لبنان املعا�صر: النخبة واخلارج وف�شل التنمية
املركز اال�ست�شاري للدرا�سات والتوثيق
The Consultative Center for Studies and Documentation متخصصة تُعنى بحقيل األبحاث واملعلومات مؤسسة علمية ّ ّ
عنوان الكتاب :لبنان املعا�صر :النخبة واخلارج وف�شل التنمية
�إعداد� :ألرب داغر �صادر عن :املركز اال�ست�شاري للدرا�سات والتوثيق. تاريخ الن�رش :متوز ،2017املوافق ذو القعدة 1438هـ. الطبعة :الأوىل. القيا�س24*17 :
جميع احلقوق حمفوظة © العنوان :بئر ح�سن ـ جادة الأ�سد ـ خلف الفانتزي وورلد بناية الإمناء غروب ـ الطابق الأول. هاتف01/836610 : فاك�س01/836611 : خليوي03/833438 : P.o.Box: 24/47 Baabda 10172010 Beirut-Lebanon dirasat@dirasat.net www.dirasat.net
ثبت املحتويات تقدمي مق ّدمة الف�صل الأول :تك ّون النخبة ودورها يف حقبتي ال�سلطنة واال�ستقالل
.........................................................................................................................................................................................................................................................................................................
7
....................................................................................................................................................................................................................................................................................................
9
...........................................................
21
.................................................................................................................................................................
23
...............................................................................................................................................................................................
31
.......................................................................................
49
......................................................................................................
58
.............................................................................................................................................................................................................
73
....................................................................................................................................
75
�أو ًال :نخبة ال�سلطنة العثمانية واقت�صادها املت�رصفية واقت�صادها ثاني ًا :نخبة ّ
ثالث ًا :النخبة يف مطلع اال�ستقالل :ت�أثريت التدخل الأمريكي
رابع ًا :كيف �أفرغت دولة الإ�ستقالل ريف لبنان من �أهله
الف�صل الثاين :النخبة واحلرب
�أو ًال :التهيئة للحرب الأهلية ( 1975ــ )1990
ثاني ًا :موجز يف الأدبيات النظرية التي ت�سهم يف فهم حرب ال�سنتني»(89 )1976-1975
ثالث ًا :جتربة الإنهيار النقدي 102 ............................................................................................................................................................................................................ رابع ًا :الريف والهجرة خالل احلرب الأهلية وبعدها 129 .................................................................................................................
الف�صل الثالث :مرحلة ما بعد الطائف 133 ................................................................................................................................................................................. �أو ًال� :إقت�صاد لبنان بعد احلرب 135 .................................................................................................................................................................................................
ثاني ًا :نخبة لبنان بعد الطائف واقت�صاده 139 ................................................................................................................................................................... ثالث ًا :النخبة «فوق القانون» 149 .......................................................................................................................................................................................................... رابع ًا :لبنان «�ساحة حرب» دائمة 160 ......................................................................................................................................................................................
الف�صل الرابع :نحو التنمية البديلة 173 ....................................................................................................................................................................................... �أو ًال :مواجهة «العوملة النيو -ليربالية» 175 ..........................................................................................................................................................................
ثاني ًا :بناء الإدارة احلكومية197 .................................................................................................................................................................................................................
مراجع الكتاب 207 ..................................................................................................................................................................................................................................................................
5
لبنان املعا�صر: النخبة واخلارج وف�شل التنمية
�ألرب داغر
8
تقدمي يوفر هذا الكتاب مداخل جديدة لفهم �أزمة التنمية يف لبنان وحتليل �أ�سبابها ،م�ستنداً �إىل مراجعات مكثفة للأدبيات التنموية ذات ال�صلة ،وت�أ�سي�س منهجي مو�سوعي وهادف. لين�ضم بذلك �إىل �سل�سلة امل�ساهمات النظرية والتحليلية التي حاول من خاللها باحثون من اجتاهات عدة ،تف�سري �أ�سباب تعرث النموذج اللبناين وتقطع م�ساراته وتبدد وعوده. لكن اجلديد يف الكتاب هو املزج بني مناهج متعددة ،مع الرتكيز على املنهجني التاريخاين والبنيوي ،يف م�سار معاك�س لثقافة البحث االقت�صادي اجلديدة التي تكاد تقت�رص على التحليل التجريبي والت�أطري القيا�سي النمطي ،وتربئ نف�سها من �أي ارتباط بحقل االقت�صاد ال�سيا�سي، مع �أن هذا الأخري هو الأكرث مالءمة لفهم العوامل الكامنة خلف امل�شكالت االقت�صادية ،يف البلدان واالمم التي تعاين من متزقات اجتماعية ومع�ضالت �سيا�سية �شديدة. ولعل اال�ضافة الرئي�سية التي قدمها الكاتب هو نظرته اخلا�صة لفكرة التبعية ،فال يلقي ومتيز ،دور باللوم على العالقة غري املتكافئة مع اخلارج فقط ،بل يربز �إىل جانب ذلك بدقة ّ النخبة اللبنانية وت�رصفاتها يف تر�سيخ االخفاق التنموي ،وهي التي ارتبطت على مدى قرنني من الزمن باخلارج واندجمت ب�أنظمة م�صاحله ،على نحو جماف للم�صالح الوطنية والعامة .تقرتب �أطروحات الكتاب من مدر�سة التبعية يف تف�سري الت�أخر التنموي ،لكنه ال يجاريها متام ًا ،فيما يقف على طرف نقي�ض من املقاربات الكال�سيكية والنيوليربالية، كمدر�سة التحديث ،التي ترى ان للتقدم م�ساراً وحيداً ال ميكن عبوره ،دون الن�سج على منوال التجارب الغربية للنمو وجتاوز العقبات الداخلية التي تعرت�ض �سبيلها. �إن مبادرة املركز اال�ست�شاري للدرا�سات والتوثيق �إىل ن�رش هذا الكتاب ،ت�أتي يف �سياق م�رشوعه امل�ستمر لدرا�سة �سبل الإ�صالح االقت�صادي وا�ستك�شاف البدائل وتو�سيع م�ساحات النقا�ش وجماالته ،يف وقت �أكرث ما نحتاج �إليه يف لبنان خ�صو�ص ًا والعامل العربي عموم ًا �إىل ت�أ�سي�س نظري جديد ،يقودنا لإيجاد منوذجنا االر�شادي اخلا�ص للتقدم والتنمية والتحديث ،على �أن يكون ذلك من خارج الأطر والو�صفات املنغلقة على نف�سها ،ومبا يتنا�سب مع حاجاتنا و�إمكاناتنا وخرباتنا التاريخية ونظرتنا اىل دورنا املطلوب وامل�أمول يف املنطقة والعامل. 7
القارة الهندية ،بول للدولة ِ امل�ستعمرة .وا�ستخدم الباحث الكبري واالخت�صا�صي يف �ش�ؤون �شبه ّ برا�س ،مفهوم "النخبة املتواطئة" ( )collaborationistلتو�ضيح عالقة نخب الأقاليم الواقعة �ضمن �إطار الإمرباطوريات الكربى ،كالإمرباطورية النم�ساوية-الهنغارية والإمرباطورية العثمانية وغريهما ،باملركز الإمرباطوري (برا�س .)1991 ،و�أ�ضاء بيرت �إيفانز على �أدبيات التيار امل�ؤ�س�ساتي يتحدد يف �ضوئه جناح �أو ف�شل التنمية و"الت�صنيع املت� ّأخر" التي �أظهرت دور الدولة املركزي الذي ّ مو�ضح ًا �أن نوع العالقة التي تن�شئها الدولة مع النخب اال�ستثمارية (،)state-society relation هو املدخل لفهم حاالت النجاح وحاالت الإخفاق على هذا ال�صعيد (�إيفانز.)1995 ، 1ـ الأعيان والتبعية يف احلقبة العثمانية جرى ا�ستخدام هذه الإ�سهامات يف الف�صلني الأول والثاين من الكتاب لتو�ضيح عالقة نخبة ال�سلطنة باخلارج ممث ً ال ب�أوروبا وعالقة ال�سلطنة بالنخبة املحلية يف لبنان ،ولر�سم �صورة الإخفاق التنموي الذي ُمني به لبنان يف العهد العثماين .وقد عمدت ال�سلطنة العثمانية منذ القرن الثامن ع�رش �إىل تكليف نخب حملية باجلباية .ون� أش� نوع من "خ�صخ�صة ال�سلطة املحلية" على يد ه�ؤالء الأعيان يف خمتلف مناطق ال�سلطنة الذين ا�ستمروا يف �رشاء حق جباية ال�رضائب حتى 1838ر�سمي ًا، وفعلي ًا حتى نهاية عمر ال�سلطنة .ازدادت �سلطة الأعيان املحليني على مدى املئة �سنة الأخرية من عمر ال�سلطنة ب�سبب �ضعف هذه الأخرية وحاجتها �إليهم لإر�ساء �سلطتها على ال�صعيد املحلي كما بينّ ذلك �ألربت حوراين (حوراين.)1968 ، عام ،1838وافق ال�سلطان حممود الثاين على فتح ال�سلطنة العثمانية لت�صدير املواد الأولية الزراعية �إىل �أوروبا والإ�سترياد منهاكثمن للدعم الذي وفّرته �أوروبا له ملواجهة حممد علي با�شا. حتولت ال�سلطنة �إىل اقت�صاد زراعي تابع ينتج املواد الأولية بعد ذلك التاريخ وحتى نهاية عمرها ّ التدخل حلماية املنتجني ،وكذلك منعها التي حتتاج �إليها �أوروبا .و�أدى ذلك �إىل منع ال�سلطنة من ّ من خلق نخب �إ�ستثمارية تعمل معها على حتقيق "ت�صنيع مت�أخر" ،كما جرى يف اليابان .وكانت النخبة ال�سيا�سية حلقبة "امليجي" يف اليابان قد انطلقت يف الأ�سا�س من اعتبار الأوروبيني "برابرة" ينبغي اال�ستعداد ل�صد عدوانهم. يعول على ملاّ ك الأر�ض جعل قبول ال�سلطنة بلعب دور �إقت�صاد تابع لأوروبا ال�سلطان العثماين ّ وغريهم من النخب التقليدية ،الذين مل يكونوا قادرين على �إطالق م�رشوع حتديث و"ت�صنيع 10
مقدمة جتربة لبنان منذ املت�صرفية :الإخفاق التنموي خم�سة �أرقام تخت�رص جتربة لبنان على مدى 150عام ًا� ،أي منذ �إن�شاء املت�رصفية عام � .1861أول قدر عددهم بربع �سكان هذه الأرقام هو كرثة املهاجرين من لبنان بني عامي 1900و ،1913الذين ّ مهدت تلك الهجرة الفادحة مل�صيبة �أكرب مت ّثلت باملجاعة خالل احلرب العاملية املت�رصفية .وقد ّ الأوىل .فقد لبنان الكبري املو ّزع �آنذاك على املت�رصفية ووالية بريوت % 41من �شعبه .ومل تكن كارثة املجاعة لتبلغ احلد الذي بلغته لو مل ت�سبقها الهجرة الكثيفة من املت�رصفية .والرقم الثالث هو عدد املهاجرين من الريف خالل عقد ال�ستينيات وحده .وقد طاولت "الهجرة الداخلية" 689 متخ�ضت عنه احلرب الأهلية �ألف �شخ�ص� ،أو ثلث �شعب لبنان �آنذاك� .أما الرقم الرابع فهو ما ّ الطويلة ( )1990-1975من هجرة طاولت � 990ألف �شخ�ص حتى عام � .1990أما الرقم اخلام�س، فهو عدد املهاجرين من فئة ال�شباب بني عامي 1992و 2007الذي بلغ � 466ألف �شاب� ،أو ثلث ت�سببت به تبعية لبنان لدول القوى العاملة اللبنانية .هذه الأرقام تدل على �إخفاق تنموي ذريع ّ الغرب ،وم�صلحة نخبته يف ا�ستمرار هذه التبعية. تنطوي ن�صو�ص الباحث الكبري والإخت�صا�صي يف �ش�ؤون ال�رشق الأو�سط رميوند هينبو�ش على جتاوز للبنيوية القدمية التي حت�رص امل�س�ؤولية باخلارج يف تف�سري حاالت التبعية والإخفاق التنموي. وهو �أخذ من البنيوية القدمية نظرية التبعية ونظرية املركز والأطراف ونظرية الإمربيالية ،و�أخذ من مدر�ستي الواقعية والبنائية يف العالقات الدولية عنا�رص �إ�ضافية لبلورة مقاربة "بنيوية جديدة" تف�سرّ ملاذا بقي ال�رشق الأو�سط احلديث يف �أ�سفل الرتاتبية الدولية (هينبو�ش .)214 :2011 ،وهذه املقاربة مَ مَ امل�ستزلة يف �إر�ساء حالة التبعية لبلدانها. امل�ستزلة والدول ت�أخذ يف الإعتبار دور النخب وقد ر�سم روبن�سون وغاالهر ( )1953وروبن�سون (� )1972أ�شكا ًال خمتلفة من تعاطي الدول الإ�ستعمارية مع البلدان املتخ ّلفة يف القرن التا�سع ع�رش ،لعل �أهمها "احلكم غري املبا�رش" ( ،)indirect ruleحيث تتوىل النخب املحلية �إدارة ال�ش�أن املحلي �ضمن �إطار من التبعية 9
هذا النفوذ بف�ضل الإنزال الع�سكري الذي قامت به على ال�سواحل اللبنانية ودورها املبا�رش يف �إحلاق الهزمية ب�إبراهيم با�شا ودفعه �إىل الإنكفاء �إىل م�رص� .أ�صبح لأوروبا دورها يف حتديد من يكون ومن ال يكون على ر�أ�س املت�رصفية .ومنذ ذلك التاريخ ن�ش�أ تقليد يق�ضي ب�أن يكون على ر�أ�س الكيان ال�شخ�ص الذي يتوافق اخلارج عليه. كان للخارج ممث ً الت�سبب بالإخفاق التنموي للمت�رصفية. ال بالقوى الأوروبية دوره احلا�سم يف ّ �ألغى �إمكان �أن ت�ساهم ال�سلطنة يف متويل موازنتها لأن خدمة الدين العام العثماين كانت ت�ستنفد مواردها .لكن الأ�سو�أ من ذلك بكثري� ،أن النخبة املحلية مل يكن لديها م�رشوع تنموي من �أي نوع� .أم�ضت اخلم�سني عام ًا من عمر املت�رصفية يف املماحكات مع الإدارة املركزية يف ا�سطنبول تتفرج على حول ال�رضائب البائ�سة التي مت فر�ضها ،وحول من يحق له ا�ستخدام �إيرادها .ووقفت ّ هجرة �أبناء املت�رصفية التي بلغت م�ستوى كارثي ًا خالل العقد الأول من القرن الع�رشين .مل تر خطر الهجرة ،ومل تبلور مقاربة واحدة من �ش�أنها �أن توقف �سيل املهاجرين .روى روجر �أوين كيف انتهت �صناعة نا�شئة يف قطاع احلرير ب�سبب �سيا�سة "اليد املرفوعة" التي اعتمدتها الدولة ممثلة بال�سلطنة و�إدارة املت�رصفية. هاجر � 100ألف �شخ�ص� ،أي ربع �سكان املت�رصفية ،البالغ عددهم � 422ألف ًا وذلك خالل 13 عام ًا ( .)1913-1900وحني �أطلق الأب جوزيف ديلور الي�سوعي �رصخته عام 1914للإ�ضاءة املهدمة والبيوت التي باتت بال �سقوف ،بعد على كارثة الهجرة ا�ستخدم �صوراً �أظهرت الأحياء ّ هجرة �أ�صحابها. احلديث عن �سنوات احلرب على �أن الكتاب �أغفل ،كما كل حماوالت الت�أريخ للتجربة اللبنانية، َ تخ�ص�ص املت�رصفية يف �إنتاج �رشانق احلرير ،و�إهمال �إنتاج العاملية الأوىل ك�سنوات جماعة .كما �أن ّ احلبوب ،والهجرة الكثيفة للفئات ال�شابة� ،أ�ضعفت قدرة ريف املت�رصفية ووالية بريوت على الربي الذي فر�ضه العثمانيون ،واحل�صار البحري الذي فر�ضه احللفاء .تعاون مواجهة احل�صار ّ يتحدث عنها ،علم ًا ب�أنها �أزهقت �أرواح % 41 الطرفان على ارتكاب جرمية �إبادة ل�شعب ال �أحد ّ من ال�سكان على مدى �أربع �سنوات. يخ�ص�ص الكتاب ف�ص ً ال حلقبة االنتداب التي حافظ املقاطعجيون القدامى خاللها على مل ّ �سلطتهم املحلية .كانت قاعدة "احلكم غري املبا�رش" التي اعتمدها اال�ستعمار يف عالقته مع النخب كر�ست التقليدية �ضمانة بقاء هذه النخب التي انتقل والء �أفرادها �إىل املحتل الأجنبي اجلديدّ . 12
مت�أخر" على �شاكلة ما فعلته النخبة التقليدية يف اليابان .وتو�ضح املقارنة بني اليابان وال�سلطنة العثمانية �أن االختالف اجلذري بني التجربتني مل يكن فقط على م�ستوى عالقة الدولة بالنخب و�إمنا �أي�ض ًا على م�ستوى البنى الإدارية القائمة� ،أي طبيعة الإدارة احلكومية وتكوينها يف كليهما. فقد بنت اليابان �إدارة حكومية ف ّعالة على قاعدة اال�ستحقاق كان ي�صار لتن�سيب �أفرادها بوا�سطة املباريات الوطنية �أوكلت �إليها بلورة م�رشوع "الت�صنيع املت� ّأخر" وتنفيذه� .أما يف حالة ال�سلطنة العثمانية فكانت تزكية امل�س�ؤولني هي القاعدة يف االنت�ساب �إىل الإدارة العامة ،وكان يتم خلق مواقع �إدارية ال حاجة لها لتوزيع التنفيعات على املوالني. يظهر الف�صل الثاين حول نخبة املت�رصفية واقت�صادها� ،إمكان العودة �إىل عام 1711يف الت�أريخ لعملية ت�أ�سي�س �سلطة املقاطعجيني كـ "�أ�صحاب �سلطة حملية" يف لبنان .يف ذلك العام ،وبعد معركة عني دارة� ،أعاد الأمري حيدر ال�شهابي توزيع املقاطعات على حلفائه .وقد ح�صل ه�ؤالء على حق توريث �أوالدهم و�أ�صبحت عائالت املقاطعجية تتوارث ال�سلطة املحلية جي ً ال بعد جيل �أكرث من �أي مكان �آخر يف ال�سلطنة .و�أنهى انهيار الإمارة ال�شهابية عام 1841دور املقاطعجيني كنخبة يلغ ح�ضورهم على امل�ستوى املحلي. �إمارة لكنه مل ِ كانت نخبة املقاطعجية اللبنانية منوذج ًا لـ"نخبة متواطئة" مع اخلارج .وقد فر�ضت ال�سلطنة الإبقاء على املقاطعجيني القدامى كنخبة حملية .وطلب ال�سلطان عبد العزيز تعيينهم قائممقامني ومديرين لأق�ضية ومديريات املت�رصفية ،وا�ستعاد لآل اخلازن بيوتهم و�أمالكهم التي فقدوها بعد ثورة فالحي ك�رسوان .وحافظت عائالت املقاطعجية القدمية على ح�ضورها من خالل ا�ستخدام �صالت �أفرادها بال�سلطنة. املكون الوحيد للنخبة ال�سيا�سية يف املت�رصفية ،لكنهم فقد املقاطعجيون حق اجلباية ،ومل يعودوا ّ ا�ستطاعوا احلفاظ على والء منا�رصيهم بتوفري منافع خا�صة لهم .وحل نظام قائم على "اال�ستزالم ال�سيا�سي" حمل النظام املقاطعجي القدمي عماده توزيع منافع خا�صة الكت�ساب والءات امل�ستفيدين منها .وقد "تدقرطت" النخبة ال�سيا�سية ،على ما يقول دنيز �أكاريل و�سيمون عبد امل�سيح ،بدخول للتحول �إىل كونوا ثروات من التجارة وغريها وبات ب�إمكانهم ا�ستخدامها ّ وافدين جدد ممن ّ حتول "ر�ؤ�ساء �شبكات حما�سيب" وا�ستخدم الكثريون تعبري "الإقطاع ال�سيا�سي" للداللة على واقع ّ عائالت املقاطعجية من "متوليّ جباية" �إىل "ر�ؤ�ساء �شبكات حما�سيب". تقا�سمت �أوروبا مع ال�سلطنة النفوذ على امل�رشق العربي بعد عام .1840وقد اكت�سبت �إجنلرتا 11
( )clientelismجون�سون .)2002 ،وفّرت كتابات مايكل مان ( )2004وفرانك �ستوك�س ( )1975وجون �أنتلي�س ( )1973وفالري غانيون ( )2004و�ستاتي�س كاليفا�س ( )2004وجون ميوللر ( )2002وروجر بروباكر ( )2004ورادا كومار ( )1997وجاغو �ساملون ( )2006وماري كالدور ( )1999وويليام رينو ( )2003وبرو�س كامبل ( )2000ومايكل ماكلينتوك (� )1991إ�ضاءات نظرية لفهم طبيعة احلرب الأهلية. ير�سم الف�صل الثالث �صورة للنخبة ال�سيا�سية واالقت�صادية يف مطلع الإ�ستقالل م�ستنداً �إىل توثيق �إيرين غندزير لأحداث احلقبة .وقد اعتمدت الباحثة على �أر�شيف اخلارجية الأمريكية، ت�ضمن �صورة للنخبة ر�سمها �أحد موظفي ال�سفارة الأمريكية خالل اخلم�سينيات .ف�إذا الذي ّ مكونة من م�ستوردين ب�شكل رئي�سي ،ومن زعماء تقليديني و�سيا�سيني قاعدتهم الإنتخابية هي ّ �سخرون بالكامل حلماية ال�رشكات الأجنبية .وكان الأكرث نفوذاً بينهم حمامون لدى ريفية لكنهم ُم ّ تلك ال�رشكات .وما لبث اخلارج ،ممث ً تدخل ع�سكري ًا عام � ،1958أي ال بالواليات املتحدة� ،أن ّ خالل العقد الثاين بعد اال�ستقالل ،ملنع �أي تغيري يف الواقع القائم وللإبقاء على النخبة ذاتها .ثبت ال�ستاتيكو القائم الذي يعطي �أرجحية داخل النخبة للأطراف الأكرث ارتباط ًا به. أ�رصت ويظهر الف�صل الرابع كيفية تعاطي النخبة ال�سيا�سية والإقت�صادية مع الريف اللبناين .فقد � ّ ا�ستمرت بفعل حماية اخلارج لها ،على هذه النخبة خالل اخلم�سينيات وال�ستينيات ،وهي التي ّ �إهمال الريفّ . و�شذ عن هذا الإجماع �شخ�ص واحد من النخبة هو كمال جنبالط .قامت �سلطة �أفراد النخبة على توفري منافع خا�صة ملن يدعمونهم .وقد جعل ذلك من ه�ؤالء نخبة غري معنية املتفرج �أمام ما كان يجري ببلورة �سيا�سات وطنية للتنمية من �أي نوع .وقفت هذه النخبة موقف ّ من تهجري لأهل ريف لبنان ،من دون �أن يكون لها ر�أي يف ما يح�صل .وعلى امتداد �سنوات ما قبل 1975مل ي�صدر �أي احتجاج واحد حتت قبة الربملان على املوازنات ال�سنوية التي كانت جتهد لتحقيق فائ�ض يف املوازنة ،على ح�ساب �أي �إنفاق تنموي تقوم به الدولة. م ّثل املهاجرون من الريف خالل عقد ال�ستينيات وحده � 689ألف ًا� ،أو ثلث �شعب لبنان ،كما �أظهر ذلك امل�سح ال�سكاين الذي �أجرته مديرية الإح�صاء املركزي و ُن�رشت نتائجه عام .1972 وخلف اليافطة الرباقة لـ"�سوي�رسا ال�رشق" والكالم التقريظي ب�ش�أنها كانت جتري على امتداد عقد ال�ستينيات �أعنف جتربة تهجري لأهل ريف لبنان ،وكان ه�ؤالء يتخلون عن �أر�ضهم التاريخية كما لو �أنها �أر�ض ًا حمروقة .كانت اخلطوة التالية لكل ه�ؤالء الهجرة النهائية من لبنان لعدم توفّر عمل 14
ال�سلطة الإنتدابية �سيطرة هذه النخبة التقليدية .جاءت القوانني االنتخابية املتعاقبة منذ د�ستور 1926لتوفّر قولبة للنخبة تعطي الأولوية للمكونات املحلية التقليدية فيها� .إحتكر "ر�ؤ�ساء �شبكات املحليون التمثيل يف الربملان. املحا�سيب" ّ
ّ ركزت ال�سلطة الإنتدابية على تعزيز دور بريوت كر�أ�س ج�رس لال�سترياد ،ودورها كمدينة- م�ستودع .عبرّ الفرن�سيون عن موقفهم من لبنان ونظرتهم الإ�ستعمارية �إليه ،من خالل جملة �أندريه بي�سون ،حاكم م�رصف الإ�صدار اللبناين يف الأربعينيات ،حني قال �إن م�ستقبل لبنان هو "�شيء ما مثل �سنغافورة" ،حني كانت تلك الأخرية جمموعة م�ستودعات خلزن الب�ضائع على ال�شاطئ. ع ّزز الإنتداب دور وح�ضور امل�ستوردين وامل�رصفيني ،وانتهج �سيا�سات تعك�س م�صاحلهم، وبات على الزعماء التقليديني ،خ�صو�ص ًا ممثلي الريف� ،أن يوفروا ال�رشعية لل�سيا�سات التي حتقّق املكون الآخر للنخبة. م�صالح هذا ّ
مل يكن الريف ،حيث غالبية ال�سكانّ ، حمط اهتمام االنتداب ب�أي �شكل من الأ�شكال .ناله من ذلك �إهمال كامل عربت عنه موازنات ال�سلطة االنتدابية التي مل يكن ممكن ًا �أن تلحظ �أي �إنفاق تنموي له.مل يحقق االنتداب �أية �أعمال يف ميدان البنى التحتية خارج بريوت ،ومل يعتمد �أية �سيا�سات دعم من �ش�أنها تثبيت مداخيل املزارعني لإقناعهم بالبقاء يف �أر�ضهم. وجد االنتداب الفرن�سي �أنه ي�ستطيع خف�ض كلفة �صون الأمن الداخلي من خالل تكليف ملاّ ك الأر�ض الكبار ال�سيطرة على الفالحني بو�سائلهم اخلا�صة ،كما يف حالة عكار على وجه ر�سخ يف �إدراك امل�ؤ�س�سات الأمنية الوطنية النا�شئة �أنها ال متتلك االحتكار القانوين اخل�صو�صّ . ملمار�سة العنف ،و�أن عليها �أن تتعامل مع �أزالم املالكني الكبار واملقاطعجيني ك�أنداد لها. .2دور اخلارج ودور النخبة املحلية يف حقبة اال�ستقالل عول الكتاب على م�ساهمات جمهرة من الباحثني وفّروا وقائع لر�سم �صورة حقبة الإ�ستقالل، ّ من بينهم كارولني غيت�س ( )1998ومايكل جون�سون ( )2002و�إيرين غندزير ( )1997و�سليم ن�رص ( )1978وكمال ال�صليبي ( )1976و�ألرب داغر ( .)1995وقد �أظهر باري بري�سلر �أن �أفراد النخبة ال�سيا�سية هم "�أ�صحاب �سلطة حملية" ال تعمل الدولة على احلد من �سلطتهم ،بل على العك�س تد�أب على ت�أمني �رشوط ممار�ستهم لها (بري�سلر 35 :1988 ،و .)51و�أعطى مايكل جون�سون تعريف ًا لهم بو�صفهم يعك�سون وجود نظام "ا�ستزالم �سيا�سي بطريركي الطابع" (neopatriarchal 13
وتطهري "�إثني"� ،أي طائفي ،طاوال مئات �آالف اللبنانيني. ويبينّ الف�صل ال�سابع كيف �أعطى اخلارج حجج ًا لتربير خف�ض �سعر �رصف اللرية على امتداد حقبة ،1992-1984من خالل دور �صندوق النقد الدويل وبعثاته يف تربير هذا اخلف�ض والت�شجيع
يقدم هذا الف�صل قراءة اقت�صادوية بع�ض ال�شيء لتجربة انهيار �سعر �رصف اللرية اللبنانية عليهّ . خالل احلرب الأهلية .ن�أت القراءة بالكامل عن املقاربة النقدوية التي تهيمن يف حقل النظرية
االقت�صادية ،واعتمدت مقاربة �أقرب �إىل فكر امل�ؤ�س�ساتيني كـ�ألربت �أوتو هري�شمان (هري�شمان، ّ .)1981 ركزت على "النزاع على توزيع الدخل" ( )distributional conflictلتف�سري انهيار �سعر ال�رصف .كان ّ كل خف�ض ل�سعر �رصف اللرية� ،أي كل رفع ل�سعر الدوالر باللرية اللبنانية،
يخفّ�ض القيمة الفعلية� ،أي بالدوالر ،لكتلة الأجور املدفوعة باللرية .كانت للنخبة الإقت�صادية
م�صلحة مبا�رشة يف ذلك .يو�ضح الكتاب كيفية افتعال خف�ض �سعر �رصف اللرية يف التعامالت اليومية يف �سوق القطع ،لكنه يبقي مق�صرّ اً عن تعيني امل�س�ؤولني عن االنهيار بالإ�سم. يظهر الن�ص كيف �أن خ�ضوع النخبة بالكامل لأيديولوجية "االقت�صاد احلر" جعل امل�رصفيني
ومن يتعاملون معهم من النخبة يتولون افتعال االنهيارات املتالحقة ل�سعر �رصف اللرية على مدى
ويحددون وترية هذا االنهيار كما يحلو لهم� .أق�صى ما ا�ستطاعت � 8سنوات ،من دون �أي رادع، ّ
النخبة التقليدية �أن تفعله خالل حقبة انهيار �سعر �رصف اللرية هو �إ�صدار قانون مينع ت�سييل الذهب
املوجود يف احتياطي م�رصف لبنان ،مانعة بذلك �شفطه بعد ت�سييله ،بوا�سطة امل�ضاربة يف �سوق
القطع ،من قبل فئة من ال�سيا�سيني ال�ضالعني يف احلرب .لكن مل يوجد يف هذه النخبة فرد واحد ّ ي�شكك يف جدوى و�صالحية الإبقاء على نظام لل�رصف يجعل امل�ضاربني يف �سوق القطع هم
ويت�سببون ب�آثار كارثية على اللبنانيني .وقد اختفت يحدد �سعر �رصف العملة ووترية انهياره، من ّ ّ
مدخرات �رشيحة كبرية من اللبنانيني ممن مل ي�سارعوا �إىل ا�ستبدال لرياتهم بالدوالر يف بداية احلقبة. وخالل 1992-1985بلغ معدل الت�ضخم الو�سطي � % 140سنوي ًا ،وانهار احلد الأدنى للأجور �إىل م�ستوى �سبع دوالرات �شهري ًا يف �آخر عام .1986وتعاونت احلرب الأهلية مع انهيار �سعر �رصف اللرية جلعل ر�صيد الهجرة ال�سنوي يقفز بعد عام � 1986إىل م�ستويات غري م�سبوقة .وعام ،1990 كان � 990ألف ًا من �أهل لبنان قد هاجروا.
16
لهم .وقد احتكر احلديث عن القطاع امل�رصيف كل الت�أريخ الر�سمي لتجربة لبنان حتى .1975مل ُينظر �إىل اخلم�سينيات وال�ستينيات �إال بو�صفها حقبة اجتذاب الر�ساميل العربية الهاربة وازدياد عدد امل�صارف و�أزمة "�إنرتا" وهروب الر�ساميل و"عودة الثقة" بدءاً من .1970 ويو�ضح الف�صل اخلام�س كيف كان يجري خالل حقبة ال�ستينيات ذاتها حت�ضري ق�سم من النخبة لأداء دور قوى "ثورة م�ضادة" ،من خالل بناء "منظمات م�ضادة" للمعار�ضة وحلركات التحرر التحرر الوطني بوجه عام .وقد جاء بناء تلك املنظمات ترجمة لإ�سرتاتيجية الت�صدي حلركات ّ الوطني ( )counter-insurgencyالتي انطوت عليها "عقيدة كينيدي" ،وعملت الواليات املتحدة على و�ضعها مو�ضع التنفيذ منذ ال�ستينيات يف خمتلف �أنحاء العامل الثالث .ويبينّ هذا الف�صل كيف �أن الن�صف الأول من ال�سبعينيات �أظهر عجزاً كام ً حتمل م�س�ؤولياتها كنخبة ال للنخبة عن ّ حاكمة .بدت نخبة "غري م�س�ؤولة �إجتماعي ًا" ،تركت الريف ميوت بتهجري �أهله ،ثم عجزت عن معدل الت�ضخم منذ مطلع ال�سبعينيات ،مع الآثار الفادحة التي مواكبة الآثار التي تركها ارتفاع ّ خ ّلفها ذلك على �صعيد غالء املعي�شة .وقد جعلتها تبعيتها للدول الغربية تتخلى عن �أدنى موجبات احلفاظ على ال�سيادة الوطنية جلهة الت�صدي للعدوان الإ�رسائيلي امل�ستمر على �أرا�ضيها� .أظهرت معولة يف تلك احلقبة عمل هذه النخبة على قدم و�ساق على التح�ضرّ لإ�شعال احلرب الأهليةّ ، ّ بـ"املنظمات امل�ضادة" .وذلك حل�سم النزاع الداخلي ذلك على "القوى من خارج الدولة" املمثلة بالقوة ،واحلفاظ على ال�ستاتيكو القائم. ويظهر الف�صل ال�ساد�س كيف �آلت �إىل "املنظمات امل�ضادة" بالذات م�س�ؤولية �إ�رشاع احلرب الأهلية عام � .1975أ�رشعت النخبة "حرب ًا متويهية" بالتواط ؤ� مع اخلارج ،من �أجل الت�صدي لقوى حتتج على عجز الدولة وعدم م�س�ؤوليتها .كان للخارج ممث ً ال املعار�ضة الداخلية التي كانت ّ بالواليات املتحدة دوره املبا�رش يف �إطالق هذه احلرب يف ني�سان ،1975ويف اختيار التوقيت. عك�س هذا التوقيت رغبة الإدارة الأمريكية يف �إلغاء �أي دور لـمنظمة التحرير الفل�سطينية يف الت�سوية لل�رصاع العربي-الإ�رسائيلي التي كانت تعمل على فر�ضها .كان الهدف الداخلي للحرب الأهلية حماية النخبة املوالية للواليات املتحدة .وهو ما حتقّق يف نهاية "حرب ال�سنتني" من خالل فر�ض حالة "تق�سيم على �أ�سا�س �أيديولوجي" للبنان دامت حتى .1990مت �إر�ساء حالة "التق�سيم املعدة منذ ،1958حتت ا�سم "فورتر�س ليبانون" الأيديولوجي" تلك تطبيق ًا خلطة الواليات املتحدة ّ �أو "العرين"� .إقت�ضى ذلك �إجراء عملية �إغالق للمناطق على بع�ضها البع�ض ،وحتقيق تطهري �سيا�سي 15
احلقبة ،ملغية �أي دور تنموي ممكن للإنفاق العام الذي بات ُيخ�ص�ص مبجمله لدفع فوائدها. والتكيف معها من قبل النخبة االقت�صادية ممثلة بامل�رصفيني� ،أن �أظهرت تغذية هذه املديونية ّ "�أ�صحاب الريوع املالية" لهم م�صلحة يف الإبقاء على لبنان دولة رازحة حتت عبء الدين العام. التفرغ خلدمة هذا الدين ،وجعل من الدولة ومديونيتها الدجاجة التي تبي�ض وقد �أتاح لهم ذلك ّ ذهب ًا بالن�سبة لهم. كان حت�صيل حا�صل �أن يتم بعد احلرب حترير جذري للتبادل مع اخلارج ،وذلك متا�شي ًا مع "النظام الإقت�صادي الليربايل الدويل" الذي كانت امل�ؤ�س�سات الدولية تعمل على �إر�سائه ،وك�إجراء املعنية بفر�ض �أجندة "ح�سن نية" اعتمدته النخبة لك�سب "ثقة" هذه امل�ؤ�س�سات وثقة الدول الغربية ّ التنمية النيو-ليربالية الطابع .وكان الهدف املبا�رش �ضمان ا�ستمرار تدفق التوظيفات املالية من اخلارج. ويظهر الف�صل العا�رش كيف �أن اخلا�صية الأهم حلقبة ما بعد احلرب كانت تهمي�ش الإدارة تدخلية لها يف �إدارة احلكومية ،من خالل الإ�رصار على �إبقائها �شاغرة ،ورف�ض توفري �صالحيات ّ االقت�صاد .بقي �أكرث من ثلثي املواقع الإدارية املدرجة يف ا ِملالكات الدائمة للإدارة �شاغراً طوال حقبة ما بعد احلرب .وقد وفّرت �أيديولوجية اخل�صخ�صة �رشعية لهذا التهمي�ش .يعر�ض هذا الف�صل تخ�ص�ص ال�سيا�سيني يف توفري الأبحاث املحدثة يف ميدان االقت�صاد ال�سيا�سي التي تُظهر كيف �أن ّ منافع خا�صة لناخبيهم مقابل دعم ه�ؤالء لهم يجعلهم غري معنيني ببناء �إدارة حكومية ف ّعالة ،ت�أخذ على عاتقها بلورة �سيا�سات حكومية توفر منافع عامة للمواطنني .بل هي تظهرهم معادين لأي حت�سن ملقدرة الدولة والإدارة العامة يف �إدارة ال�ش�أن التنموي ،وذلك لأنهم ي�ستمدون �سلطتهم من ّ املنافع التي يقدمونها ولي�س من هذه ال�سيا�سات .وهم ال يحتاجون لفئة من املواطنني بكاملها، يعول عليهم يف بلورة وتنفيذ ال�سيا�سات العامة ،ويعبرّ ون عن �ضيقهم يج�سدها ّ املتخ�ص�صون الذين ّ ال�شديد به�ؤالء .وقد �أظهرت هذه احلقبة �أن دوام �سيطرة ال�سيا�سيني بعد احلرب ،كـ"ر�ؤ�ساء �شبكات حما�سيب" وكــ"�أ�صحاب �سلطة حملية" ،كان العائق �أمام �إجراء �إ�صالح �إداري يعطي الإدارة العامة فعالية .وهي فعالية كانت �سوف تتيح لو ُوجدت اعتماد �سيا�سات توفر منافع عامة للمواطنني، وو�ضع �سيا�سة "ت�صنيع مت� ّأخر" للبنان مو�ضع التطبيق. ويظهر الف�صل احلادي ع�رش كيف �أن لبنان �شهد بعد عام 1990انح�سار رقعة "الدولة القانونية" ( )legal stateمقارنة بحقبة ما قبل .1975وذلك مبعنى خ�صخ�صة ال�سلطة مل�صلحة الأقطاب 18
.3دور الداخل ودور اخلارج يف حقبة ما بعد 1990 عول الكتاب على م�ساهمات ّ منظرين ينتمون �إىل التيار املا-بعد كينزي كـ ماريو �سيكاري�سيا ّ ومارك الفوا ( )1989وخمت�صني يف التنمية كـ هرني بريتون ( )1997وها-جون �شانغ (،)2009 وخمت�صني يف الإقت�صاد ال�سيا�سي كـ جان-فرن�سوا ميدار ( )1982وبوينو دو ما�سكيتا ()2000 ودارون �أ�ساموغلو ( ،)2004وخمت�صني يف العلوم ال�سيا�سية كـ غيللرمو �أودونيل ( )1998ويف العالقات الدولية كـ كو�ستوفيكوفا وبوجي�سيك ( )2009وبلومكوي�ست و�آخرون ( ،)2011لفهم حقبة ما بعد احلرب. تتحمل النخبة ال�سيا�سية واالقت�صادية م�س�ؤولية الإخفاق التنموي حلقبة ما بعد احلرب .ثمة ّ رقم واحد يخت�رص هذا الإخفاق هو الـ � 466ألف لبناين ،من الفئة العمرية بني 20و 35عام ًا ،الذين هاجروا بني عامي 1992و .2007مي ّثل ه�ؤالء ثلث القوى العاملة اللبنانية .وقد هاجروا خالل 15 عام ًا فقط .هذه النخبة هي حتالف طرفني ميثلهما الزعماء التقليديون من جهة ،والتجار وامل�رصفيون من جهة �أخرى .كان من �سوء طالع اللبنانيني �أن جتربة لبنان طوال حقبة ما بعد اال�ستقالل �أعطت قدمت الأولوية للقطاع امل�رصيف ومن ورائه مل�صالح �أ�صحاب الريوع املالية على ح�ساب املنتجنيّ . حقبة ما بعد احلرب ت�أكيداً جديداً على هذه احلقيقة. وفّرت كتابات كينز نظرية لتوزيع الدخل ( )repartitionوم ّثلت املرجعية النظرية التي ال مندوحة عنها لفهم الفارق بني "ر�أ�سمالية �أ�صحاب الريوع املالية" ()capitalisme de rentiers و"ر�أ�سمالية �أ�صحاب امل�شاريع" (.)capitalisme d’entrepreneurs ويو�ضح الف�صالن الثامن والتا�سع خ�صائ�ص �إقت�صاد لبنان خالل حقبة ما بعد احلرب� .أول هذه اخل�صائ�ص تثبيت �سعر �رصف اللرية منذ .1993كان هذا التثبيت �أحد الأ�سباب الرئي�سية ل�رضب حت�سن �سعر �رصف اللرية جتاه عمالت البلدان التي منو القطاعات املنتجة وذلك لأنه �أخفى وراءه ّ املعدة للت�صدير ،و�أفقدها قدرتها يتعامل معها لبنان يف جتارته اخلارجية .هذا ما رفع �أ�سعار ال�سلع ّ التناف�سية يف اخلارج .وقد فُر�ضت على امل�ستثمرين �رشوط منعتهم من اال�ستثمار يف قطاعات ال�سلع املعدة للت�صدير ( .)tradablesلكن هذا التثبيت كان له �أثر "�إيجابي" هو ا�ستقطاب التوظيفات ّ املالية الآتية من اخلارج .وهذا ما �سعت �إليه النخبة االقت�صادية ممثلة بامل�رصفيني على وجه اخل�صو�ص. اخلا�صية الثانية لتجربة لبنان بعد ،1990هي املديونية احلكومية التي ما فتئت تزداد طوال 17
يف ا�ستمرار واقع التخ ّلف والتبعية .و�أخذ عن الباحث الكبري هينبو�ش حتقيبه للفرتة املمتدة من التو�سع التا�سع ع�رش �إىل اليوم �إىل ثالث حقب� ،أولها مرحلة العوملة الأوىل ،التي ح�صلت يف ظل ّ الإ�ستعماري الكا�سح خالل التا�سع ع�رش .وقد تبعتها بعد احلرب العاملية الثانية حقبة ا�ستقاللية ن�سبية لبلدان العامل الثالث .ومع انتهاء عقد ال�سبعينيات بد�أت حقبة عوملة ثانية جعلت من بلدان العامل الثالث ،و�أولها البلدان العربية� ،ضحيتها الأوىل. ويبينّ اجلزء الثاين من الف�صل �أن التخ ّلف والتبعية مل يكونا قدراً بالن�سبة لكل بلدان العامل الثالث عدة �أن تخرج من بدون ا�ستثناء .وقد �أمكن ،على خالف ما كانت تقوله "نظرية التبعية" ،لبلدان ّ التخ ّلف وت�صبح بلدان ًا �صناعية متقدمة .كان بناء �إدارات حكومية ف ّعالة هو العامل الأ�سا�س يف حتقّق الإجناز التنموي لهذه البلدان. يخل�ص هذا اجلزء �إىل �أن الأمثولة الأهم التي ينبغي �أخذها من النجاحات التنموية للقرن الع�رشين هي �أن توفّر �إدارة حكومية ف ّعالة هو ال�رشط الأول للتنمية .وهي �أمثولة بر�سم لبنان وقواه الإ�صالحية والتغيريية.
20
املحليني ،وجتيري ه�ؤالء القانون مل�صلحتهم �أو عدم اكرتاثهم به .وي�ستند هذا الف�صل �إىل كتابات الباحث الكبري غيللرمو �أودونيل ،الذي بينّ �أن انح�سار رقعة "الدولة القانونية" كان قا�سم ًا م�شرتك ًا للعديد من البلدان بعد �( 1990أودونيل 1993 ،و � .)1998أظهر الف�صل من جهة �أخرى� ،أن تن ّعم اللبنانيني باحلقوق ال�سيا�سية ،مبعنى الإنتخابات ،مل يرتافق مع �ضمان حقوقهم املدنية و�أولها حقهم بالأمن� .أي �أن ممار�سة احلريات ال�سيا�سية كانت تتم على ح�ساب احلقوق املدنية للمواطنني ،و�أولها الأمن .وقد اقت�رصت املمار�سة الدميقراطية على �إجراء االنتخابات ،من دون �أن تتوفّر للناخبني القدرة على املحا�سبة وامل�ساءلة ،ب�أ�شكالها العمودية والأفقية واملجتمعية .يخل�ص هذا الف�صل �إىل �أن لبنان لي�س دميقراطية ليربالية باملعنى الغربي للكلمة ،ب�سبب الإفتئات ال�صارخ على حقوق مواطنيه املدنية ،ولغياب امل�ساءلة واملحا�سبة من نظامه ال�سيا�سي. كان م�آل ال�سيا�سات الإقت�صادية التي اعتمدت �إ�ضعاف الإدارة العامة وجعل الدولة فري�سة �سهلة للخارج (ّ )state weakening يوظفها يف خدمة م�شاريعه .ي�ستعيد الف�صل الثاين ع�رش ما قاله باحثون من جامعة جورج وا�شنطن من �أن �أف�ضل و�صف حلالة لبنان هو �أنه "�ساحة حرب دائمة" (بلومكوي�ست و�آخرون .)2011 ،وقد اعتمد ه�ؤالء الباحثون لقراءة هذه احلالة مقاربة مدر�سة "مونرتيال" يف العالقات الدولية التي بلورت نظرية "اللعبة املزدوجة"� ،أي تواط ؤ� نخب حملية مع قوى خارجية لإ�رشاع نزاعات ت�ستفيد كلتاهما منها .وقد �س ّلط هذا التواط�ؤ على لبنان �شبكة دولية� /إقليمية /حملية ( )transnational networkتتوىل افتعال �أزمات متوالية فيه .وقد تدخل اخلارج املبا�رش يف �إدارة ن�شاط النخبة ال�سيا�سية املحلية و�إدارة م�ؤ�س�سات عامة ،من ّ عبرّ �ضمن م�رشوع لت�أجيج النزاع الأهلي ،عن م�ستوى من التدخل مل ي�سبق �أن عرف لبنان مثي ً ال له. يتحول النزاع الداخلي الذي �أثاره اخلارج ،ممث ً مرة، وكان ميكن �أن ّ مرة بعد ّ ال بالواليات املتحدةّ ، �إىل حرب �أهلية فعلية .وقد جرى ا�ستغالل حادثة اغتيال العقيد �سمري احل�سن عام 2012يف حماولة املرة بني �س ّنة و�شيعة. خللق خطوط متا�س بني �أحياء العا�صمة ،على قاعدة الفرز هذه ّ .4البديل التنموي يوفّر الف�صل الثالث ع�رش ،يف اجلزء الأول منه ،عر�ض ًا للواقع الدويل وللواقع العربي الذي ّ ي�شكل خدمت يف هذا العر�ض الأدبيات النظرية البنيوية وتلك العائدة لبنان جزءاً منه ،منذ التا�سع ع�رش .ا�س ُت ِ لتيار امل�ؤ�س�ساتية املقارنة وللتيار املا-بعد كينزي .واع ُت ِمدت مفاهيم التبعية والإمربيالية والعوملة لقراءة هذا الواقع� .أظهر هذا اجلزء �أين هي م�س�ؤولية اخلارج و�أين هي م�س�ؤولية النخب الداخلية 19