ‫التعاطي الإن�ساني‪.‬‬ ‫رمز لإنق�سام الحياة نف�سها بين الأخيار‬ ‫وما الجنود المنق�سمون على جبهتين �سوى ٍ‬ ‫الأ�شراف‪ ،‬وبين الم�ستب ّدين والل�صو�ص المت�سلطين على النا�س من غير رادع‪.‬‬ ‫وما ح�ضور الحكم الإلهي � ّإل دليل على العجز الإن�ساني في ح ّل مع�ضالته الإجتماعية‬ ‫وال�سيا�سية والإقت�صادية ‪ ...‬فهو القا�ضي الذي ب�إمكانه تفعيل «ميزان العدل»‪.‬‬ ‫لذلك نجد هذا الت�شابه بين رموز ال�شخ�صيات وحاالت الواقع القائمة في المجتمع‪،‬‬ ‫�سواء �أكانت حاكمة �أم فئات �شعبية �ضالة‪ ،‬وجدت في �أن �إقتنا�ص ن�صيبها المزعوم ال‬ ‫ي�ؤخذ �إال بهذه الطريقة‪.‬‬ ‫وفي «ميزان العدل» (ال�سمكية) يكفي �أن يكون الرمز م�شير ًا �أدنى �إ�شارة �إلى المرموز‬ ‫له لنكت�شف المخ ّفي المق�صود من عر�ض الظواهر‪.‬‬ ‫وفي الواقع ث ّمة �سا�سة و�أمراء يتناف�سون على نيل الم�صالح‪ ،‬يتناحرون من �أـجل‬ ‫ال�سيطرة وتوجيه الحياة �إلى ما يرغبون‪ .‬وهم يدركون �أن فرديتهم لن تو�صلهم �إلى‬ ‫المبتغى‪ ،‬فيجي�شون الجيو�ش ويك ّد�سون الأن�صار �إعتماد ًا على الإغراءات‪ ،‬ال �س ّيما المال‬ ‫والأطماع الج�سدية‪ ،‬لذلك �شاعت لفظة «مرتزقة» في ذلك الزمن و�س ّهلت لهواة ال�صراع‬ ‫ح�شد الجيو�ش ب�إ�ستعمال الدوافع الرخي�صة‪.‬‬ ‫وفي «ميزان العدل» لم يمثل الخليفة العثماني حكم اهلل‪ ،‬وترك الأمر على غاربه هو‬ ‫و�أتباعه والمتعاونون الطامعون من الأجانب ‪ ...‬وهي �إ�شارة من ال�سيد ف�ضل اهلل �إلى �أن‬ ‫ه�ؤالء الحكام قد �إنحرفوا عن ما �أمر به الدين و�إبتعدوا من تعاليمه‪ ،‬ولم يحققوا ال�سعادة‬ ‫الم�ؤقتة على الأر�ض‪ ،‬وال الأبدية في الدنيا والآخرة‪ .‬لذلك كان الح�ساب ينتظرهم‪.‬‬ ‫ ال�شخ�صية ونظام الكون‪:‬‬‫وهو ما حاول ال�سيد �إظهاره في ح�شد الجيو�ش وتبيان المطامع‪ّ � ،‬إل �أنه �أو�ضح من‬ ‫‪74‬‬


‫����������������� ‬

‫خالل الجدل القائم في الق�صة‪� ،‬أنّ حجة جبهة الجهل هي دائم ًا �ضعيفة وال تقوى على‬ ‫الدفاع عن نف�سها في محفل القول وال�صراع‪ -‬الكالم‪ .‬من �أجل هذا كان لجو�ؤها �إلى‬ ‫الأعمال الخبيثة وذ ّر التفرقة بين النا�س كي ت�سود ويختل ميزان العدل‪.‬‬ ‫� ّإل �أن ال�سيد كان يدرك تمام الإدراك �أنّ ثنائية الخير وال�ش ّر في الوجود الآدمي لن‬ ‫تنتهي على الأر�ض‪ .‬لذلك لم تحقق هزيمة الجهل الإنت�صار الدائم للعقل في الدنيا‪.‬‬ ‫وهي �إ�شارة نجدها بعد ال�صدام المنتظر بين الجبهتين (العقل والجهل) في عنوان‪:‬‬ ‫«هجوم م�ضاد» عماده «كيد ال�شيطان» والتبا�س الأمر لدى جنود الجهل وتم ّثل النف�س‬ ‫الأ ّمارة في هيئة ال�سمك‪ ،‬وحنق �إبلي�س الذي �أخذ يع ّد الع ّدة للهجوم من جديد‪ .‬كما‬ ‫نجده في الموقف الديني الأخالقي المتثمل في عنوان «العبرة»‪ ،‬حيث تع ّدد الأ�صوات‬ ‫والآراء حول الوجود الإن�ساني‪ ،‬و�سلوك النا�س و�إختالف تعبير المتكلمين عن ما يجري‬ ‫في الواقع‪ .‬لذلك كانت كلها �أماني كاذبة‪ ،‬وال ح ّل �إال ب�صحوة الروح وا�ستفاقة ال�ضمير‬ ‫والخلو�ص هلل ع ّز وج ّل‪.‬‬ ‫وعلى الرغم من �إكثار ال�سيد ف�ضل اهلل في الحديث عن العلم والمعارف‪ ،‬ف�إنّ‬ ‫ال�شخ�صية المرموز �إليها بالعلم المعتمد على الإيمان ظهرت هي الأقوى‪ ،‬وهي التي‬ ‫لم ي�ستطع المتجادلون �أن يدح�ضوا براهينها المكثفة‪ .‬لذلك كانت �سبب ًا في تراجعهم‬ ‫ولجوئهم �إلى المكر والخداع وتزييف الحقائق بالر ّد على منتجات العقل المعرفية ‪...‬‬ ‫على الرغم من ذلك ك ّله ف�إنّ ال�سيد �أراد �أن ي�شير �إلى حقيقة واقعية وهي‪� :‬أنّ وجود العلم‬ ‫من غير �إ�ستعمال وتطبيق قد ي� ّؤجل ح�سم النزاعات بين النا�س‪� ،‬أو قد ي�ستعمل العلم في‬ ‫غير ما و�ضع له في الحقيقة‪.‬‬ ‫وبذلك تكون ال�شخ�صية هي وقائع الحياة نف�سها‪ ،‬مح ّولة �إلى منطق نظام الكون‬ ‫القائم على ال�صراع في ثنائية الوجود ال�ض ّدية التي تدرك ال�س�ؤال الأبدي‪� :‬إلى �أين‬ ‫م�صير الإن�سان؟ لتكون الإجابة في الموت‪ ،‬عند بارىء الدنيا وم�ص ّنف �أهلها بين الثواب‬ ‫والعقاب‪.‬‬ ‫‪75‬‬


‫ال�سيد محمد ر�ضا ف�ضل اهلل الحكيم والم�صلح‬

‫ ال�شخ�صية بين الباطن والظاهر‪:‬‬‫يبني ال�سيد ف�ضل اهلل �شخ�صياته الرمزية على قاعدة التوازن بين الداخل الإن�ساني‬ ‫وخارجه‪ .‬ولقد نجح في التوفيق بينهما عبر متخ ّيل يوهم �أنّ ال�شخ�صيات واقعية‪ ،‬ت�سلك‬ ‫�سلوك الإن�سان الواقعي في قيامه بمه ّماته الوجودية‪ .‬وقد كان غياب المالمح المادية‬ ‫الخا�صة بال�شخ�صية م�ساعد ًا له على الإيفاء بالحركة ال ّفنية التي �أهالها على موجوداته‬ ‫هي مالمح قيمية ولي�ست ما ّدية‪ ،‬من خاللها �إ�ستطاع �أن ير ِّكب رمزه الذي بدا متمارد ًا في‬ ‫الزمان والمكان والفعل‪ .‬ف�شخ�صية الجهل قابلة للزيادة والنق�صان والمبالغة والتحجيم‬ ‫‪ ...‬في�ض المعلومات �أو �إخت�صارها هو ما يح ّدد مالمح ال�شخ�صية‪ .‬لذلك �إ�ستطاع ال�س ّيد‬ ‫�أن ي�ضيف �إلى هذه ال�شخ�صية ما حوته ثقافته الوا�سعة عن الم�آثم وال�شرور والف�ساد‬ ‫والإنحراف والع�صيان‪.‬‬ ‫ال�شخ�صيات �إذ ًا مالمحها مفتوحة على الإ�ضافات‪ ،‬وهي �إ�ضافات تم ّثل واقع الفعل‬ ‫تح�س و�أنت تقر�أ عن جنود الجهل‬ ‫الإن�ساني مرموز ًا �إليه �إ ّما بال�ش ّر و�إم ّا بالخير‪ .‬لذلك ُّ‬ ‫وجنود العقل والنف�س‪� ،‬سواء �أكانت مطمئنة �أم �أمارة بال�سوء ‪ ...‬وك�أنك تقر�أ عن مثل‬ ‫تعرفه‪ ،‬يعي�ش بين ظهرانيك‪ ،‬ويبادلك الفعل‪ ،‬ويحاول �أن يكون واقعي ًا بما هو عليه‪ .‬ومن‬ ‫جهة ثانية يخالجك �شعور ب�أ ّنك تقر�أ عن جماع ال�صفات الحميدة‪� ،‬أو �شتات ال�صفات‬ ‫يلم ما قيل عنه‪.‬‬ ‫ال�ش ّريرة‪ ،‬بحث ًا مكثف ًا ّ‬ ‫والأثر الب ّين في «ميزان العدل» �أنّ الحوادث تجري في �شعاب النف�س التي لها‬ ‫جغرافيا وا�ضحة‪ ،‬وهو المكان الذي تتخ ّيل �أن ّها موجودة فيه‪ .‬فالم�ؤمن يجد رحابه‬ ‫في زوايا الم�ساجد ومع الأتقياء وفي الج ّنة التي يوعد بها الم�ؤمنون ‪ ...‬بينما العا�صي‬ ‫لقاءات مكانها‬ ‫يتواجد في �أماكن ينفر منها الإن�سان (الجحيم والنار و�سقر ‪ )...‬وفي‬ ‫ٍ‬ ‫بعيد من التجمع الإن�ساني ال�صائب‪ .‬وتراها تف ّكر بالإ�ستيالء على �أماكن الآخرين ومحو‬ ‫جغرافيتهم‪.‬‬ ‫‪76‬‬


‫����������������� ‬

‫هذ البناء العام لل�شخ�صيات تطفو على جدرانه �آثار النف�س وطواياها‪ ...‬وما تح ّدث‬ ‫عنه الكاتب ب�إ�سهاب هو النف�س في مختلف �أحوالها‪ ،‬فجعل هذه الأحوال في قطاعين‬ ‫من هذه القاعدة‪:‬‬ ‫‪ -1‬النف�س المطمئنة وما يدور في فلكها من قيم و�آراء وعقل وم�شاعر و�أحا�سي�س وتقى‬ ‫وزهد ‪ ...‬وما ّ‬ ‫يلتف حولها من رموز للقادة والجنود ‪ ...‬و�إتجاهها الدائم نحو الخير ‪.‬‬ ‫‪ -2‬والنف�س الأ ّمارة بال�سوء وما يت�ش ّكل فيها من �أفكار ومواقف و�آراء وميول ورغبات‬ ‫مقيتة‪.‬‬ ‫وال�صراع في الق�صة‪ :‬نف�سي ب�إمتياز‪ ،‬طرفاه الخير وال�ش ّر‪ ،‬وما ي�صدره ك ّل طرف‬ ‫من قول وفعل‪ .‬هذا ال�صراع مداه الداخل‪� .‬أ ّما �إطاللته على الخارج فكنايات مر�سومة‬ ‫للتدليل الإ�شاري �إلى حقيقة الواقع‪.‬‬ ‫ الت�شخي�ص‪:‬‬‫وهو �أن تهيل �صفات �إن�سانية على موجود غير ب�شري‪ .‬وهي �سمة عامة في �أدب ال�سيد‬ ‫ف�ضل اهلل‪ ،‬حيث تتحول الرموز عنده �إلى �شخ�صيات ي�شعرك ب�أ ّنك تعاينها في الواقع‪.‬‬ ‫فهو ي�شخ�ص العفة‪ ،‬كما ّ‬ ‫�شخ�ص بقية رموزه (�ص‪ ،)173‬حيث نراها تبادر وتقيم‬ ‫وتلب�س وتتلو وترمق وتتك ّلم وتلوم وتو�ضح مواقفها‪ ،‬وتخاطب الآخرين ب�أدوات الخطاب‬ ‫(الكاف و�أنتم و�أ ّنكم ‪ ،)...‬وتقيم الحوار مع النف�س الأ ّمارة التي تجادلها وت�صارعها‬ ‫حول الأفعال وال�سلوك والنوايا والتجارب (�ص‪ 174‬وما بعدها)‪.‬‬ ‫وكذلك هو الزهد‪ :‬يخطب ويروي ويتبادل التهم ‪�( ...‬ص ‪ )180‬ف�إذا به ينه�ض وله‬ ‫جبين يظهر عليه النور‪ ،‬ومنطقه ينبوع‪ ،‬ويحمد اهلل دائم ًا‪ ،‬وين�شد ال�شعر (�ص‪)182‬‬ ‫ويميل بعنقه نحو الأ ّمارة ويهاجمها قائ ًال‪»:‬ويحك»(�ص‪... )182‬‬ ‫بينما العفة ت�شرح وتناق�ش (�ص‪ ،)199‬والعلم �أي�ض ًا يحاور وينه�ض (�ص‪ )203‬وله‬ ‫هيئته الوقورة ال ّمميزة (�ص‪ )203‬وي�ؤثر في الحا�ضرين فيقنعهم (�ص‪ )207‬ويفي�ض‬ ‫‪77‬‬


‫ال�سيد محمد ر�ضا ف�ضل اهلل الحكيم والم�صلح‬

‫بالمعلومات وي�س ّبح الخالق (�ص‪ )209‬ويعطي البراهين والأدلة (�ص‪ )211-209‬ويب�سط‬ ‫في حديثه العلمي (عن الأر�ض مث ًال) (�ص‪... )215‬‬ ‫وهكذا تت�شابه ال�شخ�صيات‪ ،‬ك ّل في قطاعها من القاعدة‪ ،‬فالخ ّيرة هي على العموم‬ ‫�شخ�صيات راوية ومثقفة وواثقة وجديرة بالإحترام‪ ،‬يجل�سها الكاتب في �أماكن نبيلة‬ ‫لأنها ت�صدر من نفو�س نبيلة‪ ،‬وفعلها �إيجابي و�أهدافها تثقيفية ووعظية من وحي الدين ‪..‬‬ ‫قارئة التاريخ وعارفة بالجغرافيا (�ص‪ )200-199‬وحافظة ال�شعر (�ص‪ )202‬وحافظة‬ ‫القر�آن وعاملة بموجبه ‪ ...‬وهي تجيد القول وتح�سن �إ�ستعمال اللغة ‪ ..‬لذلك هي تت�شابه‪،‬‬ ‫وكالمها ي�صدر من منبع واحد هو الكاتب‪ ،‬بحيث �أ ّنك لو �إ�ستبدلت ال�شخ�صية الرمزية‬ ‫ب�سواها لوجدت فروقات طفيفة بين �سكان القطاع الواحد من القاعدة‪ .‬وهو ما يمكن‬ ‫مالحظته من �أنّ الكاتب يلب�س �شخ�صيته لبا�سه الخا�ص فيح ّملها معارفه‪ ،‬فتغدو �أ�صوات ًا‬ ‫متنوعة ب�أداء خا�ص يعود �إلى الكاتب نف�سه‪.‬‬ ‫ الحوار ومنازل القول‪:‬‬‫يقيم ال�سيد ف�ضل اهلل بنيته الكالمية على الحوار المت�شعب والطويل والمتن ّوع‪،‬‬ ‫والمثقل بالمعلومات الفقهية والقيمية والتراثية والإن�سانية‪ ،‬يح�شد الأقوال على �أل�سنة‬ ‫ال�شخ�صيات الرمزية‪ ،‬وك�أ ّنها ت�ؤدي �أمانة ما‪� ،‬أو تبعث الإبالغ تلو الآخر من المكان نف�سه‬ ‫والمنبر نف�سه والأداء الكالمي نف�سه ‪...‬‬ ‫وهو حوار م�شتق من تفاعالت النف�س مع القيم‪ ،‬لذلك ال تخرج من نطاقها‪ .‬والنف�س‬ ‫هنا هي نف�س الكاتب في ما تحب وما تكره‪ ،‬فيما تحبه من قيم ومواقف ينبغي �أن ت�سود‪،‬‬ ‫وفي ما تكرهه من مفا�سد و�شرور ينبغي �أن تحذف من قائمة العمل الإن�ساني ‪...‬‬ ‫لذلك �إختزل هذا الحوار ليكون مبعثه ع ّدة نفو�س في الظاهر‪ ،‬ونف�س واحدة هي‬ ‫نف�س الكاتب في الباطن‪.‬‬ ‫وهو حوار طويل في موا�ضع‪ ،‬ومقت�ضب في �أخرى‪ ،‬لك ّنه يغلب عليه الإ�سهاب وح�شد‬ ‫‪78‬‬


‫����������������� ‬

‫المعلومات والبطء في الأداء‪ ،‬والخطابية في الأ�سلوب‪ ،‬والإ�ستغراق في النعوت والأو�صاف‬ ‫وال�ضروب البالغية والبيانية‪.‬‬ ‫ومن �ش�أن هذا �أن يبطىء الحدث وي�ؤخر التتابع الق�ص�صي بما يخلقه من فراغات‬ ‫تملأ بالوقفات الكالمية‪ .‬ولع ّلنا نعذر الكاتب في ذلك لع ّدة �أ�سباب‪:‬‬ ‫�أو ّلها‪ :‬مجاراة الأ�ساليب العامة الحياتية للع�صر‪ ،‬قبل �أن تح�سم م�سائل فنية �أدبية‪،‬‬ ‫ولغوية كثيرة في ال�صوغ العربي النا�شىء في النه�ضة‪.‬‬ ‫وثانيها‪ :‬الهدف من الكتاب الذي هو ر�سالة ابالغية عن حقائق �إ�صالحية ووعظية‪،‬‬ ‫في زمن التح ّول العربي من الإنحطاط �إلى النه�ضة والحديث‪.‬‬ ‫وثالثها‪ :‬عدم ن�ضج الفن الروائي في بالد العرب في هذا الزمن المبكر من النه�ضة‪.‬‬ ‫ورابعها‪ :‬عدم خروج ال�سيد ف�ضل اهلل في تحريراته عن ال�سائد‪.‬‬ ‫وخام�سها‪ :‬موقعه الديني الذي يحتم عليه �أن يكون واعظ ًا ومبين ًا ومذكر ًا بالدين‬ ‫وفوائده في زمن كان يحتاجه النا�س‪.‬‬ ‫ الحوار‪ -‬الراوي‪:‬‬‫�ضم �شيئ ًا‬ ‫لذلك �شغل ال�س ّيد بتقديم العلم والمعرفة‪ ،‬ف�أفرغها في هذا القالب الذي ّ‬ ‫والتر�سل والإهتمام ب�إخراج‬ ‫الق�ص والم�سرحة والخطابة‬ ‫من الفنون الأدبية‪ ،‬ومنها ّ‬ ‫ّ‬ ‫ال�صورة الم�شرقة للغة العربية‪ .‬وهي جميعها تعتمد على الحوار و�سيلة لإبالغ ر�سالة‬ ‫الكاتب‪.‬‬ ‫�إنّ �أبرز ما في هذا الحوار بنا�ؤه على الثنائيات ال�ض ّدية‪ .‬فالإنق�سام الحاد بين طرفي‬ ‫القاعدة البنائية جعل هذا الحوار يتو ّزع على ثالثة محاور رئي�سة‪ ،‬من حيث الراوي‬ ‫ومنظوره‪:‬‬ ‫الأول‪ :‬محور الكاتب‪ ،‬والمتجلي في �شروحه وتعليقاته و�إ�ستنتاجاته و�إ�ضافاته في غير‬ ‫مجال‪ ،‬وهو محور ي�ش ّد �أزر م�سالك الخير‪.‬‬ ‫‪79‬‬


‫ال�سيد محمد ر�ضا ف�ضل اهلل الحكيم والم�صلح‬

‫والثاني‪ :‬محور قطاع الخير(العقل والنف�س المطمئنة والعلم‪)....‬‬ ‫والثالث‪ :‬محور قطاع ال�ش ّر (الجهل والف�ساد و�إبلي�س ‪).......‬‬ ‫وتتج ّلى هذه الثنائية في جملة مظاهر منت�شرة في ت�ضاعيف الر�سالة ‪ ..‬وقد �إ�ستوفى‬ ‫الكاتب بنيتها وحافظ على وجودها حتى النهاية التي تمثلت على �شكل ر�أ�س حا ّد يجمع‬ ‫ال�ض ّدين في نقطة واحدة‪ ،‬هي تعبير عن وحدانية اهلل‪ ،‬كما تظهر في �أعلى الرمح على‬ ‫ر�ؤو�س الم�آذن‪.‬‬ ‫هذه الثنائية هي طرفا الحوار الذي غلب عليه الجدال والنقا�ش في معظم الأحيان‪...‬‬ ‫والإ�سالم‪ ،‬كما يقول �سماحة ال�شيخ محمد ح�سين ف�ضل اهلل‪« ،‬هو دين الحوار الذي يطلق‬ ‫للفكر �أن يفكر في كل �شيء‪ ،‬ليتح ّدث عن كل �شيء‪ ،‬وليحاور الآخرين على �أ�سا�س الحجة‬ ‫والبرهان والدليل‪ ،‬ليع ّلمهم كيف ي�صلون �إلى قناعاته و�آفاقه بالكلمة الحلوة والأ�سلوب‬ ‫(((‬ ‫الط ّيب والموعظة الح�سنة والجدال بالتي هي �أح�سن»‬ ‫وهو الحوار الذي �أراده الكاتب في «ميزان العدل»‪ ،‬قائم ًا على البراهين والأد ّلة‪،‬منطلق ًا‬ ‫من المنطق الواثق‪ ،‬هادئ ًا هدوء الماء الرقراق ين�ساب الى م�ستق ّره من دون �صخب‬ ‫وتالطم‪.‬‬ ‫بينما اكتنف الثنائية الحوارية نوع من الجدل يجيئ على ل�سان المعاندين والع�صاة‬ ‫�أن�صار الجهل الذين ي�سعون الى فر�ض �آرائهم من دون منطق‪.‬‬ ‫وعلى الرغم من �أن لفظة «جدل» قد وردت في القر�آن الكريم في معر�ض مراوغة‬ ‫الك ّفار وتهر ّبهم من االقتناع بما يطرح �أمامهم‪ ،‬ف�إن اهلل �أو�صى الر�سول ‪� P‬أن يكون‬ ‫َ‬ ‫َ َ ۡ ُ َّ‬ ‫ٱلت ِ َ‬ ‫ه أ ۡح َس ُنۚ﴾(((‪.‬‬ ‫جداله مقرون ًا بالن�صيحة‪﴿ :‬وجٰدِلهم ب ِ ِ‬ ‫وك�أني بال�سيد ف�ضل اهلل في «ميزان العدل» يتبع الآية الكريمة في �سياق الموقف المت�شدّد‬ ‫(( ( الحوار في القر�آن الكريم‪ :‬قواعده‪� ،‬أ�ساليبه‪ ،‬معطياته‪� ،‬سماحة ال�سيد محمد ح�سين ف�ضل اهلل‪� -‬ص(ط) ‪ -‬دار التعاون‬ ‫للمطبوعات‪ -‬بيروت ‪ -‬ط‪.987 -5‬‬ ‫((( �سورة النحل‪ ،‬الآية ‪.125‬‬

‫‪80‬‬


‫����������������� ‬ ‫َ َ ُ َ ٰ ۡ َ َّ َ َ ۡ ُ َ َ ُ‬ ‫ِين ي َتانون أنف َس ُه ۡ ۚم‬ ‫الذي يبغي النيل من الدين‪ .‬يقول اهلل �سبحانه وتعالى‪﴿ :‬ول تجدِل ع ِن ٱل‬ ‫َ‬ ‫ُۡ َ‬ ‫ُۡ َ‬ ‫َّ ُ‬ ‫ٱلل َل ُي ُِّب َمن َك َن َخ َّوانًا أَث ٗ‬ ‫إ َّن َّ َ‬ ‫ِيما ‪ ١٠٧‬ي َ ۡس َتخفون م َِن ٱنلَّ ِ‬ ‫اس َول ي َ ۡس َتخفون م َِن ٱللِ َوه َو َم َع ُه ۡم‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫ۡ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ۡ‬ ‫ٓ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ۡ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ٰٓ ُ ۡ ٰٓ ُ‬ ‫ٱلل ب َما َي ۡع َملون م ً‬ ‫ض م َِن ٱلق ۡول َوكن َّ ُ‬ ‫إِذ يُبَ ّي ِ ُتون َما ل يَ ۡر ٰ‬ ‫هؤلءِ َج ٰ َدلُ ۡم ع ۡن ُه ۡم‬ ‫ِيطا ‪ ١٠٨‬هأنتم‬ ‫ِۚ‬ ‫ِ‬ ‫ٗ‬ ‫ۡ َ َ ٰ ُّ ۡ َ َ َ ُ َ ٰ ُ َّ َ َ ۡ ُ ۡ َ ۡ َ ۡ َ َ َ َّ َ ُ ُ َ‬ ‫ِف ٱليوة ِ ٱدلنيا فمن يجدِل ٱلل عنهم يوم ٱل ِقيٰمةِ أم من يك‬ ‫ون َعل ۡي ِه ۡم َوك ِيل﴾ (((‪.‬‬

‫وهو �إتباع ي�سهم في بناء الق�صة من البداية �إلى النهاية‪ :‬الجدال الذي ال ينتهي‬ ‫الكالم فيه � ّإل عند اهلل في الآخرة‪ ،‬كما ي�سهم في �إقامة الثنائية الحوارية بين الجهل من‬ ‫جهة‪ ،‬والعقل والعلم من جهة ثانية‪ ،‬فال يتو�صل المجادل �إلى �إنهاء الكالم حتى النهاية‬ ‫المحتومة بالموت‪.‬‬ ‫ولقد �إت�سم حوار «جبهة العقل» بالمنطق والهدوء وتقديم الأدلة والبراهين‪ ،‬فكان‬ ‫لأركانها «منابر (الإيمان منبر المطمئنة‪� ،‬ص‪ )101‬كما كان لهذه الأركان �سياقات‬ ‫�أقوال (قول ال�سعادة الأبدية (�ص‪ ،)113‬كما لها ت�سا�ؤالت مط ّولة عن مو�ضوعات مختلفة‬ ‫(الهداية والدراية والألباب والنهى‪ ...‬مث ًال (�ص‪ ،)139‬وفيها تر�صيع الكالم بالآيات‬ ‫القر�آنية(�ص‪ ،139‬وفي مجمل الكتاب) وفيها كالم للر�سول‪ P‬مث ًال (�ص‪،)144‬‬ ‫وينت�شر فعل قال ويقول في موا�ضع ال تح�صى‪ ،‬مث ًال قالت ال�سعادة (�ص‪ )158‬وقال العلم‬ ‫(�ص‪ )205‬والعلم يخطب (�ص‪.)206‬‬ ‫ الراوي‪:‬‬‫يتفق الدار�سون على �أن تن ّوع ال�شخ�صيات في العمل الروائي ي�ؤدي �إلى تع ّدد الأ�صوات‬ ‫والرواة‪ .‬و�صحيح �أنّ الكاتب هو الذي يروي ويو ّزع الحوار‪ ،‬لي�س كما ي�شاء‪ ،‬بل كما ت�شاء‬ ‫طبيعة ال�شخ�صيات ذاتها‪ .‬لذلك كان تع ّدد الأ�صوات في الرواية دلي ًال على الإبتعاد من‬ ‫ذات الم�ؤلف ورغباته و�أفكاره‪ ،‬و� ّإل غرق العمل في د ّوامة �سيطرة الروائي على �شخ�صياته‬ ‫وجعلها تقول ما يريد قوله‪.‬‬ ‫((( �سورة الن�ساء‪.109-107 :‬‬

‫‪81‬‬


‫ال�سيد محمد ر�ضا ف�ضل اهلل الحكيم والم�صلح‬

‫وفي الحقيقة �إنّ وجود الحوار في «ميزان العدل» قد �أ�سهم في تقريبه من الفنّ‬ ‫وحد هذه ال�شخ�صيات‪ ،‬وح ّملها من الحوار ما يريد‬ ‫الروائي‪ .‬لكن ال�س ّيد ف�ضل اهلل ّ‬ ‫�إي�صاله في ر�سالة �أرادها �أن ت�صل �إلى النا�س‪ .‬لذلك‪ ،‬لي�س من ال�صعب �إكت�شاف �أنّ‬ ‫الراوي فيها هو واحد‪ ،‬على الرغم من تعدد الرواة‪ ،‬و�أنّ ال�صوت واحد‪ ،‬على الرغم من‬ ‫تع ّدد الأ�صوات وتن ّوع م�صادر القول‪.‬‬ ‫ولقد �أ�سهم ذلك الأ�سلوب في �إ�ضفاء التن ّوع على العمل و�إخراجه من الرتابة العلمية‬ ‫وجعل القارىء يتابع �أخبار المعارك الكالمية بين المت�صارعين‪ ،‬بالإ�ضافة �إلى �أنّ هذا‬ ‫الحوار الجاري بين ال�شخ�صيات الرمزية قد �أ�ضفى من الحيوية ما ال نجده في الكتب‬ ‫الفقهية �أو العلمية عموم ًا‪.‬‬ ‫في هذا العمل �إذ ًا ث َّمة تع ّدد للرواة‪ ،‬ك ٌّل يروي ما ح ّمله الكاتب‪ ،‬فالنف�س المطمئنة‬ ‫تروي(�ص‪ 101‬وغيرها) وال�سعادة الأبدية(�ص‪ 113‬و ‪ 138‬وغيرها)‪ ،‬والكاتب (�ص‪139‬‬ ‫و ‪ 138‬و ‪ 141‬وغيرها) والقنوع يروي(�ص‪ )169-159‬والنف�س الأمارة تروي(‪172‬‬ ‫وغيرها)‪ ،‬وكذلك العفة(�ص‪ )173‬والزهد(�ص‪ )180‬والتقوى(‪ )191‬والعلم (‪.)202‬‬ ‫وغير ذلك كثير من المواقع التي يتناوب الرواة فيهاالكالم‪ .‬بالإ�ضافة �إلى م�صادر‬ ‫ومراجع كثيرة ي�ستعملها الكاتب ويورد �إقتبا�سات منها نثر ًا و�شعر ًا‪ ،‬تخدم الهدف الذي‬ ‫يريد �إبالغه‪.‬‬ ‫ ال�صوت اللغوي الواحد‪:‬‬‫والدليل القاطع على توحد م�صدر الرواية هو ال�صوت اللغوي الواحد المع ّبر عن‬ ‫م�ضمون الر�سالة‪ .‬ف�أنت ال تكاد تم ّيز تعبير ًا جاء على ل�سان را ٍو عن �آخر‪ ،‬حيث نجد‬ ‫الإن�سجام ي�سود المقاطع ك ّلها‪ ،‬في ت�ساوق الكالم في م�ساواة ت�ضفي �إيقاع ًا ملحوظ ًا في‬ ‫تتابع الجمل المت�ساوية‪ ،‬و�إ�ستعمال ال�سجع ذي الرنين الممتد من دون تك ّلف ي�ؤذي الأذن‪.‬‬ ‫وال عجب في ذلك‪ ،‬فال�س ّيد ف�ضل اهلل ينتمي �إلى جيل جعل الكتابة البيانية منهج ًا‬ ‫‪82‬‬


‫����������������� ‬

‫ي�سير عليه‪ ،‬وك� ّأني به يعت ّز بف�ضائل العربية ومن�شئيها القدماء ك�إبن العميد وال�صابي‪.‬‬ ‫لذلك جاءت عباراته في ح ّلة من الت�أ ّنق البياني المليء بال�صور الراكنة �إلى الإ�ستعارة‬ ‫والت�شبيه والمجاز ب�ضروبه المختلفة‪ .‬وقد تعجب بمهارة ت�صويره‪،‬و�إحاطته بالمعنىمن‬ ‫ك ّل جانب وتتبعه اللفظة �إلى مظا ّنها‪ ،‬وبعر�ضه المو�ضوعي القائم على ال�سببية والتعليل‬ ‫والت�سويغ‪ ،‬وغزارة الأو�صافلل�شيء الواحد حتى ي�أتي على جوانبه ك ّلها‪ ،‬وتلفتك ظاهرة‬ ‫أح�س يغمو�ض المعنى‪ ،‬كما تلفتك �إختياراته الإقتبا�سية من‬ ‫حر�صه على التف�سير �إذا � ّ‬ ‫ال�شعر الذي تغرق فيه الر�سالة‪ ،‬حتى ي�ستغرق ن�صفها‪� .‬إقتبا�س يتبع قاعدة لك ّل مقام‬ ‫مقال‪ ،‬فيورد الأبيات في مقطوعات وق�صائد‪ ،‬له ول�سواه‪� ،‬شديدة المالءمة لما يذهب‬ ‫محطات متعددة المهمة‪ :‬فهو يدعم بها �أقواله‪� ،‬أو يف�سرها ويو�ضح‬ ‫�إليه‪ ،‬وك�أني به يريدها‬ ‫ٍ‬ ‫ما ا�ستغلق منها‪ ،‬كما ت�ش ّكل �إ�ستراحةوجدانية ينعم بها القارىء بعد تجواله ال�صارم في‬ ‫المعلومات المكثفة التي تحت�شد حول المو�ضوع الواحد‪.‬‬ ‫وفي ذلك يظهر ال�س ّيد متع ّدد المواهب‪ ،‬ومن ّوع الم�صادر‪ ،‬يملأ قلبه الإيمان وت�ستولي‬ ‫عليه الرحمة‪ ،‬فينظر �إلى الإن�سانية بقلب �شفيق‪� ،‬شغوف بالعلم والإيمان‪ ،‬متطلع �إلى‬ ‫خال من الأ�سباب الم�ؤدية �إلى الآثام وال�شرور‪ ،‬ومن الجدل العقيم‬ ‫مجتمع ي�سوده العدل‪ٍ ،‬‬ ‫الذي يربك قافلة الحياة ويجعلها في مراوحة‪ ،‬بعيدة من التق ّدم وقريبة من الجهل الذي‬ ‫يحرق نف�سه في حرقه الآخرين‪.‬‬ ‫لذلك كان «ميزان العدل» (ال�سمكية) م�شروع ًا تنويري ًا جامع ًا مزايا كثيرة‪ :‬فيه‬ ‫الإيجابي الذي ينبغي �أن يبقى ويتطور‪ ،‬وفيه تحذير من ال�سلبي الذي يجب �أن يختفي‬ ‫ويموت‪ .‬ولع ّل الكاتب في زمنه‪ ،‬وفي غير زمنه‪ ،‬يكون مفتاح ًا للمعارف والعلوم‪ ،‬كما يكون‬ ‫خ�ضم التغ ّيرات المحلية‬ ‫وثيقة �إن�سانية تر�سم خطى الإن�سان ال�سائر نحو المجهول‪ ،‬في ّ‬ ‫والعالمية التي ال تعير �أيه �أهمية لحماية الإن�سان‪ ،‬وتتجاهل الأخالق والقيم‪ ،‬وتم�ضي في‬ ‫ح�سبانها النا�س �أرقام ًا من غير �أرواح‪ .‬هذا هو الذي ر�آه ال�سيد ف�ضل اهلل و�أراده �أن يكون‪.‬‬ ‫‪83‬‬



‫���������������� ‬

‫أ‪ .‬د‪ .‬أحمد حطيط‬

‫(((‬

‫السيد محمد رضا فضل اهلل الحسني»‬ ‫«اإلمامة في فكر العالّمة‬ ‫ّ‬

‫�أو ًال‪ :‬مدخل‬

‫من ف�ضل اهلل على الأمة �أن يهب لها �إبـّان يقظتها وا�ستقامة الأمر فيها‪� ،‬صفوة من‬ ‫�أبنائها ال�صالحين‪ ،‬من �أولي الكفاية الفائقة‪ ،‬والموهبة البارعة في العلوم‪ ،‬فتتق�سمهم‬ ‫بينها مطالب الحياة فيها‪ ،‬ومنازع الع�صر الذي يظلها‪ ،‬كل في الموقع الذي هو به �أحق‬ ‫وله �أ�صلح‪ ،‬ف�إذا هم هنا وهناك‪ ،‬م�شارق نور وروافد خير و�صالح‪ ،‬تجري في النا�س بما‬ ‫ينير العقول‪ ،‬ويعمر القلوب‪ ،‬فيتهي�أ للحياة �أن تتوازن‪ ،‬ولركبها �أن يوا�صل م�سيرته �إلى‬ ‫الغاية المرجاة‪.‬‬ ‫ولقد وهب اهلل جبل عامل والأمتين العربية والإ�سالمية من ه�ؤالء نخبة من العلماء‪،‬‬ ‫كانوا رجا ًال لهم وزنهم في بيئتنا العاملية واللبنانية والعربية والإ�سالمية دين ًا وعلم ًا‬ ‫وثقاف ًة وفكر ًا و�أدب ًا‪.‬‬ ‫واليوم نلتقي في م�ؤتمر لتكريم رائد كبير من ه�ؤالء الرواد‪ ،‬عنيت به الح�سيب الن�سيب‬ ‫(( ( عميد كلية الآداب والعلوم الإن�سانية‪ ،‬في الجامعة الإ�سالمية في لبنان‬

‫‪85‬‬


‫ال�سيد محمد ر�ضا ف�ضل اهلل الحكيم والم�صلح‬

‫�إبن الأ�سرة العلمائية‪ ،‬العالمة ال�سيد محمد ر�ضا ف�ضل اهلل‪� ،‬إنه مث ٌل من علماء الرعيل الأول‬ ‫في النه�ضة العلمية في جبل عامل مترافقة مع ن�شوء المـدار�س الحديثة في بالد عاملـة‪ ،‬منذ‬ ‫ال�سلم درجة درجة في خدمة العلم‪ ،‬والدين‪ ،‬والعقيدة‪،‬‬ ‫العـام‪1300‬هـ ‪1882/‬م(((‪ ،‬ف�صعد ّ‬ ‫حتى بلغ القمة‪ ،‬وعكف على التح�صيل‪ ،‬يطرق �إليه كل باب‪ ،‬ويتتبع كل مورد عذب‪ ،‬ينهل‬ ‫منه ما يروي ظم�أه‪ ،‬حتى �صار بحر ًا تتالطم �أمواجه‪ ،‬ويحتفظ في قراره المكين بدرر من‬ ‫طرائف الأدب و�شوارد الحقائق التي تتطلب �سعي ًا حثيث ًا‪ ،‬وبحث ًا عميق ًا وتوفر ًا على الإطالع‪.‬‬ ‫ولد ال�سيد محمد ر�ضا ف�ضل اهلل عام‪1281‬هـ ‪1864 /‬م‪ ،‬في بلدة (عيناثا)‪� ،‬إحدى‬ ‫الحوا�ضر العلمية والأدبية العريقة في جبل عامل‪ ،‬وتوفي في بلدة (قانا)‪1336 ،‬هـ ‪/‬‬ ‫‪1917‬م‪ ،‬ودفن فيها‪ ،‬وهو فقيه‪ ،‬و�شاعر‪ ،‬و�أديب‪.‬‬ ‫ترعرع ال�س ّيد في رحاب عائلة علمائية عريقة‪ ،‬م�شهود لها في ميدان العلم وال�شعر‬ ‫والأدب‪ ،‬كما نهل من بيئته العاملية علم ًا وثقافة ما تزخر به من تراث علمي‪� ،‬إ�ضافة �إلى‬ ‫ما اكت�سبه من بيئة النجف الأ�شرف وحوزته العلمية‪ ،‬منذ العام ‪1308‬هـ ‪1890/‬م‪ ،‬من ّ‬ ‫ترق‬ ‫في ميادين الفقه والأ�صول والفل�سفة‪ ،‬ليبلغ مرتبة عالية من الإجتهاد(((‪ ،‬ولم يكتف بما‬ ‫حازه من المراتب العلمية المرموقة‪ ،‬بل قرن العلم بالعمل من خالل انخراطه في ال�ش�أن‬ ‫العام‪ ،‬ورفعه لواء محاربة الف�ساد‪ ،‬و�إ�صالح المجتمع‪ ،‬والنهو�ض بالأمة‪ ،‬وتناوله دور العلماء‬ ‫و�صالحياتهم ومرجعيتهم في الوالية على النا�س(((‪ ،‬م�سهم ًا بذلك‪ ،‬في حركة التجديد‬ ‫في العقيدة وفي علوم �أ�صول الفقه تت�صل بمحتواها وبطريقة تدري�سها التي حققها بع�ض‬ ‫علماء جبل عامل في الن�صف الثاني من القرن التا�سع ع�شر‪ ،‬وقد �ش َّكل ذلك �إطار ًا فكري ًا‬ ‫جديد ًا لدى علماء ال�شيعة‪� ،‬سمح لهم بعد ذلك بتو�سيع دورهم في المجتمع‪ ،‬وال �سيما في‬ ‫�إن�شاء موقف �سيا�سي والدفاع عنه‪ ،‬كان �سماحة ال�سيد من الرواد في هذا المجال(((‪.‬‬ ‫((( محمد جابر �آل �صفا‪ ،‬تاريخ جبل عامل‪ ،‬دار النهار للن�شر‪ ،‬الطبعة الثالثة‪ ،‬بيروت‪� ،1998 ،‬ص ‪ 240‬وما بعدها‪.‬‬ ‫(( ( محمد ر�ضا ف�ضل اهلل‪ ،‬الإمامة‪ ،‬دار المحجة البي�ضاء‪ ،‬تقديم وتحقيق معروف محمد تقي ف�ضل اهلل‪ ،‬الطبعة الأولى‪ ،‬بيروت‪،‬‬ ‫‪ ،2013‬مقدمة التحقيق‪� ،‬ص �ص ‪.12-10‬‬ ‫(( ( محمد ر�ضا ف�ضل اهلل‪ ،‬الم�صدر نف�سه‪� ،‬ص ‪.14-12‬‬ ‫(( ( �صابرينا ميرفانا‪ ،‬حركة الإ�صالح ال�شيعي‪ ،‬ترجمه عن الفرن�سية الدكتور هيثم الأمين‪ ،‬الطبعة الأولى‪ ،‬دار النهار للن�شر‪،‬‬ ‫بيروت‪� ،‬ص ‪.143‬‬

‫‪86‬‬


‫���������������� ‬

‫�ص ّنف العالمة ال�سيد مجموعة من الكتب في العقائد والأ�صول والفل�سفة والحكمة‬ ‫والأدب وال�شعر‪ ،‬طبع منها‪:‬‬ ‫ميزان العدل في المحاكمة بين جنود العقل والجهل‪ ،‬عـرف بـ»ال�سمكية»‪.‬‬ ‫المجموعة‪ ،‬الق�صائد والر�سائل‪.‬‬ ‫الإمامة‪ ،‬الأدلة العقلية والنقلية‪.‬‬ ‫�إ�ضافة �إلى جملة من الر�سائل في مو�ضوعات ومنا�سبات مختلفة ال تزال مخطوطة‪.‬‬ ‫ثانيا‪ -‬قراءة في كتاب «الإمامة»‬ ‫لئن اخترت كتاب «الإمامة» من بين م�ؤلفات ال�س ّيد محمد ر�ضا ف�ضل اهلل‪� ،‬آنفة‬ ‫الذكر‪ ،‬مو�ضوع ًا لدرا�ستي‪ ،‬ف�إني �س�أ�سعى‪ ،‬جهد ا�ستطاعتي‪ ،‬لمقاربة مفهوم الإمامة في‬ ‫فكر �سماحة ال�سيد من جهة‪ ،‬و�إجراء مقارنة بين مفهوم الإمامة عند ال�شيعة والفرق‬ ‫الإ�سالمية الأخرى‪.‬‬ ‫فالإمامة كانت وال تزال‪ ،‬من الق�ضايا ذات ال�ش�أن في الفكر الإ�سالمي‪ ،‬بل �شكلت‬ ‫ق�ضية كبرى اختلف الم�سلمون ب�ش�أنها‪ ،‬بعيد وفاة الر�سول‪ ،P‬لت�ستمر في مقدمة‬ ‫الم�سائل التي ف ّرقت كلمتهم‪ ،‬كما �أنها تعتبر �سبب ًا رئي�س ًا من �أ�سباب ن�شوء الفرق‬ ‫الكالمية والمذاهب الفقهية‪.‬‬ ‫ال�سقيفة‪:‬‬ ‫وفاة الر�سول وتداعيات حدث ّ‬ ‫وقبل �أن نتط ّرق �إلى مفهوم الإمامة في فكر الفقيه ال�سيد محمد ر�ضا ف�ضل اهلل‪،‬‬ ‫نرى �أن نم ّهد لذلك بعـر�ض موجز للـظروف والمالب�سات‪ ،‬التي �أ ّدت �إلى الـخالف بين‬ ‫الم�سلمين حول �أحقـ ّية خالفة الر�سول‪.P‬‬ ‫ُق ِب َ�ض الر�سول محمد‪ P‬في الحادية ع�شرة للهجرة‪ ،‬وهو مطمئن �إلى اكتمال‬ ‫الدعوة ور�سوخها في �شبه الجزيرة على ح�ساب الوثنية‪ ،‬م�ؤ�س�س ًا دول ًة للإ�سالم في‬ ‫المدينة المن ّورة تولى قيادتها بنف�سه‪ .‬بيد �أن م�شكلة خالفة الر�سول �سرعان ما ظهرت‬ ‫�إلى العلن‪ ،‬حتى قبيل دفنه‪ ،‬حين تنادى جمع من �أعيان ال�صحابة من الأن�صار(الأو�س‬ ‫‪87‬‬


‫ال�سيد محمد ر�ضا ف�ضل اهلل الحكيم والم�صلح‬

‫والخزرج) �إلى عقد اجتماع عاجل في �سقيفة بني �ساعدة الخزرجية‪ ،‬الواقعة �شمال‬ ‫غرب الم�سجد النبوي لبحث م�س�ألة الخالفة‪ ،‬ف�أدركهم جمع من �أعيان المهاجرين‬ ‫قوامه �أبو بكر وعمر بن الخطاب و�أبو عبيدة بن الج ّراح‪ ،‬ان�سلوا من بين جموع الم�ؤمنين‬ ‫الحافين بجثمان النبي‪ ،‬وناق�شوهم في الأمر‪ ،‬ونفذوا منه �إلى �إقناع ه�ؤالء بمبايعة �أبي‬ ‫بكر بالخالفة‪ ،‬متذ ّرعين بحديث من�سوب �إلى الر�سول‪ ،P‬مفاده‪« :‬الأئمة من قري�ش»‪،‬‬ ‫وقيل‪« :‬الإمامة ال ت�صلح �إ ّال في قري�ش»‪.‬‬ ‫ح�صل ذلك في وقت كان علي بن �أبي طالب و�آل بيته‪ ،R‬وجموع من ال�صحابة‬ ‫والم�سلمين‪ ،‬متح ّلـقين حول جثمان الر�سول‪ ،P‬وحين �أت ّـم ه�ؤالء غ�سل الر�سول ودفنه‪،‬‬ ‫ال�سقيفة‪ ،‬وطالبوا‬ ‫وعلموا بما جرى‪ ،‬ا�ستنكروا الأمر‪ ،‬و�أعلنوا رف�ضهم لنتائج اجتماع ّ‬ ‫ب�أحقية �أهل بيت الر�سول بالخالفة‪ ،‬و�أجمعوا ب�أن علـّي ًا �أولى بالخالفة من �أبي بكر‪ ،‬و�أنه‬ ‫الم� ّؤهل �شرع ًا لإمامة الم�سلمين وم�سك زمام �أمورهم بعد الر�سول‪.‬‬ ‫وعلى الأثر �إنق�سم القر�شيون ومعهم �سائر الم�سلمين‪� ،‬إلى فريقين اثنين‪ :‬فريق �شايع‬ ‫علي بن �أبي طالب‪� ،‬إبن عم الر�سول‪ ،‬وزوج ابنته فاطمة بذريعة �أن الر�سول‪ ،‬قد ت� ّأ�س�س‬ ‫هو من ن�ص على علي خلف ًا له‪ ،‬و�أن هذا الن�ص قد ت� ّأ�س�س بموجب �أمر �إلهي ك�شف عنه‬ ‫النبي في غدير خم‪ ،‬قبيل وفاته بوقت ق�صير ف�سمي ه�ؤالء عموم ًا بـ «�شيعة» علي‪� ،‬أو‬ ‫«ال�شيعة» على �سبيل الإخت�صار‪ ،‬فيما �أمر الفريق الآخر ب�شرعية خالفة �أبي بكر وخليفته‬ ‫التال ّيين عمر وعثمان‪ ،‬لت�ستحيل �إمامة الم�سلمين مع مرور الزمن م�شكلة �شرعية وفقهية‬ ‫�شائكة ق�ضت م�ضاجع الدولة الإ�سالمية الفتية‪ ،‬ونالت من هيبتها ووحدتها‪ ،‬فتع ّر�ضت‬ ‫بين الحين والحين لخطر الإنق�سام والت�شرذم(((‪.‬‬ ‫ما �أبرز محتويات كتاب الإمامة‪ ،‬و�أين وقف ال�سيد محمد ر�ضا ف�ضل اهلل منها وكيف‬ ‫�صاغ �أفكاره الخا�صة بها؟‬ ‫(( ( مادلونغ‪ ،‬مقالة « ال�شيعة «‪ ،‬دائرة المعارف الإ�سالمية‪ ،‬المجلد ‪� ،9‬ص �ص ‪.424-420‬‬

‫‪88‬‬


‫���������������� ‬

‫ي�شـ ّكـل كتاب «الإمامة» محاولة ر�صينة للت�صدي لمو�ضوعات المعرفة ومع�ضالت‬ ‫الوجود‪ ،‬وتف�سير الن�ص الديني‪ ،‬التي كانت تنطرح �أمام المجتهد‪ ،‬وتت�صادم معه لت�ؤلف‬ ‫�إ�شكالية معقدة ت�ستوجب مقاربتها بالحجة والقرينة‪.‬‬ ‫ق�سـم الم�ؤلف كتابه �إلى بابين اثنين(((‪:‬‬ ‫ّ‬ ‫تناول في الباب الأول «الأدلة العقلية والنقلية»‪ ،‬مب ّين ًا �أنَّ العلة الداعية �إلى بعث‬ ‫الأنبياء و�إر�سال ال ّر�سل هي �إزاحة علل الخلق‪ ،‬وقطع محاذير العباد‪ ،‬ودح�ض حججهم‪،‬‬ ‫�إذا �أراد �أن يجازيهم ب�أعمالهم يوم الجزاء‪.‬‬ ‫�أما الدليل العقلي‪ ،‬فوا�ضح بيـّـن لقبح العقاب من غير بيان‪.‬‬ ‫و�أما النقلي‪ ،‬فالآيات متكاثرة وال�سـُـنـّة مت�ضافرة»(((‪ ،‬ويردف هذه المقدمة ب�آيات‬ ‫من القر�آن الكريم‪� ،‬شواهد على ما �أراد تبيانه والت�أكيد عليه‪ ،‬ثم يذكر الأدلة النقلية‬ ‫التي ت�ص ّر على الإختيار من اهلل تعالى على حججه على عباده و�أمنائه في بالده‪ ،‬و�أن‬ ‫الإختيار هلل ال للخلق والعباد لعدم معرفتهم وق�صور عقولهم‪ ،‬كما الآيات الدالة على‬ ‫وجود الدليل‪ ،‬وقيام الحجة‪ ،‬وعلى وجوب �إتباع الأئمة الدعاة �إلى اهلل الأدالء على مر�ضاة‬ ‫اهلل‪ ،‬والآيات التي ت�شير �إلى من ا�ستحق الإمامة من ذ ّرية �إبراهيم‪ ،‬وعلى �أن الخلق‬ ‫محتاج �إلى من يقوم به �صالحه ويرتفع ف�ساده‪ ،‬ويب ّيـن به ر�شده ويمحي غيه و�ضالله‪.‬‬ ‫ويذكر ال�سيد ف�ضل اهلل �ست �صفات للأنبياء نذكرها باخت�صار‪:‬‬ ‫الأولى‪� :‬أن اهلل تعالى لما �أوجد خلقه وفطر عباده‪ ،‬وجب عليه �أن يقيم لخلقه �سفراء‬ ‫بينه وبين عباده‪.‬‬ ‫والثانية‪� :‬أنه لما �أر�سل ر�سله �إلى خلقه �أقامها من جن�س الخلق ال من جن�س المالئكة‪.‬‬ ‫والثالثة‪� :‬أن الأنبياء الذين �أر�سلهم كانوا باختياره ال باختيار عباده وخلقه‪.‬‬ ‫(( ( تجدر الإ�شارة �إلى �أن تبويب كتاب «الإمامة» هو من عمل المحقق‪.‬‬ ‫راجع مقدمة تحقيق الكتاب‪� ،‬ص ‪.14-13‬‬ ‫(( ( محمد ر�ضا ف�ضل اهلل‪ ،‬الإمامة‪� ،‬ص ‪.80 -23‬‬

‫‪89‬‬


‫ال�سيد محمد ر�ضا ف�ضل اهلل الحكيم والم�صلح‬

‫والرابعة‪� :‬أنه لما �أقامهم بين ظهراني الب�شر ع ّرفهم كل ما يحتاجون �إليه‪.‬‬ ‫وال�صفة الخام�سة‪� :‬أنه �أرادهم مع�صومين((( من الخط�أ‪ ،‬والخطل‪ ،‬وال�سهو‪ ،‬والزلل‪.‬‬ ‫�أما ال�صفة ال�ساد�سة‪ :‬ف�أنه �أجرى على �أيدهم المعجزات الباهرة والآيات الظاهرة‬ ‫والحجج الكافية(((‪.‬‬ ‫ويب ّين �سماحة ال�س ّيد‪ ،‬بالحجج العقلية‪� ،‬أن الأنبياء من جن�س الب�شر‪ ،‬فلو لم يكونوا‬ ‫غير ذلك لكانوا من المالئكة‪� ،‬أو من الجن‪� ،‬أو من عالم �آخر مغاير للعوالم الثالثة‪،‬‬ ‫المالئكة والأن�س والجن(((‪.‬‬ ‫وبناء على ما تقدم‪ ،‬يرى ال�س ّيد ف�ضل اهلل �أن النا�س بحاجة �إلى �إمام يخلف الر�سول‪،‬‬ ‫يكون م�ؤتمن ًا على دينهم ودنياهم(((‪ ،‬ولما كان الخلق يتظالمون فيما بينهم‪ ،‬ف�إنهم‬ ‫يحتاجون �إلى �إمام يقيم العدل فيهم‪ ،‬وينظر في نزاعاتهم‪ ،‬لعجزهم عن حلها من‬ ‫دون الإ�ستعانة بحاكم‪� ،‬أو �إمام مت�أت عن جماع طبائعهم وغلبة �شهواتهم وكثرة جهلهم‬ ‫و�شدة نزاعاتهم(((‪ ،‬م�ستند ًا �إلى الآيات التي تدل على �أن النا�س بحاجة �إلى «من يقوم‬ ‫به �صالحه‪ ،‬ويرتفع ف�ساده‪ ،‬ويبين به ر�شده‪ ،‬ويمحى غيه و�ضالله»(((‪ ،‬منها قوله تعالى‪:‬‬ ‫َ َ َ َ َّ ُ ُ َّ َ ۡ َ ۢ َ ۡ َ ۡ َ َ ٰ ُ ۡ َ َّ ٰ َ ّ َ َ َّ َّ ُ َ‬ ‫ضل قوما بعد إِذ هدىهم ح‬ ‫ون ﴾(((‪ ،‬ناهيك ب�أن الأمة‬ ‫ت يُب ِي ل ُهم ما َيتق ۚ‬ ‫﴿ وما كن ٱلل ِل ِ‬ ‫(( ( الع�صمة لغة هي المنع والوقاية‪ .‬‬ ‫جمال الدين محمد بن مكرم بن منظور ( ت‪711.‬هـ)‪ ،‬ل�سان العرب‪ ،‬مادة «ع�صم»‪ ،‬المجلد ‪ ،12‬دار �صادر‪ ،‬بيروت‪ ،‬ال ت‪� .‬ص‬ ‫‪ .408 -403‬‬ ‫�أما الع�صمة في الإ�صطالح الكالمي‪ ،‬فهي لطف يفعله اهلل بالمكلف ال يكون معه داع �إلى ترك الطاعة وارتكاب المع�صية‬ ‫مع قدرته على ذلك‪ ،‬وقد �أجمع العلماء الم�سلمون على القول بع�صمة الأنبياء عن تع ّمـد الكذب في ما يبلغونه من الر�ساالت‬ ‫ال�سماوية‪ ،‬واختلفوا بعد ذلك في �صدور ما ينافي الع�صمة منهم على �سبيل ال�سهو �أو الن�سيان؛ فذهب بع�ض �أئمة ال�سنة �إلى‬ ‫جواز وقوع كل ذنب من الأنبياء‪� ،‬صغير ًا كان �أو كبير ًا حتى الكفر‪ ،‬بينما قال ال�شيعة بع�صمة الأنبياء مطلق ًا‪ ،‬قبل البعثة وبعدها‪.‬‬ ‫ �أحمد �صبحي محمود‪ ،‬نظرية الإمامة‪� ،‬ص ‪.112-111‬‬ ‫(( ( محمد ر�ضا ف�ضل اهلل‪ ،‬الإمامة‪� ،‬ص ‪.165 -164‬‬ ‫((( الإمامة‪� ،‬ص ‪ 165‬وما بعدها‪.‬‬ ‫(( ( الم�صدر نف�سه‪� ،‬ص ‪.42‬‬ ‫(( ( الم�صدر نف�سه‪� ،‬ص ‪.43‬‬ ‫(( ( الم�صدر نف�سه وال�صفحة نف�سها‪.‬‬ ‫(( ( �سورة التوبة‪ ،‬الآية رقم ‪.115‬‬

‫‪90‬‬


‫���������������� ‬

‫اتفقت ب�أجمعها على �أن الأر�ض ال يجوز �أن تخلو من �إمام قائم بالأمر(((‪.‬‬ ‫ما �سبق ي�شكل نقطة ارتكاز في فكر �سماحة ال�س ّيد‪ ،‬لوجوب الإمام والحاجة ال�ضرورية‬ ‫�إلى معرفته وتن�صيبه‪ ،‬فمعرفة الإمام واجبة‪ ،‬فقد نقل عن النبي محمد‪ P‬في عاقبة‬ ‫عدم المعرفة هذه‪ ،‬قوله‪« :‬من مات ال يعرف �إمامه‪ ،‬مات ميتة جاهلية»(((‪ ،‬غير �أن‬ ‫معرفة �أ�سماء الأئمة ‪ R‬و�أ�شخا�صهم‪ ،‬وكونهم �أرحاما للنبي‪ P‬ال يكفي‪ ،‬بل ال بد‬ ‫من الدفاع عن �شرعيتهم وح ّقهم في الإمامة(((‪.‬‬ ‫�أما الباب الثاني من الكتاب‪ :‬فيفرده ال�س ّيد للحديث عن «الإمامة من�صب �إلهي»‪،‬‬ ‫وي�ستهله بعر�ض ع�شرين بيت ًا مختارة من ق�صيدة طويلة‪ ،‬نظمها في مدح الإمام‬ ‫المهدي|‪ ،‬ذات منحى فل�سفي وحكمي‪ ،‬ثم ي�سهب في �شرحها في �إطار ر�ؤية متكاملة‬ ‫متما�سكة‪ ،‬ترتكز �إلى �أ ّدلة عقلية‪ ،‬و�شواهد من واقع الحياة نف�سها‪ ،‬مق ّرر ًا �أن كل ما في‬ ‫الكون من موجودات يحتاج �إلى مر�شد هاد‪ ،‬وقائد مد ّبـر يخلف الر�سول‪ P‬ويقتدي به‬ ‫فيحفظ دينهم ويهديهم �إلى طريق الحق وال�صواب‪ ،‬ويرعى �ش�ؤون دنياهم‪ ،‬ويق ّوم الزيغ‬ ‫وي�صلح الإعوجاج‪.‬‬ ‫ويتوقف �سماحته مطو ًال عند �صفات الإمام‪ ،‬فيذكر((( قو ًال م�سند ًا عن الإمام‬ ‫ال�صادق ‪� ،Q ‬أنه قال‪ « :‬والإمام الم�ستحق للإمامة له عالمات»‪:‬‬ ‫الأولى‪� :‬أن يعلم �أنه مع�صوم من الذنوب كلها‪� ،‬صغيرها وكبيرها‪ ،‬ال ّ‬ ‫يزل في الفتيا‪،‬‬ ‫وال يخطئ في الجواب‪ ،‬وال ي�سهو وال ين�سى‪ ،‬وال يلهو ب�شيء من �أمور الدنيا‪.‬‬ ‫والثانية‪� :‬أن يكون �أعلم النا�س بحالله وحرامه‪ ،‬و�ضروب �أحكامه‪ ،‬و�أمره ونهيه‪،‬‬ ‫وجميع ما يحتاج �إليه النا�س‪ ،‬فيحتاج النا�س �إليه وي�ستغني عنه‪.‬‬ ‫(( ( محمد ر�ضا ف�ضل اهلل‪ ،‬المرجع ال�سابق‪� ،‬ص ‪.175‬‬ ‫(( ( محمد �صالح المازندراني‪� ،‬شرح �أ�صول الكافي‪ ،‬تعليق الميرزا �أبو الح�سن ال�شعراني‪ ،‬دار �إحياء التراث العربي‪ ،‬الطبعة الأولى‪،‬‬ ‫ج‪ ،1‬بيروت‪� ،2000 ،‬ص ‪ ،377‬الحا�شية رقم ‪.3‬‬ ‫(( ( المازني‪� ،‬شرح �أ�صول الكافية‪ ،‬ج‪� ،1‬ص ‪ ،26‬الحا�شية رقم ‪10‬؛ محمد باقر المجل�سي‪ ،‬بحار الأنوار الجامعة لدرر الآئمة‬ ‫الأطهار‪ ،‬ج ‪ ،97‬م�ؤ�س�سة العرفان‪ ،‬بيروت‪� ،‬ص ‪ ،122‬الحا�شية رقم ‪.26‬‬ ‫((( االمامة‪� ،‬ص ‪ .20‬انظر �أي�ضا‪ :‬المجل�سي‪ ،‬المرجع نف�سه‪ ،‬ج‪� ،25‬ص ‪.164‬‬

‫‪91‬‬


‫ال�سيد محمد ر�ضا ف�ضل اهلل الحكيم والم�صلح‬

‫والثالثة‪� :‬أن يكون من �أ�شجع النا�س‪ ،‬لأن فئة الم�ؤمنين التي يرجعون �إليها‪� ،‬إن انهزم‬ ‫في الزحف انهزم النا�س النهزامه‪.‬‬ ‫وال�صفة الرابعة‪� :‬أن يكون �أ�سخى النا�س‪ ،‬و�إن بخل �أهل الأر�ض كلهم‪ ،‬لأنه �إن ا�ستولى‬ ‫�شح بما في يديه من �أموال الم�سلمين»‪.‬‬ ‫ال�شح عليه ّ‬ ‫ّ‬ ‫ي�س ّوغ �سماحة ال�س ّيد ما تقدم من �صفات للإمام بقوله‪�« :‬أما الع�صمة من جميع‬ ‫الذنوب فبها يتميز الإمام عن جميع الم�أمورين الذين هم غير مع�صومين؛ فلأنه لو‬ ‫لم يكن مع�صوم ًا لم ي�ؤمن عليه في ما دخل فيه النا�س من موبقات الذنوب المهلكات‬ ‫وال�شهوات والل ّذات‪ ،‬ولو دخل في هذه الأ�شياء الحتاج �إلى من يقيم عليه الحدود‪ ،‬فيكون‬ ‫�إمام ًا م�أموم ًا‪ ،‬وال يجوز �أن يكون الإمام بهذه ال�صفة»(((‪ ،‬كما �أن ع�صمة الإمام في‬ ‫ر�أي �سماحته م�ستم ّدة من كونه مترجم ًا عن القر�آن و�أخبار النبي‪ ،‬لهذا وجب �أن يكون‬ ‫مع�صوم ًا ليجب القبول منه(((‪ ،‬م�ستند ًا في ذلك �إلى ما نقله المجل�سي((( عن كتاب‬ ‫«معاني الأخبار»(((‪ ،‬حيث ذكر �أنه لما كان �أكثر الكتاب وال�س ّنة محتمل لوجوه الت�أويل‬ ‫وجب �أن يكون مع ذلك‪ ،‬مخبر �صادق مع�صوم من تعمد الكذب والغلط منبئ عما عنى‬ ‫الباري تعالى ور�سوله في القر�آن وال�س ّنة على حق ذلك و�صدقه‪ ،‬لأن النا�س مختلفون في‬ ‫الت�أويل كل فرقة تميل مع القر�آن وال�سنة �إلى مذهبها‪ ،‬ويردف �سماحته فيقول‪« :‬و�أما‬ ‫وجوب كونه �أعلم النا�س ف�إنه لو لم يكن عالم ًا لم ي�ؤمن �أن يق ّلـب الأحكام والحدود‬ ‫وتختلف عليه الق�ضايا الم�شكلة فال يجيب عنها ثم يجيب بخالفها‪ ،‬و�أما وجوب كونه‬ ‫�أ�شجع النا�س لأنه ال ي�صح �أن ينهزم فيبوء بغ�ضب من اهلل تعالى وهذا ال ي�صح �أن يكون‬ ‫�صفة الإمام و�أما وجوب كونه �أ�سخى النا�س فلأن البخل ال يليق بالإمام»(((‪.‬‬ ‫(( ( محمد ر�ضا ف�ضل اهلل‪ ،‬الإمامة‪� ،‬ص ‪.205‬‬ ‫(( ( الم�صدر نف�سه‪� ،‬ص ‪.204‬‬ ‫(( ( المجل�سي‪ ،‬بحار الأنوار‪ ،‬ج ‪� ،25‬ص ‪.164‬‬ ‫((( محمد علي بن علي بن بابويه القمي‪ ،‬المعروف بال�صدوق( ت‪381 .‬هـ)‪ ،‬معاني الأخبار‪ ،‬تحقيق علي �أكبر الغفاري‪ ،‬م�ؤ�س�سة‬ ‫الن�شر الإ�سالمي‪ ،‬قم ‪ -‬طهران‪1379-1378 ،‬هـ‪� ،‬ص ‪.136‬‬ ‫(( ( الإمامة‪ ،‬المرجع ال�سابق‪� ،‬ص �ص ‪..206-205‬‬

‫‪92‬‬


‫���������������� ‬

‫ويذكر �سماحته �أن الإختيار في الر�سالة �إنما هو هلل ال للأ ّمة‪ ،‬فكذلك الإمامة لأنها‬ ‫في منزلتها فكما �أن العقل حكم ب�أن الإختيار هلل هناك‪ ،‬كذلك يحكم هنا لإتحاد الع ّلة‪،‬‬ ‫«و�أن كل زمان ال بد فيه دليل مر�شد‪ ،‬وقائد متـّبع»(((‪ ،‬م�ستند ًا �إلى الآيات الدالة على‬ ‫ذلك‪ ،‬منها‪:‬‬ ‫َ َ ُّ َ َ ۡ ُ ُ َ َ َ ٓ ُ َ َ ۡ َ ُ َ َ َ َ ُ ُ ۡ َ َ ُ ُ ۡ َ ٰ َ َّ َ َ َ ٰ َ ٰ َ َّ ُ ۡ ُ َ‬ ‫ون‪.(((﴾ ‬‬ ‫شك‬ ‫﴿‪ ‬وربك يلق ما يشاء ويختار ۗما كن لهم ٱلِية ۚ سبحن ٱللِ وتعل عما ي ِ‬

‫َّ ُ َ َ ُ ُ ُ ٓ َ ۡ ً َ َ ُ َ َ ُ ُ ۡ‬ ‫َ ۡ‬ ‫َ َ َ ۡ‬ ‫َ َ َ‬ ‫ٱل َ َ‬ ‫ِيةُ م ِۡن‬ ‫﴿‪ ‬و َما كن ل ُِمؤم ِٖن َول ُمؤم َِن ٍة إِذا قض ٱلل ورسولۥ أمرا أن يكون لهم‬ ‫َ‬ ‫أ ۡم ِره ِۡمۗ‪.(((﴾ ‬‬

‫ويق ّرر �سماحته �أن �صفات الإمام �آنفة الذكر تجعل منه بال�ضرورة �أكمل الخلق في‬ ‫جميع ال�صفات‪ ،‬فهو قائم مقام النبي‪ P‬في حفظ الدين ورعاية الم�سلمين ما يجعلهم‬ ‫�أقرب �إلى طاعته و�أبعد عن مع�صيته‪« ،‬ولي�س في مقدور العباد �أن يعرفوا �أكملهم حتى‬ ‫ين�صبونه �إمام ًا لهم‪ ،‬لأن الكمال النف�ساني من الأمور الخف ّيـة الباطنة م�ستورة بحجب‬ ‫الغيب ع ّنـا؛ ف�إذا كان الأمر كذلك‪ ،‬وجب على العالم بالغيوب �أن يختاره وين�صبه �إمام ًا‬ ‫للعالم‪ ،‬وعلم ًا للعباد‪ ،‬ولو �أهمل كان قد �ض ّيـع خلقه‪ ،‬وفي ذلك منافاة للحكمة‪ ،...،‬وهذا‬ ‫من �شرائط النبوة‪ ،‬وال فرق بين النبوة والإمامة‪� ،‬إذ كل منها ريا�سة عامة في �أمر الدين‬ ‫والدنيا»(((‪ ،‬والإمام في اعتقاد ال�س ّيد ف�ضل اهلل مع ّيـن في الن�ص ال بالإختيار‪ ،‬كما عند‬ ‫لعلي بن �أبي طالب‪Q‬‬ ‫�سائر ال�شيعة الإثني ع�شرية‪ ،‬و�أن النبي محمد ًا‪ P‬قد �أو�صى ّ‬ ‫من بعده بالخالفة‪ ،‬بمعنى �أن علي ًا لي�س الإمام بطريق الإنتخاب‪ ،‬بل بطريق الن�ص‪،‬‬ ‫َ‬ ‫﴿و َأنْذ ِْر َ‬ ‫َ َ َ ْ ْ َ َ (((‬ ‫�سند ًا �إلى الآية الكريمة‪َ :‬‬ ‫فعلي هو �أف�ضل الخلق‬ ‫وبالتالي‬ ‫‪،‬‬ ‫﴾‬ ‫ني‬ ‫ب‬ ‫ر‬ ‫ق‬ ‫ال‬ ‫ك‬ ‫ت‬ ‫ري‬ ‫ع‬ ‫شِ‬ ‫ّ‬ ‫ِ‬ ‫بعد الر�سول‪ ،‬ومن حقه �أن يو�صي لمن بعده‪.‬‬ ‫(( ( المرجع نف�سه‪� ،‬ص ‪.206‬‬ ‫(( ( �سورة الق�ص�ص‪ ،‬الآية رقم ‪.68‬‬ ‫(( ( �سورة الأحزاب‪ ،‬الآية رقم ‪.36‬‬ ‫((( الإمامة‪� ،‬ص ‪.79‬‬ ‫(( ( �سورة ال�شعراء‪ ،‬الآية رقم ‪.214‬‬

‫‪93‬‬


‫ال�سيد محمد ر�ضا ف�ضل اهلل الحكيم والم�صلح‬

‫بالن�ص‪ ،‬ويذكر �أن ال�سبب في‬ ‫وي�س ّوغ ال�شهر�ستاني �إعتقاد ال�شيعة الإمامية بالقول‬ ‫ّ‬ ‫ذلك �إنما يعود �إلى عدم جواز مفارقة النبي‪ P‬للأمة مع ترك �أمرهم �إلى الإختالف‬ ‫والفرقة‪ ،‬ما ي�ستوجب وجود �شخ�ص موثوق به من�صو�ص عليه بوا�سطة الر�سول للرجوع‬ ‫�إليه‪ ،‬وهذا ما �صرح به الر�سول في المبايعة مثل ما جرى في غدير خم �إذ عندما نزلت‬ ‫َ‬ ‫َ َ ُّ َ َّ ُ ّ‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫ُ َ َ َ‬ ‫ْ‬ ‫الآية‪﴿ :‬يا أيها‬ ‫الر ُسول بَلِ ْغ َما أ ِنزل إِلْك ِم َّرن ّب ِ َك ِإَون ل ْم َت ْف َعل َف َما بَل ْغ َت رِ َسالَ ُه﴾(((‪ ،‬قال‬ ‫الر�سول‪« :P‬من كنت مواله فعلي مواله‪ ،‬اللهم وال من وااله وعاد من عاداه وان�صر من‬ ‫ن�صره واخذل من خذله‪ ،‬و�أدر الحق معه حيث دار الآل»‪.‬‬ ‫ن�ص ًا مه ّم ًا‪ ،‬فيقول‪�« :‬أن ال �إله �إال اهلل وحده ال �شريك‬ ‫ويذكر الكليني في كتابه «الكافي» ّ‬ ‫له‪ ،‬و�أن محمد ًا عبده ور�سوله �سيد النبيين‪ ،‬و�أن علي ًا �أمير الم�ؤمنين �سيد الو�ص ِّيين»(((‪،‬‬ ‫وي�ضيف �إبن خلدون‪� :‬أن ال�شيعة يعتقدون «�أن الإمامة لي�ست من الم�صالح العامة التي‬ ‫تفو�ض �إلى نظر الأمة‪ ،‬ويتع ّين القائم بها بتعيينهم‪ ،‬بل هي ركن الدين وقاعدة الإ�سالم‪،‬‬ ‫وال يجوز لنبي �إغفاله وال تفوي�ضه �إلى الأمة‪ ،‬بل يجب عليهم تعيين الإمام لهم ويكون‬ ‫(((‬ ‫مع�صوم ًا من الكبائر وال�صغائر‪ ،‬و�أن علـّي ًا هو الذي عـ ّيـنه �صلوات اهلل و�سالمه عليه‪»...،‬‬ ‫الإمامة بين ال�شيعة وبع�ض الفرق الإ�سالمية‪:‬‬ ‫ولعل ما تمحورت حوله �أفكار ال�سيد ف�ضل اهلل ومعه �أهل ال�شيعة في م�س�ألة وجوب‬ ‫الإمام والحاجة ال�ضرورية �إلى تن�صيبه يبدو مناق�ض ًا لن�ص �أورد ال�شهر�ستاني‪ ،‬حيث‬ ‫يقول‪« :‬قالت النجدات‪ ،‬من الخوارج وجماعة من القدرية‪� :‬أن الإمامة غير واجبة في‬ ‫ال�شرع وجوب ًا‪ ،‬لو امتنعت الأمة عن ذلك ا�ستحقوا اللوم والعقاب‪ ،‬بل هي مبنية على‬ ‫معامالت النا�س؛ ف�إن تعادلوا وتعاونوا وتنا�صروا على الـ ّبر والتقوى‪ ،‬وا�شتغل كل واحد‬ ‫من المكلفين بواجبه وتكليفه ا�ستغنوا عن الإمام ومتابعته‪ ،‬ف�إنّ كل واحد من المجتهدين‬ ‫(( ( �سورة المائدة‪ ،‬الآية رقم ‪.67‬‬ ‫((( محمد بن يعقوب الكليني( ت‪329 .‬هـ)‪ ،‬الكافي ( هو �أحد الكتب ال�صحاح الأربعة المعتمدة عند ال�شيعة الإثني ع�شرية)‪،‬‬ ‫المجلد الأول‪ ،‬باب تربيع القبر ور�شه بالماء‪ ،‬م�ؤ�س�سة الن�شر الإ�سالمي‪ ،‬قم‪ -‬طهران‪1416 ،‬هـ‪.‬‬ ‫(( ( عبد الرحمن بن محمد بن خلدون (ت‪808 .‬هـ)‪ ،‬المقدمة‪ ،‬دار الرائد العربي‪ ،‬بيروت‪� ،1982 ،‬ص‪.108 -197‬‬

‫‪94‬‬


‫���������������� ‬

‫مثل �صاحبه في الدين والإ�سالم والعلم والإجتهاد‪ ،‬والنا�س ك�أ�سنان الم�شط‪ ،...،‬فمن‬ ‫�أين يلزم وجوب الطاعة لمن هو مثله؟»(((‪.‬‬ ‫تعليق ًا على هذا الن�ص نرجح �أنه يحوي في م�ضمونه �صورة مثالية لمجتمع خال من‬ ‫التناق�ضات‪ ،‬وتديره رعية تعاونت على البـّر والتقوى‪ ،‬والعدل القائم على الم�ساواة‪،‬‬ ‫ن�ص‬ ‫فيزول الظلم والقلق‪ ،‬وي�سود الإطمئنان لدى الفرد والجماعة‪ ،‬بمعنى �آخر ف�إن ّ‬ ‫ال�شهر�ستاني ي�ستبطن ما مفاده �أن تحقيق هذه الأمور مجتمعة ال يتم �إال بوجود حاكم �أو‬ ‫�إمام يتدبر �ش�ؤون الرعية وي�ؤمن لها �سعادتها‪ ،‬وعندما ت�صان حقوق الفرد والأمة تنتفي‬ ‫الحاجة �إلى الإمام‪.‬‬ ‫وثمة من �أوجب الإمامة بالعقل وال�شرع مع ًا‪ ،‬ك�أبي الح�سين الخياط والماوردي من‬ ‫المعتزلة؛ ومن وقف في �صف �أهل ال�س ّنة من العلماء‪ ،‬ف�أق ّرها على ر�أيها في �أمر الوجوب‬ ‫ال�شرعي‪ ،‬كالمعتزلة عموم ًا‪ ،‬وب�شكل خا�ص القا�ضي عبد الجبار الذي ب�سط ر�أيه في‬ ‫هذه الق�ضية‪ ،‬ونق�ض �آراء المخالفين فيها‪ ،‬وا�ستهدف اعترا�ضه ال�شيعة الإمامية‪ ،‬فيقول‬ ‫‪»:‬لو افتر�ضنا مبد�أ الوجوب ال�شيعي للإمامة لوجب �أن يكون لها تف�سير لهذا الوجوب»‪،‬‬ ‫وح�سب ر�أيه ف�إن ما يبطل دعوى الوجوب هو �أن وظيفة الإمامة ذاتها وظيفة �شرعية‪،‬‬ ‫ويراد بها �أمور �سمعية‪ ،‬ك�إقامة الحدود وتنفيذ الأحكام وما �شاكلها؛ فهي عنده ت�ستهدف‬ ‫حماية الدين وتنفيذ �أحكامه‪ ،‬و�أداة لتحقيق العدل والموازنة بين م�صالح النا�س في‬ ‫دينهم ودنياهم‪ ،‬غير �أن هذا الر�أي ي�صادر مبد�أ الع�صمة ويلغيه‪ ،‬باعتبار �أن الحاكم‬ ‫�إن�سان يجوز عليه الخط�أ‪ ،‬وبالتالي �إ�سقاط الو�صاية المتوهمة والنظر �إلى الحاكم‬ ‫بمقيا�س ب�شري مح�ض؛ فمهام الإمام «كلها من م�صالح الدنيا»(((‪� ،‬إذ يجوز على الإمام‬ ‫الخط�أ (والكالم للقا�ضي عبد الجبار) فينبغي �أن يكون هناك من ين ّبهه ويقـ ّومه‪ ،‬وهم‬ ‫(( ( محمد بن عبد الكريم ال�شهر�ستاني( ت‪ ،)548 .‬نهاية الأقدام في علم الكالم‪ ،‬طبعة �أك�سفورد‪1934 ،‬م‪� ،‬ص ‪.481-480‬‬ ‫(( ( حول هذا ح�صر مهام الإمام بم�صالح الدنيا‪ ،‬انظر‪ :‬فخر الدين محمد بن عمر بن الح�سن التيمي الرازي ( ت‪606 .‬هـ)‪:‬‬ ‫مح�صل �أفكار المتقدمين والمت�أخرين من العلماء والمتكلمين‪ ،‬م�صر‪ ،‬ال ت‪� ،.‬ص ‪.176‬‬

‫‪95‬‬


‫ال�سيد محمد ر�ضا ف�ضل اهلل الحكيم والم�صلح‬

‫الأمة وعلما�ؤها‪ ،‬يب ّيـنون له مو�ضع الخط�أ ويعدلون به �إلى ال�صواب(((‪.‬‬ ‫غير �أن الفكر ال�سيا�سي للمعتزلة �أوجب من�صب الإمام بهدف قيام �سلطة تدير الأمة(((‪.‬‬ ‫وفي مقابل ذلك فر�ض على الإمام �أن يحيطه عامة النا�س بالحرا�سة والذود عنه ما دام‬ ‫يهتم ب�ش�ؤون الأمة‪« ،‬بر ّد قويها عن �ضعيفها‪ ،‬وجاهلها عن عالمها‪ ،‬وظالمها عن مظلومها‪،‬‬ ‫و�سفيهها عن حليمها؛ فلوال ال�سائ�س �ضاع الم�سو�س‪ ،‬ولوال الراعي لهلكت الرعية»(((‪.‬‬ ‫يتم اختيار الإمام بر�ضى الأمة‬ ‫�إن جعل المعتزلة الإمام من�صب ًا دنيوي ًا‪ ،‬حتّـم �أن ّ‬ ‫وجمهورها؛ فالإختيار والبيعة طريق الإمامة و�شرعيتها‪ ،‬باعتبارها حكم ًا �شرعي ًا(((‪،‬‬ ‫بخالف الإمامية التي جعلت الن�ص محور ًا مركزي ًا في عقيدتها‪ ،‬وطريق ًا لإثبات الإمامة‬ ‫وتن�صيب الإمام علي‪ Q‬لها و�أبنائه من ال�سيدة فاطمة من بعده‪ ،‬ما �أدى �إلى رف�ض‬ ‫المعتزلة لمبد�أ التعيين بالن�ص‪ ،‬لأنه ي�شكل تهديد ًا لجملة الفكر ال�سيا�سي الإعتزالي‬ ‫ونظريته في الإختيار‪ ،‬ما جعل �شيخ المعتزلة‪ ،‬القا�ضي عبد الجبار‪ ،‬يتّـبع مختلف‬ ‫الو�سائل وال�صياغات النقلية والعقلية لإ�سقاط «الن�ص ال�شيعي»(((‪.‬‬ ‫وا�ستكما ًال لمنظومتهم ال�سيا�سية‪ ،‬طرح المعتزلة ت�صوراتهم في تقاليد الإمامة‬ ‫و�شروطها‪ ،‬وكيفية قيامها‪ ،‬وطبيعة العقد و�صفات عاقديه‪ ،‬وم�ؤهالتهم المميزة‪ ،‬حتى‬ ‫يت�سنى للإمام �أن يكت�سب �صفة ال�شرعية كحاكم �أعلى للدولة‪ ،‬ويت�سلم مقاليد ال�سلطة‬ ‫و�إدارتها بمعرفته(((‪.‬‬ ‫(( ( القا�ضي عبد الجبار الأ�سد �آبادي( ت‪415 .‬هـ)‪ ،‬المغني في �أبواب التوحيد والعدل تحقيق الدكتور محمود محمد قا�سم‪ ،‬ج ‪،15‬‬ ‫القاهرة‪� ،1952 ،‬ص ‪.253-252‬‬ ‫(( ( ثمة من المعتزلة من �أوجب الإمامة عق ًال وهم قلة‪ ،‬ولكن ايجابها على الخلق والنا�س ال على الخالق‪ ،‬لأن �أمرها دنيوي ال ديني‪،‬‬ ‫�أي على خالف مفهوم ال�شيعة للإمامة‪.‬‬ ‫عز الدين عبد الحفيظ‪،‬ابن �أبي الحديد( ت‪656 .‬هـ)‪� ،‬شرح نهج البالغة‪ ،‬تحقيق محمد �أبو الف�ضل ابراهيم‪ ،‬دار احياء الكتب‬ ‫العربية‪ ،‬الطبعة الأولى‪ ،‬القاهرة‪� ،1959 ،‬ص ‪.308‬‬ ‫((( �أبو عثمان عمرو بن بحر الب�صري‪ ،‬المعروف بالجاحظ ( ت‪255 .‬هـ)‪ ،‬ر�سائل الجاحظ‪ ،‬ج‪ ،1‬تحقيق و�شرح عبد ال�سالم‬ ‫محمد هارون‪ ،‬مكتبة الخانجي‪ ،‬القاهرة‪ ،‬ال ت‪� ،.‬ص ‪.31‬‬ ‫((( القـا�ضي عـبد الجبـار‪� ،‬شـرح الأ�صـول الخــم�سة‪ ،‬تحـقيـق عـبد الكـريم عـثمان‪ ،‬القـاهـرة‪� ،1966 ،‬ص ‪.755-754‬‬ ‫((( عـبد ال�ستار الـراوي‪ ،‬الـعقـل والحـرية‪ ،‬الـم�ؤ�س�سة الـعربية للـدرا�سات والـن�شر‪ ،‬بـيروت‪� ،1980 ،‬ص ‪.416 -414‬‬ ‫(( ( القا�ضي عبد الجبار‪ ،‬المغني‪ ،‬الق�سم الأول ( الإمامة )‪� ،‬ص ‪ 351‬وما بعدها‪.‬‬

‫‪96‬‬


‫���������������� ‬

‫خـاتـمة‪:‬‬

‫ت�ستدعي التباينات �آنفة الذكر حول مو�ضوعة الإمامة‪ ،‬بين ال�شيعة وبع�ض الفرق‬ ‫الإ�سالمية الأخرى‪ ،‬قراءة مت�أنية في هذه الم�س�ألة الخالفية المزمنة التي ما انف ّكت‬ ‫ت�سهم في تكري�س التباعد حين ًا‪ ،‬والتنابذ �أحيان ًا بين �أطياف الم�سلمين؛ فالظروف‬ ‫الملتب�سة التي رافقت مبايعة �أبي بكر بالخالفة‪� ،‬أ�سفرت عن اختالف الم�سلمين في‬ ‫الحديث عنها والإجتهاد فيها‪ .‬فقد كانت البيعة لأبي بكر �إحدى فلتات التاريخ‪ ،‬لم ت�أخذ‬ ‫بعدها الجدي �إال مع تحو ّلـها �إلى �أمر واقع؛ فحدث ال�سقيفة كان في حد ذاته �أقرب �إلى‬ ‫الإنقالب ال�سيا�سي منه �إلى �إجراء �إنتخابي‪ ،‬بخالف ما تزعم الفرق الإ�سالمية القائلة‬ ‫ب�شرعية �إختيار الإمام ال ب�أحقية تعيينه بالن�ص؛ و�أن بيعة الخالفة لأبي بكر عند هذه‬ ‫َ​َ ُ‬ ‫﴿وأ ۡم ُره ۡم‬ ‫الفرق جاءت متوافقة ومبد�أ ال�شورى ح�سب الم�ؤ�شرات الواردة في التنزيل‬ ‫ُش َ‬ ‫ور ٰى بَ ۡي َن ُه ۡم﴾(((‪.‬‬ ‫وتعليق ًا على ما تقدم نقول‪� :‬إن المالب�سات التي رافقت البيعة والتطورات التي‬ ‫�أ�سفرت عنها‪ ،‬لم تكن متالئمة وتقرير �أمر م�صيري بحجم خالفة الر�سول‪ ،P‬حيث‬ ‫جرى عمد ًا تجاهل ر�أي �أهل البيت‪ R‬ومعهم فئة من �أوثق ال�صحابة ممن لهم �سبق‬ ‫الف�ضل في الإ�سالم‪ ،‬وكذلك الممار�سات التي ا�ستهدفت الأن�صار‪� ،‬أ�صحاب المبادرة‬ ‫�إلى ال�سقيفة‪ ،‬احتواء وتطويع ًا‪ ،‬ما يدل ّل على الخلل الذي اعترى مبد�أ ال�شورى‪ ،‬والنيل‬ ‫من الإجماع على البيعة‪ .‬وقد �أدى ذلك �إلى جدال بين الم�سلمين حول �أحقية الخالفة‪،‬‬ ‫كان من تداعياته الالفتة ما ُ�س ّمـي بـ«الفتنة الكبرى» المتمثلة بمقتل الخليفة الثالث‬ ‫عثمان بن عفان‪ ،‬واهتزاز �صورة الخالفة نف�سها(((‪.‬‬ ‫فالإمامة عند ال�شيعة تختلف عما هي عليه عند �أهل ال�س ّنـة‪ ،‬كما بيناه في ما �سبق من‬ ‫هذه الدرا�سة‪ ،‬و�أن هذا الإختالف يكمن �أ�سا�س ًا في كون الإمام الخليفة في مذاهب �أهل‬ ‫(( ( �سورة ال�شورى‪ ،‬الآية رقم ‪.38‬‬ ‫((( �إبراهيم بي�ضون‪ ،‬مالمح التيارات ال�سيا�سية في القرن الأول الهجري‪ ،‬دار النه�ضة العربية‪ ،‬بيروت‪� ،1979 ،‬ص ‪.20-19‬‬

‫‪97‬‬


‫ال�سيد محمد ر�ضا ف�ضل اهلل الحكيم والم�صلح‬

‫ال�س ّنة‪ ،‬هو نائب عن �صاحب ال�شريعة في حفظ الدين دون �أن يكون له �سلطة ت�شريعية �إال‬ ‫تف�سير ًا لأمر �أو اجتهاد في ما لي�س فيه ن�ص‪� ،‬أما عند ال�شيعة فالإمامة قاعدة الإ�سالم وال‬ ‫يجوز لنبي �إغفالها وتفوي�ضها �إلى الأمة‪ ،‬بل يجب عليه �إختيار الإمام لها‪ ،‬لأن الإمام وارث‬ ‫لعلوم النبي وم�ؤتمن على وظيفة روحية رئي�سة تخ ّوله حق ًا ديني ًا ب�شرح ر�سالة الإ�سالم‬ ‫وتو�ضيحها‪ ،‬وهو �أمر ال ي�ستطيع النهو�ض به �إال �أهل بيت النبي لكونهم ورثة علومه‪.‬‬ ‫لذلك ف�إن الإمام عند ال�شيعة لي�س �شخ�ص ًا عادي ًا بل هو فوق النا�س لأنه مع�صوم من‬ ‫الخط�أ‪ ،‬و�إن الإعتراف به والطاعة له جزء من الإيمان(((‪ ،‬وبالتالي فلي�س لأحد �أن يخطـّئ‬ ‫الإمام بل يجب على النا�س �أن ي�ص ّدقوا �أن كل ما يفعله �إنما هو خير ال �شر فيه‪ ،‬فعند الإمام‬ ‫من العلم ما ال قبل لأحد معرفته‪ ،‬و�أن اهلل �أفا�ض عليه بنور المعرفة‪ ،‬و�أ�شرق عليه بنورها‪،‬‬ ‫لعلي ‪ Q‬نوعين من العلم‪ :‬ع ّلـمه باطن القر�آن وظاهره‪ ،‬و�أطلعه على‬ ‫فالنبي ‪ P‬ع ّلـم ّ‬ ‫�أ�سرار الكون وخفايا الغيبيات‪ ،‬وكل �إمام و ّرث هذه الذخيرة العلمية لمن بعده(((‪.‬‬ ‫حد بعيد في تحديد �إ�شكالية‬ ‫وبعد لقد نجح الفقيه ال�سيد محمد ر�ضا ف�ضل اهلل �إلى ٍّ‬ ‫تفح�صها ودرا�ستها معتمد ًا في ذلك‬ ‫بحثه‪ ،‬وو�ضع لها فر�ضيات مالئمة �أجاد في ّ‬ ‫منهج ًا علمي ًا قوامه ا�ستقراء الآيات القر�آنية‪ ،‬والأحاديث الجياد التي تحظى بثقة‬ ‫ّ‬ ‫وا�ستدل بها لدعم مفهومه للإمامة و�أحقية �أهل‬ ‫العلماء الم�سلمين من �س ّنة و�شيعة‪،‬‬ ‫الحجة‬ ‫متو�س ًال ّ‬ ‫البيت في الخالفة فجاءت درا�سته على �صورة بناء مترابط ومتما�سك ّ‬ ‫والقرينة في ما ذهب �إليه ب�أ�سلوب علمي ر�صين فق ّدم بذلك جديد ًا في مو�ضوع خالفي‬ ‫�شائك وملتب�س‪ ،‬ما جعل كتابه في منزلة مق ّدرة في بابه‪ ،‬ومرجع ًا ال غنى عنه للباحثين‬ ‫والمهتمين بدرا�سة م�س�ألة الإمامة في الإ�سالم‪.‬‬ ‫‪(1) Cf.: Sami Nasib Makarem, The Political Doctrine of the Ismailis(The Imamate), Caravan Books,‬‬ ‫‪N.Y., 1977.‬‬

‫(( ( من المفيد في هذا المجال مراجعة‪ :‬محمد �أبو زهرة‪� ،‬إبن تيمية‪ ،‬حياته وع�صره و�آرا�ؤه وفقهه‪ ،‬دار الفكر العربي‪ ،‬القاهرة‪ ،‬ال‬ ‫ت‪� ،‬ص ‪.172‬‬

‫‪98‬‬


‫����������������� ‬

‫الشيخ حسن بغدادي‬

‫(((‬

‫محطات مضيئة في حياة السيد محمد رضا فضل اهلل‬

‫�إنّ عر�ض وتوثيق �سيرة ه�ؤالء الأعالم‪ُ ،‬تمثل لنا قيمة ح�ضارية وتجربة �إجتماعية‪ ،‬ال‬ ‫يمكن الإ�ستغناء عنها‪ ،‬فهي لي�ست من باب �إظهار المك ُرمات‪ ،‬بقدر ما هي ثروة معرفية‪،‬‬ ‫يمكن �إ�سقاطها والإ�ستفادة منها في محطات معا�صرة‪ ،‬تت�شابه مع الما�ضي‪ ،‬وهذا ما‬ ‫دعا بع�ض ال�شخ�صيات العلمائية �إلى كتابة تجاربهم و�سيرتهم الخا�صة‪ ،‬ب�أيديهم‪ ،‬كي‬ ‫ُتكتب بحيثياتها وتفا�صيلها التي يكون �صاحبها �أكثر �إدراك ًا لها من غيره‪ ،‬كال�شهيد‬ ‫الثاني‪ ،‬وال�سيد مح�سن الأمين‪ ،‬وال�سيد عبد الح�سين �شرف الدين‪ ،‬وال�شيخ حبيب �آل‬ ‫�إبراهيم وغيرهم‪.‬‬ ‫ال�سيد محمد ر�ضا‪ ،‬هو �إحدى ال�شخ�صيات الأ�سا�سية المربية والم�ستنه�ضة في القرن‬ ‫الرابع ع�شر هجري‪ ،‬و�أنا �إذ �أ�شكر الأخ الدكتور معروف محمد تقي ف�ضل اهلل‪ ،‬والم�س ّدد‬ ‫له الأخ النائب الدكتور ال�سيد ح�سن ف�ضل اهلل‪ ،‬من العمل على جمع ما �أمكن من �أثاره‬ ‫العلمية والأدبية‪ ،‬وما تحتاجه هذه من �صبر ومعاناة‪.‬‬ ‫(( ( ع�ضو المجل�س المركزي في حزب اهلل‪ ،‬الم�شرف على �أعمال الم�ؤتمر‬

‫‪99‬‬


‫ال�سيد محمد ر�ضا ف�ضل اهلل الحكيم والم�صلح‬

‫�ضم �أبحاث الم�ؤتمر الفكري الذي نظمته‬ ‫ونحن �أردنا من خالل هذا الكتاب الذي ّ‬ ‫جمعية الإمام ال�صادق ‪ Q‬لإحياء التراث العلمائي‪ ،‬حول �شخ�صية العالمة ال�سيد‬ ‫محمد ر�ضا ف�ضل اهلل‪� ،‬أن يكون مدخ ًال للتعرف على �شخ�صية هذا العالم الفا�ضل‪،‬‬ ‫وعلى فهم مطالبه العلمية والأدبية‪.‬‬ ‫والدته ون�سبه‪:‬‬

‫ولد العالمة ال�سيد محمد ر�ضا ف�ضل اهلل في قرية (عيناثا) من جبل عامل((( �سنة‬ ‫‪1864‬م‪1281/‬هـ‪ ،‬فيكون �أكبر من ال�سيد مح�سن الأمين �إما ب�سنة �أو بثالث �سنوات‪ ،‬على‬ ‫رواية‪.‬‬ ‫ن�سبه ال�شريف ينتهي �إلى الإمام الح�سن المجتبى ‪ ،Q‬و(�آل ف�ضل اهلل) �سادة‬ ‫ح�سنيون‪ ،‬وال �شبهة في ن�سبهم‪ ،‬وهذا ما ذهب �إليه �أهل التراجم ومنهم ال�سيد الأمين(((‪.‬‬ ‫((( عيناثا‪:‬من قرى جبل عامل‪ ،‬تتبع لق�ضاء (بنت جبيل)‪ ،‬وترتفع حوالي ‪700‬م عن �سطح البحر‪ ،‬فيها مجل�س بلدي �أن�شئ �سنة‬ ‫‪1962‬م‪ ،‬من علمائها‪ :‬ال�شيخ ظهير الدين بن علي بن زين العابدين بن الح�سام العيناثي الذي تتلمذ عليه ال�شيخ نا�صر بن‬ ‫�إبراهيم البويهي (كان مقيم ًا في عيناثا)‪ ،‬العالمة الأديب ال�سيد محيي الدين ف�ضل اهلل‪ ،‬ال�سيد نجيب ف�ضل اهلل (ت ‪1900‬م)‬ ‫�إبن ال�سيد محيي الدين‪ ،‬ال�سيد �صدر الدين ف�ضل اهلل‪ ،‬ال�سيد محمد ح�سن ف�ضل اهلل‪ ،‬ال�سيد محمد �سعيد ف�ضل اهلل‪ ،‬ال�سيد‬ ‫عبد الر�ؤوف ف�ضل اهلل‪ ،‬ال�شيخ �أحمد بن يو�سف العينثاني (من تالميذ ال�شيخ محمد بن ال�شيخ ح�سن �صاحب المعالم نجل‬ ‫ال�شهيد الثاني)‪ ،‬ال�شيخ �أحمد بن خاتون العيناثي (معا�صر للمحقق الثاني)‪ ،‬ال�شيخ �أحمد بن خاتون العيناثي (معا�صر لل�شيخ‬ ‫ح�سن �صاحب المعالم)‪ ،‬ال�شيخ �أحمد بن علي العيناثي (من الم�شايخ الأجالء‪ ،‬يروي عن جعفر بن الح�سام العاملي وعنه‬ ‫محمد بن خاتون العاملي)‪ ،‬ال�شيخ �أحمد بن محمد بن خاتون العيناثي (معا�صر لل�شهيد الثاني)‪ ،‬ال�شيخ �أحمد بن نعمة اهلل‬ ‫بن خاتون العيناثي (معا�صر لل�شهيد الثاني وله كتاب مقتل الح�سين»ع»)‪ ،‬جعفر بن الح�سام العيناثي من الم�شايخ ال ّ‬ ‫أجلء‪،‬‬ ‫جمال الدين بن يو�سف بن �أحمد بن نعمة اهلل بن خاتون المعا�صر ل�صاحب الو�سائل‪ ،‬ال�شيخ ح�سن بن علي الظهيري العيناثي‬ ‫المعا�صر ل�صاحب الو�سائل (�سكن النجف ومات ب�أ�صفهان)‪ ،‬ال�شيخ ح�سن بن علي بن خاتون العيناثي المعا�صر ل�صاحب‬ ‫الو�سائل‪ ،‬ال�شيخ ح�سين بن جمال الدين بن يو�سف بن خاتون العيناثي (المعا�صر ل�صاحب الو�سائل)‪ ،‬ال�شيخ ح�سين بن الح�سن‬ ‫الظهيري العيناثي (�أحد م�شايخ �صاحب الو�سائل‪� ،‬سكن جباع ومات فيها)‪ ،‬ال�شيخ ح�سين بن �شرف العيناثي (يروي عن‬ ‫ال�شهيد الثاني)‪ ،‬ال�شيخ علي بن �أحمد بن نعمة بن خاتون‪ ،‬محمد بن الح�سام كان من الم�شايخ الأجالء‪ ،‬ال�شيخ محمد بن‬ ‫خاتون المعا�صر ل�صاحب الو�سائل (يروي عن المحقق الثاني)‪ ،‬ال�شيخ محيي الدين بن خاتون معا�صر ل�صاحب الو�سائل‪،‬‬ ‫ال�شيخ نعمة اهلل بن �أحمد بن محمد بن خاتون العاملي العيناثي من �أجالء العلماء وتالمذة المحقق الكركي‪ ،‬ال�شيخ يو�سف بن‬ ‫�أحمد نعمة اهلل بن خاتون المعا�صر ل�صاحب الو�سائل‪ .‬‬ ‫ال�سيد مح�سن الأمين‪ ،‬خطط جبل عامل �ص ‪ .269‬‬ ‫ال�شيخ �سليمان ظاهر‪ ،‬معجم قرى جبل عامل ج ‪� 2‬ص ‪ .116‬‬ ‫ال�شيخ �إبراهيم �سليمان‪ ،‬بلدان جبل عامل �ص ‪.317‬‬ ‫(( ( ال�سيد مح�سن الأمين‪� ،‬أعيان ال�شيعة‪ ،‬ج‪� ،14‬ص‪.60‬‬

‫‪100‬‬


‫����������������� ‬

‫�أ�صل العائلة من مكة المكرمة‪ ،‬فج ّدهم الأعلى ال�شريف ح�سن(((‪ ،‬قدم من مكة‬ ‫المكرمة بداعي العالج‪ ،‬و�سكن في (عيناثا)‪ ،‬وبقي فيها‪ ،‬وكانت تربطه عالقة وثيقة‬ ‫بعلماء (�آل خاتون) عندما كانوا يذهبون �إلى الحج والعمرة‪ ،‬وفي ذلك الزمان كانت‬ ‫الظروف تختلف‪ ،‬والحج لم يكن �أيام ًا معدودات كما اليوم‪ ،‬بل كان يبقى العلماء �شهور ًا‬ ‫�أو ربما �سنة‪ُ ،‬يد ّر�سونْ و ُي�ص ّنفون‪ ،‬ويلتقون بعلماء و�أعيان تلك البالد‪ ،‬وبالذين هم من‬ ‫خارج مكة‪ ،‬وقد قدموا �إليها لنف�س الغر�ض‪.‬‬ ‫لم تكن هذه العائلة الكريمة الوحيدة التي قدمت �إلى جبل عامل‪ ،‬فهناك العديد م ّمن‬ ‫قدموا وبقيت ذراريهم‪ ،‬فـ (�آل يحيى) وهم اليوم يعرفون بـ (�آل �صادق)‪ ،‬ج ّدهم الأعلى‬ ‫قدم من مكة المكرمة(((‪.‬‬ ‫وال�شيخ حبيب البغدادي �أ�صله من بني (�شيبه)(((‪ ،‬وال�شيخ �إبراهيم البالغي(((‪ ،‬قدم‬ ‫من العراق‪ ،‬وال�سيد �إبراهيم الح�سيني((( الج ّد الأعلى لـ (�آل الأمين)‪ ،‬قدم من مدينة‬ ‫بداع واحد‪ ،‬فبع�ضهم �أتى للدر�س‬ ‫الحلة بالعراق‪ ،‬ولم يكن ح�ضور ه�ؤالء �إلى جبل عامل ٍ‬ ‫والتح�صيل كال�شيخ نا�صر �إبراهيم البويهي(((‪ ،‬وهناك من جاء بداعي العالج كال�شريف‬ ‫(( ( ال�شريف ح�سن‪ :‬من الأجالء الف�ضالء‪.‬‬ ‫((( يوجد �إجماع لدى �أ�صحاب التراجم‪� ،‬أن �أ�صل العائلة يعود �إلى مكة المكرمة‪ ،‬و�إلى قبيلة (بني مخزوم)‪.‬‬ ‫(( ( ال�شيخ حبيب بن طالب بن علي بن �أحمد بن جواد البغدادي الكاظمي م�سكن ًا ال�شيبي المكي �أ�ص ًال نزيل جبل عامل‪� ،‬شاعر‬ ‫مجيد متفنن خفيف الروح‪� ،‬أ�صله من العراق من بلد الكاظمين عليهما ال�سالم‪ ،‬وكان حي ًا �سنة ‪1269‬هـ‪ .‬‬ ‫ال�سيد مح�سن الأمين‪� ،‬أعيان ال�شيعة‪ ،‬ج ‪� ،7‬ص ‪ .262‬‬ ‫ال�شيخ �آغا بزرك الطهراني‪ ،‬طبقات �أعالم ال�شيعة‪ ،‬ج‪� ،10‬ص‪.292‬‬ ‫((( ال�شيخ �إبراهيم بن ح�سين بن عبا�س بن ح�سن بن عبا�س بن محمد علي البالغي النجفي العاملي المتوفى �سنة ‪1246‬هـ‪ ،‬وهو‬ ‫ج ّد البالغيين العامليين جميعهم‪ ،‬كان فقيه ًا متبحر ًا و�أديب ًا �شاعر‪ ،‬قليل النظم‪ ،‬من تالميذ ال�شيخ جعفر كا�شف الغطاء‪ .‬‬ ‫ال�سيد مح�سن الأمين‪� ،‬أعيان ال�شيعة ج ‪� 3‬ص ‪ .77‬‬ ‫ال�شيخ �آغا بزرك الطهراني‪ ،‬طبقات �أعالم ال�شيعة‪ ،‬ج‪� ،10‬ص‪.16‬‬ ‫(( ( ال�سيد مح�سن الأمين‪ ،‬خطط جبل عامل‪� ،‬ص ‪.8‬‬ ‫((( ال�شيخ المحقق نا�صر بن �إبراهيم البويهي الأ�صل‪ ،‬الإح�سائي المن�ش�أ العاملي الخاتمة‪ ،‬من �أعقاب ملوك بني بويه ملوك‬ ‫العراقيين والعجم‪ ،‬وهم م�شهورون‪ .‬كان فا�ض ًال محقق ًا مدقق ًا �أديب ًا و�شاعر ًا فقيه ًا‪ ،‬له حوا�ش كثيرة على كتب الفقه والأ�صول‬ ‫وغيرها‪ ،‬هاجر �إلى جبل عامل في زمان �شبابه‪ ،‬و�سكن (عيناثا) حتى مات بها‪ ،‬وا�شتغل بطلب العلم‪ ،‬وكان من تالمذة ال�شيخ‬ ‫ظهير الدين العاملي‪ .‬‬ ‫ال�سيد ح�سن ال�صدر‪ ،‬تكملة �أمل الآمل‪� ،‬ص‪ .412‬‬ ‫ال�شيخ �آغا بزرك الطهراني‪ ،‬طبقات �أعالم ال�شيعة‪ ،‬ج‪� ،6‬ص‪.143‬‬

‫‪101‬‬


‫ال�سيد محمد ر�ضا ف�ضل اهلل الحكيم والم�صلح‬

‫ح�سن‪ ،‬و�آخرون طلبهم النا�س ليكونوا علماء في قراهم‪ ،‬كال�سيد �إبراهيم الح�سيني‬ ‫وال�شيخ �إبراهيم البالغي‪ ،‬وال�شيخ عبد النبي الكاظمي نزيل (جويا)((( من جبل عامل‪.‬‬ ‫وعليه فال�سيد محمد ر�ضا �أ�صله من مكة المكرمة‪ ،‬وينت�سب �إلى الإمام الح�سن‬ ‫المجتبى ‪ ،Q‬ون�سبه على ال�شكل الآتي‪ :‬ال�سيد محمد ر�ضا بن ر�ضا بن ن�صر اهلل بن‬ ‫محمد الملقب ب�سلطان العلماء بن علي بن يو�سف بن محمد بن ف�ضل اهلل بن محمد بن‬ ‫يو�سف بن بدر الدين ح�سن بن �أبي الح�سن علي بن �أبي علي محمد بن �أبي محمد جعفر‬ ‫بن �أبي الح�سن جمال الدين يو�سف بن �شم�س الدين محمد بن �أبي محمد الح�سن بن‬ ‫�أبي الح�سن عي�سى بن زين الدين فا�ضل بن جمال الدين يحيى بن �شرف الدين جوبان‬ ‫بن جمال الدين الح�سن بن �أبي الح�سن ذياب بن �أبي ذياب عبد اهلل بن �أبي عبد اهلل بن‬ ‫�أبي عبد اهلل محمد بن �أبي محمد يحيى بن �شم�س الدين محمد بن �أبي محمد ال�شجاع‬ ‫الكريم داود ابن الأمير �إدري�س بن �أبي الح�سين داود بن �أحمد الم�ستور بن ال�صالح‬ ‫ويلقب بالر�ضي بن عبد اهلل بن �أبي الح�سن مو�سى بن عبد اهلل المح�ض بن الح�سن‬ ‫المثنى ابن الإمام ال�سبط المنتجب �أبي محمد الح�سن ابن �أبي الح�سن الإمام �أبي االئمة‬ ‫ليث بني غالب ومظهر العجائب ومفرق الكتائب علي بن �أبي طالب ‪.Q‬‬ ‫ن�ش�أته ودرا�سته‪:‬‬

‫ن�ش�أ ال�سيد محمد ر�ضا في قرية (عيناثا)‪ ،‬وقر�أ على ف�ضالئها‪ ،‬بعدما تع ّلم القراءة‬ ‫والكتابة‪ ،‬وحاز على عناية خا�صة من والده ال�سيد ر�ضا‪ ،‬الذي لم يكن من �أهل العلم‪،‬‬ ‫ولكن كانت له نظرة خا�صة بولده الذي �سيكون له �ش�أن في يوم من الأيام‪.‬‬ ‫((( ال�شيخ عبد النبي الكاظمي نزيل جويا (�صاحب تكملة نقد الرجال) المتوفى �سنة ‪1256‬هـ في بلدة (جويا) من جبل عامل‪ ،‬كان‬ ‫عالم ًا فا�ض ًال محقق ًا مدقق ًا متبحر ًا خبير ًا بالأ�صول والفقه والحديث والرجال له ت�صانيف ح�سنة مفيدة محدث متك ّلم عارف‬ ‫بالرجال‪ .‬ولد �سنة ‪1198‬هـ بمدينة الكاظمية المقد�سة‪ ،‬ودر�س على كل من‪ :‬ال�شيخ خليل القزويني المعروف بزرك�ش‪ ،‬ال�شيخ‬ ‫�أ�سد اهلل الت�ستري الكاظمي‪ ،‬ال�شيخ محمد ر�ضا �شبر‪ ،‬ال�شيخ �أحمد الأح�سائي‪ ،‬ال�سيد عبد اهلل �ش ّبر‪ .‬‬ ‫ال�سيد مح�سن الأمين‪� ،‬أعيان ال�شيعة‪ ،‬ج‪� ،12‬ص‪ .146‬‬ ‫ال�شيخ �آغا بزرك الطهراني‪ ،‬طبقات �أعالم ال�شيعة‪ ،‬ج‪� ،11‬ص‪.800‬‬

‫‪102‬‬


‫����������������� ‬

‫ج ّده لأبيه ال�سيد ن�صر اهلل((( �أعقب �أربعة �أوالد‪ ،‬منهم‪ :‬ال�سيد ر�ضا (والد ال�سيد‬ ‫محمد ر�ضا)‪ ،‬وال�سيد محيي الدين((( (والد ال�سيد نجيب)‪ ،‬وكان ال�سيد محيي الدين‬ ‫من �أعالم جبل عامل‪ ،‬وله عالقة مميزة بال�شيخ مرت�ضى الأن�صاري(((‪ ،‬وكان ُيرجع‬ ‫النا�س �إليه في جبل عامل بالفتيا وف�صل الخ�صومات‪.‬‬ ‫بعدما �أنهى ال�سيد محمد ر�ضا المبادئ العامة للعلوم العربية‪ ،‬وبع�ض المقدمات في‬ ‫(((‬ ‫(عيناثا)‪ ،‬انتقل �إلى بلدة (حناويه)‪ ،‬التي �سكنها العالمة ال�شيخ محمد علي عز الدين‬ ‫بعدما عاد من العراق �سنة ‪1266‬هـ‪ ،‬وطلبه �أهالي (حناويه)‪ ،‬و�ش ّيد فيها مدر�سة‪ ،‬اجتمع‬ ‫عليه الطالب من مختلف المناطق‪ ،‬وقر�أوا عليه وا�ستفادوا من علمه و�أدبه وتجربته في‬ ‫كيفية الجمع بين التبليغ الديني وتدري�س الطالب والت�صنيف‪ ،‬وا�ستمروا معه حتى �سنة‬ ‫‪1298‬هـ‪� ،‬إلى �أن عاد من النجف الأ�شرف العالمة ال�شيخ مو�سى �أمين �شرارة‪ ،‬على �إثر‬ ‫�إ�صابته بمر�ض �صدري‪� ،‬إقترح عليه الأطباء مغادرة النجف والتوجه فور ًا �إلى بالده‪،‬‬ ‫لكون هوائه ي�صلح لمعالجة الأمرا�ض ال�صدرية‪ ،‬وبالفعل بقي ال�شيخ مو�سى في بنت‬ ‫جبيل �ست �سنوات‪ ،‬وارتحل �سنة ‪1304‬هـ‪ ،‬ولكنه ا�ستطاع �أن ي� ّؤ�س�س لم�سار علمي و�أدبي‬ ‫وعب ّر عن‬ ‫في جبل عامل خالل هذه ال�ست �سنوات‪ ،‬فكان عالم ًا كبير ًا وم�صلح ًا ومربي ًا‪َ ،‬‬ ‫(( ( ال�سيد ن�صر اهلل كان حي ًا �سنة ‪1224‬هـ‪1809/‬م‪ ،‬وكان من العلماء المعروفين بن�شاطهم في جبل عامل‪ ،‬ومعا�صر ًا لمرحلة‬ ‫�إعادة الحياة العلمية في جبل عامل بعد نكبتها على يد الجزار‪.‬‬ ‫(( ( ال�سيد محيي الدين بن ف�ضل اهلل الح�سني العاملي العيناثي‪ ،‬كان من م�شاهير العلماء في ع�صره‪ ،‬قر�أ في جبل عامل على‬ ‫ال�شيخ مهدي مغنية في مدر�سة (طيردبا)‪ ،‬وتزوج من كريمة ال�شيخ مهدي‪ ،‬ثم هاجر �إلى العراق لطلب العلم‪ ،‬وكان على توا�صل‬ ‫مع ال�شيخ مرت�ضى الأن�صاري‪ ،‬الذي �أوكل �إليه مهمة الفتيا وح ّل الخ�صومات‪.‬‬ ‫((( ال�شيخ مرت�ضى الأن�صاري‪ :‬ولد �سنة ‪1214‬هـ‪ ،‬وكان من �أعالم الطائفة و�أحد كبار �أ�ساتذة الفقه والأ�صول‪ ،‬انتهت �إليه ريا�سة‬ ‫الإمامية في العلم والعمل والورع والإجتهاد‪ ،‬توفي في النجف الأ�شرف �سنة ‪1281‬هـ‪ ،‬ودفن على الي�سار من باب القبله من‬ ‫ال�صحن ال�شريف‪ ،‬وكانت مرجعيته ب�إ�شارة من ال�شيخ محمد ح�سن النجفي (�صاحب الجواهر)‪ ،‬وهذه الإ�شارة منه رحمه اهلل‬ ‫تنم عن مدى الوعي والإدراك وتح ّمل الم�س�ؤولية‪ ،‬والنظر �إلى البعيد‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫(( ( ال�شيخ محمد علي عزالدين‪ :‬من علماء جبل عامل في القرن الثالث ع�شر هجري‪ ،‬ولد في (كفرا) في جبل عامل‪ ،‬و�أ�س�س‬ ‫مدر�سة دينية في (حناويه)‪ ،‬وكانت �إحدى مدار�س النه�ضة العلمية الثانية‪ ،‬وجمعت الكثير من الطالب‪ ،‬وكان عالم ًا فقيه ًا‬ ‫زاهد ًا عابد ًا ورع ًا ثقة م�ؤلف ًا م�صنف ًا �أديب ًا �شاعر ًا ظريف ًا ح�سن الأخالق كريم الطباع لم يوجد له نظير في ع�صره في جبل‬ ‫عامل في المواظبة على المطالعة والتدري�س والت�أليف والت�صنيف والدعاء والعبادة وتالوة القر�آن‪ ،‬توفي �سنة ‪1301‬هـ‪ .‬‬ ‫ال�سيد مح�سن الأمين‪� ،‬أعيان ال�شيعة‪ ،‬ج‪� ،14‬ص‪ .287‬‬ ‫ال�شيخ مو�سى عز الدين‪ ،‬التذكرة‪� ،‬ص‪.57‬‬

‫‪103‬‬


‫ال�سيد محمد ر�ضا ف�ضل اهلل الحكيم والم�صلح‬

‫مرحلته ال�سيد الأمين‪ « :‬ف�إن �سوق العلم والأدب قام في جبل عامل بعهد ال�شيخ مو�سى‬ ‫�أمين �شرارة»(((‪.‬‬ ‫وبما �أنّ �صيته العلمي قد �سبقه �إلى جبل عامل‪ ،‬وعلى قاعدة لكل جديد بهجة‪ ،‬التحق‬ ‫طالب مدر�سة حناويه بمدر�سة (بنت جبيل)‪ ،‬وا�ستمروا فيها حتى رحيل ال�شيخ مو�سى‬ ‫�سنة ‪1304‬هـ‪.‬‬ ‫في (بنت جبيل)‪ ،‬لم يكن الطالب بم�ستوى واحد‪ ،‬و�إنما كانوا يختلفون بالعمر‬ ‫وبالف�ضيلة العلمية‪ ،‬فكان ال�سيد محمد ر�ضا وال�شيخ ح�سين مغنية‪ ،‬وال�سيد مح�سن‬ ‫الأمين‪ ،‬وال�شيخ محمد خليل دبوق وغيرهم‪ ،‬يدر�سون المقدمات على ال�سيد نجيب‬ ‫ف�ضل اهلل‪ ،‬وبتقديري ا�ستفاد الطالب كثير ًا من تلك الحقبة الزمنية‪ ،‬فقد �شاهدوا‬ ‫العالمة ال�شيخ مو�سى �شرارة‪ ،‬كيف يهتم بالأدب والإ�صالح‪ ،‬فهو الذي دعا �إلى �إ�صالح‬ ‫المنبر الح�سيني‪ ،‬كما عمل على التقريب بين المذاهب‪ ،‬وهذا ما انعك�س على �شخ�صية‬ ‫الطالب‪ ،‬فقد َعلقت في �أذانهم فكرة الإ�صالح‪ ،‬وهنا نجد ال�سيد محمد ر�ضا ف�ضل اهلل‪،‬‬ ‫كيف حمل الفكر الإ�صالحي في مختلف العناوين‪ ،‬و�إن كان �أ�سلوبه يختلف عن ال�سيد‬ ‫مح�سن الأمين‪ ،‬من حيث ال�شكل‪ ،‬م�ضاف ًا للم�شروع التربوي الذي هو مرتبط بتربية‬ ‫النف�س و�صفائها‪ ،‬فكان الطالب يت�أثرون بال�شيخ مو�سى �شرارة‪ ،‬كما كانوا ي�ستفيدون‬ ‫من ال�سيد نجيب ف�ضل اهلل‪ .‬ومن بع�ض الحوادث ذات ال�صلة بالمنهج التربوي‪ ،‬التي‬ ‫كانت تقع �أمامهم‪ ،‬على �سبيل المثال‪ :‬ذات يوم ا�ست�أجر الطالب بيت ًا بعيد ًا عن بيوت‬ ‫القرية في (بنت جبيل)‪ ،‬مما ا�ضطروا لأن ي�ست�أجروا من يجلب لهم الماء لل�شرب من‬ ‫(العين)‪ ،‬ف�أ�شاروا على ال�سيد نجيب ف�ضل اهلل‪� ،‬أنَّ رج ًال من (�آل قليط)‪ ،‬عنده بنت‬ ‫تعمل بالأجرة‪ ،‬فذهب �إليه ال�سيد نجيب ومعه الطالب‪ ،‬وبعدما �س ّلموا عليه وخطب به‬ ‫ال�سيد نجيب‪ ،‬وذ ّكره بالآخرة‪ ،‬وجاء له بالروايات التي تحثّ على خدمة الم�ؤمنين‪،‬‬ ‫(( ( ال�سيد مح�سن الأمين‪� ،‬أعيان ال�شيعة‪ ،‬ج‪� ،15‬ص‪.53‬‬

‫‪104‬‬


‫����������������� ‬

‫وبالخ�صو�ص طالب العلوم الدينية‪ ،‬وعندما انتهى ال�سيد من خطابه‪ ،‬قال له الرجل‪:‬‬ ‫«ما عندي بنات للأجار»‪ ،‬وعندما �أعاد عليه ال�سيد الكالم والموعظة وزاد من الروايات‪،‬‬ ‫التفت �إليه الرجل‪ ،‬وقال‪�« :‬شايفني طبل حتى تنفخني‪ ،‬قلتلك ما عندي بنات للأجار»(((‪،‬‬ ‫وهنا نالحظ كيف �أنّ ال�شيخ محمد خليل دبوق‪ ،‬والذي كان �أكبر منهم �سن ًا بع ّدة �سنوات‪،‬‬ ‫قد بادر بجلب ج ّرة الماء من العين‪ ،‬وتك ّرر هذا العمل منه كل يوم‪ .‬هذا النوع من تربية‬ ‫النف�س وال�سلوك ت�أثر به الطالب‪ ،‬وبقى عالق ًا في �أذهانهم‪ ،‬وانعك�س على �شخ�صيتهم‪،‬‬ ‫وظهر في �سلوكهم‪ ،‬منذ لحظة و�صولهم �إلى النجف الأ�شرف‪ ،‬فال�سيد محمد ر�ضا ف�ضل‬ ‫اهلل في النجف الأ�شرف‪� ،‬أ�صبح من كبار العارفين والمربين‪ ،‬وكتابه ال�سمك ّية‪ ،‬يك�شف‬ ‫الموجهين لطالب العلوم‬ ‫عن مدى الروحية العالية التي و�صل �إليها‪ ،‬وكيف �صار من‬ ‫ّ‬ ‫الدينية‪ ،‬كما حجز لنف�سه مكان َة �أن يكون نا�صح ًا للعلماء‪.‬‬ ‫وفي �سنة ‪1304‬هـ‪ ،‬التحق ال�شيخ مو�سى �شرارة بالرفيق الأعلى‪ ،‬فتف ّرق الطالب‪،‬‬ ‫وعادوا �إلى بالدهم‪ ،‬وجاء من يقترح على ال�سيد يو�سف �شرف الدين((( �أن ي�ش ّيد مدر�سة‬ ‫في قرية (طورا)‪ ،‬لكونها منطقة تقع في و�سط البالد‪ ،‬وال�سيد يو�سف كان قد اجتمع‬ ‫عليه الطالب في قرية (�شحور)‪ ،‬قبل �أن ينتقل �إلى (طورا)‪.‬‬ ‫فتحت المدر�سة �أبوابها �سنة ‪1305‬هـ‪ ،‬واجتمع فيها العديد من الطالب‪ ،‬ومنهم‬ ‫ال�سيد محمد ر�ضا ف�ضل اهلل‪ ،‬وعادت و�أغلقت �أبوابها �سنة ‪1308‬هـ ‪ ،‬لأ�سباب ال نعرفها‪،‬‬ ‫ولع ّل واحد ًا منها‪ :‬ذهنية ال�سيد يو�سف �شرف الدين‪ ،‬حيث كان يعتقد ب�ضرورة ذهاب‬ ‫الطالب �إلى النجف الأ�شرف‪ ،‬بعد نهاية مرحلة المقدمات‪.‬‬ ‫قرار الذهاب �إلى النجف‪ ،‬كان �سنة ‪1308‬هـ‪ ،‬ولع ّل المحفز لجمع من الطالب على‬ ‫الذهاب �إلى النجف‪ ،‬هو ال�سيد محمد ر�ضا‪ ،‬فخرج �سوي ًا مع ال�سيد مح�سن الأمين‪،‬‬ ‫(( ( ال�سيد مح�سن الأمين‪� ،‬أعيان ال�شيعة‪ ،‬ج‪� ،15‬ص‪.313‬‬ ‫(( ( اقترح ال�شيخ محمد مهدي مغنية على ال�سيد يو�سف �شرف الدين‪ ،‬والد ال�سيد عبد الح�سين �شرف الدين‪ ،‬وكان ال�سيد ي�سكن‬ ‫في (�شحور) ومات فيها �سنة ‪.1334‬‬

‫‪105‬‬


‫ال�سيد محمد ر�ضا ف�ضل اهلل الحكيم والم�صلح‬

‫وال�شيخ ح�سين مغنية و�آخرين‪ ،‬متجاوزين م�شقة الطريق والحياة ال�صعبة في العراق‪،‬‬ ‫فالفقر المدقع والمناخ ال�سيء والبعد عن الأوطان‪ ،‬هذه الأمور لم يكن من ال�سهل‬ ‫تجاوزها لوال الإخال�ص وال�شوق �إلى العلم ومجاورة الإمام علي ‪ ،Q‬فمق ّومات الحياة‬ ‫�سيئة ب�شكل فظيع‪ ،‬وال ي�صبر عليها �إال من بات ال ي�شعر بمرارتها‪ ،‬فحالوة المجاورة‬ ‫للإمام علي ‪ ،Q‬ولذة الح�صول على المراتب العلمية‪،‬ال يبقَ معهما مجال لل�شعور‬ ‫بالآالم و�ضنك العي�ش‪ ،‬وخ�صو�ص ًا �أنهم غير مجبرين على ذلك‪ ،‬وال هم مطرودون من‬ ‫بالدهم وب�إمكانهم البقاء في بالدهم الجميلة‪ ،‬ذات المناخ الرائع‪ ،‬والعي�ش مع الأهل‪،‬‬ ‫لوال ذلك الدافع الذي �أ�شرنا �إليه‪� .‬إال �أنّ الحنين �إلى الأهل‪ ،‬و�إلى جبل عامل‪ ،‬لم ينقطع‪،‬‬ ‫رغم ذلك الع�شق لمرقد موالنا الإمام علي ‪ ،Q‬وللحوزة العلمية يبقى الحب وال�شوق‬ ‫لتلك البالد‪ ،‬التي طالما �أطلق العلماء ق�صائدهم‪ ،‬وهم في العراق تعبير ًا عن ذلك‬ ‫ال�شوق‪ ،‬ومنهم عالمتنا ال�سيد محمد ر�ضا الذي هزّه ال�شوق وهو ُي�شاهد تلك القافلة‬ ‫ت�سير نحو بالد ال�شام‪ ،‬ف�أن�ش�أ قائ ًال‪:‬‬ ‫(((‬ ‫�أَق � � ُ‬ ‫�ام وال�� َّرك � ُ�ب � َ��س��ا ِن� ُ�ح ول ��م ت�ث�ن��ه ع �ف � ُر ال �ظ �ب��اء ال �� �س��وان��ح‬ ‫�ول ِل��رك� ِ�ب ال ��� ّ�ش� ِ‬ ‫(((‬ ‫�ادى ب�ه��ا الأغ � ��وا ُر وه ��ي َط�ل�ائ � ُ�ح‬ ‫وق� ��د �أط �ل �ق��وه��ا ُم ��د ِل � ِ�ج �ي ��ن َط�لا ِئ �ح � ًا َت��ه � َ‬ ‫(((‬ ‫حا�ص ُح‬ ‫ي�س �إنُ ُج��زت� ُ�م ا ِل َ‬ ‫ال�ص ِ‬ ‫لوى َو�ض َمت ّك ُم ِع َند الأَ ِ‬ ‫�أَم�ي�ل� ُوا ِر َق � َ‬ ‫�صيل َ‬ ‫�اب ال ِع ْ‬ ‫�وه��ا �أَر� َ��ض ِج �ي � ُرون((( فالنقا‬ ‫�رب ِج � �ي� ��ر ُونَ ال ِئ� � ُ�ح‬ ‫و�أَو َرد ُت � ْم� َ‬ ‫والح َل� � َه ��ا م ��ن غ� � ِ‬ ‫َ‬ ‫�ام � ُ�ح‬ ‫�واك��ب َط � ِ‬ ‫�إل � � َ�ى ُوه� � ��د ٍة ف ��ي ��َ�س �ف� ِ�ح َت� � ٍّ�ل ��َ�س � َم��ا به �إل� ��ى ال��ج�� ِّو َط� � � ْر ٌف ل �ل �ك� ِ‬ ‫�أل� � ّم ��وا ع� َل�ي� َه��ا ��َ�س��ا ِئ �ل �ي��نَ َف �ه� ْ�ل � َ��س� َ�خ� ْ�ت ِب � َن��ا((( بعدما ِب� َّن��ا ال� ُّن�ف��و�� ُ�س َّ‬ ‫حائح‬ ‫ال�ش ُ‬ ‫((( عفر الظباء‪ :‬نوع من الغزالن‪ .‬ال�سوانح‪� :‬سنح الظبي‪ ،‬م ّر من اليمين �إلى الي�سار‪.‬‬ ‫(( ( الإدالج‪ :‬ال�سير في الليل‪ /.‬تهادى هي تتهادى نحذف التاء للوزن‪ /.‬طالئح الأولى‪ ،‬ج‪ .‬طليحة‪ :‬هزيلة والثانية بمعنى المتعبة من ال�سير‪.‬‬ ‫(( ( ال�صحا�صح‪ :‬ال�صحارى‪.‬‬ ‫((( �أر�ض جيرون‪ ،‬كانت تطلق على دم�شق قديم ًا‪ ،‬ويقال �أن جيرون منطقة من �أ�سبانيا‪ ،‬قاتل �أهلها نابليون‪ ،‬وعندما �شاركوا في‬ ‫الحمالت ال�صليبية‪� ،‬أطلقوا على منطقة من ال�ضنية من ال�شمال اللبناني هذا اال�سم عليها لت�شابههما‪.‬‬ ‫(( ( ب ّنا‪ :‬فارقنا وابتعدنا‪ ،‬وفيه تعري�ض ببع�ض �أ�صحابه الذين تخلوا عنه‪.‬‬ ‫مالحظة‪ :‬اعتمدت في هذا البحث على نقل بع�ض الق�صائد والر�سائل‪ ،‬كما جاء في كتاب «مجموع الر�سائل والق�صائد لل�سيد‬ ‫محمد ر�ضا ف�ضل اهلل‪ ،‬التي جمعها و�شرح بع�ض مفرداتها الدكتور معروف محمد تقي ف�ضل اهلل‪ ،‬كي ال نقع بالتكرار‪.‬‬

‫‪106‬‬


‫����������������� ‬

‫وه � ْ�ل ��ش�ع� ُ�ب َ‬ ‫�اق و��ص� ْف��و ُه زالل �أم الأي� � � � ��ام ف� �ي ��ه َب� � � � � ��وا ِر ُح؟‬ ‫ذاك ال �ح� ّ�ي َب� � ٍ‬ ‫�اوى وك ��أ�� ُ�س ال�ل�ه� ِو بالله ِو َط��ا ِف� ُ�ح؟‬ ‫�رب َدا ِره� � ْ�م َن �� �ش� َ‬ ‫وه � ْ�ل �أَه�� ُل�� ُه ف� ِي�ه� ْ�م ع�ل��ى ُق� � ِ‬ ‫يج ُّرون ف�ضل ال َّريط((( لم َي ُ‬ ‫ب�سطوا ُ‬ ‫الخ َطى و َزن � ��دهُ � � ُ�م ف� � ِ�ي َن � � ��دو ِة ال� �ح � ّ�ي ق � ��ا ِد ُح‬ ‫�أق��ا ُم��وا ب��ذاك ّ‬ ‫ملى ُجف ُون ُه ْم وح�س ِبي ِم�ن� ُه� ْ�م م��ا ت �ج��نَّ ((( ال�ج��وا ِن� ُ�ح‬ ‫ال�ش ْ‬ ‫عب َث َ‬ ‫�وارح‬ ‫�وم ال � � َ�ج � � ُ‬ ‫َج ��وا ِن � ُ�ح� �ه � ْ�م َم� �ب� � ُل ��و َل ��ة ِب� ��� �س� � ُرو ِر ِه � ْ�م وم � �ن� � َ�ي ُب � � َّل� � ْ�ت ب ��ال� �ه� �م � ِ‬ ‫الج ْفنَ ِمن ُه ْم على ال َق َذ َى ت � ِن � ُّم ب�م��ا �أُغ �� �ض��ي ال �ج � ُف��ونُ ال ���ّ�س��وا ِف� ُ�ح‬ ‫� َإذا ُ‬ ‫رحت �أُغ�ضي َ‬ ‫�زح� � ًا وال َك� ��انَ َغ �ي��ر ُه َف� � َي ��ا ر ّب � � َم� ��ا ق ��د ج � � َّد ب� ��الأم� � ِ�ر َم� � ��از ُِح‬ ‫َل�� ِئ ��نْ َك� ��انَ َذا َم � َ‬ ‫در�س ال�سيد ف�ضل اهلل في النجف الأ�شرف على ف�ضالء و�أ�ساطين الحوزة العلمية‪،‬‬ ‫فح�ضر بحث الخارج على فقهاء تلك المرحلة‪ ،‬منهم‪ :‬ال�شيخ محمد كاظم الخرا�ساني‬ ‫(�صاحب كفاية الأ�صول)(((‪ ،‬وال�شيخ محمد طه نجف(((‪ ،‬وال�شيخ ميرزا ح�سين‬

‫(( ( الريط‪ :‬كل ثوب ي�شبه الملحفة‪.‬‬ ‫((( تجنّ ‪ :‬تخفي‪.‬‬ ‫((( ال�شيخ محمد كاظم الخرا�ساني (�صاحب كفاية الأ�صول) ال�شهير بالآخوند المتوفى �سنة ‪1329‬هـ‪ ،‬من كبار �أ�ساتذة الجامعة‬ ‫النجفية‪ ،‬انتهت �إليه زعامة الحوزة في كل مكان و�صارت الرحلة �إليه من �أقطار الأر�ض وعمر مجل�سه بمئات من العلماء‬ ‫والمجتهدين‪ .‬قاد الحركة الد�ستورية في �إيران التي دعت �إلى تقييد ال�شاه بمجل�س نيابي‪ .‬ولد في م�شهد خرا�سان‪ ،‬وقر�أ‬ ‫المبادئ و�أكمل العلوم العربية والمنطق فيها ثم انتقل بعدها �إلى طهران و�أقام فيها �ستة �أ�شهر‪ ،‬در�س خاللها بع�ض العلوم‬ ‫الفل�سفية وفي عام ‪1278‬هـ ترك طهران وتوجه �إلى النجف ودر�س على ال�شيخ مرت�ضى الأن�صاري وال�سيد محمد ح�سن‬ ‫ال�شيرازي وال�شيخ را�ضي النجفي‪ .‬وله من الم�صنفات‪ :‬الإجازة‪ ،‬الإجتهاد والتقليد‪ ،‬التكملة في تلخي�ص التب�صرة‪ ،‬حا�شية‬ ‫الأ�سفار‪ ،‬كفاية الأ�صول‪ .‬‬ ‫الدكتور ال�شيخ محمد هادي الأميني‪ ،‬معجم رجال الفكر والأدب‪ ،‬ج‪� ،1‬ص‪ .39‬‬ ‫ال�شيخ محمد حرز الدين‪،‬معارف الرجال‪ ،‬ج‪.323 ،2‬‬ ‫(( ( ال�شيخ محمد طه بن ال�شيخ مهدي بن ال�شيخ محمد ر�ضا بن ال�شيخ محمد بن الحاج نجف الحكم �آبادي التبريزي النجفي‬ ‫مرجع كبير من م�شاهير علماء ع�صره‪ ،‬ولد �سنة ‪1241‬هـ‪،‬وتوفي يوم الأحد في ‪� 13‬شوال ‪1323‬هـ‪ ،‬تتلمذ في بادئ �أمره على‬ ‫والده ثم در�س على ال�شيخ عبد الر�ضا الطفيلي وعلى خاله ال�شيخ جواد نجف وال�شيخ مرت�ضى الأن�صاري وال�شيخ مح�سن خنفر‬ ‫وغيرهم من العلماء والأ�ساطين‪ ،‬رجع �إليه النا�س في التقليد بعد وفاة الحجتين ال�شيخ محمد ح�سين الكاظمي وال�سيد المجدد‬ ‫ال�شيرازي‪ ،‬وقد ترك وراءه الكثير من الم�صنفات منها‪�(:‬إتقان المقال في علم الرجال)(احياء الموات في �أ�سماء الرواة)‬ ‫(غناء المخل�صين) وغيرها‪ .‬‬ ‫الدكتور ال�شيخ محمد هادي الأميني‪ ،‬معجم رجال الفكر والأدب في النجف الأ�شرف ج‪� 3‬ص‪ .1269‬‬ ‫ال�شيخ جعفر باقر �آل محبوبة‪ ،‬ما�ضي النجف وحا�ضرها‪ ،‬ج‪� ،3‬ص ‪.431‬‬

‫‪107‬‬


‫ال�سيد محمد ر�ضا ف�ضل اهلل الحكيم والم�صلح‬

‫الخليلي((( وال�شيخ محمد ال�شربياني(((‪.‬‬ ‫ولم نعثر على �إجازات بالإجتهاد‪ ،‬لأي من ه�ؤالء المراجع‪ ،‬بحق ال�سيد محمد ر�ضا‪،‬‬ ‫مع العلم �أنّ �أقرانه بالدرا�سة‪ ،‬قد حازوا على هذه ال�شهادات‪ ،‬م ّما ُيد ّلل على �أنّ �شهادات‬ ‫قد �صدرت‪ ،‬ولكنها �ضاعت‪� ،‬أو تلفت‪ ،‬كما تلف الكثير من تراث علماء جبل عامل‪ ،‬ب�سبب‬ ‫ال�ضغوط العثمانية والفرن�سية التي لم ترا ِع حرمة لأهل العلم وال لم�صنفاتهم‪ ،‬وعلى‬ ‫هذا الكثير من ال�شواهد‪ ،‬والذي يدعونا �إلى القول باجتهاده‪ ،‬بع�ض ال�شهادت التي قيلت‬ ‫بحقه‪� ،‬إ�ضافة �إلى ما قاله‪ ،‬هو ــ رحمة اهلل ــ بحق الآخرين‪ ،‬وما لها من داللة على مكانته‬ ‫العلمية‪ ،‬حيث ال ت�صدر �إال عن مقامات �شامخة‪ ،‬كما �سنب ّين‪ ،‬مع ما و�صل �إلينا من بع�ض‬ ‫�إنجازاته العلمية‪ ،‬بمجموعها ت�شكل ظن ًا معتبر ًا‪� ،‬أنّ الإجازات باجتهاده‪ ،‬قد �ضاعت‪ ،‬كما‬ ‫ف�سر بحثه في الأ�صول؟ و�إن وجد ناق�ص ًا؟!‬ ‫�ضاع ق�سم من تراثه‪ ،‬و�إ ّال كيف ُن ّ‬ ‫من هذه الأقوال التي �صدرت بحقه ‪:M‬‬ ‫ال�سيد ال�صدر في التكملة‪ ،‬قال‪« :‬ال�سيد محمد ر�ضا من الأفا�ضل‪ ،‬ذو علم و�أدب‬ ‫و�شعر ونثر وقلم ح�سن‪� ،‬أحد ح�سنات هذا الع�صر»(((‪.‬‬ ‫((( ال�شيخ ميرزا ح�سين الخليلي المتوفى �سنة ‪1326‬هـ‪ ،‬انتهت �إليه رئا�سة الإمامية في ع�صره‪ ،‬وكان �أفقه �أهل زمانه وهو �أحد‬ ‫�أركان النه�ضة الإيرانية‪ ،‬كان فقيه ًا �أ�صولي ًا مجتهد ًا‪ ،‬و�أ�ستاذ ًا في الفقه والأ�صول عابد ًا زاهد ًا‪ .‬وكان عميم النفع �سخي ًا يتفقد‬ ‫الفقراء في بيوتهم ابتدا ًء منه وكان مجل�س بحثه يزدحم بالعلماء والف�ضالء الأعالم‪ ،‬وكان له الباع الطويل في التدري�س والفن‬ ‫الجديد في التنميق الذي امتاز به عن غيره في الفقه والأ�صول‪.‬له من الم�صنفات‪ :‬كتاب في الإجازة ــ كتاب في الغ�صب ــ �شرح‬ ‫نجاة العباد‪ .‬الدكتور ال�شيخ محمد هادي الأميني‪ ،‬معجم رجال الفكر والأدب في النجف ج‪� 2‬ص‪ .518‬‬ ‫ال�شيخ جعفر باقر �آل محبوبة‪ ،‬ما�ضي النجف وحا�ضرها‪ ،‬ج‪� ،2‬ص‪ .226‬‬ ‫ال�شيخ �آغا بزرك الطهراني‪ ،‬طبقات �أعالم ال�شيعة‪ ،‬ج‪� ،14‬ص‪.573‬‬ ‫((( ال�شيخ محمد ال�شربياني المتوفى �سنة ‪1322‬هـ‪ ،‬من كبار المجتهدين والفقهاء‪ ،‬ولد �سنة ‪1245‬هـ‪ ،‬ثم هاجر �إلى النجف‬ ‫الأ�شرف في �سنة ‪1272‬هـ‪ ،‬وتتلمذ على ال�شيخ مرت�ضى الأن�صاري‪ ،‬وال�سيد ح�سين الكوه كمري‪ ،‬ولل�شيخ محمد ال�شربياني في‬ ‫النجف الأ�شرف‪ ،‬مدر�سة علمية‪ ،‬تعرف بمدر�سة ال�شربياني‪ ،‬وهي من المدار�س ال�شهيرة‪ ،‬لما �ضمت من الف�ضالء والعلماء‬ ‫البارزين في الحوزة العلمية‪ ،‬وتقع في محلة الحوي�ش في �آخر ال�شارع من مدر�سة ال�سيد محمد كاظم اليزدي‪ ،‬والمعروف �سابق ًا‬ ‫(ب�شارع الهنود)‪ .‬وفي المدر�سة مكتبة فيها من نوادر المخطوطات ونفائ�س المطبوعات‪ ،‬وله من الم�صنفات‪ :‬حا�شية فرائد‬ ‫الأ�صول‪ ،‬حا�شية المكا�سب‪� ،‬شرح المعلقات ال�سبع‪ ،‬كتاب في �أ�صول الفقه‪ ،‬ر�سالة عملية‪ ،‬كتاب المتاجر‪ ،‬كتاب ال�صالة‪ .‬‬ ‫الدكتور ال�شيخ محمد هادي الأميني‪ ،‬معجم رجال الفكر والأدب في النجف الأ�شرف خالل �ألف عام‪ ،‬ج‪� ،2‬ص‪ .730‬‬ ‫ال�شيخ محمد حرز الدين‪ ،‬معارف الرجال‪ ،‬ج‪� ،2‬ص‪.372‬‬ ‫(( ( ال�سيد ح�سن ال�صدر‪ ،‬تكملة �أمل الآمل‪� ،‬ص‪.319‬‬

‫‪108‬‬


‫����������������� ‬

‫كالم ال�سيد ال�صدر عن ال�سيد محمد ر�ضا جاء في معر�ض ترجمته لل�سيد ف�ضل‬ ‫اهلل الح�سني‪ .‬وهذه ال�شهادة‪ ،‬م�ضاف ًا لإظهار مكانته العلمية‪ ،‬هي �شهادة ل�سلوكه وبلوغه‬ ‫مراتب الكمال والمعرفة‪ ،‬وبلوغ مرتبة العالم (القدوة)‪.‬‬ ‫�أما ال�شيخ محمد مغنية في كتابه (جواهر الحكم)‪ ،‬وهو الخبير بعلماء تلك المرحلة‪،‬‬ ‫إن�ضم‬ ‫وهو الذي �أ�شار على ال�سيد يو�سف �شرف الدين �أن ي�ش ّيد مدر�سة في (طورا)‪ّ � ،‬‬ ‫�إليها ال�سيد محمد ر�ضا �سنة ‪1305‬هـ‪ ،‬ومما قاله بحقه‪« :‬قد جمع ال�سيد محمد ر�ضا‬ ‫بين رئا�ستي العلم والأدب»‪.‬‬ ‫وقال عنه‪� ،‬صاحب رجال الفكر والأدب في النجف‪« :‬عالم فقيه‪� ،‬أ�صولي‪ ،‬من‬ ‫ال�شخ�صيات الالمعة ومن الأفذاذ»(((‪ ،‬وهذه ال�شهادة المتينة ت�صدر عن رجل عارف‬ ‫ومتتبع‪ ،‬وهو يتحدث عن �شخ�صية ا�شتهرت في الحوزة العلمية‪ ،‬وبان ف�ضلها ومكانتها‪.‬‬ ‫ال�سيد الأمين في الأعيان‪ ،‬قال‪« :‬كان عالم ًا فا�ض ًال �أديب ًا من�شئ ًا‪ ،‬قر�أ في جبل عامل‪،‬‬ ‫ثم هاجر �إلى العراق لطلب العلم‪ ،‬وقد خرجنا من النجف‪ ،‬وبقي هو»(((‪.‬‬ ‫وهناك بع�ض الق�صائد التي ُتظهر مكانة ال�سيد محمد ر�ضا من قبل بع�ض الأعالم‪،‬‬ ‫(((‬ ‫كال�سيد عبد الح�سين نور الدين‬ ‫� َ��س� � َق ��ى � َ��ص� � ِّي � ُ�ب ال � � � � � ُو ْد ِق �أَ َ‬ ‫وط� ��ا َن � �ه� ��ا م� �ح ��ان ��ي ال � ���َّ ��ص� ��ري� ��م((( وك �ث �ب��ان �ه��ا‬ ‫�ات وال َر َّو َع ال� � �ب� � � ْي � ��نُ �� ُ��س � � َك� ��ا َّن � �ه� ��ا‬ ‫وال َل� � َم� ��� �س� �ت� � َه ��ا َي � � � � ُد ال� � �ح � ��ادث � � ِ‬ ‫(( ( الدكتور ال�شيخ محمد هادي الأميني‪ ،‬معجم رجال الفكر والأدب‪ ،‬ج‪.942 ،2‬‬ ‫(( ( ال�سيد مح�سن الأمين‪� ،‬أعيان ال�شيعة‪ ،‬ج‪� ،14‬ص‪.60‬‬ ‫(( ( ال�سيد عبد الح�سين ابن ال�سيد محمد ابن ال�سيد �إبراهيم النباطي نور الدين المتوفى �سنة ‪1370‬هـ‪ ،‬عالم فقيه‪ ،‬و�أديب‬ ‫�شاعر‪ ،‬من �أعالم الدين والأدب‪ ،‬تتلمذ في النجف على ال�شيخ محمد طه نجف وال�سيد محمد كاظم اليزذي وال�شيخ محمد‬ ‫كاظم الخرا�ساني‪ ،‬و�شيخ ال�شريعة الأ�صفهاني‪ ،‬ثم عاد �إلى بالده في جبل عامل‪ ،‬وت�صدى للتوجيه والإمامة‪ ،‬والأمور الح�سبية‬ ‫والت�صنيف والإر�شاد‪ .‬له من الم�صنفات‪ :‬عقود الدار والجوهر (ديوان �شعر)‪ ،‬الكلمات الثالث‪ ،‬عمر والإ�سالم‪ ،‬الرد على هيكل‬ ‫في كتابه محمد ‪ ،P‬كما �شارك في م�ؤتمر وادي الحجير الذي انعقد في ني�سان ‪1920‬م‪ ،‬وكان من اللجنة التي ذهبت �إلى‬ ‫�سوريا للقاء الملك في�صل �إلى جنب ال�سيد عبد الح�سين �شرف الدين وال�سيد مح�سن الأمين‪ .‬‬ ‫ال�سيد مح�سن الأمين‪� ،‬أعيان ال�شيعة‪ ،‬ج‪� ،11‬ص‪ .496‬‬ ‫ال�شيخ �آغا بزرك الطهراني‪ ،‬طبقات �أعالم ال�شيعة‪ ،‬ج‪� ،15‬ص‪.1075‬‬ ‫(( ( ال�صريم‪ :‬القطعة من الرمل‪.‬‬

‫‪109‬‬


‫ال�سيد محمد ر�ضا ف�ضل اهلل الحكيم والم�صلح‬

‫ُرب � � � � ��و ٌع �أال َح� � � � ِّ�ي ِت� � �ل � � َ�ك ال� � ��ر ُب� � ��و َع‬ ‫َ (((‬ ‫�رب م�شي ال �ق��ط��ا‬ ‫وتم�شي بها ال ���ِّ�س� ُ‬ ‫َي� �م� �ي� �� � ُ�س ب� �ه ��ا ال � � � � َ�د ُّل م �ه �م ��ا م���ش��ت‬ ‫َت��ل��ف��ت ��نَ ُذع� � � � � ًرا ف��خ��ل � ُ�ت ا���س�� َت ��رق ��نَ‬ ‫ِوم� �� ْ��س ��نَ اخ� �ت� �ي ��ا ًال ف �ق �ل� ُ�ت ا� �س �ت �ع � ْرنَ‬ ‫ب� � � ��دو ُر م � � ًه� ��ا م� ��ا ع� ��راه� ��ا الأُف� � � � � ُ‬ ‫�وال‬ ‫ع � �ل � �ق� � ُ�ت ب � �ه� ��ا �أه � � �ي � � � ًف� � ��ا �أغ � � �ي� � ��دً ا‬ ‫ف� ��دي � � ُت� ��ك ق� � � ْ�م غ� � ��نِّ ل � ��ي وا���س��ق��ن ��ي‬ ‫ف� �ط� �ي� � ُر ال� � �� � ُّ��س � ��رو ِر ل� �ق ��د �أ� �ص �ب �ح��ت‬ ‫وه� � � ��ذي ال � �ل � �ي� ��ال� ��ي ل � �ق� ��د �أ� � �ش� ��رق� ��ت‬ ‫�ام‬ ‫ف � � ًت� ��ى ب� ��ال � �ن� � َ�دى ع� � � َّ�م ك� � � َّ�ل الأن � � � � ِ‬ ‫ف � �ك � �ه �ل� ًا �إل� � �ي � ��ه ال� �م� �ع ��ال ��ي ان �ت �ه��ت‬ ‫�دت ب � � ��أك� � � ِّ�ف ال � �ف � �خ� ��ا ِر‬ ‫وق � � ��د ع � � �ق� � � ْ‬ ‫ل � � ��ك ُ‬ ‫�ارف‬ ‫اهلل م � � ��ن ع � � ��ال � � � ٍ�م ع � � � � ٍ‬ ‫�ات‬ ‫ف � �ل � �ل� � َ�ت ب � �ف � �ك� ��رت� � َ�ك ال� �م� ��� �ش� �ك�ل ِ‬ ‫ف � � ُرح� � َ�ت م� ��ن ال �ع �ل ��م ق� �ط � َ�ب ال� � َّرح ��ى‬ ‫ي� �م� �ي� � ًن ��ا ل� �ي� �م� �ن ��اك غ� � �ي � ��ثُ ال � � ��ورى‬ ‫�ات‬ ‫وع� ��ز ُم� ��ك �أم�����ض ��ى م ��ن ال� �م � َ‬ ‫�ره� � َف � ِ‬ ‫�ام �ه��ا‬ ‫ف ��� ُ�س �م �ي� َ�ت ف� ��ي ال� � �ج � � ْ�د ِب ِم �ط �ع� َ‬ ‫ف � �ك� ��م ح � �ل � �ب � � ٍة ن� � �ل � � َ�ت غ� ��اي� ��ا ِت � � َه� ��ا‬

‫ت � �ق � � َّي � �ل� ��ن ف � �ي � �ه� ��ا ال� � � َم� � � َه � ��ا ب� ��ا ُن � �ه� ��ا‬ ‫ت � � � � ��ؤ ُّم ل � � ��دى ال� � � � � � � ِور ِد غ� ��دران � � َه� ��ا‬ ‫ك� �م ��ا ه � � � �زَّت ال � � � ِّري� � � ُ�ح �أغ� ��� �ص ��ان� �ه ��ا‬ ‫�اب ال � � �ظ � � �ب� � ��ا ِء و�أج� � �ف � ��ان� � � َه � ��ا‬ ‫رق� � � � � � َ‬ ‫أراك و�أف � �ن� ��ا َن � �ه� ��ا‬ ‫غ� � ��� � �ص � ��ونَ ال ِ‬ ‫وال ح � � � ُ‬ ‫�ادث ال� �خ� �� ْ��س � ِ�ف ق� ��د � �ش��ا َن �ه��ا‬ ‫م� ��ري � ��� َ��ض ال� � �ل � ��واح � � ِ�ظ ن� ��� �ش ��وا َن� �ه ��ا‬ ‫ون� � � � ّب � � ��ه ب� � �ك� � ��أ�� � �س � ��ك ُن � ��دم � ��ا َن� � �ه � ��ا‬ ‫ُت� � � � � � � ��ر ِّد ُد ب� ��ا ِل � �ب � �� � �ش� � ِ�ر أ�ل � �ح� ��ان � � َه� ��ا‬ ‫ب� � � ُع � ��ر� � ِ��س ف� � � ًت � ��ى ب� ��ال � �ه � � َن� ��ا زان� � � َه � ��ا‬ ‫وق� � ��د خ � ��� َّ��ص ب ��ال� �ف� �ج � ِ�ر ع ��دن ��ان� � َه ��ا‬ ‫وف � � ��ي ال � �م � �ه� � ِ�د غ � � َّ�ذت � ��ه �أل � �ب� ��ان � � َه� ��ا‬ ‫ع � �ل � �ي� ��ه ال� � ��رئ� � ��ا� � � �س � � � ُة ت� �ي� �ج ��ان� � َه ��ا‬ ‫ب � �ح � �ك � �م � �ت� ��ه ف� � � � � � � َ‬ ‫�اق ل � �ق � �م� ��ان � � َه� ��ا‬ ‫و�أو� � �ض � �ح� � َ�ت ك��ال �� �ش �م ��� ِ�س ب��ره��ان � َه��ا‬ ‫(((‬ ‫وم � ��ن م �ق �ل�� ِة ال �ف �� �ض��ل �إن� ��� �س ��ان� � َه ��ا‬ ‫(((‬ ‫�إذا ك � � ّف� � ِ�ت ال � � � ُم� � ��زنُ ه � � َّت� ��ان � � َه� ��ا‬ ‫(((‬ ‫�إذا ن � �ث� ��ر ال � �ط � �ع� ��نُ م � � � ّرا َن � � �ه� � ��ا‬ ‫و ُل� � � ِق� � �ب � � َ�ت ف � ��ي ال� � �ك� � � ِّر ِم��ط��ع ��ان�� َه ��ا‬ ‫وخ � � � َّل � � �ف� � � َ�ت خ � �ل � �ف� � َ�ك ف� ��ر� � �س� ��ان � � َه� ��ا‬

‫(( ( القطا‪ :‬نوع الحمام‪.‬‬ ‫((( �إن�سانها‪� :‬سواد العين‪.‬‬ ‫(( ( كفت‪ :‬توقفت عن الهطول‪ /.‬المزن‪ :‬ال�سحاب‪ /.‬الهتّان‪ :‬المطر الغزير‪.‬‬ ‫((( م ّرانها‪ :‬رماحها‪.‬‬

‫‪110‬‬


‫����������������� ‬

‫�أم� �ب� �ت� �غ� � ًي ��ا � � � � �ش � � � ��أو ُه((( ف � ��ي ال�� ُع��ل ��ى‬ ‫�ام‬ ‫�أال ار َب � � ��ع((( زع��م � َ�ت ُت� �ب ��ارى ال � َغ �م� َ‬ ‫ف � �ه� ��ذا م � � �ح � � � َّم � � � ُد((( م � ��ن َّ‬ ‫�دت‬ ‫وط� � � � ْ‬ ‫�ده� ��ا‬ ‫و�أل� � � � �ق � � � ��ت �إل � � � �ي� � � ��ه م � �ق� ��ال � �ي� � َ‬ ‫�اح‬ ‫ف � � �ج � � � ّدك �أج� � � � � ��د ُر ف � �ي� ��ه ال � �ن � �ج� � ُ‬ ‫ه� ��و ال� �ب� �ح ��ر ع� �ل� � ًم ��ا وم � �ن� ��ه اغ� �ت ��دت‬ ‫وارو ُع ت � � ��رت � � ��ا ُع م � �ن� ��ه الأ�� � � �س � � ��و ُد‬ ‫ي� � ��� � �ض� � � ُّم ب � � �ب� � ��ردي� � ��ه ذا ل� � �ب � ��د ًة‬ ‫�اح � ��ا((( ب� �ي ��وم ال� �ن ��وال‬ ‫ي��م��ي�� ُل ارت� � �ي � � ً‬ ‫ف �ل�ا ع� �ج � ٌ�ب �إن وط� � � � ��أتَ ال� �� ُّ��ض ��راح‬ ‫�دت‬ ‫ف� � � ��إ ّن � � ��ك م� � ��ن م � �ع � �� � �ش� � ٍ�ر �أوق� � � � � � ْ‬ ‫ن� � �ج � ��و ٌم ب� �ه ��ا ي� �ه� �ت ��دي ال � � ُم� ��د ِل � �ج� ��ون‬ ‫وان � � �ت� � ��م ل� � �ه � ��ذا ال � � � � ��ورى �� �س ��ا�� �س� � ٌة‬ ‫ف� �ل��ا زل � � �ت� � � ُ�م � َآل ف � �� � �ض� � ِ�ل الإل� � � ��ه‬ ‫�ام‬ ‫ف� � � ْ‬ ‫�دم � �س � ِّي ��د ال� �ن ��ا� � ِ�س ك� �ه � َ�ف الأن � � � ِ‬

‫(( ( �ش�أوه‪ :‬مكانته الرفيعة‪.‬‬ ‫((( ار َبع‪ :‬قف عند قدرك‪.‬‬ ‫(( ( مح ّمد‪ :‬الممدوح ال�سيد محمد ر�ضا‪.‬‬ ‫((( �شانيك‪ :‬مبغ�ضك‪.‬‬ ‫((( �سجف‪� :‬ستر‪.‬‬ ‫(( ( ارتياح ًا‪ :‬الأريحية الن�شاط �إلى المعروف والإح�سان‪.‬‬ ‫((( كيوان‪ :‬ا�سم زحل‪.‬‬ ‫(( ( المندل‪ :‬عود طيب الرائحة‪.‬‬

‫‪111‬‬

‫َر�� � � � �ص � � � � َ�دتَ ل� �ن� �ف� ��� �س ��ك خ� ��ذالن � � َه� ��ا‬ ‫�ام وق� � ��ر�آن � � � َه� � ��ا‬ ‫وك� � � �ه � � � َ�ف الأن� � � � � � � � � ِ‬ ‫ع � �ل � �ي� ��ه ال� � ��� � �ش � ��ري� � �ع� � � ُة �أرك� � ��ان � � � َه� � ��ا‬ ‫ف� � ��� � �ش� � � ّي � � َ�د ب� � ��ال � � �ع� � � ِّ�ز ب � �ن � �ي� ��ان � � َه� ��ا‬ ‫و� � �ش� ��ان � �ي� ��ك((( ي � ��رب � � ُ�ح خ�����س ��ران�� َه ��ا‬ ‫ب� �ن ��و ال � � َغ� ��و�� ِ��ص ُت � � �خ� � � ِ�ر ُج ع �ق �ي��ان � َه��ا‬ ‫�إذا �� َ��س� � ِ�ج� ��ف((( ال� �ن� �ق� � ُع م �ي��دان � َه��ا‬ ‫خ��م��ي��� ��ص ال� �ح� ��� �ش ��ا�� �ش� � ِة ط� � ّي ��ان� � َه ��ا‬ ‫وف� � ��ي ال� � َ�خ � �ط� � ِ�ب َي � � �ع� � � ُ‬ ‫�دل ث �ه�لان �ه��ا‬ ‫(((‬ ‫وج� � � ��زت ال � �� � �س � �م� ��اء وك � �ي� ��وان � �ه� ��ا‬ ‫م ��ن ال � �م � �ن� � َ�د ِل((( ال � � ّرط� � ِ�ب ن �ي��ران � َه��ا‬ ‫�إذا م � ��ا ال� � � َّدل� � �ي � � ُ�ل ل � �ه� ��ا خ ��ان� � َه ��ا‬ ‫ب� � �ك � ��م َح � � � � ِف� � � � َ�ظ ُ‬ ‫اهلل �أدي� � ��ان � � � َه� � ��ا‬ ‫�إذا ال� �ت� �ب� �� ��س ال� � �ح� � � ُّق م� �ي ��زان� � َه ��ا‬ ‫م � ��ا ه � � � �زَّت ال� � � � ِّري � � � ُ�ح �أغ� ��� �ص ��ا َن� �ه ��ا‬


‫ال�سيد محمد ر�ضا ف�ضل اهلل الحكيم والم�صلح‬

‫و�أي�ض ًا‪ ،‬نورد الق�صيدة التي قالها ال�سيد �أمين الح�سني(((‪ ،‬وهي‪:‬‬ ‫�رب‬ ‫�اح وت� � � �غ� � � � َّن � � ��ى ط� � � ��ر َب � � � � ًا ف � � ��ي ط � � � ْ‬ ‫رق � ��� َ��ص ال� � � َّده� � � ُر �� � �س � ��رور ًا وارت � �ي� � ْ‬ ‫�اح ف� � � � � ��أدر ي� � ��ا � � �س � �ع � � ُد ب � �ن� ��ت ال� �ع� �ن � ْ�ب‬ ‫وا� �س �ت �ح ��ال ال��ل��ي�� ُل ب��ال � ِب �� �ش� ِ�ر � �ص �ب� ْ‬ ‫ع ��اط �ن �ي �ه ��ا ت �ت �ج �ل��ى ف� ��ي ال � �ك � ��ؤو�� � ْ�س راح � � � � � َة ال� � � � � � � ُّر ِوح ح� � �ي � ��ا َة ال � � ُم � �ه� � ْ�ج‬ ‫�رج‬ ‫خ� �م ��ر ٌة ت �ج �ل��و ع ��ن ال �ق �ل��ب ال��ب���ؤو� ��س م� � ��ا ع � �ل� ��ى � � �ش� ��ارب � �ه� ��ا م� � ��ن َح� � � � ْ‬ ‫ق � ��د �أب � �ح � �ن� ��ا ل� �ح� �م� � َّي ��اك ال��ن��ف ��و� ��س ف� ��ا� � �ش � �ف� ��ع ال� � � � � � � َّراح ب� �ل� �ح ��ظ غ � � ِن� � ْ�ج‬ ‫ح�� ّي��ه � ْ�ل ف �ي �ه��ا ودع ع �ن��ك ال � �ل� ��واح((( ال ت� � � � � ِع ال� � � �ل � � ��وم ب � � � � ��ذات ال� �ح� �ب ��ب‬ ‫(((‬ ‫�اق وا� �ص �ط �ب��اح واف� ��رخ � �ي � �ه� ��ا ب � �ل � �م� ��اك ال � �� � �ش � �ن� ��ب‬ ‫وا� �س �ق �ن �ي �ه��ا ب ��اغ� �ت� �ب � ٍ‬ ‫ط� � ��اف ف��ي��ه ��ا �� � �ش � ��اد ٌن ح � �ل � � ُو ال �ل �م��ى ق��د ح�ك��ى ف��ي ق� ��دِّ ه ال�غ���ص��نَ ال َّن�ضي ْر‬ ‫�أغ � � �ي � � � ٌد ي � �ن � ��� ِ��ش � � ُد �أل� � � �ح � � ��انَ ال� � ِغ� �ن ��ا ق� ��ائ �ل� ًا وال� � �ك� � ��أ� � ُ��س ع � � َّب� ��اق ال �ع �ب �ي��ر‬ ‫�اف ال ��� ّ�ش �م ��� ِ�س ل �ل �ب��در ال�م�ن�ي��ر‬ ‫ُم� � �ل � ��ئ ال� � � �ك � � ��ونُ � � � � �س� � � ��رور ًا وه � � َن� ��ا ِب � � ِ�ز َف � � ِ‬ ‫�ات ال� � �ه� � �ن � ��ا وال � � �ط� � ��رب‬ ‫وزه� � � ��ت �أر ُب� � � � � � � ُع ه� ��ات � �ي� ��ك ال� � � َن � ��واح ب� � �خ� � �م� � �ي �ل� ِ‬ ‫�� �ض ��اع((( ف ��ي �أرج ��ائ��ه ��ا ن �� �ش � ُر الأق� ��اح ب � �ي� ��ن ه� ��ات � �ي� ��ك ال� � � � ُرب � � ��ى وال� �ك� �ث ��ب‬ ‫�ود ف ��ي ال � ��ورى ه� ��ا ٌم َه �ط� ْ‬ ‫�ول � � �س � � ْي � � ُب� ��ه((( ُي� �ط� �ف ��ئ ن � � ��ا َر ال� �ط� � ْم� � ِع‬ ‫َغ��ي ��ثُ ج� � ٍ‬ ‫(((‬ ‫�أ�� �ص� �ي� � ٌد ي� ��أن ��ف م ��ن ع �ي ��� ِ�ش ال � َ�ج��ه � ْ‬ ‫�ول �أن � �ف � � ُه ي � ��أب� ��ى � َ��ش��م��ي � َ�م ال� � �� �َّ ��ض� � � َر ِع‬ ‫ث��اب� ُ�ت ال �ج ��أ�� ِ�ش ل��دى ال� َ�خ�ط� ِ�ب ال َمهول �إن َث��ب ��ت �أ�� ْ��س � � ُد ال� �� َ�ّ�ش ��رى ف ��ي ج� ��زَ ِع‬ ‫�رب‬ ‫ر�أ ُي � ��ه �أم �� �ض��ى م��ن ا ِل �ب �ي ���ِ�ض ال� ِ���ص�ف��اح �إن ع� ��را ف ��ي ال ��ده ��ر داج � ��ي ال��ك � ِ‬ ‫(( ( ال�سيد محمد �أمين ابن ال�سيد علي �أحمد الح�سني المتوفى �سنة ‪1382‬هـ‪ ،‬عالم فا�ضل و�أديب كامل‪ ،‬و�شاعر مجيد‪ ،‬تتلمذ في‬ ‫النجف الأ�شرف‪ ،‬ثم عاد �إلى وطنه‪ ،‬وت�صدى للوظائف ال�شرعية والت�أليف‪ .‬له من الم�صنفات‪ :‬تنبيه الأفكار �إلى دار القرار‪،‬‬ ‫ديوان �شعر‪ ،‬الم�أمنة‪..‬‬ ‫ال�شيخ �آغا بزرك الطهراني‪ ،‬طبقات �أعالم ال�شيعة‪ ،‬ج‪� ،13‬ص‪.181‬‬ ‫الدكتور ال�شيخ محمد هادي الأميني‪ ،‬معجم رجال الفكر والأدب في النجف خالل �ألف عام‪ ،‬ج‪� ،2‬ص‪.881‬‬ ‫(( ( اللواح‪ :‬اللوم والعتاب‪.‬‬ ‫(( ( افرخيها‪ :‬امزجيها بلماك العذب‪ /.‬ال�شنب‪ :‬البارد الطيب‪.‬‬ ‫(( ( �ضاع‪ :‬فاح وانت�شر‪.‬‬ ‫((( �سيبه‪ :‬عطا�ؤه‪.‬‬ ‫((( ال�ضراح‪ :‬بيت في ال�سماء مقابل الكعبة‪� ،‬أو ّ‬ ‫ال�شم�س‪.‬‬

‫‪112‬‬


‫����������������� ‬

‫�زم� ��ه ���س��م�� ُر ال ��ري ��اح ال وال ال� � ِب� �ي� �� ��ض ب � �ي� ��وم ال��غ�����ص � ِ�ب‬ ‫ل �ي ����س ت �ث �ن��ي ع� � َ‬ ‫ز ّم ل��ل��ف�����ض ��ل ول� �ل� �م� �ج ��د ال � � ِّن � �ي� ��اق وح � � � ��داه � � � ��ا ب� � ��� � �س� � �ي � ��اط ال � � ِ�ه� � �م � ��م‬ ‫�وب ال � � َن � ��� َ��س� ��م‬ ‫ق��د َح �ك� ْ�ت ف��ي َع � ْ�د ِوه ��ا ��س�ي� َر ال � ُب��راق ال ت � �ب� ��اري � �ه� ��ا ه � � �ب� � � ُ‬ ‫ح � َّل �ق ��ت ف �ي ��ه �إل� � ��ى ال �� �س �ب � ِع ال � ِ�ط �ب ��اق ف � ��وط � ��ا ب � ��ال� � �ج� � � ّد ه� � � ��ام الأن � � �ج� � � ِ�م‬ ‫وب� �ن ��ى ب��ال �م �ج� ِ�د م ��ن ف� ��وق ال��� ُّ��ض ��راح م� � �ن � ��زال ل� �ل� �ع� �ل ��م � � �س� ��ام� ��ي ال � � � ُر َت� � � ِ�ب‬ ‫ع � � َّم� ��ت الأق � � �ط� � ��ا َر ج� � � ��ود ًا و� َ��س� �م ��اح ك� � �ف� � � ُه م� � ��ن ُع � �ج� � ِ�م � �ه� ��ا وال� � � �ع� � � � َر ِب‬ ‫ق � ��د ع �ل��ا ب ��ال� �ع� �ل ��م م � ��ا ل � ��م ي� �ع� � ُل� � ُه ف� � ��ي ال� � �ب � ��راي � ��ا ق� �ب� �ل ��ه م� � ��ن �أح� � � � ِ�د‬ ‫ل� � ��و غ� � � ��دا ال � � �ع� � ��ا َل� � � ُ�م ُط � � � � � � ًّرا ك �ل��ه ِرف� � � � � � َ�ده((( �أو�� � �س� � � َع ب ��ال� �ك � ِّ�ف ال��ن ��دي‬ ‫و ِل � �خ � �ي� � ِ�ر ال � � ُر� � �س� � ِ�ل ُي� �ن� �م ��ى �أ�� �ص� � ُل� � ُه ق � ��د زك� � ��ا ف � ��رع� � � ًا ب� �ط� �ي ��ب ال �م �ح �ت��د‬ ‫ب ��ال��ه ��دى وال��ع��ل ��م ق ��د ح� ��از ال �ن �ج��اح غ� � � �ي� � � � ُر ُه م� � ��ا ن� � � ��ال غ� � �ي� � � َر ال � �ت � �ع� � ِ�ب‬ ‫و� �س �م��ا ب��ال�ف���ض��ل وال �م �ج��د ال ��ُ��ص��راح ورواه ع� � � ��ن �أب ب � � �ع� � ��د �أب‬ ‫ب� � �ح� � � ُر ع � �ل� ��م ط � � ��ود ح� � �ل � � ٍ�م ح � ��ا َت� � � ٌم ب� ��ال � �ن� � َ�دى ط � � ّب� ��ق ج � � � ��دواه ال �ف �� �ض��ا‬ ‫ِم � �� � �ص � � ِق � � ُع((( ِق� �� ��س ال � ��ذك � ��اء ع ��ال� � ٌم ق ��د ع�ل�ا ب��ال�ف���ض��ل م ��ن ت �ح��ت ال�سما‬ ‫�ام ال� � �م� � �ج � � ِ�د ف � �ي� ��ه ق� ��ائ � � ٌم � � �ش� ��اد ب� �ي� �ت� � ًا ل �ل �ع �ل��ى َرح� � � � َ�ب ال�� ِف��ن ��ا‬ ‫و َدع� � � � � � � � ُ‬ ‫ف � �ه� ��و ِظ� � � � � ٌّل ل � �ل � � ُع � � َف� ��اة وال � �� � �ض� ��واح ف � � �� � � �س� � ��واه م � �ع � �ق �ل�ا ل� � � ��م ي � �ط � �ل� � ِ�ب‬ ‫�ان ال � �م � �ج� � ِ�د ِب‬ ‫ه� � ��ذه � � �س� ��اح� ��اتُ م� �غ� �ن ��ا ُه ِم � � � ��راح((( وم� � �ح � � ٌ�ط ف � ��ي ال� � ��زم� � � ِ‬ ‫�أ ّما ما �صدر من ال�سيد محمد ر�ضا بحق الآخرين‪ ،‬فهو ال ي�صدر عن عالم عادي‪،‬‬ ‫ال يرى لنف�سه المكانة العلمية والإجتماعية التي ت�ؤهله‪� ،‬أن يتح ّدث عن الآخرين بهذه‬ ‫الكلمات‪ ،‬وهنا على �سبيل المثال‪ :‬نورد الر�سالة التي تحدث فيها عن رحيل المج ّدد‬

‫((( رفده‪ :‬عطا�ؤه‪.‬‬ ‫((( م�صقع‪ :‬بليغ ف�صيح‪.‬‬ ‫(( ( مراح‪ :‬خ�صبه ممرعة‪.‬‬

‫‪113‬‬


‫ال�سيد محمد ر�ضا ف�ضل اهلل الحكيم والم�صلح‬

‫المرجع ال�سيد محمد ح�سن ال�شيرازي (طاب ثراه)(((‪ ،‬وهي ر�سالة كبيرة نقلها �أكثر‬ ‫الذين ترجموا للإمام ال�شيرازي‪ ،‬ومنهم (�صاحب �سبائك التبر)‪ ،‬و�أي�ض ًا نقل مقطع ًا‬ ‫منها ال�سيد عبد الح�سين �شرف الدين في كتابه (بغية الراغبين) في ترجمته لل�سيد‬ ‫�إ�سماعيل ال�صدر(((‪.‬‬ ‫ومما قاله ال�سيد محمد ر�ضا‪ :‬بعد �أن ا�ستهل ر�سالته بالحمد والثناء لرب‬ ‫العالمين‪ ،‬وتو�صيف الموت‪ ،‬وتو�صيف العلماء ومكانتهم عند اهلل عز وجل‪ ،‬فقد جعل‬ ‫لهم ال�شفاعة يوم القيامة بعد الأنبياء‪ ،‬وكيف كان مقامهم في الدنيا‪ ،‬الذي هو امتداد‬ ‫�شاهدت ُه في النجف الأ�شرف‬ ‫لدور المع�صوم‪ ...« :Q ‬وها �أنا ذا �أذك ُر لك ب ْع�ض ما ْ‬ ‫و�صفي �شذ َرة منَ ْبد َرة‪� ،‬أو قطرة من لجج‪،‬‬ ‫عند ورود ن ْعي ِه �إليه فتعلم �أنّ ما تق ّدم من ْ‬ ‫خا�صته وذوي �س ّره‪،‬‬ ‫�أ ّما نعيه فورد ل�صاحب التلغراف لي ًال فما تجاهر به �إال لبع�ض ّ‬ ‫لعلمه ب�أنّ الذي طرق المدينة �ش ٌر عظي ٌم ّ‬ ‫فتم�شى الخب ُر في النا�س �س ّر ًا ونجوى‪� ،‬إلى �أن‬ ‫انق�ضى معظم النهار‪ ،‬و�أوردهم مناهل ّ‬ ‫ال�شك وبلغ بع�ض الم�شاهير من علماء الأتراك‬ ‫خا�صته على الفور با�ستنطاق ل�سان البرق من بغداد عن ذلك ف�أف�صح على‬ ‫ف�أمر بع�ض ّ‬ ‫وتك�شف عن خبيئته‪ ،‬فمذ انقلب ّ‬ ‫ُعجمته‪ّ ،‬‬ ‫والخفي عاد جل ّي ًا‪ ،‬ت�ضع�ضع له‬ ‫ال�شك يقين ًا‬ ‫ّ‬ ‫النجف وارتجت بيدا�ؤه‪ ،‬و�أظلمت �أرجا�ؤه‪ ،‬فكم فيه من �شيخ منحن زاد انحنا�ؤه‪ ،‬وانتق�ض‬ ‫بنا�ؤه و�شيخ ٍة قعيد ٍة في ك�سر بيتها ن�شيدة‪:‬‬ ‫�اع��ي ِح� َم��ى ال�ث��اوي و ُر��ْ�ش� ِ�د ال ُم َ�سا ِفر‬ ‫ب�ف�ي� َ�ك ال �ث � َرى ن��اع��ي ال � َم �ك��ا ِرم وال� ُع�ل��ى ون� ِ‬ ‫فاغر»‬ ‫ن��ع�� ْي � َ�ت ل �ن��ا غ �ي �ث � ًا وغ � � ْوث � � ًا �إذا َب� � َ�دا لنا ال َع ُام في ِ�ش ْدق منَ‬ ‫ْ‬ ‫الجدب ِ‬ ‫((( ال�سيد محمد ح�سن ابن ال�سيد محمود ابن ال�سيد �إ�سماعيل ابن ال�سيد مير فتح اهلل ال�شيرازي المتوفى �سنة ‪1312‬هـ‪ ،‬المعروف‬ ‫بالمجدد ال�شيرازي‪ ،‬من كبار مراجع التقليد وعظام علماء الإمامية‪ ،‬و�أ�ساتذة الفقه والأ�صول‪ ،‬ولد في �شيراز �سنة ‪1230‬هـ‪،‬‬ ‫وتتلمذ على ال�شيخ مرت�ضى الأن�صاري‪ ،‬وال�شيخ محمد ح�سن �صاحب الجواهر‪ ،‬وال�شيخ ح�سن كا�شف الغطاء‪ .‬هاجر �إلى مدينة‬ ‫�سامراء وفتح �أبواب التدري�س فيها‪ .‬له من الم�صنفات‪ :‬تلخي�ص �إفادات �أ�ستاذه الأن�صاري‪ ،‬حا�شية نجاة العباد‪ ،‬حا�شية‬ ‫النخبة‪ ،‬ر�سالة في اجتماع الأمر والنهي‪ ،‬ر�سالة في الر�ضاع‪ ،‬كتاب الطهارة‪ ،‬كتاب في الفقه‪.‬‬ ‫الدكتور ال�شيخ محمد هادي الأميني‪ ،‬معجم رجال الفكر والأدب في النجف خالل �ألف عام‪ ،‬ج‪� ،2‬ص‪.769‬‬ ‫(( ( ال�سيد عبد الح�سين �شرف الدين‪ ،‬بغية الراغبين‪ ،‬ج‪� ،1‬ص‪ 196‬و‪.197‬‬

‫‪114‬‬


‫����������������� ‬

‫ثم ي�صف ال�سيد ف�ضل اهلل حال �أهل العلم عندما و�صلهم خبر رحيل الإمام ال�شيرازي‪،‬‬ ‫و�أنّ هذا الخبر بالن�سبة �إليهم‪ ،‬من الأخبار الم�ؤلمة التي نزلت كال�صاعقة على ر�ؤو�سهم‪،‬‬ ‫وكان يوم عزاء وم�صيبة‪ ،‬فقال‪:‬‬ ‫«و�أ ّما ر ّواد العلم وطالب الف�ضل فغ�شيهم لبو�س اال�ستكانة‪ ،‬و�شملهم �ضرع اال�ست�سالم‬ ‫والذلة‪ ،‬تكاد تخرج �شظايا قلوبهم في �أنفا�سهم و�أب�صارهم ال تتجاوز مواقع �أقدامهم‪:‬‬ ‫�اب ك ��أن �ه��م َن� � �ب � � ٌ�ت ت��م��ي ��ل ب � ��ه ال � ��ري � ��اح وت��ل��ع � ُ�ب‬ ‫ُم �ت �ه��ال �ك �ي��نَ م ��ن ال�� ُم�����ص � ِ‬ ‫�وع� �ه ��م ب �ح � َي��ا ال � �غ� ��وادي َت �� �س � ُك� ُ�ب‬ ‫م� ��� �س� �ت� ��� �ش� �ع ��ري ��ن ك� � � ��آب� � � � ًة وم � ��ذل� � � ًة ودم � ُ‬ ‫الحي َرة‪ ،‬لم ُي ِ�ص ْيبوا لغلق مفتاح ًا‪ ،‬وال لظلمه‬ ‫وا�ست ْهلكت ُهم َ‬ ‫قد ا�ستد َر َج ُه ُم ال َول ُه ْ‬ ‫ِم�صباحا‪:‬‬ ‫�اده��ا ِم��ن ُف� � ْرط َح ْي َر ِتها وال ل�ه��ا غ � ْي � ُر ن�ف� ِ�ث ال � َو ْج ��د ِم ��ن � ُ��ش� ُغ��ل»‬ ‫ل��م َت�ه� ِ�د ق� َّ���ص� َ‬ ‫ثم ي�صف ال�سيد ح�ضور عالمين كبيرين �إلى ال�صحن ال�شريف‪ ،‬وكيف �ضاق المكان‬ ‫بهما على �سعته‪ ،‬وقدومهما �إلى ال�صحن ال�شريف‪ ،‬الذي هو الملج�أ عند النائبات‪ ،‬وفيه‬ ‫يجتمع �أهل العلم‪ ،‬فيلوذون ب�صاحب هذا المقام‪ ،‬ويفو�ضون �أمرهم �إلى اهلل تعالى‪،‬‬ ‫فقال‪« :‬وكان ال�صحن ال�شريف على َ�سعة عظمه لم تنه�ض �سعته بغير َم ْجل�سين‪َ :‬م ْج ِل�س‬ ‫ُ‬ ‫والناه�ض بثقل �أعبائها وه�ضبتها الرفيعة‬ ‫ر ُّبه و�أبو ُعذرته َ�سنام ال ّدين وع ّز ال�شريعة‬ ‫�شيخنا الأعظم ال�شيخ الجليل ال�شيخ محمد ال�شربياني وهو من �أعاظم علماء الأتراك‬ ‫وجهابذة فحولها‪ ،‬ومجل�س َجديل ُه ال ُم َحكك‪ ،‬بحر العلم الزّاخر‪ ،‬و�سحاب الف�ضل الهامر‪،‬‬ ‫ال�شيخ المولى الأجل مال محمد كاظم الخرا�ساني‪ ،‬ولقد ُن�صب بمجل�سه منب ُر الح�ضرة‬ ‫ال�شريفة‪ ،‬وذلك لم ُيعهد لغير فاتحة ال�سيد المقد�س �إذ هو غالي الثمن خطر القيامة‪،‬‬ ‫وفي عوده و�إتقان �صنعته معدوم المثيل»‪.‬‬ ‫ويتابع قائ ًال‪« :‬ولقد انت�ضد المجل�سان بذوي ال ّرتب العالية والمنا�صب الجليلة‪،‬‬ ‫بح َملة الكتاب وحفاظ ال�شريعة وخزنة العلم و�شيوخ ال�شيعة‪ ،‬وانتظموا في دوائر‬ ‫و�أ�شرق َ‬ ‫حلقتيهما انتظام ال ُّدرر‪ ،‬وبزغوا في �آفاق حوا�شيهما بزوغ ال�شم�س والقمر واحت�شدا‬ ‫‪115‬‬


‫ال�سيد محمد ر�ضا ف�ضل اهلل الحكيم والم�صلح‬

‫بال�سواد من عا ّمة النا�س‪ ،‬فطفق المجل�سان يتدفقان وقار ًا ويطفحان مهابة‪،‬‬ ‫و�سطهما ّ‬ ‫ال�صرخة‪ ،‬وت�ستولي‬ ‫وير�سبان �سكينة ويطفوان مما ينك�أ القرحة‪ ،‬ويثير الزّفرة حتى تعلو ّ‬ ‫ُ‬ ‫الفجعة من التذكير بم�صاب المنتخب والدليل العالم‪ ،‬فما نرى من ط ْرف �إال وهو بالدمع‬ ‫�ساجم‪ .‬ف�إذا هد�أت الفورة و�سكنت الح ّنة‪ ،‬واطم�أ ّنت الأ ّنة‪ ،‬وهمدت ال ّر ّنة‪ ،‬ذكرهم م�آثر‬ ‫لج ُمد‪،‬‬ ‫ال�صلد ل�سال �أو ال�سائل َ‬ ‫ال�سيد ومناقبه وف�ضائله وفوا�ضله‪ ،‬ونعاه بما لو �سمعه ّ‬ ‫وندبه المجل�س ن�شيج ًا ويطفح عوي ًال‪ ،‬وهذه م�أثرة لم تكن لأحد قبله‪.‬‬ ‫هذا على �صعيد �أهل العلم والحوزة العلمية‪� ،‬أ ّما بقية النا�س من التجار والبزازين‪،‬‬ ‫والعطارين والبقالين وغيرهم ف�إنها �أغلقت �أ�سواقها وعطلت دكاكينها �إال الي�سير منها‬ ‫لق�ضاء حوائج الم�ضطرين‪ ،‬وبقيت م ّدة من الزمان مظمئة هواجرها‪ ،‬متجلية حناد�سها‪،‬‬ ‫م�ست�شعرة �أحزانها‪ ،‬م�ستفرغة مدامعها‪ ،‬متر ّودة في ال�شكك‪ ،‬جائلة في الأزقة والأ�سواق‬ ‫مك�شوفة ر�ؤر�سها عارية �إلى �أو�ساطها مع ْلدم هائل ل�صدورها‪ ،‬ولطم فظيع لجباهها‬ ‫ال�شم‬ ‫زج َل الرواعد وع�صف القوا�صف‪ ،‬وق�صف العوا�صف‪ ،‬وحنين ًا يذيب ّ‬ ‫ت�سمعك به َ‬ ‫وال�صم الروا�سخ‪ ،‬لم يتركوا للحزن غاية �إال �أ ُّموها‪ ،‬وال جا ّدة �إال ركبوها‪،‬‬ ‫ال�شوامخ‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫يتجاوبون في ن�شيدهم الذي لو ت�صغي �إليه ال ّريح الزدادت حنين ًا ورقة‪ ،‬و�أحدث �شجو ًا‬ ‫في بكاء الحمائم‪ ،‬و�أ ّما العوائق من الن�ساء ذوات الخدور الم�سدلة والأ�ستار المرخ ّية‬ ‫ال�صون حا�شدة‪،‬‬ ‫ف�إنها �أقامت العزاء في دورها تندب وراء �ستورها في مجال�س من ر ّبات ّ‬ ‫َ‬ ‫ومحافل من بي�ضات الخدور ملتفة تنعاه وتندبه على رقة �صوتها و�شجى نغمتها‪ ،‬بقول لو‬ ‫�سمعه المعاقر لقدحه (�شرب الدمع وعاف القدحا) وبلغة الحال �أن�ش�أت المقال‪:‬‬ ‫�أ�� �ص ��اتَ ن��اع �ي� َ�ك ف ��ارت � َّ�ج ال�ب���س�ي� ُ�ط له وال �� �ش �م��خُ ال � ُه �� �ض� ُ�ب م �ن � ٌّ‬ ‫�دك وم�ن�ف� ِ�ط� ُر‬ ‫�وم ال�ن�ف��خ ق��د َ�ص ِعقت ف��ي ��ه ال � � َب� ��راي� ��ا ف� �م� �ط ��رو ٌح و ُم��ن��ع�� ِف�� ُر‬ ‫�وم � َ�ك ي� � ُ‬ ‫ك � ��أنّ ي � َ‬ ‫ف � ��الأر� � ُ��ض راج � �ف � � ٌة وال� �� �ُّ�ش � ُّ�م واج��ف�� ٌة وال ���َّ�ش �م ��� ُ�س ك��ا��س�ف� ٌة وال� � ُّزه� � ُر ت�ن�ت�ث� ُر»‪.‬‬ ‫ويتابع ال�سيد تو�صيفه للمرا�سم التي تلت وفاته‪ ،‬وكيف �أخذوا الجثمان الطاهر �إلى‬ ‫زيارة المراقد المقد�سة للأئمة الأطهار ‪ R‬في العراق‪ ،‬و�أ ّنه مهما بلغ ه�ؤالء العظام‬ ‫‪116‬‬


‫����������������� ‬

‫من مكانة علمية واجتماعية‪ ،‬ف�إنه من بركات �أ�صحاب هذه القبب ال�شامخة‪ ،‬وكما كانوا‬ ‫لهم عون ًا في حياتهم‪ ،‬فهم �أكثر حاجة �إليهم بعد مماتهم‪ ،‬وكما الذوا بقبورهم في‬ ‫حياتهم‪ ،‬طالبين منهم العون والعناية‪ ،‬كذلك هم بحاجة �إليهم بعد رحيلهم‪ ،‬الجئين‬ ‫�إلى كرمهم‪ ،‬متو�سلين �إلى اهلل ب�شفاعتهم‪ ،‬فيقول‪ ...« :‬وما زالوا به حتى �أنزلوه ح�ضرة‬ ‫كوكب �أو ط َرفت عينٌ ‪ ،‬فبات ليلته عائذ ًا بهما‪ ،‬الئذ ًا‬ ‫الإمامين الجوادين ‪ L‬ما الح ٌ‬ ‫إظالم عن الأغ ِّر الأبلج‪ ،‬وذ ّر قرنُ الغزالة على ِّ‬ ‫كل مهمه‬ ‫ب�ضريحهما‪ ،‬فلما انفجر ال ُ‬ ‫وفج‪� ،‬أ�سرع لت�شييعه من الرجال ُغل ُبها‪ ،‬ومن القبائل �أ�شرفها‪ ،‬وتتابعت �أفواج النا�س مع‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫وملتف الع�ساكر‪ ،‬و�سائر الفرق الدانية‬ ‫وزراء الدول و�شرطة الخمي�س و�أمراء الأجناد‬ ‫والقا�صية حتى ر ّبات البراقع من الن�سوان‪ ،‬و�أمهات التمائم من الوالئد والولدان‪� ،‬إلى �أن‬ ‫�ساكنُ وتعطلت الأ�سواق‪ ،‬و�أقفرت ال َع َر َ�صات من بغدا َد والك ْرخ وما واالهما من‬ ‫خلت ال َم ِ‬ ‫وتغ�ص بجموعهم لهوات‬ ‫�أهل الطنب‬ ‫َ‬ ‫والق�صب فكادت �أن تملأ بكثرتهم بطون البيداء‪ّ ،‬‬ ‫الأر�ض وت�ضيق �صدور الفيافي وتن�س ّد رحاب الفدافد‪ ،‬وازدحموا على �سريره ازدحام‬ ‫فج َعة وا ْد َهاها‬ ‫الهيم‪ ،‬وح�شدوا ح�شد ال�صاديات الخما�س‪ ،‬و�ساروا به ولكن على � َأم ِّ�ضها ْ‬ ‫نكبة‪ ،‬و�أنكاها ق ْر َحة وبالحال جدي ٌر �أن يقال‪:‬‬ ‫�وم َت� ��و َّل� ��ى ه � � � َّد رك� � �ن� � � ًا م � ��ا ك� � � ��انّ ب ��ال� �م� �ه ��دو ِد‬ ‫�إنّ ه� � ��ذا ال � ��� ّ��ش� ��ري� � َ�ف ي � � � َ‬ ‫وج� ��و ِد»‪.‬‬ ‫م� � ��ا درى ن � �ع � ��� ُ��ش � � ُه وال ح ��ام� �ل ��وه م��ا ع�ل��ى ال� َّن� ْع����ش م��ن َع �ف� ٍ‬ ‫�اف ُ‬ ‫الخطيب المنبر وال ُ‬ ‫كاظ َمة‬ ‫«ف�صعد‬ ‫ويتابع �أي�ض ًا‪:‬‬ ‫َ‬ ‫أعناق �إليه مثن ّية والأ�صواتُ ِ‬ ‫ُ‬ ‫فحذرهم �إثارة الفتنة‪ ،‬وخ َّوفهم عواقب ال�ش ّر والف�ساد‪ ،‬ووعظهم بما �س ّكن به جامحتهم‬ ‫ال�س ِّيد والنكبة به والطا ّمة بموته‪،‬‬ ‫و�أقلع نخوتهم‪ ،‬وذلل �أنفتهم‪ ،‬و�أخ َم َد ج ْمرتهم وذكرهم َّ‬ ‫وعظم البل ّية بفقده‪ ،‬فانقادوا لأمره و�أذعنوا لطاعته و�شغلهم عن هيجان غلهم‪ ،‬و�إثارة‬ ‫ِ‬ ‫ووجد الزم‪ ،‬وثكل ثاكل وده�ش �شامل‪ ،‬ولقد كانوا‬ ‫دم ٌع ِ‬ ‫�أحقادهم‪ ،‬وطلب ثاراتهم‪ْ .‬‬ ‫�ساجم‪ْ ،‬‬ ‫ما يزيدون على الثالثين �ألف ًا فخرجوا به مع جمع من جاء معه و�صحبه في طريقه‪،‬‬ ‫وخرجت معهم كربالء ِّ‬ ‫بق�ضها وق�ضي�ضها‪� ،‬أحدا ِثها و�شيوخها‪ ،‬ذكورها و�إنا ِثها‪� ،‬أحرارها‬ ‫‪117‬‬


‫ال�سيد محمد ر�ضا ف�ضل اهلل الحكيم والم�صلح‬

‫ومماليكها مع نواب ال ُّدول و�أمراء ال�شرط وجموع الع�ساكر حتى خلت كربال ُء من قاطن‬ ‫وزائر‪ ،‬و�أنّ الرجل ّ‬ ‫ليلط به الجوع فيجهد في تح�صيل ما يقتات به من الأ�سواق‪ ،‬فال يجد‬ ‫�شيئ ًا �إذ الأ�سواق ُمعطلة وال ّدكاكين مغلقة‪.‬‬ ‫ويتابع ال�سيد ف�ضل اهلل تو�صيفه لذلك الت�شييع المهيب‪ ،‬وك�أنه من م�شاهد يوم القيامة‪،‬‬ ‫م�ستفيد ًا من �سورة الواقعة التي تتحدث عما يحدث في قيام ال�ساعة‪ ،‬وال غرابة في هذا‬ ‫الو�صف‪ ،‬فحال النا�س كان في ذهول وحيرة‪ ،‬م ّما �أ�صابهم وفجعوا به‪ ،‬فقال‪« :‬فم�ضوا‬ ‫ب�س ًا‪ ،‬فكادت �أن تكون هبا ًء‬ ‫رجت الأر�ض من كثرتهم و�أ�صواتهم ّ‬ ‫وقد ّ‬ ‫رج ًا‪ ،‬و ُب�ست الجبال ّ‬ ‫منبث ًا‪ ،‬فهرعت ال�ستقبالهم من النجف الأ�شرف حفظة ال�شريعة وخ ّرانها‪ ،‬و�شيوخ ال�شيعة‬ ‫و�ش ّبانها‪ ،‬وذوات البراقع و�أخدانها‪ ،‬ووالئد بي�ضات الخدور وولدانها والأرامل في �أيتامها‬ ‫والعجائز على ِع�ص ّيها‪ ،‬وال�شا ِئخات في انحنائها‪ ،‬ولم يبق �إال الز ِّمنُ ال ُمقعد‪ ،‬والمري�ض‬ ‫الذي ال ي�ستطيع النهو�ض‪ ،‬و�سبقهم مدلج ًا في ُحند ُِ�سه ُ‬ ‫الملة‬ ‫�شيخنا الجلي ُل الفقي ُه حب ُر ِ‬ ‫ال�شيخ مح ّمد طه نجف‪ ،‬فا�ستقبل الجم َع على فرا�سخَ من منزله وتتابعت النا�س من‬ ‫أفج والف�ضاء‬ ‫ورائه على تفاوت طبقاتها وترتُّب درجاتها‪ ،‬وانت�شرت في ذلك الب ّر ال ّ‬ ‫الهاب‬ ‫والفج العري�ض فمنهم ال ُمرهف في عزمته‪ ،‬وال ُم�س ْرع في ِم�شيته‪ ،‬ومنهم ُّ‬ ‫المنفرج ّ‬ ‫واكب‬ ‫بق َّوته والالحق براحلته‪ ،‬ومنهم المتم ِّه ُل لفجره والمنتظ ُر ل�ضعفه‪.‬‬ ‫مواكب تتب ُعها َم ِ‬ ‫ُ‬ ‫وزم ٌر ت�شت ّد في �أقا�صي الب ِّر ب ْع َد زمره فخرجت في‬ ‫و ِرعا ٌل تجري على �أعقابها رعال‪َ ،‬‬ ‫المزني‬ ‫ال�شم�س �إلى ميلها‬ ‫جنحت‬ ‫ال�سرير فما َ‬ ‫�أعقاب النا�س مع جماعة تنتظر َ‬ ‫ُ‬ ‫قدوم َّ‬ ‫ّ‬ ‫ال�سود ك�أنها ِقط ُع الليل المظلم‬ ‫ال�سماء �إال وقد الحت لنا الراياتُ ُّ‬ ‫بعد �أن تغلغلت في كبد ّ‬ ‫الق�صب �أو غابات ال ِّرماح‪ ،‬تخفقُ‬ ‫ال�سحاب ال ُمكفه ّر َمن�شو َرة على َع ِ‬ ‫وام َل ك�أنها � ُ‬ ‫آجام َ‬ ‫�أو ّ‬ ‫بحزن ُم ِم ٍّ�ض ونكد ُم ْج ِه�ض‪ ،‬وتهفو منها ال ِعذبات ب�ش�آبيب العبرات‪ ،‬وتراوحها‬ ‫�ألويتها ُ‬ ‫الرياح ال ُمرنات بحنين نوح النائحات‪ ،‬ورنين ولولة الثاكالت‪ ،‬وك�أنّ �أجنحتها �أجنحة‬ ‫ُ‬ ‫يقدم ال�سري َر من بينها لوا ٌء من الحرير‬ ‫الغربان الناعبة في فج بلقعة‪ ،‬لأهلها نادبة‪ُ ،‬‬ ‫و�سط ُه بالبيا�ض وحوا�شيه بالأحمر وحوله �أعال ٌم ملتفة من‬ ‫من�شو ٌر �أخ�ض ُر‪ ،‬قد ط ِّرز َ‬ ‫‪118‬‬


‫����������������� ‬

‫الإبري�سم والحرير الأخ�ضر والأحمر والأ�صفر‪ ،‬قد ُن ِ�س َج ْت بالل�ؤل�ؤ وط ِّرزت بالذهب»‪.‬‬ ‫و ُيتابع ال�سيد في نقل ما �شاهده‪ ،‬وت�صوير ذلك الجمع المهيب‪ ،‬وك�أنه في يوم الح�شر‪،‬‬ ‫والنا�س ت�أتي جماعات‪ ،‬مذهولة التعرف ماذا يجري‪ ،‬فيقول‪« :‬ول َّما ْامتلأ ب�صري م ّما‬ ‫وال�سبيل‪� ،‬أن�ش�أتُ القيل في �صفة هذا الرحيل‪ ،‬ف�أقبلوا به والنا�س مت�س ِّربة‬ ‫�ضاق عنه الب ُّر َّ‬ ‫أمواج‬ ‫في م�سالكها‪ ،‬دائبة في مناهجها ك�أنها الجرا ُد ال ُم ِ‬ ‫ال�سا ِئلة وال ُ‬ ‫تراك ُم‪َ ،‬‬ ‫والجداول ّ‬ ‫والمائة والمائتين‬ ‫تترا�س ُل بال َع�ش َرة وال ِع�شرين ِ‬ ‫وال�سيول ال ُم َ‬ ‫نح ِد َرة‪ ،‬وطالئعها َ‬ ‫ال ُمتتا ِب َعة‪ُّ ،‬‬ ‫يلوح لنا من كبد الب ّر �إال َ‬ ‫أعالم المن�شورة‪ ،‬وما‬ ‫تلك ال َّراياتُ الخافقة‪ ،‬وال ُ‬ ‫وما فوقها وما ُ‬ ‫أ�شباح ُ�صو ِرها فبقيت‬ ‫نرى من طالئعها القا�صية والمواكب النائية �إال �سوا َد هياكلها و� َ‬ ‫تن�ساب في مجاريها بما يزي ُد على �ساعتين من النهار فما كان �إال و�أقبلت‬ ‫طالئ ُعها‬ ‫ُ‬ ‫ال�سود الع�شرة والع�شرون فما فوقها‬ ‫ُ‬ ‫كتائب تتلوها كتائب‪ ،‬ك ُّل كتيبة يقد ُمها من الرايات ُّ‬ ‫نازعة �سرابيلها‪ ،‬حا�سرة عن ر�ؤو�سها ّ‬ ‫تدق بكامل عزمتها �صدو َرها ب� ٍّ‬ ‫أكف ك�أنها خلقت‬ ‫�صفيح ِقطع ال ّرخام وما عالها من اللحم‬ ‫�صفائح ال َم ْر َمر �أو‬ ‫من زنودها‪ ،‬وك�أنّ �صدو َرها‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ك�أنه �أكباد الإبل �أو كالكل الأباعر‪ ،‬فترا�سلت جملة من الكتائب على هذه الهيئة ك ّل كتيبة‬ ‫�صاحب‬ ‫أعظم من �سابقتها فوقعنا ننتظر‪ ،‬وكلما م ّر بنا ملأ �أو رعي ٌل قلنا لعظمه �إنه‬ ‫ِتر ُد � ُ‬ ‫ُ‬ ‫ال�سير‪� ،‬إلى �أن بقي من النهار �شطره‪.‬‬ ‫ال ًم ْح َمل ّ‬ ‫ورب َّ‬ ‫وبال�سماء وقد � ْأمطرت‬ ‫فبينما نحن كذلك و�إذ ك�أننا بالأر�ض �أنبتت رجا ًال عز ًال‪َّ ،‬‬ ‫حا�س َرة‪ ،‬ال ُ‬ ‫تملك ال َب ْ�سط في خطاها‪ ،‬وال القرار في م�سعاها ك�أنها مقرونة في‬ ‫خالئقَ ِ‬ ‫يموج ُ‬ ‫القوي منها �أن‬ ‫بع�ضها في بع�ض‪ ،‬ويجه ُد ّ‬ ‫�صفد ال تكا ُد تهبط ِبر ْجل وال ترقى بيد‪ُ ،‬‬ ‫َ‬ ‫تملك قدماه الأر�ض متدا ّكة حول ال�سرير تداك الهيم‪ ،‬مزدحمة ازدحام القطاة متهافتة‬ ‫تهافت الفرا�ش رعي ًال �صموت ًا قيام ًا �صفوف ًا‪ ،‬قد � ْأ�صه َرتهم الهاجرة‪ ،‬وكاد �أن يلجمهم‬ ‫العرق‪ ،‬منقو�ضة العزائم َم ْحلولة ال َع َمائم َم ْ�س ُحو َبة الأردية َمجرورة المطارف َم ْرخ ّية‬ ‫ال َم�آزر قد خ ّفت �أحالمها ال ُّر َّجح وطارت �ألبا ُبها ال ُّر�سخ‪ ،‬وهوت منها الأفئدة وتفطرت‬ ‫الوجل �ألوا ُنها واغب َّرت من الرعب وجوهُ ها‪َ ،‬‬ ‫ؤو�سها‬ ‫وهتك محا�سنَ ر� ِ‬ ‫الأكباد وانتفعت من َ‬ ‫‪119‬‬


‫ال�سيد محمد ر�ضا ف�ضل اهلل الحكيم والم�صلح‬

‫�شح ُبها‪ ،‬وخ�شعت منها الأ�صواتُ فال ت�سم ُع �إال ه ْم�سا‪ ،‬ال‬ ‫�ش َعثها‪ ،‬وغ َّي َر ن�ضارة �أبدا ِنها ْ‬ ‫ن�شيجها‪ ،‬فلم ت َر غي َر � ْأجفان دلع‪،‬‬ ‫رجع ال�صوت في ِ‬ ‫تقدر على موا�صلة بكا ِئها وال على ْ‬ ‫آبيب ُمندفعة كالت ّيار مع زفرات‬ ‫تحكي الغيث ِ‬ ‫الغدق‪ ،‬وال َغ َم َام ال ُمن َب ِعق‪ ،‬ب�ش� َ‬ ‫وعيون ه َّمع‪ْ ،‬‬ ‫كالنار في اله�شيم‪ ،‬وال�سرير من فوق ر�ؤو�سها قد تكلل بالهيبة‪ ،‬وتجلل بالوقار وتهادى‬ ‫بالجاللة َّ‬ ‫بال�سكينة‪ ،‬وقد طرحن عليه حلل الحرير المو�شاة بالل�ؤل�ؤ‬ ‫وحف بال َم َها َبة ود ُِ�سي َّ‬ ‫ال َّرطب والد ِّر والذهب منحنية �أ�صالعه على �أر�سخ ه�ضبة خفت لها �أعالم برقة ثهمد‪:‬‬ ‫زم� � � ُر ال��م�ل�ائ � ِ�ك ت� ْ�ح� ِ�م � ُل‬ ‫وك� � ��أن � ��ه ال� � �ت � ��اب � ��وتُ ف� �ي ��ه � َ��س��ك�� ْي��ن�� ٌة � ْأم� ��� �س � ْ�ت ل � � ُه َ‬ ‫وب � �ق � � ّي � � ٌة م � ��ن � ِآل �أح � � �م� � � َ�د خ �ل �ف��ت ف �ي �ن��ا ف � �ب� ��انَ ب �ه ��ا ال� �ط ��ري ��قُ الأم � �ث � � ُل‬ ‫وعوي ًال وولولة ونحيب ًا‬ ‫فما زالوا به وال ّن َ�ساء من ورا ِء ال ِّرجال قد ملأت البيدا َء ُ�صراخ ًا َ‬ ‫ال�ساعة‪� ،‬أو �أزف الن�شور �إلى �أن �أنزلوه لدى‪:‬‬ ‫داعيات بالويل والثبور ك�أنّ قد اقتربت ّ‬ ‫َم � � ْع � � ِق� � ُ�ل ال �خ ��ائ �ف �ي ��نَ م� ��ن ك� � � ّل َه � � � ْو ٍل �أوف� � � � � � ُر ال� � � � ُع� � � � ْرب ِذ َّم� � � � ��ة �أوف � ��اه � ��ا‬ ‫ال�ساد�سة من الليل ّثم �إ َّنهم ل َّما عز ُموا على مواراته‬ ‫ال�ساعة ّ‬ ‫فبقي في الح�ضرة �إلى ّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫انخف�ض ُّ‬ ‫ال�ضراح الأرفع في ِ�سرداب من‬ ‫وجالله‪،‬‬ ‫�شقوا له �ضريح ًا دون غاية َم ْجده َ‬ ‫ال�ص ْحن ّ‬ ‫�شرقي ُركن الباب الذي ُي�س َّمى‬ ‫ال�شمالي‬ ‫ال�شريف‬ ‫المدر�سة ال ُمال�صقة بجانب َّ‬ ‫َ‬ ‫ِّ‬ ‫ّ‬ ‫الطو�س ّي قد بناها �أح ُد نواب الهند على �أح�سن هيئة‪ ،‬و�آلى على ال�سيد �أنه �إذا نزل‬ ‫بباب‬ ‫ِ‬ ‫خا�صته بدفنه بعد �أن عزم عليهم‬ ‫به الق�ضا ُء �أن يكون مدفن ُه بها‪ ،‬فانفر َدت طائفة من ّ‬ ‫ق ّيم الح�ضرة ال�شريفة ونائب الدولة العثمانية �أن يدفنوه في � ّأي جانب �أراد من ال ُّرواق‬ ‫الأقد�س فاعتذروا بو�صيته ّثم �أنهم‪:‬‬ ‫ج � � � ��ا�ؤوا ب� ��ه َ‬ ‫�ام ال ��� ُ�س �ه��ى وال��ف ��رق � ِ�د‬ ‫وط � � � ��ووه ف� ��ي َم � �ل � �ح� ��و َد ٍة دان � ��ت ل �ه��ا ه � � ُ‬ ‫�اب ذاك ال �م��رق� ِ�د‬ ‫ف � ��ي َم � �ع � �ه� � ٍ�د و ّد الأث � � �ي � � � ُر ل � ��و �أ ّن� � ��ه �أم �� �س��ى ث � � ًرى ل �ج �ن� ِ‬ ‫ك � ��م ق� �ي ��ل ال ت� �ب� �ع ��د ول� �ي� �� ��س ب �ن��اف��ع ف � �ي� ��ه م� � �ق � ��ال� � � ُة واج � � � � � ٍ�د ال ت � � ْب � � ُع� � ِ�د‬ ‫ثم ي�صف { حال العلماء الزهاد‪ ،‬كيف كان حالهم بعد دفن ال�سيد ال�شيرازي‪،‬‬ ‫وك�أنه بالن�سبة �إليهم اليوم الذي مات فيه ر�سول اهلل ‪ ،P‬وعبروا عن حزنهم العميق‬ ‫‪120‬‬


‫����������������� ‬

‫لهذه الخ�سارة التي ال يعو�ضها �شيء‪ّ � ،‬إل ال�صبر والم�ضي في هذا الطريق‪ ،‬ونرى‬ ‫هنا كيف يقدم ال�سيد ف�ضل اهلل و�صف حالهم بعد دفنهم لأ�ستاذهم‪ ،‬وكبيرهم‪،‬‬ ‫َ‬ ‫منازل الكرامة‪ ،‬و�أخذوا بمجامع ال ّن�سك‬ ‫ومرجعهم‪ ،‬فقال‪�« :‬أ ّما العلما ُء الذين ارتقوا‬ ‫الم َجنّ و�ألقوا َح ْبلها على غاربها فتراها مطرقة وك�أنّ‬ ‫وال ّزهادة‪ ،‬وقلبوا للدنيا ظه َر ِ‬ ‫وتق�سمت خواط ُرها وغدت ُ‬ ‫تفي�ض‬ ‫�ألوانها بالزعفران ُم َع ْ�صف َرة قد حنت �ضمائ ُرها‪ّ ،‬‬ ‫أ�صبح ناطق ًا تب ًا لك �أ َّيتها ال ّدنيا وترح ًا‬ ‫بالحكمة جوا ُنبها‪ ،‬وفي ِّ‬ ‫ذم ال ُّدنيا ل�سانُ حالها � َ‬ ‫من غ ّوالة �أكالة‪ ،‬غ ّرارة خ ّداعة‪�ِ ،‬ص َّحتُك �إلى َ�سقم و�ش َبا ُبك �إلى ه َرم‪ ،‬غاية الال ِبث‬ ‫والهموم‪� ،‬أجلك الموتُ ‪ ،‬و� ُ‬ ‫إدراك الآمال فيك‬ ‫الكد ُر‬ ‫االنحنا ُء وال َع ْجز‪ ،‬وقرينه َ‬ ‫فيك ِ‬ ‫ُ‬ ‫و�شم عنها تخ َر ُم الآجال‪ ،‬هل‬ ‫كم قوم �أ ْرهقت ُه ُم المنايا فيك دون الآمال‪ِّ ،‬‬ ‫الفوتُ ‪ْ ،‬‬ ‫ينتظر � ُ‬ ‫ال�ص ّحة �إال ُ‬ ‫أهل ب�ضا�ضة ّ‬ ‫نوازل‬ ‫ال�شباب فيك �إال حواني ال َه َرم‪ ،‬و�أه ُل غ�ضارة ِ‬ ‫ال�سقم‪ ،‬و�أه ُل م ّدة البقاء �إال �آونة الفناء»‪.‬‬ ‫َّ‬ ‫ويتابع �أي�ض ًا‪:‬‬ ‫رج َع ْت �إلى‬ ‫النا�س � ِ‬ ‫و�س ِقط ما في �أيديهم من فقده‪َ ،‬‬ ‫أناملها ي�أ�س ًا من ت ْربه ُ‬ ‫«ولما نف�ضت ُ‬ ‫�إقامة العزاء في مجال�سها المع ّدة ومحا ِف ِلها الحا�شد ِة و�أنديتها العامرة بتالوة القر�آن‬ ‫وترتيله‪ ،‬والإبتهال �إلى اهلل ج ّل جالله ودعائه‪ ،‬وتذ ّكر ُم�صاب �س ّيد ال�شهداء و�أبي الآئمة‬ ‫الأ ُمناء �إذ ل ُم َ�صا ِبه َي ْ�ض َم ِح ّل ك ّل ُم َ�صاب جليل‪ ،‬ويهون ك ُّل خطب فادح فابتد�أ ال�شيخان‬ ‫الجليالن والفقيهان الأعظمان �إماما الملة وعمادا الأمة �شيخنا المولى الأعظم ال�شيخ‬ ‫محمد طه نجف و�شيخنا المولى الجليل ال�شيخ ميرزا ح�سين خليل‪� ،‬ش ّيد اهلل بهما �أركان‬ ‫ال�شريعة‪ ،‬و�ش ّد حماية حوزتها المنيعة‪ّ ،‬ثم تتابعت النا�س من ورائهما �إلى �أن كاد �أن‬ ‫ينق�ضي ِمن رم�ضان عا َّمته‪� ،‬إذ كان ورودُه النجف الأ�شرف في �أول يوم منه في ال�سنة‬ ‫َ‬ ‫الثانية ع�شرة بعد الثالثماية والألف هذا ما كان في النجف الأ�شرف على �إيجاز من حاله‬ ‫والحلة فكثرت مجال�س‬ ‫واخت�صار من �أمره و�أ ّما كربال ُء وبلد الكاظم �سا ُّمرا ُء وبغداد ِ‬ ‫وا�س ِت ْعظام‬ ‫الفواتح فيها والتراحيم وما جرى بهنَّ من ل ْب�س َّ‬ ‫ال�سواد وتجلبب الأحزان‪ْ ،‬‬ ‫‪121‬‬


‫ال�سيد محمد ر�ضا ف�ضل اهلل الحكيم والم�صلح‬

‫ال ُم�صاب وما ُرئي به من ج ّيد ال�شعر ورائقه مما ي�ضيق المقام عن بيانه ويقف جوا ُد‬ ‫حومة ميدانه‪.».‬‬ ‫القلم عن الجوالن في َ‬ ‫ويتابع �أي�ض ًا‪« :‬على �أنَّ في تعطيلها الخ�سران العظيم‪ ،‬وتفويت الأرباح الجليلة‪،‬‬ ‫أعالم ُم�صا ِبهم‪ ،‬وهذا ما تقدمه‬ ‫أيام ُحزْ ِن ِهم‪ ،‬والتفت � ُ‬ ‫والمنافع الكثيرة �إلى �أن انق�ضت � ُ‬ ‫ال�س ِّيد المق ّد�س طاب ثراه‪ ،‬هذا‬ ‫لم ُي ْع َه ْد جرى ل ِ‬ ‫أحد من �سادات النا�س و�أ�شرافها غير َّ‬ ‫على �إيجاز من الأمر وبيان الحال‪ ،‬وهذه ر�سالة اعتمدت فيها على االخت�صار لأنني‬ ‫بع�ض الأرحام في‬ ‫لم �أكنْ ب�صدد �ش ْرح الأحوال وتفا�صيل جملها‪ ،‬بل �أردت بها �إخبار ِ‬ ‫جبل عامل‪ ،‬فكانت على نظم الكتب التي تنقلها البردة‪ ،‬والر�سائل التي تنقل �إلى البالد‬ ‫النائية‪ّ ،‬ثم انتدبت �إلى رثائه ال�شعراء‪ ،‬وثنت �أعنته �إلى نعيه وندبته و�أن�ش�أت‪ ،‬ف�أكثرت‬ ‫علي ب�أن �أجري في‬ ‫ونظمت‪ ،‬وكنت قد عزمت على ترك ال�شعر غير �أن بع�ض الإخوان � َّألح َ‬ ‫هذا الم�ضمار‪ ،‬ول�سان حاله يقول‪:‬‬ ‫�ون ل ��م ي � ِف ��� ْ�ض م ��ا�ؤه ��ا ُع ��ذ ُر‬ ‫ال�شع ُر وه ��ل ل �ع �ي� ٍ‬ ‫ل�م��ن ب�ع��د ه ��ذا ال �ط��و ِد ُي�� ّدخ�� ُر ِ‬ ‫�إذ ًا‪ ،‬في هذه الر�سالة التي ي�صف بها ال�سيد ف�ضل اهلل‪ ،‬رحيل ذلك المرجع الكبير‬ ‫ال�سيد ال�شيرازي‪� ،‬إنما ُيع ّبر عن دقة مالحظاته‪ ،‬وقدرته على الت�شبيه بين الأحداث‪،‬‬ ‫والو�صف الدقيق‪ ،‬وعن العالقة الحقيقية بين النا�س‪ ،‬وبين علمائهم الأعالم‪ ،‬وعن‬ ‫المكانة التي كان يختزنها المرجع ال�شيرازي عند العامة والخا�صة‪ ،‬و�أنهم هم �صلة‬ ‫الو�صل ما بين النا�س و�أمامهم الغائب |‪.‬‬ ‫وفي ر�سالة �أخرى‪ ،‬يب ّين ال�سيد محمد ر�ضا ف�ضل اهلل‪ ،‬موقع المجتهد وارتباطه‬ ‫بالإمام | في زمن الغيبة‪ّ ،‬ثم يتحدث عن �أنّ هذه الأو�صاف تنطبق على ابن عمه‬ ‫ال�سيد نجيب ابن ال�سيد محيي الدين ف�ضل اهلل‪ ،‬بح�سب ما ر�آه وما خبره منه‪ ،‬وهي‬ ‫لي�ست �إجازة بالإجتهاد‪ ،‬ف�إما �أن تكون جواب ًا على �س�ؤال وجه �إليه‪� ،‬أو كان يقدمه كنموذج‬ ‫ُيحتذى به من بين ه�ؤالء الأعالم‪ ،‬وهو ي�شهد له بهذه الموا�صفات التي حاز عليها‬ ‫ال�سيد نجيب‪ ،‬من العلم والمالكات التي جعله العالم الكامل‪ ،‬والقدوة والمعتمد‪ ،‬و�أحد‬ ‫‪122‬‬


‫����������������� ‬

‫المراجع للنا�س في جبل عامل‪ ،‬الذي ُيرجع �إليه في الأحكام وفي ح ّل الخ�صومات‪ ،‬وم ّما‬ ‫جاء فيها‪ ... « :‬ولي�س مج ّرد ال ِعلم بالأحكام ّ‬ ‫رع ّية والوقوف‪� ،‬إليها على القواعد‬ ‫ال�ش ِ‬ ‫الأ�صول ّية �سب ّب ًا موجب ًا للفيو�ضات الإله ّية‪ ،‬والنفحات القد�س ّية التي �أقرحت الأجفان في‬ ‫البكاء عليها العلما ُء الر ّبان ّيون‪ ،‬و�أظم�أت هواجرها في ابتغاء نيلها العارفون‪ ،‬وتقطعت‬ ‫الحب لها وتقطعت �أنف�سهم‬ ‫�أنف�سهم ح�سرة عليها المريدون‪ ،‬وا�ستعجلت مناياها من ّ‬ ‫الحب لها الم�شتاقون‪ ،‬وا�ضطربت‬ ‫ح�سرة عليها المريدون‪ ،‬وا�ستعجلت مناياها من ّ‬ ‫�أفئد ُتها ا�ضطراب الأر�شية من الخوف الوجلون‪ ،‬و�أدميت �أقدامها في مذاهب الطلب‬ ‫لها القا�صدون‪ ،‬وتنعمت �أرواحهم في حدائق المكا�شفة وريا�ض القرب منها الوا�صلون‪،‬‬ ‫أثواب الفناء لها الفائزون‪.‬‬ ‫أنف�س ُهم من مالب�سها الطبيع ّية ولب�ست � َ‬ ‫وتج ّردت � ُ‬ ‫ُ‬ ‫والعمل و�سيلة لبلوغ تلك الدرجة العالية والذروة‬ ‫العلم �إال طري ٌق ُن ِ�ص َب للعمل‪.‬‬ ‫ما ُ‬ ‫العالم الذي ُ‬ ‫أحكم الفروع‬ ‫ال�سامية‪ .‬ولي�س‬ ‫ُ‬ ‫ت�سلك جا ّدته من م ّهد القواعد و� ّأ�س�سها و� َ‬ ‫و�أتقنها‪ ،‬وهو يهوي ب�أودية ّ‬ ‫ال�شهوات �أو يرتع في مراب�ض ال�شبهات؛ ال يعرف باب الهدى‬ ‫فيتب َعهُ‪ ،‬وال باب العمى في�ص َّد عنه‪ ،‬فال�سيد في هذه الر�سالة يتح ّدث عن العالم الذي‬ ‫�أ�صبح هو �صلة الو�صل بين النا�س والإمام |‪ ،‬فال يكفي �أن يحوز على مكامن العلم‬ ‫والمعرفة بالقواعد والأ�صول‪ ،‬ويخو�ض في لججه‪ ،‬فهذا ال قيمة له‪ ،‬من دون �أن يتما�شى‬ ‫ذلك مع تربية النف�س وتهذيبها‪ ،‬فكلما ارتقى في العلم درجة‪ ،‬يجب �أن يرتفع في مالكات‬ ‫الكمال �ضعفها‪ ،‬حتى يحوز على مكانة العالم العامل القدوة‪ ،‬و�أ�ضاف‪« :‬بل الذي �أح ُّق‬ ‫بالإقتداء و�أجد ُر باالهتداء من كان من ع َّم َر الليل في تهجدا ِت ِه‪ ،‬وكالحنايا للبرية في‬ ‫خلواته‪ ،‬لم تفتله فاتالت الغرور‪ ،‬ولم تقم عليه م�شتبهات الأمور‪ .‬قد تن َّك َب المخالج عن‬ ‫و�ضح ال�سبيل‪ ،‬و�سلك �أق�صر الم�سالك �إلى النهج المطلوب‪ ،‬فراح على ما و�صفه ال�صديق‬ ‫َ‬ ‫�سرابيل‬ ‫م�صباح الهدى في قلبه و�أع ّد ِقراه ليومه النازل به قد ظل َع‬ ‫زه َر‬ ‫الأكبر‪ ،‬وقد َّ‬ ‫ُ‬ ‫ال�شهوات‪ ،‬وتخلى عن الهموم �إال ه ّما واحد ًا انفرد به‪ ،‬و�صار من مفاتيح �أبواب الهدى‬ ‫ومغاليق �أبواب الردى فهو من اليقين على مثل �ضوء ال�شم�س‪.‬‬ ‫‪123‬‬


‫ال�سيد محمد ر�ضا ف�ضل اهلل الحكيم والم�صلح‬

‫ن�صب نف�سه هلل في �أرفع الأمور من �إ�صدار ك ّل وارد عليه وت�صيير ك ّل فرع �إلى �أ�صله‪.‬‬ ‫قد ّ‬ ‫م�صباح ظلمات‪ُ ،‬‬ ‫مفتاح ُمبهمات دفاع مع�ضالت دلي ُل فلوات‪ .‬فهو من �أركان‬ ‫ك�شاف َع�شوات‪ُ .‬‬ ‫ُ‬ ‫دين اهلل و�أوتاد �أر�ضه ُ‬ ‫ي�صف الحقَّ ويعم ُل به‪ .‬قد �أمكن الكتاب من زمامه فهو قائده و�إمامه‬ ‫يح ّل حيث ح ّل ثقله وينزل حيث كان منزله‪ .‬وم ّمن جرى في �سنن هذه الحلبات ال�شريفة‬ ‫جواد ًا �سابق ًا وجمع بين ورع واجتهاد وفقه و�سداد‪ ،‬وبذل نف�سه في ا�ستئ�صال �ش�أفة الجهل‪،‬‬ ‫ال�س َّنة‪ ،‬وريا�ض محكم كتابه‪ ،‬ال َب ُّر‬ ‫حتى وقف على حقائق �أحكامه‪،‬‬ ‫َ‬ ‫وا�ستخرجها من �أكمام ُّ‬ ‫الثقة المعت َم ُد ال�سيد نجيب ف�ضل اهلل الح�سني العاملي((( �ش ّد اهلل به �أ ْز َر الدّين و�أعلى‬ ‫أ�صلح ذاتَ ب ْين الأ ّمة؛ ف�إنا طالما‬ ‫بوجوده منار كلمة التوحيد وج َم َع به على الحقّ الكلمة و� َ‬ ‫وع َج ْمناه و�ساجلناه ْ‬ ‫و�س ُحور ُه من بكوره‪.‬‬ ‫غمزناه َ‬ ‫وخ�ض َخ ْ�ضنا ُه وتع َّرفنا خمي َره من فطيره‪َ ،‬‬ ‫اقتن�ص ُه من فرائد العلوم‪ ،‬وحازه من جواهر المعارف‪ ،‬وما تل ّب َ�س به من الورع‬ ‫فما‬ ‫َ‬ ‫يعب ماث ُره‪ ،‬وغمام ًا‬ ‫والزهادة والع ّفة والنزاهة؛ فوجدناه ِخ َ�ض ّم ًا ُ‬ ‫يطفح ت ّياره‪ ،‬وبحر ًا ُّ‬ ‫يرع ُد زاخ ُره‪ ،‬وعار�ض ًا يلم ُع بارقهُ‪ .‬فهو حديقة علوم تفتّحت‬ ‫�س ّد الأفق ماط ُر ُه‪ ،‬ودالح ًا َ‬ ‫�أزها ُرها‪ ،‬و�أينعت ثما ُرها‪.‬‬ ‫لم يدع لها غاية �إال �أ َّمها‪ ،‬وال ذروة �إال ت�س َّن ِمها‪ ،‬وال جا ّدة �إال َر ِك َبها‪ ،‬حتّى َ‬ ‫وقف على‬ ‫حقائقها‪ ،‬ونظر في خفايا دقائقها‪ ،‬وخا�ض ما طغى من لججها‪ ،‬وركب ما عظم من‬ ‫ونح َر‬ ‫َث َب ِجها‪ ،‬وعطف واردها على �صادرها‪ ،‬و�أ ّولها على �آخرها‪ .‬قد قتل �أر�ضها خ ْبر ًا‪َ ،‬‬ ‫ُ‬ ‫المالك لأزمتها‪،‬‬ ‫وراح وهو‬ ‫ديمومة مقفراتها معرفة؛ فنظم �شتاتها‪ ،‬وع ّدل جها ِتها‪َ ،‬‬ ‫والم�ص ّرف لأع َّنتها‪ ،‬والمرفرفة على ر�أ�سه خافقات �ألويتها‪ ،‬بعد �أن ورد من ينابيع‬ ‫يت الماه َر‪،‬‬ ‫الخ ِّر َ‬ ‫�أ�صولها‪ ،‬وكرع من �سل�سبيل حيا�ض فروعها �إلى �أن �صار يدعى بها ِ‬ ‫والجد ْي َل ال ُم َحكك‪.».‬‬ ‫َ‬ ‫(( ( ال�سيد نجيب الدين ف�ضل اهلل‪ :‬من �أعالم القرن الرابع ع�شر هجري‪ ،‬ولد �سنة ‪1280‬هـ‪ ،‬ذهب �إلى النجف الأ�شرف بعد‬ ‫رحيل ال�شيخ مو�سى �أمين �شرارة ب�سنتين �أي �سنة ‪1306‬هـ‪ ،‬فدر�س فيها على الأ�ساطين‪ ،‬وحاز ق�صب ال�سبق في العلم والزهد‬ ‫والمعرفة‪ ،‬ثم عاد �إلى بالده في جبل عامل‪ ،‬وهو من الأعالم الكبار‪ ،‬توفي �سنة ‪ 1336‬هـ‪.‬‬

‫‪124‬‬


‫����������������� ‬

‫مجده ــ ال�سيد نجيب ــ‬ ‫وثم يختم الر�سالة‪ ،‬بقوله‪ « :‬وحيث �إنّ ال�سيد الم�ؤ ّيد �أدام اهلل َ‬ ‫ّ‬ ‫حجة من حجج‬ ‫ال�سفا َرة والوالية‪ ،‬وعا َد َّ‬ ‫م َّمن ث َب َت ل ُه ب�صريح ما ذكرنا ُه النيا َبة‪ ،‬وت ّمت له ّ‬ ‫�أجداده الطاهرين على �سائر الخلق من العا ّمة �أجمعين‪ ،‬والر ّد عليه في ما يق�ضيه بين‬ ‫النا�س في اختالفاتهم ومنازعاتهم على ح ّد ال�شرك باهلل واال�ستخفاف ب�أوامره جلت‬ ‫عظمته‪ ،‬وجب على العا ّمة ثني �أعناقها �إليه‪ ،‬والعكوف بقلوبها و�أفئدتها عليه‪ ،‬و�أن تكون‬ ‫م�ؤتمرة لأمره منتهية لنهيه مط ّوقة �أجيادها خا�ضعة لإم�ضاء حكومته �أعناقها‪ ،‬ملقية‬ ‫وحرامها‪ ،‬واقفة عند بيانه‪ ،‬م�ست�ضيئة بن ّير برهانه‪،‬‬ ‫�إليه مقاليد �أحكامها‪ ،‬و�أز ّمة حاللها‬ ‫ِ‬ ‫َ َ َ َ ّ َ َ ُ ۡ ُ َ َ َّ ُ َ ّ‬ ‫ك ُِم َ‬ ‫وك ف َ‬ ‫قال ج ّل جالله مخاطب َا لنب ّيه ‪ ﴿ :P‬فل وربِك ل يؤمِنون ح ٰ‬ ‫ولقد َ‬ ‫ِيما‬ ‫تي‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ّ ْ َ‬ ‫َش َج َر بَ ۡي َن ُه ۡم ُث َّم ل َ ِي ُدوا ِ ٓف أ ُنف ِس ِه ۡم َح َر ٗجا ّم َِّما قَ َض ۡي َت َوي ُ َسل ُِموا ت ۡسل ِٗيما ﴾ ونلتم�س منه �أن‬ ‫َي ْ�س َ‬ ‫لك في ق�ضائه وفتواه جا ّدة الإحتياط؛ �إذ لي�س بناكب عن ال�صراط من �سلك طريق‬ ‫الإحتياط كما نلتم�س الخال�ص الأب ّر من الدعوات ال �سيما في رم�ضان الإجابات واهلل‬ ‫ولي التوفيق‪».‬‬ ‫وراء ذلك ّ‬ ‫وم ّما ُيدلل على مكانة ال�سيد محمد ر�ضا‪ ،‬و�أنه و�صل �إلى مكانة‪� ،‬صار معها قادر ًا‬ ‫على �أن يقدم ال�شهادات العلمية‪ ،‬ويوجه �أهل العلم �إلى �ضرورة الإلتفات �إلى المهام‬ ‫التي تنتظرهم‪ ،‬و�أنهم حجة اهلل على النا�س‪ ،‬وهذه المكانة ال ت�أتي بالح�صول على العلم‬ ‫فقط‪ ،‬و�أن الوظائف الدينية الملقاة على عاتقهم ت�ستلزم اليقظة دائم ًا‪ ،‬وعدم الغفلة‬ ‫عن النف�س الأمارة بال�سوء‪ ،‬و�أن النقاء وال�صفاء‪ ،‬هو الأ�سا�س في رقي الإن�سان‪ ،‬ولهذا‬ ‫نراه ُيحذر من تلك المخاطر التي قد ُت�صيب علماء الدين‪ ،‬ما لم ينتبهوا �إلى �أنف�سهم‪،‬‬ ‫ويبتعدوا عما تجمع �إليه نفو�سهم‪ ،‬من هنا نراه يوجه ر�سالة �إلى �أحد العلماء‪ ،‬الذين‬ ‫مكنهم اهلل تعالى من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر‪ ،‬ولربما وجد ال�سيد منه بع�ض‬ ‫التق�صير في هذه الوظائف الإلهية‪ ،‬ف�أراد تذكيره من خالل تبيين دور وظائف علماء‬ ‫الدين‪ ،‬وموقعهم المتقدم‪ ،‬في حفظ الر�سالة‪ ،‬وكيف �صاروا نواب ًا للإمام | في زمن‬ ‫غيبته‪.‬‬ ‫‪125‬‬


‫ال�سيد محمد ر�ضا ف�ضل اهلل الحكيم والم�صلح‬

‫و�أي�ض ًا‪ ،‬يتناول ال�سيد محمد ر�ضا‪ ،‬في ر�سالة‪ ،‬دور عالم الدين ويب ّين الوظائف الملقاة‬ ‫على عاتقه‪ ،‬ومما جاء فيها‪�« :‬أ ّما بعدُ‪ ،‬ف�إني �أح َمد �إليك اهلل العظيم‪ ،‬الذي جلت �آال�ؤه‪،‬‬ ‫وتواترت نعما�ؤه‪ ،‬على ما �أوالك من جميل نعمه‪ ،‬وجزيل ق�سمه‪ ،‬ب�أن اختارك من بيت‬ ‫�أحكم العلم والتقى � َّأ�س بنيانه‪ ،‬و�ش َّيد المجد والنهى �شامخ �أركانه‪ ،‬عل ًما لدينه‪ ،‬ومنار ًا‬ ‫ل�شريعته‪ ،‬يهتدي بك التائهون في �أودية الغفالت‪ ،‬و ُي َ‬ ‫ر�شد بك ال�ضالون عن �سلوك �سبل‬ ‫النجاة‪ ،‬فنه�ضت غير متلكئ‪ ،‬وال متلعثم‪ ،‬دارج ًا في �سنن من م�ضى من قبلك من العلماء‬ ‫الأعالم‪ ،‬وراكب ًا جا ّدة من تق ّدمك من فقهاء الملة‪ ،‬و�سادات الأنام‪ ،‬لم تفتلك عن �سلوك‬ ‫مناهجهم فاتالت الغرور‪ ،‬ولم تلتب�س عليك في وطء جوادِّهم((( م�شتبهات الأمور‪ ،‬بل‬ ‫نه�ضت بعبء ما في �أعبائه نه�ضوا‪ ،‬وحلقت �إلى ما في �أفق �سمائه حلقوا‪ ،‬وجاريت منهم‬ ‫ال�سبق �إلى غاياتها‪ ،‬ف�صابرت‬ ‫البزل القناعي�س((( في حلباتها‪ ،‬و�أطلقت الأع ّنة معهم في ّ‬ ‫علمهم درا�سة حتى نفيت ق�شره عن لبابه‪ ،‬ورابطت الجد فيه ا�ستدامة‪ ،‬حتى �أبنت خط�أه‬ ‫من �صوابه‪ ،‬وا�ستفرغت الو�سع فيه اجتهاد ًا حتى تع َّرى الليل عن �صبحه‪ ،‬و�ص َّرح المخ�ض‬ ‫عن زبده‪ ،‬واختمر فطيره‪ ،‬وراق نميره‪ ،‬فر ّفت عليك من رايات �أ�صوله عذباتها وخفقت‬ ‫عليك من �أعالم فروعه �ألويتها‪ .‬لم تخلط رائبه بخائره‪ ،‬وال جديده بدائره غير مت�سكع‬ ‫في وهدة الحيرة بطرقه‪ ،‬وال مرتطم في ح ّل �شكوكه‪ ،‬ورفع غياهب �شبهه‪ ،‬وال متلكئ فيه‬ ‫تلك�ؤ م�ضطرب الرو َّية‪ ،‬وال مت�سرع فيه ت�س ّرع من �أغفل في �سنن اليقين‪ ،‬واقتطعت �أزاهير‬ ‫�أحكامه من ريا�ض �سنة �أو محكم كتاب مبين‪.‬‬ ‫وما زلت ت�ش ّكل �أر�ضه الغر�س بعد الغر�س‪ ،‬وت�ضرب لأ�سدا�سه الخم�س بعد الخم�س‪ ،‬حتى‬ ‫َّ‬ ‫التف �شجر حدائقه‪ ،‬و�أينع ثمر رائقه فت�ألقت للمجتدين بارق ًا لماح ًا ي�ستتبه عار�ض ًا دالح ًا‪،‬‬ ‫وتجليت فيه للم�ستر�شدين به منار اهتداء‪ ،‬ولأالء �سناء‪ ،‬وقمر دجنة‪� ،‬إلى �أن ات�ضح المنهج‬ ‫لراكبه‪ ،‬وال�سبيل ل�سالكه‪ ،‬فال�ضالل � َّإما عن عمى طرف ال�سالك‪� ،‬أو من عمه ب�صيرته‪:‬‬ ‫((( جوادّ‪ :‬جمع (جادَّة)‪ :‬الطريق الوا�سع‪.‬‬ ‫((( البزل القناعي�س‪ :‬البزل هو البعير الذي بلغ التا�سعة من عمره‪ ،‬والقناعي�س هو الجمل ال�ضخم القوي‪.‬‬

‫‪126‬‬


‫����������������� ‬

‫م ��ا وا�� �ض � ُ�ح ال �ن �ه� ِ�ج ف �ي��ه � �ض � َّل ��س��ال� ُك� ُه �إنّ ال�م���ض�ل�ي��ن �� �س ��اروا ف �ي��ه ع�م�ي��ان��ا‬ ‫وليعلم الأخ �أ ّيده اهلل برعايته‪ ،‬و�س ّدده بعنايته �أنّ من حباه اهلل هذه المنزلة ال�شريفة‬ ‫و�أحله في هذه الذروة المنيفة‪ ،‬كان بالجدير �أن يحدث هلل في �أقواله و�أفعاله له حمد ًا‬ ‫و�شكر ًا‪ ،‬و�أن يوا�صل الحمد وال�شكر �س ّر ًا وجهر ًا‪ ،‬مع الإ�سراع لإنقاذ �أوامره المفتر�ضة‪،‬‬ ‫والمبادرة �إلى �إحياء �سننه المندوبة‪ ،‬و�إن �أج َّل ما افتر�ضه اهلل تعالى �ش�أنه على العلماء‬ ‫الربانيين الوارثين لر�سله المنتجبين والمخ�صو�صين بال�سفارة والنيابة عن الأئمة‬ ‫الأطيبين الأنجبين بذل الو�سع والطاقة وا�ستفراغ الجد واالجتهاد بالأمر بالمعروف‪،‬‬ ‫والنهي عن المنكر من �إحياء �سنة دائرة و�إماتة بدعة قائمة‪ ،‬وتعديل الأود‪ ،‬ونفي الزيغ‪،‬‬ ‫ولم ال�ش َعث‪ ،‬ور�أب ال�صدع‪ ،‬وقمع الف�ساد‪ ،‬والمنع‬ ‫و�إ�صالح ذات البين‪ ،‬و�إطفاء النائرة‪ِّ ،‬‬ ‫عن الفح�شاء والمنكر والبغي ما ظهر منها وما بطن‪ ،‬ون�صرة المظلوم و�إعزازه‪ ،‬و�إهانة‬ ‫الظالم و�إذالله‪ ،‬ولقد قلدت �أجياد العلماء ربقة هذا الغر�ض براهينُ جلت عن الإح�صاء‪،‬‬ ‫وكبرت عن اال�ستق�صاء‪ ،‬وليكفهم �إلزام ًا في ذلك ما �أعلن به �سيد الأو�صياء عليه �أف�ضل‬ ‫الحجة بوجود النا�صر وما‬ ‫ال�سالم و� ّأتم الثناء حيث قال‪« :‬ولوال ح�ضور الحا�ضر وقيام ّ‬ ‫�أخذ اهلل على العلماء �أن ال يقا ّروا على كظة ظالم و�سغب مظلوم لألقيت حبل هذه الدنيا‬ ‫على غاربها‪ ،‬ول�سقيت �آخرها بك�أ�س �أ ّولها ولألفيتم دنياكم عندي �أزهد من عفطة عنز»‪.‬‬ ‫بعد هذا الموجز يمكن �أن نتبين من خالله موقع ال�سيد محمد ر�ضا ف�ضل اهلل‪ ،‬و�أن‬ ‫هد مرير‪.‬‬ ‫هذه المكانة لم ت� ِأت من فراغ‪ ،‬و�إنما هي نتاج ُج ٍ‬ ‫في النجف الأ�شرف‪ ،‬عمل ال�سيد محمد ر�ضا �ضمن محاور ثالث‪:‬‬ ‫الأول‪ :‬التح�صيل العلمي؛ من الفقه والأ�صول‪ ،‬والفل�سفة وعلم الكالم‪ ،‬وغيرها‪...‬‬ ‫و�إن كان علمي الفقه والأ�صول‪ ،‬هما الأ�سا�س في طلب العلم‪ ،‬والباعث نحو طلب العلم‬ ‫والذهاب �إلى المراكز العلمية‪ ،‬وتح ّمل كل الم�شاق‪.‬‬ ‫الثاني‪ :‬ال�شعر والأدب‪ ،‬وكانت النجف تعج بمجال�س الأدب‪ ،‬م�ضاف ًا لكونها حا�ضرة‬ ‫علمية‪ ،‬فهي �أي�ض ًا حا�ضرة �أدبية‪ ،‬وتعقد فيها مجال�س الأدب‪ ،‬وينبري ال�شعراء في �إطالق‬ ‫‪127‬‬


‫ال�سيد محمد ر�ضا ف�ضل اهلل الحكيم والم�صلح‬

‫العنان لق�صائدهم‪ ،‬وفي �إحياء المنا�سبات الدينية والإجتماعية‪ ،‬وحتى �أنّ كبار العلماء‬ ‫كانوا ينظمون �شعر ًا �أبحاثهم الفقهية والأ�صولية‪ ،‬وهو ما ُيعبر عنه (بالمنظومة)‪ ،‬كما‬ ‫عمل العديد من ال�شعراء والأدباء على جمع تلك الق�صائد‪ ،‬وتلك المحافل بكتب ومجالت‬ ‫ودوريات‪ ،‬وكان ال�سيد محمد ر�ضا من �أولئك ال�شعراء والأدباء الكبار الذين �أغنوا تلك‬ ‫المجال�س الأدبية‪ ،‬وله م�شاركات في �أكثر من منا�سبة‪ .‬وذات يوم توفي نجل �أ�ستاذه كبير‬ ‫فقهاء العرب ال�شيخ محمد طه نجف الذي افتقد ولده الوحيد العالم الجليل‪ ،‬فقال فيه‪:‬‬ ‫(((‬ ‫وع � � � َّل غ� �ي� � َر ُم���َ��ص�� َّرد � �ص �ف � ًوا ت �� �ص � َّف��قَ ب� ��ال � �زُّالل الأب � � ��ر ِد‬ ‫ن� �ه � َ�ل ال � � َّزم� ��ان َ‬ ‫(((‬ ‫�ارم ُم ��زب � ِ�د‬ ‫م� ��ن ك � � ِّ�ل ف� � َّي ��ا� ِ��ض ال� �ي ��دي � ِ�ن ب �� �ش �ت��و ٍة غ � �ب� ��را وب� �ح � ٍ�ر ب ��ال� �م� �ك � ِ‬ ‫(((‬ ‫رح � � ُ�ب ال��م��ق ��اري ل��ل ��وف ��و ِد �إذا غ��دت ن �ك �ب��ا َء ت �ل��وى ب��ال�ن���ض�ي��ر وب ��ال��ن ��دي‬ ‫ْ‬ ‫(((‬ ‫م � ��ا زال غ� ��رث� ��ان � � ًا ي � �� � �ص � � ّرف ن ��اب ��ه ب � � ُم � �ق� ��ذف ق � � � � ْرم ول � �ي� ��ث ُم � �ل � �ب� ��د‬ ‫وي � �� � �ص� ��ول والآج � � � � � � � ُ‬ ‫�ان وال ال �ي� ِ�د‬ ‫�ال رائ� � � � � ��د ٌة ل��ه ال ط��ائ �� �ش � ًا رع��� � َ�ش ال � َ�ج��ن � ِ‬ ‫ن� �� َ��ص � َ�ب ال��م��ن ��اي ��ا ل �ل��أن� ��ام ح �ب��ائ� ً‬ ‫لا ف ��ال��م��ه��ت ��دي ف� �ي ��ه ك �غ �ي ��ر ال �م �ه �ت��دي‬ ‫��س��اف��ر ب �ط��ر ِف� َ�ك ه � ْ�ل ت ��رى م��ن �سالم �إنَّ ال �م �ن��ون ع �ل��ى ال � َّن �ف��و���س ب�م��ر�َ��ص� ِ�د‬ ‫�ارب ف � � َ‬ ‫�وق ال��� �َّ�س��م ��اء ق �ب��ا َب��ه � �ش � َرف � ًا و�آخ � ��ر ب��ال�ح���ض�ي�� ِ��ض الأوه � � ِ�د‬ ‫ك� � ْ�م � � �ض� � ٍ‬ ‫ج �ع �ل �ت �ه �م��ا ل �ل �ح �� �ش� ِ�ر ره � � ��نَ ق � � ��رار ٍة � � �س� ��اوت ب� � � ِّ‬ ‫�ذل ال� �ع� �ب � ِ�د ع� � � َ​َّ�ز ال��� �َّ�س�� ِّي � ِ�د‬ ‫�ام �أج � � ��ر ِد‬ ‫وت �ه��اف �ت��وا ع ��ن ك� � ِّ�ل � �ش��ام �خ��ة ال � � ُّ�ذرى وت� � َّ‬ ‫�رج � �ل� ��وا ع� ��ن ك� � � ِّ�ل � � �س� � ٍ‬ ‫���س ��اروا ع�ل��ى َع� َ�ج��ل وم ��ا ك ��ان ال��� ُّ�س��رى م �ن �ه��م ب �ل�اح� � ِ�ب((( ن �ف �ن� ٍ�ف �أو َف ��دف � ِ�د‬ ‫�زل م��ت�����ش ��اب�� ِه الأرج � � � � ��ا ِء غ��ي ��ر ُم� � � َو َّط � � ِ�د‬ ‫ن� ��زل� ��وا ب � �م� � َ�درج � � ِة ال� �ف�ل�ا ف� ��ي م �ن � ٍ‬ ‫(( ( غير م�صرد‪� :‬شربه غير قليل‪ ،‬وقد ا�ستعار للزمن ال�شراب بكثرة من ال�صفر للداللة على �أن يده تطال �صفوة النا�س‪ ،‬وتودي‬ ‫بهم‪ /.‬ت�صفق‪ :‬امتلأ‪.‬‬ ‫(( ( غبرا‪ :‬مجدبة وهي غبراء ق�صرها ال�شاعر لل�ضرورة‪.‬‬ ‫المرثي كان كريم ًا يطعم المحتاجين في �أيام القحط والجدب التي ينكب فيها النا�س ويفتقرون‪.‬‬ ‫((( المعنى �أن‬ ‫ّ‬ ‫(( ( ي�صرف نابه‪� :‬صريف الناب ال�صوت الذي تحدثه الأنياب عند احتكاكها لغ�ضب ونحوه‪ /.‬المقذف‪ :‬كثير اللحم‪ /.‬القرم‪:‬‬ ‫�صاحب ال�شهوة �إلى اللحم‪ ،‬والمعنى �أن الدهر ال ي�شبع من اختطاف النا�س فهو ين�شب �أظفاره فيهم‪ ،‬وي�صرف �أنيابه عليهم‪.‬‬ ‫(( ( اللحب‪ :‬الطريق الوا�سع‪.‬‬

‫‪128‬‬


‫����������������� ‬

‫� �س �ف��ر �أن� ��اخ� ��وا ل �ي ����س ُي ��رج ��ى م�ن�ه� ُ�م‬ ‫رك� ��� �س ��وا((( ب �ط��ارق � ِة ال �ب �ل��ى ف ��ي هُ ��و ٍة‬ ‫� ُ��ش�� ِغ��ل ��وا ِب� �م ��ا ك �� �س �ب��ت ب �ه��ا �أي ��دي� � ُه � ُ�م‬ ‫ي ��ا خ ��اب � َ�ط ال� �ع� ��� �ش ��وا ِء َي� � َّت� �ب� � ُع ال �ه��وى‬ ‫فالق�ص ُد �أم�سى م��ن ورا ِئ ��ك فالتم�س‬ ‫ْ‬ ‫ال ت� ��رك � �ب� ��نَّ م � ��ن ال� �ل� �ي ��ال ��ي � �ص �ع �ب � ًة‬ ‫ف�خ��ذ ال� ّ�ط��ري��ق ال � َّن �ه� َ�ج واح ��ذره ��ا فقد‬ ‫م � ��ن ك� � ��ان م� �ع� �ت� �ب ��ر ًا ب� �ه ��ا ف �ل �ي �ع �ت �ب��ر‬ ‫� �س �ل �ب �ت��ه ع �� �ض � ًب��ا �أره � �ف� ��ت � �ش �ف��را ِت��ه‬ ‫�وب َي��خ��ت ��ر((( �إنْ رغ��ا‬ ‫وم �ث �ق� ُ�ف الأن � �ب� � ِ‬ ‫ن� ��ادت� ��ه داع� � �ي� � � ُة ال �ق �� �ض ��ا ف���أج ��ا َب��ه ��ا‬ ‫وم���ض��ى ح�م�ي� َ�د ال��ذك��ر ُي �� �ش� ُ‬ ‫�رق وج� ُه��ه‬ ‫ف� � ��ر ٌع ن �م �ت��ه �إل� � ��ى ال� �م� �ك ��ارم ع���ص�ب� ٌة‬ ‫ك � ْ�م را�� َ��ض ِم ��نْ ق � ِّ�ب الف�صائل �صعب ًة‬ ‫و�إذا ال �م �� �س��ائ��ل �أظ �ل �م ��ت ��ش�ب�ه��ات�ه��ا‬ ‫ت � �ج � � َّل� ��ى ب � �ث� ��اق� � ِ�ب ف� � �ك � ��ره ف� �ك� ��أن� �ه ��ا‬ ‫ب �ك ��ر ال� �ن� � ِع � ُّ�ي ب� ��ه ف� � ��أرج � � َ�ف �إذ ن�ع��ى‬ ‫و�أث� � ��اره� � ��ا ده � �ي� ��اء ت��ل��ع ��ب ب��ال � ُّن �ه��ى‬

‫ف��ي ال � َّده��ر �أوب � � ُة ُم � ُت� ِ�ه� ٍ�م �أو ُم � ْن� ِ�ج� ِ�د‬ ‫ل �ي �� �س��ت ب� � ��ذات ق� � � ��رار ٍة �أو م �ق � َ���ص� ٍ�د‬ ‫ال م �ن �� �ش � ٌد ُي �� �ص �غ��ي لآخ� � � � َر ُم �ن ���ِ�ش� ِ�د‬ ‫�إث� � � ِ�ن ال � � َّزم� ��ام ف �م��ا ال� � ّدل� �ي ��ل بمهتد‬ ‫ق� ْ���ص��د ًا فما ت �ن� ُ�ح��وه((( غ�ي� ُر المق�صد‬ ‫�وم ت �ع �ث � ُر ف ��ي غ� ِ�د‬ ‫�إن ت �ن � ُ�ج ف �ي��ك ال� �ي � َ‬ ‫�أب� � ��ت ال� �ل� �ي ��ال ��ي �أن ت� �ق ��اد ِب � �م � � َق � � َو ِد‬ ‫ب� ��الأم � ��� ��س ط � ��ارق� � � ٌة ب � ��ر َب� � � ِع م��ح�� َّم � ِ�د‬ ‫�وارب ك� ��ان� ��ت ط� �ل� �ي� �ع� � َة م �ن �ج��د‬ ‫ب� � � �غ � � � ٍ‬ ‫خ� �ط � ٌ�ب ت� �ن� � َّم� � َر ف ��ي ث� �ي ��اب ال �م �ع �ت��دي‬ ‫وال� � �م � ��ر ُء ف� ��ي الأ َّي � � � ��ام غ� �ي� � ُر م �خ � ّل� ِ�د‬ ‫ّلل ف � ��ي ِج� � �ن � � ِ�ح ال� � �ظ �ل��ام الأ�� � �س � ��ود‬ ‫�أخ � � ��ذت ب � ��آف� ��اق ال� � ُع� �ل ��ى وال � �� � �س � ��ؤد ِد‬ ‫(((‬ ‫غ�ل�ب��ا َء ت ��أن� ُ�ف م��ن خ�شا�ش ال �م �ق��ود‬ ‫(((‬ ‫وغ� � ��دا الأل � � � � ُّد ب � َ�ح� �ي ��ر ٍة ال� �م� �ت� �ل ��د ِد‬ ‫ُك� �� ِ��س� � َي � ْ�ت ب� ��� �ض ��و ِء ج �ب �ي �ن��ه ال �م �ت��وق��د‬ ‫ورم� � ��ى ال� �ب ��راي ��ا ب��ال � ُم �ق �ي��م ال�م�ق�ع��د‬ ‫ل � ِع� َ�ب ال � َّن �ع��ام��ى((( ف��ي ه�شيم الفدفد‬ ‫(((‬

‫(( ( �سفر‪ :‬م�سافرون‪� /.‬أناخوا‪� :‬أقاموا‪.‬‬ ‫(( ( رك�سوا‪ :‬رجعوا وارتدوا‪.‬‬ ‫((( تنحوه‪ :‬تنهجه‪ .‬والبيت فيه دعوة �إلى �سلوك الطريق الم�ستقيم والبعد عن ال�ضالل‪.‬‬ ‫(( ( يختر‪ :‬الختر الفتور اال�سترخاء والمعنى �أن الخطوب المتواترة التي تفتر�س النا�س تجعل القوي �ضعيف ًا‪ ،‬فهي توهي جلده‪ ،‬وتثلم‬ ‫حدّه‪.‬‬ ‫قب الف�صائل‪� :‬أقواها و�أ�شدها بين الف�صائل‪ /.‬غلباء‪ :‬قوية تغلب غيرها في ال�سير‪.‬‬ ‫((( ّ‬ ‫ً‬ ‫(( ( الألدّ‪ :‬الأ�ش ّد خ�صومة في الجدال‪ /.‬المتلدد‪ :‬المتل ِّفت يمينا و�شماال المتحير‪.‬‬ ‫(( ( النعامى‪ :‬رياح الجنوب‪.‬‬

‫‪129‬‬


‫ال�سيد محمد ر�ضا ف�ضل اهلل الحكيم والم�صلح‬

‫�� �س ��اوا م ��ن الأب � � ��راد ج �� �س �م � ًا ق ��د غ��دا‬ ‫وب �ط �ي��ب ع��اب �ق � ِة ال �� �ش��ذا ق ��د �َ��ض� َّم�خ��وا‬ ‫ق ��د �أدرج � � ��وا م ��ا ب �ي��ن ب ��ردي ��ه ال �ه��دى‬ ‫ح �م �ل��وا � �س��ري��ر ًا � �ض� َّ�م �أر�� �س ��خَ َه�ضبة‬ ‫رع� �� � َ�ش الأك� � ��ف ط ��وائ �� �ش � ًا �أح�لام �ه��م‬ ‫ف��ال �م �� �ش� ُ�ي ه �م ��� ٌ�س وال� � �ن � ��دا ُء �إ� � �ش� ��ا َرة‬ ‫ج� � � � ��ا�ؤوا ب� ��ه وط � � � � � َووه ف� ��ي م��ل��ح ��ودة‬ ‫ف � ��ي م� �ع� �ه � ٍ�د و َّد الأث� � �ي � ��ر ل � ��و �أ َّن� � � ��ه‬ ‫ك� ��م ق� �ي ��ل ال ت� �ب� � ُع � ْ�د ول� �ي� �� � َ�س ب �ن��اف��ع‬ ‫�اك ال � �ط� ��ري� � ِ�ق ل��غ ��اي�� ٍة‬ ‫�أم � � �ن� � ��ا َر هُ � �ل � ِ‬ ‫م � ��اذا �أق� � � ُ‬ ‫�ول و�أن � ��ت وا���س��ط�� ُة ال � ُّن � َه��ى‬ ‫وال � �ط� ��رف م� �ع� �ق ��و ٌد ع �ل �ي��ك ط �م��اح � ُه‬ ‫و�إذا ت �� �ش��اب �ه��ت ال��م��ن ��اه ��ج ل �ل �ه��دى‬ ‫ولأن � � � � ��ت ن� � �ه � � ُ�ج اهلل ب � �ي� ��ن ع � �ب� ��اده‬ ‫ق��ام��ت ب��ك ال ��� ُّ�س �ن��نُ ال�ق��وي�م��ة وارت �ق��ت‬ ‫وب� ��ك ال �� �ش��ري �ع��ة ق ��د ر���س ��ت �أرك ��ان �ه ��ا‬ ‫ن� �ظ ��ر الإل � � � ��ه ل��خ��ل��ق ��ه ف � � � ��ر�آك م ��نْ‬ ‫ف �ح �ب ��اك ف� ��ي م� ��ا ف �ي ��ه ح ��اب ��ى ر� �س �ل��ه‬ ‫و�� �ص ��دع ��ت ب � ��الأم � ��ر ال� � ��ذي ُح � َّم �ل �ت ��ه‬ ‫ف��ا� �س �ل��م ل��ه ��ذا ال ��دي ��ن ت �� �ش��رع نهجه‬ ‫((( الأعالم‪ :‬الجبال‪.‬‬ ‫((( برقة ثهمد‪ :‬مو�ضع‪.‬‬ ‫((( الفنيق‪ :‬الفحل ّ‬ ‫المدل بنف�سه ال ي�ؤذي وال يركب لقوته وتميزه‪.‬‬ ‫((( �أعطاك ما �أعطى ر�سله فالعلماء ورثة الأنبياء‪.‬‬

‫‪130‬‬

‫وري �أح �� �ش��اء ال� َّ���ص��دي‬ ‫ط � ْه � َر ال �م �ي��اه َّ‬ ‫ج �� �س��د ًا ت �� �ض � َّم��خ ف �ي��ه �أرج � � ��ا ُء ال � ّن��دي‬ ‫وال � �م � �ك� ��رم� ��ات وك � � � � َّل م � �ج� ��د �أت � �ل� ��د‬ ‫(((‬ ‫�ام((( ب��رق��ة ث �ه �م��د‬ ‫خ �ف��ت ل �ه��ا �أع� �ل � ُ‬ ‫ِم� �ي � َ�ل ال � � ِّرق� ��اب ال �غ �ل��ب � �س��اق �ط��ة ال�ي��د‬ ‫وال � �ط� � ُ‬ ‫�رف ب��ي ��نَ ُم� ��� �ص� � ِّوب و ُم �� �ص � ِّع��د‬ ‫�ام ال �� �ُّ�س �ه ��ى وال �ف��رق��د‬ ‫دان � ��ت ل �ه��ا ه � � ُ‬ ‫�أم �� �س��ى ث� � � ًرى ل �ج �ن��اب ذاك ال�م�ع�ه��د‬ ‫ف � �ي� ��ه م� � �ق � ��ال� � � ُة واج � � � � � ٍ�د ال ت � � ْب � � ُع� ��د‬ ‫�وح ��د‬ ‫ق� ��د �أ�� �ش� �ك� �ل ��ت ور�� � �ش � ��ا َد ك � � ِّ�ل م � ِّ‬ ‫وال �ن��ا�� ُ�س خلفك ف��ي َم �� ِ��س �ي� َ‬ ‫�رك تقتدي‬ ‫و�إل� � �ي � ��ك ن� ��وم� ��ي ب ��ال� �ل ��واح ��ظ وال� �ي ��د‬ ‫ف� ��ي خ��ط ��ة ف �ل��أن� ��ت �أه � � ��دى ُم��ر� �ش��د‬ ‫َم� ��نْ راح ي �ن �ه� ُ�ج ف ��ي ��س�ب�ي�ل��ك ي�ه�ت��دي‬ ‫ف �ي��ك ال� �ف ��رائ� �� �ُ�ض ذروة ل ��م ت�صعد‬ ‫وال� � ّدي ��ن ي�خ�ط��و ك��ال �ف �ن �ي��ق((( ال� ُم��زب��د‬ ‫�أه � ��دى ال��ب ��راي ��ا ف ��ي الأم� � ��ور و�أر�� �ش ��د‬ ‫(((‬ ‫ف �ن �ه �� �ض��ت ف �ي��ه ق ��ائ��م�� ًا ل ��م ت �ق �ع��د‬ ‫ت� �ق� �ف ��و ب � ��ه �أ َث� � � � � � َر ال � �ن � �ب� � ِّ�ي م��ح�� َّم ��د‬ ‫�ذب م ��ورد‬ ‫وال��ن ��ا� ��س ت �ن �ه � ُل م �ن��ك �أع � � � َ‬


‫����������������� ‬

‫�دي ال�ه��دى ع� �ف� � ٌو ت � �� � �ص � � َّو َب م� ��ن ل �ط �ي��ف �أوح � ��د‬ ‫و��س�ق��ى ث � � ًرى ق��د � �ض� َّ�م م��ه � َّ‬ ‫ال َ‬ ‫زال ت �ن �ط� ُ�ف ف ��وق ��ه ِق� �ط� � ُع ال�ح�ي��ا ب� �م� �ج� �ل� �ج ��ل((( ف� �ي ��ه ي � � ��روح وي �غ �ت ��دي‬ ‫الثالث‪ :‬تربية النف�س‪ ،‬وتزكيتها من ال�شوائب التي تنمو ب�شكل تدريجي عند الإن�سان‪،‬‬ ‫كالأنانية والح�سد‪ ،‬فال�سيد محمد ر�ضا‪ ،‬لم يكن مج ّرد عالم ارتقى في �سلم �إ�صالح‬ ‫النف�س‪ ،‬و�إ ّنما بلغ مرتبة المربي والموجه‪ ،‬وهذا ما ظهر في كتابه (ال�سمك ّية)‪ ،‬الذي‬ ‫�صنفه ب�سبب ق�صة حدثت معه‪ ،‬وهي‪� :‬أ ّنه ذات يوم ق ّرر مع مجموعة من الأ�صدقاء‪� ،‬أن‬ ‫يتناولوا غداءهم (�سمك ًا) مقلي ًا‪ ،‬وطلبوا�إلى من له خبرة بالأ�سماك �أن ي�شتريها لهم‪،‬‬ ‫ويدفعها للن�سوة كي يح�ضرونها للغداء‪ ،‬و�إذا بجماعة عرفوا بالأمر‪ ،‬ف�أر�سلوا �إلى ذلك‬ ‫البيت الم�شرف على تح�ضير الطعام‪ ،‬لي�أتي به‪ ،‬و�أوهم �صاحبة المنزل‪� ،‬أ ّنه مر�سل خلف‬ ‫الغداء‪ ،‬وبالفعل �أخذوا الطعام و�أكلوه‪.‬‬ ‫ما حدث لم يزعج ال�سيد محمد ر�ضا ب�أنهم �أكلوا طعامهم‪ ،‬بقدر ما ر�أى في هذا‬ ‫الت�صرف عنوان ًا ي�ؤ�شر لمر�ض ع�ضال على �صعيد النف�س‪ ،‬حيث تدخل تحته عناوين‬ ‫وحب الذات‪ ،‬وهذه ال�صفات يجب �أن تكون بعيدة عن طالب العلم‪،‬‬ ‫مختلفة‪ ،‬من الأنانية ّ‬ ‫وتتنافى مع بلوغ المراتب ال�سامية في العلوم‪� ،‬إذ يجب �أن تتما�شى مع كماالت النف�س‬ ‫و�صفائها‪ ،‬وبدونها لن يحقق �صاحب المقام العلمي مراده‪.‬‬ ‫لهذا بادر ــ رحمه اهلل ــ �إلى ت�صنيف كتاب �س ّماه (ال�سمك ّية) ن�سبة �إلى الق�صة التي‬ ‫حدثت‪ ،‬و�أراد منها �أن تكون معبر ًا‪ ،‬لم�شروعه الإ�صالحي والتربوي‪ ،‬وليلفت نظر طالب‬ ‫العلوم الدينية �إلى هذه الحقائق التي ال يجوز �أن يغفل عنها طالب العلم‪.‬‬ ‫كتاب ال�سمك ّية‬

‫�أراد ال�سيد ف�ضل اهلل �أن تكون حادثة (ال�سمك)‪ ،‬معبر ًا لطرح م�شروعه الأخالقي‬ ‫أ�سلوب ُيحاكي النف�س ال�شيطانية‪� ،‬إذ ال يكفي في عملية التغيير الذاتي‬ ‫والتربوي‪ ،‬ب� ٍ‬ ‫(( ( المجلجل‪ :‬ال�سحاب الراعد المطبق بالمطر‪.‬‬

‫‪131‬‬


‫ال�سيد محمد ر�ضا ف�ضل اهلل الحكيم والم�صلح‬

‫التذكير بالآخرة‪ ،‬من خالل عر�ض الآيات والروايات فقط‪ ،‬فهذا النمط يحتاج كما‬ ‫الحديد (المت�صدئ) �إلى ّ‬ ‫حف وطالء‪ .‬فالطالء على ال�صدء‪ ،‬يغطيه لمرحلة محدودة‪،‬‬ ‫و ُيعطي �صورة عك�س الحقيقة‪ ،‬و�سرعان مايتبدل الم�شهد‪ ،‬ويعود ال�صدء �إلى الظاهر‪،‬‬ ‫كذلك النف�س التي عا�شت فترة طويلة على الذنوب‪� ،‬أو لم يلتفت �أ�صحابها �إلى تربيتها‬ ‫وت�أديبها‪ ،‬ف�إذا لم ُتطعه نف�سه فيما ُيحب‪ ،‬فيجب عليه �أن يمنعها ع ّما ترغب‪ ،‬عقاب ًا لها‬ ‫م�شروع‬ ‫وت�أديب ًا‪ .‬لذلك �أراد ال�سيد محمد ر�ضا ــ رحمه اهلل ــ �أن يكون كتاب ال�سمكية �إطار‬ ‫ٍ‬ ‫تربوي ُيعالج هذا الإنحراف‪ ،‬وي�ضع له البدائل‪ ،‬كي يتمكن طالب العلم بالتحديد‪ ،‬من‬ ‫الوقوف على مخاطر �إهمال النف�س‪� ،‬أو الإ�ستهانة بهذه الت�صرفات التي تك�شف عن‬ ‫وجود مكان عميق لمكائد ال�شيطان فيها‪ ،‬وما علينا � ّإل التنبه واليقظة قبل فوات الآوان‪،‬‬ ‫فنحن ــ ال �سمح اهلل ــ �إذا كنا عاجزين عن تربية �أنف�سنا في الحوزة العلمية‪ ،‬التي لي�س‬ ‫فيها مغريات دنيوية‪ ،‬و�أ�صحابها بعيدون عن ال�شهوات وحب الذات والأنانية‪ ،‬فكيف‬ ‫�سيكون م�صيرنا في الأماكن التي تكون مليئة بمكائد ال�شيطان؟ ولهذا نالحظ علماء‬ ‫الأخالق وقبل �أن يدلوا ِب َدلوهم‪ ،‬كانوا قدوة في ال�سلوك والتطبيق‪ ،‬كي تكون الأفكار التي‬ ‫يطرحونها م�ؤثرة‪ ،‬وتجد لها �أُذن ًا �صاغية‪ ،‬م�ضاف ًا‪� ،‬أنهم لم يقت�صروا في مواعظهم على‬ ‫عر�ض الأحاديث ال�شريفة‪ ،‬و�إنما كانوا يعر�ضون الم�شكلة وحكمها ال�شرعي‪ ،‬ثم يطرحون‬ ‫العالج للمري�ض‪ ،‬كي يتمكن هذا الغافل من معالجة م�شكلته‪ ،‬والو�صول �إلى النتيجة‬ ‫المر�ضية‪.‬‬ ‫ولم يقت�صر ال�سيد ف�ضل اهلل على معالجة الم�شاكل الأخالقية‪ ،‬و�إنما نراه يت�صدى‬ ‫لمعالجة العديد من العناوين الدينية وال�سيا�سية والإجتماعية‪ ،‬وهذا يك�شف عن �إحاطة‬ ‫هذه ال�شخ�صية بكل هذه العناوين‪ ،‬و�أ ّنه ي�صلح ليكون العالم القدوة والمربي والموجه‪،‬‬ ‫ومن الموا�ضيع التي عالجها‪ ،‬نذكر‪:‬‬ ‫�إ�صالح الم�ؤ�س�سة الدينية‪ ،‬التي ت�ضم كبار الفقهاء و�أ�ساتذة الحوزات العلمية‪ ،‬والمبلغين‪.‬‬ ‫وعلى طول التاريخ كانت تتح ّمل هذه الم�ؤ�س�سة �أعباء ج�سيمة في حفظ ون�شر ك ّل ما‬ ‫‪132‬‬


‫����������������� ‬

‫هو متعلق بهذا الدين‪ .‬من ن�شر الفقه والحديث والتف�سير �إلى العلوم المختلفة‪� ،‬أو ما‬ ‫ي�صل �إلى حدود الأمر بالجهاد �أو �إ�ضرام ال�صلح‪.‬‬ ‫هذه الم�ؤ�س�سة كانت‪ ،‬وال زالت ُتعاني الكثير من الم�شاكل‪ ،‬وكان العلماء المخل�صون‬ ‫الذين يمتلكون وعي ًا مبكر ًا‪ُ ،‬يق ّدمون مبادرات ع ّلها تدفع في عملية الرقي والتقدم‪.‬‬ ‫فال�سيد محمد ر�ضا الذي و�صل �إلى مكانة عالية في العلم و�صفاء النف�س والوعي‪ ،‬كان‬ ‫من �أولئك القلة الذين التفتوا �إلى �ضرورة تح�صين هذه الم�ؤ�س�سة‪ ،‬وتبيين ما هو مطلوب‬ ‫منها‪ ،‬ويمكن تلخي�صها بالعناوين التالية‪:‬‬ ‫الحث على طلب العلم‪ ،‬وهو من العناوين الأ�سا�سية في طريق الإ�صالح‪ ،‬فمع عدم‬ ‫وجود طالب علوم دينية‪ ،‬ينتفي م�شروع الإ�صالح‪ ،‬وي�صبح �سالب بانتفاء المو�ضوع‪،‬‬ ‫والذي دعاه للحث على طلب العلم‪ ،‬المرحلة التي ابتعد فيها النا�س عن طلب العلم‪،‬‬ ‫وزهدوا فيه‪ ،‬ب�سبب الأو�ضاع التي و�صلت �إليها المنطقة‪ ،‬ولهذا كان الحث على طلب‬ ‫العلم الذي قد يتح ّول من واجب كفائي �إلى واجب عيني‪ ،‬عندما يتوقف طلب العلم على‬ ‫من يجد في نف�سه الأهلية لهذا المقام‪ ،‬ولع ّل ال�سيد محمد ر�ضا كان يرى في التعبير‬ ‫(�شعر ًا)‪� ،‬أنه الأكثر بالغة وت�أثير ًا‪ ،‬وخ�صو�ص ًا في تلك المرحلة التي كانت الق�صيدة‬ ‫تنت�شر ب�سرعة �أكثر من النثر‪ .‬وم ّما قاله في هذا المجال‪:‬‬ ‫�ري رواح� � � � � � َ�ل م � �ث� � َ�ل �أع� � � � � ��واد ال� �ق� ��� �س � ّ�ي‬ ‫�أال ح� � � َّث � ��ا �إل � � � ��ى �أر� � � � � ��ض ال� � �غ � � ّ‬ ‫و�أ�� � � � �ش � � � ��وا ًال ن� � ��واف� � ��خَ ف� � ��ي ُب � ��راه � ��ا خ� � � � � � � َ‬ ‫�وارق ك � � � � ّل � � �ش � �ع� ��ب م� �ج� �ه� �ل � ّ�ي‬ ‫�أال ه � � � َّي� � ��ا ب � � �ه� � ��نّ وج� � ��اذب� � ��اه� � ��ا خ � �ط� ��ام � � ًا م� �ث ��ل �أ� � �ش � �ط� ��ان ال� � � َّرك � � ّ�ي‬ ‫�أال اع �ت �� �س �ف��ا ب� �ه ��ا ال � �م� ��وم� ��اة ح�ت��ى ت � �ح� � َّ�ل ب� � � ��ذروة ال � ��� َّ��ش� ��رف ال �ق �� �ص� ّ�ي‬ ‫�أال ان �ت �� �ص �ب��ا ح �� �س��ام � ًا راح �أم �� �ض��ى و�أق � � �ط � � � َع م � ��ن ح� � � ��دود ال��م�����ش ��رف � ّ�ي‬ ‫�وري؟‬ ‫ف� �م ��ا ه � ��ذا ال � �ق � �ع� ��و ُد ع� �ل ��ى الأم� ��ان� ��ي �أل � �ي � ��� ��س زن� � � ��اد ع� ��زم� ��ك ب� � ��ال� � � ّ‬ ‫وم� � � ��ا دار ال� � � �ه � � ��وان ب� � � � ��دار ح � � ّر �إذا م� � ��ا ك � � ��ان ب � � ��الأ ِن � � ��ف الأب � � � � ّ�ي‬ ‫وم� � ��ا الأق� � � � � ��دار ط� � ��وع ي� ��دي� ��ك ح �ت��ى ت� �ق ��ول ال�����ص��ب � ُ�ح �أو غ��ل��� � ُ�س ال �ع �� �ش� ّ�ي‬ ‫‪133‬‬


‫ال�سيد محمد ر�ضا ف�ضل اهلل الحكيم والم�صلح‬

‫�أال ف ��ا�� �ص ��رف ب� �ن ��اب ��ك واق��ت��ع ��ده ��ا ن � �ج� ��ائ� ��ب م � �ث� ��ل م� �ن� �ع� �ط ��ف ال� �ح� �ن � َ�ي‬ ‫�ري‬ ‫�أال ف ��ان� �ه� �� ��ض ف �ل �ي ����س ال� �م� �ج ��د �إال ل� � � �م� � � �غ � � ��وار وم� � � � � �ق � � � � ��دام ج � � � � ّ‬ ‫�ري‬ ‫�أال ف� � � ��ارم ال � �ف � �ج� ��اج ب� �ه ��ا ودع� �ه ��ا �� � �س � ��وان � � َ�ح ب � �ي� ��ن ع � ��ام � � َ�ل وال� � �غ � � ّ‬ ‫�راح� ��ا ت � � � ��رود ب � �ن� ��اظ� ��ر ال � � � ّزه� � ��ر ال� �ج� �ن � ّ�ي‬ ‫وف � � ��ي م � �غ � �ن� ��اه �أط � �ل � �ق � �ه� ��ا � � �س� � ً‬ ‫م � � �ح � � � ّرم� � ��ة ع� � �ل � ��ى � � �س � �ب� ��ع وط � �ي� ��ر ب � � �غ� � ��اث �أو ع � � �ق� � ��اب ق� ��� �ش� �ع� �م � ّ�ي‬ ‫�أي�ض ًا‪ ،‬هناك ر�سالة �أر�سلها ال�سيد محمد ر�ضا �إلى �أحد �إخوانه يحثه فيها على ال�سفر‬ ‫�إلى النجف الأ�شرف لطلب العلم‪ ،‬ومما جاء فيها‪:‬‬ ‫« كبا بنا جواد الأ ّيام برهة ف�أوقفنا عن الجوالن في حلبات طلب العلم ال�شريف‬ ‫ب�سبب بع�ض العلماء‪ ،‬وكنا ن� ِّؤمل �أنْ نح�ض َر عليه بعد �أن �أتى من العراق �إلى الجبل‪ ،‬فكنا‬ ‫يحتاج �إليه من‬ ‫بح�ضوره �أ�ش َّد تعطي ًال من زمن غيبته‪� ،‬إذ ا�شتغل و�أ�شغلنا ب�أمر دنياه‪ ،‬وما ُ‬ ‫فكتبت �إلى بع�ض الإخوان �أح ِّر�ضه على الهجرة �إلى النجف الأ�شرف �إذ‬ ‫ال َّدراهم وال ُّدر‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫عيلم ال ِعلم به يطفو ُعبا ُبه وذلك �سنة ‪ 1308‬للهجرة»‪ ،‬وك�أنه ي�شير �إلى مرحلة ما بعد‬ ‫ُ‬ ‫ال�شيخ مو�سى �أمين �شرارة‪ ،‬حيث لم يقم البديل بكل المهام التي �أطلقها ال�شيخ مو�سى‬ ‫�شرارة‪ ،‬و�إنما اكتفى بالتب ّليغ الديني‪ ،‬من الوعظ والإر�شاد و�إ�صالح ذات البين‪� ،‬إلخ‪.‬‬ ‫التوا�ضع مع الإخوان‪ ،‬من العناوين التي حثَّ عليه الإ�سالم‪ ،‬بين عموم الم�ؤمنين‪،‬‬ ‫لما فيه من م�صلحة عامة وتظافر جهود‪ ،‬وت�أكيد على الم�شروع الإن�ساني الذي جعله‬ ‫اهلل خليفة في الأر�ض‪ ،‬وهذا يكون بين �أهل العلم ب�شكل �أكبر‪ ،‬لما �ألقي على عاتقهم‬ ‫من م�س�ؤوليات ج�سام‪ ،‬وهذا التوا�صل َيحثُّ على العمل‪ ،‬و ُين ّبه من التق�صير �أو القيام‬ ‫بالأعمال الخاطئة‪ ،‬وكما قيل‪ :‬الإن�سان ابن بيئته‪ ،‬وهذا التوا�صل �ضروري في الحث على‬ ‫تحمل الم�س�ؤولية‪ .‬وهنا نالحظ الق�صيدة التي �أر�سلها �إلى �أحد �إخوانه العلماء‪ُ ،‬يهنئه‬ ‫فيها بذهابه �إلى الحج‪ ،‬وفي الوقت الذي يمتدحه فيها‪ ،‬و ُيطالب �أن َيكون هكذا نماذج‬ ‫من الأ�صدقاء‪ ،‬ويحثّ على التوا�صل مع الإخوان‪ ،‬في نف�س الوقت‪ُ ،‬يح ّذر من الأ�صحاب‬ ‫الذين يظهرون المودة وي�ضمرون الكيد والح�سد‪ ،‬ومما قاله‪:‬‬ ‫‪134‬‬


‫����������������� ‬

‫ت�م� ّن�ي��ت م ��ن ده� ��ري خ �ل �ي� ً‬ ‫لا م�صافي ًا‬ ‫ف�ك��م م��ن �أخ ت�ل�ق��اه ك��ال���ّ�س�ي��ف مرهف ًا‬ ‫ي ��ري ��ك واداد ًا ظ��ل ��ه ي �غ �م��ر ال � ��ورى‬ ‫ورو�� � �ض� � � ًا ب� � �ن� � � ّوار ال� � �م � ��و ّدة م ��زه ��ر ًا‬ ‫وب� ��رق � � ًا �إذا ا� �س �ت �م �ط��رت��ه راح خ�ل�ب� ًا‬ ‫م� � ��� � �ش � ��ارع و ّد رن � �ق � �ت � �ه� ��ا ط� �ب ��اع ��ه‬ ‫وم ��ا ال �م��رء ك�� ُّل ال �م��رء �إال اب ��نُ نجدة‬ ‫ب �� �ص �ي � ٌر ب� � ��أخ �ل��اق ال � ��زم � ��ان و�أه� �ل ��ه‬ ‫�وب ال� �ع� �ف ��اف وت �ح �ت��ه‬ ‫ف��ك ��م الب� �� ��س ث� � � َ‬ ‫و�آخ� � � ��ر ل� ��و ف��ت�����ش � َ�ت �أ� � � �س� � ��رار ق�ل�ب��ه‬ ‫وراح ف� ��ري� ��د ًا ف ��ي � �ص �ف��ات ل ��و �أ ّن� �ه ��ا‬ ‫ي� �غ� �� �ّ�ض ع� ��ن الأق� � � � ��ذاء ج� �ف� � ّن ��ا لأ َّن � ��ه‬ ‫�إذا ال � ��داء �أم �� �س��ى ل�ل� ُّن�ف��و���س دواءه� ��ا‬ ‫وم��ن �أعظم البلوى على الح ّر �أن يرى‬ ‫قرار العودة �إلى جبل عامل‬

‫ك � ��أن� � َ�ي ك�� َّل��ف ��ت ال��ل��ي ��ال ��ي ال �م �ح��ال �ي��ا‬ ‫�إذا �أن� � ��ت ق� ��د ج� � ّرب� �ت ��ه راح ن��اب �ي��ا‬ ‫�إذا م��ا ب��ه ا�ستظلت �أ�صبحت �ضاحيا‬ ‫رم� ��ت م�ن��ه ال �ق� ْ�ط��ف ت�ل�ق��اه ذاوي ��ا‬ ‫�إذا ْ‬ ‫ون� � ��وء ًا غ� ��دا ف ��ي غ �ي��ر وادي � ��ك ه��ام�ي��ا‬ ‫�أ َب � ْي ��ت ال � � ِّروى منها و�إن ك�ن��ت �صاديا‬ ‫ي�ع��اف ال � � ِّروى �ض ْنك ًا و�إن ك��ان ظامي ًا‬ ‫ي ��راه ��ا ب �ع �ي��ن ال �ف �ك��ر غ �ي �ب � ًا ك �م��ا هيا‬ ‫�وب تلقى ال��دواه�ي��ا‬ ‫�إذا م��ا رف �ع� َ�ت ال � َّث� َ‬ ‫ل �ط��اب��ق م �ن��ه ال�����س�� ُّر م ��ا ك� ��ان ب��ادي��ا‬ ‫ُت � َ�ج� ��� �س ��م ل� �ل ��رائ ��ي ل� �ك ��ان ��ت درادي � � ��ا‬ ‫ي��رى ال ��داء ق��د �أع�ي��ا الطبيب المداويا‬ ‫فهيهات �أن تلقى ل ��ذي ال� ��داء �شافيا‬ ‫م� �ن ��اق� � َب ��ه ال � � �غ � � � ّرا ت� � � َع� � � ُّد م�����س ��اوي ��ا‬

‫عتد به من العلم‪ ،‬زهد ًا‬ ‫لم يكن قرار العودة �إلى جبل عامل‪ ،‬بعد �إنهاء الطالب لق�سط ُم ٍ‬ ‫ت�ضم ذلك المرقد المقد�س‬ ‫بالنجف الأ�شرف‪ ،‬بما ُتمثل من ر�صيد معنوي كبير‪ ،‬حيثُ ّ‬ ‫لو�صي ر�سول اهلل ‪ P‬الإمام علي بن �أبي طالب ‪ ،Q‬وت�أثير ذلك المقام على الروح‬ ‫المعنوية والتربوية لدى الطالب‪ ،‬م�ضاف ًا لوجود الحوزة العلمية ولذة الإنخراط بها‪،‬‬ ‫والح�صول على المراتب العلم ّية التي ُتم ّكن الطالب من ك�سب �أكبر قدر ممكن من العلوم‬ ‫الفقهية والأ�صولية والفل�سفية‪ ،‬وعلم الكالم والحديث‪ ،‬وهي تختلف عن بقية المراكز‬ ‫الأكاديمية‪ ،‬حيث ي�شعر الطالب في النجف ب�أنه كلما ارتقى في العلم درجة‪ ،‬ارتقى في‬ ‫بلوغ تربية النف�س والقرب من اهلل مثلها‪.‬‬ ‫‪135‬‬


‫ال�سيد محمد ر�ضا ف�ضل اهلل الحكيم والم�صلح‬

‫هذا الع�شق للنجف الأ�شرف‪ ،‬لم ُيل ِغ �شعور الطالب بالم�س�ؤولية الكبرى اتجاه جبل‬ ‫عامل‪ ،‬وك�أن نية العودة �إلى جبل عامل‪ ،‬تنمو في ذهن الطالب ُ‬ ‫منذ لحظة و�صوله �إلى‬ ‫النجف‪ ،‬لما لجبل عامل من �أهمية ال تقل عن بقية المراكز العلمية والمناطق ذات‬ ‫ال�صلة بالنه�ضة العلمية والأدبية‪ ،‬التي ُت�شك ّل بمجموعها‪ ،‬الإطار الذي يحمي مدر�سة‬ ‫�أهل البيت ‪ ،R‬والمدافع عن حيا�ض الإ�سالم وحماية الم�سلمين‪.‬‬ ‫�إذ ًا‪ ،‬قرار العودة لم يكن م�س�ؤولية �شخ�ص محدد‪� ،‬أو في زمان ُمح ّدد‪� ،‬إ ّنما هي �سيرة‬ ‫علماء هذا الجبل �إقت�ضت ذلك‪ ،‬منذ اليوم الذي عاد من مدينة (الح ّلة) ذلك الفقيه‬ ‫الكبير ال�شيخ محمد بن مكي الجزيني المعروف بال�شهيد الأول‪ ،‬في �أوا�سط القرن‬ ‫الثامن للهجرة‪ ،‬وا�ستطاع �أن ينقل جبل عامل من مرحلة ح�ضور لبع�ض العلماء فيه‪� ،‬إلى‬ ‫مركز علمي‪� ،‬صار ي�ضاهي المركز العلمي لمدينة الح ّلة‪ ،‬وهذا ما قاله الح ّر العاملي في‬ ‫(�أمل الآمل)‪�« :‬أ ّنه �صلى على �إحدى الجنائز في �إحدى القرى في عهد ال�شهيد الأول‪،‬‬ ‫�سبعون مجتهد ًا»(((‪.‬‬ ‫بنا ًء على هذا تكون‪ ،‬العودة �إلى جبل عامل م�س�ؤولية �شرعية تقع على عاتق ه�ؤالء‬ ‫العلماء‪ ،‬وكان ي�شجعهم على ذلك فقهاء النجف‪ ،‬لما لجبل عامل من مكانة متقدمة لدى‬ ‫ه�ؤالء الأعالم‪.‬‬ ‫في �سنة ‪1320‬هـ ‪1902/‬م‪ ،‬عاد ال�سيد محمد ر�ضا من النجف الأ�شرف �إلى قريته‬ ‫(عيناثا)‪ ،‬و ُك ّل ه ّمه موا�صلة ما قام به ال�سلف ال�صالح من النه�ضة العلمية والأدبية‪،‬‬ ‫وعظ و�إر�شاد‪ ،‬و�إحياء منا�سبات‪ ،‬وتعظيم ال�شعائر الح�سينية‪،‬‬ ‫م�ضاف ًا للتبليغ الديني من ٍ‬ ‫بما ُت�شكل بمجموعها عنوان المحافظة على جبل عامل‪ ،‬كحا�ضرة علم ّية‪ ،‬وعلى مكوناته‬ ‫الإجتماعية‪ ،‬التي ت�ضمن له البقاء والإ�ستمرارية‪ ،‬وال�صمود �أمام الأعا�صير المحدقة‬ ‫به من ك ّل حدب و�صوب‪ ،‬وخ�صو�ص ًا �أن الح�ضور العثماني ال زال جاثم ًا بك ّل ج�شعه‬ ‫و�أطماعه‪ ،‬ومرارة النكبة التي �صنعها العثمانيون‪ ،‬وتداعياتها لم تنت ِه بعد‪ ،‬وهناك‬ ‫(( ( محمد بن الح�سن الحر (الحر العاملي)‪� ،‬أمل الآمل‪ ،‬ج‪� ،1‬ص‪.15‬‬

‫‪136‬‬


‫����������������� ‬

‫الخ�شية من تكرارها في �أي لحظة هم يق ّررون ذلك‪ ،‬ولع ّل هذا الذي منع علماء تلك‬ ‫المرحلة من الإن�صراف الكامل �إلى التدري�س والت�صنيف‪ ،‬كما كان في مرحلة ما‬ ‫قبل النكبة‪ ،‬فالم�س�ؤوليات كبيرة‪ ،‬والإن�صراف �إلى ال�ش�أن العام‪ ،‬ومعالجة الم�شاكل‬ ‫الهم الأكبر لدى علماء تلك المرحلة‪ ،‬فكانوا يقت�صرون‬ ‫الإجتماعية والإقت�صادية‪ ،‬هو ّ‬ ‫على تدري�س الطالب المقدمات‪ ،‬وربما ال�سطوح‪ ،‬ثم ير�سلونهم �إلى النجف الأ�شرف‬ ‫ال�ستكمال تح�صيل المراتب العليا‪.‬‬ ‫بقي ال�سيد محمد ر�ضا في (عيناثا) خم�س �سنوات قائم ًا بكل هذه الوظائف الدينية‪،‬‬ ‫حتى دعاه الواجب �إلى تركها والتوجه �إلى بلدة (قانا)(((‪� .‬إذ لم ُيلزم العلماء �أنف�سهم‬ ‫بالبقاء في قراهم وبين �أهلهم‪ ،‬و�إنما كانوا يتواجدون حيت تقت�ضي الحاجة‪� ،‬سواء‬ ‫التنقل داخل الوطن �أو ال�سفر �إلى خارج البالد‪ ،‬كما فعلوا في �سوريا‪ ،‬والعراق‪ ،‬واليمن‪،‬‬ ‫و�إيران‪ ،‬وم�صر‪ ،‬وفل�سطين‪ ،‬ومكة المكرمة‪ ،‬والهند‪ .‬وهنا �أُق ّدر عالي ًا عوائلهم ال�شريفة‪،‬‬ ‫التي لم تمانع �أو تعرقل لهم هذه المهام والتكاليف الإلهية‪ ،‬وعلى �سبيل المثال‪� :‬أن يترك‬ ‫ال�شيخ حبيب �آل �إبراهيم (المهاجر)‪ ،‬بلدته (حناويه) الجميلة‪ ،‬وي�سكن بعلبك في ذلك‬ ‫الزمن‪ ،‬ال يمكن �أن يقوم بهذا العمل � ّإل من امتلأ قلبه �إيمان ًا‪ ،‬ولم تعد هناك م�ساحة‬ ‫للح�سابات ال�شخ�صية في نف�سه وعند عائلته(((‪.‬‬ ‫((( قانا‪ :‬قرية من قرى جبل عامل‪ ،‬تتبع لق�ضاء �صور‪ ،‬ومحافظة لبنان الجنوبي‪ ،‬ترتفع عن �سطح البحر حوالي ‪300‬م‪ ،‬فيها مجل�س‬ ‫بلدي �أن�شئ �سنة ‪1950‬م‪ ،‬وكانت في القديم �إحدى مقاطاعات جبل عامل الثمانية‪ ،‬اتخذها ال�شكريون‪ ،‬مدّة حكمهم الإقطاعي‬ ‫�إحدى قواعدهم‪ .‬وفي قانا نكل علي ال�صغير الوائلي الذي ينت�سب �إليه �آل ال�صغير بمن كان منهم ــ ال�شكريون ــ وذلك �أثناء‬ ‫ا�شتغالهم ب�أعرا�سهم وذلك يعود لث�أر قديم بينهمفي قانا الكثير من الآثار القديمة‪ ،‬كالآثار الفينيقية والآثار الرومانية‪ .‬فيها‬ ‫من العلماء ال�شيخ بدر الدين ال�صايغ‪ .‬وفي قانا عائالت �إ�سالمية وم�سيحية‪� ،‬أبرزها‪� :‬آل �أيوب‪� ،‬آل الخوري‪� ،‬آل الحداد‪� ،‬آل‬ ‫�سعادة‪� ،‬آل جبور‪� ،‬آل علي ال�صغير‪� ،‬آل البرجي‪� ،‬آل عطية‪� ،‬آل �صائغ‪� ،‬آل حمود‪.‬‬ ‫((( ال�شيخ حبيب بن محمد بن الح�سن بن �إبراهيم المهاجر العاملي المتوفى �سنة ‪1384‬هجرية‪ ،‬كان عالم ًا كبير ًا‪ ،‬و�أديب ًا جلي ًال‪،‬‬ ‫ولد في (حناويه) في جبل عامل �سنة ‪1304‬هـ‪ ،‬ون�ش�أ فيها‪ ،‬فقر�أ مبادئ العلوم‪ ،‬ثم هاجر �إلى النجف الأ�شرف‪ ،‬وح�ضر على‬ ‫�شيخ ال�شريعة الأ�صفهاني وال�شيخ علي بن باقر الجواهري والميرزا محمد ح�سين النائيني ‪ ،‬وال�سيد �أبي الح�سن الأ�صفهاني‬ ‫وغيرهم‪ .‬له من الم�صنفات‪ :‬الإ�سالم في معارفه وفنونه ــ الإنت�صار ــ الجواب النفي�س ــ الحقائق في الجوامع والفوارق وغيرها‪.‬‬ ‫ال�سيد مح�سن الأمين‪ ،‬خطط جبل عامل‪� ،‬ص ‪ 275‬‬ ‫ال�شيخ �سليمان ظاهر‪ ،‬معجم قرى جبل عامل‪ ،‬ج ‪� 2‬ص ‪ . 184‬‬ ‫ال�شيخ �إبراهيم �سليمان‪ ،‬بلدان جبل عامل‪� ،‬ص ‪.337‬‬

‫‪137‬‬


‫ال�سيد محمد ر�ضا ف�ضل اهلل الحكيم والم�صلح‬

‫ففي �سنة ‪1325‬هـ ‪1907 /‬م‪ ،‬انتقل ال�سيد محمد ر�ضا ف�ضل اهلل �إلى بلدة (قانا)‪،‬‬ ‫و�سكنها �إلى �أن توفي فيها‪ ،‬بعدما طلبه �أهالي البلدة والجوار ليكون �إمامهم‪ ،‬في�صلح‬ ‫�ش�أنهم ويع ّلمهم �أحكام دينهم‪ ،‬و ُيحيي المنا�سبات الدينية‪ ،‬وبالت�أكيد لم يقت�صر في‬ ‫عمله على الوعظ والإر�شاد فقط‪ ،‬و�إنما ت�ص ّدى ل�ش� ٍؤون عامة‪ .‬ففي تلك المرحلة كان‬ ‫جبل عامل‪ ،‬يقترب من ذلك المخا�ض الع�سير الذي بد�أت فيه �إرها�صات الحرب‬ ‫العالمية الأولى‪ ،‬وما رافقها من �آالم وم�صائب‪ ،‬الم�س معها النا�س الأمرا�ض والجوع‬ ‫وعدم الإ�ستقرار‪ ،‬ولم تنته هذه الأالم بنهاية الحرب �سنة ‪1918‬م‪ ،‬و�إنما نتج عنها قيام‬ ‫الإنتداب الفرن�سي على �سوريا ولبنان والإنتداب البريطاني على العراق وفل�سطين‪،‬‬ ‫وا�ستمرت هذه المعاناة �إلى ما بعد الإ�ستقالل الموهوم‪ ،‬وجاءت النكبة على فل�سطين‬ ‫في �أيار ‪1948‬م‪ ،‬وال زالت المنطقة تعي�ش تداعيات تلك النكبة �إلى يومنا هذا‪.‬‬ ‫و�شاء القدر �أن يعي�ش ال�سيد محمد ر�ضا مرحلتين‪ ،‬كانتا قا�سيتين على �أهالي جبل‬ ‫عامل‪� :‬إرها�صات الحرب العالمية الأولى‪ ،‬وما رافقها من حكم ال�سفاح (جمال با�شا)‬ ‫الذي �أعاد �إلى الأذهان تلك المرحلة القا�سية التي عا�شها جبل عامل‪ ،‬في عهد الوالي‬ ‫العثماني المجرم (�أحمد با�شا الجزار)(((‪ ،‬والمرحلة الثانية هي الحرب العالمية الأولى‬ ‫التي ن�شبت �سنة ‪1914‬م‪ ،‬وا�ستمرت �أربع �سنوات‪.‬‬ ‫ال�سيد عبد الح�سين �شرف الدين‪� ،‬أ�شار في كتابه (بغية الراغبين) �إلى تلك المرحلة‬ ‫القا�سية التي عاناها العلماء والنا�س في جبل عامل‪ ،‬جراء ال�سيا�سة الوح�شية التي‬ ‫مار�سها الوالي العثماني على بالد ال�شام ال�سفاح جمال با�شا‪ ،‬حيث قال‪ « :‬وقع العالم‬ ‫ب�أ�سره ــ من هذه الحرب ــ في كبد واخت�صت �سوريا ولبنان وفل�سطين بويالت جمال با�شا‬ ‫((( �أحمد با�شا الجزار(‪1734‬ــ ‪1804‬م)‪ :‬كان حاكم ًا ل�ساحل فل�سطين وال�شام لأكثر من ‪� 30‬سنة‪ ،‬ولد في البو�سنة لأ�سرة م�سيحية‬ ‫ثم هرب �إلى الق�سطنطينية ب�سبب ظروف عائلية �أو جريمة قتل كما يرجح الم�ؤرخون‪ ،‬وو�صل �إلى الباب العالي من خالل �أحد‬ ‫تجار الرقيق الذي قام ببيعه له‪ ،‬ت�سلم والية (عكا) وكان قا�سي ًا ظالم ًا ال يعرف قلبه الرحمة �أبد ًا‪ ،‬ذاق منه العامليون الويالت‬ ‫بعد مقتل الأمير نا�صيف الن�صار في وقعة (يارون)‪ ،‬حيث قام بقتل النا�س وتهجيرهم‪ ،‬فحرق المكتبات وقتل العلماء و�أ�سر‬ ‫بع�ضهم‪ ،‬ولم ي�سلم من �أذاه الحجر‪.‬‬

‫‪138‬‬


‫����������������� ‬

‫ــ قائد الجي�ش الرابع ال�شاهاني ــ �إذ ا�ست�شعر منها مي ًال �إلى الحرية واال�ستقالل‪ ،‬فهمه‬ ‫في انتقامه متجاوز ًا في ذلك كل �أحد‪.‬‬ ‫وقد �أمعن في تجنيد الرجال‪ ،‬و�سوقهم �إلى ميدان القتال‪ ،‬حتى لم يبق �إال المر�أة‬ ‫وال�صبي وال�شيخ الهرم وال�ضرير والزمن ومن هو في حكمهم‪ ،‬وقام في ذلك على �ساق‪،‬‬ ‫ي�سوق النا�س جميع ًا على اختالف طبقاتهم بع�صا واحدة‪ ،‬فكانت ال ّروعة �شديدة‪،‬‬ ‫والهول هائ ًال‪ ،‬وركب ر�أ�سه في جباية الأموال با�سم ال�ضرائب والإعانات والتبرعات �سلب ًا‬ ‫ونهب ًا ب�أفظع �صور النهب وال�سلب‪ ،‬ون�صب الم�شانق‪ ،‬و�ص ّوب البنادق لإعدام من يف ُّر من‬ ‫التجنيد‪ ،‬فكان ــ الأونبا�شي ــ من الدرك يملك قتل من ي�شاء ممن يزعم فرارهم‪ ،‬ال ي�س�أل‬ ‫عن ذلك �أبد ًا‪.‬‬ ‫ورمى البالد بالمجاعة المدقعة �إذ قطع الميرة عنها‪ ،‬ف ّقلت الأقوات‪ ،‬وغلت الأ�سعار‬ ‫غالء عظيم ًا‪ .‬فكان الفقراء يطوون اليوم تلو اليوم‪ ،‬فتراهم خاوين مر�سبين حتى ماتوا‬ ‫جوع ًا‪ ،‬وكانت الموتى مطروحة في البيوت وفي ال�شوارع العامة وفي البراري ال ي�ؤبه بها‪.‬‬ ‫و�أر�صد المجل�س العرفي في عاليه‪ ،‬وما �أدراك ما فعل ذلك المجل�س‪ ،‬ونبر�أ �إلى اهلل‬ ‫تعالى مما ارتكب‪ ،‬وع ّلق بم�شانقه في دم�شق وبيروت �أربعين زعيم ًا من زعماء الأحرار‬ ‫في البلدين‪ ،‬وجاء بكل �سوءة �شنعاء‪ ،‬ومعرة دهماء‪ ،‬ملء الأر�ض وال�سماء‪.(((»...‬‬ ‫في تلك المرحلة‪ ،‬كان لل�سيد محمد ر�ضا ولإخوانه العلماء دو ٌر كبير في التخفيف من‬ ‫�آالم النا�س‪ ،‬ومعالجة الأو�ضاع الإقت�صادية التي الم�س معها النا�س حدود الجوع‪ ،‬وكان‬ ‫الفقراء منهم‪ ،‬لي�س لهم ملج�أ بعد اهلل تعالى‪ّ � ،‬إل العلماء الذين عملوا مع المي�سورين‬ ‫على ح ّل الم�شاكل الممكنة‪ ،‬من خالل الأخما�س والزكوات‪ ،‬م�ضاف ًا لتثبيتهم في �أر�ضهم‪،‬‬ ‫من خالل تعميق عالقتهم بربهم عز وجل‪ ،‬فكان وجود ه�ؤالء العلماء بين ظهرانيهم‬ ‫ُيعطيهم الأمل والطم�أنينة‪.‬‬ ‫(( ( ال�سيد عبد الح�سين �شرف الدين‪ ،‬بغية الراغبين‪ ،‬ج‪� ،2‬ص‪.139‬‬

‫‪139‬‬


‫ال�سيد محمد ر�ضا ف�ضل اهلل الحكيم والم�صلح‬

‫ومع كل هذه المراحل التي عا�شها ال�سيد محمد ر�ضا من �ضنك العي�ش في النجف‬ ‫الأ�شرف وجبل عامل‪ ،‬لم ُتثنه عن القيام بك ّل ما �أمكن من التوجيه والإر�شاد والت�صنيف‪،‬‬ ‫و�إطالق العنان لق�صائده‪ ،‬التي �ساهمت في النه�ضة الأدبية واللغوية و�أرخت لبع�ض‬ ‫المحطات الأ�سا�سية في تلك المرحلة‪ ،‬كما كانت له م�شاركات �سيا�سية واجتماعية وفي‬ ‫منا�سبات مختلفة‪ ،‬فعندما توفي العالمة ال�شيخ مو�سى �أمين �شرارة‪ ،‬رثاه ال�سيد محمد‬ ‫ر�ضا‪ ،‬نثر ًا و�شعر‪ ،‬وم ّما قاله �شعر ًا‪:‬‬ ‫خ �ل �ي �ل� َّ�ي ه ��ل م ��ا ف� � � َّرق ال� � َّده ��ر ج��ام��ع وه � ��ل ف� ��ائ� � ٌ�ت ف� ��ي م� ��ا ي� � ��ؤ َّم � ��ل راج� ��ع‬ ‫وه ��ل ينظم ال���َّ�ش�م��ل ال�شتيت كعهدنا وي� �ج� �م ��ع م ��اب� �ي ��ن الأخ� � �ل� ��اء ج ��ام ��ع‬ ‫خ�ل�ي�ل� َّ�ي ن��وح��ا �أ� �س �ع��دان��ي ع �ل��ى البكا وال ت��ع ��ذالن ��ي ف ��ي ال � ��ذي �أن � ��ا ��ص��ان��ع‬ ‫ف�ل�ا ق �ل� َ�ب ل ��ي ح �ت��ى ي �ع� ْ�ي ع� � َ‬ ‫�ذل ع ��اذل وه� ��ا م���س�م�ع��ي ق ��د �أوق� ��رت� ��ه ال�ف�ج��ائ��ع‬ ‫ف� �ط ��رف ��ي �� �س� �ف ��وح وال � � �ف � � ��ؤاد ي� �م� � ُّده ك � �� � �ش � ��ؤب� ��وب ودق و ْب� � �ل � ��ه م �ت �ت ��اب ��ع‬ ‫�أك � �ف � �ك� ��ف دم� � ��ع ال� �ع� �ي ��ن ث� � � َّ�م �أر ُّده �إل�ي�ه��ا ف�ط��رف العين ف��ي القلب دام��ع‬ ‫ونف�سي ق��د ط ��ارت �شعاع َا م��ن الأ��س��ى ل� ��زف� ��رة ه � � ٍّ�م ل� ��م ت �� �س �ع �ه��ا الأ�� �ض ��ال ��ع‬ ‫�أه � �ي� � ُ�م وال �أدري �إل � ��ى �أي � ��ن �أن �ث �ن��ي ك� ��أ ّن ��ي � �ض �ل �ي � ٌل ف ��ي ال �م �ه��اج��ر ��ض��ائ��ع‬ ‫�أج� � ��وب ال �ف �ي��اف��ي ن �ف �ن �ف � ًا ب �ع��د نفنف و�أذرع ع��ر���ض ال �ق �ف��ر وال �ق �ف��ر وا� �س��ع‬ ‫ع �� �ش � ّي��ة ب �ل �ت �ن��ي ال � � ُّدم� ��وع م ��ن ال �ج��وى ل ��داه��ي ��ة ت �� �ص �ط� ُّ�ك م �ن �ه��ا ال �م �� �س��ام��ع‬ ‫خ��ل��ي��ل � ّ�ي ك� ��م م� ��ن ن �ك �ب ��ة �إث � � ��ر ن�ك�ب��ة ت� � ��زول ل��ه ��ا �� �ش � ّ�م ال� �ج� �ب ��ال ال � � َّروات� ��ع‬ ‫غ� ��داة ن �ع��ى ال � َّن ��اع ��ي ب �م��ن ح � َّل �ق��ت به م �ك��ارم ع��ن �إدراك� �ه ��ا ال � َّ�ط ��رف راج��ع‬ ‫م �ج �ي��ب �إل� � ��ى ال� � � َّداع � ��ي ل� �ك� � ّل م �ل � َّم��ة �إذا راع� ��ه م ��ن � �س �ط��وة ال� � َّده ��ر رائ ��ع‬ ‫وه� ��� �ض� �ب ��ة م� �ج ��د ال ي � � ��رام م �ن��ال �ه��ا و� �س �ي��ف �إذا م ��ا ه� � �زّه ال� �ح ��قّ ق��اط��ع‬ ‫�دى ف ��ي ك � � ّل ع� ��ام و�أزم � � � ٍة ون� ��ور ه� ��دً ى ف��ي ج�ب�ه��ة ال��ده��ر �ساطع‬ ‫� �س �ح��اب ن � � ّ‬ ‫�إذا � �ض � ّم��ه د���س ��ت ال��ف��خ ��ار بمع�شر �أ�� � �ش � ��ارت �إل � �ي� ��ه ب � ��الأك � � ّ�ف الأ�� �ص ��اب ��ع‬ ‫‪140‬‬


‫����������������� ‬

‫وم � ��ا رام � �ش��ان �ي��ه ال� �� �ّ�س� �ب ��اق ب�ح�ل�ب��ة‬ ‫ل��ق ��د ك � ��ان ل�ل��إ�� �س�ل�ام �أح � � ��رز م�ع�ق��ل‬ ‫�إذا م��ا ال��� ُّ�س�ن��ون ال�شهب � �ص � ّوح نبتها‬ ‫جال ظلمات الجهل عن وا�ضح الهدى‬ ‫ب� � �ث � ��اق � ��ب �آراء و�أب � � � �ع� � � ��د ه � � َّم� ��ة‬ ‫دع � ��اه �إل � ��ه ال��ع ��ر� ��ش ل �ل �خ �ل��د ف��ان�ث�ن��ى‬ ‫ف ��أ� �ص �ب��ح ق �ل��ب ال ��دِّ ي ��ن ي�خ�ف��ق واج �ب � ًا‬ ‫ف �ي��ا ب �ه �ج��ة ال� � ُّدن� �ي ��ا وزه� � ��رة �سيبها‬ ‫ت� �ق � َّ�ط ��ع ق��ل��ب ��ي ي� � ��وم � � �س� ��رت ل �خ� َّ�ط��ة‬ ‫ل �ق��د �أغ� �م ��دت م �ن��ك ال �ل �ي��ال��ي م�ه�ن��د ًا‬ ‫ل �ق��د غ � َّي �ب��ت م �ن��ه ال ��َّ��ص �ف��ائ��ح م��اج��د ًا‬ ‫رح �ل��ت حميد ال� ِّ�ذك��ر م �ج��د ًا و���س���ؤدد ًا‬ ‫فمن ذا على الإ� �س�لام خلفت والهدى‬ ‫ف �ق��دن��اك ي��ا م��و��س��ى ون �ح��ن ع�ل��ى ظ ًما‬ ‫ف �ق��دن��اك ف��ق ��دان ال� � َّث ��رى وب� � َ�ل ُم��زن��ة‬ ‫وم� ��ال� ��ي ل� ��م �أ� �س �ت �� �س � ِ�ق ل �ل �ق �ب��ر م��زن��ة‬ ‫ف �ك �ي��ف وف� �ي ��ه ال �ب �ح ��ر ي �ط �ف��ح م��وج��ه‬ ‫�س�أرثيك جهدي ما ا�ستطعت على المدى‬ ‫ب�ك�ت��ك ال �ق��واف��ي ب��ال �ق��واف��ي م��ع ال ��ورى‬ ‫ل�ق��د �شغفت فينا ال�ل�ي��ال��ي ف�ك��م �سرى‬ ‫وق �ل �ب ��ت �أح� � � ��وال ال� ��زم� ��ان ف �ل ��م ي�ك��ن‬ ‫(( ( ظالع‪� :‬ضعيف ال يقوى على ال�سباق‪.‬‬ ‫((( هامع‪ :‬منهمر‪.‬‬

‫‪141‬‬

‫�إل � ��ى غ ��اي ��ة �إال ان �ث �ن��ى وه� ��و ظ ��ال ��ع‬ ‫�إذا م ��ا رم �ت �ه��م ب��ال �خ �ط��وب ال��ق ��وارع‬ ‫ف� ��راح � �ت� ��ه ف� �ي� �ه ��ا � � �س � �ي� ��و ٌل دواف � � ��ع‬ ‫ف���ض��و ُء ��س�ن��اه ف��ي �سما ال��دي��ن �ساطع‬ ‫ت ��ري ��ك ب �ظ �ه��ر ال��غ��ي ��ب م� ��ا ه� ��و واق� ��ع‬ ‫�إل� � �ي� � �ه � ��ا ف� � �ل� � � َّب � ��ى وه� � � ��و هلل ط ��ائ ��ع‬ ‫ع��ل��ي ��ه ووج � � ��ه ال � � � � َّدر �أق � �ت� ��م � �س��اف��ع‬ ‫ورو�� � �ض� � � ًا ب� ��ه زه � ��ر ال �ف �� �ض��ائ��ل ي��ان��ع‬ ‫وال ق� �ل ��ب �إال م� ��ن م �� �س �ي ��رك ج� ��ازع‬ ‫ب��ه ك��ان يجلى الخطب والخطب واق��ع‬ ‫م� � ��آث � ��ره ك� ��ال � �ز ّْه� ��ر ب��ي��� ��ض ن ��وا���ص ��ع‬ ‫ووج � �ه� ��ك و�� َّ� ��ض� � ��ا ٌح وج � � � � ُّدك ن��ا� �ص��ع‬ ‫وم ��ن ذا ل�شمل ال ��دِّ ي ��ن ب �ع��دك جامع‬ ‫وال �� �ش ��رب �إال ورد ح ��و���ض ��ك ن��اق��ع‬ ‫ت�ج� َّل��ت وف ��ي �أن��وائ �ه��ا ال� � َّرو� �ُ�ض طامع‬ ‫وه� � � َّ�ط� � ��ال� � ��ة و َّك� � ��اف � � �ه� � ��ا م� �ت� �ت ��اب ��ع‬ ‫(((‬ ‫ال�سحائب ه��ام��ع‬ ‫وم��ن في�ضه ودق َّ‬ ‫و�أب� �ك� �ي ��ك ده � ��ري ك � َّل �م��ا ح� ��نّ ��س��اج��ع‬ ‫ف� �ه ��نّ ع� �ل ��ى ك� � � ّر ال� � � ُّده � ��ور � �س��واج��ع‬ ‫ل � �ه� ��ا ك � � � � َّل �آن ك � ��اه � ��ل ث� � ��م ي ��اف ��ع‬ ‫ل���س�ط��وت��ه ���ش ��ي ٌء � �س��وى ال���ص�ب��ر ن��اف��ع‬ ‫(((‬


‫ال�سيد محمد ر�ضا ف�ضل اهلل الحكيم والم�صلح‬

‫وتح ّدث عن ال�شيخ مو�سى �أمين �شرارة نثر ًا‪ ،‬حيث �أراد من خالله �أن ُيب ّين عظمة‬ ‫الخالق‪ ،‬و�أهمية الر�سالة ال�سماوية‪ ،‬ومكانة النبي الأعظم ‪ ،P‬و�أهل بيته الأطهار ‪R‬‬ ‫في رعاية الب�شر و�إدارة �ش�ؤونهم‪ ،‬وكيف ورث العلماء هذه المهمة ال�شاقة وال�صعبة‪ .‬و�أن‬ ‫ه�ؤالء الأعالم لو لم يت�صفوا بالعلم والزهد والتوا�ضع‪ ،‬وكل المالكات الموجبة لنقاء‬ ‫النف�س‪ ،‬لما �أمكنهم تبوء هذه الدرجات والت�صدي لهذه المهام‪ ،‬وبعد ذكر الأو�صاف‬ ‫التي يجب �أن يت�صف بها العلماء �شرع في تطبيق ذلك‪ ،‬على من له الف�ضل على جبل‬ ‫عامل العالمة ال�شيخ مو�سى �أمين �شرارة‪� .‬إذ ًا‪ ،‬هو �أراد �أن يظهر مكانة ال�شيخ مو�سى‬ ‫�شرارة‪ ،‬وفي نف�س الوقت يوجه من خالله ر�سالة للعلماء باالنتباه �إلى مكانتهم و�إلى‬ ‫النا�س بوجوب طاعتهم وحرمة مخالفتهم‪ ،‬وم ّما قاله نثر ًا‪:‬‬ ‫«�أما بعد ف�إنّ اهلل قد �أحاط بالأ�شياء علم ًا قبل تكوينها‪ ،‬ومعرفة قبل �إبداعها‬ ‫وت�صويرها‪ ،‬ف�أن�ش�أها على مقت�ضى حكمته و�إتقان �صنعته‪ .‬فخلق هذا الخلق‪ ،‬واختبرهم‬ ‫المحجة‪،‬‬ ‫بالحجة‪ ،‬و�أبان لهم عن وا�ضح‬ ‫ب�سلوك مناهج الحق من بعد �أن �أدلى لهم‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫فاختار لهم الإ�سالم دين ًا‪ ،‬وا�صطفى لهم من عباده �أولياء دالين عليه ومر�شدين �إليه‪.‬‬ ‫نبي الرحمة ‪ ،P‬وقائد‬ ‫�إلى �أن انتهت النوامي�س الإلهية‪ ،‬وال�شرائع الربان ّية �إلى نب ّينا ّ‬ ‫الأ ّمة على فترة من الر�سل‪ ،‬ودرو�س من الدين وانقطاع من الوحي‪ ،‬ف�أعذر و�أنذر ونهى‬ ‫حجة‪.‬‬ ‫وح ّذر‪ ،‬و�أقام الحجج البالغة والمعجزات الباهرة‪ ،‬لئال يكون للنا�س على اهلل ّ‬ ‫ثم بعد انق�ضاء النب ّوة ومن كان بعده في �صدر الإ�سالم‪ ،‬كان قوام الدين ونظام �أمر‬ ‫الم�سلمين في �أيدي العلماء العاملين‪ ،‬والأخيار الزاهدين مناهج الحق ودالئل ال�صدق‪،‬‬ ‫تنق�شع ب�ساطع �أنوارهم غياهب الجهالة‪ ،‬وتنجلي بم�صابيح حكمهم ظلم ال�ضاللة‬ ‫والغواية‪ ،‬ح ّفاظ ًا لنوامي�س �شريعته‪ ،‬وهداة لظالل خليقته‪ ،‬منارة في �أر�ضه وحجبه على‬ ‫خلقه‪ ،‬قد �أفنوا في مر�ضاته نفو�سهم و�أذابوا ج�سومهم‪ ،‬ف�أح ّلوا حالله وح ّرموا حرامه‪،‬‬ ‫و�أقاموا الحدود وب ّينوا الأحكام‪ ،‬فغدى بهم الإ�سالم رفيع الدعائم ثابت القوائم‪ ،‬مجتمع‬ ‫�شمله منتظم �شتاته‪ ،‬ولوالهم لأ ّدى حبل الأمة �إلى اال�ضطراب ودينها �إلى الذهاب‪ ،‬فمن‬ ‫‪142‬‬


‫����������������� ‬

‫ّثم كانت رزيتهم �أعظم الرزايا‪ ،‬وبليتهم �أفظع الباليا‪ ،‬ف�إذا دهم �أحدهم ريب المنون‬ ‫ُ‬ ‫وعاجل الق�ضاء الذي ال مر َّد له‪َ ،‬ث ِل َم في الإ�سالم َث ْل ٌم ال ي�سده قيام عالم غيره �إلى يوم‬ ‫القيامة‪ ،‬لأ ّنه بفقد العلماء ف ْق ُد الدين وا�ضطراب حبل الم�سلمين‪ ،‬و�إنّ �أحقّ الذاهبين في‬ ‫ا�ستعظام م�صابه وفقده و�إيابه‪ ،‬و�أن يكون حزنها عليه �سرمد والثك ُل بم�أتمه م�ؤ َّبد‪ ،‬من‬ ‫�أفنى نف�سه بالمراقبة‪ ،‬و�أن�صب بدنه في المحا�سبة‪ ،‬و�أ�سهر عينه في طاعة ر ّبه‪ ،‬و�أطال‬ ‫فكره في عز دينه و�إقامة كتابه واتّباع ُ�س ّنته‪� ،‬س ّيما م�صباح الهدى وعلم التقى حبل اهلل‬ ‫المتين وحكمه المبين‪ ،‬ال َع َلم ّ‬ ‫العلمة والحبر الفهامة‪ ،‬ركن الدين وعماد الم�ؤمنين‪،‬‬ ‫المرحوم المبرور المقد�س ال�شيخ �شيخ مو�سى �شرارة العاملي تغمده اهلل برحمته‬ ‫و�أ�سكنه �أعلى غرفات جنته‪ ،‬و�أفا�ض عليه من �ش�ؤبوب((( الر�ضوان عذب ًا �سل�سبيال و�سلك‬ ‫به مناهج العفو والرحمة جا ّدة و�سبيال‪ .‬فلقد كان بعيد الغاية طويل النهاية‪ ،‬يقول ف�ص ًال‬ ‫تتفجر ينابيع الحكمة عن ل�سانه‪ ،‬وتزهر م�صابيحها لأهل زمانه‪ .‬معر�ض ًا‬ ‫ويحكم عد ًال‪ّ ،‬‬ ‫عن الدنيا وزهرتها‪ ،‬منحرف ًا عن مالذها وبهجتها‪ُ ،‬ي ْ�ص ُ‬ ‫دق الفعل منه القول‪ .‬ك ّل ما‬ ‫�سوى اهلل عنده عدم‪ ،‬وما في الكون خيال �أو وهم‪ ،‬غفالته ذكر وذكره �شكر‪ .‬يرى �أنه‬ ‫�إن جاء يوم ًا بغفلة هي الكفر �أو وقد كان من دونها الكفر‪ ،‬تج ّردت نف�سه عن كثافة هذا‬ ‫الج�سم ولحقت بعالم الملكوت‪ ،‬فكادت �أن ترفع له ُح ُج ُب العزّة والجبروت‪.‬‬ ‫بحر عرفان ال ينزف وحديقة علوم ال تو�صف‪ ،‬ماذا ع�سى �أني فيه �أقول‪� :‬إال �أنه مزج‬ ‫العلم بالحلم والعفو بالقدرة‪ ،‬والجاللة بالهيبة والوقار بال�سكينة والغنى بالع ّفة‪ ،‬فكان قيد‬ ‫النواظر ومهوى الب�صائر‪ .‬مجال�سه بال�سيادة معمورة وبالوقار من دون التِّيه((( مغمورة‪،‬‬ ‫ال تطي�ش �أحالمه وال تت�ش ّعب �أوهامه‪ ،‬ال يخرجه الغ�ضب عن ح ّده وال الهزل عن ج ّده‪ .‬ح ّل‬ ‫من ال�شرف و�سط ًا‪ ،‬و�أقدم في الأمر فرط ًا‪� ،‬صارم عند ال�شدائد والأناة‪ ،‬وعف ٌّو عند تزايد‬ ‫الجرم وتكاثر الهناة‪� ،‬أ�صاب من المجد لبابه ومن عن�صر الكرم �أطيبه‪ ،‬حديثه ك ّل عن‬ ‫(( ( �ش�ؤبوب‪ :‬الدفعة من المطر‪.‬‬ ‫والكبر‪.‬‬ ‫ال�صلف ِ‬ ‫((( التّيه‪ّ :‬‬

‫‪143‬‬


‫ال�سيد محمد ر�ضا ف�ضل اهلل الحكيم والم�صلح‬

‫مغزاه كل مديد بعيد مناط الهمة‪ ،‬ومنحاه غير بعيد‪ ،‬ثهالن طما(((‪ ،‬والقدر عزما‪� ،‬أنف‬ ‫الكرم ومخ الأمم‪ .‬نجم عند تح ّير الدليل‪ ،‬وبدر لمن فقد النهج وال�سبيل‪ ،‬كالمه �إجادة‬ ‫للفكر وفي�ض القريحة وعفو الطبع و�إ�صابة حز المف�صل‪ ،‬كال�سحر الحالل والماء الزالل‬ ‫وبرد ال�شراب و ُب َرد الثياب‪.‬‬ ‫له من كل �شيء عقوته((( وعنفوان مكرمه‪ ،‬لقد قرب حتى �أطع وبعد حتى امتنع‪،‬‬ ‫ذكره �شفاء المري�ض وجبر المهي�ض‪ ،‬وزاد الراحل وبلغة الآمل‪ ،‬وعندما �أراد اهلل تعالى‬ ‫ا�صطفاءه �إليه من دار الغفلة ومواطن الغربة �إلى دار ال يزول نعيمها وال يظعن مقيمها‪،‬‬ ‫دعاه ف�أجاب مطيع ًا ول ّبى �سريع ًا‪ ،‬فترك عامل و�أهلها نوادب وعيوانها �سواكب و�أح�شا�ؤها‬ ‫ت�ضطرب و�أكبادها تلتهب‪� .‬إذ زال طودها ال�شامخ‪ ،‬وعلمها الباذخ‪ ،‬وهُ داها �إذا �أ�شكلت‬ ‫ال�سبل و�ض ّل الدليل‪ ،‬وم�أواها من لفحات هجير الدهر وقد عز المقيل‪ ،‬و�ضحاها �إذا‬ ‫ُ‬ ‫اغبرت الفجاج والبالد‪ ،‬واق�ش َعرت الربى والوهاد‪ ،‬وقد ا�سو َّد وجه العام وتواترت نوائب‬ ‫الأيام‪ ،‬والغيث قد �أقلع وال�سحاب َّ‬ ‫تق�شع‪ ،‬فكم له هناك من وابل جود طويل المدى‪،‬‬ ‫و�سحائب �أيد مه َّلة نبوء الجدى‪ ،‬وم�آثر ال تح�صى‪ ،‬ومحامد ال ت�ستق�صى‪ .‬فبفقده فقد‬ ‫الدهر غ ّرته‪ ،‬وطوحت من بعده ريا�ض المعارف والكرم‪ ،‬وانثلم حد الأدب والقلم وغدت‬ ‫ظالل الهداية دار�سة‪ ،‬و�أغ�صان الجهالة بالفيء مائ�سة(((‪ ،‬وربوع المدار�س مطمو�سة‬ ‫الأثر وريا�ض مبانيها كه�شيم محت�ضر‪ ،‬ولواء العلوم تحطمت معادهن وتب َّددت �أجناده‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ولف بعد ما كان من�شور ًا‪ ،‬وانيح((( بعدما كان للهداية م�شهور ًا‪ ،‬و ِل َب ْي ِن ِه بان ح�سام ال�شريعة‬ ‫و َث ُلم‪ ،‬ومال �صدر قناتها ُ‬ ‫وتنف�ست نكبات الع�صر‪،‬‬ ‫وحط ْم‪ ،‬ولموته تطاولت �صروف الدهر‪ّ ،‬‬ ‫وم ّدت �أ�شطان((( المنايا �إلى ركابها النفو�س‪ ،‬وثبت في مناهجها حبائل الغدر‪ ،‬و�أخذت‬ ‫(( ( ثهالن طما‪ :‬ثهالن ا�سم لجيل وي�ضرب به المثل للرجل الوقور‪ ،‬وطما بمعنى ارتفع‪.‬‬ ‫((( عقوته‪� :‬ساحته‪.‬‬ ‫((( مائ�سة‪ :‬متبخترة‪.‬‬ ‫(( ( انيح‪ :‬تحرك بثقل �شديد‪.‬‬ ‫((( �أ�شطان‪ :‬جمع �شطن وهو الحبل الطويل ال�شديد الفتل‪.‬‬

‫‪144‬‬


‫����������������� ‬

‫تق�ضي فيها النذر بعد النذر‪ .‬ف�أبقت الدنيا نوائح عليه تتجاوب‪ ،‬و�أح�شاء الأنام بالأرزاء‬ ‫تتجاذب‪ ،‬م�ستفرغة العبرات م�شبوبة الأح�شاء بالزفرات‪� .‬إذ هوى نجم هداها وخبا زند‬ ‫وبدر لياليها قد �سامه الخ�سف وعاجله الحتف‪ ،‬وانتظم �شمل الهدى في �سلك‬ ‫عالها‪ْ ،‬‬ ‫المن ّية والردى‪ ،‬وتق ّو�ضت عمد المكارم والمفاخر‪ ،‬ون ّك�ست لفقده ر�ؤو�س المنابر‪ .‬فه ّيج‬ ‫قرائح الأكباد و� ّأجج زفرات الوجد بالف�ؤاد‪ ،‬ف�أخذ كل �أديب �إلى غايته طريق وغدى ل�سانه‬ ‫�شعر و�أدب وال متطف ًال �إلى هذه‬ ‫ينفث بما يح ّرك القلب من الوجد والحريق‪ ،‬فلم يبق ذو ٍ‬ ‫ال�صناعة �إال �أن�شد و�أعرب‪.‬‬ ‫(((‬ ‫ب��ه �سلك ال�ن��ا���س ال�سبيل �إل ��ى ال�ه��دى ف �غ��اب ف �ع� ّ�ج��ت ب��ال �م��راث��ي ك��رام �ه��ا‬ ‫وها �أنا مورد من �آثاره ما يكون لك �شاهد‪ ،‬وعلى ما قلته م�ساعد من م�آثر تبهر‬ ‫العقول ويح�سر عن �إداركها الطرف‪ ،‬وف�ضائل تعجز عن و�صفها الأقالم‪ ،‬وت�ضيق بطون‬ ‫الدفاتر‪ ،‬وغرر من �أ�شعاره وجملة من زواهر �آثاره‪ ،‬وما قيل فيه من المديح �أيام حياته‪،‬‬ ‫والرثاء بعد وفاته لتالمذته وغيرهم من �أهل الأدب والف�ضل‪ ،‬بعد تاريخ مولده ولمع‬ ‫من �أخباره و�سيره‪� .‬إال �أنني وقفت على ُج َمل �شافية و ُنبذ في حقه وافية‪ ،‬قد ت�ضمنت‬ ‫جملة من جميل �أخباره‪ ،‬وا�ستوفت �شذر ًا من بع�ض ف�ضائلة و�آثاره‪ ،‬ا�ستغنيت بها ع ّمن‬ ‫�سواها لجناب ال�سيد الفا�ضل والعالم العامل ال�سيد نجيب الدين ابن المرحوم المقد�س‬ ‫ال�سيد �سيد محي الدين ف�ضل اهلل الح�سني العاملي تغمده اهلل برحمته‪ ،‬وهو ممن قد‬ ‫بلفظ � ّ‬ ‫أرق من ن�سمات الأ�سحار‬ ‫تخ ّرج على يده في جملة من العلوم وفنون الأدب‪ ،‬م�ؤرخ ًا ٍ‬ ‫و�أعذب من نفحات الأطيار‪ .‬تزدري بقالئد العقبان((( ونثار الل�ؤل�ؤ والمرجان‪ ،‬وال عجب‬ ‫ف�إنه ممن �ضرب في ال�صناعة وغيرها على عرق وجرى فيها على حق‪ ،‬فكان له ال�سبق‬ ‫في كل م�ضمار وجواز الغاية في حلبات المجد والفخار‪ ،‬وناهيك به من �أديب م�صقع(((‪،‬‬ ‫(( ( من ق�صيدة لل�شيخ مو�سى �شرارة في رثاء ال�شيخ عبد اهلل نعمة‪.‬‬ ‫(( ( العقبان‪ :‬هنا بمعنى الذهب الخال�ص‪.‬‬ ‫(( ( م�صقع‪ :‬البليغ �أو عالي ال�صوت‪.‬‬

‫‪145‬‬


‫ال�سيد محمد ر�ضا ف�ضل اهلل الحكيم والم�صلح‬

‫وبليغ مبدع‪ .‬كالمه في جمل هذا التاريخ عدا عن �شعره ال�سائر في الأم�صار م�سير‬ ‫ال�شم�س رابعة النهار من ر�صانة لفظه ومتانة معناه يحكي نثر ابن العميد((( وخطب‬ ‫ابن الحميد(((‪ ،‬وال غرو ف�إنه ممن �ضربت به �أعراق النب ّوة وجراثيم الإمامة‪ ،‬وال�شيء ال‬ ‫يعرف �إال بف�ضله وكل عرق نزّاع �إلى �أ�صله وها �أنا مورده بتمامه واهلل الم�ستعان»‪.‬‬ ‫خال�صة ما يمكن قوله في �شخ�صية ال�سيد محمد ر�ضا ف�ضل اهلل‪:‬‬ ‫�أ ّنه عالم جليل جمع �إلى الفقه والأ�صول‪ ،‬الحكمة والفل�سفة‪ ،‬والأخالق‪ ،‬والأدب‬ ‫وال�شعر‪ ،‬فكان العالم القدوة والموجه والمربي‪ ،‬وكان يمتلك القدرة والح�ضور‪ ،‬على‬ ‫�إبداء الن�صيحة لعلماء الدين‪ ،‬ولم نجد �أو ن�سمع من ر ّد عليه �أو اعتر�ض‪ ،‬م ّما ي�ؤكد‬ ‫هيبته في النفو�س‪ ،‬وقوة �شخ�صيته‪ ،‬ومكانته العلمية والإجتماعية‪ ،‬التي ت�ؤهله �إلى هذا‬ ‫الت�صدي الوا�ضح‪ ،‬حيث كان يرى وجوب ًا عليه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر‪ ،‬في‬ ‫الأمور ال�صغيرة والكبيرة‪ ،‬ولم يكن ِل ُيدينَ الآخرين‪ ،‬بل كان ين�صحهم‪ ،‬وهناك فرق‬ ‫كبير بين الإدانة والن�صيحة‪ ،‬فعندما ُتدين �أحد ًا‪ ،‬يبد�أ بالدفاع عن نف�سه‪ ،‬بينما الجميع‬ ‫يقبلون الن�صيحة الهادفة وال�صادرة ب�شرطها و�شروطها‪ .‬ففي الوقت الذي �ص ّنف فيه‬ ‫كتاب (ال�سمكية) لمعالجة م�س�ألة �أخالقية‪ ،‬هو ت�صدى لمعالجة �أمور كبيرة في الحوزة‬ ‫العلمية في النجف الأ�شرف‪ ،‬ثم قام بكل الواجب في جبل عامل‪ ،‬فنه�ض به مع �إخوانه‬ ‫العلماء‪ ،‬على ال�صعيد العلمي والأدبي والأخالقي والإجتماعي‪ ،‬ووقفوا مدافعين عن‬ ‫دينهم‪ ،‬وعن �شعبهم‪� ،‬أمام الغطر�سة العثمانية من دون خوف وال وجل‪ ،‬ولي�س لهم معين‬ ‫�إال اهلل عز وجل‪ ،‬وعندما وجد خطر الغزو الإيطالي يهدد مدينة طرابل�س الغرب في‬ ‫((( ابن العميد‪� :‬أبو الف�ضل‪ ،‬محمد ابن العميد (ت‪360 :‬هـ‪970/‬م)‪ ،‬كان وزير ركن الدولة بن بويه‪ ،‬وكان متو�سع ًا في علوم الفل�سفة‬ ‫والنجوم‪ ،‬و�أ ّما الأدب والتر�سل فلم يقاربه فيه �أحد في زمانه‪ ،‬وكان كامل الريا�سة‪ ،‬قال الثعالبي في كتاب اليتيمة‪ ،‬كان يقال‬ ‫بد�أت بعبد الحميد وختمت بابن العميد‪.‬‬ ‫ابن خلكان‪ ،‬وفيات الأعيان‪ ،‬ج‪� ،5‬ص‪.13‬‬ ‫(( ( ابن الحميد‪ :‬عبد الحميد بن يحيى بن �سعد‪( ،‬قتل‪132 :‬هـ‪749/‬م) الكاتب البليغ الم�شهور‪ ،‬وبه ي�ضرب المثل في البالغة‪ ،‬له‬ ‫ر�سائل تقع في نحو �ألف ورقة‪ .‬هو من �أهل ال�شام‪ ،‬وكان �أو ًال معلم �صبية‪ ،‬ينتقل بين البلدان‪ ،‬وكان كاتب مروان بن محمد �آخر‬ ‫ملوك بني �أمية‪ ،‬قتل مع مقتل مروان على يد العبا�سيين‪ .‬ابن خلكان‪ ،‬وفيات الأعيان‪ ،‬ج‪� ،3‬ص‪.228‬‬

‫‪146‬‬


‫����������������� ‬

‫ليبيا في �شوال �سنة ‪1329‬هـ‪1911/‬م‪ ،‬جادت قريحتة بق�صيدة‪� ،‬إ�ستنه�ض فيها همم‬ ‫ال�شعوب‪ ،‬وح ّثهم على مقاومة الإحتالل‪ ،‬ومما قاله‪:‬‬ ‫أرواح ن �ه �ب��ا‬ ‫�أث� � �ي � ��روه � ��ا ع� �ل ��ى ال� �ط� �ل� �ي ��ان ح ��ر ًب ��ا ع� � ��وان� � ��ا ت � �ن � �ه� � ُ�ب ال َ‬ ‫�أث � �ي� ��روه� ��ا ً‬ ‫وغ � � ��ى ه �ي �ج ��ا ���ض ��رو� ً��س ��ا ت � �� � �ش� � ُّ�ب ب � �ح� ��وم� ��ة ال � �ط � �ل � �ي� ��ان � �ش �ب��ا‬ ‫ع �ل �ي �ه��م ف ��ا�� �ض ��رب ��وا �� �س ��ور ال �م �ن��اي��ا ب� �ج� �ي� �� ��ش ي� � �م �ل� ً�ا الأك� � � � � � ��وان رع � �ب � � ًا‬ ‫�أث � � �ي� � ��روه� � ��ا �أث � � �ي� � ��روه� � ��ا ه � �ي� ��اج � � ًا ف� �م ��ا غ� �ي ��ر ال� ��� �س� �ي ��وف ل � �ه� ��نّ ط �ي �ب��ا‬ ‫ل� �ن ��ا �إن �أرغ � � � ��م الآن� � � � � � َ‬ ‫�اف � �ض �ي � ٌم ع� ��ران � �ي� ��نٌ ���ش��م��ي � َ�م ال� �� ّ��ض� �ي ��م ت� ��أب ��ى‬ ‫ل � �ن� ��ا ال � � � �غ� � � ��ارات �� � �ش � ��اه � ��دة ب� � ��أ ّن � ��ا ر�أي � �ن� ��ا ال � �م� ��وت ف� ��ي ال� � �غ � ��ارات ع��ذب��ا‬ ‫�إذا ف� �ط ��م ال� ��ر� � �ض� ��اع ل� �ن ��ا ول � �ي� ��د ًا ع� �ل ��ى ال � � �غ� � ��ارات وال� � � �غ � � ��زوات � �ش �ب��ا‬ ‫ت� �م� �ي ��د ل �ب �ي �� �ض �ن��ا � � �ش � � ُّم ال� ��روا� � �س� ��ي �إذا ل� �م� �ع ��ت ب� �ل� �ي ��ل ال� �ن� �ق ��ع � �ش �ه �ب��ا‬ ‫�اول م� ��ن م� �غ ��ام ��ده ��ا ان� ��� �س�ل� ً‬ ‫ت� � �ح � � ُ‬ ‫اال �إذا ه� �ت ��ف ال� �� َّ��ص ��ري ��خ ب� �ه ��نّ ن � ْ�دب ��ا‬ ‫وت� ��رق � ��� ��ص ج � ��ردن � ��ا م � ��رح� � � ًا وت��ي��ه�� ًا وت� � �ه� � �ت� � � ّز ال � �ق � �ن� ��ا ط� � ��ر ًب� � ��ا وع� �ج� �ب ��ا‬ ‫ف �ن �ح ��ن ال� �م ��ان� �ع ��ون ال � �ج� ��ار � �ض �ي � ًم��ا ون� �ح ��ن ال��م ��ان��ح ��ون ال� �ج ��دب خ�صبا‬ ‫ون� � �ح � ��ن ال � �ن� ��اه � �� � �ض� ��ون ب � �ك� ��ل ع� � ْ�ب �إذا ع �� �ص �ف��ت ب � ��أف� ��ق الأر�� � � ��ض ن�ك�ب��ا‬ ‫ون� �ح ��ن ال� �م ��ال� �ك ��ون ال� ��� �ش ��رق ق �� �س��ر ًا ون � �ح� ��ن ال� �غ ��ان� �م ��ون ال � �غ� ��رب ك���س�ب��ا‬ ‫�أت � �ع � �ج� ��زن� ��ا ب � �ن� ��و ال � �ط � �ل � �ي� ��ان ق �ت�لا �إذا اح� �ت ��دم ال ��وغ ��ى ط �ع � ًن��ا و� �ض��رب��ا‬ ‫ب �ل��اد ال�����ص��ي ��ن وه � ��ي ع� �ل ��ى م ��داه ��ا م �ل ��أن � ��ا � � �ص� ��دره� ��ا خ � ��و ًف � ��ا ورع � �ب� ��ا‬ ‫ث �ل �ل �ن��ا ع� ��ر�� ��ش ك� ��� �س ��رى ف� ��ي � �س �ي��وف غ � ��دا ال � �م� ��وت ال� � � � ��ز�ؤام ل� �ه ��نّ غ��رب��ا‬ ‫�� �س ��ل ال � �ي� ��رم� ��وك وال � ��� َّ��ش� ��ام� ��ات ل � َّم��ا ب � �ه� ��ا ب � �ح� ��ر ال � �ه � �ي� ��اج ط � �غ� ��ى وع � � َّب� ��ا‬ ‫ت ��رك� �ن ��ا م� ��ن ن �ج �ي �ع �ه � ُ�م ال � �� � �ض� ��واري ت� � � � � ��راوح � � �ش� ��رب � �ه� ��ا ن� � �ه �ل� ً�ا وع � � َّب� ��ا‬ ‫بهذا الملخ�ص حاولت �أن �أقدم للقارئ العزيز وللتاريخ‪ ،‬هذه الكلمات بحق العالمة‬ ‫ال�سيد محمد ر�ضا ف�ضل اهلل‪ ،‬لأقول �أنّ ما و�صلنا �إليه من ع ّز وكرامة‪ ،‬لم يكن مف�صو ًال‬ ‫عن تاريخنا وعن جهاد علمائنا‪ ،‬الذين كانوا الحا�ضن والمربي والم�شجع على ا�ستمرار‬ ‫‪147‬‬


‫ال�سيد محمد ر�ضا ف�ضل اهلل الحكيم والم�صلح‬

‫العلم والمعرفة والأدب في جبل عامل‪ ،‬كي يبقى منارة‪ُ ،‬ت�ضيئ لأهلها‪ ،‬وال ينح�صر�شعاعها‬ ‫�ضمن �إطار جبل عامل الجغرافي‪ ،‬و�إنما و�صل هذا ال�شعاع �إلى كثير من بالد الم�سلمين‪،‬‬ ‫وتركت �أثر ًا طيب ًا‪ ،‬فن�شروا الفقه والحديث والتف�سير‪ ،‬وت�صدوا للق�ضاء وللوعظ والإر�شاد‬ ‫والإ�صالح‪ ،‬مع �أنهم كانوا في بالد ال يعرفون لغتها‪ ،‬مثل‪� :‬إيران والهند‪ ،‬وهذا ي�ؤكد على‬ ‫مدى الذكاء والإخال�ص‪ ،‬الذي ات�صف به علماء جبل عامل‪ ،‬فال�شيخ علي الزين((( الذي‬ ‫هرب من نكبة �شحور التي وقعت على �أيدي العثمانيين �سنة ‪1783‬م‪ ،‬وذهب �إلى الهند‪،‬‬ ‫�أ�صبح وزير ًا في الحكومة الهندية‪ ،‬وم�شايخ جبل عامل كانوا �شيوخ ًا للإ�سالم في الدولة‬ ‫ال�صفوية‪.‬‬ ‫�إرتحل عن دار الدنيا‪� ،‬أثناء الحرب العالمية الأولى �سنة ‪1336‬هـ‪1917/‬م‪ ،‬ولم‬ ‫يكن ُيعاني من �أي مر�ض‪ ،‬فبينما كان ُيحيي ذكرى عا�شوراء‪ ،‬ويقر�أ بنف�سه (المقتل)‬ ‫المعروف بتالوته قبل ظهر يوم العا�شر من المحرم‪ ،‬وكان يت�أثر كثير ًا‪� ،‬إلى حدود فقدان‬ ‫الوعي‪ ،‬على م�صاب �أبي عبد اهلل الح�سين ‪ ،Q‬وما جرى على �أهل بيته الطيبين‪،‬‬ ‫وفي العا�شر من المحرم لعام ‪1336‬هـ‪ ،‬وبينما هو يتلو الم�صرع‪ ،‬وقد ت�أثر كثير ًا‪� ،‬سقط‬ ‫من على المنبر �إلى الأر�ض‪ ،‬فحدث معه نزيف بالر�أ�س‪ ،‬مما �أدى �إلى مفارقته الحياة‪،‬‬ ‫عن عمر ثالث وخم�سين �سنة‪ ،‬ودفن في بلدة (قانا) من جبل عامل‪.‬‬ ‫ورغم ق�صر هذا العمر‪� ،‬إال �أنه كان مليئ ًا بالعلم والأدب‪ ،‬وبركاته ال زالت �إلى يومنا‬ ‫هذا‪.‬‬

‫((( ال�شيخ علي الزين (�صاحب �شحور)‪ :‬ثار على العثمانيين �سنة ‪1197‬هـ‪ ،‬بم�ساعدة الأمير جمزة من �آل ال�صغير‪ ،‬حيث ق�صدوا‬ ‫تبنين التي كانت مقر ًا للعثمانيين‪ ،‬فقتلوا المت�سلم‪ ،‬لكن الكاتب الأيوبي في القلعة تمكن من الفرار �إلى �صيدا‪ ،‬ف�أخبر الجزار‬ ‫بما ح�صل‪ .‬فقام الجزار‪ ،‬ب�إر�سال �إلى �شحور الذي عاث في الأر�ض ف�ساد ًا‪ ،‬فقتل ما يزيد على مئتي رج ًال‪ ،‬و�أخذ الأ�سرى‪،‬‬ ‫و�صلب الأمير حمزة بالخازوق‪ ،‬و�أمام هذا الواقع الجديد لم يجد ال�شيخ علي الزين �سبي ًال للنجاة �إال بالفرار خارج جبل عامل‪،‬‬ ‫فق�صد الهند و�صار وزير ًا لأحد ملوكها‪ ،‬ونال عنده رتبة‪ ،‬وبقي في الهند حتى وقوعها تحت �أيدي الإنكليز‪ ،‬حيث عاد �إلى جبل‬ ‫عامل‪.‬‬

‫‪148‬‬


‫‪:‬ةمتاخلا‬

‫الخاتمة‪:‬‬

‫في خاتمة هذا الكتاب الذي هو عبارة عن جهد مجموعة من ال�سادة الباحثين‪ ،‬حيث‬ ‫بذلوا ما يمكن في �سبيل ت�سليط ال�ضوء على �أحد علماء جبل عامل‪ ،‬في مرحلة كانت‬ ‫�شبيهة بمرحلة الت�أ�سي�س التي انطلق بها ال�شهيد الأول‪ ،‬في �أوا�سط القرن الثامن هجري‪.‬‬ ‫ونحن نكون بهذا الجهد حققنا هدفين‪:‬‬ ‫الأول‪ :‬تكريم العالمة ال�سيد محمد ر�ضا ف�ضل اهلل‪ ،‬وتعريف النا�س به‪ ،‬من خالل‬ ‫الحديث عن �سيرته والإ�ضاءة على م�ؤلفاته‪ ،‬وهو �إحدى الكنوز التي كانت مطمورة‪،‬‬ ‫و�ساهمنا في الك�شف عنها‪ ،‬و�إبرازها �إلى عالم النور‪ ،‬بعدما عتّم عليها ظلم الحكام‬ ‫ؤتمر فكري نظمته جمعية الإمام‬ ‫والوالة‪ ،‬و�أمراء الجور‪ ،‬فك�شفنا عنها من خالل م� ٍ‬ ‫ال�صادق ‪ Q‬لإحياء التراث العلمائي‪.‬‬ ‫الثاني‪ :‬توثيق هذه الأبحاث والدرا�سات‪ ،‬وجمعها في هذا الكتاب‪ ،‬كي يبقى وثيق ًة‬ ‫على مدى الأجيال‪ُ ،‬ي�ستفاد منها‪ ،‬وتَ�ص ُلح لتكون م�صدر ًا للباحثين والمهتمين‪ ،‬و�أنا‬ ‫باعتقادي‪� ،‬أن جمع جهود متعددة ومعالجة �أفكار عديدة حول �شخ�صية واحدة‪ ،‬قد‬ ‫يكون �أنفع من جهد �شخ�ص واحد‪ ،‬فلكل باحث منهجه وطريقته‪ ،‬وهذا يرفع الم ّلل‪،‬‬ ‫و ُيح ّفز القارئ على المطالعة‪ .‬وخ�صو�ص ًا �أن ال�سيد محمد ر�ضا ‪ ،M‬عالج العديد من‬ ‫‪149‬‬


‫ال�سيد محمد ر�ضا ف�ضل اهلل الحكيم والم�صلح‬

‫العناوين التي يحتاجها العلماء والنا�س‪ ،‬وعلى �سبيل المثال‪ ،‬نراه عالج‪:‬‬ ‫دور رجل الدين في العمل التبليغي‪.‬‬ ‫دور الفقهاء في الت�صدي لمن�صب الوالية‪ ،‬من خالل القيام بالمهام التي كان‬ ‫�سيت�صدى لها الإمام المع�صوم ‪ Q‬لوال غيبته‪.‬‬ ‫م�شروع الإمامة‪ ،‬ولم يعتمد على �إثبات الإمامة من خالل المنهج العقلي‪ ،‬وحاجة‬ ‫الأمة �إلى الإمامة فقط‪ ،‬بل عالجها كحاجة �إن�سانية واجتماعية‪.‬‬ ‫قدم ال�سيد محمد ر�ضا الأدب وال�شعر‪ ،‬كلغة ُ‬ ‫تخاطب لإي�صال الفكرة‪ ،‬بما ين�سجم‬ ‫مع طبيعة تلك المرحلة‪ ،‬وخ�صو�ص ًا �أن ال�شعر يحفظه الخا�صة والعامة‪ ،‬و ُيتناقل �أكثر‬ ‫من النثر‪.‬‬ ‫�أ�س�أل اهلل تعالى �أن يوفقنا والعاملين للإ�ستمرار ب�إحياء تراث علماء جبل عامل‪،‬‬ ‫وتكريم ه�ؤالء الأفذاذ‪ ،‬الذين لم يبخلوا يوم ًا على هذه الأمة‪ ،‬ف�صرفوا كل وقتهم‪،‬‬ ‫وع ّر�ضوا �أنف�سهم للمخاطر في �سبيل ن�شر العلم والوعي‪ ،‬والأمر بالمعروف والنهي عن‬ ‫المنكر‪.‬‬

‫‪150‬‬


‫������ ‬

‫الفهرس‬

‫المقدمة ������������������������������������������������������������������������������������������������������������������������������������������������������������������������������� ‪3‬‬ ‫االفتتاحية�������������������������������������������������������������������������������������������������������������������������������������������������������������������� ‪13‬‬ ‫ال�سيد ها�شم �صفي الدين������������������������������������������������������������������������������������������������������������������������������������ ‪13‬‬ ‫ال�شيخ عبد الحليم الزهيري ��������������������������������������������������������������������������������������������������������������������������� ‪21‬‬ ‫ال�شيخ �أحمد مبلغي�������������������������������������������������������������������������������������������������������������������������������������������������� ‪25‬‬ ‫ال�شيخ ح�سن بغدادي���������������������������������������������������������������������������������������������������������������������������������������������� ‪29‬‬

‫الأبحاث‪37 ������������������������������������������������������������������������������������������������������������������������������������������������������������������������ :‬‬ ‫�أد‪.‬طراد حمادة��������������������������������������������������������������������������������������������������������������������������������������������������������� ‪37‬‬ ‫«الفل�سفة والعرفان في �أدب العالمة الفقيه ال�سيد محمد ر�ضا ف�ضل اهلل» ������������������������������ ‪37‬‬ ‫�أ‪.‬د �سالم المعو�ش ����������������������������������������������������������������������������������������������������������������������������������������������������� ‪49‬‬ ‫ميزان العدل «ال�سمكية» رحلة �إلى الداخل في محاولة �سردية �������������������������������������������������������� ‪49‬‬ ‫«ميزان العدل» بو�صفه محاولة �سردية ���������������������������������������������������������������������������������������������������� ‪64‬‬ ‫الأدوات الفنية في «ميزان العدل» ������������������������������������������������������������������������������������������������������������� ‪68‬‬ ‫ال�شخ�صيات��������������������������������������������������������������������������������������������������������������������������������������������������������� ‪72‬‬

‫‪151‬‬


‫ال�سيد محمد ر�ضا ف�ضل اهلل الحكيم والم�صلح‬

‫�أ‪ .‬د‪� .‬أحمد حطيط ������������������������������������������������������������������������������������������������������������������������������������������������� ‪85‬‬ ‫«الإمامة في فكر الع ّ‬ ‫المة ال�س ّيد محمد ر�ضا ف�ضل اهلل الح�سني» ������������������������������������������������ ‪85‬‬ ‫�أو ًال‪ :‬مدخل ���������������������������������������������������������������������������������������������������������������������������������������������������������� ‪85‬‬ ‫خـاتـمة�������������������������������������������������������������������������������������������������������������������������������������������������������������������� ‪97‬‬ ‫ال�شيخ ح�سن بغدادي���������������������������������������������������������������������������������������������������������������������������������������������� ‪99‬‬ ‫محطات م�ضيئة في حياة ال�سيد محمد ر�ضا ف�ضل اهلل ���������������������������������������������������������������������� ‪99‬‬ ‫والدته ون�سبه ���������������������������������������������������������������������������������������������������������������������������������������������������� ‪100‬‬ ‫ن�ش�أته ودرا�سته ������������������������������������������������������������������������������������������������������������������������������������������������ ‪102‬‬ ‫كتاب ال�سمك ّية�������������������������������������������������������������������������������������������������������������������������������������������������� ‪131‬‬ ‫قرار العودة �إلى جبل عامل������������������������������������������������������������������������������������������������������������������������ ‪135‬‬ ‫الخاتمة‪149 ��������������������������������������������������������������������������������������������������������������������������������������������������������������������:‬‬

‫‪152‬‬


Issuu converts static files into: digital portfolios, online yearbooks, online catalogs, digital photo albums and more. Sign up and create your flipbook.