بنت جبيل ميشيغان

Page 1

‫أحمد بيضون‬

‫‪‬‬ ‫بنت جبيل‬

‫ميشغان‬


‫للمؤلّـف‬ ‫ ديوان األخالط واألمزجة‪ ،‬شعر‪ ،‬املؤسسة اجلامعية للدراسات والنشر‪ ،‬بريوت ‪1984‬‬‫‪ -‬بريوت اللقاء‪ ،‬سيناريو‪ ،‬دار الباحث‪ ،‬بريوت ‪.1984‬‬

‫‪ -‬مداخل وخمارج‪ ،‬مشاركات نقدية‪ ،‬املؤسسة اجلامعية للدراسات والنشر‪ ،‬بريوت ‪1985‬‬

‫ الصراع على اتريخ لبنان‪ ،‬منشورات اجلامعة اللبنانية‪ ،‬بريوت ‪1989‬‬‫‪ -‬بنت جبيل‪ -‬ميشيغان‪ ،‬دار العربية‪ ،‬بريوت ‪.1989‬‬

‫ ما علمتم وذقتم‪ ،‬مسالك يف احلرب اللبنانية‪ ،‬املركز الثقايف العريب‪ ،‬بريوت‪ -‬الدار البيضاء ‪1990‬‬‫‪ -‬كلمن‪ ،‬من مفردات اللغة إىل مركبات الثقافة‪ ،‬دار اجلديد‪ ،‬بريوت ‪1997‬‬

‫‪ -‬تسع عشرة فرقة انجية‪ ،‬اللبنانيون يف معركة الزواج املدين‪ ،‬دار النهار‪ ،‬بريوت ‪.1999‬‬

‫‪ -‬اجلمهورية املتقطعة‪ ،‬مصائر الصيغة اللبنانية بعد اتفاق الطائف‪ ،‬دار النهار‪ ،‬بريوت ‪.1999‬‬

‫ (إشراف أ‪ .‬ب‪ :).‬اجتاهات البحث يف العلوم االجتماعية وحاجات اجملتمع اللبناين‪ ،‬اللجنة الوطنية اللبنانية‬‫لألونسكو‪ ،‬بريوت ‪.2000‬‬

‫ الصيغة‪ ،‬امليثاق‪ ،‬الدستور‪ ،‬دار النهار‪ ،‬بريوت ‪( 2003‬ابلعربية والفرنسية)‪.‬‬‫ابلفرنسية‬ ‫‪- Identité confessionnelle et Temps social chez les Historiens‬‬ ‫‪libanais contemporains, Publications de l’Université‬‬ ‫‪Libanaise, Beyrouth 1984.‬‬ ‫‪- Le Liban, Itinéraires dans une Guerre incivile, Karthala‬‬‫‪Cermoc, Paris 1993.‬‬ ‫‪- La “Formule”, le Pacte et la Constitution, Dar Annahar,‬‬ ‫‪Beyrouth 2003. (Ouvrage bilingue).‬‬ ‫ترمجة‬ ‫ ميشال شيحا‪ ،‬لبنان اليوم (‪ ،)1942‬نقله عن الفرنسية أ‪.‬ب‪ ،.‬دار النهار ومؤسسة ميشال شيحا‪ ،‬بريوت‬‫‪.1994‬‬ ‫ ميشال شيحا‪ ،‬يف السياسة الداخلية‪ ،‬نقله عن الفرنسية أ‪.‬ب‪ ،.‬دار النهار للنشر ومؤسسة ميشال شيحا‪،‬‬‫بريوت ‪.2004‬‬

‫‪1‬‬


‫صدرت الطبعة األولى من هذا الكتاب عن دار العربية للتوثيق والدراسات والنشر‪ ،‬في‬ ‫بيروت‪ ،‬سنة ‪.1989‬‬

‫‪2‬‬


‫إهـداء‬

‫هذه حفلة تكريم‪ ،‬شئتها فرحة‪،‬‬ ‫لبنت جبيل ميتشغان‬ ‫وهذه أيضاً‪ ،‬تحية‪ ،‬جاءت حزينة‪،‬‬ ‫لذكرى الحاج أبي أحمـد الذين يدين له أوالده بالمحبة‬ ‫تلقاهـم أينما حلوا‪.‬‬

‫‪3‬‬


‫تمر َّ‬ ‫كأنهـا‬ ‫للـّهو آون ٌة ّ‬ ‫احل‬ ‫ـزودهـا‬ ‫ٌ‬ ‫ُقـَ ٌ‬ ‫حبيب ر ُ‬ ‫بل ُي ّ‬ ‫خالص‬ ‫الزمان فال لذي ٌذ‬ ‫جمحَ‬ ‫ُ‬ ‫ٌ‬ ‫َ‬ ‫سرور كامل‬ ‫ـوب وال‬ ‫ٌ‬ ‫مما يش ُ‬ ‫ّ‬ ‫المتنبّي‬

‫‪4‬‬


‫المطـار (‪)1‬‬ ‫في مطار ديترويت الجديد كانوا نحواً من ستين‪ .‬جاء معظمهم من ضاحية ديربورن القريبة‬

‫العم" كنت أناديه بـ‬ ‫وبعضهم من مواضع أبعد‪ .‬والذي لم يكن يسعني أن أناديه من بينهم بـ " ابن ّ‬ ‫تشتد كلما‬ ‫"الجار" في بعض الحاالت وبـ "األخ" في أغلبها‪ .‬فكأن الحاجة إلى تقريب القرابة الرمزّية ّ‬ ‫يتقدمن الصفوف‬ ‫كن ّ‬ ‫تراخت قرابة الدم‪ .‬كانت النساء قد انتحين ناحية ما خال شقيقاتي األربع اللواتي ّ‬

‫إحداهن آلة تصوير ضخمة‪ .‬فبدا اختالط الجنسين ناد اًر وبدا‪ ،‬بالتالي‪ ،‬أننا ال نزال حيث‬ ‫وفي يد‬ ‫ّ‬ ‫كنـا‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫دخنين باتوا يحشرون في الصفوف الخلفية من‬ ‫الم ّ‬ ‫كنت آخر الخارجين من الطائرة ألن ُ‬ ‫الطائرات‪ ،‬قرب بيت الخالء‪ ،‬مع أن التدخين َم ْجلبة لإلمساك‪ ،‬على ما يزعم األطباء‪ .‬وحين وصْلت‬

‫دخنت وأقول لنفسي إن‬ ‫إلى حيث المستقبلون كنت أشعر أنني ال‬ ‫أستحق أن يستقبلني أحد لفرط ما ّ‬ ‫ّ‬ ‫معامل فورد الكبرى‪ ،‬في ديربورن‪ ،‬تدخن أكثر مني وال ريب‪ ،‬وانني ال أستحق أيضاً هذا العزل‬

‫المهي ن في الطائرة وفي كل مكان عام‪ .‬ولكن سطوة األنظمة األميركية شديدة وسريعة الدخول في‬ ‫ُ‬ ‫النفس‪ .‬لذا لم ينفع ما استحضرته من أعذار صناعية في إبطال شعوري بالذنب‪.‬‬

‫َّ‬ ‫أطللت بطلعتي المرهقة‪ ،‬فأبطأ األميركيون الذين خرجوا أمامي لحظة‬ ‫صف َق الجميع حين‬ ‫ُ‬ ‫وتلفـّتوا ثم ولـّوا األدبار‪ .‬بعد التصفيق القصير بدأ العناق‪ .‬كان مفروضاً‪ -‬وهذا فرض خاطئ ال‬ ‫ِ‬ ‫أستثن من التقبيل أحداً‪ .‬لم يكن الوقت يتسع‬ ‫أعرف من صاحبه ‪ -‬أنني اعرف الجميع‪ ،‬وعليه لم‬ ‫أجبت باإليجاب‬ ‫كنت عرفته‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫للتدقيق في الوجوه التي تغير معظمها كثي اًر‪ ،‬ولكن بعضهم سألني إن ُ‬ ‫حيناً وبالسلب حيناً ولم أكن على يقين مما أجبت به في بعض الحاالت‪ .‬البعض (القليل) لم أكن‬ ‫رأيته في حياتي قط ألنه ُولد ها هنا أو كان في بيروت أيام كنت أنا في بنت جبيل ثم هاجر‪.‬‬ ‫والبعض (القليل أيضاً) شاهدته قبل شهر واحد في بيروت‪ ،‬ولكن منظره تغير‪ ،‬بعض الشيء‪ ،‬مذ‬ ‫ذاك‪ ،‬وكأنما توجد سيماء للمغترب الطازج‪ .‬وصديقي الذي أذكر الزيت على شعره العالي وبثور‬

‫الصبا على جبهته لم يكن في المطار ألنه‪ ،‬ساعة وصولي‪ ،‬كان في عمله‪ .‬جاء في اليوم التالي‬ ‫من غير شعر وأمامه كرش ٍ‬ ‫عال كأنه قضية كبرى‪ ،‬وأنبأني أنه صار ذا أحفاد‪.‬‬ ‫شقيقاتي ك ّـن أول من عانقني‪ .‬أربع قبالت أو خمس للواحدة‪ ،‬مع أن النصاب في ديارنا‬ ‫حدثتني نفسي‪ ،‬في َس ْورة القرابة‪ ،‬باإلجهاز على‬ ‫ثالث‪ .‬وحين فرغت من معانقة الرجال‪ ،‬بعد ذلك‪ّ ،‬‬

‫وسمن أيضاً إلى درجة خْلتُها‬ ‫معظمهن قد جاوزن الخمسين بقليل أو كثير‬ ‫بنات األعمام أيضاً‪ .‬فإن‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫‪5‬‬


‫ٍ‬ ‫افضات حتى‬ ‫هن ر‬ ‫أعد نفسي واحداً من‬ ‫تجيز لي أن ّ‬ ‫أبنائهن‪ .‬لكنهن أخذن يرفعن أيديهن إلى صدور ّ‬ ‫ّ‬ ‫مصافحتي‪ ،‬وكأنهن لم يحضرن الستقبالي أصالً‪ .‬بلى ّقبلتني إحداهن في كتفي وصافحتني الشابات‬

‫وضحكنا كثي اًر من شقيقتي الثالثة وهي تتعثر بأذيال زغردة قديمة نسيت معظم كلماتها‪ .‬قلت إننا لم‬ ‫نعد حيث كنـّا بالضبط‪ ،‬على األرجح‪.‬‬

‫استقرت حقائبي في‬ ‫وحين خرجنا إلى باحة السيارات‪ ،‬في المطار‪ ،‬كانت السماء ترّذ‪ .‬و ّ‬ ‫شهدت ساعتها أول معركة طاحنة بينها وبين سائقيها‪ :‬أختي‬ ‫صندوق سيارة سوداء‪ ،‬بالغة الفخامة‪ْ ،‬‬ ‫ومحركها دائر‪ ،‬ونحن حولها‪ ،‬تحت المطر‪ .‬وكان ال بد من‬ ‫وصهري‪ .‬فقد غّلقت المبروكة أبوابها‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫مخابرة المنزل ألخذ الرمز الذي يتيح فتح الباب بالضغط على أرقام مثبتة في زاويته الخارجية‪ .‬فكان‬

‫ويممنا شطر سيارة أخرى‪ ،‬بحثنا عنها طويالً ألن صاحبها نسي‬ ‫أن ْ‬ ‫تركنا صهري يبحث عن هاتف ّ‬ ‫رقم الممر الذي أوقفها فيه‪ .‬قيل لي إن الصدفة وحدها هي التي هدتنا إلى السيارة بعد هذا البحث‬

‫الذي يعتبر يسي اًر حين نعلم أن السيارات‪ ،‬في ذلك المبنى ‪ ،‬ألوف فوق ألوف‪.‬‬

‫قلت في نفسي‪ " :‬يا أبا علي‪ ،‬نحن في ديار الغربة وال يليق أن تنصر سيارة لئيمة وأخرى‬ ‫ّ‬ ‫عمك‪ .‬بل أنت وصهرك على السيارة اللئيمة وأنت وابن عمك على‬ ‫شاردة على صهرك وعلى ابن ّ‬

‫عصبيتي التي أخذت أستثيرها بهذه العبارات كانت بال‬ ‫إن‬ ‫السيارة الشاردة‪ ".‬لكنني أكذب إن قلت ّ‬ ‫ّ‬ ‫ظل يزّين لي أننا نظلم السيارتين وأننا نحن المذنبون‪ :‬أنا وصهري وابن عمي‬ ‫شائبة‪ّ .‬‬ ‫فإن هاتفاً خبيثاً ّ‬ ‫وعاينت ابن‬ ‫وسائر المشرق‪ .‬بعد ذلك قيل لي إن الجيل الطالع منـّا له مع السيارات شأن آخر‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫أختي‪ ،‬فعالً‪ ،‬وهو يسوق السيارة السوداء نفسها‪ ،‬وهي صاغرة‪ ،‬وكأنه ال يجاوز أن يسوق قدميه‪.‬‬ ‫وصلنا إلى بيت أختي‪ ،‬إذن‪ ،‬وكانت ال ُسفرة ممدودة في الـ ‪ –Basement‬الدور الذي تحت‬

‫األرض – وهو قاعة واحدة مساحتها مساحة البيت كله‪ .‬كان قد بقي من المستقبلين الستين نحو‬

‫ثالثين وغادر اآلخرون‪ ،‬إما إلى عملهم الليلي واما تل ّ‬ ‫طفاً وتخفيفاً للزحمة في المنزل‪ .‬أكلنا مريئاً‬ ‫وواصلت أختي التصوير الذي سيأتي حديثه ثم تواله عنها بعض األقارب‪ .‬وفي وسط الليل كان‬

‫االستقبال قد ّأدى أغراضه العميقة التي تتجاوز بكثير شخص العبد الفقير‪ .‬ألم يحصل اجتماع‬ ‫ستعد طقوس هي التي تتخلل السالم والمؤاكلة والقيام والقعود والحديث ؟ ألم‬ ‫وعناق ّ‬ ‫وتؤك ْد مراتب وتُ ْ‬ ‫نقل ‪ ،‬في خالل هذا كله‪ ،‬إننا نحن نحن على األرض الغريبة ؟ بلى حصل لنا هذا وظل يحصل‬ ‫كل منهما أسبوعاً وفصلت بينهما رحالت إلى ديار‬ ‫طيلة‬ ‫إقامتي القصيرتين في ديربورن‪ ،‬وقد دامت ّ‬ ‫ّ‬ ‫أخرى طالت ثالثة أسابيع‪ .‬كانت اإلقامة األولى للسالم والثانية للوداع‪ ،‬وقلما فعلت شيئاً غير هذين‬

‫‪6‬‬


‫في غضون تلك األيام‪ .‬أي أن األمر كله كان طقوساً في طقوس وكنت أنا – ألسباب ال أستبينها‬

‫كلها – قربان الجماعة‪.‬‬

‫‪7‬‬


‫الوطن والمهجر‬ ‫الجالية اللبنانية‪ ،‬في ديربورن‪ ،‬قد تكون خمس المدينة التي يقال إن تعداد سكانها مائة‬

‫وخمسة وعشرون ألفاً‪ .‬األرقام تختلف اختالفاً ّبيناً من مصدر إلى آخر‪ ،‬رغم أنف الحضارة التي‬ ‫هناك وهي اليوم حضارة "الحاسوب"‪ .‬وأهالي بلدتي‪ ،‬بنت جبيل‪ ،‬من أعمال جبل عامل المطابق‪،‬‬

‫مؤخ اًر‪ ،‬إلى اثنتين) هم نصف الجالية‪ .‬اليهود‪ ،‬في‬ ‫تقريباً‪ ،‬لمحافظة لبنان الجنوبي (قبل تقسيمها‪ّ ،‬‬ ‫نيويورك الهائلة ‪ ،‬أوفر عدداً من يهود إسرائيل‪ ،‬والبورتوريكيون أوفر عدداً من سكان بورتوريكو‪ .‬و‬ ‫"الجبيليون" في ديربورن الصغيرة‪ ،‬هم ثالثة أمثال الذين ما زالوا مقيمين‪ ،‬اآلن‪ ،‬في بنت جبيل‬ ‫المحتلة‪ .‬ويليهم‪ ،‬في العدد‪ ،‬جيرانهم أهل تبنين‪ ،‬فتتشكل من البلدتين أكثرية الجالية الساحقة‪.‬‬ ‫حدثنا أبي قال‪ :‬حين توفي‪ ،‬في بنت جبيل‪ ،‬عشية الحرب األهلية‪ ،‬علي خ‪.‬‬ ‫وفي ما مضى ّ‬ ‫يتقبل التعازي به‪.‬‬ ‫ب‪ ،.‬وكان قد جاوز الثمانين‪ ،‬لم يكن قد بقي من أهله األقربين‪ ،‬في البلدة‪ ،‬من ّ‬

‫لتقبـل‬ ‫فتوّلى ذلك أقاربه األبعدون‪ .‬هذا بينما أقيمت له ذكرى أسبوع في جامع ديترويت‪ ،‬وقف فيها ّ‬ ‫التعازي نحو من سبعين شخصاً جميعهم منحدرون من صلبه ومن صلب أخيه‪.‬‬

‫فعامة وهي تتوزع على محورين‪ .‬األول أميركي‪ ،‬وهو‬ ‫أما الشكوى من قّلة ّ‬ ‫فعالية الجالية ّ‬ ‫إن تفرق الكلمة وضعف المبادرة يفقدان الجالية ما لها من حقوق‬ ‫يختص بجيل الشباب الذين يقولون ّ‬ ‫على هذه المدينة‪ ،‬سياسية وادارية‪ .‬فقليل من أبنائها من ُيشارك في االنتخابات‪ ،‬أياً يكن نوعها‪ .‬ومن‬ ‫طمح منهم إلى ترشيح نفسه لمنصب ما‪ ،‬في المدينة ‪ ،‬نبذه أبناء جلدته عوض أن يساندوه‪ .‬وهم لو‬

‫يسمى هنا بالـ " لوبي"‪ ،‬لفرضوا على حاكم المدينة ومجلسها ما يشاؤون أو‬ ‫اتحدوا وتشكل منهم ما ّ‬ ‫األقل‪ .‬فلم ال يكون منهم خمس شرطة المدينة مثالً‪ ،‬عوض أن يفرحوا إلى هذا الحد‬ ‫بعضه على‬ ‫ّ‬

‫بشرطي أو اثنين اختيـ ار من بين صفوفهم مؤخ اًر َ​َ؟ هذا الغبن يستشعره الجيل الذي ما يزال ُمنقاداً‬ ‫ّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫إلى آبائه والى سواد الجالية‪ ،‬وهو يرى أفواجاً منه تخرج من الجامعات وترمق من جراء هذا أو من‬ ‫جراء النجاح في األعمال مكانة لم تكن مرتسمة في أحالم اآلباء‪ .‬ولما كان نجاح األفراد – على‬

‫ويتكرس‪ ،‬فإن الجيل‬ ‫تيسره النسبي – محتاجاً ‪ ،‬في المجتمع األميركي‪ ،‬إلى ضمانة الجماعة‪ ،‬ليكبر‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫شق العصا والخروج من الجالية‪ .‬بل هو يرى حقاً له أن ترفعه‬ ‫الجديد ال يسارع ‪ ،‬في الغالب‪ ،‬إلى ّ‬ ‫الجالية‪ ،‬على أكّفها‪ ،‬وأن تتولى تتويج كفاحه‪ .‬وأما الجالية فما زالت ال ترى نفسها جالية إالّ إذا بقيت‬

‫‪8‬‬


‫هي هي‪ ،‬أي إذا حصرت أميركيتها في مجال المعاش‪ ،‬واستبقت سائر وجوه حياتها ( وبينها الوجه‬

‫السياسي ) للموروث‪.‬‬ ‫ّ‬

‫متحدين ألمكن أن‬ ‫األعم‪ ،‬لبناني‪ .‬هنا يقولون إنهم لو كانوا‬ ‫المحور الثاني للشكوى‪ ،‬وهم‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ثبت مشروع واحد ذو‬ ‫أعم مما نالها و نالهم حتى اليوم‪ .‬حتى اليوم َ‬ ‫ينال بلدتهم وأهلها منهم خير ّ‬ ‫شأن هو مشروع الدوالرات الخمسة‪ .‬المشترك فيه يدفع خمسة دوالرات كل شهر ويجبى مال آخر‬

‫من األعراس والمآتم ويرسل هذا كله إلى المحتاجين من المقيمين في بنت جبيل‪ .‬في العام الماضي‬

‫بلغ الحاصل ‪ 84‬ألفاً أفادت منها نحو سبعمائة أسرة هي أكثرية األسر "الصامدة" والمبلغ ال يشتمل‬

‫بالطبع على ما يرسله كل مغترب إلى أهله‪ ،‬هو وأقاربه‪ ،‬والى أصدقائه‪ ،‬في بعض الحاالت‪.‬‬

‫المغتربون أصلحوا أيضاً حسينية بنت جبيل وجمعوا‪ ،‬إلى اآلن‪ ،‬خمسين ألف دوالر لحفر بئر تشرب‬

‫ويودون لو أوجدوا هيئة‬ ‫منها البلدة وتخلص من بائع المياه اإلسرائيلي‪ .‬هم يعتبرون هذا كله قليالً ّ‬ ‫تتولى المبادرة والتنظيم‪ .‬لكنهم مختلفون‪ ،‬سلفاً‪ ،‬في خطة الهيئة‪ :‬هل تقتصر المشاريع والمعونات‬ ‫على بنت جبيل أم تشمل "جاليتها" في بيروت وضاحيتها؟ هل يتوجهون مباشرة إلى العمل في لبنان‬

‫تسدد تكاليفها ثم توَقف‬ ‫تؤجر لالحتفاالت) في ديربورن ّ‬ ‫أم يقيمون‪ ،‬في البداية‪ ،‬مشروعاً كبي اًر (قاعة ّ‬ ‫على العمل الخيري؟‬ ‫ثم إنهم مختلفون أيضاً في أمر "زعامة" العمل‪ .‬قلما يستعمل أحدهم لفظ " القيادة" فهم‬

‫يفضلون مصطلح بلدتهم األليف‪ .‬العائالت قابعة تحت الخالف وفروع العائالت والعالم األميركي‬ ‫ّ‬ ‫المتسع لألفراد أيضاً وهو ال يزّين لك أن تنضوي – في غير مجال المعاش‪ -‬تحت جناح أحد‪.‬‬ ‫والمختلفون في أمر الزعامة يلتقون كل يوم تقريباً ويقولون لك " نحن مختلفون في أمر الزعامة "‬ ‫ويضحكون‪ .‬وأكثرهم مرحاً ينتخبون " زعيماً " لسهراتهم يعزلونه كل أسبوع‪...‬‬

‫‪9‬‬


‫أبو رشيـد‪ :‬المهنة والمكانة‬ ‫كان أبو رشيد يعمل‪ ،‬لسنوات خلت‪ ،‬في معمل لتصنيع لحوم الخنازير‪ .‬ولما كان قد جاوز‬

‫سن الشباب بشوط غير قصير أُسند إليه عمل يعتبر أسهل األعمال في المؤسسة‪ .‬وهو أن يجلس‬ ‫تمر أمامه بعد المراقبة الصحية‪ .‬كان‬ ‫ومعه خاتم كبير يختم به الخنازير المذبوحة على أقفيتها وهي ّ‬

‫ينتظر الباص‪ ،‬في حي " دكس" مع زمالئه اليمنيين‪ ،‬ليوصله في الثامنة صباحاً إلى عمل ال ينتهي‬

‫قوي البنية‪ ،‬مفتول الذراعين‪ ،‬مذ كان أبرز‬ ‫إال في الخامسة مساء‪ .‬وأبو رشيد – إلى ظرفه – ّ‬ ‫أمر ال ُيطاق في فصول ثالثة من‬ ‫القبضايات في حارتنا‪ .‬على أن صقيع الصباح في " دكس" ٌ‬

‫أربعة‪ ،‬إن كان عليك أن تقف على الرصيف ألنك ال تملك سيارة دافئة‪ .‬ثم إن الخنازير الزهرّيـة‬ ‫عداً في كل نهار‪ ،‬يطبع أبو رشيد خاتمه على أقفيتها جميعاً‪.‬‬ ‫اللحم كانت تصل إلى عشرة آالف ّ‬ ‫وفي وقت الراحة‪ُ ،‬بعيد الظهر‪ ،‬كان أبو رشيد يسمع كل يوم جلب ًة وهدير محركات في باحة المعمل‪.‬‬

‫فينظر من النافذة ليرى الشاحنات ّإياها‪ .‬عشر شاحنات شاسعة‪ ،‬كل شاحنة بثالث طبقات وفي كل‬ ‫طبقة مائة خنزير‪ .‬فيكون الصافي ثالثة آالف خنزير عليه أن يفرغ منها قبل المساء‪ .‬أمام هذا‬ ‫المنظر‪ ،‬كان أبو رشيد يرفع راحتيه نحو السماء ويشتكي‪:‬‬ ‫رب! أما يزال في دنياك خنازير؟‬ ‫ يا ّ‬‫مساء في مرآة الحمام‪ ،‬كان يرى أن ذراعه اليمنى باتت أضخم‬ ‫وحين كان ينظر إلى جسده‬ ‫ً‬ ‫عضالً من اليسرى‪ .‬أما زوجته فكانت في بنت جبيل متقاعدة‪ .‬ومرة خطر لها أن تكتب إليه‪ ،‬تسأله‬

‫يتأخر جواب أبي رشيد في الوصول إليها مختوماً‪:‬‬ ‫عن عمله ما هو ؟ ولم ّ‬ ‫مختار‪ ،‬يا بنت الخنزير‪ ،‬أنا مختـار‪.‬‬

‫عدة‪ .‬ولكنه كان‪ ،‬بين أهالي‬ ‫عاد أبو رشيد ليشيخ في بنت جبيل‪ ،‬وسط أسرته‪ ،‬منذ أعوام ّ‬ ‫محمياً بينهم من أية‬ ‫بلدته‪ ،‬في ديربورن ‪ ،‬قبل أن يغادرها ‪ ،‬شيخ الشباب وأظرف الظرفاء‪ .‬كان‬ ‫ّ‬ ‫مهانة قد يفترض أنها تترتب على طبيعة عمله‪ .‬بل إن مجالسته كانت تشتهى‪ ،‬في أي بيت‪ ،‬وكان‪،‬‬

‫ومرد هذه الحماية إلى أمرين‪ :‬األول أميركي‪ ،‬وهو أن العمل عندهم‪،‬‬ ‫مستحق‪ ،‬زينة السهرات‪.‬‬ ‫وهو‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫حل وأن الوجاهة عندهم غير مقرونة‬ ‫أياً كان ‪ ،‬ال يهين صاحبه وال يصمه وصمة تالزمه أينما ّ‬ ‫بالبطالة وأن المواطنية مرجع قائم حقيق ًة يقرن بين أقدار الناس في مجاالت وان تباينت في أخرى‪.‬‬ ‫واألمر الثاني لبناني وهو أن جماعة المغتربين حافظة لمقاييسها األصيلة‪ ،‬وهي متنوعة وليس العمل‬ ‫‪10‬‬


‫أهمها‪ .‬بل إنه يكاد أن يكون عارضاً فيها بحيث يظل يستقيم الفصل بينه وبين المكانة‪ .‬أنت هنا‬ ‫مجرد مهنة‪ .‬ولكن العمل يبقى‪ ،‬مع ذلك كله‪ ،‬أساس المعاش‬ ‫طبع وخلق وأصل وأشياء أخرى ولست ّ‬ ‫"يحرر"‪ ،‬بسبب األميركية الغالبة على مقاييسه‪ ،‬من سطوة الجالية بالمعنى الذي ُيقال فيه إنه "‬ ‫و ّ‬ ‫يحرر" المرأة من سطوة الرجل‪ .‬وأجلى مظهر لهذا التجاذب بين " االستقالل" الممكن عن "الجالية"‬ ‫ّ‬

‫وااللتحاق المستمر بها‪ ،‬تجده في مسألة "الزعامة" التي سلفت اإلشارة إليها‪ .‬فهذه حقاً مسألة شائكة‪.‬‬ ‫يردد مثالً أميركياً‪ " :‬كثير شيوخ القبيلة وقليل هنودها! "‬ ‫يحب أن ّ‬ ‫ابن أختي ّ‬

‫‪11‬‬


‫التصويـر‬ ‫صوروني‬ ‫صورتنا أختي المتأمركة‪ .‬وفي المطار‪ ،‬عند رحيلي‪ّ ،‬‬ ‫في المطار‪ ،‬عند وصولي‪ّ ،‬‬ ‫مع كل واحد ( حتى مع الذي ظل يغلبني في الشطرنج طيلة صيف ‪ )1976‬ومع كل اثنين ومع‬

‫ظمون في السماح لي بارتقاء المنبر إلى أن أحضروا‬ ‫ط َل المن ّ‬ ‫كل عشرة‪ .‬وفي المركز اإلسالمي ما َ‬ ‫صوروا كل شيء‪ .‬وحين دخلنا منزل‬ ‫صورونا أيضاً‪ .‬وفي العرس ّ‬ ‫آلة التصوير‪ .‬بعد المحاضرة ّ‬ ‫صور في عرس ال عالقة لهم‬ ‫جيراننا القدماء‪ ،‬ذات ليلة‪ ،‬وجدناهم يعرضون على التلفزيون شريطاً ّ‬

‫المدعوين إلى كل عرس‪ .‬قلت‪ :‬لعلهم يتدربون ألن‬ ‫به‪ .‬فهذه األشرطة تباع ويشتريها من يرغب من‬ ‫ّ‬ ‫في البيت عريساً وطقوس العرس هنا معقدة‪ .‬ويوم عيد الشكر اجتمع شملنا عند أختي المتأمركة في‬ ‫كاالمازو‪ ،‬إذ حضر من هو مقيم في تكساس ومن هو مقيم في كاليفورنيا ومن كان في جهة أخرى‬

‫وصورونا أيضاً‪.‬‬ ‫من ميتشغان وذكرنا الذي لم يحضر من جورجيا وأكلنا مزرعة من ديوك الحبش‬ ‫ّ‬ ‫وال حاجة إلى ذكر االهتمام بتظهير األفالم لي قبل سفري‪ ،‬فهذا من أبواب العناية التي شملت كل‬

‫ِ‬ ‫أمر لم‬ ‫أحص الذين سألوني إن كنت أحمل‪ ،‬في جيبي ‪ ،‬صو اًر لزوجتي و‬ ‫شيء‪ .‬ولم‬ ‫ابنتي وهو ُ‬ ‫ّ‬ ‫يخطر لي أن أفعله يوماً‪.‬‬ ‫يقدسون لقاءاتهم‬ ‫مقدسة‪ّ .‬‬ ‫ها هنا تحتاج حياة الغرباء إلى احتفال يبني للغرباء شيئاً من ذاكرة ّ‬

‫عادي أو يرتجلون لها هذا الطابع‪ .‬والصورة‬ ‫ويجمعون شتات أيامهم في لحظات يكون لها طابع غير‬ ‫ّ‬ ‫تثبت طابع اللحظة االستثنائي وتدرجها في حالة االحتفال‪ .‬كأنما هم ِ‬ ‫يصلون بالصور حياتهم هنا‬ ‫ّ‬ ‫بحياتهم السابقة في بالدهم‪ ،‬وقد باتت في ذاكرتهم شريطاً من الصور انقطع‪ ،‬ذات يوم‪ ،‬أي سلسلة‬

‫يوضبون حياتهم‬ ‫المقدسة‪ .‬وكأنما هم‪ ،‬إذ يجمعون الصور إلى الصور‪ ،‬في الغربة‪،‬‬ ‫من اللحظات ّ‬ ‫ّ‬ ‫هنا لتتسع لها الحقائب ويحملوها معهم ذات يوم‪ ...‬ذات يوم ويقفلوا راجعين‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫محرك الكامي ار دائ اًر وتتمشى‬ ‫أما أختي المتأمركة فال تحسن فن التصوير إال مشافهة‪ .‬تترك ّ‬

‫ملوحة بها تحيي العابرين‪ .‬لم تجد أعراباً في كاالمازو‪ ،‬فلم تفتح مضافة شأن أختها المقيمة في‬ ‫ّ‬ ‫ديربورن‪ ،‬بل أدارت مع زوجها محالً للخياطة‪ .‬ناس للسيف (الذي يليق حمله بأختي الكبرى) وناس‬ ‫يتوزع شبان األسرة الواحدة‪ ،‬في لبنان‪،‬‬ ‫توزعن كما ّ‬ ‫للضيف‪ ،‬وأختي المتأمركة لغدرات الزمان‪ .‬هكذا ّ‬ ‫بين مختلف الميليشيات‪ .‬وفي شريط المطار شاهدنا األعمدة تميل يمنة ويسرة و األرضين ترتطم‬

‫بالسقوف والوجوه والسيقان تعبر خطفاً فال يدركها لمح البصر‪ .‬كان ُمسّلياً أن يسأل بعضنا بعضاً‬

‫مقدم حذائها‪ .‬وحين‬ ‫عبرت كتفه الشاشة ومن هذه التي جمدت العدسة فجأة على ّ‬ ‫من هذا الذي َ‬ ‫‪12‬‬


‫تنازلت أختي عن آلتها ألحد أبناء العم سمعنا محاضرة طويلة‪ ،‬حفظها الشريط‪ ،‬شرحت خاللها‬ ‫أختي‪ ،‬بمنتهى الدقة والتفصيل‪ ،‬كيفية استعمال اآللة التي كانت تستعمل نفسها في هذه األثناء‪.‬‬

‫أيقنت‪ ،‬إذ ذاك‪ ،‬أن األميركيين الذين عّلموا أختي هذه الخصال هم شعب العابر‪ .‬يبنون مدناً ويهدمون‬

‫ويغير واحدهم بيته عشرين مرة وال يقيمون هياكل وأنصاباً إال هلل وللدولة‪ .‬أيقنت أيضاً أن محبة‬ ‫مدناً ّ‬

‫العابر هي التي جعلت األميركيين أرباباً للسينما في هذا العالم‪.‬‬

‫‪13‬‬


‫اآلغـا‬ ‫في العام الماضي َبعث الرئيس رونالد ريغان برسالة تهنئة إلى اآلغا لبلوغه الخامسة بعد‬ ‫المائة‪ .‬ولعشرين عاماً خلت كان اآلغا يحضر في السابعة من كل صباح ليفتح مضافتنا في بنت‬

‫جبيل ‪-‬وكانت مضافته أيضاً ألن والدي ابن عمته‪ -‬ويشعل نار الفحم لنارجيلته وللقهوة‪ .‬فاآلغا‬ ‫ٍ‬ ‫لرواد تلك المضافة‪ ،‬في أيامها‪ ،‬وأوثق الشهود على وقائعهـا‪ .‬وهو عشير أعمارنا‬ ‫عشير‬ ‫أقدم‬ ‫حي ّ‬ ‫ّ‬ ‫جميعاً أخذته منا أميركا‪ ،‬حين كان يغازل المائة‪ ،‬كما أخذت بعضنا من بعض‪ ،‬هي ونوازل الدنيا‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫يقض في لبنان ( في بيروت) إال سنواته الخمس األولى وال رأى بنت‬ ‫وابن أختي الذي لم‬ ‫ويهرع إليه لينقله‬ ‫جبيل إال ربيعين من ّ‬ ‫يحب اآلغا ّ‬ ‫جماً‪ .‬يجالسه ساعات ُ‬ ‫سنيه األربع والعشرين ّ‬ ‫حباً ّ‬ ‫إلى حيث يشاء في السيارة السوداء التي يسوقها كما يسوق قدميه‪ .‬لذا يحفظ ابن أختي‪ ،‬في رأسه‬

‫الفتي‪ ،‬سالسل قرابة وأخبا اًر للصراع العائلي في بنت جبيل‪ ،‬خالل الثالثينات واألربعينات‪ ،‬ال أحفظها‬ ‫ّ‬ ‫أنا وال كثيرون ممن يكبرونني سناً‪ .‬عليه سأجد من أسأله في هذه األمور إذا عزمت على الكتابة‬ ‫وعز لقاء اآلغا‪.‬‬ ‫عنها‪ ،‬في مستقبل الزمان‪ّ ،‬‬

‫معتز برسالة ريغان‪ .‬لكنه إذا روى خبرها مرة فهو يروي ثالث مرات خب اًر آخر‪ .‬وهو‬ ‫اآلغا ّ‬ ‫أن والدي صحبه يوماً إلى احتفال كبير في دير مشموشة وانتهر العسكر الذين كانوا يريدونه أن‬ ‫يدخل القاعة وحده قائالً‪" :‬هذا ابن خالي!"‪ .‬وحين كاد ميعاد الصالة أن يفوت‪ ،‬أخذ الرهبان اآلغا‬ ‫إلى غرفة صلى فيها ووقفوا هناك على خدمته‪ .‬وحين فرغ قال له أحدهم‪" :‬ابن عمتك ينتظرك يا‬

‫أفندياً‪ ،‬يا محترم! أنا آغا‪ ".‬ثم عاد إلى قاعة االحتفال‬ ‫أفندي"‪ .‬فضحك اآلغا وقال‪ " :‬أنا ُ‬ ‫لست ّ‬ ‫فأجلسه والدي في مقعد رئيس الجمهورية الذي كان قد غادر المكان ولم يجلس أحد في مقعده‪ .‬إي‬ ‫باع مقعد رئيس الجمهورية‬ ‫وهللا! هذا ما جرى‪ .‬لم يبع اآلغا مضافتنا بالمقهى العربي في دكس‪ ،‬وال َ‬

‫اللبنانية برسالة من ريغان‪.‬‬

‫‪14‬‬


‫البيـوت‬ ‫بت أعرف كيف هي البيوت في ديربورن ألنني زرت منها‪ ،‬في خمسة أيام أكثر‬ ‫أزعم أنني ّ‬ ‫من مائة وخمسين‪ .‬اقترحت علي هذه الجولة العجيبة أختي ذات المضافة‪ .‬واستسغت المبدأ‪ ،‬من‬ ‫ّ‬ ‫جهتي‪ ،‬ألن لطف الناس هنا ال يوصف‪ ،‬ومبادلتهم إياه تستساغ‪ .‬لكنني خشيت أن نزور بيتاً وننسى‬ ‫إن وسعت الذاكرة‪ .‬قالت أختي‪ " :‬المدينة صغيرة وأنا أعرف‬ ‫اثنين أو أن ال يسع الوقت المتبقي ْ‬ ‫نضطر إلى السؤال‬ ‫نمشطها شارعاً شارعاً‪ ،‬ومن كان قد ازرنا زرناه‪ ".‬هكذا كان‪ ،‬ولم‬ ‫بيوت الجالية‪ّ .‬‬ ‫ّ‬ ‫عن بيت فالن إالّ أربع مرات أو خمساً‪ ،‬وبسبب الظالم في األغلب‪ .‬وأما البيوت البعيدة القليلة‬

‫متطوعين آخرين‪.‬‬ ‫فزرتها مع‬ ‫ّ‬

‫يقضي اتقاء االنتظار في الصقيع أمام الباب الرئيسي أن تدخل البيوت من بابها الجانبي‪،‬‬

‫وهـو باب الطابق السفلي (ال‪ )Basement‬الذي يقضي فيه أهل البيت سحابة نهارهم ويستقبلون‬

‫كنت ضيفاً قادماً من بعيد‪ ،‬فإنهم يصعدون بك سلّماً يفضي إلى‬ ‫فيه أقاربهم وأصدقائهم أيضاً‪ .‬ولما َ‬ ‫صالون متصل بغرفة للطعام هي جزء من المطبخ أو مستقلة عنه‪ .‬والسلم ينعطف ويكمل صعوده‬

‫تقدر أن فيه ثالث غرف للنوم أو نحوها‪ .‬أما الكاراج ‪ ،‬وهو يتسع عادة لسيارتين‪،‬‬ ‫إلى طابق أعلى ّ‬ ‫فمالصق للمنزل بحيث يسع السائق أن يدخل إلى السيارة مباشرة من الطابق األوسط‪ِ .‬‬ ‫وتحدق بالبيت‬ ‫مرجة أمامية صغيرة يحاذيها طريق الكاراج‪ ،‬ومرجة خلفية قد تكون أوسع من أختها بقليل‪ .‬هذا هو‬

‫حي اًز من األرض أوسع‪ .‬وقد‬ ‫الرسم العام‪ .‬لكن البيت قد يكون مسطحاً على مساحة واحدة‪ ،‬فيحتل ّ‬ ‫تقتطع من الطابق السفلي غرفة مخصصة (نظرياً) للخادمة ومرافق أخرى‪ .‬وقد توجد في الطابق‬

‫األوسط غرفة لجلوس العائلة وأخرى لمنامة الضيوف‪ ،‬وفي العلوي أربع غرف للنوم ال ثالث‪ .‬وأما‬ ‫وللع َدد المختلفة واألثاث المتروك ولُلعب األطفال‪.‬‬ ‫الكاراج فهو أيضاً مستودع للحطب ُ‬ ‫حد أدنى – يعتبر ممتا اًز – إذا قيس‬ ‫على الجملة‪ ،‬تبدو بيوت ميتشغان وكأنها تنطلق من ّ‬ ‫بشقق المدن وبيوت القرى في لبنان – ثم تتوسع تبعاً ليسار أصحابها أو لحاجاتهم أو لمزاجهم‪ .‬أقول‬ ‫بيوت ميتشغان ألن السكن العربي‪ ،‬في نيويورك مثالً‪ ،‬أدنى مستوى بكثير‪ ،‬على ما أعلم‪ .‬والبيوت‬ ‫والسيارات (وغيرها) تشترى بالتقسيط‪ ،‬طبعاً‪ .‬وقد ال تعيش السيارة إلى أن توفى أقساطها وقد ال‬ ‫يعيش صاحب البيت إلى أن يفي أقساط بيته‪ .‬على أنه يكون قد استمتع بدفء المقام وسهولة‬ ‫‪15‬‬


‫االنتقال‪ ،‬ألن البيوت والسيارات‪ ،‬في أميركا‪ ،‬زينة الحياة الدنيا‪ .‬ثم إن البيت رأس مال أيضاً‪ .‬حين‬ ‫سن التقاعد ويكون أوالده قد فتحوا بيوتاً لهم ويأخذ في التفكير بالعودة إلى لبنان –‬ ‫يبلغ العامل هنا ّ‬

‫ومدخرات قليلة وراتب التقاعد الذي يكفيه‬ ‫إن طاوعه قلبه على ترك أوالده – يكون عنده البيت يبيعه ّ‬ ‫في لبنان وال يكفيه في ميتشغان‪ .‬ويكون أمامه لوعة فراق األوالد يحملها معه بعد أن حمل ‪ ،‬في‬ ‫الغربة‪ ،‬لوعة فراق األهل والبالد‪ .‬البيوت عامرة إذن ‪ ،‬وأما الحياة فهي خراب كبير على ما يرى‬

‫صديقي ن‪.‬‬ ‫وفي البيوت أثاث يتفاوت ذوقاً وغنى‪ .‬كثير من الخشب ‪ ،‬يبدأ من الجدران‪ ،‬وكثير من‬ ‫ملمع وموضوع أمام المواقد وعلى المناضد‪ .‬والذين يمضون سحابة اليوم في الطابق‬ ‫النحاس‪ّ ،‬‬ ‫بالمشمع جديدة‪ ،‬تقرقع حين يجلس عليها الضيف‪،‬‬ ‫السفلي يبقون مقاعد الصالون أحياناً ملفوفة‬ ‫ّ‬ ‫لمجرد االقتناء ال لالستعمال‪ ،‬تشهد أن أصحابها كدحوا وجنوا كما تشهد صورهم المعّلقة‬ ‫وكأنما هي ّ‬ ‫تزوجوا وأنجبوا‪ .‬وأكثر من يضيق بهذه البيوت وبطوابقها السفلية األمهات اللواتي‬ ‫على الجدران أنهم ّ‬ ‫غادرن ريفنا مسنات فلم يتعلّمن قيادة السيارات‪ .‬فهن ال يخرجن إالّ إذا سمح وقت االبن ( الذي هو‬

‫لتتسوق‪ ،‬ال تحمل حماتها (أو أمها)‬ ‫رب المنزل) بأخذهن في زيارة‪ .‬وربة البيت نفسها‪ ،‬حين تخرج‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫تحت إبطها بالضرورة‪ .‬بل هي قد تكون مضطرة إلى تركها لرعاية الصغار‪ .‬لذا حصل أن عادت‬ ‫أمهات عديدات ليعشن وحيدات في بنت جبيل أو في بيروت بعد إقامة في ديربورن ‪ ،‬طويلة أو‬

‫التجول بين الجارات‪ ،‬في بنت جبيل‪ ،‬ال تقدر بثمن وال يستطيع االحتالل اإلسرائيلي‬ ‫قصيرة‪ .‬فحرّية‬ ‫ّ‬ ‫حيالها شيئاً‪ .‬والطوابق السفلية‪ ،‬في ديربورن‪ ،‬أشد قسوة من السكن البيروتي نفسه‪ ،‬على اشتداد‬

‫األقل والبناية والشارع الواحد عالم صغير وكل الجيران‬ ‫قسوته في الحرب‪ .‬ففي بيروت شقق على‬ ‫ّ‬ ‫ناطقون بالضاد‪.‬‬

‫في دكس بنايات بشقق‪ ،‬ولكن مداخلها كئيبة ومصانع فورد تغطي دكس بضباب دائم‪ ،‬فال‬

‫تدخن‪ .‬ودكس حي من ديربورن يقيم فيه فقراء من العرب وغيرهم وينتشرون منه‬ ‫يكاد يخطر لك أن ّ‬ ‫تعودهم إياه وقربه من أعمالهم‪ .‬لعل الحموات‬ ‫إلى أحياء أخرى حين تتحسن حالهم أو يبقون فيه بحكم ّ‬ ‫لكنه غير مناسب لصحة الصغار‪ .‬اللوحات العربية على جباه‬ ‫أسعد حاالً في دكس‪ ،‬ال أدري‪ّ ،‬‬ ‫المتاجر كثيرة هناك‪ ،‬وكل شيء " حالل" تجده هناك‪ .‬بعض الخبثاء يزعم أن تجار دكس يوحون‬

‫الخس‪ .‬وفي ديربورن هايتز بيوت ليس‬ ‫إلى الناس أن السمك عندهم مذبوح ذبحاً حالالً ‪ ...‬وحتى‬ ‫ّ‬ ‫فيها طوابق تحت األرض‪ .‬ولكن يندر أن يكون فيها حموات‪ .‬فإن ديربورن هايتز حي الذوات‪،‬‬ ‫ّ‬

‫‪16‬‬


‫والعرب فيه قّلة‪ .‬بعض أغنياء الجالية آثر اإلقامة في ديربورن نفسها حتى ال ينعزل وأسرته عن‬

‫ح اررة الجوار‪.‬‬

‫‪17‬‬


‫نساء و رجـال‬

‫سر‪ .‬كنا نغادر البيت‬ ‫لم نضرب مواعيد لزياراتنا الكثيرة‪ ،‬واالّ ُ‬ ‫لكّنا احتجنا إلى حاسوب وأمانة ّ‬

‫في نحو العاشرة صباحاً ونعود إليه بعد العاشرة ليالً‪ ،‬بعد أن نكون مررنا به‪ ،‬ساعة‪ ،‬في الخامسة‬ ‫بعد الظهر‪ ،‬لتناول الغداء الذي هو عشاء أيضاً‪ .‬لذا استقبلتنا ربة البيت‪ ،‬في اكثر الحاالت‪ ،‬ألن‬

‫زوجها كان في عمله‪.‬‬

‫وسيدات الجالية‪ ،‬في ما رأيت وسمعت‪ ،‬من طراز رفيع من البشر‪ ،‬مصونات من معظم‬

‫(التسوق) التي‬ ‫العيوب التي يبتلى بها بعض رجالهن وأبنائهن أيضاً‪ .‬صحيح أنهن يهوين "الشابينغ"‬ ‫ّ‬ ‫تقنعهن فلسفة التجارة‬ ‫ليتيسـر لهن تخفيف الباء‪.‬‬ ‫َّ‬ ‫يبالغن أكثر من األميركيين في قلب واوها ألفاً‬ ‫ّ‬

‫أقل تقدير‪ .‬فيتابعن‬ ‫األميركية التي تزعم لك أنك عندما تشتري فأنت ال تنفق بل تربح‪...‬أو توفر في ّ‬ ‫اإلعالنات الخاصة بتنزيل األسعار وبمبيع األشياء المستعملة في كاراجات المنازل وما إلى ذلك‪.‬‬ ‫ويتنزهن أحياناً في المتاجر‪ ،‬ال يقصدن شراء شيء معين بل ما قد يتفق أن يعجبهن‪ .‬الرجال يقولون‪:‬‬ ‫ّ‬

‫يعمرن بيوت‬ ‫إنهن يخربن بيوتنا بـ "الشابينغ"‪ .‬ولكن الرجال مخطئون ألن النساء‪ ،‬على الحقيقة‪ُ ،‬‬ ‫يدبرن كل ما تحتاج إليه صيانة البيت وتسيير أموره‪ .‬وهن يسهرن على تربية األوالد‬ ‫الجالية‪ .‬فهن ّ‬ ‫ويتابعن أحوالهم في المدرسة وفي المدينة التي تحاصر أهلها الجريمة المنظمة وتجارة المخدرات‪.‬‬

‫يحميهن القانون األميركي في بيوتهن ويمنحهن‬ ‫وهن‪ ،‬إلى ذلك‪ ،‬منفتحات على ما حولهن‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫يمدهن التلفزيون الذي يواظبن على مشاهدته أكثر من الرجال‪ ،‬بثقافة‬ ‫ثقة واضحة بالنفس‪ .‬هذا بينما ّ‬

‫ويسعفهن تجوالهن في المدينة ‪-‬‬ ‫ال ُيستهان بها‪ ،‬سياسية وصحية و ‪ ...‬تاريخية أحياناً وغير ذلك‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫يتحصـل ألزواجهن في كثير من‬ ‫إلى التلفزيون – في تحصيل معرفة باللغة اإلنكليزية تفوق ما‬ ‫ّ‬ ‫الحاالت‪.‬‬

‫‪18‬‬


‫الرجال يكدحون وينامون‪ .‬يفاضلون بين ُس ْبحاتهم ويتنافس بعضهم في الزعامة‪ .‬وبعضهم‬ ‫ال يرى بعض أوالده إالّ في آخر األسبوع‪ ،‬ألنه حين يعود إلى البيت يكونون قد ناموا وحين يستيقظ‬

‫يكونون قد ذهبوا إلى المدرسة‪ ...‬أو إلى العمل‪ .‬بعض الرجال ال يكدح‪ُ :‬يقنع إدارة المؤسسة بأن‬ ‫ألماً في ظهره يمنع عليه العمل‪ .‬ثم يقعد في المقهى أو في المضافة يستعيد قصصاً جديرة باآلغا‬ ‫ويعيش – عيشة غير واسعة – من مال الضمان االجتماعي‪ .‬بعضهم أيضاً ملقى في السجن ألنه‬

‫فضحى به كبارها أو ألنه أحرق متجره طمعاً في مال التأمين‬ ‫جرب حظه في تجارة المخدرات‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ويقيض‬ ‫يشب األوالد ّ‬ ‫وانكشف أمره‪ .‬والنساء يواجهن هذا كله صابرات وقادرات‪ .‬يرعين األسرة‪ .‬وحين ّ‬ ‫ِ‬ ‫األب واألم ملكاً وملكة‪.‬‬ ‫مهمات مشروٍع ما يكبر المشروع بسرعة ويصير ُ‬ ‫لهم أن يتوزعوا متّحدين ّ‬ ‫قابلت في الجالية‪ .‬أما حين ال تسير‬ ‫سر نجاح أكثر الناجحين الذين‬ ‫ُ‬ ‫هذا التضامن بين األخوة هو ّ‬

‫األمور على هذا المنوال فإن األم تواجه خيبتها وترى رأيها في ما يسعها عمله‪ .‬وفي النجاح والخيبة‬ ‫ال تخلو حياة ربة البيت من غنـى وال تخلو عيناها من حكمة‪.‬‬

‫‪19‬‬


‫كـاالمـازو‬

‫في كاالمازو لعبت بالورق‪ .‬هم ثالثة يبحثون – من سنوات – عن رابع ‪ ،‬وأنا هبطت عليهم‬

‫مر‬ ‫من السماء‪ .‬أدركت أن اللعب بالورق شأنه شأن ركوب الدراجة‪ ،‬في العبارة الفرنسية‪ ،‬ال ُي َ‬ ‫نسيك ُـه ّ‬ ‫مرت منذ أمسكت بورق لعب آخر مرة‪ .‬ولم يكن بي شوق‬ ‫السنين‪ .‬كانت أعوام ال أحصيها قد ّ‬ ‫استثنائي إلى الطرنيب‪ .‬ولكنهم كانوا سيطردونني من المدينة لو رفضت‪ .‬تنازلت إذن ولعبت‪ .‬وتنازلوا‬

‫المتمرسين ولكنني أكاد ال أحسن‬ ‫وقبلوا بأن تكون اللعبة هي الطرنيب‪ .‬وهي لعبة محتقرة في عين‬ ‫ّ‬ ‫سواها‪.‬‬ ‫كاالمازو مدينة صغيرة (بالمقياس األميركي) تقع على مسافة مائة وعشرين ميالً إلى الغرب‬

‫من ديترويت أي في منتصف الطريق‪ ،‬تقريباً‪ ،‬بين هذه وشيكاغو‪ .‬فيها مصانع "أبجان" أحد عمالقة‬ ‫صناعة الدواء في العالم‪ ،‬وفيها جامعة ميتشغان الغربية‪ .‬ولي فيها شقيقتان‪ :‬الكبرى التي للسيف‬

‫عم أيضاً‪.‬‬ ‫(ولغيره أيضاً) والمتأمركة التي لغدرات الزمان‪ ،‬وتأمركها له حدود‪ .‬ولي فيها ابن ّ‬

‫وليس في كاالمازو جالية لبنانية وال عربية بمعنى الكلمة‪ .‬بضعة بيوت‪ .‬لذا ال يتيسـر‬

‫عمي أن يضعوا أيديهم على رابع حين يشاؤون ‪ .‬فحيناً يستدرجون رابعاً ال‬ ‫لصهر ّي االثنين والبن ّ‬ ‫يثبت من الجالية الضيقة‪ .‬وحيناً يكون الرابع ضيفاً عاب اًر – شأن العبد الفقير‪ -‬يتنافسون في إطعامه‬

‫خياطان) وفي الترويح عنه بالنزهة في المدينة الرائعة وحول بحيراتها لقاء‬ ‫وكسوته(ألن اثنين منهم ّ‬ ‫طعون بها سهرة تخلو‪ ،‬إذ ذاك‪ ،‬من كل هم‪.‬‬ ‫لعبة بريئة كلياً بالورق يق ّ‬ ‫أختي المتأمركة ال تحتمل دخان السيجارة وال نبات ميتشغان في بعض الفصول‪ .‬تهرب من‬

‫تضيق أنفاسها إلى الباهاما‪ .‬وأما الدخان فال يبدو قانون "الهواء النظيف" الصادر مؤخ اًر‬ ‫الزهور التي ّ‬ ‫كافياً لحمايتها منه‪ .‬لذا جاءت إلى بيت أختي الكبرى بأحدث مروحة وجدتها لتنقية الهواء ومنعت‬ ‫َّ‬ ‫المنظف على الهواء النظيف‪ ،‬فنزلت عند أختي الكبرى‪.‬‬ ‫فضلت الهواء‬ ‫التدخين في بيتها هي‪ .‬أنا ّ‬ ‫وكل ليلة كانت أختي المتأمركة وزوجها يأتيان ليسهـ ار معنا‪ ،‬فندير المروحة‪ .‬ويحضر أيضاً ابن‬ ‫عمي وزوجته – وبيتهما على مرمى حجر – فنلعب بالورق‪ .‬وأنا نفسي وجدت مجاالً للوم ابن عمي‬ ‫‪20‬‬


‫وزوجته على إفراطهما في التدخين‪ .‬و زوج أختي المتأمركة ال يدخن في بيته وال في محله ‪ ،‬لكنه‬

‫ركن ضيق‬ ‫يدخن حين يلعب بالورق‪ .‬عليه تنقسم الغرفة الفسيحة إلى شطرين غير متساويين ‪ٌ :‬‬ ‫وشطر فسيح للنساء يتعاطين فيه الحكمة‪.‬‬ ‫للرجـال ‪ ،‬يتسلون فيه‪،‬‬ ‫ٌ‬

‫‪21‬‬


‫أميركـا ‪ ،‬أميركـا‬ ‫حكمة نسائنا في ميتشغان‪ ،‬أذكرها مرة ثالثة‪ .‬كانت بنت العم ّأم ف‪( .‬وهي زوجة ابن العم‬ ‫م‪ ،‬ثالث الثالثة)‪ ،‬تنقلني في سيارتها المفتوحة المنافض إلى وسط كاالمازو التجاري ألتنزه وأمارس‬

‫"الوندو شابينغ"‪ ،‬أي استمالك الواجهات بالنظر‪ .‬وما أدري ما الذي حملها على اختيار ذلك الصباح‬ ‫لتلخص لي عقل أميركا البارد‪.‬‬ ‫النادر الدفء في تشرين ميتشغان ّ‬ ‫منا أوالدنا ‪ ،‬قالت‪.‬‬ ‫ إنهم يأخذون ّ‬‫شرهم ؟ سألت‪.‬‬ ‫‪ -‬من هم ‪ ،‬كفانا هللا ّ‬

‫منا يحضر إليها معدماً وقد جاوز السبعين‬ ‫ األميركيون‪ ،‬قالت‪ .‬أميركا‪ .‬نرى العجوز ّ‬‫وتيسر‬ ‫قدمه لها هذا حتى تطعمه وتكسوه‬ ‫فنقول‪ :‬ما أعظم أميركا وما أكبر قلبها! ما الذي ّ‬ ‫ّ‬ ‫وتطببه ّ‬ ‫يقدم‬ ‫له أمر الحصول على بيت وسيارة؟ أنا أقول لك ما الذي تنتظره أميركا لقاء هذا‪ .‬تنتظر أن ّ‬ ‫إليها العجوز أوالده‪ .‬هي تعلم أن العجوز سيبقى لبالده ولن يكون لها هي ولو أعطته مال قارون‪.‬‬

‫وهي ال تريده على كل حال‪ .‬تريد أوالده‪ .‬فإن كان عظمهم قد صار قاسياً‪ ،‬هم أيضاً‪ ،‬فأوالد أوالده‪.‬‬ ‫تستطيع أميركا أن تنتظر ثالثين سنة‪ ،‬تكون بعدها قد رّبت جيالً ُيالئمها وحصلت على ما أرادت‬

‫إلى مائة جيل‪ .‬بالدنا تبيعنا ونحن نبيعها‪ .‬هي تطردنا ونحن نبيع أوالدنا ألميركا ببيت وسيارة ومعاش‬ ‫إلى مائة جيل‪.‬‬ ‫كان من الفظاظة بمكان أن أقول البنة عمي أن الغول الذي تخشى من معدته على ذ ارريها‬

‫يتبنـاهم وان آذى آباءهم‪ .‬وكان من الفظاظة‬ ‫المقبلة هو غول حقاً ولكنه ال يريد أذى بالذراري بل ّ‬ ‫بمكان أيضاً أن أقول إنها ال تملك غير االحتيال على الغول ما عاشت لتنجو منه بأوالدها‪ .‬وأما‬

‫أوالد أوالدها فقد ال يجدون أنفسهم أشقياء بأميركيتهم وقد ال يكون عليها بالتالي أن تشقى عنهم سلفاً‬ ‫وعن األجيال التي تليهم‪ .‬وكان من الفظاظة بمكان أخي اًر أن أقول لها إنه قد يسع هذه األجيال أن‬

‫يسرت لها األجيال السابقة مؤسسات إسالمية تناسبها‪ ،‬ولكنها لن تبقى‬ ‫تبقى على اإلسالم مثالً‪ ،‬إذا ّ‬ ‫بقدر‬ ‫بقدر ما يعتبر البولنديون بولنديين‪ ،‬في أميركا‪ .‬أي ْ‬ ‫"لبنانية"‪ ،‬في أغلب الظن‪ ،‬وال "عربية"‪ ،‬إال ْ‬ ‫ما هم جماعة قد تسعفها عصبيتها في خوض معركة االنتماء إلى المجتمع األميركي ولكنها ال‬ ‫يعتد بها فعالً ببالدها األصلية‪ .‬كان كل ما يمكن أن أجيب به ابنة عمي إما فظاً‬ ‫تستبقي لها صلة ّ‬

‫‪22‬‬


‫واما سخيفاً‪ .‬فآثرت السخف وقلت لها أشياء ليس تحتها كبير طائل‪ .‬على أنني أيقنت أنها ما دامت‬

‫تحمل على رأسها هموماً من هذا العيار‪ ،‬فهي لن تترك التدخين أبداً‪.‬‬

‫وذات يوم في الباهاما‪ ،‬اعتدلت أختي المتأمركة (التي حملتني إلى هناك في رحلة أضرب‬

‫وحولت بصرها عن شاشة التلفزيون وسألتني إن كنت قد قاربت االنتهاء من‬ ‫صفحاً عن حديثها هنا) ّ‬

‫كتابة المحاضرة التي كان علي إلقاؤها في جامع ديترويت‪ .‬ثم أردَفت‪:‬‬ ‫ّ‬ ‫‪ -‬إنهم يبعدون أوالدنا عنا‪ .‬إنهم ال يريدونهم أن يبقوا مسلمين‪.‬‬

‫أعد المحاضرة أللقيها في المركز اإلسالمي‪ ،‬ففهمت أن حديث‬ ‫كنت ّ‬ ‫لم أسأل من هم؟ ألنني ُ‬

‫المحاضرة هو الذي استدعى المالحظة‪ ،‬سألت‪ :‬كيف ؟‬ ‫قالت أختي‪:‬‬

‫‪ -‬في ما مضى كان جميالً منظر األوالد في قاعات المركز اإلسالمي‪ .‬يتنافسون في خدمة‬

‫عدون‪ ،‬مع أهلهم‪ ،‬غداء األحد ويصلّون‪ .‬اليوم باتوا يرفضون أن يدخلوه‪ .‬واألهل أيضاً‬ ‫وي ّ‬ ‫الجامع ُ‬

‫يحسن أن يظل مجموعاً نهار األحد‪ .‬وما دمنا في أميركا‪،‬‬ ‫قل ّ‬ ‫ّ‬ ‫ترددهم عليه ألن شمل العائلة ُ‬ ‫خاشنتَه‪ ،‬يهجر‬ ‫فاألهل ال يملكون أن يسوقوا أوالدهم إلى الجامع بالعصا‪ .‬الولد الراشد هنا‪ ،‬إذا‬ ‫ْ‬ ‫البيت‪ ،‬وقد يصطاده تجار المخدرات وقد يضيع‪ .‬و حتى أنا لم أعد أرغب في زيارة الجامع‬ ‫أي نكرة شز اًر إذا جلست بجانب زوجي إلى المائدة‪ .‬كان‬ ‫أصالً ألنني ال أطيق أن ينظر‬ ‫إلي ّ‬ ‫ّ‬ ‫المنظر جميالً‪ ،‬وكان األوالد – وهم ال يجدون فرصاً كثيرة للتعارف‪ ،‬في هذه البالد التي يضيع‬ ‫تم النصيب‪ ،‬تتزوج الفتاة المسلمة‬ ‫فيها الجمل – يتعارفون في قاعات المركز‪ ،‬وهم مع أهلهم‪ .‬واذا ّ‬ ‫من الفتى المسلم‪ .‬هل هذا حـرام؟‬

‫ بل الحرام غير هذا‪ ،‬قلت‪.‬‬‫مركز ٍ‬ ‫التزمت‪ُ .‬فرض‬ ‫ إلى أن ُفتح في المدينة ٌ‬‫ثان للمسلمين‪ .‬وأخذ المركزان يتباريان في ّ‬ ‫وعزل الذكور عن اإلناث في القاعات‪ .‬وصار الفتى‪ ،‬إذا وقف‬ ‫الحجاب على النساء الداخالت‪ُ .‬‬ ‫أئمة على خلق هللا ونحن‬ ‫بجانب أخته‪،‬‬ ‫نصبوا أنفسهم ّ‬ ‫ووجد من ّ‬ ‫ّ‬ ‫يتحسب من اإلحراج واإلهانة‪ُ .‬‬ ‫‪23‬‬


‫نعرفهم واحداً واحداً ونعرف سيرتهم في المدينة‪ .‬هذا ما جرى‪ .‬وحين ُيحال بين أوالدنا والجامع‪ ،‬فهم‬ ‫ينسون دينهم أو ال يتعلمونه أصالً وقد يذهبون إلى مواضع ال نرضاها‪ .‬وحين ال يتعارف أوالد‬

‫يتزوجون من ال نعرف له ديناً وال يقيناً‪ .‬أنا ذاهبة لسماع محاضرتك‬ ‫المسلمين‪ ،‬في ما بينهم‪ ،‬فإنهم قد ّ‬

‫يوم السبت‪ .‬ولكنني سأجلس بجانب زوجي‪ .‬واذا فتح ابن أنثى فمه معترضاً‪ ،‬فسأجعله يحسب أن‬

‫أمه لم تلده‪ .‬نحن هنا في أميركا!‬ ‫ّ‬

‫قلت في نفسي إن علي أن أعيد النظر في التوزيع الذي اعتمدته لشقيقاتي‪ .‬فالكبرى التي‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫أسميها "المتأمركة"‬ ‫أوكلت إليها أمر السيف‪ ،‬أنا – وغيري – في بيتها‪ّ ،‬‬ ‫أعز الضيوف‪ .‬وهذه التي ّ‬ ‫تذب به عن حياض اإلسالم!‬ ‫و ّأدخرها لغدرات الزمان تنتضي اآلن سيفاً ّ‬ ‫نحن في أميركا إذن وأوالدنا يكبرون‪ .‬نحن في أميركا‪ ،‬وهذا ما كان المركز اإلسالمي يراه‬

‫يغير عينيه‪ .‬وفي أميركا كتب جبران يقول‪" :‬أوالدكم ليسوا لكم‪ " ...‬ما أجرأك يا رجل‪،‬‬ ‫جيداً قبل أن ّ‬ ‫وقل لنا لمن هم إذن؟‬ ‫وما ّ‬ ‫أشد غرورك! وّفر علينا َل ْغوك في أمر "الحياة" ْ‬

‫‪24‬‬


‫يوسف و" السومت "‬ ‫لنتغدى‪ .‬وكانت هذه‬ ‫ميممين شطر "السومت" ّ‬ ‫ركبنا السيارة‪ ،‬أنا ويوسف‪ ،‬وأخذنا نخابر‪ .‬كنا ّ‬

‫أول دعوة إلى الغداء أقبلها في ديربورن ألنني خشيت أن ال تعرفني زوجتي في بيروت إن أنا تركت‬ ‫رشاقتي – النسبية جداً – فريسة للكرم العاملي‪ .‬وكنت قد عانيت‪ُ ،‬متجّلداً ‪ ،‬طيلة إقامتي‪ ،‬منظر‬ ‫تستفزني‪ ،‬على المناضد‪ ،‬في كثير من البيوت‪ .‬وكنت قد عانيت‬ ‫المشبك‪ ،‬وهي‬ ‫ّ‬ ‫البقالوة والمعمول و ّ‬ ‫أيضاً‪ ،‬في األيام الخمسة األخيرة‪ ،‬منظر التمور واللوز والفستق الحلبي وهي تتقدم نحوي‪ ،‬عشرات‬ ‫المرات‪ ،‬في صحاف كبيرة‪.‬‬

‫قاعدة تنتظرني‪ ،‬ولم أكن تعبت في صنعها‬ ‫كان خطي اًر للغاية على سمعتي (التي فوجئت بها‬ ‫ً‬

‫مسافر الغداة‪،‬‬ ‫وال أرسلتها في طائرة شحن) أن أقبل دعوة للغداء لم أكن قبلت سواها‪ .‬غير أنني كنت‬ ‫اً‬

‫ون ْجر‬ ‫أجٌر َ‬ ‫فقلت أتغدى وأهرب والستر على أصحابي وعلى هللا‪ .‬ثم إن الغداء مع يوسف وأصحابه ْ‬ ‫تيسـر لنا وقت لقتلها بحثاً حتى ذلك‬ ‫ألن النية كانت معقودة على تداول مصالح عامة لم يكن قد ّ‬

‫اليوم ‪.‬‬

‫دوار في مبنى "الرنيسانس"‬ ‫هذا و"السومت" بعيد عن بيت أختي أفقياً وعمودياً‪ .‬هو مطعم ّ‬

‫لؤلؤة ديترويت الضخمة وقلبها النابض بالتجارة‪ .‬واسمه(الذروة) يشير إلى مكانه في الدور السابع‬ ‫والسبعين‪ ،‬وهو األخير من فندق "وستن" الذي يتوسط أبراج "الرنيسانس"‪ .‬ومنه يشرف المرء على‬

‫جهة بعد جهة من ديترويت المترامية أمام نهرها الكبير وعلى مدينة وندسور الكندية الممتدة وراء‬ ‫النهر وعلى جانب من بحيرة أري‪ .‬كنت ويوسف ذاهبين إلى الذروة إذن ودونها‪ ،‬من بيت أختي‪،‬‬ ‫ثالثة أرباع الساعة بالسيارة‪ .‬وكان األمل كبي اًر في أن يكون هذا المطعم هو ما يسمى عادة مستوى‬

‫المسؤولية‪.‬‬

‫أما سيارة يوسف فهي بالغواصة الصغيرة أشبه‪ .‬صاروخية الشكل‪ ،‬ضيقة‪ ،‬كثيرة األزرار‪.‬‬

‫ومن األز ارر اثنا عشر ز اًر‪ ،‬على األقل‪ ،‬لجهاز الهاتف وحده‪ ،‬وأزرار أخرى للجهاز الذي ًينذرك‬ ‫خابرنا المطعم‬ ‫بوجود الشرطة في الجوار‪ ،‬فتحاذر المخالفة‪ .‬وأزرار أخرى ألشياء أخرى‪ .‬عليه ْ‬ ‫ودية)‪.‬‬ ‫ومحطات الوقود التي ليوسف وأختي وابن عمي وزوجة يوسف‬ ‫وخابرتنا الشرطة (مخابرة ّ‬ ‫َ‬ ‫فخابرنا بعض عباد هللا خطأً واعتذرنا‪.‬‬ ‫أخرنا دقائق‪،‬‬ ‫ووقع أمامنا على الطريق السريع‪ ،‬حادث سير ّ‬ ‫ْ‬

‫‪25‬‬


‫ثم وصلنا إلى "الرنيسانس" ولم يبق علينا من الرحلة إال ُبعدها العمودي‪ .‬كانت أختي الكبرى‬

‫فحفظت في ذاكرتي – بين ما حفظت – صورة السجادة الكبيرة‬ ‫قد جاءت بي إلى هنا قبل شهر‬ ‫ُ‬ ‫ذات النقش العجمي في ردهة الفندق حيث باب المصعد‪ .‬ولم يكن مضى وقت طويل‬

‫على دخولنا المبنى حين لمحت السجادة‪ ،‬غير بعيد إلى يسارنا‪ .‬وكان يوسف يجري أمامي جري‬

‫المتوجه إلى وديعة يعرف وحده أين وضعها‪ ،‬فلم أجرؤ – وأنا أجري خلفه‪ -‬على البوح بسابق وقوفي‬ ‫ّ‬

‫شك‪ ،‬بأقرب الطرق إلى المصعد‪ .‬ثم درنا ‪ ،‬بعد مسيرة‬ ‫فوق تلك السجادة‪ .‬قلت‪ :‬يوسف أعلم مني‪ ،‬ال ّ‬ ‫طويلة‪ ،‬فلمحت السجادة‪ ،‬غير بعيد إلى يميننا‪ .‬قلت‪ :‬ها نحن وصلنا ‪ .‬لكن يوسف واصل الجري‬ ‫ثم انعطف وصعد – وصعدت خلفه – سّلماً آلياً‪ ،‬ثم انعطف إلى آخر‪ ،‬ثم توقف فجأة‪ .‬فأدركته وقد‬ ‫فرغ من طرح سؤال على عابر أخذ يهدينا سواء السبيل إلى المصعد بكل أناة وتفصيل‪ .‬قلت‪ :‬نحن‬

‫تائهان إذن يا يوسف‪ .‬ثم انطلق وانطلقت خلفه‪ ،‬وما لبثنا أن وجدنا السلم اآللي الذي أشار اليه‬

‫العابر‪ ،‬فتوقفنا‪ ،‬واذا به متوقف وعليه جماعة يصلحونه‪ .‬قلت‪ ،‬وقد تخففت بعض الشيء من سطوة‬

‫تحث الخطى‪ :‬أين "السومت"‬ ‫يوسف‪ :‬علينا بالتالي‪ .‬وفي الطريق إلى التالي سألت عابرة كانت ّ‬ ‫جف عرق الخجل عن جبيني من دقة هذا الجواب ثم استوقف‬ ‫فقالت‪ :‬فوق! وانتظر يوسف حتى ّ‬ ‫ردنا الرجل على‬ ‫عاب اًر ثالثاً‪ ،‬وكنا قد هبطنا السلم التالي ومشينا شوطاً في رواق لم نره من قبل‪ّ .‬‬ ‫حيث أشار‪ .‬وما أن انعطف يوسف متجهاً مرة أخرى نحو المجهول حتى‬ ‫أعقابنا‪ ،‬فمشينا شوطاً إلى ُ‬ ‫عياء ‪ :‬يا يوسف!‬ ‫انطلقت من حنجرتي صيحة أدركت لضعفها أنني موشك على السقوط جوعاً وا ً‬ ‫ها هي السجادة‪.‬‬ ‫في سيارة يوسف‪ ،‬كنت أغمض عيني بين مخابرتين وأهمس لنفسي‪ :‬نحن أميراالن يابانيان‬ ‫ّ‬ ‫ذاهبان إلى بيرل هاربور‪ .‬وأما "السومت" فقد وصلنا إليه جنديين مهزومين تاها مدة في أرض العدو‪.‬‬

‫نحيي أصدقاءنا الخمسة‪ ،‬ألرى إن كان تمزق شيء‬ ‫حتى أنني نظرت إلى نفسي والى يوسف ونحن ّ‬ ‫ضيعنا في األروقة والردهات نصف ساعة من أثمن أنصاف الساعات‪.‬‬ ‫من ثيابنا في الطريق‪ .‬كنا قد ّ‬ ‫وذلك أن أصدقاءنا كانوا قد تغدوا وجلسوا يدارون قلقهم علينا بشرب القهوة‪ .‬وأما المطبخ اللعين‬ ‫فكانت أبوابه مغلقة من الثالثة وكان غلمان المطعم األشاوس قد توقفوا عن تقديم الغداء‪ .‬فطلب لنا‬

‫األصدقاء قهوة وأخذنا نجاذبهم‪ ،‬بسواعـدنا الضعيفة‪ ،‬أطراف الحديث‪.‬‬

‫‪26‬‬


‫إشارات ناقصة‬ ‫سري‪ :‬شبعانة والحمد هلل‪ .‬ثم أوجزت‬ ‫سألوني في " السومت"‪ :‬كيف وجدت الجالية؟ قلت في ّ‬

‫لهم ‪ -‬دون ذكر المصدر‪ -‬بعض ما تعلمته من نسائهم (ومنهم هم أيضاً)‪ .‬قلت‪:‬‬

‫ نحن في أميركا‪ ،‬وال أحد بينكم يملك أن يسوق أحداً بالعصا‪ .‬تظهرون‬‫مصرين‪ ،‬إجماالً‪ ،‬على أن‬ ‫ّ‬ ‫مصيبا‪ ،‬في اختيار األساليب‬ ‫ً‬ ‫تظّلوا شيعة ومسلمين‪ ،‬عرباً ولبنانيين‪ ،‬والواحد منكم يجهد‪ ،‬مخطئاً أو‬ ‫والوسائل‪ ،‬ليحفظ هذه الهويات المتداخلة تحت سقف بيته‪ .‬خارج نطاق البيت الواحد أيضاً‪ ،‬تلتقون‬ ‫الحد حتى‬ ‫وتحتفلون‪ .‬تصّلون في الجامع أو تدبكون في العرس‪ .‬ولكن ما أن يتجاوز األمر هذا ّ‬ ‫مشكل المراتب‪ .‬فالمراتب موضع خالف يبدأ بترتيب الجلوس في أي احتفال‪ .‬على أن الخالف‬ ‫ُيطرح‬ ‫ُ‬

‫يدارى باللياقة في هذا النطاق‪ .‬وأما المبادرة إلى عمل يقتضي‪ ،‬بين ما يقتضي‪ ،‬توزيعاً مؤقتاً للمهام‪،‬‬

‫توزعاً أطول مدة بين المراتب‪ ،‬فيتعثران عاجالً أو آجالً‪ ،‬بحسب‬ ‫وأما إنشاء مؤسسة‪ ،‬وهو يفرض ّ‬ ‫موزعة سلفاً‪ ،‬هنا‪ ،‬شأنها في جبل عامل‪ .‬المراتب هناك‬ ‫مرد هذا إلى كون المراتب غير ّ‬ ‫الحاالت‪ّ .‬‬

‫تحوالت اجتماعية يستغرق حصولها عشرات السنين‪ .‬والحرب األهلية‬ ‫موروثة‪ ،‬وال ّ‬ ‫يغير توزيعها إالّ ّ‬ ‫هز بالغ العنف‪ .‬والمراتب في جبل عامل ِ‬ ‫ملزمة أيضاً‪،‬‬ ‫هزتها ّاً‬ ‫نفسها لم تزعزع نسقها العام‪ ،‬وان تكن ّ‬ ‫وكلفة الخروج عليها باهظة‪ ،‬بعضها العزل وبعضها ضروب أخرى من األذى‪ .‬وهذا ال يحتمله إالّ‬

‫تقيض لهم مالجئ غير الجماعات التي تنتظمها المراتب التقليدية‪ .‬وكثي اًر ما يكون خروجهم‬ ‫أفراد ّ‬ ‫فيستبقون ألنفسهم‪ ،‬مختارين أو مكرهين‪ ،‬مقاماً داخل الجماعة وخارجها معاً‪.‬‬ ‫نسبياً‬ ‫ْ‬ ‫وأما المهجر فلم تحضر إليه جماعتكم تامة وال حضرت معها مراتبها مقررة لألنصبة‬

‫تسوروا أنفسكم‪ ،‬عن االعتبارات التي ينصبها الوسط‬ ‫ولألشخاص‪ .‬وال أنتم معزولون هنا‪ ،‬مهما ّ‬ ‫يقدم إليكم في صورة‬ ‫سير مؤسساته الذي ّ‬ ‫األميركي في وجوهكم‪ .‬وليس أقّلها إمكان تدخلكم في ْ‬

‫الضرورة والصعوبة معاً‪ ،‬في صورة اإلغراء والرفض معاً‪ .‬وراثة المراتب‪ ،‬هنا‪ ،‬ال يستقيم اعتمادها‬ ‫مموهة بالتباس كثير‪ ،‬يقرأها‬ ‫بحذافيرها إذن‪ .‬فعصبية العائلة ال يصدر عنها‪ ،‬هنا إال إشارات ناقصة‪ّ ،‬‬

‫كل على هواه وتُنتج من الخالف أكثر مما تُنتج من التضامن‪ .‬وما هو أدهى من النقص وااللتباس‬ ‫ٌّ‬ ‫يجردها وسطها األميركي من معظم قوة اإللزام التي لها في بلد المنشأ‪ .‬فالذي يدير‬ ‫أن هذه اإلشارات ّ‬

‫ظهره للجالية هنا‪ -‬أو يحصر إسالمه ولبنانيته وما إليهما في بيته أو في وسط أوسع بقليل – ال‬ ‫‪27‬‬


‫تملك الجالية أن تعاقبه‪ .‬في بنت جبيل‪ ،‬كانت أشياء كثيرة تخدم العصبية من اختيار المقهى الذي‬

‫تتحوج منه إلى إمكان الخدمة أو المساعدة في أصناف كثيرة‬ ‫تجلس فيه إلى اختيار الدكان الذي ّ‬ ‫ُعدت بحيث تعرض – لكل إنسان‪ .‬هنا ال يطرد فورد من مصانعه‬ ‫من الظروف تعرض – أو هي أ ّ‬ ‫من ال يمتثل ألوامر الجالية ونواهيها‪ .‬هذا ال يعني أن أبناء الجالية غير محتاجين إليها‪ .‬بل يعني‬

‫أن الحاجة ال تثمر إالّ إلزاماً َ​َ ضعيفاً‪ ،‬يحصره كل فرد أو مجموع أفراد في حدود يملك رسمها‪ .‬ال‬ ‫آلة الوراثة سليمة إذن وال إلزام الجماعة كاف‪ .‬في بنت جبيل‪ ،‬تضبط الجماعات األفراد‪ .‬وأما هنا‬

‫أن رعاية استمرارها وفعاليتها رهينة –‬ ‫فالجماعة‪ ،‬حين ينظر إليها بعين األفراد‪ ،‬إرادية جزئياً‪ .‬أي ّ‬ ‫جزئياً أيضاً – باختيار األفراد الحر‪ .‬وهذا نظام حياة ِ‬ ‫خطٌر على الجماعات‪ ،‬بحسب ما هو مشهور‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫فعالية الجالية في‬ ‫قلت لهم أيضاً إنني ال أدري ماذا عليهم أن يفعلوا‪ ،‬وانني أوافقهم على أن ّ‬

‫الفعالية – في وسطها األميركي‪،‬‬ ‫خدمة عناصرها وأهلهم في لبنان وأثرها – الذي هو متصل بهذه ّ‬ ‫عدان ضئيلين إذا قيسا بعدد أفرادها وبكفاءاتهم وبمقدار النجاح الذي ّتوج كفاح الكثيرين منهم‪ .‬على‬ ‫ُي ّ‬

‫يتعدى المبادرات التي تقوم على استنفار‬ ‫أنني أحسب أن الصفة الطوعية للتضامن قد ّ‬ ‫تزكي ‪ -‬في ما ّ‬

‫نوى صغيرة ترعى قيام مؤسسات ذات نفع عام‪ ،‬لتعمل في المرحلة األولى‪،‬‬ ‫الجالية كّلها – نشـوء ً‬ ‫على أساس تجار ّي ثم تُجعل‪ ،‬بعد استيفاء الكلفة والربح الحالل‪ ،‬مْلكاً للجالية‪ .‬هذه المؤسسات –‬ ‫ويستحسن أن تربح وأن تستخدم أرباحها في ما يصلح للجماعة‪،‬‬ ‫قلت – عليها أن تقوم بمعظم نفقاتها ُ‬ ‫وليس لها – إن شاءت أن تكون بذرة وقدوة – أن تبقى عالة على النواة التي أنشأتها وعلى الجماعة‪.‬‬

‫لم أكن ُمحتاجاً إلى ضرب أمثلة‪ ،‬ألنني كنت سمعت القوم يتداولون األمثلة كل يوم‪ .‬ولم‬

‫يدهشني أنهم استحسنوا ما أوصلتني إليه معاشرتهم في آخر هذه الرحلة‪ .‬ولم يكن عهد معظمهم‬

‫بلبنان بعيداً فأدركوا ما كنت أشير إليه حين ذكرت "النزاعات المجّلدة" التي تعتور صفوف الجالية‬

‫وقد ظّلت على صيغ قريبة‪ ،‬شيئاً ما‪ ،‬إلى تلك التي كانت لها في جبل عامل قبل عشرين سنة أو‬

‫دست صل ًة ما بين مكوث هذه النزاعات في نوع من بيت الثلج والصفة االحتفالية‬ ‫أربعين‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫وكنت قد َح ْ‬

‫لحياة الجالية الداخلية في ديربورن وولعها بالتصوير‪.‬‬

‫تولّيت قيادة الصحب إلى باب المصعد‪ ،‬حتى ال يصل تنازُعهم ِ‬ ‫المرح للزعامة إلى هذا‬ ‫األمر‪ .‬وكانت ناطحات السحاب القريبة تبدو‪ ،‬من زجاج المصعد المكشوف على العراء‪ ،‬صاعدة‬

‫ظهر لنا الباب‬ ‫إلينا فيما نحن هابطون‪ .‬وحين وصلنا إلى بهو الفندق‪ ،‬وتجاوزت‬ ‫السجادة ّ‬ ‫ّ‬ ‫مودعاً‪َ ،‬‬

‫‪28‬‬


‫غواصة يوسف على مسافة خطوات‪ .‬فحضر الجوع إلى ذاكرة معدتي دون‬ ‫الذي ّ‬ ‫كنا قد أودعنا عنده ّ‬

‫إبطاء‪.‬‬

‫‪29‬‬


‫األكسس‬ ‫اء بارداً ولو كان‬ ‫كنا ندخل ديربورن‪ ،‬من جهة دكس‪ ،‬حين‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫فتحت ّ‬ ‫كوة الغواصة لنتنشـّق هو ً‬ ‫جاج السيارة و ِ‬ ‫أقفال أبوابها‪ ،‬في قلب ديترويت‪ ،‬أمر ال تحمد عقباه‪ ،‬على‬ ‫صنع فورد‪ .‬فإن َف ْتح ز ِ‬ ‫من ُ‬

‫المحافظ إالّ في جيوب أعضائها وال الذهب إالّ في‬ ‫ما ُيقال‪ .‬وذلك أن ميليشيـات المدينة ال تطيق َ‬ ‫همة يوسف – التي لم أرها فاترة في أي وقت‪ ،‬على‬ ‫معاصم صويحباتهم‪ّ .‬‬ ‫وكأنما أنعش الهواء البارد ّ‬

‫كل حال – فعرض علي أن نمضي ربع ساعة في "المركز العربي" (أكسس) الذي هو عضو في‬ ‫ّ‬ ‫عشر دقائق‬ ‫مجلس أمنائه‪ .‬قلت‪ :‬تغ ّداني يوسف متأخ اًر ويريد أن ّ‬ ‫يتعشاني مع غروب الشمس‪ .‬بل َ‬ ‫يا يوسف!‬ ‫علمه‬ ‫استقبلنا ح‪.‬ج‪ .‬في بهو المركز‪ ،‬وقال إنه كان تلميذاً لي في أواسط السبعينات وانه من ّ‬

‫حرفاً كان له عبداً‪ .‬كان ثالثينياً شأن يوسف ومعظم أصحابه‪ .‬الثالثينيون الذين جاؤوا إلى هنا أطفاالً‬ ‫أو يافعين يرتقون المراتب في الجالية وسيكونون هم "السومت"‪ ،‬على ما يظهر‪ ،‬قبل أن يبلغوا‬ ‫مادة يتضمن اسمها‬ ‫األربعين‪ .‬قلت لـ ح‪.‬ج‪ .‬إن القليل الذي عّلمته إياه من الترجمة والتعريب (وهي ّ‬ ‫خطأً في الترجمة) ال يستأهل أن أضع رجليه في القيود‪ ،‬وانني سأعتقه لوجه هللا‪ ،‬على كل حال‪،‬‬ ‫إذا صحبنا في زيارة سريعة للمركز‪.‬‬

‫بدا من كالم ح‪.‬ج‪ .‬أن المركز مؤسسة من مؤسسات الرعاية االجتماعية في المدينة‪ ،‬وأنه‬

‫مهم في عمل المركز ألنه ُيترجم للمهاجرين‬ ‫ّ‬ ‫مستقل في تمويله عن الجالية‪ .‬وبدا أيضاً أن الترجمة أمر ّ‬

‫ويقدم إليهم النصح أثناء‬ ‫الجدد ما يحتاجون إليه من أوراق ويطبعها‬ ‫ويسهل عالقاتهم بدوائر الهجرة ّ‬ ‫ّ‬ ‫بحثهم عن عمل وسكن‪ .‬ثم إنه يوزع أيضاً معونات غذائية على المحتاجين ويعنى بحاجات أسرهم‬

‫موزعين بين‬ ‫الصحية وغيرها‪ .‬وكان بين ما زرناه قاعة للرياضة وجدنا فيها نحو عشرين من الفتيان ّ‬

‫يجنبهم أخطار الشارع ومواضع أخرى‬ ‫مدرب‪ .‬وقال ح‪.‬ج‪ .‬إن المركز يريد أن ّ‬ ‫ألعاب مختلفة ومعهم ّ‬ ‫زوارها كثي اًر‪.‬‬ ‫ال تهمها صحة ّ‬

‫ِ‬ ‫وعدد لصنع القهوة‬ ‫شاهدنا أيضاً معرضاً للح َرف العربية القديمة فيه مالبس بدوية أو ريفية ُ‬ ‫العربية وأشياء أخرى‪ .‬بدا لي المعرض فقي اًر‪ .‬لكن ح‪.‬ج‪ .‬قال إن المركز يعمل لزيادة المعروضات‬

‫تدريجاً‪ .‬وشاهدنا معرض صور لبعض مؤسسي الجالية العربية ولظروف عملهم وحياتهم في الثلث‬ ‫المبرزين من أبناء الجالية في حقول أميركية‬ ‫األول من القرن‪ .‬ثم وقفنا أمام لوحة كبيرة عليها صور ّ‬ ‫‪30‬‬


‫سرني أخي اًر أن أرى صورة قريب لي من أصدقاء الطفولة‬ ‫كل منهم‪ّ .‬‬ ‫مختلفة مع خالصة لما قدمه ّ‬ ‫حدة طبعه‪.‬‬ ‫كبر ُمحسن وهدأت ّ‬ ‫اختارته المدينة "أباً مثالياً" هذا العام‪ .‬قلت‪ُ :‬‬ ‫ترد فو اًر إلى "الوطن" إذا شئت‬ ‫تكون ذاكرة أميركية للجالية‪ .‬فأنت ها هنا ال ّ‬ ‫ُ‬ ‫كنت أعاين إذن ّ‬

‫النبذ تنبئ أن أناساً عاشوا هنا وأن بعضهم مات هنا وأن‬ ‫أن تفتش في ذاكرة الجماعة‪ .‬بل الصور و ُ‬ ‫في حياتهم هذه ما يستحق الذكر ويستحق أن تلتئم حوله مالمح شخصية للجالية‪ .‬لم يعد للوطن أن‬ ‫فتئ حاض اًر ‪ ،‬يشهد لحضوره‪ ،‬مثالً‪ ،‬ما حواه المعرض من مالبس‬ ‫يستغرق ّ‬ ‫كل شيء‪ ،‬إذن‪ .‬هو ما َ‬ ‫وتجمد في الفلكلور‪ .‬فكأن‬ ‫المكانية‬ ‫الزمانية‪-‬‬ ‫وعدد للقهوة‪ .‬إالّ أن هذا الحضور خرج من أوصافه‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬

‫الن َبـذ‬ ‫المعرض‪ ،‬بهزاله‬ ‫مجرد عالمة النتماء عام‪ .‬وأما الحياة‪ ،‬فها هي تقف إلى جهة ُ‬ ‫النسبي‪ّ ،‬‬ ‫ّ‬ ‫والصور‪.‬‬ ‫شكرت لـ ح‪.‬ج‪ .‬هذه الجولة الشائقة في ماضي الجالية وحاضرها‪ .‬وكان علي أن أشكر‬ ‫ّ‬ ‫فخابرت أختي من السيارة وقلت لها‪:‬‬ ‫يوسف أيضاً‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫يتغدى!‬ ‫‪ -‬يوسف يريد أن ّ‬

‫‪31‬‬


‫المحاضرة‬ ‫ُيحكى أن رجالً من فقراء الناس أنفق جملة قروشه البيض ذات صباح في شراء كمية من‬ ‫ٍ‬ ‫بعشاء أحمر عند اإلياب‪ .‬وفي‬ ‫يمني النفس‬ ‫اللحم لم َيدخل مثُلها منزَله قط‪ .‬ثم ذهب إلى عمله وهو ّ‬ ‫النهار دعت زوجته بعض صويحباتها إلى مشاركتها الطعام‪ ،‬فأتين على اللحمة عن آخرها‪ .‬حتى‬

‫ط أكل اللحمة‪ .‬طار صواب الرجل وقام‬ ‫إذا دخل الرجل بيته وطلب عشاءه‪ ،‬زعمت له زوجته أن الق ّ‬

‫إلى القط الذي كان نائماً في الزاوية ووضعه على الميزان‪ .‬وحين نظر إلى إبرة الميزان ازداد جنوناً‬ ‫وزمجر في وجه زوجته‪.‬‬ ‫َ‬

‫هذه هي اللحمة فأين هو القط؟!‬‫تذكرت هذه الحكاية‪ ،‬وأنا على المنصة‪ ،‬في ندوة دعت إليها‪ ،‬في الربيع الماضي‪ ،‬ستون‬ ‫ّ‬ ‫هيئة ثقافية لبنانية واستضافها دير أنطلياس‪ .‬كنا خمسة على المنصة بيننا نائب إيطالي ومرشح‬ ‫لرئاسة مجلس الوزراء (إذا لم تتحول كل المجالس البلدية إلى حكومات)‪ .‬أي أننا لم نكن كلنا من‬

‫النكرات الجامعية‪ .‬وكان الحضور في القاعة الفسيحة‪ ،‬ال يزيدون عن الستين ولو واحداً‪ .‬قلت‪ :‬هؤالء‬ ‫هم الداعون فأين هم المدعوون ؟‬

‫وحين كانت ج‪ .‬ر‪ .‬تدعونا إلى ندوة في دارها‪ ،‬كانت تجتهد في توزيع البطاقات شخصياً‪،‬‬

‫على بيوت الناس ومكاتبهم‪ ،‬طوال أسابيع‪ ،‬تشاؤماً منها بكفاءة البريد اللبناني وتعويالً على مفعول‬

‫الزيارة الشخصية الداعم لمفعول البطاقة األنيقة‪ .‬وكانت تدعو معنا مطراناً ما تضع يدها عليه‪،‬‬ ‫اب اآلخرة أيضاً بين فوائد حضور الندوة‪ .‬فكان يحضر بعد هذا كله عشرون مستمعاً أو‬ ‫ليكون ثو ُ‬

‫خصيصاً ليستمعوا إلى‬ ‫ثالثون‪ ،‬وَلدت زوجات المنتدين – باستثناء المطران – ُرْبعهم‪ ،‬على األقل‪ّ ،‬‬ ‫محاضرات آبائهم‪.‬‬ ‫مدمرة على الحياة الثقافية! وذلك أنه حين يكون لك عشرات‬ ‫أقول إن لتفكك العشيرة آثا اًر ّ‬ ‫من "أبناء األعمام" في المدينة – وهذه كانت حالي في ديربورن – يحضرون لالستماع إليك ويحضر‬ ‫تحصل لمحاضرتي‪ ،‬في هذا الوسط الدافئ‪،‬‬ ‫يحبهم ومن يبادلهم اللياقة باللياقة‪ .‬وقد‬ ‫معهم من ّ‬ ‫ّ‬ ‫نص‬ ‫أربعماية مستمع‪ ،‬لو ألقى أحدهم إبرة لرَّن ْت وهم يصغون‪ ،‬طيلة ساعة و ربع الساعة‪ ،‬إلى ّ‬ ‫‪32‬‬


‫ظ باأللفاظ الحوشية والتراكيب المستصعبة‪ .‬وكان أحدهم – وهو ابن عم لي – ال يعرف من‬ ‫مكت ٍّ‬ ‫العربية إال أسماء أهله وأقاربه‪ ،‬ألنه ب ارزيلي المولد والنشأة ولغته األم هي البرتغالية‪.‬‬

‫كان األصدقاء يريدون أن يقيموا لي‪ ،‬في أول األمر‪ ،‬حفل تكريم وال يستبعدون أن ألقي فيه‬

‫حديثاً توحي به المناسبة‪ .‬ولم أجد غير المحاضرة متراساً أرفعه في وجه هذا االحتمال المرعب‪ ،‬ولم‬ ‫ينزل الداعون عند رغبتي إال بعد كفاح مرير وعلى مراحل‪ .‬قلت لهم إن ما لقيته من التكريم‪ ،‬منذ‬

‫وصولي‪ ،‬كان محرجاً وان المزيد منه سيبدو‪ -‬لي أنا‪ ،‬على األقل‪ -‬مضحكاً‪ .‬وقلت لهم إنهم هم‬

‫يكرموا وانني راغب حقاً في تكريمهم واّنه لما كان الكالم بضاعتي الوحيدة فإنني‬ ‫أولى مني بأن ّ‬ ‫مستعد لمحاضرتهم راجياً أن يعتبروا المحاضرة تكريماً‪ .‬وبدا لي أنهم قبلوا‪ ،‬ولكن سذاجتي أخذت‬ ‫تتكشف لي تدريجاً( بتوسط الهاتف ) بعد أن غادرت ديترويت‪ ،‬أول مرة‪ ،‬في رحالت لم يتهيأ مثلها‬

‫جوياً‪.‬‬ ‫للسندبادين ألن ّأياً منهما لم يكن ّ‬

‫وضيق‬ ‫مادتها‬ ‫كان اقتراح المحاضرة ورطة أوقعت نفسي فيها وأنا‬ ‫اء وفاضي من ّ‬ ‫ٌ‬ ‫َ‬ ‫مدرك خو َ‬ ‫أوزع ساعاتها بين الكتابة‬ ‫وقتي عن االنصراف إلى وضعها‪ .‬فلم يكن أمامي غير أيام الباهاما القليلة ّ‬

‫والراحة والسباحة‪ .‬وأما في غير الباهاما‪ ...‬ولم أجد في سابق معاناتي الطويلة للحبر والورق ما‬

‫أعد نفسي قاد اًر على ارتكاب نص تت ارمى أطرافه فوق ساعة تامة من التالوة في هذا الوقت‬ ‫يجعلني ّ‬ ‫أجزت لنفسي االستعانة – أكثر مما تجوز االستعانة – بنصين قديمين لي‪ ،‬كنت‬ ‫المتقبض‪ .‬لذا‬ ‫ُ‬ ‫حملتهما ليسعفا ذاكرتي‪ ،‬عند اللزوم‪ ،‬في مناقشـات الندوة التي بدأَت بها (في بوسطن) رحلتي إلى‬

‫الواليات المتحدة وكانت عّل ًة فاعلة – بلغة أرسطو –(أي بطاق َة سفر وتأشيرة) لقيامي بهذه الرحلة‪.‬‬ ‫أتاح لي أن ال أخرج من الباهـاما إال وفي حقيبة يدي محاضرة من أثقل عيار‪ .‬وأولى‬ ‫ذاك وحده ما َ‬ ‫ميزاتها كانت التجاهل التام‪ -‬الذي ال أغادره عادة – لكون المقيمين في بالدنا ما زالوا ينسون العربية‪،‬‬

‫صيرهـم بال لغة – أو يكاد – وقد كان زياد الرحباني ألطفنا إحساساً به‪ .‬فما‬ ‫من دهـر طويل‪ ،‬نسياناً ّ‬ ‫ِ‬ ‫ف معظمهم – لحسن حظه – لغ ًة أخرى ؟‬ ‫بالك بالمغتربين الذين أل َ‬ ‫وبينا أنا أكتب جاءني هاتف من بيت أختي في ديربورن يقول إنني سأجلس‪ ،‬يوم المحاضرة‪،‬‬

‫إلى "مائدة شرف" ُمحاطاً بتسعة وعشرين‪ ،‬ال يزيدون واحداً وال ينقصون‪ ،‬من أعيان الجالية‪ .‬ولم يكن‬

‫يجنبوني هذه الكأس‪ ،‬فوعدوا خي اًر‪.‬‬ ‫أمامي إال‬ ‫التضرع مرة أخرى إلى أصحاب الدعوة أن ّ‬ ‫ّ‬

‫‪33‬‬


‫وحين عدت إلى ديربورن عشية اليوم الموعود وجدت االستعداد على قدم وساق‪ ،‬وأُبلغت أن‬

‫علمت اتفاقاً أن ما‬ ‫مائدة الشرف قد ألغيت‪ .‬ولكن ما مضت ساعة على تنفسي الصعداء ‪ ،‬حتى‬ ‫ُ‬ ‫إلغاء للمائدة المذكورة كان‪ ،‬في الحقيقة‪ ،‬تعميماً لها‪ .‬فقد ُنصبت في قاعة المركز اإلسالمي‬ ‫سمي‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫ات من الموائد المستديرة وهيئت الستقبال األطايب‪ ،‬عصر اليوم التالي‪ ،‬من فاكهة‬ ‫الكبرى عشر ٌ‬

‫صبر على مزاحه البتّة‪.‬‬ ‫الملمات حين ال يكون لي ٌ‬ ‫وحلوى‪ .‬وأخذ الشيطان ُيمازحني‪ ،‬على عادته في ّ‬ ‫مشبك (أكبر بقليل من صحون الحاضرين‬ ‫فتخيلت أصحابي وقد وضعوا لي على المنبر‬ ‫صينية ّ‬ ‫ّ‬ ‫السكر يقطر من ذقوننا جميعاً‪ ،‬وكفى‬ ‫ُليعرف القط من اللحمة) أصعد فآكلها ثم أنزل فيصّفقون لي و ّ‬ ‫شر هذه المحاضرة‪.‬‬ ‫هللا القوم ّ‬

‫غير أنني استعنت باهلل على هذه الوسوسة وطلبت سحب الموائد وجعل الكراسي صفوفاً‬

‫والغاء طلبات األطايب التي كانت قد أبلغت إلى محالت مختلفة‪ .‬وقيل لي إن الوقت ضيق على‬ ‫إعادة ترتيب القاعة‪ ،‬فانتدبت لهذه الغاية ابن أختي وابن عمي الناطق بالبرتغالية‪ .‬وقد بدا لي أن‬

‫هذا األخير‪ ،‬دون سواه في دنيا هللا الواسعة‪ ،‬سريع إلى فهم أغراضي واإلشفاق لحالي‪ .‬وقيل لي أخي اًر‬

‫إنه ال ّبد من القهوة بعد المحاضرة‪ ،‬فرضخت مشترطاً أن تحصر آلة القهوة في ركن من أركان‬ ‫القاعة ‪ ،‬ثم أخلدت إلى النوم‪.‬‬

‫‪34‬‬


‫"التصويت باألرجل"‬ ‫بعد المحاضرة فتح العريف باب المناقشة‪ ،‬ودعا إلى المنبر شاباً ُم ْع ِشب الوجه‪ ،‬في أواخر‬ ‫أعد لهن‪ ،‬باستثناء واحدة جلست إلى‬ ‫عشريناته‪ ،‬رفع يده فو اًر‪ .‬كانت النساء يشغلن جانباً من القاعة ّ‬ ‫جانب زوجها في الصف األمامي ولم يعترضها أحد‪ .‬وكان هللا قد كفى أختي المتأمركة القتال‪ ،‬إذ‬

‫ط أر لزوجها ما حال دون حضوره‪ .‬وكنت جالساً بمواجهة الجمهور‪ -‬بعد أن غادرت المنبر – إلى‬ ‫جانب إمام المركز (وهو مؤسسه) الذي لم ينل جالل الثمانين من خفة الظل التي عرفتها له حين‬

‫مرة – وكانت ال تزال فيها روائح البناء ‪ -‬سنة ‪ .1965‬كان هذا‬ ‫جلست في هذه القاعة نفسها ّأول ّ‬ ‫الجامع المفتوح‪ ،‬حيث هو‪ ،‬على رياح العالم األربع‪ ،‬قد صمد لعصفها في أرجائه م ار اًر‪ ،‬في ربع‬

‫غيبه الموت – وبقي‬ ‫القرن الذي انقضى على تأسيسه‪ .‬وبقيت الوجوه إياها في مجلسه – إال من ّ‬ ‫إمامه ليواجه‪ ،‬في السنوات األخيرة‪ ،‬عاصفة أخرى يأخذ عليه كثيرون أنه أسلس لها قياده فأفقده‬

‫حاداً في ما مضى –لمعنى عبارة صغيرة يرددها الجمهور األعظم‬ ‫حدة إدراكه – الذي كان ّ‬ ‫هديرها ّ‬ ‫من المسلمين العرب في الواليات المتحدة‪" .‬نحن هنا في أميركا"! لكنني أعتقد‪ ،‬وان كنت لم أجالس‬

‫تمر‪ .‬ولعله‬ ‫الرجل إال ثالث مرات أو أربعاً في ّ‬ ‫مدة ربع قرن‪ ،‬أنه يحني قامته للعاصفة وينتظر أن ّ‬ ‫حاداً "‬ ‫يقيض له تسليم هذا الصرح بيده لخَلف يكون مدركاً إدراكاً ّ‬ ‫يرجو أن يصمد حيث هو إلى أن ّ‬

‫أننا هنا في أميركا"‪.‬‬

‫َب ْس َمل الشاب المعشب الوجه‪ ،‬إذن‪ ،‬وحمد هللا وأثنى عليه ثم نمى نفسه إلى األئمة األطهار‬ ‫جدهم رسول هللا فأطعناه‪ .‬وخلت أنه سيقول بعد ذلك قوالً جميالً ألن الصالة‬ ‫وأمرنا بالصالة على ّ‬ ‫على النبي تقرن في ديارنا بكل ما هو جميل‪ ،‬فيقال‪ :‬هذا جميل كالصالة على النبي‪ .‬إالّ أنه ما‬

‫بشق‬ ‫ويلحن ويدخل في الجملة وال يخرج منها‪ .‬وفهمت منه ‪ّ ،‬‬ ‫أن فرغ من الديباجة حتى أخذ يتلعثم َ‬ ‫تصوري للمشكل اللبناني‪ ،‬وثانيها أنه يسألني عن‬ ‫النفس‪ ،‬ثالثة أمور‪ .‬أولها أنه غير موافق على‬ ‫ّ‬ ‫ظف أمام بيته‪ .‬وأدركت من هذا القول‬ ‫هذا‬ ‫كل صاحب بيت عليه أن ين ّ‬ ‫التصور‪ ،‬ما هو؟ وثالثها أن ّ‬ ‫ّ‬ ‫األخير أن الرجل يشير إلى شيء ورد في ختام محاضرتي وهو أنه حين تتقطع أواصر الدولة‬

‫تنحل عرى االجتماع الوطني‪ ،‬فإن كيد الطوائف إحداها لألخرى‪ ،‬في الحرب األهلية‪ ،‬يأخذ‬ ‫الواحدة و ّ‬ ‫حدتها‪ ،‬ويصير التقاتل بين صفوفها مرّجحاً في العاجل أو‬ ‫في االرتداد إلى نحر كل طائفة‪ ،‬على َ‬ ‫مرة أخرى بين الصفوف الشيعية‪ ،‬في أواخر‬ ‫في اآلجل‪ .‬هذا كالم كنت كتبته قبل أن يندلع القتال ّ‬ ‫تشرين الثاني‪ ،‬ممتداً إلى بيروت من ضاحيتها‪ .‬وقد شاء الرجل الذي سمع الكالم المذكور في أثناء‬

‫‪35‬‬


‫القتال أن يفهمني أن القتال إنما هو تنظيف لفناء البيت (بكسر فاء الفناء الذي ال تخفى ضرورته‬

‫على اللبيب)‪.‬‬

‫وقبل أن يفرغ الشاب من كالمه كانت ثالث ٍ‬ ‫أيد أو أربع قد ارتفعت في القاعة‪ .‬وكانت بينها‬

‫بالغت في رفعها على سبيل اإللحاح‪ .‬وأدركت من سيماء الوجوه أن طالبي‬ ‫يد واحدة من قريباتي َ‬ ‫الرد على الشاب ال طرح األسئلة علي‪ .‬ولم يكن أمامي غير ثوان أقرر فيها ما‬ ‫الكالم إنما يريدون ّ‬ ‫ّ‬ ‫الرد بنفسي أم سأعطي الكلمة لطالبيها‪ .‬هذه الثواني القليلة لم تكن قد انقضت حين‬ ‫إذا كنت سأتولى ّ‬ ‫ومستأذنين بالرحيل‪.‬‬ ‫وقف و ٌ‬ ‫احد ثم ثالثة من الصف األول في القاعة وتقدموا لمصافحتي مهنئين ُ‬ ‫فكان أن اضطررت إلى النهوض لمصافحتهم‪ .‬وفي لحظات نهض أكثر من نصف الحضور وأخذوا‬

‫يصوتون بأرجلهم إلنهاء‬ ‫األولين وكأنهم ّ‬ ‫يتقدمون مني واحداً واحداً‪ ،‬وسط جَلبة الكراسي‪ ،‬حاذين حذو ّ‬ ‫المناقشة‪ .‬وحين فرغت من هذه المصافحة الطويلة غير المألوفة في المحاضرات كان الشاب ال‬

‫يزال واقفاً بجانب المنبر ينظر‬ ‫إلي والى من بقي في القاعة‪ ،‬وهم كثُر وقف بعضهم ينظر إلينا أيضاً‬ ‫ّ‬ ‫وانصرف آخرون إلى شرب القهوة‪.‬‬ ‫ثم رأيته يخطو الخطوات الثالث التي كانت تفصله عني ولحظت‪ ،‬ألول مرة‪ ،‬شحوب وجهه‬ ‫ّ‬

‫يقبل يدي‪ .‬ولكان أفلح‬ ‫عرض أن ّ‬ ‫واضطراب حركاته‪ ،‬فابتسمت له‪ .‬تمتم الرجل بكلمات اعتذار ثم َ‬ ‫في ذلك لو تأخرت في الخروج من ذهولي لحظة واحدة‪ .‬على أنني حين حاولت النطق لم أجد ما‬

‫وجنتيه فبادلني بمثل ذلك‪.‬‬ ‫أقبل‬ ‫ْ‬ ‫أقوله للرجل سوى أن أسأله الصالة على النبي‪ ،‬ففعل‪ .‬ثم طلبت أن ّ‬ ‫وكان بعض الحضور قد تجمعوا حولنا‪ ،‬فقلت له إنه لم يجاوز حقه قطعاً وانني لم أدرك‪ ،‬حتى اآلن‪،‬‬ ‫ما الذي حمل المنسحبين على االنسحاب‪ .‬فانصرف من القاعة راضياً وانصرفت إلى شرب القهوة‬ ‫وأنا في غاية الغيظ‪ ،‬ال من سؤاله‪ ،‬بل من "الفرصة" التي فرضها علي ألستعرض "شهامتي" على‬ ‫ّ‬ ‫المهين له ولي و لجماعة الحاضرين أيضاً‪.‬‬ ‫هذا النحو ُ‬ ‫خي َم في جو القاعة حالما أخذت التعليقات على المحاضرة‬ ‫غير أن مرحاً غام اًر ما لبث أن ّ‬ ‫ِ‬ ‫ترد‪ .‬فهذا يقول إنه لم يكد يفهم شيئاً وال يدري لم بقي يصغي مأخوذاً طيلة هذا الوقت‪ .‬وذاك يطلب‬

‫بات متاحاً أمام ابن عمي اآلنف الذكر‬ ‫شرح المحاضرة في محاضرة أخرى‪ .‬وذلك يقول إن المجال َ‬ ‫ُليحاضر بالبرتغالية‪ .‬وقد استوقفني من بين التعليقات واحد وجدت فيه بداية تفسير لحالة اإلصغاء‬

‫يمل كالم المنابر بسرعة‪ ،‬في تلك‬ ‫التي أجمع المعلقون على أنها كانت بال سابقة‪ ،‬ألن الجمهور ّ‬ ‫يتحرجون من االنسحاب إذا أطال‬ ‫يتحرج السامعون من التململ والتشويش وقد ال‬ ‫البالد‪ ،‬فال‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫‪36‬‬


‫يردد األميركيون كل يوم‪ ،‬وال سطوة للخطيب إالّ بمشيئة سامعيه‬ ‫الخطيب‪ .‬فـ "البالد حرة" على ما ّ‬ ‫ال بمشيئة غيرهم‪ .‬ونحن قد أسلفنا أن اإللزام في الجالية ضعيف‪.‬‬ ‫العمدة" التي كان فتيان‬ ‫قال َس ّ‬ ‫ميي أبو علي أحمد (وما أكثرهم) إن هذه المحاضرة أشبه بـ " َ‬ ‫قرانا يتبارون في رفعها وان عرب ديترويت سينتظرون اآلن أن يحضر إليهم خطيب آخر يرفع‬ ‫أمامهم َعمدة أثقل وزناً من هذه‪ .‬كان لي أن أفهم أنني دحرجت على مسامع القوم محدلة من محادل‬

‫السطوح سحقت نفوسهم سحقاً‪ .‬ولكنني حملت التعليق على محمل آخر‪ .‬وهو أن القوم وجدوا في‬ ‫محاضرتي – ببسيط العبارة – احتفاالً لغوياً أطربهم‪ .‬كانوا يصغون إلى لغة أصولهم تزجى إليهم‬ ‫من غير تلعثم وال لحن‪ ،‬فطربوا وان لم يفهموا كل شيء‪.‬‬

‫وبين ما فهموه جميعاً‪ ،‬بال ريب‪ ،‬أن في هذه المحاضرة رغبة في سالم لبناني هي رغبتهم‬

‫سميي‬ ‫العارمة أيضاً‪ ،‬وان داخلها من االلتباس ما ُيداخل كل الرغبات‪ .‬وهم اآلن – إن أخذنا بقول ّ‬ ‫ردها‪ .‬كان األمر‬ ‫يرد على لغة أصلهم نقاوة يجدونها فائقة تلك التي أفلحت أنا في ّ‬ ‫– ينتظرون من ّ‬

‫بالقداس‪ .‬وخطر لي أن الفاتيكان قد يكون أخطأ حين فرض على من يتبعه من‬ ‫كله إذن أشبه ّ‬ ‫القداس – أو معظمه – إلى لغاتهم الحديثة‪.‬‬ ‫النصارى نقل ّ‬ ‫أتاح لي تعليق سميي إذن متعة الشعور بشيء من الوضوح‪ .‬وأكبرت كثي اًر ما أظهره لي‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫جمهور الحاضرين من تسامح إذ لم يبد لي أن استصعاب الكثيرين منهم فهم النص قد أحنقهم علي‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫فلعّلهم قد فهموا ما هو أعظم قيمة من محاضرتي ومن كثير غيرها‪ .‬وهو أن أحداً من الناس ال‬ ‫ينبغي له أن يستسهل لوم أخيه ألنه جاء بما لم يفهمه‪ .‬وذلك أن ابن آدم بين اثنتين‪ :‬أن ال يفهم‬

‫الناس منه وأن ال يفهم هو شيئاً من الكالم الذي يضج به العالم‪ .‬فإن قال لك فالن إنه لم يفهم منك‬ ‫بعض أشياء فقل لفـالن – واثقاً – إنك تكاد ال تفهم منه شيئاً‪.‬‬

‫بالغت في رفع يدها طلباً للكالم عما كانت تريد أن‬ ‫فاتني أن أذكر أنني سألت السيدة التي َ‬ ‫الملتحي إلى أن البيوت ينبغي أن تظل قائمة‬ ‫تقوله‪ .‬فأجابت أنها كانت تنوي أن تلفت نظر الشاب ُ‬ ‫ليتيسـَّر ألهلها تنظيف ساحاتها! وجدت الجواب م ِ‬ ‫نسوية بعمران البيوت وقلت‬ ‫فصحاً عن عالقة‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫لصاحبته إنه كان مستبعداً أن يخطر لي مثله ببال‪.‬‬

‫‪37‬‬


‫العـرس‬ ‫حضرت عرساً واحداً في ديربورن‪ ،‬وفاتني آخر وأنا خارجها وسافرت قبل الثالث بيوم‬

‫واحد‪ .‬فالجالية مزواج‪ ،‬وأهالي بلدتي‪ ،‬وحدهم‪ ،‬لهم في كل شهر ثالثة أعراس أو أربعة‪.‬‬

‫في صدر القاعة الشاسعة‪ ،‬كان العروسان يجلسان خلف منصة مرتفعة وحولهما فتيات‬

‫كنا‪ .‬والى جانبي المنصة كان جناحا‬ ‫نبق حيث ّ‬ ‫الشرف وفتيانه‪ ،‬وهؤالء اقتباس يشير إلى أننا لم َ‬ ‫القاعة حافلين بموائد مستديرة جلس إليها المدعوون وهم مئات عديدة‪ .‬هذا بينما تركت قبالة المنصة‬ ‫مساحة خالية للرقص تنتهي إلى منصة أخرى أقل ارتفاعاً حّلت فوقها الفرقة الموسيقية‪.‬‬

‫المصورة تشير إلى أن العروسين‪ ،‬قبل أن يصال إلى المنصة‪ ،‬تؤخذ لهما صور‬ ‫واألشرطة‬ ‫ّ‬ ‫"رسمية" في السيارة وفي أمكنة بعينها من المدينة وفي مدخل القاعة‪ .‬ويقفان أثناءها أو يجلسان‬ ‫مقررة‪.‬‬ ‫وحدهما أو مع مرافقيهما في أوضاع ّ‬ ‫الملبس‪.‬‬ ‫وتقدم إليهم حلوى ومر ّ‬ ‫والمدعوون يتعشون ّ‬ ‫طبات وقهوة ويصرف النظر عن علب ّ‬ ‫ويقبل أحدهما‬ ‫ويعنى أهل العروسين باالستقبال ويتفقد العروسان المدعوين‪ ،‬مائدة مائدة‪ ،‬بعد العشاء‪ّ .‬‬

‫مدعو يغادر القاعة‪ ،‬إالّ من ترك حقه في ذلك‪.‬‬ ‫كل‬ ‫أو كالهما – تبعاً للجنس ولأللفة والقرابة – ّ‬ ‫ّ‬

‫أهم ما في العرس الرقص‪ .‬ففيه يصل عرض الجماعة لعالقاتها ولما فيها من أدوار‬ ‫غير أن ّ‬

‫ومراتب وألصلها أيضاً إلى ذروته‪ .‬الموسيقى شرقية بطبيعة الحال‪ .‬وهي تكاد تكون متصلة‪ ،‬فتخرج‬ ‫الفرقة من قطعة لتدخل في أخرى بعد كلمة من العريف‪ .‬ومع الفرقة مطربان(أو ثالثة) ِألفتهما‬

‫المكبرات يمتحنان صمود اآلذان‪.‬‬ ‫الجالية في أعراسها‪ ،‬والصوت والموسيقى يخرجان عاليين جداً من‬ ‫ّ‬ ‫يقدمهم العريف زوجاً زوجاً‪ .‬وهم أقارب العروسين وأنسباؤهما‬ ‫معدة سلفاً‪ّ ،‬‬ ‫والئحة الراقصين ّ‬ ‫وأصدقاؤهما‪ .‬والالئحة تكون طويلة بحيث تغطي معظم السهرة التي تمتد إلى ساعات الصباح األولى‬

‫ُسر البلدة أيضاً أو معظمها ألن البلدة "تظهر" في هذا النوع من‬ ‫وبحيث تشتمل على جميع أ َ‬ ‫المناسبات وتعلن تشابك عناصرها وتحتفل بوجودها نفسه‪ ،‬وهي على ألوف األميال من موقعها‬ ‫المصور عادة‪:‬‬ ‫الجغرافي‪ .‬ذلك أمر وضعت إلعالنه أغنية خاصة يفتتح بها الشريط‬ ‫ّ‬

‫‪38‬‬


‫جينـا لك عظهـور الخيل‬

‫اشتقنا لك يـا بنت جبيـل‬

‫والبيـارق بتـاللـي‬

‫العز العالي!‬ ‫يا جبيـن ّ‬

‫يخرج الراقصون إلى الحلبة‪ ،‬إذن‪ ،‬زوجاً بعد زوج‪ .‬والزوج عادة زوج وزوجته أو شقيق‬ ‫وشقيقته أو ما جرى هذا المجرى‪ .‬وحالما يبدأ المطرب أغنيته ويبدآن الرقص يتقدم منهما بعض‬

‫"يرشون" فوق رأسيهما أوراقاً من فئة الدوالر الواحد‪.‬‬ ‫أقربائهما‪ ،‬واحداً واحداً أو اثنين اثنين‪ ،‬ويأخذون ّ‬ ‫وحين تكثر األوراق على األرض ُيهرع أطفال صغار ويجمعونها في علب كبيرة ثم يحملونها إلى‬ ‫عدهـا وتوضيبها‪ .‬هذا بينما يواصل بعض أقارب العروسين َش ْغل‬ ‫"أمانة الصندوق" التي تتولى ّ‬ ‫يرش عليهم المال تك ار اًر‪.‬‬ ‫الحلبة‪ ،‬مع معظم الراقصين‪ ،‬ويتقدم‪ ،‬بين الفينة والفينة‪ ،‬من ّ‬ ‫هذا المال يذهب إلى العروسين‪ ،‬يغطيان بمعظمه نفقات العرس‪ ،‬وقد يبقى لهما منه شيء‬

‫يستعان به في فتح البيت الجديد‪ .‬والنفقات تتباين من عرس إلى عرس‪ :‬خمسة آالف‪ ،‬عشرة ‪،‬‬

‫خمسة عشر‪ .‬وأما المال المجموع فقد يصل في العرس الكبير إلى ثالثين ألفاً‪ ...‬وقد ال يصل إلى‬

‫نصفها‪.‬‬

‫وحين يرغب العريف في التنويع يدعو إلى الرقص فئة مهنية برمتها‪ .‬في العرس الذي‬

‫سميهم)‪،‬‬ ‫ْ‬ ‫حضرتُه ُدعي الصيادلة‪ ،‬شباناً وشابات‪ ،‬وأدهشتني كثرتهم‪ .‬أو يدعو عازبات وعازبين ُ‬ ‫(ي ّ‬ ‫لعل يكون لهم فأل حسن بالمناسبة‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫يغب تفاصيل‪ .‬يدعى إلى‬ ‫ثم يحضر الجنوب فجأة‪ ،‬في وسط العرس‪ .‬يحضر جملة وهو لم ْ‬ ‫سنة تجلس على كرسي أحضر لها والحاج النشيط يرقص حولها‬ ‫وحاجة‪.‬‬ ‫حاج‬ ‫الحاجة ُم ّ‬ ‫الحلبة ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫والمطرب يبذل صوته دون حساب‪:‬‬ ‫منرفض نحنا نموت‬

‫أرضـك والبيـوت‬

‫َه ْو إلنا يا جنــوب‬

‫قولولـن رح نبقـى‬

‫والشعب الع ْـم يشقى‬ ‫يا حبيبي يا جنـوب‬

‫إذ ذاك يأخذ المدعوون في مواكبة األغنية بصفق األيدي ويتقدم بعضهم أفواجاً‪ ،‬يشاركون‬ ‫الحاجة ثم يحملون‬ ‫ويرشون المال على‬ ‫أي غنج) ّ‬ ‫ّ‬ ‫الحاج و ّ‬ ‫في الرقص (الذي يصير َذ َكرياً خالياً من ّ‬ ‫‪39‬‬


‫يرش في هذه‬ ‫يلوح بيديه‪ ،‬إلى أن تنتهي األغنية‪ .‬أما المال الذي ّ‬ ‫ّ‬ ‫الحاج الذي يبدو ُمنتشياً وهو ّ‬ ‫الدقائق (ويبلغ نحواً من ألفي دوالر في كل عرس) فيذهب إلى المحتاجين واأليتام في بنت جبيل‪.‬‬ ‫يمهد للدبكة التي تضيق بها الحلبة على رحبها فتنقسم – رغم رجاء العريف – إلى‬ ‫هذا الحماس ّ‬ ‫المكبرات في ه ّـز أركان القاعة‪.‬‬ ‫حلقات تدخل الواحدة منها في األخرى وتتبـارى األقدام و ّ‬ ‫الحظت أن الدعوة إلى العرس شبه محصورة في أهل البلدة‪ .‬حتى أن المدعوين من جوارها‬

‫القريب كانوا قالئل‪ .‬فعلى الرغم من اختالط السكن في ديربورن‪ ،‬يظهر أن المخالطة بين جاليات‬

‫القرى المختلفة (وهي ما يتيحه المركز اإلسالمي مثالً) ليست بالعميقة‪ .‬وكنت قد سألت إن كانت‬

‫الدعوة إلى محاضرتي قد شملت مسيحيين‪ .‬فقيل لي إن المسيحيين في "الشرقية"! والشرقية المذكورة‬

‫هي شرق ديترويت التي اتفق لديربورن أن تكون في غربها! وما كان لي إالّ أن أعجب من هؤالء‬

‫األميركيين‪ ،‬كيف ارتضوا العيش بالماليين‪ ،‬وكأنهم أكياس رمل‪ ،‬على خط التماس الذي اسمه‬

‫ديترويت – ميتشغان‪ .‬ومهما يكن من شيء‪ ،‬فقد ساغت لي الموازنة بين المحاضرة والعرس اللذين‬

‫حصال في يومين متواليين‪ .‬لم أتوقف عند ّأبهة العرس وعري المحاضرة‪ ،‬فهذا هو الفارق السطحي‪،‬‬

‫على أهميته‪ ...‬وجدت أن العرس ير َجح المحاضرة بكثير من جهة أخرى أيضاً‪ .‬وهي أنه معرض‬ ‫الجرس لعالقات الجماعة بما تفترضه من فوارق في القرب والبعد والصفة ومن‬ ‫فاقع األلوان وعالي ْ‬

‫تشارك ووحدة في آن‪ .‬ففيه ينتظم األهل أهالً‪ ،‬حول العروسين‪ ،‬واألصدقاء أصدقاء والجيران جيراناً‬

‫مدعوة‬ ‫مغربين لفرط التكريم‪ ،‬في األغلب) وفيه يحدد كل مدعو – أو أسرة‬ ‫(مكرمين و ّ‬ ‫والغرباء غرباء ّ‬ ‫ّ‬

‫– مكانه من أصحاب المناسبة‪ ،‬بنوع مشاركته ومقدارها‪ ،‬ومكانته في الجماعة كلها‪ ،‬من بعض‬

‫ومدعووهم في التقرب بعضهم إلى بعض‪ ،‬والرفع من شأن بعضهم‬ ‫الوجوه‪ .‬ويتبارى أصحاب العرس‬ ‫ّ‬ ‫بعضاً‪ ،‬بفعل البذل المتبادل‪ ،‬على مأل من جماعتهم كلها‪ .‬فعلى أصحاب العرس كرم الضيافة‬

‫تصرفات والهدية‪ .‬وهذه مباراة‬ ‫والحفاوة و ّأبهة المكان وعلى‬ ‫المدعوين المشاركة بما ينتظر منهم من ّ‬ ‫ّ‬ ‫ال يخرج منها أحد خاس اًر‪ ،‬من حيث المبدأ‪.‬‬ ‫وأما المحاضرة فهي مناسبة بسيطة تكاد ال تمنح المستمعيـن شيئاً غير اإلفادة مما يسمعون‬

‫– إذا ُوجدت – والمشاركة في جمع يفترض أنه ذو مستوى استثنائي‪ .‬وقد تجب اإلشارة إلى جلوس‬ ‫"األعيان" في الصف األول‪ ،‬ولكن هذا االمتياز متواضع والحصول عليه يتكرر كثي اًر‪ .‬في ما عدا‬

‫ذلك يظهر األفراد في المحاضرة أفراداً وتطمس عالقاتهم وأدوارهم (أو تكاد‪ ،‬على األصح‪ ،‬ألن‬ ‫بعضها يتراءى دون بروز)‪ .‬ويظهرون أيضاً سواسية‪ ،‬على الكراسي‪ ،‬كأسنان المشط وتكاد تطمس‬ ‫مراتبهم‪ .‬فال يبقى امتياز فاقع إالّ للمحاضر الذي يفرض الصمت على هذا الخلق المجتمع لسماعه‬

‫‪40‬‬


‫ويتكلم وحده‪ .‬وقد تحصل فائدة ما أيضاً للمؤسسـة التي دعته أو استضافته‪ ،‬ألنها أكدت بذلك‬

‫اختصاصاً لنفسها ولوناً أو اتجاهاً ما‪.‬‬

‫لن أعرض هنا لحفل التكريم ألنه لم يحصل‪ .‬سوى أنه‪ ،‬بال ريب‪ ،‬وأياً يكن تواضعه‪ ،‬أقرب‬

‫إلى العرس‪ ،‬من حيث التوزيع المنصف للفوائد‪ ،‬منه إلى المحاضرة‪ .‬واذا كنت غير نادم البتّة على‬ ‫رفضي إياه‪ ،‬فإنني أعلم اآلن أن هذا الرفض قد حصل ألسباب أنانية كلياً‪.‬‬

‫‪41‬‬


‫األميركيون‬ ‫كل شيء‪ .‬كثير من الطعام وكثير من الكالم‬ ‫األميركيون شعب سمين‪ .‬عندهم كثير من ّ‬ ‫يقولونه وكثير من السيارات وكثير من األدوات المنزلية‪ .‬وأكثر ما تُرى ُسمنتهم في قاعات المطارات‬

‫حيث يظهرون لك عشرات أو مئات دفعة واحدة‪ .‬وذلك أنهم ال يظهرون بكثرة على أرصفة الشوارع‬ ‫ألن األمان عندهم ليس كثي اًر‪.‬‬ ‫والنحافة عند األميركيين قيمة كبيرة‪ .‬لذا ينتقل واحدهم بسرعة بين ِ‬ ‫الح ْمية والسمنة وبين‬ ‫يضيق ثيابه‬ ‫السمنة والحمية‪ .‬عليه وجدت حرفة الخياطة مزدهرة‪ ،‬في جاليتنا هناك‪.‬‬ ‫فاألميركي قد ّ‬ ‫ّ‬ ‫يضرهم هذا‪.‬‬ ‫ويوسعها أو يستبدل بها غيرها مرة ومرتين في العام‪ .‬والخياطون ال ّ‬ ‫اليوم تشيع المجالت أن النحافة مغادرة عرشها األميركي عما قريب وأن مزايا السمنة‬

‫بهمة الموضة‪ ،‬وسيصير أبرز ما عند جين مانسفيلد ‪ -‬أو ما كان عندها قبل ربع قرن –‬ ‫ستظهر‪ّ ،‬‬ ‫حد أدنى‪ ،‬في التسعينات‪ ،‬لنساء أميركا والعالم‪ .‬وقد بدأت األكتاف تعرض والياقات تكبر‬ ‫برنامج ّ‬ ‫والخصور تختفي‪ .‬شيء آخر أخذ يعلو وينتفخ‪ ،‬هذا العام‪ ،‬وهو مؤخرة السيارات‪ ،‬وهذه عالمة ال‬

‫قدم‬ ‫وتوحده ليسهل عليها األمر‪ .‬هكذا تنشئ قرابة بين م ّ‬ ‫تخطئ‪ .‬فالموضة تحب أن تحكم العالم كله ّ‬ ‫الحذاء وسطح البيت وبين عمود اإلنارة وحوض الحمام‪ .‬وهي تعيد صياغة النساء وتجعلهن‪ ،‬بعد‬

‫ذلك‪ ،‬مثاالً ُيحتذى لهذا كله‪ ،‬وللرجال أيضاً‪ .‬تلعب الموضة باألجساد وبالحديد والحجارة وبالمليارات‪.‬‬ ‫تستعبد الموضة العالم وتسلّي خواءه الرهيب‪.‬‬

‫جار وليس من‬ ‫يحيونك‪ ،‬في الطريق‪ ،‬مفترضين أنك ٌ‬ ‫على أن األميركيين شعب مستبشـر‪ّ .‬‬ ‫أقل منه‪.‬‬ ‫شيء أسهل من محادثتهم‪ ،‬ويهنئونك باليوم المشمس وبما هو ّ‬ ‫أهدت أختي الكبرى إلى جارها القديم ديك كتاباً لي نشر‪ ،‬بالفرنسية‪ ،‬قبل أعوام وأنشدت‪:‬‬ ‫تلك آثارنا تدل علينا‪...‬‬ ‫درسها أعواماً في كلية‪ .‬إالّ أنه‬ ‫كان ديك ُم ّ‬ ‫تحي اًر في أمر لبنان‪ ،‬وهو يجيد الفرنسية التي ّ‬ ‫اليوم بائع ثياب في "جاكوبسون" أفخر متاجر كاالمازو‪ ،‬ألن هذا العمل أنسب لميزانيته ولمزاجه‪.‬‬

‫‪42‬‬


‫ق أر الكتاب فأعجبه وقرر أن ينقله إلى اإلنكليزية‪ ...‬إذا وجد ناش اًر‪ .‬وحين كنت في كاالمازو جالسني‬

‫ديك ساعة من الزمن‪ .‬تذاكرنا في أمر مشـروعه‪ ،‬بسرعة‪ ،‬ثم تنقلنا بين أمور أخرى نسيت معظمها‬

‫فو اًر‪.‬‬

‫لقيت أربعة أو خمسة من‬ ‫زرت المتجر‪ ،‬في عصر ذلك اليوم للفرجة‪ُ ،‬‬ ‫على أنني حين ُ‬ ‫عرفني هو بهم‪ ،‬فاستعجلوا إبالغي أن خبر الحديث الذي جرى بيني وبين‬ ‫زمالء ديك وزميالته‪ّ ،‬‬

‫صيروا‬ ‫ديك قد وصلهم وأنهم سعداء للغاية ألن هذا الحديث أمتعنا‪ ،‬نحن االثنين‪ ،‬وأفادنا‪ .‬هكذا ّ‬

‫أهون األحاديث حدثاً‪.‬‬

‫أحسوا‬ ‫وهكذا هم‪ :‬مستبشرون‪ .‬يهنئونك على الكبيرة والصغيرة‪ .‬يكادون يمنحونك جائزة إذا ّ‬

‫كل شيء سيكون خي اًر مما كان‪ .‬وأما الكنزة التي‬ ‫أنك استطبت قهوتك‪ .‬ويحثّونك على اإلقدام ألن ّ‬ ‫أعجبتني فكنت أعلم أن حديثنا الشائق‪ ،‬أنا و ديك‪ ،‬لن ينقص من ثمنها سنتاً واحداً‪.‬‬

‫‪43‬‬


‫الجبـانة‬ ‫ّ‬ ‫ألمي‪ ،‬قبل ثالث وعشرين سنة ‪ ،‬ألول مرة وآخر مرة‪ ،‬في إحدى جبانات‬ ‫رأيت وجه ّ‬ ‫جدي ّ‬ ‫مات هناك في مطلع العشرينات من هذا القرن‪ ،‬ينظر إلي من‬ ‫ديترويت القديمة‪ .‬كان الرجل الذي َ‬ ‫ّ‬ ‫حد َة عينيه ونضارَة وجهه من وهج الشموس وعصف الثلوج بّلورة سميكة‪.‬‬ ‫أعلى الشاهدة‪ ،‬وقد صانت ّ‬ ‫جدي يكبرني يومذاك إالّ‬ ‫كانت الصورة تبدو‪ -‬لوال طرازها القديم ‪ -‬وكأنها أخذت أمس‪ .‬ولم يكن ّ‬ ‫ببضع سنوات‪ .‬كنت في ّأول عشريناتي وكان هو – وال يزال – في آخرها‪ .‬وكان بين وجهينا مالمح‬ ‫جدتي‪ ،‬في أيام الطفولة – فبدا وكأنه أخ أكبر ولدته لي هذه الشاهدة‪.‬‬ ‫شبه – كنت سمعت خبرها من ّ‬

‫جدي في هذه الزيارة األخيرة لديترويت‪ ،‬وهي األولى بعد تلك التي رأيته‬ ‫لم أذهب إلى قبر ّ‬ ‫الجبانة التي هو فيها قد هجرت ومات الذين كانوا يعرفون مكان القبر أو هرموا كثي اًر‪ .‬ثم‬ ‫فيها‪ .‬فان ّ‬ ‫بت‬ ‫فتوته إلى األبد‪ ،‬بعد أن ّ‬ ‫تجمد في وسامة ّ‬ ‫إنني لم أكن راغباً حقاً في النظر إلى ذلك الوجه الم ّ‬ ‫أبدو وكأنني أنا أخوه األكبر‪.‬‬ ‫وقالت الحاجة‪:‬‬ ‫ترد أحداً‪.‬‬ ‫الجبانة ال ّ‬ ‫ هذه "الكاز ستايشـن" مثل ّ‬‫كانت تشير إلى كثرة الوافدين ‪ ،‬في هذه األيام‪ ،‬من الوطن‪ .‬يحّلون ضيوفاً في بيوت ذويهم‪.‬‬

‫ينتظر بعضهم اإلذن بدخول كندا التي يسهل الحصول فيها – بعد انتظار – على تأشيرة إقامة‪ ،‬ثم‬

‫على منزل وعمل‪ ،‬بعد انتظار آخر في "مخيم" لالنتظار‪ .‬يريدون دخولها‪ ،‬كيفما كان‪ ،‬وال أهل لهم‬

‫يؤمله وضعه بالحصول على إقامة في الواليات‬ ‫فيها‪ ،‬على األغلب‪ ،‬وال معارف‪ .‬بعضهم اآلخر ّ‬ ‫ترد أحداً منهم‪ ،‬يقبعون فيها ليالً‪ ،‬يديرونها من داخل أكشاك‬ ‫المتحدة‪ .‬ومحطات الوقود التي ال ّ‬ ‫الجبانة‪،‬‬ ‫مصفحة‪ .‬فإذا أغراهم زبون بشراء بضاعة مسروقة مثالً وخرَج واحدهم من الكشك‪ ،‬فإلى ّ‬ ‫بات العرب يملكون معظمها‬ ‫ألن الزبون يؤثر إذ ذاك أن يسلب مال المحطة‪ .‬وهذه المحطات التي َ‬

‫ن‬ ‫يشغلون‬ ‫أهم معالم "الدورة المغلقة" التي تحاول الجالية أن تنسج خيوطها لنفسها‪ .‬العرب ّ‬ ‫في ديربور ّ‬ ‫لسياراتهم من محطات العرب‪ .‬وتلي المحطات‪ ،‬في‬ ‫العرب‪ ،‬في المحطات‪ ،‬والعرب يشترون الوقود ّ‬ ‫األهمية‪ ،‬متاجر اللحم والخضار والحلويات وكل ما هو حالل‪.‬‬ ‫‪44‬‬


‫ترد الشيخ خ‪ .‬ب‪ .‬قبل وصولي إلى ميتشغان‬ ‫الجبانة التي فيها قبر جدي‪ ،‬كادت أن ّ‬ ‫على أن ّ‬

‫بنحو أسبوعين‪ .‬وبوفاة الشيخ – الذي كان قد جاوز التسعين – ال يبقى من الذين عرفوا جدي في‬

‫ديربورن إالّ واحد أو اثنان‪ .‬والشيخ خ‪ .‬ب‪ .‬لم يكن عالّمة علماً أفنى شبابه بين "آيات هللا" في‬ ‫فندب نفسه‪ ،‬منذ شبابه‪،‬‬ ‫حصل لنفسه شيئا من الفقه بنفسه وكان رجل تقوى وشهامة‪َ .‬‬ ‫الحوزات‪ .‬وانما ّ‬ ‫ويزوجهم ويغسل موتاهم ويكّفنهم بيديه‪.‬‬ ‫المهاجرين‪ ،‬يعّلمهم الفروض ّ‬ ‫لحفظ الدين في أبناء بلدته من ُ‬

‫ن‬ ‫ِ‬ ‫ووجد من يقوم مقامه‪ ،‬فابتنت الجالية لنفسها جامعاً‬ ‫وأقام على ذلك نصف قر أو يزيد إلى أن هرم ُ‬ ‫وجعلت له إماما وادارة‪ .‬ثم إنها اقتنت لموتاها أيضاً جبانة جديدة وهجرت القديمة‪.‬‬

‫الجبانة القديمة التي ألفها عشرات من السنين‬ ‫ولكن الشيخ خ‪ .‬كان قد أوصى بأن يدفن في ّ‬ ‫أودع فيها مئات من خالنه وعشراء عمره‪ .‬وحين وصل المشيعون‪ ،‬ومعهم شيخا الجالية‪ ،‬إلى تلك‬ ‫و َ‬ ‫أعد للشيخ خ‪" .‬غير شرعي"‪ .‬وكان شأنه في ذلك شأن سائر‬ ‫الجبانة وجدوا أن اتجاه القبر الذي ّ‬ ‫ِ‬ ‫ولعل‬ ‫القبور التي هناك‪ ،‬فهي كلها محفورة على نحو ال يستقيم معه توجيه وجه الميت إلى القبلة‪ّ .‬‬ ‫السبب – ولم أحّققه – يتصل بالتنظيم البلدي‪.‬‬ ‫والذي حصل أن الشيخين تداوال في األمر ثم انسحبا‪ ،‬دون أن يصلّيـا على الجنازة‪ ،‬وتركاها‬

‫في العراء‪ .‬وصحب هذا االنسحاب سخط من ذوي الفقيد واضطراب بين المشيعين كادا يؤديان إلى‬ ‫ما ال تحمد عقباه‪ .‬على أن أهل الخير أفلحوا في جعل القوم يتمالكون أنفسهم‪ .‬فصّلوا على الجنازة‬

‫وتمموا مراسم الدفن‪ .‬ثم غادر أبناء الفقيد ميتشغان إلى مقامهم في والية أخرى‪ ،‬رافضين قبول‬ ‫ّ‬ ‫التعازي من أحد‪.‬‬ ‫والتعازي مستحقة اسمها‪ ،‬في ما أرى ‪ ،‬وفقد العزيز يصير أصعب مما هو إذا لم توقف‬

‫يعزيك بما ينتظر منه‪ .‬أقول هذا ألتجاوز‪ ،‬دون‬ ‫حياتك أنت ّأياماً أو أسابيع ولم يقف معك فيها من ّ‬ ‫مزيد‪ ،‬حكاية الشيخ خ‪ .‬ب‪ .‬الجارحة إلى حكاية أخرى من حكايات الموت العربي في أميركا‪.‬‬ ‫تذكرته في‬ ‫لست أول من يقول هذا‪ .‬فبين من قالوه كلود ليفي – ستروس الذي ّ‬ ‫والحق أنني ُ‬ ‫فتوته – يريد أن يهدي إلي بدلة‬ ‫ذلك الصباح‪ .‬كان جارنا القديم ف‪ – .‬وأنا أعرفه ذا مروءة من ّ‬ ‫ّ‬ ‫أصر كثي اًر‪ .‬والذي يزور‬ ‫ويريدني أن أصحبه إلى متجره البعيد ألختارها بنفسي‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫مانعت كثي اًر ولكنه ّ‬ ‫ديربورن ويكون له فيها ما لي من األهل والجيران واألصدقاء يقضي كثي اًر من وقته وهو يمانعهم‬

‫‪45‬‬


‫ليرد عن نفسه "موجات" الحفاوة وكرم الضيافة‪ .‬وهو‪ ،‬أحياناً‪ ،‬ال يستطيع‪ ،‬أو يتعب‪ .‬عليه ذهبنا معاً‬ ‫ّ‬ ‫المحل‪ .‬وكان قد مضى علينا هناك نحو من نصف ساعة اخترت فيه البدلة‪ ،‬حين تلقى ف‪.‬‬ ‫إلى‬ ‫ّ‬ ‫مخابرة من منزله تنعى إليه أخاه المقيم في بنت جبيل‪ ...‬أطلعني فو اًر على الخبر والدموع تلمع في‬ ‫المحل في ساحة‬ ‫وتخيلت – وأنا في غاية الضيق والحرج ‪ -‬ما كان حصل لو أن‬ ‫عينيه‪ ،‬وال تنزل‪ّ .‬‬ ‫ّ‬ ‫المحل ويصحبونه إلى بيت أخيه مواسين‬ ‫بنت جبيل‪ .‬لكان وجد هناك عشرين جا اًر يتولون عنه إقفال‬ ‫ّ‬

‫مساندين‪ .‬ولكان استطاع أن يبدأ بالبكاء فو اًر‪ .‬هنا كان عليه أن يصرف أوالً زبونين أو ثالثة من‬ ‫مرة أجد فيها ميل األميركيين إلى المزاح واإلكثار من‬ ‫األميركيين بعد تلبية طلباتهم‪ .‬وكانت هذه أول ّ‬

‫المحل مع المستخدمين لبقية النهار‪ .‬وكان عليه‪ ،‬أخيرًا‪،‬‬ ‫الكالم سمجاً‪ .‬وكان عليه أن يرتب أمور‬ ‫ّ‬ ‫يردني أنا إلى بيت أختي‪ .‬قلت إن الذي يريد إذناً بالبكاء‪ ،‬في أميركا‪ ،‬تفرض عليه شروط كثيرة‪.‬‬ ‫أن ّ‬ ‫بكرت إلى منزل ابن الفقيد‪ .‬فهو أيضاً نزيل ديربورن‪ .‬كان ال يزال وحده‬ ‫وفي الصباح التالي ّ‬

‫أعد القهوة المرة‪ .‬فالناس في مثل تلك الساعة منصرفون إلى أعمالهم وشؤون بيوتهم‪ .‬لكن‬ ‫وقد ّ‬ ‫المشكلة ليست من هذا القبيل‪ .‬سيحضرون كث اًر بعد قليل‪.‬‬ ‫العم أم ف‪ .‬وأقرنه إلى ما جرى في‬ ‫وحين أستعيد اليوم ما قالته لي أختي المتأمركة وابنة ّ‬ ‫جنازة الشيخ خ‪ .‬ب‪ .‬وما جرى حين تبلغ ف‪ .‬نعي أخيه‪ ،‬أرى بمزيد من الوضوح أن هؤالء القوم‬

‫محاصرون‪ .‬محاصرون في الحياة وفي الموت‪ .‬تحاصرهم الغربة وتحاصرهم الهوية‪ .‬الهوية تبعد‬ ‫تسهل الجنازة‪ .‬وهم غير مستغنين‬ ‫عنها األوالد‪ ،‬الغربة تبتلع األوالد‪ .‬الغربة ال تسهل العزاء‪ ،‬الهوية ال ّ‬

‫عن الهوية وال عن الغربة‪ .‬فكالهما يقدم لهم ما ال ُيستغنى عنه‪ .‬ولكن أمرهم يبدو وكأنهم يعاقبون‬ ‫ويعنفون‪ ،‬من الجهتين‪ ،‬بكالم صارم‪.‬‬ ‫يقدم لهم‪ .‬وكأن الشجعان والطيبين منهـم ُيظلمون ّ‬ ‫لقاء ما ّ‬

‫‪46‬‬


‫"عهد الصبا الغالي"‬ ‫تلتقي صباك وما قبله وما بعده في ديربورن وتؤرخ بالوجوه مراحل حياتك‪ .‬ساقيا المقهى‬ ‫ِ‬ ‫أذياله‪ .‬والذي‬ ‫حاجاً يصّلى على‬ ‫الذي كنت تجلس فيه مراهقاً‬ ‫أشعل الشيب رأس األول وصار الثاني ّ‬ ‫َ‬ ‫تصور خراب بيروت‪ ،‬في أواخر سنة ‪،1976‬‬ ‫صار صديقك في يومين هنا‪ ،‬رأيته آخر مرة حين كنت ّ‬ ‫ٍ‬ ‫يومئذ صديقاً ألخيك األصغر‪ .‬اليوم تسعفه لحيته وهذا النضوج الذي تعجل فيه الهجرة‪ ،‬فيصير‬ ‫وكان‬ ‫صديقك أنت‪ .‬وسليل البيت الحالم بالزعامة المسلوبة‪ ،‬كان ينزل إلى غرفة األسرة في بيتكم ليالً‪،‬‬

‫ليحدث أباك بأمور لم تدرك فحواها إالّ حين أخذت تكترث لماضي البلدة‪.‬‬ ‫وأنت في الخامسة عشرة‪ّ ،‬‬ ‫ِ‬ ‫وهو اليوم تاجر تقّل َب بين األقطار – وما كنت تحسب أن الكدح يغري‬ ‫أمثاله – ولكن بقيت لوجهه‬ ‫وقامته هذه الكبرياء الغريبة التي يحفظها النحول‪ .‬واآلغا‪ .‬والصبايا اللواتي أوتين هنا سمنة وحكمة‬ ‫تذكر أين كنت تجالس كالًّ منهم (أو تماشيه)‬ ‫وسلطة‪ .‬واألصدقاء الذين ذكرت أنهم تغيروا اً‬ ‫كثير‪ُ ،‬‬ ‫ومتى‪.‬‬ ‫ترددت‬ ‫ولقد علمت من صديق سهر معي ساعة بعد انصراف الساهرين أنني لست أول من ّ‬

‫بين جوانحه هذه الرعشات‪ .‬بل القصة التي قصها علي أولى‪ ،‬لرّقتها‪ ،‬بأن تروى‪ .‬لذا أروي عن‬ ‫ّ‬ ‫صديقي ن‪ .‬ما يلي‪:‬‬ ‫كانوا أربعة‪ :‬ثالث نساء وهو‪ .‬وكان ينظر إلى واحدة بعينها جلست قبالته ال يملك أن‬

‫يحول نظره عنها رغم حيائه من النساء والشرود المزمن في عينيه‪ .‬كان قد مضى عامان على‬ ‫ّ‬ ‫وجوده في أميركا ولكنه كان يراها اآلن ألول مرة هنا‪ .‬وكان يراها ألول مرة منذ اثنين وعشرين سنة‬

‫يبياً‬ ‫ألنها جاءت إلى هنا قبله بعشرين‪ .‬كان ينظر إليها إذن‪ .‬وكان موجعاً أن يكون كل شيء تقر ّ‬ ‫الحد‪ .‬قامتها هي قامتها طوالً ولكنها سمنت ألن هذا ما يصنعه العمر بجميعهن‪ .‬ذراعاها‬ ‫إلى هذا ّ‬ ‫وحدهما ظه ار أقصر مما كان يراهما‪ .‬وهو قد نسب ذلك إلى السمنة أيضاً فلم يقتنع‪ .‬وجهها استطال‬

‫تلبدت بعض الشيء‪ ،‬فكان يفترض فيه أن يزداد استدارة‪ .‬وعيناها أحاط بهما‬ ‫قليالً وان تكن مالمحه ّ‬ ‫فيبعد‬ ‫ما يحيط به العمر كل العيون‪ .‬الفم والشعر قريبان من عهده بهما‪ ،‬إال ّأنه قرب ال يكفي‪ُ ،‬‬ ‫يبيـاً‪ .‬وكان هو أقرب ما يكون إلى أن يحسب نفسه أمام ّأم تشبه ابنتها‪.‬‬ ‫ويع ّذب‪ .‬كان كل شيء تقر ّ‬ ‫ـح هذا التشبيـه عليه حتى َّ‬ ‫ظن أنه أعماه وأن الذي ما يزال ينظر إلى هذا الجسد شخص آخر‪.‬‬ ‫وقد أل ّ‬

‫‪47‬‬


‫جرى الحديث عادياً‪ .‬وكان يسأل وال يكتفي بالنظر‪ .‬كانت هي تجيب وتطيل الكالم وال‬ ‫جد من األوالد وذكر هو أناقة البيت‪ .‬وذكرت ابنة خالها‬ ‫تطيل النظر‪ .‬ذك ار ما جرى لألهل وما ّ‬

‫بعض أنواع الشاي وبعض مزاياه‪ .‬وأوجزت له هي سيرتها في المهجر وكأنها توجزها إلدارة رسمية‪.‬‬

‫كان الحديث ال يتوقف‪ ،‬بل كان يتقاطع حديثان أحياناً ألن الغرفة كان فيها أربعة‪ .‬وكانت هي أكثر‬

‫المتحدثين كالماً وهو أكثرهم إصغاء‪ .‬وحين حاولت عمته ذكر ما كان بينهما فسألتها إن كان ال‬

‫يستأهل أن تعمل له أكلة تحسن عملها‪ ،‬أسكت عمته بابتسامة واشارة وبقي المزاح مزاحاً ولم يظهر‬

‫الحرج على أحد‪ .‬لم يظهر عليها الحرج ما دام الحديث جارياً وكان عالماً أن حرجه ال يظهر عليه‪.‬‬ ‫إلى أن صمت األربعة حين صمتت هي‪ ،‬بغتة‪ ،‬وكأنها أفرغت صدرها من الكالم‪ .‬صمتوا‬

‫وكان جائ اًز أن تختم الجلسة بعد الصمت لوال أنها لم تكن قد استغرقت من الوقت‪ ،‬بعد‪ ،‬ما يناسب‬

‫مثلها‪ .‬فلبثوا صامتين عشرين ثانية أو أربعين‪ .‬وكان ينظر إليها حين تغير شيء في وجهها ال‬ ‫وس ِمع لذلك صوت ضعيف يسمونه عندنا " الطقمسة"‪.‬‬ ‫يوصف ثم أدخلت شفة تحت شفة وأخرجتها ُ‬ ‫كان قد نسي منذ سنين كثيرة أن خجل الصبا الذي يصحبه الصمت كان يحملها‪ ،‬في تلك األيام‪،‬‬ ‫َ‬ ‫يرد إليه‬ ‫على هذه الحركة‪ .‬كان قد نسي‪ ،‬فتذكر اآلن‪ .‬وفطن إلى أنه لم يكن يأمل من الكالم أن ّ‬ ‫ِ‬ ‫وجسده‪ ،‬وأن الكالم لم يكن إالّ حجاباً نسجه الخوف من تلك العودة التي ال تكون إالّ في‬ ‫وجه صباه‬

‫عمته الحديث فتذكر فضل تمر أريزونا على تمر‬ ‫مهماً أن تستأنف ّ‬ ‫الصمت‪ .‬بعد ذلك لم يكن ّ‬ ‫كاليفورنيا‪.‬‬ ‫ردته إلى وجه صاحبتها وشخصها كله كانت أهم ما‬ ‫إن هذه "الطقمسـة" وما ّ‬ ‫قال لي ن‪ّ .‬‬ ‫حصل له في أميركا‪ ،‬وكان قد حصل له فيها أشياء كثيرة‪ .‬وسألته إن كان يعتبر أن انفصال هذين‬

‫العمرين اللذين كانا يرغبان في الجري معاً قد جعل كليهما خراباً‪ .‬فأجابني أن العمر‪ ،‬بعد آالم‬ ‫ُ‬ ‫الصبا‪ ،‬خراب على كل حال‪ ...‬ألن المرء حالما يأخذ في تقرير ما يريد أن يصنع بأيامه يأخذ في‬ ‫تغير األيام معنى ما يصنعه‪.‬‬ ‫صنع أشياء أخرى أو ّ‬

‫‪48‬‬


‫المطـار(‪)2‬‬ ‫وغاب منهم أربعة أو خمسة‬ ‫كان الرجال هم هم‪ ،‬على وجه التقريب‪ .‬ازدادوا اثنين أو ثالثة‬ ‫َ‬ ‫كن ثالثاً فحسب ألن الرابعة‪ ،‬وكانت‬ ‫فكن اقل عدداً بكثير‪ .‬حتى أخواتي ّ‬ ‫من كبار السن‪ .‬وأما النساء ّ‬

‫لعل نساءنا عدن ال يطقن الوداع‪ ،‬ألن كل وداع يذكرهن بعشرة‬ ‫سائحة مثلي‪ ،‬سبقتني إلى بيروت‪ّ .‬‬ ‫مر للغاية‪.‬‬ ‫بعضها ّ‬

‫بكرنا قليالً في الحضور إلى المطار‪ ،‬وجلسنا في ردهة المدخنين‪ .‬تحادثنا ومازَح بعضنا‬ ‫ّ‬ ‫بعضاً وم َثْلنا للتصوير‪ ،‬واقفين وجالسين‪ ،‬أزواجاً وجماعات‪ ،‬وقد ذكرت ذلك‪ .‬وجاءني صديق صباي‬

‫األصلع يحمل فنجان قهوة ومجّلتين أتسلى بقراءتهما في الطائرة ‪ ،‬وكرشه الذي ُيشبه القضايا الكبرى‪.‬‬ ‫سناً‪ ،‬أمازحهما كثي اًر فال ينزعجان‪ ،‬وأعلم أنهما ال يطيقان مثل‬ ‫هو لطيف‪ ،‬مثل يوسف الذي يصغرنا ّ‬ ‫هذا المزاح من آخرين‪ .‬عليه واصلت ممازحتهما في هذا النص‪ .‬وع َّـن لي في المطار أن الحاضرين‬

‫جميعاً لطفاء‪ .‬وأن الذين قابلتهم في ديربرون بذلوا كثي اًر من اللطف أيضاً‪ .‬وسألت نفسي ما الذي‬ ‫فعلته ألستحق منهم هذا اللطف كله‪ ،‬وأجبت أنهم يالطفون بعضاً من أصلهم ال أفعالي‪.‬‬ ‫تذكرت بنت جبيل إذن‪ .‬بنت جبيل–لبنان ال بنت جبيل–ميتشغان‪ .‬وخطر لي أنه كان‬ ‫ّ‬ ‫ممكناً‪ ،‬لو كانت بنت جبيل بيدنا‪ ،‬أن نذهب اليها سوية‪ ،‬من هذا المطار‪ ،‬على ظهور خيل عابرة‬ ‫شباناً أشداء يستطيع أي منهم أن يحمل البيرق الذي لم أكن أقوى على‬ ‫لألطلسي‪ .‬وقلت إن بيننا هنا ّ‬ ‫حمله‪ ،‬في بيتنا‪ ،‬وأنا طفل‪ .‬هذا ما تريده األغنية‪ .‬وأكثرهم متأهبون لهذه العودة‪ ،‬مهما تكن مؤقتة‪،‬‬

‫يشدهم األصل ويستغرق من وجودهم‪ .‬لذا ال يفلحون في تنظيم األفعال التي تتوق إليها‬ ‫لفرط ما ّ‬ ‫عصياً على التنظيم إذا تزعزع‬ ‫ظم فإن األصل يصير‬ ‫جماعتهم‪ .‬فإن كان من شأن األفعال أن تن ّ‬ ‫ّ‬ ‫نظامه القديم‪ .‬هو يحمل نفسه من بيئة إلى أخرى ويأخذ يجهد نفسه في استعادة تنظيمه أو في‬

‫استحداث آخر ال يبيـده‪ .‬وهذا صعب للغاية واألطلسي بحر عميق‪.‬‬ ‫امحت من خريطة‬ ‫تذكرت أيضاً خوفي يوم قرأت – من زمن غير بعيد – أن قرى كثيرة ّ‬ ‫الكونية األولى‪ ،‬بفعل المجاعة والهجرة‪ .‬لم ينقص عدد سكان القرية من‬ ‫لبنان‪ ،‬في خالل الحرب‬ ‫ّ‬

‫دمرت قرى وبلدات وأحياء من مدن أيضاً‪.‬‬ ‫ألف إلى مائة مثالً‪ .‬بل زالت القرية‪ .‬في الحرب الحالية‪ّ ،‬‬ ‫حدة الخوف‪ .‬وأما القرى‬ ‫ولكن األمل الذي ال يزال أهلها يحملونه في بعثها من دمارها يل ّ‬ ‫طف من ّ‬ ‫التي محتها المجاعة والهجرة قبل ثالثة أرباع القرن فان أهلها لم يبقوا أهلها‪ .‬لذا كانت حالتها مبعث‬

‫‪49‬‬


‫خوف مطلق‪ .‬عادت إلي ذكرى هذا الخوف ألن بنت جبيل‪ -‬لبنان تذوي اليوم بسرعة‪ ،‬وتكبر‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫بسرعة أيضاً‪ ،‬بنت جبيل – ميتشغان‪.‬‬ ‫طبت‬ ‫عانقت القوم‪ ،‬وبكت أختي ذات المضافة وأعلنت أختي المتأمركة أنها لن تبكي وق ّ‬ ‫ُ‬ ‫أختي الكبرى جبينها وابتسمت‪ ،‬في آن‪ ،‬على نحو ال يتقنه إالّ وجهها الجميل‪.‬‬ ‫جار العربة النحيلة التي جاءتني بها أختي الكبرى‬ ‫ودخلت الدهليز الذي ينتهي إلى الطائرة‪ّ ،‬اً‬

‫جر هذه العربة‪ ،‬بعد‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫تعودت ّ‬ ‫لتجنبني حمل حقيبة يدي الثقيلة في أروقة مطار لندن‪ .‬ولم أكن قد ّ‬ ‫فمالت بعد خطوات قليلة مشيتها في الدهليز‪ ،‬وسقطت المجّلتان على األرض‪ .‬وحين انحنيت‬ ‫مقدمه اآلن‬ ‫أللتقطهما أحسست أن دموعاً كثيرة كانت تتجمع في رأسي طيلة النهار قد احتشدت في ّ‬ ‫وأخذت تتهيأ للنزول دفعة واحدة‪.‬‬

‫‪ 25‬كانون األول ‪ 7 – 1988‬كانون الثاني ‪1989‬‬

‫‪50‬‬


‫في الكتاب‬ ‫ المطار(‪..................................................................... )1‬‬‫ الوطن والمهجر‪.................................................................‬‬‫‪ -‬أبو رشيد‪ :‬المهنة والمكانة ‪......................................................‬‬

‫ التصويـر‪.......................................................................‬‬‫ اآلغـا‪..........................................................................‬‬‫ البيـوت‪........................................................................‬‬‫‪ -‬نساء ورجـال‪..................................................................‬‬

‫‪ -‬كاالمـازو‪......................................................................‬‬

‫‪ -‬أميركا‪ ،‬أميركا‪..................................................................‬‬

‫ يوسف و " السومت " ‪...........................................................‬‬‫‪ -‬إشارات ناقصة‪..................................................................‬‬

‫ األكسس‪.........................................................................‬‬‫ المحاضرة‪.......................................................................‬‬‫ التصويت باألرجل‪...............................................................‬‬‫‪ -‬العرس‪..........................................................................‬‬

‫ األميركيون‪......................................................................‬‬‫الجبانـة‪.........................................................................‬‬ ‫‪ّ -‬‬

‫‪ -‬عهد الصبا الغالي‪................................................................‬‬

‫‪ -‬المطار(‪.......................................................................)2‬‬

‫‪51‬‬


Issuu converts static files into: digital portfolios, online yearbooks, online catalogs, digital photo albums and more. Sign up and create your flipbook.