أحمد بيضون
بنت جبيل
ميشغان
للمؤلّـف ديوان األخالط واألمزجة ،شعر ،املؤسسة اجلامعية للدراسات والنشر ،بريوت 1984 -بريوت اللقاء ،سيناريو ،دار الباحث ،بريوت .1984
-مداخل وخمارج ،مشاركات نقدية ،املؤسسة اجلامعية للدراسات والنشر ،بريوت 1985
الصراع على اتريخ لبنان ،منشورات اجلامعة اللبنانية ،بريوت 1989 -بنت جبيل -ميشيغان ،دار العربية ،بريوت .1989
ما علمتم وذقتم ،مسالك يف احلرب اللبنانية ،املركز الثقايف العريب ،بريوت -الدار البيضاء 1990 -كلمن ،من مفردات اللغة إىل مركبات الثقافة ،دار اجلديد ،بريوت 1997
-تسع عشرة فرقة انجية ،اللبنانيون يف معركة الزواج املدين ،دار النهار ،بريوت .1999
-اجلمهورية املتقطعة ،مصائر الصيغة اللبنانية بعد اتفاق الطائف ،دار النهار ،بريوت .1999
(إشراف أ .ب :).اجتاهات البحث يف العلوم االجتماعية وحاجات اجملتمع اللبناين ،اللجنة الوطنية اللبنانيةلألونسكو ،بريوت .2000
الصيغة ،امليثاق ،الدستور ،دار النهار ،بريوت ( 2003ابلعربية والفرنسية).ابلفرنسية - Identité confessionnelle et Temps social chez les Historiens libanais contemporains, Publications de l’Université Libanaise, Beyrouth 1984. - Le Liban, Itinéraires dans une Guerre incivile, KarthalaCermoc, Paris 1993. - La “Formule”, le Pacte et la Constitution, Dar Annahar, Beyrouth 2003. (Ouvrage bilingue). ترمجة ميشال شيحا ،لبنان اليوم ( ،)1942نقله عن الفرنسية أ.ب ،.دار النهار ومؤسسة ميشال شيحا ،بريوت.1994 ميشال شيحا ،يف السياسة الداخلية ،نقله عن الفرنسية أ.ب ،.دار النهار للنشر ومؤسسة ميشال شيحا،بريوت .2004
1
صدرت الطبعة األولى من هذا الكتاب عن دار العربية للتوثيق والدراسات والنشر ،في بيروت ،سنة .1989
2
إهـداء
هذه حفلة تكريم ،شئتها فرحة، لبنت جبيل ميتشغان وهذه أيضاً ،تحية ،جاءت حزينة، لذكرى الحاج أبي أحمـد الذين يدين له أوالده بالمحبة تلقاهـم أينما حلوا.
3
تمر َّ كأنهـا للـّهو آون ٌة ّ احل ـزودهـا ٌ ُقـَ ٌ حبيب ر ُ بل ُي ّ خالص الزمان فال لذي ٌذ جمحَ ُ ٌ َ سرور كامل ـوب وال ٌ مما يش ُ ّ المتنبّي
4
المطـار ()1 في مطار ديترويت الجديد كانوا نحواً من ستين .جاء معظمهم من ضاحية ديربورن القريبة
العم" كنت أناديه بـ وبعضهم من مواضع أبعد .والذي لم يكن يسعني أن أناديه من بينهم بـ " ابن ّ تشتد كلما "الجار" في بعض الحاالت وبـ "األخ" في أغلبها .فكأن الحاجة إلى تقريب القرابة الرمزّية ّ يتقدمن الصفوف كن ّ تراخت قرابة الدم .كانت النساء قد انتحين ناحية ما خال شقيقاتي األربع اللواتي ّ
إحداهن آلة تصوير ضخمة .فبدا اختالط الجنسين ناد اًر وبدا ،بالتالي ،أننا ال نزال حيث وفي يد ّ كنـا. ّ دخنين باتوا يحشرون في الصفوف الخلفية من الم ّ كنت آخر الخارجين من الطائرة ألن ُ الطائرات ،قرب بيت الخالء ،مع أن التدخين َم ْجلبة لإلمساك ،على ما يزعم األطباء .وحين وصْلت
دخنت وأقول لنفسي إن إلى حيث المستقبلون كنت أشعر أنني ال أستحق أن يستقبلني أحد لفرط ما ّ ّ معامل فورد الكبرى ،في ديربورن ،تدخن أكثر مني وال ريب ،وانني ال أستحق أيضاً هذا العزل
المهي ن في الطائرة وفي كل مكان عام .ولكن سطوة األنظمة األميركية شديدة وسريعة الدخول في ُ النفس .لذا لم ينفع ما استحضرته من أعذار صناعية في إبطال شعوري بالذنب.
َّ أطللت بطلعتي المرهقة ،فأبطأ األميركيون الذين خرجوا أمامي لحظة صف َق الجميع حين ُ وتلفـّتوا ثم ولـّوا األدبار .بعد التصفيق القصير بدأ العناق .كان مفروضاً -وهذا فرض خاطئ ال ِ أستثن من التقبيل أحداً .لم يكن الوقت يتسع أعرف من صاحبه -أنني اعرف الجميع ،وعليه لم أجبت باإليجاب كنت عرفته. ُ للتدقيق في الوجوه التي تغير معظمها كثي اًر ،ولكن بعضهم سألني إن ُ حيناً وبالسلب حيناً ولم أكن على يقين مما أجبت به في بعض الحاالت .البعض (القليل) لم أكن رأيته في حياتي قط ألنه ُولد ها هنا أو كان في بيروت أيام كنت أنا في بنت جبيل ثم هاجر. والبعض (القليل أيضاً) شاهدته قبل شهر واحد في بيروت ،ولكن منظره تغير ،بعض الشيء ،مذ ذاك ،وكأنما توجد سيماء للمغترب الطازج .وصديقي الذي أذكر الزيت على شعره العالي وبثور
الصبا على جبهته لم يكن في المطار ألنه ،ساعة وصولي ،كان في عمله .جاء في اليوم التالي من غير شعر وأمامه كرش ٍ عال كأنه قضية كبرى ،وأنبأني أنه صار ذا أحفاد. شقيقاتي ك ّـن أول من عانقني .أربع قبالت أو خمس للواحدة ،مع أن النصاب في ديارنا حدثتني نفسي ،في َس ْورة القرابة ،باإلجهاز على ثالث .وحين فرغت من معانقة الرجال ،بعد ذلكّ ،
وسمن أيضاً إلى درجة خْلتُها معظمهن قد جاوزن الخمسين بقليل أو كثير بنات األعمام أيضاً .فإن ّ ّ 5
ٍ افضات حتى هن ر أعد نفسي واحداً من تجيز لي أن ّ أبنائهن .لكنهن أخذن يرفعن أيديهن إلى صدور ّ ّ مصافحتي ،وكأنهن لم يحضرن الستقبالي أصالً .بلى ّقبلتني إحداهن في كتفي وصافحتني الشابات
وضحكنا كثي اًر من شقيقتي الثالثة وهي تتعثر بأذيال زغردة قديمة نسيت معظم كلماتها .قلت إننا لم نعد حيث كنـّا بالضبط ،على األرجح.
استقرت حقائبي في وحين خرجنا إلى باحة السيارات ،في المطار ،كانت السماء ترّذ .و ّ شهدت ساعتها أول معركة طاحنة بينها وبين سائقيها :أختي صندوق سيارة سوداء ،بالغة الفخامةْ ، ومحركها دائر ،ونحن حولها ،تحت المطر .وكان ال بد من وصهري .فقد غّلقت المبروكة أبوابها، ّ مخابرة المنزل ألخذ الرمز الذي يتيح فتح الباب بالضغط على أرقام مثبتة في زاويته الخارجية .فكان
ويممنا شطر سيارة أخرى ،بحثنا عنها طويالً ألن صاحبها نسي أن ْ تركنا صهري يبحث عن هاتف ّ رقم الممر الذي أوقفها فيه .قيل لي إن الصدفة وحدها هي التي هدتنا إلى السيارة بعد هذا البحث
الذي يعتبر يسي اًر حين نعلم أن السيارات ،في ذلك المبنى ،ألوف فوق ألوف.
قلت في نفسي " :يا أبا علي ،نحن في ديار الغربة وال يليق أن تنصر سيارة لئيمة وأخرى ّ عمك .بل أنت وصهرك على السيارة اللئيمة وأنت وابن عمك على شاردة على صهرك وعلى ابن ّ
عصبيتي التي أخذت أستثيرها بهذه العبارات كانت بال إن السيارة الشاردة ".لكنني أكذب إن قلت ّ ّ ظل يزّين لي أننا نظلم السيارتين وأننا نحن المذنبون :أنا وصهري وابن عمي شائبةّ . فإن هاتفاً خبيثاً ّ وعاينت ابن وسائر المشرق .بعد ذلك قيل لي إن الجيل الطالع منـّا له مع السيارات شأن آخر. ُ أختي ،فعالً ،وهو يسوق السيارة السوداء نفسها ،وهي صاغرة ،وكأنه ال يجاوز أن يسوق قدميه. وصلنا إلى بيت أختي ،إذن ،وكانت ال ُسفرة ممدودة في الـ –Basementالدور الذي تحت
األرض – وهو قاعة واحدة مساحتها مساحة البيت كله .كان قد بقي من المستقبلين الستين نحو
ثالثين وغادر اآلخرون ،إما إلى عملهم الليلي واما تل ّ طفاً وتخفيفاً للزحمة في المنزل .أكلنا مريئاً وواصلت أختي التصوير الذي سيأتي حديثه ثم تواله عنها بعض األقارب .وفي وسط الليل كان
االستقبال قد ّأدى أغراضه العميقة التي تتجاوز بكثير شخص العبد الفقير .ألم يحصل اجتماع ستعد طقوس هي التي تتخلل السالم والمؤاكلة والقيام والقعود والحديث ؟ ألم وعناق ّ وتؤك ْد مراتب وتُ ْ نقل ،في خالل هذا كله ،إننا نحن نحن على األرض الغريبة ؟ بلى حصل لنا هذا وظل يحصل كل منهما أسبوعاً وفصلت بينهما رحالت إلى ديار طيلة إقامتي القصيرتين في ديربورن ،وقد دامت ّ ّ أخرى طالت ثالثة أسابيع .كانت اإلقامة األولى للسالم والثانية للوداع ،وقلما فعلت شيئاً غير هذين
6
في غضون تلك األيام .أي أن األمر كله كان طقوساً في طقوس وكنت أنا – ألسباب ال أستبينها
كلها – قربان الجماعة.
7
الوطن والمهجر الجالية اللبنانية ،في ديربورن ،قد تكون خمس المدينة التي يقال إن تعداد سكانها مائة
وخمسة وعشرون ألفاً .األرقام تختلف اختالفاً ّبيناً من مصدر إلى آخر ،رغم أنف الحضارة التي هناك وهي اليوم حضارة "الحاسوب" .وأهالي بلدتي ،بنت جبيل ،من أعمال جبل عامل المطابق،
مؤخ اًر ،إلى اثنتين) هم نصف الجالية .اليهود ،في تقريباً ،لمحافظة لبنان الجنوبي (قبل تقسيمهاّ ، نيويورك الهائلة ،أوفر عدداً من يهود إسرائيل ،والبورتوريكيون أوفر عدداً من سكان بورتوريكو .و "الجبيليون" في ديربورن الصغيرة ،هم ثالثة أمثال الذين ما زالوا مقيمين ،اآلن ،في بنت جبيل المحتلة .ويليهم ،في العدد ،جيرانهم أهل تبنين ،فتتشكل من البلدتين أكثرية الجالية الساحقة. حدثنا أبي قال :حين توفي ،في بنت جبيل ،عشية الحرب األهلية ،علي خ. وفي ما مضى ّ يتقبل التعازي به. ب ،.وكان قد جاوز الثمانين ،لم يكن قد بقي من أهله األقربين ،في البلدة ،من ّ
لتقبـل فتوّلى ذلك أقاربه األبعدون .هذا بينما أقيمت له ذكرى أسبوع في جامع ديترويت ،وقف فيها ّ التعازي نحو من سبعين شخصاً جميعهم منحدرون من صلبه ومن صلب أخيه.
فعامة وهي تتوزع على محورين .األول أميركي ،وهو أما الشكوى من قّلة ّ فعالية الجالية ّ إن تفرق الكلمة وضعف المبادرة يفقدان الجالية ما لها من حقوق يختص بجيل الشباب الذين يقولون ّ على هذه المدينة ،سياسية وادارية .فقليل من أبنائها من ُيشارك في االنتخابات ،أياً يكن نوعها .ومن طمح منهم إلى ترشيح نفسه لمنصب ما ،في المدينة ،نبذه أبناء جلدته عوض أن يساندوه .وهم لو
يسمى هنا بالـ " لوبي" ،لفرضوا على حاكم المدينة ومجلسها ما يشاؤون أو اتحدوا وتشكل منهم ما ّ األقل .فلم ال يكون منهم خمس شرطة المدينة مثالً ،عوض أن يفرحوا إلى هذا الحد بعضه على ّ
بشرطي أو اثنين اختيـ ار من بين صفوفهم مؤخ اًر ََ؟ هذا الغبن يستشعره الجيل الذي ما يزال ُمنقاداً ّ ِ ِ إلى آبائه والى سواد الجالية ،وهو يرى أفواجاً منه تخرج من الجامعات وترمق من جراء هذا أو من جراء النجاح في األعمال مكانة لم تكن مرتسمة في أحالم اآلباء .ولما كان نجاح األفراد – على
ويتكرس ،فإن الجيل تيسره النسبي – محتاجاً ،في المجتمع األميركي ،إلى ضمانة الجماعة ،ليكبر ّ ّ شق العصا والخروج من الجالية .بل هو يرى حقاً له أن ترفعه الجديد ال يسارع ،في الغالب ،إلى ّ الجالية ،على أكّفها ،وأن تتولى تتويج كفاحه .وأما الجالية فما زالت ال ترى نفسها جالية إالّ إذا بقيت
8
هي هي ،أي إذا حصرت أميركيتها في مجال المعاش ،واستبقت سائر وجوه حياتها ( وبينها الوجه
السياسي ) للموروث. ّ
متحدين ألمكن أن األعم ،لبناني .هنا يقولون إنهم لو كانوا المحور الثاني للشكوى ،وهم ّ ّ ثبت مشروع واحد ذو أعم مما نالها و نالهم حتى اليوم .حتى اليوم َ ينال بلدتهم وأهلها منهم خير ّ شأن هو مشروع الدوالرات الخمسة .المشترك فيه يدفع خمسة دوالرات كل شهر ويجبى مال آخر
من األعراس والمآتم ويرسل هذا كله إلى المحتاجين من المقيمين في بنت جبيل .في العام الماضي
بلغ الحاصل 84ألفاً أفادت منها نحو سبعمائة أسرة هي أكثرية األسر "الصامدة" والمبلغ ال يشتمل
بالطبع على ما يرسله كل مغترب إلى أهله ،هو وأقاربه ،والى أصدقائه ،في بعض الحاالت.
المغتربون أصلحوا أيضاً حسينية بنت جبيل وجمعوا ،إلى اآلن ،خمسين ألف دوالر لحفر بئر تشرب
ويودون لو أوجدوا هيئة منها البلدة وتخلص من بائع المياه اإلسرائيلي .هم يعتبرون هذا كله قليالً ّ تتولى المبادرة والتنظيم .لكنهم مختلفون ،سلفاً ،في خطة الهيئة :هل تقتصر المشاريع والمعونات على بنت جبيل أم تشمل "جاليتها" في بيروت وضاحيتها؟ هل يتوجهون مباشرة إلى العمل في لبنان
تسدد تكاليفها ثم توَقف تؤجر لالحتفاالت) في ديربورن ّ أم يقيمون ،في البداية ،مشروعاً كبي اًر (قاعة ّ على العمل الخيري؟ ثم إنهم مختلفون أيضاً في أمر "زعامة" العمل .قلما يستعمل أحدهم لفظ " القيادة" فهم
يفضلون مصطلح بلدتهم األليف .العائالت قابعة تحت الخالف وفروع العائالت والعالم األميركي ّ المتسع لألفراد أيضاً وهو ال يزّين لك أن تنضوي – في غير مجال المعاش -تحت جناح أحد. والمختلفون في أمر الزعامة يلتقون كل يوم تقريباً ويقولون لك " نحن مختلفون في أمر الزعامة " ويضحكون .وأكثرهم مرحاً ينتخبون " زعيماً " لسهراتهم يعزلونه كل أسبوع...
9
أبو رشيـد :المهنة والمكانة كان أبو رشيد يعمل ،لسنوات خلت ،في معمل لتصنيع لحوم الخنازير .ولما كان قد جاوز
سن الشباب بشوط غير قصير أُسند إليه عمل يعتبر أسهل األعمال في المؤسسة .وهو أن يجلس تمر أمامه بعد المراقبة الصحية .كان ومعه خاتم كبير يختم به الخنازير المذبوحة على أقفيتها وهي ّ
ينتظر الباص ،في حي " دكس" مع زمالئه اليمنيين ،ليوصله في الثامنة صباحاً إلى عمل ال ينتهي
قوي البنية ،مفتول الذراعين ،مذ كان أبرز إال في الخامسة مساء .وأبو رشيد – إلى ظرفه – ّ أمر ال ُيطاق في فصول ثالثة من القبضايات في حارتنا .على أن صقيع الصباح في " دكس" ٌ
أربعة ،إن كان عليك أن تقف على الرصيف ألنك ال تملك سيارة دافئة .ثم إن الخنازير الزهرّيـة عداً في كل نهار ،يطبع أبو رشيد خاتمه على أقفيتها جميعاً. اللحم كانت تصل إلى عشرة آالف ّ وفي وقت الراحةُ ،بعيد الظهر ،كان أبو رشيد يسمع كل يوم جلب ًة وهدير محركات في باحة المعمل.
فينظر من النافذة ليرى الشاحنات ّإياها .عشر شاحنات شاسعة ،كل شاحنة بثالث طبقات وفي كل طبقة مائة خنزير .فيكون الصافي ثالثة آالف خنزير عليه أن يفرغ منها قبل المساء .أمام هذا المنظر ،كان أبو رشيد يرفع راحتيه نحو السماء ويشتكي: رب! أما يزال في دنياك خنازير؟ يا ّمساء في مرآة الحمام ،كان يرى أن ذراعه اليمنى باتت أضخم وحين كان ينظر إلى جسده ً عضالً من اليسرى .أما زوجته فكانت في بنت جبيل متقاعدة .ومرة خطر لها أن تكتب إليه ،تسأله
يتأخر جواب أبي رشيد في الوصول إليها مختوماً: عن عمله ما هو ؟ ولم ّ مختار ،يا بنت الخنزير ،أنا مختـار.
عدة .ولكنه كان ،بين أهالي عاد أبو رشيد ليشيخ في بنت جبيل ،وسط أسرته ،منذ أعوام ّ محمياً بينهم من أية بلدته ،في ديربورن ،قبل أن يغادرها ،شيخ الشباب وأظرف الظرفاء .كان ّ مهانة قد يفترض أنها تترتب على طبيعة عمله .بل إن مجالسته كانت تشتهى ،في أي بيت ،وكان،
ومرد هذه الحماية إلى أمرين :األول أميركي ،وهو أن العمل عندهم، مستحق ،زينة السهرات. وهو ّ ّ حل وأن الوجاهة عندهم غير مقرونة أياً كان ،ال يهين صاحبه وال يصمه وصمة تالزمه أينما ّ بالبطالة وأن المواطنية مرجع قائم حقيق ًة يقرن بين أقدار الناس في مجاالت وان تباينت في أخرى. واألمر الثاني لبناني وهو أن جماعة المغتربين حافظة لمقاييسها األصيلة ،وهي متنوعة وليس العمل 10
أهمها .بل إنه يكاد أن يكون عارضاً فيها بحيث يظل يستقيم الفصل بينه وبين المكانة .أنت هنا مجرد مهنة .ولكن العمل يبقى ،مع ذلك كله ،أساس المعاش طبع وخلق وأصل وأشياء أخرى ولست ّ "يحرر" ،بسبب األميركية الغالبة على مقاييسه ،من سطوة الجالية بالمعنى الذي ُيقال فيه إنه " و ّ يحرر" المرأة من سطوة الرجل .وأجلى مظهر لهذا التجاذب بين " االستقالل" الممكن عن "الجالية" ّ
وااللتحاق المستمر بها ،تجده في مسألة "الزعامة" التي سلفت اإلشارة إليها .فهذه حقاً مسألة شائكة. يردد مثالً أميركياً " :كثير شيوخ القبيلة وقليل هنودها! " يحب أن ّ ابن أختي ّ
11
التصويـر صوروني صورتنا أختي المتأمركة .وفي المطار ،عند رحيليّ ، في المطار ،عند وصوليّ ، مع كل واحد ( حتى مع الذي ظل يغلبني في الشطرنج طيلة صيف )1976ومع كل اثنين ومع
ظمون في السماح لي بارتقاء المنبر إلى أن أحضروا ط َل المن ّ كل عشرة .وفي المركز اإلسالمي ما َ صوروا كل شيء .وحين دخلنا منزل صورونا أيضاً .وفي العرس ّ آلة التصوير .بعد المحاضرة ّ صور في عرس ال عالقة لهم جيراننا القدماء ،ذات ليلة ،وجدناهم يعرضون على التلفزيون شريطاً ّ
المدعوين إلى كل عرس .قلت :لعلهم يتدربون ألن به .فهذه األشرطة تباع ويشتريها من يرغب من ّ في البيت عريساً وطقوس العرس هنا معقدة .ويوم عيد الشكر اجتمع شملنا عند أختي المتأمركة في كاالمازو ،إذ حضر من هو مقيم في تكساس ومن هو مقيم في كاليفورنيا ومن كان في جهة أخرى
وصورونا أيضاً. من ميتشغان وذكرنا الذي لم يحضر من جورجيا وأكلنا مزرعة من ديوك الحبش ّ وال حاجة إلى ذكر االهتمام بتظهير األفالم لي قبل سفري ،فهذا من أبواب العناية التي شملت كل
ِ أمر لم أحص الذين سألوني إن كنت أحمل ،في جيبي ،صو اًر لزوجتي و شيء .ولم ابنتي وهو ُ ّ يخطر لي أن أفعله يوماً. يقدسون لقاءاتهم مقدسةّ . ها هنا تحتاج حياة الغرباء إلى احتفال يبني للغرباء شيئاً من ذاكرة ّ
عادي أو يرتجلون لها هذا الطابع .والصورة ويجمعون شتات أيامهم في لحظات يكون لها طابع غير ّ تثبت طابع اللحظة االستثنائي وتدرجها في حالة االحتفال .كأنما هم ِ يصلون بالصور حياتهم هنا ّ بحياتهم السابقة في بالدهم ،وقد باتت في ذاكرتهم شريطاً من الصور انقطع ،ذات يوم ،أي سلسلة
يوضبون حياتهم المقدسة .وكأنما هم ،إذ يجمعون الصور إلى الصور ،في الغربة، من اللحظات ّ ّ هنا لتتسع لها الحقائب ويحملوها معهم ذات يوم ...ذات يوم ويقفلوا راجعين. ِ محرك الكامي ار دائ اًر وتتمشى أما أختي المتأمركة فال تحسن فن التصوير إال مشافهة .تترك ّ
ملوحة بها تحيي العابرين .لم تجد أعراباً في كاالمازو ،فلم تفتح مضافة شأن أختها المقيمة في ّ ديربورن ،بل أدارت مع زوجها محالً للخياطة .ناس للسيف (الذي يليق حمله بأختي الكبرى) وناس يتوزع شبان األسرة الواحدة ،في لبنان، توزعن كما ّ للضيف ،وأختي المتأمركة لغدرات الزمان .هكذا ّ بين مختلف الميليشيات .وفي شريط المطار شاهدنا األعمدة تميل يمنة ويسرة و األرضين ترتطم
بالسقوف والوجوه والسيقان تعبر خطفاً فال يدركها لمح البصر .كان ُمسّلياً أن يسأل بعضنا بعضاً
مقدم حذائها .وحين عبرت كتفه الشاشة ومن هذه التي جمدت العدسة فجأة على ّ من هذا الذي َ 12
تنازلت أختي عن آلتها ألحد أبناء العم سمعنا محاضرة طويلة ،حفظها الشريط ،شرحت خاللها أختي ،بمنتهى الدقة والتفصيل ،كيفية استعمال اآللة التي كانت تستعمل نفسها في هذه األثناء.
أيقنت ،إذ ذاك ،أن األميركيين الذين عّلموا أختي هذه الخصال هم شعب العابر .يبنون مدناً ويهدمون
ويغير واحدهم بيته عشرين مرة وال يقيمون هياكل وأنصاباً إال هلل وللدولة .أيقنت أيضاً أن محبة مدناً ّ
العابر هي التي جعلت األميركيين أرباباً للسينما في هذا العالم.
13
اآلغـا في العام الماضي َبعث الرئيس رونالد ريغان برسالة تهنئة إلى اآلغا لبلوغه الخامسة بعد المائة .ولعشرين عاماً خلت كان اآلغا يحضر في السابعة من كل صباح ليفتح مضافتنا في بنت
جبيل -وكانت مضافته أيضاً ألن والدي ابن عمته -ويشعل نار الفحم لنارجيلته وللقهوة .فاآلغا ٍ لرواد تلك المضافة ،في أيامها ،وأوثق الشهود على وقائعهـا .وهو عشير أعمارنا عشير أقدم حي ّ ّ جميعاً أخذته منا أميركا ،حين كان يغازل المائة ،كما أخذت بعضنا من بعض ،هي ونوازل الدنيا. ِ يقض في لبنان ( في بيروت) إال سنواته الخمس األولى وال رأى بنت وابن أختي الذي لم ويهرع إليه لينقله جبيل إال ربيعين من ّ يحب اآلغا ّ جماً .يجالسه ساعات ُ سنيه األربع والعشرين ّ حباً ّ إلى حيث يشاء في السيارة السوداء التي يسوقها كما يسوق قدميه .لذا يحفظ ابن أختي ،في رأسه
الفتي ،سالسل قرابة وأخبا اًر للصراع العائلي في بنت جبيل ،خالل الثالثينات واألربعينات ،ال أحفظها ّ أنا وال كثيرون ممن يكبرونني سناً .عليه سأجد من أسأله في هذه األمور إذا عزمت على الكتابة وعز لقاء اآلغا. عنها ،في مستقبل الزمانّ ،
معتز برسالة ريغان .لكنه إذا روى خبرها مرة فهو يروي ثالث مرات خب اًر آخر .وهو اآلغا ّ أن والدي صحبه يوماً إلى احتفال كبير في دير مشموشة وانتهر العسكر الذين كانوا يريدونه أن يدخل القاعة وحده قائالً" :هذا ابن خالي!" .وحين كاد ميعاد الصالة أن يفوت ،أخذ الرهبان اآلغا إلى غرفة صلى فيها ووقفوا هناك على خدمته .وحين فرغ قال له أحدهم" :ابن عمتك ينتظرك يا
أفندياً ،يا محترم! أنا آغا ".ثم عاد إلى قاعة االحتفال أفندي" .فضحك اآلغا وقال " :أنا ُ لست ّ فأجلسه والدي في مقعد رئيس الجمهورية الذي كان قد غادر المكان ولم يجلس أحد في مقعده .إي باع مقعد رئيس الجمهورية وهللا! هذا ما جرى .لم يبع اآلغا مضافتنا بالمقهى العربي في دكس ،وال َ
اللبنانية برسالة من ريغان.
14
البيـوت بت أعرف كيف هي البيوت في ديربورن ألنني زرت منها ،في خمسة أيام أكثر أزعم أنني ّ من مائة وخمسين .اقترحت علي هذه الجولة العجيبة أختي ذات المضافة .واستسغت المبدأ ،من ّ جهتي ،ألن لطف الناس هنا ال يوصف ،ومبادلتهم إياه تستساغ .لكنني خشيت أن نزور بيتاً وننسى إن وسعت الذاكرة .قالت أختي " :المدينة صغيرة وأنا أعرف اثنين أو أن ال يسع الوقت المتبقي ْ نضطر إلى السؤال نمشطها شارعاً شارعاً ،ومن كان قد ازرنا زرناه ".هكذا كان ،ولم بيوت الجاليةّ . ّ عن بيت فالن إالّ أربع مرات أو خمساً ،وبسبب الظالم في األغلب .وأما البيوت البعيدة القليلة
متطوعين آخرين. فزرتها مع ّ
يقضي اتقاء االنتظار في الصقيع أمام الباب الرئيسي أن تدخل البيوت من بابها الجانبي،
وهـو باب الطابق السفلي (ال )Basementالذي يقضي فيه أهل البيت سحابة نهارهم ويستقبلون
كنت ضيفاً قادماً من بعيد ،فإنهم يصعدون بك سلّماً يفضي إلى فيه أقاربهم وأصدقائهم أيضاً .ولما َ صالون متصل بغرفة للطعام هي جزء من المطبخ أو مستقلة عنه .والسلم ينعطف ويكمل صعوده
تقدر أن فيه ثالث غرف للنوم أو نحوها .أما الكاراج ،وهو يتسع عادة لسيارتين، إلى طابق أعلى ّ فمالصق للمنزل بحيث يسع السائق أن يدخل إلى السيارة مباشرة من الطابق األوسطِ . وتحدق بالبيت مرجة أمامية صغيرة يحاذيها طريق الكاراج ،ومرجة خلفية قد تكون أوسع من أختها بقليل .هذا هو
حي اًز من األرض أوسع .وقد الرسم العام .لكن البيت قد يكون مسطحاً على مساحة واحدة ،فيحتل ّ تقتطع من الطابق السفلي غرفة مخصصة (نظرياً) للخادمة ومرافق أخرى .وقد توجد في الطابق
األوسط غرفة لجلوس العائلة وأخرى لمنامة الضيوف ،وفي العلوي أربع غرف للنوم ال ثالث .وأما وللع َدد المختلفة واألثاث المتروك ولُلعب األطفال. الكاراج فهو أيضاً مستودع للحطب ُ حد أدنى – يعتبر ممتا اًز – إذا قيس على الجملة ،تبدو بيوت ميتشغان وكأنها تنطلق من ّ بشقق المدن وبيوت القرى في لبنان – ثم تتوسع تبعاً ليسار أصحابها أو لحاجاتهم أو لمزاجهم .أقول بيوت ميتشغان ألن السكن العربي ،في نيويورك مثالً ،أدنى مستوى بكثير ،على ما أعلم .والبيوت والسيارات (وغيرها) تشترى بالتقسيط ،طبعاً .وقد ال تعيش السيارة إلى أن توفى أقساطها وقد ال يعيش صاحب البيت إلى أن يفي أقساط بيته .على أنه يكون قد استمتع بدفء المقام وسهولة 15
االنتقال ،ألن البيوت والسيارات ،في أميركا ،زينة الحياة الدنيا .ثم إن البيت رأس مال أيضاً .حين سن التقاعد ويكون أوالده قد فتحوا بيوتاً لهم ويأخذ في التفكير بالعودة إلى لبنان – يبلغ العامل هنا ّ
ومدخرات قليلة وراتب التقاعد الذي يكفيه إن طاوعه قلبه على ترك أوالده – يكون عنده البيت يبيعه ّ في لبنان وال يكفيه في ميتشغان .ويكون أمامه لوعة فراق األوالد يحملها معه بعد أن حمل ،في الغربة ،لوعة فراق األهل والبالد .البيوت عامرة إذن ،وأما الحياة فهي خراب كبير على ما يرى
صديقي ن. وفي البيوت أثاث يتفاوت ذوقاً وغنى .كثير من الخشب ،يبدأ من الجدران ،وكثير من ملمع وموضوع أمام المواقد وعلى المناضد .والذين يمضون سحابة اليوم في الطابق النحاسّ ، بالمشمع جديدة ،تقرقع حين يجلس عليها الضيف، السفلي يبقون مقاعد الصالون أحياناً ملفوفة ّ لمجرد االقتناء ال لالستعمال ،تشهد أن أصحابها كدحوا وجنوا كما تشهد صورهم المعّلقة وكأنما هي ّ تزوجوا وأنجبوا .وأكثر من يضيق بهذه البيوت وبطوابقها السفلية األمهات اللواتي على الجدران أنهم ّ غادرن ريفنا مسنات فلم يتعلّمن قيادة السيارات .فهن ال يخرجن إالّ إذا سمح وقت االبن ( الذي هو
لتتسوق ،ال تحمل حماتها (أو أمها) رب المنزل) بأخذهن في زيارة .وربة البيت نفسها ،حين تخرج ّ ّ تحت إبطها بالضرورة .بل هي قد تكون مضطرة إلى تركها لرعاية الصغار .لذا حصل أن عادت أمهات عديدات ليعشن وحيدات في بنت جبيل أو في بيروت بعد إقامة في ديربورن ،طويلة أو
التجول بين الجارات ،في بنت جبيل ،ال تقدر بثمن وال يستطيع االحتالل اإلسرائيلي قصيرة .فحرّية ّ حيالها شيئاً .والطوابق السفلية ،في ديربورن ،أشد قسوة من السكن البيروتي نفسه ،على اشتداد
األقل والبناية والشارع الواحد عالم صغير وكل الجيران قسوته في الحرب .ففي بيروت شقق على ّ ناطقون بالضاد.
في دكس بنايات بشقق ،ولكن مداخلها كئيبة ومصانع فورد تغطي دكس بضباب دائم ،فال
تدخن .ودكس حي من ديربورن يقيم فيه فقراء من العرب وغيرهم وينتشرون منه يكاد يخطر لك أن ّ تعودهم إياه وقربه من أعمالهم .لعل الحموات إلى أحياء أخرى حين تتحسن حالهم أو يبقون فيه بحكم ّ لكنه غير مناسب لصحة الصغار .اللوحات العربية على جباه أسعد حاالً في دكس ،ال أدريّ ، المتاجر كثيرة هناك ،وكل شيء " حالل" تجده هناك .بعض الخبثاء يزعم أن تجار دكس يوحون
الخس .وفي ديربورن هايتز بيوت ليس إلى الناس أن السمك عندهم مذبوح ذبحاً حالالً ...وحتى ّ فيها طوابق تحت األرض .ولكن يندر أن يكون فيها حموات .فإن ديربورن هايتز حي الذوات، ّ
16
والعرب فيه قّلة .بعض أغنياء الجالية آثر اإلقامة في ديربورن نفسها حتى ال ينعزل وأسرته عن
ح اررة الجوار.
17
نساء و رجـال
سر .كنا نغادر البيت لم نضرب مواعيد لزياراتنا الكثيرة ،واالّ ُ لكّنا احتجنا إلى حاسوب وأمانة ّ
في نحو العاشرة صباحاً ونعود إليه بعد العاشرة ليالً ،بعد أن نكون مررنا به ،ساعة ،في الخامسة بعد الظهر ،لتناول الغداء الذي هو عشاء أيضاً .لذا استقبلتنا ربة البيت ،في اكثر الحاالت ،ألن
زوجها كان في عمله.
وسيدات الجالية ،في ما رأيت وسمعت ،من طراز رفيع من البشر ،مصونات من معظم
(التسوق) التي العيوب التي يبتلى بها بعض رجالهن وأبنائهن أيضاً .صحيح أنهن يهوين "الشابينغ" ّ تقنعهن فلسفة التجارة ليتيسـر لهن تخفيف الباء. َّ يبالغن أكثر من األميركيين في قلب واوها ألفاً ّ
أقل تقدير .فيتابعن األميركية التي تزعم لك أنك عندما تشتري فأنت ال تنفق بل تربح...أو توفر في ّ اإلعالنات الخاصة بتنزيل األسعار وبمبيع األشياء المستعملة في كاراجات المنازل وما إلى ذلك. ويتنزهن أحياناً في المتاجر ،ال يقصدن شراء شيء معين بل ما قد يتفق أن يعجبهن .الرجال يقولون: ّ
يعمرن بيوت إنهن يخربن بيوتنا بـ "الشابينغ" .ولكن الرجال مخطئون ألن النساء ،على الحقيقةُ ، يدبرن كل ما تحتاج إليه صيانة البيت وتسيير أموره .وهن يسهرن على تربية األوالد الجالية .فهن ّ ويتابعن أحوالهم في المدرسة وفي المدينة التي تحاصر أهلها الجريمة المنظمة وتجارة المخدرات.
يحميهن القانون األميركي في بيوتهن ويمنحهن وهن ،إلى ذلك ،منفتحات على ما حولهن، ّ ّ يمدهن التلفزيون الذي يواظبن على مشاهدته أكثر من الرجال ،بثقافة ثقة واضحة بالنفس .هذا بينما ّ
ويسعفهن تجوالهن في المدينة - ال ُيستهان بها ،سياسية وصحية و ...تاريخية أحياناً وغير ذلك. ّ يتحصـل ألزواجهن في كثير من إلى التلفزيون – في تحصيل معرفة باللغة اإلنكليزية تفوق ما ّ الحاالت.
18
الرجال يكدحون وينامون .يفاضلون بين ُس ْبحاتهم ويتنافس بعضهم في الزعامة .وبعضهم ال يرى بعض أوالده إالّ في آخر األسبوع ،ألنه حين يعود إلى البيت يكونون قد ناموا وحين يستيقظ
يكونون قد ذهبوا إلى المدرسة ...أو إلى العمل .بعض الرجال ال يكدحُ :يقنع إدارة المؤسسة بأن ألماً في ظهره يمنع عليه العمل .ثم يقعد في المقهى أو في المضافة يستعيد قصصاً جديرة باآلغا ويعيش – عيشة غير واسعة – من مال الضمان االجتماعي .بعضهم أيضاً ملقى في السجن ألنه
فضحى به كبارها أو ألنه أحرق متجره طمعاً في مال التأمين جرب حظه في تجارة المخدرات ّ ّ ويقيض يشب األوالد ّ وانكشف أمره .والنساء يواجهن هذا كله صابرات وقادرات .يرعين األسرة .وحين ّ ِ األب واألم ملكاً وملكة. مهمات مشروٍع ما يكبر المشروع بسرعة ويصير ُ لهم أن يتوزعوا متّحدين ّ قابلت في الجالية .أما حين ال تسير سر نجاح أكثر الناجحين الذين ُ هذا التضامن بين األخوة هو ّ
األمور على هذا المنوال فإن األم تواجه خيبتها وترى رأيها في ما يسعها عمله .وفي النجاح والخيبة ال تخلو حياة ربة البيت من غنـى وال تخلو عيناها من حكمة.
19
كـاالمـازو
في كاالمازو لعبت بالورق .هم ثالثة يبحثون – من سنوات – عن رابع ،وأنا هبطت عليهم
مر من السماء .أدركت أن اللعب بالورق شأنه شأن ركوب الدراجة ،في العبارة الفرنسية ،ال ُي َ نسيك ُـه ّ مرت منذ أمسكت بورق لعب آخر مرة .ولم يكن بي شوق السنين .كانت أعوام ال أحصيها قد ّ استثنائي إلى الطرنيب .ولكنهم كانوا سيطردونني من المدينة لو رفضت .تنازلت إذن ولعبت .وتنازلوا
المتمرسين ولكنني أكاد ال أحسن وقبلوا بأن تكون اللعبة هي الطرنيب .وهي لعبة محتقرة في عين ّ سواها. كاالمازو مدينة صغيرة (بالمقياس األميركي) تقع على مسافة مائة وعشرين ميالً إلى الغرب
من ديترويت أي في منتصف الطريق ،تقريباً ،بين هذه وشيكاغو .فيها مصانع "أبجان" أحد عمالقة صناعة الدواء في العالم ،وفيها جامعة ميتشغان الغربية .ولي فيها شقيقتان :الكبرى التي للسيف
عم أيضاً. (ولغيره أيضاً) والمتأمركة التي لغدرات الزمان ،وتأمركها له حدود .ولي فيها ابن ّ
وليس في كاالمازو جالية لبنانية وال عربية بمعنى الكلمة .بضعة بيوت .لذا ال يتيسـر
عمي أن يضعوا أيديهم على رابع حين يشاؤون .فحيناً يستدرجون رابعاً ال لصهر ّي االثنين والبن ّ يثبت من الجالية الضيقة .وحيناً يكون الرابع ضيفاً عاب اًر – شأن العبد الفقير -يتنافسون في إطعامه
خياطان) وفي الترويح عنه بالنزهة في المدينة الرائعة وحول بحيراتها لقاء وكسوته(ألن اثنين منهم ّ طعون بها سهرة تخلو ،إذ ذاك ،من كل هم. لعبة بريئة كلياً بالورق يق ّ أختي المتأمركة ال تحتمل دخان السيجارة وال نبات ميتشغان في بعض الفصول .تهرب من
تضيق أنفاسها إلى الباهاما .وأما الدخان فال يبدو قانون "الهواء النظيف" الصادر مؤخ اًر الزهور التي ّ كافياً لحمايتها منه .لذا جاءت إلى بيت أختي الكبرى بأحدث مروحة وجدتها لتنقية الهواء ومنعت َّ المنظف على الهواء النظيف ،فنزلت عند أختي الكبرى. فضلت الهواء التدخين في بيتها هي .أنا ّ وكل ليلة كانت أختي المتأمركة وزوجها يأتيان ليسهـ ار معنا ،فندير المروحة .ويحضر أيضاً ابن عمي وزوجته – وبيتهما على مرمى حجر – فنلعب بالورق .وأنا نفسي وجدت مجاالً للوم ابن عمي 20
وزوجته على إفراطهما في التدخين .و زوج أختي المتأمركة ال يدخن في بيته وال في محله ،لكنه
ركن ضيق يدخن حين يلعب بالورق .عليه تنقسم الغرفة الفسيحة إلى شطرين غير متساويين ٌ : وشطر فسيح للنساء يتعاطين فيه الحكمة. للرجـال ،يتسلون فيه، ٌ
21
أميركـا ،أميركـا حكمة نسائنا في ميتشغان ،أذكرها مرة ثالثة .كانت بنت العم ّأم ف( .وهي زوجة ابن العم م ،ثالث الثالثة) ،تنقلني في سيارتها المفتوحة المنافض إلى وسط كاالمازو التجاري ألتنزه وأمارس
"الوندو شابينغ" ،أي استمالك الواجهات بالنظر .وما أدري ما الذي حملها على اختيار ذلك الصباح لتلخص لي عقل أميركا البارد. النادر الدفء في تشرين ميتشغان ّ منا أوالدنا ،قالت. إنهم يأخذون ّشرهم ؟ سألت. -من هم ،كفانا هللا ّ
منا يحضر إليها معدماً وقد جاوز السبعين األميركيون ،قالت .أميركا .نرى العجوز ّوتيسر قدمه لها هذا حتى تطعمه وتكسوه فنقول :ما أعظم أميركا وما أكبر قلبها! ما الذي ّ ّ وتطببه ّ يقدم له أمر الحصول على بيت وسيارة؟ أنا أقول لك ما الذي تنتظره أميركا لقاء هذا .تنتظر أن ّ إليها العجوز أوالده .هي تعلم أن العجوز سيبقى لبالده ولن يكون لها هي ولو أعطته مال قارون.
وهي ال تريده على كل حال .تريد أوالده .فإن كان عظمهم قد صار قاسياً ،هم أيضاً ،فأوالد أوالده. تستطيع أميركا أن تنتظر ثالثين سنة ،تكون بعدها قد رّبت جيالً ُيالئمها وحصلت على ما أرادت
إلى مائة جيل .بالدنا تبيعنا ونحن نبيعها .هي تطردنا ونحن نبيع أوالدنا ألميركا ببيت وسيارة ومعاش إلى مائة جيل. كان من الفظاظة بمكان أن أقول البنة عمي أن الغول الذي تخشى من معدته على ذ ارريها
يتبنـاهم وان آذى آباءهم .وكان من الفظاظة المقبلة هو غول حقاً ولكنه ال يريد أذى بالذراري بل ّ بمكان أيضاً أن أقول إنها ال تملك غير االحتيال على الغول ما عاشت لتنجو منه بأوالدها .وأما
أوالد أوالدها فقد ال يجدون أنفسهم أشقياء بأميركيتهم وقد ال يكون عليها بالتالي أن تشقى عنهم سلفاً وعن األجيال التي تليهم .وكان من الفظاظة بمكان أخي اًر أن أقول لها إنه قد يسع هذه األجيال أن
يسرت لها األجيال السابقة مؤسسات إسالمية تناسبها ،ولكنها لن تبقى تبقى على اإلسالم مثالً ،إذا ّ بقدر بقدر ما يعتبر البولنديون بولنديين ،في أميركا .أي ْ "لبنانية" ،في أغلب الظن ،وال "عربية" ،إال ْ ما هم جماعة قد تسعفها عصبيتها في خوض معركة االنتماء إلى المجتمع األميركي ولكنها ال يعتد بها فعالً ببالدها األصلية .كان كل ما يمكن أن أجيب به ابنة عمي إما فظاً تستبقي لها صلة ّ
22
واما سخيفاً .فآثرت السخف وقلت لها أشياء ليس تحتها كبير طائل .على أنني أيقنت أنها ما دامت
تحمل على رأسها هموماً من هذا العيار ،فهي لن تترك التدخين أبداً.
وذات يوم في الباهاما ،اعتدلت أختي المتأمركة (التي حملتني إلى هناك في رحلة أضرب
وحولت بصرها عن شاشة التلفزيون وسألتني إن كنت قد قاربت االنتهاء من صفحاً عن حديثها هنا) ّ
كتابة المحاضرة التي كان علي إلقاؤها في جامع ديترويت .ثم أردَفت: ّ -إنهم يبعدون أوالدنا عنا .إنهم ال يريدونهم أن يبقوا مسلمين.
أعد المحاضرة أللقيها في المركز اإلسالمي ،ففهمت أن حديث كنت ّ لم أسأل من هم؟ ألنني ُ
المحاضرة هو الذي استدعى المالحظة ،سألت :كيف ؟ قالت أختي:
-في ما مضى كان جميالً منظر األوالد في قاعات المركز اإلسالمي .يتنافسون في خدمة
عدون ،مع أهلهم ،غداء األحد ويصلّون .اليوم باتوا يرفضون أن يدخلوه .واألهل أيضاً وي ّ الجامع ُ
يحسن أن يظل مجموعاً نهار األحد .وما دمنا في أميركا، قل ّ ّ ترددهم عليه ألن شمل العائلة ُ خاشنتَه ،يهجر فاألهل ال يملكون أن يسوقوا أوالدهم إلى الجامع بالعصا .الولد الراشد هنا ،إذا ْ البيت ،وقد يصطاده تجار المخدرات وقد يضيع .و حتى أنا لم أعد أرغب في زيارة الجامع أي نكرة شز اًر إذا جلست بجانب زوجي إلى المائدة .كان أصالً ألنني ال أطيق أن ينظر إلي ّ ّ المنظر جميالً ،وكان األوالد – وهم ال يجدون فرصاً كثيرة للتعارف ،في هذه البالد التي يضيع تم النصيب ،تتزوج الفتاة المسلمة فيها الجمل – يتعارفون في قاعات المركز ،وهم مع أهلهم .واذا ّ من الفتى المسلم .هل هذا حـرام؟
بل الحرام غير هذا ،قلت.مركز ٍ التزمتُ .فرض إلى أن ُفتح في المدينة ٌثان للمسلمين .وأخذ المركزان يتباريان في ّ وعزل الذكور عن اإلناث في القاعات .وصار الفتى ،إذا وقف الحجاب على النساء الداخالتُ . أئمة على خلق هللا ونحن بجانب أخته، نصبوا أنفسهم ّ ووجد من ّ ّ يتحسب من اإلحراج واإلهانةُ . 23
نعرفهم واحداً واحداً ونعرف سيرتهم في المدينة .هذا ما جرى .وحين ُيحال بين أوالدنا والجامع ،فهم ينسون دينهم أو ال يتعلمونه أصالً وقد يذهبون إلى مواضع ال نرضاها .وحين ال يتعارف أوالد
يتزوجون من ال نعرف له ديناً وال يقيناً .أنا ذاهبة لسماع محاضرتك المسلمين ،في ما بينهم ،فإنهم قد ّ
يوم السبت .ولكنني سأجلس بجانب زوجي .واذا فتح ابن أنثى فمه معترضاً ،فسأجعله يحسب أن
أمه لم تلده .نحن هنا في أميركا! ّ
قلت في نفسي إن علي أن أعيد النظر في التوزيع الذي اعتمدته لشقيقاتي .فالكبرى التي ُ ّ أسميها "المتأمركة" أوكلت إليها أمر السيف ،أنا – وغيري – في بيتهاّ ، أعز الضيوف .وهذه التي ّ تذب به عن حياض اإلسالم! و ّأدخرها لغدرات الزمان تنتضي اآلن سيفاً ّ نحن في أميركا إذن وأوالدنا يكبرون .نحن في أميركا ،وهذا ما كان المركز اإلسالمي يراه
يغير عينيه .وفي أميركا كتب جبران يقول" :أوالدكم ليسوا لكم " ...ما أجرأك يا رجل، جيداً قبل أن ّ وقل لنا لمن هم إذن؟ وما ّ أشد غرورك! وّفر علينا َل ْغوك في أمر "الحياة" ْ
24
يوسف و" السومت " لنتغدى .وكانت هذه ميممين شطر "السومت" ّ ركبنا السيارة ،أنا ويوسف ،وأخذنا نخابر .كنا ّ
أول دعوة إلى الغداء أقبلها في ديربورن ألنني خشيت أن ال تعرفني زوجتي في بيروت إن أنا تركت رشاقتي – النسبية جداً – فريسة للكرم العاملي .وكنت قد عانيتُ ،متجّلداً ،طيلة إقامتي ،منظر تستفزني ،على المناضد ،في كثير من البيوت .وكنت قد عانيت المشبك ،وهي ّ البقالوة والمعمول و ّ أيضاً ،في األيام الخمسة األخيرة ،منظر التمور واللوز والفستق الحلبي وهي تتقدم نحوي ،عشرات المرات ،في صحاف كبيرة.
قاعدة تنتظرني ،ولم أكن تعبت في صنعها كان خطي اًر للغاية على سمعتي (التي فوجئت بها ً
مسافر الغداة، وال أرسلتها في طائرة شحن) أن أقبل دعوة للغداء لم أكن قبلت سواها .غير أنني كنت اً
ون ْجر أجٌر َ فقلت أتغدى وأهرب والستر على أصحابي وعلى هللا .ثم إن الغداء مع يوسف وأصحابه ْ تيسـر لنا وقت لقتلها بحثاً حتى ذلك ألن النية كانت معقودة على تداول مصالح عامة لم يكن قد ّ
اليوم .
دوار في مبنى "الرنيسانس" هذا و"السومت" بعيد عن بيت أختي أفقياً وعمودياً .هو مطعم ّ
لؤلؤة ديترويت الضخمة وقلبها النابض بالتجارة .واسمه(الذروة) يشير إلى مكانه في الدور السابع والسبعين ،وهو األخير من فندق "وستن" الذي يتوسط أبراج "الرنيسانس" .ومنه يشرف المرء على
جهة بعد جهة من ديترويت المترامية أمام نهرها الكبير وعلى مدينة وندسور الكندية الممتدة وراء النهر وعلى جانب من بحيرة أري .كنت ويوسف ذاهبين إلى الذروة إذن ودونها ،من بيت أختي، ثالثة أرباع الساعة بالسيارة .وكان األمل كبي اًر في أن يكون هذا المطعم هو ما يسمى عادة مستوى
المسؤولية.
أما سيارة يوسف فهي بالغواصة الصغيرة أشبه .صاروخية الشكل ،ضيقة ،كثيرة األزرار.
ومن األز ارر اثنا عشر ز اًر ،على األقل ،لجهاز الهاتف وحده ،وأزرار أخرى للجهاز الذي ًينذرك خابرنا المطعم بوجود الشرطة في الجوار ،فتحاذر المخالفة .وأزرار أخرى ألشياء أخرى .عليه ْ ودية). ومحطات الوقود التي ليوسف وأختي وابن عمي وزوجة يوسف وخابرتنا الشرطة (مخابرة ّ َ فخابرنا بعض عباد هللا خطأً واعتذرنا. أخرنا دقائق، ووقع أمامنا على الطريق السريع ،حادث سير ّ ْ
25
ثم وصلنا إلى "الرنيسانس" ولم يبق علينا من الرحلة إال ُبعدها العمودي .كانت أختي الكبرى
فحفظت في ذاكرتي – بين ما حفظت – صورة السجادة الكبيرة قد جاءت بي إلى هنا قبل شهر ُ ذات النقش العجمي في ردهة الفندق حيث باب المصعد .ولم يكن مضى وقت طويل
على دخولنا المبنى حين لمحت السجادة ،غير بعيد إلى يسارنا .وكان يوسف يجري أمامي جري
المتوجه إلى وديعة يعرف وحده أين وضعها ،فلم أجرؤ – وأنا أجري خلفه -على البوح بسابق وقوفي ّ
شك ،بأقرب الطرق إلى المصعد .ثم درنا ،بعد مسيرة فوق تلك السجادة .قلت :يوسف أعلم مني ،ال ّ طويلة ،فلمحت السجادة ،غير بعيد إلى يميننا .قلت :ها نحن وصلنا .لكن يوسف واصل الجري ثم انعطف وصعد – وصعدت خلفه – سّلماً آلياً ،ثم انعطف إلى آخر ،ثم توقف فجأة .فأدركته وقد فرغ من طرح سؤال على عابر أخذ يهدينا سواء السبيل إلى المصعد بكل أناة وتفصيل .قلت :نحن
تائهان إذن يا يوسف .ثم انطلق وانطلقت خلفه ،وما لبثنا أن وجدنا السلم اآللي الذي أشار اليه
العابر ،فتوقفنا ،واذا به متوقف وعليه جماعة يصلحونه .قلت ،وقد تخففت بعض الشيء من سطوة
تحث الخطى :أين "السومت" يوسف :علينا بالتالي .وفي الطريق إلى التالي سألت عابرة كانت ّ جف عرق الخجل عن جبيني من دقة هذا الجواب ثم استوقف فقالت :فوق! وانتظر يوسف حتى ّ ردنا الرجل على عاب اًر ثالثاً ،وكنا قد هبطنا السلم التالي ومشينا شوطاً في رواق لم نره من قبلّ . حيث أشار .وما أن انعطف يوسف متجهاً مرة أخرى نحو المجهول حتى أعقابنا ،فمشينا شوطاً إلى ُ عياء :يا يوسف! انطلقت من حنجرتي صيحة أدركت لضعفها أنني موشك على السقوط جوعاً وا ً ها هي السجادة. في سيارة يوسف ،كنت أغمض عيني بين مخابرتين وأهمس لنفسي :نحن أميراالن يابانيان ّ ذاهبان إلى بيرل هاربور .وأما "السومت" فقد وصلنا إليه جنديين مهزومين تاها مدة في أرض العدو.
نحيي أصدقاءنا الخمسة ،ألرى إن كان تمزق شيء حتى أنني نظرت إلى نفسي والى يوسف ونحن ّ ضيعنا في األروقة والردهات نصف ساعة من أثمن أنصاف الساعات. من ثيابنا في الطريق .كنا قد ّ وذلك أن أصدقاءنا كانوا قد تغدوا وجلسوا يدارون قلقهم علينا بشرب القهوة .وأما المطبخ اللعين فكانت أبوابه مغلقة من الثالثة وكان غلمان المطعم األشاوس قد توقفوا عن تقديم الغداء .فطلب لنا
األصدقاء قهوة وأخذنا نجاذبهم ،بسواعـدنا الضعيفة ،أطراف الحديث.
26
إشارات ناقصة سري :شبعانة والحمد هلل .ثم أوجزت سألوني في " السومت" :كيف وجدت الجالية؟ قلت في ّ
لهم -دون ذكر المصدر -بعض ما تعلمته من نسائهم (ومنهم هم أيضاً) .قلت:
نحن في أميركا ،وال أحد بينكم يملك أن يسوق أحداً بالعصا .تظهرونمصرين ،إجماالً ،على أن ّ مصيبا ،في اختيار األساليب ً تظّلوا شيعة ومسلمين ،عرباً ولبنانيين ،والواحد منكم يجهد ،مخطئاً أو والوسائل ،ليحفظ هذه الهويات المتداخلة تحت سقف بيته .خارج نطاق البيت الواحد أيضاً ،تلتقون الحد حتى وتحتفلون .تصّلون في الجامع أو تدبكون في العرس .ولكن ما أن يتجاوز األمر هذا ّ مشكل المراتب .فالمراتب موضع خالف يبدأ بترتيب الجلوس في أي احتفال .على أن الخالف ُيطرح ُ
يدارى باللياقة في هذا النطاق .وأما المبادرة إلى عمل يقتضي ،بين ما يقتضي ،توزيعاً مؤقتاً للمهام،
توزعاً أطول مدة بين المراتب ،فيتعثران عاجالً أو آجالً ،بحسب وأما إنشاء مؤسسة ،وهو يفرض ّ موزعة سلفاً ،هنا ،شأنها في جبل عامل .المراتب هناك مرد هذا إلى كون المراتب غير ّ الحاالتّ .
تحوالت اجتماعية يستغرق حصولها عشرات السنين .والحرب األهلية موروثة ،وال ّ يغير توزيعها إالّ ّ هز بالغ العنف .والمراتب في جبل عامل ِ ملزمة أيضاً، هزتها ّاً نفسها لم تزعزع نسقها العام ،وان تكن ّ وكلفة الخروج عليها باهظة ،بعضها العزل وبعضها ضروب أخرى من األذى .وهذا ال يحتمله إالّ
تقيض لهم مالجئ غير الجماعات التي تنتظمها المراتب التقليدية .وكثي اًر ما يكون خروجهم أفراد ّ فيستبقون ألنفسهم ،مختارين أو مكرهين ،مقاماً داخل الجماعة وخارجها معاً. نسبياً ْ وأما المهجر فلم تحضر إليه جماعتكم تامة وال حضرت معها مراتبها مقررة لألنصبة
تسوروا أنفسكم ،عن االعتبارات التي ينصبها الوسط ولألشخاص .وال أنتم معزولون هنا ،مهما ّ يقدم إليكم في صورة سير مؤسساته الذي ّ األميركي في وجوهكم .وليس أقّلها إمكان تدخلكم في ْ
الضرورة والصعوبة معاً ،في صورة اإلغراء والرفض معاً .وراثة المراتب ،هنا ،ال يستقيم اعتمادها مموهة بالتباس كثير ،يقرأها بحذافيرها إذن .فعصبية العائلة ال يصدر عنها ،هنا إال إشارات ناقصةّ ،
كل على هواه وتُنتج من الخالف أكثر مما تُنتج من التضامن .وما هو أدهى من النقص وااللتباس ٌّ يجردها وسطها األميركي من معظم قوة اإللزام التي لها في بلد المنشأ .فالذي يدير أن هذه اإلشارات ّ
ظهره للجالية هنا -أو يحصر إسالمه ولبنانيته وما إليهما في بيته أو في وسط أوسع بقليل – ال 27
تملك الجالية أن تعاقبه .في بنت جبيل ،كانت أشياء كثيرة تخدم العصبية من اختيار المقهى الذي
تتحوج منه إلى إمكان الخدمة أو المساعدة في أصناف كثيرة تجلس فيه إلى اختيار الدكان الذي ّ ُعدت بحيث تعرض – لكل إنسان .هنا ال يطرد فورد من مصانعه من الظروف تعرض – أو هي أ ّ من ال يمتثل ألوامر الجالية ونواهيها .هذا ال يعني أن أبناء الجالية غير محتاجين إليها .بل يعني
أن الحاجة ال تثمر إالّ إلزاماً ََ ضعيفاً ،يحصره كل فرد أو مجموع أفراد في حدود يملك رسمها .ال آلة الوراثة سليمة إذن وال إلزام الجماعة كاف .في بنت جبيل ،تضبط الجماعات األفراد .وأما هنا
أن رعاية استمرارها وفعاليتها رهينة – فالجماعة ،حين ينظر إليها بعين األفراد ،إرادية جزئياً .أي ّ جزئياً أيضاً – باختيار األفراد الحر .وهذا نظام حياة ِ خطٌر على الجماعات ،بحسب ما هو مشهور. ّ فعالية الجالية في قلت لهم أيضاً إنني ال أدري ماذا عليهم أن يفعلوا ،وانني أوافقهم على أن ّ
الفعالية – في وسطها األميركي، خدمة عناصرها وأهلهم في لبنان وأثرها – الذي هو متصل بهذه ّ عدان ضئيلين إذا قيسا بعدد أفرادها وبكفاءاتهم وبمقدار النجاح الذي ّتوج كفاح الكثيرين منهم .على ُي ّ
يتعدى المبادرات التي تقوم على استنفار أنني أحسب أن الصفة الطوعية للتضامن قد ّ تزكي -في ما ّ
نوى صغيرة ترعى قيام مؤسسات ذات نفع عام ،لتعمل في المرحلة األولى، الجالية كّلها – نشـوء ً على أساس تجار ّي ثم تُجعل ،بعد استيفاء الكلفة والربح الحالل ،مْلكاً للجالية .هذه المؤسسات – ويستحسن أن تربح وأن تستخدم أرباحها في ما يصلح للجماعة، قلت – عليها أن تقوم بمعظم نفقاتها ُ وليس لها – إن شاءت أن تكون بذرة وقدوة – أن تبقى عالة على النواة التي أنشأتها وعلى الجماعة.
لم أكن ُمحتاجاً إلى ضرب أمثلة ،ألنني كنت سمعت القوم يتداولون األمثلة كل يوم .ولم
يدهشني أنهم استحسنوا ما أوصلتني إليه معاشرتهم في آخر هذه الرحلة .ولم يكن عهد معظمهم
بلبنان بعيداً فأدركوا ما كنت أشير إليه حين ذكرت "النزاعات المجّلدة" التي تعتور صفوف الجالية
وقد ظّلت على صيغ قريبة ،شيئاً ما ،إلى تلك التي كانت لها في جبل عامل قبل عشرين سنة أو
دست صل ًة ما بين مكوث هذه النزاعات في نوع من بيت الثلج والصفة االحتفالية أربعين. ُ وكنت قد َح ْ
لحياة الجالية الداخلية في ديربورن وولعها بالتصوير.
تولّيت قيادة الصحب إلى باب المصعد ،حتى ال يصل تنازُعهم ِ المرح للزعامة إلى هذا األمر .وكانت ناطحات السحاب القريبة تبدو ،من زجاج المصعد المكشوف على العراء ،صاعدة
ظهر لنا الباب إلينا فيما نحن هابطون .وحين وصلنا إلى بهو الفندق ،وتجاوزت السجادة ّ ّ مودعاًَ ،
28
غواصة يوسف على مسافة خطوات .فحضر الجوع إلى ذاكرة معدتي دون الذي ّ كنا قد أودعنا عنده ّ
إبطاء.
29
األكسس اء بارداً ولو كان كنا ندخل ديربورن ،من جهة دكس ،حين ّ ُ فتحت ّ كوة الغواصة لنتنشـّق هو ً جاج السيارة و ِ أقفال أبوابها ،في قلب ديترويت ،أمر ال تحمد عقباه ،على صنع فورد .فإن َف ْتح ز ِ من ُ
المحافظ إالّ في جيوب أعضائها وال الذهب إالّ في ما ُيقال .وذلك أن ميليشيـات المدينة ال تطيق َ همة يوسف – التي لم أرها فاترة في أي وقت ،على معاصم صويحباتهمّ . وكأنما أنعش الهواء البارد ّ
كل حال – فعرض علي أن نمضي ربع ساعة في "المركز العربي" (أكسس) الذي هو عضو في ّ عشر دقائق مجلس أمنائه .قلت :تغ ّداني يوسف متأخ اًر ويريد أن ّ يتعشاني مع غروب الشمس .بل َ يا يوسف! علمه استقبلنا ح.ج .في بهو المركز ،وقال إنه كان تلميذاً لي في أواسط السبعينات وانه من ّ
حرفاً كان له عبداً .كان ثالثينياً شأن يوسف ومعظم أصحابه .الثالثينيون الذين جاؤوا إلى هنا أطفاالً أو يافعين يرتقون المراتب في الجالية وسيكونون هم "السومت" ،على ما يظهر ،قبل أن يبلغوا مادة يتضمن اسمها األربعين .قلت لـ ح.ج .إن القليل الذي عّلمته إياه من الترجمة والتعريب (وهي ّ خطأً في الترجمة) ال يستأهل أن أضع رجليه في القيود ،وانني سأعتقه لوجه هللا ،على كل حال، إذا صحبنا في زيارة سريعة للمركز.
بدا من كالم ح.ج .أن المركز مؤسسة من مؤسسات الرعاية االجتماعية في المدينة ،وأنه
مهم في عمل المركز ألنه ُيترجم للمهاجرين ّ مستقل في تمويله عن الجالية .وبدا أيضاً أن الترجمة أمر ّ
ويقدم إليهم النصح أثناء الجدد ما يحتاجون إليه من أوراق ويطبعها ويسهل عالقاتهم بدوائر الهجرة ّ ّ بحثهم عن عمل وسكن .ثم إنه يوزع أيضاً معونات غذائية على المحتاجين ويعنى بحاجات أسرهم
موزعين بين الصحية وغيرها .وكان بين ما زرناه قاعة للرياضة وجدنا فيها نحو عشرين من الفتيان ّ
يجنبهم أخطار الشارع ومواضع أخرى مدرب .وقال ح.ج .إن المركز يريد أن ّ ألعاب مختلفة ومعهم ّ زوارها كثي اًر. ال تهمها صحة ّ
ِ وعدد لصنع القهوة شاهدنا أيضاً معرضاً للح َرف العربية القديمة فيه مالبس بدوية أو ريفية ُ العربية وأشياء أخرى .بدا لي المعرض فقي اًر .لكن ح.ج .قال إن المركز يعمل لزيادة المعروضات
تدريجاً .وشاهدنا معرض صور لبعض مؤسسي الجالية العربية ولظروف عملهم وحياتهم في الثلث المبرزين من أبناء الجالية في حقول أميركية األول من القرن .ثم وقفنا أمام لوحة كبيرة عليها صور ّ 30
سرني أخي اًر أن أرى صورة قريب لي من أصدقاء الطفولة كل منهمّ . مختلفة مع خالصة لما قدمه ّ حدة طبعه. كبر ُمحسن وهدأت ّ اختارته المدينة "أباً مثالياً" هذا العام .قلتُ : ترد فو اًر إلى "الوطن" إذا شئت تكون ذاكرة أميركية للجالية .فأنت ها هنا ال ّ ُ كنت أعاين إذن ّ
النبذ تنبئ أن أناساً عاشوا هنا وأن بعضهم مات هنا وأن أن تفتش في ذاكرة الجماعة .بل الصور و ُ في حياتهم هذه ما يستحق الذكر ويستحق أن تلتئم حوله مالمح شخصية للجالية .لم يعد للوطن أن فتئ حاض اًر ،يشهد لحضوره ،مثالً ،ما حواه المعرض من مالبس يستغرق ّ كل شيء ،إذن .هو ما َ وتجمد في الفلكلور .فكأن المكانية الزمانية- وعدد للقهوة .إالّ أن هذا الحضور خرج من أوصافه ُ ّ ّ ّ
الن َبـذ المعرض ،بهزاله مجرد عالمة النتماء عام .وأما الحياة ،فها هي تقف إلى جهة ُ النسبيّ ، ّ والصور. شكرت لـ ح.ج .هذه الجولة الشائقة في ماضي الجالية وحاضرها .وكان علي أن أشكر ّ فخابرت أختي من السيارة وقلت لها: يوسف أيضاً. ُ يتغدى! -يوسف يريد أن ّ
31
المحاضرة ُيحكى أن رجالً من فقراء الناس أنفق جملة قروشه البيض ذات صباح في شراء كمية من ٍ بعشاء أحمر عند اإلياب .وفي يمني النفس اللحم لم َيدخل مثُلها منزَله قط .ثم ذهب إلى عمله وهو ّ النهار دعت زوجته بعض صويحباتها إلى مشاركتها الطعام ،فأتين على اللحمة عن آخرها .حتى
ط أكل اللحمة .طار صواب الرجل وقام إذا دخل الرجل بيته وطلب عشاءه ،زعمت له زوجته أن الق ّ
إلى القط الذي كان نائماً في الزاوية ووضعه على الميزان .وحين نظر إلى إبرة الميزان ازداد جنوناً وزمجر في وجه زوجته. َ
هذه هي اللحمة فأين هو القط؟!تذكرت هذه الحكاية ،وأنا على المنصة ،في ندوة دعت إليها ،في الربيع الماضي ،ستون ّ هيئة ثقافية لبنانية واستضافها دير أنطلياس .كنا خمسة على المنصة بيننا نائب إيطالي ومرشح لرئاسة مجلس الوزراء (إذا لم تتحول كل المجالس البلدية إلى حكومات) .أي أننا لم نكن كلنا من
النكرات الجامعية .وكان الحضور في القاعة الفسيحة ،ال يزيدون عن الستين ولو واحداً .قلت :هؤالء هم الداعون فأين هم المدعوون ؟
وحين كانت ج .ر .تدعونا إلى ندوة في دارها ،كانت تجتهد في توزيع البطاقات شخصياً،
على بيوت الناس ومكاتبهم ،طوال أسابيع ،تشاؤماً منها بكفاءة البريد اللبناني وتعويالً على مفعول
الزيارة الشخصية الداعم لمفعول البطاقة األنيقة .وكانت تدعو معنا مطراناً ما تضع يدها عليه، اب اآلخرة أيضاً بين فوائد حضور الندوة .فكان يحضر بعد هذا كله عشرون مستمعاً أو ليكون ثو ُ
خصيصاً ليستمعوا إلى ثالثون ،وَلدت زوجات المنتدين – باستثناء المطران – ُرْبعهم ،على األقلّ ، محاضرات آبائهم. مدمرة على الحياة الثقافية! وذلك أنه حين يكون لك عشرات أقول إن لتفكك العشيرة آثا اًر ّ من "أبناء األعمام" في المدينة – وهذه كانت حالي في ديربورن – يحضرون لالستماع إليك ويحضر تحصل لمحاضرتي ،في هذا الوسط الدافئ، يحبهم ومن يبادلهم اللياقة باللياقة .وقد معهم من ّ ّ نص أربعماية مستمع ،لو ألقى أحدهم إبرة لرَّن ْت وهم يصغون ،طيلة ساعة و ربع الساعة ،إلى ّ 32
ظ باأللفاظ الحوشية والتراكيب المستصعبة .وكان أحدهم – وهو ابن عم لي – ال يعرف من مكت ٍّ العربية إال أسماء أهله وأقاربه ،ألنه ب ارزيلي المولد والنشأة ولغته األم هي البرتغالية.
كان األصدقاء يريدون أن يقيموا لي ،في أول األمر ،حفل تكريم وال يستبعدون أن ألقي فيه
حديثاً توحي به المناسبة .ولم أجد غير المحاضرة متراساً أرفعه في وجه هذا االحتمال المرعب ،ولم ينزل الداعون عند رغبتي إال بعد كفاح مرير وعلى مراحل .قلت لهم إن ما لقيته من التكريم ،منذ
وصولي ،كان محرجاً وان المزيد منه سيبدو -لي أنا ،على األقل -مضحكاً .وقلت لهم إنهم هم
يكرموا وانني راغب حقاً في تكريمهم واّنه لما كان الكالم بضاعتي الوحيدة فإنني أولى مني بأن ّ مستعد لمحاضرتهم راجياً أن يعتبروا المحاضرة تكريماً .وبدا لي أنهم قبلوا ،ولكن سذاجتي أخذت تتكشف لي تدريجاً( بتوسط الهاتف ) بعد أن غادرت ديترويت ،أول مرة ،في رحالت لم يتهيأ مثلها
جوياً. للسندبادين ألن ّأياً منهما لم يكن ّ
وضيق مادتها كان اقتراح المحاضرة ورطة أوقعت نفسي فيها وأنا اء وفاضي من ّ ٌ َ مدرك خو َ أوزع ساعاتها بين الكتابة وقتي عن االنصراف إلى وضعها .فلم يكن أمامي غير أيام الباهاما القليلة ّ
والراحة والسباحة .وأما في غير الباهاما ...ولم أجد في سابق معاناتي الطويلة للحبر والورق ما
أعد نفسي قاد اًر على ارتكاب نص تت ارمى أطرافه فوق ساعة تامة من التالوة في هذا الوقت يجعلني ّ أجزت لنفسي االستعانة – أكثر مما تجوز االستعانة – بنصين قديمين لي ،كنت المتقبض .لذا ُ حملتهما ليسعفا ذاكرتي ،عند اللزوم ،في مناقشـات الندوة التي بدأَت بها (في بوسطن) رحلتي إلى
الواليات المتحدة وكانت عّل ًة فاعلة – بلغة أرسطو –(أي بطاق َة سفر وتأشيرة) لقيامي بهذه الرحلة. أتاح لي أن ال أخرج من الباهـاما إال وفي حقيبة يدي محاضرة من أثقل عيار .وأولى ذاك وحده ما َ ميزاتها كانت التجاهل التام -الذي ال أغادره عادة – لكون المقيمين في بالدنا ما زالوا ينسون العربية،
صيرهـم بال لغة – أو يكاد – وقد كان زياد الرحباني ألطفنا إحساساً به .فما من دهـر طويل ،نسياناً ّ ِ ف معظمهم – لحسن حظه – لغ ًة أخرى ؟ بالك بالمغتربين الذين أل َ وبينا أنا أكتب جاءني هاتف من بيت أختي في ديربورن يقول إنني سأجلس ،يوم المحاضرة،
إلى "مائدة شرف" ُمحاطاً بتسعة وعشرين ،ال يزيدون واحداً وال ينقصون ،من أعيان الجالية .ولم يكن
يجنبوني هذه الكأس ،فوعدوا خي اًر. أمامي إال التضرع مرة أخرى إلى أصحاب الدعوة أن ّ ّ
33
وحين عدت إلى ديربورن عشية اليوم الموعود وجدت االستعداد على قدم وساق ،وأُبلغت أن
علمت اتفاقاً أن ما مائدة الشرف قد ألغيت .ولكن ما مضت ساعة على تنفسي الصعداء ،حتى ُ إلغاء للمائدة المذكورة كان ،في الحقيقة ،تعميماً لها .فقد ُنصبت في قاعة المركز اإلسالمي سمي ّ ً ات من الموائد المستديرة وهيئت الستقبال األطايب ،عصر اليوم التالي ،من فاكهة الكبرى عشر ٌ
صبر على مزاحه البتّة. الملمات حين ال يكون لي ٌ وحلوى .وأخذ الشيطان ُيمازحني ،على عادته في ّ مشبك (أكبر بقليل من صحون الحاضرين فتخيلت أصحابي وقد وضعوا لي على المنبر صينية ّ ّ السكر يقطر من ذقوننا جميعاً ،وكفى ُليعرف القط من اللحمة) أصعد فآكلها ثم أنزل فيصّفقون لي و ّ شر هذه المحاضرة. هللا القوم ّ
غير أنني استعنت باهلل على هذه الوسوسة وطلبت سحب الموائد وجعل الكراسي صفوفاً
والغاء طلبات األطايب التي كانت قد أبلغت إلى محالت مختلفة .وقيل لي إن الوقت ضيق على إعادة ترتيب القاعة ،فانتدبت لهذه الغاية ابن أختي وابن عمي الناطق بالبرتغالية .وقد بدا لي أن
هذا األخير ،دون سواه في دنيا هللا الواسعة ،سريع إلى فهم أغراضي واإلشفاق لحالي .وقيل لي أخي اًر
إنه ال ّبد من القهوة بعد المحاضرة ،فرضخت مشترطاً أن تحصر آلة القهوة في ركن من أركان القاعة ،ثم أخلدت إلى النوم.
34
"التصويت باألرجل" بعد المحاضرة فتح العريف باب المناقشة ،ودعا إلى المنبر شاباً ُم ْع ِشب الوجه ،في أواخر أعد لهن ،باستثناء واحدة جلست إلى عشريناته ،رفع يده فو اًر .كانت النساء يشغلن جانباً من القاعة ّ جانب زوجها في الصف األمامي ولم يعترضها أحد .وكان هللا قد كفى أختي المتأمركة القتال ،إذ
ط أر لزوجها ما حال دون حضوره .وكنت جالساً بمواجهة الجمهور -بعد أن غادرت المنبر – إلى جانب إمام المركز (وهو مؤسسه) الذي لم ينل جالل الثمانين من خفة الظل التي عرفتها له حين
مرة – وكانت ال تزال فيها روائح البناء -سنة .1965كان هذا جلست في هذه القاعة نفسها ّأول ّ الجامع المفتوح ،حيث هو ،على رياح العالم األربع ،قد صمد لعصفها في أرجائه م ار اًر ،في ربع
غيبه الموت – وبقي القرن الذي انقضى على تأسيسه .وبقيت الوجوه إياها في مجلسه – إال من ّ إمامه ليواجه ،في السنوات األخيرة ،عاصفة أخرى يأخذ عليه كثيرون أنه أسلس لها قياده فأفقده
حاداً في ما مضى –لمعنى عبارة صغيرة يرددها الجمهور األعظم حدة إدراكه – الذي كان ّ هديرها ّ من المسلمين العرب في الواليات المتحدة" .نحن هنا في أميركا"! لكنني أعتقد ،وان كنت لم أجالس
تمر .ولعله الرجل إال ثالث مرات أو أربعاً في ّ مدة ربع قرن ،أنه يحني قامته للعاصفة وينتظر أن ّ حاداً " يقيض له تسليم هذا الصرح بيده لخَلف يكون مدركاً إدراكاً ّ يرجو أن يصمد حيث هو إلى أن ّ
أننا هنا في أميركا".
َب ْس َمل الشاب المعشب الوجه ،إذن ،وحمد هللا وأثنى عليه ثم نمى نفسه إلى األئمة األطهار جدهم رسول هللا فأطعناه .وخلت أنه سيقول بعد ذلك قوالً جميالً ألن الصالة وأمرنا بالصالة على ّ على النبي تقرن في ديارنا بكل ما هو جميل ،فيقال :هذا جميل كالصالة على النبي .إالّ أنه ما
بشق ويلحن ويدخل في الجملة وال يخرج منها .وفهمت منه ّ ، أن فرغ من الديباجة حتى أخذ يتلعثم َ تصوري للمشكل اللبناني ،وثانيها أنه يسألني عن النفس ،ثالثة أمور .أولها أنه غير موافق على ّ ظف أمام بيته .وأدركت من هذا القول هذا كل صاحب بيت عليه أن ين ّ التصور ،ما هو؟ وثالثها أن ّ ّ األخير أن الرجل يشير إلى شيء ورد في ختام محاضرتي وهو أنه حين تتقطع أواصر الدولة
تنحل عرى االجتماع الوطني ،فإن كيد الطوائف إحداها لألخرى ،في الحرب األهلية ،يأخذ الواحدة و ّ حدتها ،ويصير التقاتل بين صفوفها مرّجحاً في العاجل أو في االرتداد إلى نحر كل طائفة ،على َ مرة أخرى بين الصفوف الشيعية ،في أواخر في اآلجل .هذا كالم كنت كتبته قبل أن يندلع القتال ّ تشرين الثاني ،ممتداً إلى بيروت من ضاحيتها .وقد شاء الرجل الذي سمع الكالم المذكور في أثناء
35
القتال أن يفهمني أن القتال إنما هو تنظيف لفناء البيت (بكسر فاء الفناء الذي ال تخفى ضرورته
على اللبيب).
وقبل أن يفرغ الشاب من كالمه كانت ثالث ٍ أيد أو أربع قد ارتفعت في القاعة .وكانت بينها
بالغت في رفعها على سبيل اإللحاح .وأدركت من سيماء الوجوه أن طالبي يد واحدة من قريباتي َ الرد على الشاب ال طرح األسئلة علي .ولم يكن أمامي غير ثوان أقرر فيها ما الكالم إنما يريدون ّ ّ الرد بنفسي أم سأعطي الكلمة لطالبيها .هذه الثواني القليلة لم تكن قد انقضت حين إذا كنت سأتولى ّ ومستأذنين بالرحيل. وقف و ٌ احد ثم ثالثة من الصف األول في القاعة وتقدموا لمصافحتي مهنئين ُ فكان أن اضطررت إلى النهوض لمصافحتهم .وفي لحظات نهض أكثر من نصف الحضور وأخذوا
يصوتون بأرجلهم إلنهاء األولين وكأنهم ّ يتقدمون مني واحداً واحداً ،وسط جَلبة الكراسي ،حاذين حذو ّ المناقشة .وحين فرغت من هذه المصافحة الطويلة غير المألوفة في المحاضرات كان الشاب ال
يزال واقفاً بجانب المنبر ينظر إلي والى من بقي في القاعة ،وهم كثُر وقف بعضهم ينظر إلينا أيضاً ّ وانصرف آخرون إلى شرب القهوة. ثم رأيته يخطو الخطوات الثالث التي كانت تفصله عني ولحظت ،ألول مرة ،شحوب وجهه ّ
يقبل يدي .ولكان أفلح عرض أن ّ واضطراب حركاته ،فابتسمت له .تمتم الرجل بكلمات اعتذار ثم َ في ذلك لو تأخرت في الخروج من ذهولي لحظة واحدة .على أنني حين حاولت النطق لم أجد ما
وجنتيه فبادلني بمثل ذلك. أقبل ْ أقوله للرجل سوى أن أسأله الصالة على النبي ،ففعل .ثم طلبت أن ّ وكان بعض الحضور قد تجمعوا حولنا ،فقلت له إنه لم يجاوز حقه قطعاً وانني لم أدرك ،حتى اآلن، ما الذي حمل المنسحبين على االنسحاب .فانصرف من القاعة راضياً وانصرفت إلى شرب القهوة وأنا في غاية الغيظ ،ال من سؤاله ،بل من "الفرصة" التي فرضها علي ألستعرض "شهامتي" على ّ المهين له ولي و لجماعة الحاضرين أيضاً. هذا النحو ُ خي َم في جو القاعة حالما أخذت التعليقات على المحاضرة غير أن مرحاً غام اًر ما لبث أن ّ ِ ترد .فهذا يقول إنه لم يكد يفهم شيئاً وال يدري لم بقي يصغي مأخوذاً طيلة هذا الوقت .وذاك يطلب
بات متاحاً أمام ابن عمي اآلنف الذكر شرح المحاضرة في محاضرة أخرى .وذلك يقول إن المجال َ ُليحاضر بالبرتغالية .وقد استوقفني من بين التعليقات واحد وجدت فيه بداية تفسير لحالة اإلصغاء
يمل كالم المنابر بسرعة ،في تلك التي أجمع المعلقون على أنها كانت بال سابقة ،ألن الجمهور ّ يتحرجون من االنسحاب إذا أطال يتحرج السامعون من التململ والتشويش وقد ال البالد ،فال ّ ّ 36
يردد األميركيون كل يوم ،وال سطوة للخطيب إالّ بمشيئة سامعيه الخطيب .فـ "البالد حرة" على ما ّ ال بمشيئة غيرهم .ونحن قد أسلفنا أن اإللزام في الجالية ضعيف. العمدة" التي كان فتيان قال َس ّ ميي أبو علي أحمد (وما أكثرهم) إن هذه المحاضرة أشبه بـ " َ قرانا يتبارون في رفعها وان عرب ديترويت سينتظرون اآلن أن يحضر إليهم خطيب آخر يرفع أمامهم َعمدة أثقل وزناً من هذه .كان لي أن أفهم أنني دحرجت على مسامع القوم محدلة من محادل
السطوح سحقت نفوسهم سحقاً .ولكنني حملت التعليق على محمل آخر .وهو أن القوم وجدوا في محاضرتي – ببسيط العبارة – احتفاالً لغوياً أطربهم .كانوا يصغون إلى لغة أصولهم تزجى إليهم من غير تلعثم وال لحن ،فطربوا وان لم يفهموا كل شيء.
وبين ما فهموه جميعاً ،بال ريب ،أن في هذه المحاضرة رغبة في سالم لبناني هي رغبتهم
سميي العارمة أيضاً ،وان داخلها من االلتباس ما ُيداخل كل الرغبات .وهم اآلن – إن أخذنا بقول ّ ردها .كان األمر يرد على لغة أصلهم نقاوة يجدونها فائقة تلك التي أفلحت أنا في ّ – ينتظرون من ّ
بالقداس .وخطر لي أن الفاتيكان قد يكون أخطأ حين فرض على من يتبعه من كله إذن أشبه ّ القداس – أو معظمه – إلى لغاتهم الحديثة. النصارى نقل ّ أتاح لي تعليق سميي إذن متعة الشعور بشيء من الوضوح .وأكبرت كثي اًر ما أظهره لي َ ّ جمهور الحاضرين من تسامح إذ لم يبد لي أن استصعاب الكثيرين منهم فهم النص قد أحنقهم علي. ّ فلعّلهم قد فهموا ما هو أعظم قيمة من محاضرتي ومن كثير غيرها .وهو أن أحداً من الناس ال ينبغي له أن يستسهل لوم أخيه ألنه جاء بما لم يفهمه .وذلك أن ابن آدم بين اثنتين :أن ال يفهم
الناس منه وأن ال يفهم هو شيئاً من الكالم الذي يضج به العالم .فإن قال لك فالن إنه لم يفهم منك بعض أشياء فقل لفـالن – واثقاً – إنك تكاد ال تفهم منه شيئاً.
بالغت في رفع يدها طلباً للكالم عما كانت تريد أن فاتني أن أذكر أنني سألت السيدة التي َ الملتحي إلى أن البيوت ينبغي أن تظل قائمة تقوله .فأجابت أنها كانت تنوي أن تلفت نظر الشاب ُ ليتيسـَّر ألهلها تنظيف ساحاتها! وجدت الجواب م ِ نسوية بعمران البيوت وقلت فصحاً عن عالقة ّ ُ لصاحبته إنه كان مستبعداً أن يخطر لي مثله ببال.
37
العـرس حضرت عرساً واحداً في ديربورن ،وفاتني آخر وأنا خارجها وسافرت قبل الثالث بيوم
واحد .فالجالية مزواج ،وأهالي بلدتي ،وحدهم ،لهم في كل شهر ثالثة أعراس أو أربعة.
في صدر القاعة الشاسعة ،كان العروسان يجلسان خلف منصة مرتفعة وحولهما فتيات
كنا .والى جانبي المنصة كان جناحا نبق حيث ّ الشرف وفتيانه ،وهؤالء اقتباس يشير إلى أننا لم َ القاعة حافلين بموائد مستديرة جلس إليها المدعوون وهم مئات عديدة .هذا بينما تركت قبالة المنصة مساحة خالية للرقص تنتهي إلى منصة أخرى أقل ارتفاعاً حّلت فوقها الفرقة الموسيقية.
المصورة تشير إلى أن العروسين ،قبل أن يصال إلى المنصة ،تؤخذ لهما صور واألشرطة ّ "رسمية" في السيارة وفي أمكنة بعينها من المدينة وفي مدخل القاعة .ويقفان أثناءها أو يجلسان مقررة. وحدهما أو مع مرافقيهما في أوضاع ّ الملبس. وتقدم إليهم حلوى ومر ّ والمدعوون يتعشون ّ طبات وقهوة ويصرف النظر عن علب ّ ويقبل أحدهما ويعنى أهل العروسين باالستقبال ويتفقد العروسان المدعوين ،مائدة مائدة ،بعد العشاءّ .
مدعو يغادر القاعة ،إالّ من ترك حقه في ذلك. كل أو كالهما – تبعاً للجنس ولأللفة والقرابة – ّ ّ
أهم ما في العرس الرقص .ففيه يصل عرض الجماعة لعالقاتها ولما فيها من أدوار غير أن ّ
ومراتب وألصلها أيضاً إلى ذروته .الموسيقى شرقية بطبيعة الحال .وهي تكاد تكون متصلة ،فتخرج الفرقة من قطعة لتدخل في أخرى بعد كلمة من العريف .ومع الفرقة مطربان(أو ثالثة) ِألفتهما
المكبرات يمتحنان صمود اآلذان. الجالية في أعراسها ،والصوت والموسيقى يخرجان عاليين جداً من ّ يقدمهم العريف زوجاً زوجاً .وهم أقارب العروسين وأنسباؤهما معدة سلفاًّ ، والئحة الراقصين ّ وأصدقاؤهما .والالئحة تكون طويلة بحيث تغطي معظم السهرة التي تمتد إلى ساعات الصباح األولى
ُسر البلدة أيضاً أو معظمها ألن البلدة "تظهر" في هذا النوع من وبحيث تشتمل على جميع أ َ المناسبات وتعلن تشابك عناصرها وتحتفل بوجودها نفسه ،وهي على ألوف األميال من موقعها المصور عادة: الجغرافي .ذلك أمر وضعت إلعالنه أغنية خاصة يفتتح بها الشريط ّ
38
جينـا لك عظهـور الخيل
اشتقنا لك يـا بنت جبيـل
والبيـارق بتـاللـي
العز العالي! يا جبيـن ّ
يخرج الراقصون إلى الحلبة ،إذن ،زوجاً بعد زوج .والزوج عادة زوج وزوجته أو شقيق وشقيقته أو ما جرى هذا المجرى .وحالما يبدأ المطرب أغنيته ويبدآن الرقص يتقدم منهما بعض
"يرشون" فوق رأسيهما أوراقاً من فئة الدوالر الواحد. أقربائهما ،واحداً واحداً أو اثنين اثنين ،ويأخذون ّ وحين تكثر األوراق على األرض ُيهرع أطفال صغار ويجمعونها في علب كبيرة ثم يحملونها إلى عدهـا وتوضيبها .هذا بينما يواصل بعض أقارب العروسين َش ْغل "أمانة الصندوق" التي تتولى ّ يرش عليهم المال تك ار اًر. الحلبة ،مع معظم الراقصين ،ويتقدم ،بين الفينة والفينة ،من ّ هذا المال يذهب إلى العروسين ،يغطيان بمعظمه نفقات العرس ،وقد يبقى لهما منه شيء
يستعان به في فتح البيت الجديد .والنفقات تتباين من عرس إلى عرس :خمسة آالف ،عشرة ،
خمسة عشر .وأما المال المجموع فقد يصل في العرس الكبير إلى ثالثين ألفاً ...وقد ال يصل إلى
نصفها.
وحين يرغب العريف في التنويع يدعو إلى الرقص فئة مهنية برمتها .في العرس الذي
سميهم)، ْ حضرتُه ُدعي الصيادلة ،شباناً وشابات ،وأدهشتني كثرتهم .أو يدعو عازبات وعازبين ُ (ي ّ لعل يكون لهم فأل حسن بالمناسبة. ّ يغب تفاصيل .يدعى إلى ثم يحضر الجنوب فجأة ،في وسط العرس .يحضر جملة وهو لم ْ سنة تجلس على كرسي أحضر لها والحاج النشيط يرقص حولها وحاجة. حاج الحاجة ُم ّ الحلبة ّ ّ ّ ّ والمطرب يبذل صوته دون حساب: منرفض نحنا نموت
أرضـك والبيـوت
َه ْو إلنا يا جنــوب
قولولـن رح نبقـى
والشعب الع ْـم يشقى يا حبيبي يا جنـوب
إذ ذاك يأخذ المدعوون في مواكبة األغنية بصفق األيدي ويتقدم بعضهم أفواجاً ،يشاركون الحاجة ثم يحملون ويرشون المال على أي غنج) ّ ّ الحاج و ّ في الرقص (الذي يصير َذ َكرياً خالياً من ّ 39
يرش في هذه يلوح بيديه ،إلى أن تنتهي األغنية .أما المال الذي ّ ّ الحاج الذي يبدو ُمنتشياً وهو ّ الدقائق (ويبلغ نحواً من ألفي دوالر في كل عرس) فيذهب إلى المحتاجين واأليتام في بنت جبيل. يمهد للدبكة التي تضيق بها الحلبة على رحبها فتنقسم – رغم رجاء العريف – إلى هذا الحماس ّ المكبرات في ه ّـز أركان القاعة. حلقات تدخل الواحدة منها في األخرى وتتبـارى األقدام و ّ الحظت أن الدعوة إلى العرس شبه محصورة في أهل البلدة .حتى أن المدعوين من جوارها
القريب كانوا قالئل .فعلى الرغم من اختالط السكن في ديربورن ،يظهر أن المخالطة بين جاليات
القرى المختلفة (وهي ما يتيحه المركز اإلسالمي مثالً) ليست بالعميقة .وكنت قد سألت إن كانت
الدعوة إلى محاضرتي قد شملت مسيحيين .فقيل لي إن المسيحيين في "الشرقية"! والشرقية المذكورة
هي شرق ديترويت التي اتفق لديربورن أن تكون في غربها! وما كان لي إالّ أن أعجب من هؤالء
األميركيين ،كيف ارتضوا العيش بالماليين ،وكأنهم أكياس رمل ،على خط التماس الذي اسمه
ديترويت – ميتشغان .ومهما يكن من شيء ،فقد ساغت لي الموازنة بين المحاضرة والعرس اللذين
حصال في يومين متواليين .لم أتوقف عند ّأبهة العرس وعري المحاضرة ،فهذا هو الفارق السطحي،
على أهميته ...وجدت أن العرس ير َجح المحاضرة بكثير من جهة أخرى أيضاً .وهي أنه معرض الجرس لعالقات الجماعة بما تفترضه من فوارق في القرب والبعد والصفة ومن فاقع األلوان وعالي ْ
تشارك ووحدة في آن .ففيه ينتظم األهل أهالً ،حول العروسين ،واألصدقاء أصدقاء والجيران جيراناً
مدعوة مغربين لفرط التكريم ،في األغلب) وفيه يحدد كل مدعو – أو أسرة (مكرمين و ّ والغرباء غرباء ّ ّ
– مكانه من أصحاب المناسبة ،بنوع مشاركته ومقدارها ،ومكانته في الجماعة كلها ،من بعض
ومدعووهم في التقرب بعضهم إلى بعض ،والرفع من شأن بعضهم الوجوه .ويتبارى أصحاب العرس ّ بعضاً ،بفعل البذل المتبادل ،على مأل من جماعتهم كلها .فعلى أصحاب العرس كرم الضيافة
تصرفات والهدية .وهذه مباراة والحفاوة و ّأبهة المكان وعلى المدعوين المشاركة بما ينتظر منهم من ّ ّ ال يخرج منها أحد خاس اًر ،من حيث المبدأ. وأما المحاضرة فهي مناسبة بسيطة تكاد ال تمنح المستمعيـن شيئاً غير اإلفادة مما يسمعون
– إذا ُوجدت – والمشاركة في جمع يفترض أنه ذو مستوى استثنائي .وقد تجب اإلشارة إلى جلوس "األعيان" في الصف األول ،ولكن هذا االمتياز متواضع والحصول عليه يتكرر كثي اًر .في ما عدا
ذلك يظهر األفراد في المحاضرة أفراداً وتطمس عالقاتهم وأدوارهم (أو تكاد ،على األصح ،ألن بعضها يتراءى دون بروز) .ويظهرون أيضاً سواسية ،على الكراسي ،كأسنان المشط وتكاد تطمس مراتبهم .فال يبقى امتياز فاقع إالّ للمحاضر الذي يفرض الصمت على هذا الخلق المجتمع لسماعه
40
ويتكلم وحده .وقد تحصل فائدة ما أيضاً للمؤسسـة التي دعته أو استضافته ،ألنها أكدت بذلك
اختصاصاً لنفسها ولوناً أو اتجاهاً ما.
لن أعرض هنا لحفل التكريم ألنه لم يحصل .سوى أنه ،بال ريب ،وأياً يكن تواضعه ،أقرب
إلى العرس ،من حيث التوزيع المنصف للفوائد ،منه إلى المحاضرة .واذا كنت غير نادم البتّة على رفضي إياه ،فإنني أعلم اآلن أن هذا الرفض قد حصل ألسباب أنانية كلياً.
41
األميركيون كل شيء .كثير من الطعام وكثير من الكالم األميركيون شعب سمين .عندهم كثير من ّ يقولونه وكثير من السيارات وكثير من األدوات المنزلية .وأكثر ما تُرى ُسمنتهم في قاعات المطارات
حيث يظهرون لك عشرات أو مئات دفعة واحدة .وذلك أنهم ال يظهرون بكثرة على أرصفة الشوارع ألن األمان عندهم ليس كثي اًر. والنحافة عند األميركيين قيمة كبيرة .لذا ينتقل واحدهم بسرعة بين ِ الح ْمية والسمنة وبين يضيق ثيابه السمنة والحمية .عليه وجدت حرفة الخياطة مزدهرة ،في جاليتنا هناك. فاألميركي قد ّ ّ يضرهم هذا. ويوسعها أو يستبدل بها غيرها مرة ومرتين في العام .والخياطون ال ّ اليوم تشيع المجالت أن النحافة مغادرة عرشها األميركي عما قريب وأن مزايا السمنة
بهمة الموضة ،وسيصير أبرز ما عند جين مانسفيلد -أو ما كان عندها قبل ربع قرن – ستظهرّ ، حد أدنى ،في التسعينات ،لنساء أميركا والعالم .وقد بدأت األكتاف تعرض والياقات تكبر برنامج ّ والخصور تختفي .شيء آخر أخذ يعلو وينتفخ ،هذا العام ،وهو مؤخرة السيارات ،وهذه عالمة ال
قدم وتوحده ليسهل عليها األمر .هكذا تنشئ قرابة بين م ّ تخطئ .فالموضة تحب أن تحكم العالم كله ّ الحذاء وسطح البيت وبين عمود اإلنارة وحوض الحمام .وهي تعيد صياغة النساء وتجعلهن ،بعد
ذلك ،مثاالً ُيحتذى لهذا كله ،وللرجال أيضاً .تلعب الموضة باألجساد وبالحديد والحجارة وبالمليارات. تستعبد الموضة العالم وتسلّي خواءه الرهيب.
جار وليس من يحيونك ،في الطريق ،مفترضين أنك ٌ على أن األميركيين شعب مستبشـرّ . أقل منه. شيء أسهل من محادثتهم ،ويهنئونك باليوم المشمس وبما هو ّ أهدت أختي الكبرى إلى جارها القديم ديك كتاباً لي نشر ،بالفرنسية ،قبل أعوام وأنشدت: تلك آثارنا تدل علينا... درسها أعواماً في كلية .إالّ أنه كان ديك ُم ّ تحي اًر في أمر لبنان ،وهو يجيد الفرنسية التي ّ اليوم بائع ثياب في "جاكوبسون" أفخر متاجر كاالمازو ،ألن هذا العمل أنسب لميزانيته ولمزاجه.
42
ق أر الكتاب فأعجبه وقرر أن ينقله إلى اإلنكليزية ...إذا وجد ناش اًر .وحين كنت في كاالمازو جالسني
ديك ساعة من الزمن .تذاكرنا في أمر مشـروعه ،بسرعة ،ثم تنقلنا بين أمور أخرى نسيت معظمها
فو اًر.
لقيت أربعة أو خمسة من زرت المتجر ،في عصر ذلك اليوم للفرجةُ ، على أنني حين ُ عرفني هو بهم ،فاستعجلوا إبالغي أن خبر الحديث الذي جرى بيني وبين زمالء ديك وزميالتهّ ،
صيروا ديك قد وصلهم وأنهم سعداء للغاية ألن هذا الحديث أمتعنا ،نحن االثنين ،وأفادنا .هكذا ّ
أهون األحاديث حدثاً.
أحسوا وهكذا هم :مستبشرون .يهنئونك على الكبيرة والصغيرة .يكادون يمنحونك جائزة إذا ّ
كل شيء سيكون خي اًر مما كان .وأما الكنزة التي أنك استطبت قهوتك .ويحثّونك على اإلقدام ألن ّ أعجبتني فكنت أعلم أن حديثنا الشائق ،أنا و ديك ،لن ينقص من ثمنها سنتاً واحداً.
43
الجبـانة ّ ألمي ،قبل ثالث وعشرين سنة ،ألول مرة وآخر مرة ،في إحدى جبانات رأيت وجه ّ جدي ّ مات هناك في مطلع العشرينات من هذا القرن ،ينظر إلي من ديترويت القديمة .كان الرجل الذي َ ّ حد َة عينيه ونضارَة وجهه من وهج الشموس وعصف الثلوج بّلورة سميكة. أعلى الشاهدة ،وقد صانت ّ جدي يكبرني يومذاك إالّ كانت الصورة تبدو -لوال طرازها القديم -وكأنها أخذت أمس .ولم يكن ّ ببضع سنوات .كنت في ّأول عشريناتي وكان هو – وال يزال – في آخرها .وكان بين وجهينا مالمح جدتي ،في أيام الطفولة – فبدا وكأنه أخ أكبر ولدته لي هذه الشاهدة. شبه – كنت سمعت خبرها من ّ
جدي في هذه الزيارة األخيرة لديترويت ،وهي األولى بعد تلك التي رأيته لم أذهب إلى قبر ّ الجبانة التي هو فيها قد هجرت ومات الذين كانوا يعرفون مكان القبر أو هرموا كثي اًر .ثم فيها .فان ّ بت فتوته إلى األبد ،بعد أن ّ تجمد في وسامة ّ إنني لم أكن راغباً حقاً في النظر إلى ذلك الوجه الم ّ أبدو وكأنني أنا أخوه األكبر. وقالت الحاجة: ترد أحداً. الجبانة ال ّ هذه "الكاز ستايشـن" مثل ّكانت تشير إلى كثرة الوافدين ،في هذه األيام ،من الوطن .يحّلون ضيوفاً في بيوت ذويهم.
ينتظر بعضهم اإلذن بدخول كندا التي يسهل الحصول فيها – بعد انتظار – على تأشيرة إقامة ،ثم
على منزل وعمل ،بعد انتظار آخر في "مخيم" لالنتظار .يريدون دخولها ،كيفما كان ،وال أهل لهم
يؤمله وضعه بالحصول على إقامة في الواليات فيها ،على األغلب ،وال معارف .بعضهم اآلخر ّ ترد أحداً منهم ،يقبعون فيها ليالً ،يديرونها من داخل أكشاك المتحدة .ومحطات الوقود التي ال ّ الجبانة، مصفحة .فإذا أغراهم زبون بشراء بضاعة مسروقة مثالً وخرَج واحدهم من الكشك ،فإلى ّ بات العرب يملكون معظمها ألن الزبون يؤثر إذ ذاك أن يسلب مال المحطة .وهذه المحطات التي َ
ن يشغلون أهم معالم "الدورة المغلقة" التي تحاول الجالية أن تنسج خيوطها لنفسها .العرب ّ في ديربور ّ لسياراتهم من محطات العرب .وتلي المحطات ،في العرب ،في المحطات ،والعرب يشترون الوقود ّ األهمية ،متاجر اللحم والخضار والحلويات وكل ما هو حالل. 44
ترد الشيخ خ .ب .قبل وصولي إلى ميتشغان الجبانة التي فيها قبر جدي ،كادت أن ّ على أن ّ
بنحو أسبوعين .وبوفاة الشيخ – الذي كان قد جاوز التسعين – ال يبقى من الذين عرفوا جدي في
ديربورن إالّ واحد أو اثنان .والشيخ خ .ب .لم يكن عالّمة علماً أفنى شبابه بين "آيات هللا" في فندب نفسه ،منذ شبابه، حصل لنفسه شيئا من الفقه بنفسه وكان رجل تقوى وشهامةَ . الحوزات .وانما ّ ويزوجهم ويغسل موتاهم ويكّفنهم بيديه. المهاجرين ،يعّلمهم الفروض ّ لحفظ الدين في أبناء بلدته من ُ
ن ِ ووجد من يقوم مقامه ،فابتنت الجالية لنفسها جامعاً وأقام على ذلك نصف قر أو يزيد إلى أن هرم ُ وجعلت له إماما وادارة .ثم إنها اقتنت لموتاها أيضاً جبانة جديدة وهجرت القديمة.
الجبانة القديمة التي ألفها عشرات من السنين ولكن الشيخ خ .كان قد أوصى بأن يدفن في ّ أودع فيها مئات من خالنه وعشراء عمره .وحين وصل المشيعون ،ومعهم شيخا الجالية ،إلى تلك و َ أعد للشيخ خ" .غير شرعي" .وكان شأنه في ذلك شأن سائر الجبانة وجدوا أن اتجاه القبر الذي ّ ِ ولعل القبور التي هناك ،فهي كلها محفورة على نحو ال يستقيم معه توجيه وجه الميت إلى القبلةّ . السبب – ولم أحّققه – يتصل بالتنظيم البلدي. والذي حصل أن الشيخين تداوال في األمر ثم انسحبا ،دون أن يصلّيـا على الجنازة ،وتركاها
في العراء .وصحب هذا االنسحاب سخط من ذوي الفقيد واضطراب بين المشيعين كادا يؤديان إلى ما ال تحمد عقباه .على أن أهل الخير أفلحوا في جعل القوم يتمالكون أنفسهم .فصّلوا على الجنازة
وتمموا مراسم الدفن .ثم غادر أبناء الفقيد ميتشغان إلى مقامهم في والية أخرى ،رافضين قبول ّ التعازي من أحد. والتعازي مستحقة اسمها ،في ما أرى ،وفقد العزيز يصير أصعب مما هو إذا لم توقف
يعزيك بما ينتظر منه .أقول هذا ألتجاوز ،دون حياتك أنت ّأياماً أو أسابيع ولم يقف معك فيها من ّ مزيد ،حكاية الشيخ خ .ب .الجارحة إلى حكاية أخرى من حكايات الموت العربي في أميركا. تذكرته في لست أول من يقول هذا .فبين من قالوه كلود ليفي – ستروس الذي ّ والحق أنني ُ فتوته – يريد أن يهدي إلي بدلة ذلك الصباح .كان جارنا القديم ف – .وأنا أعرفه ذا مروءة من ّ ّ أصر كثي اًر .والذي يزور ويريدني أن أصحبه إلى متجره البعيد ألختارها بنفسي. ُ مانعت كثي اًر ولكنه ّ ديربورن ويكون له فيها ما لي من األهل والجيران واألصدقاء يقضي كثي اًر من وقته وهو يمانعهم
45
ليرد عن نفسه "موجات" الحفاوة وكرم الضيافة .وهو ،أحياناً ،ال يستطيع ،أو يتعب .عليه ذهبنا معاً ّ المحل .وكان قد مضى علينا هناك نحو من نصف ساعة اخترت فيه البدلة ،حين تلقى ف. إلى ّ مخابرة من منزله تنعى إليه أخاه المقيم في بنت جبيل ...أطلعني فو اًر على الخبر والدموع تلمع في المحل في ساحة وتخيلت – وأنا في غاية الضيق والحرج -ما كان حصل لو أن عينيه ،وال تنزلّ . ّ المحل ويصحبونه إلى بيت أخيه مواسين بنت جبيل .لكان وجد هناك عشرين جا اًر يتولون عنه إقفال ّ
مساندين .ولكان استطاع أن يبدأ بالبكاء فو اًر .هنا كان عليه أن يصرف أوالً زبونين أو ثالثة من مرة أجد فيها ميل األميركيين إلى المزاح واإلكثار من األميركيين بعد تلبية طلباتهم .وكانت هذه أول ّ
المحل مع المستخدمين لبقية النهار .وكان عليه ،أخيرًا، الكالم سمجاً .وكان عليه أن يرتب أمور ّ يردني أنا إلى بيت أختي .قلت إن الذي يريد إذناً بالبكاء ،في أميركا ،تفرض عليه شروط كثيرة. أن ّ بكرت إلى منزل ابن الفقيد .فهو أيضاً نزيل ديربورن .كان ال يزال وحده وفي الصباح التالي ّ
أعد القهوة المرة .فالناس في مثل تلك الساعة منصرفون إلى أعمالهم وشؤون بيوتهم .لكن وقد ّ المشكلة ليست من هذا القبيل .سيحضرون كث اًر بعد قليل. العم أم ف .وأقرنه إلى ما جرى في وحين أستعيد اليوم ما قالته لي أختي المتأمركة وابنة ّ جنازة الشيخ خ .ب .وما جرى حين تبلغ ف .نعي أخيه ،أرى بمزيد من الوضوح أن هؤالء القوم
محاصرون .محاصرون في الحياة وفي الموت .تحاصرهم الغربة وتحاصرهم الهوية .الهوية تبعد تسهل الجنازة .وهم غير مستغنين عنها األوالد ،الغربة تبتلع األوالد .الغربة ال تسهل العزاء ،الهوية ال ّ
عن الهوية وال عن الغربة .فكالهما يقدم لهم ما ال ُيستغنى عنه .ولكن أمرهم يبدو وكأنهم يعاقبون ويعنفون ،من الجهتين ،بكالم صارم. يقدم لهم .وكأن الشجعان والطيبين منهـم ُيظلمون ّ لقاء ما ّ
46
"عهد الصبا الغالي" تلتقي صباك وما قبله وما بعده في ديربورن وتؤرخ بالوجوه مراحل حياتك .ساقيا المقهى ِ أذياله .والذي حاجاً يصّلى على الذي كنت تجلس فيه مراهقاً أشعل الشيب رأس األول وصار الثاني ّ َ تصور خراب بيروت ،في أواخر سنة ،1976 صار صديقك في يومين هنا ،رأيته آخر مرة حين كنت ّ ٍ يومئذ صديقاً ألخيك األصغر .اليوم تسعفه لحيته وهذا النضوج الذي تعجل فيه الهجرة ،فيصير وكان صديقك أنت .وسليل البيت الحالم بالزعامة المسلوبة ،كان ينزل إلى غرفة األسرة في بيتكم ليالً،
ليحدث أباك بأمور لم تدرك فحواها إالّ حين أخذت تكترث لماضي البلدة. وأنت في الخامسة عشرةّ ، ِ وهو اليوم تاجر تقّل َب بين األقطار – وما كنت تحسب أن الكدح يغري أمثاله – ولكن بقيت لوجهه وقامته هذه الكبرياء الغريبة التي يحفظها النحول .واآلغا .والصبايا اللواتي أوتين هنا سمنة وحكمة تذكر أين كنت تجالس كالًّ منهم (أو تماشيه) وسلطة .واألصدقاء الذين ذكرت أنهم تغيروا اً كثيرُ ، ومتى. ترددت ولقد علمت من صديق سهر معي ساعة بعد انصراف الساهرين أنني لست أول من ّ
بين جوانحه هذه الرعشات .بل القصة التي قصها علي أولى ،لرّقتها ،بأن تروى .لذا أروي عن ّ صديقي ن .ما يلي: كانوا أربعة :ثالث نساء وهو .وكان ينظر إلى واحدة بعينها جلست قبالته ال يملك أن
يحول نظره عنها رغم حيائه من النساء والشرود المزمن في عينيه .كان قد مضى عامان على ّ وجوده في أميركا ولكنه كان يراها اآلن ألول مرة هنا .وكان يراها ألول مرة منذ اثنين وعشرين سنة
يبياً ألنها جاءت إلى هنا قبله بعشرين .كان ينظر إليها إذن .وكان موجعاً أن يكون كل شيء تقر ّ الحد .قامتها هي قامتها طوالً ولكنها سمنت ألن هذا ما يصنعه العمر بجميعهن .ذراعاها إلى هذا ّ وحدهما ظه ار أقصر مما كان يراهما .وهو قد نسب ذلك إلى السمنة أيضاً فلم يقتنع .وجهها استطال
تلبدت بعض الشيء ،فكان يفترض فيه أن يزداد استدارة .وعيناها أحاط بهما قليالً وان تكن مالمحه ّ فيبعد ما يحيط به العمر كل العيون .الفم والشعر قريبان من عهده بهما ،إال ّأنه قرب ال يكفيُ ، يبيـاً .وكان هو أقرب ما يكون إلى أن يحسب نفسه أمام ّأم تشبه ابنتها. ويع ّذب .كان كل شيء تقر ّ ـح هذا التشبيـه عليه حتى َّ ظن أنه أعماه وأن الذي ما يزال ينظر إلى هذا الجسد شخص آخر. وقد أل ّ
47
جرى الحديث عادياً .وكان يسأل وال يكتفي بالنظر .كانت هي تجيب وتطيل الكالم وال جد من األوالد وذكر هو أناقة البيت .وذكرت ابنة خالها تطيل النظر .ذك ار ما جرى لألهل وما ّ
بعض أنواع الشاي وبعض مزاياه .وأوجزت له هي سيرتها في المهجر وكأنها توجزها إلدارة رسمية.
كان الحديث ال يتوقف ،بل كان يتقاطع حديثان أحياناً ألن الغرفة كان فيها أربعة .وكانت هي أكثر
المتحدثين كالماً وهو أكثرهم إصغاء .وحين حاولت عمته ذكر ما كان بينهما فسألتها إن كان ال
يستأهل أن تعمل له أكلة تحسن عملها ،أسكت عمته بابتسامة واشارة وبقي المزاح مزاحاً ولم يظهر
الحرج على أحد .لم يظهر عليها الحرج ما دام الحديث جارياً وكان عالماً أن حرجه ال يظهر عليه. إلى أن صمت األربعة حين صمتت هي ،بغتة ،وكأنها أفرغت صدرها من الكالم .صمتوا
وكان جائ اًز أن تختم الجلسة بعد الصمت لوال أنها لم تكن قد استغرقت من الوقت ،بعد ،ما يناسب
مثلها .فلبثوا صامتين عشرين ثانية أو أربعين .وكان ينظر إليها حين تغير شيء في وجهها ال وس ِمع لذلك صوت ضعيف يسمونه عندنا " الطقمسة". يوصف ثم أدخلت شفة تحت شفة وأخرجتها ُ كان قد نسي منذ سنين كثيرة أن خجل الصبا الذي يصحبه الصمت كان يحملها ،في تلك األيام، َ يرد إليه على هذه الحركة .كان قد نسي ،فتذكر اآلن .وفطن إلى أنه لم يكن يأمل من الكالم أن ّ ِ وجسده ،وأن الكالم لم يكن إالّ حجاباً نسجه الخوف من تلك العودة التي ال تكون إالّ في وجه صباه
عمته الحديث فتذكر فضل تمر أريزونا على تمر مهماً أن تستأنف ّ الصمت .بعد ذلك لم يكن ّ كاليفورنيا. ردته إلى وجه صاحبتها وشخصها كله كانت أهم ما إن هذه "الطقمسـة" وما ّ قال لي نّ . حصل له في أميركا ،وكان قد حصل له فيها أشياء كثيرة .وسألته إن كان يعتبر أن انفصال هذين
العمرين اللذين كانا يرغبان في الجري معاً قد جعل كليهما خراباً .فأجابني أن العمر ،بعد آالم ُ الصبا ،خراب على كل حال ...ألن المرء حالما يأخذ في تقرير ما يريد أن يصنع بأيامه يأخذ في تغير األيام معنى ما يصنعه. صنع أشياء أخرى أو ّ
48
المطـار()2 وغاب منهم أربعة أو خمسة كان الرجال هم هم ،على وجه التقريب .ازدادوا اثنين أو ثالثة َ كن ثالثاً فحسب ألن الرابعة ،وكانت فكن اقل عدداً بكثير .حتى أخواتي ّ من كبار السن .وأما النساء ّ
لعل نساءنا عدن ال يطقن الوداع ،ألن كل وداع يذكرهن بعشرة سائحة مثلي ،سبقتني إلى بيروتّ . مر للغاية. بعضها ّ
بكرنا قليالً في الحضور إلى المطار ،وجلسنا في ردهة المدخنين .تحادثنا ومازَح بعضنا ّ بعضاً وم َثْلنا للتصوير ،واقفين وجالسين ،أزواجاً وجماعات ،وقد ذكرت ذلك .وجاءني صديق صباي
األصلع يحمل فنجان قهوة ومجّلتين أتسلى بقراءتهما في الطائرة ،وكرشه الذي ُيشبه القضايا الكبرى. سناً ،أمازحهما كثي اًر فال ينزعجان ،وأعلم أنهما ال يطيقان مثل هو لطيف ،مثل يوسف الذي يصغرنا ّ هذا المزاح من آخرين .عليه واصلت ممازحتهما في هذا النص .وع َّـن لي في المطار أن الحاضرين
جميعاً لطفاء .وأن الذين قابلتهم في ديربرون بذلوا كثي اًر من اللطف أيضاً .وسألت نفسي ما الذي فعلته ألستحق منهم هذا اللطف كله ،وأجبت أنهم يالطفون بعضاً من أصلهم ال أفعالي. تذكرت بنت جبيل إذن .بنت جبيل–لبنان ال بنت جبيل–ميتشغان .وخطر لي أنه كان ّ ممكناً ،لو كانت بنت جبيل بيدنا ،أن نذهب اليها سوية ،من هذا المطار ،على ظهور خيل عابرة شباناً أشداء يستطيع أي منهم أن يحمل البيرق الذي لم أكن أقوى على لألطلسي .وقلت إن بيننا هنا ّ حمله ،في بيتنا ،وأنا طفل .هذا ما تريده األغنية .وأكثرهم متأهبون لهذه العودة ،مهما تكن مؤقتة،
يشدهم األصل ويستغرق من وجودهم .لذا ال يفلحون في تنظيم األفعال التي تتوق إليها لفرط ما ّ عصياً على التنظيم إذا تزعزع ظم فإن األصل يصير جماعتهم .فإن كان من شأن األفعال أن تن ّ ّ نظامه القديم .هو يحمل نفسه من بيئة إلى أخرى ويأخذ يجهد نفسه في استعادة تنظيمه أو في
استحداث آخر ال يبيـده .وهذا صعب للغاية واألطلسي بحر عميق. امحت من خريطة تذكرت أيضاً خوفي يوم قرأت – من زمن غير بعيد – أن قرى كثيرة ّ الكونية األولى ،بفعل المجاعة والهجرة .لم ينقص عدد سكان القرية من لبنان ،في خالل الحرب ّ
دمرت قرى وبلدات وأحياء من مدن أيضاً. ألف إلى مائة مثالً .بل زالت القرية .في الحرب الحاليةّ ، حدة الخوف .وأما القرى ولكن األمل الذي ال يزال أهلها يحملونه في بعثها من دمارها يل ّ طف من ّ التي محتها المجاعة والهجرة قبل ثالثة أرباع القرن فان أهلها لم يبقوا أهلها .لذا كانت حالتها مبعث
49
خوف مطلق .عادت إلي ذكرى هذا الخوف ألن بنت جبيل -لبنان تذوي اليوم بسرعة ،وتكبر، ّ بسرعة أيضاً ،بنت جبيل – ميتشغان. طبت عانقت القوم ،وبكت أختي ذات المضافة وأعلنت أختي المتأمركة أنها لن تبكي وق ّ ُ أختي الكبرى جبينها وابتسمت ،في آن ،على نحو ال يتقنه إالّ وجهها الجميل. جار العربة النحيلة التي جاءتني بها أختي الكبرى ودخلت الدهليز الذي ينتهي إلى الطائرةّ ،اً
جر هذه العربة ،بعد، ّ تعودت ّ لتجنبني حمل حقيبة يدي الثقيلة في أروقة مطار لندن .ولم أكن قد ّ فمالت بعد خطوات قليلة مشيتها في الدهليز ،وسقطت المجّلتان على األرض .وحين انحنيت مقدمه اآلن أللتقطهما أحسست أن دموعاً كثيرة كانت تتجمع في رأسي طيلة النهار قد احتشدت في ّ وأخذت تتهيأ للنزول دفعة واحدة.
25كانون األول 7 – 1988كانون الثاني 1989
50
في الكتاب المطار(..................................................................... )1 الوطن والمهجر................................................................. -أبو رشيد :المهنة والمكانة ......................................................
التصويـر....................................................................... اآلغـا.......................................................................... البيـوت........................................................................ -نساء ورجـال..................................................................
-كاالمـازو......................................................................
-أميركا ،أميركا..................................................................
يوسف و " السومت " ........................................................... -إشارات ناقصة..................................................................
األكسس......................................................................... المحاضرة....................................................................... التصويت باألرجل............................................................... -العرس..........................................................................
األميركيون......................................................................الجبانـة......................................................................... ّ -
-عهد الصبا الغالي................................................................
-المطار(.......................................................................)2
51