Phoenician Bird Feb 2019

Page 1

‫طائر الفينيق‬ ‫جوهرة اإلنسان‬ ‫د‪.‬حسن فرحات‬

‫س ّجل‬

‫د‪.‬هويدا رشيف‬

‫وداعاً يا حمد‬ ‫عمر شبيل‬

‫إدارة مكافحة اإلرهاب بني الفاعلية واملسؤولية‬

‫د‪.‬ماغي عبيد‬

‫كشف املسار الغامض لوباء الكولريا يف اليمن‬

‫شمسه القحطاين‬

‫األول من يناير األمازيغي وأسطورة العجوز‬ ‫سليمة مليزي‬


‫‪70‬‬ ‫ينابيع الذات ‪ ..‬ينابيع القصيدة‬ ‫«أي خبز فيك يا هذا‬ ‫قراءة يف «مجموعة عمر شبيل الشعريّة ّ‬ ‫املطر»‬ ‫د‪ .‬محمد محي الدين‬ ‫‪74‬‬ ‫وداعاً يا حمد‬ ‫بقلم عمر شبيل‬ ‫‪102‬‬ ‫س ّجل‬ ‫د‪ .‬هويدا رشيف‬ ‫‪108‬‬ ‫غافياتٌ جفوين‬ ‫‪All rights reserved. Copyright held by HSF Media Inc.‬‬ ‫د‪.‬رياض الدليمي‬ ‫‪2019. No reproduction, copying or pasting without‬‬ ‫‪expressed consent from HSF Media Inc. For permission‬‬ ‫‪112‬‬ ‫@‪or writing oppurtunities please contact: submissions‬‬ ‫العمر املعتّق‬ ‫‪ya7elweenmagazine.com‬‬ ‫فاطمة البزال‬ ‫‪Magazine Founder: Dr. Hassan A Farhat MD‬‬ ‫‪Co-Founder: April Khan‬‬ ‫‪116‬‬ ‫‪Chief Content Manager: Dinah Rashid‬‬ ‫إىل ظبي ُة الظبيات‬ ‫‪Senior Arts Director: Saood Mukhtar‬‬ ‫رشا طالب‬ ‫رئيس التحرير ‪ :‬الدكتور حسن فرحات‬ ‫‪118‬‬ ‫لساميئ نجوى‬ ‫نبال رعد ‪ /‬بدنايل‬ ‫‪120‬‬ ‫ثوب الحياة‬ ‫زينة الجوهري‬ ‫‪124‬‬ ‫ظالل املساء‬ ‫أمية الوزاين*‬ ‫‪126‬‬ ‫كشف املسار الغامض لوباء الكولريا يف اليمن‬ ‫بقلم الكاتبة‪ :‬شمسه القحطاين ( اإلمارات العربية املتحدة)‬ ‫‪132‬‬


‫جوهرة اإلنسان‬ ‫د‪ .‬حسن فرحات‬ ‫رئيس التحرير‬ ‫‪4‬‬ ‫إدارة مكافحة اإلرهاب بني الفعالية واملسؤولية‪.‬‬ ‫الربوفسرية‪ :‬ماغي حسن عبيد\ لبنانية‪.‬‬ ‫أستاذة وباحثة جامعية\ كلية االداب والعلوم اإلنسانية_الفرع‬ ‫الرابع‪.‬‬ ‫‪8‬‬ ‫الفلسقة التحليلية‪ :‬خواء امليتافيزيقا والعالج اللغوي‬ ‫د‪.‬عبده شحيتيل‬ ‫‪18‬‬ ‫الوجود والعدم‪..‬‬ ‫جدلية عاشها شعراء ماقبل اإلسالم‪..‬يف أشعارهم‬ ‫د‪.‬غيثاء عيل قادرة*‬ ‫‪38‬‬ ‫الخطيئة لنرسين بلوط‪ ...‬خطيئة التاريخ والحارض‬ ‫د‪ .‬دريّة كامل فرحات‬ ‫‪42‬‬ ‫هي األغنية الحزينة املنسية‬ ‫د‪ .‬هويدا رشيف‬ ‫‪46‬‬ ‫االول من يناير االمازيغي و أسطورة العجوز ‪..‬؟‬ ‫بقلم سليمة مليزي*‬ ‫‪50‬‬ ‫نصوص الكشف وأنساق املأساة‬ ‫قراءة يف نصوص الشاعر حامد خضري الشمري‬ ‫جبار الكواز‬ ‫‪56‬‬ ‫شجرة معتكفة يف أرض الحب والشعر‬ ‫من مق ّدمة «إيقاعات متم ّردة»‪ -‬دراسة‬ ‫بقلم الشّ اعرعمر شبيل‬ ‫‪66‬‬ ‫لوال القرشة لفسد اللب‬

‫ا‬ ‫مل‬ ‫ح‬

‫ت‬ ‫و اي‬

‫ت‬



‫‪ ‬‬

‫جوهرة اإلنسان‬

‫ا‬ ‫ف‬ ‫تتا‬

‫ح ةي‬

‫د‪ .‬حسن فرحات‬ ‫رئيس التحرير‬ ‫كل ما الحت في األفق بوادر األمل في نفوس المؤمنين والمخلصين‪ ‬يعمد الذين ال يملكون ضميرا ً حيا ً‬ ‫إلى التقليل من هذا الشأن الذي ال شك أنه إذا سلك طريقه السليم إلى القلوب المفعمة بالحب للحياة وللذات‬ ‫ولآلخرين ‪ ،‬عندها يصبح األمل هو حبل النجاة من المآسي واآلالم ‪ ‬التي تعصف في عالمنا الواسع والشاسع‬ ‫ّ‬ ‫ولكن هناك شيئا ً ‪ ‬واحدا ً ‪ ‬مشتركا ً ‪ ‬بين سكان هذا‬ ‫والذي يحتوي على كل التناقضات والتجاذبات البشرية‬ ‫الكون أال وهو العقل الذي يبقى ‪ ‬هو األساس في تحديد ك ِّل شيء ‪ ‬نفعله في حياتنا اليومية ‪ ‬بإدراك منَّا أو‬ ‫بدونه ‪.‬‬ ‫حلّي بالصبر عند مواجهة الصعاب ‪ ،‬وأن ‪ ‬ال نتخذ قرارات متسرعة وخاطئة دون‬ ‫علينا دائما ً الت َّ ِ‬ ‫ي ِ ومتسر ّ‬ ‫عِ ‪ ‬وبعي ٍد‬ ‫إفساح المجال للعقل لكي يطلع عليها ويحللها قبل الشروع بإصدار رأي عفو ّ‬ ‫ك ّل البعد عن المنطق ‪ ،‬والحقيقة ‪ ‬الواحدة التي ال تتجزأ بحكم هذا العقل‪ ‬الذي يشكل حبل النجاة من‬ ‫محصن‬ ‫الظلمات ‪ ‬التي تحيط بِنَا والتي قد تشوش فكر اإلنسان ال شعوريا ً وخاصة إذا كان هذا الكائن غير‬ ‫ٍ‬ ‫ثقافيا ً ‪ ‬وفكريا ً ‪ ‬وأخالقيا ً وإنسانيا َ وإيمانيا ً ‪ ،‬وهو عرضة لكل أساليب الخداع المتنوعة والكثيرة ‪ ‬في‬ ‫عالمنا المتطور في كل شيء إال ‪ ‬في نشر الوعي ‪ ‬المعنوي والثقافة الثابتة ‪ ‬والدقيقة والشاملة التي من‬ ‫شأنها جعل ‪ ‬هذا العنصر البشري ْ‬ ‫‪ ‬من يحددُ ‪ ‬خياراته اليومي والمستقبلية دون ضغوطات خارجية ‪ ‬غير‬ ‫واقعية ‪ ‬وغير منطقية ‪ ‬والبعيدة ‪ ‬ك َّل البعد عن جوهر الثقافة ‪ ‬العامة ‪ ‬والمستقلة ‪ ‬بذاتها عن أية تأثيرات‬ ‫سلبية ‪ ‬تنبعث من غزارة المعلومات المتوفرة ‪ ‬في عالم المعلوماتية ‪ ‬وعدم توفر الرقابة المستقلة ‪ ‬عليها ‪.‬‬ ‫علينا دائما قدر المستطاع أن ال نحكم على الظاهر‪ ،‬بل علينا محاولة الغوص عميقا ً في عقول اآلخرين‬ ‫لالطالع على ما يجول في داخلها حتى ال نخطئ ‪ ‬في إرسال رسالتنا ‪ ،‬وإلى مدى تقبل هذه العقول لألفكار‬ ‫التي نحملها إلى اآلخر ‪ ‬الذي ‪ ‬نجهله ‪ ‬ويجهلنا ‪ ‬في أغلب األحيان ‪.‬‬ ‫إن عدم التواصل مع اآلخرين من خالل ‪ ‬األفكار التي نحملها ‪ ‬والتي يحملها اآلخر ال يو ِلّد رؤية واضحة‬ ‫وواقية للمستقبل الذي‪ ‬علينا جميعا ً إظهاره ‪ ‬بالشكل األفضل والمناسب ‪ ‬لنا ولألجيال ‪ ،‬حيث أن إظهار‬ ‫سلب ‪ ‬منها عمدا ً أو عن غير قص ٍد ‪ ‬من‬ ‫جمالية الكون المستقبلية تبعث األمل في النفوس المتعطشة ‪ ‬له ‪ ‬النه ُ‬ ‫أجل تمرير أفكار ورؤى ‪ ‬غير واقعية وغير منطقيه وغير إيمانية بل كلها مجرد أفكار مبعثرة ومشتتة ال‬ ‫تقيم وزنا ً لآلخر وال إلى عقله الذي تغزوه هذه األفكار وتجعله ‪ ‬مشتتا ً بين عقله الذي لم يدرك مرحلة الوعي‬ ‫الكافي إلدراكه األمور وتحليلها علميا ً وبين ‪ ‬األفكار التي تأتيه دون رقابة عليها ‪ ،‬فتجعل منه كائنا ً عالقا ً‬ ‫بينها ‪ ‬وبين أفكاره التي لم تبلغ مرحلة النضوج الفكري والعلمي واإليماني ‪...‬‬


‫ال أريد إطالة الكالم عن أهمية وماهية العقل البشري في تحديد أمور‪ ‬الحياة وتصويبها باالتجاه‬ ‫الصحيح ‪، ‬حيث ّ‬ ‫علم وال علم دون عقل‪..‬إذا رجعنا إلى‬ ‫أن العقل‬ ‫مواز للعلم ‪ ،‬إذا ليس هناك عق ٌل دون ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫نظريات العقل عند الفالسفة ‪ ،‬نرى ْ‬ ‫ع ‪ ‬في كيفية تصنيف العقل ‪ ‬وكيف يعمل ‪ .‬إذا رجعنا‬ ‫أن ليس هناك أجما ٌ‬ ‫إلى فالسفة اليونان القدامى كأرسطو ‪ ‬الذي حدد معنى العقل بأنّه جوهر قائم بنفسه ‪ ،‬وهو أنواع متعددة مثل‬ ‫‪:‬العقل الهيوالني ( القوة)‪ ،‬والعقل الفعَّال‪ ،‬والعقل بالفعل ( النفس الناطقة )‪ ،‬وهناك العقل المستفاد والعقل‬ ‫المطلق ‪...‬‬ ‫سم العقول إلى ثالثة أنواع ‪ :‬العقول البرهانية ‪ ،‬والعقول المنطقية ‪ ،‬والعقول الني تستجيب‬ ‫أما أبن رشد فـقد ق ّ‬ ‫فيرد على الفالسفة منكرا ً عليهم هذا التصنيف‪ ‬المعطى‬ ‫للوعظ واألدلة الخطابية ‪ ..‬أما أبو بكر العربي ّ‬ ‫للعقول ‪ ،‬مستطردا ً أن األشياء والمدركات تس َّمى في نظره علما ً ال عقال ‪ :‬حيث قال تعالى ‪ّ »-:‬‬ ‫إن في ذلك‬ ‫آلية لقوم يعلمون «‪ ،‬كما أطلق عليها عقالً بقوله ؛‪ :‬إن في ذلك آلية لقوم يعقلون « وقد ورد عن ‪ ‬اإلمام علي‬ ‫( ع) ‪ ‬قوله ‪ ‬في هذا المجال من ّ‬ ‫ع«‬ ‫ع ‪ ‬ومطبو ٌ‬ ‫أن ‪ ‬العقل عقالن ‪ ،‬مسمو ٌ‬ ‫ث واستنتا ٌج لمفهوم العقل ‪ ‬أقول َّ‬ ‫الربانية ‪ ‬التي أودعها هللا في داخل‬ ‫خالصةُ البح ِ‬ ‫سر العلوم َّ‬ ‫إن العقل ‪ ‬هو ُ‬ ‫‪ ‬الربانيّة ‪ ‬والمكتسبة ‪ ،‬إذا ً ليس هناك‬ ‫الدماغ البشري ‪ ‬حتى ‪ ‬يدرك اإلنسان ‪ ‬الخالق َ من خالل ‪ ‬هذه العلوم ِ ّ‬ ‫علم وال عل ٌم دون عق ٍل ‪ .‬‬ ‫عق ٌل سلي ٌم ‪ ‬دون ٍ‬ ‫وأختتم مقالي في التأكيد على ضرورة تحكيم العقل في حياتنا اليومية وتهيئة العناصر الضرورية له‬ ‫ي للدماغ ‪ ، ‬واكتساب ‪ ‬المعرفة من خالل العقل المتطور‬ ‫ي ‪ ‬والنق ّ‬ ‫من جسم سليم وقلب ‪ ‬يضخ الدم الصاف ّ‬ ‫ق‪ ،‬إ ْق َرأْ‬ ‫سان ِ‬ ‫‪ ‬م ْن َ‬ ‫والعلوم ‪ ، ‬قال هللا ‪ ‬تعالى في سورة العلق ‪ « :‬إ ْق َرأْ ِ‬ ‫الن َ‬ ‫باسم َ‬ ‫علَ ٍ‬ ‫‪ ‬ر ِبّ َك الَّذِي ‪َ ‬خلَقَ ‪َ ،‬خلَقَ ْ ِ‬ ‫َو َرب َُّك ْ‬ ‫سان َما لَ ْم يَ ْعلَ ْم ‪ « ‬لكي يأخذَ ‪ ‬العق ُل على عاتقته ‪ ‬إدارة ً ‪ ‬معرك ِة ‪ ‬‬ ‫علَّ َم با ِْلقَلَم‪َ ،‬‬ ‫‪ ‬ال ْك َرم ُ ‪ ،‬الَّذِي َ‬ ‫الن َ‬ ‫علَّ َم ْ ِ‬ ‫النفس والمحيط ‪ ..‬علينا أالّ نفقد األمل وأختتم مقالي بهذا القول الشهير من قصيدة « المية‬ ‫الصراعِ ‪ ‬بين‬ ‫ِ‬ ‫العجم» للطغرائي‪:‬‬

‫النفس باآلما ِل أرقبُها‬ ‫«أع ِلّ ُل‬ ‫َ‬

‫العيش لوال فسحةُ األم ِل»‬ ‫أضيق‬ ‫ما‬ ‫َ‬ ‫َ‬




‫إدارة مكافحة اإلرهاب بين الفعالية والمسؤولية‪.‬‬

‫البروفسيرة‪ :‬ماغي حسن عبيد\ لبنانية‪.‬‬

‫أستاذة وباحثة جامعية\ كلية االداب والعلوم اإلنسانية_الفرع الرابع‪.‬‬

‫ف‬ ‫ل‬ ‫س‬

‫فة‬

‫تكمن فائدة الفلسفة في كونها تعلم الوعي باهلل والذات والوجود‪،‬إذ إن في حضورها حضور للعقل والمقاومة والحرية؛‬ ‫ـاءل متســائل ِلـ َـم تغــزو حــركات اإلرهــاب عالمنــا العربــي اليــوم؟ لعــل‬ ‫وفــي غيابهــا حضــور للتخلــف والهمجيــة واإلرهــاب؛ قــد يتسـ َ‬ ‫الســبب فــي ذلــك يرجــع إلــى أن بعضـاً مــن الــدول العربيــة كانــت قــد عمــدت إلــى إلغــاء تعليــم مــادة الفلســفة مــن مناهجهــا التعليميــة‬ ‫التربويــة علــى اعتبــار أن الفلســفة زندقــة‪ ،‬والزندقــة كفــر‪ ،‬وكل كفــر ضــال وكل ضــال إلــى النــار متناســين أن الشــعب الــذي ال‬ ‫يتفلســف هــو شــعب إلــى المــوت أقــرب‪ ،‬واألمــة التــي ال تنتــج فالســفة مصيرهــا الــزوال والفنــاء‪ .‬ونحــن فــي عالمنــا العربــي ‪ ،‬مــا‬ ‫أحوجنــا اليــوم إلــى فلســفة نتخــذ فيهــا العقــل هاديـاً ومرشــداً ليخلصنــا مــن العنــف والعبوديــة‪ ،‬الجهــل واألميــة‪ ،‬التعصــب والطائفيــة!‬ ‫فنعمــل بوحــي التفكيــر الفلســفي الــذي يحررنــا مــن المذهبيــة والقبليــة والعشــائرية‪ ،‬وينقذنــا مــن الذهنيــة الميليشــيوية بحيــث نصبــح‬ ‫أســياد أنفســنا ال عبيداً مســتزلمين لقائد أو زعيم‪.‬‬

‫مــا أحوجنــا لفلســفة تنقذنــا مــن حروبنــا وتعيــد إلينــا ســامنا‪ ،‬ومــا أحوجنــا لفالســفة يعيــدون لألمــة العربيــة مظهرهــا‬ ‫ـدي‬ ‫الحضــاري وحضورهــا المنتــج والفاعــل‪ .‬مــن هنــا‪ ،‬وإيمان ـاً منــي بأهميــة الفلســفة كضــرورة حتميــة فــي مجتمعاتنــا توّلــد لـ ّ‬ ‫التســاؤل اآلتــي‪ :‬كيــف لنــا أن نعمــل علــى إدارة مكافحــة اإلرهــاب بيــن الفعاليــة والمســؤولية؟‪ ،‬وســنحاول ولــوج هــذه اإلشــكالية‬ ‫مــن خــال العناويــن اآلتيــة‪:‬‬ ‫أوالً‪ :‬مســوغات البحــث‪ :‬تكمــن أهميــة هــذا البحــث فــي كونــه يســليط الضــوء علــى كيفيــة إدارة أزمــة اإلرهــاب ومكافحتــه‬ ‫لــذا‪ ،‬ال بــد مــن لفــت انتبــاه العامليــن والمنظريــن‪ ،‬واألكاديمييــن والعســكريين وكل مــن يهمــه الموضــوع إلــى أن ال خــاص مــن‬ ‫اإلرهــاب إال بالتغييــر الــذي يتطلــب فنـاً فــي كيفيــة التفكيــر‪ ،‬وبــأن يكــون لنــا منهجيــة فلســفية واضحــة المعالــم تعمــل علــى تفكيــك‬ ‫أزمــة اإلرهــاب وتقويضهــا‪ ،‬مســتندين فــي ذلــك إلــى المنهجيــن التحليلــي والجدلــي‪ ،‬بغيــة تفكيــك األزمــة وإخضاعهــا للد ارســة‬ ‫التفصيليــة‪ ،‬وعــدم إهمــال أســبابها‪ ،‬والوصــول إلــى نتائجهــا‪.‬‬ ‫أوالً_ إشــكالية الالتعريــف والتعريــف باإلرهــاب‪ :‬تكثــر اآلراء فــي تعريــف اإلرهــاب‪ ،‬تتفــق حين ـاً وتختلــف حين ـاً‪ ،‬وتبقــى‬ ‫ ‬ ‫الواليــات المتحــدة األمريكيــة الباعــث األول علــى الوقــوف فــي وجــه أي تعريــف مقبــول علــى الســاحة الدوليــة‪ ،‬فقــد أمــاط اللثــام‬ ‫روبــرت فريدالنــر‪ Robert Friedlander‬عــن أنــه طيلــة فت ـرة عهــد ريغــان التــي جعلــت مكافحــة اإلرهــاب حجــر الزاويــة‬ ‫فــي سياســتها الخارجيــة ومنــذ اليــوم األول لــإدارة فــي الحكــم‪ ،‬كان موقــف و ازرة العــدل‪ ،‬ومكتــب التحقيقــات الفيد ارلــي‪ ،‬ومكتــب‬ ‫المستشــار القانونــي فــي و ازرة الخارجيــة موقــف المعــارض بشــدة إلدخــال أي تعريــف لإلرهــاب‪ ،‬محلي ـاً أو دولي ـاً‪ ،‬فــي صلــب‬ ‫القانــون‪.‬‬ ‫وقــد تـ ّـم هــذا الموقــف الرســمي للواليــات المتحــدة علــى نحــو آخــر مــن قبــل القاضــي أب ارهــام د‪.‬صوفيــر‪Abraham D.‬‬ ‫ ‬ ‫‪ Sofaer‬المستشــار القانونــي لــدى و ازرة الخارجيــة حينمــا مثــل أمــام اللجنــة الفرعيــة الدســتورية فــي مجلــس الشــيوخ بتاريــخ ‪5‬‬ ‫تشـرين الثانــي مــن عــام ‪ ،1985‬وذلــك رداً علــى سـؤال الذع مــن قبــل الســناتور أوريــن ج‪ .‬هاتــش ‪ Orin G.Hatch‬ممثــل‬ ‫واليــة أوتــاوه ‪ Utah‬إذ اعتــرف بــكل ص ارحــة أن و ازرتــه لــم تكــن راغبــة فــي تطويــر التعريــف‪ ،‬وفــي مقالــه المنشــور تحــت عنـوان‬ ‫«اإلرهــاب والقانــون» ينتقــي صوفيــر دول العالــم الثالــث معتب ـ اًر إياهــا الســبب الوحيــد لهــذا النقــص واإلنح ـراف(‪ )1‬كمــا أن‬ ‫ممارســات الــدول األكثــر قــوة مثــل الواليــات المتحــدة األمريكيــة والمملكــة المتحــدة البريطانيــة‪ ،‬وإسـرائيل هــي التــي تجعــل وضــع‬ ‫أي تعريــف لإلرهــاب أمـ اًر غيــر ممكــن‪ ،‬فطبقـاً لممارســة الواليــات المتحــدة يعنــي اإلرهــاب أي عنــف مثيــر للرهبــة ُيرتكــب مــن‬ ‫قبــل غيــر مواطنــي الواليــات المتحــدة أو مــن أجنبــي غيــر مقيــم فيهــا بشــكل دائــم‪ ،‬وبطريقــة مشــابهة‪ ،‬كمــا يلفــت ألفــرد روبيــن‬ ‫‪ Alfred Rubin‬نظرنــا إليهــا بــذكاء فــي ‪ »:‬إيرلنــدا الشــمالية‪ ،‬اســتعملت الســلطات البريطانيــة مصطلــح اإلرهــاب ليطبــق‬ ‫عمليـاً علــى أي عنــف تحركــه بواعــث سياســية ممــا ينطبــق عليــه قانــون إيرلنــدا الشــمالية‪ :‬إنــه يحمــل معــه نتائــج قانونيــة‬ ‫خاصــة طبق ـاً لفــرع القانــون الجنائــي البريطاني‪...‬وفــي إس ـرائيل يبــدو بــأن مصطلــح اإلرهــاب ُيطبــق عملي ـاً علــى منظمــة‬ ‫التحريــر الفلســطينية وأعضائهــا فــي أنشــطتهم دون أي معيــار آخــر‪ .‬ومهمــا يكــن مــن أمــر حينمــا ال ينطــوي األمــر علــى‬ ‫تســليم المجرميــن إلــى إسـرائيل‪ ،‬يبــدو بــأن قانــون إسـرائيل الداخلــي يحتــوي علــى بــاب خــاص باإلرهابييــن مشــابه للقانــون‬ ‫البريطانــي فــي إيرلنــدا الشــمالية‪ ،‬يميزهــم عــن المجرميــن العادييــن‪ .‬فــإذا كان روبيــن يعنــي أن لمصطلــح اإلرهــاب معنــى‬ ‫مزدوجـاً فــي ممارســة الواليــات المتحــدة القانونيــة‪ ،‬فــإن هــذا أمــر مقبــول بالتالــي‪ )2(».‬وعليــه تكمــن المشــكلة الرئيســية فــي‬ ‫جرمتهــا‬ ‫تعريــف اإلرهــاب بدرجــة معينــة مــن الوضــوح والدقــة فــي أنــه‪ ،‬كمــا يشــير ليليــش ‪ Lillich‬قائـاً ‪ »:‬جملــة مــن األفعــال ّ‬


‫اللبنانــي والعربــي والعالمــي الــذي يصــر علــى وصــف أمريــكا وإسـرائيل بالــدول اإلرهابيــة‪ ،‬وبخاصــة األخيـرة التــي تحتــل األ ارضــي‬ ‫العربيــة مــن فلســطين إلــى الجـوالن والجنــوب اللبنانــي‪ ،‬حيــث أن إسـرائيل هــي مــن تبــادر إلــى افتعــال الحــروب والمعــارك وفتــح‬ ‫الجبهات فاإلرهاب اإلسـرائيلي هو شــكل من أشــكال الحروب التي تمارســها إسـرائيل ضد العالم العربي‪ ،‬وهي تســتخدم عنفها‪،‬‬ ‫مهــددة بافتعــال الحــروب بغيــة تحقيــق أهدافهــا اإلســتراتيجية والسياســية‪ ،‬مســتخدم ًة القتــل العمــد والمنظــم الــذي يهــدد األبريــاء مــن‬ ‫الفلســطينيين واللبنانييــن‪ ،‬ملحقـاً األذى بهــم‪ ،‬لكــن اإلشــكالية تبقــى أنــه علــى الرغــم مــن أن إسـرائيل هــي التــي تفتعــل الحــروب‬ ‫وتبــادر إلــى العــدوان إال أنهــا تجنــد بعــض وســائل اإلعــام الغربــي لوصــف العمليــات الثوريــة الفدائيــة اللبنانيــة والفلســطينية‬ ‫مــن أجــل التحريــر والتغييــر بصفــة العمليــات اإلرهابيــة‪ ،‬وهــذا مــا يكشــف لنــا البعــد اإليديولوجــي الكامــن وراء مفاهيــم وتعريفــات‬ ‫وأشــكال اإلرهــاب‪.‬‬ ‫ ‬ ‫ثاني ـاً_ جدليــة اإلرهــاب والمقاومــة ‪ :‬فــي خضــم ضجيــج الحملــة حــول اإلرهــاب واإلرهــاب المضــاد‪ ،‬ترســم‬ ‫ ‬ ‫الجمعيــة العامــة لألمــم التحــدة خطـاً فاصـاً بيــن المقاومــة أو مــا ُيعــرف بالنضــال السياســي والعســكري الــذي تخوضــه حــركات‬ ‫المقاومــة وحــركات التحــرر الوطنــي مــن جهــة‪ ،‬وبيــن اإلرهــاب مــن جهــة أخــرى‪.‬‬ ‫إن النضــال المس ـّلح ضــد اإلحتــال أو الســيطرة األجنبيــة أو العنصريــة‪ ،‬باعتبــاره مظه ـ اًر للحــق الثابــت فــي تقريــر‬ ‫ ‬ ‫مكرس في قوانين إتفاقية جنيف لعامي ‪1949‬و‪،1977‬‬ ‫المصير‪ ،‬هو نضال مشروع من وجهة نظر القانون الدولي كما هو ّ‬ ‫وعــل عكــس ذلــك فــإن أيــة مســاعدة تقدمهــا دولــة أو دول أخــرى لــدول ظالمــة‪ ،‬أو محتلــة‪ ،‬أو مســيطرة أو معتديــة هــو عمــل‬ ‫غيــر مشــروع مــن أعمــال التواطــؤ أو المشــاركة فــي الجريمــة هــذا مــا ألمــح إليــه المشـ ِّـرع والقانونــي رئيــس مجلــس النـواب اللبنانــي‬ ‫دولــة األخ الرئيــس نبيــه بـ ّـري مؤكــداً ‪ »:‬إذن‪ ،‬خيــط رفيــع أيهــا األخــوة بيــن اإلرهــاب والمقاومــة يجــب أن ال نتجــاوزه‪ ،‬ولنــا مــن‬ ‫تعاليــم ديننــا العظيــم الهدايــة والهــدى فــي التمييــز وســلك الصـراط المســتقيم‪ ،‬ولتعلــم إسـرائيل أننــا ســنقاتلها بــكل مــا ملكــت‬ ‫أيدينــا وأول ذلــك إيماننــا بأنهــا غاصبــة وأن قتالهــا ديــن بحــد ذاتــه‪ )11(».‬فبالنســبة للرئيــس بـ ّـري إن الجيــش اإلس ـرائيلي‪،‬‬ ‫وحتــى فــي الماضــي القريــب قبــل تحريــر الجنــوب اللبنانــي كان يقــوم بــكل األعمــال التــي تتنافــى مــع الشــرع واألعـراف والقوانيــن‬ ‫الدوليــة‪ ،‬فمــن تحريــض جيــش لبنــان الجنوبــي الخاضــع للســيطرة اإلس ـرائيلية علــى ارتــكاب الفظائــع والتعــرض للمدنييــن‪ ،‬إلــى‬ ‫عمليــات القصــف التــي كانــت تطــال المدنييــن وتحــدث الخســائر الفادحــة فــي حقوقهــم‪ ،‬إلــى عمليــات القصــف التــي كانــت‬ ‫تســتهدف المخيمــات الفلســطينية أو العمليــات التــي كانــت تســتهدف المؤسســات العامــة مــن محطــات كهربــاء ومستشــفيات‬ ‫وجســور وطرقــات‪ ،‬وتســعى إسـرائيل جاهــدة إلــى تهديــد األمــن الوطنــي واإلقليمــي والدولــي دون رقيــب أو حســيب‪ ،‬وفــي كل هــذا‬ ‫كانــت إسـرائيل وحلفاؤهــا الواليــات المتحــدة األمريكيــة وبريطانيــا تعتبــر هــذه األعمــال مــن قبيــل الحــق المشــروع فــي الدفــاع عــن‬ ‫النفــس والوجــود‪.‬‬ ‫تغيــر مــن نفــوس‬ ‫ولعــل المقاومــة بــدأت مــع ســقراط الــذي لــم يكــن متمــرداً وال ثائـ اًر علــى اآللهــة والمدينــة إذ إن الثــورة لــم ّ‬ ‫وعقــول النــاس شــيئاً‪ ،‬وهــدف ســقراط ليــس األشــخاص فــي حــد ذاتهــم إنمــا عقولهــم لــذا هــو يتوجــه إلــى كل النــاس وبخاصــةٍ‬ ‫ّ‬ ‫أولئــك الذيــن يحاكمونــه‪ ،‬ألنــه يؤمــن أكثــر منهــم جميعـاً ولكــن بمعنــى آخــر‪ ،‬فالمقاومــة الســقراطية تتخــذ بعــداً آخــر مــع ســقراط‪،‬‬ ‫وهــو مــا يعنــي تجــاوز المقاومــة العفويــة الســاذجة والدوغمائيــة إلــى مقاومــة فلســفية تتأســس علــى منظومــة قيميــة ســقراطية تنتهــج‬ ‫الحـوار مبــدأ للتفكيــر‪ ،‬وهــذا يعنــي أن ممارســة العنــف يتناقــض مــع مقتضيــات التفكيــر أو مقتضيــات الرســالة الفلســفية الســقراطية‬ ‫وشــعارها المعرفة الذاتية « أيها اإلنســان إعرف نفســك بنفســك»‪ ،‬وبهذا المعنى فالمقاومة عند ســقراط ال يختلف مفهومها عما‬ ‫هــو عنــد الفيلســوف األلمانــي كنــط إنمــا فــي إطــار إبســتيمية أخــرى‪ ،‬إنهــا إبســتيمية جوهرهــا األنـوار ورهاناتهــا خــروج اإلنســان‬ ‫عــن قصــوره عبــر التجــرؤ علــى اإلســتخدام الذاتــي للعقــل دون إرشــاد الغيــر‪ ،‬وهــو اســتخدام يســتلزم التــدرب والتــدرج وإن حصلــت‬ ‫بعــض األخطــاء فــي المحــاوالت األولــى فــإن القــدرة علــى التفكيــر الذاتــي ممكنــة رغــم كل شــيء‪ ،‬بغيــة تحويــل كل فــرد إلــى‬ ‫مواطــن فــي دولــة عالميــة تشــمل البشـرية بأكملهــا‪ ،‬أو فــي تحقيــق اتحــاد فد ارلــي يجمــع الــدول صغيرهــا وكبيرهــا‪ ،‬وفكـرة الفدراليــة‬ ‫هــي التــي ســتقود حتمـاً إلــى تحقيــق الســام األبــدي(‪.)12‬‬

‫يرفــض كنــط أحقيــة الفــرد فــي مقاومــة الســلطة السياســية إالّ ‪...»:‬حيــن تكــون النظــم فاســدة‪ ،‬فإنــه يكــون مــن حــق‬ ‫ ‬ ‫الشــعب إصالحهــا بالقــوة‪ ،‬وارتــكاب الظلــم مـّـرة واحــدة‪ ،‬إبتغــاء تأســيس العدالــة علــى نحــو وطيــد وجعلهــا تزدهــر‪،)13(».‬‬ ‫ألنــه ال يمكــن فعلي ـاً أن يتضمــن الدســتور أي بنــد يســمح لســلطة بــأن تقــاوم القائــد األعلــى للدولــة فــي صــورة خرقــه للقوانيــن‬ ‫التشـريعية‪ ،‬وفــرض قيــود عليــه‪ ،‬ونتيجــة ذلــك أن الوضعيــة القانونيــة تطــرح مشــكالً فــي إطــار الدولــة القانونيــة‪ ،‬فليــس ثمــة أيــة‬


‫القوانيــن الوطنيــة لمعظــم الــدول‪ ،‬إضافــة إلــى أفعــال‬ ‫معينة‪...‬جرمتهــا إتفاقيــات دوليــة علــى وجــه التخصيــص‪ .‬هكــذا‪ ،‬وخالفـاً‬ ‫ّ‬ ‫لمــا هــو عليــه الحــال بالنســبة لعــدد متزايــد مــن القوانيــن الوطنيــة حيــث ُيعتبــر اإلرهــاب جريمــة بحــد ذاتــه‪ ،‬فــإن الحــال‬ ‫ليــس كذلــك فــي القانــون الدولــي حيــث يبــدو اإلرهــاب مجــرد تســمية أو مظلــة ينضــوي تحتهــا عــدد مــن الجرائــم المعرفــة‬ ‫المحصلــة العامــة‪ ،‬مــاذا يعنــي غيــاب تعريــف لإلرهــاب علــى صعيــد العالقــات الدوليــة؟‪.‬‬ ‫تمام ـاً‪ )3(».‬وفــي‬ ‫ّ‬

‫أليــس مــن الســهل علــى الواليــات المتحــدة األمريكيــة أن تعلــن مثـاً أن قواتهــا العســكرية قــد اشــتبكت مــع وحــدة إرهابيــة‬ ‫ ‬ ‫فــي مــكان مــا‪ ،‬وأنــه قــد تـ ّـم تصفيــة هــذه الوحــدة اإلرهابيــة؟ يبقــى السـؤال مــن هــي هــذه الوحــدة اإلرهابيــة؟ ومــا األعمــال الجرميــة‬ ‫ـاء علــى أي معيــار تـ ّـم توصيــف هــذه األعمــال؟‬ ‫التــي اقترفتهــا؟ وبنـ ً‬

‫الج ـواب ليــس ضروري ـاً‪ ،‬إذ إنــه فــي هــذا الحــل تكمــن مصلحــة الواليــات المتحــدة األمريكيــة أو س ـواها فــي الالتعريــف‬ ‫ ‬ ‫واإلستنســاب‪ ،‬كمــا أنــه تتأمــن مصلحــة القــوى الكبــرى فــي التحــرك حيــث يســهل إلقــاء التهــم وتوجيــه اإلدعــاءات ج ازف ـاً‪ .‬وفــي‬ ‫غيــاب المصلحــة وتطبيق ـاً للقانــون‪ ،‬ومــن أجــل القانــون ال بــد مــن التطــرق لماهيــة اإلرهــاب‪.‬‬ ‫نلحــظ شــكوى عامــة لــدى جميــع المؤلفيــن ممــن انكبـوا علــى د ارســة هــذه الظاهـرة مفادهــا أن مصطلحــات «اإلرهــاب»‬ ‫و «اإلرهابــي» تعانــي مــن الغمــوض كمــا تفتقــر إلــى التحديــد واليقيــن‪.‬‬

‫يذهــب أرنولــد ‪ Arnold‬إلــى ‪ »:‬أن اإلرهــاب ظاهــرة وصفهــا أســهل مــن تعريفهــا‪ )4(».‬فــي حيــن أن القاضــي‬ ‫ ‬ ‫باكســتر‪ Baxter‬كان صريحـاً حيــن قضــى بأنــه ‪ »:‬ليــس لدينــا ســبب يدعونــا إلبــداء األســف ألن مفهومـاً قانونيـاً لإلرهــاب‬ ‫يفــرض فــي وقــت مــن األوقــات فالمصطلــح تعــوزه الدقــة‪ ،‬كمــا أنــه غامــض واألهــم مــن ذلــك كلــه أنــه ال يخــدم غرضـاً قانونيـاً‬ ‫فاع ـاً‪.)5(».‬إن مثــل هــذه المقاربــات ال تجــد لهــا ســنداً فــي أيــة د ارســة علميــة حــول الوضــع الحقوقــي والقانونــي لإلرهــاب‬ ‫الــذي يجــب توصيفــه كظاه ـرة فــي صميــم القانــون الجنائــي وطني ـاً كان أم دولي ـاً‪ ،‬ولعــل القاضــي ســتيوارت ‪ Stewart‬هــو‬ ‫مــن أولئــك الذيــن برهنـوا عــن عجزهــم فــي توصيــف هــذه الظاهـرة بالقــول ‪ »:‬نعــرف الشــيء عندمــا نراه‪...‬قــد ال يكــون المــرء‬ ‫قــاد اًر علــى تعريــف اإلرهــاب ولكنــه يعرفــه حيــن يـراه‪ )6(».‬كذلــك بــرزت النزعــة عينهــا لــدى الكــور الــذي عّلــق بالقــول ‪ »:‬إن‬ ‫ســنوات مــن النقــاش الدائــر حــول علــوم النمــاذج الشــخصية والتعريفــات لــم تــزد معرفتنــا بالموضــوع بدرجــة محسوســة وهــذا‬ ‫كاف لإلســتنتاج بأنــه يمكــن لدراســة اإلرهــاب أن تنجــح فــي تحقيــق الغــرض الــذي ترمــي إليــه‪ ،‬بحــد أدنــى مــن‬ ‫برأيــه مبــرر ٍ‬ ‫النظريــة‪ .)7(».‬القــول إذاً بــأن مصطلــح اإلرهــاب ليــس لــه مضمــون قانونــي محقــق أو دقيــق‪ ،‬أو أنــه ال يوجــد تعريــف قانونــي‬ ‫أو حتــى سياســي مقبــول بوجــه عــام هــو إقـرار بالواقــع‪ ،‬ولكــن هــذا الواقــع هــو الــذي يجــب أن يكــون باعثـاً للمؤسســات العلميــة‬ ‫علــى القيــام ببحــث أكثــر شــموالً وعمق ـاً مــن أجــل التوصــل إلــى فهــم هــذه الظاه ـرة وإلــى تعريــف اإلرهــاب‪ ،‬كمــا أنــه ال يوجــد‬ ‫ســبب يدعــو لإلطــاع بوضــع دليــل بحــث مــن الطـراز األول لإلرهــاب فــي المســتقبل المنظــور؛ فــإن آخريــن وبخاصـ ٍـة المؤلفيــن‬ ‫الموجهيــن علميـاً مــن أمثــال بســيوني وغيـره يجــد أنــه مــن الضــرورة بمــكان الوصــول إلــى تعريــف أو إلــى فهــم مشــترك لمضمــون‬ ‫مصطلــح اإلرهــاب‪.‬‬ ‫يــرى ش ـريف بســيوني وهــو أحــد رواد علــم القانــون فــي حقــل اإلرهــاب أن ‪ »:‬اإلرهــاب هــو اســتراتيجية عنــف محــرم‬ ‫ ‬ ‫دوليـاً‪ ،‬تحفزهــا بواعــث عقائديــة‪ ،‬وتتوخــى إحــداث عنــف مرعــب داخــل شــريحة خاصــة مــن مجتمــع معيــن لتحقيــق الوصــول‬ ‫إلــى الســلطة أو للقيــام بدعايــة لمطلــب أو لمظلمــة بغــض النظــر عمــا إذا كان مقترفــو العنــف يعملــون مــن أجــل أنفســهم‬ ‫ونيابــة عنهــا أم نيابــة عــن دولــة مــن الــدول‪ )8(».‬إن تعريــف بســيوني لإلرهــاب قريــب جــداً مــع مــا ورد ذك ـره عنــد عبــد‬ ‫العزيــز ســرحان الــذي اشــتمل تعريفــه لإلرهــاب علــى اإلســتعمال غيــر المشــروع للقــوة‪ ،‬وهــو كل اعتــداء علــى األرواح واألمـوال‬ ‫والممتلــكات العامــة أو الخاصــة بالمخالفــة ألحــكام القانــون الدولــي العــام بمصــادره المختلفــة‪ ،‬بمــا فــي ذلــك المبــادئ األساســية‬ ‫لمحكمــة العــدل الدوليــة‪ ،‬والعمــل اإلرهابــي ب أريــه يأخــذ الطابــع الدولــي س ـواء قــام بــه فــرد أو جماعــة أو دولــة‪ ،‬ويشــمل العمــل‬ ‫اإلرهابــي التفرقــة العنصريــة التــي تباشــرها بعــض الــدول وال ُيعــد الفعــل إرهابـاً وال يعاقــب عليــه القانــون الدولــي إذا كان الباعــث‬ ‫عليــه الدفــاع عــن الحقــوق المقــررة لألفـراد‪ ،‬وحقــوق اإلنســان أو الشــعوب‪ ،‬وحــق تقريــر المصيــر‪ ،‬والحــق فــي تحريــر األ ارضــي‬ ‫المحتلــة ومقاومــة اإلحتــال‪ ،‬ألن هــذه األفعــال تقابــل حقوقـاً يقررهــا القانــون الدولــي لألفـراد والــدول حيــث يكــون اإلرهــاب متعلقـاً‬ ‫باســتعمال مشــروع للقــوة طبق ـاً ألحــكام القانــون الدولــي اإلتفاقيــة والعرفيــة(‪ )9‬هــذا التعريــف ليــس ببعيــد عمــا ورد ذك ـره عنــد‬ ‫المفكــر اللبنانــي أدونيــس العكــرة الــذي اعتبــر ‪ »:‬اإلرهــاب ظاهــرة سياســية قوامهــا ن ـزاع عنيــف يرمــي الفاعــل بمقتضــاه‪،‬‬ ‫وبواســطة الرهبــة الناجمــة عــن العنــف إلــى تغليــب رأيــه السياســي أو إلــى فــرض ســيطرته علــى المجتمــع أو الدولــة مــن‬ ‫أجــل المحافظــة علــى عالقــات إجتماعيــة عامــة أو مــن أجــل تغييرهــا أو تدميرهــا‪ )10(».‬هــذا مــا يتوافــق وواقــع المجتمــع‬


‫علــى الصعيــد الداخلــي لــدى األجهــزة المختصــة‪ :‬تدريــب جهــاز متخصــص لمكافحــة اإلرهــاب‪ ،‬تطويــر مفهــوم‬ ‫اإلســتعالم‪ ،‬تأميــن الحمايــة لكاشــفي المعلومــات‪ ،‬تطويــر األنظمــة المؤسســاتية لمواكبــة العصــر بالثقافــة الحديثــة‪ ،‬إدارة ربــط‬ ‫اإلرهــاب بالجريمــة المنظمــة‪ ،‬تأميــن اآلليــات اإلداريــة والماليــة والبش ـرية والقانونيــة لتنظيــم المواجهــة وتفعيــل المســؤولية‪.‬‬ ‫أ_ أســلوب إدارة أزمــة اإلرهــاب‪ :‬الهــدف اإلرهابــي هــو الصــورة المثاليــة لألزمــة إذ إنــه ينطبــق انطباقـاً تامـاً علــى تعريــف‬ ‫األزمــة‪ ،‬مــن حيــث كونــه الحــدث المفاجــىء‪ ،‬والــذي ُيعتبــر الســمة الجوهريــة للعمــل اإلرهابــي ولنجاحــه بنســبة ‪ 90‬فــي المئــة‪،‬‬ ‫إذ لــو افتقــد هــذا العمــل لعنصــر المفاجــأة ألمكــن إجهــاض العمليــة اإلرهابيــة بســهولة تامــة‪ ،‬وتمــر األزمــة اإلرهابيــة بم ارحــل‬ ‫ثــاث‪ :‬مرحلــة مــا قبــل األزمــة‪ ،‬مرحلــة إدارة األزمــة ومرحلــة مــا بعــد األزمــة‪ ،‬وســيقتصر كالمنــا علــى المرحلتيــن األولــى والثانيــة‬ ‫لضيــق الوقــت‪.‬‬ ‫األولــى‪ :‬مرحلــة مــا قبــل األزمــة‪ :‬او مــا ُيعــرف بالمرحلــة الوقائيــة وقــد عرضنــا لكيفيــة مكافحتهــا وتجنبهــا بتوافــر العناصــر‬ ‫اآلنفة الذكر‪.‬‬ ‫الثانيــة‪ :‬مرحلــة إدارة األزمــة‪ :‬وتتطلــب وســائل وأدوات إلدارتهــا ومعالجتهــا بأحــدث الوســائل( تفــاوض‪ ،‬معلومــات‪،‬‬ ‫الوقــت‪ ،‬الســيطرة علــى الموقــف)‪ ،‬كمــا تتطلــب لجــان ( لجنــة عليــا تضــع السياســات العامــة‪ ،‬لجنــة دائمــة وتعمــل كســكريتاريا‬ ‫للجنــة العليــا‪ ،‬وق ـوات خاصــة مدربــة تدريب ـاً خاص ـاً )‪ ،‬لهــذا ال بــد مــن اإلعتمــاد علــى الخط ـوات اآلتيــة‪:‬‬ ‫‪ _1‬إدارة األزمــات‪ :‬تكمــن خطــورة األزمــات فــي كونهــا تشــكل تهديــداً مباشـ اًر‪ ،‬وخطـ اًر جســيماً هــذا مــن جهــة‪ ،‬فــي حيــن‬ ‫أنهــا مــن جهــة ثانيــة‪ ،‬تحمــل فرص ـاً إلعــادة اكتشــاف مكامــن الضعــف ومحاولــة إطــاق القــدرات اإلبداعيــة واإلبتكاريــة لحــل‬ ‫المشــكالت التــي تط ـرأ‪ ،‬فتبــدو والحــال هــذه كأنهــا مســار أو ســاح ذو حديــن‪ ،‬قاتلــة بســلبياتها‪ ،‬ومنتجــة باســتثمار إيجابياتهــا‪،‬‬ ‫وهــذا مــا يحصــل علــى صعيــد مجتمعاتنــا التــي تعانــي أزمــة اإلرهــاب الحقيقيــة‪ ،‬وتتطلــب ح ـاً‪ ،‬لهــذا ال بــد مــن العمــل علــى‬ ‫وضــع خطــة علميــة شــاملة ومدروســة‪ ،‬متكاملــة المناحــي ومحيطــة‪ ،‬تحــدد اإلمكانيــات الضروريــة لتنفيذهــا مــن خــال تدريــب‬ ‫األف ـراد والمجموعــات للقيــام بأدوارهــم فــي مواجهــة أزمــة اإلرهــاب‪ ،‬حيــث أن التطــور الحاصــل فــي العلــوم وأســاليب التخطيــط‬ ‫تســاعدنا علــى التقليــل مــن هــذه األزمــة واإلســتعداد لمواجهتهــا(‪ .)20‬وتتطلــب هــذه المرحلــة تحليــل العناصــر المشـ ِّـكلة لألزمــة‪،‬‬ ‫اءات مــن خــال اإلســتفادة مــن التجــارب بغيــة تحقيــق أعلــى درجــات الحيطــة‬ ‫وتقديــر اإلمكانيــات المتوفـرة‪ ،‬وبالتالــي تحديــد اإلجـر َ‬ ‫والحــذر‪ ،‬وتجنــب الوقــوع فــي مشــاكل أكبــر‪ .‬وللوصــول إلــى النتائــج المرجــوة ال بــد لنــا مــن خطــة عمالنيــة تتمثــل فــي عمليــة‬ ‫إدارة ســليمة‪ ،‬إذ إن فشــل معالجــة األزمــة قــد يتجلــى فــي عــدم األخــذ بعناصــر العمليــة اإلداريــة الســليمة القائمــة علــى التخطيــط‪،‬‬ ‫التنظيــم‪ ،‬التنســيق‪ ،‬واتخــاذ القـرار ومــن ثــم خلــق البدائــل‪ ،‬فــي حــال لــم تنجــح الخطــة‪.‬‬ ‫ب_ التخطيــط‪ :‬تكمــن أهميــة التخطيــط فــي كــون فشــله ســيقود حتمـاً إلــى تخطيــط للفشــل لــذا‪ ،‬لــم يكــن عبثيـاً أن تعمــد‬ ‫بعــض الــدول إلــى إنشــاء و ازرات متخصصــة للقيــام بمهمــة التخطيــط‪ ،‬وهــذا مــا حــدا ببعــض المفكريــن إلــى التعريــف بــه علــى‬ ‫أنــه ‪ »:‬التخطيــط عمــل ذهنــي‪ ،‬موضوعــه الترتيبــات التــي يفكــر فيهــا المــرء فــي حاضــره لكــي يواجــه بهــا ظــروف مســتقبله‬ ‫فــي ســبيل هــدف ينبغــي الوصــول إليــه‪ .‬فهــو بهــذه الصفــة عمــل تحكمــي يرمــي إلــى تطويــع المســتقبل المجهــول إلرادة‬ ‫اإلنســان مــا اســتطاع إلــى ذلــك ســبيال‪ ،‬مقلـاً بذلــك مــن أثــر عوامــل الصدفــة والحــظ فــي محاولــة لتشــكيل الحيــاة بالصــور‬ ‫التــي توافــق آمالــه وتطلعاتــه وبمــا يجعــل األمــور تســير وفق ـاً لمــا يبتغيــه ويرتضيــه‪ ...‬فيقــود الح ـوادث بنفســه وال تقــوده‬ ‫المصادفــات إليهــا‪ .)21(».‬يتطلــب التخطيــط مبــادىء ال بــد مــن مراعاتهــا‪ ،‬واإللت ـزام بهــا عنــد إعــداد الخطــة‪ ،‬بهــدف تحقيــق‬ ‫نجاحهــا‪ ،‬وأولــى هــذه الخطـوات تتمثــل فــي‪:‬‬ ‫‪ _1‬مبدأ العلمية ‪ :‬لعل التصدي األول ألزمة اإلرهاب تتمثل في محاولة تفعيل عمل المؤسسات للقيام بأدوارها؛ من‬ ‫خــال المســاهمة المنتجــة والفاعلــة‪ ،‬إذ إن المنطــق العلمــي يفتــرض إحــداث تغييــر أساســي فــي أهــداف المؤسســات ومنطلقاتهــا‬ ‫اءاتهــا وطــرق عملهــا‪ ،‬وفــي موازنتهــا‪ ،‬بمــا‬ ‫وسياســتها اإلســتراتيجية العامــة واإلجرائيــة‪ ،‬وحتــى فــي برامجهــا ومهامهــا‪ ،‬وفــي إجر َ‬ ‫اءمــة‪ ،‬التطويــع والنظــر إلــى المســتقبل‪ ،‬كمــا أنــه ال بــد مــن التنبــؤ بالمتغيـرات المحتملــة‪ ،‬والتقلبــات الطارئــة‪،‬‬ ‫يكفــل ّ‬ ‫التكيــف والمو َ‬ ‫مــن خــال توفيــر المنــاخ المالئــم واإلســتجابة الدائمــة‪ ،‬والتلقائيــة الالزمــة للتغييــر‪ ،‬كذلــك التشــجيع علــى اإلبتــكار واإلبــداع فــي‬ ‫إحــداث التغييــر ومواجهــة‪ ،‬ومعالجــة آثــاره الســلبية‪ .‬ويتطلــب التغييــر أيض ـاً‪ ،‬التوجيــه‪ :‬حيــث أنــه ينبغــي التغييــر فــي النمــط‬ ‫القيادي الذي يتولى رأس الهرم في كل مؤسســة‪ ،‬وينبغي أن يتصف بقدرته على الكشــف بما يدور حوله من تغيرات‪ ،‬محاوالً‬ ‫وضــع التصــورات والخطــط البعيــدة المــدى ألفــكار تطويريــة جديــدة‪ ،‬ومراجعــة مقتضياتهــا مــع كل طــارئ ومســتجد‪.‬‬ ‫‪ -2‬مبــدأي المركزيــة واإللزاميــة‪ :‬حيــث أن مركزيــة التخطيــط قــد تنحــو نحــو المركزيــة التنفيــذ‪ ،‬وبالتالــي ينبغــي علــى‬ ‫كل العامليــن فــي إدارة عمليــات أزمــة اإلرهــاب اإللتـزام الكامــل بتنفيــذ الخطــة بحذافيرهــا‪.‬‬


‫مقاومــة للشــعب ضــد الحاكــم المشـ ّـرع للدولــة تكــون مطابقــة للحــق‪ ،‬إذ ال يمكــن إقامــة دولــة قانونيــة إال بالخضــوع إلرادتــه الكليــة‬ ‫المشــرعة وبهــذا المعنــى ليــس ثمــة حــق عصيــان‪ ،‬وبدرجــة أقــل ليــس ثمــة حــق تمــرد‪ ،‬بــل أن كنــط فــي إطــار دولــة القانــون التــي‬ ‫تتأســس علــى اإلرادة الكليــة يعتبــر أبســط محاولــة فــي هــذا الشــأن هــي خيانــة عظمــى‪.‬‬ ‫بمقابــل كنــط يقـ ّـر لــوك ‪ Locke‬بحــق المواطنيــن فــي مقاومــة الطغيــان فــي إطــار تصــور للعقــد اإلجتماعــي يختلــف عــن‬ ‫ ‬ ‫تصــور هوبــز‪ Hobbes‬بالنســبة ألطـراف العقــد‪ ،‬وفــي هــذا الخصــوص يختلــف لــوك عــن هوبــز‬ ‫تصــور آخــر لهــذا العقــد‪ ،‬وهــو ّ‬ ‫فــي أن هــذا األخيــر كان قــد ذهــب إلــى أن األف ـراد تنازل ـوا للحاكــم عــن كل حقوقهــم ال عــن جــزء منهــا مؤكــداً علــى أن ‪...»:‬‬ ‫القانــون الطبيعــي‪ ،‬الــذي يحــدد واجبــات اإلنســان‪ ،‬مســتمد مــن حقــه الطبيعــي فــي المحافظــة علــى نفســه‪ ،‬وهــو حــق مطلــق‬ ‫بينمــا ســائر الواجبــات نســبية مشــروطة‪ .‬ولمــا كان النــاس متســاوين فــي رغبتهــم فــي المحافظــة علــى أنفســهم‪ ،‬فــإن النــاس‬ ‫بطبعهــم متســاوون‪ :‬ولهــذا ال يوجــد تــدرج طبيعــي بيــن النــاس فــي طبقــات‪ .‬ومــن هنــا فــإن الحاكــم هــو مجــرد شــخص ينــوب‬ ‫عــن الباقــي فــي المحافظــة علــى النــاس‪ )14(».‬وإذا مــا كان الحاكــم طرفـاً فــي العقــد عنــد لــوك ال أجنبيـاً عنــه‪ ،‬فإنــه يلتــزم قبــل‬ ‫األفـراد بحمايــة الجــزء اآلخــر مــن الحقــوق المحتفظيــن بهــا وعــدم المســاس بهــا‪ ،‬فضـاً عــن إقامــة العــدل بيــن األفـراد‪.‬‬ ‫أمــا عــن آثــار العقــد فقــد ذهــب لــوك إلــى وجــوب احتـرام اإللت ازمــات الموقعــة مــن قبــل أطـراف العقــد‪ .‬فعلــى األفـراد يقــع‬ ‫ ‬ ‫واجــب الطاعــة ويقــع علــى الحاكــم واجــب الحمايــة والمحافظــة علــى الحقــوق‪ ،‬فــإذا أخـ ّـل الحاكــم باإللت ازمــات انفســخ العقــد‪ ،‬وجــاز‬ ‫لــكل طــرف الرجــوع إلــى حالتــه قبــل التعاقــد‪ ،‬فيحــق بذلــك لألف ـراد مقاومــة الحاكــم بــل وعزلــه عــن ســلطة الحكــم‪ .‬وعلــى هــذا‪،‬‬ ‫أجــاز لــوك حــق مقاومــة الحــكام إذا مــا جــاوزوا ســلطانهم حســبما يقضــي بــه مضمــون العقــد‪ .‬لــذا أبــاح لــوك العنــف فــي مواجهــة‬ ‫الحــكام‪ ،‬بمعنــى أن تكــون المقاومــة عنفيــة « ومــن هنــا كانــت نظريــة لــوك فــي القانــون الطبيعــي هــي األصــل فــي النظريــة‬ ‫الرأســمالية‪ )15(».‬وهــذا مــا يتفــق فــي جانــب مــن جوانــب أفــكاره وماركــس حيــث أنــه فــي إطــار فلســفته يجيــز العنــف الثــوري‬ ‫الــذي تمارســه الطبقــة الكادحــة‪ ،‬علــى اعتبــار أن تاريــخ المجتمعــات هــو تاريــخ صراعهــا الطبقــي(‪ )16‬هــو ص ـراع بيــن الغنــى‬ ‫والفقــر‪ ،‬اإلســتعمار واإلســتغالل‪ ،‬إنــه ص ـراع التناقضــات وصــدام الثقافــات والحضــارات والسياســات التــي يحركهــا اإلقتصــاد‪،‬‬ ‫المتجــاوزة مــن قبــل الديمقراطيــة‪ ،‬كذلــك‬ ‫أكــد عليــه ماركــس بالقــول ‪...»:‬فكمــا أن التيوقراطيــة حلــت محــل الموناركيــة‪،‬‬ ‫هــذا مــا ّ‬ ‫َ‬ ‫األمــر بالنســبة للديمقراطيــة التــي حلــت محــل البرجوازيــة والمدعــوة ألن تختفــي بدورهــا فــي البروليتاريــا‪ . )17(»...‬تراوحــت‬ ‫إشــكالية المقاومــة لــدى الفالســفة بيــن مــن شـ ّـرعها فــي حالــة اســتعباد اإلنســان شـريطة أن تكــون تحــت طائلــة القانــون‪ ،‬وبيــن مــن‬ ‫أوصــد البــاب أمــام هــذا الخيــار خشــية الفتنــة التــي ال تــؤدي إالّ إلــى الهــاك‪ .‬مــن هنــا‪ ،‬كان ال بــد مــن فلســفة لإلرهــاب تبــرز‬ ‫منطلقاتهــا وأهدافهــا عّلهــا تســاهم فــي رفــع الحيــف عــن الشــعوب المظلومــة واإلنســانية المع ّذبــة‪ .‬ويبقــى السـؤال مــا هــي الســبل‬ ‫اآليلــة لمكافحــة اإلرهــاب؟‪.‬‬ ‫ثالثاً‪:‬كيفية إدارة مكافحة اإلرهاب‪ :‬تتمثل آليات مكافحة اإلرهاب في‪:‬‬ ‫علــى الصعيــد المفاهيمــي‪ :‬تأميــن تعريــف موحــد لإلرهــاب‪ ،‬وإيجــاد تمايــز بينــه وبيــن حــق الشــعوب فــي تقريــر المصيــر‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫نؤمــن‬ ‫يســتند إلــى فعاليــة النصــوص المتالئمــة مــع خصوصيــة المجتمعــات‪ ،‬ونظــام الدولــة ومبــررات المصلحــة العامــة‪ ،‬وبذلــك ّ‬ ‫التصنيــف بيــن إرهــاب الدولــة واإلرهــاب المعاقــب عليــه فــي قوانيــن العقوبــات الوطنيــة‪.‬‬ ‫علــى الصعيــد اإلعالمــي‪ :‬توحيــد الــرؤى حــول المفاهيــم‪ ،‬إســقاط الشــائعات‪ ،‬التوجيــه الممنهــج لمجابهــة مخاطــر اإلرهــاب‬ ‫وأدواتــه وصــوره‪ ،‬وإنشــاء ب ارمــج توعويــة تســلط الضــوء علــى مخاط ـره‪ ،‬وبنــاء سياســة اســتراتيجية(‪ )19‬لمنعــه وتأميــن أطــر‬ ‫مواجهتــه ومجابهــة تحدياتــه‪.‬‬ ‫علــى الصعيــد التربــوي‪ :‬تعزيــز الثقافــة الوطنيــة وحــق التنــوع‪ ،‬إدارة اإلختــاف وتأميــن أســس ومناهــج المواطنــة والتأهيــل‬ ‫المســتمر لتأمين مســارات الالعنف والمســاواة ومندرجات الخير العام‪.‬‬ ‫علــى الصعيــد اإلجتماعــي‪ :‬تكويــن آليــات مجتمعيــة مــن النخــب والمثقفيــن وأصحــاب الخبـرات‪ ،‬لتأميــن ميثــاق اجتماعــي‬ ‫وحدوي ورؤيوي‪ ،‬ترســم فيه اآلليات لصناعة الضمانات المجتمعية المؤسســة لمجابهة اإلرهاب من خالل النبذ المجتمعي‪.‬‬ ‫علــى الصعيــد القضائــي‪ :‬تأميــن قضــاة متخصصيــن فــي وحــدات قضائيــة إســتثنائية مــع توفيــر آليــات التبــادل فــي‬ ‫الخبـرات مــع الــدول‪ ،‬وتطويــر نظــام اإلســترداد القضائــي‪ ،‬مــع توفيــر آليــات قانونيــة ألحــكام مشــددة‪ ،‬ومســارات معرفيــة لتصنيــف‬ ‫النتائــج‪.‬‬ ‫علــى صعيــد التعــاون الدولــي‪ :‬حضــور المؤتم ـرات‪ ،‬تبــادل الخب ـرات‪ ،‬توفيــر التنســيق المؤسســاتي‪ ،‬إيجــاد وحــدات‬ ‫تعــاون متخصصــة‪ ،‬تبــادل المعلومــات‪.‬‬


‫ج_ التنظيــم ‪ُ :‬ينظــر إلــى التنظيــم علــى أنــه أحــد أهــم عناصــر العمليــة المؤسســة للفكــر اإلنســاني‪ ،‬إذ فيــه تتمثــل‬ ‫المعاييــر السياســية والقانونيــة‪ ،‬القضائيــة والعســكرية‪ ،‬اإلداريــة واإلقتصاديــة‪ ،‬اإلجتماعيــة والعمرانيــة‪ ،‬لهــذا فالتنظيــم الجيــد هــو‬ ‫المفتــاح الحقيقــي لنجــاح أي جامعــة‪ ،‬أو مؤسســة‪ ،‬أو فكـرة فــي تحقيــق أهدافهــا‪ ،‬وإدارة أزمــة اإلرهــاب أحــوج مــا تكــون إلــى تنظيــم‬ ‫وفعــال‪ .‬وللتنظيــم مبــادئ ال بــد مــن مراعاتهــا‪:‬‬ ‫محكــم‪ ،‬واضــح ّ‬ ‫وبنــاء‪ ،‬يعمــل علــى تيســير تنفيــذ المهــام بشــكل منتــج مــرن ّ‬

‫‪ _1‬وحــدة اآلمــر وتنويــع الهــدف والتفريــع فــي التخصــص‪ :‬واختصــار خــط الســلطة بقصــد العمــل دون حواجــز‬ ‫ومعوقــات‪ ،‬إضافــة إلــى مبــدأ اإلشـراف الوظيفــي‪ ،‬وتفويــض الســلطة اللذيــن يســهالن عمــل إدارة األزمــة‪ ،‬إذ تســتلزم إدارة أزمــة‬ ‫ّ‬ ‫اإلرهــاب أوالً وقبــل كل شــيء‪ ،‬معلومــات وافيــة ومحيطــة‪ ،‬وتصــورات مبتك ـرة‪ ،‬حيــث أن الخب ـرات المعرفيــة هــي التــي تجعــل‬ ‫المؤسســة علــى د اريــة بــإدارة األزمــة مــن خــال الفريــق العامــل فيهــا‪ ،‬كمــا أنهــا تخولهــا قــدرة التغلــب علــى أوهــام عــدم احتمــال‬ ‫التعــرض(‪ ،)26‬وخب ـرات احترافيــة إداريــة‪ ،‬فنيــة ومهنيــة وتخصصيــة عاليــة‪ ،‬األمــر الــذي يجعــل إدارة أزمــة اإلرهــاب تنبنــي‬ ‫وتتأســس علــى العمــل الجماعــي المســؤول الغنــي بالمبــادرات الفرديــة والجماعيــة القيمــة‪ ،‬مــع مــا يترتــب علــى ذلــك مــن تداخــل‬ ‫نشــاطات ألجه ـزة متعــددة ومتنوعــة‪ ،‬وت اركــم أفــكار مبعث ـرة غيــر مؤط ـرة‪.‬‬ ‫تتطلــب عمليــة إدارة أزمــة اإلرهــاب ضــرورة اإلعتمــاد علــى معاييــر تنظيميــة جوهريــة يرتكــز عليهــا البنيــان التنظيمــي‬ ‫المالئــم‪ ،‬وهــذه المعاييــر التنظيميــة تتمثــل فــي‪:‬‬

‫‪_2‬المعاييــر السياســية والقانونيــة‪ :‬وتقــوم هــذه المعاييــر علــى مبــادئ‪ ،‬لعــل مــن أبرزهــا‪ :‬مبــدأ اإلنتمــاء للوطــن‪ ،‬والـوالء‬ ‫للدولــة‪ ،‬والوحــدة الوطنيــة‪ ،‬والفصــل بيــن الســلطات‪ ،‬ووحدانيــة المرجعيــة‪ ،‬والتـوازن بيــن الســلطة والمســؤولية‪ ،‬وشــمولية الخدمــة‬ ‫العامــة‪ ،‬واإلنتشــار الجغ ارفــي‪ ،‬وتســهيل المعامــات‪ ،‬واحتـرام الدســتور‪ ،‬واإلنســجام التشـريعي ووحدتــه‪ ،‬والمســاواة بيــن المواطنيــن‬ ‫في الحقوق والواجبات‪ ،‬وســمو الدســتور في التسلســل بالتشـريعات من الدســتور‪ ،‬إلى القانون‪ ،‬فالمرســوم اإلشــتراعي‪ ،‬فالمرســوم‬ ‫الجمهــوري‪ ،‬فالــوزاري‪ ،‬وهكــذا دواليــك‪ .‬إضافــة إلــى احتـرام الكفــاءة فــي اإلختــاف بــاآلراء واألفــكار‪.‬‬ ‫‪ _3‬المعاييــر اإلقتصاديــة واإلداريــة‪ :‬وتتمثــل فــي مبــدأ اعتمــاد الوفــر اإلقتصــادي مــن خــال تخفيــف الروتيــن اإلداري‬ ‫فــي التواصــل بيــن الضواحــي والم اركــز‪ ،‬وتأميــن التنميــة المحليــة المتمثلــة بالصالحيــات اإلقتصاديــة للســلطات المحليــة‪ ،‬المرونــة‬ ‫فــي التخطيــط والتنفيــذ بمشــاركة كل الهيئــات المركزيــة والالمركزيــة‪ ،‬إيجــاد المرجعيــة العليــا للتنميــة اإلقتصاديــة‪ ،‬الفصــل فــي‬ ‫مــا بيــن األداء القيــادي واألداء التنفيــذي اإلج ارئــي‪ ،‬اإلســتناد إلــى بيئــة حاضنــة عامــة تتســم بالتناســب واإلنســجام فــي بنيانهــا‬ ‫التنظيمــي لــإدارة العامــة المنفــذة المتســقة مــع البيئــة القائمــة‪ ،‬اإلعتمــاد علــى الهيكليــة المتكاملــة لتســيير العمــل وتنظيــم‬ ‫حســن أدائــه‪ ،‬باللجــوء إلــى المســتندات‪ ،‬والمخططــات‪ ،‬والمصــادر والم ارجــع‪ ،‬والنمــاذج‪ ،‬وتحديــد اإلجـراءات والطــرق واألدوات‬ ‫والخط ـوات الواجــب اتباعهــا‪ .‬كمــا أنــه ال بــد مــن التركيــز علــى مبــدأ التنــوع والتعــدد والتكامــل‪ ،‬ونوعيــة األداء المســتند إلــى‬ ‫المكننــة واألتمتــة‪ ،‬اإلتصــاالت والمعلوماتيــة‪ ،‬والحمايــة المعلوماتيــة‪ ،‬ومواكبــة مســتلزمات التحســين المســتمر مــن خــال تعدديــة‬ ‫مركــز التخطيــط والرقابــة والمتابعــة‪ ،‬وال مركزيــة البرمجــة والتنســيق والتوجيــه اإلج ارئــي‪ ،‬والتعدديــة فــي مســتويات العمــل تكمــن‬ ‫فــي النســق القيــادي‪ ،‬أو البيروق ارطــي‪ ،‬أو التكنوق ارطــي‪ ،‬علــى أنــه يبقــى للتشــارك دوره فــي وضــع األهــداف‪ ،‬والتخطيــط والتنفيــذ‪،‬‬ ‫وص ـوالً إلــى اإلبتــكار واإلبــداع واتخــاذ الق ـ اررات‪ ،‬وتعديــل الخطــط‪ ،‬وســمو فعاليــة اإلنســان‪.‬‬ ‫‪_4‬المعاييــر اإلجتماعيــة والعمرانيــة والفنيــة وغيرهــا‪ :‬والتــي تُعتبــر مبانــي مؤسســة معرفيــة ومســاعدة تتكامــل مــع مــا‬ ‫ورد ذكـره‪ ،‬وتؤمــن بطروحــات المنفذيــن الفاعليــن للخطــة‪ ،‬لكــن ضيــق الوقــت وحجــم البحــث يمنعنــا مــن شــرحها والتفصيــل فيهــا‪.‬‬ ‫د_ التنســيق‪ :‬يشــكل التنســيق المفتــاح أو البــاب لتطويــق أي أزمــة‪ ،‬حيــث أن التعليمــات واألوامــر التــي تنظــم العمــل‪،‬‬ ‫وتحــدد أولوياتــه‪ ،‬وحــدوده‪ ،‬ومســؤولية كل فــرد عــن أعمالــه‪ ،‬واســتعمال عمليــات الضبــط فــي األداء‪ ،‬والتوقيــت لــكل مرحلــة‬ ‫مــن الم ارحــل لــذا؛ ُينظــر إليــه علــى أنــه األســاس الجوهــري فــي إدارة األزمــة‪ ،‬وتكمــن أهميتــه فــي تحديــد المهــام‪ ،‬وإ ازلــة اللبــس‬ ‫والغمــوض‪ ،‬وتنســيق المعلومــات‪ ،‬وســرعة األداء‪ ،‬وتقليــل اللغــط والغلــط‪ ،‬وتخفيــف الخســائر‪ ،‬وضمــان توحيــد الجهــود لمتابعــة‬ ‫إنهــاء األزمــة‪ ،‬والمتابعــة الدقيقــة لمجرياتهــا‪ ،‬وجمــع كافــة المعلومــات‪ ،‬وتصنيفهــا‪ ،‬وتحليلهــا‪ ،‬وتحديــد أســلوبها األمثــل‪ ،‬وتنســيق‬ ‫الكيفيــة فــي أســلوبها‪ ،‬وطلبهــا‪ ،‬وتداولهــا‪ ،‬والعناصــر المكونــة‪ ،‬وتنســيق التعــاون بيــن عناصــر التخطيــط والتحليــل والجمــع بمــا‬ ‫ـاءم وترتيــب أهدافهــا‪ ،‬وضمــان جــودة فاعليتهــا اإلحصائيــة‪.‬‬ ‫يتـ َ‬ ‫وعمليــة التنســيق تضــع فــي ســلم أولوياتهــا ضمــان توحيــد الجهــود للتعامــل مــع األزمــة بمــا يكفــل التقليــل مــن مخاطرهــا‪،‬‬ ‫وتقييمهــا‪ ،‬وتعديلهــا بمــا يتســق والموقــف الطــارئ والمســتجد‪.‬‬

‫تتطلــب عمليــة التنســيق تضافــر جميــع العامليــن المنفذيــن والمتعاونيــن داخــل فريــق العمــل والمؤسســة وخارجهــا‪ ،‬وهــو‬ ‫مطلــوب فــي مرحلــة التخطيــط لضمــان نجــاح خطــة العمــل‪ ،‬واتخــاذ القـ اررات الســليمة إلدارة األزمــة مــن خــال اســتثمار جمــع‬


‫‪ -3‬المرونــة والواقعيــة‪ :‬ينبغــي علــى النمــط القيــادي اإلهتمــام بالمعلومــات‪ ،‬ومــن ثــم اعتمــاد المرونــة فــي اختيــار‬ ‫األفــكار‪ ،‬والتيقــظ للفــرص المالئمــة لإلبتــكار‪ ،‬موقن ـاً بالفروقــات فــي مــا بيــن التخطيــط وإدارة األزمــة حيــث ‪ »:‬أن هنــاك فرق ـاً‬ ‫بيــن التخطيــط وإدارة األزمــة تمامـاً كالفــرق بيــن اإلســتراتيجية والتكتيــك فــي المجــال العســكري‪ .‬فالخطــة عامــة‪ ..‬أمــا مواجهــة‬ ‫األزمــات إداري ـاً تحتــاج إلــى مرونــة وتفاعــل مــع األحــداث المســتجدة‪ ،‬ومحاولــة وضــع الحلــول بمــا يتوافــق بشــكل عــام‬ ‫واإلســتراتيجية(‪ .)22‬التخطيــط بمثابــة التنظيــر العقلــي العــام والشــامل‪ ،‬فــي حيــن أن إدارة األزمــة تفتــرض المرونــة فــي التعامــل‬ ‫مــع كل طــارئ ومســتجد‪.‬‬ ‫‪_4‬اإلســتمرارية والمشــاركة‪ :‬علــى التخطيــط أن يتســم باإلســتم اررية ال أن يكــون عارض ـاً‪ ،‬طارئ ـاً أو مؤقت ـاً بحيــث‬ ‫ـاءات واإلجتماعــات التــي‬ ‫يتطلــب األخــذ بــكل اآلراء ّ‬ ‫ـاءة لمختلــف الخب ـراء الذيــن سـ ُـيناط بهــم تنفيــذ الخطــة مــن خــال اللقـ َ‬ ‫البنـ َ‬ ‫ســيتم فيهــا د ارســة األزمــة بمختلــف جوانبهــا وجزئياتهــا‪ ،‬وصـوالً إلــى تشــجيع المنفذيــن لهــا لتطبيقهــا بجديــة وإخــاص وتفـ ٍ‬ ‫ـان‪ ،‬مــع‬ ‫فتــح بــاب دائــم إلــى مناقشــتها العامــة‪.‬‬ ‫تتطلــب العمليــة أيض ـاً‪ ،‬التدريــب المكثــف المســتمر للعامليــن دون اســتثناء مــع م ارعــاة التغيي ـرات األساســية للعامليــن‬ ‫ومواكبــة التشــجيع والتحفيــز المســتمرين لتقديــم اقت ارحــات؛ بمــا يســمح بزيــادة فــرص التنميــة الذاتيــة المســتمرة مــن خــال تفعيــل‬ ‫أدوات اآلداء اإلداري والعســكري القائــم علــى الق ـ اررات اإلداريــة‪ ،‬واإلتصــاالت والمعلومــات‪.‬‬ ‫‪ _5‬التوقيــت‪ :‬تُعتبــر إدارة الوقــت مــن القضايــا المهمــة والفعالــة‪ ،‬التــي تســاهم فــي التخطيــط الجيــد الــذي يتطلــب توقيتـاً‬ ‫مناســباً لبلــوغ الخطــة هدفهــا المنشــود فــي الموعــد المحــدد‪.‬‬ ‫‪_6‬اإلحتمــاالت‪ :‬وتبقــى اإلحتمــاالت أيضـاً‪ ،‬مــن العوامــل األساســية لنجــاح أيــة خطــة إذ إن اختيــار البدائــل وأقدرهــا فــي‬ ‫أقصــر وقــت ممكــن وأقــل تكلفــة ممكنــة(‪ .)23‬وفــي عمليــة التخطيــط‪ ،‬ال بــد مــن م ارعــاة منظومــة القيــم والمبــادئ اإلداريــة التــي‬ ‫تُكتســب بفعــل التطــور اإلنســاني‪ ،‬وشــروط فعاليــة النظــام الكلــي للتخطيــط‪ .‬ولبلــوغ الخطــة نتائجهــا المرجـّـوة‪ ،‬ال بــد مــن التركيــز‬ ‫علــى عناصــر عــدة‪:‬‬ ‫ويعتبــر النظــام البشــري المتغيــر األصيــل‬ ‫‪ _1‬النظــام البشــري‪ :‬حيــث أن البشــر يشــكلون المــورد األهــم إلدارة أزمــة اإلرهــاب‪ُ ،‬‬ ‫والمركــزي الــذي ينجــذب نحــوه النظاميــن الفنــي والبيئــي لــذا؛ ال بــد مــن تداخــل وتكامــل العناصــر التــي تربــط اإلدارييــن بالعامليــن‪،‬‬ ‫حيــث أنــه ينبغــي اختيــار العامليــن فــي إدارة األزمــة باإلتفــاق بيــن مديــر إدارة األزمــة ورؤســاء الوحــدات لــذا؛ علــى المديريــن‬ ‫والقــادة أن يتســموا باإلبــداع فــي أدائهــم‪ ،‬والســعة فــي تصرفاتهــم‪ ،‬والمرونــة فــي خططهــم(‪ .)24‬ولعــل الطريقــة الثنائيــة قــد تســاهم‬ ‫فــي دقــة اختيــار العامليــن لهــذه المهمــة الجســيمة(‪ .)25‬وبذلــك يتــم اختيــار العامليــن علــى أســس علميــة‪ ،‬ســليمة وموضوعيــة‪،‬‬ ‫مــع مــا ترتبــه تلــك العالقــة علــى الخطــة واألزمــة معـاً‪.‬‬ ‫وعلــى العامليــن الذيــن ســينفذون الخطــة أن يتصف ـوا‪ :‬بالوعــي واإلنضبــاط‪ ،‬وبالرغبــة فــي أداء العمــل علــى وجهــه‬ ‫األكمــل‪ ،‬مــع م ارعــاة الرقابــة الذاتيــة قبــل الخارجيــة علــى أدائهــم‪ ،‬وتقييمهــم المســتمر‪ ،‬وإبـراز التعــاون واإللمــام بالتفاصيــل وصـوالً‬ ‫إلــى التغلــب علــى المخــاوف التــي ســتواجههم فــي تنفيــذ خطتهــم‪ ،‬كذلــك تمكنهــم مــن إعــادة ترتيــب وتصميــم وتحديــد مواصفــات‬ ‫العمــل واألداء‪ ،‬وتوثيــق حركــة العمــل‪ ،‬ورفدهــا بنظــام المعلومــات الكفــوء الــذي يضبــط البيانــات التصوريــة والتوثيقيــة‪ ،‬وجمعهــا‬ ‫وتحويلهــا إلــى مســتندات تســاعد المديريــن علــى اتخــاذ الق ـ اررات الصائبــة بمــا يضمــن صالحياتهــا واختيارهــا‪ ،‬كمــا أنــه ال بــد‬ ‫مــن التركيــز علــى التنميــط والبرمجــة‪ ،‬وعلــى اإلجـراءات الوقائيــة والتصحيحيــة‪ ،‬وتطويــر العمليــات وتحديــد المســؤوليات لصنــع‬ ‫مبانــي تأسيســية محــددة واستشـرافية‪.‬‬ ‫‪ :_2‬خلــق البيئــة المناســبة‪ :‬بمعنــى وجــود بيئــة حاضنــة لهــذه الخطــة تتشــكل مــن الفالســفة والمفكريــن‪ ،‬والقــادة العســكريين‪،‬‬ ‫وأهــل الجامعــات واإلخصاصــات فــي شــتى المياديــن وتتمثــل برســم عالقــات مــع البيئــة الكليــة والخارجيــة‪ ،‬مــع المؤسســات الفكريــة‬ ‫والحكومــات المتعاونــة‪ ،‬والجمهــور المتكامــل مــن العامليــن فيهــا وخارجهــا‪ ،‬ومــع العالــم أجمــع‪.‬‬ ‫ولتحقيــق هــذه البيئــة ال بــد مــن إدخــال تكنولوجيــا المعلومــات واإلتصــاالت واإللكترونيــات فــي عمــل فريــق عمــل األزمــة‬ ‫إلطــاع الــكل علــى المســتجدات الحاصلــة بغيــة تأميــن فــرص الحـوار والمناقشــة فيهــا‪ :‬مــن تخطيــط وتنظيــم‪ ،‬توجيــه ومتابعــة‪،‬‬ ‫تحســين مســتمر‪ ،‬إضافــة إلــى إدارة للتفتيــش والفحــص والمطابقــة للمعاييــر‪ ،‬ونظــام للمتابعــة والتنظيــم‪ ،‬والمراقبــة واإلحصائيــات‪،‬‬ ‫حيــث أن توفيــر المنــاخ اإلداري والتصــوري الســليم ســيقود حتم ـاً إلــى التغييــر المنتــج والفعــال فــي إدارة األزمــات ومكافحــة‬ ‫اإلرهــاب‪.‬‬ ‫ال بد من التركيز على ضرورة التعاون والتضامن‪ ،‬التوافق واإللتحام في ما بين ‪ ،‬والمؤسسات العسكرية والحكومية‬ ‫والجامعات‪ ،‬أكانت في إطار البيئة المحلية‪ ،‬اإلقليمية أو العالمية الدولية‪.‬‬


‫واختيــار البدائــل‪ ،‬واللجــوء إلــى التـوازن فــي مــا بيــن الســلطة والديمقراطيــة‪ ،‬ولــن يكــون ذلــك إال باعتمــاد منهجيــات خاصــة بنــا‬ ‫كمســؤولين‪ ،‬نحــن مــن نســاهم بإنتاجهــا تتســم باإلعتــدال والمرونــة لذا؛يبقــى علينــا معرفــة إدراك اإلنســان بجوهـره التكاملــي معرفــة‬ ‫جيــدة‪ ،‬وتعليمــه تعليم ـاً جيــداً‪ ،‬وص ـوالً إلــى د ارســة آليــات النهايــات الجيــدة التــي تؤهلــه اإلحتفــاظ بمــكان صالــح لــه ولألجيــال‬ ‫القادمــة‪.‬‬ ‫المصادر والمراجع ‪:‬‬ ‫(‪ )1‬محمد عزيز شكري‪ ،‬اإلرهاب الدولي دراسة قانونية نافذة‪ ،‬ط‪ ،1‬بيروت‪ ،‬دار العلم للماليين‪1991 ،‬م‪ ،‬ص‪.50‬‬ ‫(‪ )2‬المرجع السابق ذكره‪ ،‬ص‪.51‬‬ ‫(‪ )3‬المرجع نفسه‪ ،‬الصفحة نفسها‪.‬‬ ‫(‪.T.E. Arnold, The Violence Formula: Why People Lend Sympathy And Support To Terrorism, Lexington Books, 1988, P2 )4‬‬ ‫(‪.R. Baxter, A Skeptical Look At The Concept Of Terrorism, 7Akron Law Rev, 380, 1974, P11 )5‬‬ ‫(‪ )6‬محمد عزيز شكري‪ ،‬اإلرهاب الدولي دراسة قانونية نافذة‪ ،‬مرجع سابق ذكره‪ ،‬ص‪ .47‬‬ ‫(‪ )7‬المرجع نفسه‪ ،‬الصفحة نفسها‪.‬‬ ‫(‪.M.C. Bassiouni, et Al, Intrnational Terrorism and Political Crimes, Springfield, Charles C, Thomas Publishers, 1975, P485 )8‬‬ ‫(‪ )9‬عبدالعزيــز محمــد ســرحان‪ ،‬حــول تعريــف اإلرهــاب الدولــي وتحديــد مضمونــه مــن واقــع القانــون الدولــي وقـ اررات المنظمــات الدوليــة‪ ،‬المجلــة المصريــة للقانــون الدولــي‪،‬‬ ‫مــج‪ ،29‬ال‪.‬ط‪1973 ،‬م‪ ،‬ص‪.174-173‬‬ ‫(‪ )10‬أدونيس العكرة‪ ،‬اإلرهاب السياسي_بحث في أصول الظاهرة وأبعادها اإلنسانية‪ ،‬ط‪ ،2‬بيروت‪ ،‬دار الطليعة‪ ،‬ص‪.83‬‬ ‫(‪ )11‬نبيه بري‪ ،‬أوراق في تراب المقاومة‪ ،‬ط‪ ،1‬بيروت‪ ،‬دار األندلس‪1989 ،‬م‪ ،‬ص‪.136‬‬ ‫( (‪Emmanuel Kant, Vers La Paix Perpetuelle, Traduction Par Gean-Francois Porier et Francoise Proust, Paris, GF Flammar�)12‬‬ ‫‪.ion, 1991, P92‬‬ ‫(‪ )13‬عبد الرحمن بدوي‪ ،‬أمانويل كنت‪ ،‬فلسفة القانون والسياسة‪ ،‬الكويت‪ ،‬وكالة المطبوعات‪1979 ،‬م‪ ،‬ص‪.198‬‬ ‫(‪ )14‬المرجع نفسه‪ ،‬ص‪.9‬‬ ‫(‪ )15‬المرجع نفسه‪ ،‬الصفحة نفسها‪.‬‬ ‫(‪ )16‬ماركس_إنجلس‪ ،‬بيان الحزب الشيوعي‪ ،‬موسكو‪ ،‬دار التقدم‪ ،‬ص‪.37_36‬‬ ‫(‪.Piettré, André, Marx Et Marxisme,1er édition, Paris, Presses Universitaires de France, 1973, P16 )17‬‬ ‫(‪)18‬محمــد ابراهيــم الطراونــة‪ ،‬التصــدي للفكــر اإلرهابــي والحــد مــن تجنيــد الشــباب‪ ،‬أســاليب مكافحــة اإلرهــاب‪ ،‬الريــاض‪ ،‬مركــز الد ارســات والبحــوث‪ ،‬قســم النــدوات‬ ‫واللقــاءات العلميــة‪2011 ،‬م‪ ،‬ص‪.16‬‬ ‫(‪Abdulrahman A. Higan, Crisis and Risk Management Paper Presented To International Institute Of Administrative )19‬‬ ‫‪. Science XXII.Congres Of Adm Sciences Viennal, July, 1992, P5‬‬ ‫(‪ )20‬محمود عساف‪ ،‬أصول اإلدارة‪ ،‬القاهرة‪ ،‬دار الناشر العربي‪1975 ،‬م‪ ،‬ص‪.150‬‬ ‫(‪E.L, Quarantelli-Disaster Crisis Management : A Summary Of research findings. Journal of management studies 25: 4 july)21‬‬ ‫‪.1988, P374-375‬‬ ‫(‪ )22‬محمود عساف‪ ،‬أصول اإلدارة‪ ،‬مصدر سابق ذكره‪ ،‬ص‪.207-206‬‬ ‫(‪Abdul Rahman Higan, Crisis And Risk Management, A Paper Presented To International Institute Of Administrative Sci� )23‬‬ ‫‪.ences xxii International Confèrence Of Administrative Sciences. Vienna, July, 1992, P12‬‬ ‫(‪.Rober F. Littlejohn. When The Crisis Is Terrorism, Security Management, August, 1986, P39)24‬‬ ‫(‪Anne H. Reilly, Preparing For The Worst: The Process Of Effective Crisis Management, Industrial & Envirommental Crisis)25‬‬ ‫‪.Quarterly, Vol 7, N02, 1993, P139‬‬ ‫(‪Thievy C. Pauchant And Ian I. Mitroff, Crisis Prone Versus Crisis Avoiding Organazations. Is Your Company’s Culture Its)26‬‬ ‫‪.Own Worst Enemy In Creating Crises? Industrial Crisis Quarterly, Vol 2, N0 1, 1988, P53‬‬ ‫(‪.Victor H.Vroom And P.W.Yeton, Leadership And Decision Making, University Of Pittsburg Press, 1973, P10)27‬‬


‫المعلومــات‪ ،‬وتصنيفهــا‪ ،‬وتحليلهــا‪ ،‬وتحديــد األســلوب األمثــل لهــا‪ ،‬ومــن ثــم العمــل علــى تنســيقها وطلبهــا‪ ،‬وتــداول المســؤوليات‬ ‫ِّ‬ ‫المكونــة للمركــز فيهــا‪ ،‬حيــث أن «مفهــوم الــذات»(‪ .)27‬يشــكل العامــل الرئيســي فــي التوجــه اإلســتراتيجي إلدارة‬ ‫والعناصــر‬ ‫األزمــات‪ ،‬وبالتالــي تنســيق أســلوب التعــاون بيــن التخطيــط والتحليــل‪.‬‬ ‫ولضمــان جــودة العمــل‪ ،‬ال بــد مــن ضمــان توحيــد الجهــود اإلنســانية‪ ،‬وفــي كافــة األجهـزة فــي أثنــاء إدارة األزمــة سـواء‬ ‫داخــل العمــل الفريقــي والمؤسســة أو خارجهــا‪ ،‬بمــا يضمــن حضــور المعلومــات واألنشــطة الخاصــة‪ ،‬والمتابعــة الدقيقــة والموقوتــة‬ ‫لضمــان خط ـوات تنفيــذ خطــة العمــل فــي مواجهــة األزمــة س ـواء فــي المؤسســة أو خارجهــا بمرونــة‪ ،‬مــع جهوزيــة اإلســتعداد‬ ‫لتنســيق تدفــق الجهــود اإلضافيــة لمنــع تضــارب اإلختصاصــات فــي أثنــاء إدارة األزمــة‪.‬‬ ‫كمــا أنــه ال يخفــى علــى أحــد‪ ،‬أنــه حتــى بعــد اإلنتهــاء مــن األزمــة‪ ،‬ال بــد مــن تنســيق تــداول المعلومــات الجديــدة بمــا‬ ‫يضمــن عمليــات التقويــم وتعديلهــا‪ ،‬وبمــا يتناســب والواقــع المســتجد لتفــادي نتائــج اســتيالد أزمــات جديــدة‪.‬‬ ‫ويبقــى اتخــاذ الق ـرار هــو الدليــل الســاطع علــى اإلدارة الناجحــة والســليمة‪ ،‬الســيما وأن عمليــة اتخــاذ الق ـ اررات تُعتبــر‬ ‫مــن أصعــب األمــور التــي تواجــه المنفذيــن‪ ،‬وبخاصــة فــي زمــن تحــول األزمــات وتنميطهــا‪ ،‬حيــث التدخــات والضغــوط الداخليــة‬ ‫والخارجيــة‪ ،‬والوقــت‪ ،‬وعــدم وضــوح الرؤيــة‪ ،‬بخاصــة وأن فــي الق ـرار نظــام ابتــداع البدائــل‪ ،‬واإلختيــار قــد يقــع بيــن بديليــن أو‬ ‫أكثــر‪ ،‬وهــذا اإلختيــار الــذي قــد ينتــج عنــه آثــار إيجابيــة أو ســلبية قــد تفــوق المشــكلة األساســية موضــوع القـرار لــذا؛ ال بــد مــن‬ ‫إيجــاد خيــارات مقبولــة لحــل األزمــة بمســؤولية الوعــي فيهــا وبهــا‪ ،‬حيــث أن الســبب الرئيســي فــي المشــاكل يكمــن فــي ابتــكار‬ ‫أدوات حلولهــا‪ ،‬وهــذا مــا يتطلــب أيضـاً إيجــاد البدائــل الســليمة وتقييمهــا‪ ،‬ويتمثــل ذلــك فــي إشـراك كافــة القطاعــات والمؤسســات‬ ‫المعنيــة للتشــاور فــي حــل المشــكلة وتســويتها‪ ،‬وضــرورة مشــاركة المرؤوســين هــذا مــا أكــد عليــه علــم النفــس وبخاصــة الســلوكية‬ ‫لمــا لهــم مــن أهميــة فــي حــل المشــاكل وفــي اتخــاذ القـ اررات(‪ .)28‬وإليجــاد البدائــل فــي حــل األزمــة ال بــد مــن البحــث عــن التفكيــر‬ ‫اإلبتــكاري القــادر علــى الخلــق واإلبــداع والتســويق‪ .‬حيــث أنــه مــن المعيــب أن نحــل المشــكلة بنفــس منهجيــة التفكيــر التــي قادتنــا‬ ‫إليهــا‪ ،‬والتــي قــد نكــون ســبباً فــي نتائجهــا‪.‬‬ ‫الخاتمة‪ :‬مستقبل البشرية وعن أي إنسان نبحث؟‬ ‫تتطلب إدارة األزمة موقفاً وتضامناً مشتركاً من اإلنسانية عامة‪ ،‬ومن أبناء البلد خاصة‪ ،‬ومن المثقفين واألكاديميين‬ ‫والعســكريين‪ ،‬القــادة واألفـراد‪ ،‬ومــن األمــة جميعهــا ألن التحديــات واحــدة‪ ،‬حيــث أن البعــض منهــم لــم يستشــعر حجــم المخاطــر‬ ‫الناتجــة عــن هــذه القضيــة لهــذا‪ ،‬ال بــد مــن التــآزر فــي تفســيراتهم‪ ،‬واتفاقهــم علــى الحديــث بلغــة مشــتركة‪ ،‬أضــف إلــى ذلــك‬ ‫ـاءل عــن ذلــك العقــل العربــي الــذي مــأ التاريــخ أيــن هــو اليــوم؟‬ ‫إشــكالية العولمــة المتفلتــة مــن كل قيــد أخالقــي‪ .‬مــن هنــا نتسـ َ‬ ‫وهــل بتنــا عاجزيــن عــن حــل أزماتنــا وبخاصــة اإلرهــاب ومكافحتــه؟‬ ‫المســؤولية مســؤوليتنا‪ ،‬نحــن مــن نصنــع مشــاكلنا وأزماتنــا‪ ،‬ونحــن مــن علينــا حّلهــا وعــدم تجاهــل أثــر النظــام الدولــي‬ ‫علينــا لــذا؛ مشــكلة العالــم العربــي بمجملــه تتمثــل فــي افتقادنــا لقاعــدة معلومــات نحتاجهــا للبنــاء عليهــا‪ ،‬كمــا أننــا نعانــي مــن أن‬ ‫اإلنســان فــي بالدنــا الــذي يمــارس أنشــطة عــدة بــدءاً بالتفكيــر‪ ،‬مــرو اًر بالــكالم والحديــث‪ ،‬وصـوالً إلــى العمــل‪ ،‬هــذه األنشــطة تتســم‬ ‫فــي عالمنــا باإلنفصــال‪ ،‬فتــرى المفكــرون ال ُيتــاح لهــم فــرص التكلــم والتحــدث بكفايــة‪ ،‬وال فرصــة التنفيــذ‪ ،‬والمتحدثــون بشــكل‬ ‫عــام ال يفكــرون‪ ،‬وال يعملــون‪ ،‬والذيــن يعملــون وينفــذون ال وقــت لديهــم ليفكــروا ألنهــم يلهثــون وراء لقمــة العيــش‪ ،‬هــذا اإلنفصــام‬ ‫بيــن هــذه األنشــطة الثالثــة ينبــئ بخطــر‪ ،‬ولعــل مــا نـراه نتيجــة مــن نتائجــه‪.‬‬ ‫السؤال إلى أي إنسان نتوجه؟‪ .‬وأي عالم إنساني معرفي نريد؟‪ .‬وهل أن الحديث بالنظريات الفلسفية والعقلية يؤطر‬ ‫كمــال معالجــة أســباب األزمــات ويؤمــن الحلــول؟‪ .‬وهــل أن المعرفــة اإلنســانية الشــاملة تســوق مكانتهــا فــي عقولنــا بمســؤولية‬ ‫العارفيــن‪ ،‬المدركيــن‪ ،‬الملتزميــن‪ ،‬األمينيــن‪ ،‬والمســؤولين بالتكامــل مــع المجتمــع؟‪ .‬وبالتالــي مــا هــي الفاعليــة المنتجــة والمتقدمــة‬ ‫ـاء‬ ‫للمتباريــن بمســؤولية إدارة مكافحــة اإلرهــاب‪ ،‬فــي ظــل متغيــر تطــور الظــروف علــى شــأنيتها وذاتيتهــا بأزمــة الس ـؤال؟‪ .‬بنـ ً‬ ‫علــى مــا تقــدم‪ ،‬ركــز البحــث علــى تصــورات رؤيويــة هادفــة وتكامليــة فــي مناهــج مختلفــة‪ ،‬تؤمــن بمســؤولية إدارتــه للجوانــب‬ ‫المعرفيــة‪ ،‬المؤسســية لمنطلقاتــه وإشــكالياته المتعــددة‪ ،‬بقصــد ضمــان توفيــر المبانــي واآلليــات الممكنــة لمعالجــة منطلقــات إدارة‬ ‫مكافحــة اإلرهــاب بفعاليــة األطــر وضمــان اإلبتــكار‪ ،‬واختيــار البدائــل‪ ،‬والتنســيق المعرفــي المنهجــي والمؤسســاتي‪ ،‬بهــدف تأميــن‬ ‫مواجهــة التحـوالت والتحديــات‪ ،‬وآليــات مواكبــة لتغيــر الظــروف والوقائــع والتحـوالت علــى مفهــوم ســامة المعرفــة‪ ،‬وأثرهــا في إدارة‬ ‫مكافحــة اإلرهــاب ‪.‬صحيــح أننــا نتحــدث بنظريــات فلســفية وعقليــة‪ ،‬إنمــا مــن ســيقوم بالعمــل؟‪ .‬هــل هــم األميــون؟‪ .‬نبــدو وكأننــا‬ ‫شــعب داخــل شــعب‪ ،‬فئــة مــن المثقفيــن الذيــن يتحــاورون ويقيمــون المؤتمـرات والنــدوات‪ ،‬إنمــا فــي نهايــة األمــر ال نصــل لشــيء‬ ‫عملــي واقعــي‪ ،‬وال إلــى قــوة منفــذة وحقيقيــة لمــا نفكــر فيــه مــن إنقــاذ مجتمعاتنــا اإلنســانية مــن أزماتهــا لــن يكــون إال بمنهجيــة‬ ‫إدارة أزمات فلســفية واضحة الفكر والمعالم‪ ،‬والمدارك والمســؤوليات والمناهج‪ ،‬بأولوية التخطيط‪ ،‬والتنظيم‪ ،‬والتنســيق‪ ،‬والتنفيذ‬



‫الفلسقة التحليلية‪ :‬خواء الميتافيزيقا والعالج اللغوي‬ ‫د‪.‬عبده شحيتلي‬

‫الفلسفة التحليلية أسلوب ال مذهب‪:‬‬‫اهتمــت الفلســفة التحليليــة بالوضــوح فــي عــرض األفــكار ‪ ،‬لتفــادي الغمــوض واعتمــاد أســاليب تتميــز بالقــدر األعلــى مــن الدقــة‬ ‫فــي تقديــم األدلــة ‪.‬‬ ‫تســعى الفلســفة التحليليــة إلــى الدقــة ‪،‬وهــذا مــا يســتدعي صياغــات رياضيــة ‪ ،‬دون أن يعنــي ذلــك التوغــل فــي المعــارف المتقدمــة‬ ‫لعلم الرياضيات ‪ ،‬وبهذا المعنى تشــكل الفلســفة التحليلية أســلوباً فلســفياً‪.‬‬ ‫مــن المألــوف وضــع الفلســفة التحليليــة فــي موقــع متعــارض مــع الفلســفة األوروبيــة التــي تعــود لفالســفة فرنســيين وألمــان عاشـوا‬ ‫فــي القرنيــن التاســع عشــر والعش ـرين نذكــر منهــم ‪ :‬هيغــل وكيركيغــارد ونيتشــه وهايدغــر وســارتر وميشــيل فوكــو ‪. ..‬الذيــن‬ ‫يعتمــدون أســلوبا فــي الكتابــة يتخــذ شــكالً أدبي ـاً ‪.‬‬ ‫تختلــف الفلســفة التحليليــة التــي تعتبــر أن مجــال البحــث فــي الفلســفة هــو التحليــل اللغــوي ‪ ،‬باعتبــاره الوســيلة الوحيــدة لمعالجــة‬ ‫المشــكالت الفلســفية ‪ ،‬عن الفلســفة التقليدية التأملية ‪ .‬يتب أر فالســفة التحليل من االدعاء أن الفلســفة تكشــف عن حقائق الكون‬ ‫‪ .‬إن العلمــاء ‪ ،‬وحدهــم ‪ ،‬بمــا يمتلكونــه مــن وســائل تعينهــم علــى المشــاهدة وإجـراء التجــارب هــم المعنيــون بمحاولــة الكشــف عــن‬ ‫مختلــف جوانــب الحقائــق الكونيــة ‪ ،‬بينمــا الفيلســوف التحليلــي المعاصــر ال يزعــم لنفســه شــيئا ســوى تنــاول عبــارات اللغــة بهــدف‬ ‫توضيــح العناصــر الغامضــة فيهــا مــن خــال التحليــل المنطقــي ؛ فالفلســفة التحليليــة المعاصـرة «تــدور كلهــا حــول ألفــاظ اللغــة‬ ‫وعباراتهــا اعتبــا اًر منهــا أن مهمتهــا الوحيــدة التــي ال مهمــة سـواها هــي أن تطمئــن إلــى وضــوح مــا ينطــق بــه النــاس ‪ ،‬علماؤهــم‬ ‫وعامتهــم علــى السـواء ‪ ،‬وأمــا الحقيقــة الشــيئية فموكولــة إلــى رجــال العلــم علــى اختالفهــم «(‪)1‬‬ ‫والفلســفة التحليلــة ترتبــط بالبلــدان األنكلــو ساكســونية حيــث نشــأت ‪،‬ولكننــا يمكــن أن نجــد لهــا أصـوالً فــي الفلســفة اليونانيــة ‪،‬‬ ‫وكذلــك عنــد ديــكارت وغي ـره مــن الفالســفة الذيــن اعتمــدوا المنهــج التحليلــي ‪ .‬لذلــك بــدالً مــن القــول بالتعــارض بيــن الفلســفة‬ ‫التحليليــة والفلســفة األوروبيــة يمكــن النظــر إلــى األمــر مــن زاويــة اعتمادهمــا اســلوبين مختلفيــن فــي ممارســة الفلســفة ‪ ،‬لــكل‬ ‫منهمــا حســناته وســيئاته ‪ ،‬ولكــن يبقــى مــن الضــروري األخــذ بعيــن االعتبــار أن فيهمــا الكثيــر مــن األفــكار التــي تســتحق التقديــر‬ ‫‪ ،‬عــاوة علــى أن تعايــش األســلوبين اللذيــن يعتمدانهمــا فــي التفكيــر الفلســفي يعبــر عــن تنــوع وغنــى ثقافــي يقــودان إلــى القــول‬ ‫بالتكامــل بيــن التيــارات الفلســفية الــذي ينفــي التناقــض واإللغــاء ‪.‬‬ ‫إن الفلســفة التحليليــة هــي مــن أكثــر التيــارات الفلســفية التــي تتميــز بالتنــوع والبعــد عــن المذهبيــة ‪ .‬ولكــن األســاس الجامــع‬ ‫لمختلــف تياراتهــا هــو اعتبــار تحليــل اللغــة الممارســة الفلســفية األكثــر أهميــة ؛ لذلــك كان هدفهــا البحــث فــي العالقــة بيــن األشــياء‬ ‫التــي تحــدث فــي العالــم مــن جهــة ‪ ،‬ومــا يحــدث فــي ذهــن مســتخدم اللغــة الــذي يحــاول أن يفهــم البنــاء الواقعــي للعالــم مــن جهــة‬ ‫أخــرى ‪ ،‬ليغــدو السـؤاالن ‪ :‬كيــف نعنــي ؟ ومــاذا نعــرف ؟ ‪ 2‬محــور الممارســة التحليليــة ‪.‬‬ ‫انطلقــت هــذه الفلســفة مــن كتابــات فريغــه و ارســل المتعلقــة بأســس الرياضيــات ‪ ،‬لذلــك رأى بعــض الباحثيــن أنهــا ال تعالــج إال‬ ‫مشــكالت ذات عالقــة بالعلــم ونظريــة المعرفــة ‪ ،‬وهــذه فكـرة خاطئــة ‪ ،‬ألن مــا ينطبــق علــى لغــة الرياضيــات عنــد فريغــه ينطبــق‬ ‫علــى لغتنــا بشــكل عــام‪.‬‬ ‫ومشــكالت الداللــة التــي دافــع عنهــا رســل ال تتعلــق بالرياضيــات أكثــر مــن تعلقهــا باالبيســتمولوجيا ‪ ،‬وبلغتنــا بشــكل عــام ‪.3‬‬ ‫باالضافــة إلــى ذلــك ‪ ،‬فــإن ارســل كان مــن كبــار المنطقييــن وفالســفة المعرفــة ‪ ،‬ولكــن ذلــك لــم يمنعــه مــن الكتابــة فــي األخــاق‬ ‫‪ ،‬واالهتمــام بأحــداث العصــر السياســية ‪ .‬وايضــا فتغنشــتين الــذي يعتبــر مــن األعمــدة المؤسســة للفلســفة التحليليــة ‪ ،‬وفالســفة‬ ‫الوضعيــة الجديــدة التــي تمثــل مدرســتهم واحــدة مــن التيــارات التحليليــة الهامــة ‪ ،‬كان ـوا علمييــن ‪ ،‬اال أنهــم اهتم ـوا ‪ ،‬أيضــا ‪،‬‬ ‫بالجماليــات واألخــاق والحقــوق مثلمــا اهتم ـوا بنظريــة المعرفــة وفلســفة العلــوم ‪.‬‬ ‫ محمود ‪ ،‬د‪ .‬زيك نجيب ‪ .‬موقف من امليتافيزيقا ‪،‬ط ‪ ، 2‬دار الرشوق ‪ ،‬بريوت ‪ ، 1983‬ص ‪. 141‬‬‫‪ 1‬‬ ‫‪.679 PUF, P,12 2end edition, tome ,Encyclopedie Universalis - 2‬‬ ‫‪- :Olbani, melik,Philosophie de la connaissanceet des sciences, www. Rationalites-contemporaines‬‬ ‫ ‪3‬‬ ‫‪. Paris4 Sorbone.fr.‬‬


‫إن مهمــة الفلســفة ليســت تحصيــل الحقائــق ‪،‬كمــا هــي الحــال فــي العلــوم ‪ ،‬وانمــا البحــث فــي المســائل التــي لــم تقــدم العلــوم‬ ‫حتــى اآلن جوابــا عنهــا ‪ ،‬كمــا يــرى رســل الــذي قــدم للفلســفة منهجـاً جديــداً هــو «منهــج التحليــل المنطقــي» أو الذريــة المنطقيــة‬ ‫‪ ،‬اعتمــد فيــه علــى المنطــق الرياضــي ألنــه ‪ ،‬باعتقــاده ‪ « ،‬وحــده الكفيــل بتزويدنــا بــاألداة الالزمــة لحــل المشــاكل الفلســفية «‬ ‫‪ .‬تبنــى رســل الـرأي القائــل ‪ :‬إن جميــع المشــاكل الفلســفية هــي ‪ ،‬فــي واقــع األمــر مشــاكل منطقيــة ‪ .‬وســعى إلــى وضــع فلســفة‬ ‫علميــة تلتــزم بالمنطــق الرياضــي ‪،‬الــذي أســماه ‪ :‬المنطــق الفلســفي ‪.‬‬ ‫فــي بدايــة عالقتــه بالفلســفة تأثــر رســل بالمثاليــة األلمانيــة متجســدة بفلســفة كنــط وبرادلــي وهيغــل بشــكل خــاص ‪ ،‬حيــث أن‬ ‫المســرح الفلســفي في انجلت ار ‪ ،‬كما يقول «كانت تســيطر عليه في الجزء األخير من القرن التاســع عشــر المثالية التي انتقلت‬ ‫إليــه مــن داخــل القــارة ‪ :‬ففــي بريطانيــا يأتــي المطــر مــن أيرلنــدة وتاتــي المثاليــة مــن المانيــا «‪ . 8‬ولكنــه مــا لبــث أن انقلــب علــى‬ ‫هــذه المثاليــة ليتبنــى نقيضهــا أي الفلســفة التجريبــة التــي تنســجم مــع المــد التجريبــي الــذي أحدثتــه العلــوم فــي نهايــة القــرن التاســع‬ ‫عشــر وبدايــة القــرن العشـرين ‪.‬وعندمــا وجــد أن هــذه التجريبيــة فــي شــكلها التقليــدي (مــن لــوك وهيــوم إلــى جــون ســتيوارت مــل)‬ ‫تتســم بشــيء مــن الواقعيــة الســاذجة ‪ ،‬ســعى إلــى تأســيس نــوع جديــد مــن التجريبيــة هــو مــا يعــرف بالتجريبيــة المنطقيــة ‪ ،‬واعتقــد‬ ‫أن هــذه الفلســفة الجديــدة تتميــز بكونهــا علميــة وتحليليــة ‪.‬‬ ‫لقــد « كان منــذ البدايــة يأمــل فــي أن يجمــع بيــن النزعــة العقليــة المثاليــة كمــا تتجســد فــي المنطــق والرياضيــات ‪ ،‬والنزعــة الحســية‬ ‫كمــا تتمثــل فــي التجريبيــة ليصــل إلــى أطــار تتــاءم داخلــه المكتشــفات الثوريــة للعلــم «‪ ، 9‬وســعى إلــى تفجيــر الثــورة التحليليــة‬ ‫فــي مطلــع القــرن العشـرين بمشــاركة صديقــه جــوج ادوارد مــور(‪ ) 1958-1873‬وتلميــذه فتغنشــتين ( ‪.) 1951 -1889‬‬ ‫واذا كان مــور قــد ثــار علــى المثاليــة االلمانيةالتــي طغــت فــي كامبــردج انســجاماً مــع المــد التجريبــي ‪ ،‬فــإن رســل ثــار عليهــا‬ ‫ألنهــا ال تتفــق مــع المعرفــة القائمــة علــى أســاس المنطــق الرياضــي ‪.‬‬ ‫أكــد مــور أن غايــة الفلســفة ليســت اكتشــاف الحقائــق التــي لــم تعــرف مــن قبــل بــل ايضــاح مــا نعرفــه مــن خــال تحليــل اللغــة‬ ‫‪.‬فــي مقــال كتبــه بعنـوان ‪ :‬تفنيــد المثاليــة عــام ‪ 1903‬اعتبــر مــور أن المشــكالت الفلســفية تعــود إلــى أن الفالســفة عمــدوا إلــى‬ ‫االجابــة عــن األســئلة التــي طرحوهــا قبــل ان يدققـوا فــي حقيقتهــا ‪ .‬ولــو حــاول الفالســفة اكتشــاف المعنــى الحقيقــي لألســئلة التــي‬ ‫يطرحونهــا عــن طريــق تحليلهــا قبــل أن يشــرعوا فــي اإلجابــة عليهــا لــكان ذلــك كافيـاً الختفــاء معظــم المشــاكل الخادعــة والخالفــات‬ ‫الفلســفية‪ ،‬فغمــوض المعنــى هــو مصــدر االضطـراب فــي البحــث الفلســفي‪.‬‬ ‫والتحليــل عنــد مــور يعنــي ترجمــة عبــارة معينــة إلــى عبــارة أخــرى أوضــح منهــا ومرادفــة لهــا‪ .‬ومــن أجــل معرفــة م ارمــي الفيلســوف‬ ‫‪ ،‬والحكــم علــى صحــة أو فســاد القضايــا التــي يقررهــا البــد مــن إظهــار األنمــاط المختلفــة للقضايــا أو المســائل التــي هــي موضــوع‬ ‫البحــث ‪،‬وتوضيــح األســباب التــي تفيــد فــي يأييــد أو تفنيــد قضيــة مــا ‪ .‬والمعيــار الــذي يســتند إليــه مــور فــي ذلــك هــو مــا يســميه‬ ‫اإلحســاس العــام أو الفهــم المشــترك ‪ ، ) )common sens‬فببداهــة الفهــم المشــترك « نعــرف أن العالــم المــادي موجــود ‪ ،‬وأن‬ ‫فيــه أناسـاً غيرنــا ‪ ،‬وأنــه مالبــث موجــودا منــذ ســنين عـ ّـدة ‪..‬الــخ‪ ،‬وليــس بنــا حاجــة إلــى ميتافيزيقــا تبرهــن ذلــك ‪ .‬هــذا مــن جهــة ‪،‬‬ ‫ومــن جهــة اخــرى فلــو كان هنــاك مــن المعرفــة مــا ليــس يأتينــا بــه الفهــم المشــترك بفطرتــه ‪ ،‬وال العلــم بمشــاهداته كالقــول بخلــود‬ ‫الــروح مثــا ‪ ،‬فســتعجز الميتافيزيقــا كذلــك عــن إمدادنــا بهــذه المعرفــة ‪ .‬بعبــارة أخــرى ‪ :‬مــا نعرفــه عــن طريــق الفهــم المشــترك‬ ‫والعلــوم ال حاجــة بنــا إلــى الميتافيزيقــا لتزيــد معرفتنــا بــه ‪ ،‬ومــا ال نعرفــه عــن ذلــك الطريــق ليــس فــي وســع الميتافيزيقــا أن تحيطنــا‬ ‫‪10‬‬ ‫علمــا بــه «‪.‬‬ ‫يــرى مــور أن اللغــة العاديــة تفيدنــا فــي تحديــد مــا يعتقــده ويؤيــده اإلحســاس العــام ‪ ،‬لذلــك يتخــذ منهــا معيــا اًر لمعنــى القضايــا ‪.‬ومــا‬ ‫علينــا بعــد االعتمــاد علــى الفهــم المشــترك فــي إدراك حقائــق الموجــودات إال االهتمــام بتحليــل العبــارات التــي نقولهــا بهــدف «‬ ‫الزيــادة فــي الوضــوح بإبـراز العناصــر الخبيئــة فــي العبــارة المـراد تحليلهــا «‪ ، 11‬أي أن التحليــل ال يعنــي تعريفــا لأللفــاظ والحــدود‬ ‫‪،‬أو ترجمــة عبــارة إلــى عبــارة أخــرى بــل إبـراز العناصــر التــي تنطــوي عليهــا العبــارة المـراد تحليلهــا ‪.‬‬ ‫تأثــر رســل ‪ ،‬فــي المرحلــة الواقعيــة مــن تفكيـره التــي جــاءت كــردة فعــل علــى المثاليــة بــآراء مــور معتقــدا أن اللغــة العاديــة قــادرة‬ ‫علــى التعبيــر عــن قضايــا الفلســفة ‪.‬وأن تحليــل عبــارات اللغــة‪ ،‬اســتناداً إلــى معيــار اإلحســاس العــام‪ ،‬كفيــل بتحديــد المعنــى ‪.‬‬ ‫وكمثــال علــى ذلــك ؛ تحليــل عبــارة «ملــك فرنســا الحالــي أصلــع « ‪ ،‬التــي يرددهــا رســل ‪ .‬فــي اللغــة العاديــة تكتســب هــذه الجملــة‬ ‫معناهــا مــن معانــي األلفــاظ الـواردة فيهــا ‪ :‬ملــك أي صاحــب المنصــب األعلــى فــي الســلطة ‪ ،‬فرنســا أي البلــد األوروبــي الــذي‬ ‫ ‪8‬‬ ‫‪ 9‬‬ ‫‪ 10‬‬ ‫‪ 11‬‬

‫ رسل برتراند ‪ ،‬حكمة الغرب ‪ ،‬ج‪ ، 2‬املجلس الوطني للثقافة والفنون واالداب ‪،‬ص ‪. 269‬‬‫ الخويل ‪ ،‬د مينى طريف ‪ ،‬فلسفة العلم يف القرن العرشين ‪ ،‬م‪ .‬س ‪ ،‬ص ‪. 285‬‬‫ محمود ‪ ،‬د‪ .‬زيك نجيب ‪ ،‬موقف من امليتافيزيقا ‪،‬م‪ .‬س‪ ،‬ص ‪. 143‬‬‫‪ -‬م‪ ،‬ن ‪ ،‬ص ‪. 148‬‬


‫ان مــا يجمــع الفالســفة التحليلييــن ‪ ،‬علــى اختالفهــم ‪ ،‬ارادة تطبيــق منهــج دقيــق مســتوحى مــن التحليــل والنزعــة المنطقيــة ‪،‬‬ ‫ويهــدف إلــى عــدم االنـزالق نحــو اللغــو والــكالم الفــارغ ‪ ،‬أو األفــكار ذات الطابــع االيديولوجــي التــي ال تعبــر عــن أيــة حقيقــة‬ ‫واقعيــة ‪.‬‬ ‫ رسل ‪ :‬منهج التحليل والذرية المنطقية‬‫درس برت ارنــد ارســل (‪ )1970 -1872‬الرياضيــات فــي كمبــردج ‪ ،‬وعنــد انتهائــه مــن آخــر امتحاناتــه فــي نهايــة ســنته الثالثــة‬ ‫‪ ،‬أقســم ‪ ،‬كمــا يقــول فــي كتابــه العقــل والمــادة‪ ،‬أال ينظــر بعدهــا إلــى الرياضيــات ‪ ،‬وحيــن كان يعيــش هــذه الحالــة النفســية‬ ‫والعقليــة واجهتــه «‬ ‫الفلســفة بــكل البهجــة التــي يبتهــج بهــا الهــارب مــن نفــق إلــى واد مزدهــر فســيح « ‪ ، 4‬فتحــول إلــى د ارســة الفلســفة وتاثــر إلــى‬ ‫حــد بعيــد بالمثاليــة األلمانيــة التــي تنظــر إلــى العالــم باعتبــاره حقيقــة كليــة واحــدة ‪ ،‬ومــا التعــدد والكثـرة فيــه اال مجــرد مظهــر لهــذه‬ ‫الحقيقــة التــي نعرفهــا بواســطة العقــل ‪.‬وقــد عـ َّـرف فــي كتابــه ( مشــاكل الفلســفة) المذهــب المثالــي بأنــه المذهــب الــذي ال يــرى‬ ‫فــي كل مــا يوجــد أو فــي كل مــا نعــرف وجــوده إال كونــه مجــرد تصــور للذهــن أو مجــرد فكــر ‪ ،‬فالحقيقــة الكونيــة واحــدة والتعــدد‬ ‫والكثـرة مظهــر لهــا ‪ ،‬ومصدرنــا الوحيــد لمعرفــة هــذه الحقيقــة هــو العقــل ‪ .‬وبتأثيــر مــن اســتاذيه (مكتغــارت) و(ســتاوت) أعجــب‬ ‫إلــى حــد كبيــر بالهيغليــة ‪ ،‬وكان يعتقــد فــي الفتـرة التــي تلــت تخرجــه مــن كمبــردج أن الميتافيزيقــا كفيلــة بحــل مشــاكل الكــون شــرط‬ ‫اعتمادهــا علــى العقــل وابتعادهــا عــن الديــن ‪ ،‬وهــذه هــي حــال الميتافيزيقــا فــي المثاليــة األلمانيــة ‪ .‬وبعــد قيامــه بتدريــس فلســفة‬ ‫ليبنتــز فــي كمبــردج وجــد أن الميتافيزيقــا المثاليــة الواحديــة ترتكــز إلــى المنطــق األرســطي الحملــي ‪ ،‬منطــق الجوهــر وأع ارضــه‬ ‫‪،‬وهــو مــا ينبغــي االطاحــة بــه كمــا يقــول فــي كتابــه الــذي خصصــه لنقــد فلســفة ليبنتــز‪ ،‬ألن هــذا النــوع مــن المنطــق غيــر قابــل‬ ‫التعبيــر عــن العالقــات ‪ ،‬مؤكــدا ‪ ،‬بذلــك ‪ ،‬أهميــة القضايــا العالئقيــة مقابــل قضايــا الموضــوع والمحمــول ‪.‬‬ ‫وقــد تحــول فيمــا بعــد (‪ )1898‬عــن المثاليــة وهاجمهــا بعــد أن قـ أر كتــاب المنطــق األكبــر لهيغــل و الحــظ أن مــا يقولــه عــن‬ ‫الرياضيــات فــي هــذا الكتــاب هــو لغــو ناتــج عــن رأس مشوشــة ‪ ، 5‬وفــي هــذه الفتـرة تأثــر بجــورج ادوارد مــور (‪1958-1873‬‬ ‫) صاحــب مذهــب مــا يعــرف بالواقعيــة الجديــدة ‪.‬‬ ‫وبعــد اندفاعــه باتجــاه الواقعيــة عــاد للت ارجــع عنهــا بعــد تعرفــه علــى انتــاج جوزيــه بيانــو (‪ ) 1932-1858‬فــي ميــدان العلــوم‬ ‫الرياضيــة ‪ ،‬أثنــاء حضــوره مؤتمـ ار دوليــا للفلســفة فــي باريــس عــام ‪ 1900‬حضـره كبــار الفالســفة وعلمــاء المنطــق والرياضــات‬ ‫‪،‬ومنهــم (وايتهــد) ‪( ،‬فريغــه) و (بيانــو) ‪ .‬بعــد هــذا المؤتمــر وضــع كتابــه مبــادئ الرياضيــات ‪ ،‬وفيمــا بعــد عمــل مــع‬ ‫صديقه(وايتهــد) علــى إصــدار كتــاب برانكيبــا ماتيماتيــكا (‪ )1910‬فــي ثالثــة عشــر جــزءا حيــث بينــا معـاً أن المبــادئ الرياضيــة‬ ‫يمكــن أن تســتنبط مــن قضايــا منطقيــة ‪.‬‬ ‫لكــن اهتماتــه لــم تقتصــر علــى المنطــق والرياضيــات ‪ ،‬فقــد أصــدر العديــد مــن المؤلفــات تنــاول فيهــا موضوعــات العدالــة والبنــاء‬ ‫االجتماعــي والــزواج وألخــاق والديــن‪ ...‬وســافر إلــى الصيــن واالتحــاد الســوفياتي ونيويــورك حيــث مــارس نشــاطات فكريــة‬ ‫وسياســية أبــرز مــن خاللهــا مواقــف مميـزة فــي أمــور الحــرب والســام ‪ .‬وفــي عــام ‪ 1942‬عــاد ليمــارس التدريــس فــي كمبريــدج‬ ‫‪ ،‬وفــي ســنة ‪ 1950‬حصــل علــى جائـزة نوبــل لــآداب بصفتــه ناطقـاً باســم التفكيــر الحــر والعقــل واإلنســانية‪. 6‬‬ ‫تنوعــت مؤلفاتــه مــن الرياضيــات والمنطــق (مبــادئ الرياضيــات‪1903‬؛ أُســس كتــاب الرياضيــات الــذي ألفــه مــع وايتهــد‬ ‫(‪ ،) 1913 -1910‬إلــى األبيســتمولوجيا ونظريــة المعرفــة ( معرفتنــا للعــام الخارجــي ‪1914‬؛ تحليــل الفكــر ‪ 1921‬؛تحليــل‬ ‫المــادة ‪ 1927‬؛ المعنــى والحقيقــة ‪ ، )1940‬وإلــى المســائل السياســية والدينيــة واألخالقيــة (مبــادئ االصــاح االجتماعــي‬ ‫‪ 1926‬؛األخــاق والمبــادئ األخالقيــة ‪1929‬؛ التربيــة والنظــام االجتماعــي ‪ 1932‬؛ تأثيــر العلــم علــى المجتمــع ‪1952‬؛‬ ‫جريمــة حــرب فيتنــام ‪ ،)1967‬وأخي ـ ار الكتــب التــي تتنــاول تاريــخ الفلســفة أو الســيرة الذاتيــة ( تاريــخ الفلســفة ‪ 1945‬؛ تاريــخ‬ ‫أفــكاري الفلســفية ‪1959‬؛الســيرة الذاتيــة ل ارســل‪.)1969-1967‬‬ ‫أتــى رســل إلــى الفلســفة عــن طريــق الرياضيــات ‪ ،‬وقــام بأهــم تطويــر للمنطــق بعــد أرســطو ‪ ،‬فربــط ربط ـاً وثيق ـاً بيــن المنطــق‬ ‫والرياضيــات ‪،‬وأكــد أن الفلســفة فــي جانبهــا النظــري تســعى إلــى فهــم العالــم ‪ « ،‬أمــا فــي جانبهــا الوجدانــي فتضــع قيمــا وغايــات‬ ‫للحيــاة «‪ ، 7‬وهــذه المهــام التــي تقــوم بهــا الفلســفة ال تختلــف باختــاف العصــور‪.‬‬ ‫ الخويل ‪ ،‬دمينى طريف ‪ .‬فلسفة العلم يف القرن العرشين ‪ ،‬عامل املعرفة ‪ ، 264‬املجلس الوطني للثقافة والفنون واآلداب‬‫‪ 4‬‬ ‫الكويت ‪ ،‬كانون األول ‪ ، 2000‬ص ‪. 2715‬‬ ‫ م‪.‬ن ‪ ،‬ص ‪. 277‬‬‫‪ 5‬‬ ‫‪. www. SOS . Philosophie.free.fr/Russel.php- 6‬‬ ‫ الخويل ‪ ،‬م‪ .‬س‪ ،‬ص ‪11‬‬‫‪ 7‬‬


‫وفيهــا أيضــا يســمي أســماء العلــم مــا نســميه اليــوم الحــدود المفــردة أي التعابيــر اللغويــة التــي تــدل علــى شــيء واحــد ( مثــل قولنــا‬ ‫الكاتــب األشــهر فــي المدينــة ‪ ،‬أو الطالــب األول فــي الصــف ‪ . )....‬وقــد أكــد أن لــكل اســم علــم معنــى (‪ ) sens‬وداللــة‬ ‫(‪ .17) denotation‬داللــة االســم هــي الشــيء الــذي يشــير إليــه ‪ ،‬أمــا المعنــى فهــو « الطريقــة التــي تبعــا لهــا يقــدم هــذا الشــيء‬ ‫« بواســطة االســم ‪ ،‬ويمكــن تصــوره كمحتــوى معرفــي يتــم ربطــه باالســم وبفضلــه تكــون لــه هــذه الداللــة ‪ .‬وهــذا يقــود إلــى تعابيــر‬ ‫لغويــة متعــددة لــكل منهــا مكوناتهــا اللغويــة ‪ ،‬ولكنهــا تتعــادل مــن حيــث الداللــة ‪ ،‬ألنهــا تشــير إلــى الشــيء نفســه ‪ (.‬مثــل تعابيــر‬ ‫‪ :‬ملكــة انكلت ـ ار الحاليــة ‪ ،‬واليزابيــت الثانيــة ‪ ،‬وأم زوج ديانــا سبنســر الســابقة ‪..‬ألــخ )‪.‬لــكل مــن هــذه التعابيــر داللتــه ( وهــي‬ ‫االســم المفــرد نفســه ) وطريقتــه الخاصــة فــي الداللــة أي المعنــى‪.‬‬ ‫لقــد أثــرت آراء فريغــه هــذه فــي تأســيس فك ـرة الذريــة المنطقيــة فــي الفلســفة التحليلــة عنــد رســل ‪ ،‬وفتغنشــتين الــذي امتــد تاثي ـره‬ ‫إلــى الوضعيــة المنطقيــة ‪ .‬اســتند رســل إلــى أعمــال فريغــه المتعلقــة بالمعنــى والداللــة وطورهــا بطريقــة تركــت تاثيـ اًر كبيـ اًر علــى‬ ‫الرســالة المنطقيــة الفلســفية لفتغنشــتين ‪ ،‬وذلــك مــن خــال ‪:‬التمييــز بيــن الشــكل النحــوي والشــكل المنطقــي للعبــارة ‪،‬واســترجاع‬ ‫الشــكل المنطقي وراء المظهر اللغوي ‪ ،‬واعتبار أن الجملة المحللة ‪،‬أي التي تُؤخذ تحت شــكلها المنطقي ‪ ،‬هي ‪ ،‬جوهرياً‪،‬‬ ‫عمليــة وصــل بيــن أســماء تــدل مباشـرة علــى أفـراد أو خصائــص ‪.‬‬ ‫ولكــن طريقــة فريغــه المعقــدة بالتدويــن منعتــه ‪ ،‬كمــا يقــول رســل ‪ ،‬مــن ممارســة تأثيــر كبيــر فــي المنطــق الرمــزي ‪ ،‬بينمــا نبهــت‬ ‫مشــكلة المفارقــات التــي أوضحهــا هــذا المنطــق الفالســفة إلــى « الحاجــة الشــديدة إلــى التدقيــق فــي طريقــة تركيــب الجمــل ‪ ،‬وفــي‬ ‫األلفــاظ المســتخدمة فيهــا «‪. 18‬‬ ‫كان المنطــق التقليــدي يقــوم علــى اعتبــار الحــدود العناصــر األساســية التــي ينبغــي ان تــدرس العالقــات القائمــة بينهــا ‪ ،‬بينمــا‬ ‫المنطــق الــذي أسســه ارســل مــع وايتهــد قلــب هــذه الطريقــة فــي التفكيــر ‪ ،‬فأصبحــت العالقــات هــي العناصــر األساســية التــي‬ ‫ينطلــق منهــا التفكيــر المنطقــي المتعلــق بالحــدود التــي تشــكلها هــذه العالقــات ‪ .‬فالمنطــق لــم يعــد تفســي اًر لقوانيــن الفكــر ‪ ،‬وانمــا‬ ‫نظريــة فــي اللــزوم والتضميــن ‪،‬وعمليــة حســاب‪.‬‬ ‫وقــد دافــع رســل عــن الذريــة المنطقيــة التــي تقــول بــأن العالــم يبــدو كمركــب منطــق(‪ . )complex logique‬الوقائــع مســتقلة‬ ‫إحداهــا عــن األخــرى والعالقــات بينهــا هــي عالقــات خارجيــة‪ . 19‬وكل مــا هــو مركــب يتألــف مــن عناصــر بســيطة ‪ ،‬وكل واقعــة‬ ‫يمكــن تمثيلهــا بجملــة بســيطة هــي الجملــة الذريــة ‪ .‬والجمــل المركبــة ليســت ســوى دمــج منطقــي لهــذه الجمــل البســيطة ‪.‬‬ ‫لكي نعرف ما إذا كانت جملة ما صحيحة أم خاطئة ينبغي إذاً تحليلها ‪ ،‬أي تفكيكها إلى ذرات منطقية ‪.‬‬ ‫يؤكــد رســل‪ 20‬أنــه تبنــى الفلســفة الذريــة المنطقيــة فــي العاميــن ‪ 1900-1899‬واصفــا هــذا التبنــي بالثــورة التــي أدت إلــى قطيعــة‬ ‫فكريــة عنــده فصلــت مــا قبلهــا عمــا بعدهــا واصفــا تفكيـره الالحــق لهــا بأنــه ليــس اال مجــرد تطويــر للذريــة المنطقيــة ‪.‬‬ ‫القضايا في المنطق الرمزي ‪ ،‬كما يرى رسل‪ ،‬ثالثة أنواع ‪:‬‬ ‫القضايا الذرية‪ ،‬وهي النمط الرئيسي في القضايا ‪ ،‬مثل سقراط انسان ‪.‬‬‫القضايا الجزيئية وهي قضابا ذرية اال أنها ربطت بأدوات ( اذا‪ ،‬أو‪ ،‬اال اذا ‪ ،‬واو العطف ‪) ...‬‬‫ القضايا العامة أو الكلية مثل ‪ :‬كل انسان فان (هي حقائق عامة إما بينة بذاتها وإما مستنتجة من حقائق أخرى)‪.‬‬‫إن المنطــق الجديــد هــو منطــق للعالقــات ‪ ،‬ال لحقائــق األشــياء المتعلقــة بهــا ‪.‬العالقــات الداخليــة تتطلــب وجــود خاصــة ذاتيــة‬ ‫للحــد أو الطــرف فــي العالقــة ‪ .‬ولكــن هــذه العالقــات الداخليــة كعالقــة الحــب والكراهيــة مثـاً « ال تصلــح إطالقـاً فــي التعبيــر‬ ‫عــن العالقــات التــي ترســم بنيــة العالــم خصوصـاً عالقــة الالتماثــل ‪ ،‬فحيــن تكــون العالقــة بيــن (أ ) و (ب) عالقــة قبــل أو بعــد‬ ‫‪ ،‬أو ( أ ) أســبق مــن ( ب) ‪ ،‬أو ( أ ) أكبــر مــن (ب) ‪ ،‬فهــذه العالقــة ال يمكــن أن تكــون خاصــة ل( أ ) ألنهــا ال تتحــدد إال‬ ‫مــن الخــارج ‪ ،‬وعلــى ضــوء العالقــة بطــرف آخــر مثــل (ب)‪ .‬هــذه العالقــات ال يمكــن أن تكــون كيفيــات حمليــة أو خصائــص‬ ‫ذاتيــة ‪ ،‬وال يمكــن أن تكــون إال وقائــع عالقيــة وعالقــات خارجيــة»‪ .21‬وهــذا معنــاه ‪ ،‬كمــا يــرى رســل‪ ،‬أن علينــا تلمــس حقائــق‬ ‫‪Marconi ,Diego.La philosophie du langage au vingtieme siecle,www.lyber-eclat.net p5 - 17‬‬ ‫‪.Chapitre 5(la philosophie du langage de Frege), p 2‬‬ ‫ رسل ‪ ،‬برتراند ‪ ،‬حكمة الغرب ‪ ،‬م‪ .‬س ‪،‬ص‪258‬‬‫‪ 18‬‬ ‫‪.www. SOS .Philosophie. free. Fe/Russel,p3 - 19‬‬ ‫ رسل ‪ ،‬فلسفتي كيف تطورت ‪ ،‬م‪.‬س ‪ ،‬ص ‪. 3‬‬‫‪ 20‬‬ ‫ الخويل ‪ ،‬د‪ .‬مينى طريف ‪.‬جدل املثالية والواقعية عند برتراند رسل ‪،‬عامل الفكر‪ ، 30 ،‬املجلس الوطني للثقافة والفنون واآلداب ‪،‬‬‫‪ 21‬‬


‫لــه موقــع جغ ارفــي محــدد وعاصمتــه باريــس ‪ ،‬الزمــن الحاضــر ‪ ،‬األصلــع أي مــن فقــد شــعر أرســه ‪ .‬اللغــة العاديــة المســتندة‬ ‫إلــى اإلحســاس العــام تتيــح لنــا فهــم معنــى مكونــات هــذه العبــارة ‪ ،‬والنحــو هــو وســيلة لفهــم معانــي األلفــاظ داخــل اللغــة ذاتهــا ‪.‬‬ ‫فــي كتابــه مبــادئ الرياضيــات اعتمــد برت ارنــد رســل علــى رأي مــور وذهــب إلــى القــول‪ :‬إن كل مايــرى اإلحســاس العــام ‪ ،‬بعيــدا‬ ‫عــن الفلســفة والالهــوت‪ ،‬أنــه واقعــي ‪ ،‬فهــو واقعــي ‪ .‬ولكنــه عــدل عــن هــذا الموقــف الســاذج ألن اللغــة العاديــة عاطفيــة وانفعاليــة‬ ‫وال تعبــر بدقــة عــن التفكيــر المنطقــي ‪ ،‬ليتبنــى الـرأي القائــل إن اإلحســاس العــام هــو شــكل فــج مــن المعرفــة العلميــة خــال مــن‬ ‫كل نقــد ‪ ،‬وليؤكــد أن مهمــة الفلســفة هــي التحليــل الــذي يســتهدف توضيــح األفــكار ‪.‬‬ ‫ـول االنتبــاه‬ ‫اهتــم رســل اهتمامـاً بالغـاً بمســألة اللغــة وعالقتهــا بالمنطــق ‪ ،‬وأكــد أن «تاثيــر اللغــة فــي الفلســفة كان عميقـاً ولــم ُيـ َ‬ ‫الكافــي» ‪ ،‬لكنــه رفــض مــا ذهــب إليــه مــور فــي اعتبــار اللغــة العاديــة معيــا اًر لمعنــى القضايــا‪ .‬يقــول ‪« :‬أنــا مقتنــع تمامــا أن‬ ‫التشــبث العنيــد باللغــة العاديــة فــي أفكارنــا الخاصــة هــو واحــد مــن المصاعــب األساســية فــي ســبيل التقــدم فــي الفلســفة‪ .‬وأن كثيـ ار‬ ‫‪12‬‬ ‫من النظريات الحالية ال يمكن أن يعبر عنها بأية لغة دقيقة ‪ .‬وأحسب أن هذا هو السبب في عدم شيوع مثل هذه اللغة «‬ ‫اللغــة العاديــة إذاً غيــر قــادرة علــى التعبيــر عــن الفكــر العلمــي بدقــة ‪ ،‬واللغــة تضللنــا بألفاظهــا وتراكيبهــا لهــذا ينبغــي أن نأخــذ‬ ‫حذرنــا منهــا‪ .‬وال بــد مــن أن نميــز بيــن الشــكل النظمــي للجملــة (‪ )syntactical form‬وشــكلها المنطقــي مــن جهــة أخــرى ‪،‬‬ ‫ألن األول ال يناظــر الثانــي ‪ ،‬وأكثــر مــن ذلــك كثيـ اًر مــا يضللنــا الشــكل األول ويولــد لدينــا ألوانـاً مــن التشــويش الفكــري والخلــط‬ ‫المنطقــي ‪.‬إن اهتمــام رســل باللغــة يقــوم علــى اعتقــاده بــأن التحليــل المنطقــي للغــة يــؤدي إلــى معرفتنــا بالصــورة الحقيقيــة للواقــع‬ ‫‪ ،‬وبهــذا المعنــى يختلــف التحليــل الفلســفي عــن التحليــل األلســني أو اللغــوي‪. 13‬‬ ‫فــي اللغــة يمكــن وضــع كل جملــة علــى شــكل مؤلــف مــن موضــوع ومحمــول ‪ ،‬تربــط بينهمــا رابطــة مــا ‪ ،‬ونســتنتج أن كل واقعــة‬ ‫تقــوم علــى امتــاك شــيء لصفــة مــا‪ .‬وهكــذا فــان رد كل قضيــة إلــى هــذه الصــورة ‪ :‬موضــوع ‪ +‬رابطــة ‪ +‬محمــول قــد أدى ‪،‬‬ ‫كمــا يــرى رســل‪ ،‬إلــى الكثيــر مــن المشــاكل الزائفــة فــي الفلســفة ‪.‬‬ ‫إن الكثيــر مــن األفــكار الفلســفية قائــم علــى الخلــط بيــن الشــكل النحــوي والشــكل المنطقــي للفظــة ‪ ،‬والتمييــز بينهمــا ينتــج عنــه‬ ‫أنــه ليــس مــن الضــروري أن تكــون القضيــة إمــا صادقــة أو كاذبــة بــل يمكــن أيضــا أن تكــون خاليــة مــن المعنــى ‪.‬‬ ‫إن اللغــة العاديــة تخلــط بيــن الشــكل النحــوي والشــكل المنطقــي ‪ ،‬ومــن هنــا كانــت مصــد اًر مســتم اًر للخلــط والغمــوض والتشــويش‬ ‫فــي األمــور التــي تتناولهــا ‪ .‬وللتحررمــن ذلــك ينبغــي أن تضــع الفلســفة لنفســها لغــة ســليمة يتطابــق فيهــا الشــكالن ‪ .‬وهــذا ال‬ ‫يعنــي أن رســل يدعــو إلــى ابتــكار نــوع مــن اللغــة المثاليــة الخاصــة بالفلســفة ‪ ،‬فهــو يقــول ‪« :‬لــم أقصــد إلــى القــول‪ :‬إنــه ينبغــي‬ ‫‪14‬‬ ‫ابتــكار مثــل هــذه اللغــة ‪ ،‬إال فــي بعــض المياديــن ومــن أجــل بعــض المســائل « ‪.‬‬ ‫لقد اســتخدم الفالســفة المنطق في حل المشــاكل الفلســفية ‪ ،‬ولكن القياس األرســطي عقيم ‪ ،‬واالســتقراء ‪،‬الذي اعتمده فرنســيس‬ ‫بيكــون وجــون اســتيوارت مــل‪ ،‬يعجــز عــن حــل مشــكلة ِ‬ ‫العِّلَّيــة المطــردة فــي الطبيعــة ‪ ،‬والجــدل الهيغلــي يخلــط مــا بيــن المنطــق‬ ‫والميتافيزيقــا ‪ ،‬أمــا المنطــق الرياضــي ‪ ،‬فهــو وحــده ‪ ،‬كمــا يــرى رســل ‪ ،‬األداة المناســبة لحــل المشــكالت الفلســفية ‪.‬‬ ‫يؤكــد رســل أنــه بعــد اطالعــه علــى كتابــات عالــم المنطــق والرياضيــات األلمانــي «فريغــه» كان أول مــن لفــت األنظــار إليهــا ‪،‬‬ ‫وتبنــى انطالقــا منهــا رأي فريغــه القائــل بــأن «الرياضيــات مــا هــي إلــى امتــداد للمنطــق « ‪ ، 15‬فمنــذ ايــام كانــط الــذي كان يــرى‬ ‫ان المنطــق تــام وكامــل ‪ ،‬حدثــت تغيـرات هائلــة فــي د ارســة النظريــة المنطقيــة واســتحدثت بوجــه خــاص طــرق جديــدة لمعالجــة‬ ‫البراهيــن المنطقيــة بصيــغ رياضيــة ‪ ،‬وكان فريغــه أول مــن قــدم عرضـاً منهجيـاً لهــذه الطريقــة الجديــدة فــي المنطــق ‪.‬‬ ‫أدت طريقــة فريغــه فــي معالجــة الرياضيــات‪ ،‬كمــا يــرى رســل‪ ،‬إلــى التمييــز « بيــن معنــى أيــة جملــة وإشــارتها ‪ ،‬وهــو أمــر‬ ‫الزم لتفســير حقيقــة أن المعــادالت ليســت مجــرد تكـ اررات فارغــة ‪ ،‬فطرفــا المعادلــة يشــيران إلــى نفــس الشــيء ‪ ،‬ولكنهمــا يختلفــان‬ ‫فــي المعنــى «‪. 16‬‬ ‫كان فريغــه أول مــن أشــار إلــى التعابيــر التــي تــدل علــى معنــى األوصــاف المحــددة (مثــل ملــك فرنســا ‪ ،‬أو مؤلــف الجمهوريــة‬ ‫‪ ،‬أو أســتاذ االســكندر ‪ ، ) ...‬والتعابيــر التــي تــدل علــى ســياقات تتعلــق بالمواقــف الشــخصية ( مثــل يعتقــد س أن ‪ ....‬و‬ ‫س يريــد أن يعــرف مــااذا ‪ . ) ...‬وقــد عــرض القســم األكبــر مــن أفــكاره المتعلقــة بداللــة اللغــة بيــن عامــي ‪ 1891‬و‪. 1892‬‬

‫‪1 2‬‬ ‫‪ 13‬‬ ‫‪ 14‬‬ ‫‪ 15‬‬ ‫‪ 16‬‬

‫ رسل ‪ ،‬برتراند ‪.‬فلسفتي كيف تطورت ‪ ،‬ترجمة عبد الرشيد صادق ‪ ،‬مراجعة زيك نجيب محمود ‪ ،‬مكتبة االنجلو مرصية ‪ ،‬ط‪ ،1‬القاهرة ‪ ، 1960‬ص ‪. 212‬‬‫ بدوي ‪ ،‬د‪ .‬عبد الرحمن ‪ .‬ملحق موسوعة الفلسفة‪،‬ط‪، 1‬املؤسسة العربية للدراسات والنرش‪ ،‬بريوت ‪، 1996‬ص ‪. 254‬‬‫ م‪.‬ن ‪ ،‬ص ‪. 254‬‬‫ رسل ‪ ،‬برتراند ‪ ،‬حكمة الغرب ‪ ،‬ص ‪. 255‬‬‫‪ -‬م‪.‬ن ‪ ،‬ص ‪. 255‬‬


‫تحليــل الجملــة عنــد رســل يبــدأ أوالً بتمييــز مكوناتهــا بعضهــا مــن بعــض لتحليــل كل منهــا علــى حــدة ‪ ،‬حتــى اذا مــا تــم لنــا ذلــك‬ ‫عدنــا إلــى العبــارة كلهــا نحــاول فهمهــا علــى ضــؤ ذلــك التحليــل‪ . 28‬فالتحليــل يركــز اذن علــى األلفــاظ ‪،‬وطــرق بنــاء العبــارات‬ ‫‪،‬والتمييــز بيــن الصــورة النحويــة التــي تتخذهــا العبــارة ‪،‬والقضايــا المنطقيــة التــي تتضمنهــا ‪.‬‬ ‫وقــد اهتــم رســل اهتمام ـاً خاص ـاً بتحليــل العبــارة الوصفيــة التــي حددهــا فــي كتابــه مقدمــة للفلســفة الرياضيــة قائــا ‪ « :‬العبــارة‬ ‫الوصفيــة قــد تكــون أحــد نوعيــن فهــي إمــا خاصــة أو عامــة ‪ ،‬فأمــا العامــة فهــي مــا دل علــى فكـرة ‪ ،‬وأمــا الخاصــة فهــي مــا دلــت‬ ‫علــى فــرد بذاتــه»‪ .29‬وأكــد أن العبــارات الوصفيــة العامــة تــدل علــى مــدرك عقلــي وليــس علــى أفـراد حقيقييــن ينتمــون إلــى العالــم‬ ‫الواقعــي أي عالــم األشــياء ‪ ،‬وأن الجملــة المحتويــة علــى عبــارة وصفيــة عامــة هــي «دالــة قضيــة « ال « قضيــة « ‪ ،‬وهــذا يعنــي‬ ‫أنهــا « ال تتحــدث عــن شــيء وال تتحــول قضيــة متحدثــة عــن شــيء اال اذا أحللنــا اســم علــم مــكان الكلمــة ذات المعنــى الكلــي‬ ‫«‪ . 30‬انطالقـاً مــن هــذا التحديــد‬

‫‪2 8‬‬ ‫‪ 29‬‬ ‫‪ 30‬‬

‫ محمود ‪ ،‬زيك ‪ .‬نجيب ‪.‬موقف من امليتافيزيقا ‪ ،‬م‪ .‬س ‪ ،‬ص ‪. 163‬‬‫ م‪ .‬ن ‪ ،‬ص ‪.164‬‬‫‪ -‬م ‪ ،‬ن ‪ ،‬ص ‪. 168‬‬


‫األشــياء فــي طــرق بنائهــا ‪ ،‬وليــس فــي جواهــر أنواعهــا ‪ ،‬أي تلمــس الحقائــق فــي العالقــات التــي تربــط بيــن األطـراف أكثــر مــن‬ ‫األطـراف المرتبطــة بتلــك العالقــات ‪ .‬وهنــا تســتطيع الرياضيــات أن تلعــب الــدور الحاســم فعالقــة الجمــع مثــا ‪ :‬س ‪ +‬ص =‬ ‫ع تمثــل معادلــة تربــط بيــن حــدود ‪ ،‬بغــض النظــر عــن األشــياء التــي يمكــن أن ترتبــط بهــذه العالقــة الرياضيــة ‪ .‬يــرى رســل أن‬ ‫عالــم الرياضيــات هــو الرجــل الــذي ال يعــرف عمــا يتحــدث ‪ ،‬ويعتبــر أن العالقــة وثيقــة مــا بيــن المنطــق والرياضيــات ؛ فالمنطــق‬ ‫ِ‬ ‫صبــا الرياضيــات ‪ ،‬والرياضيــات رجولــة المنطــق‪ 22.‬وقــد قــاده االعتمــاد علــى المنطــق الرياضــي إلــى اعتبــار نفســه فيلســوف‬ ‫الذريــة المنطقيــة‪ .‬يقــول ‪ « :‬التعريــف الوحيــد الــذي أرتضيــه لنفســي ‪ ،‬هــو تعريــف الذريةالمنطقيــة « ‪ ، 23‬ويفســر معنــى هــذا‬ ‫التعريــف بالقــول ‪ « :‬إن الطريقــة التــي تصــل بهــا إلــى معرفــة طبيعــة أي موضــوع مــن موضوعــات البحــث هــو التحليــل ‪ ،‬وذلــك‬ ‫بــأن تظــل تحلــل فــي الموضــوع مرتــداً بــه إلــى عناصـره األوليــة التــي ال يمكــن تحليلهــا إلــى مــا هــو أقــل منهــا ‪ ،‬هــذه العناصــر‬ ‫األوليــة هــي الــذرات المنطقيــة ‪ ،‬وأنــا أســميها ذرات منطقيــة ألنهــا ليســت جزئيــات صغيـرة مــن المــادة ‪ ،‬وانمــا هــي أفكارنــا عــن‬ ‫المــادة التــي يتألــف منهــا الشــيء «‪.24‬‬ ‫لقــد جــاء تبنــي رســل لمــا أســماه الذريــة المنطقيــة فــي عصــر باتــت فيــه الــذرة محــور الد ارســة فــي الفيزيــاء ‪ ،‬والخليــة محــور الد ارســة‬ ‫فــي البيولوجيــا ‪ ،‬فــكان بذلــك منســجما مــع علــوم عص ـره ‪ ،‬وســعى ألن تتبنــى الفلســفة منهج ـاً دقيق ـاً يجعــل منهــا فلســفة علميــة‬ ‫مــن خــال الربــط بيــن التفكيــر والمنطــق واللغــة ‪ ،‬فوجــد ضالتــه فــي الفكـرة بوصفهــا ذرة منطقيــة ترتبــط بعالقــة مــع ذرة أخــرى‬ ‫لتنشــأ عنهــا جزيئيــة منطقيــة ‪ ،‬والجزيئيــات تت اربــط فيمــا بينهــا لكــي تشــكل مختلــف القضايــا التــي نعبــر عنهــا بواســطة الــكالم ‪.‬‬ ‫وهكــذا ؛ فــان الخطــأ فــي التفكيــر مــرده إلــى خلــط االنســان بيــن ماهــو فــرد ومــا هــو مجموعــة ؛ فالحديــث عــن األشــياء الواقعــة ال‬ ‫يمكــن أن يكــون عــن مجموعــات ‪ ،‬ألن األشــياء الواقعــة ال يمكــن أن تكــون إال مفــردات ‪ ،‬وكالم المتكلــم عــن مجموعــات البــد‬ ‫مــن رده إلــى صــورة لفظيــة تشــير إلــى مفــردات لكــي تتــاح إمكانيــة التقابــل بيــن البنــاء اللفظــي وبنــاء الواقــع الخارجــي ؛ فــا بــد‬ ‫إذاً مــن « تحليــل الــكالم المجمــل إلــى ذ ارتــه لتتمكــن مــن مراجعــة كل ذرة فكريــة علــى الواقعــة المفــردة التــي جــاءت تلــك الــذرة‬ ‫الفكريــة لتصفهــا ‪ ،‬أمــا أن تتــرك الــكالم علــى إجمالــه ‪ ،‬ثــم يخيــل إليــك أنــك قــادر علــى الحكــم بصوابــه أو بطالنــه ‪ ،‬فذلــك هــو‬ ‫المنزلــق الــذي يــؤدي إلــى الضــال ‪ .....،‬واذا وجــدت أن الــكالم المجمــل العــام يســتعصي علــى الــرد إلــى ذرات فرديــة فــي دنيــا‬ ‫اللفــظ وفــي دنيــا الواقــع ‪ ،‬فاعلــم أن أرجــح الـرأي عندئــذ هــو أنــك بــازاء كالم بغيــر معنــى « ‪.25‬‬ ‫كان التصــور الكالســيكي للحقيقــة يقــوم علــى التطابــق بيــن اعتقــاد مــا وواقعــة معينــة ‪ ،‬ولكننــا ‪ ،‬كمــا يــرى رســل ‪ ،‬لــن نكــون‬ ‫متأكديــن مــن واقعــة معينــة إال عنــد امتالكنــا لتجربــة مباشـرة مرتبطــة بهــا ‪ ،‬مثــل قولنــا «أنــا أشــعر بالعطــش» ‪ ،‬أو «أرى البحــر‬ ‫األزرق أمــام نافذتــي» ‪.‬‬ ‫يســتند اليقيــن ‪ ،‬كمــا يــرى رســل إلــى المعطيــات الحســية التــي تكــون تجربتنــا أو خبرتنــا الشــخصية ؛ فالمظاهــر الحســية هــي‬ ‫عالمــي الخــاص فــي مكانــي الخــاص ‪ ،‬والعالــم هــو نظــام مــن المظاهــر أو المنظــورات (‪ ، ) perspectives‬وهــذا مــا يتيــح لنــا‬ ‫التفكيــر بأنــه توجــد أشــياء فيزيائيــة ثابتــة ودائمــة فــي مــكان معلــوم ‪ ،‬حتــى لــو لــم تكــن معطيــات لــإدراك ‪.26‬‬ ‫وهكــذا ؛ مثلمــا يفــكك رســل الجمــل المركبــة إلــى جمــل بســيطة ‪ ،‬فانــه يفــكك اإلدراك الكلــي للعالــم الخارجــي إلــى معطيــات حســية‬ ‫تشــكل كل منهــا «واقعــة ذريــة «‪ ،‬بهــدف الدقــة التــي تتطلــب القيــام بعمليــة انتخــاب بيــن مــا يعطــى لنــا بوضــوح بواســطة حواســنا‬ ‫الخمــس ‪ ،‬ومــا ليــس إال مســتنتجاً مــن الــذات المدركــة ويفتقــد إلــى اليقيــن ‪.‬لقــد ســعى ألن يخــرج إلــى النــور تشــابهاً بنيويـاً بيــن‬ ‫الجمــل الذريــة والوقائــع الذريــة ‪ ،‬بيــن المنطــق والواقــع الحســي ‪،‬ليتــم اســتناداً إلــى ذلــك حــل بعــض المشــكالت التقليديــة التــي‬ ‫طرحتهــا الفلســفة االمبيريــة ‪ ،‬والبرهنــة أن المشــكالت األخــرى مثــل مشــكلة وجــود هللا مثــا هــي غيــر قابلــة للحــل ‪.‬‬ ‫وعنــده ؛ مــا عــاد المنطــق أساســا للرياضيــات فقــط ‪ ،‬وإنمــا للفلســفة ‪ ،‬أيضــا ‪ .‬يقــول ‪ « :‬كل مشــكلة فلســفية يتــم إخضاعهــا‬ ‫للتحليــل والتوضيــح الضــروري نجــد أنهــا إمــا ليســت مشــكلة فلســفية إطالقــا ‪ ،‬أو مشــكلة منطقيــة « ‪.27‬‬ ‫ تحليل الجملة والعبارة الوصفية ‪:‬‬‫الكويت ‪،‬يوليو‪-‬سبتمرب ‪، 2001‬ص‪. 24‬‬ ‫‪.3 SOS. Philosophie, ibid,p - 22‬‬ ‫ رسل برتراند ‪ ،‬محاورات برتراند رسل ‪. 15 ،‬‬‫‪ 23‬‬ ‫ م‪.‬ن ‪ ،‬ص ‪. 16‬‬‫‪ 24‬‬ ‫ محود ‪ ،‬د‪ .‬زيك نجيب ‪ ،‬نافذة عىل فلسفة العرص ‪ ،‬كتاب العريب الكويت ‪ 15‬ابريل ‪ ، 1990‬ص ‪. 75‬‬‫‪ 25‬‬ ‫‪.SOS Philosophie.fr \ Russel,ibid,p 4- 26‬‬ ‫‪ibid , p 4 - 27‬‬


‫(تحقيقــات فلســفية ) فقــد بــدأ بتحريـره ســنة ‪ ، 1936‬ويبــدو أنــه حــرر الجــزء الثانــي انطالقــا مــن العــام ‪ ، 1947‬لكــن الكتــاب‬ ‫لــم يصــدر اال ســنة ‪ ، 1953‬بعــد وفاتــه بســنتين ‪.‬‬ ‫وضــع فيتغنشــتين كتابــه األول رســالة منطقيــة فلســفية بفعــل اتصالــه برســل وق ـراءة أعمالــه المتعلقــة بأســس الرياضيــات‬ ‫والمنطــق الرياضــي‪ .‬وقــد بــدأ هــذا الكتــاب بعبــارات عــن العالــم والوقائــع تقــول ‪:‬‬ ‫ ‪-‬العالم هو كل موضوع البحث والدراسة ‪.‬‬ ‫ ‪-‬العالم هو مجموع الوقائع ال مجموع األشياء‪.‬‬ ‫ ‪-‬ينقسم العالم إلى وقائع ‪.‬‬ ‫يبــدو لنــا ‪ ،‬كمــا يــرى فتغنشــتين ‪ ،‬أن العالــم يتكــون مــن اشــياء ‪ .‬هــذه هــي وجهــة نظــر الحــس المشــترك التــي ال تــرى فــي العالــم‬ ‫أكثــر مــن مجمــوع األشــياء ‪ .‬القائمــة التــي تضــم اســماء جميــع األشــياء ال تعطينــا ســوى فكـرة غيــر دقيقــة عمــا يمكــن هــذا العالــم‬ ‫أن يكــون ‪ .‬ان حقيقــة العالــم هــي ان ثمــة وقائــع وليــس ثمــة أشــياء ؛ فالعالــم هــو األشــياء وطــرق تنظيمهــا فــي اآلن نفســه ‪« .‬‬ ‫يوجــد عــدد كبيــر مــن العوالــم الممكنــة التــي نســتطيع انشــاءها مــن األشــياء التــي يتكــون منهــا هــذا العالــم الحاصــل بالفعــل ‪ ،‬ألنــه‬ ‫مــن الممكــن تنظيــم هــذه األشــياء فــي طــرق متباينــة «‪ 35‬؛ فالعالــم اذن هــو مجمــوع الوقائــع ال مجمــوع األشــياء‪ ،‬ألنــه ذو أبعــاد‬ ‫زمانيــة ومكانيــة وليســت أبعــاده مكانيــة فقــط ‪(،‬عالــم األشــياء هــو عالــم األبعــاد المكانيــة فقــط ) ‪ ،‬ولذلــك يمكــن الحديــث عــن‬ ‫وقائــع هــذه الحــرب أو تلــك ‪ ،‬أو عــن واقعــة شــرب ســقراط للســم ‪ ،‬ومــا إلــى ذلــك مــن وقائــع العالــم المختلفــة ‪.‬‬ ‫ان الواقعــة هــي مجموعــة مــن األشــياء المنظمــة والمؤتلفــة علــى نحــو معيــن (مثــا‪ :‬الحصــان المفتــرش للعشــب فــي الحديقــة‬ ‫) ‪ .‬والعالــم هــو مجمــوع الوقائــع ‪ ،‬وهــذه األخي ـرة كمــا يــرى فتغنشــتين شــديدة التعقيــد ‪ ،‬ولكنهــا تشــتمل علــى مــا هــو اقــل منهــا‬ ‫تعقيــدا ‪،‬وهكــذا فإنهــا يمكــن أن تنحــل إلــى مــا هــو ابســط منهــا لكــي نصــل فــي نهايــة التفكيــك إلــى الوقائــع الذريــة ‪ ».‬إن الوقائــع‬ ‫الذريــة هــي البنيــة النهائيــة لهــذا العالــم بمعنــى أن العالــم ينقســم فــي النهايــة إلــى تلــك الوقائــع ‪ .‬وتلــك هــي ابســط األشــياء التــي‬ ‫تقــوم بنفســها والتــي يمكــن أن توجــد بذاتهــا فــي انعـزال «‪. 36‬‬ ‫بــدا لفتغنشــتين فــي الرســالة ‪ ،‬كمــا يؤكــد برت ارنــد ارســل ‪ « ،‬أن مــن الممكــن تحليــل جميــع القضايــا إلــى مكونــات نهائيــة بســيطة‬ ‫ال تقبــل مزيــدا مــن التجــزيء ‪ .‬ومــن ثــم كان يطلــق علــى هــذه النظريــة أحيانــا اســم الذريــة المنطقيــة «‪. 37‬‬ ‫يتبنــى فتغنشــتين ‪ ،‬فــي الرســالة ‪ ،‬موقفــا مــن عالقــة اللغــة بالواقــع ال يختلــف عــن موقــف اســتاذه برت ارنــد ارســل ؛ فــكل قضيــة‬ ‫صادقــة تســتمد صدقهــا مــن كونهــا تصــور واقعــة معينــة ‪ .‬وكل قضيــة إمــا أن تكــون ذريــة أو جزيئيــة ‪ ،‬فتكــون القضيــة الذريــة‬ ‫صادقــة إذا كانــت تتناســب مــع واقعــة أوليــة بســيطة ‪ ،‬امــا اذا كانــت جزيئيــة فــان صدقهــا مســتمد مــن صــدق مكوناتهــا الذريــة‬ ‫والروابــط التــي بينهــا ‪ .‬ولهــذا الســبب فــان القضايــا الصحيحــة التــي تعبــر عــن وقائــع هــي ذات شــكل تصويــري ‪ ،‬أي انهــا قضايــا‬ ‫تصــور بنيــة العالــم ‪ .‬والشــيء المشــترك بيــن « القضيــة « و»الواقعــة « هــو « الصــورة المنطقيــة « التــي يعتبرهــا فتغنشــتين‬ ‫بنيــة مشــتركة بيــن القضيــة ومــا تمثلــه ‪.‬‬ ‫يقــول فــي الرســالة ‪ « :‬القضايــا تصــف هيــكل العالــم «‪ . 38‬العالــم مكــون مــن وقائــع أوليــة ووقائــع مركبــة قابلــة ألن تتفــكك إلــى‬ ‫وقائــع بســيطة أو أوليــة ‪ .‬واللغــة تتكــون مــن القضايــا الذريــة والقضايــا الجزيئيــة أو المركبــة ‪ .‬لذلــك فــان العالقــة بيــن اللغــة والعالــم‬ ‫ينبغــي أن تكــون عالقــة تطابــق ‪ ،‬وهكــذا فــان القضايــا ‪ ،‬عندمــا تكــون ذات معنــى ‪ ،‬تظهــر ‪ ،‬كمــا يــرى فتغنشــتين ‪ ،‬الصــورة‬ ‫المنطقيــة للوجــود الخارجــي ‪ ،‬اي أنهــا تعــرض وقائــع قابلــة للتحقــق منهــا تجريبيــا أو منطقيــا ‪.‬‬ ‫اللغــة كمــا يحددهــا فتغنشــتين‪ 39‬هــي مجمــوع القضايــا ‪ ،‬والعالــم هوجميــع مــا هنالــك ‪ ،‬أي مجمــوع الوقائــع وليــس األشــياء ‪.‬‬ ‫هنــاك تـواز بيــن مــا هــو منطقــي ومــا هــو فيزيائــي انطالقــا منــه تصبــح الكلمــات تســمية لألشــياء ‪ ،‬وكل شــيء يمكــن تســميته هــو‬ ‫واقعــة ذريــة أوليــة يعبــر عنهــا بقضيــة ذريــة أوليــة ‪.‬‬ ‫وتحليــل اللغــة يأخــذ عنــد فتغنشــتين اتجاهيــن متكامليــن ‪ :‬األول هــو اعتبــار اللغــة وســيلة نتعــرف مــن خاللهــا علــى األشــياء ‪،‬‬ ‫والثانــي اعتبارهــا تعبيـ ار عــن األفــكار فــي الذهــن ‪ .‬وبذلــك يكــون وضــوح أفكارنــا ودقتهــا مرتبطيــن بمعرفــة مــدى مطابقتهــا للواقــع‬ ‫‪3 5‬‬ ‫‪ 36‬‬ ‫‪ 37‬‬ ‫‪ 38‬‬ ‫‪ 39‬‬

‫ الديدي ‪ ،‬عبد الفتاح ‪ .‬االتجاهات املعارصة يف الفلسفة ‪ ،‬ط‪ ، 2‬الهيئة املرصية العامة للكتاب ‪ ،1985‬ص ‪. 269‬‬‫ م ‪ .‬ن ‪ ،‬ص ‪. 270‬‬‫ رسل ‪ ،‬برتراند ‪ .‬حكمة الغرب ‪ ،‬ج‪ ، 2‬م‪ .‬س ‪ ،‬ص ‪. 302‬‬‫ فتغنشتني ‪ ،‬لودفيغ ‪ .‬رسالة منطقية – فلسفية ‪ ،‬ص ‪. 148‬‬‫‪ -‬م‪ .‬ن ‪ ،‬ص ‪. 82‬‬


‫تصبــح العبــارات الميتافيزيقيــة بالنســبة لرســل عبــارات وصفيــة عامــة تعتمــد الكليــات واأللفــاظ الكليــة ‪ ،‬وتتيــح لنــا التحــدث عــن‬ ‫موضوعــات ال وجــود لهــا بــأي معنــى مــن المعانــي ولكنهــا تشــترك فــي الصــورة النحويــة مــع العبــارات التــي تشــير فعــا إلــى‬ ‫أشــياء واقعيــة ‪ ( .‬أريــت شــجرة ‪ ،‬و أريــت غـوال ‪ ،‬عبارتــان لهمــا نفــس الصــورة النحويــة ولهمــا ايضــا نفــس الصــورة المنطقيــة فــي‬ ‫المنطــق التقليــدي ‪ ،‬ولكــن صورتهمــا النحويــة واحــدة بينمــا الصــورة المنطقيــة مختلفــة بينمهــا بالنســبة للمنطــق الحديــث ) ‪ .‬وألن‬ ‫الصــورة المنطقيــة للعبــارات الميتافيزيقيــة تبيــن لنــا انهــا عبــارات وصفيــة عامــة لذلــك هــي ال يمكــن ان يحكــم عليهــا بانهــا صادقــة‬ ‫او كاذبــة فتكــون فارغــة مــن المعنــى ‪ ،‬اي هــي ال تفيــد اي نــوع مــن أنـواع المعرفــة ‪.‬‬ ‫هنــاك جانبــان للمعرفــة عنــد رســل ‪ « :‬معرفــة باالتصــال المباشــر ومعرفــة بالوصــف «‪ . 31‬المعرفــة باالتصــال المباشــر هــي‬ ‫إدراك دون اســتدالل (هــذه الشــجرة الخضـراء امامــي ‪ ،‬هــذه الموســيقى التــي اســتمتع بســماعها ‪ ، ) ...‬أمــا المعرفــة بالوصــف‬ ‫فهي معرفة الشــيء دون الحاجة إلى االتصال به اتصاالً مباشـ اًر (مثال ‪ :‬رأيت اســداً ‪ ،‬صادفت فناناً ‪ ، )...‬وبفضلها نجاوز‬ ‫حــدود خبرتنــا االحســية المباشـرة لننتفــع بخبـرات اآلخريــن ‪.‬وكل عبــارة وصفيــة ال يمكــن فهمهــا اال اذا كانــت ممكنــة التحويــل‬ ‫إلــى جزئيــات يمكــن معرفتهــا باالتصــال المباشــر ‪ ،‬واال كانــت بغيــر معنــى ‪ .‬يقــول رســل فــي كتابــه مشــكالت الفلســفة ‪ « :‬مــا‬ ‫أقــول عنــه إنــه معــروف بالوصــف يمكــن تحويلــه بالنهايــة إلــى معرفــة باالتصــال المباشــر «‪ ، 32‬فالمبــدأ األساســي فــي نظريــة‬ ‫المعرفــة الــذي يتــم االعتمــاد عليــه فــي تحليــل القضايــا هــو أن أي قضيــة يمكننــا فهــم معناهــا ال بــد ان تتالــف جميــع أجزائهــا‬ ‫مــن مكونــات قابلــة للمعرفــة الحســية المباشـرة‪ .‬يحــدد رســل المعرفــة المباشـرة بأنهــا تلــك التــي تتكــون لدينــا « عندمــا نعــي مباشـرة‬ ‫شــيئاً مــا دون واســطة مــن أيــة عمليــة اســتدالل عقليــة «‪ 33‬ويؤكــد ضــرورة هــذه المعرفــة المباش ـرة فــي تحديــد المعنــى ‪ ،‬ذلــك‬ ‫أن « كل قضيــة نفهــم معناهــا ينبغــي أن تتكــون كليــة مــن مكونــات نعرفهــا مباشـرة «‪ . 34‬وهــذه المعرفــة المباشـرة أنـواع منهــا‪:‬‬ ‫معرفــة المعطيــات الحســية الخارجيــة لألشــياء ‪ ،‬ومعرفــة الحــاالت الداخليــة للمــدرك عــن طريــق االســتبطان ‪،‬والفهــم أي معرفــة‬ ‫التصــورات الكليــة مباشـرة عــن طريــق التجريــد المســتند إلــى االتصــال المباشــر باألشــياء الجزئيــة المفــردة ‪.‬‬ ‫لقــد شــكلت وجهــة نظــر رســل هــذه المحــور الــذي تــدور حولــه كل الفلســفة التحليليــة المعاص ـرة التــي جعلــت هدفهــا الوصــول‬ ‫إلــى الحــد األقصــى مــن الدقــة والوضــوح مــن خــال تحليــل ألفــاظ اللغــة وعبارتهــا لتمييــز مــا كان منهــا ذا معنــى ومــا كان فاقــداً‬ ‫للمعنــى ‪ ،‬وقــد كان فتغنشــتين ‪ ،‬تلميــذ رســل أول مــن تابــع اســتاذه فــي هــذا االتجــاه الفلســفي‪.‬‬ ‫ فيتغنشتين والذرية المنطقية‪:‬‬‫اء‪ .‬أبــوه كان صناعيــا فــي ميــدان الســاح‬ ‫ولــد لودفيــغ فتغنشــتين فــي ‪ 26‬نيســان ‪ 1889‬فــي إحــدى األســر النمســاوية األكثــر ثـر ً‬ ‫والفـوالذ ‪ .‬درس هندســة الطيـران ‪ ،‬واثنــاء د ارســته اجتذبتــه الرياضيــات واهتــم بأصولهــا ‪ .‬أرشــده اســاتذته إلــى كتــاب «برنكيبــا‬ ‫ماتيماتيــكا» ل ارســل وهوايتهــد ‪ ،‬ودرس اضافــة إلــى ذلــك أعمــال فريغــه ‪ .‬ســافر إلــى المانيــا حيــث التقــى بفريغــه وناقــش معــه‬ ‫أصــول الرياضيــات ‪ ،‬وكانــت نصيحــة فريغــه لــه أن يتابــع د ارســته فــي كامبريــدج علــى يــد برت ارنــد ارســل‪ ،‬وهــذا مــا فعلــه ‪.‬‬ ‫تطــوع للخدمــة العســكرية فــي الحربيــن العالميتيــن األولــى والثانيــة ‪ ،‬ومــارس التعليــم االبتدائــي ووضــع كتابــا عــن هــذه التجربــة‬ ‫لقــي بعــض الــرواج ‪ .‬كان مولعـاً بالموســيقى إلــى حــد الهــوس ‪ ،‬واهتــم أيضــا بالسياســة‪.‬‬ ‫كتــب اثنــاء وقوعــه فــي األســر علــى الجبهــة االيطاليــة فــي الحــرب العالميــة األولــى مــا يعــرف باليوميــات ‪ ،‬وأصــدر فــي‬ ‫أوائــل العش ـرينات كتابــه األول (رســالة منطقيــة فلســفية)‪ .‬وهــو الكتــاب الوحيــد الــذي نشــر فــي حياتــه ‪ .‬وفــي الفت ـرة مابيــن‬ ‫‪1933‬و‪ 1935‬وضــع مــا يعــرف بالك ارســة الزرقــاء والك ارســة البنيــة حــاول فيهمــا االجابــة علــى السـؤال االساســي فــي فلســفته ‪:‬‬ ‫مــا هــي العالقــة بيــن األلفــاظ واألشــياء التــي تشــير إليهــا ؟‬ ‫يفتتــح الك ارســة البنيــة بتحليــل نظريــة القديــس أوغســطين حــول عالقــة األســماء بالمســميات‪ .‬ويبتــدئ الك ارســة الزرقــاء بالسـؤال‬ ‫األهــم ‪ :‬مــا هــو معنــى اللفظــة ‪ ،‬وهــو نفــس السـؤال الــذي ســيفتتح فيــه كتابــه األهــم (تحقيقــات فلســفية ) فيمــا بعــد ‪.‬‬ ‫كان يكتــب مالحظاتــه علــى بطاقــات يجمعهــا فــي علبــة ‪ ،‬وال ي ـزال المهتمــون بفك ـره يطلعــون علــى مــا كتــب فيهــا وينشــرونها‬ ‫علــى الرغــم مــن مــرور نصــف قــرن علــى وفاتــه‪ .‬ومــن الكتــب التــي نشــرت بعــد وفاتــه (مالحظــات فلســفية ‪، )1954‬امــا كتــاب‬

‫ م‪ .‬ن ‪،‬ص ‪. 180‬‬‫‪ 31‬‬ ‫ م‪ .‬ن ‪ ،‬ص ‪. 181‬‬‫‪ 32‬‬ ‫‪. Russel, B. Probleme de la philosophie, 17eme edition payot France 1972,p 57 - 33‬‬ ‫‪.67 ibid p - 34‬‬



‫مــن خــال تحليــل اللغــة‪.‬‬ ‫وهكــذا فــان الفلســفة ال تضيــف شــيئا إلــى معرفتنــا ‪ ،‬ومهمتهــا تنحصــر فــي تحديــد معنــى التعبيـرات اللغويــة مــن أجــل فهــم األفــكار‬ ‫والتحقــق مــن صدقهــا ‪ ،‬ألنــه بــدون الفلســفة تبقــى األفــكار غامضــة ‪ ،‬ولتفــادي هــذا الغمــوض ال بــد للفلســفة مــن القيــام بمهمتهــا‬ ‫المتمثلــة بتوضيــح القضايــا الفلســفية ‪.‬‬ ‫إن القضيــة ذات المعنــى ‪،‬كمــا يــرى فتغنشــتين ‪ ،‬هــي صــورة لواقعــة فــي العالــم ‪ ،‬والتحديــد الدقيــق لمعنــى العبــارات اللغوبــة يهــدف‬ ‫إلــى ربــط مــا تعنيــه الكلمــات بالواقــع ‪ ،‬لذلــك كانــت العبــارات الميتافيزيقيــة خاليــة مــن المعنــى ‪.‬‬ ‫إن القضايــا التــي التصــور الوقائــع هــي امــا كاذبــة أو فارغــة مــن المعنــى ‪ ،‬والفلســفة بوصفهــا اداة لتحليــل اللغــة والتوضيــح‬ ‫المنطقــي لألفــكار عليهــا أن تقــوم بعمليــة تحليــل تســعى مــن خاللهــا للوصــول إلــى مــا يســميه فتغنشــتين فــي الرســالة ‪:‬القضيــة‬ ‫المفــردة أو القضيــة األوليــة ‪.‬‬ ‫تتكــون القضيــة األوليــة مــن شــيئين بســيطين يدخــان فــي عالقــة كقولنــا ‪ :‬الحصــان أمــام العربــة ‪ .‬هــذه القضيــة تتألــف مــن‬ ‫شــيئين ‪ :‬الحصــان ‪ ،‬والعربــة ‪ ،‬وعالقــة قائمــة بينهمــا ‪ .‬وعلــى النحــو نفســه تت اربــط األشــياء فــي الواقــع مــن خــال عالقــات مثــل‬ ‫‪ :‬فــوق ‪ ،‬تحــت ‪ ،‬أمــام ‪ ،‬خلــف ‪ ،‬إلــى اليســار‪ ،‬إلــى اليميــن ‪ ....‬وجميــع هــذه العالقــات يمكــن التعبيــر عنهــا بواســطة اللغــة ؛‬ ‫وهكــذا فــان القضيــة اللغويــة تكــون صحيحــة عندمــا « تصــور األشــياء والعالقــة القائمــة بينهمــا كمــا هــي فــي الواقــع ‪ ،‬فعمليــة‬ ‫التصويــر اللغــوي مــا هــي اال انعــكاس لصــورة الواقــع «‪ .40‬ان « البنــاء المنطقــي للعالــم « كمــا يـراه فتغنشــتين هــو تلــك البنيــة‬ ‫‪41‬‬ ‫المشــتركة التــي تتكــون مــن األشــياء فــي العالــم والعالقــات القائمــة بينهــا ‪ ،‬وبهــذا يمكــن القــول ان «المنطــق يتخلــل العالــم»‬ ‫والعالقــات القائمــة بيــن األشــياء فــي العالــم تنعكــس فــي منطــق اللغــة التــي تعبــر عنهــا ‪.‬‬ ‫ويؤكد فتغنشــتين ‪ ،‬في الرســالة المنطقية الفلســفية أن معظم المشــكالت الميتافيزيقية والفلســفية الكبرى ‪ ،‬أذا أخضعت للتحليل‬ ‫يتبيــن أنهــا محيـرة للعقــول ألنهــا بــا معنــى ‪ .‬لذلــك علــى الفلســفة أن تزيــل الغمــوض الناتــج عــن ســوء اســتخدام اللغــة معتمــدة‬ ‫فــي ذلــك علــى المنطــق الرياضــي‪ .‬وعلــى الفلســفة أن تبتعــد عــن محاولــة تفســير الطبيعــة والحيــاة لتكتفــي بالتحليــل اللغــوي فقــط‬ ‫؛ فــاذا كانــت وظيفــة العلــم هــي تفســيرظاهرة معينــة مــن ظواهــر العالــم والوجــود ‪ ،‬فــان وظيفــة الفلســفة هــي تحليــل اللغــة أي‬ ‫تحليــل العبــارات والقضايــا المنطقيــة المركبــة إلــى مــا هــو أبســط منهــا ‪ ،‬للتمييــز مــا بيــن القضايــا وأشــباه القضايــا ‪ ،‬اي الجمــل‬ ‫الســليمة نحويــا ولكنهــا ال يعبــر عــن أيــة واقعــة محــددة ‪ .‬وبذلــك فــان الفلســفة ممارســة أو فاعليــة أو نشــاط يمارســه الفيلســوف‬ ‫بهــدف تحديــد القضايــا ذات المعنــى ‪ ،‬أي المرتبطــة بالواقــع ‪ ،‬واســتبعاد القضايــا الفارغــة مــن المعنــى ‪ .‬والقضايــا الميتافيزيقيــة‬ ‫مــن هــذا النــوع األخيــر ‪.‬‬ ‫ان القضايــا ‪ ،‬كمــا يحددهــا فتغنشــتين ‪ ،42‬نوعــان ‪ :‬قضايــا العلــم الطبيعــي التــي تكــون صادقــة أو كاذبــة ألنهــا تمثــل أشــياء‬ ‫واقعيــة ‪ ،‬والقضايــا المنطقيــة الرياضيــة ‪ ،‬وهــي صادقــة بالضــرورة ألنهــا تحصيــل حاصــل ‪ .‬أمــا القضايــا الميتافيزيقيــة ‪ ،‬فهــي‬ ‫أشــباه قضايــا ال مرجــع حقيقــي تســتند إليــه ليكــون لهــا معنــى ‪ ،‬ويحكــم عليهــا انطالقــا منــه بأنهــا صحيحــة أو خاطئــة ‪ .‬إن القــول‬ ‫الميتافيزيقــي هــو قــول خــال مــن المعنــى ‪« ،‬فهــو غيــر قابــل للتحقــق منــه ‪ ،‬أي أنــه غيــر قابــل للتأييــد وال التفنيــد ‪ ،‬مــا دام ال‬ ‫يصــور شــيئا «‬ ‫تســعى العلــوم الطبيعيــة إلــى تفســير الظواهــر مــن خــال األســباب المحدثــة لهــا ‪ ،‬وتســعى العلــوم األنســانية إلــى تفســير المســائل‬ ‫المتعلقــة بالفــرد والمجتمــع ‪ ،‬وكل ذلــك حاولتــه الفلســفة عبــر تاريخهــا الطويــل مــن خــال المذاهــب الفلســفية المختلفــة ‪ ،‬لكــن‬ ‫العلــوم انفصلــت عــن الفلســفة وعرفــت تطــو ار كبيـ ار بعــد القــرن الثامــن عشــر ‪ ،‬ومــا بقــي للفلســفة نتيجــة لذلــك اال تحليــل اللغــة ‪.‬‬ ‫وألن تحليــل اللغــة ‪ ،‬كمــا يؤكــد فتغنشــتين فــي الرســالة ‪ ،‬هــو تحليــل للفكــر يهــدف للوصــول إلــى الدقــة والوضــوح ‪ ،‬فــان هــدف‬ ‫الفلســفة ومهمتهــا هــو التوضيــح المنطقــي لألفــكار و القضايــا الفلســفية ‪.‬‬

‫ الجسمي ‪ ،‬د‪ .‬عبدالله‪ .‬املنطق وتصور فتجنشتني للفلسفة ‪ ،‬عامل الفكر ‪ ،‬املجلد ‪ ، 29‬العدد األول ‪ ،‬املجلس الوطني للثقافة‬‫‪ 40‬‬ ‫والفنون واآلداب ن الكويت يوليو سبتمرب ‪ ، 2000‬ص ‪. 143‬‬ ‫ م‪ .‬ن ص ‪. 144‬‬‫‪ 41‬‬ ‫ فتغنشتني ‪ .‬رسالة منطقية فلسفية ‪،‬ترجمة عزمي إسالم ‪ ،‬مكتبة األنجلو مرصية ‪ ، 1968‬ص ‪91‬‬‫‪ 42‬‬



‫انطالقا من اآلراء التي تبناها في الرســالة‪ ،‬يبدو فتغنشــتين حاســما في تأكيده أن هناك مشــكالت في العلم والدين واألخالق‬ ‫ولكن ال توجد في الفلســفة اال مشــكلة واحدة هي ســوء فهم اللغة التي تتحدث عنها‪.‬‬ ‫وقــد ارجــع هــذه اآلراء فــي كتابــه تحقيقــات فلســفية ‪ ،‬ليعتــرف بأنــه ارتكــب «أخطــاء فادحــة فــي هــذا الكتــاب األول»‪ ، 43‬واضعــا‬ ‫أمامــه مهمــة جمــع أفــكاره القديمــة مــع أفــكاره الجديــدة ألنهــا ‪،‬كمــا يقــول ‪ « ،‬لــن تفهــم كمــا ينبغــي مــا لــم تقــع مقابلتهــا بطريقــة‬ ‫‪44‬‬ ‫تفكيــري القديمــة «‪.‬‬ ‫فتغنشتين الثاني ‪:‬نقد الرسالة المنطقية ‪ -‬الفلسفية‬ ‫لــم يكــن تفكيــر فتغنشــتين ‪ ،‬فــي ايــة مرحلــة مــن م ارحــل تفكيـره محــددا بوصفــه فلســفة لغــة بالمعنــى الدقيــق للكلمة‪،‬فقــد كان علــى‬ ‫الــدوام منشــغال بمشــاكل الفلســفة بشــكل عــام ‪.‬‬ ‫تشــتمل الرســالة علــى نظريــة فــي اللغــة إال أنهــا لــم تكــن هدفــا نهائيــا لهــا ‪ .‬وانطالقــا مــن األعـوام مــا بيــن ‪1929‬و‪ 1933‬تحــرر‬ ‫فتغنشــتين تدريجيــا مــن فكـرة وضــع نظريــة عامــة فــي اللغــة باعتبارهــا شــرطا مســبقا للتحليــات الفلســفية ‪.‬‬ ‫تحــوي كتاباتــه التــي يعــود تاريخهــا إلــى مــا بعــد العــام ‪ 1929‬آالف المالحظــات المحــددة والدقيقــة حــول مختلــف الظواهــر‬ ‫اللغويــة ‪ ،‬ولكنــه يقتــرح ‪ ،‬فــي هــذا المرحلــة ‪ ،‬اســتبدال األســئلة حــول المعنــى‪ ،‬والتــي يعبــر عنهــا بصيغــة ‪ :‬مــاذا يعنــي « س «‬ ‫‪45‬‬ ‫‪ ،‬بأســئلة حــول تفســير المعنــى يعبــر عنهــا بصيغــة ‪ :‬كيــف نفســر معنــى « س « ‪.‬‬ ‫ان التناســب بيــن االســم ومــا يــدل عليــه ‪ ،‬وفكـرة أن الوحــدات اللغويــة الحقيقيــة هــي كلهــا أســماء علــم ‪ ،‬أي تعابيــر تــدل علــى‬ ‫أشــياء مفــردة‪ ،‬هــي عناصــر أساســية لإلطــار النظــري للتراكتاتــوس(‪ ، )tractatus logico- philosiphicus‬وقــد بــدأ‬ ‫فتغنشــتين منذ الثالثينات بانتقاد هذه األفكار ‪ ،‬ليؤكد أننا ال يمكن أن نؤســس داللة اللغة ‪ ،‬فقط ‪ ،‬على العالقة بين األشــياء‬ ‫الواقعيــة واألســماء التــي تــدل عليهــا ‪.‬‬ ‫بــات فتغنشــتين فــي هــذه المرحلــة يعتبــر فك ـرة داللــة اللغــة علــى اشــياء واقعيــة نوع ـاً مــن التعســف واالخت ـزال الفلســفي المبالــغ‬ ‫فبــه ‪ ،‬اذ مــن غيــر المعقــول معالجــة الكلمــات كأنهــا اســماء ‪ ،‬واعتبــار العالقــة بيــن أســماء العلــم وموصوفاتهــا نموذجــا مثاليــا‬ ‫للداللــة ذات المعنــى ‪.‬‬ ‫ان مماثلــة الكلمــات باألســماء ‪ ،‬وكل وظائــف اللغــة بداللــة الكلمــات علــى أشــياء واقعيــة ‪ ،‬هــي واحــدة مــن المصــادر الرئيســية‬ ‫لألخطاء الفلســفية ‪ ،‬كما يرى فتغنشــتين الثاني ‪ .‬فهذه المماثلة تقود إلى اعتبار المفردات الســيكولوجية ‪ ،‬مثل (فكر ) و(فهم‬ ‫) و(اســتوعب ) ‪ ،‬كأنهــا مجوعــة مــن األســماء ‪ ،‬واالفتـراض أن لــكل منهــا حالــة أو عمليــة عقليــة تقابلهــا‪.‬‬ ‫إن قســما هامــا مــن «تحقيقــات فلســفية « خصصــه فتغنشــتين للبرهنــة علــى أن كلمــات مــن هــذا النــوع ال تعمــل أبــدا فــي اللغــة‬ ‫بوصفهــا أســماء لحــاالت أو عمليــات عقليــة ‪.‬‬ ‫وقــد طــال نقــد فتغنشــتين للتراكتاتــوس ايضــا نظريــة الجمــل وعالقاتهــا حيــث أهمــل ‪،‬انطالقــا مــن الثالثينيــات ‪ ،‬فك ـرة الجملــة‬ ‫األوليــة أو الذريــة‪ .‬وأكــد أن نظريــة الجملــة األوليــة شــكلت جــزءا مــن فلســفة اللغــة التــي أعطــت امتيــا از فيــه الكثيــر مــن المبالغــة‬ ‫‪46‬‬ ‫‪ ،‬للوظيفــة الوصفيــة ‪.‬‬ ‫ولكــن هــذه الوظيفــة باتــت فــي « تحقيقــات فلســفية « واحــدة مــن بيــن وظائــف أخــرى للغــة نجــد فيهــا عــددا ال حصــر لــه مــن‬ ‫أن ـواع الجمــل ‪ .‬يتســاءل فتغنشــتين فــي هــذا الكتــاب عمــا اذا كانــت أصنــاف الجمــل تقتصــر علــى اإلق ـرار والس ـؤال واألمــر ‪،‬‬ ‫ليؤكــد أن هنــاك عــدداً ال يحصــى مــن أصنــاف االســتعماالت المختلفــة لمــا يســمى عالمــات ‪ ،‬وجمــل ‪ « .‬وهــذه الوفـرة فــي العــدد‬ ‫ليســت ثابتــة أي أنهــا ليســت معطــى نهائيــا ‪ ،‬بــل ان أصنافـاً جديــدة مــن اللغــات وألعابــا لغويــة جديــدة ‪ ،‬ان أمكــن القــول ‪ ،‬تظهــر‬ ‫للوجــود ‪ ،‬وأخــرى تبلــى وتنســى ‪ ] ،‬ويدعونــا فــي كتابــه تحقيقــات فلســفية إلــى اعتبــار [ عــدد األلعــاب اللغويــة التــي تحــوي هــذه‬ ‫األمثلــة وغيرهــا ‪ :‬األمــر والتصــرف بمقتضــى األمــر – وصــف شــيء انطالقــا مــن شــكله الخارجــي أو مقاييســه – نقــل حادثــة‬ ‫– التكهــن بحادثــة – تكويــن فرضيــة وتجربتهــا – اســتنباط حكايــة وقراءتهــا – تأديــة دور فــي المســرح – ترجمــة مــن لغــة إلــى‬ ‫ فتغنشتني ‪ ،‬تحقيقات فلسفية ‪ ،‬ترجمة د‪ .‬عبد الرزاق بنور ‪ ،‬املنظمة العربية للرتجمة ‪،‬ص ‪115‬‬‫‪ 43‬‬ ‫ م‪.‬ن ‪ ،‬ص ‪. 115‬‬‫‪ 44‬‬ ‫‪Marconi ,Diego.La philosophie de langage, ibidem , p19 - 45‬‬ ‫‪ibid , p20- 46‬‬


‫عليهــا الســتعمال اللغــة»‪ . 56‬والقواعــد ال تعنــي هنــا الصــرف والنحــو واالشــتقاق أي كل مــا يعنــى بــه علمــاء اللغــة ‪ ،‬وانمــا‬ ‫قواعــد الســيمانتيك والســينتاتيك؛ الســيمانتيك يتنــاول التحليــل المنطقــي لــدالالت األلفــاظ ‪ ،‬والســينتاتيك يتنــاول التحليــل المنطقــي‬ ‫لبنيــة اللغــة والتراكيــب النحويــة ‪.‬وهمــا معــا يشــكالن مــا يســميه فتغنشــتين ‪ :‬مــا بعــد المنطــق ‪ .‬وهــذه المباحــث تؤكــد أن أيــة لغــة‬ ‫ال تعــدو أن تكــون رمــو از دالــة وقواعــد لتركيبهــا ‪ ( .‬بغــض النظــر عــن أيــة لغــة معينــة ‪ :‬عربيــة أو فرنســية أو انكليزيــة ‪. )...‬‬ ‫هكــذا ؛ بعــد أن كانــت وظيفــة اللغــة فــي الرســالة «تصويــر العالــم أصبحــت فــي تحقيقــات التواصــل مــع اآلخريــن ‪ ،‬ولذلــك هــي‬ ‫نشــاط جمعــي مثــل المباريــات الرياضيــة ينبغــي تعلمهــا تمامــا كمــا نتعلــم قواعــد المباريــات الرياضيــة «‪ . 57‬إن االســتخدام الفعلــي‬ ‫لجــرء معيــن مــن اللغــة هــو أشــبه بلعبــة كالشــطرنج مثــا (كان دي سوســير قــد ســبق فتغنشــتين فــي هــذا التشــبيه ) ‪ ،‬هــذه اللعبــة‬ ‫لهــا قواعــد معينــة ينبغــي أن يراعيهــا كل مــن يمارســها ‪ ،‬وهنــاك قيــود عليــه أن يلتــزم بهــا ‪.‬‬ ‫اللغــة لعبــة ‪ ،‬إذاً‪ ،‬فهــي تتضمــن القواعــد تمــام مثــل ايــة لعبــة مــن األلعــاب‪ .‬ولكنهــا ليســت كاأللعــاب األخــرى التــي تســتهدف‬ ‫التســلية ‪ ،‬ألنهــا ‪ ،‬فــي واقــع األمــر الفاعليــة االجتماعيــة األم ‪ ،‬واألكثــر أهميــة ‪ .‬وهــذه القواعــد ال يمكــن أن تكــون مــا لــم يوجــد‬ ‫توافــق عــام عليهــا ‪ ،‬اذ ال يمكــن لشــخص واحــد أن يمتثــل للقاعــدة ‪.‬فالقاعــدة تتضمــن التكـرار واالنتظــام ‪ ،‬ألنــه ال وجــود النتظــام‬ ‫أو نظــام دون اعــادة ‪ ،‬فالشــيء الــذي يقــع مـرة واحــدة ال يعــد قاعــدة ‪ ،‬وال يمكــن أن يقــع اعتبــاره ضمــن النظــام ‪. 58‬‬ ‫واللغــة تتكــون مــن األلفــاظ مثلمــا تتكــون اللعبــة مــن قطــع واشــكال ‪،‬وهــي نظــام تكتســب كل قطعــة فيــه أو شــكل قيمتهــا مــن القطــع‬ ‫األخــرى‪ .‬وأخيـ ار فــان اللعبــة مؤسســة اجتماعيــة ال يمكــن تصورهــا خــارج عمليــات التبــادل ‪ ،‬فهــي تنتمــي إلــى تاريخنــا الطبيعــي‬ ‫‪ ،‬تاريــخ تعاملنــا ‪ ،‬وتجــارب اســتعمال العبــارات واأللفــاظ ‪ .‬وتكمــن اهميــة األلعــاب اللغويــة فــي أنهــا ال تتوقــف عــن االشــتغال‬ ‫ابــدا‪ ،‬باعتبارهــا ال تخضــع لتقييــدات منطــق ثنائــي ال يعتــرف إال بالمقابلــة بيــن الص ـواب والخطــأ‪ . 59‬وهــي أيضــا ذات طابــع‬ ‫تنافســي ‪ ،‬وتتطلــب مهــارات متفاوتــة ‪ ،‬وال هــدف نهائــي لهــا ‪.‬‬ ‫إننــا نتعلــم قواعــد الســيمناتيك والســينتاتيك كمــا نتعلــم قواعــد مبــاراة ‪« ،‬وعــن طريــق هــذه القواعــد يتــم تمييــز المعرفــة العلميــة‬ ‫واســتبعاد الميتافيزيقيــات التــي يتســع لهــا النحــو بينمــا هــي خاليــة مــن المعنــى « ‪ . 60‬علــى الفيلســوف ‪ ،‬كمــا يــرى فتغنشــتين‬ ‫فــي تحقيقــات ‪ ،‬أن يعــود بنــا إلــى األلعــاب اللغويــة التــي تمثــل األشــكال البدائيــة البســيطة للتواصــل « ‪ 61‬وبذلــك تبقــى مهمــة‬ ‫الفلســفة فــي تحقيقــات كمــا كانــت فــي الرســالة االهتمــام بالتكوينــات اللغويــة بهــدف الدقــة والتوضيــح ‪ ،‬واســتبعاد اللغــو‪.‬‬ ‫علــى الفيلســوف أن يعــود بنــا إلــى األلعــاب اللغويــة التــي تمثــل األشــكال البدائيــة البســيطة للتواصــل « فللفلســفة وظيفــة عالجيــة‬ ‫هدفهــا مــداواة ســوء الفهــم والتعقيــد الناتــج عــن ســوء اســتعمال اللغــة اليوميــة ‪ .‬إن ســبب المشــاكل الفلســفية هــو ســوء فهــم ينبغــي‬ ‫‪62‬‬ ‫إزاحتــه «بتوضيــح القواعــد التــي ســنطبقها فــي اســتعمال األلفــاظ‪.‬‬ ‫هكــذا اذن ؛ بــات فتغنشــتين مقتنعــا تمامــا بالفكـرة القائلــة بــأن مدلــول اللفظــة ال يتعلــق بشــيء آخــر غيــر اســتعمالها فــي اللغــة‬ ‫‪ ،‬وأن توضيــح اللغــة التــام يرتبــط بتوضيــح مختلــف أشــكال األلعــاب اللغويــة ؛ وفــي ذلــك تتحــدد المهمــة األساســية للفلســفة ‪.‬‬ ‫ دائرة فيينا ‪:))Le cercle de vienne‬‬‫عرفــت دائـرة فيينــا أو حلقــة فيينــا مــن خــال البيــان الــذي اعلنتــه عــام ‪ 1929‬وأطلقــت عليــه تســمية «التصــور العلمــي للعالــم»‪.‬‬ ‫يتكــون هــذا االعــان مــن مقدمــة وأربعــة أجـزاء ‪،‬ويبــدأ بعــرض موجــز للظــروف الحديثــة العهــد التــي أســهمت فــي تطــور التصــور‬ ‫العلمــي للعالــم‪ .‬ثــم ينتقــل فــي الجزئيــن الثانــي والثالــث إلــى شــرح البرنامــج المتعلــق بأســس العلــوم ‪ ،‬أمــا الجــزء ال اربــع فهــو سياســي‬ ‫ويتنــاول أمــو اًر مســتقبلية‪.‬‬ ‫يبيــن االعــان أن مصــادر تفكيــر حلقــة فيينــا ترتبــط ‪ ،‬بشــكل أساســي بفكــر األنـوار واألبحــاث المضــادة للميتافيزقــا التــي انتشــرت‬ ‫فــي أوروبــا وتركــت آثــا ار قويــة علــى المســتويات السياســية واالقتصاديــة واالجتماعيــة والفكريــة والعلميــة ‪.‬علــى المســتوى السياســي‬ ‫أدت‬ ‫‪5 6‬‬ ‫‪ 57‬‬ ‫‪ 58‬‬ ‫‪ 59‬‬ ‫‪ 60‬‬ ‫‪ 61‬‬ ‫‪ 62‬‬

‫ الخويل ن‪،‬مينى طريف ‪،‬فلسفة العلم يف القرن العرشين‪،‬م‪.‬س‪ ،‬ص ‪. 266‬‬‫ م‪.‬ن ‪ ،‬ص ‪. 267‬‬‫ عبد الرزاق ‪ ،‬مقدمة تحقيقات فلسفية ‪ ،‬م‪ .‬س‪ ، ،‬ص ‪. 51‬‬‫ م‪ .‬ن ‪. 53‬‬‫ الخويل ‪.‬فلسفة العلم يف القرن العرشين ‪ ،‬م‪ .‬س ‪ ،‬ص‪. 268‬‬‫ عبد الرزاق ‪،‬تقيقات فلسفية ‪ ،‬م ‪ .‬س ‪ ،‬ص ‪. 47‬‬‫‪ -‬م‪ .‬ن ‪ ،‬ص ‪. 70‬‬


‫أخــرى – التمــاس ‪ ،‬شــكر ‪ ،‬لعــن ‪ ،‬تحيــة ‪ ،‬تعبــد …‪.47 ».‬‬ ‫وهكــذا؛ فــان نظرتــه إلــى اللغــة باتــت هنــا بعيــدة تمامــا عــن فكـرة الجمــل األوليــة ‪،‬وباتــت وظائــف اللغــة تتجــاوز تمامــا تســمية‬ ‫األشــياء الــذي ينــدرج فــي اطــار وصــف الواقــع ‪ ،‬لتحتــل فكـرة األلعــاب اللغويــة الموقــع المركــزي فــي فلســفة اللغــة عنــده ‪.‬‬ ‫ مــن تصويــر العالــم إلــى ألعــاب اللغــة‪ :‬تبنــى فتغنشــتين فــي الفتـرة المتأخـرة مــن كتاباتــه الفلســفية الفكـرة التــي تقــوم علــى اعتبــار‬‫« أن معنى أية كلمة هو طريقة اســتخدامها»‪ ، 48‬وهي تشــكل أســاس ما يســمى األلعاب اللغوية ‪.‬‬ ‫المعنــى الواضــح كمــا يحــدده فتغنشــتين فــي تحقيقــات فلســفية ‪ ،‬هــو االســتعمال الواضــح ‪ .‬واالســتعمال يتحــدد « انطالقــا مــن‬ ‫وصــف قصــد المتكلــم ‪ ،‬ومــن الغــرض الــذي يرمــي إلــى تحقيقــه مــن وراء قولــه ‪ ،‬وليــس مــن وصــف الصــورة المنطقيــة للقضيــة‬ ‫«‪. 49‬‬ ‫حيــن نتعلــم كيــف نلعــب عــددا مــن األلعــاب اللغويــة المتنوعــة ‪ ،‬نكتســب معنــى الكلمــات عــن طريــق اســتخدامها ومــن خــال هــذا‬ ‫االســتخدام ‪ .‬وفــي بعــض األحيــان نعبــر عــن ذلــك بطريقــة أخــرى فنقــول إننــا نتعلــم النحــو أو المنطــق الخــاص بكلمــة معينــة ‪،‬‬ ‫وهــو تعبيــر أصبــح شــائعا علــى نطــاق واســع فــي التحليــل اللغــوي ‪ .‬وهكــذا فــان اثــارة المشــكالت الميتافيزيقيــة ينجــم عندئــذ عــن‬ ‫نقــص فــي ادراك النحــو الخــاص بالكلمــات ‪ ،‬ذلــك أننــا بمجــرد أن نفهــم القواعــد فهمــا صحيحــا ‪ ،‬ال تظــل لدينــا رغبــة فــي طــرح‬ ‫‪50‬‬ ‫مثــل هــذه األســئلة ‪ ،‬بعــد أن يكــون العــاج اللغــوي قــد شــفانا مــن هــذه الرغبــة ‪.‬‬ ‫والنحــو ‪،‬عنــد فتغنشــتين ‪ ،‬يختلــف فــي معنــاه عــن النحــو عنــد النحــاة ‪ ،‬اذ انــه ال يســتخدمه فــي معنــاه العــام أو اللســاني ‪ ،‬بــل‬ ‫بمعنــى يقتــرب مــن علــم الداللــة ‪ ، 51‬فالنحــو عنــده يرتبــط بألفــاظ مثــل «قواعــد» و»لعبــة لغويــة « وال ســيما بلفــظ نظــام ألن‬ ‫النظــام هــو الحبــل الــذي يربــط بيــن مختلــف مكونــات اللغــة التــي ال توجــد بدونــه ‪ .‬والجملــة ‪ ،‬كمــا يــرى ‪،‬تأخــذ معناهــا فــي نطــاق‬ ‫اللغــة أو نظــام العالمــات الــذي تنتمــي إليــه ‪. 52‬‬ ‫يقــول فــي تحقيقــات ‪« :‬ال يقــول النحــو شــيئا عــن الكيفيــة التــي يجــب أن تبنــى بهــا اللغــة ‪ ،‬حتــى تحقــق الغــرض منهــا ]…‪ [.‬هــو‬ ‫يصــف اســتعمال العالمــات فقــط دون أن يفســرها بأيــة طريقــة « ‪. 53‬‬ ‫ان معنــى كلمــة مــا هــو مــا تعبــر عنــه الكلمــة أو تشــير أو ترمــز إليــه ‪ .‬هــذا المعنــى يصــح لكلمــات مثــل شــجرة أو قلــم أو كتــاب‬ ‫‪ ..‬ولكنــه ال يصــح بالنســبة إلــى كلمــات مثــل ‪ :‬اثنــان ‪ ،‬لهــذا ‪ ،‬ليــس ‪...‬الــخ ؛ هــذه الكلمــات األخيـرة مــن الخطــا أن نســأل عــن‬ ‫معنــاه ‪ ،‬وانمــا ينبغــي أن نســأل ‪ :‬كيــف تســتعمل هــذه الكلمــات ؟ المعنــى ‪ ،‬اذا ‪ ،‬كمــا يؤكــد فتغنشــتين فــي تحقيقــات فلســفية ‪،‬‬ ‫هــو عمليــة ســلوك لغــوي ؛ فالمعنــى هــو االســتعمال ‪ ،‬يقــول « فكــر فــي األدوات الموجــودة فــي صنــدوق أدوات ‪ :‬ان فيــه مطرقــة‬ ‫‪ ،‬وكماشــة أو منشــار ‪ ،‬وبريمــا ‪ ،‬ومســطرة ‪ ،‬وغـراء ‪ ،‬وقــدر غـراء ‪ ،‬ومســامير ‪ ،‬وقــاووظ ‪ ...‬وظائــف الكلمــات تختلــف كمــا‬ ‫تختلــف وظائــف هــذه األدوات « ‪ .54‬ويضيــف مثــا آخــر عــن األدوات التــي تســتخدم فــي قيــادة قاطـرة حيــث نــرى مقابــض لهــا‬ ‫نفــس الشــكل تقريبــا «ولكــن شــتان بيــن مقبــض يمكــن تحريكــه باســتمرار(ألنه يعــدل فتحــة صمــام ) ‪،‬ومقبــض غلــق لــه وضعــان‬ ‫وظيفيــان فقــط ‪ :‬فهــو امــا نــازل للغلــق أو مرفــوع للفتــح ؛ ومقبــض ثالــث يكــون جــزءا مــن الف ارمــل ‪ ،‬كلمــا جذبتــه بقــوة ‪ ،‬كانــت‬ ‫الفرملــة أقــوى ‪ ،‬و اربــع هــو مقبــض مضخــة ‪ :‬ال تشــتغل المضخــة اال اذا حركنــاه يمنــة ويس ـرة « ‪ .‬ومثلمــا هــو حــال الكلمــات‬ ‫كذلــك حــال الجمــل ‪ ،‬فهــي تختلــف مــن حيــث االســتعمال لذلــك ال يمكــن تحويــل شــكل منهــا إلــى الشــكل اآلخــر (كتحويــل جملــة‬ ‫مــن صيغــة االقـرار إلــى صيغــة السـؤال مثــا)‪.‬‬ ‫وللتأكيــد علــى الصيــغ العديــدة جــداً الســتعمال الجمــل يدعونــا فتغنشــتين للتفكيــر فــي صيحــات مثــل ‪ :‬مــاء! اذهــب! آه ! النجــده‬ ‫! جميــل ! كال!‪ 55‬لنعــرف أن األلفــاظ والجمــل لهــا وظائــف ال يمكــن حصرهــا فــي تســمية األشــياء أو وصفهــا والــكالم عنهــا ‪.‬‬ ‫في كتابه تحقيقات فلسفية لم يعد فتغنشتين ‪،‬إذاً ‪ ،‬ينطلق مما ذهب إليه في الرسالة وهو أن العبارات اللغوية ال بد أن ترتبط‬ ‫بوقائــع العالــم التجريبــي ‪ ،‬فقــد تجــاوز هــذه الفكـرة ليؤكــد «أن العبــارات اللغويــة تعتمــد أوال وأخيـ ار علــى القواعــد التــي اصطلحنــا‬

‫‪4 7‬‬ ‫‪ 48‬‬ ‫‪ 49‬‬ ‫‪ 50‬‬ ‫‪ 51‬‬ ‫‪ 52‬‬ ‫‪ 53‬‬ ‫‪ 54‬‬ ‫‪ 55‬‬

‫ فتغنشتني ‪ .‬تحقيقات ‪ ،‬م ‪ .‬س ‪،‬ص ‪. 138‬‬‫ رسل ‪ ،‬حكمة الغرب ‪ ،‬ص‪. 312‬‬‫ فتغنشتني تحقيقات ‪ ،‬عبد الرزاق يف املقدمة ‪ ،‬م‪ .‬س ‪،‬ص ‪. 63‬‬‫ رسل ‪ ،‬حكمة الغرب ‪ ،‬ج‪،2‬م‪ .‬س ‪ ،‬ص ‪. 213‬‬‫ عبد الرزاق ‪ ،‬مقدمة تحقيقات ‪ ،‬م‪ .‬س ‪،‬ص ‪. 71‬‬‫ م‪ .‬ن ‪ ،‬ص ‪. 73‬‬‫ فتغنشتني ‪ ،‬تحقيقات ‪ ،‬م ‪ .‬س ‪،‬ص ‪. 228‬‬‫ م‪ ،‬ن ‪ .‬ص ‪. 127‬‬‫‪ -‬م‪ .‬ن ‪،‬ص ‪. 140‬‬


‫اذا كانــت صحيحــة «‪ ،65‬ويفهــم منهــا مــا يؤكــد أن قـوال مــا يتــم تحديــد صحتــه أو خطئــه بالتناســب مــع التجربــة ‪ ،‬أي أن يتــم‬ ‫الحقــق منــه أمبيريــا ‪.‬‬ ‫قابليــة التحقــق األمبيــري هــي ‪ ،‬اذن ‪ ،‬بالنســبة للوضعييــن الجــدد معيــار المعنــى ؛ يقــول شــليك ‪ « :‬تحديــد معنــى لقــول مــا يعــادل‬ ‫تحديــد القواعــد التــي يســتخدم هــذا القــول وفقــا لهــا ‪ ،‬وهــذا بــدوره يعــود لتحديــد الطريقــة التــي تتيــح لــه أن يثبــت أو يتــم التحقــق‬ ‫منــه ‪ .‬ان معنــى قــول مــا هــو طريقــة التحقــق منــه « ‪ ، 66‬واذا كان هنــاك قــول غيــر قابــل للتحقــق منــه أمبيريــا ‪ ،‬وهــو فــي الوقــت‬ ‫نفســه ليــس حقيقــة منطقيــة أو رياضيــة ‪ ،‬فانــه يكــون حينئــذ قـوالً فاقــداً للمعنــى ‪.‬‬ ‫لقــد اســتخدم الوضعيــون الجــدد معيــار قابليــة التحقــق التجريبــي (‪، ) le critere de la verification empirique‬كأداة‬ ‫فــي صراعهــم المضــاد للميتافيزيقــا ؛ فبالنســبة لهــم األقـوال الميتافيزيقيــة ليســت خاطئــة ‪،‬وانمــا علــى العكــس مــن ذلــك هــي تفتقــد‬ ‫للمعنــى ‪ ،‬إمــا ألنهــا صيغــت ســنتيكيا بشــكل ســيء ‪ ،‬أو ألنهــا تســتخدم رمــو از لغويــة أو عالمــات فاقــدة للمعنــى ‪.‬‬ ‫تكــون العالمــة فاقــدة للمعنــى اذا كان معيــار تطبيقهــا غيــر معيــن أو محــدد ‪ ،‬أعطــى كارنــاب عــام ‪ 1932‬مثــا عــن محمــول‬ ‫هــو كلمــة (بابيــك ‪ ، ) babique‬وافتــرض أن أحــدا مــا يقتــرح ادخالهــا فــي اللغــة فتطلــق بوصفهــا صفــة علــى بعــض األشــياء‬ ‫‪ ،‬فنقــول اســتنادا إليهــا ‪ :‬هنــاك أشــياء بابيــة ‪،‬وأخــرى ليســت كذلــك ‪ .‬ولكــن ‪ ،‬يقــول كارنــاب ‪ ،‬ال يوجــد كيفيــات أو خصائــص‬ ‫أمبيريــة تحــدد البابيــة (‪ ، ) la babicite‬وبالتالــي فــان كلمــة زائفــة (‪ ، ) pseudo-mot‬كهــذه ‪ ،‬ال معيــار تطبيــق لهــا ‪ ،‬وهــي‬ ‫بالتالــي فاقــدة للمعنــى‪ ،‬واســتخدامها ال يكــون جائـ از حتــى لــو أتــى مــن يؤكــد لنــا أن اســتخدامها يشــير إلــى شــيء مــا ‪.‬‬ ‫ســعت الوضعيــة المنطقيــة لتحويــل الفلســفة إلــى علــم مــن خــال االهتمــام باللغــة التــي تســتخدمها ‪ .‬إن العبــارات التــي يســتخدمها‬ ‫الفالسفة نوعان عبارات ذات معنى ‪ ،‬وعبارات خالية من المعنى ‪ .‬والعبارات ذات المعنى هي اما عبارات تحليلية أو قضايا‬ ‫تركيبيــة ‪.‬المقصــود بالعبــارات التحليليــة قضايــا الرياضيــات والمنطــق أي العلــوم الصوريــة ‪ ،‬أمــا القضايــا التركيبيــة فهــي قضايــا‬ ‫العلــوم االخباريــة ‪ .‬وأيــة قضايــا خــارج أطــار هذيــن النوعيــن هــي لغــو ‪ ،‬وكالم ال معنــى لــه ؛ وبذلــك فــان الوضعيــة المنطقيــة‬ ‫تطابــق بيــن المعنــى والعلــم ‪ ،‬فحيــث ال علــم ال معنــى ‪.‬‬ ‫القضايــا التحليليــة ليــس لهــا مضمــون اخبــاري عــن الواقــع ‪ ،‬وصدقهــا أو كذبهــا يعــرف مــن خــال تحليلهــا تحليــا منطقيــا لغويــا‬ ‫‪ »،‬والتحليــل فيهــا هــو نــوع مــن إثبــات الهويــة كقولنــا ‪ :‬األرملــة ام ـرأة مــات زوجهــا ‪ .‬أو للمربــع أربعــة أضلــع ‪ ،‬فصــدق هــذا‬ ‫النــوع مــن القضايــا يعتمــد علــى الضــرورة المنطقيــة التــي تعنــي اســتحالة النقيــض ‪ .‬ان القضيــة التحليليــة اذا كانــت صادقــة ‪،‬‬ ‫كانــت ضروريــة ‪ ،‬واذا كانــت كاذبــة كانــت متناقضــة ذاتيــا ‪ ،‬والضــرورة هنــا تســتمد مــن قوانيــن الفكــر واللغــة وليــس مــن الواقــع‬ ‫‪ .‬امــا القضايــا التركيبيــة فهــي إخباريــة ذات محتــوى معرفــي كمــا هــي حــال القضايــا فــي العلــوم الطبيعيــة ‪ .‬والتحليــل المنطقــي‬ ‫لهــذا النــوع مــن القضايــا يردهــا إلــى سلســلة مــن القضايــا الذريــة‪ ( ،‬يبــدو تأثيــر رســل وفنغنشــتين جليــا هنــا )‪ ،‬ثــم ينتهــي تحليــل‬ ‫الوضعييــن إلــى سلســلة مــن المعطيــات الحســية المرتبطــة بالواقعــة الذريــة ‪ ،‬ليصبــح المرجــع فــي الحكــم بصــدق القضايــا أو‬ ‫‪67‬‬ ‫كذبهــا خبـرة الحـواس ‪.‬‬ ‫ان القضيــة التركيبيــة هــي ‪ ،‬إذاً‪ ،‬تجريبيــة اســتقرائية محــك الصــدق أو الكــذب فيهــا خبـرة الحـواس ‪ .‬وأي قضيــة ال تكــون تركيبيــة‬ ‫‪ ،‬أو تحليليــة بالمعنــى الســابق ذكـره هــي لغــو فــارغ مــن المعنــى ‪.‬ان الميتافيزيقــا ‪ ،‬كمــا يــرى أصحــاب اتجــاه الوضعيــة المنطقيــة‬ ‫‪ ،‬لــم تحقــق أي تقــدم منــذ أرســطو حتــى القــرن العشـرين ‪ ،‬ولذلــك ال بــد مــن تقويــض دعائمهــا وازاحتهــا مــن هــذا العالــم لكــي ينفــرد‬ ‫بــه العلــم وحــده ‪ .‬فقضايــا الميتافيزيقــا ليســت تحليليــة ألنهــا ال تكتفــي بمجــرد اثبــات الهويــة وال تقــوم علــى الخبـرة الحســية ‪ ،‬لذلــك‬ ‫هــي ليســت تركيبيــة أيضــا ‪ ،‬وهكــذا فــان اللغــة الميتافيزيقيــة غيــر واضحــة وال مفهومــة ومــرد ذلــك إلــى اســتخدامها مصطلحــات‬ ‫مثــل المطلــق والجوهــر والطبيعــة والعقــل والنفــس ‪ .‬إن األقـوال الميتافيزيقــة ‪ ،‬الفاقــدة للمعنــى ‪ ،‬ألنهــا غيــر قابلــة للتحــق منهــا هــي‬ ‫‪ ،‬فــي واقــع األمــر ‪ ،‬مثلمــا هــي حــال األقـوال الشــعرية ‪ ،‬أقـوال عــن اللغــة ‪ ،‬وليســت عــن وقائــع العالــم ‪ ،‬وال يمكــن أن تطبــق‬ ‫عليهــا قيمــة الحقيقــة المتناســبة مــع الوقائــع األمبيريــة ‪.‬‬ ‫يــرى كارنــاب أن جمــا ميتافيزيقيــة تبــدو فــي ظاهرهــا أونطولوجيــة مثــل ‪« :‬العالــم يتكــون مــن معطيــات حســية « ‪ ،‬أو « العالــم‬ ‫مكــون مــن أشــياء ماديــة « توهمنــا بأنهــا تخبــر شــيئا عــن العالــم بينمــا هــي ال تمثــل اال اختيــارت لغويــة لكلمــات ال تشــير إلــى‬ ‫أيــة واقعــة ‪،‬مــا يجعلهــا أق ـواال عــن اللغــة ‪.‬ولتميــز المعرفــة العلميــة مــن غيــر العلميــة وضعــت الوضعيــة المنطقيــة مــا يســمى‬ ‫بمعيــار التحقــق الــذي بــات األســاس الــذي تقــوم عليــه فلســفتهم ‪.‬‬ ‫خالصــة معيــار التحقــق أن كل قضيــة تركيبيــة ال بــد أن تكــون تجريبيــة ‪ ،‬وبالتالــي يمكــن التحقــق منهــا بواســطة الخبـرة الحســية‬

‫‪ibid , p12 - 65‬‬ ‫‪ibid , p - 66‬‬ ‫ الخويل ‪ ،‬د‪ .‬مينى ‪،‬فلسفة العلم يف القرن العرشين ‪،‬م ‪ .‬س ‪ ،‬ص ‪. 267‬‬‫‪ 67‬‬


‫هيمنــة الليبراليــة ومذهــب المنفعــة والتبــادل الحــر إلــى خلــق بيئــة فكريــة غنيــة ومتنوعــة بفعــل الوفـرة فــي األعمــال العلميــة ‪ ،‬وتوفــر‬ ‫العــدد الكبيــر مــن العلمــاء فــي مختلفاالختصاصــات ‪.‬وعلــى المســتوى االجتماعــي ‪ ،‬كان لفكــر األنـوار فــي فيينــا انعكاســات هامــة‬ ‫علــى التعليــم تمثلــت بتوفــر مؤسســات جديــدة للتعليــم الشــعبي ‪،‬واصــاح التعليــم بطريقــة فعلــت التفكيــر العلمــي ‪ .‬وعلــى المســتوى‬ ‫الفكــري والعلمــي ســاد اتجــاه فــي العلــوم المختلفــة (الفيزيــاء ‪ ،‬االقتصــاد ‪ ،‬االجتمــاع ) للتحــرر مــن أي تأثيــر ميتافيزيقــي ‪.‬‬ ‫في هذه الظروف تولى علماء مثل (أرنســت ماخ) ‪ ،‬و(بولتزمان) كرســي فلســفة العلوم االســتقرائية التي اســتحدثت في جامعة‬ ‫فيينــا (عــام‪ )1895‬مــن أجــل أرنســت مــاخ تحديــدا‪ .‬وقــد أثــرت أمبيريــة مــاخ مباشـرة فــي حلقــة فيينــا مــن خــال الموقــع الــذي‬ ‫شــغله فــي هــذه الجامعــة ‪.‬‬ ‫إن مجمــل هــذه العوامــل يفســر كيــف ان فيينــا كانــت مركـ از لهــذا الحشــد مــن العلمــاء والمفكريــن الذيــن شــرعوا فــي حـوارات تتعلــق‬ ‫بمشــكالت العلــم األمبيــري ونظريــة المعرفــة ‪ .‬ففــي هــذه األج ـواء اســتدعت جامعــة فينــا عــام ‪( 1922‬موريــس شــليك) ليشــغل‬ ‫المقعــد الــذي ســبق ان شــغله (أرنســت مــاخ) ‪ .‬وشــليك هــو عالــم فيزيــاء نــال درجــة الدكتــوراه تحــت اشـراف (ماكــس بالنــك) ‪،‬‬ ‫وكان واســع اإللمــام بالفلســفة وتاريخهــا ‪.‬‬ ‫وقــد تشــكلت حلقــة فيينــا مــن العلمــاء والفالســفة الذيــن تجمعـوا حــول شــليك وكان مــن بينهــم علمــاء رياضيــات (غــودل ‪ ،‬هانــز‬ ‫هــان ) وفيزيائيــون (فيليــب ف ارنــك ) ‪ ،‬وعلمــاء اجتمــاع ( أوتــو تيــوراث )‪ ،‬وفالســفة (كارنــاب ‪ ،‬ك ارفــت ) ‪ ،‬وطــاب للفلســفة‬ ‫(فردريــك فايســمان ‪ ،‬هربــرت فيغــل ) ‪.‬‬ ‫فــي نفــس الفتـرة تقريبــا (‪ )1928‬تأســس فــي برليــن « التجمــع مــن أجــل الفلســفة األمبيريــة « وضــم مجموعــة مــن العلمــاء الذيــن‬ ‫تحلقـوا حــول (هانــز ريشــنباخ) ‪ ،‬ومنهــم (كارل غوســتاف همبــل) ‪ ،‬و(دافيــد هيلبــرت) ‪ ،‬و(كــورت غريلنــغ) ‪ ،‬وكانـوا متعاطفيــن‬ ‫إلــى اقصــى حــد مــع االتجــاه الــذي ســاد فــي حلقــة فيينــا ‪.‬‬ ‫اضافــة إلــى برنامجهــا النظــري الــذي عبــرت عنــه فــي «التصــور العلمــي للعالــم» ‪ ،‬حــددت حلقــة فيينــا لنفســها هدفـاً هــو معالجــة‬ ‫مــا يســميه االعــان «مشــاكل الحيــاة « ‪ ،‬والمقصــود بذلــك تنظيــم العالقــات االقتصاديــة واالجتماعيــة ‪ ،‬واصــاح المدرســة‬ ‫والتعليم ‪ ،‬وتوحيد اإلنســانية ‪ ،‬ونشــر األبحاث المتعلقة بهذه الموضوعات لتصل إلى القســم األكبر من العامة باالعتماد على‬ ‫مؤسســة (أرنســت مــاخ) ‪ .‬وهكــذا فــإن الحلقــة وضعــت لنفســها هدف ـاً اليقتصــر علــى تغييــر األدوات الفكريــة المتعلقــة بالعلــم ‪،‬‬ ‫انمــا أيضــا تغييــر طــرق الحيــاة مــن خــال التنظيــم الواعــي للعالقــات االقتصاديــة واالجتماعــي ‪ .‬وبعــد اغتيــال شــليك فــي جامعــة‬ ‫فيينــا عــام ‪ ، 1936‬والغــزو النــازي تفككــت هــذه الدائ ـرة تمامــا ‪ ،‬ولكــن االتجــاه الفكــري الــذي رســخته تحــت عن ـوان الوضعيــة‬ ‫المنطقيــة أنتشــر حيــث تــوزع روادهــا فــي انكلتـ ار واميــركا واســتراليا ‪.‬‬ ‫كانــت حلقــة فيينــا ‪ ،‬قبــل كل شــيء آخــر ‪ ،‬مكان ـاً للح ـوار بيــن علمــاء وفالســفة ‪ ،‬غيــر متفقيــن تمام ـاً فــي اعتقاداتهــم ‪ ،‬وهــي‬ ‫تمثــل ‪،‬كمــا يقــول ارســل‪ 63‬مذهب ـاً وضعي ـاً ألنهــا اعتبــرت أن « العلــم هــو الــذي يزودنــا بجميــع معارفنــا « ‪ ،‬وليــس هنــاك مــا‬ ‫يمكــن معرفتــه وراءالتجربــة ‪.‬‬ ‫فــي بيــان عــام ‪ 1929‬عرضــت حلقــة فيينــا طروحاتهــا الرئيســية ‪ ،‬ومنهــا أنــه ال يوجــد ‪ ،‬كمــا زعــم كانــط أحــكام تركيبيــة قبليــة ‪.‬‬ ‫واســتطرادا الميتافيزيقــا ال يمكــن أن تكــون علمـاً ‪ .‬وكل قضيــة او قــول إمــا أن يكــون تحليليــا أو تركيبيــا بعديــا ‪ ،‬وقابــا للتحقــق‬ ‫منــه بالتجربــة‪ .‬وباتــت األقـوال األخالقيــة والميتافيزيقيــة ‪ ،‬باعتبارهــا ادراكيــة ‪ ،‬وليســت وصفيــة وقابلــة للتحقــق منهــا ‪ ،‬خاليــة مــن‬ ‫المعنــى ‪ .‬وبذلــك أرســت الوضعيــة المنطقيــة الجديــدة تمايـ از وتفرعــا ثنائيــا بيــن الوقائــع (‪ ، )faits‬والقيــم (‪. )valeurs‬‬ ‫ق أر فالسفة الوضعية الجديدة ‪ ،‬أو ما يعرف بحلقة فيينا ‪ ،‬الرسالة المنطقية ‪ -‬الفلسفية لفتغنشتين بإمعان ‪ ،‬والبعض منهم ما‬ ‫استســاغوا القســم األخيــر منهــا المتعلــق باألخــاق والتصــوف ‪ .‬ولكــن الجميــع توافقـوا بشــكل أساســي علــى فلســفة اللغــة والمنطــق‬ ‫‪ .‬وقــد التقــى شــليك وكارنــاب شــخصيا بفتغنشــتين فــي األع ـوام مــا بيــن ‪1929‬و ‪ ، 1932‬وكان انطباعهــم أن اللغــة التــي‬ ‫يعتمدهــا التراكتاتــوس هــي لغــة مثاليــة ‪ ،‬تشــبه اللغــة المســتخدمة فــي العلــوم ‪ .‬وقامـوا بقراءتــه قـراءة أمبيريــة تقــوم علــى ارجــاع‬ ‫حقيقة الجمل أوالقضايا إلى حقيقة الجمل األولية ســعيا لتأســيس عمارة العلم على قاعدة من األقوال المســتندة إلى التجربة ‪.‬‬ ‫يعتبــر كارنــاب أن « كل قــول فــي العلــم ‪ ،‬هــو فــي التحليــل النهائــي ‪ ،‬قــول يتعلــق بالعالقــات التــي تبقــى ثابتــة بيــن االختبــارات‬ ‫األوليــة ‪ ،‬بحيــث أن كل معرفــة ذات محتــوى ترجــع إلــى التجربــة ( مــا لــم تكــن صوريــة خالصــة ) «‪. 64‬‬ ‫يســتند كارنــاب إلــى جملــة وردت فــي التراكتاتــوس ‪ ،‬حيــث يقــول فتغنشــتين ‪« :‬أن نفهــم جملــة معنــاه معرفــة مــاذا يحصــل‬ ‫ راسل ‪ ،‬برتراند ‪ ،‬حكمة الغرب ‪ ،‬م‪ .‬س ‪ ،‬ص ‪. 305‬‬‫‪ 63‬‬ ‫‪12 Marconi , Diego, ibidem,p - 64‬‬


‫والموســيقى ‪ ،‬علــى‪ ،‬عكــس الميتافيزيقــا ‪ ،‬ليــس هنــاك ادعــاء بعــرض نظريــات ‪ .‬إن التصــور العلمــي للعالــم ‪ ،‬هــو اذن بالضــرورة‬ ‫‪ ،‬مضــاد للميتافيزيقــا ‪.‬‬ ‫العلم ليس النشــاط الفكري الوحيد الذي يقوم به االنســان ‪ ،‬فهناك نشــاطات أخرى مثل الفن والدين ‪ « ،‬والمذاهب الفلســفية ما‬ ‫هــي اال صــور مختلطــة غامضــة مســتمدة مــن المياديــن الثالثــة ‪ :‬الميتافيزيقــا ‪ ،‬الديــن ‪ ،‬الفــن ‪ ، 71 ».‬تمثــل الميتافيزيقــا تعبيـ ار‬ ‫عــن الشــعور بالحيــاة ‪ ،‬وهــذا التعبيــر يتناســب مــع خلــق اعمــال فنيــة ‪ .‬ولكنــه كمــا يــرى كارنــاب تعبيــر غيــر واف عــن الشــعور‬ ‫بالحيــاة ‪ ،‬فالميتافيزيقيــون موســيقيون بغيــر موهبــة موســيقية ‪ ،‬أو شــعراء يفتقــدون إلــى الملكــة الشــعرية ‪.‬‬ ‫يــرى كارنــاب ‪ ،‬فــي بحــث لــه بعنـوان ‪ :‬التغلــب علــى الميتافيزيقــا بواســطة التحليــل المنطقــي للغــة ‪ ،‬أن العبــارات الميتافيزيقيــة‬ ‫ليســت أكثــر مــن لغــو ‪ « ،‬ومــن امثلــة هــذا اللغــو الميتافيزيقــي تلــك العبــارة التــي يتحــدث فيهــا هيدغــر عــن العــدم فــي محاض ارتــه‬ ‫المنشــورة المعنونــة باســم ‪ :‬مــا الميتافيزيقــا ؟ « ‪ . 72‬عبــارة هيدغــر الشــهيرة ‪« :‬إن العــدم نفســه يعــدم « تحتــوي ‪ ،‬بـرأي كارنــاب‬ ‫‪ ،‬علــى خطــأ مــزدوج اذ تحــوي لفظـاً ال معنــى لــه هــو يعــدم ‪ ،‬وعلــى خطــأ فــي نظــم العبــارة مجتمعــة يتمثــل فــي اســتخدام لفــظ‬ ‫العــدم باعتبــاره اســماً‪ . 73‬حكــم كارنــاب ‪ ،‬والوضعيــون المناطقــة ‪ ،‬علــى اللغــة الميتافيزيقيــة بانهــا لغــو ال معنــى لــه انطالقــا مــن‬ ‫معيــار التحقــق األمبيــري ‪ ،‬وقــد كان هــذا المعيــار محــط كثيــر مــن الجــدل والنقــاش فيمــا بينهــم ‪ ،‬وأثــار فــي مواجهتهــم اعت ارضــات‬ ‫جوهربــة ‪ ،‬اذ كيــف يعتمــدون معيــا ار يقيســون بــه الحقائــق و يكــون هــو نفســه غيــر قابــل للتحقــق منــه أمبيريــا ‪ ،‬ومــا دام كذلــك ‪،‬‬ ‫فانــه يصبــح بغيــر معنــى ‪ ،‬ألننــا ال نســتطيع اثبــات صحتــه أو خطئــه ‪ .‬ولعــل الــرد المناســب الــذي يعتمــده اصحــاب الوضعيــة‬ ‫المنطقيــة يتمثــل فــي مــا أورده فتغنشــتين فــي آخــر التراكتاتــوس حيــث يقــول ‪« :‬ان مــا قــد أوردتــه مــن قضايــا يــدل علــى ان‬ ‫مــن يفهمنــي ســيرى فــي النهايــة أن تلــك القضايــا ليســت بــذات معنــى ‪ ،‬وذلــك بعــد ان يكــون قــد صعــد علــى درجاتهــا ‪ ،‬واصبــح‬ ‫فوقهــا (فيجــب أن يقــذف بالســلم – ان صــح التعبيــر – بعــد ان يفــرغ مــن اســتخدامه لصعــوده «‪ . 74‬وهكــذا يمكــن حــذف أي‬ ‫كالم يقولــه اصحــاب الوضعيــة المنطقيــة لكــي ال يبقــى منــه اال قضايــا الرياضــة والعلــوم الطبيعيــة بينمــا يصبــح كل كالم آخــر‬ ‫فارغــا وبغيــر معنــى ‪.‬‬ ‫ان الفلســفة ‪ ،‬بعــد أن باتــت خاضعــة عنــد ه ـؤالء الفالســفة ‪ ،‬لمعيــار التحقــق األمبيــري ‪ ،‬واســتبعدت منهــا الميتافيزيقــا بشــكل‬ ‫جــازم أصبحــت ظــا باهتــا للعلــم ‪ ،‬وغــدت نوعــا مــن فلســفة العلــم القائمــة علــى التخصــص والدقــة واالحتـراف ؛ وهــم فــي ذلــك‬ ‫قزم ـوا طموحــات الفلســفة لتصبــح ممارســة تقتــات ممــا تتركــه لهــا العلــوم ‪ ،‬وتتخلــى عــن اكثــر األهــداف األخالقيــة واالنســانية‬ ‫التــي ســعت إليهــا لتتــرك االهتمــام فيهــا للديــن والفــن‪.‬‬ ‫ولعــل اهميــة هـؤالء الفالســفة تكمــن فــي أنهــم كانـوا تنويرييــن ال يقبلــون األقـوال الخرافيــة ‪ ،‬وال العقــل المنطلــق دون ضوابــط ‪.‬‬ ‫وحارب ـوا االسترســال فــي األق ـوال الفضفاضــة ‪ ،‬وأجبــروا الفالســفة علــى اعتمــاد التعبيــر الدقيــق والواضــح ‪ ،‬فأســهموا بذلــك فــي‬ ‫ابعــاد لغــة الفلســفة عــن االبهــام والغمــوض ‪ ،‬لتلتــزم الدقــة الصارمــة فــي اســتخدام األلفــاظ والعبــارات‪.‬‬ ‫مصادر ومراجع البحث ‪:‬‬ ‫‪ - 1‬محمود ‪ ،‬د‪ .‬زكي نجيب ‪ .‬موقف من الميتافيزيقا ‪،‬ط ‪ ، 2‬دار الشروق ‪ ،‬بيروت ‪.1983‬‬ ‫‪ -2‬لخولي ‪ ،‬ديمنى طريف ‪ .‬فلسفة العلم في القرن العشرين ‪ ،‬عالم المعرفة ‪ ، 264‬المجلس الوطني للثقافة والفنون‬ ‫واآلداب الكويت ‪ ،‬كانون األول ‪. 2000‬‬ ‫‪ -3‬رسل برتراند ‪ ،‬حكمة الغرب ‪،‬ترجمو دز فؤاد زكريا ج‪، 2‬عالم المعرفة ‪ 72‬المجلس الوطني للثقافة والفنون واالداب‬ ‫الكويت ‪.1983 ،‬‬ ‫‪ - 4‬رسل ‪ ،‬برتراند ‪.‬فلسفتي كيف تطورت ‪ ،‬ترجمة عبد الرشيد صادق ‪ ،‬مراجعة زكي نجيب محمود ‪ ،‬مكتبة االنجلو‬ ‫مصرية ‪ ،‬ط‪ ،1‬القاهرة ‪1960‬‬ ‫‪ -5‬بدوي ‪ ،‬د‪ .‬عبد الرحمن ‪ .‬ملحق موسوعة الفلسفة‪،‬ط‪، 1‬المؤسسة العربية للدراسات والنشر‪ ،‬بيروت ‪1996‬‬ ‫‪7 1‬‬ ‫‪ 72‬‬ ‫‪ 73‬‬ ‫‪ 74‬‬

‫ بدوي ‪ ،‬د‪ .‬عبد الرحمن ‪ ،‬موسوعة الفلسفة ‪ ،‬ج ‪ ، 2‬م‪ .‬س ‪ ،‬ص ‪. 251‬‬‫ محمود ‪ ،‬زيك نجيب ‪ ،‬موقف من امليتافيزيقا ‪ ،‬م‪ .‬س ‪ ،‬ص ‪. 16‬‬‫ بدوي ‪ ،‬د‪ .‬عبد الرحمن ‪ ،‬موسوعة الفلسفة ‪ ،‬ج‪ ، 2‬م‪.‬س ‪ ،‬ص ‪. 250‬‬‫‪ -‬محمود ‪ ،‬زيك نجيب ‪ .‬موقف من امليتافيزيقا ‪ ،‬م‪ .‬س ‪ ،‬ص ‪. 28‬‬


‫‪ .‬ويترتــب علــى هــذا « أن كل قضيــة تركيبيــة ال يمكــن تحديــد صدقهــا أو كذبهــا مــن مالحظــات حســية هــي جملــة بغيــر معنــى‬ ‫«‪ . 68‬والتحقــق ينطبــق علــى القضايــا مثلمــا ينطبــق علــى المفاهيــم والكلمــات « ألن العبــارة لــن تقبــل التحقــق اال اذا كانــت‬ ‫المفاهيــم الـواردة فيهــا ذات معنــى ومرتبطــة بعالقــات منطقيــة ارتباطـاً ســليماً «‪ . 69‬وقــد ذهــب شــليك إلــى حــد القــول بضــرورة «‬ ‫أن نســتطيع االشــارة بأصابعنــا إلــى مدلــول الكلمــة ليكــون التحقــق منــه نهائيــا « ‪ . 70‬وينصــح كارنــاب بقبــول معيــار التحقــق علــى‬ ‫أســاس قريــب مــن البرجماتيــة أي قبولــه ألنــه يمكننــا مــن تحقيــق الهــدف ‪ ،‬وهــو تمييــز المعرفــة العلميــة واســتبعاد الميتافيزيقــا ‪.‬‬ ‫إن التصــور العلمــي للعالــم هــو ‪ ،‬اذن‪ ،‬أمبيــري ووضعــي ‪ ،‬وتحليــل الجمــل أو األق ـوال يتيــح اظهــار الحــدود بيــن تللــك التــي‬ ‫تطلــق ‪ ،‬فــي التحليــل النهائــي علــى معطيــات أمبيريــة ‪ ،‬وتلــك الفاقــدة للمعنــى والداللــة‪ .‬ان جملــة تقــول « يوجــد إلــه واحــد «‬ ‫ال تطلعنــا علــى أيــة معرفــة‪ .‬ولكنهــا تعبــر عــن شــعور فــي الحيــاة ‪ ،‬والشــعر والموســيقى هــي األكثــر مالءمــة لهــذا النــوع مــن‬ ‫المشــاعر ‪ .‬ولكــن فــي الشــعر‬

‫‪ 68‬‬ ‫‪6 9‬‬ ‫‪ 70‬‬

‫ م‪ .‬ن ‪ ،‬ص ‪. 300‬‬‫ م ‪ ،‬ن ‪ ،‬ص ‪. 301‬‬‫‪ -‬م‪ .‬ن ‪ ،‬ص ‪. 301‬‬


‫الوجود والعدم‪..‬‬ ‫جدلية عاشها شعراء ماقبل اإلسالم‪..‬في‬ ‫أشعارهم‬ ‫د‪.‬غيثاء علي قادرة*‬

‫بعيداً عن التصورات الســلبية االستشـراقية التي قاســت طبيعة الوجود العربي بحياة البداوة في القرنين الثامن عشــر والتاســع‬ ‫عشــر‪ ,‬وانطالقـاً مــن الرؤيــة الـظـاهـ ارت ــية التــي تســتبطن الظاهـرة وصـوالً إلــى ماهيتهــا كان الســفر فــي مجاهيــل الوجــود والعــدم‬ ‫عنــد عــرب ماقبــل اإلســام الــذي عــاش تداخــل الوجــود والعــدم تــارة‪ ,‬وانفصالهمــا تــارة أخــرى ‪,‬عــاش ص ارعـاً متواصـاً بيــن طرفيــن‬ ‫متباعــدان ال يلتقيــان إال ليتصارعــا حــول أحقيــة وجــود األول فــي نفــي الثانــي‪ .‬فمــن جدليــة الصـراع الوجــودي فــي بيئــة فرضــت‬ ‫ـدرك ‪ ,‬وهــو الوجــود الــذي يســبق‬ ‫المـ َ‬ ‫معطياتهــا نمطيــن مــن الحيــاة كان اللجــوء إلــى النظريــة الوجوديــة ‪,‬واالنطــاق مــن الوجــود ُ‬ ‫بأهميــة وجــود الفــرد اإلنســاني و‬ ‫الماهيــة علــى وفــق مــا أكدتــه فلســفة»الوجودية» ‪ ,‬التــي ظهــرت فــي القــرن العشـرين ‪ ,‬ونــادت‬ ‫َ‬ ‫الوجوديــة جــاءت َّ‬ ‫ردة فعــل علــى ماخلفتــه‬ ‫ثالثينيــات وأربعينــات القــرن الماضــي ‪.‬ويمكــن اإلق ـرار بــأن‬ ‫قيمتــه‪ ،‬وانتشــرت فــي‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫العالميــة مــن دمــار وفنــاء ‪.‬‬ ‫الحــرب‬ ‫َ‬

‫تكرس الوجودية اإلنسان بوصفه فرداً يقوم بتكوين جوهر لحياته ومعنى ‪ ,‬وتوضح أن غياب التأثير المباشر لقوة خارجية‬ ‫(اإللــه) يعنــي بــأن الفــرد حــر بالكامــل‪ ,‬وهــو مســؤول عــن أفعالـ ِـه‪ ,‬وعــن خيا ارتــه‪ ,‬وأفــكاره ‪ ,‬وتكويــن معتقداتــه بعيــداً عــن أي نظــام‪.‬‬ ‫وهــذه الطريقــة الفرديــة للتعبيــر عــن الوجــود الذاتــي الحــر هــي الكفيلــة للنهــوض فــوق الحالــة المفتقـرة للمعنــى ‪.‬‬

‫وإلــى الوجوديــة احتكــم بعــض الوجودييــن فــي تحديــد وجــود الموجــود الــذي يصــدق عليــه تحديــد مفهــوم الوجــود بإمكانيــة تجــاوز‬ ‫ذاتــه‪ ,‬أمــا الموجــودات األخــرى ؛ فهــي إمــا موجــودات ال نعــرف كنــه وجودهــا ‪»,‬كاهلل والمالئكــة والعالــم»‪ ،‬وإمــا مجــرد كائنــات‬ ‫كالحيوانــات والجمــادات‪ ،‬وكالهمــا اليمتلــك تجــاوز ذات ــه باســتمرار كاإلنســان‪ ,‬لذلــك خــص معظــم الـوجـودي ــين الـوج ــود باإلنســان‬ ‫الماهيــة الحقيقيــة لوجــود اإلنســان تكمــن فــي تجــاوز ذات ــه المســتمر ‪ ,‬دائمـاً‪,‬‬ ‫وح ــده‪ .‬وهــو مــا ُســمي بالـوج ــود الماهــوي ‪,‬أي أن‬ ‫َّ‬ ‫ويســمى‪ :‬الوجــود األصيــل ‪ ,‬والوجــود الحقيقــي هــو معيــار تحقيــق الوجــود فــي تحقيــق الــذات‪ .‬انطلــق هيدغــر‬ ‫نحــو الممكــن‪ُ ،‬‬ ‫فــي تعريــف «الوجوديــة» مــن أص ــل الفعــل (يوجــد ) ‪,‬وهــو فــي الالتينيــة «التمــرد علــى الواقــع‪ ,‬والثــورة عليــه ‪,‬واالنبثــاق مــن‬ ‫جديــد»‪ ،‬و حـ ّـدد معنــى الوجــود اعتمــاداً علــى مقولة(الوقــوف خــارج ال ــذات) أي قــدرة ال ــذات علــى تجــاوز نفســها دائمـاً ‪ ,‬وتجددهــا‬ ‫‪ ,‬وإلقائهــا فــي حيــز الممكــن األفـض ــل‪ ،‬وع ــدم الثبــات والســكون والـوق ــوف علــى هيئــة واحــدة ‪.‬‬ ‫يرى هيدغر أن للـوجـود الزمني معنيين‪« :‬الوجود هناك» ؛ أي وجود اإلنـسـان مرَغماً‪ ,‬من غير إرادة منه‪ ,‬في كل‬ ‫ما هو حوله من ظروف ‪ ,‬و «الوقوف هنا» ؛ أي ضرورة التجاوز بالذات نحو الممكن ‪ ,‬وعدم االستسالم وصوالً إلى‬ ‫الوجود الماهوي وإنسانيته‪ .‬وهذا ما يسميه الوجوديون «التعالي»؛ أي تجاوز الذات الفعلي والمستمر لذاتها نحو ما يسميه‬ ‫‪.‬‬ ‫«نيتشه» اإلنسان المتمِّيز (السوبرمان)‬

‫عنــد «هيدغــر» ينكشــف الوجــود علــى أنــه حضــور وغيــاب معـاً ‪ ,‬وانكشــاف واحتجــاب معـاً « «(‬ ‫)‪.‬‬ ‫يميــز الموجــود لذاتــه هــو انفصالــه عــن ذاتــه ‪ ,‬وخلقــه‬ ‫‪ 13-12 :‬وعنــد ســارتر‪ »:‬أن العــدم نســيج الوجــود اإلنســاني ‪,‬و ّ‬ ‫أن مــا ّ‬ ‫لنفســه بنفســه( الوجــود والعــدم ‪ ,)9‬ويــرى أن الحرّيــة ليســت ســوى تعبيــر عــن حقيقــة أن « الموجــود لذاتــه هــو انبثــاق حـ ّـر ‪ ,‬فيــه‬ ‫‪.‬‬ ‫يخلــق اإلنســان نفســه بنفســه‪ .‬و ينتقــل مــن حــال اإلمــكان إلــى حــال التحقيــق‪ ,‬ف ـ «الحرّيــة هــي الصفــة األولــى لوجــود الــذات «‬ ‫ويــرى «يســبرز» أن العــدم ثغ ـرة الوجــود ‪ , ,‬فالعــدم داخــل فــي نســيج الوجــود ‪ ,‬و وجــه آخــر لــه‪ ,‬وهــو األصــل فــي الحرّيــة ؛‬ ‫أن قيــام الــذات اإلنســانية ‪ ،‬بالفعــل وممارســة‬ ‫بوصفــه عمليــة داخلــة فــي نســيج الوجــود ‪ ,‬ومكـّـون أســاس مــن مكوناتــه ؛ مايؤكــد ّ‬ ‫يميزهــا عــن‬ ‫عمــا تجهــل ‪ ،‬واتخــاذ القـ اررات بحريــة وإرادة هــو مــا ّ‬ ‫عمــا تريــد‪ ،‬والتســاؤل ّ‬ ‫الحقــوق ‪ ,‬واختيــار األشــياء ‪ ،‬واإلفصــاح ّ‬ ‫بالتأمــل الباطــن المباشــر الجوهــر الباطــن‬ ‫غيرهــا‪ .‬واإلرادة ‪ -‬وفــق شــوبنهور‪ « -‬جوهــر وجــود اإلنســان ‪ ،‬ففيهــا يجــد اإلنســان‬ ‫ّ‬ ‫الفلســفة الوجوديــة ‪ ,‬زكريــا ابراهيــم‬


‫‪ -6‬الخولي ‪ ،‬د‪ .‬يمنى طريف ‪.‬جدل المثالية والواقعية عند برتراند رسل ‪،‬عالم الفكر‪ ، 30 ،‬المجلس الوطني للثقافة‬ ‫والفنون واآلداب ‪ ،‬الكويت ‪،‬يوليو‪-‬سبتمبر ‪.2001‬‬ ‫‪ -7‬محود ‪ ،‬د‪ .‬زكي نجيب ‪ ،‬نافذة على فلسفة العصر ‪ ،‬كتاب العربي الكويت ‪ 15‬ابريل ‪1990.‬‬ ‫‪ -8‬الديدي ‪ ،‬عبد الفتاح ‪ .‬االتجاهات المعاصرة في الفلسفة ‪ ،‬ط‪ ، 2‬الهيئة المصرية العامة للكتاب ‪،1985‬‬ ‫‪ -9‬فتغنشتين ‪ ،‬لودفيغ ‪ .‬رسالة منطقية – فلسفية‪ ،‬ترجمة عزمي إسالم ‪ ،‬مكتبة األنجلو مصرية ‪, 1968‬‬ ‫‪ -10‬الجسمي ‪ ،‬د‪ .‬عبدهللا‪ .‬المنطق وتصور فتجنشتين للفلسفة ‪ ،‬عالم الفكر ‪ ،‬المجلد ‪ ، 29‬العدد األول ‪ ،‬المجلس‬ ‫الوطني للثقافة ‪،‬والفنون واآلداب ن الكويت يوليو سبتمبر ‪.2000‬‬ ‫‪ -11‬فتغنشتين ‪ ،‬تحقيقات فلسفية‪،‬ترجمة عبد الرزاق بنور ‪ ،‬المنظمة العربية للترجمة ‪ ،‬مركز دراسات الوحدة العربية ن‬ ‫بيروت ‪, 2007‬‬ ‫‪ -12‬توفيق ‪ ،‬د‪ .‬سعيد ‪ .‬في ماهية اللغة وفلسفة التأويل ‪ ،‬مؤسسة الدراسات الجامعية ‪ ،‬بيروت ‪2002.‬‬ ‫‪.13-Encyclopedie Universalis, 2end edition, tome 12,PUF‬‬ ‫ ‪Olbani, melika,Philosophie de la connaissance et des sciences, www. Rationa� 14-‬‬ ‫‪. lites-contemporaines , .Paris4 Sorbone.fr‬‬ ‫‪. www. SOS . Philosophie.free.fr/Russel.php -15‬‬ ‫‪. Marconi ,Diego.La philosophie du langage au vingtieme siecle,www.lyber-eclat.net- 16‬‬ ‫‪. 17-www. SOS .Philosophie. free. Fe/Russel,p3‬‬ ‫‪.Russel, B. Probleme de la philosophie, 17eme edition payot France 1972 18-‬‬


‫الخاصــة فــي تفســير مــا يحــدث لــه‪ ،‬وإحالــة األســباب لتلــك القـّـوة الغامضــة المنعوتــة بالدهــر‪ .‬بدليــل‬ ‫أحــد أهــم انطباعــات الشــاعر‬ ‫ّ‬ ‫رد علــى أصحــاب الدهريــة «قالـوا ماهــي إال حياتنــا الدنيــا‪ ،‬نمــوت ونحيــا ومــا يهلكنــا ّال الدهــر”‪.‬‬ ‫ـص القرآنــي مــن ّ‬ ‫تضمنــه النـ ّ‬ ‫مــا ّ‬ ‫َّ‬ ‫(الجاثيــة‪ ..)24,‬بــرز العــدم فــي مشــاهد المــوت واإلحســاس بالفنــاء ‪ ،‬مــن خــال صــور الغربــة والشــيب والشــيخوخة‪ ،‬وصــور الليــل‬ ‫الم ْهِلــك‪.‬‬ ‫المْفنــي و ُ‬ ‫والسـّـيل الــذي رمــز للدهــر ُ‬

‫الس ـؤال الــذي شــغل العقــل الجاهلــي‪ ,‬هــو ‪ :‬هــل هنــاك حيــاة أخــرى مــا بعــد المــوت ؟ بــل مــا جــدوى الحيــاة التــي يعيشــها إذا‬ ‫مــا كان المــوت بانتظــاره ؟! ‪ .‬المــوت هــو الهاجــس الــذي ال يهــدأ إالّ بالقضــاء علــى محاولــة التفكيــر بــه ‪ ,‬فــكان الحــل األمثــل‬ ‫الســعي وراء الملــذات‪ ,‬وإثبــات الــذات بالبطولــة ‪ ,‬فهمــا الســبيل إلــى‬ ‫الــذي رآه بعــض الجاهلييــن ‪ ,‬وآمنـوا بــه للهــروب مــن آثــاره ّ‬‫فبالســعي إلــى البطولــة يخلــد ذكــر المــرء ‪ ,‬والخلــود لديــه – الجاهلــي – اقتصــر علــى مــا يتركــه المــرء‬ ‫نســيان المــوت ‪ ,‬مؤقتـاً ؛ ّ‬ ‫بعــده مــن أفعــال تخّلــده ‪ ,‬بهــا ينتصــر علــى حتميــة المــوت ‪ ,‬وبهــا يمنــح حياتــه الحزينــة بارقــة مــن أمــل الوجــود‪.‬‬

‫أكاديمية سورية*‬


‫«(‬

‫الحقيقــي لإلنســان ‪ ،‬الــذي ال يمكــن أن يفنــى‪ ،‬وهــي البــذرة الحقيقيــة غيــر القابلــة للفنــاء عنــد اإلنســان ‪ ,‬وهــي مبــدأ الحيــاة فيــه‬ ‫أن الوجــود ‪ -‬بالنســبة إلــى الــذات ‪ -‬إنمــا يعنــي أن تخلــق‬ ‫موســوعة الفلســفة ‪ ،‬عبــد الرحمــن بــدوي ‪ . )34 /2 :‬أمــا جبرييــل مارســل‪ ,‬فيــرى» ّ‬ ‫الــذات نفســها بنفســها ‪ ،‬وتحــاول أن تعلــو علــى نفســها ‪ ،‬بوصفهــا « مشــروع وجــود» ‪ ،‬أو إرادة ال تألــو جهــداً فــي العمــل علــى‬ ‫تفردهــا‪ ,‬واســتقاللها عــن غيرهــا مــن الـ ّذوات‪ ,‬بــل مــا لديهــا مــن قــدرة علــى التعبيــر‬ ‫ماهيتهــا ‪ّ .‬‬ ‫«إن مــا ّ‬ ‫اكتســاب ّ‬ ‫يميــز الــذات ليــس ّ‬ ‫عــن نفســها أمــام اآلخريــن ‪ ,‬ومــا تتصــف بــه مــن قــدرة علــى مواجهــة شــتى الظــروف ‪ ,‬فالـ ّذات حزمــة مواهــب البــد مــن العمــل‬ ‫علــى اســتثمارها «( الفلســفة الوجوديــة ‪ ,‬زكريــا ابراهيــم ‪.)55,‬‬ ‫ومن الفالسفة الوجوديين الذين تناولوا الوجود في عالقته بالقلق الوجودي (كانت ونيتشه‪ ,‬وهيغل‪,‬وشوبنهاور) ‪ ،‬وهم‬ ‫بالحرية‪ ،‬والوجود المبتذل الذي‬ ‫جميعاً يرون أن األنا الموجودة استقرت على نمطي الوجود ؛ الوجود األصيل المرتبط‬ ‫ّ‬ ‫انغمست األنا فيه إلثبات الوجود بكل ماهو زائف‪ ،‬وهو ما أطلق عليه أصحاب المذهب الوجودي مابعد الحداثي بموت‬ ‫بالحرية‪ ،‬فكل تلك التبدالت الدراماتيكية‬ ‫اإلنسان‪ .‬وفي تلك الحركة بروز لمظاهر العدم المتصارع مع الوجود المرتبط‬ ‫ّ‬ ‫الحيز‬ ‫الحر إلى ّ‬ ‫في قراءة الوجود اإلنساني ارتبطت بالواقع االجتماعي وحركته التاريخية‪ ،‬التي نقلت الصراع من التأمل ّ‬ ‫المدمرة للحروب واللهاث خلف الثروة‪،‬‬ ‫المباح بفعل التناقضات الوجودية لإلنسان‪ ،‬والتي أسهمت في صناعتها اآلثار‬ ‫ّ‬ ‫ظري اإلحباط هو الفيلسوف‬ ‫مما أنتج حالة اليأس الوجودي وثقافة مابعد الحداثة‪ .‬إن أكثر فالسفة التشاؤم األوروبيين ومن ّ‬ ‫تصو اًر وفكرة للصراع مع الموت والفناء‪ ،‬فال شيء –برأيه‪ -‬يوقف‬ ‫«آرثر شوبنهاور» (‪ )١٨٦٠_١٧٨٨‬الذي وجد العالم ّ‬ ‫آالم البشرية سوى الموت‪ .‬ولم تقف نزعات التشاؤم في حضور الذات البشرية ضمن جدلية الوجود والعدم على أصحاب‬ ‫ركزت على اإلنسان كموجود فاعل في الوجود‪ ،‬بل لقد سار في موازاتها والصراع معها أصحاب موت‬ ‫النظرة الذاتية التي ّ‬ ‫اإلنسان ‪ ،‬والذين وجدوا الظروف المحيطة باإلنسان هي العامل الحاسم في تحديد مصير البشرية‪ ،‬حيث ألغي دور الذات‬ ‫ميزت في معظمها بين‬ ‫الفاعلة‪ ,‬وتنوعت الفلسفات العدمية بين ميتافيزيقية ومعرفية ووجودية وأخالقية وسياسية‪ ،‬حيث ّ‬ ‫اإللحاد الوجودي القائم على نفي وجود اإلله (جان بول سارتر) والعدمي الذي ال يعنيه األمر وال يجد في مساجلته فائدة‬ ‫تذكر‪ ،‬ألنه ال يعطي لإلنسان قيمة‪ .‬ومن منظري العدمية الناقد والشاعر جوتفريد بن (‪ )١٩٥٦_١٨٦٦‬الذي اعتبر‬ ‫العدمية مواجهة صريحة لحقائق الحياة‪ ،‬ومثله الكاتب الروماني إميل سيوران (‪ )١٩٩٥_١٩١١‬في كتابه (المياه كلها بلون‬ ‫المعبر األول الغربي عن العدمية في أعماله األدبية هو الفرنسي جوستاف فلوبير (‪ )١٨٨٠_١٨٢١‬وبين العرب‬ ‫الغرق)‪ ،‬و ّ‬ ‫‪.‬‬ ‫المعري بالعدمية (‪)١٠٥٧_٩٧٣‬‬ ‫هناك من نعت الفيلسوف أبو العالء‬ ‫ّ‬

‫يـؤكـد الـوجـوديـون –إذن‪-‬أن القيمة لـوجـود اإلنسان بعيداً عن الحرية ؛ فالوجود والحرية متالزمان ال ينفصالن ‪ ,‬والمـوجـود‬ ‫إإلنـسـان ــي األصـي ــل الـ ــذي يمتلــك الحريــة يســعى دائمـاً إل ــى بنــاء ذات ــه المتفــردة ويجهــد لتحقيــق أنــاه الخاصــة ‪ ,‬ومــن هنــا كان‬ ‫ســعي اإلنســان علــى مـ ِّـر التاريــخ إلــى امتــاك الحريــة ؛ ألنــه رأى فيهــا عيــن الوجــود ‪ ,‬فبهــا يكمــن االنتقــال مــن الممكــن إلــى‬ ‫الواقــع ‪ ,‬ومــن الشــعور بالعزلــة إلــى الشــعور بالــذات وســط المجمــوع ؛ َّ‬ ‫ألن غايــة الموجــود أن يجــد ذاتــه وســط الوجــود‪.‬‬ ‫النسبي عن باقي‬ ‫تحررها من قيود الجماعة؛ وولوجها حيز الفردية ‪ ,‬وانفصالها ّ‬ ‫يكمن وجود ال ّذات اإلنسانية –إذن‪ -‬في ّ‬ ‫‪.‬‬ ‫فالفردية ومن ورائها الحرّية مؤشران ضروريان على الوجود‬ ‫ال ّذوات ‪,‬‬ ‫ّ‬

‫ماانفـ َّ‬ ‫طر مســاعي اإلنســان إلــى امتــاك الحريــة ؛ ألنهــا أثمــن مــا فــي الوجــود‪ ,‬فبهــا يشــعر المــرء بذاتــه‬ ‫ـك تاريــخ البش ـرية يس ـ ِّ‬ ‫الفاعلــة ‪ ,‬وبهــا يكمــن االنتقــال مــن الممكــن إلــى الواقــع ‪ ,‬ومــن الشــعور بالعزلــة إلــى الشــعور بالوجــود ‪ ,‬فغايــة الموجــود أن يجــد‬ ‫ذاتــه وســط الوجــود ‪ .‬إن تعطــش عــرب ماقبــل اإلســام إلــى الوجــود فــي زمــن باتــت لغــة العنــف فيــه األقــوى دليــل ســعيه إلــى‬ ‫االنتصــار علــى تجليــات الفنــاء المتباينــة إثباتـاً للوجــود ودحـ اًر للشــعور بالعــدم ‪.‬‬

‫تنوعــت تنــوع الم ارحــل‬ ‫فنيــة َّ‬ ‫رســم الخطــاب الشــعري الجاهلــي لوحــات تجلــي عمليــات الصـراع بيــن الوجــود والعــدم ‪ ،‬فــي صــور ّ‬ ‫االجتماعيــة المعيشــة ‪.‬‬ ‫فالــذات الموجــودة الح ـرة هــي المبتغــى ‪ ,‬واإلرادة ســبيل بلــوغ الهــدف ‪ ,‬وجســر العبو إرلــى الفعــل والمقاومــة‪ .‬صــارع الشــاعر‬ ‫الجاهلــي الزمــن ‪ ،‬وســعى إلــى التغلــب علــى مفاعيلــه ؛ بالرحيــل تارة‪,‬بحث ـاً عــن الــذات الضائعــة فــي غياهــب المجهــول تــارة‬ ‫أخــرى‪.‬‬ ‫فــإرادة الجاهلــي فــي البقــاء ومواجهــة العــدم كانــت واضحــة ‪ ,‬نــزع –مــن خاللها‪-‬الشــاعر الجاهلــي إلــى محــاكاة الوجــود عبــر‬ ‫الخلــود‪ ،‬فأعمــل فك ـره فيمــا يتركــه مــن أثــر يضمــن لــه الوجــود بعــد المــوت‪.‬‬ ‫إن المنطــق العقلــي الــذي الزم الشــاعر مــن خــال إحاالتــه المعانــاة إلــى مفاهيــم ميتافيزيقيــة‪ ،‬جعلــت قـ ّـوة مماثلــة للخالــق هــي‬



‫الخطيئة لنسرين بلوط‪ ...‬خطيئة التاريخ والحاضر‬

‫درية كمال فرحات‬ ‫دكتورة ّ‬

‫ا‬ ‫ألد‬

‫العادي‪.‬‬ ‫إن األديب إنسان مـرهف اإلحساس‪ ،‬يملك موهبة تجعله قاد اًر على رصد المـواقف المختلفة في مجتمعه‪ ،‬ويتميز بذلك من اإلنسان‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬

‫ب‬

‫يعبر‬ ‫ووراء هذا األديب تكمن شخصية متميزة‪ ،‬وتظهر مؤثرات تحركه‪ .‬ومن هذه المؤثّرات‬ ‫كل إنسان‪ّ ،‬‬ ‫ّ‬ ‫الوطنية أو المواطنة‪ّ ...‬إنه شعور ينمو في وجدان ّ‬ ‫عنه بطريقته وأسلوبه‪ ،‬واألديب أكثر قدرة على التّعبير عن هذه المشاعر‪ ،‬وأقدر على التّأثير بغيره‪.‬‬

‫السّيال الذي‬ ‫لبنانية‬ ‫ونسرين بلوط أديبة‬ ‫تتميز بالحس المرهف‪ ،‬والقلب ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫الصادقة‪ ،‬والمالحظة الدقيقة‪ ،‬واليراع ّ‬ ‫الشّفاف‪ ،‬والكلمة ّ‬ ‫مرة ثائرة‬ ‫فتبدو‬ ‫ات‪،‬‬ ‫و‬ ‫النز‬ ‫و‬ ‫اطف‬ ‫و‬ ‫الع‬ ‫مجمل‬ ‫عن‬ ‫لنا‬ ‫ر‬ ‫تعب‬ ‫أنامل‬ ‫من‬ ‫انطلق‬ ‫الكلمة‪،‬‬ ‫مع‬ ‫ووئام‬ ‫ة‬ ‫محب‬ ‫عالقة‬ ‫وشعرا‪ ،‬فكانت له‬ ‫نثر‬ ‫أبدع ًا‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫محبة‪.‬‬ ‫قيقة‬ ‫ر‬ ‫هادئة‬ ‫ة‬ ‫ومر‬ ‫دة‪،‬‬ ‫متمر‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫غاضبة ّ‬ ‫زمنية من تاريخ لبنان شهد‬ ‫نعم ّإنها نسرين بلوط التي أخرجت من مكنوناتها خطيئة من خطايا الزمن الذي يعود بنا إلى حقبة ّ‬ ‫فتؤرخ لفتنة ‪ 1840‬و‪.1860‬‬ ‫فيها جولة من جوالت الحرب‬ ‫ّ‬ ‫األهلية المقيتة‪ّ ،‬‬

‫يخية‪ ،‬تنقل فيها أحداث ذلك الزمن‪ ،‬أم ّأنها عمل فني من نسج خيالها؟‬ ‫فهل ما كتبته نسرين بلوط وثيقة تار ّ‬ ‫ّ‬ ‫الرواية على البطلة مي ار في دير للنسك تابع لدير‬ ‫فك ّ‬ ‫إشكالية أولى نقف عندها‪ ،‬لنجد ّ‬ ‫اليشيفرة بين ّ‬ ‫الرواية‪ ،‬حيث تنفتح ّ‬ ‫طيات ّ‬ ‫مار أنطونيوس المشرف على جبل الباروك‪ ،‬وتنطلق الكاتبة في تبيان ما لهذا الدير من حكايا وأساطير وتاريخ ال ُينسى‪ ،‬وال يتوّقف‬ ‫يخية ولواقع اجتماعي فتعرض‬ ‫العرض عند هذا الدير‪ ،‬بل تغ ّ‬ ‫للرواية مساحات كبيرة تعرض فيه الكاتبة ألحداث تار ّ‬ ‫الصفحات األولى ّ‬ ‫طي ّ‬ ‫لعادات وتقاليد كانت سائدة‪ ،‬منها ما له عالقة بالزواج أو اللباس وصوًل إلى تعليم البنات‪ ،‬وتحرص على سرد توثيقي لحوادث تاريخية‬

‫وقعت في منتصف القرن التاسع عشر‪.‬‬

‫مؤرًخا‪ ،‬هي رواية يمتزج فيه التاريخ بالخيال‪ ،‬تهدف إلى تصوير عهد من العهود أو حدث‬ ‫ومع ذلك‪ ،‬فالخطيئة ليست تار ً‬ ‫يخا‪ ،‬وال نسرين بلوط ّ‬ ‫من األحداث الضخام بأسلوب روائي سائغ مبني على معطيات التاريخ‪ ،‬ولكن من غير تقيد بها أو التزام لها في كثير من األحيان‪ ،‬هي تاريخ في قالب‬ ‫طبقات‬ ‫النماذج التي تـحركهـا شخوصـاً‪ ،‬وتـرسم صورة الحياة‬ ‫أما العنصر‬ ‫االجتماعية‪ ،‬وال ّ‬ ‫االجتماعي فنـجـده يـصـطخب في ّ‬ ‫ّ‬ ‫روائي هدفه تصوير المجتمع‪ّ ،‬‬ ‫ّ‬ ‫القائمة في المجتمع‪.‬‬

‫الشــاب الــدرزي‪،‬‬ ‫مارونيــة ابنــة عائلــة‬ ‫الروايــة هــي فتــاة‬ ‫ـب عابــد ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫إقطاعيــة مــن زحلــة‪ ،‬ترّبــت فــي بيــت قـ ّـدم لهــا الغنــج والـ ّـدالل‪ ،‬تقــع فــي حـ ّ‬ ‫وميـ ار بطلــة ّ‬ ‫ن‬ ‫الشــائكة‬ ‫ـات‬ ‫ـ‬ ‫ق‬ ‫العال‬ ‫ـذه‬ ‫ـ‬ ‫ه‬ ‫ـو‬ ‫ـ‬ ‫ك‬ ‫فت‬ ‫ـا‪،‬‬ ‫ـ‬ ‫م‬ ‫منه‬ ‫ـأي‬ ‫ـ‬ ‫ب‬ ‫ـاط‬ ‫ـ‬ ‫ب‬ ‫ت‬ ‫ر‬ ‫اال‬ ‫ـتطيع‬ ‫ـ‬ ‫س‬ ‫ت‬ ‫ـن‬ ‫ـ‬ ‫ل‬ ‫ـي‬ ‫ـ‬ ‫ه‬ ‫ف‬ ‫ـك‬ ‫ـ‬ ‫ل‬ ‫ذ‬ ‫ـع‬ ‫ـ‬ ‫م‬ ‫و‬ ‫ـى»‪،‬‬ ‫ـ‬ ‫«مت‬ ‫ـا‬ ‫ـ‬ ‫ه‬ ‫ت‬ ‫ل‬ ‫م‬ ‫ـن‬ ‫ـ‬ ‫ب‬ ‫ا‬ ‫ـا‬ ‫ـ‬ ‫ه‬ ‫أحب‬ ‫ـي‬ ‫ـ‬ ‫ت‬ ‫ال‬ ‫ـي‬ ‫ـ‬ ‫ه‬ ‫و‬ ‫ـه‪،‬‬ ‫ـ‬ ‫ل‬ ‫ـها‬ ‫ـ‬ ‫س‬ ‫نف‬ ‫م‬ ‫ل‬ ‫ـ‬ ‫س‬ ‫وتنجــرف معــه إلــى ان ت‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫اإلقطاعيــة‪ ،‬وصــوًل إلــى أزمــة البــاد مــع المحتـ ّـل الغاشــم أي االحتــال العثمانــي‪.‬‬ ‫و‬ ‫ـة‬ ‫ـ‬ ‫ائفي‬ ‫ط‬ ‫ّ‬ ‫مدخـ ًـا لرســم األبعــاد ال ّ ّ‬ ‫تقــول بلــوط فــي روايتهــا‪ »:‬ولكـ ّـن العــدل فــي بالدهــا ُيبكــي الحجــر فالغنــي ظـ ٌّـل للمحتـ ّـل الغاشــم والفقيــر يتبــع الغنــي واألرض تثــور مــن ثقــل الغ ـزاة‬ ‫ّ‬ ‫المحتليــن وتتلــوى تحــت أقــدام الســادة وتبكــي تحــت معــاول الفالحيــن وهــم يروونهــا بــدل المــاء مــن دمائهــم فتشــفق عليهــم وترســم عروقهــا مــن تضاريــس جســدها‬ ‫الشــعوب‪ ،‬فالمــادة هــي األســاس لتكـ ّـون‬ ‫كأنهــم أوالدهــا‬ ‫فعــاالً فــي حيــاة ّ‬ ‫الصامــت‪ ..‬وتحضنهــم ّ‬ ‫ـادي يـ ّ‬ ‫ّ‬ ‫ـؤدي دو اًر ّ‬ ‫الحقيقيــون»‪ ،‬واقــع اقتصـ ّ‬ ‫قــارة آلالمهــم ونحيبهــم ّ‬

‫الشــعوب‪ ،‬فلــم تكــن ثــورة العبيــد إالّ للتّخلــص مــن اإلقـط ــاع ون ــيل الحريــة‪ ،‬ومــن مطالــب‬ ‫المجتمعــات‪ ،‬ورفــض اإلقطــاع كان متوارثـاً فــي كل الحضــارات ومــع كل ّ‬ ‫النبــاء‪ .‬وهكــذا كانــت الثــورة فــي روايــة الخطيئــة هــي ثــورة الفالحيــن علــى اإلقطــاع التــي قادهــا‬ ‫الثّــورة الفرنسـ ّـية الحريــة والمســاواة واإلخــاء للقضــاء علــى تســلط ّ‬ ‫الروايــة بطــرس شــاهين‪ ،‬وفــي المقلــب اآلخــر كان عابــد مــن الثائريــن علــى اإلقطــاع عنــد الــدروز‪.‬‬ ‫طانيــوس شــاهين‪ ،‬أو كمــا أســمته الكاتبــة فــي ّ‬

‫الش ــعب الحيــاة وال ــبقاء‪ ،‬وإذا عجــز عــن‬ ‫الشــعوب فــي كل عصــر م ــن عصوره ــا تـواج ــه قضيــة كبــرى تســترعي انتباههــا‪ ،‬وتتطّلــب حــاًّ عاجـاً إذا أراد ّ‬ ‫و ّ‬ ‫الحل المطلوب بالظروف االع ــتيادية‪ ،‬لجأ إل ــى الثّـ ــورة سبـي ـاً إلى تغـي ــير األوضاع‪ ،‬وتفجير الق ــوى الكامنة لبلوغ ال ــهدف‪.‬‬ ‫إيجاد ّ‬ ‫الطائفيــة ّأدت دورهــا فــي إثــارة الفتنــة التــي طرقــت أبـواب‬ ‫تغيــر وجــه المنطقــة‪ ،‬لكـ ّـن البعــد اآلخــر أي المذهبيــة و‬ ‫ّ‬ ‫فثــورة شــاهين ثــورة مهمــة كانــت يمكــن أن ّ‬ ‫أجنبيــة وتشــجيع مــن العثمانييــن‪ ،‬فوقعــت الفتنــة بيــن أبنــاء مّلــة عابــد وأبنــاء مّلــة ميـ ار فكانــت مجــزرة زحلــة‪.‬‬ ‫اللبنانييــن‪ ،‬وبتشــجيع مــن دول‬ ‫ّ‬ ‫األول عاطفتهــا الجياشــة نحــو عابــد وهــي عالقــة مرفوضــة الختــاف الطائفــة‪ ،‬وعاطفــة متّــى القويــة نحوهــا‬ ‫وهكــذا وقعــت ميـ ار فــي الروايــة بيــن شــاقوفين ّ‬ ‫األول أغرمــت بــه وانجرفــت بعالقتهــا معــه إلــى أن‬ ‫ـن‪،‬‬ ‫ـ‬ ‫ي‬ ‫حبيب‬ ‫ـن‬ ‫ـ‬ ‫ي‬ ‫ب‬ ‫ـت‬ ‫ـ‬ ‫ع‬ ‫وق‬ ‫ـا‬ ‫ـ‬ ‫ه‬ ‫أن‬ ‫ـا‬ ‫ـ‬ ‫أيض‬ ‫ـا‬ ‫ـ‬ ‫ه‬ ‫أزمت‬ ‫ـرز‬ ‫ـ‬ ‫ب‬ ‫وت‬ ‫ـم‪.‬‬ ‫ـ‬ ‫ه‬ ‫ألنــه فــاح يعمــل بخدمت‬ ‫ً ّ‬ ‫والتــي كانــت مرفوضــة مــن والدهــا ّ‬ ‫ّ‬ ‫ـزوج فتــاة مــن مّلتــه وكان الحـ ّـل‬ ‫ـ‬ ‫ت‬ ‫و‬ ‫ـا‬ ‫ـ‬ ‫ه‬ ‫وجنين‬ ‫ر‬ ‫ا‬ ‫ـ‬ ‫ي‬ ‫م‬ ‫ـن‬ ‫ـ‬ ‫ع‬ ‫ـى‬ ‫ـ‬ ‫ل‬ ‫فتخ‬ ‫ته‬ ‫ر‬ ‫ـ‬ ‫س‬ ‫أ‬ ‫ـد‬ ‫ـ‬ ‫ي‬ ‫وتقال‬ ‫ـه‬ ‫ـ‬ ‫ت‬ ‫عائل‬ ‫ـة‬ ‫ـ‬ ‫ه‬ ‫اج‬ ‫و‬ ‫م‬ ‫ـتطع‬ ‫ـ‬ ‫س‬ ‫ي‬ ‫ـم‬ ‫ـ‬ ‫ل‬ ‫و‬ ‫ـا‬ ‫ـ‬ ‫ه‬ ‫مع‬ ‫ـه‬ ‫ـ‬ ‫ت‬ ‫عالق‬ ‫ـى‬ ‫ـ‬ ‫ل‬ ‫ع‬ ‫لكنــه لــم يســتطع الحفــاظ‬ ‫ّ‬ ‫حملــت منــه ّ‬ ‫ّ‬ ‫الرصاصــة التــي‬ ‫أحبهــا ودافــع عنهــا‬ ‫أمــا الثانــي فقــد ّ‬ ‫وضحــى بنفســه وتلقــى ّ‬ ‫ّ‬ ‫لديــه بإعطــاء ثمـرة عالقتــه مــع ميـ ار إلــى عائلــة مســلمة فــي قريــة أنصــار الجنوبيــة ‪ّ .‬‬


‫الروايــة أن فــاز بميـ ار وقــد أحضــر لهــا ابنهــا الــذي تربــى بكنــف عائلــة مســلمة‪ .‬خليــط طائفــي‬ ‫وجهــت صــوب ميـ ار أثنــاء هجــوم الــدروز علــى زحلــة‪ .‬فــكان ختــام ّ‬ ‫ّ‬

‫بالنيــات‪.‬‬ ‫ـأن الديــن واحــد بيــن الجميــع وال تفرقــة بيــن ديــن وآخــر ّإل ّ‬ ‫يدفــع ميـ ار أن تصــرخ بأعلــى صوتهــا بـ ّ‬

‫ألنهــا تقــوم علــى تضــاد بالديــن أو تضــاد بالطبقــات‬ ‫ـب متناقضــة ّ‬ ‫ويمكــن القــول بـ ّ‬ ‫الروايــة عالقــات حـ ّ‬ ‫ـأن حبكــة روايــة الخطيئــة تقــوم علــى التّناقــض‪ ،‬فترســم ّ‬ ‫أو بالقــوة والضعــف‪ .‬فنــرى حكايــة بطــرس شــاهين الفــاح مــع الفتــاة الغنيــة التــي أحبهــا لنعــرف الحقــا ّأنهــا والــدة مي ـرا‪ ،‬فتكــون هــذه العالقــة هــي المحـ ّـرك لثــورة‬ ‫بطــرس‪ ،‬ونتعـ ّـرف‬

‫أحبــت مسـ ًـلما وهربــت معــه‪.‬‬ ‫إلــى نمــوذج آخــر بحكايــة كاميليــا التــي ّ‬

‫ألنهــا عاشــت حياتيــن متناقضتيــن جعــا منهــا‬ ‫معــا‪ ،‬للخطيئــة والغفـران ّ‬ ‫وقــد يبــرز التناقــض فــي الحيــاة التــي عاشــتها ميـرا‪ ،‬فهــي تصّلــي للنــور والظــام ً‬ ‫ـز عــن تحقيــق أســس‬ ‫لكنــه كان عاجـ ًا‬ ‫مـ ً‬ ‫أحبــت ّ‬ ‫ـاكا وشـ ً‬ ‫تزوجــت بمــن ّ‬ ‫ـيطانا فــي فتـرة مــا‪ .‬أو قــد نــرى التّناقــض بيــن القــوة والضعــف ضعــف عمــة ميـ ار (ســعدى) التــي ّ‬ ‫الدفــاع عــن نفســها ولــم تجحــد امامهــا ّإل االنتحــار‪ ،‬فمــا‬ ‫ـعدى‬ ‫ـ‬ ‫س‬ ‫ـتطع‬ ‫ـ‬ ‫س‬ ‫ت‬ ‫ـم‬ ‫ـ‬ ‫ل‬ ‫و‬ ‫ـا‪،‬‬ ‫ـ‬ ‫ه‬ ‫يت‬ ‫ر‬ ‫عذ‬ ‫ـا‬ ‫ـ‬ ‫ه‬ ‫بفقجان‬ ‫ـا‬ ‫ـ‬ ‫ه‬ ‫ايا‬ ‫ـا‬ ‫ـ‬ ‫م‬ ‫مته‬ ‫ـاف‬ ‫ـ‬ ‫ف‬ ‫ز‬ ‫ال‬ ‫ـة‬ ‫ـ‬ ‫ح‬ ‫صبي‬ ‫ـي‬ ‫ـ‬ ‫ف‬ ‫ـا‬ ‫ـ‬ ‫ه‬ ‫أهل‬ ‫ـى‬ ‫ـ‬ ‫ل‬ ‫إ‬ ‫ـعدى‬ ‫ـ‬ ‫س‬ ‫ـاد‬ ‫ـ‬ ‫ع‬ ‫فأ‬ ‫اج‬ ‫الـ ّـزو‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫لكنهــا تكــون األقــوى وتهــرب منــه معلنــة بـراءة ســعدى‪.‬‬ ‫ـه‪،‬‬ ‫ـ‬ ‫ت‬ ‫فضيح‬ ‫ـن‬ ‫ـ‬ ‫ع‬ ‫ـكت‬ ‫ـ‬ ‫س‬ ‫لت‬ ‫ـال‬ ‫ـ‬ ‫م‬ ‫بال‬ ‫ـا‬ ‫ـ‬ ‫ه‬ ‫ي‬ ‫ر‬ ‫يغ‬ ‫ة‬ ‫ر‬ ‫ـ‬ ‫ي‬ ‫فق‬ ‫ـة‬ ‫ـ‬ ‫ح‬ ‫فال‬ ‫ح‬ ‫ـزو‬ ‫ـ‬ ‫ت‬ ‫ي‬ ‫أن‬ ‫إل‬ ‫ـه‬ ‫ـ‬ ‫ن‬ ‫م‬ ‫كان‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬

‫ـببية‪ ،‬واألديــب هــو القــادر علــى التّفاعــل‬ ‫السـ ّ‬ ‫ويطــول الحديــث عــن حـبك ــة ّ‬ ‫الروايــة فهــي سلســلة مــن الحـوادث التــي تجــري فيهــا‪ ،‬مرتبطــة عــادة ب اربــط ّ‬ ‫فالروايــة ال تُعنــى بمــا يطفــو علــى ســطح الحيــاة مــن زبــد الح ـوادث و لكنهــا‬ ‫بمجتمعــه وبيئتــه‪ ،‬وهــو القــادر علــى إظهــار مجريــات األمــور وتفاعــل األح ـ ّـداث‪ّ ،‬‬ ‫ـوي‬ ‫الصغي ـرة‬ ‫ة‬ ‫ـاني‬ ‫ـ‬ ‫س‬ ‫اإلن‬ ‫ـة‬ ‫ـ‬ ‫ع‬ ‫المجمو‬ ‫ـاء‬ ‫ـ‬ ‫ض‬ ‫أع‬ ‫ـن‬ ‫ـ‬ ‫ي‬ ‫ب‬ ‫اه‬ ‫ر‬ ‫ـ‬ ‫ع‬ ‫ـل‬ ‫ـ‬ ‫ص‬ ‫تت‬ ‫ـذي‬ ‫ـ‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ـ‬ ‫ي‬ ‫الح‬ ‫اع‬ ‫الص ـر‬ ‫ّ‬ ‫ّ ّ‬ ‫تتعمــق إلــى مختلــف العواطــف‪ ،‬وتســتبطن أل ـوان المشــكالت‪ ،‬وتعكــس صــور ّ‬ ‫التــي اختارهــا األديــب ‪.‬‬

‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫دائمــا وهــي متفاعلــة مــع الحـوادث‪ ،‬متأثـرة‬ ‫ ‬ ‫إن حــوادث الروايــة ال تجــري منفصلــة عــن ّ‬ ‫الشــخصيات‪ّ ،‬‬ ‫فالروائــي يعــرض علينــا شــخصياته ً‬ ‫ب ــها‪ ،‬وال يفصلهــا عنهــا بوجــه مــن الوجــوه‪ .‬ويأتــي الكاتــب بشــخصياته مــن مالحظات ــه المباشـرة فــي الحيــاة المحيطــة بــه‪ ،‬أو قــد يســمع عنهــا‪ ،‬أو يقـ أر عنهــا‪ ،‬وقــد‬ ‫تكــون وليــدة الخيــال المحــض‪ .‬ولكــن علــى الكاتــب أن يكــون قــاد اًر علــى تحريــك أبطالــه حركــة األحيــاء الذيــن نعرفهــم ويجــب أن يحافظـوا علــى مثــل هــذه الحركــة‬

‫الروايــة‪ ،‬وأن يظّل ـوا أحيــاء فــي ذاكرتنــا‪..‬‬ ‫ط ـوال ّ‬

‫ ‬

‫وهكــذا كانــت أديبتنــا فــي روايتهــا‪ ،‬قــادرة علــى حبــك الحـوادث بسلســلة متكاملــة مترابطــة‪ ،‬ارســمة لشــخصياتها الناميــة والمســطحة صــورة متجانســة مــع‬ ‫الروايــة واألمثلــة علــى ذلــك كثيـرة مــع اعتمــاد‬ ‫ســير األحــداث القائمــة‪ ،‬وال نغفــل مهــارة الكاتبــة بصــوغ روايتهــا بأســلوب فنــي راق تناثــرت شــاعريتها عبــر صفحــات ّ‬ ‫الشــخصيات‪ ،‬التــي نســجتها مــن خيالهــا وأســقطتها علــى‬ ‫الســاري فــي الروايــة‪ ،‬مــع إبــداع الكاتبــة فــي رســم ّ‬ ‫الســرد والحـوار والوصــف ووحــدة الحــدث والعمــل ّ‬ ‫تقنيــات ّ‬ ‫هــذا الواقــع‪.‬‬

‫ ‬




‫هي األغنية الحزينة المنسية‬ ‫د‪ .‬هويدا شريف‬ ‫مــن جديــد النوســتالجيا تهجــع هجعتهــا الكبــرى‪ ،‬فيمـ ُّـر بــي قطــار أميـرة الحــزن مغسـوالً بأمطــار دافعــة‪ ،‬أي‬

‫منــذ كانــت هــذه الفتــاة البيضــاء‪ ،‬صاحبــة المالمــح الرقيقــة والتقاطيــع الدقيقــة‪ ،‬الغضــة البضــة‪ ،‬نقــاء وصفــاء‪،‬‬ ‫ويضــيء مــن شــعرها الذهبــي ســناء وضيــاء‪ ،‬وفــي بســمتها إشـراقة الطفولــة‪ ،‬خفيفــة رشــيقة كأنهــا ف ارشــة‪ ،‬فهــي‬ ‫ـج مــن مســك الغـزال وعطــر الحجــال‪.‬‬ ‫مزيـ ٌ‬ ‫ـف حولــه جـُّـو العلــم‪ ،‬قانونــه يمنــع‬ ‫تقطـ ُـن فــي منــزل متواضــع‪ ،‬يمــاؤه الســكينة واإللفــة‪ ،‬يحيــط بــه األمــان ويلتـ ُّ‬

‫أي ولــد يهجـره إال وقالدتــه العلميــة معلقــة علــى جــداره‪ ،‬ألن ثرياتــه وتحفــه وأنتيكاتــه هــي تلــك الشــهادات‪.‬‬ ‫هذه الفتاة‪ ،‬أغنية حزينة منسية‪ ،‬تغني والحياة على مسامع كل أنثى‪ ،‬لتتخذها عبرة لها‪.‬‬

‫فــي الســن الرابعــة عشـرة‪ ،‬كانــت أولــى زياراتهــا إلــى الضيعــة‪ ،‬ألنهــا لــم تعــرف القريــة! إال فــي زيــارات قصيـرة‪،‬‬

‫فقد ولدت وترعرعت في المدينة‪ ،‬بعيداً عن الحقوق والحشــائش واألعشــاب والبســاتين‪.‬‬

‫قصهــا‬ ‫كان الوقــت فــي القريــة ينتهــي سـريعاً كحلــم ســعيد‪ ،‬فــكان ال بـ ّـد لصاحبتنــا أن تجعــل هــذا الحلــم الــذي ّ‬

‫ـول‪ ،‬وأخي ـ اًر وجــدت الحـ ّـل‪ ،‬فقــد تعرفــت علــى أقربــاء لهــا‪،‬‬ ‫كالســنبلة علــى حـ ّـد منجــل الذكريــات‪ ،‬يمتـ ُّـد زمن ـاً أطـ َ‬ ‫ـاب فــي العش ـرين أعجــب باألغنيــة الحزينــة المنســية‪ ،‬وأصبــح يعبــر لهــا عــن‬ ‫أحســت معهــم بطــول العمــر‪ ،‬شـ ٌ‬ ‫ّ‬

‫وحبــه الفاتــك‪ ،‬ولكــن مــا لبــث أن لعــب القــدر دوره فــي تفريقهمــا – ولكــن لــم تمـ ّـر هــذه الحادثــة ببســاطة‬ ‫مشــاعره ّ‬ ‫أبــداً‪ ،‬بــل كانــت ســبباً قويـاً فــي جمعهــا مــع شــاب آخــر‪ ،‬قــد أخــذت حكايتــه ضــد العــدو الغاشــم‪ ،‬تنتشــر فــي أرجــاء‬

‫الضيعــة كانتشــار النــار فــي الهشــيم‪.‬‬

‫جذبتهــا بطوالتــه‪ ،‬قبــل رؤيتــه‪ ،‬و ارحــت الحشـرية تلوكهــا بأســنانها الجهنميــة‪ ،‬للتعـ ّـرف علــى شــخصيته عــن‬ ‫كثــب‪ ،‬وعلــى ســبيل الصدفــة‪ ،‬تالقيــا‪ ،‬إنهــا لعنــة اإلعجــاب قــد الحقتهــا حتــى فــي تفاصيــل حياتهــا‪ .‬ويــا ليتهــا لــم‬ ‫تكــن! لقــد أصبحــت تكـره جميــع الصــدف ألنهــا تجمعهــا فــي كل مـ ّـرة مــع صدفـ ٍـة عجيبـ ٍـة أفظــع مــن األخــرى‪.‬‬ ‫الســنون‪ ،‬وفــي طياتهــا صدفــة اإلعجــاب تثمــر عطايــا وقضايــا‪ ،‬فقــد تزوجــا وأنجبــا أربعــة‬ ‫توالــت األيــام و ّ‬

‫أطفـ ٍ‬ ‫ـال‪ ،‬اهتمــت بتربيتهــم واألســى الــاذع يرافقهــا فــي كل خطــوة‪ ،‬تحملــت الحرمــان وتزاحمــت األوجــاع فعشــقت‬


‫الوحــدة والعــذاب‪ ،‬حتــى باتــت األف ـراح بينهــا وبيــن األيــام حجــاب‪.‬‬ ‫اســتفاقت علــى غربــة تســتقبلها بح ـ اررة صفعـ ٍـة‪ ،‬ضمتهــا إلــى صدرهــا المفــروش بالمســامير‪ ،‬طافــت بهــا بيــن‬

‫ـتقر فــي وكرهــا الهــادئ بيــن أســنان منشــار الحــزن والهجــر‪.‬‬ ‫المباهــج المفخخــة ثــم دعتهــا تسـ ُّ‬

‫هــذا الشــاب العاشــق الــذي أوهمهــا بذلــك‪ ،‬وجدتــه مجب ـوالً بالخبــث واللــؤم فقــد عشــق كل النســاء إال تلــك‬

‫البيضــاء‪ ،‬إال تلــك األغنيــة الحزينــة‪ ،‬فقــد ظهــرت حقيقتــه المـ ّـرة أمــام المــأ وعلــى مســامع العلــن‪ ،‬وتبدلــت الصــورة‪،‬‬

‫صــورة المجاهــد‪ ،‬لترتســم أمامهــم مالمــح الرجــل اللئيــم الــذي يســرق لغــة الدراويــش ليتلــو علــى البســطاء أســطورة‬ ‫منهــا يخدعهــم بهــا‪.‬‬

‫كل األيــام ولليالــي‬ ‫فقــد تســللت هاربــة مــن نهــارات انهيارهــا‪ ،‬تلــك هــي أمي ـرة الحــزن وقــد محــا بتصرفاتــه ّ‬ ‫والحكايــات والماضــي وكذلــك األغنيــة الحزينــة المنســية‪ ،‬ليخلــق امـرأة قــد كســبت أشــخاصاً يعادلــون مــا خسـرته‬

‫ـارة كالريــاح اإلســتوائية‪.‬‬ ‫ـب فــي أعماقهــا حـ ّ‬ ‫ـتظل البيضــاء يهـ ّ‬ ‫كل مــا كان‪ ،‬ومــا ســيكون سـ ّ‬ ‫فــي حياتهــا كّلهــا‪ ،‬ورغــم ّ‬ ‫هــم أطفالهــا الذيــن اســتبعدوا عنهــا قسـ اًر‪.‬‬

‫ ‬




‫االول من يناير االمازيغي و أسطورة العجوز ‪..‬؟‬

‫بقلم سليمة مليزي*‬

‫تحتفل شعوب االمازيغ في الجزائر وكل المغرب العربي الكبير االول من يناير ‪2968‬‬ ‫الموافق للسنة الميالدية ‪ 12‬تشرين ‪ /‬جانفي ‪ ، 2019‬يعود تاريخ البربر إلى ‪ 950‬قبل الميالد‪.‬‬ ‫على التقويم الميالدي‪ ،‬وتسبق اللغة والثقافة البربرية بكثير الفتوحات العربية في شمال أفريقيا‬ ‫في القرن الثامن الميالدي‪.‬‬ ‫وهناك أكثر من ‪ 13‬مليون أمازيغي في الجزائر‪ ،‬وهو ما يمثل حوالي ثلث مجموع السكان‪.‬‬ ‫كانت هناك جهود لقمع أي عودة للثقافة البربرية منذ زمن‪ ،‬ولكن اليوم‪ ،‬تعترف الحكومة باللغة‬ ‫األمازيغية (لغة البربر)‬ ‫قصة يناير بناير أو جانفي أو ناير بحسب اختالف اللهجات األمازيغية والمغاربية في شمال‬ ‫أفريقيا هو أحد الشهور األمازيغية‪ ،‬فهو الشهر األول من السنة األمازيغية‪ ،‬ويتزامن حلوله مع‬ ‫اليوم الثاني عشر من بداية السنة الميالدية‪ .‬والسنة األمازيغية تبدأ من سنة تسعمائة وخمسين‬ ‫قبل الميالد‪ ،‬وبالتالي فان التقويم األمازيغي يزيد تسعمائة وخمسين سنة عن التأريخ الميالدي‪،‬‬ ‫فمثال توازي السنة األمازيغية ‪ 2968‬السنة ‪ 2029‬الميالدية‪ .‬لقد ارتبط يناير بمعتقدات ضاربة‬ ‫في القدم‪ ،‬فمثال يعتقد األمازيغ أن من يحتفل بيناير سيحظى بسنة سعيدة وناجحة‪،‬‬ ‫يعود بداية التقويم األمازيغي الى سنة ‪ 950‬قبل الميالد‪ ،‬انتصرت إرادة الشعب األمازيغي‬ ‫عندما نجح الملك األمازيغي «شيشونك او شاشناق « في معركة دارت وقائعها على ضفاف‬ ‫نهر النيل على الفراعنة‪ ،‬وبالتالي تولى األمازيغ سدة الحكم في تلك المنطقة من{ ثامزغا}‪،‬‬ ‫والتأسيس لبداية عودة اإلنسان األمازيغي للمصالحة مع ذاته ومحيطه‪ ،‬وبناء تجربة سياسية‬ ‫تاريخية عرفت برقيها الحضاري وازدهار اقتصادي‬ ‫ويختلف شكل االحتفال من قبيلة إلى أخرى‪ ،‬ومن بلد الى آخر ‪ ،‬أمازيغ مصر كانوا يحتفلون به‬ ‫على اساس سنة الخير الوفير ويقسمون السنة الى ثالثة مراحل على اربعه اشهر‪ ،‬كل شهر له‬ ‫أهميته كالحصاد والزرع مثال ‪ ،‬وحتى فيضان النيل له طقوسه وتبقى أربعة أيام لشكر اآللهة ‪،‬‬ ‫واالحتفال بانتصار اإلنسان على قوى الطبيعة القاسية ‪ ،‬أما في منطقة المغرب العربي يقسمون‬ ‫السنة الى أربعة فصول ‪ ،‬كل فصل مرتبطة باألرض أي الزراعة حيث تعتبر المنطقة خصبة‬ ‫وفيها ماء وفير وزراعة متنوعة الن اإلنسان القديم كانت عالقته مع األرض عالقة وطيدة‬ ‫كونها هي مصدر رزقهم ‪ ،‬لذألك يحتفلون بحلول السنة االمازغية األول من يناير الموافق‬ ‫ل ‪ 12‬جانفي الميالدي ‪ ،‬ويعتبر التقويم االمازيقي أقدم تقويم عرفته البشرية ‪ ،‬هذا دليل على‬ ‫حضارة وتطور اإلنسان االمازيغي الذي استطاع أن يضع أسس الحياة من خالل هذا التقويم‬ ‫المهم ‪ ،‬حيث عرفت منطقة المغرب العربي الكبير‪ ،‬بالعديد من اإلنجازات كالبنيان حيث‬ ‫كان االمازيغ يعيشون في قصور مبنية من الحجر والطوب ‪ ،‬وأيضا ً تطور المنهج الفالحي‬


‫في المنطقة ‪ ،‬ومن بين هذه األشياء التقليدية التي التزال ضاربة عبر االزمنة إلى يومنا هذا‬ ‫‪ ،‬والعادات والتقاليد أكالت مختلفة ومتنوعة ‪ ،‬من بينها (أوركيمن والكسكس )‪ {،‬تكربابني }‬ ‫إحدى الوجبات الهامة في ذلك االحتفال‪ ،‬وتجدر اإلشارة إلى أن الكسكس وجبه عالمية أمازيغية‬ ‫األصل‪ ،‬ذات اعتبار متميز لدى المغاربة األمازيغ ‪ ،‬بل حتى إن المغاربة يتناولون الكسكس في‬ ‫يوم الجمعة باعتباره سببا لألجر وقربة هللا‪.‬‬

‫أسطورة العجوزة‪...‬‬

‫هناك أساطير عديدة تحكى عن قصة العجوزة ‪ ،‬وتختلف من منطقة واخرى ‪ ،‬وحسب‬ ‫المعتقدات األمازيغية‪ ،‬فقد استهانت امرأة عجوز بقوى الطبيعة فاغترت بنفسها لصمودها ضد‬ ‫الشتاء القاسي‪ ،‬حيث مكثت طيلة شهر يناير في البيت مع عنزاتها ولم تجد ما تطعمهن ‪،‬‬ ‫نظرا لقسوة الشتاء الذي ياتي بثلوجه وبرده القارس ‪ ،‬خاصة في منطقة القبائل بأعالي جبال‬ ‫جرجرة ‪ ،‬ولم تشكر السماء‪ ، ،‬وعندما انتهى شهر يناير تحسن الطقس فخرج العجوزة‬ ‫بعنزاتها للبحث عن الكالء ‪ ،‬وطيلة طريقها وهي غاضة وتصب غضبها على قسوة الشتاء‬ ‫القاسي ‪ ،‬فغضب يناير فطلب من (فرار ) { فبراير} أن يقرضه يوما اويومين حتى يعاقب‬ ‫العجوز على جحودها‪( ،‬قال يناير لفرار (سلفلي نصف ونهار نغلق فم العجوزة‬ ‫والعا ر) في لحظة تغير الجو وتلبدت السماء بالغيوم السوداء‪ ،‬وبدأت االمطار تتساقط‬ ‫والرياح تعصف ‪ ،‬حتى جرفت السيول العجوزة وعنزاتها ‪.‬‬ ‫قصة تعتبر من األساطير المعروفة عند سكان األمازيغ ‪ ،‬يقول اهل األمازيغ لذلك شهر( فرار)‬ ‫فبراير فيه فقط ‪ 28‬يوما ‪ ،‬الن يناير‪ /‬جانفي قرض منه يومين ولم يعدهما له ‪.‬؟‬ ‫وإلى يومنا هذا يستحضر بعض األمازيغ‪ ،‬يوم العجوزة ويعتبرون يومها يوم حيطة وحذر‪،‬‬ ‫ويفضل عدم الخروج للرعي خوفا من العواصف الشديدة‪ ...‬وقصة أخرى تقول بان العجوز‬ ‫تحرص على أن ال يجوع أحد في بلدتها وإال الرب سيغضب منهم‪ .،‬وتمر في الليل وتتفقد كل‬ ‫األطفال حتى تتأكد ّ‬ ‫أن ليس هناك أحدُ بَ ِقي جوعان‪.‬‬ ‫ويحكى أن من أسس هذا التقويم األمازيغي هو { الليوس القصير} في عهد الرومان ‪ ،‬منذ‬ ‫سنة‪ ..2968‬ومنذ ذلك الوقت بقيت سنة تقويمية لألمازيغ واالحتفال بهذه السنة من أجل سنة‬ ‫زراعية وافرة الخير‪ ،‬و من أجل موسم حصاد وافر ‪ ..‬وموسم القمر والشمس ‪ ،‬وهذه كلها‬ ‫ظواهر تدل على تطور اإلنسان االمازيغي القديم الذي كان متطورا ‪ ،‬يحافظ على البيئة‬ ‫والحديث مع الحيوانات ويقول لها ال تخافي ‪،‬سيمر الشتاء بسالم بفضل الحب ‪ ..‬وفي تقاليد‬ ‫األمازيغ باالحتفال بيناير حتى النملة والطير في الشجر لهم نصيب من الطعام حتى ال تجوع‬ ‫طيلة الشتاء وتقوم نساء القرية بترك الطعام أمام غار النمل وفوق التالل رغم قساوة الطبيعة‬ ‫التي تتميز بها مناطق المغرب العربي الكبير ‪ ،‬وهذه القصة يحتفل بها معظم دول البحر‬ ‫األبيض المتوسط أيضا ً ‪ ..‬وتختلف الطقوس من منطقة إلى أخرى في االحتفال بالمناسبة‪،‬‬ ‫وعند ‘’التوارڤ’’ في أقصى الصحراء ‪ ،‬يقوم أمازيغ الجنوب بإعداد سبعة أطباق من‬ ‫أصناف المأكوالت احتفاال بالمناسبة التي تعد بالنسبة لهم بداية لعام جديد وكلهم أمل في تحسين‬



‫األوضاع وفتح أبواب الرزق‪.‬‬ ‫وفي منطقة تيزي وزو‪ :‬يعتبر يناير عام األمازيغ ولذلك يأملون أن يعود عليهم باليمن‬ ‫والبركات والعيش السعيد ومن بين عادات يناير إطعام الحشرات حتى ال تأكل الزرع‪،‬‬ ‫واالمتناع عن الحياكة مع ضرورة األكل حتى الشبع ليضمن اإلنسان أن يشبع باقي السنة‪ ،‬كما‬ ‫تقوم بعض األمهات في هذه المناسبة بإعداد وجبات خاصة للعائلة من مأكوالت تقليدية قوامها‬ ‫اللحم والمكسرات التي توزع في أكياس على األطفال‪ .‬وقصة أخرى تقول إن االحتفال بيناير‬ ‫اقترن أساسا باألسطورة الشهيرة التي تقول أن شهر ‹›يناير›› قد طلب من شهر فبراير التخلي‬ ‫له عن أحد أيّامه بعد أن تحدّته عجوز شمطاء بالخروج مع عنزاتها الصغيرات لطهو طعامها‬ ‫خارج البيت في ّ‬ ‫عز برده وصقيعه ‪ ،‬فما كان منه إال أن قال لعمه فبراير ‹›يا عم فبراير أعرني‬ ‫ونهارا‪ ،‬كي أقتل العجوز المتفوهة بالعار والتي أرادت أن تتحداني››‪ .‬وكان له ذلك بتخلي‬ ‫ليلة‬ ‫ً‬ ‫فبراير عن يومين من عمره لصالح يناير الذي ج ّمد العجوز وعنزاتها‪ { ،‬ربما لذلك كل اربعة‬ ‫سنوات يأتي فبراير ب ‪ 29‬يوما فقط } وإلى اآلن يقول أجدادنا أنه توجد بمنطقة جرجرة‬ ‫صخرة تدعى ‘’صخرة العجوز والعنزات’’ حيث بالنظر إلى تلك الصخرة الضخمة يمكن‬ ‫مالحظة عجوزا تحلب معزاتها‪ ،‬وبقربها بعض صغار الماعز‪..‬‬ ‫إال أن هذا حسب المختصين الجيولوجيين ‹›صدفة جيولوجية›› ال غير مترتبة عن الطبيعة‪،‬‬ ‫ويتحدّث كثيرون عن ‹›خدعة في النظر›› لنتوء صخري طبيعي‪..‬‬ ‫بين هذا أو ذاك‪ ،‬وهكذا بقي االمازيغ يحتفلون بهذا اليوم المبارك ‪ ،‬وفق تقويمهم الخاص‪ ،‬سواء‬ ‫تحب التزلج على الجليد! ولإلشارة يقدر عدد‬ ‫صنعته سيوف ‹›شاشناق’’ أوحماقة عجوز‬ ‫ّ‬ ‫سكان األمازيغ بنحوعشرة ماليين نسمة‪ ،‬يتوزعون على شكل قبائل تضم تيزي وزو‪ ،‬الشاوية‪،‬‬ ‫الطوارق في الصحراء‪ ،‬اإلباضيين بوادي ميزاب وسط الجزائر‪ ،‬إضافة إلى سكان جبل شنوة‬ ‫أو ما يعرف بالشلوح القاطنين غرب العاصمة‪ .‬ومن العادات أمازيغية في الجزائر أن العائالت‬ ‫ال يجب التقشف في يناير ولكل إنسان أو حيوان الحق في األكل ومحرم على كل الناس أن يبيت‬ ‫مخلوق جائعا في ذلك اليوم ‪..‬‬ ‫تقول األسطورة الجميلة أن العجوز تمر في الليل على كل البيوت وتراقب اذا أكل األطفال ‪،‬‬ ‫وافر بالخير ‪ ..‬وتقول األسطورة أيضا ً إن المثل الشعبي الذي‬ ‫وال أحد ينام جائعا ً حتى يأتيهم عا ٌم‬ ‫ٌ‬ ‫يقول { الذي في بطنه التبن ال يخاف من النار } والتي ربما كانت فهما خاطئا ً عند البعض‬ ‫وهي تفسر أن من ينام شبعانَ في ليلة يناير ال تأكله النار وال يغضب عليه الرب هذا دليل على‬ ‫أن األمازيغ االحرار كانوا يؤمنون باهلل ‪ ..‬دليال على شهامة وطيبة وكرم األمازيغ ‪ ...‬ومن‬ ‫العادات التي بقيت إلى حد اآلن هي {التويزة } وتعني التضامن في ليلة رأس السنة حيث في‬ ‫كل قرية يقوم أهلها بذبح الماشية وتوزيعها بالتساوي على الفقراء والمحتاجين‪.‬‬ ‫صور مقدمة من الكاتبة واألديبة الجزائرية*‬




‫نصوص الكشف وأنساق المأساة‪ ‬‬ ‫قراءة في نصوص الشاعر حامد‬ ‫خضير الشمري‬ ‫جبار الكواز‪ ‬‬

‫يضع الشاعر ( حامد خضير الشمري ) نفسه في مختبر الشعرية الغامض الذي يفيض بكل ما هو غرائبي‬ ‫وآسر ملتبس في توقع واع تحكمه رؤيته الفكرية والمعرفية ورؤاه التي تنطلق من مشاهده الخاصة‬ ‫واكتشافه للواقع العاري ومحاولة بناء واقع ثان ٍ على أنقاضه ‪ .‬وهو يتوخى من خالل نصوصه اشتغاال‬ ‫خطابيا يفعل حركة القارئ ‪ ‬عبر جر النصوص إلى منطقة الفعل القرائي وإحداث جدل مراوغ بين الفهم‬ ‫والتأويل ‪ .‬وإذا كانت نصوصه وبتأثير غواياتها تغور الستكناه البنى الداخلية لالشتغال ‪ ‬قيد القراءة فتغدو‬ ‫عملية التأويل تمهيدا النتقالة تفسيرية يتلقاها متلق ٍ تال ٍفتتجلى الكتابة فعال إجرائيا ينتقل من الذات إلى‬ ‫الموضوع ‪ .‬ويتحول الشاعر الشمري في نصوصه من األنوية إلى الجمعية ‪ ،‬وتلك هي أ ّم بؤرة نصوص‬ ‫الشمري التي بين يدي ‪ ،‬ومن خالل قراءتي لنصوص مختارة من شعره أتاحت قراءتي هذه لي أن‬ ‫أوزعها على محورين أساسيين يشكالن عالمتين مميزتين في اشتغاله الشعري الذي ينطلق من الموضوع‬ ‫أوال ليؤثثه بتكوينه اللغوي وبمقدرته الفائقة على روح اإليقاع واسترجاعاته المشرقة ‪ ‬للتاريخ اإلنساني‬ ‫واإلسالمي والعربي واألساطير التي دونت وروايات الشفاهية العربية عبر األمثال المتداولة والمنقولة‬ ‫إضافة إلى وثائق برقية يعتمدها كركائز لفضح الواقع الذي يعيشه‪.‬‬ ‫أوال ‪ :‬نصوص االتصال الروحي بين الذات والجماعة وهي‪:‬‬ ‫‪ ( ‬ما رواه النجدي عن مملكة األجالف ) و ( سجادة إبليس )‬ ‫‪ ‬و ( أي لثام يخفي قرن اإلرهابي ؟) و‬ ‫ثانيا ‪ :‬نصوص الكشف الروحي بين الذات والذات بوصفها خلقا ثانيا ومتكررا للذات األولى وهي‬ ‫نصوص‪:‬‬ ‫( تشاؤل)‪ ( .‬أبهاء المرايا ) و ( نبضات ) و ( تداعيات أبي دنس ) و‬ ‫تشكل نصوص المجموعة األولى االتصالية نسقا معلنا للمشهد العربي والعراقي اليومي وكشفا مدانا‬ ‫لطبيعة هذا المشهد مستثمرا من خالل نصوصه التاريخ‪:‬‬ ‫هذا ما أسرد للتاريخ بحق ال محض حكاية‪( ‬‬


‫يا أبتي قد كادوا لي‪) ‬‬ ‫فعالم سأكتم رؤياي)‬ ‫‪.....‬‬ ‫و ( يخشى عبد مناة وعبد الالت الثاني ‪)... ‬‬ ‫‪.......‬‬ ‫و ( بكل كالب الحوأب‪ ‬‬ ‫ومسوخ حروراء)‬ ‫‪ ‬‬ ‫و ظاهر القول استثمار لمعركة الجمل ومعارك الخوارج ‪ .‬وهو يستثمر األسطورة التي يخفي خلف‬ ‫ألفاظها انزياحات كاشفة وناقلة عبر جسر المعاني بين الماضي الموغل في الظالم والحاضر المدلهم بنار‬ ‫المفخخات وشظايا القنابل وأشالء القتلى‪:‬‬ ‫فاحلم علك تنسى الحال األقبح”‬ ‫لكن إياك وأن تجهر فالحلم جناية»‬ ‫من هنا تأتي األسطورة بوصفها حلما ثانيا لبناء الواقع‪ “ :‬فهنالك من ينصت للموتى‪ ‬‬ ‫كي يوفي الجالد بما يسمع ‪ « ‬أو‪ ‬‬ ‫“ إن جاء الملكان‪ ‬‬ ‫وباح الجسد المقموع بألف شكاية ‪ ( « ‬ما رواه النجدي ‪ )...‬‬ ‫أو « عينان من حجر ودم‪ ‬‬ ‫دلف الضياء إليهما وارتد يسبح بالضرم‬ ‫ومسدس الجالد محشو بدم‬ ‫كم جذ أعناق األريج وكم التهم»‬ ‫وهنا صورة أسطورية لكلب الجحيم‪ ‬‬ ‫أو‪ ‬‬ ‫يا سحر هاروت وماروت”‬ ‫و يا ارث األمم‬ ‫في أي ديجور ستنكفئ اللحود وتستفيق بها الرمم ؟»‬


‫لكن من يضمن لي طهر التاريخ ‪ « )..‬ما رواه النجدي»‬ ‫يالحظ في هذا النص أن ( النجدي ‪ ) ‬كلي العلم والراوي المحيط بزوايا الحياة اليومية يظل البطا خلف‬ ‫الجملة في حركة دائمة يحاول فيها كشف الزيف الذي أحاط تاريخنا الدامي ‪ ،‬وهو بهذا يشكل العامل‬ ‫الموضوعي البديل ألفق دام ٍ و مظلم ‪ ‬في آن واحد‪.‬‬ ‫‪ ‬‬ ‫إن التاريخ في هذا النص يجري فوق األلفاظ ليؤكد معاني مسكوتا عنها تشكل النسق المضمر لنصوص‬ ‫هذه المجموعة ‪ .‬وعلينا نحن الشاهدين والشهداء أن نصنع عبر هذه الرؤية الفاضحة حياة جديدة برؤى‬ ‫نابضة ‪ .‬ولهذا فالتاريخ ركيزته الواعظة والفاضحة في آن‪.‬‬ ‫فالسلطة حتما سوف تؤول‪ ‬‬ ‫(من كف معاوية بن أبي دوالر‬ ‫‪ ‬إلى كف يزيد ‪)...‬‬ ‫وهو في ( سجادة إبليس ) ‪ ‬يعتمد األسلوب نفسه‬ ‫( فارتفعي‪ ‬‬ ‫فوق المصاحف يا سيوف‪ ‬‬ ‫و يا أسنة) ‪ ‬‬ ‫‪ .‬في إشارة إلى معركة صفين مثال‬ ‫ورق ورق‪ ‬‬ ‫ورق أحد‬ ‫‪ ....‬‬ ‫ال مال بعدك يا بلد‬ ‫ال مال بعدك يا بلد‬ ‫‪ ‬يا عراق هللا‪ ‬‬ ‫يا أحلى بلد‬ ‫فلتحترق سجادة الشيطان دونك لألبد)‬ ‫وفيه استثمار قرآني مقدس كاشف لطبيعة العالقات الزائفة التي تمور في واقعنا اليومي في إشارة الى‬ ‫خلود العراق رغم مؤامرات الشيطان الدائمة ‪ .‬وفي ( أي لثام يخفي قرن اإلرهابي ؟ ) يستهلها باستثمار‬ ‫تاريخي وديني من خالل سورة يوسف‪ :‬‬


‫ملحا تساقط ساخنا‪ ‬‬ ‫فوق الفسائل والطيور الراجفة‬ ‫لن يذبحوك فإن في صلب العراق يمور نسل العاصفة) )‬ ‫من الموت والذبح على الهوية والقتل العشوائي سيشرق العراق من اللهيب خالدا أبداً‪.‬‬ ‫ولو جئنا الى قصائد القسم الثاني ‪ :‬نصوص الكشف الروحي بين الذات والذات بوصفها خلقا ثانيا‬ ‫ومتكررا للذات األولى نجد أن نسق الخطاب الشعري فيها يعتمد على الشفرات المسببة للحزن ‪ .‬هذه‬ ‫الشفرات تدفعنا إلى مدلوالت االحتجاج بهتاف عال وخلق مبررات ‪ ‬كشف روحي ‪ ‬ال يهدأ إزاء عاصفة‬ ‫الرزايا إال أن المعالجة الشعرية لهذه النصوص تعتمد لسان الداللة عبر شفرات الكمد خلف ‪ ‬كل ‪ ‬مفردة‬ ‫وأمام كل عبارة وهذا ال يعني تخلي الشمري عن طبيعة شكل نصه المتميز به إال أنه يعتمد هما آلية جديدة‬ ‫في صياغة شعرية قادرة عبر االنزياح على تأجيج رؤاها المخفية خلف رماد األلفاظ ‪ .‬إنه هنا يناجي ذاته‬ ‫بذاته متواصال بين الضفتين لخلق ذات مغتربة عن واقعها لكنه اغتراب انتماء ال اغتراب انقطاع ‪ .‬وعلى‬ ‫هذا فهو يمزج بين ذواته المتشظاة من ذاته ليشكل رمزية الذات العراقية الجديدة‪ .‬ويشكل نص ( ثالثة‬ ‫) استثمارا مميزا لما قلت آنفا فهو نص عاج باإلدانة ‪ /‬يكشف عري الواقع ‪ /‬يعتمد المفارقة المضمونية‬ ‫الكلية ‪ /‬يمتح من بئر الخيبة ‪ /‬ويشكل قيما أصيلة عبر إغراق القيم الزائفة ‪ .‬والنص أنقله كامال ليكون‬ ‫واضحا للقارئ‪:‬‬ ‫(وصاحباي‬ ‫‪ ‬أظرف صاحبين‬ ‫كأنهما خارجان من تخوم الخرافة‬ ‫فلم يحفظا جدول الضرب‬ ‫‪ ‬أو سورة الفاتحة‬ ‫وكانا يصران‬ ‫على أن المفعول به‬ ‫مرفوع باإلضافة‬ ‫وكانا يخفان للكرخ خلف الظباء‬ ‫ويقتسمان الكأس‬ ‫عند جسر الرصافة‬ ‫وكنت أنكب على الدرس‬ ‫كل النهار‬ ‫وأقنت هلل‪ ‬‬


‫وهنالك كثرة كاثرة من االستشهادات األسطورية التي تأتي عبر اسم علم او إشارة لحادثة أو مستند وثائقي‬ ‫‪ .‬والغاية من ذلك كله بناء واقع ثان على أنقاض الواقع المأساوي الذي يعيشه العراق بعامة‪.‬‬ ‫ويعتمد في ذلك البناء أيضا على التهكم الستشراق صورة المأساة وهو تهكم من نوع خاص قائم على‬ ‫فضائحية معلنة تشد عبر مكانها وزمانها الراهن إلى وقائع ال إنسانية عاشها العراقي في رحلته السرمدية‬ ‫مع ظالميه من مثل‪:‬‬ ‫(وضباع الزنديقاوي‬ ‫وأسامة بن ال دنيا أو دين‬ ‫أو‪ ‬‬ ‫‪ ( ‬يتقدمهم فيل تتأرجح لحيته فوق الخرطوم )‬ ‫أو‬ ‫(جبته الموطوءة « دوعار “‬ ‫وعمامته « الشيقل “‬ ‫والليرة بنت لاير )‪ ‬‬ ‫أو‬ ‫‪ ( ‬هذا من فتوى « العرس « ‪ ‬بقتل الترس )‬ ‫وكل ذاك يصب في الهدف الذي وصفه الشاعر الشمري إليصال رسالته الفاضحة للواقع الى قارئه لتشكل‬ ‫زخما مضافا لتمتين أواصر الوحدة بين مجاهدي كشف الرزايا عن العراق‪ .‬وقصائد المجموعة األولى‬ ‫أيضا تنبئ عن خيبة أمل وحلم مضاع في نسقها المضمر فيبدو الشاعر وكأنه في خضم هذه المصائب في‬ ‫دأب خالد لدرء الوصايا السود التي وأدت الحلم العراقي بعد نيسان ‪ . 2003‬ولهذا فهو يحاول أن يرسم‬ ‫صورة جديدة للمشهد العراقي بإعالنه الرائع‪:‬‬ ‫( شيعيا كان رسول هللا‪ ‬‬ ‫ي سنيا كان)‬ ‫وعل ّ‬ ‫وهو اختصار لحل مشرق إلشكالية الفصل العنصري والقتل على الهوية ومسارب الحرب الطائفية التي‬ ‫كادت تودي بالوطن‪،‬‬ ‫وما زالت براثنها تكشف عن لؤم هنا وهناك ‪ .‬إن خيبته وضياع حلمه تأتي بلسان صريح مفعم باألمل‬ ‫الجديد‪:‬‬ ‫(صهلت رمالك يا فرات وحمحمت‪ ‬‬ ‫وعذوق نخلك راعفة‬


‫يربض البحر على خاصرتي عند األفول)‬ ‫ويمد البحر لي سجادة فوق ‪ ‬السديم ‪ ‬‬ ‫فأرى الناسخ والمنسوخ والنسخ أمامي‪ ‬‬ ‫وأرى المسخ القديم)‬ ‫والمسخ القديم هو أل ّد أعداء الشمري في أوبته الشمولية لتاريخنا المزيف واالستبدادي ولواقعنا المظلم‪ :‬‬ ‫فانشزي يا ريح في الفجر عظامي‪( ‬‬ ‫وأريني في المدى أي بصيص‪ ‬‬ ‫فأنا النابض في ملحودة الغدر‪ ‬‬ ‫وما لي من محيص)‬ ‫إن نص ( أبهاء المرايا ) محاولة ناجحة لكسر التوقع الذي يجلبه العنوان بوضع المرايا بأبهائها الى رؤيا‬ ‫جديدة لمرايا ال تقول ما تعكس وإنما تقول ما ‪ ‬تحس وما يمور في لججها‪.‬‬ ‫وإذا كان الشمري قد ختم نصوصه بنص ( تشاؤل ) فانه يشير إلى إحساسه الحقيقي الذي يعيشه عبر‬ ‫المأساة ‪ ،‬فالتشاؤل وسط بين التشاؤم والتفاؤل ‪ .‬والشعوب التي مرت في ظروف أخف من ظروف وطننا‬ ‫عاشت حالة التشاؤل هذه حالة من يقول نصف القدح ماء وال يقول نصف القدح خال من الماء‪ :‬‬ ‫(ضحكت‬ ‫كان الدمع ينهمر من شفتي‪ ‬‬ ‫وحين بكيت‬ ‫سمعت قهقهة أجفاني)‬ ‫هذا المفتتح يختصر الحالة التشاؤلية التي نعيشها جميعا ‪ .‬فالشمري هنا صار الجسر الذي ربط ذاته بذاته‬ ‫لخلق ذات جديدة حيوية ومكررة هي بمثابة العود األبدي الذي ‪ ‬يرى ‪ ‬في الموجودات دورة حياتية ال‬ ‫تتكرر إال عبر اإلحياء والتجديد والخلق وقتال للجمود والتحجر والببغاوية‪:‬‬ ‫(هرب الميت من جثته‬ ‫فطارده الحراس‪ ‬‬ ‫وأطلقوا النار عليه‪ ‬‬ ‫حتى أردوه حيا‪).‬‬


‫في الليل فرط المخافة‬ ‫وكانا يسخران مني‪ ‬‬ ‫ومن كل شيء‬ ‫وكانا على حق‬ ‫فبعد عقود من الزمان التقينا‬ ‫إذا بي ارتق جوعي بطيف رغيف‬ ‫وأحثو التراب على راسي‬ ‫وابكي على كومة من عظام‬ ‫لبرعم غاله الوحش بكل صالفة‬ ‫هكذا كنت‪ ‬‬ ‫وكان صاحباي‬ ‫يقيمان جنب األمير‬ ‫بقصر الخالفة‪).‬‬ ‫يعاضد هنا النص نصوصه القصيرة في ( نبضات )‪:‬‬ ‫‪ 1‬نزاهة ( لم يبع ضميره ‪ /‬فقد كان إيجاره مجزيا )‬‫‪ 2‬كفاءة ( ما أقصر حبل الكذب ‪ /‬لكنه كاف لاللتفاف على رقاب عدة )‪ ‬‬‫‪ 3‬طبيب ( لم يفلح إال في استئصال الرحمة من قلبه )‪ ‬‬‫هذه النصوص مع ( ثالثة ) تقوم على ركائز الكشف الروحي ‪ /‬النسق المعلن ‪ /‬بناء واقع ثان ‪ /‬واقعية‬ ‫سحرية ‪ /‬أنسنة للطبيعة ‪ /‬ارتداد إلى المستقبل ‪ /‬وعودة إلى الغد‪ .‬‬ ‫أما نص ( أبهاء المرايا ) الذي ما زالت روح الشمري ماكثة في كل زواياه فانه اشتغال خارج نسق‬ ‫النصوص التي بين يدي ‪ ،‬خارج في لغته وعالقاتها المتشابكة والملتبسة‪ :‬‬ ‫تصهل الريح وتلقي في المتاهات السروج‪( ‬‬ ‫والمرايا مزجت قيعانها خوف التشظي‪ ‬‬ ‫فلماذا ينثر الصمت بذور األسئلة) )‬ ‫هذا المفتتح ينقلنا إلى عالقات جديدة تشكل صياغة استثنائية تنبي عن شعرية مرهفة ومصنوعة وفق خبرة‬ ‫لغوية ومعرفية ومخيالية‪:‬‬


‫ملحق‬ ‫‪ ‬‬ ‫ي لتوصلنا إلى سمات فنية عامة لها فهي‬ ‫ولو ألقينا نظرة تحليلية شاملة لمجمل النصوص التي بين يد ّ‬ ‫نصوص قراءة تأويلية ال تلقينية استماعية تعتمد الداللة متجاورة في نسقها الالبط فيها مع ركيزة غنائية‬ ‫توفر للجملة وللنص أفقا من التقبل النغمي الرصين خاصة باعتماد الشاعر على القافية أو السجع من خالل‬ ‫لغة عالية التقنية تحمل إحساسها الحي بأواصر الموضوع الذي تبحثه باختياره لمفردات جزلة ‪ ‬وفخمة‬ ‫تذكرنا بديباجة النص العربي القديم والمحدث الذي يعتمد األصول مع شبكة منن العالقات الحداثوية التي‬ ‫تؤجج شعرية خاضعة الشتراطات اإلدراك واالنطالق المشرق منذ الخطوة األولى في استيالد المضامين‬ ‫تحت خيمة من بناء شكلي رصين وخيال واسع ومخيال ركائزه األفق األسطوري والديني والتاريخي‬ ‫والواقعي‪..‬‬ ‫إن هذه النصوص تؤكد دائما إن شاعرها يخطط لها مسبقا ويفكر فيها كثيرا ويراجعها قبل أن يعلنها‬ ‫للمأل وتلك هي صفة الشعر الحقيقي الذي ينطلق من مرجعياته المتنوعة ال الشعر لذي يكتب عفو الخاطر‬ ‫فيكون كهبة ريح سرعان ما تأكلها اآلفاق‪..‬‬ ‫إن شعر حامد الشمري شعر فيه أصالة وحداثة وتجدد ‪ .‬وهو بهذا مسك جذوة الفعل الشعري الحقيقي‬ ‫تهر كل حين وهي تجلد المارين في شوارعهم الى‬ ‫وسيبقى حراس بوابة الجحيم العراقي مع كالبهم التي ّ‬ ‫البيوت في نظرة شرر منها‪ ،‬ستظل تطاردنا دائما نحن الذين سرقنا شعلة اإلبداع من بروميثيوس ‪ ‬إليقاظ‬ ‫صمت العالم الفاني عبر الكلمة الخالدة ‪ .‬وسنبقى في قتال مع كالب الوهم والجحيم و الحوأب وسربروس‬ ‫لنحقق معاني الحياة الجميلة عبر حمامات الدم والعذاب ولقد قالها الشمري‪:‬‬ ‫أو تدرون بان الشيعي يصلي خمسا أيضا‪( ‬‬ ‫ويصوم كذلك في رمضان‬ ‫ويحج ‪ ...‬ويزكي‪ ‬‬ ‫ويجاهد فرط اإليمان‪ ‬‬ ‫فلماذا حللتم ذبحه‬ ‫ولماذا حرمتم أكل التمرة في بستان؟!)‬

‫‪ ‬تحية للشمري في سعيه اإلبداعي األصيل‬




‫شجرة معتكفة في أرض الحب والشعر‪ ‬‬ ‫متمردة»‪ -‬دراسة‬ ‫من مقدّمة «إيقاعات‬ ‫ّ‬ ‫بقلم‬

‫الشّاعرعمرشبلي‪ ‬‬

‫‪ ‬ليندا نصار فتاة تجهش للحب فيجهش بين يديها الشعر‪ ،‬إنها أسيرة‪ ،‬وتحاول أن تتمرد على قيدها وس ّجانها‪ ،‬س ّجانها‬ ‫وتماسك‬ ‫مبرر وجو ِد‬ ‫أثير كالحرية نفسها‪ ،‬إن في الحبّ عبوديةً ال ترقى لها الحرية‪ ،‬ألن الحب وح َده هو‬ ‫ِ‬ ‫الذي هو عندها ٌ‬ ‫ُ‬ ‫المتمرد على الموت التصاله باهلل‪« :‬كالهما للخلود‪ ،‬الحبُّ وهللاُ» كما‬ ‫هذا الكون‪ ،‬وهو وحده الجدير بالحياة‪ ،‬وهو وحده‬ ‫ِّ‬ ‫يقول بدوي الجبل‪ ،‬فكالهما‪ ،‬هللا والحب‪ ،‬تنسكب فيه سرائرنا بفيض وحلول دون أن نراه‪ ،‬ولكننا نعيش فيه‪ .‬وفي هذه‬ ‫االنتصار بانكساراتها ال تملك ليندا نصار سوى تلك اإليقاعات الداخلية التي تتمرد‪ ،‬كما تتمرد‬ ‫المحنة اللذيذة التي تفوق‬ ‫َ‬ ‫ضمـ ِّها‪ ،‬وقتها يكون البحر في الخارج‪ ،‬وفي الداخل أيضاً‪ ،‬وتكون الموجة لغة‬ ‫الموجة‪ ‬المزدحمة بقوة البحر على ِخ َ‬ ‫البحريْن‪َ « ،‬م َر َج البحرين يلتقيان» في ليندا نصار‪ ،‬ولكنها تستسلم عند صخرة القضاء البكماء الرابضة على الساحل‬ ‫ي‪ ،‬كما هر ٌم مستبدٌّ‪ /‬بأحجاره والخلود‪ /‬وأما‬ ‫غير آبهة بازدحام الموج ونثاره المسكون بهزيمتها أمام قدرها‪ ،‬تقول‪« :‬عص ٌّ‬ ‫ْ‬ ‫دروس بقسوتها مستبدَّة‪ ./‬هذه‬ ‫أسكن دمي ووجودي‪ /‬وفي قلبك المستب ّد الذي هو زنزانتي‪/‬‬ ‫رجوتـُك‬ ‫أنا‪ /‬فأغرق فيك‪/‬‬ ‫ْ‬ ‫ٌ‬ ‫هي الشاعرة الواعدة ليندا نقوال نصار‪ ،‬إنها تحاول التمرد‪ ،‬ولكن قوتها العليا تكون باستسالمها اللذيذ لق َدرها الحامل ك َّل‬ ‫أسرار البحر‪ ،‬وأسرار هزائمها‪ ،‬غير آبهة بأشالئها المتناثرة كأمتعة قلبها على زبد الموجة الالحقة حاملة عناد «أوليس»‬ ‫انكسر‪/‬‬ ‫صدر السفينة‪ /‬ويبقى يض ُّج إذا ما‬ ‫ودموع «بينلوبا» الوامقة المنتظرة عند شاطئ اليأتي‪« ،‬وللموج طب ٌع يعانيه‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ُّ‬ ‫يجن‪ /‬وحين يُ ِص ّر» ولكن الشاطئ ال بد أن يأتي‪ ،‬هكذا تتنبـَّأ ليندا‪ ،‬وإنها العَ ّرافة‪ .‬لم تستطع صخور‬ ‫ويا حيرة الموج حين‬ ‫كهف السيكلوب الضخمةُ‬ ‫باب النجاة‪ ،‬وال غناء الساحرات الشجي من َع البحر عن مسيرته باتجاه «إيتاكا»‪،‬‬ ‫الموصدة ُ َ‬ ‫ِ‬ ‫قاس‪« :‬أرجوكَ أن تروح‪ /‬وأن تفكَّ‬ ‫أعني «أوليس»‪ ،‬وأعني رحلة «ليندا» باتجاه «إيتاكا»‬ ‫المتكورة في قلب حبيب ٍ‬ ‫ِّ‬ ‫القي َد عن‪ /‬روحي التي ما عاد فيها روح»‪ .‬إن هذا العشق بكل ما فيه من نهم وانكسار نوع من األسر السماوي‪ .‬‬ ‫أخف وقعا ً على تمرداتها الخائفة من طول الرحلة وعدم لمعان «إيتاكا»‪،‬‬ ‫‪ ‬ربما كانت صخور السيكلوب التي تالحقها‬ ‫َ‬ ‫ألن ليندا تُز َجى بالحب وحده وهي تح ّدِق بالشاطئ الذي سوف يأتي‪ .‬فإذا لم يهرم الحب فإن الوصول حتمي‪ .‬والمراكب‬ ‫التي تحمل رائحة األوطان ال يمكن أن تبتلعَها البحار‪ ،‬كيف تغرق سواحل ليندا ولها عنوان!‪ ،‬تقول‪« :‬عنوانُ‬ ‫الحب‬ ‫ِّ‬ ‫ي ألن الحبّ لم يهرم في قلب ليندا‪ ،‬وألن نسيانـَها الحب‬ ‫القلب‪/‬‬ ‫سيبقى‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫والقلب سيبقى كنز الحب»‪ .‬إذن فالوصول حتم ٌّ‬ ‫الخضر ما فتئتْ ‪ /‬وذكراكَ‬ ‫مبر َر للوجود سوى الحب‪ ،‬تقول ليندا‪« :‬أأنساك؟!‪ /‬وألحانـُك‬ ‫يعني نسيانَ وجودها‪ ،‬فال ِ ّ‬ ‫ُ‬ ‫ٌ‬ ‫اشتياق أيضا ً كما يقول‬ ‫ي‪ ،‬والسؤا ُل‬ ‫ي كنبض فؤادي‪/‬أأنساك؟‪ /‬إذن‪ ،‬سوف أنسى وجودي‪ /‬السؤا ُل هنا‬ ‫ٌ‬ ‫استنكار ونف ٌّ‬ ‫ف َّ‬ ‫ذوت األمنية فسوف تبقى‬ ‫ٌ‬ ‫المتنبي‪»:‬وكثير من السؤال اشتياقٌ»‪ ،‬وتظل األماني هي األغلى ما دمنا لم نخلعها‪ ،‬ومهما َ‬ ‫ٌ‬ ‫ً‬ ‫وقود الرحلة في هذه الحياة‪ ،‬فقد تـُلغي بنفسجة بنفح عبيرها صحرا َء‪ ،‬ويمأل غابة عصفور‪ .‬والزنبق في صحرائه يكتفي‬ ‫«بندى الفجر وأنسام المغيب» كما يقول عمر أبو ريشة‪.‬‬ ‫‪ ‬وإذا كان الحرمان وقود نار العشق فهو تعبير عن الفقدان‪ ،‬والفقدان في النهاية هو نوع من الموت‪« :‬ففيك اشتعالي‪/‬‬ ‫وفيك انطفائي»‪ ،‬وإذا كان االنطفاء هنا هو تحول الجمرة إلى رماد‪ ،‬فال بد أن يظل الموقد مشتعالً‪ ،‬وهنا تكمن معجزة‬ ‫الحب‪ ،‬صانعِ كل شيء‪ ،‬فهل تبقى أسرار الجمر في جثام الرماد؟ من يدري! أولم ْ‬ ‫يقل بودلير‪« :‬إنها ال تدري عالم يبكي‬ ‫الموتى»‪ ،‬فإذا كان الموت نتيجة حتمية للجسد‪ ،‬فإن الروح تح ّدِق من عالها إلى جسد قد فارقته‪ .‬وبهذا يغدو الموت‬ ‫صالتنا بكل شيء‪ ،‬وفقدت الحياة مبرر‬ ‫مرحلة من مراحل الحياة‪ ،‬وال يكون عدماً‪ ،‬فالموت لو كان عدما النقطعت ِ‬ ‫سه ليندا‬ ‫وجودها‪ .‬وإذا كان الرماد جنازة الجمرة فإن البقاء في الجمرة ولذعها أفضل من الموت إذا كان نهاية‪ ،‬وهذا ما تح ُّ‬ ‫بفطرتها الهاجمة على الحب والحياة‪ ،‬تقول‪ « :‬فالنشوة قبل القطف ألذُّ»‪« ،‬وإذا ماتت آما ُل القلب‪ /‬فالعمر ُمحال»‪.‬‬ ‫‪ ‬كلمات ليندا وعيناها دائما ً تبحثان عن الشاطئ‪ ،‬وإذا كان الوصول صعباً‪ ،‬فاللهفة أشد عنادا ً والموجة ستصل ولو‬ ‫متالشية‪ ،‬إذن ال بد من الوصول‪ ،‬ولكن هل الوصول نهاية؟ ربما‪ ،‬ولذا تغرق ليندا في خضمها مكسوة بقوة اندفاع‬ ‫الموجة‪ ،‬وليكن من بعدها ما يكون‪ ،‬ألن التوق هو رؤية هللا في النهاية إذا فلتستمر الرحلة إلى الحبيب األقصى ولو بعيدا‪ً،‬‬ ‫تقول‪« :‬أتوق رغم غضبي إليك‪ /‬كما يتوق العابد الدرويش‪ /‬لرؤية هللا وقد تب ّخر المكان» هذا التوق يؤكد الحرق اللذيذ‬ ‫تصور الوصول‪ ،‬و»من كانت بدايته محرقة فنهايته مشرقة»‪ ،‬ال بد من الرحلة في عيني من نحب‪ ،‬وكذا تفعل ليندا‬ ‫ألنه‬ ‫ُّ‬ ‫رغم إدراكها ما يعني اللذع والحرق‪« :‬وأنا أبحث في عينيك عن عمري المديد‪/‬إنما أهرب خوفا ً من لظاك‪ /‬أيها الساكن‬


‫تكشفها األنوار» ألسرار العشق طعم النبيذ المعتق‪ ،‬والسر هنا يتذكر ويزدحم كقارورة عطر بودلير التي تتذكر‪.‬‬ ‫‪ ‬ليندا نصار شاعرة واعدة آمل أن تدخل في محفل دولة الشعر‪ ،‬وآمل أن يستمر تدفقها الواجد المشحون باألحاسيس‬ ‫الصادقة‪ ،‬وأن تظل عيناها مفتوحتين على الشعر باستمرار‪ ،‬فالعشق والشعر فعل أخالقي ألنهما يثيران لهبا ً مقدسا ً تأوي‬ ‫إليه أرواح الظماء إلى النور‪ .‬إنها اآلن في شفق الفجر‪ ،‬ويبدو من خالل إصرارها على الشعر أنها ال تستطيع أن تنتهي‪،‬‬ ‫وهي من الشاعرات اللواتي تظل أرواح نصوصهن حاضرة بعد إغالق الكتاب‪ .‬إنها في معركة حبها تحتمي بحرمة‬ ‫الحب‪ ،‬وسالحها الشعر وهزائمها العشقية انتصارات شعريـّة‪.‬‬


‫كالنار بصدري» إنه الهروب إلى العودة‪ ،‬وكلما استيقظ في عزلة ليندا ما هو كامن في أعماقها تصرخ بتلذذ المشتبك في‬ ‫هيكل وثني مع رؤيته ورؤاه‪.‬‬ ‫‪ ‬إن ليندا نصار تدعي بشيء من التحدي ملكية كلمة السر‪ ،‬ولكن عبثا ً ‪ ،‬فتعود لتسلم مفاتيح روحها لمن زعمت أنها‬ ‫تملك مفاتيح روحه‪»:‬مفاتي ُح روحي معك»‪ .‬وتعود ثانية للغوص في محاوالتها لالكتشاف المستغرق عمرا ً كامالً‪ ،‬والذي‬ ‫هو بحاجة لمالّح مثل «أورشنابي» الذي عبر بـ»جلجامش» مياه الموت العميقة ليصل إلى جده «أوتونباشتم»‪ ،‬فهل‬ ‫تستمر ليندا نصار بتكسير مجاذيفها في رحلة الحب المجنونة‪ ،‬لقد قبلت هذا وراحت تنزف شعرا ً معبرا ً عن مأساة أنثى‬ ‫حولها الحبُّ شعراً‪ ،‬وال راحة لها إال في بالد الحب‪ ،‬وأعني النوم أو الموت على صدر الحبيب‪« :‬وفي حضنك الدافئ‬ ‫حب في زمان العتم ينمو؟!‪ .‬إن‬ ‫ي ٍّ‬ ‫المستبد‪/‬عرفت الوسادة‪ :»/‬تقول ليندا أيضاً‪« :‬يبعث األشبا َح في صدري غموض ُْك‪ /‬أ ُّ‬ ‫هذا السؤال المقهور‪ ،‬يهب ليندا لغة حدْسية مذهلة ومضيئة‪ ،‬وهكذا يصبح الحزن مضيئا ً على شعاع ما تذرفه العيون من‬ ‫دموع‪ .‬ولكن الحب ينمو في الظالم لشدة حضوره‪ ،‬وما الغموض الذي يمأل صدر ليندا باألشباح‪ ،‬إالّ قربى وشيجة من‬ ‫لف الليل الطبيعة بأسراره المتسربة منه إلى الليل‪ ،‬يقول بودلير في «أزهار الشر»‬ ‫ظلمات بودلير الذي يرى سعادته كلما ّ‬ ‫كنت تُسعدني أيها الليل لوال نجومك التي يتكلم ضياؤها لغة معروفة»‪.‬‬ ‫‪ « :‬لـَكـ َ ْم َ‬ ‫‪ ‬إن النقيضين (الحزن وضوء الدموع) هنا هما منتجا شعر ليندا نصار‪ .‬فهل نعرف أن التناقض هو سبب استمرار‬ ‫وجود هذا الكون بكل تفاصيله‪ .‬وتعود ليندا أمام الحب مرغمة لالعتراف بروعة الغموض وقساوة الغياب ولذته في آن‪،‬‬ ‫تقول ‪»:‬أشهى ما في عينيك‪ /‬غربة عينيك‪ »/‬هذه الشهوة القاسية‪ ،‬وألنها تو ّد االمتالك تقسو كثيرا ً على قلب فتاة لم تزل‬ ‫في الصفحة األولى من كتاب الهوى على حد تعبير نزار قباني‪ ،‬تقول ليندا ‪« :‬صهي ُل ظنونك في خاطري‪ /‬ظنونك تصهل‬ ‫مثل الخيول»‪ ،‬في هذا عذاب منهمر من قلب تعرف إلى الحب فأصابه بسهام جارحة ‪ .‬‬ ‫‪ ‬وللدمع شيمه الخالقة‪ ،‬إنه يتمادى في غزارته ليحمل همـّا ً أخالقياً‪ ،‬إنه يصفّي النفس مما اعتكر فيها‪ ،‬تقول ليندا‪:‬‬ ‫«فمن شيمة الدمع مس ُح الغرور»‪ ،‬وهكذا يغدو الدمع معلما ً ومرشدا ً عند العاشقين الكبار‪ .‬والدمع في شعر ليندا يصقل‬ ‫الوجدان ويجعل ذارفه رائيا ً بامتياز‪ ،‬وقد تتحطم المرايا‪ ،‬ولكن ضوء الدمع يصبح وفاء خالصاً‪ ،‬تقول ليندا‪« :‬وطبعت‬ ‫وفائي في مرآتي‪ /‬فلتنكسر المرآة‪ /‬وليبقَ وفائي‪ ،»/‬ولكن الوفاء الناتج عن الحب ال يتمرد على الحبيب ‪ ،‬إنه يحاول‬ ‫تقويمه‪ ،‬ويُح ِس ُن ثِقافـَه‪ ،‬بالشعر طبعاً‪ .‬وأحيانا ً يحمل لغة قاسية‪ ،‬وتهديدا ً بالنأي‪ ،‬إن نهم العاطفة يجيش ويصطخب في‬ ‫صدر ليندا إلى درجة تحريض الحبيب‪ ،‬ولكنه تحريض غير مبتذل‪ ،‬ألنه أرفع من نزوة عابرة وانفالت جسدي عابر‪،‬‬ ‫والحب ال يصبح مبتذالً أبداً‪ ،‬ألن الموانئ المفتوحة الستقبال سفن الحب تظل واعية معاناة الرحلة‪ ،‬وذاكرة تلك المناديل‬ ‫تمر ُد ليندا هو اقتراب أكثر من االستسالم‪،‬‬ ‫الوامقة المبللة بالدموع‪ ،‬والتي تكاد تصبح أشرعة للسفن التي تعاندها الرياح‪ُّ ،‬‬ ‫ْ‬ ‫معك‪ /‬سأبقى ْ‬ ‫‪/‬تمردْ‪ /‬أنا في النضال ْ‬ ‫معك‪،»/‬‬ ‫تقول ليندا‪« :‬مللتُ موانئك‬ ‫الساكنة‪ /‬غرستك في كل شيء‪ /‬وما كنت شيئا ً َّ‬ ‫تفاتحنا ليندا بالملل من الموانئ الساكنة‪ ،‬وهذا حقها‪ ،‬ولكنها تخشى مغادرة هذه الموانئ‪ ،‬ولو ساكنة‪ ،‬فتجعل رياحها تهب‬ ‫على صاحب الميناء‪ ،‬وهو صاحب قلبها‪ ،‬تريده عاصفا ً متمرداً‪ ،‬ورائ ٌع حين يتحول العاشق إلى عاصفة ‪.‬‬ ‫‪ ‬الن َهم واالستسالم والتمرد نقائض في شعر ليندا‪ ،‬ولكنها نقائض الضرورات التي يطلقها الجسد والروح في آن‪ ،‬تحاول‬ ‫ليندا التمرد كما تتمرد الموجة لتتمزق متناثرة ومستسلمة على صخور الشاطئ القاسية القلب‪ ،‬ولكنها محاولة التراجيديا‬ ‫اإلنسانية أمام هزائم اإلنسان أمام ظلم آلهة األولمب المستبدة حتى بنار الفقراء‪ ،‬وندري ما فعلت الصخرة بكاهل‬ ‫«سيزيف» وهو يسرق النار لمساعدة البشر‪ ،‬تقول ليندا‪« :‬صارت هواياتي الوصو َل إلى جنونك‪ /‬كي ِ ّ‬ ‫أمزقـَه وأعبث‬ ‫بالجنون‪/‬وأنتوحدكسوفتدركمنأكون‪.»/‬أنهتمردالمرأةولكنهتمر ٌدقويبضعفه‪،‬وهذهأعلىدرجاتالقوة‪ .‬‬ ‫‪ ‬في شعر ليندا نصار ما يأخذنا إلى عوالم «بودلير» القصية‪ ،‬فقد حاول بودلير الوصول إلى حال الحلول الكلي في‬ ‫سه‬ ‫األشياء التي عذبته وجذبته إليها بقدسية ممزوجة بلعنة بودليرية ق َدرية‪ ،‬فلجأ إلى تحطيم ال ُجدُر والفواصل بين حوا ِ ّ‬ ‫ٌ‬ ‫ألحان خضراء كالمزمار‪ ،‬ويرى بودلير‬ ‫ليرى أكثر وأعمق‪ ،‬فانزياح الفواصل يجعل الحواس كلها حاسة واحدة‪ ،‬فهناك‬ ‫تحو َل حواسي كلها‬ ‫أكثر ما يرى في حاسة واحدة هي مجموعة الحواس‪ ،‬يقول بودلير‪« :‬أيها التحول الروحاني‪ /‬يا ُّ‬ ‫سها يبدع الموسيقى‪ /‬مثلما يولـِّد صوتـُها العطر‪ ...../‬وأحيانا ً تعثر على قارورة عطر‬ ‫المنصهرة في حاسة واحدة‪ /‬إن نفَ َ‬ ‫ٌ‬ ‫قديمة تتذكر‪ /‬تنبثق منها عائدة ً رو ٌح حيّة كلياً»‪ ،‬وهناك في شعر ليندا ما ينحو هذا المنحى البودليري‪ ،‬فهل وصلت أزمة‬ ‫عشقها إلى مرحلة تفجير الجدران بين حواسها؟ سؤال سيجيب عليه مستقبلها الشعري‪ .‬تقول ليندا‪« :‬ورجعتُ ألمل ُم عطرك‬ ‫أثر بودليري واضح‪ ،‬ولكن ذلك ال‬ ‫غجري‬ ‫عن ثوبي‪ /‬وأض ُّم العطر وألثمهُ‪/‬‬ ‫صدركَ ‪ ،‬أرحل فيه‪ »/‬في هذا الشعر الجميل ٌ‬ ‫ُ‬ ‫ٌّ‬ ‫ينفي فرادة الصوت عند ليندا نصار‪ ،‬ألن كثافة أحاسيسها تقودها قودا ً إلى رؤيا اختراقية تهدم الجدران والفواصل بين‬ ‫أحاسيسها‪.‬ولنقرأ هذا الشعر الجميل في قول ليندا‪« :‬ونبيذ األسرار لذيذ الطعم‪ /‬لكني أخشى أن يخطر في البال‪ /‬أخشى أن‬



‫اللب‬ ‫لوال القشرة لفسد ّ‬ ‫زينب فايز راضي‬ ‫ت ُ َح ِ ّدثُني عن القشور متسائالً عن جدواها‪ ،‬متعاليا ً عليها‪ ،‬مستصغرا ًقدرها‪ ،‬ال يا صديقي فلوال‬ ‫اللب‪ ،‬و لطالما كانت القشرة بوابة العبور‪،‬واإلناء الناضح بالمكنون و الخبر لما‬ ‫القشرة لفسد ّ‬ ‫سيكون‪.‬‬ ‫لست على عجالة من أمري‪ ،‬فالدفاع عن القشور قضية صفحتي‪ ،‬فإذا كان قدر القشور ان‬ ‫ترمى – جلّها ‪ -‬فال يجب ان نجعل جزاءها اإلهانة و التحقير إنما العرفان بالجميل ‪.‬‬ ‫و جميل القشور يبدأ بالقشور التي فطرتها الطبيعة و صنعتها ايدي المبدع األول‪ ،‬فكانت‬ ‫ملتصقة بما يالزمها متعشقة بأصلها ال تفارقه اال بعنوة حد مسنون‪ ،‬أعني بها ما نعرف و ما‬ ‫ال نعرف من ثمار و خضار و إنتاج أرض‪ .‬وليس أسهل من أن نحكم على جودة ما نأكل من‬ ‫اللب «‪.‬‬ ‫خالل قشوره فالقشرة بداية و حماية و لوال « القشرة لفسد ّ‬ ‫أعرج على القشور صنيعة االنسان‪ ،‬و المستقدمة بمهارة المصانع‪ ،‬و التي سرعان ما تزول‬ ‫و ّ‬ ‫و تؤول الى المنفى و العدم ناكرين لها حسن صنيعها فهي تحمي و تستر و تصون أعني بها‬ ‫كل غالفات الناس و البيوت و المنتجات ‪،‬وقدر هذه القشور أنها الى حين و ترمى و هذا عيبنا‬ ‫و ليس عيبها‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫تأخذن القشور على محمل التهكم و السخرية و الدونية‪ ،‬إذ للقشور مقامها و عملها‪.‬‬ ‫إذا ال‬ ‫ً‬ ‫فلإلنسان قشوره ليس انتهاء بالثياب إنما ابتداء باللسان قشرة الفكر طالما لسان الفتى نصف‬ ‫و نصف فؤاده‪.‬‬ ‫سأسهل عليك األمر‪:‬أليس من قشرتك – أعني جلدك – نعرف صحتك ما بين اصفرار و‬ ‫احمرار و برودة و سخونة‪.‬‬ ‫أليس من قشرتك نعرف عرقك ما بين أسود و أبيض و بقية األلوان‪.‬‬ ‫و دعني أقول‪ :‬أليس ما أول ما يلفتك بالمرأة جمالها وهو قشور!‬


‫أليس أول ما يلفتك في البناء شكله وهو قشور!‬ ‫أليس ما يلفتك من مدينة مظاهرها وهي قشور!‬ ‫أليس غالف الكتاب و عنوانه قشورا؟!‬ ‫أليس لون البحر األزرق قشرة أعماقه؟!‬ ‫أليست النجوم و السماء قشورا ً لما وراء؟!‬ ‫ألم يزيّن الخالق حياتنا بالورود و الفاكهة و أحسن التقويم و كل ذلك قشور!‬ ‫أليست حواسنا قشور دواخلنا؟!‬ ‫أليست حدودك قشرة وجودك؟!‬ ‫بل أليس الوجود قشرة الواجد؟!‬ ‫و أيضا ً أليست الدنيا قشور اآلخرة و العاجلة قشور اآلجلة؟!‬ ‫اللب‪ ،‬و لوال‬ ‫رجا ًء ال تحدثني ثانيةً عن القشور‪ ,‬فالقشور بوابة العبور و “لوال القشرة لفسد ّ‬ ‫الحب”‪ّ ،‬‬ ‫الن سالم أحمد شوقي هو قشرة ذلك اللقاء‪ .‬و أذكرك قائلةً لطالما أكلنا‬ ‫الكلمة لمات‬ ‫ّ‬ ‫القشور و رمينا النواة و التمرة شاهدة‪...‬‬




‫ينابيع الذات ‪ ..‬ينابيع القصيدة‬

‫«أي خبز فيك يا هذا المطر»‬ ‫قراءة في «مجموعة عمر شبلي‬ ‫ّ‬ ‫الشعرية ّ‬ ‫توطئة‬

‫عندمــا تنطلــق الــذات الملتاعــة مــن رحــاب مخزونهــا الثقافــي والمعرفــي واإلنســاني‪ ،‬فــي رحلــة‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫األمــة وحضارتهــا‪ ،‬وهــي فــي مراحــل‬ ‫مضنيــة مــن التمـّـزق واألوجــاع واالغتـراب‪ ،‬مســتلهمة أصالــة ّ‬

‫ـرية‪،‬‬ ‫مــن التقهقــر والتشـ ّتت والغيــاب‪ .‬هنــا‪ ،‬تمضــي تلــك الــذات بــك بعيــداً فــي مجاهيــل النفس البشـ ّ‬ ‫متحيـ اًر أمــام توقهــا الغنــي باألسـرار‪،‬‬ ‫ـت‬ ‫ومكنوناتهــا‬ ‫العصيــة علــى الســبر واالكتنــاه‪ .‬وإذا مــا وقفـ َ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ـتعال ال ينطفــىء؛ لتدخــل فــي عوالـ َـم أشـ ّـد غرابــة وأبعــد غــو اًر‪ ،‬تحتــاج‬ ‫فإّنــك تخــرج مــن لهــب اشـ ٍ‬ ‫وتتبــع نوازعهــا التــي ال تعــرف الحــدود‪.‬‬ ‫لتلمــس معالمهــا المتح ّفــزة‪ّ ،‬‬ ‫إلــى كـٍّـد ومشـّـقة بالغيــن؛ ّ‬

‫ورحلتــك فــي عوالــم الشــعر‪ ،‬مــع الشــاعر عمــر شــبلي‪ ،‬فــي حرائقــه واشــتعاالته‪ ،‬وكشــوفاته‬ ‫المتالحقــة‪ ،‬تدفــع بــك إلــى مرافقتــه فــي تالويــن رحلــة المعانــاة‪ ،‬وبــوح الــروح التــي ال تعــرف الراحــة‬ ‫والســكينة‪ .‬وصــدق أبــو تمــام حيــن قــال‪:‬‬ ‫«بصرت بالراحةالكبرى فلم َترها ‬ ‫َ‬

‫ِ‬ ‫التعب»‪.‬‬ ‫جسر من‬ ‫نال ّإل على‬ ‫ٍ‬ ‫ُت ُ‬

‫«أي خبـ ٍـز فيــك يــا هــذا المطــر»‪،‬‬ ‫لجـ ُ‬ ‫ـأت يومـاً إلــى دوح القصيــدة فــي مجموعــة عمــر شــبلي‪ّ :‬‬ ‫هربـاً مــن قيــظ (الشــيخ الزمــان) واســتبداده‪ ،‬وتخّلصـاً مــن الــركام المزمن‪ ،‬والقحــط والجفاف‪ ،‬باحثاً‬ ‫جمالياتــه‪ .‬وجدتنــي عنــد انبثــاق الينابيــع‬ ‫عــن مزايــا الشــعر األصيــل‪ ،‬وعــن ألـوان اإلبــداع وأفيــاء‬ ‫ّ‬ ‫ـل فــي اســتخدام األســاطير واســتثمارها‪ ،‬بعضـاً‬ ‫التــي ُتعيــد إلــى المــدارات رجـ َ‬ ‫ـع براءتهــا األولــى‪ ،‬ولعـ ّ‬ ‫مــن هــذا الرجــع‪ ،‬أو هــو الوقــوف علــى أط ـراف الكــون‪ ،‬فــي عالــم بائــس‪ ،‬بيــن العــدم والخلــود‪.‬‬ ‫يكــون لهــذا األخيــر غيــر وجــه وغيــر ســبيل‪ ،‬ال يعــرف مســالكها ّإل الشــعراء الكبــار‪ .‬أمــا كان‬ ‫ـق عندمــا قــال‪:‬‬ ‫ّ‬ ‫المتنبــي علــى حـ ّ‬ ‫«ذر النفس تأخ ْذ وسعها قبل ِ‬ ‫ِ‬ ‫العمر»؟‬ ‫ق جاران دارهما‬ ‫بينها فمفتر ٌ‬ ‫ُ‬ ‫ُ َ‬ ‫َ‬ ‫الشعرية‬ ‫حول المجموعة‬ ‫ّ‬ ‫حقــه‪ ،‬واإلحاطــة ببعــض المالمح‬ ‫أســعى فــي هــذه الصفحــات إلــى إيفــاء هــذا الشــاعر بعــض ّ‬ ‫تضمنتهــا قصائــد المجموعــة‪ .‬والشــعر يصــدر دائمـاً عــن أرض خصبــة‪ ،‬هــي أرض الــروح‬ ‫التــي‬ ‫ّ‬ ‫التــي ال تعــرف اليبــاس والجفــاف‪ ،‬يرفدهــا الحنيــن إلــى ينبــوع الضــوء‪ .‬وعندمــا تثــور عواصــف‬ ‫المثقــف المتمـّـرد‪ ،‬وقــد ازدحــم الوعــي والحــدس‬ ‫ربانـاً لروحــه الملتاعــة‪ ،‬وهــو ّ‬ ‫الــذات تجــد الشــاعر ّ‬ ‫ـعرية‪ ،‬فــي تلــك الــروح الثائــرة أبــداً‪ ،‬تنازعهــا صــوت اإلنســان مــن جهــة‪ ،‬وصــوت المناضــل‬ ‫والشـ ّ‬


‫للمجموعــة كّلهــا‪.‬‬ ‫اإليقاعية‬ ‫في البنى‬ ‫ّ‬ ‫اإلبداعيــة‪ ،‬يتكامــل مــن خــال دراســة‬ ‫وتقصــي أبعادهــا‬ ‫ـعرية شــاعر مــا‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫البحــث فــي شـ ّ‬ ‫ّ‬ ‫جماليــة الشــعر‪ ،‬إلــى‬ ‫األهمّيــة فــي تحقيــق‬ ‫اإليقاعيــة فــي القصيــدة‪ ،‬ولإليقــاع دور كبيــر‬ ‫البنيــة‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫جانــب الرؤيــة والتراكيــب والتصويــر الفّنــي‪ .‬يؤّكــد هــذا القــول مــا نقـ أر مــن إشــارة للشــاعر نفســه‬ ‫ّ‬ ‫ـإن الشــعر لغــة وموســيقى»‪.‬‬ ‫فــي ّ‬ ‫مقدمــة الكتــاب‪ ،‬إذ يقــول‪« :‬وإذا كانــت الموســيقى لغــة‪ ،‬فـ ّ‬ ‫ـإن هــذا األخيــر «هــو تأليــف‬ ‫ومــع‬ ‫إمكانيــة تحديــد طبيعــة االنتظــام واال ّتســاق فــي اإليقــاع‪ ،‬فـ ّ‬ ‫ّ‬ ‫بيــن مجموعــة مــن العناصــر‪ ،‬يجمــع بيــن النســق والخــروج علــى هــذا النســق‪ ،‬ويقيــم بيــن هــذه‬ ‫العناصــر عالقــة أو عالقــات‪ ،‬فــإذا خلــت العناصــر مــن النســق ومــن العالقــات‪ ،‬فهــي كذلــك خاليــة‬ ‫مــن اإليقــاع»‪ ،‬بعــض النقــاد»‪ .‬ومــا يمكــن الوصــول إليــه‪ ،‬فــي مجــال اإليقــاع فــي الشــعر‪ ،‬هــو‬ ‫العاديــة‪ .‬فهــل نجــح عمــر فــي إعــادة تنظيــم اللغــة؟‬ ‫إن لغــة الشــعر هــي إعــادة تنظيــم اللغــة‬ ‫القــول ّ‬ ‫ّ‬ ‫أن عمــر شــبلي جعــل مــن اإليقــاع عامـاً مســهماً فــي إنتــاج الداللــة؛‬ ‫قــد نســتطيع التوكيــد ّ‬ ‫أهمّيــة فــي إمــداد الــكالم بأســباب‬ ‫أل ّنــه لــم يعــد ظاهــرة‬ ‫ّ‬ ‫حياديــة‪ ،‬إّنمــا غــدا مــن أكثــر العناصــر ّ‬ ‫ـاعرية‪.‬‬ ‫الشـ ّ‬ ‫إيقاعي ـاً فــي شــعر عمــر‪ ،‬إذ نجــد ثالث ـاً وثالثيــن قصيــدة مختلفــة الطــول‪،‬‬ ‫تنوع ـاً‬ ‫ّ‬ ‫نلحــظ ّ‬ ‫ُبنيــت علــى النســق اإليقاعــي (فعولـ ٌـن)‪ .‬يتكـ ّـون هــذا النســق مــن مقطعيــن طويليــن‪ ،‬فــي مقابــل‬ ‫ّ‬ ‫أن الغلبــة الواضحــة للمقاطــع الطويلــة تتــاءم‬ ‫مقطــع واحــد قصيــر‪ ،‬فمــا داللــة هــذا؟ أغلــب الظـ ّـن ّ‬ ‫مــع الحــال النفسـّـية للشــاعر‪ ،‬وتكشــف عــن المنــاخ الــذي يحــاول الشــاعر إرســاءه‪ ،‬وهــذا مرتبــط‬ ‫بالهمــوم والمشــكالت التــي واجههــا عمــر‪.‬‬ ‫وإذا مــا أغفلنــا دراســة النبــر والتنغيــم‪ ،‬والتدويــر والتضميــن‪ ،‬مــع مــا لهــذه العوامــل مــن دور‬ ‫ـعرية‪ ،‬بسالســة وعذوبــة ينــدر وجودهمــا فــي كثيــر‬ ‫فاعــل فــي اإليقــاع‪ ،‬فـ ّ‬ ‫ـإن تتابــع األنســاق الشـ ّ‬ ‫ممــا نق ـرأ‪ ،‬وهــذا ُيظهــر تم ّكــن الشــاعر مــن اللغــة‪ ،‬ترفدهــا الموهبــة األصيلــة والخبــرة الطويلــة‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫(فعولــن) ينطبــق علــى نســق آخــر اســتخدمه الشــاعر‪ ،‬هــو‬ ‫ومــا قيــل عــن النســق اإليقاعــي‬ ‫ٌ‬ ‫ّ‬ ‫(فاعالتــن) المتكـ ّـون مــن ثالثــة مقاطــع طويلــةـ فــي مقابــل مقطــع واحــد قصيــر‪ ،‬وهــذا النســق‬ ‫ـتبدت بالشــاعر‪ ،‬مــن غيــر أن تطمــس شــعاع األمــل‪ .‬وال يخــرج النســق‬ ‫يوحــي باألحـزان التــي اسـ ّ‬ ‫تؤديــه المقاطــع الطويلــة‪ .‬وقــد ينســحب هــذا‬ ‫اإليقاعـ‬ ‫ـي (مســتفعلن أو متفاعلــن) عــن الــدور الــذي ّ‬ ‫ّ‬ ‫علــى قصائــد المجموعــة كّلهــا‪ ،‬وقــد اسـ ُـتخدم فيهــا أنســاق (الكامــل والمتقــارب والخبــب)‪ ،‬إلــى‬ ‫جانــب المقطوعــات التــي ُبنيــت علــى الشــعر المــوزون المق ّفــى‪ ،‬مــن غيــر أن تتخّلــى عــن الرؤيــة‬ ‫العامــة للشــاعر‪ ،‬بــل توافقــت معهــا‪.‬‬ ‫ّ‬


‫القوميــة‪ ،‬مــن جهــة أخــرى‪.‬‬ ‫المخلــص‬ ‫ـانية و ّ‬ ‫لقضيتــه اإلنسـ ّ‬ ‫ّ‬ ‫ـعرية الشــاعر‬ ‫ومــن الممكــن تحديــد زاويــة الرؤيــة التــي تم ّكننــا مــن النظــر‪ ،‬بد ّقــة‪ ،‬إلــى شـ ّ‬ ‫أن مــا يــراه مــن العالــم‬ ‫عمــر شــبلي‪ ،‬مــا‬ ‫شــعرية الشــاعر ّإل فرادتــه التــي تم ّكــن ثقافتــه مــن ّ‬ ‫ّ‬ ‫ـادة شــعره‪ .‬إّنــه كشــف عــن أعمــاق هــذا العالــم المرجعــي‪ ،‬ال كمــا ي ـراه اآلخــرون‪،‬‬ ‫المرجعـ‬ ‫ـي مـ ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫خصوصيــة الرؤيــة عنــد عمــر‪ ،‬فــي هــذه المجموعــة‪،‬‬ ‫بســبب مــن اختــاف الــرؤى‪ .‬حــرّي بنــا تعـّـرف‬ ‫ّ‬ ‫تبيــن‬ ‫علــى وجــه الخصــوص عندمــا ّ‬ ‫قضيــة اإلنســان‪ ،‬وقــد الزمتــه فــي غيــر مجموعــة مــن مجموعاتــه‬ ‫لنــا عمــق رؤيتــه إلــى ّ‬ ‫النقديــة المتعـ ّـددة‪.‬‬ ‫ـعرية التــي ش ـ ّكلت عالمــة نهــوض‪ ،‬كمــا الزمتــه فــي قراءاتــه‬ ‫ّ‬ ‫الشـ ّ‬ ‫وقــارىء هــذه المجموعــة‪ ،‬يجــد نفســه أمــام خارطــة «ذات أفــق واســع ممتـ ّـد مــن التاريــخ‬ ‫اثيــة‪ ،‬وصـوالً إلــى الفّنــي والذاتــي»(‪ ،)1‬مــع تركيــز مك ّثــف علــى المضاميــن‬ ‫والحضــارة والثقافــة التر ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫بحــق‪ ،‬عربــي الهــوى والمنــى‬ ‫األخالقيــة‪ .‬وعمــر هــو شــاعر‬ ‫اإلنســانية و‬ ‫القوميــة و‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫الوطنيــة و ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫والفـؤاد‪ .‬نلحــظ نــار وجــده المســتعرة أبــداً‪ ،‬يســترجع صفحــات مــن التاريــخ؛ ويعــود إلــى ومضاتــه‬ ‫مبدعـاً ومجـّـدداً فــي آن معـاً‪ .‬وتجــده فــي تد ّفقــه‪ ،‬وآالمــه التــي ال تعــرف الفتــور‪ ،‬وكأّنــه ينبــع مــن‬ ‫ـادة‬ ‫ـعرية عمــر فــي كونــه جعــل نفســه منتدبـاً؛ لتحويــل ّأيــة مـ ّ‬ ‫ـطورية‪ ،‬وتتبـّـدى مالمــح شـ ّ‬ ‫جبــال أسـ ّ‬ ‫ـاص‪.‬‬ ‫متنوعــة ومتعـ ّـددة‪ ،‬إلــى دمــه الخـ ّ‬ ‫مــن مـو ّاد إبداعــه‪ ،‬وهــي ّ‬ ‫سيمائية العنوان‬ ‫في‬ ‫ّ‬ ‫(أي)‪،‬‬ ‫يتكــون عنــوان المجموعــة‬ ‫الشــعرية «مــن ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ســت مفــردات‪ ،‬بــدأ باســم االســتفهام ّ‬ ‫االســمية‪ .‬ويتبعــه المضــاف إليــه‬ ‫للســؤال عــن شــيء مفقــود‪ ،‬وهــو المســند إليــه فــي الجملــة‬ ‫ّ‬ ‫ـادة الحيــاة‪ ،‬بالنســبة إلــى المجتمــع‬ ‫(خبـ ٍـز) المرتبــط بالحيــاة‪ ،‬فــي المفهــوم االجتماعـ‬ ‫ـي‪ ،‬بوصفــه مـ ّ‬ ‫ّ‬ ‫العربــي‪ .‬وهــذه المفــردة تســتحضر الجــوع الــذي لـ ّـون حيــاة الجماهيــر المســحوقة بأل ـوان القهــر‬ ‫ّ‬ ‫الجــار والمجــرور (فيك)؛لتعّلقهمــا بالمســند المحــذوف (كائــن أو موجــود)‪،‬‬ ‫والمعانــاة‪ .‬ويأتــي‬ ‫ّ‬ ‫طــب‪ ،‬وجهـاً لوجــه‪ ،‬للداللــة‬ ‫يتبعــه حــرف النــداء (يــا) والمنــادى مفــردة (هــذا) هــي الحاضــر المخا َ‬ ‫ويضمــر اإلشــارة إلــى الخبــز الــذي ُيشــبع الجائــع‪ ،‬الشــاعر أم الجماعــة التــي ينتمــي‬ ‫علــى الرجــاء‪ُ ،‬‬ ‫إليهــا‪ .‬ويأتــي البــدل مــن (هــذا)‪( :‬المطــر)‪ ،‬وارتبــاط حــرف (الــكاف) بحــرف الجـّـر‪ ،‬يكشــف عــن‬ ‫العالقــة الوثيقــة التــي تجمــع مــا بيــن الخبــز والعطــاء والخصوبــة والنمــاء‪ ،‬إلــى جانــب مــا فــي‬ ‫المطــر مــن إيحــاءات ودالالت‪ .‬فهــل المطــر هــو مطــر الــذات فــي تف ّتحهــا علــى المســتحيل‪ ،‬أم هــو‬ ‫التعجــب (!) فــي‬ ‫الحضاريــة التــي عصــف بهــا تراكــم المعانــاة؟ ومــا وضــع عالمــة‬ ‫مطــر الــروح‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ـث روح التفــاؤل التــي يحــرص الشــاعر علــى تناميهــا‪ .‬وأطعــام‬ ‫نهايــة العنـوان ّإل عالمــة علــى بـ ّ‬ ‫الطريــق‪ ،‬مهمــا طــال الزمــن‪ .‬وشــ ّك فلت المفردتــان (خبــز‪ ،‬المطــر) مفاتيــح‬ ‫الجيــاع هــو بدايــة‬ ‫ف‬

‫ن‬ ‫الثا�‪ ،‬ك‬ ‫‪ 1‬‬ ‫عل مهدي زيتون‪ :‬قراءة ي� مجموعة الشاعر أحمد حافظ “ال ضوء إال ي� أحداق الذئاب”‪ .‬المنافذ الثقافية‪ ،‬العدد ي‬ ‫(‪ )1‬ي‬ ‫‪ ،2013 ،2‬ص ‪.66‬‬


‫البحر أنثى!!‬ ‫كيف صار‬ ‫ُ‬ ‫قارب»(‪.)4‬‬ ‫ثم صار‬ ‫َّ‬ ‫ُ‬ ‫الحوت ْ‬ ‫ـؤدي الحــرف الشــديد (البــاء) مــع‬ ‫ي ّتحــد اإليقــاع بالتعبيــر‪ ،‬ترفدهمــا القافيــة والــرو ّي‪ ،‬ويـ ّ‬ ‫محببــة إلــى النفــس‪ ،‬فــي إطــار مــن السالســة والعذوبــة؛‬ ‫الحــرف المعتــدل الشـّـدة (الميــم)‬ ‫جماليــة ّ‬ ‫ّ‬ ‫تأملهــا أكثــر مــن‬ ‫لتســهم جميعـاً فــي نقــل الرؤيــة التــي رمــى إليهــا الشــاعر‪ .‬والنمــاذج التــي يمكــن ّ‬ ‫أن ُتحصــى‪.‬‬ ‫في المستوى التركيبي‬ ‫ّ‬

‫ـعرية‪ ،‬ونلحــظ علــى مســتوى‬ ‫ـؤدي المســتوى التركيبــي دو اًر كبيــر‬ ‫يـ ّ‬ ‫األهمّيــة فــي إنتــاج الشـ ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫التركيــب‪ ،‬وجــود ســبعة مــن أســماء الفاعليــن‪ ،‬ثالثــة منهــا مرتبطــة بقــوى‬ ‫الشــر والظــام‬ ‫ّ‬ ‫(الظالمــون‪ ،‬اآلكلــون‪ ،‬القاتلــون)‪ ،‬ترتبــط األســماء الباقيــة بممّثلــي المعانــاة والســعي الــى التغييــر‬ ‫ـام‪.‬‬ ‫‪ .‬وهــذا ُيظهــر جانب ـاً مــن رؤيــة الشــاعر إلــى الص ـراع الدائــر‪ ،‬علــى المســتوى العـ ّ‬ ‫ـل فــي الزيــادة فــي جمــوع التكســير (‪ 12‬اســماً فــي القصيــدة)‪ ،‬مــا يشــير إلــى اختــال‬ ‫ولعـ ّ‬ ‫نوعيــة األســماء الداّلــة علــى‬ ‫فــي الواقــع‪ ،‬وهــذا مــا يؤلــم الشــاعر‪ ،‬فهــو ينعكــس علــى اختــال فــي ّ‬ ‫ـدي بيــن الخيــر والشـّـر‪ ،‬النــور والظالم‪...‬الــخ‪.‬‬ ‫الجمــع‪ ،‬تعبيـ اًر عــن وجــه مــن أوجــه الصـراع األبـ ّ‬ ‫يؤيــد هــذا القــول‪ ،‬فــإذا كان عــدد األفعــال‬ ‫وربمــا يكــون فــي توزيــع األفعــال الصحيحــة والمعتّلــة مــا ّ‬ ‫ّ‬ ‫أن‬ ‫الصحيحــة اثنيــن وســبعين فعـاً‪ ،‬فعــدد األفعــال المعتّلــة اثنــا عشــر فعـاً‪ .‬والالفــت فــي األمــر ّ‬ ‫يؤشــر إلــى حجــم معانــاة الشــاعر النفسـّـية‪،‬‬ ‫أغلــب هــذا النــوع مــن األفعــال ينتهــي بـ(يــاء)‪ ،‬وهــذا ّ‬ ‫هــذه المعانــاة التــي تتبـ ّـدى مالمحهــا فــي غيــر ســطر مــن أســطر القصيــدة‪.‬‬ ‫ـاعرية الشــاعر‬ ‫وباالمــكان القــول ّ‬ ‫إن هــذا األنمــوذج مــن التراكيــب قــد ســلط الضــوء علــى شـ ّ‬ ‫الضاربــة فــي أعمــاق اإلبــداع والموهبــة‪.‬‬ ‫«إمــا للتعبيــر عــن‬ ‫قــد يلجــأ الشــاعر إلــى تكـرار مفــردات بعينهــا‪ ،‬لغايــة مقصــودة‪ ،‬ويكــون ّ‬ ‫إمــا للتلـ ّذذ‪ ،‬أو التعظيــم‪ ،‬أو مــا شــاكل ذلــك»(‪ .)5‬يــدرك‬ ‫هـ ٍّـم وحاجــة متعّلقيــن بالكلمــة المكـّـررة‪ ،‬و ّ‬ ‫أهمّيــة التك ـرار فــي القصيــدة‪ ،‬لذلــك نجــده يســتخدمه فــي غيــر قصيــدة لــه‪ .‬مــن‬ ‫الشــاعر عمــر ّ‬ ‫نماذجــه قولــه فــي قصيــدة «أشــعار عنــد مدخــل الزنزانــة»‪:‬‬ ‫ِ‬ ‫ولكن قبض ٌة ظّل ْت‬ ‫الباب‪ْ ،‬‬ ‫«أُغل َق ُ‬ ‫تدق‪.‬‬ ‫على الباب ُّ‬

‫أمي‬ ‫ّ‬ ‫ربما قبض ُة ّ‬ ‫ ‪4‬‬ ‫‪ 5‬‬

‫) م ‪ .‬ن ‪ .‬ص ‪( .35‬‬ ‫عل مهدي زيتون‪ :‬النص الشعري المقاوم في لبنان‪ .‬ص ‪( .236‬‬ ‫) ي‬


‫اإليقاعيــة فــي القصيــدة الواحــدة‪ ،‬غيــر مـّـرة‪ ،‬وهــذا‬ ‫عمــد عمــر إلــى التنويــع فــي األنســاق‬ ‫ّ‬ ‫معــروف عنــد شــعراء الحداثــة‪ ،‬كمــا فــي بعــض قصائــد أســتاذ الحداثــة (بــدر شــاكر الســياب)‪.‬‬ ‫إيقاعييــن‪( :‬فعولــن‪،‬‬ ‫(أمــي) مــن مقطعيــن طويليــن‪ ،‬وقــد ُبنيــت علــى نســقين‬ ‫ّ‬ ‫تشـ ّكلت قصيــدة ّ‬ ‫متفاعلــن)‪ ،‬وتكـ ّـون النســق الثانــي مــن خمســة وسـ ّتين نســقاً‪ ،‬فيهــا مئــة وخمســة وتســعين مقطعـاً‬ ‫يؤشــر إلــى التفــاؤل الــذي يطغــى علــى‬ ‫قصي ـ اًر‪ ،‬فــي مقابــل مئــة وثالثيــن مقطع ـاً طوي ـاً‪ .‬هــذا ّ‬ ‫ـام للقصيــدة قائــم علــى األحـزان واآلالم ‪:‬‬ ‫القســم الثانــي مــن القصيــدة‪ ،‬مــع ّ‬ ‫أن المنــاخ العـ ّ‬ ‫قاحل‬ ‫غيم‬ ‫ٌ‬ ‫«وإذا بدا في اإل ْف ِق ٌ‬ ‫تنضب‬ ‫أبصرت فيها غيم ًة ال‬ ‫األمطار فيها»(‪.)2‬‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬

‫ـلبياً‪ ،‬مــن خــال المقارنــة بالمقطــع الثانــي‪،‬‬ ‫األول مــن القصيــدة مناخ ـاً سـ ّ‬ ‫ُيرســي القســم ّ‬ ‫وإذا مــا كان النســق (فعولــن) يتكـ ّـون مــن مقطعيــن طويليــن‪ ،‬فــي مقابــل مقطــع قصيــر واحــد‪،‬‬ ‫ـإن الرتابــة التــي يبعــث بهــا هــذا النســق‪ ،‬مــن خــال تكـراره‪ ،‬تكشــف عــن حجــم معانــاة الشــاعر‪،‬‬ ‫فـ ّ‬ ‫ـعرية‪ ،‬إلــى جانــب اإليقــاع‪:‬‬ ‫األم‪ .‬وتتبـ ّـدى المفارقــة فــي الصــورة الشـ ّ‬ ‫وإحساســه بالفجيعــة لفقــدان ّ‬ ‫ومشانق»‪.‬‬ ‫مشاجب‬ ‫«نشقى‪ ،‬وتزهر في القصور‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫يمكــن التوّقــف أمــام قصيــدة «أنــا والذئــب والريــاح»(‪ )3‬ومراقبــة الــدور الــذي ّأدتــه الجمــل‬ ‫ـائية‪،‬‬ ‫الخبريــة فــي‬ ‫ويظهــر اإلحصــاء وجــود ثالثيــن جملــة إنشـ ّ‬ ‫ّ‬ ‫ـائية و ّ‬ ‫اإلنشـ ّ‬ ‫تنغيميــة القصيــدة‪ُ .‬‬ ‫وتوزعــت هــذه األخيــرة أســاليب‬ ‫خبريــة‪ ،‬أي مــا يعــادل الضعفيــن‪ّ .‬‬ ‫فــي مقابــل أربــع وسـ ّتين جملــة ّ‬ ‫ـص‬ ‫اإلخبــار والشــرط واالســتدراك والنفــي‪ .‬وتفـ ّـوق هــذا النــوع مــن الجمــل يؤّكــد للقــارىء ّ‬ ‫أن النـ ّ‬ ‫الوجدانيــة‪،‬‬ ‫يعبــر عــن سـ َـور االنفعــال والــذات‬ ‫ّ‬ ‫ممــا ّ‬ ‫وتأملهــا‪ ،‬أكثــر ّ‬ ‫قائــم علــى صــوغ التجربــة‪ّ ،‬‬ ‫واالنســياق وراءهــا‪.‬‬ ‫إيقاعيــة الشــعر‪ ،‬وفــي‬ ‫األهمّيــة فــي‬ ‫يؤديــان دو اًر كبيــر‬ ‫إن القافيــة والــرو ّي ّ‬ ‫مــن نافــل القــول ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫جماليتــه‪ .‬وهــذا مــا فطــن إليــه أغلــب شــعراء الحداثــة‪ ،‬فنراهــم يحرصــون‬ ‫تحقيــق جــزء كبيــر مــن‬ ‫ّ‬ ‫علــى اســتخدام القافيــة والــرو ّي‪ ،‬واالكثــار منهمــا أحيانـاً‪ .‬ولــم يشـ ّذ عمــر شــبلي عــن هــذا التوجــه‪،‬‬ ‫بجماليــة رفيعــة‬ ‫يهمــه هــو نقــل الرؤيــة والتعبيــر عــن الفكــرة‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫إذ يرفــض التصّنــع والتزييــن‪ ،‬ومــا ّ‬ ‫جماليــات اســتخدام القافيــة والــرو ّي قــول الشــاعر‪:‬‬ ‫المســتوى‪ .‬ومــن‬ ‫ّ‬ ‫أحس البحر ِ‬ ‫قاد ْم‬ ‫ولكن عندما أبكي ُّ‬ ‫«أنا ال أدري‪ْ ،‬‬ ‫َ‬ ‫قادم‬ ‫وأرى زور َق عمري فوق ظهر‬ ‫ِ‬ ‫الموج ْ‬ ‫هل أتاكم نبأُ البحر وذي النون‬ ‫المغاضب!!!‬ ‫ْ‬

‫ ‪2‬‬ ‫‪ 3‬‬

‫) عمر شبلي‪ :‬أي خبز فيك يا هذا المطر‪ .‬ص ‪( .104‬‬ ‫) م ‪ .‬ن ‪ .‬ص ‪( .155‬‬


‫التضــاد‪ ،‬يجــد األمــر نفســه فــي شــعر عمــر‪ ،‬مــن خــروج علــى النظــام‬ ‫َمــن يقــف عنــد‬ ‫ّ‬ ‫اللغــو ّي‪ .‬يقــول فــي القصيــدة ذاتهــا‪:‬‬ ‫«كان قلبي دائماً يغفو على الباب ويصحو‬

‫ناط اًر ما ليس يأتي‬

‫يعود‬ ‫وإذا ناديته ح ّتى ْ‬ ‫كان يأبى»‪.‬‬

‫التضــاد مــا بيــن الغفــو والصحــو‪ ،‬وتماثــا فــي االنتظــار‪ .‬الفعــان فــي صيغــة‬ ‫أُســقط‬ ‫ّ‬ ‫المضــارع‪ ،‬وهمــا معتـاّ ن‪ ،‬يكشــفان عــن تمـّـرس الشــاعر بالمعجــم اللغــو ّي‪ ،‬وإدراك معاني مفرداته‪.‬‬ ‫وكذلــك األمــر بالنســبة إلــى الفعلين(يعــود‪ ،‬يأبــى)‪ .‬ومــع مــا بينهمــا مــن اختــاف‪ ،‬يتوافقــان فــي‬ ‫انتظــار مــا ليــس يأتــي‪ ،‬وهــو فعــل القلــب الــذي يقــول فــي القصيــدة عينهــا‪:‬‬ ‫مسافه‬ ‫«أعطني حزناً فأعطيك‬ ‫ْ‬

‫عام»‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫باب‬ ‫خلف ٍ‬ ‫موصد عشرين ْ‬

‫أن الحــزن قــد غــدا‪ ،‬وهــو خلــف البــاب‬ ‫تــرى‪ ،‬هــل ســاوى الشــاعر بيــن الحــزن والمســافة؟ أم ّ‬ ‫الموصــد‪ ،‬ســبيالً إلــى الرؤيــة التــي تقــرع باب المســتحيل‪.‬‬ ‫غنيــة بالنك ـرات المنثــورة فــي أســطر القصائــد‪ ،‬كـ(شــوق‪ ،‬زمــزم‪،‬‬ ‫ـعرية ّ‬ ‫مجموعــة عمــر الشـ ّ‬ ‫شــرق‪ ،‬خصــب‪ ،‬زنزانــة‪ ،‬كالم‪ ،‬قبضــة‪ ،‬طفــل‪ ،‬مســافة‪ ،‬أســرى‪ ،‬صحــراء‪ ،‬بــاب‪ ،‬صخــرة ‪،)..‬‬ ‫عامــة‪ ،‬ولتنكيرهــا داللــة‪ ،‬هــي وضعهــا فــي‬ ‫وعشـرات مــن األســماء غيرهــا‪ .‬هــي أســماء لمسـ ّـميات ّ‬ ‫دل هــذ‬ ‫ـام‪ .‬وإن ّ‬ ‫مرتبــة دون مرتبــة اإلنســان والحيــاة اللذيــن جــاءت كلماتهمــا معرفــة‪ ،‬بشــكل عـ ّ‬ ‫أن اإلنســان والحيــاة همــا القيمــة التــي ال تعدلهــا ّأيــة قيمــة‪ ،‬وعلــى‬ ‫ـدل علــى ّ‬ ‫علــى شــيء‪ ،‬فإّنمــا يـ ّ‬ ‫أساســهما تتحـ ّـدد المواقــف والخيــارات‪.‬‬ ‫ثمــة أمــر آخــر‪ ،‬يتم ّثــل فــي حـوار أقامــه الشــاعر مــع نفســه أو مــع اآلخــر‪ ،‬يتمحمــور حــول‬ ‫ّ‬ ‫الشــعرية‬ ‫أن المجموعــة‬ ‫الروحيــة و‬ ‫طبيعــة اإلنســان‪ ،‬وحاجاتــه‬ ‫النفســية و ّ‬ ‫المادّيــة‪ ،‬وهــذا يعنــي ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫نتفيــأ ظاللهــا‪ .‬ويجــد القــارئ‬ ‫الثقافيــة و‬ ‫تحــاور أســئلة طرحتهــا المرحلــة‬ ‫التاريخيــة التــي مــا زلنــا ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫نفســه فــي عالــم علــى مســافة مــن العالــم الواقعــي‪ ،‬يقــوم علــى رؤيــة الشــاعر‪ ،‬وانفعالــه الــذي‬ ‫ّ‬ ‫تأســس علــى مــا عنــد الشــاعر عمــر مــن همــوم واهتمامــات‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫الفنية ودالالتها‬ ‫الصور ّ‬ ‫جماليــة الشــعر‪،‬‬ ‫تؤديــه الصــور الفّنّيــة فــي تحقيــق‬ ‫لــم يغــب عــن بــال عمــر الــدور الــذي ّ‬ ‫ّ‬ ‫لذلــك حفلــت قصائــد المجموعــة بغيــر صــورة مبتكــرة‪ ،‬ومــع وجــود بعــض التشــابيه‪ ،‬والكنايــات‪،‬‬ ‫كان لالســتعارة نصيــب وافــر منهــا‪.‬‬


‫سجن‬ ‫ربما قبض ُة ٍ‬ ‫يقبل أن ُي َ‬ ‫ّ‬ ‫طفل كان ال ُ‬ ‫ح ّتى في الرياح‬

‫ربما قبضة َمن كان على البيدر يعطيني الرغيف‬ ‫ّ‬ ‫ينام‬ ‫ّ‬ ‫ربما قبض ُة َمن ليس ْ‬ ‫باب‬ ‫المستحيل»(‪.)6‬‬ ‫ربما الرؤيا التي ُ‬ ‫ّ‬ ‫تقرع َ‬ ‫ْ‬ ‫كـ ّـرر الشــاعر مفــردة (قبضــة) خمــس مـ ّـرات فــي هــذه األســطر‪ ،‬وحضــور هــذه المفــردة‬ ‫عمــا تعنيــه‪ ،‬فــي معناهــا القاموســي‪،‬‬ ‫بهــذه الوتيــرة هــو حضــور اسـ‬ ‫ـتثنائي‪ ،‬يتطّلــب درســه بمعــزل ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ـياقية‪ .‬تخــرج‬ ‫عمــا فعلتــه التراكيــب فــي داللــة هــذه المفــردة‪ ،‬مــن الناحيــة السـ ّ‬ ‫وبصــرف النظــر ّ‬ ‫بأهمّيــة قــرع البــاب‪ ،‬وإص ـرار‬ ‫(القبضــة) مــن مجـّـرد جمــع األصابــع والكـ ّ‬ ‫ـف‪ ،‬لتغــدو حدس ـاً يشــي ّ‬ ‫كيفيــة التخّلص‬ ‫القــارع علــى فتحــه‪ ،‬ورغبتــه فــي االنفتــاح علــى العالــم الخارجـ‬ ‫ـي‪ .‬ومعرفــة الشــاعر ّ‬ ‫ّ‬ ‫ـب علــى هاجــس االصـرار علــى‬ ‫مــن ســلطة المعجــم المتعّلقــة بهــذه الكلمــة‪ ،‬جعلــت التركيــز ينصـ ّ‬ ‫التغييــر‪ .‬لقــد كان التك ـرار واضــح الوظيفــة فــي القصيــدة‪ ،‬كمــا هــو واضــح فــي مقاومــة ســلطة‬ ‫اللغــة‪ ،‬ويخــرج إلــى تصنيــف متناســب مــع ذات الشــاعر‪ ،‬ورؤيتهــا إلــى الوجــود والكــون‪.‬‬ ‫أن‬ ‫يـ ّ‬ ‫دالليـاً يشــابه دور التكـرار‪ ،‬فــي أثنــاء وروده فــي القصيــدة‪ُ .‬يلحــظ ّ‬ ‫ـؤدي التـرادف دو اًر ّ‬ ‫ـاد‪ ،‬فــي قصيــدة « أشــعار عنــد مدخــل الزنزانــة»‪ .‬يقــول‬ ‫الشــاعر عمــر قــد أفــاد مــن التـرادف والتضـ ّ‬ ‫الشاعر‪:‬‬ ‫«كيف تمحموني وتدري‪،‬‬ ‫أّنني ما زلت من شيء الحضور؟»(‪.)7‬‬ ‫األول إزالــة مــا‬ ‫وجهــي المحــو والحضــور‪ ،‬فــي ّ‬ ‫ألغــى الشــاعر جوانــب االختــاف مــا بيــن َ‬ ‫(أن)‪ ،‬فانتفــى‬ ‫أن الثانــي إثبــات‪ ،‬أ ّكــده اســتخدام (الحــرف المشـّـبه بالفعــل ّ‬ ‫هــو موجــود‪ ،‬فــي حيــن ّ‬ ‫التناقــض الحاصــل‪.‬‬ ‫فــي هــذا خــروج علــى النظــام اللغــو ّي‪ ،‬بقواعــده‪ ،‬ودخــول فــي النظــام الســيمائي‪ .‬هــي‬ ‫ّ‬ ‫شــاعرية حّقــة ال تخفــى علــى دارس شــعر عمــر‪ .‬وفــي مقطــع آخــر مــن القصيــدة ذاتهــا يقــول‪:‬‬ ‫ّ‬ ‫الطويل‬ ‫الليل‬ ‫ْ‬ ‫«يا صديقي‪ّ ،‬أيها ُ‬ ‫أنام؟»‪.‬‬ ‫لم ال ُ‬ ‫أقدر ليالً أن ْ‬ ‫َ‬

‫األول م ّتســع مــن الوقــت‬ ‫مـّـرة أخــرى‪ ،‬اختفــى االختــاف مــا بيــن الليــل والنــوم‪ ،‬مــع ّ‬ ‫أن فــي ّ‬ ‫أي إنســان‪.‬‬ ‫لتحقيــق الثانــي الــذي يتطّلبــه جســد ّ‬

‫ ‪6‬‬ ‫‪ 7‬‬

‫) عمر شبل‪ :‬أي ب ز‬ ‫خ� فيك يا هذا المطر‪ .‬ص ‪( .23-24‬‬ ‫ي‬ ‫) م ‪ .‬ن ‪ .‬ص ‪( .25‬‬


‫الذاتيــة التــي تم ّكــن مــن تحقيــق‬ ‫القــوة‬ ‫ّ‬ ‫والوحشــة‪ ،‬أو االنطــاق فــي مرحلــة جديــدة‪ ،‬قوامهــا ّ‬ ‫الغايــات المرجـ ّـوة‪..‬‬ ‫وفي قصيدة أخرى يقول‪:‬‬ ‫«ونحن لنا جوعنا‬ ‫سنمزق أرغفة الظالمين‪ ،‬وما نسجوا من رياء»(‪.)12‬‬ ‫ّ‬ ‫تعبــر عــن غيــظ وغضب‪،‬‬ ‫ادي‪ ،‬يمارســه اإلنســان بمــا يشــبه ّ‬ ‫ردة الفعــل التــي ّ‬ ‫التمزيــق فعــل إر ّ‬ ‫أن‬ ‫وتمزيــق أرغفــة الظالميــن تومــىء إلــى كنايــة عــن الرغبــة فــي التعويــض عــن الجــوع‪ ،‬فــي حيــن ّ‬ ‫هويــة جديــدة‪ .‬وعلــى هــذا‪« ،‬تبقــى الصــورة عصــب‬ ‫المعطــوف يشــير إلــى اســتعارة أكســبت الريــاء ّ‬ ‫اإليحائيــة‪ ،‬إلــى دخــول عالــم القصيــدة‪،‬‬ ‫الشــعر؛ أل ّنهــا قــادرة علــى قيــادة القــارىء‪ ،‬بفضــل طاقتهــا‬ ‫ّ‬ ‫وتاليـاً‪ ،‬عالــم الشــاعر الشــعرّي»(‪ .)13‬ومــن الصــور المدهشــة قــول عمــر‪:‬‬ ‫«متى يشح ُذ الجائعون نواجذهم‬ ‫للصالة على ج ّثة الجوع؟»(‪.)14‬‬ ‫ـل‬ ‫إذا كان فعــل شــحذ األدوات‬ ‫المعدنيــة مــن أجــل القطــع‪ ،‬فـ ّ‬ ‫ّ‬ ‫ـإن نواجــذ الجائعيــن قــد حلــت محـ ّ‬ ‫هويتهــا توافقـاً‬ ‫تغيــرت ّ‬ ‫هــذه األدوات‪ ،‬ولكــن ليــس مــن أجــل القطــع‪ ،‬إّنمــا مــن أجــل الصــاة التــي ّ‬ ‫كل ماخــذ‪ .‬وتشــييء الجــوع يشــير إلــى إحــداث التغيي ـرات‬ ‫مــع الجماعــة التــي أخــذ بهــا الجــوع ّ‬ ‫التــي يأمــل الشــاعر حصولهــا‪ .‬هــي صــورة فّنّيــة ناجحــة‪ُ ،‬تظهــر براعــة الشــاعر‪ ،‬وحرصــه علــى‬ ‫الجماليــة فــي الشــعر‪.‬‬ ‫تحّقــق‬ ‫ّ‬ ‫األساطير والرموز ودالالتها‬ ‫اســتثمر الشــاعر عمــر المنهــج األســطورّي فــي قصائــده‪ ،‬كــون األســطورة مصــدر إلهــام‪،‬‬ ‫جوهريــاً فــي حيــاة اإلنســان‪ .‬واألســطورة فــي‬ ‫لــه ولغيــره مــن الشــعراء الذيــن أروا فيهــا عامــاً‬ ‫ّ‬ ‫بمخيلــة الشــعوب‪ ،‬كمــا‬ ‫فعاليــة منهــا فــي عصــور خلــت؛ أل ّنهــا ترتبــط‬ ‫ّ‬ ‫الحضــارة الحديثــة أكثــر ّ‬ ‫ـاس مــع الكــون‪.‬‬ ‫ترتبــط بالب ـراءة األولــى‪ ،‬يــوم كان اإلنســان البدائـ‬ ‫ـي علــى تمـ ّ‬ ‫ّ‬ ‫تفهــم الشــاعر روح األســاطير‪ ،‬وتجّلــى ذلــك الفهــم فــي التعبيــر عــن روح أســطورّي‪ .‬وقــد‬ ‫ّ‬ ‫يكــون ذلــك لصنــع أســاطير العصــر‪ ،‬مــا يســاعدهم هــو االســتعداد الدائــم لالســتجابة لألشــياء‬ ‫ـطورية‪.‬‬ ‫وبطريقــة أسـ ّ‬ ‫رمزيــة‪،‬‬ ‫تجّلــت فــي نفــس الشــاعر عوالــم مختلفــة‪ ،‬فعــاد ليش ـ ّكلها‪،‬‬ ‫ويطورهــا فــي أشــكال ّ‬ ‫ّ‬ ‫‪ 12‬‬ ‫‪1 3‬‬ ‫‪ 14‬‬

‫) م ‪ .‬ن ‪ .‬ص ‪( .158‬‬ ‫ي ن‬ ‫البستا�‪ :‬الصورة الشعرية‪ .‬ص ‪( .35‬‬ ‫صبح‬ ‫)‬ ‫ي‬ ‫أي ز‬ ‫خ� فيك يا هذا المطر‪ .‬ص ‪( .160‬‬ ‫شبل‪:‬‬ ‫ب‬ ‫) عمر ي‬


‫نعثر على بعض التشابيه الجميلة‪ ،‬كقوله‪:‬‬ ‫أتوض ْأ‬ ‫«أيها‬ ‫القهر بطهر اإلث ِم دعني ّ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫يوجد كاإلث ِم‬ ‫سماء»(‪.)8‬‬ ‫في دمي ُ‬ ‫ْ‬ ‫غيرهــا‬ ‫مــا بيــن اإلثــم والســماء عالقــة تنافــر وتناقــض‪ ،‬وقــد يعنــي هــذا ّ‬ ‫هويــة اإلثــم قــد ّ‬ ‫أن ّ‬ ‫التشــبيه؛ لتشــير إلــى االرتقــاء الــذي أحدثتــه التحـ ّـوالت العميقــة‪ ،‬وهــذا يؤّكــد الــدور الــذي ّأداه‬ ‫التشــبيه فــي التعبيــر عــن انفعــال الشــاعر‪.‬‬ ‫ويقول عمر عن المنازل التي لم تفارقه في غربته‪:‬‬ ‫ِ‬ ‫الطريق‬ ‫ال على‬ ‫«ح ّتى المنازل ال تز ُ‬ ‫كأّنها تمشي إلينا كّلما جعنا إليها‬

‫هربت‬ ‫مثل أمني ٍة فإن راودتها‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫وألغاها السراب»(‪.)9‬‬

‫كل مــن المشـّـبه والمشـّـبه بــه‪ ،‬لقــد شـ ّخص المنــازل وهــي‬ ‫أحــدث الشــاعر تغييـ اًر فــي ّ‬ ‫هويــة ّ‬ ‫المشـّـبه‪ ،‬وهــذا وجــه مــن أوجــه االســتعارة‪ ،‬يكشــف فيهــا عــن ارتباطــه بالمــكان| الوطــن‪ .‬والمشـّـبه‬ ‫ـدل علــى موهبــة شــاعر‪ ،‬أدرك الــدور الــذي‬ ‫بــه هــو األمنيــة التــي شـ ّخصها أيضـاً‪ ،‬وهــذا التغييــر يـ ّ‬ ‫جماليــة الشــعر وثـراء الفكــر‪ ،‬ووســيلة لرســم الواقــع‪ ،‬أو رســم رؤيــة‬ ‫يؤديــه التشــبيه فــي تحقيــق‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫أن‬ ‫عنــه‪ ،‬بمعنــى رؤيــة العالــم‪ .‬وســياق القصيــدة «هــو الــذي ُيكســب التشــبيه مجازيتــه‪ ،‬بفعــل ّ‬ ‫أن أفــكاره ال تكــون بالضــرورة عناصــر‬ ‫ـص‪ ،‬و ّ‬ ‫تركيبــه يجعلــه شــيئاً مضافــا‪ 0‬إلــى موةضــوع النـ ّ‬ ‫الموضــوع المطروحــة‪ ،‬وإّنمــا هــي مــن خــارج الموضــوع‪ ،‬تســاعد فقــط علــى توضيحــه»(‪.)10‬‬ ‫تكاملية‪ ،‬كما في قول الشاعر‪:‬‬ ‫ونلحظ الترابط بين الصور في عالقة‬ ‫ّ‬ ‫«وطني ينأى‪ ،‬وعندي كان ما يكفي من الحز ِن‪،‬‬

‫لكن‬ ‫لتفسير صهيل الريح حول‬ ‫«الكم ِب»‪ْ ،‬‬ ‫ْ‬ ‫َمن سيعطينا الخيول؟»(‪.)11‬‬

‫ ‪8‬‬ ‫‪ 9‬‬ ‫‪ 10‬‬ ‫‪ 11‬‬

‫ينطــوي الســطر األول علــى اســتعارة‪ ،‬تتبعهــا كنايــة فــي الســطر األخيــر‪ .‬وإذا كان الصهيــل‬ ‫هويــة جديــدة‪،‬‬ ‫هويتهــا‬ ‫مــن صفــات الخيــول‪ ،‬فـ ّ‬ ‫األصليــة‪ُ ،‬ليكســبها ّ‬ ‫ّ‬ ‫ـإن الشــاعر أخــرج الريــح عــن ّ‬ ‫كنائيــة‪ ،‬تقــوم علــى المعنــى البعيــد الــذي‬ ‫ُيظهــر مــن خاللهــا حجــم معاناتــه‪ .‬ينتقــل إلــى صــورة ّ‬ ‫الحقيقيــة‪ ،‬بــل الوســيلة التــي تم ّكنــه مــن مغــادرة الســجن‬ ‫يرمــي إليــه‪ ،‬فهــو ال يقصــد الخيــول‬ ‫ّ‬

‫) عمر شبل‪ :‬أي ب ز‬ ‫خ� فيك يا هذا المطر‪ .‬ص ‪( .52‬‬ ‫ي‬ ‫) م ‪ .‬ن ‪ .‬ص ‪( .182‬‬ ‫) عدنان بن ذريل‪ :‬اللغة والبالغة‪ .‬ص ‪( .131‬‬ ‫) عمر شبلي‪ :‬أي خبز فيك يا هذا المطر‪ ..‬ص ‪( .25‬‬



‫ـؤدي إلــى القــول بمحاولــة الشــاعر إضفــاء‬ ‫وفــي مــدركات وصـ َـو ٍر مــن التعبيــر‬ ‫مجازيــة‪ ،‬وهــذا يـ ّ‬ ‫ّ‬ ‫اإلنســان علــى تجربتــه فــي مجملهــا الشــكل الخيالــي والداللــة‪.‬‬ ‫ّ‬

‫رمزيــة‪ ،‬هــي أقــدم صــورة مــن صــور‬ ‫يســعى الشــاعر إلــى تقديــم تجربتــه‪ ،‬مــن خــال صــورة ّ‬ ‫التعبيــر‪ ،‬وأصدقهــا‪ .‬والشــاعر الحقيقــي يســتثمر األســاس الــذي تقــوم عليــه األفــكار‪ .‬يمكــن أن‬ ‫ّ‬ ‫ـفياً؛ أل ّنهــا تضــرب‬ ‫تكــون األســطورة صــورة عريضــة‪ُ ،‬تكســب وقائــع الحيــاة‬ ‫العاديــة مضمونـاً فلسـ ّ‬ ‫ّ‬ ‫ـل النشــاط األســاس لحركــة اإلنســان كّلهــا‪.‬‬ ‫عميقـاً فــي أعمــاق النفــس البشـ ّ‬ ‫ـرية‪ ،‬وتظـ ّ‬ ‫الروحيــة‪ ،‬عــن طريــق األســطورة‪ ،‬مــن جهــة‪،‬‬ ‫قــد يتم ّكــن الشــاعر مــن إرضــاء حاجاتــه‬ ‫ّ‬ ‫وكذلــك حاجتــه إلــى الت ـوازن مــع المجتمــع‪ ،‬مــن جهــة أخــرى‪ .‬علــى هــذا‪ ،‬يعمــل الشــاعر علــى‬ ‫إخضــاع غيــر المــدرك‪ ،‬وإدخالــه فــي نطــاق المــدرك‪ .‬وقيمــة الشــعر ال تكمــن فــي مشــاعرنا‪ ،‬ولكــن‬ ‫فــي مــا نصنــع مــن صـ َـور‪ .‬ويمكــن التســاؤل‪ :‬هــل اســتطاع الشــاعر تحقيــق التكامــل بيــن الــروح‬ ‫ـادة‪ ،‬بيــن الشــعر والحيــاة؟‬ ‫والمـ ّ‬


‫اإللــه‬ ‫أبكي على خبز‬ ‫ْ‬

‫أبكي على الطين اإللــهي‬ ‫المسور‪.)16(»..‬‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬

‫قـّـدم الشــاعر الفكــرة بأســلوب رمــزّي‪ ،‬ينهــل مــن األســطورة مــا ال ينضــب‪ ،‬كشــف بوســاطته‬ ‫عــن معاناتــه وهمومــه‪ ،‬واســتطاع أن يقنــع القــارىء بصـواب رؤيتــه‪.‬‬ ‫انبثاق الضوء‬ ‫ـاغ إلــى مصــدر الضــوء‪ ،‬واالهتــداء بــه فــي ظلمــات الســجن‬ ‫فــي شــعر عمــر شــبلي حنيــن طـ ٍ‬ ‫والغربــة‪ ،‬كمــا فــي زمــن االنهيــارات الكبــرى‪ .‬والضــوء فــي شــعر عمــر شــبلي شــديد الســطوع؛ أل ّنــه‬ ‫مأخــوذ مــن التـراب‪ .‬يعثــر الــدارس علــى ورود مفــردة (الضــوء)‪ ،‬مــع مــا يتفـّـرع منهــا‪ ،‬ويرتبــط بهــا‪،‬‬ ‫أن تك ـرار مفــردة (الظــام)‪ ،‬ومتعّلقاتهــا‪ ،‬وردت خمســين مـّـرة‪،‬‬ ‫ثمانيــة وخمســين مـّـرة‪ ،‬فــي حيــن ّ‬ ‫مرتبطــة بالمعانــاة المزمنــة‪ ،‬وبسلســلة مــن التراجعــات الموجعــة‪ ،‬علــى مســتوى الفــرد والجماعــة‪.‬‬ ‫األمــة علــى تجــاوز المحــن‪،‬‬ ‫دل هــذا علــى شــيء‪ ،‬فإّنمــا ّ‬ ‫وإن ّ‬ ‫يــدل علــى ثقــة الشــاعر بقــدرة ّ‬ ‫الجوانــي هــو األســاس‪ ،‬وهــو‬ ‫البيــن ّ‬ ‫ـل مــن ّ‬ ‫أن عالــم الشــاعر ّ‬ ‫والنهــوض بعــد كبـوات وكبـوات‪ .‬ولعـ ّ‬ ‫المنطلــق الــذي يهــب الضــوء للــذات‪ ،‬بــل هــو النبــع الــذي يضــيء‪:‬‬ ‫«أيها القلب القديم‬ ‫ّ‬ ‫مرًة أخرى‬ ‫أمامك‬ ‫ْ‬ ‫ّ‬

‫سوف أخبو و‬ ‫أضيء»(‪.)17‬‬ ‫ْ‬

‫هــي نــوع مــن إضــاءة للعالــم الخارجــي المظلــم‪ ،‬للوجــود الــذي يحمــل عالمــة علــى عالمنــا‬ ‫ّ‬ ‫ـل يومــض ح ّتــى وإن كان محتجب ـاً‪ .‬ومــا اإلضــاءة ّإل عالمــة‬ ‫المدمــى بالمآســي‪ ،‬ومــع ذلــك‪ ،‬يظـ ّ‬ ‫ّ‬ ‫علــى التشـّـبث باألمــل‪ ،‬والثقــة بمســتقبل أفضــل‪ .‬نتســاءل‪ :‬هــل هــو مســعى روحانــي جائــع دائمـاً‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫أم هــي رؤيــا ر ٍاء علــى دروب األشــاء المبعثــرة؟ يقــول الشــاعر‪:‬‬ ‫أكن وحدي هناك‪.‬‬ ‫«كنت وحدي‪ ،‬غير أّني لم ْ‬ ‫ُ‬ ‫ورجال آخرو ْن‬ ‫ضوء‪،‬‬ ‫عيني‬ ‫كان في‬ ‫َّ‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫يعبرون‬ ‫الحصار»(‪.)18‬‬ ‫أسالك‬ ‫الموت والمنفى و‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫هنــا بعــض مــن تفــاؤل وبعــض مــن أمــل‪ ،‬والعبــور قيامــة‪ ،‬وتلــوح فــي األفــق بــروق الثــورة‬ ‫المصطبغــة بالــدم‪ ،‬فــي فلســطين وغيــر فلســطين‪ .‬والضــوء ينبــوع الثقــة بالقــادم مــن الزمــن‪ ،‬مهمــا‬ ‫طــال االنتظــار‪.‬‬ ‫‪1 6‬‬ ‫‪ 17‬‬ ‫‪ 18‬‬

‫ّ ز‬ ‫خ� فيك يا هذا المطر‪ .‬ص ‪( .117‬‬ ‫شبل‪ :‬أي ب‬ ‫) عمر ي‬ ‫) م ‪ .‬ن ‪ .‬ص ‪( .51‬‬ ‫) م ‪ .‬ن ‪ .‬ص ‪( .24‬‬


‫نجــح الشــاعر عمــر فــي تحقيــق هــذا التكامــل‪ ،‬عندمــا خــرج علــى اللغــة المســتهلكة‪ ،‬وكتــب‬ ‫ألن‬ ‫بلغــة أصيلــة‪ ،‬تكمــن فــي أغ ـوار النفــس‪ ،‬مــن خــال لغــة الرمــوز التــي أتقــن اســتخدامها ّ‬ ‫يتحقــق معنــى اإلبــداع فــي الشــعر‪.‬‬ ‫قيمــة الرمــز فــي وجــوده‪ ،‬حيــث ّ‬ ‫ـطورية التي أحســن الشــاعر عمر اســتثمارها‬ ‫يجد الدارس مجموعة كبيرة من الرموز األسـ ّ‬ ‫خاص ـاً بعالــم المجموعــة‪ ،‬تغـ ّذى مــن لبانهــا؛ ح ّتــى اســتوى‬ ‫فــي مجموعتــه‪ ،‬ونجــد منهــا مــا كان ّ‬ ‫ـوياً‪ ،‬وبعضهــا ضــارب فــي المــوروث الدينــي والثقافــي والتاريخــي‪ ..‬وغيرهــا‪.‬‬ ‫دالليـاً سـ ّ‬ ‫كائـ ًـن ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬

‫الدينيــة‪ ،‬كأنبيــاء مثــل (موســى‪،‬‬ ‫اســتثمر الشــاعر األســاطير التــي ت ّتكــىء علــى المضاميــن‬ ‫ّ‬ ‫يوســف‪ ،‬يونــس‪ ،‬يعقــوب‪ ..‬وغيرهــم)‪ .‬أفــاد عمــر مــن التاريــخ العربــي القديــم‪ ،‬فاســتخدم رمــو اًز كـــ‬ ‫ّ‬ ‫(كليــب‪ ،‬بنــي هــال‪ ،‬وروايــات ألــف ليلــة وليلــة)‪ ،‬وال ينســى عمــر األســاطير القديمــة‪ ،‬كأســطورة‬ ‫(جلجامــش‪ ،‬أوليــس)‪ ،‬وعــرف كيــف يسـ ّخرها جميعـاً فــي خدمــة غرضــه الشــعرّي‪.‬‬ ‫ـعرية ناجحــة‪ ،‬فــي شــعر عمــر‪ ،‬تجــد فــي هــذه الرمــوز مــا‬ ‫يعثــر‬ ‫ّ‬ ‫المتلقــي علــى رمــوز شـ ّ‬ ‫الحســي‪ ،‬ويتـ ّـم التعبيــر عنــه‬ ‫يجمــع بيــن الصيــرورة والكينونــة‪ :‬األولــى هــي صيــرورة المظهــر‬ ‫ّ ّ‬ ‫المجازيــة‪ .‬والمقصــود بالثانيــة كينونــة‬ ‫بالنشــاط التخييلــي الــذي يتم ّثــل فــي الصــور واإلشــارات‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫األول‪.‬‬ ‫األشــياء بتســميتها علــى مــا هــي عليــه‪ ،‬عبــر التو ّغــل فــي لبابهــا وأساســها ّ‬ ‫توّقــف عمــر أمــام استســقاء النبــي موســى (ع)‪ ،‬ومناجــاة هللا علــى الطــور‪ ،‬والنــار التــي‬ ‫(آنسـ‬ ‫ّ‬ ‫ـها)‪،‬إل أّنــه أجــرى تعديــات تتوافــق مــع رؤيتــه‪ ،‬مــن غيــر أن يفقــد الرمــز األســطورّي شــيئاً‬ ‫توهجــه وتأّلقــه‪ .‬يقــول عمــر‪:‬‬ ‫مــن ّ‬ ‫«وكان رعاة قدامى بصدري‬

‫ِ‬ ‫السقاء‪،‬‬ ‫وبنت‬ ‫ٍ‬ ‫ُ‬ ‫(شعيب) تريد ّ‬ ‫وجئت أذود السقا َة عن البئر‪،‬‬ ‫ُ‬

‫ِ‬ ‫القدس»(‪.)15‬‬ ‫عت مئذن َة‬ ‫لكّنني‬ ‫وضي ُ‬ ‫ضي ُ‬ ‫عت بئري‪ّ ،‬‬ ‫اليوم ّ‬ ‫َ‬

‫يحمــل الرمــز مــا يتــاءم مــع ســياق القصيــدة‪ ،‬بعــد أن أجــرى مــا يجــده‬ ‫اســتطاع عمــر أن ّ‬ ‫مناســباً مــن تعديــل‪ ،‬وفــي هــذا فّنّيــة ال تخفــى علــى القــارىء‪ .‬ويســتثمر أســطورة (جلجامــش)‪،‬‬ ‫فيقــول‪:‬‬ ‫«جلجامش نسي الحياة بحلق أفعى‪،‬‬ ‫ٌ‬

‫انهمرت وراءها‬ ‫و‬ ‫ُ‬ ‫‪ 15‬‬

‫ز‬ ‫خ� فيك يا هذا المطر‪ .‬ص ‪( .198‬‬ ‫شبل‪ :‬أي ب‬ ‫) عمر ي‬


‫عنــده نزيــف موجــع‪ ،‬ومــا ذلــك إالّ أل ّنــه صــادق فــي مــا يكتــب‪ ،‬وصــادق مبــدع فــي مــا يصــوغ مــن‬ ‫متلونـاً‬ ‫قصائــد‪ .‬أراه رائيـاً فــي مــا يختــزن مــن مواجــد‪ ،‬ومشـ ّ‬ ‫ـكلية نتاجــه هــي مــع تلــك الــروح‪ ،‬تـراه ّ‬ ‫بالحــزن واألســى‪.‬‬ ‫ـل‬ ‫وردت مفــردة الحــزن‪ ،‬ومــا يتعّلــق بهــا‪ ،‬تســعاً وأربعيــن مـّـرة‪ ،‬عبــر قصائــد المجموعــة‪ ،‬ولعـ ّ‬ ‫هــذا العــدد الكبيــر مرتبــط بالحــال النفسـّـية التــي اســتحكمت بالشــاعر‪ ،‬واألمــر األقــرب إلــى التعليــل‬ ‫ـؤدي إلــى الحــزن‪،‬‬ ‫ـتمرت عقــوداً مــن الزمــن‪ .‬فاالنكســار يـ ّ‬ ‫هــو عمــق المعانــاة ّ‬ ‫وحدتهــا‪ ،‬وقــد اسـ ّ‬ ‫وكذلــك مواطــن التخّلــف واالســتئثار بالســلطة‪ ،‬والوقــوف فــي وجــه حركــة التاريــخ التــي ال تعــرف‬ ‫متعرجــة‪.‬‬ ‫التراجــع‪ ،‬ح ّتــى وإن كانــت المســيرة ّ‬ ‫ـب عشــقاً‪ ،‬ال يبقــى مجــال للكراهيــة‪ ،‬وهــذا ملمــح إنســاني شــديد‬ ‫عندمــا يغــدو ســطوع الحـ ّ‬ ‫ّ‬ ‫ـان‬ ‫فجرينــا هنــا‪ ،‬ياســيدي‪ ،‬مختلفـ ْ‬ ‫الوضــوح فــي شــعر عمــر‪ّ :‬‬ ‫«إن َ‬ ‫هك»(‪.)20‬‬ ‫رغم هذا‪ ،‬فأنا لن أكر ْ‬

‫‪ 20‬‬

‫) م ‪ .‬ن ‪ .‬ص ‪( .42‬‬


‫لقــد وعــى الشــاعر روح التاريــخ وحركتــه‪ ،‬وعندمــا رأى الدمــوع تســيل مــن مآقــي األنهــار‬ ‫نتلمــس االنفعــال الســاطع فــي شــعره‪ ،‬وهــل يكــون الشــعر شــع اًر إذا لــم‬ ‫والفقـراء‪ ،‬كان‬ ‫ّ‬ ‫طبيعيـاً أن ّ‬ ‫ـدياً‪ ،‬جعلتــه ينصــت لنبضــات قلبــه‪،‬‬ ‫الحقيقيــة‪،‬‬ ‫يكــن صــاد اًر عــن االنفعــال؟ والمعانــاة‬ ‫روحيـاً وجسـ ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫وجعلــت روحــه خصبــة خصوبــة ســهل البقــاع‪ ،‬وكريمــة كــرم «الصويــرة»‪.‬‬ ‫وقرويتــه‪ ،‬علــى مــدى عقــود مــن الزمــن‪ ،‬مــا زال‬ ‫ـعريته‬ ‫ّ‬ ‫والشــاعر عمــر شــبلي‪ ،‬القــادم مــن شـ ّ‬ ‫ـعريته الجميلــة ‪ ...‬علــى بيــادر الزمــان‪ ،‬يكيــل الحنطــة‬ ‫مفتونـاً و»مســكوناً بصويرتــه الفاتنــة وشـ ّ‬ ‫ـل‬ ‫للفقـراء»‪ ،‬كمــا يقــول عنــه الدكتــور علــي مهــدي زيتــون‪ .‬ومــع القهــر والســجن والظــام‪ ،‬لــم يتخـ ّ‬ ‫الشــاعر عــن شــعريته وصويرتــه‪ ،‬بــل راح يغتــرف مــن ينابيــع ذاتــه المتأّلقــة بالضــوء والرؤيــا‪،‬‬ ‫كالمتنبــي وحافــظ الشــيرازي وطاغــور‪ ،‬تعبي ـ اًر عــن موقــف ثقافــي كبيــر‪ ،‬ح ّتــى فــي‬ ‫وكان شــعره‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ـل األزمــة المديــدة التــي هـ ّـددت كيانــه بالتالشــي والفنــاء‪.‬‬ ‫ظـ ّ‬ ‫ـل خــوض معــارك‬ ‫ـانية و ّ‬ ‫لــم ُتشــغل األزمــة الشــاعر عــن الثقافــة‪ ،‬بأبعادهــا اإلنسـ ّ‬ ‫القوميــة‪ ،‬ولعـ ّ‬ ‫ـعرية‪ ،‬وهــي تحمــل رؤيــة الشــاعر إلــى العالــم‪ ،‬انطالق ـاً مــن‬ ‫الحيــاة‪ ،‬لــم ُيبعــده عــن فرادتــه الشـ ّ‬ ‫ـوعية عميقــة‪ ،‬تضــرب‬ ‫البرانــي‪ ،‬بارتكازهــا علــى مــا تراكــم عنــده مــن ثقافــة موسـ ّ‬ ‫الجوانــي و ّ‬ ‫العالميــن ّ‬ ‫َ‬ ‫بجذورهــا فــي أعمــاق التـراث العربــي واإلنســاني الفســيحين‪ ،‬ترفدهــا قناعــات وهمــوم واهتمامــات‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫الثقافيــة التــي ال تشــاكلها بصمــة أخــرى‪ .‬ورؤيــة الشــاعر عمــر‬ ‫وهــذه كّلهــا‪ ،‬تشــ ّكل بصمتــه‬ ‫ّ‬ ‫ذاتي ـاً‬ ‫المتميــزة تجعــل األشــياء غيــر األشــياء‪ ،‬والعالقــات غيــر العالقــات‪ ،‬ويغــد ذلــك كّلــه فّنّي ـاً ّ‬ ‫ّ‬ ‫بامتيــاز‪.‬‬ ‫ـص احتمالــي األبعــاد‪ ،‬قابــل للقـراءات المتعـ ّـددة‪ ،‬تكمــن‬ ‫ّ‬ ‫ـص الشــعرّي قـراءة لنـ ّ‬ ‫إن قـراءة النـ ّ‬ ‫ّ‬ ‫فــي بنيتــه الفّنّيــة تلــك المفاتيــح التــي تفضــي إلــى مــا يريــد قولــه‪ .‬هــا هــو يقــول أيضـاً‪:‬‬ ‫الليل هنا يا سيدي‬ ‫ّ‬ ‫«ربما ُ‬ ‫وزمان‬ ‫مكان‬ ‫أي ٍ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫أفضل من ّ‬

‫الضوء ليالً في د ِم اإلنسان يؤذي»(‪.)19‬‬ ‫يصير‬ ‫هكذا حين‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫لســنا هنــا أمــام مفاضلــة مــا بيــن الليــل والضيــاء‪ ،‬ولكّننــا أمــام بريــق ســاطع‪ ،‬منبتــه الــذات‬ ‫تغيــر فــي حقيقــة األحــداث الجســام‬ ‫تتلمــس ســبل الرجــاء‪ ،‬وهــي فــي تحديقهــا باألعلــى ّ‬ ‫التــي راحــت ّ‬ ‫التــي تمــور بهــا الــروح‪ .‬وإذا لــم يكــن األمــر كذلــك‪ ،‬فكيــف يمكــن تفســير الحضــور الكثيــف‬ ‫بحتميــة الثــورة‪ ،‬ىــإذ ال‬ ‫للضيــاء‪ ،‬والعطــاء واإليمــان بالثــورة والتغييــر المرتقــب؟ هــو فعــل إيمــان‬ ‫ّ‬ ‫مهمــة لمخلــص‪ ،‬غيــر إنجــاز حضــوره الهــادف إلــى محاربــة الظلــم‪ ،‬وبنــاء اإلنســان علــى مــدارج‬ ‫ّ‬ ‫الضــوء اإللهــي الســاكن فيهــا‪ ،‬كمــا يقــول عمــر نفســه‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫‪ 19‬‬

‫الالفــت للنظــر فــي مجموعــة عمــر شــبلي‪ ،‬هــو أّنــه يضــع روحــه فــي مــا يكتــب‪ ،‬فالكتابــة‬

‫) م ‪ .‬ن ‪ .‬ص ‪( .42‬‬


‫ِ‬ ‫وهات الطريق»(‪.)23‬‬ ‫ِ‬ ‫اميــة ح ّتــى االشــباع‪ ،‬كمــا‬ ‫ّ‬ ‫إن تك ـرار مفــردة (هــات) فــي القصيــدة يشــير إلــى المفارقــة الدر ّ‬ ‫يحمــل إشــارة إلــى مقــدار القمــع الــذي يعانيــه الشــاعر فــي الغربــة واألســر‪ ،‬وهــو مــا يعانيــه‬ ‫خاصــة‪ ،‬وتغــدو‬ ‫المواطــن العربـ‬ ‫أهمّيــة ّ‬ ‫ـي أينمــا حـ ّ‬ ‫ـل فــي بــاده‪ .‬وقــد تكــون الكلمــة المكـّـررة ذات ّ‬ ‫ّ‬ ‫الجزئيــة فــي القصيــدة‪ .‬وإذا مــا كان الحلــم بالعــودة هــو مــا يشــغل‬ ‫محــو اًر تــدور حولــه األفــكار‬ ‫ّ‬ ‫فــإن فقــدان المفاتيــح والريــاح والغيــوم والمطــر والشــجر والطريــق‪ ،‬باتــت هــذه‬ ‫بــال الشــاعر‪ّ ،‬‬ ‫ـاد‬ ‫كّلهــا دروب للعــودة المرتقبــة‪ .‬والعــودة إلــى قصائــد المجموعــة ُتظهــر عنايــة الشــاعر بالتضـ ّ‬ ‫الثنائيــات‬ ‫النهائيــة التــي تقــوم علــى الصــراع بيــن‬ ‫والمفارقــة‪ ،‬كونهــا تعكــس وظيفــة األدب‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ـادة‪ ،‬كالــذات والموضــوع‪ ،‬والداخــل والخــارج‪ ،‬والحيــاة والمــوت‪ ...‬الــخ‪ .‬هــي خيــر مــا يعطــي‬ ‫المتضـ ّ‬ ‫األدب قيمتــه الفّنّيــة‪ ،‬بهــا نــدرك سـ ّـر التنافــر والتناقــض‪.‬‬ ‫الروح المتفائلة‬ ‫أن مفــردة‬ ‫مــرة‪ ،‬فــي حيــن ّ‬ ‫وردت مفــردة (الخبــز)‪ ،‬مــع مــا يتعّلــق بهــا أربعــة وعشــرين ّ‬ ‫ـدل هــذا‪ ،‬مــع مــا بينهمــا مــن‬ ‫(المطــر) قــد وردت ســبع عشــرة مـّـرة فــي قصائــد المجموعــة‪ّ .‬‬ ‫وربمــا يـ ّ‬ ‫بحتميــة التغييــر المطلوبــة‪« :‬ومــا عليــك ســوى العنــاد‪ ،‬فســوف ينبلــج‬ ‫تواشــج‪ ،‬علــى ثقــة الشــاعر‬ ‫ّ‬ ‫‪24‬‬ ‫األيــام‪ .‬ويعــود إلــى تصويــر حجــم المعانــاة‪،‬‬ ‫الصبــاح»( )‪ .‬هــذه هــي ثقــة الشــاعر بالقــادم مــن ّ‬ ‫جمعيــة‪:‬‬ ‫فرديــة كانــت أم‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫لدي‬ ‫«ولما‬ ‫خبز َّ‬ ‫دخلت المدين َة ما كان ٌ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫ِ‬ ‫الحذاء‬ ‫سوى رمل ذاك‬

‫غيف‬ ‫تصير‬ ‫السير حين‬ ‫أصعب‬ ‫وما‬ ‫الرمال الر َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫غير التعب»(‪.)25‬‬ ‫ُ‬ ‫مشيت وال زَاد ُ‬ ‫ما عالقة الخبز والرغيف بالحذاء والرمال؟‬

‫‪2 3‬‬ ‫‪ 24‬‬ ‫‪ 25‬‬

‫) م ‪ .‬ن ‪ .‬ص ‪( .169‬‬ ‫) م ‪ .‬ن ‪ .‬ص ‪( .122‬‬ ‫) م ‪ .‬ن ‪ .‬ص ‪( .123‬‬


‫وعندمــا ال يكــون الرائــي مغلقـاً‪ ،‬وهــذا شــأن عمــر فــي شــعره‪ ،‬يجعلــه التاريــخ مفتوحـاً علــى‬ ‫كل مــا هــو مشــرق ومضــيء‪:‬‬ ‫ّ‬ ‫التاريخ‪،‬‬ ‫«سالك قلبي‪ ،‬وزادي ج ّثة‬ ‫ِ‬ ‫ٌ‬ ‫ِ‬ ‫النهر‬ ‫ظل على‬ ‫والعشب الذي ّ‬ ‫كل أهلي‬ ‫والذي مات عليه ّ‬ ‫وسأبقى صاحب الصوت األخير‬

‫خبز‬ ‫مستحيل(‪.)21‬‬ ‫طالما في األرض ٌ‬ ‫ْ‬ ‫كونيـاً‪ ،‬مــن‬ ‫ومــع ّ‬ ‫ـل عمــر إنســاناً ّ‬ ‫أن الجــرح بهــره‪ ،‬وتغلغــل فــي مفاصلــه ح ّتــى النخــاع‪ ،‬ظـ ّ‬ ‫أن إمكاناتــه أصغــر مــن أمانيــه‪ ،‬وعندمــا ال‬ ‫أمتــه‪ ،‬وهــو يــدرك ّ‬ ‫خــال إصـراه علــى تضميــد جـراح ّ‬ ‫يحمــل فــي قلبــه نبتــة ّبرّيــة فــي رمــال القحــط والشــلل والعقــم‪ ،‬تجــده مســكوناً بالجــرح المضــيء‪:‬‬ ‫«كّنا نف ّتش عن أهلنا في الحقول‬ ‫ى‬ ‫الغيم‬ ‫وهم يحرثون الثر ‪ ،‬ومحاريثهم تزرع َ‬ ‫في أرضنا لحصاد الرغيف»(‪.)22‬‬

‫إذا مــا أصغــى عمــر لألص ـوات القادمــة مــن التاريــخ‪ ،‬فهــو ال يغــرق فيهــا‪ ،‬وال يجثــم فــي‬ ‫قضيتــه‪ ،‬أكبــر‬ ‫تفاصيلــه‪ ،‬بــل يقتبــس حضــور الكشــف وكثافــة اإلحســاس‪ .‬وإيمــان عمــر بعدالــة ّ‬ ‫الحقيقيــة المتمّثلــة فــي عظمــة القضايــا‬ ‫قوتــه‬ ‫ّ‬ ‫مــن إيمانــه بنجاحهــا وانتصارهــا‪ ،‬وهنــا تكمــن ّ‬ ‫الكبــرى‪ ،‬ولــو كانــت مهزومــة‪.‬‬ ‫ـاد‬ ‫ـتجدة أنماطـاً‬ ‫تعبيريــة جديــدة‪ ،‬وقــد تكــون المفارقــة أو التضـ ّ‬ ‫تفتــرض طبيعــة الحيــاة المسـ ّ‬ ‫ّ‬ ‫ـاد شــيئاً مــن التـوازن فــي الحيــاة والوجــود‪ .‬ولــم يغــب عــن‬ ‫مــن بيــن هــذه األنمــاط‪ ،‬إذ يخلــق التضـ ّ‬ ‫ـاد‪ ،‬ومــن نماذجــه قولــه‪:‬‬ ‫يؤديــه التضـ ّ‬ ‫بــال عمــر الــدور الحيــو ّي الــذي ّ‬ ‫استبد الجدار‬ ‫«بروحي وجسمي‬ ‫ّ‬ ‫تستبد السماء!!‬ ‫فهل‬ ‫ّ‬

‫هات المفاتيح‪ِ ،‬‬ ‫فيا صاحب السجن ِ‬ ‫هات الرياح‬

‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫وهات المطر‬ ‫وهات الغيوم‬ ‫ِ‬ ‫وهات الشجر‬ ‫‪2 1‬‬ ‫‪ 22‬‬

‫) م ‪ .‬ن ‪ .‬ص ‪( .49‬‬ ‫) م ‪ .‬ن ‪ .‬ص ‪( .84-85‬‬


‫ـص وفضاءاتــه البعيــدة‪ ،‬حيــث يبــرع عمــر فــي‬ ‫هنــاك معًنــى خفـ ٌّ‬ ‫ـي يقبــع فــي أعمــاق النـ ّ‬ ‫أن للســياق الــدور‬ ‫وممــا ال شـ ّ‬ ‫ـك فيــه ّ‬ ‫التقــاط المشــاهد‪ُ ،‬‬ ‫ويحســن توظيفهــا فــي الســياقات المتعـّـددة‪ّ .‬‬ ‫ـاد‪ ،‬واألمــر نفســه مــا بيــن الرغيــف والرمــال‪ ،‬وتأتــي صيغــة‬ ‫األبــرز‪ ،‬فمــا بيــن الحــذاء والخبــز تضـ ّ‬ ‫ـاد‪ ،‬داخــل إطــار درامــي شــديد الوضــوح‪ .‬هــذا‬ ‫(مــا أفعـ َـل)‬ ‫التعجبيــة؛ للداللــة علــى المفارقــة والتضـ ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫نوعيــة ال يتقنهــا ّإل الشــعراء الكبــار‪.‬‬ ‫هــو التعبيــر الفنـ‬ ‫ـي عــن المعنــى المـراد‪ ،‬فــي نقــل ّ‬ ‫ّ ّ‬ ‫الحب والداللة‬ ‫قيم ّ‬

‫ـب‪ ،‬ودرب هــذا األخيــر ال ينتهــي‪ ،‬مهمــا‬ ‫ال يقــود الرؤيــا نحــو مســاراتها‬ ‫ّ‬ ‫الحقيقيــة ّإل الحـ ّ‬ ‫يمــر ّإل عبــر هــذا الــدرب‪ .‬اختــار عمــر‬ ‫ّ‬ ‫تتوعــت المشـ ّـقات وتعـ ّـددت‪ .‬والطريــق إلــى ّ‬ ‫أم القــرى ال ّ‬ ‫ـب للوطــن واألهــل‪:‬‬ ‫ســلوك هــذه الطريــق الوعــرة‪ ،‬وكابــد مــا كابــد‪ ،‬فــي شــعر عمــر حـ ّ‬ ‫أحاول يا سيدي‪،‬‬ ‫أظل‬ ‫« ‪ ...‬وسوف ُّ‬ ‫ُ‬ ‫أعشاب قريتنا»(‪.)26‬‬ ‫أمي و‬ ‫أشم روائح أهلي‬ ‫أن َّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ومنديل ّ‬ ‫تغيــره الشــدائد‪ ،‬هــو وجــه مــن أوجــه الهـ ّـم الكبيــر الــذي حملــه عقــوداً‬ ‫هــو االنتمــاء الــذي لــم ّ‬ ‫وتحــول ارتباطــه بــه أيقونــة ال ُتنســى وال‬ ‫حــب األهــل والوطــن إلــى وجــد‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫مــن الزمــن‪ّ .‬‬ ‫تحــول ّ‬ ‫ـب إطــا اًر‬ ‫ـب الحلــم‪ /‬الرؤيــا عنــد عمــر‪ ،‬ويجعــل مــن الحـ ّ‬ ‫يرميهــا فــي ظلمــات الســجون‪ .‬يرتبــط الحـ ّ‬ ‫ـب بالوطــن واالنتمــاء‪:‬‬ ‫للعــودة المرتقبــة فــي أثنــاء ســجنه‪ ،‬ولكّنــه يبقــى حريصـاً علــى ّ‬ ‫توحــد الحـ ّ‬ ‫ِ‬ ‫البحر اطمئّني‬ ‫«يا آخر ام أر ٍة توّل ْت إمرَة‬

‫الوطن‬ ‫أخت ذاكرُة‬ ‫ْ‬ ‫إن ذاكرة السفينة نفسها يا ُ‬ ‫ّ‬ ‫ِ‬ ‫للعبور‬ ‫ما زال وجهك صالحاً يوم العواصف‬

‫الموج‪ .)27(»..‬‬ ‫مثل‬ ‫وها أنا ُّ‬ ‫ِ‬ ‫أرتج َ‬

‫ـب بالعبــور إلــى المناطــق الرحبــة فــي إطــار رمــزّي متعـ ّـدد األبعــاد‪ ،‬والســفينة‬ ‫يندمــج الحـ ّ‬ ‫والمــوج عامــان صالحــان للتعبيــر عــن مكنونــات النفــس‪ ،‬وعــن الحنايــا المخبــوءة فــي النفــس‬ ‫عصيــة علــى الســبر‪.‬‬ ‫تقصــي تلــك المناطــق المجهولــة التــي ال تـزال‬ ‫ّ‬ ‫البشـ ّ‬ ‫ـرية‪ ،‬وال يســتطيع أحــد ّ‬ ‫يتهجــى مالمــح الوجــه األنثــو ّي‪ ،‬يبــوح بمــا يتجاذبــه مــن مشــاعر‪.‬‬ ‫والشــاعر العاشــق الــذي‬ ‫ّ‬ ‫الحب‪ ،‬إذ نجده يقول‪:‬‬ ‫ّ‬ ‫وتتبدى نظرة الشاعر عمر إلى حقيقة المرأة و ّ‬ ‫الغجري ُة سافرًة‬ ‫«وتلك اشتهاءتاك‬ ‫ّ‬

‫‪2 6‬‬ ‫‪ 27‬‬

‫الثغر ألواَنها‬ ‫يعلن ُ‬

‫) م ‪ .‬ن ‪ .‬ص ‪( .68‬‬ ‫) م ‪ .‬ن ‪ .‬ص ‪( .118‬‬



‫والرؤيــة فــي الغرفــة المطفــأة هــي رؤيــة مــا فــي داخــل الــذات مــن أوجــاع وآالم‪ .‬وطالمــا‬ ‫ـرية‪ ،‬وترجمان ـاً ألحاســيس‬ ‫ّ‬ ‫ـانية‪ ،‬ســيبقى قابع ـاً فــي الــذات البشـ ّ‬ ‫أن الشــعر لصيــق بالنفــس اإلنسـ ّ‬ ‫اإلنســان‪ ،‬وصــدى الــذات فــي الكلمــات‪.‬‬ ‫ومــا بيــن الجنــون والصــاة عالقــة تناقــض وتبايــن‪ ،‬وجنــون المـرأة أشــبه بجــزر الســاحرات‬ ‫ليتحول ـوا إلــى‬ ‫التــي تغــري ســاحراتها‪ ،‬بالغنــاء الشــجي‪ ،‬فيقودهــم تأ ّثرهــم إلــى الجزيــرة الملعونــة؛‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ـتمر فــي شــعر عمــر؟‬ ‫وقــود الســتمرار الشــجو‪ ،‬فهــل مــا زال هــذا الشــجو مسـ ّاً‬ ‫إن الصــاة علــى الجمــر‪ ،‬جمــر المـرأة أو جمــر الغرفــة المطفــأة‪ ،‬مــا هــي ّإل محاولــة لتفريــغ‬ ‫ّ‬ ‫ـل الشــاعر قاصـ اًر عــن‬ ‫الجســد مــن األوجــاع‪ ،‬شــأنها فــي هــذا شــأن الشــعر‪ ،‬ويكــون هــذا عندمــا يظـ ّ‬ ‫ـرية‪.‬‬ ‫بلــوغ المجاهيــل‬ ‫القصيــة فــي النفس البشـ ّ‬ ‫ّ‬ ‫وإذا مــا وقعــت الكعبــة والشــياطين علــى طرفــي نقيــض‪ ،‬فــي بعــد إيمانــي شــديد الحضــور‬ ‫ّ‬ ‫بحبــات القلــب‪ ،‬وهــو أغلــى مــا يملــك‪ ،‬وأكثــر‬ ‫ـعرية‪ ،‬فـ ّ‬ ‫ـإن رجــم الشــياطين ّ‬ ‫فــي مجموعــة عمــر الشـ ّ‬ ‫آن معـاً‪ .‬هــو يشــفع للشــاعر إرادة جنــون المـرأة‪ .‬وإذا مــا اختفــت‬ ‫مناطقــه غموضـاً وشــفاية‪ ،‬فــي ٍ‬ ‫الحــب طريــق الســفر مــن الطيــن إلــى‬ ‫الرغبــة‪ ،‬فقــد تســامت عواطــف الشــاعر؛ ليضــيء لــه‬ ‫ّ‬ ‫ـإن عمــر قريــب إلــى هللا بتســاميه‪،‬‬ ‫المطلــق‪ .‬وإذا مــا خــرج النبـ‬ ‫ـي آدم (ع) مــن الجّنــة بطينــه‪ ،‬فـ ّ‬ ‫ّ‬ ‫ألن توبــة اآلثــم هــي أقــرب التوبــات إلــى هللا‪ .‬هــل هــذا‬ ‫ـر ّ‬ ‫بوصفــه حـّاً‬ ‫تخفــف مــن الطيــن واألدران؛ ّ‬ ‫هــو سـّـر خلــود األشــياء المصنوعــة مــن األمنيــة‪:‬‬ ‫جسد يقول‪:‬‬ ‫«‪ٌ ...‬‬

‫صاحب الخصب الجميل‪،‬‬ ‫أنا‬ ‫ُ‬ ‫أحسب أّنني شجر بروضتها‪،‬‬ ‫أدنو وأدنو حيث‬ ‫ُ‬

‫ويخذلني مداها‪،‬‬

‫وتظل نائية وفي جنبي أراها»(‪.)30‬‬ ‫ّ‬

‫فــي تتابــع هــذه األســطر شــيء مــن الحــزن الشــفيف‪ ،‬هــو حــزن الجســد؛ هــو يــدرك أّنــه‬ ‫ـب الــذي ليــس لــه وجــود‬ ‫فـ ٍ‬ ‫ـان‪ ،‬فــي حيــن ّ‬ ‫ـل دائم ـاً آتيــة‪ ،‬ومــن أدوات مجيئهــا الحـ ّ‬ ‫أن الــروح تظـ ّ‬ ‫ـل المـرأة نائيــة «فــي‬ ‫بغيــر المـرأة‪ .‬والدنـ ّـو مــن المـرأة ذات الخصــب الجميــل محكــوم بالخــذالن‪ ،‬وتظـ ّ‬ ‫ابيتنــا الفانيــة»‪ ،‬كمــا يقــول عمــر نفســه‪ .‬وبيــن‬ ‫فضــاء الطيــور‬ ‫الروحيــة التــي نـ ّ‬ ‫ـود حيازتهــا بتر ّ‬ ‫ّ‬ ‫الدنـ ّـو والنــأي تباعــد ينقــل إلــى الحيــرة التــي تجعــل القــارىء علــى موعــد مــع الحلــم واألمنيــة‪.‬‬ ‫محدوديتهــا‪ ،‬وقتهــا‪ ،‬تمتلــك قـ ّـوة ال‬ ‫حضــور المـرأة فــي بعــض قصائــد عمــر‪ُ ،‬يخرجهــا مــن‬ ‫ّ‬ ‫يمكــن مقاومتهــا‪ .‬ومــا بيــن وجودهــا المشــتعل ونأيهــا فــي فضائهــا الكونــي‪ ،‬يجعــل مــن الم ـرأة‬ ‫ّ‬ ‫‪ 30‬‬

‫) م ‪ .‬ن ‪ .‬ص ‪( .178‬‬


‫وصدرِك والحز ُن والكبرياء‬ ‫ُ‬ ‫ِ‬ ‫وكنت الغوايةَ‪،‬‬

‫ِ‬ ‫اء‪ ،‬أم أنت تفاحة سرقتها‬ ‫هل أنت ّ‬ ‫حو ُ‬ ‫توزعها في د ِم الشعراء؟‬ ‫األفاعي‪ ،‬وراحت ّ‬ ‫ِ‬ ‫خلود ِك‬ ‫وما‬ ‫طردوك من الخلد لوال ُ‬

‫بيدر الجائعين لخبز الحياة»(‪.)28‬‬ ‫يا َ‬

‫بيــن االشــتهاء والغوايــة عالقــة تكامــل وطيــدة‪ ،‬وإذا مــا أعلــن الثغــر ألوان تلك االشــتهاءات‪،‬‬ ‫ألن هــذا الصــدر هــو‬ ‫ان مــا يمــور بــه الصــدر مــن حــزن وكبريــاء‪ ،‬فــي آن معــاً؛ ّ‬ ‫يرفــد األلــو َ‬ ‫بالغجريــة ّإل دليــل علــى‬ ‫منبــع العواطــف الم ّتقــدة ومحـّـرك تفاعالتهــا‪ .‬ومــا وصــف االشــتهاءات‬ ‫ّ‬ ‫ـجيتها‪.‬‬ ‫كل قيــد‪ ،‬وتوغــل الــذات فــي‬ ‫عفويتهــا وسـ ّ‬ ‫ّ‬ ‫انطالقتهــا‪ّ ،‬‬ ‫وتحررهــا مــن ّ‬ ‫يــورد الشــاعر أســطورة (حـ ّـواء)‪ ،‬المـرأة التــي بغوايتهــا أُخرجــت مــن الجّنــة‪ ،‬وأخرجــت معهــا‬ ‫ألهمّيــة العالقــة القائمــة علــى التكامــل واالنســجام‪.‬‬ ‫(آدم)‪ ،‬مــع مــا فــي هــذا الموقــف مــن كشــف ّ‬ ‫ثـ ّـم يــورد أســطورة األفعــى المعروفــة‪ ،‬ونبتــة الحيــاة‪ ،‬وليــس توزيعهــا علــى الشــعراء ّإل تكريم ـاً‬ ‫لهـؤالء الذيــن يســعون إلــى الخلــود‪ ،‬بمــا يخّلفــون مــن آثــار ال يطالهــا الفنــاء‪.‬‬ ‫كل زمــان ومــكان‪ ،‬بــل هــي‬ ‫ّ‬ ‫ويتوضــح موقــف الشــاعر مــن الحـ ّ‬ ‫ـب‪ ،‬تلــك العاطفــة الخالــدة فــي ّ‬ ‫ـتبدت بــه المعانــاة‪ ،‬وتكــون هــذه األخيــرة شــديدة‬ ‫ـمو واالرتقــاء‪ ،‬بكبريــاء اإلنســان الــذي اسـ ّ‬ ‫السـ ّ‬ ‫الحضــور فــي النفــوس الكبيــرة‪ .‬يقــول عمــر‪:‬‬ ‫مطفأه‬ ‫الذهاب إلى غرفة‬ ‫«أريد‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫بكل وضوح‪.‬‬ ‫كل‬ ‫ٍ‬ ‫وفيها أرى َّ‬ ‫شيء ّ‬ ‫الشباب بها‪ ،‬وجنو َن امر ْأه‪،‬‬ ‫أريد‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫أريد الصال َة على جمرها‪،‬‬ ‫اف بكعبتها‬ ‫ُ‬ ‫أريد الطو َ‬

‫بحبات قلبي»(‪.)29‬‬ ‫ورجم الشياطين فيها ّ‬ ‫َ‬

‫‪2 8‬‬ ‫‪ 29‬‬

‫أن الكلمــة معجونــة‬ ‫بعيــداً مــن الــدالالت‬ ‫القاموســية للكلمــات فــي هــذه األســطر‪ ،‬نلحــظ ّ‬ ‫ّ‬ ‫وتوجهاتهــا‪ .‬ويمكــن القــول‬ ‫ـرية‬ ‫ّ‬ ‫بــذات الشــاعر‪ ،‬علــى هــذا‪ ،‬يكــون تأثيرهــا أعمــق فــي النفــس البشـ ّ‬ ‫إن األشــياء المتعـّـددة هنــا‪ ،‬هــي عالمــات‪ ،‬أي رمــوز لمــا هــو أبعــد مــن داللتهــا القريبــة‪ .‬وكلمــات‬ ‫ّ‬ ‫الشــاعر المصوغــة وفــاق رؤيتــه‪ ،‬تغــدو مرايــا للداخــل العصــي علــى الكشــف واالســتبطان‪.‬‬ ‫ّ‬

‫) م ‪ .‬ن ‪ .‬ص ‪( .135‬‬ ‫) م ‪ .‬ن ‪ .‬ص ‪( .137‬‬


‫ات على قتل «قانا الجليل»‬ ‫ولم تقدر الطائر ُ‬ ‫مستحيل‬ ‫صعدت إلى جبل‬ ‫وفيها‬ ‫ٍ‬ ‫ُ‬ ‫ُّ‬ ‫يحد السماء»(‪.)32‬‬

‫المتأصلــة فــي نفــس الشــاعر‪،‬‬ ‫إن إطــاق صفــة القداســة علــى البــاد يكشــف عــن مكانتهــا‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫الدينيــة حين ـاً‪ ،‬وبالحــدث التاريخــي حين ـاً آخــر‪ ،‬ومــا الصعــود إلــى جبــل‬ ‫ويرتبــط هــذا باألســطورة‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫مســتحيل ّإل تطهيــر للنفــس مــن أدرانهــا وشـوائبها‪ ،‬واالرتقــاء بهــا إلــى مســتوى األنبيــاء وكبــار‬ ‫الرائيــن‪:‬‬ ‫المستحيل الذي ليس يأتي‪،‬‬ ‫«فيا وطني‬ ‫ُ‬ ‫تظل بعيداً؟‬ ‫لماذا ُّ‬ ‫اك»؟(‪.)33‬‬ ‫اك ولست أر َ‬ ‫لماذا أر َ‬

‫يــرى الشــاعر وطنــه فــي قلبــه‪ ،‬بروحــه المع ّذبــة التــي كتبــت سـ ّـر خلودهــا علــى مطــارح‬ ‫اللهفــة واالشــتياق‪ ،‬كمــا كتبتــه علــى أشــاء الحنيــن المشــتعل‪ ،‬وأشـ ّـعة الضيــاء المنبعــث مــن‬ ‫الممزقــة التــي ال تعــرف غيــر الصمــود والكبريــاء‪ .‬يقــول عمــر‪:‬‬ ‫أعمــق اشــتات الــروح‬ ‫ّ‬ ‫ِ‬ ‫الموت‬ ‫خارج‬ ‫«وها أنت يا وطني دائماً‬ ‫َ‬ ‫تحب الحياة‪،‬‬ ‫أصعب‬ ‫وما‬ ‫الموت حين ُّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫الوطن‪،‬‬ ‫اك‬ ‫ْ‬ ‫وحين ير َ‬

‫وأنت على فرس الريح تأتي‬ ‫ِ‬ ‫ترتديه»(‪.)34‬‬ ‫لكي‬ ‫الوطــن عنــد عمــر يســتعصي علــى المــوت؛ أل ّنــه يؤمــن بحركــة التاريــخ الــذي ال يقبــل‬ ‫بالفــراغ‪ ،‬وأحاســيس عمــر المتد ّفقــة كالنهــر الــذي ليــس علــى ض ّفتيــه ســوى الظامئيــن‪ ،‬ومــا‬ ‫منــاداة األف ـواه واألص ـوات ّإل عالمــات علــى الثقــة بالوطــن القــادم علــى فــرس الريــح‪ ،‬وإشــارات‬ ‫الحرّيــة‪ ،‬وتعبيــر عــن قـ ّـوة الوجــود‪.‬‬ ‫ـتمر الــذي يجتــاز الحواجــز‪ ،‬وص ـوالً إلــى ّ‬ ‫إلــى النضــال المسـ ّ‬ ‫تنوعهــا ومصادرهــا‪ ،‬بمــا فيهــا مــن مشــاهد‬ ‫اســتحضر الشــاعر بعــض األســاطير‪ ،‬علــى ّ‬ ‫أن األســطورّي فــي شــعر‬ ‫ويلحــظ ّ‬ ‫تؤاخــي الحقيقــة والواقــع‪ ،‬كمــا تؤاخــي المجــاز‪ ،‬وتتجــاوزه أحيانـاً‪ُ ،‬‬ ‫ـف الواقــع عــن األســطورّي الــذي يكمــن‬ ‫ـادي الم ّتســم بالقلــق‪ ،‬وفــي الوقــت ذاتــه يشـ ّ‬ ‫عمــر يشـ ّ‬ ‫ـف العـ ّ‬ ‫ـانية‪.‬‬ ‫فــي أعمــاق الــذات اإلنسـ ّ‬ ‫‪3 2‬‬ ‫‪ 33‬‬ ‫‪ 34‬‬

‫) م ‪ .‬ن ‪ .‬ص ‪( .66‬‬ ‫) م ‪ .‬ن ‪ .‬ص ‪( .73‬‬ ‫) م ‪ .‬ن ‪ .‬ص ‪( .141‬‬


‫ابيــة المتمـّـردة أبــداً‪.‬‬ ‫مشــكاة فــي تفاصيــل التر ّ‬ ‫المـرأة فــي شــعر عمــر‪ ،‬فــي هــذه المجموعــة‪ ،‬أشــبه مــا تكــون بالمجــاز الســاكن فــي الجســد‬ ‫المثقــل بالمعانــاة‪ ،‬وهــي‪ ،‬فــي نأيهــا‪ ،‬أبعــد مــن منــال الكلمــات‪ .‬والمـرأة التــي تخــادع دمهــا‪ ،‬مــن‬ ‫غيــر أن تعلــن لظاهــا‪ ،‬هــي أشــبه باألنثــى المتد ّفقــة مــن الحضــور إلــى الحضــور‪ ،‬مــن غيــر أن‬ ‫ـمو واالرتقــاء‪ ،‬وحيــن‬ ‫تتخّلــى عــن دورهــا فــي جعــل اإلنســان خارطــة للمــكان‪ ،‬علــى أعتــاب السـ ّ‬ ‫كل جــوع غــذاء‬ ‫االمحــاء‪ ،‬فيكــون فــي ّ‬ ‫يجــد الشــاعر أّنــه‪ ،‬مــع الم ـرأة‪ ،‬متالصقــان ح ّتــى حــدود ّ‬ ‫لروحــه المحّلقــة ح ّتــى المنتهــى‪.‬‬ ‫فيوضات الذات‬ ‫فــي شــعر عمــر الــذي يفــوض مــن الــذات بشــكل عــارم‪ ،‬نجــده باحث ـاً عــن بــاده‪ ،‬بوجــد‬ ‫ي ّتصــل بالــذات الكبــرى‪ ،‬وغيابهــا ليــس ّإل حضورهــا الدائــم‪ .‬ال تفــارق صــورة بــاده عينيــه‪ ،‬فــي‬ ‫المنافــي أو فــي الســجون‪ ،‬فــي أقســى ســاعات الحــزن واأللــم‪ .‬وتنطــوي قصائــد المجموعــة علــى‬ ‫حيــز واســع مــن اإلشــارات إلــى الوطــن‪ ،‬بمــا فيــه مــن أهــل وأماكــن‪ .‬تنبــع بــاده مــن الضيــاء‬ ‫ّ‬ ‫المنبعــث مــن روحــه‪ ،‬فهــي تســكنه قبــل أن‬ ‫يتعرفهــا‪ ،‬وتفاصيلهــا تســتعصي علــى التأويــل والتفســير‪ ،‬لقــد ســكنته بــاده مــع القصيــدة‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫وقضية اإلنســان المقهور‪،‬‬ ‫وتـراءت مالمحهــا فــي روحــه‪ ،‬وألغــت الفواصــل والحواجــز بيــن افنســان‬ ‫ّ‬ ‫إلــى درجــة تــزول فيهــا المســافة بيــن الحيــاة والمــوت‪ .‬هكــذا يغــدو الوطــن فينــا‪ ،‬ونحــن فيــه‪،‬‬ ‫ربمــا قبــل أن تتنــاوش الشــاعر األحـزان‬ ‫قضيــة اإلنســان المقهــور‪ ،‬أينمــا كان‪ ،‬وهــذا ّ‬ ‫دفاعـاً عــن ّ‬ ‫والمنافــي‪ ،‬فــي الضيــاء المنبثــق مــن أعمــاق الظلمــات ‪:‬‬ ‫هناك‪.‬‬ ‫أكن وحدي‬ ‫ْ‬ ‫«كنت وحدي‪ ،‬غير أّني لم ْ‬ ‫ُ‬ ‫ورجال آخرون‬ ‫ضوء‪،‬‬ ‫عيني‬ ‫كان في‬ ‫َّ‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬

‫يعبرون‬ ‫الحصار»(‪.)31‬‬ ‫أسالك‬ ‫الموت والمنفى و‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ـت) إلــى (لــم أكـ ْـن) هــو انتقــال‬ ‫تتبـ ّـدى ثقــة الشــاعر بالقــادم مــن األيــام‪ ،‬واالنتقــال مــن (كنـ ُ‬ ‫مــن الظلمــة إلــى أشـ ّـعة األمــل والتفــاؤل‪ ،‬والضــوء والرجــال صنـوان‪ .‬ومــا مفاعيــل الفعــل (يعبــرون)‬

‫المتتابعــة ّإل عالمــة علــى مكانــة الوطــن عنــد هـؤالء الرجــال‪ ،‬واالســتعداد للتضحيــة فــي ســبيله‪،‬‬ ‫وهــو معهــم‪ ،‬بقلبــه وعواطفــه‪ ،‬وإن كان فــي غياهــب الســجون‪.‬‬ ‫ويسّلط عمر الضوء على أبناء وطنه‪ ،‬في شيء من الفخر واالعتزاز‪:‬‬ ‫‪ 31‬‬

‫الماء خم ار‬ ‫رد ِت‬ ‫مقدسة ّ‬ ‫«بالدي ّ‬ ‫َ‬

‫) م ‪ .‬ن ‪ .‬ص ‪( .24‬‬


‫اآلخــر‪ُ .‬تــرى‪ ،‬هــل تلــك الينابيــع هــي األعنــاق التــي تتحـّـدى الســكاكين والغـزاة‪ ،‬وتلتصــق بأعنــاق‬ ‫عمليــة إيقــاظ آلذان الفجــر الــذي‬ ‫أخــرى‪ ،‬نــذرت نفســها لمقارعــة الســكاكين‪ ،‬ولــو بالجــرح‪ ،‬أم هــي ّ‬ ‫طــال انتظــاره؟‬ ‫ســفينة عمــر مرتبطــة بـــ (مجمــع البحريــن)‪ ،‬ولديــه اليقيــن بالوصــول‪ ،‬أل ّنهــا تمـُّـر (فــي جفــن‬ ‫نائم)‪:‬‬ ‫الــردى وهــو ُ‬ ‫«وتفتح شارعاً في البحر‬

‫إّنا و‬ ‫اصالن»(‪.)35‬‬ ‫ْ‬

‫إمكانيــة الوصــول إلــى المبتغــى‪ ،‬وفــي هــذا دليــل علــى ثقــة‬ ‫يحمــل هــذا القــول توكيــداً علــى‬ ‫ّ‬ ‫ـتدت الصعــاب‪.‬‬ ‫الشــاعر بالقــادم مــن ايــذام‪ ،‬مهمــا شـ ّ‬ ‫كلمة أخيرة‬ ‫محبيــه فــي عمــق‬ ‫ا ّتحــدت همــوم الشــاعر عمــر بقضايــا النــاس‪ ،‬وتجــده يغمــس أيــدي ّ‬ ‫ـل الشــاعر قــد ســعى إلــى نقــل الداخــل إلــى الخــارج‪ ،‬وهنــا تعجــز الكلمــات عــن‬ ‫المعرفــة والوفــاء‪ .‬لعـ ّ‬ ‫ترتيــب الــرؤى‪ .‬وإذا مــا عانــى لهيــب النــار علــى مرمــى الزمــان‪ ،‬كمــا عانــى ظــام الســجون والغربــة‬ ‫ـل محّلــه الجيشــان الــذي يعتمــل فــي نفســه‪ ،‬ويضــع‬ ‫و ّ‬ ‫التوحــد مــن قبــل‪ ،‬هنــا يتراجــع الصمــت؛ ليحـ ّ‬ ‫ـفن تســير إلــى الــوراء!!!)‪ .‬ويســتعين‬ ‫جدليــة الزمــن واالبحــار (آه مــن سـ ٍ‬ ‫القــارىء فــي مواجهــة ّ‬ ‫ـجو األحاســيس المترعــة‪،‬‬ ‫بعصــا (موســى)؛ لتلقــف الموتــى‪ .‬هنــا‪ ،‬ال بـّـد مــن الرمــز الــذي يحمــل شـ َ‬ ‫وألـوان الطيــف‪ ،‬ومرايــا النــار التــي ال تنطفــىء‪ ،‬فــكان ال بـّـد مــن البــوح والشــجو‪.‬‬ ‫أن شــاعرنا محمــول علــى‬ ‫ـعرية ناجمــة عــن قلــق معرفـ‬ ‫ـي جديــد‪ُ ،‬تظهــر ّ‬ ‫المجموعــة الشـ ّ‬ ‫ّ‬ ‫ســبر للثقافــة القائمــة؛ ح ّتــى فــي أماكــن‬ ‫أهــم مــا تطلبــه‬ ‫الشــعرية‪ ،‬مــن ٍ‬ ‫ّ‬ ‫أجنحــة الريــح‪ ،‬لديــه ّ‬ ‫ـل طــرح األســئلة‪ ،‬بهــدف إنتــاج مناخــات جديــدة‪ ،‬يتطّلبهــا فهــم‬ ‫تشـّققها فــي أعمــاق أسـرارها‪ .‬ويظـ ّ‬ ‫المرحلــة الحاضــرة‪.‬‬ ‫اإليقاعيــة‪ ،‬مــع مســتويات التركيــب والتصويــر الفّنــي والرمــوز؛ لتســهم‬ ‫تضافــرت البنــى‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ـعرية الشــاعر‪ ،‬تلــك الرؤيــة التــي وضعــت اإلنســان فــي الموقــع الالئــق‬ ‫جميعـاً فــي الكشــف عــن شـ ّ‬ ‫بــه‪.‬‬ ‫اإليقاعيــة التــي تترقــرق مفــردات القصائــد فيهــا‪،‬‬ ‫فــرادة فــي الرؤيــة‪ ،‬فــرادة فــي البنــى‬ ‫ّ‬ ‫عبــرت عــن موهبــة أصيلــة‪.‬‬ ‫كميــاه الينابيــع الشــجية‪ ،‬وفـرادة فــي الصــور الفّنّيــة‪ ،‬والتراكيــب التــي ّ‬ ‫تحيــة للــذات المتأّلقــة فــي‬ ‫ـاعرية عمــر شــبلي‪ّ .‬‬ ‫ولتظهــر فرادتــه فــي الرؤيــة‪ ،‬تلــك هــي مالمــح شـ ّ‬ ‫حولهــا رياضـاً‬ ‫ـانية‪ّ ،‬‬ ‫ميــدان االبــداع الشــعر واإلنسـ ّ‬ ‫تحيــة للمطــر الــذي إن أصــاب األرض الجا ّفــة ّ‬ ‫‪ 35‬‬

‫) م ‪ .‬ن ‪ .‬ص ‪( .176‬‬


‫نعدهــا أســطورة مــن أســاطيرنا فــي العصــر‬ ‫ـعرية‪ ،‬يمكــن أن ّ‬ ‫ّ‬ ‫إن مجموعــة عمــر شــبلي الشـ ّ‬ ‫معمقــة لواقعنــا الحالــي‪ .‬هــي دليــل عافيــة‪ ،‬تفتــح أمــام أعيننــا األب ـواب‬ ‫الحديــث‪ ،‬إذ تم ّثــل ق ـراءة ّ‬ ‫ّ‬ ‫لــكأن المفتــوح مســكون بمخاطــر االنغــاق‪ ،‬وفيهــا شــيء مــن الشــفاء مــن‬ ‫المغلقــة‪ ،‬ح ّتــى‬ ‫ّ‬ ‫األوهــام‪ ،‬كمــا أراد لهــا عمــر أن تكــون‪ ،‬وهــو‪ ،‬فــي هــذا كّلــه‪ ،‬ينطلــق مــن الثقافــة التــي هــي عيــن‬ ‫عقدتــه‪ ،‬وكذلــك مــن اهتماماتــه التــي هــي عيــن همومــه‪.‬‬ ‫«أي خبــز فيــك يــا هــذا المطــر‪ ،‬هــو كمــن يغــوص‬ ‫قــارىء مجموعــة عمــر شــبلي الشــعرية ّ‬ ‫متقدمـاً فــي التـراث العربــي‪ ،‬وكذلــك‬ ‫ـانية فــي أبهــى تجّلياتهــا‪ ،‬يجــد وعيـاً ّ‬ ‫إلــى اعمــاق الــذات اإلنسـ ّ‬ ‫ّ‬ ‫ـادة لتجــاوز مــا فيــه مــن منحــدرات‪ ،‬وإزالــة القشــور التــي خنقــت‬ ‫اإلنسـ‬ ‫ـاني‪ ،‬كمــا يجــد محاولــة جـ ّ‬ ‫ّ‬ ‫تفجــرت مــن الشــرق‪ ،‬حاولــت المزاوجــة مــا بيــن الت ـراث الروحــي‬ ‫هــذا الت ـراث‪ .‬والينابيــع التــي ّ‬ ‫ّ‬ ‫والت ـراث العقلــي‪ .‬فــي شــعر عمــر إلغــاء للكراهيــة‪ ،‬وإيمــان باإلنســان الــذي «انطــوى فيــه العالــم‬ ‫ّ‬ ‫كل الجهــات‪.‬‬ ‫األكبــر»‪ ،‬وكذلــك فيــه انفتــاح علــى الضــوء اآلتــي مــن ّ‬ ‫راح عمــر شــبلي‪ ،‬ولمـّـدة طويلــة‪ ،‬يبحــث عــن كنــزه المفقود‪/‬الضــوء‪ ،‬فوجــده فــي ذاتــه التــي‬ ‫تختــزن الكثيــر الكثيــر‪ .‬تجــاوز عمــر الينابيــع والمــوت‪ ،‬ومــا انتفــاء فكــرة العــدم عنــده ّإل دليــل‬ ‫علــى أّنــه شــاعر كبيــر‪ ،‬أســهمت جملــة مــن العوامــل فــي خلــق مــا انطــوى عليــه شــعره مــن أبــداع‪.‬‬ ‫تجــاوز عمــر الدنويــو ّي المتشـ ّـبث باألقنعــة‪ ،‬وباألماكــن المحاصــرة‪ ،‬فــي الداخــل والخــارج‪،‬‬ ‫ـتخف بحفنــة الطيــن التــي لــم تســتطع اســتدراجه إلــى االنحــدار‪ .‬تجــاوز عمــر فســحة مــن‬ ‫كمــا اسـ ّ‬ ‫وكل مــا فينــا مــن تأّل ـ ٍه وحم ـٍإ‬ ‫الزمــان والمــكان خلــف المــوت‪ ،‬عندمــا تجــاوز الســجن والسـ ّ‬ ‫ـجان‪ّ ،‬‬ ‫مســنون‪.‬‬ ‫دنيويتــه‪ .‬أدرك‬ ‫الضــوء يغــري بقــدر مــا يطــرح األســئلة‪ ،‬وهــذا مرتبــط بالزمــن الغــارق فــي‬ ‫ّ‬ ‫طــر الكينونــة الخالقــة والمخلوقــة‪ ،‬فــي أبعــاد‬ ‫ـاعرية أصيلــة‪ ،‬مــا معنــى الحضــور الــذي يؤ ّ‬ ‫عمــر‪ ،‬بشـ ّ‬ ‫حميميــة العمــر المتفّلــت مــن الضوابــط‪.‬‬ ‫رؤيويــة تــدرك مــا خلــف‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ليــس يعنــي عمــر الخــروج مــن الوجــود فــي شــيء‪ ،‬طالمــا أّنــه مــا زال يطــرق بــاب الخلــود‪،‬‬ ‫وأنــا علــى يقيــن أّنــه ال ُيفتــح ّإل للكبــار‪ ،‬وهــو منهــم‪ ،‬بمــا تراكــم عنــده مــن تفـّـرد وموهبــة‪ ،‬وإيمــان‬ ‫ليبشــر باالنبعــاث‬ ‫بقضيــة اإلنســان أينمــا ُوجــد‪ .‬يســتطع عمــر العــودة بـ(نبتــة الحيــاة)‪ ،‬ولكّنــه عــاد ّ‬ ‫ّ‬ ‫بعــد جفــاف‪ ،‬وهــذا يشـ ّكل نقيضـاً للعقــم واليبــاب والخـواء‪ ،‬وهــو توكيــد النتصــار القيــم الجميلــة‪.‬‬ ‫«أي خبــز فيــك يــا هــذا المطــر»‪ ،‬فيــدرك‬ ‫عندمــا يطالــع القــارىء الحـ ّ‬ ‫ـب والحــزن والضــوء فــي ّ‬ ‫أن هــذا كّلــه يتســاقط مــن غيمــة واحــدة‪ ،‬ليؤّكــد وجــود الينابيــع‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫أن المواعيــد مــع الضيــاء ال ُتلغــى‪ ،‬بــل هــي علــى تواصــل‬ ‫وأنــت تقـ أر فــي شــعر عمــر‪ ،‬تجــد ّ‬ ‫ـتتفجر‪ ،‬ح ّتــى وإن ارتفعــت الســدود‪ ،‬مــن أجــل صنــع الزمــن العربــي‬ ‫دائــم مــع الينابيــع التــي سـ ّ‬ ‫ّ‬


‫محبــة وتقديــر للشــاعر الكبيــر عمــر شــبلي‪.‬‬ ‫تحيــة ّ‬ ‫غّنــاء‪ّ .‬‬

‫ ‬

‫د‪ .‬محمد محي الدين‪ .‬تشرين الثاني ‪2018‬‬

‫فهرس الموضوعات‬ ‫توطئة ‪1................................................‬‬ ‫حول المجموعة الشعرية ‪2..............................‬‬ ‫في سيمائية العنوان ‪4..................................‬‬ ‫في البنى اإليقاعية ‪5...................................‬‬ ‫في المستوى التركيبي ‪10...............................‬‬ ‫الصور الفنية ودالالتها ‪15.............................‬‬ ‫األساطير والرموز ودالالتها ‪18.........................‬‬ ‫انبثاق الضوء ‪22......................................‬‬ ‫الروح المتفائلة ‪30.....................................‬‬ ‫الحب‪ :‬القيم والداللة ‪31................................‬‬ ‫فيوضات الذات ‪37.....................................‬‬ ‫كلمة أخيرة ‪44.........................................‬‬




‫وداعا ً يا حمد‬ ‫إلى الفقيد الغالي حمد سليمان‬

‫بقلم عمر شبلي‬ ‫يوم يولَـــ ُد‬ ‫ألمـوتُ فيــنـا كــ َّل ٍ‬ ‫وقديـ ُمـهُ فيـنـا يقولُ‪ :‬أنا الغَ ُد‬ ‫فاعجبْ لمولودٍ‪ ،‬وليس فطا ُمهُ‬ ‫ـر لـديْـ ِه وال يـ ُد‬ ‫يدنـو‪ ،‬وال ث ْغ ٌ‬ ‫واعجبْ لموجو ٍد من اآلبـادِ‪،‬ال‬ ‫درى ورا َء حـدو ِد ِه ما يوج ُد‬ ‫يُ َ‬ ‫يـدنـو وينـأى‪ ،‬إنمـــا في نأيـ ِه‬ ‫القريب األبع ُد‬ ‫ال يختفي‪ ،‬وهو‬ ‫ُ‬ ‫ذئـب‪ ،‬وك ُّل العالميـن قطيـعُــهُ‬ ‫ٌ‬ ‫الرعــاةُ‪ ،‬وعيـنُهُ ال ت َ ْرقُـ ُد‬ ‫نام ُ‬ ‫َ‬ ‫الزمام لنا لنرت َع‪ ،‬إنّمــا‬ ‫يُرخي‬ ‫َ‬ ‫ق ِم ْق َـو ُد‬ ‫يـ ُدهُ لهـا في كـ ِّل ُ‬ ‫ع ْنـ ٍ‬ ‫ب‪ ،‬فلن ترى‬ ‫ع ْد يا‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫تراب إلى الترا ِ‬ ‫ُم ْلكا ً يدو ُم وال عروشا ً تصم ُد‬ ‫ونحار كيف عقولُنا ورغابُـنــا‬ ‫ُ‬ ‫تتـر َّمــ ُد‬ ‫من بـعـ ِد طو ِل ت َ َوقُّـ ٍد َ‬ ‫َح َمدُ‪ ،‬الحياة ُ عزيزةٌ‪ ،‬وتركتَها‬ ‫ْ‬ ‫صيَـ ُد‬ ‫لكن‪،‬‬ ‫َ‬ ‫ي األ ْ‬ ‫وأنت بها األب ُّ‬ ‫تدوم ِسنِيُّها فَ ْلنُ ْع ِطها‬ ‫هي لن‬ ‫َ‬ ‫ما قد يطو ُل به البقا ُء ويُح َمــ ُد‬ ‫أمام صدقِ َك واحدا ً‬ ‫وتظ ُّل َ‬ ‫أنت َ‬ ‫ْ‬ ‫ليست تُزَ ْخ ِرفُ َك الحياة ُ وتُف ِس ُد‬

‫ش‬ ‫ع‬ ‫ر‬


‫ت ال تخشى وال تتــردّد‬ ‫فق َح ْم َ‬ ‫وعلى طري ِق َك ال تزا ُل ِعصابـــةٌ‬ ‫ُ‬ ‫الطريق وتجه ُد‬ ‫تمشي ويخذلُها‬ ‫ُ‬ ‫الطريق فهل لنا‬ ‫َف‬ ‫هَبْ أنّهُ َجن َ‬ ‫إالّ العروبةُ في المسيرةِ ُم ْر ِش ُد‬ ‫أنا يا رفيقي لستُ أخل ُع صاحبي‬ ‫ال يرحــــ ُم التاريــ ُخ من يتر َّد ُد‬ ‫المذاهب ّ‬ ‫َّ‬ ‫مز ْ‬ ‫قت أرحا َمنـــــا‬ ‫إن‬ ‫َ‬ ‫إن العروبةَ‬ ‫ّ‬ ‫مذهب هو أوحـــ ُد‬ ‫ٌ‬ ‫ال ب َّد مهمـا نُ ِ ّك ْ‬ ‫ست راياتُــنــــــا‬ ‫من راي ٍة ش ّما َء ترفعُـــــها يـــ ُد‬ ‫والجر ُح مهما طا َل ْ‬ ‫ف دمائ ِه‬ ‫نز ُ‬ ‫ض َّم ُد‬ ‫ال ب َّد يومـــــــا ً بالجراحِ يُ َ‬

‫مضرجا ً‬ ‫قريش‬ ‫صقر ِك يا‬ ‫ما با ُل‬ ‫َّ‬ ‫ُ‬ ‫ِ‬ ‫بدم الفراتِ‪ ،‬ألم يَ ِح ْن له موعـ ُد‬ ‫ِ‬ ‫الفرات ونصفُـهُ‬ ‫عبر‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫باألمس قد َ‬ ‫في الضفّة األخرى تمزقُه يــ ُد‬ ‫تصميـم ِه‬ ‫دم ِه سوى‬ ‫ِ‬ ‫ال شي َء في ِ‬ ‫َّ‬ ‫إن الوجو َد له ي ٌد ولـــــــــه غـ ُد‬ ‫ُّ‬ ‫عام والفـــراتُ‬ ‫يئـن من‬ ‫من ألف ٍ‬ ‫العبـــــور وحزنُهُ يتج َّد ُد‬ ‫ِ‬ ‫و َجعِ‬

‫واقف‬ ‫الرثاء الصمتُ إ ْذ أنا‬ ‫أعلى‬ ‫ِ‬ ‫ٌ‬ ‫ُ‬ ‫شاي ويُزبِ ُد‬ ‫والحزن يُرغي في َح َ‬ ‫ُج ْد لي بصوتِ َك كي أجــــو َد بمث ِل ِه‬ ‫فجنــــــــازتي بك يا أخي تَتج َّد ُد‬ ‫بيوم َك من صهي ِل مشاعري‬ ‫أشقى ِ‬ ‫المشاعر يا صديقي ُمج ِه ُد‬ ‫َب‬ ‫صخ ُ‬ ‫ِ‬


‫متد ِث ّ ٌر بالموت تحت صفيح ٍة‬ ‫ص ٌ‬ ‫يت يثورعلى الفناء ويطر ُد‬ ‫ِ‬ ‫َح ّد ْ‬ ‫فلست من الذين وفاتُهم‬ ‫ِث‬ ‫َ‬ ‫تمحو سناه ْم ّ‬ ‫ذكر َك فرقـــ ُد‬ ‫إن َ‬ ‫ذكره ْم‬ ‫تغيب‬ ‫ال لن‬ ‫َ‬ ‫فلست ممن ُ‬ ‫َ‬ ‫الزمان ويهم ُد‬ ‫مر‬ ‫يخبو على ِ ّ‬ ‫ِ‬ ‫أنت من جي ِل الذين دماؤه ْم‬ ‫بل َ‬ ‫ق مياهَ دجلةَ ترف ُد‬ ‫فوق العرا ِ‬ ‫وألَنت من بردى سلي ُل أميّ ٍة‬ ‫نبيك ماذا ْأو َجدوا‬ ‫غرناطةٌ ت ُ َ‬ ‫نبيك َّ‬ ‫أن سيوفَه ْم‬ ‫وجبا ُهه ْم ت ُ َ‬ ‫سؤْ َد ُد‬ ‫وخيولَه ْم كم سال منها ُ‬ ‫حمدُ‪ ،‬العروبةُ ال تزا ُل رهينةً‬ ‫س ُد‬ ‫ار تُبــــا ُ‬ ‫ع وتَك ُ‬ ‫ق ت ُ ّج ٍ‬ ‫في سو ِ‬ ‫َّ‬ ‫صدوره ْم‬ ‫إن العروبةَ في الذين‬ ‫ُ‬ ‫الرصاص كأنـــــّها تَتَعَ َّم ُد‬ ‫تلقى‬ ‫َ‬ ‫هي للذين بـ»طيبةٍ» و»كفر كال»‬ ‫سدوا‬ ‫َ‬ ‫تو َّ‬ ‫شيت» ثرى الجنو ِ‬ ‫وبـ « ُجبّ ِ‬ ‫ب َ‬ ‫تهربــــوا‬ ‫يوم الجمي ُع َّ‬ ‫ولبستَها َ‬

‫غار تَقلَّـــدوا‬ ‫منها ْ‬ ‫وأو ِسمةُ ال َ‬ ‫ص ِ‬ ‫من كان مثلَ َك مستقيما ً لم ْ‬ ‫يمت‬ ‫ُ‬ ‫والتكاذب ينفَــــ ُد‬ ‫فالصدق يغلو‬ ‫ُ‬ ‫وجلّ ٌق‬ ‫َ‬ ‫تبكيك بغدا ُد الرشيــــــــ ِد ِ‬ ‫ي ٍ تو َج ُد‬ ‫وبك ِّل قلــــــــــــ ٍ‬ ‫ب يعرب ّ‬ ‫يا ابنَ البقاعِ‪ ،‬ولم ْ‬ ‫تزل «بدناي ٌل»‬ ‫هي للثقاف ِة والعروبــــــ ِة مور ُد‬ ‫كم أرضعتْ َك عروبةً من صدرها‬


‫َح َمدُ‪ ،‬القصائ ُد ال تعـــــــا ِد ُل دمعةً‬ ‫يوما ً علــــــى ج َد ٍ‬ ‫نج ُد‬ ‫ث يض ُّم َك ت ُ ِ‬ ‫ع ِّ‬ ‫َّ‬ ‫ط ْ‬ ‫لت‬ ‫َ‬ ‫ـــــــك ُ‬ ‫يوم موتِ‬ ‫إن القصائ َد َ‬ ‫ض ُد‬ ‫ِع ْقــــ ٌد‬ ‫تنـــــــاثر من يَلُ ُّم ويَ ْن ِ‬ ‫َ‬ ‫أن كنّا معـــــــــا ً‬ ‫أنا ما عه ْدت ُ َك منذُ ْ‬ ‫وأنت عنّا تبع ُد‬ ‫إليك‬ ‫َ‬ ‫ندنــــــــــو َ‬ ‫ضريح َك مثلما‬ ‫يحنو الغما ُم على‬ ‫ِ‬ ‫ف الغزا ُل األغيَ ُد‬ ‫الخ ْش ِ‬ ‫يحنو على ِ‬ ‫التراب فإنَّنــــــي‬ ‫أنا عندما أرثي‬ ‫َ‬ ‫ب ُمخَلَّـــ ُد‬ ‫أرثي الذي هو في الترا ِ‬ ‫األرض في «بدناي ٍل»‬ ‫نَ ْم يا ابنَ هذي‬ ‫ِ‬ ‫س ُد‬ ‫تتو َّ‬ ‫نع ْنم المهـــــــــــا ُد ون ْع َم ما َ‬




‫ّ‬ ‫سجل‬

‫د‪ .‬هويدا شريف‬ ‫أنا في ّ‬ ‫مهب الورق‬ ‫ّ‬ ‫أخ�شى الشتاء‬

‫مالك ذو أجنحة‬ ‫اقتلعني من األرض‬ ‫فحلقت من أوج العشق‬ ‫نحو ّ‬ ‫السماء‬ ‫هل في وسعي أن أختار أحالمي‬ ‫ألطير كشال مع ّ‬ ‫الريح‬ ‫وتكون البداية‬ ‫ال االنتهاء‬ ‫أريد أن ّ‬ ‫أسل من عدمي وجودي‬ ‫ّ‬ ‫كالطائر أنبعث من ّ‬ ‫الرماد‬ ‫فأنا حوار الحاملين‬ ‫عزفت عن جسدي ونف�سي‬ ‫ألكمل رحلتي الى املعنى‬ ‫نحو الفضاء‬ ‫لكن في كل مرة يحرقني‬ ‫أصبح الغياب‬ ‫ّ‬ ‫أصبح ّ‬ ‫السماوي الطريد‬ ‫ً‬ ‫الذي يعطي دروسا‬ ‫في الوفاء‬ ‫كم أبذل جهدي ألكتب‬ ‫ما يقنع قلبي بالنبض عندي‬


‫تنفث الكره‬ ‫يف األجواء‬ ‫رجل عاشق‬ ‫أنا ٌ‬ ‫لروحك‪...‬‬ ‫لتفاصيلك‪...‬‬ ‫وكيل رجاء‬ ‫بأن ألتقي بعيونك يوماً‬ ‫جهرا ً أمام الناس‬ ‫ال أسفاً‬ ‫عىل كل بالء‪...‬‬ ‫انت ضائعتي‪،‬‬ ‫ماليك يا امرأة!!!‬ ‫انصفي قلبي الذي‬ ‫بحبك صار دماً‬ ‫وأشالء‬ ‫حرويف ال تخالطها تشيزوفرينيا‬ ‫وال ميسها‬ ‫يف حبك‬ ‫هم ٌز وال مل ٌز‬ ‫وال عناء***‬


‫وال ّروح بالعيش بعدي‬ ‫ويف وسع باقة غاردينيا‬ ‫أن تج ّدد عمري‬ ‫بالوالء‬ ‫س ّجل‬ ‫أنا امرأة‬ ‫سامؤها فكرة‬ ‫تتقن أساليب البعد‬ ‫دون استحياء‬ ‫شديدة الرباءة‬ ‫مريضة جوى‬ ‫هيامها حضنك‬ ‫فيه الشفاء‬ ‫يا حنني شيزوفرينيا الحروف‬ ‫***‬ ‫الرد عىل القصيدة‬ ‫د‪ .‬هويدا رشيف‬ ‫باقة العمر أنت‬ ‫باقة العمر أنت ‪...‬‬ ‫ال أبالغ‪...‬‬ ‫انت روحي‬ ‫دايئ‬ ‫والدواء‬ ‫انا سجني حبك‬ ‫واملواريثُ ‪،‬‬ ‫عاداتُ جهلٍ‬



‫غافياتٌ جفوني‬ ‫د‪.‬رياض الدليمي‬ ‫حلوتي‬ ‫شقية‬ ‫بنت العراق‬ ‫محاويلية‬ ‫تغار منها الطواويس‬ ‫عروس البحر‬ ‫تسرق كحلها‬ ‫والزهر من شفتيها‬ ‫الذت لمغارتها المرجانية‬ ‫أرقب تلك الشقية‬ ‫ترقص على ايقاع النبض‬ ‫مقهقة‬ ‫تفر من بين يدي‬ ‫ّ‬ ‫سمكة تتغنج على الموج‬ ‫ليتني أصطاد عطرها‬ ‫ملمس حرير فستانها‬ ‫نظراتها الشاردة‬ ‫عني‪.‬‬ ‫حمرة خديها‬ ‫أرى‬ ‫ّ‬ ‫أي غمازتين تسحقا قلبي‬ ‫تنتفض بي جنوني البربري ‪.‬‬ ‫كم مرة أقسم أن تموت لهفتي‬


‫لن أتوق لتلك الشقية‬ ‫والشفاه النرجسية ‪،‬‬ ‫يحتال شعرها‬ ‫كمعتوه يشدني‬ ‫يصرخ بي ‪:‬‬ ‫اصح أيها العجوز‬ ‫سجاياك الطفولية ‪.‬‬ ‫من‬ ‫َ‬ ‫أيتها المحاويلة‬ ‫ذاتك االلهية‬ ‫كم أعشق‬ ‫ِ‬ ‫ما خلق هللا من حسن‬ ‫قبلك‬ ‫ِ‬ ‫أضحى العشق فيك‬ ‫عبادة ً‬ ‫يغفر‬ ‫ع َّل هللا‬ ‫ّ‬ ‫عشقك ‪،‬‬ ‫صالة ً لم أقمها على سجادة‬ ‫ِ‬ ‫أقول فيك الشعر‬ ‫ي‪،‬‬ ‫وما عسرت قواف ّ‬ ‫ك ُّل قبلة من بعدها‬ ‫ألف ألف تسبيحة‬ ‫دعاء ‪.‬‬ ‫وترتيلة‬ ‫ِ‬ ‫غافيات جفوني تحت الجدائل‬ ‫َّ‬ ‫هن بساتين خضر‬ ‫دوحة دجلة‬ ‫ومدينة الرقاد ‪.‬‬




‫العمر المعتّق‬ ‫فاطمة البزال‬

‫ُ‬ ‫وسنان يهفو للمدى‬ ‫طائر‬ ‫هل‬ ‫ٌ‬ ‫صبحِ بات ُمقيّدا‬ ‫لو أن جن َح ال ُّ‬ ‫أغرف‬ ‫ْ‬ ‫ثغرهُ‬ ‫ُ‬ ‫فنهر الوج ِد يلثـ ُ ُم َ‬ ‫ْ‬ ‫من كانَ في فِ ْق ِه الهوى ُمتع ِبّدا‬ ‫ما ّ‬ ‫انفك قيدُ ّ‬ ‫ذكرهُ‬ ‫الروحِ يسمو ُ‬ ‫ف في األرواحِ كان ال ُمبتدا‬ ‫والع ْ‬ ‫ص ُ‬ ‫ما َّ‬ ‫هز ُ‬ ‫غصنَ الجو ِد إال من نوى‬ ‫بض حتى يبردا‬ ‫إيدا َ‬ ‫ع ك ّل النّ ِ‬ ‫طائرا كم شاقَهُ سق ُ‬ ‫ط الجنى‬ ‫يا‬ ‫ً‬ ‫األغمار يكسوهُ النّدى‬ ‫ب في‬ ‫وال َح ُّ‬ ‫ِ‬ ‫ب ّ‬ ‫مان فإنّهُ‬ ‫ال تشكُ من صخ ِ‬ ‫الز ِ‬ ‫يغفو على وقعِ النّوى ُمتع ِ ّمدا‬

‫الحتوف ُهنيهةً‬ ‫بحر‬ ‫ِ‬ ‫يا عابِ ًرا َ‬ ‫الرجا متهجدا‬ ‫غار ّ‬ ‫ك ْم كنت في ِ‬ ‫ك ْم باعدَ ْ‬ ‫العناء‬ ‫ب‬ ‫ِ‬ ‫ت أسفارنا ُح ُج ُ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫سكين ال ِعدا‬ ‫وقامرت بال ُجرحِ‬ ‫حو في ِّ‬ ‫ال ت ْس َّ‬ ‫دن ال ِغوى‬ ‫كبن ال ّ‬ ‫ص َ‬ ‫دام ُملبَّدا‬ ‫ُ‬ ‫والعمر في ِ‬ ‫كأس ال ُم ِ‬



‫إلى ظبيةُ الظبيات‬ ‫رشا طالب‬

‫ستكبر فرحةُ عمري رشا‬ ‫ُ‬

‫ً‬ ‫منزال في الحشا‬ ‫وأبني لها‬

‫أخاف على الدرب أن تعطشا‬ ‫ويدفق نب ٌع بقلبي لها‬ ‫ُ‬ ‫وقالوا‪ :‬الغزالةُ تُدعى رشا فقلتُ ‪ :‬حبيبةُ قلبي رشا‬ ‫وأدعو لها في صالة الصباح‬ ‫ستبقينَ نبتةَ عمري الذي‬

‫وأدعو لها في صالة ال ِعشا‬ ‫باي عليه نما وانتشى‬ ‫ِ‬ ‫ص َ‬

‫سواك علي ِه مشى‬ ‫ب عمري وليس‬ ‫كما شئ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ت فامشي على در ِ‬ ‫رشاي ارتشى‬ ‫بحب‬ ‫الناس بالما ِل يوما ً فقلبي‬ ‫إذا ما ارتشى‬ ‫ِّ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫مشت في حديق ِة ور ٍد‬ ‫إذا ما‬ ‫إذا حاو َل الموتُ سرقةَ عمري‬

‫بها ك ُّل ور ٍد لور ٍد وشى‬ ‫ي رشا‬ ‫تر ُّد الحياة َ إل َّ‬



‫لسمائي نجوى‬ ‫نبال رعد ‪ /‬بدنايل‬

‫أرى فيك الجمال ينطق حبا وعشقا‪،‬‬ ‫أرى الليل يزدان ودا ورفقا ‪،‬‬ ‫بك يأخذني الهوى فأصير برقا‪،‬‬ ‫بك يجتاحني الحنين فأزداد حرقا‪.‬‬ ‫***‬ ‫ال تسلني كم من الهوى أهواك‬ ‫فأنا للعاشقين أبذل من هواك‬ ‫صرت ما رأوا إالك‬ ‫أنا لو ُ‬ ‫ع ِ‬ ‫أنا لو فُ ِت ّ ْشتُ ما وجدوا سواك‬ ‫***‬ ‫إليك يطيب الهروب فانت الملجأ‬ ‫وأنت ّ‬ ‫الطبيب الذي ما أخطأ‬ ‫سني كنتُ أبرأ‬ ‫أنت بلسم لو م َّ‬ ‫سا وعلى متنك قلبي اتكأ‬ ‫فأ ْس ِل ُم نف ً‬ ‫‪***.‬‬ ‫في ك ّل أوقاتي انت الحاضر‬ ‫كأنّك اللطف الخفي ّ‬ ‫الظاهر‬ ‫تدنو فيزهر عمري وتنمو المشاعر‬ ‫تغدو فأقسم انّك الحاضر اآلمر‬ ‫***‬ ‫إعصار‬ ‫تغزوني كانّك في الهوى‬ ‫ُ‬ ‫مدار‬ ‫وتحتويني كأنّي كوكب وانت‬ ‫ُ‬ ‫أحتار‬ ‫بك أفهم الهوى وبحبك‬ ‫ُ‬


‫ّ‬ ‫ار‬ ‫كأن روحي جمرة ٌ وأنت أنت النّ ُ‬ ‫***‬ ‫عناد‬ ‫أظن ّ‬ ‫ّ‬ ‫ان االمر معقود بيد األقدار‬ ‫تصنع فينا أسطورة دون قرار‬ ‫لن أبحث عن أسباب التيه في اتون الهوى‬ ‫سأعيش الحب نارا تكوي ‪ ،‬تذيب الحشا‬ ‫وسأفرح مع ك ّل وجع يحفره الجوى‬ ‫سأظ ّل أمسك أقالمي‬ ‫ارسم بالشعر أحالمي‬ ‫سأظل أحبّك ما دام‬ ‫قلبي لقربك ظامي‬ ‫***‬

‫من أنا ؟‬ ‫أنا بين الضجيج وحيدة ال أسمع‬ ‫أنا في الوحدة ضجيج ال يُسمع‬ ‫أنا غيمة يدانيها الشعاع فتلمع‬ ‫أنا نسمة ترنو الى وجنة فتُطب ُع‬ ‫ّ‬ ‫وبت ال أرى‬ ‫أنا قد قتلت‬ ‫ف‬ ‫في الموت إال لحن قرب يُعزَ ُ‬ ‫ّ‬ ‫يتفط ُر‬ ‫فما بال قلب في الهوى‬ ‫يا راحلين الى الخفاء أما لنا‬ ‫ّ‬ ‫ٌ‬ ‫يعطف‬ ‫زمان‬ ‫يرق قلب أو‬ ‫ُ‬ ‫سحر‬ ‫ما بال أفكاري كانّها أنسام‬ ‫ٍ‬ ‫ف‪.‬‬ ‫تنف ُخ في ّ‬ ‫تعص ُ‬ ‫سرنا و ِ‬




‫ثوب الحياة‬ ‫زينة الجوهري‬

‫أيها املنسوج من خيوط العمر‬ ‫يا وجعا» تعالت به الصيحات»‬ ‫يا سجنا‬ ‫يعتقل اآلهات‬ ‫كن‪..‬عباءيت‬ ‫كن إكسري حيايت‬ ‫لتهدأ الرصخات‬ ‫كن حريتي‬ ‫ألطلق النشوة القصوى‪...‬‬ ‫سافر يف دمي‬ ‫ألحيا‬ ‫حياة األبدية‬ ‫يك تليق كتابة الشعر‬ ‫عىل وجهك آيات‬ ‫تغسله‪...‬‬ ‫ألرشب ماءه‬ ‫فتتجدد عندي الحياة‬ ‫يا من طعنت حريف‬ ‫بسكاكني األمل‬ ‫فأنهكته‬ ‫عواصف الزمن‬ ‫دعني البس‬ ‫ثوب الحياة‬ ‫وأرسق عن قامشته‬ ‫أبيات شعري‬ ‫ألطوف بني املجرات‬



‫ظالل المساء‬ ‫أمية الوزاني*‬ ‫يا لهذا المساء‬ ‫لكأن ‪ ‬حمرته ؛‬ ‫جمر لهيب أقداري‬ ‫كلما حل‬ ‫أوغل في الروح‬ ‫وحشة‬ ‫لمن غادروا‬ ‫الديار‪!..‬‬ ‫أتطلع ‪ ‬باشتياق‬ ‫أليام خلت‬ ‫أتطلع ‪،‬‬ ‫و بين أخذ ‪،‬‬ ‫و رد ‪،‬‬ ‫و آهات ‪،‬‬ ‫أطوي المسافات‬ ‫ال شيء يهزم خيبتي‬ ‫تالزمني كما ظلي ‪،‬‬ ‫تسكنني ‪،‬‬ ‫بمرارتها‬


‫كلهم ‪ ‬سواء‬ ‫يزرعون الشوك‬ ‫و يتبرأون من البالء‬ ‫فال تغرنك‬ ‫هالة ضوء‬ ‫تخفي خلفها‬ ‫قلوب سوداء‬

‫تتباهى بالفضيلة‬ ‫و تنسج لنفسها‬ ‫من الوقار رداء‬ ‫أمعن النظر‬ ‫في الغشاش‬ ‫أختنق حد البكاء‬ ‫فأطوق‪...‬‬ ‫إلى بسمة صبح‬ ‫في عيون أطفال بريئة‬ ‫الى همسة ود‬ ‫في قلوب صادقة‬ ‫الى قطرة ندى‬ ‫من رذاذ‬


‫أحتضنها بثبات ‪،‬‬ ‫و رعشة يد الغيب‬ ‫تحكم قبضتها‬ ‫على رقبتي‬ ‫حد اللهات‬

‫سأحكي لهن ‪،‬‬ ‫عاشقات المساء‬ ‫سأحكي ‪.‬و أحكي‬ ‫و اكتب وصيتي‬ ‫لكل النساء‬ ‫سأحكي ‪،‬‬ ‫حكاية الشاطر حسن‬ ‫حين استهان‬ ‫بيفظنة األميرة‬ ‫و أوحى له شيطانه‬ ‫أن يظفر بقلب الصغيرة‬ ‫ليتوج بطال‬ ‫على أبناء العشيرة‬ ‫ال استثناء‬ ‫في وطني المحموم‬ ‫كلهم جنوح‬


‫سراب الحقيقة‬ ‫الى حضنك أمي‬ ‫في لحظات انكساري‬ ‫و انا أصارع السقوط‬ ‫في بؤر الخطيئة‪.../.‬‬ ‫مراكش‪/‬المغرب*‬ ‫‪6/2/2017‬‬




‫كشف المسار الغامض لوباء الكوليرا في اليمن‬

‫خ‬ ‫ا‬ ‫ص‬

‫دراسة تكشف عن أصول الوباء المتفشي في اليمن وترسم خريطة النتقالها وتحدد نوعية المضادات‬ ‫الحيوية المناسبة لدرئها‬

‫‪​Credit: Prisma by Dukas Presseagentur GmbH / Alamy Stock Photo‬‬

‫يعيــش اليمــن واحــدة ً مــن أكبــر األزمــات اإلنســانية فــي العصــر الحديــث؛ إذ يتكالــب عليــه ثالــوث مرعــب‪ ،‬أضالعــه الفقــر‬ ‫والمــرض والدمــار‪ ،‬وهــو أمــر أجبــر منظمــات اإلغاثــة العالميــة ومؤسســات الصحــة األمميــة علــى تقديــم ُمســاعدات عاجلــة‬ ‫عــا عنيفًــا قوامــه الســلطة والنفــوذ‪ ،‬وفق‪ ‬موقع‪ ‬اللجنــة الدوليــة للصليــب األحمــر‬ ‫للقاطنيــن فــي تلــك البــؤرة التــي تشــهد صرا ً‬ ‫علــى اإلنترنــت‪.‬‬ ‫ـرا‪ ،‬تعاونــت مجموعــة دوليــة مــن الباحثيــن فــي محاولــة إللقــاء مزيــد مــن الضــوء علــى مشــكلة كبيــرة تواجههــا تلــك‬ ‫ومؤخـ ً‬ ‫الدولــة التــي تقــع جنــوب غــرب شــبه الجزيــرة العربيــة‪ ،‬بعــد أن قامــوا بالكشــف عــن مصــدر أكبــر حــوادث انتشــار وبــاء‬ ‫الكوليــرا فــي العصــر الحديــث‪ ،‬وهــو األمــر الــذي يُتوقــع لــه أن يُسـ ِهم فــي الســيطرة علــى موجــات تف ِ ّ‬ ‫شــي المــرض في المســتقبل‪.‬‬ ‫في‪ ‬الدراسة‪ ‬المنشــورة فــي دوريــة «نيتشــر» (‪ ،)Nature‬قــام الباحثــون بتحليــل وتتبُّــع وبــاء الكوليــرا باليمــن‪ ،‬وتوصلــوا‬ ‫إلــى نتائــج مكنتهــم من‪ ‬دراســة التطــور الســالي‪ ‬لها‪ ،‬ونشــوء المــرض‪ ،‬ورســم خريطــة لمســارات انتقالهــا وتتبُّــع تطورهــا‬ ‫وتحديــد نوعيــة ال ُمضــادات الحيويــة التــي يُمكــن اســتخدامها لمواجهــة هــذا الوبــاء‪ ،‬وذلــك عبــر فحــص الخريطــة الجينيــة ووضــع‬ ‫التسلســل الجينومــي لعينــات مــن بكتيريــا «ضمــة الكوليــرا» ‪ Vibrio cholera‬المعزولــة مــن مناطــق موبــوءة فــي اليمــن‪.‬‬ ‫قالــت النتائــج إن كل العينــات التــي ُجمعــت مــن اليمــن خــال الفتــرة الزمنيــة لتف ِ ّ‬ ‫شــي الوبــاء تنتمــي إلــى ســالة واحــدة مــن‬ ‫الكوليــرا تُســمى ‪.T13‬‬ ‫ـرا عــن ســالة الكوليــرا التــي انتشــرت فــي الشــرق األوســط إبــان‬ ‫وأظهــر تحليــل الخريطــة الجينيــة لذلــك النــوع اختالفًــا كبيـ ً‬ ‫ـرا فــي شــرق أفريقيــا فــي ك ٍّل مــن كينيــا وتنزانيــا‬ ‫الحــرب علــى العــراق‪ ،‬فيمــا تطابقــت تلــك الســالة مــع ســالة انتشــرت مؤخـ ً‬ ‫وأوغنــدا بيــن عامــي ‪ 2015‬و‪.2016‬‬ ‫وأفضــى تحليــل هــذه البيانــات إلــى أن «كوليــرا اليمــن» ‪-‬التــي تحتــوي علــى جيــن ‪ -ctxB7‬بــدأت فــي األســاس فــي جنــوب‬ ‫آســيا‪ ،‬وتحدي ـدًا فــي الهنــد مــن عــام ‪ ،2006‬ثــم انتقلــت فــي ثــاث موجــات مختلفــة علــى األقــل لغــرب أفريقيــا فــي ‪،2008‬‬ ‫وهايتــي فــي ‪ ،2010‬وشــرق أفريقيــا فــي ‪ 2013‬و‪.2014‬‬


‫وارتفعــت معــدالت اإلصابــة بوبــاء الكوليــرا بيــن المدنييــن فــي اليمــن لتزيــد مــن معاناتهــم؛ إذ تعيــش البــاد ويــات حــرب‬ ‫مســتمرة منــذ ثــاث ســنوات بيــن القــوات المواليــة للرئيــس «عبــد ربــه منصــور هــادي»‪ ،‬المدعومــة مــن قــوات التحالــف بقيــادة‬ ‫المملكــة العربيــة الســعودية واإلمــارات‪ ،‬وحركــة الحوثييــن‪ ،‬المدعومــة مــن إيــران‪.‬‬

‫دراسات مرجعية‬ ‫فحــص الباحثــون ‪ 116‬حالــة‪ ،‬ضمن‪ ‬الســياق التطــوري الســالي‪ ‬لمجموعة عالميــة تضــم ‪ 1087‬عين ـةً معزول ـةً مــن البكتيريــا‬ ‫المســببة للوبــاء الســابع‪.‬‬

‫ضــا مــن اليمــن أصيبــوا بالعــدوى فــي عامــي ‪ 2016‬و‪ ،2017‬منهــم ‪ 39‬مــن ثــاث محافظــات‬ ‫وشــملت الحــاالت ‪ 42‬مري ً‬ ‫رئيســية و‪ 3‬حــاالت مــن معســكر لجــوء بالحــدود الســعودية‪ ،‬عــاوة علــى ‪ 73‬حالــة تــم جمعهــا مــن دراســات مرجعيــة لبعــض‬ ‫الــدول التــي أصيــب ســكانها بالكوليــرا‪ ،‬وتنقســم تلــك الحــاالت إلــى ‪ُ 6‬مصابيــن مــن فرنســا‪ ،‬و‪ُ 11‬مصابًــا مــن العــراق و‪14‬‬ ‫ُمصابًــا مــن جنــوب الســودان‪ ،‬و‪ 10‬مــن كينيــا و‪ 3‬مــن الســعودية و‪ 29‬مــن الهنــد‪.‬‬ ‫ووفــق منظمــة الصحــة العالميــة‪ ،‬هاجمــت «الكوليــرا» اليمــن علــى موجتيــن منفصلتيــن أحدثتــا تفشـيًا وبائيًّــا‪ ،‬وقعــت األولــى بيــن‬ ‫ـان أســفر‬ ‫أكتوبــر ‪ 2016‬وإبريــل ‪ ،2017‬وتســببت فــي وفــاة ‪ 129‬حالــة وإصابــة ‪ 25800‬حالــة‪ ،‬ثــم تــا تلــك الموجــة تفـ ٍ ّ‬ ‫ـش ثـ ٍ‬ ‫عــن إصابــة ‪ 1.33‬مليــون حالــة و‪ 2.641‬حالــة وفــاة حتــى نوفمبــر الماضــي‪.‬‬

‫نظام مراقبة عالمي‬ ‫نجــح الباحثــون فــي تحديــد نــوع الســالة الحاليــة مــن الكوليــرا فــي اليمــن‪ ،‬مشــيرين إلــى أنهــا «نــوع واحــد‪ ،‬وقالــوا إن مصدرهــا‬ ‫هــو شــرق أفريقيــا‪ ،‬المرتبــط باليمــن عــن طريــق حــركات الهجــرة والتجــارة المســتمرة»‪.‬وقالت الدراســة إن ســوء األوضــاع‬ ‫الصحيــة فــي اليمــن أدى إلــى انتشــار الوبــاء القــادم مــن شــرق القــارة الســمراء بشــكل ســريع‪.‬‬

‫وعــاوة علــى تحديــد مصــدر الكوليــرا‪ ،‬نجــح الباحثــون فــي تحديــد نــوع ال ُمضــادات الحيويــة التــي يُمكــن اســتخدامها لمحاربــة‬ ‫فاشــية الكوليــرا اليمنيــة‪ ،‬وقالــوا إن ســالة الكوليــرا فــي اليمــن أظهــرت ُمقاومــة لثالثــة أنــواع مــن ال ُمضــادات الحيويــة‪:‬‬ ‫عــا مــن المضــادات الحيويــة فــي القضــاء‬ ‫نيتروفيورانتويــن‪ ،‬فيبروســتاتيك ‪ ،O/129‬وحمــض الناليديكســيك‪ ،‬فيمــا نجــح ‪ 17‬نو ً‬ ‫علــى البكتيريــا ال ُمســببة للمــرض‪ ،‬أبرزهــا (البوليمكســين ب ‪ ،)Polymyxin B‬وهــو نــوع مــن المضــادات الحيويــة رخيــص‬ ‫الســعر وذو فاعليــة كبيــرة فــي محاربــة البكتيريــا والفطريــات والتهابــات الســحايا‪.‬‬

‫يقــول «فرانســوا كزافييــه ويــل»‪ ،‬الباحــث فــي مجــال األوبئــة بمعهــد باســتير الفرنســي‪ ،‬والمؤلــف األول للدراســة‪« :‬إن النتائــج‬ ‫قدمــت إعــادة بنــاء للمســار الــذي انتشــرت مــن خاللــه ســالة الكوليــرا التــي ضربــت اليمــن خــال األعــوام الماضيــة»‪.‬‬ ‫ويضيــف فــي تصريحــات لـ»للعلــم»‪ :‬إن الدراســة تهــدف إلــى التوصــل إلــى «فهــم أفضــل للكيفيــة التــي تنتشــر بهــا ُمســببات‬ ‫الكوليــرا حــول العالــم»‪ ،‬مؤك ـدًا أن فهــم طريقــة انتشــار البكتيريــا سيُســهم فــي الحــد مــن اإلصابــات مسـ ً‬ ‫ـتقبل‪.‬‬ ‫اســتغرق العمــل فــي الدراســة ‪ 3‬ســنوات كاملــة‪ ،‬وشــارك فيهــا باحثــون مــن مصــر والســعودية والواليــات المتحــدة األمريكيــة‬ ‫واليمــن والهنــد‪ ،‬ويقــول «فرانســوا» إن نتائجهــا جــاءت ضمــن مبــادرة عالميــة تهــدف إلــى إقامــة نظــام مراقبــة عالمــي للكوليــرا‪،‬‬ ‫«تنطلــق فيــه مكافحتهــا علــى أســاس معرفــة تسلســلها الجينــي عبــر عــزل فاشــيتها المرضيــة»‪ ،‬وتشــترك فيهــا منظمــة الصحــة‬ ‫العالميــة ويونيســف ومنظمــة أطبــاء بــا حــدود والعديــد مــن الهيئــات الصحيــة األخــرى‪.‬‬


‫تستجيب‬ ‫ساللة الكوليرا اليمنية للعالج بالبوليمكسين بسبب وجود طفرة في حمضها النووي نجم عنها تغير في تسلل األحماض األمينية‬ ‫‪ )Credit:Naturevolume 565 (2019‬‬ ‫ووفق‪ ‬تقديرات‪ ‬منظمــة الصحــة العالميــة‪ ،‬تُعــد الكوليــرا أحــد أنــواع العــدوى المعويــة الحــادة التــي تُســببها بكتيريــا تُعــرف باســم‬ ‫«الضمــة الكوليريــة»‪ ،‬وتنتقــل تلــك البكتيريــا عبــر الطعــام أو المــاء الملــوث‪ ،‬ويُمكــن أن تــؤدي اإلصابــة بهــا إلــى الجفــاف الحــاد‬ ‫ال ُمســبب للوفــاة حــال عــدم تل ِقّــي العــاج الــازم‪.‬‬ ‫تنــاول أدويــة الجفــاف‪ ،‬وإعطــاء المضــادات الحيويــة‬ ‫وفــي العــادة‪ ،‬يُمكــن عــاج الكوليــرا باســتخدام تدابيــر بســيطة‪ ،‬منهــا‬ ‫ُ‬ ‫المناســبة لســالة المــرض‪ ،‬ورغــم ســهولة العــاج‪ ،‬إال أن الحصــول عليــه فــي مناطــق الصــراع –كاليمــن‪ -‬يظــل عصيًّــا‪ ،‬وهــو‬ ‫مــا يــؤدي إلــى زيــادة نســب الوفــاة الناجمــة عــن اإلصابــة بذلــك المــرض‪.‬‬


‫صــا‬ ‫ووفــق «فرانســو»‪ ،‬لــن تُســهم نتائــج الدراســة فــي الوقــت الحالــي فــي أي تغييــر فــي وضــع انتشــارها فــي اليمــن‪ ،‬خصو ً‬ ‫فــي ظــل تفاقــم األوضــاع الصحيــة األخــرى‪ ،‬وتدميــر نســبة ال بــأس بهــا مــن المرافــق الصحيــة نتيجــة االقتتــال األهلــي هنــاك‪.‬‬ ‫وتقــول منظمــة الصحــة العالميــة إن ‪ %45‬مــن المرافــق الصحيــة فــي اليمــن تعمــل بكامــل طاقتهــا‪ ،‬فيمــا دُ ِ ّمــرت تما ًمــا ‪،%17‬‬ ‫وتعمــل ‪ %38‬منهــا بشــكل جزئــي‪.‬‬

‫ويشــير‪ ‬تقرير‪ ‬صادر عــن المنظمــة إلــى أن نحــو ‪ 4.5‬مالييــن شــخص يحتاجــون إلــى خدمــات صحيــة متعلقــة بســوء التغذيــة‪،‬‬ ‫ووصــف رؤســاء الهيئــات الصحيــة الثــاث التابعــة لألمــم المتحــدة (يونيســف وبرنامــج األغذيــة العالمــي ومنظمــة الصحــة‬ ‫العالميــة) الوضــع فــي اليمــن بأنــه «مزيــج فــي غايــة القســاوة»‪.‬‬

‫ووفق‪ ‬بيــان صحفي‪ ‬صــادر عــن اليونيســف‪« :‬إن البــاد علــى حافــة الوقــوع فــي مجاعــة؛ إذ يعيــش أكثــر مــن ‪ 60‬فــي المئــة‬ ‫مــن الســكان فــي حالــة عــدم يقيــن حــول وجبتهــم القادمــة‪ ،‬كمــا يعانــي حوالــي مليونــي طفــل مــن ســوء التغذيــة الحــاد الــذي‬ ‫يجعلهــم أكثــر عرض ـةً لإلصابــة بالكوليــرا‪ ،‬فيمــا تــؤدي األمــراض إلــى زيــادة ســوء التغذيــة»‪.‬‬

‫ـرا جســي ًما‪ ،‬يقــول التقريــر ذاتــه إن األمــل ال يــزال موجــودًا‪ ،‬فأكثــر مــن ‪ %99‬مــن‬ ‫وعلــى الرغــم مــن أن الوضــع يشــكل خطـ ً‬ ‫األشــخاص المشــتبه فــي إصابتهــم بمــرض الكوليــرا يســتطيعون الحصــول علــى الخدمــات الصحيــة‪ ،‬إال أن المنظمــات األمميــة‬ ‫تدعــو إلــى «بــذل الجهــود المســتدامة لوقــف انتشــار الكوليــرا فــي اليمــن»‪.‬‬

‫موجة ثالثة محتملة‬ ‫ووفق‪ ‬موقع‪ ‬اللجنــة الدوليــة للصليــب األحمــر‪ ،‬يُعَــد اليمــن اليــوم «أكبــر مأســاة إنســانية فــي العالــم‪ ،‬إذ هنــاك أكثــر مــن ‪20‬‬ ‫مليــون شــخص بحاجــة إلــى المســاعدة ويواجهــون تحديًــا مــع الزمــن فــي ظــل اســتمرار الحــرب فــي اليمــن»‪.‬‬

‫وتقــول اللجنــة إن دمــار البنيــة التحتيــة بلــغ ح ـدًّا جســي ًما «نجــم عنــه حرمــان ذوي األمــراض المزمنــة مــن الحصــول علــى‬ ‫العــاج المنقــذ للحيــاة»‪ ،‬مشــيرة ً إلــى أن انقطــاع الميــاه عــن بعــض المــدن أدى إلــى «ظهــور الكوليــرا وتكاثرهــا»‪ ،‬مؤكــدة ً أن‬ ‫نحــو ‪ 14.8‬مليــون شــخص يمنــي يفتقــرون إلــى الحــدود الدنيــا مــن الرعايــة الصحيــة فــي الوقــت الراهــن‪.‬‬

‫ونقلــت وكالــة «رويتــرز» عــن المديــر التنفيــذي لبرنامــج الطــوارئ الصحيــة فــي منظمــة الصحــة العالميــة «بيتــر ســامة»‬ ‫قولــه‪« :‬إن اليمــن ربمــا يكــون علــى شــفا موجــة ثالثــة كبيــرة مــن وبــاء الكوليــرا»‪.‬‬ ‫وقالــت الوكالــة في‪ ‬تقريرها‪ ‬المنشــور أغســطس الماضــي إن اليمــن لــم يشــهد قَــط حملــة للتطعيــم ضــد الكوليــرا عــن طريــق‬ ‫الفــم‪ ،‬ووفــق «بيتــر»‪ :‬إن التفشــي علــى ذلــك النطــاق الهائــل «ربمــا يكــون قــد ســاعد علــى تقويــة المناعيــة مــن الكوليــرا بيــن‬ ‫الســكان»‪ ،‬إال أنــه عــاد وأكــد أن «أنظمــة المناعــة لــدى اليمنييــن ضعفــت بســبب أمــراض أخــرى‪ ،‬إضافــة إلــى ســوء التغذيــة»‪،‬‬ ‫مؤكـدًا أن المســتقبل «لــن يشــهد فحســب زيــادة فــي عــدد الحــاالت‪ ،‬بــل ســتزيد معــدالت الوفيــات بيــن حــاالت اإلصابــة بالكوليرا؛‬ ‫ألن النــاس لــم يعــد لديهــم المزيــد مــن المــوارد الماديــة التــي تم ِ ّكنهــم مــن محاربــة المــرض»‪.‬‬

‫بقلم الكاتبة‪ :‬شمسه القحطاني ( اإلمارات العربية المتحدة)‬



‫ِ‬ ‫باألشخاص‬ ‫ليس ْت ضامن ُة األوطانِ‬ ‫َ‬ ‫العابري َن‪ ،‬بل بالضَ َمئِر الخَالِ َدة"‬ ‫د‪.‬حسن فرحات‬


Issuu converts static files into: digital portfolios, online yearbooks, online catalogs, digital photo albums and more. Sign up and create your flipbook.