turath_158

Page 1

‫مالمح ال�شهود‬ ‫احل�ضاري‬ ‫للغة العربية‬ ‫تراثية ثقافية منوعة ت�صدر عن نادي تــــــــــــــــراث الإمـارات العـدد ‪ 158‬دي�سمرب ‪2012‬‬

‫اتحاداإلمارات‪..‬‬ ‫أنساب العرب‪..‬‬

‫جتربة وحدوية نادرة املثال‬

‫من ال�شفاهية �إىل التدوين‬

‫إشكاليةالمصطلح‪..‬‬ ‫يف الرتاث النقدي العربي‬

‫ارتياد اآلفاق‬

‫مذكرات امر�أة �شرقية‬ ‫يف اجنلرتا ‪1927‬م‬

‫ألسنة عربية‪..‬‬

‫حكاية الزجل الأندل�سي‬

‫مع العدد‬ ‫كتاب‬ ‫الشهري‬ ‫«داخل العدد ملف وثائق االتحاد»‬



‫صوت من المستقبل‬ ‫نور‬ ‫س ّلط عليه ُ‬ ‫ما أشبه نفوس الناس يف هذه احلياة بالزجاج ُ‬ ‫الشمس‪ ،‬فما كان من طبعه رديئًا غري مصقول‪ ،‬أو مهمالً قد شاع‬ ‫وتضرم يف ذات‬ ‫أحلت عليه وقدة اجلو حمي‬ ‫فيه الصدأ‪ ،‬فذلك متى ّ‬ ‫َّ‬ ‫نفسه‪ ،‬وما كان من طبعه صايف املاء بادي الرونق نقي الصفحة‪،‬‬ ‫ميج من شعاع الشمس لهبًا يتطاير‪.‬‬ ‫رأيته يف توقده واضطرامه كأمنا‬ ‫ُّ‬ ‫وصنعت على الوجه الذي‬ ‫فإن كانت الزجاجة قد أخلصت يف سبكها ُ‬ ‫يجمع الضوء ويعكس منه وأُحكمت من هذه الناحية‪ ،‬فهناك تبلغ‬ ‫من دقة احلس مبلغ األنفس الرقيقة املهذبة‪ ،‬فال تكاد ترسل عليها‬ ‫الشمس من نورها‪ ،‬حتى يرجع فيها نار َّ‬ ‫تلظى‪.‬‬ ‫مصطفى صادق الرافعي‬


‫محتويات العدد‬ ‫تراثية ثقافية منوعة‬ ‫ت�صدر عن‬ ‫مركز زايد للدرا�سات والبحوث‬ ‫بنادي تراث الإمارات‬

‫اال�سـتـ�شـارة العـلـمـيــة‬

‫�أ‪ .‬د‪ .‬ح�سـن حمـمـد النابـودة‬ ‫�أ‪.‬د‪ .‬يحيى حممد حممـود‬ ‫�أ ‪ .‬حنفي جايل‬ ‫مدير التحرير‬

‫وليد عالء الدين‬ ‫�سكرتري التحرير‬

‫حممــد �سعد النمـــر‬ ‫هيئة التحرير‬

‫�شـم�سـة حـمـد الظاهـري‬ ‫فاطمة نايع املـنـ�صـوري‬ ‫املـراجـعـة والـتـدقـيـق‬

‫د‪ .‬حمـمـد فـاتــح زغـل‬ ‫املديـر الفنـي‬

‫فــواز نـاظــم‬ ‫ر�س ــوم‬

‫حـ�سـن �إدلـبـي‬ ‫حممد بريم‬ ‫�أدهم العك�ش‬ ‫الإخراج والت�صميم‬

‫�إيـنـا�س درويـ�ش‬ ‫هـاتف‪00971 2 2223000 :‬‬ ‫فـاك�س‪00971 2 6651115 :‬‬ ‫�ص‪.‬ب‪� :‬أبو ظبي ‪27765‬‬

‫‪Email: turathmag1@gmail.com‬‬

‫مدير التحرير‬

‫‪waleedalaa@hotmail.com‬‬

‫�أبوظبي للإعالم ‪ -‬توزيع‬

‫الرقم املجاين‪8002220 :‬‬ ‫لالت�صال من اخلارج ‪00971 2 4145000 :‬‬ ‫فاك�س ‪00971 2 4145050 :‬‬ ‫‪distribution@admedia.ae‬‬

‫املر�صد‪ :‬اختتمت يف �أبوظبي ال�شهر الفائت فعاليات معر�ض «فن �أبوظبي ‪ ،»2012‬الذي‬ ‫‪14‬‬ ‫احت�ضنته منارة ال�سعديات الثقافية ملدة ‪� 4‬أيام‪ ،‬حتت رعاية الفريق �أول �سمو ال�شيخ حممد بن‬ ‫زايد �آل نهيان ويل عهد �أبوظبي نائب القائد الأعلى للقوات امل�سلحة‪.‬‬ ‫�ضم املعر�ض �أكرث من ‪ 50‬م�شاركة لأهم �صاالت العر�ض الفنية يف العامل‪ ،‬متثلت يف �أعمال نحو‬ ‫‪ 400‬فنان‪ ،‬وحظي املعر�ض بح�ضور نخبة من كبار الفنانني العامليني الذين �شاركوا يف الأن�شطة‬ ‫املرافقة للحدث‪.‬‬ ‫‪ 41‬عاماً من التميز‪ :‬حتتفل دولة الإمارات العربية املتحدة هذا العام بالذكرى الواحدة‬ ‫‪24‬‬ ‫والأربعني لقيام احتاد دولة الإمارات‪ ،‬تلك التجربة التي تعد �أول جتربة عربية وحدوية كتب‬ ‫لها النجاح واال�ستمرار‪ .‬فقد ا�ستطاع املغفور له ب�إذن اهلل القائد امل�ؤ�س�س ال�شيخ زايد بن �سلطان‬ ‫�آل نهيان و�إخوانه حكام الإمارات‪� ،‬أن يقدموا للعامل جتربة من �أرقى و�أجنح التجارب الوحدوية‬ ‫املعا�صرة‪ .‬وقد حفلت م�سرية االحتاد ب�أ�سماء رجال خمل�صني كانت لهم �إ�سهاماتهم الفاعلة يف‬ ‫دعم م�ساعي االحتاد وتثبيت دعائمه‪ .‬الباحثة فاطمة املن�صوري ت�سلط ال�ضوء على نخبة من‬ ‫رجاالت �أبوظبي ممن �أ�سهموا بجهودهم يف جناح جتربة «دولة الإمارات العربية املتحدة»‪.‬‬ ‫�ساحة احلوار‪ :‬قال الناقد املغربي يحيى بن الوليد �إن الرتاث ال يجب �أن يكون حكر ًا على‬ ‫‪40‬‬ ‫قراءات �أحادية‪ ،‬لأن ذلك يفقده طابعه التعددي الذي كان �أ�سا�س ازدهار احل�ضارة العربية‬ ‫يف فرتة �سابقة‪ ،‬وعلى النحو الذي جعل من زمن بغداد زمن ًا عاملي ًا‪ .‬و�أ�ضاف يف احلوار الذي‬ ‫�أجراه معه �إدري�س علو�ش‪� ،‬أن �أهمية الرتاث تت�ضح من خالل امتداداته �إىل ع�صرنا‪ ،‬م�ؤكد ًا �أهمية‬ ‫التقييم كا�سرتاتيجية يف قراءة الرتاث‪ ،‬على �أن يكون التقييم م�سبوق ًا بالتحليل والت�شخي�ص املبني‬ ‫على العلم‪ ،‬لإنقاذ م�ستقبل الرتاث من ال�ضياع الذي يهدده يف ظل الفكر القائم على التوليف‬ ‫واال�ستن�ساخ واالجتزاء والنقل والعكازات النظرية‪.‬‬ ‫ارتياد الآفاق‪ :‬عنربة �سالم اخلالدي «‪ »1986 - 1897‬واحدة من ال�شخ�صيات التي لعبت‬ ‫‪52‬‬ ‫دور ًا بارز ًا يف احلركة الن�سائية العربية‪ .‬وهي �إ�ضافة �إىل ذلك‪ ،‬من �أوائل ال�شابات العربيات‬ ‫اللواتي زرن بالد ًا �أجنبية‪ ،‬وتعد مذكراتها التي �سجلت فيها انطباعاتها عما �شاهدته خالل �إقامتها‬ ‫يف بريطانيا خالل الفرتة من ‪1925‬م وحتى ‪1927‬م واحدة من �أقدم ما �سجلته �أنامل الن�ساء‬ ‫العربيات يف هذا ال�صدد‪ .‬و تعرب اخلالدي يف مذكراتها‪ ،‬التي نقتطف �أجزاء منها‪ ،‬برباعة �شديدة‬ ‫عن رحلة التحوالت التي اعرتتها منذ �أن و�صلت ميناء «الإ�سكندرية» مرور ًا بـ «مر�سيليا» حيث تلتقط‬ ‫بعني فاح�صة �أحوال «الن�ساء» هناك‪� ،‬إىل �أن عربت بحر املان�ش و�صو ًال �إىل «دوفر» ومنها �إىل «لندن»‬ ‫لت�ستقر عامني من املراقبة والتعلم‪.‬‬ ‫�أل�سنة عربية‪� :‬شهد العرب امل�سلمون يف الأندل�س ظروف ًا فريدة من املتغريات احل�ضارية‪ ،‬منذ‬ ‫‪76‬‬ ‫تلت‪ ،‬متثلت‬ ‫�أن َّمت لهم فتح الأندل�س يف العام ‪ 92‬للهجرة النبوية املباركة وحتى ثمانية قرون ْ‬ ‫يف الطبيعة اجلديدة اخلالبة‪ ،‬ويف الأجنا�س الب�شرية املختلفة‪ ،‬ويف الأ�شكال والألوان‪ ،‬ويف العادات‬ ‫والتقاليد‪ ،‬ويف ال�شعائر الدينية والعقائدية‪ ،‬ويف اللغات واللهجات‪.‬‬ ‫وكان من الطبيعي �أن ين�ش�أ يف �أح�ضان هذه الفئة العري�ضة من العرب الفاحتني فئة �شعبية يت�سع‬ ‫مداها عرب الع�صور واالجيال و�أن يكون لها �أدب عري�ض يوفر لها حاجاتها للتعبري عن خلجاتها‪،‬‬ ‫وتف�صيالت حياتها‪ ،‬بالأ�سلوب الفني املتميز الذي يتجاوب مع تطور احلياة اليومية‪ ،‬فكان للعرب‬ ‫يف الأندل�س �أدبهم ال�شعبي الراقي املعرب عن �أ�صالتهم وقدراتهم على الإبداع‪ ،‬من هذا الرتاث‬ ‫العريق يختار لنا الدكتور مقداد رحيم «فن الزجل» م�سلط ًا ال�ضوء على ن�ش�أته ورحلة تطوره‪.‬‬ ‫‪ 114‬تاريخ‪ :‬مل تهتم �أمة من الأمم بالأن�ساب كما اهتم العرب ب�أن�سابهم‪ ،‬فقد �صار الن�سب لديهم‬ ‫علم ًا له قواعده و�أ�صوله وفوائده‪ ،‬وكانت الأن�ساب يف اجلاهلية و�سيلة جتمع العرب بع�ضهم �إىل‬ ‫بع�ض‪ ،‬وت�ضم �شملهم وت�شد �أزرهم‪ ،‬كما كانت رداء يدفعون به كثري ًا من الأخطار عنهم‪ .‬ويف ظل‬ ‫الإ�سالم احتل هذا اللون من العلوم واملعارف مكانة خا�صة عند العرب‪ ،‬وبخا�صة يف فجر النه�ضة‬ ‫الإ�سالمية‪ ،‬نظر ًا لطبيعة الفكر القبلي‪ ،‬الذي جعل كل قبيلة حتر�ص على كيانها وتعتز ب�أ�صولها‪.‬‬ ‫الباحث �أحمـد �أبو زيد يقدم لنا قراءة يف تراث هذا العلم وتاريخه وتطوره‪.‬‬


‫‪66‬‬

‫يا هال‬

‫ي‬ ‫ا‬ ‫ه‬ ‫ال‬

‫درس في الوحدة‬

‫‪46‬‬

‫‪124‬‬

‫‪102‬‬

‫سعر النسخة‬

‫الإمارات العربية املتحدة ‪ 10‬دراهم ‪ -‬اململكة العربية ال�سعودية ‪ 10‬رياالت‬ ‫ الكويت دينار واحد ‪� -‬سلطنة عمان ‪ 800‬بي�سة ‪ -‬قطر ‪ 10‬رياالت ‪-‬‬‫مملكة البحرين دينار واحد ‪ -‬اليمن ‪ 200‬ريال ‪ -‬م�صر ‪ 5‬جنيهات ‪-‬‬ ‫ال�سودان ‪ 250‬جنيهاً ‪ -‬لبنان ‪ 5000‬لرية ‪� -‬سورية ‪ 100‬لرية ‪ -‬اململكة‬ ‫الإردنية الها�شمية ديناران ‪ -‬العراق‪ 2500 :‬دينار ‪ -‬فل�سطني ديناران ‪-‬‬ ‫اململكة املغربية ‪ 20‬درهماً ‪ -‬اجلماهريية الليبية ‪ 4‬دنانري ‪ -‬اجلمهورية‬ ‫التون�سية ديناران ‪ -‬بريطانيا ‪ 3‬جنيهات ‪� -‬سوي�سرا ‪ 7‬فرنكات ‪ -‬دول‬ ‫االحتاد الأوروبي ‪ 4‬يورو ‪ -‬الواليات املتحدة الأمريكية وكندا ‪ 5‬دوالرات‪.‬‬ ‫االشتراكات‬

‫للأفراد داخل الدولة‪ »100« :‬درهم ‪ /‬للأفراد من خارج الدولة‪»150« :‬‬ ‫درهماً ‪ /‬للم�ؤ�س�سات داخل الدولة‪ »150« :‬درهماً ‪ /‬للم�ؤ�س�سات من‬ ‫خارج الدولة‪ »200« :‬درهم‪.‬‬

‫ل�شهر دي�سمرب نكهة خا�صة عند �أهل الإمارات‪ ،‬فقد �شهد هذا ال�شهر‬ ‫ميالد حلم الوحدة الذي نبت يف عقول رجال �آمنوا به و�صربوا وثابروا‬ ‫حتى بات حقيقة واقعة‪ ،‬حقيقة �ساطعة كنور ال�شم�س‪ ،‬ي�ستمد منها كل‬ ‫�إماراتي �أ�سباب ًا للفخر والعزة‪.‬‬ ‫ل�شهر دي�سمرب طعم الفرح بقدرة الإن�سان على حتديد م�صريه و�إدارة‬ ‫مقدراته لتحقيق �أهدافه‪ ،‬وله طعم االنت�شاء بجني ح�صاد جهوده التي‬ ‫راحت تكرب وتت�ضح معاملها �سنة بعد �سنة لتكون خري زاد ملزيد من‬ ‫النجاح‪.‬‬ ‫ويف �شهر دي�سمرب عظة‪ ،‬لكل من �أراد �أن يخرج من التاريخ املعا�صر‬ ‫مبثال حي ينب�ض بالنجاح على �صدق ما حتفل به امل�أثورات العربية‬ ‫والإن�سانية ب�شكل عام‪ ،‬من �أن يد اهلل مع اجلماعة‪ ،‬و�أن يف االحتاد قوة‬ ‫ويف التفرق �ضعف‪ ،‬و�أن اليد الواحدة ال ت�صفق‪.‬‬ ‫وهلل د ّر الراحل الكبري ال�شيخ زايد بن �سلطان �آل نهيان‪ ،‬رحمه اهلل‪ ،‬حني‬ ‫قال‪�« :‬إن جتربتنا الوحدوية يف دولة الإمارات هي الربهان ال�ساطع على‬ ‫�أن الوحدة والت�آزر هما م�صدر كل قوة ورفعة وفخر»‪.‬‬ ‫واملدقق يف مقوالت القائد امل�ؤ�س�س ال�شيخ زايد‪ ،‬رحمه اهلل‪ ،‬حول جتربة‬ ‫االحتاد يدرك �أن هذه التجربة �إمنا قامت على وعي عميق بالفكرة‬ ‫و�إميان عميق بقدرة الإن�سان العربي‪� ،‬إذ بينما ي�ؤكد رحمه اهلل �أن‬ ‫�سبب النجاح الأول يكمن يف «تالقي �إرادتنا جميع ًا على دعم االحتاد»‪،‬‬ ‫ف�إنه ي�ضع الفكرة يف بعدها العربي قائ ًال ‪� «:‬إن االحتاد يزداد قوة بقوة‬ ‫العرب‪ ..‬كما �أنه ي�ستمد وجوده من وجود الأمة العربية وعزميتها»‪ ،‬فقد‬ ‫كان‪ ،‬رحمه اهلل‪ ،‬يرى يف جتربة االحتاد نواة لوحدة عربية م�أمولة‪� ،‬إذ‬ ‫يقول‪ ،‬طيب اهلل ثراه ‪� «:‬إن الوحدة العربية التي تعترب دولة الإمارات‬ ‫نواتها لي�ست حلم ًا �أو �ضرب ًا من اخليال بل واقع ميكن حتقيقه �إذا‬ ‫�صدقت النوايا وتفاعلت الأماين والطموحات بامل�ساعي والعمل»‪.‬‬ ‫تعد جتربة احتاد دولة الإمارات العربية املتحدة‪ ،‬التي متر هذا ال�شهر‬ ‫ذكراها احلادية والأربعون‪ ،‬التجربة الوحدوية العربية الوحيدة التي‬ ‫ُكتب لها النجاح‪ .‬وال �شك يف �أن �أف�ضل احتفال بهذه التجربة الفريدة هو‬ ‫جعلها مو�ضع الدر�س والبحث العميقني‪ ،‬للتدقيق يف تفا�صيلها وا�ستلهام‬ ‫الدرو�س والعرب‪ .‬على �أن يكون هذا البحث �ضمن جهد علمي ر�صني‬ ‫ومنظم‪ ،‬تت�ضافر فيه جهود الأكادمييني من املخت�صني يف كافة العلوم‬ ‫املطلوبة من علوم ال�سيا�سة واالقت�صاد حتى علوم التاريخ واجلغرافيا‪..‬‬ ‫وغريها‪ ،‬للوقوف على الكيفية التي جنح بها �صانعوا وحدة الإمارات يف‬ ‫جتاوز العديد من العوائق التاريخية واجلغرافية وال�سيا�سية‪ ،‬بل وحتويل‬ ‫ما قد يعتربه البع�ض مع�ضالت‪� ،‬إىل دعائم را�سخة للنجاح والتفوق‪� .‬إنه‬ ‫در�س معا�صر يف كيفية �صناعة وحدة‪ ،‬وتذليل كافة العقبات �أمامها‪.‬‬ ‫�إن جتربة احتاد الإمارات العربية‪ ،‬در�س �شهد له العامل كله بالنجاح‪،‬‬ ‫وفا�ض خريه لي�شمل العامل كله‪ .‬وحري بهذا الدر�س �أن يكون حمل‬ ‫اهتمام العرب جميع ًا‪ ،‬و�أن يتحولوا بهدي من تلك التجربة من مرحلة‬ ‫الأماين والطموحات �إىل مرحلة امل�ساعي والعمل‪.‬‬

‫«تراث»‬


‫‪6‬‬

‫الشهر‬

‫الـعــــدد‬ ‫‪158‬‬ ‫ديسمبر‬

‫‪2012‬‬

‫تحت رعاية الشيخ سلطان بن زايد آل نهيان‬

‫تتويج الفائزين يف �سباق‬ ‫اليوم الوطني للقوارب ال�شراعية‬ ‫‪� ‬أبوظبي ‪ -‬حممد رجب ال�سامرائي‬ ‫حت��ت رع��اي��ة �سمو ال�شيخ �سلطان بن‬ ‫زاي��د �آل نهيان ممثل �صاحب ال�سمو‬ ‫رئ��ي�����س‪ ‬ال��دول��ة رئ �ي ����س ن � ��ادي ت ��راث‬ ‫الإم� � ��ارات‪ ،‬اخ�ت�ت�م��ت ال���ش�ه��ر ال�ف��ائ��ت‬ ‫فعاليات �سباق اليوم الوطني للقوارب‬ ‫ال�شراعية‪ ‬احلديثة الذي نظمته مدر�سة‬ ‫الإم� � ��ارات ل�ل���ش��راع ال�ت��اب�ع��ة ل�ل�ن��ادي‪،‬‬ ‫وا�ستمرت فعالياته ليومني يف منطقة‬

‫مياه كا�سر الأمواج يف �أبو ظبي‪ ‬مب�شاركة العليا‪ ‬املنظمة لل�سباق ع�ل��ى م�سرح‬ ‫احت��ادات و�أندية وجلان حملية �إ�ضاف ًة �أبوظبي يف ح�ضور جماهريي و�إعالمي‪.‬‬ ‫�إىل م�شاركة من دولة قطر‪.‬‬ ‫‪ ‬توج مدير مدر�سة الإم ��ارات لل�شراع املراكز الأوىل‬ ‫عبداهلل العبيديل‪ ،‬الفائزين يف ال�سباق ت���ص��درت ف�ئ��ة الأوب�ت�م���س��ت »مبتدئني«‬ ‫و�أع� ��� �ض ��اء جل �ن��ة ال �ت �ح �ك �ي��م و� �ض �ب��اط �إبراهيم �سيف اهلل الرفاعي‪ ،‬من نادي‬ ‫ال�سباق يف كل فئة من فئات املناف�سة احلمرية الريا�ضي‪ ،‬وفاز هاري بون نيل‬ ‫يف حفل اخل�ت��ام ال��ذي نظمته‪ ‬اللجنة من ن��ادي زوارق �شواطئ دبي باملرتبة‬


‫عبد الله العبيديل �أثناء تكرمية �أحد الفائزين بال�سباق‬

‫الأوىل يف فئة الأوبتم�ست» املعدل العام«‪،‬‬ ‫بينما ح�صل‪ ‬حمود �سامل الزيدي من نادي‬ ‫ت��راث الإم� ��ارات على‪ ‬املركز الأول لفئة‬ ‫الليزر »‪ ،«7.4‬ونال �سعيد �سامل الزيدي ‪ ‬من‬ ‫ن��ادي ت��راث الإم� ��ارات امل��رك��ز الأول يف‬ ‫فئة الليزر »ريديال«‪ ،‬فيما حقق الي�سرت‬ ‫تيت‪ ‬من ن��ادي زوارق �شواطئ دبي الفوز‬ ‫باملركز الأول يف فئة الليزر «�ستاندارد»‪،‬‬ ‫وح�صل بيرت تونكني م��ن ن��ادي �أبوظبي‬ ‫لل�شراع على املركز الأول يف فئة الزوجي‪.‬‬ ‫ونال‪ ‬عبدالعزيز عبداهلل حممد من نادي‬ ‫�أبوظبي للريا�ضات ال�شراعية واليخوت‬ ‫امل��رك��ز الأول يف فئة‪« ‬ال��ك��امت��اران»‪،‬‬ ‫فيما ح�صل قارب «�آن ويند» من جمعية‬ ‫�أبوظبي للكروزر يف �أبوظبي على املركز‬ ‫الأول يف فئة الكروزر‪.‬‬

‫‪ ‬وكانت فعاليات حفل تكرمي الفائزين‬ ‫ل�سباق اليوم الوطني للقوارب ال�شراعية‬ ‫احلديثة‪ ،‬بد�أت بعزف ال�سالم الوطني‬ ‫وت�ل�اوة ع�ط��رة م��ن �آي ال��ذك��ر احلكيم‬ ‫ل�ل�ط��ال��ب ع�ب��دال�ل�ط�ي��ف ع��دن��ان‪ ،‬تلتها‬ ‫كلمة �إدارة نادي تراث الإمارات‪� ‬ألقاها‬ ‫مدير مدر�سة الإمارات لل�شراع عبداهلل‬ ‫العبيديل‪ ،‬حيث‪ ‬نقل فيها حتيات �سم ّو‬ ‫رئي�س ال�ن��ادي و�أع���ض��اء جمل�س‪ ‬الإدارة‬ ‫للم�شاركني وال�ضيوف وه�ن��أ الفائزين‬ ‫بجوائز ال�سباق بعد مناف�سات متميزة‬ ‫يف‪� ‬أج� ��واء احتفالية تليق ب�سباق اليوم‬ ‫الوطني‪ ،‬ما عك�س �صورة طيبة وم�شرقة‬ ‫عن تطور ريا�ضة ال�شراع‪ ‬احلديث التي‬ ‫يتبناها النادي بنجاح منذ �سنوات طويلة‪.‬‬ ‫و�أ� �ش��ار‪ ‬ال �ع �ب �ي��ديل يف ك�ل�م�ت��ه �إىل �أنّ‬

‫تنظيم ال�ن��ادي لهذه البطولة وغريها‬ ‫م��ن ال�سباقات وال��ري��ا��ض��ات البحرية‬ ‫ي�أتي تنفيذ ًا لتوجيهات‪� ‬صاحب ال�سمو‬ ‫ال�شيخ خليفة بن زايد �آل نهيان رئي�س‬ ‫ال ��دول ��ة «ح �ف �ظ��ه اهلل» ال� ��ذي يحر�ص‬ ‫على‪ ‬تنمية ق��درات ال�شباب وا�ستغالل‬ ‫ط��اق��ات �ه��م و�أوق ��ات� �ه ��م مب ��ا ف �ي��ه خري‬ ‫وطنهم ومنفعتهم‪ ،‬وهو �أي�ض ًا ثمرة من‬ ‫ثمار املتابعة ال�شخ�صية ل�سمو ال�شيخ‬ ‫�سلطان بن زايد �آل نهيان لكل ما يتعلق‬ ‫بالريا�ضات البحرية يف الدولة‪ ‬والعمل‬ ‫ع �ل��ى ت �ط��وي��ره��ا وال ��و�� �ص ��ول ب �ه��ا �إىل‬ ‫العاملية‪� ،‬إذ �أن‪ ‬متابعة �سموه ودعمه‬ ‫املتوا�صل‪ ‬للرتاث بعامة ‪ ‬وللريا�ضيات‬ ‫البحرية بخا�صة �أ�سهم يف تطور هذه‬ ‫الريا�ضات وو�صولها �إىل العاملية‬


‫‪8‬‬

‫الشهر‬

‫الـعــــدد‬ ‫‪158‬‬ ‫ديسمبر‬

‫‪2012‬‬

‫نادي تراث الإمارات‬ ‫يختتم �سباق العني للقدرة يف «بوذيب»‬

‫العني – تراث‬

‫اختتم نادي تراث الإم��ارات ال�شهر الفائت‬ ‫فعاليات ال�سباق الت�أهيلي الدويل مل�سافة ‪80‬‬ ‫كم «جنمة واحدة»‪ ،‬وال�سباق الت�أهيلي املحلي‬ ‫مل�سافة ‪ 80‬كم‪ ،‬اللذين نظمهما النادي يف‬ ‫�إط��ار �سباق العني للقدرة‪ ،‬باكورة مو�سمه‬ ‫اجلديد للقدرة‪ ،‬بتوجيهات ورعاية كرمية‬ ‫من �سمو ال�شيخ �سلطان بن زاي��د �آل نهيان‬ ‫ممثل �صاحب ال�سمو رئي�س ال��دول��ة رئي�س‬ ‫نادي تراث الإم��ارات‪ ،‬وبالتعاون والتن�سيق‬ ‫مع احتاد الإمارات للفرو�سية‪.‬‬ ‫ح�ضر ف�ع��ال�ي��ات ال���س�ب��اق ال�ن��ائ��ب ال�ث��اين‬ ‫لرئي�س جمل�س الإدارة امل��دي��ر التنفيذي‬ ‫للأن�شطة علي عبد اهلل الرميثي‪ ،‬و�أم�ين‬ ‫ال�سر ال�ع��ام الحت��اد الإم� ��ارات للفرو�سية‬ ‫طالب ظاهر املهريي‪.‬‬ ‫وكان ال�سباق الت�أهيلي الدويل الذي �شارك‬ ‫فيه «‪ »223‬فار�س ًا وفار�سة قد انطلق يف قرية‬ ‫بوذيب العاملية للقدرة يف مدينة اخلتم يف‬

‫ال�ساعة ال�ساد�سة �صباح ًا باملرحلة الأوىل‬ ‫مل�سافة ‪ 30‬كم‪ ،‬مع ا�سرتاحة �إجبارية مل�سافة‬ ‫‪ 30‬دق�ي�ق��ة‪ ،‬وال�ث��ان�ي��ة مل�سافة ‪ 30‬ك��م‪ ،‬مع‬ ‫ا�سرتاحة ‪ 30‬دقيقة‪ ،‬والثالثة مل�سافة ‪ 20‬كم‪.‬‬ ‫وخ�ص�ص هذا ال�سباق للخيول من �أعمار‬ ‫‪�� 5‬س�ن��وات فما ف��وق بحد �أع�ل��ى لل�سرعة‬ ‫‪ 16‬كم يف ال�ساعة‪ ،‬وح��د �أدن��ى ‪ 12‬كم يف‬ ‫ال�ساعة م��ع حتديد نب�ضات القلب ب�ـ ‪56‬‬ ‫نب�ضة‪ .‬ومت بنجاح ت�أهيل ‪ 202‬من الفر�سان‬ ‫والفار�سات الذين مثلوا معظم �إ�سطبالت‬ ‫الدولة العامة واخلا�صة وع��دد من �أندية‬ ‫الفرو�سية يف الدولة‪.‬‬ ‫وات�سمت م��راح��ل ال�سباقات بالقوة وروح‬ ‫املناف�سة والتحمل لتحقيق الت�أهل املطلوب‬ ‫مل�سافات �أكرب‪ ،‬و�ساعد كل من �أحوال الطق�س‬ ‫املالئمة حلركة اخليول‪ ،‬وامل�سارات املمهدة‬ ‫جيد ًا‪ ،‬التي قام بالإ�شراف على ت�صميمها‬ ‫ب��در الكعبي و�شفيع ن��ا��ص��ر‪ ،‬على اختتام‬

‫اجلوالت والو�صول �إىل بوابات خط النهاية‬ ‫يف وقت قيا�سي‪ ،‬كما مت اجتياز فرتات عر�ض‬ ‫اخليول على اختبارات الفح�ص البيطري يف‬ ‫وقت قيا�سي نظر ًا حل�سن التنظيم والإعداد‬ ‫و��س��رع��ة عمل اللجنة البيطرية برئا�سة‬ ‫ال��دك�ت��ور علي الطوي�سي‪ ،‬م��ا م� ّك��ن معظم‬ ‫امل�شاركني من موا�صلة م�شوارهم مع حلم‬ ‫الت�أهل ب�سهولة وي�سر‪.‬‬ ‫وكان الفت ًا م�شاركة عدد كبري من الفار�سات‬ ‫يف ال�سباقات الت�أهيلية‪ ،‬ما ي�ؤ�شر �إىل �أهمية‬ ‫ت�شجيع الريا�ضة الن�سائية يف جمال القدرة‬ ‫وبداية قوية طموحة للمو�سم وج��ذب عدد‬ ‫ممتاز من الفار�سات للم�شاركة يف ال�سباقات‬ ‫والبطوالت القادمة‪.‬‬ ‫ومن ناحية �أخرى انطلق ال�سباق الت�أهيلي‬ ‫املحلي مل�سافة ‪ 80‬كم يف ال�ساعة ال�ساد�سة‬ ‫والن�صف �صباحا‪ ،‬مب�شاركة نحو ‪ 91‬فار�س ًا‬ ‫وفار�سة‪ ،‬على ثالثة مراحل‪ ،‬وت�أهل نحو ‪85‬‬


‫جانب من مناف�سات �سباق العني للقدرة يف «بوذيب»‬

‫فار�س ًا وفار�سة‪ ،‬وو�صل ع��دد املت�أهلني يف‬ ‫ال�سباقني �إىل نحو ‪ 285‬فار�س ًا وفار�سة‪،‬‬ ‫وجه‬ ‫وذلك يف �إط��ار امل�شروع الوطني الذي ّ‬ ‫ب��ه �سمو رئي�س ال�ن��ادي لإع ��داد امل��زي��د من‬ ‫الفر�سان والفار�سات من �صغار ال�سن وطلبة‬ ‫املدار�س واجلامعات والهواة ليكونوا فر�سان‬ ‫امل�ستقبل‪� ،‬إذ يجدون يف قرية بوذيب خري‬ ‫مكان لتدريبهم وت�أهيلهم واملحافظة على‬ ‫لياقة خيولهم بعد انتهاء جوالت ال�سباقات‪،‬‬ ‫نظر ًا ملا تتمتع به القرية من مرافق وميادين‬ ‫على م�ستوى عاملي من املوا�صفات ومدربني‬ ‫متخ�ص�صني‪ ،‬وتوجيهات وخ�ط��ط علمية‬ ‫تتوجه نحو �إع ��داد ال �ك �ف��اءات وامل �ه��ارات‬ ‫امل �م �ي��زة يف جم��ال ف��رو��س�ي��ة ال��ق��درة‪ ،‬ما‬ ‫ي�ساعد حمبي هذه الريا�ضة على الو�صول‬ ‫�إىل �أه ��داف� �ه ��م يف امل �� �ش��ارك��ة يف �أك�ب�ر‬ ‫املهرجانات والبطوالت وال�سباقات التي‬

‫يتم تنظيمها على مدار العام ‪.‬‬ ‫جدير بالذكر �أن جلنة التحكيم التي �أ�شرفت‬ ‫على تقييم ومتابعة امل�شاركني يف ال�سباقات‬ ‫ال�ث�لاث��ة ت�شكلت م��ن حم�م��د احل�ضرمي‪،‬‬ ‫وحممد خلفان اليماحي‪ ،‬ونيل �أبراهامز‪،‬‬ ‫ومفتاح احلرا�صي‪ .‬من جانبه �أعرب املدير‬ ‫التنفيذي للأن�شطة النائب الثاين لرئي�س‬ ‫جمل�س الإدارة علي عبد اهلل الرميثي‪ ،‬يف‬ ‫ختام هذه التظاهرة ال�شبابية للقدرة التي‬ ‫ت�ضمنت ال�سباق الت�أهيلي مل�سافة ‪ 40‬كم‬ ‫بت�أهيل عدد كبري من الفر�سان والفار�سات‪،‬‬ ‫عن �سعادته البالغة بحجم امل�شاركة الكبري‬ ‫من جانب كافة ا�سطبالت ال��دول��ة العامة‬ ‫واخل��ا��ص��ة وع��دد م��ن �أن��دي��ة الفرو�سية يف‬ ‫ال��دول��ة‪ ،‬م��ؤك��د ًا على �أن��ه �أم��ر غري م�سبوق‬ ‫وبخا�صة يف جمال ال�سباقات الت�أهيلية‪ ،‬ما‬ ‫يدلل على ب��داي��ة م�شجعة وق��وي��ة للمو�سم‪.‬‬

‫ت�شجيع الريا�ضة الن�سائية‬ ‫�شارك يف ال�سباقات الت�أهيلية الثالثة‬ ‫ع �ل��ى م � ��دار ي ��وم�ي�ن �أك �ث��ر م ��ن ‪40‬‬ ‫فار�سة من خمتلف الأعمار‪ ،‬متيزت‬ ‫منهن دان��ا حممد املطوع ‪ ،‬وجميلة‬

‫�أح �م��د‪ ،‬وع�ل�ي��اء جا�سم امل ��ري‪ ،‬ون��ورا‬ ‫ع �ب��د اهلل �أح �م ��د حم �م��د‪ ،‬وف��اط�م��ة‬ ‫جا�سم املري‪ ،‬و�آنا جوروفيك‪ ،‬وموزة‬ ‫�سليمان ال�صيعري ‪.‬‬

‫وع�بر الرميثي عن ارتياحه مل�شاركة عدد‬ ‫كبري من الفار�سات يف ال�سباقات الثالثة‪ ،‬يف‬ ‫�إطار دعم ريا�ضة القدرة الن�سائية‪ ،‬والت�أكيد‬ ‫على �أهمية �إعداد جيل جديد من الفار�سات‪.‬‬ ‫وقال الرميثي �أن كل هذا النجاح النوعي ما‬ ‫كان ليتحقق بهذه ال�صورة امل�شرفة والقوية‬ ‫لوال دعم ورعاية واهتمام وتوجيهات �سمو‬ ‫ال�شيخ �سلطان ب��ن زاي��د �آل نهيان ممثل‬ ‫�صاحب ال�سمو رئي�س ال��دول��ة رئي�س نادي‬ ‫تراث الإمارات‪ ،‬احلري�ص دوم ًا على تطوير‬ ‫فرو�سية الإم��ارات مبا ين�سجم مع توجهات‬ ‫الدولة بتحقيق الريادة لهذه الريا�ضة على‬ ‫امل�ستوى الدويل‪.‬‬ ‫ويف ختام هذه التظاهرة ال�شبابية للقدرة‬ ‫�أعربت جمموعة من الفار�سات عن �سعادتهن‬ ‫ب��امل���ش��ارك��ة وت�ق��دي��ره��ن للت�سهيالت التي‬ ‫قدمتها �إدارة ن��ادي ت��راث الإم��ارات وقرية‬ ‫ب��وذي��ب‪ ،‬م��ا �أ�سهم يف حتقيق طموحاتهن‬ ‫بالت�أهل وفتح جمال جديد يف ريا�ضة القدرة‬ ‫الن�سائية ‪ ،‬ورفعن ال�شكر والتقدير �إىل �سمو‬ ‫رئي�س النادي على رعايته وتوجيهاته بدعم‬ ‫وتطوير فرو�سية الإمارات‬


‫‪10‬‬

‫الشهر‬

‫الـعــــدد‬ ‫‪158‬‬ ‫ديسمبر‬

‫‪2012‬‬

‫�صورة تذكارية ملنتخب جماعة الإمام حممد بن �سعود �أمام القرية الرتاثية‬

‫وفد طالبي �سعودي يزور‬ ‫القرية الرتاثية بنادي تراث الإمارات‬ ‫�أبوظبي ‪ -‬تراث‬ ‫زار وف��د منتخب جامعة الإم��ام حممد بن‬ ‫�سعود الإ�سالمية يف الريا�ض باململكة العربية‬ ‫ال�سعودية ال�شهر الفائت‪ ،‬القرية الرتاثية‬ ‫التابعة لنادي تراث الإمارات يف منطقة كا�سر‬ ‫الأمواج يف العا�صمة الإماراتية �أبوظبي‪ .‬‬ ‫ا�ستقبل رئي�س ق�سم الأن�شطة ال�شبابية‬ ‫يف ال � �ن� ��ادي �أح� �م���د احل��و���س��ن��ي ال��وف��د‬ ‫الطالبي‪ ‬برئا�سة م�شرف وم��درب منتخب‬ ‫اجل��ام �ع��ة حم�م��د ال�ق�ح�ط��اين‪ ،‬ح�ي��ث ق��دم‬ ‫احلو�سني لهم �شرح ًا تف�صيلي ًا عن معامل‬

‫القرية الرتاثية و�أهدافها و�أه��م ن�شاطاتها‬ ‫وبراجمها ومهرجاناتها ال�سنوية‪.‬‬ ‫ثم ق��ام الطالب بجولة �شملت كافة �أروق��ة‬ ‫وم��راف��ق ال�ق��ري��ة‪ ،‬اطلعوا خاللها على ما‬ ‫�ان ومقتنيات �أث��ري��ة تعك�س‬ ‫حتتويه م��ن م�ب� ٍ‬ ‫روح وح�ضارة الإمارات‪ ،‬كما ا�ستمعوا خالل‬ ‫جولتهم �إىل نبذة تعريفية �شملت تاريخ �إن�شاء‬ ‫القرية و�أهدافها يف �ضوء اهتمام القيادة‬ ‫احلكيمة بدولة الإمارات العربية املتحدة‪ ،‬يف‬ ‫املحافظة على مفردات الرتاث املحلي‪.‬‬

‫‪ ‬ويف ختام ال��زي��ارة تبادلت �إدارة القرية‬ ‫الرتاثية وال��وف��د ال ��دروع التذكارية‪ ،‬وعبرّ‬ ‫حم ّمد القحطاين م�شرف وم��درب الفريق‬ ‫ال�ضيف عن �إعجابه ال�شديد باجلهود الكبرية‬ ‫ملا �شاهده و�أع�ضاء فريق اجلامعة‪ ،‬حيث‬ ‫�أعادتهم معامل القرية الرتاثية �إىل املا�ضي‬ ‫اجلميل‪،‬وبينت لهم مدى التم�سك باملحافظة‬ ‫على تراث الآباء والأجداد‪ ،‬رغم التطور الذي‬ ‫ح�صل يف كل مفا�صل الدولة بهدف احلفاظ‬ ‫على الرتاث الوطني الأ�صيل‬


‫أثناء رحلتهما سير ًا على األقدام للحج‬

‫�سعيد املناعي �أثناء تكرميه للرحالتني‬

‫رحالتان من طاجيك�ستان يزوران نادي تراث الإمارات‬ ‫�أبوظبي – حممود بدر‬

‫بالتعاون والتن�سيق مع حملة الفاروق للحج‬ ‫والعمرة يف العا�صمة الإماراتية �أبوظبي‪،‬‬ ‫ا�ست�ضاف ن��ادي ت��راث الإم��ارات ال�شهر‬ ‫ال �ف��ائ��ت ال��رح��ال �ت�ين ال�ط��اج�ي�ك�ي�ين عبد‬ ‫الرحيم حبيبوف «‪ 65‬عام ًا»‪ ،‬ويعمل موجه ًا‬ ‫تربوي ًا‪ ،‬وعبد العزيز راجابوف «‪ 64‬عام ًا»‬ ‫ويعمل تاجر ًا‪ ،‬يف �إطار الرحلة التي قاما‬ ‫بها عرب ح��دود الإم ��ارات لأداء منا�سك‬ ‫احلج �سري ًا على الأقدام‪ ،‬بعدما عربا من‬ ‫طاجيك�ستان �إىل �أفغان�ستان ثم باك�ستان‬ ‫و�إيران‪ ،‬ومن ثم بحرا �إىل دولة الإمارات‪.‬‬ ‫وكان يف ا�ستقبال الرحالتني مدير �إدارة‬ ‫الأن�شطة يف نادي تراث الإمارات بالإنابة‬ ‫�سعيد ع�ل��ي امل �ن��اع��ي‪ ،‬ح�ي��ث ق� � ّدم لهما‬

‫ومرافقهما عبد الرحيم هزاع احلمادي‬ ‫م��ن حملة ال� �ف ��اروق‪�� ،‬ش��رح� ًا واف �ي � ًا عن‬ ‫م�شاريع وبرامج وخطط النادي املوجهة‬ ‫خلدمة قطاع ال�شباب يف املجاالت الرتاثية‬ ‫والثقافية والريا�ضية وغريها‪ ،‬كما تابع‬ ‫ال�ضيفان فيلم ًا وثائقي ًا عن ال�ن��ادي‪ ،‬ثم‬ ‫ق��ام��ا بجولة يف م��راف��ق �إدارة الأن�شطة‬ ‫ا�ضطلعا خاللها على حمتويات مكتبة‬ ‫امل�صادر واملعلومات وال�صاالت الريا�ضية‬ ‫املخ�ص�صة ملمار�سة الريا�ضات املختلفة‪.‬‬ ‫ويف كلمته الرتحيبية‪� ،‬أ�شاد املناعي مببادرة‬ ‫الرحالتني بالو�صول �إىل مكة املكرمة عرب‬ ‫الإم� ��ارات ��س�ير ًا على الأق� ��دام‪ ،‬م��ؤك��دا �أن‬ ‫النادي حري�ص على دعم وت�شجيع مثل هذه‬

‫املبادرات‪ ،‬خا�ص ًة �إذا كانت مقرتنة ب�أهداف‬ ‫�إن�سانية �سامية‪ .‬فيما وجه ال�ضيفان ال�شكر‬ ‫والتقدير �إىل �إدارة ن��ادي ت��راث الإم��ارات‬ ‫على ح�سن ال�ضيافة واال�ستقبال‪ ،‬وتعريفهما‬ ‫بجوانب خمتلفة من ت��راث الإم ��ارات‪� ،‬إىل‬ ‫جانب دع��م الن�شاطات الريا�ضية وقطاع‬ ‫ال���ش�ب��اب و�أك � ��دا �أن �ه �م��ا ل�ق�ي��ا ك��ل ال��دع��م‬ ‫والرتحيب من �شعب الإمارات امل�ضياف مما‬ ‫كان له �أثر بالغ على جناح رحلتهما‪.‬‬ ‫ويف ختام الزيارة �أهدى املناعي للرحالتني‬ ‫الطاجيكيني كتاب «زاي��د رحلة يف �صور»‪،‬‬ ‫ك�م��ا ق ��دم لهما درع ��ا ت��ذك��اري��ة تعبري ًا‬ ‫وتقدير ًا لرحلتهما �إىل الأرا�ضي املقد�سة‬ ‫عرب الإمارات‬


‫ ‬

‫‪12‬‬ ‫الـعــــدد‬ ‫‪158‬‬ ‫دي�سمرب‬ ‫‪2012‬‬

‫ ‬

‫عبق‬ ‫عبق‬

‫ألف رحمة‬ ‫على سيف‬ ‫الدين قطز‬

‫تنتهي‬

‫ب � � �ط� � ��والت وم �ل�اح� ��م‬ ‫الأف ��ا�� �ض ��ل م ��ن خ �ي��ار‬ ‫ال�سالطني‪ ،‬وامل�ل��وك‪� ،‬إىل امل�أ�ساة‪ ،‬وكلما‬ ‫طافوا‪ ،‬وخايلوا القرون‪ ،‬ذكر النا�س �سريهم‬ ‫بحزن‪ ،‬وترحموا عليهم بالدعوات‪ ،‬وفي�ض‬ ‫من حنني‪ ،‬ورفعوا �أياديهم حيث رحمة اهلل‪،‬‬ ‫ودعوا لهم باملغفرة‪.‬‬ ‫اخل��وارزم��ي الفا�ضل ال��ذي ج��اء من بالد‬ ‫ف��ار���س‪ ،‬وارث� � ًا امل�ل��ك‪ ،‬خ��ارج � ًا م��ن عظمة‬ ‫�سلطنة‪� ،‬إىل رق العبودية‪ .‬بيع �صبي ًا‪ ،‬وا�ستقر‬ ‫به احل��ال يف رق اب��ن الزعيم ال��ذي لطمه‬ ‫لطمة يوم ًا على وجهه‪ ،‬فبكى بكاء مر ًا‪ ،‬كمن‬ ‫ي�شكو زمانه‪ ،‬و�أحواله‪ ،‬قيل له يومها «من‬ ‫لطمة واح��دة‪ ،‬تبكي ه��ذا البكاء»؟! فقال‬ ‫«�إمنا �أبكي من لعنة �أبي وجدي وهما �أف�ضل‬ ‫منه» فقل ل��ه‪« :‬وم��ن أ�ب��وك وج��دك‪ ،‬وهما‬ ‫من الن�صارى» قال «بلى‪� ،‬إمنا �أنا م�سلم بن‬ ‫م�سلم‪ ،‬كان ا�سمي حممود بن ممدود ابن‬ ‫�أخت خوارزم �شاه‪ ،‬من �أوالد ملوك ال�شرق‪،‬‬ ‫و�أمن��ا �أخ��ذوين من جملة �سبايا الترت‪ ،‬ملا‬ ‫وقعت الك�سرة عليهم»‪.‬‬ ‫بيع للرق والعبودية طف ًال‪ ،‬عا�ش منذ طفولته‬ ‫ال ير�ضى الدنية‪ ،‬ا�سمه حممود بن ممدود‬ ‫ب��ن خ���وارزم � �ش��اه‪ ،‬ول�ق��ب ب�سيف ال��دي��ن‪.‬‬ ‫�أ�شقر‪ ،‬كث اللحية‪ ،‬وكان بيا�ض وجهه مثل‬ ‫�أهله‪ .‬بط ًال‪� ،‬شجاع ًا‪ ،‬عف ًا عن املحارم‪،‬‬ ‫مرتفع ًا عن ال�صغائر‪.‬‬ ‫�سعيد الكفراوي �أمر قطز �أن يكون واحد ًا من مماليك جنم‬ ‫الدين �أيوب‪ ،‬هو و�صديقه الظاهر بيرب�س‪،‬‬ ‫وه �م��ا م��ن ج��اب��ه ال�صليبيني يف معركة‬ ‫املن�صورة حيث �أ�سر ملك ال�صليبيني و�سجن‬ ‫يف بيت لقمان‪ .‬وكانت موقعة ذات �ش�أن‪،‬‬ ‫وعالمة يف تاريخ امل�سلمني‪.‬‬ ‫ً‬ ‫حينما كان عز الدين �أيبك نائبا لل�سلطانة‬

‫��ش�ج��رة ال ��در وزوج��ه��ا‪ ،‬ع�ين ق�ط��ز نائب ًا‬ ‫لل�سلطنة‪ .‬وبعد مقتل �أيبك و�شجرة الدر‬ ‫توىل ولده الطفل املن�صور نور الدين علي‪،‬‬ ‫و�أ�سندت و�صايته لقطز حتى يبلغ ال�سلطان‬ ‫ال�صغري عمر‪15‬عام ًا‪.‬‬ ‫ك��ان يف احلقيقة قطز هو من يدير حكم‬ ‫البالد‪ .‬وهو الذي ت�صدى جلموح الأمراء‪،‬‬ ‫وط �م��وح �ه��م‪ ،‬و�سعيهم ل�لا��س�ت�ي�لاء على‬ ‫ال�سلطة‪ ،‬وانتزاعها من ال�سلطان الطفل‪،‬‬ ‫وواجههم عندما �شجعوا الأيوبيني على غزو‬ ‫م�صر‪� ،‬أولئك الذين دحرهم‪ ،‬وردهم على‬ ‫�أعقابهم‪.‬‬ ‫تنتظم الأم��ور على �أر���ض الكنانة‪ ،‬ويرتب‬ ‫�سيف الدين قطز �ش�ؤون البالد فيما امللك‬ ‫الطفل ميار�س هواياته‪ :‬مناقرة الديوك‪،‬‬ ‫تارك ًا لأم��ه ال�سلطانة حتريك الأم��ور من‬ ‫خلف ال�ستار‪ .‬مع الوقت‪ ،‬وتطور الأح��وال‪،‬‬ ‫ومداومته عبث الغالم ب�أفعاله املتناق�ضة‪،‬‬ ‫ر�أى قطز والأمراء �أن حكم طفل يجل�س على‬ ‫العر�ش ي�ضعف هيبة الدولة‪ ،‬ويزعزع ثقة‬ ‫النا�س‪ ،‬ويقوي من عزمية الأعداء‪.‬‬ ‫كانت �أح ��وال ال�ب�لاد الإ�سالمية ال ت�سر‪،‬‬ ‫واالنهيارات يف تتابع‪ ،‬و�سقوط بغداد على يد‬ ‫التتار‪ ،‬واختالل الأمن يف الدولة على مدى‬ ‫ث�لاث �سنوات‪ ،‬جعلت قطز يختار القرار‬ ‫اجلريء‪ ،‬وهو عزل ال�سلطان نور الدين علي‬ ‫واعتالئه عر�ش م�صر‪ ،‬يف عام ‪657‬هـ‪� ،‬أي‬ ‫قبل و�صول هوالكو الترتي �إىل حلب ب�أيام‪.‬‬ ‫كانت الأيام �صعبة حني توىل قطز احلكم‪،‬‬ ‫وكانت ت�أتيه مناو�شات التتار‪ ،‬و�إ�شاراتهم‬ ‫ذات املعنى‪ .‬و�أزم��ة اقت�صادية تعم البالد‬ ‫وال �ع �ب��اد‪ .‬وط�م��ع ال�ع��دي��د م��ن الأم� ��راء يف‬ ‫احلكم‪ .‬و�سوء الأح��وال يف الداخل‪ ،‬ب�سبب‬ ‫احلروب ال�صليبية التي مل تنقطع فلولها‪.‬‬


‫بد�أ قطز معاجلة الأزمة االقت�صادية بفر�ض‬ ‫ال�ضرائب ل��دع��م اجلي�ش وجت�ه�ي��زه عدة‬ ‫وعتاد ًا‪ ،‬ت�صالح مع املماليك البحرية‪ .‬مد‬ ‫اجل�سور مع �أهل ال�شام‪ ،‬ومن ثم حيدهم‪.‬‬ ‫يف ال��وق��ت ال��ذي ك��ان فيه ال�سلطان يبني‬ ‫جي�شه‪ ،‬ج��اءت �أخ �ب��ار ب �غ��داد‪ ،‬بالهزمية‪،‬‬ ‫وامل�ح��و‪ ،‬و�إح ��راق عا�صمة اخل�لاف��ة‪ ،‬وغزو‬ ‫التتار للعراق خرب ًا مداهم ًا‪ .‬يف نف�س الوقت‬ ‫ح�ضر �إىل �أب ��واب م�صر‪ ،‬يف ي��وم ال�سبت‬ ‫خام�س �صفر �سنة ثمان وخم�سني و�ستمائة‬ ‫قا�صد ه��والك��و كتبغا م��ع وف��د م��ن التتار‪،‬‬ ‫حام ًال كتاب هوالكو �إىل �سلطان م�صر‪.‬‬ ‫ك��ان الكتاب دع��وة للحرب‪ ،‬واال�ست�سالم‪،‬‬ ‫متهيد ًا لغزو ال �ب�لاد‪ ،‬وك��ان م�ت�ج��اوز ًا كل‬ ‫احلدود‪ ،‬ال يقبل به �إال العبيد‪.‬‬ ‫جاء اخلطاب هكذا‪ :‬من ملك امللوك �شرقاً‬ ‫وغ��رب�� ًا‪ .‬تعلم �أم�ي�ر ال ��ذي ه��و م��ن جن�س‬ ‫املماليك الذين هربوا من �سيوفنا‪.‬‬ ‫ثم يعدد اخلطاب طلباته امل�ستحيلة‪� :‬أن‬ ‫ي�سلم �سلطان م�صر و�أمرا�ؤها �أمرهم للتتار‪،‬‬ ‫و�أن��ه اذا فتحت البالد فعلى �أهلها الهرب‬ ‫فلي�س لهم من �سيوفهم خال�ص‪ .‬ثم توا�صل‬ ‫الر�سالة غرورها‪ ،‬وغطر�ستها فتقول‪ :‬لقد‬ ‫ثبت �أنا نحن الكفرة‪ ،‬و�أنتم الفجرة‪ ،‬ولقد‬ ‫�سلطنا عليكم من بيده الأمور فا�سرعوا برد‬ ‫اجلواب قبل �أن تقرتب احلرب نارها‪.‬‬ ‫جمع قطز القادة والأم��راء‪ ،‬و�أطلعهم على‬ ‫الر�سالة‪ ،‬فتخاذل بع�ض الأمراء‪ ،‬وكان من‬ ‫ر�أيهم اال�ست�سالم للتتار‪.‬‬ ‫واجه قطز الأمر بال�شدة والعنف‪ ،‬وقال وهو‬ ‫يبكي «من للإ�سالم �إن مل نكن نحن»‪.‬‬ ‫ثم نه�ض‪ ،‬وجز �أعناق ر�سل التتار الأربعة‬ ‫والع�شرين‪ ،‬و�أبقى على اخلام�س والع�شرين‬ ‫ليحمل �أج�ساد ر�سل ال�شيطان هوالكو‪.‬‬

‫وعلى �شاطئ النيل ت�ضاء الفواني�س‪ ،‬والوطن‬ ‫ال مفر من املواجهة‬ ‫جحافل ق��ادم��ة‪ ،‬منت�صرة‪� ،‬سافكة للدم‪ ،‬يرتدي ثوب فرحة يوم االنت�صار العظيم‪.‬‬ ‫يدفعها انت�صارها للغزو والفتوح‪.‬‬ ‫بغداد وقد احرتقت‪ .‬و�صوت ال�سيوف‪ ،‬ورمح للقدر �أحكامه‪ ،‬وللغيب �سرت �أبوابه‬ ‫اجلياد يف وعي �سلطان امل�سلمني مثل دعوة وال�سلطان املنت�صر يحب ال�صيد وميار�سه‪...‬‬ ‫للموت‪ ،‬و�إح�سا�سه بامل�س�ؤولية يقوي من يتيه بجواده عرب �صحراء بلبي�س قريب ًا من‬ ‫عزميته‪ .‬جياد مطهمة‪ ،‬و�سيوف م�شرعة‪« ،‬ال�صاحلية» عائد ًا �إىل وطنه‪ ،‬على هامته‬ ‫و�أج�ن��اد ال تعرف الرحمة‪ .‬جي�ش م�صر ال ال�شعر‪:‬‬ ‫ميلك �إال �إميانه بالدفاع عن وطنه‪ ،‬واملوت غلب التتار على البالد فجاءهم‬ ‫م� ��ن م �� �ص��ر ت ��رك ��ي ي� �ج ��ود ب�ن�ف���س��ه‬ ‫للدفاع عن الدين والوطن �شهادة هلل‪ ،‬واملوت‬ ‫آ�خ��ر املطاف الطريق �إىل اجلنة‪ .‬وكانت ب��ال �� �ش��ام �أه �ل �ك �ه��م وب � ��دد �شملهم‬ ‫ول� � �ك � ��ل �� � �ش � ��يء �آف� � � � ��ة م� � ��ن ج �ن �� �س��ه‬ ‫«ع�ين ج��ال��وت»‪ ،‬مثل «ح �ط�ين»‪ ،‬معركتني‬ ‫تو�أمتني يف تاريخ �أم��ة اال��س�لام‪ ،‬متوجتني‬ ‫بالن�صر وال�شهادة‪ .‬كان الفار�س �سيف الدين بد�أ بيرب�س يتغري‪ ،‬ويحل بعد الوالء الكراهية‪،‬‬ ‫قطز ي��راق��ب امل�ع��رك��ة‪ ،‬ويخطط جل�ن��وده‪ ،‬طلب والية حلب‪ ،‬ف�أجل ال�سلطان الأمر‪ ،‬كان‬ ‫ويدعم �أجنحة اجلي�ش‪ ،‬و�شيوخ الأزه��ر يف يخفي عن بيرب�س �أنه �سوف ي�سرتيح ويهبه‬ ‫�سلطنة م�صر‪ ،‬توغل �أم ��راء املماليك يف‬ ‫دعوة قائمة هلل عند كل �أذان‪.‬‬ ‫نزل قطز بنف�سه‪ ،‬راحم ًا بجواده �إىل ميدان كراهيتهم لقطز‪.‬‬ ‫املعركة‪ ،‬ي�صول ويجول حتى ا�صطاد جواده انتهز اجلميع فر�صة مطاردته ل�صيده‪،‬‬ ‫�سهم م��ن ��س�ه��ام ال �ع��دو‪ ،‬ف�ق��ات��ل راج�ل ً�ا ورحموا ناحيته‪ .‬بدا بيرب�س كانه يود تقبيل‬ ‫فانزعج الأمراء‪ ،‬والموه خوف ًا عليه‪ ،‬وعلى يد ال�سلطان‪� ،‬شاكر ًا له عطيته‪ ،‬جارية من‬ ‫بنات الترت‪ .‬مد قطز ي��ده فجذبه بيرب�س‬ ‫م�صري دولة تقاتل‪.‬‬ ‫�أجابهم‪ ،‬و�سيفه م�شرع يقطر دم ًا‪�« :‬أما �إن و�ضربه بال�سيف‪ ،‬وتتابعت �ضربات الأمراء‪.‬‬ ‫كنت �أروح فللجنة‪ ،‬و�أما الإ�سالم فله رب ال وحني �أجهزوا عليه عادوا �إىل الوطاق وجل�س‬ ‫ي�ضيعه»‪ .‬انك�سر التتار‪ ،‬وهزموا �أكرب هزمية بيرب�س على مرتبة ال�سلطنة التي قال عنها‬ ‫يف تاريخهم‪ ،‬وول��غ امل�سلمون يف دمائهم‪� ،‬شيخ امل�ؤرخني ابن �إيا�س «�إن بيرب�س �أخذها‬ ‫قتلى‪ ،‬و�أ�سرى‪ ،‬ومغامن‪ .‬كانت معركة حمت باليد»‪.‬‬ ‫ال�شرق و�أوروبا من همجية الغازي‪ ،‬الطامع‪ .‬وعلى رمل ال�صحراء رقد ج�سد رجل �شريف‬ ‫جلل جهاد قطز باالنت�صار‪ ،‬وانتهى من – له املجد‪ -‬ي�شرب الرمل دمه‪ ،‬وهناك يف‬ ‫قلب البالد‪ ،‬يف م�صر املحرو�سة‪ ،‬وقد علم‬ ‫التتار‪ ،‬وحرر ال�شام‪ ،‬وقفل راجع ًا مل�صر‪.‬‬ ‫�أه��ل الكنانة ه�ن��اك‪ ،‬وق��د علموا بالن�صر �أهلها ما جرى ل�سلطان امل�سلمني من غدر‪،‬‬ ‫امل ��ؤزر‪ ،‬يرفعون الرايات‪ ،‬ويدقون الطبول‪ ،‬ودن ��اءة‪ ،‬وخيانة‪ ،‬فقد �أط�ف��أوا امل�صابيح‪،‬‬ ‫فيما تلعلع امل��زام�ير ب�أغنيات الن�صر يف و�صمتت املو�سيقى‪ ،‬وانزلت الزينات‪ ،‬حزن ًا‬ ‫انتظار عودة املنت�صر‪ .‬يف امليادين وال�ساحات على قطز اجلليل‬


‫المرصد‬ ‫‪14‬‬ ‫الـعــــدد‬ ‫‪158‬‬ ‫ديسمبر‬

‫‪2012‬‬

‫ال�شيخ هزاع بن زايد �آل نهيان يتفقد امل�شغوالت اليدوية‬

‫‪ 400‬فنان يبهرون العامل ب�إبداعاتهم‬

‫السعديات تحتضن‬ ‫«فن أبوظبي» ‪2012‬‬ ‫�أبوظبي ‪ -‬فاطمة عطفة‬

‫اختتمت يف �أبوظبي ال�شهر الفائت فعاليات معر�ض «فن �أبوظبي ‪ ،»2012‬الذي‬ ‫احت�ضنته منارة ال�سعديات الثقافية ملدة ‪� 4‬أيام‪ ،‬حتت رعاية الفريق �أول �سمو ال�شيخ‬ ‫حممد بن زايد �آل نهيان ويل عهد �أبوظبي نائب القائد الأعلى للقوات امل�سلحة‪.‬‬


‫ال�شيخ نهيان وهدى كانو والفنانة عزة القبي�سي‬

‫وكان قد افتتح املعر�ض يف دورته لهذا العام‪،‬‬ ‫وهي الدورة الرابعة‪� ،‬سمو ال�شيخ هزاع بن زايد‬ ‫�آل نهيان م�ست�شار الأمن الوطني نائب رئي�س‬ ‫املجل�س التنفيذي لإم��ارة �أبوظبي‪ ،‬يف ح�ضور‬ ‫رئي�س املجل�س الوطني االحتادي حممد �أحمد‬ ‫املر‪ ،‬وال�شيخ �سلطان بن طحنون �آل نهيان رئي�س‬ ‫جمل�س �إدارة هيئة �أبوظبي لل�سياحة والثقافة‪،‬‬ ‫وم�ع��ايل ال��دك�ت��ور �أن ��ور حممد قرقا�ش وزي��ر‬ ‫الدولة لل�ش�ؤون اخلارجية‪ ،‬ومدير هيئة �أبوظبي‬ ‫لل�سياحة والثقافة مبارك حمد املهريي‪.‬‬ ‫�ضم امل�ع��ر���ض �أك�ث�ر م��ن ‪ 50‬م�شاركة لأه��م‬ ‫�صاالت العر�ض الفنية يف العامل‪ ،‬متثلت يف‬ ‫�أعمال نحو ‪ 400‬فنان‪ ،‬وحظي املعر�ض بح�ضور‬ ‫نخبة من كبار الفنانني العامليني الذين �شاركوا‬ ‫يف الأن�شطة املرافقة للحدث‪.‬‬ ‫ً‬ ‫ا�ستقطبت ال��دورة �أي�ض ًا �أع��دادا متزايدة من‬ ‫مقتني الأعمال الفنية وممثلي املتاحف‪ ،‬ما‬ ‫ي�شري �إىل املكانة املرموقة والأهمية البالغة التي‬ ‫باتت حتتلها �أبوظبي كمنارة ثقافية و�إبداعية‬ ‫يف املنطقة‪.‬‬

‫عمالقة الإبداع‬

‫ام�ت��ازت م�شاركة ال�صاالت الفنية احلديثة‬ ‫واملعا�صرة بعر�ض �أعمال مهمة ملبدعني من‬ ‫كبار فناين ال�ق��رن الع�شرين يف ال�ع��امل من‬ ‫�أمثال بابلو بيكا�سو‪ ،‬و�ألك�سندر كالدر‪ ،‬و�سام‬ ‫فران�سي�س‪ ،‬وخوان مريو‪ ،‬ول�ؤي كيايل‪ ،‬و�شفيق‬

‫عبود‪� ،‬إ�ضاف ًة �إىل �أعمال لفنانني �آخرين من‬ ‫�أم �ث��ال روب ��رت رو��ش�ن�ب�يرغ‪ ،‬وح�سن �شريف‪،‬‬ ‫و�إيتيل عدنان‪ ،‬وجيف كونز‪ ،‬وفرهد مو�شريي‪،‬‬ ‫وريت�شارد ��س�يرا‪ ،‬وي��اي��وي كو�ساما‪ ،‬ور�شيد‬ ‫قري�شي‪ ،‬و�سلوى رو�ضة �شقري‪ ،‬ووائ��ل �شوقي‪.‬‬ ‫ومن الفنانني الذين عر�ضت �أعمالهم وكانوا‬ ‫من ال�ضيوف احلا�ضرين كل من غادة عامر‪،‬‬ ‫و�أني�ش كابور‪ ،‬و�سوبود جوبتا‪ ،‬وبهارتي خري‪،‬‬ ‫وتيموثي نوبل و�سو ويب�سرت‪ ،‬وعبدالنا�صر غارم‪،‬‬ ‫وحممد كاظم‪� .‬ضم املعر�ض خيمة الكرا�سي‬ ‫وه��و عمل تركيبي «كرا�سي �أب��و ظبي» للفنان‬ ‫الياباين تادا�شي كاوماتا‪ ،‬والقى �إعجاب العديد‬ ‫من ال��زوار الذين جل�سوا يف داخلها و�أخ��ذوا‬ ‫�صور تذكارية مع العمل الرتكيبي الذي امتاز‬ ‫بالدقة واملتانة‪ ،‬وهو ي�شبه من اخل��ارج �شكل‬ ‫قبة‪ ،‬ويف داخلة ميكن �أن يكون غرفة �صاحلة‬ ‫للجلو�س‪ ،‬وق��د ا�ستقبلت اخليمة العديد من‬ ‫الزائرين كما �شهدت ندوات تعليمية للأطفال‪.‬‬

‫مهارات تقليدية‬

‫ت�ضمن الربنامج العام املرافق لهذا املو�سم‬ ‫ق�سم ًا مو�سع ًا للت�صميم‪ ،‬حيث ج��رى تقدمي‬

‫الصاالت الفنية الحديثة‬ ‫والمعاصرة عرضت‬ ‫أهم أعمال كبار فناني‬ ‫القرن العشرين في‬ ‫العالم‬

‫وعر�ض باقة متنوعة من الأن�شطة اجلديدة‬ ‫والت�صاميم الع�صرية املبتكرة والتقنيات‬ ‫احلرفية‪ ،‬وذل��ك احتفاء باملهارات التقليدية‬ ‫والتفكري املتطلع �إىل ال�ت�ج��دي��د‪ .‬كما �ضم‬ ‫الق�سم �أع �م��ال ت�صميم م�ستوحاة م��ن فن‬ ‫«اخل ��و� ��ص» �سعف ال�ن�خ�ي��ل وال �ت �ط��ري��ز‪ ،‬ومت‬ ‫ت�صميم و�صنع هذه الأعمال الفنية مب�شاركة‬ ‫ع��دد م��ن احل��رف�ي��ات الإم��ارات �ي��ات‪ ،‬وان�ضم‬ ‫الفنان يوبيك املقيم يف دولة الإمارات لإجناز‬ ‫بع�ض الت�صاميم اخلا�صة وتنظيم العديد من‬ ‫الور�شات الإبداعية املتنوعة لتدريب حمبي‬ ‫هذه الفنون التقليدية‪ ،‬وتناول كل من الفنان‬ ‫دي ��ان ��س��ودج�ي��ك‪ ،‬م��دي��ر متحف الت�صميم‬ ‫بالعا�صمة الربيطانية لندن‪ ،‬وامل��ؤل��ف غلني‬ ‫�آدام�سن باحلديث عن دور احلرف املبدعة يف‬ ‫الفن والت�صميم‪ ،‬و�ساهم امل�صمم �ستيوارت‬ ‫هايغارث كذلك ب�أعمال فنية �أخرى‪.‬‬

‫ندوات وعرو�ض‬

‫وحوى املعر�ض العديد من الفعاليات الفكرية‬ ‫والثقافية‪ ،‬وجاءت جل�سات احلوار التي �شارك‬ ‫فيها م��ا ال يقل ع��ن ع�شرين حم ��اور ًا‪ ،‬حيث‬ ‫�ضمت نخبة م��ن �أه��م الفنانني واملعماريني‬ ‫وامل�صممني و�أ��ص�ح��اب ��ص��االت ال�ع��ر���ض يف‬ ‫ال�ع��امل‪ ،‬قاموا بتقدمي ملحات من جتاربهم‪،‬‬ ‫ومنهم اثنان من �أ�شهر الفنانني املعا�صرين‬ ‫هما ب��ارت��ي ك�ير و��س��وب��ود جوبتا‪ ،‬وث�لاث��ة من‬


‫المرصد‬ ‫‪16‬‬ ‫الـعــــدد‬ ‫‪158‬‬ ‫ديسمبر‬

‫من حيث جغرافيتها وطبيعتها وكنوزها الدفينة‬ ‫وحيواناتها وما فيها من �أ�شجار و�أزهار‪ ،‬حيث‬ ‫�أعاد الفنانون متثيلها ب�أعمال تركيبية �شكلت‬ ‫مزيج ًا رمزي ًا جمي ًال من �إبداع اخليال والواقع‪،‬‬ ‫وم��ن ه� ��ؤالء الفنانني �أني�ش ك��اب��ور‪ ،‬وعبا�س‬ ‫�أخ��اف��ان‪ ،‬وكاميلي هيرنوت‪ ،‬وفابري�س هايري‬ ‫وكميل زخريا‪.‬‬

‫‪2012‬‬

‫طاقة روحانية‬

‫لوحة الع�شاء للفنانة اليازية �آل نهيان‬

‫�أب��رز املعماريني املعروفني على م�ستوى العامل‬ ‫واحلا�صلني على «جائزة بريتزكر املعمارية» مبن‬ ‫يف ذل��ك فرانك ج�يري وج��ان نوفيل ونورمان‬ ‫فو�سرت الذين �شاركوا يف جل�سة نقا�ش بعنوان‬ ‫«عمالقة الفن املعماري»‪ ،‬و�أدار اجلل�سة �سعيد‬ ‫الهاجري‪� ،‬إ�ضاف ًة �إىل م�شاركة رائدة العرو�ض‬ ‫الأدائية مارينا �أبراموفيت�ش التي تزور الإمارات‬ ‫واملنطقة للمرة الأوىل‪ ،‬وكان لعرو�ضها الفنية يف‬ ‫ال�صوت واحلركات الإميائية ت�أثري ممتع وخا�ص ًة‬ ‫يف �أبعادها ال�صوفية والروحانية التي �أ�شارت‬ ‫فيها �إىل ت�أثرها ب�أ�شعار جالل الدين الرومي‪.‬‬

‫الشيخة اليازية بنت‬ ‫نهيان بن مبارك آل‬ ‫نهيان شاركت ألول مرة‬ ‫بلوحتين تجريديتين‬ ‫حملتا عنوان «الظهر»‬ ‫و«العشاء» وهما تعبران‬ ‫عن الطاقة الروحانية‬ ‫النابعة من أثر السجود‬ ‫في الصالة‬

‫اجلزيرة‪ ..‬لعبة احلياة‬

‫يف لعبة ت�شتمل على جمموعة من االختيارات‬ ‫التي �أتاحت لهم ا�ستك�شاف �أ�شكال خمتلفة‬ ‫من اخل�برات احلياتية واال�ستمتاع بالعرو�ض‬ ‫والأعمال الفنية التفاعلية والتجهيزات التي‬ ‫قام ب�أدائها فنانون معا�صرون �شاركوا جميع ًا‬ ‫يف ت�شكيل م�شهد رمزي جميل جلزيرة �أبو ظبي‬

‫«اجلزيرة»‬

‫�شهدت تلك ال��دورة افتتاح جناح‬ ‫ب�إ�شراف املن�سق الفني فابري�س بو�ستو‪ ،‬وهي‬ ‫منطقة تخيلية تقع و�سط منارة ال�سعديات‬ ‫وت�شكل عامل ًا غريب ًا ت�سوده �أج��واء من البهجة‬ ‫والفرح‪،‬حيثجريدعوةزواراملعر�ضللم�شاركة‬

‫جاءت م�شارك ال�شيخة اليازية بنت نهيان‬ ‫ب��ن م �ب��ارك �آل نهيان لأول م��رة بلوحتني‬ ‫جتريديتني بعنوان «الظهر» و«الع�شاء» وهما‬ ‫تعربان عن الطاقة الروحانية النابعة من‬ ‫�أث��ر ال�سجود يف ال���ص�لاة‪ .‬وج��اء التعبري‬ ‫الفني ع��ن ذل��ك ح��اف� ً‬ ‫لا ب ��أل��وان وتفا�صيل‬ ‫معربة عن مكنونات ه��ذه الطاقة وتركت‬ ‫للمتلقي احل��ري��ة يف ق��راءت �ه��ا وحتليلها‪،‬‬ ‫وت�ع��د ه��ذه الأع �م��ال ج ��زء ًا م��ن املجموعة‬ ‫اجل��دي��دة التي �أجنزتها ال�شيخة اليازية‬ ‫م�ؤخر ًا‪ ،‬وتعك�س مفاهيم فل�سفية عن الفن‬ ‫واحل �ي��اة‪ .‬وعر�ضت اللوحتان يف جالريي‬ ‫�آرت �سبي�س‪ ،‬دار الفنون املعا�صرة‪ ،‬التي‬ ‫�ضمت �أي�ض ًا جمموعة من الأعمال املختارة‬ ‫ج� ��اءت حت��ت ع��ن��وان «ال� �ب ��داي ��ة»‪ .‬وم�ن�ه��ا‬ ‫�أعمال للفنان املعروف عمر النجدي من‬ ‫جمموعتيه الفريدتني «الأ ِل ��ف» و«الكعبة»‪،‬‬ ‫�إىل ج��ان��ب �أع��م��ال مل �ب��دع اخل ��ط ال �ك��ويف‬ ‫اخل�ط��اط امل�ح�ترف منري ال�شعراين‪ .‬كما‬ ‫�ضمت املجموعة �أعما ًال فريدة لفنانني مثل‬ ‫�سمرية علي خانزاده ولولوه احلمود و�أوزان‬ ‫وديفرمي �إربيل‪.‬‬ ‫تتميز جمموعة «ال �ب��داي��ة» بتنوعها حيث‬ ‫ع��ر��ض��ت �أع��م��ا ًال ل�ف��ن اخل��ط والتج�سيم‬ ‫والت�صاميم املتناغمة والأ�شكال الهند�سية‬ ‫الإ��س�لام�ي��ة‪ .‬ه��ذه املجموعة املنتقاة هي‬ ‫م��زي��ج ب�ي�ن روح ال �ف��ن امل �ع��ا� �ص��ر وج ��ذور‬ ‫التقاليد الإ�سالمية والعربية مع نفحات‬ ‫معربة من الأبجدية العربية‪ ،‬حيث ركزت‬ ‫الأع�م��ال على الكلمات واحل��روف العربية‬ ‫مبا فيها �أ�سماء اهلل احل�سنى الـ ‪ 99‬و�آيات‬ ‫من القر�آن الكرمي‪.‬‬


‫فن للنا�شئني‬

‫�أقيم كذلك حتت رعاية �سمو ال�شيخة �سالمة‬ ‫بنت حمدان بن حممد �آل نهيان حرم الفريق‬ ‫�أول �سمو ال�شيخ حممد بن زايد �آل نهيان ويل‬ ‫عهد �أبوظبي نائب القائد الأعلى للقوات امل�سلحة‬ ‫ركن ا�ست�ضاف �أعمال الفنانني النا�شئني يف‬ ‫«ح��وار ال�ف��ن»‪ ،‬وذل��ك كجزء من معر�ض «فن‬ ‫�أبوظبي»‪ ،‬وهذه اال�ست�ضافة جاءت بعد جناح‬ ‫املعر�ض املتجول ل �ه ��ؤالء الفنانني اخلم�سة‬ ‫بعنوان «بني اخلا�ص والعام» يف مراكز الت�سوق‬ ‫يف جميع �أنحاء �إم��ارة �أبوظبي‪ ،‬و�أطلقت هذا‬ ‫املعر�ض م�ؤ�س�سة ال�شيخة �سالمة بنت حمدان‬ ‫�آل نهيان �ضمن مبادرة «الفن للجميع» التي‬ ‫تهدف �إىل ت�أ�سي�س من�صة متكاملة للتوا�صل‬ ‫والتفاعل مع اجلمهور �سعي ًا لت�شجيع الفنون‬ ‫و�أ�صحاب املواهب يف الدولة وحثهم على تطوير‬ ‫مهاراتهم وكفاءاتهم‪ .‬والفنانون امل�شاركون هم‬ ‫عليا لوتاه‪ ،‬دانة �سيف املزروعي‪ ،‬حمدان بطي‬ ‫ال�شام�سي‪ ،‬ميثاء دمييثان‪ ،‬و�شم�سة العمرية‪.‬‬ ‫وا�ستعر�ض ه�ؤالء الفنانون خربتهم من خالل‬ ‫عر�ض �أعمالهم يف املعر�ض‪.‬‬

‫رواق الفن الإماراتي‬

‫و�ضمن امل�شاركات الفنية عر�ضت جمموعة‬ ‫�أبوظبي للثقافة والفنون من�صة متميزة لأعمال‬ ‫متنوعة من الفن احلديث واملعا�صر والت�صميم‪،‬‬ ‫جمعت �أرقى �صاالت العر�ض الفنية من جميع‬ ‫دول العامل‪ ،‬كما جاءت هذه امل�شاركة احتفاء‬ ‫باملواهب الفنية يف ال��دول��ة من خ�لال تفعيل‬ ‫برنامج مبادراتها وفعالياتها التي ت�ضمنت‬ ‫«رواق ال�ف��ن الإم ��ارات ��ي» وج��ائ��زة «كري�ستو‬ ‫وجان كلود» التي انطلقت م�ؤخر ًا بالتعاون بني‬ ‫جمموعة �أبوظبي للثقافة والفنون وجامعة‬ ‫نيويورك �أبوظبي والفنان كري�ستو‪ ،‬بهدف‬ ‫�إبراز �أهمية الفنون يف التنمية املجتمعية �ضمن‬ ‫فعاليات املجموعة التي تنظمه املجموعة �سنوي ًا‪،‬‬ ‫و�سوف يحتفل العام القادم بالذكرى العا�شرة‬ ‫لت�أ�سي�سه‪.‬‬ ‫ا�ستعر�ضت املجموعة بالتعاون م��ع الفنان‬ ‫العاملي كري�ستو م�شروع ًا خا�ص ًا ب�إمارة �أبوظبي‬

‫لوحة الكرا�سي للفنان الياباين «كاواماتا»‬

‫هو م�شروع «امل�صطبة»‪ ،‬وهو عبارة عن جم�سم عالمات فارقة‬

‫تركيبي فني بارتفاع ‪ 150‬م�تر ًا‪ ،‬عمل كل من‬ ‫الفنان كري�ستو وزوجته الراحلة جان كلود على‬ ‫إ�جن ��ازه منذ زيارتهما الأوىل لأبوظبي عام‬ ‫‪ ،1977‬حيث �أقيمت يف املعر�ض «م�صطبة»‬ ‫�ضخمة ب�شكل هرمي كان ي�ستخدم يف الع�صر‬ ‫الفرعوين من قبل قدماء امل�صريني‪ ،‬كما مت‬ ‫عر�ض كتاب امل�صطبة يف اجلناح‪ ،‬وهو كتاب‬ ‫توثيقي ي�سلط ال�ضوء على تفا�صيل وجماليات‬ ‫هذا امل�شروع املعماري املبتكر ويربز الأعمال‬ ‫اخلا�صة للفنان كري�ستو ذات العالقة بالإمارات‬ ‫العربية املتحدة‪ .‬وا�ستقطب هذا ال��رواق منذ‬ ‫ت�أ�سي�سه �أكرث من ‪ 80‬فنان ًا ت�شكيلي ًا من الإمارات‬ ‫ال�سبع و�شارك به يف عامه الأول بع�ض رواد الفن‬ ‫الت�شكيلي الإماراتي داعمني وم�شاركني فاعلني‬ ‫يف برناجمه وفعالياته‪ ،‬وان�ضم �إىل املبادرة‬ ‫ع��دد م��ن املبدعني يف ال��دول��ة م��ن م�صورين‬ ‫فوتوغرافيني ور�سامني �إىل نحاتني وخطاطني‬ ‫وفناين كوالج‪ ،‬وقد �شاركهم يف جل�سات النقا�ش‬ ‫عدد من الفنانني الكبار واملخت�صني‪ ،‬ت�ضمنت‬ ‫عر�ض بع�ض جتاربهم وتو�ضيح �أف�ضل و�سائل‬ ‫العمل الفني لديهم ب�ه��دف ت�شجيع �إن�ت��اج‬ ‫�إبداعات فنية جديدة لدى �شباب الإمارات‪.‬‬

‫كان املعر�ض ب�أيامه الأربعة منا�سبة جميلة‬ ‫وحافلة بالت�أمل والفائدة الثقافية‪ ،‬وكان‬ ‫ه�ن��اك ل��وح��ات و�أع �م��ال فنية ا�ستوقفت‬ ‫ال� ��زوار وح�ظ�ي��ت ب��امل��زي��د م��ن �إعجابهم‬ ‫وت�ق��دي��ره��م مل��ا فيها م��ن اب �ت �ك��ارات فنية‬ ‫متزج بني الواقع واخليال بلم�سات جمالية‬ ‫م�ؤثرة‪ ،‬ومن هذه الأعمال جدارية الفنان‬ ‫�أحمد معال املعرو�ضة يف �صالة «الأتا�سي»‬ ‫وهي تعرب عن ثورة ال�شباب العربي‪ ،‬وعلى‬ ‫مقربة منها يف اجل �ن��اح مت ع��ر���ض عدد‬ ‫من لوحات الفنانني ال��رواد يف الإم��ارات‬ ‫ومنهم عبد ال�ق��ادر الري�س‪ ،‬جن��اة مكي‪،‬‬ ‫ح�سن �شريف‪ ،‬وامتازت �أعمالهم مبالمح‬ ‫خا�صة بروح الإمارات وما فيها من مزايا‬ ‫الطبيعة التي جتمع بني البحر وال�صحراء‬ ‫املمزوجة بلم�سات فنية من جمال احلداثة‬ ‫املعا�صرة‪.‬‬ ‫و�ضم املعر�ض جم�سم فني �أبدعه الفنان‬ ‫الياباين العاملي تادا�شي كاواماتا حتت‬ ‫ع�ن��وان «كرا�سي يف �أب��وظ�ب��ي»‪�� ،‬ش��ارك يف‬ ‫ن�صبها الفنان الكبري كاظم ال�ساهر الذي‬ ‫ميار�س هوايته يف فن النحت‬


‫المرصد‬ ‫‪18‬‬ ‫الـعــــدد‬ ‫‪158‬‬ ‫ديسمبر‬

‫‪2012‬‬

‫خالل افتتاحه معر�ض ال�شارقة الـ‪31‬‬

‫سلطان القاسمي‪:‬‬

‫الثقافة وسيلة العرب لفهم اآلخر‬ ‫والتواصل معه‬ ‫ال�شارقة ‪ -‬حنان �شافعي‬ ‫بح�ضور �أكرث من ‪ 900‬دار ن�شر عربية و�أجنبية انطلقت الدورة احلادية والثالثني‬ ‫من معر�ض ال�شارقة الدويل للكتاب‪ ،‬الذي يعد من �أكرب الفعاليات الثقافية يف‬ ‫املنطقة‪ .‬وكان �صاحب ال�سمو ال�شيخ الدكتور �سلطان بن حممد القا�سمي ع�ضو‬ ‫املجل�س الأعلى حاكم ال�شارقة‪ ،‬قد افتتح فعاليات املعر�ض بق�صيدة‪ ،‬ت�سرد م�سرية‬ ‫العطاء الثقايف يف ال�شارقة‪ ،‬م�ؤكدا على �أن الثقافة هي و�سيلة ال�شعوب العربية لفهم‬ ‫الآخر والتوا�صل معه‪.‬‬


‫وتف�ضل �سموه بتوزيع اجلوائز والتوقيع على‬ ‫الن�سخة الأوىل من كتاب «ح�صاد ال�سنني»‪.‬‬ ‫ت�ضمن املعر�ض هذا العام تو�سعات ملحوظة‬ ‫بني م�شاركة �إماراتية ودولية بلغت ‪ 62‬دولة‪،‬‬ ‫منها ‪ 24‬دولة ت�شارك للمرة الأوىل‪ ،‬كما �ضمت‬ ‫قائمة الدول امل�شاركة ‪ 22‬دولة عربية‪ ،‬و‪ 40‬دولة‬ ‫�أجنبية‪ ،‬و‪ 924‬دار ًا للن�شر‪ ،‬وزادت م�ساحة‬ ‫امل�شاركة العربية لدور الن�شر‪ ،‬حيث ارتفعت‬ ‫من ‪�7600‬إىل ‪ 9613‬مرت مربع‪ ،‬واحلال نف�سها‬ ‫مع م�ساحة امل�شاركات الأجنبية من ‪�1600‬إىل‬ ‫‪ 2100‬مرت مربع‪ ،‬ورافق ذلك زيادات �أخرى‬ ‫�شملت م�شاركات دور الن�شر الهندية التى‬ ‫ارت�ف�ع��ت بن�سبة و�صلت �إىل نحو ‪،% 500‬‬ ‫وكذلك ان�ضمام نحو ‪ 20‬نا�شر ًا باك�ستاني ًا‬ ‫فى فعاليات املعر�ض من الذين ي�شاركون يف‬ ‫املعر�ض للمرة الأوىل‪.‬‬ ‫�أما �ضيف ال�شرف الذي ت�صدر امل�شهد فكان‬ ‫من قبل جمهورية م�صر العربية التي تنوع‬ ‫ح�ضورها ب�ين �أن�شطة فنية لفرقة الفنون‬ ‫ال�شعبية‪ ،‬حيث عر�ضت يومي ًا على خ�شبة‬ ‫امل�سرح وبني �أروق��ة املعر�ض يف التفاف ملفت‬ ‫م��ن جمهور امل�شاهدين للرق�ص الفلكلوري‬ ‫امل�صري‪ ،‬ثم جاء احل�ضور الإبداعي من خالل‬ ‫ندوات و�شهادات لكتاب و�شعراء م�صريني من‬ ‫�أجيال خمتلفة من بينهم جمال الغيطاين‪،‬‬ ‫وحممد �إبراهيم �أبو �سنة‪ ،‬وحممد جربيل‪ ،‬ومن‬ ‫ال�شباب هيدرا جرج�س‪ ،‬ومي �أبويد‪.‬‬

‫مقتنيات‬

‫من جانبه �أع��رب �أحمد بن ركا�ض العامري‪،‬‬ ‫م��دي��ر م�ع��ر���ض ال �� �ش��ارق��ة ال� ��دويل للكتاب‪،‬‬ ‫عن ��س��روره من النتائج التي حتققت خالل‬ ‫ال� ��دورة احل��ادي��ة وال �ث�لاث�ين ال �ت��ي اختتمت‬ ‫�أعمالها يوم ال�سابع ع�شر من ال�شهر الفائت‪،‬‬ ‫م�شري ًا �إىل �أن �أجنحة دور الن�شر‪ ،‬والندوات‬ ‫واللقاءات الثقافية والفكرية و�أن�شطة برنامج‬ ‫الأطفال وبرنامج الطهي‪ ،‬ح��ازت ا�ستح�سان‬ ‫رواد املعر�ض م��ن خمتلف الفئات العمرية‬ ‫واجل�ن���س�ي��ات امل �ت �ع��ددة‪ .‬و�أ���ض��اف ال�ع��ام��ري‬ ‫�أن معر�ض ال�شارقة ال��دويل للكتاب ي�شكل‬ ‫وبتوجيهات من �صاحب ال�سمو ال�شيخ الدكتور‬

‫�سلطان ب��ن حممد القا�سمي ع�ضو املجل�س‬ ‫الأعلى حاكم ال�شارقة‪ ،‬منارة ثقافية ت�شع من‬ ‫دولة الإم��ارات واملنطقة‪ ،‬حيث �ضم املعر�ض‬ ‫بني جنباته �أحدث �إ�صدارات الكتب‪ ،‬ومتازجت‬ ‫فيه ح��وارات ولقاءات ون��دوات ثقافية وفكرية‬ ‫مب�شاركة من �أملع ال�شخ�صيات الثقافية وقادة‬ ‫الفكر‪ ،‬بهدف مد ج�سور التوا�صل احل�ضاري‬ ‫والثقايف مبا يحقق التقارب الثقايف وتر�سيخ‬ ‫ثقافة التعاي�ش‪.‬‬

‫ضم المعرض نحو ‪ 100‬من‬ ‫أندر الكتب والمنشورات‬ ‫من مقتنيات صاحب‬ ‫السمو حاكم الشارقة‬ ‫والتي تبرع بها سموه‪،‬‬ ‫ضمن نحو ‪ 4000‬كتاب نادر‪،‬‬ ‫لصالح المجمع العلمي‬ ‫المصري الذي طالته يد‬ ‫التخريب‬

‫وت��اب��ع ال�ع��ام��ري �أن �أجنحة املعر�ض �ضمت‬ ‫جناح ًا خا�ص ًا �ضم نحو ‪ 100‬من �أندر الكتب‬ ‫وامل �ن �� �ش��ورات م��ن مقتنيات �صاحب ال�سمو‬ ‫حاكم ال�شارقة والتي تربع بها �سموه‪� ،‬ضمن‬ ‫نحو ‪ 4000‬كتاب نادر‪ ،‬ل�صالح املجمع العلمي‬ ‫امل�صري ال��ذي طالته يد التخريب‪ .‬و�شهد‬ ‫املعر�ض �إط�لاق وتوقيع �أك�ثر من ‪ 90‬كتاب ًا‬ ‫و�إ� �ص��دار ًا ج��دي��د ًا لكتاب �إم��ارات�ي�ين وع��رب‬ ‫و�أجانب‪� ،‬أ�ضافوا للمكتبة العربية �إ�ضافات‬ ‫نوعية يف جم��االت الرواية وال�شعر والق�صة‬ ‫وق�ص�ص الأطفال وال�سري الذاتية وغريها‪.‬‬ ‫و�أوىل معر�ض ال�شارقة الدويل للكتاب عناية‬ ‫خ��ا��ص��ة ب��ال�برام��ج وال�ف�ع��ال�ي��ات والأن���ش�ط��ة‬ ‫املوجهة للطفل حيث حظيت بح�ضور الفت‬ ‫من طالب وطالبات املدار�س‪.‬‬ ‫وقال العامري �إن �إدارة املعر�ض قامت ب�إعداد‬ ‫ب��رن��ام��ج ث�ق��ايف متميز ل�ل�أط�ف��ال «برنامج‬ ‫الطفل» ال��ذي �شمل �أك�ثر من ‪ 200‬فعالية‬


‫المرصد‬ ‫‪20‬‬ ‫الـعــــدد‬ ‫‪158‬‬ ‫ديسمبر‬

‫‪2012‬‬

‫�أع��ده��ا خ�ب�راء ومتخ�ص�صون يف � �ش ��ؤون‬ ‫الطفل ليجمع بني الثقافة واملعرفة من جهة‬ ‫والرتفيه من جهة �أخرى‪.‬‬

‫مقهى ري�ش امل�صري‬

‫على �صعيد احل�ضور امل�صري اخلا�ص‪� ،‬ضم‬ ‫املعر�ض جناح ًا م�صري ًا م�ستق ًال كان �أبرز ما‬ ‫فيه مقهى ري�ش امل�ستوحى من نظريه يف منطقة‬ ‫و�سط البلد بقلب العا�صمة امل�صرية القاهرة‬ ‫ال��ذي لعب دور ًا تاريخي ًا يف م�سرية الثقافة‬ ‫امل�صرية على مر الأجيال‪ .‬وتنوعت امل�ساهمات‬ ‫الثقافية يف ن��دوات املقهي بني لقاءات لأهل‬ ‫ال�سينما حت��دث فيها ال�ن��اق��د ال��دك�ت��ور على‬ ‫�أبو�شادي والدكتورة درية �شرف الدين‪ ،‬فيما‬ ‫مل يح�ضر املخرج خالد يو�سف والفنان عادل‬ ‫�إمام رغم الإعالن عن ندوات لهم‪� .‬أي�ض ًا ح�ضر‬ ‫�شعر العامية امل�صري من خالل لقاء ال�شاعر‬ ‫الكبري �سيد حجاب وال�شاعرة �إميان بكري‪� .‬أما‬ ‫الرواية فتجلى ح�ضورها ب�شهادة الأديب الكبري‬ ‫بهاء طاهر ثم �سعيد الكفراوي وف�ؤاد قنديل‪،‬‬ ‫حيث مل تخل الندوات من قراءة لأدب جنيب‬ ‫حمفوظ من وجهة نظر خليجية‪.‬‬ ‫و�شهد اجلناح امل�صري �إقبا ًال جيد ًا على �شراء‬ ‫الكتب التي تنوعت منابع �إ�صدارها بني هيئة‬ ‫الكتاب وهيئة ق�صور الثقافة واملركز القومي‬ ‫للرتجمة ومكتبة الإ�سكندرية‪ ،‬ف�ض ًال عن دور‬ ‫الن�شر اخلا�صة التي تنوعت عناوينها بني الأدب‬ ‫والفكر والدين وال�سيا�سة وكتب الأطفال حتى‬ ‫الكتب القدمية وال�صحف الأر�شيفية‪.‬‬ ‫كذلك عقدت الهيئة امل�صرية العامة للكتاب‪،‬‬ ‫�ضمن فعاليات ال ��دورة ال��واح��دة والثالثني‬ ‫مل�ع��ر���ض ال���ش��ارق��ة ال���دوىل ل�ل�ك�ت��اب‪ ،‬بقاعة‬ ‫االحتفاالت �أم�سية غنائية للفرقة العربية‬ ‫للمو�سيقى التابعة ل��دار الأوب��را املو�سيقية‪،‬‬ ‫للفنانة م��روة ن��اج��ى‪ .‬و��ش�ه��دت االحتفالية‬ ‫ح�ضور ًا كب ًريا من جمهور املعر�ض‪� ،‬إذ قدمت‬ ‫ناجى جمموعة م��ن ال��روائ��ع الغنائية منها‬ ‫�أغنيتني «الأطالل و�أنت عمرى» ل�سيدة الغناء‬ ‫العربى �أم كلثوم‪ ،‬كما قدمت �أغنيات يا �ساعة‬ ‫بالوقت �أج��رى‪� ،‬أنا قلبى �إليك ميال‪ ،‬يا لعبة‬ ‫الأيام‪ ،‬وذلك بح�ضور وزير الثقافة امل�صرى‬

‫الدكتور حممد �صابر عرب‪ ،‬والدكتور �أحمد‬ ‫جماهد رئي�س هيئه الكتاب امل�صرية‪ ،‬وعدد‬ ‫من �أفراد الأ�سرة احلاكمة فى ال�شارقة‪.‬‬

‫زيارة خا�صة‬

‫ومن �أكرث امل�شاهد الالفتة للأنظار كان خالل‬ ‫زي��ارة �صاحب ال�سمو ال�شيخ حممد بن را�شد‬ ‫�آل مكتوم‪ ،‬نائب رئي�س الدولة‪ ،‬رئي�س جمل�س‬ ‫الوزراء حاكم دبى «رعاه اهلل»‪ ،‬املعر�ض‪ ،‬ورافقه‬ ‫ال�شيخ مكتوم بن حممد بن را�شد �آل مكتوم‬ ‫نائب حاكم دبى‪ ،‬وحممد عبد اهلل القرقاوى‬ ‫وزير �شئون جمل�س الوزراء‪ ،‬والدكتور عبد اهلل‬ ‫عمران ترمي رئي�س جمل�س �إدارة دار اخلليج‬ ‫لل�صحافة والن�شر‪ ،‬والفريق م�صبح را�شد‬ ‫الفتان مدير مكتب �صاحب ال�سمو نائب رئي�س‬

‫الدولة‪ ،‬حيث كان يف ا�ستقبال �سموه ومرافقيه‬ ‫لدى و�صوله مقر «الإك�سبو» ال�شيخة بدور بنت‬ ‫�سلطان بن حممد القا�سمى رئي�سة «جمعية‬ ‫نا�شرى الإمارات»‪ ،‬و�أحمد حممد املدفع رئي�س‬ ‫جمل�س �إدارة غرفة جتارة و�صناعة ال�شارقة‪،‬‬ ‫وعدد من امل�س�ؤولني فى املعر�ض‪.‬‬ ‫جتول �صاحب ال�سمو ال�شيخ حممد بن را�شد‬ ‫�آل مكتوم‪ ،‬نائب رئي�س الدولة‪ ،‬رئي�س جمل�س‬ ‫ال� ��وزراء حاكم دب��ى «رع ��اه اهلل»‪ ،‬يف رده��ات‬ ‫املعر�ض وبني �أروقته يت�صفح بع�ض ًا من �أمهات‬ ‫الكتب واملراجع قدميها وحديثها‪ ،‬وتوقف عند‬ ‫عدد من �أجنحة الدول امل�شاركة ودور الن�شر كما‬ ‫ا�ستمع خالل جولته �إىل �شرح قدمه �أحمد بن‬ ‫ركا�ض العامرى مدير معر�ض اك�سبو ال�شارقة‬ ‫ح��ول املعر�ض وتاريخه وحجم امل�شاركة فيه‬


‫وعدد زواره‪ .‬و�أكد �سموه خالل توقفه عند بع�ض‬ ‫املحطات فى اجلولة �أهمية تعويد �أبناء وبنات‬ ‫الوطن خا�صة فى امل��دار���س واجلامعات على‬ ‫م�صاحبة الكتاب والبحث فى �أمهات الكتب‬ ‫واملراجع الثقافية والتاريخية والأدبية والعلمية‬ ‫وغ�يره��ا حتى يتمكنوا م��ن �صقل مواهبهم‬ ‫و�إثراء علومهم ومعارفهم والتعرف �إىل ثقافتنا‬ ‫العربية وجذورنا التاريخية الأ�صيلة‪ ،‬من خالل‬ ‫اال�ضطالع على م�ؤلفات ومراجع كتابنا و�أدبائنا‬ ‫وفى الوقت نف�سه ميدون �أنظارهم �إىل الثقافات‬ ‫الأخرى للتعرف على ح�ضارات العامل‪.‬‬

‫ال�صغار والثقافة‬

‫وفيما تنوعت الأن�شطة الثقافية للكبار‪� ،‬ضم‬ ‫برنامج املعر�ض ل�ل�أط�ف��ال ع��دد �ضخم من‬ ‫الفعاليات والأن�شطة و�صلت مبجموعها الكلى‬ ‫�إىل نحو ‪ 200‬فعالية خمتلفة تنا�سب خمتلف‬ ‫الفئات العمرية للأطفال‪� ،‬سواء فى املدار�س �أو‬ ‫ريا�ض الأطفال‪ ،‬وتعترب تلك الفعاليات حمطة‬ ‫زي��ارة �أ�سا�سية لكافة طلبة املدار�س ح�ضروا‬ ‫فيها الور�ش التعليمية الهادفة �إىل تنمية الوعى‬ ‫لدى الطفل‪ .‬ومن بني الأن�شطة ما قدمته �إدارة‬ ‫ال�ف�ن��ون ف��ى دائ ��رة ال�ث�ق��اف��ة والإع�ل��ام فى‬ ‫ال�شارقة بعنوان «ور�شة �أ�سالك و�أف�لاك»‪،‬‬ ‫ق��ام��ت على ا��س�ت�خ��دام �أدوات ج��دي��دة فى‬ ‫الت�شكيل غ�ير ال��ر� �س��م ب ��الأل ��وان وتعتمد‬

‫ا� �س �ت �خ��دام الأ���س�ل�اك امل �ل��ون��ة‪ ،‬ح�ي��ث �أخ��ذ‬ ‫الأطفال امل�شاركون فى ا�ستنباط ت�شكيالت‬ ‫فنية ب�ألوان وت�صاميم فنية خمتلفة‪.‬‬ ‫وع��ن ه��ذا ق��ال با�سم ال�ساير امل�شرف على‬ ‫الور�شة‪� :‬إن الأطفال ي�أخذون الأ�سالك امللونة‬ ‫ويطوعونها فى ت�شكيالت تفتح �أفق ًا جديد ًا‬ ‫لإبداعاتهم و�أفكارهم‪ ،‬لتتحول الأ�سالك �إىل‬ ‫حيوانات و�أ�شجار و�أ�شكال �أخرى كثرية‪.‬‬ ‫كذلك ك��ان من بني ه��ذه الفعاليات القراءة‬ ‫التفاعلية التى قدمتها التون�سية وفاء املزغنى‪،‬‬ ‫وفيها يقر�أ الطلبة احلا�ضرون ق�صة ق�صرية‬ ‫ب�شكل ت�شاركي وتفاعلي‪ ،‬مو�ضح ًة �أن الهدف من‬ ‫هذه القراءة التفاعلية هو امل�ساهمة فى ت�شجيع‬ ‫الطلبة اخلجولني على القراءة بجر�أة وجتاوز‬ ‫حالة اخلجل‪ ،‬وتعلم القراءة اجلماعية التى‬

‫ضم المعرض جناح ًا‬ ‫مصري ًا مستق ً‬ ‫ال كان‬ ‫أبرز ما فيه مقهى ريش‬ ‫المستوحى من نظيره‬ ‫في منطقة وسط البلد‬ ‫بقلب العاصمة المصرية‬ ‫القاهرة الذي لعب‬ ‫دور ًا تاريخي ًا في مسيرة‬ ‫الثقافة المصرية على مر‬ ‫األجيال‬

‫حت�سن �أداء ال�صوت وتقوى �شخ�صية الطفل‪،‬‬ ‫�إ�ضاف ًة �إىل تنمية اخليال عنده‪ ،‬خ�صو�ص ًا �أننا‬ ‫نقر�أ ق�صة غري تقليدية‪.‬‬ ‫فى ال�سياق ذاته‪ ،‬دعا العامري مدير معر�ض‬ ‫ال�شارقة‪ ،‬الأهاىل و�أولياء �أمور الطلبة ا�ستغالل‬ ‫�أيام العطلة با�صطحاب �أطفالهم للم�شاركة فى‬ ‫فعاليات وور���ش العمل املتنوعة �ضمن برنامج‬ ‫الطفل امل�صاحب للمعر�ض‪ ،‬التى �شملت العديد‬ ‫من الفقرات املتنوعة مثل الفنون‪ ،‬والأل��وان‪،‬‬ ‫و�صندوق الأفالم‪ ،‬وقراءات ق�ص�صية‪ ،‬وم�سرح‬ ‫الدمى‪ ،‬ولغة الإ��ش��ارة‪ ،‬وم�سرح الظل‪ ،‬وعامل‬ ‫الت�صميم‪ ،‬وور� �ش��ة اخل �ي��ول‪ ،‬وط��ى ال ��ورق‪،‬‬ ‫وم�سرح الطفل‪ ،‬و�أط�ي��اف «�أنا�شيد قرائية»‪،‬‬ ‫وور�ش تفاعلية‪ ،‬و�ألعاب �سحرية‪ ،‬واحلكواتى‪،‬‬ ‫والر�سم بـ«البا�ستيل»‪ ،‬وور�شة الطني‪ ،‬وعرو�ض‬ ‫مرئية‪ ،‬وم�سابقة القراءة ال�سريعة‪ ،‬وعرو�ض‬ ‫حية خمتلفة �أخ��رى‪ .‬وت�ضمن برنامج الطفل‬ ‫�أي�ض ًا عدة فعاليات‪ ،‬منها دنيا الفرح وامللتقى‬ ‫الرتفيهى الذى يقدمه امل�ستك�شفون ال�صغار من‬ ‫الإم��ارات‪� ،‬إ�ضافة �إىل فعالية «�أوريغامي» طي‬ ‫الورق‪ .‬وفى زاوية �ألوان‪ ،‬قدم متحف ال�شارقة‬ ‫للفنون ور�ش فنية متنوعة‪ ،‬كما قدم جمموعة‬ ‫من الطالب لغة الإ�شارة بتنظيم مدينة ال�شارقة‬ ‫للخدمات الإن�سانية‪ .‬ف�ض ًال عن عرو�ض م�سرح‬ ‫الدمى والألعاب ال�سحرية وور�ش فنية �ضمن‬ ‫زاوية �أفكار متحركة‬


‫‪22‬‬ ‫الـعــــدد‬ ‫‪158‬‬ ‫دي�سمرب‬ ‫‪2012‬‬

‫مدارات‬ ‫اآلفاق‬ ‫ارتياد‬ ‫مدارات‬

‫األنا واألنا ـ اآلخر‬

‫حوار األديان‪ ،‬صراع المذاهب؟‬

‫كان‬

‫ل �ل��ر�ؤي��ة ال�ت��ي حتكمت يف‬ ‫تعاملنا م��ع ال�ت�راث‪ ،‬منذ‬ ‫ع�صر النه�ضة �إىل الآن‪� ،‬أثرها الكبري‬ ‫يف ال�صريورة التي �أدت �إىل الو�ضع الذي‬ ‫نعي�شه ال �ي��وم‪ .‬ف��االن�ت�ق��اء والتجزيئية‬ ‫وتغليب البعد الإي��دي��ول��وج��ي‪ ،‬ك��ل ذلك‬ ‫�أ�سهم يف تعميق الفجوات بني الذات وقد‬ ‫�صارت متمف�صلة �إىل ذوات‪.‬‬ ‫مل يبق التمايز مقت�صر ًا على الأنا والآخر‬ ‫ك�م��ا ك��ان ع�ل�ي��ه الأم���ر �إب���ان االح�ت�ك��اك‬ ‫بالغرب‪.‬‬ ‫بل امتد‪ ،‬مع ال��زم��ن‪ ،‬لي�صبح بني الأن��ا‬ ‫والأن��ا ـ الآخ��ر‪ ،‬وب�صورة تتعدى ما كان‬ ‫عليه التناق�ض مع الآخ��ر‪ .‬هذا التمايز‬ ‫كان يغذيه اال�ستعمار ولعب اال�ست�شراق‬ ‫دور ًا يف ا�ست�شرائه‪.‬‬ ‫كان عملهما مع ًا من�صب ًا على كل ما ينمي‬ ‫ال �ف��رق��ة ب�ين م �ك��ون��ات امل�ج�ت�م��ع ال�ع��رب��ي‬ ‫الإ��س�لام��ي‪ .‬لقد اعتمد اال�ست�شراق يف‬ ‫ا�شتغاله بالرتاث «التاريخ» ركيزة لذلك‪.‬‬ ‫بينما جل�أ اال�ستعمار �إىل تق�سيم الأر�ض‬ ‫ال�ع��رب�ي��ة «اجل �غ��راف �ي��ا» �إىل دول بينها‬ ‫حدود الرتجمة العملية لذلك �أي�ض ًا‪.‬‬

‫وح �ت��ى داخ� ��ل ح� ��دود ك ��ل ال � ��دول ال�ت��ي‬ ‫ا� �ص �ط �ن �ع �ه��ا اال� �س �ت �ع �م��ار ظ ��ل ال �ب �ح��ث‬ ‫متوا� ً‬ ‫صال عما يعمق الفروق والتمايزات‬ ‫ب�ي�ن م �ك��ون��ات ه� ��ذا ال �ف �� �ض��اء ال �ع��رب��ي‬ ‫الإ�سالمي‪ :‬عرب ـ �أمازيغ ـ �أكراد‪ ،،،‬من‬ ‫جهة‪ .‬م�سلمون ويهود وم�سيحيون‪ ،‬من‬ ‫جهة ثانية‪.‬‬ ‫و��س�ن��ة و��ش�ي�ع��ة وم�ت���ص��وف��ة‪ ...‬م��ن جهة‬ ‫ث��ال �ث��ة‪ .‬ه ��ذا ب��الإ� �ض��اف��ة �إىل الأل��غ��ام‬ ‫احلدودية «ال�سيا�سية» التي �أبقاها‪ ،‬بعد‬ ‫ا�ستقالل هذه الدول‪ ،‬قابلة لالنفجار يف‬ ‫�أي حلظة ي�ضغط فيها على زر ال�صراع‬ ‫والتفرقة‪ ،‬ما دام يرى �أن م�صاحله يف‬ ‫املنطقة �شبه مهددة �أو ك�أنها م�ستهدفة‪.‬‬ ‫ك��ان م��ن ن�ت��ائ��ج ا��س�ت�ت�ب��اب احل���دود �أن‬ ‫�صارت ال��ذات ذوات‪ ،‬و�أم�ست كل دولة‬ ‫تفكر يف «التاريخ القدمي» لت�صبغه على‬ ‫«جغرافيتها احل��دي�ث��ة»‪ ،‬فباتت تتحدث‬ ‫ع��ن «ت��راث��ه��ا»ال��ذي ت �ف��اخ��ر ب��ه الأمم‬ ‫وال�شعوب؟ ث��م �أ�صبح املتنبي عراقي ًا‪،‬‬ ‫واملعري �سوري ًا‪ ،‬وابن خلدون تون�سي ًا‪...‬‬ ‫وغدت دائرة املعارف الإيرانية ت�ستوعب‬ ‫ال �ع��دي��د م��ن امل�ف�ك��ري��ن امل���س�ل�م�ين «اب��ن‬

‫�سينا‪ ،‬اجلرجاين‪ »...‬وتقدمهم على �أنهم‬ ‫«�إيرانيون»؟ �صار الرتاث «�إرث ًا» خا�ص ًا يدعي‬ ‫كل من «الورثة» ملكية ما يتالءم مع هويته‬ ‫«الوطنية» وحدوده اجلغرافية‪.‬‬ ‫جنم عن هذا الو�ضع‪ ،‬مع اال�ستقالالت‪،‬‬ ‫�أن وقعت تناق�ضات بني ال��دول العربية‬ ‫وا� �ص �ط �ف��اف��ات مت�ل�ي�ه��ا امل �� �ص��ال��ح وق��د‬ ‫ت �� �ض��ارب��ت ح ��ول ال �ت��اري��خ واجل �غ��راف �ي��ة‬ ‫وامل�ستقبل‪.‬‬ ‫�صرنا‪ ،‬طيلة ال�ستينيات وال�سبعينيات‪،‬‬ ‫�أم ��ام مم�ل�ك��ات يف م�ق��اب��ل ج�م�ه��وري��ات‪،‬‬ ‫ودول رج �ع �ي��ة ت �ن �ح��از ل�ل��آخ ��ر‪ ،‬ال �غ��رب‬ ‫الر�أ�سمايل‪ ،‬و�أخ��رى تقدمية متيل نحو‬ ‫الآخ��ر‪ ،‬ال�شرق اال��ش�تراك��ي‪ .‬وم��ع جناح‬ ‫ال�ث��ورة الإي��ران�ي��ة‪ ،‬و�سقوط ج��دار برلني‬ ‫بعد ذل��ك‪ ،‬وب��روز حت��ول �أو طموح بع�ض‬ ‫اجل�م�ه��وري��ات للتحول �إىل «مم�ل�ك��ات»‪،‬‬ ‫وم��ع ��س�ق��وط ن �ظ��ام ال�ب�ع��ث يف ال �ع��راق‪،‬‬ ‫وظهور الربيع العربي الذي �أودى مب�صري‬ ‫�أنظمة ج�م�ه��وري��ة‪ ...‬ك��ل ذل��ك �أدى‪ ،‬يف‬ ‫ظ��ل م �ت �غ�يرات ج��دي��دة‪ ،‬مت�ت��د �أ��ص��ول�ه��ا‬ ‫�إىل احل ��رب ��ض��د ال �ن �ظ��ام ال�سوفياتي‬ ‫يف �أفغان�ستان وم��ع م��ا تولد عنها على‬


‫�سعيد يقطني‬

‫ال�صعيد العربي الإ�سالمي والدويل‪� ،‬أن‬ ‫ظهرت تناق�ضات جديدة وا�صطفافات‬ ‫خمتلفة يف املنطقة‪ :‬ال�ت�ط��رف الديني‬ ‫يف مقابل االعتدال‪ ،‬وال�سنة يف مواجهة‬ ‫ال �� �ش �ي �ع��ة‪ .‬ه ��ذا ع �ل��ى امل �� �س �ت��وى ال �ع��ام‪.‬‬ ‫�أم ��ا ع�ل��ى امل���س�ت��وى اخل��ا���ص‪ ،‬ف�ق��د ب��ات‬ ‫ب�ين ال �ع��رب والأك� ��راد والأم ��ازي ��غ‪ ،‬وب�ين‬ ‫امل�سلمني والأقباط‪ ،‬وحتى يف الدول غري‬ ‫العربية‪� ،‬صار بني امل�سيحيني وامل�سلمني‬ ‫يف �إفريقيا‪ ،‬وبني امل�سلمني والبوذيني �أو‬ ‫ب�ين امل�سلمني وبع�ض ط��وائ��ف الهند يف‬ ‫�آ��س�ي��ا‪ ...‬وميكن ق��ول ال�شيء نف�سه عن‬ ‫املهاجر العربية والإ�سالمية يف العامل‪،‬‬ ‫ناهيك ع��ن التناق�ض ب�ين الإ�سالميني‬ ‫والعلمانيني‪.‬‬ ‫ك�م��ا وق �ع��ت االن�ت�ق��ائ�ي��ة وال�ت�ج��زي�ئ�ي��ة يف‬ ‫التعامل م��ع ال�تراث العربي الإ�سالمي‬ ‫يف احلقبة الأوىل حيث اعترب مبقت�ضاها‬ ‫مثالي ًا رجعي ًا‪� ،‬أو مادي ًا تقدمي ًا‪ ،‬وقعتا‬ ‫يف احلقبة ال�ث��ان�ي��ة‪ ،‬وق��د ��ص��ار ال�تراث‬ ‫خمتز ًال يف ال�سنة �أو ال�شيعة‪ ،‬من جهة‪،‬‬ ‫�أو يف ال��دع��وة �إىل اجل�ه��اد «العنف» �أو‬ ‫االعتدال‪ .‬وكل طرف يجد من امل�سوغات‬

‫ال �ت��ي ي�ستمدها م��ن ال�ت�راث م��ا يدعم‬ ‫ت��وج �ه��ه وت �ط �ل �ع��ات��ه وي� �خ ��دم م�ق��ا��ص��ده‬ ‫ومراميه‪ .‬مل يقت�صر الأمر على االختزال‬ ‫�أو االخ �ت�لاف يف ال�ت�ع��ام��ل م��ع ال�ت�راث‪،‬‬ ‫ولكن ذلك �صار مو�ضوع ًا لإثارة ال�صراع‬ ‫و�إدارت ��ه �ضد ك��ل خمالف �أو معرت�ض‪،‬‬ ‫�سواء من لدن هذه اجلهة �أو تلك‪.‬‬ ‫بل �إن هذا ال�صراع بلغ حد تكفري الآخر‬ ‫وال�ع�م��ل ع�ل��ى �إق���ص��ائ��ه و�إل �غ��ائ��ه ب�شتى‬ ‫الطرق والو�سائل‪.‬‬ ‫ي �ك �ف��ي �أن ي �ت��اب��ع امل� ��رء خم �ت �ل��ف كتب‬ ‫ه� ��ؤالء و�أول��ئ��ك‪ ،‬م�سلمني وم�سيحيني‪،‬‬ ‫ويواكب قنواتهم التلفزيونية ومواقعهم‬ ‫وم�ن�ت��دي��ات�ه��م وم��دون��ات �ه��م ليجد نف�سه‬ ‫�أم ��ام � �ص��راع��ات م�ستعرة ب�ين خمتلف‬ ‫الطوائف‪.‬‬ ‫فال�شيعة ي�ت�ه�م��ون‪ .‬وال���س�ن��ة ي �ت�بر�ؤون‪.‬‬ ‫وك���ل ذل���ك ب �ل �غ��ات ال ت �خ �ل��و م ��ن عنف‬ ‫و�إق�صاء‪ .‬وميكن قول ال�شيء نف�سه عن‬ ‫بقية التمايزات داخ��ل اجل�سم العربي‬ ‫الإ�سالمي‪ .‬ومل يبق تو�سيع هذا التمييز‬ ‫وذاك ال �ت �م��اي��ز‪ ،‬ب�ي�ن ال� ��ذات وال� ��ذات‬ ‫الأخ ��رى متوقف ًا على امل�ستوى الثقايف‬

‫والإعالمي‪ ،‬بل امتد �إىل ال�سيا�سة التي‬ ‫ميكن اعتبارها �سبب ًا ونتيجة يف �آن‪.‬‬ ‫لو �أن اخلطاب ال�سيا�سي ظل مقت�صر ًا‬ ‫ع �ل��ى م �ع �ط �ي��ات مت�ل�ي�ه��ا اال� �ص �ط �ف��اف��ات‬ ‫االق �ت �� �ص��ادي��ة وال���س�ي��ا��س�ي��ة وامل���ص��ال��ح‬ ‫اخلا�صة خل��رج امل��رء بخال�صة مفادها‬ ‫�أن هذا طبيعي يف �أي �صراع‪.‬‬ ‫ولكن �أن يتم ت�سخري ال�تراث امل�شرتك‪،‬‬ ‫وهو يف جمموعه ذو حمولة دينية وثقافية‬ ‫وتاريخية �أ�سهم اجلميع يف ت�شكيلها على‬ ‫م��ر ال��زم��ن‪ ،‬فهذا ال يعني �سوى تعميق‬ ‫ال�ف�ج��وة الثقافية ب�ين م�ك��ون��ات ب�شرية‬ ‫ذات جذور م�شرتكة‪.‬‬ ‫تتعاىل اليوم �صيحات احلوار بني الأديان‬ ‫على امل�ستوى العاملي‪.‬‬ ‫كان الأح��رى‪ ،‬ومب��وازاة معها‪� ،‬أن ترتفع‬ ‫بني املذاهب والطوائف والأع��راق ذات‬ ‫ال �ت�راث ال ��واح ��د وامل �� �ش�ترك لأن ذل��ك‬ ‫يجنبها ال��وق��وع‪ ،‬ب��ال�ت�ن��اوب‪ ،‬يف براثني‬ ‫من لهم امل�صلحة يف تغذية التناق�ضات‬ ‫وا�ست�شرائها لإدام��ة جعل الأمة العربية‬ ‫الإ�سالمية خارج الع�صر‬


‫‪ 41‬عام ًا‬ ‫من التميز‬ ‫‪24‬‬ ‫الـعــــدد‬ ‫‪158‬‬ ‫ديسمبر‬

‫‪2012‬‬

‫‪ 41‬عام ًا من التميز‬

‫اتحاد اإلمارات ‪..‬‬ ‫جتربة وحدوية نادرة املثال‬

‫أضواء على رجاالت أبوظبي ودورهم في نشأة االتحاد‬ ‫فاطمة املن�صوري‬ ‫حتتفل دولة الإمارات العربية املتحدة هذا العام بالذكرى الواحدة والأربعني لقيام احتاد‬ ‫دولة الإمارات‪ ،‬تلك التجربة التي تعد يف الواقع �أول جتربة عربية وحدوية كتب لها النجاح‬ ‫واال�ستمرار‪ ،‬يف وقت �شهدت فيه العديد من الدول عدم جناح جتاربها الوحدوية‪.‬‬


‫ال�شيخ زايد ‪،‬رحمه الله‪ ،‬يوقع وثائق �إنهاء اتفاقية العالقات اخلا�صة بني �أبوظبي وبريطانيا‬

‫املفارقة يف ذلك الأمر �أن تلك الدول قد �سبقت‬ ‫دول��ة الإم� ��ارات ق��رون � ًا طويلة يف جم��ال العلم‬ ‫فورثت العلوم والنظريات ال�سيا�سية والفكرية‬ ‫يف ح�ين ك��ان��ت دول��ة الإم� ��ارات قبل �أن ت�شهد‬ ‫ذلك االحتاد امليمون‪ ،‬جمرد م�شيخات متفرقة‬ ‫ترزح حتت ظروف اقت�صادية و�سيا�سية �صعبة‪،‬‬ ‫ف��إم��ارة �أبوظبي على وج��ه اخل�صو�ص‪ ،‬والتي‬ ‫كتب لها �أن تكون عا�صمة لأقوى احتاد فدرايل‬ ‫على م�ستوى الوطن العربي‪ ،‬تعترب �آخ��ر �إم��ارة‬ ‫يف �إم� ��ارات ال�ساحل �شهدت نه�ضة تعليمية‬ ‫واقت�صادية واجتماعية‪� ،‬إال �أنه بف�ضل احلنكة‬ ‫ال�سيا�سية العظيمة التي متتع بها املغفور له ب�إذن‬ ‫اهلل ال�شيخ زاي��د بن �سلطان �آل نهيان م�ؤ�س�س‬ ‫دولة الإم��ارات العربية املتحدة‪ ،‬ا�ستطاع رحمه‬ ‫اهلل ب�إرادته التي ال يعرف لها حدود �أن ي�ؤ�س�س‬ ‫احتاد دولة الإمارات حتى يثبت للعامل �أجمع مدى‬ ‫قدرة حكام الإمارات و�شعبها الكرمي على حتدي‬ ‫وتخطي ال�صعاب ومدى �إميانهم ب�أهمية الوحدة‬ ‫كخيار وطني ال بديل له‪.‬‬

‫رجال خمل�صون‬

‫وقد وقف بجانب ال�شيخ زايد وخا�صة على م�ستوى‬

‫�إم��ارة �أبوظبي جمموعة خمل�صة من الرجال‪،‬‬ ‫كان لهم الف�ضل الكبري يف دعم م�ساعي املغفور‬ ‫له ب�إذن اهلل تعاىل ال�شيخ زايد بن �سلطان �أثناء‬ ‫مباحثات االحت��اد وبعد قيامه‪ ،‬فبف�ضل ه�ؤالء‬ ‫الرجال ا�ستطاعت �إمارة �أبوظبي ‪-‬عا�صمة دولة‬ ‫الإم��ارات‪� -‬أن تثبت للمنطقة مدى قدرتها على‬ ‫قيادة ركب االحتاد ودعمه بكل م�ؤثرات القوة‪،‬‬ ‫ومن ه�ؤالء الرجال على �سبيل املثال ال احل�صر‪،‬‬ ‫�أح �م��د خليفة ال �� �س��وي��دي‪ ،‬وحم �م��د ح�برو���ش‬ ‫ال�سويدي‪ ،‬والدكتور مانع �سعيد العتيبه‪ ،‬وال�شيخ‬ ‫�أحمد بن حامد‪ .‬وقد �سلطت ال�صحافة العربية‬ ‫�آنذاك ال�ضوء على الكيفية التي جنح بها املغفور‬ ‫له ب�إذن اهلل ال�شيخ زايد بن �سلطان �آل نهيان‪،‬‬

‫«إن طريق المصلحة‬ ‫المشتركة قادنا في‬ ‫النهاية إلى قيام دولة‬ ‫اإلمارات العربية المتحدة»‬ ‫زايد بن سلطان آل نهيان‬

‫يف �إعداد ه�ؤالء ال�شباب لي�صبحوا ركيزة اجليل‬ ‫ال�شاب ال�صاعد الذي يتوىل م�س�ؤولية �إدارة �إمارة‬ ‫�أبوظبي‪ ،‬الفتة ب�إعجاب �إىل �إميان الراحل الكبري‬ ‫ال�شيخ زايد بالطاقات ال�شابة و�ضرورة �إعدادها‬ ‫وت�سليحها بالعلم والثقافة لتتوىل مقاليد �أمور‬ ‫االحتاد والأم��ور الإداري��ة يف �إم��ارة نا�شئة كانت‬ ‫بحاجة �إىل طاقات �أهلها وبخا�صة فئة ال�شباب‪.‬‬ ‫وق��د �أ� �ش��ارت جملة «�آخ ��ر �ساعة» امل�صرية يف‬ ‫ع��دده��ا ال�صادر يف ‪1969 – 12 - 24‬م �إىل‬ ‫البعثات التي �أوفدتها �إمارة �أبوظبي يف �ستينيات‬ ‫القرن املا�ضي‪ ،‬يف �أعقاب توىل املغفور له ب�إذن‬ ‫اهلل ال�شيخ زايد بن �سلطان مقاليد حكم الإمارة‬ ‫عام ‪ ،1966‬حيث بلغ عدد البعثات حوايل ‪280‬‬ ‫مبعوث ًا‪ ،‬منهم ‪ 120‬مبعوث ًا �إىل القاهرة‪ ،‬و‪130‬‬ ‫مبعوث ًا �إىل بريطانيا‪ ،‬و�أكرث من ‪ 30‬مبعوث ًا �إىل‬ ‫العراق والأردن وباك�ستان ولبنان والكويت‪ ،‬الفتة‬ ‫�إىل �أن �أبوظبي بد�أت جتني ثمار تلك البعثات يف‬ ‫�شتى املجاالت‪.‬‬ ‫من بني طليعة �أولئك ال�شباب‪� ،‬أحمد خليفة‬ ‫ال�سويدي ال��ذي �أك�م��ل درا��س�ت��ه العليا‬ ‫يف جامعة ال�ق��اه��رة‪ ،‬و�شغل منا�صب‬ ‫مهمة منها رئي�س الديوان الأمريي يف‬


‫‪ 41‬عام ًا‬ ‫من التميز‬ ‫‪26‬‬ ‫الـعــــدد‬ ‫‪158‬‬ ‫ديسمبر‬

‫‪2012‬‬

‫ال�شيخ خليفة‪ ،‬ويل العهد يف تلك الفرتة‪ ،‬يرت�أ�س �إحدى جل�سات �أولياء العهود والنواب‬

‫�أبوظبي‪ ،‬وكان �أول وزير للخارجية لدولة الإمارات‬ ‫بعد قيام االحت ��اد‪ ،‬كما لعب �أدور ًا مميزة يف‬ ‫مباحثات االحتاد‪.‬‬ ‫وك��ذل��ك حممد ح�برو���ش ال�سويدي ال��ذي �شغل‬ ‫منا�صب ع��دة منها من�صب م �ع��اون لرئي�س‬ ‫الديوان‪ ،‬ووزير �ش�ؤون املجل�س الأعلى بعد قيام‬ ‫االحتاد‪ ،‬والدكتور مانع �سعيد العتيبة الذي توىل‬ ‫من�صب مدير دائ��رة البرتول وال�صناعة‪ ،‬وكان‬ ‫�أول وزير للبرتول بعد قيام االحتاد‪ .‬وقد ح�صل‬ ‫كل منهما على درجة البكالوريو�س يف االقت�صاد‬ ‫والإدارة من جامعة بغداد‪.‬‬

‫م�ست�شارون عرب‬

‫بالإ�ضافة �إىل ه�ؤالء الرواد الأفا�ضل‪ ،‬برزت‬ ‫جمموعة م��ن الأ� �س �م��اء العربية �أ�سهموا‬ ‫بخرباتهم ال�سيا�سية والإداري � ��ة يف دفع‬ ‫م�سرية االحتاد �إىل الأم��ام‪ ،‬من ه�ؤالء برز‬ ‫ا�سم عبد اهلل حممد الطائي‪ ،‬ال��ذي عمل‬ ‫خ�لال ال �ف�ترة م��ن ع��ام ‪1970 – 1968‬م‬ ‫م�ست�شار ًا يف الديوان الأم�يري للمغفور له‬

‫ب�إذن اهلل ال�شيخ زايد بن �سلطان �آل نهيان‪ ،‬االقت�صادي للمغفور له ب ��إذن اهلل ال�شيخ‬ ‫وم�س�ؤو ًال عن العالقات اخلارجية للإمارة‪ ،‬زايد بن �سلطان �آل نهيان‪.‬‬ ‫ونائب ًا لرئا�سة الإع�ل�ام‪ ،‬ف�ضال عن كونه‬ ‫م�ست�شار ًا للرتبية والتعليم‪ ،‬و�ساهم ب�إن�شاء دورهم يف ن�ش�أة االحتاد‬ ‫اجل�ه��از الإع�لام��ي يف دول��ة الإم� ��ارات من لعب ه� ��ؤالء ال��رج��ال دور ًا ك�ب�ير ًا وحم��وري � ًا يف‬ ‫�إذاع ��ة و تلفزيون ب��الإ��ض��اف��ة �إىل جريدة اللقاءات التمهيدية التي �سبقت قيام االحتاد‪،‬‬ ‫االحت ��اد‪ .‬وجن��م ال��دي��ن عبد اهلل حمودي‪� ،‬سواء يف مباحثات االحتاد الت�ساعي التي ا�ستمرت‬ ‫وهو من الرعيل الأول الذي عمل مع �أحمد قرابة الثالثة �أعوام والتي بد�أت منذ عام ‪1968‬‬ ‫خليفة ال�سويدي خالل فرتة رئا�سته للديوان �أو يف املباحثات التمهيدية بني الإمارات الأع�ضاء‬ ‫الأمريي من عام ‪1971 1968-‬م‪ ،‬وبعد قيام التي �سبقت قيام دولة الإمارات العربية املتحدة‬ ‫االحتاد كان من م�ؤ�س�سي وزارة اخلارجية‪ ،‬يف الثاين من دي�سمرب عام ‪1971‬م‪.‬‬ ‫حيث �أوكلت �إليه مهام الدائرة القن�صلية يف يف هذا الإطار مل تخرج دبلوما�سية ه�ؤالء الرجال‬ ‫�أيام ت�أ�سي�س الوزارة‪.‬‬ ‫عن فكر الوالد امل�ؤ�س�س ال�شيخ زايد بن �سلطان‬ ‫وك��ذل��ك ع��دن��ان ال �ب��اج��ه ج��ي ال ��ذي عمل �آل نهيان – رحمه اهلل‪ -‬ال��ذي كان بالفعل �أباً‬ ‫يف وزارة اخل��ارج �ي��ة م ��ع �أح �م��د خليفة ل�لاحت��اد‪ ،‬وامل�ح��رك اخل�لاق ال��ذي ك��ان يبث يف‬ ‫ال�سويدي‪ ،‬وم ّثل دول��ة الإم��ارات يف العديد امل�شروع روح احلياة‪ ،‬ولوال جهوده و�آرا�ؤه العظيمة‬ ‫م��ن االجتماعات ال��دول�ي��ة‪ ،‬وه��و م��ن �أعلن ملا كان لالحتاد �أن ي�ستمر يف بداياته الأوىل التي‬ ‫ع��ن ان���ض�م��ام دول ��ة الإم�� ��ارات �إىل هيئة �صادفها الكثري من العراقيل الداخلية والإقليمية‪،‬‬ ‫الأمم املتحدة يف التا�سع من دي�سمرب عام فال عجب �إذ َا �أن يحمل ه��ؤالء الرجال يف تلك‬ ‫‪1971‬م‪ ،‬كذلك ح�سن عبا�س زكي امل�ست�شار ال�ف�ترة ل��واء الإحت ��اد وي��رون��ه اخل�ي��ار املنا�سب‬


‫للخروج من نفق الفرقة والت�شرذم التي مل جتلب‬ ‫للمنطقة �إال املزيد من الأطماع واملخاطر‪.‬‬

‫اتفاقية دبي و االحتاد الت�ساعي‬

‫عندما �أعلنت بريطانيا قرارها باالن�سحاب‬ ‫من منطقة اخلليج يف ‪ 16‬يناير عام ‪1986‬م‬ ‫ظهرت فكرة االحتاد بني �إمارات اخلليج الت�سع‬ ‫«وهي م�شيخات ال�ساحل املت�صالح بالإ�ضافة‬ ‫�إىل كل من قطر والبحرين» كبديل وحل �أمثل‬ ‫للفراغ الذي �سيخلفه االن�سحاب الربيطاين من‬ ‫املنطقة‪ ،‬ورغم �أن اخلالفات القبلية والعائلية‬ ‫على احل��دود كانت م�شتعلة‪� ،‬إال �أن البداية‬ ‫جاءت �سريعة بني �أبوظبي ودبي عندما �أ�صدرتا‬ ‫يف ‪ 18‬فرباير عام ‪1968‬م بيان ًا م�شرتك ًا موقع ًا‬ ‫من حاكم �أبوظبي وحاكم دبي �أعلنا فيه عن‬ ‫ق�ي��ام احت��اد ف �ي��درايل ب�ين �إمارتيهما‪ ،‬وك��ان‬ ‫�أبرز ماجاء فيه مادته الرابعة التي تن�ص على‬ ‫دع��وة حكام الإم��ارات املت�صاحلة لال�شرتاك‬ ‫فيه بالإ�ضافة �إىل دعوة كل من حاكمي قطر‬ ‫والبحرين لالن�ضمام �إليهم «عائ�شة ال�سيار‪،‬‬ ‫التاريخ ال�سيا�سي لدولة الإم��ارات»‪ .‬لبى جميع‬ ‫احلكام نداء الإحتاد واجتمعوا يف دبي يف ‪25-‬‬ ‫‪ 27‬فرباير عام ‪1968‬م‪ ،‬و�أ�سفر اجتماعهم عن‬ ‫�صدور ما يعرف بـ«اتفاقية دبي»‪ ،‬التي �أ�صبحت‬ ‫حم��ور ًا لكل الن�شاط ال�سيا�سي واجتماعات‬ ‫االحتاد الت�ساعي الالحقة ملدة ثالث �سنوات‪.‬‬ ‫وقد �أقرت اتفاقية دبي‪ ،‬التي كانت تعد ميثاق ًا‬ ‫م�ؤقت ًا لإم��ارات االحت��اد‪� ،‬إن�شاء جمل�س �أعلى‬ ‫ل�لاحت��اد يت�شكل م��ن حكام الإم� ��ارات الت�سع‬ ‫«عائ�شة ال���س�ي��ار‪ ،‬ال�ت��اري��خ ال�سيا�سي لدولة‬ ‫الإمارات»‪.‬‬

‫االجتماع الأول للمجل�س الأعلى‬ ‫للحكام يف �أبوظبي‬

‫ب��رز دور �أح�م��د خليفة ال�سويدي‪،‬‬ ‫ب� �ح� �ك ��م م��ن�����ص��ب��ه ك��رئ �ي ����س‬ ‫ل �ل��دي��وان الأم� �ي��ري‪ ،‬وم�ع��اون�ي��ه‬ ‫وامل�ست�شارين العرب يف املباحثات‬ ‫الأوىل لقيام االحت��اد الت�ساعي‪،‬‬ ‫وخا�صة عندما انبثقت جمموعة‬

‫الأمني العام للأمم املتحدة يف تلك الفرتة يرحب بان�ضمام دولة الإمارات للمنظمة الدولية‬

‫من اخل�لاف��ات يف وجهات النظر بني �إمارتي‬ ‫�أبوظبي والبحرين من جهة‪ ،‬وقطر من جهة‬ ‫�أخ��رى‪ ،‬فالطرف الأول ر�أى �أن يتم االكتفاء يف‬ ‫االجتماع الأول مبناق�شة و�ضع امليثاق الكامل‬ ‫والدائم لالحتاد‪� ،‬أما وفد قطر ف��ر�أى �ضرورة‬ ‫تعيني رئي�س االحت���اد وحت��دي��د امل�ق��ر ال��دائ��م‬ ‫لالحتاد وا�ستكمال تنظيمات الدولة «�أحمد زكريا‬ ‫ال�شلق‪ ،‬قطر واحتاد الإمارات العربية الت�سع»‪.‬‬ ‫ونتيجة لهذا اخل�لاف‪ ،‬انف�ض االجتماع الأول‬ ‫من دون حتقيق �أية مكا�سب �سيا�سية تخدم قيام‬

‫«لوال أن تجربة االتحادية‬ ‫قد برهنت بوضوح على‬ ‫فائدتها ونفعها لشعبنا‬ ‫لما كنا قد تمسكنا بها‬ ‫كما نتمسك اليوم‬ ‫بهذه الدولة»‬ ‫زايد بن سلطان آل نهيان‬

‫االحت��اد‪ ،‬وقد جنحت بعد ذلك كل من الكويت‬ ‫وال�سعودية كو�سيطني بني �أع�ضاء االحت��اد يف‬ ‫تقريب وجهات النظر‪.‬‬ ‫وبعد الو�ساطة‪ ،‬تقرر يف هذا االجتماع االتفاق مع‬ ‫خبري عربي يف القانون العام وهو الأ�ستاذ الدكتور‬ ‫عبد الرزاق ال�سنهوري‪ ،‬على و�ضع م�شروع امليثاق‬ ‫الكامل الدائم لالحتاد «وحيد ر�أف��ت‪ ،‬درا�سة‬ ‫ووثائق حول احتاد الإمارات العربية املتحدة»‪.‬‬

‫�أول د�ستور لالحتاد‬

‫برزت �أدوار �أحمد خليفة ال�سويدي وم�ست�شاريه‬ ‫يف هذه املرحلة من خالل ال��زي��ارات واملهمات‬ ‫التي �أوكلها �إليهم املغفور له ب ��إذن اهلل ال�شيخ‬ ‫زاي��د بن �سلطان �آل نهيان‪ ،‬حيث مت ابتعاثهم‬ ‫�إىل �أمري الكويت بر�سالة مت�ضمنة �شكر �سموه‪،‬‬ ‫و�إخ��وان��ه حكام و�شيوخ الإم ��ارات الت�سع‪ ،‬على‬ ‫تلك الو�ساطة‪ ،‬كما بعثهم �إىل م�صر لالتفاق مع‬ ‫الأ�ستاذ الدكتور عبد الرزاق ال�سنهوري‪ ،‬رحمه‬ ‫اهلل‪ ،‬على و�ضع امليثاق الكامل الدائم لالحتاد‪� ،‬أو‬ ‫بعبارة �أخرى د�ستور االحتاد «وحيد ر�أفت‪ ،‬درا�سة‬


‫‪ 41‬عام ًا‬ ‫من التميز‬ ‫‪28‬‬ ‫الـعــــدد‬ ‫‪158‬‬ ‫ديسمبر‬

‫‪2012‬‬

‫ووثائق حول احتاد الإمارات العربية املتحدة»‪.‬‬

‫اجتماع الدوحة‬ ‫‪ 14 - 10‬مايو‪1969 -‬‬

‫�سبق ه��ذا االج�ت�م��اع جمموعة م��ن ال��زي��ارات‬ ‫املكوكية التي قام بها املغفور له ب�إذن اهلل ال�شيخ‬ ‫زايد بن �سلطان �آل نهيان وم�ساعدوه يف ال�ش�ؤون‬ ‫اخلارجية‪ ،‬والذي كان على ر�أ�سهم �أحمد خليفة‬ ‫ال���س��وي��دي‪ ،‬و حممد ح�برو���ش ال���س��وي��دي‪� ،‬إىل‬ ‫م�شيخات ال�ساحل املت�صالح وقطر والبحرين‪،‬‬ ‫بهدف االنتهاء من بع�ض امل�سائل العالقة التي‬ ‫تعيق تطور االحت��اد‪ ،‬وحم��اول��ة تقريب وجهات‬ ‫النظر املختلفة‪ ،‬وكان من �أهم تلك املو�ضوعات‬ ‫مو�ضوع رئا�سة االحتاد وتعيني مقره الدائم ومقره‬ ‫امل�ؤقت‪� ،‬إىل جانب اقرتاح بت�شكيل جمل�س �شورى‬ ‫�أو ا�ست�شاري وطني ميثل �شعب الإم��ارات وفق ًا‬ ‫لطريقة يتم التفاهم حولها «وحيد ر�أفت‪ ،‬درا�سة‬ ‫ووثائق حول احتاد الإمارات العربية املتحدة»‪.‬‬ ‫وال يخفى على املطلع على �ش�ؤون االحتاد حجم‬ ‫ال��دور الذي لعبه الوالد القائد والراحل الكبري‬ ‫ال�شيخ زايد بن �سلطان �آل نهيان وم�ست�شاروه يف‬ ‫ال�ش�ؤون اخلارجية يف اجتماع الدوحة‪ ،‬يف الو�صول‬ ‫�إىل اتفاق جماعي ح��ول �أك�بر ع��دد ممكن من‬ ‫البنود املدرجة على جدول �أعمال الدورة‪ ،‬خا�صة‬ ‫بعد �أن اختلفت وجهات النظر ب�شكل ملحوظ‬ ‫حول بع�ض الق�ضايا كمو�ضوع التمثيل ال�شعبي‪،‬‬ ‫حيث ر�أت البحرين ‪-‬لكونها الأك�ثر �سكان ًا بني‬ ‫�إم��ارات اخلليج‪ -‬الأخذ مببد�أ التمثيل الن�سبي‪،‬‬ ‫بينما ر�أت الإمارات الأخرى �ضرورة تطبيق مبد أ�‬ ‫امل�ساواة التامة يف التمثيل ب�صرف النظر عن‬ ‫عدد ال�سكان‪.‬‬

‫اجتماع �أبوظبي‬ ‫‪� 25 - 21‬أكتوبر ‪1969‬‬

‫يعد اجتماع �أبوظبي من �أهم االجتماعات التي‬ ‫عقدها املجل�س الأعلى حلكام الإمارات يف �إطار‬ ‫م�شاورات االحتاد الت�ساعي‪ ،‬لأنه كان من املنتظر‬ ‫�أن ينظر يف العديد من الق�ضايا املهمة والأمور‬ ‫اجل�سيمة التي يتقرر بها م�صري االحتاد ب�صورة‬

‫جل�سات عديدة ح�رضها ال�شيخ زايد‪،‬رحمه الله‪،‬‬ ‫وجهود كثرية بذلها برفقة رجاله وم�ست�شاريه من �أجل �إجناح قيام االحتاد‬


‫حا�سمة ما ُيح ّمل �إمارة �أبوظبي م�س�ؤولية تاريخية‬ ‫فريدة عليها �أن ت�ؤديها بكل حزم ويحتم عليها‬ ‫كذلك امل�ب��ادرة يف اتخاذ الإج� ��راءات الكفيلة‬ ‫بنجاح هذا االجتماع قبل موعد انعقاده‪ .‬لذلك‬ ‫ق��ام ال��راح��ل الكبري ال�شيخ زاي��د‪ ،‬رحمه اهلل‪،‬‬ ‫ب�إيفاد �أحمد بن خليفة ال�سويدي للقيام بجولة‬ ‫جديدة يف «الإمارات» واالت�صال بحكامها لدرا�سة‬ ‫�آخر التطورات يف مواقفهم حيال بع�ض الق�ضايا‬ ‫املعلقة‪ ،‬كق�ضية حتديد العا�صمة والتمثيل يف‬ ‫املجل�س ال��وط�ن��ي‪ ،‬وحم��اول��ة ر�أب ال�صدع بني‬ ‫�إمارتي قطر والبحرين « جنم الدين حمودي‪،‬‬ ‫قيام دولة الإم��ارات العربية املتحدة‪ ،‬مذكرات‬ ‫ودرا�سات»‪ .‬ومت عقد االجتماع يف موعده‪� ،‬إال �أنه‬ ‫مل يكتب له النجاح‪ ،‬ون�شطت دبلوما�سية �أبوظبي‬ ‫مرة �أخرى بقيادة الراحل الكبري ال�شيخ زايد‪،‬‬ ‫رحمه اهلل‪ ،‬ورئي�س دي��وان��ه �أحمد بن خليفة‬ ‫ال�سويدي‪ ،‬وعدنان الباجه جه‪ ،‬يف ا�ستمالة ر�ضا‬ ‫الوفود التي ان�سحبت من االجتماع‪ ،‬ويف هذا‬ ‫الإط��ار �أدىل �أحمد خليفة ال�سويدي �إىل جملة‬ ‫«�آخر �ساعة» امل�صرية بت�صريح مفاده �أنه «يحاول‬ ‫هو وجميع امل�س�ؤولني يف الإم��ارة جتنيد جميع‬ ‫اجلهود الآن لتحقيق رغبة احلاكم ال�شيخ زايد‬ ‫يف بذل اجلهود املمكنة لإزال��ة جميع العقبات‬ ‫التي وقفت �أمام ا�ستمرار عقد جمل�س االحتاد‬ ‫ال �� �س��اب��ق‪« ،»..‬ح �م��دان ال��درع��ي‪ ،‬زاي ��د �سرية‬ ‫الأجماد وفخر االحتاد» ‪.‬‬

‫مباحثات االحتاد ال�سباعي‬

‫لقد لعبت �إم��ارة �أبوظبي‪ ،‬ممثلة يف الراحل‬ ‫ال�ك�ب�ير ال���ش�ي��خ زاي� ��د‪ ،‬رح �م��ه اهلل‪ ،‬ال ��دور‬ ‫الرئي�س يف مباحثات االحتاد ال�سباعي‪ ،‬بعد‬ ‫�أن ف�شلت حم��اوالت قيام االحت��اد الت�ساعي‬ ‫وخ ��روج قطر وال�ب�ح��ري��ن‪ ،‬على ال��رغ��م من‬ ‫اجل �ه��ود امل�ضنية ال�ت��ي لعبتها دبلوما�سية‬ ‫�أبوظبي يف حماولة التوفيق بني الآراء‪� ،‬إال‬ ‫�أن القدر مل ي�ش�أ جن��اح االحت��اد الت�ساعي‪،‬‬ ‫وحتولت جهود الدبلوما�سية الإماراتية فيما‬ ‫بعد �إىل مباحثات االحتاد ال�سباعي‪.‬‬ ‫وقد �أوك��ل الراحل الكبري ال�شيخ زاي��د رحمه‬ ‫اهلل‪ ،‬العديد من املهام الدبلوما�سية يف هذه‬ ‫املحادثات �إىل رئي�س ديوانه �أحمد بن خليفة‬

‫ال�سويدي‪ ،‬و حممد حربو�ش ال�سويدي‪ ،‬وظهرت‬ ‫ك��ذل��ك يف ه��ذا ال�صدد ج�ه��ود امل�ست�شارين‬ ‫ال�ع��رب‪ ،‬ومنهم جنم الدين ح�م��ودي‪ ،‬وعبد‬ ‫اهلل الطائي‪ ،‬وع��دن��ان الباجه ج��ي‪ ،‬وعبا�س‬ ‫زكي‪ ،‬وغريهم‪ .‬وقد برزت تلك املحادثات من‬ ‫خالل‪ :‬قيادة املباحثات التمهيدية التي قامت‬ ‫بني �أبوظبي ودبي‪ ،‬والتي بد�أت يف �أوا�سط �شهر‬ ‫يونيو من عام ‪1971‬م وكانت تهدف �إىل تقريب‬ ‫وجهات النظر بني �أبوظبي ودبي بحيث ي�صبح‬ ‫االتفاق بينهما هو الأ�سا�س الذي ي�ستند عليه‬ ‫قيام االحتاد ال�سباعي‪ ،‬ومن هنا تنبع �أهمية‬ ‫ه��ذه املباحثات والتي كانت عبارة عن عدة‬ ‫ل�ق��اءات متثلت يف ع��دة ل�ق��اءات بني �أبوظبي‬ ‫ودبي مت فيها مناق�شة عدة ق�ضايا مهمة مثل‬ ‫اختيار العا�صمة و�صالحيات الرئي�س وحكومة‬ ‫االحت��اد وتوزيع ال��وزارات بني الأع�ضاء‪ ،‬وقد‬ ‫�شارك امل�ست�شارون العرب بخرباتهم الإدارية‬ ‫وال�سيا�سية يف �سل�سلة االج�ت�م��اع��ات تلك‪،‬‬ ‫وق��دم��وا تقارير ووج�ه��ات نظر كانت تهدف‬ ‫�إىل م�ساعدة احل��اك��م على تبني ال�ق��رارات‬ ‫ال�ت��ي ت�خ��دم االحت ��اد و�شعبه « جن��م الدين‬ ‫حمودي‪ ،‬قيام دولة الإمارات العربية املتحدة‪،‬‬ ‫مذكرات ودرا�سات»‪ .‬م�شاركتهم يف اجتماعات‬ ‫اللجان االحتادية املنبثقة من جمل�س التطوير‬ ‫ال��ذي ت�أ�س�س ع��ام ‪1965‬م وظ��ل يعمل ب�شكل‬ ‫منتظم‪ ،‬وقد حاول ال�شيخ زايد �أن يف�صل بني‬ ‫مو�ضوعات االحتاد ال�سباعي التي كانت حمل‬ ‫تفاو�ض ونقا�ش بني الأع�ضاء وما بني خط �سري‬ ‫عمل اللجان‪ ،‬وذلك حتى ال تتعطل م�شروعات‬ ‫جمل�س التطوير ال�ت��ي ك��ان �شعب الإم ��ارات‬ ‫ب�أ�شد احلاجة �إليها‪ ،‬وق��د �سجل دبلوما�سيو‬ ‫�أبوظبي ن�شاط ًا ملحوظ ًا يف الكثري من تلك‬ ‫اللجان وخا�صة فيما يتعلق مبو�ضوعات منح‬ ‫اجلن�سية وجواز ال�سفر والتنقل بني االمارات‬ ‫« جنم الدين حمودي‪ ،‬مرجع �سابق»‪ .‬دورهم‬

‫«إن التجربة االتحادية‬ ‫ليست وليدة وقتها بل‬ ‫هي عصارة قرون»‬ ‫زايد بن سلطان آل نهيان‬

‫يف املباحثات التي �سبقت قيام االحت��اد‪ ،‬فقد‬ ‫��ش��ارك دبلوما�سيو �أب��وظ�ب��ي‪ ،‬ال��راح��ل الكبري‬ ‫ال�شيخ زايد رحمه اهلل‪ ،‬يف املباحثات الأخرية‬ ‫التي �سبقت قيام االحتاد والتي بد�أت منذ �شهر‬ ‫يوليو ‪1971‬م وكانت عبارة عن زيارات ولقاءات‬ ‫بني حكام االمارات‪ ،‬و�إن كان من �أهمها وثيقة‬ ‫االحتاد التي وقعت يف ‪ 18‬يوليو ‪1971‬م‪ ،‬حيث‬ ‫�شهدت الفرتة التي �أعقبت هذه االتفاقية حترك ًا‬ ‫�سيا�سي ًا ن�شط ًا متثل يف �إيفاد الوفود �إىل عدد‬ ‫من العوا�صم العربية والأجنبية بهدف التعريف‬ ‫ب��أه��داف االحت��اد وتطلعاته وتقوية ال�صالت‬ ‫مع باقي ال��دول‪ ،‬وت�شري الوثائق �إىل الزيارات‬ ‫التي قام بها �أحمد خليفة ال�سويدي ومعاونوه‪،‬‬ ‫وال�سيد مهدي التاجر‪� ،‬إىل عدد من عوا�صم‬ ‫اخلليج والعامل العربي وذلك ل�شرح القرارات‬ ‫الأخ�ي��رة ال �ت��ي مت ات �خ��اذه��ا م��ن ق�ب��ل حكام‬ ‫الإم��ارات املوقعة على ميثاق االحتاد « حمدان‬ ‫الدرعي‪ ،‬مرجع �سابق»‪.‬‬

‫�إعالن قيام دولة الإمارات‬

‫وه �ك��ذا ج��اء �إع�ل�ان ق �ي��ام دول ��ة الإم� ��ارات‬ ‫العربية املتحدة يف الثاين من دي�سمرب عام‬ ‫‪1971‬م حيث اجتمع حكام الإمارات يف قاعة‬ ‫االجتماعات يف ق�صر ال�ضيافة يف منطقة‬ ‫جمريا يف دبي‪ ،‬ومت الإعالن ر�سمي ًا عن قيام‬ ‫دولة الإم��ارات‪ ،‬وق��ر�أ �إع�لان قيامها �أحمد‬ ‫خليفة ال�سويدي‪.‬‬ ‫ي�ت�ب�ين م��ن خ�ل�ال ال �ع��ر���ض ال �� �س��اب��ق م��دى‬ ‫امل�ساهمات احل�ضارية القيمة التي بذلها‬ ‫رج��االت �أبوظبي لنجاح االحت��اد وقيام دولة‬ ‫الإم� ��ارات ال�ع��رب�ي��ة امل �ت �ح��دة‪ ،‬وذل ��ك بدعم‬ ‫ال ن�ظ�ير ل��ه م��ن ق�ب��ل امل�غ�ف��ور ل��ه ب� ��إذن اهلل‬ ‫ال�شيخ زاي��د ب��ن �سلطان �آل نهيان‪ ،‬فزايد‬ ‫ودبلوما�سيوه ال�ك��رام مل يهد�أ لهم ب��ال ومل‬ ‫يطمئن لهم حال �إال عندما ر�أوا علم الإمارات‬ ‫خفاق ًا يعلن ع��ن م�ي�لاد دول��ة ج��دي��دة ُكتب‬ ‫لها �أن تكون يف الوقت احل��ايل من الدول‬ ‫املتقدمة و�أول جت��رب��ة عربية وح��دوي��ة‬ ‫يكتب لها اال�ستمرار وي�شار لها بالبنان‬ ‫من قبل العامل �أجمع‬


‫‪ 41‬عام ًا‬ ‫من التميز‬

‫ملف وثائق االتحاد‬

‫بيان م�شرتك بني �إماراتي �أبوظبي ودبي‬

‫اتفاقية االحتاد (‪)1‬‬


‫اتفاقية االحتاد (‪)2‬‬

‫«إن االتحاد يزداد قوة‬ ‫بقوة العرب‪ ..‬كما أنه‬ ‫يستمد وجوده من وجود‬ ‫األمة العربية وعزيمتها»‬ ‫زايد بن سلطان آل نهيان‬

‫اتفاقية االحتاد (‪)3‬‬


‫‪ 41‬عام ًا‬ ‫من التميز‬

‫«لقد تحققت هذه‬ ‫اإلنجازات لتالقي إرادتنا‬ ‫جميع ًا على دعم‬ ‫االتحاد»‬ ‫زايد بن سلطان آل نهيان‬

‫اتفاقية االحتاد (‪)4‬‬

‫اتفاقية احتاد �إمارتي �أبوظبي وعجمان‬


‫اتفاقية احتاد �إماراتي �أبوظبي و�أم القيوين‬

‫قرار احتادي ب�ش�أن االتفاق مع القانوين ال�سنهوري‬ ‫لو�ضع م�رشوع ميثاق االحتاد‬


‫‪ 41‬عام ًا‬ ‫من التميز‬

‫«نحن الذين رسمنا خطة‬ ‫االتحاد‪ ..‬لم يكن ذلك عن خبرة‬ ‫وإنما عن إيمان بأمتنا‪ ،‬إيمان‬ ‫بالوطن‪ ،‬إيمان بضرورة الوحدة‪،‬‬ ‫ورغبة في تحقيق المصلحة‪،‬‬ ‫التي ال تدرك إال باالتحاد»‬ ‫زايد بن سلطان آل نهيان‬

‫بيان م�شرتك عن‬ ‫املجل�س الأعلى‬

‫قرار احتادي ب�إن�شاء جلنة االت�صال‬


‫قرار احتادي ب�شان رئا�سة جل�سات‬ ‫املجل�س الأعلى لالحتاد‬

‫قرار بت�شكيل جلنة لدرا�سة توحيد النقد‬ ‫والربيد والعلم وال�شعار و�إ�صدار �صحف‬


‫‪ 41‬عام ًا‬ ‫من التميز‬

‫«إن تجربتنا الوحدوية في‬ ‫دولة اإلمارات هي البرهان‬ ‫الساطع على أن الوحدة‬ ‫والتآزر هما مصدر كل قوة‬ ‫ورفعة وفخر»‬ ‫زايد بن سلطان آل نهيان‬

‫قرار ب�ش�أن مكان اجتماع‬ ‫املجل�س الأعلى لالحتاد‬



‫‪38‬‬ ‫الـعــــدد‬ ‫‪158‬‬ ‫دي�سمرب‬ ‫‪2012‬‬

‫الكالم المباح‬

‫الكالم المباح‬

‫وثائق الخليج الفرنسية‬ ‫حنفي جايل‬


‫الوثائق الربيطانية‪ ،‬وال تزال‪ ،‬امل�صدر الرئي�س للباحثني‬ ‫وامل�ؤرخني املخت�صني بتاريخ �شبه اجلزيرة العربية‬ ‫ومنطقة اخلليج‪ ،‬وتكاد هذه الوثائق �أن تكون امل�صدر الوحيد لكتابة ذلك‬ ‫التاريخ‪ ،‬وهذا راجع لظروف تاريخية معروفة‪ ،‬ومعروف �أي�ض ًا �أن جميع‬ ‫الكتابات العمدة واملعتمدة يف هذا املجال اعتمدت‪ ،‬وال تزال تعتمد ب�صفة‬ ‫كاملة على هذه الوثائق‪ ،‬والتي هي على درجة عالية من الدقة‪ ،‬واملحفوظة‬ ‫�أ�صولها واملنظمة بحرفية يف الأر�شيف الوطني الربيطاين‪ ،‬واملحتفظ بن�سخ‬ ‫منها يف �أكرث من �أر�شيف من �أر�شيفات الدول اخلليجية والعربية‪ .‬وهناك‬ ‫فهار�س كثرية و�ضعت لها بالعربية والفار�سية والأوردية وغريها‪ ،‬ما �سهل‬ ‫احل�صول على املطلوب منها‪ ،‬وزاد من االعتماد عليها كم�صادر للبحث‪ .‬وقد‬ ‫�أدى ذلك الأمر �إىل خروج معظم الكتابات والأبحاث التاريخية عن املنطقة‬ ‫وهي حتمل وجهة نظر الربيطانيني فقط حول الوقائع والأحداث حمل‬ ‫الت�أريخ �أو البحث‪ ،‬اللهم ما قد يحمله بع�ضها ـ لأغرا�ض الدر�س والنقد‬ ‫والتحليل ـ لوجهة نظر الباحث �أو الكاتب حيالها‪ ،‬والتي تدور يف فلكها‬ ‫وال تبتعد عنها‪ .‬ومنذ فرتة طرحت �أفكار عن �ضرورة البحث عن وثائق‬ ‫�أخرى يف بع�ض الأر�شيفات الأخرى ذات العالقة باملنطقة‪ ،‬وبرز حتديد ًا‬ ‫ا�سم الأر�شيف الوطني الفرن�سي ليكون �أحد امل�صادر التي ميكن �أن يوجه‬ ‫�إليها االهتمام للوقوف على ما ميكن �أن يكون متوافر ًا فيه من وثائق تتعلق‬ ‫بتاريخ املنطقة‪ ،‬لأن هذا الأمر �سي�ساعد‪ ،‬يف �إتاحة معلومات جديدة عن‬ ‫املنطقة رمبا �ساعدت على تعديل �أو تفنيد �أو ت�أييد وجهات نظر الباحثني‬ ‫وامل�ؤرخني ال�سابقني حولها‪ .‬وقبل عدة �سنوات بد�أت الأمانة العامة ملراكز‬ ‫الوثائق والدرا�سات يف دول جمل�س التعاون لدول اخلليج العربية م�شروع ًا‬ ‫يهدف �إىل التعرف على حمتوى الأر�شيف الوطني الفرن�سي من وثائق‬ ‫تخ�ص املنطقة‪ ،‬و�أذكر �أن هذا املو�ضوع �أثري لأول مرة يف اجتماع ملراكز‬ ‫الوثائق والبحوث يف دول جمل�س التعاون لدول اخلليج العربية عقد يف مدينة‬ ‫العني يف دولة الإمارات العربية املتحدة‪ ،‬وا�ست�ضافه مركز زايد للرتاث‬ ‫والتاريخ �سابق ًا‪« ،‬مركز زايد للدرا�سات والبحوث حالي ًا» التابع لنادي تراث‬ ‫الإمارات‪ ،‬وخالله �أبدى كل من معايل الدكتور فهد بن عبد اهلل ال�سماري‪،‬‬ ‫الأمني العام ملراكز الوثائق والدرا�سات يف دول املجل�س‪ ،‬الأمني العام لدارة‬ ‫امللك عبد العزيز يف ال�سعودية والأ�ستاذ الدكتور ح�سن حممد النابودة‪،‬‬ ‫مدير املركز املذكور‪ ،‬وبقية ر�ؤ�ساء و�أع�ضاء الوفود امل�شاركة يف االجتماع‬ ‫حما�سة �شديدة لهذا الأمر‪ ،‬كما عقد اجتماع م�صغر مع �شخ�صيات فرن�سية‬ ‫وخمت�صني بتاريخ املنطقة للغر�ض نف�سه على هام�ش ذلك االجتماع الذي‬ ‫حل الدكتور �صابر عرب‪ ،‬وزير الثقافة امل�صري احلايل‪� ،‬ضيف �شرف عليه‪،‬‬ ‫ب�صفته رئي�س الهيئة العامة لدار الكتب والوثائق امل�صرية وقتها‪.‬‬ ‫وقبل �أيام ا�ست�ضافت جامعة الإمارات العربية املتحدة اجتماعات الدورة‬ ‫العادية ال�سابعة والع�شرين للأمانة العامة ملراكز الوثائق والبحوث‪ ،‬على‬ ‫هام�ش ندوة مهمة نظمتها عمادة �ش�ؤون املكتبات يف اجلامعة عن م�ستقبل‬ ‫الكتاب الإلكرتوين يف دول جمل�س التعاون لدول اخلليج العربية‪ ،‬وكان‬ ‫يل �شرف امل�شاركة فيها‪ ،‬و�سرين �أن �أعرف �أن امل�شروع الآن يف مرحلته‬ ‫الثالثة‪ ،‬و�أنه ينفذ بالتعاون مع الأر�شيف الوطني الفرن�سي‪ ،‬و�أن ال�سيد‬ ‫با�سكال �إيفني نائب مدير الأر�شيف ل�ش�ؤون الرتاث والعالقات بامل�ؤ�س�سات‪،‬‬ ‫هو ممثل اجلانب الفرن�سي يف امل�شروع نائب ًا عن ال�سيد هرييف ليموين‬ ‫مدير الأر�شيف‪ ،‬و�أن لديهم جمموعة من التقارير القن�صلية والتلغرافات‬

‫�شكلت‬

‫ال�صحفية عن دول اخلليج العربي يف القرنني ال�سابع والثامن ع�شر‬ ‫مت تبادلها بني وزارة اخلارجية الفرن�سية والقن�صليات الفرن�سية التي‬ ‫�أن�شئت يف املنطقة وميكن للم�ؤرخني االعتماد عليها بالإ�ضافة �إىل‬ ‫امل�صادر املكملة‪ ،‬ومنها ق�ص�ص امل�سافرين وامل�ستك�شفني والتجار‬ ‫والعلماء‪ ،‬وخ�صو�ص ًا امل�صادر املحفوظة يف امل�ؤ�س�سات الكربى للرتاث‬ ‫الباري�سي واملحافظات والأكرث ندرة يف �أق�سام الأر�شيفات‪ ،‬مثل تاريخ‬ ‫عمان الذي يعد �أمنوذج ًا لهذه الوثائق حول تاريخ العالقات بني البلدين‬ ‫منذ القرن الثامن ع�شر‪ ،‬كما يوجد م�صدر �آخر غري معروف بالقدر‬ ‫الكايف‪ ،‬وغري م�ستغل �أي�ض ًا ويحوي وثائق حول اخلليج العربي وعالقاته‬ ‫مع فرن�سا وهو �أر�شيف �سفارة فرن�سا يف الق�سطنطينية‪ ،‬واملحفوظ يف‬ ‫مراكز الأر�شيفات الدبلوما�سية يف «نانت»‪.‬‬ ‫وقد ت�أكد يل من خالل مقابالت �سريعة مع عدد من �أع�ضاء الوفود العربية‬ ‫امل�شاركة يف االجتماع مع ال�سيد �إيفني �أن �سيطرة الوثائق الربيطانية على‬ ‫حقل الكتابة التاريخية‪ ،‬يعد تق�صري ًا من النظرة العلمية‪ ،‬لأن التو�صل‬ ‫�إىل �أي نتائج �سيكون وفق ًا للر�ؤية الأحادية للجانب الربيطاين‪ ،‬ما يفقدنا‬ ‫التوازن العلمي يف حقل الدرا�سات التاريخية‪ ،‬و�أن وجود امل�صادر الوثائقية‬ ‫الفرن�سية �سيتيح معرفة �أكرب ويعالج النق�ص العلمي يف �أحيان كثرية‪ ،‬و�أن‬ ‫التعاون مع اجلانب الفرن�سي �سي�سهم يف معرفة املزيد من تاريخ اخلليج‬ ‫وتطوره‪ .‬فعلى �سبيل املثال ومن املعلوم �أن هذا التاريخ وذلك التطور ارتبطا‬ ‫يف فرتة مهمة وطويلة مبهنة الغو�ص بحث ًا عن الل�ؤل�ؤ‪ ،‬وقد ال يعرف بع�ضنا‬ ‫�أن معظم‪� ،‬إن مل يكن كل التجار الرئي�سيني يف جتارة الل�ؤل�ؤ امل�ستخرج من‬ ‫مغا�صات اخلليج كانوا يف الهند‪ ،‬وكانوا من الفرن�سيني‪ ،‬وبعد ظهور الل�ؤل�ؤ‬ ‫ال�صناعي «امل�ستزرع» بد�أ جتار اخلليج يف الذهاب �إىل فرن�سا للبحث عن‬ ‫�أ�سواق جديدة لبيع الل�ؤل�ؤ‪ ،‬وهذه املعلومة الأخرية ا�ستقيتها من مندوب دولة‬ ‫الكويت يف االجتماع الذي �أكد وجود بع�ض الر�سائل التي �أر�سلها جتار من‬ ‫الكويت عام ‪1924‬م لفرن�سا لهذا الغر�ض‪ .‬ومن الوثائق الفرن�سية املتعلقة‬ ‫باخلليج ولها �أهمية كبرية مرا�سالت نابليون بونابرت‪ ،‬و�أغلبها موجود‬ ‫يف م�صر وبالت�أكيد �ستفيد يف �إ�ضافة �أو �إ�ضاءة مالمح جديدة عن تاريخ‬ ‫املنطقة‪ ،‬خا�صة �إذا علمنا �أن بونابرت �أقام عالقات دبلوما�سية مع م�سقط‬ ‫يف القرن الـ‪ 18‬و�أبدى رغبته يف فتح طريق �إىل فار�س وفتح قن�صلية يف‬ ‫بو�شهر يف �إيران‪ ،‬وهو ما حدث بعد ذلك‪ ،‬وا�ستمرت هذه القن�صلية يف‬ ‫العمل عدة �شهور‪ ،‬كما �أبدى اهتمام ًا باخلليج املوجود يف طريقه �إىل‬ ‫الهند‪ ،‬ومل يرتدد يف االت�صال ب�شكل م�ستمر مع الإمام «�سلطان بن �أحمد»‬ ‫وتعيني ‪ le Seiur Beauchamp‬قن�صال فرن�سي ًا يف م�سقط‪ ،‬ما �أدى لردود‬ ‫فعل �إجنليزية غا�ضبة و�ضغوط مور�ست على الإمام مع التهديد ب�إغالق‬ ‫املوانئ الهندية �أمام ال�سفن العمانية‪ ،‬ومل تهد�أ هذه ال�ضغوط �إال بعد طرد‬ ‫الإمام لطبيب فرن�سي كان ي�ؤمن احلماية للم�صالح الفرن�سية التجارية يف‬ ‫ميناء م�سقط يف حواىل ‪ 1800‬ميالدية‪.‬‬ ‫ثمة كلمة �أخرية يف املو�ضوع‪ ،‬وهي �أن التاريخ له �أكرث من م�صدر‪،‬‬ ‫واحلقيقة لها �أكرث من وجه‪ ،‬و�أن الإن�سان عليه �أن ي�سعى يف حت�صيل‬ ‫املعرفة من �أكرث من م�صدر‪ ،‬وتقليب الأمر الواحد على �أكرث من وجه‪،‬‬ ‫و�أنه كلما ازداد علم ًا اكت�شف مدى حاجته �إىل مزيد من هذا العلم‪ ،‬ومن‬ ‫هنا قال العلماء‪� :‬إن اهلل �سبحانه وتعاىل مل ي�أمر نبيه حممد ًا �صلى اهلل‬ ‫عليه ويلم باال�ستزادة �إال من العلم‪ ،‬فقال تعاىل‪« ،‬وقل رب زدين علم ًا»‬


‫ساحة الحوار‬ ‫‪40‬‬ ‫الـعــــدد‬ ‫‪158‬‬ ‫ديسمبر‬

‫‪2012‬‬

‫�أكد حاجته �إىل قراءة مبنية على العلم‬

‫يحيى بن الوليد‪:‬‬

‫بقامات غاية في األهمية المعرفية‬ ‫تراثنا حافل‬ ‫ٍ‬


‫حاوره‪� -‬إدري�س علو�ش‬ ‫قال الناقد املغربي يحيى بن الوليد �إن الرتاث ال يجب �أن يكون حكراً على قراءات‬ ‫�أحادية‪ ،‬لأن ذلك يفقده طابعه التعددي الذي كان �أ�سا�س ازدهار احل�ضارة العربية‬ ‫يف فرتة �سابقة‪ ،‬وعلى النحو الذي جعل من زمن بغداد زمناً عاملياً‪.‬‬ ‫و�أ���ض��اف يف حوارنا معه‪� ،‬أن �أهمية ال�تراث‬ ‫ال تت�ضح دالالت��ه��ا �إال م��ن خ�لال امتداداته‬ ‫�إىل ع�صرنا‪ ،‬ومن خالل «القراءة» مبعناها‬ ‫الفل�سفي اال�صطالحي‪ ،‬ومن خالل «التقييم»‬ ‫كا�سرتاتيجية يف القراءة‪ ،‬م�ؤكد ًا �أن التقييم‬ ‫ال بد �أن يكون م�سبوق ًا بالتحليل والت�شخي�ص‬ ‫�أي�ض ًا حتى ال ن�سقط يف �أحكام ع�شوائية غري‬ ‫ِم�ؤ�سـّ�سة ومبنية على «العلم»‪ ،‬وحمذر ًا من �أن‬ ‫م�ستقبل الرتاث مهدد‪ ،‬يف ظل الفكر القائم‬ ‫على التوليف واال�ستن�ساخ واالجتزاء والنقل‬ ‫والعكازات النظرية‪ ،‬وقال‪« :‬ما �أحوجنا �إىل‬ ‫اب��ن ر�شد م��ن ن��وع �آخ���ر‪ ،‬وم��ا �أح��وج��ن��ا �إىل‬ ‫بالغي وناثر �ساخر يف حجم اجلاحظ‪ ،‬وما‬ ‫�أحوجنا �إىل ق���راءات للن�ص الديني التي‬ ‫تدعم �أ�صوله‪ ،‬لكن يف امل��دار ذات��ه ال��ذي ال‬ ‫يفارق اجلمال والأخالق والوجود والذوق»‪...‬‬ ‫وفيما يلي ن�ص احلوار‪:‬‬ ‫على م�ستوى اال�صطالح‪ ،‬ما الذي نعنيه‬ ‫بالرتاث النقدي؟‬ ‫امل�ؤكد �أن �س�ؤا ًال يف هذا احلجم ال يخلو من‬ ‫كبري �أهمية‪ ،‬غري �أنه‪ ،‬ويف الوقت ذاته‪� ،‬س�ؤال‬ ‫مركـّب و�إ�شكايل‪ ،‬و�سواء على م�ستوى مفهوم‬ ‫الرتاث يف حد ذاته �أو مفهوم النقد الذي ال‬ ‫يعدو �أن يكون جم��رد «من��ط» �ضمن �أمن��اط‬ ‫معرفية �أخرى م�شكـِّلة للرتاث‪ .‬ومن ّثم من�ش�أ‬ ‫ما ي�سميه بع�ض دار�سي ال�تراث بـ«الوحدة‬ ‫ال�سياقية الكربى» للرتاث‪.‬‬ ‫و�إجما ًال فالرتاث موجود هناك �أو �أن الرتاث‬ ‫تف�صلنا عنه م�سافة تاريخية وثقافية‪ ،‬غري‬ ‫�أن �أهميته ال تت�ضح دالالت��ه��ا �إال من خالل‬ ‫امتداداته �إىل ع�صرنا هذا‪ .‬ويف هذا ال�صدد‬

‫�إدوارد �سعيد‬

‫تتبدى �أه��م��ي��ة ال��ق��راءة مبعناها الفل�سفي‬ ‫اال�صطالحي الذي ت�سهم يف �صياغته تيارات‬ ‫الت�أويل والدرا�سات الهرمينوطيقية‪ .‬ويف هذا‬ ‫ال�صدد �أي�ضا تت�أكد داللة ما ينعت بـ«الرتاث‬ ‫املعا�صر» �أي الرتاث الذي نتفاعل معه مقدار‬ ‫ما نت�أثر به يف ع�صرنا ه��ذا‪ .‬وفيما يخ�ص‬ ‫النقد فرتاثنا النقدي والبالغي يحفل بقامات‬ ‫غاية يف الأهمية املعرفية‪ ،‬ويبقى امل�شكل‬ ‫فقط ‪�-‬أو �أ�سا�س ًا‪ -‬يف طبيعة ال��ق��راءة التي‬ ‫ميكن �أن ن�ستند �إليها يف تدبر هذه القامات‬ ‫وا�ستخال�ص �أفكارها وت�صوراتها بخ�صو�ص‬ ‫الأعمال الأدبية وبخ�صو�ص العمل النقدي‬

‫ما يحصل في حقل‬ ‫النظرية المعاصرة‬ ‫بإمكانه أن يكشف‬ ‫عن وجه آخر في التراث‬ ‫النقدي‪ ،‬وخصوص ًا من‬ ‫ناحية النقد الثقافي‬

‫طه ح�سني‬

‫ذاته‪ ،‬باعتبارها «ن�شاطا ت�صوريا» �أي�ض ًا كما‬ ‫يقول جابر ع�صفور‪ .‬فمن اجللي �أن الرتاث‬ ‫ال وجود له مبعزل عن القراءة‪ ،‬و�أن الرتاث ال‬ ‫ميكن لدالالته �أن تتجدد �إال من خالل جتدد‬ ‫الفكر القرائي وحتوالت الأمناط القرائية‪.‬‬

‫يف املعرفة العربية والإ��س�لام�ي��ة �سيظل‬ ‫دوم�اً ال�تراث اخللفية الأ�سا�س للمعرفتني‬ ‫م�ع�اً‪ ،‬م��ن موقعكم ال�ن�ق��دي‪ ،‬كيف تنظرون‬ ‫لهذه امل�س�ألة؟‬ ‫�إذا �سمحتم ال ينبغي �أن جنعل من الرتاث‬ ‫ق�ضية ال تعلو عليها ق�ضية �أخرى �أو �أن جنعل‬ ‫من الرتاث الق�ضية ومن الق�ضية الرتاث كما‬ ‫ي�سعى �إىل ذلك البع�ض وخ�صو�صا يف املنظور‬ ‫ال��ذي يجعلنا مبعزل عن الع�صر ب�إ�شكاالته‬ ‫املغايرة وبتياراته اجلديدة وب�إيديولوجياته‬ ‫املتنابذة‪ .‬غري �أن هذا ال يحول‪ ،‬وكما قلتم‪،‬‬ ‫دون الرتكيز على ال�تراث و�إعطائه �أهمية‬


‫ساحة الحوار‬ ‫‪42‬‬ ‫الـعــــدد‬ ‫‪158‬‬ ‫ديسمبر‬

‫‪2012‬‬

‫بالغة بالنظر لطبيعة الفكر العربي وبالنظر‬ ‫لطبيعة الثقافة العربية ب�ألغامها املتعلقة‬ ‫بطبيعة الهوية ومبفهوم الأم���ة وم�شكالت‬ ‫اللغة‪� ...‬إل��خ‪ .‬فطبيعة الثقافة العربية‪ ،‬ومن‬ ‫حيث هي ثقافة مغلوبة وال �سيما جتاه الغرب‪،‬‬ ‫ما يجعل الرتاث يرقى �إىل اخللفية الأ�سا�س‬ ‫للمعرفة العربية والإ�سالمية‪ .‬ومن هنا من�ش�أ‬ ‫«العالقة الدرامية» مع الرتاث كما عبـّر عن‬ ‫ذلك الراحل حممد عابد اجلابري‪� .‬أت�صور‬ ‫�أن��ه ال ج��دوى من دع��اوى «الت�سييج الثقايف»‬ ‫واالن�سالخ عن الثقافة العربية الكال�سيكية‪،‬‬ ‫مما يحرمنا من االنفتاح على تيارات الفل�سفة‬ ‫املعا�صرة والنظريات املعا�صرة‪ ...‬وغري ذلك‬ ‫م��ن �أ�شكال املعرفة املعا�صرة التي جتعلنا‬ ‫ن�ستوعب تراثنا �أكرث‪.‬‬

‫الرتاث النقدي والبالغي‬

‫النقد العربي احلديث‪� ،‬إىل �أي حد ال يزال‬ ‫يتقاطع جد ًال مع الرتاث البالغي‪ ،‬والرتاث‬ ‫النقدي عامة؟‬ ‫�أن��ت تطرح‪ ،‬هنا‪��� ،‬س���ؤا ًال يتعلق بنقد النقد‪.‬‬ ‫وهذا الأخري ال يزال‪ ،‬ومن ناحية الإ�سهامات‬ ‫�أو الأعمال الإ�شكالية‪� ،‬ضئيل احل�ضور يف النقد‬ ‫العربي املعا�صر‪ ،‬و���س��واء من ناحية درا�سة‬ ‫مفهوم نقدي حم��وري �أو من ناحية درا�سة‬

‫عبد الفتاح كيليطو‬

‫ال وجود للتراث بمعزل‬ ‫عن القراءة‪ ،‬وال يمكن‬ ‫لدالالته أن تتجدد إال‬ ‫من خالل تجدد الفكر‬ ‫القرائي وتحوالت‬ ‫األنماط القرائية‬

‫مو�ضوع �إ�شكايل مت�شابك �أو من ناحية درا�سة‬ ‫جتربة حمددة لناقد �أو بالغي �أو درا�سة تيار‬ ‫نقدي �أو بالغي ب�أكمله‪ ...‬وكل ذلك يف املدار‬ ‫الذي ال يفارق حماوالت ا�ستخال�ص «الأن�ساق‬ ‫ت�صب يف «الأن�ساق الكربى»‬ ‫ال�صغرى» التي‬ ‫ّ‬ ‫التي جتعل من ال�تراث جملى لها‪ .‬الأعمال‬ ‫التي ميكن �أن نحيل عليها‪ ،‬هنا‪ ،‬معدودة جد ًا‪.‬‬

‫�سرية علمية‬ ‫يحيى بن الوليد‪ ،‬ناقد ثقايف وباحث �أكادميي‪ ،‬و�أ�ستاذ التعليم العايل‬ ‫باجلامعة املغربية‪ ،‬وهو من مواليد مدينة وجدة‪ ،‬املغرب العام ‪،1967‬‬ ‫وحا�صل على دبلوم الدرا�سات العليا «‪ »1998‬والدكتوراه «‪ »2002‬يف‬ ‫كلية الآداب والعلوم الإن�سانية بالرباط‪ ،‬و�شارك يف العديد من الندوات‬ ‫وامل�ؤمترات داخل املغرب وخارجه‪.‬‬ ‫من �إ�صداراته‪« :‬الرتاث والقراءة ــ درا�سة يف اخلطاب النقدي عند جابر‬ ‫ع�صفور» القاهرة‪ ،1999 ،‬و«اخلطاب النقدي املعا�صر باملغرب» القاهرة‪،‬‬ ‫‪ ،2003‬و«�شعر الر�ؤية» الرباط‪ ،2005 ،‬و«الكتابة والهويات القاتلة» الرباط‪،‬‬ ‫‪ 2007‬والأردن‪« ،2008 ،‬الوعي املحلق ــ �إدوارد �سعيد وحال العرب» طبعتان‪،‬‬ ‫القاهرة‪�« ،2010 ،‬سلطان الرتاث وفتنة القراءة» الأردن‪ ،2010 ،‬و«هد�أة‬ ‫العقل النقدي» ليبيا‪ ،2010 ،‬و«قراءة الرتاث يف اخلطاب النقدي املعا�صر‬ ‫باملغرب» املغرب‪ ،2011 ،‬و«تدمري الن�سق الكولونيايل» املغرب‪ ،2012 ،‬و«�صور‬ ‫املثقف» املغرب‪ ،2012 ،‬وله قيد الن�شر «عمل امل�ؤرخ ــ عبد اهلل العروي‬ ‫والتحليل الثقايف» و«نقاد حممد عابد اجلابري»‪.‬‬

‫وهذا يرتبط بطبيعة ت�صور نقد النقد الذي ال‬ ‫ميكنه �أن يرقى �إىل النقد ذاته �إال من خالل‬ ‫م�ستندات ت�صورية ومقوالت نظرية متما�سكة‪.‬‬ ‫يف احلق �إن النقد العربي املعا�صر يبدو غري‬ ‫من�شغل بالت�شابك مع مثل هذه الإ�شكاالت التي‬ ‫تتطلب تكوين ًا تراثي ًا متين ًا ورجوع ًا مبا�شر ًا �إىل‬ ‫ما كتبه الرواد‪ ،‬ولكن من منظور ع�صرنا هذا‬ ‫كما �أوم�أت قبل قبيل‪� .‬أت�صور �أن ما يح�صل يف‬ ‫حقل النظرية املعا�صرة ب�إمكانه �أن يك�شف عن‬ ‫وجه �آخر يف الرتاث النقدي‪ ،‬وخ�صو�صا من‬ ‫ناحية النقد الثقايف‪.‬‬ ‫�أي��ة عالقة جتمع النقد الثقايف بالرتاث‬ ‫النقدي العربي‪..‬؟‬ ‫�أ ّوال ال ينبغي �أن ن�سقط يف طبيعة الت�صور الذي‬ ‫يجعل من النقد الثقايف مو�ضة قد ن�ضطر �إىل‬ ‫تغيريها مبو�ضة �أخ��رى كما يح�صل يف عامل‬ ‫اللبا�س ودنيا املو�ضة نف�سها‪.‬‬ ‫�أت�صور �أن النقد الثقايف جدير بالك�شف عن‬ ‫جوانب أ�خ��رى يف تراثنا النقدي البالغي‪،‬‬ ‫وال ميكن لذلك �أن يت�ضح �إال من خالل تلك‬ ‫النظرة التي جتعل النقد والبالغة يف «تنا�ص‬ ‫موجب» مع الأمناط الأخرى امل�شكلة للرتاث‪.‬‬ ‫فالرتاث النقدي «وحدة �سياقية �صغرى» داخل‬ ‫«وحدة �سياقية كربى» هي �سياق الرتاث عامة‪.‬‬ ‫وللحق ف�إن عميد الأدب العربي طه ح�سني كان‬ ‫قد �أ�شار �إىل الفكرة ذاتها منذ ع�شرينيات‬ ‫القرن املن�صرم عندما حت��دث عن احلاجة‬ ‫�إىل الفل�سفة وف��روع��ه��ا لفهم املتنبي و�أب��ي‬ ‫العالء املعري‪ ،‬بل تطلب الأم��ر علوم الدين‬ ‫والن�صرانية واليهودية ومذاهب الهند لفهم‬ ‫�شعر �أبي العالء املعري؛ و�أ�ضاف �أن «همزية»‬ ‫�أبي نوا�س ال ميكن �أن تفهم دون االطالع على‬ ‫املعتزلة عامة والنظام خا�صة‪.‬‬ ‫وهذا ما يدخل يف نطاق ما عرب عنه العميد‬ ‫نف�سه بـ«ثقافة الناقد»‪ .‬وق��د ع��ادت تلميذة‬ ‫العميد الناقدة �سهري القلماوي لت�ؤكد على‬ ‫الفكرة ذات��ه��ا حت��ت ت�سمية «ال��ع��رف» ال��ذي‬ ‫يفر�ض ذات��ه على دار���س الأدب‪ .‬ف��الآم��دي‪،‬‬ ‫مثال‪ ،‬مل يكن‪ ،‬يف موقفه من ال�شاعر العربي‬ ‫الكبري �أبي متام‪ ،‬ي�ستجيب ملوقف نقدي يخ�صه‬


‫على حدة يف القرن الرابع من الهجرة‪ ،‬و�إمنا‬ ‫كان ي�ستجيب ملوقف نقدي �سبقه و�آخ��ر يليه‬ ‫يف خ��ط ط��وي��ل ي�صل �إىل امل��رزوق��ي �شارح‬ ‫احلما�سة‪� ،‬أي �أنه كان «م�ؤ�س�سة» متثل وجهة‬ ‫النظر املحافظة وال�سائدة يف القرن امل�شار‬ ‫�إليه‪ .‬ويف الوقت نف�سه مل ي�صدم �شعر �أبي متام‬ ‫احل�سا�سية النقدية للآمدي على ح��دة‪ ،‬بل‬ ‫�صدم البنية الثقافية ال�سائدة ع�صر ذاك؛ ولعل‬ ‫هذا ما يربر طابع الدفاع عن الرتاث يف خطاب‬ ‫حممد عابد اجلابري‬ ‫الآمدي‪ .‬وكما ال ينبغي �أن نتغافل عن اجلاحظ‬ ‫ك�ي��ف ت�ق�ي�م��ون ال �ت��راث‪� ،‬أي � �ص��ورة ه��ذا‬ ‫الذي ال ُتفهم «ر�ؤيته البيانية» من خارج دائرة‬ ‫االعتزال‪ .‬وال�شيء ذاته يقال عن عبد القاهر الرتاث وح�ضورها يف الثقافة العربية ‪..‬؟‬ ‫اجلرجاين البالغي الفريد الذي متازجت يف �أت��ف��ق معك ح��ول التقييم كا�سرتاتيجية يف‬ ‫خطابه �صورة الأديب النحوي واملتكلم الأ�شعري ال��ق��راءة‪ ،‬لأن الثقافة العربية تفتقد �إىل‬ ‫والفقيه ال�شافعي‪ .‬وكما ال يفهم خطاب حازم التقييم‪ ،‬غ�ير �أن التقييم ال ب��د �أن يكون‬ ‫القرطاجني يف معزل عن �أبحاث الفال�سفة م�سبوق ًا بالتحليل والت�شخي�ص �أي�ض ًا حتى‬ ‫امل�سلمني‪ ،‬وخا�صة مبحث علم النف�س‪.‬ال ميكن ال ن�سقط يف �أحكام ع�شوائية غري ِم�ؤ�سـّ�سة‬ ‫لعالقة النقد بغريه من الأمناط الأخرى �إال �أن ومبنية على «العلم»‪� .‬أت�صور �أنه ما �أحوجنا‬ ‫يزداد تقديرها عند دار�سي الرتاث‪ ،‬ملا لتقدير �إىل ابن ر�شد من نوع �آخر وما �أحوجنا �إىل‬ ‫من هذا النوع من نتائج معرفية مت�س ما ينعته بالغي وناثر �ساخر يف حجم اجل��اح��ظ‪....‬‬ ‫مي�شال فوكو بـ«الإب�ستيمي»‪ »Epistémè« ،‬الذي وما �أحوجنا �إىل قراءات للن�ص الديني التي‬ ‫تدعم �أ�صوله لكن يف امل���دار ذات��ه ال��ذي ال‬ ‫هو قرين «النظام املعريف» للمرحلة‪.‬‬ ‫غري �أن��ه جتب الإ���ش��ارة‪ ،‬وبعد الت�أكيد‪ ،‬على يفارق اجلمال والأخالق والوجود والذوق‪...‬‬ ‫القامات ال�سابقة‪� ،‬أن ما �سبق يندرج يف �إطار فالرتاث ال ميكنه �أن يكون حكر ًا على قراءات‬ ‫ما يعرب عنه ب��ـ«ال��ق��راءة البينية» التي تغاير �أحادية فقط‪ ،‬لأن ذلك يفقده طابعه التعددي‬ ‫النقد الثقايف الذي يقوم على ما ي�شبه «كرنفاال الذي كان يف �أ�سا�س ازدهار احل�ضارة العربية‬ ‫�أكادميي ًا»‪ ،‬وهذا مو�ضوع �آخر ال ي�سمح احلوار يف فرتة �سابقة وعلى النحو ال��ذي جعل من‬ ‫بالتف�صيل فيه‪ .‬ويبقى �أن �أ�ؤك��د �أنه ثمة نقاد زمن بغداد زمن ًا عاملي ًا‪.‬‬ ‫مار�سوا النقد الثقايف‪ ،‬وعلى �صعيد ق��راءة‬ ‫يف ظل تعدد املناهج النقدية‪� ،‬إىل �أي حد‬ ‫ال�تراث‪ ،‬دون وعي منه �أو دون �أن يعلنوا على‬ ‫ذلك مثل جابر ع�صفور وعبد الفتاح كيليطو‪ ...‬ال يزال الرتاث النقدي العربي يفتح �شهية‬ ‫وهذا يف مقابل من �صدروا عن هذا النقد على الباحثني والدار�سني اجلدد‪..‬؟‬ ‫نحو ما فعل نادر كاظم يف كتابه «متثيل الآخر» يف هذا ال�صدد �أحيل على كتاب �إدوارد �سعيد‬ ‫املتمثلني بال�سود وب�صورتهم يف اخلطاب العربي «العامل الن�ص الناقد» الذي ت�ضمن �إحاالت‬ ‫الكال�سيكي‪ ،‬وهذا لكي ال تفوتني الإ�شارة �إىل الفتة على ال�تراث العربي‪ ،‬ه��ذا و�إن كانت‬ ‫ع��ب��داهلل الغذامي يف كتابه «النقد الثقايف» �إحاالته قابلة للنظر‪ ،‬و�أي�ض ًا �إحاالت تزفتان‬ ‫الذي بدا يل فيه مل يخرج عن «التفكيكية» �أو‬ ‫«التقوي�ضية» التي ا�ستهوته من قبل‪ .‬ويف هذا عبارة أمين الخولي‬ ‫ال�صدد �أحيل على كتابي «�سلطان‬ ‫ال�تراث الشهيرة حول «قتل‬ ‫وفتنة القراءة» الذي عاجلت فيه جانب ً‬ ‫من‬ ‫ا‬ ‫القديم فهم ًا» ال تزال‬ ‫هذا الإ�شكال‪.‬‬

‫قابلة للترهين في حياتنا‬ ‫الفكرية المعاصرة‬

‫عبد الله الغذامي‬

‫ت����ودوروف يف كتابه «نظرية ال��رم��ز» ال��ذي‬ ‫ت�ضمن �إ�شارات �إىل البالغي العربي الكبري‬ ‫عبد القاهر اجلرجاين‪ .‬فالرتاث ال ميكنه �إال‬ ‫�أن يفتح �شهية الدار�سني والباحثني اجلدد‪،‬‬ ‫لكن �شريطة التمكن م��ن الأداة النقدية‬ ‫ومن املناهج اجلديدة يف �أبعادها الفل�سفية‬ ‫والإب�ستيمولوجية‪� .‬إن عبارة �أم�ين اخلويل‬ ‫ال�شهرية حول «قتل القدمي فهما» ال تزال قابلة‬ ‫للرتهني يف حياتنا الفكرية املعا�صرة‪.‬‬ ‫من موقعكم النقدي كناقد مهتم بالرتاث‬ ‫وق�ضاياه‪ ،‬وبالنقد الثقايف‪ ،‬كيف ت�ست�شرفون‬ ‫م�ستقبل الرتاث العربي والإ�سالمي ومدى‬ ‫قوتهما يف خدمة الثقافة واملعرفة العربية‬ ‫والإ�سالمية‪..‬؟‬ ‫الظاهر �أن الرتاث ال م�ستقبل له يف ظل الفكر‬ ‫القائم على التوليف واال�ستن�ساخ واالجتزاء‬ ‫والنقل والعكازات النظرية‪ ...‬م�ستقبله ال‬ ‫يت�ضح من خ��ارج دائ��رة ال��ق��راءة الت�أ�صيلية‬ ‫املنظورية ولي�س الربانية الأح��ادي��ة‪ .‬ودومنا‬ ‫تغافل عما �أخذ يتهدد هذا امل�ستقبل بالنظر‬ ‫�إىل «االن��ف��ج��ار ال��ث��ق��ايف» ال���ذي راح يف�سح‬ ‫للهويات الفردية واللهجات املحلية‪ ...‬وهذا‬ ‫بالإ�ضافة �إىل الآل��ي��ات التفكيكية للع�صر‬ ‫العوملي الذي مل ت�سلم منه ثقافة من الثقافات‪.‬‬ ‫لقد ح�صل حتول يف الطرح الثقايف ذاته‪ ،‬وهو‬ ‫حت ّ��ول �آخ��ذ يف التزايد اجل���ارف‪ ،‬وال ميكن‬ ‫التغافل عن مثل ه��ذا التحول �أو التحوالت‬ ‫التي ال تخلو من ت�أثري على م�ستوى النظر �إىل‬ ‫الرتاث وقبل ذلك على م�ستوى التعلق به‬


‫ث‬

‫‪44‬‬ ‫الـعــــدد‬ ‫‪158‬‬ ‫دي�سمرب‬ ‫‪2012‬‬

‫جماليات‬

‫صنعاء‪..‬‬ ‫تراث حي‬ ‫ومتحف‬ ‫مفتوح‬

‫معجب الزهراين‬

‫�سنوات زرت اليمن‪ ،‬ولأول مرة‪ ،‬طبع ًا‪� ،‬سمعت من قبل‪ ،‬وقراأت الكثري‬ ‫عن م��دى غنى وتنوع الثقافات العريقة يف ه��ذا اجل��زء ال�سعيد من‬ ‫اجلزيرة العربية‪ .‬لكن زيارة كهذه مل تطرح علي باإحلاح من قبل‪ .‬والتوهم ال�سخ�سي‬ ‫هو العلة‪ ،‬كاملعتاد‪ .‬كنت اأح�سب اأن من ينتمي اإىل جنوب غربي اململكة العربية‬ ‫ال�سعودية‪ ،‬ويعرف جيد ًا ع�سري وجنران وجيزان ف�سال عن ديرته «الباحة»‪ ،‬لن يجد‬ ‫تلك الختالفات التي تثري الده�سة وت�سمن املتعة ل�سخ�ص مثلي‪ .‬زرت‪ ،‬من قبل م�سر‬ ‫وتون�ص واملغرب وبالد ال�سام وكل دول اخلليج‪ ،‬هذا ف�س ًال عن رحالت ت�سريق وتغريب‬ ‫مل تنقطع منذ ثالثة عقود ونيف‪ .‬وحني �سنحت الفر�سة‪ ،‬وبف�سل ال�سديق الويف د‪.‬‬ ‫عمر عبدالعزيز‪ ،‬قلت �ساأذهب ولو من اأجل روؤية �سخ�سيتني قريبتني اإىل القلب‬ ‫والعقل‪ :‬عبدالعزيز املقالح الذي مل األتق به من قبل اإل عرب كتبه التي كر�سته اأ�ستاذ ًا‬ ‫جليلي‪ ،‬وعبدالكرمي الرازحي الذي كتبت عنه قبل اأن اأراه واأ�ست�سيفه يف اإحدى‬ ‫املنا�سبات الثقافية مبدينة الريا�ص‪ .‬ولقد ذهلت مما راأيت‪ ،‬ومنذ اللحظات الأوىل‪.‬‬ ‫فعال �سنعاء مدينة ل ت�سبه غريها‪ .‬مدينة ت�سع جما ًل مل تعبث به حداثة العمران‬ ‫احلديث الذي فتك حتى مبكة واملدينة‪ ،‬قلب الإ�سالم ومركز ح�سارته‪.‬‬ ‫كنت اأغتنم كل فر�سة لأحترر من التزاماتي �سبه الر�سمية لأنطلق يف جولت �سباحية‬ ‫وظهرية وع�سرية وم�سائية يف املدينة القدمية‪ .‬دخلتها من غري جهة ف �اإذا بها‬ ‫ت�ستقبلني كل مرة بوجه جديد‪ .‬األقيت بع�ص املحا�سرات وح�سرت جممل الفعاليات‬ ‫التي نظمت مبنا�سبة اختيار �سنعاء عا�سمة للثقافة العربية عام‪ .‬قابلت ع�سرات‬ ‫الأ�سماء املعروفة‪ ،‬وقابلت من الوجوه اجلديدة اأ�سعافها‪ .‬تذوقت اأ�سهى الأطباق‬ ‫احلديثة وال�سعبية يف املطاعم وعند الأ�سدقاء الكرماء‪ .‬جتولت‪� ،‬سريع ًا‪ ،‬فيما بني‬ ‫كوكبان واملحويت وحراز وتعز واإب وعدن‪ ،‬التي كانت نافذة جتارية وبوابة ح�سارية‬ ‫للحجاز كله ذات يوم غري بعيد‪� .‬سهرت وطاهر ريا�ص لأول مرة فتيقنت اأننا من‬ ‫الف�سيلة ذاتها واإن اختلفت املراتب الجتماعية واملواقع املكانية والن�سغالت املهنية‪.‬‬ ‫لكن اأحد ًا اأو �سيئ ًا مل يناف�ص �سنعاء على الفتنة‪ .‬واأ�ستخدم كلمة الفتنة مفهوم ًا روحي ًا‬ ‫وفكري ًا وجمالي ًا ل ينوب عنه غريه‪ .‬فهذه مدينة فريدة من نوعها‪ .‬ومن يراها لأول‬ ‫وهلة �سيخالها قد �سممت و�سنعت يف ال�سماء ثم اأنزلت كما هي عليه‪ ،‬اآية للنا�ص‪.‬‬ ‫لكن الواقع �سريع ًا ما يعيدنا اإىل منطقه‪ .‬فاخلربة اجلمالية ال�سعبية هي التي تتجلى‬ ‫اأمامنا‪ .‬واأ�سكال املنازل واألوانها لي�ست �سوى متظهرات لذائقة ح�سارية متتد من‬ ‫الأزياء اإىل الرق�سات و�سو ًل اإىل هذه الأ�سواق التي متتلئ مبنتوجات الطبيعة ال�سخية‬ ‫من حولها‪ .‬ومما زاد من جمال املدينة اأنها موزعة يف �سكل حارات يخت�ص كل منها‬ ‫بب�ستان مليء باخل�سرة‪ .‬اإنه تزاوج خ�سيب بني الثقافة الفالحية التي تنه�ص على‬ ‫التعلق بالأر�ص‪ ،‬والثقافة احل�سرية التي تنه�ص اأ�سا�س ًا على العمل احلريف والتجاري‪.‬‬ ‫قلت لأكرث من �سديق اإن هذه املدينة ت�سلح عا�سمة دائمة للفنون ال�سعبية العربية‬ ‫الأ�سيلة‪ ،‬خا�سة واأن يد اليون�سكو �سملتها باحلماية الدائمة من احلداثة املتوح�سة‪.‬‬ ‫بعد عودتي للريا�ص بقيت ثالثة اأ�سابيع اأنام واأ�سحو على �سورها التي ا�ستحوذت‬ ‫علي‪ .‬كتبت عديد الن�سو�ص من وحيها‪ .‬وحينما اأر�سلتها ل�سديقي الطيب الو ّيف علي‬ ‫املقري‪ ،‬ولالطالع فقط‪� ،‬سربها اإىل عبدالعزيز املقالح فن�سرها كاملة يف العدد‬ ‫الثاين من جملته الأنيقة الرثية «غيمان»‪ .‬ويل عودة اإىل التفا�سيل لأن كل �سفر ل‬ ‫يعيدك اإىل �سنعاء ل يعد ك�سف ًا واإن طالت الطريق وتنوعت املحطات‬

‫قبل‬



‫وجه في المرآة‬ ‫‪46‬‬ ‫الـعــــدد‬ ‫‪158‬‬ ‫ديسمبر‬

‫‪2012‬‬

‫غا�ص يف �أعماق الرتاث و�أعاد تقدميه‬

‫هناء عبد الفتاح ‪..‬‬ ‫رحيل راهب المسرح‬


‫القاهرة ‪� -‬أحمد ال�سيد عيد‬ ‫رحل هناء عبد الفتاح راهب امل�سرح‬ ‫امل�صري يف �شهر �أكتوبر املا�ضي‪ ،‬بعد‬ ‫معاناة غري ق�صرية مع املر�ض‪ .‬رحل يف‬ ‫هدوء غري متوقع‪ ،‬حيث كان يعي�ش حتي‬ ‫�آخر حلظات حياته يف �صخب فني ال يهد�أ‪،‬‬ ‫وحني كان يذكر ا�سمه يف جمل�س فال‬ ‫يلبث �أن يو�صف بعدة �ألقاب‪«:‬الربوف�سور‪/‬‬ ‫الدكتور ‪ /‬العم ‪ /‬الرفيق»‪.‬‬

‫م�شهد من م�رسحية «ليايل احل�صاد»‬

‫كان‪ ،‬رحمة اهلل عليه‪ ،‬من �أهم الأ�ساتذة الذين وملا كان هناء �شغوف ًا بالتمثيل‪ ،‬فقد توج هذا امل�سرح الفقري‬

‫عرفهم وطننا‪ ،‬وكان همزة و�صل بني الثقافة‬ ‫العربية والثقافة البولندية‪.‬‬ ‫در���س هناء عبد الفتاح يف معهد اال�ست�شراق‬ ‫البولندي ق�سم الدرا�سات العربية والإ�سالمية‪،‬‬ ‫ويف امل�ق��اب��ل ك��ان ينقل لنا �أ� �ش �ك��ال الثقافة‬ ‫البولندية التي تبهر العامل‪ ،‬وينقل معها من‬ ‫ال�ع�ل��وم الإن�سانية وع �ل��وم امل���س��رح م��ا ينع�ش‬ ‫واقعنا امل�سرحي‪ ،‬ولعل توثيق حياته و�إجنازاته‪،‬‬ ‫خ�صو�ص ًا يف جمال امل�سرح امل�صري‪ ،‬وامل�سرح‬ ‫العربي املرتبط بالرتاث من الواجبات التي‬ ‫يجب �أن يقوم بها تالميذه وحمبوه‪ ،‬لي�ستفيد بها‬ ‫كل مهتم بامل�سرح يف وطننا العربي‪.‬‬ ‫ول��د حممد هناء عبد الفتاح متويل غ�بن‪ ،‬يف‬ ‫‪ 13‬دي�سمرب عام ‪ ،1944‬وعا�ش حياة فنية منذ‬ ‫نعومة �أظافره‪ ،‬وترعرع يف بيت فني يف عمارة‬ ‫«عمر �أفندي» بال�سيدة زينب بالقاهرة‪ ،‬وكان‬ ‫والده عبد الفتاح غنب من �أهم موثقي الفرتة‬ ‫الفنية يف ذاك الوقت‪ ،‬حيث كان يرتبط والده‬ ‫بعالقات مع �أهم فناين هذا الزمن‪ ،‬من �أمثال‬ ‫�أم كلثوم‪ .‬ف�لا ن�ستغرب عندما ي�ب��د�أ هناء‬ ‫م�شواره الفني وهو يف الثامنة من عمره فنجده‬ ‫م�شارك ًا كطفل وممثل يف بع�ض �أه��م �أف�لام ظل مهموم ًا بتقديم‬ ‫الأبي�ض والأ�سود‪ ،‬مثل «الفتوة» و«باب احلديد» الشخصيات واألشكال‬ ‫ومل يتوقف عند ه��ذا ف�شارك يف العديد من‬ ‫الفلكلورية المصرية‬ ‫الأعمال الإذاعية‪.‬‬

‫ال�شغف بالدرا�سة الأك��ادمي�ي��ة‪ ،‬حيث التحق‬ ‫ب��أك��ادمي�ي��ة ال�ف�ن��ون –املعهد ال �ع��ايل للفنون‬ ‫امل�سرحية‪ ،‬وتخرج فيه عام ‪ 1966‬ق�سم متثيل‬ ‫و�إخراج‪ .‬وكان متفوق ًا يتناف�س دائم ًا مع �أوائل‬ ‫الدفعة‪ ،‬ومل يكتف بهذا فالتحق باملعهد العايل‬ ‫لل�سينما ليح�صل منه علي البكالوريو�س ثم‬ ‫الدبلوم يف ال�سيناريو والإخراج ال�سينمائي‪ ،‬ثم‬ ‫�سافر لاللتحاق ب�أكادميية امل�سرح يف وار�سو‬ ‫«عا�صمة بولندا»‪ ،‬ومن اجلدير بالذكر �أن تلك‬ ‫الأكادميية تعد من أ�ه��م و أ�ع��رق الأكادمييات‬ ‫امل�سرحية يف �أوروب��ا‪ ،‬لكنه ووج��ه ب�صعوبة �أن‬ ‫تلك الأك��ادمي�ي��ة ال تقبل ال�ط�لاب الأج��ان��ب‪،‬‬ ‫فعمل هناك يف املجال الفني واهتم بتقوية‬ ‫اللغة البولندية‪ ،‬حتى �أن الأكادمييني �سمحوا له‬ ‫بالتقدم لدخول امتحان الإجازة عندما وجدوا‬ ‫به هذه ال�شعلة من احلما�س رغم �أنه ال يحمل‬ ‫اجلن�سية‪ ،‬ف�أمت امتحان الإجازة وكان من �ضمن‬ ‫�أربعة طالب فقط ممن ُ�سمح لهم بالدرا�سة يف‬ ‫ذاك العام‪.‬‬

‫والعربية المعبرة عن‬ ‫الهوية المتميزة‬

‫مكث د‪ .‬ه�ن��اء يف ه��ذا البلد يتعلم على يد‬ ‫�أه��م املخرجني م��ن �أم�ث��ال «يوزيـف �شـاينا»‪،‬‬ ‫ويبحر يف املدار�س الفنية مثل «امل�سرح الفقري»‬ ‫جلروتوف�سكي‪ ،‬ويحاول �أن يجد �صيغة جتمع‬ ‫بني هذه الفنون وبني �أ�شكال الفرجة ال�شعبية‬ ‫امل�صرية والعربية‪ ،‬والتي كانت �شغله ال�شاغل‪.‬‬ ‫مكث هناء يف بولندا ما يقرب من �سبعة ع�شر‬ ‫ع��ام� ًا‪ ،‬تعرف فيها علي رفيقة حياته «دروت��ا‬ ‫متويل»‪ ،‬وعاد �إىل م�صر وهو يحمل فن ًا جديد ًا‪،‬‬ ‫وعلم ًا متميز ًا‪ ،‬وب�ضعة �آالف من �أمهات كتب‬ ‫الثقافة الأوروبية‪ ،‬ودرجتي ماج�ستري‪ ،‬ودرجة‬ ‫دك �ت��وراه‪ .‬وق��د أ�خ ��رج ه�ن��اء أ�ث �ن��اء وج ��وده يف‬ ‫بولندا العديد م��ن الأع �م��ال امل�سرحية التي‬ ‫ح�صدت �أهم اجلوائز البولندية‪ ،‬ومنها جائزة‬ ‫اجلمهور البولندي مبدينة «بياوي �ستوك» عن‬ ‫�أف�ضل عر�ض م�سرحي لعام ‪ 1985‬عن �إخراجه‬ ‫مل�سرحية «خ ��ادم �سيـدين» للكاتب الإي�ط��ايل‬ ‫«جولدونـي»‪.‬‬ ‫ح�صل الفنان الراحل على عدة جوائز م�صرية‬ ‫ودولية بعد عودته �إيل وطنه‪ ،‬منها جائزة الهيئة‬ ‫الدولية للم�سرح عن دوره املهم يف ن�شر الثـقافة‬ ‫البولندية يف م�صر وال�ع��امل العربي‪،1994 ،‬‬ ‫وجائزة ال�صحفيـني عن �أف�ضل عر�ض م�سرحي‬ ‫لعام ‪ 1996‬وهو«م�شاحنات» ت�أليف الكاتبة‬ ‫امل�سرحية الإجنلـيزية «كـاترين هيـ�س»‪ .‬وجائزة‬


‫وجه في المرآة‬ ‫‪48‬‬ ‫الـعــــدد‬ ‫‪158‬‬ ‫ديسمبر‬

‫ال�شوارع‪ .‬وهو تعريف يذكرنا بكالم �أنتونني �أرتو‬ ‫يف كتابه «امل�سرح وقرينه»‪ ،‬وي�ضع �أيدينا على‬ ‫مفهوم هناء عبد الفتاح غري التقليدي للم�سرح‪.‬‬

‫‪2012‬‬

‫الفلكلور والفرجة ال�شعبية‬

‫م�شهد من م�رسحية «حالق بغداد»‬

‫الدولة الت�شجيعية‪ -‬وزارة الثقافة امل�صرية عن‬ ‫�أف�ضل �إخ��راج مل�سرحية «حفل مانيكان» للكاتب‬ ‫امل�سرحي برونو يا�شين�سكي‪ .‬عام ‪ ،1998‬وجائزة‬ ‫احتاد الأدب��اء البولندي عن �إجنازاته املهمة يف‬ ‫جم��ال الرتجمة من اللغة البولندية �إيل اللغة‬ ‫العربية عام ‪ ،2000‬وجائزة من وزارة اخلارجية‬ ‫البولندية عن النهو�ض ببولندا دولي ًا عام ‪،2010‬‬ ‫وجائزة الدولة التقديرية يف الفنون – م�صر عام‬ ‫‪ ،2011‬وجائزة جلوريا من احلكومة البولندية‪ ،‬الأر���ض‪ ،‬وم��ن الطريف �أن اجلمهور تفاعل مع‬ ‫وه��ي ج��ائ��زة متنح جلميع التخ�ص�صات‪ ،‬كما‬ ‫العر�ض‪ ،‬وامتزج التمثيل بالواقع‪ ،‬وبذلك خرج‬ ‫ح�صل على جن�سية �شرفية لإجنازاته عام ‪.2012‬‬ ‫العمل الفني بعيد ًا عن القولبة حتى يف �شكل‬ ‫املتفرجني الذين هم يف العادة من البورجوازيني‬ ‫حتوالت الفرجة‬ ‫كان هناء عبد الفتاح قبل �أن ي�سافر اىل بولندا الذين ي�شرتون التذاكر‪.‬‬ ‫�شديد االهتمام بالتجريب امل�سرحي‪ ،‬وقد ظهر �شغف هناء بتلك التجربة فبد�أ ي�صوغ �شك ًال‬ ‫ه��ذا االهتمام �أث�ن��اء عمله يف م�سارح الثقافة م�سرحي ًا خا�ص ًا ب��ه‪� ،‬سماه «حت��والت الفرجة»‪.‬‬ ‫اجل �م��اه�يري��ة‪ ،‬ح�ي��ث ك ��ان ي �ج��وب حم��اف�ظ��ات وي�ع��رف ه�ن��اء عبد ال�ف�ت��اح امل���س��رح ب ��أن��ه‪« :‬كل‬ ‫وجن��وع م�صر‪ ،‬ويقدم �أعماله ب�أقل القليل من الأ��ش�ك��ال التي يجتمع حولها اجلمهور يف �أي‬ ‫الإمكانات املتاحة‪ ،‬ويذكر فنانو امل�سرح امل�صري م�ك��ان»‪�� ،‬س��واء ك��ان عم ًال فني ًا ت�شخي�صي ًا‪� ،‬أو‬ ‫جيد ًا جتربته ال�شهرية يف قرية دن�شواي‪ ،‬حني هتاف ًا جماهريي ًا على وزن و�إيقاع‪ ،‬حتى لو كان‬ ‫قدم م�سرحية «ملك القطن» للكاتب امل�سرحي هتاف ًا ثوريا �أو ر�سم ًا جرافيتي ًا على احلوائط يف‬ ‫«يو�سف ادري�س» مبمثلني من عامة �أه��ل القرية‬ ‫«حالق – تاجر موا�شي – بائعة الفول ال�سوداين» شغف هناء عبد الفتاح‬ ‫وكان مكان العر�ض غري تقليدي‪ ،‬فلم يكن هناك بتجربة «تحوالت الفرجة»‬ ‫خ�شبة م�سرح‪ ،‬وال �صالة جللو�س اجلمهور‪ ،‬بل‬ ‫قدم عر�ضه يف الأر�ض الزراعية وافرت�ش جمهوره بعيد ًا عن القولبة وأشرك‬

‫غاص عبد الفتاح في‬ ‫أعماق التراث وأعاد‬ ‫تقديمه بشكل جديد‬ ‫وكان ميا ًال ألعمال الفريد‬ ‫فرج وسعد اهلل ونوس‬ ‫ومحمود دياب‬

‫المتفرجين في العمل‬ ‫ليمزج التمثيل بالواقع‬

‫�أخ��رج العالمة هناء عبد الفتاح ثالث ًا و�أربعني‬ ‫م�سرحية يف كل من‪« :‬م�صر – رو�سيا – بولندا‬ ‫– الكويت» لأهم امل�ؤلفني يف م�صر والوطن العربي‬ ‫والعامل‪ .‬وكان مهموم ًا دائم ًا بتقدمي ال�شخ�صيات‬ ‫امل�صرية والعربيه يف �أعماله‪ ،‬وتقدمي الأ�شكال‬ ‫الفلكلوريه املعربة عن الهوية املتميزة‪ ،‬ولذا نراه‬ ‫يقدم �شكل «�صندوق الدنيا» يف �إحدى جتاربه التي‬ ‫قدمها مرتني‪ ،‬الأوىل يف بولندا والثانية يف م�سرح‬ ‫ال�سالم‪ ،‬وعر�ضت باملمثلني البولنديني‪ .‬و�أهم ما‬ ‫يف تلك التجربه �أنها تعتمد على تقدمي �أ�شكال‬ ‫الفرجة ال�شعبية‪ ،‬مثل خيال الظل واحلواديت‬ ‫ال�شعبيه‪ ،‬ومت �ت��زج فيها ال��زغ��روط��ه البلدي‬ ‫باملو�سيقي العربيه ب�آالتها ال�شرقيه من ناي وعود‬ ‫و«رق»‪ ،‬من اجلدير بالذكر �أنه �شارك زوجته يف‬ ‫�صنع �أكرث من �سيناريو للعرو�ض امل�سرحية‪.‬‬ ‫ومن �أهم الأعمال التي قدمها هناء عبد الفتاح‬ ‫معتمد ًا على فنون الفرجة ال�شعبيية‪ :‬مغامرات‬ ‫البحار �سندباد‪� ،‬سيناريو دوروتا متويل‪ ،‬و�صندوق‬ ‫الدنيا‪� ،‬سيناريو دوروتا متويل وهناء عبد الفتاح‪.‬‬ ‫وال�سيناريو –كما �أراده هناء عبد الفتاح‪ -‬لي�س‬ ‫ن�ص ًا م�سرحي ًا تقليدي ًا‪ ،‬وال يعتمد علي املفهوم‬ ‫التقليدي للحدث وال�شخ�صيه‪ ،‬لكنه ر�ؤية فنية‪،‬‬ ‫حول مو�ضوع ما‪ ،‬تقوم على م�شاهد متعددة تبلور‬ ‫هذه الر�ؤية‪ ،‬با�ستخدام كل و�سائل التعبري املتاحه‪،‬‬ ‫مثل‪ :‬التمثيل‪ ،‬التعبري احلركي‪ ،‬املو�سيقى‪ ،‬الغناء‪،‬‬ ‫امل�ؤثرات ال�صوتيه‪ ،‬الإ�ضاءة‪� ....‬إلخ‪ .‬وهي بعيدة‬ ‫كل البعد عن امل�سرح التقليدي فتجد مث ًال املمثل‬ ‫يجل�س بجانبك باعتباره �أح��د �أف��راد اجلمهور‬ ‫وف�ج��أة يدخل اللعبة امل�سرحية �أو يطلب منك‬ ‫الدخول معه وم�شاركته‪.‬‬

‫الرتاث مبفهومه الوا�سع‬

‫وبوجه ع��ام ميكن القول ب ��أن ال�تراث مبفهومه‬ ‫الوا�سع احتل مكان ًا ب��ارز ًا يف �أعمال هناء عبد‬ ‫الفتاح‪ ،‬حيث قدم امل�سرحيات التالية التي تعتمد‬


‫م�شهد من م�رسحية «م�شاحنات»‬

‫علي مو�ضوعات و�شخ�صيات ت��راث�ي��ة‪ :‬حالق‬ ‫بغداد‪ ،‬ر�سائل قا�ضي �أ�شبيليه‪ ،‬بقبق الك�سالن‪،‬‬ ‫وكل هذه امل�سرحيات للكاتب الكبري�ألفريد فرج‪.‬‬ ‫والبد �أن ن�شري �إىل �أن هناء �شغف بن�صو�ص بعينها‬ ‫وقدم ك ًال منها �أكرث من مرة‪ ،‬مثل‪ :‬حالق بغداد‬ ‫التي قدمها مرتني‪ ،‬الأوىل �سنة ‪ ،1965‬والأخرى‬ ‫�سنة ‪ ، 2002‬ويح�سب له �أنه قدمها يف كل مرة‬ ‫بر�ؤية خمتلفة‪ .‬ومن امل�سرحيات الرتاثية التي‬ ‫قدمها هناء عبد الفتاح �أي�ض ًا‪ :‬رق�صة �سالومي‬ ‫الأخرية ملحمد �سلماوي‪ ،‬وقد �أتيح يل العمل يف‬ ‫ه��ذا العر�ض امل�سرحي‪ ،‬م�ساعد ًا لهذا الفنان‬ ‫الكبري‪ ،‬ولفت انتباهي �أنه كان يقول يف هذا العمل‬ ‫�إن الثورة قادمة‪ ،‬و�إن الظلم نهايته ثوره تطيح‬ ‫باجلميع‪ ،‬ولكن ال�س�ؤال هنا‪ :‬ملاذا اختار خمرجنا‬ ‫ن�ص ًا ذا طابع تراثي لي�سقط عليه الواقع؟‬ ‫لقد ق��دم ن�ص ًا يتناول ف�ترة �ساد فيها الف�ساد‬ ‫والظلم تت�شابه مع الفرتة الآنية‪ ،‬ف�ألب�س ر�ؤيته‬ ‫�شك ًال تراثي ًا ليبعدها عن �أعني املراقبني‪ ،‬كما‬ ‫ا�ستغل الفراغ امل�سرحي فحرك جماميع الثوار‬ ‫من خلف اجلمهور وجعلهم يدخلون من ممرات‬ ‫ال�صالة‪ ،‬ومي�شون يف �صفوف امل�شاهدين مرة‪،‬‬ ‫ومن ال�شرفات «اللوجات» مرة �أخرى‪ ،‬وجعل رقبة‬ ‫املتفرج تتحرك ميين ًا وي�سار ًا لي�شارك باهتمام‬ ‫يف تتبع احلدث‪ ،‬وي�شعر كل متفرج �أنه من الثوار‪.‬‬ ‫�إن خمرجنا يغو�ص يف �أع�م��اق ال�ت�راث ليعيد‬ ‫تقدميه ب�شكل جديد‪ ،‬فيميل ت��ارة �إىل �أعمال‬

‫ظل البحث عن أشكال‬ ‫جديدة تتحقق بالتجريب‬ ‫في المسرح الشغل‬ ‫الشاغل لهناء عبد‬ ‫الفتاح في كل أعماله‬ ‫المسرحية وكتاباته‬ ‫النقدية وترجماته‬ ‫الفريد ف��رج و�أخ��رى ل�سعد اهلل ونو�س‪ ،‬وثالثة‬ ‫ملحمود دياب‪ .‬ومل يتوقف �إنتاج هذا الفنان عند‬ ‫الإخ��راج‪ ،‬فقد اهتم بالرتجمه عن البولنديه‪،‬‬ ‫فرناه يرتجم امل�سرحيات والق�صائد ال�شعرية‬ ‫والق�ص�ص الق�صرية‪ ،‬كما ن��رى ب�ين �أعماله‬ ‫ترجمات لل�شاعرة البولنديه احلا�صلة على‬ ‫جائزة نوبل «في�سوافا �شيمبور�سكا»‪.‬‬ ‫ترجم هناء عبد الفتاح �أي�ض ًا جمموعة من �أهم‬ ‫كتب الدرا�سات امل�سرحية والنقديه منها‪ :‬م�سرح‬ ‫كانتور ليان كوو�سوفيت‪ ،‬امل�سرح الفـقري ‪ -‬درو�س‬ ‫من م�سـرح جروتوف�سكي‪ ،‬وييجي جروتوف�سكي‪،‬‬

‫كان شغله الشاغل أن‬ ‫يبحر في المدارس الفنية‬ ‫ليجد صيغة تجمع بين‬ ‫الفنون وبين أشكال‬ ‫الفرجة الشعبية المصرية‬ ‫والعربية‬

‫جمـاليات فنون الإخ ��راج لزيجمونت هيبنري‪.‬‬ ‫وم�سرح جاردينت�سي – م�سرح ما بعد احلداثة ‪-‬‬ ‫ف�ضاءات�شاينـاامل�سرحية‪.‬زبيجنييفتارانيينكو‪،‬‬ ‫امل�سرح التجريـبي بني النظرية والتطبيـق لباربارا‬ ‫ال�سوت�سكاب�شونياك‪.‬‬ ‫كما كتب هناء عبد الفتاح العديد من الدرا�سات‬ ‫وامل� �ق ��االت يف امل �ج�لات امل���ص��ري��ه وال�ع��رب�ي��ه‪،‬‬ ‫بالإ�ضافة مل�شاركته يف ع�شرات الندوات الدولية‬ ‫يف «بنجالدي�ش‪ ،‬امل�غ��رب‪ ،‬بولندا‪ ،‬الإم���ارات‪،‬‬ ‫الأردن وم�صر»‪ ،‬وكان ال�شغل ال�شاغل لأ�ستاذنا‬ ‫اجلليل يف ك��ل �أع�م��ال��ه امل�سرحية‪ ،‬وكتاباته‬ ‫النقدية‪ ،‬وترجماته‪ ،‬ه��و البحث ع��ن �أ�شكال‬ ‫ج��دي��ده تتحقق بالتجريب‪�� .‬ش��ارك هناء عبد‬ ‫الفتاح �أي�ض ًا يف ور�شتني م�سرحيتني يف مركز‬ ‫الهناجر للفنون الأوىل عام ‪ 1994‬باال�شرتاك مع‬ ‫�أ�ستاذه يوزيـف �شـاينا‪ ،‬وتوجت ب�إخراج م�سرحية‬ ‫لفريق العمل امل�سرحي حتت عنوان «بقـايا ذاكرة»‬ ‫والثانية مع يـانو�ش �سـو�سـنوف�سكي �سنة ‪1995‬‬ ‫حول ال�سـينوغرافيا‪ ،‬وقد واكبت هذه الور�شة‬ ‫�إخراجه مل�سرحية «حفل مانـيكان»‪.‬‬ ‫رحمة اهلل على العزيز الغائب احلا�ضر‪ ،‬طيب‬ ‫الذكر‪ ،‬ال��ذي قدم عمره كله للم�سرح امل�صري‬ ‫والعربي‪ ،‬وت��رك لنا علم ًا ينتفع ب��ه‪ ،‬وك��ان اهلل‬ ‫يف عون رفيقته دوروت��ا وبناته كاميال ويا�سمينا‬ ‫واتي‪ ،‬وعوين‪ ،‬فقد عرفته ان�سان ًا وعما و�أ�ستاذ ًا‬ ‫وخمرج ًا‪ .‬رحمه اهلل‬


‫‪50‬‬

‫سراديب‬

‫الـعــــدد‬ ‫‪158‬‬ ‫ديسمبر‬

‫‪2012‬‬

‫أن ترحـــــل ‪..‬‬ ‫للموت‬

‫حممد النمر‬ ‫‪nemr200876@gmail.com‬‬

‫وجهان‪ ،‬وجه يطل علينا يف كوابي�س من �أحالم‬ ‫اليقظة والنوم‪ُ ،‬يدخل يف قلوبنا الرعب واخلوف‬ ‫من جمهول قادم جاء ليفرق الأحبة‪ ،‬ووجه �آخر ي�ؤكد �أن احلياة‬ ‫لي�ست ج�سد ًا ُيفنى‪ ،‬و�إمنا روح متتد حتى بعد رحيل اجل�سد‪.‬‬ ‫�أع��ود بحنني �إىل املا�ضي ‪ ..‬حني ك��ان ي�شدو يف منزلنا وديع‬ ‫ال�صايف ب�أغنيته «دار يا دار» ف�أ�سمع دندنتها مع الأغنية‪ ،‬تتنهد‬ ‫وحتكي عن طفولتها يف منطقة «بوالق �أبو العال»‪ ،‬تلك املنطقة‬ ‫التي تت�صل بحي الزمالك يف قاهرة املعز ب�شريان حديدي‪،‬‬ ‫�أ�سموه كوبري �أب��و العال‪� ،‬أ�ستمع حلكاياها ويظل �صوت وديع‬ ‫ال�صايف �صوت اجلبل كما يطلقون عليه ميلأ �أذين‪.‬‬ ‫تنتقل بحكاياتها من حي بوالق �إىل طفولتها الطازجة حتى بعد‬ ‫�أن كربنا‪ ،‬تنتقل �إىل �آل البيت‪ ،‬فتهيم ع�شق ًا يف �آل بيت الر�سول‬ ‫�صلوات اهلل و�سالمه عليهم‪ ،‬خا�ص ًة ال�سيدة نفي�سة ب�ضريحها‪،‬‬ ‫الذي حتيطه منطقة مت�سعة ت�سمح ب�صنع هواء برائحة عطرة‪.‬‬ ‫تده�شني ‪ ..‬تلك امل��ر�أة التي مل تتعلم القراءة والكتابة‪ ،‬بينما‬ ‫متيل روحها مع التوا�شيح الدينية‪ ،‬وتطرب لكل حلن جميل‪،‬‬ ‫�أت�أملها يف تفا�صيلها‪ ،‬حنوها علينا‪ ،‬فهل كنا �أبناءها فقط �أم‬ ‫�أن العالقة جتاوزت تلك الفكرة �إىل ال�صداقة والرفقة؟ حني‬ ‫تقرتب من كل منا ت�ستمع �إليه‪ ،‬وميدها ذهنها احلا�ضر بالأمثال‬ ‫ال�شعبية واحلكم امل�ستوحاة من جتارب ال�سلف ال�صالح‪ ،‬و�أحيان ًا‬ ‫قد يحتاج الأمر لرواية ق�صة من ق�ص�ص الأنبياء‪� ،‬أو التابعني‪،‬‬ ‫�أو حتى من الرتاث ال�شعبي‪.‬‬ ‫ل�سبب م��ا �أجهله‪ ،‬ولكني �أ�شعر ب��ه‪ ،‬ج��اءت �شقيقتي الكربى‬ ‫م�شابهة لها يف حنوها علينا‪ ،‬كنا بينهما‪ ،‬ك�أننا نعي�ش بني �أختني‬ ‫�أو وال��دت�ين‪ ،‬وكنت دائ��م الت�سا�ؤل هل هو ق��در �أن ت��رث االبنة‬ ‫الكربى حنان الأم وم�س�ؤوليتها؟ و�إن كنت مل �أت�أكد من هذه‬ ‫الرتكة �إال بعد ذلك بعدة �أعوام‪.‬‬


‫و يبقـــى تراثهـــــا‬ ‫احل�ك��اي��ات‪ ،‬التناوب يف �إل�ق��اء الأم�ث��ال ال�شعبية واحلكايات‬ ‫الرتاثية‪.‬‬ ‫حني بدا �صوت نهلة عميق ًا قادم ًا من منطقة بعيدة جد ًا �شعرت‬ ‫فيها بنربة �أم��ي‪ .‬وقتها فقط �أدرك��ت �أن �أمي قد رحلت‪ ،‬فهل‬ ‫رحلت ف�ع� ً‬ ‫لا؟‪ .‬كيف ميكن ل�تراث �أن ميد احلياة يف �أج�ساد‬ ‫رحلت؟‪ .‬يف �شخو�ص نفتقدهم لأ�سباب خمتلفة للبعد‪ ،‬ت�صبح‬ ‫احلكايات والأقوال املنقولة عنهم امتداد ًا للحياة‪.‬‬ ‫ج�سدت نهلة �شخ�ص �أمي منذ حلظة وفاتها‪ ،‬و�أول ما ورثت‬ ‫منها «حقيبة عالجها»‪ ،‬ثم توالت �أح��داث احلياة لتثبت كل‬ ‫حلظة �أن �أم��ي مل ت��رح��ل‪ ،‬ومل تندثر ع��ادات�ه��ا وتقاليدها‪،‬‬ ‫فمازالت نهلة متار�س كل الطقو�س التي زرعتها �أمي يف نفو�سنا‪،‬‬ ‫ومازلنا متم�سكني برتاثها وتفا�صيلها املتمثلة يف جتميع كل‬ ‫�أف��راد الأ�سرة على مائدة �إفطار يوم اجلمعة من كل �أ�سبوع‪،‬‬ ‫واال�ستعداد لوالئم املنا�سبات الدينية على الطريقة امل�صرية‪.‬‬ ‫متكنت �أمي بحكاياتها و�أمثالها ال�شعبية‪ ،‬واالبتهاالت الدينية‬ ‫التي كانت ت�ستمع �إليها قبل �صالة الفجر‪ ،‬وزي��ارة �آل البيت‬ ‫م��رة كل �شهر على الأق��ل‪� ،‬أن ت�ترك لنا تراثها متج�سد ًا يف‬ ‫�شخ�ص ابنتها الكربى‪ ،‬فلم �أعد �أرى املوت يفرقنا‪ ،‬على الرغم‬ ‫من �أننا يف الغربة ميتون‪� ،‬إال من �صوت يت�سرب عرب الهاتف‪،‬‬ ‫�أو ب�صمة قلم يف ر�سالة‪� ،‬إمنا هو الرتاث الذي يحيي الذكرى‪،‬‬ ‫ويدمي احلياة‪ .‬مل يتوقف تراثها عند حكاياتها و�أمثالها‪ ،‬بل‬ ‫ان�سحب ليمتد يف �أرواحنا‪ ،‬بينما تذكرنا نهلة يوم ًا بعد يوم‬ ‫بطيبة �أمي التي متار�سها من دون �أن ت�شعر‪ ،‬فطفالها يعبثان‬ ‫بها كما كنا نعبث ب�أمي‪ ،‬وميار�سان عليها نف�س التفا�صيل التي‬ ‫كنا منار�سها قبل ع�شرين عام ًا م�ضت‪.‬‬

‫�أدركت بفعل تقدم العمر �أن الثقافة والوعي لي�ستا بال�ضرورة‬ ‫�صنيعة التعلم باملعنى املدر�سي‪ ،‬فقد كانت نظرتي قا�صرة‪،‬‬ ‫�إذ متكنت �أمي ب�أميتها للقراءة والكتابة �أن تغر�س فينا قيم ًا‬ ‫متعددة‪� ،‬ساهمت يف تكوين �شخ�صيات متنوعة لكل منها‬ ‫متيزها‪.‬‬ ‫�أمي تذكرين بالأر�ض التي تلتقط كل �أنواع البذور وحتت�ضنها‪،‬‬ ‫لتخرج ثمار ًا خمتلفة �أ�شكالها‪ .‬فاج�أنا مر�ض ال�سكر و�سكن‬ ‫دمها‪ ،‬ورغ��م ق�سوة ال�صدمة علينا‪ ،‬كانت تتعامل معه بروح‬ ‫فكهة‪ ،‬فرتاه نتيجة طبيعية المر�أة «دمها �شربات»‪ ،‬كنا ن�ضحك‬ ‫وال ن��درك خطورة الأم��ر‪ ،‬فقد حر�صت �أم��ي �أن حتافظ عليه‬ ‫بداخلها فقط‪ .‬هل كانت و�صيتها ب�أن تقام �صالة جنازتها يف‬ ‫رحاب �آل البيت وحتديد ًا مب�سجد ال�سيدة نفي�سة‪ ،‬هو ملحبتها‬ ‫لرتاث ع�شقته و�أورثتنا �إياه؟‪.‬‬ ‫هي �أمي ‪ ..‬امر�أة م�صرية ب�سيطة عا�شت خم�سة عقود ال حتلم‬ ‫�إال ب�أب�سط الأ�شياء‪ ،‬ثم تركت لنا �شقيقتنا «نهلة» التي تكربين‬ ‫ب�سنوات �أربع‪ ،‬لتحمل ر�سالتها وك�أمنا هي امتداد لروحها يف‬ ‫كل �أمور احلياه‪ ،‬تَعلمت من �أمي فنون عدة‪ ،‬ت�أتي يف مقدمتها‬ ‫الروح الطيبة و�صدق م�شاعر الأمومة‪ ،‬لي�س لطفليها فح�سب‪،‬‬ ‫بل حتى لنا نحن �أ�شقا�ؤها‪.‬‬ ‫غافلتنا �أمي ورحلت يف حلظة مل ندرك فيها �أن املوت قريب‬ ‫هكذا‪ ،‬تقدم امل��وت بخطى واثقة بينما قدرتنا على ت�صديق‬ ‫اقرتابه منعدمة‪ ،‬فيما ا�ستحوذت نهلة على جينات احلنان‬ ‫والأمومة‪ ،‬تتبادل مع �أمي �أدوار الأمومة جتاهنا‪ ،‬ننعم نحن‬ ‫ال�صبية بقلبني‪ ،‬تغازلنا رقتهما‪.‬‬ ‫عمدت نهلة �أن ت�ستبقي كل تفا�صيل �أمي‪� ،‬إفطارها الأ�سبوعي‬ ‫فى بيت العائلة‪ ،‬ماء الورد والبخور الذي تفوح رائحتهما يف‬ ‫كل �أرجاء البيت‪� .‬س�ؤالها الدائم عنا‪ ،‬رحابة �صدرها يف �سماع رحمك اهلل يا �أمي ‪ ..‬و�أطال عمرك يا �أبي‬


‫ارتياد اآلفاق‬ ‫‪52‬‬ ‫الـعــــدد‬ ‫‪158‬‬ ‫دي�سمرب‬ ‫‪2012‬‬

‫ين�شر هذا الباب بالتعاون‬ ‫مع املركز العربي للأدب‬ ‫اجلغرايف «ارتياد الآفاق»‬ ‫ �أبوظبي ‪ -‬لندن ‪،‬الذي يرعاه‬‫ال�شاعر والباحث الإماراتي‬ ‫حممد �أحمد ال�سويدي ‪.‬‬

‫لندن ‪1925‬‬

‫من �أوائل امل�سلمات امل�سافرات �إىل �أوروبا‬

‫عنبرة سالم الخالدي‬

‫انطباعات شرقية في إنجلترا ‪1927‬م‬ ‫عنربة �سالم اخلالدي «‪ »1897-1986‬واحدة من ال�شخ�صيات التي‬ ‫لعبت دوراً بارزاً يف احلركة الن�سائية العربية‪ .‬وهي �إ�ضافة �إىل ذلك‪،‬‬ ‫من �أوائل ال�شابات العربيات اللواتي زرن بالداً �أجنبية‪ ،‬وتعد مذكراتها‬ ‫التي �سجلت فيها انطباعاتها عما �شاهدته خالل �إقامتها يف بريطانيا‬ ‫خالل الفرتة من ‪1925‬م وحتى ‪1927‬م واحدة من �أقدم ما �سجلته‬ ‫�أنامل الن�ساء عربيات يف هذا ال�صدد‪.‬‬


‫يف مثل هذا ال�شهر «�أغ�سط�س» من عام ‪1925‬‬

‫غادرت اخلالدي لبنان قا�صدة �إجنلرتا حيث‬ ‫يعي�ش والدها‪ ،‬وهي يف مذكراتها التي نقتطف‬ ‫تعب برباعة �شديدة عن رحلة‬ ‫�أج��زاء منها‪ ،‬رّ‬ ‫التحوالت التي اعرتتها منذ �أن و�صلت ميناء‬ ‫«الإ�سكندرية» حيث ق�ضت يومني ب�صحبة‬ ‫�أ�سرة من �أ�صدقاء العائلة‪ ،‬توجهت بعدها �إىل‬ ‫مر�سيليا لتلتقط بعني فاح�صة �أحوال «الن�ساء»‬ ‫هناك‪ ،‬ومنها عربت بحر املان�ش و�صو ًال �إىل‬ ‫«دوفر» ومنها �إىل «لندن» لت�ستقر عامني من‬ ‫املراقبة والتعلم‪.‬‬

‫من بريوت �إىل دوفر‬

‫تركت بريوت‪ ،‬وكنت �شديدة ال�شوق للذهاب‬ ‫�إىل �إجن�ل�ترا وتعلم الإجنليزية‪ ،‬كما كنت‬ ‫�شديدة ال�شوق �إىل وال��دي ال��ذي بقي مثلي‬ ‫الأع �ل��ى ل�ل��رج��ال طيلة ح�ي��ات��ي‪ ،‬ول�ع��ل ذلك‬ ‫يف�سر املثل القائل «ك� ُّل فتاة ب�أبيها معجبة»‬ ‫ولكنني كنت �أ�شعر �أن بيني وب�ين �أب��ي �صلة‬ ‫تفاهم وتعاطف تفوق املحبة والإعجاب‪ ،‬بل‬ ‫هي �أ�شبه بعالقة الفتاة ب�أمها‪� ،‬إذ كثري ًا ما‬ ‫كنت �أ�شكو �إليه متاعبي و�أُ�س ُّر �إليه ما مي ُّر‬ ‫بي من حوادث‪ ،‬وعلى الأخ�ص م�سائل التحرر‬ ‫وال�سفور واحلجاب‪ ،‬التي كانت �أمي على �شيء‬ ‫من التعنت جتاهها‪ .‬وملا علم ب�أنني �أ�صبت‬ ‫مبر�ض طرحني يف الفرا�ش �أكرث من �شهرين‪،‬‬ ‫ا�ستدعاين �إليه ف�أ�سرعت مع «�صائب �سالم»‬ ‫ومعنا «ر�شا» وهي يف الثالثة من عمرها‪ ،‬وكان‬ ‫�سفري �إىل �إجنلرتا يف ذلك احلني من �أوائل‬ ‫ال�سفرات التي قامت بها ن�ساء م�سلمات يف‬ ‫بريوت �إىل �أوروبا‪.‬‬

‫يف الباخرة �إىل الإ�سكندرية‬

‫تركنا ب�يروت يف �أواخ��ر �آب «�أغ�سط�س» �سنة‬ ‫‪ 1925‬وق��د �صعدت �إىل ال�ب��اخ��رة بحجابي‬ ‫الكامل‪ ،‬ولكن ما �أن بد�أت الباخرة �سريها حتى‬ ‫رفعت النقاب عن وجهي وبقيت �أرتدي املالءة‬ ‫�إىل �أن و�صلنا الإ�سكندرية‪ .‬وهناك قابلنا‬ ‫�أ�صدقا�ؤنا من �آل الهنديلي و�أ�صروا على بقائنا‬ ‫معهم م��دة وق��وف الباخرة يف الإ�سكندرية‬

‫عنربة اخلالدي‬

‫ليومني كاملني‪ ،‬ف�سعدت جد ًا بلقائهم بعد ما‬ ‫�شعرت به من وح�شة يف تركي لبريوت‪.‬‬ ‫يف الإ�سكندرية خلعت امل�لاءة جملة وبقيت‬ ‫� ُّ‬ ‫ألف ر�أ�سي ب�شيء من بقايا احلجاب وك�أنني‬ ‫�أ�سري نحو ال�سفور خطوة خطوة �إىل �أن و�صلنا‬ ‫مر�سيليا فا�ستبدلت بقايا حجابي بقبعة‪،‬‬ ‫�سري ًا وراء الزي املعروف يف �أوروبا يومذاك‪،‬‬ ‫وقد �شعرت يف �أثناء اخلم�سة �أيام على ظهر‬ ‫ال�ب��اخ��رة ب�شيء م��ن ال�ت�ح��رر يلجمه ته ُّيب‬ ‫ويدفعه ا�ستق�صاء لكل ما حويل‪ ،‬ف�أنا لأول مرة‬ ‫�أحتدث �إىل رجال غرباء �سافرة الوجه‪ ،‬ولأول‬ ‫مرة �أجال�سهم على مائدة واح��دة‪ ،‬وال �أزال‬ ‫�أذكر ما لقيته من ارتياح يف م�صاحبة رفيق‬

‫الرحلة املرحوم توفيق مفرج وقد كان دائم‬ ‫النكتة كثري احلديث عن نف�سه وعن م�شاريعه‪،‬‬ ‫كما كان هناك الكثريون من �أ�صحاب والدي‬ ‫مثل ح�سني بك الأحدب وحرمه‪ ،‬التي �شملتني‬ ‫برعايتها و�أبعدت عني وح�شة الغربة كل مدة‬ ‫ال�سفر‪ ،‬كما �أعجبت برقتها ودماثتها وثقافتها‬ ‫الوا�سعة‪ ،‬ونخلة بك التويني وال�سيد �سيويف‬ ‫وغ�يره��م‪ ،‬الذين �أظ �ه��روا لنا ونحن �شابان‬ ‫�صغريان‪ ،‬بنظرهم‪ ،‬الكثري من املودة والرعاية‬ ‫مما جعل ال�سفرة لذيذة وم�شرقة‪ ،‬وال تزال‬ ‫انطباعاتها يف ذاكرتي جل ّية وا�ضحة‪َّ ،‬‬ ‫ولعل‬ ‫ذلك يعود �إىل تعريف على الدنيا دون �أن يكون‬ ‫ذلك من خالل احلجاب‪.‬‬

‫الفتاة اإلنجليزية رشيقة‬ ‫دون ارتخاء منتصبة‬ ‫دون توتر تحمل جسمها‬ ‫خفيف ًا وال تجره جرَّ العياء‬

‫الو�صول �إىل مر�سيليا‬

‫و�صلنا مر�سيليا يف �صباح يوم باكر من �أواخر‬ ‫�آب «�أغ�سط�س» �سنة ‪ 1925‬وق�صدنا �أح��د‬


‫ارتياد اآلفاق‬ ‫‪54‬‬ ‫الـعــــدد‬ ‫‪158‬‬ ‫دي�سمرب‬ ‫‪2012‬‬

‫منارة بريوت ‪ -‬اللقطة عام ‪1928‬‬

‫املطاعم لتناول الإف �ط��ار‪ ،‬ثم �أح��د املتاحف‬ ‫انتظار ًا ملوعد القطار الذاهب �إىل كاليه‪ .‬و�أول‬ ‫ما ا�سرتعى نظري يف فرن�سا هو ر�ؤي��ة ر َّبات‬ ‫البيوت الإفرن�سيات يذهنب �إىل م�شرتياتهن يف‬ ‫ال�صباح الباكر وهن يحملن �ساللهن ويحملن‬ ‫�شعورهن امللفوفة بالورق وال تزال كما �أعددنها‬ ‫لي ًال‪ ،‬وعجبت مل�شيتهن ولي�س فيها �شيء من‬ ‫الأناقة التي ا�شتهرت عن الإفرن�سيات‪ .‬وهكذا‬ ‫�أخذنا القطار يقطع فرن�سا من جنوبها �إىل‬ ‫�شمالها‪ ،‬وقد �أخذت بجمال البالد التي مررنا‬ ‫بها‪ ،‬وفيها امل��دن والأري ��اف‪ ،‬وفيها اخل�ضرة‬ ‫والأنهار‪ ،‬وفيها الق�صور التي تبدو من بعيد‬ ‫كالقالع‪ ،‬والقرى الأنيقة التن�سيق‪َّ ،‬‬ ‫اجلذابة‬ ‫املظهر‪ .‬ولطاملا حلمت بزيارة فرن�سا ور�ؤي��ة‬ ‫الأماكن التي كنا نقر�أ عنها‪ ،‬و�شاءت الأقدار‬ ‫�أن �أم َّر بالبلد مرور الكرام و�أن �أحرم �إىل الآن‬ ‫من حتقيق رغبتي ال�شديدة يف ذلك �إذ كانت‬ ‫الظروف دائم ًا حتول دونها‪.‬‬

‫بريطانيا العظمى‬

‫حملتنا الباخرة ال�صغرية تعرب املان�ش يف بحر‬ ‫هائج دائم الهيجان‪� ،‬إىل �أن و�صلنا بعد �ساعة‬ ‫�إىل دوفر وقد ُع َّد ذلك رقم ًا قيا�سي ًا تقريب ًا‪،‬‬ ‫وبد�أت معامل النظام الإنكليزي تظهر جلية‪،‬‬

‫لم أعجب بشيء في‬ ‫إنجلترا عجبي بالحرية‬ ‫الشخصية التي تحس‬ ‫أنك تتنفسها مع الهواء‬ ‫وت�ستدعي منا �شديد الإعجاب‪ .‬فقد �أخذت‬ ‫بهذه ال�سرعة‪ ،‬وهذا الت�سهيل باملعامالت وك�أنه‬ ‫نظام ترابط مت�سل�سل قائم على خدمتك‪،‬‬ ‫ومل جند �أنف�سنا �إال وقد انتقلنا �إىل القطار‬ ‫ال��ذاه��ب �إىل لندن‪ .‬و�أمتمنا ك� َّل ما يخت�ص‬ ‫باجلمرك وجوازات ال�سفر‪ ،‬من غري �أن ن�شعر‬ ‫بثقلها على النف�س مما يجابه كل من يدخل‬ ‫�إىل بلد غريب عادة‪.‬‬ ‫وقفت بنافذة القطار قبل و�صوله بن�صف‬ ‫�ساعة �أو �أك�ثر ترقب ًا ل��ر�ؤي��ة ال��وال��د احلبيب‬ ‫الذي مل �أره منذ �سنوات ثالث‪ .‬وال �أدري �أي‬

‫بلغ عدد الذين نقلتهم‬ ‫عربات «األمنيبوس»‬ ‫فقط يوم عيد الفصح‬ ‫الماضي بين لندن‬ ‫وضواحيها ‪ 4‬ماليين‬ ‫نسمة‬

‫�شعور كان يحملني و�أية عواطف كانت جتي�ش‬ ‫يف �صدري لتملأ قلبي‪ .‬ولكن بقية من طبيعتي‬ ‫الهادئة ت�سلحت بها وقدرت معها على اجتياز‬ ‫هذا املوقف العاطفي‪.‬‬ ‫ومب��ا �أن زيارتي لإجنلرتا كانت يف �أي��ام ِعزِّ‬ ‫بريطانيا العظمى �أي �سنة ‪ 1925‬ف�إنني‬ ‫�أخذت بهذه العظمة التي كانت تتبدى يف كل‬ ‫نواحي احلياة‪ .‬فمنذ وط ��أت قدماي الأر���ض‬ ‫الإجنليزية �أعجبت بهذا النظام الدقيق الذي‬ ‫كان ي�سود �أعمال النا�س فيها‪ ،‬فر�أيت �أن الدنيا‬ ‫قد تب َّدلت‪ ،‬و�أح��وال الب�شر تغيرَّ ت‪ ،‬وده�شت‬ ‫بهذه احلركة �شبه الآلية التي نقلتنا من دوائر‬ ‫الأمن العام واجلمارك واجلوازات بدقة ولني‬ ‫دون �أن نتعثرَّ بعائق �أو ت�صادفنا خ�شونة يف‬ ‫املعاملة‪ .‬بل مل جند �أنف�سنا �إال وقد بلغنا هدفنا‬ ‫وودع�ن��ا بكلمات ال�شكر قبل �أن نقوم نحن‬ ‫بتوجيهها‪ ،‬كما ده�شت لهذا البولي�س املنت�صب‬ ‫يف كل مكان يحافظ على الأمن والنظام‪ ،‬حتى‬ ‫ك�أنه ينبثق من الأر���ض يف الأماكن اخلالية‪،‬‬ ‫ويحافظ على راح��ة �سكان بلده كمحافظته‬ ‫على راح��ة ز َّواره��ا‪ ،‬ويقدم خدماته لكل من‬ ‫يح�س ب���أن ب��ه ح��اج��ة �إل�ي�ه��ا‪ .‬وال�ن�ظ��ام عند‬ ‫الإن�ك�ل�ي��ز ق��ان��ون غ�ير مكتوب ي�ق��وم��ون على‬ ‫اتباعه ب�إخال�ص لكي يقوم هو على خدمتهم‬


‫بل على خدمة كل �شخ�ص ت�ضمه هذه البقعة‬ ‫من الأر�ض‪ ،‬فال جتد نف�سك �إال و�أنت تتبع ما‬ ‫يفر�ضه عليك �أ�سلوب احلياة وك�أنك �أ�صبحت‬ ‫ج��زء ًا منها‪ .‬و�أعتقد �أن دقة النظام هذه قد‬ ‫اعتورها م�ؤخر ًا �شيء كثري من عدم املباالة‪،‬‬ ‫ف�أ�صبحت تختلف اختالف ًا كبري ًا عما عرفته‬ ‫منها يف فرتة ما بني احلربني العظميني‪ .‬وهم‬ ‫ميتثلون لقرارات الدولة امتثا ًال ظهر ب�أجلى‬ ‫مظاهره حينما �أعلن الإ��ض��راب العام �سنة‬ ‫‪ 1926‬و�ش َّل احلركة يف جميع �أنحاء البالد‪،‬‬ ‫وتعطلت املوا�صالت على �أنواعها‪ ،‬فوقفت الأمة‬ ‫ب�أجمعها ت�ساند احلكومة‪ ،‬وت�صغي �إىل كل‬ ‫توجيه ي�صدر عنها‪ .‬وتطوع �شبان اجلامعات‬ ‫خلدمة البولي�س وقيادة القطارات وال�سيارات‪،‬‬ ‫وا�ستلمت الفتيات وال�سيدات النبيالت �إدارة‬ ‫توزيع الإعا�شة‪ ،‬وامتنع النا�س عن ا�ستعمال‬ ‫الهاتف وغ�يره من املوا�صالت �إال لل�ضرورة‬ ‫الق�صوى ا�ستجابة لطلب احلكومة‪ .‬فكان كل‬ ‫فرد من الأمة خادم ًا وخمدوم ًا و�آمر ًا وم�أمور ًا‪.‬‬

‫ال�صحافة احلرة‬

‫ومن الأم��ور التي �أعجبت بها هذه ال�صحافة‬ ‫احل��رة التي ر�أي�ت�ه��ا ُمهابة اجل��ان��ب عزيزة‬ ‫الكلمة قوية ال�سلطان‪ ،‬وقد �ساعدين احلظ‬ ‫�أن زرت منها ج��ري��دة «ال��داي�ل��ي اك�سرب�س»‬ ‫وتنقلت بني �أق�سامها ف�شعرت وك�أنني �أزور‬ ‫دولة م�ستقلة ذات قانون و�سيادة‪ ،‬وهي كغريها‬ ‫من ال�صحف الإجنليزية التي تطبع الواحدة‬ ‫منها عدة طبعات يف اليوم يقر�أها الإنكليزي‬ ‫فيجد كل �شخ�ص منهم ما يهمه من خمتلف‬ ‫املوا�ضيع ال�سيا�سية واالجتماعية والريا�ضية‪،‬‬ ‫وتكون و�سيلته يف �إي�صال ر�أي��ه �إىل احلكومة‬ ‫وذوي ال�سلطة‪.‬كما �أعجبت لتمتعهم باحلرية‬ ‫ال�شخ�صية يف القول والعمل مع �ضابط قوي‬ ‫من �سلطة القانون ال يفلت منه �شاذ مهما بلغ‬ ‫من علو املقام‪.‬‬

‫الرتفيه عن النف�س‬

‫و�أعجبت ملا يكر�سونه من �أوق��ات للم�سرات‬ ‫والرتفيه عن النف�س‪ ،‬و�أوق��ات لتثقيف العقل‬

‫ميناء مر�سيليا ‪- 1925‬اللوحة للفنان او�سكار كوكو�شكا‬

‫والذوق ف�أمامهم التمثيليات الرائعة‪ ،‬واملعار�ض‬ ‫الفنية‪ ،‬واملتاحف املتنوعة‪ .‬ولكل منهم عطلته‬ ‫ال�سنوية ونزهته الأ�سبوعية‪ .‬و�أع�ج�ب��ت ملا‬ ‫يهيئونه للأطفال من مباهج يتفننون بها على‬ ‫خمتلف الأ�شكال ولرعايتهم للمحتاجني منهم‪،‬‬ ‫كما عجبت مل�سارعتهم بالتربع ملختلف �أنواع‬ ‫الإح�سان‪ .‬هذا �شيء مما �أثار �إعجابي حينما‬ ‫وبد�أت �أتعرف على احلياة يف �إجنلرتا وبد�أت‬ ‫عيناي تتفتحان على كل �شيء‪ ،‬وفيهما �سذاجة‬ ‫اال�ستطالع تارة‪ ،‬والده�شة تارة �أخرى‪ ،‬و�أكرث‬ ‫ما لفت نظري هو ه��ذه احلرية التي تتمتع‬ ‫بها الفتاة الإجنليزية‪ ،‬والتي حرمت �أنا من‬ ‫�أي �شكل من �أ�شكالها‪ .‬و�شعرت ب�شيء من‬ ‫االنطالق احلر‪ ،‬الذي طاملا �صبوت �إليه حينما‬ ‫بد�أت �أذهب لأخذ درو�سي الإجنليزية يف لندن‬ ‫وكانت �إقامتنا يف ريت�شموند وبينهما نحو �ساعة‬ ‫يف القطار ال�سريع وامل�ترو‪ ،‬فكنت �أول الأمر‬ ‫�أ�س�أل نف�سي �أ�صحيح �أنه �أ�صبح با�ستطاعتي �أن‬ ‫�أرك�ض �إىل املحطة لأحلق بالقطار لوحدي‪ ،‬ثم‬ ‫�أتنقل يف منت�صف الطريق �إىل املرتو‪ ،‬ثم �أعدو‬ ‫�إىل ال�شارع الذي �ألقى فيه �أ�ستاذتي‪ ،‬ثم �أعود‬ ‫�أدراج��ي من حيث �أتيت كما تفعل الأل��وف‬ ‫واملاليني من الفتيات الإنكليزيات؟ و�أت�أمل‬ ‫ملا �أراه من متتع الفتاة الإجنليزية بنعم‬

‫احلياة و�أ�شكو يف نف�سي هذا الإجحاف من‬ ‫علي ه��ذه الأي��ام التي‬ ‫الدنيا التي حت�سب َّ‬ ‫�أحياها من العمر حياة!!‬ ‫و�أقبلت على تعلم الإجنليزية برغبة و�شغف‪،‬‬ ‫وال �شك يف �أن �أية لغة �أجنبية ي�سهل تعلمها‬ ‫كثري ًا �إذا تعلمها الطالب يف بلدها‪ .‬و�أذكر‬ ‫ه�ن��ا ك�م�ث��ال ع�ل��ى ال�ت�ه��ذي��ب الإن�ك�ل�ي��زي يف‬ ‫تلك الأي��ام‪� ،‬إن �أول كلمة كانت ترتدد علي‬ ‫م�سمعي �أينما ��س��رت ه��ي كلمة «‪»lovely‬‬ ‫و��س��أل��ت ع��ن معناها فف�سر يل‪ ،‬و�أك�ب�رت‬ ‫ر�ؤيتهم للجمال فيما ي�شاهدون‪ ،‬و�إهمالهم‬ ‫ملا يرونه من مظاهر القبح‪ ،‬كما �أكربت هذا‬ ‫التهذيب الذي يدفعهم �إىل املبادرة ال�سريعة‬ ‫لالعتذار عن �أقل هفوة تظهر منهم وقد ال‬ ‫يلحظها املعتذر �إليه‪.‬‬

‫مفا�ضلة بني منوذجني‬

‫وبعد �أن �أقمت يف �إجنلرتا �سنتني وخالطت‬ ‫النا�س يف الكثري من طرق معا�شهم‪ ،‬لأنني‬ ‫�أقمت‪ ،‬كما قلت �سابق ًا‪ ،‬مع والدي و�إخوتي يف‬ ‫ريت�شموند‪ ،‬وهي �ضاحية من �ضواحي لندن‬ ‫م�شهورة بجمال موقعها‪ ،‬وكان بيتنا يف �أجمل‬ ‫نقاطها ن�شرف منه على النهر‪ ،‬وبالقرب‬ ‫منه ب��ارك�ه��ا العظيم ال��ذي تبلغ م�ساحته‬


‫ارتياد اآلفاق‬ ‫‪56‬‬ ‫الـعــــدد‬ ‫‪158‬‬ ‫دي�سمرب‬ ‫‪2012‬‬

‫ميناء دوفر‬

‫‪ 2400‬فدان‪ ،‬ت�سرح فيه الغزالن ويق�صده و�أقابلها مب��ا عندنا يف �أح ��وال م�شابهة‪ ،‬نقائ�ص وح�سنات‬

‫املتنزهون من كل الأنحاء وخ�صو�ص ًا �أيام‬ ‫الآحاد‪ ،‬وكان املنزل الذي �أقمنا فيه عبارة‬ ‫عن فندق �صغري �أنيق خم�ص�ص لإقامة‬ ‫ال �ع��ائ�لات‪ ،‬وه �ك��ذا �أت�ي�ح��ت يل الفر�صة‬ ‫للتع ُّرف على الطبائع والعادات الإجنليزية‬ ‫يف �أهون ال�سبل‪ ،‬عدا عما كان لوالدي من‬ ‫ع�لاق��ات ببع�ض ال �ن � َّواب وغ�يره��م الذين‬ ‫كنا ندعى �إىل بيوتهم �أح�ي��ان� ًا‪ ،‬ف�أعكف‬ ‫على مراقبة �سلوكهم و�آدابهم ال�شخ�صية‪،‬‬

‫و�أف��ا� �ض��ل فيما بينها‪ ،‬وال �أع�ت�ق��د �أن�ن��ي‬ ‫ب�إعجابي بهم كنت يف نف�سي �أنكر ما عندنا‬ ‫من ف�ضائل �أو �أندفع لتغطية ما لديهم من‬ ‫�سيئات‪ ،‬ف�إنني كنت مع كل لهفتي �إىل حرية‬ ‫الفتاة وانطالقها �أ�شمئز من ر�ؤيتها مبتذلة‬ ‫�أو خليعة �أو �سكرى‪ ،‬و�أعتقد �أن هذا يرجع‬ ‫�إىل مزاجي املتح ِّفظ ال��ذي يظل مت�سلط ًا‬ ‫علي مع كل نظرياتي التحررية‪.‬‬ ‫َّ‬

‫كما �أنني حينما �أ�صف مزايا الإنكليز الراقية‬ ‫ال �أعني �أنهم ُخ ُل ٌّو من النقائ�ص‪ ،‬و�إذا تكلمت‬ ‫عن النظام عندهم والتهذيب الراقي‪ ،‬ف�إنني‬ ‫ال �أن�سى كيف يهجم ال�سارقون بقحة عجيبة‬ ‫على واجهات املخازن‪ ،‬ويف رابعة النهار �أحيان ًا‪،‬‬ ‫وع�ل��ى م ��ر�أى م��ن �آالف الأن �ظ��ار ِّ‬ ‫فيحطمون‬ ‫وي�سرقون ويختفون كال�شياطني‪ ،‬وكيف يعتدي‬ ‫جمرموهم على النظم االجتماعية بفظاعة‬ ‫ال ي�أتي مبثلها �أح� ُّ�ط املخلوقات �أدب � ًا‪ .‬وال متر‬

‫عنربة اخلالدي‬ ‫يف كتابه «�أعالم الأدب والفن» يقول �أدهم �آل جندي‪ ،‬عن عنربة اخلالدي‪« :‬ال�سيدة عنربة �سليم علي �سالم زعيمة النه�ضة‬ ‫الأدبية يف ن�ساء الإ�سالم‪ ،‬ت�سنمت املنابر على حجاب و�سفور‪ ،‬فكان للعروبة والثقافة من ف�ضل موقفها نور على نور‪ .‬ولدت‬ ‫يف بريوت ون�ش�أت يف �أ�سرة عريقة يف جمدها وطيب منبتها‪ .‬وبعد �أن �أنهت تعليمها االبتدائي يف مدار�س بريوت تتلمذت على‬ ‫ال�سيدة جوليا طعمة دم�شقية وهي من رائدات النه�ضة الن�سائية الأوىل يف البالد العربية‪ ،‬وقد كان لها يف توجيهها وتربيتها‬ ‫�ش�أن عظيم و�أثر كبري‪ ،‬وملا وقعت احلرب العاملية الأوىل �أ�صبحت كل �أنواع درا�ستها يف املنزل‪ ،‬و�سعى والدها يف �إيجاد الأ�ساتذة‬ ‫لتعليمها‪ ،‬فتلقت درا�ستها على اللغوي الكبري ال�شيخ عبد اهلل الب�ستاين واثنتني من املعلمات االفرن�سيات‪ ،‬ثم على الأديبة‬ ‫املعروفة �سلمى �صائغ وغريهم‪.‬‬ ‫ولقد ا�شتغلت منذ كانت على مقاعد الدرا�سة يف اجلمعيات اخلريية واالجتماعية‪ ،‬وتر�أ�ست نادي الفتيات امل�سلمات الذي كان‬ ‫�أول ناد ن�سائي عربي وكان ي�ضم فري ًقا من �أرقى فتيات بريوت وكن يقمن فيه احلفالت‪ ،‬فيح�ضرها الرجال والن�ساء ويحا�ضر‬ ‫فيها الأدباء والأديبات و�أحلقت بالنادي مدر�سة تطوع فيها فتيات النادي لتعليم �أبناء وبنات العائالت التي ق�سى عليها الدهر‬ ‫والتكفل ب�إطعامهم والقيام على ت�أمني راحتهم‪ .‬قامت «عنربة» برحلة �إىل انكلرتا مل�شاهدة معاملها العمرانية والثقافية‪ ،‬وظلت‬ ‫مدة �سنتني عكفت خاللهما على درا�سة اللغة االنكليزية درا�سة خا�صة كان لها �أبلغ الأثر يف ن�ضوج ثقافتها‪ ،‬ثم عادت �إىل‬ ‫وطنها لتقود النه�ضة الأدبية الن�سائية» ‪.‬‬


‫دون �أمل عميق يف نف�سي ذكرى نكث �سيا�ستهم‬ ‫لعهود العرب بعد �أن وثق ه�ؤالء بهم‪ .‬ولكنهم‬ ‫ك�شعب خربت ما فيه من النقائ�ص واحل�سنات‬ ‫ال �أقدر �إال �أن �أحفظ لهم ما وجدته عندهم من‬ ‫رقي ومدنية‪.‬‬ ‫ٍّ‬

‫مع امللك في�صل الأول‬

‫وقد ب��د�أت تتفاعل يف نف�سي عوامل �شتى من‬ ‫الفرح الذي �أ�شعره بحريتي يف التحرك مثل‬ ‫غريي من الب�شر‪ ،‬ثم الأ�سى على ما يحيط‬ ‫بي وبابنة بالدي من كبت و�أ�سر‪ ،‬حتى �أنني‬ ‫يف اجتماعي مرة بامللك في�صل الأول‪ ،‬ملك‬ ‫ال �ع��راق‪ ،‬وق��د ك��ان ي�ست�شفي يف لندن‪ ،‬وكنا‬ ‫كثري ًا ما نزوره �أو يزورنا‪� ،‬س�ألني‪« :‬ما هو ر�أيك‬ ‫بالفتاة الإجنليزية؟» ف�أجبت‪«:‬احلق �أنه �أول‬ ‫ما يتبادر �إىل ذهني هو �أن �أ�س�أل نف�سي و�أنا‬ ‫�أتطلع �إليها تتمتع بكل م�س َّرات احلياة‪ ،‬ماذا‬ ‫فعلت هذه الفتاة عند ربها حتى حتوز كل هذا‬ ‫االنطالق‪ ،‬وماذا �أذنبت �أنا‪ ،‬الفتاة العربية‪،‬‬ ‫عند رب��ي حتى يعاقبني بحياة كلها كبت‬ ‫وحرمان؟» فالتفت عندئذ‪ ،‬رحمه اهلل‪� ،‬إىل �أبي‬ ‫قائال‪« :‬خذ بالك من ابنتك يا �أبا علي‪� ،‬إنها‬ ‫حتمل الثورة يف نف�سها»‪.‬‬ ‫وال ب��د ه�ن��ا م��ن كلمة ع��ن امل�ل��ك في�صل‪.‬‬ ‫ف�ق��د ع��رف�ت��ه م � ��رار ًا‪ ،‬ف �ك��ان دائ �م � ًا م�ث��ا ًال‬ ‫لعظمة امللوك ووداع��ة الأط�ف��ال‪ .‬كما كان‬ ‫ال�سا�سة‬ ‫يجمع بني بطولة القادة‪ ،‬ومرونة َّ‬ ‫احلكماء‪ .‬فقد ر�أيته للمرة الأوىل حينما‬ ‫جاء �إىل بريوت �إثر انتهاء احلرب الكربى‪،‬‬ ‫فلم متنعه مهام عمله من �أن يختل�س من‬ ‫وقته الثمني الق�صري �ساعات ي��زور فيها‬ ‫امل�ؤ�س�سات اخل�يري��ة والن�سائية م�شجع ًا‪،‬‬ ‫م ��ا َّد ًا لها ي��د ًا بي�ضاء‪ ،‬وق��د ك��ان لنا ُّ‬ ‫حظ‬ ‫ا�ستقباله يف ن��ادي�ن��ا ي��وم��ذاك‪ .‬ث��م ر�أي�ت��ه‬ ‫للمرة الثانية حينما ذهبت مع وفد ن�سائي‬ ‫�إىل دم�شق لتهنئته بعد انتخابه ملك ًا على‬ ‫�سوريا‪ .‬ولكنه مل يرين بغري حجاب �إال يف‬ ‫لندن‪ ،‬ولهذا فقد غابت عنه معرفتي عندما‬ ‫قدمني والدي �إليه‪ ،‬وكنا ذهبنا لعيادته وقد‬ ‫جاء لندن م�ست�شفي ًا‪ ،‬بعد �أن �أ�صبح ملك ًا‬ ‫على ال �ع��راق‪ .‬فر�أيته �ساجي ًا على �سرير‬

‫امللك في�صل الأول مع ملكة بريطانيا‬

‫املر�ض يقا�سي الآالم‪ ،‬وقد ظهرت �ش َّدتُها‬ ‫على وجهه النبيل‪ ،‬ولكن ما هي �إال ثوان‬ ‫حتى ر�أي �ت��ه يقبل على ال�ترح�ي��ب بطالقة‬ ‫ور َّق��ة‪ ،‬ومي��ازح بعذوبة ودع��اب��ة بعيدة عن‬ ‫املر�ض والأوج ��اع‪ .‬وكانت �أختي ال�صغرية‬ ‫برفقتنا‪ ،‬ف�أ�شار �إليها وق َّربها منه يداعبها‬ ‫وي�سر يف �أذنها كلمات ي�شاركها يف ال�ضحك‬ ‫منها‪ ،‬وك ��أن��ه ي�سعى �إىل ت�سلية م��ن �أت��وا‬ ‫لت�سليته واالطمئنان عليه‪.‬‬ ‫وحينما �أب َّل من مر�ضه كنا ن�صاحبه �أحيان ًا‬ ‫يف ن��زه��ات م�شي ًا على الأق� ��دام‪ ،‬ف�أعجب‬ ‫للأنظار تتجه �إليه وك�أنها تت�ساءل عن هذه‬ ‫ال�شخ�صية العظيمة‪ .‬فقد كان طويل القامة‬ ‫وقورها‪ ،‬ر�شيق امل�شية رزينها‪ ،‬جميل الوجه‬ ‫�أ�سمره‪ ،‬ملكيا يف ت�صرفاته‪ ،‬وهو مع ذلك‬ ‫ال ي�شعر حمدثه ب�أنه يختلف عنه مقام ًا‪� ،‬أو‬ ‫يحاول �أن يفر�ض عليه ر�أي� ًا مهما اختلفت‬ ‫الآراء‪ .‬وكان �شديد الأمل ملا يراه من ت�أخر‬ ‫الأمة العربية‪ ،‬متطلع ًا �إىل كل ما يجري يف‬

‫يقدم اإلنجليزي على‬ ‫العمل بهمة ثابتة‬ ‫معتدلة ال تستنفد قواه‬ ‫فتطرحه منهوك ًا في‬ ‫منتصف الطريق‬

‫الأمم الأخرى اجتماعي ًا وثقافي ًا و�سيا�سي ًا‪،‬‬ ‫ي��زور م�ؤ�س�ساتها املختلفة‪ ،‬ويعكف على‬ ‫درا�ستها باحث ًا منقب ًا‪ ،‬ل�ل�أخ��ذ منها مبا‬ ‫يتنا�سب مع �أح��وال قومه وا�ستعداد بيئته‪.‬‬ ‫وكان يردد دائم ًا بعد ا�ستعرا�ض ملا و�صلت‬ ‫ق�صر‬ ‫�إليه حالة الأمة العربية قائ ًال‪�« :‬إذا َّ‬ ‫�أ�سالفنا بالعمل اجل��دي للتطور فلي�س لنا‬ ‫عذر بالتخلي عن م�س�ؤوليتنا للعمل من �أجل‬ ‫الأجيال القادمة»‪.‬‬

‫خطاب لإح�سان اجلابري‬

‫كنا ن�ستقبل يف بيتنا الكثريين من �أ�صدقاء‬ ‫�أب ��ي ال��ذي��ن ك��ان��وا ي �ف��دون �إىل �إجن �ل�ترا من‬ ‫جميع الأقطار العربية‪ ،‬وحت�ضرين هنا حادثة‬ ‫طريفة جرت يل مع ال�سيد �إح�سان اجلابري‬ ‫الزعيم ال�سوري الذي كان يقيم حينذاك يف‬ ‫�سوي�سرا مع املرحومني ريا�ض ال�صلح و�شكيب‬ ‫�أر�سالن‪ ،‬وجميعهم م�ضطهدون من ال�سلطات‬ ‫الإفرن�سية‪ ،‬وقد مر بنا يف طريقه �إىل �أمريكا‬ ‫حل�ضور م�ؤمتر تناق�ش فيه الق�ضية العربية‪،‬‬ ‫ف�أ�سر �إىل �أخ��ي حممد ب�أنه طلب منه �إلقاء‬ ‫خطاب يف امل ��ؤمت��ر‪ ،‬وحيث �أن لغته العربية‬ ‫لي�ست بامل�ستوى املطلوب ف�إنه ي�أمل من حممد‬ ‫بع�ض امل�ساعدة‪ .‬ف�أجابه �أخ��ي‪« :‬احلقيقة �أن‬


‫ارتياد اآلفاق‬ ‫‪58‬‬ ‫الـعــــدد‬ ‫‪158‬‬ ‫دي�سمرب‬ ‫‪2012‬‬

‫الإ�رضاب الكبري الذي �شهدته �إجنلرتا عام ‪ 1926‬وح�رضته �صاحبة الرحلة‬

‫التي ميكن �أن ت��ؤدي لك هكذا عمل بالإتقان‬ ‫املرغوب هي �أختي عنربة»‪ .‬وملا فاحتني بالأمر‬ ‫اجتمعت ب�إح�سان بك وطلبت منه �أن يزودين‬ ‫بالأفكار التي يريد �أن يطرحها يف امل�ؤمتر‪،‬‬ ‫وق��د �أعطاين ما طلبت‪ ،‬وحينما دفعت �إليه‬ ‫باخلطاب يف �صباح اليوم التايل وقر�أه �أعاده‬ ‫�إ َّ‬ ‫يل وهو يقول‪« :‬ال ال ال �أقدر �أن �ألقي خطاب ًا‬ ‫كهذا»‪ .‬وق��د �أ�صبت بخجل وخيبة �أم��ل‪ ،‬و�أن��ا‬ ‫�أطلب منه التف�سري ف�ق��ال‪�«:‬إن��ه خطاب فوق‬ ‫م�ستواي‪ ،‬ومن �أين �آتي بك �إذا طلب �إ َّ‬ ‫يل �أن‬ ‫�أقف موقف ًا كهذا مرة �أخرى؟»‪.‬‬

‫ٌ‬ ‫حياة �إجنليزية‬ ‫مل يعد لزيارة �أوربا ذلك الت�أثري ال�سحري‬ ‫الذي كان لها منذ خم�سني �سنة مث ًال‪ ،‬حينما‬ ‫كانت طرق املوا�صالت �صعبة‪ ،‬واختالطنا‬ ‫بالغرب قلي ًال‪ ،‬وفهمنا ملدنيته غام�ض ًا �ضعيفا‪ً،‬‬ ‫حينما كان يرجع الزائر ويف جعبته من النوادر‬ ‫والأخبار ما يده�ش ال�سامع‪ ،‬وقد ي�ستغل هذه‬ ‫الده�شة ويخلط ال�صحيح باملختلق حتى‬ ‫يبلبل عليه ت�صوراته‪ ،‬ويرتكه واهلل يعلم ما يف‬ ‫نف�سه نحو تلك البالد البعيدة‪ ،‬بالد الغرائب‬ ‫والعجائب‪ ،‬ورمبا بالغ الب�سطاء وقالوا بالد‬ ‫«ال�سحر وال�شياطني»‪.‬‬

‫�أم��ا الآن‪ ،‬وقد ك�شفت كتب الأ�سفار الكثرية‬ ‫ك��ل ��س� ٍّر‪ ،‬وع َّرفتنا ال��زي��ارات املتوا�صلة �إىل‬ ‫كل جمهول‪ ،‬ونقلت �إلينا ال�صحف ال�س َّيارة‬ ‫�أخبار العامل يوميا ف�إن الرجل العادي �أ�صبح‬ ‫يعلم عن بلدان الغرب ال�شيء الكثري‪ .‬على �أن‬ ‫ذلك الت�أثري ال�سحري ال ميكن �أن يزول بتات ًا‬ ‫�شرقي ي�سري‬ ‫من نف�س فتاة �شرقية يف حميط‬ ‫ٍّ‬ ‫عليها فيه كل ما لل�شرق من ع��ادات و�أخ�لاق‬ ‫وحجاب‪ .‬ولهذا فقد كنت �أ�ستقبل هذه الرحلة‬ ‫بدافع من �شوق �شديد ووازع من خوف عميق‬ ‫يتنازعاين يف كل حني‪� .‬أما وقد عزمت وتوكلت‪،‬‬ ‫فقد وقفت �أمامي عقبة �أخرى‪� ،‬إذ كان كل من‬ ‫يعرف ب�سفري يقول‪�« :‬إىل �إجنلرتا تق�صدين؟‬ ‫وم��اذا تفعل فتاة مثلك هناك؟» وك��ان بع�ض‬

‫أول ما استرعى نظري‬ ‫في فرنسا رؤية ربَّات‬ ‫البيوت اإلفرنسيات‬ ‫يذهبن إلى مشترياتهن‬ ‫في الصباح الباكر وهن‬ ‫يحملن ساللهن ويحملن‬ ‫شعورهن الملفوفة‬ ‫بالورق وال تزال كما‬ ‫أعددنها لي ً‬ ‫ال‬

‫علي القول ب�أن احلياة‬ ‫رفقاء ال�سفر يكررون َّ‬ ‫يف تلك البالد قامتة �سوداء ت�ض ِّيق ال�صدر‬ ‫وال ي�شعر الغريب �إال �أن��ه يف �سجن مقفل‪.‬‬ ‫فكنت �أعزَّي نف�سي ب�أنني ال �أعب�أ بحياة ت�شبه‬ ‫ال�سجن و�أنا قد اعتدتها منذ ال�صغر‪� .‬أما وقد‬ ‫بلغتها فقد ر�أيت‪ ،‬برغم اغربارها �أحيان ًا‪� ،‬أن‬ ‫الأخ�ضر اجلميل هو اللون الغالب على تلك‬ ‫الأر� ��ض ال�سعيدة و�أح�س�ست ب��روح احلرية‬ ‫الطلقة متلأ الأرجاء‪.‬‬ ‫�شعرت منذ وط�أتها قدماي �أن الأر�ض تبدلت‬ ‫غري الأر���ض‪ ،‬و أ�خ��ذت بهذه احلركة الآل َّية يف‬ ‫كل عمل‪ .‬فاحل َّمال وموظف اجلمرك والعامل‬ ‫يف القطار ي�سرعون �إليك يف غري خ�شونة‪،‬‬ ‫ويرتاك�ضون يف غري مزاحمة‪ ،‬ويتقاذفونك من‬ ‫الواحد �إىل الآخر برفق ولني‪ ،‬فما هي �إال كلمح‬ ‫الب�صر حتى تكون بلغت مناك وقد و َّدعك كل‬ ‫منهم بكلمة �شكر رقيقة �أديبة‪ ،‬وما هي �إال �أن‬ ‫ت�سري بني اجلماهري وتخرتق ال�شوارع حتى‬ ‫حت�س بهيبة املكان من نف�سك‪� ،‬أج��ل �إن �أول‬ ‫�شعور امتلكني حني نزلت البالد الإجنليزية هو‬ ‫�شعور الهيبة والإعجاب‪ ،‬وقد ِخ ْل ُت ُه لأول وهلة‬ ‫قائم ًا بدقة انتظام ال�سري‪ ،‬وانفراج الطرقات‬ ‫وح�سن ر�صفها و�ضخامة املباين وات�ساع نوافذ‬ ‫املخازن ات�ساع ًا هائ ًال‪ ،‬وباالزدحام ال�صامت‬ ‫الرزين ثم بهذا البولي�س املنت�صب عند مفارق‬


‫القطارات يف ريت�شموند ‪1925‬‬

‫الطرق وقد لب�س خوذة تكمل له هيئة اجلبابرة‬ ‫ال�صناديد‪ .‬ولكنني كنت كلما طالت �إقامتي‬ ‫وازددت فهم ًا لروح ال�شعب ولأ�ساليب حياته‪،‬‬ ‫ات�ضحت الأمور �أمام ناظري وفهمت �سر هذه‬ ‫الهيبة التي نح�سها لأول وهلة ت�شمل الف�ضاء‪.‬‬

‫ليس أحب إلى قلب‬ ‫اإلنجليزي من النظام‬ ‫تجده جليّ ًا في معيشته‬ ‫في البيت وخارجه في‬ ‫أعماله الخاصة وفي‬ ‫احلرية ال�شخ�صية‬ ‫مل �أعجب ب�شيء يف �إجنلرتا عجبي باحلرية عالقاته مع اآلخرين‬

‫ال�شخ�صية التي حت�س �أنك تتنف�سها مع الهواء‬ ‫واملمنوحة ب�أو�سع معانيها لكل �إن�سان ما دام‬ ‫ال يخ ُّل بالنظام وال بالآداب العامة وال بالأمن‬ ‫العام‪ ،‬هذه احلرية التي جتعل منهم �أ�سياد ًا‬ ‫طليقي الر�أي والقول والعمل‪ ،‬لكل منهم مبد�أ‬ ‫خا�ص ال يخ�شى �إعالنه و�شخ�صية حمرتمة‬ ‫ال ت�ستعبدها القيود‪ .‬ولكم كنت �أط��رب �إذ‬ ‫�أراهم ي�سريون يف حياتهم ب�صراحة ال ت�شوبها‬ ‫مواربات لأنها ت�أبى لهم الإتيان ب�صغائر قد‬ ‫يلجئهم �إليها ال�سري يف اخلفاء‪.‬‬ ‫انطلق كما ت�شاء‪ ،‬وحت � َّدث مبا ت�شاء ف�أنت‬ ‫متمتع بنعم البالد‪ ،‬واحلرية معبودة اجلميع‬ ‫ولكنها ح��ري��ة تهذبها امل��دن�ي��ة ف�لا تظهر‬ ‫خ�شنة وال طائ�شة‪.‬‬ ‫ً‬ ‫ر�أيت هذه احلرية مرارا تتمثل يف «هايد بارك»‬ ‫حيث ي�أتي اخلطباء يف �أيام الآحاد دائم ًا ويف‬ ‫غريها من �أي��ام الأ�سبوع �أحيان ًا‪ .‬والبولي�س‬

‫ي��روح ويجيء �أمامهم ك��أن مل يك �شيء‪ ،‬وال‬ ‫يتدخل �إال �إذا ا�ضطرته ال�ضرورة الق�صوى‬ ‫وعندئذ ف��إن حت ُّفزه بالإ�شارة يكفي لتنفيذ‬ ‫�أمره و�إرادته اجلازمة‪ .‬ور�أيت من ت�صرفات‬ ‫ال�ق��وم م��ا ق��د �أدع ��وه �أن��ا غ�ير الئ��ق ولكنهم‬ ‫يدعونه حرية �شخ�صية يت�ساحمون بها وال‬ ‫يعرت�ضون عليها �إال �إذا ر�أت عني البولي�س �أنها‬ ‫جتاوزت ح َّد الأدب بعرفهم‪.‬‬

‫‌العمل َّ‬ ‫املنظم‬

‫لي�س �أح��ب �إىل قلب الإنكليزي من النظام‪.‬‬ ‫جتده جل ّي ًا يف معي�شته يف البيت وخارجه يف‬ ‫�أعماله اخلا�صة ويف عالقاته مع الآخرين‪ .‬فهو‬ ‫ينظم يومه �ساع ًة ب�ساعة‪ ،‬ويجد وقت ًا لكل �شيء‪.‬‬ ‫وهو يزاحم �سواه ولكن روح النظام حتفظه‬

‫من التعدي عليه‪ .‬تدخل حمطة القطار فتجد‬ ‫النا�س يرتاك�ضون �إىل �شباك التذاكر حتى �إذا‬ ‫�أرب��وا على اثنني �أو ثالثة �أ َّلفوا �ص ّف ًا يقف يف‬ ‫م�ؤخره دائم ًا القادم اجلديد‪ .‬وال يخطرنَّ يف‬ ‫باله �أن يحاول التقدم على �سابقه مهما كان‬ ‫باعثه �شديد ًا‪ ،‬وال جتد ازدحام ًا على �أمر مهما‬ ‫يكن تافه ًا �إالّ �أ َّلف ال�صف حا ًال ك�أنه ب�إ�شارة‬ ‫مدر�سية خف َّية‪.‬‬ ‫ويف مفارق الطرق يرفع البولي�س يده فتقف‬ ‫حركة ال�سري‪ ،‬مهما كانت ثقيلة‪ ،‬برتتيب بديع‪،‬‬ ‫�أو ينزلها فتعاوده بنظام دقيق‪ .‬ورغم االزدحام‬ ‫ال�شديد واحلركة الهائلة ف�إنك ال ت�شعر يف لندن‬ ‫بتلك ال�ضجة القوية �أو مبا ي�سمونه اختالط‬ ‫احلابل بالنابل‪ ،‬و�إين لأعزو جناح الإنكليزي‬ ‫كله �إىل انتظام معي�شته ومعرفته واجباته‪ ،‬لأن‬ ‫ذلك يوفر عليه كثري ًا من اجلهود التي تبذل‬ ‫عبث ًا بالعمل امل�ضطرب‪ ،‬وه��ذا ي�أتيه بنتيجة‬ ‫�سريعة �صاحلة قد نده�ش لها نحن ال�شرقيني‬ ‫الذين اعتدنا �أن تكون �أعمالنا �إما بطيئة لدرجة‬ ‫اخلمول و�إما �سريعة لدرجة الت�شوي�ش‪ .‬ادخل‬ ‫�إىل �إحدى دوائر الربيد فيكرب وهمك حينما‬ ‫جتد النا�س �أفواج ًا والرزم �أكدا�س ًا ولكن النظام‬ ‫الدقيق يخفف هذه الأكدا�س ب�سرعة مده�شة‪،‬‬ ‫وي�سيرِّ ك �إىل الأمام حيث تق�ضي حاجتك و�أنت‬ ‫ال ت�صدق بانق�ضائها‪ .‬وادخل �أحد امل�صارف‬


‫ارتياد اآلفاق‬ ‫‪60‬‬ ‫الـعــــدد‬ ‫‪158‬‬ ‫دي�سمرب‬ ‫‪2012‬‬

‫�أ�رسة �إجنليزية بدايات القرن الع�رشين‬

‫فتتناولك الأيدي بنظام ميكانيكي �إىل �أن ت�صل ال�ع��ام��ة القائمة يف ك��ل م�ك��ان على �إجن��از‬ ‫�إىل املكان املق�صود وتخدم ب�سرعة ت�شعرك �أعمالك وترتيبها‪.‬‬ ‫خم�ص�ص باالهتمام‪ .‬وكم كان يل ّذ يل‬ ‫ك�أنك َّ‬ ‫�أن �أدخل �إىل �أحد املخازن الكربى و�أراقب‪ ،‬عن القطارات املت�شابكة‬ ‫كثب‪ ،‬دوالب حركتها البديع‪ ،‬و�إذا قلت خمزن ًا وال يده�شك مثل القطارات امل�شتبكة فوق‬ ‫فيجب �أن �أقول �إن الإح�صاء الأخري يدل على الأر�ض وحتتها كا�شتباك الأوردة وال�شرايني‬ ‫�أن ع��دد امل�شرتين يف اليوم ال��واح��د قد بلغ يف ج�سم الإن�سان وبكل ما للأوردة وال�شرايني‬ ‫يف �أح��د امل�خ��ازن – �أي��ام املوا�سم ‪ -‬مائتي م��ن دق��ة العمل‪ .‬ه��ي ت�سري حاملة اجلموع‬ ‫�ألف م�شرت‪� ،‬أ�ضف �إليه �ضعفه من املتفرجني املتدفقة �إىل جميع الأن�ح��اء‪ .‬وجتد خرائط‬ ‫�أو م��ن ال��ذي��ن ي��راف�ق��ون امل�شرتين‪ ،‬فيكون اخل���ط ال� ��ذي ت �� �س�ير ع �ل �ي��ه يف ك ��ل ع��رب��ة‪،‬‬ ‫جمموع الذين دخلوا �أحد املخازن �أربعمائة والكتابات والإ�شارات املتكررة يف املحطات‬ ‫�ألف ن�سمة يف اليوم الواحد‪ .‬تدخل �إىل هذه تر�شدك �إىل جهة ال�صواب‪ ،‬هذا �إذا ترك‬ ‫امل�خ��ازن م��ن �أح��د الأب ��واب فتجد اللوحات ل��ك امل ��أم��ورون وق�ت� ًا ل�ق��راءة الإ� �ش��ارات ومل‬ ‫الدالة على خمتلف اجلهات‪ ،‬ثم يف كل جهة ير�شدوك �إىل طريقك املق�صود‪.‬‬ ‫تدلك على خمتلف الأق�سام‪ ،‬يف كل ق�سم على‬ ‫الفروع العديدة ف�أنت �إذ ًا �أمام ما تريد وقد همة ثابتة‬ ‫بلغته ب�سهولة ال تنق�ص عن ال�سهولة التي والإنكليزي يقدم على العمل بهمة ثابتة لأنها‬ ‫جتدها ب�شرائك من �أب�سط الدكاكني وقد ال معتدلة ال ت�ستنفد ق��واه فتطرحه منهوك ًا يف‬ ‫يدعك املوظفون تنهمك يف ق��راءة اللوحات منت�صف ال �ط��ري��ق‪ .‬ون �ظ��ام العمل عندهم‬ ‫بل يقدمون على خدمتك بلطف واح�ترام‪ ،‬يجعلهم ي ��أخ��ذون م��ن ال��راح��ة ال�ق��در الكايف‬ ‫وت�ستقبلك العامالت بابت�سامات فاتنة وخلق حل�ف��ظ ال �ن �� �ش��اط‪ ،‬ف��امل��دار���س‪ ،‬م��ن حديقة‬ ‫ر�ضي يجذبانك طائع ًا �إىل ال�شراء‪ .‬تطلب الأطفال �إىل �أكرب اجلامعات‪ ،‬ال تبد�أ درو�سها‬ ‫منرة ما على التلفون ف�أنت بانتظام �سريع قبل التا�سعة �صباح ًا‪ ،‬وحمالت العمل جمربة‬ ‫مت�صل مبن ت�شاء‪ ،‬وت�ساعدك هذه التلفونات قانون ًا �أن توقف العمل نهار الأحد ون�صف نهار‬

‫�آخر من الأ�سبوع‪ ،‬والنا�س يف كل الطبقات ال‬ ‫بد لهم من عطلة �سنوية يق�ضونها كما ي�شا�ؤون‪،‬‬ ‫يت�ساوى يف ذل��ك امل��أم��ور والآم ��ر‪ ،‬ر َّب��ة البيت‬ ‫واخلادمة‪ .‬و�إين �أعرف �سيدة لها زوج وطفل‬ ‫�صغري كان عليها �أن تعتني ب�أموره دون م�ساعدة‬ ‫�أحد‪ .‬لهذا ع َّينت لنف�سها يوم فر�صة كل �أ�سبوع‬ ‫فت�ست�أجر البنها �سيدة تثق بها وتكون هي حرة‬ ‫تفعل ما ت�شاء فتجدد ن�شاطها ملعاودة عملها‬ ‫اليومي‪ .‬قد يعد البع�ض ذلك بالدة‪ ،‬ولكنني مل‬ ‫�أرهم ذاهبني �إىل �أعمالهم �صباح ًا �إال ح�سبتهم‬ ‫يرتاك�ضون‪ ،‬ومل �أره��م يف حم� ِّ‬ ‫�ال عملهم �إال‬ ‫ر�أي ��ت القابلية للعمل ظ��اه��رة يف حركاتهم‬ ‫اخلفيفة‪ ،‬على �أن بالدة دائبة خري من حت ُّم�س‬ ‫�شديد ينفجر انفجار ًا ويذهب هبا ًء‪.‬‬

‫الريا�ضة‬

‫ل �ع � َّل �أو�� �ض ��ح م�ظ�ه��ر م ��ن م �ظ��اه��ر احل �ي��اة‬ ‫الإجنليزية هو هذا الولع ال�شديد بالريا�ضة‪،‬‬ ‫فكل �إنكليزي – رج ًال كان �أو امر�أة – يح�سن‬ ‫نوعا �أو �أكرث من �أنواعها‪ ،‬فهي عنده من �أ�س�س‬ ‫احلياة ومن الأم��ور التي يعينَّ لها �أوقات ًا كما‬ ‫يعني للأكل وال�شرب والعمل‪ ،‬وكل منهم ع�ضو‬ ‫عامل يف ن��اد �أو ع��دة �أن��دي��ة ريا�ضية تراها‬ ‫منت�شرة يف كل ناحية‪ ،‬واملر�أة ت�شارك الرجل يف‬


‫كل نوع حتى يف �أ�شدها ق�ساوة‪ ،‬وال �أن�سى زيارة‬ ‫لكلية «�سانت بول» للبنات وهي تعد يف م�صاف‬ ‫�أرق��ى كليات �إجنلرتا ‪ -‬فقد ر�أي��ت فيها من‬ ‫�أنواع الريا�ضة ما مل �أ�سمع به وما مل يخطر يل‬ ‫ببال‪ ،‬ور�أيت من ا�ستعداد املدر�سة لهذا الأمر‬ ‫املده�شات‪ ،‬حتى ال�سباحة خ�ص�ص لها حو�ض‬ ‫ماء عظيم لتمرين التلميذات‪ ،‬و�إنك لرتى �آثار‬ ‫الريا�ضة ظاهرة يف الفتاة الإجنليزية ب�أجلى‬ ‫مظهر فهي ر�شيقة دون ارتخاء‪ ،‬وهي منت�صبة‬ ‫دون توتر‪ ،‬حتمل ج�سمها خفيف ًا وال جتره ج َّر‬ ‫العياء‪.‬‬

‫التمتع بامل�س َّرات‬

‫�إذا كان اهلل حبا بالدهم جما ًال فاتن ًا‪ ،‬فك�ساها‬ ‫ح َّلة خ�ضراء‪ ،‬هادئة تفنت اللُّب‪ ،‬يف برية �ساحرة‬ ‫ت�سبي النظر‪ ،‬ف�إنهم – وال �شك ‪ -‬حقيقون‬ ‫بهذه النعمة‪ ،‬لأنهم ي�ستمتعون بها وبكل ما بني‬ ‫�أيديهم من م�س ّرات‪ ،‬ويخ�ص�صون من هذه‬ ‫البقاع اجلميلة �أرا�ضي وا�سعة‪ ،‬عظيمة االت�ساع‬ ‫لنزهاتهم وم�س َّراتهم‪ .‬ففي لندن نف�سها –‬ ‫البلد ال��ذي هو �أك�ثر بلدان العامل �سكان ًا –‬ ‫يوجد ال �ب��ارك العظيم ال��ذي تبلغ م�ساحته‬ ‫‪ 2400‬فدان‪ ،‬وحذاءه جنة غ َّناء‪ ،‬وبقربها �أر�ض‬ ‫م�شاع‪ ،‬ثم يتبعها ب��ارك‪� ،‬إىل �آخ��ر ما هنالك‬ ‫م��ن متنزَّهات يف ك��ل م�ك��ان ي�سمونها بحق‬ ‫«رئة لندن» التي تتنف�س بها‪ .‬وبلحظة واحدة‬ ‫ميكنك �أن تنتقل من و�سط االزدح��ام املدين‬ ‫الهائل �إىل قلب الطبيعة وما فيها من جمال‪:‬‬ ‫�سهول ف�سيحة ترعى بها القطعان‪ ،‬و�أزه��ار‬ ‫تطبع كل ف�صل بطابعه اخلا�ص‪ ،‬و�أ�شجار تتل َّون‬ ‫بكل ل��ون بهيج‪ ،‬وب�ح�يرات ي�سبح فيها البط‬ ‫وت�سري القوارب بالنا�س �أفواج ًا‪ ،‬وطيور ت�أن�س‬ ‫بالإن�سان حتى لت�أخذ ُف َتاتَ طعامها من بني‬ ‫�أنامله‪ ،‬هذا عدا ما حباهم به الفن من �آيات‪.‬‬ ‫وهم ال يهدرون نعم احلياة هدر ًا بل يق�ضون‬ ‫واجباتهم وي�أخذون من امل�سرات بكل ن�صيب‪،‬‬ ‫و�إذا ر�أي�ت�ه��م مي �ل ��ؤون ال�ب�راري ووج��ه النهر‬ ‫و�سطح البحريات وخمتلف املعار�ض وميادين‬ ‫اللعب‪ ،‬حت�سب �أن لهم ول�ع� ًا خا�ص ًا ب��ذاك‪،‬‬ ‫ولكنك جتدهم من جهة �أخرى يتوافدون �إىل‬ ‫دور ال�سينما حتى ال جتد مقعد ًا خالي ًا‪ ،‬وكلهم‬

‫يعلم عن املمثلني والأبطال‪ ،‬والق�ص�ص ونقدها‬ ‫ال�شيء الكثري‪ ،‬وقد �أح�صي عدد الذين يدخلون‬ ‫دور ال�سينما يف �إجنلرتا فبلغ خم�سة وع�شرين‬ ‫مليون نف�س يف الأ��س�ب��وع‪ .‬وال يق ُّل ع��ن ذلك‬ ‫ولعهم بالتمثيل‪ ،‬ف�إن لكل من املمثلني واملمثالت‬ ‫م��ري��دي��ن وحم�ب��ذي��ن ومنتقدين م��ن جميع‬ ‫طبقات ال�شعب‪ .‬وق��د تذهب �إىل إ�ح��دى دور‬ ‫التمثيل فت�ضطر �إىل �أخذ تذكرة لبعد �أ�سبوع‬ ‫كي جتد مكان ًا‪ ،‬وقد يكون مع ذلك عمر الرواية‬ ‫ع َّدة �سنني‪ ،‬مت ِّثل كل يوم‪ ،‬بل مرتني يف اليوم‪.‬‬ ‫وللرق�ص عندهم �ش�أن و�أي �ش�أن‪ ،‬فهم ي�أخذون‬ ‫بكل رق�صة جديدة وجتد قاعات الرق�ص متوج‬ ‫َّ‬ ‫وحمال الغناء ت�ضيق بامل�ستمعني‬ ‫بالراق�صني‪،‬‬ ‫و�أندية اللهو تعج عجيج ًا باملتوافدين‪ .‬و�إذا‬ ‫ق�� ُّروا يف دوره��م ف ��إن الال�سلكي امل��وج��ود يف‬ ‫�أغلب البيوت ينقل �إليهم من �أنواع امل�سرات ما‬ ‫يغنيهم عن كثري منها خارج ًا‪ ،‬فهم ي�ستمعون‬ ‫لأجمل املقاطع املو�سيقية والتمثيلية واخلطب‬ ‫والأخبار‪ ،‬ومع ا�ستمتاعهم بكل هذا يف بالدهم‬ ‫ف�إن ك َّال منهم يوفر من دراهمه ما ميكنه من‬ ‫اخلروج �سائح ًا يف بالد اهلل‪ ،‬والعاملة الب�سيطة‬ ‫قد تق�ضي عطلتها يف فرن�سا �أو بلجيكا‪� .‬إنهم‬ ‫يحبون املنزل واحل�ي��اة العائلية الهنيئة كل‬ ‫احلب‪ ،‬ولكن هذا ال يت�ضارب مع ولعهم ال�شديد‬ ‫باحلياة خارج ًا‪ ،‬حتى �إنهم ليذكرون هذا الولع‬ ‫يف معر�ض الثناء‪ ،‬وال ميكن �أن يدعوا النهار‬ ‫امل�شم�س مير دون اال�ستمتاع به ال �سيما �إذا‬ ‫كان ذلك اليوم يف �أيام الأعياد‪ .‬وقد بلغ عدد‬ ‫الذين نقلتهم عربات «االمنيبو�س» فقط يوم‬ ‫عيد الف�صح املا�ضي ب�ين لندن و�ضواحيها‬ ‫�أربعة ماليني ن�سمة‪ ،‬عدا الذين نقلتهم �سكك‬ ‫احلديد والرتاموايات وال�سيارات اخلا�صة‪،‬‬ ‫وبلغ من ازدحام النا�س لل�سفر يف �أحد الأعياد‬

‫نالت اإلنجليزية من‬ ‫الحقوق العامة ما‬ ‫ِّ‬ ‫يمكنها من أن ترفع‬ ‫رأسها به تيه ًا أمام األمم‬ ‫حتى نالت مؤخر ًا حق‬ ‫االنتخاب على إطالقه‬ ‫بعد سن الـ ‪21‬‬

‫فتاة �إجنليزية ‪1910‬م‬

‫فتاة �إجنليزية ‪1912‬م‬

‫فتاة �إجنليزية ‪1918‬م‬


‫ارتياد اآلفاق‬ ‫‪62‬‬ ‫الـعــــدد‬ ‫‪158‬‬ ‫دي�سمرب‬ ‫‪2012‬‬

‫لوحة فتاة �إجنليزية تقر�أ ر�سالة‬

‫خ��ارج حمطة وات��رل��و وح��ده��ا‪ ،‬تلك املحطة‬ ‫العظيمة التي فيها ‪ 24‬ر�صيف ًا ت�سافر منها‬ ‫القطارات �إىل خمتلف اجلهات‪� ،‬أن ا�ضطروا‬ ‫�إىل الوقوف يف �صف بلغ طوله ميلني كان كلما‬ ‫نق�ص من املقدمة يزداد يف امل�ؤخرة وظل طول‬ ‫ال�صف ميلني مقدار ‪� 24‬ساعة‪.‬‬

‫الوطنية ال�صامتة‬

‫لقد �شهدت من امل�شاهد الوطنية يف �إجنلرتا ما‬ ‫ترك يف نف�سي �أثر ًا بليغ ًا ولكنها م�شاهد كانت‬ ‫متر �صامتة دون �ضو�ضاء‪ .‬وهل �أدل على هذه‬ ‫الوطنية من ي��وم االعت�صام العظيم حينما‬ ‫ُ�ش َّل ْت احلركة يف جميع �أنحاء البالد ووقف كل‬ ‫عامل عن العمل وتعطلت حركة ال�سري فتعذرت‬ ‫امل��وا� �ص�لات‪ ،‬فوقفت الأم ��ة ب�أجمعها ت�سند‬ ‫احلكومة بذراع متينة وخرج �أبناء اجلامعات‬ ‫وت�سلموا قيادة القطارات «واملنيبو�س» وتط َّوع‬

‫املدر�سة‪ ،‬ف�أرادت االطمئنان عليها تلفوني ًا يف‬ ‫هذه الأزمة‪ ،‬ثم ق َّدرت �أن لي�س من حاجة ما�سة‬ ‫�إىل ذلك ف�أجلت املخاطبة �إىل ال�سهرة حينما‬ ‫تنتهي حاجة �أ�صحاب الأ�شغال‪� .‬إين ال �أملك‬ ‫نف�سي عن التوقف ب�إجالل �أمام هذه العاطفة‬ ‫الوطنية ال�سامية وال �أ�ستغرب بعدها خروج‬ ‫احلكومة من هذه املعركة ظافرة قوية منيعة‪.‬‬ ‫وهل �أدل على هذه الوطنية ال�صامتة من تلك‬ ‫التربعات الدائمة ب�أرقام �ضخمة للخزينة دون‬ ‫�أن تُذكر معها �أ�سماء؟ و�أم�س فقط قر�أت يف‬ ‫اجلرائد الإجنليزية عن ت�برع رج��ل جمهول‬ ‫بثالثة �آالف لرية للخزينة لتغطي ق�سم ًا من‬ ‫ديون احلرب‪.‬‬ ‫وهل �أدل على هذه الوطنية من �أن ال�ضرائب‬ ‫جتبى – وك��ل �إن�سان يتململ م��ن ال�ضريبة‬ ‫ فيتلقى وزي��ر املالية كل يوم مبالغ عظيمة‬‫وطفيفة من جمهولني يعتقدون �أن هنالك خط�أ‬ ‫يف احل�ساب الواجب عليهم فهم ي�سدِّون ما‬ ‫بذممهم من دين مفرو�ض‪.‬‬ ‫هكذا يع�ضدون احلكومات ب�أمانة و�إخال�ص‪،‬‬ ‫وه �ك��ذا تخدمهم حكوماتهم ب�سواعدهم‬ ‫القوية ومي �ج��دون وطنهم بتمجيد �أبطاله‬ ‫ال�شهداء‪ ،‬ففي كل ناحية لهم ن�صب هو قبلة‬ ‫الز َّوار ميجدونه مب�ساعدة اجلنود امل�شوهني‬ ‫الذين تقام لهم البنايات ال�شاخمة ويعني‬ ‫خلدمتهم املمر�ضات واخل��دم وال�سيارات‬ ‫والعربات‪ .‬وهل �أدل على وطنيتهم ال�صامتة‬ ‫من �أن تر�سل زوجة رئي�س بلدية «لندن» نداء‬ ‫ت�ستنجد به الأكف مل�ساعدة البائ�سني بهدايا‬ ‫�صاحلة لعيد امليالد‪ ،‬في�أتيها يف خم�سة ع�شر‬ ‫يوم ًا ‪� 30‬ألف هدية عدا ما جاءها من �أموال‪.‬‬ ‫كنت �أ�شهد ه��ذه امل�شاهد كل ي��وم فتنتابني‬ ‫رجفة �أ��س��ى على ب�لاد تع�سة �أنتمي �إليها‪،‬‬ ‫ال نفقه فيها للوطنية معنى‪ ،‬وال �أدري �إذا‬ ‫كنا نقدر �أن ن�سمي هذه البقعة العزيزة من‬ ‫الأر�ض املتفرقة الأجزاء‪ ،‬املبتورة الأع�ضاء‪،‬‬ ‫وطن ًا‪.‬‬

‫ال�شبان خلدمة البولي�س‪ ،‬وو�ضع كل �صاحب‬ ‫�سيارة نف�سه و�سيارته حتت �إ��ش��ارة ال�شعب‪،‬‬ ‫وت�سلمت الفتيات �إدارة توزيع الإعا�شة فكان‬ ‫كل فرد منهم خمدوم ًا خادم ًا وم�أمور ًا �آمر ًا‬ ‫وكنت جت��د احلجة دام�غ��ة على �أن �إجنلرتا‬ ‫�أبعد املمالك عن الثورات الفو�ضوية و�أ�شدها‬ ‫تعلقا بامللكية �أو على الأقل بهذه العائلة التي‬ ‫ت�ستهوي قلوب ال�شعب بدميقراطيتها‪ ،‬وكنت‬ ‫جتد الدميقراطية والإخاء ميثالن �أجمل متثل‪،‬‬ ‫فهناك �أتومبيل فخم فر�ش ب�أفخر الريا�ش‬ ‫يوقفه عامل رثُّ الثياب وي�سخره �إىل حيث‬ ‫ي�شاء‪ .‬وك��ان ال�شعب يع�ضد احلكومة يف كل‬ ‫�أمر ي�س ِّهل عليها �أعمالها‪ .‬وال �أزال �أذك��ر �أن‬ ‫ما�سة‬ ‫احلكومة رجت الذين لي�ست بهم حاجة َّ‬ ‫�إىل ا�ستعمال التلفون �أن يقللوا من ا�ستعماله الفتاة الإجنليزية‬ ‫وي�ترك��وا اخلطوط ح � َّرة لأ�صحاب الأ�شغال‪� .‬أول م��ا ي�ستلفت نظرك منها قامة ر�شيقة‬ ‫وزي حديث يالئم الزمان واملكان‪،‬‬ ‫و�أذكر �أن �صديقة لنا كانت ابنتها الوحيدة يف متنا�سبة‪ٌّ ،‬‬


‫ولكنه على كل حال تقل�ص �إىل حدود الركبة‬ ‫ورمب��ا �إىل فوقها وظ�ه��رت م��ن حتته �ساقان‬ ‫مم�شوقتان تكمالن جمال قامتها‪ .‬وحينما ال‬ ‫ي�ستلفت وجهها نظرك بجماله الفائق ي�ستلفته‬ ‫بن�ضارة حية‪ .‬تلب�س دائ�م� ًا �أح��دث القبعات‬ ‫وي�ستحيل �أن ال تتنا�سب قبعتها مع لون الرداء‬ ‫�أو لون «التخريج» وجتدها دائم ًا تتدفق حياة‬ ‫ك�أنها على ا�ستعداد لأمر تفعله‪.‬‬ ‫هذا ما ت��راه من مظهرها اخلارجي‪� .‬أم��ا يف‬ ‫ما عدا ذلك فقد عرفتها تت�أبط حقيبة عملها‬ ‫�صباح ًا ن�شيطة �سريعة‪ ،‬وعرفتها يف مكان‬ ‫العمل خفيفة زاهية كفرا�شة الربيع‪ ،‬وعرفتها‬ ‫على مقاعد الدر�س والتدري�س جم َّدة هادئة‪،‬‬ ‫ويف الإدارات الكربى تدير دفة العمل مبهارة‬ ‫و�إتقان‪ ،‬ويف م�سارح التمثيل مت�شي بالفن �إىل‬ ‫درجات الكمال‪ ،‬ويف جمل�س النواب حمرتمة‬ ‫ال�صوت رفيعة امل�ق��ام‪ ،‬وعرفتها �سيدة بيت‬ ‫كاملة تهيئ بنف�سها راح��ة ال ��زوج والأوالد‬ ‫وال�ضيوف‪ ،‬ور�أيتها يف ميادين اللعب جتول‬ ‫جولة الأبطال‪ ،‬وعلى �صهوات اجلياد تتف َّوق ‪-‬‬ ‫ب�شهادة العارفني ‪ -‬على الفر�سان من الرجال‪،‬‬ ‫ويف النهر ت�سيرِّ قارب ًا �صغري ًا جت� ِّ�ذف بهمة‬ ‫ون�شاط‪ ،‬ويف الرب جتل�س �إىل �سيارة وقد يكون‬ ‫معها �صحب من الرجال فتقودها دونهم بلباقة‬ ‫تقل فيها املخاطرات‪ ،‬ور�أيتها حتلق يف الف�ضاء‬ ‫ه��ازئ��ة ب��امل�ج��ازف��ات‪ ،‬ور�أي�ت�ه��ا – يف �شخ�ص‬ ‫«م�سز كورت تريت» ت�ضرب يف جماهيل الأر�ض‬ ‫وتتعر�ض لل�صعوبات لت�ساعد يف اكت�شاف طريق‬ ‫جديد لل�سيارات من ر�أ�س الرجاء �إىل القاهرة‬ ‫و�أذك��ر تلك اللذة التي حدثتنا بها عما القته‬ ‫من �ضروب العذاب وتلك ال�صور التي �أرتنا‬ ‫بها كيف تقدر املر�أة على م�صادمة الأخطار‪.‬‬ ‫ور�أيتها على ال�شواطئ البحرية مرمتية على‬ ‫الرمال تع ِّر�ض ج�سمها حل��رارة ال�شم�س بعد‬ ‫�سباحة طويلة‪ ،‬مفاخرة ب ��آث��ار لذعاتها يف‬ ‫ج�سمها‪ ،‬ور�أيتها يف ال�سهرات وقد ارتدت �أجمل‬ ‫الأثواب تتمايل يف حلقات الراق�صني‪ ،‬ور�أيتها‬ ‫وطنية �س َّباقة �إىل اخلدمة العامة تهتم بامل�سائل‬ ‫ال�سيا�سية‪ ،‬داخلية وخارجية‪ .‬و�أعرف �صديقتني‬ ‫لنا هما «م�سز برود هر�ست وم�سز فاركر�سون»‬ ‫رئي�سة و�سكرترية «الع�صبة ال�سيا�سية الوطنية»‬

‫النظام عند اإلنجليز‬ ‫قانون غير مكتوب‬ ‫يقومون على اتباعه‬ ‫بإخالص لكي يقوم هو‬ ‫على خدمتهم بل على‬ ‫خدمة كل شخص تضمه‬ ‫هذه البقعة من األرض‬ ‫ولع�صبتهما �أع�ضاء عديدون ينتمون �إىل �أرفع‬ ‫الطبقات‪ .‬ولهما اهتمام عجيب بامل�سائل‬ ‫ال�سيا�سية العربية على �إطالقها وت�شتغالن‬ ‫ب�إخال�ص ت�شكران عليه‪ ،‬وقد جندت ع�صبتهما‬ ‫وحدها �أيام احلرب ‪� 30‬ألف فتاة و�ضعتهن يف‬ ‫ت�صرف احلكومة‪ .‬ور�أيتها ت�سري بالنه�ضات‬ ‫الن�سائية �إىل هدف �أعلى حتى تزعمت احلركة‬ ‫الن�سائية يف العامل‪.‬‬ ‫ر�أيتها يف كل مركز ويف كل عمل �إذ يندر �أن جتد‬ ‫يف �إنكلرتة امر�أة دون مركز ت�شغله �أو ي�شغلها‪،‬‬ ‫ومل �أرها يف كل ذلك �إال جذابة حمبوبة‪ ،‬ح َّرة‬ ‫حمرتمة‪ ،‬رغ��م ما يتهمها به الرجعيون من‬ ‫فقدانها جاذبية الأن��وث��ة لأنها دخلت ميدان‬ ‫العمل‪ ،‬الأمر الذي يرتمنون به يف كل الأمم‪.‬‬ ‫على �أنني �أذكر ر َّد ًا بديع ًا لأحد اللوردات وهو‬

‫الولد والدولفني ‪-‬الك�سندر مونرو‪ -‬الهايد بارك‬

‫رجل عجوز قال‪�« :‬إن ابنة اليوم هي �أ�صلح مثال‬ ‫لع�صرها‪ ،‬خلقت ملجاراته ال ملجاراة ميولنا‬ ‫ال�ق��دمي��ة‪ ،‬وك �ث�يرات م��ن الفتيات تنق�صهن‬ ‫اجلاذبية طبيعة دون �أن ي�شتغلن‪ ،‬ومهما كانت‬ ‫فتاة الأم�س َّ‬ ‫جذابة يف نظرنا ف�إنها ال جتاري‬ ‫فتاة اليوم التي نرى من افتتان �شبان الع�صر‬ ‫بها ما يكفي للداللة على �أن نق�صان جاذبية‬ ‫الأنوثة من الأوهام»‪.‬‬ ‫�أم��ا تعليمها فهو متنا�سب مع تعليم الرجل‬ ‫�إذ �أن ��ه‪ ،‬على ال�ع�م��وم‪ ،‬ث��ان��وي �إال �إذا �أري��د‬ ‫التخ�ص�ص‪ ،‬ولكنك جتد الطبقات العليا تر�سل‬ ‫بناتها‪ ،‬بعد �إكمال درو�سهن‪� ،‬إىل عوا�صم �أوربا‬ ‫وعلى الأخ�ص �إىل «باري�س» يدر�سن لغة البالد‬ ‫�أو يتخرجن يف �أحد الفنون اجلميلة‪ .‬وقد نالت‬ ‫الإجنليزية من احلقوق العامة ما مي ِّكنها من‬ ‫�أن ترفع ر�أ�سها به تيه ًا �أمام الأمم‪ ،‬حتى نالت‬ ‫م��ؤخ��ر ًا حق االنتخاب على �إطالقه بعد �سن‬ ‫‪ ،21‬ويبلغ ع��دد اللواتي لهن حق الت�صويت‬ ‫ح�سب الإح�صاء الأخ�ير ‪ 14.832.922‬امر�أة‬ ‫يف مقابل ‪ 12.697.799‬رج ًال وال يخ�شى على‬ ‫ال��رج��ال منهن لأن�ه��ن‪ ،‬على الغالب‪ ،‬م�ساملات‬ ‫ي�سعني �إىل حقوقهن بقوة ‪ -‬واحلق ال ينال بغري‬ ‫القوة طبعا‪ -‬لكنها قوة ال�سعي املتوا�صل والكفاءة‬ ‫الثابتة‪ .‬وق��د اجتمعت م��رة بـ«م�سز فيلب�سون»‬ ‫�إحدى النائبات يف املجل�س الربيطاين و�س�ألتها‬ ‫عن عملها ومبادئها فقالت يف حديث‪« :‬لي�س‬ ‫من مبدئي �إظهار التظلم كثري ًا من الرجل‪ .‬وال‬ ‫جمابهته يف طلب احلقوق‪ ،‬بل �إين �أ�سامله و�أفتح‬ ‫له قلبي و�أقدم دائم ًا �أذن ًا �صاغية ل�سماع �شكواه‪،‬‬ ‫ول��و ك��ان��ت م��ن الن�ساء‪ .‬ل�ه��ذا جت��دي��ن زمالئي‬ ‫النواب يطلعونني على �أمورهم وقد ي�شكو �إ َّ‬ ‫يل‬ ‫بع�ضهم بع�ض ًا‪ .‬وهذا ال يخفاك ق َّل �أن ت�سمح به‬ ‫كربياء الرجل المر�أة»‪ .‬و�أح�سب �أن هذا يعرب عن‬ ‫ر�أي الأغلبية العظمى من الإنكليزيات‪ .‬كنت كلما‬ ‫ر�أيت الفتاة الإجنليزية تتمتع بنعم احلياة وافرة‪،‬‬ ‫�أمتثل اجلهود التي بذلتها يف �أجيال متطاولة لبلوغ‬ ‫هذه املرتبة الرفيعة‪ ،‬ولكن ر�ؤيتها كانت دائم ًا تثري‬ ‫يف نف�سي عاطفتني‪ :‬كنت �أعجب بها و�أغبطها‬ ‫اللب بهذه القدوة احل�سنة‪ ،‬ثم كنت �أت�أمل‬ ‫م�أخوذة ِّ‬ ‫علي هذه الأيام‬ ‫حت�سب‬ ‫دنيا‬ ‫يف‬ ‫إجحاف‬ ‫و�أ�شكو ال‬ ‫َّ‬ ‫التي �أحياها من العمر‪ ،‬حياة !‬


‫‪64‬‬ ‫الـعــــدد‬ ‫‪158‬‬ ‫ديسمبر‬

‫‪2012‬‬

‫هنا ‪ ..‬وهناك‬

‫الذات سجان ًا ومسجون ًا‬ ‫يعتقد‬

‫البع�ض �أن «الذات» هي املو�ضوع الذي مُيار�س عليه‬ ‫القهر‪ ،‬من الأ�سرة �أو املجتمع �أو ال�سلطة �أو الثقافة‬ ‫ال�سائدة �أو كل ه ��ؤالء‪ .‬ولكن هل من املمكن �أن تكون تلك الذات‬ ‫قاهرا مثلما هي مو�ضوع للقهر؟ �إن الذات مثلما تقع �سجينة القهر‪،‬‬ ‫بوعي �أو يف الأغلب بدون وعي‪ ،‬فهي �أي�ضا تقوم بتلك املهمة نيابة‬ ‫عن أ�ط��راف عدة‪ ،‬فتتحول ذاتنا يف حلظات‪� ،‬أو رمبا مراحل من‬ ‫حياتنا‪� ،‬إىل �سجان قا�سي القلب ال يفكر للحظة قبل �أن يغلق على‬ ‫امل�سجون باب الزنزانة‪� .‬إنه يقوم بعمله ب�ضمري‪ ،‬هذا هو كل ما يف‬ ‫الأمر‪� .‬أخذت �أت�أمل تلك الفكرة فعادت إ� ّ‬ ‫يل حكاية �إحدى اجلدات‬ ‫التي �ألهمتني و�ألهمت �أجياال من الن�ساء‪ ،‬وفتحت لنا �أبوابا كانت‬ ‫مو�صدة‪ .‬ابت�سمت بامتنان و�أن��ا �أفكر كم هو جميل �أن يقوم �أحد‬ ‫املنا�ضلني من �أجل عامل �أكرث �إن�سانية ورحابة بعمل يغري من حياة‬ ‫من ي�أتي بعده من النا�س‪ .‬وكم هو جميل �أي�ضا �أن يفكر بع�ض ه�ؤالء‬ ‫النا�س �أن عليهم �أن ي�ستكملوا فتح الأب��واب املغلقة من �أج��ل من‬ ‫�سي�أتي بعدهم‪.‬‬ ‫زارتني ذك��رى لطيفة الزيات «‪ »1996 - 1923‬لأن فكرة ال��ذات‬ ‫�سجانا وم�سجونا ترددت يف �أعمالها‪ .‬لقد تناولت كتابات الزيات‬ ‫الأدبية «الذات» يف عالقتها بنف�سها وبالآخر‪ ،‬كما تناولت الوطن‬ ‫واحلرية ك�أ�ضواء كا�شفة على الذات الفردية‪� ،‬أ�ضواء تقود رحلتها‬ ‫نحو املزيد من الفهم واالكتمال‪ .‬كتبت لطيفة الزيات عن عالقة‬ ‫ال��ذات بنف�سها‪� ،‬سطرت جتربتها ك��ام��ر�أة من الطبقة املتو�سطة‬ ‫تعي�ش تناق�ضات جمتمعها ال��ذك��وري‪ ،‬وتنجح على م��دار �سنوات‬ ‫احلياة والكتابة �أن تقاوم القهر بالفكر وبالكتابة‪.‬‬ ‫يف �شهادة كتابة خطتها يف خريف ع��ام ‪ 1992‬ون�شرت يف جملة‬ ‫«ف���ص��ول»‪ ،‬كتبت ال��زي��ات مفهومها ع��ن احل��ري��ة‪ .‬كانت تلك هي‬ ‫املرة الأوىل التي حتاول فيها �صياغة املفهوم ب�شكل نظري‪ ،‬رمبا‬

‫لأن املمار�سة قد �أغنتها عن التنظري‪ .‬قالت �أن املفهوم الوجودي‬ ‫ي�صلح مدخال لتعريف مفهومها ع��ن احل��ري��ة و�إن اختلفت مع‬ ‫النتائج املرتتبة وجوديا على ه��ذا املدخل‪ .‬فهي ت�ؤكد �أن الفعل‬ ‫واحلرية �صنوان ال ينف�صالن بالت�أكيد‪ ،‬ولكن يف �سياق يختلف عن‬ ‫ال�سياق الوجودي‪ .‬تقول «�أنا حني �أفعل ال �أفعل يف فراغ‪ ،‬وال �أ�صدر‬ ‫عن ف��راغ‪� ،‬أن��ا �أفعل يف واق��ع اجتماعي تاريخي‪ ،‬حمكوم بجدلية‬ ‫الوحدة وال�صراع‪ ،‬بني ثنائية ال�ضرورة من جانب‪ ،‬واحلرية من‬ ‫جانب �آخ��ر‪ ،‬وه��ذا الواقع االجتماعي ال��ذي �أفعل يف ظله حمكوم‬ ‫ب�آالف ال�ضروريات االقت�صادية وال�سيا�سية وال�سلوكية والأخالقية‬ ‫والعادات والتقاليد»‪.‬‬ ‫�إن هذا الواقع االجتماعي التاريخي ب�إمكانه �أن ي�سلبنا القدرة على‬ ‫الفعل احلر‪ ،‬تارة بالوعد والوعيد وتارة �أخرى بال�سجن والت�شريد‬ ‫وباحلرمان من العمل‪ /‬لقمة العي�ش‪ .‬هناك طرق ال ح�صر لها حتد‬ ‫من قدرتنا على الفعل احل��ر �أو ت ��ؤدي بنا يف النهاية �إىل فقدان‬ ‫حريتنا‪ .‬ولكن لطيفة الزيات‪ ،‬يف نف�س الوقت‪ ،‬تلفت االنتباه �إىل‬ ‫�أن ذواتنا مثلما تت�أثر بالواقع فهي �أي�ضا ت�ؤثر فيه عندما تقاومه‬ ‫وحت��اول تغيريه‪ .‬ه��ذا الواقع ال��ذي لي�س من اختيارنا‪ ،‬هل نبقى‬ ‫�سجنائه طوال حياتنا‪� ،‬أم �أن هناك يف الأفق اختيارات �أخرى؟ و�أنا‬ ‫�أتفق معها متاما عندما تقول �أن هذا هو �أحد االختيارات الواعية‬ ‫التي ميار�سها الإن�سان‪ .‬فال�شخ�صية لي�ست كيانا جامدا ال يقبل‬ ‫التحوالت‪ ،‬بل هي كيان ينمو ويتغري ويتطور �إىل الأف�ضل‪ .‬ال�شخ�صية‬ ‫هي كيان نعيد ت�شكيله طوال الوقت مع كل فعل حر ي�صدر عنا مثلما‬ ‫نعيد ت�شكيل الواقع املحيط بنا مع كل فعل حر‪.‬‬ ‫تتناول لطيفة ال��زي��ات ثنائية ال���ض��رورة واحل��ري��ة‪ ،‬وتو�ضح �أن‬ ‫هذه ال�ضرورات يف �أغلبها موروثة بحكم الرتبية القامعة �إذ �أن‬ ‫«ما من �أحد منا �إال وتربيته مقموعة وقامعة للتوا�ؤم مع الأ�سرة‬


‫د‪�.‬سحر املوجي‬

‫والأب‪ ،‬والطبقة والبنيان االجتماعي‪ ،‬واملعلم واحل��اك��م»‪ .‬حتيط‬ ‫بنا وترتاكم حولنا منذ الطفولة طبقات القمع املتعددة ل�ضرورات‬ ‫اجتماعية و�سيا�سية وثقافية حتددها الثقافة ال�سائدة يف جمتمع ما‬ ‫يف حلظة بعينها‪� .‬أما يف حالة الن�ساء فهذه ال�ضرورات تت�ضاعف‬ ‫ب�شكل تلقائي‪ .‬فالرتبية التي تتلقاها الأنثى يف جمتمعاتنا «تتلخ�ص‬ ‫يف �إلغاء الذات ل�صالح الآخر‪ ،‬وهو الرجل‪ ،‬و�إفناء هذه الذات يف‬ ‫الآخر‪ ،‬بحيث يغيب �صوت الأنثى اخلا�ص‪ ،‬و�إرادتها احلرة‪ ،‬وفعلها‬ ‫الإيجابي‪ ،‬ويغيب باخت�صار كيانها احلر املفرت�ض �أن يقف يف ندية‬ ‫مع كيان الرجل»‪.‬‬ ‫كثريا ما يتزامن القهر الآتي من خارجنا مع قهر ي�أتي من الداخل‪.‬‬ ‫تتحول الذات وقتها �إىل �سجان الذات‪ .‬يحدث هذا عندما تنزلق‬ ‫�أقدامنا يف ال�شرك القدمي املن�صوب دوما‪ .‬لقد متثلنا الت�صورات‬ ‫القامعة وقمنا مبهمة القهر جتاه �أنف�سنا‪ .‬فلو �أنني �صدقت �أنني‬ ‫�أنثى �ضعيفة بحاجة دائمة �إىل حماية رج��ل‪ /‬جمتمع‪� /‬سلطة‬ ‫�أق��وى‪ ،‬فمن البديهي �أن تتقل�ص قدرتي على الفعل‪ ،‬ومن ثم لن‬ ‫�أختار �إال القليل ولن �أحلم �إال بالفتات‪ ،‬وبدال من الفعل �س�أكتفي‬ ‫باالنتظار‪ .‬عن القهر تقول لطيفة «�أمي‪ ،‬الأنثى املقهورة‪ ،‬قهرتني‬ ‫لكي �أتواءم مع جمتمع قاهر ال يتقبل �سوى امر�أة مقهورة‪ .‬علمتني‬ ‫�أمي �أال �أفعل‪ ،‬و�أال �أق��ول‪ ،‬و�أال �أ�صرح‪ ،‬و�صادرت كل مرة �صوتي‬ ‫قبل �أن يرتفع‪ .‬باركت �سلبيتي‪ ،‬وادرج��ت �إيجابيتي يف ن��وع من‬ ‫العدوانية‪ ،‬علمتني كيف �أبت�سم‪ ،‬وكيف �أنحني‪ ،‬وحا�صرت كل مرة‬ ‫غ�ضبي بو�صفه فعال منكرا»‪.‬‬ ‫�أدرك��ت لطيفة عن طريق الوعي من �أي��ن ي�أتي القهر‪ ،‬وقاومته‪.‬‬ ‫لكن الأم مل تكن لتقاوم قهرا لأنها ال تدرك �أنها مقهورة‪ .‬ملاذا؟‬ ‫لأنها ت�صدق �أنها �ضعيفة‪ .‬وهنا مثل وا�ضح على كون الذات �سجانا‬ ‫للذات‪ .‬ورحلة املقاومة ال تتبع �أبدا اخلط امل�ستقيم‪ ،‬الرحلة دوائر‬

‫توقعنا يف امل��وروث فنقاوم ونقوم من عرثتنا وق��د اكت�سبنا وعيا‬ ‫جديدا‪ ،‬ثم نقع مرة �أخرى يف براثن املوروث ونعود للمقاومة‪.‬‬ ‫حتكي لطيفة ال��زي��ات عن جتربتي ال�سجن التي تعر�ضت لهما‪.‬‬ ‫فقد �سجنت مرة يف العهد امللكي عام ‪ 1949‬حتت ذمة الق�ضية‬ ‫ال�شيوعية‪ ،‬و�سجنت امل��رة الثانية يف ‪ 1981‬عندما �أ��ص��در �أن��ور‬ ‫ال�سادات قائمة اعتقال �ضمت ‪� 1536‬سيا�سيا ومفكرا وفنانا ورجال‬ ‫دين وغريهم وكانت التهمة «قلب نظام احلكم»‪ .‬يف جتربة ال�سجن‬ ‫الأوىل عرفت لطيفة ق�سوة ال�سجن يف زنزانة انفرادية‪ ،‬كما عرفت‬ ‫�أي�ضا ق�سوة التهمة اجلائرة واملخزية يف املرة الثانية‪ .‬غري �أنها‪،‬‬ ‫بعد جتربتي ال�سجن الفعلي‪ ،‬ت�ؤكد �أن «�سجن ال��ذات للذات هو‬ ‫�أق�سى �أنواع ال�سجن»‪ .‬وت�ضيف �أن حلظة ت�صالح يف حرية مع الذات‬ ‫متحي �أثر كل �سنوات املطاردة من ال�سلطة والعقوبات املح�سو�سة‬ ‫وغري املح�سو�سة‪.‬‬ ‫�إن احلرية هي �أحد الأهداف ال�سامية التي يجعل ال�سعي نحوها من‬ ‫الإن�سان «�إن�سانا»‪ .‬وينا�ضل �أ�صحاب الوعي من �أجل هذا الهدف‪ ،‬ال‬ ‫�شخ�ص فيه‬ ‫حتيد �أعينهم عن احللم بعامل رحب و�إن�ساين ال يقهر‬ ‫ٌ‬ ‫�شخ�ص �آخر‪ ،‬وال تقهر �سلطة �أو منظومة فكرية بالية جموع الب�شر‬ ‫حتت �أقدامها‪ .‬رمبا الهدف الأ�سمى �أن ن�صل �إىل ذلك الإدراك‬ ‫الرائع الذي حتكي عنه لطيفة الزيات‪�« :‬إن �أحدا مل يعد ميلك �أن‬ ‫ي�سجنني‪� ،‬أوق��ل و�أن��ا يف الثامنة واخلم�سني‪ ،‬و�أن��ا يف طريقي �إىل‬ ‫ال�سجن �أملح حريتي مكتملة يف �آخر الطريق وت�صاحلي مع الذات‬ ‫بعد م�شوار طويل‪ .‬ولكن مل تكن هذه باحلرية املبذولة وال باحلرية‬ ‫علي وقد طعنت يف ال�سن‪� ،‬أن �أعاود بالفعل احلر‬ ‫النهائية‪ .‬يت�أتي ّ‬ ‫والهادف توكيد حريتي املرة بعد املرة‪ ،‬بفعل حر بعد فعل‪� ،‬سواء‬ ‫متثل هذا الفعل يف موقف �أو كلمة‪ .‬و�أفقد حريتي يف كل مرة �أقول‬ ‫فيها لنف�سي‪ :‬طال امل�سار و�آن يل �أن �أ�ستكني»‬

‫هنا ‪..‬وهناك‬


‫المحكي شعر ًا‬ ‫‪66‬‬ ‫الـعــــدد‬ ‫‪158‬‬ ‫ديسمبر‬

‫‪2012‬‬


‫املحكي�شعرا ً‬ ‫ملف ال�شعر ال�شعبي‬

‫فتحت �آفاق ًا جديدة للق�صيدة النبطية‬

‫قراءة في مالمح المدرسة الشعورية في اإلمارات‬ ‫حممد عبد اهلل نور الدين‬

‫�شاعر وباحث �إماراتي‬

‫ن�ش�أت املدر�سة ال�شعورية �أو الرومان�سية من ذائقة ال�شعراء وجر�أتهم على طرح عواطفهم و�أفكارهم‬ ‫يف الق�صائد بغ�ض النظر عن قبول املتلقي �أو الناقد بذلك‪.‬‬ ‫و�سميت املدر�سة بال�شعورية لظهور عواطف ال�شاعر يف ق�صائده �أكرث من �أفكاره‪ ،‬لذا ن�ستطيع �أن نعرب‬ ‫عن املدر�سة ال�شعورية باملدر�سة الأدبية التي ي�ش ّكل فيها ال�شاعر رابط ًا قوي ًا مع نف�سه وروابط �أقل قوة‬ ‫مع املتلقني والنقاد والق�صيدة‪.‬معرفته كي يحتوي �أكرب قدر من العلم باملتلقني والنقاد وطريقة كتابة‬

‫ك�سر حواجز املحظور‬

‫مل ت � ��أت امل��در� �س��ة ال �� �ش �ع��وري��ة ب��ال �غ��زل يف‬ ‫الق�صيدة‪ ،‬فهذا الغر�ض ك��ان مطروق ًا يف‬ ‫ال�سابق‪ ،‬ولكن ج��اءت امل��در��س��ة ال�شعورية‬ ‫بالتجديد يف الغزل و�إبراز جوانب مل يعهدها‬ ‫املجتمع امل �ح��اف��ظ‪ ،‬وك��ذل��ك ك��ان��ت احل��ال‬ ‫يف الأغ��را���ض الأخ��رى حيث كانت املدر�سة‬ ‫ال�شعورية تك�سر حواجز املحظور با�ستحياء‬ ‫�شديد‪ .‬فالق�صيدة ال�شعورية يف البدء كانت‬ ‫ت�شبه الق�صائد التقليدية‪ ،‬ولكن مع مرور‬ ‫الوقت خلعت املدر�سة ال�شعورية كثري ًا من‬ ‫ثيابها التقليدية لتظهر كمدر�سة جديدة يف‬ ‫الق�صائد النبطية‪.‬‬ ‫مل ي�ت�م� ّرد ال���ش�ع��راء ال�شعوريون على قيم‬

‫وعادات املجتمع لإبراز ق�صائدهم‪ ،‬كما هي‬ ‫احلال يف �آداب ال�شعوب الأخرى‪ ،‬وذلك نظر ًا‬ ‫لر�سوخ امل�ب��ادئ والقيم الأ�صيلة يف باطن‬ ‫ال�شعراء �أو ًال‪ ،‬وعدم وجود القنوات الإعالمية‬ ‫ك�أداة تنقل الق�صيدة �إىل املتلقني ثاني ًا‪ ،‬حيث‬ ‫كان ال�شعراء وح ّفاظ ق�صائدهم هم الو�سيلة‬ ‫الوحيدة لنقل الق�صائد‪ ،‬لذا جل�أ ال�شعراء‬ ‫�إىل جتميل ق�صائدهم لك�سب املجتمع بد ًال‬ ‫م��ن ال�ت�م� ّرد وامل��واج�ه��ة املبا�شرة متجنبني‬ ‫الإق�صاء الفوري‪.‬‬ ‫�أ�صبحت الق�صيدة عند ال�شعراء ال�شعوريني‬ ‫منفذ ًا �إىل راحتهم النف�سية والتعبري عن‬ ‫الإح�سا�س وامل�شاعر‪ ،‬ومن الطبيعي �أن جتد‬ ‫ال�شاعر ال�شعوري �أو الرومان�سي متحدث ًا لبق ًا‬

‫يف ق�صيدته وهو يخاطب حمبوبه �إن مل يكن‬ ‫كذلك يف واقع الأمر‪.‬‬ ‫وقد ظهرت �أوىل مالمح املدر�سة ال�شعورية‬ ‫يف الق�صائد التقليدية لبع�ض ال�شعراء‪،‬‬ ‫كال�شاعر �أحمد بو �سنيدة ال��ذي ميكن �أن‬ ‫نعده من �ضمن �شعراء مرحلة االنتقال من‬ ‫املدر�سة التقليدية �إىل املدر�سة ال�شعورية‪،‬‬ ‫وهذه ق�صيدة تدل على ذلك «�أحمد بو�سنيدة‬ ‫حياته و�أ�شعاره‪� ،‬سلطان العميمي‪� ،‬ص ‪:»121‬‬

‫ي� � ��ا ح� �ب� �ي� �ب ��ي ك � �ي� ��ف مم �� �س��اك��م‬ ‫ي� � �ع� � �ل� � �ك � ��م يف خ � �ي � ��ر مت � �� � �س� ��ون� ��ا‬ ‫و� � � ��ش خ� �ل ��ف ي � ��ا زي � � ��ن الم ��اك ��م‬ ‫� � ��ش ال� ��� �س� �ب ��ب يل ب � ��ه ه �ج ��رت ��ون ��ا‬


‫المحكي شعر ًا‬ ‫‪68‬‬ ‫الـعــــدد‬ ‫‪158‬‬ ‫ديسمبر‬

‫‪2012‬‬

‫ت�صنيف الق�صائد ولي�س ال�شعراء من األساليب التي أبدعها �سقى اهلل ع�صرٍ فات يف غرة ال�صبا‬ ‫�سحابٍ من الغفران بالعفو هطايل‬ ‫نالحظ �أن بو�سنيدة يخاطب املحبوب ب�صورة‬ ‫المدرسة‬ ‫في‬ ‫الشعراء‬ ‫زمان الت�صايف بالت�صايف مع الهوى‬ ‫مبا�شرة‪ ،‬وهو ما مل يكن متبع ًا عند ال�شعراء‬ ‫الذين �سبقوه‪ ،‬ول��و �أمعنا النظر يف ق�صائده الشعورية المبالغة في‬ ‫وحكمي على حكم الدهر يا �سعد طايل‬

‫لوجدنا مالمح تقليدية كثرية وبع�ض املالمح‬ ‫ال�شعورية امل�ستجدة‪ ،‬وكذلك احلال مع �شعراء‬ ‫�آخرين يف هذه املرحلة االنتقالية؛ فقد ظهرت‬ ‫يف ق�صائدهم مالمح �شعورية‪ .‬ولكن كيف‬ ‫ن�ستطيع �أن ن�صف �شاعر ًا بال�شاعر الرومان�سي‬ ‫�أو ال�شاعر التقليدي �إذا كان هذا ال�شاعر ال‬ ‫يزال ي�ستخدم �أ�ساليب املدر�ستني؟ ومن الأف�ضل‬ ‫درا�سة كل ق�صيدة من ق�صائد ال�شاعر على‬ ‫ح��دة‪ ،‬وت�صنيف الق�صيدة ب��د ًال من ت�صنيف‬ ‫ال�شاعر ب�سبب تطور جتربة ال�شاعر من مرحلة‬ ‫�إىل �أخ��رى‪ .‬واحلد الفا�صل بني املدر�ستني هو‬ ‫طريقة ت�ن��اول ال�شاعر الق�صيدة‪ ،‬فال�شاعر‬ ‫التقليدي ي�أخذ دور ال��راوي يف الق�صيدة‪ ،‬و�إن‬ ‫كان يتحدث عن نف�سه �إال �أنه ُيدخل �شخو�ص ًا‬ ‫�آخ��ري��ن يف ال�ق���ص�ي��دة وي �ت �ح��دث م��ع ال�ع��امل‬ ‫اخل��ارج��ي‪ ،‬كما الحظنا يف الف�صل ال�سابق‪،‬‬ ‫و�أما ال�شاعر ال�شعوري ف�إنه ي�أخذ دور املمثل يف‬ ‫الق�صيدة ويحاور الآخر مبا�شرة من دون �إدخال‬ ‫�شخو�ص �آخرين وب��د ًال من التحدث مع العامل‬ ‫اخلارجي ف�إنه يتوجه �إىل جوارحه وتفاعله مع‬ ‫العامل اخلارجي يكون ب�إ�سقاط م�شاعره على‬ ‫الطبيعة كما �سنالحظ الحق ًا يف هذا الف�صل‪.‬‬ ‫و�إن كان ال�شاعر �أحمد بو�سنيدة قد جتاوز دور‬ ‫الراوي‪ ،‬كما �أ�شرنا يف املثال ال�سابق‪ ،‬لكنه �أبقى‬

‫التأثير على الجوارح لبيان‬ ‫عظمة المحنة التي‬ ‫يعاني منها الشاعر‬

‫على كثري من �أ�ساليب التقليديني‪ ،‬بينما جند‬ ‫ال�شاعر مبارك العقيلي تارة يتقم�ص دور الراوي‬ ‫وتارة �أخرى يدخل �شخ�ص ًا يف ال�سياق‪ ،‬وهي من‬ ‫�أ�ساليب التقليديني‪ ،‬ولكنه برز يف ا�ستخدام‬ ‫�أ�ساليب كثرية من �أ�ساليب ال�شعوريني‪ ،‬وهذا‬ ‫التباين يعود �إىل �شخ�صية ال�شاعر ورغبته يف‬ ‫إ�ح��داث التغيري ومقدرته‪ ،‬فال�شاعر الأول كان‬ ‫ميلك رغبة قوية يف التغيري‪ ،‬بينما ال�شاعر‬ ‫الثاين امتلك مقدرة �أكرب‪ ،‬وا�ستطاع من خالل‬ ‫ا�ستخدام بع�ض �أ�ساليب املدر�سة التقليدية‬ ‫�إدخال �أ�ساليب كثرية من املدر�سة ال�شعورية يف‬ ‫�سياق الق�صيدة ذاتها‪ ،‬ولنالحظ ذلك يف مقطع‬ ‫من ق�صيدة لل�شاعر الثاين مبارك العقيلي‬ ‫«تراثنا من ال�شعر ال�شعبي‪ ،‬جمع وحتقيق حمد‬ ‫بو�شهاب‪� ،‬ص ‪:»16‬‬

‫�أول بيتني يف هذا املقطع وردا ب�أ�سلوب املدر�سة‬ ‫ال�شعورية من حيث ا�ستعطاف املحبوب ور�سم‬ ‫ال�صورة الفنية داخل اجل��وارح‪ ،‬بينما يزيد‬ ‫ال�شاعر ق�صيدته بيتني �آخ��ري��ن ب�أ�سلوب‬ ‫املدر�سة التقليدية‪ ،‬والرجوع �إىل ا�ستخدام‬ ‫الأ�ساليب التقليدية لي�س بظاهرة غريبة‬ ‫ك��ون امل��در� �س��ة ال���ش�ع��وري��ة يف �أدب �ن��ا لي�ست‬ ‫م��در��س��ة ث��وري��ة ت �ه��دم امل��در� �س��ة التقليدية‬ ‫وتبني مدر�سة ج��دي��دة على �أنقا�ضها‪ ،‬بل‬ ‫هي مدر�سة ن�ش�أت من التطور االجتماعي‬ ‫لبيئة ال�شعراء وم�ستواهم الفكري‪ ،‬لذا ف�إن‬ ‫امل��دار���س ال�شعرية اجلديدة ال تتخل�ص من‬ ‫�أ�ساليب املدار�س القدمية بل تعود وت�ستخدم‬ ‫هذه الأ�ساليب مرة �أخرى يف �سياق الق�صائد‬ ‫بكل �سال�سة‪ .‬و�سوف نبد�أ يف عر�ضنا املدر�سة‬ ‫ال�شعورية ب ��إي��راد ال�شواهد م��ن ر ّواد هذه‬ ‫املدر�سة وتابعيها‪.‬‬

‫ال�صورة الداخلية‬

‫على فقدهم �أبكي وال ا�شكي لغريهم‬ ‫توجه تركيز �شعراء املدر�سة ال�شعورية �إىل‬ ‫ّ‬ ‫ع�سى يرحموين وي�سعدوين بالآمايل ر�سم ال�صورة ال�شعرية با�ستخدام ما بني‬ ‫ويل مهجة ٍمهجورة ٍهاجها الأ�سى‬ ‫جوانحهم بعد �أن كانت هذه ال�صور الداخلية‬ ‫وق� �ل ��بٍ ي �ق � ّل��ب ق ��ال ��ب ل ��ه ب ��ول ��وايل نادرة يف املدر�سة التقليدية‪ ،‬وكانت �أغلب هذه‬


‫ال�صور التقليدية تت�شكل من ا�ستعارات ميتة‬ ‫درج النا�س على ا�ستخدامها‪ ،‬ولكن �شعراء‬ ‫املدر�سة التقليدية و�ضعوها يف قالب �شعري‬ ‫لتجميل ق�صائدهم‪ ،‬وامل�ث��ال التايل لل�شيخ‬ ‫�صقر ب��ن خالد القا�سمي م��ن ه��ذا القبيل‬ ‫«تراثنا من ال�شعر ال�شعبي‪ ،‬جمع وحتقيق‬ ‫حمد بو�شهاب‪� ،‬ص ‪:»238‬‬

‫هذا الزفري �إىل «اجلمر» يف ال�صورة الثانية‬ ‫ا�شتعا ًال �أك�ثر‪ .‬ويف املثال التايل لل�شاعر بن‬ ‫عتيق الهاملي نرى ال�شاعر ير�سم �صورة داخلية‬ ‫نابعة من م�شاعره «ديوان بن عتيج‪� ،‬ص ‪:»80‬‬

‫ب � � � � � ��اي� � � � � � �ل � � � � � ��ده � � � � � ��ا ي� � �ل� ��اي� � � � ��د‬ ‫ال � � � � � ّن � � � � �ف � � � � ��� � � � ��س ل � � � � � � ��و ت � � � � �ه� � � � ��واك‬

‫فال�شاعر ّ‬ ‫ي�شخ�ص النف�س ويهددها باجللد لو‬ ‫ع�صت ال�شاعر لتهوى املحبوب مرة �أخ��رى‪،‬‬ ‫واجللد لتهذيب النف�س �صورة رائعة يف التعبري‬ ‫مرتبطة بال�شعور‪ ،‬وهنا مثال �آخ��ر من �شعر‬ ‫عبيد بن نييال «تراثنا من ال�شعر ال�شعبي‪ ،‬جمع‬ ‫وحتقيق حمد بو�شهاب‪� ،‬ص ‪:»310‬‬

‫املدر�سة ال�شعورية ال تهتم بال�صور اخلارجية‬ ‫و�إمن ��ا يختلف �أ��س�ل��وب امل��در��س��ة ال�شعورية‬ ‫يف طريقة ت�ن��اول العنا�صر اخلارجية كما‬ ‫�سيت�ضح الح��ق�� ًا‪ ،‬ح�ي��ث اه�ت�م��ت امل��در��س��ة‬ ‫ال�شعورية بال�صورة الداخلية اهتمام ًا خا�ص ًا‬ ‫ح�ت��ى �أ��ص�ب�ح��ت ج��دي��دة مرتبطة بعاطفة‬ ‫ال�شاعر ارتباط ًا وثيق ًا‪ ،‬لنالحظ هذه ال�صورة‬ ‫لل�شاعر �سعيد بن عتيق الهاملي حني ي�شبه‬ ‫عينه بقربة املاء القدمية «دي��وان بن عتيق‪،‬‬ ‫�ص ‪:»123‬‬

‫النف�س يا خالد تناهت همومها‬ ‫وال �ع�ين ع� ّي��ت ع��ن مطاييب نومها‬ ‫والقلبهاجهالعجالوجدوالأ�سى‬ ‫ي � � � � � ��ا ع � � �ي� � ��ن ه� � � � � � ّل � � � � ��ي ه� � � � ّل � � ��ي‬ ‫وال �ك �ب��د م��ا زال� ��ت ت �ك��اب��د غ�م��وم�ه��ا‬ ‫ه � � � � � � ��ل ال� � � � ��� � � � �س� � � � �ع � � � ��ن اجل � � � � � � ��دمي‬ ‫والروح فيها ح�سر ٍة لي�س تنق�ضي‬ ‫ع � � �ل � � ��ى ف� � � ��رق� � � ��ا ْع � � � � � � � ��رب ٍ يل‬ ‫ك��ل م��ا م�ضى ي ��و ٍم جت� �دّد همومها‬ ‫ب �� �س �ت��ان ق �ل �ب��ي � �ص ��اب ��ه ال �ه �ي��ف‬ ‫وم � � � � � �� � � � � � �ص� � � � � ��اف� � � � � ��ات ال � � � � � � ّن� � � � � ��دمي‬ ‫ْ‬ ‫وال�صرب �صدّه �صادع البني وان�صرف‬ ‫ح ��ت ْورق� � ��ه م ��ن رو� � ��س الأغ �� �ص��ان‬ ‫وابقى اجلزع للنف�س دامي ي�سومها‬ ‫نالحظ �أن �شاعرنا برع يف ر�سم �صور خمتلفة‬ ‫لأع�ضائه الداخلية كالنف�س والقلب والكبد‬ ‫وال��روح‪ ،‬ولكنه مل يخرج من ال�سياق العام‬ ‫لهذه اجلوارح‪ ،‬فجميع املعاين التي جاءت يف‬ ‫هذا ال�سياق كانت نتيجة لت�أثري �شعوره بالأمل‬ ‫لفقد ابن عمه ال�شيخ حميد بن عبد اهلل بن‬ ‫�سلطان القا�سمي‪ ،‬و�إن كانت ال�صور مليئة‬ ‫باال�ستعارات الت�شخي�صية والتج�سيمية ف�إن‬ ‫امل�ستمع ال يخرج �إال باملفهوم العام من هذه‬ ‫الأبيات وال�شعور املرهف الذي تخلفه براعة‬ ‫ال�شاعر يف �صياغة جملته ال�شعرية‪.‬‬ ‫�أما ال�صور الداخلية يف املدر�سة ال�شعورية‬ ‫ف�إنها تختلف عن ذلك‪ ،‬كونها تهتم باجلانب‬ ‫الت�صويري بالإ�ضافة �إىل اجلانب ال�شعوري‬ ‫من ال�صورة‪ ،‬واملثال التايل لل�شاعر مبارك‬ ‫العقيلي �أو�ضح دليل على هذا املعنى «تراثنا‬ ‫م��ن ال�شعر ال�شعبي‪ ،‬جمع وحتقيق حمد‬ ‫بو�شهاب‪ ،‬ج‪� ،2‬ص ‪:»62‬‬

‫�أردّد زفريي يف �ضمريي ولوعتي‬ ‫وجمر اجلوى والوجد يف القلب وقادي‬

‫ف�تردي��د ال��زف�ير يف ال�ضمري ��ص��ورة جديدة‬ ‫ممزوجة بعاطفة ال�شاعر و�شعوره‪ ،‬حيث يعرب‬ ‫«الزفري» عن ت�أوهات ال�شاعر ولوعته‪ ،‬وي�ضيف‬

‫ولو عقدنا مقارنة بني هذا البيت وبيت لل�شيخ‬ ‫خليفة بن �شخبوط �آل نهيان من املدر�سة‬ ‫التقليدية‪ ،‬ح�ين ي�شبه حمبوبه با�ستعارة‬ ‫ت�صريحية‪ ،‬وي�شري �إىل ك�بر �سن املحبوب‬ ‫«�أع��ذب الألفاظ من ذاك��رة احلفاظ‪ ،‬جمع‬ ‫وحتقيق حماد اخلاطري‪� ،‬ص ‪:»137‬‬

‫ي � � � � ��ا ع� � � � � � ��ود ري� � � � �ت � � � ��ك ه � ��اي � ��ف‬ ‫وم� � � � �ن � � � ��ك �� � ْ��س � � �م � � �ط� � ��ت الوراق‬ ‫جند ال�صورة الثانية �صورة خارجية حيث‬ ‫ي�شبه ال�شاعر حمبوبه – عن�صر خارجي ‪-‬‬ ‫بالعود اخل��ايل من الأوراق‪ ،‬بينما ال�صورة‬ ‫الأوىل �صورة داخلية حيث ي�شبه ال�شاعر قلبه‬ ‫– عن�صر داخلي ‪ -‬بالب�ستان الذي �سقطت‬ ‫�أوراق �أ�شجاره‪ ،‬وهذا االختالف الب�سيط ال‬ ‫يبدو مهم ًا للوهلة الأوىل‪ ،‬لكن مع قليل من‬ ‫التق�صي‪ ،‬جن��ده ظاهرة مهمة يف التفريق‬ ‫بني املدر�ستني ال�شعريتني‪ ،‬وال �أعني بهذا �أن‬

‫يأخذ الشاعر التقليدي دور‬ ‫الراوي ويُدخل شخوص ًا‬ ‫آخرين في القصيدة‪ ،‬أما‬ ‫الشاعر الشعوري فيأخذ‬ ‫دور الممثل ويحاور اآلخر‬ ‫مباشرة‬

‫فالقربة القدمية «ال�سعن اجلدمي» هنا توحي‬ ‫ب��ال�ع�لاق��ة ال �ق��دمي��ة ب�ين ال���ش��اع��ر وال �ع��رب‬ ‫املرحتلني بالرغم من عدم ورود هذا املعنى‬ ‫يف �سياق الق�صيدة‪ ،‬و�أي�ضا توحي بالعط�ش‬ ‫يف مو�سم ال�صيف‪ ،‬مع �أن الت�شبيه ورد لبيان‬ ‫غزارة مدامع ال�شاعر‪ ،‬وتكرار «ه ّلي» قبل ورود‬ ‫ال�صورة �أ�ضاف �إىل انهراق املاء من القربة‪،‬‬ ‫وكلها �إي�ح��اءات ترتبط ب�شكل من الأ�شكال‬ ‫باملو�ضوع ولي�ست �صور ًا فنية مقحمة‪ .‬لكن‬ ‫درج كثري من ال�شعراء ال�شعوريني على تكرار‬ ‫بع�ض ال�صور الداخلية لقلة مقدرتهم يف‬ ‫ا�ستح�ضار �صور جديدة لر�سم م�شاعرهم‬ ‫اجل�ي��ا��ش��ة‪ ،‬فل�صعوبة ا�ستح�ضار ال�صور‬ ‫اجلديدة ذهب ال�شعراء �إىل جتديد ال�صور‬ ‫ب�إدخال �صور �أخرى يف ال�سياق‪ ،‬كما يف املثال‬ ‫التايل لل�شاعر علي بن قنرب «علي بن قنرب‬ ‫حياته و�شعره‪� ،‬ص ‪:»127‬‬

‫دواليب فكري �أ�ضرمت بارد �أنفا�سي‬ ‫و�صربي على الأ�صبار �أق�سا احلجر قا�سي‬

‫فلو �أمعنا النظر يف هذا املطلع لوجدنا �أن جميع‬ ‫ال�صور مطروقة �سابق ًا‪ ،‬ولكن ال�شاعر برع يف‬ ‫دمج �صورته التقليدية «دواليب فكري» با�ستعارة‬ ‫�صفة النار لها يف «�أ�ضرمت» لت�شتعل يف «بارد‬ ‫�أنفا�سي»‪ ،‬وهذا التوليفة اجلديدة غريت مالمح‬


‫المحكي شعر ًا‬ ‫‪70‬‬ ‫الـعــــدد‬ ‫‪158‬‬ ‫ديسمبر‬

‫‪2012‬‬

‫ال�صورة التقليدية لت�صبح �صورة �أكرث ارتباط ًا‬ ‫بعواطف ال�شاعر بد ًال من االرتباط بفكر املتلقي‪.‬‬

‫الت�أثري على اجلوارح‬

‫جددت المدرسة‬ ‫الشعورية في الغزل‬ ‫وأبرزت جوانب لم‬ ‫يعهدها المجتمع‬ ‫المحافظ في الكثير من‬ ‫األغراض األخرى‬

‫م��ن الأ��س��ال�ي��ب ال�ت��ي �أب��دع �ه��ا ال���ش�ع��راء يف‬ ‫املدر�سة ال�شعورية املبالغة يف الت�أثري على‬ ‫اجل ��وارح‪ ،‬لبيان عظمة املحنة التي يعاين‬ ‫منها ال�شاعر‪ ،‬كما يف املثال التايل لل�شاعر‬ ‫علي بن قنرب «تراثنا من ال�شعر ال�شعبي‪ ،‬جمع ع � �ط � �ي� ��ت ك � �� � �س� ��ر ال � �ع � �� � �ض� ��اي� ��د‬ ‫وحتقيق حمد بو�شهاب‪� ،‬ص ‪:»127‬‬ ‫ري� � � � � � � � � ��ل ٍ مت � � � �� � � � �ش� � � ��ي ج � � � � � � ��داك‬

‫ويل مقلة ٍ حمرا �إذا �سال موقها‬ ‫كما النار يح�شيها غ�لا ٍم مبندا�سي وه��ذا املعنى ال ي�صل �إليه ال�شاعر �إال ب�سبب‬ ‫غ�ضبه‪ ،‬كما هو احلال مع بن عتيق يف البيت‬ ‫فال املاي يطفيها وال بارد الرثى‬ ‫�إذا كان يزغاها �صليبٍ م ِ االكوا�سي ال�سابق بعد �أن قرر ترك حمبوبه‪ ،‬ولكن ت�أثريات‬

‫وهذه املبالغة يف الو�صف ن�ش�أت ب�سبب زيادة‬ ‫حدة تفاعل ال�شاعر مع نف�سه كون الق�صيدة‬ ‫يف املدر�سة ال�شعورية لإر�ضاء ذات ال�شاعر‪،‬‬ ‫ورمب��ا يتفاعل ال�شاعر مع نف�سه كي يحقق‬ ‫هذه املبالغة يف ق�صائده‪ ،‬كما نالحظ ال�شاعر‬ ‫�أحمد بو�سنيدة يف املثال التايل‪:‬‬

‫ف�صل عظامي وال ابقى‬ ‫قلت الهوى ّ‬ ‫يل مف�صل ٍ �صاحي �إىل من �أد ّري��ت‬

‫العلل النف�سية ال تكون ع�ضوية بال�ضرورة‪،‬‬ ‫فرمبا تتطور العلل النف�سية التي يت�أثر ال�شاعر‬ ‫بها نف�سي ًا بالتوهّ م والتوتر واجلنون كما يح�صل‬ ‫مع ّ‬ ‫الع�شاق‪ ،‬ولكن هذه النتائج ال تظهر ب�صورة‬ ‫دائمة على ال�شاعر بل هي م�ؤقتة يف ق�صيدته‬ ‫�أو قبل الق�صيدة‪ ،‬كما حدث مع بن عتيق حني‬ ‫�صاحت �أذن��ه‪ ،‬وهي �إ�شارة �إىل �أن هناك من‬ ‫يذكره عند عامة النا�س «تراثنا من ال�شعر‬ ‫ال�شعبي‪ ،‬ج‪� ، ،2‬ص ‪:»41‬‬

‫التفاعل يف النوم واليقظة‪ ،‬كما يقول ال�شاعر‬ ‫بن عتيق �أي�ض ًا يف ق�صيدة �أخرى «ديوان ابن‬ ‫عتيج‪� ،‬ص‪:»68‬‬

‫ف � � � � � � � ��ز ّي � � � � � � � ��ت ف � � � � � � � � � � ��زة غ� � � � � ��ايف‬ ‫يل يف ن� � � � � � � � ��وم� � � � � � � � ��ه ده� � � � � � ��م‬ ‫� � � � �ص� � � ��اب ال � � �ق � � �ل� � ��ب اخ � � �ت �ل ��ايف‬ ‫�أم � � � � � � � � � � � � � � ��ر ٍ م � � � � � � � � ��ا ي � � �ن � � �ك � � �ت� � ��م‬ ‫� � � � �س� � � ��رت ان � � �� � � �ش � � ��د ال � � � � �ع � � � � � ّرايف‬ ‫ع � � � � � � � � ��ن م� � � � � � � ��وف� � � �ي� � � ��ن ال � � � � � � � � ��ذمم‬

‫الحظنا كيف يفز ال�شاعر من نومه وي�س�أل‬ ‫عن حمبوبه‪ ،‬بينما يذهب ال�شاعر جويهر‬ ‫�إىل �أب �ع��د م��ن ذل ��ك ب�ع��د �أن ج�ث�م��ت على‬ ‫�صدره الكوابي�س «�أعذب الألفاظ من ذاكرة‬ ‫احلفاظ‪� ،‬ص ‪:»231‬‬

‫ع � � �ي � � �ن� � ��ي ْت � � � � � �غ � � �ّي � ��رّ ن� � �ظ � ��ره � ��ا‬ ‫وح � � � � � �ل � � � � � �م� � � � � ��ت �إين ك� � �ف� � �ي � ��ف‬ ‫ْ‬ ‫ف� � � � � � ّزي � � � � ��ت �أب� � � � � �غ � � � � ��ي خ� �ب��ره� � ��ا‬ ‫ْم� � � � � � � � � � � ��ن امل � � � � � � � � �ن� � � � � � � � ��ام خْم� � � � �ي � � � ��ف‬ ‫و� � � � �ص� � � ��رت ات � � �ث � � ��اق � � ��ل وزره � � � � ��ا‬ ‫ت � � � � �� � � � � �ش� � � � ��وف يل م � � � � � � ��ا �� � �ش� � �ي � ��ف‬

‫وي�صل �أثر هذه ال�ضغوط النف�سية �إىل م�ستوى‬ ‫�� � �ص� � �ح� � �ت � ��ي وان� � � � � � � ��ا مم� � �ح � ��وين‬ ‫ال�ه��ذي��ان واجل �ن��ون املفتعل‪ ،‬كما حت��دث يف‬ ‫م � � � � � ��ن ر ّي � � � � � � � � � � � ��ان ال � � �� � � �ش � � �ب� � ��اب �إ�سقاطات كثرية حني يخاطب ال�شاعر غري‬ ‫فال�شاعر بو �سنيدة ال ي�شتكي هنا من علة‬ ‫ع�ضوية يف الأ�صل‪ ،‬فعلته بد�أت نف�سية �إىل �أن ط � � � � � � ��رى اهلل يل ط � � � � ��روين‬ ‫عاقل كالطري يف املثال التايل‪:‬‬ ‫ّ‬ ‫ب� � � ��احل � � � �� � � � �س � � � �ن� � � ��ه وال� � � � � � � � � ّث � � � � � � � ��واب ي � � ��ا ط� �ي ��ر � � �س � �ل � ��م ع احل� �ب� �ي ��ب‬ ‫ت�أثرت �أع�ضا�ؤه بها‪ ،‬وهذه العلل النف�سية هي‬ ‫التي �أدت �إىل ظهور تلك العلل الع�ضوية التي‬ ‫ق� � � ��ل ل� � � ��ه ت� � � � � � ��راين م� ��� �س� �ت� ��� �ص� �ي ��ب‬ ‫حتدّث عنها‪ ،‬ويف املثال التايل جند ال�شاعر ولكن يبقى هذا التوهّ م من ت�أثريات العلل‬ ‫بن عتيق الهاملي يذهب �أبعد من ذلك ويرجو النف�سية وزيادة حدة التوتر التي يعاين منها وح�ت��ى ح�ين يفتعل ذل��ك م��ع خم��اط��ب عاقل‬ ‫ال�شاعر حتى ت�صل به �إىل �أق�صى درج��ات كاملحبوب يف املثال التايل لل�شاعر �سعيد بن‬ ‫لنف�سه ال�ضرر «ديوان بن عتيج‪� ،‬ص ‪:»80‬‬


‫في المدرسة الشعورية‬ ‫ّ‬ ‫شكل الشاعر رابط ًا قوي ًا‬ ‫عتيق حني �سمع حمبوبته وه��ي تنادي ابنها مع نفسه وروابط أقل‬ ‫�سعيد داخ��ل املنزل وهو مير من خ��ارج �سور قوة مع المتلقين والنقاد‬ ‫املنزل لين�شد قائ ًال «ديوان بن عتيج‪� ،‬ص ‪:»243‬‬ ‫والقصيدة‬ ‫ي� � � � � ��ا ع� � � � � � � ��ون م� � � � � ��ن ن� � � � � � � ��ادايل‬

‫املدر�سة ال�شعورية يف ال�شعر النبطي مل يكن‬ ‫دخو ًال ثوري ًا يهدم الأ�ساليب القدمية‪ ،‬بل كان‬ ‫الدخول �إىل ميدان ال�شعر ال�شعبي تدريجي ًا‪،‬‬ ‫لنالحظ مثا ًال �آخر لل�شاعر بن عتيق الهاملي‬ ‫«ديوان بن عتيج‪� ،‬ص ‪:»243‬‬

‫ب� � � ��ا� � � � �س � � � �م� � � ��ي ول� � � � � � � � ��و غ � � �ل � � �ط� � ��ان وذ ّك � � � ��رين ه � � ��واي وزاد م� ��ا ب��ي‬ ‫ح � �م ��ام ٍ ن� � ��اح يف رو� � � ��س ال� � � ّرواب � ��ي �أ� � � �ص � � �ب � � �ح� � ��ت ي � � � ��ا �� � �ش� � �ق � ��راي � ��ه‬ ‫غ� � �ل� � �ط � ��ة م � � � ��ع ال� � � �ل � � ��ي � � �س� ��ايل‬ ‫ع � � � � � �ي� � � � � ��لٍ ع � � � � �ل� � � � ��ى امل � � � � �� � � � � �س� � � � ��راح‬ ‫و�إال م � � � � � �ع � � � � ��ي وق � � � � � �ظ � � � � ��ان ح� �م ��ام ٍ ف �ي��ه خم �ت �ل��ف ال �ل �ح��ون‬ ‫ح� ��زي� ��ن ٍ م �� �س �ت �ل �ي��ع و �� �ش ��ي راب� ��ي وي � � � �ل� � � ��اك ه� � � � ��ب ع ال � � �غ � ��اي � ��ه‬ ‫وال�شاعر �سعيد بن عتيق بردة فعله الال�إرادي‬ ‫م� � � � � ��ا م� � � � � ��ن ع � � � � �ظ� � � � ��ام �� ْ� ��ص � � �ح� � ��اح‬ ‫�أو املفتعل ه��ذه يحقق درج��ة م��ن درج��ات ويف مواقف �أخرى‪ ،‬كما الحظنا �سابق ًا‪ ،‬ي�أخذ �� � � �ص � � ��اب � � ��ك وزا �� � � �ش � � ��رواي � � ��ه‬ ‫(‪)2‬‬ ‫م � � � � ��ن ب � � � � ��و ه� � � � � � ��دب ن� � � � �� � � ّ� ��ش � � � ��اح‬ ‫التفاعل العالية مع املخاطب العاقل‪ ،‬وميتد ال�شاعر التقليدي دور املبادر ويطلب القلم كي‬ ‫هذا التفاعل �أي�ض ًا لي�شمل عنا�صر الطبيعة‬ ‫احلية واجل��ام��دة‪ ،‬كما �أ�شرنا �سابق ًا وكما‬ ‫�سن�شري �إليها يف الفقرات التالية حني ن�أخذ‬ ‫املو�ضوع من زاوية جديدة‪.‬‬

‫الإ�سقاط‬

‫حني ي�سقط ال�شاعر م�شاعره على الطبيعة‬ ‫املحيطة ب��ه ف ��إن ه��ذا الإ��س�ق��اط يعد تفاع ًال‬ ‫خ��ارج�ي� ًا ي �ح��اول ال�شاعر م��ن خ�لال��ه �إف ��راغ‬ ‫ال�شحنات الداخيلة التي يعاين منها‪ .‬وهذا‬ ‫الإفراغ يكون ب�إ�شراك الآخر غري العاقل �سواء‬ ‫كان بالتحدث معه �أو ب�إظهاره مت�أثر ًا باحلالة‬ ‫العاطفية التي ر�سمها ال�شاعر يف الق�صيدة‪� ،‬أما‬ ‫ال�شعراء يف املدر�سة التقليدية يت�أثرون بعوامل‬ ‫خارجية كهبوب الرياح مث ًال ويح ّرك م�شاعرهم‬ ‫هذا الت�أثر‪ ،‬كما يف املثال التايل لل�شاعر بن‬ ‫عتيق الهاملي وهو يخاطب ن�سيم الكو�س بعد‬ ‫�أن �أح�س بحرارتها «ديوان بن عتيج‪� ،‬ص ‪:»103‬‬

‫ي � � � ��ا ال� � � �ك � � ��و� � � ��س امل � �� � �س � �ت � �ط � � ّل� ��ي‬ ‫ح� � � � � � � � � � � � � � ّرك � � � � � � � � �س � � � � � � � � ّوى ك � � � �ت� � � ��ام‬

‫�أو يت�أثر ب�ـ«ن��وح احل�م��ام» بعد ت��أث��ره بهبوب‬ ‫الرياح‪ ،‬كما يف املثال التايل لل�شاعر املاجدي‬ ‫بن ظاهر رائد املدر�سة التقليدية «تراثنا من‬ ‫ال�شعر ال�شعبي‪ ،‬ج‪� ،1‬ص ‪:»41‬‬

‫يبد�أ بالكتابة �أو يطلب من الراحلني التو ّقف‬ ‫كي ير�سل معهم ر�سالته‪ ،‬بينما ال�شاعر يف‬ ‫املدر�سة ال�شعورية ال ينتظر عوامل خارجية‬ ‫كي يت�أثر بل يركز على نقل ت�أثريه �إىل عنا�صر‬ ‫خارجية‪ ،‬كما يف املثال التايل لل�شاعر �سعيد‬ ‫بن عتيق حني يقف منتظر ًا هبوب الرياح‬ ‫الغربية بد ًال من �أن يخاطبها بعد �أن ت�صل‬ ‫«ديوان بن عتيج‪� ،‬ص‪:»105‬‬

‫ففي هذا املثال ي�س�أل ال�شاعر ناقته عن �سبب‬ ‫عجلتها‪ ،‬ويجيب بالنيابة عنها ويقول‪ :‬ك�أنك‬ ‫�أ�صبت مبا �أ�صبت من ذات الرمو�ش الطويلة‬ ‫�أو «بو هدب ن�شاح» بتعبري �أدق‪ ،‬وبالت�أكيد ال‬ ‫حتمل ناقة ال�شاعر كل هذه امل�شاعر‪ ،‬ولكن‬ ‫ال�شاعر ي�سقط م�شاعره على هذا املخاطب‪،‬‬ ‫ويف مثال �آخر جند ال�شاعر جويهر ال�صايغ‬ ‫يذهب �أبعد من ذلك وي�سقط م�شاعره على‬ ‫خماطب جامد كالق�صر‪:‬‬

‫ي��ا غ��رب��ي الهبايب ‪ ..‬خ��ذك اهلل‬ ‫و� � � � � � � ��ش ف � � � �ي� � � ��ك م� � � � � ��ا ه � �ب � �ي� ��ت‬ ‫ي � � ��ا ق � �� � �ص� ��ر ا� � � �ش� � ��وف� � ��ك ك� ��اب� ��ي‬ ‫�أرق � ��ت ج �ف��ن ٍ ذاي� ��ب ‪ ..‬ع� � ّز اهلل‬ ‫ال ن � � � � � � � � � � � � ��ور وال �� � � �س� � � �ف � � ��ر‬ ‫م� � � � � � ��ا ب� � � � � ��ال � � � � � � ّن� � � � � ��وم اه � � �ت � � �ن � � �ي� � ��ت‬ ‫وال ل� � � � ��ك ن � � � � � ��دمي ْم � � �ن � ��اب � ��ي‬ ‫ي� � � � � � ��ا � � � � � � �ص � � �ب � ��رك ع ال � � �ه � � �ج� � ��ر‬ ‫ن�لاح��ظ اخ �ت�لاف � ًا يف ال�ت�ع��اط��ي م��ع ال�ع��امل‬ ‫اخل ��ارج ��ي م ��ن ال �� �ش��اع��ر وب ��أ� �س �ل��وب�ين يف ت � � �ل � � �ع� � ��ب ف� � � �ي � � ��ك ال� � � �غ � � ��راب � � ��ي‬ ‫ح� � � � � � � �ت � � � � � � ��ى ح � � � � � � � � ��ال � � � � � � � � ��ك ع � �ب ��ر‬ ‫مدر�ستني خمتلفتني‪ ،‬حيث ك��ان يف املثال‬ ‫الأول مت�أثر ًا بت�أثري هبوب ن�سيم الكو�س‪ ،‬و ْذك � � � � � � � � � � � ��رت ق� � � �ل � � ��ب ٍ ذاب � � � � ��ي‬ ‫ويف املثال الثاين مت�أثر ًا قبل هبوب الرياح‬ ‫م � � � � � �ت � � � � � �ع � � � � � � ّل� � � � � ��ل م� � � � � � � � � ��ن ده � � � � � ��ر‬ ‫الغربية �أي �أنه �أ�سقط م�شاعره على الرياح وج� � � � � � � ��اوب ب� � ��� � �ص � ��وت ٍ غ� ��اب� ��ي‬ ‫الغربية كونها مل ت�أت �إىل ال�شاعر كي ت�ؤثر‬ ‫ك � � � � � �� � � � � � �س� � � � � ��ري م� � � � � � � � ��ا ي � � �ن � � �ج �ب ��ر‬ ‫عليه‪ ،‬وا�ستخدام ال�شاعر ال�شعوري لأ�ساليب وت � � �ن � � �� � � �ش� � ��دين و�� � � � � ��ش ت � �ب� ��اب� ��ي‬ ‫املدر�سة التقليدية �أمر غري غريب‪ ،‬فدخول‬ ‫وان � � � � � � � � �ت � � � � � � � ��ه م � � � � � �ع� � � � � ��ك اخل � � �ب � ��ر‬ ‫روح �� � � �ش� � � �ي � � ��خ اجل� � � �ن � � ��اب � � ��ي‬ ‫اهتمت المدرسة‬ ‫(‪)3‬‬ ‫خ� � � � � � ��ذ م� � � � � � ��ا ب � � � � � �غ � � � � ��اه وزر‬

‫ي� � ��ذ ّك� � ��رين �إىل م � � ّن� ��ي ط �ل �ع��ت‬ ‫الشعورية بالصورة‬ ‫ع� �ل ��ى درب ٍ رف � �ي� ��ع ال� �ب� �ن ��ي ن��اب��ي الداخلية اهتمام ًا خاص ًا‬ ‫ت �ل �ي��ب ال� � ّري ��ح م ��ن ك ��ل ال �ف �ي��وي‬ ‫حتى أصبحت جديدة‬ ‫ت �ن ��� ّ�س �ف �ه��ا ال� ��� �ش ��راج ��ي وال� �غ ��راب ��ي‬ ‫مرتبطة بعاطفة الشاعر‬ ‫ارتباط ًا وثيق ًا‬

‫نالحظ �أن ال�شاعر يخاطب عن�صر ًا جامد ًا‬ ‫من عنا�صر الطبيعة وهو الق�صر‪ ،‬وي�س�أله عن‬ ‫�سبب حتمله الهجر والوحدة ك�أن للق�صر �شعور ًا‬


‫المحكي شعر ًا‬ ‫‪72‬‬ ‫الـعــــدد‬ ‫‪158‬‬ ‫ديسمبر‬

‫ال � � ��روح‪ ‬ل� � � �ـ � � ��ه‪ ‬ول� � � �ـ� � � �ـ� � � �ه � � ��ان � � ��ه‬ ‫ووق� � � �ـ� � � �ـ� � � �ت� � � �ـ� � � �ـ � � ��ي‪ ‬دون� � � �ـ � � ��ه‪ ‬ق� � � �ـ � � ��زر‬ ‫ب� �ـ� �ـ� �ت� ��� �ص ��ح‪ ‬ل� �ـ ��و‪ ‬ت� �ـ� �ع� �ـ� �ب� �ـ� �ـ ��ان� �ـ� �ـ ��ه‬ ‫�أن‪� � �� ‬ش� � �ـ� � �ـ � ��اف� � �ـ� � �ـ� � �ت � ��ه‪ ‬م� � �ـ� � �ـ� � ��� � �س �ت��ر‬

‫‪2012‬‬

‫ن�لاح��ظ «ال �ن��وق احل �ن��ان��ه» ال �ت��ي ت�ع�بر عن‬ ‫عواطف ال�شاعر يف البيت الرابع مع ورود‬ ‫�أ�سباب ذلك‪ ،‬لذا ف�إن هذا الإ�سقاط حدث‬ ‫ب�إرادة ال�شاعر‪.‬‬ ‫بينما الق�صيدة التالية وهي لل�شاعر جويهر‬ ‫�أي�ض ًا ال يبحث فيها ال�شاعر عن �إجابة‪ ،‬كما‬ ‫كان يبد�أ ق�صائده ال�سابقة‪ ،‬وال ي�أتي بتربير‬ ‫لل�سحب التي بللت �أرا�ضيه‪ ،‬لذا ف�إننا ن�ستطيع‬ ‫التعبري عنه بالإ�سقاط الال �إرادي‪:‬‬

‫و�أحا�سي�س‪ ،‬وهذا الت�شخي�ص كان ل�سبب مهم‬ ‫وهو اختيار الق�صر كمخاطب ي�شارك ال�شاعر‬ ‫الهموم‪ ،‬لذا ن�شاهد ال�شاعر وهو يرى الق�صر‬ ‫وحيد ًا يتحمل الهجر‪ ،‬بينما يرى نف�سه وحيد ًا‬ ‫ال يقوى على الهجر‪ ،‬وهذا التفاعل ال�شعوري مع‬ ‫العامل اخلارجي لهو دليل على تفاعل املدر�سة‬ ‫ال�شعورية مع الآخر مب�شاعرها‪ ،‬بالإ�ضافة �إىل‬ ‫فكرها‪ ،‬ففي الق�صيدة ال�سابقة وجدنا ال�شاعر‬ ‫يكمل احلوار حني يجيب على ل�سان الق�صر وقلبه‬ ‫مع ًا يف مت��ازج فني جميل ليربر لهما ب�إي�ضاح‬ ‫الأ�سباب التي كانت وراء الك�آبة التي يعانينها‪.‬‬ ‫يعد الإ�سقاط يف منظور علم النف�س حيلة‬ ‫دفاعية ال �إرادية و�أ�سلوب ًا لتخفيف العنا�صر‬ ‫النف�سية امل��ؤمل��ة وامل ��ؤث��رة على ال�شعور‪ ،‬كما‬ ‫يقول �سيجموند فرويد‪ ،‬ولكن �أغلب �إ�سقاطات‬ ‫ال�شعراء �إرادي��ة‪ .‬ومن منظوري النقدي �أرى‬ ‫�أن ال�شاعر حني ي�سقط م�شاعره على عامله‬ ‫اخلارجي وي�أتي بتربير معني ف�إنه ينطلق من‬

‫منطلق �إرادي‪ ،‬بينما حني ال ي�أتي بتربير ف�إن‬ ‫املنطلق ال�ل�ا�إرادي ك��ان هو احلاكم‪ .‬لنقر�أ‬ ‫الق�صيدة التالية لل�شاعر جويهر ال�صايغ‬ ‫ون�شري �إىل املعنى املق�صود يف الفقرة ال�سابقة‬ ‫مرة �أخرى‪:‬‬

‫ي � � � � ��ا‪ ‬ن � � � � ��وق‪ ‬ي � � � � ��ا‪ ‬ح� � � � � �ن � � � � ��ان � � � � ��ه‬ ‫م � � ��ا‪ ‬ب� � � �ـ� � � ��� � � �س � � ��ك‪ ‬م‪ ‬ال� � � �ه� � � �ـ� � � �ج� � � �ـ � � ��ر‬ ‫ح� �ـ� �ن� �ـ� �ـ� �ي� �ـ� �ن ��ك‪ ‬م� �ـ ��ن‪ ‬م� �ـ� �ـ� �ه ��ان ��ه‬ ‫ل � � ��و‪ ‬ب � � ��ك‪ ‬ف � � ��رق� � � �ـ � � ��ا‪� � � �� ‬ش� � � �ج� � � �ـ � � ��ر‬ ‫ق � �ـ� ��ال � �ـ � �ـ� ��ت‪ ‬ذك� ��رت‪� ‬أوط � �ـ � �ـ� ��ان � �ـ � �ـ� ��ه‬ ‫ب � � � � �ـ� � � � ��و‪ ‬زاف � � � � �ـ � � � � �ـ� � � � ��ات‪� � � � � � ‬س � � � � �م� � � � ��ر‬ ‫ل� �ـ� �ـ ��ي‪ ‬م� �ـ� �ـ ��ا‪ ‬واق ��ع‪ ‬ج� �ـ� �ي� �ـ ��ران� �ـ ��ه‬ ‫وال‪ ‬ح � � �ـ � � �ـ � � �� � � �س � � �ـ � � �ـ� � ��ه‪ ‬ن � � �ـ � � �ـ � � �ه � � �ـ � � �ـ� � ��ر‬ ‫راع � ��ي‪ ‬وف � ��ا‪ ‬و�� � �ض� � �ـ� � �ـ� � �م� � �ـ� � �ـ � ��ان � ��ه‬ ‫وي� � � �ـ� � � �ـ� � � ��� � � �س � � ��وي‪ ‬ل� � � �ـ � � ��ي‪ ‬ق� � � �ـ� � � �ـ � � ��در‬ ‫ا ن ‪ ‬جــا ‪ ‬ا لـو عــد ‪ ‬ميـحـا نـه‬ ‫م � � � �ـ� � � ��ا‪ ‬يل‪ ‬ع � � � �ن � � � �ـ� � � ��ه‪� � � � � ‬ص � � � �ب � � � �ـ� � � ��ر‬

‫�آفاق جديدة للق�صيدة النبطية‬ ‫يعد الإ�سقاط من �أهم �أ�ساليب املدر�سة ال�شعورية‪ ،‬فبعد �أن كان ال�شعراء‬ ‫يف املدر�سة التقليدية يت�أثرون بالعوامل اخلارجية كـ «هبوب الرياح»‬ ‫و«�سجع احل�م��ام» و«ه�ط��ول الأم�ط��ار» ابتدع �شعراء املدر�سة ال�شعورية‬ ‫�أ�سلوباً جديداً بالبحث عن هذه العوامل وعوامل �أخرى ي�ؤثرون فيها‬ ‫مب�شاعرهم بد ًال من الت�أثر بها‪ ،‬وهذا الأ�سلوب اجلديد فتح �أفقاً جديداً‬ ‫للق�صيدة النبطية‪.‬‬

‫يـا ‪� ‬سحـب ‪ ‬يـا ‪ ‬منهـلـه ‪ . .‬مبتـلـه‬ ‫ق � �ب � �ـ � �ل � �ـ� ��ك‪ ‬الأرا�� ��ض‪ ‬ب � �ـ � �ي � �ـ� ��وم‬ ‫جال�س‪� ‬أحم�س‪ ‬الدله‪..‬يف‪ ‬الظله‬ ‫ع� � ��ن‪ ‬ح� � ��رات‪ ‬ال � � �� � � �س � � �م� � ��وم‬ ‫حكي‪ ‬الدليه‪� ‬أفطن‪ ‬له‪..‬وابخن‪ ‬له‬ ‫واخ � � �ف � ��ي‪ ‬ع � � �ن � ��ه‪ ‬ل � � �ع � � �ل � ��وم‬ ‫و ا للي ‪� ‬شكا ‪ ‬متو له ‪ . .‬و به ‪ ‬خله‬ ‫ك� �ي ��ف‪ ‬ي� ��� �ص� �ط� �ـ ��اب‪ ‬وي� �ق� �ـ ��وم‬ ‫ر و حي ‪ ‬تنو ح ‪ ‬م�ضله ‪ . .‬معتله‬ ‫م ��ن‪ ‬ب� �ـ ��و‪ ‬خ� ��� �ص� �ـ ��ر‪ ‬م� �ه� ��� �ض� �ـ ��وم‬ ‫ويعد الإ��س�ق��اط م��ن �أه��م �أ�ساليب املدر�سة‬ ‫ال�شعورية‪ ،‬فبعد �أن كان ال�شعراء يف املدر�سة‬ ‫التقليدية يت�أثرون بالعوامل اخلارجية كـ«هبوب‬ ‫الرياح» و«�سجع احلمام» و«هطول الأمطار» نرى‬ ‫�أن �شعراء املدر�سة ال�شعورية ابتدعوا �أ�سلوب ًا‬ ‫جديد ًا بالبحث عن هذه العوامل وعوامل �أخرى‬ ‫ي�ؤثرون فيها مب�شاعرهم بد ًال من �أن يت�أثروا‬ ‫بها‪ ،‬وهذا الأ�سلوب اجلديد فتح �أفق ًا جديد ًا‬ ‫للق�صيدةالنبطية‪.‬‬

‫اال�ستعطاف واخل�ضوع‬

‫�أ�شرنا �سابق ًا �إىل زيادة درجة التفاعل ال�شاعر‬ ‫مع مو�ضوعه حتى ت�ؤثر على �أع�ضائه الداخلية‬ ‫واخلارجية‪ ،‬وعندما ي�صل الت�أثري �إىل درجة‬


‫نف�س ان�ت��ه وليها‬ ‫عالية جد ًا جند ال�شاعر ي�ست�سلم يف بع�ض �إرح ��م حبيبي ٍ‬ ‫الأحيان ل�ل�أمل‪ ،‬وال يتحمله ويلج�أ �إىل طلب‬ ‫ع � ��زي � ��زة ٍ ذ ّل� �ل � �ت � �ه ��ا وا�� �س� �ت ��ذ ّل� �ي ��ت اهتم �شعراء امل��در��س��ة التقليدية باملنطق‬

‫املنطق ال�شعوري‬

‫العطف كما يف الق�صيدة التالية لل�شاعر علي‬ ‫بن قنرب حني جنده يخاطب طائر ًا ويقول له‬ ‫�أن يبلغ املحبوب با�سرتحامه «علي بن قنرب‬ ‫حياته و�شعره �ص ‪:»234‬‬

‫و�أي�ض ًا فالت�أثري على املخاطب وطلب العطف‬ ‫لي�س دائم ًا الهدف من هذه املبالغة‪ ،‬فال�شاعر‬ ‫يرى يف بع�ض الأحيان نف�سه‪ ،‬كما يف املثال‬ ‫التايل لل�شاعر �أحمد بو �سنيدة فداء ملحبوبه‬ ‫«�أح�م��د بو�سنيدة حياته و�أ��ش�ع��اره‪� ،‬سلطان‬ ‫العميمي‪� ،‬ص ‪:»132‬‬

‫ت��راين منك م�صطاب وعويجي‬ ‫�رح ��م ب ��ي ف��دي �ت��ك ي ��ا ��ص��دي�ج��ي‬ ‫ت� ّ‬ ‫ن�سل الج��واد ب��و خ�صرٍ دجيجي‬ ‫مك�سر يل عظامي تك�سري‬ ‫� �ص �غ�ي�ر ال� ��� �س ��ن ع � ��ود اخل � �ي� ��زراين هريه ّ‬ ‫م�ضنون عيني يل ب��روح��ي �أف��ادي��ه‬ ‫�إىل �أن ي�صل يف الأبيات التالية �إىل الهدف‬ ‫احلقيقي الكامن وراء ه��ذا اال�سرتحام �أو‬ ‫اال�ستعطاف «علي بن قنرب حياته و�شعره �ص‬ ‫‪:»234‬‬

‫ع �� �س��اه ْي� �ل�ي�ن ق �ل �ب��ه ل ��ك ي� ��ردّي‬ ‫ي �ل��ي م ��ن ي �ي��ت � �ص��وب��ه م �� �س�ت�ردّي‬ ‫ت ��رى االن �� �س��ان يل � �ص��ايف ي ��ردّي‬ ‫�إىل �� �ص ��اف ��اك �� �ص ��اف ��اك ال ��زم ��اين‬ ‫فكما الحظنا ف��إن جلب انتباه املخاطب �أو‬ ‫�إي�صال امل�شاعر لي�س هدف ال�شاعر فقط‪،‬‬ ‫بل يذهب �إىل �أبعد و�أع�م��ق من ذل��ك‪ ،‬وهو‬ ‫بناء �أو �إ�صالح عالقته الوجدانية مع حمبوبه‬ ‫لي�ستقر نف�سي ًا‪ .‬ويرى ال�شاعر هذا نوع ًا من‬ ‫اخل�ضوع ولي�س مذلة‪ ،‬كما يقول ال�شاعر علي‬ ‫بن قنرب �أي�ض ًا يف هذا املعنى «علي بن قنرب‬ ‫حياته و�شعره �ص ‪:»234‬‬

‫�سمعت ال�ق��ول افهم ل��ه و�سر له‬ ‫�إىل م� ��ن ج �ي ��ت ن ��ا� �ص ��ي ل �ل �م �ح � ّل��ه‬ ‫ترى االن�سان يخ�ضع هب مذ ّله‬ ‫الج� � ��ل ي � �ه� ��واه م � �ف� ��رود ال� � ّث� �م ��اين‬

‫ولكن �شاعر ًا �آخ��ر ي��رى يف جت��ايف حمبوبه‬ ‫وك�ثرة خ�ضوعه م��ذ ّل��ة‪ ،‬ولعلو ق��در حمبوبه‬ ‫ي�ط�ل��ب ع�ط�ف��ه وي���ش�ك��و م��ن ه ��ذا ال �ت��ذ ّل��ل‪،‬‬ ‫وال�شاعر هو �أحمد بو �سنيدة «�أحمد بو�سنيدة‬ ‫حياته و�أ�شعاره‪� ،‬سلطان العميمي‪� ،‬ص ‪:»121‬‬

‫خ � ّل �ي �ت �ن��ي ج� � ّث ��ه ب�ل�ا روح ف�ي�ه��ا‬ ‫ وان � � ��ا ب � �ع� ��دين احل � �ي� ��اه ا� �ش �ت �ه �ي �ه��ا‬

‫وهنا �إظهار الت�ضحية والفداء نوع من الت�أثري‬ ‫على املخاطب‪ ،‬ولكن ال�شاعر يريد الو�صول‬ ‫هنا �إىل �أق�صى درجة من درج��ات التفاعل‬ ‫بفناء الذات لأجل املحبوب‪.‬‬ ‫وباخت�صار ف�إن طلب العطف واال�سرتحام من‬ ‫املحبوب مل يكن �أ�سلوب ًا يف املدر�سة التقليدية‪،‬‬ ‫ولكن �شعراء املدر�سة ال�شعورية فتحوا حوار ًا‬ ‫مبا�شر ًا مع املحبوب يف ق�صائدهم‪ ،‬وهذا‬ ‫احل��وار مل يكن املجتمع املحافظ ليقبل به‬ ‫ل��وال براعة ال�شعراء يف الت�صوير الداخلي‬ ‫واملبالغة والتفاعل يف �إظهار م�شاعرهم وبيان‬ ‫م��دى ت�أثري كل ذل��ك على جوارحهم‪ ،‬حتى‬ ‫�أ�صبح طلب العطف من املحبوب من املحاور‬ ‫التي ي�سمح بالإف�صاح عنها يف الق�صيدة‪،‬‬ ‫بعد �أن ك��ان ه��ذا الأ�سلوب غري مقبول من‬ ‫�شعراء املدر�سة التقليدية‪ ،‬ويعد ركاكة يف‬ ‫املعنى ب�سبب عدم تنا�سقه مع طبيعة عر�ضه‬ ‫�أم ��ام ال�ع��ام��ة‪ ،‬وه��ذا ك��ان املحك الأه ��م يف‬ ‫تقييم الق�صيدة يف املدر�سة التقليدية‪.‬‬

‫فتح شعراء المدرسة‬ ‫الشعورية حوار ًا مباشر ًا‬ ‫مع المحبوب في‬ ‫قصائدهم وهو أمر لم‬ ‫يكن المجتمع المحافظ‬ ‫ليقبل به لوال براعة‬ ‫الشعراء في التصوير‬ ‫الداخلي‬

‫العقلي لعباراتهم‪ ،‬كما هي احلال يف اخلطابة‬ ‫وال�ن�ثر‪� ،‬أي �أن ال�شعراء رك��زوا على توافق‬ ‫معانيهم يف امليزان العقلي‪ ،‬فلكل �سبب نتيجة‬ ‫وال�شواهد دالئل �إثبات وت�أكيد للمو�ضوع وه ّلم‬ ‫جرا مع باقي الأ�س�س املنطقية‪ ،‬فالق�صيدة‬ ‫التقليدية ال تخرج من �سياق املنطق العقلي‪.‬‬ ‫�أم��ا ال�شعراء يف امل��در��س��ة ال�شعورية فقد‬ ‫خرجوا يف حاالت كثرية من املنطق العقلي‬ ‫وباتوا ي�ستخدمون �أ�ساليب كثرية ال ت�ستقيم‬ ‫�أمام العقل‪ ،‬بل �أمام �شعورهم وعاطفتهم‪،‬‬ ‫ويف ه��ذا املعنى ي�ق��ول ال�شاعر خلفان بن‬ ‫يدعوه املهريي يف ق�صيدة م�شهورة «خم�سون‬ ‫�شاعر ًا من الإمارات‪� ،‬ص ‪:»108‬‬


‫المحكي شعر ًا‬ ‫‪74‬‬ ‫الـعــــدد‬ ‫‪158‬‬ ‫ديسمبر‬

‫‪2012‬‬

‫�أدع� � � � � ��ي ع� �ل� �ي� �ك ��م م� � ��ن غ�ل�اك ��م‬ ‫الشاعر في المدرسة‬ ‫و�إال ع � � �ل � � � ّي� � ��ه م� � � � ��ا ت� � �ه � ��ون � ��ون الشعورية ال ينتظر‬ ‫ي � �ع� ��ل ال � � �ع� � ��دو ي � ��دف � ��ع ب�ل�اك ��م‬ ‫ي � � �غ � � �ي � � ��ب وان � � � � � �ت� � � � � ��و يل مت� � � ��ون عوامل خارجية كي يتأثر‬ ‫بل يركز على نقل تأثيره‬ ‫ح�صل طبيب ٍ مداوي‬ ‫حمزون ما ّ‬ ‫ل ��و ع ��اجل ��وه ازداد وج� ��د وب�ل��اوي إلى عناصر خارجية‬

‫ي�صبح ومي�سي بالقوا دوم طاوي‬ ‫ال ي�ه�ت�ن��ي ب��اك �ل��ه وال ع��وق��ه ي�ه��ون‬ ‫حتى يظهر على �أع�ضاء ال�شاعر يف الأبيات‬

‫ففي امليزان العقلي ال ن�ستطيع �أن ن�أخذ‬ ‫ه ��ذا امل�ع�ن��ى ب �ج��دي��ة‪ ،‬ف��امل�ح��ب ال يتمنى‬ ‫ال �� �س��وء مل�ح�ب��وب��ه وي �� �ض��ع حم�ب�ت��ه ت�بري��ر ًا‬ ‫لهذا الفعل‪ ،‬كما فعل �شاعرنا يف مطلع‬ ‫ق�صيدته ال�سابقة‪ ،‬وهذا الأ�سلوب اجلديد‬ ‫يف املدر�سة ال�شعورية اعتمد عليه عدد‬ ‫كبري من ال�شعراء حني عجزوا عن �إقناع‬ ‫نزعاتهم النف�سية باملنطق العقلي‪ ،‬وهذا‬ ‫املنطق ال�شعوري اجلديد ن�ش�أ من طبيعة‬ ‫ال�ن�ف����س ال�ب���ش��ري��ة وم���ش��اك�ل�ه��ا النف�سية‬ ‫املعروفة التي متتد وت�صل �إىل �أع��را���ض‬ ‫ج�سدية‪ ،‬كما ي�شري ال�شاعر علي بن قنرب‬ ‫«علي بن قنرب حياته و�شعره‪� ،‬ص ‪:»243‬‬ ‫فكما نالحظ ف ��إن احل��زن وه��و حالة من‬ ‫احلاالت النف�سية العادية يتفاقم ت�أثريه‬

‫ال�سابقة‪ ،‬وال يكتفي ال�شاعر بهذا الت�أثري بل‬ ‫ي�ضيف �إىل املعنى منطق ًا �شعوري ًا يف «لو‬ ‫عاجلوه ازداد وج��د وب�ل�اوي» فمن منظور‬ ‫املنطق العقلي ف ��إن العالج يزيل املر�ض‪،‬‬ ‫ولكن يف ه��ذا ال�سياق جند العالج ي�سبب‬ ‫�أمرا�ض ًا �أك�ثر خطورة ناهيك عن التهيئة‬ ‫اجلميلة التي و�ضعها ال�شاعر قبل ذلك يف‬ ‫ح�صل طبيب ٍ م ��داوي» ك��أن‬ ‫«حم��زون م��ا ّ‬ ‫للحزن �أطباء مل ي�ستطع «املحزون» الو�صول‬ ‫�إىل �أح ��ده ��م‪ .‬ف�ف��ي امل��در� �س��ة ال�شعورية‬ ‫جند ال�شعراء يفقدون �سيطرتهم حينما‬ ‫ينجرفون وراء املنطق ال���ش�ع��وري‪ ،‬حتى‬ ‫ي�صبح من ال�صعب جد ًا النزوح من املعاين‬ ‫املتتالية التي ت�أتي معهم يف ال�سياق‪ ،‬كما يف‬ ‫املثال التايل لل�شاعر جويهر بن عبود «�أعذب‬

‫الألفاظ من ذاكرة احلفاظ‪� ،‬ص ‪:»228‬‬

‫وال � � � � � � �ل� � � � � � ��ي ودّه ق� � �ل� ��اين‬ ‫ق � � � � � �ل� � � � � ��ي ال� � � � � �ب� � � � � ��ن احل� � � � � ��ري� � � � � ��ق‬ ‫ل� � � � ��و ب � � � ��ال� � � � � ّرم � � � ��ل ي � �غ � �� � �ش� ��اين‬ ‫غ� � � � ��� � � � �ض� � � � �ي � � � ��ت ب � � � ��ال� � � � �ت � �ب� ��ري � � � ��ق‬ ‫ول � � � � ��و ب� ��احل � �ن � �� � �ض� ��ل � � �س � �ق� ��اين‬ ‫ق � � � �ل � � ��ت ال � � �ع � � �� � � �س � � ��ل ع ال � � ��ري � � ��ق‬ ‫ول� � � � � ��و ب � ��ال� � �غ� � ��� � �ض � ��ب ن � � � � � ��اداين‬ ‫ب � � � � � � ��آل � � � � � � � ّب� � � � � � ��ي م� � ��� � �س� � �ت� � ��� � �ش� � �ي � ��ق‬ ‫ول � � � � � ��و ب � � ��ال � � � ّن � � �ع � � ��ل ي � � ��وط � � ��اين‬ ‫وط � � � � � � ��ي ال � � � �� � � � �ص � � ��اح � � ��ب ح � �ق � �ي� ��ق‬ ‫فكما الحظنا ف ��إن غطاء فل�سفة ال�شاعر‬ ‫ي�سمح له بالتحدث مبنطق �شعوره وفل�سفة‬ ‫اللذة بالرغم من العذاب يف �سبيل املحبوب‪،‬‬ ‫ويف هذا املثال فتح �أمام ال�شاعر �أفق �إيراد‬ ‫هذه املعاين العك�سية واال�ستمرار عليها حتى‬ ‫�أ�صبح من ال�صعب اخلروج من هذا املنطق‬ ‫ال�شعوري‪ .‬فاملنطق ال�شعوري ال يعني �إيراد‬ ‫معان عك�سية ال ت�ستقيم �أمام املنطق العقلي‬ ‫بل يكفي �أن ي�ضيف ال�شاعر معنى يوافق‬ ‫�شعوره وانفعاالته‪.‬‬


‫يمثل الشاعر أحمد‬ ‫بوسنيدة أبرز شعراء‬ ‫مرحلة االنتقال من‬ ‫احلوار‬ ‫يتوجه خطاب ال�شاعر الرومان�سي �إىل داخله المدرسة التقليدية إلى‬ ‫ً‬ ‫وخارجه كما الحظنا �سابقا‪ ،‬ولكن هذا اخلطاب المدرسة الشعورية‬

‫لي�س من طرف واحد كما هي احلال يف املدر�سة‬ ‫التقليدية بل خطاب يرتقي �إىل م�ستوى احلوار‬ ‫بني ال�شاعر وخماطبه‪ ،‬كما يف ق�صيدة ال�شاعر‬ ‫علي بن قنرب التي يخاطب فيها «طائر الورقى»‪:‬‬ ‫ولي�ست ك��ل احل ��وارات يف املدر�سة ال�شعورية‬ ‫تخاطب العنا�صر التقليدية‪ .‬فال�شاعر يف املدر�سة‬ ‫ال�شعورية �أ�صبح يخاطب املحبوب مبا�شرة‪ ،‬كما‬ ‫يف م�شهورة علي بن �شم�سة التي مطلعها‪:‬‬

‫�أما على م�ستوى اخلطاب الداخلي واحلوار‬ ‫املونولوجي ف�إن املدر�سة ال�شعورية‪ ،‬كما �أ�شرنا‬ ‫بتف�صيل �سابق‪ ،‬مت ّيزت بالت�صوير الداخلي‬ ‫للأ�شجان‪ ،‬بل يذهب �أبعد من ذلك ويخاطب �أك�ث�ر م��ن اخل �ط��اب واحل� ��وار‪ ،‬حتى �أ�صبح‬ ‫�أ�شياء جديدة‪ ،‬كما يف ق�صيدة جويهر بن عبود �أ�سلوب ًا من �أ�ساليبه املعروفة‪ ،‬و�إن كانت هذه‬ ‫حني يخاطب «الكندورة» قائ ًال «�أعذب الألفاظ ال�صور الفنية ال تخلو من اخلطاب‪ ،‬كما يف‬ ‫�أمثلة كثرية منها املثال التايل لل�شاعر جويهر‬ ‫من ذاكرة احلفاظ»‪:‬‬ ‫بن عبود «�أعذب الألفاظ من ذاكرة احلفاظ‪:‬‬

‫ب� � �ن� � ��� � �ش � ��دك ي� � � ��ا ال � � �ك � � �ن� � ��دوره‬ ‫ع� � � � � � � ��ن م� � � � � � � ��ن خ � � � � � � � � � ��اط ودرز الوحدة الع�ضوية‬

‫ي � ��ا زي� � ��ن م � ��ا �� �س ��وي ��ت ب � ��ي زي ��ن‬ ‫ل � �ك� ��ن م � � ��ا ب� ��� �ش� �ك ��ي ب � � ��ك ان � �� � �س� ��ان‬

‫وه��ذا املخاطب غري التقليدي �أعطى �إ�ضافة‬ ‫لل�شعر النبطي با�ستنطاقه �أ�شياء جديدة‪ ،‬وعادة‬ ‫ما ي�ستنطق ال�شاعر الأ�شياء التي يتعامل معها‬ ‫حني يعجز عن حل م�شكلته �أو �أن يجد خماطبه‬ ‫احلقيقي لذا يلج�أ �إىل خماطب‪� ،‬آخر كما كان‬ ‫يح�صل يف ق�صائد امل�شاكاة‪ ،‬و�أما املثال ال�سابق‬ ‫ف�إن ال�شاعر توجه �إىل خماطبة عن�صر جامد‪،‬‬ ‫وهذا دليل وا�ضح على حر�ص ال�شاعر على كتمان‬ ‫�سر حمبوبه‪ ،‬رغم رغبته يف التحدث �إليه‪ ،‬ولكن‬ ‫مل يكن هذا الأ�سلوب مطروق ًا ب�شكل مكثف من‬ ‫�شعراء املدر�سة ال�شعورية �إال يف مواقف كان‬ ‫حل�ضور هذا املخاطب اجلامد �أثر كبري يف �إن�شاد‬ ‫الق�صيدة‪ ،‬ولكن هذا اخلطاب �أ�صبح الحق ًا من‬ ‫�أ�ساليب املدر�سة الواقعية‪.‬‬

‫غ � � � ��زالٍ � �س �ل �ب �ن��ي و�أن � � � ��ا م �ق �ب �ل��ي‬ ‫رم� � � � ��اين ب� ��� �س� �ه� �م ��ه ع � �ل� ��ى م �ق �ت �ل��ي‬ ‫رم � � �ق � � �ن � � ��ي ب� � �ع� � �ي� � �ن � ��ه وق � � � � � ��ال‬ ‫ن � �ع � ��زم � ��ك ي� � � �ه � � ��اذا ع � �ل � ��ى م� �ن ��زيل‬

‫ب� � � � ��اي� � � � ��ت ح� � � � � � � ��ايل ج� � �ه� � �ي � ��دي‬ ‫ذاب احل � � � � �� � � � � �ش� � � � ��ا وان � � � �� � � � �س� � � ��م‬ ‫م� � � � ��ن ع � � � � � ��وق ٍ ي � �� � �س � �ت � ��زي � ��دي‬ ‫م � � � � � � ��ن ك � � � � � � ��ل � � � � � � �ص � � � � � ��وب ال � � � �ت � � ��م‬ ‫ل� � � ��و ه� � � ��و �� � � �ص � � ��اب احل � � ��دي � � ��دي‬ ‫ذاب � � � � � � � � � � � � � ��ه وب � � � � � � � � � � � � � ��رح اق � � � �� � � � �س� � � ��م‬

‫ولي�ست كل احل��وارات يف املدر�سة ال�شعورية‬ ‫ب �ه��ذه ال �ط��ري �ق��ة‪� ،‬إمن� ��ا م�ع�ظ��م احل� ��وارات‬ ‫خمت�صرة تنا�سب �أح ��داث املو�ضوع ورمب��ا‬ ‫يتنقل ال�شاعر من خماطب عاقل �إىل �آخر‬ ‫غري عاقل �أو العك�س‪ .‬وي�صل هذا احلوار �إىل‬ ‫م�ستوى الق�صة كما يف ق�صائد ال�شاعر علي‬ ‫بن قنرب التي ي�سجل فيها �أح��داث� ًا‪ ،‬كحادثة‬ ‫ق�ضم الف�أر �إ�صبع �أحد راكبي �سفينة الغو�ص‪.‬‬ ‫ولي�س بال�ضرورة �أن تكون الق�صة واقعية‪ ،‬فقد‬ ‫تكون من ن�سج اخليال غري ال�شعري‪ ،‬كما ط ّوره‬ ‫ال�شعراء الحق ًا‪� ،‬إىل �أن �أ�صبحت الق�صيدة‬ ‫عر�ض ًا �سينمائي ًا ل�سيناريو الأح��داث كما يف ال� � � � �ب � � � ��ارح � � � ��ه ي� � � � ��ا � � ْ��س� � �ع� � �ي � ��دي‬ ‫املربوعة التالية «ديوان اجلمري‪� ،‬ص ‪:»465‬‬ ‫ب � � � � � � � � � ��ت ْب � � � � � � � � ��وق � � � � � � � � ��اي � � � � � � � � ��د ه � � ��م‬

‫ورمبا يكون جلوء ال�شاعر �إىل قالب املربوعة هو‬ ‫زيادة خيارات القافية لإيراد الأحداث الذي يود‬ ‫ال�شاعر ذكرها‪ ،‬و�إح�سا�سه ب�أهمية �سرد الق�صة‬ ‫كاملة مع �أن الفن ال�شعري ال يعري لهذا اجلانب‬ ‫�أهمية كما تقوم الرواية‪.‬‬ ‫ومن ناحية �أخ��رى �أ�صبح ال�شاعر يف املدر�سة‬ ‫ال�شعورية ال يخاطب العنا�صر التقليدية التي‬ ‫عر�ضناها �سابق ًا فقط كالن�سيم والطائر املثري‬

‫لجأ شعراء المدرسة‬ ‫الشعورية إلى تجميل‬ ‫قصائدهم لكسب‬ ‫المجتمع بد ًال من التمرّد‬ ‫والمواجهة المباشرة‬ ‫متجنبين اإلقصاء الفوري‬

‫اع �ت �م��دت ب�ن�ي��ة ال�ق���ص�ي��دة ال���ش�ع��وري��ة على‬ ‫اال� �س �ت �م��رار‪ ،‬ل ��ذا جت��د اه �ت �م��ام ��ش�ع��رائ�ه��ا‬ ‫بالوحدة الع�ضوية ك�ب�ير ًا‪ ،‬ف��الأب�ي��ات تتواىل‬ ‫وت�ستمر بيت ًا بعد �آخر يف قالب املو�ضوع‪ ،‬وهذا‬ ‫االه�ت�م��ام بالتما�سك ب�ين الأب �ي��ات ال جتده‬ ‫يف امل��دار���س ال�شعرية الأخ ��رى‪ .‬فالق�صيدة‬ ‫ال�شعورية تنق�سم �إىل حم ��اور‪ ،‬وك��ل حمور‬ ‫يت�ش ّكل من �أبيات‪ ،‬وال�شاعر الرومان�سي كان‬ ‫يبدع بربط الأب�ي��ات يف داخ��ل املحور و�أي�ض ًا‬ ‫بربط املحاور �أو توقف و�إكمال املحور‪ ،‬وكلما‬ ‫ب��رع ال�شاعر يف رب��ط املحاور ورب��ط الأبيات‬ ‫التي تندرج حتت حمور واح��د ف��إن ق�صيدته‬ ‫كانت تلقى �أك�ثر قبو ًال عند املتلقني‪ .‬ورمبا‬ ‫يبدو الت�سل�سل وت��راب��ط الأب�ي��ات يف �سياق‬ ‫الوحدة الع�ضوية �أم��ور ًا ال ت�ش ّكل �أهمية يف‬ ‫ب��ادئ الأم ��ر‪ ،‬ولكننا �سنالحظ الح �ق � ًا �أن‬ ‫�شعراء املدر�سة الواقعية تخلوا عن االهتمام‬ ‫بالوحدة الع�ضوية ليعطوا للبيت حرية �أكرث‪،‬‬ ‫واكتفوا بالوحدة املو�ضوعية لتما�سك ن�سيج‬ ‫الق�صيدة‪ ،‬لذا ف�إن �إيراد هذه الظاهرة مهم‬ ‫ج��د ًا يف املدر�سة ال�شعورية‪ ،‬وه��ذا ال يعني‬ ‫�أن ق�صائد املدر�سة التقليدية ال يوجد بها‬ ‫وحدة ع�ضوية‪ ،‬بل هناك وحدة ع�ضوية بني‬ ‫الأبيات ولكن هذه الوحدة ال تربط بني �أبيات‬ ‫الق�صيدة جميعها‪ ،‬كون �أن هناك ق�صائد‬ ‫ت�ق�ل�ي��دي��ة ك �ث�يرة ت �خ��رج م��ن ن �ط��اق عر�ض‬ ‫املو�ضوع الواحد وتعر�ض �أكرث من مو�ضوع‪،‬‬ ‫�أو �إنها تتطرق �إىل �أكرث من غر�ض‪ ،‬لذا ف�إن‬ ‫ح�سن التخل�ص من مو�ضوع كان بدي ًال عن‬ ‫الوحدة الع�ضوية يف هذه احلاالت‬


‫ألسنة عربية‬ ‫‪76‬‬ ‫الـعــــدد‬ ‫‪158‬‬ ‫ديسمبر‬

‫‪2012‬‬

‫بلغ ذروته مع ابن عربي وال�ش�شرتي‬

‫حكاية الزجل‬ ‫األندلسي‬

‫د‪.‬مقداد رحيم‬ ‫�شهد العرب امل�سلمون يف الأندل�س‬ ‫ظروفاً فريدة من املتغريات‬ ‫احل�ضارية‪ ،‬منذ �أن َّ‬ ‫مت لهم فتح‬ ‫الأندل�س يف عام ‪ 92‬للهجرة النبوية‬ ‫املباركة وحتى ثمانية قرون تلتْ ‪،‬‬ ‫متثلت بالطبيعة اجلديدة اخلالبة‪،‬‬ ‫ويف الأجنا�س الب�شرية املختلفة‪،‬‬ ‫ويف الأ�شكال والألوان‪ ،‬ويف العادات‬ ‫والتقاليد‪ ،‬ويف ال�شعائر الدينية‬ ‫والعقائدية‪ ،‬ويف اللغات واللهجات‪.‬‬


‫ا�شبيلية‪ ..‬حيث ان�صهر العرب الفاحتون منتجني ثقافة �آخرى‬

‫ول��ذل��ك ك��ان م��ن الطبيعي املحتمل �أن‬ ‫تتولد م��ن ال�ع��رب الفاحتني فئة �شعبية‬ ‫ت�أخذ على عاتقها حتقيق مبد�أ الت�ساهل‬ ‫يف جمال الأ�صالة والرتاث‪ ،‬ويت�سع مداها‬ ‫ع�بر الع�صور والأج� �ي ��ال‪ ،‬كما ك��ان من‬ ‫الطبيعي �أن ين�ش�أ يف �أح�ضان هذه الفئة‬ ‫العري�ضة �أدب عري�ض يوفر لها حاجاتها‬ ‫للتعبري عن خلجاتها‪ ،‬وتف�صيالت حياتها‪،‬‬ ‫بالأ�سلوب الفني املتميز ال��ذي يحمل يف‬ ‫طياته �سمات من ذلك الت�ساهل‪ ،‬ويتجاوب‬ ‫مع تطور احلياة اليومية‪ ،‬فكان للعرب يف‬ ‫الأندل�س �أدبهم ال�شعبي الراقي املعرب عن‬ ‫�أ�صالتهم وقدراتهم على الإب��داع الذي‬ ‫ي�شكل ف��ن ال��زج��ل ال��ذي نحن ب�صدده‪،‬‬ ‫جزء ًا �أ�صي ًال منه‪.‬‬

‫املوقف من الأدب ال�شعبي‬ ‫يف الأندل�س‬

‫لقيت بع�ض فنون الأدب الأندل�سي التي ُطبعت‬ ‫ْ‬ ‫ً‬ ‫ب�شيء من «ال�شعبية»‪� ،‬أو ت�ضمنت �شيئا من‬ ‫«العامية» عنت ًا �شديد ًا ِمن لدن الفئة املحافظة‬ ‫من النقاد والكتاب وامل�ؤلفني‪ِ ،‬من �أمثال ابن‬ ‫ب�سام ال�شنرتيني «ت ‪ 542‬هـ» وعبد الواحد‬ ‫املراك�شي «ت ‪ 647‬هـ» اللذين امتنعا من ذكر‬ ‫و�ص َّرحا بذلك‬ ‫�شيء من ن�صو�ص تلك الفنون َ‬ ‫االمتناع‪ ،‬وفعل مثلهما الفتح بن خاقان «ت‬ ‫‪ 529‬ه» يف كتابيه «قالئد العقيان» و«مطمح‬ ‫الأنف�س»‪ ،‬وقد ر�أى ه�ؤالء �أن �إيرادههم �شيئ ًا‬

‫م��ن ن�صو�ص تلك الفنون ُيعد ت�شجيع ًا له‪،‬‬ ‫و�إغ�ضا�ض ًا للأدب الف�صيح‪.‬‬ ‫وكان هذا املوقف املتزمت �سبب ًا رئي�س ًا كبري‬ ‫الأثر يف �ضياع الكثري من ن�صو�ص هذا الأدب‬ ‫الذي ي�شكل جانب ًا مهم ًا من ال�تراث ال�شعبي‬ ‫يف الأندل�س‪ ،‬والذي مل َ‬ ‫يحظ بالعناية الكافية‬ ‫م��ن قبل الرعيل الأول م��ن النقاد والأدب ��اء‬ ‫الأندل�سيني وب�أيديهم زمام الأدب وف ْر�ض‬ ‫هيمنتهم عليه‪ ،‬قبل �أن مي�ضي وقت لي�س‬ ‫بالق�صري‪ ،‬لت�صبح ه��ذه ال�ف�ن��ون �شك ًال‬ ‫من �أ�شكال الإب��داع الأ�سا�سية يف املجتمع‪،‬‬ ‫وتتغلب على �أف �ئ��دة الفئة العري�ضة من‬ ‫ال�شعب‪ ،‬وقبل �أن تتعلق ب�شغاف قلوبها‪،‬‬ ‫وتخف حدة املحافظة تلك‪.‬‬ ‫و�إذا جت��اوزن��ا الكتّاب والنقاد �إىل الأدب��اء‬ ‫وال�شعراء وجدنا �أن كثري ًا من الرعيل الأول‬ ‫منهم مل يدخلوا يف م�ضمار ال�شعر العامي‪ ،‬ومل‬ ‫يجربوا حظهم فيه‪ ،‬بل التزموا جانب ال�شعر‬ ‫الف�صيح‪ ،‬حر�ص ًا منهم على �أ�صالة الرتاث‪،‬‬ ‫وحفاظ ًا على ر�صانة فن ال�شعر العربي القدمي‪،‬‬

‫انتقل الزجل األندلسي‬ ‫إلى المشرق مع وفود‬ ‫األندلسيين لحج البيت‬ ‫الحرام وزيارة العتبات‬ ‫المقدسة فض ً‬ ‫ال عن‬ ‫طلب العلم والتجارة‬ ‫وحب الترحال‬

‫وخوف ًا منهم على نزول طبقته‪ ،‬ف�أم�سكوا عن‬ ‫كل جديد يف الأدب عامة ويف ال�شعر ب�شكل‬ ‫خا�ص‪ ،‬فلم حتت ِو دواوينهم و�آثارهم الإبداعية‬ ‫على �شيء منه‪ ،‬ومن �أولئك ال�شعراء‪ :‬ابن هانئ‬ ‫الأندل�سي «ت‪362‬هـ»‪ ،‬واب��ن دراج الق�سطلي‬ ‫«ت‪421‬هـ»‪ ،‬واب��ن زي��دون «ت‪463‬هـ»‪ ،‬وابن‬ ‫احلداد الوادي �آ�شي «ت‪480‬هــ»‪ ،‬وابن خفاجة‬ ‫«ت‪533‬هـ»‪ ،‬وه���ؤالء ميثلون التيار املحافظ‬ ‫يف الأدب‪� ،‬أي��ام كانت الأندل�س ت�شهد ثورتها‬ ‫اكتملت مالحمها‬ ‫التجديدية اخللاَّ قة‪ ،‬وقد‬ ‫ْ‬ ‫وتر�سخت �أ�س�سها‪.‬‬ ‫ْ‬ ‫ً‬ ‫غري �أن الزمن كان كفيال ب�أنْ يجعل الزجل‬ ‫يجري على �أل�سنة كبار �شعراء الف�صحى‬ ‫الأن��دل���س�ي�ين م��ن �أم �ث��ال حم�ي��ي ال��دي��ن بن‬ ‫عربي «ت‪638‬هـ» و�أب��ي احل�سن ال�ش�شرتي‬ ‫«ت‪668‬هـ» ول �� �س��ان ال��دي��ن ب��ن اخلطيب‬ ‫«ت‪776‬هـ»‪ ،‬فيدخل ف��ن ال��زج��ل يف جمال‬ ‫الأدب من �أو�سع الأبواب‪.‬‬

‫ن�ش�أة فن الزجل الأندل�سي ورواده‬

‫اخت َ‬ ‫ُلف يف زمان ن�ش�أة فن الزجل الأندل�سي‬ ‫الزجالني‪،‬‬ ‫ور َّواده‪ ،‬و�أول من نظم فيه من َّ‬ ‫زج��ا ًال‪� ،‬إال �أن �أنظار‬ ‫وناظم الزجل ي�س َّمى َّ‬ ‫�أغ �ل��ب ال �ب��اح �ث�ين ت�ت�ج��ه �إىل اب ��ن ق��زم��ان‬ ‫«ت‪555‬هـ» بو�صفه م�ب�ت�ك��ر ًا ل�ف��ن ال��زج��ل‬ ‫الأندل�سي‪ .‬ورمب��ا عولوا يف ذل��ك على قول‬ ‫اب��ن خلدون «ت‪808‬هـ» يف مقدمته‪« :‬و�أول‬ ‫من �أبدع هذه الطريقة الزجلية �أبو بكر بن‬


‫ألسنة عربية‬ ‫‪78‬‬ ‫الـعــــدد‬ ‫‪158‬‬ ‫ديسمبر‬

‫‪2012‬‬

‫قزمان»‪ ،‬وقوله عنه‪« :‬وهو �إمام الزجالني على‬ ‫الإط�لاق»‪ ،‬غري �أن �صفة الإمام التي �أطلقها‬ ‫ابن خلدون على ابن قزمان ال تعني الريادة‬ ‫املطلقة‪ ،‬فقد �أطلقها �أي���ض� ًا على الزجال‬ ‫حممد بن عبد العظيم ال��وادي �آ�شي خالل‬ ‫حديثه عن �أزجاله‪.‬‬ ‫وكان ابن �سعيد الأندل�سي «ت‪685‬هـ» قد �سبق‬ ‫ابن خلدون يف احلديث عن الزجل الأندل�سي‬ ‫يف كتابه «الـ ُمغرب يف ُحلى الـمـَغرب» عندما‬ ‫قيلت يف الأندل�س قبل ابن‬ ‫قال‪« :‬الأزج��ال‪ْ ...‬‬ ‫ان�سكبت‬ ‫قزمان‪ ،‬ولكن مل تظهر حالها‪ ،‬وال‬ ‫ْ‬ ‫ُهرت ر�شاقتها �إال يف زمانه»‪،‬‬ ‫معانيها‪ ،‬وال ا�شت ْ‬ ‫وق��د �سار على ه��ذا ال ��ر�أي �أغ�ل��ب الباحثني‬ ‫قدماء وحمدثني‪ ،‬غري �أن ابن قزمان نف�سه‬ ‫يعرتف يف مقدمته لديوانه ب�أنَّ الزجال �أخطل‬ ‫بن من��ارة قد �سبقه �إىل فن الزجل عندما‬ ‫قال عنه‪�« :‬إنه نهج الطريق‪ ،‬وط َّر َق ف�أح�سنَ‬ ‫التطريق‪ ،‬وج��اء باملعنى امل�ضيء والغر�ض‬ ‫ال�شريق‪ ،‬وطبع �سيال‪ ،‬ومعانٍ ال ي�صحبه بها‬ ‫جهل اجل ّهال‪ ،‬ويت�صرف ب�أق�سامه وقوافيه‪،‬‬ ‫َ‬ ‫ت�صرف البازي بخوافيه‪ ،‬ويتخل�ص من الغزل‬ ‫�إىل املديح‪ ،‬بغر�ض �سهل وكالم مديح»‪.‬‬

‫ومهما يكن ِمن �أم��ر‪ ،‬ف�إن الوقوف على مبتكر‬ ‫بعينه لأي فن من الفنون من الأمور التي طاملا‬ ‫قام عليها خالف على مدى الع�صور‪ ،‬وتعدد‬ ‫الفنون‪ ،‬ب�سبب �ضعف البدايات‪ ،‬وتوايل مراحل‬ ‫التعديل والتجريب‪ ،‬حتى ي��أخ��ذ الفن �شكله‬ ‫النهائي عرب حقب تاريخية و�أجيال من املبدعني‬ ‫واملتلقني‪ ،‬وهكذا كان فن الزجل الأندل�سي‪.‬‬

‫�شكل الزجل وبنا�ؤه‬

‫متثال �أبو احل�سن ال�ش�شرتي‬

‫ق��د ب�سط �صفي ال��دي��ن احل�ل��ي «ت‪750‬هـ»‬ ‫الكالم على اخلالف فيمن �سبق �إىل فن الزجل‬ ‫يف كتابه «العاطل احلايل» فقال‪« :‬اختلفوا فيمن‬ ‫اخرتع الزجل‪ ،‬فقيل �إن خمرتعه ابن غرله‪..‬‬ ‫ا�ستخرجه م��ن املو�شح‪ ،‬وق�ي��ل‪ :‬ب��ل يخلف بن‬ ‫را�شد‪ .. ،‬وكان هو �إمام الزجل قبل �أبي بكر بن‬ ‫قزمان‪ ،‬وكان ينظم الزجل القوي من الكالم‪،‬‬ ‫فلما ظهر ابن قزمان ونظم ال�سهل الرقيق‪ ،‬مال‬ ‫النا�س �إليه‪ ،‬و�صار هو الإمام بعده»‪.‬‬

‫اللهجة الأندل�سية‪-‬اال�سكندرانية‬ ‫عندما و َ‬ ‫يل احلـ َ َك ُم بن ه�شام بن عبد الرحمن بن معاوية خالفة الأندل�س بعد �أبيه‬ ‫يف عام ‪180‬هـ حدثتْ فتنة �شعبية يف �آخر �أيامه‪ ،‬بعد �أن حكم �أكرث من ع�شرين عاماً‪،‬‬ ‫يف منطقة الرب�ض القبلي بقرطبة‪ ،‬فق�ضى على الفتنة و�أمر بهدم الرب�ض‪ ،‬وتهجري‬ ‫�أهله �إىل حيث ي�شا�ؤون‪ ،‬فف َّر منهم طائفة عظيمة �إىل اال�سكندرية عرب البحر‪ ،‬و�إليها‬ ‫نقلوا �أ�ساليب حياتهم اليومية وتعامالتهم وثقافتهم وكذلك –بالطبع‪ -‬لهجتهم‬ ‫التي يتكلمون بها‪.‬‬ ‫ومن �أ�سرار لهجتهم �أن املتكلم املفرد ي�ستخدم النون يف �أول الفعل امل�ضارع بد ًال من‬ ‫«لي�س»‪ ،‬ويف عبارة «�أي �شيء» وتنوين‬ ‫الهمزة‪ ،‬وحذف الياء يف حرف اجلر «يف»‪ ،‬ويف َ‬ ‫الأ�سماء بالن�صب يف كل حال‪ ،‬وكذلك م ّد الكلمات وخطفها‪ ،‬ف�ض ً‬ ‫ال عن الت�سكني الذي‬ ‫هو عامل م�شرتك يف اللهجات العربية ب�شكل عام‪ .‬ويف الن�صو�ص التي ذكرناها بع�ض‬ ‫هذه اخل�صائ�ص‪ .‬وبعد �أن ترك الأندل�سيون الإ�سكندرية بعد ح��دوث فتنة �أخرى‬ ‫هناك‪ ،‬اجتهوا نحو جزيرة كريت لي�ستوطنوها‪ ،‬تاركني بع�ض خ�صائ�ص لهجتهم التي‬ ‫مازالت ت�شكل �أهم مالمح اللهجة الإ�سكندرانية‪ ،‬كما تركوا مراقد �شيوخهم ورجال‬ ‫الدين منهم واملت�صوفة عامرة يتربك بها �أهل الإ�سكندرية الذين ما زالوا يق�سمون‬ ‫باملر�سي �أبي العبا�س‪ ،‬وهو �أحد املت�صوفة الأندل�سيني من �أ�صحاب الكرامات‪ ،‬انتقل‬ ‫�إىل الإ�سكندرية وتويف ودفن فيها يف عام ‪686‬هـ‪ ،‬وا�سمه �أبو العبا�س �أحمد بن ح�سن‬ ‫بن علي اخلزرجي من �أه��ل مدينة مر�سية الأندل�سية‪ ،‬و�إليها ينت�سب‪ ،‬ولكن هذه‬ ‫الن�سبة غلبتْ على ا�سمه و�صار �أهل الإ�سكندرية ي�سمون �أوالدهم بها‪ ،‬حتى الآن تربكاً‬ ‫به‪ ،‬ولكنهم يحذفون �أداة التعريف منه هكذا‪ :‬مُر�سي‬

‫وال��زج��ل ي�شبه امل��و� �ش��ح م��ن ح�ي��ث ال�شكل‬ ‫اخل��ارج��ي املتمثل بتعدد ال �ق��وايف‪ ،‬وت�ألفه‬ ‫من �أقفال و�أدوار متعددة‪ ،‬ومن حيث البناء‬ ‫الداخلي املتمثل بتعدد الأوزان‪ ،‬يف الغالب‪،‬‬ ‫ويختلف عن املو�شح ب�أنه ملحون‪� ،‬أي مت�ألف‬ ‫من ك�لام العامة‪ ،‬وه��ذا ما جعل كثري ًا من‬ ‫الباحثني يذهبون �إىل �أنهما فن �شعري واحد‪،‬‬ ‫لوال االختالف يف هذه ال�صفة‪.‬‬ ‫ولعلهم التفتوا يف ذلك �إىل كالم ابن خلدون‬ ‫يف مقدمته ‪« :‬وملا �شاع فن التو�شيح يف �أهل‬ ‫الأندل�س و�أخذ به اجلمهور ل�سال�سته وتنميق‬ ‫كالمه وتر�صيع �أجزائه‪ ،‬ن�سجت العامة من‬ ‫�أهل الأم�صار على منواله ونظموا يف طريقته‬ ‫بلغتهم احل�ضرية من غري �أن يلتزموا فيه‬ ‫�إع��راب � ًا‪ ،‬وا�ستحدثوا فن ًا �س َّموه بالزجل»‪،‬‬ ‫ووا�ضح من كالمه �أن املو�شح �سبق الزجل‪،‬‬ ‫و�أن الثاين قام على نهج الأول‪.‬‬

‫مناذج من الزجل الأندل�سي‬

‫مل �أعرث للزجال �أخطل بن منارة على �أزجال‬ ‫كاملة‪ ،‬غري ما �أورده ابن �سعيد الأندل�سي من‬ ‫مقطعات من بع�ض �أزجاله‪ ،‬منها قوله‪:‬‬ ‫ك�سر ْ‬ ‫رجل كل ْ‬ ‫اهلل ْ‬ ‫ثقيل‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫ِالقنديل‬ ‫طاق يف خ ـَـدُّ وبفْ ف‬ ‫إليك ْ‬ ‫ْ‬ ‫مقابل وجدتْ � ْ‬ ‫�سبيل‬ ‫ع ْم‬ ‫ْ‬ ‫َّا�س‬ ‫قدَّر اهلل و�ساق اخلـ ـ ـ ـن ْ‬ ‫النا�س‬ ‫�إىل داري على عيون ْ‬ ‫بالكا�س‬ ‫ولعبنا طول النها ْر‬ ‫ْ‬ ‫الليل وامت ْد مثل القتيلْ‬ ‫وجا ْ‬ ‫ومما ذكره البن قزمان قوله‪:‬‬ ‫ل ِْ�س عندي قوا ْم واله ْو فال ْح‬


‫ال�شراب وع�شق املال ْح‬ ‫�شرب‬ ‫ْ‬ ‫�إال ْ‬ ‫ْ‬ ‫العقوق‬ ‫إبلي�س �إىل متى ذا‬ ‫�‬ ‫نِر�ضي ْ‬ ‫علي ح ـ ْ‬ ‫ـقوق‬ ‫فه ْو �شيخي و ُل ْه َّ‬ ‫ال�شريب ْه مفتا ْح ْ‬ ‫ُّ‬ ‫ْ‬ ‫ف�سوق‬ ‫لكل‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ِف ــل�ساين نربط ذكِ املفتا ْح‬ ‫�أيها النا�س و�صيتي للجمي ْع‬ ‫من خالع ْه ف�إن اليو ْم خلي ْع‬ ‫بكا�س وقطي ْع‬ ‫وال من�شو �إال ْ‬ ‫و�سكارى �أ َّي ْك ال مت�شو �صحا ْح‬ ‫ا�سكتْ ا�سكتْ هذا احلديث مي�ض ْغ‬ ‫فِقالد ْة ُع ـ ـ ُنـ ــقْ من بـ ـ ـ ـ ـ ـلـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ْغ‬ ‫�إنْ دارها حممد بن �أ�صب ْغ‬ ‫ْ‬ ‫يح�س للربا ْح‬ ‫خُ ـ ْم�س مِ تْ‬ ‫�سوط ِّ‬ ‫�إمنا ِب ْع لِ الــمِ ري بالنها ْر‬ ‫ف�إذا كنتْ وقت رقا ْد يف دا ْر‬ ‫ارخ ُ�ش ـ َّف ْه وار�ض ْع يف هذا العقا ْر‬ ‫ال تق ْع ْ‬ ‫لك قطاع ْه يف ا�صطبا ْح‬ ‫دمااغك ثقلْ‬ ‫ْ‬ ‫ف�إنْ �أ�صبحتْ ويف‬ ‫را�سك ْ‬ ‫حج للدا ْر �إنْ يف ْ‬ ‫عقل‬ ‫ْ‬ ‫ويكون الغذا حلمِ ْه ِبـ ـ ْ‬ ‫ـبقل‬ ‫واهلل ْ‬ ‫ْ‬ ‫اهلل ال ت�ستجيب �إذ ُت�صا ْح‬ ‫ت�صبح‬ ‫و�إذا كنتْ �صا ْح �إذ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫اغ�سل � َّأجـ ْـك وه ِّلـ ْـل �أو �س ِّب ْح‬ ‫�شرط �إنْ فال اح ْد ْ‬ ‫ِ‬ ‫اعمل يل �آ ْح‬ ‫ْ‬ ‫اعمل اتَّ �آ ْح وزيدو ف ْ‬ ‫ِل�ساق حا ْح‬ ‫واذا كنتْ مع فِقي �أو �إما ْم‬ ‫لك �شربتْ ّ‬ ‫ويق ُْل ْ‬ ‫فقط مدا ْم‬ ‫ْ‬ ‫قل ُل ْه ا�ش ُن ْه يا فقي ذا الكال ْم‬ ‫ْ‬ ‫واهلل ما ذقتْ ّ‬ ‫قط َ�ش َر ْب تفا ْح‬ ‫ً‬ ‫ْ‬ ‫أجمعك بي ْه زمانا نبـ ـ ـي ـ ْـل‬ ‫ف�إنْ �‬ ‫ري قليلْ‬ ‫رب غ ْ‬ ‫وع�سى ل ِْ�س ذا ال�ص ْ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫ال�سبيل‬ ‫قل ُل ْه ال�سا وجدتْ �إليك‬ ‫جِ ْي ِنق ُْل ْ‬ ‫لك بال َّر ْ�س َل �أو بال�صيا ْح‬ ‫تِدري �إذا قلت يل �شربت العقا ْر‬ ‫�آ ْه حقاً َكنْ نبتلعها كبا ْر‬ ‫ذاب َنح�سوها ليل ونها ْر‬ ‫وانا َ‬ ‫ْ‬ ‫ـ�شرابك ورمبا �أق ـ ــدا ْح‬ ‫بـ‬ ‫ْ‬ ‫�سايقل ْ‬ ‫ِ‬ ‫لك ال‬ ‫حتفظ ا�سماها‬ ‫ْ‬ ‫ُق ْل ُل ْه خ ْذ نمِ ال منها �أذنيك َمال‬ ‫هي القهو ْه واملدا ْم ِّ‬ ‫والطـال‬ ‫هي َّ‬ ‫َّ‬ ‫واخلندري�س والرا ْح‬ ‫ـا‬ ‫ـ‬ ‫ي‬ ‫ـ‬ ‫م‬ ‫ـح‬ ‫ـ‬ ‫ل‬ ‫وا‬ ‫ُ‬ ‫َّ‬ ‫ْ‬

‫ر�سم تخيلي البن عربي‬

‫كان �أبو احل�سن بن �أبي ن�صر الدباغ �أحد �أئمة‬ ‫الزجل امل�شهورين كذلك يف الأندل�س‪ ،‬وقد‬ ‫توفر ابن �سعيد الأندل�سي على ذكره والوقوف‬ ‫على جملة من �أزجاله ومنها‪:‬‬ ‫ال ملي ْح �إال مها ِودْ‪ ...‬ال �شرابْ �إال مرو َّْق‬ ‫زمانك‪ ...‬باخلالعا وامل ُ َ‬ ‫ا ِّتكي وارب ْح ْ‬ ‫عي�ش ْق‬ ‫ال �شرابْ �إال يف ْ‬ ‫ب�ستان‪ ...‬والربيع قد فا ْح نوا ْر‬ ‫ْ‬ ‫وي�ضحك‪�...‬أقحـ ـ ـ ْ‬ ‫ـوانم ْعبـ ـ ـ ـه ـ ــا ْر‬ ‫يبكيالغما ْم‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫وامليا ْه مثل الثعاب ـ ـ ـ ـ ْ‬ ‫ني‪ِ ...‬فـ ــذاك ال�سـ ـوَّاق دا ْر‬ ‫االنفا�س‪ ...‬قد نح ْل ج�سمو وقد رقْ‬ ‫والن�سي ْم عذريّ‬ ‫ْ‬ ‫وع�شي ًةمليحاف ـ ـ ـ ِـ ـ ـ ـتـ ـ ْ َن‪...‬ع ـ ــنهاال ـ ْ‬ ‫ـم�سكي ـنـ�شـ ـ ْـق‬ ‫الطيو ْرتـحكياملثان ــي‪...‬وت�سُ ـ ـ ْقـ ــها�أح�س ْـن�سي ــاقـ ــا‬ ‫يفثـ ـ ـ ـ ـ ـم ــارايله ـمــو َن‪...‬ل ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــزمانالع�ش ـ ـ ْـقطـ ـ ــاق ــا‬ ‫ْ‬ ‫فغ�صنلآخ ْريق ـ ـ ِّب ـ ْل‪...‬وف�ضيبْ لآخ ـ ـ ـ ْريــعنـ ـ ـ ـ ـّ ْـق‬ ‫و�شعاع ال�شم�س قد غابْ ‪ ...‬وبقا يف اجل ْو نو ْر‬ ‫ْ‬ ‫وال�شفق يف الغربْ ممدودْ‪ ...‬قد كتبْ بزجنفو ْر‬ ‫�أحرفاً ُتـقرى وتـ ُـ ــف َه ـ ـمْ‪ ...‬فرتاه ْم يف �سطو ْر‬ ‫ْ‬ ‫ال�سِّ ْ‬ ‫والهالل نوناً مع َّر ْق‬ ‫ـماك ميماً مد َّورْ‪...‬‬ ‫َ‬ ‫جلو�س و�آخ ْر ميي ْل‬ ‫ونحن يف طيبْ مدامْ‪ ...‬قو ْم ْ‬ ‫وندمي ي�سقي ندي ـمْ‪ ...‬وخليل يهوى خليلْ‬ ‫وعذار الليل قد �شابْ ‪ ...‬ملا � ْأن دنا رحي ْل‬ ‫ودليل ال�صب ْح قدامْ‪ ...‬قد ركبْ جواداً ْ‬ ‫ابلق‬ ‫ومن �أزجال �أبي بكر الدباغ قوله‪:‬‬ ‫ِع�شق مليحْ‪ ...‬والذي نِ�شربْ ْ‬ ‫الذي ن ْ‬ ‫عتيق‬

‫نسج لسان الدين بن‬ ‫الخطيب أزجا ً‬ ‫ال على‬ ‫طريقة الششتري‬ ‫الصوفية بعد أكثر من‬ ‫قرن من الزمان على‬ ‫رحيله‬

‫املليح ْ‬ ‫ني‪ ...‬وال�شرابْ ا�صف ْر ْ‬ ‫ابي�ض �سم ْ‬ ‫رقيق‬ ‫ال �شرابْ اّال قدميْ‪ ...‬ال ملي ْح اّال و ْ‬ ‫َ�صول‬ ‫نقول ْ‬ ‫يخالف ما ْ‬ ‫�إ ْذ ْ‬ ‫ل�س ما ْ‬ ‫نقول‬ ‫روحك نِريدْ‪ْ ...‬‬ ‫َلول وال بخيلْ‬ ‫والزيار ْه ك ّل ي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــومْ‪ ...‬ال م ْ‬ ‫من زيارتو بعدو قدْ‪ ...‬رجع ْ‬ ‫ْ‬ ‫�صديق‬ ‫بحال‬ ‫ومن �أزجال �أبي بكر بن �صارم الأ�شبيلي‪:‬‬ ‫حقاً نحبّ العقارْ‪ ...‬فِالدي ْر طول النهارْ‪ُ ..‬نر َته َْن‬ ‫ْ‬ ‫ل�س َق َّداً ْ‬ ‫فالن‬ ‫عن‬ ‫خلع �أنا ْ‬ ‫ن�شربْ ب�شقف القد ْح ك ِْف ماكانْ‬ ‫ْ‬ ‫عيان‬ ‫للدي ْر ُم ْر وتراين‬ ‫قد التويتْ فِالغبار‪ ...‬وما ْع ْ‬ ‫كانون بنا ْر‪ ...‬فِالد َك ْن‬ ‫مي‬ ‫ومذهبي يف ال�شرابْ قد ْ‬ ‫و�س ْكرا مِ ْن ُه ْو املنى والنعي ْم‬ ‫َ‬ ‫مي‬ ‫ند‬ ‫يل‬ ‫وال‬ ‫�صاحب‬ ‫يل‬ ‫ول�س‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫فقدت اع��ي ْ��ان ك��ب��ا ْر‪ ...‬واخلَ ْطن م�� ْع ذا العيا ْر‪...‬‬ ‫ْ‬ ‫الزمن‬ ‫ال ت�ستم ْع مَن ْ‬ ‫كان وكانْ‬ ‫يقول ْ‬ ‫ْ‬ ‫والعيان‬ ‫رب‬ ‫وانظ ْر حقيقق اخل ْ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫الزمان‬ ‫بحال خيايل رِجِ ْع ذا‬ ‫ف�أحلى ما يور ْ‬ ‫ِّيك دي��ا ْر‪ ...‬غ ِّي ْبها واخ��ر ْج ج��وا ْر‪...‬‬ ‫ْ‬ ‫اليمن‬

‫�أغرا�ض الزجل‬

‫ُي ُ‬ ‫تطرق يف الزجل ومن خالله �إىل الأغرا�ض‬ ‫املختلفة‪ ،‬حتى ما َج َّل منها كاملديح والرثاء‪،‬‬ ‫منذ عهد مبكر على يد ابن قزمان‪ ،‬وغريه‬ ‫من الزجالني‪ ،‬بل لقد �صار فن الزجل وعا ًء‬ ‫للأغرا�ض الدينية والت�صوف‪ ،‬بلغ ذروته يف‬ ‫ذلك على يد املت�صوف ال�شيخ الأكرب حميي‬ ‫الدين بن عربي‪ ،‬ومن بعده ال�شيخ �أبي احل�سن‬ ‫ال�ش�شرتي الذي ا�ستطاع �أن ينقل الزجل �إىل‬ ‫مكانة رفيعة يف الو�سط الأدب��ي‪ ،‬منذ القرن‬ ‫ال�سابع الهجري‪ ،‬وجعله فن ًا مي�س طبقات‬ ‫املجتمع وفئاته كاف ًة‪ ،‬ويعي�ش بينهم جميع ًا‪،‬‬ ‫عندما �أدخ�ل��ه يف حلقات ال��ذك��ر‪ ،‬و�أنا�شيد‬ ‫ال�صوفية‪ ،‬كما �ضمنه جانب ًا مهم ًا من الوعظ‬ ‫والإر� �ش��اد وب�ي��ان احلكمة‪ ،‬ون�سجه م��ن لغة‬ ‫ب�سيطة �شعبية ت�صلح للتغني‪ ،‬وتتفق وطبيعة‬ ‫الإن�شاد ال�صويف‪ ،‬وهي مالمح جعلته قريب ًا‬ ‫ج��د ًا م��ن الغناء ال�شعبي على م��ر الع�صور‬ ‫وحتى الوقت احلا�ضر‪.‬‬


‫ألسنة عربية‬ ‫‪80‬‬ ‫الـعــــدد‬ ‫‪158‬‬ ‫ديسمبر‬

‫‪2012‬‬

‫ويت�أكد لنا ذلك عندما نقر�ؤ يف ديوانه زجله‬ ‫امل�شهور الذي الزمته‪:‬‬ ‫ْ‬ ‫�شو ِّي ْخ مِ ْن � ْ‬ ‫اال�سواق ي ـغـ ـنـ ـِّي‬ ‫و�سط‬ ‫مكنا�س‪ْ ...‬‬ ‫أر�ض ْ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫النا�س مـ ـنـ ـِّي‬ ‫النا�س‪ ...‬وا�ش على ْ‬ ‫ا�ش عليا انا مِ ن ْ‬ ‫وب�ل�غ� ْ�ت �شهرتــُه ال��زم��نَ احل��ا� �ض��ر‪ ،‬حيث‬ ‫�سمعتـــُه ُيغنـــَّى يف �إح��دى ق�ن��وات الكويت‬ ‫املرئية قبل عدة �سنوات‪ ،‬وعرفت فيما بعد‬ ‫�أن الفنان البحريني �أحمد اجلمريي هو الذي‬ ‫قام بتلحينه‪ ،‬و�صار �أغنية �شعبية م�شهورة‬ ‫على يديه‪ ،‬ولعله قام بت�سجيلها يف الكويت‪ ،‬ثم‬ ‫�شاعت يف اخلليج العربي كله‪ .‬ومتام الزجل‬ ‫ْ‬ ‫املغنـَّى‪:‬‬ ‫ْ‬ ‫و�سط‬ ‫�شويخ مِ ��ن �أر�ض«مكنا�س»‬ ‫مكنا�س‪ْ ...‬‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫اال�سواق يغني‬ ‫النا�س مني‬ ‫النا�س‪ ...‬وا�ش على ْ‬ ‫علي انا مِ ن ْ‬ ‫� ْإ�ش َّ‬ ‫ْ‬ ‫اخلاليق‬ ‫�صاحب‪ ....‬مِ ن جميع‬ ‫علي يا‬ ‫ْ‬ ‫� ْإ�ش َّ‬ ‫ْ‬ ‫احلقايق‬ ‫ري تنجو ‪ ....‬واتبع اهل‬ ‫اخل‬ ‫افعل‬ ‫ْ‬ ‫ال ْ‬ ‫ْ‬ ‫�صادق‬ ‫تقول يا ابني كلمهْ‪� ....‬إال �إنْ كنت‬ ‫قرطا�س‪ ...‬واكتبه حر ْز عني‬ ‫خذ كالمي يف‬ ‫ْ‬ ‫ثـ َّم ٌ‬ ‫قول ُم ــب ٌ‬ ‫ني‪ ....‬وال يحتا ْج عبار ْه‬ ‫� ْإ�ش على ح ّد مِ ن ح ْد افهموا ذي الإ�شار ْه‬ ‫وانظروا كرب �سني‪ ....‬والع�صا والغرار ْه‬ ‫فا�س‪ ...‬وكذاك �آنا هوين‬ ‫هكذا ع�شت يف «فا�س» ْ‬ ‫ْ‬ ‫اال�سواق‬ ‫وما اح�سن كالمهْ‪� ....‬إذا يخط ْر يف‬ ‫وترى �أهل احلوانيتْ ‪ ...‬يلفتوا لو باالعناقْ‬ ‫ْ‬ ‫ورقراق‬ ‫بغرار ْه يف عنقهْ‪ ....‬وعكيك ْز‬ ‫�سا�س‪ ...‬كما ان �شاء اهلل مَبني‬ ‫ُ�شـو ِّيخْ مبني على ْ‬ ‫لو ترى ذا ال�شو َّيخْ ‪ ...‬ما �أرق ـُّو مبعنى‬ ‫التفتْ يل وقلي‪� ...‬أ�ش نراك تـتـَّـب ْعـنا‬ ‫نن�صب يل ْ‬ ‫زنبيل‪ ...‬يرحموا من رحمنا‬ ‫�أنا‬ ‫ْ‬ ‫اجنا�س‪ ...‬ويقول دعني دعني‬ ‫و�أقاموا بني‬ ‫ْ‬ ‫مَن ْ‬ ‫طيب‬ ‫طيب‪ ...‬ما‬ ‫ي�صيب �إال ْ‬ ‫ْ‬ ‫عمل يا ابني ْ‬ ‫لعيوبوا �سينظ ـ ْر‪ ...‬وفعالوا يع ـي ـ ِّ ْب‬ ‫واملقارب بحايل‪ ...‬يبقى برا م�س ّي ْب‬ ‫ْ‬ ‫انفا�س يدري عذر املغني‬ ‫مَن معو طيبة ْ‬ ‫وكذاك ا�شتغالو‪ ...‬بال�صال ْه على حمم ْد‬ ‫والر�ضا عن وزيرو‪�...‬أبي بكر املمج ْد‬ ‫وعم ْر قائل ْ‬ ‫احلق‪ ...‬و�شهي ْد كل م�شه ْد‬ ‫أرجا�س‪� ...‬إذا ي�ضربْ ما يثنـِّى‬ ‫وعلي مفتي ال ْ‬ ‫ْ‬ ‫رجوتك‪ ...‬جـ ْد علينا بتوب ْه‬ ‫يا �إلهي‬ ‫بالنبي قد �س� ْ‬ ‫ألتك‪ ....‬والكرام الأحب ْه‬

‫من �آثار العرب الراقية يف الأندل�س‬

‫ق�صورهم ميتعهم وي�ؤن�سهم ب�أزجاله‪ ،‬فيت�سع‬ ‫بذلك نطاقه‪ ،‬وتتعدد �أغرا�ضه‪ ،‬لي�شمل و�صف‬ ‫الق�صور واحلياة فيها‪.‬‬

‫الرجي ْم قد �شغلني‪ ...‬وانا م ْع ُه يف ن�شب ْه‬ ‫و�سوا�س‪ ...‬من ماهو يبغي مني‬ ‫قد مال قلبي‬ ‫ْ‬ ‫مت َّ و�صف ال�شوي ْخ‪ ...‬يف معاين نظامي‬ ‫خوا�ص ونقري‪ ...‬لأهل فني �سالمي‬ ‫و�إين ْ‬ ‫و�إذا جوزوين‪ ....‬ن ـقـ ُ ْل � ْ‬ ‫أول كالمي‬ ‫رحلة الزجل �إىل امل�شرق‬ ‫و�سط ال ْ‬ ‫ُ�شويـ ِّ ْخ مِ ن � ْ‬ ‫أر�ض‬ ‫مكنا�س‪ْ ...‬‬ ‫ْ‬ ‫أ�سواق يغني جت��اوز فن الزجل الأندل�سي الأث��ر املو�ضعي‬ ‫علي انا من النا�س‪ ...‬وا�ش على ْ‬ ‫النا�س مني اخلا�ص �إىل الأثر العام الأو�سع‪ ،‬عندما انتقل‬ ‫� ْإ�ش َّ‬ ‫ولقي رواج�� ًا وانت�شار ًا‬ ‫�إىل امل�شرق العربي َ‬ ‫وي��ب��دو �أن ط��ري �ق��ة ال �� �ش �ي��خ �أب� ��ي احل���س��ن منقط َعي النظري ه �ن��اك‪ ،‬ف ��أخ��ذ امل�شارقة‬ ‫ال�ش�شرتي هذه كان لها �أثر بعيد يف احلياة ينظمون على غراره بلهجاتهم‪.‬‬ ‫الدينية عند العرب امل�سلمني فيما بعد‪ ،‬حتى ق��ال �صفي ال��دي��ن احل�ل��ي يف كتابه «العاطل‬ ‫جند لل�سان الدين بن اخلطيب‪ ،‬بعد �أكرث من احلايل»‪« :‬ولأهل بغداد خا�ص ًة من دون امل�شارقة‬ ‫قرن من الزمان‪� ،‬أزجا ًال �صوفية على طريقة �أزج��ال رقيقة ب�ألفاظ لطيفة‪ ،‬على ا�صطالح‬ ‫ال�ش�شرتي‪ ،‬كما يف قوله من حد �أزجاله‪:‬‬ ‫وج� � ْري �أل�سنتهم‪ ،‬على ق��اع��دة اللحن‬ ‫لغتهم‪َ ،‬‬ ‫ْ‬ ‫بني طلو ْع ون ـ ـ ْ‬ ‫الغزول‬ ‫ـزول‪ ...‬اختلطتْ‬ ‫املخت�ص بهم‪ ،‬كالإمالة والإدغام وتبديل حرف‬ ‫مل ْ‬ ‫وم�ضى منْ مل يكنْ ‪...‬وبقا من ْ‬ ‫يزول‬ ‫ب�آخر للتح�سني‪ ،‬وغ�ير ذل��ك ال ي�شاركهم فيها‬ ‫م�شارك‪ ،‬متم�سكني فيها ق��ول الإم��ام �أب��ي بكر‬ ‫وهكذا �أ�صبح فن الزجل فن ًا �شعبي ًا ال غناء ب��ن ق��زم��ان رح �م��ه اهلل ت �ع��اىل يف ال��زج��ل يف‬ ‫عنه يف جماالت احلياة املختلفة يف الأندل�س‪ ،‬خطبة ديوانه «و�أح�سنه ما كان اللغة العامية»‪،‬‬ ‫لعوامهم لغة لطيفة رقيقة خمت�صة بهم‪،‬‬ ‫و�صار يعرب عن م�شاعر �أعر�ض الفئات ال�شعبية ف��إن ِّ‬ ‫و�أو�سعها ع�بر �أجيالها املتتابعة‪ ،‬و�أزمنتها وظ��راف��ات ر�شيقة هي �أحلى موقع ًا من اللفظ‬ ‫�زج��ال مل يكن يحاول املغربي‪ ،‬يعني الأندل�سي‪ ،‬كحالوة �ألفاظ املغاربة‬ ‫املتباعدة‪ ،‬على �أن ال� َّ‬ ‫�إر�ضاء الفئة املثقفة فح�سب‪ ،‬و�إمنا كان يحاول وامل�صريني عند �أهل بالدهم»‪.‬‬ ‫�إر�ضاء احل َّكام وامللوك والأم��راء‪ ،‬ي�سعى �إىل �أما �سبيل انتقال الزجل الأندل�سي �إىل امل�شرق‪،‬‬ ‫فقد كان وفود الأندل�سيني على امل�شرق لأ�سباب‬ ‫متعددة �أهمها حج البيت احلرام‪ ،‬وزيارة العتبات‬ ‫كان للعرب في‬ ‫املقد�سة‪ ،‬ف�ض ًال عن طلب العلم‪ ،‬والتجارة‪ ،‬وحب‬ ‫األندلس أدبهم‬ ‫الرتحال‪ ،‬وكان منهم ال�شعراء ف�صحاء وعاميني‪،‬‬ ‫الشعبي الراقي المعبر‬ ‫وكانوا يتنقلون يف بالد امل�شرق بحرية كافية‪ْ � ،‬إذ‬ ‫مل تكنْ تف�صل بينها فوا�صل �سيا�سية �أو جغرافية‬ ‫عن أصالتهم وقدراتهم‬ ‫منذ �أقدم الع�صور‬ ‫على اإلبداع الذي‬

‫يشكل فن الزجل جزء ًا‬ ‫أصي ً‬ ‫ال منه‬


‫اجلمال املده�ش بب�ساطته‬ ‫كان �سمة احل�ضارة الأندل�سية‬


‫‪82‬‬

‫روزنة‬

‫روزنة‬

‫الـعــــدد‬ ‫‪158‬‬ ‫ديسمبر‬

‫‪2012‬‬

‫التراث‪..‬ذاكرة المستقبل‬ ‫ين�ضح‬

‫�سرور خليفة الكعبي‬

‫ال�ت��راث الإم� ��ارات� ��ي بكل‬ ‫ما�ض تليد‬ ‫تفا�صيله بعبق ٍ‬ ‫الزال ين�شر � �ش��ذاه يف ك��ل م�ك��ان من‬ ‫�أر�ضنا الطيبة املباركة‪ .‬وما زلت �أحيا‬ ‫دقائق ذكرياته يف كل ه ّبة من نفحات‬ ‫ن�سيم ال�صبا‪� ،‬أو مع كل لفحة من عليل‬ ‫ال���ش��رت��ا «� �ش��راج��ي �أو غ�يره��ا» وال�ت��ي‬ ‫حت��رك ك��ل ك�ي��اين لتدفعني �إىل ذلك‬ ‫املا�ضي اجلميل و�أهله الأطياب الذين‬ ‫ع�شت يف كنفهم‪.‬‬ ‫وعلى �أن الرتاث لي�س فخاريات وجدت‬ ‫يف حفريات‪� ،‬أو حل ّي ًا عرث عليها �أ�سفل‬ ‫ك�ث�ي��ب م�ه�ي��ل‪ .‬وال ه��و مت��اث�ي��ل ُنحتت‬ ‫و� ُ��ص � ّف��ت يف امل�ت��اح��ف وامل �ي��ادي��ن لكي‬ ‫ت�صف �أ�سلوب حياة عا�شها الأولون‪ ،‬بل‬ ‫هو جممل املوروث احل�ضاري والفكري‬ ‫لهذا ال��وط��ن‪ ،‬وجملة ع��ادات وتقاليد‬ ‫�سكانه يف �سالف الع�صر وال��زم��ان‪.‬‬ ‫و�أ�صبح الآن نربا�س ًا ُيقتدى به للتمتع‬ ‫بالعي�ش يف ظ��ل امل �ت �غ�يرات احلياتية‬ ‫وال �ت �ح��والت امل��ادي��ة ال�ت��ي ط ��ر�أت على‬ ‫�أ�سلوب حياة الب�شر والتي تُعرف الآن‬ ‫ب�ح���ض��ارة امل ��دن �أو «ال �ت �م��دن»‪ .‬وك��ان‬ ‫ل �ه��ذه ال �ث �ق��اف��ة اجل ��دي ��دة �أن ت�ق��ذف‬ ‫بقيمنا الرتاثية �إىل زاوي��ة بعيدة حتى‬

‫�أ�صبحنا ال نتذكرها �إال يف امل�سل�سالت‬ ‫البدوية والرتاثية‪-‬والتي ت�سمى كذلك‬ ‫ظلم ًا واف �ت�را ًء‪� -‬أو يف املتاحف التي‬ ‫خ�ل��ت م��ن زواره� ��ا امل�ح�ل�ي�ين واكتفت‬ ‫بالأجانب املتعط�شني ملعرفة كنه احلياة‬ ‫البدوية القا�سية التي عا�شها ه ��ؤالء‬ ‫ال�ن��ا���س ع�ل��ى �أر� �ض �ن��ا‪ ،‬وت�ك�ف��ل بنقلها‬ ‫�إىل العامل م�ست�شرقون ورحالة �أوائ��ل‬ ‫ق��دم��وا �إىل ه��ذه ال�ب�ق��اع مثل ويلفرد‬ ‫ثي�سيجر امل �ع��روف با�سم م �ب��ارك بن‬ ‫لندن‪ ،‬وف��راوك��ه هريد–باي‪ ،‬و�إدوارد‬ ‫هندر�سون‪ ،‬وباركلي رونكيري‪ ،‬ولوي�س‬ ‫مزيل‪ ،‬وماك�س �أوبنهامي واجلا�سو�س‬ ‫الأ�شهر توما�س �إدوارد لورن�س ال�شهري‬ ‫ب��ا��س��م ل��ورن ����س ال �ع��رب وغ�يره��م من‬ ‫الرحالة‪.‬‬ ‫ولطاملا �أح�س�ست �أن الرتاث الإماراتي‬ ‫ي�ستحق الكثري من اجلهود املخل�صة‬ ‫التي تهدف لي�س فقط املحافظة عليه‬ ‫من االندثار‪ ،‬بل حمايته �أي�ض ًا من تلك‬ ‫الأي ��دي والأق�ل�ام وامل �ح��اوالت العابثة‬ ‫لت�شويهه �أو ّ‬ ‫احلط من قيمته يف الذاكرة‬ ‫العربية عامة واملحلية خا�صة‪ ،‬و�ضرورة‬ ‫و� �ض��ع ت �� �ش��ري �ع��ات وق ��وان�ي�ن وا��ض�ح��ة‬ ‫و��ص��ارم��ة حلمايته‪ .‬والب � ّ�د م��ن �إي�ج��اد‬


‫جهات متخ�ص�صة حتمل على عاتقها‬ ‫هذا العبء‪ ،‬فلي�ست هناك من و�سيلة‬ ‫لتدمري �أمة من الأمم �أقوى من ف�صلها‬ ‫ع��ن ما�ضيها ك�خ�ط��وة �أوىل لت�شويه‬ ‫واقعها‪ .‬فتقع يف دائ��رة �ضياع الهوية‬ ‫ال�شخ�صية‪ ،‬وت�ضيع مالحمها املميزة‬ ‫لت�صبح �سراب ًا و�سط الزحام‪.‬‬ ‫أ�شد الإيالم ما �أجده‬ ‫و �إن مما ي�ؤملني � ّ‬ ‫من «�أعمال فنية» من �ش�أنها �أن حتطّ‬ ‫من قيمة ال�تراث املحلي‪ ،‬و«معاجلات‬ ‫درامية وفنية» ت�سهم يف ت�شويه ال�صورة‬ ‫احلقيقية للرتاث املحلي‪ ،‬وتر�سم يف‬ ‫خميلة املتلقي ��ص��ورة قامتة م�ش ّو�شة‬ ‫عن حقيقة تراثنا الغني الذي نعتز به‪.‬‬ ‫ولي�س ذلك فقط‪ ،‬و�إمنا ي�ستلزم الأمر‬ ‫�إ� �ص�لاح م��ا تف�سده ه��ذه امل�شاهدات‬ ‫وامل�سجالت يف عقول النا�س‪ ،‬ال �سيما‬ ‫الأط� �ف ��ال وال �� �ش �ب��اب م �ن �ه��م‪ ،‬ج �ه��ودا‬ ‫م�ضنية وج���ادة وحقيقية ت��و��ض��ح ما‬ ‫التب�س عليهم من فهم مغلوط ب�سبب‬ ‫تلك الأع �م��ال التي �أل�صقت بالرتاث‬ ‫والتاريخ الإماراتي‪.‬‬ ‫وبالرغم من �أين لن �أتطرق يف هذا املقال‬ ‫لهذه الأعمال‪� ،‬إال �أنني �سوف �أفرد لها‬ ‫م�ساحة خا�صة ت�ستلزم ال�سرد بالتف�صيل‬ ‫للأخطاء الدرامية واملعاجلات اللغوية‬ ‫وال �ع��ادات وامل�م��ار��س��ات اخلاطئة التي‬ ‫�أل�صقها منفذوا تلك الأعمال مبا�ضينا‬ ‫ال�ت�ل�ي��د ون���س�ب��وه��ا ظ�ل�م��ا وب �ه �ت��ان � ًا اىل‬ ‫املوروث ال�شعبي الذي مل يجد من يدافع‬ ‫عنه حتى الآن‪� ،‬أم�لا يف �أن جت��د هذه‬ ‫امل�ق��االت م��ن ي��أخ��ذ بها ليوقف �أولئك‬

‫الذين يعبثون بتاريخنا وعاداتنا وتراثنا‬ ‫املحلي واخلليجي والعربي دومنا رادع‪.‬‬ ‫ولقد اخ�ترت لزاويتي التي �أمتنى �أن‬ ‫�أطل عليكم من خاللها ا�سم «الروزنة»‪،‬‬ ‫وه��ي كلمة ذات وق��ع تراثي خا�ص لكل‬ ‫�أولئك الذين كتب لهم العي�ش يف زمن‬ ‫ما قبل النفط والطفرة ‪ ،‬ففيها حتفظ‬ ‫الأ� �ش �ي��اء ال�ق� ّي�م��ة يف ال�غ��رف��ة «ال�ي�ن��ز»‬ ‫املبنية م��ن ال �ط�ين واجل ����ص �أح�ي��ان��ا‪،‬‬ ‫والتي فقدت مكانها �أمام «الت�سريحة»‬ ‫�أو « الكوميدينو» �أو خزانة الكتب‪ .‬وهي‬ ‫عبارة عن جتويف �أو «ك� ّوة» يف اجلدار‬ ‫تط ّل على ال��داخ��ل فقط وتحُ فظ فيها‬ ‫الأ�شياء القيمة ذات اال�ستخدام اليومي‬ ‫كعلبة الكحل و الأدوي��ة و «ك��روة امل��اء»‬ ‫وغ�يره��ا م��ن الأ� �ش �ي��اء ب�ه��دف ت�سهيل‬ ‫الو�صول �إليها مع االحتفاظ بها بعيد ًا‬ ‫عن متناول الأطفال �أو ما قد ي�صيبها‬ ‫من بلل على الأر�ض‪.‬‬ ‫ومن «روزنتي» التي �أ�ضع فيها �أوراق��ي‬ ‫اخلا�صة‪� ،‬س�أطل لأقر�أ عليكم ما كتبته‬ ‫عن ع�شقي للرتاث‪ ،‬وما �أجده من جتنٍّ‬ ‫عليه من قبل البع�ض‪ ،‬كما �س�أقر�أ عليكم‬ ‫�أخ �ب��ار ًا ع��ن �أول �ئ��ك ال��رج��ال والن�ساء‬ ‫الذين ي�شكلون يف وقتنا احل��ايل رموز‬ ‫ال�ت�راث ال��ذي نعي�ش عبقة بكثري من‬ ‫النهم وال�شوق و�أحيانا احل�سرة عليه‪،‬‬ ‫ع�سى �أن ي�ج��د م��ا �أك �ت��ب � �ص��دى ل��دى‬ ‫الكثري ممن يع�شقون ال�تراث وال�تراب‬ ‫ال ��ذي نعي�ش عليه مثلي وال ير�ضون‬ ‫بت�شويه املا�ضي الذي نبكي عليه ‪ ،‬واهلل‬ ‫من وراء الق�صد‬


‫في حضرة الشعر‬ ‫‪84‬‬ ‫الـعــــدد‬ ‫‪158‬‬ ‫ديسمبر‬

‫‪2012‬‬


‫للعرب باع طويل فيها‬

‫األلغاز واألحاجي‬ ‫والمسائلالرياضية‬ ‫في الشعر العربي‬ ‫�صالح ال�شهاوي‬ ‫مع �أن الأدب‪ ،‬خ�صو�صاً ال�شعري منه‪ ،‬هو �صياغة جمالية رائقة‪� ،‬إ ّال �أن امل�ؤثر منه‪� ،‬إ�ضافة �إىل‬ ‫ا�ستناده �إىل العاطفة اجليا�شة‪ ،‬هو ذلك الذي يحوي جتربة وجدانية �أو عقالنية وت�صويراً بالغياً‬ ‫كثرياً ما ي�ستند �إىل ال�صور واملفاهيم ال�شائعة يف احلياة‪ .‬ومن هنا ت�س ّرب �إىل بع�ض ال�شعراء عن‬ ‫طريق �إطالعهم االجتماعي والثقايف معرفة ما للريا�ضيات من ح�ضور ومتيز‪ ،‬فوظفوا �شعرهم‬ ‫توظيفاً بديعاً لبع�ض ال�صور واملفاهيم الريا�ضية‪ ،‬وقد انت�شرت هذه الأ�شعار ب�صورة ي�صعب‬ ‫�إغفالها‪ ،‬لأن هناك �أمثلة متعددة لهذا التوظيف يف �إنتاج ال�شعراء العرب الكبار‪.‬‬ ‫فمن يقر�أ ال�شعر العربي القدمي يجد �أنه قد‬ ‫تطرق على نحو ما و�إن مل يكن هذا املنحى‬ ‫بال�شائع امل�شهور �إىل تلك العلوم امل�سماة‬ ‫بالعلوم العقلية‪ ،‬كعلوم الفلك‪ ،‬والطب‪،‬‬ ‫والكيمياء‪ ،‬والريا�ضيات واجليولوجيا‪.‬‬ ‫ومل يفطن ‪ -‬للأ�سف ال�شديد‪� -‬إىل هذا‬ ‫اجلانب اخلفي من جوانب ال�شعر العربي‬ ‫القدمي الباحثون يف تراث العرب العلمي‪،‬‬ ‫فخال ت��اري��خ العلوم عند ال�ع��رب م��ن � ّأي‬ ‫�إ��ش��ارة �إىل ذل��ك‪ .‬ونعني بال�شعر العربي‬ ‫هنا‪ ،‬ال�شعر الغنائي ال��ذي مي�ل�أ �أ�سفار‬ ‫ال�تراث العربي‪ .‬بعيد ًا عن ال�شعر العلمي‬ ‫ال��ذي ه��و ط��راز م��ن ال�شعر ق��د ُق ِ�ص َد به‬ ‫العلم لذاته وال��ذي تع ّمده ال�شاعر‪ ،‬فمن‬ ‫املعروف �أنّ بع�ض العلماء العرب قد �أّ ْو َدعوا‬ ‫معارفهم و�إبداعهم العلمي �شعر ًا‪ .‬كابن‬ ‫�سينا و�أراجيزه يف الطب وابن ماجد املالح‬ ‫و�أراج�ي��زه وق�صائده يف الفلك واملالحة‪،‬‬ ‫والطغرائي يف ديوانه يف الكيمياء املو�سوم‬

‫بـ «املقاطيع» ‪..‬الخ‪.‬‬ ‫وحديث ًا قيل لأحد �أ�ساتذة الريا�ضيات يف‬ ‫�إح��دى اجلامعات الأمريكية عندما �س�أل‬ ‫عن �أحد تالمذته الذي ي�شرف علي درا�سته‬ ‫لنيل درجة الدكتوراه يف الريا�ضيات‪� :‬إنه‬ ‫قرر �أن ي�صبح �شاعر ًا‪ .‬ف�أجاب‪ :‬خري ًا فعل‪،‬‬ ‫وهذا ما توقعته م�سبق ًا‪ ،‬حيث �إنه ال ميلك‬ ‫عاطفة قوية حتى ي�صبح عامل ريا�ضيات‪.‬‬

‫الريا�ضيات يف ال�شعر‬

‫للريا�ضيات ح�ضور يف ك��ل مكان تقريب ًا‬ ‫�سواء عند بناء منزل �أو زرع �شجرة‪ .‬وقد‬

‫بعض العلماء العرب‬ ‫أ ّ ْو َدعوا معارفهم شعر ًا‬ ‫كابن سينا في الطب‬ ‫وابن ماجد في الفلك‬ ‫والمالحة والطغرائي‬ ‫في الكيمياء‬

‫ي�ستغرب البع�ض‪ ،‬ف�إن للريا�ضيات ح�ضور ًا‬ ‫�أي �� �ض � ًا يف ال�شعر ال �ع��رب��ي‪ .‬ف�ب�ين العلوم‬ ‫والآداب و�شائج قربى كالتي بني النا�س‬ ‫من ن�سب وم�صاهرة تقريب ًا‪ .‬والريا�ضيات‬ ‫�أو الريا�ضة �أو العلم الريا�ضي تُعرف يف‬ ‫ال�ت�راث العربي ب��أن�ه��ا‪« :‬علم ب ��أح��وال ما‬ ‫يفتقر يف الوجود اخلارجي من دون التعقل‬ ‫�إىل امل ��ادة كالرتبيع والتثليث وال�ت��دوي��ر‬ ‫والكروية واملخروطية والعدد وخوا�صه»‪.‬‬ ‫وت�سمى �أي�ض ًا‪« :‬بالعلم التعليمي وبالعلم‬ ‫الأو� �س��ط وباحلكمة الو�سطى»‪ .‬وق��د ورد‬ ‫يف ر�سائل �إخ��وان ال�صفا‪�« :‬أن علم العدد‬ ‫ج ��ذر ال �ع �ل��وم وع�ن���ص��ر احل �ك �م��ة وم �ب��د�أ‬ ‫امل �ع��ارف و�أ�سطق�س امل �ع��اين»‪ .‬و�إىل علم‬ ‫العدد ين�ضاف علم الهند�سة وعلم النجوم‬ ‫واملو�سيقى والن�سب العددية وغريها‪ .‬لقد‬ ‫خ ّلفت الريا�ضيات منذ القدم علوم ًا ذكور ًا‬ ‫و�إناث ًا كثرية‪� .‬إنها بالتعبري العربي القدمي‪-‬‬ ‫ٌ‬ ‫�ضانئ ناتق‪� .‬أي‪ :‬كثرية الأوالد‪.‬‬ ‫�أم‬


‫في حضرة الشعر‬ ‫‪86‬‬ ‫الـعــــدد‬ ‫‪158‬‬ ‫ديسمبر‬

‫‪2012‬‬

‫ول �ل �ع��رب ب ��اع ط��وي��ل يف ��ص�ن��اع��ة الأل �غ��از بال�ضرورة �أن يكون من واقع احلياة العملية م�سائل �شعرية ح�سابية بحتة‬

‫والأح ��اج ��ي وامل �� �س��ائ��ل‪� ،‬صناعة �شعرية‪،‬‬ ‫�شملت كثري ًا من معارفهم كاللغة والفقه‬ ‫والنحو واحل�ساب‪ .‬يت�ضح ذلك من خالل‬ ‫م�ؤلفاتهم يف هذا امل�ضمار‪ ،‬وك��ان ازده��ار‬ ‫ه��ذا ال�صنف م��ن املعرفة‪ ،‬يعود لأ�سباب‬ ‫خمتلفة‪ ،‬منها �أ�سباب ذاتية ترجع للأدباء‬ ‫وال�شعراء والعلماء‪ ،‬ل�شدة ميلهم وولعهم‬ ‫يف ال�ب�لاغ��ة والف�صاحة والتناف�س فيما‬ ‫بينهم‪ .‬و�أخ��رى تعود للوظيفة الرتبوية‬ ‫والتعليمية والرتفيهية للألغاز وامل�سائل‪.‬‬ ‫و�إذا كانت ه��ذه امل�سائل منظومة نظم ًا‬ ‫�شعري ًا ف ��إن ذل��ك بالت�أكيد �سيزيد من‬ ‫فاعليتها ومتعتها وت�أثرياتها لتكون �أ�سرع‬ ‫و�أ�سهل للحفظ و�أبقى يف الذهن‪.‬واللغز‬ ‫�أو امل�س�ألة كالم نظري �أخفي املراد منه‬ ‫على ال�سامع و�أ�ضمر معناه‪ .‬فهو بحاجة‬ ‫جلهد عقلي للو�صول �إىل مبتغاه والق�صد‬ ‫منه اختبار ق��درة هذا ال�سامع على حل‬ ‫هذا الإ�شكال ذهني ًا‪.‬‬ ‫�إن هذا ال�صنف من الألغاز وامل�سائل ميثل‬ ‫حتدي ًا فكري ًا وميكن �أن يكون مبعث اهتمام‬ ‫و�إث���ارة لبع�ض الأ��ش�خ��ا���ص غ�ير �أن��ه لي�س‬

‫لكنه بالت�أكيد يتطلب �إملام ًا باملبادئ الأولية‬ ‫للريا�ضيات وذاكرة ومهارات قوية‪ ،‬يطلق‬ ‫عليها �أحيان ًا «ريا�ضيات الت�سلية» ولكنها‬ ‫ت�سلية فكرية‪ .‬فالريا�ضيات فن تعبريي ال‬ ‫يختلف عبقرية عن بقية الفنون التعبريية‬ ‫كاللغة �أو الت�صوير �أو املو�سيقي‪ ،‬ودي��وان‬ ‫ال�شعر العربي حوى بني �أبوابه و�أغرا�ضه‬ ‫التي نظم ال�شعراء فيها ق�صائدهم باب ًا‬ ‫لعلم احل�ساب والأرق��ام التي قد ال حتمل‬ ‫�أي معني جمايل يلهم �أو يوحي‪ ،‬والغريب‬ ‫�أن �شعراء كبار ًا تلمع �أ�سما�ؤهم يف ديوان‬ ‫ال�شعر العربي طرقوا هذا الباب‪ ،‬وتركوا‬ ‫لنا �أ�شعار ًا حتتاج بالفعل �إىل �إحكام العقل‬ ‫وكد الذهن بعيد ًا عن جماالت ور�ؤى الإلهام‬ ‫واخليال التي يحفل بها ال�شعر العربي‪.‬‬

‫للرياضيات حضور‬ ‫في الشعر العربي‬ ‫فبين العلوم واآلداب‬ ‫وشائج قربى كالتي‬ ‫بين الناس من نسب‬ ‫ومصاهرة تقريب ًا‬

‫تك�شف لنا هذه امل�سائل بو�ضوح عن مدى‬ ‫متكن قائليها م��ن اجل�م��ع ب�ين العمليات‬ ‫احل�سابية وع��ذوب��ة ال�شعر‪ .‬و�أول من قال‬ ‫�شعر ًا ُ�ض ّمنَ م�س�ألة ح�سابية معقدة كانت‬ ‫– زرق��اء اليمامة‪ -‬ومن البديهي القول‬ ‫�إنها مل تكن تود �أن ت�ضع مع�ضلة ريا�ضيه‬ ‫يف قالب �شعري‪� .‬إمنا كل ما يف الأمر �أنها‬ ‫كانت حادة الب�صر وقد نظرت يوم ًا فر�أت‬ ‫حمام ًا وارد ًا ماء فقالت ببديهة حا�ضرة‪:‬‬

‫ل� � � � � �ي � � � � ��ت احل � � � � � � � �م� � � � � � � ��ام ل� � �ي � ��ه‬ ‫ون � � � � � � � �� � � � � � � � �ص � � � � � � � �ف� � � � � � � ��ه ق � � � � � ��دي � � � � � ��ة‬ ‫�إل� � � � � � � � � �ـ � � � � � � � � ��ى ح � � � �م� � � ��ام � � � �ت � � � �ي� � � ��ه‬ ‫� � � � � � � �ص� � � � � � ��ار احل� � � � � � � � �م � � � � � � � ��ام م � � �ي� � ��ة‬ ‫واملعني – �إذا �أ�ضيف �إىل �سرب احلمام‬ ‫ن�صفه وح �م��ام��ة واح� ��دة ل �ك��ان حا�صل‬ ‫اجلمع مائة‪ -‬وكان – �إذ ذاك – �صياد‬ ‫واق�ف� ًا فا�صطاد احلمام جميعه فوجده‬ ‫ك�م��ا ذك ��رت «‪66‬حمامة» ف ��أع �ج��ب بها‬ ‫ال�ع��رب لأن ا�ستخراج ال�ع��دد م��ن هذين‬ ‫البيتني يحتاج �إيل عمليه ح�سابيه قد‬ ‫يعجز عنها الكثريون‪.‬‬


‫أول من قال شعر ًا‬ ‫ن مسألة حسابية‬ ‫تضم َ‬ ‫ّ‬ ‫وح��ل م���س��أل��ة زرق ��اء ال�ي�م��ام��ة بالرمزية معقدة الشاعرة زرقاء‬ ‫ح � �ب � �ي � �ب� ��ي ق � � � ��د غ� � � � � ��زا ق� �ل� �ب ��ي‬ ‫الريا�ضية علي النحو التايل‪:‬‬ ‫ب � � � � � � � � � ��أحل� � � � � � � � � ��اظ و�أح � � � � � � � � � � � � � � � � ��داق‬ ‫اليمامة وعلق عليها‬ ‫�س ‪� +‬س‪100 =+1 2/‬‬ ‫النابغة الذبياني بأبيات ل � � � ��ه ال � � �ث � � �ل � � �ث� � ��ان م � � � ��ن ق� �ل� �ب ��ي‬ ‫‪�2‬س‪�+‬س ‪200 =+2‬‬ ‫وث� � � � �ل� � � � �ث � � � ��ا ث� � � �ل� � � �ث � � ��ه ال� � � �ب � � ��اق � � ��ي‬ ‫إلعجابه بها‬ ‫‪�3‬س=‪198‬‬ ‫وث � � �ل � � �ث� � ��ا ث � � �ل� � ��ث م � � � ��ا ي� �ب� �ق ��ى‬ ‫�س= ‪66‬‬ ‫وب� � � � ��اق� � � � ��ي ال � � �ث � � �ل� � ��ث ل � �ل � �� � �س� ��اق� ��ي‬ ‫ف�ح���س�ب��وه ف ��أل �ف��وه ك �م��ا ذك��رت‬ ‫ت�سعا وت�سعني مل تنق�ص ومل تزد وت � � � �ب � � � �ق� � � ��ي �أ�� � � � �س� � � � �ه � � � ��م � � �س� ��ت‬ ‫ول�ق��د �أع�ج��ب النابغة ال��ذب�ي��اين ب��امل��درك‬ ‫ت � � � �ق � � � �� � � � �س� � � ��م ب � � � �ي� � � ��ن ع � � � �� � � � �ش � � ��اق‬ ‫اال�ستقرائي ���س‪� +‬س‪ 100=+1 2/‬فع ّلق ف�ك�م�ل��ت م��ائ��ه ف�ي�ه��ا ح�م��ام�ت�ه��ا‬ ‫و�أ��س��رع��ت ح�سبة يف ذل��ك ال�ع��دد!‪.‬‬ ‫علي �أبيات زرقاء اليمامة‪ -‬ويظهر �أنه كان‬ ‫وتف�سري ذلك �أن الأ�صل واحد وثمانون والثلثان‬ ‫يعرف عدد الطيور‪ -‬فقال خماطب ًا امللك‬ ‫– النعمان بن املنذر – ملك احلرية‪:‬‬

‫واحكم كحكم فتاة احلي �إذ نظرت‬ ‫�إيل ح� �م ��ام � � �س� ��راع وارد ال �ث �م��د‬ ‫قالت‪� :‬أال ليتما هذا احلمام لنا‬ ‫�إىل ح �م��ام �ت �ن��ا م ��ع ن �� �ص �ف��ه ف�ق��د‬

‫�أحجية �أبونوا�س‬

‫وبعد النابغة الذبياين جاء �أبو نوا�س مب�س�ألة‬ ‫�شعرية عوي�صة �شغلت العلماء لفرتة طويلة‪،‬‬ ‫مم��ا جعلها يف ع ��داد الأح��اج��ي والأل �غ��از‬ ‫والأبيات هي‪:‬‬

‫منها �أربعة وخم�سون وثلثا ثلثه‪ :‬ثمانية ع�شرة‬ ‫وثلث ثلث ما يبقي جزءان‪ ،‬وثلث الثلث جزء‬ ‫فذلك خم�سة و�سبعون ويبقى �ستة �أجزاء وهي‬ ‫التي جتز�أ بني ع�شاق‪ .‬وحل امل�س�ألة ال�شعرية‬ ‫بالرمزية الع�صرية‪:‬‬ ‫‪ 54=2×27=2/3×81‬وه��و ال�ث�ل�ث��ان من‬ ‫قلبي‬ ‫‪ 18=1/3×2/3×81‬ثلثا ثلثه‬ ‫‪ 72=54+18‬لها‬ ‫‪ 9=81-72‬الباقي‬ ‫=‪2=18/9‬‬ ‫‪2/3×9/3=1/3×2/3×9‬‬ ‫وهو ثلثا ثلث الباقي‬ ‫‪1= 9/9=3×9/3 =1/3×1/3×9‬وهو‬ ‫ثلث ثلث الباقي‬ ‫‪ 3=2+1‬لل�ساقي‬ ‫‪72‬لها ‪+3‬لل�ساقي= ‪75‬‬ ‫الأ�صل ‪ 6=81-75‬جتز�أ بني ع�شاق‪.‬‬ ‫وجاء على هام�ش �أحد املخطوطات امل�س�ألة‬ ‫املنظومة الآتية وجوابها وهي مذيلة با�سم‬ ‫بدر الدين الزرك�شي‪:‬‬

‫َع� ��جِ � �ب� ��تُ مل � � ��الٍ ُث � � ُل � �ث� ��ان ُث� �ل� � ِث� � ِه‬ ‫و َث �ل �ث��ا ث �ل��ثِ ال �ث �ل��ثِ ث �ل��ث ودره ��م‬ ‫�أيا مع�شر ا ُ‬ ‫حل�ساب هذي ف�ضيلة‬ ‫فكم ك��ان ه��ذا امل��ال قبل الق�سامة‬ ‫واجلواب‪:‬‬ ‫قل املال قبل ال َق ْ�سم دا ًال وقد �أتي‬ ‫ج� ��واب� ��ك يف رم � ��ز ف �ك ��ن م�ت�ف�ه�م��ا‬ ‫و�ضابطه َب ْ�س ُط َغدا منه مقامه‬ ‫ك �ن �� �س �ب��ة ل� � ��ذي اجل � �ه� ��ل وال� �ع� �م ��ا‬


‫في حضرة الشعر‬ ‫‪88‬‬ ‫الـعــــدد‬ ‫‪158‬‬ ‫ديسمبر‬

‫‪ 63/64‬جملة البيوت‪� ،‬أي �أن ما تبقي ملقدم‬ ‫الهدية ميثل ‪ 1/64‬فح�سب ما عنده وهذا‬ ‫ي�ساوي ‪ 21‬بيت ًا‪ .‬وبالتايل ف�إن الدار تتكون‬ ‫من ‪ 1344 = 21 ×64‬بيت ًا‪.‬‬ ‫ه��ذا وميكن التحقق من ذل��ك بتطبيق ما‬ ‫جاء بن�ص النظم‪ .‬حيث‬ ‫‪ 1/3+1/4+1/6+1/8‬ال�ب�ي��وت ‪× 7/8‬‬ ‫‪ 1178 =1344‬بيت ًا‬ ‫ي�ضاف �إىل ذلك ن�صف ربع هذا العدد‪� .‬أي‬ ‫‪ 147‬بيت ًا‪ ،‬ف�إن نحن احت�سبنا ما تبقي وهو‬ ‫ع�شرون بيت ًا حلاجة ال��واه��ب وبيت واحد‬ ‫لل�ضيوف‪� .‬صار �أ�صل عدد البيوت‪:‬‬ ‫‪ 1344 =147+21 1176+‬بيت ًا‪.‬‬

‫‪2012‬‬

‫تاريخ يف لغز �شعري‬

‫جمموع هذا املال تن�صيف ت�سعة‬ ‫وه ��ذا ج ��واب ال���ش�ي��خ واهلل �أع�ل�م��ا‬

‫واحلل بالرمزية الع�صرية‪:‬‬

‫و�ألغز ‪�-‬أبوعبداهلل القوري القا�ضي‪ -‬لغزً ا‬ ‫يبني فيه ت��اري��خ االن�ت�ه��اء م��ن �أرج���وزة له‬ ‫قائ ًال‪:‬‬

‫فقلت له والثمن خذه فلم ُيجب‬ ‫ف���ض�ف��ت �إل �ي��ه ن���ص��ف رب ��ع ه��دي�ت��ي‬ ‫ّ‬ ‫مت وق ��د � �س �ن��ح يف ف �ك��ري وع��ن‬ ‫و�أبقيت يل ع�شرين بيتاً حلاجتي‬ ‫�أن �أل �غ��ز ال �ت��اري��خ � �س�ب ً�را للفطن‬ ‫وب� �ي� �ت� �اً لأ�� �ض� �ي ��ايف و�أه � � ��ل م��ودت��ي‬ ‫�سطر �إذا ع��ن الأ� �س��و���س ج��ردا‬ ‫فقل يل كم يف الدار بيت وق�سم‬ ‫ف �م �ن �ت �ه ��اه ك� �ع ��ب ن� ��� �ص ��ف م �ب �ت��دا‬ ‫البيوت على ت�أ�صيل �أ�صل ق�ضيتي‬ ‫وال�ف���ض��ل ب�ين ح���ش��وة واملنتهى‬ ‫واحلل بالرمزية الع�صرية‪:‬‬ ‫ن� ��� �ص ��ف جل � � ��ذر �� � �ص � ��دره ب � ��ه زه ��ا‬ ‫الهدية املقرتحة «‪ »1/6 1/3+1/4+‬عدد وامل �ن �ت �ه��ى م ��ع ف���ض�ل��ه ذو ج��ذر‬ ‫البيوت زد عليها ‪ 1/8‬العدد ح�سب ال�شطر‬ ‫وج� � � ��ذره ب�ي��ن احل� ��� �ش ��ا وال� ��� �ص ��د ِر‬ ‫الأول من البيت الثاين‪ .‬ويذلك تكون جملة‬ ‫البيوت املقرتحة « ‪ »1/3+1/4+1/6+1/8‬و�أن ت ��ؤ� �س �� �س��ه ي ��واف ��ق ع ��ددا‬ ‫ن �ف �� �س��ي م ��ع ق ��وم ��ي لأح� �م ��د ف��دا‬ ‫�أى ‪ 7/8‬مما ميلك ف ��إذا �أ�ضيف �إىل هذه‬

‫َيبني من ال�شطر الأول للبيت الأول �أن احلد‬ ‫الأول م��ن املعادلة ال ��واردة يحوي الك�سر‬ ‫‪ 1/3× 2/3‬املال الأ�صلي «قبل انق�سامه»‬ ‫فلنفر�ضه ت�سعة حتى يكون الناجت ع��دد ًا‬ ‫��ص�ح�ي�ح� ًا‪ .‬وب��ذل��ك ف ��إن��ه ح���س��ب منطوق‬ ‫امل�س�ألة‪:‬‬ ‫ثلثا ثلث امل��ال = ‪ « 9× 1/3×2/3‬املال‬ ‫املفرو�ض» = ‪2‬‬ ‫ثلثا ثلث ثلث امل��ال = ‪1/3× 1/3×2/3‬‬ ‫×‪ « 9‬املال املفرو�ض» = ‪2/3‬‬ ‫ال �ه��دي��ة ن���ص��ف رب�ع�ه��ا – ط�ب�ق� ًا مل��ا ج��اء‬ ‫فيكون املجموع‪ ،2 2/3 :‬وملا كان املجموع‬ ‫بال�شطر الثاين من البيت الثاين – ت�صبح‬ ‫ح�سب منطوق امل���س��أل��ة ه��و ‪ 1 1/3‬فقط‬ ‫ال�ه��دي��ة ‪ 9/8×7/8‬جم�م��وع ال�ب�ي��وت �أي‬ ‫ف��إن امل��ال ال بد و�أن ي�ساوي ‪ 9/2‬كما جاء‬ ‫باجلواب املنظوم‪.‬‬

‫حوى ديوان الشعر‬ ‫العربي بين أبوابه‬ ‫لغز الهدية ال�شعري‬ ‫وع �ل��ي ه��ام ����ش م�ت�ن ك �ت��اب اب���ن ال �ه��ائ��م وأغراضه التي‬ ‫امل���ص��ري‪ « :‬مر�شدة الطالب �إىل ا�سمي نظم الشعراء فيها‬ ‫املطالب» جاءت امل�س�ألة الآتية‪:‬‬ ‫قصائدهم باب ًا لعلم‬ ‫دف �ع��ت �إل �ي��ه ُث �ل� َ�ث داري ه��دي��ة‬ ‫الحساب واألرقام التي‬ ‫ورب �ع �اً و��س��د��س�اً فا�ستقل عطيتي‬ ‫قد ال تحمل أي معنى‬ ‫جمالي يلهم أو يوحي‬

‫الأ�سو�س‪ :‬وتعني القيم املكانية للأرقام‪،‬‬ ‫كعب‪ :‬مكعب‪.‬‬ ‫وح��ل ه��ذا اللغز و�ضعه بطريقتني‪ :‬الأوىل‬ ‫بالطريقة احل�سابية ال �ع��ادي��ة‪ ،‬والثانية‬ ‫بطريقة ح�ساب اجلمل‪ .‬ف ��إذا جردنا هذا‬ ‫ال�ع��دد م��ن قيمته املكانية و�أخ��ذن��ا �أرق��ام��ه‬ ‫ك��أن�ه��ا �آح���اد ف�ي�ك��ون ال���ص��در «الأول» هو‬ ‫�أربعة‪ ،‬واحل�شو «الو�سط» هو �سبعة‪ ،‬واملنتهى‬ ‫«الأخري» هو ثمانية‪ ،‬لذا نح�صل على ثالث‬ ‫ع�لاق��ات الأوىل �أن الثمانية ه��ي مكعب‬ ‫ن�صف الأربعة‪ ،‬والف�ضل «الفرق» بني ال�سبعة‬


‫للعرب باع طويل‬ ‫في صناعة األلغاز‬ ‫واألحاجي والمسائل‬ ‫صناعة شعرية شملت‬ ‫كثير ًا من معارفهم‬ ‫كاللغة والفقه والنحو‬ ‫والحساب‬

‫والثمانية هو ن�صف جذر الأربعة‪ .‬ثم حا�صل‬ ‫جمع الثمانية والفرق ال�سابق الذي هو واحد‬ ‫ي�ساوي عدد ًا هو ت�سعة له جذر م�ضبوط هو‬ ‫الفرق بني ال�سبعة والأرب�ع��ة �أي ثالثة‪� .‬أما‬ ‫�إذا �أرجعنا الأرق��ام �إىل قيمتها املكانية �أي‬ ‫�أربعة و�سبعني وثمان مئة‪ ،‬ف�إن هذا العدد هو‬ ‫حا�صل جمع القيم العددية بحروف العبارة‬ ‫«نف�سي مع قومي لأحمد فدا» حيث �إن النون وث �ل � ًث��ا و ُث �م � ًن��ا ك��ام �ل�ين ك�لاه�م��ا‬ ‫تعادل خم�سني‪ ،‬والفاء ثمانني‪ ،‬وال�سني ثالث‬ ‫و� �س �ب �ع��ة �أق �� �س ��ام � �ص �ف��ت ل �ل �ت �� �ص �دّقِ‬ ‫مئة‪ ،‬والياء ع�شرة‪ ،‬وامليم �أرب�ع�ين‪ ،‬والعني‬ ‫�سبعني‪ ،‬والقاف مئة‪ ،‬وال��واو �ستة‪ ،‬وال�لام فقل يل كم املوهوب واحلا�صل الذي‬ ‫�صفا ب�ع��ده حت��ت احل���س��اب امل��دق��ق؟‬ ‫ثالثني‪ ،‬والألف واحد‪ ،‬واحلاء ثمانية‪ ،‬والدال‬ ‫�أربعة‪ ،‬وعلى هذا يكون تاريخ الفراغ من هذا‬ ‫فيكون �أ��ص��ل امل��ال ه��و خم�س مئة و�أرب �ع��ة‪،‬‬ ‫النظم �سنة �أربع و�سبعني وثمان مئة‪.‬‬ ‫وجملة املوهوب �أربع مئة و�سبع وت�سعون‪.‬‬

‫وي��درك يف ت�سع وخم�س �شبابه‬ ‫وي� � �ه � ��رم يف �� �س� �ب ��ع م � � ًع� ��ا وث� �م ��ان‬ ‫«وي��درك يف ت�سع وخم�س �شبابه»‪ :‬يريد �أن‬ ‫يتناهى مت��ام��ه �إىل �أرب ��ع ع�شرة ليلة من‬ ‫ال�شهر‪ ،‬ثم يتناق�ص من وقت متامه �إىل �آخر‬ ‫ال�شهر‪.‬و لغز �أحدهم يف ا�سم «�أحمد» قائ ًال‪:‬‬

‫�أول � � � � � � � � � � ��ه ث� � � � ��ال� � � � ��ث ت� � �ف � ��اح � ��ة‬ ‫و�آخ � � � � � � � � � � ��ر ال� � � � �ت� � � � �ف � � � ��اح ث � ��ان� � �ي � ��ه‬ ‫وراب � � � � � ��ع اخل� � �م � ��ر ل� � ��ه ث ��ال ��ث‬ ‫و�آخ� � � � � � � � � ��ر ال� � � � � � � � � ��ورد ل� � �ب � ��اق� � �ي � ��ه‪.‬‬ ‫ولغز �أحدهم يف العقرب‪:‬‬

‫وم��ا ح�ي��وان حت��ذر النا�س �شره‬ ‫على �أنه واهي القوى واهن البط�ش‬ ‫م�س�ألة ابن البنّاء‬ ‫ووردت ه��ذه امل���س��أل��ة ع�ل��ى ل �� �س��ان‪ -‬اب��ن م�سائل ح�سابية لغوية‬ ‫�إذا �ض ّعفوا ن�صف ا�سمه كان طائراً‬ ‫هذا النوع من امل�سائل ال�شعرية هو مزيج من‬ ‫و�إن �ضعفوا باقيه كان من الوح�ش؟‬ ‫البناء‪ -‬يف �أحد كتبه‪:‬‬ ‫احل�ساب واللغة‪ .‬و�إجابتها تتطلب ا�ستخدام ًا‬ ‫ي��ا م�ع���ش��ر ا ُ‬ ‫حل �� �س��اب ه��ل فيكم‬ ‫م� ��ن ع � �ن ��ده ع� �ل ��م ب � �ه ��ذا ال � �� � �س � �� ْؤال لعمليات ح�سابية ذهنية ب�سيطة‪ ،‬غ�ير �أن وحله منظوم ًا �أي�ضا‪ً:‬‬ ‫النتيجة لي�ست عددية‪ ،‬و�إمنا كلمات لغوية‪ ،‬كما ��ض�ع�ف��ت ن���ص�ف��ه ف �ج��اء ع�ق�ع� ًق��ا‬ ‫�إن قيل يف الع�شرين من خم�سة‬ ‫الدني�سري‬ ‫الدين‬ ‫عماد‬ ‫ذكر‬ ‫التالية‪:‬‬ ‫أمثلة‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫يف‬ ‫ون� ��� �ص� �ف ��ه ال � �ث� ��اين ت � �ب� ��دى رب� ��رب‬ ‫ب � ��أن � �ه� ��ا ن� ��� �ص ��ف ب � �ف� ��ر�� ��ض امل � �ح� ��ال �شعر ًا يت�ضمن لغز ًا يف ا�سم «عثمان» قائ ًال‪:‬‬ ‫� �س �م �ي��ه ي �ل �م��ع يف �أوج ال �� �س �م��ا‬ ‫ف �ت �� �س �ع��ة م ��ن � �س �ت��ة م ��ا ا��س�م�ه��ا‬ ‫�س�ألت جميع النا�س ظ ًنا ب�أنني‬ ‫وف ��وق ��س�ط��ح الأر�� ��ض ه ��ذا ع�ق��رب‬ ‫ب � ��ذاك ال �ف��ر���ض ال � ��ذي يف امل� �ث ��ال؟‬ ‫�أرى فيهم من يعرف احلق وال�صدقا‬ ‫عن ا�سم م�سماه تناهى جماله‬ ‫و«ال �ع �ق �ع��ق» ج �ن ����س ط�ي�ر م ��ن الف�صيلة‬ ‫وجواب ذلك كما و�ضعه �شعر ًا‪:‬‬ ‫ي�شقى‬ ‫أعرا�ضه‬ ‫�‬ ‫و‬ ‫قلبي‬ ‫هجره‬ ‫ومن‬ ‫الغرابية ورتبة اجلواثم‪ ،‬وهي �صخّ ابة‪ ،‬لها‬ ‫�أم��ا ا�سمها فالثمن م��ع ن�صفه‬ ‫�رف‬ ‫�‬ ‫ح‬ ‫�‬ ‫أ‬ ‫خم�سة‬ ‫�شك‬ ‫ال‬ ‫�ه‬ ‫�‬ ‫ف‬ ‫�ر‬ ‫�‬ ‫ح‬ ‫�‬ ‫أ‬ ‫و‬ ‫�أذن��اب طوال ومناقري قوية‪ ،‬تع�شع�ش على‬ ‫ه� � ��ذا وح� �ق� �ك ��م ج� � � ��واب ال � �� � �س � ��ؤال‬

‫وك��ل �صحيح ال��ذه��ن ي�ع��رف��ه حقا‬ ‫وبيان ذلك �أنه �إذا فر�ضنا هذه امل�س�ألة املحالية �إذا زال عنه اخلم�س واخلم�س واحد‬ ‫تبقى ثمان وهي �أعجب ما يبقى!‪.‬‬ ‫�أن الع�شرين من خم�سة ن�صف‪ ،‬مع �أنها �أربعة‬

‫�أمثالها فقد �أ�صبح �أربعة �أمثال ال�شيء ن�صفه‪،‬‬ ‫ف�إذا كانت �أربعة �أمثال ال�شيء ن�صفه لزم من ونف�س اللغز يف كتاب «تاج العرو�س» ب�صيغة‬ ‫ذلك �أن املثل من مثله ثمن‪ .‬ومعلوم �أن الت�سعة �أخرى هي‪:‬‬ ‫من ال�سنة مث ٌل ون�صف فهي �إذن بهذه الن�سبة �أي ا� �س��م ذي خ�م���س��ة ف� � ��إذا ما‬ ‫ح� ��ذف� ��ت واح � � ��د ف �ي �ب �ق��ى ث� �م ��ان؟‬ ‫املحالية ُثمن ون�صف الثمن‪.‬‬ ‫وج ��اء يف ك�ت��اب «ك�شف احل �ج��اب ع��ن علم‬ ‫وهذا اللغز عن «القمر»‪:‬‬ ‫احل�ساب» هذه امل�س�ألة عن تق�سيم هبة‪:‬‬

‫وما �شامة �سوداء يف حر وجهه‬ ‫وهبتُ �صبياً ن�صف ما قد ملك ُته‬ ‫جم �ل �ل��ة ال ت �ن �ج �ل��ي ل ��زم ��ان‬ ‫جميعاً وثلثي ثلث رب��ع ال��ذي بقي‬


‫في حضرة الشعر‬ ‫‪90‬‬ ‫الـعــــدد‬ ‫‪158‬‬ ‫ديسمبر‬

‫‪2012‬‬

‫ر�ؤو���س ال�شجر‪ ،‬وتتغذى باحلبوب والأثمار‬ ‫واحل�شرات وبي�ض الطيور و�صغار الطري‪ .‬وهي‬ ‫ذكية �شر�سة تُعد من �أ�ضر الطيور وتدافع عن‬ ‫فراخها دفاع امل�ستميت‪� .‬أما «الربرب» ‪ ،‬فهو‬ ‫القطيع من بقر الوح�ش �أو الظباء‪ ،‬وجمعه‬ ‫«ربارب»‪ .‬ويف«ن�سرين» لغ ّز �أحدهم‪:‬‬

‫ك� � �ف � ��اك مل ت� �خ� �ل� �ق ��ا ل� �ل� �ن ��دى‬ ‫ومل ي � � � ��ك ل � � ��ؤم � � �ه � � �م� � ��ا ب � ��دع � ��ة‬ ‫ف� �ك ��ف ع� ��ن اخل �ي��ر م �ق �ب��و� �ض��ة‬ ‫ك � �م� ��ا ح � � ��ط ع � � ��ن م � ��ائ � ��ة � �س �ب �ع��ة‬ ‫و�أخ � � � � � � � ��رى ت � �� � �س � �ع� ��ة �آالف � � �ه� � ��ا‬ ‫وث� �ل��اث � � �م � � �ي � � �ه� � ��ا ل � � �ه� � ��ا � � �ش� ��رع� ��ة‬

‫وهذا املعنى يوافق متاما �شكل ال�صفر –‬ ‫احللقة – « ‪ » 0‬يف الأرقام العربية التي‬ ‫ي�ستعملها الغرب واملغرب العربي حاليا‪.‬‬

‫�أهم املنظومات‬

‫وم � �� � �ش � �م� ��وم ل� � ��ه ع� � � ��رف ذك� � � ٌّ�ي‬ ‫ويف ت �� �ص �ح �ي �ف��ه ب �ع ����ض ال �� �ش �ه��ور واملعنى «حط عن مائة �سبعة »�أي ‪100-‬‬ ‫�إذا �أ� �س �ق �ط��ت ُخ �م �� �س �ي��ه جت��ده‬ ‫‪ - 1‬الأرجوزة اليا�سمينية‬ ‫‪ 93=7‬والداللة عن الرقم ‪ 93‬يكون‬ ‫�را يف ا ل �� �س �م��اء ويف ال �ط �ي��ور بقب�ض جميع �أ�صابع اليد اليمنى‪ « ،‬ت�سعة وه��ي �أرج ��وزة يف اجل�بر واملقابلة تقع يف‬ ‫ك� �ب�ي ً‬ ‫‪ 54‬بيت ًا وهي من نظم – �أب��ي حممد عبد‬ ‫و�أول� � � � � � � � � ��ه و�آخ� � � � � � � � � ��ره � � � �س� � ��واء‬ ‫�آالفها و ثالثميها » �أي ‪= 300 + 9000‬‬ ‫اهلل بن احلجاج – امللقب بابن اليا�سمني‬ ‫و�أو�� �س� �ط ��ه ي �� �ض �ي��ق ب ��ه � �ض �م�يري! ‪ 9300‬وللداللة عن الرقم ‪ 9300‬يكون‬ ‫بقب�ض جميع �أ�صابع اليد الي�سرى وقب�ض‬ ‫«الن�سرين» نبات له زهر �أبي�ض ع�صري‪ ،‬اليدين معا بهذه الطريقة كناية عن‬ ‫قوي الرائحة‬ ‫البخل ال�شديد‪.‬‬ ‫بع�ض ال�شهور‪« :‬ت�شرين»‪ ،‬ف ��إذا �صحفته‬ ‫وجدته «ن�سرين»‪.‬‬ ‫ال�شعر يثبت ال�صفر للعرب‬ ‫والت�صحيف �أن ي��ؤت��ى بلفظني يف �صورة واذا ك��ان الغرب مل يعرف ال�صفر قبل‬ ‫الأحرف ويختلفان يف النقط‪..‬‬ ‫القرن الثاين ع�شر امليالدي ف�إن ال�شاعر‬ ‫ال�ع��رب��ي ع��رف��ه قبل ذل��ك ب�ق��رون طويلة‬ ‫م�س�ألة اخلليل بن �أحمد‬ ‫حيث ا�ستخدم ال�صفر يف ال�شعر اجلاهلي‬ ‫وهذه امل�س�ألة ال�شعرية للخليل بن �أحمد – للتعبري عن معنى – خال‪ ،‬وذلك ما �سجله‬ ‫والتي �أتت يف �سياق �أبيات ذم فيها بخي ًال حامت الطائي يف ق�صيدته التي مطلعها‪:‬‬ ‫– يقول فيها‪:‬‬ ‫�أ�ساوي قد طال التجنب والهجر‬

‫وق ��د ع��ذرت �ن��ي يف ط�لاب�ك��م ال�ع��ذر‬

‫وبيته ال�شاهد هو‪:‬‬

‫ترى �إن ما �أهلكت مل يك �ضرين‬ ‫وان ي� ��دي مم ��ا ب �خ �ل��ت ب ��ه �ِ��ص � ْف � ُر‬

‫وهنا بيان ب�أهم املنظومات التي كتبت يف‬ ‫جمال الريا�ضيات �شعر ًا‪:‬‬

‫«املتوفى‪601 :‬هـ ‪1204 -‬م» وتبد�أ الأرجوزة‬ ‫بالبيت الآتي‪:‬‬

‫احل � �م � � ُد هلل ع� �ل ��ى م� ��ا �أل �ه �م��ا‬ ‫َ‬ ‫و َم� � � � ��نّ مِ � � � ��نْ ت �ع �ل �ي �م ��ه َوف� � � َّه� � � َم � ��ا‬

‫ولأهمية ه��ذه الأرج ��وزة ق��ام ب�شرحها عدد‬ ‫ك�ب�ير م��ن ال�ع�ل�م��اء ك��اب��ن ال�ه��ائ��م امل�صري‬ ‫املقد�س«‪815‬هـ» ول��ول��ع اب��ن ال�ه��ائ��م بهذه‬ ‫الأرج � ��وزة ق��دم ل�ه��ا ث�لاث��ة � �ش��روح �أخ ��رى‪،‬‬ ‫و�أب���و زراع���ة العراقي«‪826‬هـ»‪ ،‬وع �ل��ي بن‬ ‫حم �م��د ال �ق��ر� �ش��ي ال �� �ش �ه�ير ب��ال�ق�ل���ص��ادي‬ ‫الأندل�سي«‪891‬هـ»‪ ،‬وب��در الدين حممد بن‬ ‫�سبط املارديني«‪912‬هـ»‪.‬‬ ‫كما �أن هناك �شروح ًا �أخرى مل ُتع ّلم �أ�سماء‬ ‫وا�ضعيها‪ ،‬هذا ف� ً‬ ‫حوا�ش على‬ ‫ضال عن عدة‬ ‫ٍ‬ ‫الأرج ��وزة وعلى �شرحها‪.‬من ذل��ك ‪ -‬القول‬ ‫امل�ب��دع يف �شرح املقنع‪ -‬ل�سبط امل��اردي�ن��ي‪،‬‬ ‫و‪ -‬ف�ت��ح امل �ب��دع يف � �ش��رح امل �ق �ن��ع‪ -‬ل��زك��ري��ا‬ ‫الأن�صاري‪،‬و ‪� -‬شرح املقنع يف اجلرب واملقابلة‪-‬‬ ‫لقا�سم بن �صالح اخلاين احللبي«‪1109‬هـ»‪.‬‬

‫وك��ان العرب ير�سمون ال�صفر حلقة‬ ‫ي����ؤك���د ه���ذا ب��ي��ت��ان ق��ال��ه��م��ا الأ����س���ود‬ ‫ب��ن ب�لال �أمل��ح��ارب��ي مل��ا �أغ���زاه الوليد ‪� - 2‬أرجوزة يف احل�ساب وامل�ساحة‪:‬‬ ‫ب��ن ي��زي��د ال��ب��ح��ر‪ .‬وفيهما ي�شري �إىل م��ن نظم �شهاب ال��دي��ن �أح �م��د ب��ن حمي‬ ‫ا�ستخدام احللقة للداللة على عدم الدين يحيى ال�شافعي ال�شهري بال�ضمريي‪،‬‬ ‫ي�صفعا م�ؤلفها بقوله‪:‬‬ ‫وجوده‪:‬‬

‫ق ��ال اب ��ن ي�ح�ي��ي �أح �م��د �أرج� ��وزة‬ ‫لتعرت�ض ا�سمي لدى العر�ض حلقة‬ ‫ه � � �ي � � �ن� � ��ة يف ب � � ��اب� � � �ه � � ��ا ع � � ��زي � � ��زة‬ ‫وذل � � ��ك ان ك� � ��ان الإي� � � � ��اب ي �� �س�ير‬ ‫�أب � �ي ��ات � �ه ��ا عِ � � � ��د َّة �أي � � � ��ام ال �� �س �ن��ة‬ ‫وقد كان يف حول ال�ش َر ّبة مقعد‬ ‫وك � � ��ل ب� �ي ��ت ف� �ي ��ه �أ ْل� � � �ف� � � �اّ َح� �� � َ�س� �ن� � َة‬ ‫ل ��ذي ��ذ وع �ي ����ش ب ��احل ��دي ��ث غ��زي��ر‬


‫‪919‬هـ» « ‪1513 - 1456‬م»‬

‫‪� - 8‬أرجوزة نخبة التفاحة حاوية‬ ‫قواعد امل�ساحة‪:‬‬

‫نظم عبد اللطيف بن على الدم�شقي‪.‬‬

‫‪ - 9‬منظومة اللباب يف �أ�صول‬ ‫احل�ساب‪:‬‬

‫�أرجوزة من ت�أليف جمال الدين حممد بن‬ ‫عمر ال�شهري ببحرق احل�ضرمي‪ ،‬املتوفى‬ ‫�سنة «‪930‬هـ‪1523/‬م» و�أولها‪:‬‬

‫احل� �م ��د هلل ال � �ق� ��دمي الأب � � ��دي‬ ‫ح� �م ��داً ي �ح �ي � ُل ع ��ن ت �ن��اه��ي ال �ع��دد‬

‫ح� ��از ع �ل��ى وزنٍ م ��ن ال�ف���ص��اح��ة‬ ‫ب � �ع � �ل � ��م احل � � �� � � �س� � ��اب وامل� � ��� � �س � ��اح � ��ة‬

‫‪ - 3‬منظومة املُقنع يف علم اجلرب‬ ‫واملقابلة‪:‬‬

‫‪� - 10‬أجنحة الرغاب يف معرفة‬ ‫الفرائ�ض واحل�ساب‪ ،‬لأبي �سامل‬ ‫�إبراهيم بن �أبي القا�سم ال�سماليل‪:‬‬

‫«املتوفى‪ 750 :‬هـ ‪1346 -‬م» ومطلعها‪:‬‬ ‫ويف هذا الباب الكثري مما يعجز املقال‬ ‫احل � �م� ��د هلل ع � �ل ��ى �أن ي �� �س��را‬ ‫م��ن ُم �ه��ج ال�ت�ك���س�ير م��ا ق��د ع�سرا عن ذكرها هنا‪.‬‬ ‫ويف اخل�ت��ام ن��ورد بع�ض الأب �ي��ات يف بيان‬ ‫ف�ضل احل�ساب‪:‬‬ ‫‪ - 5‬منظومة البقاعي يف احل�ساب‬ ‫قال الفقيه �أبو احلجاج الطرطو�شي‪:‬‬ ‫وامل�ساحة‪:‬‬ ‫لربهان الدين �إبراهيم بن الرباط البقاعي �إن ع �ل��م احل �� �س��اب ع �ل��م رف �ي��ع‬ ‫ف �ي��ه ع � ��ون �إذ ت �� �ش�ت�ري �أو ت�ب�ي��ع‬ ‫ال�شافعي‪ ،‬املتوفى �سنة « ‪885‬هـ ‪1480‬م»‬ ‫و�أولها‪:‬‬ ‫مل ي �� �ض��ع ق ��ط دره � ��م ب�ح���س��اب‬

‫�أن�ش�أها �شهاب الدين �أبو العبا�س‪ ،‬املعروف‬ ‫ب��اب��ن الهائم امل�صري املقد�سي « ‪753-‬‬ ‫‪815‬هـ» « ‪1412 1352-‬م» وت�شتمل املنظومة‬ ‫على ‪ 59‬بيت ًا من بحر الطويل‪ ،‬وي�شري ابن‬ ‫الهائم �إىل الغر�ض م��ن الق�صيدة حيث احل� �م ��د هلل احل �� �س �ي��ب ال� �ف ��رد‬ ‫يقول‪:‬‬ ‫ح� � �م � ��داً ك� � �ث �ي �راً م� ��ال� ��ه م � ��ن َع� � � ّد‬

‫وب�ع��د َفعِلم احل�بر على ُمعظم‬ ‫مي �ي��ل �إل� �ي ��ه امل �ت �ق �ن��ون الأف��ا� �ض��ل ‪ - 6‬منظومة يف علم الفراي�ض‬ ‫و�إين حل � ��او ل� �ب ��ه يف ق �� �ص �ي��دة‬ ‫واجلرب واملقابلة وم�سايل نافعة‪:‬‬ ‫ب �ه��ا ي �ك �ت �ف��ي ذو ف �ط �ن��ة و ُي � �ط � ُ‬ ‫�اول �أرجوزة ت�ضم �ألف بيت �أن�ش�أها �إبراهيم بن‬

‫و�أل� � � � � � ��وف ب �ل ��ا ح � �� � �س� ��اب ت �� �ض �ي��ع‬

‫وقال بع�ضهم‪:‬‬

‫�إن احل�ساب م��ن العلوم جليل‬ ‫وع � �ل� ��ى دق � �ي � �ق ��ات ال � �ع � �ل ��وم دل� �ي� � ُل‬ ‫فاحر�ص على علم احل�ساب ف�إنه‬ ‫نا�صر النواوي‪.‬‬ ‫ب ��ري ��ا�� �ض ��ة امل �� �س �ت �� �ص �ع �ب�ين ك �ف �ي � ُل‬ ‫‪ - 4‬منظومة الأك�سري املُبتغي من‬ ‫احل�ساب لعلم لك فري�ضة‬ ‫لوال‬ ‫ُ‬ ‫�صنعة التك�سري‪:‬‬ ‫‪ - 7‬منظومة منية احل�ساب‪:‬‬ ‫مي وال �ت �ح �ل �ي �لُ‬ ‫مل ُي� �ع� �ل � ِ�م ال� �ت� �ح ��ر ُ‬ ‫هي �أرج��وزة يف م�ساحات الأ�شكال وت�شمل وهى ُمزدوجة يف احل�ساب‪ ،‬من نظم حممد‬ ‫‪ 203‬بيت ًا وهي من نظم ابن ليون التجيبي ب��ن غ��ازي العثماين املكنا�سي‪- 858 « ،‬‬


‫قال الراوي‬ ‫‪92‬‬ ‫الـعــــدد‬ ‫‪158‬‬ ‫ديسمبر‬

‫‪2012‬‬


‫حكاية �شعبية من �أوزبك�ستان‬

‫القدح السحري‬ ‫تقدمي وترجمة ‪ -‬عبد الرحمن اخلمي�سي‬ ‫متثل احلكايات ال�شعبية الأوزبكية نتاج ًا فني ًا رائع ًا للإبداع ال�شعبي‪ .‬فقد ت�شكلت تلك احلكايات‬ ‫عرب قرون طويلة من الزمن‪ ،‬ون�سجت ق�ص�صها املتنوعة على �أل�سنة الرواة واحلكاة الذين نقلوها‬ ‫من جيل �إىل �آخر‪ .‬وتعك�س احلكايات ال�شعبية يف جوهرها الواقع املادي الذي تعي�شه ال�شعوب‪.‬‬ ‫وهي مر�آة �صادقة لعادات تلك ال�شعوب ومعتقداتها الروحية والدينية‪.‬‬

‫ول��ه��ذا ف����إن احل��ك��اي��ات ال�شعبية ك��ث�ير ًا‬ ‫ما ت�صبح خري معني لدرا�سة الظواهر‬ ‫ال��ت��اري��خ��ي��ة االج��ت��م��اع��ي��ة واحل�����ض��ارات‬ ‫ال��ق��دمي��ة‪ .‬ون��ح��ن ه��ن��ا ن��ع��ر���ض ل��ن��م��اذج‬ ‫خم�����ت�����ارة م�����ن ت���ل���ك احل����ك����اي����ات يف‬ ‫�أوزبك�ستان‪ ،‬البلد الذي خرج منه الإمام‬ ‫البخاري وابن �سينا والبريوين وع�شرات‬ ‫غريهم من علماء احل�ضارة الإ�سالمية‬ ‫ومبدعيها‪.‬‬

‫القدح ال�سحري‬

‫يف �أح��د الأزم��ن��ة البعيدة عا�ش ملك له‬ ‫�أرب��ع��ون زوج���ة‪ .‬وعلى ال��رغ��م م��ن العدد‬ ‫الكثري لزوجاته �إال �أنه مل يرزق بولد وال‬ ‫ببنت‪.‬‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫كان امللك دائما عكر املزاج مهموما‪ .‬حتى‬ ‫�إن��ه ك��ان يجل�س على عر�شه بالكاد وبال‬

‫رغبة يف احلكم �أو �إدارة ال��ب�لاد‪ .‬وكان‬ ‫يردد دائم ًا‪:‬‬ ‫ـ ال حاجة بي �إىل �شيء يف هذا العامل‪.‬‬ ‫وذات مرة �س�أله �أكرب الوزراء قائ ًال‪:‬‬ ‫ـ م��والي امللك‪ ،‬ملا ال تريد اجللو�س على‬ ‫عر�شك؟‪.‬‬ ‫لدي‬ ‫رد امللك وق��ال‪� :‬آه يا وزي��ري‪ ،‬لي�س ّ‬ ‫ول��د وال بنت‪ .‬فمن يخلفني على عر�شي‬ ‫بعد موتي؟ ومن يدير �ش�ؤون البالد بعد‬

‫عندما حل اليوم‬ ‫الموعود للوالدة‬ ‫وضعت الزوجة الصغيرة‬ ‫توأم ًا‪ :‬ولد ًا وبنت ًا‪ ،‬وحملت‬ ‫القابلة في الخفاء‬ ‫الوليدين ووضعت بد ً‬ ‫ال‬ ‫منهما جروين‬

‫رحيلي عن الدنيا؟ لهذا ال�سبب مل تعد‬ ‫لدي رغبة يف اجللو�س على العر�ش‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫قال الوزير‪ :‬ما قولك يا موالي املعظم لو‬ ‫�أن��ك تزوجت م��رة �أخ��رى؟ فرمبا تنجب‬ ‫لك الزوجة اجلديدة ولد ًا‪ .‬و�إذا عاندتك‬ ‫الأقدار �أي�ض ًا يف هذه املرة فافعل ما يحلو‬ ‫لك‪.‬‬ ‫وكان بالفعل �أن �أخذ امللك مب�شورة وزيره‪.‬‬ ‫وم��رت الأي��ام يوم ًا بعد ي��وم و�شهر ًا بعد‬ ‫الآخ����ر ح��ت��ى ج���اءت ال��زوج��ة ال�صغرية‬ ‫للوزير و�أخ�برت��ه ب�أنها تنتظر م��ول��ود ًا‪.‬‬ ‫ف��ف��رح امل��ل��ك ف��رح�� ًا ك��ب�ير ًا وخ����رج �إىل‬ ‫ال�صيد‪.‬‬ ‫كانت زوجات امللك العاقرات يتل�ص�صن‬ ‫ع��ل��ى ال����زوج����ة اجل����دي����دة وي��ت�����ص��ي��دن‬ ‫�أخ���ب���اره���ا‪ .‬ومل���ا ع��رف��ن ب��ال��ن��ب���أ جل�سن‬ ‫يتحدثن بالنميمة وقلن فيما بينهن‪:‬‬


‫قال الراوي‬ ‫‪94‬‬ ‫الـعــــدد‬ ‫‪158‬‬ ‫ديسمبر‬

‫‪2012‬‬

‫ـ ل��و �أن ال��زوج��ة ال�صغرية �أجن��ب��ت ول��د ًا‬ ‫للمك فلن يطرف بب�صره نحونا بعد الآن‪.‬‬ ‫�أح�ضرت الزوجات امر�أة قابلة و�أعطينها‬ ‫�صرة مملوءة بالذهب وقلن لها‪:‬‬ ‫ـ �إننا نعتمد عليك �أيتها القابلة كى تدبرى‬ ‫�شيئ ًا لإنقاذنا من هذا الأمر‪.‬‬ ‫ـ ال جتزعنّ وكنّ مطمئنات‪ .‬ف�سوف �أتدبر‬ ‫الأمر‪.‬‬ ‫وعندما حل اليوم املوعود للوالدة و�ضعت‬ ‫الزوجة ال�صغرية تو�أم ًا‪ :‬ولد ًا وبنت ًا‪.‬‬ ‫وح��م��ل��ت ال��ق��اب��ل��ة يف اخل��ف��اء ال��ول��ي��دي��ن‬ ‫وو�ضعت بد ًال منهما جروين‪.‬‬ ‫وبعد عودة امللك من رحلة ال�صيد �أ�سرعت‬ ‫�إليه الزوجات تعلمنه باخلرب وقلن له‪:‬‬ ‫ـ م��والن��ا امل��ل��ك‪ ،‬لقد و�ضعت ل��ك الزوجة‬ ‫ال�صغرية جروين‪.‬‬ ‫�صرخ امللك يف �صوت غا�ضب وقال‪:‬‬ ‫ـ ل��و �أن��ه��ا ول���دت يل ج��روي��ن ح��ق�� ًا ف�إننى‬ ‫�آمر بحفر حفرة عميقة يف �أر�ض الوادي‬ ‫البعيد و�إلقائها يف هذه احلفرة‪.‬‬ ‫�أخذ وزراء امللك الزوجة ال�صغرية وذهبوا‬ ‫بها �إىل الوادي املقفر‪ ،‬حيث �ألقوا بها يف‬ ‫ح��ف��رة عميقة ب���الأر����ض‪ ،‬ودف��ن��وه��ا حتى‬ ‫ر�أ�سها يف هذه احلفرة‪ .‬وبعد ذلك رموا‬ ‫اجلروين خارج الق�صر‪.‬‬ ‫�أما التو�أمان البنت والولد فقد حملتهما‬ ‫القابلة �إىل الغابة‪ ،‬وتركتهما بها نهب ًا‬ ‫لل�ضواري والوحو�ش املفرت�سة‪.‬‬ ‫�أخ��ذ اجل��روان يت�سكعان ب���أرج��اء املدينة‬ ‫وي��ج��م��ع��ان ف��ت��ات ال��ط��ع��ام م��ن ال�����ش��وارع‬ ‫والطرقات‪ ،‬ثم يحمالن هذه الفتات �إىل‬ ‫ال��زوج��ة ال�صغرية يف حفرتها ويقومان‬ ‫ب�إطعامها‪.‬‬ ‫وك���ان���ت الأق�������دار رح��ي��م��ة ب��امل��ول��ودي��ن‬ ‫ال�صغريين الراقدين بال حول وال قوة بني‬ ‫�أح��را���ش الغابة املوح�شة‪ .‬فقد �أخذتهما‬ ‫�إحدى الدببة وقامت بنقلهما �إىل كهفها‬ ‫بالغابة‪ ،‬حيث �صارت تطعمهما وتربيهما‪.‬‬ ‫وهكذا‪ ،‬م�ضت الأيام حتى �صارت �أعواماً‬ ‫متر �سريع ًا وكرب الطفالن‪ .‬فكان الفتى‬ ‫ي��خ��رج وق��ت ال��ظ��ه�يرة لل�صيد‪ ،‬وجتل�س‬

‫قال الفتى‪ :‬حسن ًا سوف‬ ‫أطلعك على المحنة‬ ‫التي وقعت على رأسي‪،‬‬ ‫فأنا أسعى للحصول‬ ‫على المرآة السحرية‬ ‫التي بحوزة أحد الملوك‬ ‫الفتاة تغزل اخليط عند مدخل الكهف‪.‬‬ ‫ويف �أحد الأيام خرج امللك لل�صيد‪ ،‬وم�ضى‬ ‫يف الغابة ي�سعى خلف الفرائ�س‪ .‬وفج�أة‬ ‫ر�أى الفتاة جال�سة �أم��ام مدخل الكهف‪.‬‬ ‫فما �إن �شاهدته ال��ف��ت��اة حتى �أ�سرعت‬ ‫باالختباء داخ��ل الكهف‪ .‬وعندما ابتعد‬ ‫امل��ل��ك قلي ًال ع���ادت ال��ف��ت��اة �إىل اخل��روج‬ ‫واجل��ل��و���س ث��ان��ي��ة‪ .‬ال��ت��ف��ت امل��ل��ك ع��ائ��د ًا‬ ‫بفر�سه نحو الكهف‪ ،‬لكن الفتاة �سرعان‬ ‫ما اختفت عن الأنظار مرة �أخ��رى‪ .‬فكر‬ ‫امللك يف نف�سه قائ ًال‪�« :‬إنى �أ�شعر ب�سر يف‬ ‫�أمر هذه الفتاة»‪ .‬وعاد �إىل ق�صره‪ ،‬و�صار‬ ‫يحكي ل��وزرائ��ه عما �شاهده‪ .‬ومل��ا و�صلت‬ ‫ه��ذه الأخ��ب��ار �إىل م�سامع زوج��ات امللك‬ ‫�أح�ضرن القابلة وقلن لها‪:‬‬ ‫ـ �ألي�س من اجلائز �أن هذه الفتاة ما هي‬ ‫�إال ابنة امللك وقد �أنقذتها الأقدار؟ عليك‬ ‫�أيتها القابلة �أن تفكري يف و�سيلة للتخل�ص‬ ‫منها‪.‬‬ ‫و�أعطوها �صرة كبرية مملوءة بالذهب كي‬ ‫تدبر �أمرها‪.‬‬ ‫فرحت القابلة بالذهب و�أ�سرعت لتوها‬ ‫نحو الغابة‪ .‬وعندما و�صلت �إىل الكهف‬ ‫���ش��اه��دت ال��ف��ت��اة ج��ال�����س��ة ع��ن��د مدخله‪،‬‬ ‫فاقرتبت منها قائلة‪:‬‬ ‫ـ �أيتها الفتاة امل�سكينة‪� ،‬أجتل�سني هنا‬ ‫وح��ي��دة مب��ف��ردك؟ ال ب��د �أن���ك ت�شعرين‬

‫أخذ الجروان يتسكعان‬ ‫بأرجاء المدينة ويجمعان‬ ‫فتات الطعام من‬ ‫الشوارع والطرقات‪ ،‬ثم‬ ‫يحمالن هذه الفتات‬ ‫إلى الزوجة الصغيرة‬ ‫في حفرتها ويقومان‬ ‫بإطعامها‪.‬‬

‫بالوح�شة‪ .‬اطلبي من �شقيقك �أن يح�ضر‬ ‫ل ِ��ك �شيئ ًا ي�سليك وي�سري عنك‪ .‬هناك‬ ‫قدح �سحري مده�ش رائع اجلمال موجود‬ ‫يف مكان ما على الأر�ض‪ .‬فاطلبى منه �أن‬ ‫ي�أتيك به كي تنظري �إليه وتت�سلي به‪ ،‬ولو‬ ‫رف�ض تنفيذ مطلبك فانخرطي يف البكاء‬ ‫بال توقف‪.‬‬ ‫ان��ت��ه��ت ال��ع��ج��وز م��ن حديثها م��ع الفتاة‬ ‫ورحلت عن املكان‪.‬‬ ‫وما �إن عاد الفتى من ال�صيد حتى �أخذت‬ ‫�أخته تلح وتطلب قائلة‪:‬‬ ‫ـ �أري�����دك �أن ت���أت��ن��ي ب��ال��ق��دح ال�سحري‬ ‫املده�ش‪.‬‬ ‫رد الأخ قائ ًال‪ :‬من الذي �أخربك عن هذا‬ ‫القدح يا �أختي العزيزة؟ ال �أحد ي�ستطيع‬ ‫ال��و���ص��ول �إىل م��ك��ان ال���ق���دح ال�����س��ح��ري‬ ‫املده�ش‪ ،‬ول��و و�صل �إليه �أح��د فال ميكنه‬ ‫العودة حي ًا‪.‬‬ ‫انخرطت الأخت يف بكاء حار‪ .‬وحاول الأخ‬ ‫�أن يطيب خاطرها و�أن يثنيها عن طلبها‬ ‫بال جدوى‪ ،‬بل �إنها ا�ستمرت يف ال�صراخ‬ ‫بال توقف حتى قال لها �أخوها‪:‬‬ ‫ـ ح�سن ًا‪� ،‬إليك هذه الإوزة‪ ،‬فحمريها كي‬ ‫�آكلها و�أرحل يف طريقي لأح�صل لك على‬ ‫القدح‪.‬‬ ‫�أكل الفتى حتى امتلأت معدته‪ ،‬ثم جمع‬ ‫لوازمه مت�أهب ًا للرحيل‪ ،‬وانطلق يف طريقه‬ ‫البعيد‪ .‬وم�ضى طوي ًال يف �سريه حتى خرج‬ ‫�أخ�ي�ر ًا �إىل ال���وادي‪ ،‬ونظر ف��ر�أى عجوز ًا‬ ‫ي�سري بالقرب منه‪ .‬ومل��ا �شاهد العجوز‬ ‫الفتى �س�أله قائ ًال‪:‬‬ ‫ـ �إىل �أين تق�صد يا بني؟‪.‬‬ ‫ـ �آه �أيها الوالد‪� ،‬إين �أ�سري بغري هدى وال‬ ‫مق�صد �أعلمه‪ ،‬فقد �سمعت بوجود قدح‬ ‫�سحري يف مكان ما بالعامل‪ ،‬وها �أنا �أ�سعى‬ ‫للبحث عنه‪.‬‬ ‫قال العجوز‪� :‬أ�سفي عليك يا بني‪� ،‬إنك ما‬ ‫زلت �شاب ًا يافع ًا‪ ،‬فلماذا ت�سعى �إىل موتك‬ ‫بال طائل؟ من الأف�ضل لك �أن ترتك هذا‬ ‫الأم��ر‪ .‬فكم من امللوك والأم��راء خ�سروا‬ ‫حياتهم يف �سبيل احل�صول على القدح‬


‫ال�سحري‪ .‬و�سوف ت�شاركهم �أن��ت الآخ��ر‬ ‫امل�صري املحتوم �إن مل تعد �أدراجك‪.‬‬ ‫لكن الفتى هتف معرت�ض ًا‪:‬‬ ‫ـ كال �أيها الوالد لن �أعود �أدراج��ى‪ .‬ف�إما‬ ‫�أن �أح�صل على القدح ال�سحري و�أعود به‬ ‫�إىل البيت‪� ،‬أو �أموت دونه‪.‬‬ ‫قال العجوز‪ :‬ح�سن ًا يا بني ح�سن ًا‪ ،‬مادمت‬ ‫قد عزمت �أمرك على هذا النحو فجرب‬ ‫ح��ظ��ك‪ .‬و���س��وف �أط��ل��ع��ك ع��ل��ى الو�سيلة‬ ‫الوحيدة للح�صول على القدح‪ .‬فبعد �أن‬ ‫مت�ضي يف طريقك لبع�ض الوقت �سوف ترى‬ ‫�شجرة كبرية مربوط �إليها فر�س �أ�شهب‪.‬‬ ‫وعليك �أن متتطي ه��ذا الفر�س ومت�ضي‬ ‫به �صاعد ًا هذا اجلبل الواقع هناك‪ ،‬ثم‬ ‫ترجل من على الفر�س واحفر عدة حفر‬ ‫يف �أماكن متفرقة باجلبل‪ .‬واركب فر�سك‬ ‫ثانية وا�شرع بالنداء ب�صوت عال‪�« :‬أيها‬ ‫القدح الفخاري امل�سحور‪� ..‬أنت �صديقي‬ ‫و�أن��ا بك م�سرور‪� ...‬أظهر وب��ان من دون‬ ‫غ�ضب وال ���ش��رور»‪ .‬عندئذ �سوف يندفع‬ ‫القدح ب�سرعة �شديدة نحوك مثل �صخرة‬ ‫ت��ق��ذف��ه��ا ال��ري��اح م��ن ع���ل‪ ،‬و���س��وف يثور‬ ‫غ�ضبه عليك فينطلق خلفك مثل ال�سهم‪.‬‬ ‫وعليك الرك�ض �سريع ًا بفر�سك الأ�شهب‬ ‫وال��ع��ودة �أ�سفل اجلبل‪ .‬و�سوف يالحقك‬ ‫القدح و�أن��ت تهرب منه حتى ت�صل �إىل‬ ‫�سفح اجلبل‪ .‬وحينئذ �سوف ي�سقط القدح‬ ‫�إىل �أ�سفل مع �سيل من ال�صخور‪ .‬فاحمله‬

‫أخذت إحدى الدببة‬ ‫المولودين الصغيرين‬ ‫الراقدين بال حول وال‬ ‫قوة بين أحراش الغابة‬ ‫الموحشة وقامت‬ ‫بنقلهما إلى كهفها‬ ‫بالغابة حيث صارت‬ ‫تطعمهما وتربيهما‬ ‫وا�صعد ب��ه �إىل ه��ن��اك وام�ل��أه م��ن امل��اء‬ ‫ال��ذي �سيتجمع يف احلفر التي حفرتها‬ ‫�سابق ًا‪ .‬لكن ينبغي عليك تذكر �أن القدح‬ ‫لو �أدرك��ك ف�سوف ميزق ج�سمك �أ�شال ًء‬ ‫مثل ال�سكني يف الزبد ومتوت �شر ميتة‪.‬‬ ‫واخ��ت��ف��ي ال��ع��ج��وز ب��ع��د �أن ���ش��رح للفتى‬ ‫الو�سيلة الوحيدة للح�صول على القدح‪.‬‬ ‫فعل الفتى مثلما لقنه العجوز‪ .‬وعندما‬ ‫و���ص��ل �إىل ال�شجرة ال��ك��ب�يرة ح��ل رب��اط‬ ‫الفر�س الأ�شهب و�صعد عليه �إىل اجلبل‪،‬‬ ‫وق����ام ب��ح��ف��ر ب��ع�����ض احل��ف��ر يف �أم��اك��ن‬ ‫خمتلفة‪ ،‬ث��م ارت��ق��ى قمة اجل��ب��ل و�صار‬ ‫ينادي ب�صوت عال قائ ًال‪:‬‬ ‫ـ �أيها القدح الفخاري امل�سحور ‪� ..‬أنت‬ ‫�صديقي و�أن��ا بك م�سرور‪ ...‬اظهر وبان‬ ‫من دون غ�ضب وال �شرور‪.‬‬ ‫وف��ج���أة‪ ،‬ظهر م��ن خلف ال�صخور �شيء‬

‫المع‪ ،‬واندفع خلف الفتى يالحقه‪ .‬وانطلق‬ ‫ال��ف��ت��ى ب��ف��ر���س��ه ي��ه��ب��ط اجل��ب��ل وال��ق��دح‬ ‫كال�سهم م��ن ورائ���ه‪ ،‬ث��م انهمر ب�سرعة‬ ‫�سيل من ال�صخور �إىل �أ�سفل ومعه القدح‪.‬‬ ‫و�أ���س��رع الفتى هارب ًا من ال�سيل املندفع‬ ‫خلفه حتى و�صل �سامل ًا �إىل ال�سفح‪ ،‬ثم‬ ‫حمل القدح و�صعد به ثانية �إىل اجلبل‪،‬‬ ‫وم��ل��أه ح��ت��ى احل��اف��ة ب��امل��اء املتجمع يف‬ ‫احلفر‪ .‬وبعد ذلك قام بتغطيته وربطه‪،‬‬ ‫وعاد به �إىل البيت‪.‬‬ ‫ق�ص الفتى على �أخته كل ما جرى له ويف‬ ‫نهاية حديثه �أ�ضاف قائ ًال لها‪:‬‬ ‫ـ وق����د �أو����ش���ك���ت ع��ل��ى امل����وت يف �سبيل‬ ‫احل�صول على القدح‪.‬‬ ‫ب��ع��د االن��ت��ه��اء م��ن حكايته و���ض��ع الفتى‬ ‫ال���ق���دح امل��ده�����ش ال��ب�راق �أم����ام �أخ��ت��ه‪.‬‬ ‫فحملت الهدية الثمينة و���ص��ارت تنظر‬ ‫�إليه ب�إعجاب و�سعادة‪.‬‬


‫قال الراوي‬ ‫‪96‬‬ ‫الـعــــدد‬ ‫‪158‬‬ ‫ديسمبر‬

‫‪2012‬‬


‫يف نف�س هذا اليوم خرج امللك �إىل ال�صيد‬ ‫مرة �أخرى وفكر قائ ًال يف نف�سه‪« :‬هل يا‬ ‫ترى مازالت الفتاة التي ر�أيتها يف املرة‬ ‫ال�سابقة جتل�س يف الغابة؟»‪.‬‬ ‫وانطلق نحو الكهف‪ ،‬فر�أى الفتاة جال�سة‬ ‫�أم���ام الكهف م��ع الفتى‪ .‬وم��ا �إن اق�ترب‬ ‫منهما حتى هرب االثنان واختفيا �سريع ًا‬ ‫عن الأنظار‪ .‬وابتعد امللك عن املكان فعادا‬ ‫مرة �أخرى يجل�سان �أمام الكهف‪ .‬وتكرر‬ ‫هذا الأمر مع امللك ب�ضع مرات‪.‬‬ ‫فكر امللك وهو يف ده�شة‪« :‬ما ال�سر يف هذا‬ ‫الأمر؟ وملاذا يختبئ االثنان؟»‪.‬‬ ‫رجع امللك �إىل ق�صره وهو يفكر يف هذا‬ ‫الأم��ر ط��وال الطريق‪ .‬ون��ادى على وزي��ره‬ ‫وق�ص عليه ما جرى‪.‬‬ ‫و�صل اخل�بر �إىل م�سامع زوج��ات امللك‪،‬‬ ‫ف�أح�ضرن القابلة و�أعطينها �صرة من‬ ‫الذهب مرة ثالثة قائالت لها‪:‬‬ ‫ـ ينبغي التخل�ص من هذين الطفلني‪ ،‬و�إن‬ ‫مل تنجحي يف ذل��ك ف�سوف يعرف امللك‬ ‫ب�أمرهما وت�صبح العاقبة وخيمة‪ ،‬و�سوف‬ ‫ي�أمر امللك بقتلك على الفور‪.‬‬ ‫ذه��ب��ت ال��ق��اب��ل��ة ال��ع��ج��وز م�����س��رع��ة �إىل‬ ‫الكهف‪ ،‬و�س�ألت الفتاة‪:‬‬ ‫ـ كيف احل���ال؟ ه��ل �أح�ضر ل��ك �شقيقك‬ ‫القدح ال�سحري؟‪.‬‬ ‫ردت الأخت‪ :‬نعم‪ ،‬لقد طلبته منه يف نف�س‬ ‫اليوم وا�ستطاع �أن يح�ضره يل‪ ،‬وقد خرج‬ ‫الآن للبحث عن الطعام‪.‬‬ ‫قالت القابلة العجوز‪ :‬لقد �أح�سن �صنعاً‬ ‫ب���إح�����ض��اره �إل��ي��ك‪ ،‬لكنني �أري���د �إخ��ب��ارك‬ ‫�أن هناك م��ر�آة �سحرية يف �أح��د البالد‪،‬‬ ‫فاطلبي من �شقيقك �أن يح�ضرها لك‪،‬‬ ‫و���س��وف �أر����ش���دك �إىل ال��و���س��ي��ل��ة ل��ذل��ك‪.‬‬ ‫فعندما يرجع عليك بالبكاء من دون كالم‪،‬‬ ‫وعندما ي�س�ألك عن �سبب بكائك قويل له‪:‬‬ ‫«�أريدك �أن ت�أتني باملر�آة ال�سحرية»‪.‬‬ ‫وان�صرفت العجوز بعد �أن لقنت الفتاة ما‬ ‫تقوله‪.‬‬ ‫ع���اد الأخ م��ن ال�����ص��ي��د ح��ام ً‬ ‫�لا �أرن��ب�ين‪.‬‬ ‫وعندما �شاهد �أخته تبكي بحرارة �س�ألها‬

‫قائ ًال‪:‬‬ ‫ـ ماذا بك يا �أختاه؟ وملاذا تبكني هكذا؟‪.‬‬ ‫رجته الأخت قائلة‪:‬‬ ‫ـ �أخي العزيز‪� ،‬أريدك �أن حت�ضر يل املر�آة‬ ‫ال�سحرية‪.‬‬ ‫قال الفتى‪ :‬يا �أختاه‪� ،‬أرى �أنك ال تفكرين‬ ‫�سوى يف طريقة للتخل�ص مني‪ .‬ولو كان‬ ‫الأمر �سيان بالن�سبة لك �أن �أموت �أو �أظل‬ ‫على قيد احلياة‪ ،‬ف�سوف �أخ��رج و�أح�ضر‬ ‫لك املر�آة ال�سحرية‪ ،‬حتى لو دفعت حياتي‬ ‫يف �سبيل تلبية رغبتك‪ ،‬لكن دعينا نتناول‬ ‫الطعام قبل رحيلي‪.‬‬ ‫قامت الأخت بتحمري الأرنبني ف�أكل الفتى‬ ‫حتى �شبع وقال‪:‬‬ ‫ً‬ ‫ـ لن �أعود �إليك قريبا يا �أختاه‪ ،‬فانتظريني‬ ‫�شهر ًا‪ ،‬و�إن مل �أرجع بعده فاعلمي ب�أنىي‬ ‫مت‪.‬‬ ‫وان��ط��ل��ق ال��ف��ت��ى م���رة �أخ����رى يف طريقه‬ ‫املجهول‪.‬‬ ‫وم�ضى يقطع الدروب والوديان وال�سهول‬ ‫املقفرة‪ ،‬ويعرب اجلبال العالية حتى �شاهد‬ ‫على البعد بع�ض الأ�شجار‪ .‬كانت ال�شم�س‬ ‫ق��د غ��رب��ت يف ه��ذا ال��وق��ت وه��ب��ط ظالم‬ ‫حالك على املكان عندما دخل الفتى �إىل‬ ‫الب�ستان امل�شجر‪ .‬فاختار �إحدى الأ�شجار‬ ‫ال��ك��ب�يرة و���س��وى لنف�سه جمل�س ًا مريح ًا‬ ‫�أ�سفلها‪ .‬ورقد حتى راح يف نوم عميق‪ .‬ومع‬ ‫طلوع الفجر �صحا على �صو�صوة عدد من‬ ‫الزغاليل‪ .‬رفع الفتى ر�أ�سه ي�ستطلع الأمر‬

‫خرج الملك إلى الصيد‬ ‫مرة أخرى‪ ،‬ودنا من‬ ‫الكهف فرأى الفتاة‬ ‫تجلس عند مدخله‬ ‫بجوار الفتى‪ ،‬غير‬ ‫أنهما في هذه المرة‬ ‫لم يختبئا منه بل‬ ‫ركعا أمامه تحية له‬ ‫وقاما بدعوته للدخول‬ ‫إلى كهفهما‬

‫فر�أى تنين ًا خميف ًا كبري ًا يزحف على جذع‬ ‫ال�شجرة‪ .‬وم��ا �أن �شاهد الوح�ش الفتى‬ ‫حتى زحف نحوه فاغر ًا فاه الكبري و�أم�سك‬ ‫به ليبتلعه‪ ،‬اال �أن الفتى جنح يف �إخراج‬ ‫�سيفه من غمده ب�سرعة‪ ،‬ورفعه �أمام فاه‬ ‫التنني وه���وى ب��ه عليه ف�شطره ن�صفني‬ ‫من ر�أ�سه �إىل ذيله‪ ،‬ثم �سلخ جلده و�صنع‬ ‫لنف�سه منه زن��ار ًا لفه حول خ�صره‪ .‬ويف‬ ‫هذه اللحظة حلق طائر الرخ الأ�سطوري‬ ‫فوق ال�شجرة‪ ،‬و�شاهد �أفرخه �سليمة مل‬ ‫مي�س�سها �سوء‪ .‬ف�أخذ يغرد قائ ًال لها‪:‬‬ ‫ـ ك��م �أن���ا �سعيد ل�سالمتك ي��ا زغاليلي‬ ‫ال�����ص��غ��ار‪ ،‬فقد �سمعت �أن ه��ن��اك تنين ًا‬ ‫باجلوار‪ ،‬قد هاجم ع�شك‪ .‬ولذا �أ�سرعت‬ ‫�إليك لنجدتك‪.‬‬ ‫قال ال�صغار‪ :‬يا �أماه‪ ،‬لقد جاء يف امل�ساء‬ ‫فتى ق�ضى ليلته نائم ًا �أ�سفل ال�شجرة‪ ،‬وهو‬ ‫الذي �أنقذنا من التنني‪.‬‬ ‫هبط طائر الرخ �إىل �أ�سفل ال�شجرة و�س�أل‬ ‫الفتى‪:‬‬ ‫ـ �أخ�برين �أيها ال�صديق العزيز‪� ،‬أي ريح‬ ‫طيبة �أتت بك �إىل هذا املكان؟‪.‬‬ ‫ـ ال داع ل�س�ؤالك يا طائر الرخ فال �أريد �أن‬ ‫�أ�شاركك همي‪ ،‬وال ت�شغل ر�أ�سك باملحنة‬ ‫التي �أملت بي‪.‬‬ ‫لكن الرخ قال‪:‬‬ ‫ـ �أف�������ص���ح يل ع���ن ه��م��ك �أي��ه��ا‬ ‫ال�������ص���دي���ق‪ ،‬ف���ق���د ق����دم����ت يل‬ ‫علي رد‬ ‫�صنيعا�ص كبري ًا وينبغي ّ‬ ‫ال�صنيع الذي قمت به‪.‬‬ ‫ق��ال الفتى‪ :‬ح�سن ًا �سوف �أطلعك‬ ‫على املحنة التي وقعت على ر�أ�سي‪.‬‬ ‫ف���أن��ا �أ���س��ع��ى للح�صول ع��ل��ى امل���ر�آة‬ ‫ال�سحرية التي بحوزة �أحد امللوك‪.‬‬ ‫قال طائر ال��رخ‪� :‬سوف �أعاونك يف‬ ‫ه��ذا الأم���ر �أي��ه��ا الفتى الطيب‪،‬‬ ‫و�أدل���ك على الو�سيلة لتحقيق‬ ‫غ���اي���ت���ك‪ .‬ع��ل��ي��ك ب��ا���ص��ط��ي��اد‬ ‫غ���زال�ي�ن و���ص��ن��ع ق��رب��ت�ين من‬ ‫فرائهما‪ ،‬و�ضع يف �إحداهما‬ ‫اللحم واملأ الأخرى باملاء‪،‬‬


‫قال الراوي‬ ‫‪98‬‬ ‫الـعــــدد‬ ‫‪158‬‬ ‫ديسمبر‬

‫‪2012‬‬

‫وعلق القربتني على جانبي ج�سمي‪ ،‬ثم‬ ‫اركب فوق ظهري واترك يل القيام ببقية‬ ‫الأمر‪ ،‬كما عليك �إطعامي �أثناء الطريق‪،‬‬ ‫وعندما ن�صل �إىل املوقع املطلوب �سوف‬ ‫�أخربك مبا تفعله للح�صول على املر�آة‪.‬‬ ‫خرج الفتى �إىل الغابة وا�صطاد غزالني‪.‬‬ ‫ثم �سلخ فراءهما و�صنع منهما قربتني‪.‬‬ ‫م�ل�أ �إح��داه��م��ا باللحم والأخ���رى باملاء‪،‬‬ ‫وعلقهما على جانبي ال��رخ و�صعد راكب ًا‬ ‫فوق ظهره‪ .‬فحلق طائر الرخ يف الف�ضاء‬ ‫وحام فوق ال�شجرة‪ ،‬ثم طار بعيد ًا عنها‬ ‫نحو البلد املن�شود‪.‬‬ ‫و���ص��ل ال���رخ �إىل ق�����ص��ر امل��ل��ك وح���ط يف‬ ‫رو�ضة خ�ضراء‪ ،‬ثم وقف و�سط الب�ستان‬ ‫ي�شرح للفتى ما ينبغي القيام به‪:‬‬ ‫ـ انتف ري�شة من ري�شي واذه��ب بها �إىل‬ ‫الق�صر‪ .‬فامللك ه��ن��اك ي��ع��اين م��ن �آالم‬ ‫مربحة يف يده بعد �أن انغر�ست بها �شوكة‪،‬‬ ‫ومل ينجح �أحد يف �إخراجها‪ .‬وقد جاء �إليه‬ ‫العديد من الأطباء واحلكماء ومل ي�ستطع‬ ‫�أحد منهم تخلي�صه من الآالم‪ .‬وعندما‬ ‫ت��دخ��ل ال��ق�����ص��ر �أخ�ب�ره���م ب���أن��ك طبيب‬ ‫جئت لعالج امللك‪ ،‬ثم �أم�سك بيده وانظر‬ ‫�إىل امل��ك��ان ال���ذي انغر�ست ب��ه ال�شوكة‬ ‫وانتزعها مب�ساعدة ري�شتي‪ .‬حينئذ‬ ‫�سوف يقول لك امللك‪« :‬اطلب مني ما‬ ‫�شئت»‪ .‬فاطلب منه �أن مينحك املر�آة‬ ‫ال�سحرية‪ .‬كما �أن امللك لديه �سجل بكل‬ ‫الأح��داث التي ر�آه��ا يف امل��ر�آة ال�سحرية‪.‬‬ ‫فقد كتب بنف�سه تلك الأح���داث وختمها‬

‫صعد الفتى على‬ ‫ظهر طائر الرخ الذي‬ ‫حلق به في طريق‬ ‫العودة‪ ،‬وطار الرخ‬ ‫حتى وصل إلى‬ ‫الشجرة الكبيرة التي‬ ‫تضم عشه فهبط‬ ‫إليها وقام الفتى‬ ‫بوداعه شاكر ًا له‬ ‫بخامته امللكى‪ .‬فاطلب منه �أن يعطيك‬ ‫�أي�ض ًا هذا ال�سجل مع املر�آة ال�سحرية‪ .‬وما‬ ‫�إن حت�صل على املر�آة ال�سحرية وال�سجل‬ ‫عليك العودة �سريع ًا �إىل الب�ستان‪.‬‬ ‫�سمع الفتى كالم طائر الرخ وذهب �إىل‬ ‫الق�صر وقال للوزراء‪:‬‬ ‫ـ �إن��ى �أعمل طبيب ًا‪ ،‬وق��د جئت كي �أنتزع‬ ‫ال�شوكة من يد امللك‪.‬‬ ‫نظر ال��وزراء �إىل الفتى يتفح�صونه من‬ ‫ر�أ�سه �إىل �أخم�ص قدميه وقالوا‪:‬‬ ‫ـ م��ازل��ت ���ص��غ�ير ًا �أي��ه��ا ال��ف��ت��ى‪ ،‬فكم من‬ ‫الأطباء الكبار �أتوا �إىل هنا قبل ح�ضورك‬

‫ومل ينجح �أحد منهم يف �إخراج ال�شوكة‪.‬‬ ‫غري �أن الفتى �أ�صر يف عناد على ال�سماح‬ ‫له باملحاولة‪ .‬ف�أخرب ال��وزراء امللك عنه‬ ‫قائلني‪:‬‬ ‫ـ موالنا ملك العامل‪ ،‬لقد و�صل فتى �صغري‬ ‫ي��دع��ي الإمل�����ام ب��ال��ط��ب‪ ،‬وي��ط��ل��ب الإذن‬ ‫بالدخول �إليك النتزاع ال�شوكة من يدك‪،‬‬ ‫ومل ن�أذن له بذلك فظل واقف ًا عند البوابة‬ ‫يلح يف طلبه‪.‬‬ ‫قال امللك‪ :‬ا�سمحوا له بالدخول �إىل هنا‪.‬‬ ‫�سجد الفتى عند �أع��ت��اب العر�ش‪ ،‬وق َبل‬ ‫الأر�ض �أمام امللك قائ ًال‪:‬‬ ‫ـ لقد جئت ي��ا م���والي ك��ي �أخل�صك من‬ ‫الآالم و�أعيد ال�سكينة �إىل روحك‪.‬‬ ‫بعد ذلك �أم�سك الفتى بيد امللك باحث ًا‬ ‫عن مو�ضع الأمل‪ ،‬ثم �أخ��رج ري�شة الرخ‬ ‫م��ن جيبه ون��زع بها على ال��ف��ور ال�شوكة‬ ‫امل��غ��رو���س��ة يف ي��د امل��ل��ك‪ .‬ويف نف�س هذه‬ ‫اللحظة انفرجت �أ�سارير امللك من الفرح‬ ‫وت��ن��ه��د ب��ارت��ي��اح ب��ع��د زوال الأمل‪ ،‬وق��ال‬ ‫للفتى‪:‬‬ ‫ـ �أطلب مني كل ما �شئت �أيها الفتى و�أنا‬ ‫�ألبيه لك على الفور‪.‬‬ ‫���دي ط��ل��ب واح���د ي��ا م��والي‬ ‫رد ال��ف��ت��ى‪ :‬ل ّ‬ ‫امل��ع��ظ��م‪� ،‬أري���د امل����ر�آة ال�سحرية ومعها‬ ‫ال�سجل املختوم بخامتكم امللكي‪.‬‬ ‫ـ وما حاجتك �إىل املر�آة و�سجل الأحداث؟‬ ‫�أل��ي�����س م��ن الأف�����ض��ل ل��ك �أن تطلب مني‬ ‫ثروة �أو ذهب ًا �أو �أحجار ًا كرمية؟ فبماذا‬ ‫تفيدك هذه املر�آة؟‪.‬‬ ‫�أج���اب الفتى‪� :‬إين ال �أري���د ���س��وى امل��ر�آة‬ ‫وال�����س��ج��ل‪ ،‬فهما ع��ن��دي �أغ��ل��ى م��ن كنوز‬ ‫العامل‪.‬‬ ‫ـ ح�سنا‪� ،‬سوف �ألبي لك رغبتك‪.‬‬ ‫و�أعطى امللك للفتى املر�آة وال�سجل‪.‬‬ ‫�صعد الفتى على ظهر طائر ال��رخ الذي‬ ‫حلق به يف طريق العودة‪ .‬وطار الرخ طوي ًال‬ ‫حتى و���ص��ل �إىل ال�شجرة ال��ك��ب�يرة التي‬ ‫ت�ضم ع�شه فهبط �إليها‪ .‬وقام الفتى بوداع‬ ‫طائر ال��رخ �شاكر ًا له‪ .‬وع��اد �سعيد ًا �إىل‬ ‫�أخته‪ .‬وكانت الفتاة تعاين اجلوع‪ ،‬فرقدت‬


‫داخل الكهف ال تقوى على احلراك‪ .‬ف�أخذ‬ ‫�شقيقها يطعمها وي�سقيها‪ ،‬وقال لها‪:‬‬ ‫ـ لقد عدت �إليك �سليم ًا معافى يا �أختي‬ ‫العزيزة ومل �أمت‪ ،‬وقد جنحت يف �إح�ضار‬ ‫املر�آة ال�سحرية لك‪.‬‬ ‫اغتبطت الأخ��ت كثري ًا‪ ،‬وظلت تنظر �إىل‬ ‫املر�آة ب�إعجاب وفرح‪.‬‬ ‫خرج امللك �إىل ال�صيد مرة �أخ��رى‪ .‬ودنا‬ ‫م��ن ال��ك��ه��ف ف����ر�أى ال��ف��ت��اة جت��ل�����س عند‬ ‫مدخله بجوار الفتى‪ .‬غري �أنهما يف هذه‬ ‫املرة مل يختبئا منه‪ ،‬بل ركعا �أمامه حتية‬ ‫له‪ ،‬وقاما بدعوته للدخول �إىل كهفهما‪.‬‬ ‫وق�ص الفتى على امللك عن حياتهما داخل‬ ‫الكهف‪ .‬فقال له امللك‪:‬‬ ‫ـ �إين مل �أرزق بولد وال بنت‪ ،‬فلتذهبا معي‬ ‫ولت�صبحا ابن ًا وبنت ًا يل‪.‬‬ ‫ويف الطريق �إىل الق�صر �أع��ط��ى الفتى‬ ‫ال�سجل �إىل امللك‪.‬‬ ‫بعد ذل��ك جمع امل��ل��ك ال����وزراء و�أم��ره��م‬ ‫بقراءة �أحداث ال�سجل يف ح�ضور اجلميع‪.‬‬ ‫وه��ك��ذا‪ ،‬ع��رف اجلميع بجرائم زوج��ات‬ ‫امللك و�أعمالهن ال�شريرة‪ .‬ف���أم��ر امللك‬ ‫ب�إلقائهن يف غياهب ال��زن��ازي��ن ومعهن‬ ‫القابلة العجوز‪.‬‬ ‫كما �أمر امللك بالبحث عن زوجته ال�صغرية‬ ‫و�إح�����ض��اره��ا‪ .‬ف��ذه��ب ال����وزراء �إىل ال���وادي‬ ‫الذي تركوها به منذ �سنوات‪ ،‬حيث دفنوها‬ ‫باحلفرة حتى ر�أ�سها‪ .‬وبحثوا عنها يف �أرجاء‬ ‫ال��وادي حتى �شاهدوها جال�سة فوق قمة تل‬ ‫رملي وعلى جانبيها يرب�ض كلبان �ضخمان‪.‬‬ ‫اق�ت�رب ال����وزراء م��ن امل���ر�أة ورك��ع��وا �أمامها‬ ‫قائلني‪:‬‬ ‫ـ �أيتها ال�سيدة الفا�ضلة‪� ،‬إن امللك يدعوك‬ ‫للمثول �أمامه‪.‬‬ ‫لكن الزوجة ال�صغرية ردت قائلة‪:‬‬ ‫ـ عودوا �إىل ملككم و�أخربوه �أن زوجته لن‬ ‫تذهب �إليه‪ ،‬ولو �أتى منكم �أحد �إىل هنا‬ ‫مرة �أخ��رى ف�سوف �أجعل الكالب تنه�ش‬ ‫ج�سمه‪ .‬ف�أبلغوه مبا قلت‪.‬‬ ‫وط��ردت امل��ر�أة ال��وزراء الذين ذهبوا �إىل‬ ‫امللك و�أخربوه مبا ر�أوه و�سمعوه‪.‬‬

‫غري �أن امللك طلب منهم الذهاب �إليها مرة‬ ‫�أخرى قائ ًال‪:‬‬ ‫ـ اذهبوا �إليها ثانية واقنعوها بح�سن الكالم‬ ‫�أو حتى بالكذب ك��ى حت�ضر �إ ّ‬ ‫يل‪ ،‬و�إن مل‬ ‫تفعلوا ف�سوف �أقتلكم جميع ًا‪.‬‬ ‫خاف ال��وزراء من تهديد امللك وهرعوا �إىل‬ ‫ال���وادي ثانية‪ ،‬وم��ا �إن �شاهدتهم الزوجة‬ ‫ال�صغرية حتى �صاحت يف غ�ضب وثورة‪:‬‬ ‫ـ م��ا ال���ذي ج��اء بكم ثانية �إىل ه��ن��ا؟ �أمل‬ ‫�أحذركم من قبل؟‪.‬‬ ‫وفكت ال�سال�سل التي كانت تربط الكلبني‬ ‫ال�ضخمني‪.‬‬ ‫وان��ق�����ض الكلبان يهجمان على ال���وزراء‬ ‫و�أخذا يف عقرهم وع�ضهم‪.‬‬ ‫ا�ستطاع ال����وزراء بعد م�شقة �أن ينجوا‬ ‫بحياتهم ويهربوا من الكالب‪.‬‬ ‫ر�أى امللك وزراءه وق��د متزقت مالب�سهم‬ ‫وام��ت�ل�أت �أج�سامهم باجلروح من هجوم‬ ‫الكالب‪ ،‬ففكر حائر ًا يف الو�سيلة التي ميكن‬ ‫بها �إقناع زوجته بالعودة �إىل الق�صر‪ .‬وقال‬ ‫البنه الفتى‪:‬‬ ‫ـ يا ول��دي العزيز‪� ،‬إن �أم��ك تقيم يف ال��وادي‬ ‫وترف�ض العودة �إىل الق�صر‪ ،‬وال �أجد الو�سيلة‬ ‫لإقناعها بالعدول عن ذلك‪.‬‬ ‫رد الفتى‪ :‬ا�سمح يل ي��ا وال��دي �أن �أق��وم‬ ‫بهذا الأمر‪.‬‬ ‫�سمح له امللك‪ ،‬فذهب الفتى �إىل الوادي‪.‬‬ ‫وعندما ر�أى �أمه على التل توقف منادي ًا عليها‪:‬‬ ‫ـ ا�سمعيني يا �أماه‪� ،‬أنا ابنك‪ ،‬وقد ح�ضرت‬ ‫كي �آخذك معي‪.‬‬ ‫وم��ا �إن نطق عبارته حتى انق�ض الكلبان‬

‫وفجأة‪ ،‬ظهر من خلف‬ ‫الصخور شيء المع‪،‬‬ ‫واندفع خلف الفتى‬ ‫يالحقه‪ .‬وانطلق الفتى‬ ‫بفرسه يهبط الجبل‬ ‫والقدح كالسهم من‬ ‫ورائه‪ ،‬ثم انهمر بسرعة‬ ‫سيل من الصخور إلى‬ ‫أسفل ومعه القدح‪.‬‬

‫ع��ل��ى ق��دم��ي��ه ف��وق��ع ع��ل��ى الأر�����ض و���ص��ارا‬ ‫يع�ضانه ب�شرا�سة‪ .‬ف�صرخ الفتى ب�صوت‬ ‫عال من الأمل‪.‬‬ ‫�سمعت الأم �صراخ الفتى ف�أ�شفقت عليه‬ ‫ونادت كلبيها‪.‬‬ ‫نه�ض الأمري من على الأر�ض وراح يتو�سل‬ ‫راجي ًا‪:‬‬ ‫ـ ال تغ�ضبي مني يا �أم��ي‪ ،‬ف�أنا ابنك من‬ ‫حلمك ودمك‪ .‬فلماذا ال تذهبني معي؟ هل‬ ‫تريدين �أن نظل �أيتام ًا طوال حياتنا؟‪.‬‬ ‫رق قلب الأم واعت�صر الأمل ف�ؤادها‪ ،‬ومل‬ ‫ترغب يف �أن يظل طفالها �أيتام ًا فقالت‪:‬‬ ‫ـ عد �إىل �أبيك و�أخربه �أن ير�سل �إ ّ‬ ‫يل عربة‬ ‫ع��ل��ى ع��ج�لات م��ن ال��ذه��ب وب��ه��ا مالب�س‬ ‫جديدة تليق بي‪ ،‬وليفر�ش الأر�ض بالأب�سطة‬ ‫احل��ري��ري��ة م��ن ه��ن��ا ح��ت��ى ب���اب الق�صر‪،‬‬ ‫وليخرج يف ا�ستقباىل الوزراء عندما �أ�صل‬ ‫�إىل مدخل الق�صر وي��ن�ثروا ال��ذه��ب من‬ ‫فوقي‪ ،‬ولي�أمر ب�إقامة احتفاالت الزفاف‬ ‫من جديد يف �أرجاء البالد‪ .‬وعندئذ فقط‬ ‫�سوف �أعود �إىل الق�صر‪.‬‬ ‫عاد الأمري �إىل والده و�أخربه مبا قالته الأم‪.‬‬ ‫نادى امللك على وزرائه و�أمرهم بتنفيذ كل‬ ‫ما طلبته الزوجة ال�صغرية‪.‬‬ ‫خرج ال��وزراء �إىل ال��وادي‪ .‬وقامت الن�ساء‬ ‫من علية القوم بتزيني الزوجة و�ألب�سنها‬ ‫من قمة ر�أ�سها �إىل �أخم�ص قدميها بفاخر‬ ‫الثياب و�أفخمها‪ ،‬ثم �أجل�سنها على عربة‬ ‫جترها عجالت من الذهب‪ ،‬ورافقنها �إىل‬ ‫�شوارع املدينة معززة مكرمة‪ .‬و�أع��د‬ ‫امللك لزوجته ا�ستقبا ًال حاف ًال‪.‬‬ ‫ف��م��ا �إن و���ص��ل��ت �إىل املدينة‬ ‫وهبطت من عربتها الذهبية‪،‬‬ ‫ح���ت���ى �����س����ارت ف�����وق الأب�����س��ط��ة‬ ‫احلريرية التي ك�ست الأر�ض حتى‬ ‫الق�صر‪.‬‬ ‫�أقام امللك االحتفاالت يف البالد‪.‬‬ ‫وا���س��ت��م��رت الأف�����راح وال��ل��ي��ايل‬ ‫املالح لأربعني يوم ًا وليلة‬ ‫بالتمام والكمال‬


‫‪100‬‬ ‫الـعــــدد‬ ‫‪158‬‬ ‫دي�سمرب‬ ‫‪2012‬‬

‫سيمياء‬

‫التاريخ‬ ‫المروي‬ ‫وسيرورة‬ ‫الزمن‬

‫عائ�شة الدرمكي‬ ‫‏‪aishaaldarmaki@hotmail.com‬‬

‫�إن‬

‫ا� �س �ت �م��راري��ة ال �ث �ق��اف��ة مع‬ ‫تغريها وتطورها ا�ستمرارية‬ ‫عائدة �إىل املجال والزمن الذي ن�ش�أت‬ ‫فيه �أ�ص ًال ‪ ،‬وب�سبب ق��وة ت�أثريها يف‬ ‫العقل اجلمعي ف ��إن ك��ل م��ا نقوله �أو‬ ‫نت�صوره �أو ن�سلكه �إمن��ا ه��و ام�ت��داد‬ ‫وج ��زء م��ن �إرث ق��د ي�ك��ون مت�شابها‬ ‫�أو خم�ت�ل�ف� ًا ن��وع � ًا م��ا ع��ن امل���ض�م��ون‬ ‫�أوال�شكل ال�سابق تبع ًا ملراحل التطور‬ ‫وقوته من زمن �إىل �آخ��ر‪ .‬وعليه ف�إن‬ ‫هذه الثقافة ت�صل الأفراد مبا�ضيهم‪،‬‬ ‫وتعترب منطلقات وموجهات للحياة‬ ‫يف احلا�ضر كونه منتج ًا عام ًا ولي�س‬ ‫خا�ص ًا بفرد ما ؛ فالثقافة هنا كما‬ ‫ي�ق��ول ح�سني م��ؤن����س‪« :‬ه��ي ث�م��رة كل‬ ‫ن�شاط �إن�ساين حملي نابع عن البيئة‬ ‫ومعرب عنها �أو موا�صل لتقاليدها يف‬ ‫هذا امليدان �أو ذاك ‪ ...‬وهي جمموع‬ ‫امل �ع �ل��وم��ات وامل� �ع ��ارف وامل �م��ار� �س��ات‬ ‫وال�ق�ي��م اخل��ا��ص��ة ب�شعب م��ا ‪ ،‬والتي‬ ‫يعي�ش مبقت�ضاها»‪ ،‬و�إىل عهد قريب‬ ‫ك ��ان ال �ن��ا���س ي �ع �ت �ق��دون �أن ال �ت��اري��خ‬ ‫هو علم املا�ضي ‪ ،‬و�أن مو�ضوعه هو‬ ‫درا�سة مام�ضى وفات من الأحداث ؛‬ ‫ولأنه كذلك فقد كتبه ال ُكتَّاب ودونوه‬ ‫للت�سلية والإمتاع وامل�ؤان�سة �أو للعربة؛‬ ‫فنجده �ضمن كتب الأم��ايل والآداب‬ ‫هنا وه�ن��اك‪ ،‬بل �أنهم كتبوه بو�صفه‬ ‫�أ� �س��اط�ير ت ��روى ع��ن امل��ا��ض��ي امل�غ��رق‬ ‫يف ال�ق��دم‪� ،‬إىل �أن ف � َّرق �أب��و التاريخ‬ ‫«ه �ي�رودوت» بينه وب�ين الأ� �س��اط�ير ‪،‬‬ ‫وهي املرحلة التي بد�أ التاريخ بعدها‬ ‫يظهر م�ستق ًال ع��ن ��ض��روب املعرفة‬ ‫الثقافية الأخرى‪.‬ولعل هذا الفرق بني‬

‫الأ��س��اط�ير وال�ت��اري��خ ظ��ل غ�ير وا�ضح‬ ‫�إىل عهد قريب كما جن��ده يف كتاب‬ ‫«�أخبار الزمان ومن �أدب��اه احلدثان»‬ ‫للم�سعودي الذي جمع فيه بني �أخبار‬ ‫املمالك وامل�ل��وك والأن�ب�ي��اء ‪ ،‬و�أخ�ب��ار‬ ‫اجلن و�أ�ساطريهم وعجائب الأر���ض‬ ‫والبحر‪ ،‬وهو يختلف كثري ًا عن كتابه‬ ‫«م��روج الذهب» ال��ذي يعد �أح��د �أهم‬ ‫كتب التاريخ القومي‪.‬‬ ‫�إننا �إذن نتحدث عن مرحلة اجلمع‬ ‫التدويني للتاريخ امل��روي ال��ذي ب��د�أه‬ ‫امل �� �س �ل �م��ون ب�ج�م��ع ال �� �س�يرة ال�ن�ب��وي��ة‬ ‫واحل ��دي ��ث ال �� �ش��ري��ف‪ ،‬وو���ض��ع��وا له‬ ‫ق��واع��د و�آل� �ي ��ات ب�غ�ي��ة ال��و� �ص��ول �إىل‬ ‫ال�صدق الذي يجعل الأمة الإ�سالمية‬ ‫ت�ت�ب�ع��ه وت �ع �ت �م��د ع�ل�ي��ه ‪ ،‬وق ��د ال �ت��زم‬ ‫الأخ��ب��اري��ون الأوائ � ��ل – ك �م��ا ي�ق��ول‬ ‫م�ؤن�س ‪ -‬ممن مهدوا لكتابة ال�سرية‬ ‫م��ن �أم�ث��ال �أب��ان ب��ن عثمان ‪ ،‬وعبيد‬ ‫بن �شرية ‪ ،‬وعروة بن الزبري الأ�صول‬ ‫التي اعتمدها املحدثون فيما رووا من‬ ‫�أخبار ‪ .‬وكذلك فعل �أ�صحاب املغازي‬ ‫من �أمثال مو�سى بن عقبة والواقدي‬ ‫ث��م ج��اء حممد ب��ن ا��س�ح��اق املطلبي‬ ‫فكتب ��س�يرة ال�ن�ب��ي �صلى اهلل عليه‬ ‫و�سلم ملتزم ًا الدقة والأمانة قدر ما‬ ‫ا�ستطاع‪.‬‬ ‫ولقد تطورت درا�سة التاريخ وات�سع‬ ‫جماله ف�أ�صبح يتناول اليوم درا�سة‬ ‫ال �ت �ج��رب��ة الإن �� �س��ان �ي��ة ع �ل��ى الأر�� ��ض‬ ‫درا�سة �شاملة عامة ومل يعد خا�ص ًا‬ ‫باملا�ضي ؛ ذلك لأن امل ��ؤرخ ال يدر�س‬ ‫الأحداث لذاتها بل يدر�سها بو�صفها‬ ‫جتارب لها �آثارها يف �سري اجلماعات‬


‫سيمياء‬

‫ونتائجها ‪ ،‬فعندما يدر�س امل�ؤرخ املا�ضي ف�إنه يدر�سه‬ ‫من �أج��ل فهم احلا�ضر وامل�ستقبل ‪ ،‬لأنهما نتيجة له‬ ‫وعليه يتم التخطيط للم�ستقبل ‪ ،‬ومن هنا ف�إن التاريخ‬ ‫ال يف�صل ب�ين ال��وح��دة الزمانية م��ن حيث ت�سل�سلها‬ ‫وات�صالها وترابطها ‪ .‬وهكذا ات�سع علم التاريخ حتى‬ ‫غدا اليوم ي�شمل التجربة الإن�سانية كلها ‪ ،‬فلم يقت�صر‬ ‫التاريخ على تلك الأح��داث ال�سيا�سية �أو الع�سكرية‬ ‫فح�سب بل �شمل التطورات االجتماعية واالقت�صادية‬ ‫والعلمية والفنية جميع ًا ‪ ،‬حتى �أ�صبح دور امل ��ؤرخ‬ ‫موجه ًا �إىل درا�سة �أحوال الب�شر عامة وتطور اجلماعة‬ ‫الإن�سانية يف جمموعها‪.‬‬ ‫وع�ل��ى ذل��ك ف ��إن ال�ت��اري��خ حا�ضر وف��اع��ل يف �سل�سلة‬ ‫زمنية مت�صلة‪ ،‬وهو ي�ستمد هذا احل�ضور والفعل من‬ ‫ا�ستمرار اجل��وه��ر يف جتلياته ‪ ،‬و�أن ال��زم��ان م��ا هو‬ ‫�إ َّال عن�صر خارجي – على حد تعبري عزيز العظمة‬ ‫يف كتابه «ال�ت�راث ب�ين ال�سلطان وال�ت��اري��خ» ‪ -‬ي�شهد‬ ‫وي�سجل حلظات ال كيفية فيها ويف تتابعها لكينونة‬ ‫هذا اجلوهر؛ التاريخ بهذا املعنى مرور الزمان على‬ ‫ذات م�ستمرة �صاحبة هوية ت�ستنتج نف�سها دهر ًا بعد‬ ‫دهر‪ ،‬ولذلك ف�إن «الربط بني التاريخ وفل�سفة الع�صر»‬ ‫ي�ك� ِّون �شك ًال م��ن �أ��ش�ك��ال ال��رب��ط ب�ين ت��راث�ن��ا والفكر‬ ‫احل��دي��ث‪ ،‬ب�ين الأ��ص��ال��ة واملعا�صرة ؛ فاال�ستمرارية‬ ‫الزمنية بني احلا�ضر واملا�ضي �أمر واقع حا�صل‪ ،‬و�أن‬ ‫لهذا اال�ستمرار حم ًّال بعبارة املتكلمني والفال�سفة‪،‬‬ ‫هو«الذات احل�ضارية» التي يقع فيها الزمان ويرتطم‬ ‫بها الآخر الغازي الثقايف‪ ،‬و�أن التوا�صل الع�ضوي هو‬ ‫ال�شكل الطبيعي لكينونة املجتمع والثقافة يف الزمان‪.‬‬ ‫ول�ك��ي نح�صل على الع�ضوانية التاريخية القائمة‬ ‫على البحث عن �أ�صول �أوىل م�ستمرة‪� ،‬أ�سطورية يف‬ ‫فعلها وا�ستمرارها ‪ ،‬والنحو مب�س�ألة الرتاث يف اجتاه‬ ‫واقعي يف نظرته للتاريخ وواع ب�شروط احلا�ضر منفتح‬ ‫عليها‪ ،‬وحت��رري يف دعوته للم�ستقبل ‪ ،‬ف�إنه البد �أن‬ ‫يرى هذا االجتاه �أن الأ�صول لي�ست يف �أح��داث �أبوية‬ ‫الأثر ومرجعية ثابتة ‪ ،‬بل يف �شروط متجددة ومتحولة‬

‫ومنقطعة ‪ ،‬ولن يتم ذلك �إ َّال بالنظر الواقعي للتاريخ‬ ‫ول�ع�لاق��ة امل��ا��ض��ي ب��احل��ا��ض��ر ع�لاق��ة الإن �� �س��ان االب��ن‬ ‫ب��الإن���س��ان الأب ؛ ول��ذل��ك ف���إن ال�ت��اري��خ ك�م��ا ي�صفه‬ ‫العروي �أنه «هو تاريخ الب�شر للب�شر وبالب�شر »‬ ‫يذكر لوغوف يف كتابه «التاريخ اجلديد» �أهمية هذا‬ ‫النوع من التاريخ من حيث ا�ستدالالته وا�ستخدامه‬ ‫لعلم اخل��رائ��ط وا�ستفادته م��ن العلوم احلديثة من‬ ‫�أجل تدوين ودرا�سة تاريخ الإن�سانية فيما يعتقده �أن‬ ‫«التاريخ اجلديد» «‪ ...‬حماولة لإن�شاء تاريخ كلي ‪»...‬؛‬ ‫ويذكر لوغوف �أن م��ارك بلوخ يبني من خ�لال كتاب‬ ‫«اخل�صائ�ص املميزة للتاريخ الريفي الفرن�سي» دور‬ ‫التاريخ يف نحت امل�شهد الطبيعي و�أنظمة الزراعة‪،‬‬ ‫فاملزارع املغرو�سة بالأ�شجار وامل�سيجة لي�ست من �إنتاج‬ ‫الرتبة‪ ،‬و إ�من��ا من �إب��داع الإن�سان؛ ذل��ك لأن التاريخ‬ ‫يعرب عن وعي الإن�سان بالكون الذي ينتمي �إليه ‪ ،‬فهو‬ ‫– �أي التاريخ – «كوين يف م�ضمونه وب�شري يف حفظه‬ ‫وذكره ‪ »...‬‬ ‫وعلى ذلك ف�إن �أهمية التاريخ املروي تتجلى يف حفظ‬ ‫ال��ذاك��رة املجتمعية وم��ن ث��م احل�ف��اظ على ال��رواب��ط‬ ‫االجتماعية التقليدية ‪ .‬وحيث �أن هذه الذاكرة ت�شكل‬ ‫�إط��ارا معياريا لل�سلوكيات وللممار�سات؛ �أي مرجعا‬ ‫ذهنيا بالن�سبة لل�سكان يف حياتهم اليومية ف�إن هذا‬ ‫يجعل �ضبط املجتمع مير �أي�ضا عرب �ضبط تطور هذه‬ ‫ال��ذاك��رة‪ ،‬التي تتوحد من خاللها الأف�ك��ار واجلهود‬ ‫ويجتمع �أف��راد املجتمع على تاريخ واح��د‪ ،‬نحن �إذن‬ ‫ندر�س التاريخ لذاته يف املرتبة الأوىل لأننا يف حاجة‬ ‫لأن نعرف عن املا�ضي وم��ا م��رت به جمتمعاتنا من‬ ‫جت��ارب وم�ع��ارف‪ ،‬فن�ستطيع بعد ذل��ك �أن نبني على‬ ‫�إثرها معارف جديدة للحا�ضر ونخطط للم�ستقبل ‪،‬‬ ‫ثم �إننا ال ندر�سه للع�ضة فقط بل لكي يزداد �إح�سا�سنا‬ ‫اجلمعي مع الآخر ال�سابق لنا زمني ًا �أو الالحق �ضمن‬ ‫ال�سريورة الزمنية التاريخية فينمو لدى املجتمعات‬ ‫ال�شعور اجلمعي القومي املنبثق من مبادئها وقيمها‬ ‫الدينية واملجتمعية‬


‫دراسة‬ ‫‪102‬‬ ‫الـعــــدد‬ ‫‪158‬‬ ‫ديسمبر‬

‫‪2012‬‬

‫اللغة العربية‪..‬‬

‫مالمح الشهود الحضاري‬


‫د‪ .‬بليغ حمدي �إ�سماعيل‬

‫مدر�س اللغة العربية وعلومها بجامعة الأزهر‪ ،‬م�رص‬

‫تدل اللغة العربية على احلياة العقلية من ناحية �إن لغة كل �أمة‬ ‫يف كل ع�صر مظهر من مظاهر عقلها وتفكريها‪ ،‬ومل تخلق اللغة‬ ‫دفعة واحدة‪ ،‬ومل ي�أخذها اخللف من ال�سلف ال�صالح كاملة‪� ،‬إمنا‬ ‫تخلق �أو يخلق النا�س يف �أول �أمرهم �ألفاظاً على قدر حاجاتهم‪،‬‬ ‫ف�إذا ظهرت �أ�شياء جديدة خلقوا لها �ألفاظاً جديدة‪ ،‬و�إذا اندثرت‬ ‫�أ�شياء قد تندثر �ألفاظها معها‪ ،‬وهكذا نرى اللغة يف حياة وموت‬ ‫م�ستمرين‪.‬‬ ‫وه��ذا م��ا �أ� �ش��ار �إل�ي��ه «�أول �ي�ري» يف كتابه»‬ ‫ال�ع��رب�ي��ة ق�ب��ل حم�م��د‬ ‫‪ »Mohammed‬من حيث �إن اال�شتقاقات‬ ‫والتعبريات اللغوية �أي�ض ًا تنمو وترقى تبع ًا‬ ‫لرقي ا ألم��ة‪ ،‬ويقول �أول�يري‪« :‬وملا كان هذا‬ ‫�أمكننا �إذا �أح�ضرنا معجم اللغة ال��ذي‬ ‫ت�ستعمله الأم��ة يف ع�صر من الع�صور �أن‬ ‫نعرف الأ�شياء املادية التي كانت تعرفها‬ ‫والتي ال تعرفها»‪.‬‬

‫«‪Arabia before‬‬

‫تعريفات اللغة‬

‫وقد اهتم ال ُقدَ َماء واملحدثون من ال ُل َغويني‬ ‫بتقدمي تعريف للُّ َغ ِة يو�ضح معناها‪ ،‬ويبني‬ ‫ْ�صود بها‪ ،‬وقد نال التَّعريف الذي قال‬ ‫ا َملق ُ‬ ‫ُ‬ ‫ِّ‬ ‫وا�س َعة لدى املحدثني من‬ ‫به ابن ِجني �شهرة ِ‬ ‫َ‬ ‫رحه‬ ‫�ش‬ ‫ب‬ ‫الكثريون‬ ‫واهتم‬ ‫اللُّغويني ال َع َر ِب‪،‬‬ ‫ِ ِ‬ ‫وبيان َمق َْ�ص ِده‪ ،‬وي��رى العامل اللُّغوي ابن‬ ‫جني اللغة على �أنها «�أ�صوات يعرب بها كل‬ ‫َقوم عن � ْأغرا�ضهم»‪ .‬وهذا التَّعريف دقي ٌق‬ ‫َعريف اللُّغة عند‬ ‫يف َج��وهَ ��ره مع َعنا�صر ت ِ‬ ‫ال َباحثني املعا�صرين‪ ،‬فهو ي�ؤكد على جانب‬ ‫الطبيعة ال�صوتية للرموز اللغوية‪ ،‬ويبني‬ ‫االج ِتماع َّية هي التعبري‬ ‫�أي�ضا ً �أن وظيفتها ْ‬ ‫و َنقل الأ ْفكار يف �إطار ال ِبيئة اللغو َّية‪.‬‬ ‫وقد تعددت تعريفات اللغة بتعدد املذاهب‬ ‫واالجتاهات املختلفة التي تنظر �إىل اللغة‬

‫�سواء باعتبارها �أداة يتبادل �أفراد املجتمع‬ ‫الواحد بوا�سطتها الأف�ك��ار‪ ،‬وامل�ع��ارف‪� ،‬أو‬ ‫باعتبارها و�سيط ًا ي�سهل عملية االت�صال‬ ‫ب�ي�ن �أف�� ��راد امل �ج �ت �م��ع‪ ،‬ويف � �ض��وء ه��ذي��ن‬ ‫االجت��اه�ين ت �ع��ددت التعريفات واختلفت‬ ‫فيما بينها‪ .‬ويرى ميللر ‪ Miller‬اللغة على‬ ‫�أنها «ا�ستعمال رموز �صوت ّية مقطع ّية يعرب‬ ‫مبقت�ضاها عن الفكر»‪ ،‬ويعرفها جون كارول‬ ‫َ‬ ‫املت�ش ِّكل‬ ‫‪ John Carroll‬ب��أن�ه��ا ال� ِّن�ظ��ام‬ ‫من ال ْأ�صوات ال َّلفظية االتفاقية وتتابعات‬ ‫ه��ذه الأ��ص��وات التي ت�ستخدم �أو ميكن �أن‬ ‫ت�ستخدم يف االت�صال املتبادل بني جماعة‬ ‫َ‬ ‫ب�شكل‬ ‫ت�صف‬ ‫من ال َّنا�س‪ ،‬والتي ميكن �أن‬ ‫ٍ‬ ‫عام الأ�شياء والأحداث والعمل َّيات يف البيئة‬ ‫الإن�سانية‪ .‬بينما يرى موري�س ‪MORRIS‬‬ ‫اللغة ب�أنها «جمموعة م��ن ع�لام��ات ذات‬ ‫دالل��ة جمعية م�شرتكة ممكنة النطق بني‬ ‫�أفراد املجتمع املتكلم بها كافة»‪ ،‬وهي ذات‬ ‫ثبات ن�سبي يف كل موقف تظهر فيه‪ ،‬ويكون‬ ‫لها نظام حمدد تت�آلف مبوجبه ح�سب �أ�صول‬ ‫معينة وذلك لرتكيب عالمات �أكرث تعقيد ًا‪.‬‬

‫تعددت تعريفات‬ ‫اللغة بتعدد المذاهب‬ ‫واالتجاهات التي تنظر‬ ‫إليها باعتبارها أداة تبادل‬ ‫أفكار أو وسيط اتصال‬

‫�ارف الأم��ري�ك� َّي��ة اللُّغة‬ ‫وت�ع��رف دائ ��رة ا َمل �ع� ِ‬ ‫�ات ال���ص��وت� ّي��ة‬ ‫ب ��أن �ه��ا «ن��ظ��ا ٌم م��ن ال �ع�لام� ِ‬ ‫اال� �ص �ط�لاح �ي��ة»‪ .‬وي�ع��رف�ه��ا ��س��اب�ير ب��أن�ه��ا‬ ‫«و�سيلة تفاهم خا�صة بالإن�سان متكنه من‬ ‫تبادل الأفكار والعواطف والرغبات بوا�سطة‬ ‫رموز �صوتية ا�صطالحية على وجه التغليب‬ ‫والتعميم ي�صدرها �أع�ضاء النطق �إرادي ًا»‪.‬‬ ‫وت�ع��رف املو�سوعة الفرن�سية اللغة ب�أنها‬


‫دراسة‬ ‫‪104‬‬ ‫الـعــــدد‬ ‫‪158‬‬ ‫ديسمبر‬

‫‪2012‬‬

‫«عالمات مركبة تولد يف ال�شعور �إح�سا�سات‬ ‫متباينة‪� ،‬إما م�ستثارة �أو مبا�شرة‪� ،‬أو خممنة‬ ‫عن طريق االرتباط»‪ .‬ويعرف ماك�س موللر‬ ‫اللغة ب�أنها « ت�ستعمل رموز ًا �صوتية مقطعية‪،‬‬ ‫يعرب مبقت�ضاها عن الفكر»‪.‬‬ ‫وع� � ّرف علماء النف�س ال�ل�غ��ة‪ ،‬ف ��ر�أوا �أنها‬ ‫جمموعة �إ�شارات ت�صلح للتعبري عن حاالت‬ ‫ال�شعور‪� ،‬أي عن ح��االت الإن�سان الفكرية‬ ‫والعاطفية والإرادي��ة‪� ،‬أو �أنها الو�سيلة التي‬ ‫ميكن بوا�سطتها حتليل �أية �صورة ٍ �أو فكر ٍة‬ ‫ذهني ٍة �إىل �أجزائها �أو خ�صائ�صها‪ ،‬والتي‬ ‫بها ميكن تركيب هذه ال�صورة م ّرة �أخرى‬ ‫ب�أذهاننا و �أذه��ان غ�يرن��ا‪ ،‬وذل��ك بت�أليف‬ ‫خا�ص‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫كلمات وو�ضعها يف ٍ‬ ‫ترتيب ٍ‬ ‫وهناك تعريفات عديدة �أخرى‪ ،‬تتفق حيناً‬ ‫وتختلف حين ًا �آخ��ر‪ .‬ولع ّل م�صدر التباين‬ ‫يف ه��ذه التعريفات ن��ا��ش� ٌ�ئ ع��ن منطلقات‬ ‫�أ�صحابها الفكرية‪ .‬فمن تعريف و�صفي‬ ‫نف�سي داخ�ل� ٍ�ي‪� ،‬إىل‬ ‫ٍ خ��ارج��ي‪� ،‬إىل تعريف ٍ‬ ‫�آخ ��ر مي�ث��ل ن �ظ��رة فل�سفي ًة م�ع�ي�ن� ًة ل��واق��ع‬ ‫الإن�سان ووج��وده ون�ش�أته‪ .‬علم ًا �أن الناظر‬ ‫�إىل واقع اللغة الإن�سانية – و�صف ًا وتقرير ًا‬ ‫– يجد �أن �ه��ا �أ� �ص��وات و�أل �ف��اظ وتركيب‬ ‫دالالت‬ ‫خا�ص بها‪ ،‬لها‬ ‫نظام‬ ‫ٍ‬ ‫ٌ‬ ‫من�سقة يف ٍ‬ ‫قوم عن‬ ‫وم�ضامني معينة‪ ،‬يعبرّ بها كل ٍ‬ ‫حاجاتهم اجل�سدية وحاالتهم النف�سية‬ ‫ون�شاطاتهم الفكرية‪.‬‬

‫� �ص��ورة �أو ف�ك��رة ذه�ن�ي��ة �إىل �أج��زائ �ه��ا �أو‬ ‫خ�صائ�صه املميزة‪ ،‬والتي ميكن بها تركيب‬ ‫ه ��ذه ال �� �ص��ورة م ��رة �أخ� ��رى يف �أذه��ان �ن��ا‪،‬‬ ‫و�أذه��ان غرينا من �أف��راد املجتمع الواحد‪،‬‬ ‫وذلك بو�ضعها يف ترتيب وتنظيم خا�ص‪.‬‬ ‫كما �أن اللغة قدرة ذهنية تتكون من جمموع‬ ‫م��ن امل �ع��رف ال �ل �غ��وي��ة‪ ،‬مب��ا ف�ي�ه��ا امل �ع��اين‬ ‫وامل� �ف ��ردات والأ�� �ص���وات وال �ق��واع��د ال�ت��ي‬ ‫تنظمها جميع ًا‪ .‬كما �أنها نظام من الرموز‬ ‫ال�صوتية ي�ت��أل��ف م��ن �أ� �ص��وات تنجم عن‬ ‫جهاز النطق الب�شري‪ ،‬و�إن�ساين فهو نتاج‬ ‫للجهد اجلماعي الب�شري‪ ،‬ونظامي لأن��ه‬ ‫يخ�ضع لقواعد تقرر تركيبه‪.‬‬

‫ق�ضية اكت�ساب اللغة‬

‫وال��ش��ك �أن��ه يف �ضوء املوا�ضعات ال�سابقة‬ ‫للغة �أنها جمموعة �إ�شارات ت�صلح للتعبري‬ ‫عن حاالت ال�شعور املختلفة‪� ،‬أي عن حاالت‬ ‫الإن�سان الفكرية والعاطفية والإرادية‪،‬وهي‬ ‫الو�سيلة التي ميكن بوا�سطتها حتليل �أية‬

‫للفظة الواحدة صورة‬ ‫ذهنية ثابتة نسبي ًا إذا‬ ‫عالجناها من المنظور‬ ‫المعجمي وصور ذهنية‬ ‫متعددة إذا خرجت إلى‬ ‫آفاق أرحب وأوسع‬

‫ولقد ت�ن��اول علماء اللغة‪ ،‬وعلماء النف�س‬ ‫ق�ضية اكت�ساب اللُّغة‪ ،‬يف حماولة ـ قد تَكون‬ ‫ج��ادةـ لتف�سري كيفية اكت�ساب الفرد للغة‪.‬‬ ‫وق��د اختلفت الآراء ب���ش��أن تلك الق�ضية‬ ‫�أو الظاهرة‪ ،‬بح�سب فل�سفتهم و�إط��اره��م‬ ‫امل��رج�ع��ي‪ .‬ومل تعد اه�ت�م��ام��ات علم اللغة‬ ‫احلديث مقت�صرة على اجلوانب النظرية‬ ‫والتحليلية يف درا�سة اللغة فقط‪ ،‬بل �أ�ضيفت‬ ‫ومهام جديدة – بخا�صة‬ ‫�إليها اهتمامات‪َ ،‬‬ ‫بعد ظهور علم اللُّغة التطبيقي‪ -‬تهدف �إىل‬ ‫خدمة املجتمع‪ ،‬ومن هذه املهام‪ :‬االهتمام‬ ‫بدرا�سة عيوب النطق وم�شكالت التخاطب‬


‫والكالم‪ ،‬وعالجها �إن �أمكن‪ ،‬ومنها �أي�ض ًا‬ ‫االهتمام بدرا�سة منو الطفل اللغوي‪ ،‬ومنها‬ ‫�أي�ض ًا االهتمام بدرا�سة ظاهرة اكت�ساب‬ ‫ال �ل �غ��ة‪ ،‬ب��الإ� �ض��اف��ة �إىل درا���س��ة م �ه��ارات‬ ‫االت�صال اللُّغوي‪ ،‬وغري ذلك من املو�ضوعات‬ ‫التي لها عالقة وثيقة باللُّغة واملجتَمع‪.‬‬

‫ال�صور الذهنية للفظ‬

‫ولقد درج النحاة واللغويون القدماء على‬ ‫ا�ستعمال كلمة «لفظ» ا�ستعما ًال غري حمدد‬ ‫‪ ،‬وهذا ما �أ�شار �إليه املفكر اللغوي الدكتور‬ ‫متام ح�سان‪ ،‬حيث �إن كلمة «لفظ» العربية‬ ‫ت�شري ت��ارة �إىل الكلمة‪ ،‬وت��ارة �أخ��رى �إىل‬ ‫الكالم‪ ،‬رغ��م الفارق البينِّ بني كليهما يف‬ ‫الإف���راد وال�ترك�ي��ب‪ ،‬ول�ك��ن ه��ذا يعك�س ما‬ ‫للفظة العربية ال��واح��دة على التعبري عن‬ ‫معانٍ وتعابري طويلة بكلمة واحدة ق�صرية‪.‬‬ ‫وم��ا ي ��ؤك��د ك�لام�ن��ا ه��ذا ق��ول اب��ن م��ال��ك‪:‬‬ ‫« ك�لام�ن��ا ل�ف��ظ م�ف�ي��د» ‪ .‬وق ��ول اجل ��زويل‪:‬‬ ‫«الكالم هو اللفظ املركب املفيد بالو�ضع»‪،‬‬ ‫�إذا نحا كالهما باللفظ منحى الرتكيب‬ ‫يف مقابل ما �شاع من جعل اللفظ مرادف ًا‬ ‫للكلمة على �أل�سنة الدار�سني‪ .‬وهذا يجعلنا‬ ‫نقر بامتالك اللفظة الواحدة �صورة ذهنية‬ ‫ث��اب�ت��ة ن�سبي ًا �إذا ع��اجل�ن��اه��ا م��ن املنظور‬ ‫املعجمي‪ ،‬وب�صور ذهنية متعددة �إذا خرجت‬ ‫هذه اللفظة من �ضيق املعنى املعجمي �إىل‬ ‫�آفاق �أرحب و�أو�سع‪.‬‬

‫امل�شهد احل�ضاري للغة‬

‫وحينما نقرتب لر�صد امل�شهد احل�ضاري‬ ‫لأل �ف��اظ اللغة العربية ن�ستبني �أن هناك‬ ‫�ألفاظ ًا تغريت معانيها يف الإ��س�لام‪ ،‬حيث‬ ‫كان املعنى لها يف اجلاهلية عام ًا وخ�ص�ص‬ ‫يف الإ�سالم‪ ،‬مثل ال�صالة‪ ،‬والزكاة‪ ،‬واحلج‪،‬‬ ‫والبيع‪ ،‬واملزارعة‪ ،‬بل �إن اللفظ الواحد قد‬ ‫تغري مدلوله يف عقل ال�سامع بانتقاله من‬ ‫ط��ور ال�ب��داوة �إىل امل�شهد احل�ضاري‪ ،‬مثل‬ ‫لذلك لفظة الكر�سي التي كانت تعني لدى‬ ‫البدوي املقعد اخل�شبي �أو احلجري فقط‬

‫ال��ذي يجل�س عليه امل��رء‪ ،‬ولكن بعد ن��زول‬ ‫القر�آن ا�ستطاعت اللغة العربية �أن تخلق‬ ‫لها م�شهد ًا ح�ضاري ًا ليعادل هذه املعجزة‬ ‫اللغوية ال�سماوية‪ ،‬فانتقل مدلول الكر�سي‬ ‫من معناه ال�ضيق لي�شري مرة �إىل العر�ش‪،‬‬ ‫وم���رة �إىل امل �ن �� �ص��ب‪ ،‬وم���رة �إىل امل�ن��زل��ة‬

‫ثمة عوامل جعلت‬ ‫اللغة وألفاظها تخرج‬ ‫من كونها مجرد‬ ‫وسيلة اتصال ووسيط‬ ‫للتواصل اإلنساني‬ ‫إلى اعتبارها مشهد ًا‬ ‫من مشاهد الحضارة‬ ‫اإلنسانية‬

‫وهكذا‪ .‬وا إلم��ام جالل الدين ال�سيوطي يف‬ ‫كتابه املزهر يقول‪�« :‬إن لفظ اجلاهلية ا�سم‬ ‫ح��دث يف الإ� �س�لام للزمن ال��ذي ك��ان قبل‬ ‫البعثة‪ ،‬واملنافق ا�سم �إ�سالمي مل ُيعرف يف‬ ‫اجلاهلية»‪.‬‬ ‫و�أو� �ض��ح علماء اللغة امل�ت�ق��دم��ون �أن �أه��ل‬ ‫التحقيق �أ��ش��اروا �إىل �أن الأل�ف��اظ العربية‬ ‫تابعة للمعاين‪ ،‬كون املعاين �أ� ً‬ ‫صال للألفاظ‪،‬‬ ‫حيث �إن املعاين منها ما يكون معنى واحد ًا‪،‬‬ ‫ثم تو�ضع له �ألفاظ كثرية تدل عليه وت�شعر‬ ‫به‪ ،‬ولو كانت املعاين تابعة للألفاظ لكان‬ ‫يلزم �إذا كانت الأل�ف��اظ خمتلفة �أن تكون‬ ‫املعاين خمتلفة �أي�ض ًا‪ .‬وي�ؤكد قولنا هذا ما‬ ‫�أ��ش��ار �إليه البالغي العربي يحيى العلوي‬ ‫يف كتابه الطراز‪ ،‬حيث يقول �إن املعاين لو‬ ‫كانت تابعة للألفاظ للزم يف كل معنى �أن‬


‫دراسة‬ ‫‪106‬‬ ‫الـعــــدد‬ ‫‪158‬‬ ‫ديسمبر‬

‫‪2012‬‬

‫عملية النحت‬ ‫اللغوي تمنح اللفظ‬ ‫العربي القدرة على‬ ‫الشهود الحضاري‬ ‫والقدرة على التكيف‬ ‫المناسب لكافة‬ ‫المتغيرات المعاصرة‬ ‫والتعبير عن حاالت‬ ‫اجتماعية متباينة‬ ‫يكون له لفظ يدل عليه‪ ،‬ف�إن املعاين ال نهاية‬ ‫لها‪ ،‬والألفاظ متناهية‪ ،‬وما يكون بغري نهاية‬ ‫ال يكون تابع ًا ملا له نهاية‪ ،‬ويقول البالغي‬ ‫يحيى العلوي ما ن�صه‪« :‬و�إمنا كانت الألفاظ‬ ‫متناهية‪ ،‬لأن �ه��ا داخ �ل��ة يف ال��وج��ود‪ ،‬وك��ل‬ ‫م��ا دخ�ل��ه ال��وج��ود م��ن امل�ك��ون��ات فله نهاية‬ ‫ال�ستحالة وج��ود م��ا النهاية ل��ه‪ ،‬ومو�ضعه‬ ‫الكتب العقلية» ‪.‬‬ ‫وثمة عوامل جعلت اللغة و�ألفاظها تخرج‬ ‫م��ن كونها جم��رد و�سيلة ات�صال وو�سيط‬ ‫للتوا�صل الإن�ساين �إىل اعتبارها م�شهد ًا من‬ ‫م�شاهد احل�ضارة الإن�سانية‪ ،‬منها عوامل‬ ‫ت�ط��ور ال��وظ�ي�ف��ة ال�ل�غ��وي��ة‪ ،‬وت �ن��وع اخل�ط��اب‬ ‫اللغوي من خطاب ال يخرج عن املرا�سالت‬ ‫الإخوانية �أو الر�سمية �إىل خطاب �إبداعي‬ ‫مثل ال�شعر والق�صة وال��رواي��ة‪ ،‬وخطاب‬ ‫�سيا�سي‪ ،‬وعوامل وافدة مثل نظريات علوم‬ ‫اللغة التي �أطلقت على اللفظ اللغوي مفهوم‬ ‫ال��دال وعلى ما يت�ضمنه اللفظ من معنى‬ ‫وم�ضمون مفهوم املدلول‪.‬‬

‫اللغة وحق احلياة‬

‫واللغة العربية التي نحر�ص �أن يلتزم بها‬ ‫متحدثو ال�ضاد نطق ًا وكتاب ًة ب�صورة وظيفية‬

‫أوليري‪ :‬من خالل معجم‬ ‫اللغة الذي تستعمله‬ ‫األمة في عصر من‬ ‫العصور يمكننا أن‬ ‫نعرف األشياء المادية‬ ‫التي كانت تعرفها‬ ‫والتي ال تعرفها‬

‫�أو �إب��داع �ي��ة‪ ،‬ه��ي ل�غ��ة ك�ت��ب ل�ه��ا ال�شهود‬ ‫احل�ضاري منذ �أن نزل القر�آن الكرمي بها‪،‬‬ ‫ف�أعطى لها ح��ق احل �ي��اة‪ ،‬ومنحها جت��دد ًا‬ ‫م�ستدام ًا ال ينقطع‪ .‬وال ينكر ج��اح��د �أن‬ ‫ال �ق��ر�آن ال �ك��رمي د��س�ت��ور امل�سلمني يف �شتى‬ ‫بقاع الأر�ض قد َح َقنَ اللفظة العربية بعقار‬ ‫منحه الن�شاط الزائد‪ ،‬وخري دليل على ن�شاط‬ ‫امل �ف��ردة العربية �أن حركة التقدم العلمي‬ ‫امل�ستمرة كل يوم قد �صحبها جتديد البحث‬ ‫يف الن�شاط اللغوي ومن خالل تقعيد مفردات‬ ‫لغوية جديدة تنا�سب هذا التقدم العلمي‪.‬‬ ‫ب��ل �إن ال�ل�غ��ة ال�ع��رب�ي��ة ذات �ه��ا �أ��ص�ب�ح��ت يف‬ ‫ال�سنوات الأخرية من �إحدى و�سائل ال�شحذ‬ ‫احل�ضاري‪ ،‬عن طريق دور الرتجمة اللغوية‬ ‫ال�صائبة لكل امل�ؤلفات العلمية‪ ،‬وه��ذا ما‬ ‫�أ�شرنا �إليه ونحن نتحدث عن تغري وظيفة‬ ‫ال�ل�غ��ة م��ن ك��ون�ه��ا و�سيلة ات���ص��ال وو�سيط‬ ‫توا�صل �إىل و�سيلة �ضرورية لتنمية الفكر‬ ‫الب�شري عن طريق الرتجمة‪.‬‬ ‫وال�شك �أن اللغة ا�ستطاعت �أن تلعب دور ًا‬ ‫�سيا�سي ًا بالغ اخلطورة والأهمية على ال�سواء‬ ‫يف امل�شهد ال�سيا�سي يف الدول التي �شهدت‬ ‫رب�ي��ع ال �ث��ورات يف ال �ع��ام امل��ا� �ض��ي‪ ،‬فاللغة‬ ‫الإ� �ش��اري��ة ال�ت��ي ك��ان ال���ش�ب��اب ي�صر على‬ ‫�إقحامها يف توا�صلهم االجتماعي اختفت‬ ‫وان��دث��رت ب�ف�ع��ل ال�ت�م��ا���س ال �ث��ائ��ري��ن للغة‬ ‫ومفرداتها الن�شطة للتعبري عن مطالبهم‬ ‫ومطاحمهم‪ ،‬وه��ذا ملمح �آخ��ر جديد على‬ ‫ال�شهود احل�ضاري املعا�صر لألفاظ اللغة‬ ‫العربية التي مل تكن غائبة ع��ن احل��راك‬ ‫ال�سيا�سي‪.‬‬ ‫ورغ��م �أن اللغة العربية وبالغتها املميزة‬ ‫لطبيعتها تتعر�ض ملحاوالت ت�شويه مق�صودة‬ ‫وم�ستمرة من قبل بع�ض الأ�شخا�ص الذين‬ ‫يطلقون على �أنف�سهم لفظ مبدعني وكذلك‬ ‫بع�ض املنظمات الأجنبية التي تعمل جاهدة‬ ‫ليل ن�ه��ار على تقوي�ض دع��ائ��م اللغة عن‬ ‫طريق املناداة بدعاوى م�شبوهة لغوي ًا مثل‬ ‫التخلي التدريجي عن اخلا�صية الإعرابية‬ ‫ل�ل�غ��ة‪ ،‬وع��ن ط��ري��ق تهمي�ش دور ال�ق��واع��د‬ ‫العرو�ضية التي متثل طق�س ال�شعر و�شرائطه‬


‫ال�ضابطة‪ ،‬و�أخري ًا �ضرورة الدمج بني اللغة‬ ‫الف�صيحة واللهجات العامية حتت ظن �أن‬ ‫الأخ�يرة �أق��رب يف التوا�صل بني املتحدثني‬ ‫باللغة ذاتها‪ ،‬وهذا لغط �شديد وخط�أ بينِّ ‪،‬‬ ‫لأن الألفاظ العربية الف�صيحة متتلك قدرة‬ ‫هائلة بف�ضل اللفظ ال �ق��ر�آين على ال�ثراء‬ ‫واالمتالء اللغوي مبعنى القدرة على التعبري‬ ‫التام عن جميع امل�شاعر واملظان واحلقائق‪،‬‬ ‫بالإ�ضافة �إىل متتع اللفظة العربية باحل�ضور‬ ‫عن طريق تنوع املعنى ودقة التو�صيف‪.‬‬

‫ميزات فريدة‬

‫وتتميز اللغة العربية مبزية فريدة ال ت�شرتك‬ ‫معها فيها لغات �أخرى وهي مزية االنفراد‬ ‫اللغوي‪� ،‬أي �أن هناك كلمات تعد ن�شيطة‪،‬‬ ‫�أي قابليتها لال�شتقاق والنحت اللغوي من‬ ‫مفردة واحدة مع احلفاظ على قدر مقبول‬ ‫من التمايز‪ ،‬مثل م�شتقات كلمة َع ِل َم‪ ،‬والتي‬ ‫ميكن ا�شتقاق ونحت عدة كلمات منها مثل‪:‬‬ ‫ِعلم «بك�سر العني وت�سكني ال�ل�ام» ومعلم‬ ‫وم ْعلم «بفتح العني وت�سكني العني» وعليم‪،‬‬ ‫وع�ل َّام‪ ،‬و�إع�لام‪ ،‬وتعليم‪ ،‬وا�ستعالم‪ .‬وهذه‬ ‫الزوائد وال�سوابق واللواحق والدواخل التي‬ ‫ت�ضاف �إىل الكلمة تعد مورفيمات «�أ�صغر‬ ‫وحدة لغوية ذات معنى»‪ ،‬لأن هذه الزوائد‬ ‫مورفيمات لها معانيها ولأنها وحدات يكرث‬ ‫تواجدها يف كلمات اللغة‪.‬‬ ‫وعملية النحت ال�ل�غ��وي تلك متنح اللفظ‬ ‫العربي ال �ق��درة على ال�شهود احل�ضاري‪،‬‬ ‫وال �ق��درة على التكيف امل�ق�ب��ول واملنا�سب‬ ‫لكافة امل�ت�غ�يرات املعا�صرة‪ ،‬والتعبري عن‬ ‫حاالت اجتماعية متباينة‪.‬‬ ‫ثمة ظاهرة �أخرى تتمتع بها الألفاظ العربية‬ ‫لتحقق ال�شهود احل�ضاري للغة ذاتها‪ ،‬وهي‬ ‫ظاهرة احل��وار بني الكلمات‪ ،‬وهو ما اتفق‬ ‫على ت�سميته بني املنظرين اللغويني بال�سياق‬ ‫اللغوي‪ ،‬حيث �إن املفردة اللغوية ال تتمتع‬ ‫ب�ن��وع م��ن التمايز امل�ستقل �أو اال�ستعالء‬ ‫اللغوي ع��ن بقية الكلمات ال ��واردة بن�ص‬ ‫لغوي معني‪ ،‬ومفاد هذا �أن اللفظة الواحدة‬ ‫مت �ث��ل ال �� �ش �ك��ل ال��ظ��اه��ري امل� �ج ��رد لن�ص‬

‫معني‪ ،‬وبرتا�ص الألفاظ ب�صورة متنا�سبة‬ ‫ومرتابطة حتت مو�ضوع حمدد متنح للن�ص‬ ‫نف�سه �شك ًال باطني ًا �آخر بغري خلل‪.‬‬

‫كلمات ن�شيطة و�أخرى خاملة‬

‫ملمح �آخ��ر ي��ؤك��د على ال�شهود احل�ضاري‬ ‫لألفاظ اللغة العربية‪ ،‬وهو تق�سيم الكلمات‬ ‫العربية �إىل كلمات ن�شيطة‪ ،‬وكلمات خاملة‪،‬‬

‫خير دليل على نشاط‬ ‫المفردة العربية‬ ‫تقعيد مفردات لغوية‬ ‫جديدة تناسب حركة‬ ‫التقدم العلمي‬ ‫المستمرة كل يوم‬

‫ويق�صد بالكلمات الن�شيطة تلك الكلمات‬ ‫ال �ت��ي ت�ع�ل��م لي�ستخدمها امل ��رء يف كالمه‬ ‫وكتابته‪� ،‬أما الكلمات اخلاملة فيق�صد بها‬ ‫تلك الكلمات التي يتوقع من الإن�سان �أن‬ ‫يفهمها �إذا �سمعها �أو قر�أها‪ ،‬ولكن ال يتوقع‬ ‫منه �أن ي�ستخدمها �إذا تكلم �أو كتب‪ .‬ورغم‬ ‫هذا التق�سيم �إال �أن��ه لي�س ثابت ًا‪ ،‬فاحلدود‬ ‫بني هذين النوعني ح��دود مرنة متحركة ‪،‬‬ ‫فالكلمات اخلاملة يف ن�شاط لغوي «خطاب‬ ‫لغوي» معني قد تكون ن�شطة يف خطاب لغوي‬ ‫�آخر ‪� ،‬أي �أن الكلمات والألفاظ العربية يف‬ ‫انتقال م�ستدام من دائرة اخلمول �إىل دائرة‬ ‫الن�شاط‪ ،‬ذلك لأن لكل حقل وميدان لغوي‬ ‫من ميادين املعرفة مفرداته ومو�ضوعاته‬ ‫اللغوية املحددة‬


‫نقد‬ ‫‪108‬‬ ‫الـعــــدد‬ ‫‪158‬‬ ‫ديسمبر‬

‫‪2012‬‬

‫تعريف ال�شعر لدى القلق�شندي �أمنوذج ًا‬

‫إشكالية المصطلح‬ ‫في التراث النقدي العربي‬ ‫د‪ .‬الب�شري التهايل‬

‫جامعة موالي �إ�سماعيل‪ ،‬املغرب‬

‫�إن الق�ضية امل�صطلحية جزء �ضروري و�أ�سا�سي يف موقف كل باحث؛ ولذلك‬ ‫ينظر �إليها عاد ًة من زاوية ال�صحة الفكرية والعلمية الفردية‪ .‬فهي ال‬ ‫تخ�ضع لقرار جماعي يحل تعقيداتها‪ ،‬ويعيد تركيب عنا�صرها على نحو‬ ‫عملي من�سجم‪ ،‬ولكن الأمر موكول �إىل التدبري العلمي لكل باحث على حدة‪.‬‬ ‫يفيد هذا ال��ر�أي امل�سند �إىل ع� مِ�ال اال�صطالح‬ ‫‪ G. Mounin‬ن�ه��و���ض امل�صطلحات ب�سمة‬ ‫تخ�صي�صية م�ضاعفة‪� .‬إن�ه��ا خا�صة لكونها‬ ‫نابتة يف حقل معريف معني‪ ،‬ويف حدوده ي�ؤ�س�س‬ ‫الباحثون �أن�ساق ًا م�صطلحية متزايلة متيز‬ ‫كل واح��د منهم عن الآخ ��ر‪ .‬ونتيجة ذل��ك �أن‬ ‫التعريفات امل�صطلحية بدورها قرينة التعدد‬ ‫ملا كانت تنت�سب �إىل �أ�صحابها‪ ،‬يلب�سونها من‬ ‫املعاين ما يفي ب�أغرا�ضهم النظرية‪ ،‬ويت�أدى �إىل‬ ‫�إدراك غاياتهم ومقا�صدهم‪ .‬وعلى ذلك يتم‬ ‫تقومي هذه التعريفات ب�إعمال معيار الو�ضوح‬ ‫وال�صحة وامل�لاءم��ة‪ ،‬على عك�س التعريفات‬ ‫اللغوية «املعجمية» التي يحكم عليها بال�صدق‬ ‫والكذب تبع ًا ملقدار ُمعا َقبة الألفاظ ملعانيها‪.‬‬ ‫ميكن �إجمال قواعد هذه املالءمة فيما يلي‪:‬‬ ‫‪- 1‬ت�ع��ري��ف امل�صطلحات على نحو �صارم‬ ‫و�إج��رائ��ي‪ ،‬وتعيني مدلولها املرجعي ال��ذي‬ ‫ينبغي االرت� ��داد �إل�ي��ه حتم ًا يف ح��ال��ة تعدد‬ ‫ا�ستعماالتها‪ ،‬ف�إنه من العبث النظر �إىل كل‬ ‫م�صطلح ك�أنه ميثل يف ذاته تعريف ًا للمو�ضوع‬

‫ال��ذي يحتمله‪ .‬والأج��در �أن نعرف احلقيقة‬ ‫التي نعنيها باللفظ تعريف ًا اتفاقي ًا وا�ضح ًا‪.‬‬ ‫‪- 2‬اجتناب تغيري معاين امل�صطلحات يف عمل‬ ‫واح��د‪� ،‬أو الإ�شارة �إىل االنعطافات الداللية‬ ‫التي ميكن �أن ت�صيبها يف �سياق خمالف‪.‬‬ ‫و�أح �ي��ان � ًا يقت�ضي الأم ��ر ت��زوي��د امل�صطلح‬ ‫بقرينة حتيل على التعريف املق�صود من‬ ‫بني تعريفات �أخ��رى واردة‪ .‬وال�شاهد على‬ ‫ذل��ك ق��ول «م��ارت �ي �ن��ي»‪« :‬ينبغي �أن جنهد‬ ‫لتفادي توظيف امل�صطلحات التي تتنازعها‬ ‫مذاهب متعددة من دون تعريفها‪ ،‬واالحتجاج‬ ‫ال�ستعمالها على هذا الوجه �أو ذاك»‪ .‬والأمر‬

‫على التعريف أن‬ ‫يضطلع بوظيفتين‬ ‫متزامنتين تتضمن‬ ‫األولى عرض السمات‬ ‫الخاصة بالمصطلح‬ ‫والثانية تتحقق بها‬ ‫مكونات المفهوم‬

‫كما يزعم ‪ ،Mounin‬ال يعك�س نزوع ًا �صفائي ًا‬ ‫�أو توجه ًا وثوقي ًا‪ ،‬ولكنه يربز �أهمية جمافاة‬ ‫�أ�سلوب اخللط بني مرتكزات نظرية خمتلفة؛‬ ‫يعب عن‬ ‫لأن اجلمع بينها بدون �إ�شعار �سابق رِّ‬ ‫التبا�س م�صطلحي على م�ستوى املفاهيم‬ ‫الأ�سا�سية‪ ،‬حتى ول��و كانت �صو ُرها الدالة‬ ‫موحدَ ة‪.‬‬ ‫َّ‬ ‫‪ - 3‬وينبغي �أن يكون تعريف امل�صطلحات‬ ‫م�ؤ�شر ًا دا ًال على ت�شاكلها مع اجلهاز النظري‬ ‫املعتمد‪ ،‬حيث يظهر االن�سجام على �سطح‬ ‫املنهج بكل معامله ومقوماته‪.‬‬ ‫�إنها قواعد مو�ضوعة �أ�سا�س ًا حل�صر �إ�شكاالت‬ ‫ال�ت�ع��ري��ف ال �ت��ي ت �ع��ود �إىل ال�سمة اخلالفية‬ ‫وال�سياقية للم�صطلحات‪ .‬و�ش�أن التعريف يف‬ ‫ظل هذه احلقيقة الإب�ستيمولوجية �أن يخ�ضع‬ ‫للمقامات النظرية املتحولة‪� ،‬إال �أن �أه��م ما‬ ‫إحلاحها على عامل‬ ‫تنطق به قواعد ‪ُ � Mounin‬‬ ‫الإجرائية يف التعريف بقدر ما ت�سمح بت�شغيل‬ ‫�آلية املرونة واالنفتاح‪� .‬إنها ت�شرتط �أن يكون‬ ‫التعريف عملي ًا وداعي ًا �إىل متا�سك اخلطاب‬


‫العلمي‪ .‬فحقَّ القول �إنها متثل ثوابت تعريفية‬ ‫ميكن �أن ت�ستعري �صور ًا متزايلة احت�ساب ًا لتعدد‬ ‫مناحي الر�ؤية وزوايا النظر‪.‬‬ ‫وق��د تناول الباحث امل�صطلحي ‪Alain Rey‬‬ ‫نظري هذه الإ�شكاالت وحاول مقاربة التعريف‬ ‫امل�صطلحي يف حدودها‪ ،‬و�أر�سى لذلك م�ستويني‬ ‫اثنني ي�برزان ُب ْعدَ الق�ضية التعريفية يف علم‬ ‫اال�صطالح عن الدقة والو�ضوح‪.‬‬ ‫ففي امل�ستوى الت�صوري‪ ،‬يكون على التعريف �أن‬ ‫ي�ضطلع بوظيفتني متزامنتني؛ تت�ضمن الأوىل‬ ‫عر�ض ال�سمات اخلا�صة بامل�صطلح‪ ،‬والثانية‬ ‫تتحقق بها مكونات املفهوم ‪ .Concept‬وهذا‬ ‫يعني �أن للتعريف جم��ا ًال واح ��د ًا ه��و الن�سق‬ ‫اال�صطالحي ال��ذي يحمل �صفات االن�سجام‬ ‫والتما�سك حيث ميثل ك��ل م�صطلح لفظ ًا‬ ‫خال�ص ًا قاب ًال للرتجمة �إىل جميع اللغات‪ ،‬وحيث‬ ‫ينبني كل مفهوم على نحو اتفاقي �صارم وقابل‬ ‫للتف�سري والبيان‪.‬‬ ‫ولعل الك�شوف اال�صطالحية يف البناء النظري‬ ‫�أو املنطقي �أو يف نظام امل�صطلحات العلمية‬ ‫ذات ال �ن��زوع الن�سقي �أف���ض��ل م��ا ميثل هذا‬ ‫الربنامج على وجه االفرتا�ض ال اليقني‪ .‬لكن‬ ‫‪َ Rey‬ي ُع ُّد الأم � َر ‪-‬على النحو ال�سابق‪ -‬مي ًال‬ ‫�إىل التب�سيط الذي ال يعي بتفاقم �أ�سئلة نظرية‬ ‫ملحة من الف�صيلة التالية‪:‬‬ ‫ هل ُن ْل ِغي جميع �أ�شكال الإبهام الت�صوري‪،‬‬‫و ُنب ِع ُد عن اعتبارنا احلال َة التزامنية للأن�ساق؟‬ ‫ وهل ب�إمكاننا �أن نغ�ض الط ْرف عن الطبيعة‬‫الكالمية «الفردية» لأ�سماء امل�صطلحات؟‬ ‫ولعلها �أ�سئلة حتيلنا �إىل امتناع امل�صطلحات‬ ‫مب��ا هي لغة خمتارة‪ -‬عن ال�ضبط ال��داليل‬‫الذي يتمح�ض مبوجبه ملعنى قار؛ حتى �إن ‪Rey‬‬ ‫يعترب جميع املحاوالت «التحديدية» اجلارية‬ ‫على امل�صطلحات عنوان ًا على ال�صعوبات املنيعة‬ ‫التي ت�صاحب الربنامج التعريفي للم�صطلحية‪،‬‬ ‫ب��دء ًا من حم��اوالت ‪ ،Rymon Lull‬م��رور ًا بـ‬ ‫‪ ،Leibniz‬وانتهاء �إىل قواعد املنطق احلديث‪.‬‬ ‫ويف امل�ستوى التجريبـي ي�ضع ‪ Rey‬التعريف‬ ‫امل�صطلحي بني منزلتي التعريف املعجمي‪،‬‬ ‫والو�صف املو�سوعي؛ فالتعريف امل�صطلحي‬ ‫يتجه نحو تطوير ا�ستعمال الأ�سماء ليتاح‬

‫يتأسس التعريف‬ ‫المصطلحي على‬ ‫التصورات والمفاهيم‬ ‫التي يتم تعريفها‪،‬‬ ‫ثم تلحق بأشكالها‬ ‫المناسبة أي ما يسميه‬ ‫«سوسير» باإلجراء‬ ‫المدلولي‬ ‫لها العمل بهيئتها املكت�سبة كم�صطلحات‬ ‫مبنينة‪� .‬إن��ه �إج��راء ترتيبـي ي�ستوحي منط‬ ‫ت�صنيف الكائنات‪ ،‬كما ي�ستدعي طرائق‬ ‫ا�شتغال الإدراكات الت�صورية «‪.»Ibid, p. 43‬‬ ‫وبعد ذلك يقف ‪ Rey‬على �أهم دواعي القلق‬ ‫ال��داليل ال��ذي يلف التعريف اال�صطالحي؛‬ ‫ذل��ك �أن��ه ال يخرج عن كونه �إج��راء يت�شكل‬ ‫داخ��ل لغة طبيعية ت�شهد وحداتها اللفظية‬ ‫ان�ت�ق��االت كامنة تتعاورها يف �أدوار لغوية‬ ‫متواترة‪.‬‬ ‫والنتيجة �أن جميع �أ�شكال الإبهام واال�شرتاك‬ ‫املعنوي والدالالت الإميائية غري املبا�شرة لهذه‬ ‫الوحدات تنتقل �إىل التعريف فتوقعه على �سنة‬ ‫التعدد ف�ض ًال ع��ن االلتبا�س‪ .‬وملعاجلة هذا‬ ‫ال�ش�أن يتم توظيف جميع �أن��واع التعريف التي‬ ‫تخ�ضع لها الوحدات اللغوية العامة‪ ،‬ونق�صد‬ ‫التعريف املنطقي باحلد‪� ،‬أو التعريف اال�شتمايل‬

‫ال��ذي يت�ضمن املا�صدق بتمامه‪ ،‬والتعريف‬ ‫اللفظي بذكر املرادف‪� ،‬أو ب�سط املدلول ب�سط ًا‬ ‫خمت�صر ًا تق ُّيد ًا بال�سياق ال��ذي ا�ستُعمل فيه‬ ‫امل�صطلح‪.‬‬ ‫ولعل هذا التنزُّل ال ي�ضري كما يقول ل�سان‬ ‫الدين بن اخلطيب‪« :‬ف��إن من يتعرف �شرح‬ ‫اال��س��م يح�صل ل��ه غر�ضه‪ ،‬ك��ان عامي ًا �أو‬ ‫خا�صي ًا‪� ،‬أو عجمي ًا �أو عربي ًا» ‪-‬ل�سان الدين‬ ‫ب��ن اخل �ط �ي��ب‪ ،‬م� �ف ��ردات اب ��ن اخل�ط�ي��ب‪،‬‬ ‫حتقيق‪ :‬عبد العلي ال��ودغ�يري‪ ،‬من�شورات‬ ‫عكاظ‪ ،‬ط‪��� ،1988 ،1.‬ص‪ .24 .‬وه��و �أي�ض ًا‬ ‫�سبيل الأدباء يف تعريف ا�صطالحاتهم مثلما‬ ‫يخربنا التهانوي يف "الك�شاف"‪« :‬لي�س من‬ ‫غر�ض الأدب ��اء من احل��د �إال التمييز التام‬ ‫«‪ ،»...‬فاحلد عند الأدباء هو املعرف اجلامع‬ ‫امل��ان��ع‪ ،‬وه�ك��ذا ذك��ر امل��ول��وي ع�صام الدين‬ ‫حيث قال‪ :‬معنى احلد عند الأدباء هو املعرف‬ ‫اجلامع املانع»‪ -‬ك�شاف ا�صطالحات الفنون‬ ‫للتهانوي‪ ،‬حتقيق‪ :‬رفيق العجم‪ ،‬مكتبة لبنان‪،‬‬ ‫بريوت‪ ،‬ط‪ .1/624 :1996 ،1 .‬ومنه ُيع َلم �أن‬ ‫دالل��ة احلد ال تربو على متييز املحدود من‬ ‫غريه بقول جامع مانع؛ لأن املاهية التي يلح‬ ‫املناطقة على �إدراك �ه��ا ب�ألفاظ احل��د �أم��ر‬ ‫ن�سبـي ال �إط�لاق فيه؛ ذل��ك «�أنّ ك��ونَ احلد‬ ‫دا ًال على املاهية مفيد ًا لت�صور الذات‪� ،‬إمنا‬ ‫هو بالقيا�س �إىل من يعلم وجود ال�شيء‪� .‬أما‬ ‫من ال يعلم ذلك فهو يف حقه دال على معنى‬ ‫اال�سم �شارح ملفهومه» ‪ -‬الب�صائر الن�صريية‬


‫نقد‬ ‫‪110‬‬ ‫الـعــــدد‬ ‫‪158‬‬ ‫ديسمبر‬

‫‪2012‬‬

‫يف علم املنطق‪ ،‬لعمر بن �سهالن ال�ساوي‪،‬‬ ‫�ضبط‪ :‬رفيق العجم‪ ،‬دار الفكر اللبناين‪،‬‬ ‫بريوت‪ ،‬لبنان‪ ،‬ط‪� ،1993 ،1 .‬ص‪.85 .‬‬ ‫واحلق ‪-‬كما يو�ضح ‪� -Rey‬أن ما يتحكم يف‬ ‫طبيعة التعريف هو نوع الأن�ساق املق�صودة‬ ‫و�أ�صناف الأ�شياء املعنية‪ ،‬وهو ما يتيح لها‬ ‫ال ُّد ُن َّو من النموذج النظري‪ .‬ورغم ذلك‪ ،‬ف�إن‬ ‫الأمر يتطلب جما ًال حمدد ًا ومتجان�س ًا‪ ،‬و�إال‬ ‫تعذر التعريف ب�صفة مطلقة ‪Alain Rey, -‬‬ ‫‪op. cit., p. 43‬‬

‫واخلال�صة �أن التعريفات اال�صطالحية تكون‬ ‫مب �ق��دار ان�شغالها ع��ن امل��دل��ول ب�صورته‬‫اال�سمية‪� -‬أب �ع��دَ ع��ن ال��دق��ة مثلما يالحظ‬ ‫"�سو�سري" يف قوله‪« :‬كل تعريف م�صطلحي‬ ‫ينطلق م��ن اال��س��م لتعريف ال�شيء‪ ،‬ي�صري‬ ‫عبثي ًا يمُ ْ ليه منهج م�ضطرب وغري من�سجم» ‪-‬‬ ‫‪.George Mounin, op. cit., p. 60‬‬

‫على �أن اعتماد مقيا�س ال��دق��ة �إمن��ا ي�ضع‬ ‫التعريف امل�صطلحي يف مقابل التعريف‬ ‫اللغوي «املعجمي»‪ ،‬ال��ذي ي�ستند �إىل اللفظ‬ ‫�أثناء و�صفه التعاقبـي والتزامني للمدلوالت‬ ‫املتنوعة واملتوالية‪ ،‬والعادمة لالن�سجام‪ .‬و�إذا‬ ‫كان هذا ميثل �إجرا ًء دا ِّليا ‪sémasiologique‬‬ ‫ذا مرجع ا�سمي‪ ،‬ف�إن التعريف امل�صطلحي‪،‬‬ ‫على العك�س من ذلك‪ ،‬يت�أ�س�س على الت�صورات‬ ‫واملفاهيم التي يتم تعريفها �أ ّو ًال‪ ،‬ثم تلحق‬ ‫ب�أ�شكالها املنا�سبة‪� ،‬أي ما ي�سميه �سو�سري‬ ‫ب��الإج��راء امل��دل��ويل ‪onomasiologique-‬‬ ‫‪.George Mounin, op. cit, p. 61‬‬

‫خ�صائ�ص التعريف الأدبي‬

‫�أوم ��أن��ا يف ال�سابق �إىل م��ذه��ب الأدب� ��اء يف‬ ‫التعريف‪ ،‬وذكرنا �أنهم ال يلتزمون بتطبيق‬ ‫املاهية‪ ،‬واحتجان احلقيقة الذاتية للمعرف؛‬ ‫�إذ ال يخفى �أن هذا ال�سبيل كما ر�آه الإم��ام‬ ‫الغزايل يف قوله‪« :‬و�أكرث ما ترى يف الكتب من‬ ‫ع�سرة جد ًا‪ ،‬وقد‬ ‫احلدود ر�سمية‪� ،‬إذ احلقيقة ِ‬ ‫ي�سهل درك بع�ض الذاتيات‪ ،‬ويع�سر بع�ضها‪،‬‬ ‫ف�إن درك جميع الذاتيات حتى ال ي�شذ منها‬ ‫واح��د ع�سري‪ ،‬والتمييز بني الذاتي وال�لازم‬ ‫ع�س ٌر‪ ،‬ورعاية الرتتيب حتى ال يبتد�أ بالأخ�ص‬ ‫ِ‬

‫اإللحاح في‬ ‫تعريف المفاهيم‬ ‫والمصطلحات ِمن‬ ‫المطالب العصية‬ ‫إن تجاوزنا عن كونها‬ ‫مرادفة لإلحالة‬ ‫قبل الأع ��م َع�� ِ��س��ر‪ ،‬وط�ل��ب اجلن�س الأق��رب‬ ‫َع ِ�سر» ‪ -‬امل�ست�صفى من علم الأ�صول‪ ،‬لأبي‬ ‫حامد الغزايل‪� ،‬ضبط‪ :‬حممد عبد ال�سالم‬ ‫عبد ال�شايف‪ ،‬دار الكتب العلمية‪ ،‬ب�يروت‪،‬‬ ‫لبنان‪ ،‬ط‪� ،1993 ،1 .‬ص‪.14 .‬‬ ‫ً‬ ‫هذا مع كون املناطقة �أنف�سهم كثريا ما ُي ِخلُّون‪،‬‬ ‫يف ما يحررونه من التعريفات‪ ،‬ب�شرط الإحاطة‬ ‫التامة باملا�صدق‪ ،‬وق��د يقعون يف املحرتزات‬ ‫التي يتنكبونها يف �شكل احلد‪� ،‬أو يف عنا�صره‬ ‫املفهومية‪ .‬والنتيجة التي ينتهي �إليها املرء من‬ ‫جملة ما �أدرن��ا حوله ال�ك�لام‪� ،‬أن الإحل��اح يف‬ ‫تعريف املفاهيم وامل�صطلحات‪ ،‬على �إفادة املنع‬ ‫املطلق‪ ،‬والف�صل الذي ال يقبل اال�شرتاك‪ِ ،‬من‬ ‫املطالب الع�صية‪� ،‬إن جتاوزنا عن كونها مرادفة‬ ‫ل�ل�إح��ال��ة‪ .‬والأ� �س �ل��م يف ه��ذا ال �ب��اب حماباة‬ ‫م�سالك الأدب ��اء التي �أجملها التهانوي يف‬ ‫الن�ص ال�سابق‪ ،‬ففيها يلحظ املرء وجه ًا من‬ ‫االقت�صاد ينا�سب �سائر املقامات املفهومية‬ ‫الباعثة على التعريف‪ ،‬ف�ض ًال عن طاعتها‬ ‫ملبد�أ معريف �شامل ميكن االعتداد به بدي ًال‬ ‫ع��ن م �ب��د�أ احلقيقة ال��ذات�ي��ة امل�ق�ي��دة؛ وهو‬ ‫مبد�أ احلقيقة ال�سياقية امل�شيدة‪ ،‬ويف ذلك‬ ‫يقول الدكتور حممد مفتاح‪�« :‬إنه من املمكن‬ ‫االتفاق على �أن التحديد اجلامع املانع ع�سري‬ ‫الوجود‪ ،‬و�أن ما هو م َت َي ِّ�سر هو التحديد القائم‬ ‫ع�ل��ى ال�ع�لائ��ق وال��وظ��ائ��ف؛ ه��ذا ال �ن��وع من‬ ‫التحديد هو ما ي�سمى بالتحديدات اال�سمية‬ ‫�أو الت�شييدية؛ وهذه التحديدات ال ت�ستند �إىل‬ ‫اجلن�س والف�صل �أو اخلا�صة‪ ،‬و�إمنا تتكئ �إىل‬ ‫طبيعة ال�شيء الذي يراد حتديده‪ ،‬و�إىل الذات‬ ‫املحددة التي ت�ستبطن ذلك ال�شيء‪ ،‬وتت�أمله‬ ‫وتنفعل معه‪ ،‬ثم ت�صوغ ا�ستبطاناتها وت�أ ُّمالتها‬ ‫وانفعاالتها يف حمموالت» ‪ -‬املفاهيم معامل‪،‬‬ ‫ملحمد مفتاح‪ ،‬املركز الثقايف العربي‪ ،‬الدار‬ ‫البي�ضاء‪ ،‬ط‪� ،1999 ،1 .‬ص‪.7 .‬‬

‫يفيد هذا الكالم خ�ضوع التعريف جلملة من‬ ‫املتغريات‪� ،‬أه ُّمها طبيعة الكائن املع َّرف وح ِّيزه‬ ‫املفهومي؛ وعلى ذلك كانت املفاهيم اجلمالية‬ ‫�أك�ثر ما َي� ِن� ُّد عن التقيد وينزع �إىل الت�شييد‬ ‫ل ِع َّلتني‪� :‬أوالهما �أنها «كائنات» مفهومية‪ ،‬والثانية‬ ‫�أنها مفهومات جمالية‪.‬‬ ‫تقت�ضي ال�ع�ل��ة الأوىل‪ ،‬ك�م��ا ي��و��ض��ح «جيل‬ ‫ديلوز» ‪�«:‬أن املفهوم غائم ومبهم‪ ،‬ولكن لي�س‬ ‫ذلك لأنه ال ميتلك �إط��ار ًا؛ بل لأنه م�ش ّرد‪ ،‬ال‬ ‫خطابي ا�ستداليل «‪»...‬؛ �إنه ق�صدي �إحايل‬ ‫‪� ،intentionel‬أو تعديلي‪ ،‬لي�س لأن له �شروط ًا‬ ‫مرجعية؛ بل لأنه مركب من تغريات غري قابلة‬ ‫لالنف�صال‪ ،‬مت ُّر يف مناطق من الالمتايزية‪،‬‬ ‫وتغري دائم ًا من حدودها‪ .‬فاملفهوم لي�س له‬ ‫مرجع �أبد ًا «‪»...‬؛ بل له تكثف حمدد مبركباته‬ ‫ال��داخ�ل�ي��ة‪ ،‬فلي�س امل�ف�ه��وم ت ��أ� �ش�ير ًا حلالة‬ ‫الأ��ش�ي��اء‪ ،‬وال دالل��ة للمعا�ش‪ ،‬لكنه احل��دث‬ ‫ب��اع�ت�ب��اره معنى خال�ص ًا يجتاز املركبات‬ ‫ب�صورة فورية» ‪ -‬ماهي الفل�سفة‪ ،‬جيل دولوز‬ ‫وفليك�س غ �ت��اري‪ ،‬ترجمة‪ :‬م�ط��اع �صفدي‪،‬‬ ‫املركز الثقايف العربي‪ ،‬الدار البي�ضاء‪ ،‬ط‪،1 .‬‬ ‫‪� ،1997‬ص‪.153 .‬‬ ‫ويف ال�ع�ب��ارة رف�ض ل��دع��ام��ات املناطقة التي‬ ‫ي��زع�م��ون بها ع��دم التناق�ض‪ ،‬ون�ف��ي الثالث‬ ‫املرفوع؛ ف�إن املفاهيم ال يبعد �أن تن�ش�أ يف هذين‬ ‫احليزين �أي�ض ًا‪.‬‬ ‫�أم��ا العلة الثانية‪ ،‬فمقت�ضاها م��ا يقوم به‬ ‫«ال�شعر» عند «لوران�س»‪« :‬النا�س ال ينفكون‬ ‫عن �صنع مظلة حتميهم‪ ،‬ير�سمون حتتها قبة‬ ‫�سماوية‪ ،‬ويكتبون م�صطلحاتهم و�آراءه��م‪،‬‬ ‫ولكن ال�شاعر‪ ،‬ب��ل الفنان يحدث �ش ّق ًا يف‬ ‫املظلة‪ ،‬حتى �إنه قد ميزق ال�سماء ليمرر قلي ًال‬ ‫من ال�سدمي احلر واملنطلق‪ ،‬وي�ؤطر �ضمن نور‬ ‫فجائي الر�ؤية التي تظهر من خالل ال�شق» ‪-‬‬ ‫ماهي الفل�سفة‪� ،‬ص‪.209 .‬‬ ‫وم �ف��اد ال �ع �ب��ارة‪ ،‬كما ت� ��أدى �إل �ي��ه �إدراك �ن��ا‪،‬‬ ‫�أن مفاهيم الأدب‪ ،‬وال�شعر قط ُبها‪ ،‬بقدر‬ ‫ما ميعن الناظر يف التما�سها ب ��أي �آل��ة من‬ ‫الآالت الو�صولية‪ ،‬تزداد هذه املفاهيم ُب ْعد ًا‬ ‫وامتناع ًا‪ .‬فوجب بذلك التما�س �سبيل �آخر‬ ‫يتخلى عن نية التحديد‪ ،‬ق�صد متثل املفهوم‬


‫�صفحات من خمطوطة «�صبح الأع�شى»‬

‫بنا ًء على ر�سومه الإح��ال�ي��ة؛ وتت�أكد �صحة‬ ‫ذلك مبالحظة ما انتهى �إليه بع�ض من حاول‬ ‫�إحكام القواعد املنطقية يف تعريف املفاهيم‬ ‫الأدب �ي��ة‪ ،‬ك� ُق��دام��ة ب��ن جعفر‪ ،‬عند تعريفه‬ ‫ال�شعر بقوله‪« :‬ال�شعر كالم موزون مقفى» ‪-‬‬ ‫نقد ال�شعر‪ ،‬لقدامة بن جعفر‪ ،‬حتقيق‪ :‬كمال‬ ‫م�صطفى‪ ،‬مكتبة اخلاجني‪ ،‬القاهرة‪ ،‬ط‪،3 .‬‬ ‫‪� ،1978‬ص‪ ،17 .‬واملعري يف قوله‪« :‬ال�شعر‬ ‫كالم موزون تقبله الغريزة على �شرائط‪� ،‬إن‬ ‫زاد �أو نق�ص �أبانه احل�س‪ ،‬وكان �أهل العاجلة‬ ‫يتقربون به �إىل امللوك وال�سادات» ‪ -‬ر�سالة‬ ‫الغفران‪ ،‬لأبي العالء املعري‪ ،‬حتقيق‪ :‬عائ�شة‬ ‫عبد الرحمن‪ ،‬دار املعارف‪ ،‬القاهرة‪ ،‬م�صر‪،‬‬ ‫ط‪� ،1977 ،6 .‬ص‪ .251 .‬وكالهما ال َي ْب ُعد‬ ‫�أن َي � ِ�ر َد عليه م��ا يقدح يف زعمه الإح��اط��ة‬ ‫بتفا�صيل امل �ح��دود‪ .‬و�إن كنا نعترب نظري‬ ‫مق�صود ب��ه الإمل��ام‬ ‫ه��ذي��ن التعريفني غ�ير‬ ‫ٍ‬ ‫النهائي واملطلق باملفهوم امل�ع� َّرف‪ ،‬و َن� ُع�دُّه‪،‬‬ ‫يف املقابل‪ ،‬من الإج��راءات االختبارية يبغي‬ ‫بها املع ِّرف بنا َء املفهوم‪ ،‬و�إر�ساء دعاماته‬ ‫متهيد ًا لال�ستدالل عليه يف تفا�صيل الحقة‬ ‫تت�ضمن عنا�صر تعريفية �أخرى‪� ،‬أو قل‪ ،‬على‬ ‫�سبيل االخت�صار‪� ،‬إن تعريف املفهوم الأدبي‬ ‫�إمنا يت�أ�س�س على اجلمع بني مرحلتي البناء‬ ‫والتف�سري يف خطاب نقدي معلوم‪ ،‬من دون‬ ‫�أن يعني ذل��ك الإق��رار ب�إمكان الوقوع على‬ ‫احلقيقة ال��ذات�ي��ة؛ �إذ ال ُن �خ� ِ�ر ُج املرحلتني‬ ‫امل��ذك��ورت�ين م��ن املحيط الت�شييدي املومئ‬ ‫�إل �ي��ه‪ ،‬حيث ي� ��ؤدي التعريف وظيفة متييز‬

‫رأى القلقشندي أن‬ ‫الكذب يذهب بفضل‬ ‫الشعر بينما الراجح أنه‬ ‫آلة من آالت التخييل‬ ‫الشعري التي ال يقصد‬ ‫بها إبدال الحق بالباطل‬ ‫على وجه الخديعة‬ ‫واإلصرار على اإلثم‬ ‫املقولة �أكرث من حتديدها‪.‬‬ ‫ولعل �أك�ثر امل�ن��ازع �إف��ادة لهذا املعنى‪َ ،‬منزَ ُع‬ ‫التعريف باملقابلة ال��ذي نخ َتبرِ ه فيما يلي‪،‬‬ ‫اعتماد ًا على �أح��د ف�صول «�صبح الأع�شى يف‬ ‫�صناعة الإن�شا»‪ ،‬عقده القلق�شندي للمفا�ضلة‬ ‫بني ال�شعر والنرث‪.‬‬

‫تعريف ال�شعر يف «�صبح الأع�شى»‬ ‫للقلق�شندي‬

‫ذكرنا �أن تعريف املقابلة �أ��ص��دق ما ميثل‬ ‫�سبيل الأدب��اء يف ترتيب احل��دود‪ ،‬من جهة‬ ‫االحتبا�س على العنا�صر املميزة للمقولة‪،‬‬

‫تتعدى المقابلة عند‬ ‫القلقشندي جنس النثر‬ ‫إلى أحد أنواعه الخاصة‪،‬‬ ‫لالستدالل على صحة‬ ‫ترجيحه‪ ،‬دافع ًا بالشعر‬ ‫درجة إلى مجال السلب‬

‫ون�ضيف �إىل ذلك �أن��ه �ضارب ب�سهمني‪� ،‬إذ‬ ‫يقع به متييز ال�شعر متزامن ًا مع متييز النرث‬ ‫ب���آالت م�شرتكة ه��ي جماع املقابلة‪ ،‬وم��واد‬ ‫الرتجيح‪ .‬وم��ن �أوىل تطبيقاته م��ا ورد يف‬ ‫كتاب ال�صناعتني‪ ،‬قال �أبو هالل يف حديثه‬ ‫ع��ن ال�شعر‪« :‬فمن مراتبه العالية التي ال‬ ‫النظم الذي به‬ ‫يلحقه فيها �شيء من الكالم‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ِز َن ُة الألفاظ‪ ،‬ومتام ُح�س ِنها‪ ...‬وطول بقائه‬ ‫على �أف��واه ال��رواة‪ ،‬وا�ستفا�ضته يف النا�س‪،‬‬ ‫وب �ع � ُد ��س�يره يف الآف � ��اق‪ ...‬ولي�س ي ��ؤث��ر يف‬ ‫الأعرا�ض والأن�ساب ت�أثري ال�شعر يف احلمد‬ ‫والذم �شيء من الكالم‪ ...‬ولي�س �شيء يقوم‬ ‫مقامه يف املجال�س احلافلة‪ ...‬و�أن الأحلان‬ ‫التي هي �أه�ن��أ ال�ل��ذات‪� -‬إذا �سمعها ذوو‬‫القرائح ال�صافية‪ ،‬والأنف�س اللطيفة‪ ،‬ال تتهي�أ‬ ‫�صنعتها �إال على كل منظوم من ال�شعر‪...‬‬ ‫و�أن �ألفاظ اللغة �إمنا ي�ؤخذ جزلها وف�صيحها‪،‬‬ ‫وفحلهاوغريبهامنال�شعر‪...‬و�أنال�شواهدتنزع‬ ‫من ال�شعر»‪ - .‬كتاب ال�صناعتني لأب��ي هالل‬ ‫الع�سكري‪ ،‬حتقيق‪ :‬حممد �أبو الف�ضل �إبراهيم‪،‬‬ ‫وعليحممدالبجاوي‪،‬املكتبةالع�صرية‪�،‬صيدا‪-‬‬ ‫بريوت‪ ،‬لبنان‪� ،1986 ،‬ص‪.138 .‬‬ ‫و يقول يف ر�سالة «املفاخرة بني العلوم على‬ ‫ل�سان علم ال�شعر»‪�« :‬أرا ُكم قد ن�سيتُم ف�ضلي‬ ‫ال ��ذي ب��ه ف�ضلتم‪ ،‬و��ص��رم�ت��م حبلي ال��ذي‬ ‫من �أجله و�صلتم؛ �أن��ا حجة الأدب‪ ،‬ودي��وان‬ ‫علي ت��ردون‪ ،‬وعني ت�صدرون‪ ،‬و�إيل‬ ‫العرب‪َّ ،‬‬ ‫تُن�سبون‪ ،‬وبي ت�شتهرون‪ ،‬مع ما ا�شتملت عليه‬ ‫من املدح الذي كم رفع و�ضع ًا‪ ،‬وجلب نفع ًا‪،‬‬


‫نقد‬ ‫‪112‬‬ ‫الـعــــدد‬ ‫‪158‬‬ ‫ديسمبر‬

‫‪2012‬‬

‫وو�صل ْ‬ ‫وج�َبررَ َ َ�ص ْدع ًا‪ ،‬والهجو الذي‬ ‫قطع ًا‪َ ،‬‬ ‫َ‬ ‫حط ق��در ًا‪ ،‬و�أخمل ذك��ر ًا‪ ،‬وجعل بني الرفيع‬ ‫والو�ضيع يف حطيطة القدر ن�سب ًا و�صهر ًا‪،‬‬ ‫�إىل غري ذلك من �أنواعي ال�شعرية التي �شاع‬ ‫ذكرها‪ ،‬و�أ�ضواعي العطر ّية التي فاح ن�شرها؛‬ ‫بل ال يكاد علم من العلوم الأدبية ي�ستغني عن‬ ‫�شواهدي‪ ،‬وال يخرج يف �أ�صوله عن قوانيني‬ ‫وقواعدي‪ ،‬حتى علم النرث الذي هو �شقيقي‬ ‫يف الن�سب‪ ،‬وعديلي يف ل�سان العرب‪ ،‬مل يزل‬ ‫علي يف بيت ُي ِحلُّو َنه‪ ،‬ويقفون‬ ‫�أه ُله يتطفلون َّ‬ ‫من بديع حما�سني عند ح��دٍّ ال يتعدّونه» ‪-‬‬ ‫احلياة الأدب�ي��ة يف م�صر؛ الع�صر اململوكي‬ ‫وال�ع�ث�م��اين‪ ،‬لعبد امل�ن�ع��م خ�ف��اج��ي‪ ،‬مكتبة‬ ‫الكليات الأزهرية‪� ،1984 ،‬ص‪.50 .‬‬ ‫ففي هذه املقالة التي يقع بها ترجيح ال�شعر‬ ‫ن�ستطيع �أن نتبني جممل ر�سومه التي ال ترتفع‬ ‫�إىل م�ستوى احلقيقة ال��ذات�ي��ة كما �أ�سلفنا‪،‬‬ ‫وهي‪ :‬انت�صابه لالحتجاج‪ ،‬وقدرته على الرفع‬ ‫والو�ضع‪ ،‬والو�صل والقطع‪ ،‬وا�شتماله على املدح‬ ‫والهجو‪ .‬وهي العنا�صر التي يف�ضي ت�أملها �إىل‬ ‫نفي اخت�صا�ص ال�شعر بها من دون غريه‪ ،‬و�أنّ‬ ‫مبلغ ال�شعر منها �أن تكون مهيمنة عليه يف العادة‬ ‫�صح �أن ن�سميها عنا�صر متييز‬ ‫والإجمال؛ ولذلك ّ‬ ‫ال حتديد‪ ،‬ناجم ًة عن �إدراك م�ضمر العتيا�ص‬ ‫احلد‪ ،‬و�صعوبة تعقب احلقيقة الذاتية‪ .‬ونظري‬ ‫هذه الر�سوم حا�ضر يف الف�صل الثالث الذي‬ ‫�أ�شرنا �إليه‪ ،‬مع زيادات �صاحلة‪ ،‬ويف الإمكان‬

‫�أن ن�ضم ه��ذه العنا�صر َ‬ ‫بع�ضها �إىل بع�ض‬ ‫لرنتب لل�شعر تعريف ًا مم ِّيز ًا‪ ،‬ال مينعه من‬ ‫م�شاكلة بع�ض �أ�صناف القول يف وج��ه من‬ ‫وج��وه��ه‪ .‬فالقلق�شندي ي�ق��رر ت�ف��رد ال�شعر‬ ‫مبا يلي‪ :‬اعتدال الأق�سام؛ ت��وازن الأج��زاء؛‬ ‫ت �� �س��اوي ال� �ق ��وايف؛ ط ��ول ال �ب �ق��اء ع�ل��ى ممر‬ ‫الدهور وتعاقب الأزم��ان؛ تداوله على �أل�سنة‬ ‫ال��رواة والنقلة لقوة احلافظة منه بارتباط‬ ‫�أجزائه‪ ،‬وتعلق بع�ضها ببع�ض؛ ت�أثريه بالرفعة‬ ‫وال�ضعة باعتبار املدح والهجاء؛ به يح�صل‬ ‫ال�شاعر املجيد على احلباء وامل�ن��ح؛ قبوله‬ ‫ملا يرد عليه من الأحل��ان املطربة امل�ؤثرة يف‬ ‫النفو�س؛ ي�شتمل على �شواهد اللغة والنحو‪،‬‬ ‫وغريهما من العلوم الأدب�ي��ة؛ ي�ستدل به يف‬ ‫تف�سري القر�آن الكرمي‪ ،‬وحديث الر�سول �صلى‬ ‫اهلل عليه و�سلم؛ ميثل ديوان العرب وجمتمع‬ ‫متكنها‪ ،‬واملحيط ب�ت��واري��خ �أي��ام�ه��ا و�سائر‬ ‫�أحوالها‪�« .‬صبح الأع�شى يف �صناعة الإن�شا‪،‬‬

‫يتم تقويم‬ ‫المصطلحات بإعمال‬ ‫معيار الوضوح والصحة‬ ‫والمالءمة على عكس‬ ‫التعريفات اللغوية‬ ‫«المعجمية» التي‬ ‫يحكم عليها بالصدق‬ ‫والكذب‬

‫لأحمد بن علي القلق�شندي‪� ،‬شرحه حممد‬ ‫ح�سني �شم�سن الدين‪ ،‬دار الكتب العلمية‪،‬‬ ‫بريوت‪ ،‬لبنان‪ ،‬ط‪.»1/89 :1 .‬‬ ‫وجميع هذه الر�سوم ميثل جهات الإيجاب يف‬ ‫ال�شعر‪ ،‬وبالإمكان �أن ن�صطنع لها ت�صنيف ًا ُي َ�سهِّل‬ ‫امتحانها يف مجَ ْ لى التعار�ض بينها وبني جهات‬ ‫ال�سلب التي يت�ضمنها الق�سم الثاين من املقابلة‪:‬‬ ‫وه��ي جهة ال�ب�ن��اء‪ :‬اع �ت��دال الأق���س��ام وت��وازن‬ ‫الأجزاء؛ وجهة التداول‪ :‬طول البقاء واالنتقال‬ ‫على الأل���س�ن��ة؛ جهة الأث� ��ر‪ :‬ال��رف��ع والو�ضع‬ ‫والإط ��راب؛ ثم جهة الوظيفة‪ :‬اال�ست�شهاد يف‬ ‫اللغة والنحو‪ ،‬واال�ستدالل يف القر�آن واحلديث‪،‬‬ ‫وحفظ الأيام‪ ،‬وذكر الوقائع‪.‬‬ ‫وامل�ل�اح��ظ �أن ا��س�ت�ث�ن��اء ج�ه��ة ال �ب �ن��اء ُي� �دْيل‬ ‫بال�شعر يف اال���ش�ت�راك م��ع غ�ي�ره م��ن �سائر‬ ‫اجلهات افرتا�ض ًا واحتما ًال؛ ولذلك كان ابتداء‬ ‫القلق�شندي بهذه اجلهة اقت�ضا ًء نوعي ًا رئي�س ًا‪،‬‬ ‫بو�صفها �شرط ًا الزم ًا لل�شعر من حيث هو بناء‬ ‫فني‪ ،‬ال من حيث هو كالم‪.‬‬ ‫�أم��ا جهات ال�سلب التي �أوجبت تقدم النرث‬ ‫على ال�شعر فبيانها �أن ال�شعر حم�صور يف‬ ‫وزن وقافية يحتاج معها ال�شاعر �إىل زيادة‬ ‫الألفاظ والتقدمي والت�أخري‪ ،‬وق�صر املمدود‪،‬‬ ‫وم��د امل�ق���ص��ور‪ ،‬و� �ص��رف م��ا ال ين�صرف‪،‬‬ ‫ومنع ما ين�صرف من ال�صرف‪ ،‬وا�ستعمال‬ ‫الكلمة املرفو�ضة‪ ،‬وتبديل اللفظة الف�صيحة‬ ‫بغريها‪ ،‬وغري ذلك مما تُلجئ �إليه �ضرورة‬ ‫ال�شعر؛ كذلك تبعية املعاين للفظ فيه؛ ثم �أن‬ ‫مقا�صد ال�شعر ال تخلو من الكذب‪ ،‬والتحويل‬ ‫على الأم��ور امل�ستحيلة‪ ،‬وال�صفات املجاوزة‬ ‫للحد‪ ،‬والنعوت اخلارجة عن العادة‪�« .‬صبح‬ ‫الأع�شى‪».1/91 :‬‬ ‫ومن ذلك نتبني �أن اجلهة التي كانت يف الق�سم‬ ‫الأول من املقابلة �شرط ًا بنائي ًا لتحقق ال�شعر‪،‬‬ ‫�أ�صبحت يف هذا الق�سم مدعا ًة للنق�ص؛ حني‬ ‫ُت ْك ِر ُه ال�شاعر على ارتكاب ال�ضرورة‪ .‬و�إذ يعترب‬ ‫القلق�شندي هذا الأم��ر ذريع ًة لرتجيح النرث‪،‬‬ ‫فهو يف احلني نف�سه يرتفع بالعن�صر �إىل درجة‬ ‫املقوم النوعي لل�شعر‪ ،‬م��ادام��ت ال�ضرورة ال‬ ‫ت ََّط ِرد �إال فيه‪ .‬على �أن املقابلة‪ ،‬ومنا�سبتها‬ ‫«ت�أكيد �أف�ضلية الكتابة ال�ن�ثري��ة»‪ ،‬اقت�ضت‬


‫الشعر في مقابلة‬ ‫النثر عامة يتحدد بالوزن‬ ‫م��ن القلق�شندي االن���ص��راف ع��ن ال��دالالت والقافية‪ ،‬وفي مقابلة‬ ‫اجلمالية لل�ضرورة من حيث ترتتب عليها القرآن خاصة يتحدد‬ ‫ت �غ �ي�يرات جت ��ري ع�ل��ى ال �ع �ب��ارة ال�شعرية‪ ،‬بالقصد وقابلية اإلنشاد‬ ‫فت�ضيف �إليها قيمة فنية زائدة على قيمتها‬ ‫الداللية املتحققة‪ ،‬م��ع �أن �أك�ثر م��ن خا�ض‬ ‫يف ال�ضرورة من العلماء مل َي��ر فيها �سوى‬ ‫�أنها خمر ٌج لتجنب الإخالل بالوزن‪َ ،‬‬ ‫ومدخ ٌل‬ ‫للتوفيق بني اللفظ واملعنى وال��وزن الناظم‬ ‫لهما‪ ،‬من ذل��ك ق��ول �أب��ي �سعيد ال�سريايف‪:‬‬ ‫«اعلم �أن ال�شعر ملا كان كالم ًا موزون ًا‪ ،‬تكون‬ ‫الزيادة فيه والنق�ص منه‪ ،‬يخرجه عن �صحة‬ ‫الوزن‪ ،‬حتى يحيله عن طريق ال�شعر املق�صود‬ ‫مع �صحة معناه‪ ،‬ا�ستجيز فيه لتقومي وزنه‪،‬‬ ‫من زيادة ونق�صان‪ ،‬وغري ذلك ما ال ي�ستجاز‬ ‫يف الكالم مثله» ‪� -‬ضرورة ال�شعر‪ ،‬لأبي �سعيد‬ ‫ال�سريايف‪ ،‬حتقيق‪ :‬رم�ضان عبد التواب‪ ،‬دار‬ ‫النه�ضة العربية‪ ،‬القاهرة‪ ،‬م�صر‪ ،‬ط‪،1 .‬‬ ‫‪� ،1985‬ص‪.34 .‬‬ ‫و�أما اجلهة الثانية التي نظر فيها القلق�شندي‬ ‫�إىل تعلق املعنى باللفظ على وجه التبعية‪ ،‬ففي‬ ‫الأمر َن َظ ٌر محُ ْ ِو ٌج �إىل تطويل‪ ،‬وغاية ما يح�ضرنا‬ ‫يف هذا املقام �أن ال�ش�أن عام‪ ،‬ومناطه على ح�سن‬ ‫تهي�ؤ املتكلم‪� ،‬سواء �أكان ناظم ًا �أم ناثر ًا‪ ،‬وجودة‬ ‫اقتداره على املنا�سبة بني الألفاظ ومعانيها‪.‬‬ ‫ويف �ش�أن الكذب ال��ذي اعتربه القلق�شندي‬ ‫ذاهب ًا بف�ضل ال�شعر‪ ،‬فالراجح �أن��ه �آل��ة من‬ ‫�آالت التخييل ال�شعري التي ال يق�صد بها �إبدال‬ ‫احلق بالباطل على وجه اخلديعة‪ ،‬والإ�صرار‬ ‫على الإث ��م‪ ،‬و�إمن ��ا ذل��ك كما ق��ال اب��ن �أب��ي‬ ‫احلديد‪« :‬والذي يريدونه بال�شعر ي�أتي يف كل‬ ‫قيا�س َ‬ ‫خم ِّيل يعلم العاقل كذبه‪ ،‬ولكنه يحدث‬ ‫له مع ذلك نوع قب�ض �أو ب�سط‪� ،‬أو �إق��دام �أو‬ ‫�إحجام‪ .‬كما يقال‪ :‬ال ت�أكلوا الع�سل ف�إنه ثمرة‬ ‫َم ِقي َئ ٌة‪� ،‬أو يقال للحلواء الرطبة املزعفرة‪ :‬ال‬ ‫واحل�س يكذبان‬ ‫ت�أكلها ف�إنها غائط‪ ،‬فالعقل‬ ‫ّ‬ ‫هذا الكالم الذي هو يف قوة قيا�س‪� ،‬صورته‬ ‫هكذا‪ :‬كل غائط فهو غري م�أكلة‪ ،‬ومع علمه‬ ‫بكذبه ينقب�ض عن الأكل‪ ،‬و�أكرث �إقدام النا�س‬ ‫و�إحجامهم ب�سبب هذه التخيالت والأوهام‪،‬‬ ‫وهي الأقي�سة ال�شعرية التي يذكرونها‪ ،‬و�إمنا‬ ‫�سميت �شعرية مل�شابهتها مقا�صد ال�شعراء‬

‫يف تخيالتهم وتزويقاتهم» ‪ -‬الفلك الدائر‬ ‫على املثل ال�سائر‪ ،‬البن �أبي احلديد‪ ،‬حتقيق‪:‬‬ ‫�أحمد احل��ويف وب��دوي طبانة‪ ،‬مطبعة نه�ضة‬ ‫م�صر‪ ،‬القاهرة‪� ،‬ص‪.192 .‬‬ ‫ت�ت�ع��دى امل�ق��اب�ل��ة ع�ن��د القلق�شندي جن�س‬ ‫النرث �إىل �أح��د �أن��واع��ه اخلا�صة‪ ،‬ي�ستدعيه‬ ‫لال�ستدالل على �صحة ترجيحه‪ ،‬دافع ًا بال�شعر‬ ‫درجة �إىل جمال ال�سلب‪ ،‬والنوع املق�صود هو‬ ‫القر�آن الكرمي‪ ،‬يقول يف «ال�صبح»‪« :‬وناهيك‬ ‫بالنرث ف�ضيلة �أن اهلل تعاىل �أن��زل به كتابه‬ ‫العزيز‪ ،‬ون��وره املبني ال��ذي ال ي�أتيه الباطل‬ ‫من بني يديه وال من خلفه‪ ،‬ومل ينزله على‬ ‫�صفة نظم ال�شعر؛ بل نزّهه عنه بقوله‪{ :‬وما‬ ‫هو ب َق ْول �شاعر‪ ،‬قلي ًال ما ُت�ؤمنون}‪ ،‬وحرم‬ ‫نظمه على نبيه حممد �صلى اهلل عليه و�سلم‪،‬‬ ‫ت�شريف ًا ملحله‪ ،‬وتنزيه ًا ملقامه‪ ،‬منبه ًا على‬ ‫ذلك بقوله‪{ :‬وما ع َّلمناه ال�شع َر وما ينبغي‬ ‫له} �صبح الأع�شى‪.1/90 :‬‬ ‫ويف الن�ص ُيف�صح القلق�شندي عن خا�صية‬ ‫�أخرى مت ِّي ُز ال�شعر يف مقابلة القر�آن الكرمي‬ ‫بو�صفه جن�س ًا م��ن ال �ن�ثر‪ ،‬ذل��ك �أن نظمه‬ ‫يختلف ع��ن نظم ال �ق��ر�آن ال�ك��رمي‪ ،‬على �أن‬ ‫�صورة ه��ذا النظم ال تزايل ما �أملعنا به يف‬ ‫جهات الإيجاب من تعريف ال�شعر؛ واملق�صود‬ ‫ت�ساوي الأق�سام‪ ،‬وانتظام الأجزاء‪ .‬وعن هذه‬ ‫املقابلة يتح�صل الإق��رار باختالف املق�صد‬ ‫بني ال�شعر والقر�آن؛ وبيان ذلك �أن الق�صد‬ ‫�إىل قول ال�شعر هو يف الوقت نف�سه ق�صد �إىل‬ ‫ال�ك��ذب‪ ،‬وعلى ه��ذا فكل �شعر ك��ذب بالقوة‬ ‫�إن مل يكن بالفعل والإجناز‪ ،‬ومنع ًا اللتبا�سه‬ ‫ب�ك�لام النبي �صلى اهلل عليه و�سلم ال��ذي‬ ‫ي�ستحيل يف حقه الكذب‪ ،‬ا�شرتط غري واحد‬ ‫من النقاد‪ ،‬يف حد ال�شعر ‪-‬ف�ض ًال عن النظم‬ ‫املخ�صو�ص‪ -‬الق�صد والنية مما يفيده قول‬ ‫ابن ر�شيق‪« :‬ال�شِّ ْع ُر يقوم من بعد النية من‬ ‫�أربعة �أ�شياء‪ ،‬وه��ي‪ :‬اللفظ واملعنى‪ ،‬وال��وزن‬ ‫والقافية؛ فهذا هو حد ال�شعر؛ لأن من الكالم‬

‫م��وزون � ًا مقفى‪ ،‬ولي�س ب�شِ عر لعدم الق�صد‬ ‫والنية‪ ،‬ك�أ�شياء اتَّزَ َنت من القر�آن ومن كالم‬ ‫النبي �صلى اهلل عليه و�سلم‪ ،‬وغري ذلك مما‬ ‫مل ُيطلق عليه ب�أنه �شعر»‪ -‬العمدة يف حما�سن‬ ‫ال�شعر و�آدابه‪ ،‬البن ر�شيق القريواين‪ ،‬حتقيق‪:‬‬ ‫حممد قرقزان‪ ،‬دار املعرفة‪ ،‬بريوت‪ ،‬لبنان‪،‬‬ ‫ط‪ .1/245 :1988 ،1 .‬ويف حا�شية عبد‬ ‫القادر بن عمر البغدادي على �شرح «بانت‬ ‫�سعاد» البن ه�شام‪ ،‬ف�صل طويل ُي ِل ُّم بعن�صر‬ ‫الق�صد ُمق ِّوم ًا لل�شعر يف معر�ض املقابلة بينه‬ ‫وبني القر�آن الكرمي‪ ،‬قال يف التعليق على قوله‬ ‫يوم حنني‪:‬‬ ‫�صلى اهلل عليه و�سلم َ‬

‫�أَ َن� � � � � � � � � ��ا ال � � � �ن � � � � ِب � � � ُّ�ي َال َك� � � � � � ��ذِ ْب‬ ‫�أ َن� � � � � � � ��ا ا ْب� � � � � � � � ُ�ن ع � � � � ْب� � � ��دِ امل� � � َّ�ط � � � ِل� � � ْ�ب‬

‫«تنبيه‪ :‬مثل ه��ذا لي�س ب�شعر‪ ،‬لأن ح� َّ�ده‬ ‫ك�ل�ام م���وزون مقفى ق �� �ص��د ًا‪ ،‬وال ي�صح‬ ‫ق�صد نظم ال�شعر للنبي �صلى اهلل عليه‬ ‫و�سلم «‪»....‬؛ ولهذا كان النبي �صلى اهلل‬ ‫عليه و�سلم �إذا �أن�شد �شعر ًا غيرَّ ه من غري‬ ‫ق�صد لعدم معرفته ب�أو�ضاعه ووزْنه «‪.»...‬‬ ‫وق��ال العلماء‪ :‬ه��ذا وق��ع اتفاق ًا م��ن غري‬ ‫ق�صد ل��وزن �شعر؛ ب��ل ج��رى على ل�سانه‬ ‫كما �سمعه‪ ،‬فلي�س فيه �إن�شاد‪ ،‬و�إمن��ا هو‬ ‫ح�ك��اي��ة ك�ل�ام ال �غ�ير م��ع ا� �ش�تراط �ه��م يف‬ ‫ماهية ال�شعر الق�صد «‪ .»...‬فاحلا�صل �أن‬ ‫ق�صده‪ ،‬و�إنّ َمن �أتى بالكالم‬ ‫�شرط ال�شعر ُ‬ ‫املوزون املقفى ومل يق�صده ال ي�سمى �شعر ًا»‬ ‫ حا�شية على �شرح «بانت �سعاد» البن‬‫ه�شام‪ ،‬لعبد القادر بن عمر البغدادي‪،‬‬ ‫حتقيق‪ :‬نظيف حمرم خواجة‪ ،‬دار فرانز‬ ‫�شتايز‪� ،‬شتوتغارت‪� ،‬أملانيا‪ ،‬ط‪:1990 ،1 .‬‬ ‫‪.2/658-660‬‬ ‫وم��ن ذل��ك ُي �ع � َل��م �أن ال���ش�ع��ر يف مقابلة‬ ‫النرث عامة‪ ،‬يتحدد بالوزن والقافية‪ ،‬ويف‬ ‫مقابلة ال �ق��ر�آن خا�صة يتحدد بالق�صد‬ ‫وقابلية الإن�شاد‪ ،‬وهي كما ترى حمددات‬ ‫تف�ضي �إىل متييزه عن غ�يره‪ ،‬وال جتزي‬ ‫يف تق�صي حقيقته الذاتية التي يبعد �أن‬ ‫تن�صاع لطالبها �إن رامها جم��رد ًة َعر َّي ًة‬ ‫عن �سياقها التداويل‬


‫تاريخ‬ ‫‪114‬‬ ‫الـعــــدد‬ ‫‪158‬‬ ‫ديسمبر‬

‫‪2012‬‬

‫تطور من الرواية ال�شفوية‬ ‫�إىل التدوين التاريخي‬

‫أنساب‬ ‫العرب‬ ‫تراث أصيل‬ ‫يبحث في أصول‬ ‫القبائل وفروعها‬ ‫�أحمـد �أبو زيد‬ ‫يعترب علم الأن�ساب من �أقدم املعارف‬ ‫التاريخية التي اهتم بها امل�ؤرخون والعلماء‬ ‫والباحثون عرب الع�صور املختلفة‪ ،‬ملا له من‬ ‫�أهمية خا�صة يف الدرا�سات التاريخية‪ ،‬وملا يقوم‬ ‫به من دور مهم يف حفظ �أخبار الرجال وذكر‬ ‫�أعمالهم و�أقوالهم‪ ،‬والبحث يف �أ�صول العائالت‬ ‫والقبائل وفروعها‪.‬‬


‫كانت األنساب في‬ ‫الجاهلية وسيلة تجمع‬ ‫والأن�ساب علم تعرف به �أن�ساب النا�س‪ ،‬ويعرف العرب وتضم شملهم‬ ‫به تفرع القبائل والبطون والأ�سر وتنا�سلها فرع ًا وتشد أزرهم‬

‫من �أ�صل‪ ،‬وابن ًا عن �أب‪ ،‬و�أب ًا عن جد مهما عال‪،‬‬ ‫وذلك بر�صد �سال�سل الن�سب و�شجراته وتفريعاته‬ ‫العرقية‪ .‬والن�سب يف اللغة هو القرابة وال�صلة‪،‬‬ ‫والإن�سان ين�سب يف الأ�صل �إىل �أبيه ‪ ،‬وقد ين�سب‬ ‫�إىل بلده �أو �صناعته وحرفته‪.‬‬

‫اهتمام العرب بالأن�ساب‬

‫ومل تهتم �أم��ة من الأمم بالأن�ساب كما اهتم‬ ‫العرب ب�أن�سابهم‪ ،‬فقد �صار الن�سب لديهم علم ًا‬ ‫له قواعده و�أ�صوله وفوائده‪ ،‬وكانت الأن�ساب يف‬ ‫اجلاهلية و�سيلة جتمع العرب بع�ضهم �إىل بع�ض‪،‬‬ ‫وت�ضم �شملهم وت�شد �أزره ��م‪ ،‬كما كانت رداء‬ ‫يدفعون به كثري ًا من الأخطار عنهم‪.‬‬ ‫ويف ظل الإ��س�لام احتل ه��ذا اللون من العلوم‬ ‫واملعارف مكانة خا�صة عند العرب‪ ،‬وبخا�صة‬ ‫يف فجر النه�ضة الإ�سالمية‪ ،‬نظر ًا لطبيعة الفكر‬ ‫القبلي‪ ،‬الذي جعل كل قبيلة حتر�ص على كيانها‬ ‫وتعتز ب�أ�صولها‪.‬‬

‫الن�سب يف القر�آن‬

‫وكلمة «ن�سب» وردت يف ال�ق��ر�آن الكرمي جمع ًا‬ ‫وم �ف��رد ًا يف قوله تعاىل «ف� ��إذا نفخ يف ال�صور‬ ‫ف�ل�ا �أن �� �س��اب بينهم ي��وم �ئ��ذ وال ي�ت���س��اءل��ون»‬ ‫امل�ؤمنون‪ ،101/‬وق��ول��ه ت �ع��اىل‪« :‬وه ��و ال��ذي‬ ‫خ�ل��ق م��ن امل ��اء ب���ش��ر ًا فجعله ن�سب ًا و��ص�ه��را»‬ ‫الفرقان‪ ،54/‬وقوله‪« :‬وجعلوا بينه وبني اجلنة‬ ‫ن�سبا» ال�صافات‪ ،158/‬و�أ�شار القر�آن الكرمي �إىل‬ ‫�أهمية الأن�ساب يف قوله تعاىل‪« :‬يا �أيها النا�س �إنا‬ ‫خلقناكم من ذكر و�أنثي وجعلناكم �شعوب ًا وقبائل‬ ‫لتعارفوا» احلجرات‪.13/‬‬ ‫كما وردت الأن�ساب يف ال�سنة النبوية املطهرة‪،‬‬ ‫يف قول الر�سول – �صلى اهلل عليه و�سلم‪�« :‬أربع‬ ‫يف �أمتي من �أمر اجلاهلية ال يرتكونهن‪ :‬الفخر‬ ‫يف الأح�ساب والطعن يف الأن�ساب واال�ست�سقاء‬ ‫بالنجوم والنياحة» رواه م�سلم يف �صحيحه‪ .‬وقوله‬ ‫«يحرم من الر�ضاع ما يحرم من الن�سب» رواه‬ ‫البخاري‪.‬‬ ‫وحث احلديث ال�شريف على تعلم الأن�ساب يف‬

‫قوله – �صلى اهلل عليه و��س�ل��م‪« :‬تعلموا‬ ‫من �أن�سابكم ما ت�صلون به �أرحامكم» رواه‬ ‫�أحمد يف م�سنده‪.‬‬

‫الرواية ال�شفوية‬

‫وقد مر هذا العلم – �ش�أنه �ش�أن معظم العلوم‬ ‫العربية – مبرحلتني رئي�ستني‪:‬‬ ‫الأوىل‪ :‬مرحلة الرواية ال�شفوية و�شملت ع�صر‬ ‫اجلاهلية وفرتة من �صدر الإ�سالم‪ ،‬وكان الهدف‬ ‫منها يف اجلاهلية التفاخر بالآباء والتنا�صر على‬ ‫الأعداء‪ ،‬وكانت �أهمية «الن�سابني» يف القبيلة ال‬ ‫تقل عن �أهمية ال�شعراء‪� ،‬إذ بهم ت�ستطيع القبيلة‬ ‫�أن تفخر مب�آثر الآباء‪ ،‬و�أن حتط من �ش�أن القبائل‬ ‫املعادية لها‪ ،‬بذكر مثالب تلك القبائل ومعايبها‪.‬‬ ‫وا�ستمر االهتمام بهذا العلم يف �صدر الإ�سالم‪،‬‬ ‫وظهر يف العرب من له خ�برة وا�سعة فيه من‬ ‫�أمثال �أبو بكر ال�صديق‪ ،‬ر�ضي اهلل عنه‪ ،‬الذي‬ ‫بن�سابة العرب‪ ،‬و�أب��ي اجلهم بن حذيفة‬ ‫عرف ّ‬ ‫العدوي‪ ،‬وجبري بن مطعم‪ ،‬كما كان عمر وعثمان‬ ‫وعلي علماء بالأن�ساب وكذا �أمية بن �أبي ال�صلت‪.‬‬ ‫�أما املرحلة الثانية من علم الأن�ساب فهي مرحلة‬ ‫التدوين والكتابة‪ ،‬وق��د ب��د�أت ه��ذه املرحلة يف‬ ‫عهد �أمري امل�ؤمنني عمر بن اخلطاب – ر�ضي‬ ‫اهلل عنه – عندما ا�ست�شار �أ�صحابه يف و�ضع‬ ‫«ديوان اجلند»‪ ،‬لتنظيم العطاء لكل من �شارك‬ ‫يف الغزوات والفتوح الإ�سالمية ابتداء من غزوة‬ ‫بدر‪ ،‬ف�شكل جلنة ثالثية من �أبي عدي بن جبري‬ ‫بن مطعم �أحد م�شاهري علماء الن�سب‪ ،‬وخمرمة‬ ‫بن نوفل‪ ،‬وعقيل بن �أبي طالب‪ ،‬وكلفهم بو�ضع‬ ‫فهر�س للأن�ساب يقوم على �أ�سا�سه الديوان‪،‬‬ ‫وطلب منهم �أن ي�سجلوا �أ�سماء اجلند الذين‬ ‫�شاركوا يف الغزوات والفتوح‪ ،‬على �أن يبد�أوا ببني‬

‫لم تهتم أمة من األمم‬ ‫باألنساب كما اهتم‬ ‫العرب حيث صار لديهم‬ ‫علم له قواعده وأصوله‬ ‫وفوائده‬

‫ها�شم ثم الأق��رب ف��الأق��رب من ر�سول اهلل –‬ ‫�صلى اهلل عليه و�سلم – ف�إذا ا�ستووا يف القرابة‬ ‫قدم �أهل ال�سابقة �إىل الإ�سالم‪ ،‬فكان هذا �أول‬ ‫توثيق لأن�ساب العرب بعد الإ�سالم‪.‬‬

‫الت�أليف يف علم الأن�ساب‬

‫وخطا علم الأن�ساب خطوة �أخ��رى عندما �أخذ‬ ‫بع�ض ذوي العلم من العرب ي�ؤلفون فيه يف فرتة‬ ‫مبكرة من الع�صر الأموي‪ ،‬و�أول من قام بذلك‬ ‫عبيد بن �شرية اجلرهمي‪ ،‬الذي �ألف كتاب ًا يف‬ ‫�أخبار اليمن و�أ�شعارها و�أن�سابها‪ ،‬و�أي�ضا دغفل‬ ‫بن حنظلة ال�سدو�سي البكري‪ ،‬وهو من م�شاهري‬ ‫علماء الن�سب منذ �أواخر الع�صر اجلاهلي‪ .‬ثم‬ ‫ظهر يف الع�صر الأم��وي من جمع بني الن�سب‬ ‫والتاريخ والأخبار مثل حممد بن ال�سائب الكلبي‪.‬‬ ‫بالن�سابني و�أ�صحاب‬ ‫ومل يكن علم الأن�ساب خا�ص ًا ّ‬ ‫التاريخ‪ ،‬بل اهتم به نفر من الفقهاء مثل �سعيد‬ ‫ب��ن امل�سيب وال��زه��ري وال�شافعي والقرطبي‬ ‫وال�سيوطي و�أبو عبيد القا�سم بن �سالم‪.‬‬ ‫وا�ستمر الت�أليف يف علم الأن�ساب يف الع�صر‬ ‫العبا�سي‪ ،‬وك��ان رائ��د امل�ؤلفني فيه «ه�شام بن‬ ‫حممد بن ال�سائب الكلبي»‪ ،‬الذي اقتفى خطوات‬ ‫�أبيه يف االهتمام بالن�سب‪ ،‬لكنه �أ�ضاف �إىل ذلك‬ ‫مزيد ًا من ال�ضبط والت�أليف املنهجي‪ ،‬وتعد كتبه‬ ‫البداية احلقيقية للت�أليف يف علم الأن�ساب‪،‬‬ ‫وله كتاب �سماه «الن�سب الكبري» �أو «اجلمهرة‬ ‫يف الن�سب»‪ ،‬وهو من �أعظم م�ؤلفات ابن الكلبي‬ ‫و�أ�شهرها‪ ،‬وي�ضم �أن�ساب العدنانيني‪ ،‬و�أول ن�سب‬ ‫الأزد من قحطان‪ ،‬وينتهي ببني �أو�س بن حارثة‪،‬‬ ‫وقد عا�صر«ابن الكلبي» �آخ��رون كتبوا يف هذا‬ ‫العلم مثل «الهيثم بن عدي» «واملدائني»‪.‬‬

‫�أن�ساب الأ�شراف‬

‫وم��ن الكتب التي ظهرت يف ه��ذه الفرتة كتاب‬ ‫«�أن �� �س��اب الأ�� �ش ��راف» ل�ل�ب�لاذري امل�ت��وف��ى �سنة‬ ‫‪279‬هـ ‪ 892 -‬م‪ ،‬وال��ذي يعد �سج ًال لأن�ساب‬ ‫العرب وتاريخهم يف اجلاهلية والإ�سالم حتى‬ ‫ال�ق��رن الثالث الهجري‪ ،‬وال �ب�لاذري ه��و �أح��د‬ ‫كبار امل�ؤرخني يف القرن الثالث الهجري‪ ،‬وكان‬ ‫من رج��ال البالط العبا�سي منذ عهد اخلليفة‬


‫تاريخ‬ ‫‪116‬‬ ‫الـعــــدد‬ ‫‪158‬‬ ‫ديسمبر‬

‫مكانته يف البالد الإ�سالمية الأخرى‪ ،‬ولعل ذلك‬ ‫يرجع �إىل تعقد املجتمع الأندل�سي وكرثة الأجنا�س‬ ‫الب�شرية فيه‪ ،‬كالعرب والربير واملولدين‪ ،‬مما‬ ‫ترتب عليه وج��ود الطوائف العرقية التي تقوم‬ ‫على ع�صبة اجلن�س وال �ع��رق‪ ،‬وق��د وج��د ذلك‬ ‫مادة خ�صبة لعلم الأن�ساب‪ ،‬فو�ضعت الكتب يف‬ ‫�أن�ساب العرب والرببر‪ ،‬ومن �أ�شهرها «�أن�ساب‬ ‫م�شاهري �أهل الأندل�س» لأحمد بن حممد الرازي‪،‬‬ ‫و«جوهرة �أن�ساب العرب» البن حزم القرطبي‪.‬‬

‫‪2012‬‬

‫«املتوكل» حتى عهد «املعتز»‪ ،‬و�أل��ف ع��دد ًا من اجل�لادي بالرباط توجد ن�سخة خطية تقع يف علم الأن�ساب واحلديث النبوي‬

‫الكتب منها «فتوح ال�ب�ل��دان»‪ ،‬وكتاب «البلدان‬ ‫الكبري»‪ .‬وكتابه «�أن�ساب الأ�شراف» يقع يف اثني‬ ‫ع�شر جملد ًا ال يزال معظمها خمطوط ًا‪ ،‬ويبد�أ‬ ‫بذكر ن�سب ن��وح عليه ال���س�لام‪ ،‬ث��م يتكلم عن‬ ‫العرب‪ ،‬وينزل �إىل عدنان الذي هو ر�أ�س عمود‬ ‫ن�سب الر�سول – �صلى اهلل عليه و�سلم –‪ ،‬وظل‬ ‫ينزل �إىل �أجداد النبي واحد ًا بعد واحد‪ ،‬ذاكر ًا‬ ‫م��ا يت�صل بكل ج��د على ح��دة‪ ،‬متناو ًال �أب�ن��اءه‬ ‫باخت�صار حتى و�صل �إىل مولد الر�سول – �صلى‬ ‫اهلل عليه و�سلم – وقد ا�ستغرقت �سريته ما يزيد‬ ‫على مائتي �صفحة‪ ،‬ثم تكلم عن �أمر «ال�سقيفة»‬ ‫وبد�أ بعد ذلك ي�صعد يف ن�سب الر�سول – �صلى‬ ‫اهلل عليه و�سلم – مرة �أخرى فتناول �أبناء اجلد‬ ‫الأول عبد املطلب واحد ًا‪ ..‬واحد ًا‪ ،‬ثم تناول �أبناء‬ ‫اجلد الثاين «ها�شم»‪ ،‬وتناول «بني عبد �شم�س بن‬ ‫عبد مناف» وظل هكذا متتبع ًا عمود الن�سب حتى‬ ‫و�صل �إىل «الن�ضر» الذي ي�سمى «قري�شا»‪.‬‬ ‫وعقد «البالذري» يف كتابه تراجم مطولة لبع�ض‬ ‫الأعالم الذين ا�شتهروا من حكام وعلماء و�أدباء‬ ‫ف�أفرد لأب��ي بكر ال�صديق نحو ع�شرين �صفحة‬ ‫ولعمر بن اخلطاب ‪�72‬صفحة‪.‬‬ ‫وكتاب «�أن�ساب الأ�شراف» هذا لي�س م�ؤلف ًا تاريخياً‬ ‫مت�صل احل�ل�ق��ات ي�سوق احل���وادث على تتابع‬ ‫الأعوام‪� ،‬أو يتتبع ت�سل�سل احلكام‪ ،‬ولكنه جمموعة‬ ‫رواي��ات يف �إط��ار الأن�ساب تو�سعت حتى احتوت‬ ‫على الأخبار والأ�شعار والرتاجم‪ ،‬وقد جعل امل�ؤلف‬ ‫لكل مو�ضوع عنوان ًا فرعي ًا خا�ص ًا به ك�أنه وحدة‬ ‫م�ستقلة‪.‬‬ ‫ول�ل�ك�ت��اب ع ��دة ن�سخ خم �ط��وط��ة‪ ،‬ف�ف��ي مكتبة‬

‫‪� 934‬صفحة‪ ،‬وهي املعروفة بالن�سخة الدم�شقية‪،‬‬ ‫لأن �ه��ا كتبت يف دم���ش��ق‪ ،‬ويف اخل��زان��ة امللكية‬ ‫املغربية توجد ن�سخة يف �أربعة جملدات منقولة‬ ‫عن الن�سخة الدم�شقية‪ ،‬ويف مكتبة عا�شر �أفندي‬ ‫با�ستانبول ت��وج��د خمطوطة تقع يف جملدين‬ ‫�ضخمني م��ن القطع الكبري‪ ،‬نقلت �أي���ض� ًا عن‬ ‫الن�سخة الدم�شقية‪ ،‬وعن هذه الن�سخة اخلطية‬ ‫ن�سخة م�صورة يف «دار الكتب امل�صرية» وجمز�أة‬ ‫�إىل اثني ع�شر جزء ًا‪.‬‬

‫الأن�ساب يف الأندل�س‬

‫ومع نهاية القرن الثالث الهجري «التا�سع امليالدي»‬

‫ا�ستقرت الأن�ساب فلم تعد هناك حاجة �إىل مزيد‬ ‫من اخلو�ض فيها‪ ،‬و�إمنا �شاعت ع�صبية املدن على‬ ‫�إثر املناف�سات التي ظهرت بني حوا�ضر الدولة‬ ‫الإ�سالمية كالب�صرة والكوفة وبغداد وال�شام‪،‬‬ ‫فاجته العلماء �إىل ت�أليف الكتب اخلا�صة ب�أحوال‬ ‫املدن والأمم بدل �أحوال القبائل والع�شائر‪ ،‬ودخل‬ ‫علم الأن�ساب يف ن�سيج هذه امل�ؤلفات بعد �أن كانت‬ ‫تفرد له الكتب امل�ستقلة‪.‬‬ ‫وق��د وج ��دت ال�ك�ت��اب��ة يف الأن �� �س��اب يف امل�غ��رب‬ ‫الإ�سالمي والأندل�س �أر�ض ًا خ�صبة‪ ،‬و�شغلت يف‬ ‫ب�لاد الأن��دل����س بوجه خا�ص مكانة رمب��ا فاقت‬

‫الكتابة في األنساب‬ ‫وجدت في المغرب‬ ‫اإلسالمي واألندلس‬ ‫ّ‬ ‫لتعقد‬ ‫أرض ًا خصبة‬ ‫المجتمع األندلسي‬ ‫وكثرة األجناس البشرية‬

‫وق��د خطا علم الأن �� �س��اب يف ال �ق��رن ال�ساد�س‬ ‫الهجري خطوة �أخ��رى لنجوم احلديث النبوي‬ ‫ال�شريف‪ ،‬حيث قام الإمام ال�سمعاين املتوفى �سنة‬ ‫‪562‬هـ ‪1167 -‬م بت�أليف كتاب «الأن�ساب» وهو يف‬ ‫معظمه تراجم لرجال احلديث‪� ،‬سواء املتقدمني‬ ‫منهم �أو املت�أخرين‪.‬‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫وال�سمعاين كان فقيها �شافعيا وم�ؤرخا ورحالة‪،‬‬ ‫رح��ل يف طلب العلم واحلديث �إىل ب�لاد العامل‬ ‫املعروفة حينئذ‪ ،‬و�أخذ عن علمائها حتى بلغ عدد‬ ‫�أ�ساتذته �أكرث من �أربعة �آالف �شيخ‪ ،‬وله م�ؤلفات‬ ‫عديدة �أغلبها يف تاريخ وجغرافية البلدان مثل‬ ‫«تذييل تاريخ بغداد» و«معجم البلدان»‪.‬‬ ‫وكتابه «الأن �� �س��اب» يعد مرجع ًا مهم ًا يف علم‬ ‫«اجل ��رح وال �ت �ع��دي��ل»‪ ،‬وه��و م��ن ع�ل��وم احلديث‬ ‫ال�شريف‪ ،‬ويتميز عن نظائره امل�ؤلفة يف هذا ال�ش�أن‬ ‫برتجمته للمت�أخرين من رواة احلديث‪ ،‬مما ي�سد‬ ‫فراغ ًا كبري ًا يف مكتبة احلديث ال�شريف‪.‬‬ ‫فمن ترجموا ل��رواة احلديث قبله مثل البخاري‬ ‫املتوفى �سنة ‪256‬هـ‪ ،‬و�أبن �أبي حامت املتوفى �سنة‬ ‫‪327‬هـ‪ ،‬اهتموا برواة احلديث حتى �آخر القرن‬ ‫الثالث الهجري‪� ،‬أي فرتة الرواية ال�شفوية قبل‬ ‫حركة التدوين العامة للحديث وظهور املدونات‬ ‫احلديثية ‪ ،‬ك�صحيحي البخاري وم�سلم وم�سند‬ ‫�أح �م��د و��س�نن الن�سائي وال�ترم��ذي و�أب ��ي داود‬ ‫واب��ن ماجة ‪ ،‬ف��زاد ال�سمعاين يف كتابه ترجمة‬ ‫الرواة املت�أخرين ممن ظهروا بعد القرن الثالث‬ ‫الهجري‪ .‬وق��د ب��ذل ال�سمعاين جهد ًا كبري ًا يف‬ ‫كتابه‪ ،‬حيث ق��ام بجمع كم هائل من الرتاجم‬ ‫وحفظه وهو ح�صيلة رحالته الطويلة التي طاف‬ ‫خاللها مبعظم بلدان العامل الإ�سالمي حينذاك‪.‬‬


‫ولذا نال هذا الكتاب اهتمام العلماء من قدمي‪،‬‬ ‫مل��ا يحتويه م��ن م��ادة علمية غ��زي��رة ومتكاملة‬ ‫فاخت�صره «�أب��ن الأث�ير اجل��زري» املتوفى �سنة‬ ‫‪630‬هـ يف كتابه «اللباب»‪ ،‬و�أح�سن اخت�صاره‪،‬‬ ‫و�أ��س�ت��درك علي ال�سمعاين ا�ستدراكات كثرية‬ ‫وكبرية الفائدة‪ ،‬حتى �أ�شتهر كتاب «اللباب»‬ ‫وفاقت �شهرته الكتاب الأ�صلي‪.‬‬

‫كتب الأن�ساب‬

‫و�إذا نظرنا �إىل بع�ض الكتب الأخرى التي ظهرت‬ ‫يف علم الأن�ساب‪ ،‬جند منها‪:‬‬ ‫‪ - 1‬اجلوهرة يف ن�سب النبي و�أ�صحابه الع�شرة‪،‬‬ ‫ملحمد بن �أبي بكر التلم�ساين‪ ،‬وهو م�ؤرخ و�أديب‬ ‫وع��امل �أندل�سي �أل��ف ه��ذا الكتاب يف جزيرة‬ ‫منورقة الإ�سبانية عندما كانت خا�ضعة للحكم‬ ‫الإ� �س�لام��ي‪ ،‬وه��و �إح� ��دى ن� ��وادر املخطوطات‬ ‫العربية يف �أن�ساب العرب وتاريخ �صدر الإ�سالم‬ ‫‪ ،‬ويعد مو�سوعة تراثية �ضمت الرواية والأن�ساب‬ ‫والأع�لام والآداب والنقد واللغة والأخبار‪ .‬وقد‬ ‫�ضم ن�سب النبي‪� ،‬صلى اهلل عليه و�سلم‪ ،‬و�سريته‬ ‫وترجمة الع�شرة املب�شرين باجلنة من �أ�صحابه‪،‬‬ ‫ر�ضي اهلل عنهم‪ ،‬و�أوالده��م وبناتهم وزوجاتهم‬ ‫و�أحفادهم‪.‬‬ ‫‪ - 2‬نهاية الأرب يف معرفة �أن�ساب العرب‪ ،‬لأحمد‬ ‫بن علي القلق�شندي ‪ ،‬وهو من الكتب امل�شهورة‬ ‫يف الأن�ساب‪ ،‬وي�ستعر�ض فيه امل�ؤلف ف�ضل علم‬ ‫الأن�ساب و�أهمية درا�سته‪ ،‬وطبقات هذا العلم‪ ،‬ثم‬ ‫يعرج �إىل درا�سة ن�سب القبائل العربية‪ ،‬في�صدره‬ ‫بذكر ن�سب قبيلة النبي‪� ،‬صلى اهلل عليه و�سلم‪،‬‬ ‫ثم يختمه بذكر �أحوال العرب الدينية وال�سيا�سة‬ ‫واالقت�صادية قبل وبعد الإ�سالم‪.‬‬ ‫‪ - 3‬التعريف بالأن�ساب والتنويه بذوي الأح�ساب‪،‬‬ ‫للقرطبي ‪ ،‬وهو كتاب يبد�أ بذكر ن�سب النبي‪،‬‬ ‫�صلى اهلل عليه و�سلم‪ ،‬كما جرت عادة الن�ساب‪،‬‬ ‫ثم يتعر�ض لن�سب قبائل م�ضر‪ ،‬ون�سب قري�ش‪ ،‬ثم‬ ‫قبائل ربيعة والأزد وكهالن وحمري‪.‬‬ ‫‪ - 4‬املنتخب يف ذك ��ر ن�سب ق�ب��ائ��ل ال �ع��رب‪،‬‬ ‫للمغريي‪ ،‬وهو كتاب ا�شتمل على نبذة يف الن�سب‬ ‫�ضمت �أ�صول العرب‪ ،‬وقد انتخب امل�ؤلف كتابه‬ ‫من كتب الن�سب والتاريخ‪ ،‬مثل قالئد اجلمان‬ ‫للقرطبي‪ ،‬و�سبائك الذهب لل�سويدي‪ ،‬وو�صايا‬

‫اهتم فقهاء كثر‬ ‫بعلم األنساب منهم‬ ‫سعيد بن المسيب‬ ‫والشافعي والقرطبي‬ ‫ولعب دور ًا مهم ًا في‬ ‫التاريخ اإلسالمي‬ ‫امللوك‪ ،‬والعقد الفريد‪ ،‬وتاريخ ابن الأثري‪ .‬و�سماه‪:‬‬ ‫"املنتخب يف ذكر ن�سب قبائل العرب"‪ ،‬و�أخذ‬ ‫�أي�ض ًا من الرجال الثقات من البادية واحلا�ضرة‬ ‫املوجودين يف زمانه‪.‬‬ ‫‪ - 5‬الإينا�س بعلم الأن�ساب للوزير املغربي‪ ،‬وهو‬ ‫�أح�سن م�ؤلفات الوزير املغربي حظ ًا و�أروجها‪،‬‬ ‫كما قال حمد اجلا�سر يف مقدمته لن�شر الكتاب‪،‬‬ ‫ومو�ضوع الكتاب ال يفهم من عنوانه‪ ،‬فهو و�إن‬ ‫تعلق بالأن�ساب‪ ،‬من حيث تفريعها من �أ�صولها‪،‬‬ ‫�إال �أنه يعني ب�ضبط الأ�سماء �ضبط ًا مي ّكن من‬ ‫نطقها �صحيحة‪ ،‬وتلك هي الغاية من ت�أليفه‪.‬‬ ‫ويذكر الوزير يف مقدمته �أنه اطلع على كتاب ابن‬ ‫حبيب «امل�ؤتلف واملختلف»‪ ،‬وهو �أول من �ألف يف‬ ‫هذا املو�ضوع‪ ،‬ف�أراد �إكمال خطواته و�إي�ضاحها‬ ‫بت�أليف هذا الكتاب‪ ،‬وجعل كتاب ابن حبيب �أ�ص ًال‬ ‫لكتابه‪ ،‬وتدارك جفاف �أ�سلوب ابن حبيب بتعليق‬ ‫النوادر امل�ستح�سنة‪ ،‬والأخبار املت�صلة بالأ�سماء‪.‬‬ ‫وزاد عليه «‪ »57‬ا�سم ًا‪ ،‬وكان ابن حبيب قد جمع يف‬ ‫كتابه «‪� »305‬أ�سماء‪.‬‬ ‫‪ - 6‬عجالة املبتدي وف�ضالة املنتهي يف الن�سب‪،‬‬ ‫لأب ��ي ب�ك��ر حم� َّم��د ب��ن �أب ��ي ع�ث�م��ان ب��ن مو�سى‬ ‫احلازمي‪ ،‬وهو كتاب جمع فيه امل�ؤلف الأن�ساب‬ ‫املتداولة بني �أهل احلديث‪ ،‬ور َّتبها على حروف‬ ‫املعجم‪ .‬وربمَّ ا ذكر من كل قبيلة ن�سب ًا ُمتّ�ص ًال‬ ‫�أو رج ًال �أو رجلني تنبيه ًا للمبتدئ‪ ،‬ومل يذكر من‬ ‫االختالف واال�شتقاق �إ َّال الي�سري‪.‬‬ ‫‪ - 7‬الإكليل من �أن�ساب اليمن و�أخ�ب��ار حمري‪،‬‬ ‫للح�سن بن �أحمد بن يعقوب الهمداين‪ ،‬فقد كان‬ ‫االهتمام ب�أهل اليمن وطبائعهم و�أن�سابهم له‬ ‫حظ وافر يف الت�صنيف؛ ويف هذا الكتاب جمع‬ ‫امل�ؤلف �أن�ساب �أهل اليمن وفروعها‪ ،‬ون�سب كل‬ ‫مولود �إىل �أ�صله الن�سبي‪ ،‬وذكر ما لكل قبيلة من‬ ‫�أن�ساب ومواليد‪.‬‬ ‫‪ 8‬معجم قبائل ال�ع��رب القدمية واحلديثة‪،‬‬‫للدكتور عمر ر�ضا كحالة‪ ،‬ويبحث هذا املعجم‬

‫يف القبائل العربية و�أف�خ��اذه��ا‪ ،‬قبل الإ�سالم‬ ‫وب �ع��ده �إىل ع�صرنا ه ��ذا‪ ،‬يف جن��د واحل�ج��از‬ ‫واليمن وح�ضرموت وع�م��ان وال �ع��راق وم�صر‬ ‫و� �س��وري��ة ول�ب�ن��ان وفل�سطني و��ش��رق��ي الأردن‬ ‫و�إفريقية ال�شمالية‪ ،‬وغريها من البلدان العربية‬ ‫والإ�سالمية‪.‬‬ ‫وقد �ضم هذا املعجم ع��دد ًا كبري ًا من الع�شائر‬ ‫وبطونها‪ ،‬ف��ذك��ر �أ�صولها وف��روع�ه��ا وجبالها‬ ‫و�أوديتها ومياهها وتاريخها وعبادتها‪.‬‬ ‫وهناك كتب �أخرى ا�شتهرت يف الأن�ساب‪ ،‬مثل‪:‬‬ ‫«جمهرة �أن�ساب العرب» البن حزم الأندل�سي‪،‬‬ ‫وك��ت��اب«ل��ب ال �ل �ب��اب يف حت��ري��ر الأن�����س��اب»‪،‬‬ ‫لل�سيوطي‪ ،‬و«قالئد اجلمان يف التعريف بقبائل‬ ‫ع��رب ال��زم��ان» للقلق�شندي‪ ،‬و«ك�ن��ز الأن�ساب‬ ‫وجممع الآداب» للحقيل‪ ،‬و«ال ��درر املفاخر يف‬ ‫�أخبار العرب الأواخر»‪ ،‬ملحمد الب�سام التميمي‪،‬‬ ‫و«خمت�صر الأن�ساب احل�ضرمية» ‪ ،‬لأبي فار�س‬ ‫باكرموم‪ ،‬و«�إدراك الفوت يف ذكر قبائل تاريخ‬ ‫ح�ضرموت»‪ ،‬لعلي بن حممد �آل بابطني‪ ،‬وهو‬ ‫معجم لقبائل ال�ب��ادي��ة و�سكان احل��ا��ض��رة يف‬ ‫تاريخ ح�ضرموت‪ ،‬و«ن�سب عدنان وقحطان»‪،‬‬ ‫لأبي العبا�س بن امل�برد‪ ،‬و«الأع�ل�ام»‪ ،‬للزركلي‪،‬‬ ‫و«معجم قبائل اململكة العربية ال�سعودية»‪ ،‬حلمد‬ ‫اجلا�سر‬


‫أوراق تراثية‬ ‫‪118‬‬ ‫الـعــــدد‬ ‫‪158‬‬ ‫دي�سمرب‬ ‫‪2012‬‬

‫«الراوي»يبحثعنمكانةعلمية‬

‫فاطمة املزروعي‬ ‫و�أي�ض ًا ميكن �أن ن�ضيف �أنه رغم هذا العمر‬ ‫الق�صري يف تاريخ الإن�سانية ف�إن املراجع التي‬ ‫نعتمد عليها فيها بع�ض ال�ضبابية والغمو�ض‪،‬‬ ‫وب��ال�ت��ايل ف���إن م��ا يطلق عليه العهد الثاين‬ ‫التاريخي لي�ست احلقبة التاريخية الوا�ضحة‬ ‫بكل تفا�صيلها‪ ،‬وال�غ��ري��ب يف ه��ذا ال�سياق‬ ‫�أن كثري ًا من الأح ��داث التاريخية نقلت لنا‬ ‫بوا�سطة امل�شافهة «احلكي» �أي من خالل ما‬ ‫يعرف بالراوي «القا�ص»‪ ،‬حيث يروي الأجداد‬ ‫يق�صون الأحداث على‬ ‫للآباء الذين بدورهم ُّ‬ ‫الأبناء ثم تنتقل �إىل الأحفاد وهكذا ت�ستمر‬ ‫ال�سل�سلة جي ًال بعد جيل‪ ،‬مما يعطي داللة على‬ ‫قدم مهنة ال��راوي �إذا �صح ت�سميتها باملهنة‪.‬‬ ‫�صحيح �أن��ه يتم يف بع�ض الق�ص�ص الزيادة‬ ‫واملبالغة‪ ،‬فتتحول تلك املواقف �إىل ما ي�شبه‬ ‫الأ�ساطري والأحداث اخلارقة للمعقول‪ .‬وبرغم‬

‫كتب التاريخ حتفل بالأحداث واملواقف على مر الأزمان‪ ،‬وبرغم هذا يجد‬ ‫الإن�سان �أن هناك فجوات زمنية طويلة يف عمر الإن�سانية من دون تدوين‬ ‫بل من دون ذكر‪ ،‬ويعترب بع�ض العلماء �أن اجلزء الأكرب والأطول من عمر‬ ‫الإن�سانية بقي جمهو ًال ومل يتم فيه تدوين �أي �أحداث وق�ص�ص‪ ،‬وهم‬ ‫ي�شريون �إىل احلقبة التي عا�ش فيها الإن�سان من دون الكتابة واحلديث‬ ‫«املخاطبة»‪ ،‬وهو ما �أ�شار �إليه الدكتور حممد ماهر حمادة‪ ،‬يف م�ؤلفه البحثي‬ ‫القيم‪ :‬الكتاب يف العامل‪ ،‬عندما قال‪« :‬يعترب اخرتاع الكتابة احلد الفا�صل‬ ‫بني عهدين‪ ،‬عهد ما قبل التاريخ‪ ،‬والعهد التاريخي‪ ،‬مبعنى ميز العلماء‬ ‫وامل�ؤرخون يف تاريخ الإن�سانية املد َّون بني عهدين العهد الذي مل ت�صلنا‬ ‫�سجالت مكتوبة عنه‪ ،‬وهو ع�صر طويل موغل يف القدم‪ ،‬وت�صلنا املعلومات‬ ‫عنه من البقايا املادية ل�شعوب تلك الفرتة‪ ،‬والعهد التاريخي الذي يبد�أ كما‬ ‫هو متعارف عليه ن�سبياً يف �أوائل الألف الثالثة قبل امليالد‪ ،‬الذي بد�أت ت�صلنا‬ ‫�سجالت مكتوبة ا�ستطعنا التعرف بوا�سطتها على حياة تلك ال�شعوب»‪.‬‬ ‫ه��ذا ال�ع�ي��ب اخل�ط�ير ف ��إن��ه مت اال�ستئنا�س‬ ‫ببع�ض تلك احلكايات لفهم بع�ض املواقف‬ ‫�أو العادات لدى بع�ض ال�شعوب املنعزلة �أو‬ ‫البعيدة عن وهج احل�ضارة‪.‬‬ ‫لذا ف�إن الراوي‪ ،‬وما يعرف بالتاريخ ال�شفاهي‬ ‫بد�أ مع بداية الإن�سان وا�ستمر حتى يومنا هذا‪،‬‬ ‫فبمجرد �أن تعلم الإن�سان الكالم ف�إنه يتعلم‬ ‫�سرد امل��واق��ف والأح ��داث وينقلها للآخرين‬ ‫لت�ستمر خالدة يف الذاكرة املحكية‪.‬‬ ‫البع�ض من امل�ؤرخني يرجع بداية ظهور التاريخ‬ ‫ال�شفاهي يف الغرب خ�لال منت�صف القرن‬ ‫املا�ضي‪� ،‬إال �أنه كما �سيت�ضح معنا‪ ،‬ف�إن التاريخ‬ ‫ال�شفاهي ��ض��ارب العمق يف ت��اري��خ االن�سان‬ ‫كما �أنه يعترب حبكة وو�صفة عربية بامتياز ال‬ ‫مثيل لها يف �أي �أمة من �أمم الأر���ض‪ ،‬ويكفي‬ ‫�أن نلقي نظرة على م�سرية ال�شعوب العربية‬

‫�سواء يف ما كان يعرف بالع�صر اجلاهلي حتى‬ ‫ع�صر الإ� �س�لام‪ ،‬وم��ا ج��اء بعد تلك احلقبة‬ ‫من قيام دول متتابعة مثل الأموية والعبا�سية‬ ‫وغريهما‪ ،‬فالعربي اعتمد كلي ًا على امل�شافهة‬ ‫يف كل �ش�ؤون حياته‪ ،‬بل كان يعرف �أن الذين‬ ‫يقر�ؤون ويكتبون كانوا يعدون على �أ�صابع اليد‬ ‫الواحدة‪ ،‬وكان العرب يعتمدون على الذاكرة‬ ‫يف حفظ الق�صائد العربية ويكفي �أن ن�شري‬ ‫�إىل �أن املعلقات مل حتفظ على الورق �إمنا يف‬ ‫الذاكرة‪ ،‬وبالتايل ف��إن الق�ص�ص �أو و�صف‬ ‫احل��روب وامل �ع��ارك �أو حتى و�صف البلدان‬ ‫وال��دي��ار‪ ،‬مت نقلها لنا وف��ق ما يعرف اليوم‬ ‫ب��ال�ت��اري��خ ال�شفاهي – ال� ��راوي‪ -‬وق��د قال‬ ‫امل ��ؤرخ ثاد�سيتون يف �سياق تعريفه للتاريخ‬ ‫ال���ش�ف��وي‪�« :‬إن ��ه ذك��ري��ات وت��ذك��رات �أن��ا���س‬ ‫�أحياء حول ما�ضيهم»‪ .‬وهذا التعريف رغم‬


‫اخت�صاره �إال �أنه مبا�شر ووا�ضح‪.‬‬ ‫البع�ض يرى �أن هناك م�آخذ على رواة التاريخ‬ ‫ال�شفاهي‪ ،‬من هذه امل�آخذ �أن ال��راوي الذي‬ ‫ي�سرد احلدث دائم ًا ي�ضيف �آرا�ؤه اخلا�صة‪،‬‬ ‫ووج��ه��ات ن �ظ��ره يف احل ��دث الأ� �س��ا� �س��ي بل‬ ‫يذهب البع�ض بتعظيم �أنف�سهم �أو املقربني‬ ‫منهم‪ ،‬وحتى اليوم هناك معركة بني التاريخ‬ ‫ال�شفاهي والتاريخ املتعارف عليه علمي ًا –‬ ‫التقليدي – و�إن كان التاريخ ال�شفاهي ومنذ‬ ‫�سنوات يحقق �إجن��ازات وم�ساحات �أكرب من‬ ‫القبول والرتحيب‪ ،‬ه��ذه املعركة �أو الرف�ض‬ ‫�صح‬ ‫امل�ستمر م��ن ال�ت��اري��خ «التقليدي �إذا َّ‬ ‫التعبري» له ما يربره‪ ،‬فكما �سبق وذكرنا �آنفاً‬ ‫املخاوف من عدم �صحة ودقة املعلومات التي‬ ‫يتم نقلها لنا بوا�سطة التاريخ ال�شفاهي‪ ،‬لكننا‬ ‫�أي�ض ًا ال ميكن �أن نغفل الدور الكبري واخلطري‬ ‫ال��ذي ق��ام به ه��ذا العلم يف نقل الكثري من‬ ‫�إرثنا احل�ضاري واملعريف على الأق��ل منذ ما‬ ‫يقارب �ألف وخم�س مائة عام‪ ،‬لذا ف�إن رف�ض‬ ‫هذا النوع من التاريخ هو رف�ض لإرث غني‬ ‫باملعلومات والأف �ك��ار والأح ��داث والق�ص�ص‬ ‫العظيمة‪ ،‬يجب �أن ن�ك��ون ح��ذري��ن يف هذا‬ ‫ال�سياق متام ًا‪ ،‬والذي �أريد �أن �أ�صل له �أن هذا‬ ‫النوع من التاريخ «امل�شافهة» �أخذ به كث ٌري من‬ ‫علماء التاريخ منذ زمن طويل جد ًا ولعل من‬ ‫�أهمهم امل ��ؤرخ اليوناين ه�يرودوت «عا�ش يف‬ ‫القرن اخلام�س قبل امليالد» والذي �أطلق عليه‬ ‫�أبو التاريخ‪ ،‬حر�ص على جمع الق�ص�ص حول‬ ‫وتفح�ص الآثار يف جوالته ورحالته‪،‬‬ ‫املا�ضي َّ‬ ‫ح�ين ك��ان يقابل ال�ن��ا���س وي���د ّون ق�ص�صهم‬ ‫وذكرياتهم عن بع�ض الأحداث التي وقعت‪.‬‬ ‫لقد نقل لنا هذا العامل زخم ًا �إن�ساني ًا عظيماً‬ ‫بف�ضل اتباعه لهذه الطريقة يف التدوين‪،‬‬ ‫رغ��م �أن هناك من يقول �إن كتاباته تفتقر‬ ‫�إىل امل�صداقية لأنه كان يد ِّون من دون حت ِّري‬ ‫الدقة‪ ،‬وعند النظر ملجلداته يف كتابة التاريخ‬ ‫وحمتوياتها ن��درك مت��ام� ًا مل��اذا �أط�ل��ق عليه‬ ‫م�سمى �أبو التاريخ‪ ،‬وهو لقب ا�ستحقه بجدارة‪.‬‬ ‫�إن التاريخ ال�شفاهي ب��ات ثقافة وعلم ًا له‬ ‫�أ�س�س وطرق وبات يدر�س تخ�ص�ص ًا م�ستق ًال‬ ‫يف اجل��ام�ع��ات ال�ع��ري�ق��ة‪ ،‬الأم ��ر ال ��ذي جعل‬

‫اهتمامنا ك�ب�ير ًا ب��ه يف الإم� ��ارات‪ .‬وبدعمه‬ ‫والعمل على تطويره‪� ،‬سنحقق املزيد‪ ،‬و�شواهد‬ ‫هذا االهتمام وجود قطاعات حكومية �أخذت‬ ‫على عاتقها العمل ليكون هذا املجال م� َّؤ�س�سي ًا‪.‬‬ ‫التاريخ ال�شفاهي‪ ،‬ي�صح �أن نقول عنه �إننا‬ ‫نقوم بتجديده و�إع ��ادة خلقه وبعثه يف ثوب‬ ‫جديد ليتواكب مع روح الع�صر وتطوره‪ ،‬وكم‬ ‫هو جميل �أن يكون الإن�سان العادي هو امل�ؤرخ‬ ‫وهو الذي ينقل الق�ص�ص للأجيال القادمة‬ ‫ومن دون �شك �إنه تاريخ من الإن�سان للإن�سان‪.‬‬ ‫وبف�ضل عنايتنا واهتمامنا بهذا العلم يتم‬ ‫توثيقه بحفظه بالو�سائط املتعددة ال�صوتية‬ ‫واملرئية‪ ،‬فالذاكرة ال�شعبية متوهِّ جة وحتوي‬ ‫كثري ًا من تفا�صيل ال�شعوب ولها جوانب كثرية‬ ‫تزيح العتمة عن �أي زمن‪ ،‬لأنها ت�أتي من �أنا�س‬ ‫�أحياء ي�سردون ما عا�صروه من �شخ�صيات �أو‬ ‫�أحداث‪� .‬إننا يف �سبيل دعم هذا الراوي‪ ،‬قمنا‬ ‫بافتتاح املعار�ض وعمل اللوحات الت�شكيلية‬ ‫ال�تراث�ي��ة وعر�ضنا الأدوات القدمية التي‬ ‫ا�ستخدمت يف الزراعة وغريها‪ ،‬بل و�سلطنا‬ ‫ال���ض��وء على �أط �ب��اء الأح �ي��اء ال�شعبيني –‬ ‫ف���ض� ً‬ ‫لا ع��ن ال �ع��رو���ض ال���ش�ع�ب�ي��ة‪ ،‬وت��راث�ن��ا‬ ‫ب�ح�م��داهلل‪ ،‬متنوع ت�ن��وع بيئتنا حيث جند‬ ‫�صناعة ال�سفن‪ ،‬خا�صة �صناعة �سفن ال�صيد‬ ‫والغو�ص والأ�سفار وكانت ت�شكل �أهم جوانب‬ ‫امل� ��ردود امل� ��ادي‪ ،‬وم��ن خ�ل�ال ه��ذه املهنة‬ ‫عرفنا الكثري من الرواة �سواء �أولئك الذين‬ ‫نقلوا لنا مراحل الغو�ص و�أهازيج الغو�ص‬ ‫وغ�يره‪� ،‬أو ال��رواة الذين نقلوا لنا معارك‬ ‫الآب ��اء والأج���داد م��ع ال�صحراء‪ ،‬واجلمل‬ ‫�صديق الإن�سان الويف‪ ،‬والت�صاق الإن�سان يف‬ ‫تلك احلقبة بهذا احليوان الغريب‪ ،‬وهذه‬ ‫امل�سرية من املنافع املتبادلة بني الإن�سان‬ ‫الذي �سكن ال�صحراء واجلمل‪ ،‬الذي وهبه‬ ‫اهلل ال �ق��درة على حتمل العط�ش وامل�سري‬ ‫لأ�شهر يف جماهل ال�صحراء القا�سية‪.‬‬ ‫يف الإم��ارات جتد �أي��ام ال��راوي التي انطلقت‬ ‫منذ اثني ع�شر عام ًا‪ ،‬ور َّكزت على االهتمام‬ ‫ب��اجل��ان��ب العلمي وال�ب�ح�ث��ي ل�ه��ذا ال�ع�ل��م –‬ ‫التاريخ ال�شفهي – بل وحدث تطوير ملناهج‬ ‫البحث العلمي‪ ،‬وهناك حر�ص على جعل هذا‬

‫العلم ذا منهجية علمية معرتف ًا بها‪ ،‬كما بينته‬ ‫الدكتورة ن�سيمة بو�صالح‪ ،‬عندما قالت‪« :‬جل‬ ‫ما يفعله امل�شتغلون يف الرتاث مبختلف البلدان‬ ‫العربية هو تهيئة الأر�ضية املنا�سبة للدخول‬ ‫�إىل عامل البحث الرتاثي العلمي القائم على‬ ‫�أ�س�س منهجية وا��ض�ح��ة‪ ،‬فالبع�ض يرف�ض‬ ‫التعامل مع مناهج البحث الغربية على اعتبار‬ ‫�أنها غريبة وال تت�سق وواقع الثقافة العربية»‪.‬‬ ‫لذا ف�إن جناح م�شروع الراوي‪ ،‬هو يف احلقيقة‬ ‫جناح لت�أ�سي�س مثل هذا التوجه العلمي‪ ،‬فبعد‬ ‫�أك�ثر م��ن عقد م��ن ال��زم��ن مت ت�أ�سي�س جيل‬ ‫من ال��رواة يتم تدوين رواياتهم من ق�ص�ص‬ ‫وح�ك��اي��ا و�أح� ��داث‪ ،‬ومت ت�شجيع الكثري من‬ ‫ال��رواة كبار ال�سن للحديث وحفظ مدونات‬ ‫لكل ما قالوه يف رواياتهم‪ ،‬وه��ذا نهج علمي‬ ‫وا�ضح يف احلفظ والتدوين‪ ،‬وحفظ امل�صدر‬ ‫وكافة املعلومات التي تبني مرجع املعلومة‪.‬‬ ‫وهذه املنا�سبة ‪ -‬يوم الراوي – �أتت هذا العام‪،‬‬ ‫وقد حملت يف طياتها جملة من الق�ضايا‬ ‫واملوا�ضيع اجلديرة باملناق�شة والبحث‪ ،‬لعل‬ ‫�أولها و�أكرثها �أهمية هي ريادة الإم��ارات‬ ‫يف االحتفاء بهذا املجال الإن�ساين‪ ،‬ومنحه‬ ‫ك��ل ه��ذه العناية وااله�ت�م��ام‪ .‬فهذا العام‬ ‫هو الثاين ع�شر منذ �أن �أعلن عن انطالق‬ ‫فعاليات ي��وم ال���راوي‪ ،‬وخ�لال ال�سنوات‬ ‫ال �ث �م��اين يف ذاك� ��رة االن �� �س��ان ح�ق��ق ه��ذا‬ ‫اليوم الكثري من الفوائد‪ ،‬يف جمال حفظ‬ ‫تاريخ بالدنا العزيزة‪ ،‬و�صون تراثنا من‬ ‫االندثار وال�ضياع يف �أتون الزمن‪ .‬لعل من‬ ‫�أو�ضح معامل هذا النجاح هو نهج دول يف‬ ‫املنطقة‪ ،‬وخارج املنطقة لنف�س هذا اخلط‪،‬‬ ‫و�أخ��ذ التجربة الإماراتية والبناء عليها‪،‬‬ ‫بل �إن بع�ض ال��دول قامت بن�سخ التجربة‬ ‫الإم��ارات �ي��ة بالكامل م��ع تغيري طفيف يف‬ ‫بع�ض اجلزئيات اجلانبية‪ ،‬وكما ذك��رت‬ ‫ف ��إن يف ذل��ك دالل��ة على جناحنا يف هذا‬ ‫املجال‪ ،‬و�سالمة الطريق الذي ن�سلكه‪ .‬من‬ ‫الفوائد اجلميلة والرائعة لهذه املنا�سبة‬ ‫�أنها تكرمي ووف��اء للرواة والإخباريني بل‬ ‫واحل��رف �ي�ين‪ ،‬وحلملة ال�ت��اري��خ ال�شفاهي‬ ‫ولكل من دعم و�ساند‬


‫مجلس العلوم‬ ‫‪120‬‬ ‫الـعــــدد‬ ‫‪158‬‬ ‫دي�سمرب‬ ‫‪2012‬‬

‫علماء الفلك يكتشفون‬ ‫األصول القديمة للضوء‬

‫�إعداد ‪ -‬حنان �شافعي‬ ‫يعود ال�ضوء الذي ميلأ الكون �إىل النجوم القدمية هذا ما �أكده علماء الفلك‪ .‬ورغم بعد م�سافاتها‬ ‫ت�ستمد املجرات �شديدة الإ�ضاءة وهجها من �أ�شعة جاما املنبعثة عن الفوتونات املحرتقة‪ .‬وال يقت�صر‬ ‫ذلك على على الفوتونات القدمية فقط بل ينطبق على فوتونات �أي جنم قد يظهر يف مدار تلك‬ ‫املجرات بحيث يتم اال�ستفادة من �ضوءه‪.‬‬ ‫و��س��وف ت�سهم درا� �س��ة �آث ��ار تلك النجوم يف‬ ‫الك�شف عن مزيد من املعلومات حول ال�سنوات‬ ‫الأوىل من عمر الكون وكذلك �سكانه الأوائل‬ ‫حيث يواجه علماء الفلك �صعوبات �شديدة‬ ‫التعقيد يف جمع املعلومات ب�ه��ذا ال�صدد‪.‬‬ ‫ويعتقد العلماء الآن �أن هذه النجوم قد بد�أت‬ ‫إ���ض��اءة الكون منذ ح��وايل ‪ 13.7‬بليون �سنة‬ ‫�أي بعد ما يقرب من ‪ 400‬مليون �سنة‪ ،‬بعد‬ ‫الإن�ف�ج��ار ال�ك��وين الأ��ض�خ��م‪ .‬ولعله م��ن غري‬

‫ال�صحيح �أن ي�ت��م الف�صل ب�ين �أي جنم‬ ‫ي�ضئ يف الكون وحزمة الأ��ض��واء املنبعثة‬ ‫من �أج�سام �أخرى‪ .‬فالغبار و�أ�ضواء النجوم‬ ‫املرئية وكل املواد املتوهجة يف الكون ت�أتي‬ ‫من ثقوب �سوداء �ضخمة تدور يف النهاية‬ ‫ح��ول بع�ضها البع�ض وتندرج �أ�سا�س ًا من‬ ‫جنوم بدائية‪.‬‬ ‫وي�ستخدم علماء الفلك �آل��ة ك�سر ال�ضوء‬ ‫(ب�لازر) لتحويل ال�ضوء �إىل �إليكرتونات‬

‫ميكن قيا�سها ومعرفة م�ستوياتها املختلفة‬ ‫وب��ال �ت��ايل ال�ك���ش��ف ع��ن ن���س�ب��ة م�ساهمة‬ ‫النجوم القدمية فيها‪ .‬يقول العلماء �أنهم‬ ‫ا�ستخدموا ‪ 150‬ب�لازر ملتابعة الفوتونات‬ ‫الأوىل واكت�شاف �ضوءها من بني الأ�ضواء‬ ‫الكونية احلالية‪ ،‬وال يزال العلماء يتابعون‬ ‫تكوينات ال�ضوء باجلهاز ذات��ه لكن على‬ ‫م���س��اف��ات �أب �ع��د وم��ن ث��م ميكنهم �إرج ��اع‬ ‫م�صدر ال�ضوء �إىل ع�صور �أقدم‬


‫الشفرات الحجرية ‪..‬‬ ‫أسلحة اإلنسان في الماضي‬

‫يف درا��س��ة حديثة ق��ال الباحث بجامعة‬ ‫كيب تاون يف جنوب �إفريقيا كيل براون‪،‬‬ ‫�إنه مت العثور على �شفرات حجرية قدمية‬ ‫يف كهف يف جبل بوينت بقارة �إفريقيا‪،‬‬ ‫يتوقع �أنها كانت ت�ستخدم مبثابة �أ�سلحة‬ ‫يدافع بها ال�سكان الأوائ��ل للمنطقة عن‬ ‫�أنف�سهم‪ .‬وقد ذهب ب��راون وفريقه �إىل‬ ‫تلك النتيجة انطالقا من �شكل ال�شفرات‬ ‫امل �ع��دة مب �ث��اب��ة �أ� �س �ه��م رم��اي��ة منمقة‪،‬‬

‫ح�ي��ث ع��رف الإن �� �س��ان م �ه��ارة ال��رم��اي��ة‬ ‫منذ ‪� 71‬أل��ف ع��ام على الأق ��ل‪ .‬وتتكون‬ ‫تلك ال�شفرات ال�صغرية من �أح��د �أن��واع‬ ‫احلجارة الطفلية‪ ،‬التي يتوقع العلماء �أنها‬ ‫تعر�ضت �إىل احلرارة كي ي�سهل ت�شكيلها‬ ‫كما ي�شاء امل�ح��ارب‪ ،‬خ�صو�ص ًا احل��واف‬ ‫احلادة‪ ،‬فيما ظهرت �آثار ملقاب�ض خ�شبية‬ ‫ت�ستخدم كنبلة �أو قو�س لإط�لاق ال�سهم‬ ‫�أو ال �� �ش �ف��رة‪ .‬ووج ��د ال �ب��اح �ث��ون �أم��اك��ن‬

‫االحتفاظ بالأ�سهم داخل الكهف والتي‬ ‫يرجع تاريخها �إىل ‪� 11‬ألف عام‪ .‬وفيما‬ ‫ي�شري ذل��ك �إىل ن�ضوج وع��ي الب�شر يف‬ ‫ه��ذه امل��رح�ل��ة ال��ذي �أه�ل�ه��م ل�صنع مثل‬ ‫تلك الأ�سلحة‪ ،‬ي�ؤكد العلماء �أن الأمر مل‬ ‫يتم عرب مرحلة زمنية واح��دة بل امتد‬ ‫عرب ع�صور و�أجيال خمتلفة مما يعك�س‬ ‫م�ستوى العمق ال��ذي ك��ان عليه تفكري‬ ‫الب�شر يف �أزمنة بعيدة‬


‫مجلس العلوم‬ ‫‪122‬‬ ‫الـعــــدد‬ ‫‪158‬‬ ‫دي�سمرب‬ ‫‪2012‬‬

‫فاق كل التوقعات‬ ‫ارتفاع منسوب البحر ينذر بالخطر !!‬ ‫ق����ال �أ����س���ت���اذ اجل��ي��ول��وج��ي��ا ب��ج��ام��ع��ة‬ ‫ك��ل��ورادو ويليام ه��اي‪� ،‬إن��ه م��ن املتوقع‬ ‫�أن ي��رت��ف��ع م��ن�����س��وب ال��ب��ح��ار مب��ع��دالت‬ ‫�أعلى مما م�ضى‪ ،‬وذلك ب�سبب ان�صهار‬ ‫الثلوج امل��ت��واج��دة يف ق��ارة انتاركتيكا‬ ‫وج��ري��ن�لان��د (وه���ي ج���زء م��ن مملكة‬ ‫الدمنارك)‪ .‬وي�شري هاي �إىل �أنه ينبغي‬ ‫�أن ي�أخذ املتخ�ص�صون هذه النتائج يف‬ ‫الإع��ت��ب��ار ن��ظ��ر ًا لأهميتها وخ��ط��ورة ما‬ ‫ميكن �أن يرتتب عليها‪.‬‬ ‫وي��ت��وق��ع ال��ع��ل��م��اء �أن ي�ترف��ع من�سوب‬ ‫البحار عاملي ًا مبعدل ‪� 15‬سم �أعلى من‬ ‫القرن املا�ضي وتو�ضح البيانات املتاحة‬ ‫�أنه �سيوا�صل ارتفاعه حتى عام ‪2100‬‬ ‫لي�صل �إىل ‪ 1‬مرت‪ ،‬بل رمبا يذهب بع�ض‬ ‫العلماء ملن�سوب �أعلى من ذل��ك‪ ،‬فيما‬

‫ر�أي العلماء بنا ًء على التقارير املناخية‬ ‫لعام ‪� 2007‬أن االرتفاع �سي�صل ‪� 0.2‬إىل‬ ‫‪ 0.6‬من املرت يف الفرتة عينها‪ .‬ويعلق‬ ‫الباحث يف جامعة بن�سلفانيا بينيامني‬ ‫ه���ورت���ون ع��ل��ى ذل���ك ق���ائ� ً‬ ‫ل�ا‪ :‬ال ميكن‬ ‫التعويل على تقارير ع��ام ‪ 2007‬لأنها‬ ‫مل ت�أخذ يف احل�سبان ان�صهار القارة‬ ‫الثلجية ومنطقة جرينالند‪� ،‬إذ مل تكن‬ ‫املعلومات اخلا�صة بهم متوفرة �آنذاك‪،‬‬ ‫وب��ال��ت��ايل ف����إن���ه ي��ت��ف��ق م���ع ال��ت��وق��ع��ات‬ ‫احلديثة للعلماء‪ ،‬الفت ًا �إىل �أن ال�س�ؤال‬ ‫الأ���ص��ع��ب ح��ال��ي � ًا ه���و‪ :‬م��ت��ى �سيحدث‬ ‫ذلك؟‪.‬‬ ‫ول�ل�إج��اب��ة ع��ل��ى ه���ذا ال�����س ��ؤال يجمع‬ ‫ال��ع��ل��م��اء ع��ل��ى ����ض���رورة الإ���س��ت��ع��داد‬ ‫للتوقعات اجل��دي��دة ويف ال��وق��ت نف�سه‬

‫ال��ت��ع��ام��ل م��ع��ه��ا ب��واق��ع��ي��ة‪ ،‬ح��ي��ث تكرث‬ ‫االح��ت��م��االت ال��ت��ي ت�����س�ير م��ن خاللها‬ ‫النتائج‪ .‬فمث ً‬ ‫ال قد تعمل املياه الناجمة‬ ‫ع��ن ان�صهار الثلوج على �إزاح���ة مياه‬ ‫املحيطات الباردة و�إح�لال مياه دافئة‬ ‫حم��ل��ه��ا وه���و م��ا ال ي��ن��ج��م ع��ن��ه زي���ادة‬ ‫من�سوب البحار كما يتوقع‪ .‬ومن ناحية‬ ‫�أخ����رى ع��ن��دم��ا ت��ن�����ص��ه��ر ال��ث��ل��وج ف ��إن‬ ‫املناطق املظلمة �سوف تتعر�ض لأ�شعة‬ ‫ال�شم�س‪ ،‬وبالتايل تتبخر وتعمل على‬ ‫تدفئة اجل��و ب���د ًال مم��ا تنعك�س وتعود‬ ‫مرة �أخرى كما يحدث من قبل اجلليد‪.‬‬ ‫وبنا ًء على تلك التوقعات ميكن التقليل‬ ‫م��ن خم���اوف ارت��ف��اع من�سوب البحار‬ ‫بح�سب عامل اجليولوجيا الأمريكي‬


‫المطر‪..‬‬ ‫وحضارة‬ ‫المايا‬ ‫ه��ذا م��ا ك�شفته درا��س��ة حديثة ع��ن ح�ضارة‬ ‫امل��اي��ا وه ��ي ح �� �ض��ارة ملجتمع �ضخم ع��رف‬ ‫ب�أهراماته ال�ضخمة وتراثه الأدبي من الكتابة‬ ‫الهريوغليفية‪ ،‬حيث ن���ش��أت يف زم��ن �شهد‬ ‫هطوال كثيف ًا وغري اعتيادي ًا للمطر‪ ،‬ثم �أخذت‬ ‫يف ال�سقوط تدريجي ًا بجفاف ال�سماء‪ .‬جاء‬ ‫ذل��ك يف تقرير مناخي لـ‪ 2000‬ع��ام م�ضت‪،‬‬ ‫اعتمد فيه على ال�صواعد الناتئة يف كهف‬ ‫(بليز) وهو ما يك�شف دور التغري املناخي يف‬ ‫حتديد م�صائر احل�ضارات القدمية بح�سب‬ ‫عامل الأنرثوبولوجي دوجال�س كينيت املنتمي‬ ‫�إىل جامعة بني �ستيت يف الواليات املتحدة‪.‬‬ ‫ي�ؤكد كينيت وفريقه العلمي �أن هطول الأمطار‬ ‫القوي كان العامل الأهم يف اذدهار الزراعة‬

‫وم��ن ثم بناء الدولة يف الفرتة الزمنية من‬ ‫‪� 440‬إىل ‪ 660‬ومنذ هذا العام بد�أت الأمطار‬ ‫يف اجلفاف‪ ،‬وتالي ًا حما�صيل احلبوب وهو ما‬ ‫�أثر على الرخاء الإقت�صادي الذي عم الواليات‬ ‫يف م��دن امل��اي��ا‪ ،‬وكذلك مراكز �صنع القرار‬ ‫ال�سيا�سي‪ .‬و�أخذ النظام ال�سيا�سي للمايا ينهار‬ ‫يف الفرتة من ‪� 800‬إىل ‪ 1000‬فيما و�صل هذا‬ ‫االنهيار ي�صاحبه اجلفاف ال�شديد �إىل جنوبي‬ ‫بيلز يف الفرتة ‪� 1020‬إىل ‪ ،1100‬ما دفع ما‬ ‫تبقى من �شعب املايا �إىل هجر املنطقة‪.‬‬ ‫ويقول كينيت يبدو �أن �شعب املايا ركن للو�ضع‬ ‫القائم بهطول املطر وتخيلوا �أن احلال �سوف‬ ‫ي�ستمر كذلك �إىل الأب��د وه��و م��ا مل يحدث‬ ‫بالطبع‪ ،‬م�شري ًا �إىل التحليالت والأب�ح��اث‬

‫التي قام بها فريقه على ال�صواعد الناتئة يف‬ ‫كهف ب�لاوم منذ ع��ام ‪ 40‬قبل امليالد وحتى‬ ‫عام ‪ 2006‬بعد امليالد‪ ،‬حيث مت قيا�س كمية‬ ‫املطر التي �سقطت عرب التكوينات ال�صخرية‬ ‫امل�تراك �م��ة وك�م�ي��ة الأك���س�ج�ين امل��وج��ودة يف‬ ‫الكهف‪.‬‬ ‫ويقع كهف بالوم بالقرب من املواقع الرئي�سة‬ ‫ل�شعوب امل��اي��ا‪ ،‬حيث ك��ان��ت ت�ستقر امل��واق��ع‬ ‫ال�سيا�سية وم�ؤ�س�سات الدولة �آن��ذاك وهو ما‬ ‫تو�صل �إليه العلماء من خالل مقارنة بيانات‬ ‫امل�ن��اخ املتوفرة تاريخي ًا‪ ،‬ف� ً‬ ‫ضال ع��ن حتليل‬ ‫الرتاكمات ال�صخرية املوجودة والباقية من‬ ‫ح�ضارة �شعب املايا التي كانت مذدهرة يف‬ ‫املكان نف�سه يوما ما‬

‫املخ ‪ ..‬واحلب من �أول نظرة‬ ‫�إذا وقعت يف احلب من �أول نظرة فاعلم �أن املوقف ال يتعلق‬ ‫فقط بامل�شاعر‪ .‬ه��ذا ما ي��ؤك��ده العلماء يف درا��س��ة حديثة‬ ‫تو�ضح �أن مخ الإن�سان يقوم بعدة عمليات معقدة و�سريعة‪،‬‬ ‫يف الوقت ذاته مبجرد �أن ي�شعر الإن�سان باجنذاب ما نحو‬ ‫الطرف ا ألخ��ر‪ .‬وت�ؤكد الدرا�سة �أنه بح�سب قوة الإ�شارات‬ ‫التي ت�أتي من املخ يف مثل هذه املواقف يكون رد الفعل �أو‬ ‫بالأحرى تكون �سرعة �أو بطء معدالت االجن��ذاب «احلب‬ ‫من �أول نظرة»‪ .‬وت�شري الدرا�سة �إىل حقيقة الكيفية التي‬ ‫يتم من خاللها تقييم النا�س بع�ضهم البع�ض وهي «عملية‬ ‫تتم ب�سرعة ال�ضوء» كما تقول دانييال �شيلر �أ�ستاذ علم‬ ‫الأع�صاب بكلية طب نيويورك‪ .‬ويف �إط��ار الأب�ح��اث حول‬ ‫املو�ضوع ذاته قام فريق من العلماء على ر�أ�سهم رجيفري‬ ‫كوبر‪ ،‬بعمل م�سح �ضوئي ملخ �أحد املتطوعني بينما كان ينظر‬ ‫يف �صورة حبيب حمتمل‪ .‬ورمبا يكون من ال�صعب حتديد‬

‫�أب�ع��اد البحث اعتمادا على ال�صورة فقط‪ ،‬لكن الباحثني‬ ‫حاولوا ا�ستقطاب مزيد من املتطوعني فكانت النتيجة �أن ‪1‬‬ ‫من بني كل ‪ 4‬وقعوا يف حب الطرف الآخر من خالل ال�صورة‬ ‫الفوتوغرافية‪ .‬و�شمل البحث اجلانبني العملي والنظري‪،‬‬ ‫حيث مت فح�ص عدد من املتطوعني بعد مرورهم مبوقف‬ ‫الإعجاب �أو احلب ال�سريع يف الواقع‪ ،‬وذلك ملعرفة طريقة‬ ‫عمل املخ الب�شري يف عملية �صنع �أو اتخاذ القرار يف احلب‪.‬‬ ‫النتيجة بعد �إجراء الت�صوير ال�ضوئي للمخ عك�ست نتيجة‬ ‫رمب��ا �أك�ث�ر دق��ة ح��ول الأج ��زاء امل���س��ؤول��ة يف امل��خ ع��ن ق��رار‬ ‫احلب �أو التوا�صل الغرامي‪ .‬فمث ً‬ ‫ال تعمل املنطقة الأمامية‬ ‫«اجلبهة من املخ» والتي تعلو العينني‪ ،‬على �إر�سال �إ�شارات‬ ‫حول ما �إذا كان هذا ال�شخ�ص ميكن �أن تكون بينك وبينه‬ ‫عالقة طويلة �أم ق�صرية الأمد وذلك بح�سب قوة الإ�شارات‬ ‫ال�صادرة عن املخ ‪.‬‬


‫حكايات من الذاكرة‬ ‫‪124‬‬ ‫الـعــــدد‬ ‫‪158‬‬ ‫ديسمبر‬

‫‪2012‬‬

‫�إح�سان عبد القدو�س‬

‫بين االغتيال السياسي‬ ‫والشغب الجنسي!!‬ ‫القاهرة ‪ -‬ه�شام علي‬ ‫مل يحريين كاتب يف حياتي كما حريين �إح�سان عبد القدو�س‪ ،‬ب�سببه كانت حتدث يف بيتنا م�شاجرة‬ ‫�أ�سبوعية‪ ،‬فوالدي كان ي�صر على االحتفاظ مبجلة «روز اليو�سف» معه من �أجل �أن يقر�أ مقال �إح�سان‬ ‫الأ�سبوعي «على مقهى يف ال�شارع ال�سيا�سي» يف حني تريد �أمي ا�ستكمال ف�صول �إحدى رواياته التي‬ ‫كان ين�شرها م�سل�سلة على �صفحات املجلة‪ ،‬ويف امل�ساء يجتمعا �سوياً �إىل جوار «الراديو» لي�ستمعان �إىل‬ ‫برناجمه الإذاعي وهو يختمه بعبارته ال�شهرية «ت�صبحوا على خري‪ ..‬ت�صبحوا على حب»‪.‬‬ ‫ل�ق��د خ�ل��ط ال�ك�ث�ير م��ن ق���راء �إح �� �س��ان عبد‬ ‫القدو�س بني ما يقدمه يف رواياته وبني حياته‬ ‫ال�شخ�صية‪ ،‬لدرجة �أن بع�ضهم متادى يف خياله‬ ‫وتخيل �إح�سان يف حياته اخلا�صة‪ ،‬هو خليط‬ ‫من �أبطال رواياته‪� :‬سك ً‬ ‫ريا‪ ،‬عربيد ًا‪ ،‬م�ستهرت ًا‪،‬‬ ‫مت�سيب ًا يف بيته‪ ،‬لكن املفاج�أة التي كانت يف‬ ‫انتظارنا القراء واملعجبني واملهتمني مب�سرية‬ ‫هذا الكاتب الكبري‪� ،‬أن �إح�سان عبد القدو�س‪،‬‬ ‫ك��ان يف بيته حم��اف�ظ� ًا‪ ،‬فلم ي�سمح لزوجته‬ ‫«لوال املهيلمي»‪ ،‬بالظهور يف برامج تلفزيونية‪،‬‬ ‫�أو �إج ��راء م�ق��اب�لات �صحفية‪� ،‬أو م�شاركته‬ ‫احل �ف�لات ال�ت��ي ك��ان ي�ضطر �إىل ح�ضورها‬ ‫بحكم منا�صبه العديدة‪� ،‬سواء رئا�سة التحرير‬ ‫لكربيات ال�صحف واملجالت‪� ،‬أو حفالت افتتاح‬ ‫�أفالمه‪.‬‬ ‫يكفي ما حدث بينه وبني ابنه املهند�س �أحمد‬ ‫عبد ال�ق��دو���س‪ ،‬ال��ذي ت��زوج ��س��ر ًا م��ن جنمة‬ ‫�سينمائية �شهرية‪ ،‬وعندما علم �إح�سان بهذا‬ ‫الزواج‪ ،‬تدخل بقوة حتى متكن من �إنهاء هذه‬ ‫الزيجة‪ ،‬وف��ور ًا �أر�سل �أحمد �إىل �أمريكا من‬ ‫�أجل ا�ستكمال درا�سة الهند�سة‪ ،‬رغم �أن موقفه‬ ‫م��ن زواج ابنه م��ن املمثلة‪ ،‬و�ضعه يف م ��أزق‬

‫حقيقي �أمام قرائه والو�سط ال�سينمائي الذي‬ ‫يتعاون معه عن طريق �شراء ق�ص�صه وروايته‬ ‫وحتويلها �إىل �أعمال �سينمائية‪ .‬وبد�أت ُتطرح‬ ‫حوله الأ�سئلة ال�ساخنة يف جل�سات النميمة‬ ‫اخلا�صة‪ ،‬من نوعية االزدواج الذي يعانيه يف‬ ‫�شخ�صيته‪ ،‬يكتب رواية «�أنا حرة» ومينع زوجته‬ ‫من الظهور يف �أجهزة الإعالم!!‬ ‫يتفاخر بعمل والدته «روز اليو�سف» يف الفن‪،‬‬ ‫ويرف�ض زواج ابنه من ممثلة!‬ ‫مفتاح فك �شفرات و�ألغاز �إح�سان �سنح�صل‬ ‫عليه م��ن �إح���س��ان نف�سه‪ ،‬حيث �سنجده يف‬ ‫جمموعة حواراته الرائعة مع الأ�ستاذ حممود‬ ‫ف��وزي التي �ضمها يف كتاب بعنوان «�إح�سان‬ ‫عبد القدو�س بني االغتيال ال�سيا�سي وال�شغب‬ ‫اجلن�سي» يقول الأ�ستاذ �إح�سان‪�« :‬أعترب �أن‬ ‫�أ�سا�س م�س�ؤولية �أي امر�أة هو البيت والأوالد‪،‬‬ ‫وه��ذا ينطبق ب��ال��درج��ة الأوىل على حياتي‪،‬‬ ‫فلوال زوجتي ما كنت �أ�ستطيع حتقيق الأ�سرة‬ ‫واال��س�ت�ق��رار وال�ن�ج��اح لأن�ه��ا متفرغة للبيت‬ ‫وتربية الأوالد‪ ،‬وه��ذا ما جعلني ال �أمتنى يف‬ ‫حياتي �أن �أت��زوج من �أي ام��ر�أة تعمل! ‪ ..‬من‬ ‫البداية �أدرك��ت �أن م�س�ؤولية امل��ر�أة عن البيت‬

‫هي م�س�ؤولية خطرية»‪.‬‬ ‫وي�ستكمل �إح�سان �إجاباته ونتوقف هنا �أمام‬ ‫مل��اذا رف�ض زواج ابنه م��ن املمثلة؟‪ ..‬يقول‪:‬‬ ‫«مل يكن الرف�ض متعلق ًا ب�شخ�صية املمثلة على‬ ‫العك�س ف�أنا �أُكنُّ لها كل االحرتام‪ ،‬لكن مل يكن‬ ‫من املمكن �أن �أواف��ق على زواج �أبنائي قبل‬ ‫ح�صولهم على �شهاداتهم اجلامعية‪ ،‬كان ر�أيي‬ ‫وا�ضح ًا وحمدد ًا و�أنا �أعار�ض هذا الزواج‪ ،‬لي�س‬ ‫قدم على �أي خطوة �إال بعد‬ ‫من حق �أحمد �أن ُي ِ‬ ‫ً‬ ‫االنتهاء من درا�سته‪ ،‬يتوجب عليه �أوال حتديد‬ ‫�شخ�صيته ومن ثم ي�صبح حر ًا فيما ي��راه‪� ،‬أو‬ ‫يختاره»‪.‬‬ ‫وكثري مم��ن لفقوا احل�ك��اي��ات الوهمية حول‬ ‫�إح���س��ان يف حياته اخل��ا��ص��ة‪ ،‬تنا�سوا ت�أثري‬ ‫ن�ش�أته الأوىل يف بيت ج��ده يف �أح��د �أح�ي��اء‬ ‫القاهرة العريقة املحكومة بالعادات والتقاليد‬ ‫ال�صارمة‪ ،‬وهو حي العبا�سية‪.‬‬ ‫ولأن �إح�سان ال ميكن اخت�صاره يف الروائي �أو‬ ‫القا�ص �أو اب��ن «ال�ست» الب��د �أن نقرتب �أكرث‬ ‫من �شخ�صية �إح�سان ال�سيا�سي‪ ،‬عندما ذهب‬ ‫ال��رئ�ي����س ال �� �س��ادات �إىل �صديقه ال�صحفي‬ ‫�إح�سان عبد القدو�س بعد �أن تعر�ض للف�صل‬


‫من اجلي�ش امل�صري ب�سبب تورطه يف العمل‬ ‫ال�سيا�سي‪ ،‬طالب ًا منه التو�سط عند والدته‬ ‫ال�سيدة فاطمة اليو�سف حتى تقبل �أن تعينه‬ ‫�صحفي ًا يف «روز اليو�سف»‪ ،‬لكنها رف�ضت من‬ ‫منطلق ح�ساباتها ال�سيا�سية يف عدم ا�ستفزاز‬ ‫الق�صر امللكي الذي كان غا�ضب ًا على ال�سادات‬ ‫ب�سبب ا�شرتاكه يف ق�ضية اغتيال �أمني با�شا‬ ‫عثمان‪.‬‬ ‫لكن �إح�سان مل يتخل عن �صديقه ال�سادات‬ ‫يف هذا املوقف الع�صيب وذهب معه �إىل �إميل‬ ‫زيدان‪� ،‬صاحب دار الهالل‪ ،‬متو�سط ًا عنده �أن‬ ‫يعني ال�سادات‪ ،‬لكن زيدان اعتذر له هو الآخر‬ ‫ب�سبب ال�ضائقة املالية التي مت��ر بها ال��دار‬ ‫يف ه��ذا ال��وق��ت‪ ،‬وك��ان �إح�سان يكتب يف دار‬ ‫الهالل نظري �أجر ‪ 80‬جنيه ًا يف ال�شهر‪ ،‬و�أمام‬ ‫الظروف املادية التي مير بها ال�سادات مل يجد‬ ‫�إح�سان بدي ًال �أمامه �إال عقد اتفاق �سري مع‬ ‫�صاحب دار الهالل‪ ،‬ب�أن يقبل بتعيني ال�سادات‬ ‫يف املجلة حمرر ًا ومينحه ن�صف راتبه‪ ،‬ب�شرط‬ ‫�أال يعلم ال���س��ادات حتى ال ي�شعر ب��الإه��ان��ة‪،‬‬ ‫ومت�ضي الأيام على ال�صديقني‪ ،‬واحد ي�صبح‬ ‫ريا و�شه ً‬ ‫كاتب ًا كب ً‬ ‫ريا‪ ،‬والآخ��ر ي�صري رئي�س‬ ‫اجل �م �ه��وري��ة‪ ،‬ولأن ال���س�ي��ا��س��ة يف ك�ث�ير من‬ ‫الأحيان ال تعرتف بال�صداقة والعي�ش وامللح‪،‬‬ ‫�أ�صدر الرئي�س ال�سادات قرار ًا باعتقال حممد‬ ‫عبد ال �ق��دو���س‪ ،‬جن��ل �صديقه �إح���س��ان عبد‬ ‫القدو�س‪ ،‬ب�سبب معار�ضته لل�سادات‪ .‬وح�سب‬ ‫كالم �إح�سان مع ال�صحفي حممود فوزي‪ :‬كنت‬ ‫�أعلم �أن مكاملة تليفون واح��دة مني لل�سادات‬ ‫كفيلة ب��الإف��راج ع��ن اب�ن��ي‪ ،‬ولكنني رف�ضت‬ ‫احرتام ًا لكربيائي‪ ،‬كنت �أعلم �أنه ينتظر مني‬ ‫هذه املكاملة‪ ،‬و�أذك��ر �أنه يف �أحد االجتماعات‬ ‫التي كان يخطب فيه ال�سادات وكنت مدعو ًا‬ ‫فيه بحكم من�صبي رئي�س حترير‪ ،‬رف�ضت �أن‬ ‫�أجل�س يف مكاين يف مواجهته حتى ال يدور بيننا‬ ‫حوار يف هذا املو�ضوع‪ ،‬لكن ال�سادات تعمد بعد‬ ‫انتهائه من خطبته �أن يالحقني من الباب‬ ‫اخللفي حتي نلتقي وجه ًا لوجه‪ ،‬ويقول يل‪:‬‬ ‫«حممد طالع ثوري زي �أبوه يا �إح�سان»‬ ‫‪� ..‬أجبته و�أنا �أ�ضحك‪« :‬وليه م�ش زي عمه! م�ش‬ ‫�أنت عمه بر�ضه؟» وتركته يتكلم دون �أن �أحقق‬

‫له رغبته يف �أن ي�سمعني �أرجوه يف الإفراج عن‬ ‫ابني»‪ .‬كنت �أح��اول �أن �أب��دوا متما�سك ًا �أمام‬ ‫زوجتي‪ ،‬مدافع ًا عن اختيارات ابني ال�سيا�سية‪،‬‬ ‫حتى لو كانت متعار�ضة مع قناعاتي وتوجهاتي‪،‬‬ ‫ورغم هذا‪ ،‬الأبوة كانت تهزمني يف حجرتي‪،‬‬ ‫فخلف الأبواب كنت �أبكي على ابني املوجود يف‬ ‫معتقالت �صديقي ال�سادات‪.‬‬ ‫�إذا كانت هذه حكاية �إح�سان مع ال�سادات‪ ،‬فما‬ ‫حدث بينه وبني الرئي�س عبد النا�صر يدعوا‬ ‫�إىل الت�أمل ويعطي درو�س ًا مبا�شرة يف حتديد‬ ‫م�ستوى العالقة بني ال�صحفي والرئي�س حتى‬ ‫لو كان الرئي�س هو �صديق الأم�س ال��ذي كان‬ ‫يذهب يومي ًا �إىل ال�صحفي النجم �إح�سان عبد‬ ‫القدو�س يف مكتبه ليجل�س �إىل جواره‪ ،‬وي�ستمع‬ ‫�إىل ن�صائحه يف الثورية والوطنية‪� ،‬أو مينحه‬ ‫كتب ًا من مكتبته اخلا�صة من �أج��ل �أن يقر�أه‬ ‫ويثقف نف�سه‪.‬‬ ‫ورغم هذا مت اعتقاله يف بداية الثورة مرتني‪،‬‬ ‫وم��ن املفارقات امل�ضحكة واملبكية يف الوقت‬ ‫نف�سه �أنه يف املرة الأويل خرج من ال�سجن �إىل‬ ‫منزل جمال عبد النا�صر مدعو ًا على الع�شاء‪..‬‬ ‫وهنا �أت��رك الأ�ستاذ �إح�سان ي��روي تفا�صيل‬ ‫اللقاء بنف�سه‪ ..‬يقول‪«:‬حني خرجت من ال�سجن‬ ‫دعاين عبد النا�صر �إىل زيارته يف منزله و�أثناء‬ ‫دخويل حجرة ال�سفرة للع�شاء قال يل على باب‬ ‫احلجرة قبل الدخول‪ ،‬اتف�ضل يا �إح�سان فقلت‬ ‫ل��ه‪ :‬العفو يا فندم اتف�ضل �سيادتك‪ .‬فنظر‬ ‫�إ ّ‬ ‫يل عبد النا�صر منده�ش ًا‪ ،‬قبل ال�سجن كنت‬

‫اناديه يا «جيمي» ف��إذا به يقول‪ :‬جرى �إيه يا‬ ‫�إح�سان ‪ ..‬انت اتغريت نف�سي ًا ‪ ..‬قلت له‪ :‬جرى‬ ‫يل كثري ق��وي! وم��ن يومها ظ��ل ي��دع��وين �إىل‬ ‫الع�شاء يف بيته ثم ن�شاهد �أفالم ًا �سينمائية‬ ‫كانت تعر�ض يف ملعب التن�س يف منزله من‬ ‫�أجل �أن ين�سيني ما حدث يل ‪ ..‬لكن مل �أ�ستطع‬ ‫�أن �أع��ود �إىل طبيعتي معه‪ ،‬فقد �أ�صبح عبد‬ ‫النا�صر بالن�سبة يل حاكم ًا ولي�س �صديق ًا ‪..‬‬ ‫فمن يوم �أن دخلت الزنزانة فقدت الإح�سا�س‬ ‫بال�صداقة بيني وبني عبد النا�صر»‪ .‬وبعيد ًا‬ ‫عن �إح�سان ال�سيا�سي وال��روائ��ي ‪ ..‬ظل �أكرث‬ ‫ما ك��ان يده�شني يف �إح�سان عبد القدو�س‪،‬‬ ‫رئي�س التحرير‪ ،‬كيف كان يتعامل مع املارك�سي‬ ‫لطفي اخل��ويل‪ ،‬وامل�شاغب حممود ال�سعدين‪،‬‬ ‫وال �ف �ن��ان ف�ت�ح��ي غ���امن‪ ،‬وامل �ل �ح��د م�صطفى‬ ‫حم�م��ود‪ ،‬والإ��س�لام��ي �سيد قطب‪ ،‬وال�ساخر‬ ‫�صالح جاهني‪ ،‬واملفكر �أحمد بهاء الدين‪،‬‬ ‫وال��روم��ان���س��ي �أح�م��د عبد املعطي ح�ج��ازي‪،‬‬ ‫والثوري �صالح حافظ‪.‬‬ ‫الإج��اب��ة �أتركها لأ�ستاذي ال�صحفي الكبري‬ ‫ل��وي����س ج��ري����س ال ��ذي ع�م��ل م�ع��ه ��س�ك��رت�ير ًا‬ ‫للتحرير واقرتب منه حلظة بلحظة وعا�ش �إىل‬ ‫جواره تفا�صيل �إدارة املجلة ‪ ..‬يقول جري�س‪:‬‬ ‫«�إح���س��ان ك��ان مثل قائد الأورك���س�ترا لفرقة‬ ‫مو�سيقية ك�برى‪ ،‬يعلم قيمة ودور كل عازف‬ ‫يف فرقته‪ ،‬عندما كنت �أدخ��ل عليه مكتبه‪،‬‬ ‫مبو�ضوعات املجلة‪ ،‬كنت �أنده�ش من طريقته‬ ‫يف التعامل مع امل��ادة ال�صحفية‪ ،‬فقد كان ال‬ ‫يهتم يف البداية بقراءة ا�سم كاتب املو�ضوع‪،‬‬ ‫فقط يركز ُجل اهتمامه باملو�ضوع‪ ،‬ف�إذا القى‬ ‫ا�ستح�سانه ي�أمر بن�شره فور ًا‪ ،‬فقط كان يتعامل‬ ‫مع الورق وال يعري �أهمية با�سم كاتب املو�ضوع‪،‬‬ ‫ف�ق��د ك��ان يعترب نف�سه وك �ي�ل ًا ع��ن ال �ق��راء‪،‬‬ ‫مفو�ض ًا منهم يف اختيار املادة ال�صاحلة للن�شر‬ ‫حتى لو كان خمتلف ًا يف ال��ر�أي مع كاتبها‪� ،‬أو‬ ‫خمتلف ًا مع م�ضمونها‪ ،‬يكفي �أن��ه ك��ان يرتك‬ ‫كتابة االفتتاحية لل�شيخ �سيد قطب الإخواين‪،‬‬ ‫ويف �أ�سابيع �أخ��رى تذهب �إىل لطفي اخلويل‬ ‫املارك�سي‪ ،‬واالث�ن��ان يعتنقان مذاهب فكرية‬ ‫هو نف�سه خمتلف عليها كلي ًا‪ ،‬لكنه كان ال يقبل‬ ‫فكرة م�صادرة الر�أي الآخر»‬


‫موسيقا‬ ‫‪126‬‬ ‫الـعــــدد‬ ‫‪157‬‬ ‫نوفمبر‬

‫‪2012‬‬


‫تعددت الأ�سماء وال�سحر واحد‬

‫الصوت الشعبي في الخليج‬ ‫ال�شارقة ‪ -‬عبد اجلليل ال�سعد‬ ‫مل يحظ فن ب�أهمية خا�صة مثلما حظي ال�صوت ال�شعبي‪ ،‬كما مل يغب فن كما حدث لل�صوت‬ ‫الذي �أ�صبح تراثاً حمفوظاً يف املكتبات املو�سيقية وت�سجيالت املهتمني‪ ،‬بالرغم من �أهميته‬ ‫التاريخية وتنوع جذوره املو�سيقية و�أنواعه ورواده ومبدعيه‪.‬‬ ‫وقد غنى ال�صوت كل مطربي اخلليج العربي‪ ،‬من دون ا�ستثناء‪ ،‬وبنف�س الأحلان ونف�س‬ ‫الكلمات والأ�صوات التي غناها رواده مثل حممد بن فار�س و�ضاحي بن وليد كم�ؤ�س�سني‬ ‫ومبدعني ورواد لهذا الفن‪ /‬ال�سحر يف تاريخ املو�سيقي العربية‪ ،‬والذي ال زال ي�ؤدى كداللة‬ ‫لرقي الفن ورزانته و�أ�صوله الغارقة يف الإبداع والتنوع‪.‬‬ ‫تاريخ ال�صوت‬

‫ُعزف ال�صوت كما يقول التاريخ يف �صدر‬ ‫الإ�سالم‪ ،‬و�أهم رواده �أبو�سعيد �إبراهيم‪،‬‬ ‫وال�ب�ردان ال��ذي �أخ��ذ ال�صوت من جميلة‬ ‫م��والة الأن���ص��ار‪ ،‬والتي �أخ��ذ منها كذلك‬ ‫معبد واب��ن عائ�شة وحبابة وغريهم‪ ،‬ثم‬ ‫حنني احل�ي�ري‪� ،‬سائب خ��اث��ر‪� ،‬سعيد بن‬ ‫م�سجح‪ ،‬طوي�س‪ ،‬عزة امليالء وابن حمرز‪.‬‬ ‫�أما الع�صر الأموي فقد ظهرت فيه حبابة‪،‬‬ ‫و�سالمة‪ ،‬و�سياط‪ ،‬وهو من قيل يف غنائه‪:‬‬ ‫ما �سمعت الغناء �إال �شجاين‪ ،‬من �سياط‬ ‫وزاد يف و�سوا�سي‪ .‬وك��ذل��ك اب��ن �سريح‪،‬‬ ‫ومعبد وغريهم الكثري‪.‬‬ ‫�أما الع�صر العبا�سي فخرج فيه �إبراهيم‬ ‫امل��و��ص�ل��ي‪� ،‬إب��راه �ي��م امل �ه��دي‪� ،‬أح �م��د بن‬

‫خالفات وح�سد بينه وبني ا�سحاق املو�صلي‬ ‫ال��ذي ه��دده مبغادرة بغداد حتى ال يكيد‬ ‫ل��ه ويقتله‪ ،‬نقل معه �إىل ال �ق�يروان ‪-‬ثم‬ ‫الأندل�س‪� -‬آالف الأ�صوات التي ا�ستقرت‬ ‫وانت�شرت بعدها يف الأندل�س‪.‬‬

‫يحي املكي‪ ،‬ا�سحاق املو�صلي‪ ،‬بذل‪ ،‬حكم‬ ‫ال� ��وادي‪ ،‬دن��ان�ير‪ ،‬ذات اخل ��ال وغ�يره��م‬ ‫ال �ك �ث�ير مم��ن زخ� ��رت ب �ه��م �أي � ��ام ط��رب‬ ‫العبا�سيني بتاريخهم ال��زاخ��ر بالفنون‬ ‫والآداب‪.‬‬ ‫ويقال �إن علية بنت املهدي �أخ��ت ه��ارون‬ ‫الر�شيد حلنت �أك�ثر من ‪� 73‬صوت ًا‪ ،‬و�إن تعريف ال�صوت‬ ‫زرياب‪ ،‬الذي زاد وتر ًا خام�س ًا للعود‪ ،‬بعد يعرف ال�صوت ب�أنه لي�س �صوت الإن�سان �أو‬ ‫الآلة‪� ،‬إمنا هو حلن �أطلقت عليه الت�سمية‬ ‫حافظ الصوت في‬ ‫«ميلودي»‪ ،‬ويقال �إن �أبو الفرج الأ�صفهاين‬ ‫جمع يف كتابه «الأغ��اين» كل أ�ن��واع الغناء‬ ‫الخليج على حضور‬ ‫ومنها ال�صوت‪.‬‬ ‫صارم وتقاليد ثابتة ال‬ ‫يختلف فيها مؤد عن آخر �أما من ذكر ال�صوت ب�إيقاعاته املو�سيقية‬ ‫ٍ‬ ‫املدونة‪ ،‬فهو �صفي الدين الأرموي املتويف‬ ‫إال في صوت المطرب‬ ‫‪1294‬م يف كتابه «الأدوار»‪.‬‬

‫نفسهواستهالالته‬ ‫وعزفه‬


‫موسيقا‬ ‫‪128‬‬ ‫الـعــــدد‬ ‫‪157‬‬ ‫نوفمبر‬

‫‪2012‬‬

‫حممد فار�س‬

‫حممد زويد‬

‫ال�صوت الهندي‬

‫الأ�صفهاين �أن��واع ال�صوت مثل ال�صوت‬ ‫ال�ع��رب��ي وال���ص��وت ال��روم��اين «وال ��ذي مت‬ ‫حتريفه وحتويله اىل الرودماين» وال�صوت‬ ‫املاخوري «ال�صوت اخليايل»‪� ،‬أما بعد عبد‬ ‫اهلل ال�ف��رج وحممد ب��ن ف��ار���س فال�صوت‬ ‫ه��و ال�صوت العربي وال�صوت ال�شامي‪،‬‬ ‫و�أدخل حممد بن فار�س «‪1947 – 1895‬م»‬ ‫ال�صوت ال�شحري‪ ،‬وهناك �صوت عربي‬ ‫ح �ج��ازي‪ ،‬و� �ص��وت ع��رب��ي مي��اين‪ ،‬و�صوت‬ ‫�صنعاين‪ ،‬و�صوت حجازي رخيم‪ ،‬و�صوت‬ ‫بحريني وغريها‪ ،‬ويعترب ال�صوت العربي‬ ‫عو�ض الدوخي‬ ‫�أك�ثر الأ��ص��وات انت�شار ًا وقبو ًال لدى �أكرث‬ ‫مطربي اخلليج‪.‬‬ ‫ً‬ ‫اعتمد فن الصوت في‬ ‫ويف تف�صيليات �أكرث تعريفا ميكن القول‬ ‫�إن ال�صوت «املروبع» معتدل ال�سرعة ثماين‬ ‫أدائه على مجموعة‬ ‫أدوات موسيقية أشهرها الإيقاع‪ ،‬ويقال ن�ش�أ يف الكويت‪ ،‬وال�صوت‬ ‫«ال�شامي» مروبع �سريع‪ ،‬وت�أتي ت�سميته من‬ ‫العود والمرواس وعادة‬ ‫�سوريا «ال�شام»‪� ،‬أما ال�صوت «ال�شحري»‬ ‫ما يكون أكثر من مرواس‬ ‫فبطيء الإيقاع �أو �سريع باعتدال‪ ،‬وايقاعه‬ ‫يكون واحد منهم‬ ‫�سدا�سي �أو ثماين وم�صدر �أ�شعاره مدينة‬ ‫«مشربك» ليخرج من‬ ‫��ش�ح��ر ب �ح �� �ض��رم��وت ال �ي �م��ن‪ ،‬وال �� �ص��وت‬ ‫«ال�صنعاين» �سريع م�سرت�سل ذو ايقاعات‬ ‫رتابةاللحن‬ ‫ثمانية وتوا�شيحه كال�سيكية ف�صيحة‬ ‫بال�شرح‪ ،‬وهو ال�صوت اخلليجي باختالف وتعتمد ق�صائده نظام الأب�ي��ات الثالثة‪،‬‬ ‫طفيف ال مي�س جوهر اللحن واللون‪.‬‬ ‫ويعترب ال�صوت «احلجازي» �أقلها �شيوع ًا‬ ‫وتداو ًال وهو ذو نغمة ثمانية �سريعة‪.‬‬

‫على بالروغة‬

‫وق��د انت�شر ف��ن ال�صوت يف ب�غ��داد حتى‬ ‫ه �ج��وم ال�ت�ت��ار يف ال �ق��رن ال���س��اب��ع حيث‬ ‫اختفى ومل يظهر بعدها �إال على يد عبد‬ ‫اهلل ال �ف��رج‪ ،‬ال�ف�ن��ان وال�شاعر الكويتي‬ ‫املعروف «‪1901 – 1836‬م» ال��ذي عا�ش‬ ‫ودر���س املو�سيقى يف الهند‪ ،‬وك��ان الفرج‬ ‫مثابر ًا على درا�سة املو�سيقى واال�ستماع‬ ‫ملناظرات الفنانني واملهاجرين اليمنيني‬ ‫يف الهند‪ ،‬وق��د خ��رج ال�صوت اخلليجي‬ ‫م��ن ه��ذه ال��درا��س��ة واخل�ب�رة وال�ل�ق��اءات‬ ‫والبحوث املتعمقة‪.‬‬ ‫ال �� �س ��ؤال ال���ذي ي �ح �ت��اج �إىل م��زي��د من‬ ‫البحث‪ ،‬هو هل يختلف �صوت عبد اهلل‬ ‫الفرج عن ال�صوت كما ذكره �أبو الفرج‬ ‫الأ� �ص �ف �ه��اين‪� ،‬أم ه�م��ا ن�ف����س ال���ص��وت‪،‬‬ ‫وه��ل �صوت الفرج ميني لت�أثره بال�شيخ‬ ‫علي بن هرهد‪� ،‬أم �أن ذل��ك ك��ان نتيجة‬ ‫للرحالت اليمنية �إىل ال�ك��وي��ت‪ ،‬ون��زوح‬ ‫و�سكن الفنانني اليمنيني يف الكويت‪ ،‬و�إىل‬ ‫�أي مدى ت�أثر ال�صوت اخلليجي باللحن‬ ‫الهندي‪ ،‬يف بع�ض �أحلانه و�أ�صواته «مثل‬ ‫عبد اهلل ف�ضالة وحممود الكويتي»‪ ،‬و�إن‬ ‫كان اللحن الهندي نادر ًا ومل يذكر �سوى‬ ‫يف �صوت «ملك الغرام عنانيا» من �شعر‬ ‫البهاء زهري‪.‬‬ ‫يذكر �أن ال�صوت اعتمد يف كلماته على �أنواع ال�صوت‬ ‫ال�شعر العربي والق�صائد احلمينية‪ ،‬وهو يق�سم ال�صوت ملجموعة م��ن الأ� �ص��وات‪� ،‬آالت ال�صوت‬ ‫ما يف�سر ت�سمية فن ال�صوت يف اليمن منها ال�صوت اليماين وال�شامي‪ ،‬وقد ذكر اعتمد فن ال�صوت يف �أدائه على جمموعة‬


‫�أدوات مو�سيقية هي �آل��ة العود واملروا�س‬ ‫وع��ادة ما يكون �أك�ثر من م��روا���س يكون‬‫واح� ��د ًا منهم «م���ش��رب��ك» �أي ي�خ��رج من‬ ‫رتابة اللحن ويتبعه الآخ��رون «املرو�سون»‬ ‫يف القفلة و�آل��ة الكمان‪ -‬وع��ادة ما يكون‬ ‫عازف ًا واحد ًا قدمي ًا «يعترب �صالح الكويتي‬ ‫�أهم عازيف الكمان امل�صاحب لل�صوت يف‬ ‫اخلليج وه��و من �أ�صل عراقي كما يقال»‬ ‫والآن ميكن اال�ستعانة ب��أك�ثر م��ن واح��د‪،‬‬ ‫ثم ال�صفقة �أو امل�صفقون‪ ،‬كما مت م�ؤخر ًا‬ ‫�إدخ��ال �آل��ة القانون لقرب وقعها و�صوتها‬ ‫من �آل��ة العود‪ ،‬والزفان هي رق�صة تعرب‬ ‫عن الكر والفر‪ ،‬وي�ؤديها �أكرث من راق�ص‪،‬‬ ‫وتعترب جزء ًا حيوي ًا من فن ال�صوت وي�سمي‬ ‫م��ؤدي�ه��ا‪ ،‬وع��ادة م��ا يكونون اث�ن�ين‪ ،‬زف��ان‬ ‫للمفرد وزفانة للجمع‪ ،‬والزفانة ع��ادة ما‬ ‫يحيون فن ال�صوت بالكر والفر وحتريك‬ ‫الرقبة كالزمة �أداء مهمة لفن ال�صوت‪.‬‬ ‫خ��رج ال�صوت م��ن ع�ب��اءة الفنان حممد‬ ‫بن فار�س و�ضاحي بن وليد يف البحرين‬ ‫والذين �سار على نهجهم وحافظ على فن‬

‫ال�صوت حممد زويد‪،‬عبد العزيز بورقبه‪،‬‬ ‫يو�سف ف��وين‪ ،‬علي خالد‪ ،‬عبد اهلل �سامل‬ ‫بو�شيخة م��ن ال�ب�ح��ري��ن وع �ب��د اللطيف‬ ‫وحممود الكويتي‪ ،‬عو�ض ال��دوخ��ي‪ ،‬عبد‬ ‫اهلل ف�ضالة م��ن الكويت وم��ن الإم ��ارات‬ ‫علي بن روغ��ه‪ ،‬جابر جا�سم‪ ،‬حممد عبد‬

‫لحنت علية بنت المهدي‬ ‫أخت هارون الرشيد أكثر‬ ‫من ‪ 73‬صوت ًا ونقل‬ ‫زرياب معه حين فر من‬ ‫بغداد آالف األصوات‬ ‫التي انتشرت بعدها في‬ ‫األندلس‬

‫ال�سالم وجا�سم عبيد‪ ،‬ومن قطر خريي‬ ‫ادري� �� ��س‪ ،‬ورا�� �ش ��د ال �� �ص��وري م��ن ع�م��ان‬ ‫وحممد عبده من ال�سعودية والكثري من‬ ‫مطربي اخلليج على ال��رق�ع��ة اخلليجية‬ ‫من دون ا�ستثناء وبح�ضور �صارم وتقليد‬ ‫ثابت لل�صوت و�أحلانه الأ�صلية ال يختلف‬ ‫فيها �صوت عن �آخ��ر غري �صوت املطرب‬ ‫وا�ستهالالته وعزفه‪.‬‬ ‫ال�صوت عامل من الفن واملو�سيقي واحلركة‬ ‫وال �ت��اري��خ امل��و��س�ي�ق��ي ملنطقة اخل�ل�ي��ج يف‬ ‫ق�صائد واحلان ملأت تاريخ الفن بتعابري‬ ‫واحل��ان �أخ��ذت مداها ل�سنوات طويلة وال‬ ‫زالت م�ستمرة‬


‫فنون‬ ‫‪130‬‬ ‫الـعــــدد‬ ‫‪158‬‬ ‫ديسمبر‬

‫‪2012‬‬


‫�سر ال�صنعة مرياث تتناقله الأجيال‬

‫األيدي الماهرة‪..‬‬

‫حارسة التراث ومج ّددته‬ ‫د‪ .‬حممود �شاهني‬ ‫ُت�ش ّكل احلِرف وال�صناعات اليدوية التقليدية ال�شعبية الأ�صلية‪ ،‬وعلى‬ ‫امتداد ال�ساحة العاملية‪ ،‬امتيازاً رفيعاً‪ ،‬حتمله يف العادة �أ�سر معينة‪،‬‬ ‫�أو م�ؤ�س�سات معروفة‪ ،‬يتناقله بالوراثة «ومبا ي�شبه النذر»�أفراد هذه‬ ‫الأ�سر �أو امل�ؤ�س�سات من دون غريها‪ ،‬وبقدر ما ي�ضرب هذا الإرث‬ ‫يف املا�ضي الأبعد والأقرب لل�شعوب‪ ،‬ميتد يف احلا�ضر‪ ،‬وي�ست�شرف‬ ‫امل�ستقبل‪ ،‬ما مل يتعر�ض لعملية اجتثاث �أو تخريب ي�ؤدي ملوته‪.‬‬ ‫م��ن ه�ن��ا‪ ،‬ت ��أت��ي �أه�م�ي��ة العاملني يف جمال‬ ‫احل��رف وال�صناعات وامل�شغوالت اليدوية‬ ‫ِ‬ ‫الرتاثية و�ضرورة رعايتهم واملحافظة على‬ ‫�أيديهم التي يجب �أن تُ�صان وتُلف باحلرير‪،‬‬ ‫لتتابع مهمتها النبيلة يف �صون وا�ستمرار هذا‬ ‫املوروث ال�شعبي املهم‪.‬‬ ‫�إن تراكم اخلربات الفنية العملية والنظرية‬ ‫لدى احلرفيني وال�صناع امل�شتغلني يف حقول‬ ‫امل�شغوالت ال�شعبية املتعددة املهام والوظائف‪،‬‬ ‫تُعترب كنز ًا من كنوز الأمم والأوطان‪ ،‬لي�س من‬ ‫املفرو�ض املحافظة عليها وحمايتها وتطويرها‬ ‫فح�سب‪ ،‬بل و�صون ه��ذه اخل�ب�رات‪ ،‬و�إيجاد‬ ‫�شتى ال�سبل ال�ستمرارها وانتقالها من جيل‬ ‫�إىل �آخر‪ ،‬ذلك لأن هذه «الأيدي املاهرة» قد ال‬ ‫تتكرر �أو تُع ّو�ض بنف�س اخل�صو�صية والنكهة‪،‬‬ ‫�إذا ما غابت واندثرت‪� .‬إن املخ�ضرمني من‬ ‫ال�صناع واحل��رف�ي�ين وال�ف�ن��ان�ين ال�شعبيني‬ ‫املاهرين الذين �أم�ضوا العمر يف تكوين هذه‬ ‫اخل�ب�رات وتكري�سها وجتميعها باملمار�سة‬

‫العملية‪� ،‬أ�شبه بالذهب ال��ذي ي��زداد قيم ًة‬ ‫و�أهمي ًة وفراد ًة كلما تعاقبت عليه ال�سنون‪.‬‬ ‫لقد فطنت العديد م��ن ال ��دول �إىل �أهمية‬ ‫احل��رف�ي�ين ال�شعبيني امل��اه��ري��ن‪ ،‬ف�أولتهم‬ ‫العناية والرعاية الالزمتني وال�ضروريتني‪،‬‬ ‫عرب اتخاذها جلملة من الإج ��راءات منها‪:‬‬ ‫�إن���ش��اء ور���ش �أو معاهد �صغرية للمربزين‬ ‫املتميزين من معلمي احل��رف وال�صناعات‬ ‫وامل�شغوالت والفنون التطبيقية التقليدية‬ ‫ال�شعبية‪ ،‬وال �ق �ي��ام ب ��إحل��اق جم�م��وع��ة من‬ ‫ال�شباب الذين �أب��دوا ا�ستعداد ًا بين ًا لأخذ‬ ‫ه ��ذه اخل�ب��رات وال�ت �م�ك��ن م��ن �أ� �س��راره��ا‪،‬‬ ‫و�إتقان التعامل معها‪ ،‬وامل�ضي بها قدم ًا نحو‬

‫نتيجة الطلب المتزايد‬ ‫على المشغوالت‬ ‫الشعبية‪ ،‬دخلتها‬ ‫الميكنة التي تهدد‬ ‫جانب ًا من أصالتها‬ ‫وقيمها وخصائصها‬

‫امل�ستقبل‪ ،‬حمققني بذلك‪ ،‬عملية توا�صل مهمة‬ ‫و�ضرورية مع هذا الرتاث‪ ،‬من �أجل �صونه من‬ ‫ال�ضياع املتمثل برحيل امل�شتغلني املربزين‬ ‫فيه‪ ،‬وبالتايل القيام بتطويره والإ�ضافة �إليه‬ ‫مبا يتالءم وخوا�صه التي جت�سد قيم الأمة‪،‬‬ ‫وتعك�س �أفكارها ومعتقداتها وعاداتها الأ�صيلة‬ ‫والنبيلة‪ ،‬واال�ستفادة يف نف�س ال��وق��ت‪ ،‬من‬ ‫املعطيات العلمية والتكنولوجية اجلديدة‪� ،‬إمنا‬ ‫من دون �أن ي�ؤثر ذلك‪ ،‬على خوا�صها الأ�صيلة‪،‬‬ ‫وقيمها الرفيعة امل�ستمرة فيها والتي ولدت مع‬ ‫الأ�صابع الأوىل التي ابتكرتها‪ ،‬وتكر�ست فيها‬ ‫بتعاقب الأجيال املتالحقة التي ا�شتغلت عليها‬ ‫وتابعت �إنتاجها‪ ،‬من دون امل�سا�س ب�أ�صولها‬ ‫وقيمها املادية والداللية‪.‬‬

‫مق�صد وعنوان‬

‫ف �ه��ذه امل �� �ش �غ��والت واحل� ��رف وال���ص�ن��اع��ات‬ ‫اليدوية التقليدية‪ ،‬تُ�ش ّكل ال�ي��وم‪ ،‬املق�صد‬ ‫الأب��رز للعديد من �أب�ن��اء البلد الذين باتوا‬


‫فنون‬ ‫‪132‬‬ ‫الـعــــدد‬ ‫‪158‬‬ ‫ديسمبر‬

‫‪2012‬‬

‫يهتمون بها‪ ،‬ويحر�صون على اقتنائها‪ ،‬يف‬ ‫بيوتهم لأ�سباب عديدة‪ ،‬وهي ما يبحث عنه‬ ‫ب�إحلاح ال��زوار وال�سياح‪ ،‬التخاذه ذكرى من‬ ‫البالد التي زاروها و�أم�ضوا فيها ب�ضعة �أيام‬ ‫�أو �شهور �أو �سنوات‪ ،‬لذلك يحر�صون على‬ ‫البحث عن الأ�صيل املتميز القتنائه وحمله‪،‬‬ ‫باعتزاز �إىل �أوطانهم‪ ،‬لت�أخذ مكانها الالئق‬ ‫ب �ه��ا‪ ،‬يف م�ن��ازل�ه��م وم�ك��ات�ب�ه��م‪� ،‬أو يقومون‬ ‫ب�إهدائها �إىل معارفهم و�أ�صدقائهم‪ .‬على‬ ‫ه��ذا الأ� �س��ا���س‪ ،‬جن��د يف ك��ل مدينة وب�ل��دة‪،‬‬ ‫حمالت و�أ�سواق ًا مكر�سة بكاملها‪ ،‬ملثل هذه‬ ‫ال�صناعات واحلرف ال�شعبية‪ ،‬ي�ؤمها الغرباء‬ ‫و�أبناء البلد يف الوقت نف�سه‪ .‬فهذه امل�شغوالت‬ ‫ُ‬ ‫حتيلهم �إىل الأيام التي �أم�ضوها يف هذا البلد‬ ‫ال��ذي حملوا منه ه��ذا التذكار‪ ،‬كلما وقعت‬ ‫�أعينهم عليها‪ ،‬وهي تُ�ش ّكل البن البلد‪ ،‬رمز ًا‬ ‫تراثي ًا‪ ،‬و�إ�شارة �إىل الزمن اجلميل الذي عا�شه‬ ‫�آبا�ؤهم و�أجدادهم‪ ،‬وافتقدوه هم‪ ،‬لكرثة ما‬ ‫ُيحيط بحياتهم من م�شاكل وهموم وتعقيدات‪،‬‬ ‫وقد �ش ّكل‪ ،‬اهتمام الأجانب بهذه امل�شغوالت‪،‬‬ ‫وحر�صهم على اقتنائها يف بيوتهم خالل‬ ‫مكوثهم يف بلداننا العربية‪ ،‬بحكم ا�شتغالهم‬ ‫يف ال�سفارات �أو املعاهد واملراكز وال�شركات‬ ‫العائدة لبلدانهم‪� ،‬أح��د العوامل التي دفعت‬ ‫باملواطن العربي‪ ،‬لالهتمام بها ونقلها �إىل‬ ‫بيته‪ ،‬خا�صة ال�شريحة التي تتعامل مع ه�ؤالء‬

‫حطمت مدرسة‬ ‫«الباوهاوس» األلمانية‬ ‫الجدران بين الفن‬ ‫والحرفة‪ ،‬ودعت‬ ‫ِ‬ ‫إلى وحدة الفنون‬ ‫التشكيلية والعمارة‪.‬‬ ‫ال�ضيوف املقيمني يف بلدانهم‪.‬‬ ‫والأم��ر نف�سه يتكرر مع العربي ال��ذي يزور‬ ‫ال�ب�ل��دان الأجنبية‪ ،‬وميكث فيها ردح� � ًا من‬ ‫الزمن‪� ،‬إذ يحر�ص هو الآخر‪ ،‬على البحث عن‬ ‫امل�شغوالت التي متثل روح هذا البلد‪ ،‬وتعك�س‬ ‫تراث �شعبه‪ ،‬من �أجل اقتنائها وحملها معه �إىل‬ ‫بلده‪ ،‬لنف�س الغاية والهدف‪.‬‬

‫خطر امليكنة‬

‫احلرف‬ ‫نتيجة للطلب املتزايد‪ ،‬على مثل هذه ِ‬ ‫وامل�صنوعات والفنون التقليدية‪ ،‬تلج�أ بع�ض‬ ‫اجلهات املنتجة لها يف بالدنا العربية اليوم‪،‬‬ ‫�إىل ميكنتها‪ ،‬ب�ه��دف تلبية ح��اج��ة ال�سوق‬ ‫امل�ت���ص��اع��دة �إل �ي �ه��ا‪ ،‬الأم���ر ال ��ذي �أ ّث���ر على‬ ‫نوعيتها‪ ،‬و�أعطب جانب ًا من �أ�صالتها وقيمها‬ ‫وخ�صائ�صها التي جتذب النا�س �إليها‪ ،‬ذلك‬ ‫لأن الأ�صابع الفوالذية التي حتل حمل الأ�صابع‬

‫الإن�سانية‪ ،‬غالب ًا ما تق�ضم احل�س التعبريي‬ ‫فيها‪ ،‬وتُق�صي عفويتها‪ ،‬وتلغي جوانب من‬ ‫جمالياتها املعجونة ب�أنفا�س �صانعها‪ ،‬وتو ّقد‬ ‫�أ�صابعه و�أحا�سي�سه املفعمة باحلياة املتلو ّنة‬ ‫واملرتبطة بحالته ال�شعورية �أث�ن��اء �إجن��ازه‬ ‫ملنتجه‪ .‬ث��م �إن امليكنة‪ ،‬تفرز ن�سخ ًا ب��اردة‬ ‫وم �ك��رورة‪ ،‬من املنتج‪ ،‬ي�شبه �إىل حد بعيد‪،‬‬ ‫ال�صورة ال�ضوئية التي ت��ؤخ��ذ للوحة زيتية‬ ‫�أو مائية‪� ،‬أو ملنظر طبيعي‪� ،‬أو ملزهرية‪� ،‬أو‬ ‫�صحن ف��واك��ه‪ ،‬ث��م تُعمم ع�بر �آالف «ورمب��ا‬ ‫ماليني» الن�سخ‪ ،‬بو�ساطة �آلة الطبع املتطورة‬ ‫التي باتت لدقتها‪ ،‬وتطور و�سائطها تُعطي‬ ‫ن�سخ ًا �أكرث جما ًال و�أناقة و�إدها�ش ًا‪ ،‬من امل�شهد‬ ‫ال��ذي ر�صدته هذه ال�صورة يف الواقع‪ ،‬لكن‬ ‫كونها م�ستن�سخة‪ ،‬تفقد �أهميتها وقيمتها‬ ‫امل��ادي��ة والتعبريية‪ ،‬ذل��ك لأن العمل الفني‬ ‫الوحيد الن�سخة‪ ،‬واملنجز ب�أنامل فنان �أو‬ ‫حريف‪� ،‬أ�شبه ما يكون بر�صيد مادي وتعبريي‬ ‫�ضخم‪ ،‬تتنامى قيمه وت��زداد‪ ،‬كلما �أوغ��ل يف‬ ‫العتاقة وال ِقدم‪ ،‬وب�إمكان �صاحبه �أن ي�صرفه‬ ‫متى ي�شاء‪ ،‬ب�أ�ضعاف الثمن الذي ا�شرتاه به‪،‬‬ ‫والأمثلة على ذل��ك‪� ،‬أك�ثر من �أن تحُ �صى يف‬ ‫حياتنا املعا�صرة‪ ،‬بدليل الأ�سعار اخليالية التي‬ ‫حتققها الأع�م��ال الفنية واحلرفية الأ�صيلة‬ ‫واملتميزة‪ ،‬يف املزادات العاملية‪ ،‬هذه الأيام‪.‬‬


‫الأمية الب�صرية‬

‫نتيجة ل�سطوة الأم�ي��ة الب�صرية على عيون‬ ‫ن�سبة كبرية من العرب «مب��ا فيهم املتعلم‪،‬‬ ‫واملثقف‪ ،‬وحتى بع�ض امل�شتغلني يف حقول‬ ‫الفنون الب�صرية نف�سها» ف��إن قدرتهم على‬ ‫التعاطي مع هذا اللون من الثقافة الراقية‬ ‫واجل��دي��دة عليهم ن�سبي ًا‪ ،‬ي �ب��دو حم ��دود ًا‬ ‫و�ضئي ًال‪ ،‬بدليل غياب الأثر الفني الت�شكيلي‪،‬‬ ‫�أو الأثر احلريف املتميز والراقي‪ ،‬من بيوتهم‬ ‫ومكاتبهم و�أماكن عملهم املختلفة‪ ،‬ل�صالح‬ ‫العمل الفني التجاري املن�سوخ‪ ،‬واحلا�ضن‬ ‫جلماليات عادية ومبا�شرة «املناظر الطبيعية‬ ‫اخل�ل�اب��ة‪ ،‬ال�ط�ب�ي�ع��ة ال���ص��ام�ت��ة‪ ،‬ال��زه��ور‪،‬‬ ‫ال��وج��وه» علم ًا �أن م��ا ي�صرفونه م��ن �أم��وال‬ ‫على هذه الأعمال التي تفقد قيمتها املادية‬ ‫ف��ور �شرائها‪ ،‬حيث تتحول �إىل جم��رد ورق‬ ‫«�أو قما�ش مطبوع» و�إطار‪ ،‬يكفي ل�شراء عمل‬ ‫فني �أ�صيل ووحيد الن�سخة‪ ،‬يتحول �إىل ر�صيد‬ ‫مادي وفني وجمايل‪ ،‬متعاظم القيمة‪ ،‬كلما‬ ‫م�ضى به الزمن بعيد ًا‪ ،‬وب�إمكان مالك هذا‬ ‫الر�صيد �صرفه متى ي�شاء‪ ،‬ب�أ�ضعاف ثمنه‬ ‫الذي ا�شرتاه فيه!!‬

‫الفن واحلِرفة‬

‫تعترب مدر�سة «الباوهاو�س» �أي «بيت البناء»‬ ‫التي �أ�س�سها املهند�س الأمل��اين «غروبيو�س»‬ ‫‪ 1919‬يف مدينة «فاميار» بالقرب من مدينة‬ ‫«اليبزيغ» الأملانية‪� ،‬أول اجتاه فني �أكادميي‬ ‫زاوج بني «الفن» و«احل��رف��ة» حمطم ًا بذلك‬ ‫اجل��دران التي نه�ضت بني املبدعني الذين احلجج والأ�سباب التي �ساقها ه�ؤالء‪ ،‬لتربير‬ ‫ي�شتغلون على اللغات التعبريية التقليدية دون�ي��ة احل��رف��ة وال���ص��ورة ال�ضوئية مقارن ًة‬ ‫الرفيعة‪ ،‬كالفنانني الت�شكيليني‪ ،‬واملو�سيقيني‪ ،‬بالفنون التي يجرتحونها‪ ،‬تتلخ�ص ب ��أن ما‬ ‫وال�شعراء‪ ،‬والأدب ��اء‪ ،‬وبني احلرفيني‪ ،‬ومثل ينتجونه يت�سم باالبتكار والتجديد‪ ،‬بينما‬ ‫هذا املوقف الإق�صائي املتزمت واال�ستخفايف احلرفة ثابتة‪ ،‬وجامدة‪ ،‬وم�ك��رورة‪ ،‬وتتوجه‬ ‫باحلرف وامل�شغوالت اليدوية‪ ،‬كان امل�شتغلون لإر�ضاء حاجة مادية بحتة‪ ،‬لدى الإن�سان‪� ،‬أما‬ ‫ِ‬ ‫على مثل ه��ذه اللغات قد وقفوه جت��اه الفن‬ ‫اجلديد الذي ولد مع اخ�تراع الكامريا عام‬ ‫الحرف والمشغوالت‬ ‫ِ‬ ‫‪ 1839‬وهو «الت�صوير ال�ضوئي» ال��ذي نعتوه الشعبية األصيلة‬ ‫بالفن الآيل‬ ‫أبوللو»‪.‬والبارد‪ ،‬وعملوا على �إبعاده عن تتناقلها أسر معينة‬ ‫«معبد �‬

‫بالوراثة وبما يشبه النذر‬ ‫المرصود على أفرادها‬

‫فنونهم فتتوجه لروحه و�أحا�سي�سه وعقله‪.‬‬

‫حرا�س الرتاث‬

‫ما هو م�ؤكد‪� ،‬أن الفنون الإبداعية الرفيعة‬ ‫كالت�شكيل واملو�سيقا وال�شعر‪ ،‬ال تزال نخبوية‬ ‫يف عاملنا العربي‪ ،‬ومتلقوها قلة مقارنة مبتلقي‬ ‫احلرف والفنون وال�صناعات اليد ّوية الذين‬ ‫ِ‬ ‫ي�ش ّكلون قاعدة �شعبية وا�سعة‪� ،‬إىل جانب‬ ‫املتلقني الأجانب الزائرين لبلداننا والعا�شقني‬ ‫احلرف التي متثل تراث الأمة احلقيقي‬ ‫لهذه ِ‬ ‫املعي�ش يف احلياة ال�شعبية التي ت�شكل رحم‬


‫فنون‬ ‫‪134‬‬ ‫الـعــــدد‬ ‫‪158‬‬ ‫ديسمبر‬

‫‪2012‬‬

‫ال�تراث احلنون‪ ،‬واملتمثل يف �سلوك الإن�سان‬ ‫ال�شعبي وعاداته وتقاليده و�أف�ك��اره وعمارته‬ ‫ولبا�سه وغريه‪ .‬من هنا حتديد ًا‪ ،‬ت�أتي �أهمية‬ ‫احلرفيني املنتجني لهذا ال�ت�راث‪ ،‬ال �سيما‬ ‫عند غالبية النا�س املتحدرين من البيئات‬ ‫ال�شعبية الذين وع��وا على الدنيا‪ ،‬ومثل هذه‬ ‫احل��رف والفنون �أم��ام �أعينهم‪ :‬يف بيوتهم‬ ‫ِ‬ ‫وبيوت جريانهم‪ ،‬حيث كانت تُناط بها وظائف‬ ‫ا�ستعمالية وجمالية تزيينية عديدة‪.‬‬ ‫�إن احلياة ال�شعبية العربية«حتى تاريخه» مل‬ ‫ت�ضح بالرتاث‪ ،‬بل هي التي احت�ضنته‪ ،‬وكانت‬ ‫ِ‬ ‫رحم ا�ستمراره وتطوره‪ ،‬وكان امل�شتغلون فيه‬ ‫حرا�سه ون�سغ جتدده‪ ،‬والقيمة الرئي�سة لهذه‬ ‫امل�شغوالت ت�أتي من كونها‪ ،‬نتاج ًا حر ًا وعفوي ًا‬

‫لأرواحهم وبيئاتهم‪ ،‬واختزا ًال �صادق ًا جلوانب‬ ‫مهمة من ت��راث �شعوبهم وقيمها وتقاليدها‬ ‫وتاريخها‪ ،‬وه��ي يف خال�صتها‪ ،‬ف��ن حقيقي‬ ‫متما ٍه باحلرفة‪ ،‬تقوده احلاجة �أحيان ًا‪ ،‬ويقود‬ ‫هو احلاجة‪� ،‬أحيان ًا �أخرى‪.‬‬

‫فنان بالوراثة‬

‫الفنان ال�شعبي‪ ،‬ويف جانب كبري من �شخ�صيته‬ ‫الفنية‪ ،‬حريف ت��وارث حرفته عن �أبيه‪ ،‬و�أبوه‬

‫صارت بعض المشغوالت‬ ‫الشعبيةتذكار ًاتراثي ًا‪،‬‬ ‫وإشارة إلى الزمن‬ ‫الجميل الذي يفتقده‬ ‫الناس‪ ،‬ويحنون إليه‬

‫عن ج��ده‪ .‬على ه��ذا الأ�سا�س‪ ،‬ف ��إن معلميته‬ ‫وخربته وامل��واد املتوافرة بني يديه‪ ،‬عوامل‬ ‫حتدد الأ�سلوبية التي يعمل عليها‪ .‬ف��إذا كان‬ ‫الواقع حوله ثري ًا وغني ًا بالعنا�صر واملوتيفات‪،‬‬ ‫انعك�س ذلك يف منجزه ال��ذي ال بد �أن ي�أتي‬ ‫مليئ ًا بالتفا�صيل‪ .‬و�إذا ك��ان املحيط حوله‪،‬‬ ‫ب�سيط ًا وخم�ت��ز ًال وح��اف� ً‬ ‫لا بالرموز‪ ،‬انعك�س‬ ‫ذلك يف ر�سومه‪ ،‬ي�ضاف �إىل ذلك طبيعة هذا‬ ‫املنجز و�صيغة معاجلته و�أ�سلوبه‪ ،‬كذلك نوعية‬ ‫احل��ريف‪ ،‬ومدى‬ ‫املوهبة التي يتمتع بها ه��ذا ِ‬ ‫اال�ستعداد ال��ذي ميلكه‪ ،‬للإ�ضافة والتطوير‬ ‫واخل��روج عما �ألفه �أو تعلمه �أو تعود عليه‪،‬‬ ‫ذلك لأن املوهبة‪ ،‬تلح على �صاحبها ب�ضرورة‬ ‫�إظهار الرباعة واالبتكار والتجديد يف اللغة‬


‫الفنية التي يتعامل معها‪ ،‬وه��ذا م��ا ُيف�سر‬ ‫احلرفيني ال�شعبيني من اجتاه �إىل‬ ‫تنقل بع�ض ِ‬ ‫�آخر‪ ،‬ووجود �أكرث من انعطافة يف منجزاتهم‬ ‫الفنية‪ ،‬و�إدخالهم طرز ًا جديدة عليها‬ ‫احل ��ريف على‬ ‫ثمة ع��وام��ل �أخ� ��رى‪ ،‬ت�ساعد ِ‬ ‫التجديد والإ�ضافة واالبتكار �شك ًال وم�ضمون ًا‪،‬‬ ‫منها امل ��واد واخل��ام��ات ال�ت��ي ي�ستعملها يف‬ ‫�أعماله‪ .‬فطبيعة هذه الو�سائل واملواد‪ ،‬ومدى‬ ‫متكنه منها‪ ،‬وخربته يف التعامل معها‪ ،‬تلعب‬ ‫دور ًا رئي�س ًا على ه��ذا ال�صعيد‪ ،‬كما حتدد‬ ‫مدى �إمكانية التجديد والإ�ضافة عليها‪.‬‬

‫ق�ضية الرتاث‬

‫بات الرتاث ال�شغل ال�شاغل للمفكرين والأدباء‬ ‫وال �ف �ن��ان�ين واحل��رف �ي�ين‪ ،‬ك��ل ي��دع��و لتمثله‬ ‫واال�ستفادة منه‪ ،‬وتوظيف معطياته وقيمه‬ ‫الأ�صيلة‪ ،‬يف الثقافة املعا�صرة‪ ،‬فهل ميكن‬ ‫اال�ستفادة من موروثنا ال�شعبي‪ ،‬وه��و غني‬ ‫و�أ�صيل وحي ومتفرد؟‪.‬‬ ‫لقد �أخ��ذ مو�ضوع ال�ت�راث و� �ض��رورة ربطه‬ ‫ب��امل�ع��ا��ص��رة‪ ،‬ج ��د ًال وا� �س �ع � ًا ومت�شعب ًا‪ ،‬بني‬ ‫املفكرين والفنانني العرب‪ ،‬وال زال هذا الأمر‬ ‫قائم ًا حتى تاريخه‪ ،‬بحيث ميكن القول بوجود‬ ‫�إ�شكالية حقيقية هي‪ :‬كيفية التوفيق واملواءمة‪،‬‬ ‫بني تراثنا املتعدد الأ�شكال والألوان‪ ،‬والقادم‬

‫الحرفيون الماهرون‬ ‫كالذهب العتيق‪،‬‬ ‫ً‬ ‫قيمة وأهمي ّة‬ ‫يزدادون‬ ‫كلما أوغلوا في الزمن‬ ‫والخبرة‪ ،‬لذلك يجب‬ ‫المحافظة عليهم‬ ‫ورعايتهم‬ ‫م��ن م��راح��ل زمنية م�ت�ع��ددة‪ ،‬وب�ين ع�صرنا‬ ‫املحكوم بتطور تقاين متوا�صل ومده�ش؟!!‪.‬‬ ‫والإ�شكالية هذه‪ ،‬تتفرع عنها �إ�شكاليات �أخرى‬ ‫كثرية‪ ،‬منها حتديد معنى «ال�تراث» و«نوعه»‬ ‫و«تاريخه» و«�شكله» و«جن�سه» وما الذي يجب‬ ‫�أخذه منه ‪ ...‬الخ‪.‬‬ ‫ب�غ����ض ال�ن�ظ��ر ع��ن ح�ي�ث�ي��ات ه ��ذا اجل ��دل‪،‬‬ ‫وتداعياته الكثرية يف حياتنا املعا�صرة‪ ،‬يبقى‬ ‫ال�ت�راث كائن ًا حي ًا ال مي��وت‪ ،‬وال ي�شيخ‪ ،‬وال‬ ‫يتجمد‪ ،‬بل ي�ستمر متوهج ًا وحي ًا يف الإن�سان‬ ‫وبيئته ال�شعبية‪ :‬يف �أفكاره ومعتقداته وعاداته‬ ‫وتقاليده وعمارته وثقافته وفنونه وحرفه‬ ‫وم�شغوالته التقليدية عموم ًا‪.‬‬ ‫والرتاث احلقيقي‪ ،‬هو خال�صة لتاريخ طويل‬ ‫وبعيد‪ .‬قد يتلون وتتعدد �أ�شكاله‪ ،‬لكنه يف‬

‫اجلوهر يبقى واح��د ًا‪ ،‬من �أج��ل ه��ذا‪ ،‬يجب‬ ‫�أن تنطلق عملية اال�ستفادة منه‪ ،‬من هذه‬ ‫احلقائق‪ .‬فاملتحف مبفهومه الكال�سيكي‪،‬‬ ‫يقدم جانب ًا من الرتاث‪ ،‬لكن احلياة ال�شعبية‬ ‫ال�ق��ائ�م��ة يف �أر����ض ال��واق��ع‪ ،‬ه��ي احلا�ضنة‬ ‫احلقيقية للرتاث احل��ي‪ ،‬ولال�ستفادة منه‪،‬‬ ‫ي �ج��ب ال �ت��وج��ه �إىل م�ف��ا��ص��ل ه ��ذه احل �ي��اة‬ ‫ومظاهرها ونا�سها‪ ،‬حيث ميكن للباحث‬ ‫«فنان ًا كان �أم �أديب ًا �أم مفكر ًا» �إيجاده بكامل‬ ‫عافيته و�أ�صالته و�سحره‪ ،‬جم�سد ًا يف لوحة‪،‬‬ ‫�أو قطعة �أثاث‪� ،‬أو حرفة تقليدية‪� ،‬أو �صناعة‬ ‫يدوية‪� ،‬أو كتاب‪� ،‬أو رمز‪� ،‬أو عمارة‪� ،‬أو حكاية‬ ‫�شفاهية‪� ،‬أو �سلوك‪� ،‬أو عمارة �أثرية‪� ،‬أو يف‬ ‫منط حياة معني‪� ،‬أو يف ثياب ‪ ...‬الخ‪.‬‬ ‫ك��ل ه��ذه العنا�صر وامل��ف��ردات والإ� �ش��ارات‬ ‫وامل�ظ��اه��ر‪ ،‬التي ت�ضمها احل�ي��اة ال�شعبية‪،‬‬ ‫ويكتنزها �إن�سانها يف فكره و�سلوكه‪ ،‬حتت�ضن‬ ‫جاني َا مهم ًا و�أ�سا�سي ًا‪ ،‬من الرتاث‪ ،‬وما علينا‬ ‫�سوى تلم�س الدرب �إليه‪ ،‬وا�ستنها�ضه‪ ،‬بهذه‬ ‫اللغة التعبريية �أو تلك‪ ،‬متماهي ًا بالآن الذي‬ ‫كوننا وتك ّونا فيه‪ ،‬وهذه بدهية ال حتتاج �إىل‬ ‫مناق�شة‪ ،‬وال تقبل اجلدل‪ ،‬وتتم ب�شكل عفوي‬ ‫وتلقائي‪� ،‬إذا ما �أح�سنا ق��راءة هذا الرتاث‪،‬‬ ‫ومتثلناه ب�شكل جيد‪ ،‬وحافظنا على منتجيه‪:‬‬ ‫حرا�سه الأمناء‪ ،‬وخط الدفاع الأول عنه‬


‫استطالع‬ ‫‪136‬‬ ‫الـعــــدد‬ ‫‪158‬‬ ‫ديسمبر‬

‫‪2012‬‬

‫يع�شقون ال�صيد ويت�سلون باملواويل‬

‫الصيادون في عزبة البرج‬ ‫دمياط‪ -‬عبده الزرّاع‬ ‫معظم �أهاىل عزبة الربج مبحافظة دمياط‪ ،‬م�صر «�شمايل الدلتا و�شرقي فرع النيل الذي يحمل ا�سمها‬ ‫‪:‬دمياط»‪ ،‬يعملون مبهنة ال�صيد‪ ،‬وقد تعلموا هذه املهنة يف ال�صغر‪ ،‬وورثوها �أباً عن جد‪ ،‬حيث يعملون‬ ‫يف املراكب ال�صغرية التي جتوب البحر‪ ،‬وي�ستخدمون ال�شباك وال�سنانري يف عملية ال�صيد‪ ،‬وتلك املراكب‬ ‫تعمل داخل املياه الإقليمية‪� ،‬أما املراكب الكبرية فهي التي تعمل خارج املياه الإقليمية‪ ،‬ويتم تعليم هذه‬ ‫احلرفة ب�إر�سال ال�صبي ال�صغري مع والده �أو �أخيه الأكرب �إىل البحر لي�ساعد يف الأعمال الب�سيطة على‬ ‫املركب‪ ،‬ويرى بعيني ر�أ�سه ما يحدث �أمامه �إىل �أن ي�شتد عوده ويكون قادراً على كل الأعمال ال�صعبة‬ ‫والتي حتتاج �إىل قوة ع�ضلية‪ ،‬و�أثناء تعليمه‪ ،‬عليه – ال�صبي ‪� -‬إطاعة الأوامر فقط‪ ،‬وعندما يتقن جميع‬ ‫الأعمال التي على ظهر املركب ي�صبح رئي�ساً‪.‬‬


‫مكان العمل‬

‫يعمل معظم �أه ��ايل عزبة ال�ب�رج بال�صيد يف‬ ‫النيل باملراكب ال�صغرية التي تعمل مبجاديف‪،‬‬ ‫بعد �أن انقر�ضت املراكب ال�شراعية‪ ،‬وقدمي ًا‬ ‫كان ال�صيادون يرتكون النيل ملدة �أربعة �شهور‬ ‫بدون �صيد‪ ،‬وهذه ال�شهور كانت �شهور الفي�ضان‪،‬‬ ‫يرتكون املياه حتى تروق من �آثار هذا الفي�ضان‪،‬‬ ‫وت�أتي الأ�سماك ب�أنواعها املختلفة من �سردين‪،‬‬ ‫و�شيالن‪ ،‬وب��وري‪ ،‬وجمربي‪ ،‬ومو�سى‪ ،‬وقارو�س‪،‬‬ ‫وغيطان‪ ،‬كانت هذه الأ�سماك ت�أتي من املالح‪،‬‬ ‫وبعد بناء ال�سد ال�ع��ايل‪ ،‬ق ّلت ه��ذه الأ�سماك‬ ‫و�أ�صبحت ن ��ادرة‪ ،‬ومل يعد متوفر ًا �إال الأن��واع‬ ‫العادية مثل البلطي‪ ،‬وال�سردين‪ ،‬والقرموط‬ ‫وغ�يره‪� ،‬أم��ا املراكب الكبرية‪ ،‬فيعملون بها يف‬ ‫البحر خارج املياه الإقليمية‪ ،‬وكثري ًا ما يتعر�ض‬ ‫�أب�ن��ا�ؤن��ا ملخاطر القر�صنة كما ح��دث م��ؤخ��ر ًا‬ ‫لأبنائنا فى ال�صومال‪.‬‬

‫دوالب العمل‬

‫يتكون دوالب العمل يف امل��راك��ب ال�صغرية‬ ‫«القوارب» التي تعمل باملجاديف من عاملني‬ ‫�أحدهما يقود املركب �أي يعمل على املجاديف‪،‬‬ ‫والآخر يرمي ال�شبك يف النهر‪� ،‬أو يرمي ال�سنار‬ ‫ح�سب نوع ال�صيد‪ ،‬وي�صرب عليه حتى ي�صطاد‬ ‫ويقوم ب�إخراجه من املياه ويخرج ماعلق به من‬ ‫�أ�سماك‪ ،‬وغالب ًا مايكون دوالب العمل مكون ًا من‬ ‫الرجل و�أحد �أبنائه‪� ،‬أو �صاحب املركب وعامل‬ ‫�آخر يعاونه‪.‬‬

‫تطور احلرفة‬

‫مل يحدث تطور ملحوظ فى مهنة ال�صيد بالن�سبة‬ ‫للمراكب ال�صغرية «القوارب» التي تعمل يف النيل‪،‬‬ ‫واقت�صرت احلرفة على طريقتني فقط من طرق‬ ‫ال�صيد وهما‪ :‬طريقة ال�سنار‪ ،‬وطريقة الغزل‪.‬‬ ‫وطريقة ال�سنار ت�سمى «حداف بال�سنار»‪ ،‬وهذه‬ ‫الطريقة خم�ص�صة ل�صيد الأ�سماك الكبرية‬ ‫فقط ‪ ،‬وق��د ي�صل وزن ال�سمكة بال�صيد يف‬ ‫هذه الطريقة �إىل �أك�ثر من ع�شرين �أو خم�سة‬ ‫وع�شرين كيلوجرام ًا ‪� .‬أما طريقة ال�شبك فت�سمى‬ ‫«غزل علق»‪ ،‬لأن الغزل يكون به فلني بر�صا�ص‬

‫«فنار» عزبة الربج‬

‫وعند رمي الغزل يف مياه النهر ي�صل عن طريق‬ ‫الر�صا�ص الثقيل �إىل الأر�ض‪ ،‬هذا بالن�سبة للجزء‬ ‫الأ�سفل من الغزل‪� ،‬أم��ا اجل��زء العلوي فريفعه‬ ‫الفلني لأعلى لأن��ه خ� ٍ�ال من الر�صا�ص‪ ،‬ويرتك‬ ‫ال�صياد ال�شبكة ملدة ن�صف �ساعة تقريب ًا يف املاء‬ ‫ثم يقوم بجذبها لأعلى املركب ثم يف�ض ماعلق‬ ‫بها من �أ�سماك وي�ضعه يف قلب املركب‪ ،‬وال�سمك‬ ‫الكبري يحتاج �إىل غزل عيونه وا�سعة‪� ،‬أما ال�سمك‬ ‫ال�صغري فيحتاج �إىل غزل عيونه �ضيقة‪.‬‬ ‫ويف املراكب الكبرية توجد طريقة واحدة لل�صيد‬

‫العديد من المعتقدات‬ ‫والممارسات في عزبة‬ ‫البرج ارتبطت بمهنة‬ ‫الصيد ومنها جواري‬ ‫الجن وأفراحه و«العون»‬ ‫أو المارد‪ ،‬وطقوس‬ ‫استحمام العوانس‬ ‫والمربوطين‬

‫وه��ي طريقة «اجل��ر» ‪ :‬وي�ستخدم فيها ال�شبك‬ ‫الكبري‪ ،‬وكلها تعمل �إلكرتوني ًا عن طريق الأجهزة‬ ‫وامل�ع��دات احلديثة‪ ،‬وع��ن طريق ه��ذه الأجهزة‬ ‫يتعرفون على مناطق جتمع الأ�سماك‪ ،‬ويعرفون‬ ‫عمق املياه‪ ،‬ويوجد طاقم كبري من العاملني على‬ ‫هذه املراكب‪ .‬ومل يحدث �أي تطور ملحوظ يف‬ ‫املراكب ال�صغرية �سوى ا�ست�صدار كارنيهات‬ ‫للعاملني بحرفة ال�صيد من هيئة الرثوة ال�سمكية‪،‬‬ ‫ودف�تر يومية ي�سجل فيه بيانات العاملني على‬ ‫املركب و�أرق��ام بطاقاتهم ال�شخ�صية‪ ،‬وكل ما‬ ‫يخ�صهم من بيانات خمتلفة‪.‬‬

‫يعتزون مبهنة ال�صيد‬

‫ال�صيادون يف عزبة ال�برج اليعملون يف مهن‬ ‫�أخرى غري مهنة ال�صيد التي ورثوها عن �آبائهم‬ ‫و�أجدادهم‪ ،‬ويعتزون بها رغم �أنها �أ�صبحت ال تدر‬ ‫على �أ�صحابها �أموا ًال كثرية‪ ،‬نظر ًا لندرة الأ�سماك‬ ‫باملنطقة التي ي�صطادون فيها‪ ،‬ولكن الأجيال‬


‫استطالع‬ ‫‪138‬‬ ‫الـعــــدد‬ ‫‪158‬‬ ‫ديسمبر‬

‫‪2012‬‬

‫املواويل‬

‫اجلديدة من �أبناء ال�صيادين يرف�ضون العمل‬ ‫بهذه احلرفة‪ ،‬ويعملون يف حرف �أخرى تدر‬ ‫عليهم ربح ًا وفري ًا مثل حرفة الأثاث واملوبيليا‬ ‫والتي ت�شتهر دمياط �أي�ض ًا بها‪ ،‬وهذا �سي�ؤدي‬ ‫بعد فرتة لي�ست بالكبرية �إىل انقرا�ض هذه‬ ‫احلرفة‪ ،‬ورغم ذلك ي�صر الرجل الدمياطي‬ ‫على تعليم �أبنائه يف امل��دار���س واجلامعات‬ ‫بجانب تعليمه احلرفة‪.‬‬

‫يوجد بع�ض املواويل التي يرددها �أهل املهنة‬ ‫يف عزبة الربج بدمياط‪ ،‬ومنها‪:‬‬ ‫زي �صربي ياعني‬ ‫و�أنا بالعني �شايفكم‬ ‫ياللي طحنتوا احلالوة‬ ‫مابني �شفايفكم‬ ‫خايف يطول البعاد ياجميل‬ ‫قال وغريي يولفكم‬ ‫و�أنا اللي باملال مكلفكم‬

‫«رزق يف م ّيه»‬

‫‪‎‬يعترب امل�ستوى االق�ت���ص��ادي للعامل يف مهنة‬ ‫ال�صيد م�ستوى متو�سط ًا‪ ،‬لأن دخله لي�س ثابت ًا‬ ‫بل هو ح�سب الرزق الذي ي�سوقه اهلل له يف املاء‬ ‫وكما يقولون «رزق يف م ّيه»‪ ،‬و�أي�ض ًا ب�سبب قلة‬ ‫الأ�سماك عن ال�سابق‪ ،‬ويرجع بع�ض ال�صيادين‬ ‫ن��درة الأ�سماك ب�شكل ملحوظ �إىل تلوث املياه‪،‬‬ ‫فالأ�سماك ت�سافر بحث ًا عن مياه نظيفة لكى تكون‬ ‫ق��ادرة على التعاي�ش يف البيئة‪ ،‬ويتحكم �أي�ض ًا‬ ‫اجتاه الرياح يف عملية ال�صيد‪ ،‬فال�صياد عندما‬ ‫يخرج من بيته �صباح ًا يف اجتاه النهر‪ ،‬وي�شعر‬ ‫باجتاه الرياح يعرف �إذا كان �سيح�صل على �صيد‬ ‫وفري �أم �سيعود بدون �أ�سماك‪ ،‬وح�سب رواية �أحد‬ ‫ال�صيادين بعزبة ال�برج بدمياط «ل��و خرجت‬ ‫ال�صبح ولقيت الريح قبلي �أعرف �إن فيه �سمك‪،‬‬ ‫لو الريح �شرقي يبقى فيه �سمك‪ ،‬وبر�ضه لو الريح‬ ‫غربي �أعرف �إن فيه �سمك‪� ،‬أما لو الريح عماي�ش‬ ‫يبقى مافي�ش �سمك واحنا ورزقنا»‪.‬‬

‫و�أغنية‪:‬‬ ‫ياحلو يللي الهوا‬ ‫هفهف على توبك‬ ‫�أنا ب�أغري م الهوا‬ ‫و�أح�سد عليك توبك‪ /‬ياليل‬

‫�أغاين العمل‬

‫الأمثال والتعابري‬

‫«فنار» ر�أ�س الرب‬

‫بقت حالوة‬ ‫احللواين راح �أ�سيوط ‪ ..‬احللواين‬ ‫لب�س يا �أخويا كمان زعبوط ‪ ..‬احللواين‬ ‫زعبوط حالوة‬

‫ويقول �أي�ض ًا‪:‬‬ ‫يابو احللق �سد‬ ‫جنب اخلد‬ ‫دير بالك‬ ‫احنا اتن�سينا ياجميل‬ ‫ومعدنا�ش على بالك‬ ‫بالك مع مني ياجميل‬ ‫ومني معاه بالك‬ ‫نار الغرام �شعللت ف القلب‬ ‫يارب عقبالك‬ ‫وعملت رمال‬ ‫وب�أ�ضرب رمل عل�شانك‬ ‫وجدتك �سعيد‬ ‫وال�سعد ده خدامك‬ ‫مانتا�ش جميل يف احل�سن‬ ‫ولكن حلو يف كالمك‬ ‫ويقول يف هذا املوال‪:‬‬ ‫ملا ر�سيت ع ال�شط‬ ‫ومقام �أبو املعاطي‬ ‫قالوا احلليوه منني‬ ‫�أنا قلت دمياطي‬ ‫�س�ألوين ع ال�شيخ علي‬ ‫�أنا قلت وال�صياد‬ ‫دا راجل كرمي والنبي‬ ‫وظهرلنا الربكات‬

‫ه�ن��اك ال�ع��دي��د م��ن الأغ� ��اين ال�ت��ي ي��ردده��ا هناك بع�ض الأمثال ت��دور حول حرفة ال�صيد‪،‬‬ ‫ال�صيادون بعزبة الربج �أثناء عملهم‪ ،‬ومنها‪ :‬مثل‪« :‬البحر غ��دار»‪« ،‬زي البحر مالو�ش قرار»‪،‬‬ ‫حالوته حلوه ‪ ..‬احللواين‬ ‫«�سمك يف م � ّي��ه»‪« ،‬غ��وي��ط زي ال�ب�ح��ر»‪« ،‬قالوا‬ ‫َك َب ْ�ش وعطاين ‪ ..‬احللواين‬ ‫جلحا عد موج البحر‪ ،‬ق��ال‪ :‬اجلايات أ�ك�تر من‬ ‫�إداين ف �سناين ‪ ..‬احللواين‬ ‫الرايحات»‪« ،‬املركب اللي برا�سني تغرق»‪« ،‬دا‬ ‫راح دمياط عمل عركه مع اخلياط‬ ‫عايل زي ال�صاري»‪.‬‬ ‫اداله علقه ملا مات‬ ‫علقه حالوه‬ ‫بعد أن انقرضت‬ ‫احللواين راح املن�صورة ‪ ..‬احللواين‬ ‫المراكب الشراعية‬ ‫املعتقدات واملمار�سات‬ ‫عمل يا�أخويا كابنت كوره ‪ ..‬احللواين‬ ‫إلى‬ ‫الصيادون‬ ‫تحول‬ ‫ت��وج��د ال �ع��دي��د م��ن امل �ع �ت �ق��دات وامل �م��ار� �س��ات‬ ‫جيت له كوره يف عينه العوره‬

‫المراكب الصغيرة التي‬ ‫تعمل بمجاديف‬


‫ا�ستعداد املراكب لرحلة ال�صيد‬

‫ال��دائ��رة ح��ول ال�صيد يف عزبة ال�برج‪ ،‬ومنها‬ ‫جواري اجلن‪ ،‬والنار املخادعة‪ ،‬و�أفراح اجلن‪،‬‬ ‫والعون �أو امل��ارد‪ ،‬وطقو�س ا�ستحمام العوان�س‬ ‫واملربوطني‪ ،‬وهنا مقتطفات من رواي��ات �أهل‬ ‫الربج ال�شفوية حول ذلك‪:‬‬ ‫«‪»1‬‬ ‫�أي��ام زم��ان يعني �أي��ام ما كان بييجي الفي�ضان‬ ‫ك��ان فيه ج��واري تبقى قاعده بت�سرح �شعرها‬ ‫وبتتزين وعينيها ق��اي��ده زي ال�ك�ل��وب��ات‪ ،‬ولو‬ ‫�شافت حد كانت تخنقه‪ ،‬و�أهل زمان قالوا �إنها‬ ‫اجتوزت نا�س كتري‬ ‫«‪»2‬‬ ‫كنا زمان قبل الكهربا كنا ن�شوف نار على بعد‬ ‫ال�شوف وملا تروح عندها ماتلقي�ش نار والحاجة‬ ‫وب��ر��ض��ه ك�ن��ا زم ��ان ن���ش��وف ع�ل��ى ب�ع��د ال�شوف‬ ‫فرح من�صوب ومزيكا بتدق وملا كنا نروح عنده‬ ‫مانلقي�ش حاجة‬ ‫«‪»3‬‬ ‫العون‪ :‬كان بيطول قوي زي املارد‪ ،‬بيبقى �صغري‬ ‫ويف�ضل يطول يطول حلد ملا يبقى طول عمود‬ ‫النور‪ ،‬وكان بيطلع يف العتمة‬ ‫«‪»4‬‬ ‫ليلة ال�سبت‪ :‬ك��ان زم��ان مل��ا كانت ال��واح��ده‬ ‫مابتتخطب�ش والتتزوج�ش بيقولوا يعني‬ ‫ع �ن��ده��ا ك��اب �� �س��ة �أو ت �ع �ب��ان��ة‪ ،‬ك��ان��ت ت ��روح‬ ‫ت�ستحمى يف را���س ال�بر ب��دري قبل النا�س‬

‫يمثل المركب بالنسبة‬ ‫لصيادي البرج «حرمة»‬ ‫كبيرة‪ ،‬وعلى الصياد‬ ‫قبل أن ينزل إلى‬ ‫المركب أن يصلي‬ ‫الصبح في المسجد‬

‫موجات املتتاليات وبعد ذلك تخرج من البحر‬ ‫وترتدي مالب�سك وتذهب من فورك �إىل البيت‬ ‫ويكون احلمام قد ا�ستوى فت�أكل احلمامة الأنثى‬ ‫وزوج�ت��ك ت�أكل احلمامة ال��ذك��ر‪ ،‬وبالفعل فعل‬ ‫مثل ماطلب منه وبعد االنتهاء من �أكل احلمامة‬ ‫انق�ضت حاجته التي �أرادها‪.‬‬

‫مات�صحى من النوم ليلة ال�سبت باليل‪ ،‬وده طقو�س العمل‬

‫طق�س فرعوين �إ�سالمي قبطي‬

‫حكاية املوجات ال�سبع‬

‫ويحكي �أحد �صيادي عزبة الربج قائال‪� :‬إنه بعد‬ ‫�أن تزوج و�أجنب ثالثة �أوالد‪ ،‬ويف �إحدى الليايل‬ ‫�أكت�شف �إنه على غري طبيعته مع زوجته‪ ،‬وتكرر‬ ‫معه هذا املوقف عدة مرات‪ ،‬فحكى البن خالته‬ ‫ف�ق��ال ل��ه اذه��ب اىل زوج خالتك‪� ،‬أي وال��ده‪،‬‬ ‫وبالفعل ذهب �إىل زوج خالته الذي قال له �أنت‬ ‫م��رب��وط ون�صحه ب ��أن ي�أتي ب��زوج من احلمام‬ ‫�أحدهما ذكر والآخر �أنثى‪ ،‬ويقوم ب�سلق االثنني‬ ‫يف حلة واح��دة‪ ،‬الذكر وحوائجه ي�ضع يف خيط‬ ‫واح��د والأنثى وحوائجها ت�ضع يف خيط واحد‪،‬‬ ‫وبعد �أن ت�ستحم يف املالح «البالج» يف ال�صباح‬ ‫الباكر‪ ،‬وقال له ال تتحدث مع �أحد �أثناء ذهابك‬ ‫�إىل املالح ولو حدث وقابلك �أحد وكلمك الترد‬ ‫عليه‪ ،‬وعندما تنزل البحر �أول موجة تقابلك‬ ‫اغط�س حتتها والثانية والثالثة حتى ال�سبع‬

‫هناك بع�ض الطقو�س التي يتبعها ال�صيادون‬ ‫�أثناء عملية ال�صيد‪ ،‬وميثل املركب بالن�سبة لهم‬ ‫حرمة كبرية‪ ،‬فال�صياد قبل �أن ينزل �إىل املركب‬ ‫يذهب لي�صلي ال�صبح يف امل�سجد‪ ،‬ويكون معه‬ ‫طعامه و�شرابه و�سجائره‪ ،‬ويبد�أ يومه من ال�ساعة‬ ‫ال�ساد�سة �صباح ًا‪ ،‬يجهز ال�شبك ويقول توكلنا‬ ‫على اهلل ويرمي ال�شبك يف املاء‪ ،‬وبعدها يتناول‬ ‫فطوره ويحت�سي ال�شاي ويدخن �سيجارة‪ ،‬وبعد‬ ‫مرور مايقرب من ال�ساعة والن�صف‪ ،‬يقوم بجذب‬ ‫ال�شبك من املاء‪ ،‬وهو وحظه من الرزق يف بع�ض‬ ‫الأي��ام ي�أتي ال�شبك باخلري الوفري ويف بع�ضها‬ ‫الآخ��ر يكون ال��رزق قلي ًال ح�سب اجت��اه الريح‬ ‫وي�صلي الظهر والع�صر يف املركب فهو يعرف‬ ‫اجتاه القبلة باخلربة من اجتاه ال�شم�س‪ ،‬ويظل يف‬ ‫املركب حتى ال�ساعة ال�ساد�سة م�ساء‪ ،‬ومن املمكن‬ ‫�أن يخرج ال�صياد يف �أي وقت من املركب �إىل الرب‬ ‫لكي يبيع ال�سمك لتاجر الأ�سماك ثم يعود مرة‬ ‫�أخرى ليكمل عمله‪ ،‬حتى غروب ال�شم�س‬


‫إرهاصة‬ ‫‪140‬‬ ‫الـعــــدد‬ ‫‪158‬‬ ‫دي�سمرب‬ ‫‪2012‬‬

‫حول اللحظة الشعرية‬ ‫المصرية الراهنة‬ ‫‪ ‬على يقني ب��أن ما �أكتبه هنا ال ي�شبه �شيئ ًا �سوى‬ ‫ما قد يقوله رجل لآخر يجل�س قبالته على ال�ضفة‬ ‫الأخرى لبحرية‪ ،‬يحكي كل منهما جلاره عن بحرية يجل�س‬ ‫على �ضفتها رجل‪ ،‬بينما يرى العابرون البحري َة ذاتها وقد‬ ‫جل�س على �ضفتيها رجالن ال يكفان عن احلديث والإ�شارة‪.‬‬ ‫يف حوار خا�ص مع ال�صديق الناقد �أمين بكر حول ما نقر�أ‬ ‫من ق�صائد ل�شعراء م�صريني معا�صرين‪ ،‬قلت له‪�« :‬أ�شعر‬ ‫�أنني لو �أزلت �أ�سماء ال�شعراء عن ج ّل الق�صائد التي قر�أتها‪،‬‬ ‫وليد عالء الدين ون�سبتها جميعها �إىل �أي واحد منهم ملا ا�ستطاع �أحد �أن‬ ‫ي��رد تلك الق�صائد‪ ،‬ول��و ب�شكل تقريبي‪� ،‬إىل �أ�صحابها»‪،‬‬ ‫وط��ال بنا احلديث ح��ول ه��ذه النقطة‪ ،‬و�أدرن��ا الأم��ر على‬ ‫احتماالته العديدة‪ ،‬واحلقيقة �أن ما �أث��ار اهتمامنا بهذه‬ ‫املالحظة التي قد تبدو عابرة �أنها من ناحية بدت طريفة‬ ‫�إىل حد كبري‪ ،‬ومن ناحية �أخرى �أنها تك�شف عند حماولة‬ ‫تف�سريها جمموعة مثرية من الأفكار ت�صلح كمداخل لعدد‬ ‫من الدرا�سات يف تخ�ص�صات �شتى‪ ،‬فمث ًال ميكن قراءة‬ ‫تلك املالحظة – باال�ستعانة بقليل من روح املرح والدعابة‪-‬‬ ‫باعتبارها دلي ًال على «وحدة روح» جتمع ذلك العدد الكبري‬ ‫من ال�شعراء امل�صريني املعا�صرين‪� ،‬إىل حد ي�صعب معه‬ ‫التفريق بني منتجهم ال�شعري دون اال�ستعانة بخبري!‪.‬‬ ‫وباال�ستغناء عن روح الدعابة ميكن النظر �إليها ب�صورة‬ ‫م�أ�ساوية باعتبارها دلي ًال على ندرة وم�ضات التفرد التي‬ ‫ت�شي مبوهبة حقيقية يف امل�شهد ال�شعري املعا�صر‪ ،‬فاملتطلع‬ ‫�إىل امل�شهد يف قراءاته الأوىل يخرج ب�شعور وك ��أن هناك‬ ‫و�صفة جاهزة يلج�أ �إليها ال�شعراء لإن�ت��اج ن�ص �شعري‪،‬‬ ‫م�ستغلني تلك الروح احلما�سية التي جتعل كل ن�ص يطلق‬ ‫على نف�سه ا�سم ق�صيدة النرث يحظى بالتبني والدفاع‪ ،‬لي�س‬

‫�أنا‬

‫احرتام ًا وتقدير ًا للن�ص �أو للموهبة الكامنة وراءه �أو ما‬ ‫يت�ضمنه من �إبداع‪ ،‬بل باعتباره وقود ًا جديد ًا يغذي مركبة‬ ‫القتال امل�سلح يف معركة ال�شكل وامل�ضمون الدائرة حول‬ ‫ق�صيدة النرث وال�شعر‪.‬‬ ‫من زاوي��ة نظر �أخ��رى ‪-‬ال تخلو �أي�ض ًا من طرافة‪ -‬ميكن‬ ‫اعتبار تلك «الروح اجلماعية» التي تنتج ن�صو�ص ًا مت�شابهة‬ ‫داللة على جناح ماكينة العوملة يف تنميط الكائن الب�شري‬ ‫و�ضبط ب��راجم��ه وم��دخ�لات��ه ب�ه��دف تقريب موا�صفات‬ ‫منتجاته وخمرجاته متهيد ًا لتوحيدها‪.‬‬ ‫‪ ‬بعيد ًا عن الإغراق يف فانتازيا قراءة ما وراء تلك املالحظة‬ ‫العابرة‪ ،‬و�إن كنت �أرى �أنها �صحيحة على الأقل من وجهة‬ ‫ن �ظ��ري‪� ،‬أع�ت�ق��د �أن ��ه م��ن ال �� �ض��روري عند ق ��راءة امل�شهد‬ ‫ال�شعري امل�صري املعا�صر النظر �إىل ال�شعر باعتباره منتج ًا‬ ‫جمتمعي ًا‪ ،‬مبعنى �أنه يت�أثر �سلب ًا و�إيجاب ًا بكل تغري يطر�أ على‬ ‫بنية وتركيبة هذا املجتمع‪ ،‬وعلى هذا الأ�سا�س ف�إن قراءة‬ ‫جيدة لل�شعر قد تكون م�ساهمة يف ق��راءة التحوالت التي‬ ‫�أ�صابت املجتمع املعا�صر‪ ،‬وبالعك�س ميكن فهم ما يحدث يف‬ ‫امل�شهد ال�شعري امل�صري املعا�صر من خالل قراءة التحوالت‬ ‫احلادثة على املجتمع امل�صري باعتبار الأول منتج ًا من‬ ‫منتجات الأخري‪.‬‬ ‫وفق هذه الر�ؤية ف�إنني بداية �أفرت�ض �أن ال�شعر امل�صري‬ ‫املعا�صر �أ�صابه ما �أ�صاب املجتمع امل�صري من «توح�ش»‬ ‫نتيجة غياب املعايري‪ ،‬ذل��ك الغياب الناجت عن تقل�ص‬ ‫الفر�ص وزي��ادة املتناف�سني عليها‪ ،‬مما �أدى �إىل تراجع‬ ‫وا��ض��ح يف منظومة الأخ�ل�اق وامل �ب��ادئ ل�صالح «ثقافة‬ ‫الزحام« التي يزداد حتكمها يف احلياة يوم ًا بعد يوم‪ ،‬وما‬ ‫ي�صحب ذلك من رف�ض للآخر ‪�-‬أي ًا كانت طبيعة العالقة‬


‫معه‪ -‬باعتباره دائم ًا مناف�س ًا مر�شح ًا على فر�ص يقل عددها‬ ‫ب�شكل وا�ضح‪ ،‬وتزايد اال�ستعداد ل�شغل فر�صة �أو�سع �أو �أ�ضيق‬ ‫من قدرات ال�شخ�ص �إىل �أن تظهر فر�صته احلقيقية �إذا ُقدِّ ر‬ ‫لها �أن تظهر‪ ،‬وفق منطق «�إىل �أن ي�أتي الفرج»‪ ،‬وما يعنيه‬ ‫ذلك من تراجع يف درجات اجلودة والكفاءة و�أ�صول املهنة‬ ‫مقابل ارتفاع قيمة الفهلوة وال�شطارة ومت�شية احلال‪.‬‬ ‫ما �أقوله �إذن هو �أن ال�شعر امل�صري‪ ،‬كواحد من منتجات‬ ‫ه��ذا املجتمع‪ ،‬قد ت�أثر بال �شك ب�تردي �أح��وال ال�شخ�صية‬ ‫امل�صرية وتراجع �صفاتها الإيجابية خالل العقود الأخرية‪،‬‬ ‫و�أن الق�صيدة امل�صرية املعا�صرة م�صابة ب�أعرا�ض و�أمرا�ض‬ ‫جمتمعها‪ .‬الأم��ر الذي يدفعنا �إىل �أن ن�أمل يف ظهور منتج‬ ‫�شعري خمتلف متام ًا‪ ،‬يف �أعقاب �إع�لان امل�صريني الثورة‬ ‫على واقعهم املري�ض‪ ،‬والتي تعد �إع�لان� ًا كذلك عن رغبة‬ ‫يف التعايف من كل ما �أ�صابهم من �أم��را���ض خ�لال العقود‬ ‫املا�ضية‪ .‬تبقى هذه الأطروحة جمرد مالحظات انطباعية‪،‬‬ ‫يف انتظار �أن تقوم درا�سة �شاملة لل�شعر امل�صري املعا�صر‬ ‫ب�صفته منتج ًا جمتمعي ًا‪ ،‬ي���ش��ارك فيها ع��دد م��ن علماء‬

‫االجتماع واللغويني و�أ�ساتذة الأدب وال�شعر والنقد وال�شعراء‬ ‫�أنف�سهم للوقوف على تفا�صيل الأمر بدقة ومو�ضوعية‪ ،‬وفرز‬ ‫عدد من املالحظات املبدئية التي ميكن ا�ستخراجها مبجرد‬ ‫القراءة الإح�صائية‪ ،‬والتي ي�أتي يف مقدمتها ما ميكن ت�سميته‬ ‫بـ«الو�صفة اجلاهزة» الذي �أراه مرتبط ًا بظواهر اال�ست�سهال‬ ‫والفهلوة ال�شائعة يف املجتمع املعا�صر‪ ،‬وتراجع الرغبة يف‬ ‫بذل اجلهد من �أجل تطوير الذات حتت وط�أة �شعور وهمي‬ ‫بتفوقها رغم انتكا�ساتها املتكررة‪ ،‬وهو �أمر وا�ضح يف اخلواء‬ ‫امل�ع��ريف ال��ذي ب��ات �سمة م�شرتكة يف الق�صيدة امل�صرية‬ ‫املعا�صرة التي تكتفي عادة بف�ضف�ضة وا�سعة الطيف حول‬ ‫الهم اليومي و�سرد مالحظات عابرة مكررة دون اجتهاد‬ ‫لو�ضعها يف �صياغة ونحت جديدين‪ ،‬كذلك لن يغفل قارئ‬ ‫الق�صيدة امل�صرية املعا�صرة ع��ن مالحظة كمية اجلهل‬ ‫بالآخر �أو جتاهله‪ ،‬لذلك لي�س من الغريب �أن تبد�أ الكثري‬ ‫من الن�صو�ص من حيث بد�أ �آخرون‪ ،‬بينما يغيب تيار يجتهد‬ ‫نحو ا�ستكمال اجلهد ال�سابق‪ ،‬لأن وهم تفوق الذات يجعل «ال‬ ‫�أحد خارج م�صر»‬


‫سوق الكتب‬ ‫‪142‬‬ ‫الـعــــدد‬ ‫‪158‬‬ ‫ديسمبر‬

‫‪2012‬‬

‫أسطورية الشرق وفتنة‬ ‫متخيّل الغربي‬ ‫ال ُ‬ ‫د‪ .‬هيثم �رسحان‬

‫باحث و�أ�ستاذ جامعي‪ ،‬ق�سم اللغة العربية ـ جامعة قطر‬

‫ُيقدّم الأ�ستاذ الباحث واملرتجم �إبراهيم �أبو ه�شه�ش‪ ،‬يف هذه الرتجمة الباذخة‪،‬‬ ‫للمكتبة العربية كتاباً ُمتميزاً من جهة ور�صيناً من جهة �أخرى هو كتاب �أ�سطورة‬ ‫ال�شرق «‪� .»Mythos Orient‬أندريا�س بفلت�ش‪� ،‬أ�سطورة ال�شرق‪ :‬رحلة ا�ستك�شاف‪،‬‬ ‫ترجمة‪ :‬د‪� .‬إبراهيم �أبو ه�شه�ش‪ ،‬ط‪ ،1‬هيئة �أبو ظبي للثقافة والرتاث «كلمة»‪.»2011« ،‬‬ ‫ف�أ ّما وجه مت ّيز هذا الكتاب فيتم ّث ُل يف كونه والغرب‪ ..‬مواجهات و�سوء فهم‪ ،‬و�صور ال متوت‪،‬‬ ‫ُيعاين حق ًال معرفي ًا مهم ًا هو حقل اال�ست�شراق و�صراع الثقافات‪ ..‬ال�شرق والغرب والعوملة‪.‬‬ ‫الذي �أنتجته امل�ؤ�س�سة اال�ست�شراقية الغربية‬ ‫ع�ب�ر ق� ��رون ع ��دي ��دة و� �ص��اغ��ت م�ف��اه�ي�م��ه االفتتان بال�شرق و�أوهام املركزية‬ ‫و��ش� ّك�ل��ت �أدوات � ��ه‪ .‬و�أ ّم� ��ا وج��ه ر��ص��ان��ة ه��ذا يقدّم الكاتب يف الق�سم الأول «مدخل» ُمقاربة‬ ‫الكتاب فتتج�سد يف كونه �أثر ًا علمي ًا يحتكم نقدية ت�سعى �إىل تعيني ال�شرق يف املُتخ ّيل‬ ‫�إىل م�صادر وم��راج��ع ومو�سوعات ب��ارزة‪ .‬الغربي‪ ،‬والربهنة على �أنّ هذا املُتخ ّيل يحتفظ‬ ‫ولهذين الوجهني يكت�سب هذا الكتاب �أهمية لل�شرق ب�صور ُمتناق�ضة؛ �إذ يح�ضر ال�شرق‪،‬‬ ‫ا�ستثنائية من �ش�أنها معاودة النظر يف �إنتاج يف املُتخ ّيل الغربي والت�ص ّور الأوروبي حتديد ًا‬ ‫اال�ست�شراق وتلقيه‪.‬‬ ‫بو�صفه �شرق ًا ُخراف ّي ًا يتج�سد يف بالد �سحرية‬ ‫�اين‬ ‫�‬ ‫مل‬ ‫ل‬ ‫أ‬ ‫ا‬ ‫الباحث‬ ‫الكتاب‬ ‫يعمل م��ؤ ّل��ف ه��ذا‬ ‫ُ‬ ‫�صوفية �أ�سطورية ت�ؤثثها م�شاه ُد احلكماء‬ ‫�أن��دري��ا���س بفلت�ش ‪ Andereas Pflitsch‬ذوي اللحى الطويلة وال�ع�م��ائ��م الطويلة‬ ‫حُما�ضر ًا للأدب العربي يف معهد الدرا�سات وال �ن �ظ��رات ال �� �ص��ارم��ة‪ ،‬و� �ص��ور امل�ساجد‬ ‫ّ‬ ‫ال�سامية والعربية يف جامعة برلني احلرة‪ ،‬والق�صور الفاتنة‪ ،‬وجماعات املت�صوفة‬ ‫ً‬ ‫مو�سكو‬ ‫يف‬ ‫والعربي‬ ‫املقارن‬ ‫أدب‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ومدر�س‬ ‫والباحثني عن اهلل والدراوي�ش الراق�صني‪،‬‬ ‫وبون ودم�شق‪ .‬وقد �صدر له يف جمال الأدب وامل �� �ص��اب �ي��ح ال �� �س �ح��ري��ة‪ .‬ويف امل �ق��اب��ل‬ ‫نف�سه ب�صور مت� ّث��ل وجه ًا‬ ‫العربي كتاب عنوانه‪« :‬الأدب العربي ما بعد يحفل املُ�ت�خ� ّي� ُل ُ‬ ‫احلداثي» بالتعاون مع �أجنليكا نويفرت‪.‬‬ ‫خُمتلف ًا يتم ّثل يف الأ�صوليات الإ�سالمية‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫أربعة‬ ‫�‬ ‫على‬ ‫أ�سا�سي‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫بنائه‬ ‫يف‬ ‫الكتاب‬ ‫يقوم‬ ‫ُ‬ ‫واجلماعات الإرهابية املتطرفة‪ ،‬والتطرف‬ ‫�أق�سام و�أبواب مرتابطة هي‪ :‬مدخل‪ ،‬وال�شرق ال�سيا�سي‪ ،‬واال�ستبداد‪.‬‬

‫وزي� ��اد ًة على ذل��ك‪ ،‬ف� ��إنّ ال�لاوع��ي الغربي‬ ‫يحتفظ لل�شرق ب�صور �أكرث غرائبية وتناق�ض ًا؛‬ ‫ف�ف��ي ال���ش��رق يح�ض ُر ع��امل امل�ت�ع��ة بو�صفه‬ ‫ف�ضا ًء ح ّر ًا للفتنة والغرائز واحلوا�س حاف ًال‬ ‫مبجتمع اجلواري وعامل احلرمي ّ‬ ‫والنخا�سني‬ ‫واملُقينني‪ ،‬ويف ال��وق��ت نف�سه حت�ض ُر �صور‬ ‫واحلجابني‬ ‫تحجبة وعامل احلجاب‬ ‫ّ‬ ‫امل��ر�أة املُ ّ‬ ‫الذي يج�سده ت�صور الإ�سالم املُعادي للمتعة‪.‬‬ ‫ومن جهة �أخرى حت�ض ُر �صو ُر البطولة املتم ّثلة‬ ‫فيما احتفظ به الغرب الأوروب��ي للإ�سالم؛‬ ‫فيح�ضر‪ ،‬يف ه��ذا امل �ق��ام‪ ،‬البطل الفار�س‬ ‫��ص�لاح ال��دي��ن الأي��وب��ي ال ��ذي �سطع جنمه‬ ‫يف زم��ن احل��روب ال�صليبية‪ .‬ومبقابل هذه‬ ‫ال�صور ال�ساطعة حت�ضر �صور �أفول البطولة‬ ‫املتج�سدة يف �صور الف�ساد والديكتاتورية‬ ‫ّ‬ ‫املتمثلة يف �شخ�صيات �صدام ح�سني‪ ،‬ومعمر‬ ‫القذايف‪ ،‬وزين العابدين بن علي وغريهم‪.‬‬ ‫وح�سب �إندريا�س بفلت�ش ف�إنّ ما يهدد ال�شرق‪،‬‬ ‫يف املتخيل الغربي‪ ،‬هو ال�صور املُتناق�ضة‬ ‫التي جتعل من وجهي ال�شرق املُ�شرق واملُعتم‬


‫ين�سربان �إىل ه��ذا ال��وع��ي وي��ؤث�ث��ان الوعيه‬ ‫اجلمعي ت�أثيث ًا ُمتناق�ض ًا يربهن على ا�ستحالة‬ ‫تعاي�ش الوجهني ومكوناتهما مع ًا‪.‬‬ ‫كما تتم ّثل �إ�شكالية ال�شرق يف تعيني موقعه؛‬ ‫ذل��ك �أنّ ال�ث�ق��اف��ات والأدي � ��ان كلها ع �دّت‬ ‫نف�سها م��رك��ز ًا وجعلت م��ا �سواها هام�ش ًا‬ ‫وامتداد ًا لها‪ .‬لقد وقع ذلك مع اجلغرافيني‬ ‫وال�لاه��وت �ي�ين وال�ف�لا��س�ف��ة ال��ذي��ن ح��اول��وا‬ ‫تع�سف ًا على‬ ‫ت�أ�سي�س ح�ضاراتهم ت�أ�سي�س ًا ُم ّ‬ ‫جهة ال�شرق بو�صفه «كيان ًا ثقاف ّي ًا �أو تعبري ًا‬ ‫��ش��ام� ً‬ ‫لا ع��ن ك � ّل الثقافات ال�ت��ي تقع �شرق‬ ‫الغرب»‪ .‬و�ضمن هذا الت�صور ف�إنّ ال�شرق ظ ّل‬ ‫ذا حدود ُمتغيرّ ة؛ ف�أر�سطو‪ ،‬مث ًال‪ ،‬مل يلحق‬ ‫اليونان ب�أوروبا بل عدّها و�سط ًا بني �أوروب��ا‬ ‫و�آ�سيا‪ .‬وكذلك ظ � ّل ال�شرق‪ ،‬يف امل ��أث��ورات‬ ‫التوراتية‪ ،‬مرتبط ًا باجلغرافيا الواقعة �شرقي‬ ‫الأرا�ضي املقد�سة‪ .‬كما �أنّ «اليونان و�أجزاء‬ ‫واقعة من البلقان» كانت ج��زء ًا من الدولة‬ ‫العثمانية التي متثل ج��زء ًا م��ن ال�شرق يف‬ ‫الإدراك الأوروبي «ال�شمايل الغربي»‪.‬‬ ‫بيد �أنّ الغرب امل�ستند �إىل مركزية ُمتعالية‬ ‫يتحدد بو�صفه «عالمة �سيا�سية وثقافية ميت ّد‬ ‫من �أمريكا ال�شمالية عرب اجلزر الربيطان ّية‬ ‫وق��ارة �أوروب��ا»‪� ،‬أي �أن��ه غدا �شما ًال‪ ،‬يف حني‬ ‫�أنّ «ال�شرق» ميتد �إىل اجلنوب ابتداء من‬ ‫غرب �إفريقيا مرور ًا ب�شبه اجلزيرة العربية‪،‬‬ ‫و�إي���ران‪ ،‬وو��س��ط �آ�سيا‪ ،‬والهند‪ ،‬وال�صني‪،‬‬ ‫و�أندوني�سيا‪ ،‬حتى اليابان»‪.‬‬ ‫�إنّ �أ�سطورية ال�شرق تتمثل يف كون ال�شرق‬ ‫يت�ضمن حالة ملتب�سة من اخلطورة والإغراء‪،‬‬ ‫فالغرب ك� ّون �صوره عن ال�شرق عرب مئات‬ ‫ال���س�ن�ين ب �ت ��أث�ير م��ن ال �ع��وام��ل ال�سيا�سية‬ ‫والدينية وتاريخ العقل ومقوالت احلداثة‪.‬‬ ‫كما �أنّ الغرب �أنتج هذه ال�صور ليمنح ال�شرق‬ ‫فر�صة �أنْ يحيا ويك ّون هوية متمايزة ثقافي ًا‬ ‫و�سيا�سي ًا وديني ًا واقت�صادي ًا وهو ما مينحه‬ ‫م�سوغات ت�شكيل �صور م�ضادة تعزز مت ّيزه‬ ‫وتفوقه ال�شاملني‪.‬‬ ‫�أ ّما يف الواقع والتمثيالت ف�إنّ ال�شرق القائم‬ ‫من �ش�أنه تعطيل ال�شرق املُتخ ّيل؛ فالأوروبيون‬ ‫والغربيون عموم ًا يبحثون يف ال�شرق عن‬

‫ال�صور التي �أنتجها املُتخ ّيل الغربي املُتمثلة‬ ‫يف غرائبيته وعجائبيته يف حني �أنهم يجدون‬ ‫يف �أر�ض ال�شرق عامل ًا ال يكاد يق ّل عن الغرب‬ ‫واقع ّية وحداثة �شكلية الأمر الذي يعمل على‬ ‫�إرجاء ال�شرق املُتخيل وموا�صلة البحث عن‬ ‫ال�صور التي �أُنتجت له‪.‬‬

‫الإ�سالم والغرب‬

‫مي���ض��ي امل� ��ؤل ��ف‪ ،‬يف ال�ق���س��م ال��ث��اين‪� ،‬إىل‬ ‫مالحقة العالمات والتحوالت التاريخية التي‬ ‫�أ�سهمت يف �صناعة �أ�سطورة ال�شرق ليقرر‬ ‫�أنّ الغرب عمد �إىل �إنتاج ت�أويالت تاريخية‬ ‫تطابق فر�ضيات احل��داث��ة ال�ت��ي �أنتجها‪،‬‬ ‫وذلك عندما حتدث عن ال�صراع الديني بني‬ ‫الغرب والإ�سالم بعد فتح �صقلية و�إ�سبانيا‪.‬‬ ‫ولنفي هذه الر�ؤية مي�ضي بفلت�ش �إىل البحث‬ ‫يف طبيعة عالقة ال�شرق بالغرب وا�ستخراج‬ ‫قيم العي�ش امل�شرتك املتمثلة ّ‬ ‫مو�ضح ًا �أنّ‬ ‫امل��ؤرخ�ين �أ�سهموا يف �إن�ت��اج �صورة عدائية‬ ‫للإ�سالم بت�أثري من الأ�صولية امل�سيحية التي‬ ‫قادت احلروب ال�صليبية التي ا�ستغ ّلت قيم‬ ‫الفرو�سية لدى النبالء العاطلني عن العمل‪.‬‬ ‫و�ضمن هذا ال�سياق يرى بفلت�ش �أنّ ال�صور‬ ‫العدائية التي �أنتجها الغرب حول الإ�سالم‬ ‫مل تتكون م��ن ��ش�ه��ادات واقعية لأ�شخا�ص‬

‫وجماعات و�إمن��ا �صنعها �أ�شخا�ص يجل�سون‬ ‫على منا�ضد الكتابة كانوا يحر�ضون على‬ ‫الإ� �س�لام وي���س� ّوغ��ون انت�شاره ب�ك��ون النبي‬ ‫حممد كان يخاطب غرائز النا�س الدنيا‪.‬‬ ‫وي�ت��اب��ع بفلت�ش ت�شكيل ��ص��ور ال���ش��رق عند‬ ‫الرحالة الذين بالغوا ولفقوا امل�شاهد حول‬ ‫ّ‬ ‫ال�شرق ملنح رحالتهم �أهمية وكتبهم انت�شار ًا‬ ‫ف�ض ًال عن معرفتهم بحنني ال�شعوب الأوروبية‬ ‫�إىل الت�ش ّبع ب�صور غرائبية و�أ�سطورية‪ ،‬من‬ ‫الرحالة �ضمنوا رحالتهم م�شاهد‬ ‫ذلك �أنّ ّ‬ ‫ادع��وا ر�ؤيتها تتمثل يف �أ�شخا�ص ن�صفهم‬ ‫�إناث ون�صفهم الآخر ذكور‪ ،‬و�آدميني بر�ؤو�س‬ ‫كالب‪ ،‬ورجال ب�أذناب‪.‬‬ ‫هكذا يح�ضر ال�شرق يف املتخيل الغربي‬ ‫���ش��رق�� ًا روح ��ان� � ّي� � ًا غ�ي�ر ع� �ق�ل�ا ّ‬ ‫ين ميتلئ‬ ‫باخلرافات والعجائبية والغرائز والعنف‬ ‫واملفا�سد‪� .‬أ ّما الكتاب املقد�س فيعاظم من‬ ‫�صور ال�شرق وب��داوت��ه ورعويته وه��ي �صور‬ ‫كفيلة بتفعيل املتخيل الغربي و��ش� ّده �إىل‬ ‫ال�شرق وت�أجيج حنينه �إليه‪.‬‬ ‫وي� �ن ��درج يف م��وق��ف ال� �غ ��رب م ��ن ال �� �ش��رق‬ ‫مالحظات الدار�سني والنقاد والباحثني من‬ ‫ن�ص مم ّل‬ ‫القر�آن الكرمي‪ ،‬فقد ذهبوا �إىل �أنه ّ‬ ‫ذو لغة ممطوطة‪ ،‬يكرث فيه التكرار واحل�شو‬ ‫واملبالغات املجازية‪ .‬وباجلملة ف ��إنّ ال ّن�ص‬ ‫ن�ص لل�سماع والتالوة‬ ‫القر�آين‪ ،‬ح�سب الغرب‪ّ ،‬‬ ‫ن�ص ًا للقراءة واملعرفة‪� .‬أ ّم��ا الت�ص ّوف‬ ‫ولي�س ّ‬ ‫الإ�سالمي فيمثل‪ ،‬عند الغربيني‪ ،‬هياج ال�شرق‬ ‫الديني ووح�شيته وهو�سه وهياجنه وال عقالنيته‬ ‫وتوقه �إىل اخليال واملجهول‪ .‬ولذلك كله‪ ،‬ف�إنّ‬ ‫ال�شرقيني‪ ،‬وبت�أثري هذه امل�ؤثرات والفواعل‪،‬‬ ‫يت�صرفون بطبيعة غرائزية‪ ،‬وه��و يعي�شون‬ ‫احلياة ا�ستناد ًا �إىل خياالتهم ال حقائقهم‪.‬‬ ‫وباجلملة ف�إنّ امل�ؤلف يرى �أنّ �صور الغرب عن‬ ‫ال�شرق هي التي �أدت �إىل احلكم على الإ�سالم‬ ‫بالعنف والف�ساد والغرائزية والالعقالنية‪،‬‬ ‫ولذلك ف�إنّ على الغرب‪� ،‬إذا ما �أراد �إعادة‬ ‫بناء عالقة متوازنة مع العامل الإ�سالمي‪،‬‬ ‫�أنْ ي�سهم يف ح ّل م�شكالته املتمثلة يف غياب‬ ‫العدالة االجتماعية‪ ،‬والب�ؤ�س االقت�صادي‪،‬‬ ‫واال�ضطهاد ال�سيا�سي‬


‫همزة وصل‬ ‫‪144‬‬ ‫الـعــــدد‬ ‫‪158‬‬ ‫ديسمبر‬

‫‪2012‬‬

‫إثراء للبحث ولي�س انتقا�ص ًا منه‬ ‫� ً‬

‫تصويبات ومراجعات‬ ‫في «األمثال الحسانية»‬ ‫احل�سني ولد حميد‬ ‫يف العددين يونيو‪ 152‬و�أغ�سط�س ‪ 154‬من جملة «تراث» قدم الباحث املغربي د‪� .‬أبو زيد‬ ‫الغلى درا�ستني عن الأمثال احل�سانية‪ ،‬الأوىل بعنوان «منظومة القيم يف الأمثال احل�سانية»‬ ‫والثانية بعنوان «الإبل يف الثقافة ال�شعبية‪ ،‬الأمثال احل�سانية منوذجاً»‪.‬‬

‫وم��ع �أن الباحث ك��ان موفق ًا يف ط��رق هذا‬ ‫اجلانب من الرتاث املجهول بالن�سبة للبع�ض‬ ‫واملن�سي بالن�سبة للبع�ض الآخر‪ ،‬وبالرغم من‬ ‫احرتافية وجودة العمل الذي قدمه ف�إن هذا‬ ‫المينعني من تقدمي بع�ض املالحظات على‬ ‫العمل الرائع ال��ذي قدمه‪ ،‬هذه املالحظات‬ ‫ال �أعتربها نقد ًا بقدر ما اعتربها تكملة و‬

‫�إ�ضافة ال يخلو �أي عمل من احلاجة �إليها‪.‬‬ ‫�أو ً‬ ‫ال ‪ :‬ق��دم ال�ب��اح��ث الكثري م��ن الأم �ث��ال‬ ‫احل�سانية الرائعة الدالة على العالقة الأبدية‬ ‫والتفاعلية بني الإن�سان وبيئته‪ ،‬لكنه مل يقدم‬ ‫تعريف ًا للهجة احل�سانية ومل يقم بتحديد‬ ‫الأقاليم وال�شعوب الناطقة بها لكي يكون‬ ‫القارئ على دراية باحليز اجلغرايف والب�شري‬

‫للعمل الذي يقوم بقراءته‬ ‫خا�صة �أن اللهجة احل�سانية ال تعطي من‬ ‫خالل اال�سم عالقة وا�ضحة بينها وبني من‬ ‫يتكلمونها‪ ،‬فنحن مث ًال عندما نقول اللهجة‬ ‫امل���ص��ري��ة �أو اجل��زائ��ري��ة �سيفهم ال �ق��ارئ‬ ‫ب��ال�ب��داه��ة �أن �ن��ا نعني اللهجة املنطوقة يف‬ ‫م�صر واجلزائر بينما احلال ال ينطبق على‬


‫اللهجة احل�سانية‪ .‬فكان من ال�لازم القول‬ ‫ب�أن اللهجة احل�سانية هي اللهجة املنطوقة‬ ‫على طول احليز اجلغرايف املمتد من جنوب‬ ‫املغرب م��رور ًا مبوريتانيا �إىل بع�ض �أج��زاء‬ ‫مايل �أي اللهجة التي يتكلم بها «البيظان»‬ ‫وهي خليط بني اللغة العربية يف �أغلبه وبني‬ ‫الأمازيغية والآزيرية‪،‬التي هي بدورها خليط‬ ‫من الأمازيغية ولهجة ال�ساراقوال الزجنية‪.‬‬ ‫ث��ان�ي�اً‪ :‬يف املثل ال��ذي قدمه الباحث «كله‬ ‫يرجع لأ�صلو» حيث كتب «تف�صيحه �أن الفرد‬ ‫يرجع لأ�صله وال مراء يف �أن للن�سب �أهمية‬ ‫بالغة يف الثقافة احل�سانية ال تقل عن مركزه‬ ‫يف الثقافة العربية الإ�سالمية التي �أ�س�ست‬ ‫قواعد عديدة مرتبطة بالن�سب تت�صل بقانون‬ ‫الأ�سرة بناء ومتلك ًا‪ ،‬ويفهم من منطوق املثل‬ ‫الآنف تبعية الفرع للأ�صل تبعية ين�ش�أعنها‬ ‫�أن الولد يف الثقافة احل�سانية ينت�سب للأب‬ ‫ويتخذ منه ا�سمه العائلي خ�لاف� ًا لبع�ض‬ ‫ال�ث�ق��اف��ات ال�ت��ي يتم فيها االن�ت���س��اب ل�ل�أم‬ ‫ك�صنهاجة مث ًال‪ ،‬وحتى �إذا تنكر الولد لأبيه‬ ‫ف�إنه ي�ستنكف عن االنت�ساب لأمه‪ ،‬وقد قيل‬ ‫�إن �أحد �أبناء �أم��راء بني ح�سان غ�ضب من‬ ‫والده فان�شد‪:‬‬

‫اىل ري ��ت اظ �ل �ي��م ب� ��ارك وي ��زمي‬ ‫ذاك ب � ��راه� � �ي � ��م ول � � � ��د ب� ��راه � �ي� ��م‬ ‫تف�صيحه �إذا ر�أيتم ظليم ًا‬ ‫�أي ذك��ر النعام وق��د برك‬ ‫�أو وج��م ف��ذال��ك براهيم‬ ‫ول��د ب��راه �ي��م‪� ،‬أي �أن��ه‬ ‫ن �� �س��ب ن �ف �� �س��ه لنف�سه‬ ‫حتى الينت�سب لأبيه �أو‬ ‫يعري بانت�سابه لأم��ه»‪.‬‬ ‫واحلقيقة �أن هذا‬ ‫امل�ث��ل «ك�ل��ه يرجع‬ ‫لأ�� �ص� �ل ��و» الي�ع�ن��ي‬ ‫ت�ب�ع�ي��ة الإن �� �س��ان من‬ ‫حيث االنت�ساب لأبيه‬ ‫لأن ه��ذا ال يحتاج‬ ‫�إىل �أمثلة‪ ،‬كما �أن‬

‫انت�ساب بع�ض �آح��اد �صنهاجة لأمهاتهم‬ ‫لي�س قاعدة و�إمنا لتمييزهم عن بع�ض بني‬ ‫عمومتهم الذين يحملون نف�س اال�سم ونف�س‬ ‫ا�سم الأب‪ ،‬وال عالقة له بتات ًا باالنت�ساب‬ ‫�إىل الأخ��وال‪�.‬أم��ا البيت �أو «ال�ق��اف» الذي‬ ‫�أورده للداللة فقائله هو براهيم ولد بكار ولد‬ ‫ا�سويد �أحمد ابن �أمري ادوعي�ش وهي �إمارة‬ ‫�صنهاجية موريتانية معروفة ولي�س من بني‬ ‫ح�سان ولكن يف ما يبدو �أن الباحث ال يفرق‬ ‫بني احل�سانية كلهجة ينطق بها احل�ساين‬ ‫ن�سب ًا وغري احل�ساين وبني بني ح�سان الذين‬ ‫هم قبائل بعينها‪.‬‬ ‫�أم��ا املثل «كله يرجع ل�صلو» فال يعني كما‬ ‫�أ�سلفنا انت�ساب الإن�سان لأبيه‪ ،‬بل يعني �أن‬ ‫الإن�سان البد و�أن ي�سلك نف�س م�سلك �أ�سالفه‬ ‫وحتى �إن مل يفعل يف بداية حياته فال بد له‬ ‫من العودة �إليها‪.‬‬ ‫ث��ال�ث�اً‪ :‬يف املثل «اللي خلف م��ام��ات» حيث‬ ‫يقول «�أي من ترك خلف ًا له مل ميت وعطف ًا‬ ‫على ذال��ك ميكن �أن نتفهم عمق املعاناة‬ ‫واجل��زع ال��ذي يتكبده العقيم �أو العاقر �إذ‬ ‫�أنه ي�شعر ب�ضيق الدنيا رغم �سعتها وبالغربة‬ ‫وال��وح��دة رغ��م ك�ثرة م��ن فيها م��ن الب�شر‪،‬‬ ‫فهذا داوود عليه ال�سالم يدعو ربه �أن اليذره‬ ‫وحيد ًا من غري ن�سل الحق به «رب التذرين‬ ‫فرد ًا و�أنت خري الوارثني»‪ ،‬ولعل هذا ال�شعور‬ ‫بالوحدة هو الذي �أنتج �أمثا ًال تطفح مب�شاعر‬ ‫اخليبة وا�ست�شعار ال�سلبية من قبيل «لوحيد‬ ‫ما عند ما يريد» �أي �أن الوحيد فاقد الإرادة‬ ‫بل �إن ال�شعور باالمتداد‬ ‫بوجود الولد وال�شعور بالوحدة عند انعدامه‬ ‫ال يبقى حبي�س الف�ؤاد بل ينعك�س على مر�آة‬ ‫واقع الأ�سرة»‪.‬‬ ‫الواقع �أن ال��ذي دعا ربه يف الآي��ة الكرمية‬ ‫ال�سابقة هو النبي زكريا عليه ال�سالم ولي�س‬ ‫داوود عليه ال�سالم‪ ،‬كما �أن املثل «لوحيد ما‬ ‫عند ما يريد»‪.‬‬ ‫ً‬ ‫لي�س م �ث� ً‬ ‫لا ح���س��ان�ي�ا وح �ت��ى �إذا جت��اوزن��ا‬ ‫عباراته غري احل�سانية ف�إن داللته ال تبدو‬ ‫متنا�سقة‪ ،‬فما هو الرابط بني كون الإن�سان‬ ‫وحيد ًا وعدم ح�صوله على ما يريد‪.‬‬

‫رابعاً‪ :‬يف املثل «حلوار ما يتبع لغروز» حيث‬ ‫ي�ق��ول �إن احل ��وار ل��ن يتبع �إال ن��اق��ة حلوب ًا‬ ‫وي�ستحيل �أن يلتم�س اللنب يف �ضرع قد جف‪.‬‬ ‫واحل��وار هو �صغري الناقة ال��ذي �إذا فرق‬ ‫بينها وبينه بكت وحنت للقائه وفق امل�شهد‬ ‫ال��ذي ي�صفه �أح��د ال�شعراء احل�سانني �إذ‬ ‫ي�ق��ول‪ :‬بكاين ح�س حنينها فلبل م��ارات‬ ‫حوارها‬ ‫والواقع �أن املثل هنا و�إن كانت رم��وزه من‬ ‫ال ��دواب فهو ي�ضرب ال�ستحالة �أن يكون‬ ‫للبخيل �أت �ب��اع �أي �أن الإن �� �س��ان اليتبع �أو‬ ‫ي�صادق �إال من كان ذا نفع‪.‬‬ ‫لكن وم��ع ه��ذه املالحظات ال�سابقة يبقى‬ ‫ال�ع�م��ل ال ��ذي ق��دم��ه ال�ب��اح��ث ع�م� ً‬ ‫لا رائ�ع� ًا‬ ‫�سواء من حيث املو�ضوع الذي اختاره �أو من‬ ‫حيث طريقة التناول‪ ،‬وورود بع�ض الأخطاء‬ ‫فيه الينق�ص من جودته وقيمته و�إن كان‬ ‫الباحث قد قدم هذا العمل خدمة للثقافة‬ ‫احل�سانية –م�شكور ًا‪ -‬فلي�ست مالحظاتي‬ ‫�أنا الآخر �إال تكملة ملجهوده الطيب و�إ�ضافة‬ ‫ر�أيت �أنها �ضرورية‬


‫كلمات مضيئة‬ ‫يف الذكرى احلادية والأربعني لقيام احتاد دولة الإمارات‬ ‫العربية املتحدة‪ ،‬ن�ستح�ضر هنا باقة من �أقوال املغفور‬ ‫له ب�إذن اهلل ال�شيخ زايد بن �سلطان �آل نهيان‪ ،‬التي حتدد‬ ‫مالمح الر�ؤية التي ت�أ�س�ست عليها التجربة الوحدوية‬ ‫العربية الأهم يف التاريخ احلديث‪:‬‬ ‫« �إن طريق امل�صلحة امل�شرتكة قادنا يف النهاية �إىل قيام‬ ‫دولة الإمارات العربية املتحدة » ‪.‬‬ ‫«�إن االحتاد كدولة وكيان �أمر تخطى الأحداث واملواقف‬ ‫مهما كربت فاالحتاد باق �إىل يوم احل�شر»‪.‬‬ ‫«�إن جتربتنا الوحدوية يف دولة الإمارات هي الربهان‬ ‫ال�ساطع على �أن الوحدة والت�آزر هما م�صدر كل قوة‬ ‫ورفعة وفخر»‪.‬‬ ‫«�إن االحتاد ما قام �إال جت�سيداً عملياً لرغبات و�أماين‬ ‫وتطلعات �شعب الإمارات الواحد يف بناء جمتمع حر‬ ‫كرمي يتمتع باملنعة والعزة‪ ،‬وبناء م�ستقبل م�شرق و�ضاح‬ ‫ترفرف فوقه راية العدالة واحلق‪ ،‬وليكون رائداً ونواة‬ ‫لوحدة عربية �شاملة »‪.‬‬ ‫«�إن الوحدة العربية التي تعترب دولة الإمارات نواتها‬ ‫لي�ست حلماً �أو �ضرباً من اخليال بل واقع وقدر هذه‬ ‫الأمة ميكن حتقيقه �إذا �صدقت النوايا وتفاعلت‬ ‫الأماين والطموحات بامل�ساعي والعمل »‪.‬‬ ‫«�إن االحتاد هو ال�سبيل الوحيد لتحقيق الأمن‬ ‫واال�ستقرار ل�شعبنا وحماية مقدراتنا وتوفري احلياة‬ ‫الأف�ضل ملواطنينا مبا يكفل مواجهة الأطماع التي‬ ‫حتيط بنا من كل القوى املت�صارعة»‪.‬‬ ‫«�إن االحتاد يزداد قوة بقوة العرب‪ ،‬كما �أنه ي�ستمد‬ ‫وجوده من وجود الأمة العربية وعزميتها »‪.‬‬ ‫«�إن جتربتنا الوحدوية التي متت بعون اهلل وم�شيئته‬ ‫والتي مازالت مت�ضي قدماً �إىل الأمام جت�سد جناحاً‬ ‫يدح�ض مواقف املت�شككني يف �إمكانية قيام �إي احتاد بني‬ ‫�أجزاء الوطن العربي»‪.‬‬ ‫«�إن تر�سيخ دعائم االحتاد وتوطيد �أركانه وتعزيز‬

‫«ونحن الذين رسمنا خطة‬ ‫االحتاد‪ ،‬مل يكن ذلك عن خربة‬ ‫وإمنا عن إميان بأمتنا‪ :‬إميان‬ ‫بالوطن‪ ،‬إميان بضرورة الوحدة‪،‬‬ ‫ورغبة يف حتقيق املصلحة‪ ،‬التي‬ ‫ال تدرك إال باالحتاد» ‪.‬‬ ‫زايد بن سلطان آل نهيان‬

‫ا�ستقراره وحتقيق تقدميه يف جميع امليادين‬ ‫�ضرورة وطنية وقومية‪ ،‬ت�ؤكدها الروابط الوطنية‬ ‫وامل�صري امل�شرتك ومتليها الظروف والأو�ضاع‬ ‫الدولية املحيطة بنا والتحديات التي نواجهها‪ ،‬مما‬ ‫يفر�ض علينا جميعاً قادة وحكومة و�شعباً �أن نكون‬ ‫على م�ستوى هذه امل�س�ؤولية»‪.‬‬ ‫«�إنني على ا�ستعداد لأن �أعطي �أكرث مما �أعطيت؛‬ ‫�أعطي لأحافظ على مكا�سب املواطنني‪� ،‬أعطي‬ ‫الوطن الذي كرب ومنا‪� .‬أعطي لأحافظ على‬ ‫ا�ستقالل كيان االحتاد من �أجل هذا اجليل‬ ‫والأجيال القادمة‪� .‬س�أعطي كل ما �أملك وما �أقدر‬ ‫عليه من �أجل هذه الأر�ض وهذا ال�شعب ‪..‬ال �شيء‬ ‫عندي غال بالن�سبة للوطن واملواطن و�س�أكافح من‬ ‫�أجل هذا» ‪.‬‬ ‫«لقد خرجت طالئع �شعبنا الويف تتقدمه قياداته‬ ‫الوطنية متمثلة يف حكامه و�أبنائه املخل�صني‬ ‫ليغر�سوا نبتاً طيباً طاهراً يف �أر�ض طيبة طاهرة‬ ‫وليعلنوا على امللأ �أن هنا �شعباً وفياً واحداً التقت‬ ‫�إرادته و�صح عزمه و�سلك طريقه لتحقيق �أمنية‬ ‫غالية طاملا طافت ب�أحالمنا وا�ستقرت يف �ضمائرنا‬ ‫وها نحن الآن جميعاً �أبناء بلد واحد تظلنا املحبة‬ ‫والإخاء‪ ،‬وترعانا وت�شملنا عناية اهلل عز وجل»‪.‬‬ ‫« �إن التجربة االحتادية لي�ست وليدة وقتها بل هي‬ ‫ع�صارة قرون»‪.‬‬ ‫« االحتاد هو م�صلحة الأمة بكاملها �سواء يف �أمنها‬ ‫�أو اقت�صادها»‪.‬‬ ‫« �إن �أهم �إجنازات االحتاد يف نظري هي �إ�سعاد‬ ‫املجتمع عن طريق توفري جميع �سبل الرفاهية‬ ‫والتقدم لهذا ال�شعب » ‪.‬‬ ‫« لقد حتققت هذه الإجنازات لتالقي �إرادتنا‬ ‫جميعاً على دعم االحتاد »‪.‬‬



‫صدر مع مجلة تراث خالل عام ‪ 2012‬م‬ ‫اليمن ‪ ،1929‬انطباعات ومشاهدات البعثة السوفيتية‬ ‫األملانية السينامئية‪ ،‬ترجمة د‪ .‬سعيد دبعي‬ ‫تعدد الرواية يف الشعر الجاهيل‪ ،‬د‪ .‬أمين بكر‬ ‫ذاكرة الطني‪ ،‬شواهد من الرتاث املعامري والعسكري‬ ‫يف مدينة العني‪ ،‬د‪ .‬محمد فاتح صالح زعل‬ ‫حكمة األجداد يف تراث مجتمع اإلمارات‬ ‫دراسة سوسيولوجية يف األمثال الشعبية‪ ،‬د‪ .‬أحمد محمود الخليل‬ ‫تأريخ القدامى للشعر إىل نهاية القرن الرابع‬ ‫مدونة املرزباين أمنوذجاً ‪ ،‬د‪ .‬محمد حبيبي‬ ‫اسرتاتيجية التأويل الداليل عند املعتزلة‪ ,‬الدكتور هيثم رسحان‬ ‫التوجيه البالغي للقراءات القرآنية‪ ،‬د‪ .‬أحمد سعد محمد سعد‬ ‫رسائل البرشى يف السياحة بأملانيا وسويرسا عام ‪ ،1889‬حسن توفيق العدل‬ ‫مثرات ناضجات من جنان الشعر العريب‪ ،‬د‪ .‬عايدي عيل جمعة‬ ‫الفكر الرتبوي الرتايث الخطيب البغدادي أمنوذجاً ‪ ،‬للدكتور بوزيد الغىل‬ ‫النظم والتأويل يف الفكر البالغي العريب‪ ،‬للدكتور محمد سعد شحاته‬

‫يـ�شـــدر كـل �شــهر‬

‫(‪)7‬‬

‫ويوزع جمانـ ًا مع جمـلة تراث‬

‫هذا الكتاب‬

‫(‪)6‬‬

‫هيثم �سرحان‬

‫ب��اح��ث �أك��ادمي��ي متخ�ص�ص يف‬ ‫ال�ب��اغ��ة وال�ن�ق��د الأدب� ��ي‪ ،‬يعمل‬ ‫ح��ال�ي� ًا اأ� �س �ت��اذ ًا م���س��اع��د ًا بق�سم‬ ‫ال �ل �غ��ة ال �ع��رب �ي��ة وال ��درا�� �س ��ات‬ ‫الإ�سامية‪ ،‬كلية الرتبية‪ ،‬جامعة‬ ‫عني �سم�س‪ ،‬م�سر‪.‬‬ ‫ل� ��ه ع � ��دة م� ��ؤل� �ف���ات يف جم ��ال‬ ‫ت �خ �� �س �� �س��ه‪ ،‬م �ن �ه��ا (الأ�� �س����ل‬ ‫الباغية يف كتاب �سيب�يه واأثرها‬ ‫يف البحث الباغي)‪( ،‬التطبيق‬ ‫ال��ب��اغ��ي ‪ -‬امل� �ع ��اين وخ���ا���س‬ ‫الرتاكيب)‪( ،‬التطبيق الباغي‬ ‫ال �� �س���ر ال�ب�ي��ان�ي��ة)‪ ،‬التطبيق‬‫ال�ب��اغ��ي ‪-‬ال���س���ر البديعية)‪،‬‬ ‫(نظرية الباغة العربية‪ :‬درا�سة‬ ‫يف الأ�س�ل املعرفية)‪ ،‬و(مدخل‬ ‫اإىل الباغة العربية)‪.‬‬

‫استراتيجية التأويل الـداللي‬

‫د‪� .‬أحمد �سعد حممد �سعد‬

‫اقت�ست حكمة اهلل �سبحانه يف قراآنه الكرمي‬ ‫اأن تتغاير اأوج��ه ق��راءات��ه؛ لتي�سري ذك��ره يف‬ ‫التاوة‪ ،‬والإيجاز يف ت�س�ير معانيه وا�ستيعاب‬ ‫اأحكامه‪ ،‬وقيَّ�س لاهتمام بها ك�كب ًة من‬ ‫العلماء عُ ن�ا بنقلها والتثبُّت من رواياتها‪،‬‬ ‫كما عُ ن�ا بت�جيهها والحتجاج لها اأو بها ك ٌّل‬ ‫بح�سب ُمتَّجهه ومنزعه؛ فاتخذ منها اللغ�ي‬ ‫�ساهدًا على قاعدته اأو حجة ملذهبه‪ ،‬واعت�سد‬ ‫بها الفقيه يف ا�ستنباط الأحكام اأو يف ترجيح‬ ‫حكم على اآخر‪ ،‬وت��سَّ ل املتكلم ببع�س وج�هها‬ ‫يف اإثبات مذهبه اأو يف رد مذهب غريه‪ ،‬وكانت‬ ‫و�سيلتهم جميعًا اإىل ذلك هي التحليل اللغ�ي‬ ‫والنح�ي لعنا�سرها‪.‬‬ ‫وبزغ من خال هذه الجتاهات يف الت�جيه‬ ‫اجت��ا ٌه اآخ��ر ك��ان يُعني بالبحث يف معانيها‪،‬‬ ‫وت�ل� ُّم����س الأوج � ��ه ال�ب��اغ�ي��ة امل��رتت �ب��ة على‬ ‫تغايرها واختافها‪ ،‬حتى جعلها ابن اجلزري‬ ‫(ت‪832‬ه�) وال�سي�طي (ت ‪911‬ه�) وجهًا‬ ‫من وج�ه الإعجاز الباغي يف القراآن الكرمي‪.‬‬ ‫هذا الكتاب يتتبع الظ�اهر الباغية التي بثَّها‬ ‫علما ُء ال�سلف يف معر�س ت�جيههم للقراءات‬ ‫املت�اترة وغريها‪ ،‬ور�سدها؛ ثم ال�ق�ف على‬ ‫طرائقهم يف الإ�سارة اإليها اأو حتليلها‪ ،‬وبيان‬ ‫اأثرها يف البحث الباغي اخلال�س اأو تاأثرها‬ ‫به؛ حتى تقع بذلك م�قعها املنا�سب يف حركة‬ ‫تاأ�سيل الباغة وجتديدها‪.‬‬

‫الغي‬ ‫وجي ُه الب َ ِ‬ ‫التَّ ِ‬ ‫ق ْرآ ِنيَّةْ‬ ‫ات ال ُ‬ ‫لقرَا َء ِ‬ ‫ِل ِ‬

‫اإ�شدارات‬

‫‪2012‬‬

‫د‪� .‬أحمد �سعد حممد �سعد‬

‫هــديــــة‬ ‫مع جملة تراث‬


Issuu converts static files into: digital portfolios, online yearbooks, online catalogs, digital photo albums and more. Sign up and create your flipbook.