خارج الطائفة

Page 1


‫خارج الطائفة‬ ‫علي الديري‬

1

3dairy out of old dairy.indd 1

02/02/2010 10:00:03 ‫ص‬


2

3dairy out of old dairy.indd 2

02/02/2010 10:00:03 ‫ص‬


‫خارج الطائفة‬ ‫علي الديري‬

3

3dairy out of old dairy.indd 3

02/02/2010 10:00:03 ‫ص‬


‫كتاب‪ :‬خارج الطائفة‬ ‫امل�ؤلف‪ :‬علي الديري‬ ‫لوحة الغالف‪ :‬لبنى الأمني‬ ‫التدقيق اللغوي‪ :‬د‪.‬ح�سني �سلمان‬ ‫الطبعة الأوىل ‪2009‬‬ ‫حقوق الطبع حمفوظة‬

‫‪4‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:03‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 4‬‬


‫�إهداء‬ ‫�إىل �أبي احلاج �أحمد‪...‬‬ ‫�إىل عمي احلاج عبا�س‪...‬‬ ‫كنتما كتاباً ُم َن َّز ًال بالإن�سانية‬ ‫خارج �إىل كتابكما‬

‫‪5‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:03‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 5‬‬


6

3dairy out of old dairy.indd 6

02/02/2010 10:00:03 ‫ص‬


‫تظن �أن‪ ،‬املذهب‪ ،‬العقيدة‪ ،‬الطائفة‪،‬‬ ‫ٌ‬ ‫ح�صن يحميك‪،‬‬ ‫هي‬ ‫ف�إذا بها جدار يحجبك‪،‬‬ ‫ويَحجِ ُب عنك‪.‬‬ ‫قا�سم حداد‬

‫‪7‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:03‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 7‬‬


8

3dairy out of old dairy.indd 8

02/02/2010 10:00:03 ‫ص‬


‫الفهر�س‬ ‫ ‬ ‫التقدمي‬ ‫ ‬ ‫داخل الكتاب‬ ‫الف�صل الأول‪ :‬خارج الطائفة‬

‫ ‬ ‫‪ .1‬خارج الطائفة‬ ‫ ‬ ‫‪ .2‬خارج التقليد‬ ‫‪ .3‬خارج التب�سيط ‬ ‫ ‬ ‫‪ .4‬خارج �شريعتي‬ ‫ ‬ ‫‪ .5‬خارج املخيلة‬ ‫‪ .6‬خارج مكتبة �أبي ‬ ‫ ‬ ‫‪ .7‬خارج الرهبنة‬

‫الف�صل الثاين‪ :‬داخل املدينة‬

‫ ‬ ‫‪.1‬املدينة والفعل احلر‬ ‫‪ .2‬حترير فعل املراقبة ‬ ‫ ‬ ‫‪ .3‬حترير املثقف من ال�سيا�سي‬ ‫ ‬ ‫‪ .4‬حترير املثقف من رجل الدين‬ ‫ ‬ ‫‪ .5‬حترير الإ�ضافة‬ ‫‪ .6‬حترير االختالف ‬ ‫ ‬ ‫‪ .7‬حترير خرائط املدينة‬ ‫ ‬ ‫‪ .8‬حترير اخليال‬ ‫ ‬ ‫‪ 9‬حترير احلقيقة‬ ‫‪ .10‬حترير الرابطة ‬

‫‪11‬‬ ‫‪22‬‬

‫‪16‬‬ ‫‪36‬‬ ‫‪40‬‬ ‫‪46‬‬ ‫‪62‬‬ ‫‪73‬‬ ‫‪79‬‬

‫‪102‬‬ ‫‪105‬‬ ‫‪109‬‬ ‫‪113‬‬ ‫‪117‬‬ ‫‪121‬‬ ‫‪125‬‬ ‫‪131‬‬ ‫‪137‬‬ ‫‪141‬‬

‫‪9‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:03‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 9‬‬


‫الف�صل الثالث‪ :‬داخل الدولة‬ ‫ ‬ ‫‪ .1‬منطق الدولة‬ ‫ ‬ ‫‪ .2‬فكرة الدولة‬ ‫ ‬ ‫‪ .3‬خارج الآداب ال�سلطانية‬ ‫ ‬ ‫‪ .4‬ج�سد الدولة‬ ‫ ‬ ‫‪ .5‬ج�سد املجل�س‬ ‫ ‬ ‫‪ .6‬دولة الأول بني مت�ساويني‬ ‫ ‬ ‫‪ .7‬دولة الأب‬ ‫ ‬ ‫‪ .8‬الدولة املطلقة‬ ‫ ‬ ‫‪ .9‬الدولة غري املنحازة‬ ‫‪ .10‬التمثيل النيابي ‬ ‫ ‬ ‫‪� .11‬إ�صالح �أول الأمة‬

‫‪162‬‬ ‫‪166‬‬ ‫‪171‬‬ ‫‪178‬‬ ‫‪183‬‬ ‫‪188‬‬ ‫‪200‬‬ ‫‪217‬‬ ‫‪226‬‬ ‫‪204‬‬ ‫‪230‬‬

‫الف�صل الرابع‪ :‬داخل املجتمع‬ ‫ ‬ ‫‪ .1‬ال�شيخ حبيب الكاظمي‪ ..‬قلب ال�شارع‬ ‫ ‬ ‫‪ .2‬ركاز‪« ..‬نيو لوك» �أو «نيو �أخالق»‬ ‫‪( .3‬معكم معكم يا علماء)‪ :‬قراءة يف �شارع ال�شعار‬ ‫ ‬ ‫‪ .4‬ا�ستيحا�شات‬

‫‪248‬‬ ‫‪265‬‬ ‫‪279‬‬ ‫‪296‬‬

‫‪10‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:03‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 10‬‬


‫التقدمي‬ ‫بقلم‪ .‬باقر النجار‬ ‫�شكلت امل�شكلة الطائفية‪ ،‬خالل العقود الثالثة املا�ضية‪� ،‬أحد‬ ‫�أكرث امل�شكالت‪/‬الأزمات تفجرا يف امل�شرق العربي‪ .‬بل �إن تفجرها قد‬ ‫جاء مع الثورة الإيرانية ودعواتها لت�صدير الثورة و نزوعها لت�صدير‬ ‫فكرة والية الفقية للأقاليم العربية املجاورة‪ .‬بل �إن امل�شكلة قد ازدادت‬ ‫حدتها مع �سقوط النظام العراقي و�صعود املعار�ضة الإ�سالموية ال�شيعية‬ ‫يف العراق ملقاعد ال�سلطة فيها‪ ،‬وبداية �صراع دموي فيها على مركب‬ ‫القوة بني الف�صائل ال�سيا�سية املختلفة حتت يافطات دينية �أخذت بعدا‬ ‫مذهبيا وحربا طائفية‪ ،‬ا�ستح�ضرت فيها هذه اجلماعات كل حكايات‬ ‫التاريخ البعيد و�أحداثة كما هي قد وظفت ع�صبويات الطائفة بكل‬ ‫حرفية و�إتقان وهو الأمر الذي قاد �إىل اختفاء الدولة اجلامعة و�إىل‬ ‫ف�ضوى �سيا�سية و�أمنية واجتماعية ال يبدو يف الأفق �أن هناك حال حا�سما‬ ‫لها �إال بانتهاء �أو �ضعف القوى ال�سيا�سية التي فجرت هذا امل�شكل‪.‬‬ ‫وهي م�شكلة عك�ست �إخفاقات املجتمع العربي لي�س فح�سب عن‬ ‫حتقيق حلمه يف النهو�ض االقت�صادي بل عجزه كذلك يف بناء الدولة‬ ‫احلديثة التي ميكن �أن تنه�ض باملجتمع‪ .‬وهي م�شكلة باتت ت�شمل جل‬ ‫�أقطار امل�شرق العربي مبا فيه م�صر وال�سودان وت�شمل �أقطار �إ�سالمية‬ ‫�أخرى ك�إيران وباك�ستان و�أفغان�ستان‪ .‬وهو �صراع يعرب عن نف�سه تارة يف‬ ‫�صراع �إ�سالمي‪ -‬م�سيحي ويف �آخر �إ�سالمي‪ -‬قبطي ويف �صراع �شيعي‪-‬‬ ‫�سني و�آخر �سني‪ -‬زيدي و�آخر �سني – علوي وهي �صراعات قد رفعت‬ ‫�شعار الدين عاليا وتوارت حتت كل ذلك مراميها ال�سيا�سية ونزوع هذه‬ ‫اجلماعات الرافعة مل�س�ألة حماية م�صالح الطائفة والقبيلة واجلماعة‪،‬‬ ‫‪11‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:03‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 11‬‬


‫�إىل اال�ستحواذ على القوة وال�سلطة واملنافع االقت�صادية واالجتماعية‬ ‫ح�صرها يف اجلماعة ويف خا�صة اجلماعة‪.‬‬ ‫وهو �صراع بات يقرتب كثريا من منطقة اخلليج العربي بل قد‬ ‫�أ�صبح قائما فيها وقد حذرت من هذا ال�صراع �شخ�صيات يف �أعلى دول‬ ‫املنطقة كتحذير �أمري الكويت يف خطابه الأخري من فتنة قادمة ت�ضر‬ ‫باملجتمع الكويتي عندما قال" لقد هالني و �أحزنني �أن ت�شهد ال�ساحة‬ ‫الكويتية مثل هذه الأجواء القامتة وما انطوت عليه من مظاهر وممار�سات‬ ‫و�أ�صداء انفعالية غري حم�سوبة التداعيات والعواقب امل�شحونة بالنزعات‬ ‫والنعرات املقيتة مبا حتمله من بذور الفتنة التي تهدر ركائز ومقومات‬ ‫جمتمعنا يف �أمنه وا�ستقراره وجممل مناحي حياته وتهدد باخلطر‬ ‫ال�شديد �أعز ما منلك من مكت�سباتنا وثوابتنا الوطنية التي كر�سها �أبناء‬ ‫هذه الأر�ض اخلرية"‪.‬‬ ‫وهناك �أحد التقارير الر�سمية البحرينية ال�صادرة عن مركز‬ ‫البحرين للدرا�سات والبحوث يحذر من تنامي امل�شكلة الطائفية يف‬ ‫املجتمع البحريني‪ .‬وهي حالة يف طبيعتها وتوظيفاتها ال تختلف عن‬ ‫احلاالت القائمة يف املجتمعات العربية الأخرى‪ :‬من توظيف للت�ضامنيات‬ ‫التقليدية يف حماولة لال�ستئثار باملنافع واملزايا دون الآخرين �أو يف‬ ‫ال�صراع امل�ستعر بينها على الدولة �أو الت�أثري عليها‪.‬‬ ‫و�إذا ما كانت الطائفة متثل يف ال�سابق جماعة حمدودة العدد‬ ‫ذات ارتباط ع�ضوي بالف�ضاء العام اجلامع‪ ،‬وامل�شدود �إليه بعيدا عن‬ ‫الدين الذي ت�ؤمن فيه اجلماعة‪ ،‬واللغة التي تنطق بها و لرمبا العرق الذي‬ ‫تنتمي �إليه‪ .‬ف�أنها قد باتت بفعل املتغريات ال�سيا�سية غري امل�ستقرة‪ ،‬متثل‬ ‫هويات متفجرة نازعة نحو البحث عن مقوماتها اخلا�صة التي متيزها‬ ‫عن الإطار الكلي العام الذي تربطه به العديد من القوا�سم امل�شرتكة‪.‬‬ ‫‪12‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:03‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 12‬‬


‫وهي يف هذا قد باتت‪� ،‬أي هذه الهويات‪ ،‬يف و�ضعها ويف خطابها �أقرب‬ ‫�إىل املفهوم التقليدي للطائفة املنكفئة على الذات املنف�صلة عن الآخر‬ ‫رغم م�شاركته ذات الف�ضاء االجتماعي واالقت�صادي والثقايف‪ .‬وهي يف‬ ‫بع�ضها بفعل ذلك �أقرب �إىل حالة الطوائف القدمية املنغلقة على ذات‬ ‫املهنة و املتميزة بطقو�سها املختلفة وبطقو�سها املتباينة‪.‬‬ ‫فمجتمع الطوائف القدمي هو جمتمع يقوم على تراتبيات‪/‬‬ ‫طوائف منف�صلة عن بع�ضها البع�ض‪ ،‬وتعترب الطقو�س مميزة للمكانة يف‬ ‫�إطار نظام قائم على املهنة �أكرث منه على العرق �أو الدين وعلى مفهوم‬ ‫الطهر والدن�س‪ .‬وهو جمتمع يتميز بقدر غري عادي من الثبات يف مواقع‬ ‫�أفراده‪� ،‬إال �أن التحوالت التكنولوجية والثقافية املعا�صرة التي مر بها‬ ‫املجتمع الهندي قد حدت من �سكونيته وثبات تراتبياته‪ ،‬و باملقابل ف�أن‬ ‫انفتاح الطوائف الهندية القدمية على بع�ضها البع�ض قد تزامن يف الفرتة‬ ‫الأخرية مع بروز و حدة يف ال�صراع الطائفي بني الأديان الرئي�سية يف‬ ‫الهند‪ :‬الهندو�سية والإ�سالم وامل�سيحية‪.‬وهي حدة قد غذتها الو�سائط‬ ‫التكنولوجية والإعالمية اجلديدة و�شدة انفتاح الهند على العامل‬ ‫اخلارجي بتعددياته الدينية واالثنية املختلفة‪ .‬هذا العامل الذي بدا ي�أخذ‬ ‫يف �صراعه بعدا �أثنيا قائما على الدين و الثقافة و العرق‪.‬‬ ‫ويعرب مفهوم "الطائفية" يف املجتمع العربي عن ال�صراعات‬ ‫القائمة بني جماعات املجتمع الواحد والتي ت�أخذ بعدا دينيا حمددا‪،‬‬ ‫�سواء �أكان بني امل�سلمني وامل�سيحيني كما يف احلالة امل�صرية والعراقية‬ ‫واللبنانية �أو بني مذاهب خمتلفة داخل الديانة الواحدة ك�صراع ال�سنة‬ ‫وال�شيعة كما يف احلالة العراقية واللبنانية وبع�ض جمتمعات منطقة‬ ‫اخلليج العربي‪ .‬وهي �صراعات تبدو م�سترتة �أحيانا �إال �أنها تعرب عن‬ ‫نف�سها يف جمال ال�صراع على املنافع االقت�صادية واالجتماعية‪� ،‬أو يف‬ ‫‪13‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:03‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 13‬‬


‫جمال ال�صراع على الف�ضاء العام والذي ي�أتي ال�صراع عليه من خالل‬ ‫م�ؤ�شرات عدة قد يعرب عنه يف ت�أكيد احل�ضور �أو طغيان احل�ضور‪ ،‬وما‬ ‫تزاحم اليافطات الدينية �أو املذهبية يف الأماكن العامة �إال تعبريا عن‬ ‫هذا ال�صراع امل�سترت �أو املعلن‪.‬‬ ‫وقد يكون هذا ال�صراع م�ستعرا ودمويا كما يف احلالة العراقية‬ ‫والباك�ستانية‪ .‬وهي �صراعات قد يكون الدين يف �إطاره العام كدين �أو يف‬ ‫�إطاره الفرعي �أي املذهبي كفرقة �إ�سالمية �أو فكرية‪� .‬أي �أن ال�صراعات‬ ‫الطائفية هي �صراعات دينية يف الظاهر �إال �أنها تعرب يف الكثري من‬ ‫�أبعادها عن �صراع بني جماعات املجتمع الواحد املختلفة على مركب‬ ‫القوة يف املجتمع‪ .‬هذا املركب الذي قد يعني يف بع�ضه حتديد حجم‬ ‫االنتفاع واال�ستمتاع باملنافع واملزايا والعطايا وقد يكون �صراعا على‬ ‫ال�سلطة يف �إطارها العام �أو املحدد‪ .‬وهي كلها �صراعات قد تعرب يف‬ ‫بع�ضها عن الف�شل يف �إقامة الدولة احلديثة �أو يف �ضعفها �أمام تنامي قوة‬ ‫الت�ضامنيات الطائفية والقبلية على ح�ساب الدولة‪ .‬وهو يف هذا �صراع‬ ‫تت�شارك فيه جماعات و�أفراد من الداخل الدولة وخارجها‪ُ ،‬توظف فيه‬ ‫الدولة واجلماعة خلدمة م�صاحلها الفردية بل املغرقة يف الفردية‪.‬‬ ‫ورغم �أن البع�ض يعزو منو ال�صراعات الطائفية �إىل �صعود‬ ‫جماعات الإ�سالم ال�سيا�سي ب�ضفافه املختلفة‪ :‬ال�سنية وال�شيعية‪� ،‬إال‬ ‫�أن احلق يقال‪� :‬إنه لي�س كل متدين �أو ملتزم دينيا �أو مذهبيا‪ ،‬طائفيا‬ ‫بال�ضرورة‪� .‬إال �أن الطائفي "املتدين" والطائفي غري املتدين يلتقيان يف‬ ‫نزوعهما نحو اال�ستفراد بالقوة ومنافعها دون الآخرين‪ .‬فالطائفية هنا‬ ‫طريق الحتكار القوة والو�صول �إليها‪� ،‬أو يف حكر منافعها على البع�ض‬ ‫دون الآخرين‪ .‬ويوظف ه�ؤالء الدين كما ي�ؤرخ له الرواة والتاريخ ووقائعه‬ ‫و�أحداثه يف تربير �صراعهم مع الآخر املختلف‪ .‬وهو توظيف قد �ساعد‬ ‫‪14‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:04‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 14‬‬


‫على قوة انت�شاره اال�ستخدام الكبري لو�سائط االت�صال احلديثة‪ :‬من‬ ‫�إنرتنت وف�ضائيات دينية و�سيا�سية للرتويج لهذه الأفكار والوقائع‪ ،‬بل‬ ‫ويف ح�شد اجلماعة وتعبئتها �ضد الآخر املختلف‪.‬‬ ‫ويعتقد برهان غليون �أن الطائفية كممار�سة و�أيديولوجيا‬ ‫تنتمي �إىل ميدان عامل ال�سيا�سة �أكرث من انتمائها �إىل الف�ضاء الديني‬ ‫العقائدي‪ ،‬و�إن وظفت يف �أطرها الإيديولوجية ويف �أطروحاتها‪ ،‬كجماعة‬ ‫�سيا�سية‪ :‬طقو�سها و �شعائرها الدينية و الأحداث التاريخية ذات البعد‬ ‫الديني ال�صراعي‪ .‬كما �أنها ت�شكل �سوقا موازيا لل�سيا�سة‪� ،‬أي �أنها متثل‬ ‫احد مداخل اال�ستحواذ على القوة ال�سيا�سية واملنافع االقت�صادية �أكرث‬ ‫مما هي تعني رغبة يف تعميم مباديء وتوجهات دينية بعينها‪�.‬أي �أننا‬ ‫�أمام حالة يتم فيها توظيف الدين واملعتقدات و ال�شعائر ولرمبا الطقو�س‬ ‫املذهبية كمدخل يتم من خاللها (ر�ص) �صفوف اجلماعة وفق هدف‬ ‫حمدد للبع�ض‪ ،‬وهو اال�ستئثار بالقوة ولرمبا للدولة يف �إطارها العام‪ .‬وال‬ ‫ميكن �أن نفهم �أطروحات �أو دعوات البع�ض يف اخلليج ملا ي�سمى"برتتيب‬ ‫البيت ال�شيعي" �أو مل �صفوف �أهل ال�سنة واجلماعة �أو الدعوة لت�شكيل‬ ‫"مرجعية �سنية متاثل املرجعية ال�شيعية" بعيدا عن هذا ال�صراع القائم‬ ‫على القوة �أكرث منه �صراع يف الدين و�إن وظف الدين يف ذلك‪.‬‬ ‫ون�شارك هنا غليون ر�ؤيته يف �أن الطائفية تقوم على �أربعة‬ ‫مباديء وهي‪)1(:‬‬ ‫�أوال‪� :‬أن الطائفية كن�سق اجتماعي يحمل م�ضامني و�أهداف �سيا�سية‬ ‫ال عالقة لها مب�س�ألة تعددية الطوائف والأديان‪ .‬ولي�س لها عالقة‬ ‫باملعتقدات والطقو�س الدينية و�أن وظفها البع�ض لأغرا�ضه اخلا�صة‪.‬‬ ‫‪ 1‬انظر‪ :‬برهان غليون‪ ،‬نقد مفهوم الطائفية‪ ،‬جملة الآداب‪،‬‬ ‫‪� 2006--12/11/10‬ص ‪.87-82‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:04‬‬

‫‪15‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 15‬‬


‫فمن املمكن �أن يكون املجتمع متعدد الأديان والطوائف والأثنيات دون‬ ‫�أن يقوم على مبادئ الدولة الطائفية �أو �أن يكون هناك ا�ستحواذ طائفي‬ ‫على الدولة‪� .‬أي ا�ستخدام الوالء الطائفي معيارا لتوزيع املنافع واملزايا‬ ‫وبالتايل االلتفاف على قانون امل�ساواة و تكافوء الفر�ص كمحكات تقوم‬ ‫عليها الرابطة الوطنية للدولة احلديثة‪.‬‬ ‫ثانيا‪� :‬أن الطائفة‪ ،‬ولي�س الطائفية كع�صبية يلتف حولها �أفراد اجلماعة‪،‬‬ ‫قد توجد يف املجتمعات التقليدية التي تفتقر لفكرة الدولة احلديثة‪ .‬ففي‬ ‫ظل الدولة احلديثة ي�صبح توظيف هذه الع�صبيات خروجا على القانون‬ ‫و على املبد�أ التعاقدي الذي يجمع كل �أفراد املجتمع على مباديء حقوقية‬ ‫وواجبات حمددة‪ .‬من هنا ف�أن �أ�ستخدام الو الءات الع�صبوية الطائفية‬ ‫والقبلية يعترب �سبيال لال�ستحواذ على ال�سلطة �أو احتكارها‪ .‬لذا ي�صبح‬ ‫الت�ضامن الطائفي �أو الأثني داخل الدولة خروجا على قانون الدولة‬ ‫الوطنية‪� ،‬أي على العقد القائم بني املواطنني ك�أفراد قبلوا على �أن تكون‬ ‫العالقة فيما بينهم خارج دائرة م�صاحلهم اخلا�صة القائمة على عالقة‬ ‫االنتماءات القبلية واملذهبية والأثنية‪.‬‬ ‫من ناحية �أخرى ف�أن �أي �أغلبية �سيا�سية منبثقة عن انتخابات‬ ‫تخرتقها التكتالت غري ال�سيا�سية القائمة على الو الءات املذهبية‬ ‫والقبلية واالثنية ال ميكن �أن تعرب عن �أغلبية وطنية وهي يف هذا ال ميكن‬ ‫�أن توظف ال�سلطة التي ت�سقط يف يدها �إال خلدمة اجلماعة املذهبية �أو‬ ‫القبلية �أو الأثنية ال�ضيقة‪ ،‬ولي�س خلدمة اجلماعة الوطنية يف عمومها‪.‬‬ ‫من هنا ف�أن الإ�سالم ال�سيا�سي ب�شقيه‪ :‬ال�سني وال�شيعي ال ميكن �أن ميثل‬ ‫جماعة وطنية كاملة لكل املجتمع‪ .‬فهذه اجلماعات و �إن و�صلت ل�سدة‬ ‫ال�سلطة‪ ،‬ف�أن و�صولها هذا مل يتم بفعل برناجمها ال�سيا�سي‪ ،‬و�إن وجد‪،‬‬ ‫و�إمنا بفعل ح�شد الوالءات واملعايري ما قبل ال�سيا�سية واملعطلة لإنتاج‬ ‫‪16‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:04‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 16‬‬


‫اجلماعة ال�سيا�سية الوطنية املوحدة للمجتمع‪.‬‬ ‫ثالثا‪� :‬أن الطائفية ال ترتبط مب�شاعر الت�ضامن الطبيعي بني النا�س على‬ ‫رابطة عقيدية �أو قرابية واحدة‪ .‬وهي رابطة غري حتمية ملجرد وجودها‬ ‫بني اجلماعة �سواء �أكانت هذه الرابطة عقائدية دينية �أو قرابية دموية‪.‬‬ ‫و �إمنا هي �أحد املداخل اال�سرتاتيجية التي توظفها اجلماعة ال�سيا�سية‬ ‫غري املكتملة الن�ضج �أو االنتهازية �أو من قبل جماعات �سيا�سية‪-‬دينية‬ ‫لتحقيق �أهداف لي�س لها عالقة بالرابطة القرابية �أو املذهبية �أو‬ ‫بغاياتهما‪� ،‬إال �أن ذلك ال يعني �أن حتقيق �أهدافها قد ال ي�ؤثر على البنية‬ ‫القرابية �أو املذهبية وحدود نفوذ اجلماعة اخلا�ص ومركزها يف ال�سلطة‪.‬‬ ‫وهي حالة تقود �إىل �إف�ساد ال�سيا�سة و�إفقا ِدها طابعها املدين واحل�ضاري‬ ‫الذي يجعل منها‪� ،‬أي الف�ضاء ال�سيا�سي‪ ،‬ف�ضاء مفتوحا على كل �أ�صحاب‬ ‫العقائد الدينية و�أ�صحاب الأفكار واملعتقدات ال�سيا�سية‪ .‬وتقدم جتربة‬ ‫الإ�سالم ال�سيا�سي العراقي ب�شقيه ال�سني و ال�شيعي مناذج بارزة من �أن‬ ‫توظيف الطائفة مل يكن �إال لأجل حتقيق م�صالح �سيا�سية فئوية �صغرية �أو‬ ‫متناهية ال�صغر يف �أو�ساط احلزب �أو اجلماعة ال�سيا�سية املتبنية لذلك‪.‬‬ ‫وهي �أطروحة و �أن �أتت مبكا�سب �سيا�سية �آنية للبع�ض �إال �أنها �أطروحة ال‬ ‫تقوى على اال�ستمرار‪ .‬وهي �أطروحة قد تلتف حولها اجلماعة لبع�ض و‬ ‫لي�س لكل الوقت الذي قد يكون كفيال بك�شف الزيف فيها‪.‬‬ ‫كما �أنها �إن متت حتدث �إف�سادا كبريا يف الدين والذي يوظف‬ ‫هنا لتحقيق م�صالح فئوية خا�صة ب�أفراد �أو جماعة حمددة‪ ،‬كما �أنها‬ ‫تدفع نحو تف�سري العقيدة الدينية و�أحداثها التاريخية مبا يربر عملية‬ ‫اال�ستحواذ وال�سيطرة والعدوان والقتل وال�سطو على ممتلكات وم�صالح‬ ‫و�أغرا�ض اجلماعة الأخرى‪.‬‬ ‫رابعا‪ :‬ترتبط الطائفية كايدولوجيا ح�شد وتعبئة بالنخب ال�سيا�سية‬ ‫‪17‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:04‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 17‬‬


‫املتناف�سة يف احلقل ال�سيا�سي من �أجل ال�سيطرة على مواقع �صناعة‬ ‫القرار داخل الدولة �أو من �أجل اكت�ساب مواقع م�ؤثرة يف توزيع ال�سلطة‬ ‫االجتماعية وتوزيع املنافع االقت�صادية‪�.‬أي مبعنى �أخر �أن النخب‬ ‫ال�سيا�سية والدينية واالجتماعية ت�ستخدم الطائفة كجماعة ولي�س‬ ‫كعقيدة �إميانية را�سخة‪ .‬وهي توظف التاريخ ووقائعه وتف�سريات الدين‬ ‫ال�شخ�صية وحتديدا التف�سريات املت�شددة �أو تلك املنفلتة من عقال العقل‬ ‫و�ضوابط الدين الأخالقية خلدمة هذه الأهداف‪.‬‬ ‫وقد يلتقي خلدمة هذه الأهداف رجال دين �صغارا وكبارا‬ ‫ورجال �سيا�سة يف داخل الدولة كم�ؤ�س�سة وخارجها وزعامات اجتماعية‬ ‫وجتار و�أ�صحاب مال ولرمبا �أحيانا "مثقفني" من �أ�ساتذة جامعات‬ ‫وانتهازيي اجلماعة من �أن�صاف املثقفني و�أن�صاف املهنيني والفا�شلني‬ ‫يف �إثبات قدراتهم ووجودهم املهني يف احلياة الطبيعية‪ .‬وهم جميعا‬ ‫يلتقون يف تزوير الإرادة العامة وتزييف الر�أي العام والتالعب يف‬ ‫خياراته‪ .‬ونتيجة كل ذلك تنعك�س يف حالة من العطب الذي ي�صيب‬ ‫احلياة ال�سيا�سية الوطنية‪ ،‬وتوظف الدولة وم�ؤ�س�ساتها خلدمة م�صالح‬ ‫فئوية خا�صة بدال من �أن تكون �إطارا لإنتاج امل�صلحة العامة التي متثل‬ ‫الدعامة �ألأوىل والأ�سا�سية يف تثبيت ا�ستقرار الدولة و ت�أكيد �شرعيتها‬ ‫ال�سيا�سية‪.‬‬ ‫من هنا ف�إن الدولة احلديثة كم�صلحة عامة يجب �أال تكون نتاج‬ ‫جمع الع�صبويات القائمة داخل املجتمع من قبلية ودينية و�أثنية‪ ،‬و�إمنا‬ ‫هي �إطار جديد متجاوز لكل هذه العنا�صر واملكونات‪ .‬وهو �إطار منتج‬ ‫لعالقة جديدة خمتلفة بالكامل عن كل املكونات الداخلة يف تركيبه‪.‬‬ ‫�إن ما يف�سر قدرة الت�ضامنيات التقليدية‪ :‬كالطائفية والقبلية على‬ ‫اال�ستمرار يف املجتمع احلديث‪ ،‬هو غياب ما ن�سميه بالكتلة الوطنية‬ ‫‪18‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:04‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 18‬‬


‫املتجاوزة يف معاجلتها للم�شكل املحلي والوطني كل ح�سا�سيات و�إجنذابات‬ ‫التعا�ضديات التقليدية‪ ،‬والقادرة على �أن ت�ضع امل�شكل املحلي يف ال�سياق‬ ‫املجتمعي العام ولي�س يف الأطر الع�صبوية واجلزئية التفكيكية‪ .‬وهي قوى‬ ‫ترى �أن اخلال�ص من تبعات امل�شكل الع�صبوي ال ميكن �أن يتم بالعودة‬ ‫للتجمعات الع�صبوية ذات امل�صلحة اخلا�صة ولرمبا خا�صة اخلا�صة‪،‬‬ ‫و�إمنا ترى النهو�ض واخلروج من امل�شكل املجتمعي ال يتم �إال باالنعتاق‬ ‫من كل الع�صبويات اجلزئية للف�ضاء العام اجلامع لكل املكونات واملنفتح‬ ‫عليه يف �إطار من الدولة الوطنية احلديثة التي ي�سود فيها القانون وتعلو‬ ‫فيها �سلطته بعيدا عن كل االنحيازات اجلزئية الأخرى‪.‬‬ ‫و�أعتقد �أن التحدي العام الذي يواجه كل واحد فينا لي�س‬ ‫يف القدرة على اخلروج من الطائفة مبعناه الفيزيقي‪ ،‬حيث �إنها �أي‬ ‫الطائفة‪ ،‬و بفعل ما ميثله الدين يف بع�ض جوانبه من قيم و معتقدات‬ ‫وطقو�س جماعية �أكرث منها م�س�ألة �إميانية فردية‪ ،‬وهو‪/‬هي بفعل ذلك‬ ‫متثل حالة ال تتم بعيدا عن تلك التفاعالت والت�شابكات التي تتم داخل‬ ‫املجتمع �أو يف عالقة الدولة باملجتمع‪ .‬ولذلك ف�إن الدين كمعتقد عام �أو‬ ‫طقو�سي خا�ص بجماعة دون �أخرى‪ ،‬يف جمتمعاتنا ميثل نظاما وفعال‬ ‫متمف�صال يف �سياقنا ال�سيا�سي واالجتماعي والثقايف وركنا من �أركان‬ ‫الدولة العربية‪ ،‬ولرمبا مت�شكل يف دواخلنا كمف�صل من مفا�صل ن�سقنا‬ ‫ال�شخ�صي‪ ،‬ولذلك ُيبقي م�س�ألة االنتماء �إليها خمزونا يف مركب هوية‬ ‫البع�ض‪ .‬هذا املخزون الذي يبدو �ضعيفا و متواريا عند البع�ض وقويا‬ ‫مت�ضخما عند البع�ض الآخر‪ .‬وهو خمزونا ي�ستح�ضره البع�ض عند ما‬ ‫تعجز مكوناته "املرتوقراطية"( القائمة على قدراته العقلية والذاتية)‬ ‫عن الوفاء بحاجاته ال�شخ�صية والعملية‪� ،‬أو عن التناف�س يف �أطر‬ ‫مو�ضوعية‪ .‬وهو مكون ي�ستح�ضره الآخر لت�سهيل عملية حكمه على الأفراد‬ ‫‪19‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:04‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 19‬‬


‫يف �ضوء حمكات العزو التي ُي َ�سهل اتخاذها يف جمتمع تت�ضخم فيه‬ ‫املعطيات الذاتية املبنية على الع�صبويات التقليدية‪:‬القبلية و الطائفية‬ ‫على القدرات احلقيقية للأفراد‪.‬‬ ‫ �إن جتاوز الطائفية ك�شعور ع�صبوي مدمر للفرد واملجتمع‪ ،‬قد‬ ‫يكون ممكنا عندما تكون الدولة الوطنية ذاتها يف �أفرادها ويف خطابها‬ ‫املعلن وامل�سترت قادرة على جتاوز ذلك من خالل �أفرادها القائمني على‬ ‫تنفيذ �سيا�ساتها‪ .‬ويف قدرتها على حماية نف�سها من �أية �إنزالقات قد‬ ‫يقودها �إليه بع�ض من القائمني على �إدارتها‪� .‬أي �أن الدولة يف �أدائها‬ ‫لدورها يف املجتمع ال بد من �أن تتجاوز نزعات الأفراد اخلا�صة وال بد‬ ‫من �أن ُتخ�ضع عملها للقيم و املعايري الال �شخ�صية‪ .‬وهي حالة بدت‬ ‫الدولة العربية يف الكثري من مواقعها عاجزة عن مقاربتها بل والت�أ�سي�س‬ ‫لها‪ .‬فالدولة يف املنطقة العربية هي جزء من امل�شكل كما �أنها جزءا من‬ ‫احلل‪ ،‬هذا احلل الذي لن يت�أتى �إال عرب عمل د�ؤوب لت�أ�سي�س الدولة‬ ‫الوطنية احلديثة التي تتجاوز يف عملها و�أفرادها كل النزعات الع�صبوية‬ ‫وال�شخ�صية لأفرادها‪ .‬وهو حتدي لي�س م�ستع�صي املنال بل �إنها مقاربة‬ ‫ممكنة �إذا ما توافر للأ�شخا�ص جر�أة اخلروج على الع�صبويات التقليدية‬ ‫للف�ضاء العام امل�شكل لكل املجتمع‪ .‬هذا اخلروج الذي قد يكون العمل‬ ‫من �أجله ال يتم �إال من خالل عمل م�ؤ�س�ساتي‪� :‬أهلي ور�سمي تلتقي عنده‬ ‫رغبات الأفراد و �آمالهم‪.‬‬ ‫ومتثل درا�سة ال�صديق والناقد علي الديري حماولة جادة‬ ‫ومهمة يف مناق�شة بع�ض من املرتكزات التي تقوم عليها نزعات البع�ض‬ ‫الع�صبوية‪ .‬وهي حماولة دخل فيها الديري يف حماولة اختبار القدرة‬ ‫على اخلروج من اجلماعة لي�س كن�سق قرابي �أو ديني و �إمنا يف اخلروج‬ ‫عن ال�سياق الفكري الذي ي�ؤ�س�س للحمة ع�صبوياتها الدينية‪.‬وهي درا�سة‬ ‫‪20‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:04‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 20‬‬


‫تقع يف �أربعة ف�صول و مقدمة ناق�ش من خاللها امل�شكل الطائفي يف‬ ‫�أطره املذهبية و يف �أطره اجلهوية املدينية و �أخريا يف �إطاري الدولة‬ ‫و املجتمع‪ .‬وهي حماولة ت�ستحق منا كل الت�شجيع واالهتمام و القراءة‪.‬‬ ‫واهلل املوفق‪.‬‬ ‫باقر النجار‪/‬البحرين‬ ‫يناير‪.2010 /‬‬

‫‪21‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:04‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 21‬‬


‫داخل الكتاب‬ ‫الإن�سان يفكر من خالل خمططات جمازية‪� .‬أحد �أنواع هذه‬ ‫املخططات‪ ،‬هو خمطط االحتواء‪ .‬تقوم بنية هذا املخطط على وجود ما‬ ‫ي�شبه احلاوية‪ .‬لهذه احلاوية حدود متيز بني داخلها وبني خارجها‪ .‬ف�أنت‬ ‫�إما �أن تكون داخل احلاوية‪� ،‬أو خارجها‪� ،‬أو على حدودها‪.‬‬ ‫احلاوية يف التجربة احل�سية قد تكون بيت ًا �أو �صندوق ًا �أو �سيارة‬ ‫�أو كوب ًا �أو حقيبة �أو كتاب ًا �أو‪ ،..‬لكن حني تنتقل �إىل التجربة العقلية ت�صري‬ ‫�أكرث تعقيد ًا وتركيب ًا؛ الدين �أو الطائفة �أو القبيلة �أو املجتمع �أو املعتقد �أو‬ ‫الفكرة �أو الدولة �أو املدينة‪ .‬كلها حاويات‪ .‬نحن ال ن�ستطيع �إدراك عالقتنا‬ ‫بهذه املجردات العقلية �إال من خالل تركيبة جمازية‪ :‬داخل �أو خارج �أو‬ ‫على احلدود‪� .‬أي مبقدار ما هي حاويتنا �أو ما نحن حمتوين فيها‪.‬‬ ‫ �أنت �إما �أن تكون داخل الطائفة �أو �أن تكون خارجها‪ .‬ال ميكنك‬ ‫�أن تكون االثنني مع ًا وال ميكنك �أن تكون على احلدود‪� .‬أن تكون داخل �أي‬ ‫من هذه احلاويات (الطائفة‪ ،‬القبيلة‪ ،‬املدينة‪ ،‬الدولة‪ ،‬املجتمع) ف�أنت يف‬ ‫حمايتها‪ .‬و�أنت يف الوقت نف�سه حمدود بحدودها‪ .‬مقاوم ملا هو خارجها‬ ‫(خارج حدودها)‪ ،‬فما دمت داخلها‪ ،‬ف�أنت خارج خارجها‪.‬‬ ‫لكن مفهوم اخلارج والداخل يف التجربة العقلية لي�س باحلدية‬ ‫املفرطة التي تنطق عنها التجربة احل�سية �أو اجل�سدية؛ �أن تكون داخل‬ ‫كلك �أو تكون خارج كلك‪ .‬التجربة العقلية �أكرث التبا�س ًا و�أكرث تعقيد ًا‬ ‫من �أن يتم احتواءها بالكامل كما يف احل�سية‪ .‬وهذا ما يحاول "خارج‬ ‫الطائفة" �أن يزيل بع�ض غمو�ضاته‪.‬‬ ‫عرب ثنائيتيه الرئي�سيتني‪ :‬داخل وخارج‪ ،‬يثري الكتاب �إ�شكاالت‬ ‫‪22‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:04‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 22‬‬


‫احتوائية‪ .‬مث ًال‪ :‬هل ميكن �أن تكون داخل حاويتني متعار�ضتني مع ًا يف‬ ‫الوقت نف�سه؟ مبعنى هل ميكن �أن تكون داخل الطائفة ويف الوقت نف�سه‬ ‫داخل املدينة احلرة؟ �أو هل ميكن �أن تكون داخل القبيلة ويف الوقت نف�سه‬ ‫داخل الدولة؟‬ ‫ميكنك مث ًال �أن تكون داخل حاوية املدينة ويف الوقت نف�سه‬ ‫داخل حاوية الدولة‪ .‬ذلك �أن املدينة غري متناق�ضة نظري ًا مع الدولة وغري‬ ‫متعار�ضة مع حدودها‪ .‬لكن ال ميكنك �أن تكون داخل الطائفة واملدينة‬ ‫مع ًا‪ .‬بني الطائفة واملدينة خ�صومة وتعالق نافر‪ .‬تعيق الطائفة وجود‬ ‫املدينة وتعمل على زعزعتها‪ .‬املنطق واخل�صائ�ص واحلدود وال�ضوابط‬ ‫والروابط التي حتكم الطائفة (�أو القبيلة) هي خارج املدينة وخارج‬ ‫الدولة‪ .‬ال ميكنك �أن تكون داخل املدينة ما مل ت�صري خارج الطائفة‪.‬‬ ‫يرينا الكتاب عرب جتربة الكاتب مع ثنائية اخلارج والداخل‪� ،‬أن‬ ‫الوجود خارج الطائفة يجعلك تلقائي ًا داخل ف�ضاء املدينة وداخل فعلها‬ ‫احلر‪ .‬فكل خروج هو دخول �آخر‪� .‬أنت تخرج من حيز �أفقه �ضيق لتدخل‬ ‫�أفق ًا �أكرث رحابة و�أكرث ات�ساع ًا‪ .‬فمن خارج الطائفة (الف�صل‪� ،)1‬إىل‬ ‫داخل املدينة (الف�صل ‪ ،)2‬ومنها �إىل داخل �آخر �أكرث ت�شعب ًا وتعقيد ًا‪:‬‬ ‫الدولة (الف�صل ‪ ،)3‬ثم داخل �إن�سان هذا املكان الذي ي�شكل املجتمع‬ ‫(ف�صل ‪.)4‬‬ ‫يف داخل املدينة �ستذهب جتربتك حترر �صفتك من قيد الطائفة‬ ‫ومن �سلطة �سورها‪� .‬ستحرر اختالفك وتهند�س خرائط مدينتك على‬ ‫مقا�س �إن�سان املدينة ال على مقا�س طوائفه‪ .‬داخل املدينة �ستجد نف�سك‬ ‫من�شغ ًال بتحرير خيالك وب�إطالق حقيقتك وبتعديد �إ�ضافاتك وبتو�سيع‬ ‫روابطك املدنية‪� .‬ستحرر قراءتك ملجتمعك وملمار�ساته ظواهره الدينية‬ ‫واالجتماعية وال�سيا�سية‪ .‬و�ستنزع يقينك غري �أ�سف‪ ،‬و�ستعيد االعتبار‬ ‫‪23‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:04‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 23‬‬


‫�إىل �شكك الذي قمعته يف داخلك الطائفة‪ .‬داخل املدينة �ستكون على‬ ‫وئام مع حركة روحك‪ ،‬وهي تتحرر عرب جتلياتها املتعددة‪ ،‬من حاوية‬ ‫احلقيقة املطلقة التي ال يرقى �إليها ال�شك‪.‬‬ ‫داخل الدولة �سي�أخذك يف حيز �آخر ومنطق �أكرث ت�شعب ًا‪،‬‬ ‫�سيجعلك متيز بني منطق الدولة ومنطق ال�سلطة‪� ،‬سيجعلك تن�شئ دولتك‬ ‫احلديثة وحتدد طاعتك وتخرج على الآداب املر�سومة لك �إىل القوانني‬ ‫التي تر�سمها مبنطق عقلك واجتماعك الب�شري‪� .‬ستدخل ج�سد دولتك‬ ‫وتت�صرف يف �أجهزته الت�شريعية والتنفيذية‪� .‬ستجعل �سيادة الدولة هي‬ ‫�أ َّولك و�ستخرج عن �سيادة غري املت�ساويني‪ ،‬و�ستك�شف عن انحيازات‬ ‫دولتك وتنقب عن حياديتها‪.‬‬ ‫�سيتيح لك داخل املجتمع‪� ،‬أن تقر�أ بع�ض الفاعلني يف جمتمعك؛‬ ‫خطاباتهم و�أن�شطتهم وفعالياتهم‪� .‬سيمكنك من �أن تقر�أ �شارعك؛‬ ‫م�شاعره و�شعاراته واهتزازاته ور�أيه العام‪� .‬ستقر�أ بع�ض موروثاته‬ ‫وم�سكوتاته وا�ستيحا�شات مقوالته‪.‬‬ ‫�سيفتحك خارج الطائفة �إذن‪ ،‬على اخليال والعقل والدين‬ ‫والعلم وال�سيا�سة والعامل والإن�سان والرتاث والآخر‪� .‬سيجعلك مهيئ ًا‬ ‫لداخل العامل‪.‬‬

‫‪24‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:04‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 24‬‬


‫الف�صل الأول‬ ‫خارج الطائفة‬

25

3dairy out of old dairy.indd 25

02/02/2010 10:00:04 ‫ص‬


‫خارج الطائفة‬ ‫ذات �أم�سية �س�ألني �صديق‪ ،‬بح ّدة الغيور‪ ،‬ملاذا تبدو ك�أنك‬ ‫جتاهر بخروجك من طائفتك؟ قلت له‪ ،‬بعفوية غري طبيعية‪� :‬أنا خارج‬ ‫طائفتي!‬ ‫ ال ميكن �أن تكون مثقف ًا داخل طائفتك‪ ،‬وال ميكن �أن نراهن‬ ‫و�سع �إطار اجلماعات‪،‬‬ ‫على مثقف داخل طائفته‪ ،‬وظيفة املثقف �أن ُي ّ‬ ‫ليكون مبقيا�س الوطن ال مقيا�س الطوائف‪ .‬وتلك املهمة تتطلب منه‬ ‫�أن ميار�س نقد ًا حقيقي ًا لأطر الطائفة‪ ،‬ويح ّولها من م�سلمات عقدية ال‬ ‫يطالها ال�شك �إىل معطيات تاريخية ال ترقى �إىل اليقني‪ .‬وتتطلب هذه‬ ‫املهمة �أن يكون املثقف من الناحية املعرفية خارج طائفته‪.‬‬ ‫وحجة التمييز مع �إقراري بوقائعه الفاقعة‪ ،‬ال �أجد فيها تربير ًا‬ ‫ّ‬ ‫لبقائي داخل الطائفة‪ ،‬فاملثقف الذي يبقى داخل طائفته‪ ،‬يظلم طائفته‬ ‫ووطنه؛ لأنه يوهمها �أن هذا هو �شكل نظامها الطبيعي بل والإلهي‪ ،‬ومييز‬ ‫وطنه بدوائر مغلقة على بع�ضها‪.‬‬ ‫ما معنى �أن �أكون خارج طائفتي؟‬ ‫يعني �أن تكون طائفتي مو�ضوع ًا �أ�شتغل عليه‪ ،‬ال �إطار ًا �أ�ستند‬ ‫�إليه‪ .‬ما الفرق بني احلالتني؟ ما الفرق بني �أن تكون الطائفة مو�ضوع ًا‬ ‫ت�شتغل عليه‪ ،‬و�أن تكون �إطار ًا ت�ستند �إليه؟ يف احلالة الثانية تكون �أنت يف‬ ‫الطائفة‪ ،‬ت�ستند �إليها يف تعريف ذاتك‪ ،‬وحتديد هويتك‪ ،‬وتعيني مركز‬ ‫قوتك يف عالقتك بالآخرين‪.‬‬ ‫الإطار ي�سندك حني تبحث عن منجاة خال�ص �أخروية ت�ضمن‬ ‫بها اجلنان‪� ،‬أو حني تبحث عن قوة ت�ستند �إليها و�سط �صراعاتك‬ ‫‪26‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:04‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 26‬‬


‫االجتماعية‪ .‬الإطار هنا طوق ينجيك ويقويك‪ .‬وحني تكون خارج هذا‬ ‫الطوق تفقد قوتك وجناتك‪ .‬ف�أنا خارج طائفتي هنا‪ ،‬مبعنى �أين خارج‬ ‫هذا الطوق‪ ،‬مبعنى �أن ال جناة يل وال قوة‪.‬‬ ‫والإطار من جانب �آخر يحدد لك �إمكان الر�ؤية‪ ،‬ف�أنت ترى‬ ‫العامل والغيب والآخرة والنا�س من خالل �إطار‪ .‬والطائفة مبا تتوافر‬ ‫عليه من قيم و�أوامر ونوا ٍه ت�ؤطر لك ما هو �صحيح وما هو خط�أ‪ ،‬ما هو‬ ‫حالل وما هو حرام‪ ،‬ما هو �أف�ضل وما هو �أدنى‪ .‬بهذا الكل املركب متثل‬ ‫الطائفة �إطا َر ر�ؤية‪ ،‬و�أنا خارج طائفتي‪ ،‬مبعنى خارج �إطار هذه الر�ؤية‪.‬‬ ‫ �إذ ًا �أنا‪ ،‬بالن�سبة ملن هم يف طائفتهم‪ ،‬بال ر�ؤية‪ ،‬وال قوة‪ ،‬وال‬ ‫جناة‪ .‬وحني تدفع بهذا اخلروج �إىل م�آالته الأكرث قتامة‪ ،‬ف�أنا �أعمى‬ ‫و�ضال و�ضعيف وهالك‪ ،‬هكذا ميكن �أن تقابل بني الر�ؤية يف طوق‬ ‫الطائفة‪ ،‬والعمى يف اخلروج من هذا الطوق‪ ،‬والقوة يف �إطارها وال�ضعف‬ ‫يف اخلروج من �إطارها‪ ،‬والنجاة يف طوقها والهالك يف اخلروج من هذا‬ ‫الطوق‪� .‬إنه ال�سقوط �إذ ًا‪ .‬اخلروج من �إطار الطائفة هو �سقوط يف جحيم‬ ‫العمى‪ ،‬وال�ضالل‪ ،‬وال�ضعف‪ ،‬والهالك‪.‬‬ ‫عرف «�أناي» تعريف ًا ال ي�ستند �إىل‬ ‫ �أنا خارج طائفتي‪ ،‬يعني �أن �أُ ِّ‬ ‫هذا الإطار‪ ،‬التعريف بهذا الإطار يجعل «�أناك» داخل الطائفة‪ ،‬يجعلك‬ ‫حمتوى بها‪ ،‬ولأنها ت�سبق وجودك‪ ،‬فهي متنحك تعريفها اجلاهز قبل‬ ‫والدتك‪ .‬هي ت�ضع بطاقتها املع َتّقة على «�أناك»‪ ،‬فتكون ابنها البار‪ .‬وحني‬ ‫تكون «�أناك» من غري هذا التعريف‪ ،‬الذي ي�سبقك‪ ،‬تكون خارج طائفتك‪.‬‬ ‫�أي خارج ما ي�سبقك‪ .‬التقدم يتحدد بهذا ال�سبق‪� .‬أن تمُ ّ كن طائفتك من‬ ‫�أن ت�سبق �أناك‪� ،‬أو �أن تمُ ّ كن �أناك من �أن ت�سبق طائفتك‪ .‬حني تتقدم‬ ‫�أناك على طائفتك ف�أنت ت�سبقها‪ .‬وحني تتقدم طائفتك على �أناك فهي‬ ‫ت�سبقك‪ .‬من هنا ف�أنا خارج طائفتي‪ ،‬مبعنى �أين متقدم عليها يف تعريف‬ ‫‪27‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:04‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 27‬‬


‫ذاتي‪ .‬و�أكون طائفي ًا بقدر ما �أ�سمح لها �أن ت�ستبق تعريفي‪.‬‬ ‫ �أنا خارج طائفتي‪ ،‬يعني �أين خارج �إطارها املعتمد‪ .‬و�إطار‬ ‫الطائفة املعتمد هو جمموع الن�صو�ص التي ث ّبتتها يف التاريخ بو�صفها‬ ‫كافية و�صحيحة لتعريف ذاتي والعامل والأ�شياء‪ ،‬لي�س �إطاري املعتمد يف‬ ‫َف ْهم العامل «الكايف»‪ ،‬وال «�صحيح البخاري»‪ ،‬هما لي�سا معتمدين لدى‬ ‫«�أناي» اخلارجة‪.‬‬ ‫ �أنا خارج طائفتي‪� ،‬أي خارج هذين املعتمدين‪ .‬ال �أعطيهما احلق‬ ‫يف �أن ي�سبقا «�أناي» يف تعريف ذاتي‪ ،‬وتعريف عاملي‪ ،‬وحتديد جناتي‬ ‫وتب�صري ر�ؤيتي وتقرير خال�صي‪� .‬أنا خارج طائفتي حني �أجعل من هذين‬ ‫املعتمدين مو�ضوع ًا �أ�شتغل عليه‪ ،‬ال �إطار ًا ي�شتغل ّيف‪ .‬حني �أُخ�ضعهما �إىل‬ ‫التاريخ‪ ،‬و�صراعاته‪ ،‬ودنيويته‪ ،‬ون�سبيته‪ ،‬و�سلطته يف ت�شكيل احلقيقة‪.‬‬ ‫من غري حتويل الطائفة ومعتمدها الذي يحدد هويتها‬ ‫و�أ�سا�سها الذي تقوم عليه‪� ،‬إىل مو�ضوع �أ�شتغل عليه‪ ،‬ال ميكن �أن �أكون‬ ‫خارج طائفتي‪ .‬ومن ال يكون كذلك �سيبقى طائفي ًا‪.‬‬ ‫ �أن �أكون خارج طائفتي بهذا املعنى‪� ،‬أجعل الدولة خارج‬ ‫الطوائف‪ .‬والدولة التي ال يكون مفهومها يف بناء املواطن قائم ًا على هذا‬ ‫اخلروج‪ ،‬ال ميكنها �أن تكون �إال دولة طائفة‪ ،‬ودولة الطائفة ال جتد مهمتها‬ ‫الطائفية �إال يف تثبيت هذا الإطار ومتكينه من �أن يحكم قب�ضته على‬ ‫الوطن‪ ،‬كما هو الأمر عندنا‪ .‬كي يتخل�ص الوطن من طائفيته على الدولة‬ ‫�أن تبحث لها عن مهمة غري طائفية‪ ،‬عن مهمة مدنية‪ ،‬تمُ ّكن الإن�سان من‬ ‫العي�ش يف املدينة‪ .‬كيف يكون ذلك من جانب الدولة‪ ،‬وجانب الطوائف‬ ‫يف �سياق حالتنا البحرينية؟ �س�أجيب عن ذلك من خالل الإن�صات �إىل‬ ‫خبري احلالة البحرينية الباحث ف�ؤاد �إ�سحاق خوري‪.‬‬ ‫‪28‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:04‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 28‬‬


‫�إمامة الطائفة‬ ‫«�أنا خارج الطائفة» لي�س �إعالن براءة كما قد يفهمها كثري‬ ‫من املتلقني‪ ،‬بل هي �إ�شكالية معرفية‪ ،‬ووجودية‪ ،‬واجتماعية‪ ،‬و�سيا�سية‪،‬‬ ‫و�أحاول �أن �أفهم من خالل هذه الإ�شكالية «�أنا خارج الطائفة» �أناي‬ ‫وجمتمعي ودولتي‪ ،‬وجماعاتي التي �أعي�ش معها‪.‬‬ ‫يف «كتابه �إمامة ال�شهيد و�إمامة البطل‪ :‬التنظيم الديني لدى‬ ‫الطوائف والأقليات يف العامل العربي»‪ ،‬يحلل ف�ؤاد �إ�سحاق اخلوري عالقة‬ ‫الطوائف والأقليات يف العامل العربي بال�سلطة املركزية يف الدولة‪،‬‬ ‫وهو يدر�س و�ضع �ست طوائف‪ :‬الأبا�ضية‪ ،‬الإمامية‪ ،‬الدروز‪ ،‬الزيدية‪،‬‬ ‫العلويون‪ ،‬اليزيدية‪ ،‬واملوارنة‪.‬‬ ‫ي�ضع (اخلوري) الطوائف يف مقابل ال�س ّنة‪ .‬فال�س ّنة لي�سوا طائفة‪،‬‬ ‫هم من الناحية ال�سو�سيولوجية جماعة الأكرثية‪ ،‬و�أهل احلكم وال�سلطة‪،‬‬ ‫فهم ميثلون احلكم واملركز‪ ،‬وعالقتهم بال�سلطة عالقة تطابق‪ ،‬يف حني‬ ‫تبدو عالقة الطوائف بال�سلطة من الناحية ال�سو�سيولوجية وال�سيا�سية‪،‬‬ ‫عالقة مزدوجة وملتب�سة‪ .‬وخلربة �إ�سحاق اخلوري بالبحرين‪ ،‬فقد‬ ‫خ�صها منذ كتابه (القبيلة والدولة)‪ ،‬مبا ي�شبه درا�سة احلالة‪ ،‬حتى غدا‬ ‫ّ‬ ‫خمت�ص ًا بالو�ضع االجتماعي‪ ،‬والديني‪ ،‬وال�سيا�سي لهذه اجلزيرة‪.‬‬ ‫كتاب اخلوري (القبيلة والدولة)‪ ،‬و�إن كان ممنوع ًا من التداول‪،‬‬ ‫�إال �أنه يحظى مبكانة خا�صة ومقروئية عالية يف �أو�ساط اجلماعات‬ ‫ال�سيا�سية التي ال تنتمي للموالة‪ ،‬غري �أن هذا احل�ضور يبدو ح�ضور ًا‬ ‫انتقائي ًا‪ ،‬فهو يقر�أ ما يدين خ�صمه ويظهره �صاحب القوة والظلم وال‬ ‫يقر�أ النقد املوجه له‪ ،‬فهو يبحث عن ظامل ومظلوم وال يقر�أ التحليل الذي‬ ‫يقدمه لبنية هذه العالقة‪ ،‬والأطراف الفاعلة فيها‪.‬‬ ‫كتاب خوري عن القبيلة والدولة يف البحرين‪ ،‬على خالف‬ ‫‪29‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:04‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 29‬‬


‫الكتب الأخرى التي كتبت عن البحرين‪ ،‬وتناولت ال�ش�أن ال�سيا�سي يف‬ ‫البحرين‪ ،‬فهي مل َ‬ ‫حتظ باملكانة التي حظي بها كتاب �إ�سحاق اخلوري‪.‬‬ ‫رمبا يعود ذلك �إىل املنهج االنرثوبولوجي واالجتماعي الذي م ّكن اخلوري‬ ‫من مقاربة تفا�صيل احلالة البحرينية‪ ،‬لكن هذا ال�سبب وحده لي�س‬ ‫كافي ًا‪ ،‬ورمبا يكمن ال�سبب الأكرث قوة يف حتليله لنظام ال�سلطة القبلية‪،‬‬ ‫وهذا التحليل �أظهر ت�س ّلط نظام القبيلة يف احلكم وا�ستفراده بالرثوة‬ ‫والقوة‪ ،‬و�أظهر من جانب �آخر مظلومية الطائفة ال�شيعية‪ .‬الأمر الذي‬ ‫رمبا �أ�شعر معار�ضتها ب�شيء من الإن�صاف العلمي والتاريخي‪ .‬وهذا ما‬ ‫جعل للكتاب حظوة و�أهمية معرفية وتاريخية‪.‬‬ ‫وهو الأمر نف�سه الذي جعل على الكتاب لعنة من قبل ال�سلطة‪،‬‬ ‫وهي لعنة ما زالت �إىل اليوم تطارده ومتنع تداوله‪ .‬وذلك لأن حتليل‬ ‫اخلوري وتف�سريه ب�ش�أن ممار�سة ال�سلطة‪ ،‬مازال فاع ًال‪ ،‬وقادر ًا على �أن‬ ‫يفهمنا بدرجة تف�سريية عالية م�آالت ال�سلطة اليوم‪.‬‬ ‫لقد �أخذنا بت�شخي�ص اخلوري لل�سلطة‪ ،‬واعتبارنا كالمه حجة‬ ‫على ظلمها‪ ،‬وعدم دميقراطيتها وقبليتها‪ ،‬لكننا مل ن�أخذ بت�شخي�صه‬ ‫لطبيعة ال�سلطة الدينية و�إدارتها االجتماعية وعالقتها بال�سلطة‪ .‬بل‬ ‫ومل ن�ستفد منه يف تقريره لكثري من م�آزقها‪ ،‬خ�صو�ص ًا �أنه باحث معني‬ ‫مب�سار العالقة بني الدولة والدين‪.‬‬ ‫ �أ ّما يف كتابه «�إمامة ال�شهيد و�إمامة البطل»‪ ،‬فيلفت اخلوري‬ ‫�أنظارنا �إىل �أهمية �أن تفهم الطوائف الدينية م�آزق �سلطتها‪ .‬كما لفتنا‬ ‫يف كتابه «القبيلة والدولة» �إىل �أهمية �أن تلتفت ال�سلطة ال�سيا�سية �إىل‬ ‫م�آزقها‪ ،‬و�إن كان هو يف احلقيقة يحلل ال�سلطتني يف الكتابني‪ ،‬لكنه يبدو‬ ‫يف كتابه الأول معني ًا بال�سلطة ال�سيا�سية وم�أزقها القبلي ـ كما هي يف‬ ‫البحرين ـ �أكرث مما هو معني بنقد ال�سلطة الدينية وم�أزقها الطائفي‪.‬‬ ‫‪30‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:04‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 30‬‬


‫والطائفي هنا ال يعني ممار�سة التمييز والإق�صاء‪ ،‬بل يعني الوجود �ضمن‬ ‫�إطار الطائفة‪ ،‬واعتبارها مرجع ًا يف ممار�سة ال�سيا�سة‪.‬‬ ‫ولطبيعة املقاربة االنرثوبولوجية وال�سو�سيولوجية‪ ،‬فقد بد�أ‬ ‫اخلوري باحث ًا يريد �أن يفهم الظواهر‪� ،‬أكرث من �أن ينقدها �أو ي�صلح‬ ‫�أو�ضاعها‪ ،‬لكنه يف كتابه «�إمامة ال�شهيد و�إمامة البطل»‪ ،‬يتخ ّلى عن هذه‬ ‫املحافظة الأكادميية‪ ،‬وينخرط بحرارة يف م�شكالت ال�سلطة والدولة‬ ‫والطائفة‪ .‬لذلك جنده يوجه ر�سالة رجاء يف مقدمته يحر�ض فيها‬ ‫القارئ على �أن ال يكتفي بقراءة الف�صول اخلا�صة بطائفته يف كتابه‪ ،‬بل‬ ‫يرجوه �أن يقر�أ ف�صول الطوائف الأخرى‪ ،‬ليعرف امل�آزق امل�شرتكة التي‬ ‫تعاين منها ال�سلطة يف تنظيمات الطوائف املختلفة‪.‬‬ ‫لقد كتب اخلوري كتابه حتت وقع الأزمة التي تعاين منها الدولة‬ ‫يف العامل العربي‪ ،‬وعالقتها بالطوائف‪ ،‬والأقليات‪ ،‬والدين‪ .‬وهو بحكم‬ ‫تخ�ص�صه الأكادميي كان معني ًا ب�شكل ال�سلطة التي تتبدى يف املمار�سة‬ ‫االجتماعية والتنظيمية‪ ،‬بعيد ًا عن امل�صادرات الأيديولوجية �أو الأحكام‬ ‫الدينية التي تتبادلها الطوائف عن بع�ضها‪.‬‬ ‫كان ي�صغي بعمق لأ�شكال التنظيم االجتماعي‪ ،‬ويحاول �أن‬ ‫يفهم ر�ؤية هذه التنظيمات لذاتها و�أ�شكال عالقتها بالدولة‪ .‬الدولة‬ ‫حا�ضرة يف جمال اهتمامه‪ ،‬لي�س ب�صفتها املجردة‪� ،‬أو ب�شخ�صيتها‬ ‫القانونية وال�سيا�سية‪ ،‬بل الدولة مبا هي �شكل تنظيم اجتماعي و�سيا�سي‪،‬‬ ‫تدير جماعات خمتلفة يف عرقها ودينها وطائفتها وتراثها‪.‬‬ ‫كان ال�س�ؤال املقلق بالن�سبة �إليه هو كيف ميكن �أن تنتظم‬ ‫العالقة بني الدولة وهذه التنظيمات ب�شكل ال ُيق�صر هذه التنظيمات‬ ‫ق�سر ًا يجربها فيه على االن�صهار يف الدولة‪ ،‬بل كان ي�سعى لفهم هذه‬ ‫التنظيمات فهم ًا يعينها على �إعادة ت�شكيل �سلطتها التنظيمية‪ ،‬لتكون يف‬ ‫‪31‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:04‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 31‬‬


‫الدولة‪ .‬كما �أنه مل يكن يدافع بح�سه االنرثوبولوجي عن بقاء الطوائف‬ ‫يف �شكل ف�سيف�ساء غري قادرة على �أن تتمثل يف ج�سد دولة‪.‬‬ ‫لقد وجد �إ�سحاق اخلوري من منظوره االنرثوبولوجي‬ ‫وال�سو�سيولوجي يف العلمنة ح ًال لبناء دولة جمالها العام لي�س ف�سيف�ساء‬ ‫الطوائف‪ ،‬فما هو هذا املنظور؟ وما مفهومه للعلمنة؟‬ ‫�ضبط الطائفة‬ ‫يقدم (اخلوري) معاجلة ملفهوم الطائفة والدولة من منظور‬ ‫انرثوبولوجي �سو�سيولوجي‪ .‬ماذا يعني هذا املنظور؟ وكيف ميكن �أن‬ ‫ن�ستفيد منه يف فهم م�شكالت الدولة والطائفة يف حالتنا البحرينية؟‬ ‫اخلوري من �أهم الباحثني الذين ع َنوا ميداني ًا بو�ضع البحرين‬ ‫من حيث حالة الطائفة ال�شيعية‪ ،‬ومن حيث حالة القبيلة احلاكمة‬ ‫ال�سنية‪ ،‬واهتموا بتجربة الدولة منذ ‪ 1923‬من خالل هاتني احلالتني‪.‬‬ ‫املنظور ال�سو�سيولوجي االنرثوبولوجي الذي قر�أ ''اخلوري' من‬ ‫معني �أو ًال مبعاينة احلالة ميداني ًا‪ ،‬فقد �أقام اخلوري‬ ‫خالله البحرين‪ّ ،‬‬ ‫بالبحرين يف ال�سبعينات‪ ،‬والتقى بطوائفها و�أقلياتها وقبائلها‪ ،‬وعاين‬ ‫حتوالت ال�سلطة‪.‬‬ ‫ومن خالل هذه اخلربة امليدانية‪ ،‬و�ضع اخلوري تعريفه للطائفة‬ ‫وهو تعريف لي�س معني ًا باجلانب العقدي من حيث �صحة املعتقد‪ ،‬بل معني‬ ‫باملمار�س يف احلا�ضر والواقع‪ .‬كيف متار�س الطائفة وجودها يف الواقع‬ ‫االجتماعي وال�سيا�سي؟ وهو �س�ؤال �سيدفعه �إىل مقاربة الطائفة مبا هي‬ ‫نظام ديني واجتماعي خا�ص بجماعة ما‪ ،‬يتكون هذا النظام الديني من‬ ‫معتقدات و�شعائر و�شعارات وعبادات‪ .‬تعمل هذه املكونات لدى اجلماعة‬ ‫كنظام ميار�س ال�ضبط االجتماعي من خالل �سلطته على اجلماعة‪ ،‬وهو‬ ‫‪32‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:04‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 32‬‬


‫نظام ي�شتغل بدي ًال عن الدولة‪.‬‬ ‫يعترب اخلوري التنظيمات الدينية لدى الطوائف �أدوات تنظيمية‬ ‫�ضابطة تفعل يف املجتمعات التي مل تخ�ضع ل�سلطة الدولة و�سلطانها‪� ،‬أو‬ ‫املجتمعات التي مل تنجز فكرة الدولة‪.‬‬ ‫هذا الإطار النظري الذي يحكم منهجه االنرثوبولوجي‪ ،‬يجد‬ ‫تطبيقه امليداين يف تركيز درا�سته على الو�سائل والأجهزة التي تو ّلد‬ ‫جماعات الطوائف‪� ،‬أيا يكن م�ضمونها‪ :‬عائالت‪ ،‬ع�شائر‪ ،‬قبائل‪ ،‬طوائف‪،‬‬ ‫فرق‪ ،‬مدن‪ ،‬قرى‪� ،‬أمم‪ ،‬طبقات‪ ،‬وغريها‪.‬‬ ‫ �إن �أهمية (اخلوري) بالن�سبة �إىل البحرين تكمن يف املادة‬ ‫امليدانية التي ح ّلل من خاللها م�ضمون القبيلة والطائفة‪ .‬و�أهمية ما‬ ‫�أجنزه تكمن يف جانب �آخر يف �أنه مل يقارب جمتمع درا�سته مقاربة‬ ‫الباحث االنرثوبولوجي غري املعني مب�صري املجتمع الذي يدر�سه‪ ،‬بقدر‬ ‫ما هو معني بو�صفه‪ .‬وتتجلى عنايته مبجتمع درا�سته «البحرين والعامل‬ ‫العربي»‪ ،‬من خالل عنايته بتجربة الدولة‪ ،‬وعالقتها بالطائفة والقبيلة‪.‬‬ ‫الغريب �أن املفهوم الذي ق ّدمه اخلوري للطائفة‪ ،‬مل يجد له‬ ‫رواج ًا وال تلقي ًا يف مقاربتنا مل�شكالت الدولة واملجتمع يف البحرين‪.‬‬ ‫فمازلنا نفهم الطائفة كرتكيب عقدي له قد�سيته وخ�صو�صيته وجماعته‬ ‫العرقية‪ ،‬ومازلنا نتحدث عن اختالفات الطوائف كاختالفات عقدية‪،‬‬ ‫جت�سر امل�سافة بني االختالفات العقدية‪،‬‬ ‫ومازلنا نبحث عن حلول تقاربية ّ‬ ‫ومازلنا نتح ّدث بلغة النيات ال�صادقة لأبناء الطائفة ون�ستنجد بعقالء‬ ‫الطائفة‪ ،‬مع ّولني عليها لتجاوز اخلالفات والأزمات وحتليل امل�شكالت‪.‬‬ ‫وك�أنّ احلل يكمن يف �أن تتوفر الطائفة على رغبة �صادقة و�إخال�ص نية‬ ‫وعقالء قوم‪ ،‬كي تتجاوز ح�سا�سية االختالفات‪ .‬بل �إن الأمر حت ّول �إىل‬ ‫مزايدات �إعالمية تزايد على تقدمي واجهات االتفاق والتعاون والتقارب‪،‬‬ ‫‪33‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:04‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 33‬‬


‫ونبذ �أ�سباب الفرقة‪ ،‬وكل هذا ال عالقة له باملنظور الذي يقدمه اخلوري‬ ‫للطائفة و�آليات �ضبطها جلماعتها‪ ،‬وعالقة ذلك بفكرة الدولة‪.‬‬ ‫ما التح ّول الذي ينجزه مفهوم اخلوري للطائفة؟‬ ‫هو حتول يدفعنا نحو البحث عن مقاربة الطائفة مع الدولة‬ ‫ال مقاربة طائفة مع طائفة‪� ،‬أي بدل �أن نن�شغل بالتقريب بني الطوائف‪،‬‬ ‫ن�شتغل على تقريب نظم �ضبط الطوائف من نظم الدولة‪ .‬هذا التقريب‬ ‫يف حقيقته لي�س تقريب ًا بقدر ما هو حتويل‪� ،‬أي حتويل �آليات �ضبط‬ ‫الطائفة �إىل �آليات �ضبط الدولة‪.‬‬ ‫ما الفرق بني الآليتني؟ �آلية �ضبط الدولة و�آلية �ضبط الطائفة؟‬ ‫تعتمد �آلية �ضبط الطائفة على املعتقدات وال�شعائر وال�شعارات‬ ‫والعبادات‪ .‬هذا هو رابط جماعة الطائفة‪ .‬ويقوم هذا الرابط كما يخربنا‬ ‫اخلوري على الوازع الداخلي‪ ،‬ف�أفراد جماعة الطائفة يقومون بواجباتهم‬ ‫التي تفر�ضها �سلطة الطائفة �أو جماعة الطائفة بوازع خلقي داخلي‪.‬‬ ‫تعتمد �آلية �ضبط الدولة على القوة الق�سرية والنظام والقانون‪،‬‬ ‫وهي �آليات مف�صولة عن معتقدات الطائفة و�شعائرها و�شعاراتها‬ ‫وعباداتها‪ .‬والعلمنة هي هذا الف�صل‪.‬‬ ‫حني تغيب نظم الدولة وم�ؤ�س�ساتها التي تقوم على قوة القانون‬ ‫املنف�صل عن الطوائف‪ ،‬تعمد الطوائف �إىل ت�شغيل �آليات �ضبطها‬ ‫االجتماعي‪ ،‬وهذا ما عبرّ عنه اخلوري بقوله‪« :‬ت�ضعف الطوائف بتعزيز‬ ‫موقع ال�سلطة املركزية (الدولة)‪ ،‬وتقوى بانحاللها»(‪ .)1‬لو نظرنا �إىل‬ ‫الطائفة من هذا املنظور ف�سنجد �أن م�شكلة الدولة مع الطائفة ال تكمن يف‬ ‫معتقداتها الدينية ال�صرفة‪ ،‬بقدر ما تكمن يف ا�ستخدام هذه املعتقدات‬ ‫ك�آلية �ضبط تناف�س الدولة‪ .‬الطائفة ت�أبى �أن ترتك فراغ ًا حتتله الدولة‪.‬‬ ‫لذلك تف�ضل الطائفة �أن يكون لها حماكمها اخلا�صة و�أوقافها اخلا�صة‬ ‫‪1‬‬

‫‪34‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:04‬‬

‫ف�ؤاد �إ�سحاق اخلوري‪� ،‬إمامة ال�شهيد و�إمامة البطل‪.‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 34‬‬


‫و�شرعها اخلا�ص و�سلطتها اخلا�صة على �أبنائها‪ .‬الطائفة حتكم‪ .‬كيف‬ ‫حتكم؟‬ ‫قــرار الطائفــة‬ ‫ي�صل اخلوري من خالل املعطيات امليدانية‪� ،‬إىل مفهوم للعلمنة‬ ‫يقول فيه‪�« :‬إن العلمنة ج ّل ما تفعله هو �أنها تعمم امل�شاركة يف اتخاذ‬ ‫القرار الديني على جميع �أبناء ال�شعب‪ ،‬بدال من �أن يكون هذا القرار‬ ‫حكر ًا على النخبة الدينية‪� ،‬أي علماء الدين فقط‪ .‬و�أن ي�صبح القرار‬ ‫الديني مبتناول ال�شعب‪ ،‬ال يعني �أن دور النخبة �أو العلماء يزول �أو �أن‬ ‫القرار ي�صبح قرار ًا ال ديني ًا‪ .‬العلمنة تزيل نخبوية القرار الديني وال‬ ‫تزيل دينيته»(‪.)2‬‬ ‫ماذا يعني هذا التعريف بالن�سبة �إلينا؟ يعني �إعادة النظر يف‬ ‫�آليات اتخاذ القرار‪ ،‬و�إعادة النظر هذه تتطلب يف �سياقنا �إعادة ت�شكيل‬ ‫نظام ال�سلطة يف الطائفة‪ .‬فالطائفة حتتكم يف تنظيم �ش�أن جماعتها‬ ‫�إىل (�شرائع و�شعارات ومعتقدات وعبادات) م�ستمدة من تراثها الفقهي‬ ‫اخلا�ص (اخلا�ص بزمن الغيبة مث ًال)‪ ،‬ويفرت�ض هذا الرتاث يف الطائفة‬ ‫ال�شيعية مث ًال �أن املخت�ص بال�ش�أن الديني (علماء الدين)‪ ،‬هو املخت�ص‬ ‫بالقرار‪ ،‬وهو القادر على ت�شخي�ص الواقع‪ ،‬وعلى العوام �أن يقلدوه‪ .‬وان‬ ‫تكون يف الطائفة يعني �أن يكون قرارك ال فيك‪ ،‬بل يف �آلة الطائفة‪ ،‬و�آلة‬ ‫الطائفة يحركها ويتخذ قرارها علماء الدين‪ .‬قد يكون القرار وطني ًا‪،‬‬ ‫لكن �آلية اتخاذه لي�ست مدنية بل دينية‪.‬‬ ‫يفيدنا اخلوري هنا مبعلومة ميدانية من احلالة البحرينية‪،‬‬ ‫فقد �أجري يف ال�سبعينيات م�سحا اجتماعيا عاما يف �أربع قرى (الدراز‪،‬‬ ‫‪2‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:04‬‬

‫املرجع نف�سه‪� ،‬ص ‪.322‬‬

‫‪35‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 35‬‬


‫عايل‪� ،‬سلماباد‪ ،‬جدحف�ص) وتبني �أن هناك خمت�صا دينيا �أو عامل دين‬ ‫لكل �أربعة ا�شخا�ص‪� ،‬أي ما ن�سبته ‪ 24%‬من علماء الدين‪ ،‬يف الطائفة‬ ‫ال�شيعية‪ ،‬مقابل عامل دين واحد لكل ‪� 600‬شخ�ص عند ال�سنة‪ .‬واملخت�ص‬ ‫الديني ي�شمل يف م�سحه االجتماعي الفئات التالية‪ :‬الأئمة‪ ،‬واخلطباء �أو‬ ‫املالئية‪ ،‬وال�سادة‪ ،‬واملجتهدون‪ ،‬وق�ضاة ال�شرع‪ ،‬و�أ�صحاب الفتاوي‪.‬‬ ‫هناك تف�سري لهذه الكرثة يرجعه اخلوري �إىل كثافة ال�شعائر‬ ‫الدينية‪ ،‬وتلك ظاهرة انرثوبولوجية خا�صة بالطوائف‪ ،‬حتى عند‬ ‫الطوائف امل�سيحية‪ ،‬كما هو الأمر عند «الأرمن»‪.‬‬ ‫علمنة الطائفة‪ ،‬ال تعني جعل قرارها غري ديني‪ ،‬بل تعني جعل‬ ‫قرارها غري حمتكر يف فئة علماء الدين‪ .‬وهذا يعني حت ً‬ ‫وال يف نظام‬ ‫اتخاذ القرار‪ ،‬وهو حتول لي�س ي�سري ًا‪ ،‬لأنه ي�صطدم بتكوين بنيوي يف‬ ‫الطائفة‪ ،‬وي�صطدم بتاريخ طويل وتراث غزير‪ .‬وحتديث هذا الرتاث‬ ‫يتطلب حتدي ًا معرفي ًا واجتماعي ًا وثقافي ًا‪.‬‬ ‫ترتبط العلمنة �إذ ًا ب�آلية اتخاذ القرار‪ ،‬لكن ذلك ال يعني �أنها‬ ‫�آلية �شكلية‪ ،‬بل هي ترتبط مبفهومنا للقرار ومفهومنا ملو�ضوعات الواقع‬ ‫التي ترتبط بهذا القرار‪� .‬إن كثافة ال�شعائر الدينية يف نظام الطائفة‬ ‫يجعل كل �شيء ديني ًا‪ .‬جميع املمار�سات التي يقوم بها الفرد يف حياته‬ ‫اليومية‪ ،‬تتخذ طابع ًا ديني ًا ب�سبب كثافة هذه ال�شعائر‪.‬‬ ‫لذلك فالفرد ي�سلم قراره للمخت�ص الديني يف كل ما يت�صل‬ ‫ب�أفعاله اليومية‪ ،‬ومتى و�صل الفرد داخل الطائفة �إىل قناعة ب�أن �أمر ًا‬ ‫ما لي�س ديني ًا‪ ،‬ف�إنه يقرره بنف�سه‪� ،‬أو يلج�أ �إىل خمت�ص خارج الدائرة‬ ‫الدينية‪ .‬من هنا‪ ،‬فالعي�ش �ضمن نظام الطائفة ولي�س �ضمن نظام‬ ‫الدولة‪ ،‬يجعل الفرد لي�س فرد ًا بل جماعة‪ .‬وكي يعي�ش فرديته فهو بحاجة‬ ‫�إىل �أن يعلمن قراره‪ ،‬وذلك لي�س ب�أن يجعله غري ديني‪ ،‬بل ب�أن يكون هو‬ ‫‪36‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:04‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 36‬‬


‫�صاحب قراره‪ ،‬و�سيد قراره‪ .‬وتلك �سيادة دونها الطائفة‪.‬‬ ‫لنت�أمل هذه القرارات‪ :‬قرار ذهاب املر�أة �إىل اجلامعة‪ ،‬قرار‬ ‫�سياقة املر�أة لل�سيارة‪ ،‬قرار العمل يف احلكومة‪ ،‬قرار عمل املر�أة‪ ،‬قرار‬ ‫امل�شاركة يف االنتخابات‪ ،‬قرار تويل وظيفة يف الق�ضاء‪ ،‬قرارات الت�صويت‬ ‫على الق�ضايا امل�صريية‪ ،‬قرار �إعالن هالل العيد‪ ،‬قرارات �أحكام الأحوال‬ ‫ال�شخ�صية‪ ،‬قرار ال�سالم على �أهل البدع‪ .‬جميع هذه القرارات‪ ،‬وغريها‬ ‫�سواء جاءت يف �صيغة فتوى �أو ر�أي �شرعي �أو ن�صيحة دينية �أو حكم فقهي‬ ‫�أو ا�ستفتاء‪ ،‬تفرت�ض �أن وجودك يف الطائفة يلزمك بقرارها ال�شرعي‬ ‫والعقدي‪ ،‬ومتتاز مبدى التزامك بهذا القرار‪.‬‬ ‫العلمنة تعني ف�صل نخبوية القرار عن املخت�ص الديني‪ ،‬ففي‬ ‫الطائفة التي يدير �سلطتها املخت�صون الدينيون‪ ،‬يبدو القرار �أكرث‬ ‫احتكارية يف طبقة علماء الدين‪ ،‬وحجة االخت�صا�ص‪ ،‬تعد حجة دامغة‬ ‫ال ميكن ردها‪ .‬و�شعار «معكم معكم يا علماء»(‪ )3‬جت�سد معيتُه‪ ،‬معية‬ ‫القرار بيد علماء‪ ،‬فهم �سور الطائفة‪ ،‬ووجودك مرهون ببقائك داخل‬ ‫هذا ال�سور‪.‬‬ ‫العلمنة تقوم على �أن الوجود يف العامل‪� ،‬أو يف الدولة مقابل‬ ‫للوجود يف الطائفة‪ .‬فالوجود يف العامل يفرت�ض الوجود يف الدولة‪ ،‬ف�أنت‬ ‫تع ّرف نف�سك بالدولة التي توجد فيها‪ .‬وكي توجد يف هذه الدولة ويف‬ ‫هذا العامل‪ ،‬عليك �أن توجد خارج طائفتك‪� ،‬أي خارج �سور �سلطتها‬ ‫الدنيوية وخارج قرار نخبوية خمت�صيها‪ ،‬وحتول انتماءك لها �إىل رافد‬ ‫من روافدك املتعددة‪ ،‬وبهذا تكون خارجا منها‪ ،‬ال خارجا عليها‪.‬‬ ‫الطائفة تربيك تربية الق�صور‪ ،‬فهي تربيك على قاعدة �أنك ال‬ ‫ت�ستطيع �أن تفكر وحدك �أو تتخذ قرارا لوحدك‪ ،‬البد �أن ت�س ّد ق�صورك‬ ‫‪3‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:04‬‬

‫انظر ‪« :‬معكم معكم يا علماء»‪� ،‬ص ‪.279‬‬

‫‪37‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 37‬‬


‫بالرجوع �إليها‪� ،‬أي الرجوع الواجب �إىل علمائها وفقهائها ومراجعها‬ ‫ومد ّوناتها املعتمدة‪.‬‬ ‫بقدر ما �أنت تق ّل�ص من م�ساحات هذا الرجوع‪ ،‬تخرج من‬ ‫ق�صورك‪ ،‬وتكون مثقفا‪ .‬مثقفا على طريقة ع�صر الأنوار التي ع ّرفها‬ ‫كانط «الأنوار خروج الإن�سان من ق�صوره الذي هو نف�سه م�س�ؤول عنه»‬ ‫فاملثقف �أو املتنور هو القادر على اخلروج من ق�صوره‪ .‬ق�صوره من الفكر‬ ‫املهيمن عليه الذي ي�شعره �أنه قا�صر عن اخلروج منه‪.‬‬ ‫يتفاوت هذا اخلروج بتفاوت ق�صورك‪ ،‬هناك من يخرج يف‬ ‫املجال ال�سيا�سي واالقت�صادي‪ ،‬وهناك من يخرج يف املجال الديني‪،‬‬ ‫وهناك من يخرج يف املجال الثقايف‪ ،‬وهناك من يخرج يف جمال الأحــوال‬ ‫ال�شخ�صي ــة‪ ،‬وهنــاك من يخــرج يف جمــال احلريــة ال�شخ�صية‪.‬‬ ‫هناك ن�ضاالت يخو�ضها املثقف يف �سبيل حتقيق جمال �أو�سع‬ ‫من خروجاته‪ ،‬وهو بهذا اخلروج ال يحرر نف�سه فقط‪ ،‬بل يحرر امليدان‬ ‫العام امل�شرتك بني خمتلف الأعراق والطوائف واالجتاهات‪ ،‬هذا امليدان‬ ‫يت�سع باخلروج من �أطرنا ال�ضيقة‪ ،‬يت�سع في�سع اجلميع‪.‬‬ ‫بقدر ما تخرج ت�صبح قدرتك على هند�سة حياتك وقراراتك‬ ‫بعقلك الفردي‪ ،‬ال بعقل جمعي ي�سيطر عليك با�سم الطائفة �أو احلزب �أو‬ ‫�أي جماعة عرقية �أو دينية �أو �أيديولوجية‪.‬‬ ‫يف فيلم «‪ »The Champ‬كان البطل �صحافيا �أوقعه مالكم يف ورطة‬ ‫كتابة ق�صة بطولة وهمية‪ ،‬ف�سقط فوق من�صة املجتمع حيث امليدان العام‬ ‫ال يقبل الكذب والزيف‪ .‬اخلال�صة التي و�صل �إليها هو تعريف للمثقف‬ ‫يقول فيه «الكاتب مثل امل�صارع يجب �أن يقف وحيدا‪ .‬حماولة ن�شر‬ ‫كلماتك مثل الدخول وحيدا‪ ،‬ي�ضع موهبتك على املحك وال يوجد مكان‬ ‫لتخبئتها»‪.‬‬ ‫‪38‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:04‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 38‬‬


‫قف وحيد ًا خارج طائفتك‪ ،‬ال ت�ستند �إليها لتعطي �شرعية‬ ‫لقولك وفعلك‪� ،‬شرعيتك يعطيك �إياها امليدان العام امل�شرتك الذي هو‬ ‫جمال حلركة حريتك‪.‬‬ ‫حكم الطائفة‬ ‫"الدين َي ْح ُكم وال ُيحا َكم‪ ،‬والدولة تحَ ُكم وتحُ ا َكم»(‪ ،)4‬متى‬ ‫�صارت الدولة حتكم وال تحُ اكم‪� ،‬صارت دين ًا‪ ،‬وفقدت فكرة الدولة‬ ‫ومنطقها‪ ،‬وكذلك اجلماعة ال�سيا�سية‪ ،‬تحَ ُكم وتحُ ا َكم‪ ،‬ومتى �صارت‬ ‫حتكم وال تحُ اكم‪� ،‬صارت طائفة دينية‪ ،‬وفقدت فكرة اجلماعة ال�سيا�سية‬ ‫ومنطقها القائم على املحا�سبة والفوز والهزمية‪.‬‬ ‫يبدو �أن احلكم با�سم الطائفة وممار�سة ال�سيا�سة با�سم‬ ‫الطائفة‪ ،‬قد غدا بدي ًال رابح ًا للجماعات ال�سيا�سية‪ ،‬وملج�أ �آمنا لها‪،‬‬ ‫وقد فتح �سوق ال�سيا�سة على جنات جنا ٍة ال نهاية ل�صورها وتداوالتها‪.‬‬ ‫احلكم با�سم الطائفة وممار�سة ال�سيا�سة با�سم الطائفة ي�أتي يف‬ ‫عدة �صيغ تربيرية‪ :‬ا�ستنها�ض الطائفة‪ ،‬الدفاع عن ظالمة الطائفة‪،‬‬ ‫ا�سرتداد حقوق الطائفة‪ ،‬مواجهة طائفية الطوائف الأخرى‪ ،‬ا�ستنفاد‬ ‫احللول ال�سيا�سية‪ ،‬حت�صني الطائفة‪ ،‬مقاطعة �أنظمة اجلور‪ ،‬طائفية‬ ‫النظام ال�سيا�سي‪.‬‬ ‫يبدو �أن خ�صوبة التداول قد جعلت احلديث عن الطائفية‪،‬‬ ‫يدخل يف مرحلة الفو�ضى الداللية‪ ،‬فلم نعد نعرف ماذا تعني الطائفية‪،‬‬ ‫�أو �صارت تعني ال�شيء ونقي�ضه‪� ،‬أو لنقل �صارت ت�ستعمل يف �أغرا�ض‬ ‫�سيا�سية بني خ�صوم متباينني‪ ،‬من دون �أن تعني �شيئ ًا مناق�ض ًا عند‬ ‫طرف من دون الطرف الآخر‪ .‬باخت�صار‪ ،‬فقدت كلمة الطائفية قدرتها‬ ‫‪4‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:04‬‬

‫املرجع نف�سه‪� ،‬ص‪.317‬‬

‫‪39‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 39‬‬


‫على �أن تدل‪ ،‬وفقدت قابليتها على �أن ُتك ّذب‪ .‬هل ت�ستطيع �أن تك ّذب �أحد ًا‬ ‫�أو جماعة تترب�أ من الطائفية؟‬ ‫من هنا ي�أتي احلديث عن الطائفة ال عن الطائفية من �أجل‬ ‫جت ّنب هذه الفو�ضى الداللية‪ ،‬حماولة للدخول عليها من زاوية ت�ؤمن‬ ‫قدر ًا من الو�ضوح والتحديد‪ .‬وقد اخرتت �أن �أدخل على مفهوم الطائفة‬ ‫من خالل ف�ؤاد �إ�سحاق خوري‪ ،‬وذلك ملا يتوفر عليه هذا الباحث من‬ ‫معاجلة جديدة ودقيقة وح�صيفة يف قراءة الواقع امليداين‪.‬‬ ‫من جانب �آخر يبدو �أن احلديث عن الطائفية قد �صار بدي ًال‬ ‫عن احلديث عن الطائفة‪ ،‬مع �أنها م�شتقة منها‪ ،‬فال ميكننا �أن نفهم هذا‬ ‫امل�شتق �إذا مل نفهم امل�شتق منه‪� ،‬أي ال ميكننا �أن نفهم الطائفية �إذا مل‬ ‫نفهم مفهوم الطائفة‪ .‬من هنا ت�أتي �أهمية الدخول �أو الرجوع‪ ،‬الدخول‬ ‫على مو�ضوع الطائفية من خالل الطائفة‪� ،‬أو الرجوع �إىل مفهوم الطائفة‬ ‫لفهم الطائفية‪.‬‬ ‫الطائفة نظام اجتماعي وديني ودنيوي مركب‪ ،‬وما يفعله �إ�سحاق‬ ‫خوري يتمثل يف �أنه يقدم مادة علمية لفهم هذا التنظيم املركب‪ ،‬وكيف‬ ‫ي�شتغل يف املجتمع‪ .‬و�إذا كان اخلطاب االجتماعي وال�سيا�سي والديني‬ ‫قد جعل من الطائفة كيان ًا مقد�س ًا ال ينبغي ذكره �إال بعبارات التبجيل‬ ‫واالحرتام‪ ،‬فنقول الطائفة الكرمية‪ ،‬ونقول الطائفتني الكرميتني‪،‬‬ ‫ونقول مقد�سات الطائفة‪ ،‬واحرتام الطائفة‪ ،‬وحقوق الطائفة‪ ،‬وم�صالح‬ ‫الطائفة‪ ،‬ودفع ال�ضرر عن الطائفة‪ ،‬وا�ستنها�ض الطائفة‪.‬‬ ‫ت�شتغل هذه التعبريات كم�سلمات يف خطابنا االجتماعي‬ ‫وال�سيا�سي‪ ،‬وهي توحي �أن كل ما ي�ضاف �إىل (طائفة) ي�صبح حم�صن ًا‬ ‫عن النقد‪ .‬وحدها الطائفية فقط ال�شيطان الذي يترب�أ منه اجلميع‪،‬‬ ‫يتح�صن بها اجلميع ويتذرعون‪ .‬حتى �إنها‬ ‫وتبقى الطائفة وحدها التي َّ‬ ‫‪40‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:04‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 40‬‬


‫غدت وفق التعبري االجنليزي (ملج�أ للنذل)‪� .‬أي ملج�أ يلتجئ �إليه كل‬ ‫من يقومون ب�أعمال تخدم م�صاحلهم ال�شخ�صية‪ ،‬وجماعتهم احلزبية‬ ‫ومرجعياتهم امل�س ّي�سة‪ ،‬وهم بهذا اللجوء ي�سرتون �أفعالهم ال�شنيعة‬ ‫وف�سادهم الأخالقي‪ ،‬وك�أنهم يخفون ف�سادهم بها‪.‬‬ ‫الإ�ضافة �إىل الطائفة �صارت �آلية تربير يف تقرير املظنونات‬ ‫و�إ�سكات االعرتا�ضات وحتويل الآراء �إىل بدهيات غري قابلة للنق�ض‪.‬‬ ‫مقد�س‪،‬‬ ‫و�إذا كنا �سنقبل على م�ض�ض م�ؤقت �أن الطائفة �أمر َّ‬ ‫والطائفية �أمر مد َّن�س‪ ،‬ف�إننا لن نقبل �أن يكون تنظيم الطائفة �أمر ًا‬ ‫مقد�س ًا‪ .‬ونعني بالتنظيم هنا الآليات التي حتكم بها الطائفة وتدير‬ ‫من خاللها جماعتها‪ ،‬وتن�شئ �سلطتها عليهم‪ ،‬وهذا املدخل هو ما �أرى‬ ‫من خالله مفهوم الطائفة‪ ،‬ومنه ي�أتي ا�شتقاق الطائفية‪ ،‬وفيه تتقاطع‬ ‫�إرادات القوة والهيمنة وامل�صلحة واالنفتاح واالنغالق والرغبة يف الت�س ّلط‬ ‫واال�ستئثار‪.‬‬ ‫الطائفية لي�ست م�شتقا لغويا من الطائفة فقط‪ ،‬بل م�شتق ًا‬ ‫فكري ًا منها‪ ،‬من نظام �سلطتها الدنيوية‪ ،‬وحكمها و�أمرها‪ .‬فلي�ست‬ ‫الطائفة جمموعة من املعتقدات الدينية الربيئة من �صراعات التاريخ‬ ‫واحلا�ضر‪ ،‬بل هي ت�شكيلة من الآليات املركبة يف هيئة �سلطة تعمل على‬ ‫تثبيت هذه املعتقدات يف جماعتها والدفاع عنها والرتويج لها وجت�سيدها‬ ‫يف الواقع‪ ،‬فلي�س م�ضمون املعتقدات بريئ ًا من التو ّرط يف هذه املمار�سة‬ ‫الدنيوية‪.‬‬ ‫هناك «ما يجري يف احلا�ضر من التاريخ»(‪( .)5‬ما يجري) من‬ ‫�صراعات �سيا�سية وتنظيمات اجتماعية و�سيا�سية للجماعات املت�صارعة‬ ‫يف التاريخ‪ .‬قدرة هذه ال�صراعات و�أ�شكال التنظيم على �أن ي�ستمر‬ ‫‪5‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:04‬‬

‫املرجع نف�سه‪.‬‬

‫‪41‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 41‬‬


‫جريانها يف احلا�ضر يف �صيغة طوائف كرمية‪ ،‬هو ما ُيعطي للطائفة‬ ‫�سلطتها يف �أن تحَ كم‪ ،‬وال تحُ اكم‪.‬‬ ‫هند�سة اخلروج‬ ‫اخلروج يحتاج �إىل هند�سة �أي�ضا‪ ،‬ال ميكنك �أن تخرج من غري‬ ‫خارطة هند�سية‪ ،‬ورمبا يكون كتاب �أمني �صالح (هند�سة �أقل خرائط‬ ‫�أقل)(‪� )6‬أف�ضل بيان هند�سي يقودك خلارطة اخلروج من هند�سات‬ ‫الربامج املعدة ال�ستقبال �سقوطك يف الدنيا وما قبله وما بعده‪.‬‬ ‫يبدو �أن(اخلروج) من �أكرث الأفعال ثورية وذم ًا يف ثقافتنا‪،‬‬ ‫فالثورات قرينة الذم‪ ،‬لذلك ال عجب �أن ي�شتق منه ا�سم (اخلوارج)‬ ‫الذي �أطلق على اجلماعة التي �شقت ع�صا الطاعة وخرجت على �إمامها‬ ‫وخليفتها‪ ،‬بل �إنها خرجت على فكرة الإمامة واخلالفة نف�سها‪ ،‬فهي‬ ‫الفرقة الوحيدة التي ذهبت �إىل �أن اخلالفة حق من حقوق امل�سلمني‬ ‫يت�ساوى فيه العربي وغري العربي‪ ،‬كما يت�ساوى فيه الأحرار والأرقاء‪.‬‬ ‫واخلالفة لي�ست للقر�شيني وحدهم‪ ،‬و�إمنا هي حق للأف�ضل من جميع‬ ‫امل�سلمني على اختالف �ألوانهم و�أجنا�سهم‪.‬‬ ‫(�أنا خارج طائفتي) هي �صيغة مفهومية‪� ،‬أحاول عربها �أن‬ ‫�أقر�أ �إطار الطائفة يف تكوين الذات‪ .‬وهي لي�ست �إعالن ًا وال براءة وال‬ ‫مترد ًا وال عقدة وال ا�ستنكاف ًا‪.‬‬ ‫حني �أخرج من هذا الإطار‪ ،‬ما الذي �سيحدث لر�ؤيتي وموقفي‬ ‫وذاتي وحريتي وعالقاتي؟ ال�صيغ املفهومية ال نحكم عليها بال�صحة‬ ‫واخلط�أ واحلق وال�ضالل واخليانة وال�شجاعة‪ .‬هي �صيغ تف�سريية‬ ‫وميكنك �أن حتكم عليها �أنها �أكرث تف�سريا �أو �أقل تف�سريا و�أكرث قدرة �أو‬ ‫�أقل‪ ،‬على �أن ترينا الواقع‪.‬‬ ‫‪6‬‬

‫‪42‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:04‬‬

‫انظر‪ :‬حترير خرائط املدينة‪� ،‬ص‪125‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 42‬‬


‫�صيغة (�أنا خارج طائفتي) �أراها تتيح يل �أن �أرى ذاتي ب�شكل‬ ‫خمتلف‪ ،‬و�أرى مواطنتي ب�شكل خمتلف‪ ،‬و�أرى تاريخي ب�شكل خمتلف‪،‬‬ ‫و�أرى دولتي ب�شكل خمتلف‪ .‬واالختالف حق ال مينحك �إياه �أي ت�شكيل وال‬ ‫�أي �إطار وال �أي برنامج‪ ،‬عليك �أن تخرج وت�أخذ حقك بعقلك‪ ،‬عليك �أن‬ ‫ته ّند�س لك طريق ًا يريك الأ�شياء خارج طائفتك‪.‬‬ ‫ملاذا �صيغة(�أنا خارج طائفتي) لي�ست �إعالنا‪ ،‬وال براءة‪ ،‬وال‬ ‫مترد ًا‪ ،‬وال عقدة وال ا�ستنكاف ًا؟‬ ‫هي لي�ست �إعالنا‪ ،‬لأن الإعالن يتطلب خفة يف الطرح‪ .‬و�صيغة‬ ‫'�أنا خارج طائفتي' حتمل ثق ًال يف املفهوم وتعقيد ًا يف الإ�شكال‪ .‬وهذا ما‬ ‫�أظهرته كرثة الت�أويالت التي دارت حول معنى اخلروج يف هذه ال�صيغة‪،‬‬ ‫وتباين وجهات النظر حول جدواها على �صعيد الفكر والواقع‪ .‬وهذا‬ ‫�أي�ض ًا ما �أظهرته كرثة التداوالت يف املنتديات االلكرتونية‪ ،‬واملجموعات‬ ‫احلوارية‪ ،‬والر�سائل ال�شخ�صية‪.‬‬ ‫وهي لي�ست براءة‪ ،‬لأن الرباءة تتطلب قطيعة وجودية واجتماعية‬ ‫عن كل ما يت�صل بطائفتك‪ ،‬وهذا ما ال تدعو �إليه هذه ال�صيغة‪ ،‬وال‬ ‫تف�سرياتها التي ت�ضمنتها مقولة ''خارج الطائفة''‪ ،‬بل هذه ال�صيغة هي‬ ‫�أقرب �إىل �أن تكون مفتاح حل‪ ،‬لتحقيق ''العي�ش امل�شرتك االجتماعي' الذي‬ ‫يتطلب ات�صا ًال‪ ،‬ال انف�صا ًال‪.‬‬ ‫وهي لي�ست مترد ًا‪ ،‬لأنها خروج من الطائفة ولي�ست خروج ًا‬ ‫على الطائفة‪ .‬اخلروج مرتبط بالع�صيان والتمرد والثورة و�شق اجلماعة‪،‬‬ ‫وهي دالالت حتف بهذا الفعل‪ ،‬وحت�ضر يف ا�ستخدامه ح�ضور ًا يكاد يكون‬ ‫مالزم ًا‪ .‬لكن هناك ا�ستخدامني يف لغتنا للفعل خرج‪ ،‬يفيدان يف تنويع‬ ‫معنى اخلروج‪ ،‬الأول هو (خرج على) والثاين هو (خرج من)‪.‬‬ ‫اال�ستخدام الأول يحيل على الع�صيان والثورة واحلرب‬ ‫‪43‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:04‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 43‬‬


‫والعداوة‪� .‬أما اال�ستخدام الثاين فهو ال يحمل هذه الداللة املقرتنة‬ ‫بالعداء والرباءة دوم ًا‪ ،‬بل هو �أقرب �إىل احلياد‪� ،‬أن تخرج يعني �أن تغادر‬ ‫منطقتك ودائرتك التي كنت فيها‪ ،‬من دون �أن ت�أخذ موقف ًا معادي ًا‪.‬‬ ‫و(�أنا خارج طائفتي) حتيل �إىل املعنى الثاين‪ ،‬ال الأول‪ ،‬لكن ظالل الأول‬ ‫رب�ؤ ال الرباءة‬ ‫حت�ضر يف التلقي‪ ،‬ب�سبب ارتباط اخلروج يف ثقافتنا بالت ّ‬ ‫(احلياد)‪.‬‬ ‫لذلك ال ميكن �أن نفهم �صيغة (�أنا خارج طائفتي) من خالل ما‬ ‫فعلته �إحدى الرائدات البحرينيات حينما حرقت عباءتها و�سط ال�شارع‬ ‫العام‪ .‬وهي احلادثة التي ا�ستح�ضرتها �إحدى النا�شطات الن�سويات يف‬ ‫�سياق حماولة فهمها ملعنى (�أنا خارج طائفتي) فهي ترى �أن اخلروج‬ ‫احلقيقي لي�س مقولة نبتكرها لتغيري ذواتنا‪ ،‬بل فعل خارجي ال يدع‬ ‫جماال لل�شك والت�أويل‪ ،‬كما هو فعل �إحراق العباءة يف ال�شارع العام‪ ،‬فهو‬ ‫فعل يثبت �أنها خارج العباءة‪ ،‬فاخلروج يف مفهومها يتحقق بقدر ما يكون‬ ‫(خروج على) ال (خروج من)‪.‬‬ ‫و�صيغة (�أنا خارج طائفتي) لي�ست عقدة وال ا�ستنكاف ًا‪ ،‬لأن‬ ‫العقدة تتطلب نق�ص ًا نف�سي ًا‪ ،‬ال نق�ص ًا معرفي ًا‪ .‬يف النق�ص املعريف �أنت‬ ‫ت�ستكمل ذاتك بفتح مغلقاتها و�أطرها على م�صادر معرفة جديدة‪ ،‬ويف‬ ‫النق�ص النف�سي‪� ،‬أنت تهرب مما يعيبك‪ ،‬وتترب�أ منه‪ ،‬وت�ستعي�ض عنه‬ ‫بتقليد الغالب‪ ،‬كما هي عبارة ابن خلدون "�إن املغلوب مييل �إىل تقليد‬ ‫الغالب دائم ًا'"'‪.‬‬ ‫و�صيغة (�أنا خارج طائفتي)‪ ،‬ت�أتي يف �سياق �إ�شكالية نق�ص‬ ‫الذات‪ ،‬حني تنغلق على �إطار طائفتها‪ ،‬ولي�س يف �سياق �ضعف الذات‬ ‫وا�ستكانتها يف بقائها داخل طائفتها‪ ،‬بل �إنه بالنظر �إىل �سياقنا‪ ،‬فالذات‬ ‫خارج طائفتها ال قوة لها‪ .‬كما هو الأمر بالن�سبة �إىل ذاتي اخلارجة‪،‬‬ ‫ف�أنا ال �إطار اجتماعي ديني ي�سند �ضعفي‪ ،‬وال موقع يل يف الدولة التي ال‬ ‫تعرف الفرد �إال ب�صفته الطائفية‪.‬‬ ‫‪44‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:05‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 44‬‬


‫لكل ذلك‪ ،‬ميكنني �أن �أعترب (�أنا خارج طائفتي) كوجيتو الذات‬ ‫اخلارجة‪ ،‬كما هي �صيغة ديكارت (�أنا �أفكر �إذن �أنا موجود) كوجيتو‬ ‫الذات املوجودة واملفكرة واحلرة والفردية واحلديثة‬

‫‪45‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:05‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 45‬‬


‫خارج التقليد‬ ‫(�أنت خرجت من تقليد الفقيه ووقعت يف تقليد �أركون) كانت‬ ‫التهمة الأكرث ح�ضور ًا يف احلراك الثقايف العام الذي �أعقب زيارة حممد‬ ‫�أركون للبحرين يف ‪2001‬م(‪� .)7‬أقول كانت تهمة‪ ،‬لأنها مل تطرح نف�سها‬ ‫�أبد ًا يف �صيغة �س�ؤال‪ ،‬ومل تكن حتى يف م�ضمونها حتتمل ال�س�ؤال‪ ،‬والتهمة‬ ‫غالب ًا ما تقت�ضي الدفاع �أكرث من البيان‪،‬‬ ‫لذلك من املهم �أن نحول التهمة �س�ؤا ًال كي نتحول من مقام‬ ‫الدفاع وما يقت�ضيه من منافحة وجدال ورغبة يف الغلبة‪� ،‬إىل مقام البيان‬ ‫وما يقت�ضيه من تو�ضيح وك�شف وفتح وفهم وا�ست�شراف‪ .‬و�أقرتح �أن يكون‬ ‫ال�س�ؤال‪ :‬ما الفرق بني عالقتك بالفقيه وعالقتك ب�أركون؟ �أو ب�صيغة‬ ‫�أكرث تعميم ًا و�أكرث حتيز ًا‪ ،‬ما الفرق بني تقليد الفقيه و�صداقة املفكر؟‬ ‫هل ميكن �أن يكون الفقيه �صديق ًا؟‬ ‫العالقة مع الفقيه حمكومة بقانون املاهية‪ ،‬والعالقة مع املفكر‬ ‫حمكومة بقانون الت�صيري‪.‬قانون املاهية يفر�ض عليك �أن تكون هو‪ ،‬وهذا‬ ‫يتطلب �أن تكون حقيقتك ثابتة و�أبدية و�أن تكون ن�سخة من الفقيه‪ ،‬ن�سخة‬ ‫من فعل (�أمره)‪� .‬أن تكون ماهيتك حمددة ب�صرامة �أوامره‪ ،‬فالفقيه‬ ‫يختزل الن�ص الديني يف فعل الأمر الذي يتحدد من خالله احلالل‬ ‫واحلرام وامل�ستحب واملكروه‪ .‬و�أنت �أو ماهيتك �أو حقيقتك حمددة‬ ‫مبحددات فعل الأمر هذا‪.‬‬ ‫املاهية تتطلب التقليد واملحاكاة حد املطابقة كي ال ت�صري �شيئ ًا‬ ‫�آخر �أو �ش�أن ًا خا�ص ًا غري معروف‪ ،‬فمن تتغري ماهيته ي�صبح كائن ًا غري‬ ‫‪ 7‬انظر‪� :‬أركون وحكاية الذات‪ ،‬علي الديري‪ ،‬الرتبية وم�ؤ�س�سات الربجمة الرمزية‪� ،‬ص‪.‬‬

‫‪46‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:05‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 46‬‬


‫معروف‪ ،‬وما ي�ضمن لك املعرفة والتعريف‪ ،‬هو �أن تقوم بفعل معروف‬ ‫م�سبق ًا‪ ،‬هو فعل الأمر‪ ،‬فعل �أمر الفقيه‪ ،‬كينونتك من طينة هذا الفعل‪،‬‬ ‫�أي تغري �أو حتول �أو ت�صري يف هذه الطينة يجعلك م�سخ ًا‪.‬‬ ‫قانون الت�صيري يطلب منك �أن تكون �أنت وما تفعله‪ ،‬وهذا‬ ‫يتطلب �أن تكون حقيقتك متغرية ومتحولة و�أن تكون �ش�أن ًا خا�ص ًا‪ ،‬وكي‬ ‫ت�صري كذلك‪ ،‬فعليك �أن تتحرر مما ي�سبقك وتتطلع �إىل ما يلحقك‪،‬‬ ‫عليك �أن تتحرر من فعل الأمر ومقت�ضياته‪ .‬الت�صيري يتطلب االنفكاك‬ ‫واخلروج وحت ّمل م�س�ؤولية �أن تكون على خالف ما كنته‪ .‬الت�صيري فعلك‬ ‫�أنت ال فعل ما �سبقك‪ ،‬لذلك هو فعل متحرر مما �سبق‪.‬‬ ‫بقدر ما يكون املفكر م�شكال ر�ؤية‪ ،‬تت�أكد �أهميته‪ ،‬ويت�أكد‬ ‫ح�ضوره وتت�صيرَّ عالقتك به بدل �أن تتماهى‪ .‬نحن مع الفقهاء نتماهى‪،‬‬ ‫ومع املفكرين نت�صاير‪ .‬يف التماهي ن�صري هم فقط‪ ،‬وهم فقط مبا هم‬ ‫ن�ص ثابت‪ ،‬ويف الت�صاير ن�صري نحن وغرينا و�شيئ ًا �آخر‪.‬‬ ‫عالقتك مع الفقيه تقوم على التقليد‪ ،‬تقلد (فعل �أمره) ومتتثل‬ ‫لأحكامه‪ ،‬وترهن كلك به‪ ،‬وعالقتك مع املفكر تقوم على ال�صداقة‪،‬‬ ‫ت�صادق مفاهيمه‪ ،‬وتتمثل عوامله‪ ،‬وتفتح كلك به‪ ،‬وتت�صرف يف العامل من‬ ‫خاللها‪� .‬أحكام الفقيه �أقفال ومفاهيم املفكر مفاتيح‪ ،‬تلك تغلق العامل‬ ‫ومتاهيه حد التطابق وهذه تفتح العامل وت�صريه ح َّد االختالف‪.‬امتثالك‬ ‫للأحكام يغلقك وتمَ ُّثلك للمفاهيم يفتحك‪ ،‬مع الفقيه �أنت تقع يف حكم‬ ‫نهائي‪ ،‬ومع املفكر �أنت ال تقع يف بل �أنت تقع على‪ ،‬تقع على ما يفك‬ ‫حمكماتك ويخرجك من كينونتك الأحادية‪.‬‬ ‫الفقيه يظلك بعباءته ويتيح لك �أن ترى بقدر ما ت�سمح به‬ ‫خيوط عباءته املحكمة‪ ،‬واملفكر ي�ضلك بعرائه وهوامله ويتيح لك �أن‬ ‫تكت�شف العامل بقدر ما ت�سمح به خيوط ال�شم�س‪ ،‬وي�ضع لك يف كل م�سار‬ ‫‪47‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:05‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 47‬‬


‫من م�سارتها معامل غري حمكمة‪ ،‬معامل هي مبثابة �إ�شارات حتتاج �إىل‬ ‫ت�أويلك كي تنفتح وتدل‪ ،‬و�إذا وجدت يف خيوط ال�شم�س وم�ساراتها ما‬ ‫ي�ضلك‪ ،‬فلك �أن تبتكر لك �شم�سك اخلا�صة �أو قنديلك اخلا�ص كما فعل‬ ‫ديوجني الذي كان يبحث مب�صباحه يف رائعة النهار عن �إن�سان‪.‬‬ ‫يبطل عمل املفكر حني تكون له عباءة تغلف �أ�صدقاءه‪ ،‬ويتعزز‬ ‫عمل الفقيه حني تكون له عباءة تن�ص عليه‪ ،‬وتن�ص على مقلديه و�أتباعه‪.‬‬ ‫مع الفقيه العقل يف م�سار الن�ص‪ ،‬ومع املفكر العقل يف م�سار ال�شم�س‪.‬‬ ‫يف م�سار الن�ص الذي هو م�سار عباءة الفقيه وعمامته‪ ،‬نحن يف‬ ‫م�ستوى ما ميكن التفكري فيه‪� ،‬أي يف م�ستوى ما ي�سمح به هذا امل�سار مبا‬ ‫هو جمموعة من الت� ُّصورات والعقائد والنظم اخلا�صة باجلماعة التي‬ ‫ينتمي �إليها الفقيه ويت�ضامن معها‪.‬‬ ‫ويف م�سار ال�شم�س نحن نحاول �أن نفتح كوة يف م�ستوى ما ال‬ ‫ميكن التفكري فيه‪ ،‬ب�سبب مانع يعود �إىل حمدود ّية العقل ذاته �أوانغالقه‬ ‫يف طور معينَّ من �أطوار املعرفة‪� .‬أو ب�سبب ما متنعه ال�سلطة ال�سيا�س ّية‬ ‫أ�سا�سا‬ ‫�أو الر�أي العام‪� ،‬إذا ما �أجمع على عقائد وقيم ق َّد�سها وجعلها � ً‬ ‫ُم� ِّؤ�س ً�سا لكينونته وم�صريه و�أ�صالته‪.‬‬ ‫ �أي �أننا مع الفقيه‪ ،‬يف م�سار املاهية والكينونة الثابتة‪ ،‬وما‬ ‫ي�سمح به الفكر حمدود بحدود هذه الكينونة وثباتها‪ ،‬ومع املفكر نحن‬ ‫يف م�سار ال�صريورة التي تخرتق م�ستوى ما ال ميكن التفكري فيه‪ ،‬وهو‬ ‫امل�ستوى الذي يهدد ثوابت الأ�شياء ونهايتها املغلقة‪.‬‬ ‫مع الفقيه �أنت مع اهلل‪ ،‬فهو وارث والية اهلل عن الإمام عن‬ ‫النبي �أو عن النبي وال�سلف ال�صالح‪ ،‬هو ويل اهلل وبا�سم هذه الوالية يرث‬ ‫القرب وما يقت�ضيه من حمبة وانقياد وت�سليم و�أمر و�سلطة وقيادة‪ ،‬متام ًا‬ ‫كما الأب يكت�سب حق واليته ومقت�ضياتها عليك بقرابة البنوة‪ ،‬كذلك‬ ‫‪48‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:05‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 48‬‬


‫يكت�سب الفقيه بهذه القرابة من اهلل حق الوالية‪ .‬تقوم عالقة الفقيه‬ ‫مع النا�س على �أنهم جمموعة من املوالني‪ ،‬يوالون اهلل خالقهم ويوالون‬ ‫نبيه ب�أمره ويوالون �أو�صياءه بو�صيته‪ ،‬ين�صاع املوايل لأمر مواله كي يحقق‬ ‫انقياده التام �إىل خالقه وبذلك ي�ضمن جنته‪ .‬الفقيه لن مينحك اجلنة‬ ‫من غري الوالء املطلق‪.‬‬ ‫الفقيه ي�ؤ�س�س ملجتمع املوالني امل�ؤمنني الذين جتمعهم رابطة‬ ‫الوالء العقدي والوالء الن�سبي (�أهل البيت)‪ .‬جمتمع الفقيه هم جماعته‪،‬‬ ‫لذلك ف�أمر الفقيه ال ميكن �أن يتجاوز جماعته امل�ؤمنة بواليته‪ ،‬وال ميكنه‬ ‫�أن يتعامل مع اجلماعات املتعددة واملتنوعة يف املجتمع الواحد على قدر‬ ‫امل�ساوة‪ ،‬فالوالية جامع اجلماعة ال املجتمع‪� ,‬أي جامع اجلماعة الواحدة‬ ‫املتجان�سة املتماهية ال جامع جماعات املجتمع الواحد املتعدد العقائد‪.‬‬ ‫مع املفكر �أنت مع الإن�سان‪ ،‬يف تعدده واختالفه وتنوعه‪ ،‬لي�س‬ ‫هناك عالقة والء وال قرابة تربطك �أو ت�شرع لك �أو متنحك �شرعية‬ ‫القول‪ .‬مع املفكر نحن يف جمتمع الأ�صدقاء ال الأخوة‪� ،‬أي مع الأ�صدقاء‬ ‫املتعددين يف كل �شيء ال مع الأخوة املتماهني يف كل �شيء‪.‬‬ ‫االختالف يف جمتمع الفقهاء يفتح باب القتل ويف جمتمع‬ ‫املفكرين يفتح باب احلياة‪ ،‬لذلك ما قتل مفكر �إال بفتوى فقيه‪ ،‬وما قتل‬ ‫فقيه �إال بفتوى فقيه �آخر‪ .‬وما �أحرق كتاب �إال بفتوى فقيه �أي�ضا‪ ،‬لكن مل‬ ‫يقتل فقيه بر�أي مف ّكر وال �أحرق كتاب بر�أي مفكر‪ .‬ال�سهروردي واحلالج‬ ‫وابن ر�شد وكتبهم �شهداء على الفقهاء‪ .‬الفقيه باب على املوت وما بعد‬ ‫املوت‪ ،‬واملفكر باب على احلياة‪.‬بعد كل ذلك هل ميكن �أن يكون الفقيه‬ ‫�صديق ًا؟‬ ‫نعود �إىل �س�ؤالنا‪ :‬ما الفرق بني عالقتك بالفقيه وعالقتك‬ ‫ب�أركون؟ اجلواب عالقتي بالفقيه كانت عالقة والء‪ ،‬وعالقتي ب�أركون‬ ‫عالقة �صداقة‪� .‬أركون ميكنك �أن مت�شي معه‪ ،‬والفقيه ال ميكنك �أن مت�شي‬ ‫�إال خلفه‪.‬‬ ‫‪49‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:05‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 49‬‬


‫خارج التب�سيط‬ ‫للوهلة الأوىل حني �أخربين �أحد الأ�صدقاء عن البيان الذي‬ ‫�أ�صدره مثقفون �شيعة‪ ،‬قلت‪ :‬كيف مثقفون و�شيعة؟ املثقف ال �صفة‬ ‫دينية له‪ .‬قلت رمبا هو التب�سيط الذي يجعل من ا�ستخدامنا لل�صفات‬ ‫ا�ستخدام ًا متخفف ًا من العمق واجلدية‪.‬‬ ‫القراءة الأوىل للبيان جعلتني �أ�ستح�ضر �صفة التب�سيط التي‬ ‫ظهر فيها بيان الليرباليني العرب اجلدد الذي �أ�صدره �شاكر النابل�سي يف‬ ‫يوينو‪ /‬حزيران ‪ 2004‬حتت عنوان(من هم الليرباليون العرب اجلدد‪،‬‬ ‫وما هو خطابهم؟)‪.‬‬ ‫يف يونيو‪ /‬متوز ‪� 2005‬أ�صدر جمموعة من املثقفني الليرباليني‬ ‫العرب (غري اجلدد) بيان ًا عنوانه (ليرباليون عرب‪� :‬صرخة �ضد‬ ‫التب�سيط) كانت ديباجة البيان "ما نحاوله نحن املو ّقعني �أدناه‪� ،‬صرخة‬ ‫�ضد التب�سيط �إزاء العناوين الأهم يف حياتنا‪ ..‬نذهب �إىل �أن الليربالية‬ ‫التي نقول بها‪ ،‬وال ٌء لقيم حتديثية وتنويرية �أو ًال و�أ�سا�س ًا‪ ،‬ولي�ست �أبد ًا‬ ‫وال ًء للواليات املتحدة كائن ًا من كان املقيم يف بيتها الأبي�ض"‪.‬‬ ‫وهذه هي م�ؤاخذتي الرئي�سية على بيان املثقفني ال�شيعة الذي‬ ‫اقرتن يف تلقيه ب�صفة اجلر�أة‪ ،‬واجلر�أة ال تقرتن بالعمق واجلدية‪ ،‬بقدر‬ ‫ما تت�صل باخلفة والتب�سيط‪ .‬لكنها ال تالزمها دوما‪ ،‬فهناك جر�أة تقرتن‬ ‫بالعمق يف الفهم‪ ،‬وهذا ما �أ�شك فيه بالن�سبة �إىل هذا البيان‪ ،‬لذلك‬ ‫�أقرن هذا البيان بالتب�سيط ال باجلر�أة‪.‬‬ ‫علينا �أن نالحظ �أن البيان يف العادة ي�صدر يف �سياق عام‪ ،‬وهو‬ ‫يخاطب جمهور ًا عام ًا ُمبين ًا موقفا عام ًا‪ ،‬وهو يحاكم يف نقده وقراءته‬ ‫‪50‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:05‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 50‬‬


‫من قبل متلقيه بلحاظ هذا البعد‪� .‬أي �أن البيان وهو نوع �أقرب �إىل‬ ‫حقل ال�سيا�سة‪ ،‬على خالف املقال‪ ،‬يحا�سب يف �ضوء قدرته على التعبري‬ ‫تف�صل التبا�ساته‪.‬‬ ‫عن موقف عام مبني على قراءة الواقع العام قراء ّ‬ ‫وهو يحاول �أال يتو ّرط يف �إ�صدار �أحكام �إدانة �ضد طرف من الأطراف‬ ‫املت�صارعة يف �صياغة الواقع �إذا ما كان هدفه �إخراج الأطراف‬ ‫املت�صارعة من دوامة االقتتال واالحرتاب‪.‬‬ ‫مقدمة بيان املثقفني ال�شيعة اجلدد ال ترفع التبا�س ًا بقدر ما‬ ‫ت�صدر حكم �إدانة "�إن املتتبع لن�شاط الطائفة ال�شيعية الكرمية يف‬ ‫معظم �أنحاء العامل وباخل�صو�ص يف اخلليج العربي يالحظ ان�شغالها‬ ‫�شبه التام بالق�ضايا الطائفية وال�صراعات املذهبية ومناو�شاتها التي ال‬ ‫تنق�ضي مع �أختها الطائفة ال�سنية الكرمية"‪.‬‬ ‫امل�ستفزة‪ ،‬لي�س للعقل‬ ‫البيان ي�صدر يف موقفه من هذه الإدانة‬ ‫ِ‬ ‫وال للواقع‪ ،‬بل للم�شاعر واملواقف‪ .‬حت ّمل جملة الإدانة التي يقوم عليها‬ ‫البيان‪ ،‬الطائفة ال�شيعية ما يحدث لأختها الطائفة ال�سنية‪ ،‬وك�أن هناك‬ ‫�أختني �إحداهما م�شاك�سة وم�ستفزة وت�سبب امل�شاكل‪ ،‬وهناك �أخت طيبة‬ ‫هم لها‬ ‫م�سكينة تعاين من مناو�شات �أختها‪ .‬وتبدو الأخت املناو�شة ال ّ‬ ‫�إال ا�ستفزاز م�شاعر �أختها‪ .‬هذا التب�سيط املخل للواقع الذي ت�صوغه‬ ‫الأختان يجعل من البيان مبني ًا على �صورة جمازية ال تبني الواقع بقدر ما‬ ‫تزيده التبا�سا وغمامة‪ ،‬بل �إنها �صورة فقرية وال خيال خ ّالق فيها ميكننا‬ ‫من ر�ؤية الواقع امل�شحون بال�صراعات ر�ؤية ن�ستبني فيها موا�ضع اخللل‪.‬‬ ‫هل بالفعل الطائفة ال�شيعية يف اخلليج م�شغولة ان�شغاال �شبه‬ ‫تام مبناو�شة �أختها الطائفة ال�سنية؟ �أين ن�ضع ان�شغاالتها وا�شتغاالتها‬ ‫ال�سيا�سية الوطنية املطالبة بحياة دميقراطية تقوم على املواطنة‬ ‫واحلرية ال�سيا�سية وتداول ال�سلطة وعودة احلياة الربملانية‪ ،‬وجتربة‬ ‫‪51‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:05‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 51‬‬


‫الإ�صالح ال�سيا�سي يف البحرين‪ ،‬هي ثمرة من ثمرات هذه اال�شتغاالت‬ ‫واالن�شغاالت ال�سيا�سية‪ ،‬حتى قيل‪ :‬م�سموح لكم �أن تن�شغلوا بال�سيا�سة‪ ،‬ال‬ ‫�أن ت�شتغلوا بها‪.‬‬ ‫مهما تكن ن�ضاالت الإ�سالم احلركي ال�شيعي م�ؤطرة مبنطلقات ت�صدر‬ ‫من تراث الطائفة ال�سيا�سي والفقهي‪ ،‬ف�إننا ال ميكن �أن ن�صادر على‬ ‫وطنيتها‪ ،‬ومهما يكن اختالفنا ال�سيا�سي ومهما يكن اختالفنا الفكري‬ ‫�أي�ضا‪ .‬ولعل هذا الإقرار بوطنية املعار�ضة ال�شيعية‪ ،‬هو ما يجعل من‬ ‫حتالفاتها مع التيارات الوطنية �أمرا واقعا ومقب ً‬ ‫وال‪.‬‬ ‫وهذا التحالف هو ما �أزعج �سيا�سات الت�شطري العمودي الذي‬ ‫مازال هو ال�سيا�سة الفاعلة يف نظام حكم الدولة‪ ،‬وهي ال�سيا�سة نف�سها‬ ‫التي جتعل املناو�شات بني الأختني ال تنق�ضي دوما‪ .‬لكن البيان ال ين�ص‬ ‫على هذه ال�سيا�سة التي متثل معطى مو�ضوعيا ي�شكل �ساحة ال�صراع‬ ‫ال�سيا�سي واالجتماعي‪ ،‬هناك واقع مو�ضوعي ي�شكله من ميلك القوة‪،‬‬ ‫وعلى البيان �أن يو�ضحه ويك�شف دوره يف �صياغة �شكل ال�صراع‪.‬‬ ‫يبدو �أن البيان يريد �أن يت�صالح مع هذه ال�سيا�سة �أكرث مما‬ ‫يت�صالح مع فكرة الدولة وما تتطلبه من �إ�صالح ديني‪ ،‬فالبيان يدعو‬ ‫�إىل التخل�ص من نظام التقليد واملرجعية يف الفقرة ‪ 2‬من البيان‬ ‫"''نعتقد ب�أن نظام التقليد واملرجعية احلايل مل يظهر �إال يف املائتني عاما‬ ‫الأخرية فقط‪ ،‬وكان النا�س قبال يرجعون لأي رجل دين يف م�سائلهم‬ ‫الفقهية العبادية التقليدية من دون تخ�صي�ص" لكنه يدعو يف الفقرة‬ ‫‪� 18‬إىل �إن�شاء مرجعيات وطنية "نطالب ال�شيعة العرب بالعمل اجلاد‬ ‫لإن�شاء مرجعيات دينية وطنية يف كل البلدان العربية التي يتواجد فيها‬ ‫ال�شيعة"‪ ،‬ك�أنه يريد �أن يجعل من املرجعية الدينية نظام ًا بوحدة �ضبط‬ ‫وطني (مبعنى حملي ولي�س مبعنى حقوقي د�ستوري) ي�سهل لهذه ال�سيا�سة‬ ‫‪52‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:05‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 52‬‬


‫التي تقوم على الت�شطريات العمودية التحكم فيها و�إدارتها وتوجيهها‬ ‫بالطريقة التي تريدها‪.‬‬ ‫من املعروف �أن �أنظمتنا (الوطنية) تريد هي وحدها �أن تتحكم‬ ‫يف ا�ستخدام الدين مبا يحقق م�صلحتها ويحفظ �سلطتها وي�سهل �إدارتها‬ ‫للنا�س‪ ،‬وهي ال تريد مرجعيات دينية خارج نطاق نفوذ حتكمها‪ ،‬هذا ما‬ ‫تريده‪ ،‬لكن لي�س هذا ما تريده حركة الإ�صالح‪.‬‬ ‫فالإ�صالح ال يتحقق بجعل نظام املرجعية الدينية وطنيا‬ ‫حمليا‪ ،‬بل بجعل املرجعية الدينية خارج لعبة اال�ستخدام والتوظيف من‬ ‫قبل ال�سلطة ال�سيا�سية التي مازالت دون فكرة الدولة مبعناها احلديث‪،‬‬ ‫ومن قبل التيارات ال�سيا�سية واجلماعات املت�صارعة‪� ،‬أي لتكن الدولة‬ ‫خارج لعبة (طاعة والة الأمر) وخارج لعبة (ويل الأمر الفقيه)‪.‬‬ ‫ �إن هذا البيان قد وقع فيما وقع فيه بيان الليرباليني اجلدد‬ ‫من تب�سيط �إزاء العناوين الأهم يف حياتنا‪ ،‬كما تقول �صرخة بيان‬ ‫املثقفني الليرباليني غري اجلدد‪ ،‬كعناوين‪( :‬ان�سجام ال�شيعة مع �أوطانهم‬ ‫و�إخوانهم يف الدين والوطن) و(ال�سقطة احل�ضارية املهولة التي تعي�شها‬ ‫الأمة العربية) و(وال�ؤنا فقط لأوطاننا و�شعوبنا و�أمتنا) و(عدم االن�شغال‬ ‫مبناق�شة الق�ضايا التاريخية‪ ،‬ونطالبهم بالتفاعل مع ق�ضايا �أمتهم‬ ‫وواقعهم املعا�صر وم�ستقبلها)‪.‬‬ ‫حني تتحول هذه العناوين �إىل مقدمات ال تتوافر على ح�سا�سية‬ ‫مرهفة يف قراءة الواقع والتبا�ساته‪ ،‬ف�إنها تعجز عن بيانه‪ ،‬لأنها تعجز‬ ‫عن ر�ؤيته‪ ،‬فتزيده التبا�سا‪ ،‬وتكون عر�ضة لال�ستخدام والتوظيف من قبل‬ ‫الأطراف املت�صارعة‪ ،‬كما بدا الأمر من خالل بع�ض اجلهات التي تلقفت‬ ‫خفة البيان بخفة يف التوظيف‪.‬‬ ‫البيان �صادر عن �سياق �سيا�سي غري معلن‪ ،‬يرى يف املحور‬ ‫‪53‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:05‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 53‬‬


‫الإيراين ال�شر كله‪ ،‬وامل�شكلة يف مكمنها‪ ،‬وك�أن �أزمة ال�شيعة والعرب �ستحل‬ ‫مبجرد انفكاكهم من املرجعية الإيرانية‪ ،‬وهذا ما ت�شي به عبارات البيان‬ ‫التي تكرث من ا�ستخدام كلمات ال�شيعة العرب‪ ،‬و�أوطانهم املحلية‪ ،‬ودولهم‬ ‫الوطنية ووال�ؤهم لأوطانهم‪ .‬وهذه نربة قادمة من �سياق �سيا�سي‪ ،‬ولي�س‬ ‫من �سياق ثقايف وال اجتماعي وال �إ�صالحي‪ ،‬وال�سياق ال�سيا�سي حمكوم‬ ‫مب�صالح القوى املت�صارعة ال برغباتها الإ�صالحية‪ .‬وهذا ال�سياق يتخذ‬ ‫من الت�شكيك يف الوطنية والوالء ذريعة ملهاجمة خ�صومه ال�سيا�سيني‪،‬‬ ‫متاما كما ي�ستخدم املتدينون الكفر ذريعة ملحاربة خ�صومهم‪ .‬وال يليق‬ ‫ببيان �إ�صالح ديني يقع �ضحية ا�ستخدام �سيا�سي ال يعيه‪ ،‬وهذا ب�سبب‬ ‫التب�سيط املخل �أي�ضا‪.‬‬ ‫يف التب�سيط �أنت ل�ست �ضد الفكرة يف ذاتها‪ ،‬لكن �ضد‬ ‫�أفقها و�ضد ا�ستخدامها وتوظيفاتها و�ضد نتائجها و�ضد ما ت�ؤول �إليه‬ ‫من تقريرات فجة‪ .‬مثال �أنت مع فكرة �إ�صالح ديني ومع فكرة قراءة‬ ‫التكوين الداخلي التاريخي والعقدي للطوائف‪ ،‬ومع فكرة تفكيك فكرة‬ ‫النيابة‪ ،‬ومع فكرة احلل العلماين‪ ،‬ومع فكرة حترير ال�سيا�سة من الدين‪.‬‬ ‫لكنك ل�ست مع فكرة توظيف كل ذلك توظيفا �سيا�سيا من قبل قوى‬ ‫مت�صارعة‪ ،‬ول�ست مع تب�سيط كل ذلك بقراءته خارج �سياقات الو�ضع‬ ‫ال�سيا�سي واحل�ضاري امللتب�س يف العامل العربي‪ ،‬ول�ست مع فكرة توظيف‬ ‫ذلك ك�إعالن ح�سن �سرية و�سلوك �أمام الآخرين‪ ،‬ول�ست مع فكرة تلفيق‬ ‫خطاب �إ�صالحي مف�صل على و�ضع �سيا�سي فا�سد وم�ستبد ويعيد �إنتاج‬ ‫الأزمات الدينية ب�أ�شكال خمتلفة‪.‬‬ ‫وهذا البيان بتب�سيطيته ال�شديدة جتاه عناوينا الأهم يف حياتنا‪،‬‬ ‫ينتج �أزمة �أكرث مما هو يو�ضح �أزمة‪ ،‬و�أحد جوانب هذه الأزمة �أنه جعل‬ ‫من خطابه بر�سم خدمة ور�ضا ال�سلطة ال�سيا�سية من حيث يق�صد �أو ال‬ ‫‪54‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:05‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 54‬‬


‫يق�صد‪ ،‬و�أنه جعل من خطابه الإ�صالحي خطاب ت�شهري و�إدانة و�إ�صدار‬ ‫�أحكام ت�ستثري ردود فعل م�ستفزة امل�شاعر‪ .‬فعلى �سبيل املثال قائمة‬ ‫الأحكام ال�شرعية التي يقول البيان ''ال نعمل ببع�ض الأحكام ال�شرعية التي‬ ‫يقول بها الفقهاء والتي ثبت �أنها تخالف كرامة الإن�سان وحقوقه الأولية‪،‬‬ ‫وهي كثرية منها ما يلي‪ :‬جواز الرق‪ ،‬وملك اليمني‪ ،‬وا�ستعباد الب�شر‪،‬‬ ‫وغزو ال�شعوب والبلدان الأخرى بعنوان الدعوة �إىل الإ�سالم‪ ،‬جواز‬ ‫الزواج من الطفلة الر�ضيعة والتمتع بها �سائر اال�ستمتاعات و�إرغامها‬ ‫بعد بلوغها على اجلماع مع عدم �أحقيتها يف ف�سخ العقد''‪.‬‬ ‫معظم الأحكام التي ذكرها البيان‪ ،‬هي جزء من تاريخ الفقه‪،‬‬ ‫وتعترب هام�شية وغري معمول فيها‪ .‬و�إبرازها يف البيان‪� ،‬سيقر�أ كنوع‬ ‫من الت�شهري و�سي�ستثري الطرف املُ�ش ّهر به لو�ضع قائمة �أخرى بالأحكام‬ ‫الفقهية التي ت�شهر بالطرف الآخر وحترجه‪.‬‬

‫‪55‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:05‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 55‬‬


‫خارج علي �شريعتي‬ ‫هذه �سريتي مع �شريعتي كتبتها يف العام ‪ 1998‬و�أراها تروي‬ ‫جانبا من حكايتي (خارج الطائفة)‪�.‬أ�ضعها هنا كما كتبتها من دون‬ ‫تعديل مع �إ�ضافة مقدمة عن جغرافيا �شريعتي‪.‬‬ ‫جغرافيا �شريعتي‬ ‫ملاذا العودة �إىل �شريعتي؟ اجلغرافيا هي ال�سبب‪� ،‬أعود ل�شريعتي لأ�سباب‬ ‫جغرافية‪ ،‬واجلغرافيا �أر�ض وج�سد وواقع‪� ،‬إنها �أر�ض الأفكار وج�سدها‬ ‫وواقعها‪� .‬شريعتي يف �سياقه‪ ،‬كان فاحت جغرافيا الفكر الديني‪ ،‬فاحت‬ ‫�أر�ضه التي نبت فيها‪ ،‬وج�سده الذي تكون فيه‪ ،‬وواقعه الذي منا فيه‬ ‫وك ّونه‪.‬‬ ‫لقد فهم �شريعتي علم االجتماع الذي در�سه يف فرن�سا‪ ،‬على �أنه‬ ‫جغرافيا الأفكار االجتماعية و�سياقاتها يف املجتمعات املتعددة‪ .‬ويف كتابه‬ ‫"العودة �إىل الذات" يتحدث �شريعتي عن جغرافيا الكلمة‪ .‬الكلمة مبا هي‬ ‫فكرة �أو ر�أي �أو نظر �أو �أطروحة �أو كالم �أو حديث‪ .‬واجلغرافيا مبا هي‬ ‫زمان ومكان جم�سدان يف جمتمع حي يف حلظة تاريخية‪.‬‬ ‫املجتمع يف جتربة �شريعتي لي�س العامة وال ال�سواد الأعظم وال‬ ‫املقلدين وال جماعة امل�ؤمنني وال الأتباع وال الطائفة وال النا�س وال الأفراد‪.‬‬ ‫املجتمع يف نظر �شريعتي �شخ�صية �إن�سانية له ج�سد مادي مت�شكل من‬ ‫�أع�ضاء‪ ،‬وله روح ح ّية و�شاعرة وذات �إرادة و�ضمري‪ ،‬وهو ما ي�سميه‬ ‫دوركامي ال�ضمري اجلماعي‪ ،‬وي�سميه لوي�س برول ال�ضمري اجلماعي‪.‬‬ ‫املجتمع هو ال�شخ�صية احلقيقية والواقعية ولي�س الفرد‪.‬‬ ‫‪56‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:05‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 56‬‬


‫كل ما يتعلق باملمار�سات والظواهر الدينية واالجتماعية‬ ‫وال�سيا�سية‪ ،‬ال ميكن انتزاعه من ج�سد املجتمع‪� ،‬إنه اجلغرافيا التي‬ ‫تقع فيها الأفكار‪ ،‬ويف خارطة هذه اجلغرافيا‪ ،‬يبحث عن حقيقة هذه‬ ‫الظواهر‪ ،‬ال توجد حقيقة مطلقة من هذه اجلغرافيا‪ ،‬فكل ممار�سة �أو‬ ‫ظاهرة لها ج�سدها احلي‪� ،‬أي بيئتها االجتماعية وجوها الزماين و�ضمري‬ ‫املرحلة التي ظهرت فيها وروحها‪ ،‬لذلك ال ميكن �أن ننظر �إليها يف �صورة‬ ‫مو�ضوع م�ستقل وجمرد وعلمي‪.‬وال ميكن �أن نحكم عليها مبعايري ال�صح‬ ‫واخلط�أ‪ ،‬كما نفعل يف النظريات العلمية والريا�ضية‪� ،‬أو مبعيار احلق‬ ‫والباطل �أو مبعيار الهداية وال�ضالل‪.‬‬ ‫لذلك حني �سئل �شريعتي عن ر�أيه يف �أحمد ك�سروي الباحث‬ ‫الإيراين الذي كان ينادي بالعودة �إىل �إيران القدمية‪ ،‬قال‪" :‬النا�س يف‬ ‫الغالب يفتحون كتبه كما يفتحون كتب ًا علمية ثم يفكرون يف �صحتها �أو‬ ‫�سقمها"(‪ .)8‬حني ن�ضع الر�أي �أو القول �أو الفر�ضية يف اجلغرافيا ال يعود‬ ‫الغر�ض الدح�ض �أو الإثبات‪ ،‬بل البحث عن �سياق اجلغرافيا االجتماعية‬ ‫التي ك ّونت هذا الر�أي �أو القول‪.‬‬ ‫ولذلك حني نعود اليوم �إىل �شريعتي‪ ،‬ف�إننا ال نعود �إليه لنبحث‬ ‫عن �صحة �أفكاره �أو خطئها‪ ،‬كي ندافع عنها �أو نتبناها �أو نبني تهافتها‪،‬‬ ‫بل كي نقر�أه يف �سياق جغرافيته‪ ،‬وكي نقر�أ جغرافيتنا الدينية يف �سياقه‪،‬‬ ‫�أي كي نقر�أ ظاهرتنا الدينية يف �سياقها االجتماعي يف �ضوء جغرافيا‬ ‫كلمته‪.‬‬ ‫كان �شريعتي يردد دوم ًا كلمة �أ�ستاذه الربوف�سور جوروفيت�ش‬ ‫"ال يوجد جمتمع بل توجد جمتمعات"(‪ ،)9‬وكذلك ميكن �أن نقول‬ ‫ال توجد جغرافيا بل توجد جغرافيات‪ ،‬وكلما تغريت اجلغرافيا تغري‬ ‫‪8‬‬ ‫‪9‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:05‬‬

‫علي �شريعتي‪ ،‬العودة �إىل الذات‪� ،‬ص‪343,‬‬ ‫املرجع نف�سه‪� ،‬ص‪253,‬‬

‫‪57‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 57‬‬


‫املجتمع‪ ،‬وجمتمعنا الديني ال ميكن �أن يكون هو نف�سه جمتمع �شريعتي‬ ‫يف ال�ستينيات وال�سبعينيات‪ ،‬هناك جمتمعات دينية‪ ،‬ولي�س جمتمعا دينيا‬ ‫واحدا‪.‬‬ ‫ما يح�سب ل�شريعتي �أنه جعل للمجتمع الديني ج�سد ًا‪ ،‬بعد �أن‬ ‫ظل يتوهم �أنه دوم ًا روح معلقة يف ال�سماء ال ج�سد لها يربطها بالأر�ض‬ ‫وظلماتها‪ .‬ومادام للمجتمع الديني �أهوا�ؤه اجل�سدية من غ�صبية و�شهوية‬ ‫وم�صلحة وقوة وتناف�س واحتكار‪ ،‬ف�إنه "ال ينبغي يف املجتمع �أن ننخدع‬ ‫بحقانية فكرة ما"(‪.)10‬‬ ‫هناك �أفكار حقانية يف ذاتها‪ ،‬لكن حني ت�ضعها يف جغرافيا‬ ‫ج�سد املجتمع‪ ،‬يتك�شف وجهها غري احلقاين‪� ،‬سواء جاءت هذه الأفكار‬ ‫من م�صادر دينية تتحدث عن (احلفاظ على عزة الإ�سالم) و(مظلومية‬ ‫الطائفة) �أو من م�صادر غري دينية تتحدث عن (احلفاظ على عزة‬ ‫الدولة) و(حقوق املواطن)‪ .‬جغرافيا �شريعتي تعلمك �أال تنخدع‪ ،‬فلي�س‬ ‫هناك حقانية معلقة يف ال�سماء‪ ،‬والق�ضايا ال مت�شي على املاء‪ ،‬حتى ماء‬ ‫البحر حني يتحول �إىل ق�ضية ف�إنه ال يعود ماء‪ ،‬بل جغرافيا خارطتها‬ ‫ُمغيبة‪.‬‬ ‫والأولويات تختلف باختالف جغرافيا القول‪" ،‬يف العلم ينبغي‬ ‫النظر �إىل القول ال �إىل القائل يف حني �أنه يف ال�سيا�سة ينبغي النظر �أو ًال‬ ‫�إىل القائل ّثم �إىل القول"(‪.)11‬‬ ‫تنظر �أو ًال �إىل ال�سعيدي ثم �إىل بياناته عن الوطنية‪ ،‬وتنظر‬ ‫�إىل الكتلة الإميانية ثم �إىل بياناتها عن احلريات‪ ،‬وتنظر �إىل كتلة املنرب‬ ‫الإ�سالمي ثم �إىل بياناتها عن الطائفية والف�ساد وتنظر �إىل كتلة الأ�صالة‬ ‫ثم �إىل بياناتها عن املواطنة و�إىل احلكومة ثم �إىل بياناتها وقوانينها عن‬ ‫‪10‬‬ ‫‪11‬‬

‫‪58‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:05‬‬

‫املرجع نف�سه‪� ،‬ص‪349,‬‬ ‫املرجع نف�سه‪� ،‬ص‪350,‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 58‬‬


‫املحميات الطبيعية والأمالك العامة‪.‬‬ ‫ �أنت ال تنظر �إىل �أ�شخا�صهم بل تنظر هنا �إىل اجلغرافيا‬ ‫التي كونتهم و�صاغت �أقوالهم وبياناتهم‪� .‬ستجد اجلغرافيا تف�ضح‪ ،‬وما‬ ‫يف�ضحنا نخفيه‪ ،‬كما فعلت اجلغرافيا الدينية مع �شريعتي‪ ،‬ويبقى جواب‬ ‫اجلغرافيا‪ ،‬هو الأكرث �إقناع ًا �أمام �س�ؤال ملاذا مل حتتفل التيارات الدينية‬ ‫ب�شريعتي؟‬ ‫�إنهم ينزعجون من اجلغرافيا حيث الف�ضح‪ ،‬ويف�ضلون ال�سماء حيث‬ ‫ال�سرت‪.‬‬ ‫خارج علي �شريعتي‬ ‫منذ مدة زمنية و�أنا �أحاول قراءة املفكر علي �شريعتي �إال �أين‬ ‫مل �أجد الفر�صة املنا�سبة‪ ،‬يف هذه الأيام عرثت بال�صدفة على كتابه‬ ‫"الإن�سان والإ�سالم"الذي ي�ضم �ست حما�ضرات �ألقاها يف �إحدى‬ ‫اجلامعات الإيرانية يف العام ‪1967‬‬ ‫ �أزحت جميع الكتب واملقاالت والكتابات املرتاكمة على طاولتي‬ ‫ورحت �أقر�أ فكر هذا الرجل‪ ،‬حاولت �أن �أقر�أه قراءة تعرفية �أوىل �أ�ستمتع‬ ‫فيها ب�أفكاره و�شواهده و�أمثاله املند�سة بني ال�سطور‪� ،‬إال �أين مل �أ�ستطع‬ ‫اال�سرت�سال يف هذه القراءة؛ فاحل�س النقدي والرغبة يف التحليل عادة‬ ‫ما يعكران مزاج هذه القراءة‪ ،‬حاولت �أن �أمنع نف�سي من و�ضع اخلطوط‬ ‫والإ�شارات وت�سجيل املالحظات �إال �أنني مل �أ�ستطع بل �إن القراءة تطلبت‬ ‫�إح�ضار جمموعة من الأوراق تت�سع لهذا الكم الهائل من الأفكار املتو ّلدة‬ ‫من القراءة‪.‬‬ ‫حتولت �إذ ًا القراءة من اال�ستطالع والتعريف؛ لت�أخذ و�ضع‬ ‫اال�شتباك والت�ص ّيد واالكت�شاف‪ ،‬رحت �أقر�أ الأ�سماء والإحاالت والنربات‪،‬‬ ‫‪59‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:05‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 59‬‬


‫ال �أخفي �أنني كنت �أحاول يف حركة خبيثة ت�صنيف الرجل‪ ،‬كانت تنتابني‬ ‫�أ�سئلة من نوع هل هو �إ�سالمي؟ �إىل �أي درجة يتماثل مع �أفكار الكتاب‬ ‫الإ�سالميني؟ هل يحمل خطابه �شيئ ًا جديد ًا ي�ستحق القراءة؟ �إىل �أي‬ ‫درجة يخ�ضع خطابه ملا ي�سميه حممد �أركون �إيديولوجيا الكفاح؟‬ ‫هذه الأ�سئلة الأولية كانت مهمة بالن�سبة يل �شخ�صي ًا‪ ،‬لقد كنت‬ ‫�أخ�شى �أن �أ�صاب باخليبة‪ ،‬ف�أفق انتظاري كان يتو�سم يف الرجل قدر ًا‬ ‫كبري ًا من االنفتاح املعريف مييز خطابه عن بقية اخلطابات الإ�سالمية‬ ‫املغلقة ب�أيديولوجيتها‪ ،‬لقد كانت اخل�شية تزداد ا�ضطراب ًا مع كل �سطر‬ ‫وبعد كل �صفحة خ�صو�ص ًا حني ترد مفردات (الإ�سالم ‪ -‬الغرب ‪ -‬ال�شرق‬ ‫ الر�ؤية الدينية) فال�شحنات التي حتملها هذه الكلمات كفيلة ب�إ�شعال‬‫حرب فكرية حترق الأخ�ضر والياب�س من العقول املعرفية‪.‬‬ ‫بد�أ اخلوف يتال�شى؛ ف�أ�سماء املفكرين والفال�سفة املعا�صرين‬ ‫بد�أت ت�أخذ مكانها والإجراءات املنهجية لعلم االجتماع الديني بد�أت‬ ‫متار�س فعلها‪� ،‬شعرت بالرغبة يف التح ّول �إىل ّ‬ ‫مب�شر يوجه العقول املتدينة‬ ‫نحو قراءة كتابات هذا املفكر؛ ففيها حتوالت كبرية نحو حتديث خطاب‬ ‫الفكر الإ�سالمي وفيه ثوابت حتفظ ال�ضمري ال َعقْدي من �آالم اجلروح‬ ‫املعرفية التي تخد�ش قلوب املفعمني بثوابت الدين التقدي�سية‪.‬‬ ‫�شعرت بارتياح ال لكون الرجل يراعي ح�سا�سية �شعوري الديني؛‬ ‫ف�أنا مار�ست خد�ش هذه احل�سا�سية بنف�سي منذ �أن ا�شتبكت مبنهجيات‬ ‫العلوم الإن�سانية احلديثة‪ ،‬و�أنا الآن ال �أ�شعر بالأمل فقد تولت هذه‬ ‫املنهجيات ا�ستئ�صال هذه احل�سا�سية ومنذ ذلك احلني و�أنا ال �أ�شعر ب�أي‬ ‫ح�سا�سية واحلمد هلل‪.‬‬ ‫ما مبعث االرتياح �إذ ًا؟‬ ‫�س�ؤال يحاول �أن يطوق مراوغة خطابي‪ ،‬و�أنا و�إن كنت �أحاول‬ ‫‪60‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:05‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 60‬‬


‫�أن �أتخ َّل�ص من هذه املراوغة ‪ -‬باملعنى املعريف ولي�س الأخالقي ‪� -‬إال �أين‬ ‫�أجد نف�سي ب�شكل ال �شعوري �أتخفى وراءها‪ ،‬رمبا تكون هذه اال�سرتاتيجية‬ ‫�سمة بنيوية ال ترب�أ منها اخلطابات‪ ،‬فاخلداع واملراوغة ميثالن ‪ -‬كما‬ ‫يرى فوكو ‪ -‬البنية التي يقوم عليها كل خطاب‪.‬‬ ‫لأرجع �إذ ًا �إىل ال�س�ؤال ‪� -‬صدقوين �إين �أحاول �أن �أقاوم هذه‬ ‫املراوغة ‪� -‬س�ؤال االرتياح من هذا اخلطاب‪ ،‬احلقيقة ‪ -‬كما تبدو يل‬ ‫الآن ‪ -‬هي �أين وجدت يف خطاب �شريعتي ما ميكن �أن ميثل قنطرة‬ ‫ميكن العبور بوا�سطتها نحو مرحلة التحرر من االيديولوجيا الدينية‪،‬‬ ‫�أي ميكن قراءة �شريعتي من قبل املت�أدلج ديني ًا قراءة مقبولة بو�صف‬ ‫�شريعتي مدافع ًا عن الإ�سالم و�إيديولوجيته و�إن كان هذا الدفاع يخرج‬ ‫على الكثري من الت�صورات التقليدية‪ ،‬تبقى حماولة �شريعتي مقبولة طاملا‬ ‫�أنها مل تعلن قطيعتها مع املبادئ االيديولوجية ذات الأبعاد الدينية‪.‬‬ ‫التحديثات التي �أدخلها �شريعتي على خطاب احلركة‬ ‫الإ�سالمية ‪ -‬و�إن كانت الت�سمية غري دقيقة يف هذا املو�ضع ‪ -‬ت�ستدعي‬ ‫قراءة نقدية تربز �أهمية املحاولة وما حققته من �إجنازات وما �أخفقت‬ ‫فيه من حماوالت وما و�صلت �إليه من فتوحات معرفية‪.‬‬ ‫ �إننا مع خطاب �شريعتي �أمام حماولة حتديثية ت�ستعني‬ ‫باملنجزات الفكرية الغربية لقراءة واقعها االجتماعي ذي التكوين‬ ‫الديني‪� ،‬إنها ت�ستعني بهذه املنجزات لكي تقوم بعملية تطوير وحتديث‬ ‫من دون �أن تخرج عن روح جمتمعها وثوابته الدينية‪ ،‬وهذا ما يجعل‬ ‫من قراءته مقبولة �إىل حد ما‪ ،‬يف البيئات الدينية‪� ،‬إال �أننا ال نقر�أه من‬ ‫هذا املنطلق وال ن�ؤوله انطالق ًا من هذه الثوابت‪ ،‬فقراءتنا �أبعد ما تكون‬ ‫عن االرتهان �إىل ثوابت اجتماعية �أو �أطر جمتمعية حتدد نطاق حركتنا‬ ‫النقدية‪� ،‬إننا نقر�أ خطاب �شريعتي بو�صفه حماولة فكرية رامت جتديد‬ ‫‪61‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:05‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 61‬‬


‫اخلطاب الديني عرب تقدمي حماولة ت�أويلية ملتبنياته ال َعقْدية ومنطلقاته‬ ‫الفكرية(‪.)12‬‬ ‫لقد قر�أت �شريعتي يف �سنتي اجلامعية الأوىل فوجدت يف خطابه‬ ‫ثورة جتديدية تقوم على �إحداث قطيعة مع الت�صورات التقليدية للدين‬ ‫ف�أغرتني هذه الثورية العتناق االيديولوجيا الدينية يف �شكلها احلديث‬ ‫الذي يقدمه خطاب �شريعتي‪� ،‬إال �أين اليوم �أعاود القراءة من جديد ‪-‬‬ ‫بعد ثماين �سنوات من القراءة الأوىل ‪ -‬لأك�شف ما كان م�ستور ًا عني لعلي‬ ‫�أعيد االعتبار لذاتي املفكرة التي كانت خا�ضعة ملنطق و�صائي تابع‪ ،‬رمبا‬ ‫هذه القراءة تكون �إعالن ًا ب�شكل من الأ�شكال عن مرحلة اال�ستقالل التي‬ ‫كانت مغ ّيبة حتت تراكمات خطابية لعبت دور امللقن الذي يقول لنا ما‬ ‫ينبغي �أن يقال وينطقنا مبا يجوز النطق به‪.‬‬ ‫�ستكون القراءة �إذ ًا خالفية ورمبا تكون من الناحية النف�سية‬ ‫انتقامية‪ ،‬تث�أر لنف�سها مبا انتهك من حقها يف املا�ضي من ا�ستغفال‬ ‫وا�ستحمار‪ -‬كما يوحي بذلك كتاب �شريعتي ( النباهة واال�ستحمار ) ‪-‬‬ ‫االنتقام هنا لي�س من �شريعتي وال من خطابه بل من طريقة التلقي التي‬ ‫�شكلتها خطابات تلك املرحلة‪ ،‬التلقي كان يعني ت�س ّلم �أفكار العظماء من‬ ‫الكتاب واملفكرين‪ ،‬ت�س ّلما يحل �أفكارهم ور�ؤاهم يف ذاتنا من غري �أن‬ ‫يكون لهذه الذات ح�ضور تعلن به عن نف�سها‪ ،‬االنتقام ي�أتي اليوم على‬ ‫�صورة �إعادة اعتبار لهذه الذات لتقول هي �أي�ض ًا ر�ؤيتها اخلالفية‪ .‬كيف‬ ‫يبدو خطاب �شريعتي �إذ ًا وفق ر�ؤية هذه الذات ؟‪.‬‬ ‫�شريعتي مثقف ملتزم‪ ،‬وهذه ال�صفة هي م�صدر قوته‪ ،‬ويف‬ ‫الوقت نف�سه م�صدر �ضعفه بو�صفه مفكرا‪ ،‬قوته لأنها دفعته لقراءة‬ ‫واقعه االجتماعي والثقايف وحركته لتغيريه‪ ،‬و�ضعفه لأنها �شغلته كثري ًا‬ ‫‪12‬‬ ‫العلوي‪.‬‬

‫اانظر على �سبيل املثال التمايزات التي يقيمها بني الت�شيع ال�صفوي والت�شيع‬

‫‪62‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:05‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 62‬‬


‫لدرجة �أنه مل يكن يرى �إال ما ميكن �أن ميثل التزام ًا اجتماعي ًا و�سيا�سي ًا‬ ‫كل ما ال يجد �أثره املبا�شر من الأفكار يف واقعه االجتماعي كان يغيب عن‬ ‫�ساحة تفكريه بل �إن هذه ال�صفة دفعته يف كثري من الأحيان لتبني مواقف‬ ‫تقييمية يطلق من خاللها �أحكام ق ّيمة على الأ�شياء من غري اعتبار لذاتها‬ ‫فاملهم هو ارتباطها باملجتمع‪ ،‬ومبدى قدرتها على التغيري تكت�سب قيمتها‬ ‫الإيجابية رمبا كان �شريعتي يعمل حتت مظلة مقولة مارك�س "علينا �أن‬ ‫نن�شغل بتغيري العامل ال بفهمه "‪.‬‬ ‫لقد كان االلتزام موقف ًا تقدمي ًا جعل من خطاب �شريعتي خطاب ًا‬ ‫جماهريي ًا بعيد ًا عن النخبوية كما �أنه �أك�سب نربة خطابه بعد ًا حتري�ضي ًا‬ ‫ي�ستثري القارئ للنزول �إىل ال�شارع للثورة �ضد قيمه وعاداته املتخلفة‪.‬‬ ‫االلتزام كان ي�شغل خطاب �شريعتي و�أفق قارئه بالتغيري‬ ‫و�أ�ساليبه‪ ،‬يقول �أبو احل�سن بني �صدر "يف العام ‪ 1963‬كنا مع ًا يف‬ ‫باري�س‪ ،‬نبحث عن جواب عن ال�س�ؤال امللح ‪ :‬ما العمل ؟ "‬ ‫الفهم ي�أتي �ضمن خطة العمل لكنه ال يح�ضر ك�أولوية بل‬ ‫كمتطلب يخدم هدفا �أ�سمى؛ لذلك كثريا ما ُي�ضحى به حني يكون وقع‬ ‫العمل �أ�شد من وقع متطلبات الفهم‪ ،‬مل يكن العمل �ضمن خطة الفهم؛‬ ‫فالظرف التاريخي وال�سياق االجتماعي يقوالن للمثقف عليك االلتزام‬ ‫بنا واالن�شغال بق�ضايانا املبا�شرة‪ ،‬وهذا النداء هو الذي ا�ستجاب له‬ ‫�شريعتي و�صاغ م�شروعه النه�ضوي على �أ�سا�سه‪ ،‬لقد كان �شريعتي يتمثل‬ ‫مبقولة الفيل�سوف �شاندل "�إن جمتمعا متخلف ًا وغري واع‪� ،‬إمنا يحتاج‬ ‫�إىل قيادة ثورية هادية‪ .‬ففي هكذا جمتمع‪ ،‬تكون الدميقراطية عدوة‬ ‫للدميقراطية"‪.‬‬ ‫ �إذا كانت الدميقراطية ال�سيا�سية تعد يف هذا املجتمع املتخلف‬ ‫عدوة لنف�سها‪ ،‬ف�إنها تعد على امل�ستوى الفكري ترف ًا ينبغي احلد من التمتع‬ ‫مبلذاته‪ ،‬القيادة الثورية هي خالف ما تبدو عليه يف هذه املقولة‪ ،‬فهي‬ ‫‪63‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:05‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 63‬‬


‫لي�ست �سيا�سية و�إدارية كما قد تبدو بل هي قيادة فكرية تتوىل حتريك‬ ‫�أفكار اجلماهري من غري �أن ت�سمح مبمار�سة دميقراطية التفكري‪ ،‬تلك‬ ‫الدميقراطية عدوة ذاتها‪.‬‬ ‫ �إن �شريعتي ال يكتفي بالتنظري الثوري ملجتمعه بل راح يقر�أ‬ ‫التاريخ وفق هذه الر�ؤية‪ ،‬و�أخذ يعطي تف�سريا لفكرة الإمامة يتطابق‬ ‫وهذه الر�ؤية‪ ،‬الإمامة املبنية على فكرة الو�صاية يف التاريخ الإ�سالمي‬ ‫متثل "الفل�سفة ال�سيا�سية ملرحلة معينة من الثورة‪ ،‬حيث كانت احلاجة‬ ‫ال�ستمرار الر�سالة االجتماعية للم�ؤ�س�س الفكري واالجتماعي للحركة‬ ‫وحيث كانت الإمامة قائمة على �أ�سا�س ثوري و�ضرورة من �أجل �إمتام‬ ‫ر�سالة الثورة عرب �أجيال حتى تتمكن اجلماعة من الوقوف على قدميها‪،‬‬ ‫�آنذاك كانت نهاية الإمامة ونهاية مرحلة الو�صاية التي كانت مرحلة‬ ‫ثورية خا�صة وحمددة وبد�أت مرحلة ال�شورى والبيعة والإجماع‪� ،‬أي‬ ‫مرحلة الدميقراطية وهي ال�شكل الدائم واالعتيادي والالحمدود لتنظيم‬ ‫وقيادة املجتمع "(‪.)13‬‬ ‫هذه الفكرة تثري الكثري من اجلدل وت�ستثري الكثري من الق�ضايا‬ ‫والنتائج التي ميكن �أن تقر�أ يف �ضوئها كثريا من املتبنيات ال َعقْدية‪ ،‬لكننا‬ ‫لن نخو�ض يف ذلك لكوننا نقر�أ الق�ضايا الكربى التي �شغلت فكر �شريعتي‬ ‫و�أنتجت خطابه‪ ،‬ولكون الأطر االجتماعية الدينية ال ت�سمح لنا بذلك‪.‬‬ ‫على هذا النحو تعمل �إذ ًا �صفة االلتزام‪� ،‬إنها ال تكتفي ببناء الذات بناء‬ ‫ر�ساليا يثري فيها الإح�سا�س بامل�س�ؤولية امللقاة على عاتقها‪ ،‬بل تتغلغل‬ ‫يف �آليات ا�شتغال العقل لتوجه الذات املفكرة وهي تنتج خطابها وجهة‬ ‫ملتزمة بخط ثوري‪� ،‬أي �أن �صفة االلتزام ال تكتفي بح�ض الذات على‬ ‫العمل والإنتاج والإح�سا�س بامل�س�ؤولية االجتماعية بل تتدخل يف فر�ض‬ ‫‪13‬‬

‫‪64‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:05‬‬

‫الأمة والإمامة‪ ،‬نقال عن فا�ضل ر�سول "هكذا تكلم على �شريعتي"‪.‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 64‬‬


‫خططها وطريقة تفكريها و�إعطاء م�سمياتها‪.‬‬ ‫لنم�ضي مع خطاب �شريعتي وهو يتح ّلى بهذه ال�صفة االلتزامية‬ ‫يف قراءته للتاريخ‪.‬‬ ‫ �إذا كان �شريعتي مت�أثرا بالفل�سفة املارك�سية قد قر�أ التاريخ‬ ‫قراءة مغايرة للتاريخ التقليدي الذي كان يحكي ق�ص�ص امللوك والأمراء‬ ‫ويروي ق�ص�ص البطوالت اخلارقة ف�إنه مل يتمكن من التخ ّل�ص من الروح‬ ‫االنتقائية التي كانت توجه القراءة التقليدية‪ ،‬قراءة �شريعتي هي قراءة‬ ‫م�ضادة للقراءة التقليدية لكنها مل تغادر روحها القائمة على �إبراز جانب‬ ‫و�إخفاء جوانب �أخرى �أو االحتفاء بنموذج واحتقار مناذج �أخرى‪ ،‬لقد‬ ‫كان �شريعتي ينقب يف التاريخ عن روح التمرد �ضد الظلم واال�ستالب‬ ‫والتخدير‪� ،‬أي عن روح الثورة يف كل �شكل من �أ�شكالها‪ ،‬كل ما كان خارج‬ ‫هذه الروح كان م�صريه الإهمال والإغفال‪ ،‬مل تكن هذه القراءة �إال الوجه‬ ‫الآخر من وجه القراءة التقليدية االنتقائية املوجهة التي ت�سرب التاريخ‬ ‫بر�ؤية تبحث عما يتطابق معها �أي تبحث عن �شواهد تعزز مقوالتها‪ ،‬من‬ ‫هنا ي�أتي احتفاء �شريعتي ب�أبي ذر‪ ،‬و�سلمان الفار�سي‪ ،‬والإمام احل�سني‬ ‫وكل النماذج الثورية‪.‬‬ ‫ �إن روح الذات الثورية التي كانت متثل اجلانب املفعم من‬ ‫�شخ�صية �شريعتي حا�ضرة يف هذه القراءة تنتقي وتختار ما يتطابق‬ ‫معها ويعزز نهجها ويخدم توظيفاتها املعا�صرة‪ ،‬التاريخ يح�ضر يف كثري‬ ‫من الأحيان ك�شاهد ومنوذج لالقتداء‪.‬‬ ‫ البد �أن ن�سجل هنا �أن �شريعتي كان يتمتع بقدرات ذكية يف‬ ‫ت�أويل الأحداث التاريخية ت�أويال معا�صرا‪ ،‬ال يتعار�ض مع منطق العلم‬ ‫احلديث والفل�سفة الثورية �إال �أن هذه الت�أويالت التي تبدو للوهلة الأوىل‬ ‫مقنعة جدا‪ ،‬ال تلبث �أن تك�شف عن تورط �أيديولوجي و�إن كان يحمل‬ ‫‪65‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:05‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 65‬‬


‫�صبغة حديثة‪ ،‬هذا التورط يتمثل يف �أن �شريعتي مل يتمكن من التجرد‬ ‫من �إطاره املذهبي يف قراءة التاريخ الإ�سالمي قراءة اجتماعية نف�سية‬ ‫جمردة تنظر �إىل الت�شكالت املذهبية واحلزبية بو�صفها رهانات معنى‬ ‫و�صراع ت�أويالت‪� ،‬إنه بدال من ذلك راح ُي�سبغ على جذوره الدينية التي‬ ‫�شكلت مذهبه ال َعقْدية �صبغة حديثة تتالءم مع الوعي احلديث القائم‬ ‫على فكرة مقاومة اال�ضطهاد واال�ستغالل واليقظة ب�أهمية ت�شكيل جمتمع‬ ‫يتمتع بحقوق �إن�سانية مت�ساوية‪.‬‬ ‫ �إن �شريعتي يقدم �سردية جديدة للتاريخ الإ�سالمي بوجه عام‬ ‫وللتاريخ ال�شيعي بوجه خا�ص‪ .‬هذه ال�سردية رغم تقدمها على النمط‬ ‫التقليدي ف�إنها �أوقعت نف�سها يف امل�أزق الأيديولوجي الذي مل ي�ستطع‬ ‫التخل�ص من �أثر التكوينات ال َعقْدية التي تفر�ض على املفكر الإخال�ص‬ ‫لر�سالتها وجلماهريها‪ ،‬لقد كانت اجلماهري املثقفة تتلقى رواية �شريعتي‬ ‫ب�شيء من االنت�شاء؛ فهو كرا ٍو ا�ستطاع �أن يخل�ص (مرويه) من كثري من‬ ‫ال�شوائب التي علقت به طوال م�سرية تاريخه‪ ،‬واجلماهري (مروي) لها‬ ‫كانت ت�شد على �أيدي هذا الراوي الذي نذر نف�سه لها رغم �أنه كان يقدم‬ ‫�سرده للتاريخ يف �صورة ت�أويل حديث ولي�س يف �صورة مادة خام مكونة‬ ‫من ن�صو�ص عتيقة ‪ -‬تبد�أ بقال وحدث وروى لتفتح �سل�سلة العنعنات على‬ ‫جمموعة من الرواة الذين يطوقون الن�ص املروي ‪ -‬رغم ذلك ف�إنه قد‬ ‫جنح يف �إقناع كثري من اجلماهري املثقفة بروايته‪ ،‬وال عجب يف ذلك؛ فهو‬ ‫مفكر ثوري يح�سن الدفاع عن �أفكاره ويجيد تو�ضيحها ويتقن �أ�ساليب‬ ‫التب�شري بها كما ال يفوته �إيجاد التربيرات املنا�سبة ملا يتعار�ض مع‬ ‫ت�أويالته‪.‬‬ ‫لقد ا�ست�ضاء �شريعتي يف قراءته للتاريخ مبنجزات العلوم‬ ‫الإن�سانية احلديثة التي تلقاها يف فرن�سا حني كان طالب درا�سات عليا‪،‬‬ ‫‪66‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:05‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 66‬‬


‫ومل يدفعه تكوينه الديني ليقف منها موقف ًا م�ضاد ًا‪ ،‬وهذه من املرات‬ ‫القالئل التي يتقبل فيها مثقف ديني هذه املعرفة احلديثة ويوظفها يف‬ ‫قراءة ثقافته قراءة تاريخية‪.‬‬ ‫ومن املفارقات غري امل�ألوفة �أن يكون �شريعتي املنحاز للر�ؤية‬ ‫الدينية للكون من املمجدين للفال�سفة الغربيني املعا�صرين الذين‬ ‫جتاوزوا الديانات و�أعلنوا موت الإله بل �إنه ي�ضعهم فوق قمة خمروطه ‪-‬‬ ‫يتكون من ثالث طبقات النجوم واالنتلكجول (امل�شتغلني بالعقل) وعامة‬ ‫النا�س ‪ -‬بو�صفهم جنوم ًا يعملون على تبديل الأمناط ال�سائدة يف املجتمع‬ ‫ويقدمون ر�ؤية جديدة لع�صرهم وينقلون الن�سق احلا�ضر للفكر وال�شعور‬ ‫والأخالق والثقافة والعلم واحلياة االجتماعية �إىل ن�سق �آخر"(‪.)14‬‬ ‫ �إن هذا املثقف �صاحب الر�ؤية الدينية ال يكتفي بذلك بل يعمد‬ ‫يف �إحدى حما�ضراته التي قدمها يف ال�ستينيات لطلبة كلية النفط �إىل‬ ‫تعداد �أ�سماء هذه النجوم والإ�شادة بها والتعريف ب�أهم كتبها املنقولة‬ ‫�إىل لغات العامل الثالث‪ ،‬يح�ضر يف هذه الإ�شادة �سارتر واين�شتاين‬ ‫وهايدجر و�شاندل وماك�س بالنك‪ .. .‬الخ‪.‬‬ ‫رغم هذه الإ�شادات التي �أبعدت خطاب �شريعتي من �أ�سلوب‬ ‫رجم الغرب هذا الأ�سلوب امل�ألوف يف اخلطاب الديني �إال �أن �شريعتي ال‬ ‫يفوت فر�صة النقد و�إثبات �سل�سلة الإخفاقات التي مني بها الغرب ب�سبب‬ ‫ف�شله يف �إيجاد الإن�سان املتوازن يف حاجاته النف�سية واملادية‪ ،‬مل يكن‬ ‫الآخر الغربي ‪ /‬املادي يح�ضر يف خطاب �شريعتي بو�صفه �شريك ًا �إن�ساني ًا‬ ‫يف املعرفة بل بو�صفه مبدع ًا ‪ -‬لي�س باملعنى الديني ‪�-‬ضا ًال يجب �إبطال‬ ‫ر�ؤيته الكونية ب�إثبات �صحة خطاب ر�ؤية الأنا الإ�سالمية‪ ،‬لكن منط‬ ‫هذا احل�ضور مل مينع �شريعتي من �أن ي�ستفيد من هذا الآخر ويحاوره‬ ‫‪14‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:05‬‬

‫علي �شريعتي‪ ،‬الإن�سان والإ�سالم‪� ،‬ص‪157.‬‬

‫‪67‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 67‬‬


‫وي�ستثمر �إنتاجه املعريف ويدين له بذلك‪� ،‬إن �شريعتي ي�ستورد هذه العدة‬ ‫املنهجية يف التحليل والنقد من الغرب كما ن�ستورد التكنولوجيا ولكن من‬ ‫غري �أن يت�أثر بر�ؤيته الكونية املادية‪.‬‬ ‫ �إنه ينت�صر للر�ؤية الدينية للكون ويعيد �إنتاجها ومينحها بعد ًا‬ ‫داللي ًا حديث ًا وفق منطق نظري مثايل بعيد عن املنطق التاريخي و�شروطه‬ ‫�إنه ال يقر�أ هذه الر�ؤية �ضمن نطاق �شرطها التاريخي‪� ،‬أي كيف جت�سدت‬ ‫تاريخيا‪ ،‬فهو يكتفي بهذا الطرح املثايل الذي ي�سوقه يف معر�ض هجائه‬ ‫للر�ؤية املادية التي �أفرغت الإن�سان من م�ضمونه الروحي الذي حر�صت‬ ‫الر�ؤية الدينية على �إ�شباعه‪ .‬يبدي علي �شريعتي اهتماما �شديدا بقراءة‬ ‫ت�شكل املفاهيم االجتماعية املتعلقة بالدين وت�شكل املفاهيم الدينية‬ ‫املتعلقة باملجتمع وت�أويل املجتمع لها‪ ،‬يقر�أ كل هذه الت�شكالت اخلطابية‬ ‫قراءة تاريخية حديثة ت�ستعني مبنهجيات علوم الإن�سان التي بلورتها‬ ‫احل�ضارة الغربية �إال �أن هذه القراءة تقف عند مقد�سات مل ت�ستطع‬ ‫جتاوزها؛ فهي تبعد من �ساحة تفكريها ما يتعلق بطبيعة املعرفة الدينية‬ ‫ور�ؤيتها و�صياغتها للإن�سان تاريخيا‪ ،‬تتعاىل هذه الر�ؤية عن النقد‬ ‫والقراءة ويتجند �شريعتي للدفاع عنها حلمايتها من �ضربات التاريخ‪،‬‬ ‫وهي تبعد �أي�ضا عن تفكريها �إمكان �إخ�ضاع مفاهيمها ال َعقْدية للقراءة‬ ‫النقدية‪.‬‬ ‫هي تكتفي ب�إعطاء ت�أويل حديث لها مع توجيه انتقادات لتاريخ‬ ‫ت�شويهها‪� ،‬إنه يقوم ب�إعادة �صقلها ولكن من دون القدرة على جتاوزها‪،‬‬ ‫ت�شحن هذه املفاهيم بحموالت جديدة تو�سع من قدراتها وت�ضمن بقاءها‬ ‫ح ّية متار�س هيمنتها الدينية‪ ،‬هذه هي اال�سرتاتيجية التي اتبعها يف‬ ‫قراءة مفاهيم‪ :‬الو�صاية‪ ،‬والإمامة‪ ،‬والع�صمة‪ ،‬والوالية‪ ،‬وال�شفاعة‪،‬‬ ‫والتقليد‪ ،‬واالنتظار‪ ،‬والغيبة‪.‬‬ ‫‪68‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:05‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 68‬‬


‫تبقى هذه املفاهيم منتظمة يف ت�شكيلتها اخلطابية التي ت�صوغ‬ ‫ايديولوجية املتدين من دون �أي زحزة تراتبية �أو قيمية‪ ،‬يكفي �أن ننف�ض‬ ‫عن هذه املفاهيم الغبار التاريخي ال�صفوي يف احلالة ال�شيعية والأموي‬ ‫يف احلالة ال�سنية لتت�ألق قدراتها يف �صياغة الإن�سان واملجتمع‪.‬‬ ‫ملاذا مل تطل ثورة �شريعتي منظومة املفاهيم ونظم ت�شكيلها‬ ‫للإن�سان‪ ،‬واكتفت ب�إعادة ت�أويلها بنف�ض غبار التاريخ االجتماعي عنها؟‬ ‫ملاذا مل تزح الغبار املعريف؟‬ ‫�س�ؤال ي�ضعنا يف قلب ال�سياق املعريف الذي كان ي�شتغل فيه‬ ‫�شريعتي‪ ،‬فاملعرفة النقدية التي كان ي�شتغل فيها حمكومة ب�سياق اجتماعي‬ ‫و�سيا�سي وح�ضاري‪� ،‬سياق ال�صراعات الأيديولوجية بني خمتلف التيارات‬ ‫التي كانت تتناف�س على الفوز مبناق�صة م�شروع النه�ضة والتقدم‪� ،‬صاحب‬ ‫امل�شروع هو ال�شعب الذي كان بتطلعاته و�أمنياته ومتخيالته يحدد �شروط‬ ‫�إنتاج خطاب علي �شريعتي‪ ،‬لقد فر�ضت هذه ال�شروط على هذا اخلطاب‬ ‫�أن يتبنى �إيديولوجية ت�ضع يف اعتبارها مكونات اجلماهري الثقافية‬ ‫وتراثها الروحي‪.‬‬ ‫لقد كان �شريعتي واعيا لأهمية �إنتاج هذه الإيديولوجيا ومدركا‬ ‫لأثرها الثوري يف �صنع احل�ضارات؛ وت�أكيدا لأهميتها بالن�سبة �إىل‬ ‫م�شروعه �أخذ يف�سر القفزات احل�ضارية لل�شعوب عرب التاريخ بهذه‬ ‫الروح الثورية التي تعمل الأيديولوجيا على �ضخها‪.‬‬ ‫قدمت هذه الأيديولوجيا نف�سها يف �صياغة مقنعة عبرّ ت عن‬ ‫نف�سها مب�شروع (العودة �إىل الذات)الذات الإ�سالمية بعد تنقيتها من‬ ‫�أجواء التاريخ امللوث‪ ،‬لقد كان مفكرو بلدان العلم الثالث م�شغولني‬ ‫ببناء ذوات جمتمعاتهم املعر�ضة لال�ستالب واال�ستحمار من قبل الدول‬ ‫امل�ستعمرة‪ ،‬الذات ‪/‬الأيديولوجيا التي كانت ت�شغلهم هي الذات الثقافية‬ ‫‪69‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:05‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 69‬‬


‫وما حتمله من تراث ح�ضاري وزاد روحي‪ ،‬العودة �إىل الذات هنا عودة‬ ‫�إىل حمموالت وم�ضامني الروح اجلماعية التي متثل الوجود احلقيقي‬ ‫مبا فيه من ماهية وهوية ال الوجود املجازي الفيزيقي ‪ -‬هذا التمييز بني‬ ‫الوجودين ي�ستعريه �شريعتي من هايدجر ‪ -‬الذات يف هذا امل�شروع تبحث‬ ‫�سالح مقاومة للثقافة الغربية‬ ‫عن وجودها احلقيقي اخلا�ص؛ لتطرحه َ‬ ‫التي ي�سعى اال�ستعمار لفر�ضها كثقافة �أممية كونية‪.‬‬ ‫التجديد يف امل�ضامني واملحموالت الثقافية تطلب من �شريعتي‬ ‫مناه�ضة امل�شروعات الأخرى ذات الطروحات الغريبة على الأنا‬ ‫االجتماعية ذات ال�صبغة الدينية كما تطلب �أي�ضا مقاومة امل�شروعات‬ ‫احلديثة ذات الطروحات الدينية التي احتفت ب�أ�شكال ثقافية يعدها‬ ‫�شريعتي متخلفة كمطالبة بع�ض املتدينني "بال�سيطرة من جديد على‬ ‫املدار�س القدمية و�إحياء اللحى والعمائم التي �ضاعت والعودة �إىل‬ ‫التكايا و�إقرار �إن�شاد الرو�ضة ‪ -‬قراءة ال�سري واملقاتل واملواليد ‪ -‬يف‬ ‫املنازل وت�شكيل هيئات الدق على ال�صدور وال�ضرب بال�سال�سل "(‪.)15‬‬ ‫هذه هي م�شاغل العودة �إىل الذات يف خطاب �شريعتي‪ ،‬مل‬ ‫تطرح الذات بو�صفها عقال ميتلك نظام تفكري معريف (اب�ستملوجيا)‬ ‫بحاجة �إىل مراجعة �آليات �إنتاجه‪ ،‬مل تطرح الذات بو�صفها عقال مك َّونا‬ ‫كونتها جمموعة من املنطلقات واملبادىء املنطقية وال�شروط التاريخية‪،‬‬ ‫ومل تطرح بو�صفها عقال مك ِّونا يفر�ض منط تفكريه و�شروط �إنتاجه على‬ ‫كل العقول التي تعي�ش يف حميطه‪ .‬رمبا يكون الظرف التاريخي وراء هذه‬ ‫املغيبات عن �ساحة التفكري‪ ،‬ورمبا يكون الهم الأيديولوجي يتطلب �إبعاد‬ ‫التفكري عن كل ما يت�سبب يف تفكيك الذات ولو على امل�ستوى املعريف؛‬ ‫فالذات �أحوج ما تكون يف هذا الظرف �إىل ال�صفاء النف�سي‪ ،‬كي ال تزعج‬ ‫‪15‬‬

‫‪70‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:05‬‬

‫العودة �إىل الذات ‪� ،‬ص‪57.‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 70‬‬


‫نف�سها بك�شف عورات نظم تفكريها‪.‬‬ ‫رغم كل ذلك يبقى م�شروع �شريعتي حماولة جريئة مميزة من‬ ‫بني كل امل�شروعات التحررية‪ ،‬يحمل من الأ�صالة الفكرية ما ي�ستحق‬ ‫جت�شم عناء القراءة والنقد واحلوار‪ ،‬ولعل اجلر�أة التي تكبد عناءها‬ ‫هذا امل�شروع هي التي تقف وراء ا�ستبعاده من قبل كثري من املتدينني‬ ‫واملتحررين الإيديولوجيني‪ ،‬املتدينون مل يتحملوا جر�أته واملتحررون مل‬ ‫ي�ستوعبوا �أو مل يريدوا �أن ي�ستوعبوا احلياة اجلديدة التي بعثها �شريعتي‬ ‫يف ال�شكل الثقايف الديني‪ ،‬لقد �أخرج �شريعتي املكون الديني من ال�صومعة‬ ‫والطقو�س العبادية التقليدية �إىل ف�ضاء املمار�سات الإن�سانية والثقافات‬ ‫الكونية متحررا من ثقل الرتاث االجتماعي الديني الذي كان ينوء بثقل‬ ‫ع�صور الت�صومع والدرو�شة‪.‬‬ ‫وال نبالغ �إذا ما قلنا �إن خطاب �شريعتي بو�صفه خطابا �إ�سالميا‬ ‫يعد �أكرث جر�أة و�أ�شد ا�شتباكا بالق�ضايا املعرفية من كثري من اخلطابات‬ ‫الأكادميية الإ�سالمية املعا�صرة‪.‬‬ ‫رمبا تبدو لغتي هنا �أكرث مهادنة ووفاء وتبجي ًال �إال �أنها ال‬ ‫تتناق�ض مع لغة القراءة التي �سربتُ بها خطاب �شريعتي؛ فالنقد‬ ‫واال�شتباك املعريف يعدان الوجه الآخر للوفاء؛ فالتبجيل الذي ي�أتي يف‬ ‫�سياق هذه القراءة تبجيل بعيد عن املبالغات وال�سذاجات‪ ،‬من هنا ميكن‬ ‫القول �إننا جنل املفكرين بقدر ما نعيد قراءتهم قراءة خالفية‪ ،‬تك�شف‬ ‫امل�ستورات من �شخ�صياتهم‪ ،‬وتفتح امل�ستغلقات من �إ�شكالياتهم‪.‬‬

‫‪71‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:05‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 71‬‬


‫خارج املخيلة‬ ‫ح�ضر امل�أمت (احل�سينية) جزء ًا من ال�سرية‪� ،‬سرية املخيلة‬ ‫ُي ِ‬ ‫�أحيان ًا و�سرية العقل �أحيان ًا �أخرى‪� ،‬أو يح�ضرهما مع ًا‪ ،‬ح�سينية بيت‬ ‫قا�سم حداد مث ًال‪ ،‬قد �شكلت بح�ضورها جزء ًا خ�صب ًا من خميلة قا�سم‪،‬‬ ‫وهو ما فتئ يذ ّكرنا دوم ًا يف روايته ل�سريته الإبداعية بهذا احل�ضور‪ ،‬لكنه‬ ‫لي�س احل�ضور الذي يغلق املخيلة عليه‪ ،‬فمخيلة املبدع ال ترتهن �إىل مكون‬ ‫واحد‪ ،‬فهي حيث التعددية والن�شاط واحلرية والذهاب �إىل امل�ستقبل‬ ‫و�إعادة اخللق‪� ،‬أي خلق ما يح�ضر فيها‪.‬‬ ‫يتح ّدث قا�سم حداد عن هذا احل�ضور يف �أحد حواراته "ثمة‬ ‫خ�صو�صية �صاغت يل عاملا �سحريا �سببه الن�ش�أة يف بيئة �شيعية‪ ،‬ففي‬ ‫العائلة ال�شيعية عادة ما تنعقد طقو�س وتقاليد احل�سينيات يف معظم‬ ‫�شهور ال�سنة بالإ�ضافة �إىل �شهري حمرم و�صفر‪ .‬يف دارنا كان الأمر �أكرث‬ ‫خ�صو�صية‪ ،‬فقد كان يف الدار م�أمت للن�ساء تنعقد فيه القراءة‪ ،‬ومنذ‬ ‫طفولتي ن�ش�أت على معاي�شة هذه الأجواء والت�شرب بتفا�صيلها اليومية‪.‬‬ ‫�أعتقد �أن ن�شوئي يف هذا اجل ّو الذي يعتمد على البكائيات والعزائيات و ّلد‬ ‫ح�س الإيقاع مبكر ًا و�صقله‪ .‬كان كل �شيء حزين ًا يف تلك الطقو�س‪ .‬مل‬ ‫ّ‬ ‫لدي ّ‬ ‫�أكن �أدرك متام ًا مفهوم احلزن ولكنني �أعي�شه‪ .‬لقد كان كل �شيء يف تلك‬ ‫الطقو�س يرتبط بالإيقاع‪ .‬رمبا يكون ل�سماعي ومعاي�شتي هذه الطقو�س‬ ‫با�ستمرار‪ ،‬وامل�شاركة يف مواكب العزاء‪ ،‬بهذه الطريقة الإيقاعية قد �أثرا‬ ‫الحق ًا يف الإح�سا�س املبكر بالوزن والبحور"(‪.)16‬‬ ‫ �إن هذه املخيلة الكربالئية مل ت�سعف قا�سم فقط يف الإح�سا�س‬ ‫‪16‬‬

‫‪72‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:06‬‬

‫حوار مع قا�سم �أجرته روال قباين‪ :‬جريدة الزمان‪ -‬لندن ‪ /18‬مار�س ‪1999.‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 72‬‬


‫بالإيقاع الذي هو �أحد �شروط ال�شعر‪� ،‬إذا ما فهمنا الإيقاع مبعناه املفتوح‬ ‫كما هو عند قا�سم‪ ،‬بل �أ�سعفته �أي�ض ًا يف �إعادة خلق ا�سمه‪ ،‬وهو ال�شرط‬ ‫الثاين يف الإبداع‪ ،‬يعيد املبدع عادة خلق العامل‪ ،‬وجزء من هذا اخللق هو‬ ‫خلق ا�سم جديد له �أو لقب جديد م�شتق مما يخلقه من �إبداعات‪ ،‬وبهذه‬ ‫القدرة ميلك املبدع القدرة على حتويل العامل وحتويل ذاته‪ ،‬يتحدث قا�سم‬ ‫عن خميلته الكربالئية التي �أعاد من خاللها حتويل ا�سمه من جا�سم‬ ‫�إىل قا�سم‪ ،‬على النحو التايل‪ …":‬لكوين‪ ،‬من جهة �أخرى‪ ،‬مرتبط ًا‪،‬‬ ‫يف الالوعي‪ ،‬با�سم "القا�سم بن احل�سن" �أحد ال�شباب الذين قاتلوا مع‬ ‫احل�سني يف كربالء‪ ،‬والذي ا�ست�شهد يوم عر�سه كما تقول احلكاية‪ .‬وكنت‬ ‫يف اخلام�سة من عمري عندما اختاروين لأقوم بدور القا�سم‪ ،‬يف ح�سينية‬ ‫الن�ساء يف البيت‪ ،‬يف ز ّفـتـه قبل ذهابه �إىل املعركة وا�ست�شهاده يف يوم‬ ‫الثامن من املحرم"(‪.)17‬‬ ‫املوقف من املخيلة‬ ‫كتبت �سابقا(‪�)18‬شيئ ًا من التاريخ االجتماعي مل�أمت جدتي‬ ‫�سالمة (م�أمت بنت احلايي‪ ..‬م�أمت حجي طرار)‪ ،‬يح�ضر هذا امل�أمت‬ ‫يف �سريتي كما حت�ضر جدتي‪ ،‬وكما يح�ضر بيتها املفتوح الأبواب دوم ًا‪،‬‬ ‫�إنه يح�ضر جزء ًا من �سرية تكويني الفكري‪ ،‬مقرون ًا ب�سرية موقفي من‬ ‫املخيلة‪ ،‬و�سرية املخيلة يختلف عن �سرية املوقف من املخيلة‪ ،‬فال�سرية‬ ‫الأوىل غري واعية‪ ،‬وهي �أقرب �إىل عمل الإبداع‪� ،‬أما املوقف من املخيلة‪،‬‬ ‫فهو موقف فكري يعرب عن خيار واع‪ ،‬يتحدد فيه مفهومنا للمخيلة وعملها‬ ‫املرجع نف�سه‪.‬‬ ‫‪17‬‬ ‫انظر‪ :‬بروفايل امل�شي �إىل كربالء‪(،‬م�أمت بنت احلايي‪ ..‬م�أمت حجي طرار) جريدة‬ ‫‪18‬‬ ‫الوقت‪ ،‬العدد ‪ - 341‬ال�سبت ‪ 8‬حمرم ‪ 1428‬هـ ‪ 27 -‬يناير ‪2007.‬‬ ‫‪http://www.alwaqt.com/art.php?aid=38032‬‬

‫‪73‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:06‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 73‬‬


‫وتقييمنا لها و�آليات عملها‪ .‬كيف كان موقفي من املخيلة الكربالئية من‬ ‫خالل �سريتي مع م�أمت جدتي؟‬ ‫ �أ�ستخدم هنا م�صطلح املخيلة الكربالئية‪ ،‬لأحيل على ال�سرديات‬ ‫التي �أنتجها اخليال ال�شيعي م�شبوك ًا بالتاريخ لواقعة كربالء‪ ،‬واملخيلة‬ ‫هنا هي م�ستودع عمليات التخييل اجلماعية على مدى تاريخ طويل‪ ،‬وهي‬ ‫عمليات تتداخل فيها �أمنيات اجلماعة و�أحالمها وحمنها ومقد�ساتها‬ ‫و�أحداثها التاريخية‪ ،‬الأمر الذي ي�صعب فيه ف�صل احلقيقي من غري‬ ‫احلقيقي والواقعي من اخليايل والتاريخي من االختالقي "التخييل‬ ‫�أعم من اخليال و�أكرث جتاوزا له على م�ستوى الت�صور والإلهام واخللق‪،‬‬ ‫العتماده على الإغراب واملفارقة واخليال املجنح البعيد يف الت�شخي�ص‬ ‫الأ�سلوبي والذهني‪ ،‬ناهيك عن افرتا�ض الأحداث املمكنة وامل�ستحيلة‬ ‫ون�سجها فنيا و�سرديا يف عامل فني جمايل يف �أبهى روعة �إبداعية‪ .‬ويجر‬ ‫التخييل معه يف اللغة العربية كلمات ا�شتقاقية �أخرى كاملخيلة بك�سر‬ ‫الياء(م�صدر اخليال)‪ ،‬واخليال (منتوج املخيلة)‪ ،‬والتخييل (فعل‬ ‫التخيل وممار�سة اخليال‪ ،‬وهو دال احلركة والإبداع والإلهام) الذي‬ ‫يدل على االختالق والتوهيم باحلقيقة واخلداع الفني وت�صور الأحداث‬ ‫وال�شخ�صيات يف �سياق فني يتقاطع فيه اخليال والواقع"(‪.)19‬‬ ‫خميلة امل�آمت الن�سائية‬ ‫متتاز امل�آمت الن�سائية ب�أنها جزء من البيت‪� ،‬إنها تكاد كاملر�أة يف‬ ‫املجتمعات املحافظة ال تغادر البيت‪ ،‬تبدو ك�أنها غرفة من غرف البيت‪،‬‬ ‫حتى �إننا ال ميكن �أن ن�صفها ب�أنها ملحقة بالبيت‪ ،‬فهي و�سطه غالب ًا‪ ،‬كما‬ ‫هو الأمر مع م�أمت جدتي‪ ،‬لقد وعيت طفولتي يف و�سط هذا امل�أمت‪ ،‬وو�سط‬ ‫البيت الكبري الذي كان فيه‪.‬‬ ‫مفهوم التخيل الروائي‪ ،‬جميل حمداوي‪http://www.doroob :‬‬ ‫‪19‬‬ ‫‪com/?p=10447‬‬

‫‪74‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:06‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 74‬‬


‫وهذا ما جعل كثري ًا من امل�آمت الن�سائية غري م�سجلة يف الدوائر‬ ‫الر�سمية ودائرة الأوقاف اجلعفرية‪ ،‬كانت �آخر �إح�صائية �شفهية متداولة‬ ‫تقول �إن عدد امل�آمت الن�سائية يف قرية الدير يزيد على الثالثني م�أمت ًا �أو‬ ‫ح�سينية‪ .‬والقليل منها م�سجل‪ ،‬يف حني امل�آمت الرجالية تبلغ �سبعة م�آمت‪،‬‬ ‫وجميعها م�سجلة‪ ،‬وتقع يف احليز العام للقرية‪ ،‬الأمر الذي جعلها مكان ًا‬ ‫عام ًا‪.‬‬ ‫رمبــا تك ــون هــذه امليزة‪ ،‬هي ما يجعل امل�أمت الن�سائي �أقرب �إىل‬ ‫مزاج �صاحبته و�سلطتها‪ ،‬وامل�أمت الرج ــايل و�إن كان ال يخرج كثري ًا عن‬ ‫ذلك‪ ،‬لكنه يتوفر ن�سبي ًا على مزاج �أكرب من �صاحب ــه و�أقل من قريته �أو‬ ‫عائلته �أو فريقه‪ ،‬فهو ميثــل جماعة �صــاحب امل�أمت وعائلته‪ ،‬وتتو�سع هذه‬ ‫اجلماعة بتو�سع اخلطوط احلركي ــة الفك ــرية التي متثلها‪.‬‬ ‫ظلت امل�آمت الن�سائية بحكم عزلتها البيتوتية مكان ًا للمخيلة‬ ‫املطلقة اجلاحمة التي ال يحدها عقل �صارم وال �شرع مت�شدد‪ ،‬ورمبا‬ ‫ي�صح �أن ن�صفها ب�أنها خميلة ن�سائية بوجه ما‪ ،‬ال مكان للكالم املوجه‬ ‫يف هذه امل�آمت الن�سائية‪ ،‬املوجه بخط حركي �أو �أيديولوجي‪ .‬لي�س هناك‬ ‫خطابة ت�صنعها موجات فكرية‪ ،‬هناك نياحة و�سرية (�شبه تاريخية)‬ ‫ومرويات �سردية وق�صائد مق ّفاة‪ ،‬و�أ�صوات ن�سائية ت�ضج على �إيقاع‬ ‫احلزن والبكاء‪.‬‬ ‫يف حتقيق عن (م�آمت الن�ساء) طرحت جملة الأن�صار(‪)20‬‬ ‫ال�س�ؤال التايل (ملاذا هذا الهجوم ال�شر�س حول �آلية العمل يف م�أمت‬ ‫واع فاهم؟‬ ‫الن�ساء؟ وهل هو قادر يف �صورته احلالية على �إخراج جيل ٍ‬ ‫كانت الإجابات‪ :‬واقع ًا �أنا ال �أذهب �إىل امل�آمت الن�سائية‪ ،‬عندما �أذهب‬ ‫�إليها ال �أح�صل على فائدة تذكر… �إن امل�أمت الن�سائي متخلف عن‬ ‫‪20‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:06‬‬

‫جملة الأن�صار‪ :‬جملة �إ�سالمية ت�صدر عن ح�سينية بن زبر‪ ،‬العدد‪9, 2007.‬‬

‫‪75‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 75‬‬


‫الركب احل�ضاري والثقايف واالجتماعي)‪.‬‬ ‫يف نهاية الثمانينيات كنت مدفوع ًا بح�س ثوري لتغيري‬ ‫العامل‪ ،‬كان العامل هو �أنا و�أ�سرتي وقريتي وم�أمت جدتي‪ ،‬كنت �أرى �أن‬ ‫امل�أمت الن�سائي مل ي�ستجب ل�صوت ال�صحوة الإ�سالمية‪ ،‬وال�سبب الذي‬ ‫كنت �أعتقده يكمن يف �أن املاليات متخلفات وغري واعيات وال ي�سمحن‬ ‫بالتغيري‪ .‬كنت �أرى ماليات م�أمت جدتي هكذا‪ ،‬وهنَّ احلاجيـة مرمي بنت‬ ‫احلاج �أحمد �صميل (توفيت يف دي�سمرب‪ )1997‬واملعروفة باحلاجية‬ ‫مريوم‪ ،‬واحلاجية �شريفة بنت �سيد عبداهلل (توفيت يف ‪)2000‬‬ ‫واملعروفة باحلاجية �شروف‪ .‬واحلاجية �صفيـ ــة بنت احلاجي عبداهلل‬ ‫حم�سن (توفيت يف فرباير‪ ،)2004‬املعروفة باحلاجية �صفوي‪.‬‬ ‫خ�ضت معهن حماوالت تغيريية لكنها باءت بالف�شل‪ ،‬كنت �أرى‬ ‫فيهنَّ حجر عرثة �أمتنى �أن تزال ب�سرعة‪ ،‬من �أجل �أن ي�أتي �صوت الوعي‬ ‫اجلديد والطرح اجلاد‪ .‬اليوم �أحن لأ�صواتهنّ بنا�ستالوجيا بالغة الدفء‪،‬‬ ‫اليوم �أعيد اكت�شافهنّ من جديد‪� ،‬أرى �أين بحاجة �إىل �أن �أن�صت �إليهن‬ ‫من �أجل �أن �أفهم عاملهن اخلا�ص وثقافتهنّ اخلا�صة‪ ،‬بعيد ًا عن ت�شنجات‬ ‫وعي ال�صحوة الدينية‪.‬‬ ‫ل�ست �ضد املحا�ضرات اجلدد الالتي بد�أن يزاحمن املاليات‬ ‫�أو يتزاوجن معهن‪ ،‬لكني �ضد هذا الوهم ب�أنهن ميتلكن الوعي والطرح‬ ‫القادر على �أن ي�أخذ الن�ساء �إىل الركب احل�ضاري والثقايف واالجتماعي‪.‬‬ ‫بل �أنا �ضد هذه الكلمات امل�شحونة بتخمة من الأوهام‪.‬‬ ‫مل يجد خطاب ال�صحوة بح�سه الأيديولوجي يف خطاب املالية‬ ‫ما يعزز من �سلطته وا�ستحواذه وتف�سريه لواقعة كربالء‪ ،‬التي راح ي�ؤولها‬ ‫ل�صالح ح�سه الثوري‪ ،‬ولأنه خطاب ال يح�سن الإن�صات �إىل ما يختلف‬ ‫معه‪ ،‬ف�إنه مل يجد يف املالية غري عالمة على نق�ص الوعي والتخلف‬ ‫‪76‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:06‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 76‬‬


‫والتقليدية وعدم القدرة على طرح الإ�سالم وكربالء طرح ًا جديد ًا‪ ،‬لكنه‬ ‫مل يكن ومازال عاجز ًا عن �أن يرى م�أزقه يف ت�ضييق الإ�سالم و�أدجلة‬ ‫كربالء‪.‬‬ ‫�سري هذه املاليات وجتاربهن جزء من ثقافتنا التي يجب‬ ‫الإن�صات �إليها‪ ،‬وفهمها وتوثيقها‪ ،‬بعيد ًا عن ح�س الإدانة الديني �أو‬ ‫الأيديولوجي‪� .‬أنا مدين يف جانب من فهمي لعمل اخليال اخلالق يف‬ ‫التاريخ �إىل �صوت تلك املاليات‪ ،‬وهنّ يعدن �سرد التاريخ بخيال ال مثيل‬ ‫له‪ ،‬لذلك ف�أنا مدين باعتذار مت�أخر �إىل ماليات م�أمت جدتي‪ ،‬لأين �أ�س�أت‬ ‫اال�ستماع �إليهنّ ‪ ،‬و�أ�س�أت تقدير �صوتهنّ الأ�صيل الذي مل ت�شبه هُ جنة‬ ‫�أيديولوجية ت�ضيق بالآخر(‪.)21‬‬ ‫جمح املخيلة‬ ‫كان اخلط احلركي الإ�سالمي الذي مثلته خالل الثمانينيات‪،‬‬ ‫نداء جلمح هذه املخيلة‪ ،‬وتوجيهها نحو �شرع من�ضبط وعقل م�ؤدلج‪ .‬كنت‬ ‫�أرى يف هذه املخيلة �أ�سطورة جترت الدمعة ال الفكرة‪ ،‬خميلة ال ت�ستجيب‬ ‫حلركة الواقع التي كنا م�أخوذين بها حد جماوزة الواقع‪.‬‬ ‫كان �صوت القيادات احلركية قد بد�أ ي�ضع هذه املخيلة‬ ‫�ضمن دائرة وعيه‪ ،‬كان يريد من امل�آمت الن�سائية �أن تكون يف م�ستوى‬ ‫وعي الإ�سالم احلركي‪ ،‬وقد بد�أت النا�شطات الإ�سالميات حماوالتهن‬ ‫للدخول �إىل هذه امل�آمت‪ ،‬من �أجل تقدمي �شكل خطاب جديد‪ ،‬يفيد من‬ ‫�صيغة اخلطابة الرجالية‪ ،‬التي ال تكتفي باجلانب البكائي احل�سيني‪،‬‬ ‫وهنا برزت مع ظهور �أ�سماء اخلطيبات اجلديدات تذمرات املاليات‬ ‫انظر بروفايل املالية‪ ،‬جريدة الوقت‪ ،‬العدد ‪ - 348‬ال�سبت ‪ 15‬حمرم ‪1428‬‬ ‫‪21‬‬ ‫هـ ‪ 3 -‬فرباير ‪2007‬‬ ‫‪http://www.alwaqt.com/blog_art.php?baid=2342‬‬

‫‪77‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:06‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 77‬‬


‫التقليديات‪ ،‬و�صاحبات امل�آمت‪.‬‬ ‫مع �صعود هذه املوجة كنت قريب ًا جد ًا من جدتي وم�أمتها الذي‬ ‫ظللت �أخ�ضعه ال�ستخدامات متعددة‪ ،‬منبثقة من هذه املوجة‪ ،‬غري �أنها‬ ‫ا�ستخدامات تقع خارج �صفة امل�أمت‪ ،‬حني يكون م�أمت ًا ن�سائي ًا‪ ،‬هو عامل‬ ‫�آخر ومكان �آخر‪ .‬ال ميكن ال�ستخداماتنا احلركية �أن تخ�ضع امل�أمت لها‪،‬‬ ‫فهو ميثل خط ممانعة قوية للمخيلة الكربالئية التقليدية‪ ،‬وعلى الرغم‬ ‫من �أنني ظللت لفرتة طويلة م�س�ؤو ًال عن تركيب �سواد م�أمت جدتي‪� ،‬إال‬ ‫�أنني مل �أ�ستطع �أن �أغري حتى يف �شكله وم�ساحته التي تغطي امل�أمت كله‪،‬‬ ‫وعلى الرغم من �أنني حاولت �إدخال �شعارات حركية من خالل تركيب‬ ‫ال�سواد‪� ،‬إال �أنني ف�شلت‪ ،‬وذلك يعود �إىل مزاج املخيلة البكائية ملاليات‬ ‫امل�أمت‪ .‬لقد كن يرين يف بقاء امل�أمت وفق �شروط خميلتهن املطلقة العنان‬ ‫من �أي م�ساءلة وا�ستخدام‪ ،‬بقاء لهن وحمافظة على وجودهن وا�ستمرار ًا‬ ‫لتقاليدهن وتراثهم الأثري‪.‬‬ ‫تقلي�ص املخيلة‬ ‫يف حمرم ‪ 1990‬بد�أنا م�شروع مهرجان عا�شوراء الأول‪،‬‬ ‫كان مقر املهرجان م�أمت جدتي‪ ،‬يبد�أ املهرجان بعد ع�شرة حمرم‪ ،‬وقد‬ ‫خ�ص�صناه لإقامة حما�ضرات ثقافية عن عا�شوراء‪ ،‬كيف ن�سثمر عا�شوراء‬ ‫يف واقعنا؟ وكيف نعي الثورة احل�سينية؟ وكيف نحولها �إىل وعي جديد‬ ‫حركي؟ وكيف نخل�صها من الأوهام الأ�سطورية؟‬ ‫كان امل�شروع امتداد ًا مل�شروع �سابق خ�ضناه قبل ثالث �سنوات‪،‬‬ ‫يف عام ‪ 1987‬حتديد ًا‪ ،‬وهو م�شروع خطابة ح�سينية‪ ،‬كنا نتدرب كل ليلة‬ ‫من ليايل حمرم‪ ،‬ب�أن يتوىل �أحد ال�شباب التح�ضري لها ويكون ليلتها هو‬ ‫اخلطيب الذي عليه �أن يقدم مو�ضوع ًا جديد ًا ونعي ًا تقليدي ًا‪ .‬كان االجتاه‬ ‫‪78‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:06‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 78‬‬


‫ال�سائد تقلي�ص م�ساحة النعي التي هي م�ساحة املخيلة وحمل خ�صوبتها‪،‬‬ ‫وتو�سيع م�ساحة اخلطابة التي هي حمل الفكر والوعي وتقدمي مفاهيم‬ ‫الإ�سالم احلركي‪.‬‬ ‫كنا يف �سياق‪� ،‬إعداد جيل حركي جديد‪ ،‬يفهم كربالء فهم ًا‬ ‫جديد ًا‪ ،‬وقد انتدبنا �أنف�سنا للقيام بهذه املهمة‪ ،‬وعلينا واجب التثقف‬ ‫والتدرب وخو�ض التجارب‪ ،‬حل�سن حظي‪ ،‬مل �أتوفر على �صوت جميل‪،‬‬ ‫وكنت الوحيد من بني الأ�صدقاء الذين خا�ضوا التجربة مقت�صر ًا على‬ ‫اخلطابة فقط دون النعي احل�سيني‪ ،‬يف حني كان الأ�صدقاء ال�سبعة‬ ‫يتولون تقدمي جمل�س كامل بنعي وخطابة‪ ،‬كنت �أ�ستعني ب�صديق طفولتي‬ ‫�أحمد رم�ضان‪ ،‬لقراءة مقدمة ح�سينية ملجل�س حما�ضرتي‪ ،‬ومازال هو‬ ‫علي ليل‬ ‫يذكر ب�شيء من املرح طريقته يف قراءة ق�صيدة (وجه ال�صباح ّ‬ ‫مظلم…) التي افتتح بها �أحد جمال�سي (ت�سمى الفرتة التي يقر�أ فيها‬ ‫اخلطيب باملجل�س‪ ،‬فيقال بد�أ املجل�س وانتهى املجل�س)‪.‬‬ ‫كان التح ّول من م�شروع اخلطابة احل�سينية �إىل مهرجان‬ ‫عا�شوراء‪ ،‬تعبري ًا عن االنحياز �إىل اجلانب الفكري‪ ،‬وعدم التعويل على‬ ‫اجلانب البكائي وامل�أ�ساوي يف كربالء‪ ،‬كما �أنه كان معرب ًا عن انحيازي‬ ‫�إىل اجلانب الفكري يف ذلك الوقت‪ .‬وهو من ناحية الأخرى يحمل �أي�ضا‬ ‫قناعتي املبكرة بعدم امتالكي مهارات القراءة احل�سينية التي ت�شرتط‬ ‫ال�صوت ال�شجي‪ ،‬والقدرة على النعي بالطريقة احل�سينية‪.‬‬ ‫تطهري املخيلة‬ ‫لقد خ�ص�صنا مهرجان عا�شوراء الثاين والأخري‪ ،‬والذي �أقمناه‬ ‫�أي�ضا يف م�أمت جدتي‪ ،‬لكتاب (امللحمة احل�سينية)‪ .‬لقد ق�سمنا الكتاب‬ ‫على ع�شر ليال‪ ،‬يتوىل كل ليلة �شخ�ص تقدمي حما�ضرة من هذا الكتاب‪.‬‬ ‫‪79‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:06‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 79‬‬


‫الكتاب حماولة لت�صحيح واقعة كربالء من االنحرافات التاريخية التي‬ ‫�صنعتها املخيلة‪.‬‬ ‫ت�صحيح االنحرافات التاريخية‪ ،‬كان يعني رف�ض ن�شاط‬ ‫املخيلة الكربالئية التي �أنتجت هذا الكم ال�ضخم من املرويات والأ�شعار‬ ‫والق�ص�ص والكرامات والبكائيات‪ .‬كان يعني جتفيف ًا مل�ساحات وا�سعة‬ ‫من هذه املخيلة وما يرافقها من دموع حارة وطرية‪ .‬كان يعني �أن تبقى‬ ‫امل�آمت الن�سائية من غري ذاكرة‪ ،‬لأن ذاكرة هذه امل�آمت تكمن يف �أر�شيف‬ ‫خميلتها‪.‬‬ ‫كان الإ�سالم احلركي‪ ،‬كما مثله مطهري مثال‪ ،‬يريد �أن يغري‬ ‫الواقع‪ ،‬وهو يريد من التاريخ ما يغري به الواقع‪ ،‬ال ما يجعل الواقع ثابت ًا‪،‬‬ ‫والبكاء كان من وجهة نظر هذا الإ�سالم احلركي‪ ،‬يجعل من كربالء‬ ‫تاريخا �ساكن ًا ال متحرك ًا‪ ،‬هو يريد �أن يعرف اليوم مع�سكرات يزيد‬ ‫ومع�سكرات احل�سني‪"،‬نعم لو كان احل�سني بن علي بيننا اليوم لقال لنا‪:‬‬ ‫�إذا كنتم تريدون �إقامة العزاء من �أجلي و�أردمت ال�ضرب على ال�صدور‬ ‫من �أجلي فان �شعاركم ال بد �أن يكون فل�سطينيا"(‪.)22‬‬ ‫الإ�سالم احلركي‪ ،‬يريدك �أن حترك الواقعة التاريخية‪ ،‬لتكون‬ ‫واقعة معا�صرة‪ ،‬هو لي�س معني ًا بال�سياق التاريخي‪ ،‬بقدر عنايته بال�سياق‬ ‫املعا�صر‪ ،‬هو يريد �أن ي�ستخدم الواقعة يف حركة �صراعاته احلالية‪،‬‬ ‫ولي�ست لديه م�شكلة يف �أن تنحرف الواقعة التاريخية عن �سياقها‬ ‫التاريخي‪ ،‬لكنه معني ب�إ�ضفاء قدر من املعقولية عليها من �أجل �أن يكون‬ ‫ا�ستخدامه �أكرث �إقناع ًا‪ ،‬ومن �أجل �أن يعطي احرتام ًا‪.‬‬ ‫هكذا يح ّرك مطهري مثال واقعه اليوم با�ستخدام واقعة‬ ‫�أم�س"ماذا لو �أن احل�سني بن علي (ع) كان بيننا اليوم‪ ،‬و�أراد �أن يطلب‬ ‫‪22‬‬

‫‪80‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:06‬‬

‫مرت�ضى مطهري‪ ،‬امللحمة احل�سينية‪ ،‬بريوت‪ :‬الدار الإ�سالمية‪ ،‬ط‪1, 1990‬م‪.‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 80‬‬


‫منا �أن نقيم له العزاء؟ ترى �أي ال�شعارات كانت هي التي �سيطالبنا‬ ‫برتديدها؟ فهل كان �سيقول لنا اقر�أوا يف املجال�س "�أين ابني الفتى على‬ ‫الأكرب"‪� ،‬أو يطالبنا باملناداة‪" :‬يا زينب املعذبة الوداع الوداع"‪ ،‬وهي‬ ‫�أمور ال �شك مل يفكر فيها (الإمام احل�سني) طوال حياته و�إنه مل يردد‬ ‫مثل هذه ال�شعارات اخلانعة الذليلة‪ ،‬يف يوم من �أيام عمره نعم فلو كان‬ ‫احل�سني بن علي بيننا اليوم‪ ،‬لقال لنا‪� :‬إذا كنتم تريدون �إقامة العزاء من‬ ‫�أجلي‪ ،‬و�أردمت ال�ضرب على ال�صدور‪ ،‬واخلدود‪ ،‬من �أجلي‪ ،‬ف�إن �شعاركم‬ ‫الب ّد �أن يكون فل�سطينيا ف�شمر اليوم هو مو�شي دايان و�شمر ما قبل �ألف‬ ‫وثالثمائة عام‪ ،‬قد مات‪ ،‬وعليك �أن تتعرف على �شمر هذا الع�صر‪ ،‬لأن‬ ‫جدران هذه املدينة‪ ،‬يجب �أن تهتز اليوم من �شعارات فل�سطني"(‪.)23‬‬ ‫بالن�سبة �إىل الإ�سالم احلركي‪ ،‬املخيلة مهمة بقدر ما ميكن‬ ‫ا�ستخدامها لتغيري الواقع وحتريك جمهوره‪ ،‬وتفقد �أهميتها حني تفقد‬ ‫قدرتها على هذا اال�ستخدام‪ ،‬وهذا اال�ستخدام هو ما يجعل من املخيلة‬ ‫�أيديولوجيا‪ ،‬هو يريدها يف حالة �أيديولوجية ن�شطة‪.‬‬ ‫لذلك فالنقد التاريخي الذي ي�صدر عنه الإ�سالم احلركي‬ ‫يف مراجعته للم�صادر التاريخية التي �أ ّرخت للواقعة وطريقة متثل‬ ‫اخلطابات احل�سينية لها‪ ،‬لــي�س حمكوم ـ ـ ًا ب�أفق املدار�س التاريخية‬ ‫املعا�صرة ومناهج ــها املعرفية‪ ،‬بقدر ما هو حمكوم ب�أفق الأيديولوجيا‬ ‫احلركية‪ ،‬و�إن ك ــان �أفق هذا النقد يف�ضي �إىل نتائج تلتقي �أحيان ًا بنتائج‬ ‫ذاك الأفق‪.‬‬ ‫لقد كنا حمكومني بهذا الأفق‪ ،‬ونحن نحاول تغيري خطاب‬ ‫امل�آمت الن�سائية‪ .‬كنا ن�ستح�ضر يف حركة تغيرينا خطاب ف�ضل اهلل وهو‬ ‫يتح ّدث عن دور املر�أة القيادي احلركي ممث ًال يف حركة زينب‪ ،‬والرباب‪،‬‬ ‫‪23‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:06‬‬

‫مرت�ضى مطهري‪ ،‬امللحمة احل�سينية‪ ،‬بريوت‪ :‬الدار الإ�سالمية‪ ،‬ط‪1, 1990‬م‪.‬‬

‫‪81‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 81‬‬


‫و�سكينة‪ .‬وكنا ن�ستند �إليه يف حماولة حتويل املـ ـ�أمت الن�سائي من وظيفة‬ ‫اال�ستماع والبك ــاء �إىل وظيفة اخلطابة واملعرفة‪ .‬لكن �أي معرفة‪ ،‬و�أي‬ ‫خطابـ ــة كنا نريدها �أن حتل مكان هذه املخيلة الكربالئية املطلقة؟‬ ‫كـ ــانت مناذجنا التي نحلم بها‪ ،‬خطيبات قادرات على بيان‬ ‫احلقائق ال َعقْدية وبيان املفاهيم الإ�سالمية وبيان القيم والأخالق‪.‬‬ ‫فاملجتمع الن�سائي يحتاج كما كنا نراه �إىل �إعادة النظر يف تفعيل طاقاته‬ ‫وحتريك مواهبه و�إخراج اخلطيبات العاملات القادرات على العطاء وعلى‬ ‫البذل‪ ،‬يحتاج �إىل ما هو �أكرث‪ ،‬يحتاج �إىل درو�س دينية ب�شكل مكثف يف‬ ‫الفقه والعقيدة‪ .‬كنا نحلم بخطاب ن�سائي يحمل طرح ًا �سيا�سي ًا ووعي ًا‬ ‫تربوي ًا وجمتمعي ًا وتاريخي ًا‪.‬‬ ‫كنا ن�ستخدم كل هذه امل�صطلحات املفخ ـ ـ ــمة ب�سذاجة ومراهقة‪،‬‬ ‫والغريب �أن هذا اخلطاب مازال ف ّعا ًال بالنربة نف�سها‪ .‬والدليل على ذلك‬ ‫�أين اقتب�س ــت الفقرة ال�سابقة التي تتحدث عن النماذج الن�سائية التي كنا‬ ‫نحلم بها‪ ،‬من �أحد املواقع الإلكرتونية‪ ،‬دون �أن �أ�ضطر �إال �إىل االخت�صار‬ ‫فق ــط‪ .‬ول�ست م�ضطرا �إىل الإ�ش ــارة �إىل امل�صدر‪ ،‬لأنها ت�صلح �أن تقتب�س‬ ‫من ع�ش ــرات املواقع‪.‬‬ ‫كيـف يبدو املوقف اليوم من هــذه املخيلة؟ كيف ن�شاطها‬ ‫االجتماعي؟ كيف ح�ضورها يف و�سائط امليديا؟ تلك �أ�سئلة حتتاج �إىل‬ ‫مقارب ــة �أخرى‪.‬‬

‫‪82‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:06‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 82‬‬


‫خارج مكتبة �أبي الأخبارية‬ ‫هل (الأخبارية والأ�صولية) مو�ضوع �أو حممول �أو ق�ضية �أو‬ ‫جدلية �أو فتنة �أو ملف �أو �صراع �أو هو كل ذلك‪� ،‬أي ًا كان هو‪ ،‬لكن ما �إن‬ ‫تفتحه‪ ،‬ف�إنه ينفتح عليك تاريخ م�شحون‪ ،‬م�شحون بالأ�سماء والأعالم‬ ‫والأحداث واملواقف والكتب واالختالفات واخلالفات وال�سري واملدار�س‬ ‫واجلغرافيا واملعرفة والدين وال�سيا�سة وال�سلطة والقوة والثقافة والآراء‬ ‫والأقوال‪� ،‬إنه تاريخ املعرفة‪ ،‬واملعرفة لي�ست �ش�أن ًا مقد�س ًا‪� ،‬إنها �أقرب �إىل‬ ‫التدني�س منها �إىل التنزيه‪ ،‬فهي من �صنع الإن�سان‪ ،‬والإن�سان ال ي�صنع‬ ‫�شيئ ًا منزّه ًا‪ ،‬مهما يكن بديع ًا وجمي ًال‪ ،‬فالإن�سان ي�شحن ما ي�صنعه‪ ،‬بكل‬ ‫ما فيه من خري و�شر وعقل وهوى وروح ومادة‪.‬‬ ‫(الأخبارية والأ�صولية) مبا حتمله من تاريخ م�شحون‪ ،‬هي‬ ‫املعرفة الدينية ال�شيعية التي �أنتجها علماء الدين طوال هذه القرون‪،‬‬ ‫كيف ميكنك �أن تقر�أ هذا التاريخ الطويل؟‬ ‫اخرتت �أن �أقر�أ تاريخها وتاريخ �سريتي معها‪ ،‬من خالل مكتبة‬ ‫�أبي‪� ،‬أبي الذي �ألفتُ �أن �أ�سمع فمه يردد با�ستمرار ا�سم كتاب (ال�سداد)‬ ‫لل�شيخ ح�سني العلاّ مة‪ ،‬كان يحكي �شيئ ًا من �سريته‪ ،‬و�شيئ ًا من فتاواه‪،‬‬ ‫خ�صو�ص ًا فتاواه املتعلقة بباب الطهارة وال�صالة واحلج‪ ،‬وكان مو�ضوع‬ ‫طهارة النوا�صب يثري �إ�شكا ًال معا�صر ًا عندي‪ ،‬فال�شيخ ح�سني و�ضع‬ ‫�سداده يف القرن الثامن ع�شر امليالدي‪ ،‬ويف ظروف تاريخية متوترة‪ ،‬كان‬ ‫نتيجتها مقتله يف( ‪1216‬هـ ‪1801 -‬م) وهروب عائلته برتاثه الفقهي‬ ‫الغزير �إىل بو�شهر‪.‬‬ ‫كان كتاب ال�شيخ ح�سني املو�ضوع يف مكتبة الوالد مطبوع ًا‬ ‫‪83‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:06‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 83‬‬


‫الطبعة الثانية بتحقيق يف النجف يف مطبعة النعمان‪ ،‬يف �سنة ‪1961.‬‬

‫كان على غالفه (طبعه الأقل جواد ال�سيد ف�ضل الوداعي املو�سوي‬ ‫البحراين �أح�سن اهلل خامتته)‪.‬‬ ‫انطبعت �صورة غالف الكتاب بلونه الأخ�ضر الفاحت يف ذهني‪،‬‬ ‫حتى غدت ك�أنها �أيقونة يف خميلتي‪ ،‬كلما جاء الوالد على ا�سم ال�شيخ‬ ‫ح�سني‪ ،‬جاءت �صورة الغالف‪ ،‬وت�أتي معها �صورة ال�شيخ ح�سني‪ ،‬لكن‬ ‫لي�س ال�شيخ ح�سني العلاَّ مة‪� .‬إنها �صورة ال�شيخ ح�سني بن ال�شيخ عبا�س‬ ‫ال�سرتي‪ ،‬كان يقيم اجلماعة يف قريتنا يوم اجلمعة منذ ال�ستينات‪ ،‬وحتى‬ ‫مطلع الثمانينيات‪ ،‬وعادة ما يكون غدا�ؤه وقيلولته يف جمل�سنا‪ .‬تو�ضيح‬ ‫جمل ال�سداد الغام�ضة‪ ،‬يتوالها ال�شيخ بعد قيلولته‪ ،‬اقرتح عليه الوالد‬ ‫يف ‪� 1983‬أن يعلمنا النحو من منت الإجرومية‪ ،‬كنا نقر�أ من (التحفة‬ ‫ال�سنية يف �شرح منت الإجرومية) كانت الن�سخة �صفراء وخطها �صغري‪.‬‬ ‫جل�ست �إىل در�س ال�شيخ و�أنا يف ال�صف ال�ساد�س‪ ،‬مل �أ�ستوعب �شيئ ًا من‬ ‫در�سه‪ ،‬لكني كنت حري�صا وفخور ًا باجللو�س �إىل حلقة الدر�س‪ .‬مع هذا‬ ‫احلر�ص‪ ،‬مل تتح�سن مهاراتي يف اللغة العربية وال يف النحو‪ ،‬فقد ظلت‬ ‫درجاتي فيها يف حدود اجليد �أو رمبا �أقل‪.‬‬ ‫�س�أغادر جمل�س ال�شيخ املعتق يف �إخباريته‪ ،‬و�أنا �أحمل ا�سم �شيخ‬ ‫ح�سني العلاَّ مة و�صورة غالف كتابه‪ ،‬لكن هذه ال�صورة لن يكتب لها �أن‬ ‫ت�ستقر يف تديني‪ ،‬ففي ال�سنة نف�سها �س�أنفتح على درو�س امل�أمت الدينية‪،‬‬ ‫حيث هناك الثورة على فكرة تقليد امليت ابتداء التي كانت تعني الثورة‬ ‫على مدر�سة ال�شيخ ح�سني الأخبارية‪ ،‬هناك �سيتوىل مدر�سونا يف امل�أمت‬ ‫طرح املرجعيات الأ�صولية اجلديدة التي مل �أ�سمع �أبي يذكرها‪ ،‬وال ال�شيخ‬ ‫ح�سني بن ال�شيخ عبا�س يرددها‪ ،‬اخرتت ال�سيد اخلوئي‪ ،‬ليكون مرجعي‬ ‫ومقلدي‪ ،‬وا�شرتيت ر�سالته العملية (منهاج ال�صاحلني) كان غالفها‬ ‫‪84‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:06‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 84‬‬


‫�أكرث غماقة من غالف كتاب ال�سداد‪ ،‬والحق ًا �سي�أخذنا �أ�ساتذتنا بامل�أمت‬ ‫�إىل ال�سيد علوي الغريفي‪ ،‬حيث كان يخ�ص�ص در�س ًا ل�شرح املنهاج‪،‬‬ ‫�شرح ًا مب�سط ًا و�سريع ًا‪ .‬وكان باب الطهارة هو الباب الذي متكنت من‬ ‫متابعته يف در�س ال�سيد علوي‪.‬‬ ‫حتى هذه اللحظة مل �أكن قد �سمعت مب�صطلح الأ�صوليني‬ ‫والأخباريني‪ ،‬كنت �أ�ست�شعر �أن هناك ح�سا�سية جديدة بدت تت�شكل جتاه‬ ‫�شيخ ح�سني العلاّ مة وجتاه مقلديه‪ ،‬بد�أنا نرى يف تقليد ال�شيخ ح�سني‬ ‫منوذج ًا تقليديا قدمي ًا‪ ،‬وهو ال يتما�شى مع حركة الإ�سالم الثورية‬ ‫اجلديدة‪ .‬كما بد�أنا ن�ست�شعر بنفرة جتاه تقليد الأموات‪ ،‬و�صرنا نرى‬ ‫التدين الذي ميثله الآباء بالرجوع �إىل ه�ؤالء الأموات تدين ًا تقليدي ًا‬ ‫ينبغي مفارقته‪ ،‬حتى كنا ن�ست�شكل على ممار�ساتهم الفقهية‪ ،‬ونتندر‬ ‫على وعيهم الديني‪.‬‬ ‫�ست�شكل حلظة التعرف على م�صطلحي الأخبارية والأ�صولية‬ ‫�صدمة لوعيي الديني‪ ،‬كنت حلظتها يف املرحلة الإعدادية‪� ،‬أقر�أ كتاب‬ ‫مرت�ضى مطهري (االجتهاد يف الإ�سالم)‪ ،‬قر�أت فقراته العنيفة جتاه‬ ‫الإخباريني‪ ،‬مل �أكن حينها �أعرف هذا امل�صطلح‪ ،‬لكني فهمت من خطابه‪،‬‬ ‫�إنهم علماء وفقهاء‪ ،‬كنت �أت�ساءل‪ :‬كيف ينال منهم؟ هل يجوز �أن ننال‬ ‫من الفقهاء؟ �ألي�ست جناتنا يف تقليدهم؟ ما م�صري ه�ؤالء النا�س الذين‬ ‫يقلدونهم؟ هل �أعمالهم باطلة؟ �ألي�سوا من ال�صائنني لدينهم واحلافظني‬ ‫لأمر موالهم‪ِ ،‬من الذين للعوام �أن يقلدوهم‪ ،‬ليكون عملهم �صحيحا؟‬ ‫كان مطهري‪ ،‬يقول بنربة تهويلية "هنا ينبغي �أن ن�شري �إىل‬ ‫حدث مهم وخطري برز يف عامل الت�شيع خالل القرون الأربعة املا�ضية‬ ‫يتعلق مبو�ضوع االجتهاد‪ .‬وهذا احلدث هو مو�ضوع (الأخبارية)‪ .‬ولوال‬ ‫وقوف عدد من العلماء البارزين ال�شجعان يف وجه تلك املوجة و�صدها‪،‬‬ ‫‪85‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:06‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 85‬‬


‫ملا كنا نعرف و�ضعنا احلا�ضر‪� .‬إن مذهب الإخباريني هذا ال يزيد عمره‬ ‫عن �أربعة قرون‪ ،‬وم�ؤ�س�سه رجل ا�سمه (املال �أمني اال�سرت�آبادي) وكان‬ ‫رج ًال ذكي ًا‪ ،‬وقد اتبعه جمع من علماء ال�شيعة‪ .‬ي ّدعي الإخباريون �أن‬ ‫ال�شيعة القدامى‪،‬حتى �أيام ال�صدوق‪ ،‬كانوا يتبعون امل�سلك الإخباري‪.‬‬ ‫ولكن احلقيقة هي �أن امليول الأخبارية‪ ،‬باعتبارها مذهب ًا له �أ�صول‬ ‫معينة‪ ،‬مل يكن لها وجود قبل �أربعة قرون‪� .‬إنهم ينكرون �أن يكون العقل‬ ‫حجة‪ ،‬املذهب الإخباري �ضد مذهب االجتهاد والتقليد‪ ،‬كانت الأخبارية‬ ‫حركة مناوئة للعقل‪ ،‬وهي تتميز بجمود وجفاف عجيبني"‬ ‫كان ال�س�ؤال الذي يراود براءة ت�صوري الطفويل‪ ،‬هو كيف لعامل‬ ‫دين �أن يهاجم علماء دين �آخرين من نف�س مذهبه؟ وملاذا هذه احلدة‬ ‫يف الهجوم؟ وكان وقع ال�صدمة يزداد كلما وا�صلت القراءة ووجدت �أن‬ ‫مطهري ميعن يف هجومه‪ ،‬خ�صو�صا �أن مطهري كان ميثل بالن�سبة يل‬ ‫منوذجا لعامل الدين املتفتح املثقف الذي لديه اطالع ع�صري يف كل‬ ‫�شيء‪� ،‬أي �أنني مل �أ�شك �أن مطهري رمبا يكون خمطئ ًا‪ ،‬لكن كيف ميكن‬ ‫�أن يقع هذا التناحر بني علمائنا‪ ،‬هذا ما كان ي�ؤملني حلظتها‪.‬‬ ‫التاريخ املن ّزه‬ ‫ما ه ّد�أ �شيئ ًا من �صدمتي‪ ،‬هو �أن مطهري يتحدث عن تاريخ‬ ‫بعيد جدا‪ ،‬و�إن كانت ح�سا�سيتنا الدينية‪ ،‬جتعلنا نرى العلماء كلهم وك�أنهم‬ ‫يعي�شون يف حلظة زمنية واحدة‪ ،‬فالعامل الذي عا�ش قبل ‪� 400‬سنة له‬ ‫القد�سية نف�سها التي للعلماء املعا�صرين‪ ،‬فهو امتداد لتاريخ منزّه‪ ،‬وال‬ ‫يذكر ا�سمه �إال بالألقاب التبجيلية‪ ،‬كان مطهري يقول "ولكن من ح�سن‬ ‫احلظ �أن �أ�شخا�صا حكماء‪ ،‬مثل وحيد البهبهاين‪ ،‬وكذلك طالبه‪ ،‬ومن‬ ‫ثم املرحوم احلاج �شيخ مرت�ضى الأن�صاري �أعلى اهلل مقامه‪ ،‬بادروا �إىل‬ ‫الوقوف بوجه هذه احلركة‪ .‬كان وحيد البهبهاين يف كربالء‪ ،‬ويف الوقت‬ ‫‪86‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:06‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 86‬‬


‫نف�سه كان �صاحب (احلدائق) الإخباري يف كربالء �أي�ض ًا‪ ،‬وكان لكليهما‬ ‫حلقة در�س‪ .‬كان وحيد اجتهادي امل�سلك‪ ،‬وكان �صاحب (احلدائق)‬ ‫�إخباري امل�سلك‪.‬‬ ‫ولقد كان �صراع ًا �صعب ًا حق ًا ‪ ،‬انتهى بانت�صار وحيد البهبهاين‬ ‫على �صاحب (احلدائق)‪� .‬أ ّما ال�شيخ الأن�صاري فقد كافح الأخبارية‬ ‫بو�ضعه �أ�سا�س ًا متقن ًا لعلم الأ�صول‪ ،‬بحيث �إ ّنه كان يقول لو �أن �أمين ًا‬ ‫اال�سرت �آبادي كان حي ًا لقبل مبا و�ضعته يف علم الأ�صول‪ .‬وعلى �أثر هذه‬ ‫املكافحات اندحرت الطريقة الأخبارية‪ ،‬ولي�س لها اليوم �أتباع �إ ّال يف‬ ‫بع�ض الزوايا النائية"‪.‬‬ ‫كنت قد اعتدت �أن �أ�سمع ا�سم ال�شيخ ح�سني العلاَّ مة‪ ،‬مقرتن ًا‬ ‫با�سم ال�شيخ يو�سف البحراين‪ ،‬فهو �أ�ستاذه وخاله‪ ،‬وهذا ما �ش ّكل �صدمة‬ ‫�أكرب بالن�سبة لوعيي الديني الذي �ش َّكله �أبي برتداد ا�سم �شيخ ح�سني‪.‬‬ ‫كنت �أرى ال�شيخ ح�سني العالمة يف �صورة �شيخ ح�سني ال�سرتي ومل �أ�شك‬ ‫�أن حليته البي�ضاء البهية هي نف�سها حلية �صاحب ال�سداد‪.‬‬ ‫ �أح�س�ست ك�أنّ مطهري قد عبث بحدائق ال�شيخ يو�سف‬ ‫البحراين‪ ،‬فاحلدائق التي مل �أرها‪ ،‬كنت �أ�سمع با�سمها يرتدد بتبجيل‬ ‫عظيم‪ ،‬فهي مو�سوعة ال�شيخ يو�سف الفقهية الكبرية التي مل ي�ؤلف مثلها‬ ‫يف التاريخ‪ .‬لقد ا�ستقرت يف وعيي �صورة هذه احلدائق مقرونة بالتبجيل‪،‬‬ ‫فكيف يخربها مطهري بدفقة حرب؟‬ ‫ذهبت لأ�ستاذي يف امل�أمت �أ�ستف�سر منه‪ ،‬و�أطلب منه تو�ضيح ًا‬ ‫يه ّدئ من �صدمتي‪ ،‬كان جوابه ي�شبه جواب من يريد �أن يغلق ملف ق�ضية‬ ‫تاريخية قدمية‪ ،‬قال يل‪ ،‬الأ�صولية والأخبارية فتنة قدمية‪ ،‬وال نريد‬ ‫�إثارتها كي ال تكون فتنة ت�ضعف وحدة ال�صف الإ�سالمي‪ ،‬لقد �أفهمني‬ ‫ذلك بح�س ي�شبه احل�س الأمني‪.‬‬ ‫‪87‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:06‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 87‬‬


‫مل �أكن �أعي حينها‪� ،‬أن حركة التدين الثورية اجلديدة التي‬ ‫جاءت بها الثورة الإ�سالمية يف �إيران‪� ،‬ستجد يف منط التدين التقليدي‬ ‫الذي ميثله النمط الإخباري املعروف يف البحرين‪ ،‬والذي مل يكن له‬ ‫مناف�س‪� ،‬ستجد يف هذا النمط ما يتعار�ض معها‪ ،‬و�أنها �ستعمل على‬ ‫تغيريه‪ .‬لن يكون هذا التغيري �سه ًال‪ ،‬رغم �أن الثورة وجدت قب ً‬ ‫وال يف‬ ‫نفو�س النا�س‪ ،‬فالآباء مل يجدوا �أنهم م�ضطرون لتغيري �أمناط تدينهم‬ ‫و�أ�سماء مراجعهم ومقلديهم‪ ،‬لكن احل�س الثوري التغيريي‪ ،‬وجد يف كل‬ ‫�شيء تعار�ض ًا‪ ،‬تعار�ض ًا يحتاج �إىل تغيري و�إال �أ�صبح معار�ضة‪ ،‬واملعار�ضة‬ ‫تف�ضي �إىل ال�صدام‪.‬‬ ‫لكن ال�صدام هذه املرة مل يكن حتت عنوان الإخباريني‬ ‫والأ�صوليني‪ ،‬لكن من مثلوا التدين الإخباري‪ ،‬كانت ح�سا�سيتهم الدينية‬ ‫للعامل خمتلفة متام ًا عن احل�سا�سية اجلديدة للثورة‪ ،‬لذلك كان على‬ ‫الأخبارية �أن ترتاجع �أو �أن يرتاجع عنوانها وتعيد متثيل نف�سها يف �شكل‬ ‫�آخر‪ .‬وتلك حكاية �أخرى حتتاج �إىل ف�صل جديد‪.‬‬ ‫لقد فتحت‪ ،‬اليوم‪ ،‬مكتبة �أبي فوجدتها كما هي‪ ،‬تخرب عن‬ ‫تاريخ ما قبل الثورة‪ ،‬ما قبل تقليد الأحياء‪ ،‬و�إ�شكال �صالة اجلمعة‪،‬‬ ‫وتقليد الويل الفقيه‪ ،‬ووالية الفقيه‪ ،‬و�آية اهلل‪ ،‬واملجتهد‪ ،‬واملرجع الأعلى‪.‬‬ ‫مل تكن تخرب عن تاريخ ما بعد الثورة‪.‬‬ ‫فتحت مكتبته‪ ،‬فوجدت فيها‪�( ،‬سداد العباد ور�شاد العباد)‪،‬‬ ‫وكتاب (احلج من كتاب �سداد العباد) للعالمة الوقور ال�شيخ ح�سني‬ ‫�آل ع�صفور البحراين‪ ،‬وكتاب تلميذه (كنز امل�سائل وامل�آخذ يف �شرح‬ ‫املخت�صر النافع) ب�أجزائه اخلم�سة خلامتة املح ّدثني العالمة ال�شيخ‬ ‫عبداهلل ال�سرتي البحراين (‪ .)1853-1776‬و(الر�سالة ال�صالتية)‬ ‫لل�شيخ يو�سف البحراين (‪1695‬ـ ‪)1772-‬‬ ‫‪88‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:06‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 88‬‬


‫خارج الرهبنة‬

‫علمانية الراهب‪�..‬شــيء م ـ ــن �سـ ــرية الرهبنـ ــة والعلم ـنــة‬ ‫الراهب هنا‪ ،‬لي�س كني�سة‪ ،‬وال �أ�سقف ًا وال قدي�س ًا‪� ،‬إنه م�سجدنا‬ ‫يف قرية الدير‪ ،‬الراهب هو من �أقدم م�ساجد قريتنا‪ ،‬و�أرفعها �ش�أن ًا‬ ‫وجغرافية‪ ،‬ورمبا ل�شيء من ت�ساحمنا حافظنا على ت�سميته امل�سيحية‪،‬‬ ‫من دون حترج‪ ،‬كما حافظنا على ت�سمية الفريق املحيط بامل�سجد‪ ،‬با�سمه‬ ‫امل�سيحي‪ ،‬مازال هذا الفريق ي�سمى بفريق الراهب �أو فريق الكلية‪ .‬وكان‬ ‫بالقرب منه‪ ،‬عني‪ ،‬ت�سمى (عني الراهب)‪ ،‬وكان موقعها يف مدر�سة الدير‬ ‫االبتدائية للبنات (القدمية)‪ ،‬وقد طمرت‪.‬‬ ‫والكلية كما يخربنا الباحث الديري الدكتور علي هالل هي‬ ‫مبعنى الدير �أو بيت العبادة‪ ،‬والقلية كال�صومعة وا�سمها عند الن�صارى‬ ‫القالية‪ ،‬وملا كان الأهايل يقلبون القاف كاف ًا كما يف "قران = كران ‪/‬‬ ‫وقدمي = كدمي‪/‬وقام = كام" وهي لهجة معروفة من لهجات العرب‪،‬‬ ‫فكذلك "القلية = الكلية"‪ .‬و�أ�صبحت على ل�سانهم بدال من القلية‪� ،‬إذ ًا‬ ‫القلية ا�سم �آخر للدير‪ ،‬ولكن انح�صر �إطالقه على املكان الذي بني فيه‬ ‫املعبد فقط‪� ،‬أما ا�سم الدير فقد فاز بال�شهرة على املنطقة كلها حتى‬ ‫�أ�صبح ا�سما للقرية فيما بعد‪.‬‬ ‫�شهد هذا امل�سجد بدايات الدرو�س الدينية يف نهاية ال�سبعينيات‪،‬‬ ‫و�أذكر �أن �أول در�س ديني ح�ضرته �أنا‪ ،‬كان يف هذا امل�سجد ال�صغري‪،‬‬ ‫كان ذلك يف العام‪ 1982‬كنت حينها يف ال�صف ال�ساد�س االبتدائي‪.‬‬ ‫الواجبات الركنية يف ال�صالة هو املو�ضوع الأول الذي �شرحه لنا برباعة‬ ‫ال�شيخ حمزة الديري‪ ،‬مازلت �أذكر فيها ت�شبيهه لأركان ال�صالة بركن‬ ‫‪89‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:06‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 89‬‬


‫علي تذكره يف كل �صالة‪.‬‬ ‫املرمى‪ ،‬ا�ستقر هذا الت�شبيه يف خميلتي كهدف‪ّ ،‬‬ ‫ومازلت �أذكر �أننا كنا ن�ستمتع وقت خروجنا من امل�سجد‪ ،‬بالنزول ال�سريع‬ ‫من املنحدر �أو التلة التي يقع و�سطها هذا امل�سجد املعتق بالتاريخ‪.‬‬ ‫مل ي�ؤ�س�س ال�شيخ حمزة‪ ،‬مع رفقائه و�أ�ساتذته م�شروع ال�صحوة‬ ‫اجلديد عرب الدرو�س الدينية فقط‪ ،‬بل ترافق ذلك مع ت�أ�سي�س مكتبة‬ ‫امل�أمت اجلنوبي يف الدير‪ ،‬وهي املكتبة التي مل �أ�شهدها‪ ،‬لكنها ظلت يف‬ ‫م�سموعاتي الأ�سطورية التي ت�ستعاد دوما بفخر‪� ،‬إىل جانب هذه املكتبة‪،‬‬ ‫كانت هناك مكتبة م�سجد الراهب‪ ،‬وهي املكتبة الأوىل التي عرفتها‬ ‫يف حياتي‪� ،‬إىل جانب مكتبة الوالد التي ذهبت �إليها عرب بوابة مكتبة‬ ‫الراهب‪.‬‬ ‫على رغم ق ّلة كتب مكتبة الراهب‪ ،‬لكنها كانت مفهر�سة‬ ‫ومنظمة‪ ،‬ولديها نظام لال�ستعارة‪ ،‬و�أوقات لفتح املكتبة‪ .‬معظم الكتب �أو‬ ‫كلها فيما �أذكر كانت دينية �إىل جانب �أن بع�ضها �سيا�سية‪ ،‬ومن �ضمنها‬ ‫�أعداد من جملة ال�شهيد‪ .‬ال �أذكر اليوم من هذه املكتبة �سوى كتاب‬ ‫حممد مهدي �شم�س الدين عن العلمانية‪ ،‬ت�صفحته‪ ،‬وقر�أت فيه كلمات‬ ‫من نوع اال�ستعمار والإ�سالم والكفر والتغريب‪ .‬بدا يل الكتاب �صعب ًا‪ ،‬لكن‬ ‫باال�ستعانة ب�أمني املكتبة عرفت �أن العلمانية �ضد الإ�سالم و�أنها (�شي مو‬ ‫زين)‪.‬‬ ‫هذا هو الدر�س الأول فيما �س�أ�سميه بعلمانية الراهب‪� ،‬أي‬ ‫العلمانية التي تعرفت عليها يف م�سجد الراهب‪ .‬لقد خلق هذا امل�سجد‬ ‫يف نف�سي �ألفة مع الكتب‪ ،‬لكنه مل يفتحني على القراءة‪� ،‬سيبد�أ م�شروع‬ ‫القراءة يف ال�صف الثاين الإعدادي‪ ،‬مع ت�أ�سي�س مكتبتي اخلا�صة عرب‬ ‫م�شروع (‪ 50‬فل�س ًا لبطنك و‪ 50‬فل�سا لعقلك)‪.‬‬ ‫هي مل تكن مكتبتي‪ ،‬لكنها نواة ملا �سيكون فيما بعد مكتبتي‬ ‫‪90‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:06‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 90‬‬


‫اخلا�صة‪ .‬كان م�شروع اخلم�سني فل�س ًا‪ ،‬ا�ستجابة �إىل النداء الداخلي الذي‬ ‫�صاغته فينا الدرو�س الدينية يف القرية‪ ،‬هناك يف داخلك ما يحركك‬ ‫لتعي واقعك وعاملك ودينك‪ ،‬والكتب هي �إحدى و�سائل بناء الذات امل�ؤمنة‬ ‫الر�سالية الواعية‪ ،‬كنا مدفوعني بهذا النداء �أنا و�صديق الطفولة وامل�أمت‬ ‫واملدر�سة‪� ،‬أحمد رم�ضان‪ ،‬وعقيل عبدالر�ضا‪.‬‬ ‫كو َّنا �صندوق ًا ت�أ�سي�س ًا للمكتبة‪ ،‬من دون جمعية عمومية طبع ًا‪،‬‬ ‫كنا ندخر خم�سني فل�س ًا يومي ًا من م�صروفنا اخلا�ص للمكتبة‪ ،‬فيما‬ ‫تذهب اخلم�سني الباقية �إىل بطوننا‪.‬كما توفرت املكتبة على م�صدر دخل‬ ‫�آخر‪ ،‬فقد تعلمنا �صناعة امل�سابيح من الرتبة احل�سينية من م�صنع الرتب‬ ‫يف م�سجد اخليف بالقرية‪ ،‬وفتحنا م�شروع �صناعة امل�سابيح احل�سينية‪،‬‬ ‫وبح�سنا الديني النقي‪ ،‬وجدنا �أن املتاجرة بالرتبة احل�سينية ال ينبغي لها‬ ‫�أن تكون دنيوية‪ ،‬وكانت الكتب فيما نراها جتارة للآخرة‪ ،‬لأنها تعدك‬ ‫لتكون م�س�ؤو ًال يف الدنيا عن حتقيق ر�سالتك ال�سماوية‪.‬‬ ‫بعد مفاو�ضات ي�سرية‪ ،‬اتفقنا �أن جنعل مقر مكتبتنا �أرفف‬ ‫جمل�س بيتنا‪ ،‬كانت ت�أتينا الكتب من م�شروع دار التوحيد بالكويت‪،‬‬ ‫والبقية ن�شرتيها يف الإجازات من مكتبة املاحوزي والإر�شاد والبحرين‬ ‫والوطنية‪ ،‬واملكتبة الإ�سالمية‪ ،‬كان النقل العام و�سيلتنا لبلوغ املنامة‪،‬‬ ‫و�أحيان ًا ي�أخذنا �أ�ساتذتنا يف امل�أمت‪.‬‬ ‫القراءة وتكوين املكتبة م ّثل لنا عمال دينيا متاما كما العبادة هي عمل‬ ‫ديني‪ .‬مل يكن �أحد من �أ�ساتذتنا يف امل�أمت يحدد لنا ما نقر�أه‪ .‬لكن‬ ‫درو�سهم كانت تقول لنا ذلك ب�شكل غري مبا�شر‪ ،‬ودر�س علمانية الراهب‪،‬‬ ‫ظل �أي�ضا يقول لنا ذلك ب�شكل غري مبا�شر‪.‬‬ ‫الدر�س الذي ا�ستقر يف تكويننا‪ ،‬ظل يذكرنا دوم ًا باحلذر من‬ ‫الكتب غري الدينية‪� ،‬صارت ح�سا�سيتنا القرائية حمكومة بر�سالة تقول‪:‬‬ ‫‪91‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:06‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 91‬‬


‫ال تقر�أ كتاب ًا يهز يقينك الديني‪� ،‬إن مل تكن متلك ح�صانة حتميك من‬ ‫كتاب ما فال تقر�أه‪ .‬لي�س لأننا مننعك من القراءة‪ ،‬ولي�س لأننا نخاف‬ ‫من املختلفني عنا‪ ،‬ولي�س لأننا ال منلك حجة يف الرد‪ ،‬بل خوفا عليك‪،‬‬ ‫ولأنك ال متلك ما يمُ ّكنك من الرد‪ .‬كنا م�شبعني بيقني مفرط بالفكر‬ ‫الديني الذي ن�صدر عنه‪ ،‬لديه حل لكل �شيء‪ ،‬ولديه رد على كل �شيء‪،‬‬ ‫ولديه الأف�ضل يف كل �شيء‪ ،‬مل ي�ساورنا ال�شك �أبد ًا يف �أننا منلك احلقيقة‬ ‫كلها‪.‬‬ ‫يف املرحلة الإعدادية‪ ،‬كانت مكتبة والد �صديقي �أحمد رم�ضان‪،‬‬ ‫قريبة من جمل�سهم وهو مكاننا املف�ضل لال�ستعداد المتحانات نهاية‬ ‫العام الدرا�سي‪ ،‬يف هذا املكان �شاهدت لأول مرة جهاز ي�سمى كمبيوتر‪،‬‬ ‫كما �شاهدت لأول مرة كتبا ال ت�شبه �أغلفتها �أغلفة كتب مكتبة م�سجد‬ ‫الراهب‪ ،‬وعناوينها ال ت�صدر عن �إيقاع مو�سيقى كتب مكتب الراهب‪،‬‬ ‫و�أ�سماء م�ؤلفيها مل ت�ألفها ح�سا�سية ذاكرتي امل�أمتية‪.‬‬ ‫ميكنني �أن �أقول �إن در�س العلمنة الأول تعلمته ب�شكل عر�ضي يف‬ ‫هذه املكتبة‪ ،‬والدر�س هو �أن هناك عاملا �آخر من الكتب هو غري الكتب‬ ‫الدينية �أو الكتب التي ت�صدر عن فكر ديني‪ .‬كنت بف�ضول �أقر�أ عناوين‬ ‫هذه الكتب‪ ،‬و�أت�صفح �أوراق اجلريدة اليومية التي يحر�ص والد �صديقي‬ ‫عي�سى رم�ضان على قراءتها‪� ،‬شاهدت مرة كلمة العلمانية بخط كبري‬ ‫و�إىل جانبها رجل �أ�صلع ا�سمه فرج فوده‪ ،‬قر�أت �شيئ ًا ي�سريا من املكتوب‬ ‫وعرفت �أنه يهاجم الإ�سالميني‪ ،‬فكرهته حد البغ�ض‪ .‬لكني الحق ًا وجدت‬ ‫كتبه يف مكتبة والد �صديقي‪ ،‬فا�ستعرتها ف� ً‬ ‫ضوال و�أتذكر �أين الزمت‬ ‫قراءة كتابه (احلقيقة الغائبة) حتى و�أنا �أنتظر موعدا يل بامل�ست�شفى‪،‬‬ ‫�أعجبتني جر�أته يف قراءة تاريخ اخللفاء العبا�سيني ووجدت فيها ما ي�ؤيد‬ ‫موقف درو�سنا الدينية من اخلالفة العبا�سية والأموية‪ ،‬لكني �أخفيت هذا‬ ‫‪92‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:06‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 92‬‬


‫الإعجاب‪ ،‬فالرجل يبقى علماني ًا و�ضد الإ�سالم‪.‬‬ ‫يف ال�سنة اجلامعية الأوىل‪ ،‬من العام ‪ 1990,‬بدا لنا �أن الدر�س‬ ‫اجلامعي يقدم لنا ما ي�صدر عن غري ما كنا ن�صدر عنه‪ ،‬ا�ست�شعرنا لأول‬ ‫مرة بخطر غزو الآخر‪� ،‬شعرنا �أن طهارة معرفتنا ونقاءها‪ ،‬مهددة بهذا‬ ‫الدر�س‪� .‬أخذتنا الغرية الدينية �إىل الذهاب �إىل جامع الدراز‪� ،‬صلينا‬ ‫الظهر خلف ال�شيخ عي�سى قا�سم‪� ،‬أنا و�صديق قراءاتي جعفر �إبراهيم‬ ‫الطعان‪ ،‬وطلبنا �أن نتح ّدث مع ال�شيخ على انفراد‪� ،‬شرحنا له خماوفنا‪،‬‬ ‫و�أو�ضحنا له �أننا ال نخ�شى على �أنف�سنا فلدينا من اليقني واملعرفة والقراءة‬ ‫ما يح�صننا‪ ،‬لكننا نخ�شى على الآخرين من �أن يت�أثروا ب�أفكار ال تلتقي‬ ‫مع الفكر الإ�سالمي الأ�صيل‪ ،‬طلبنا من ال�شيخ �ضرورة التحرك ال�سريع‬ ‫لو�ضع حد لهذا اخلطر‪ .‬ال �أتذكر الآن رد ال�شيخ‪� ،‬أتذكر فقط �أنه �شكر‬ ‫غريتنا ووافقنا �أو بدا �أنه وافقنا ال�شعور بهذه اخلطورة‪�.‬شعرنا بارتياح‪،‬‬ ‫لأننا قمنا بواجبنا الديني‪ ،‬ولأن ال�شيخ تفهم اخلطر الذي �شعرنا به‪،‬‬ ‫ولأن ر�سالتنا �أو�صلناها ب�شكل جيد‪.‬‬ ‫م�ضينا يف در�سنا اجلامعي‪ ،‬م�شككني يف �أ�صالة املعرفة التي‬ ‫يقدمها‪ ،‬وكنت �شخ�صي ًا �أنتظر بفارغ ال�صرب �إنهاء �سنواتي اجلامعية‪،‬‬ ‫لألتحق بدر�س احلوزة‪ ،‬فهناك املعرفة احلقة الأ�صيلة التي ميكن الوثوق‬ ‫فيها‪ .‬عرفت الحق ًا �أن ال�شك يف �صدق املعرفة وم�صدرها وقيمتها‬ ‫ومعياريتها‪ ،‬م�س�ألة تقع يف قلب العلمنة‪ ،‬عرفت ذلك من خالل االلتقاء‬ ‫بكتاب �أركون (العلمنة والدين) وكتاب عادل �ضاهر (الأ�س�س الفل�سفية‬ ‫للعلمانية)‪.‬‬ ‫وهذه املعرفة الالحقة‪ ،‬هي املربر الذي جعلني �أبد�أ �سرد �سرية‬ ‫متثلي ملفهوم العلمانية‪ ،‬من املعرفة الأوىل حيث درو�س م�سجد الراهب‬ ‫ومكتبته‪ ،‬فطبيعة هذه املعرفة التي �شكلتني‪� ،‬صاغت موقفي وفهمي‬ ‫‪93‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:06‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 93‬‬


‫للعلمانية‪ ،‬وهي بحاجة اليوم �إىل مراجعة من �أجل �أن �أفهم حتوالتي و�أن‬ ‫�أفهم كذلك جمتمعي من خالل هذه ال�سرية‪.‬‬ ‫لقد فتحتني الدرو�س الدينية على القراءة ومنت لدي �إح�سا�سا‬ ‫بالواجب جتاهها‪ ،‬لكنها �صاغت ّيف يقين ًا مفرط ًا وغرور ًا بامتالك‬ ‫احلقيقة احلقة ال�صحيحة‪ ،‬بهذا اليقني املفرط �أو لأقل بهذا الغرور‬ ‫املعريف املفرط‪ ،‬تلقيت كتاب عادل �ضاهر (الأ�س�س الفل�سفية للعلمانية)‬ ‫يف العام ‪1993‬م‪ .‬كان �صديقي جعفر الطعان هو من اكت�شف الكتاب‪،‬‬ ‫وحمله �إ ّ‬ ‫يل بعد قراءة الف�صول الأوىل‪ ،‬قال يل هذا كتاب خطري ومهم‪،‬‬ ‫وبحاجة �إىل �أن ير ّد عليه‪ .‬كان ي�صدر عن ح�سا�سية اليقني الديني‬ ‫نف�سه‪ ،‬قلت له البد �أن �أحد ًا من مفكرينا الإ�سالميني �سيتوىل هذا الأمر‪،‬‬ ‫و�سيظهر �ضعفه وتهافته كما فعل ال�سيد حممد باقر ال�صدر يف كتابه‬ ‫(فل�سفتنا) و(اقت�صادنا)‪.‬مل نكن ن�شك �أبدا �أن لدينا احلقيقة الدامغة‪،‬‬ ‫هي فقط حتتاج �إىل من يظهرها‪.‬‬ ‫ا�ستمر جعفر يف قراءته‪ ،‬وكان يطلعني على �أوراق تلخي�صه‬ ‫للكتاب‪ .‬ويدفعني �إىل قراءته‪ ،‬من �أجل �أن نعقد جل�سات نقا�ش حوله‪،‬‬ ‫كما كنا نعقد جل�ستنا مع كتاب (العدل الإلهي) لل�شهيد مطهري‪ ،‬لكن مع‬ ‫فارق �أننا كنا نريد تفنيد الكتاب‪ ،‬يف حني كنا مع مطهري نريد تثبيت‬ ‫الكتاب‪ ،‬تثبيته يف قلوبنا وعقولنا‪ ،‬لنزداد يقينا‪.‬‬ ‫بدت يل لغة الكتاب �صعبة وجافة‪ ،‬ووجدت �أن معرفته املنطقية‬ ‫والفل�سفية تفوق تكويني‪ ،‬لكني مل �أعرتف بهذا النق�ص‪ ،‬وكابرت‪ ،‬وعقدنا‬ ‫بع�ض اجلل�سات التي فتحت يل مغاليق هذه الأ�س�س الفل�سفية‪ .‬ظ ّل‬ ‫الكتاب معنا مدة طويلة‪ ،‬ولوال حما�س جعفر و�إ�صراره لكنت ان�صرفت‬ ‫عنه‪ .‬بالإ�ضافة �إىل �أن خويف من ال�شعور بالهزمية الداخلية جتاه املعرفة‬ ‫الر�صينة التي يقدمها هذا الكتاب‪ ،‬كان �سي�صرفني عنه‪ ،‬وهو خوف‬ ‫‪94‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:06‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 94‬‬


‫بطبيعته نرج�سي ونف�سي وجماعي �أي�ضا‪.‬‬ ‫الدر�س الأعمق الذي ف�ضحني فيه هذا الكتاب‪ ،‬يتمثل يف �أنه‬ ‫ك�شف يل ه�شا�شة تكويني املعريف‪ ،‬لقد اكت�شفت �أنني ال �أتقن �شيئ ًا من‬ ‫در�س الفل�سفة‪ ،‬وال �أملك معرفة منطقية ر�صينة‪.‬ال �أملك غري تكوين‬ ‫ديني �أيديولوجي‪ ،‬فيه الإميان �أكرث من املعرفة‪ ،‬واليقني �أكرب من ال�شك‪،‬‬ ‫واالمتالء ال يدع جماال للعوز‪ ،‬والتب�شري يفوق التنظري‪ ،‬والدفاع ي�سبق‬ ‫الفهم‪.‬‬ ‫لأول مرة عرفت �أن العلمانية لها �أ�س�سها الفل�سفية‪ ،‬و�أن املعرفة‬ ‫الفل�سفية ال حتتاج �إىل �شواهد من التاريخ وال ن�صو�ص من الدين‪� ،‬أنت‬ ‫�أمام حجاج عقلي‪ ،‬عليك �أن ت�صوغ حجتك باملنطق وت�سوغها بالفل�سفة‪.‬‬ ‫لن ي�سعفك االحتجاج بدولة الر�سول وممار�ساته ال�سيا�سية‪ ،‬ولن تخدمك‬ ‫الن�صو�ص القر�آنية وال الأحداث التاريخية‪.‬‬ ‫بدا يل تعريف العلمانية (ف�صل الدين عن الدولة) قا�صر ًا‬ ‫عن ا�ستيعاب مفهوم العلمانية‪ ،‬رمبا هو �أحد نتائجها‪� ،‬أو �أحد �سماتها‬ ‫التاريخية‪� ،‬أو غاية من غايتها‪ ،‬لكن ال ميكن االنطالق منه لفهم‬ ‫العلمانية‪� ،‬صارت العلمانية مفهوم ًا مركب ًا ومعقد ًا‪ ،‬وال ميكن اخت�صارها‬ ‫يف جملة جامعة مانعة‪ ،‬كما كنا نفعل يف املدر�سة‪.‬‬ ‫غر�ض كتاب عادل �ضاهر �أن يبني عن طريق اللجوء �إىل‬ ‫اعتبارات فل�سفية خال�صة (�أب�ستمولوجية ومنطقية �أو مفهومية) �أن‬ ‫املوقف العلماين هو موقف ال مفر منه من منظور عقالين و�أن مفهوم‬ ‫الدولة الدينية مرفو�ض من حيث املبد�أ‪.‬‬ ‫بهرتني قدرة الكتاب على �إدارة هذه االعتبارات‪ ،‬ووجدت يف‬ ‫قوة معاجلته‪ ،‬ف�ضح ًا له�شا�شة الكتابات الإ�سالمية التي تربيت عليها‪،‬‬ ‫بدت يل وك�أنها كتب دعوة �أكرث منها كتب فكر‪.‬ا�سرتجعت فكرة �صديقي‬ ‫‪95‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:06‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 95‬‬


‫حول �أهمية الرد على هذا الكتاب‪ ،‬ووجدتها م�ستحيلة‪ ،‬فاملعرفة التي‬ ‫ينطلق منها هذا الكتاب لي�ست من جن�س املعرفة التي ينطلق منها‬ ‫الكتّاب الإ�سالميو ن الذين عرفتهم وقر�أتهم‪ ،‬فهم ينطلقون من م�سلمات‬ ‫�أيديولوجية ودينية وخطابية‪ ،‬وهو ينطلق من �أ�س�س فل�سفية �صلبة‪ .‬ورمبا‬ ‫تعزز عندي هذا االعتقاد �أكرث حني قر�أت الف�صل الثاين من الكتاب‪،‬‬ ‫وفيه يفرق بني طبيعة املعرفة الدينية واملعرفة العملية‪.‬‬ ‫املعرفة الدينية هي �أي معرفة تكون لدينا عن وجود اهلل �أو‬ ‫�صفاته �أو �أفعاله �أو مقا�صده و�أية معرفة ن�شتقها منطقيا من ال�سابقة‪.‬‬ ‫وهي تبد�أ مبعرفتنا �أن اهلل موجود بو�صفه اخلالق الواحد الأحد والأزيل‬ ‫لكل �شيء وبو�صفه كلي احل�ضور وكلي القدرة وكلي املعرفة وكلي اخلري‬ ‫وكامل احلرية وم�صدرا للإلزام الأخالقي وواجب الوجود‪.‬‬ ‫هذه املعرفة هي التي تربيت عليها‪ ،‬وذهبت �إىل جامع الدراز‬ ‫�أ�ست�صرخ ال�شيخ من �أجل متكينها من �أن تكون هي در�سنا اجلامعي‪ .‬هذه‬ ‫هي املعرفة التي وجدت يف �أ�س�سها نهاية العامل ونهاية املعرفة ونهاية‬ ‫الإن�سان‪ ،‬ال ميكنك �أن حترك ل�سانك وال عقلك وال ج�سدك وال روحك‬ ‫�إال وفق هذه املعرفة‪ ،‬وال ميكنك �أن ت�ش ّيد معرفة ال جتد منتهاها يف هذه‬ ‫املعرفة‪.‬‬ ‫حتى ما تن�شئه من تنظيمات حزبية و�أيديولوجية و�سيا�سية‬ ‫عليك �أن ت�شقه من هذه املعرفة‪ ،‬كل ما ال يتخذ من هذه املعرفة مقدمة‬ ‫له �أو قناعا له يفقد �شرعيته‪� ،‬سواء �أكان دولة �أو ر�أي ًا �أو فكرة �أو ن�شاط ًا �أو‬ ‫�سلوك ًا �أو معرفة‪.‬املوقف من هذه املعرفة و�أولويتها هو ما يحدد وجودك‬ ‫ال�شرعي يف احلياة‪ ،‬بل احلياة تفقد �شرعيتها حني ال تكون هذه املعرفة‬ ‫�أ�سا�سها‪.‬‬ ‫هذه املعرفة ميثلها (النقل)‪ ،‬ومبا هي نقل فهي ت�سبق الإن�سان‪،‬‬ ‫‪96‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:06‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 96‬‬


‫ت�سبق وجوده وعقله‪ ،‬على الإن�سان �أن ُيح ّكم هذا ال�سابق يف وجوده‬ ‫الالحق‪� ،‬أي �أن ُيح ّكم النقل‪ .‬واجلملة ال�شهرية املعربة عن هذا التحكيم‬ ‫هي "ال ي�صلح �آخر هذه الأمة �إال مبا �صلح به �أولها"(‪.)24‬‬ ‫تعلمت من هذا الكتاب �أن �أفرق بني ما هو ذو �ش�أن تاريخي‬ ‫وبني ما هو ذو �ش�أن منطقي‪ ،‬فالعلمانية ال ميكن �أن �أع ّرفها بالأغرا�ض‬ ‫التاريخية التي ا�ستهدفت حتقيقها احلركات العلمانية يف الغرب‪ .‬وهي‬ ‫�أغرا�ض كانت تهدف �إىل التخ ّل�ص من هيمنة الكني�سة على �ش�ؤون‬ ‫ال�سيا�سة وحترير ال�سلطة ال�سيا�سية من �أي ت�أثري مبا�شر �أو غري مبا�شر‬ ‫من قبل ال�سلطة الدينية املتمثلة ب�سلطة الأكلريو�س‪.‬‬ ‫كان مفهوم (النواة ال�سيمانتية �أي الداللية) جت�سيد ًا لهذا‬ ‫التفريق بني ما هو تاريخي وما هو �ش�أن منطقي‪ ،‬و�أذكر �أين تولعت بهذا‬ ‫املفهوم تولعا غريبا‪ ،‬ورمبا �أف�سره اليوم‪ ،‬ب�أنه يعود �إىل �أن طبيعة املعرفة‬ ‫الأيديولوجية التي تقدمها احلركات الدينية �أو غري الدينية حتى تقوم‬ ‫دوم ًا على الفو�ضى الداللية واخللط الداليل للمفاهيم‪ ،‬وعرب هذا اخللط‬ ‫ت�سمم املفاهيم التي ال تريدها فتت�شوه يف نظر �أتباعها‪ ،‬وبهذا ت�ضمن‬ ‫بقاء م�ؤيديها �ضمن هيمنتها‪ .‬لقد منحني هذا املفهوم مفتاح ًا لك�شف‬ ‫هذه اال�سرتاتيجية واحلذر من �آلية عملها يف تكويني‪ ،‬ورمبا كان مفهوم‬ ‫العلمانية هو ال�شاهد الأكرث داللة على ذلك‪ .‬وبد�أت �أفهمها بك�شف �أقنعة‬ ‫هذه اللعبة لعبة اخللط الداليل‪.‬‬ ‫النواة ال�سيمانتية اجلوهرية للمفهوم �أو ال�سمات ال�ضرورية‬ ‫للمفهوم‪ ،‬هي كما يقدمها كتاب عادل �ضاهر‪ ،‬تلك ال�سمات الأب�سط‬ ‫للمفهوم ذات الأ�سبقية املنطقية على كل �سماته الأخرى‪� ،‬إنها املكونات‬ ‫الأ�سا�سية للمفهوم‪� ،‬إنها ما ن�شتق منه كل �سمات املفهوم الأخرى‪� ،‬سمات‬ ‫‪24‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:06‬‬

‫انظر في هذا الكتاب‪ ،‬ص‪.‬‬

‫‪97‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 97‬‬


‫مفهوم الدميقراطية مثال هي احلرية وامل�ساواة بني �أع�ضاء املجتمع‬ ‫بالن�سبة �إىل احلق يف االنتخابات‪.‬فهاتان ال�سمتان حتققان غر�ض‬ ‫الدميقراطية وهو حكم ال�شعب لنف�سه‪ .‬وبهاتني ال�سمتني ميكن للمحكومني‬ ‫�أن مينحوا احلاكمني موافقتهم احلرة ليتولوا �ش�ؤون احلكم‪.‬‬ ‫من هذه النواة الداللية املنطقية بد�أت النظر �إىل العلمانية من‬ ‫منظور كونها موقفا من الإن�سان والقيم والدين وموقفا اب�ستمولوجيا من‬ ‫طبيعة املعرفة العملية ومن طبيعة عالقتها الدينية‪ .‬وهي م�شتقة لي�ست‬ ‫من العلم‪ ،‬بل من العامل‪ ،‬من دور الإن�سان يف العامل الدنيوي واكت�شافه‬ ‫وعي�شه معتمدا يف هذا االكت�شاف وهذا العي�ش عقله مرجعا له‪ .‬وهذا‬ ‫يعني �إعطاء الأولوية لالعتبارات العقلية يف كل ما له عالقة بال�ش�ؤون‬ ‫الدنيوية‪ .‬وهذا يعني �أي�ضا �أن املعرفة العملية‪� ،‬أي املعرفة املطلوبة لغر�ض‬ ‫تنظيم �ش�ؤوننا الدنيوية‪ ،‬ال جتد منتهاها يف الدين‪.‬‬ ‫وهذا ما يجعل من العلمانية هي تقدمي العقل على النقل‪ .‬وبهذا‬ ‫علي �أن �أقلب �سريتي املعرفية التي بد�أت بتقدمي النقل‬ ‫التعريف‪� ،‬صار ّ‬ ‫على العقل‪.‬‬ ‫بدت يل العلمانية من خالل كتاب (الأ�س�س الفل�سفية للعلمانية)‬ ‫موقف ًا عقلي ًا حم�ض ًا‪ ،‬ال روح فيه‪ ،‬وال خيال‪ ،‬وال خ�صو�صية ثقافية متيزه‪.‬‬ ‫موقف مت�صلب من املعرفة‪ ،‬ومتجهم من الدين‪ ،‬يحتل العقل فيه ذروة‬ ‫ال�سيادة‪ .‬واملعرفة والأخالق والقيم جتد منتهاها ومعياريتها يف العقل‬ ‫وحده‪ ،‬والإن�سان قادر على �أن ين�شئ عامله بنف�سه‪ ،‬وقادر على �أن يدير‬ ‫كل �شيء با�ستقاللية تامة‪ ،‬ومن دون �أن يكون بحاجة �إىل مرجعية‬ ‫تتجاوزه‪ ،‬والعلمانية ال�ضاهرية ‪ -‬ن�سبة �إىل عادل �ضاهر ‪ -‬بدت يل حقبة‬ ‫معرفية ي�صلها الإن�سان بتجاوز الدين‪ ،‬متاما كما هو الأمر عند الو�ضعية‬ ‫املنطقية كما جتلت عند �أوغ�ست كونت‪ ،‬ي�صلها الإن�سان بتحكيم العلم‬ ‫‪98‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:06‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 98‬‬


‫ورف�ض اخلرافة ثم رف�ض الدين‪.‬‬ ‫لقد كانت الأدوات املنطقية والقدرة الفل�سفية التي متيز بها‬ ‫خطاب عادل �ضاهر‪ ،‬قادرة على �أن تريني ه�شا�شة خطاب الإ�سالميني‪،‬‬ ‫و�أن ت�شبع فيني ا�ستعالء يريني مقوالتهم يف �صورة خطاب �شعبوي‪ ،‬ال‬ ‫قدرة �إقناعية له �إال على العامة من املتدينني الب�سطاء‪.‬‬ ‫مع �أركون بدت يل العلمنة موقفا للروح جتاه العامل‪ ،‬وهي �إحدى‬ ‫مكت�سبات الروح الب�شرية يف بحثها عن احلرية‪ ،‬وهذا ال يعني �أنها لي�ست‬ ‫موقف ًا جتاه املعرفة‪ ،‬بل هي كذلك‪ ،‬والإن�سان ال تتحرر روحه من غري‬ ‫املعرفة‪ ،‬موقف روحه من املعرفة يحدد �شكل وجوده ومنط عي�شه‪.‬‬ ‫الروح يف خطاب �أركون ت�ستح�ضر تركيبة الإن�سان املعقدة‪،‬‬ ‫ت�ستح�ضر عقله وقيمه و�سلوكه وخياله ومنطقه وقلبه وحركته املتجلية يف‬ ‫كل ما يدل على �إن�سانيته‪ ،‬لذلك ال غرابة �أن يذهب �أركون يف بحثه عن‬ ‫جتربة العلمنة يف ال�سياقات الإ�سالمية �إىل جيل م�سكويه والتوحيدي‪،‬‬ ‫وهما ي�صوغان بانفتاح روحيهما حركة (الهوامل وال�شوامل)‪.‬‬ ‫لقد كان التوحيدي مهموم ًا بفهم احلركة‪ ،‬وتعريف الإن�سان من‬ ‫خاللها‪ ،‬وقد اتخذت من فهمه عنوان ًا حلركة (مدونتي) على الإنرتنت‪،‬‬ ‫كان هكذا يرى جتليات احلركة يف الإن�سان ”ثم �إن احلركة بعد ذلك‬ ‫يف العني طرف‪ ،‬ويف احلاجب اختالج‪ ،‬ويف الل�سان منطق‪ ،‬ويف النف�س‬ ‫بحث‪ ،‬ويف القلب فكر‪ ،‬ويف الإن�سان ا�ستحالة‪ ،‬ويف الروح ت�شوف‪ ،‬ويف‬ ‫العقل �إ�ضاءة وا�ست�ضاءة”‪.‬‬ ‫لقد فهمت العلمنة بهذا املعنى الروحي‪ ،‬حترير حركة روح‬ ‫الإن�سان بتجلياتها املتعددة من هيمنة الذروة �أو ال�سيادة العليا �أو‬ ‫احلاكمية املطلقة‪� ،‬سواء جاءت يف �شكل علم و�ضعي �صارم و�أحادي‬ ‫يف فهمه للحقيقة‪� ،‬أو جاءت يف �شكل دين م�ؤدلج بال�سيا�سة وامل�صالح‬ ‫‪99‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:07‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 99‬‬


‫واالنغالق‪� ،‬أو جاء يف �شكل حزب �سيا�سي حديدي �إق�صائي‪� ،‬أو جاءت‬ ‫يف �شكل والية مطلقة ُتعطى لفقيه �أو ويل �أمر �أو زعيم روحي‪� ،‬أو جاء يف‬ ‫هيئة �سوق ر�أ�سمايل مادي يجعل من الإن�سان �سلعة حمو�سلة‪.‬‬ ‫العلمنة �أن �أنفك من هذه احلاكمية املطلقة يف �صورها املتعددة‪،‬‬ ‫و�أمار�س حريتي بانفتاح على اخليال والعقل والدين والعلم وال�سيا�سة‬ ‫والعامل والإن�سان والرتاث والآخر‪ ،‬العلمنة بهذا املعنى �أن تعي�ش العامل‬ ‫يف �أو�سع ما ميكن‪.‬‬ ‫العلمنة بهذا املعنى ن�ضال روحي قلق ومتوتر جتاه كل ما يحول‬ ‫بينك وبني املعرفة‪ ،‬معرفة نف�سك والعامل والآخر‪� ،‬سواء كان ما يحول‬ ‫بينك وبني العامل �أيديولوجيا مغلقة �أو دين مغلق �أو مذهب يقدم نف�سه‬ ‫يف �صيغة طوق جناة‪ ،‬بعزلك عن االنفتاح على العامل وتناق�ضاته‪.‬‬ ‫بهذا �أفهم العلمنة جتربة يف الوجود يف العامل‪ ،‬ال ميكن لأحد �أن‬ ‫يحتكرها‪ ،‬وال ميكن ل�صيغة من ال�صيغ �أن ت�ستنفد معناها‪ ،‬وهذا ما جعل‬ ‫�أركون من �أ�شد الناقدين لتجربة �أتاتورك العلمانية‪ ،‬وجتربة الي�ساريني‬ ‫واال�شرتاكيني والقوميني‪ ،‬فتجربة �أتاتورك مثال جتربة علموية ولي�ست‬ ‫علمانية‪ ،‬لأنها مل ت�أخذ يف اعتبارها جتربة الإن�سان الروحية ومناخها‬ ‫الرمزي وتركيبها التاريخي‪ ،‬كما �أنه وقف يف االجتاه امل�ضاد لعلمانية‬ ‫فرن�سا يف �إق�صائها للدين من دائرة املعرفة التعليمية يف املدار�س‪ ،‬لكن‬ ‫مل يفعل ذلك على طريقة من يريدون �أن ين�شئوا معهدا دينيا لكل طائفة‪،‬‬ ‫بل على طريقة من يريد �أن يدخل الدين كتجربة روحية و�إن�سانية تعي�شها‬ ‫الب�شرية يف جتليات متعددة‪.‬‬ ‫كما �أنه وقف يف االجتاه امل�ضاد للعلمانية التي تريد �أن حتتكر‬ ‫العلمنة يف جتربة الغرب وامل�سيحية‪ ،‬وك�أنها �ش�أن م�سيحي ال ميكن‬ ‫للآخرين كامل�سلمني �أن يدخلوها‪ .‬لقد دخل �أركون ن�ضاالت علمية ومعرفية‬ ‫‪100‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:07‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 100‬‬


‫من �أجل �أن يثبت �أن جتربة العلمنة ممكنة يف ال�سياقات الإ�سالمية‪.‬‬ ‫اجلانب الروحي الذي نفاخر فيه يف الإ�سالم من غري العلمنة‪،‬‬ ‫يغدو جمرد دوائر �صغرى ت�أخذ ت�سميات مذهبية وطائفية‪ ،‬وت�صبح‬ ‫لكل دائرة روحها املغلقة عليها‪ ،‬هي روح مغلقة على طائفتها ومذهبها‬ ‫وغايتها اخلال�ص لي�س يف الدنيا بل اخلال�ص يف الآخرة‪ ،‬وهي م�ستعدة‬ ‫�أن متوت وتعي�ش حمنتها يف �صراعها الوجودي مع الدوائر الأخرى‪ ،‬بل �إن‬ ‫روحانيتها املغلقة ال تت�سع للآخرين‪ ،‬وت�ضيق هذه الروحانية عليها حتى‬ ‫االختناق‪ .‬وال�شاهد على ذلك‪ ،‬ما ن�شهد من �صراعات واحرتابات بني‬ ‫دوائر اجلماعات الدينية املحلية‪� ،‬صراعات ت�ستنفر فيها �أق�صى طاقاتها‬ ‫الروحية املذهبية‪ .‬ورمبا تكون املنتديات الإلكرتونية بعنفها خري ممثل‬ ‫لهذه الروحانية املوتورة‪.‬‬ ‫الدر�س الذي نتعلمه من هذه الروحانيات ذات الدوائر املغلقة‪،‬‬ ‫�أننا بحاجة �إىل علمنة تفتح اجلانب الروحي يف الإ�سالم على الدنيا‬ ‫والعامل‪ ،‬كي حتت�ضن روحك كل العامل‪ ،‬وجتاربه الزمنية بهذا املعنى ال‬ ‫ميكن �أن نفهم العلمنة على �أنها احتكار غربي‪ ،‬وقد ولدت يف الغرب‬ ‫لأ�سباب تاريخية �صراعية بني الكني�سة والعلم �أو بني الكني�سة والعامل‪،‬‬ ‫وكي يثبت �أركون �أنها لي�ست �ش�أن ًا م�سيحي ًا خال�ص ًا‪ ،‬راح يقر�أ هذه التجربة‬ ‫يف �سياق حترير الإن�سان ومعناه يف احل�ضارة الإ�سالمية‪ ،‬متحررا من �أي‬ ‫�سلطة حتتكر املعرفة �أو الأر�ض �أو ال�سماء �أو الإله �أو الإن�سان �أو ال�شعب �أو‬ ‫الت�شريع‪.‬‬ ‫بهذا التحرير نحمي الدين من �أن تت�سلط عليه �أي جماعة �أو‬ ‫�سلطة‪ ،‬ومننحه ف�ضاء حر ًا ليعي�ش يف النا�س كما تتمثله جتاربهم‪.‬‬ ‫بهذا الفهم رحت �أفتح روحي على العامل وجتاربه‪ ،‬فالعلمنة‬ ‫ب�سط جتربتك الروحية‪ ،‬من قب�ض االنغالق‪.‬‬ ‫‪101‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:07‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 101‬‬


‫املعرفة الدينية‪� ،‬ستغدو �شيئ ًا من التاريخ املا�ضي �إن مل‬ ‫تتعلمن‪ ،‬وتلك مهمة يقوم بها اليوم علم الكالم اجلديد‪ ،‬يف انتعا�شته‬ ‫الإيرانية اليوم‪� ،‬إنه ميثل روحا جديدة منفتحة على العامل بحركة‬ ‫�أ�سئلته ومنطلقاته وغاياته و�أفقه ومفاهيمه‪ .‬املعرفة الدينية التي �أنتجها‬ ‫علم الكالم القدمي‪ ،‬ت�شهد على موتها ال�صراعات الكالمية املذهبية‪،‬‬ ‫واحلجاجات العقيمة يف املنتديات الإلكرتونية والتلفزيونية التي تنازعها‬ ‫روح طائفية وخالفات عقْدية‪.‬‬ ‫ ال غنى للإن�سان عن املعرفة الدينية‪ ،‬فهي جتيب عن �أ�سئلته‬ ‫الوجودية وامليتافيزيقية‪ ،‬لكنها �إن بقيت جامدة خارج حركة العامل وزمانه‬ ‫اعرتاها الف�ساد‪.‬فاحلركة كما يخربنا التوحيدي يف مقاب�ساته"احلركة‬ ‫كون وف�ساد‪ ،‬ومنو ونق�صان‪ ،‬وا�ستحالة و�إمكان‪ ،‬و�إمنا تباينت هذه‬ ‫الأ�سماء ملعان حتققت يف النف�س باالعتبار ال�صحيح‪ ،‬فاحلركة يف النار‬ ‫لهب‪ ،‬ويف الهواء ريح‪ ،‬ويف املاء موج‪ ،‬ويف الأر�ض زلزلة"‪.‬‬ ‫يبقى احلديث عن العلمنة كما تلقيتها عند عبدالوهاب امل�سريي‪.‬‬ ‫خــرائط امل�س ــريي‬ ‫تعرفت على خارطة امل�سريي الفكرية‪ ،‬مع مطلع العام ‪2001,‬‬ ‫كنت حينها قد انقطعت مدة تزيد على ال�سنوات اخلم�س عن قراءة‬ ‫الكتب واملجالت التي ت�صدر عن نف�س �إ�سالمي �أيديولوجي‪ ،‬لأ�سباب يل‬ ‫�س �أقلها �أنها ما عادت ت�ستطيع �أن تقول �شيئ ًا جديد ًا‪ ،‬ولي�س �أكرثها �أين‬ ‫كنت �أبحث عن �أفق جديد‪ ،‬يف فهم ذاتي وعاملي‪ ،‬لكن يف العام ‪2001‬‬ ‫زرت (قم املقد�سة) وهناك تعرفت على م�شروع عبداجلبار الرفاعي‪،‬‬ ‫عرب جملته «ق�ضايا �إ�سالمية معا�صرة»‪ ،‬بد�أت �أكت�شف �أن هناك نف�س ًا‬ ‫جديد ًا‪ ،‬ميثله علم الكالم اجلديد‪.‬‬ ‫‪102‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:07‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 102‬‬


‫م�شروع الرفاعي كان معني ًا بتقدمي علم الكالم اجلديد‬ ‫الإيراين خ�صو�صا �ضمن عنايته بتقدمي خطاب ديني معريف جديد‪ ،‬فيه‬ ‫املعرفة ترو�ض الأيديولوجي‪ ،‬تعرفت يف هذا ال�سياق على عبدالكرمي‬ ‫�سرو �ش‪ ،‬حممد جمتهد �شب�سرتي‪ ،‬ملكيان‪ ،‬وغريهم‪ ،‬كان �أفقهم مغاير ًا‬ ‫متام ًا ومن�صهر ًا متاما مع الأفق الذي �أقر�أ فيه‪ ،‬حت�ضر يف هذا الأفق‬ ‫النظريات احلديثة واملفاهيم اجلديدة والأعالم الذين �صاروا ميثلون‬ ‫امل�شهد الفل�سفي احلديث‪ .‬ك�أين اكت�شفت قراءة جدية وجديدة للرتاث‬ ‫الديني‪.‬‬ ‫يف هذا ال�سياق ح�ضر عبدالوهاب امل�سريي واحد ًا من كتّاب‬ ‫جملة (ق�ضايا �إ�سالمية معا�صرة)‪ ،‬لكني مل �أكن قد قر�أت له يف هذه‬ ‫املجلة بعد‪ ،‬لكن املجلة قادتني �إىل �أن �أتعرف على جملة (�إ�سالمية‬ ‫املعرفة) التي ت�صدر عن املعهد العاملي للفكر الإ�سالمي يف �أمريكا‪،‬‬ ‫هناك قر�أت للم�سريي‪ ،‬درا�سة ال تنتمي �أبد ًا �إىل نف�س الكتابات الإ�سالمية‬ ‫�شم رائحتها ولو على بعد �سبعة فرا�سخ‪.‬‬ ‫الأيديولوجية التي ال �أخطئ ّ‬ ‫قر�أتُ للم�سريي‪ ،‬ف�شدين حديثه عن النماذج املعرفية‪ ،‬وكيفية‬ ‫بنائها‪ ،‬و�أهميتها يف قراءة الوقائع‪ .‬هنا ا�ستح�ضرت خارطة قراءتي‬ ‫النقدية مفاهيم قريبة من هذا احلقل‪ ،‬كالنماذج الإر�شادية والأنظمة‬ ‫املعرفية واالب�ستمية والعقل املك ِّون والعقل املك َّون‪ ،‬وجدت يف خطاب‬ ‫امل�سريي اكت�شاف ًا جديد ًا ي�ستحق االحتفاء‪ ،‬فرحت �أقر�أه بفرحة املكت�شف‪.‬‬ ‫هكذا كانت خارطة الطريق �إىل امل�سريي‪.‬‬ ‫النموذج �أداة حتليل‬ ‫كان مفتاح دخويل �إىل خارطة امل�سريي‪ ،‬هو اعتماده النماذج‬ ‫التف�سريية بو�صفها �أدوات حتليل‪ ،‬ولي�س املنافحات الأيديولوجية‪ ،‬وال‬ ‫الرتاكمات املعلوماتية‪ ،‬وكم فرحت حني قر�أت يف �سريته غري الذاتية‬ ‫‪103‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:07‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 103‬‬


‫غري املو�ضوعية (رحلتي الفكرية‪ ..‬البذور واجلذور والثمار)‪ ،‬عن تذمره‬ ‫ال�شديد من التلقي املعلوماتي له‪ ،‬فهو يقول ب�أمل ‘’للأ�سف ال�شديد قام‬ ‫كثري من النقاد ولعهد طويل بح�صري داخل �إطار املعلومات ال�ضيق‬ ‫وامل�ستوى التحليلي ال�سيا�سي‪ ..‬هناك البع�ض ممن ينظرون �إىل درا�ساتي‬ ‫من هذا املنظور فال يجدون فيها معلومات �صلبة كافية‪ ،‬وال اجلداول‬ ‫التي يتوقون لها‪ ،‬وال الإح�صاءات التي ت�شفي غليلهم املعلوماتي ومن ثم‬ ‫فهم يرون �أعمايل ال قيمة لها"(‪.)25‬‬ ‫لقد �أٌهمل البعد الفل�سفي املعريف الذي يقف خلف الكم‬ ‫املعلوماتي الذي يديره امل�سريي برباعة‪ ،‬لكنها براعة لي�ست منبعها الكم‬ ‫بل الكيف الذي يكمن �سره يف قدرته على بناء مناذج تف�سري‪ ،‬وهي مناذج‬ ‫غري مغلقة‪ ،‬بل مفتوحة‪ ،‬والدليل على انفتاحها �أن امل�سريي ال ميل من‬ ‫�أن يذكرنا �أن النموذج يحمل قدرة تف�سريية لكنه ال يحمل كل القدرة‪،‬‬ ‫�أي �أن النماذج تتفاوت يف قدرتها على تف�سري الوقائع واملعلومات‪ ،‬فهي‬ ‫تو�صف ب�أنها �أكرث تف�سريية و�أقل تف�سريية‪ ،‬وال تو�صف بال�صحة واخلط�أ‪،‬‬ ‫وهي قابلة دوم ًا للتعديل والتطوير‪ ،‬لذلك مل يكن يجد حرج ًا يف �أن يروي‬ ‫لنا كيف تطورت مناذجه التف�سريية منذ ال�سبعينيات وحتى الت�سعينيات‪،‬‬ ‫عرب املراجعة واالختبار‪.‬‬ ‫معارك النماذج‬ ‫كانت معاركه طيلة �سريته معارك �سببها �إميانه بفكرة النماذج‬ ‫والتف�سريية واخلرائط الإدراكية ودفاعه عنها‪ ،‬معاركه مع النقاد الذين‬ ‫ال يعطون قيمة لغري املعلومة‪ ،‬ومع زمالئه الأكادمييني يف اجلامعات‬ ‫الذين يراكمون معارف تاريخية عن ال�شعراء وظروفهم وع�صرهم‬ ‫‪25‬‬

‫‪104‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:07‬‬

‫املسيري‪ ،‬رحلتي الفكرية‪ ..‬البذور واجلذور والثمار‪ ،‬ص ‪560.‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 104‬‬


‫و�أ�سماء ق�صائدهم‪ ،‬ويبنون �أحكام ًا �سطحية ال ت�ستطيع �أن تنفذ �إىل‬ ‫عمق ما يراكمون‪.‬‬ ‫ولع ّل من املفارقات التي حت�سب للم�سريي هنا‪ ،‬هي املفارقة‬ ‫بني �إميانه بالنماذج التف�سريية‪ ،‬والكم الكبري من التفا�صيل التي يرويها‬ ‫يف كتبه و�سريته‪ ،‬حتى تظن �أن لديه مركز معلومات وطاقم �سكرتريات‬ ‫يد ّون �سجالته ال�شخ�صية والأر�شيفية‪ ،‬جتده يتحدث عن تفا�صيل �سرية‬ ‫�أطروحته للدكتوراه وكتابتها وحمتويات ف�صولها وحكاية الأ�ساتذة‬ ‫الذين تولوا قراءتها و�صدامته املعرفية وال�شخ�صية معهم وما حدث يوم‬ ‫مناق�شتها‪ ،‬وجتد حكايته مع مر�ضه وتفا�صيل زيارته للأطباء و�أ�سمائهم‬ ‫وخلفياتهم وطريقة �إدارتهم للمر�ض ور�ؤيته للموت وتطورها‪ ،‬وحكاية‬ ‫ق�سم الدرا�سات العليا باجلامعات ال�سعودية و�صراعه مع �أ�ساتذة كم‬ ‫املعلومات‪ .‬وحديث عن مدينته دمنهور وتاريخها وحكايات نا�سها‪.‬‬ ‫ما الذي يجمع هذه احلكايات؟‬ ‫يجمعها النموذج التف�سريي واخلريطة الإدراكية‪ ،‬ت�أتي هذه‬ ‫التفا�صيل واحلكايات يف �سياق منوذج يف�سر من خالله امل�سريي برباعة‬ ‫ما يحدث ويقع‪ .‬لن جتد حكاية من غري �سند ي�شدها‪ ،‬وال تف�صيلة‬ ‫من غري �سياق ُيكمل معناها‪ .‬و�سند احلكايات و�سياق املعنى جتده يف‬ ‫النماذج التف�سريية‪ ،‬واخلرائط الإدراكية التي هي "املقوالت وال�صور‬ ‫الإدراكية التي يدرك من خاللها الإن�سان نف�سه وواقعه ومن حوله من‬ ‫ب�شر وجمتمعات و�أ�شياء‪ .‬وهذه املقوالت وال�صور ت�شكل خريطة يحملها‬ ‫الإن�سان يف عقله ويت� ّصور �أن عنا�صرها وعالقات هذه العنا�صر بع�ضها‬ ‫ببع�ض ت�شكل عنا�صر الواقع وعنا�صره"‪.‬‬ ‫ �إن التفا�صيل اخلا�صة ال�صغرية التي يجيد امل�سريي عربها‬ ‫ك�شف خرائطنا الإدراكية‪ ،‬هي ما يعطي لكتاباته �ألفة و�سال�سة وبيان ًا‬ ‫‪105‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:07‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 105‬‬


‫بالغ البالغة من غري تكلف وال زخرفة‪ .‬والدر�س الذي يعطيك �إياه‬ ‫امل�سريي يف �سريته منذ ال�صفحات الأوىل هو‪ :‬انطلق من اخلا�ص �إىل‬ ‫العام‪ .‬من جتربتك‪ ،‬من حكايتك‪ ،‬من �سريتك‪ ،‬من قريتك ومدينتك‬ ‫وح�ضارتك وثقافتك‪.‬‬ ‫املوقف والر�ؤية‬ ‫الفرق بني الكاتب واملف ّكر‪ ،‬يكمن يف الفرق بني الر�ؤية واملوقف‪،‬‬ ‫ي�صري الكاتب مفكر ًا متى كانت مهمته �إنتاج ر�ؤى‪ ،‬ويظل كاتب ًا فقط متى‬ ‫انح�صرت وظيفته يف بناء مواقف‪ .‬وهذا الفرق الذي قد يبدو ب�سيط ًا �أجده‬ ‫ع�سري ًا و�شاقا‪ ،‬وكثري ًا ما جتد �أنك ت�صنف مبجرد �أن تبدي �أنك مهتم‬ ‫بكتب م�ؤلف ما‪ .‬حتى �إين �صرت �أحتا�شى �أن �أبدي اهتماماتي القرائية‬ ‫لهذا ال�سبب‪ ،‬فعلى �سبيل املثال‪� ،‬إعجابي بكتب الفيل�سوف املغاربي طه‬ ‫عبدالرحمن‪ ،‬مل يكن �إعجاب ًا مبواقفه جتاه الغرب وجتاه احلداثة وجتاه‬ ‫ما بعد احلداثة‪ ،‬وال تطابق ًا معها‪ ،‬بقدر ما هو �إعجاب مبفاهيمه املبتكرة‬ ‫يف قراءة الرتاث الفل�سفي‪ ،‬كمفهوم فقه الفل�سفة ومفهوم الت�أثيل‪� ،‬أي‬ ‫�إعجاب بهذه املفاهيم مبا هي مفاتيح للر�ؤية والفهم والتحليل‪.‬‬ ‫كذلك �إعجابي بامل�سريي‪ ،‬لي�س نابع ًا مبواقفه جتاه ما بعد‬ ‫احلداثة والغرب وال�صهيونية ونظام احلكم امل�صري‪ .‬و�إمنا �إعجاب‬ ‫مبفاهيمه التي ابتكرها يف قراءة خطاب احل�ضارة الغربية‪ ،‬كمفهوم‬ ‫التحيز‪ ،‬اخلرائط الإدراكية‪ ،‬النماذج التف�سريية‪ ،‬العلمانية ال�شاملة‪،‬‬ ‫اجلزئية‪ ،‬والكمونية واحللولية‪.‬‬ ‫من ال�صعب �أن تو�ضح هذه الفروقات التي تك�شف من خاللها‬ ‫�سر �إعجابك وقراءتك للم�سريي �أو طه عبدالرحمن‪ ،‬لي�س �صعب ًا �أن‬ ‫تو�ضحها لقارئ عادي فقط بل هي �أ�شد �صعوبة مع مثقف يكتب ولديه‬ ‫‪106‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:07‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 106‬‬


‫مواقف خمتلفة معهما‪ .‬مع ذلك �أجد يف هذا التفريق ما يجعلني على‬ ‫م�سافة من االنحياز لهما انحياز ًا يغلقني عليهما‪ ،‬كما يجعلني �أدرك �أي�ض ًا‬ ‫�أن مفاهيمهما ومناذجهم التحليلية لي�ست منفكة متام ًا من مواقفهما‪.‬‬ ‫لع ّل ما عزز من ح�ضور امل�سريي يف خارطتي الإدراكية‪� ،‬أو ما‬ ‫جعلني �أجد يف خطابه ما ميكن �أن يعزز من قدرة خارطتي على القراءة‬ ‫والتف�سري والإدراك والر�ؤية‪ ،‬هو تكوينه النقدي الأدبي‪ ،‬الذي هو تكوين‬ ‫تخ�ص�صي الأ�سا�سي‪ ،‬فهو قد ط ّوع هذا التكوين وا�ستثمره يف بناء مناذجه‬ ‫التف�سريية‪.‬‬ ‫يقول امل�سريي يف �سريته "كيف ميكن ملتخ�ص�ص مثلي يف ال�شعر‬ ‫والنقد الرومانتيكي �أن يتح ّول �إىل متخ�ص�ص يف ال�صهيونية‪ ،‬ويرتك‬ ‫تخ�ص�صه الأ�صلي تقريب ًا؟ ويف حماولتي الإجابة عن هذه الت�سا�ؤالت‬ ‫�أزعم �أن الدرا�سات الأدبية عمقت من فهمي لل�صهيونية‪ ،‬و�أنني ا�ستفدت‬ ‫من مناهج التحليل الأدبي يف حماولتي تفكيك و�إعادة تركيب الظواهر‬ ‫اليهودية وال�صهيونية والإ�سرائيلية‪ .‬كما �أزعم �أن ثمة وحدة فكرية جتمع‬ ‫بني جانبي حياتي الفكرية‪ .‬فالدرا�سة الأدبية هي يف نهاية الأمر تدريب‬ ‫على قراءة الن�صو�ص قراءة نقدية لتحديد ما هو هام�شي عر�ضي يف‬ ‫ن�ص ما‪ ،‬وما هو مركزي جوهري‪ .‬وهذه مهارة �أ�سا�سية مطلوبة للتعامل‬ ‫مع كل من الن�صو�ص والظواهر الأدبية وغري الأدبية‪ .‬وكثري من الن�صو�ص‬ ‫ال�صهيونية قد يكون ب�سيط ًا‪ ،‬ولكنها ن�صو�ص ماكرة مراوغة حتاول �أن‬ ‫تخبئ �أطروحتها الأ�سا�سية"(‪.)26‬‬ ‫مل ي�ستخدم امل�سريي‪� ،‬أبدا م�صطلح النقد الثقايف‪ ،‬ومل ُي ّ‬ ‫نظر‬ ‫له‪ ،‬لكنه يف جوهر حتليله للن�صو�ص الأدبية الغربية والأ�ساطري والأغاين‬ ‫والروايات وال�شعر ال�صهيوين‪ ،‬كان يبحث عما هو مراوغ فيها خلف ما‬ ‫‪26‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:07‬‬

‫املرجع نفسه‪ ،‬ص ‪556.‬‬

‫‪107‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 107‬‬


‫هو جمايل‪ .‬وهذا العمل على الن�صو�ص الأدبية بهذا املنظور‪ ،‬عزّز يف‬ ‫خارطتي القرائية ما فتحه النقد الثقايف‪ .‬ورمبا يكون �شغل امل�سريي على‬ ‫املجاز مبنظور خمتلف متام ًا عن منظور البالغة التقليدية‪ ،‬هو الأكرث‬ ‫لفت ًا بالن�سبة يل‪ ،‬حينها عرفت �أن املجاز لي�س تب�سيطا للواقع بل تركيب ًا‬ ‫له وتعقيد ًا‪.‬‬ ‫وحتليل ال�صور املجازية هو �إحدى اخلربات الأدبية املهمة التي‬ ‫متر�س فيها امل�سريي من خالل تخ�ص�صه النقدي‪ ،‬وقد ا�ستخدمها بكرثة‬ ‫يف درا�سته لل�صهيونية‪ ،‬كما يقول "فال�صورة املجازية لي�ست جمرد زخرفة‬ ‫ت�ضاف‪ ،‬و�إمنا هي مقولة �إدراكية متخفية يف �شكل �صورة‪ .‬وقد در�ست‬ ‫وظيفية الدولة ال�صهيونية من خالل جمموعة من ال�صور املجازية التي‬ ‫ا�ستخدمها ال�صهاينة و�أعدا�ؤهم يف و�صف الدولة ال�صهيونية‪ .‬فكثري من‬ ‫ال�صهاينة ينظرون �إىل �إ�سرائيل وهم َيعدونها "رقعة" �أو "م�ساحة" �أو‬ ‫"مكان ًا تابع ًا" �أو "بلد ًا" حتت الو�صاية"(‪ )27‬هكذا �صار امل�سريي‪،‬‬ ‫أف�سر بها‪ ،‬و�أحيان ًا رمبا‬ ‫بالن�سبة يل‪ ،‬جزء ًا من خارطتي التي �أقر�أ بها و� ّ‬ ‫�أقف بها حني تهتز اجلغرافيا الثقافية‪.‬‬ ‫العلمنة املركبة‬ ‫مع امل�سريي فهمت بو�ضوح �أكرث �أن العلمنة مفهوم مركب ولي�ست‬ ‫م�ؤامرة غربية �أو يهودية فهو يرى �أن العلمنة ال�شاملة هي حركة مركبة‬ ‫تاريخية وفل�سفية واجتماعية واقت�صادية وح�ضارية‪ ،‬ال ميكن �أن ترجع‬ ‫�إىل جماعة �أو �إىل فرد �أو �إىل تاريخ معني‪ .‬هي حركة مركبة من فكر‬ ‫اال�ستنارة وحركة اال�صالح الديني وظهور فكرة الدولة املطلقة‪ ،‬وظهور‬ ‫القومية‪ ،‬وع�صر ال�صناعة‪ ،‬وتطور حركة العلم‪ .‬هذا الكل املركب‪ ،‬ال‬ ‫‪27‬‬

‫‪108‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:07‬‬

‫املرجع نفسه‪ ،‬ص ‪579‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 108‬‬


‫ميكن �أن نعزوه �إىل فرد �أو جماعة �أو تخطيط معني‪� ،‬إمنا هي حركة‬ ‫متدافعة من عدة مراكز قادت يف النهاية �إىل العلمنة ال�شاملة‪ ،‬لذلك‬ ‫جند �أنها بالن�سبة �إىل امل�سريي عملية ال تتم يف فرتة معينة و�إمنا �أخذت‬ ‫لها فرتة تاريخية طويلة‪.‬‬ ‫وهو يجد �أن مفهوم احللولية الكمونية ميثل بذرة هذا الكل‬ ‫املركب الذي ن�ش�أت يف �سياقه العلمانية‪ ،‬وهو ال يفرق بني احللولية‬ ‫الكمونية املادية‪ ،‬ففي احللولية الكمونية الروحية ينزل الإله �إىل العامل‬ ‫وي�سكن �أو يحل �أو يكمن يف الإن�سان ويف الطبيعة‪ ،‬وتبقى روحه املفارقة‬ ‫حالة يف الأ�شياء‪.‬‬ ‫واحللولية الكمونية املادية ُتنزل الإله �إىل الكون واملادة وت�سلب‬ ‫منه ا�سم الإله فيتح ّول �إىل القوة املطلقة �أو الطاقة �أو الطبيعة �أواملادة‪� .‬إن‬ ‫حلول وكمون الإله يف املادة �أو الطبيعة‪ ،‬ولي�س جتاوزه لها‪ ،‬جعل املادة �أو‬ ‫الطبيعة تكتفي مبا فيها‪� ،‬أي تكتفي بعاملها الطبيعي املادي‪ ،‬هي تكتفي مبا‬ ‫تعلمه يف عامل هذه الطبيعة‪ ،‬كذلك جماالت احلياة الأخرى‪ ،‬كاالقت�صاد‪،‬‬ ‫وال�سوق‪ ،‬الأدب‪ ،‬كل واحد منها يكتفي بعامل مادته وما يحل فيه �أو يحايثه‬ ‫(حيث هو فيه) وال يحتاج �إىل �شيء خارجه يف�سره‪ .‬فال�سوق مكتفية‬ ‫بقوانينها الداخلية‪ ،‬ولي�ست بحاجة �إىل قوانني �إلهية �أو قوانني �أخالقية‬ ‫غائية‪ ،‬جتعلنا نحكم على ال�سوق بهذه الأخالق‪ .‬فالأخالق الر�أ�سمالية‬ ‫تعلمنت بهذه النزعة احللولية التي �أ�صبحت ال تقيم م�سافة بني الأر�ض‬ ‫وال�سماء‪ ،‬وال تقيم ثنائيات بني الروح واجل�سد وال�شكل وامل�ضمون واللفظ‬ ‫واملعنى والدال واملدلول والإله والإن�سان‪ .‬كل �شيء �صار واحد ًا يف�سر وفق‬ ‫�إطار الأحادية املادية‪.‬‬ ‫�ستكون هذه احللولية الكمونية م�س�ؤولة عن العلمانية ال�شاملة‬ ‫التي ف�ص ْلت الأ�شياء كلها عن الإله والغايات والأخالق‪ ،‬وجعلت املادة‬ ‫‪109‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:07‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 109‬‬


‫مطلقة والدولة مطلقة وال�سوق مطلقة والأر�ض مطلقة واجل�سد مطلق‬ ‫والدال مطلق والن�ص مطلق والفن مطلق واملجتمع مطلق‪ ،‬كل هذه‬ ‫املجاالت مطلقة من �أي تقييد متجا َوز‪ ،‬لي�س هناك مركز �أعلى (�إله)‬ ‫ي�ضبط �أو يتح ّكم يف الأر�ض وما عليها‪.‬‬

‫‪110‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:07‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 110‬‬


‫الف�صل الثاين‬ ‫داخل املدينة‬

‫‪111‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:07‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 111‬‬


‫املدينة والفعل احلر‬ ‫كي نقاوم الطائفية‪ ،‬علينا �أن نن�شئ مدينة‪ ،‬املدينة تقوم على‬ ‫الفعل احلر‪ ،‬وحرية الفعل حتتاج حماية وكوثره (ات�ساع ومناء وخ�صوبة)‪.‬‬ ‫هذا يعني �أن ننمي الأفعال احلرة يف املدينة ونعمل على �أن جنعلها تت�سع‬ ‫وتتخ�صب‪ .‬تخ�صيب الفعل احلر ين�شئ مدينة‪ ،‬وتخ�صيب اليورانيم وما‬ ‫ي�شبهه يقتل مدن ًا‪.‬‬ ‫كي تكون مدينتنا وطن ًا للفعل احلر‪ ،‬ف�إننا نحتاج �إىل �أن جنعلها‬ ‫بثالثة �ألوان لون للت�شريع ولون للتنفيذ ولون للق�ضاء‪�.‬أن تكون املدينة‬ ‫بثالثة �ألوان فهذا يحميها من لون الفرد الواحد و�إرادته وم�صلحته‬ ‫ور�ؤيته‪� ،‬أي ًا كان هذا الواحد‪ ،‬ملك �أو دين �أو مذهب �أو �أيديولوجية �أو‬ ‫عرق‪ .‬حني يبهت �أحد الألوان الثالثة �أو حني ميحي لون �أحدها ال تعود‬ ‫املدينة مكان ًا �آمن ًا للوطن‪ ،‬فالوطن يحتاج �إىل ما يحمي متايز �ألوانه‬ ‫الثالثة ال �إىل ما ميحي متايزها‪ .‬فالتمايز �صفة تعطي لكل لون وجوده‬ ‫اخلا�ص يف الوطن‪ ،‬واملحو �سلب لقوام هذا اللون املوجود‪.‬لذلك يبقى‬ ‫�س�ؤال ما لونك يا وطني؟ �س�ؤال عن املدينة كيف تغدو وطن ًا؟‬ ‫كي تكون مدينتنا وطن ًا للفعل احلر‪ ،‬ف�إننا نحتاج �إىل حار�س‬ ‫قبيلة جمازي(بح�سب التمثيل الفرن�سي لل�صحايف ‪La Fonction de‬‬ ‫‪ ،)veille‬لديه �أفق مييز برهافة ح�سه �ألوان الوطن الثالثة‪ .‬ال�صحايف‬ ‫لي�س تابع ًا لأي لون وال حامي ًا لأي لون‪ ،‬وال حار�س ًا لأي لون‪ ،‬هو مراقب‬ ‫للفعل احلر‪ ،‬يراقب الأفق ويعلن عن الأخطار املحدقة بالفعل احلر‪ ،‬من‬ ‫�أي لون جاءت‪ ،‬من لون ال�سلطة الق�ضائية �أو لون ال�سلطة التنفيذية �أو‬ ‫لون ال�سلطة الت�شريعية‪.‬‬ ‫‪112‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:07‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 112‬‬


‫حام‬ ‫لذلك يبقى البحث عن حار�س القبيلة الليلي بحث ًا عن ٍ‬ ‫للمدينة ولفعلها احلر من �أن حتده م�ضارب القبيلة احلقيقية‪.‬‬ ‫كي تكون مدينتنا وطن ًا للفعل احلر‪ ،‬ف�إننا نحتاج �إىل �أفق ترى‬ ‫من خالله اجلماعات ال�سيا�سية والدينية والتجارية العا َمل باختالفه‬ ‫وتنوعه‪ ،‬خارج ع�صبياتها الدينية واملذهبية والطائفية‪ ،‬املدينة من غري‬ ‫�أفق عمى‪ ،‬جدار مغلق‪� ،‬إنها لي�ست مدينة‪ ،‬فاملدينة �أفق الب�شرية املفتوح‪،‬‬ ‫وحني تفقد �أفقها متوت �ألوانها الثالثة‪.‬لذلك يكون التالقي وطني ًا بقدر‬ ‫ما ي�صنع مدينة‪ ،‬وال ي�صنع املدين َة تالقٍ من غري �أفق‪ ،‬كما هو �ش�أن‬ ‫جمعياتنا ال�سيا�سية‪.‬‬ ‫وكي تكون مدينتنا وطن ًا للفعل احلر‪ ،‬ف�إننا نحتاج �إىل �أن جنعل‬ ‫الفعل احلر حمكوم ًا عليه بالأخالق احلرة ال بالأخالق ال�سلطانية كما‬ ‫�أ�س�ست لها الآداب ال�سلطانية يف ثقافتنا‪ ،‬الآداب ال�سلطانية حتكم على‬ ‫الفعل ال�سيا�سي يف املدينة مبدى خرقه للأخالق ال�سلطانية ال للقانون‪،‬‬ ‫ويخرتق الفعل احلر الأخالق متى �أخل مبركزية امللك و�سلطته املطلقة‪،‬‬ ‫�أي �أن الفعل احلر –بح�سب منطق الأخالق ال�سلطانية‪ -‬ال يكون �أخالقي ًا‬ ‫�إال حني يفقد حريته‪ .‬لذلك يبقى اخلروج على هذه الآداب و�سلطتها‪،‬‬ ‫وحتى اخلروج على �آداب امللة والنحلة‪ ،‬خروج ًا للمدينة وت�أ�سي�س ًا حلريتها‬ ‫الأخالقية يف الفعل‪.‬‬ ‫وكي تكون مدينتنا وطن ًا للفعل احلر‪ ،‬ف�إننا نحتاج �إىل �أن جنعل‬ ‫�آدم �أب االختالفات ال �أب االتفاقات‪� ،‬أي �أن َّ‬ ‫تكف كل جماعة عن �إدعاء‬ ‫�أنها �آدم املدينة‪� ،‬أي �أن فكرها �أو عرقها �أو حقيقتها �أو مذهبها هو الأ�صل‬ ‫الذي يجب �أن يرتهن فعل املدينة �إليه‪ .‬وهذا يعني �أن َّ‬ ‫نكف عن ا�ستخدام‬ ‫�آدم بو�صفه فطرة �أو �أ�ص ًال منلك حقيقته وبا�سم هذه الفطرة �أو الأ�صل‬ ‫نخ�ضع �أفعال الآخرين املختلفة �إليه‪ .‬لذلك يبقى البحث عن �آدم �أب‬ ‫‪113‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:07‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 113‬‬


‫االختالفات بحث ًا عن مدينة‪� ،‬أفعالها حرة خمتلفة‪.‬‬ ‫وكي تكون مدينتنا وطن ًا للفعل احلر‪ ،‬ف�إننا نحتاج �إىل حالة‬ ‫(بيم موج)‪ .‬حت�ضر هذه احلالة يف املراحل التاريخية التي ت�شهد فيها‬ ‫املدينة حتوالت ومنعطفات وحتديات كربى‪ ،‬من م�شهد هذه احلالة‬ ‫تنبثق الوالدات اجلديدة‪ ،‬لذلك (البيم موج) ي�شبه حالة احللم بوالدة‬ ‫جديدة حرة‪ ،‬وهي حالة حتمل الأمل واخلوف‪ ،‬الأمل يف انبثاق حياة‬ ‫جديدة واخلوف من �أن جته�ض هذه احلياة‪ ،‬فال يكون غري املوت يف‬ ‫اللجة العاتية‪ .‬لذلك يبقى البحث عن بيم موج بحث ًا عن مدينة حتلم‬ ‫بفعل حر‪.‬‬ ‫لي�س لدينا مدينة ب�ألوان ثالثة‪ ،‬ولي�س لدينا حار�س قبيلة‬ ‫جمازي‪ ،‬ولي�س لدينا �أفق نلتقي فيه‪ ،‬ولي�س لدينا �أخالق حرة من ملة‬ ‫ال�سلطان ولي�س لدينا �آدم �أبو االختالفات‪ ،‬ولي�س لدينا بيم موج‪� ،‬أي لي�س‬ ‫لدينا ما يتيح للفعل احلر �أن يكون‪ ،‬فكيف تكون لدينا مدينة؟‬ ‫لي�س هناك �أكرث داللة على حماية الفعل احلر يف املدينة من‬ ‫منوذج �سقراط الذي ف�ضل �أن يتجرع �سم (ال�شوكران) على �أن يخذل‬ ‫االنت�صار لهذا الفعل‪.‬‬ ‫لقد اتهمه �أحد املواطنني‪ ،‬ويدعى مليتو�س‪ ،‬بالكفر بالآلهة‬ ‫وب�إدخال �شياطني جديدة �إىل املدينة و�إف�ساد ال�شبيبة‪ ،‬وهي تهمة ت�ستحق‬ ‫عقوبة املوت‪.‬‬ ‫كان هناك خم�سمائة قا�ض‪ ،‬ويف مواجهتهم‪ ،‬رئي�س املحكمة‬ ‫حماط ًا بكاتبه واحلر�س‪ .‬ويف �أ�سفل املدرج و�ضع ال�صندوق الذي �سي�ضع‬ ‫فيه الق�ضاة �أحكامهم بعد انتهاء املحاكمة‪.‬‬ ‫ق�ضت نتيجة الت�صويت بتجرمي �سقراط بفارق ‪�61‬صوت ًا يف‬ ‫‪114‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:07‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 114‬‬


‫الأ�صوات‪� 281:‬صوت ًا �ضد ‪ .220‬لقد احرتم �سقراط قرار الأغلبية لكنه‬ ‫مل يكن يحرتم هذه الأغلبية‪ ،‬لأنها مل تكن حترتم الفعل احلر‪.‬‬ ‫الفعل احلر لي�س هو �إم�ضاء قرار الأغلبية‪ ،‬بل هو احرتام‬ ‫الأغلبية جلوهر قوام املدينة والإن�سان‪ ،‬وهو جوهر احلرية الذي يتج�سد‬ ‫يف الفعل الإن�ساين احلر‪.‬‬ ‫لقد كانت �أثينا حتكم على مدينتها باملوت يوم �أن حكمت على‬ ‫الفعل احلر بالإعدام‪ ،‬مل تدرك غالبيتها جوهر الفعل احلر الذي هو‬ ‫جوهر مدينتهم‪.‬‬ ‫ترى كم مرة خذلنا هذا الفعل وخذلنا مدينتنا؟!‬

‫‪115‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:07‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 115‬‬


‫حترير املراقبة‬ ‫ �إحدى التمثيالت الأكرث داللة وحيوية يف التعبري عن دور‬ ‫ال�صحفي هو "حار�س القبيلة الليلي" وهو متثيل فرن�سي ‪La Fonction‬‬ ‫‪ de veille‬مياثل يف اللغة العربية حار�س القبيلة الليلي الذي كان يف‬ ‫املجتمعات القبلية البدائية يراقب الأفق ويعلن عن الأخطار املحدقة‬ ‫بالقبيلة(‪.)28‬‬ ‫حار�س القبيلة الليلي‪ ،‬جماز مكثف بالغ الداللة يف التعبري عن‬ ‫مفهوم ال�صحفي ووظيفته ودوره‪ ،‬ويف املقابل هو من الغنى بحيث ميكنه‬ ‫�أن يعرب �أي�ضا عن من هو غري ال�صحفي‪ ،‬وهو غنى يكت�سبه من ت�ضاد‬ ‫املعنى احلقيقي واملجازي للقبيلة يف هذا املفهوم‪.‬‬ ‫يلتقي مفهوم حار�س القبيلة مع �أكرث تعاريف ال�صحافة ذيوع ًا‬ ‫وهو التعريف الذي ي�صفها على ل�سان �أدولف �أوخ�س ب�أنها"مهنة مكر�سة‬ ‫لل�صالح العام‪ ،‬ولف�ضح الأالعيب وال�شرور وعدم الكفاءة يف ال�ش�ؤون‬ ‫العامة‪ .‬مهنة ال ت�ؤثر احلزبية يف ممار�ستها‪ ،‬بل تكون عادلة ومن�صفة‬ ‫لأ�صحاب الآراء املعار�ضة"‪.‬‬ ‫تبد�أ حلظة والدة ال�صحفي حني نغادر مفهوم القبيلة احلقيقي‬ ‫باعتبارها جتمع ًا ع�صبوي ًا يقوم على ن�سب الدم‪ ،‬يف هذه اللحظة تتحول‬ ‫القبيلة وطن ًا يقوم على اجتماع �إن�ساين متعدد الأعراق ومتعدد الأديان‬ ‫ومتعدد الدماء‪.‬احلار�س الليلي هنا لي�س م�شغ ً‬ ‫وال بالأخطار التي تهدد دم‬ ‫القبيلة النقي وال بالأخطار التي تهدد م�ضاربها وال التي جتمع م�صاحلها‪.‬‬ ‫‪28‬‬

‫انظر‪ :‬عايدة اجلوهري‪ ،‬معنى �أن تكون �صحفي ًا‪.‬‬ ‫‪http://www.elsohof.com/almihna0000005.html‬‬

‫‪116‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:07‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 116‬‬


‫احلار�س الليلي هنا جماز لأنه يعرب مفهوم القبيلة �إىل مفهوم الوطن‪.‬‬ ‫وبهذا العبور احل�ضاري تتغري وظيفته‪ ،‬في�صبح حار�س ًا ال للدم‬ ‫النقي بل للدم املختلط واملتعدد واملتنوع‪ ،‬هو حار�س للأفق الذي يت�سع‬ ‫لكل هذا التنوع‪ .‬يح ّدق يف الأخطار التي تهدد امتداد هذا الأفق‪ .‬يحمي‬ ‫الوطن من �أوهام الدم الواحد والأ�صل الواحد وال�صفاء الواحد‪.‬‬ ‫احلار�س الليلي (باملعنى املجازي) ي�صيرّ القبيلة وطن ًا ال‬ ‫الوطن قبيلة‪ .‬يحر�س الوقت الذي يعي�شه الوطن‪ ،‬ويحميه من �أن يكون‬ ‫وقت ًا لعائلة واحدة �أو قبيلة واحدة �أو عقيدة واحدة �أو مذهب واحد �أو‬ ‫حزب واحد‪.‬‬ ‫حمكوم ب�أخالقيات الوطن املتعدد الأخالط‪ ،‬مهمته يراقب‬ ‫ويحلل ويك�شف ويحدق ويعار�ض و ُيع ّرف‪ .‬يقوم بهذه املهمة املتعددة‬ ‫الأفعال‪ ،‬ليكون حار�س ًا متعدد ًا ورائي ًا عابر ًا للواحد‪.‬‬ ‫�إنه حار�س بعيني �سنور التي ّ‬ ‫تطلع على ك ّل �شيء وال مت ّل التحديق يف ك ّل‬ ‫حركة‪� ،‬سريعة التل ّفت ملا حولها يقظة ال ت�ستحي وال تنحرج‪ ،‬ولو ُطردت‬ ‫من مكان تعود �إليه وك�أنّ �شيئ ًا مل يكن!‬ ‫ �أما احلار�س الليلي (باملعنى احلقيقي) في�صيرّ الوطن قبيلة‬ ‫ال القبيلة وطن ًا‪ .‬يحر�س وقت الليل فقط‪ ،‬ما ي�سرته الليل ي�شكل �أمنه‬ ‫القبلي‪ ،‬وما يك�شفه النهار خارج وقته‪� .‬إنه ال يغادر �أفق القبيلة وال دمها‬ ‫النقي‪ ،‬فهو ما زال حمكوم ًا مبحيط م�ضاربها‪ ،‬ال يرى �أبعد منها‪ .‬ما‬ ‫يهدد هذه امل�ضارب ي�شكل مناط عمله‪ ،‬وحني ت�صري هذه امل�ضارب‬ ‫ق�صور ًا وبالطات‪ ،‬ف�إنه يظل يحميها بوهم امل�ضارب وبعني القبيلة‪�.‬إنه‬ ‫حار�س مك�سور العني‪ ،‬تخجله مكرمات القبيلة‪.‬‬ ‫يبدو حار�س ًا ُم ْ�ستَخْ َد َم ًا‪ ،‬ت�ستخدمه القبيلة والطائفة واحلزب‬ ‫حلماية �أمنها وم�صاحلها امل�شرتكة‪ ،‬يف حني يبدو الآخر حار�س ًا‬ ‫‪117‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:07‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 117‬‬


‫ُم ْ�ستَخْ ِد َما‪ ،‬ي�ستخدم حقه الإن�ساين والقانوين والأخالقي حلماية الوطن‬ ‫من ا�ستخدامات �سلطة الواحد وف�ساده‪.‬‬ ‫ �إنه حار�س زهرة الأوركيد بف�صائلها اخلم�س والع�شرين �ألف ًا‬ ‫بتعدد �ألوانها و�أ�شكالها وروائحها‪� ،‬إنه حار�س ر�سائل هذه الزهرة‪ ،‬ر�سائل‬ ‫احلب واحلكمة والتفكري واخل�صوبة وال�صدق والتعدد‪ .‬ال�صحفي يحمل‬ ‫هذه الر�سائل كلها‪ ،‬حرا�سته للزهرة تقت�ضي �أن يحمل ر�سائلها‪ ،‬هل نحلم‬ ‫بوطن يكون لونه زهرة الأوركيد‪ ،‬وتكون �صحافته حار�سة لهذا اللون‪.‬‬ ‫حينها �ستقول ال�صحافة على ل�سان زهرة الأوركيد‪� :‬س�أجعل‬ ‫حب وحكمة‬ ‫احلياة �صادقة من �أجل قلوبكم البي�ضاء‪ ،‬و�س�أكون ر�سالة ّ‬ ‫من �أجل ت�آلفكم‪ ،‬و�س�أكون لون وطنكم الذي به حتلمون‪ ،‬و�س�أجعل بيوتكم‬ ‫و�شوارعكم مكان ًا �آمن ًا للحياة‪.‬‬ ‫الآن‪ ،‬ما معنى �أن تكون �صحافي ًا؟‬ ‫هل يعني �أن تكون ذاكرة لطائفتك؟ هل يعني �أن تكون �صاحب‬ ‫جاللة رابعة؟ هل يعني �أن تكون م�شك ًال للحدث �أم ناق ًال له؟ هل يعني‬ ‫�أن تكون محُ ّدق ًا يف ملفات الف�ساد؟ هل يعني �أن تكون ممالئ ًا لل�شارع‬ ‫العام؟ هل يعني �أن تكون مهني ًا �صرف ًا؟ هل يعني �أن تكون حار�س زهرة‬ ‫الأوركيد؟ هل يعني �أن تكون عيني �سنور؟ هل يعني �أن تكون حار�س‬ ‫القبيلة الليلي؟ هل يعني �أن تكون؟ هل يعني �أال تكون؟‬

‫‪118‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:07‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 118‬‬


‫حترير املثقف من ال�سيا�سي‬ ‫"ال�سيا�سي لي�س من�سجم ًا مع الفني‪ ،‬لأن ال�سيا�سي‪ ،‬من �أجل �أن يربهن‪،‬‬ ‫يتعينّ عليه �أن يكون �أحادي اجلانب ومتحيزا"(‪)29‬‬ ‫ال�سيا�سي ين�سجم مع توقعات ال�سلطة التي ميثلها‪ ،‬و�أفقها‪ ،‬وال�سلطة ال‬ ‫تن�سجم مع الفني‪ ،‬لكنها حتتويه‪ .‬ال�سيا�سي ين�سجم مع ال�سائد والأكرثية‬ ‫والنافع واليومي وامل�ستقر‪� ،‬إنه ين�سجم مع ما يمُ ّكنه من �أن يعزز من حكم‬ ‫�سلطته‪.‬‬ ‫الفني �أو املثقف (على جهة �أن فعله فني) ين�سجم مع توقعات‬ ‫الهام�ش املنفلت من �إحكام ال�سلطة‪ ،‬ين�سجم مع ما هو عار�ض و�أقلي‬ ‫ومتحرك وغري يومي‪� ،‬إنه ين�سجم مع ما يمُ ّكنه من �أن يخلخل ال�سلطة‪.‬‬ ‫ال�سيا�سي يدير املعنى العام امل�شرتك‪ ،‬وينطق با�سمه‪ ،‬ويتحرك‬ ‫�ضمن ممره ال�ضيق‪ ،‬وممكنه املعدود واملحدود‪ .‬واملثقف يبتكر املعنى‬ ‫اخلا�ص ويعار�ض العام وامل�شرتك‪ ،‬وينطق ب�شخ�صه‪.‬‬ ‫ال�سيا�سي ناطق بال�شامل‪ ،‬لذلك فهو رجل ال�شوامل رجل‬ ‫اجلماعة‪ ،‬واملثقف ناطق بالهامل‪ ،‬لذلك فهو رجل الهوامل رجل الفرد‪.‬‬ ‫ال�سيا�سي ال يغيرّ ثقافة املجتمع‪ ،‬بل ي�ستثمرها وي�ؤكد �شموليتها له‬ ‫وجلماعته‪ ،‬واملثقف يهدد ثبات ثقافة املجتمع بل ويعار�ضها‪ .‬ال�سيا�سي‬ ‫ميكن �أن يكون معار�ضا لل�سلطة ال�سيا�سية �أو متواطئ معها‪ ،‬لكن املثقف‬ ‫ال ميكن �أن يكون �إال معار�ضا لل�سلطة يف كل جتلياتها‪.‬‬ ‫ �أحادية ال�سيا�سي تتمثل يف دفاعه عن الواحد‪ ،‬وانحيازه‬ ‫تولستوي في يومياته ‪21‬مارس‪ ،1858‬نقالً عن النحت في الزمن‪،‬‬ ‫‪29‬‬ ‫أندريه تاركوفسكي‪ ،‬ترجمة أمني صالح‪.‬‬

‫‪119‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:07‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 119‬‬


‫جلماعته‪ ،‬ال�سيا�سي ال ميكنه �أن يكون لأكرث من جهة‪ ،‬لذلك هو وحيد‬ ‫اجلهة وحيد الر�ؤية وحيد املعنى‪.‬‬ ‫تعددية املثقف تتمثل يف دفاعه عن التعدد‪ ،‬وانحيازه لل�شخ�ص‬ ‫وتكثريه للمعنى‪ ،‬وانفتاحه على كل اجلهات‪.‬‬ ‫"ال�سيا�سي هو الرجل العام رجل الدولة و�إنه املدبر امل�س�ؤول‬ ‫عما يفعل �أمام �سائليه‪/‬مواطنيه‪)30("..‬‬ ‫ال�سيا�سي م�س�ؤول �أمام العام‪ ،‬واملثقف �سائل للعام وللدولة‪،‬‬ ‫وهو حمكوم ب�سائليه ومواطنيه وممثليه‪ ،‬واملثقف حمكوم بفعل احلرية‬ ‫فقط‪.‬‬ ‫ال�سيا�سي ي�شتغل �ضمن �سلطة ول�صالح �سلطة ويف �أفق �سلطة‪،‬‬ ‫ال�سيا�سي رجل حكم‪ ،‬واملثقف رجل حكمة (فل�سفة)‪ .‬رجل احلكم رجل‬ ‫�سلطة ونفوذ وهيمنة‪ ،‬ورجل احلكمة رجل ر�ؤية وتب�صر وفتح وحرية‪.‬‬ ‫ال�سيا�سي يربهن بالتفكري الأعوج‪ ،‬وبقدر ما تكون �أحاديته‬ ‫وحتيزه‪ ،‬يكون اعوجاجه‪ .‬وبقدر ما يحيل �إىل الأرقام والأمثلة ويفرط يف‬ ‫ا�ستخدام البدهيات وامل�سلمات وال�ضروريات‪ ،‬يزداد برهانه اعوجاجا‪،‬‬ ‫�إذ �إن الربهان ال�سيا�سي‪ ،‬نتيجته ت�سبق دليله وتاليه ي�سبق مقدمته‪.‬‬ ‫برهانه مهموم بالت�صديق على حقائقه امل�ستقرة املتحيز لها‪ ،‬الربهان‬ ‫يكون �صحيح ًا حني يدعم حقائقه الأحادية‪ ،‬ويثبت مواقفه املنحازة‪.‬‬ ‫املثقف لي�س م�شغ ً‬ ‫وال بالربهان‪ ،‬قدر ان�شغاله بالر�ؤية‪ ،‬لأنه لي�س‬ ‫مهموم ًا بالت�صديق على موقف والدفاع عن ثابت‪ ،‬هو مهموم بفتح �أفق‬ ‫للحياة يرى من خاللها ال�شخ�ص‪ ،‬ويكون نور هذه الر�ؤية برهان ال�شخ�ص‬ ‫اخلا�ص‪ .‬برهان املثقف منحاز لل�شخ�ص‪ ،‬وبرهان ال�سيا�سي منحاز‬ ‫للجماعة‪ ،‬واجلماعة تقوم على ال�سابق‪ ،‬وال�شخ�ص يقوم على الالحق‪.‬‬ ‫‪30‬‬

‫خليل أحمد خليل‪ ،‬سوسيولوجيا اجلمهور السياسي الديني‪.‬‬

‫‪120‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:07‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 120‬‬


‫ال�سابق حمكوم بالن�ص املقيد‪ ،‬والالحق مفتوح على الفعل احلر‪.‬‬ ‫ال�سيا�سي �صفته اجلنب‪ ،‬حتى لو �صرخ يف وجه ال�سلطان‪ ،‬لأنه‬ ‫ال ميكنه �أن ي�صرخ باحلقيقة يف وجه جمهوره‪ ،‬حني ي�صرخ يف وجههم‬ ‫ال يعود �سيا�سي ًا‪ ،‬لأنه �سيكون قد فقد الوجه الذي به ي�سو�س‪ ،‬لذلك‬ ‫ال�سيا�سي يحتمي وراء مثل هذه العبارات " يقال‪ ،‬ي�شيع‪� ،‬شاع بني النا�س‪،‬‬ ‫النا�س يقولون‪ ،‬هناك �إ�شاعة تقول‪� ،‬سمعنا كذا‪ ،‬وهذا احتماء وراء النا�س‬ ‫وجتنب املواجهة"(‪�)31‬إنها دروع ال�سيا�سي التي يحتمي وراءها جبنه‪.‬‬ ‫املثقف �صفته ال�شجاعة‪ ،‬فهو ينطق باحلقيقة يف وجه التاريخ‪،‬‬ ‫وال يحتمي بالنا�س‪ ،‬بل �إن �صفة املثقف تتمكن فيه �أكرث حني يفقد النا�س‬ ‫�أكرث‪ ،‬لأنه لي�س قائم ًا فيما ي�شيع بني النا�س‪ ،‬بل فيما ي�شذ عن النا�س‪،‬‬ ‫فهو ُي�سائل هذا الذي ي�شيع وي�ستنطقه ويبطل قوته و�سلطته‪� .‬إنه يتدرع‬ ‫ب�أ�سئلته و�شخ�صه �ضد دروع ال�سيا�سي ونا�سه‪.‬‬ ‫ ال يفقد ال�سيا�سي معناه حني يقال له‪� :‬إنك كذاب‪ .‬لكن يفقد‬ ‫املثقف �صفته حني يكذب‪ .‬واملثقف ال يكذب حني ال يقول احلقيقية‪ ،‬بل‬ ‫حني ال يقول طرقها املتعددة‪� .‬أما ال�سيا�سي ف�إنه يكذب حتى حني يغطي‬ ‫احلقيقة ب�أقوال حقيقية‪ .‬حقيقة ال�سيا�سي تقال ملرة واحدة فقط‪ ،‬لأنها‬ ‫�أحادية‪ ،‬وحقيقة املثقف تقال مرات ومرات‪ ،‬ويف كل مرة تك�شف وجه ًا‬ ‫جديد ًا‪ ،‬لأنها متعددة‪.‬‬ ‫ال�سيا�سي ي�شتغل يف (فن املمكن) لكنه ال ي�شتغل يف هذا الفن‬ ‫بفن‪ ،‬املمكن دائم ًا فن‪ ،‬لأنه مفتوح على االحتمال واللعب والتوقع والتخيل‬ ‫واالبتكار‪ .‬ال�سيا�سي‪ ،‬ال يجيد اللعب يف املمكن بفن‪ ،‬لأن ممكناته حمدودة‬ ‫العدد‪ ،‬وميكن �إح�صا�ؤها‪ ،‬فهو �إما �أن ي�شارك يف االنتخابات �أو يقاطعها‪،‬‬ ‫وهو �إما �أن يعرتف ب�إ�سرائيل �أو ال يعرتف �أو ن�صف يعرتف ون�صف ال‬ ‫‪31‬‬

‫عبد الرحمن البدوي‪ ،‬موسوعة الفلسفة‪ ،‬اجلزء‪ ،2‬ص‪.414‬‬

‫‪121‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:07‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 121‬‬


‫يعرتف‪ ،‬وهو �إما �أن ي�سجل جمعيته �ضمن قانون اجلمعيات �أو ال ي�سجل‪.‬‬ ‫ممكنات ال�سيا�سي حمدودة ال(�إما)‪ .‬يف حني ممكنات املثقف‪،‬‬ ‫ال تعرف (�إما) لأنها حرة وقادرة على �أن جتمع املت�ضادات واملتناق�ضات‬ ‫وقادرة على �أن تبتكر الكثري من املمكنات‪.‬ال�سيا�سي له من (فن املمكن)‬ ‫اال�سم‪ ،‬واملثقف له املعنى واجلوهر‪.‬‬ ‫املثقف يفتح ممكنات احلياة على �أ�شكا ًال خمتلفة‪ ،‬وال�سيا�سي‬ ‫يختار من ممكنات احلياة �أ�شكال حمددة‪.‬‬

‫‪122‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:07‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 122‬‬


‫حترير املثقف من رجل الدين‬ ‫ما يرداف املثقف يف اللغة الفرن�سية‪ ،‬كما يخربنا علي �شريعتي‬ ‫يف كتابه (م�س�ؤولية املثقف)‪ ،‬هو ‪ .Clairvoyant‬ومعناها بعيد النظر‪،‬‬ ‫وتعني امل�ستنري الذي ال يت�صف بالتقيد �أو التوقف‪ ،‬يفكر بو�ضوح و�سعة‬ ‫�أفق ومي ّيز ع�صره والأر�ض التي يقف عليها"(‪)32‬‬ ‫ �أهم ما مييز املثقف �أو امل�ستنري كما ي�ستخدم �شريعتي وجالل‬ ‫�آل �أحمد‪ ،‬هو �أنه ال يت�صف بالتقيد �أو التوقف‪ ،‬وهو ما يجعل منه متمايزا‬ ‫عن رجل الدين‪ ،‬وكي نفهم ميزة املثقف هذه‪ ،‬فعلينا �أن نعرف تاريخ‬ ‫والدته‪ ،‬وكيف �أنها كانت فا�ص ًال ح�ضاري ًا بني مرحلتني‪.‬‬ ‫ي�ؤكد كل من �شريعتي وجالل �آل �أحمد ب�ضرورة الرجوع �إىل‬ ‫الغرب ذاته باعتباره احل�ضارة التي قدمت امل�ستنري مبعناه احلديث‬ ‫للعامل بعد القرون الو�سطى وعلى وجه التحديد يف القرن ال�سابع ع�شر‪.‬‬ ‫(‪)33‬‬ ‫الرجوع هنا لي�س من �أجل ا�ستن�ساخ جتربة هذه الوالدة‪� ،‬أي‬ ‫والدة املثقف‪ ،‬ولكن من �أجل فهمها وفهم والدة املثقف يف �سياقنا وفهم‬ ‫عمله وجتربته ومتايزه عن رجل الدين‪ ،‬يف عالقتهما بالفعل احلر‬ ‫و�صناعة املدينة‪.‬‬ ‫يف هذا الرجوع عودة �إىل �إعادة النظر يف طبيعة عمل املثقف‪،‬‬ ‫علي �شريعتي‪ .‬م�س�ؤولية املثقف ‪ .‬دار الأمري‪،‬ط‪2005. 1‬م‪�.‬ص‪52‬‬ ‫‪32‬‬ ‫انظر‪:‬‬ ‫‪33‬‬ ‫ علي �شريعتي‪ .‬م�س�ؤولية املثقف‪�.‬ص‪49‬‬‫‪ -‬جالل �آل �أحمد‪.‬امل�ستنريون خدمات وخيانات‪�.‬ص‪59‬‬

‫‪123‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:07‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 123‬‬


‫وهو رجوع لي�س يف الفراغ بل يف �سياق تكاد تكون فيه املدينة �شبح ال روح‬ ‫فيه‪ ،‬و�أنا �أحت ّدث عن �سياقي البحريني الذي يف عمل املثقف وال�سيا�سي‬ ‫ورجل الدين م�شحون وم�شو�ش وخمتلط وم�ضطرب‪ .‬يف هذا ال�سياق ال‬ ‫�أجد غري املدينة ملج�أ �أطل من خالله و�أحلم و�أمايز به‪.‬‬ ‫املدينة �صنيعة املثقف ال رجل الدين‪ ،‬رجل الدين ال ي�صنع‬ ‫مدينة‪ ،‬لأن املدينة ي�صنعها الفعل احلر‪ ،‬ال الن�ص املقيد‪ .‬الن�ص ي�صنع‬ ‫جماعات والفعل احلر ي�صنع �أفراد ًا‪ ،‬الن�ص ي�سبق الإن�سان والفعل يلحق‬ ‫الإن�سان‪.‬‬ ‫رجل الدين ال ميكنه �أن يكون مثقف ًا‪ ،‬ميكنه �أن يكون مطلع ًا‬ ‫على الثقافة وملم ًا ب�أطرافها لكنه ال ميكنه �أن يكون مثقفا باملعنى الذي‬ ‫يح�صر وظيفة املثقف يف القيام بالفعل احلر‪ ،‬لأن الفعل احلر جوهر‬ ‫املثقف‪ ،‬والن�ص املقيد جوهرة رجل الدين‪ .‬ال ميكن لرجل الدين �أن يكون‬ ‫حر ًا من ن�صه ال�سابق وجماعته‪ ،‬واملثقف حر لأنه حر من ن�ص ي�سبقه‬ ‫وجماعة تقيده‪.‬‬ ‫متى ارتهن املثقف �إىل جماعة �أو �إىل ن�ص �صار رجل دين‪،‬‬ ‫ومتى انفك رجل الدين من جماعته ون�صه �صار مثقف ًا‪ .‬لذلك فاملثقف‬ ‫ي�صري مثقف ًا بقدر انفكاكه وبقدر عدم ارتهانه‪ ،‬ورجل الدين ي�صري رجل‬ ‫دين بقدر ارتهانه وعدم انفكاكه مما ي�سبقه‪ .‬واملدينة تكون مدينة بقدر‬ ‫ما ي�صري مثقفها وبقدر عدم ارتهانه‪.‬‬ ‫ف�ضاء التداول العام هو حم�صلة الفعل احلر الذي ينجزه‬ ‫املثقف يف املدينة‪ ،‬رجل الدين ي�سعى لتو�سعة ف�ضاء التداول اخلا�ص‪ ،‬وهو‬ ‫ف�ضاء تداول ن�صه املقد�س‪ ،‬وال ميكن ملدينة �أن تكون �إال متى انت�صر فيها‬ ‫ف�ضاء التداول العام مبا هو �ساحة للكالم من غري ن�ص مقيد‪ ،‬ف�ضاء‬ ‫التداول اخلا�ص يحا�صر ف�ضاء التداول العام‪ ،‬بل هو يعمل يف الغالب‬ ‫‪124‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:07‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 124‬‬


‫�ضده‪ ،‬وي�سعى ب�شتى الذرائع لتقييده‪.‬هو ف�ضاء لتالوة الن�ص‪ ،‬وذاك‬ ‫ف�ضاء لقراءة العامل‪.‬مهمة رجل الدين تعميم الن�ص‪ ،‬ومهمة املثقف‬ ‫تو�سيع العامل‪.‬‬ ‫الفعل احلر يتيح للفرد يف املدينة �أن يحلم ويتلون ويتعدد‬ ‫وي�سافر وي�ضل وي�شك ويعرت�ض‪ ،‬بهذه الأفعال التي هي قوام الإن�سان‬ ‫يتكون الف�ضاء احلر‪ ،‬فتكون املدينة‪ ،‬الن�ص املقيد ي�أمر اجلماعة �أن‬ ‫متتثل وتتقيد وتخ�ضع وت�ستقر وتلتحم وتتيقن وبهذه الأفعال تتقيد املدينة‬ ‫وتتال�شى‪.‬‬ ‫املدينة تكون وطن ًا بقدر ما توطن الفعل احلر يف ف�ضائها العام‬ ‫وت�صنع منه �شخ�صية مفهومية‪� ،‬أي بقدر ما تكون وطن ًا للحلم والتلون‬ ‫والتعدد وال�سفر وال�ضالل وال�شك واالعرتا�ض‪ .‬املثقف هو وحده من‬ ‫ميكنه �أن يوطن هذا الفعل �أما رجل الدين فهو يوطن ن�صه يف الفرد‬ ‫في�صري الفرد طائفة ناطقة بالن�ص‪ .‬لذلك فاخلروج على الن�ص خروج‬ ‫على الطائفة وف�ضائها اخلا�ص‪� ،‬إىل الوطن وف�ضائه العام‪.‬‬ ‫لكن ما هو الفعل احلر؟‬ ‫الفعل احلر‪ ،‬هو ما ينجزه الإن�سان بت�صرفه يف العامل‪ ،‬من‬ ‫ن�صو�ص وخطابات ور�سومات و�أ�شكال �إدارة وحكم وعالقات و�صور‬ ‫و�ألوان و�أنظمة وقوانني‪ ،‬الفعل احلر هو ت�صرف الإن�سان يف وجوده من‬ ‫دون اخل�ضوع �إىل �سابق‪ ،‬بل هو الت�صرف يف كل ما ي�سبقه‪ .‬املدينة هي‬ ‫�صنيعة الفعل احلر‪ ،‬وهي منوذج لت�صرف الإن�سان يف الوجود‪ ،‬لذلك‬ ‫فهي تتوفر على �أق�صى �صريورات احلرية‪ ،‬الفعل احلر يتج�سد حني‬ ‫ينطق الإن�سان باحلقيقة التي يراها وي�شكلها ب�صنعه‪ ،‬ال باحلقيقة التي‬ ‫ت�سبقه‪ .‬الفعل احلر �أن ن�صنع حقائق كثرية للوجود‪ .‬حني يعيد الإن�سان‬ ‫خلق اهلل مرات ومرات ف�إنه ميار�س فعله احلر‪ ،‬حني يهند�س مدينته‬ ‫‪125‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:07‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 125‬‬


‫بخرائط يبتكرها ف�إنه ميار�س فعله احلر‪.‬‬ ‫حني يعاود خلق املدينة مرات ومرات‪ ،‬ف�إنه ميار�س فعله احلر‪.‬‬ ‫حني يجعل كل ما هو واحد كثري ًا‪ ،‬ف�إنه ميار�س فعله احلر‪ .‬ميار�س الإن�سان‬ ‫الفعل احلر حني ينتخب رئي�سه ويغري ممثليه ويكون له �صوته اخلا�ص‬ ‫الذي ال يتماهى مع �أحد‪ ،‬ويختار كتبه التي يقر�أها‪ ،‬ويعيد ت�شكيل �سريته‪،‬‬ ‫ويكتب حرفه الذي يرى به العامل ‪ .‬الفعل احلر �أن تت�صرف يف �صوتك‪.‬‬ ‫�أن ت�ؤمنب �أرواح �أحبتك بالورد الذي حتب �أن تبتدعه دون عرف �سابق‬ ‫ودون ن�ص �سابق (انظر ا�ستنكار النائب ورجل الدين عادل املعاودة على‬ ‫طريقة ت�أبني �ضحايا البانو�ش)‪ .‬ال نريد مدينة حتا�صرها �سوابق من‬ ‫الن�صو�ص وال�سري والأمثوالت والتواريخ واملعتمدات‪.‬‬ ‫هل مهمة رجل الدين تقوم على حتقيق هذا الفعل احلر �أو على‬ ‫م�صادرته؟‬ ‫املثقفون يف مفهوم (جوليان بندا) جماعة �صغرية جدا من‬ ‫امللوك _ الفال�سفة املوهوبني املتفوقني والذين يتمتعون بالأخالق‬ ‫العالية وميثلون بالتايل �ضمري الب�شرية‪ .‬يقول �إدوار �سعيد "ح�سب بندا‬ ‫فان م�شكلة �أبناء هذا الزمن هي �أنهم خولوا �سلطتهم الأخالقية �إىل‬ ‫ما ي�سميه بندا‪ ،‬بتعبري يدل على نفاذ الب�صرية‪" ,‬منظمة العواطف‬ ‫اجلماعية" مثل الطائفية ووجدان اجلماهري والتولع القومي بالقتال"‪.‬‬ ‫خيانة املثقف لفعله احلر‪ ،‬ت�أتي من جهتني‪ ،‬الأوىل �أن يعزز‬ ‫�سيا�سات احلكومة ويطلق الدعاية �ضد اخل�صوم الر�سميني و�أن يقوموا‬ ‫ب�إطالق عبارات لطيفة على �أ�شياء بغي�ضة‪ ,‬والثانية �أن يكون ناطق ًا با�سم‬ ‫"منظمة العواطف اجلماعية"(‪.)34‬‬ ‫�إىل �أي كان (بندا) يرى م�شهد مدينتنا البحرينية برجال دينها‬ ‫ومثقفيها‪ ،‬وهو يتح ّدث يف ر�سالته عام ‪1927‬عن "خيانة املثقفني"؟‬ ‫‪34‬‬

‫إدوارد سعيد ‪ .‬متثيالت املثقف ‪ .‬مجلة نزوى ‪ .‬العدد‪1995. 3‬م‬

‫‪126‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:07‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 126‬‬


‫حترير الإ�ضافة‬ ‫"اعلم �أن م�صلحة الرعية يف ال�سلطان لي�ست يف ذاته وج�سمه‬ ‫من ح�سن �شكله �أو مالحة وجهه �أو عظم جثمانه �أو ات�ساع عمله �أو جودة‬ ‫خطه �أو ثقوب ذهنه‪ ،‬و�إمنا م�صلحتهم فيه من حيث �إ�ضافته �إليهم‪ ،‬ف�إن‬ ‫املُلك وال�سلطان من الأمور الإ�ضافية‪ ،‬وهي ن�سبة بني منت�سبني‪ .‬فحقيقة‬ ‫ال�سلطان �أنه املالك للرعية القائم يف �أمورهم عليهم‪ ،‬فال�سلطان من له‬ ‫رعية والرعية من لها �سلطان‪ ،‬وال�صفة التي له من حيث �إ�ضافته لهم‬ ‫هي التي ت�سمى امللكة وهي كونه ميلكهم ف�إذا كانت هذه امللكة وتوابعها‬ ‫من اجلودة مبكان ح�صل املق�صود من ال�سلطان على �أمت الوجوه‪ ،‬ف�إنها‬ ‫�إن كانت جميلة �صاحلة كان ذلك م�صلحة لهم‪ ،‬و�إن كانت �سيئة متع�سفة‬ ‫كان ذلك �ضرر ًا عليهم و�إهالك ًا لهم"(‪.)35‬‬ ‫الإ�ضافة �سر االجتماع الإن�ساين‪ ،‬و�إذا كان "االجتماع الإن�ساين‬ ‫�ضروري‪ ،‬ويعرب احلكماء عن هذا بقولهم‪" :‬الإن�سان مدين بالطبع"‪،‬‬ ‫�أي ال بد له من االجتماع الذي هو املدنية يف ا�صطالحهم وهو معنى‬ ‫العمران"(‪ .)36‬ف�إن الإ�ضافة �ضرورية لهذا االجتماع‪ ،‬والإن�سان مدين‬ ‫بالطبع لأنه م�ضاف بالطبع‪ ،‬وهو بالإ�ضافة يقيم عالقاته و�صالته وبهذه‬ ‫الإقامة يعمر املكان فيكون العمران وتكون املدينة‪.‬‬ ‫ �إ�ضافة امللك حتدد طبيعة االجتماع الإن�ساين (املدينة‪ ،‬العمران‪،‬‬ ‫املجتمع‪ ،‬الدولة) فاالجتماع الإن�ساين الذي ي�ضيف فيه امللك النا�س �إىل‬ ‫نف�سه‪ ،‬يفقد �إن�سانيته‪ ،‬لأنه يحيل الإن�سان �آلة يحركها امل�ضيف (امللك)‬ ‫‪35‬‬ ‫‪36‬‬

‫ابن خلدون‪ ،‬املقدمة‪ ،‬ص‪.176‬‬ ‫املصدر نفسه‪ ،‬ص‪46‬‬

‫‪127‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:07‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 127‬‬


‫بح�سب م�صلحة وجهه‪ .‬يف هذا ال�شكل من الإ�ضافة ال م�صلحة تعلو فوق‬ ‫م�صلحة امللك‪ ،‬ال م�صلحة تعلو فوق م�صلحة ذاته وج�سمه و�شكله ووجهه‬ ‫وجثمانه وعمله وخطه‪ ،‬النا�س رعية لذاته وج�سمه و�شكله ولونه‪ ،‬النا�س‬ ‫يف �آلته املركبة من ج�سمه و�شكله‪ ،‬النا�س حيث وجهه‪ ،‬النا�س حيث خطه‪،‬‬ ‫النا�س حيث م�صلحته‪.‬‬ ‫النا�س يف هذه الإ�ضافة �آلة تعمل من �أجل �إظهار مالحة وجه‬ ‫امللك على �أح�سن ما ميكن �أن تكون املالحة‪� ،‬إنها �إ�ضافة التمليح �إذ ًا‪.‬‬ ‫تتحدد جودة هذه ا َمل َلكة (ال�صفة التي له من حيث �إ�ضافته لهم) بح�سب‬ ‫جودة ما ُتظهره الإ�ضافة من مالحه‪� .‬إن مهمة هذه الإ�ضافة ت�شخي�ص‬ ‫م�صلحة مالحة وجه امللك‪ ،‬وكم كان الفارابي حاذق ًا وهو ي�شيد مدينته‬ ‫الفا�ضلة حني قال‪" :‬ك ّل �إن�سان يف ذاته فذاته له‪ ،‬وكل �إن�سان يف �آلة‬ ‫فذاته لغريه"‪ .‬النا�س هنا لي�سوا يف ذاتهم بل يف ذات امللك لأنهم يف �آلة‬ ‫�إ�ضافته‪ ،‬ذاتهم لي�ست لهم‪ ،‬بل لغريهم‪ ،‬وتزداد ملكيتهم من قبل غريهم‬ ‫كلما كانوا جماعة‪ ،‬فاجلماعة �أ ُّمت �شبه ًا بالآلة من الفرد‪.‬‬ ‫ �أما االجتماع الإن�ساين الذي ي�ضيف فيه امللك نف�سه �إىل النا�س‪،‬‬ ‫ف�إنه اجتماع يتيح للملك �أن ي�ضيف �إىل كل فرد من النا�س ملك ًا يف ذاته‬ ‫ينطق به‪� ،‬أي ينطق الفرد وك�أنه ملك‪ ،‬ويتيح للملك �أن يكت�سب بكل فرد‬ ‫من النا�س �إن�سان ًا ينطق به‪� ،‬أي ينطق امللك وك�أنه فرد‪ .‬بهذه الإ�ضافة‬ ‫يقوم االجتماع الإن�ساين على (ن�سبة بني منت�سبني)‪ ،‬امللك يف هذا‬ ‫االجتماع لي�س مطلق ًا من النا�س‪ ،‬بل مقيد بهم و ُمع ّرف بهم ومن�سوب‬ ‫�إليهم وحمدد بهم‪ ،‬والنا�س لي�سوا مطلقني بل من�سوبني �إىل ما يحكم‬ ‫هذا االجتماع الإن�ساين من قوة ت�ستوجب االمتثال‪ ،‬وهي قوة تتجاوز ذات‬ ‫امللك و�شخ�صه ومالحة وجهه‪.‬‬ ‫اللحظة التي تتحول فيها هذه الإ�ضافة (�إ�ضافة امللك �إىل‬ ‫‪128‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:08‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 128‬‬


‫النا�س) �إىل قانون (د�ستور) ُيلزم املنت�سبني‪ ،‬تن�ش�أ املدينة وتتقوم‬ ‫�سيا�ستها‪� ،‬إن هذه الإ�ضافة الإلزامية ت�ستهدف م�صلحة االجتماع‬ ‫الإن�ساين ووجهه‪ .‬وبقدر قوتها تكون امل�صلحة بني منت�سبني‪� .‬أما ما ال‬ ‫يلزم من عبارات العائلة الواحدة والأبواب املفتوحة فهو هراء‪ ،‬وعلى‬ ‫املثقف يف املدينة �أن يوقفه‪ ،‬لأن وظيفة املثقف يف املدينة وقف الهراء‬ ‫كما يقول بورديو‪.‬‬ ‫ما ُيقيم املدينة التي هي منوذج لالجتماع الإن�ساين‪ ،‬هو‬ ‫الإ�ضافة احلرة املحمية بالإ�ضافة امللزمة‪� ،‬أي �أن يختار الإن�سان يف‬ ‫املدينة ما ي�ضيف ذاته له من غري �إكراه‪ ،‬و�أن يكون اختياره حممي ًا بقوة‬ ‫القانون الذي يحكم الإ�ضافة امللزمة‪.‬‬ ‫الإ�ضافة يف االجتماع الإن�ساين‪ ،‬هي �سر الإتالف واملواالة‬ ‫واملعاداة كما يخربنا �أبوحيان التوحيدي"ولوال �إ�ضافة بع�ضنا �إىل بع�ض‬ ‫ما اجتمعنا وال افرتقنا‪ ،‬ولوال الإ�ضافة بيننا الغالبة علينا ما تفاهمنا وال‬ ‫تعاون ًا‪ .‬قال‪� :‬إذا كنا بالت�ضايف نتواىل‪ ،‬فب�أي �شيء بعده نتعادى؟ قال‪:‬‬ ‫هذا �أي�ض ًا بالإ�ضافة‪ ،‬لأن الإ�ضافة ظل‪ ،‬وال�شخ�ص بالظل ي�أتلف‪ ،‬وبالظل‬ ‫يختلف"(‪.)37‬‬ ‫ظل الإن�سان هي روحه الت َّواقة لالجتماع الإن�ساين وتكوين‬ ‫املدنية و�إن�شاء العمران‪ ،‬وهي حتقق ما تتوق �إليه بالإ�ضافة‪ ،‬ولكن �أي‬ ‫�إ�ضافة؟ هل هي الإ�ضافة التي جتعلها يف �آلة �أو الإ�ضافة التي جتعلها يف‬ ‫ذاتها؟‬ ‫الإ�ضافة احلرة هي ما يتواىل به الإن�سان �أو يتعادى من غري‬ ‫اخل�ضوع �إىل �سابق يجعله يف �آلة‪ ،‬هي �أن جتعل مواالتك للمدينة‪،‬‬ ‫ومعاداتك ملا يحول دونها‪.‬‬ ‫‪37‬‬

‫أبوحيان التوحيدي‪ ،‬االمتاع واملؤانسة‪ ،‬الليلة الرابعة عشرة‪.‬‬

‫‪129‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:08‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 129‬‬


‫اخلطاب ال�سيا�سي الذي يظل م�ضاف ًا �إىل ذات امللك‪ ،‬ال‬ ‫يبني مدينة‪ ،‬واخلطاب ال�صحايف الذي يجعل من م�ؤ�س�سته يف �آلة ال‬ ‫يقول �إال حقيقة ما ي�ضاف �إليه‪� ،‬أي يكون �آلة ال تتوفر على ميزة النطق‬ ‫والت�صرف‪.‬‬ ‫املدينة ف�ضاء للقول احلر وحريته مرهونة بقدرته على �أن ال‬ ‫يكون يف ذات تتملكه‪ ،‬وهذا يتطلب �أن تكون جمل القول التي نحاجج بها‬ ‫ونعرت�ض ون�ستنتج ونق َّيم ونرى جم ًال م�ضافة �إىل ذواتنا امل�ستقلة‪ ،‬حني‬ ‫ت�ضاف هذه اجلمل �إىل ذات امللك‪ ،‬تفقد مدنيتها‪ ،‬فال تعود ت�شتغل يف‬ ‫ف�ضاء املدينة‪.‬‬

‫‪130‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:08‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 130‬‬


‫حترير االختالف‬ ‫عن الإمام الباقر"لو علم النا�س كيف ابتد�أ اخللق ملا اختلف‬ ‫اثنان" امتناع هذا العلم هو �سر �إن�سانية الإن�سان‪ ،‬الإن�سان حيث ن�سيان‬ ‫حلظة االبتداء‪ ،‬حلظة الأ�صل‪ ،‬حلظة �آدميته‪ ،‬وبن�سيان هذه اللحظة يبد�أ‬ ‫اختالفه‪ ،‬وتبد�أ حلظته ال�سيا�سية‪.‬‬ ‫تبد�أ حلظة ال�سيا�سة باالختالف على �آدم واالختالف عنه‬ ‫واالختالف �إليه‪ ،‬حني ال يختلف اثنان تكون ال�سيا�سة غائبة‪ ،‬فال�سيا�سة‬ ‫تبد�أ بلحظة االختالف هذه‪ .‬االختالف هنا مبعنى التمايز والتفاوت‬ ‫والعودة �إىل ال�شيء والرجوع عنه‪.‬‬ ‫ظل �آدم حم ًال لالختالف‪� ،‬أ�ص ًال ن�ؤول �إليه(نرجع) لنختلف‪،‬‬ ‫بهذا املعنى الرجوع ت�أويل يقوم على ممار�سة االختالف‪ ،‬نحن نعود �إىل‬ ‫�آدم واحد لكنا نرجع ب�أوادم خمتلفة‪.‬‬ ‫يظل �آدم حمل لنزاع الكتب املقد�سة واملف�سرين وعلماء الدين‬ ‫وعلماء البيولوجيا وعلماء الكالم والفال�سفة وال�سيا�سيني واحل�ضارات‬ ‫وامل�ؤرخني وكل ما ي�صري اثنني‪.‬‬ ‫�صار �آدم حمل نزاع‪ ،‬فكل واحد من اثنني خمتلفني ي�ستند �إىل‬ ‫�آدم لتربير فكرة ما �أو حركة ما �أو م�شروع ما �أو لتثبيت حقيقة ما‪� ،‬أو‬ ‫لالنت�صار لأ�صل ما يتعلق ب�أ�صل اللغة �أو �أ�صل العامل �أو �أ�صل ال�سلطة‬ ‫�أو �أ�صل الإن�سان �أو �أ�صل اخلطيئة �أو �أ�صل اجلن�س �أو �أ�صل اجلغرافيا �أو‬ ‫�أ�صل احل�ضارة‪� .‬صار �آدم ذريعة ت�ستخدم للتربير �أو التثبيت �أو االنت�صار‬ ‫�أو الت�أ�صيل‪.‬‬ ‫ملثال الأكرث داللة على ا�ستخدام �آدم‪ ،‬هو الفكر ال�سيا�سي الذي‬ ‫‪131‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:08‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 131‬‬


‫ن�ش�أ يف ع�صر النه�ضة الأوروبية بني االنت�صار لفكرة ال�سلطة املطلقة‬ ‫وامللكية غري املحكومة بد�ستور وبني االنت�صار لفكرة امللكية الد�ستورية‬ ‫وحكم ال�شعب والربملان‪ ،‬ويف هذا اخلالف كان �آدم حا�ضر ًا بقوة �أ�صله‪.‬‬ ‫كتاب جون لوك (‪" )1704 - 1632‬يف احلكم املدين" الذي‬ ‫يعد مبثابة �آدم النظرية ال�سيا�سية الغربية مبا امتلكه من ت�أثري �أبوي يف‬ ‫الفكر ال�سيا�سي الغربي‪ ،‬هو ثمرة من ثمار عدم علم اخللق كيف ابتد�أ‬ ‫اخللق‪.‬‬ ‫كان (جون لوك) و(ال�سري روبرت فيلمر) اثنني خمتلفني‬ ‫يف معرفة كيف ابتد�أ اخللق‪� ،‬إنهما خمتلفان يف �آدم‪ ،‬فيلمر �ألف �سنة‬ ‫‪1680‬كتاب (احلكم الأبوي ‪ )patriarcha‬وهو دفاع عن حق امللكية‬ ‫الإلهي املتحدر بالوراثة عن �آدم‪� .‬سيادة �آدم هي الأ�سا�س الذي بنى عليه‬ ‫م�ؤلف "احلكم الأبوي" فر�ضيته الرئي�سية يف امللكية املطلقة التي هي‬ ‫رديف ال�سيادة‪ ،‬والتحكم ب�أرواح الأبناء‪ ،‬وامللكية ال�شاملة‪ ،‬و�سلطة احلياة‬ ‫واملوت املطلقة‪.‬‬ ‫خ�ص فيلمر �آدم بهذه ال�سلطة اخلطرية‪ ،‬وبنى على تلك‬ ‫لقد َّ‬ ‫الفر�ضية �أ�س�س احلكم‪ ،‬و�أ�س�س �سلطة امللوك كلها"كان �آدم �أب ًا وملك ًا‬ ‫و�سيد ًا على �أ�سرته‪ ،‬وكان االبن واملحكوم واخلادم والعبد �شيئ ًا واحد ًا يف‬ ‫البدء"(‪.)38‬‬ ‫�صور فيلمر احلكومة ب�أنها امتداد للأ�سرة‪ .‬وب�أن اهلل قد �أودع‬ ‫ال�سيادة يف الأ�سرة الإن�سانية الأوىل‪ ،‬يف �آدم‪ ،‬والذي منه انحدرت ال�سيادة‬ ‫�إىل الآباء من بعده‪ .‬كان �آدم �سيد اجلميع وقد ورث امللوك هذه ال�سيادة‪.‬‬ ‫ال�سلطة الأبوية �أو حق الأبوة �أو ال�سلطة الأبوية عند فيلمر "غري حمدودة‬ ‫وغري قابلة للحد" وغري مف�صولة وغري مق�سمة وغري مراقبة وغري قابلة‬ ‫‪38‬‬

‫جون لوك‪ ،‬في احلكم املدني‪ ،‬ترجمة ماجد فخري‪،‬ص‪.11‬‬

‫‪132‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:08‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 132‬‬


‫للأخذ �أو التداول‪.‬‬ ‫على خالف ذلك كان لوك‪ ،‬فقد ذهب �إىل �أننا كلنا ورثاء �آدم‬ ‫بحكم كوننا من ذريته ولنا جميعا حق مت�سا ٍو بهذه ال�سلطة املطلقة‪.‬‬ ‫وقد �أبطل الأ�صل الإلهي لل�سلطة الذي �سعى لتثبيته فيلمر‪ ،‬وبناها على‬ ‫�أ�سا�س عقلي طبيعي‪ ،‬وعلى هذا الأ�سا�س تو�صل النا�س �إىل اتفاق "عقد‬ ‫اجتماعي" فيما بينهم تنازلوا فيه عن حقوقهم الفردية يف الق�ضاء‬ ‫والعقاب‪ ،‬ال مللك معني‪ ،‬بل للجماعة ككل‪ .‬وعلى هذا تكون اجلماعة هي‬ ‫ال�سيد �أو احلاكم احلقيقي‪ ،‬وهي تختار ب�أغلبية الأ�صوات رئي�س ًا �أعلى‬ ‫ينفذ م�شيئتها وميكن �أن ي�سمى ملك ًا‪ ،‬ولكنه مثل �أي مواطن �آخر ملتزم‬ ‫بطاعة القوانني التي ت�سنها اجلماعة‪.‬‬ ‫انتقل اختالف لوك حول �آدم فيلمر من �إجنلرتا �إىل فرن�سا مع‬ ‫فولتري يف ‪ ،1729‬وو�سع مونت�سكيو هذا االختالف عند زيارته لإجنلرتا‬ ‫‪ 1731-1729‬لتكتمل نظريته يف ف�صل ال�سلطات‪ ،‬وذلك بف�صل‬ ‫ال�سلطة الق�ضائية‪ ،‬وكان لهذا االختالف �صداه عند رو�سو وغريه قبل‬ ‫الثورة الفرن�سية ويف �أثنائها‪.‬‬ ‫البحث عن �آدم بحث عن �أ�صل مقد�س‪ ،‬والأ�صل يحيل على‬ ‫الغياب‪ ،‬غياب كل �شيء عدا هذا الأ�صل‪ ،‬ف�آدم ال يح�ضر معه �شيء‪ ،‬كل‬ ‫�شيء غائب وهو متفرد بال�سلطة الإلهية التي يهبها ملن ي�صطفيه من‬ ‫ذريته بحكم �أبوته‪.‬‬ ‫ترتادف الأبوة مع الأ�صل مع �آدم مع االبتداء مع الغياب مع‬ ‫الإطالق‪ ،‬من هنا ي�صبح البحث عن �آدم بحث حمفوف بخطورة‬ ‫الإطالق‪� ،‬إذ �إن الأبوة �أ�صل قائم بنف�سه ال قائم بغريه‪ ،‬الأبوة ملك يف‬ ‫ذاته ال بالنا�س‪ ،‬لأنه مطلق من حكم النا�س ومراقبتهم و�شرعيتهم‬ ‫ومكتف بذاته‪.‬‬ ‫‪133‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:08‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 133‬‬


‫لقد عملت الآداب ال�سلطانية على تثبيت هذه الأبوة مبنحها‬ ‫ال�شرعية الدينية والآداب التي متكنها من �إحكام �سلطتها وت�أديب‬ ‫رعيتها‪.‬‬ ‫ �إن االن�شغال بحقيقة �آدم قد �أنتج م�آزق �إطالقية خطرية يف‬ ‫فهم احلقيقة وال�سلطة والأبوة‪ ،‬كما هو الأمر يف م�شروع حممد �شحرور‬ ‫وعبد ال�صبور �شاهني وم�شروع (عندما نطق ال�سراة) الذي د�شنته‬ ‫جمعية التجديد الثقافية االجتماعية بالبحرين‪.‬‬ ‫ �إن هذا االن�شغال بحقيقة �آدم ان�شغال باحلقيقة املو�ضوعية‬ ‫حيث الأبوة والأ�صل والأول واالبتداء وهو ان�شغال ال ينتج غري �أوهام‬ ‫العلمية واال�صطفاء والتفرد باحلقيقة والتميز‪.‬‬ ‫كما يقول مثال �شحرور "�آيات خلق �آدم كلها قر�آن‪ ...‬والقر�آن‬ ‫حقيقة مو�ضوعية مطلقة يف وجودها خارج الوعي الإن�ساين وفهم هذه‬ ‫احلقيقة ال يخ�ضع �إال لقواعد البحث العلمي املو�ضوعي" وكما تقول‬ ‫�سل�سلة عندما نطق ال�سراة " فمعرفة خلق �آدم قنطرة مركزية يف معرفة‬ ‫ما يليها من بحوث تعنى باحل�ضارة واللغات والثقافات والأديان" وهي‬ ‫معرفة متمركزة جتعل من جبال ال�سراة باجلزيرة العربية مركزا و�أ�صال‬ ‫"ال�سراة هي ُّ�سرة الأر�ض ومركزها وحمورها‪...‬‬ ‫للعامل حيث كان �آدم هنا َّ‬ ‫ال�سراة كانت ج َّنة �آدم التي‬ ‫ال�سراة قلب الأمة وبابها �إىل ال�سماء‪ ...‬يف َّ‬ ‫َّ‬ ‫�أُهبط منها بعد املع�صية‪ ...‬هناك بد�أت ق�صة اخللق ومن هناك ُتختم‪.‬‬ ‫وكما هو الأمر يف م�شاريع الإ�سالم ال�سيا�سي القائم على فهم‬ ‫خالفة �آدم‪.‬‬ ‫ �آدم �أبو االختالفات‪ ،‬ومتى جعلنا منه �أ�صال ل�شيء واحد‪ ،‬فقد‬ ‫�آدميته التي ترينا كيف �أن اهلل يتج ّلى يف �صور متعددة بتعدد �أنفا�س‬ ‫اخلالئق‪.‬‬ ‫‪134‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:08‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 134‬‬


‫حترير خرائط املدينة‬ ‫"عرفت مدينة املحرق‪ ،‬يف حلظتني باهرتني من االكت�شاف‪:‬‬ ‫الأوىل بو�صفها مدينة الأبواب املفتوحة دائم ًا‪ .‬والثانية بو�صفها ور�شة‬ ‫الأمل"(‪)39‬‬ ‫املكان بقدر ما يكون ُم ْ�ش َرع ًا (الأبواب املفتوحة) على امل�ستقبل‬ ‫(الأمل) يكون مدينة‪ ،‬وتتحقق كينونة املدينة بطبيعة الفعل (الور�شة)‬ ‫الذي تنجزه يف �إن�سانها‪ .‬كانت املحرق مدينة ب�أبواب بحرها املُ ْ�ش َرعة‬ ‫على الأمل‪ ،‬و�أفعال ور�شتها املُ ْ�صهِ رة لالختالفات‪.‬‬ ‫الفعل يف املدينة حدث يقوم به الإن�سان من �أجل تغيري عوامله‬ ‫و�أحواله ومواقفه‪ُ ،‬ت�صنع املدينة مبا تنجزه ور�ش احل َّدادة وال�صاغة‬ ‫واحلاكة والبناة من �أعمال‪ ،‬وما تنجزه ور�ش فال�سفتها و�أدبائها‬ ‫ومتكلميها‪ ،‬فاملدينة ينجزها فعل يدوي وفعل كالمي‪ ،‬الإن�سان بقدر ما‬ ‫ينطق يف �ساحات املدينة ينجز عوامل من االختالف‪ ،‬ما حتدثه بكالمك‬ ‫هو فعل املدينة الكالمي‪.‬‬ ‫مدن ّيته‪ ،‬بقدر ما ت�ستحيل به‬ ‫ويكت�سب هذا الفعل الكالمي َ‬ ‫طبيعتنا طبيعة �أخرى‪ ،‬فهذا الفعل هو املميز الذي يعطي املدينة هويتها‬ ‫اخلا�صة‪ ،‬ويجعلها �صاحبة م�شروع مفتوح ب�أمل امل�ستقبل‪ .‬وبقدر ات�ساع‬ ‫باب هذا الأمل تكون طاقة العمل‪.‬‬ ‫تت�سع �أبواب املدينة بقدر انفتاح ور�شتها على �أفعال االحتجاج‬ ‫واالعرتا�ض واملثاقفة والت�أ�سي�س والتعدد واالختالف وال�صهر والإبداع‬ ‫‪39‬‬

‫قا�سم حداد‪ ،‬ور�شة الأمل‪.‬‬

‫‪135‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:08‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 135‬‬


‫واحلوار‪ .‬املدن ور�ش اختبار ته ّيئ للإن�سان �أن ميار�س وجوده على نحو‬ ‫�إ�شكايل‪ .‬هل كان لقا�سم حداد �أن يعلن (موت الكور�س) لوال �أبواب بحر‬ ‫املحرق امل�شرعة باملثاقفة واملغايرة؟ هل كان ل�سقراط �أن يعلم الف�ضيلة‬ ‫لوال �أ�سواق �أثينا امل�شرعة باحلوار؟ هل كان لأبي حيان التوحيدي �أن‬ ‫ير�سل هوامله اجلاحمة بال�شك واالعرتا�ض واالحتجاج‪ ،‬لوال ف�ضاء‬ ‫بغداد املفتوح على العامل؟‬ ‫املدن لي�ست م�ساحات جغرافية و�أبنية مر�صوفة و�أ�سوار مغلقة‪،‬‬ ‫املدن �أفق الب�شرية املفتوح‪ ،‬وهي تفي�ض على العامل كي ميار�س �إن�سانيته‬ ‫ال�شقية‪ .‬املدن �أفق لل�سفر لالنتقال من املعلوم �إىل املجهول‪ ،‬ومن اليقني‬ ‫�إىل ال�شك‪ ،‬ومن الهند�سة الأقل �إىل الهند�سة الأكرث ومن اخلريطة‬ ‫الواحدة �إىل اخلرائط املتعددة‪.‬‬ ‫هل �ستكون املحرق مدينة لو مل تكن ور�شة من الفعل امل�ستمر؟‬ ‫لو مل تكن خمرية للأمل والعلم والعمل؟ كما يقول قا�سم يف �سريتها‪.‬‬ ‫حني تفقد �أي مدينة هذه اخلمرية ف�ستبقى "موجودة يف‬ ‫احتمالني‪ :‬ذاكرة التاريخ‪� ،‬أو خميلة امل�ستقبل" لكنها لي�ست موجودة‬ ‫الآن‪.‬‬ ‫لكن ما الذي تفعله خمرية الفن يف املدينة و�إن�سانها؟‬ ‫"ماذا ميكن �أن يفعل الفن؟ ال �شيء‪� ..‬أو لي�س بالكثري‪ .‬ال تتوقع‬ ‫�أفعاال خارقة ومعجزات‪ .‬رمبا يحرك خميلتك‪ ..‬رمبا يجعلك تكرتث �أكرث‬ ‫ب�أحالمك ورغباتك‪..‬رمبا يجعلك تنظر �إىل حبيبتك من زاوية خمتلفة‪،‬‬ ‫رمبا يبتكر لك �أ�سئلة جديدة‪ ...‬رمبا يجعلك �أكرث ا�ستعدادا لالت�صال‬ ‫بامل�ستويات الأعمق من ذاتك ومن م�شاعرك ب�أ�شباهك من الب�شر ومن‬ ‫عنا�صر الطبيعة"(‪)40‬‬ ‫‪40‬‬

‫�أمني �صالح‪ ،‬هند�سة �أقل خرائط �أقل‪� ،‬ص‪.171‬‬

‫‪136‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:08‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 136‬‬


‫ما يفعله الفن هو �أنه ين�شئ فيك اختالف ًا‪ ،‬اختالف ًا يف خميلتك‬ ‫يف ر�ؤيتك‪ ،‬يف لونك‪ ،‬يف ات�صالك‪ ،‬يف عاملك‪ ،‬يف رغبتك‪ ،‬يف بهجتك‪ ،‬يف‬ ‫�أحالمك‪ ،‬يف ذائقتك‪.‬‬ ‫بقدر ما تختلف فيك خرائط هذه الكائنات يكون الفن فع ًال‬ ‫على اختالف �أجنا�سه‪ ،‬بهذه القدرة على �إن�شاء االختالف ميكنني �أن‬ ‫�أقر�أ جميع الن�صو�ص يف حقول املعرفة املختلفة بو�صفها فن ًا ممكنا‪.‬‬ ‫ميكنني �أن �أقر�أ الفن يف ن�صو�ص ابن عربي متمث ًال يف قدرتها‬ ‫على �أن جتعلني �أرى الكرثة يف كل �شيء يف الألوهية والإن�سان والعامل‪ ،‬مل‬ ‫يعد هناك واحد بل هناك جتليات متعددة للواحد‪ .‬وميكنني �أن �أقر�أ الفن‬ ‫يف ن�صو�ص �إخوان ال�صفا متمث ًال يف قدرتها على �أن جتعلني �أرى العامل‬ ‫مكونا من تفاوتات وت�ضادات واختالفات وتباينات وتنافرات ومهمتي يف‬ ‫هذا العامل �أن �أهند�س خريطة ن�سبة جتعل هذه املكونات من عنا�صر‬ ‫الطبيعة من�سجمة يف عاملي ال�صغري(�أنا)‪.‬‬ ‫وميكنني �أن �أقر�أ الفن يف ن�صو�ص �أبي حيان التوحيدي متمث ًال‬ ‫يف قدرتها على �أن جتعلني �أرى الإن�سان حركة‪ ،‬فبقدر ما يتحرك ل�سانه‬ ‫ين�شئ منطق ًا وبقدر ما تتحرك نف�سه ينتج بحث ًا وبقدر ما يتحرك قلبه‬ ‫يفكر وي�ستحيل‪ ،‬وبقدر ما تتحرك روحه وعقله يت� ّشوف وي�ضيء‪ ،‬وبقدر‬ ‫ما تتحرك خرائطه يغيرّ هند�سة العامل‪.‬‬ ‫وميكنني �أقر�أ الفن يف ن�صو�ص �أمني �صالح وهي تن�شئ ّيف‬ ‫حركة ات�صال خمتلفة ت�صلني بعوامل املخيلة الب�شرية املتعددة‪ ،‬حتى‬ ‫تبدو وك�أنها خميلة واحدة بتجليات كثرية‪ ،‬جتليات ابن عربي والتوحيدي‬ ‫و�إخوان ال�صفا وقا�سم حداد و�أدوني�س واحلالج و�أندريه مالرو وهو يعرف‬ ‫الفن ب�أنه "�س�ؤال موجه �إىل الرب حول معنى احلياة"‪.‬‬ ‫الرب منحنا قوة نخرتق بها الأر�ض وال�سماء‪ ،‬كي نن�شيء‬ ‫ّ‬ ‫‪137‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:08‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 137‬‬


‫مدينتنا على معرفة منا‪ ،‬وهذه املعرفة هي ما خل�صها كانط يف و�صيته‬ ‫"�شيئان ال ينيان ميلآن قلبي بالإعجاب واالحرتام‪ ،‬ويزداد فكري تعلقا‬ ‫بهما‪ ،‬وتطبيقا لهما‪ :‬ال�سماء امل�ضاءة بالنجوم فوق ر�أ�سي والقانون‬ ‫الأخالقي يف داخلي" هذا ما كتبه �أمانويل كانط على قربه حني مات يف‬ ‫العام (‪)1804 - 1724‬‬ ‫و�صية الإن�سان متثل خال�صة فل�سفته للحياة‪� ،‬أو احلياة التي‬ ‫يريدها �أن ت�ستمر بعد موته‪ ،‬حياة �أبنائه �أو �أ�صدقائه �أو م�ؤ�س�ساته �أو‬ ‫قيمه �أو مفاهيمه‪ ،‬الو�صية هي الواجب الذي علينا تركه للآخرين وفق ما‬ ‫ي�أمرنا به القانون اخلالقي يف داخلنا‪ ،‬كانط ترك لنا يف و�صيته تعريفه‬ ‫للفل�سفة "ال�سماء امل�ضاءة بالنجوم فوق ر�أ�سي والقانون الأخالقي يف‬ ‫داخلي"‪.‬‬ ‫هذا التعريف يخت�صر �أهم �س�ؤالني يف فل�سفة كانط‪ :‬ماذا‬ ‫علي �أن �أفعل؟‬ ‫�أ�ستطيع �أن �أعرف؟ ماذا ّ‬ ‫ال�سماء املر�صعة هي املعرفة‪ ،‬هي العامل اخلارجي عامل الظواهر‬ ‫وهو ف�ضاء املعرفة وهو ما �أ�ستطيع �أن �أعرفه‪ .‬والقانون الأخالقي يف‬ ‫داخلي هو الذي يحدد قانوين الذي �أعمل به؟ �إذا مل يتحرر �ضمرينا‬ ‫و�إرادتنا من �إمالءات ال�سلطات اخلارجية التي تفر�ض على الإن�سان‬ ‫ماذا يفعل‪ ،‬وكيف يدير عالقته باهلل والآخرين والعامل‪ ،‬فلن ننال احلرية‬ ‫التي هي وحدها التي جتعل منا ب�شر ًا‪.‬‬ ‫ال�سماء التي ميكن للإن�سان �أن يعرفها هي التي تتحدى معرفة‬ ‫الإن�سان‪ ،‬وهي التي ُي�س�أل عنها‪ ،‬وهي التي يحكم با�سمها‪ ،‬وهي التي ميكنه‬ ‫يو�سعها وي�ستثمرها‪� ،‬أما ال�سماء الغائبة فهي التي ي�شتاق لها وي�صعد‬ ‫�أن ّ‬ ‫بروحه �إليها‪ ،‬لكنه �إن جعلها ميدان ا�ستثمار وذريعة حكم‪ ،‬ف�إنه �سيفقدها‬ ‫ويفقد حريته معها ويح ّولها �سلطة حتجب �ضوءه الداخلي‪ ،‬وتغلق �شارعه‬ ‫‪138‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:08‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 138‬‬


‫الذي يفتح له �إمكانات الأر�ض‪ .‬حني تتح ّول ال�سماء الغائبة �سلطة قهر‪،‬‬ ‫تفقد �إمكان ع�شقها وخيالها‪ ،‬و ُتغ ّيب با�سمها �سماء حريتك اخلا�صة‪،‬‬ ‫لذلك عليك �أن ُت�ش ّكل �سماءك الداخلية‪ ،‬ليت�سع ف�ضاء حريتك‪.‬‬ ‫يف العام ‪ 2005‬كان الفنان الأملاين روالند كرويزر يفتح‬ ‫�شوارع العامل ب�أ�سئلة (كانط) من خالل كتابة هذه الأ�سئلة التي �س ّماها‬ ‫«�أ�سئلة العامل» على يافطات �صفراء‪ ،‬ب�أربعني لغة‪ ،‬ووزعت على �شوارع‬ ‫ع ّدة بلدان‪� .‬أ�سئلة فل�سفية تفر�ش يف ال�شوارع وت�س�أل الإن�سان عن نف�سه‬ ‫وقلبه وحياته‪ ،‬فت�صبح �أقرب �إليه مما تكونه يف الكتب و�أدمغة الفال�سفة‬ ‫حيث الأبراج العاجية‪.‬‬ ‫جنوم (كانط) �أ�ضاءت �أر�ض �أوروبا وفتحت �شوارعها‪،‬‬ ‫عد ْت �إىل ال�سماء ب�سلطان العقل‪ .‬لقد فتحت خرائط الأر�ض‬ ‫وا�ص َ‬ ‫ّ‬ ‫وال�سماء‪ ،‬ف�صار ال�سفر ممكن ًا‪ ،‬واملدن تهند�س طرق ال�سفر‪ ،‬لكن ما هو‬ ‫ال�سفر"ال�سفر انتقال من املعلوم �إىل املجهول‪ ،‬من اليقني �إىل االلتبا�س‪،‬‬ ‫من �أر�ض �أليفة �إىل �أر�ض غريبة‪ .‬رحيل يف الاليقني والغمو�ض والت�شتت‪.‬‬ ‫�ضياع يف هند�سة املدن‪ ،‬يف جغرافيا مكان ال ميكن االنت�ساب �إليه روحي ًا‬ ‫ونف�سي ًا‪ ،‬لأنه بب�ساط ٍة مل ي�شهد مولدك وطفولتك‪ ،‬مل يعانق �أحالمك‪� .‬إنه‬ ‫انخراط عابر يف عادات �أخرى‪ ،‬نظرات �أخرى‪ ،‬لغة �أخرى"(‪.)41‬‬ ‫ ال ميكننا �أن نفهم ال�سفر �إال عرب جتربتنا يف االنتقال والرحيل‬ ‫والعبور وال�ضياع والألفة والغربة واملغامرة‪ ،‬فال�سفر هو عالقة متجددة‬ ‫مع هذه التجارب‪ .‬املكان الذي ال يتيح لنا �أن نقيم عالقة جديدة معه‬ ‫ال ُيع ّول عليه يف ال�سفر‪ ،‬فال�سفر ذهاب �إىل مكان يحمل �إمكان ال�ضياع‬ ‫وااللتبا�س والغمو�ض‪ ،‬لذلك فاملدن التي ال ت�ضيع �أج�سدانا وخياالتنا‬ ‫وعقولنا وقيمنا وعاداتنا و�أحالمنا و�أفكارنا يف هند�ستها مدن ال ُيع َّول‬ ‫‪41‬‬

‫�أمني �صالح‪ ،‬هند�سة �أقل‪ ،‬خرائط �أقل‪.‬‬

‫‪139‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:08‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 139‬‬


‫عليها‪ ،‬فال�سفر ذهاب �إىل مدينة مرتع�شة بال�شك والاليقني‪.‬‬ ‫ال�سفر حلظ ُة تخ ّف ٍف من هند�سة القوانني ال�شاملة‪ ،‬القوانني‬ ‫التي تهند�س حرفك وخيالك و�شعورك وعقلك وحبك وروحك وحركتك‬ ‫ب�شمولها‪ ،‬ك ُّل حلظ ٍة ُتهْمِ ُل فيها خارط ًة تكون على �سفر‪ ،‬وكل حلظة‬ ‫ت َْ�شمِ لك فيها خارط ٌة ف�أنت يف م�ستقر‪.‬‬ ‫ال�سفر هو ا�ستبدال الهند�سة ال�شاملة بهند�سة هاملة‪ .‬هو‬ ‫انخراط يف خرائط املغامرة والت�شتت‪ ،‬هو رحلة �شك يف حقيقة اخلرائط‬ ‫وهند�ساتها‪ .‬ال�سفر حرك ُة ملليمرت ُت�سفر لك عن �شم�س جديدة‪ ،‬وفجر‬ ‫جديد‪ ،‬وم�سار جديد‪ ،‬وكتابة جديدة‪ ،‬و�صورة جديدة‪.‬‬ ‫الذهاب �إىل مكان يثبت يقينك لي�س �سفر ًا‪ ،‬الذهاب �إىل‬ ‫مكان ي�شملك بربكاته لي�س �سفر ًا‪ ،‬الذهاب �إىل مكان ي�شهد على �صدق‬ ‫�شهادتك لي�س �سفر ًا‪ .‬ال�سفر مكان نختلف فيه ومعه و�إليه‪ ،‬ال�سفر مكان‬ ‫ت�ضيع فيه حمموالتك من الأفكار والق�ضايا وامل�سلمات واليقينيات‪ ،‬وتعود‬ ‫منه مبحموالت �أخرى �أقل هند�سة‪ .‬ال�سفر �أن يكون لك خرائط كثرية‬ ‫للمكان الواحد‪ ،‬وكل خريطة منها تريك املكان نف�سه بهند�سات كثرية‪،‬‬ ‫متام ًا كما يقول ابن عربي‪":‬الواح ُد بالع ٍني‪ ،‬الكث ُري بال�صورٍ"‪.‬‬ ‫ال�سفر يفتح مدن العامل‪.‬‬

‫‪140‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:08‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 140‬‬


‫حترير اخليال‬ ‫«اخليال لي�س �إال العقل يف �أكرث حاالته قوة و�إثارة»(‪.)42‬‬ ‫«يف الأحالم تبد�أ امل�س�ؤولية‪ .‬ال ميكن �أن تن�ش�أ امل�س�ؤولية بال‬ ‫قدرة على التخ ّيل»(‪.)43‬‬ ‫ملاذا يحتاج ال�سيا�سي �إىل اخليال؟ لأنه الأكرث م�س�ؤولية عن‬ ‫الواقع‪ ،‬والواقع ال يقب�ض عليه‪ ،‬بل ُيقرتب منه بخطط ت�صنعها الأحالم‪،‬‬ ‫ويو�سعها اخليال‪« .‬يرتبط احللم ارتباط ًا وثيقا باخليال‪ ،‬وميكن تعريف‬ ‫ّ‬ ‫احللم ب�أنه خيال ي�سعى �إىل هدف‪� ،‬أمنية يتلب�سها طموح‪ ،‬رغبة ما لتجاوز‬ ‫ما هو قائم �إىل �شيء �آخر»(‪ )44‬ال�سيا�سي الذي ال يتوفر على هذه القدرة‪.‬‬ ‫يفلت منه الواقع وينعدم عنده احل�س بامل�س�ؤولية العاقلة باخليال‪ .‬فال‬ ‫ميكن لك �أن تعقل الواقع من غري �صور اخليال‪ ،‬التي تتيح لك اللعب فيه‬ ‫و�إدارته‪ ،‬بل و�صناعته‪ .‬من هنا فاملدينة متى فقد �سيا�سوها ومثقفوها‬ ‫اخليال‪ ،‬ال ميكنهم �أن يحرروا مدينتهم من م�آزق املا�ضي‪ ،‬ويفتحوها‬ ‫على �إمكانات امل�ستقبل‪.‬‬ ‫العقل ين�شط وميار�س فاعليته امل�س�ؤولة باخليال‪ ،‬وين�شط كذلك‬ ‫وميار�س فاعليته باملتخيل‪ ،‬لكنها فاعلية غري م�س�ؤولة‪ ،‬ذلك لأن املتخ ّيل‬ ‫ن�شاط جمعي يقوم على ت�صورات وجدانية غري حقيقية وغري واقعية‪،‬‬ ‫واملتخ ّيل يجد ت�صوراته الأثرية يف التاريخ‪ ،‬التاريخ ميده بوقائع مل حتدث‬ ‫‪42‬‬ ‫‪43‬‬

‫وردزورث‪ ،‬من كتاب اخليال‪:‬من الكهف �إىل الواقع االفرتا�ضي‪� ،‬شاكرعبداحلميد‪.‬‬ ‫هاروكي موراكامي‪ ،‬رواية كافكا على ال�شاطئ‪� ،‬ص‪192.‬‬

‫جورج طرابي�شي‪� ،‬صناعة الأوهام‪.‬‬ ‫‪44‬‬ ‫‪http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=32024‬‬

‫‪141‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:08‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 141‬‬


‫و�شخ�صيات مل توجد‪ ،‬و�أحداث خمتلقة و�سري مركبة‪ ،‬وبطوالت وهمية‪.‬‬ ‫اخلطاب ال�سيا�سي العربي يف جممله موجه يف الغالب �إىل جماهري‬ ‫تعي�ش يف التاريخ املتخيل‪ ،‬لذلك ين�شط هذا اخلطاب باملتخ ّيل اجلمعي ال‬ ‫باخليال الفردي‪.‬‬ ‫اخليال ن�شاط العقل الفردي حني يحاول �أن يدرك امل�ستقبل �أو‬ ‫يف�سر املا�ضي‪ ،‬لذلك الب َّد �أن نحرر اخليال كي نذهب مبدينتنا للم�ستقبل‪.‬‬ ‫�أما املتخيل فهو ن�شاط البنية الال�شعورية اجلماعية حني حتفزها �صور‬ ‫رغبوية يف التاريخ‪� ،‬أي التاريخ كما نرغب �أن يكون �أو �أنه قد كان‪.‬‬ ‫كما هو حلم اجلماعات الدينية يف ا�ستعادة دولة اخلالفة‬ ‫الرا�شدة‪ ،‬وع�صور الإ�سالم الذهبية‪ ،‬ودولة الإمام علي ‪ ،‬ودولة الر�سول‪.‬‬ ‫الأمثلة على اخلطاب ال�سيا�سي الذي ي�شتغل باملتخيل ال باخليال كثرية‪،‬‬ ‫مثال اخلطاب ال�سيا�سي الطائفي بني اخل�صوم ال�سيا�سيني‪ ،‬يقوم على‬ ‫�إذكاء املتخيل التاريخي ل�صراع الطوائف ال�سيا�سي والديني وفقه هذا‬ ‫ال�صراع‪ ،‬ولع ّل يف حتديد عامل االجتماع العراقي فالح عبداجلبار ملقوم‬ ‫الطائفية ما ي�ؤيد ذلك‪ ،‬فهو يقول «رغم �أن الطائفية تقوم على �إذكاء‬ ‫اخلالف الديني فقها وم�ؤ�س�سات‪ ،‬ف�إنها يف واقعها �صراع مرير على‬ ‫املوارد وال�سلطة»(‪.)45‬‬ ‫ال�سيا�سي يف �صراعه املرير على املوارد وال�سلطة ُي�شغل معجم‬ ‫املتخيل من قبيل (الفرقة الناجية‪� ،‬أهل البدع‪ ،‬النوا�صب‪ ،‬ن�صرة‬ ‫الطائفة‪� ،‬أهل اجلماعة‪ ،‬الدفاع عن ال�سنة‪� ،‬سب ال�صحابة‪ ،‬ك�سر ظلع‬ ‫فاطمة‪ ،‬الكفر‪ ،‬الرواف�ض‪ ،‬اخلطر ال�شيعي‪ ،‬والية �أهل البيت‪ ،‬الترب�ؤ‬ ‫والتويل‪ ،‬طاعة ويل الأمر‪ ،‬ال�صفويون‪� ،‬أبناء املتعة)‪ .‬مفاهيم هذا املعجم‬ ‫ومفرادته‪ ،‬ت�شتغل يف اخلطاب ال�سيا�سي ب�شكل مبا�شر �أو غري مبا�شر‪،‬‬ ‫فالح عبداجلبار‪ ،‬من يعيد ت�أ�سي�س الوطنية العراقية؟‪،‬‬ ‫‪45‬‬ ‫‪http://www.iraqiwriters.com/inp/view.asp?ID=1586‬‬

‫‪142‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:08‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 142‬‬


‫ال تتوفر هذه املفاهيم على خيال ينتج �صور ًا تر�سم للفاعل ال�سيا�سي‬ ‫و�شارعه امللتهب م�ستقب ًال حمكوما بامل�س�ؤولية واحليوية والإثارة‪� ،‬إنها‬ ‫ت�ستعيد حروبه التي ال تنتهي‪ ،‬و�صراعاته ال�سيا�سية الأزلية‪ .‬ال�سيا�سي‬ ‫حني يفتقد اخليال ي�ستعني بهذا املتخيل كي يعود بواقعه للوراء‪.‬‬ ‫امللك احل�سن الثاين‪ ،‬يف خالفه مع الإمام اخلميني‪ ،‬ا�ستند‬ ‫يف خطابه ال�سيا�سي �إىل متثيل نف�سه مبتخيل اخلالفة الديني‪� ،‬أمري‬ ‫امل�ؤمنني املدافع عن �أهل ال�سنة‪ ،‬وعن املذهب املالكي �ضد انت�شار الت�شيع‬ ‫الذي ازدادت حدته بعد انت�صار ثورة الإمام اخلميني‪ .‬وانحدارهما من‬ ‫�ساللة ال�سادة مل يزد خطابهما ال�سيا�سي �إال تناف�سا ونفرة‪ .‬والأزمة‬ ‫ال�سيا�سية احلالية بني املغرب و�إيران‪ ،‬تعود يف جانب منها �إىل �صراعات‬ ‫هذا املتخ ّيل يف اخلطاب ال�سيا�سي‪.‬‬ ‫و�سع الواقع‪ ،‬لي�ستوعب اجلماعات املختلفة واملتخيل‬ ‫اخليال ُي ّ‬ ‫ي�ض ّيق التاريخ والواقع‪� .‬إحدى �أزمات خطابنا ال�سيا�سي �أن خطب اجلمعة‬ ‫هي �إحدى مكوناته بل هي مرجعيته‪ ،‬وعالقة امل�سجد بالتاريخ تقوم على‬ ‫التقدي�س املتخيل‪ ،‬وعالقته بالواقع تقوم على احلالل‪ ،‬واحلرام‪ ،‬والظامل‬ ‫واملظلوم‪ ،‬واحلق والباطل‪ ،‬ال و�سائط بني هذه الثنائيات‪ .‬املتخيل‪ ،‬ميكن‬ ‫�أن يكون ُمك ّونا فاعال يف خطاب الثورات واالنتفا�ضات واملقاومات‪ ،‬لكنه‬ ‫ال ميكن �أن يكون كذلك يف خطاب الدولة واال�ستقرار واملجتمع املدين �إال‬ ‫حني يوظف مب�س�ؤولية عاقلة‪ ،‬حينها يكون خياال يفتحنا على امل�ستقبل‪.‬‬ ‫املتخيل يف خطاب ال�سيا�سي يحر�ض جمهور �شارعه على القيام‬ ‫برد فعل نافر (�صدامات‪ ،‬ت�سميمات‪ ،‬تهوي�شات‪ ،‬تخريب �إعالنات‪ ،‬ترويج‬ ‫�إ�شاعات‪ ،‬طرد من جمال�س‪ ،‬ت�سقيطات‪..‬الخ) لكل من ي�صنفهم خمياله‬ ‫اجلمعي ب�أنهم �أعداء(‪)46‬‬ ‫با�سمة الق�صاب‪ ،‬خميال ال�شارع االنتخابي‪� ،‬صحيفة الوقت‪ ،‬العدد ‪278, 25‬‬ ‫‪46‬‬ ‫نوفمرب ‪2006‬‬

‫‪143‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:08‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 143‬‬


‫خطاب النائب الربملاين ال�شيخ جا�سم ال�سعيدي‪ ،‬منوذج‬ ‫للخطاب ال�سيا�سي الذي ي�شتغل باملتخيل يف �إنتاج �أفعال نافرة يف احلياة‬ ‫ال�سيا�سية بني اجلماعات املختلفة دينيا‪ ،‬وعرقيا‪ ،‬وثقافيا‪ ،‬وبيانه الأخري‬ ‫عن احتفاالت عيد النريوز ي�ضج بهذه الأفعال النافرة «جميع االحتماالت‬ ‫�ستكون مفتوحة يف حال مت ال�سماح باالحتفال بهذا العيد �أو الرتخي�ص‬ ‫لأية جهة لالحتفال به‪ ،‬على �أية جهة ر�سمية قد رخ�صت لهذا االحتفال‬ ‫�أن ت�سحب ترخي�صها فورا و�إال ف�إنها �ستعر�ض نف�سها للم�ساءلة النيابية‪..‬‬ ‫ال يعقل �أن يتم االحتفال مبثل هذه الأعياد يف دولة �إ�سالمية وال�شريعة‬ ‫الإ�سالمية م�صدر ت�شريعها‪ ،‬وتقام فيها مثل هذه االحتفاالت املحرمة‬ ‫�شرعا»(‪.)47‬‬ ‫املتخيل الديني والتاريخي للدولة الإ�سالمية وال�شريعة يف‬ ‫هذا اخلطاب ال�سيا�سي غري امل�س�ؤول‪ ،‬ي�ض ّيق الواقع والدولة واملجتمع‬ ‫والأعياد‪ ،‬على العك�س من ذلك فاخليال يف خطاب ال�سيا�سي يح ّر�ض‬ ‫جمهور �شارعه على القيام ب�أفعال يرون من خاللها واقعهم ب�شكل‬ ‫خمتلف‪ ،‬ويرون م�آزقه احلقيقة يف احلا�ضر ال يف املا�ضي‪ ،‬وي�سعون �إىل‬ ‫تو�سيع هذا الواقع عرب القبول باجلماعات املختلفة معهم‪ ،‬ويعددون من‬ ‫�إمكانات احللول لأزماتهم ال�سيا�سية‪.‬‬ ‫كان �س�ؤال �سقراط الأثري يف حماوراته‪ :‬هل ميكن تعلم‬ ‫الف�ضيلة؟‬ ‫الف�ضيلة هنا‪ ،‬لي�ست هي‪ ،‬الورع‪ ،‬والتقوى‪ ،‬ومكارم الأخالق‪،‬‬ ‫�إمنا الف�ضيلة التي �شغلت �سقراط يف حماوراته‪ ،‬هي اخلربات وطريقة‬ ‫�إدارة احلياة ال�سيا�سية بكفاءة‪� ،‬أو لنقل بخيال خلاّ ق‪� ،‬إذ الإدارة حتتاج‬ ‫‪http://www.alwaqt.com/art.php?aid=28095&hi‬‬ ‫جا�سم ال�سعيدي‪ ،‬من بيان �أ�صدره مكتبه‪ ،‬و�أر�سل �إىل ال�صحف املحلية‪.‬‬ ‫‪47‬‬

‫‪144‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:08‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 144‬‬


‫�إىل خيال مبدع‪ ،‬يخلق حل ً‬ ‫وال ويفك �أزمات بدل �أن يراكم م�شكالت‬ ‫ويركب �أزمات‪ .‬لو طرحنا �س�ؤال الف�ضيلة بهذا املعنى لي�س على �أع�ضاء‬ ‫الكتلة الإميانية فقط‪ ،‬ولي�س على �أع�ضاء كتلة الأ�صالة فقط‪ ،‬ولي�س على‬ ‫�أع�ضاء كتلة امل�ستقلني فقط‪ ،‬ولي�س على �أع�ضاء كتلة املنرب الإ�سالمي‬ ‫فقط‪ ،‬ولي�س على �أع�ضاء الربملان فقط‪ ،‬بل على �أع�ضاء املجتمع ال�سيا�سي‬ ‫البحريني‪ ،‬ماذا �ستكون الإجابة؟‬ ‫لن �أجد �أف�ضل من اال�ستعانة ب�سقراط يف حماورته ملينون‪،‬‬ ‫كان يقول "فرجال احلكم �إنمّ ا يربعون يف تدبري مدنهم باتّكالهم على‬ ‫ال�صادق‪� .‬أ ّما حالهم يف العلم فكحال الأنبياء والكهنة؛ �إذ ه�ؤالء‬ ‫الظنّ ّ‬ ‫كثريا ما يقولون احلقّ ‪ ،‬ولكن بغري علم بحقيقة الأ�شياء ا ّلتي يتك ّلمون‬ ‫فيها"(‪.)48‬‬ ‫ي�شمل م�صطلح رجال احلكم يف حماورات �سقراط‪ ،‬رجاالت‬ ‫الدولة وال�سيا�سيني‪ ،‬وهو ي�سميهم ت�سمية �أقرب �إىل ال�سخرية واالنتقا�ص‬ ‫بالإله ّيني‪ ،‬فهو يقول‪" :‬و�أنت قد ال تنازع ب�أنّ ه�ؤالء ال ّرجال ا ّلذين يو ّفقون‬ ‫�أيمّ ا توفيق يف �أفعالهم و�أقوالهم بغري علم‪� ،‬إنمّ ا �أليق الأ�سماء بهم �أن‬ ‫ن�س ّميهم "الإله ّيني"(‪.)49‬‬ ‫وباعتقاد �أقرب �إىل اليقني ي�ؤكد �سقراط �صحة ت�سميته بقوله‪:‬‬ ‫ال�صواب �إذن‪� ،‬إن و�سمنا ه�ؤالء ال ّنا�س ا ّلذين و�صفناهم‬ ‫"فل�سنا جنانب ّ‬ ‫ال�سيا�سة بالإلهيني‪ .‬بل‬ ‫�آنفا… والكهنة وك ّل من كان ذا باع يف تدبري ّ‬ ‫ال�سيا�سة من هم �أحقّ ب�أن يو�صفوا بالإله ّيني وامللهمني‪،‬‬ ‫وال �س ّيما رجال ّ‬ ‫وذلك لأ ّنه لوال ال ّلطف ا ّلذي ينزل �إليهم من عند اهلل‪ ،‬ملا فعلوا ما‬ ‫فعلوا من �أ�شياء عظيمة وهم �صفر من ك ّل علم بالأ�شياء ا ّلتي يتك ّلمون‬ ‫‪48‬‬ ‫‪49‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:08‬‬

‫حماورة مينون‪ ،‬تعريب لطفي خرياهلل‪.‬‬ ‫امل�صدر نف�سه‪.‬‬

‫‪145‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 145‬‬


‫فيها"(‪.)50‬‬ ‫حتتاج املدينة �إىل حتريرها من هذا ال�صفر‪� ،‬صفر اخليال‬ ‫و�صفر الكفاءة‪ ،‬و�صفر الف�ضيلة‪.‬‬

‫‪50‬‬

‫‪146‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:08‬‬

‫امل�صدر نف�سه‪.‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 146‬‬


‫حترير احلقيقة‬ ‫احلالج ي�ستحق القتل‪ ،‬نعم ي�ستحق القتل‪ ،‬لأنه خالف حقيقة‬ ‫'‬ ‫دينية' مل تكن تلك وجهة نظر فقهاء اخلليفة املقتدر باهلل الذي �أمر‬ ‫ب�ضرب احلالج ب�ألف �سوط ثم قطع يديه ورجليه ثم �صلبه على ج�سر‬ ‫بغداد �سنة ‪309‬هـ‪ .‬بل هي وجهة نظر �أي�ض ًا الأ�ستاذة �إميان‪ ،‬املعلمة‬ ‫الأوىل للرتبية الإ�سالمية‪.‬‬ ‫لقد باغتني جوابها‪ ،‬يف ور�شة تدريبية كنت �أق ّدمها عن مفهوم‬ ‫احلقيقة والبحث من وجهة نظر البحث ال�سردي‪ .‬لقد طرحتُ ثالثة‬ ‫�أ�سئلة تن�شيطية على امل�شاركني من املعلمني واملعلمات الأوائل‪ .‬الأ�سئلة‬ ‫هي‪ :‬ما احلقيقة؟ وما البحث؟ وما ال�سرد؟‬ ‫فهمنا للحقيقة والبحث وال�سرد‪ ،‬يحدد موقفنا من ا�ستحقاق‬ ‫القتل‪ ،‬ما احلقيقة التي تربر القتل؟ وما البحث الذي يقودك �إىل القتل؟‬ ‫وما ال�سرد الذي ي�ؤ ّرخ للقتل؟‬ ‫احلقيقة التي تربر القتل هي حقيقة العميان‪ ،‬والبحث الذي‬ ‫يقود �إىل القتل هو البحث الذي ال يعتمد طريق العميان‪ ،‬وال�سرد الذي‬ ‫ي�ؤ ّرخ للقتل هو ال�سرد الذي يرويه العميان عن احلقيقة‪.‬‬ ‫وحكاية العميان ال�شهرية التي ينقلها �أبوحيان التوحيدي يف‬ ‫(املقاب�سة الرابعة وال�ستون‪ :‬يف �أن احلق مل ي�صبه النا�س يف كل وجوهه‬ ‫وال �أخطا�ؤه يف كل وجوهه)‬ ‫''ومثال ذلك عميان انطلقوا �إىل فيل و�أخذ كل واحد منهم‬ ‫م�س الرجل �أن‬ ‫جارحة منه فج�سها بيده ومثلها يف نف�سه‪ ،‬ف�أخرب الذي ّ‬ ‫خلقة الفيل طويلة مدورة �شبيهة ب�أ�صل ال�شجرة وجذع النخلة‪ ،‬و�أخرب‬ ‫‪147‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:08‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 147‬‬


‫م�س الظهر �أن خلقته �شبيهة باله�ضبة العالية والرابية املرتفعة‪،‬‬ ‫الذي ّ‬ ‫م�س �أذنه �أنه منب�سط دقيق يطويه ون�شره‪ .‬فكل واحد منهم‬ ‫و�أخرب الذي ّ‬ ‫قد �أ ّدى بع�ض ما �أدرك‪ ،‬وكل ما يكذب �صاحبه ويدعي عليه اخلط�أ والغلط‬ ‫واجلهل فيما ي�صفه من خلق الفيل'‬ ‫وهناك رواية حديثة تقول �إن الأول �أم�سك �أرجل الفيل فقال‬ ‫الفيل هو �أربعة عمدان على الأر�ض!‪.‬والثاين �أم�سك اخلرطوم وقال‪:‬‬ ‫الفيل ي�شبه الثعبان متاما!‪ .‬والثالث �أم�سك الذيل وقال‪ :‬الفيل ي�شبه‬ ‫املكن�سة! وحني وجدوا �أنهم خمتلفون بد�ؤوا يف ال�شجار ومت�سك كل منهم‬ ‫ومدع‪.‬‬ ‫بر�أيه وراحوا يتجادلون ويتهم كل منهم الآخر �أنه كاذب ٍ‬ ‫هل كانت احلقيقة التي �شاجر فيها فقهاء اخلليفة املقتدر‬ ‫احلالج‪ ،‬تختلف عن احلقيقة التي ت�شاجر فيها العميان؟ �إنهم يلتقون‬ ‫يف طريقة ت�صورهم للحقيقة‪ ،‬على الرغم من الفرق بني كثافة الفيل‬ ‫احل�سية‪ ،‬ولطافة ال�سماء الغيبية‪.‬‬ ‫احلقيقة يف ت�صورهم وت�صور الأ�ستاذة �إميان‪ ،‬هي اليقني‬ ‫والإميان وما ال ميكن ال�شك فيه‪ ،‬وهي �ضد الظن‪ ،‬وهي احل�ضور املطلق‬ ‫للأ�شياء‪ ،‬هي ال�شيء الذي ال يتطرق �إليه الوهم واخليال‪ ،‬وهي ما ال‬ ‫يتعدد ويختلف‪.‬احلقيقة هي الواقع وال�صدق‪ ،‬هي ما يوجد خارجنا‪،‬‬ ‫هي ما يو�ضع خارج الذات وحدوده‪ ،‬لذلك يت�صورون احلقيقة مو�ضوعية‬ ‫ولي�ست ذاتية‪ .‬احلقيقة يف ت�صورهم هي ما ال ميكن �أن يقال بعده �شيء‪.‬‬ ‫لذلك حني قال احلالج �شيئ ًا غري حقيقتهم‪ ،‬ا�ستحق القتل‪.‬‬ ‫احلقيقة م�ضافة دوم ًا �إىل و�سيلتها و�أداتها‪ ،‬هي من�سوبة �إىل‬ ‫الأداة التي ن�ستخدمها‪ ،‬لذلك احلقيقة لي�ست ما نراه وننظر �إليه بقدر ما‬ ‫هي ما به نرى �أو ما منه ننظر‪ ..‬احلقيقة هي لي�ست الأعمدة وال املكن�سة‬ ‫وال الثعبان‪ ،‬احلقيقة كانت يف �أيديهم التي بها يلم�سون‪ ،‬كانت �أداتهم‬ ‫‪148‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:08‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 148‬‬


‫التي بها يرون‪ .‬وهذه اليد تعادل عند الفقهاء �أجهزة فهمهم وعلوم‬ ‫الفتوى لديهم وقواعد الأ�صول التي بها ي�ستنبطون حقيقة الن�صو�ص‪.‬‬ ‫احلقيقة يف الأداة‪ ،‬ما تك�شفه لك الأداة وتريك �إياه وك�أنك تلم�سه وت�شمه‬ ‫وتتذوقه وت�سمعه هو حقيقة �أداتك ال احلقيقة‪ .‬لذلك تبقى احلقيقة‬ ‫لي�ست مطلقة‪ ،‬مطلقة من �أداة تن�سب �إليها‪.‬‬ ‫البحث هو طريق �أداتك‪� ،‬أي الطريق الذي ت�شقه وتفتحه‬ ‫�أداتك‪ ،‬لذلك لكل بحث منهج مكون من �أدوات معينة‪.‬كان طريق العميان‬ ‫للو�صول �إىل احلقيقة هو ما فتحته �أيديهم ومواقع تلم�سهم‪ ،‬و�صلوا �إىل‬ ‫جوانب احلقيقة التي �شقتها �أدواتهم‪.‬طرق البحث خمفورة بال�ضالل‬ ‫واملراوغة والظهور واخلفاء والوعورة وال�سهولة‪.‬وتتفاوت الطرق بتفاوت‬ ‫الأنفا�س التي تعمل على تو�سعة الو�صول‪.‬كانت للفقهاء طرقهم وكان‬ ‫للحالج طرقه‪ ،‬وكان لكل منهم ومنه مو�ضعه من احلقيقة‪ .‬متام ًا كما‬ ‫كان للعميان موا�ضعهم من الفيل‪.‬وعلى الرغم من االختالف والتجهيل‬ ‫ال�شجار الذي مار�سه العميان �ضد بع�ضهم‪ ،‬لكن مل يكن لأي منهم احلق‬ ‫يف قتل �أعمى مل تريه يده ومو�ضعها ما ر�أته يد الأعمى الآخر ومو�ضعها‪.‬‬ ‫احلقيقة مت�شظية وخمتلفة ومف�صلة وبقدر ما ت�ستطيع �أداتك‬ ‫من فتح طرق مت�شعبة للو�صول �إليها‪ ،‬ت�ستطيع �أن ت�سردها بقدر �أكرب‬ ‫من االت�ساع‪ ،‬فال�سرد يقوم على حكي التفا�صيل ال على جتريدها‪ ،‬لذلك‬ ‫هو الأكرث قدرة على حمل احلقيقة ومتثيلها يف تفا�صيله الكثرية‪.‬من‬ ‫هنا ف�إنه بقدر ما يقول بحثك من تفا�صيل‪ ،‬يتمكن من �سرد احلقيقة‬ ‫بطرق متعددة‪.‬كان احلالج ي�سرد احلقيقة عرب م�شاهداته الكثرية‪ ،‬كان‬ ‫يراها يف كل الكائنات متحدة معها وحالة فيها‪ ،‬وكان الفقهاء يرونها يف‬ ‫ن�صو�صهم الظاهرة فقط‪.‬والظاهر ال يظهر �أكرث من �سطح طريق‪.‬‬ ‫احلقيقة ال ميلكها طريق‪ ،‬فتفا�صيلها ال ي�ستوعبها طريق واحد‪،‬‬ ‫‪149‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:08‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 149‬‬


‫لذلك تظل احلقيقة ن�سب وعالئق يكرث منها الإن�سان ليتعلق باحلقيقة ال‬ ‫لي�صلها‪ ،‬وهذا ما �أدركه احللاّ ج‪ ،‬فراح يقول ''اخلالئق ال تتعلق باحلقيقة‪،‬‬ ‫واحلقيقة ال تتعلق باخلليقة‪ ،‬اخلواطر عالئق‪ ،‬وعالئق اخلالئق ال ت�صل‬ ‫�إىل احلقائق''‪.‬‬ ‫احلالج �سارد ال جارد‪ ،‬فال�سارد يف�صل و ُيكثرّ ‪ ،‬واجلارد‬ ‫يجرد احلقيقة من العالئق التي يجعلها حتل وتتحد مع العامل وكائناته‬ ‫وخالئقه‪.‬‬ ‫من هنا فال�سارد ميتلئ ب�صور الألوهية املتعددة يف العامل‪،‬‬ ‫ف َيثمل بجمالها وجاللها‪ ،‬على النحو الذي تخربنا به ك�ؤو�س ال�سهروردي‬ ‫''اللهم �إنا يف الثمالة ك�ؤو�س متتلئ بك''‪.‬‬

‫‪150‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:08‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 150‬‬


‫حترير الرابطة املدنية‬ ‫يذهب �ستانلي ِف�ش يف كتابه(هل يوجد ن�ص يف قاعة الدر�س؟‬ ‫�سلطة اجلماعات املف�سرة) �إىل �أن الطالب �أو اجلماعات يف املجتمع‬ ‫�أو اجلمهور يف قاعة املحا�ضرات‪ ،‬يقر�ؤون ما يف �أذهانهم من م�سبقات‬ ‫و�أفكار و�أحكام وقناعات وما يجمعهم من كل ذلك هو الذي يجعل منهم‬ ‫جماعة متما�سكة ومف�سرة ولي�س الن�ص �أو املحا�ضرة‪ .‬الن�ص يكاد يكون‬ ‫غائبا واملحا�ضرة تكاد تكون غائبة‪ ،‬واحلا�ضر هو ما يربطهم من قناعات‬ ‫و�أحكام وا�سرتاتيجيات قراءة‪.‬‬ ‫مثال كنت �أظن �أن �سرية ع ْل َم َنتي (علمانية الراهب‪� ..‬شيء من‬ ‫�سرية الرهبنة والعلمنة)(‪ )51‬هي ن�ص ميلك معنى قائما بذاته‪ ،‬وميكن‬ ‫�أن �أقدمه �أو يقدم نف�سه يف قاعة املجتمع‪ .‬كنت �أظن �أن ن�صي �سيوجد‬ ‫ويكون ويقول يف هذه القاعة‪ ،‬فهل كان ن�صي موجود ًا يف قاعة املجتمع؟‬ ‫�أو كانت قناعات اجلمهور هي املوجودة‪ ،‬وهي التي حتدد ب�سلطتها معنى‬ ‫ن�صي وتف�سره‪.‬‬ ‫مل يكن ن�صي موجود ًا‪ ،‬على الرغم من �أين كتبته ون�شر يف‬ ‫�صحيفة الوقت‪ ،‬وتداولته املنتديات الإلكرتونية واملجموعات الربيدية‪،‬‬ ‫ون�شرته يف مدونتي الإلكرتونية‪.‬‬ ‫ما كان موجود ًا هو تف�سري اجلماعات الدينية للعلمانية وهي‬ ‫اجلماعات التي كنت �أخاطبها يف جمتمعي‪ ،‬كانت �سلطة هذه اجلماعات‬ ‫املف�سرة هي املوجودة وهي التي عملت على تقدمي معنى العلمانية‪.‬‬ ‫وكي نفهم ذلك جيد ًا‪ ،‬علينا �أن نفهم �أن املجتمع لي�س جمموعة‬ ‫‪51‬‬

‫انظر‪� :‬سرية الرهبنة‪� ،‬ص‪.79‬‬

‫‪151‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:08‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 151‬‬


‫�أفراد‪ ،‬بل هو الرابطة التي ينتظم من خاللها الأفراد يف جماعة‪ .‬كذلك‬ ‫الن�ص لي�س جمموعة كلمات‪ ،‬بل هو ما يجعل الكلمات يف نظام‪� ،‬أي‬ ‫الرابطة التي تنتظم من خاللها يف ن�ص �أو خطاب‪ .‬هذا يعني �أن هناك‬ ‫ن�صا يف قاعة املجتمع ويف قاع قاعته على وجه التقريب‪ ،‬وهذا الن�ص هو‬ ‫اجلماعة نف�سها �أو رابطها �أو ما يجمعها من ا�سرتاتيجيات تف�سري وت�أويل‬ ‫وفهم‪.‬‬ ‫هذا هو املوجود وهو �صاحب ال�سلطة والقادر على �أن يف�سر وفق‬ ‫ما يريد‪� .‬أما ن�صي اليتيم من جماعة تعطيه �أبوتها‪ ،‬فلم يكن موجود ًا يف‬ ‫قاعة املجتمع التي ال تت�سع للخارجني على رابطها‪ .‬يتج ّلى ن�ص اجلماعة‬ ‫ورابطها يف الأن�شطة التي يقومون بها من �أجل منح الأ�شياء معناها‪ .‬مثال‬ ‫حني �أرجع �إىل املنتديات الإلكرتونية �أجد �أن ن�صي املن�شور هناك غري‬ ‫موجود‪.‬‬ ‫هو موجود يف املوقع ولكن لي�س يف قاع عقولهم وال قلوبهم‪،‬‬ ‫ما هو موجود وجودا فاعال وقويا هو ن�ص اجلماعة ويتج ّلى يف الن�شاط‬ ‫القرائي الذي قاموا به من �أجل تقدمي تف�سري وت�أويل‪ ،‬وقد متثل هذا‬ ‫الن�شاط يف ا�ستح�ضار ن�صو�ص الفتاوي واملحا�ضرات وخطب اجلمعة‬ ‫و�صور القيادات والعلماء والفقهاء ومواقفهم وا�ستدعاء مواقف الأئمة‬ ‫وكلماتهم والآيات والأحاديث والتاريخ‪ .‬هذا ما كان موجود ًا وهو ما‬ ‫يربط هذه اجلماعات ومينحها �سلطة تف�سريية‪ .‬وجدت �أن ال�س�ؤال لي�س‬ ‫ما معنى ن�صي؟ و�أين ذهب؟ ال معنى له‪ .‬فاملعنى يتحدد مبا تفعله هذه‬ ‫اجلماعات من �أن�شطة قرائية‪ ،‬متثل مواقفها‪.‬‬ ‫"اجلمل ال تظهر �إال يف مواقف‪ ،‬ويف �إطار �أو يف �إطار م�ؤ�س�ساتي"‬ ‫وجملتي �أو ن�صي ظهرت �أو لأقل غابت يف �إطار هذه اجلماعات‬ ‫املف�سرة‪.‬‬ ‫‪152‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:08‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 152‬‬


‫وهذا ما ي�ؤكده �ستانلي في�ش "املعنى لي�س ملكا خال�صا ال‬ ‫لن�صو�ص حمددة ثابتة‪ ،‬وال لقراء م�ستقلني مطلقي اليد يف حتديدها‪،‬‬ ‫بل هي ملك خال�ص جلماعات مف�سرة م�س�ؤولة عن �أن�شطة الق ّراء وعن‬ ‫الن�صو�ص التي تنتجها تلك الأن�شطة �أي�ضا"‪.‬‬ ‫املجتمع لي�س جمموعة �أفراد‪ ،‬بل منظومة عالقات متعددة‪،‬‬ ‫ومهمة املثقف العمل على هذه العالقات تفكيك ًا ونقد ًا وبيان ما تنجزه‬ ‫يف املجتمع من �أحداث ووقائع وم�آزق و�أزمات‪.‬البعد ال�سيا�سي هو بعد‬ ‫من �أبعاد املجتمع‪ ،‬وال ميكنه �أن يكون املمثل الوحيد ملا هو معقود يف‬ ‫املجتمع من عالقات‪� ،‬أي �أن التمثيل ال�سيا�سي ال يعك�س حقيقة العالقات‬ ‫االجتماعية لذلك "يدين بورديو الفهم الذي يعترب ال�سيا�سي كانعكا�س‬ ‫لالجتماعي �أو ال�سيا�سي ك�صورة حقيقية للعالقات االجتماعية"(‪.)52‬‬ ‫حتى ال�صراعات ال�سيا�سية التي ن�شهد وقائعها ب�شكل منتظم ال‬ ‫متثل حقيقة ال�صراعات االجتماعية‪ ،‬كما يفيدنا بورديو فـ"ال�صراعات‬ ‫ال�سيا�سية ال تعك�س حقيقة ال�صراعات االجتماعية‪ ،‬لأنها تدور بني‬ ‫تنظيمات �أكرث مما تدور بني طبقات وفئات"(‪.)53‬‬ ‫هناك �صراعات اجتماعية حتركها روابط مذهبية وتاريخية‬ ‫وثقافية‪ ،‬وتعطي لنف�سها م�شروعية دينية غري قابلة للدح�ض‪ ،‬ويتحدد‬ ‫�شكل الدولة واملجتمع والإن�سان ومعناهم وفق ن�شاط هذه الروابط وما‬ ‫تن�شئه من جماعات وم�ؤ�س�سات‪ .‬هكذا يكون املعنى وفق منظور هذه‬ ‫الروابط‪ ،‬ومهمة املثقف هو تفكيك هذه الروابط غري املدنية ونقد‬ ‫معناها‪.‬‬ ‫�س�أعطي ثالثة �أمثلة من خطابنا االجتماعي وال�سيا�سي‬ ‫‪52‬‬ ‫‪53‬‬

‫البناء على بيار بورديو‪�:‬سو�سيولوجيا احلقل ال�سيا�سي‪ ،‬علي �سامل‪�،‬ص ‪.90‬‬ ‫املرجع نف�سه‪�،‬ص ‪.89‬‬

‫‪153‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:08‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 153‬‬


‫والديني على هذه الروابط غري املدنية‪ ،‬وكيف ت�شتغل يف �إنتاج معناها‬ ‫غري املدين‪ ،‬الأول هو منوذج رابطة علماء ال�شريعة بدول جمل�س التعاون‪،‬‬ ‫والثاين هو منوذج خلطاب الوالء القائم على رابط الغنيمة والقبيلة ال‬ ‫على رابط املواطنة‪ ،‬والثالث هو منوذج الوالية الدينية القائم على رابط‬ ‫املوايل والنا�صبي‪ ،‬والرابع هو منوذج اخلطاب الديني القائم على رابطة‬ ‫االعتقاد يف حتديد مفهوم املواطن واملرتد‪ .‬يتحدد املعنى يف كل هذه‬ ‫النماذج خارج �إطار الرابطة املدنية‪ ،‬معنى الإن�سان‪ ،‬ومعنى الوطن‪،‬‬ ‫ومعنى الوالء‪ ،‬ومعنى املواطن‪ ،‬ومعنى العالقة التي ينتظم من خاللها‬ ‫النا�س‪.‬‬ ‫رابطة علماء ال�شريعة‬ ‫ �أعلن يف يونيو‪ 2008‬يف البحرين‪� ،‬إ�شهار جمعية ''رابطة علماء‬ ‫ال�شريعة بدول جمل�س التعاون اخلليجي''‪.‬‬ ‫عبداللطيف ال�شيخ رئي�س اللجنة الت�أ�سي�سية‪� ،‬أو�ضح ب�أنها‬ ‫جمعية علمية �إ�سالمية �شرعية م�ستقلة تتكون من جمموعة من العلماء‬ ‫يف العلوم الإ�سالمية من دول جمل�س التعاون اخلليجي‪ .‬م�شري ًا �إىل �أن‬ ‫اجلمعية ت�ستهدف القيام ب�أن�شطة دينية وثقافية واجتماعية وخريية‬ ‫وتوعوية وعلمية‪ ،‬وتعمل على �إيجاد التقارب بني علماء ال�شريعة يف ال�ساحة‬ ‫اخلليجية‪ ،‬وتوحيد الآراء الفقهية والفكرية‪ ،‬واالهتمام بق�ضايا امل�سلمني‬ ‫العامة وتنبيههم �إىل الأخطار التي تهدد هويتهم العقدية والثقافية‪،‬‬ ‫�إ�ضافة �إىل احلوار مع التيارات واملذاهب الفكرية املتعددة‪ ،‬و�إقامة‬ ‫الدورات ال�شرعية لت�أهيل العلماء والدعاة‪ ،‬و�إ�صدار الن�شرات الدورية‬ ‫حول الق�ضايا الإ�سالمية‪ ،‬وعقد امل�ؤمترات والندوات العلمية(‪.)54‬‬ ‫انظر‪:‬جريدة الوقت العدد ‪� 12 ، 782‬أبريل ‪:2008‬‬ ‫‪54‬‬ ‫‪http://www.alwaqt.com/art.php?aid=108299‬‬

‫‪154‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:09‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 154‬‬


‫الرابطة ال�شرعية التي يقدم هذا التجمع هويته من خاللها‪،‬‬ ‫ويحدد وظائفه و�أهدافه ا�ستناد ًا �إليها‪ ،‬هي نف�سها ت�شكل م�شكلة حتول‬ ‫دون �أن تكون الرابطة املدنية ملواطني دول اخلليج على م�ستوى دولهم �أو‬ ‫على م�ستوى جتمعهم اخلليجي مرجع ًا �إليهم‪ ،‬فالدولة اخلليجية ما زالت‬ ‫مل ت�ستكمل بعد رابطتها املدنية املواطنية‪ .‬وتعاين هذه الرابطة املدنية‬ ‫من م�شكالت تتعلق بالتكوين القبلي والديني‪.‬‬ ‫ما يتعلق بالتكوين الديني يف �شكله الطائفي خ�صو�ص ًا‪� ،‬أ�صبح‬ ‫بعد غزو العراق م�شكلة متفاقمة وم�صدرا لالنق�سام‪ ،‬وال ميكن معاجلة‬ ‫هذه امل�شكلة ب�أدوية هي نف�سها �سبب يف امل�شكلة‪ .‬فالرابطة ال�شرعية‬ ‫التي �صارت ملج�أ للطوائف‪ ،‬بحاجة �إىل دواء من خارجها‪ .‬مبعنى �أن‬ ‫�إن�شاء تنظيمات با�سم ال�شريعة �أو الدين على م�ستوى دول اخلليج �أو على‬ ‫م�ستوى كل دولة من دول اخلليج كافة‪ ،‬يفاقم من هذه امل�شكلة‪ .‬نحن‬ ‫بحاجة �إىل تكوين م�ؤ�س�سات �أو جتمعات عابرة‪ ،‬واحلل فيما �أرى �أن تكون‬ ‫هذه امل�ؤ�س�سات العابرة حتمل ر�سالة تعزيز الرابطة املدنية‪ ،‬وذلك �إما‬ ‫ب�إن�شاء روابط تنتمي للمجتمع املدين �أو روابط فكرية تقدم قراءة جديدة‬ ‫للمكون الديني (ال�شرعي)‪.‬‬ ‫لو كانت رابطة علماء ال�شريعة حتمل يف خلفيتها ما ي�شي بهذه‬ ‫املهمة‪� ،‬أي تقدمي خطاب ديني جديد عابر للطوائف واملذاهب و�أ�شكال‬ ‫التدين التقليدي �أو الأيديولوجي �أو اجلهادي‪ ،‬حلققت بالفعل مهمة مدنية‬ ‫تعزز من تكوين الدولة غري املنجزة يف املجتمعات اخلليجية‪ .‬لكن مع‬ ‫الأ�سف‪ ،‬لي�س هناك على م�ستوى الأهداف التي حتملها هذه الرابطة وال‬ ‫على م�ستوى الت�سمية‪ ،‬وال على م�ستوى الأ�سماء البارزة يف هذه الرابطة‬ ‫ما ي�شري �إىل �إمكان تقدمي خطاب يتجاوز بالفعل امل�شكلة التي تعاين منها‬ ‫‪155‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:09‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 155‬‬


‫الرابطة املدنية �أو املواطنية على م�ستوى اخلليج‪.‬‬ ‫فعلى م�ستوى الت�سمية (رابطة علماء ال�شريعة)‪ ،‬هناك �إ�شكالية‬ ‫يف ا�ستخدام عنوان ال�شريعة‪ ،‬وجل التنظيمات الإ�سالمية‪ ،‬تقدم نف�سها‬ ‫بو�صفها ممث ًال لل�شريعة وتقيم جميع احرتاباتها واختالفاتها على �أ�سا�س‬ ‫�أنها املمثل احلقيقي �أو ال�صحيح لل�شريعة‪.‬‬ ‫وهذا ما ي�شري �إليه ر�ضوان ال�سيد بقوله‪" :‬امل�س�ألة العقدية تتمثل‬ ‫يف ذهاب �سائر الإحيائيني (حتى املعتدل منهم) �إىل �أن �أ�صل امل�شروعية‬ ‫يف الإ�سالم يقوم على ال�شريعة‪ ،‬ولي�س على اجلماعة‪ .‬وقد ر�أى الفقهاء‬ ‫امل�سلمون قدميا �أن اجلماعة املع�صومة التي حتت�ضن ال�شريعة هي الأ�صل‬ ‫يف امل�شروعية‪ .‬فقد �آمنت بدين اهلل‪ ،‬وهي تعي�شه‪ ،‬ويع�صهما �إجماعها‬ ‫من ال�ضالل‪ ،‬بل ومن اخلط�أ واخلطل الكبريين‪ ،‬من دون �أن ي�شمل ذلك‬ ‫�أفرادها طبعا‪� .‬أما القول �إن ال�شريعة هي �أ�صل امل�شروعية‪ ،‬فهذا يعني‬ ‫و�ضعها خارج اجلماعة‪ ،‬وارتهان جماعة امل�سلمني حلاكم �أو قلة تزعم �أن‬ ‫ال�شريعة بيدها"(‪.)55‬‬ ‫وعلى م�ستوى الأهداف‪ ،‬لي�س هناك ما ي�شري �إىل تقدمي خطاب‬ ‫جديد‪ ،‬و�أعني باجلديد هنا‪ ،‬اخلطاب الذي ينظر �إىل واقعه وعامله من‬ ‫منظور العلوم الإن�سانية احلديثة املتجاوزة للتوظيفات الإيديولوجية �أو‬ ‫ال�سيا�سية �أو ال�سلطوية‪ .‬وهي ما تعاين منه خطابات الإ�سالم احلركي‬ ‫مبختلف اجتاهاته‪ ،‬والإ�سالم الأ�صويل‪ ،‬والإ�سالم التقليدي والإحيائي‬ ‫وال�سلطوي‪� ،‬إىل �آخر الأ�سماء التي ت�شري �إىل �إ�سالمات غري منتهية‪.‬‬ ‫راجع‪'' :‬جتديد اخلطاب الديني يف الزمن الأمريكي‪ :‬العنف‪ ..‬والإ�صالح الديني'‬ ‫‪55‬‬ ‫على موقع '�إ�سالم �أونالين' عرب الو�صلة‪:‬‬ ‫‪http://www.islamonline.net/arabic/‬‬ ‫‪contemporary/200402//article02c.shtml‬‬

‫‪156‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:09‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 156‬‬


‫لي�س يف �أهداف هذه الرابطة ما ي�شري �إىل ال�صدور عن خطاب‬ ‫جديد‪ .‬وال ما ي�شري �إىل مراجعة نقدية �إىل خطاب الإ�سالم احلركي �أو‬ ‫الإ�سالم التقليدي‪ .‬ولي�س هناك‪ ،‬يف هذه الأهداف‪ ،‬ما يب�شر بقيم مدنية‬ ‫حديثة كالتعددية واالنفتاح والت�سامح وفهم الآخر‪ .‬هناك ''توعية بالإ�سالم‬ ‫ال�صحيح‪ ،‬وتوحيد الآراء و�أحكام ال�شريعة‪ ،‬والتنبيه �إىل الأخطار التي‬ ‫تهدد هوية امل�سلمني العقدية والثقافية' املنظور الذي ت�صدر منه هذه‬ ‫الأهداف هو نف�سه منظور خطاب الإ�سالم احلركي والإ�سالم الأ�صويل‪،‬‬ ‫وهو نف�سه م�صدر �أزمتها‪.‬‬ ‫وهذا املنظور ما مل يتم مراجعته نقدي ًا لن يفعل �سوى �إعادة‬ ‫�إنتاج �أزمة اخلطاب الديني من جديد ولكن هذه املرة بتنظيم جديد‬ ‫وواجهة جديدة‪ .‬وهذا يقودنا �إىل القول �إن كل جتمع با�سم الإ�سالم �أو‬ ‫با�سم ال�شريعة �أو با�سم الدين‪ ،‬يهدف �إىل خلق كيانات تنظيمية جديدة‬ ‫من غري خطاب جديد متجاوز لأزمة اخلطاب الديني ال�سائد‪ ،‬لن يكون‬ ‫�أكرث من م�شكلة �أو �أزمة جديدة كما هو �ش�أن هيئة علماء امل�سلمني ال�سنة‬ ‫بالعراق‪ ،‬وكما هو �ش�أن املجل�س العلمائي يف البحرين‪ ،‬فهذه الكيانات‬ ‫التنظيمية و�إن اتخذت لها و�ضعية قانونية مدنية‪ ،‬لن تكون �أكرث من‬ ‫رابطة‪� ،‬أو جبهة‪ ،‬ناطقة مبا يجعل منها �سلطة ومرجعية لطائفة‪� ،‬أو‬ ‫لفهم ال ي�ستوعب الرابطة املدنية العابرة للمذاهب والطوائف والقبائل‬ ‫والوالءات الطفيلية‪.‬‬ ‫�ستكون هذه الروابط‪ ،‬رابطة للون من الدين‪ ،‬الذي يت�صالح مع‬ ‫جماعات دينية معينة �أو �سلطات �سيا�سية معينة على ت�سويات برجماتية‪،‬‬ ‫لكنها لن تت�صالح مع ع�صرها وقيمه احلديثة‪ .‬و�ستتحول هذه الروابط‬ ‫�إىل واجهات �سيا�سية ت�ستخدم بق�صد �أو بغري ق�صد ال�شريعة‪ ،‬لتك�سب‬ ‫قوة اجتماعية تخولها �أن تعالج الأمور امل�ستجدة على ال�ساحة مبا يحقق‬ ‫‪157‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:09‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 157‬‬


‫م�صاحلها‪ ،‬ال مبا يحقق م�صالح اخللق‪ ،‬وتنطق مبا تريده هي‪ ،‬ال مبا‬ ‫تق�صده ال�شريعة‪.‬‬ ‫وعلى م�ستوى العلماء الذين يت�صدرون رابطة ال�شريعة‪ ،‬مع‬ ‫احرتامنا ملقا�صدهم اخلرية‪ ،‬ومراميهم النبيلة‪ ،‬ومكانتهم االجتماعية‪،‬‬ ‫ومرجعيتهم الدينية‪ ،‬ف�إنني ال �أ�ستطيع �أن �أ�صادق على خطابهم �أو‬ ‫�أعول عليه يف معاجلة �أزمة الدولة احلديثة يف جمتمعاتنا اخلليجية‪.‬‬ ‫فهذا اخلطاب الذي مازال م�شغ ً‬ ‫وال مبو�ضوعات من قبيل"هل الوزارة‬ ‫والية عامة �أو خا�صة؟"''‪''"،‬احلاجة قائمة وملحة حلماية العفة و�صيانة‬ ‫الأعرا�ض يف منع االختالط واخللوات يف �أروقة العمل"''‪''"،‬املجتمع الذي‬ ‫متوج فيه الفنت واالنحالل الأخالقي"(‪ ،)56‬كما هو �ش�أن خطاب الدكتور‬ ‫عجيل الن�شمي الذي فاز برئا�سة الرابطة‪.‬‬ ‫رابطة الغنيمة‬ ‫يتبدى مفهوم الوالء يف الدولة‪ ،‬لي�س من خالل دعوات‬ ‫ال�سيا�سيني واملثقفني ب�ضرورة التحول من الوالءات ال�ض ّيقة واخلا�صة‬ ‫�إىل الوالء العام للدولة‪ ،‬فتلك ال تتجاوز �أن تكون �أمنيات يف �أح�سن‬ ‫الأحوال‪ ،‬ويف �أ�سو�أها تالعبات خطابية‪ ،‬لكن مفهوم الوالء‪ ،‬تظهره‬ ‫انظر الو�صلتني‪:‬‬ ‫‪56‬‬ ‫‪http://www.alraimedia.com/Templates/‬‬ ‫‪frNewsPaperArticleDetail.aspx?npaId=20826‬‬ ‫‪http://www.alqabas.com.kw/Final/NewspaperWebsite/‬‬ ‫‪NewspaperPublic/Arti‬‬ ‫‪clePage.aspx?ArticleID=278421‬‬

‫‪158‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:09‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 158‬‬


‫�أ�صوات اخلطابات االجتماعية حني ت�شتد �أزماتها يف موقع الدولة‪.‬‬ ‫خطاب حممد املحميد يف عموده اليومي ب�صحيفة (�أخبار‬ ‫اخلليج)‪ ،‬الذي كان حتت عنوان (ال�شعوب لي�ست �سامان ديغة)‪ ،‬ميثل‬ ‫خطاب ًا من خطابات اجلماعات ال�سيا�سية يف الدولة‪ ،‬ومع �أن العمود‬ ‫اليومي‪ ،‬هو مكان للر�أي الذي ميثل ال�شخ�ص‪ ،‬غري �أنه هذه املرة مل يكن‬ ‫ميثل ال�شخ�ص‪ ،‬بل كان �صوت اجلماعة فيه ينطق مبا يدور فيها‪ .‬غري �أن‬ ‫هذا ال يعني �أن هذا العمود حم�سوب على جماعة‪ ،‬بل هو حم�سوب على‬ ‫�صاحبه فقط‪ ،‬و�إن كان ينطق با�سم جماعة "و''الناطق با�سم املجموعة‬ ‫هو الذي ي�ؤكد وجودها من خالل �شرعية كالمه التي يظهرها"(‪)57‬‬ ‫و�شرعية كالم هذا اخلطاب ت�أتي من حجة �صك الوالء ال�صامت‪.‬‬ ‫ما الذي يقوله هذا اخلطاب؟ وما املفهوم الذي ي�صدر له‬ ‫للوالء؟‬ ‫يقول "''ونقولها اليوم وبك ّل جر�أة و�صراحة لأ�صحاب القرار‬ ‫واحلكم يف تلك الأوطان‪ ،‬جمهورية �أو �إمارة �أو حتى مملكة‪� ،‬إن كان من‬ ‫يحر�ض على القتل والتحري�ض والتخريب وقلب نظام احلكم يكون ثوابه‬ ‫اليوم اللقاء معكم واجللو�س عندكم وا�ستالم العطايا واملنا�صب منكم‪،‬‬ ‫ف�إن ال�شعوب ال�صامتة يف �أوطانكم بيدها �أن تفعل ما يفعلونه و�أكرث‪ ،‬و�أن‬ ‫�صك الوالء وال�صمت الأبدي الذي تت�صورون �أنكم ملكتم به ال�شعوب‬ ‫ف�إنها يف حل منه‪ ،‬ولي�س له وجود وال اعتبار وقد مت �إلغا�ؤه‪ ،‬يف اللحظة‬ ‫التي ت�شعر ال�شعوب �أنها جمرد «�سامان ديغة» �أو «طنبور طني»‪ ،‬وهذا‬ ‫ما ال ترت�ضيه لكم وال لها‪ ،‬لأن وجودها مرتبط بوجودكم‪ ،‬وم�ستقبلها‬ ‫موثوق مب�ستقبلكم‪ ،‬غري �أن ما تقومون به �أثار الت�سا�ؤالت واال�ستفهامات‬ ‫‪57‬‬

‫علي �سامل‪ ،‬البناء على بيار بورديو‪� ،‬ص‪.98‬‬

‫‪159‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:09‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 159‬‬


‫واال�ستغرابات‪ ،‬مما يجعل بع�ض ال�شعب م�ضطرا لأن يطالب ب�إعادة‬ ‫ترتيب البيت وامل�ستقبل بكم �أو حتى من دونكم‪ ..‬اقر�أوا التاريخ‪..‬‬ ‫و�أعيدوا تقليب �صفحاته‪ ،‬وناق�شوا م�ست�شاريكم ومن حولكم‪ ،‬ف�إن ال�شعب‬ ‫ال�صامت يو�شك �أن يتحرك ويثور ج ّراء ال�سياط واملظامل التي تنزل يوميا‬ ‫على ظهره ب�سبب قراراتكم وحتوالتكم ولقاءاتكم وعرو�ضكم"(‪.)58‬‬ ‫ي�صدر هذا اخلطاب عن مفهوم للوالء‪ ،‬ال يت�سق و�شكل الدولة‬ ‫الوطنية احلديثة‪ ،‬فهذا اخلطاب يتمثل الوالء وك�أنه طاعة خا�صة تقدمها‬ ‫جماعة لوالة الأمر‪ ،‬ويف مقابل هذه الطاعة اخلا�صة على والة الأمر �أن‬ ‫تعطي هذه اجلماعة وحدها مما عندها من ملك‪ ،‬كي تلزم �صمتها‪،‬‬ ‫ويتهدد هذا ال�صمت بالثورة و�إعادة ترتيب البيت من دون والة الأمر‬ ‫يف حالة �أن اجلماعة مل حت�صل على مبتغاها من �أعطيات والة الأمر �أو‬ ‫ذهبت �إىل جماعة �أخرى ال تلتزم �صك ال�صمت الذي تلتزم هي به‪.‬‬ ‫هذا اخلطاب ناطق �إذن با�سم جماعة تفهم مواطنيتها يف‬ ‫�صيغة �صك �سكوت‪ .‬لقد قلت �إن هذا املفهوم للوالء ال يتنا�سب و�شكل‬ ‫الدولة الوطنية احلديثة‪ ،‬لأن �صك الوالء القائم على �صك ال�صمت يغلق‬ ‫الدولة‪ ،‬لأنه يغلق املواطنة التي ال تقوم �إال بحق النطق باالحتجاج يف‬ ‫امليدان العام‪.‬‬ ‫هذا ال�صك يغلق الدولة على جماعة‪ ،‬ويغلق �أبوابها العامة‬ ‫املفتوحة على املجتمع‪ ،‬واملجتمع املفتوح هو املجتمع الذي ال تغلق الدولة‬ ‫�أبوابها من دون نطقه‪ .‬الدولة جامع الوالء‪� ،‬أو هي جممع الوالءات‪ .‬الدولة‬ ‫لي�ست عقد ًا ت�صكه جماعة معها‪ ،‬بل هي تقوم على عقد ي�صكه املجتمع‬ ‫معها (‪ ،)Social Contract‬وهو لي�س عقد �صمت بل عقد نطق‪،‬‬ ‫وذلك لأنه عقد ين�ص على �أن حتمي الدولة نطقهم املختلف واملتعدد‬ ‫‪58‬‬

‫جريدة �أخبار اخلليج‪ ،‬العدد ‪، 10987‬الثالثاء‪� 22‬أبريل ‪ 2008‬م‬

‫‪160‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:09‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 160‬‬


‫واملت�ضارب املواقع وامل�صالح‪ ،‬مبعنى �أن تكون الدولة نطاق نطقهم‬ ‫الآمن‪.‬‬ ‫و�إذا كانت الدولة (ال�سلطة) يف طور من �أطوارها البدائية‪،‬‬ ‫تعطي �صكوك غنيمة جلماعة من دون جماعة مقابل �صكوك والئها‬ ‫ال�صامت‪ ،‬ف�إنها لن ت�ستطيع �أن تكون دولة حديثة ووطنية من دون‬ ‫ا�ستيعاب جميع اجلماعات املتعددة �ضمن �صك واحد‪ ،‬هو �صك العقد‬ ‫االجتماعي‪.‬‬ ‫لذلك فهذا املفهوم للوالء‪ ،‬يجعل من �صاحبه ناطقا ال با�سم‬ ‫الوالء للدولة‪ ،‬بل با�سم حقه من الوالء ال�شخ�صي �أو اجلماعي لل�سلطة يف‬ ‫الدولة‪ .‬وجماز ال�صك يحيل �إىل ال�سوق وعمليات البيع وال�شراء‪ ،‬فال�صك‬ ‫نوع من �أنواع الأوراق التجارية‪ ،‬وك�أن الوالء هنا هو عملية بيع جتارية تتم‬ ‫بورقة جتارية‪ ،‬وحني ال يكون لهذه الورقة ما يعادلها‪ ،‬يف اخلزينة �أو يف‬ ‫احل�ساب تفقد قيمتها‪ ،‬وت�سقط من قانون التبادل التجاري‪ .‬الوالء للدولة‬ ‫يف �شكلها احلديث‪ ،‬ال ميكن �أن ي�ستوعبه جماز ال�صك‪ ،‬لأن والء ال�صك‬ ‫حمكوم ب�أفق الغنيمة‪ ،‬فمن ميلك �صك الوالء ينتظر غنيمة من الدولة‪،‬‬ ‫والغنيمة يف العرف القبلي‪ ،‬هي ما ت�أخذه القبيلة بالقوة عن طريق الغزو‪،‬‬ ‫وتعطيه حللفائها و�شركائها‪ .‬وهذا النمط من الوالء الذي ينطق بك هذا‬ ‫اخلطاب‪ ،‬يعزز من ال�صور النمطية التي عمل على تكري�سها كثري من‬ ‫الكتّاب الغربيني والتي هي اليوم حمل مراجعة نقدية وعلمية‪.‬‬ ‫فهذه ال�صور ترى �أن دول اخلليج (‪)59‬لي�ست �إال قبائل ب�أعالم‬ ‫‪ ،tribes with flags‬و�أن اخلليجي ال ي�شعر مبواطنته يف دولة‬ ‫حديثة بل كع�ضو يف حتالف قبلي وا�سع ميح�ض فيه والءه لل�شيخ املرتئ�س‬ ‫للتحالف مقابل ح�صوله على ن�صيبه من الغنائم‪ .‬و�أن الرتاث القبلي‬ ‫انظر‪:‬حممد عبيد غبا�ش‪� ،‬سلطة �أكرث من مطلقة‪ ..‬جمتمع �أقل من عاجز ‪ ..‬الدولة‬ ‫‪59‬‬ ‫اخلليجية‪/ http://editorials.blogunited.org.‬‬

‫‪161‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:09‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 161‬‬


‫الطويل املت�سم ب�شراء الوالء والإخال�ص تعزز عرب �أُعطيات الدولة التي‬ ‫توزع املنافع واملنح ل�سكانها‪ .‬والتي يتم توظيفها يف �شراء ال�شرعية من‬ ‫خالل الإنفاق العام بالإ�ضافة �إىل الأعطيات املمنوحة لأغرا�ض ك�سب‬ ‫الوالء ال�شخ�صي‪.‬‬ ‫ �إن منطق الدولة الوطنية احلديث‪ ،‬ال ميكن �أن يتنا�سب و�شكل‬ ‫هذا الوالء الذي ي�صدر عنه اخلطاب الذي كان (املحميد) ناطقا‬ ‫با�سمه‪� ،‬إنه يفرغ مفهوم الوالء الوطني من قيمته اجلوهرية القائمة على‬ ‫�أن الدولة وطن لكل اجلماعات‪ ،‬وهي تعطيك ملواطنتك‪ ،‬ال جلماعتك‪،‬‬ ‫ولوالئك لقوانينها‪ .‬وحتى لو خالفت قوانينها‪ ،‬فهي تعطيك ما تقرره‬ ‫هذه القوانني �أي�ضا‪� ،‬أما مفهوم الوالء الذي ي�ضيق ب�أي جماعة ت�شاركه‬ ‫يف الغنيمة‪ ،‬وتزاعمه يف النفوذ وال�سلطة‪ ،‬فهو ينا�سب القبيلة قبل �أن‬ ‫تكون دولة‪ .‬وهذا املفهوم للوالء املقرون بالغنيمة هو ما ي�ؤكد نطق هذا‬ ‫اخلطاب "وتقدمي الهبات والعرو�ض واملنا�صب وامل�س�ؤوليات‪ ..‬الأموال‬ ‫واملنا�صب ف�أعطوهم ما ت�شاءون‪ ،‬ولكن ال تبخلوا وال متنعوا اخلري عن‬ ‫�أبناء الوطن الآخرين املخل�صني"(‪.)60‬‬ ‫يف رواية «العالمة» يقب�ض املفكر واملبدع املغربي �سامل ِح ّمي�ش‪،‬‬ ‫على روح �إ�شكالية التاريخ عند ابن خلدون‪ ،‬وهي الإ�شكالية املتعلقة‬ ‫بالوالء والع�صبية‪ ،‬لقد حازت هذه الرواية جائزة جنيب حمفوظ للرواية‬ ‫�سنة ‪ 2002‬ومتت ترجمتها �إىل عدة لغات منها الفرن�سية والإجنليزية‬ ‫على يد الربوفي�سور روجر �أالن‪ .‬وذلك ملا تتوافر عليه من خ�صوبة بالغة‬ ‫يف معاجلة �شخ�صية ابن خلدون ومتثل عميق مفهومه للتاريخ‪.‬‬ ‫وقد ابتكرت الرواية �شخ�صية «حمو احليحي» وهو ال وجود له‬ ‫يف الواقع‪ ،‬ووظفتها ب�صفته كاتب ًا لإمالءات عبدالرحمن بن خلدون‪.‬‬ ‫‪60‬‬

‫‪162‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:09‬‬

‫جريدة �أخبار اخلليج‪ ،‬العدد ‪، 10987‬الثالثاء‪� 22‬أبريل ‪ 2008‬م‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 162‬‬


‫لن يكون «حمو احليحي» كاتب �إمالء فقط‪ ،‬بل �سيكون ُمو ّلد‬ ‫�أ�سئلة‪ ،‬ومثري �إ�شكاالت‪ ،‬و�صديق معرفة و�صاحب ذائقة قرائية ناقدة‪ ،‬يف‬ ‫�إحدى ليايل الإمالء‪ ،‬يثري «حمو» �س�ؤاال �إ�شكالي ًا «�إذا كان التاريخ ديوان ًا‬ ‫ال حتتل العربة فيه ح�صتها الو�ضاءة‪ ،‬وال دورها الدافع املفيد‪ ،‬ف�أي معنى‬ ‫يكون للمتغريات �أو للتقلب بني الأطوار والفرتات»(‪.)61‬‬ ‫يثري هذا ال�س�ؤال‪� ،‬أعماق تفكري ابن خلدون يف التاريخ‪ ،‬و�أعماق‬ ‫�إح�سا�سه العميق بثقل التاريخ‪ ،‬فيجيبه «�سجلها يا حمو قبل ان�صرافك‬ ‫�سجل علة العلل احليثية قبل �أن تفلت مني نا�صيتها‪� ،‬أو يعميني نور‬ ‫ن�صاعتها ومتيزها‪� .‬أم العلل يف تعطل العربة وتراكم الأزمنة الالجمدي‪،‬‬ ‫�أراها الآن يف ف�ساد بذرة التاريخ ودفعة �أطواره‪� ،‬أراها يف ُعوار هذا الأ�صل‬ ‫املتنطع املتنا�سخ‪ ،‬العائد دوم ًا بنف�س املعاطب واخلروقات»(‪.)62‬‬ ‫ما هذه البذرة التي تف�سد التاريخ‪ ،‬وال جتعله ينمو ويعترب ويتعظ‪،‬‬ ‫لي�ست�أنف حياة جديدة‪ ،‬ما الذي يجعل هذه البذرة فا�سدة؟ ما الذي‬ ‫جمد‪ ،‬ما �س ّر املعاطب واخلروقات؟‬ ‫يف�سد در�س التاريخ؟ ويجعله غري ٍ‬ ‫«�أراهاياحمويفبلوىالع�صبيةبالذاتوال�صفات»(‪«)63‬الع�صبية‬ ‫�أم الباليا كالفينق املنبعث من رماده»(‪« .)64‬ع�صبية الوالء واال�صطناع‬ ‫التي بتعظيمها وت�سعريها تتناف�س الع�صابات يف اال�ستغالظ بع�ضها على‬ ‫بع�ض»(‪.)65‬‬ ‫هذه البلوى الع�صبية جتعل الدولة بذاكرات كثرية مت�شظية‬ ‫وحمرتبة ومتك ّهفة (من كهف)‪ .‬ما يهدد الدولة لي�س فتح تاريخ الع�صبيات‬ ‫‪61‬‬ ‫‪62‬‬ ‫‪63‬‬ ‫‪64‬‬ ‫‪65‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:09‬‬

‫رواية العالمة‪� ،‬سامل حمي�ش‪� ،‬ص ‪64.‬‬ ‫امل�صدر نف�سه‪� ،‬ص ‪64.‬‬ ‫مل�صدر نف�سه‪� ،‬ص ‪64.‬‬ ‫مل�صدر نف�سه‪� ،‬ص ‪61.‬‬ ‫مل�صدر نف�سه‪� ،‬ص ‪135.‬‬

‫‪163‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 163‬‬


‫ونقده‪ ،‬بل فتح الع�صبيات نف�سها‪ ،‬فتح باب الدولة لها وا�صطناعها �إياها‬ ‫وتعظيمها لها وت�سعريها (من ال�سعار وال�سعر) حد اال�ستغالظ‪.‬‬ ‫الدولة تكون حني تتعظ بالتاريخ‪ ،‬حني تتعلم در�سه العميق‪،‬‬ ‫حني تعي بذرة ف�سادها وت�ستبدلها ببذرة �أخرى‪ ،‬حني تكف عن ا�صطناع‬ ‫الوالءات الطفيلية الع�صبية‪ ،‬و�إال �سيكون املوت �أو ال�شلل يرتب�ص بها‪،‬‬ ‫نحن نفتح الذاكرة كي نعي در�س التاريخ‪ ،‬ونك�شف هذه البذرة الفا�سدة‬ ‫التي تنخر يف عمر الدولة‪ ،‬وجتعل من دولنا �أ�شباه دول‪ .‬نفتح فعل الفتح‬ ‫كي ُن ِعربه‪ ،‬كي نخل�صه من بلوى الع�صبية التي هي كالفينق‪ ،‬تنبعث مع‬ ‫كل طور من �أطوار الدولة‪ ،‬طور ‪ 1924‬وطور ‪ 1971‬وطور ‪ 1975‬وطور‬ ‫‪ 2002,‬مع كل انبعاثة ي�أتي هذا الطائر يف �شكل حياة جديدة‪ ،‬لذلك‬ ‫البد �أن نواجهه ونفتح �أفعال انبعاثه‪.‬‬ ‫ف�ساد بذرة التاريخ بالع�صبية‪� ،‬إنها البذرة التي جتعل عمر‬ ‫الإ�صالح يف الدولة دوم ًا ق�صري ًا‪ ،‬كما يقول ابن خلدون‪ .‬لأنها هذه البذرة‬ ‫تثقل الدولة بعيوب تعجل بها �أو ت�شلها �أو تهدد ا�ستقرارها‪ ،‬ويعدد لنا‬ ‫ابن خلدون هذه العيوب بنربة تقريعية عالية الوقع «وازع القرابة والدم‬ ‫يف الظفر بامللك عيب‪ .‬ا�صطناع املرتزقة واملوايل يف �إدارة دفة احلكم‬ ‫عيب‪ ،‬اال�ستبداد موفق ًا كان �أو بائ�س ًا عيب‪ ،‬التعويل على م�شورة ال َه ِرمني‬ ‫ومن طبختهم الدولة عيب‪ ،‬تف�ضيل املتزلفني على امل�ضطلعني الأكفاء يف‬ ‫الدواوين عيب"(‪.)66‬‬ ‫الع�صبية ت�صنع العيب‪ ،‬والدولة املبتالة بعيب الع�صبية ال‬ ‫ميكنها �إال �أن تكون دولة خلدونية‪� ،‬أي دولة تنخر فيها بذرة الف�ساد وال‬ ‫تتعظ بعربة التاريخ‪ .‬لذلك مادام ابن خلدون قادر ًا على �أن يف�سرنا‪،‬‬ ‫فل�سنا يف التاريخ بعد‪� .‬أن يكون ابن خلدون مازال يف�ضح عيوبنا فذلك‬ ‫‪66‬‬

‫‪164‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:09‬‬

‫مل�صدر نف�سه‪� ،‬ص ‪66.‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 164‬‬


‫هو العيب الأكرب‪.‬‬ ‫نحن ال نفتح التاريخ‪ ،‬نحن نفتح هذه البذرة التي حتول بيننا‬ ‫وبني �أن يكون لدينا تاريخ‪ ،‬تاريخ �أر�ضه م�شرتكة‪ ،‬تاريخ من دون عيب‪،‬‬ ‫ودولة من دون عيب‪ ،‬الدولة حيث التاريخ �أوال تكون دولة‪ ،‬والدولة حيث‬ ‫الالتاريخ �شبه دولة �أو دولة ينق�ص التاريخ من �أطرافها‪.‬‬ ‫ي�سوق ابن خلدون �شاهدة يف نهاية عمر تاريخه الطويل ي�سميها‬ ‫«مع�ضلة العربة من التاريخ»‪ ،‬ي�سوقها بروح كافرة من �أن يكون لنا دولة‬ ‫تعي در�س التاريخ ومتلك اجلر�أة على مكا�شفته «تريدين الآن يف مع�ضلة‬ ‫العربة من التاريخ‪ .‬بيد �أين قطعت حول التفكري فيها طورين على الأقل‪:‬‬ ‫طور هو الأطول الزم عهد فتوتي وحتى كهولتي الأوىل‪ ،‬و�آمنت فيه �أن‬ ‫التاريخ ذو فوائد �شتى‪ ،‬و�أنه خمزون الدالالت الكربى وكتاب العرب‬ ‫املثلى‪ ،‬وطور هو احلا�صل اليوم‪ ،‬بت �أ�شك خالله يف قدرة �أويل الأمر‬ ‫و�أرباب الدول على مكا�شفة التاريخ والنظر �إليه كما و�صفته‪� ،‬أو ُت ِري ُبني‬ ‫قابليتهم يف ذلك»(‪.)67‬‬ ‫عالقة الوالية‬ ‫على خلفية جدل ب�ش�أن مقولة النائب الربملاين ال�شيخ حمزة‬ ‫الديري املقطوعة التاريخ وال�سياق "�إذا كان ال�شيخ ال�سعيدي نا�صبي ًا‬ ‫ف�إمام احلرم �أكرث ن�صب ًا منه"�س�ألني �أحد الأ�صدقاء �س�ؤاال و�صفه ب�أنه‬ ‫لغوي‪ ،‬يقول ال�س�ؤال "ما معنى (�إذا) يف اللغة العربية؟" قلت له‪ :‬هي‬ ‫ظرف ملا ي�ستقبل من الزمان‪ ،‬خاف�ض ل�شرطه‪ ،‬من�صوب بجوابه‪ .‬قال‬ ‫يل‪ :‬يعني هي تثبت �صفة الن�صب لل�سعيدي �أو تنفيها‪ ،‬ففي جمل�سنا‬ ‫هناك من يقول هي تثبت وهناك من يقول هي تنفي‪.‬‬ ‫‪67‬‬

‫امل�صدر نف�سه‪� ،‬ص ‪47.‬‬

‫‪165‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:09‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 165‬‬


‫قلت له �س�ؤالك �إذن لي�س لغوي ًا‪ ،‬ف�أنت ت�س�أل عن (�إذا)‬ ‫اخلطابية‪ ،‬ولي�ست (�إذا) اللغوية‪ ،‬فـ(�إذا) �إذا دخلت يف خطاب‪� ،‬صار‬ ‫مفهومها ال يتحدد معناه ب�أقوال علماء اللغة ومعاجمهم‪ ،‬بل يتحدد‬ ‫ب�أقوال �أهل ال�سيا�سة‪ ،‬وعلماء اخلطاب االجتماعي والثقايف وخربائه‪.‬‬ ‫"�أنا ال �أتهمه بالن�صب‪ ،‬لكن �أقول �إذا كان ال�شيخ ال�سعيدي‬ ‫نا�صبي ًا ف�إمام احلرم �أكرث ن�صب ًا منه" هي لي�ست مقولة ال�شيخ حمزة‪،‬‬ ‫بل هي مقولة اخلطاب الذي ي�صدر عنه ال�شيخ‪ ،‬متاما كما �أن جملة‬ ‫ال�سعيدي "ب�أنه لن ي�صلي خلف ال�شيخ عي�سى قا�سم �أبد ًا ما دام على‬ ‫عقيدته" يف حواره مع منتدى الدير قبل عام من مقولة الديري‪ ،‬لي�ست‬ ‫مقولته‪ ،‬بل مقولة اخلطاب الذي ي�صدر عنه ال�سعيدي‪ ،‬وهو خطاب‬ ‫�أ�ش ّد عنف ًا و�إق�صاء‪ ،‬لكنه ي�ستوي مع خطاب ال�شيخ حمزة يف التورط يف‬ ‫تراكمات اخلالفات التاريخية وت�صوراتها للآخر‪.‬‬ ‫(�إذا) يف خطاب الديري و(لن) يف خطاب ال�سعيدي‪،‬‬ ‫ت�ستح�ضران تاريخ اخلالفات املذهبية والعقدية وظاللها وح�سا�سياتها‬ ‫وا�ستفزازاتها‪ ،‬بل ميكن القول �إن ال�سعيدي والديري ما هما �إال �أدوات‬ ‫يف م�ؤ�س�سة هذا اخلطاب‪ .‬ومع �أنهما ي�ستويان يف ذلك‪ ،‬غري �أن ال�سعيدي‬ ‫يبقى �أكرث وفاء ل�سلفيته والديري �أكرث تورط ًا بها‪ .‬مبعنى فيما يبقى‬ ‫ال�سعيدي من�سجم ًا وحري�صا وم�صر ًا على �سلفيته‪ ،‬يحاول الديري‬ ‫زحزحتها وفتحها غري �أنه يتعرث بها ويقع‪.‬‬ ‫والدليل على ذلك‪� ،‬أن الديري‪ ،‬كان يحاجج جمهوره مبنطقهم‪،‬‬ ‫ليربر انفتاحه على �صالة ال�سعيدي‪ ،‬وي�ستعني يف هذا احلجاج بخطاب‬ ‫الإمام اخلميني الوحدوي‪ .‬و(�إذا) كانت �أداة حجاجه اخلطابية التي‬ ‫حجبها ال�سعيدي مول ً‬ ‫وال بانتهاك عر�ضه العقدي‪ .‬وهو ال �شك حجاج‬ ‫�صعب و�شاق‪ ،‬وذلك ملا يحظى به ال�سعيدي من كراهية ورف�ض و�سمعة‬ ‫‪166‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:09‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 166‬‬


‫�سيئة يف خطاب جمهور الديري‪.‬‬ ‫مل تكن زلة ل�سان كما حاول بع�ض النواب التربير لزميلهم‪ ،‬بل‬ ‫كانت عرثة خطاب‪ ،‬زلة الل�سان تنتج عن خط�أ فردي‪ ،‬وعرثة اخلطاب‬ ‫تنتج عن فعل �إرث ثقل جماعي وتاريخي وال يتحمل خط�أها فرد واحد‪.‬‬ ‫يف عام ‪ 1987‬كنت و�أنا يف املرحلة الثانوية مدفوع ًا بخطاب‬ ‫الإمام اخلميني الوحدوي لل�صالة خلف �إمام احلرم‪ ،‬و�أ�سبوع جمعية‬ ‫التوعية الوحدوي ما زال مدفوع ًا بهذا اخلطاب‪ ،‬وما فتئ ال�شيخ عي�سى‬ ‫قا�سم يذكرنا بهذا اخلطاب‪ ،‬لكن خطاب الوحدة يتعرث دوم ًا بخطاب‬ ‫التاريخ العقدي‪ ،‬و(النا�صبي) واحدة من هذه العرثات اخلطابية التي‬ ‫لن تزال عن طريق امل�سلمني بتجنب ل�سان ال�شيخ حمزة لها‪ ،‬بل �ستزول‬ ‫بتجاوزنا لتاريخها‪ ،‬وتلك مهمة �أ�شك �أن اخلطاب الوحدوي ينجزها‪،‬‬ ‫كما �أ�شك �أن اخلطاب ال�سيا�سي القائم على املناورة واملجاملة واملخاتلة‬ ‫ميكنه �أن ينجزها‪.‬‬ ‫يبقى هناك فرق بني (�إذا) امل�ستقبلية املن�صوبة بجواب‬ ‫ال�شرط‪ ،‬و(�إذا) املن�صوبة بالتاريخ الذي ال يكف عن احل�ضور يف‬ ‫م�ستقبلنا‪ .‬الأوىل من�صوبة‪ ،‬والثانية نا�صبية‪.‬‬ ‫هناك (�إذا) �أخرى يف خطاب الديري‪ ،‬ليتها �أثارت جد ًال‪،‬‬ ‫وهي التي وردت يف جملته "�إذا ي�أخذون �آراء خمتلف الفقهاء فلن مت�شي‬ ‫الدولة‪ ،‬لأن الفقهاء يختلفون يف فتاواهم و�آرائهم"‪.‬‬ ‫الدولة فع ًال ال ميكن �أن مت�شي وهي مق ّيدة بروابط حتددها‬ ‫واليات تاريخية جلماعات �سيا�سية ن�صبت لبع�ضها بع�ض ًا حروب ًا يف‬ ‫التاريخ‪ ،‬وما زلت م�ستمرة يف روابطنا املعا�صرة‪ ،‬وهذا ما يجعل منها‬ ‫غري معا�صرة‪.‬‬ ‫‪167‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:09‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 167‬‬


‫الرابطة غري املدنية‬ ‫يف حديث خا�ص قال يل ال�صديق ع�ضو جمعية الرابطة‬ ‫الإ�سالمية ح�سن املدين‪� :‬أعرف متام ًا �أن حتكيم ال�صراع الأيديولوجي‪،‬‬ ‫لن يزيدنا �إال تخندق ًا وتع�صب ً'ا'‪ .‬كان حديثنا على خلفية �شعار ال�شيخ‬ ‫عي�سى قا�سم عن �سقوط العلمانية‪ ،‬و�شعار جملة الرابطة الإ�سالمية‬ ‫(العلمانية= الإحلاد)‪.‬‬ ‫يبدو �أن الإخوة يف جمعية الرابطة الإ�سالمية‪� ،‬أرادوا �أن‬ ‫يذكروا �إخوانهم يف تيار جمعية الوفاق الإالمية‪� ،‬أنهم قد �سبقوهم �إىل‬ ‫�إعالن دعوة الت�سقيط �أو ما يفوقها قبلهم‪ ،‬ومل يجدوا غري �إعادة ن�شر‬ ‫كتابات ال�شهيد عبداهلل املدين عن �إحلاد العلمانية‪ ،‬وكالم من جمل�س‬ ‫ال�شيخ �سليمان املدين '�أنا ال �أفهم الف�صائل الوطنية‪� ،‬أنا عندي املواطن‬ ‫امل�سلم فقط‪� ،‬أما من ولد من م�سلمني ثم مل ي�ؤمن بالإ�سالم فحكمه يف‬ ‫ال�شريعة باتفاق الفقهاء هو القتل‪ ،‬و�إذا �أعلن التوبة نعطيه فر�صة لق�ضاء‬ ‫ما فاته من �صالة و�صيام ثم يقتل �أي�ض ًا حدا'‬ ‫لقد قلت كالم جمل�س ال�شيخ‪ ،‬ومل �أقل فتوى ال�شيخ وال كالم‬ ‫ال�شيخ‪ ،‬لأ�شري �إىل م�س�ألة لفت انتباهي لها ال�صديق ح�سن املدين‪ ،‬وهي‬ ‫�أن نقل كالم جمل�س ال�شيخ‪ ،‬عادة ما يكون مهدور ال�سياق‪ ،‬ال�سياق‬ ‫اخلا�ص وال�سياق العام‪ ،‬وهذا يجعل من النقل عملية ا�ستخدام يف جمال‬ ‫ال�صراع االجتماعي وال�سيا�سي‪� ،‬أكرث منه �أمانة‪.‬‬ ‫لقد ح�ضرت جمل�س ال�شيخ �أكرث من مرة‪ ،‬يف مطلع الت�سعينيات‬ ‫و�شاهدت ب�إعجاب مهارات ال�شيخ الكالمية‪ ،‬وحركات يده اجل�سدية‬ ‫وا�ستمتاعه الذهني ب�إيراد االعرتا�ضات عليه وولعه بتفنيدها‪ .‬وال‬ ‫�أكتم �أن �صورة هذه امل�شاهدة ظلت تداعب خميلتي بحلم �أن �أمتثلها يف‬ ‫خطابي‪.‬‬ ‫‪168‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:09‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 168‬‬


‫لو كان ال�شيخ ال يزال اليوم يف جمل�سه‪ ،‬ملا ترددت حلظة يف‬ ‫الذهاب �إليه حامال اعرتا�ضاتي على كالم جمل�سه‪� ،‬س�أذهب مع ً‬ ‫وال على‬ ‫ولع ال�شيخ باالعرتا�ضات واحلجاجات‪ ،‬لكني لن �أذهب اليوم �إىل الرابطة‬ ‫الإ�سالمية‪ ،‬لأنها ال متلك ما كان ميلكه ال�شيخ‪ ،‬من ف�سحة اال�ستمتاع‬ ‫باالعرتا�ض‪ ،‬واعتباره لعبة ذهنية ت�ستحق بذل الوقت واجلهد‪.‬‬ ‫كنت �س�أقول له‪ ،‬يا �شيخ‪ ،‬ج�سد الدولة لي�س مف�صال على مقا�س‬ ‫امل�ؤمنني الذي �إذا ا�شتكى منه ع�ضو تداعى له �سائر اجل�سد بال�سهر‬ ‫واحلمى‪ ،‬بل هو على مقا�س املواطنني‪'' ،‬فاجل�سم ال�سيا�سي جممل �أع�ضاء‬ ‫اجلماعة ولكن باعتبارهم مواطنني‪ ...‬ال يفكرون وال يعملون �إال وفقا‬ ‫ملقت�ضيات امل�صلحة العامة'‬ ‫ولأن اجل�سم ال�سيا�سي يتغدى من اجل�سم االجتماعي (اجلثة‬ ‫ال�ضخمة)‪ ،‬فهو قاعدته التي ي�ستند �إليها‪ ،‬ويعمل من �أجلها ويربر‬ ‫ت�صرفاته با�سمها‪ ،‬فعلينا �أن ّ‬ ‫نوطن هذا اجل�سم االجتماعي‪ ،‬ليت�سع‬ ‫ملقا�س الدولة‪.‬‬ ‫كنت �س�أقول له �إن القتل �أو ال�شنق وفق مقا�س ج�سد الدولة‪،‬‬ ‫ي�ستحقه املواطن متى �أخل بنظام املواطنة ''ال بد �أن ي�شعر الإن�سان جتاه‬ ‫النظام �أنه قريب من ال�شنق �إذا كان ي�ستحق ذلك‪ .‬و�إذا كان ال يثق بهذه‬ ‫ال�صورة‪ ،‬ف�إن كل �شيء ي�صبح عر�ضة لالنهيار''‪.‬‬ ‫اجلماعات الليربالية والعلمانية على تنوعاتها �شعرت �أنها‬ ‫قريبة من ال�شنق‪ ،‬من دون �أن ت�ستحق ذلك‪ ،‬وكان اجل�سم ال�سيا�سي‬ ‫عر�ضة لالنهيار‪ ،‬يف حني �أن جماعات ت�ستحق �أن ت�شعر �أنها قريبة من‬ ‫ال�شنق‪ ،‬كانت ت�شعر �أنها قريبة من احلياة �أكرث‪ ،‬احلياة الأكرث ف�سادا‬ ‫ونفوذا وهيمنة‪.‬‬ ‫كنت �س�أقول له‪:‬يف الرابطة املدنية ال�شنق على الوطن‪ ،‬ويف‬ ‫الرابطة غري املدنية ال�شنق على املعتقد‪ ،‬والدولة حيث الرابطة املدنية‪.‬‬ ‫و�أنت املدين‪.‬‬ ‫‪169‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:09‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 169‬‬


170

3dairy out of old dairy.indd 170

02/02/2010 10:00:09 ‫ص‬


‫الف�صل الثالث‬ ‫داخل الدولة‬

171

3dairy out of old dairy.indd 171

02/02/2010 10:00:09 ‫ص‬


‫منطق الدولة‬ ‫هل ميكن تعريف الدولة؟ هل للدولة منطق تعرف به؟‬ ‫املعنى عر�ضة دوم ًا لإرادة امل�صلحة واملعرفة‪ ،‬حتى معنى‬ ‫الدولة‪ ،‬كل ما له معنى‪ ،‬فمعناه خا�ضع لهذه الإرادة‪ ،‬والدولة هي قبل‬ ‫كل �شيء فكرة‪� ،‬أي �أنها معنى‪ .‬هناك ‪ 145‬معنى للدولة‪ ،‬يف الأدبيات‬ ‫املارك�سية فقط‪ ،‬وهناك رمبا �أكرث يف الأدبيات الر�أ�سمالية‪.‬‬ ‫نعرف الدولة بالعر�ض ال باجلوهر‪ ،‬لي�س لنا حيلة يف تعريف‬ ‫الأ�شياء �إال بالعر�ض‪ ،‬و�أقرب عر�ض لوعينا هو التجربة‪ ،‬ما جنربه هو‬ ‫الأقرب �إىل فهمنا‪ ،‬ال�سلطة تقع يف نطاق جتربتنا‪ ،‬فنحن ن�سمع با�سمها‬ ‫ونعرف �أعوانها ونتعامل مع �أجهزتها ونحفظ �أ�سماء �أع�ضائها ونعرف‬ ‫تواريخ �أحداثها‪ .‬لكن الدولة لي�ست هي ال�سلطة‪ ،‬فال�سلطة تزول وتتغري‬ ‫وت�سقط والدولة باقية"كل الأنظمة زائلة لكن الدولة باقية"(‪.)68‬‬ ‫الدولة فكرة جمردة‪ ،‬لكنها ال ميكن �أن تتحقق وتوجد �إال‬ ‫جم�سدة يف م�صالح‪ ،‬الفكرة تتيح للتجربة �أن تنمو وتتجاوز‬ ‫يف جتربة ّ‬ ‫م�آزقها و�أخطائها‪ ،‬والتجربة تتيح للفكرة �أن تكون وتتحقق وتتجاوز‬ ‫�أوهامها التنظريية‪.‬‬ ‫كان ابن خلدون يدر�س جتارب الدولة املج�سدة يف �سلطات‬ ‫العوائل والع�صبيات والقبائل‪ ،‬كان ي�سميها دو ًال‪ ،‬لكنها ت�سمية �أقرب �إىل‬ ‫املجاز‪ ،‬فال�سلطة هي الأكرث جت�سيد ًا للقوة والهيمنة والقدرة والإدارة‪،‬‬ ‫لذلك فهي الأكرث جت�سيد ًا لفكرة الدولة‪ ،‬لكنها لي�ست الدولة باملطلق‪،‬‬ ‫‪68‬‬

‫طور الدولة باملغرب‪ ،‬حممد �شقري‪�،‬ص‪118‬‬

‫‪172‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:09‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 172‬‬


‫فهي جزء من الدولة �أو جانب ًا من جوانبها �أو مكون من مكوناتها �أو جتلي ًا‬ ‫من جتلياتها‪.‬‬ ‫ما يتج�سد لي�س هو الدولة‪ ،‬فالدولة تبقى فكرة جمردة‪ ،‬تخ�ضع‬ ‫جت�سد ميثل جانب ًا منها وجتربة فيها‪ ،‬لذلك‬ ‫�إىل جت�سدات خمتلفة‪ ،‬وكل ّ‬ ‫نحتاج �إىل ا�ستخدام التجريد‪.‬‬ ‫ �إن ظهور الدولة يف �أي جمتمع �سيا�سي ال يرتبط فقط بوجود‬ ‫العن�صر املادي �أو احلدود ال�سيا�سية بل ي�شرتط �أي�ضا وجود عن�صر‬ ‫معنوي �أو تر�سنتدايل يتمثل على اخل�صو�ص يف تبلور منطق للدولة‪.‬‬ ‫وبح�سب هرني لوفيرب"الدولة حتكم وت�سري‪ ،‬حتمي وتدافع‪ ،‬وتعاقب‬ ‫وتقال با�سم منطق الدولة"‪ .‬ويتمثل هذا املنطق يف امل�صلحة العليا‬ ‫للدولة‪ ،‬وهي فوق كل م�صلحة وهي امل�صلحة الأ�سمى والأعلى(‪.)69‬‬ ‫هناك فرق بني منطق الدولة ومنطق ال�سلطة‪ .‬بل قد يتعار�ض‬ ‫منطق ال�سلطة ومنطق الدولة‪ ،‬فال�سلطة تبقى يف النهاية جم�سدة يف‬ ‫�أ�شخا�ص �أو عوائل �أو ع�صبيات �أو �أحزاب �أو جماعات‪ .‬وهذه التج�سيدات‬ ‫لها منطق م�صلحة خا�ص بها‪ ،‬وكثري ًا ما يتعار�ض مع فكرة الدولة‪� ،‬أو مع‬ ‫منطق م�صلحتها‪.‬‬ ‫وحني تلب�س جماعات ال�سلطة منطق م�صلحتها مبنطق‬ ‫م�صلحة الدولة‪ ،‬ف�إنها يف هذه احلالة تختطف الدولة‪ ،‬وتتحدث با�سمها‬ ‫بو�صفها املمثلة الر�سمية ل�شرعيتها‪.‬بل �إنها حتتكر هذه ال�شرعية‪ ،‬لها‬ ‫وحدها‪ .‬وك�أن الدولة هي ال�سلطة فقط‪ ،‬الدولة هي ال�سلطة ب�أق�سامها‬ ‫الثالثة امل�ستقلة‪ ،‬وامل�ؤ�س�سات الإدارية واملواطنون واجلغرافيا والقوانني‬ ‫والد�ستور والعالقات التي حتكم كل ذلك‪ .‬الدولة هي جزء من �سلطة‬ ‫الأفراد‪ ،‬لكنها فوق �سلطتهم وفوق منطق م�صلحتهم‪ ،‬هي منهم و�أكرث‪.‬‬ ‫‪69‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:09‬‬

‫طور الدولة باملغرب‪ ،‬حممد �شقري‪�،‬ص‪131‬‬

‫‪173‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 173‬‬


‫يقول جون لوك يف كتابه احلكم املدين "ف�سلطة الدولة �إذن ال‬ ‫تختلف يف جوهرها عن ال�سلطات (�أو ال�صالحيات) التي كانت للفرد‬ ‫يف ظل املجتمع الطبيعي‪ ،‬وكل ما يف الأمر �أن الدولة (�أو املجتمع املدين)‬ ‫ت�صلح امل�ساوئ التي قد يتعر�ض لها املرء‪ ،‬بحكم �أنانيته و�أثرته"(‪)70‬‬ ‫منطق م�صلحة الدولة ال ي�ستقيم ومنطق �أنانية الفرد و�أَ َث َرته‪.‬‬ ‫وي�صبح منطق الدولة مهدد ًا حني يتغلب منطق الأنانية اخلا�ص على‬ ‫منطق الدولة العام‪ .‬وميكن �أن ن�سميه مبنطق الطفيليني‪ ،‬وهو املنطق‬ ‫الذي حتكم من خالله القوى الطفيلية‪ ،‬وهي بح�سب تعريف عبدالإله‬ ‫بلقزيز‪ :‬قوى مل تن�ش�أ يف بيئة الإنتاج والعمل االقت�صادي كفئات �أو طبقات‬ ‫وراءها تاريخ من اال�ستثمار اخلا�ص �أو ذات �سلطة اقت�صادية حقيقية‬ ‫يف املجتمع على نحو ما كان عليه دائم ًا �أمر الربجوازيات يف املجتمعات‬ ‫الغربية احلديثة واملعا�صرة‪ ،‬و�إمنا هي قوى وفئات حديثة عهد بالتملك‬ ‫واال�ستثمار‪ ،‬لأنها ن�ش�أت يف �أح�شاء الدولة ويف �أح�ضان القطاع العام‪،‬‬ ‫ومنت م�صاحلها الفئوية داخل بيئة الف�ساد ال�سيا�سي والإداري واملايل‪،‬‬ ‫م�ستفيدة من انعدام وجود م�ؤ�س�سات الرقابة النيابية والإعالمية‬ ‫وال�شعبية �أو من تعطيل �سلطة الرقابة الق�ضائية �أو من غيابهما مع ًا‪.‬‬ ‫تطابق هذه القوى الطفيلية منطق الدولة مبنطقها الطفيلي‬ ‫اخلا�ص حيث م�صلحتها االقت�صادية اخلا�صة‪ ،‬فتفقد الدولة جزءا من‬ ‫قوتها االقت�صادية التي من املفرت�ض �أن ت�صلح امل�ساوئ التي قد يتعر�ض‬ ‫لها املرء‪ ،‬بحكم �أنانيته و�أثرته‪� .‬إنها قوى تعمل �ضد منطق الدولة‪.‬‬ ‫هناك �أي�ض ًا قوى طفيلية �أخرى تتغذى من بيئة الف�ساد‬ ‫ال�سيا�سي‪ ،‬فتنمي �أ�شكا ًال من الوالءات القبلية وال�شخ�صية والعائلية‬ ‫وتتم�صلح من خاللها وتتقوى بها‪ ،‬وهي حتيل بهذه املمار�سة الوالء من‬ ‫‪70‬‬

‫احلكم املدين‪ ،‬جون لوك‪� ،‬ص‬

‫‪174‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:09‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 174‬‬


‫�أن يكون والء عام ًا جمرد ًا‪ ،‬ليكون والء خا�صا م�شخ�ص ًا‪.‬وبهذا املنطق‬ ‫الطفيلي تفقد الدولة �أي�ض ًا جزءا من قوتها الوالئية‪ ،‬التي يفرت�ض �أن‬ ‫ت�صلح بها انتماءات الفرد الأولية للدم والعائلة والقبيلة والدين‪ ،‬هكذا‬ ‫يتح ّول الوالء من قوة للدولة �إىل قوة �ضد الدولة‪.‬‬ ‫هناك �أي�ضا قوى طفيلية �أخرى تتغذى من بيئة الف�ساد ال�سيا�سي‬ ‫والتمييز الطائفي‪ ،‬فتنمي جماعتها الطائفية وتقدم م�صلحتهم اخلا�صة‪،‬‬ ‫على جماعة املواطنني العامة‪.‬وبهذا تفقد الدولة قوة احلياد التي جتعلها‬ ‫ملج�أ �آمن ًا ملختلف اجلماعات املتناف�سة �أو املت�صارعة‪.‬‬ ‫بهذه املمار�سات الطفيلية ال يعود للدولة منطق تقنع به النا�س‪،‬‬ ‫ليكونوا مواطنيها‪ ،‬الأمر الذي يفقدها حتى قدرتها على النطق والكالم‪،‬‬ ‫فال تعود متلك حتى قوة خطاب يف�صل يف املواقف التي تتطلب ف�صل‬ ‫اخلطاب‪.‬هكذا تعود الدولة نف�سها قوة طفيلية تتغذى من هذه الطفيليات‬ ‫وتعي�ش عليها‪ .‬فال تعود الدولة قادرة على �أن حتكم وت�سري وحتمي وتدافع‬ ‫وتعاقب‪ ،‬لأنها فقدت منطقها‪ ،‬وفقدت منطق م�صلحتها الأعلى‪ ،‬ل�صالح‬ ‫امل�صلحات الطفيلية الأدنى‪.‬‬ ‫مادام معنى الدولة خا�ضع ًا لهذه القوى الطفيلية‪ ،‬فال ميكن‬ ‫للدولة �أن تعرف مبنطقها اخلا�ص‪.‬‬

‫‪175‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:09‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 175‬‬


‫فكرة الدولة‬ ‫"الدولة باملعنى الكامل للكلمة هي فكرة‪ .‬ومبا �أنها لي�س لها‬ ‫غري حقيقة �إدراكية فهي لي�ست موجودة �إال لأنها تدرك بالفكر‪ ..‬ملاذا‬ ‫بناء فكرة جمردة عن الدولة يف حني تبدو الوقائع كافية لإفادتنا عما‬ ‫ت�شري �إليه؟"(‪.)71‬‬ ‫الوقائع دائم ًا غري كافية‪ ،‬فلدينا يف البحرين منذ ‪1923‬‬ ‫بريوقراطية �إدارية ولدينا م�ؤ�س�سات ولدينا وزارات ولدينا ت�شريعات‬ ‫ولدينا �سلطات ولدينا حماكم وانتخابات وحمكمة د�ستورية ودائرة‬ ‫�ش�ؤون قانونية‪ ،‬وهي كلها وقائع ملمو�سة‪ ،‬لكننا ن�شعر دوم ًا ب�أنها لي�ست‬ ‫كافية لإفادتنا �إن كان لدينا دولة‪ .‬هل الوقائع تكذب؟ �أو �أنها ال تدل‬ ‫كاف؟ هل لدينا وقائع ولي�س لدينا فكرة؟‬ ‫ب�شكل ٍ‬ ‫يبدو الأمر كذلك‪ ،‬فلي�س لدينا فكرة‪ ،‬ال حتمل هذه الوقائع على‬ ‫�أهميتها فكرة حتيل �إىل الدولة‪ ،‬فجميع هذه الوقائع حتيل �إىل �أ�شخا�ص‬ ‫لديهم نفوذ وا�سع لإفراغ هذه الوقائع من فكرة الدولة‪ ،‬لذلك تبقى‬ ‫الدولة ا�سم ًا يحيل �إىل وقائع ملتب�سة وم�شتبهة‪ ،‬وهذا ما يجعل الفكرة‬ ‫غائبة �أو �سهلة التغييب‪.‬‬ ‫يف الوثائق الر�سمية "ي�شمل �إقليم دولة البحرين وجزرها‬ ‫واملياه الإقليمية‪ ،‬واجلرف القاري‪ ،‬و�أية منطقة �أو املناطق االقت�صادية‬ ‫اخلال�صة‪ ،‬و�أية �أرا�ض �أخرى‪ ،‬واملجال اجلوي‪ ،‬والبحار التي متار�س دولة‬ ‫البحرين �سيادتها �أو تتمتع بحقوق ال�سيادة عليه وفقا لأحكام القانون‬ ‫الدويل"‪.‬‬ ‫‪71‬‬

‫‪176‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:09‬‬

‫الدولة‪ ،‬جورج بوردو‪ ،‬ترجمة �سليم حداد‪� ،‬ص‪10.‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 176‬‬


‫جميع ما ي�شمله هذا التعريف‪ ،‬م�سجل يف الوقائع‪� ،‬أي يف‬ ‫امل�ؤ�س�سات الر�سمية الواقعة التي حتمل ا�سم مملكة البحرين‪ ،‬وكل �شرب‬ ‫من �أ�شبار ما ي�شمله هذا التعريف‪ ،‬تقره هذه امل�ؤ�س�سات من الناحية‬ ‫القانونية‪� ،‬أي �أن ملكيته وما يجري عليه قانوني ًا �صحيح وفق قوانني‬ ‫الدولة وال ميكن لأحد �أن يطعن فيه‪ ،‬حتى اجلزر التي ال نرى غري ثالث‬ ‫منها‪� ،‬ستجد قوانني الدولة تق ّرها‪.‬‬ ‫نحن �أمام حالة غريبة فالوقائع تقر �أن هناك دولة‪ ،‬لكن الفكرة‬ ‫تقول �إنه لي�س هناك دولة‪ ،‬لأن الوقائع تبحث عن معيار الإجراء و�سالمته‬ ‫حتى لو كان باحليل القانونية‪ ،‬والفكرة تبحث عن املعنى‪ .‬الفكرة تقول �إن‬ ‫الدولة ال ت�ستملك من النا�س‪ ،‬و�إذا كانت الوقائع تق ّر هذه اال�ستمالكات‬ ‫مادي ًا ولي�س فقط رمزي ًا‪ ،‬فعلينا �أن نعيد النظر يف الدولة‪ ،‬وذلك ب�أن نعيد‬ ‫النظر يف فكرتها‪.‬‬ ‫دولة النا�س‬ ‫«لقد اخرتع النا�س الدولة كي ال يطيعوا النا�س"(‪)72‬‬ ‫الدولة يخرتعها النا�س‪ ،‬ولي�س واحد ًا من النا�س‪� ،‬أو واحد ًا‬ ‫خارج النا�س‪ .‬الإن�سان الواحد ال يخرتع دولة‪ ،‬مهما يكن ميلك يف النا�س‬ ‫ومن النا�س‪ .‬واهلل ال يخرتع دو ًال وال ير�سل �أحد ًا يب�شر النا�س بدولة على‬ ‫منوذجه‪.‬‬ ‫رب‪،‬‬ ‫ميكن �أن نن�سب قبيلة �إىل فرد وميكن �أن نن�سب جنة �إىل ّ‬ ‫لكننا ال ميكن �أن نن�سب دولة �إىل �شخ�ص‪ .‬فالدولة ُتن�سب �إىل النا�س‪،‬‬ ‫و�إذا حدث ون�سبنا دولة �إىل �شخ�ص‪ ،‬ف�إننا يف احلقيقة ال نن�سب الدولة‬ ‫بل نن�سب ما هو دون الدولة‪ ،‬ك�أن تكون قوة مثال �أو �سلطة �أو ملكا �أو حكما‬ ‫�أو قبيلة �أو عائلة �أو �إقطاعية‪.‬‬ ‫‪72‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:09‬‬

‫املرجع نف�سه‪� ،‬ص‪11.‬‬

‫‪177‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 177‬‬


‫الدولة ينجزها النا�س‪ ،‬والدولة غري املنجزة (دون الدولة) هي‬ ‫الدولة التي ال يخرتعها النا�س‪ .‬ويف (دون الدولة)‪ ،‬يطيع النا�س النا�س‪،‬‬ ‫�أما يف الدولة فالنا�س ال يطيعون النا�س‪ ،‬الفرق يكمن �إذن يف الطاعة‪،‬‬ ‫"الدولة هي �شكل لل�سلطة جتعل الطاعة �أكرث نب ًال"(‪ .)73‬هناك طاعة‬ ‫النبالء‪ ،‬وفيها ميتثل النا�س لي�س للنا�س‪ ،‬بل لقانون �أو د�ستور هو فوق‬ ‫النا�س لكنه من النا�س‪ ،‬وهناك طاعة الأخ�ساء‪ ،‬وفيها ميتثل النا�س‬ ‫للنا�س الذين هم �أقوى منهم بحكم العرق �أو الطائفة �أو املال‪.‬‬ ‫يف الدولة لي�ست هناك طبقة نبالء‪ ،‬فالنا�س كلهم نبالء بحكم‬ ‫طاعتهم ملا هو نابع منهم‪� ،‬أما فيما هو دون الدولة فهناك طبقة نبالء‬ ‫جتد يف �إخ�ضاع النا�س �إىل طاعتها‪� ،‬أي يف �إخ�سائهم (ولي�س اخ�صائهم‬ ‫و�إن كان هذا يقت�ضي هذا) حتقيق ًا لنبلها‪ .‬وتتحقق هذه العملية التي‬ ‫هي يف حقيقتها �إخ�ساء للدولة ب�أن جتعل النا�س تذهب �إىل جمال�سها كي‬ ‫تظهر فرو�ض الطاعة والإذالل بدل �أن تذهب �إىل جمل�س الدولة الذي هو‬ ‫بيت الطاعة‪ ،‬وما ي�صدر عنه مطاع من قبل جميع النا�س‪.‬‬ ‫مادام النا�س ال يجدون بيت ًا واحد ًا للطاعة‪ ،‬ف�سي�ضلون الدولة‪،‬‬ ‫ويهتدون �إىل بيوت دون الدولة ودون الإن�سان ودون الكرامة ودون القانون‬ ‫ودون ما هو فوقهم‪� .‬إنها بيوت الطوائف واملتنفذين والنبالء الذين‬ ‫ُيع ّرفون ال بطاعة الدولة وال بطاعة النا�س بل ب�إخ�ساء النا�س‪.‬‬ ‫الدولة �إما �أن تكون دولة النا�س �أوال تكون‪ .‬لي�ست هناك دولة‬ ‫نبي وال رب وال و�صي وال قبيلة وال حزب‪.‬‬ ‫الطاعة العامة‬ ‫الدولة هي �أن نخرج من "طاعة العامة" �إىل "الطاعة العامة"‪ .‬يف‬ ‫‪73‬‬

‫املرجع نف�سه‪� ،‬ص‪11.‬‬

‫‪178‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:09‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 178‬‬


‫"الطاعة العامة" اجلميع نبالء‪ ،‬وبقدر ما يطيعون تكون الدولة‪ ،‬والنا�س‬ ‫ال يطيعون النا�س‪ ،‬بل يطيعون ما يتوافق ويتعاقد عليه النا�س‪� .‬إنهم‬ ‫يحرتمون هذا العقد العام‪.‬‬ ‫ويف "طاعة العامة" يحكم �شخ�ص �أو �آل (عائلة) وينظر �إىل‬ ‫اجلميع على �أنهم رعاع وعامة وب�سطاء ودهماء و�سواد �أعظم‪ .‬بقدر ما‬ ‫يطيعون تكون ما دون الدولة‪ ،‬وهنا النا�س يطيعون نا�س ًا �أي يطيعون الآل‬ ‫(عائلة)‪� .‬إنهم يذعنون ولي�س يحرتمون‪.‬‬ ‫يف "طاعة العامة" ال يوجد ميدان اجتماعي �أو �سيا�سي عام‪،‬‬ ‫بل هناك ميدان للطاعة تتناف�س فيه اجلماعات لإظهار �شعائر الوالء‬ ‫ل�شخ�ص غري عام‪ .‬ويف "الطاعة العامة"هناك ميدان اجتماعي و�سيا�سي‬ ‫عام‪ ،‬يتحاور النا�س فيه ويختلفون ويتعددون ويتباينون ويك ّذب بع�ضهم‬ ‫بع�ض ًا‪ ،‬وي�ستقوي بع�ضهم على بع�ض‪ ،‬ويفوز بع�ضهم على بع�ض‪ ،‬وميثل‬ ‫بع�ضهم بع�ض ًا ويراهن بع�ضهم �ضد �أو على بع�ض ويحتكمون يف كل ذلك‬ ‫�إىل م�ؤ�س�سات عامهم‪ ،‬من دون �أن يلج�ؤوا �إىل �شخ�ص مفرت�ض الطاعة‪.‬‬ ‫يف "الطاعة العامة" جمال حركة النا�س هو ال�شارع العام �أما‬ ‫يف "طاعة العامة" فمجال حركة النا�س هو يف ال�شارع اخلا�ص حيث‬ ‫الطائفة والعائلة والقبيلة والعرق‪ .‬حني ي�سيطر ال�شارع اخلا�ص على‬ ‫ال�شارع العام‪ ،‬ي�ستحيل هذا الأخري �إىل "زواريب" ال خمرج منها‪ ،‬ت�ضيع‬ ‫فيها الدولة‪ ،‬وي�ضيع فيها النا�س وحقهم ومواطنيتهم‪.‬‬ ‫يف "طاعة العامة" النا�س عامة يطيعون �أوالة �أمرهم‪ ،‬ويف‬ ‫"الطاعة العامة" النا�س مواطنون يطيحون برئي�سهم‪ .‬الطاعة العامة‬ ‫متنحك احلق يف الإطاحة العامة بال�شخ�صيات العامة التي تقدم حياتها‬ ‫اخلا�صة على حياتها العامة‪ .‬كل ما هو عام هو حق م�شرتك‪ ،‬قابل للنقد‬ ‫والنق�ض‪.‬‬ ‫‪179‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:09‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 179‬‬


‫الدولة ال تعرف غري العام‪ ،‬وهي بهذه املعرفة حتمي اخلا�ص‬ ‫وتتيح له �أن يعي�ش م�ستق ًال من دون �أن ي�ستويل على العام فيحول الدولة‬ ‫�إىل ما دون الدولة‪ .‬كانت الدول ت�سقط‪ ،‬لأن اخلا�ص فيها ي�ست�أثر بـ‬ ‫"طاعة العامة" وفق �سيا�سة الآداب ال�سلطانية وال يتيح لها �أن تتحول‬ ‫�إىل "الطاعة العامة"‪.‬‬ ‫تتهدد الطوائف والقبائل والعوائل حني يتحول النا�س �إىل‬ ‫"الطاعة العامة" بل وتفقد هذه الكيانات �شرعيتها يف الدولة حني تقدم‬ ‫نف�سها على �أنها �صوت النا�س �أو ممثلهم �أو جهتهم‪.‬‬

‫‪180‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:10‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 180‬‬


‫خارج الآداب ال�سلطانية‬ ‫يحدد ابن املقفع يف كتابه (الأدب الكبري) ما ينبغي لل�سلطان‬ ‫نحو رعيته‪:‬‬ ‫التدلل َ‬ ‫عليك‪ ،‬وال متكنن‬ ‫"ال تمُ كن �أهل البالء‬ ‫احل�سن عندك من ِ‬ ‫ِ‬ ‫رعيتك � َ‬ ‫َ‬ ‫أبوابك التي‬ ‫والعيب لهم‪ .‬لتعرف‬ ‫�سواهم من االجرتاء عليهم‬ ‫من‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ال ُ‬ ‫ينال ما َ‬ ‫يخافك ٌ‬ ‫خائف �إال من‬ ‫أبواب التي ال‬ ‫عندك من اخل ِري �إال بها‪ ،‬وال َ‬ ‫َ‬ ‫عمالك‪ ،‬ف�إن امل�سيء‬ ‫احر�ص احلر�ص كل ُه على �أن تكونَ خابرا �أمور‬ ‫قبلها‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫بعلمك‬ ‫عقوبتك‪ ،‬و�إن املح�سنَ ي�ستب�ش ُر‬ ‫خربتك قبل �أن ُت�صيب ُه‬ ‫يفرق من‬ ‫َ‬ ‫قبل �أن ي�أتي ُه مع ُر َ‬ ‫النا�س‪ ،‬يف ما يعرفونَ من �أخالقك‪� ،‬أنك‬ ‫وفك‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫ليعرف ُ‬ ‫ال ُت ُ‬ ‫اخلائف ورجاء‬ ‫خلوف‬ ‫أدوم‬ ‫بالثواب وال‬ ‫عاجل‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫بالعقاب‪ ،‬ف�إن ذلك � ُ‬ ‫الراجي"‬ ‫ البن املقفع كتابان تو�أمان‪� ،‬سمي الأول بالكبري‪ ،‬ال لكرب حجمه‪،‬‬ ‫و�إمنا لأنه خاطب به ال�سلطان واخلا�صة‪ ،‬كما �سمي ال�صغري �صغري ًا لأنه‬ ‫خاطب به العامة‪ .‬واملراد بالأدب يف عنوانهما‪ :‬ح�سن الأخالق وحكمة‬ ‫التدبري‪ .‬يقع الأول يف (‪� )35‬صفحة مطبوعة‪ ،‬والثاين يف (‪� )25‬صفحة‪.‬‬ ‫كالم عن ال�سلطان وعالقته بالرعية وعالقة الرعية به‪ .‬وهو يقوم على‬ ‫منا�شدة �أخالق ال�سلطان‪ ،‬ال منا�شدة �أخالق القانون‪.‬‬ ‫يذهب كمال عبد اللطيف �إىل �أن الأهمية الكبرية البن املقفع‬ ‫تتمثل يف ت�أ�سي�سه لأدب الن�صح ال�سلطاين الن�صح املقرون مبو�ضوع‬ ‫التدبري املنفتح على مرجعية يف التاريخ ويف الأخالق �أو�سع من مرجعية‬ ‫الأثر الديني‪ ،‬و�أ�شمل منها‪ ،‬مرجعية النظر العقلي املعترب جزءا �أ�سا�سيا‬ ‫مدعمة للدولة اجلديدة يف املجتمع‬ ‫من الطبيعة الب�شرية‪ ،‬بحكم �أنه �أداة ِّ‬ ‫‪181‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:10‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 181‬‬


‫الإ�سالمي‪.‬‬ ‫�سيكون لهذا الت�أ�سي�س �أثره الكبري فيما بعد يف بلورة ما �سيعرف‬ ‫بالآداب ال�سلطانية‪ ،‬وهي كتابات تقوم يف �أ�سا�سها على مبد�أ ن�صيحة‬ ‫�أويل الأمر يف ت�سيري �ش�ؤون �سلطتهم‪� ،‬إذ تت�ضمن كل موادها جمموعة من‬ ‫الن�صائح الأخالقية والقواعد ال�سلوكية الواجب على احلاكم اتباعها‪،‬‬ ‫بدء ًا مما يجب �أن يكون عليه يف �شخ�صه �إىل طرق التعامل مع رعيته‬ ‫مرور ًا بكيفية اختيار خ ّدامه واختبارهم و�سلوكه مع �أعدائه‪.‬‬ ‫�ستنتج الدويالت الإ�سالمية يف �شرقها وغربها جمموعة كبرية‬ ‫من الكتب التي تدخل يف جن�س الآداب ال�سلطانية‪ ،‬ولعل �أهمها‪ :‬الفخري‬ ‫يف الآداب ال�سلطان البن الطقطقي‪ ،‬والأحكام ال�سلطانية والواليات‬ ‫الدينية للماوردي ‪ ،‬بدائع ال�سلك يف طبائع امللك‪ ،‬البن الأزرق ‪ ،‬واجلوهر‬ ‫النفي�س يف �سيا�سة الرئي�س البن احلداد ‪ ،‬والتاج يف �أخالق امللوك‬ ‫للجاحظ ‪ ،‬و�سراج امللوك للطرطو�ش‪.‬‬ ‫جميع هذه الكتب مو�ضوعة كما يقول ابن الطقطقي "لل�سيا�سات‬ ‫والآداب التي ينتفع بها يف احلوادث الواقعة‪ ،‬والوقائع احلادثة‪ ،‬ويف‬ ‫�سيا�سة الرعية وحت�صني اململكة‪ ،‬ويف �إ�صالح الأخالق وال�سرية‪ .‬ف�أول‬ ‫ما يقال �إن امللك الفا�ضل هو الذي اجتمعت فيه خ�صال وعدمت فيه‬ ‫خ�صال"‬ ‫ �أحد جوانب م�شكلة الفكر ال�سيا�سي يف احل�ضارة العربية �إنه‬ ‫قام على هذه الآداب‪ ،‬مركز هذه الآداب (الن�ص) هو احلاكم امللك‬ ‫الذي يت�صرف يف كل �شيء‪ .‬هي ت�ؤدبه (تعينه وتعرفه وتخربه وتعلمه )‬ ‫كي ي�ؤدب (يتحكم ويت�صرف ويدير ويدبر) رعيته‪.‬‬ ‫جزء كبري من اال�ستبداد مدين لهذه الآداب‪ ،‬فكل ما كتب يف‬ ‫ح�ضارتنا من كتابات �سيا�سية ينتمي �إىل هذا الن�ص اجلامع‪ ،‬وظل هذا‬ ‫‪182‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:10‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 182‬‬


‫الن�ص اجلامع للآداب ال�سلطانية يتحكم يف كل ما هو �سيا�سي وديني‬ ‫وثقايف عندنا‪.‬‬ ‫�صرنا نفهم العمل ال�سيا�سي والفعل ال�سيا�سي وال�شخ�ص‬ ‫ال�سيا�سي والدولة واحلاكم ال�سيا�سي من خالل منطق ن�ص هذه الآداب‬ ‫ال�سلطانية التي تقوم على الن�صيحة والتعويل على �أخالقيات احلاكم‬ ‫و�سماحته وكرمه وعفوه وغ�ضبه وحنكته‪ .‬كان فيل�سوف العلم كارل بوبر‬ ‫يقول‪ :‬تبد�أ الدميقراطية حلظة ا�ستبدال �س�ؤال من يحكم؟ ب�س�ؤال كيف‬ ‫يحكم؟ �أي حلظة االنتقال من �صفات ال�شخ�ص احلاكم و�شروطها �إىل‬ ‫حلظة الكيفية التي يدير بها احلاكم‪� ،‬أي حلظة القانون الذي يخ�ضع له‬ ‫احلاكم وهي حلظة امل�ؤ�س�سة التي يتحدد فيها �صفات النظام الذي نحكم‬ ‫به‪.‬‬ ‫العمل ال�سيا�سي يبد�أ حلظة اخلروج على ن�ص الآداب‬ ‫ال�سلطانية ومنطقها‪ ،‬حلظة اخلروج على قواعد هذه الآداب ومعجمها‬ ‫ومفاهيمها‪ ،‬حلظة اخلروج على �صحافة الآداب ال�سلطانية ووطن الآداب‬ ‫ال�سلطانية‪.‬‬ ‫خطاب املنا�شدة الذي يحكم الفعل ال�سيا�سي عندنا يجعل هذا‬ ‫الفعل حمكوما بالآداب ال�سلطانية و�أخالقياتها‪ ،‬ومن يتجاوز هذه الآداب‬ ‫والأخالق يعترب بحكم العرف الذي يتحكم يف احلقل ال�سيا�سي‪� ،‬أخرق ال‬ ‫يتوفر على احلكمة والر�صانة‪.‬‬ ‫هكذا ي�صبح العمل ال�سيا�سي حمكوما عليه ال بخرق القانون بل‬ ‫بخرق الأدب‪.‬‬ ‫وزير الآداب ال�سلطانية‬ ‫"ا�سم الوزارة خمتلف يف ا�شتقاقه على ثالثة �أوجه‪� :‬أحدها �أنه‬ ‫‪183‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:10‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 183‬‬


‫م�أخوذ من الوزر وهو الثقل‪ ،‬لأنه يحمل عن امللك �أثقاله‪ .‬الثاين �أنه م�أخوذ‬ ‫من الوزر وهو امللج�أ ومنه قوله تعاىل " كال ال وزر" �أي ال ملج�أ ف�سمي‬ ‫بذلك‪ ،‬لأن امللك يلج�أ �إىل ر�أيه ومعونته‪ .‬والثالث �أنه م�أخوذ من الأزر وهو‬ ‫الظهر‪ ،‬لأن امللك يقوى بوزيره كقوة البدن بالظهر ولأي هذه املعاين كان‬ ‫م�شتق ًا فلي�س يف واحد منها ما يوجب اال�ستبداد بالأمور"(‪)74‬‬ ‫الوزير �إذن ثقل وملج�أ وظهر‪� ،‬أو حمل ور�أي وقوة‪ ،‬وبح�سب‬ ‫اال�شتقاق اللغوي‪ ،‬هناك وزير ال ِوزر (ك�سر الواو) ووزير ال َوزر (فتح‬ ‫الواو) ووزير الأزر‪ .‬دعونا ن�ستثمر هذه اال�شتقاقات يف التفريق بني‬ ‫�إ�ضافتني للوزير‪� ،‬إ�ضافة ال�سلطان‪ ،‬و�إ�ضافة الدولة‪ .‬ما الفرق بني وزير‬ ‫ال�سلطان‪ ،‬ووزير الدولة؟‬ ‫الأول هو وزير فرد هو ال�سلطان‪ ،‬ووزير ال�سلطان يحمل ما ينوء‬ ‫به ال�سلطان من �أثقال‪ ،‬وعادة يزداد وزن هذه الأثقال بزيادة �سنوات‬ ‫حكم ال�سلطان‪ ،‬وبازدياد متركز ال�سلطة يف يده‪ .‬وزير الفرد م�ضاف �إىل‬ ‫ال�سلطان وهو ينوء بحمله‪ ،‬ما كان فيه‪� ،‬أي ما كان الوزير يف ال�سلطان‪.‬‬ ‫وزير الفرد هو وزير الوزر (ارتكاب الإثم) لأنه يحمل ثقل الإثم الذي هو‬ ‫حم�صلة �سنوات التفرد بال�سلطة‪ ،‬وكفى بهذا التفرد �إثم ًا‪.‬‬ ‫وزير الإثم �أو وزير ال ِوزر (بك�سر الواو) �أو وزير الفرد �أو وزير‬ ‫ال�سلطان‪ ،‬هو وزير الظهر �أي�ض ًا‪ ،‬ال لأن ال�سلطان يقوى بظهره كما يقوى‬ ‫البدن بالظهر‪ ،‬بل لأن ال�سلطان يجعل من ظهره وجه ًا لأي �إخفاق كي‬ ‫ي�صون ال�سلطان وجه ظهره‪ ،‬هو وزير الظهر لأن ظهره وحده ينوء‬ ‫بحمل الإثم‪ ،‬من �أهم موا�صفات الظهر اجليد �أنه يحمل �آثم �سنوات‬ ‫�إهمال الفرد حل�سن �إدارة ج�سده‪ ،‬والدولة كما يراها كثري من املفكرين‬ ‫‪74‬‬

‫الأحكام ال�سلطانية والواليات الدينية‪ ،‬املاوردي‪� ،‬ص‪13‬‬

‫‪184‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:10‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 184‬‬


‫ال�سيا�سيني ج�سد‪ ،‬واجل�سد ال يقوم �إال بالظهر‪ .‬الظهر هو ملج�أ اجل�سد‪،‬‬ ‫من هنا فال�سلطان يجعل من هذا الوزير ملج�أ يفرغ فيه النا�س غ�ضبهم‬ ‫من �إثم ج�سدهم‪.‬‬ ‫الوزير هو رجل ال�سلطان‪ ،‬وهو ثقل وملج�أ وظهر له‪ ،‬وبقدر ما‬ ‫يكون حم ًال وملج�أ وظهر ًا يكون موازر ًا لل�سلطان "ال َوزِي ُر‪ :‬املُ َوازِر‪� ،‬أي‬ ‫املُعني املق ِّوي َو ْاج َع ْل ليِ َوزِي ًرا ِمنْ �أَ ْه ِلي" املعجم املحيط‪.‬‬ ‫وكانت الآداب ال�سلطانية تفهم وظيفة الوزير‪ ،‬بهذا املعنى‪� ،‬أي‬ ‫ال�شخ�ص املقوي لل�سطان‪.‬‬ ‫ �أما وزير الدولة‪ ،‬فهو رجل دولة‪ ،‬والدولة تبد�أ حلظة تداول‬ ‫ال�سلطة‪� ،‬أي اللحظة التي تدول فيه ال�سلطة �سلمي ًا بني �أكرث من حزب‪،‬‬ ‫من َث َّم يكون الوزير القادم من هذه اللحظة رجل تداول ورجل حزب‬ ‫ورجل برنامج‪.‬‬ ‫رجل الدولة هو رجل يحمل برناجم ًا‪ ،‬فنلج�أ �إليه لأننا نرى فيه‬ ‫قوة لظهر الدولة‪ ،‬ال لظهر ال�سلطان‪ ،‬رجل الدولة ال ينوء بحمل ال�سلطان‪،‬‬ ‫بل ينوء بحمل الدولة وحمل برناجمه ومعيار �إ�ضافته للدولة‪� ،‬أنه متى‬ ‫�صار يحمل ال ِوزر(الإثم) بدل ال َوزر(امل�س�ؤولية) انك�سر ظهره وفقد‬ ‫قوته‪ ،‬وما عاد حتى حام ًال ال�سم الدولة‪ ،‬فيعود رجل نف�سه وانك�ساره‪،‬‬ ‫ويبقى ظهر الدولة ووجهها �شاغر ًا لرجل �آخر‪.‬‬ ‫ال�سلطة التي هي حمل تداول �أخف من ال�سلطة التي هي حمل‬ ‫تناول‪� ،‬سلطة التداول متنح وزيرها �أ�صوات النا�س‪ ،‬و�سلطة التناول متنح‬ ‫وزيرها �سنني النا�س‪ ،‬الأول هو وزير �أ�صوات الأكرثية‪ ،‬والثاين هو وزير‬ ‫�سنوات الأقدمية‪� .‬أ�صوات الأكرثية متنحك قوة متثيل‪ ،‬و�أنت وزير بقدر‬ ‫ما ت�ؤازرك هذه الأ�صوات‪ ،‬و�أنت ُموازر للدولة‪� ،‬أي ُمعين ًا ومق ِّوي ًا لها‪،‬‬ ‫بقدر ما جتعلك هذه الأ�صوات َوزِي ًرا‪� .‬أما �سنوات الأقدمية‪ ،‬فتمنحك‬ ‫‪185‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:10‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 185‬‬


‫�شيخوخة‪ ،‬و�أنت وزير بقدر ما �أنت �شيخ‪ ،‬و�أنت موازر للدولة بقدر ما �أنت‬ ‫موازر لل�سلطان‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫"�إذا �أرا َد اهلل بالأم ِري َخيرْ ً ا جعل له وزي َر ِ�ص ْدقٍ ‪� ،‬إنْ َن ِ�س َي ذ َّك َر ُه‬ ‫و ِ�إنْ ذ َك َر �أعا َنهُ" (املعجم املحيط) و�إذا �أراد اهلل بالدولة خري ًا جعل‬ ‫لها وزير �صدق‪� ،‬إن ن�سيت ذكرها و�إن ذكرت �أعانها‪ .‬الإن�سان يتذكر ما‬ ‫يحمله‪ ،‬من يحمل �أ�صوات النا�س يتذ ّكر ثقل النا�س‪ ،‬ومن يحمل �سنوات‬ ‫الأمري يتذكر ثقل الأمري‪ ،‬والدولة تبد�أ حني نتذكر ثقل النا�س‪ ،‬ونن�سى‬ ‫ثقل الأمري‪.‬‬ ‫الدولة حلظة ظهور وزير النا�س‪ ،‬ويظهر هذا الوزير يف اللحظة‬ ‫التي تدرك فيها الدولة �أنها م�شتقة من التداول ال التناول‪ ،‬تداول ال�سلطة‪،‬‬ ‫ال تناول الفيء‪.‬‬ ‫يحكي لنا التاريخ �إن اخلليفة الفاطمي خالل تلك الفرتة‬ ‫فرتة اخلليفة مطلق النفوذ التي امتدت من عام (‪358‬هـ= ‪968‬م‬‫حتى ‪386‬هـ= ‪996‬م)‪� -‬إماما لأتباعه‪ ،‬ال ينازعه �أحد �سلطته الدينية‬ ‫هذه‪ ،‬كما كان يتمتع بنفوذ مطلق يف ت�سيري �أمور الدولة‪ ،‬وكان هو امل�سئول‬ ‫عن تعيني الوالة والق�ضاة‪.‬‬ ‫وكانت وظيفة الوزير يقوم بها الرجل الثاين يف الدولة بعد‬ ‫الإمام مبا�شرة‪ ،‬وت�سمى "رتبة الو�ساطة"‪ ،‬ويطلق على من يتوالها‬ ‫"الو�سيط"‪ ،‬كما كانت ت�سمى "ال�سفارة"‪.‬‬ ‫ونتيجة النفراد اخلليفة باحلكم وا�ستحواذه على كل ال�سلطات‪،‬‬ ‫وا�ستئثاره بكل مقاليد �أمور الدولة‪ ،‬فلم يظهر لقب الوزير يف م�صر‬ ‫الفاطمية �إال يف (املحرم ‪367‬هـ= �أغ�سط�س ‪977‬م) عندما منح‬ ‫اخلليفة الفاطمي الثاين العزيز باهلل لقب الوزير لـ"يعقوب بن كل�س"‬ ‫الذي لقبه بـ"الوزير الأج ّل"‪.‬‬ ‫‪186‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:10‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 186‬‬


‫لكن ما كان مل يظهر بعد‪ ،‬هو الوزير (الأج ّل) بالنا�س‪ ،‬ال‬ ‫بال�سلطان وال بالإمام وال بالأمري وال بامللك‪.‬‬ ‫يحكي لنا التاريخ �أي�ض ًا �أن امللك الفرعوين يف عهد الدولة‬ ‫الو�سطي �أمر ب�إح�ضار الوزير الذي ُن ّ�صب حديثا وقال له "تب�صر يف‬ ‫وظيفة الوزير‪ ،‬وكن يقظا للقيام بكل مهامها ‪ .‬انظر! �إنها الركن الركني‬ ‫لكل البالد‪ .‬و�أعلم �أن الوزارة لي�ست حلوة املذاق بل �إنها مرة ‪ ...‬فالوزير‬ ‫نف�سه عبدا من ال�شعب‪ ...‬و�أن املاء والهواء يخربان بكل ما يفعله‪ .‬واعلم‬ ‫�أن كل ما ي�أتيه ال يبقى جمهوال �أبدا‪.)75("...‬‬ ‫حني تكون ال�صحافة املاء والهواء الذي يخرب مبا يفعله الوزير‬ ‫وما ميلكه الوزير‪� ،‬سيكون هناك الوزير (الأج ّل) مباء النا�س وهوائهم‪.‬‬

‫‪75‬‬

‫(ت • ج • جيم‪ ،‬احلياة �أيام الفراعنة‪ .‬انظر‪www.kenanah.com :‬‬

‫‪187‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:10‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 187‬‬


‫ج�سد الدولة‬ ‫يكفي ابن خلدون �شرف ًا‪� ،‬أنه جعل جملة "الدولة ج�سد" مفهوم ًا‬ ‫يحيل �إىل االجتماع ال �إىل االنعزال‪� ،‬أي يكفيه �أنه جعلنا نفهم الدولة‬ ‫ال بعقل الفيل�سوف املنعزل يف برجه العاجي الذي يحلم مبدينة اخلري‬ ‫املثالية‪ ،‬بل بعقل امل�ؤرخ االجتماعي الذي يعي�ش يف مدينة حتكمها‬ ‫تناق�ضات القوة وال�ضعف‪ ،‬والفتوة والهرم‪ ،‬واحل�ضارة والبداوة‪،‬‬ ‫وال�صحة واملر�ض‪ ،‬والعمران واخلراب‪.‬‬ ‫بقدر ما نح�سن فهم جملة "الدولة ج�سد"‪ ،‬نفهم مقدمة ابن‬ ‫خلدون‪ ،‬ونفهم جدل تناق�ضاته‪ ،‬ونفهم �سر عظمته‪ ،‬و�سبب راهنيته‪ .‬فما‬ ‫الذي تختزله هذه اجلملة؟‬ ‫ �إنها تختزل الطريقة التي كان يرى من خاللها ابن خلدون‬ ‫مو�ضوعه‪� ،‬سواء كانت الدولة كما ذهب طه ح�سني �أو الع�صبية كما قال‬ ‫�ساطع احل�صري �أو البداوة واحل�ضارة وما يقع بينهما من �صراع‪ ،‬كما‬ ‫يقرر الوردي‪ .‬يبقى مفتوح ًا �س�ؤال �إىل �أي املو�ضوعات ت�شري مقدمة ابن‬ ‫خلدون‪":‬ونحن الآن نبينّ يف هذا الكتاب ما يعر�ض للب�شر يف اجتماعهم‬ ‫من �أحوال العمران يف امللك والك�سب والعلوم وال�صنائع بوجوه برهانية‬ ‫يت�ضح بها التحقيق يف معارف اخلا�صة والعامة‪ ،‬وتدفع بها الأوهام وترفع‬ ‫ال�شكوك"(‪.)76‬‬ ‫كان ابن خلدون يرى ما يعر�ض للب�شر يف اجتماعهم من ع�صبية‬ ‫وعمران ودولة‪ ،‬ب�آلية ال�شاهد والغائب‪" ،‬كان ال�شاهد لديه الطبيعيات‬ ‫والطبيات واجل�سد الإن�ساين ب�أع�ضائه و�أح�شائه فاتخذها �أ�صال قا�س‬ ‫‪76‬‬

‫‪188‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:10‬‬

‫ابن خلدون‪ ،‬مقدمة ابن خلدون‪.‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 188‬‬


‫عليه‪ ،‬وكان الغائب العمران الب�شري واالجتماع الإن�ساين مبا فيه من‬ ‫وبواد فرع ًا مقي�س ًا‪ .‬وهذا القيا�س هو ما‬ ‫ع�صبية وح�سب ون�سب ومدن ٍ‬ ‫جعله �شهري ًا يف خمتلف الع�صور"(‪)77‬‬ ‫نرى الغائب من خالل ال�شاهد‪ .‬بقدر ما نح�سن اختيار ال�شاهد‬ ‫والت�صرف به ت�صرف ًا يطوعه‪ ،‬ليكون �أداة ر�ؤية‪ ،‬نبدع يف ابتكار الغائب‪.‬‬ ‫كانت مقدمة ابن خلدون مبدعة ومبتكرة للعمران الب�شري واالجتماع‬ ‫وبواد‪ .‬كانت‬ ‫الإن�ساين وما يتقوم بهما من ع�صبية وح�سب ون�سب ومدن ٍ‬ ‫مبدعة بت�صرفها يف اجل�سد ال�شاهد‪ .‬وهذا ما جعل ابن خلدون متمايز ًا‬ ‫عن جميع من كان يوظف �آلية ال�شاهد والغائب من علماء كالم وفقهاء‬ ‫ومناطقة وفال�سفة‪ .‬كيف ت�صرف ابن خلدون يف (ج�سده) على غري‬ ‫ت�صرف من �سبقه؟‬ ‫يف ت�ص ّرف ابن خلدون‪ ،‬الدولة ج�سد‪ ،‬واجل�سد يكون بقدر‬ ‫ما تكون قوته‪ ،‬ويفنى حني يفقد قوته‪ ،‬كان ينظر �إىل الدولة من خالل‬ ‫اجل�سد‪ ،‬اجل�سد هو الأكرث واقعية‪ ،‬لأنه الأكرث تعرفا من قبل جميع‬ ‫احلوا�س‪ ،‬هو كان ينظر من هذا الأكرث واقعية للدولة‪ ،‬لذلك ال عجب‬ ‫�أن كان ابن خلدون �أكرث واقعية يف فهمه للدولة من غريه من الفال�سفة‬ ‫والعلماء الذين كان يحلمون وي�ؤمثلون (ي�ضعون ت�صورات مثالية‬ ‫كالفارابي)‪ .‬ابن خلدون كان يرى يف القوة التي هي قوام اجل�سد‪ ،‬حقيقة‬ ‫الدولة‪ ،‬كان م�شغ ً‬ ‫وال بفهم قوانني هذه القوة‪ ،‬متاما كان�شغال الطبيب‬ ‫بقوانني قوة اجل�سد‪ ،‬كيف هو واقع اجل�سد؟ كيف يولد؟ كيف ينمو؟ كيف‬ ‫يقوى؟كيف ي�ضعف؟ كيف مير�ض؟ كيف يهرم؟ كم عمره االفرتا�ضي؟‬ ‫كيف يكون يف قوته و�ضعفه ومر�ضه و�صحته؟‬ ‫‪77‬‬

‫حممد مفتاح‪ ،‬ر�ؤيا التماثل‪� ،‬ص‪107‬‬

‫‪189‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:10‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 189‬‬


‫كانت هذه الأ�سئلة ت�شغل ابن خلدون‪� ،‬إال �أن اجل�سد الذي كان‬ ‫يعاجله ب�أدواته هو الدولة‪ .‬ويف احلقيقة كان يوظف خربته الطبية يف فهم‬ ‫ج�سد الدولة‪ ،‬وكثريا يف مقدمته ما كان يحيل �إىل �أبقراط وجالينو�س‬ ‫ويعر�ض مادتهم الطبية‪ ،‬ونظرياتهم يف تكوين طبيعة اجل�سد واعتالالته‪،‬‬ ‫ويتخذ من هذا النموذج الطبي منظارا له لفهم ج�سد الدولة‪.‬‬ ‫كان يفهم كيمياء الدولة من خالل كيمياء اجل�سد‪ ،‬ومعرفة هذه‬ ‫الكيمياء كانت مدينة �إىل الطب الو�سيط الذي يت�أ�س�س على العنا�صر‬ ‫الأربعة (املاء والهواء والنار والرتاب) والأخالط الأربعة (ال�صفرة‬ ‫والدم والبلغم وال�سوداء) والطبائع الأربع (احلار والرطب والبارد‬ ‫والياب�س) للج�سد‪ .‬بهذه املعرفة الطبية‪ ،‬راح ابن خلدون ي�ؤ�س�س معرفته‬ ‫العمرانية‪ ،‬لفهم الدولة والع�صبية وجدل البداوة واحل�ضارة‪ .‬كيف‬ ‫تتفاعل هذه الرباعيات يف اجل�سد؟ وكيف يغلب بع�ضها بع�ضا؟ وكيف‬ ‫يق�ضي بع�ضها على بع�ض؟‬ ‫واقعية ابن خلدون ميكن تف�سريها‪ ،‬ب�أنه كان ينظر �إىل الدولة‬ ‫لي�س من ال�سماء‪ ،‬لي�س من العقل‪ ،‬لي�س من املثال‪ ،‬لي�س من الروح بل من‬ ‫الأر�ض من القوة من املادة من اجل�سد الذي هو الأقرب �إىل الأر�ض التي‬ ‫هي ح�ضن الدولة‪ .‬لذلك فالتعاون يف الدولة من�ش�ؤه ال�ضروري الأر�ضي‬ ‫وهو القوت‪ ،‬ال الكمايل املثايل كما يرى الفارابي ب�شاهده‪.‬‬ ‫يف نظر �إخوان ال�صفا الدول تدور يف الأر�ض على منوال ما‬ ‫تدور الأفالك يف ال�سماء‪ .‬ويف �شاهد (اجل�سد) ابن خلدون الدول تدور‬ ‫يف الأر�ض على منوال �أطوار ج�سد الإن�سان من فتوة وكهولة وهرم‪� .‬أي‬ ‫تدور الدول عند �إخوان ال�صفا كما تدور �أفالك ما فوق القمر‪ ،‬وتدور‬ ‫الدول عندابن خلدون كما تدور �أج�ساد ما حتت القمر‪.‬‬ ‫كان من نتيجة اعتماد �آلية (اجل�سد)ال�شاهد �أنه �أعلى من‬ ‫‪190‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:10‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 190‬‬


‫�ش�أن املنطق احل�سي لفهم الأمور االجتماعية وال�سيا�سية‪ ،‬وخفف من‬ ‫وط�أة املنطق الأر�سطي العقالين املجرد الذي كان ي�صلح لبحث الأمور‬ ‫القيا�سية كالهند�سة واحل�ساب‪ ،‬وخفف من �سطوة املنطق الك�شفي الذي‬ ‫كان ي�صلح للبحث يف الأمور الإلهية والروحية(‪�.)78‬صارت الدولة‬ ‫والعمران من اخت�صا�ص املنطق احل�سي‪.‬‬ ‫الدولة هي منوذج اجل�سد‪� ،‬أي هي ما نتعاىل عليه ونرتفع‬ ‫وننكره با�سم ما هو روحي‪� ،‬أل�سنا ننكر القوة والقهر والغلبة با�سم‬ ‫الهمجية واحليوانية؟ وهي كلها مقت�ضيات اجل�سد‪ ،‬وهي مقت�ضيات‬ ‫الدولة‪ ،‬ما ي�شكل الدولة هو مقت�ضيات اجل�سد‪ .‬و�آثار الغ�ضب واحليوانية‬ ‫التي هي مقت�ضيات اجل�سد هي ما ي�صدمنا حد الإنكار‪ ،‬ال ميكن �أن يكون‬ ‫الإن�سان من غري ج�سد‪ ،‬ما هو �ضروي هو ما ي�صنع الدولة‪ ،‬هو قوامها‪.‬‬ ‫ما ننكره هو ال�ضروري‪ ،‬هو الدولة‪ ،‬هو ما يتحكم فينا هو ما يقهرنا‬ ‫ويغلبنا ويجمعنا‪ .‬الدولة هي القوت‪.‬‬ ‫والقوت هو ما ين�شئ ال�سوق "�إن الدولة وال�سلطان هي ال�سوق‬ ‫الأعظم للعامل‪ ،‬ومنه مادة العمران"(‪ )79‬ال ين�ش�أ ال�سوق من دون دولة‪،‬‬ ‫من دون قوة بدون عمران‪ ،‬من دون اجتماع‪ ،‬من دون ج�سد‪ .‬ال�سوق يحتاج‬ ‫�إىل قوة حتميه وت�ؤمن له تداو ًال م�ستقر ًا‪ .‬الدولة هي ال�سوق الأعظم‬ ‫للعامل‪ ،‬لأن العامل يعمر بال�سوق‪ ،‬ويعظم بال�سوق‪ ،‬ويقوى بال�سوق‪.‬‬ ‫لي�س لدى ابن خلدون نظرية يف �إ�صالح الدولة‪ ،‬لكن لديه‬ ‫نظرية يف �إ�صالح نظرتنا للدولة‪ ،‬ونظريته تتمثل يف ت�صرفه يف ال�شاهد‬ ‫(اجل�سد) ليجعله و�سيلة لر�ؤية العمران والع�صبية والقوة والدولة‪ .‬لقد‬ ‫ت�صرف �إخوان ال�صفا والفارابي وابن ر�شد و�أفالطون وابن �سيناء‬ ‫ب�شاهد (اجل�سد) لكنهم مل ي�شاهدوا منه ما �شاهده ابن خلدون‪ ،‬ر�أوا‬ ‫‪78‬‬ ‫‪79‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:10‬‬

‫علي الوردي‪ ،‬منطق ابن خلدون‪� ،‬ص‪66‬‬ ‫مقدمة ابن خلدون‪� ،‬ص‪261‬‬

‫‪191‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 191‬‬


‫فيه روح ًا تعلو نحو ال�سماء‪ ،‬وهو ر�أى فيه قوة تدنو نحو الأر�ض‪ ،‬فراح‬ ‫يتق�صى �أوديته الأر�ضية وجباله وحوا�ضره وبواديه‪ ،‬ف�صار عنده ج�سد‬ ‫للبادية‪ ،‬وج�سد للحا�ضرة‪� ،‬أي عمران للبادية‪ ،‬وعمران للحا�ضرة‪.‬‬ ‫بهذا ميكننا �أن نفهم‪ ،‬كيف فهم ابن خلدون �سنة اهلل يف‬ ‫الذين خلوا من الدول "ملا كانت حقيقة املُلك �أنه االجتماع ال�ضروري‬ ‫للب�شر‪ ،‬ومقت�ضاه التغلب والقهر اللذان هما من �آثار الغ�ضب واحليوانية‪،‬‬ ‫كانت �أحكام �صاحبه يف الغالب جائرة عن احلق‪ ،‬جمحفة مبن حتت‬ ‫يده من اخللق يف �أحوال دنياهم‪ ،‬حلمله �إياهم يف الغالب على ما لي�س‬ ‫يف طوقهم من �أغرا�ضه و�شهواته‪ ،‬ويختلف ذلك باختالف املقا�صد من‬ ‫اخللف وال�سلف منهم‪ ،‬فتع�سر طاعته لذلك‪ ،‬وجتيء الع�صبية املف�ضية‬ ‫�إىل اله ْرج والقتل‪ .‬فوجب �أن يرجع يف ذلك �إىل قوانني �سيا�سية مفرو�ضة‬ ‫ي�سلمها الكافة وينقادون �إىل �أحكامها كما كان ذلك للفر�س وغريهم من‬ ‫الأمم‪ .‬و�إذا خلت الدولة من مثل هذه ال�سيا�سة مل ي�ستتب �أمرها‪ ،‬وال يتم‬ ‫ا�ستيال�ؤها‪�" :‬س ّنة اهلل يف الذين خلوا من قبل"(‪.)80‬‬ ‫قوانني ال�سيا�سة ترو�ض ج�سد الدولة‪ ،‬لتوجه قوة هذا اجل�سد‬ ‫نحو العمران‪ ،‬من دون هذه القوة ال يعود للقانون معنى‪ ،‬القانون لي�س‬ ‫مرتوك ًا لقوى اخلري وال لتمنيات الفال�سفة وكماالتهم وال لينبغيات‬ ‫الوعاظ‪ ،‬بل هو مرهون بقوة اجل�سد‪ ،‬قوة الع�صبية‪ ،‬قوة الن�سب‪.‬‬ ‫حني نقول اليوم‪� ،‬إننا نفهم الدولة ب�أنها ج�سد ونفهم احلقول‬ ‫املختلفة يف الدولة بالإحالة على اجل�سد فنقول‪ :‬اجل�سد ال�صحفي‪،‬‬ ‫اجل�سد الطالبي‪ ،‬اجل�سد الق�ضائي‪ ،‬اجل�سد االجتماعي‪ ،‬ف�إننا ك�أننا‬ ‫نقول قالت مقدمة ابن خلدون‪.‬‬ ‫‪80‬‬

‫‪192‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:10‬‬

‫مقدمة ابن خلدون‪� ،‬ص‪.177‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 192‬‬


‫ج�سد املجل�س‬ ‫"ت�ستعمل كلمة جمل�س يف املجتمع البحريني‪ ،‬للداللة على الغرفة‬ ‫الوا�سعة الأرجاء يف املنزل حيث يجل�س ال�ضيوف‪ ،‬وتعقد االجتماعات‪،‬‬ ‫كما تعني جمموعة الرجال �أو امل�ست�شارين الذين ي�شاركون مع ًا يف مثل‬ ‫هذه االجتماعات‪ ،‬وتختلف �أهمية املجل�س ال�سيا�سية واالجتماعية وفق ًا‬ ‫ملنزلة العائلة ونفوذ �صاحب البيت"(‪.)81‬‬ ‫يبدو هذا التعريف للوهلة الأوىل‪ ،‬ك�أنه مع ّد لدليل �سياحي‪،‬‬ ‫يع ِّرف برتاث البلد وثقافته وتقاليده‪ .‬غري �أنه على خالف ما يبدو‪ ،‬فهذه‬ ‫الغرفة الوا�سعة الأرجاء‪ ،‬ت�ش ِّكل مف�ص ًال من مفا�صل ج�سد الدولة‪ .‬ذلك‬ ‫�أن املجل�س لي�س جمرد غرفة‪ ،‬بل قوة نافذة‪ ،‬فحيث يكون االجتماع تكون‬ ‫القوة‪ ،‬والرجال وامل�ست�شارون‪ ،‬يعقدون االجتماعات بقدر ما يعقدون‬ ‫روابط القوة‪ .‬وجتد هذه الروابط يف الع�صبية القبلية قوتها و�شوكتها‬ ‫العظمى كما يخرب ابن خلدون‪ ،‬لذلك وفق منزلة العائلة‪/‬القبيلة يكون‬ ‫النفوذ‪/‬القوة‪ .‬منزلتها حتدد مبدى ما تتوافر عليه من ع�صبية‪.‬‬ ‫النفوذ هو القوة‪ ،‬والقوة هي اجل�سد الذي به تكون الدولة‪ .‬كان‬ ‫ج�سد الدولة يعقد يف هذه املجال�س‪ ،‬علينا �إذن �أن نفهم الدولة وتاريخ‬ ‫ت�شكلها‪ ،‬وما بقي يعمل فيها حتى الآن من خالل هذه املجال�س‪" .‬يتجلى‬ ‫تنظيم ال�سلطة يف البحرين قبل �إدخال النظام البريوقراطي عليه‬ ‫وقبل �إنتاج النفط وت�صنيعه يف م�ؤ�س�ستني �أ�سا�سيتني‪ :‬املجال�س القبلية‬ ‫واملحاكم ال�شرعية‪� ،‬أي الق�ضاء"(‪.)82‬‬ ‫‪81‬‬ ‫‪82‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:10‬‬

‫ف�ؤاد �إ�سحاق اخلوري‪� ،‬إمامة ال�شهيد و�إمامة البطل‪� ،‬ص ‪60‬‬ ‫املرجع نف�سه‪� ،‬ص‪59‬‬

‫‪193‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 193‬‬


‫ما املوا�ضيع التي كان يتداول فيها الرجال وامل�ست�شارون يف هذه‬ ‫املجال�س؟‬ ‫"�أما املوا�ضيع التي كانت تناق�ش فكانت ت�شمل تاريخ القبائل‪،‬‬ ‫م�سائل الدين‪ ،‬الق�ضاء والعدالة‪ ،‬املعاهدات مع القوى الأجنبية‪،‬‬ ‫امل�صاهرات ذات الأهمية ال�سيا�سية‪ ،‬بناء ال�سفن‪� ،‬إنتاج الل�ؤل�ؤ‪ ،‬زراعة‬ ‫النخيل‪� ،‬إنتاج التمور‪ ،‬التجارة‪ ،‬الأ�سواق‪ ،‬الأ�سعار‪ ،‬الأجور‪� ،‬أحوال‬ ‫الطق�س‪� ،‬أو �أي م�شكلة �أخرى تطرح نف�سها تلقائيا على احل�ضور"(‪.)83‬‬ ‫تتمثل منزلة جمل�س القبيلة يف قوته التي بها ُيعقد‪ ،‬وبها‬ ‫ُيحل‪ ،‬وبها يختم هذه املو�ضوعات‪ ،‬وفق ُعرف القبيلة‪ .‬ما ي�ضعف من‬ ‫متكن ُعرف القبيلة من �أن يحكم هذه املو�ضوعات يعترب مهدد ًا للقبيلة‬ ‫وجمل�سها وم�صاحلها وقوتها‪ .‬مل يكن ُعرف القبيلة يريد لأي قوة �أخرى‬ ‫�أن تعقد مو�ضوعاته �أو حتلها‪.‬‬ ‫لذلك حني جاءت الإ�صالحات الإدارية يف الع�شرينيات‬ ‫بالبريوقراطية‪ ،‬التي هي بح�سب عامل االجتماع ماك�س فيرب "تنظيم ي�ؤمن‬ ‫الدقة وال�سرعة والثبات و�سهولة الو�صول �إىل ال�سجالت واال�ستمرارية‬ ‫وال�سرية املمكنة والوحدة والتعاون ال�شديد واحلد من �أ�سباب االحتكاك‬ ‫وتقليل النفقات وعدد املوظفني"(‪ .)84‬وجد ال ُعرف القبلي يف هذا‬ ‫التنظيم الذي �سيتوىل عقد وحل املو�ضوعات التي كان تتداول يف جمل�س‬ ‫القبيلة بقوة �أخرى غري قوة ع�صبية القبيلة‪ ،‬تهديد ًا لقوته (قوة ال ُعرف‬ ‫القبلي)‪.‬‬ ‫ال ُعرف القبلي كان ج�سد الدولة‪ ،‬ف�إذا كانت الدولة تقوم على‬ ‫الع�صبية‪� ،‬أي ع�صبية الدم والن�سب‪ ،‬ف�إن ال ُعرف القبلي قد منح هذا‬ ‫‪83‬‬ ‫‪84‬‬

‫‪194‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:10‬‬

‫املرجع نف�سه‪� ،‬ص ‪60‬‬ ‫املرجع نف�سه‪� ،‬ص ‪133‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 194‬‬


‫اجل�سد قوة ال ليكون دولة‪ ،‬بل ليكون قبيلة تدير هذا اجل�سد يف جمل�سها‪.‬‬ ‫كانت البريوقراطية تريد لهذا اجل�سد �أن يكون دولة ت�ستمد قوتها من‬ ‫القانون‪ .‬كان �أمام البريوقراطية الربيطانية و�إ�صالحاتها الإدارية مهمة‬ ‫�شاقة‪ ،‬وهي تنظيم هذا اجل�سد تنظيم ًا ي�ؤمن الدقة وال�سرعة والثبات‬ ‫والتعاون وال�سرية والوحدة‪ .‬وهذا يعني �أن يخ�ضع هذا اجل�سد لقانون‬ ‫عام يكون مبثابة القوة التي تدير هذا اجل�سد الذي تتناهبه قوى املجال�س‬ ‫القبلية‪ ،‬ب�أعرافها امل�سيطرة على الطرق التجارية والداخلية والتحكم‬ ‫مب�صائد الل�ؤل�ؤ‪ .‬ولدينا جمموعة حوادث هنا �شديدة الداللة على امل�شقة‬ ‫التي واجهها م�شروع حتويل الإمارة �إىل �سلطة مركزية بريوقراطية‪.‬‬ ‫ففي ‪ 19‬يونيو‪� 1923‬أقدمت �إحدى القبائل على �ضرب بع�ض‬ ‫بحارة القرى امل�ؤيدين للإ�صالحات‪ ،‬قرب "خور ف�شت" حيث كانوا‬ ‫ّ‬ ‫ميلأون جرابهم باملاء العذب‪ ،‬ا�ستعداد ًا للذهاب �إىل منطقة الهريات‬ ‫ل�صيد الل�ؤل�ؤ‪ .‬ويف ال�سنة نف�سها تعر�ضت القرى امل�ؤيدة للإ�صالحات التي‬ ‫عانت الأم ّرين من ُعرف جمال�س القبائل‪ ،‬لأعمال قتل ونهب و�سلب‪ .‬مثلت‬ ‫هذه الأحداث حتدي ًا للبريوقراطية الربيطانية و�إ�صالحاتها وللحاكم‬ ‫الذي كان منوط ًا به تنفيذها‪� .‬صار الأمر بني اخل�ضوع ل ُعرف جمل�س‬ ‫القبيلة �أو اللجوء �إىل املحكمة للحكم يف هذه الأحداث‪ .‬مل يكن خيار‬ ‫تقبيل املحكمة‪� ،‬أي مد نفوذ القبيلة �إىل املحكمة‪ ،‬لتكون حمكمة قبلية‪،‬‬ ‫مطروح ًا بعد يف ذلك الوقت‪ .‬هكذا‪ ،‬دوم ًا م�شروع الإ�صالح ي�صطدم‬ ‫ب ُعرف املجل�س القبلي‪ ،‬كيف كان يرى هذا ال ُعرف الدولة؟‬ ‫"ف�سر رجال القبائل امل�ساواة �أمام القانون فيما يتعلق بال�ضرائب‬ ‫َّ‬ ‫والق�ضاء كما تقره الإ�صالحات‪� ،‬ضرب َا من �ضروب اخل�ضوع لقوة عظمى‬ ‫(القبيلة الربيطانية) كما كانوا ي�سمونها يف جمال�سهم اخلا�صة‪ ،‬وهم‬ ‫‪195‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:10‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 195‬‬


‫الذين رف�ضوا اخل�ضوع لآل خليفة �سابق ًا"(‪.)85‬‬ ‫القبائل مل تكن ترى بريطانيا دولة عظمى بل قبيلة عظمى‪ .‬فلم‬ ‫تكن هذه القبائل تفهم معنى الدولة‪ ،‬لذلك مل تفهم معنى الإ�صالحات‬ ‫الإدارية التي كانت تريد ت�أ�سي�س �سلطة مركزية تقوم على البريوقراطية‪،‬‬ ‫بغري منطق ال ُعرف ال َق َبلي الذي ال يقبل بفكرة خ�ضوع القبيلة لقوة خارج‬ ‫عنها‪ ،‬حتى القانون يف عرفهم قبيلة تريد �إخ�ضاعهم و�إخ�ضاع ُعرفهم‪،‬‬ ‫لذلك مل يكن ال ُعرف القبلي يعار�ض بريطانيا‪ ،‬بل كان يعار�ض القبيلة‬ ‫الربيطانية‪.‬‬ ‫"كانت املجال�س القبلية حيث تتخذ القرارات‪ ،‬تهتم ب�إدارة املوارد �أكرث‬ ‫من اهتمامها ب�ش�ؤون النا�س ال�شخ�صية واالجتماعية – هذه الأمور‬ ‫التي كانت من اخت�صا�ص الفقهاء الدينيني"(‪.)86‬‬ ‫مل يكن هذا ال ُعرف يعرف معنى الأر�ض التي هي �شرط الدولة‪.‬‬ ‫كان يرى الأر�ض �إقطاعية ال جغرافيا لها �سيادتها با�سم القانون الذي‬ ‫يجعلها وطن ًا‪ .‬الأر�ض مورد اقت�صادي مقطوع لقبيلة وفق ُعرف جمل�س‬ ‫القبيلة‪ ،‬وال يجوز لقبيلة �أخرى �أن تنازع هذه القبيلة يف هذا املورد‪ ،‬ولي�س‬ ‫للقانون �أن ُيخ�ضع هذه الأر�ض‪/‬املورد ل�سلطته‪ ،‬فال �سلطة لقوة �أعظم‬ ‫من القبيلة على �أر�ضها املقطوعة لها‪ .‬الأر�ض لي�ست وطن ًا‪ ،‬والدفاع عنها‬ ‫لي�س وطنية‪ ،‬بل هي قطعة والدفاع عنها �إقطاع ًا‪.‬‬ ‫حني يت�ساوى اجلميع �أمام القانون‪ ،‬ف�إنه تت�ساوى �أرا�ضيهم‬ ‫وبحارهم �أمام القانون‪ ،‬وتت�ساوى جمال�سهم القبلية �أمام القانون‪،‬‬ ‫وتت�ساوى موارد القبيلة‪� .‬سيادة الدولة وقانونها‪ ،‬كان يعني �سيادة قبيلة‬ ‫عظمى‪ ،‬هكذا كان ُيفهم ال ُعرف القبلي‪.‬‬ ‫املو�ضوعات التي كان يعقدها ويحلها ُعرف القبيلة‪� ،‬صار‬ ‫يتداولها جمل�س الدولة ال جمل�س القبيلة ويحكم فيها بقانونه‪ .‬ال ميكن �أن‬ ‫‪85‬‬ ‫‪86‬‬

‫‪196‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:10‬‬

‫املرجع نف�سه‪� ،‬ص‪145‬‬ ‫املرجع نف�سه‪� ،‬ص‪61‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 196‬‬


‫يقبل هذا ال ُعرف �أن يحكم مو�ضوعات جمل�سه قانون الدولة الذي تت�ساوى‬ ‫�أمامه الدماء والأن�ساب‪ .‬على هذا ال ُعرف �أن يبتكر له �صيغ ًا �أخرى حتتال‬ ‫على جمل�س الدولة‪ ،‬وبهذه ال�صيغ املواربة �سي�ضمن ا�ستمرار بقائه وعمله‬ ‫وبهذا �سيتم تقبيل الدولة‪.‬‬

‫‪197‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:10‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 197‬‬


‫دولة الأول بني مت�ساويني‬ ‫يحلل ف�ؤاد ا�سحاق اخلوري‪ ،‬يف كتابه "الذهنية العربية‪ :‬العنف‬ ‫�س ّيد الأحكام" احل�س الال�شعوري العربي الذي يثري الإن�سان للتحرك‬ ‫والعمل ب�شكل عفوي (= الذهنية) ‪ ،‬وهو ح�س يعمل من خالل �أربع‬ ‫قواعد‪)87(:‬‬ ‫‪ .1‬الت�صور الالهرمي للكون واملجتمع‪.‬‬ ‫‪ .2‬ال�ضعف يكمن يف االنفراد �أو اال�ستفراد‪.‬‬ ‫‪ .3‬القوة تكمن يف اجلماعة والتجمع‪� ،‬أو يف الإجماع واالجتماع‪.‬‬ ‫‪ .4‬الأولية يف التعامل والتفاعل بني الب�شر تعطي للتكتيك والقدرة على‬ ‫التحرك واملناورة‪.‬‬ ‫تعمل هذه القواعد عرب ا�سرتاتيجية ي�سميها اخلوري (الأول‬ ‫بني مت�ساوين) عرب هذه اال�سرتاتيجية يهيمن الواحد‪ .‬ما هي هذه‬ ‫اال�سرتاتيجية؟ وكيف تعمل؟‬ ‫تقوم هذه اال�سرتاتيجية على التفاعل مع العامل وك�أنه جمموعة‬ ‫من الإخوة والأخوات والأعمام والعمات والأخوال واخلاالت و�أبناء العم‪.‬‬ ‫كلهم مت�ساوون كحبات امل�سبحة و�أ�سنان امل�شط و�أحجار طاولة الزهر‪.‬‬ ‫ت�ستعمل �ألفاظ الن�سب واحل�سب لإقامة امل�ساواة بني النا�س‪ .‬العامل‬ ‫عائلة واحدة‪ ،‬عامل الدولة‪ ،‬عامل الطائفة‪ ،‬عامل امللة‪ ،‬عامل اجلماعة‪،‬‬ ‫عامل الإدارة‪ ،‬عامل اجلمعية‪ ،‬عامل القرية‪ ،‬عامل املدينة‪ ،‬عامل الدائرة‬ ‫االنتخابية‪ .‬وعامل العائلة الواحدة �أو البيت الواحد هو عامل امل�ساواة‪.‬‬ ‫‪87‬‬

‫ف�ؤاد ا�سحاق اخلوري‪ ،‬الذهنية العربية‪ :‬العنف �سيد الأحكام‪� ،‬ص‪.8‬‬

‫‪198‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:10‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 198‬‬


‫كيف ي�سعى املرء �أن يكون الأول بني مت�ساوين؟كيف ي�صبح‬ ‫�إمام ًا �أو �أمري ًا �أو باب ًا �أو حاكم ًا يف هذه العوامل؟‬ ‫عليه �أن يجعل من هذه العوامل عوامل جماعات‪� ،‬أفرادها �إخوة‬ ‫مت�ساوون‪ ،‬وهذه امل�ساواة هي عينها التي يفرت�ضها ال�سعي الحتالل‬ ‫املركز الأول بني مت�ساوين‪ .‬عليك �أن ت�ساوي الأفراد وتنزع خ�صو�صيتهم‬ ‫ومتايزهم وجتعلهم �صف ًا واحدا‪ ،‬وعليك �أن توهمهم ب�أنك ت�ساويهم‪.‬‬ ‫من يحاول �أن يهيمن‪ ،‬ليحتل املركز الأول بني قومه‪ ،‬ي�سعى �أن‬ ‫يكون قريبا منهم مت�ساويا معهم ويدافع عنهم ويحميهم‪ ،‬هو يف �آن معهم‬ ‫و�ضدهم وهذا م�صدر القلق‪.‬‬ ‫هذا امل�سعى املتناق�ض ‪-‬كما ي�صفه خوري‪� -‬أي �أن يكون الأول‬ ‫بني مت�ساوين‪ ،‬يفر�ض على املرء �أن يكون لينّ العريكة يت�أرجح بني هذا‬ ‫املوقع املهمني وذاك املوقع الأليف‪ ،‬و�أن ي�ساوي بني النا�س ثم ي�سعى �أن‬ ‫يكون �أولهم‪.‬هو ي�ساوي بني النا�س بالتق ّرب منهم ومعاملتهم وك�أنهم‬ ‫عائلة واحدة من الأن�ساب‪ .‬التق ّرب من النا�س طلب ًا للم�ساواة خطوة‬ ‫�أوىل لل�سعي وراء املركز الأول‪ .‬والقوة وال�سلطة ال ت�ستمد �إال عن طريق‬ ‫ال�سيطرة على املت�ساوين‪.‬‬ ‫املهم �أن نحتل املركز الأول بني مت�ساوين‪ ،‬نطلب امل�ساواة‬ ‫�سعي ًا وراء ال�سيطرة وال�سلطة‪ .‬عامل امل�ساواة هو عامل القربى العائلة‬ ‫الواحدة‪ ،‬الأمة الواحدة‪ ،‬كلما �أردنا �أن ن�سيطر ونهيمن ونتحكم يف عامل‬ ‫�أو يف حقل من احلقول االجتماعية‪ ،‬طابقناه بعامل العائلة‪ .‬فهو العامل‬ ‫الذي تبدو فيه ال�سلطة مربرة بـ"مقت�ضى الفطرة والهداية ال الفكرة‬ ‫وال�سيا�سة"(‪ )88‬كما يقول ابن خلدون‪ .‬هكذا تكون �أعراف احلقول‬ ‫االجتماعية وال�سيا�سية مربرة مبقت�ضيات الفطرة ال الفكرة والهداية‬ ‫‪88‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:10‬‬

‫ابن خلدون‪ ،‬مقدمة ابن خلدون‪� ،‬ص‪47.‬‬

‫‪199‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 199‬‬


‫الربانية ال ال�سيا�سة الإن�سانية‪.‬‬ ‫عامل ال�سيا�سة هو �أكرث العوامل ا�ستخدام ًا لعامل العائلة‪ ،‬وذلك‬ ‫لأنه يقوم على الهيمنة‪ ،‬هيمنة الواحد الأول بني مت�ساوين‪.‬كلما كرثت‬ ‫الإحالة يف اخلطاب ال�سيا�سي والإعالمي �إىل عامل العائلة تو�سعت‬ ‫�أ�شكال ح�ضور الهيمنة وتعددت مراوغاتها‪.‬‬ ‫يقول خطاب العائلة " �أعتقد �أن الغالبية تثق ثقة مطلقة يف‬ ‫حكوماتها‪ ،‬وتثق يف �أنها ترف�ض �أية ممار�سات ت�ضر ب�أوطانها من خالل‬ ‫التجاوزات �أو ا�ستغالل املال العام‪ ،‬بالتايل ف�إننا نتمنى �أن تكون احلكومات‬ ‫كرب الأ�سرة الذي يحا�سب �أع�ضاء �أ�سرته �إن �أخط�أوا ويعاقبهم عقابا‬ ‫�شديدا لو كان اخلط�أ �أحدث �ضررا ج�سيما بحق الأ�سرة الواحدة"(‪)89‬‬ ‫عامل العائلة‪ ،‬عامل الثقة واملحافظة على م�صالح الإخوة‬ ‫املت�ساويني يف عقوبة الإ�ضرار ب�أ�سرتهم �أو ا�ستغالل مالها �أو جتاوز‬ ‫م�صاحلها‪ ،‬وهو العامل الذي يحتاج �إىل رب يعاقب املت�ساوين عقاب ًا‬ ‫�شديدا كي يحمي عامل الأ�سرة من اخلط�أ‪ ،‬والرب حمل الثقة فهو يعا ِقب‬ ‫ويحا�سب‪ ،‬وال ُيعا َقب وال يتجاوز وال ي�ستغل مال الأ�سرة العام‪ .‬هكذا تكون‬ ‫الأ�سرة عامل امل�ساواة وعامل الربوبية وعامل اخلطيئة وعامل العقاب‪ ،‬فمن‬ ‫�أراد �أن يكون رب ًا وي�ساوي النا�س ويعاقبهم على خطيئتهم عقاب ًا �شديد ًا‬ ‫فعليه �أن يجعلهم عائلة واحدة‪.‬‬ ‫لي�س بني الرب واملت�ساوين يف عامل الأ�سرة منا�صب وتدرجات‬ ‫يتم على �أ�سا�سها توزيع ال�سلطة‪ ،‬فالرب يف �أ�سرته ومملكته ال يحتاج �إىل‬ ‫�سلطات تنازعه تفرده بال�سلطة �أو حتا�سبه وتراقبه‪� .‬إنه ال يحتاج �إىل‬ ‫منا�صب تقرتب من تفرده بـ(الأول)‪ .‬الب ّد �أن يتفرد هو وحده بالأول‪� ،‬أن‬ ‫يكون الأول بني مت�ساوين‪.‬الذي ي�صلك مرتبة الأول هو العائلة‪ ،‬والذي‬ ‫‪89‬‬

‫ن�صو�ص من ال�صحافة املحلية‪.‬‬

‫‪200‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:10‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 200‬‬


‫يجعل من الآخرين مت�ساوين يف دنوهم من مرتبتك العالية هو العائلة‪،‬‬ ‫والذي يجعل من هيمنتك َبدهية ال حتتاج �إىل م�ساءلة هو العائلة‪ .‬العائلة‬ ‫هي �أ�صل العامل‪ ،‬وال جماعة تخرج على هذا الأ�صل‪ ،‬لذلك كلنا من عائلة‬ ‫�آدم املبتالة‪.‬العائلة هي االبتالء‪ ،‬االبتالء بال�سلطة بالإرادة بالتحكم‬ ‫بالطاعة بالع�صيان بامل�ساواة باالختالف‪.‬‬ ‫كلما �أردنا �أن نقول ال�شيء و�ضده �أحلنا ال�شيء و�ضده (الأول‬ ‫واملت�ساوين) �إىل العائلة الأوىل �آدم وحواء‪.‬‬ ‫يقول خطاب القبيلة املوايل للأول بني مت�ساوين "وعبرَّ ت‬ ‫القبيلة عن ا�ستنكارها لكل ما ي�سيء بامل�صلحة الوطنية �أو يفرق بني‬ ‫جمتمع الأ�سرة الواحدة"(‪.)90‬‬ ‫ما يف�ضح حقيقة ما بني الأول واملت�ساوين‪ ،‬هو ما يهدد امل�صلحة‬ ‫الوطنية يف منطق القبيلة‪ ،‬ومنطق القبيلة املدافع عن الأ�سرة الواحدة ‪،‬‬ ‫هو نف�سه الذهنية العربية‪ ،‬وهو نف�سه احل�س الال�شعوري العربي‪ ،‬وهو‬ ‫نف�سه ما يثري الإن�سان العربي للتحرك والعمل‪ ،‬وهو نف�سه منطق القواعد‬ ‫الأربع التي هي عينها‪ :‬الأول بني مت�ساوين‪.‬‬ ‫وهو نف�سه منطق الأخوة الذي يهدد الدميوقراطية كما‬ ‫يحذرنا جاك دريدا يف كتابه «مارقون» ‪ «voyoucratie‬ال خطر‬ ‫على الدميوقراطية القادمة �إال من حيث يوجد الأخ‪ ،‬لي�ست بال�ضبط‬ ‫الأخوة كما نعرفها‪ ،‬ولكن حيث ت�صنع الأخوة القانون‪ ،‬وت�سود ديكتاتورية‬ ‫�سيا�سية با�سم الأخوة»(‪.)91‬‬ ‫دولة الأول‬ ‫يف املعاجم القانونية واالجتماعية وال�سيا�سية‪ ،‬الدولة هي جمموع‬ ‫‪90‬‬ ‫‪91‬‬

‫ن�صو�ص من ال�صحافة املحلية‪.‬‬ ‫انظر‪ :‬ع�صام عبداهلل‪ ،‬منطق ال�شبيه‪ ،‬موقع دروب‬ ‫‪http://www.doroob.com‬‬

‫‪201‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:10‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 201‬‬


‫امل�ؤ�س�سات والإدارات التي من خاللها ميار�س نظام حكم ما �سلطته على‬ ‫�أهل البلد يف �إطار بقعة جغرافية حمددة‪ .‬ال�شكل اخلارجي يقوم على �أن‬ ‫الدولة تت�ألف من عنا�صر ثالثة هي‪ :‬الإقليم (املرتبط مبفهوم ال�سيادة)‬ ‫وال�شعب (املرتبط بوالئه لهذه الدولة) وال�سلطة (القائمة على �أجهزة‬ ‫تنظم �أوجه احلياة كافة وت�ؤمن بع�ض اخلدمات للمواطنني)(‪.)92‬‬ ‫الدولة احلديثة هي م�ؤ�س�سة امل�ؤ�س�سات‪ ،‬وبح�سب تلوين النظام‬ ‫ال�سيا�سي الذي يحكم هذا البلد‪ ،‬ي�أتي تلوين امل�ؤ�س�سات‪ .‬لكن الدولة قبل‬ ‫�أن تكون جمموعة م�ؤ�س�سات‪ ،‬هي كما يعرفها املفكر املغربي عبداهلل‬ ‫العروي "عقالنية واجتماع" �أي �أن الدولة هي ال�شكل الأ�سمى لعقالنية‬ ‫املجتمع‪.‬‬ ‫و بح�سب عقالنية املجتمع الفرن�سي الثائر يف ‪1789‬م �أتت‬ ‫فكرة الدولة احلديثة‪.‬‬ ‫العقالنية �إذن هي التي حتكم‪ ،‬هي التي حتكم الدولة‪ ،‬وهي‬ ‫التي حتكم على الدولة‪ ،‬وهي التي حتاكم عليها الدولة‪� ،‬أي وفق معايري‬ ‫العقالنية ميكننا �أن نحاكم الدولة‪ ،‬وم�ساءلة الدولة هي م�ساءلة‬ ‫عقالنيتها‪.‬‬ ‫وبح�سب الفل�سفة اليونانية والإ�سالمية‪ ،‬ف�إن عقالنية الدولة‬ ‫هي عقالنية العقل العملي ال العقل النظري‪ ،‬والعقل العملي عقل ال يحكم‬ ‫بال�صح واخلط�أ وال�صدق والكذب واحلقيقي والباطل كما هو �أمر العقل‬ ‫النظري‪� ،‬إمنا يحكم باجليد والأح�سن والأف�ضل والأن�سب‪ ،‬مبعنى �أن‬ ‫معايري احلكم على الدولة لي�ست هي معايري ال�صح واخلط�أ وال�صدق‬ ‫والكذب‪ ،‬بل هي معايري الأف�ضل والأن�سب والأح�سن‪ .‬وهي معايري تدول‬ ‫كما الدولة تدول‪� ،‬أي تتغري وتتحول وتنتقل و ُتبلى‪.‬‬ ‫‪92‬‬

‫‪202‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:10‬‬

‫معجم امل�صطلحات االجتماعية‪ ،‬فريدرك معتوق‪� ،‬ص‪322.‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 202‬‬


‫وهذا يعني لي�س هناك دولة نظري ًا وال عملي ًا ف�ضلى‪ .‬ال دولة‬ ‫اليونان‪ ،‬وال دولة اخلالفة الرا�شدة‪ ،‬وال دولة الإمام علي‪ ،‬وال جمهورية‬ ‫�أفالطون‪ ،‬وال دولة املهدي‪ ،‬وال دولة البحرين وال مملكة البحرين‪،‬‬ ‫وال الدولة الإ�سالمية وال الدولة القطرية‪ ،‬وال الدولة القومية وال‬ ‫الإمرباطورية‪ ،‬وال اجلمهورية الإ�سالمية‪ ،‬وال الدولة العلمانية‪.‬‬ ‫وال الرايخ الثالث الذي �أطلقته النازية على �أملانيا فرتة والدة‬ ‫احلزب النازي الأملاين بقيادة "ادولف هتلر" وهو"رايخ الألف �سنة"‪،‬‬ ‫كما �أحب م�ؤ�س�سه (�أدولف هتلر) ان ي�س ّمية‪ ،‬كناية عن �صالحية ومتانة‬ ‫حزب �أدولف هتلر الذي �سيع ّمر ‪� 1000‬سنة وال اجلمهورية الثالثة التي‬ ‫�أ�صبحت فيها فرن�سا متلك امرباطورية ا�ستعمارية وا�سعة متتد من‬ ‫�إفريقيا �إىل �آ�سيا‪ .‬وال اجلمهورية اخلام�سة التي �أ�صبح فيه لفرن�سا عام‬ ‫‪ 1958‬نظام رئا�سي دميقراطي ينتخب فيه الرئي�س من قبل ال�شعب‬ ‫ويتمتع ب�صالحيات �أكرب‪.‬‬ ‫متثل كل دولة من هذه الدول جتربة لعقالنيتنا التي ندير بها‬ ‫اجتماعنا الإن�ساين‪ ،‬وهي جتربة ت�صل �إىل حد اجلنون الذي ال ميكن �أن‬ ‫ننكر عقالنيته مادام قد �ش َّكل دولة يف التاريخ‪ .‬ربط الدولة بالعقالنية‬ ‫يجعل منها جتربة قابلة للرت�شيد والتدويل‪ ،‬والرت�شيد ال يعني �أن الدولة‬ ‫التالية �أكرث ن�ضج ًا ور�شدا من الدولة ال�سابقة‪ ،‬بقدر ما يعني �أننا �سنكون‬ ‫�أكرث ر�شدا بفكرة الدولة نف�سها وعقالنيتها الن�سبية وجنونها املحتمل‪،‬‬ ‫والتدويل ال يعني �سقوط دولة وقيام دولة مكانها كما هو �أمر الدول التي‬ ‫�أرخ لعمرانها ابن خلدون‪ ،‬بقدر ما يعني �أن معايري الدولة العقالنية تبلى‬ ‫وتدول وحتل حملها ت�صورات عقالنية جديدة للدولة‪.‬‬ ‫من هنا علينا �أن نفهم ال�شكل اخلارجي للدولة بعنا�صره‬ ‫الثالثة الإقليم (املرتبط مبفهوم ال�سيادة) وال�شعب (املرتبط بوالئه‬ ‫‪203‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:10‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 203‬‬


‫لهذه الدولة) وال�سلطة (القائمة على �أجهزة تنظم �أوجه احلياة كافة‬ ‫وت�ؤمن بع�ض اخلدمات للمواطنني)‪ .‬فهم ًا عقالني ًا يجعلنا نحاكم الدولة‬ ‫بغايتها الق�صوى وهي احلرية‪ ،‬كما يقول �سبينوزا "�إن الغاية الق�صوى‬ ‫من ت�أ�سي�س الدولة لي�ست ال�سيادة‪� ،‬أو �إرهاب النا�س‪� ،‬أو جعلهم يقعون‬ ‫حتت نري الآخرين‪ ،‬بل هي حترير الإن�سان من اخلوف‪ ...‬فاحلرية هي‬ ‫�إذن الغاية احلقيقية من قيام الدولة"(‪.)93‬‬ ‫ال�سيادة على الأر�ض‪ ،‬ال ت�صنع وحدها دولة‪ ،‬فالدولة اجتماع‬ ‫�إن�ساين وعقالين‪ ،‬والإن�سان �إذا فقد ال�سيادة على عقله ب�أن يجعله‬ ‫مرجعيته يف �إدارة �ش�ؤونه‪ ،‬ال ميكنه �أن يقيم اجتماع ًا يف م�ستوى الدولة‪،‬‬ ‫فال�سيادة على الأر�ض من دون عقل يحرر روح الإن�سان‪ ،‬ي�صنع جماعة‬ ‫ب�سيطة ال جمتمع ًا مركب ًا‪ ،‬والدولة مبا هي م�ؤ�س�سة امل�ؤ�س�سات نظام‬ ‫مركب‪ ،‬فائق الرتكيب‪.‬‬ ‫الدولة وفق ا�سرتاتيجية (الأول بني مت�ساوين) تقوم على �سلطة‬ ‫ب�سيطة الأول فيها يهيمن على مت�ساوين يف دنوهم �أمامه ال �أمام القانون‪.‬‬ ‫يف حني �أن الدولة تقوم على نظام مركب‪ ،‬اجلميع مت�ساوون �أمام‬ ‫م�ؤ�س�سات القانون‪ .‬يف الدولة العقالنية الأول هو القانون ال ال�شخ�ص‪.‬‬ ‫يف الرتكيب نحتاج �إىل عقالنية فائقة‪ ،‬ويف التب�سيط نحتاج‬ ‫�إىل هيمنة فائقة‪ .‬بالتب�سيط نهيمن وبالرتكيب نعقلن‪.‬عقالنية عنا�صر‬ ‫الدولة الثالثة مهددة دوما بهيمنة الأول‪ ،‬متى هيمن الأول فقدت الدولة‬ ‫�أر�ضها و�صارت �أر�ض للأول‪ ،‬وفقدت والءها و�صار والء للأول‪ ،‬وفقدت‬ ‫�سلطتها و�صارت ت�سلط ًا للأول‪.‬‬ ‫�سيادة الأول‪ /‬ال�شخ�ص جتعل من ال�شعب �أر�ضا م�ستوية ويتحول‬ ‫الوالء من الوالء �إىل الأر�ض وم�ؤ�س�سة م�ؤ�س�ساتها (= الدولة) �إىل الوالء‬ ‫‪93‬‬

‫‪204‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:10‬‬

‫معجم امل�صطلحات وال�شواهد‪ ،‬جالل الدين �سعيد‪.‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 204‬‬


‫�إىل الأول الذي هو �أبو الأر�ض و�أبو م�ؤ�س�ستها و�أبو م�ؤ�س�سة م�ؤ�س�ساتها‪.‬‬ ‫بهذه ال�سيادة يكون الوالء �إىل الأب رب العائلة‪.‬‬ ‫وال�سلطة هنا ال تنظم �أوجه احلياة‪ ،‬بل تنظم �أوجه الهيمنة على‬ ‫احلياة‪ ،‬وت�ؤمن مواطنني م�ؤمنني بالأب و�سلطته املطلقة‪� ،‬إنهم املوالون‪.‬‬ ‫العقالنية التي ي�سود بها الأول ال ت�صنع دولة‪ ،‬وال اجتماع ًا‪ ،‬لأنها‬ ‫تربط الإن�سان عمودي ًا (ن�سبه ودمه وتاريخه وع�صبته وطائفته وقبيلته)‬ ‫ال �أفقي ًا ( �أفكاره وجمعيته وحزبه ومهنته وبرناجمه واجتاهه وتياره)‪.‬‬ ‫�إنها عقالنية الت�شطري العمودي‪ ،‬وهذه العقالنية ال تنجز دولة‪.‬‬ ‫با�سم ال�سيادة‪ ،‬ينجز الأول هيمنته على كل �شيء يف الدولة‪،‬‬ ‫وي�سلب منها كل �شيء‪� ،‬إنها ال�سيادة املطلقة‪ ،‬والدولة عالقة اجتماع‬ ‫من�سوبة �إىل �أر�ض و�شعب و�سلطة‪ ،‬واليوم تت�سع ن�سبتها �إىل احلد الذي‬ ‫يفقدها هيمنتها حتى على الأر�ض‪ .‬لذلك فال�سيادة املطلقة ال تن�شئ‬ ‫دولة‪ ،‬بل تن�شئ دكتاتورية‪ ،‬ال�سيادة املن�سوبة �سيادة ن�سبية‪ ،‬لأنها تتحدد‬ ‫لي�س بالأول كما هو �أمر ال�سيادة املطلقة‪ ،‬بل تتحدد باالجتماع (ال�شعب)‬ ‫وم�ؤ�س�ساته املركبة‪.‬‬ ‫وفق ا�سرتاتيجية (الأول بني مت�ساوين) الدولة لي�ست عقالنية‬ ‫املجتمع‪ ،‬بل هي م�صلحة الأول و�سلطة الأول و�سيادة الأول وعقل الأول‬ ‫واجتماع العنا�صر الثالثة يف الأول وجتليه فيها‪.‬‬ ‫دولة مكارم الأخالق‬ ‫كما �أن "جتربة احلرية حتمل يف ط ّياتها جتربة الدولة‪...‬‬ ‫والتفكري يف احلرية هو بالأ�سا�س تفكري يف الدولة واملجتمع"(‪)94‬كذلك‬ ‫جتربة الأخالق حتمل يف ط ّياتها جتربة الدولة‪ ،‬والتفكري يف الأخالق هو‬ ‫‪94‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:10‬‬

‫مفهوم الدولة‪ ،‬عبداهلل العروي‪� ،‬ص‪145,‬‬

‫‪205‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 205‬‬


‫تفكري يف الدولة واملجتمع‪ ،‬والدولة تكت�سب �صفة "مربية املربني" لأنها‬ ‫حتمل م�شروع تربية و�أخالق و�أدب‪ ،‬وهذا اجلانب يجعل من الدولة لي�س‬ ‫جمرد جهاز �أو �أداة بل جتربة تربية وتعقل‪.‬‬ ‫احلرية خارج الدولة طوبى‪ ،‬كذلك الأخالق خارج الدولة‬ ‫طوبى‪ ،‬طوبى ميكن �أن يخرج �إليها الفرد نافر ًا‪ ،‬لكنها ال ميكن �أن تكون‬ ‫جتربة اجتماعية‪ ،‬لذلك دائما ما يكون الباحث عن احلرية والأخالق يف‬ ‫دولنا �شاذ ًا يف املجتمع وهارب ًا ومطارد ًا يف الدولة‪.‬‬ ‫تتفاوت الدول بتفاوت جتاربها الأخالقية‪ ،‬كل جتربة �أخالقية‬ ‫حتمل يف طياتها جتربة دولة‪ ،‬وكل مفهوم للدولة يحمل يف طياته‬ ‫مفهوم ًا للأخالق‪ ،‬حتى �إن هيجل جعل من الدولة الفكرة الأخالقية �إذ‬ ‫تتحقق "الدولة هي الفكرة الأخالقية املو�ضوعية‪� ،‬إذ تتحقق‪ ،‬هي الروح‬ ‫الأخالقية ب�صفتها �إرادة جوهرية تتجلى وا�ضحة لذاتها‪ ،‬تعرف ذاتها‬ ‫وتفكر بذاتها وتنجز ما تعرف لأنها تعرفه"(‪)95‬‬ ‫الدولة ال�سلطانية مث ًال هي نف�سها الآداب (الأخالق)‬ ‫ال�سلطانية‪� ،‬إذ حتققت يف دولة مثل‪ :‬الدولة العبا�سية‪ ،‬والدولة الفاطمية‪،‬‬ ‫والدولة احلمدانية‪ ،‬وغريها من الدول يف التجربة الإ�سالمية‪ ،‬والآداب‬ ‫ال�سلطانية هي كتابات تقوم يف �أ�سا�سها على مبد�أ ن�صيحة �أويل الأمر‬ ‫يف ت�سيري �ش�ؤون �سلطتهم‪� ،‬إذ تت�ضمن كل موادها جمموعة من الن�صائح‬ ‫الأخالقية والقواعد ال�سلوكية الواجب على احلاكم اتباعها‪ ،‬بدء ًا مما‬ ‫يجب �أن يكون عليه يف �شخ�صه �إىل طرق التعامل مع رعيته مرور ًا بكيفية‬ ‫اختيار خ ّدامه واختبارهم و�سلوكه مع �أعدائه(‪.)96‬‬ ‫ �أخالق الدولة وفق الآداب ال�سلطانية‪ ،‬هي �أخالق ال�سلطان‬ ‫‪95‬‬ ‫‪96‬‬ ‫�ص‪9.‬‬

‫املرجع نف�سه‪� ،‬ص‪25.‬‬

‫الآداب ال�سلطانية‪ :‬درا�سة يف بنية وثوابت اخلطاب ال�سيا�سي‪ ،‬عز الدين العالم‪،‬‬

‫‪206‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:11‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 206‬‬


‫نف�سه‪ ،‬و�أفقها الأخالقي م�ستمد من �أفق هذه الآداب‪ ،‬لذلك ف�أزمتها‬ ‫الأخالقية م�ستمدة من �أزمة هذا الآداب‪ ،‬وهي نف�سها �أزمة (الأول بني‬ ‫مت�ساوين)‪.‬‬ ‫الدولة ال�سلطانية لن تكون �أخالقها �شيئ ًا �آخر غري �أخالق هذه‬ ‫الآداب‪ ،‬والآداب بح�سب مفهوم القرون الو�سطى ت�شمل الأخالق‪ ،‬وتقوم‬ ‫هذه الأخالق على مفهوم رعاية ال�سلطان لرعيته‪ ،‬فال�سلطان الراعي‬ ‫رب الدولة‪ ،‬يربي رعيته ويرعاها ب�آدابه ال�سلطانية‪ ،‬ومل تكن الأدبيات‬ ‫ال�سيا�سية كالفخري يف الآداب ال�سلطانية البن الطقطقي‪ ،‬والأحكام‬ ‫ال�سلطانية والواليات الدينية للماوردي‪ ،‬بدائع ال�سلك يف طبائع امللك‪،‬‬ ‫البن الأزرق ‪ ،‬واجلوهر النفي�س يف �سيا�سة الرئي�س البن احلداد‪ ،‬والتاج‬ ‫يف �أخالق امللوك للجاحظ‪ ،‬و�سراج امللوك للطرطو�ش‪ .‬يف ح�ضارتنا‪ ،‬مل‬ ‫تكن هذه الأدبيات �شيئ ًا �آخر غري هذه الآداب ال�سلطانية‪ ،‬لقد �صيغت‬ ‫هذه الآداب يف �شكل مفاهيم �سيا�سية‪� ،‬صارت متار�س فاعليتها ال�سيا�سية‬ ‫بقوة الأخالق التي حتملها‪.‬‬ ‫(مكارم الأخالق) مثال وهو �أحد هذه املفاهيم‪ ،‬مفهوم‬ ‫�سيا�سي بقدر ما هو مفهوم �أخالقي وهو مفهوم يحدد وظيفة الدولة‬ ‫برعاية الأخالق الكرمية يف نفو�س الرعية‪ ،‬وقد ظل هذا املفهوم يتحكم‬ ‫يف فكرة الدولة املثالية التي كان يحلم بها الفقهاء يف ظل غياب اخلالفة‬ ‫النموذجية الرا�شدة التي انتهت مع ع�صر اخللفاء الرا�شدين‪ ،‬مع‬ ‫حتول "مكارم الأخالق" �إىل مفهوم طوباوي �صارت هذه املكارم ت�أخذ‬ ‫معان‪ ،‬فهي كل ما نن�سبه �إىل ال�شرع من ف�ضائل‪ ،‬وهي الت�صورات‬ ‫عدة ٍ‬ ‫النموذجية التي نحملها عن (�أول الأمة) وهي �أق�صى احلاالت املثالية‬ ‫التي يتخلى فيها الإن�سان عن دنياه ويعي�ش من �أجل �آخرته‪� ،‬أو يجعل‬ ‫من دنياه حمطة عبور لآخرته‪ .‬وهي ما يناق�ض الواقع الذي ال يكون‬ ‫‪207‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:11‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 207‬‬


‫�إال فا�سد ًا‪ ،‬وهي ما يحمله الفقهاء من ت�صورات واحرتازات يكون فيها‬ ‫الفرد متطابقا مع ال�شريعة‪ .‬ولعل مفهوم الدولة الإ�سالمية الذي ما زال‬ ‫يحمله الإ�سالم ال�سيا�سي هو نف�سه دولة مكارم الأخالق‬ ‫(مكارم الأخالق) هي غاية الغايات‪ ،‬وهي ما نن�شئ من �أجله‬ ‫الدولة‪ ،‬الدولة لي�ست غاية يف ذاتها‪� ،‬إمنا هي و�سيلة لتحقيق الأخالق‬ ‫التي تعرب بنا �إىل الآخرة‪( .‬مكارم الأخالق) هي ما تربيه الدولة مربية‬ ‫املربني‪ ،‬وهي ما يجب �أن يكون عليه املربي ويل الأمر‪ ،‬وهو ما يعبرّ عنه‬ ‫م�صطلح (والة الأمر) الرائج‪.‬‬ ‫ميدان الأخالق هو ميدان �صراع الإن�سان مع نف�سه وغرائزه‬ ‫وعقله وج�سده وحميطه وما فيه من �إرادات وموجودات‪.‬كيف يتخلق‬ ‫الإن�سان يف �صراعه هذا؟ ماذا يجب عليه �أن يفعل؟ كيف يدير ذاته؟‬ ‫نحن نت� ّصور الدولة وفق ت�صورنا جلواب هذه الأ�سئلة‪.‬‬ ‫املربية (الدولة) التي تريد من الإن�سان �أن ينت�صر على غرائزه‬ ‫وج�سده ويزهد يف هذه احلياة‪ ،‬ويعمل من �أجل الآخرة‪ ،‬تربي فيه دولة‬ ‫غايتها لي�س الدولة بل الال دولة‪ ،‬حيث الإن�سان يف �أق�صى حالته املثالية‬ ‫املتجردة من كل �شيء‪ ،‬ال �شيء يت�صارع فيه‪ ،‬من ثم ال حاجة �إىل دولة‪.‬‬ ‫دولة (مكارم الأخالق) هي م�شروع الال دولة‪ ،‬لأنها تنزع‬ ‫بالإن�سان عن �ساحات ال�صراع‪ ،‬حيث الدولة‪ .‬تتجلى الدولة فيها يف‬ ‫�إ�صالح الإن�سان الفرد كي ي�صل �إىل حالة اال�ستغناء عن الدولة‪ ،‬هي‬ ‫دولة تخاطب الفرد كي يتخل�ص من احلالة التي جتعله يف حاجة �إىل‬ ‫دولة‪� .‬إ�صالح الدولة بح�سب مكارم الأخالق هو �إ�صالح لرباجمها التي‬ ‫تربي بها الفرد‪ ،‬ولي�س �إ�صالح لفكرتها �أو وظيفتها �أو �إدارتها �أو �سيا�ستها‬ ‫�أو نظريتها‪ .‬دولة مكارم الأخالق م�شغولة مبن يحكم‪ ،‬م�شغولة بغاية‬ ‫الغايات‪ ،‬م�شغولة بالطوبى‪ ،‬م�شغولة ب�أخالق احلاكم ومكارمها‪ ،‬ولي�ست‬ ‫‪208‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:11‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 208‬‬


‫م�شغولة بكيف يحكم و�أخالقيات احلكم نف�سه‪.‬‬ ‫الدولة عند ابن خلدون تتجاوز هذه الدولة‪ ،‬لذلك ال يع ّول �أبد ًا‬ ‫على �إمكانية �إ�صالح الدولة‪ ،‬فهي دولة لها دورتها الدائرية ومتوت كما‬ ‫الإن�سان‪ ،‬وتعيد �سريتها الأوىل بجماعة �أخرى "فاملا�ضي �أ�شبه بالآتي من‬ ‫املاء باملاء"(‪ .)97‬الدولة الآنية ت�شبه الدولة املا�ضية من حيث خ�ضوعها‬ ‫لقوانني الواقع وعوائده‪ ،‬وهذه النظرة الت�شا�ؤمية لفرط واقعيتها‪ ،‬مبنية‬ ‫على مبد�أ �أخالقي يرى فيه ابن خلدون الإن�سان ابن عوائده "و�أ�صله �إن‬ ‫الإن�سان ابن عوائده وم�ألوفه ال ابن طبيعته ومزاجه"(‪.)98‬‬ ‫ابن خلدون ال يخاطب مكارم الأخالق يف الفرد‪ ،‬بل �إنه‬ ‫ال يخاطب الفرد �أ�صال‪� ،‬إنه ين�صت �إىل م�ألوفات الفرد حني يجتمع‬ ‫وعوائده‪ ،‬وبهذا الإن�صات يفهم طبيعة الدولة و�أخالقياتها مبا هي‬ ‫�أخالقيات ت�ستجيب لـ "�أ�صول العادة وقواعد ال�سيا�سة وطبيعة العمران‬ ‫والأحوال يف االجتماع الإن�ساين"(‪.)99‬‬ ‫هكذا الدولة تدير امل�ألوفات والعوائد‪ ،‬وت�ستجيب هي نف�سها‬ ‫لها‪ ،‬كما ي�ستجيب املاء لقواعد املاء الذي ي�شبهه‪.‬وماء الدولة �أو ماء‬ ‫الإن�سان لي�ست هي �إرادته الداخلية‪ ،‬بل �إرادة القواعد اخلارجية التي‬ ‫حتكم ال�سياق االجتماعي والتاريخي الذي يعي�ش فيه‪ .‬الإن�سان الأخالقي‬ ‫لي�س هو ذلك الذي تخيله الفال�سفة على جهة الفر�ض والتقدير كما‬ ‫يقول ابن خلدون‪ ،‬لكنه ذلك الذي خلق يف احلياة لي�صارع"(‪.)100‬‬ ‫دولة مكارم الأخالق‪ ،‬لي�ست دولة جمتمع‪ ،‬بل دولة فرد‪ ،‬لذلك‬ ‫هي ال دولة‪ ،‬هي طوبى‪� ،‬إذ �إن الفرد ي�شكل طوبى وال ي�شكل دولة‪ ،‬فاملجتمع‬ ‫هو الذي ي�شكل دولة‪.‬‬ ‫‪97‬‬ ‫‪98‬‬ ‫‪99‬‬ ‫‪100‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:11‬‬

‫ابن خلدون‪ ،‬مقدمة ابن خلدون‪� ،‬ص‪17.‬‬ ‫املرجع نف�سه‪� ،‬ص‪119.‬‬ ‫ااملرجع نف�سه‪� ،‬ص‪16.‬‬

‫الفكر الأخالقي عند ابن خلدون‪ ،‬عبداهلل �شريط‪� ،‬ص‪11.‬‬

‫‪209‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 209‬‬


‫دولة الأب‬ ‫يقول(نوبو�أكي نوتوهارا) �أ�ستاذ الأدب العربي يف جامعة طوكيو‬ ‫ومرتجم الكثري من الأعمال الأدبية العربية �إىل لغته الأم اليابانية‪،‬‬ ‫يف كتابه (العرب وجهة نظر يابانية)‪�" :‬إن احلاكم العربي يخاطب‬ ‫ال�شعب بكلمة‪ ،‬يا �أبنائي وبناتي‪ .‬عندنا نعترب هذه الكلمة �إهانة بالغة‬ ‫�إذا ا�ستعملها م�س�ؤول مهما كان كبري ًا‪ ،‬نحن ال نقبل بهذه ال�صيغة‪ ،‬نحن‬ ‫نقول لرئي�س الوزراء �أنت حر يف بيتك‪ ،‬ولكن خارج البيت نحن ال ن�سمح‬ ‫لك‪ .‬نحن نعرف �أن مكانة الأب �شبه مقد�سة يف البلدان العربية داخل‬ ‫الأ�سرة ا�ستناد ًا �إىل الدين والأعراف والأو�ضاع االجتماعية التقليدية‪،‬‬ ‫ولذلك فالأب خارج البيت رجل �آخر"‪.‬‬ ‫جماز البيت والأب والأ�سرة يحيل �إىل التدبري املنزيل‪ ،‬وتلك‬ ‫�سيا�سة اخلا�ص‪� ،‬أما �سيا�سة العام فتحيل �إىل تدبري املدينة واملجتمع‬ ‫والدولة‪.‬وال�سيا�سة مبعناها العام هي ممار�سة العام‪ ،‬العام الذي يقع‬ ‫خارج الأ�سرة والبيت والدم والأبوة والبنوة‪.‬هل نحن منار�س العام؟‬ ‫ال�سيا�سة لدينا هي ممار�سة اخلا�ص‪.‬هذا ما تقوله وجهة نظر (نوتوهارا)‬ ‫اليابانية‪ ،‬وهذا ما تف�ضحه جمازات وا�ستعارات وت�شبيهات اخلطاب‬ ‫ال�سيا�سي احلاكم‪ .‬وهنا �أنا �أ�ستخدم اخلطاب ال�سيا�سي احلاكم‪ ،‬ولي�س‬ ‫اخلطاب ال�سيا�سي للحاكم‪ .‬ما الفرق بينهما؟‬ ‫الأول ي�شري �إىل عموم اخلطاب الذي يحكم ال�سيا�سية العربية‪،‬‬ ‫والثاين ي�شري �إىل اخلطاب اخلا�ص للحاكم العربي‪ ،‬ور�ؤية (نوتوهارا)‬ ‫ت�شري �إىل الثاين‪ ،‬و�أنا �أعمم �إ�شارته �إىل ما يتجاوز خطاب احلاكم‬ ‫العربي‪ ،‬بل �إن خطاب هذا احلاكم هو جزء من هذا اخلطاب العام‪،‬‬ ‫‪210‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:11‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 210‬‬


‫و�إذا كانت احلكمة العربية تقول "كما تكونوا يول عليكم" ف�إننا ميكننا‬ ‫�أن نقول كما يكون خطابكم يكون خطاب من يتوىل عليكم‪ .‬فخطاب‬ ‫اليابانيني يقول للحاكم �أنت ل�ست يف بيتك وال ن�سمح لك �أن تخاطبنا‬ ‫بخطاب البيت والأ�سرة والأبناء‪ .‬فيكون خطاب من يتوىل عليهم وفق‬ ‫�إرادة خطابهم‪ .‬ونحن نقول للحاكم‪ ،‬الوطن بيتكم ونحن �أ�سرتك‪،‬‬ ‫ون�سمح لك �أن تخاطبنا بخطاب الأبناء والبيت املفتوحة �أبوابه‪.‬‬ ‫وهذه عينة مما نقوله يف �صحافتنا اليومية "�أعتقد �أن الغالبية‬ ‫تثق ثقة مطلقة يف حكوماتها‪ ،‬وتثق يف �أنها ترف�ض �أية ممار�سات ت�ضر‬ ‫ب�أوطانها من خالل التجاوزات �أو ا�ستغالل املال العام‪ ،‬بالتايل ف�إننا‬ ‫نتمنى �أن تكون احلكومات كرب الأ�سرة الذي يحا�سب �أع�ضاء �أ�سرته �إن‬ ‫�أخط�أوا ويعاقبهم عقابا �شديدا لو كان اخلط�أ �أحدث �ضررا ج�سيما بحق‬ ‫الأ�سرة الواحدة"‬ ‫حني يتوىل علينا هذا اخلطاب‪ ،‬ينغلق العموم‪ ،‬وي�صري ف�ضاء‬ ‫ال�سيا�سة مغلق ًا يف حدود البيت‪ّ .‬‬ ‫فيكف اخلطاب عن ممار�سة العموم‪،‬‬ ‫ملمار�سة اخل�صو�ص‪.‬فيكون اخلطاب ال�سيا�سي خطابا عائلي ًا وتكون‬ ‫ممار�سته ممار�سة عائلية‪ ،‬فت�ضيق �ساحة تداوله‪ ،‬وي�ضيق جمتمعه‪ ،‬لأن‬ ‫املجتمع يت�سع بات�ساع �ساحة التداول العامة‪.‬‬ ‫اخلطاب ال�سيا�سي العائلي ال ُين�شيء �ساحة تداول عامة‪ ،‬ولي�س‬ ‫فيه جمال حر م�شرتك ملختلف املواطنني وال ف�ضاء عمومي‪ ،‬فكل ما‬ ‫فيه يحيل �إىل الغرف‪� ،‬إىل غرف البيت التي ال تت�سع �إال �إىل املجتمع‬ ‫اخلا�ص‪.‬‬ ‫املجتمع العام ال ميار�س حقه يف الغرف املغلقة التي هي غرف‬ ‫البيت‪ ،‬هو ميار�س حقه واحتجاجه واختالفه يف �ساحات احلرية العامة‪،‬‬ ‫وغرف البيت حتى لو �صارت بالطات ق�صور كبرية‪ ،‬ف�إنها ال ميكنها �أن‬ ‫‪211‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:11‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 211‬‬


‫تكون �ساحات ملمار�سة العموم‪ ،‬حتى لو كانت م�ساحة جغرافيتها �ضعف‬ ‫م�ساحة جغرافيا �ساحات املدينة العامة‪.‬‬ ‫على هذا النحو ت�ستحيل املمار�سة ال�سيا�سية‪ ،‬ممار�سة مقد�سة‪،‬‬ ‫لأنها ت�ستح�ضر �أعراف الأب املقد�س يف الثقافة العربية‪ ،‬ولعل هذا ما‬ ‫عناه (نوتوهارا) " نحن نعرف �أن مكانة الأب �شبه مقد�سة يف البلدان‬ ‫العربية داخل الأ�سرة ا�ستناد ًا �إىل الدين والأعراف والأو�ضاع االجتماعية‬ ‫التقليدية‪ ،‬ولذلك فالأب خارج البيت رجل �آخر"‪ ،‬فهو قد جت َّول �أربعني‬ ‫عام ًا يف هذه الثقافة‪ ،‬وخرب مكانة الأب �شبه املقد�سة �أو لنقل مكانة الأب‬ ‫ال�سماوية‪ ،‬كما �أنه خرب الأر�ض العربية بت�ضاري�سها املختلفة‪.‬‬ ‫ �إنّ اخلطاب ال�سيا�سي للحاكم �أو للمعار�ضة �أو للنا�شطني‬ ‫يف احلقل املدين‪ ،‬حني يبني ممار�سته اخلطابية على ا�ستعارات الأب‬ ‫والأخ والعائلة‪ ،‬ف�إنه يحيل ممار�سته الدنيوية �إىل ممار�سة �شبه غيبية‪،‬‬ ‫ال حتكمها قوانني الأر�ض‪ ،‬بقدر ما حتكمها �أعراف ال�سماء‪.‬هنا ت�ضيق‬ ‫الأر�ض وتت�سع ال�سماء‪ ،‬في�ضيق ف�ضاء التحرك احلر للمواطن الذي‬ ‫ينتمي �إىل الأر�ض ال �إىل ال�سماء‪ .‬بقدر ما يكون اخلطاب ينتمي �إىل‬ ‫الأر�ض‪ ،‬ف�إنه يقرتب من موطن الإن�سان‪ ،‬لأن موطن الإن�سان الأر�ض‬ ‫املكد�سة بالأخطاء ال ال�سماء املقد�سة بالف�ضائل‪.‬‬ ‫لي�س خطاب الدين وحده من يحيل ممار�سة ال�سيا�سي �إىل‬ ‫ال�سماء‪ ،‬بل حتى خطاب العائلة والقبيلة واحلزب‪ ،‬يفعل ذلك‪ ،‬لأن‬ ‫ال�سماء املق�صودة هنا لي�ست هي ال�سماء املر�صعة بالنجوم‪ ،‬بل املر�صعة‬ ‫بالتقدي�س‪ .‬البيت بالن�سبة �إىل الأب العربي‪ ،‬هو �سماء �أخرى‪ ،‬لأن البيت‬ ‫حا�ضنته املقد�سة‪ .‬وحني يقع الأب العربي خارج البيت‪ ،‬يكون ك�أنه قد‬ ‫�سقط من ال�سماء‪.‬و�صار مي�شي يف الأر�ض من غري هالة تقدي�س‪.‬‬ ‫وهذا ما يعنيه (نوتوهارا) بقوله"فالأب خارج البيت رجل‬ ‫‪212‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:11‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 212‬‬


‫�آخر"‪ .‬ممار�س اخلطاب ال�سيا�سي ال يريد �أن ميار�س �سيا�سته خارج‬ ‫البيت‪ ،‬كي ال يكون هذا الرجل الآخر الذي يفقد قد�سيته‪.‬لذلك يظل‬ ‫يحيل �إىل هذه ال�سماء (البيت والعائلة) كي متنحه مكانته املقد�سة التي‬ ‫فيها يجد �شرعيته‪�.‬أما خارج البيت فال �شرعية له‪.‬يكون َ�سقْط ًا‪.‬‬ ‫"نحن نقول لرئي�س الوزراء �أنت حر يف بيتك ولكن خارج‬ ‫البيت نحن ال ن�سمح لك" يف البيت ال يجد الأب من يقول له‪ :‬ال ن�سمح‬ ‫لك‪ .‬ال مكان يف البيت للمعار�ضة‪ ،‬فاملكانة كل املكانة للتقدي�س‪ .‬لذلك‬ ‫يريد الرئي�س �أن ي�أخذ معه البيت �إىل اخلارج‪ ،‬وهو هنا ال ي�أخذ البيت‬ ‫مبعناه الفيزيائي‪ ،‬بل ي�أخذه مبعناه املجازي‪� ،‬أي ي�أخذ مكانته املقد�سة‬ ‫فيه‪ ،‬وي�أخذ موقعه الآمر فيه‪ ،‬وي�أخذ تفرده فيه‪ ،‬تفرده الذي ال يقبل‬ ‫االعرتا�ض عليه‪�.‬إنه ي�أخذ كل ذلك كي يحتوي به العام الذي هو مكان‬ ‫ممار�سة ال�سيا�سية‪ ،‬في�صري هذا العام بيت ًا �آخر و�سماء �أخرى ومكانة‬ ‫مقد�سة‪.‬‬ ‫بهذا االحتواء‪ ،‬ن�صبح نحن يف بيته و�سمائه ومكانته‪ ،‬فنفقد‬ ‫�أر�ضنا ومواطنيتنا التي ت�سمح لنا �أن نقول له‪ :‬ال ن�سمح لك‪ .‬ي�صبح هو‬ ‫يف بيته‪ ،‬ليقول لنا‪ :‬ال �أ�سمح لكم‪� .‬إنه يقول ذلك با�سم البيت احلاكم‪.‬‬ ‫حينئذ ال يكون �أمامنا �إال الطاعة‪ ،‬الطاعة اخلا�صة لرب البيت‪ ،‬ال الطاعة‬ ‫العامة للقانون العام الذي يحكم خارج البيت‪.‬‬ ‫و�إذا كنا كلنا حمكومني بهذا البيت‪ ،‬ف�إننا لن ن�ستطيع �أن نقول‬ ‫له‪ :‬ال ن�سمح لك �أن تكون �أب ًا‪ .‬ف�أنت �أبونا الذي تق ّد�س يف ال�سماء‪.‬‬

‫‪213‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:11‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 213‬‬


‫الدولة والتمثيل‬ ‫"�إن �إرادة وزير كفيلة بن�سف �إرادة ‪40‬ع�ضو ًا ميثلون ال�شعب ونطالب‬ ‫احلكومة بالتعاون" عبداهلل الدو�سري‪ ،‬نائب برملاين من�سوف‪.‬‬ ‫ما الذي ين�سف �إرادة ممثلي ال�شعب؟ من الذي ين�سف �إرادة‬ ‫ممثلي ال�شعب؟ ما الذي يجعل من هذا النائب نائب ًا من�سوف ًا؟‬ ‫الدميقراطية بكل تلويناتها ترتد يف النهاية �إىل االحتكام‬ ‫�إىل ال�شعب وذلك باالمتثال �إىل �إرادته‪ ،‬وتفقد الدميقراطية وجودها‬ ‫مبجرد �أن تكون هذه الإرادة معر�ضة للن�سف �أو �أن يكون ممثل هذه‬ ‫الإرادة معر�ض ًا للن�سف‪� .‬إذا كان الأمر كذلك‪ ،‬فهل ميكن �أن تكون لدينا‬ ‫دميقراطية �إذا ما كانت �إرادة ‪40‬ع�ضو ًا ميثلون ال�شعب من�سوفة ب�إرادة‬ ‫وزير واحد؟!‬ ‫ �أي ًا كان الأمر‪� ،‬سواء �أخذنا كالم النائب على حممل التهويل‬ ‫�أو على حممل التقرير‪ ،‬ف�إن يف �إرادة التمثيل �شك ما يف جتربتنا‬ ‫الدميقراطية‪ ،‬وهو �شك يربره �أمر يف غاية الأهمية‪ ،‬وهو �أن التمثيل‬ ‫جتربة يف فهم الدميقراطية وممار�ستها وتاريخها‪.‬‬ ‫مبعنى �أن التمثيل ال ميكن �أن يكون مكتم ًال وحقيقي ًا‬ ‫ومعرب ًا وعاد ًال متام ًا‪ ،‬فهو جتربة ب�شرية تخو�ضها املجتمعات وحتقق‬ ‫فيها �إجنازات متفاوتة‪ ،‬ففي التجربة الأثينية التي هي مبثابة �آدم‬ ‫الدميقراطية‪ ،‬و�أعني بهذا التعبري املجازي املركب (�آدم الدميقراطية)‬ ‫�أننا حني نبحث عن �أ�صل الإن�سان �أو تاريخه �أو تطوره نرجع �إىل �آدم‪،‬‬ ‫كذلك حني نبحث عن �أ�صل الدميقراطية �أو تاريخها �أو تطورها نرجع‬ ‫�إىل �أثينا يف الت�أريخ النبثاق الدميقراطية‪ ،‬يف هذه التجربة مل يكن‬ ‫‪214‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:11‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 214‬‬


‫متاح ًا للن�ساء وال لغري الأثينيني ممن ينتمون �إىل املدن الأخرى املتناف�سة‬ ‫واملت�صارعة وال للعبيد اململوكني للأحرار الذين كانت �أعدادهم كبرية‬ ‫جد ًا �أن ميثلهم برملان �أثينا‪ .‬ويف دول �أوروبا والواليات املتحدة‪ ،‬مل تكن‬ ‫جتربة التمثيل قد ا�ستوعبت بعد املر�أة �إال يف القرن الع�شرين بني العامني‬ ‫‪ 1906‬و‪.1921‬‬ ‫يبقى التحدي اجلوهري للدميقراطية يتمثل يف قدرتها على‬ ‫متثيل الإرادة ال متثيل ال�شخ�ص فقط‪ ،‬فتمثيل �إرادة املر�أة مث ًال لي�س هو‬ ‫نف�سه متثيل املر�أة‪ ،‬فالإرادة هي �صوت الإن�سان احلقيقي الذي به ينطق‪،‬‬ ‫وحني تكون هذه الإرادة من�سوفة ب�إرادة ال متثل ال�شعب‪ ،‬يجب علينا �أن‬ ‫ن�شك يف قوتها التمثيلية‪ ،‬فبهذه القوة تقا�س التجارب الدميقراطية‪.‬‬ ‫ما هو التمثيل‬ ‫هو الالمبا�شرة‪ .‬حني ال ميكنك �أن حت�ضر البقرة �إىل‬ ‫ال�صف لرياها الأطفال مبا�شرة‪ ،‬حت�ضر �صورتها‪ .‬فال�صورة متثيل‪.‬‬ ‫وحني ال ميكنك �أن تري �شخ�ص ًا ما يدور يف قلبك وعقلك و�إرادتك‪،‬‬ ‫ت�ستخدم كلمات‪ .‬فالكلمات متثيل‪ .‬وحني ال ميكن ‪ 159133‬مواطن ًا يف‬ ‫املحافظة ال�شمالية �أن يح�ضروا ملجل�س النواب يف املنامة‪� ،‬أو ال ميكن‬ ‫‪ 24200‬مواطن يف املحافظة اجلنوبية �أن يح�ضروا ملجل�س نف�سه‪ ،‬ف�إن‬ ‫‪ 159133‬مواطنا يختارون ‪9‬ينوبون عنهم‪ ،‬و‪ 2420‬مواطن ًا يختارون‬ ‫‪6‬ينوبون عنهم‪ .‬هذه العملية متثيل �أي�ض ًا‪.‬‬ ‫ال�صورة والكلمات وعملية االنتخاب‪ ،‬كلها متثيل‪ ،‬والإن�سان‬ ‫ال ميكنه �أن يعي�ش من دون متثيل‪ ،‬فهو ال ي�ستطيع �أن يح�ضر الأ�شياء‬ ‫نف�سها حني يتكلم عنها �أو حني تريد هذه الأ�شياء �أن تتكلم‪ .‬وقد اخرتع‬ ‫الإن�سان اللغة كي تقوم بعملية التمثيل‪ ،‬وكي ي�ستخدمها هو يف متثيله‬ ‫للأ�شياء‪ .‬لذلك فالتمثيل عملية خطرية ومعقدة‪ .‬وتزداد خطورتها‬ ‫‪215‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:11‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 215‬‬


‫حني تتعلق بحياتنا يف املجتمع‪ ،‬كما هو الأمر يف عملية التمثيل النيابي‬ ‫الذي هو قوام ال�سلطة الت�شريعية (الربملان)‪ .‬فهذه ال�سلطة ت�ستمد قوة‬ ‫�سلطتها من عملية التمثيل‪ ،‬ومتار�س عملها معتمدة على �أخطر جهاز‬ ‫اخرتعه الإن�سان (اللغة) وخلطورته ذهب بع�ض الفال�سفة �إىل �أن هذا‬ ‫اجلهاز خلقه اهلل ال الإن�سان‪ .‬لذلك فعلينا �أال نعبث به كي ال نع�صي اهلل‬ ‫فن�أثم‪ .‬والعبث يتحقق متى جعلنا الكلمات ال متثل معانيها احلقيقية التي‬ ‫ن�ص عليها اهلل حني خلق اللغة‪ .‬هكذا كان ابن حزم مثال يفهم اللغة‬ ‫ومتثيلها‪.‬‬ ‫اللغة م�ؤ�س�سة متثيلية والربملان م�ؤ�س�سة متثيلية‪ .‬كالهما حمكوم‬ ‫بقوانني و�أعراف‪ ،‬وكالهما يتوفران على ممار�سات (�أداء) ال تتطابق مع‬ ‫الن�ص احلريف لهذه القوانني‪.‬‬ ‫يف املمار�سة تخوننا اللغة حني تقول ما ال نق�صده‪ ،‬ومتثل ما‬ ‫ال نريده‪ ،‬وتدل على ما ال نعنيه‪ ،‬وتريد ما ال نريده‪ ،‬وتن�ص على ما ال‬ ‫يتطابق مع �إرادتنا‪ .‬وتنوب معانيها عن ما يريده الأقوى ال عن ما يريده‬ ‫املتكلم �أو ما يريده املُم َّثل عنه‪ .‬لذلك فاللغة يف املمار�سة متثيل لل�سلطة‬ ‫التي متلك القوة املادية والرمزية‪ ،‬متثيل لر�ؤيتها وم�صلحتها ومعناها‬ ‫الذي تعطيه للأ�شياء‪.‬‬ ‫كذلك هو حال امل�ؤ�س�سة الت�شريعية (الربملان) تخون ما متثله‬ ‫�أو تفارقه‪ ،‬وت�سيء التمثيل‪ ،‬وال تتطابق مع �إرادات من متثلهم �أو ال حترتم‬ ‫الن�ص احلريف الذي تلزم نف�سها به �سواء جاء يف �شكل قوانني �أو يف �شكل‬ ‫وعود وبرامج �أو يف �شكل رغبات �أو �أعراف‪.‬‬ ‫ميكننا �أن نفهم ك ًال منهما من خالل الآخر‪ ,‬ميكننا �أن نفهم‬ ‫الربملان من خالل م�ؤ�س�سة اللغة يف نظامها ويف ممار�ستها االجتماعية‪،‬‬ ‫كما ميكننا �أن نفهم اللغة من خالل م�ؤ�س�سة الربملان يف نظامه ويف‬ ‫‪216‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:11‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 216‬‬


‫ممار�سته ال�سيا�سية‪.‬‬ ‫فبقدر ما الكلمات واخلطابات متثيل للغة وقواها االجتماعية‪،‬‬ ‫بقدر ما النواب متثيل للمجتمع وقواه ال�سيا�سية‪ .‬الكلمات واخلطابات‬ ‫والنواب ميار�سون �أدوارهم بو�صفهم ممثلني ملرجعياتهم �أ�صدق متثيل‪.‬‬ ‫فاملمثل هو النائب‪ ،‬لأنه ينوب عن الآخرين ويقوم مقامهم‪ ،‬فهو‬ ‫احلا�ضر با�سم جماعة �أي بقوتها‪ ،‬فاجلماعة قوة‪ .‬واملمثل هو ال�شبيه‪،‬‬ ‫فهو ي�شبه من ميثلهم يف كل �شيء‪ .‬لكن يبقى �صدق التمثيل و�صدق‬ ‫النيابة و�صدق ال�شبه‪ ،‬حمل �شك دوما‪.‬‬ ‫التمثيل حياة‬ ‫متام ًا كما التمثيل يف النبات هو عملية حيوية يجريها النبات‬ ‫الع�ضوي من عنا�صر ب�سيطة يف وجود اليخ�ضور‬ ‫الأخ�ضر مك ِّون ًا غذاءه‬ ‫َّ‬ ‫(ك ُلو ُرو ِفيل ‪ )Chlorophyll‬وال�ضوء وثاين �أك�سيد الكربون‪ ،‬هو عملية‬ ‫حيوية �أي�ض ًا يف املجتمع ويف ال�سيا�سية ويف اللغة‪ ،‬فاملجتمع يتغذى ويحيا‬ ‫ويتلون من التمثيل املتبادل بني �أفراده‪.‬‬ ‫ �إحدى عالمات حت�ضر املجتمع جتاوزه للتعامل مع الأ�شياء‬ ‫العينية �إىل التعامل مع الأ�شياء الرمزية‪ ،‬كما ت�شهد على ذلك اخرتاع‬ ‫عملية النقود التي �أنهت مرحلة التبادل العيني بالتبادل النقدي‪ ،‬وكما‬ ‫ي�شهد على ذلك جمتمع املعلومات وجمتمع املعرفة اللذين هما جتاوز‬ ‫ملجتمع ال�صناعة‪ .‬هكذا نحيا يف �شكل اجتماعي جديد كلما اخرتعنا‬ ‫عوامل متثيلية جديدة تتيح لنا �إمكانات جديدة‪.‬‬ ‫نحن نعي�ش كما يقول �إدوارد �سعيد يف عامل من التمثيل‬ ‫"نحن نعي�ش طبع ًا يف عامل ال من ال�سلع فح�سب بل من التمثيل �أي�ض ًا‪.‬‬ ‫والتمثيالت – �إنتاجها وتوزيعها وتاريخها وت�أويلها‪ -‬هي عني مادة‬ ‫‪217‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:11‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 217‬‬


‫الثقافة وعن�صرها‪ ...‬تعترب م�شكلة التمثيل مركزية"(‪.)101‬‬

‫لقد ا�ستخدم نواب‪ 2002‬تعبري احلياة الربملانية يف ردهم‬ ‫على افتتاح امللك للف�صل الت�شريعي الأول "و�أنتم تعلنون ا�ستئناف احلياة‬ ‫الربملانية وتفعيل امل�شاركة ال�شعبية التي طاملا انتظرها �شعبكم الويف بكل‬ ‫�شوق و�أمل"‬ ‫هي حياة برملانية مبا تقوم عليه من عملية متثيل‪ ،‬متاما كما‬ ‫هي عملية التمثيل حياة متجددة للنبات‪ ،‬هي حياة حيوية متجددة‬ ‫جل�سد املجتمع‪ .‬كل ممُ ثل برملاين ت�ضج فيه �أ�صوات ناخبيه التي تت�ضاد‬ ‫�أو تختلف �أو تتكامل �أو تن�سجم �أو تتعار�ض �أو تتحالف مع �أ�صوات �أخرى‬ ‫ت�ضج يف ممثل برملاين �آخر‪.‬‬ ‫التمثيل النيابي مبا هو حياة لي�س عملية �سيا�سية فقط‪ ،‬بل هو‬ ‫عملية ثقافية‪ ،‬فالتمثيالت بوجوهها الدينية وال�سيا�سية واالجتماعية‬ ‫وال�شعبية هي عني مادة الثقافة‪ .‬ال ميكن لأي متثيل يتبدى يف املجتمع‬ ‫�إال ويكون حام ًال ملعنى ما‪ .‬والقوى االجتماعية حني تر�شح فردا ليكون‬ ‫ممثلها يف الربملان‪ ،‬ف�إنها ترى فيه حام ًال ملعانيها التي ترى من خاللها‬ ‫العامل‪ .‬لذلك فاملعاين التي يحملها املر�شحون لتمثيل قوى املجتمع‬ ‫خمتلفة ومتفاوتة‪ .‬ولذلك جند املر�شحني ال يغريون عناوينهم ال�سكنية‬ ‫فقط بل يغريون املعاين التي يحملونها وميثلونها من �أجل �ضمان فر�ص‬ ‫فوز �أكرب‪ .‬ويغريون �شبكات ر�ؤو�سهم فريتدون احلجاب ويلب�سون العقال‬ ‫وي�ضعون الب�شت‪� .‬إنهم ممثلون!‬ ‫جملة التمثيل‬ ‫"يجب �أن نقول كلمتنا نحن ممثلي ال�شعب يف هذه الق�ضية‬ ‫‪101‬‬

‫‪218‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:11‬‬

‫إدوارد‪ ،‬سعيد‪ ،‬الثقافة والإمربيالية‪� ،‬ص ‪123‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 218‬‬


‫احل�سا�سة" هذه هي جملة التمثيل‪ ،‬تتكون من �شخ�ص يحمل �شعب ًا‪ ،‬هل‬ ‫هو حمل كاذب؟ يعتمد ذلك على قوته على احلمل‪ ،‬حمل ر�سالة ال�شعب‪,‬‬ ‫من يقوى على متثيل هذا احلمل؟‬ ‫ت�ستمد التجربة الربملانية قوتها من قوة هذه اجلملة‪ ،‬وقوة‬ ‫ما تنجزه من معانيها‪ ،‬لذلك فهي فعل كالمي‪ .‬وبقدر ما يحمل هذا‬ ‫الفعل من قوة و�إرادة يف خطاب املمثلني الربملانيني يكون الربملان �سلطة‬ ‫ت�شريعية لها �شخ�صيها االعتبارية امل�ستقلة القادرة على الفعل والإجناز‪.‬‬ ‫ومتى خ�ضعت هذه اجلملة التمثيلية يف خطاب النواب لإ�ساءة التمثيل �أو‬ ‫مفارقة اجلهة التي متثلها‪ ،‬فقدت فعلها و�صارت كالم ًا ال فعل له‪.‬‬ ‫ُيع ِّرف جمال الدين الأفغاين الدميقراطية ب�أنها "اال�شرتاك الأهلي‬ ‫باحلكم الد�ستوري ال�صحيح‪ .‬و�أن �أي جمل�س نيابي ي�أمر بت�شكيله ملك‬ ‫�أو �أمري �أو قوة �أجنبية هو قوة نيابية مزعومة"(‪.)102‬‬ ‫القوة النيابية املزعومة هي التي تفقد اجلملة التمثيلية "يجب‬ ‫�أن نقول كلمتنا نحن ممثلي ال�شعب يف هذه الق�ضية احل�سا�سة" قوتها‬ ‫و�إجنازها ومعناها‪ .‬ال معنى لهذه اجلملة �إال حني يكون الأمر فيها‬ ‫ممث ًال لإرادة ال�شعب وقوته‪ .‬وحني تفقد هذه اجلملة هذه القوة ت�ستحيل‬ ‫يف خطاب النائب الربملاين متثي ًال باملعنى الفني الذي نراه على خ�شبة‬ ‫امل�سرح �أو �شا�شة ال�سينما �أو �شا�شة التلفزيون‪.‬‬ ‫‪ 12‬متثي ً‬ ‫ال‬ ‫تتكرر جملة التمثيل مرات كثرية على ل�سان النواب‪ ،‬ويف‬ ‫�سياقات خمتلفة‪ ،‬وتكاد �أن تكون هي اجلملة التي يت�أ�س�س عليها خطاب‬ ‫كل نائب‪ ،‬لذلك ال يفت�أ كل نائب من ا�ستخدامها‪ ،‬كما ال يفت�أ خطاب‬ ‫‪102‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:11‬‬

‫انظر‪� :‬شاكر النابل�سي‪ ،‬ال�شارع العربي‪ ،‬درا�سة حتليلية تاريخية‪.‬‬

‫‪219‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 219‬‬


‫جمل�س النواب من ا�ستخدامها حني يخاطب اجلهات الأخرى‪ ،‬لذلك من‬ ‫املهم �أن نر�صد وظائف هذه اجلملة‪ ،‬وهي تتمثل يف التايل‪:‬‬ ‫‪ .1‬ت�أكيد �شرعية القول‪.‬‬ ‫‪ .2‬الظهور مبظهر من يتحمل امل�س�ؤولية‪.‬‬ ‫‪ .3‬التذكري بالوظيفة التي ي�ؤديها‪.‬‬ ‫‪� .4‬إقناع بقية املمثلني بواجب القول‪.‬‬ ‫‪ .5‬تربير القول‪.‬‬ ‫‪ .6‬التمثيل (مبعناه الفني)‬ ‫‪ .7‬النطق با�سم ال�شعب‪.‬‬ ‫‪ .8‬متثيل ال�شرعية‪ ،‬وامل�س�ؤولية‬ ‫‪ .9‬العنف‪ ،‬فاخلطاب يحقق هذه الوظائف بقدر من العنف الرمزي‪.‬‬ ‫‪ .10‬االعرتاف‪ ،‬فعلى الآخرين �أن يعرتفوا بقولنا يف هذه الق�ضية‬ ‫احل�سا�سة لأننا ممثلو ال�شعب‪ ،‬يجب االعرتاف بنا بقوة التمثيل الذي‬ ‫يتوفر عليه قولنا‪.‬‬ ‫‪ .11‬الف�صل بني ال�سلطات‪ ،‬ف�إذا كان لكل �سلطة �أن تقول قولها يف هذه‬ ‫الق�ضية احل�سا�سة‪ ،‬ف�إننا �أ�صحاب �سلطة متثيلية م�ستقلة‪ ،‬ولنا قولنا‬ ‫اخلا�ص امل�ستقل‪.‬‬ ‫‪� .12‬إبراز ال�شخ�صية االعتبارية للممثلني‪.‬‬ ‫ت�ستخدم جملة التمثيل مبعانيها االثني ع�شر يف خطاب النواب‪،‬‬ ‫ويف كثري من الأحيان تتعر�ض هذه اجلملة �إىل �إ�ساءة تفقد فيها عملية‬ ‫التمثيل الثقة والأمانة‪ ،‬وتبلغ هذه الإ�ساءة يف ت�صور جون لوك (‪1632‬‬ ‫ ‪ )1704‬حد ًا‪ ،‬ميكن فيه �أن ت�سحب الأمانة وتنتقل ال�سلطة �إىل �أيدي‬‫اللذين �أعطوها‪ ،‬والذين لهم حق و�ضعها جمددا يف املو�ضع الذي يعتقدون‬ ‫انه الأف�ضل من �أجل �سالمتهم و�أمنهم‪ ،‬وهذا يعني �إبطال عملية التمثيل‬ ‫‪220‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:11‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 220‬‬


‫نف�سها من قبل ال�شعب "(‪.)103‬‬

‫وهكذا يحتفظ �أبناء املجتمع دائما بال�سلطة العليا يف �إنقاذ‬ ‫�أنف�سهم من نوايا �أي �شخ�ص‪ ،‬وحتى امل�شرعون‪ ،‬عندما يكونون على‬ ‫قدر من الغباء وال�شر بحيث يحبكون امل�ؤامرات �ضد حريات وممتلكات‬ ‫الرعية"‬

‫ال و�أربعني نائباً‬ ‫‪ 12‬متثي ً‬ ‫دعونا نرى كيف ت�شتغل هذه املعاين االثنا ع�شر يف خطابات‬ ‫النواب داخل جمل�س النواب‪.‬‬ ‫جاء يف الرد على خطاب امللك الذي �ألقاه يف حفل افتتاح‬ ‫دور االنعقاد العادي الأول من الف�صل الت�شريعي الأول للمجل�س الوطني‬ ‫"�إننا ‪� -‬أع�ضاء جمل�س النواب ‪ -‬ن�ؤكد ب�صفتنا نوابا وممثلني لل�شعب‪،‬‬ ‫مت اختيارهم يف ظل �أجواء انتخابات حرة ونزيهة‪� ،‬أننا �سن�ضع �أيدينا‬ ‫يف �أيديكم الكرمية متعاونني ومتالحمني من �أجل م�صلحة هذا الوطن‬ ‫‪� ...‬صاحب اجلاللة‪� ..‬إننا ونحن نتطلع للقيام بدورنا على �أكمل وجه‪،‬‬ ‫كممثلني لهذا ال�شعب الويف الذي ينتظر منا الكثري من الإجنازات التي‬ ‫�ستربهن على جناح هذه التجربة الوليدة ولتعزز ثقة ال�شعب بجدوى هذا‬ ‫امل�شروع الإ�صالحي الكبري‪ ،‬لنطالب بتفعيل مبد�أ ال�شفافية يف املجتمع‬ ‫وال�سيما يف الوزارات وم�ؤ�س�سات اململكة"‬ ‫تربز جملة التمثيل " ن�ؤكد ب�صفتنا نوابا وممثلني لل�شعب "‬ ‫يف هذا اخلطاب ال�شخ�صية االعتبارية للنواب‪ ،‬فهم يخاطبون امللك‬ ‫ب�شخ�صيتهم االعتبارية‪ ،‬ويقدمون مالمح هذه ال�شخ�صية التي �ستمار�س‬ ‫متثيلها ال�شعبي لي�س على �أ�سا�س اال�ستقاللية واالنف�صال بل على �أ�سا�س‬ ‫‪103‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:11‬‬

‫جون لوك‪ ،‬احلكم املدني‪ ،‬ص‬

‫‪221‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 221‬‬


‫التعاون والتالحم وو�ضع اليد يف اليد من �أجل تعزيز ثقة ال�شعب بامل�شروع‬ ‫الإ�صالحي‪ .‬هكذا ميار�س فعل التمثيل عرب اال�ستخدامات "الأداء"‬ ‫املختلفة جلملة التمثيل �إ�ساءة التمثيل �أو لنقل بعبارة �أكرث لطافة مفارقة‬ ‫ما متثله‪ ،‬وتتمثل املفارقة هنا يف �أن اجلملة التمثيلية يف هذا ال�سياق ال‬ ‫تربز �شخ�صية املمثل االعتبارية ب�صفتها الندية‪ ،‬بل ب�صفتها التابعة التي‬ ‫تطلب يد ال�سلطة الكرمية لت�ضعها يف يدها‪ ،‬يف حني �أن التمثيل يقوم على‬ ‫ف�صل اليد عن اليد الأخرى‪ ،‬ف�صل يد الت�شريع عن يد التنفيذ‪ ،‬من �أجل‬ ‫ف�صل �أيدي ال�سلطة‪ .‬هكذا يكون التمثيل عر�ضة دوم ًا ملفارقة ما ينتدب‬ ‫لتمثيله‪ .‬يفارق �أيدي من ميثلهم‪ ،‬ويلتحم ب�أيدي من ال ميثلهم‪.‬‬ ‫يرفع �أحد النواب نربته التمثيلية بحدة املحذر املنذر"�سيدي‬ ‫الرئي�س‪ ،‬املجل�س املوقر و�أي�ضا امل�شروع الإ�صالحي جلاللة امللك يتعر�ض‬ ‫�إىل هجمة من قبل وزير الإعالم‪ ،‬عملية توظيف مق�ص الرقيب علينا �أي‬ ‫على جمل�س النواب وعلى ما يديل به النواب‪ ،‬هذا عمل غري جيد‪� ،‬سبق‬ ‫و�أن نبهنا وزير الإعالم على هذا العمل �إال �إنه ما زال م�ستمرا يف تقطيع‬ ‫اجلل�سات‪ ،‬وهذا ي�سبب �إرباكا كبريا جدا للنواب و�أي�ضا ت�شويه �صورة‬ ‫النواب‪ ،‬هناك من النواب من يتهجم عليهم ب�سبب عدم الإدالء ب�آرائهم‬ ‫فيما يتعلق بالق�ضايا �أو بال�ش�أن العام‪ ،‬لذلك �إذا كان لوزير الإعالم �أية‬ ‫رغبة يف حماولته الرامية من �أجل �ضرب امل�شروع الإ�صالحي فنحن‬ ‫نحذره من القيام بهذا‪ ،‬ونوظف كل �أدواتنا الربملانية من �أجل �أن ميتنع‬ ‫هذا الرجل عن ممار�ساته هذه"‬ ‫وي�ستجيب نائب �آخر للنربة فيمثل ت�ضامنه باخلطاب التايل‪:‬‬ ‫"�سيدي الرئي�س‪� ،‬أنا �أ�ؤيد ما تف�ضل به النائب ال�شيخ عبداهلل العايل‬ ‫فذلك الأمر يعد �إ�ساءة بالغة وعميقة لهذا املجل�س الكرمي‪ ،‬ويعد �أي�ضا‬ ‫تغييبا مق�صودا جلهود و�إجنازات ممثلي ال�شعب"‬ ‫‪222‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:11‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 222‬‬


‫متار�س جملة التمثيل يف هذا اخلطاب عنف ًا رمزيا‪ ،‬من �أجل‬ ‫�أن تدافع عن ال�شكل التمثيلي الذي تظهر به يف اخلطاب الإعالمي‪ .‬وهي‬ ‫بهذا حتفظ للممثلني قدرا من �شخ�صيتهم االعتبارية التي ما فتئوا‬ ‫ي�ؤكدونها ويطالبون مبراعاتها يف الربتوكوالت الر�سمية‪ .‬ومن الطريف‬ ‫هنا �أن هذا اخلطاب ي�ضع م�شروع ال�سلطة التنفيذية ذريعة للدفاع عن‬ ‫�شرعيته التمثيلية‪ ،‬وهو بهذا ينتق�ص من دون �أن يق�صد �أو يعي من‬ ‫قوته التمثيلية ال�شعبية‪ ،‬فاملمثل النيابي يجب �أن ي�ستمد قوته التمثيلية‬ ‫من ال�شعب ال من �سلطة �أخرى‪� .‬إن حاجته لذريعة غري �شعبية يربر بها‬ ‫مطالبه دليل على �ضعف قوته التمثيلية‪.‬‬ ‫يف �سياق الدفاع ع ّمن ميثلهم يقول هذا النائب "‪ ...‬يجب �أن‬ ‫نكون �صريحني يف هذا املو�ضوع‪ ،‬يجب �أن نكون على بينة وعلى و�ضوح‬ ‫من جميع الأمور‪ ،‬ويجب �أن نقول كلمتنا نحن ممثلي ال�شعب يف هذه‬ ‫الق�ضية احل�سا�سة والهامة والتي نواجهها اليوم يف م�ستهل برنامج عملنا‬ ‫يف املجل�س ‪� ...‬أريد �أن �أثمن الدور الذي قامت به قوات الأمن‪ ،‬من دون‬ ‫�شك كان دورا م�س�ؤو ًال لأنه مل ي�صب �أي من �أبنائنا يف الأحداث وهذه‬ ‫ت�سجل لقوات الأمن للمرة الأوىل ‪ -‬على الأقل ‪ -‬يف �أحداث بهذا احلجم‬ ‫ونرجو �أن ت�ستمر قوات الأمن يف حفظ توازنها و�أع�صابها يف �أحداث بهذا‬ ‫احلجم‪ .‬اخلطاب الذي �ألقاه �سعادة الدكتور ال�شيخ عبدالعزيز �أعتقد �أنه‬ ‫يتناق�ض يف بع�ض جوانبه مع ما �صرح به �سمو رئي�س الوزراء يف جمل�سه‬ ‫يوم ال�سبت‪� .‬سمو جمل�س الوزراء حتدث بكل و�ضوح وبكل لطف �أن ه�ؤالء‬ ‫هم �أبنا�ؤنا ويجب الأخذ ب�أيديهم وتقومي �إعوجاجات �سلوكياتهم‪ ،‬وهذا‬ ‫هو املنطق وهذه هي احلكمة ونريد �أن ن�ؤكد عليها"‬ ‫حتاول جملة التمثيل "ويجب �أن نقول كلمتنا نحن ممثلي‬ ‫ال�شعب يف هذه الق�ضية احل�سا�سة والهامة" يف هذا اخلطاب‪� ،‬إقناع بقية‬ ‫‪223‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:11‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 223‬‬


‫املمثلني بواجب القول‪ ،‬وتذكريهم مب�س�ؤوليتهم النيابية ال احلكومية‪،‬‬ ‫فاخلطاب الذي ميثل احلكومة اتخذ موقف ًا �أقرب للإدانة واالتهام‬ ‫القريب من خطاب �أحداث الت�سعينيات ومل يظهر �أي حماولة للتفهم‬ ‫�أواملعاجلة‪� .‬إال �أن قوة التمثيل يف هذا اخلطاب مل جتد لها مرة �أخرى‬ ‫ذريعة غري ال�سلطة التنفيذية‪ ،‬هكذا بدل من �أن ي�ستمد التمثيل قوته من‬ ‫جمل�س الثالثاء راح ي�ستمدها من جمل�س ال�سبت‪ .‬وهذا ما يجعل منه‬ ‫تابع ًا ويجعل من �شخ�صيته االعتبارية متثيلية باملعنى الفني ال باملعنى‬ ‫القانوين‪.‬‬ ‫متى يذكر النواب بع�ضهم بوظيفتهم التمثيلية و�شخ�صيتهم االعتبارية‬ ‫امل�ستقلة؟ اجلواب ميكن �أن نعرث عليه يف هذه املداخلة اخلدماتية‬ ‫"تف�ضل بع�ض الإخوة النواب ب�أمور‪ ،‬ففي ر�أيي لي�س من �أ�سا�سيات عمل‬ ‫جمل�س النواب �إيجاد املربرات للحكومة‪� ،‬أو ملا يجري يف بع�ض م�ؤ�س�سات‬ ‫احلكومة‪ ،‬فلي�س من �أ�سا�سيات جمل�س النواب �أن نربر ما يح�صل �أو ما‬ ‫�سوف يح�صل‪ ،‬النائب ممثل لل�شعب‪ ،‬يرفع اقرتاح برغبة �أو اقرتاح‬ ‫بقانون مبا ينفع ال�شعب‪� ،‬أو �إن كانت هناك �أمور م�ضرة بال�شعب وما‬ ‫يتعلق بدرا�سة املو�ضوع �أو ما �إىل ذلك فهذا �أمر �آخر‪� .‬أقول يا �إخوان‪:‬‬ ‫�إن �إلغاء الفوائد الربوية على قرو�ض الإ�سكان وحترمي هذا الأمر من‬ ‫الأمور املعروفة من الدين بال�ضرورة‪ ،‬واملفا�سد وامل�ضار املرتتبة على‬ ‫التعامل بالربا وخا�صة يف هذه امل�ؤ�س�سة احلكومية �أو غريها لهي مفا�سد‬ ‫وا�ضحة جلية ال تخفى على �أحد ‪ ،‬ورمبا تكون ‪ -‬و�أكاد �أكون جازما بهذا‪-‬‬ ‫�سبب العجوزات املوجودة الآن �سواء عندنا �أو يف بع�ض الدول ب�سبب هذه‬ ‫املعامالت املحرمة‪ ،‬ملاذا؟ لأن هذه املعاملة املحرمة متحق الربكة من‬ ‫املال وتبعد الربكة عن املال"‬ ‫ت�ؤكد جملة التمثيل "النائب ممثل لل�شعب" يف هذا اخلطاب‪،‬‬ ‫‪224‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:11‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 224‬‬


‫الف�صل بني ال�سلطات‪ ،‬من �أجل تذكري النواب بوظيفتهم التمثيلية‬ ‫لل�شعب ال احلكومة‪ ،‬وهو تذكري يتكرر ب�شكل دائما يف هذه التجربة‬ ‫الربملانية‪ ،‬وذلك لأ�سباب تتعلق ب�ضعف القوة التمثيلية للمجل�س والتي‬ ‫هي �إحدى نتائج غلبة نواب جمل�س يوم ال�سبت‪ .‬وما ي�ؤكد هذا ال�ضعف �أن‬ ‫خطاب هذا النائب التذكريي يتعلق بق�ضية �أقرب �إىل اخلدمية منها �إىل‬ ‫الت�شريعية‪ .‬التذكري باملعنى التمثيلي ووظيفته ال يطرح يف �سياق الق�ضايا‬ ‫الكربى التي ت�شكل حتدي ًا وامتحان ًا للقوة التمثيلية و�شخ�صيتها كما هو‬ ‫الأمر مع ملف الت�أمينات وقانون الإرهاب والتجمعات وامليزانية‪.‬‬ ‫و�إذا ما حدث وتذكر نائب واجبه بتذكري بقية �إخوانه النواب‬ ‫بوظيفتهم التمثيلية يف الق�ضايا الكربى‪ ،‬ف�إن ذلك يحدث وك�أنه ال يحدث‪،‬‬ ‫كما هو الأمر يف هذا التذكري اخلجول"�إننا وب�صفتنا ممثلني لل�شعب يف‬ ‫هذا املجل�س كان لزاما علينا �أن نبحث عن �أ�سباب هذا الإفال�س وعن‬ ‫مواقع اخلط�أ والتجاوزات ‪ ،‬لأن هذا العمل هو دور نواب املجل�س وهذا ما‬ ‫�أق�سموا عليه يف هذا املجل�س املوقر "‬ ‫ولعل هذا الذي ك�أنه ال يحدث‪ ،‬هو ما دفع ب�أحد النواب �إىل‬ ‫�أن ي�ست�صرخ النواب ع ّله يحرك �ضمريهم التمثيلي ال�صامت "�صحيح‬ ‫هناك �آلية �س�ؤال ولكن نحن ن�ستفهم ون�ستو�ضح‪ ،‬فلي�س من املعقول �أن‬ ‫يكون ممثلو ال�شعب يف �صمت‪ ،‬هذا املجل�س الأ�صل فيه هو املناق�شة‬ ‫والت�سا�ؤل و�إثارة الأ�سئلة ولي�س ال�صمت‪ ،‬و�أنتم تعلمون من هو ال�صامت‬ ‫الآن‪ ...‬نحن نناق�ش ونت�ساءل لنبني احلقائق للر�أي العام‪ ،‬وال نقبل �أن‬ ‫تكون �أموال ال�شعب عــر�ضـة للتجــاوز‪ ،‬نحــن ال نقــبل �أبــدا هــذا التالعــب‬ ‫ب�أمــوال الـنا�س وال نقـ ــبل �أن تكـون ‪Take One and get One‬‬ ‫‪ free‬هذه الت�أمينات خذوها والتقاعد جمانا ‪ ،‬ال نقبل ذلك"‬ ‫تبقى جمل "�إننا وب�صفتنا ممثلني لل�شعب"‪ "،‬نحن ممثلو‬ ‫ال�شعب" ‪" ،‬كممثلني لل�شعب "ونحن املمثلون ال�شرعيون والر�سميون‬ ‫للل�شعب‪ " ،‬النائب ممثل لل�شعب "‪" ،‬ب�صفتنا نوابا وممثلني لل�شعب"‪" ،‬‬ ‫‪225‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:11‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 225‬‬


‫نحن ممثلي ال�شعب" م�شكوك ًا فيها مادامت القوة التي متثل لي�ست هي‬ ‫قوة ال�شعب‪� ،‬إنها قوة �أخرى‪ ،‬وقوة ال ت�أتي من ال�شعب دكتاتورية فردية‬ ‫�أخرى‪.‬‬

‫‪226‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:11‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 226‬‬


‫الدولة املطلقة‬ ‫من املفاهيم التي عمل عليها عبد الوهاب امل�سريي يف مو�سوعته‬ ‫"اليهود واليهودية وال�صهيونية‪ :‬منوذج تف�سريي جديد" يف �سياق فهمه‬ ‫للعلمانية ال�شاملة والعلمانية اجلزئية‪ ،‬مفهوم الدولة املطلقة‪ ،‬ما عالقة‬ ‫مفهوم الدولة املطلقة مبفهوم العلمانية ال�شاملة؟‬ ‫ي�سمى امل�سريي الدولة املطلقة ت�سمية �أخرى وهي الدولة‬ ‫الر�شيدة‪ .‬ويعني بها ما يعنيه بالعقل الر�شيد‪ ،‬ومفهوم الرت�شيد و�ضعه‬ ‫(ماك�س فيرب) ليف�سر به ظهور الر�أ�سمالية يف الغرب وتاريخ تطورها‪.‬‬ ‫كما هو معروف يف ثقافتنا‪ ،‬الر�شد هو العقل‪ ،‬والعقل هو ما يهديك �إىل‬ ‫الطريق ال�صحيح الر�شيد يف ال�سلوك والتفكري واتخاذ القرار وتنفيذ‬ ‫املهمات‪ .‬لكن لكل ثقافة ر�شدها يف حتديد هذا الطريق‪ ،‬ولها �إطارها‬ ‫املرجعي يف حتديد الر�شد والغي‪.‬‬ ‫الر�شد يف املفهوم الغربي احلديث م�ستمد من �إطار مرجعي‬ ‫وهو �إطار مرجعية الواحدية املادية‪ .‬مبعنى �أن ر�شد العقل هنا يتمثل �أنه‬ ‫يبحث عن الو�سائل الناجعة التي تد ّر عليه ربح ًا من دون النظر �إىل غاية‬ ‫�أخالقية �سماوية �أو �إىل هدف متجاوز للإن�سان وم�صلحته‪� ،‬أو اعتبار‬ ‫يتعلق بالإله �أو الغيب �أو بقيمة مطلقة‪.‬‬ ‫الرت�شيد يعني �أن نحو�سل العقل �أي نح ّول عالقتنا بالأ�شياء‬ ‫�إىل عالقة و�سائل من �أجل املنفعة الدنيوية ال�صرفة‪ ،‬لذلك فهو عقل‬ ‫�أدواتي‪ ،‬كما يطلق عليه هابرما�س ومدر�سة فرانكفورت الأملانية التي‬ ‫وجهت نقد ًا للحداثة الغربية وعقلها الأداتي بعد احلرب العاملية الأوىل‪،‬‬ ‫فقد وجدوا �أن هذا الر�شد الأداتي املحو�سل‪ ،‬قد �أو�صلهم حلرب كونية‬ ‫‪227‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:11‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 227‬‬


‫راح �ضحيتها الإن�سان نف�سه‪ ،‬وماليني من بني جن�سه املحو�سلني‪� ،‬أي‬ ‫الذي ّمت حتويل �إىل �أدوات وو�سائل يف �صراع م�صالح القوى‪ .‬ورواد هذه‬ ‫املدر�سة باملنا�سبة‪ ،‬ميثلون مرجعية �أ�سا�سية للم�سريي‪.‬‬ ‫هابرما�س يدعو �إىل عقل توا�صلي‪ ،‬يتجاوز م�أزق هذا العقل‬ ‫الأداتي الذي يح�سب ح�سابه للو�سائل والنتائج‪ ،‬وهي و�سائل مادية‬ ‫حم�سوبة القيمة‪ ،‬والعقلية الر�شيدة تبحث عن �أي�سر الطرق والو�سائل‬ ‫التي تو ّفر لها م�صلحتها املادية ب�أكرب قدر من الأرباح‪ .‬والعقل ال�صناعي‬ ‫الذي نقل احل�ضارة الغربية من احل�ضارة الزراعية �إىل احل�ضارة‬ ‫ال�صناعية الر�أ�سمالية‪ ،‬هو هذا العقل الر�شيد‪ .‬لقد ّمت نقل الر�شد من‬ ‫�إطار البحث عن الدين احلق والطريق ال�صحيح للآخرة‪� ،‬إىل البحث‬ ‫عن الدنيا احلقيقية والطريق الذي يقود �إىل �إنتاج �أوفر للإن�سان يف هذه‬ ‫الدنيا‪ ،‬بل �صار الر�شد يكمن يف جتاوز ذاك الطريق الذي يقودك �إىل‬ ‫اخلروج من الدنيا‪ .‬لقد ّمت �إذن حترير العقل‪� ،‬أي �إطالقه من �أي غاية �أو‬ ‫هدف يتجاوز الدنيا‪ ،‬هذا هو الر�شد‪.‬‬ ‫الدولة الر�شيدة‬ ‫وهذا هو معنى الدولة الر�شيدة �أي�ض ًا‪ ،‬ولكي حتقق ذلك‪ ،‬ف�إنها‬ ‫حتتاج‪ ،‬لأن تكون دولة مطلقة من �أي مرجعية متجاوزة‪� .‬أي �أنها تطلق‬ ‫نف�سها من مرجعيات الإله والغايات البعيدة املتجاوزة للإن�سان‪ ،‬وهي‬ ‫الغايات التي ال ميكن �أن تكون مقا�سة وحمو�سلة‪ ،‬بهذا تتحول �إىل دولة‬ ‫مطلقة من كل ما هو متجاوز للدنيا‪ ،‬وبهذا تكون الدولة دولة دنيا ال دولة‬ ‫�آخرة‪ ،‬ولتحقيق ذلك الب ّد �أن تطلق نف�سها من الدين‪ ،‬وال ت�شغل نف�سها‬ ‫بالبحث عن طريق الر�شد الأخروي‪ ،‬فتلك لي�ست مهمتها‪ ،‬فر�شدها يكمن‬ ‫يف الدنيا‪ .‬لقد ّمت ذلك يف �إطار الواحدية املادية‪ ،‬لقد خل�صنا املادة من‬ ‫‪228‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:11‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 228‬‬


‫�أي مرجعيات متجاوزة تف�س ّرها‪ ،‬ف�أنتجنا العلوم الطبيعية احلديثة‪،‬‬ ‫كذلك خل�صنا العقل والدولة‪ ،‬من �أي مرجعية متجاوزة حتكمهما‪،‬‬ ‫ف�أنتجنا العقل املادي التجريبي احلديث والدولة احلديثة املطلقة‪.‬‬ ‫املطلقات الدنيوية‬ ‫وجتربة الدولة الغربية قامت على التخ ّل�ص من هذه املطلقات‪،‬‬ ‫وتاريخها يتح ّقب ال باخلال�ص بل بالتخ ّل�ص‪ ،‬فاخلال�ص ارتبط باحلركات‬ ‫الدينية‪ ،‬والتخ ّل�ص ارتبط باحلركات العلمانية‪ ،‬لقد �أطلقت نف�سها‬ ‫من الدين‪ ،‬فلم تع ّد الكني�سة هي املرجع الذي يحكم امللك �أو الدولة‪.‬‬ ‫لقد تخل�صت من ذلك بعد تاريخ طويل من احلروب الأهلية والدينية‬ ‫ون�ضاالت فكرية عميقة ا�ستغرقها القرن اخلام�س ع�شر وال�ساد�س ع�شر‬ ‫وال�سابع ع�شر‪ .‬الفال�سفة يف هذه املرحلة جاءوا‪ ،‬ليحرروا الدولة من هذه‬ ‫املركزيات املتجاوزة‪ .‬ولعل الثورة الفرن�سية متثل النموذج الأبرز يف هذا‬ ‫البعد حينما حطمت الكني�سة‪ ،‬وثارت على امللك‪ ،‬و�أحرقت �آالف الرهبان‬ ‫والراهبات‪ ،‬وتخ ّل�صت من كل ما ميت ب�صلة �إىل هذا املتجاوز الذي كان‬ ‫يتحكم يف الدولة‪.‬‬ ‫بعد �أن مت ّكنت الدولة من حتقيق مطلقيتها‪� ،‬أ�صبحت هي الإله‪،‬‬ ‫هي املرجع‪ ،‬هي �صاحبة ال�سيادة العليا‪ ،‬هي التي ال ميكن جتاوزها‪ ،‬وال‬ ‫ميكن جتديفها‪ ،‬وال ميكن الهرطقة جتاهها‪� ،‬أ�صبحت هي املطلق‪ ،‬وكان‬ ‫هيجل من �أبرز الفال�سفة املتحم�سني للدولة املطلقة التي حتكم قب�ضتها‬ ‫على ك ّل �شيء‪ ،‬وال تغادر الإن�سان يف �أي جزء من جزئياته‪ ،‬حتى �شبهها‬ ‫هوبز بالتنني‪ ،‬الكائن الوح�شي الذي ي�ستطيع �أن يلتهم اجلميع يف فمه‬ ‫من دون �أن يخرج �أي �شيء على �سلطته‪� .‬أ�صبحت هي ال�سلطة املطلقة‪،‬‬ ‫جم�سد ًا يف الدولة‪ ،‬لكن ال‬ ‫�أ�صبح الإله لي�س يف ال�سماء‪ ،‬بل يف الأر�ض‪ّ ،‬‬ ‫ليحكمها هو با�سمه‪� .‬أ�صبح الإله دولة‪ .‬مل يعد االله �سماء‪� ،‬صار الإله‬ ‫‪229‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:11‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 229‬‬


‫�أر�ض ًا حتكم‪ ،‬لكن ال يحكم هنا با�سمه املتجاوز‪ ،‬يحكم با�سمه املحايث‪.‬‬ ‫هذه القوة املطلقة حني كانت يف ال�سماء كانت ت�سمى اهلل‪ ،‬الغيب‪ ،‬لكن‬ ‫ملا �صارت يف الأر�ض‪� ،‬صارت ت�سمى القوة املطلقة والدولة املطلقة التي‬ ‫يرجع �إليها اجلميع‪ ،‬هي التج�سيد الأبرز لهذه القوة‪.‬‬ ‫الدولة ال�ضابطة‬ ‫هناك ثالثة ت�شبيهات ا�ستخدمها عامل االجتماع الهولندي‬ ‫(باومان) وي�ستح�ضرهما امل�سريي يف مو�سوعته ليو�ضح لنا فكرة‬ ‫الدولة املطلقة‪ ،‬كان ي�شبه (باومان) الدولة التي بد�أت تت�أ�س�س منذ‬ ‫الثورة الفرن�سية و� ً‬ ‫صوال �إىل �شكل الدولة القومية‪ ،‬ي�شبهها‪ :‬بالب�ستاين‪،‬‬ ‫واملهند�س‪ ،‬والطبيب‪.‬‬ ‫جمازات (باومان) الثالثة‪ ،‬تف�سر لنا بطريقة مكثقفة فكرة‬ ‫الدولة املطلقة‪ .‬فالب�ستاين ُيق ّلم من احلديقة (الدولة)‪ ،‬العنا�صر غري‬ ‫املفيدة‪ ،‬يرعاها‪ ،‬ي�ضبط �أ�شجارها‪ ،‬يخ ّل�صها من ال�سموم‪ ،‬فهو يعمل‬ ‫ك�آلة �ضابطة للحديقة‪ .‬والدولة املطلقة كيان �صناعي ي�ضبط الإن�سان‪.‬‬ ‫هذا الكيان ال�صناعي قوة حمايثة يف الأر�ض‪ ،‬ولي�ست �إلها يف ال�سماء‪.‬‬ ‫وهذه القوة ال�ضابطة (الب�ستاين) تخل�ص الدولة من �سموم املرجعيات‬ ‫املتجاوزة وتدخلها‪ ،‬وجتعل الدولة حمكومة مبرجعيات مادية ب�سيطة‬ ‫وا�ضحة‪ ،‬ميكن قيا�سها وح�سابها بر�شد مادي‪.‬‬ ‫الت�شبيه الثاين‪ ،‬هوالطبيب‪ ،‬الذي ير�شد النا�س �إىل الطرق‬ ‫ال�سليمة يف التغذية و�إىل كيفية العناية ب�أج�سادهم‪ ،‬وير�شدهم �إىل‬ ‫الو�سائل الناجحة التي ت�ضمن لهم نتائج �أف�ضل و�صحة �أقوى‪ ،‬فالنا�س يف‬ ‫الدولة يرجعون �إىل هذا الطبيب‪ ،‬لي�ضبطوا ك ّل �شيء فيهم بدقة ومقدار‬ ‫واحد‪ ،‬وهو ي�صدر لها �شهادات فح�ص تثبت �صالحيتهم‪ .‬بهذا ميثل‬ ‫‪230‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:11‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 230‬‬


‫الطبيب هذا الكيان ال�صناعي الذي ن�سميه دولة‪.‬‬ ‫واملهند�س كذلك ي�ضبط الدولة‪� ،‬إذا ما �أعتربنا �أن ف�ضاء‬ ‫الدولة هو املدينة‪ ،‬فاملهند�س ي�ضبط �شوارعها‪ ،‬يحدد نقاط املرور فيها‪،‬‬ ‫ويحدد �أرقام ال�شوارع وم�ساحاتها وحجومها‪ ،‬املهند�س �أي�ض ًا يعمل ك�آلة‬ ‫�ضبط‪ ،‬يجعل بناء املدينة كله م�ضبوط وفق ومقا�س واحد‪ .‬نالحظ �أن‬ ‫املجازات الثالثة ت�شرتك يف ال�ضبط‪ .‬يتحول الإن�سان يف هذه الدولة �إىل‬ ‫جهاز م�ضبوط بعمل هذا الكيان اال�صطناعي (عمل الب�ستاين والطبيب‬ ‫واملهند�س)‪.‬‬ ‫هذا ال�ضبط املطلق هو �ضبط ر�شيد‪ ،‬هو مرجعية نهائية‪،‬‬ ‫مبعنى �أنه لي�س لدى الطبيب مرجعية يرجع �إليها غري طبه‪ ،‬ولي�س للفالح‬ ‫مرجعية غري خربته النباتية والزراعية ‪ ،‬ولي�س للمهند�س مرجعية غري‬ ‫هند�سته‪ ،‬لي�ست هناك مرجعية ترجع �إىل ال�سماء‪ .‬لذلك الدولة املطلقة‬ ‫مرجعها مادي م�ضبوط‪ .‬الدولة هنا طبيعية‪ ،‬مبعنى �أنها حمكومة بنف�س‬ ‫�آليات الطبيعة‪ ،‬وهي �آليات ب�سيطة ووا�ضحة وحمددة وال تخ�ضع �إىل‬ ‫تف�سريات متباينة‪.‬‬ ‫الدولة النازية‬ ‫لهذا فالدولة املطلقة‪ ،‬دولة مركزية‪ ،‬لديها مركز‪ ،‬عا�صمة‬ ‫مركزية ‪ ،‬حكومة مركزية‪ ،‬قوانني مركزية‪ ،‬د�ستور مركزي‪ ،‬مفهوم‬ ‫مركزي للإن�سان ال يقبل التعدد‪ ،‬لذلك كان منوذجها التاريخي الأبرز‪،‬‬ ‫الدولة القومية‪ ،‬التي تن�صهر فيها الأعراق كلها يف منوذج واحد‪ .‬ومثال‬ ‫الدولة القومية الأو�ضح يف هذا ال�ضبط هي الدولة النازية‪ .‬كانت خال�صة‬ ‫العرقية‪ ،‬كانت تنظر �إىل ما ال يتماثل مع وحدة عرقها‪� ،‬أنها طفيليات‬ ‫زائدة ينبغي التخل�ص منها �أو دجمها يف نف�س العرق و�إعادة ت�أهيلها‪.‬‬ ‫‪231‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:11‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 231‬‬


‫هي ت�شبه الب�ستاين الذي ال ميكن �أن يت�سامح مع �أي �شذوذ يف‬ ‫حديقته‪ ،‬ال بد �أن يزيل �أي ورقة �صفراء �أو �أي نبات �ضار‪ ،‬وهي ت�شبه‬ ‫املهند�س الذي ال يقبل �أي �شذوذ يقع يف خطوط مدينته‪ ،‬وت�شبه الطبيب‬ ‫الذي ال يقبل �أي خط�أ يف اجل�سم‪ ،‬فالأخطاء يراها عاهات وعيوب ًا خلقية‪،‬‬ ‫كذلك الدولة النازية ال تقبل �أي �شيء يقع خارجها‪ ،‬خارج عرقها‪� ،‬أو‬ ‫خارج مفهومها للإن�سان النافع‪ ،‬تراه هذا اخلارج كائنا �ضارا ينبغي‬ ‫التخ ّل�ص منه‪ .‬لذلك كانت ال تنظر �إىل املعاقني �أو الذين يعانون من‬ ‫احتياجات خا�صة‪ ،‬مواطنني كاملني‪ ،‬كانت كثريا ما تتخ ّل�ص منهم‬ ‫�أو تتعامل معهم ككائنات متثل عبئا عليها‪ .‬من هنا فاليهود الذين مل‬ ‫ي�ستوعبهم هذا العرق النازي الأحادي قد ّمت التخل�ص منهم باحلرق‬ ‫والهولوكو�ست والتهجري‪ ،‬لأنهم كائنات زائدة‪ ،‬ت�ضر هذا ال�ضبط الذي‬ ‫من دونه تفقد الدولة مطلقيتها‪.‬‬ ‫القومية املطلقة‬ ‫الدولة القومية املطلقة ال تقبل الأديان املتعددة‪ ،‬لأن الأديان‬ ‫املتعددة ُتعطي تف�سريات خمتلفة‪ ،‬ووالءات خمتلفة‪ ،‬ومناذج خمتلفة‪،‬‬ ‫وهذا يق ّو�ض فكرة املركز‪ .‬هي تريد وحدات مت�شابهة (من الب�شر‬ ‫وال�شوارع والبيوت وامل�صانع) ميكن قيا�سها والتح ّكم فيها‪ ،‬الكل ين�صهر‬ ‫يف بوتقة واحدة هي بوتقة الدولة امل�ضبوطة‪.‬‬ ‫الدولة املطلقة وجدت نف�سها يف منوذجها النازي ال ميكنها �أن‬ ‫تقبل باليهود الذين ال ميكن ا�ستيعابهم �ضمن الهوية الواحدة القومية‬ ‫امل�ضبوطة‪ ،‬وينبغي لها التفكري يف التخل�ص منهم ب�أي طريقة كانت ب�أن‬ ‫توجههم �إىل مناطق �أخرى‪ ،‬كما يتخل�صون من نفايات �أو من �أي �شكل ال‬ ‫ميكن �أن يخ�ضع ل�شكل الوحدة امل�ضبوطة‪ ،‬وهي الوحدة التي ي�شتغل بها‬ ‫‪232‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:11‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 232‬‬


‫امل�صنع‪ ،‬وامل�صنع هو منوذج الدولة املطلقة‪.‬‬ ‫يذهب امل�سريي‪� ،‬إىل �أن �إن�شاء ال�صهيونية هي عملية ر�شيدة‬ ‫مبقيا�س الدولة الر�شيدة‪ ،‬وذلك لأنها ت�أتي يف �سياق التخ ّل�ص من هذه‬ ‫الزوائد الطفيلية‪ ،‬فقد وجدت الدولة الغربية �أنها تريد �أن تتخل�ص من‬ ‫الزوائد الفائ�ضة على عرقها‪ ،‬فدفعت باجلماعات اليهودية التي مل ميكن‬ ‫�صهرها �إىل خارجها‪.‬‬ ‫هذه الدولة املطلقة واجهت حتديات كبرية بعد احلربني العاملية‬ ‫الأوىل والثانية‪ ،‬وهذه التحديات جعلتها تتخذ �أ�شكا ًال �أخرى‪ ،‬تفتت فيها‬ ‫هذه الوحدة ال�صلبة التي تقوم عليها‪ ،‬وهذا مو�ضوع �آخر‪.‬الآن علينا �أن‬ ‫نعرف عالقة الدولة املطلقة بالعلمنة ال�شاملة‪.‬‬ ‫الطالق ال�شامل‬ ‫ميكننا من خالل فهم كالم امل�سريي �أن �أ�صيغ معادلة على هذا‬ ‫النحو‪ :‬كلما تو�سعت عمليات الإطالق‪ ،‬ازدادت العلمنة �شم ً‬ ‫وال‪ .‬وحتولت‬ ‫العلمانية اجلزئية �إىل علمانية �شمولية‪ .‬و�أعني بعمليات الإطالق �أن‬ ‫تطلق العنا�صر املتجاوزة (الأخالق‪ ،‬الغائية‪ ،‬الإله) من اعتبارها مراكز‬ ‫للمعنى والتف�سري واحلكم‪ُ ،‬تط ِّلقها‪ ،‬تتخ ّل�ص منها‪ ،‬وبهذا اال�ستغناء‬ ‫تنف�صل عن الغيب ومقت�ضياته الروحية‪ ،‬تنف�صل عما كان يعبرّ عنه‬ ‫ماك�س فيرب بال�سحر‪.‬‬ ‫بهذا االنف�صال حتقق الطالق ال�شامل‪ ،‬فتبد�أ ت�ؤ�س�س مطلقات‬ ‫�أر�ضية �أخرى‪ ،‬مركزها كان يف البداية هو الإن�سان‪ .‬يف ع�صر النه�ضة‬ ‫والأنوار �صار الإن�سان مركز ًا بعد �أن كان الإله مركز ًا‪ ،‬لكن مركزية‬ ‫الإن�سان �ستُخْ تَزل يف بعد مادي واحد‪.‬‬ ‫مبعنى �أن الواحدية املادية �أ�صبحت هي املركز‪ ،‬ف�أ�صبحنا‬ ‫‪233‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:12‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 233‬‬


‫نتعامل مع الإن�سان ك�آلة متقنة ال�صنع‪ ،‬وقد حلل امل�سريي جماز الإن�سان‬ ‫الآلة حتليال بارع ًا يف م�شروعه‪ .‬هذه الآلة لها قوانينها‪ ،‬وميكن جتريبها‪،‬‬ ‫والتعرف عليها باحلوا�س اخلم�س‪ ،‬وميكن �ضبطها �ضبط ًا تام ًا‪ .‬بالتايل‬ ‫�أ�صبح الإن�سان‪ ،‬بعد �أن جردنا ما فيه من روحانيات ومطلقات وتراكيب‪،‬‬ ‫وك�أنه وحدة مت�شابهة‪.‬مل يعد الإن�سان هو املركز‪ ،‬بل جزء من الإن�سان‪ ،‬هو‬ ‫اجلزء الطبيعي �أو اجلزء املادي‪ ،‬والطبيعة واملادة دائم ًا حمكومة بقوانني‬ ‫را�شدة‪ ،‬ال تعرف التعاطف وال الغيب وال املتجاوزات وال ال�سحر‪ .‬ال تعرف‬ ‫�إال مو�ضوعها‪ ،‬لذلك هي مو�ضوعية تتعامل مع وحدات مت�شابهة‪.‬‬ ‫العلمانية املطلقة‬ ‫بهذا الطالق والتح ّول من �إطالقيات عنا�صر التجاوز �إىل‬ ‫�إطالقيات املادة‪� ،‬ستت�سع عمليات العلمنة بالتدريج‪ ،‬بعد �أن كانت جزئية‬ ‫ال تتجاوز ف�صل ال�سلطة ال�سيا�سية وال�ش�أن الإداري عن ال�سلطة الدينية‬ ‫ورجالها‪ ،‬وهذا الأمر كان يف جتربة الدولة الغربية يف بداياتها قبل �أن‬ ‫ت�صبح غوال يلتهم كل �شيء مبا تتيحه لها و�سائل ال�سيطرة‪ .‬مع اطراد‬ ‫الإطالقيات املادية �ستتحول العلمنة اجلزئية �إىل علمانية �شاملة‪،‬‬ ‫�سيموت الإله والإن�سان والغايات اخلال�صية والإن�سانية‪ ،‬و�سيكون املجتمع‬ ‫والإن�سان والدولة وكل �شيء يف احلياة بال مركز متجاوز‪� .‬ستكون العلمنة‬ ‫مطلقة من كل �شيء يتجاوز املادة والدنيا‪.‬‬ ‫�إطالق اليد اخلفية‬ ‫�سيمكننا �أن ن�سيطر على كل �شيء يف الإن�سان ويف الطبيعة بهذا‬ ‫الإطالق‪ ،‬و�سيكون لدينا مراكز حتكم قوية باحلياة‪ ،‬وم�ضبوطة جد ًا‪،‬‬ ‫ميكننا ا�ستعمالها بربود من دون ح�س �أخالقي‪ .‬عملية التح ّول �إىل هذه‬ ‫العلمانية ال�شاملة املركزية املطلقة �سنجدها تعرب عن نف�سها بعدة �صور‪،‬‬ ‫‪234‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:12‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 234‬‬


‫عرب عنها فال�سفة ومفكرون غربيون‪ ،‬وهي �صور تعرب عن نف�س املفهوم‬ ‫لكن بزوايا خمتلفة‪ .‬ن�أخذ مث ًال تعبري "اليد اخلفية و�آليات ال�سوق" لآدم‬ ‫�سميث‪" ،‬و�سائل الإنتاج" عند مارك�س‪" ،‬اجلن�س" عند فرويد‪" ،‬البقاء‬ ‫للأقوى" عند دارون‪�" ،‬إرادة القوة" عند نيت�شة‪" ،‬الروح املطلقة" عند‬ ‫هيجل‪ .‬كل هذه امل�صطلحات ترتد يف النهاية �إىل مركزية الإن�سان التي‬ ‫هي يف النهاية مركزية املادة والطبيعة‪ ،‬كل هذه التحوالت �ستقود لهذه‬ ‫املركزية كما ن�شهدها اليوم يف احل�ضارة الغربية‪.‬‬ ‫بذلك تتحول الدولة باعتبار اجلهاز الأكرث �ضبط ًا‪� ،‬إىل الإله‬ ‫اجلديد الذي �سيحكم الإن�سان ب�آلياته ال�ضخمة‪� .‬ستتخذ الدولة �صيغة‬ ‫العلمنة ال�شاملة التي لن تبقي على جزء من دون جزء‪� ،‬ست�شمل الإن�سان‬ ‫كله‪� ،‬ستتوغل يف كل �شيء‪� ،‬ستكون غ ً‬ ‫وال وتنينا يكت�سح كل �شيء يف الإن�سان‪،‬‬ ‫لن ت�صبح هناك م�ساحة للإن�سان كي يتحرك وقد �ضبطته الدولة �ضبط ًا‬ ‫متقن ًا‪.‬‬ ‫هذه الدولة املطلقة كلية االنحياز‪ ،‬تنحاز �إىل مركز واحد‬ ‫وت�صوغ كل �شيء يف الدولة وفقه‪ ،‬هي دولة غري تعددية‪� ،‬سيتم تطوير‬ ‫فكرة الإطالق‪ ،‬لتخفف الدولة من مركزيتها الإيديولوجية وتتح ّول �إىل‬ ‫دولة غري منحازة‪.‬‬

‫‪235‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:12‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 235‬‬


‫الدولة غري املنحازة‬ ‫هل ميكن �أن يكون هناك معنى �آخر لدول عدم االنحياز؟ نعم‪،‬‬ ‫هناك معنى �آخر غري املعنى الذي يحيل �إىل دول حركة عدم االنحياز‬ ‫الت�سع والع�شرين‪ ،‬وهي الدول امل�ؤ�س�سة للحركة يف العام ‪1955‬‬ ‫املعنى الآخر ي�شري �إىل الدول غري املنحازة داخلي ًا لأية قوة‬ ‫من قوى املجتمع الذي حتكمه‪ .‬الدولة لي�ست مطالبة با�ستقالل �إرادتها‬ ‫و�سيادتها جتاه الدول الأخرى فقط‪ ،‬هي مطالبة �أي�ضا با�ستقالل �إرادتها‬ ‫جتاه مواطنيها‪� ،‬أال تكون منحازة لطبقة �أو فئة �أو طائفة منهم‪ ،‬و�إذا كان‬ ‫حياد الدولة جتاه الدول الأكرث قوة منها م�س�ألة غري ممكنة ورمبا غري‬ ‫�سيا�سية‪ ،‬ف�إن حياد الدولة جتاه مواطنيها هو قلب �سيا�ستها الذي ي�ضمن‬ ‫لها اال�ستقرار‪ ،‬مهما يكن الأمر يبدو غري ممكن‪ ،‬بل جتربتها الأعمق‬ ‫تكمن يف تطوير جتربة هذا احلياد‪.‬‬ ‫احلياد يتطلب انف�صا ًال‪ ،‬ال ميكن �أن تكون حمايد ًا جتاه �شيء‬ ‫دون �أن تنف�صل عنه‪ .‬والدولة مطالبة باحلياد كي تدير اختالفات املجتمع‬ ‫وتفاوتاته‪ ،‬وتناق�ضاته‪.‬‬ ‫لكن الف�صل ال يعني احلياد دائم ًا‪ ،‬فالتجربة ال�سوفيتية مث ًال‬ ‫قد ف�صلت الدين عن الدولة بل و�أق�صته‪ ،‬لكنها مل تكن حمايدة جتاه‬ ‫الدين‪ ،‬فقد كانت دولة ال دينية‪� ،‬أي دولة �إحلادية‪ ،‬وعدم حياد الدولة‬ ‫جتاه الإحلاد يخل بعلمانيتها كما �سرنى‪ ،‬كما عدم حيادها جتاه الدين‬ ‫يخل بعلمانيتها‪ .‬لذلك يخطئ من يظن �أن العلمانية �صفة مالزمة لكل‬ ‫دولة غري دينية‪ ،‬مبعنى �أن تكون الدولة �إما دينية و�إما علمانية‪ ،‬فهناك‬ ‫دول لي�ست دينية ولي�ست علمانية �أي�ض ًا‪.‬‬ ‫‪236‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:12‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 236‬‬


‫احلياد يتطلب من الدولة �أن تنف�صل عن الدين‪� ،‬أو لنقل بعبارة‬ ‫�أكرث دقة‪� ،‬أن تف�صل جمالها العمومي عن الدين‪ .‬لكن لي�س مبعنى �أن‬ ‫تكون م�ضادة للدين‪� ،‬أو �إق�صائية للدين �أو لديها موقف �إيديولوجي جتاه‬ ‫الدين‪ ،‬وهنا ميكن �أن نقول �إن الإيديولوجيا هي الأخرى‪ ،‬مبا هي يف‬ ‫جانب من جوانبها عقيدة تقت�ضي االنغالق والتع�صب واالحرتاب‪ ،‬ينبغي‬ ‫�أن يكون موقعها يف الدولة كموقع الدين‪ ،‬مبعنى �أن الدولة �أي�ض ًا تكون‬ ‫منف�صلة عن الإيديولوجيا وحمايدة جتاهها‪.‬‬ ‫الدولة احلديثة منذ جتربة الثورة الفرن�سية يف ‪ 1789,‬تقوم‬ ‫على فكرة الف�صل التي ا�ستلهمتها من ''روح ال�شرائع' ملونتي�سكو‪ ،‬ف�صل‬ ‫ال�سلطات الثالث؛ الق�ضائية والت�شريعية والتنفيذية‪.‬‬ ‫وهو ف�صل الغاية منه تنظيم ال�سلطة تنظيم ًا يح ّد من �شرورها‬ ‫وا�ستبدادها‪ .‬وفكرة الف�صل �أخذت تتطور يف الدولة لت�شمل كل ما ميكن‬ ‫�أن يوقع الدولة يف م�شكلة اال�ستبداد �أو يف م�شكلة �أن تكون الدولة طرف ًا‬ ‫من �أطراف ال�صراع يف املجتمع‪� ،‬أي �أن تكون يف م�ستوى املجتمع �أو �أقل‬ ‫م�ستوى من املجتمع‪ .‬فالدولة مطالبة دوم ًا �أن تكون القوة التي حتتكر‬ ‫العنف الذي يجعلها ملج�أً للجميع حني يختلفون �أو حني ميار�سون العنف‬ ‫�ضد بع�ضهم‪.‬‬ ‫لقد �أ�صبحت فكرة ف�صل ال�سلطات ثابتة من ثوابت الدولة التي‬ ‫ال ميكن لأي جتربة �أن جتادل فيها‪ .‬لكن هناك �أ�شكال من الف�صل يف‬ ‫الدولة مازالت خا�ضعة للجدل والتجربة‪ .‬وهي الأ�شكال املتعلقة بعالقة‬ ‫الدولة باملجتمع وثقافته ودينه ولغته وعرقه‪ .‬هل على الدولة �أن تكون‬ ‫منف�صلة عن ثقافة املجتمع ودينه ولغته وعرقه‪ ،‬حني يكون جمتمع ًا‬ ‫تعددي ًا يف انتماءاته الثقافية �أو الدينية �أو املذهبية �أو اللغوية �أو العرقية‬ ‫�أو الأيديولوجية؟‬ ‫‪237‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:12‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 237‬‬


‫يندر اليوم �أن جند دولة جمتمعها غري متعدد االنتماءات‪،‬‬ ‫�سواء اعرتفت الدولة بهذا التعدد �أو كابرت على االعرتاف به‪ .‬رمبا‬ ‫يكون التعدد الديني والطائفي واملذهبي هو �أكرث املظاهر توتر ًا اليوم بعد‬ ‫�إفرازات التجربة العراقية‪ ،‬من هنا ت�أتي �أهمية ا�ستعادة جتربة الف�صل‬ ‫يف الدولة مبا هو جوهر عمل ال�سلطة يف الدولة‪ ،‬والتجربة الدينية متثل‬ ‫حتدي ًا‪ ،‬على الدولة اليوم �أن تواجهه يف �سياق جتربتها يف الف�صل الذي‬ ‫يجعل من �سلطتها حمايدة جتاه اجلميع‪.‬‬ ‫وحني يت�صل الف�صل بالدين‪ ،‬فال مف ّر من ا�ستخدام مفهوم‬ ‫العلمانية‪ ،‬ملا يحمله من جتربة تاريخها طويل‪� .‬أنا �أحت ّدث عن العلمانية‬ ‫هنا يف �سياق ف�صل ال�سلطات وحيادها جتاه املجتمع‪ ،‬ولي�س يف �سياق هل‬ ‫للدين جتربة يف �إدارة الدولة؟ فلي�س مهم ًا هنا �أن جنادل �إن كان الدين‬ ‫يتوفر على خربة يف بناء الدولة و�إدارتها �أو ال‪ ،‬وهو ال�س�ؤال الذي ما زال‬ ‫ي�شغل الإ�سالميني حتت عنوان الإ�سالم دين ودولة‪ .‬رمبا يكون ال�س�ؤال‬ ‫الأكرث فائدة هنا هو‪ ،‬هل الدين لو توفر على خربة يف �إدارة الدولة‪ ،‬هل‬ ‫ي�صلح �أن يدير دولة مبتالة بالتعدد؟ �أترك هذا ال�س�ؤال لأنه لي�س �س�ؤاي‬ ‫هنا‪ ،‬ف�س�ؤايل هو كيف ميكن �أن نفهم جتربة الف�صل يف جتربة الدولة‬ ‫احلديثة مبعناه الأعم من ف�صل الدين عن الدولة؟ �أي جتربة الف�صل‬ ‫يف الدولة‪ ،‬فالدولة تف�صل حدودها عن حدود الدول الأخرى‪ ،‬وتف�صل‬ ‫�سلطاتها الثالث عن بع�ضها‪ ،‬وتف�صل املجتمع املدين عن املجتمع‬ ‫ال�سيا�سي‪ ،‬وتف�صل ال�شخ�ص الذي يدير يف الدولة �إىل عام وخا�ص‪،‬‬ ‫وتف�صل جمالها العام عن املجاالت اخلا�صة‪ ،‬وتف�صل ذاكرتها عن‬ ‫ذاكرة اجلماعات التي تديرها‪ ،‬وتف�صل عقيدتها عن عقائد الطوائف‬ ‫وعقائد الأيديولوجيات‪ ،‬حتى ال تغدو بال ذاكرة وال عقيدة وال مذهب‬ ‫ورمبا يف امل�ستقبل بال هوية‪.‬‬ ‫‪238‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:12‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 238‬‬


‫ورمبا جند يف تعريف باربييه للعلمانية مبا هي ف�صل وحياد ما‬ ‫يعمق من فهم جتربة الف�صل يف الدولة ''ي�ؤكد باربييه �أن تعريف العلمانية‬ ‫مبا هي ''حياد' يو�سع من مفهوم العلمانية بحيث ال يطال ''احلياد' الأديان‬ ‫وحدها‪ ،‬و�إمنا يطال امل�سائل الفل�سفية والإيديولوجية بل والأخالقية‬ ‫�أي�ض ًا‪� ،‬إيجادا �أو �سلبا(‪.)104‬‬

‫‪104‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:12‬‬

‫فهمي جدعان‪ ،‬يف اخلال�ص النهائي‪� ،‬ص‪140.‬‬

‫‪239‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 239‬‬


‫�إ�صالح �أ ّول الأمة‬ ‫هل ميكن �أن نفهم الإ�صالح خارج معادلة‪:‬‬ ‫ �أ�صل �صحيح ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ انحراف ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ت�صحيح االنحراف‬ ‫بالرجوع �إىل الأ�صل؟ هل ميكن تفكيك معادلة الإ�صالح هذه؟ كيف‬ ‫ت�شتغل هذه املعادلة يف خطابات الإ�صالح؟ وكيف تنتج م�أزقها؟‬ ‫حتكم هذه املعادلة‪ ،‬خطابنا اليوم عن الإ�صالح‪ ،‬كما حكمت‬ ‫م�شاريع احلركات الإ�صالحية �أو التي و�صفت نف�سها بالإ�صالحية‪ ،‬على‬ ‫الرغم من طابعها ال�سيا�سي �أو ما ن�س ِّميه اليوم الإ�سالم ال�سيا�سي‪.‬‬ ‫م�شاريع الإ�صالح َّمتت حتت هذا (الإ�سالم ال�سيا�سي) القدمي‬ ‫منها واجلديد‪ ،‬من م�ؤ�س�سي الدولة الأموية‪ ،‬والعبا�سية‪ ،‬والدويالت‬ ‫التي يف كنفها مرور ًا بع�صر النه�ضة وم�شاريع جمال الدين الأفغاين‬ ‫وحممد عبده‪ ،‬وما ن�شهده اليوم من جتليات يف دول �إ�سالموية وحركات‬ ‫�أ�صولية‪.‬‬ ‫جتد هذه املعادلة‪ ،‬التي حكمت جميع هذه النماذج ب�صيغها‬ ‫املختلفة و�سياقاتها التاريخية املختلفة‪ ،‬تعبريها املكثف واملوحي يف قول‬ ‫الإمام مالك "لن ي�صلح �آخر هذه الأمة �إال مبا �صلح به �أولها"‪ .‬ما الأمة؟‬ ‫وما �أولها؟ وما �آخرها؟ كيف ي�صلح الآخر الأول؟ وكيف ّ‬ ‫يعطل الأول‬ ‫الآخر؟ وكيف ينتج الأول �أ�سطورة العود الأبدي؟ وكيف يوقع الأول الآخر‬ ‫يف دائرة العود الأبدي؟‬ ‫الإ�صالح م�شروع فهم‪ ،‬ال م�شروع تغيري‪ ،‬امل�شاريع الإ�صالحية‬ ‫الدينية التي �شهدتها جتربتنا الإ�سالمية م�شاريع تغيريية‪ ،‬وامل�شاريع‬ ‫التغيريية تغيرِّ �أ�شخا�ص ًا و�أنظمة وقوى وم�صالح‪ ،‬لكنها ال تغيرِّ ذاتها‪،‬‬ ‫‪240‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:12‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 240‬‬


‫فهي ال تفهم ذاتها وكيف ُر ِّكبت تاريخي ًا وفكري ًا وتخييلي ًا‪ ،‬ولقد حكم‬ ‫هذا التغيري الذي ال ي�ستند �إىل فهم‪ ،‬م�شاري َع الإ�صالح الدينية والقومية‬ ‫واملارك�سية والثورية والعروبية‪ ،‬التي كانت تتمثل مقولة مارك�س ال�شهرية‬ ‫"على الفال�سفة �أن ين�شغلوا بتغيري العامل بدل �أن ين�شغلوا بفهمه"‪،‬‬ ‫ومقولة الإمام مالك ال�شهرية "لن ي�صلح �آخر هذه الأمة �إال مبا �صلح به‬ ‫�أولها" كان اجلميع مهوو�س ًا ب�شهوة التغيري الذي يمُ ّلك �سلط ًة‪ ،‬ال �شهوة‬ ‫الفهم الذي يو ِّلد معرفة‪.‬‬ ‫والإ�صالح الديني ما مل يغادر م�شروعات التغيري التي يقودها‬ ‫ال�سيا�سيون‪ ،‬ليكون �ضمن م�شروعات الفهم التي تقودها علوم الإن�سان‪،‬‬ ‫لن يخرج من دائرة العود الأبدي العقيم‪ ،‬فبهذه العلوم ومبنتجها‬ ‫املعريف‪ ،‬ميكن �أن يتح َّول الإ�صالح الديني حتديث ًا‪ ،‬يخرجه من �أ�سطورة‬ ‫العود املق َّد�س‪ .‬لقد �أطاحت م�شاريع التغيري ب�سلطات كثرية‪ ،‬لكنها مل‬ ‫تطح مب�شروع فهم واحد‪� ،‬أو تغيرِّ ه‪.‬‬ ‫فعلى �سبيل املثال‪ ،‬املهدي ابن تومرت‪ ،‬مل يكن فقيه فهم بقدر‬ ‫ما كان فقيه تغيري‪� ،‬أي �إنه كان فقيه �إ�صالح دولة املرابطني التي قامت‬ ‫�أ�ص ًال على فكرة العودة �إىل الأ�صل (ال�سلف الأول‪� /‬أول الأمة)‪ ،‬و�إ�صالح‬ ‫دولة املرابطني املخالفة لل�شرع كما ر�آها ابن تومرت‪ ،‬مل يكن �شيئا‬ ‫�آخر غري �إ�سقاطها‪ ،‬وتلك مهمة توالها عبد امل�ؤمن علي الكومي الذي‬ ‫تتلمذ على يد ابن تومرت و�أعجب به وبدعوته‪ .‬وكانت دولة املرابطني‬ ‫قد ت�أ�س�ست يف القرن اخلام�س الهجري على يد فقيه جماهد ا�سمه‬ ‫"عبد اهلل بن يا�سني اجلزويل" وقائد ميداين هو الأمري �أبو بكر بن‬ ‫وجماهد تاريخي هو "يو�سف بن تا�شفني" وكانت م�شرو ُع‬ ‫عمر اللمتوين‬ ‫ٍ‬ ‫إ�صالح حمكوم ًا مبعادلة الإ�صالح القائمة على فكرة العودة �إىل الأ�صل‬ ‫� ٍ‬ ‫(ال�سلف الأول‪� /‬أول الأمة)‪.‬‬ ‫‪241‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:12‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 241‬‬


‫ظهر املهدي بن تومرت يف القرن ال�ساد�س الهجري‪ ،‬على‬ ‫�أنقا�ض هذا امل�شروع‪ ،‬وبد�أ دعوته الإ�صالحية يف املغرب؛ فدعا النا�س‬ ‫�إىل التوحيد اخلال�ص‪ ،‬ولهذا �أُطلق على �أن�صاره ا�سم "املوحدين"‪،‬‬ ‫و�سميت الدولة التي قامت على دعوته دولة "املوحدين"‪ ،‬وجهر بالأمر‬ ‫ُ‬ ‫باملعروف والنهي عن املنكر‪ ،‬ودعا لنف�سه على �إنه املهدي املنتظر والإمام‬ ‫املع�صوم الذي يحكم بني النا�س بالعدل‪ ،‬واتخذ منهج ًا يف الفقه يقوم‬ ‫وال�سنة من دون درا�سة فروع امل�سائل‬ ‫على الدرا�سة املبا�شرة للقر�آن ُّ‬ ‫الفقهية التي كانت �سائدة يف املغرب على املذهب املالكي‪.‬‬ ‫هكذا‪ ،‬ت�أ�س�ست حركة املرابطني يف القرن اخلام�س الهجري‪،‬‬ ‫على �أ�سا�س �أنها حركة ت�صحيح‪ُ ،‬ترجع النا�س �إىل الدين ال�صحيح‪،‬‬ ‫وعلى �أنقا�ضها قامت دولة املوحدين‪ ،‬على الأ�سا�س نف�سه‪.‬‬ ‫املعادلة نف�سها حكمت �إ�صالح الإمام حممد بن عبد الوهاب‬ ‫(‪1791-1703‬م)‪ ،‬وحكمت م�شروع تغيريه الإ�صالحي نف�سه‪.‬‬ ‫الإمام حممد بن عبد الوهاب بن �سليمان بن علي التميمي‬ ‫احلنبلي النجدي‪ ،‬من زعماء الإ�صالح كما ي�صفه �أحمد �أمني يف كتابه‬ ‫(زعماء الإ�صالح)‪� ،‬أو كما ي�س ِّميه ال�شيخ م�سعود عامل الندوي‪ ،‬امل�صلح‬ ‫املظلوم‪ .‬قامت دعوته الإ�صالحية ‪-‬كما يقدِّ مها ال�شيخ ابن باز‪ -‬على‬ ‫ال�سنة‪ ،‬و�أظهر للنا�س �أن الواجب على جميع‬ ‫توحيد اهلل ودعا النا�س �إىل ُّ‬ ‫امل�سلمني �أن ي�أخذوا دينهم عن كتاب اهلل و�س َّنة ر�سول اهلل‪ ،‬كان �آمر ًا‬ ‫باملعروف ناهي ًا عن املنكر‪ ،‬وكان يحث الأمراء على تعزير املجرمني‪.‬‬ ‫وعكف قبل ذلك على كتاب اهلل‪ ،‬وعلى �سرية الر�سول و�سرية‬ ‫�أ�صحابه (�أول الأمة)‪ ،‬وقد بد�أ ين�شر دعوته الإ�صالحية بني النا�س‬ ‫ويكاتب الأمراء والعلماء يف ذلك‪ ،‬با�سم (�أول الأمة)‪ ،‬وقد وجد الفقيه‬ ‫الذي حتمل دعوته (�أول الأمة) من ي�صلح (�آخر الأمة)‪ ،‬فتحالف مع‬ ‫‪242‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:12‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 242‬‬


‫�أمري الدرعية وقتها حممد بن �سعود جد الأ�سرة ال�سعودية‪ ،‬ورفعت راية‬ ‫اجلهاد وبد�أ اجلهاد من العام ‪ 1158‬هـ‪.‬‬ ‫وهو يف العقيدة – كما ي�صفه ال�شيخ عبد العزيز بن باز‪ -‬على‬ ‫طريقة ال�سلف ال�صالح ي�ؤمن باهلل وب�أ�سمائه و�صفاته‪ ،‬وي�ؤمن مبالئكته‬ ‫ور�سله وكتبه وباليوم الآخر وبالقدر خريه و�شره‪ ،‬وهو على طريقة �أئمة‬ ‫الإ�سالم يف توحيد اهلل و�إخال�ص العبادة له‪ ،‬ويف الإميان ب�أ�سماء اهلل‬ ‫و�صفاته على الوجه الالئق باهلل ‪� -‬سبحانه ‪ -‬ال يعطل �صفات اهلل‪،‬‬ ‫وال ي�شبه اهلل بخلقه‪ ،‬ويف الإميان بالبعث والن�شور واجلزاء‪ ،‬واحل�ساب‬ ‫واجلنة والنار‪ ،‬وغري ذلك‪.‬‬ ‫ويقول يف الإميان ما قاله ال�سلف �إنه قول وعمل يزيد وينق�ص‪،‬‬ ‫يزيد بالطاعة‪ ،‬وينق�ص باملع�صية‪ ،‬كل هذا من عقيدته‪ ،‬فهو على‬ ‫طريقتهم وعلى عقيدتهم ق ً‬ ‫وال وعم ًال‪ ،‬مل يخرج عن طريقتهم �ألبتة‪،‬‬ ‫ولي�س له يف ذلك مذهب خا�ص‪ ،‬وال طريقة خا�صة‪ ،‬بل هو على طريق‬ ‫ال�سلف ال�صالح من ال�صحابة و�أتباعهم ب�إح�سان‪.‬‬ ‫وحركة الإ�صالح الديني والنه�ضوي التي قادها جمال الدين‬ ‫الأفغاين وحممد عبده‪ ،‬قامت �أي�ض ًا على الفكرة نف�سها‪ ،‬وهي العودة‬ ‫بالأمة ع ّما انحرفت عنه من �أ�صول دينها التي نه�ضت بها يف املا�ضي‪� .‬إال‬ ‫�أن هذا ال يعني طبع ًا �أنها تكرار للتجارب نف�سها‪ ،‬غري �أنها ت�شرتك معها‬ ‫يف م�أزق املعادلة نف�سها‪.‬‬ ‫مقولة الإ�صالح الديني ظلت حمكومة بهذه املعادلة‪ ،‬وهي‬ ‫م�شروع �إ�صالح �سيا�سي (مبعنى تغيري نظام �أو حكومة �أو دولة)‪� ،‬أي‬ ‫�إ�صالح ما انحرف عن الأ�صل (�أول الأمة)‪� ،‬صار الإ�صالح بهذه املعادلة‬ ‫مقولة جتعل من �إ�صالح ما انحرف حجة تربير‪ ،‬وهي تربر للم�شروع‬ ‫ال�سيا�سي الذي �سيكون هو وحده امل�س�ؤول عن هذا الإ�صالح وحتديد‬ ‫‪243‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:12‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 243‬‬


‫معناه‪ .‬با�سم هذا الإ�صالح الذي ي�ستخدم �أول الأمة يتم تربير القوة التي‬ ‫ي�ستخدمها امل�شروع ال�سيا�سي الإ�صالحي‪ ،‬بهذا التربير كان ينطق مث ًال‬ ‫م�شروع �إ�صالح الإمام ابن عبد الوهاب "بد�أ اجلهاد بال�سيف‪ ،‬وبالكالم‬ ‫والبيان‪ ،‬واحلجة‪ ،‬والربهان‪ ،‬ثم ا�ستمرت الدعوة مع اجلهاد بال�سيف‪،‬‬ ‫ومعلوم �أن الداعي �إىل اهلل �إذا مل يكن لديه قوة تن�صر احلق وتنفذه‬ ‫ف�سرعان ما تخبو دعوته وتنطفي �شهرته‪ ،‬ثم يقل �أن�صاره"‪.‬‬ ‫جتديد البالء‬ ‫ولعل ما ي�ؤكد ح�ضور هذه املعادلة يف �صلب خطاباتنا‬ ‫الإ�صالحية‪ ،‬ومفهومنا للإ�صالح‪ ،‬هو �أنها تتحكم حتى يف �إنتاج مفهومنا‬ ‫للتجديد‪ ،‬فالتجديد �ش�أنه �ش�أن الإ�صالح ال يتجاوز �شيئ ًا وال يخرج على‬ ‫�شيء‪ ،‬وال يبتدع �شيئ ًا‪ ،‬فهو �إعادة حالة �أ�صابها البلى‪ ،‬وهذا ما ي�ؤكده‬ ‫اخلطاب التايل‪:‬‬ ‫"�إن التجديد يف الأ�صل معناه اللغوي يبعث يف الذهن ت�صو ًرا‬ ‫معان مت�صلة‪:‬‬ ‫جتتمع فيه ثالثة ٍ‬ ‫�أ‪� -‬أن ال�شيء املجدد قد كان يف �أول الأمر موجودًا وقائ ًما وللنا�س به‬ ‫عهد‪.‬‬ ‫ب‪� -‬أن هذا ال�شيء �أتت عليه الأيام ف�أ�صابه البلى و�صار قد ًميا‪.‬‬ ‫جـ‪� -‬أن ذلك ال�شيء قد �أعيد �إىل مثل احلالة التي كان عليها قبل �أن يبلى‬ ‫ويخلق"(‪.)105‬‬ ‫ومقارنة بالفكر الغربي القائم على جتاوز املا�ضي وغياب‬ ‫املعايري الثابتة للتجديد‪ ،‬ف�إن مفهوم التجديد يف الفكر الإ�سالمي‪:‬‬ ‫يعني العودة �إىل الأ�صول و�إحيائها يف حياة الإن�سان امل�سلم؛ مبا ميكن‬ ‫انظر مفاهيم ومصطلحات في موقع إسالم أونالين‪:‬‬ ‫‪105‬‬ ‫‪/http://www.islamonline.net‬‬

‫‪244‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:12‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 244‬‬


‫من �إحياء ما اندر�س‪ ،‬وتقومي ما انحرف‪ ،‬ومواجهة احلوادث والوقائع‬ ‫املتجددة‪ ،‬من خالل فهمها و�إعادة قراءتها متث ًال للأمر الإلهي امل�ستمر‬ ‫ا�س ِم َر ِّب َك ا َّل ِذي َخ َلقَ "‪.‬‬ ‫بالقراءة‪" :‬ا ْق َر�أْ ِب ْ‬ ‫وهذا ما يجعل من التجديد والإ�صالح مفاهيم ال تتجاوز �أن‬ ‫تكون معاجلة حلالة بلى �أو بالء‪ ،‬حتتاج �إىل من يقومها ويتعهدها‪ ،‬كي‬ ‫تعود �إىل حالتها الأوىل‪ .‬هكذا يكون �إ�صالح الأمة �أو جتديدها‪ ،‬عود �أبدي‬ ‫من حالة بالء �أو بلى �أو اعوجاج �إىل حالة �صحية �أو �صحيحة مفرت�ضة‪.‬‬ ‫وما يجعل فعل الع ْود الذي تنجزه معادلة الإ�صالح �أو التجديد‪،‬‬ ‫ع ْود �أبدي عقيم‪ ،‬هو �أنه فعل ال يقيم عالقة مغايرة مع الأ�صل‪ ،‬وال ي�سعى‬ ‫لتحويل الأ�صل‪ ،‬بل يقيم هذا الفعل و�صل متا ٍه مع الأ�صل‪ ،‬لي�ضمن بقاءه‬ ‫وحياته فيه‪ ،‬وبذلك يتح َّول الأ�صل �سلط ًة مرجعية ال انفكاك منها‪ ،‬ويتم‬ ‫تثبيت هذه ال�سلطة‪ ،‬حني يجوه ُر فع ُل العود الأبدي ال َ‬ ‫أ�صل‪ ،‬وذلك بخلع‬ ‫�صفات �أبدية وثابتة ومثالية عليه‪.‬‬ ‫فعل القراءة يظل مرهون ًا ملا ينجزه فعل الع ْود‪ ،‬لذلك فالقراءة‬ ‫إ�صالح وجتديد حمكوم ب�سلطة العودة‬ ‫لي�ست فعل فهم‪ ،‬بقدر ما هي فع ُل � ٍ‬ ‫�إىل الأ�صل‪ ،‬فتكون القراءة هي العودة �إىل الأ�صل والنطق با�سم الأ�صل‪،‬‬ ‫رب‪ .‬القراءة‬ ‫والتطابق وفق �سلطة الأ�صل‪ .‬اقر�أ با�سم الأ�صل‪ ،‬فالأ�صل ٌّ‬ ‫هي ك�شف بالء اعرتى الأ�صل‪ ،‬ال ك�شف بالء الأ�صل نف�سه‪ ،‬والعودة‬ ‫ب�صحة الأ�صل‪ ،‬كي ي�سرتد عافيته‪ ،‬ال ت�صحيح الأ�صل نف�سه‪.‬‬ ‫ميار�س الأ�صل خماتلته وعماه على فعل الع ْود الأبدي الذي‬ ‫يقوم به اخلطاب الإ�صالحي حني يتخذ الأ�صل �صيغ ًا عامة لأول الأمة‬ ‫(الإ�سالم‪ ،‬القر�آن‪ ،‬اهلل‪ ،‬ال�سلف ال�صالح‪� ،‬صدر الإ�سالم‪ ،‬اخللفاء‬ ‫الرا�شدين)‪ ،‬وتغيب التمثيالت التاريخية التي حملت هذه ال�صيغ‬ ‫وج�سدتها‪ ،‬وحني حت�ضر هذه التمثيالت يف �صيغ �شخ�صيات �أو فرتات �أو‬ ‫‪245‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:12‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 245‬‬


‫مراحل‪ ،‬ف�إنها ت�ستحيل �صيغ ًا عامة جمرد ًة من خلفياتها الدنيوية‪ ،‬وذلك‬ ‫لفرط قوة ح�ضور فعل التقدي�س‪ ،‬وبذلك ت�ستحيل (الأمة) وم�ضافها‬ ‫املالزم لها (الإ�صالح) متخيالت وتعميمات ال عقل لها‪ ،‬حتى ك�أننا حني‬ ‫نقول �إ�صالح الأمة ال نحيل على �شيء!‬ ‫من هنا‪ ،‬ت�أتي �أهمية حترير الإ�صالح من �أن يكون �إ�صالح‬ ‫�أمة‪ ,‬ومن �أن يكون �إعادة ال تنتهي لت�أ�صيل �أ�صولها املتخيلة‪ .‬فالإ�صالح‬ ‫�أو التجديد املرادف ملعنى الت�أ�صيل ال ي�سعى �إىل غري تثبيت ال�سلطة‬ ‫املرجعية للأ�صل‪ ،‬ال حتويلها‪ ،‬وال فتحها‪ ،‬وال �إعادة تركيبها‪ ،‬وال ي�سعى‬ ‫لإقامة عالقات حديثة بها‪.‬‬ ‫حكم �أول الأمة‬ ‫لقد جعلت معادلة الإ�صالح التي عبرَّ ت عنها مقولة الإمام‬ ‫َ‬ ‫ات�صال متا ٍه‪ ،‬وقد حال‬ ‫مالك بالغة مكثفة‪ ،‬ات�صال �أول الأمة ب�آخر الأمة‬ ‫هذا التماهي دون حت ُّول �أول الأمة تاريخ ًا‪ ،‬ميتد م�ساف ًة عن �آخر الأمة‪،‬‬ ‫�أي مل يتح َّول �أول الأمة مو�ضوع ًا تاريخي ًا لآخر الأمة‪ ،‬تراه وفق حتوالتها‬ ‫التاريخية واملعرفية‪ ،‬بل �آخر الأمة ظل مو�ضوع ًا لأول الأمة‪ ،‬ولأن الأول‬ ‫غائب وال ميكن �إال �أن نتخيله‪ ،‬لذلك ظلت الأمة مو�ضوع ًا متخي ًال تنتجه‬ ‫�أول الأمة‪ ،‬لقد ظل �آخر الأمة مو�ضوع ًا حمموله ال يتغيرَّ ‪ ،‬وهل يتغيرَّ �أول‬ ‫الأمة؟!‬ ‫لذلك مل يتح َّول الإ�صالح يف جتربتنا حتديث ًا فهو حمكوم‬ ‫مبعادلة ال تتغيرَّ وال تتح َّدث حتديث ًا يتيح لعقول �آخر الأمة �أن حتمل على‬ ‫�أول الأمة (باعتبارها مو�ضوع ًا) ما يحدث يف زمن �آخر الأمة‪ ،‬بل حدث‬ ‫العك�س‪َّ ،‬مت تركيب �صورة مثالية ثابتة لأول الأمة و�صارت ال�صورة حم ًال‬ ‫ثقي ًال على �آخر الأمة‪ .‬حني يحني و�ضع هذا احلمل تبد�أ حلظة الإ�صالح‬ ‫‪246‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:12‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 246‬‬


‫(مبعنى التحديث) ما يحدث يف كل عملية �إ�صالح يف جتربتنا‪ ،‬هو العودة‬ ‫�إىل هذا احلمل‪ ،‬وك�أنه الأمانة التي ح َّملها اهلل الإن�سان يف الأر�ض‪.‬‬ ‫الإ�صالح يتح َّول حتديث ًا حني ّ‬ ‫يكف �أول الأمة عن �أن يكون‬ ‫حمم ً‬ ‫وال لآخر الأمة‪ ،‬حني ّ‬ ‫يكف �أول الأمة عن �أن يكون قيمة حاكمة على‬ ‫�آخر الأمة‪ ،‬حني ّ‬ ‫يكف عن �أن يكون �أف�ضل القرون‪ .‬الإ�صالح يتح َّول‬ ‫حتديث ًا حني يحمل �آخر الأمة على �أول الأمة‪ ،‬كي ينتح فهمه احلديث‬ ‫لأولها‪ ،‬وذلك ب�أن يكون �أول الأمة مو�ضوع �إ�صالح‪ ،‬فلن ي�صلح �آخر الأمة‬ ‫�إال ب�إ�صالح �أول الأمة‪ ،‬وهذا يعني �أن نقلب مقولة الإمام مالك‪ ،‬طاملا هو‬ ‫غري مع�صوم كما يقول ال�شيخ من�صور الهجلة ‪� -‬إمام وخطيب جامع �أبو‬ ‫بكر ال�صديق بالريا�ض ‪ -‬وجنعلها على النحو التايل‪ :‬لن ي�صلح �أول هذه‬ ‫الأمة �إال مبا �صلح به �آخرها‪.‬‬ ‫وهذا القلب يقت�ضي‪� ،‬أن ّ‬ ‫يكف الإ�صالح عن �أن ينظر �إىل �أول‬ ‫الأمة بو�صفه م�شروع ا�ستعادة‪ ،‬وينظر �إليه بو�صفه م�شروع فهم‪ .‬وهذه‬ ‫ي�ؤدي �إىل قلب ق�ضية الإ�صالح‪ ،‬فالق�ضية مل تعد ق�ضية �أول الأمة‪ ،‬بل‬ ‫ق�ضية �آخر الأمة‪.‬‬ ‫ندخل مرحلة التحديث‪ ،‬حني تكف معادلة الإ�صالح الأبدية‬ ‫عن العمل يف خطابات �آخر الأمة‪ ،‬ف�أول الأمة لي�س مقيا�س ًا تع َّدل وفق‬ ‫ا�ستقامته الأ�شياء‪ ،‬لأنه لي�س مقيا�س ًا لكل الأ�شياء‪ ،‬فالإن�سان بتحوالته‬ ‫وجتاربه‪ ،‬هو مقيا�س ما يح�ضر من الأ�شياء ويحدث (�آخر الأمة)‪ ،‬وما‬ ‫يغيب ومي�ضي (�أول الأمة)‪.‬‬ ‫�إ�صالح القوى املتغايرة‬ ‫الإ�صالح ال�سيا�سي ال ميكنه �أن ينجز (�إ�صالح ًا ديني ًا)‪ ،‬مهما‬ ‫تطورت �أدواته الدميقراطية‪ ،‬فالإ�صالح الديني يحفر يف مناطق بعيدة‬ ‫‪247‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:12‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 247‬‬


‫و�أزمنة طويلة‪ ،‬يف حني �أن ال�سيا�سي حمكوم ب�أزمنة ق�صرية‪ ،‬ومناطق‬ ‫قريبة‪ .‬الإ�صالح ال�سيا�سي ي�شتغل على �آخر الأمة‪ ،‬وي�ستخدم �أول الأمة‪.‬‬ ‫الإ�صالح ال�سيا�سي م�شروع تغيري ال م�شروع فهم‪ ،‬وم�شاريع التغيري تطيح‬ ‫ب�سلطات القوة‪ ،‬لكنها ال تطيح ب�سلطات الفهم‪ ،‬بل �إنها ت�ستخدمها ذريعة‬ ‫لتحقيق ما تريده من تغيري‪ .‬لقد حكم الإ�صالح ال�سيا�سي جتربتنا‪ ،‬ومل‬ ‫ننجز م�شروع �إ�صالح ديني‪ ،‬لأن الإ�صالح ظل م�شتغ ًال ب�أول الأمة‪ ،‬ي�شتغل‬ ‫بهذا الأول‪ ،‬لكنه ال ي�شتغل عليه‪.‬‬ ‫مل جند من ي�صلح �أول الأمة‪ ،‬فقد ظل هذا الأول مقد�س ًا‪،‬‬ ‫و�صارت م�شاريع الإ�صالح م�شاريع لآخر الأمة‪ ،‬يحتاج �إ�صالح �أول الأمة‬ ‫�إىل م�شروع فهم‪� ،‬أما �إ�صالح �آخر الأمة‪ ،‬فهو م�شروع تغيري �سلطة‪،‬‬ ‫وتغيري ال�سلطة يحتاج �إىل قوة املق َّد�س‪ ،‬واملق َّد�س يقوى كلما غاب الفهم‪،‬‬ ‫�أي كلما غاب اال�شتغال على �أول الأمة‪.‬‬ ‫�ضرب حماوالت الإ�صالح الديني‪،‬‬ ‫بل �إن الإ�صالح ال�سيا�سي‪َ ،‬‬ ‫و�أعاق جتربته اجلنينية التي بد�أت يف ع�صر النه�ضة على �أيدي الأفغاين‬ ‫وحممد عبده والكواكبي‪ ،‬لكنها �ضربت �أو �شوهت �أو �أفرغ جانبها‬ ‫الإ�صالحي الذي ميكن �أن يتح َّول حتديث ًا وذلك من ِقبل الفكر الي�ساري‬ ‫الذي مل ت�ستوعب �إيديولوجيته عمل التمثالت الدينية‪ ،‬ومل يت�سع‬ ‫م�شروعه للفهم‪ ،‬بقدر ات�ساعه للتغيري‪ ،‬ومن ِقبل الفكر القومي‪ ،‬بت�أليهه‬ ‫للذات العربية بكل تناق�ضاتها و�إحالته التاريخ �أ�سطورة جمد تليدة ال‬ ‫ميكن نقدها‪ ،‬ومن ِقبل االجتاهات الإ�سالموية بنزعاتها النا�ستولوجية‪،‬‬ ‫واحرتاباتها الكالمية وتقدي�ساتها الدينية‪.‬‬ ‫لقد ابتكرالأ�صل‪ ،‬عرب هذه االجتاهات لعبات كثرية‪ :‬الداخل‬ ‫واخلارج‪ ،‬والأ�صيل والدخيل‪ ،‬والرتاث واملعا�صرة‪ ،‬والقدمي واحلديث‪،‬‬ ‫وال�صحيح واملنحرف‪ ،‬والثابت واملتح ِّول‪ ،‬و�أول الأمة و�آخر الأمة‪ .‬وبهذه‬ ‫‪248‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:12‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 248‬‬


‫اللعبات ظل الإ�صالح مرتهن ًا لفعل الع ْود الأبدي‪ ،‬ويف هذا الظل تعاظمت‬ ‫فاعلية الأ�صل وبقيت احلاجة �إليه �أكرث من احلاجة �إىل الإ�صالح نف�سه‪.‬‬ ‫امل�شروعات ال�سيا�سية‪ ،‬م�شروعات ذرائعية‪ ،‬وهي ال ت�سعى �أبد ًا‬ ‫�إىل تغيري �شيء �سوى �سلطة القوة‪ ،‬وكي حتقق ذلك بنفعية �أكرب‪ ،‬ف�إنها‬ ‫تقدِّ م نف�سها على �إنها حافظة �أ�صول �أوائل الأمة‪.‬‬ ‫وامل�شكلة الأخطر تكمن يف �أن هذه امل�شروعات ال�سيا�سية �أعطت‬ ‫مفهوم ًا للإ�صالح‪ ،‬وفق منطقها الذرائعي‪ ،‬فالإ�صالح هو ما يمُ ِّكن قوة‬ ‫�سيا�سية من �أن متلك زمام ال�سلطة‪ ،‬وال �شيء ميكنها �أكرث من �أن تكون‬ ‫ناطقة با�سم املحافظة على الأ�صل وحمايته مما �أحلقه به الآخرون من‬ ‫انحراف‪ ،‬والآخرون �سل�سلة ال تنتهي من اخل�صوم والأعداء الذين يتم‬ ‫ابتكارهم با�ستمرار كي ت�ستمر اللعبة‪ .‬هكذا يكون الإ�صالح م�شروع‬ ‫قوى تتغاير‪� ،‬أي تَغري على بع�ضها ل ُتغيرِّ َ بع�ضها ببع�ض‪ ،‬ال م�شروع �أفهام‬ ‫متعددة‪ ،‬هكذا يتح َّدد معنى الإ�صالح وفق م�شاريع القوة التي تنطق به‪،‬‬ ‫فاملعنى حتدِّ ده القوة امل�ستولية على املفهوم �أو على ال�شيء‪ ،‬كما يقول‬ ‫فيل�سوف التفكيك الفرن�سي (جيل دولوز) يف قراءته لفل�سفة نيت�شه "كل‬ ‫قوة هي امتالك كمية من الواقع‪ ،‬وال�سيطرة عليها وا�ستغاللها‪ ...‬ل�شيء‬ ‫ما‪ ،‬من املعاين‪ ،‬قدر ما توجد من قوى قادرة على اال�ستيالء عليه‪ ..‬كل‬ ‫�إخ�ضاع‪ ،‬كل �سيطرة‪� ،‬إمنا تعادل تف�سري ًا جديد ًا‪ ...‬تاريخ �شيء ما‪ ،‬هو‬ ‫عموم ًا تعاقب القوى التي ت�ستويل عليه " (‪.)106‬‬ ‫�إ�صالح الهجلة‬ ‫�سن�أخذ خطاب "الإ�صالح الديني مدخل ق�سري للح�ضارة"‬ ‫ملن�صور الهجلة‪ ،‬واملن�شور يف جريدة الريا�ض‪ ،‬منوذج ًا للكيفية التي تلعب‬ ‫‪106‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:12‬‬

‫نيت�شه والفل�سفة‪ ،‬جيل دولوز‪.‬‬

‫‪249‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 249‬‬


‫فيها معادلة الإ�صالح وفعل ع ْودها الأبدي يف خطاباتنا عن الإ�صالح بعد‬ ‫�أحداث ‪� 11‬سبتمرب‪.‬‬ ‫خطاب (الهجلة) باملوا�صفات الإعالمية وال�سيا�سية خطاب‬ ‫(معتدل) (و�سطي) (علمي) (منوذجي) بعيد عن التط ُّرف الذي تدينه‬ ‫ال�سلطات ال�سيا�سية بعد �أحداث ‪� 11‬سبتمرب‪ .‬فهذا اخلطاب يحيل �إىل‬ ‫الأنرثوبولوجيا‪ ،‬وي�ست�شهد مب�ؤرخي احل�ضارات‪ ،‬ويبدو �أنه على اطالع‬ ‫جيد بتاريخ الإ�صالح الديني امل�سيحي‪ ،‬كما �أنه ي�ؤكد �أهمية الإ�صالح‪،‬‬ ‫وينتقد ال�سلفية التقليدية التي ال تف�صل بني التاريخ والن�ص املق َّد�س‪،‬‬ ‫اقتداء مبقولة الإمام مالك "ال ي�صلح �آخر هذه الأمة �إال مبا �صلح به‬ ‫�أولها"‪.‬‬ ‫لقد و�ضعتُ موا�صفات (معتدل) (و�سطي) (علمي)‬ ‫(منوذجي) بني �أقوا�س‪ ،‬لأ�شري �إىل التبا�سها ون�سبيتها وا�شتباهها لدرجة‬ ‫جتعلني �أ�شك فيها �أكرث مما �أتيقن ‪ ،‬فهي ال حتيل �إىل املعنى نف�سه‬ ‫يف كل خطاب‪ ،‬وهي ال حتيل �إىل موا�صفات معيارية حني ن�ستخدمها‬ ‫لو�صف خطابات خمتلف‪ ،‬لذلك فم�ؤ�شرات االعتدال والو�سطية والعلمية‬ ‫والنموذجية التي تبدو يف �أي خطاب‪ ،‬هي �أقرب �إىل املراوغة واملواربة‪،‬‬ ‫منها �إىل الداللة القاطعة على طبيعة اخلطاب الذي تظهر فيه‪ .‬فكيف‬ ‫تبدو امل�ؤ�شرات الإ�صالحية يف خطاب الهجلة؟‬ ‫م�شكلة هذا اخلطاب �أنه ي�ستخدم الإ�صالح بالتبا�سات تفقده‬ ‫القدرة على �أن يكت�سب طاقة مغايرة‪ ،‬ميكنها �أن تحُ ِّرك الأو�ضاع امل�ستقرة‬ ‫حول هذا املفهوم �أو حول �آثاره‪ .‬مفهوم الإ�صالح يف هذا اخلطاب ال‬ ‫يغيرِّ من �صفرية احلوار يف م�ستواه املعريف ال الإعالمي‪ ،‬حول الإ�صالح‪،‬‬ ‫الإ�صالح يف هذا اخلطاب ال يغادر مكانه من اال�ستعمال العادي �إىل‬ ‫اال�ستعمال اجلدايل املنا�سب ملا ي�شهده العامل اليوم من �أحداث‪� ،‬أي �أنه‬ ‫‪250‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:12‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 250‬‬


‫ال يغادر الدرجة ال�صفر من اجلدل‪ ،‬التي كان م�ستقر ًا فيها‪ ،‬فالإ�صالح‬ ‫غري م�ؤ�شكل يف هذا اخلطاب‪ ،‬على الرغم من �أن الإ�صالح �صار يف احلقل‬ ‫الثقايف والإعالمي وال�سيا�سي مو�ضوع ًا جدالي ًا‪ .‬الإ�صالح ي�ستخدم يف‬ ‫هذا اخلطاب للمحافظة على ال�سكون‪ ،‬وعدم الإزعاج لأية حركة تهدِّ د‬ ‫م�صالح القوى الرمزية واملادية التي ي�ستمد منها هذا اخلطاب مفهومه‬ ‫للإ�صالح‪.‬‬ ‫�إ�صالح الدرجة ال�صفر‬ ‫بعد �أحداث ‪� 11‬سبتمرب‪ ،‬مل يعد الإ�صالح يف الدرجة ال�صفر‬ ‫من اجلدل‪ ،‬بل �صار مو�ضوع ًا تتوازعه قوى متعدِّ دة ومتغايرة‪ ،‬وتقاربه‬ ‫حقول خمتلفة‪ ،‬مل يعد �ش�أن ًا خا�ص ًا ب�أ�صحاب امل�شاريع ال�سيا�سية‪ ،‬وال‬ ‫ب�أ�صحاب الأفكار الأيديولوجية‪ ،‬وال يحتكره �أهل االخت�صا�صات املعرفية‪،‬‬ ‫�أو �أهل االخت�صا�صات الدينية‪.‬‬ ‫خطاب الهجلة يف هذا ال�سياق لي�س هو يف الدرجة ال�صفر من‬ ‫اجلدل‪ ،‬فهو يبني خطابه وي�سوق حججه ويقيم ت�أويالته �ضمني ًا‪� ،‬ضمن‬ ‫درجات جدل هذه اخلطابات املختلفة حول الإ�صالح‪� ،‬إال �أن مقاربته‬ ‫ملو�ضوع الإ�صالح نف�سه‪ ،‬مل تتحرك درجة عن املقاربات التربيرية �أو‬ ‫التمجيدية الدينية قبل �أن ي�صبح الإ�صالح مو�ضوع ال�ساعة‪ ،‬مبعنى �أنه‬ ‫مل يقارب هذا املو�ضوع ب�إ�شكالية جديدة �أو فر�ضية جديدة �أو ت�سا�ؤل‬ ‫جديد �أو منوذج تف�سريي جديد �أو زاوية جديدة‪� ،‬أو مفهوم جديد‪.‬‬ ‫خطاب الهجلة حمكوم مبعادلة الإ�صالح الأبدية‪ ،‬وهذه املعادلة جتعل‬ ‫من الإ�صالح عملية داخلية‪ ،‬ال حتتاج �أبد ًا �إىل اخلارج‪ ،‬وال ي�ؤثر فيها‬ ‫اخلارج‪ ،‬بل هو عملية دينية يقوم بها الدين نف�سه والقائمون عليه‪.‬‬ ‫"والدين الإ�سالمي باعتبار جوهره هو يف احلقيقة �إ�صالح‬ ‫وت�صحيح ملا اعرتى الأديان ال�سماوية من حتريف وتعطيل �أف�ضى �إىل‬ ‫‪251‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:12‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 251‬‬


‫�أنواع من الف�ساد كالظلم العقدي ‪ -‬الذي متثل يف �إلزام النا�س التو�سط‬ ‫برجال الدين يف عباداتهم و�إ�شعارهم باخلطيئة الأزلية التي لي�س لهم‬ ‫فيها ناقة وال جمل‪ ،‬والظلم االجتماعي وال�سيا�سي‪ ،‬فالإ�سالم هو يف‬ ‫حقيقته حركة ‪�-‬إن �صح التعبري‪�-‬إ�صالحية وت�صحيحية تفوق حركة لوثر‬ ‫وكالفن مبراحل"(‪.)107‬‬ ‫ي�صحح نف�سه وتاريخه و�أمته و�أتباعه بنف�سه‪ ،‬وهو‬ ‫الإ�سالم ِّ‬ ‫يفوق يف قدرته الإ�صالحية والت�صحيحية التجارب التاريخية (لوثر‬ ‫وكالفن) بل وي�ستغني عنها‪ ،‬فهو ال يحتاج لها‪� .‬إن هذا اخلطاب حتت‬ ‫حكم معادلة الإ�صالح وفعل ع ْودها الأبدي ال ميكنه �أن يقارب الإ�صالح‬ ‫كتجربة حتدث يف التاريخ املعا�ش‪ ،‬و�أن ينظر �إىل الدين نف�سه (الإ�سالم)‬ ‫جترب ًة يف التاريخ معا�ش ًة‪ ،‬وهي بقدر ما ُت�ص ِلح حتتاج �إىل من ُي�صلحها‪،‬‬ ‫وهي حتتاج �إىل �شيء خارجها‪ ،‬كي يقر�أها و ُي�صلح جتربتها‪ .‬ال ميكن‬ ‫لهذا اخلطاب �أن يقبل بهذا اخلارج‪ ،‬فالإ�صالح عملية داخلية‪ ،‬والداخل‬ ‫واخلارج يتح َّددان بح�سب طبيعة ال�صلة ب�أول الأمة‪ ،‬فات�صال التماهي‬ ‫هو الداخل‪ ،‬وغريه من ات�صاالت منف�صل ًة �أو متمايز ًة �أو مت�صل ًة من وجه‬ ‫ومنف�صل ًة من وجه‪ ،‬هو اخلارج‪.‬‬ ‫وهذا الداخل هو ما ميثله علماء الأمة ومفكروها "�إن الدين‬ ‫ن�سبت �إليه �أمور هي يف احلقيقة لي�ست منه يف �شيء على امل�ستوى‬ ‫االجتماعي وال�سيا�سي واالقت�صادي والثقايف‪ ،‬لذا كانت الدعوة من علماء‬ ‫هذه الأمة ومفكريها �إىل الإ�صالح الديني �أو جتديد اخلطاب الديني‪،‬‬ ‫ويق�صد بذلك �أمران‪ :‬الإ�صالح يف الدين‪ ،‬والإ�صالح بالدين"(‪.)108‬‬ ‫‪ 107‬من�صور الهجلة‪" ،‬الإ�صالح الديني" مدخل ق�سري للح�ضارة‪،‬‬ ‫جريدة ال�شرق الأو�سط‪.2004-04-17 ،‬‬ ‫املرجع نف�سه‪.‬‬ ‫‪108‬‬ ‫‪252‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:12‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 252‬‬


‫�إن هذه الدعوة من علماء الأمة ومفكريها‪ ،‬ال حتدِّ د فقط من هم‬ ‫امل�صلحون الذين ميكنهم �أن ميلكوا �شرعية الإ�صالح‪ ،‬بل تك�شف ب�شكل‬ ‫�ضمني‪� ،‬شرط الإ�صالح الذي هو عبارة عن �إقامة �صلة متا ٍه بالأ�صل‪،‬‬ ‫يقيمها امل�صلح بتعديل ما اعوج وت�صحيح ما بلي‪ ،‬هكذا بهذا ال�شرط‬ ‫ن�ضمن العمل وفق معادلة الإ�صالح وفعلها‪.‬‬ ‫اخلروج يف الداخل‬ ‫و�إذا كان خطاب الهجلة قد خرج على ال�سلفية التقليدية يف‬ ‫موقفها احلريف من مقولة الإمام مالك‪ ،‬ف�إنه مل يخرج عن م�ضمون املقولة‬ ‫ال�ضمني" فالإ�صالح يف الدين يتناول �إعادة قراءة الدين الإ�سالمي قراءة‬ ‫معرفية ومو�ضوعية ت�ستفيد من الأدوات الرتاثية ال�صاحلة للقراءة كما‬ ‫ت�ستفيد من الأدوات احلديثة النافعة‪ ،‬فتخرج الن�ص املقد�س خمل�صا‬ ‫من التاريخ غري املقد�س والذي اختلط به كثري ًا لدرجة التناق�ض وعدم‬ ‫االن�سجام بني روح ومقا�صد الإ�سالم وبني ال�صورة التاريخية التي ت�صر‬ ‫ال�سلفية التقليدية على ا�ستعادتها كجزء ال يتجز�أ من الدين يف حدود‬ ‫قول الإمام مالك (لن ي�صلح �آخر هذه الأمة �إال مبا �صلح به �أولها)‪ .‬وهذا‬ ‫القول امل�أثور و�إن كان �صادرا عن غري مع�صوم �إال �أنه ُح ّمل من الدالالت‬ ‫ما يفوق مق�صد الإمام مالك‪ ،‬وذلك جلهالة (ما) املو�صولة التي للجميع‬ ‫هذه اللمحة الذكية يف‬ ‫�أن يف�سرها كما ي�شاء ويحلو له"(‪.)109‬‬ ‫خطاب الهجلة جلهالة (ما) املو�صولة‪ ،‬و�إمكانية ت�أويل حالوتها وفق‬ ‫�أذواق متعدِّ دة‪ ،‬ميكن ا�ستخدامها لك�شف ذوق خطاب الهجلة نف�سه يف‬ ‫ا�ستطعام فكرة الإ�صالح‪ ،‬فالهجلة ال ي�ستطعم �إال �إ�صالح ًا مطبوخ ًا وفق‬ ‫موا�صفات �أول الأمة‪ ،‬و�إن كان زمن �أول الأمة يت�سع عنده �أكرث مما يت�سع‬ ‫عند ال�سلفية التقليدية‪.‬‬ ‫‪109‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:12‬‬

‫املرجع نف�سه‪.‬‬

‫‪253‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 253‬‬


‫ �إذا كانت ال�سلفية التقليدية كما ي�س ِّميها الهجلة قد �ض َّيقت‬ ‫مفهوم �أول الأمة يف �صدر الإ�سالم‪ ،‬وع�صر ال�صحابة واخللفاء‬ ‫و�سعت‬ ‫الرا�شدين‪ ،‬ف�إن ال�سلفية غري التقليدية مل تفعل �شيئ ًا غري �أنها َّ‬ ‫(�أول الأمة) لتجعله ي�شمل ع�صر احل�ضارة الإ�سالمية �أو الع�صر الذهبي‬ ‫لها‪� ،‬أي �أن �أول الأمة الذي علينا اليوم القيا�س عليه واعتماده مرجع ًا‬ ‫لنه�ضتنا هو الع�صر الذهبي الذي كنا فيه �سادة العامل قو ًة ومعرف ًة‬ ‫وعلم ًا‪ .‬هكذا تكون ال�سلطة املرجعية خلطاب ال�سلفية التقليدية وغري‬ ‫التقليدية هي �أول الأمة‪ ،‬ويبقى اخلالف بينهما خالف ًا يف الزمن الذي‬ ‫ميثل الفرتة النموذجية التي ميكنها �أن ت�صلح �آخر الأمة‪ .‬و�سبب هذا‬ ‫اخلالف هو جهالة (ما) املو�صولة‪ ،‬فهذه اجلهالة تتيح ت�أويالت متعدِّ دة‬ ‫للزمن ال�صالح‪ ،‬ليكون مرجع ًا لإ�صالح �آخر الأمة‪.‬‬ ‫جهالة ال�صلة‬ ‫ �إن جهالة (ما) املو�صولة‪ ،‬حتجب جهالة �أخرى مر َّكبة‪ ،‬وهي‬ ‫جهالة �صلتها املو�صولة (�صلح به �أولها) ف�إذا كانت (ما) حتجب الزمن‬ ‫وتع ِّومه لفرط تعميمها وجهالتها‪ ،‬ف�إن �صلتها املو�صولة متار�س حجب ًا‬ ‫مركب ًا �أو جه ًال مركب ًا‪ ،‬فهي تع ِّوم لي�س الزمن فقط‪ ،‬بل ال�سلطة املرجعية‬ ‫التي متثلها وحدودها وطبيعتها وكيفيتها‪ ،‬وحتجب فعل عودتها الأبدية‬ ‫يف خطابات �آخر الأمة‪ ،‬فخطاب الهجلة �إذا كان يعي الت�ضييق الذي‬ ‫فر�ضته جهالة (ما) على ال�سلفية التقليدية ف�إنه يجهل الت�ضييق الذي‬ ‫تفر�ضه �صلة (ما)‪ ،‬وهذا ما يجعل خطاب الهجلة حم�صور ًا يف �إ�صالح‬ ‫منطي �أبدي تفر�ضه هذه ال�صلة من دون �أن يدرك خطابه م�أزقه‪.‬‬ ‫ومتار�س هذه ال�صلة �سلطتها بجعل الإ�صالح عملية داخلية‪،‬‬ ‫�أو عملية تكت�سب �شرعيتها وقبولها من الداخل‪ ،‬وال ميكن للخارج �أن‬ ‫ي�شارك يف هذا الفعل (ي�صلح)‪� ،‬سواء كان اخلارج عدة منهجية �أو �أدوات‬ ‫‪254‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:12‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 254‬‬


‫معرفية‪� ،‬أو ف�ضاء جغرافي ًا‪� ،‬أو علماء خارجني على �سلطة جهالة (ما)‬ ‫و�صلتها‪� ،‬أو ع�صر ًا خارج زمن (ما)‪ .‬ال ب َّد من تقييد الداخل بتحديده‪،‬‬ ‫كي نحمي الإ�صالح ونحمي فعله الأبدي من تدخالت اخلارج‪.‬‬ ‫"ويدخل يف املجاالت هذه (جماالت الإ�صالح يف الدين)‪:‬‬ ‫�إعادة ا�ستك�شاف علماء الرتاث الذين �ساروا بخطوات جتديدية هائلة‬ ‫يف املجال الت�شريعي‪ ،‬ابتدا ًء بعلماء ال�صحابة مثل‪ :‬عمر بن اخلطاب‬ ‫ر�ضي اهلل عنه‪ ،‬وابن عبا�س ر�ضي اهلل عنهما‪ ،‬وانتها ًء بعلماء العراق‬ ‫وال�شام واحلجاز‪ ،‬وغريهم من التابعني وتابعيهم‪ ،‬مثل‪ :‬اجلويني‪ ،‬وابن‬ ‫عقيل‪ ،‬وابن عبد ال�سالم‪ ،‬وابن تيمية‪ ،‬والطويف‪ ،‬وغريهم ممن برزوا‬ ‫يف جمال تقرير عقالنية ال�شريعة ومركزية حتقيقها للم�صالح ودرئها‬ ‫للمفا�سد"(‪.)110‬‬ ‫ه�ؤالء هم �أ ّول الأمة حني نو�سع زمن ال�سلفية التقليدية‪ ،‬وهم‬ ‫الذين ميثلون داخلها‪ ،‬والإ�صالح لي�س �أكرث من العودة �إىل هذا الداخل‬ ‫باله ِه الذي جعله قدمي ًا‪ ،‬الإ�صالح هو العودة �إىل مثل هذه احلالة‬ ‫ب�إزالة ِ‬ ‫التي كان عليها الداخل قبل �أن يبلى ويخلق‪ .‬هكذا تتح َّدد مرجعية‬ ‫الإ�صالح يف الدين وفق �سلطة معادلة الإ�صالح وفعلها‪ ،‬التي ت�صدر عن‬ ‫�أول الأمة‪ ،‬وعلماء الأمة ه�ؤالء الذين ميثلون داخلها‪ ،‬و�أولها‪ ،‬هم بالأوىل‬ ‫ميثلونها‪ ،‬ومن ميلك متثيل الأمة ميلك �صالحها و�إ�صالحها‪ ،‬هكذا‬ ‫ي�صبح الإ�صالح منوط ًا بعلماء الداخل‪ ،‬وينح�صر با�ستعادة معرفتهم‬ ‫التي �أ�صابها البلى‪ .‬ولعل ما �صار ي�س َّمى بحديث التجديد "�إن اهلل يبعث‬ ‫لهذه الأمة على ر�أ�س كل مائة �سنة من يجدد دينها" هو التعبري الأكرث‬ ‫بالغة وكثافة عن هذا النوع من الإ�صالح املنوط مبن ير�سلهم اهلل من‬ ‫الداخل‪.‬‬ ‫‪110‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:12‬‬

‫املرجع نف�سه‪.‬‬

‫‪255‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 255‬‬


‫"�أما الإ�صالح بالدين فهو وا�ضح جد ًا؛ وذلك لأن الإ�سالم ر�سالة‬ ‫توحيد للخالق }وما خلقت اجلن والإن�س �إال ليعبدون{‪ ،‬ور�سالة رحمة‬ ‫للمخلوق }وما �أر�سلناك �إال رحم ًة للعاملني{‪ ،‬فمتى ما امتثلت هذه الأمة‬ ‫بقيم العدالة نالت القوة وامتلكت زمام احل�ضارة‪ ،‬م�ستفيدة من الأمم‬ ‫املتح�ضرة جتاربها ال�سيا�سية واالجتماعية‪ ،‬وذلك يف حدود امل�شرتك‬ ‫الإن�ساين التي جاءت ال�شريعة بالت�أكيد عليه‪ ،‬وجاء العلماء با�ستنتاجه‬ ‫من ن�صو�ص الوحيني وكالم ال�سلف‪ ،‬مثل كالمهم يف التح�سني والتقبيح‬ ‫العقليني الذي ذهب �إليه املعتزلة وبع�ض املحققني مثل‪ :‬ال�سجزي والعز‬ ‫بن عبد ال�سالم وابن تيمية وابن القيم‪ ،‬خمالفني يف ذلك املنهج التعبدي‬ ‫االبتالئي (وهو ال معقولية الت�شريع)‪ ،‬والذي �أثر بدوره يف قطاعات‬ ‫وا�سعة من علماء ال�شريعة"(‪.)111‬‬ ‫الإ�صالح بالدين وا�ضح جدا!‪ ،‬هو وا�ضح بهذه املرجعية‪ ،‬وبهذه‬ ‫املعادلة‪ ،‬وبهذا الفعل الأبدي يف العودة �إىل �أول الأمة‪.‬‬

‫‪111‬‬

‫املرجع نف�سه‪.‬‬

‫‪256‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:12‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 256‬‬


‫حترير الأً َمة ال�سوداء‪ ..‬م�شروطية النائيني‬ ‫يروي �آية اهلل املحقق النائيني يف كتابه (تنبيه الأمة وتنزيه‬ ‫امللة) �أنه ر�أى قبل ع ّدة ليال يف الر�ؤيا‪ ،‬املرحوم �آية اهلل مريزا ح�سن‬ ‫خليل الطهراين �أحد املراجع البارزين الذين �أي ّدوا احلركة الد�ستورية‬ ‫وكان قد تويف ‪1908‬م‪.‬‬ ‫احلجة فيما يخت�ص مبواقفكم �إزاء‬ ‫ف�س�أله "ماذا قال الإمام ّ‬ ‫امل�س�ألة الد�ستورية؟ فكان ملخ�ص قول الإمام احلجة (عج) هو �أن‬ ‫الد�ستورية ا�سم جديد ملو�ضوع قدمي‪ ،‬ثم �أورد مثا ًال بهذا اخل�صو�ص ال‬ ‫ت�سعفني ذاكرتي با�ستح�ضاره‪ ،‬ثم قال املرحوم املريزا الطهراين لقد قال‬ ‫الإمام (عليه ال�سالم)‪� :‬إن مثل الد�ستورية مثل تلك الأمة ال�سوداء التي‬ ‫تلوثت يدها ف�أجربوها على غ�سلها"(‪.)112‬‬ ‫ويف�س ّر النائيني جماز الإمام احلجة على النحو التايل‪":‬وال‬ ‫متاما‪ ،‬فهو‬ ‫�شك �أن املثال الذي �أورده الإمام (عج) مطابق للواقع ً‬ ‫�سهل وممتنع يف �آن واحد‪ ،‬ومل يكن ليخطر ببال �أحد‪ ،‬وهناك قرائن‬ ‫عديدة ميكن القطع من خاللها ب�صحة هذه الر�ؤيا و�صدقها‪ ،‬منها �سواد‬ ‫اجلارية حيث تدل داللة وا�ضحة على مغ�صوبية �أ�صل الت�ص ّدي‪ ،‬و�أما‬ ‫تلوث اليد ففيه �إ�شارة �إىل الغ�صب امل�ضاعف‪ ،‬وحيث كانت الد�ستورية‬ ‫مزيلة له‪ ،‬لذا �شبهها الإمام املنتظر (عج) ب�أنها عملية غ�سل وتنظيف‬ ‫ليد املت�صدي الغا�صب من القذارة التي عر�ضت عليها"(‪.)113‬‬ ‫تنبيه الأمة وتنزيه امل ّلة‪ ،‬املحقق النائيني‪ ،‬تعريب عبداحل�سني �آل جنف‪� ،‬ص‪.136‬‬ ‫‪112‬‬ ‫يف ترجمة توفيق ال�سيف‪":‬امل�شروطة مثل �أمة �سوداء مملوكة يدها قذرة‪ ،‬فتطهر بغ�سل يدها"‬ ‫‪113‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:12‬‬

‫املرجع نف�سه‪� ،‬ص‪136‬‬

‫‪257‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 257‬‬


258

3dairy out of old dairy.indd 258

02/02/2010 10:00:12 ‫ص‬


259

3dairy out of old dairy.indd 259

02/02/2010 10:00:12 ‫ص‬


‫الف�صل الرابع‬ ‫داخل املجتمع‬

‫‪260‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:12‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 260‬‬


‫ال�شيخ حبيب الكاظمي‪ ..‬قلب ال�شارع‬ ‫"ماذا �أ�ستطيع �أن �أعرف؟"‪" ،‬ماذا يجب �أن افعــل؟"‪" ،‬مــاذا‬ ‫ميكن �أن �آمــل؟" و"مــا هــو الإنـ�ســان؟"‪� .‬أربعـة من �أ�سئلة الفيل�سوف‬ ‫وجهت كتابه ال�شهري "نقد العقل املح�ض" كتبت على‬ ‫اميانـويل كانط‪ّ ،‬‬ ‫يافطات �صفراء وبعدة لغات ووزعت علـى �شـوارع بلـدان وعدة مدن‬ ‫�أوروبيـة ‪ ،‬حيـث انطلـق امل�شـروع بـداي ــة من �أملانيا‪ ،‬فرن�سا‪ ،‬اللوك�سمبورغ‪،‬‬ ‫الدامناــرك‪،‬اليــونان‪ ،‬بريطانيــا‪ ،‬وغريها‪.‬‬ ‫لبنـان كان البلد الأول الذي ي�شهد هذا امل�شروع خارج القارة‬ ‫الأوروبية‪ ،‬وامل�شروع �أملاين الأ�صل‪ ،‬وهو بعنوان‪� ،”weltfrage“ :‬أي‬ ‫"�أ�سئلة العامل"‪.‬‬ ‫الفكرة لفنان �أملاين ا�سمه روالند كرويزر �أراد من خالل عر�ضه‬ ‫التجهيزي الب�صري هذا �أن يعيد طرح �أ�سئلة كانط الفل�سفية‪ ،‬على �شعوب‬ ‫العامل‪ ،‬وهو ي�ستعمل �أكرث من �أربعني لغة عاملية خمتلفة‪� .‬أ�سئلة فل�سفية‬ ‫تفر�ش يف ال�شوارع وت�س�أل الإن�سان عن نف�سه وقلبه وحياته فت�صبح �أقرب‬ ‫�إليه مما تكونه يف الكتب و�أدمغة الفال�سفة حيث الأبراج العاجية‪.‬‬ ‫الأر�صفة لي�ست وحدها ما ي�شكل �شوارع املدن‪ ،‬فالأ�سئلة ت�شكل‬ ‫ال�شوارع و�أر�صفتها والنا�س الذين مي�شون عليها‪� ،‬إذا كان لأ�سئلة كانط‬ ‫بعدها املعريف (االب�ستيمولوجي)‪ ،‬ف�إن لها وجهها الأنطولوجي‪ ،‬املتعلق‬ ‫بوجودنا يف احلياة‪ ،‬ماذا يجب �أن �أفعل يف هذه احلياة؟‬ ‫اخلطاب الذي ميتلك �إجابة تقنع �أو تهدِّ ئ قلقنا جتاه هذا‬ ‫ال�س�ؤال الوجودي‪ ،‬ميلك �أن ي�شكل �أر�صفة املدينة‪ ،‬ويهند�س �شوارعها‪،‬‬ ‫ويحدد اجتاهاتها‪ ،‬ويعطي لوجودها معنى‪.‬‬ ‫‪261‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:12‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 261‬‬


‫لي�س هناك �أكرث من �صوت اخلطاب الديني قدرة على فعل‬ ‫ذلك‪ ،‬يق ّرب الأ�سئلة الفل�سفية والوجودية من ال�شارع‪ ،‬وير ّو�ض قلقها‬ ‫الوجودي يف نف�سه‪ ،‬فيهنـد�س بـذلك قلـب ال�شارع‪ ،‬فيمنحه احلياة �أو‬ ‫املـوت‪.‬‬ ‫يف البلـدان التي دخلت فيها القوى الإ�سالمية اللعبة‬ ‫الدميقراطية‪ ،‬وتخلت فيها عن م�شاريع الدولة الإ�سالمية‪ ،‬مل تعد‬ ‫ال�سيا�سة مبعناها الراديكايل والثـوري والتغيريي هي ما ي�شغل خطاباتها‪،‬‬ ‫بقدر ما �أ�صبح منط الوجود الديني وقيمه الأخالقيــة والروحيــة‪ ،‬هو‬ ‫مو�ضــع رهـانــها‪.‬‬ ‫البحرين بعد �إ�صالحات ‪ 2001‬هي واحدة من هذه البلدان‪،‬‬ ‫والتيار الديني ال�شيعي فيها هو واحد من التيارات الإ�سالمية التي‬ ‫انخرطت يف اللعبة الدميقراطية‪ ،‬و�إن كانت قد قاطعت االنتخابات‬ ‫النيابية العام‪� 2002,‬إال �أنها مل تخرق قواعد اللعبة الدميقراطية‪.‬‬ ‫فالقبول باللعبة الدميقراطية قبول باالنخراط يف املجتمع املدين �أكرث‬ ‫منه قب ً‬ ‫وال يف االنخراط يف املجتمع ال�سيا�سي (احلكومة والربملان)‪.‬‬ ‫جمعية التوعية الإ�سالمية التي �أغلقت العام ‪ 1984‬يف ظروف‬ ‫�سيا�سية متوترة‪ ،‬عادت يف ظل الإ�صالحات ال�سيا�سية متار�س دورها‬ ‫الديني‪ ،‬يف قلب ال�شارع بحرية كبرية‪ ،‬وهي تقدم نف�سها حامل ًة ر�سالة‬ ‫"قلب املجتمع �إ�سالمي ًا"‪.‬‬ ‫جمعية التوعية الإ�سالمية‪ ،‬م�ؤ�س�سة �أهلية �إ�سالمية ر�سالية‪،‬‬ ‫ت�ستمد ر�ؤيتها وقيمها احل�ضارية والثقافية واالجتماعية من الينابيع‬ ‫الإ�سالمية ال�صافية الأ�صيلة املتمثلة بينبوع الرحمة الإلهية الكربى‬ ‫القر�آن الكرمي‪ ،‬وال�سنة املطهرة للر�سول الأكرم‪ ،‬و�أهل بيته الطيبني‬ ‫الطاهرين ويف �إطار الر�ؤية الإ�سالمية الر�صينة والنهج املحمدي‬ ‫‪262‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:13‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 262‬‬


‫الأ�صيل‪ ،‬الذي بلوره علماء الإ�سالم الربانيون ومراجعه املعتربون‪.‬‬ ‫ت�ستهدف اجلمعية ‪-‬كما تقدم نف�سها‪ -‬يف جممل حركتها‬ ‫االجتماعية بلــورة الـر�ؤية احل�ضـارية الإ�سـالمية ال�صافية‪ ،‬وبـناء‬ ‫امل�شـروع الإ�سـالمـي املتكـامـل و�صياغ ــة املجتمـع الإ�سالمـي يف جوانبــه‬ ‫املختلفة بهدي الإ�ســالم وقيمـه العظيمـة‪.‬‬ ‫بالينابيع ال�صافية والر�ؤية الر�صينة والنهج الأ�صيل‪ ،‬ت�ؤدي‬ ‫جمعية التوعية ر�سالتها يف �صيغة جواب كبري لأ�سئلة ال�شارع املقلقة‪.‬‬ ‫جواب تجُ ِّند له يافطاتها و�أن�شطتها ودعاتها وحما�ضراتها وندواتها‬ ‫وم�ؤمتراتها وكل �أجهزتها الإعالمية‪ ،‬جواب ي�ستغرق قلب ال�شارع‬ ‫الكبري‪.‬‬ ‫الداعية ال�شيخ حبيب الكاظمي الذي ا�ست�ضافته جمعية التوعية‬ ‫الإ�سالمية يف �شهر رم�ضان ‪ 2005‬و‪ ،2006‬ليكون �ضيف ًا على �شارع‬ ‫التوعية ك ّله‪ ،‬ي�أتي يف �سياق هذا القلب‪.‬‬ ‫جمعية التوعية‪ ،‬منذ ن�ش�أتها‪ ،‬معنية بالتوعية الروحية‬ ‫والأخالقية بالدرجة الأوىل‪ ،‬والأيديولوجية بالدرجة الثانية‪ ،‬ورمبا‬ ‫ال�سيا�سية بالدرجة الثالثة‪ .‬ووجهة عنايتها كانت تتحكم فيه طبيعة‬ ‫املنهج التوعوي والتغيريي حلزب "الدعوة" املعني بتغري ثقافة املجتمع‬ ‫وفق النمط الإ�سالمي‪.‬‬ ‫تبدو جمعية التوعية وف ّية الآن �أكرث من � ّأي وقت م�ضى‬ ‫ملو�ضوعات درجتها الأوىل‪ ،‬مو�ضوعات الأخالق والروح والأ�سلمة‪ ،‬بعيد ًا‬ ‫عن ال�سيا�سة‪ .‬وحتى اهتماماتها بالق�ضايا العقائدية املذهبية تندرج‬ ‫�ضمن مو�ضوع الإعداد الروحي وفق مفهومها للروحانية‪.‬‬ ‫يلتقي خطاب الكاظمي مع خطاب جمعية التوعية يف االن�شغال‬ ‫واال�شتغال على مو�ضوعات الدرجة الأوىل نف�سها‪ ،‬لكن الأهم من‬ ‫‪263‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:13‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 263‬‬


‫االلتقاء‪� ،‬سري ُة امل�شتغل‪ .‬و�سرية الكاظمي التي حظيت بربكات لقاء‬ ‫ال�سيد حممد باقر ال�صدر‪ ،‬وتتلمذت على �أيدي كبار املراجع الدينية يف‬ ‫النجف الأ�شرف و�سبقت غريها يف الهجرة لقم املقد�سة‪ ،‬وتخ َّلقت ب�سري‬ ‫كبار عرفانييها‪� ،‬سرية تتوافر على موا�صفــات الثق ــة واالطمئنــان‪ .‬وهي‬ ‫موا�صفات حا�سمة بالن�سبة �إىل جمعية التوعية وجلماهريها التي يهمها‬ ‫معرفة املرجعية ال�سيا�سية والعلمية ل�سرية �صاحب اخلطاب‪ ،‬فبهذه‬ ‫املعرفة ينفرز اخلط احلزبي‪ ،‬وتتحدد املرجعية ال�شريازية من الوالئية‬ ‫من الدعوية من حزب اهلل من ال�سيد ف�ضل اهلل‪ ،‬فلكل مرجعية ثقا ُتها‬ ‫ومطمئنوها وموالوها‪ ،‬ولكل منها حظها من قلب ال�شارع‪.‬‬ ‫من قلب الدولة �إىل قلب املجتمع‬ ‫تغيري النفو�س و�صياغتها وفق املنهج الإمياين هو �إحدى‬ ‫اال�سرتاتيجيات الت�أ�سي�سية حلزب الدعوة الذي تنحدر منه مرجعية‬ ‫خطاب الكاظمي‪ ،‬و�إن كان هذا التغيري ال ي�ستهدف الآن بناء دولة وال‬ ‫�إقامة حكومة �إ�سالمية‪ ،‬لكنه منهج ما زال يعمل م�ستهدفا بناء جمتمع‬ ‫�إمياين و�إن�سان ر�سايل‪� ،‬أي �أن التغيري قد حتول مو�ضوعه من قلب الدولة‬ ‫�إىل قلب املجتمع‪.‬‬ ‫ �إن فهـم خطـاب احلركات الإ�سالميـة من خـالل ر�صـد التحوالت‬ ‫ال�سيا�سية التي مرت بها هـذه احلـركات من كونها حركات ت�سعى لإقامة‬ ‫دولة وحكـومـة �إ�سالمية خارج اللعبة ال�سيا�سية (وفق �أمنوذج والية‬ ‫الفقيـه �أو وفق �أمنوذج الإخوان امل�سلمني �أو وفق �أمنوذج الإ�سـالم ال�سلفي‬ ‫�أو الإ�سالم الطالباين) �إىل حركات منخرطة يف اللعبات ال�سيا�سية داخل‬ ‫الدولة‪ ،‬كما هو الأمر يف م�صر والأردن واملغرب والبحرين‪ ،‬ال ميكن �أن‬ ‫يقدم فهم ًا عميق ًا خلطاب هذه احلركات‪ ،‬فالفهم ال�سيا�سي يظل ير�صد‬ ‫‪264‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:13‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 264‬‬


‫التغريات من اخلارج وال يكلف نف�سه عناء الفهم الداخلي‪.‬‬ ‫و�إذا ما و�ضعنـا يف االعتبار �أن الإ�سالم ال�سيا�سي‪� ،‬إ�سالم‬ ‫�أ�صويل‪ ،‬مبعنى �أنه ي�ؤ�س�س فهمه للروح والعامل على �أ�صـول دينيـة وفل�سفيـة‬ ‫وعقائدية‪ ،‬ف�إن الفهم النقدي ال ال�سيا�سي لتحوالت خطاب احلركات‬ ‫الأ�صولية ي�صبح م�س�ألة �ضرورية‪ ،‬ويربز يف مقدمة هذا الفهم نقد فهمها‬ ‫للروحانية‪ ،‬خ�صو�صا �أنها تقدم نف�سها ملبية حلاجات الإن�سان الروحية‬ ‫يف مقابل غريها الذي �أهمل الـروح‪.‬‬ ‫ويف هذا ال�سياق يتكاثر دعاة قلب ال�شارع‪ ،‬وال�شيخ حبيب‬ ‫الكاظمي واحد من دعاة هذا القلب‪.‬‬ ‫كيف تتح ّول الرتبية يف خطاب الكاظمي �إىل فعل �صناعة يتحدد‬ ‫وفقها منط روحانيتنا؟‬ ‫مربي الروحانية‬ ‫تق ّدم املل�صقات الإعالنية‪ ،‬ال�شيخ حبيب الكاظمي‪ ،‬ب�صفة‬ ‫املربي‪ ،‬واملربي هو من ي�صنع �شخ�صيتنا ويحدد منط تربيتها ب�أوامره‬ ‫ونواهيه وتنبيهاته ومواعظه‪ .‬وبهذه الأوامر والنواهي والتنبيهات‬ ‫واملواعظ‪ ،‬تكون الرتبية فعل �صناعة يتحدد وفقها منط روحانيتنا‪.‬‬ ‫يف حما�ضرته عن ال�شخ�صية القلقة وامل�ستقرة‪ُ ،‬ي ِّ‬ ‫حذر الكاظمي‬ ‫من عدة مناذج من ال�شخ�صيات‪ :‬ال�شخ�صية املرتددة‪ ،‬ال�شخ�صية‬ ‫االنتفاعية‪ ،‬ال�شخ�صية املتثاقلة �إىل الأر�ض‪ ،‬ال�شخ�صية الهالمية‪،‬‬ ‫ال�شخ�صية املنافقة املتلونة‪ ،‬ال�شخ�صية التحري�ضية‪.‬‬ ‫وي�ضع لكل �شخ�صية منها معاملها املميزة‪ ،‬فال�شخ�صية املرتددة‪،‬‬ ‫مثال‪ ،‬لي�س له قوام فكري ثابت ومطمئن‪ ،‬فهو (االن�سان) يحمل القلق يف‬ ‫اجلانب الفكري ملا جاءت به ال�شريعة‪ ،‬حيث تراه يتخبط يف بطون الكتب‬ ‫ليناق�ش م�س�ألة فرعية‪ ،‬غاف ًال عن الأ�صول والأ�سا�سيات‪َ " ،‬ف ُه ْم فيِ َر ْي ِبهِ ْم‬ ‫‪265‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:13‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 265‬‬


‫َيترَ َ َّددُون"‪ُّ " ،‬م َذ ْب َذ ِب َني َبينْ َ َذ ِل َك َال �إِلىَ هَ ـ�ؤُالء‪َ ،‬و َال �إِلىَ هَ ـ�ؤُالء " من دون‬ ‫الو�صول �إىل الهدف‪.‬‬ ‫التحديد يف الأخالق فعل تربية �أكرث منه فعل معرفة‪ ،‬فالتحديد‬ ‫الذي يعرفنا معامل ال�شخ�صيات غري املرغوبة‪ ،‬يربينا على معامل‬ ‫ال�شخ�صيات التي يراد لنا �أن نكون عليها‪.‬‬ ‫وخطاب الكاظمي يق ّدم نف�سه بو�صفه مهموما بتثبيت معامل‬ ‫ال�شخ�صية الإ�سالمية املثلى يف املجتمع وفق منهج اال�ستقامة‪ ،‬وال �شيء‬ ‫يثبت ال�شخ�صية وفق منهج اال�ستقامة �أكرث من تربية روحها و�أخالقها‪،‬‬ ‫لذلك كان خطاب الكاظمي خطاب الروح والروحانية بامتياز‪ ،‬بهذا‬ ‫ا�ستحق �صفة املربي‪ ،‬مربي روحانية الروح‪.‬‬ ‫"ثمة ثالث مع�ضالت‪� ،‬أو ثالثة �أ�سئلة‪ ،‬الب ّد لكل �إن�سان من‬ ‫الإجابة عنها‪� :‬س�ؤال الوجود‪� ،‬س�ؤال الأخالق‪ ،‬و�س�ؤال ال�صريورة‪� ،‬أو‬ ‫املوت‪ :‬بعد احلياة‪ ،‬ماذا يوجد‪ ،‬لقد انبثقت الروحانية من ال�س�ؤال الأخري‬ ‫املطروح على الكائن الإن�ساين"(‪.)130‬‬ ‫الروح مو�ضوع خطاب ال�شيخ حبيب الكاظمي‪ ،‬هي من‬ ‫يخاطبها‪ ،‬هي من يعول عليها‪ ،‬هي من يعاجلها‪ ،‬هي من يكلمها‪ ،‬هي‬ ‫من يلقي الروع فيها‪ ،‬هي من يتح�س�س ا�ستعداداتها‪ ،‬هي من يربجمها‪،‬‬ ‫هي من ي�ستهدفها‪ .‬هي من ي�ؤنبها ويح�ضها ويدفعها ويطهرها ويعاجلها‬ ‫وي�ستقومها ويقومها وي�أمرها وينهاها وير ِّوحها‪.‬‬ ‫الإن�سان يف خطاب الكاظمي‪ ،‬روح‪ ،‬ال�شخ�صية روح‪ ،‬الزواج‬ ‫روح‪ ،‬املجتمع روح‪ ،‬ال�صالة روح‪ ،‬وال�صيام والعبادات روح‪.‬‬ ‫ولأن الروح �سر‪� ،‬صار خطاب ال�شيخ حبيب خطاب هذا ال�سر‪،‬‬ ‫ومن ميلك �سر الروح ميلك �سر الإن�سان‪ ،‬فيتكلم يف روحه ونف�سه‪ .‬فكيف‬ ‫‪130‬‬

‫‪266‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:13‬‬

‫الهوية غري املكتملة‪� ،‬أدوني�س‪� ،‬ص‪44.‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 266‬‬


‫يتكلم الكاظمي يف �أنف�سنا؟‬ ‫التكلم باملعنى الذي حتمله الداللة ال�سمعية للكالم‪ ،‬هو �أهم‬ ‫�أ�شكال توا�صل اخلطاب الديني مع جماهريه‪ .‬وخطاب الكاظمي يجيد‬ ‫فنّ التكلم ببالغة ت�ستحوذ على املتلقي‪ ،‬وهي بالغة ال حتفل بال�صوت‬ ‫اجلهور وال ال�ضجيج وال ال�صراخ وال تقلقل يف احلروف‪ .‬كما �أنها لي�ست‬ ‫معنية بالف�صاحة التقليدية التي تويل ت�شكيل الكلمات و�إعرابها �أهمية‬ ‫بارزة‪ ،‬هي جمردة من كل الزينات اللفظية واملح�سنات الإبداعية وال�صور‬ ‫البيانية امل�سكوكة‪ .‬هي بالغة تقوم على جمموعة من الأفكار الب�سيطة‬ ‫وال�صياغة القريبة من لغة النا�س اليومية‪ ،‬من ي�ستمع للكاظمي‪ ،‬ال يلقى‬ ‫�صعوبة وال عنتا‪.‬‬ ‫ي�ستعري الكاظمي يف حما�ضرته (كيف نبعث �أنف�سنا من جديد؟)‬ ‫ن�صا للإمام علي بن �أبي طالب يف و�صف املتقني‪ .‬وا�ستعارة الن�صو�ص‬ ‫الروائية لأهل البيت و�إدغامها يف ن�صه جزء من �صميم ا�سرتاتيجيته‬ ‫البالغية يف الإقناع والت�أثري‪ ،‬ي�ستعني يف و�صف املتقني بالن�ص الآتي‪:‬‬ ‫"وقال �أمري امل�ؤمنني (ع) يف نهج البالغة‪ ،‬يف و�صف املتقني‪( :‬وك ّلمهم يف‬ ‫ذات عقولهم)‪ .‬ويعقب على الن�ص بقوله‪� :‬إن اهلل تعاىل �إذا ر�أى القابلية‬ ‫يف عبده امل�ؤمن‪ ،‬يكلمه يف نف�سه‪ ،‬ويلقي يف روعه ما ينبغي �أن يفعله يف‬ ‫حياته"‪.‬‬ ‫وبالغة الكاظمي بارعة لي�ست فقط يف ت�صريف الن�صو�ص‬ ‫الدينية والروائية‪ ،‬بل حتى يف ت�صريف �أفعال احلياة‪ ،‬ومطابقتها مع‬ ‫�أفعال الن�صو�ص‪� ،‬إنه يجيب عنها �س�ؤالنا الوجودي القلق‪ :‬ما الذي ينبغي‬ ‫�أن نفعله يف حياتنا؟‬ ‫ �إنك ال ت�ستطيع �أن ت�سمع الوحي‪ ،‬وهو ينطق فيك املقد�س‬ ‫الذي يقول لك ما الذي ينبغي لك �أن تفعله يف حياتك‪ ،‬لكنك ت�ستطيع‬ ‫‪267‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:13‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 267‬‬


‫�أن ت�سمع خطاب ال�شيخ حبيب الكاظمي ببالغته الآ�سرة للقلوب‪ ،‬وهو‬ ‫ينطق يف نف�سك ما ينبغي �أن تفعله يف حياتك‪� .‬إذا كان خطاب اهلل وحيا‬ ‫يف نفو�س الأنبياء واملر�سلني‪ ،‬فخطاب الكاظمي وحي يف نفو�س امل�ؤمنني‬ ‫وامل�ستمعني‪ .‬و�إذا كان اهلل ينطق يف عقول املتقني‪ ،‬فالكاظمي ينطق يف‬ ‫نفو�س امل�ؤمنني‪.‬‬ ‫روحانية املخطط الكبري‬ ‫وفق ا�ستبانة ُو ِّز َعت على ع�شرين امر�أة من بلدان خمتلفة‪،‬‬ ‫ترتاوح �أعمارهن بني الثالثني وال�ستني وينتمني �إىل �أديان خمتلفة‬ ‫كالإ�سالم وامل�سيحية والبوذية‪ ،‬بالإ�ضافة �إىل ملحدة‪ ،‬ف�إن التعريف‬ ‫بالروحانية هو‪:‬‬ ‫ �أوال‪ ،‬كل فعل ي�سمو بالنف�س‪� ،‬سواء كان دين ًّيا‪ ،‬كال�صلوات‪� ،‬أو‬ ‫ُخ ُلق ًّيا‪ ،‬كاملغفرة واملحبة‪� ،‬أو ذهن ًّيا‪ ،‬كالت�أمل‪� .‬إنها عبارة عن ال�شعور‬ ‫باالرتباط و"الوحدة" مع اهلل‪ ،‬مع نفو�سنا‪ ،‬مع الآخرين‪ ،‬ومع الأر�ض‪.‬‬ ‫التناغم وال�سالم‪.‬‬ ‫قوا ُمها‬ ‫ُ‬ ‫ثانيا‪ ،‬فه ٌم لنفو�سنا وللكون‪� .‬إنها �إح�سا�س بالطيبة يف الداخل‪،‬‬ ‫وبهويتنا‪� ،‬إح�سا�س بهم�سنا الباطني‪ ،‬باملحبة ب�صفتها عن�ص ًرا من‬ ‫عنا�صر الروح الإن�سانية ومبا يتعدى كياننا اجل�سماين‪ُ ،‬يعيننا على فهم‬ ‫كيفية توافقنا مع املخطط الكبري للكون‪.‬‬ ‫احلديث عن الروح من غري روحانية متام ًا كاحلديث عن‬ ‫الإن�سان من غري �إن�سانية‪ .‬تتحقق روحانية الروح بو�صلها بالآخرين‪،‬‬ ‫بتناغمها و�سالمها مع الأر�ض‪ .‬بهم�سها الباطني باملحبة‪ ،‬برتطيب‬ ‫عالقتها باملختلف معها عقائديا وح�ضاريا‪ ،‬بتوافقها مع املخطط الكبري‬ ‫للكون‪ ،‬ال املخطط ال�صغري للملة �أو النحلة‪ ،‬باالرتباط باهلل الواحد يف‬ ‫‪268‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:13‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 268‬‬


‫ال�سماء واملتعدد يف الأر�ض واخللق‪.‬‬ ‫الروحانية هي �أن تكلم روح الإن�سان املرتبطة باملخطط‬ ‫الكبري (الكون)‪ ،‬ال روحه املرتبطة باملخطط ال�صغري (امللة والنحلة)‪.‬‬ ‫الروحانية هي �أن ت�صل روح الإن�سان بجميع املخططات ال�صغرية‪،‬‬ ‫باعتبارها جتليات كثرية للمخطط الكبري (الكون)‪.‬‬ ‫ �إذا كانت روحانية هذه الن�سوة مبختلف دياناتها‪ ،‬تعمل وفق‬ ‫روحانية املخطط الكبري‪ ،‬فوفق �أي خمطط تعمل روحانية الكاظمي؟‬ ‫ �إنها تعمل وفق خمطط برنامج "من القيام �إىل املنام"‪ .‬فكيف‬ ‫تقوم هذه الروحانية؟ وما الأفعال التي تقوم بها؟ وكيف تت�صل باملخطط‬ ‫الكبري؟‬ ‫يقدم ال�شيخ حبيب الكاظمي‪ ،‬من خالل موقعه ال�سراج‬ ‫"الربنامج اليومي من القيام �إىل املنام للعباد ال�صاحلني"‪.‬‬ ‫الربنامج ُم�ؤّلف من �أربعني فقرة‪ ،‬م�صاغة وفق تعليمات كتب‬ ‫الأخالق التي جتعل لكل �سلوك �أو فعل �آداب ًا‪ .‬ففي كتاب (مكارم الأخالق)‬ ‫للطرب�سي وهو من �أعالم القرن ال�ساد�س الهجري و�أكرثهم �شهرة حتى‬ ‫القرن احلادي والع�شرين‪ ،‬جند مثال �آداب النوم‪� ،‬آداب املائدة‪� ،‬آداب‬ ‫احلمام‪� ،‬آداب الزينة‪ ،‬و�آداب اللبا�س و�آداب لب�س اخلامت‪ .‬وكل فعالية يف‬ ‫الربنامج معززة مبجموعة من الأحاديث والروايات والآيات التي حتفل‬ ‫بها كتب الأخالق‪.‬‬ ‫يقدم برنامج "من القيام �إىل املنام"‪� ،‬آداب يوم العبد امل�ؤمن على النحو‬ ‫الآتي‪:‬‬ ‫"افتتاح ال�صباح ب�صالة الفجر م�سبوقة بنافلة الفجر‪،‬‬ ‫االلتزام بت�سبيحات الزهراء (ع) بعد ال�صالة مبا�شر ًة وبعد كل �صالة‬ ‫فري�ضة‪ ،‬اال�ستعاذة �أول النهار‪ ،‬معاهدة نف�سك �أال تقوم مبع�صية طوال‬ ‫‪269‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:13‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 269‬‬


‫اليوم‪ ،‬كن على و�ضوء يف �أول النهار‪ ،‬اعزل �صدقة اليوم‪ .‬ا�صطحب معك‬ ‫�شريطا نافعا ت�سمعه يف ال�سيارة‪ ،‬االلتزام بورد معني ال�ستغالل الوقت‪،‬‬ ‫مثل قراءة �سورة التوحيد‪ ،‬اجعل يف مكتبك �أو حمل عملك مكتبة �صغرية‬ ‫نافعة‪ ،‬حاول �أال ت�أن�س مع الغافلني‪ ،‬وخ�صو�صا مع اجلن�س املخالف‪ ،‬ليكن‬ ‫معك جدول مواقيت ال�صلوات‪.‬‬ ‫التزم با�ستغفار �صالة الع�صر �سبعني مرة‪ ،‬حاول �أن تدخل‬ ‫البيت بب�شا�شة‪ ،‬حاول �أن جتل�س على الطعام باعتباره مائدة �إلهية‪،‬‬ ‫حاول �أن تطلع على الربامج النافعة كالأخبار وغريها بالقدر املنا�سب‪.‬‬ ‫اال�ستلقاء بعد الغداء‪ ،‬االبتعاد عن الأ�سواق املزدحمة واملعروفة باختالط‬ ‫الن�ساء بالرجال‪� ،‬إذا مل تكن موفقا للنوافل اليومية البالغة ‪ 34‬ركعة‬ ‫فعلى الأقل عليك ب�صالة الغفيلة بني �صالتي املغرب والع�شاء‪.‬‬ ‫اجعل الع�شاء مبكرا من �أجل �إقامة �صالة الليل‪ ،‬ليكن لك‬ ‫برنامج مرتب للمطالعة الهادفة‪ ،‬ولتكن قراءتك للكتاب‪� ،‬ضمن برنامج‬ ‫مدون‪ ،‬ك�إكمال دورة تف�سري �أو حديث �أو تاريخ �أو عقيدة ف�إنّ القراءة‬ ‫الع�شوائية ال تنمي الثقافة لدى العبد‪ .‬اجعل لأهلك ولأوالدك ن�صيبا من‬ ‫الوقت يف حماولة لإر�شادهم حلديث نافع �أو حتذيرهم من �أمر الزم‬ ‫ك�سلبيات االنرتنت مثال والف�ضائيات واملعا�شرة ال�ضارة‪ ،‬وغري ذلك‪.‬‬ ‫ينبغي حتديد يوم �أو �أكرث يف الأ�سبوع ال�صطحاب الأهل والعيال �إىل‬ ‫حديقة‪ ،‬حاول �أن تكون الزيارات هادفة‪ ،‬فال ينبغي الذهاب �إىل جمال�س‬ ‫االختالط �أو بيوت الغافلني عن ذكر اهلل تعاىل‪ .‬هنالك جمموعة من‬ ‫امل�ستحبات الالزمة قبل النوم‪ ،‬منها ت�سبيحات الزهراء(ع)‪ ،‬وقراءة‬ ‫التوحيد ثالثا‪ ،‬والنوم على طهور‪ ،‬واال�ستغفار مما ك�سبه العبد يف النهار‪،‬‬ ‫والنوم على جنبه الأمين م�ستقبال جهة القبلة‪ ،‬وقراءة �آخر �آية من �سورة‬ ‫الكهف لأجل اال�ستيقاظ ل�صالة الليل مع عدم ن�سيان �آلة التنبيه‪.‬‬ ‫‪270‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:13‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 270‬‬


‫ البد من ال�سيطرة على �ساعات النوم‪ ،‬من املنا�سب جدا �أن‬ ‫تكون للم�ؤمن وقفة مع م�صائب �أهل البيت (ع)‪ ،‬وخ�صو�صا م�صائب‬ ‫الإمام احل�سني و�أهل بيته (ع) ولو يف الأ�سبوع مرة"(‪.)131‬‬ ‫هكذا يكون العبد مت�أدب ًا‪ُ ،‬متَخ ِّلق ًا‪ ،‬مت�ص ًال‪ ،‬روحاني ًا‪ ،‬وكي ي�صل‬ ‫العبد �إىل ال�صورة املثالية يف التخلق وفق روحانية "الربنامج اليومي‬ ‫من القيام �إىل املنام للعباد ال�صاحلني"‪ ،‬فقد َخ َّ�ص َ�ص موقع ال�سراج‬ ‫برناجم ًا تقييمي ًا �شعاره "حا�سبوا �أنف�سكم قبل �أن حتا�سبوا‪ ،‬وزنوها قبل‬ ‫�أن توزنوا‪ ،‬وجتهزوا للعر�ض الأكرب"‪ .‬وهو مكون من ا�ستمارة م�صممة‬ ‫بخربة من ي�شتغلون يف برامج تطوير الأداء الب�شري وتنمية املوارد‬ ‫الب�شرية‪ ،‬ومن املالحظ �أن م�صطلحات "دورة" و"برنامج"’ و"مدة"‪،‬‬ ‫�أ�صبحت من مفردات اجلهاز الإعالمي خلطاب ال�شيخ حبيب‪ .‬فهناك‬ ‫دورة �أ�سرار ال�صالة‪ ،‬ودورة العالقات الزوجية‪ ،‬ودورة �أ�سرار الو�ضوء‪.‬‬ ‫وهي م�صطلحات �إدارية وتدريبية حديثة‪ ،‬وا�ستخدامها ي�شي ب�أن‬ ‫الكاظمي ميار�س عمله مدرب ًا‪ ،‬يعي حاجات متدربيه‪ ،‬ويح�سن ت�صميم‬ ‫برنامج تدريبي يلبي احتياجاتهم‪ ،‬ويعرف كيف يجعل الربنامج طريقهم‬ ‫و�سلوكهم ومنهجهم‪ ،‬ويجيد تقومي �سلوكهم وفقه‪.‬‬ ‫ا�ستمارة تقومي الربنامج حتوي جمموعة من الأ�سئلة التقومية‬ ‫التي تتيح للمتدرب تقييم وتقومي �سلوكه وحما�سبة النف�س‪� ،‬أ�سئلة على‬ ‫هذا النحو‪:‬‬ ‫"هل �أفرغت ما يف ذمتك من ق�ضاء ال�صلوات الواجبة؟ هل‬ ‫�أنت حري�ص على اال�ستيقاظ ل�صالة الفجر؟ هل حتر�ص على الأمر‬ ‫بال�صالة ملن حولك من الأهل والأوالد؟ هل �أنت ملتزم بتقليد املرجع‬ ‫الأعلم احلي؟ هل �أفرغت ما يف ذمتك من ق�ضاء ال�صوم الواجب؟ هل‬ ‫‪131‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:13‬‬

‫من موقع ال�شيخ الكاظمي (ال�سراج) على �شبكة الإنرتنت‪.‬‬

‫‪271‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 271‬‬


‫تعي�ش حال الرباءة من �أعداء اهلل تعاىل؟ هل �أنت ملتزم ب�سنة ُخم�سية‬ ‫مع االلتزام بدفع ما عليك؟ هل جعلت �إيداعك يف البنوك وا�ستقرا�ضك‬ ‫منها �شرعي ًا مطابق ًا للقواعد ال�شرعية؟ هل جتتنب الغناء واملو�سيقى‬ ‫املحرمة بكل �صورها؟ هل �أر�ضيت والديك عنك؟ هل تراقب �سلوك‬ ‫�أوالدك يف البيت واملدر�سة ومع الأ�صدقاء؟ هل جريانك را�ضون عنك؟‬ ‫هل متتنع عن ال�سياحة غري الهادفة �أو التي هي يف معر�ض احلرام؟‬ ‫هل جتتنب الظهور مبظهر الت�شبه ب�أعداء الدين يف املظهر وامللب�س؟ هل‬ ‫�أنت قادر على الدفاع عن عقيدتك عند املناق�شة واملناظرة؟ هل تتفاعل‬ ‫ب�شكل مقبول عند ذكر م�صائب �أهل البيت (ع)؟ هل حت�س بنمو روحي‬ ‫م�ستمر �إىل الأح�سن يتجلـَّـى من خالل التفاعل يف الدعاء واملناجاة؟"‪.‬‬ ‫هذا الربنامج ينجز معامل ال�شخ�صية الإ�سالمية غري القلقة‬ ‫من �س�ؤال "ما الذي يجب �أن �أفعله يف احلياة؟"‪ ،‬لكنه ينجز قلق ًا �آخر‬ ‫هو قلق ال�شعور بالتق�صري والت�أنيب واخلوف من �أن يكون �أداء الواجب‬ ‫يف احلياة دون م�ستوى متطلبات الربنامج‪ ،‬خ�صو�ص ًا �أن الربنامج مبني‬ ‫رب هذا الربنامج‪ .‬الأمر‬ ‫على �أ�سا�س �أنك مهما تفعل ف�أنت مق�صر جتاه ّ‬ ‫الأكرث �صعوبة يكمن يف �أن هذا الربنامج معد للخال�ص ال للحياة‪ ،‬خال�ص‬ ‫احلياة الفردية من احلياة العامة‪.‬‬ ‫ت�ستمد ك ّل فاعلية من فاعليات برنامج الكاظمي (من املنام �إىل‬ ‫القيام) م�شروعيتها من الرتاث الروحي املعتمد عند �أتباع مدر�سة �أهل‬ ‫البيت‪ .‬والرتاث الروحي هو جمموعة الن�صو�ص الروحية التي �أنتجها‬ ‫�أئمته وعلما�ؤه وزهاده وعباده وفال�سفته يف �صورة �أحاديث �أو ق�ص�ص‬ ‫�أو منامات �أو لقاءات (املت�شرفون بلقاء املهدي مثال) و�أ�صبحت روايات‬ ‫ت�ستعاد كلما حتدثنا عن املعنى والعامل واهلل والإن�سان والدعاء والقيمة‪.‬‬ ‫هذه الروحانية مقد�سة‪ ،‬لأنها تقيم عالقتها باملطلقات ال‬ ‫‪272‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:13‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 272‬‬


‫الن�سبيات‪ ،‬كما هو �أمر الروحانية الدنيوية‪.‬‬ ‫يف خطاب الكاظمي ترتدد عبارت من نوع‪" :‬حاالت روحية‬ ‫عبادية"‪" ،‬درجات روحية"‪�" ،‬سقوط روحي من هذه الدرجات"‪" ،‬جمال‬ ‫روحي"‪�" ،‬أمرا�ض روحية" و"فراغ روحي"‪.‬‬ ‫جتد جميع هذه الأ�صناف معناها يف املرجعية اخلا�صة (الرتاث‬ ‫الروحي املعتمد) التي ي�شكل منها الكاظمي برناجمه (من املنام �إىل‬ ‫القيام)‪.‬‬ ‫الروحي يف خطاب الكاظمي‪ ،‬لي�س ات�صا ًال باملخطط الكبري‪،‬‬ ‫بل ات�صال باهلل الذي يريد من الإن�سان �أن يظل منقاد ًا لعبادته وملتزم ًا‬ ‫ب�أوامره ومنتهي ًا عن نواهيه ومردد ًا ذكره ومتذكر ًا عقابه وراغب ًا يف‬ ‫ثوابه‪� ،‬شاكر ًا ف�ضله‪ ،‬الإن�سان خلق من �أجل عبادة اهلل‪.‬‬ ‫خطاب الكاظمي ال يطرح العرفان مبعناه ال�صويف الذي ي�شكل‬ ‫فيه ال�سالك طريقه بتجربته الفردية‪ ،‬بل يطرح عرفان الأعمال العبادية‪.‬‬ ‫تكون عرفاني ًا وروحاني ًا بقدر ما ت�ستح�ضر معاين الأعمال العبادية من‬ ‫�أذكار و�أدعية و�صلوات و�آيات‪ ،‬املعاين العبادية لهذه الن�صو�ص‪ ،‬وهي‬ ‫معاين ت�صلك باهلل املعبود‪ ،‬ال مبخلوقاته وعامله الكبري‪.‬‬ ‫الروحي يتحقق بقدر ما تتحقق م�صاديق هذا االت�صال‪" ،‬قلت‬ ‫للإخوان يف �أكرث من منا�سبة‪ ،‬حديث (تفكر �ساعة خري من عبادة �ستني‬ ‫�سنة) ال يعني �أن يجل�س الإن�سان على �شاطئ البحر وينظر يف الأمواج‬ ‫ويفكر‪ .‬لعل هذا التفكري ال يو�صله �إىل �شيء‪ ،‬جمرد �أجواء �شاعرية‬ ‫وتنتهي‪ ،‬من �أف�ضل م�صاديق التفكر والتدبر‪ ،‬هذه املجال�س يف بيوت‬ ‫اهلل"‪.‬‬ ‫هنا يف هذه املجال�س ي�شتغل الرتاث الروحي الذي ي�شكل منه‬ ‫الكاظمي برناجمه من (من املنام �إىل القيام) التفكر لي�س خروج ًا‬ ‫‪273‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:13‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 273‬‬


‫لدائرة املخطط الكبري‪ ،‬حيث الطبيعة دائرة تلتقي فيها روحانية الب�شر‪،‬‬ ‫قبل �أن ي�شكلها دين خا�ص �أو تراث خا�ص‪ .‬التفكر يدور يف دائرة املخطط‬ ‫ال�صغري‪ ،‬حيث امل�سجد مكان لروحانية جماعة خا�صة وتراث خا�ص‪.‬‬ ‫"كيف �أجد نف�سي وكيف �أعرفها مبفهوم �أن من عرف نف�سه فقد‬ ‫عرف ربه؟ كيف �أحافظ عليها بعد �أن �أعرفها؟ كيف �أو�صلها لكمالها؟ هل‬ ‫البد لل�سالك هلل من �أ�ستاذ‪ ،‬وهل البد من التماثل بني الأ�ستاذ والتلميذ‬ ‫يف اجلن�س؟ كيف �أعرف �أن الإمام املهدي عليه ال�سالم را�ض عني؟‬ ‫بد�أت رحلتي يف جهاد النف�س وتربية الروح وجنحت يف التخلي عن بع�ض‬ ‫الأمور املحببة �إىل نف�سي وترك بع�ض املعا�صي التي مل �أتخيل يوما �أين‬ ‫قادر على تركها ومازال الدرب طويال‪ ..‬امل�شكلة التي تواجهني الآن هي‬ ‫�أين مازلت �أحب اال�ستمتاع و�أحر�ص على اخلروج والتنزه وال�سفر و�أهتم‬ ‫كثري ًا بالطعام والتنويع فيه واختيار �أف�ضل املطاعم‪ ،‬هذه الأمور ت�ؤثر‬ ‫�سلبا على قدرتي على العبادة وتعلقي باهلل وت�شغل فكري ب�أمور الدنيا‪،‬‬ ‫مباذا تن�صحونني حفظكم اهلل؟ ما هو الواجب على العلماء واملجتهدين‬ ‫للم ال�شمل ال�شيعي من واقع االختالف؟ ما هو دور العوام من ال�شيعة‬ ‫ّ‬ ‫لي�ساعدوا على هذا االجتاه؟ هل هناك بديل عن �صالة الليل ويرتك‬ ‫الأثر الروحي نف�سه؟ هل جميع الأحالم التي يظهر فيها الأئمة �صحيحة‪،‬‬ ‫�أو �أن ال�شيطان مي�سها يف بع�ضها‪ ،‬وكيف التمييز؟ ما حكم حلق اللحية‬ ‫كاملة مع الإ�صرار على احللق ومعرفة احلكم؟ وهل حلق اللحية يف نهار‬ ‫رم�ضان من املفطرات؟ ما حكم ال�سجود على ورقة الكنديل (كلينك�س)؟‬ ‫ماذا ن�صنع بورقة ُكتب عليها ا�سم اهلل؟ ما ر�أيكم بال�سري بالعرفان‬ ‫العملي بالن�سبة �إىل املر�أة‪ ،‬خ�صو�صا �إذا كانت متزوجة‪ ،‬وما �صعوبة‬ ‫ذلك من ناحية لزوم وجود مر�شد �أو �أ�ستاذ يف هذا املجال؟ وهل من‬ ‫فائدة عملية على ال�صعيد ال�شخ�صي والعام من ال�سري يف هذه الطريق؟‬ ‫‪274‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:13‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 274‬‬


‫هنالك م�شكلة خطرية الحظتها يف بع�ض الدول التي فيها جالية �شيعية‪،‬‬ ‫وهي عدم التزام املكلفني بالتقليد وعدم اقتناعهم �أ�صال بالتقليد؟ فما‬ ‫حكمهم �أو ًال؟ وهل ي�سقط عنهم الذنب �إذا ما التزموا بالتقليد بعد �سنني‬ ‫كثرية من �سن التكليف؟ من املتعارف هذه الأيام وجود حال من ال�صداقة‬ ‫بعنوان احلب يف اهلل تعاىل‪ ،‬وذلك بني اجلن�سني‪ ،‬وهذه الظاهرة مع‬ ‫الأ�سف نالحظها حتى يف املنتديات الإ�سالمية‪ ،‬فما هو التعليق على‬ ‫هذه احلال‪ ،‬وهل انها �صحية؟ امللحوظ يف �أو�ساطنا نحن ‪ -‬خ�صو�ص ًا يف‬ ‫اخلليج ‪� -‬أنه على رغم اعتقادنا بالإمام املهدي (ع) �إال �أننا ال نتفاعل‬ ‫معه كتفاعلنا مع م�أ�ساة الإمام احل�سني (ع)‪ ،‬واحلال �أننا �سنح�شر حتت‬ ‫لواء الإمام احلجة (عج) يوم القيامة‪ ،‬فما هو ال�سبب يف ذلك؟ ما هي‬ ‫الطرق املثلى يف التعامل مع هذه ال�شخ�صية (�أي امل�ستمع للغناء والتارك‬ ‫لل�صالة)؟ وهو ال يتقبل‪ ،‬خ�صو�ص ًا مني‪ ،‬حيث �إنه يراين كمتع�صب ديني‬ ‫�أو متطرف"(‪.)132‬‬ ‫ �أ�سئلة تبحث عما يطمئنها‪ ،‬ويهد�أ من قلقها‪ ،‬ويحدد لها ما‬ ‫يجب فعله‪ ،‬وي�ؤكد لها �صحة ت�صرفها‪ ،‬ويقول لها ما ينتظرها‪� ،‬إنها �أ�سئلة‬ ‫العباد املُ ْعو ِّزين الذين يطلبون جواب ًا �شام ًال لوجودهم‪ .‬يريدون جواب ًا عن‬ ‫نفو�سهم وتنزههم و�سفرهم وطعامهم وعملهم وحدود فرحهم ومتعتهم‬ ‫و�آخرهم املختلف معهم يف العقيدة‪ ،‬و�صالتهم ومهديهم و�أئمتهم‬ ‫ومذهبهم ومعتقدهم وجن�سهم املخالف‪ ،‬ومنامهم وقيامهم‪ ،‬وقلوبهم‬ ‫امل�شرعة على الآخرة واملواربة عن الدنيا‪.‬‬ ‫هي �أ�سئلة الوجود والأخالق وال�صريورة‪ ،‬هي �أ�سئلة املع�ضالت‬ ‫امللحة على كل كائن‪ ،‬من ي�س�ألون يطلبون جواب ًا يعي�شونه وجودي ًا يف‬ ‫هذه احلياة‪ ،‬وجواب ًا �آخر يعي�شون حلظة انتظاره يف احلياة الأخرى‪،‬‬ ‫‪132‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:13‬‬

‫من موقع ال�شيخ الكاظمي (ال�سراج) على �شبكة الإنرتنت‪.‬‬

‫‪275‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 275‬‬


‫وما بينهما يطلبون جواب ًا ثالث ًا يحدد عالقتهم الأخالقية باملوجودات‬ ‫الأخرى‪.‬‬ ‫هذه هي �أ�سئلة روحهم‪ ،‬كما �صاغها خطاب الكاظمي‪ ،‬وفق‬ ‫توقعات برناجمه (من القيام حتى املنام)‪.‬‬ ‫الإجابات متوقعة والأ�سئلة متوقعة‪ ،‬وهذا ما يجعل من �إجابات‬ ‫الكاظمي‪ ،‬مت�ضامنة مع هذه الأ�سئلة‪ ،‬وهي �أ�سئلة كامنة يف قلب خطابه‪،‬‬ ‫يوحي بها �إىل جمهوره مبا ُينطقه يف نفو�سهم‪� .‬أ�سئلتهم تنطق مبا ينطقه‬ ‫فيهم‪ ،‬لذلك يتي�سر العثور على �أجوبة جاهزة لأ�سئلتهم يف خطاب‬ ‫الكاظمي‪ ،‬فاخلطاب ُيوحي بالأ�سئلة والأجوبة‪ ،‬من ي�س�أل هو الكاظمي‪،‬‬ ‫ومن يجيب هو الكاظمي نف�سه‪ ،‬فهناك حال متا ٍه بني ال�سائل واملجيب‪.‬‬ ‫ �إنهم يحملون �أ�سئلتهم معهم �أين ما ذهبوا‪ ،‬بل �إن الأ�سئلة‬ ‫تزداد قلق ًال و�إحلاح ًا كلما اغرتبت الروح جغرافي ًا‪ ،‬وات�صلت ببيئة �أو‬ ‫�شخ�صية‪ ،‬الأ�صل معها االنف�صال‪ ،‬كما هو الأمر مع (الربوف�سور) املبتلى‬ ‫برطوبة الآخر‪ ،‬لأنه يعي�ش يف دولة غربية‪:‬‬ ‫"�أنا عاي�ش يف دولة غربية للدرا�سة طبعا‪ ،‬و�أ�سكن مع جن�سيات‬ ‫خمتلفة من دول �شرق �آ�سيا‪ .‬وهذا البيت �صاحبه م�سيحي ي�سكن معنا‬ ‫�أب ويعمل يف �ش�ؤون البيت وال�شباب الذين معه من �شرق �آ�سيا يقومون‬ ‫مب�ساعدته يف التنظيف وغريه (�صحون‪ .‬و�أخواتها)"(‪.)133‬‬ ‫وي�أتي جواب ال�شيخ حبيب‪:‬‬ ‫"هناك تكليف فقهي يتمثل يف اجتناب رطوباتهم وما يلم�سونه‬ ‫برطوبة‪ ،‬بناء على جنا�سة خ�صو�ص غري �أهل الكتاب �أو مطلق الكفار‬ ‫(ح�سب اخلالف الفقهي)‪.‬‬ ‫‪133‬‬

‫‪276‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:13‬‬

‫املرجع نف�سه‪.‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 276‬‬


‫و�أما الواجب الأخالقي فيتمثل يف‪� :‬إيجاد عوازل معهم حتول‬ ‫دون انتقال خالئقهم �إليه‪ ،‬ف�إن خالئق ال�سفهاء تعدى (كما هو معروف)‬ ‫والكافر‪ ،‬بل مطلق الفا�سق موجود حمجوب عن مواله‪ ،‬وحاجب لغريه‪..‬‬ ‫ومن هنا لزم النظر �إليه على �أنه موجود م�صاب باملر�ض املعدي‪ ،‬و�أي‬ ‫مر�ض �أ�شد من املر�ض الذي و�صفه القر�آن الكرمي (يف قلوبهم مر�ض‬ ‫فزادهم اهلل مر�ضا)‪.‬‬ ‫ومن �آفات معا�شرة املنحرفني عن املنهج احلق‪� :‬أن املنكر يفقد‬ ‫منكريته مع تكرار املزاولة �أمام العبد‪ ،‬خ�صو�ص ًا مع عدم النهي‪ ،‬ف�إن‬ ‫املنكر منكر‪ ،‬لأنه ال ي�ست�سيغه الطبع ال�سليم‪ ،‬ولكن العي�ش يف �أجواء‬ ‫الفا�سقني مما ميكن �أن يزيل قبح املنكر من النف�س‪ ،‬في�صري معروفا‪،‬‬ ‫وهي مرحلة خطرية يف هذا املجال‪.‬‬ ‫"طبعا‪ ،‬هذا ال ينايف �أن ي�سعى الإن�سان ‪ -‬بقدر الإمكان مع‬ ‫احتمال الت�أثري يف ر�ش بذور الإميان يف النفو�س املحيطة به‪ ،‬خ�صو�ص ًا‬ ‫من خالل عر�ض حما�سن كلمات كربائنا (ع) ف�إن النا�س لو اطلعوا على‬ ‫حما�سن تلك الكلمات التبعوهم"(‪.)134‬‬ ‫اجلواب ال ي�شكل موقف ال�سائل وال يعيد ت�شكيله بقدر ما ُيث ّبته‪.‬‬ ‫فموقف ال�سائل‪ ،‬كما يتب ّدى من طريقة �صياغته لل�س�ؤال‪ ،‬هو موقف‬ ‫خطاب الكاظمي نف�سه‪ ،‬كما تب ّدى يف اجلواب‪ ،‬ال�سائل يطلب جواب ًا ي َّربئ‬ ‫ذمته من رطوبة الآخر املبتلى بها‪ ،‬ال يطلب موقف ًا يعرفه �سلف ًا‪.‬‬

‫‪134‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:13‬‬

‫املرجع نف�سه‪.‬‬

‫‪277‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 277‬‬


‫ركاز‪« ..‬نيو لوك» �أو «نيو �أخالق»‬ ‫تعرف (ركاز) يف موقعها الإلكرتوين هويتها بالتايل "نحن‬ ‫م�ؤ�س�سة �إعالمية م�ستقلة غري ربحية تهدف �إىل تعزيز الأخالق يف‬ ‫املجتمع الكويتي ويف املجتمعات الأخرى عن طريق التن�سيق مع امل�ؤ�س�سات‬ ‫املدنية يف تلك املجتمعات والدول"(‪.)135‬‬ ‫وتربر (ركاز) م�شروعها الأخالقي التغيريي بظهور جمموعة‬ ‫من ال�سلوكيات الغربية على ال�شباب وكذلك الغريبة عن قيم وعادات‬ ‫املجتمع الكويتي‪ ،‬وترى �إن هذه ال�سلوكيات الغريبة جاءت نتيجة لبعد‬ ‫ال�شباب عن القيم الأخالقية‪ ،‬والقيم املجتمعية النبيلة وكذلك لفقدان‬ ‫ال�ساحة الكويتية خلطاب �إعالمي موجه‪.‬‬ ‫تقدم نف�سها ب�أنها املتحدثة واحلامية لـ "قيم وعادات املجتمع‬ ‫الكويتي القيم الأ�صيلة" وتتحدث بنربة جماعية عن "�أخالقنا وقيمنا‬ ‫الأ�صيلة" وحتذر من "الأخالقية الدخيلة" على املجتمع الكويتي‪ .‬وتدعو‬ ‫ب�صوت جماعي �إىل "االعتزاز والتم�سك والرجوع �إىل مبادئنا وتراثنا‬ ‫الأ�صيل"‪.‬‬ ‫وتقوم فكرة (ركاز) على القيام بحمالت �إعالمية حتمل‬ ‫كل حملة منها جمموعة من القيم وجمموعة من الأهداف اخلا�صة‪،‬‬ ‫بالإ�ضافة �إىل بع�ض الفعاليات امل�صاحبة‪.‬و(ركاز)‪ ،‬كلمة تطلق على‬ ‫الذهب والف�ضة داخل الأر�ض‪ ،‬وعلى ال�شيء الثابت والرا�سخ يف الأر�ض‪.‬‬ ‫و�أخالقنا وقيمنا الأ�صيلة ‪ -‬كما يقول �أ�صحاب امل�شروع‪ -‬نفي�سة بنفا�سة‬ ‫الذهب والف�ضة ورا�سخة على مر الع�صور والأزمان‪ ،‬فلذلك جاء ركاز‬ ‫‪135‬‬

‫انظر موقع (ركاز‪/http://www.rekaaz.com‬‬

‫‪278‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:13‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 278‬‬


‫لتعزيز الأخالق‪ .‬وركاز؛ كما يقول موقعه الإلكرتوين م�شروع اختار �أ ّال‬ ‫يق�صر براجمه على امل�ساجد واجلوامع فخرج �إىل النا�س يف �أنديتهم‬ ‫و�أماكن وجودهم ومق ّراتهم وديوانياتهم‪ .‬ت�أ�س�س ركاز يف دولة الكويت‬ ‫ال�شقيقة ويقوده ال�شيخ حممد العو�ضي‪ .‬وبد�أ ينت�شر يف عدد من الدول‬ ‫كاململكة العربية ال�سعودية‪ ،‬دولة قطر‪ ،‬دولة الإمارات العربية املتحدة‪،‬‬ ‫اململكة الأردنية الها�شمية‪ ،‬اجلمهورية اليمنية‪ ،‬ويف بلجيكا‪.‬‬ ‫زرانيق راق ْبها‬ ‫يف الن�صف الثاين من الثمانينيات‪� ،‬أخذتنا احلما�سة الدينية‬ ‫ونحن ما نزال طالب ًا باملرحلة الثانوية‪ ،‬لت�شكيل جماعة الأمر باملعروف‬ ‫والنهي عن املنكر‪ ،‬كان ذلك يف قريتنا (الدير) القرية البحرية الزراعية‬ ‫ال�ساكنة بالنخيل‪ ،‬الوادعة بالبحر‪� ،‬إال من حركة املراهقني واملراهقات‬ ‫الطبيعية وحركة �أ�شرطة الفيديو التي بد�أت تظهر بني �أيديهم‪ ،‬كان هدف‬ ‫اجلماعة مراقبة طرقات القرية خ�صو�صا الزرانيق فيها‪ ،‬والزرانيق جمع‬ ‫زرنوق‪ ،‬وهو املمر ال�ض ّيق الذي ال يت�سع لأكرث من عا�شقني ميران فيه على‬ ‫َخ َف ٍر وهما يختل�سان هوى مير بينهما‪.‬‬ ‫كنا مدفوعني يف ذلك �إىل حماية الأخالق و�صيانتها‪ ،‬واحلقيقة‬ ‫�أن الأخالق مل تكن مهددة‪ ،‬لكن حما�سنا الديني الذي غ ّذته فينا الدرو�س‬ ‫الدينية املكثفة الأخالق‪ ،‬هي التي �أرتنا �أن �أخالق قريتنا العفيفة معر�ضة‬ ‫لغ�ضب اهلل‪ ،‬لكن املفارقة لي�ست هنا‪ ،‬املفارقة �أن ال�شباب املنخرطني يف‬ ‫حملة (راق ْبها)‪� ،‬إذ كان هدفنا مراقبة الزرانيق امل�شبوهة‪ ،‬خ�صو�صا‬ ‫الزرانيق التي مل ت�صلها حركة الكهرباء بعد‪ ،‬في�شعلها املراهقون‬ ‫بكهربائهم الطبيعية‪ ،‬ه�ؤالء ال�شباب ا�ستجابوا لطبيعتهم العمرية ون�سوا‬ ‫مركوزات درو�سهم الدينية ومواعظهم الأخالقية‪ ،‬فراحوا ميار�سون‬ ‫بطوالتهم على طريقة ما هو مركوز فيهم من طبيعة مل مت�س�سها ثقافة‬ ‫الت�أثيم والتحرمي بعد‪.‬‬ ‫‪279‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:13‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 279‬‬


‫الأخالق الف�سيحة‬ ‫لي�س هناك عنوان عري�ض ووا�سع ميكنك من �أن تعتمده غطاء‬ ‫لأي م�شروع �أو حملة �أو فكرة �أكرث من الأخالق والعادات والقيم والدين‪،‬‬ ‫يكاد هذا العنوان يكون ح�صن ًا ح�صين ًا يحميك من النقد وامل�ساءلة‬ ‫واالعرتا�ض‪ ،‬بل ميكنك عربه �أن تقوم بعمل غري �أخالقي وت�صفه ب�أنه‬ ‫�أخالقي �ضد من يقفون �ضد م�شروعاتك التي ت�ستخدم فيها هذا العنوان‬ ‫الف�سيح‪ .‬وميكنك بهذا العنوان �أن متلك �شارع ًا �أو تراقب زرنوق ًا �أو حتتل‬ ‫(رمزي ًا) جممع ًا �أو حتتكر منتجعا‪ ،‬ميكنك بهذا العنوان �أن تبتكر لك‬ ‫ما ت�شاء‪ ،‬ليالحق خطابك م�ؤ�س�سات النا�س الداخلية كي ت�ضمن و�صوله‬ ‫�إليهم‪� ،‬إن مل ي�صلوا هم �إىل خطابك حيث امل�ؤ�س�سات التي مل تعد تت�سع‬ ‫لك‪.‬‬ ‫بل عرب هذا العنوان‪ ،‬ميكنك �أن ت�ستنفر �أعلى �سلطة ت�شريعية‬ ‫ورقابية يف الدولة‪ ،‬لتجعلها تقف معك حتت مظلة العنوان نف�سه‪� ،‬أي ًا‬ ‫كانت تفا�صيله‪ ،‬كما هو الأمر مع رئي�س جمل�س الأمة الكويتي "قال‬ ‫رئي�س جمل�س الأمة �إن �شباب الكويت يعتربون مثا ًال رائع ًا يف جت�سيد‬ ‫الوحدة الوطنية والتحلي بالأخالق الراقية واحلميدة‪ ،‬و�أن ما زرعه‬ ‫الآباء والأجداد من الأخالق والقيم النبيلة هو ما تعهده الأمة من �شباب‬ ‫الكويت الذين ي�سطرون �أروع �آيات النجاح يف عملهم و�أخالقهم‪ ،‬م�ؤكد ًا‬ ‫�أن العمل على �إيجاد م�شروعات توعوية قيمة كم�شروع (ركاز) تدل على‬ ‫حر�ص اجلميع على احلفاظ على �أخالق �شبابنا وحثهم على �أن يكونوا‬ ‫املثال الأروع يف التحلي بالقيم والعادات الأ�صيلة امل�ستمدة من ال�شريعة‬ ‫الإ�سالمية"(‪.)136‬‬ ‫وكما هو الأمر مع النائب يف جمل�س الأمة الكويتي "قال النائب‬ ‫‪136‬‬

‫‪280‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:13‬‬

‫انظر الت�صريح يف (قالوا يف ركاز) يف موقع (ركاز)‪.‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 280‬‬


‫وليد الطبطبائي �إن امل�شروع القيمي الأخالقي (ركاز) يقدم ت�صور ًا‬ ‫وجهد ًا طيب ًا يف حماية ال�شباب والعمل نحو توجيههم واالهتمام بالأخالق‬ ‫واملبادئ الأ�صيلة التي متثل �أخالق وعادات �أهل الكويت م�ؤكد ًا �أن بناء‬ ‫حالة من التفاعل �ضد بع�ض املمار�سات وال�سلوكيات الال�أخالقية هو دور‬ ‫جيد وفاعل وتوعوي بتحذير �شبابنا و�إ�شعارهم ب�أهمية التم�سك بالقيم‬ ‫والأخالق احلميدة"(‪.)137‬‬ ‫�أخالق املناق�صات‬ ‫ �أمام هذه ال�سلطة التي متثل �أعلى القيم الأخالقية يف الدولة‪،‬‬ ‫ال ميكنك �إال �أن تزايد بجمل �أكرث بالغة و�أكرث متاهي ًا وت�أييد ًا للم�شروع‪،‬‬ ‫و�إال �ستكون �ض ّد الأخالق و�ضد الدين و�ضد القيم و�ضد العادات و�ض ّد‬ ‫اهلل‪ .‬كي حتمي نف�سك وتربئ �ساحتك عليك �أن تتقن �أخالق املزايدة‪،‬‬ ‫ولي�س �أكرث من رجال ال�سيا�سة �إتقان ًا لبالغة املزايدات‪ ،‬على اخلطابات‬ ‫التي تتحدث با�سم الآباء والعادات والتقاليد واملجتمع‪ .‬و�شيئ ًا ف�شيئ ًا‬ ‫تتحول املزايدات �إىل مناق�صات جتارية‪ ،‬يجري التفاو�ض على من هو‬ ‫الأحق بها‪.‬‬ ‫و�أنا �صدق ًا ال �أرغب �أن �أكون �ضد الأخالق‪ ،‬وال �أرغب يف �أن �أكون‬ ‫مزايد ًا وال مناق�ص ًا‪ .‬لذلك �أرجو من يقر�أ من الإخوة يف (ركاز) نقدي‬ ‫لهم‪� ،‬أن يقر�أوه على �سبيل (امل�ؤمن مر�آة �أخيه امل�ؤمن) و�أنا و�إن كنت‬ ‫مبوا�صفات الركازيني ل�ست م�ؤمن ًا‪ ،‬لكني مبوا�صفات غري الركازيني‪،‬‬ ‫ل�ست كافر ًا وال حاقد ًا ومبغ�ض ًا‪� ،‬أنا قارئ‪� ،‬أتوفر على قدرة يف تفكيك‬ ‫خطابات الأخالق‪ ،‬والتفكيك هنا ال يعني الهدم والنق�ض‪ ،‬بل يعني ك�شف‬ ‫ما يلتب�س بخطابنا عن الأخالق من قيم تنق�ض غايتنا الأخالقية العليا‬ ‫‪137‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:13‬‬

‫ااملرجع نف�سه‪.‬‬

‫‪281‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 281‬‬


‫وتعيق توا�صلنا االجتماعي والإن�ساين‪.‬‬ ‫ومربري يف ذلك‪� ،‬أن خطابنا عن الأخالق لي�س هنا الأخالق‪،‬‬ ‫كما �أن خطابنا عن الدين لي�س هو الدين‪ ،‬وهذا يعني �أن خطاب (ركاز)‬ ‫عن الأخالق‪ ،‬لي�س هو الأخالق‪ ،‬وال يحق لركاز وال لغريها �أن حتتكر‬ ‫ميدان الأخالق وحدها �أو �أن تدعي �أنها املمثل احلق له‪ .‬و�إذا كانت‬ ‫(ركاز) تقدم نف�سها ب�صفتها �صاحبة مهمة �إنقاذ الأخالق يف جمتمعاتنا‬ ‫اخلليجية من االنهيار والتهديدات اخلارجية‪ ،‬فال يحق لها‪ ،‬من ناحية‬ ‫�أخالقية‪� ،‬أن تعترب املختلفني معها �أو حتى الذين يقفون �ضد حمالتها‪،‬‬ ‫من باب عدم االقتناع‪ ،‬ال يحق لها �أن تعتربهم مناوئني للأخالق �أو‬ ‫للدين‪ ،‬فهم خمتلفون مع خطابها فقط‪ ،‬كما هو الأمر بالن�سبة يل‪.‬‬ ‫قب�ض وب�سط الأخالق‬ ‫الأخالق تقع �ضمن املتغريات‪ .‬لي�س مبعنى �أن الكذب ي�صبح‬ ‫قيمة �إيجابية‪ ،‬بعد �أن كان من الثابت �أنه قيمة �سلبية‪ ،‬ولي�س مبعنى �أن‬ ‫الغ�ش ي�صبح من �أخالق الكرام بعد �أن كان من �أخالق اللئام‪ .‬الأخالق‬ ‫متغرية‪ ،‬مبعنى �أن و�صف املختلف معك يف الدين بال�ضالل والكفر بعد �أن‬ ‫كان قيمة دينية حتدد املهتدي وامل�ؤمن‪� ،‬أ�صبح ا�ستخدام هذه ال�صفات‬ ‫غري مقبول يف املجتمعات املتعددة الأعراق والأديان‪ .‬والأخالق املتغرية‪،‬‬ ‫مبعنى �أي�ض ًا �أن املبد�أ الأخالقي الذي ي�ضع دين ال�شخ�ص معيار ًا للقبول‬ ‫به‪� ،‬أ�صبح غري مقبول �أي�ض ًا‪� .‬أخالق التمييز والتفرقة وهي �أخالق تترب�أ‬ ‫منها الدولة احلديثة التي هي اليوم اجلهة احلامية لأخالق التعاي�ش‬ ‫والقبول‪.‬‬ ‫هل نحتاج �إىل �أن نفهم مبحث الأخالق ب�أخالق جديدة؟ �أقول‬ ‫نعم‪ .‬ودعوين �أو�ضح هذه الفكرة من خالل م�ؤمتر املجل�س الأعلى لل�ش�ؤون‬ ‫‪282‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:13‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 282‬‬


‫الإ�سالمية حول «�أخالقنا بني النظرية وال�سلوك»‪ ،‬الذي �أقيم حتت رعاية‬ ‫ال�شيخ خليفة بن �سلمان �آل خليفة رئي�س الوزراء‪ ،‬يف الفرتة ‪ 4-3‬نوفمرب‪/‬‬ ‫�شباط ‪ 2008‬بفندق الدبلومات بالبحرين‪ .‬من خالل ا�ستعرا�ض �أ�سماء‬ ‫امل�شاركني يف هذا امل�ؤمتر‪� ،‬سنالحظ ثمة قيمة �أخالقية قد تغريت يف‬ ‫مفهوم املجل�س الأعلى لل�ش�ؤون الإ�سالمية‪ .‬وهي قيمة التقارب بني‬ ‫�أ�صحاب املذاهب املختلفة‪ ،‬فقد �شارك يف هذا امل�ؤمتر ال�شيخ مرت�ضى‬ ‫واعظ جوادي‪ ،‬وال�شيخ عبدالعظيم املهتدي البحراين‪.‬‬ ‫ �إذ ًا ثمة تغري يف �أخالق القبول بعد �أن كانت �أخالق الرف�ض �أو‬ ‫اال�ستبعاد �أو الإق�صاء هي التي حتكم املجل�س الأعلى لل�ش�ؤون الإ�سالمية‪،‬‬ ‫وهذه الأخالق ثابتة يف جمال�س الإ�سالم يف بلدان �إ�سالمية �أخرى‪ ،‬لكنها‬ ‫حتم ًا �ست�ؤول �إىل التغيري‪ .‬مقابل هذه القيمة الأخالقية املتغرية ثمة‬ ‫�أخالق �أخرى ال تتغري بالن�سبة �إىل املجل�س الأعلى‪ ،‬فاملجل�س مث ًال‪ ،‬مل‬ ‫ي�شرك حقوال معرفية �أخرى على �صلة مببحث الأخالق‪ ،‬مث ًال �أ�صحاب‬ ‫االجتاهات الفل�سفية‪ ،‬ومعلوم �أن مبحث الأخالق يقع �ضمن مباحث‬ ‫الفل�سفة الأ�صيلة‪.‬‬ ‫والفال�سفة امل�سلمون كم�سكويه‪ ،‬وابن ر�شد‪ ،‬والفارابي‪ ،‬وابن‬ ‫طفيل‪ ،‬كانوا ي�ستندون يف مبحث الأخالق يف الفل�سفة �إىل الفل�سفة‬ ‫اليونانية ممثلة يف �أر�سطو خ�صو�ص ًا و�أفالطون‪ .‬والفل�سفة احلديثة �أي�ض ًا‬ ‫مل تخرج الأخالق من نطاق اهتمامها‪ .‬بل هي تتحدث اليوم عما ي�سمى‬ ‫بالأخالق التطبيقية‪ ،‬وهي الأخالق اخلا�صة باملهن وما يجب فيها من‬ ‫التزامات‪ ،‬كمهنة الطب‪ ،‬وال�صيدلة‪ ،‬والهند�سة‪ .‬وهناك �أي�ض ًا ما ي�سمى‬ ‫ب�أخالق العناية وهي اجتاه فل�سفي �أخالقي يركز على العالقات بني‬ ‫الأفراد عو�ض ًا عن ميولهم‪ ،‬وهي ت�ضع �أخالق املحبة �ضمن �أهم الأخالق‬ ‫التي حتدد العالقة بني الأفراد‪ ،‬حتى �إنها �صارت تتحدث عما ت�سميه‬ ‫‪283‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:13‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 283‬‬


‫بعمل املحبة يف النا�س‪.‬‬ ‫الأخالق تندرج �ضمن ما ي�سمى بالعقل العملي‪ ،‬وهي حتدد لنا‬ ‫الأفعال التي من الواجب �أن نقوم بها والأفعال التي علينا �أن نتجنبها‪،‬‬ ‫لي�س جتاه اخلالق فقط‪ ،‬بل جتاه �أنف�سنا والآخرين والبيئة واملهنة والدولة‬ ‫واجلماعات‪ .‬جتربة الأخالق حتمل يف طياتها جتربة الدولة‪ ،‬والتفكري‬ ‫يف الأخالق هو تفكري يف الدولة واملجتمع‪ ،‬والدولة تكت�سب �صفة «مربية‬ ‫املربني» لأنها حتمل م�شروع تربية و�أخالق و�أدب (‪.)138‬‬ ‫لذلك اعترب الفيل�سوف ال�سيد الطباطبائي الأخالق من «�سنخ‬ ‫املجازات» فهي يف نظريته من جن�س االعتباريات‪ ،‬ولي�ست حقائق نظرية‬ ‫قاطعة‪.‬‬ ‫الدين م�صدر من م�صادر الأخالق‪ ،‬لكنه لي�س امل�صدر‬ ‫الوحيد‪ ،‬ولي�س هو امل�صدر النهائي‪ .‬كما �أن اخلالق امل�ستمدة من الدين‬ ‫لي�ست واحدة‪ ،‬بل هي تتنوع وتتعدد باختالف النا�س وتغريهم وات�ساعهم‬ ‫و�ضيقهم‪ .‬واختالف اجلماعات الدينية يجد �شيئا من تف�سريه يف‬ ‫اختالف مفاهيمهم الأخالقية ومفاهيمهم للأخالق‪.‬‬ ‫فالأخالق عند اجلماعات الدينية‪ ،‬تكاد تكون حم�صورة‬ ‫يف املو�ضوعات املتعلقة بالنهي عن الذنوب واقرتاف ال�سيئات والأمر‬ ‫بالطاعات و�إيتاء ما يوجب احل�سنات‪ .‬كما الأمر مع حملة «ركاز»‬ ‫الأخالقية‪.‬‬ ‫ �إن الن�صو�ص الدينية‪ ،‬غري كافية لو�ضع نظام قيمي �أخالقي‬ ‫يحكم الفرد احلديث الذي مل يعد جمرد عبد يطيع خالقه‪ ،‬كما فهمه‬ ‫الفقهاء‪ .‬وغري كافية لو�ضع نظام �أخالقي يحكم الدولة احلديثة التي مل‬ ‫تعد «ويل �أمر» مفرت�ض الطاعة �أو «ويل فقيه» واجب االنقياد‪.‬‬ ‫‪138‬‬

‫‪284‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:13‬‬

‫انظر ‪ :‬دولة مكارم الأخالق‪� ،‬ص‪.195‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 284‬‬


‫هكذا �إذ ًا‪ ،‬ات�سعت �أخالق القبول يف م�ؤمتر الأخالق‪ ،‬لكنه‬ ‫ات�ساع ال ي�شي بتغري �أخالقي كبري‪ ،‬فمازالت دائرة امل�شاركة حم�صورة يف‬ ‫دائرة ال�ش�أن الديني وال�ش�أن الإ�سالمي‪ .‬ومازال هذا ال�ضيق يحول دون‬ ‫فتح الأخالق على الفل�سفة احلديثة وعلوم الإن�سان احلديثة‪ ،‬كما كانت‬ ‫يف تراثنا مفتوحة على الفل�سفة وبقية العلوم‪ .‬وهذا رمبا ما جعل من‬ ‫الأوراق املقدمة يف امل�ؤمتر ت�أخذ الطابع التقليدي واملحافظ والتكراري‪.‬‬ ‫�ستت�سع �أخالقنا متى ات�سعت ر�ؤيتنا للأخالق‪ ،‬والأخالق‬ ‫تنقب�ض وتنب�سط (‪)139‬بح�سب ر�ؤيتنا وم�سبقاتنا وثقافتنا‪� ،‬أو بح�سب‬ ‫معرفتنا الدينية التي هي غري الدين بح�سب نظرية القب�ض والب�سط عند‬ ‫�سرو�ش‪.‬‬ ‫ركاز الطريق الثالث‬ ‫ �أقول ذلك و�أنا �أ�ستح�ضر نربة كتابات الإعالميني و�أ�صحاب‬ ‫الأعمدة يف ال�صحافة البحرينية الذين وجدوا يف �إيقاف حملة (ركاز)‬ ‫يف البحرين ما يتجاوز هذا االختالف‪ ،‬وحملوها �شحنات غ�ضب ال تتفق‬ ‫مع �أخالق الت�سامح‪ .‬كما هو الأمر مع الزميل حممد املحميد الذي كتب‬ ‫يف عموده اليومي طريق ثالث حتت عنوان (ركاز‪� ..‬إيقافها عيب)‪” ،‬يف‬ ‫الأمر مكيدة دبرت بليل‪ ،‬وهناك ا�ستجابة ل�ضغوط من ذوي القلوب‬ ‫والنفو�س املري�ضة‪ ،‬ممن ال يريدون تبديل �سيئاتهم ح�سنات ولكنهم‬ ‫ي�صرون على زيادة �سيئاتهم �إىل �سيئات‪)140("..‬‬ ‫(الطريق الثالث) كما ظهرت فكرته لأول مرة العام ‪1936‬‬ ‫انظر‪ :‬عبدالكرمي �سرو�ش‪« ،‬القب�ض والب�سط النظري لل�شريعة»‪.‬‬ ‫‪139‬‬ ‫جريدة �أخبار اخلليج‪� 4 ،‬أكتوبر‪ 2007,‬عمود الطريق الثالث‪،‬‬ ‫‪140‬‬ ‫‪http://www.akhbar-alkhaleej.com/arc_ArticlesFO.asp‬‬ ‫‪?Article=205405&Sn=RYTH&IssueID=10785‬‬

‫‪285‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:13‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 285‬‬


‫على يد الكاتب ال�سويدي (‪ )arquis Child‬هو طريق الو�سط بني‬ ‫مفهومي الليربالية االقت�صادية واال�شرتاكية املارك�سية‪ ،‬فهو �أ�سلوب‬ ‫يوائم بني ر�أ�سمالية ال�سوق احلر واملفهوم الكال�سيكي عن الأمن‬ ‫والت�ضامن االجتماعي(‪ .)141‬عادة ما حتول املفاهيم التي تنتج يف حقل‬ ‫االقت�صاد وال�سوق �إىل مفاهيم لها ا�ستثماراتها يف حقل الفكر والثقافة‬ ‫والأيديولوجيا‪ ،‬وهذا ما حدث مع مفهوم الطريق الثالث‪.‬‬ ‫�صار (الطريق الثالث) يفتح التفكري على التعدد واالحتمال‬ ‫واالت�ساع‪ ،‬الطريق الثالث يفتحنا على �أخالق االختالف‪ ،‬و�أخالق‬ ‫االختالف تعد من الركازات التي تقوم عليها اليوم املجتمعات املتعددة‬ ‫االنتماءات‪ ،‬وهي متنعنا من �أن ن�صف املختلفني مع خطابنا ب�أو�صاف‬ ‫النفو�س املري�ضة الذين ال يريدون �أن يبدلوا �سيئاتهم ح�سنات‪ .‬حني نتخذ‬ ‫من الطريق الثالث عنوان ًا ِل�شق كتابتنا‪ ،‬والكتابة باملنا�سبة �أ�صلها �شق‪،‬‬ ‫ف�إن تكتب يعني �أن ت�شق فكرة وطريقا (�أو طرقا) وا�سع ًا للآراء والأفكار‪،‬‬ ‫وهذا يلزمنا �أخالقي ًا ب�أن نت�سع ملن ال يرون يف خطابنا �أو طريقنا عن‬ ‫الأخالق ما ميثل ر�ؤيتهم للأخالق‪.‬‬ ‫من حق الزميل املحميد �أن يدافع عن اخلطاب الذي يتفق معه‪،‬‬ ‫و�أن يبذل ما يف و�سعه لن�صرته مهما قل عدده‪ ،‬لكن من دون التعري�ض‬ ‫والغمز ملن هم على خالف �أو اختالف معه‪ ،‬كما يفعل يف طريقه الثالث‬ ‫ال�ضيق "فل�سنا طوفة هبيطة‪ ..‬وغرينا مو �أح�سن منا‪ ..‬و�إذا كان املو�ضوع‬ ‫يحتاج �إىل اعت�صام �أو �صراخ حتى تتم اال�ستجابة والر�ضوخ و�إعادة‬ ‫امل�شروع والتعهد بعدم م�سا�سه والتطاول عليه مرة �أخرى‪ ،‬فلن نعجز عن‬ ‫ذلك مهما قل عددنا‪."!!..‬‬ ‫انظر‪ :‬غادة مو�سى‪ ،‬الطريق الثالث‪ ..‬حتوالت الليربالية �أم �أمل اال�شرتاكية؟‬ ‫‪141‬‬ ‫‪http://www.islamonline.net/arabic/mafaheem/200102//‬‬ ‫‪article2.shtml‬‬

‫‪286‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:13‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 286‬‬


‫و يبدو �أن جمهور (بدلها) قد وجد يف خطاب الطريق الواحد‬ ‫(ولي�س الطريق الثالث) ما يعرب حقيقة عن نربته الأخالقية‪ ،‬ولذلك‬ ‫راح ميتحي من القامو�س نف�سه‪ :‬القلوب املري�ضة‪ ،‬واملعادة وال�شياطني‬ ‫والع�صاة‪.‬‬ ‫يعيد هذا اجلمهور متثيل خطاب (ركاز) الأخالقي نف�سه‪،‬‬ ‫فيقول "هناك دائما قلوب مري�ضة يغي�ضها ان ينت�شر اخلري ويعود النا�س‬ ‫�إىل الأخالق… انها �سنة اهلل يف خلقه ليعلم ال�صالح من الطالح‪ ،‬ليعلم‬ ‫ال�صادق من الكاذب‪� ..‬إنها �سنة قدمية‪ ،‬انظروا لقول قوم لوط‪ ،‬قال‬ ‫تعاىل ”�أخرجوا �آل لوط من قريتكم �إنهم �أنا�س يتطهرون”‪� ..‬إن من‬ ‫اتخذ القرار ب�إيقاف ركاز حتى لو مل يقلها بل�سانه فقد قالها بقلبه‪..‬‬ ‫اوقفوا ركاز �إنهم يدعون للأخالق‪� ..‬ألهذه الدرجة تكون املعاداة للحمالت‬ ‫اخليرّ ة واملباركة والتي تدعوا لت�أ�صيل وتر�سيخ الثوابت والقيم الفا�ضلة‪،‬‬ ‫ماذا يريد ه�ؤالء املعار�ضون؟؟ �أيريدون �أن يبقى الغافلون والع�صاة على‬ ‫غفلتهم وع�صيانهم‪� ،‬أيكرهون �صالح العباد وعودتهم لرب العباد‪..‬‬ ‫ب�شهر اخلري النا�س العا�صية تتوب‪ ..‬وتلتزم بالعبادات والطاعات حيث‬ ‫ان �شياطني اجلن م�صفدة‪ ..‬ولكن هناك �شياطني من الأن�س مل ت�صفد‪..‬‬ ‫واخلووووووف من ه�ؤالء!!"(‪.)142‬‬ ‫ �إنها لي�ست �أخالق الطريق الثالث‪ ،‬هي �أخالق الطريق الواحد‪،‬‬ ‫ورمبا هي �أخالق طرف الطريق‪ .‬ويف الطرف ال مكان لتو�سط الأ�شياء‪،‬‬ ‫الطرف �أقرب لل�سقوط‪ ،‬وحني ت�سقط الأ�شياء تغيب‪ .‬هكذا تغيب �أخالق‬ ‫التو�سط‪ ،‬ما هي هذه الأخالق ال�ساقطة من �أجندة (ركاز) �أو الغائبة‬ ‫عن خطابها؟ ولنتذكر �أن امل�ؤمن مبا هو مر�آة لأخيه امل�ؤمن وحتى غري‬ ‫امل�ؤمن‪ ،‬فهو ذاكرة �أي�ض ًا‪ ،‬لأنه يذكر �أخاه امل�ؤمن مبا يغيب عنه وين�ساه‪.‬‬ ‫‪142‬‬

‫انظر تعليقات اجلمهور يف موقع ركاز‪.‬‬

‫‪287‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:13‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 287‬‬


‫�أخالق الطريق الثالث‬ ‫الأخالق الغائبة‪ ،‬هي �أخالق الطريق الثالث‪ ،‬الأخالق التي‬ ‫تتو�سط العامل وتناق�ضاته‪ ،‬هي الأخالق التي ال تق�سم العامل �إىل خري‬ ‫و�شر‪ ،‬وال تق�سم �أعمال الب�شر �إىل ح�سنات مطلقة و�سيئات مطلقة‪ ،‬هي‬ ‫الأخالق التي ت�ضع �سبعة �ألوان بني احل�سنة وال�سيئة‪ ،‬هي الأخالق التي‬ ‫تخرجك من عاملك الواحد املغلق وت�صلك بعامل متعدد‪ ،‬هي الأخالق‬ ‫التي جتعلك تعي�ش العامل والدنيا وك�أنك �ستعي�ش فيها �أبد ًا‪ ،‬لأنك بهذه‬ ‫الأخالق �ستعمر العامل ملن �سي�أتون بعدك وملن هم يعي�شون معك‪ .‬لن جتد‬ ‫يف خطاب �أخالق (ركاز) �شيئ ًا من هذه الأخالق‪ ،‬وال �شيئ ًا من ثقافتها‪،‬‬ ‫هم م�شغولون ب�أخالق اخلال�ص والنجاة الفردية‪ ،‬وهي �أخالق العباد‬ ‫واملكلفني‪ ،‬ال �أخالق الأحرار الذين يقيمون بحريتهم عامل ًا حر ًا ومتنوع ًا‪.‬‬ ‫نحن نعاين فع ًال من �أزمة �أخالق‪ ،‬لكنها �أزمة الأخالق الغائبة عن ركاز‪،‬‬ ‫ال الأخالق الركازية‪ .‬بل ال �أبالغ حني �أقول �إن الأخالق الركازية و�إن بدت‬ ‫يف بع�ضها حمل اتفاق وقبول كاحرتام الوالدين وزيارتهما‪� ،‬إال �أنها تلتب�س‬ ‫دوم ًا مبا ي�سيء لها‪ ،‬لأنها ت�أتي يف �صيغة جمموعة واحدة مغلقة‪ ،‬ف�أخالق‬ ‫احرتام الوالدين ال ت�أتي وحدها‪ ،‬بل ت�أتي م�صحوبة ب�أخالق �أخرى وهي‬ ‫الأخالق التي ُتعلي من جانب من �ش�أن اخلال�ص الفردي اخلال�ص من‬ ‫عذاب القرب ويوم القيامة‪ ،‬وتزيح من جانب �آخر ويف الوقت نف�سه �أخالق‬ ‫الطريق الثالث‪ ،‬هكذا ت�صبح قيمة احرتام الوالدين �إبرة �ضائعة و�سط‬ ‫كومة ق�ش‪.‬‬ ‫ �أخالق اخلال�ص كما جت�سدها (ركاز) تكاد تكون حم�صور ًة‬ ‫يف املو�ضوعات املتعلقة بالنهي عن الذنوب واقرتاف ال�سيئات والأمر‬ ‫بالطاعات و�إيتاء ما يوجب احل�سنات‪ ،‬واحل�سنات وال�سيئات تبدو يف‬ ‫خلفية (ركاز) مفاهيم قاطعة وحادة وغري قابلة لفهم متباين �أو ت�أويل‬ ‫متعدد‪.‬‬ ‫‪288‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:14‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 288‬‬


‫ثقافة بدلها‬ ‫الثقافة يف �إحدى مفاهيمها جمموعة من الأوامر والنواهي التي‬ ‫عربها يتم ت�شكيل الإن�سان و�صياغته‪ ،‬بهذا املفهوم ميكننا �أن نقر�أ حملة‬ ‫(ركاز) الأخالقية‪ ،‬مبا هي حملة ثقافية تتجاوز م�س�ألة حث ال�شباب على‬ ‫تبديل �سيئاتهم ح�سنات‪ ،‬لتكون تبدي ًال ملفاهيمهم للحياة وجت�سداتها‬ ‫املتعددة يف �سلوك النا�س واملجتمعات‪.‬بهذا تكون حملة (بدلها) تعني‬ ‫بدل ثقافتك التي ترى من خاللها العامل والإن�سان‪� ،‬أن تكون ركازي ًا‪،‬‬ ‫يعني �أن تكون َخال�صي ًا‪ ،‬ترى عاملك من خالل �أخالق اخلال�ص‪ ،‬وهي‬ ‫�أخالق ترى العامل خري ًا مطلقا �أو �شر ًا مطلقا‪ ،‬وعلينا �أن نعربه �سريع ًا‬ ‫كي َنخل�ص �إىل اجلنة‪ ،‬و�إال فالنار تنتظرنا‪.‬‬ ‫ �أن يخرج الدعاة ب�أخالق خال�صهم �إىل الف�ضاء العام امل�شرتك‬ ‫حيث املواطنون (ولي�س امل�ؤمنون على مذهب جماعة ما) مبختلف‬ ‫توجهاتهم‪ ،‬م�س�ألة ال ميكن فهمهما يف �سياق التحول �إىل العمل العلني‬ ‫بدال من العمل ال�سري �أو العمل داخل الأقبية والغرف املظلمة �أو العمل‬ ‫عرب امل�ؤ�س�سات املدنية بدل امل�ؤ�س�سات الدينية‪ ،‬كما ي�شري �إىل ذلك الزميل‬ ‫جمال زويد يف عموده را�صد ”بع�ض القوم يطالبون الإ�سالميني باالنفتاح‬ ‫وعدم االنغالق‪ ،‬ويطالبونهم بعدم ق�صر خطابهم على امل�ساجد ودور‬ ‫العبادة‪ ،‬ويطالبونهم بالرتكيز على الأخالق والف�ضائل واالبتعاد عن‬ ‫ال�سيا�سة‪ ،‬ويطالبونهم بالكالم وتوجيه ال�شباب حتت الأ�ضواء ال�ساطعة‬ ‫ويف الأماكن العامة ولي�س يف الأروقة املظلمة ويف الدهاليز القامتة‪.‬‬ ‫ويطالبونهم ويطالبونهم ولكن الوقائع تك�شف �أن املطلوب هو �شيء �آخر‬ ‫غري مذكور"(‪.)143‬‬ ‫جريدة �أخبار اخلليج‪� 4 ،‬أكتوبر‪ 2007,‬عمود را�صد‪،‬‬ ‫‪143‬‬ ‫‪http://www.akhbar-alkhaleej.com/arc_ArticlesFO.asp‬‬ ‫‪?Article=205408&Sn=RASD&IssueID=10786‬‬

‫‪289‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:14‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 289‬‬


‫اخلروج �إىل الف�ضاء العام‪ ،‬يحتاج �إىل حتول يف اخلطاب �أو‬ ‫خروج على بع�ض م�سلماته وبدهياته‪� ،‬أي يحتاج �إىل حتول يف مفاهيمنا‬ ‫للأخالق والعامل والإن�سان‪ ،‬لتكون �ضمن �شروط هذا الف�ضاء‪ ،‬وهذه‬ ‫ال�شروط هي نف�سها �أخالق الطريق الثالث �أو مقت�ضياته‪ .‬فهل ال�شيخ‬ ‫حممد العو�ضي مثال يتوافر على خطاب جديد ومغاير خلطابه الثمانيني‬ ‫�أو الت�سعيني مثال؟ و�أنا هنا ال �أح�صر املغايرة يف املوقف من ال�سلطة‬ ‫ال�سيا�سية وطريقة التعامل معها‪ ،‬فتلك م�س�ألة تخ�ضع حل�سابات املراوغة‬ ‫ال�سيا�سية‪� ،‬أكرث مما تخ�ضع لقناعات التح ّول الفكري‪.‬هل منطلقات‬ ‫خطاب (ركاز) يف جممع الدانة‪ ،‬تختلف عن منطلقاتها يف امل�ساجد؟‬ ‫و�أنا هنا ال �أعني االختالف ال�شكلي الذي هو �أقرب �إىل ما يعرف اليوم‬ ‫بالنيو لوك (‪� .)New look‬أن نخرج �إىل املجمعات بنيو لوك‪ ،‬ال نيو‬ ‫�أخالق‪ ،‬فهذا يعني �أننا ن�ستخدم الف�ضاء العام ل�صاحلنا اخلا�ص‪ ،‬ال‬ ‫لل�صالح العام وال�صالح العام هو ما يفتح النا�س على بع�ضهم انفتاحا‬ ‫يف�ضي بهم �إىل قبول اختالفهم والدفاع عن �آرائهم بحجج كالمية‪.‬‬ ‫حملة (ركاز) هي حملة دعاة بنيو لوك ال بنيو �أخالق‪ ،‬وهنا ال‬ ‫�أعني �أن �أخالق ال�صدق ميكن �أن تتحول �إىل متجيد �إىل �أخالق الكذب‪،‬‬ ‫لكن �أعني �أن �أخالق متجيد رف�ض خروج املر�أة للف�ضاء العام‪ ،‬ميكن‬ ‫�أن تتحول �إىل �أخالق متجيد ت�ؤكد �أهمية خروجها وم�شاركتها‪ .‬و�أن‬ ‫م�صفوفة �أخالق اخلال�ص التي تركز على يوم القيامة وعذاب القرب‬ ‫ميكن �أن تتحول �إىل �أخالق اخلال�ص من �أمرا�ض التع�صب ورف�ض الآخر‬ ‫وقبول التعدد‪ ،‬وهكذا نكون بنيو �أخالق‪ .‬ويبدو �أن هذا الفرق مل يلحظه‬ ‫�أي�ضا بيان اال�ستنكار الذي �أ�صده الأمني العام جلمعية املنرب الوطني‬ ‫الإ�سالمي ورئي�س كتلتها النيابية عبداللطيف ال�شيخ‪� ،‬إذ يقول "يف الوقت‬ ‫‪290‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:14‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 290‬‬


‫الذي يطالب �أ�صحاب االجتاهات الأخرى من املرتب�صني بالإ�سالميني‬ ‫بانفتاحهم على الآخرين وعدم ق�صر اخلطب واملحا�ضرات على دور‬ ‫العبادة ويطالبونهم باالبتعاد عن ال�سيا�سة والرتكيز على الأخالق‬ ‫والف�ضائل وتوجيه ال�شباب يف العلن ي�أت هذا املنع والإيقاف غري املربر‬ ‫حلملة من �ش�أنها �أن ت�سهم يف بناء املجتمع وتر�سيخ قواعده على �أ�سا�س‬ ‫�إ�سالمي ع�صري‪ ،‬وهي لي�س لها �أدنى عالقة بال�سيا�سة"(‪.)144‬‬ ‫و�أخري ًا‪� ،‬إذا كان ليفي بريل ‪ Lévy Bruhl‬يذهب يف‬ ‫ال�سلوك للواجب‪ ،‬ف�إن الواجب هذا مرجعيته‬ ‫حتديد الأخالق مبطابقة ُّ‬ ‫اليوم ال �أخالق اخلال�ص حيث اجلماعات املغلقة على زمنها ومذهبها‬ ‫ومقد�ساتها‪ ،‬بل �أخالق املجتمع املفتوح املتعدد‪.‬‬

‫انظر‪ :‬بيان جمعية املنرب الوطني الإ�سالمي‪ ،‬يف جريدة �أخبار اخلليج‬ ‫‪144‬‬ ‫‪http://www.akhbar-alkhaleej.com/arc_Articles.asp?Ar‬‬ ‫‪ticle=205433&Sn=BNEW&IssueID=1078668701=DIeu‬‬

‫‪291‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:14‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 291‬‬


‫(معكم معكم يا علماء) قراءة يف �شارع ال�شعار‬ ‫تف�سر معنى �شعار(معكم معكم ياعلماء)‬ ‫حتاول هذه القراءة �أن ّ‬ ‫وذلك عرب تق�صي البيئة الذهنية وال�سيا�سية التي ولد فيها هذا ال�شعار‬ ‫الذي كان له ح�ضوره الفاعل يف �أحداث الت�سعينيات من القرن املا�ضي‬ ‫التي مرت بها البحرين قبيل الإ�صالحات ال�سيا�سية يف ‪2001‬م‪.‬‬ ‫ �أحاول يف هذه القراءة �أن �أف�سر معنى هذا ال�شعار �ضمن حدود‬ ‫البنية الذهنية ال�شيعية التي ن�ش�أ فيها‪ ،‬وهي متتد �إىل حدود القرن‬ ‫الثالث الهجري وهو القرن الذي انتهى فيه ع�صر الإمامة ال�شيعية‬ ‫وبد�أ فيه ع�صر الفقهاء(العلماء)‪ ،‬كما �أن هذه املحاولة ت�سعى �إىل �أن‬ ‫تقر�أ هذا ال�شعار �ضمن ال�سياق ال�سيا�سي الذي مرت بها البحرين �سنة‬ ‫‪ .1994‬وم�آالت هذا ال�شعار بعد الإ�صالحات ال�سيا�سية‪.‬‬ ‫ �إن هذه القراءة حول هذا ال�شعار ميكنها �أن ي�ساعدنا يف‬ ‫فهم طبيعة القيادة يف ال�شارع ال�شيعي ال�سيا�سي‪ ،‬و�شروطها‪ ،‬وكيفية‬ ‫انبثاقها‪.‬‬ ‫خلفية ال�شعار‬ ‫يف ‪�14‬أغ�سط�س‪ 1995‬كان ال�شيخ عبد الأمري اجلمري يلقي‬ ‫كلمة يف مكتب وزير الداخلية بح�ضور بع�ض رجال ال�سلك الق�ضائي‬ ‫وبع�ض الوزراء والوجهاء‪ ،‬وهم‪ ،‬وزير العمل عبدالنبي ال�شعلة‪ ،‬ورئي�س‬ ‫حمكمة اال�ستئناف العليا ال�شرعية اجلعفرية ال�شيخ من�صور ال�سرتي‪،‬‬ ‫وع�ضوحمكمة اال�ستئناف العليا ال�شرعية اجلعفرية ال�شيخ �سليمان‬ ‫املدين‪ ،‬ورجل الأعمال وع�ضو جمل�س ال�شورى احلاج �أحمد من�صور‬ ‫العايل‪.‬‬ ‫‪292‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:14‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 292‬‬


‫تلخ�ص هذه الكلمة ما عرف يف الت�سعينيات بـ(املبادرة)‬ ‫واملقتطف التايل يلخ�ص �أهم ما جاء فيها‪:‬‬ ‫"و�أحب �أن �أذكر حل�ضرات �أ�صحاب الف�ضيلة وال�سعادة ب�أننا‬ ‫قدمنا �إىل احلكومة املوقرة بجهود خرية خلدمة هذا الوطن العزيز‪،‬‬ ‫و�أود �أن �أذكر �أهدافها الأ�سا�سية وهي كالتايل‪:‬‬ ‫‪� .1‬إعادة الهدوء واال�ستقرار للبلد‪.‬‬ ‫‪ .2‬معاجلة الآثار التي خ ّلفتها الأزمة التي ع�صفت بالبالد‪.‬‬ ‫‪ .3‬تعزيز العالقة الطيبة بني ال�شعب واحلكومة‪.‬‬ ‫على �أن نقوم �أنا و�إخواين الأربعة‪ :‬الأ�ستاذ ح�سن م�شيمع‬ ‫والأ�ستاذ عبدالوهاب ح�سني‪ ،‬وال�شيخ خليل �سلطان‪ ،‬وال�شيخ ح�سن‬ ‫�سلطان‪ ،‬بالتعاون مع املخل�صني من �أبناء ال�شعب بالدعوة وال�سعي‬ ‫احلثيث لتحقيق هذه الأهداف‪ ،‬وتتف�ضل احلكومة املوقرة بتقدمي‬ ‫الدعم وامل�ساندة وخلق الأر�ضية ال�صاحلة لإجناح اجلهود وحتقيق‬ ‫الأهداف"(‪.)145‬‬ ‫يف ‪1‬نوفمرب‪1995‬م كان هناك �سبعون �ألف مواطن �أمام منزل‬ ‫ال�شيخ عبد الأمري اجلمري‪ ،‬ي�ستمعون �إىل البيان اخلتامي العت�صام‬ ‫�أ�صحاب املبادرة‪ ،‬وقد ح َّمل هذا البيان احلكوم َة م�س�ؤولية الإخالل ببنود‬ ‫املبادرة "غري �أن احلكومة مل مت�ض كما ينبغي فيما يتعلق بالإفراج عن‬ ‫املعتقلني غري احلكوميني‪ ،‬وقد �أدى ذلك �إىل ا�ستياء �أبناء ال�شعب وحتول‬ ‫�إىل تذمر عام‪ ،‬ثم جاءت املحاكمات التي �شملت حتى الأحداث الذين‬ ‫�سبق الإفراج عنهم‪ ،‬لتخلق مزيدا من اال�ستياء يف ال�شارع حتول �إىل توتر‬ ‫يدق ناقو�س اخلطر‪ ،‬ال �سيما‪� ،‬أن وزير �ش�ؤون جمل�س الوزراء والإعالم‬ ‫قد �ص ّرح ثالث مرات لإذاعة لندن ب�أنه ال اتفاق وال حوار مع �أحد ال‬ ‫دعاة حق و�سالم‪ ،‬خطابات ال�شيخ اجلمري بني االعتقالني‪� ،‬سبتمرب‪1995-‬‬ ‫‪145‬‬ ‫يناير‪1996‬م‪�.‬ص‪.13‬‬

‫‪293‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:14‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 293‬‬


‫يف الداخل وال يف اخلارج‪ ،‬وو�صف القائمني على املبادرة ب�أو�صاف غري‬ ‫الئقة‪...‬‬ ‫�أيها ال�شعب العظيم امل�سامل‪:‬‬ ‫كان بودنا �أن ننهي هذه اخلطوة‪ ،‬نحن القائمني على املبادرة‪،‬‬ ‫االعت�صام والإ�ضراب عن الطعام بكلمة نعم من حكومة البحرين املوقرة‬ ‫َ‬ ‫ملطالب �شعبها العادلة‪...‬معكم معكم يا �شعبنا حتى نحقق كامل �أهدافكم‬ ‫ومطالبكم العادلة"(‪.)146‬‬ ‫كان جواب ال�سبعني �ألف مواطن‪(:‬معكم معكم يا علماء)‪ ،‬مل‬ ‫يكن جواب ًا‪ ،‬بل كان حدث ًا‪� ،‬ش َّكلت هذه املعية‪ ،‬معية �أ�صحاب املبادرة(معكم‬ ‫معكم يا �شعبنا)‪ ،‬ومعية ال�سبعني �ألف مواطن (معكم معكم يا علماء)‬ ‫عقد ًا حديدي ًا‪ ،‬ختم ت�سعينيات البحرين‪ ،‬وختم العالقة بني التيار ال�شيعي‬ ‫واحلكومة‪ ،‬وختم جدل القيادة يف التيار ال�شيعي‪.‬‬ ‫كان ال�شعار �إعالن مرحلة‪ ،‬و�إبراز قيادة‪ ،‬وح�سم بلبلة‪ ،‬هو‬ ‫مبثابة بيعة من ال�شارع كي يتوىل �أ�صحاب املبادرة مهمة القيادة التي‬ ‫حاولت احلكومة عرب تيار �شيعي موال لها النيل منها عرب ما عرف‬ ‫بر�سالة االعتذار التي ا�ستخدمت للنيل من �أ�صحاب املبادرة‪ .‬لقد �ش َّكلت‬ ‫(املبادرة) حدثها ال�سيا�سي‪ ،‬و�أبرزت رجاالت ال�ساحة‪ ،‬وحددت �شكل‬ ‫العالقة الت�سعينية بني احلكومة والتيار ال�شيعي‪ ،‬واتخذت �شعار املعية‬ ‫ا�سرتاتيجية لتنظيم قيادتها‪.‬‬ ‫�شعار(معكم معكم ياعلماء) �أحد �إنتاجات حدث (املبادرة)‪،‬‬ ‫وهو يحمل �سياقها وجدلها وم�آالتها‪ ،‬وهو من جانب �آخر يحمل �صك‬ ‫بنية الذهنية ال�شيعية يف موقفها ال�سيا�سي القائم على املعار�ضة واملهموم‬ ‫بفكرة الإمامة‪ .‬لذلك ميكن قراءة هذا ال�شعار مبا هو ُم ْنتَج حدث املبادرة‪،‬‬ ‫دعاة حق و�سالم‪ ،‬خطابات ال�شيخ اجلمري بني االعتقالني‪� ،‬سبتمرب‪1995-‬‬ ‫‪146‬‬ ‫يناير‪1996‬م‪�.‬ص‪.36‬‬

‫‪294‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:14‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 294‬‬


‫ومبا هو عالمة على بنية فكرية �ضاربة يف التاريخ‪.‬‬ ‫يحمل هذا ال�شعار �آثار الك�أ�س املك�سورة بح�سب تعبري رئي�س‬ ‫املخابرات‪� ،‬أيان هندر�سون يف �إحدى جل�سات احلوار مع �أ�صحاب‬ ‫املبادرة "لقد ا�ستطعتم ه َّز الك�أ�س فال تك�سروه‪.‬لقد و�صلنا �إىل قناعة‬ ‫�أن القمع لن يخدم ال�شارع العام بال�صورة التي نحب‪ ،‬كما �أن الوجهاء‬ ‫الذين اعتمدنا عليهم مل ي�ستطيعوا حل امل�شكلة"(‪.)147‬‬ ‫ال�شعار‬

‫يف املعجم العربي‪ ،‬ال�شعار يعني العالمة‪ ،‬والإ�شعار‪ :‬الإعالم‪،‬‬ ‫و�شعار القوم‪ :‬عالمتهم‪ .‬و�أ�شعر القوم‪ :‬نادوا ب�شعارهم‪ .‬ال�شعار �إذن نداء‬ ‫وعم‬ ‫و�إعالم و�إعالن وعالمة‪ .‬مِ َب ُيعلم �شعار (معكم معكم يا علماء) َّ‬ ‫وعالم ُينادي‪.‬‬ ‫ُيعلن‬ ‫َ‬ ‫ �إذا ما �أخذنا مبفهوم الفيل�سوف(فتجن�شتاين ‪)wittgenstein‬‬ ‫للمعنى ب�أنه اال�ستعمال و�سياقه‪ ،‬ف�سيكون �سياق هذا ال�شعار وا�ستخدامه‪،‬‬ ‫هو ما يحدد معناه‪ ،‬ويحدد �إعالمه و�إعالنه ونداءه‪.‬‬ ‫حني يكون �سياق ال�شعار يجري يف ال�ساحة ال�سيا�سية‪ ،‬ف�إن املعنى‬ ‫حينها يتحدد مبجريات اللعبة ال�سيا�سية‪� ،‬أي �أننا نفهم ال�شعار بالإحالة‬ ‫�إىل اللعب و�سياقاته‪ ،‬ولي�س بالإحالة �إىل املعجم ودالالته‪ .‬والإحالة �إىل‬ ‫اللعب �إحالة �إىل مقت�ضياته‪ ،‬من ال�صراع والتناف�س والهجوم والدفاع‬ ‫والك�سب واخل�سارة والربح وت�سجيل الأهداف‪.‬‬ ‫اللعبة كما يحدِّ دها (بيار بورديو) نوع من العالقات �أو نوع‬ ‫من عالقات التجاذب بني عنا�صر حيث املناف�سة والتعاون والتناق�ض‬ ‫والهيمنة‪ ،‬وتقوم هذه العنا�صر �ضمن هذه العالقات ب�أدوار �أو بن�شاطات‬ ‫دعاة حق و�سالم‪ ،‬خطابات ال�شيخ اجلمري بني االعتقالني‪� ،‬سبتمرب‪1995-‬‬ ‫‪147‬‬ ‫يناير‪1996‬م‪�.‬ص‪.6‬‬

‫‪295‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:14‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 295‬‬


‫ووظائف‪ .‬واللعبة ال�سيا�سية موجودة يف كل الظواهر ال�سيا�سية‪ ،‬وهي‬ ‫تت�سم باملناف�سة وال�صراع‪.)148(.‬‬ ‫حني يعلم اجلمهور �أو يعلن �أو ينادي‪ ،‬ف�إنه يقوم بفعل‪ ،‬وال�شعار‬ ‫مبا هو �إعالم و�إعالن ونداء‪ ،‬فهو فعل‪ ،‬هو فعل كالمي ُينجز (مبعنى‬ ‫ي�ؤدي‪ ،‬يحقق‪ ،‬يعمل ‪� )performatives‬أ�شياء‪ ،‬بح�سب نظرية �أفعال‬ ‫الكالم (‪ ) Speech act theory‬جلون �أو�سنت الذي عنون كتابه‬ ‫املهم بـ (كيف ننجز الأ�شياء بالكالم؟)‬ ‫كيف نفهم (معكم معكم يا علماء) مبا هو فعل كالمي؟ الفعل‬ ‫كما يحدده عامل الن�ص‪ ،‬فان ديك" هو ك ُّل حدث حا�صل بوا�سطة الكائن‬ ‫الإن�ساين‪ .‬احلدث هو التغيري‪ .‬ك ُّل تغيري ي�ستلزم اختالف ًا بني العوامل‪،‬‬ ‫الأحوال �أو املواقف"(‪.)149‬‬ ‫متعد �أو غري‬ ‫ويف املعجم العربي "الفعل‪ :‬كناية عن كل عمل ٍ‬ ‫متعد‪ .‬وقد َعمِ َل ال�شي ُء يف ال�شيء‪� :‬أَ ْح َد َث فيه نوع ًا من الإِعراب"‬ ‫ٍ‬ ‫والإعراب هو التغيري والبيان‪.‬‬ ‫كل ما يحدث �إعرابا‪� ،‬أي تغيريا هو فعل‪ .‬هذا ال�شعار �أحدث‬ ‫�إعراب ًا �سيا�سي ًا‪ ،‬بدليل ما نتج عنه من �آثار و�أعرب عنه من تغيريات‪،‬‬ ‫وما خلقه من اختالف بني العوامل‪ ،‬عامل ال�سيا�سة‪ ،‬وعامل الدين‪،‬‬ ‫عامل احلكومة‪ ،‬وعامل املعار�ضة‪ ،‬عامل التيار ال�شيعي‪ ،‬وعوامل التيارات‬ ‫الأخرى‪ ،‬عامل علماء الدين‪ ،‬وعامل علماء الدنيا‪ ،‬عامل الت�سعينيات‪،‬‬ ‫وعامل ما قبلها وما بعدها‪ .‬وما خلفه من مواقف‪ ،‬مواقف املوالني لل�سلطة‬ ‫واملعار�ضني لل�سلطة‪ ،‬ومواقف املعار�ضني للأحداث واملنخرطني يف‬ ‫الأحداث‪ ،‬ومواقف املت�ضررين من الأحداث وامل�ستفيدين من الأحداث‪.‬‬ ‫�شعار "معكم معكم يا علماء" فعل كالمي‪ ،‬لأنه ال ي�صف وال‬ ‫‪148‬‬ ‫‪149‬‬

‫‪296‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:14‬‬

‫البناء على بيار بورديو‪ ،‬علي �سامل ‪� ،‬ص‪.72‬‬ ‫الن�ص وال�سياق‪ ،‬فان ديك‪� .‬ص‪.228‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 296‬‬


‫يخرب وال يو�صل معلومة جمردة‪� ،‬أي �أنه لي�س جملة حمايدة تت�ضمن‬ ‫حمتوى جمرد ًا من �أي توظيف‪ ،‬كما يف جملة ال�شم�س م�شرقة‪ ،‬بل هو‬ ‫جملة مغر�ضة (�أي لها غر�ض) وم�ستخدمة وم�ستعملة وموظفة �ضمن‬ ‫لعبة (لعبة ح�سب مفهوم بورديو‪ ،‬ولي�س مبعنى القدح ال�سيا�سي)‬ ‫وهذا اال�ستخدام يخلق �أو ين�شئ جمال لعب كالمي‪ ،‬وينجز الالعبون‬ ‫ال�سيا�سيون يف هذا املجال باللغة �أفعال ات�صال وانقطاع وا�ستفزاز‬ ‫وت�سلط وتوعد وتخوين وتهديد‪�...‬إلخ‪ ،‬وبهذه الأفعال يعمل ال�شعار على‬ ‫�إدامة اللعبة بني الفاعلني يف جمال التداول ال�سيا�سي‪.‬‬ ‫ولعل مظاهر �إدامة هذه اللعبة‪ ،‬جندها يف كم الأحداث التي‬ ‫�أنتجها هذا ال�شعار‪ ،‬والفاعليات التي اتخذته �شعار ًا لها‪ ،‬واحلجاجات‬ ‫التي وظفته يف الدفاع عن مواقفها �أو رغباتها �أو م�صاحلها �أو ر�ؤاها‪،‬‬ ‫والت�أويالت التي خ�ضع ملعانيها‪ ،‬واال�ستخدامات التي جرى فيها‪ ،‬والأفعال‬ ‫وردود الأفعال التي �أثارها‪ ،‬حتى �إنه �أ�صبح لهذا ال�شعار �إر�شيفه اخلا�ص‬ ‫الذي ي�ضم مدونته‪.‬‬ ‫ال�شعار ق�صيدة‬ ‫كان (معكم معكم يا علماء) �شعار اجلمهور ال�شيعي و�شعره‪،‬‬ ‫فال�شعار ق�صيدة اجلمهور‪ ،‬ق�صيدته‪ ،‬لأن مادته من �شعوره وج�سده‪ ،‬كما‬ ‫�أن مادة الق�صيدة من �شعور �شاعرها وج�سده‪ ،‬وال�شعار الناجح متام ًا‬ ‫كالق�صيدة الناجحة‪ ،‬بقدر ما تكون خمتومة مب�شاعر �شاعرها وج�سده‬ ‫يتحدد جناحها‪ .‬ال�شعور الذي هو مادة ال�شعر وال�شعار‪� ،‬إدراك من غري‬ ‫�إثبات‪ ،‬وك�أنه �إدراك متزلزل‪ ،‬وهذا ما يجعل من ال�شعار وال�شعر �إدراك‬ ‫متزلزل للعامل‪ ،‬ولي�س �أكرث من هذا الإدراك قدرة على تغيري العامل‪.‬‬ ‫وال�شعار وال�شعر م�شتقان من املادة املعجمية نف�سها‪ ،‬كما هما‬ ‫‪297‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:14‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 297‬‬


‫م�شتقان من التجربة الوجودية نف�سها‪ ،‬ففي املعجم َ‬ ‫"�ش َع ْرتُ لفالن‪� ،‬أَي‬ ‫قلت له ِ�ش ْعرا‪ ،‬و�أَ ْ�ش َع ْر ُته‪� :‬أَلب�سته ّ‬ ‫القوم‪ :‬نا َد ْوا ب�شعارهم‪،‬‬ ‫ال�شعا َر‪ ،‬و�أَ ْ�ش َع َر ُ‬ ‫و�أَ ْ�ش َع َر ال َه ُّم قلبي‪ِ :‬لز َق به كلزوق ِّ‬ ‫ال�شعا ِر من الثياب باجل�سد؛ و�أَ ْ�ش َع َر‬ ‫ُ‬ ‫الرجل هَ ّم ًا‪ :‬كذلك‪ .‬وكل ما �أَلزقه ب�شيء‪ ،‬فقد �أَ ْ�ش َع َره به"‬ ‫ما يلزق بنا هو �شعارنا الذي ُيعبرِّ عن �شعورنا‪ ،‬و ُي ْع ِلم عما‬ ‫بنا‪ ،‬ويقول ما يعتمل فينا‪ ،‬وال�شعار عالمة علينا‪ ،‬متى كان ُم ْع ِلم ًا بحالنا‬ ‫و ُم َلبيا لندائنا ومحُ َّققا ملطلبنا‪ ،‬متى كان هوي ًة ناطق ًة عن جماعتنا‪.‬‬ ‫و�شعار (معكم معكم يا علماء) ناطق بكل ما يعتمل يف جماعة التيار‬ ‫ال�شيعي من ظالمات ومطالب ون�ضاالت و�أحالم وتعويالت ور�ؤى و�شظايا‬ ‫الك�أ�س املك�سورة‪.‬‬ ‫وتتحقق �شعرية ال�شعار و�شعرية ال�شعر بقدر ما ي�شق ال�شعار �أو‬ ‫ال�شعر ع َّما يعتمل فينا من �أحا�سي�س وم�شاعر‪� ،‬أي يكون ال�شعار فع ًال له‬ ‫قوة احلدث‪ ،‬بقدر ما يكون قادر ًا على متثيل جرحنا‪ ،‬والكلمة يف اللغة‬ ‫تعني اجلرح‪ ،‬وال�شعار الذي ال تكون كلماته جرح ًا ال يكون فع ًال‪ .‬بل‬ ‫ي�صري ال�شعار �شعار ًا بقوة متثيله لهذا اجلرح‪ ،‬وبقوة قدرته على �أن ي�شق‬ ‫عن جرحنا الداخلي‪ ،‬و ُيعلن عنه و ُيعلم به‪ ،‬ويف املعجم يحيل ال�شعار على‬ ‫اجلرح الذي يرتك عالمة "و�أَ ْ�ش َع َر ال َب َد َن َة‪� :‬أَعلمها‪ ،‬وهو �أَن ي�شق جلدها‬ ‫�أَو يطعنها يف �أَ ْ�س ِن َم ِتها يف �أَحد اجلانبني بمِ ِ ْب َ�ض ٍع �أَو نحوه"‬ ‫حني يفقد ال�شعار �شعريته التي هي قوته الإجنازية يف �أن يكون فع ًال‬ ‫ي�صنع حدث ًا‪ ،‬يفقد قدرته التي ُيعلم بها و ُيعلن وينادي ويطلب‪ ،‬يفقد‬ ‫قدرته على �أن يحفر عالمة تدل على جماعته‪ .‬ال ت�ستطيع �أن تقرتب من‬ ‫�شعار ُيدمي‪ ،‬من �شعار ميلك قوة �أن ُيحدث و ُيعلم‪ ،‬من كان ميلك القدرة‬ ‫على �أن يقرتب من �شعارات (وحدة الطبقة العاملة(الربوليتاريا)‬ ‫والكفاح �ضد الإمربيالية‪ ،‬و�أينما تنطق الأملانية متتد الأمة الأملانية‪،‬‬ ‫‪298‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:14‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 298‬‬


‫والإ�سالم هو احلل‪ ،‬والوحدة العربية) �أ َّبان قوتها وقدرتها على ت�شكيل‬ ‫خارطة العامل‪.‬‬ ‫ال�شعار له دورة حياة‪ ،‬كما لأي كائن حي قوة و�ضعف من بعد‬ ‫قوة‪ .‬كانت الت�سعينيات زخم حياة هذا �شعار (معكم معكم ياعلماء)‪،‬‬ ‫والألفية اجلديدة كانت بداية �ضعف قوته‪ ،‬لكن حني ي�ضعف ال�شعار ال‬ ‫ي�ضعف كل �شيء فيه‪ ،‬رمبا ت�ضعف قدرته التمثيلية للجرح الذي يدل عليه‪،‬‬ ‫لكن ال ت�ضعف احلياة التي يحيل عليها‪ ،‬ت�ضعف قدرته على الإحالة‪ ،‬لكن‬ ‫ال ت�ضعف احلياة املحال عليها‪.‬‬ ‫قد�سية ال�شعار‬ ‫يف منت�صف ‪ 2002‬حيث م�شاعر التيار ال�شيعي يف بداية‬ ‫انت�شائه بالإجنازات التي حققها �شعاره (معكم معكم يا علماء)‪ ،‬كنتُ‬ ‫قد طرحتُ يف �أحد امللتقيات اخلا�صة‪ ،‬كتلة �أ�سئلة على �شعار (معكم‬ ‫معكم يا علماء)‪ ،‬كانت الأ�سئلة‪:‬‬ ‫ما معنى هذا ال�شعار؟ وما م�ضمراته؟ ومن هم ه�ؤالء العلماء؟‬ ‫وهل هو �شعار مقد�س؟ وكيف متت �صياغته؟ وكيف مت تداوله؟ وكيف‬ ‫ميكن قراءته وتفكيكه؟ و�إىل �أي حد ت�شكل هذه القراءة �أو التفكيك‬ ‫خطورة على القارئ املفكك؟ وهل هو �شعار املرحلة ال�سابقة �أم املرحلة‬ ‫احلالية �أو هو �شعار كل مرحلة؟ من هم جيل معكم معكم يا علماء؟ ما‬ ‫مالمح هذا اجليل الثقافية؟ كيف �صاغ هذا ال�شعار ثقافة هذا اجليل؟‬ ‫كيف يفكر هذا اجليل من خالل هذا ال�شعار؟ ما الأن�ساق الثقافية التي‬ ‫ي�ضمرها هذا ال�شعار؟ ما طبيعة العالقة بني �أطراف ال�شعار‪� ،‬أي ما‬ ‫طبيعة العالقة بني حاملي هذا ال�شعار والعلماء؟ هل هناك �إمكانية‬ ‫لإيجاد �شعارات جديدة؟ �إىل �أي حد ميكن لقوانني �أمن املجتمع �أن‬ ‫تت�سامح مع هذه الأ�سئلة؟‬ ‫‪299‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:14‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 299‬‬


‫ �أثارت الأ�سئلة ردود فعل متباينة‪ ،‬تك�شف يف وجه من وجوهها‬ ‫�شقوق املجتمع الذي ُ�صنع فيه هذا ال�شعار‪ ،‬وتك�شف عن املعاين املتعددة‬ ‫التي يحملها‪ ،‬واال�ستخدامات التي ينتهي �إليها‪ ،‬وال�سلطات التي ميثلها‪.‬‬ ‫ �أحدهم كان يقر�أ الأ�سئلة املطروحة على ال�شعار من خالل‬ ‫ن�سق املعية يف ثقافتنا "مو�ضوع جدير بالدرا�سة ولكن‪ ,‬هذا ال�شعار هو‬ ‫ال�سائد يف املجتمعات العربية منذ �أيام اجلاهلية �إىل الآن‪ .‬وما يهمنا هو‬ ‫جيل الت�سعينيات‪ ،‬فقد رفع هذا ال�شعار املارك�سيون عندما هتفوا معك‬ ‫معك يا لينني �أو معك معك ياماو�سيتونغ‪ ,‬ورفعها النا�صريون عندما‬ ‫هتفوا معك معك يا نا�صر‪ ،‬ورفعها �أي�ضا املتملقون عندما هتفوا معكم‬ ‫معكم يا حكام‪� ،‬أما هذا اجليل فهو جيل الإ�سالميني فرفعوا هتاف معكم‬ ‫معكم يا علماء وهكذا"‬ ‫ �أبوقا�سم‪ ،‬الإ�سالمي‪ ،‬الي�ساري ال�سابق وجد يف الأ�سئلة تفكيكا‬ ‫للطائفة ال تفكيكا لل�شعار" لو حاولت �أن حتب طائفتك حبا �آخر �س ّمه ما‬ ‫�شئت من امل�سميات‪ ،‬ملا جالت يف خاطرك هذه الأ�سئلة‪( ،‬معكم معكم‬ ‫يا علماء) �شعار قدمي قدم الطائفة ومعاناتها ومظلوميتها‪ .‬مل تفكيك‬ ‫ال�شعار؟ هل �إثارتك لهذه الأ�سئلة يعني �أن الطائفة ت�سري وراء العلماء‬ ‫دون وعي وال تفكري‪،‬الفقراء املظلومون ي�سريون وراءهم‪.‬هذا ال�شعار كان‬ ‫و�سيكون ملراحل قادمة‪ .‬نحتاج �إىل الكثري من القراءة يف فكر الطائفة‬ ‫املعار�ض وتاريخ احلركة الدينية يف البحرين �ألي�س كذلك؟"‬ ‫ �أحدهم وجد الأ�سئلة ُمه َّد َد ًة م�أزق التخوين الذي يوقعنا فيه‬ ‫تقدي�س ال�شعار"�أال تعتقد �أننا بحاجة لأن نتحدث ب�إ�سهاب عن �شعار‬ ‫معكم معكم يا علماء‪ ,‬وبو�صفه معادال مو�ضوعيا‪ ,‬لكل ما هو غري‬ ‫دميقراطي‪ ,‬وغري متح�ضر‪� .‬إن م�أزقنا مع هذا ال�شعار هو نف�س امل�أزق‬ ‫مع �شعار الربملان هو احلل!!‪ .‬فنحن نعرف �أن الربملان لي�س حال مل�شاكل‬ ‫‪300‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:14‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 300‬‬


‫البحرين حتى يف �أح�سن حاالته‪ ,‬ومع ذلك ال ن�ستطيع �أن نقول هذا‪ ,‬دون‬ ‫�أن نتهم بخيانة ثوابت النا�س؟؟"‬ ‫ �آخر �أخذ يفرق بني م�أزق الداخل وم�أزق اخلارج "يبدو يل هنا‬ ‫م�آزق كثرية‪ ،‬ال �أتفق مع عقيل يف �أن م�صدر امل�أزق واحد يف ال�شعارين‪:‬‬ ‫معكم معكم يا علماء والربملان هو احلل! ففي حني ي�صدر الثاين نتيجة‬ ‫�صراع مع اخلارج( ال�سلطة‪� /‬أمن الدولة) ف�إن الثاين يعرب عن م�أزق مع‬ ‫الداخل(النا�س‪/‬العلمانيني‪/‬امل�ستقلني‪/‬الي�سارين‪/‬املثقفني) لكن رمبا‬ ‫تكون نتيجة نقد ال�شعارين م�ؤملة‪.‬‬ ‫ �إن تقدي�س العلماء ي�أتي من ناحيتني متعاك�ستني متام ًا‪ :‬الأوىل‬ ‫�أن الذين يرون فيهم احلل �أكرث من �أي �شيء �آخر هم مقد�سون بال �شك‬ ‫وهي ال�صيغة التي �أنتجت ( معكم معكم ياعلماء) لكن ‪ -‬الثانية ‪� -‬أال‬ ‫ميكن �أن ننعت �أولئك الذين يرون العلماء هم م�صدر الفنت والبلوى‬ ‫والتخلف مقد�سون لهم �أي�ض ًا؟ مبعنى �أن هذه الر�ؤية ت�صدر عن تقدي�س‬ ‫لقدراتهم وتهويل؟"‬ ‫ال�شعار عالمة‪ ،‬وبقدر ما تك�شف هذه العالمة من وجوه ثقافتنا‬ ‫وجمتمعنا‪ ،‬تكت�سب قراءتها �أهمية‪ ،‬القراءات ال�سابقة �أملحت ‪-‬و�إن كان‬ ‫بع�ضها ي�صدر عن منافحة ال عن قراءة‪� -‬إىل وجو ٍه من الوجوه التي‬ ‫يتبدى فيها هذا ال�شعار يف تداوله العام‪ ،‬فهو يتبدى يف �شكل �سلطة ون�سق‬ ‫وانتماء وم�أزق وحب ومواالة و�شك‪ .‬وهذا ما يجعل من ال�شعار مركب ًا‬ ‫قابال للت�صريف يف وجوه �شتى‪.‬‬ ‫ورمبا يكون كل وجه من هذه الوجوه �سبب ًا يف �أن �أ�سئلتي بقيت‬ ‫مكانها يف حميط التداول اخلا�ص‪ ،‬ومل تخرج �إىل ف�ضاء التداول العام‪،‬‬ ‫مل يكن ال�سياق حينها مواتي ًا للتفكري فيها تفكري ًا نقدي ًا‪.‬‬ ‫‪301‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:14‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 301‬‬


‫اهتزازات ال�شعار‬ ‫ما بني ‪ 2002‬و‪ 2006‬جرت مياه كثرية على هذا ال�شعار‪،‬‬ ‫فقد فيها وجوه ًا من معانيه‪ ،‬وظال ًال من وحيه‪ .‬يف ملتقى البحرين‬ ‫الإلكرتوين‪ ،‬تتبدى �آثار هذه املياه‪ ،‬كما ال تتبدى يف �أي مكان �آخر‪ ،‬فهو‬ ‫�ساحة التداول ال�شعبية العامة املتخففة من �شروط ال�ضبط واملراقبة‬ ‫التي يفر�ضها ال ُع ْرف والقانون وال�سلطة‪.‬‬ ‫يف هذه ال�ساحة تتبدى دورة حياة ال�شعار‪ ،‬يف ‪ 2004‬مع بداية‬ ‫عمل اللجان ال�شعبية التي تولت ملفات البطالة والإ�سكان‪ ،‬بد�أ ال�شعار‬ ‫يهتز‪ ،‬وبدت حياة العلماء معر�ضة لالهتزاز يف هذا ال�شعار‪ ،‬مل يعودوا‬ ‫ُيح َيون يف هذا ال�شعار‪ ،‬مل يعد �شعارهم‪ ،‬يف هذه اللحظة‪ ،‬وال م�ؤ�س�ستهم‬ ‫الرمزية‪.‬‬ ‫وبد�أت حلظات متلمل من ثقله‪ ،‬فقد �أً�صبح �سلطة تثقل حركة‬ ‫ال�شارع امل َّيال �إىل اخلفة والتحرر من َن َف�س القنوات الر�سمية وال�سيا�سية‬ ‫التي انخرطت فيها جمعية الوفاق وعلما�ؤها الذين هم الآباء امل�ؤ�س�سون‬ ‫ل�شعار (معكم معكم ياعلماء) بل هم �أنف�سهم العلماء الذين يحيل �إليهم‬ ‫ال�شعار‪ ،‬هم من جعلوا من هذا ال�شعار م�ؤ�س�سة يديرون بها ال�شارع‪ ،‬ومع‬ ‫حتول ه�ؤالء العلماء �إىل العمل يف م�ؤ�س�سة يديرها قانون الدولة ونظام‬ ‫ال�سلطة‪ ،‬بد�أ ال�شارع عرب �ساحات التداول االفرتا�ضية ي�صرخ" وي�ش‬ ‫الأ�شياء التي �سوتها الوفاق والعلماء لتحريك ق�ضية العاطلني حتى نثق‬ ‫ب�أنهم �سيتحركون على ق�ضية العاطلني؟ هلل وردد معكم(‪� ).....‬أو معكم‬ ‫يا ثائرين؟!"(‪.)150‬‬ ‫بد�أت �إذن حلظة تفكك املعية‪ ،‬وت�شييد معية جديدة‪ ،‬لكن هل‬ ‫هو تفكك للمفهوم �أو تفكك للم�صداق؟ �أي هل هو تفكك ملفهوم العلماء‬ ‫‪150‬‬

‫‪302‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:14‬‬

‫ملتقى البحرين‪www.bahrainonline.org ،‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 302‬‬


‫�أو تفكك ملن ينطبق عليهم مفهوم العلماء؟‬ ‫املعية ال�شيعية‬ ‫املعية ت�ضمر يف داخلها م�شكلة‪ :‬مع من نكون؟ من يقودنا؟ من‬ ‫هو �إمامنا؟ من هو وارث خط النبوة؟ من هو وارث خط الإمامة؟ �أ�سئلة‬ ‫املعية‪ ،‬هي نف�سها �أ�سئلة هذه امل�شكلة‪ ،‬وهي �أ�سئلة ال يقلقها املفهوم‪ ،‬بقدر‬ ‫ما يقلقها امل�صداق‪� ،‬أي ال يقلقها مفهوم القائد‪ ،‬بل يقلقها من ي�صدق‬ ‫عليه مفهومها للقائد‪.‬‬ ‫املعية يف ختم الذهنية ال�شيعية‪ ،‬يحددها مفهوم هذه الذهنية‬ ‫للعالمِ (رجل الدين) ‪ ،‬وهو مفهوم حمكوم بثالثة �شروط‪ :‬العمل‪،‬‬ ‫ومقاومة ال�سلطة �أو اال�ستقالل عنها‪ ،‬والزهد يف الدنيا‪ .‬وهي ثالثة‬ ‫�شروط متداخلة‪ ،‬وبع�ضها يحيل �إىل بع�ض‪ ،‬وبع�ضها يكاد يكون �شرطا‬ ‫لبع�ض‪.‬‬ ‫يورد ثقة الإ�سالم ال�شيخ حممد بن يعقوب الكليني (ت ‪329‬هـ)‬ ‫يف كتاب الكايف الذي هو �أحد كتب احلديث الأربعة املعتمدة عند ال�شيعة‪،‬‬ ‫جمموعة من الأحاديث التي متثل يف جمموعها مفهوم الذهنية ال�شيعية‬ ‫للعالمِ "‪َ ...‬و�إِنَّ ا ْل ُع َل َما َء َو َر َث ُة الأنبياء �إِنَّ الأنبياء لمَ ْ ُي َو ِّر ُثوا ِدي َنار ًا َوال‬ ‫ِد ْرهَ م ًا َو َل ِكنْ َو َّر ُثوا ا ْل ِع ْل َم َف َمنْ �أَ َخ َذ ِم ْن ُه �أَ َخ َذ ِب َح ٍّظ َوا ِف ٍر‪ .." ...‬يعني‬ ‫با ْل ُع َل َما ِء َمنْ َ�ص َّد َق ِف ْع ُل ُه َق ْو َل ُه َو َمنْ لمَ ْ ُي َ�صدِّ ْق ِف ْع ُل ُه َق ْو َل ُه َف َل ْي َ�س ِب َعالمِ ٍ ‪...‬‬ ‫ِ�إ َذا َر َ�أ ْيت ُ​ُم ا ْل َعالمِ َ محُ ِ ّب ًا ِل ُد ْن َيا ُه َفا َّتهِ ُمو ُه َع َلى ِدي ِن ُك ْم َف ِ�إنَّ ُك َّل محُ ِ ٍّب ِل َ�ش ْي‏ءٍ‬ ‫َي ُح ُ‬ ‫ال�سالم) ال تجَ ْ َع ْل َب ْي ِني‬ ‫وط َما �أَ َح َّب‪� ...‬أَ ْو َحى اهلل ِ�إلىَ َدا ُو َد َ‬ ‫(ع َل ْي ِه َّ‬ ‫َو َب ْي َن َك َعالمِ ًا َم ْفتُون ًا ِبال ُّد ْن َيا َف َي ُ�ص َّد َك َعنْ َط ِر ِيق محَ َ َّب ِتي‪ ...‬ا ْل ُف َق َها ُء �أُ َم َنا ُء‬ ‫ال ُّر ُ�س ِل َما لمَ ْ َي ْد ُخ ُلوا فيِ ال ُّد ْن َيا ِق َيل َيا َر ُ�س َ‬ ‫ول اهلل َو َما د ُ​ُخو ُل ُه ْم فيِ ال ُّد ْن َيا‬ ‫ال�س ْل َط ِان َف�إِ َذا َف َع ُلوا َذ ِل َك َف ْاح َذ ُروهُ ْم َع َلى ِدي ِن ُك ْم‪ُ ...‬ي ْغ َف ُر‬ ‫َق َال ا ِّت َبا ُع ُّ‬ ‫ال�س ْو ِء‬ ‫ِل ْل َج ِاه ِل َ�س ْب ُعونَ َذ ْنب ًا َق ْب َل �أَنْ ُي ْغ َف َر ِل ْل َعالمِ ِ َذ ْن ٌب َو ِاحدٌ‪َ ...‬و ْي ٌل ِل ْل ُع َل َما ِء َّ‬ ‫‪303‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:14‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 303‬‬


‫َك ْي َف َت َل َّظى َع َل ْيهِ ُم ال َّنا ُر"(‪.)151‬‬ ‫الكتب املعتمدة‪ ،‬لي�ست معتمدة الرواة والأحاديث فقط‪ ،‬بل‬ ‫�إن مفاهيمها للحياة وتفا�صيلها معتمدة �أي�ض ًا عند اجلماعة التي ت�ؤمن‬ ‫بها‪ ،‬املعتمد ميثل الكتاب ال�صحيح �أو الكايف (‪ )Canon‬الذي تعتمده‬ ‫جماعة معينة �ضمن حقل معني‪ ،‬جمموع هذه الأحاديث ي�شكل املفهوم‬ ‫ال�شيعي املعتمد للعالمِ (رجل الدين)‪.‬‬ ‫وهو مفهوم ظل فاع ًال يف الذهنية ال�شيعية‪ ،‬مبا ميثله من امتداد‬ ‫خلط الإمامة التي هي امتداد خلط النبوة (ا ْل ُع َل َما َء َو َر َث ُة الأنبياء)‪.‬‬ ‫جمموع هذه الأحاديث ي�شكل �أفق التوقع ال�شيعي لطبيعة العامل ودوره‬ ‫و�صفاته و�سلوكه وعمله‪ ،‬وي�شتغل هذا التوقع معيار ًا يف حتديد من هو‬ ‫العامل احلق؟ ووفق هذا التحديد تكون املعية‪ ،‬ويكون م�صداقها‪.‬‬ ‫العمل من �أجل الآخرين‪ ،‬والآخرة هو ال�شرط الذي تعتمده‬ ‫الذهنية ال�شيعية يف حتديد مفهومها للعامل‪ ،‬الآخرين هو كل ما هو خارج‬ ‫م�صلحتك الذاتية‪ ،‬هو الأمة وما يكون يف م�صلحتها‪ ،‬يبقى الزهد �أحد‬ ‫متطلبات العمل‪ ،‬ال ميكنك �أن تعمل من �أجل غريك و�أنت مفتون بدنياك‬ ‫�أو حمب لها �أو مو ِّرث فيها �أو متبع لها‪ ،‬وال ميكنك �أن تعمل من �أجل الأمة‬ ‫و�أنت تابع لل�سلطان‪ ،‬ال�سلطان يريدك له‪ ،‬والعمل يريدك للنا�س‪ ،‬العمل‬ ‫يتطلب ا�ستقال ًال عن الدنيا وال�سلطان (الدنيا اتباع ال�سلطان) الب ّد �أن‬ ‫تعمل على االنفكاك من هذا االتباع‪ ،‬وذلك بالزهد يف الدنيا وال�سلطة‬ ‫وال�سلطان‪ .‬العمل الذي ي�صنع معية العامل‪� ،‬أي قيادته و�إمامته وكينونته‪،‬‬ ‫هو العمل ال�سيا�سي الذي هو مقاومة للدنيا (ال�سلطان) باال�ستقالل عن‬ ‫ال�سلطة �أو بالثورة عليها‪.‬‬ ‫كان �شعار (معكم معكم يا علماء) م�ؤ�س�سة‪ ،‬لأن العامل يف‬ ‫‪151‬‬

‫‪304‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:14‬‬

‫املرجع نف�سه‪.‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 304‬‬


‫الذهنية ال�شيعية م�ؤ�س�سة رمزية لها �شروطها وقوانينها و�أعرافها‬ ‫ومتطلباتها‪ ،‬وهي م�ؤ�س�سة فاعلة ون�شطة‪ ،‬ويتداخل فيها الديني بال�سيا�سي‬ ‫والدنيوي بالأخروي والفعل والقول‪.‬‬ ‫املعية ال�شيعية حمكومة ب�أفق توقع الذهنية ال�شيعية للعالمَ ‪،‬‬ ‫لذلك كان �شعار (معكم معكم يا علماء) يت�ضمن يف داخله قوة و�سلطة‬ ‫مبا ميلكه من �شروط املعية و�أفقها الذي ت�صنع به �شارعها و ُم�ش ِّرعها‬ ‫(العامل) وم�شروعها‪.‬‬ ‫موت املعية‬ ‫انتهت دورة حياة امل�صداق‪ ،‬لكن مل تنته دورة حياة املفهوم‪،‬‬ ‫انتهى ا�ستخدام �شعار (معكم معكم يا علماء) بفقد قدرته وقوته‬ ‫التمثيلية‪ ،‬انتهت معيته الزمنية‪ ،‬انتهت �سلطته‪ ،‬انتهى م�صداق معيته‪،‬‬ ‫لكن مفهوم معيته �سيتجدد يف دورة حياة �أخرى‪ ،‬يف ا�ستخدام �آخر �أو‬ ‫يف زمن �آخر �أو يف �سياق �آخر‪ ،‬كما هو الأمر يف �شعار (املرجعية خط‬ ‫�أحمر) �أو يف �شعار م�سرية العلماء �ضد قانون الأحوال ال�شخ�صية (لبيك‬ ‫يا �إ�سالم)‪.‬‬ ‫�ستعلن �ساحة بحرين �أونالين االفرتا�ضية عن انتهاء دورة حياة هذا‬ ‫ال�شعار‪ ،‬كما كانت هي نف�سها قد �أعلنت عن والدته يف �ساحتها الواقعية‬ ‫�أمام منزل ال�شيخ اجلمري‪� .‬سيكون ال�شعار حجة على العلماء‪ ،‬بعد �أن‬ ‫كان جبهة للعلماء‪.‬‬ ‫�ستعلنه عرب نداءات اال�ستنكار والي�أ�س " اىل متى يا علماااااااا‬ ‫اااااااااااااااااااااااء ؟؟؟؟؟ فط�سناااااااااااااااااااا‪ ...‬اىل متى يا علماء‬ ‫اىل متى يا علماء اىل متى يا علماء ‪...‬؟؟‬ ‫ح�سووووا فين ـ ـ ــاااا ‪..‬ح�سوووووووووووووووووووووووووووووووااا‪"..‬‬ ‫‪305‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:14‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 305‬‬


‫�صار ال�شعار ال يح�س ال ي�شق عن جرح‪ ،‬ال ي�سمع ال يلبي نداء‬ ‫ال يحقق مطالب‪ ،‬وحني يفقد ال�شعار قدرته على �أن يلبي مطالب �شارعه‬ ‫يفقد �شعريته و�شرعيته‪� ،‬أي يفقد قدرته وقوته و�إجنازه يف �أن يكون فع ًال‬ ‫كالمي ًا‪� ،‬سيكون جمرد ذبذبات �صوتية‪ ،‬ال تعني �شيئ ًا‪.‬‬ ‫" ب�س ما ينفع ‪..‬لأين قاعد �آ�آذن يف خرابه ‪..‬وال لهذا �صوتي ال‬ ‫ي�صل اىل �آذانكم ‪..‬‬ ‫واذا و�صل ‪..‬ف�سووفه يخرج من الآذن الثانية ‪..‬وهذا نحن يف‬ ‫دوامة الذبذبات ال�صوتية"‬ ‫اجلثة الهامدة‬ ‫يذهب (�أمني معلوف) �إىل �أن الر�أي العام �أ�شبه ب�شخ�ص �ضخم‬ ‫اجلثة م�ست�سلم للرقاد‪ ،‬بني احلني والآخر ي�صحو من �سباته بغتة‪ ،‬وعليك‬ ‫�أن ت�ستغل الفر�صة لإقناعه بفكرة واحدة يف غاية الب�ساطة والإيجاز‪ ،‬لأنه‬ ‫�سرعان ما يتمطى ويتثاءب ويتقلب ويتهي�أ للنوم من جديد‪ ،‬ولن ت�ستطيع‬ ‫منعه �أو �إيقاظه ثم تنتظر بخبث �أن يهتز �سريره‪.‬‬ ‫يبدو �أن هذا الت�شبيه يحمل �إ�ساءة للأمة (الر�أي العام)‬ ‫و�إرادتها ووعيها ويقظتها‪ ،‬كما يرى خطباء الأمة‪ ،‬فاجلثة ال�ضخمة‬ ‫حتمل يف ت�شبيه معلوف انتقا�ص ًا غري حمبذ‪ .‬لكن فكرة الأمة ويقظتها‬ ‫هي �إحدى الأفكار الغاية يف الب�ساطة والإيجاز‪ ،‬وهي ت�صلح لإيقاظ‬ ‫هذه اجلثة ال�ضخمة‪ ،‬لكنها ال ت�صلح لتحليلها‪ ،‬و�أنا يف مقام التحليل ال‬ ‫الإيقاظ‪ .‬ولعل عبارة الفا�ش�ستي الدكتاتور الإيطايل مو�سوليني �شديدة‬ ‫الداللة يف هذا املقام‪ ،‬فهو يقول (�إن �أ�سطورتنا هي عظمة الأمة)! مل‬ ‫يوقظ مو�سوليني الأمة الإيطالية‪ ،‬بل �إنه �أفزعها حد الهلع‪.‬‬ ‫ �إقناع الر�أي العام‪ ،‬هو الغاية من الأفكار الغاية يف الب�ساطة‬ ‫‪306‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:14‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 306‬‬


‫والإيجاز‪ ،‬والإقناع هو القناع نف�سه‪ ،‬ولكل ر�أي عام قناعه الذي يتغطى‬ ‫به كي ينام على �سريره‪ ،‬والأغطية ال�شرعية هي �أقنعة اجلثة ال�ضخمة‬ ‫يف ال�شارع ال�شيعي‪ .‬يف املعجم حتيل مادة "ق ن ع" �إىل املعاين ال�سريرية‬ ‫التالية "القناع‪ :‬وهو ما تغطي املر�أة به ر�أ�سها‪ ،‬الإقناع‪ :‬ال�س�ؤال بتذلل‪،‬‬ ‫واالقتناع‪ :‬الر�ضا بال�شيء والقبول به‪َ .‬ق َنع مبعنى مال‪ ،‬فيقال‪ :‬قنعت‬ ‫الإبل والغنم قنع ًا‪� ،‬أي‪ :‬مالت مل�أواها و�أقبلت نحو �أ�صحابها "ويف القر�آن"‬ ‫�أَ ْط ِع ُموا ا ْل َقا ِن َع َوالمْ ُ ْعترَ َّ (احلج ‪ ")36 :‬القانع هو من ال ُق ُنو ِع‪ ،‬الر�ضا‬ ‫بالي�سري من ال َعطاء‪ ،‬والر�أي العام ير�ضى بالي�سري من اجلمل الغاية يف‬ ‫الإيجاز والب�ساطة‪.‬‬ ‫الأقنعة مهما بدت �أنها توقظ الر�أي العام وتنزله �إىل ال�شارع‪،‬‬ ‫ف�إنها يف احلقيقة يف �أغلب الأحيان‪ ،‬ال توقظه فهي توهمه �أنه م�ستيقظ‪،‬‬ ‫فهي بارعة يف �أن جتعل من ال�شارع �سريره الذي ينام فيه بهدوء �سرير‬ ‫البيت‪ ،‬وي�ستوي يف ذلك �سرير اليقظة العربية‪ ،‬و�سرير الوعي الطبقي‪،‬‬ ‫و�سرير ال�صحوة الإ�سالمية و�سرير االنتفا�ضات ال�شعبية واالحتجاجات‬ ‫العفوية‪.‬‬ ‫يهتز �سرير الر�أي العام حني تنطق بفكرة لي�ست على مقيا�س‬ ‫هذا ال�سرير املمعن يف الب�ساطة والإيجاز‪ ،‬و�سرير الر�أي العام م�صنوع‬ ‫من اجلمل الب�سيطة املوجزة التي ينطق بها �أ�صحاب �أ�ساطري ال�صحوة‬ ‫من �أمثال مو�سوليني وما ي�شبهه‪ .‬هذه اجلثة ال�ضخمة ت�ستيقظ (�أو‬ ‫تنام) بجملة يف غاية الب�ساطة والإيجاز‪ ،‬جملة مثل "فلت�سط العلمانية"‪،‬‬ ‫"الربملان هو احلل"‪" ،‬الإ�سالم هو احلل"‪" ،‬كرامتي يف عبايتي"‪،‬‬ ‫"معكم معكم يا علماء"‪" ،‬املرجعية خط �أحمر"‪" ،‬وحدة الطبقة‬ ‫العاملة(الربوليتاريا) "‪" ،‬الكفاح �ضد الإمربيالية"‪�" ،‬إال ر�سول اهلل"‪،‬‬ ‫"البحرين �أو ًال "‬ ‫‪307‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:14‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 307‬‬


‫ت�شتغل هذه اجلمل كمقدمات حجاجية �إقناعية وقناعية‪ ،‬كل ما‬ ‫تريد �أن تفعله �أو تقوله ق ّنعه بهذه اجلمل و�ستجد اجلثة ال�ضخمة تقتنع‬ ‫به فرت�ضى عنك‪ ،‬ومتيل �إىل �سريرك وتهتف ب�شرعيته‪.‬‬

‫‪308‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:14‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 308‬‬


‫ا�ستيحا�شات‬ ‫"واحلكم بجواز نكاح ال�صغرية ال يخت�ص به فقهاء ال�شيعة‬ ‫بل �إن فقهاء ال�سنة يفتون �أي�ض ًا بجواز نكاح ال�صغرية بل والر�ضيعة‬ ‫�أي�ض ًا‪ .‬ومن �شاء فلرياجع م�صادرهم الفقهية وجماميعهم الروائية ف�إنه‬ ‫�سيجد ذلك جل ّي ًا‪ ،‬فال معنى لتهريج بع�ض من َّ‬ ‫الحظ له من العلم على‬ ‫ال�شيعة بعد �أن كان احلكم باجلواز لي�س من خمت�صاتهم" ال�شيخ حممد‬ ‫�صنقور(‪.)152‬‬ ‫منذ تعرفت يف العام ‪ 2002‬على معجم ال�شيخ حممد �صنقور‬ ‫(املعجم الأ�صويل) الذي يتناول بال�شرح معظم امل�صطلحات الأ�صولية‬ ‫وحترير م�سائل الأ�صول بح�سب الرتتيب الهجائي‪ ،‬ويقع يف حدود الألف‬ ‫�صفحة‪ ،‬و�أنا �أ�سعى لاللتقاء به �شخ�صي ًا‪ ،‬من �أجل التعبري له عن �إعجابي‬ ‫باجلهد العلمي الذي قام به يف هذا الكتاب‪ ،‬لكن يبدو �أن جمريات ال�ش�أن‬ ‫ال�سيا�سي والثقايف والديني وما يرتتب عليه من احرتابات ومواقف‪،‬‬ ‫كانت ت�ضعف من فر�ص هذا اللقاء املرجتى‪ ،‬خ�صو�ص ًا �أن ال�شيخ قد‬ ‫�أ�صبح الناطق الإعالمي الر�سمي با�سم املجل�س العلمائي‪ ،‬واملدافع عن‬ ‫مواقفه‪ ،‬وقد بدا ال�شيخ رغم ق�صوره الفادح يف �إدارة خطاب �إعالمي‬ ‫و�سيا�سي يتناغم وتعددية ال�ساحة الإعالمية والثقافية يف البحرين‪ ،‬بدا‬ ‫قادر ًا على �إنتاج خطاب مطابق ملوا�صفات احل�سا�سية الدينية احلوزوية‬ ‫التقليدية التي ميثلها الرموز الدينيون الذين �أودعوا ثقتهم الكاملة يف‬ ‫نباهة ال�شيخ العلمية‪.‬‬ ‫منا�سبة هذه املقدمة‪ ،‬هي تداول الأو�ساط الن�سوية املدافعة‬ ‫عن حقوق املر�أة وحماية الأطفال‪ ،‬مقالة (ولي�ست فتوى) لل�شيخ كتبها‬ ‫من موقع‪http://www.alhodacenter.com/index. :‬‬ ‫‪152‬‬ ‫‪php?p=details&lecID= 186‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:14‬‬

‫‪309‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 309‬‬


‫يف ‪ 2005‬وعنوانها (جواز نكاح ال�صغرية ومن�ش�أ اال�ستيحا�ش) وهي‬ ‫من�شورة يف ق�سم (مقاالت تعنى ب�ش�ؤون املر�أة) يف املوقع الإلكرتوين‬ ‫حلوزة الهدى التي يديرها �سماحة ال�شيخ حممد �صنقور‪.‬‬ ‫بعد �أن يقرر ال�شيخ يف مقالته ثبات جواز نكاح ال�صغرية عند‬ ‫ال�سنة وال�شيعة‪ ،‬يوظف قدراته احلجاجية يف �إزالة ما ي�سميه باال�ستيحا�ش‬ ‫من جواز هذا النكاح‪ .‬يورد ال�شيخ خم�سة منا�شئ لال�ستيحا�ش‪،‬‬ ‫ويحيلها بتقنياته احلجاجية �إىل م�ست�أن�سات‪� ،‬أي �أنه يحيل اال�ستيحا�ش‬ ‫ا�ستئنا�س ًا‪.‬‬ ‫ل�ست معني ًا مب�ضمون خطاب ال�شيخ �صنقور‪ ،‬فتلك م�س�ألة‬ ‫ت�شغل املخت�صني بالق�ضايا الن�سوية واجلندر والدفاع عن حقوق املر�أة‬ ‫وحماية الأطفال‪ ،‬لكني معني بـ''در�س تقنيات اخلطاب التي ت�ؤدي بالذهن‬ ‫�إىل الت�سليم مبا يعر�ض عليه من �أطروحات‪� ،‬أو �أن تزيد يف درجة‬ ‫الت�سليم''‪ .‬معني بالتقنية اخلطابية التي يزيل بها ال�شيخ �صنقور منا�شئ‬ ‫اال�ستيحا�ش‪ .‬هذا الدر�س مبثابة �أ�صول حتليل اخلطاب‪� ،‬أي كما �أن علم‬ ‫�أ�صول الفقه مبثابة علم حتليل خطاب القر�آن وال�سنة‪ ،‬ف�إن علم �أ�صول‬ ‫حتليل اخلطاب هو �أي�ضا علم حتليل لكنه لي�س خمت�ص ًا بخطاب واحد‪،‬‬ ‫كما هو الأمر مع علم الأ�صول‪ ،‬فنحن هنا مثال نحلل خطاب ال�شيخ‬ ‫�صنقور‪ ،‬من منظور هذا العلم‪.‬‬ ‫(االحتجاج مبا ورد يف كتب اخل�صوم)‪ ،‬تلك هي الآلية الأكرث‬ ‫ح�ضور ًا يف املحاججات املبنية على خالفات دينية عقائدية وفقهية‪ ،‬وهي‬ ‫املحاجج يف �صورة املطلع والعامل مبدونات اخل�صم والعارف‬ ‫�آلية تظهر‬ ‫ِ‬ ‫بتفا�صيلها ودقائقها‪ ،‬كما �أن هذه الآلية تخفف من �شذوذ املدعى عليه‪،‬‬ ‫فهو لي�س �شاذ ًا يف ما يذهب �إليه‪ ،‬بدليل �أن املحتج عليه يقول بذلك‪ .‬وهي‬ ‫�إحدى �آليات خطاب ال�شيخ �صنقور يف �إزالة اال�ستيحا�ش‪ ،‬وقد �أثبت ال�شيخ‬ ‫‪310‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:14‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 310‬‬


‫عرب الرجوع �إىل كتب الفقه ال�سنية املعتمدة‪� ،‬أنها جت ّوز نكاح ال�صغرية‬ ‫بل والر�ضيعة كما هو الأمر يف كتاب رو�ضة الطالبني ملحيي الدين النووي‬ ‫ج‪� 4‬ص‪ 379'.‬يجوز وقف ما يراد لع ٍني ت�ستفاد منه كالأ�شجار للثمار‪..‬‬ ‫كما يجوز نكاح الر�ضيعة''‪.‬‬ ‫هو بهذه الطريقة يزيل ت�شنيع اخل�صوم‪ ،‬خ�صو�ص ًا �أن املواقع‬ ‫الإلكرتونية امل�شغولة باملحاججات العقائدية‪ ،‬كثري ًا ما ُت�ش ِّنع بفتوى‬ ‫الإمام اخلميني يف جتويز نكاح الر�ضيعة‪ .‬رمبا تكون لآلية احلجاج‬ ‫هذه‪ ،‬جدواها عند املحرتبني على م�ستوى املعارك العقائدية‪ ،‬لكنها ال‬ ‫تزحزح مو�ضوعات اخلالف �إىل مناطق جديدة‪ ،‬فاخل�صوم يظلون يف‬ ‫املواقع االحرتابية نف�سها‪ ،‬ويكتفون بت�سجيل الأهداف على بع�ضهم‪ ،‬وهم‬ ‫من غري �أن يق�صدوا‪ ،‬يربهنون على �أنهم يف الورطة نف�سها‪ ،‬ويف امل�أزق‬ ‫ذاته‪.‬‬ ‫كما �أن هذه الآلية‪ ،‬جتعلهم يثبتون �صحة �أخطائهم بربهان‬ ‫وجودها عند اخل�صم‪ ،‬بدل �أن يكت�شفوا �أخطاءهم باحلجاج مع‬ ‫اخل�صم‪ ،‬هم يثبتونها باكت�شاف وجودها عنده‪ ،‬فمادام اخل�صم يقول‬ ‫�أي�ض ًا ما نقول فل�سنا بحاجة �إىل ت�صحيح ما عندنا‪ .‬ولعل جملة ال�شيخ‬ ‫�صنقور ناطقة بكل هذه الوظائف التي ت�ؤديها هذه الآلية‪ ،‬جملته التي‬ ‫يقول فيها"''فال معنى لتهريج بع�ض من َّ‬ ‫الحظ له من العلم على ال�شيعة‬ ‫بعد �أن كان احلكم باجلواز لي�س من خمت�صاتهم"‪.‬‬ ‫حظك من العلم مبا لدى اخل�صوم‪ ،‬يزيل عنك تهمة التهريج‬ ‫ومينحك اطمئنان املنت�صر على املهرج الذي يحاول �أن يوهمك �أنك ال‬ ‫تعرف خدعه‪ .‬تبدو جملة ال�شيخ م�شحونة باالنت�صار والعلم والقدرة على‬ ‫احل�سم والإ�سكات‪ ،‬فال يدعي �أحد �أو يهرج علينا ب�أن ال�شيعة وحدهم من‬ ‫اخت�ص بتجويز نكاح ال�صغرية بل والر�ضيعة‪ ،‬فال�سنة �أي�ض ًا من القائلني‬ ‫‪311‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:14‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 311‬‬


‫بالتجويز‪.‬‬ ‫الآن بثقة املنت�صر‪� ،‬سيتوىل خطاب ال�شيخ‪� ،‬إزاحة اال�ستيحا�شات‬ ‫ومنا�شئها‪ ،‬وهنا �ستظهر الورطة الأكرب التي كان يظن �أنه �س ُيخل�ص خطابه‬ ‫الفقهي منها مبجرد �أن يثبت وجود التجويز عند خ�صمه‪ .‬لي�س خ�صم‬ ‫ال�شيخ هنا عقائدي وال مذهبي‪ ،‬فاخل�صم املذهبي يكفي �أن تقول له �إن‬ ‫علي‪ ،‬هو الآن �أمام خ�صم جديد‪،‬‬ ‫مذهبك يقول مبا �أقول‪ ،‬فال ت�ستنكر ّ‬ ‫فهو �أمام ع�صر حديث‪ ،‬له ح�سا�سياته احلديثة جتاه الطفولة واملر�أة‬ ‫والإن�سان واحلقوق والزواج‪ ،‬هو ال يتحدث مع هذا اخل�صم مبا�شرة‪ ،‬هو‬ ‫يتحدث مع املتماهني معه وامل�ؤمنني بخطابه املذهبي‪ ،‬ويعي�شون ورطة‬ ‫هذا الع�صر وح�سا�سيته‪ ،‬يريد �أن يطمئنهم كي ال ي�ستوح�شوا من فقههم‬ ‫الذي يجيز ما ت�ستوح�شه ح�سا�سية اخل�صم اجلديد الذي يحرم هذا‬ ‫اجلواز حتت �أي ذريعة �أو تربير �أو �ضمان‪ ،‬ولي�س لهذا اخل�صم مدونات‬ ‫حقوقية �أو فقهية جتيز هذا الفعل (نكاح الر�ضيعة) كي ي�شغل ال�شيخ‬ ‫�آليته الأثرية يف التعامل مع كتب اخل�صوم‪.‬‬ ‫تتج�سد يف ذوات املتلقني امل�ؤمنني بخطابه‬ ‫ �إنه يريد �أن‬ ‫َّ‬ ‫قناعات ومواقف‪ ،‬كي يحقق وظيفة التوا�صل املوقفي وهو''حمل املتلقي‬ ‫على اال�شرتاك مع املخاطب يف موقف معني وال�سيطرة على وعيه وعلى‬ ‫عامله الذهني كي يتك ّيف �سلوكه مع مقت�ضيات ذلك املوقف ونتائجه‬ ‫العملية"(‪.)153‬‬ ‫يريد �أن يعيد ت�شكيل املوقف النف�سي اال�ستيحا�شي‪ ،‬ليجعله يف‬ ‫موقف القبول واال�ستئنا�س‪� ،‬أو على الأقل عدم اال�ستنكار‪.‬‬ ‫�سيحتاج ال�شيخ �إىل �أن يزيل هذا اال�ستيحا�ش ب�آلية �أخرى‪ ،‬هي‬ ‫�آليه االفرتا�ض والتربير والتوهني والتخفيف وجتاهل الوقائع‪� .‬س ُي�ش ّغل‬ ‫احلداد (حممد)‪ ،‬حفريات ت�أويلية يف اخلطاب الإ�صالحي العربي‪ ،‬ط‪ 1,‬بريوت‪:‬‬ ‫‪153‬‬ ‫دار الطليعة‪�2002. ،‬ص‪117.‬‬

‫‪312‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:14‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 312‬‬


‫هنا ال�شيخ �صنقور �آليات معجمه الأ�صويل ال�ضخم (‪�1000‬صفحة)‬ ‫�سيكون مرجعيته التي ت�سند خطابه‪ ،‬كي ي�ستقيم يف وجه هذا اخل�صم‬ ‫املختلف احل�سا�سية‪ .‬فهل �سيفلح يف �إزالة اال�ستيحا�ش �أم �سي�ضاعف من‬ ‫اال�ستيحا�ش؟‬ ‫�أوهـام اال�ستيحا�شـات‬ ‫يورد ال�شيخ حممد �صنقور �ستة منا�شئ لال�ستيحا�ش من‬ ‫احلكم بجواز نكاح ال�صغرية‪ ،‬وهو يوردها‪ ،‬لي�س لتقريرها‪� ،‬أي تقرير‬ ‫حقيقتها‪ ،‬بل لتقرير وهمها‪� ،‬أي �أنه يعتربها ا�ستيحا�شات وهمية‪ ،‬وهو‬ ‫ي�شغل تقنياته احلجاجية يف �إزالة هذه اال�ستيحا�شات الوهمية‪ ،‬ليثبت �أن‬ ‫هذا احلكم ال يتعار�ض حقيقة مع ح�سا�سية الذوق الع�صري �أبد ًا‪ ،‬وذلك‬ ‫لو قدر لنا �أن نتخ ّل�ص من هذه الأوهام اال�ستيحا�شية‪.‬‬ ‫كنت قد وعدت �أن �أخ�ص�ص هذه املقالة لتحليل �آليات ال�شيخ‬ ‫حممد �صنقور يف �إزالة ا�ستيحا�شات حكم نكاح الر�ضيعة‪ ،‬باعتبارها‬ ‫�أوهام ًا‪ ،‬لكني م�ضطر لت�أجيلها ملقالة ثالثة‪ ،‬ورمبا رابعة‪ ،‬وذلك كي �أفهم‬ ‫�أو ًال كيف يثبت خطاب ال�شيخ حممد �صنقور‪ -‬املدعوم برت�سانة علم‬ ‫الأ�صول الذي ت�ضخم ح ّد �أن عدد �صفحات املعجم الذي كتبه ال�شيخ‬ ‫�صنقور و�صل �إىل ‪� 1000‬صفحة‪� -‬أن هذه اال�ستيحا�شات �أوهام ال‬ ‫ينبغي اال�ستناد �إليها يف تقرير �صحة احلكم ال�شرعي؟‬ ‫ي�ستند خطاب ال�شيخ يف �إثبات ذلك �إىل قاعدة �أ�صولية �أثرية‬ ‫التداول‪ ،‬وهي تن�ص على �أن"الأحكام ال�شرعية جمعولة على املو�ضوعات‬ ‫املفرو�ضة‪ ،‬فمتى اتفق حتقق املو�ضوع ترتب عليه احلكم‪ ،‬ومتى مل‬ ‫يتفق وقوع املو�ضوع ولو كان ذلك للأبد ف�إن احلكم املذكور �سيظل‬ ‫‪313‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:15‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 313‬‬


‫منتفيا"(‪.)154‬‬ ‫يطبق خطاب ال�شيخ هذه القاعدة لتفنيد اال�ستيحا�ش الذي يتذرع‬ ‫مناف مل�صلحتها غالب ًا‪ ،‬وذلك لأن تزويجها‬ ‫بحجة "�أن تزويج ال�صغرية ٍ‬ ‫�سيمنعها من اال�ستمتاع بطفولتها وهو واحد من حقوقها’’‪.‬‬ ‫ما عالقة هذه احلجة‪ ،‬بقاعدة "الأحكام ال�شرعية جمعولة‬ ‫على املو�ضوعات املفرو�ض"؟ يجيبنا ال�شيخ "ب�أن امل�صلحة من تزويج‬ ‫ال�صغرية قد تتفق ولو يف حاالت نادرة كما لو افترُ �ض �أن الويل كان‬ ‫أحد يرعاها‪ ،‬وهو يخ�شى‬ ‫عاجز ًا عن تدبري �ش�ؤون ال�صغرية ومل يجد من � ٍ‬ ‫�أن ميوت فت�ضيع ابنته ويف ذات الوقت وجد رج ًال يف مقتبل العمر �صاحل ًا‬ ‫�سو َّي ًا قادر ًا على رعايتها وهو يرغب يف الزواج منها مع �إحراز �أنه لن‬ ‫فحينئذ �أي حمذور عقالئي‬ ‫يعا�شرها ما مل تبلغ ال�سن املنا�سب لذلك‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫مينع من تزويجها منه"(‪.)155‬‬ ‫احلكم ال�شرعي بجواز زواج الر�ضيعة‪ ،‬مبني هنا على حتقق‬ ‫م�صلحة الر�ضيعة بالزواج بافرتا�ض (وجد الويل العاجز‪ ،‬رج ًال يف‬ ‫مقتبل العمر �صاحل ًا �سو َّي ًا قادر ًا)‪ ،‬حالة الويل العاجز والرجل ال�صالح‬ ‫ال�سوي‪ ،‬هي هنا املو�ضوع املفرت�ض‪.‬‬ ‫احلكم ال�شرعي بجواز زواج الر�ضيعة ثابت وواقع (جمعول)‪،‬‬ ‫مبني على هذا االفرتا�ض‪� .‬إن هذا االفرتا�ض من خطاب �سماحة ال�شيخ‪،‬‬ ‫يغفل �أن الرجل ال�صالح ال�سوي ال ميكنه‪ ،‬لي�س فقط �أن يقبل بهذا العقد‬ ‫بل ال ميكنه �أن يرى نف�سه �إال م�ستغ ًال حلاجة‪ ،‬وال ميكن لرجل �أن يحتفظ‬ ‫ب�صفة ال�صالح‪ ،‬وهو ي�ستغل حاجة رجل وطفلته لرعاية‪.‬‬ ‫ميكن مراجعة املداخالت ووجهات النظر على الرابط التايل‪:‬‬ ‫‪154‬‬ ‫‪h t t p ://w w w .a l h o d a c e n t e r .c o m /i n d e x .‬‬ ‫‪php?p=details&lecID=186‬‬ ‫املصدر نفسه‪.‬‬ ‫‪155‬‬

‫‪314‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:15‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 314‬‬


‫لي�س املهم هو هنا ما يغفله افرتا�ض خطاب ال�شيخ‪ ،‬بل ما يغفله‬ ‫هذا احلكم‪ .‬فاحلكم املجعول حني ن�ضعه يف �سياق ع�صرنا‪ ،‬ونربر له‬ ‫اليوم باعتباره حكم ًا �صاحلا ونافذ ًا‪ ،‬وله افرتا�ضات حتقق امل�صلحة‪،‬‬ ‫حمذور(فحينئذ �أي حمذور عقالئي مينع من تزويجها‬ ‫وتنفي عقالئي ًا �أي‬ ‫ٍ‬ ‫منه)‪ ،‬حكم يغفل الت�شريعات الدولية التي و�ضعتها املنظمات احلقوقية‬ ‫التي تدافع عن م�صلحة الطفولة‪ ،‬هذا احلكم ال ميكنه �أن يرى من الأفق‬ ‫الذي و�ضعته هذه الت�شريعات‪.‬‬ ‫ومن يربر لهذا احلكم بحجة "الأحكام ال�شرعية جمعولة على‬ ‫املو�ضوعات املفرو�ضة" ي�ضع هذه القاعدة يف �سياق يه ّز قوة بنيتها‬ ‫الأ�صولية‪ ،‬بل ويفتح الباب على الت�شكيك يف �صحتها و�صالحيتها للتربير‬ ‫�أو لنقل يف جدوائيتها بح�سب التعبري الأ�صويل‪ .‬وهذا يدعونا �إىل �أن‬ ‫نت�ساءل بقلق هل ميكن التعويل على �أ�صول الفقه وحده يف الو�صول �إىل‬ ‫حكم �شرعي يحفظ م�صلحة الإن�سان؟‬ ‫ �إن هذه القاعدة الأ�صولية تتنا�سى �أن الأحكام ال�شرعية‪،‬‬ ‫تخ�ضع مرة �إىل ح�سا�سية الثقافة‪ ،‬ومرة هي ُتخ�ضع الثقافة حل�سا�سيتها‪،‬‬ ‫�إنها قاعدة تتنا�سى �أن ما ن�سميه �أحكام ًا �شرعية‪ ،‬لن نقول �إنها �أ�سا�س ًا‬ ‫خا�ضعة لتقاليد اجلماعات واملجتمعات التي وجدت فيها �أو �أوجدتها‪ ،‬بل‬ ‫�سنقول �إن هذه الأحكام مدخولة بهذه التقاليد وح�سا�سيتها‪� .‬أو لنقل هي‬ ‫مكيفة وفقها‪� ،‬أو لنقل هي تراعي ذوقها وح�سا�سيتها‪" ،‬ترتبط احل�سا�سية‬ ‫بر�ؤية ما‪ ،‬ومبو�ضوع الذوق بكل دالالته االجتماعية واحل�ضارية‪ ،‬وبكل‬ ‫ارتباطاته بالثقافة والقدرة على احلكم والتميز"(‪.)156‬‬ ‫وكي ال ن�صدم �أفق معجم (‪� 1000‬صفحة) لن جنادل يف �صحة هذه‬ ‫القاعدة الأ�صولية (لي�س من باب الت�سليم ب�صحتها) لكن �س�أجادل يف‬ ‫علي الديري‪ ،‬الرتبية وم�ؤ�س�سات الربجمة الرمزية‪� ،‬ص‪ 95,‬نق ًال عن درا�سة �صربي‬ ‫‪156‬‬ ‫حافظ «جماليات احل�سا�سية والتغري الثقايف» يف جملة ف�صول العدد ‪.1986 /4‬‬

‫‪315‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:15‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 315‬‬


‫حمذورات تطبيقها‪ ،‬و�أول هذه املحذورات‪ ،‬هو �أنها جتعل الأحكام ثابتة‬ ‫ومقدمة على مو�ضوعات مفرت�ضة‪ ،‬ال مو�ضوعات واقعة‪ ،‬وهذا ما يجعل‬ ‫الواقع ال يزحزح احلكم‪ ،‬بل ي�صري احلكم �ضابط ًا وم�سيطر ًا ومهيمن ًا على‬ ‫الواقع‪ ،‬وهذا ما ي�ش ّل من حركة الواقع‪ ،‬من ميلك احلكم هو الفقيه ومن‬ ‫يحرك الواقع هو عقل الإن�سان الذي ال يكف عن ابتكار وقائع جديدة تغري‬ ‫العامل وتعيد قراءته‪� .‬إن املو�ضوعات التي هي العامل املتغري الوقائع الذي‬ ‫يبتكره الإن�سان با�ستمرار‪ ،‬ال ميكن �أن تكون م�ستوعبة �ضمن املو�ضوعات‬ ‫املفرت�ضة‪ ،‬التي يفرت�ضها احلكم ال�شرعي‪� ،‬أو لنقل التي يفرت�ضها عقل‬ ‫الفقيه الذي ي�ستنبط احلكم ال�شرعي‪ ،‬ويجعله يف حكم‪.‬‬ ‫الأحكام ال ميكنها �أن ت�ستوعب املو�ضوعات (وقائع العامل‬ ‫املتجددة) وال ميكنها �أن حتاكمها وال �أن حتكم عليها‪ .‬بل �إن املو�ضوعات‬ ‫تفر�ض �أحكامها‪ ،‬وقد تلغي �أحكام ًا‪ ،‬كما �ألغى العامل احلديث �أحكام‬ ‫الرق‪ .‬ل�ست �أدري ما الذي �سي�ؤثر يف بي�ضة الإ�سالم لو اعتبارنا حكم‬ ‫جواز نكاح الر�ضيعة عند ال�سنة وال�شيعة جزء ًا من تاريخ الفقه القدمي‪،‬‬ ‫ولي�س جزء ًا من الفقه‪ ،‬كما هو حال �أحكام فقه الرق؟‬ ‫لن نحتاج �إىل لعبة العنوان الثانوي‪ ،‬كي نلغي حكم ًا "�أن‬ ‫اال�ستمتاع بال�صغرية جائز يف حدِّ نف�سه �إذا مل يتعنون بعناوين �أخرى‬ ‫طارئة‪� ،‬أما لو طر�أت عليه عناوين ُتوجب وقوع املف�سدة ال�شديدة من‬ ‫اال�ستمتاع ف�إنه �سي�صبح بذلك حمرم ًا"(‪� ،)157‬أي ال نحتاج �إىل �أن‬ ‫ترتتب مف�سدة على نكاح الر�ضيعة‪ ،‬كي نلغي هذا احلكم‪ ،‬بل يكفي �أن‬ ‫وقائع العامل ت�ستوح�ش هذا احلكم‪ ،‬وهذا لي�س من باب تعدد الثقافات‬ ‫واختالفها وح�سا�سيتها جتاه املر�أة والطفلة‪ ،‬بل من باب �إن عامل املر�أة‬ ‫احلديث قد �أ�صبح خارج كل �إمكانات وافرتا�ضات هذا احلكم‪� ،‬صار‬ ‫‪157‬‬

‫‪316‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:15‬‬

‫امل�صدر على الراط نف�سه‪.‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 316‬‬


‫هذا العامل يفر�ض �أحكاما جديدة‪ ،‬وجزء من هذه الأحكام �أنه يلغي هذا‬ ‫احلكم‪ .‬فهو حكم جمعول‪ ،‬جمعول لي�س من قبل اهلل‪ ،‬بل جمعول من قبل‬ ‫الإن�سان الفقيه وفهمه وح�سا�سيته وثقافته و�أفقه ونق�صه‪.‬‬ ‫«لو» الت�أني�س‬ ‫ما �آليات (كيفيات) خطاب ال�شيخ حممد �صنقور يف �إزالة‬ ‫ا�ستيحا�شات حكم نكاح الر�ضيعة؟ وهل هي �آليات تخ�ص هذا املو�ضوع‪،‬‬ ‫�أم هي �آليات ت�شتغل يف كل املو�ضوعات التي يتناولها اخلطاب الديني‬ ‫االجتماعي؟‬ ‫يورد ال�شيخ حممد �صنقور �ستة منا�شئ لال�ستيحا�ش من‬ ‫احلكم بجواز نكاح ال�صغرية‪ ،‬وهو يوردها‪ ،‬لي�س لتقريرها‪� ،‬أي تقرير‬ ‫حقيقتها‪ ،‬بل لتقرير وهمها‪� ،‬أي �أنه يعتربها ا�ستيحا�شات وهمية‪ ،‬وهو‬ ‫ي�شغل تقنياته احلجاجية يف �إزالة هذه اال�ستيحا�شات الوهمية‪ ،‬ليثبت �أن‬ ‫هذا احلكم ال يتعار�ض حقيقة مع ح�سا�سية الذوق الع�صري �أبد ًا‪ ،‬وذلك‬ ‫لو قدر لنا �أن نتخل�ص من هذه الأوهام اال�ستيحا�شية‪.‬‬ ‫املنا�شئ ال�ستة لال�ستيحا�ش‪ ،‬هي‪)158(:‬‬ ‫املن�ش�أ الأول‪ :‬هو توهم �أن جواز نكاح ال�صغرية ي�ساوق جواز وطئها‪.‬‬ ‫مناف مل�صلحتها غالب ًا‪ ،‬وذلك لأن‬ ‫املن�ش�أ الثاين‪� :‬أن تزويج ال�صغرية ٍ‬ ‫تزويجها �سيمنعها من اال�ستمتاع بطفولتها وهو واحد من حقوقها‪.‬‬ ‫املن�ش�أ الثالث‪� :‬أن يف تزويج ال�صغرية ت�ضييع ًا حلق البنت يف تقرير‬ ‫رجل قد ال يكون‬ ‫م�صريها بعد البلوغ‪ ،‬حيث �أنها �ستجد نف�سها يف عهدة ٍ‬ ‫مقب ً‬ ‫وال عندها‪.‬‬ ‫املن�ش�أ الرابع‪� :‬أن يف تزويجها م�صادرة حلقها يف اختيار �شريكها‪ ،‬لأ َّنها‬ ‫‪158‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:15‬‬

‫امل�صدر على الراط نف�سه‪.‬‬

‫‪317‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 317‬‬


‫يف زمن �صباها مل تكن تحُ �سن حتديد م�صلحتها‪.‬‬ ‫املن�ش�أ اخلام�س‪� :‬أنه ال نتعقل ت�سليط الويل على توريط بنته بزواج قد ال‬ ‫يكون مو َّفق ًا يف م�ستقبل الأيام‪ ،‬وجم َّرد �إعفائها من م�س�ؤولية الزواج يف‬ ‫زمن ال�صبي ال ي ِّربر ذلك‪.‬‬ ‫املن�ش�أ ال�ساد�س‪� :‬أن الفقهاء يفتون بجواز اال�ستمتاع بال�صغرية مبا دون‬ ‫الوطء‪ ،‬مبعنى انه يجوز للزوج تقبيل ال�صغرية ومل�سها ب�شهوة‪ ،‬كما يجوز‬ ‫تفخيذها‪ ،‬وك ُّل ذلك م�ستب�شع يف حق ال�صغرية‪.‬‬ ‫يعتمد خطاب ال�شيخ �صنقور يف �إزالة هذه اال�ستيحا�شات‬ ‫�أجوب ًة‪ ،‬ت�ستند �إىل (لو) التربيرية‪ ،‬فهي تربر كل ا�ستيحا�ش بجواب يحيل‬ ‫اال�ستيحا�ش ا�ستينا�س ًا‪.‬‬ ‫تفتح (لو) خ�صوبة التفكري‪ ،‬لكنها خ�صوبة مقرونة يف �إرثنا‬ ‫الديني بال�شيطان‪ ،‬فلو تفتح عمل ال�شيطان‪ ،‬و(لو) يف خطاب ال�شيخ‬ ‫�صنقور تقتح منافذ لل�شيطان‪� ،‬شيطان احليل ال�شرعية‪ ،‬فهي تتعلق هنا‬ ‫بحالة م�ستحيلة من منظور (لو) ال�شيخ �صنقور ‘’فاحلكم باجلواز �أمر‬ ‫افرتا�ضي حم�ض’’ لكنها حالة �شرعية‪ ،‬وميكن لأي �شخ�ص غري �سوي �أن‬ ‫يربر فعله غري ال�سوي‪ ،‬لو فعلها مع الر�ضيعة‪ ،‬ميكنه �أن يربر ذلك بحالة‬ ‫اجلواز ال�شرعية‪.‬‬ ‫تتكرر (لو) يف خطاب ال�شيخ �صنقور‪ ،‬تكرار ًا �أثري ًا ي�صل �إىل‬ ‫حد �أن خطابه يكاد يكون قائم ًا على (لو)‪ ،‬وهي ال حت�ضر يف خطابه من‬ ‫�أجل فتح التفكري يف حاالت ال مفكر فيها‪ ،‬بل من �أجل التربير حلاالت‬ ‫ي�صعب قبول التفكري فيها‪ ،‬لي�س ملانع يتعلق مب�صادرة حرية التفكري‪،‬‬ ‫بل ملانع يتعلق ب�أبعاد �إن�سانية وحقوقية وذوقية‪ .‬وهو مانع يحاول خطاب‬ ‫(لو) �أن يخفف منه بتربيرات تزيده ا�ستيحا�ش ًا‪.‬‬ ‫هذه عينة من جمل (لو) يف خطاب ال�شيخ حممد �صنقور‪،‬‬ ‫‪318‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:15‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 318‬‬


‫ميكننا �أن نقر�أ فيها وظائف عمل خطابية متعددة‪.)159(:‬‬ ‫"على �أنه ميكن للويل �أن ي�شرتط على من يريد التز ُّوج منها �أن‬ ‫وحينئذ يكون على الرجل‬ ‫يبالغ يف توفري �أ�سباب اال�ستمتاع بالطفولة لها‬ ‫ٍ‬ ‫لو قبل بال�شرط االلتزام مبقت�ضاه"‪" ،‬واجلواب عن ذلك �أ َّنه لو اتفق عدم‬ ‫قبولها بالرجل الذي اختاره ول ُّيها لها‪ .‬ف�إن ثمة و�سائل تتمكن بوا�سطتها‬ ‫من التخلُّ�ص من عقد النكاح"‪"،‬ف�إذا افرت�ضنا (لو) �أن زوجها كان‬ ‫�صاحل ًا �س َّوي ًا ف�إنه لن يجربها على البقاء عنده واملفرت�ض �أنه مل يعا�شرها‬ ‫قبل البلوغ‪ .‬على �أنه لو اتفق �أنه امتنع من ذلك فلها احلق �شرع ًا �أن ترفع‬ ‫�أمرها للق�ضاء ليف�صل يف ق�ض َّيتها"‪" ،‬واجلواب عن ذلك �أن اال�ستمتاع‬ ‫بال�صغرية خ�صو�ص ًا لو كانت ر�ضيعة �أمر ال يكاد يتفق وقوعه‪ ،‬ذلك لأن‬ ‫الأ�سوياء من النا�س ال ي�ستثريهم من ال�صغرية �شيء"‪" ،‬ف�إذا افرت�ضا‬ ‫(لو) حر�ص الويل على تزويج ابنته من رجل �صالح �سوي ف�إنه �سيكون يف‬ ‫م�أمن من وقوع ذلك‪ ،‬فاحلكم باجلواز �أمر افرتا�ضي حم�ض"‪" ،‬فلي�س‬ ‫يف تقبيل الزوج لزوجته ال�صغرية �أو حتى تفخيدها ما يبرَّ ر اال�ستب�شاع‪،‬‬ ‫�إذ �إن ذلك لن ُينتج �إيذاءها لو خ�شي من �أنه �س ُينتج الإيذاء اجل�سدي‬ ‫�أو حتى النف�سي ف�إنه �سي�صبح حرام ًا بالإجماع"‪" ،‬مبعنى �أن اال�ستمتاع‬ ‫بال�صغرية جائز يف حدِّ نف�سه �إذا مل يتعنون بعناوين �أخرى طارئة �أما لو‬ ‫طر�أت عليه عناوين ُتوجب وقوع املف�سدة ال�شديدة من اال�ستمتاع ف�إنه‬ ‫�سي�صبح بذلك حمرم ًا"‪.‬‬ ‫ �إن (لو) التي يقوم عليها خطاب ال�شيخ �صنقور‪ ،‬لي�ست فقط‬ ‫�آلية تربير‪ ،‬بل �صارت �آلية تربير وتهوين وتخفيف‪ ،‬فهي تربر هذا‬ ‫التجويز وته ّون من ا�ستيحا�شاته‪ ،‬وتخفف من �آثاره املحتملة‪ ،‬وبهذه‬ ‫الوظائف حتقق (لو) وظيفتها الأكرب والأخطر‪ ،‬وهي تغييب وقائع الواقع‬ ‫‪159‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:15‬‬

‫امل�صدر على الراط نف�سه‪.‬‬

‫‪319‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 319‬‬


‫الذي تر�صده الإح�صاءات والدرا�سات والتقارير الدولية املتعلقة باملر�أة‬ ‫والطفولة واالنتهاكات اجلندرية والعنف والتمييز وق�صور املحاكم‬ ‫ال�شرعية واملدنية عن �إن�صاف حق املر�أة وحماية الطفولة‪� .‬إن منطق‬ ‫خطاب (لو) يف خطاب ال�شيخ �صنقور‪ ،‬قد غ ّيب عن حججه اال�ستدالل‬ ‫ب�أي درا�سة علمية عن واقع املر�أة وق�ضاياها �أو �أي تقرير دويل‪� ،‬أو حملي‪.‬‬ ‫هناك غياب مطلق للأرقام واحلاالت وهو غياب يف�سره احل�ضور املطلق‬ ‫لـ (لو) ومقت�ضياتها‪.‬‬ ‫(لو) ال حتكم هنا مو�ضوع جواز نكاح الر�ضيعة فقط‪ ،‬بل حتكم‬ ‫كل املو�ضوعات التي يتناولها اخلطاب الفقهي‪ ،‬حتى حني يكون املو�ضوع‬ ‫هو الدولة‪.‬‬ ‫(لو) بتربيراتها وتهويناتها وتخفيفاتها وتغييباتها‪ ،‬تخل�ص �إىل اعتبار‬ ‫اال�ستيحا�شات وهمية‪ ،‬لكنها ال تعترب �أن اال�ستئنا�س �أي�ضا وهمي‪ ،‬ولي�س‬ ‫جمعوال �شرعيا‪ ..‬لذلك فخطاب ال�شيخ يلج�أ �إىل حجة الثقافة يف تربير‬ ‫اال�ستيحا�شات‪ ،‬لكنه يلج�أ �إىل حكم ال�شرع والن�ص يف تقرير الأحكام‪،‬‬ ‫ويهمل حجة الثقافة‪.‬‬ ‫ ال يلج�أ �إىل حجة الثقافة يف تربير فتوى الفقيه وحكمه‪ .‬الرجوع‬ ‫�إىل حجة الثقافة غدا اليوم �ضرورة يف تقرير الأحكام‪ ،‬ولي�س يف تربيرها‬ ‫فقط‪ ،‬كما يفعل خطاب ال�شيخ حممد �صنقور‪ ،‬وهذا يجعلني �أو�ضح م�س�ألة‬ ‫يف غاية الأهمية‪ ،‬وهي تتعلق مبدخلي لقراءة خطاب ال�شيخ �صنقور‪ ،‬ف�أنا‬ ‫ال �أدخل عليه من باب املحاججات املذهبية وال من باب البحث عن‬ ‫عورات مذهبية‪ ،‬ومن باب ك�شف امل�ستورات التاريخية املحرجة التي ال‬ ‫يخلو منها مذهب وال �شخ�ص وال دين وال ح�ضارة‪ ،‬ولي�س من باب مناكفة‬ ‫التيار الديني‪ .‬بل مدخلي هو حماولة لقراءة �آليات اخلطاب الديني‬ ‫االجتماعي يف قراءة الن�ص الديني وطريقة تعاطيه من الفتاوى وطبيعة‬ ‫‪320‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:15‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 320‬‬


‫احلجج التي يبني بها خطابه وميار�س من خاللها حجاجه مع املختلفني‬ ‫معه‪ .‬لذلك فمو�ضوعي لي�س نكاح الر�ضيعة‪ ،‬بل الآلية احلجاجية التي‬ ‫يدار بها هذا املو�ضوع‪ ،‬وهي �آلية ال حتكم هذا املو�ضوع وحده‪ ،‬بل حتكم‬ ‫اخلطاب الديني حني يدير �أي مو�ضوع �آخر‪.‬‬ ‫الفقيه بثقافة ع�صره ي�ستوح�ش فيجعل‪ ،‬وي�ستح�سن بثقافة‬ ‫ع�صره فيجعل �أي�ض ًا‪ ،‬و�إذا كنا نظن �أنه حمكوم بن�ص ال يقبل الت�أويل‬ ‫املحكوم باجلعل‪ ،‬ف�سنكون قا�صرين يف فهم �أفق فهم الفقيه‪.‬‬ ‫م�شكلة علم الأ�صول اليوم‪� ،‬أنه ما زال علم �أ�صول الن�ص مبعناه‬ ‫احلريف ال�ض ّيق‪ ،‬وتفريعاته التي �أتخمته مل تفتحه على �شق علم �آخر من‬ ‫علوم الإن�سان احلديثة‪ ،‬مع �أنه علم مركب من جمموعة علوم‪ ،‬لكنه انغلق‬ ‫على العلوم القدمية التي يدين لها بن�ش�أته‪.‬‬ ‫مل تعد �آليات علم �أ�صول الفقه‪،‬على �أهميتها قادرة اليوم‬ ‫وحدها على قراءة الن�ص الديني‪ ،‬هي بحاجة �إىل مقدمات خارجية‪،‬‬ ‫من خارج الن�ص الديني نف�سه‪ ،‬وهي املقدمات التي ي�شري �إليها حممد‬ ‫جمتهد �شب�سرتي‪ ،‬بقوله‪" :‬الفقيه ال ي�ستنبط الأحكام م�ستعينا بعلم‬ ‫الأ�صول فقط‪ ،‬و�إمنا تتدخل �أيديولوجيا الفقيه ور�ؤيته لق�ضايا الإن�سان‬ ‫واملجتمع واحلق والعدالة وال�سيا�سة واالقت�صاد وال�صناعة والعلوم‬ ‫واحل�ضارة والقيم والأخالق‪ ،‬يف �صياغة �آرائه وا�ستنباطاته الفقهية‬ ‫وعملية االجتهاد والإفتاء تتحرك بتوجيه الزم من كل هذه املقدمات‪،‬‬ ‫وت�سري يف طريق‪ ،‬معني لتتمخ�ض عن نتائج خا�صة"(‪.)160‬‬ ‫‪160‬‬

‫علم الكالم اجلديد وفل�سفة الدين‪ ،‬حترير عبداجلبار الرفاعي‪� ،‬ص‪346‬‬

‫‪321‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:15‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 321‬‬


322

3dairy out of old dairy.indd 322

02/02/2010 10:00:15 ‫ص‬


‫جدول حمتويات كتاب خارج الطائفة‬ ‫الف�صل الأول‪ :‬خارج الطائفة (‪ 18500‬كلمة)‬ ‫‪ .1‬خارج الطائفة‬ ‫‪ .2‬خارج التقليد‪ :‬الفرق بني تقليد الفقيه و�صداقة املفكر؟ هل ميكن‬ ‫�أن يكون الفقيه �صديق ًا؟‬ ‫‪ .3‬خارج التب�سيط‪� :‬ضد التب�سيط‪ ..‬بيان املثقفني ال�شيعة‬ ‫‪ .4‬خارج �شريعتي‪� :‬شريعتي بني قراءتني‪.‬‬ ‫‪ .5‬خارج املخيلة‪ :‬م�أمت جدتي واملخيلة الكربالئية‪.‬‬ ‫‪ .6‬خارج مكتبة �أبي‪ :‬مكتبة �أبي الأخبارية‪.‬‬ ‫‪ .7‬خارج الرهبنة‪ :‬علمانية الراهب‪�..‬شــيء م ـ ــن �سـ ــرية الرهبنـ ــة‬ ‫والعلم ـنــة‪.‬‬ ‫الف�صل الثاين‪ :‬داخل املدينة( ‪11500‬كلمة)‬ ‫‪ .1‬حترير فعل املراقبة‪ :‬حار�س القبيلة‬ ‫‪ .2‬حترير املثقف ‪ :‬حترير املثقف من ال�سيا�سي‬ ‫‪ .3‬حترير املثقف‪ :2‬حترير املثقف من رجل الدين‬ ‫‪ .4‬حترير الإ�ضافة‪ :‬الإ�ضافة واملدينة‬ ‫‪ .5‬حترير االختالف‪�:‬آدم �أبو االختالف‬ ‫‪ .6‬حترير خرائط املدينة‬ ‫‪ .7‬حترير اخليال‪:‬حترير خيال ال�سيا�سي من املتخيل‬ ‫‪ .8‬حترير احلقيقة‪ :‬هل مازال احلالج ي�ستحق القتل؟‬ ‫‪ .9‬خارج الرابطة املدنية‬ ‫‪323‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:15‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 323‬‬


‫الف�صل الثالث‪ :‬داخل الدولة (‪7600‬كلمة)‬ ‫‪ .1‬منطق الدولة‬ ‫‪ .2‬فكرة الدولة‬ ‫‪ .3‬خارج الآداب ال�سلطانية‬ ‫‪ .4‬ج�سد الدولة‪ :‬الدولة واجل�سد يف مقدمة ابن خلدون‬ ‫‪ .5‬ج�سد املجل�س‪ :‬الدولة وج�سد جمل�س القبيلة‬ ‫‪ .6‬دولة الأول بني مت�ساويني‬ ‫‪ .7‬دولة الأب‬ ‫‪ .8‬الدولة املطلقة‬ ‫‪ .9‬حياد الدولة‪:‬الدولة غري املنحازة‬ ‫‪ .10‬لون الدولة‪ :‬ما لونك يا وطني؟‬ ‫‪ .11‬التمثيل النيابي يف البحرين‬ ‫‪� .12‬إ�صالح �أول الأمة‬ ‫‪ .13‬حترير الأً َمة ال�سوداء‪ ..‬م�شروطية النائيني‬ ‫الف�صل الرابع‪ :‬داخل املجتمع (‪22000‬كلمة)‬ ‫‪ .1‬ال�شيخ حبيب الكاظمي‪ ..‬قلب ال�شارع‬ ‫‪ .2‬ركاز‪« ..‬نيو لوك» �أو «نيو �أخالق»‬ ‫‪( .3‬معكم معكم يا علماء) ‪ :‬قراءة يف �شارع ال�شعار‬ ‫‪ .4‬ا�ستيحا�ش نكاح الر�ضيعة‪).‬مل يدرج بعد)‬ ‫‪324‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:15‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 324‬‬


‫يورد توفيق ال�سيف يف هام�ش ترجمته لر�سالة النائيني التعليق‬ ‫التايل "هذا ما ي�ؤخذ على امل�صنف ‪ -‬نور اهلل �ضريحه ‪ -‬فلم يكن منا�سب ًا‬ ‫للمقام اال�ستدالل بالأحالم �أو التعويل على ما مل يثبت بالدليل القاطع‬ ‫والربهان ال�ساطع‪ ،‬ال �سيما يف مثل هذا املو�ضع من موا�ضع االختالف‪،‬‬ ‫كيف وهو من هو يف قوة احلجة وعمق الفكرة و�صفاء الر�ؤية"(‪.)114‬‬ ‫ ال �شك �أن هام�ش تعليق توفيق �سيف له وجاهته‪ ،‬لكن ال�ستدالل‬ ‫النائيني وجاهته �أي�ض ًا وداللته‪ ،‬فر�ؤية الإمام املهدي يف الأحالم م�ألوفة‬ ‫يف الثقافة ال�شيعية ولها وظائفها الإقناعية ومفاعيلها االطمئنانية‪ ،‬ومهما‬ ‫تكن احلجج الأ�صولية التي برع النائيني يف �صياغتها ل�صالح االنت�صار‬ ‫لفكرة امل�شروطية (الد�ستورية) ال ميكنها �أن ت�ؤدي يف اجلمهور املنق�سم‬ ‫يف ذلك الوقت‪ ،‬ما ت�ؤديه هذه الر�ؤية وجمازها‪.‬‬ ‫من جانب �آخر يبدو �أن هام�ش توفيق ال�سيف وهو يف مقام‬ ‫االحتفاء باللغة الأ�صولية‪ ،‬مل يلتفت �إىل الر�ؤية التي حتملها هذه الر�ؤيا‬ ‫فلب احللم كان يكمن يف املجاز الذي ا�ستخدمه الإمام احلجة‬ ‫(احللم) ّ‬ ‫(�إن مثل الد�ستورية مثل تلك الأمة ال�سوداء التي تلوثت يدها ف�أجربوها‬ ‫على غ�سلها)‪ ،‬فهذا املجاز ي�ستطيع �أن يرينا بو�ضوح وب�ساطة وكثافة ما‬ ‫ال ت�ستطيع �أن ترينا �إياه حجج النائيني الأ�صولية والعقلية‪ .‬ويكاد يكون‬ ‫ا�ستخدام املجاز على نحو �أثري من �أجل الر�ؤية‪ ،‬ولي�س من �أجل الزخرف‬ ‫اللفظي‪� ،‬سمة من �سمات الثقافة الإيرانية‪ ،‬والنائيني كتب كتابه باللغة‬ ‫الفار�سية وطبعه ون�شره و�أحرقه يف النجف‪� ،‬إن ا�ستخدام املجاز يف‬ ‫الثقافة الإيرانية جتده يتجلى يف اخلطابات ال�سيا�سية وخطابات الوعاظ‬ ‫واملفكرين وعلماء الدين والفال�سفة واملثقفني‪ ،‬جتده يف خطابات علي‬ ‫�ضد اال�ستبداد‪ :‬قراءة يف ر�سالة "تنبيه الأمة وتنزيه امللة" ل�شيخ الإ�سالم املريزا‬ ‫‪114‬‬ ‫حممد ح�سني الغروي النائيني‪ ،‬توفيق ال�سيف‪�.‬ص‪287.‬‬

‫‪325‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:15‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 325‬‬


‫�شريعتي‪ ،‬وعبدالكرمي �سرو�ش‪ ،‬ومرت�ضى مطهري‪ ،‬وعبداحل�سني‬ ‫د�ستغيب‪ ،‬وحممد �صادق احل�سيني‪.‬‬ ‫ ال يكاد يخلو خطاب يف هذه الثقافة من جماز ر�ؤية‪ ،‬ورمبا‬ ‫تكون ال�سجادة الإيرانية بجمالها وتركيبها املعقد من �أكرث امل�صادر‬ ‫قدرة على توليد املجازات‪ .‬الأمر الآخر الذي فات هام�ش توفيق ال�سيف‪،‬‬ ‫هو �أن مو�ضع االختالف الذي كان �أحد ثماره هذا الكتاب‪ ،‬مت�صل �أ�شد‬ ‫االت�صال بالإمام املهدي‪ ،‬فالذين عار�ضوا انت�صار النائيني لفكرة‬ ‫احلكومة الد�ستورية (امل�شروطة) كانت حجتهم الإمام املهدي‪ ،‬فال‬ ‫يجوز للفقيه �أن ُي�ش ّرع لأي �سلطة �أو �أن يقيمها �أو �أن ميار�سها �أو يتعاطى‬ ‫معها يف غيبة الإمام املهدي‪ ،‬وكل �سلطة يف هذه الغيبة تعترب يف نظرهم‬ ‫اغت�صاب ًا لذلك فهي غري �شرعية‪.‬‬ ‫ال�شرعي هو �أن متار�س انتظارك‪ .‬ومادامت حجة اخل�صم‬ ‫ت�ستند �إىل الإمام املهدي فال ب ّد للخ�صم املقابل من �أن ي�ستنطق الإمام‬ ‫املهدي‪ ،‬ليمنحه ال�شرعية �أو ما يدل عليها �أو ما يعزز من حجته الأ�صولية‪.‬‬ ‫وقراءة خطاب النائيني يف �ضوء ما يرينا �إياه هذا املجاز‪� ،‬ستك�شف لنا‬ ‫�أن النائيني قد ا�ستند �إىل هذه الر�ؤية‪/‬املجاز‪ ،‬يف �صياغة حججه العقلية‬ ‫الأ�صولية يف كتابه (تنبيه الأمة وتنزيه امللة) فهو تنبيه للأمة لهذه الر�ؤية‬ ‫التي يحملها مفهوم امل�شروطية واملعرب عنه يف جماز النائيني بغ�سل يد‬ ‫الأمة ال�سوداء‪ ،‬وتنزيه للملة من تهمة الغ�صبية‪� ،‬أي من �أن تكون امللة‬ ‫التي قالت باحلكومة امل�شروطية �أو الد�ستورية قد اغت�صبت حق الإمام‬ ‫الغائب‪.‬‬ ‫كل �سلطة ال يقيمها الإمام الغائب �أَ َمة �سوداء حتى لو كان‬ ‫القائم عليها فقيها �أو جمل�س فقهاء‪ ،‬فلي�س للفقيه �أن يتوىل �أمر ال�سلطة‬ ‫�أو الدولة من دون الإمام‪ ،‬وهو �إن فعل ذلك يكون قد اغت�صب حق الإمام‪،‬‬ ‫‪326‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:15‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 326‬‬


‫وعليه فكل ال�سلطات احلاكمة مغت�صبة وغري �شرعية‪ ،‬لكن ذلك ال يعني‬ ‫حماربتها‪ ،‬لكن يعني عدم التعاطي معها �أو �إعطائها ال�شرعية‪ ،‬وهذا ما‬ ‫ي�ؤ ّكده ال�شريف املرت�ضى يف كتابه (ال�شايف يف الإمامة) يقول "لي�س علينا‬ ‫�إقامة الأمراء �إذا كان الإمام مغلوب ًا كما ال يجب علينا �إقامة الإمام يف‬ ‫الأ�صل‪...‬لي�س �إقامة الإمام واختياره من فرو�ضنا فيلزمنا �إقامته‪ .‬وال‬ ‫نحن املخاطبون ب�إقامة احلدود فيلزمنا الذم بت�ضييعها‪ ،‬لأنه �إن ادعى‬ ‫ذلك كان مدعيا نف�س امل�س�ألة"(‪.)115‬‬ ‫ظل مفهوم �إقامة الإمامة يعني �إقامة ال�سلطة والدولة‪ ،‬وهذا‬ ‫ما �شغل املرجعية وحدد م�سار عملها‪� .‬إن حتديث هذا املفهوم �سيغري‬ ‫وظيفة املرجعية و�سيغري مفهومها للدولة وال�سلطة‪ ،‬وقد كان جهد‬ ‫النائيني ا�ستثنائي ًا يف هذا املجال‪ ،‬لقد حرر ي ّد الأمة ال�سوداء و�أعطى‬ ‫لهذا التحرير م�شروعية تعادل تقريبا م�شروعية حترير العبيد التي‬ ‫�أعطاه الع�صر احلديث حلقوق الإن�سان‪ .‬فما الذي فعله النائيني؟ وكيف‬ ‫حرر يد ال�سلطة ال�سيا�سية(الأمة) من لوثة الغ�صبية؟ وهل ميكن �أن‬ ‫نحرر ج�سد الأمة ال�سوداء حتريرا كام ًال؟ وما ت�أثري هذا التحرير على‬ ‫مفهومنا للدولة والإمامة؟‬ ‫حترير الفقيه‬ ‫كما �أن معنى الن�ص ال ي�أتي منه‪ ،‬كذلك معنى التحديث‬ ‫�أو الإ�صالح �أو التجديد ال ي�أتي من الفقيه بل من خارجه‪ ،‬من خارج‬ ‫ن�صو�صه الدينية و�أدواته الأ�صولية وحوزته العلمية‪ ،‬ولنا يف �آية اهلل‬ ‫املحقق النائيني من خالل كتابه (تنبيه الأمة وتنزيه امللة) منوذج ًا على‬ ‫‪115‬‬ ‫�ص‪.28.‬‬

‫ال�شايف يف الإمامة‪ ،‬ال�شريف املرت�ضى‪� ،‬ص‪ 112, 114.‬وانظر توفيق ال�سيف‪،‬‬

‫‪327‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:15‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 327‬‬


‫�صحة هذه الفر�ضية‪.‬‬ ‫حدث الد�ستورية �أو امل�شروطية يف �إيران يف العقد الأول من‬ ‫القرن الع�شرين‪ ،‬حدث خارجي‪ ،‬و�سياقاته خارجية‪ ،‬لكن مل تكن �أمريكا‬ ‫يف ذلك الوقت قد حملت راية التب�شري بالدميقراطية بعد‪ ،‬ومل تعلن‬ ‫نف�سها نبي ًا جاء يحرر ال�شعوب من ظلم اال�ستعباد‪.‬‬ ‫ �أقول ذلك كي ال يفهم من مفهوم (احلدث اخلارجي) ما نفهمه‬ ‫فاجلدال ال�سيا�سي حول م�شروعية التعويل على اخلارج يف الإ�صالح‪.‬‬ ‫فاخلارج هنا‪ ،‬هو ما يقع خارج الن�ص‪ ،‬ما يقع يف �أفق فهم الفقيه من دون‬ ‫�أن يكون موجود ًا وجود ًا مبا�شرا �أو ظاهرا يف الن�ص‪ ،‬وهذا ما تلخ�صه‬ ‫جملة �أهم مفكري علم الكالم اجلديد‪ ،‬وهو حممد جمتهد �شب�سرتي‬ ‫"الفقيه ال ي�ستنبط الأحكام م�ستعينا بعلم الأ�صول فقط‪ ،‬و�إمنا تتدخل‬ ‫�أيديولوجيا الفقيه ور�ؤيته لق�ضايا الإن�سان واملجتمع واحلق والعدالة‬ ‫وال�سيا�سة واالقت�صاد وال�صناعة والعلوم واحل�ضارة والقيم والأخالق‪،‬‬ ‫يف �صياغة �آرائه وا�ستنباطاته الفقهية وعملية االجتهاد والإفتاء تتحرك‬ ‫بتوجيه الزم من كل هذه املقدمات‪ ،‬وت�سري يف طريق معني‪ ،‬لتتمخ�ض عن‬ ‫نتائج خا�صة"(‪.)116‬‬ ‫هذا يعني"'�أن الن�ص ال يعطيك ما فيه" (‪)117‬كما تقول ظاهرية‬ ‫علم �أ�صول ابن حزم‪ ،‬بل الن�ص يعطيك ما فيك‪ ،‬وما يف �سلطة جماعتك‬ ‫الت�أويلية‪ ،‬وما يف ع�صرك‪ ،‬الن�ص يعطيك ما يف خارجك‪ ،‬ما يقع يف‬ ‫ذهنك وبطنك وقلبك وج�سدك وم�شاعرك‪ ،‬وهي تتفاعل مع ع�صرها‪.‬‬ ‫ما يقع يف �أفق فهم الفقيه هو احلدث اخلارجي‪� ،‬أي احلدث‬ ‫الذي ي�أتي من خارج الن�ص ليوجه الن�ص ويفتحه على فهم مغاير‪،‬‬ ‫‪116‬‬

‫علم الكالم اجلديد وفل�سفة الدين‪ ،‬حترير عبداجلبار الرفاعي‪� ،‬ص‪346‬‬

‫انظر الف�صل الثالث من كتاب ( طوق اخلطاب‪ :‬درا�سة يف ظاهرية ابن حزم)‬ ‫‪117‬‬ ‫علي الديري‪ ،‬امل�ؤ�س�سة العربية للدرا�سات والن�شر‪2007.‬‬

‫‪328‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:15‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 328‬‬


‫التحديث الذي قام به النائيني والذي يتمثل يف (حترير يد الأمة‬ ‫ال�سوداء) يرجع �إىل هذا احلدث اخلارجي‪.‬‬ ‫تثري كلمة (احلدث اخلارجي) ح�سا�سية يف فهم من �أفقهم‬ ‫م�شبع بيقني �أن الفقيه يتوافر على ن�صو�ص متلك احلقيقة الكاملة‪ ،‬وهو‬ ‫قادر على �أن ي�شخ�ص الواقع ويتفاعل معه ويطبق عليه هذه احلقيقة مبا‬ ‫ينا�سب الواقع‪.‬‬ ‫وذلك مبا ميلك من علوم جمة و�سنوات حت�صيل طويلة‪ ،‬الفقيه‬ ‫يف يقينهم لي�س بحاجة �إىل ما هو خارجه وخارج ن�صه وخارج علومه‪،‬‬ ‫هو يتفاعل مع الواقع لكن الواقع ال يتفاعل معه‪ .‬هو يهب الواقع معناه‪،‬‬ ‫�شخ�ص الواقع لكن الواقع ال ُي ّ‬ ‫لكن الواقع ال يهبه معناه‪ ،‬هو ُي ّ‬ ‫�شخ�صه‪ ،‬هو‬ ‫يعرب الواقع لكن الواقع ال يعربه‪.‬هكذا يكون الفقيه فوق الواقع‪ ،‬وهو من‬ ‫فوقيته ينزل عليه معناه وفتواه‪.‬‬ ‫احلدث اخلارجي بالن�سبة �إىل النائيني‪ ،‬يتمثل يف ات�صال �أفقه‬ ‫ب�أفق حركات الإ�صالح والتحرر‪ ،‬وهو بهذا الأفق راح يقر�أ ن�صو�صه‬ ‫الدينية ويعمل �أدواته الأ�صولية‪ ،‬ويوجه حجاجه الفقهي مع خ�صومه‬ ‫الفقهاء الذين مل يت�صل �أفقهم بحدث حركة الإ�صالح الفكري وال�سيا�سي‬ ‫التي �شغلت النخب ال�سيا�سية والثقافية والدينية يف نهاية القرن التا�سع‬ ‫ع�شر وبداية القرن الع�شرين‪.‬‬ ‫يحدثنا املخت�صون ب�سرية النائيني من الذين بذلوا جمهود ًا‬ ‫م�ضني ًا يف حتقيق ر�سالته وترجمتها للعربية عن ات�صاله املب ّكر بجمال‬ ‫الدين الأفغاين حامل راية الإ�صالح والتحرر ومقاومة اال�ستبداد"''كانت‬ ‫تربطه عالقة بجمال الدين الأفغاين منذ كان طالب ًا يف �أ�صفهان يف‬ ‫الع�شرينات من عمره‪ ،‬وقد �سعى الحقا يف �سامراء لرتتيب لقاء له مع‬ ‫ال�سيد املجدد ال�شريازي الذي كان �أ�ستاذ النائيني بعد اندالع ثورة‬ ‫‪329‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:15‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 329‬‬


‫التنباك ‪.)118("1891‬‬ ‫ويدل �أ�سلوبه يف ر�سالة تنبيه الأمة على ت�أثره البالغ بال�سيد جمال الدين‬ ‫الأفغاين "'�إن ت�أثري جمال الدين يندرج يف املقدمات االجتماعية التي‬ ‫لوالها ملا كان للمجتمع الإيراين �أن ينه�ض يف هذا الوقت‪ ،‬لكن هذا الدور‬ ‫املهم مل ي�سجل من جانب املجتمع الديني"(‪.)119‬‬ ‫كما �أنه كان على ات�صال بالأفق الذي كان ي�صدر عنه الكواكبي‬ ‫يف كتابه ''طبائع اال�ستبداد وم�صارع اال�ستعباد' الذي �سبق كتاب (تنبيه‬ ‫الأمة وتنزيه امللة) بعقد كامل‪.‬وهذا ما دفع حمقق ر�سالة النائيني ليعقد‬ ‫مقارنة بينه وبني الكواكبي‪.‬‬ ‫ �إن ما �أ�سماه توفيق ال�سيف بـ(املقدمات االجتماعية) �سنجده‬ ‫يعرب عن ح�ضوره النافذ يف عنوان مقدمة كتاب النائيني‪ ،‬لقد جعل‬ ‫عنوان املقدمة هكذا ''يف �شرح حقيقة اال�ستبداد ود�ستورية الدولة وحتقيق‬ ‫معاين القانون الأ�سا�سي وجمل�س ال�شورى الوطني وبيان مفهوم احلرية‬ ‫وامل�ساواة'‬ ‫لقد ا�ستحال احلدث اخلارجي �أو (املقدمات االجتماعية) يف‬ ‫�أفق النائيني مقدمة حجاجية �أو منطقية �أو �أ�صولية‪ ،‬و�صار ي�سوقها يف‬ ‫�سياق التدليل على �صحة خطاب امل�شروطية‪ .‬هذه املقدمة تقول‪�" :‬إن‬ ‫حتديد ال�سلطة وتقييدها لئال ت�ؤول �إىل اال�ستبداد والقهر هو من �أظهر‬ ‫�ضروريات الدين الإ�سالمي"(‪.)120‬‬ ‫كيف �صار حتديد ال�سلطة وتقييدها من اال�ستبداد �ضرورة‬ ‫دينية؟ هل الفقهاء املناوئون للنائيني يف ع�صره مل يقر�أوا هذه ال�ضرورة‬ ‫يف الن�صو�ص الدينية؟ هل ال�شيخ ف�ضل اهلل النوري �صاحب حركة‬ ‫‪118‬‬ ‫‪119‬‬ ‫‪120‬‬

‫‪330‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:15‬‬

‫تنبيه الأمة‪� ،‬ص‪33‬‬ ‫�ضد اال�ستبداد‪ ،‬توفيق ال�سيف‪�.‬ص‪.37.‬‬ ‫تنبيه الأمة‪� ،‬ص‪129‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 330‬‬


‫امل�شروعة املناوئة حلركة امل�شروطة كان �ضا ًال هذه ال�ضرورة؟ وهل تكرمي‬ ‫الإمام اخلميني له واعتبار �إعدامه ا�ست�شهاد ًا واختيار الذكرى ال�سنوية‬ ‫لهذا اال�ست�شهاد الفتتاح جمل�س ال�شورى الأول يف العهد اجلمهوري‪،‬‬ ‫و�إطالق ا�سمه على طريق رئي�س يف العا�صمة‪ ،‬يعد تكرمي ًا لإنكاره هذه‬ ‫ال�ضرورة؟‬ ‫هل الفقهاء ال�سابقون على النائيني من املحقق علي الكركي‬ ‫(ت ‪ 940‬هـ) واملوىل �أحمد الرناقي (ت ‪ 1245‬هـ) وال�شيخ مرت�ضى‬ ‫الأن�صاري (ت‪1281‬هـ) مل ت�سعفهم ا�ستدالالتهم الأ�صولية ال�ستخراج‬ ‫هذه ال�ضرورة من الن�صو�ص الدينية؟ هل كانت حتريراتهم وتقريراتهم‬ ‫وحتقيقاتهم قد �أغفلت هذه ال�ضرورة؟‬ ‫مل تكن ن�صو�ص فقهاء امل�شروطة وال ن�صو�ص فقهاء امل�شروعة خمتلفة‪،‬‬ ‫لكن ما وقع يف �أفق فقهاء هذه الن�صو�ص كان خمتلف ًا‪ .‬وهذا يعني �أن‬ ‫الن�ص يعطيك ما يقع فيك ال ما هو واقع فيه‪.‬‬ ‫كيف قر�أ النائيني ن�ص الع�صمة مبا وقع فيه و�صار مقدمة يف‬ ‫ا�ستنباطه واجتهاده‪�.‬سنقر�أ كيف �أدرج الع�صمة يف �سياق رفع اال�ستبداد؟‬ ‫لن�صل �إىل تقرير �أن حترير الأمة ال�سوداء �أو حترير يدها ي�أتي من‬ ‫اخلارج‪.‬‬ ‫حترير الأ�صول‬ ‫يبدو �أن جماز حترير (الأَ َمة ال�سوداء) الذي ا�ستخدمه النائيني‪،‬‬ ‫للإ�شارة �إىل حقيقة امل�شروطة‪ ،‬مبا هي حماولة لتحرير ال�سلطة من �آثار‬ ‫اغت�صاب امل�ستبدين‪ ،‬يتجاوز الإ�شارة الهام�شية‪ ،‬فهو يكاد ي�شكل جوهر‬ ‫ن�ص كتاب النائيني (تنبيه الأمة وتنزيه امللة)‪.‬‬ ‫ �إن مفهوم التحرير يت�ضمن يف ذاته معنى التنبيه والتنزيه‪،‬‬ ‫‪331‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:15‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 331‬‬


‫ال�س َق ِط‪.‬‬ ‫ففي ل�سان العرب ''وحترير الكتابة‪� :‬إِقامة حروفها و�إِ�صالح َّ‬ ‫وتحَ ْ ِري ُر احل�ساب‪� :‬إِثباته م�ستوي ًا ال َغ َلثَ فيه وال َ�س َق َط وال محَ ْ َو‪ .‬وتحَ ْ ِري ُر‬ ‫الرقبة‪ :‬عتقها''‪ .‬ويقال '�إن من �أجود التحريرات الفقهية لهذه الق�ضية‪.''...‬‬ ‫وحني تعدد م�آثر فقيه يقال وله (حتريرات يف الأ�صول) و(حتريرات‬ ‫يف الفقه)‪ .‬ويقال له (حوا�شي وتعليقات وتقريرات وفوائد وحتريرات‬ ‫على‪.)...‬‬ ‫يف التحرير تقرير ملعنى‪ ،‬و�شرح ملفهوم‪ ،‬ودفع ل�سوء فهم‪،‬‬ ‫وتو�ضيح لغمو�ض‪ ،‬وتنبيه لفائدة وتنزيه جلهة‪ ،‬وبيان لدليل‪ ،‬وتدقيق‬ ‫ملحل نزاع وم�صب خالف‪.‬‬ ‫كان حدث امل�شروطة‪ ،‬قد ا�ستدعى حترير ًا من نوع خا�ص‪،‬‬ ‫حترير ًا يتجاوز �أن يكون حا�شية على ن�ص �أو هام�ش ملنت مقد�س‪ ،‬كان‬ ‫احلدث بحاجة �إىل ن�ص ي�ؤ�س�س ملعنى جديد حمرر من الن�صو�ص‬ ‫ال�سابقة‪.‬‬ ‫ �إن جدة الن�ص تخرجه �أحيان ًا من حقل اخت�صا�صه الذي‬ ‫كتب فيه‪ ،‬وك�أن هذا الإخراج احتجاج لتحرر الن�ص من �أعراف احلقل‬ ‫وقوانينه التي حتول بينه وبني �أن يكون ن�ص ًا حر ًا جديد ًا‪ ،‬وهذا ما ُيف�سر‬ ‫و�صف النائيني ب�أنه مفكر امل�شروطية وو�صف �أ�ستاذه الآخوند اخلر�ساين‬ ‫ب�أنه فقيهها "كان الآخوند مال كاظم اخلر�ساين فقيها للم�شروطة �أو‬ ‫الد�ستورية‪ ،‬بينما كان ال�شيخ حممد ح�سني النائيني مفكرها"(‪.)121‬‬ ‫على الرغم من �أن اال�ستدالالت الأ�صولية التي قام بها النائيني‪ ،‬مل تخرج‬ ‫على طوق خطاب علم الأ�صول احلوزوي‪� ،‬إال �أنها خرجت على �أفقه‪ .‬كان‬ ‫النائيني ي�ستدل بعلم �أ�صول احلوزة‪ ،‬لكن قبلياته القرائية ومقدماته‬ ‫احلجاجية كانت من خارج ن�ص احلوزة و�شا ّبة على طوقها‪ ،‬وهذا ما‬ ‫‪121‬انظر‪ :‬امل�شروطية وامل�ستبدة‪ ،‬ر�شيد خيون‪ ،‬معهد الدرا�سات اال�سرتاتيجية‪� ،‬ص‪173.‬‬

‫‪332‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:15‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 332‬‬


‫يربر رمبا و�صفه مبفكر امل�شروطية ولي�س بفقيهها‪.‬‬ ‫ورمبا تكون فرادة ن�صه تتجاوز عمل الفقيه الذي تتحقق‬ ‫فقاهته بقدر عبادته للن�ص وعلى ال�ضد من ذلك املفكر الذي تتحقق‬ ‫فرادته بقدر اخرتاقه للن�ص‪ ،‬وهذا ما جعل من النائيني على ما تقول‬ ‫الدرا�سات اخلا�صة بالت�أريخ حلياته‪ ،‬يترب�أ من ن�صه ويعمل على جمع‬ ‫الن�سخ املتبقية منه من �أجل حرقه‪ ،‬ويدفع ملن ي�أتي بن�سخة منه مبلغ ًا من‬ ‫املال‪ ،‬وذلك بعد �أن �صار مرجع ًا فقهي ًا ال يليق به �إال عبادة الن�ص حرفي ًا‬ ‫وجعله طوق جناة حلفظ مكانته الفقهية التي كان ينازعه عليها فقيه‬ ‫�آخر‪.‬‬ ‫وال�شواهد الدالة على هذه الفرادة‪ ،‬هي �أن هذا الن�ص �صار‬ ‫عالمة على النائيني وعلى امل�شروطة وعلى ع�صر احلداثة ال�سيا�سية‬ ‫وبداية الإ�صالح ال�سيا�سي يف �إيران‪ ،‬بل �صار هذا الن�ص ي�ؤرخ ملرحلة‬ ‫حتول الفقه ال�شيعي من فقه الفرد �إىل فقه الدولة‪ ،‬و�شاهد ًا على انخراط‬ ‫الفقيه يف مقاومة اال�ستبداد مبعانيه ال�سيا�سية والدينية‪ .‬ولي�س هناك‬ ‫عالمة على التفرد �أكرث من �أن يتجاوز الن�ص م�ؤلفه ومقا�صده و�إرادته‪،‬‬ ‫وهذا ما حدث مع ن�ص النائيني‪.‬‬ ‫ �إن فرادة ن�ص النائيني‪ ،‬تكت�سب �أهميتها من هذا التحرير‪،‬‬ ‫عمل النائيني عمل حتريري بامتياز‪ ،‬بكل هذه املعاين التي يت�ضمنها‬ ‫مفهوم التحرير‪ ،‬لقد قام من حيث يق�صد �أو ال يق�صد بتحرير مفهوم‬ ‫ال�سلطة من مفهوم الإمامة‪ ،‬وحترير مفهوم الدولة من والية الفقيه‬ ‫املطلقة‪ ،‬وحترير مفهوم الع�صمة من اجلدل العقدي �إىل رفع اال�ستبداد‪،‬‬ ‫وحترير مفهوم الفقه من الفرد �إىل املجتمع‪ ،‬وحترير �آليات الأ�صول من‬ ‫الن�صو�ص �إىل احلياة‪ .‬وحترير م�س�ؤولية حترير الإن�سان من طور الغيبة‬ ‫�إىل طور الظهور‪.‬‬ ‫‪333‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:15‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 333‬‬


‫بهذا ميكن �أن نقر�أ تنبيهه للأمة مبا هو حترير لها من هذه‬ ‫املفاهيم‪ ،‬وتنزيهه للملة مبا هو تنزيه لهذه املفاهيم من القيود غري‬ ‫املحررة‪ ،‬من �أن تكون خامتة على فهم الأمة‪ ،‬وميار�س با�سمها اال�ستبداد‪،‬‬ ‫�أي �أن حترير هذه املفاهيم لي�س خروج ًا من امللة بل حتريرا للأمة من‬ ‫اجلمود على قيد معاين هذه املفاهيم املعطلة حتت حجة الغيبة‪.‬‬ ‫يحرر النائيني مقدمته بقوله"''ومبا �أن هذه الر�سالة و�ضعت لتنبيه الأمة‬ ‫�إىل �ضروريات ال�شريعة وتنزيه امللة عن هذه الزندقة والإحلاد والبدعة‪،‬‬ ‫لهذا جعلت ا�سمها (تنبيه الأمة وتنزيه امللة)‪ ،‬و�صنفت مقا�صدها على‬ ‫مقدمة وخم�سة ف�صول وخامتة"(‪.)122‬‬ ‫لقد ح ّرر النائيني مفاهيم الزندقة والإحلاد والبدعة من حقل‬ ‫مالحقة الأفراد ذوي الأفكار املغايرة‪ ،‬لتكون �ضمن حقل الذين ي�ستغلون‬ ‫الدين لتربير قمع ال�سلطات ال�سيا�سية للإن�سان و�إعطاء م�شروعية‬ ‫مبا�شرة �أو غري مبا�شرة ال�ستبداد هذه ال�سلطات با�سم الدين‪ ،‬لقد جعل‬ ‫هذه املفاهيم تنال من الذين يرون �أن الدين ال يدافع عن حرية الإن�سان‪،‬‬ ‫وال عالقة له بو�ضع حد ال�ستبداد ال�سلطات ال�سيا�سية‪.‬‬ ‫نعود الآن �إىل حترير النائيني ملفهوم الع�صمة من حقل‬ ‫ال�صراعات العقدية وتربير اال�ستبدادات الظاهرة با�سم الع�صمة‬ ‫الغائبة‪� ،‬إىل حقل رفع اال�ستبداد‪.‬‬ ‫حترير الع�صمة‬ ‫لي�ست ال�سلطة وحدها حم ًال لالغت�صاب‪ ،‬فاملفاهيم �أي�ض ًا‬ ‫ُتغت�صب‪ ،‬فاال�ستبداد ال يغت�صب ال�سلطة فقط‪ ،‬بل يغت�صب �أي�ض ًا‬ ‫مفاهيمنا للحرية‪ ،‬وي�ستبدل معانيها بطريقة م�ستبدة‪ ،‬كي توافق‬ ‫‪122‬‬

‫‪334‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:15‬‬

‫تنبيه الأمة‪� ،‬ص‪96‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 334‬‬


‫مفهومه للحرية من جانب‪ ،‬وكي ال ّ‬ ‫تدل معانيها احلقيقية على اغت�صابه‬ ‫وا�ستبداده وحتكمه من جانب �آخر‪.‬‬ ‫على �أن اال�ستبداد لي�س �شخ�ص ًا‪ ،‬هو حالة قد يتمثلها �شخ�ص‪،‬‬ ‫وقد تتمثلها جماعة‪� ،‬أو تاريخ �أو مدر�سة �أو دين‪ .‬والدين ومفاهيمه مادة‬ ‫اغت�صاب حمببة ومغرية وميكن توظيفها ب�سهولة لإعطاء اال�ستبداد‬ ‫�شرعية طبيعية‪ ،‬وهذا ما فعله خ�صوم النائيني‪ ،‬ون ّبه �إليه يف كتابه "ومن‬ ‫�أجل الإبقاء على �شجرة الظلم واال�ستبداد اخلبيثة‪ ،‬ومن �أجل اغت�صاب‬ ‫�أموال ورقاب امل�سلمني‪ ،‬ر�أوا يف رفع �شعار الدين خري و�سيلة للو�صول‬ ‫�إىل م�آربهم"(‪ ..)123‬لذلك حتتاج املفاهيم �إىل حترير دوم ًا‪ ،‬خ�صو�ص ًا‬ ‫مفاهيم الدين‪ .‬لقد �أدرك النائيني بفطنته ذلك‪ ،‬ووظف مهارته الفائقة‬ ‫يف علم الأ�صول‪ ،‬و�أفقه املفتوح خارج ن�ص احلوزة‪ ،‬لتحرير مفهوم‬ ‫الإمامة والع�صمة من دائرة اجلدل الكالمي والعقدي املغلقة عن احلياة‬ ‫وحتوالتها‪ .‬لقد متكن من حتويل الع�صمة من مقولة عقدية خالفية �إىل‬ ‫مق�صد فقهي غايته �ضمان الإ�صالح ونفي اال�ستبداد‪ .‬لقد جعل النائيني‬ ‫من الع�صمة مق�صد ًا يفقه احلياة ال اخلالف على احلياة خالف ًا‪ُ ،‬يغ ِّيبها‬ ‫و ُيغيب �إقامة عدلها الأدنى‪.‬‬ ‫الع�صمة من عقائد الإمامية وهي تعني �أن الأنبياء جميعا من �آدمهم‬ ‫�إىل خامتهم وكذلك الأئمة من �أولهم �إىل قائمهم مع�صومون من جميع‬ ‫الذنوب واملعا�صي والرذائل والفواح�ش ما ظهر منها وما بطن‪ ،‬من �أول‬ ‫حياتهم �إىل حني وفاتهم عمدا و�سهوا‪ ،‬كما يجب �أن يكونوا مع�صومني‬ ‫من اخلط�أ والن�سيان‪ ،‬والتنزه عما ينايف املروءة ويدعو �إىل اال�ستهجان‪.‬‬ ‫يخت�ص بها اهلل َ‬ ‫بع�ض من ي�صطفيهم من الب�شر "كون‬ ‫الع�صمة لطف‬ ‫ّ‬ ‫الإمامة لطفا يف فعل الواجبات والطاعات‪ ،‬وجتنب املقبحات‪ ،‬وارتفاع‬ ‫‪123‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:15‬‬

‫تنبيه الأمة‪� ،‬ص‪95‬‬

‫‪335‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 335‬‬


‫الف�ساد‪ ،‬وانتظام �أمر اخللق"(‪.)124‬‬ ‫متثل الإمامة املع�صومة مفهوم ًا مركزي ًا يف املذهب ال�شيعي‪ ،‬وهي �أ�صل‬ ‫من �أ�صول املذهب‪ ،‬ولأنها �أ�صل خاليف مع بقية املذاهب الإ�سالمية‪ ،‬فقد‬ ‫ا�ستغرقت جهود علماء علم الكالم طيلة التاريخ‪ ،‬تفنيد ًا وتثبيت ًا ودفاع ًا‬ ‫وهجوم ًا ونق�ض ًا وبنا ًء‪.‬‬ ‫�صار هذا الأ�صل فارق ًا ال جامع بعده‪ ،‬لقد خفت وترية اجلداالت العقدية‬ ‫ب�ش�أن التوحيد وخلق القر�آن والتج�سيد واملنزلة بني املنزلتني‪ ،‬لكن جدل‬ ‫الإمامة وع�صمتها‪ ،‬ظل فاع ًال طيلة التاريخ وحتى اليوم‪ .‬ويكفي للتدليل‬ ‫على مركزية هذا اخلالف‪ ،‬اال�ست�شهاد بكتاب (ال�شايف يف الإمامة)‬ ‫لل�شريف املرت�ضى (ت ‪436‬هـ)‪ ،‬فقد �ألف املرت�ضى هذا الكتاب ال�ضخم‪،‬‬ ‫رد ًا على كتاب (املغني يف �أبواب التوحيد والعدل) للقا�ضي املعتزيل‬ ‫عبداجلبار اجلرجاين (ت ‪ 415‬هـ) وهو من �أ�ضخم الكتب الكالمية‪.‬‬ ‫يقول ال�شريف املرت�ضى ''�س�ألت ‪� -‬أيدك اهلل ‪ -‬تتبع ما انطوى عليه الكتاب‬ ‫املعروف بـ (املغني) من احلجاج يف الإمامة‪ ،‬و�إمالء الكالم على �شبهه‬ ‫بغاية االخت�صار‪ ،‬وذكرت �أن م�ؤلفه قد بلغ النهاية يف جمع ال�شبه‪ ،‬و�أورد‬ ‫قوي ما اعتمده �شيوخه مع زيادات ي�سرية �سبق �إليها‪ ،‬وتهذيب مو�ضوعات‬ ‫تفرد بها‪ ،‬وقد كنت عزمت عند وقوع هذا الكتاب يف يدي على نق�ض ما‬ ‫اخت�ص منه بالإمامة على �سبيل اال�ستق�صاء"(‪.)125‬‬ ‫بهذه الروح احلجاجية كان املتكلمون يخت�صمون حول مفهوم الإمامة‪،‬‬ ‫وظل كتاب ال�شايف العمد َة ال�شافية يف الدفاع عن �أ�صل الإمامة‪ .‬وقد‬ ‫حت ّول هذا اجلدل �إىل غاية يف ذاته‪ ،‬وكي يحافظ هذا الأ�صل‬ ‫على �صحته االعتقادية و�أحقيته‪ ،‬فقد �أُخْ ِ�ضع الواقع التاريخي لل�شيعة �إىل‬ ‫املقولة العقدية‪ ،‬و�صار الواقع على مثال االعتقاد فيما يتعلق بالإمامة‪،‬‬ ‫‪124‬‬ ‫‪125‬‬

‫‪336‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:15‬‬

‫ال�شايف يف الإمامة‪ ،‬ال�شريف املرت�ضى‪� ،‬ص‪� 13,‬ص‪40.‬‬ ‫ال�شايف يف الإمامة‪ ،‬ال�شريف املرت�ضى‪� ،‬ص‪� 13,‬ص‪40.‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 336‬‬


‫وال�شاهد على ذلك �أن غياب الإمامة (ع�صر الغيبة) ا�ستتبعه غياب‬ ‫الواقع‪ ،‬ولي�س هناك � ّ‬ ‫أدل على هذا الغياب من غياب الدولة‪� ،‬صار املعتقد‬ ‫ي�صيغ الواقع‪ ،‬مل ُيك َّيف املعتقد وال غايته ل�صياغة الواقع‪.‬‬ ‫حترير النائيني‪ ،‬يكمن هنا‪ ،‬يف جعله الواقع يعيد حترير معنى‬ ‫الإمامة‪ ،‬مل ين�شغل باجلدل الكالمي‪ ،‬لقد �شغله فقه واقع احلياة ال�سيا�سية‬ ‫للنا�س‪ ،‬ال فقه احلجج الكالمية التي ُت ْن َق�ض بحجج كالمية �أخرى‪� .‬سيبد�أ‬ ‫حترير الإمامة بطرح �س�ؤال‪ :‬ما الغاية من مفهوم الإمامة؟‬ ‫�س�ؤال الغاية من الإمامة لي�س جديد ًا‪ ،‬لكن �أفق ال�س�ؤال جديد‪،‬‬ ‫ووفق �أفق ال�س�ؤال ي�أتي انتظار اجلواب‪ .‬و�أفق النائيني كان خارج ًا على‬ ‫�أفق علماء الكالم وجدالهم الالهوتي‪ .‬كان �س�ؤال الإمامة مطروح ًا يف‬ ‫ال�شارع ال�سيا�سي‪ ،‬ال يف ال�شارع العقدي‪ .‬لذلك فالإمامة والع�صمة يف‬ ‫مفهوم ال�شريف املرت�ضى �صاحب كتاب ال�شايف يف الإمامة‪ ،‬لي�ست هي‬ ‫نف�سها يف مفهوم النائيني �صاحب كتاب تنبيه الأمة وتنزيه امللة‪ .‬فالأول‬ ‫م�شغول بتنزيه الإمامة من ادعاءات خ�صومها العقائديني‪ ،‬والثاين‬ ‫م�شغول بتنزيه الإمامة من ذرائع امل�ستبدين‪ ،‬وذلك بتنبيه الأمة �إىل‬ ‫حقيقتها‪.‬‬ ‫الغاية من مفهوم الإمامة �ستجعل الإمامة مفهوم ًا يقت�ضي‬ ‫املعاين التي تقت�ضيها الد�ستورية‪ ،‬وهي الرقابة والأمانة والعدالة‬ ‫وامل�س�ؤولية وحفظ احلقوق‪� ،‬ستكون امل�شروطة بهذه املعاين هي عينها‬ ‫معاين الغاية من الإمامة‪ ،‬وبتحرير هذا املعنى وتقريره �سيحقق النائيني‬ ‫احلد الأدنى من معنى الإمامة يف الواقع‪ ،‬وهي ما عبرّ عنه مبجاز‬ ‫(حترير يد الأَ َمة ال�سوداء)‪.‬‬ ‫�سيحرر النائيني �إقامة الإمامة من مفهوم ال�سلطة والدولة‪،‬‬ ‫كما كان الأمر عند ال�شريف املرت�ضى مث ًال وبقية الفقهاء واملتكلمني‬ ‫‪337‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:15‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 337‬‬


‫الذين يرون �إقامة الإمامة �إقامة للدولة‪ ،‬وال دولة من غري �إمامة كاملة‪،‬‬ ‫وال �إمامة كاملة من غري ظهور كامل للإمام املهدي‪.‬‬ ‫�ستكون الدولة مفهوم ًا �أو�سع من الإمامة و�أكرث تعقيد ًا‪ ،‬لكنها‬ ‫لن تخرج عن غايتها (�أي الغاية من الإمامة) املتمثلة يف حفظ حقوق‬ ‫النا�س و�إقامة العدل ومنع اال�ستبداد‪ .‬لن يكون هناك تعار�ض بني �أن‬ ‫نقيم عدال ب�شري ًا بح�سب طاقتنا على منع اال�ستبداد بالقانون والد�ستور‪،‬‬ ‫وبني انتظار �إمام يقيم عد ًال �إلهي ًا كام ًال‪.‬‬ ‫�سرنى كيف �أن حترير النائيني ملفهوم الع�صمة‪ ،‬هو �أي�ضا‬ ‫تقريب من ناحية �أخرى‪ ،‬مبعنى �أنه تقريب لها من مفهوم (�أهل احلل‬ ‫والعقد) الذي ميثل النظرية ال�سنية كما يقول يف مواجهة اال�ستبداد‪.‬‬ ‫هكذا �سيعمل �أفق فهم النائيني اخلارجي على �أن يكون حتريره حترير ًا‬ ‫وا�سع ًا‪ ،‬يتجاوز املذهب الواحد‪ ،‬ليقرتب من مفاهيم الع�صر (الدولة‬ ‫والد�ستور) ومفاهيم الفرقاء العقائديني (�أهل احلل والعقد)‪.‬‬ ‫تقريب الع�صمة‬ ‫لقد قلت �إن النائيني قد حرر �إقامة الإمامة من مفهوم ال�سلطة‬ ‫والدولة‪ ،‬كما كان الأمر عند ال�شريف املرت�ضى مث ًال وبقية الفقهاء‬ ‫واملتكلمني الذين يرون �إقامة الإمامة �إقامة للدولة‪ ،‬وال دولة من غري‬ ‫�إمامة كاملة‪ ،‬وال �إمامة كاملة من غري ظهور كامل للإمام املهدي‪.‬‬ ‫�ستكون الدولة مفهوم ًا �أو�سع من الإمامة و�أكرث تعقيد ًا‪ ،‬لكنها لن تخرج‬ ‫عن غايتها (�أي الغاية من الإمامة) املتمثلة يف حفظ حقوق النا�س و�إقامة‬ ‫العدل ومنع اال�ستبداد‪ .‬لن يكون هناك تعار�ض بني �أن نقيم عدال ب�شري ًا‬ ‫بح�سب طاقتنا على منع اال�ستبداد بالقانون والد�ستور‪ ،‬وبني انتظار �إمام‬ ‫يقيم عد ًال �إلهي ًا كام ًال‪.‬‬ ‫‪338‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:15‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 338‬‬


‫تبقى امل�شكلة‪ ،‬لي�ست يف الإمامة وال يف االنتظار‪ ،‬بل يف الفقهاء‬ ‫�أنف�سهم ويف واليتهم‪ ،‬ما وظيفتهم يف الدولة؟ وما حدود واليتهم فيها؟‬ ‫هل حتتاج الدولة �إىل الفقهاء؟ �ستكون امل�شكلة يف الوالية ال يف الع�صمة‪،‬‬ ‫والأمر لن يخلو من ا�ستخدام الع�صمة عتبة لتو�سيع الوالية �أو ت�ضييقها‪.‬‬ ‫وتلك م�س�ألة حتتاج �إىل وقفة �أخرى تتجاوز ا�ستعرا�ض �آراء الفقهاء‬ ‫املتباينة يف الوالية وحدودها‪.‬‬ ‫لن تكون �إقامة ال�سلطة �أو الدولة هي نف�سها �إقامة الإمامة يف‬ ‫م�شروطية النائيني‪� ،‬سيبقى حق الإمامة وتعيينها و�إقامتها م�س�ألة �إلهية‪،‬‬ ‫لكن �إقامة ال�سلطة �ستبقى م�س�ؤولية م�شرتكة بني احلاكمني واملحكومني‪،‬‬ ‫�سيتبنى النائيني مفهوم ًا حديث ًا لل�سلطة "حقيقة ال�سلطة هي الوالية على‬ ‫�أمر النظام‪ ..‬احلقيقة �أن ال�سلطة هي من قبيل تولية بع�ض املوقوف‬ ‫عليهم �أمر تنظيم وحفظ موقوفة م�شرتكة و�إي�صال كل حق �إىل �صاحبه‪،‬‬ ‫ال من قبيل التملك والت�صرف ال�شخ�صي الدائر مدار قبول املت�صدي‬ ‫و�أهوائه ورغباته النف�سية"(‪.)126‬‬ ‫بهذا التفريق بني ال�سلطة مبا هي �إقامة للإمامة‪ ،‬وبني ال�سلطة‬ ‫مبا هي �إقامة للنظام‪� ،‬سيحرر النائيني ال�سلطة من مفهوم الغيبة‬ ‫واالغت�صاب‪ ،‬و�سيحرر الإمامة من مفهوم الدولة ال�شرعية التي يعي�شها‬ ‫النا�س يف ع�صر الغيبة‪ ،‬مبعنى �أن النائيني قد حرر �أفق فهم االنتظار‬ ‫ال�شيعي من التالزم بني ممار�سة ال�سلطة يف �شكل دولة وممار�سة‬ ‫الإمامة يف �شكل معتقد كالمي‪ .‬وبهذا التحرير لن تعود ممار�سة ال�سلطة‬ ‫اغت�صاب ًا ملقام الإمامة بل حتقيق ًا حقيقي ًا للغاية من فكرة الإمامة‪� ،‬أو‬ ‫للحد الأدنى من حقيقتها‪ ،‬واحلد الأدنى هو رفع اال�ستبداد‪.‬‬ ‫ما قوام هذه ال�سلطة التي غايتها �إقامة النظام؟ وهل تلتقي مع الغاية‬ ‫‪126‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:16‬‬

‫تنبيه الأمة‪.‬‬

‫‪339‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 339‬‬


‫من �إقامة الإمامة؟ يجيبنا النائيني "ويتق ّوم هذا النوع من ال�سلطة‬ ‫بالوالية والأمانة‪ ،‬ولذا فهو ك�سائر الأمانات والواليات م�شروط بعدم‬ ‫التجاوز ومقيد بعدم التفريط‪ ،‬والعامل الذي يحفظ هذا النوع ويحول‬ ‫دون انقالبه �إىل مالكية مطلقة ويردعه عن التعدي والتجاوز �إمنا هو‬ ‫املراقبة واملحا�سبة وامل�س�ؤولية الكاملة‪ ،‬ولذا اعتربت الع�صمة يف مذهبنا‬ ‫نحن مع�شر الإمامية ً‬ ‫�شرطا يف الو ّ‬ ‫يل‪ ،‬فهي �أعلى درجة مت�صورة يف مقام‬ ‫‪127‬‬ ‫حفظ الأمانة واحليلولة دون اال�ستبداد وحتكيم ال�شهوات"( )‪.‬‬ ‫الع�صمة بهذا املفهوم املتحرر من اجلدل العقائدي الالهوتي‪،‬‬ ‫لي�ست �شيئ ًا م�ضاد ًا ملفهوم �أهل احلل والعقد الذي يتبناه �أهل ال�سنة‪،‬‬ ‫فالغاية املتيقنة من املفهومني‪ ،‬هي رفع اال�ستبداد "و�أما مبقت�ضى مذهب‬ ‫مع�صوما‪ ،‬وال‬ ‫�أهل ال�سنة‪ ،‬حيث مل ي�شرتطوا يف الوايل مطل ًقا �أن يكون‬ ‫ً‬ ‫�أن يكون من�صو ًبا من قبل اهلل �سبحانه وتعاىل‪ ،‬بل يكفي فيه �إجماع �أهل‬ ‫احلل والعقد‪ ،‬ف�إن درجة احلد من اال�ستبداد الناجتة عن هذا الر�أي‪،‬‬ ‫و�إن كانت ال تبلغ ما يقت�ضيه مذهبنا‪� ،‬إال �أن عدم تخطي الوايل الكتاب‬ ‫وال�سنة النبوية هو من ال�شروط التي اعتربوها الزمة الذكر يف نف�س‬ ‫عقد البيعة عندهم‪ .‬و�أقل عمل نا�شئ عن ميل �أو هوىً يعدونه خمال ًفا‬ ‫حينئذ لعزله"(‪.)128‬‬ ‫للمن�صب‪ ،‬واتفقوا على الت�صدي ٍ‬ ‫هكذا تتحرر الع�صمة من �سجون املقوالت العقائدية‪ ،‬والتغييبات‬ ‫الدنيوية ملعتنقيها‪ ،‬وتتقرب من مفاهيم الع�صر(الدولة والقانون‬ ‫والد�ستور) ومفاهيم الفرقاء العقائديني (�أهل احلل والعقد)‪ ،‬هكذا‬ ‫حفظ النائيني للأ�صل بي�ضته العقائدية‪ ،‬وللدولة بي�ضتها الد�ستورية‪.‬‬ ‫وبهذا تتحرر ال�سلطة يف ن�ص النائيني من كونها �سنية �أو �شيعية وت�صبح‬ ‫�إ�سالمية ''وعلى هذا الأ�سا�س ف�إن ال�سلطة الإ�سالمية البد �أن تتحدد بعدم‬ ‫‪127‬‬ ‫‪128‬‬

‫‪340‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:16‬‬

‫امل�صدر نف�سه‪.‬‬ ‫امل�صدر نف�سه‪.‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 340‬‬


‫اال�ستئثار واال�ستبداد كحد �أدنى‪ ،‬مع غ�ض الطرف عن �أهلية املت�صدي‬ ‫وما يلزمه من الع�صمة وغريها من الأمور التي يخت�ص بها مذهبنا‪ ،‬ف�إن‬ ‫هذا هو القدر املتيقن بني الفريقني واملتفق عليه من قبل الأمة"(‪.)129‬‬ ‫بل وتتحرر ال�سلطة من عقدة االغت�صاب التي ث َّبت تهمتها الفقهاء طيلة‬ ‫قرون الغيبة الطويلة‪ ،‬لقد ظل مفهوم االغت�صاب يعمل يف �أذهان الفقهاء‬ ‫كخطيئة ال ميكن اقرتافها‪ ،‬ومن يجر�ؤ على ممار�سة هذه اخلطيئة‬ ‫مبمار�سة ال�سلطة ف�إنه يف احلقيقة يكون قد اغت�صب مقام الإمام‬ ‫املهدي‪ .‬هكذا حرر النائيني بجر�أته يد الأمة ال�سوداء من ا�ستبداد هذا‬ ‫املفهوم الت�أثيمي‪ ،‬وهذا التحرير ميثل (احلد الأدنى) وهو ما يحتاج �إليه‬ ‫النا�س يف واقعهم املبتلى باال�ستبداد‪.‬‬

‫‪129‬‬

‫ص ‪02/02/2010 10:00:16‬‬

‫امل�صدر نف�سه‪.‬‬

‫‪341‬‬

‫‪3dairy out of old dairy.indd 341‬‬


3dairy out of old dairy.indd 342

02/02/2010 10:00:16 ‫ص‬


Issuu converts static files into: digital portfolios, online yearbooks, online catalogs, digital photo albums and more. Sign up and create your flipbook.