حرائق الذاكرة (مذكرات) غادة سويد كتبها روائيا :مصطفى عبدي
الكتاب
:
حرائق الذاكرة
الكاتب
:
مصطفى عبدي
الطبعة
:
األولى
اللوحة
الخلفية
:
التنضيد
الضوئي
:
التدقق اللغوي تصميم
الغالف
االستشارة القانونية
2
: : :
فاضل حسان محمد
جميع الحقوق محفوظة للمؤلفة 2013
3
حرائق الذاكرة دمشق 2001/11/16 كوباني 2013
4
اإلهداء رغم اختالف المناسبات ,وتداخل الحزن مع السعادة ,والموت الد حياتنا مع الحياة ,وكما من باطن الليل ُيبزغ الفجر ,ستتو ُ
من صميم موتنا ,وستنمو سعادتنا في حقول أحزاننا. إلى َم ْن إلى َم ْن
فرق القدر بيني وبينهم. ّ دمي يجري في عروقهم.
إلى َم ْن روحي امتزجت بأرواحهم. إلى َم ْن أتمنى أن أراهم قبل أن أغمض عيني غمضتهما ّ األخيرة. إلى رنا ,ومرح ,وزياد. غادة سعيد سويد
5
6
"آه .ما أقسى الجدار عندما ينهض في وجه الشروق! ليمر النور لألجيال, ربما ننفق كل العمر ,كي ننقب ثغرةّ , مرة". ّ -أمـل دنـقل -
7
-1هواجس غريبة تلف سماء النفس ,وانتصار للغة ,يأبى الحضور ,رفض كبير أليام تتالت لتؤلف غدا يتتالى ,التواجد ٍ نفوس تُ ّحمل بأكثر مما يمكن ,فتكون بهيئة والتحايل على
النتيجة داء بهيئة جمال مصطنع ,فيه الكثير من المساحيق والرتوش. ٍ ٍ دقيق ,لتصوير مأساة تجاوزت تشابك بتفنين غشاوة ُتلفق األفعال.
اقتناص لتصرفات ما كان يجب أن تكو َن ,واستجرار
ألحدا
سيرت مجمل الرغبات. قاسية ّ
القصة لم تبدأ من أي مكان وانما انتهت في كل دقيقة من تفاصيلها ,والمأساة تجلت في جميع أحداثها ,واللعنة لفت المصير ,تداخلت األفعال مع المواقف ,وابتعدت عن المنطق, مكر في النتائج ,فلفت الغرابة فكان تحايال على النفوس و ا الهيام.
8
كان غريبا عني ,ومني! ولم أجد ذات لحظة مشاعر التحام ,أو رغبة! فكما المكنة كنت أسير إليه. ومرغما كنت أالزمه أينما حل ,وأتشبهه ,فأمثل محبته وأصدقه الوفاء بعكسه ,كنت أمرن نفسي ومشاعري على االعتياد عليه ,على التماهي ورغباته ,دون أن يطرق سمعي أي صدى. أطفالي الصغار كانوا بعمر العصافير ,ألجلهم كنت أدفن رأسي كما النعامة ,فألجلهم أعيش ,فحياتي كلها رهن بربيعهم. ٍ فض االستسالم أو كل يصارع جزءا هاما من وطن ,ير ُ
سير األمور حسبما ُيشاء ,فالدوامة ال تنتهي االنتصار ,وتُ ّ
وبحر األلم تتسع أرجائه ,ال النهاية نهاية وال البداية بداية,
فاالقتراب مصيبة واالبتعاد مصيبة ,والمصيبة لعنة لفت سماء األحدا
.
الهروب الكبير ,إذا ,هو الحل لمشكالت بات وزن ُجزئياتها
يفوق حجم االحتمال ,ولكن الهروب يعني عودة ,كما العودة
كانت هروبا ,وفي وسط كل ذلك ال يبقى إال اختيار البقاء موه بالرحيل. الم ّ ُ
9
ولكن أين هو الحل داخل هذه الحلول وحول تلك المصائر المرتسمة بهاالت من االنصياع أو الرفض؟ وتبقى اللغة ,كما يبقى العنوان ,أشياء يمكن بها أو من خاللها تفسير ما ال يمكن اإليمان به ,فتسير الحياة ونسير المسير األصغر لتفاصيلنا نحن ,وتبقى كلمات األلم هي ّ
المنهارة.
10
-2كثيرة جدا هي األسباب التي تجعلني أسيرة لقل ٍم وأوراق, أعيش معها يومي ,أتناول الفطور ,وترتيب طاولة الغداء, وقضاء األمسية مع وجبة خفيفة من الحواضر ,وألف وجبة من ألم ,ودفاتر وكمية هائلة من االستعداد. كثيرة جدا هي األسباب التي جعلتني ,أتحول من امرأة يهابها النهار ,إلى بقايا إنسان فقد عنوان تواجده ,ورسم البيان, واتخذ الليل شريكا يتناوبان الحضور! كنت مشروع ثورة من أحالم وعمل ,وكانت أليامي ترتيبها المختلف في ذاكرتي ,ليس تجاو از للمنطق ,أم المجتمع (؟) وانما بالحد األدنى منه. خطأ واحد كان كفيال بتحطيم بقية أيامي ,بأقلها أو أكثرها, خطأ كضربة قاضية من على حلبة الحياة. فقبل هذا لم أفكر ,يوما ,أن اتخذ درب الكتابة طريقا ,أو أن استنشقه صب ار ,كنت أعيش األدب زادا لالستمتاع ,ولم أعش فكرة أني أق أر تاريخا على الورق. 11
أتجر على خوض أ إنها المحاولة األولى لي ,وما كنت يوما غمار الكتابة ,وتخطيط حقولها ,فاألدب كان بالنسبة لي عالما آخر ,أنظر اليه من باب التلقي ,واالستمتاع ,وملئ أوقات الفراغ ,وجر الساعات إلى عقاربها .لكن الذي حد قدرتي على البقاء حي
كان يفوق
أكون ,أو الصبر ,فلم أجد إال مساحة
الورقة مسرحا ,أنتقم فيه ممن أشاء ,واسترد فيه ما فقدته. ستقرؤون عناويني في محطات االنتظار في قطار قادم ,أو في حافلة ,أو سهرة عابرة ,أو مقهى ,أو صفحة الكترونية, وستمرون عليها مرور الكرام على عجل أو تمهل ,باكيين أو مبتسمين .ولكن أقلكم من سيمكنه أن يق أر ذاكرتي التي تحترق على الورق أو رؤية دخانها الصاعد من أحضان الجمل. لست أنا التي تكتب هنا ,وانما أفكاري هي من تتزاحم متصارعة ,فتتدافع في تمازج واستطراد ,لست أنا من تكتب
بقررة نفسها وانما هي حالة تعاظم األلم ,و ِ ِ الصد اآلخر, حالة ا والمزج المتداخل والقيمة. يئست ذاتي من ذاتي ,وفاضت نفسي من نفسها حتى كان كل الذي سيكون. 12
مرة ,ترغب في باهلل عليكم ,تيقنوا أنها ليست مجرد خربشات ال أ قراءة اسمها على كتاب مطبوع في معارض الثقافة أو المكتبات .ال يا أصدقاء ,إنها قصة األيام ,وحكاية األلم ,الذي ذر في جسدي ,واحتراقا في ذاكرتي. استشاط ش ا
13
-3كنت قريبة جدا من حافة الدمار ,وكانت األفكار ترمي بي إلى كل االتجاهات .حتى احتل كياني اسم "حرائق الذاكرة " والتي هي أنا. يصعب أن أجد مف ار من سطوة الكلمات وتوليدها ,فقد اكتمل العقد وحانت ساعة البوح. (غادة) ابنة لفظها القدر ,ألب محب .متصرف لدرجة االستبداد ,وأ ٍم -كما كل أمهات الكون -بريئة جدا ,حنونة فوق العادة. لدت عام النكسة نبيهة .رقيقة .طيبة .رؤوفة .كثيرة الحبُ .و ْ ( .)1967يومها بكى العرب حاضرهم والتاريخ ,وتم توقيع صك ضياع فلسطين ,فبكتني أمي روحا ,ورمتني إلى حضن الحياة مصيبة ,من دون هوية ,أو انتماء ,أو أرض. يومها ماجت جحافل اليهود في تراب وطني ,واستباحت مساحاته. فلسطين في القلب متحدة .محررة .وليست شعا ار ينطق به كل قائد عربي ,ويتخذها عنوانا للعروبة. 14
فلسطين ُجرح نازف ,وألف قصيدة ألم وبكاء ,ومعتقالت,
وشهداء.
باسم القومية اغتالوك قصيدة قصيدة ,كلمة كلمة ,حتى أصبحت في فلك كل قائد عربي شعا ار يعلقه في صدر قاعة مؤتمراته ومؤامراته. (غادة) من صفد ,صفد مدينة الغزوات ,وطبريا ,وبيسان, والزالزل ,والزيتون ,عاصمة الجليل ,ضحية الصداقة بين الغرب والشرق. صفد مدينتي التي يسيل دمها في عروقي ,أحسها تسكنني وان لم أسكنها يوما ,أو أزرها. أعيشها في أنفاسي ,وذاكرتي البعيدة ,حي
كان تاريخ
العائلة ,وقصة البداية. فهي الحبيب ُة وكل ما فيها جميل ,جميل.
ِ صدر تختال في حضن الجليل ,وقالدة في أنظرها كأميرٍة ُ
كل مشتاق ُمبعد.
استرقت ذاكرتي عنها من أحادي
األهل أيام السهرات,
ولم أعشها ,فقد هاجر أهلي عن أهلهم من تلك الديار قس ار, 15
ولدت بدم مهاجر ,فحتى في رحلة ما تزال رحاها دائرة .قد ْ
المست تربته لحظة الوالدة كان بصفة القضية, الحي الذي ْ
ورمزية القصة( ,حي المهاجرين) ,فعلى الرغم من رقي وجوِه سكانه ,وأناقة ترتيب بناياته ,إال أنك تستشف من خالل
اإلمعان في التطلع ,رحلة ال تنتهي ,وفقدانا لمعنى التالحم, فلالسم مغزى ,كما هي أسماؤنا لها تاريخ في الداللة والتفسير. وهنا ,أيضا ,يوجد للفقر معانيه الصريحة بل طريقته في التقسيم ,فكلما ارتفعت في الجادات يزداد الفقر ,فيما الجادات األولى يسكنها األغنياء ,بل أن بيوتها هي األغلى سع ار ,بينما ترى البيت األخير بال شبابيك ,وقد التصق بالجبل ,فجعل أحد جدرانه متكئا عليه ,فكلما امتد بك الصعود كلما كنت أفقر, وكلما كنت آخر المهاجرين.
16
-4وتكور العوالم, ينحصر لفيف األيام في أصداء التفاصيلّ , وهي رافضة االنزياح ,ويلهب األلم رياحين اللغة ,وأنا في بحر كل ذلك الهياج المقيت والغموض الملفق أغوص ,وال أدري إلى أين؟ الصور التالفة تتجمع في شظايا الذاكرة بمحاولة إلعادة التواجد ,فتكون الوالدة ,وتكون معها اللعنة وسوء الطالع ,هياج لزمن يأبى أن أتواجد ببراءتي فيه ,ورفضي اختلف عليه بداية. المقنع بلغة القبول ,إذا تم األمر بقرار ُ ُ (غادة) أولى الحفيدات لعائلة حميد ,وعلى ما يظهر فإن والدي كسر قاعدة القدر يوم ولدت ,فجدي لم ينجب إناثا ,بل أوالدا ذكو ار فقط .وعددهم خمسة ,أكبرهم والدي رشيد .وهو أول من تزوج بين أخوته. خالصة األمر أني البنت التي سوف تقع عليها جميع التجارب .ربما كنت فأرة تجارب هذه العائلة. كبرت هناك ,في ذات الحي وأزقته ,يومها كانت األمور أقل فوضوية ,وبجمال أتذكر المدرسة التي تلقفت فيها أولى
17
الحروف والكلمات ,وفيها استطعت أن أتجاوز حد أن الكلمة ليست صورة ,وانما هي حركة وتعبير. (لبنى األندلسية) كان اسم مدرستي المختلطة ,وكانت تركن في قبو إحدى البنايات القريبة. ذات المدرسة تحولت إلى ملجئ في أيام حرب اكتوبر .1973 كنا أسرة متحابة .متفقة ,على عادة أغلب أسر الحي. كنا ستة .ثالثة صبيان ,وأنا ,وأختي ,وأمي. ذاكرتي قادرة على تصوير كل موقف ,وسهرة ,وتصرف, إال وجود والدي ,فال أجد له فيها أي فضاء ,فقد كان يسكن في الخليج موظفا .كانت لي عالقة عضوية ببيتنا ,فكل ازوية فيه كانت لي ذكرى فيها ,كيف ال وقد ولدت فيه وترعرت؟! ليست األماكن كلها بذات األثر االنفعالي في التأثير بالمشاعر لدرجة االرتباط ,أمكنة الطفولة كنت أعيشها وكأنها جزء من ذاتي ,وكل ازوية من منزلنا ,ومن الحارة, والمدرسة كانت لها وقعها ,بحي ُمغادرتها ,كذلك كان األصدقاء. 18
كان يستحيل أن أفكر في
بيتنا كان جزءا من نموي وأصدقائي ,نلعب معا ,ونكبر معا .نتسع ,ونستطيل في مد العمر وجزره .البيت يرتبط دائما في ذاكرتي باللعب ,والحارة. كان اللعب سمة أوقاتنا ,نقضي نهارنا به ,ونعود مساءا وقد أنهكنا التعب ,ننتظر دقائق حتى تأتي أمي مع توبيخة ناعمة, لتغير مالبسنا ,ونغادر للنوم منهكين ونحن ننتظر صباحا آخر ,ويوم مدرسة ,ولعب آخر. اللعب ثقافة أخرى ومتعة ,وخاصة مع الرفقة ,التي تتحد كل يوم ,بأصدقاء جدد ,وصديقات .حتى تختار منهم ما يوافق ميولك ,ونفسيتك ,وهي أولى مراحل االختيار. كان لي أصدقاء كثيرون ,ومذ التحقنا بوالدي في دولة اإلمارات لم أعد على صلة بأي منهم ,واختفوا جميعا من حياتي ,وهكذا ضاع أصدقاء الطفولة .كنت أعيش طفولة طبيعية في أسرة متفاهمة ,كنا نمأل شوارع الحي صخبا .كانت لنا حريتنا في اللعب ,فلن يقول لنا أحد حاذروا السيارات والغرباء ,فأكثر ما يحبه هؤالء الناس هم الغرباء مثلهم .كنا
19
نحفظ هذه الفوضى المكانية وندخل إلى حارات لم نكن لنتصور وجودها ,فجأة نجد أنفسنا في مواجهة الجبل األصم. كنت مرحة جدا بجمال األيام ,وأكبر برتابة ,كأية طفلة تعيش من اليوم كله ,مع الوقت كانت مداركي تتسع ,وأسئلتي إلى أمي تكثر. كنت األكبر ,وفي ذلك كانت مشاعري أيضا أكبر. في المدرسة كانت متعة أخرى ,فمع كل رنين للجرس كان غنائنا يتنغم ,وكانت لمدرسينا علينا ثقافة ,وتقدير ما فوقه تقدير. ما زلت أتذكر حصة الرسم ,ورغم بساطة علومها إال أني كنت أغادر محيط قاعة الفنون إلى فضاء تصنعه مخيلتي حي
كنت أنفرد في التأمل وابتداع ما تجود به ذاكرتي من
تخيالت ,وكيف أنسى الدهشة التي رسمتها لوحتي على وجه معلمتي يوم سلمتها عملي في نهاية الفصل ,حينها لم تصدق, ابتسمت بعمق ومسحت شعري بعبارة رضى وتفاءل بغد مشرق لي ,لقد كانت تحتفظ بكل ما أرسمه وكأنها من أعمال فنان مشهور أو هي أعمال فائقة .وأيضا أتذكر حصة الرياضة ,يوم 20
كنت أوقفهم صفا واحدا ,ونتفق على شروط اللعب ,فقد كنت صمام االنضباط لهم. عالم الصداقة عالم رحب جدا ,وخاصة لفتاة حساسة مثلي, حي
كنت غيورة جدا ,ومجتهدة ,أواظب على كامل فروضي
المدرسية بأناقة وألوان وتسارع ,للخروج إلى اللعب واألصدقاء والجيران .فحياتي كانت مقسمة دونما ,ترتيب مني بين المدرسة والمنزل والشارع وما بينهم. أحيانا كنت أخرج مع أمي في عادة التسوق ,كنت استمتع بذلك ,فاستبق والدتي باالستفسار عن سعر هذه الفواكه ,أو جودتها ,وأتذكر أني دخلت في مساومة السعر مع تاجر ألبسة ,يومها أعجبت جدا بكنزة زهرية اللون ,مكشوفة الكتفين, رغم صغر سني ,حذرتني أمي من ذلك وأن مثل هذه الثياب ال تناسب ذوقنا العام .كان تطبيقا للشريعة ,وانما بعمر الزهور ,ولكن أمي لم تستطع منعي من ارتداءه في الحلم في المساء ذاته. ويوم سكنت الحرب البلد ,لم أحزن إال ألجل مدرستي, والتي تحولت إلى مكان إيواء ,وأتذكر أن كل شيء حولي قد 21
تغير ,إذ اختفى أصدقاء الشارع ,ومن خالل ثقب الباب كنت أتفحص حضورهم كل يوم.
22
-5تتدفق خاليا الذاكرة وتتأهب في نشاط واستثارة ,في محاوالت إلعادة التركيب وتدقيق ماضي األحدا ,فترتسم الصور وتتراكب مجددا ,لتتم الوالدة التالية متأخرة. أبعاد الشعور تتطاول وتشع خيوط وهجه ,فالمعرفة قليلة والشقاء كبير ,ليتعاظم ألم غروري أكثر ويغرقني في أفكار أتناقض واياها وتسيرني. عام 1975كان القرار الذي رفضته ولم أفهم كنهه ,هو أن نغادر الوطن ,باتجاه دولة اإلمارات لاللتحاق بوالدي ,لم أدرك اعتبارات ذلك ,ولكن ما أعلمه أني تألمت جدا من هذا االنفصام القسري بيني وبين األماكن ,بيني وبين األصدقاء والجيران. مع كل ازوية ارتفاع عن األرض ,كنت أشعر بأن نفسي المرتبطة ارتباطا وثيقا باألرض ستخرج من نفسها ,ومع كل ابتعاد عنها كنت أتابع اقترابنا لصفح السماء. أخبرت أمي أني أكره السكن في السماء ,وأرغب بالعودة إلى األرض. 23
ضحكت: سنعود قريبا يا صغيرتي ,ولكن في النهاية ستكونالسماء مأوانا جميعا!
24
-6في المدينة الجديدة كان كل شيء مختلفا ,حتى على سبيل أسرتنا ,فقد أصبح لنا فيها وافد جديد دائم اإلقامة :والدي ,وما نتج عنه من تبعات ,ألننا لم نعتد وجوده معنا. الحي الذي سكناه كان شعبيا ,بيوته صغيرة ,ومنزلنا كان بغرفتين وصالة ,جداره من اإلسمنت ,وسقفه من الخشب تسمع كل حركة فوقه وتحته ,ماء مالح ,ح اررة عالية ,جنسيات مختلفة ,من حسن حظي كان هناك جارة لبنانية طيبة القلب, صارت صديقة لنا ,ومازالت كذلك إلى اآلن. التقيتها آخر مرة صيف .1999أذكر أنني زرتها في البيت ,وقد آلمني منظرها كثي ار ,فقد كانت مصابة بمرض الشلل الرعاشي .لم تكن كذلك من قبل بل كانت امرأة صلبة, متماسكة ,رّبت ثمانية أوالد.
في بادئ األمر كانت ذكرى منزلنا ,وأصدقائي ,وحينا في
المهاجرين تشغل ذاكرتي بإلحاح ,فقد كنت أتصرف وكأني هناك ,لذا كثي ار ما كنت اصطدم بعوائق معتبرة.
25
نعم… رغم أننا في حينا بدمشق كنا أيضا مختلفين, ومتنوعي االنتماء ,لكني هنا قرأت فروقات كبيرة وتماي از أكبر. هنا لم أستطع أن أق أر أية مشاعر أو حميمية ,فليس للياسمين هنا من معنى ,وال تشكل تحية الصباح أي قبول ,ليس من حدي
مع صاحب البقال ,أو الجيران ,الكل منهمك بعمله ,وال
يبالي بشيء. تسارعت األمور في (اإلمارات) ,فأصبحنا وأصبحت رحلة الهجرة متالزمة معنا ,ومن إمارة إلى أخرى ,كل ذلك كان يؤثر بشدة علي ,وعلى قدرتي على التأقلم مع كل حالة هجرة, ّ واعادة البدء بصداقات جديدة ,وصناعة عالم سريالي يخصني, ومع ذلك كانت رهافة حسي تتزايد ,وكان تأثري بالوسط يكبر, وبالطبيعة التي بالكاد يمكنك مشاهدتها ,لكني كنت أمتزج باللون ,والسماء ,والحركة ,ومع كل دراية كنت أرسم في مخيلتي مختلف الحاالت والمواقف ,حتى كان أن اقتنيت أدوات الرسم من متجر قريب بالمصادفة ,ومساء كانت لي رحلة في ترجمة تجارب ما مضى على اللوح ,وكانت تلك التجربة األولى لي ,واألهم من كل ذلك أني كنت أصبح أكثر 26
سعادة يوم أنتهي من رسم ُمتخيل أو حقيقي ,بعد ذلك بات لمكوثي الطويل في المنزل نكهة مختلفة ,وقد تجاوزت قصة األصدقاء إلى االكتفاء بالعيش في عالم اللوحات. التأثير التحكمي الثاني بعد مسألة فرض الهجرة مارسه والدي ,يوم قرأت اسمي في قائمة الطالب المسجلين بالصف العلمي ,لم يستشرني ,أو يخبرني ,كان قد فكر وقرر وأنا من يجب أن تنفذ. اختار والدي أن أدرس الفرع العلمي بخالف رغبتي إذا – امرأة الطاعة والتجارب -ورغم محاوالتي اليائسة ,وطلب وساطة والدتي وأخوتي ومن يعز عليه إال أن كل محاوالتي باءت بالفشل أمام صوانية إص ارره ,على أنه األدرى بميولي, ومستقبلي ,وكأنه سيعيشه .رضيت ُمكرهة ,وتابعت تعليمي بائسة ,ال أجد إال مرسمي ساحة أخرى فيها غادة حرة ,تفكر, تقرر ,وتنفذ. يوم نجحت في تجاوز المرحلة المدرسية بالحصول على الشهادة الثانوية العامة ,عام 1986من إمارة الشارقة, تخلصت أخي ار من واجب عدت جدا ,فقد ُ وبمعدل متوسطُ ,س ُ 27
أُكرهت على تنفيذه ,فكان خيالي يجنح بموهبة نحو متابعة تعليمي بكلية الفنون الجميلة ,ولم أكن أتصور أن يجابهني كنت أعشق كل مانع ,خاصة أنه فرع تخصصي لإلنا ,وقد ُ
شيء له عالقة باأللوان والموسيقى والتصوير.
لكن كان لمصيري تفسير آخر من قبل سعادة والدي ,ألنه يرسمه لي وعني بالنيابة ,فقد كان يرغب هذه المرة في أن كان ُ
يكون ُمعدلي عاليا يؤهلني لفرع هو يختاره ,لكن الذي حد جامعة اإلمارات لم تقبل طلب انتسابي ,فمعدلي كان أقل من أن
المطلوب كطالبة أجنبية. وهنا لم يتبق أمامي إال فرصة أخيرة وهي أن أتابع الدراسة في جامعة دمشق ,فهكذا كنت أفكر ,ولكنه رفض ذلك رغم توفر الظروف السانحة ,فنحن ما نزال نمتلك منزال في دمشق يسكنه أخي حي
العَلم هناك. يخدم َ
أمام حالة الصد هذه والندية ,لم أجد إال أمي ورقة وساطة وشرح ,علها تقنع والدي بذلك .كنت أناقشها طويال في هذا الموضوع ,إال أنها كانت تختلق له األعذار والمبررات ,وأحيانا كانت تُحملني المسؤولية ألنني لم أحصل على معدل ٍ عال, 28
وأحيانا أخرى ّتدعي بعدم وجود من أسكن معه في دمشق ,وأن
يصح أن تكون بعيدة عن أهلها ,والمزيد من الحجج البنت ال ُ غير ال ُمقنعة وحائط من أعذار الصد اإلضافي .ولكنها وال مرة صرحت بحقيقة موقف والدي من انتسابي للجامعة ,وهذا كان ّ السبب الحقيقي ,فوالدي ال يرغب في إبعادي عنه ,أو تمردي
على مخططاته ,وهو ال يرغب في أن يترك فأرة تجاربه تبتعد خارج حدوده ,فعلى ما يبدو أن لديه تجارب أخرى. هذا ما ثبت بالوقائع التي حدثت في األعوام التالية ,فأختي صادفتها نفس اإلشكاليات ووافق والدي على الفور بالسماح لها لمتابعة تحصيلها العلمي في دمشق ,وفي كلية مختلطة, فيما كنا ما نزال نسكن اإلمارات. سؤال دائم اإللحاح في ذاكرتي ,ومواقف ال أستطيع تبريرها لماذا رفض والدي أن أختار الفرع الذي أرغب؟ لماذا منعني من متابعة الدراسة في دمشق؟ لماذا تدخل في رسم تفاصيل حياتي كما يرغب ,من دون أن يفسح لي فرصة االختيار ,أو حتى االستشارة؟
29
أكان يعتبرني نسخة عنه ,أم هو نمط من النرجسية في التملك ,أو حب ممارسة السلطة والقوة؟ أحيانا كنت أذهب أبعد حينما أفسر تصرفاته نحوي بفقدانه الثقة بي .الشيء الوحيد الذي أنا متأكدة منه أن هناك فرقا بين شخص وآخر .أنا لست نسخة عن أحد وال حتى عن أمي. ربما هي الدكتاتورية ,أم أني فعال فأرة تجاربه؟ وأمام قوة رغباتي ,وصرامة مواقف والدي ,أصبحت أمام أحد خيارين :إما أن أعيد الثانوية العامة ,وأحصل على معدل أفضل يؤهلني لدخول جامعة اإلمارات ,أو أن أقبل بطرح والدي ,وهو أن ألتحق بمدرسة التمريض. جامعة اإلمارات هي أكثر الجامعات مناسبة لعقليته فهي مثل غالبية الجامعات في دول الخليج ,ليس لها أي عالقة بشيء اسمه االختالط بين الجنسين .إضافة إلى أنها تخضع لقوانين وشروط خاصة بالدولة .أما بالنسبة لمدرسة التمريض فقد كانت تلك هي الدفعة األولى والتجربة األولى ,لذا فإنهم كانوا يقبلون معدالت أقل ومن أي فرٍع كان ,متجاوزين الجنسية :فأرة تجارب مرة أخرى. 30
لعل الهدف من ذلك كان تشجيع بنات اإلمارات على دخول عالم التمريض وتغيير نظرة المجتمع ,فالمستشفيات بحاجة كن -وقتئذ -من الجنسيات للممرضات العرب ,وأغلبه ّن ّ اآلسيوية ,وال يتحدثن العربية .إذا انتسابي لهذه المدرسة في ظاهره شبه اختياري ,ولكنه في الحقيقة إجباري. أحببت والدي كثي ار ,وأحببت تفانيه في توفير أفضل سبل العيش لنا ,لكني انزعجت من تحكمه األعمى الذي مارسه بحقي متجاو از فكرة أني فتاة لها خصوصيتها ,وتفكيرها ونظرتها للحياة والمستقبل. في مدرسة التمريض كانت األمور مختلفة والظروف صعبة ,فعالقتي بالدم سيئة ,وهذا المكان ال يناسبني على اإلطالق ,أحب األلوان ,والموسيقى ,والتصوير ,وليس الدماء, والكسور ,والمرضى! كان كل يوم دوام لي في المعهد بمثابة تنفيذ عقوبة ,وقد عانيت من أعراض جانبية ,إقياء ,والصوم عن تناول الطعام, والكوابيس ليال ,ولم أجد بدا إال حينما طلب مني تنظيف جسد رجل مصاب ,ليدفعني ذلك أن أقرر دونما تراجع أن أترك هذا 31
المعهد إلى غير رجعة ,وكانت حجة قوية أيضا رميت بأوراقها أمام والدي ,الذي استشاط غيظا ,ويأس مني. مرة أخرى أصبحت أعيش في فوضى االختيار ,وغياب الفرص ,لذا بدأت في التفكير بالبح
عن عمل ,إال أن فكرتي
مجددا جوبِهت برفض والدي ,بذريعة أن عمل الفتاة مرتبط بالحاجة المادية هنا ,ودخلنا ميسور. وبتجاوز الذريعة إلى السبب الحقيقي الذي كان في كواليس ذلك ,فوالدي لم يقرر مصيري ُبعيد فشل مخطط دراستي في التمريض ,وتجاربه لم ِ تنته بعد ,لذا فهو اآلن في حالة توظيف المطيعة ,وأي تمرد من قبلي إليجاد مخرج لن أخرى لفتاته ُ يكون مسموحا به .هذا عدا أن والدي ضد االختالط بين الجنسين ,وهذا ما يمكن أن يوفره عملي إذا تم. ليست الحياة سوى حالة ُمزدوجة ,والرجل والمرأة فيها صنواها ,ومكوناها .وأي عزل أو إقصاء ألحدهما ستكون نتيجته عمال غير طبيعي ,بل وفاشل. هل غادة هي ملك لوالدها الذي قرر عنها كل االشياء؟ إلى متى سيكون مصيري مرهونا بما يرغبه؟ 32
وأمام احتدام الخالف ,ولجوئي إلى العصيان المنزلي, واالعتصام حتى منحي حرية أن أقرر ولو جزءا يسي ار من حياتيَ ,قِب َل والدي أن أعمل بمجال التدريس في حضانة لألطفال .تلك كانت فرصة حياة مختلفة بالنسبة لفتاة ما اإلردة واألمنية. عاشت إلى اآلن يوما من ا وانه حقا عالم رائع ,هناك كانت إحدى أجمل محطات الم ِرحة ,التي كان العالم حياتي ,وعدت فيها إلى زمن الطفلة َ ال يتسع لصدى ضحكاتها.
33
-7"إذا لم تكن تعلم إلى أين تذهب ,فكل الطرق تفي بالغرض" يا للروعة والتناغم! ويا لجالل ما ستصبح عليه حياتي! أتراها ستكون أفضل حاال وجماال ,أم أنه األلم المنتظر في تفاصيل الغد ,والذي بالكاد أقرؤه ,ولكني رغم ذلك أعيش ّ انتصا ار مختلفا بريشتي ولغتي ,اللتان تأبيان القبول في ٍ تحد ُ صارخ؟ ما كان يجب للقرار أن يتم ,فهي أصغر من أن تكون زوجة ,وربة أسرة ,وأم ألطفال ,إنها حياة أخرى يمكن تأجيل إعالنها قدر اإلمكان ,قرأت ذات مرة من إحدى الروايات "أن اإلنسان ال يجب أن يتزوج إال إذا أحس أنه لم يعد ذا نفع" وهي في حروبها المزدوجة مع أسرتها ومع نفسها لم تكن مستعدة إلضافة طرف ثال . ولكن أتراها كانت تمتلك مفاتيح القرار في ذلك ,أو تجنب حدوثه؟
34
إنه الواقع إذا ,وهو الشيء الحقيقي الوحيد .وأنا المحترق (ة) بينهما ,سأظل أرسم تفاصيل األلم ودقائق الحزن سأظل بأناقة أسطر هول حدي
تصارعمها المتتالي ,سأبقى أكثر
معها ألنها األشد ألما واألكثر شعو ار وأخاف أن أفقدها في لحظة طيش. نعم إني اآلن أعيشهما بروح ثالثة هائمة ماجت بينهما ,روح األطفال الثال (رنا ,مرح ,زياد) فأنا هم ,وهم أنا ,وال ثال بيننا. صدى كلمات ثالثتهم يتردد: لم نكن نرغب بالوالدة على هذا الفرض ,بروح هائمة ال تعرف الهدوء نظل في حالة جوع لحنان األم ,وهمسة األم, ولمستها. كم نحتاجك أمي ,لنعيش معا ونعوض كل الذي أصبح وكان! كم تحتاجيننا أمي ,لتربتي على كتفنا ,لتقبلينا قبل النوم, لتغطينا ,لنشرب حليب الصباح ,ونخرج في نزهة المساء, وتختاري ما نلبسه ,وتعلمينا فروض الحياة ,وأدب المعيشة! 35
لألم لغة خاصة ال يحسها إال من تجرع قارورة لحن فقدانها ,وهنا المصائر المتالعبة بداء الغموض ستتشرب كثي ار من تلك المعاناة ,طريق معبدة بآمال متساقطة ,على شاكلة زهر اللوز المرصوف. إذا إنه ذاك القدر الذي يجعل من ترتيب األحدا
واقعا ال
يمكن تجاوز هوله. هكذا تقول أوراق البخت ,وهكذا ستتلون األحدا
التالية,
وما أراهُ أكثر مما أستطيع قوله واآلن حان األوان أن أغادر.
36
-8في إحدى جوالت التسوق ,حد
تخاطر بيني وبين شاب
عابر برفقة أهله ,كانت األم تنظر نحوي بشكل غريب ,لقد أُعجبت بي على ما يبدو ,ورمتني بشباك صيدها كعروس البنها. في تلك الفترة كنت أحاول قدر اإلمكان تنظيم وقتي لبداية أخرى ,صحيح أن وظيفتي في روضة األطفال كمدرسة تبهجني ,لكنها كانت عمال مؤقتا ,وأنا طموحي كان يتجاوز أن أبقى فيه ,إلى رغبتي الشديدة في متابعة تعلمي الجامعي, بفرع تخصصي .لكن الطارئ الذي زلزل كامل حياتي ومستقبلي كان بفعل كبير ,فمشروع أن أتزوج ما كان خاط ار في بالي ,لذا رفضته على الفور يوم تم عرضه علي ,دون أن ّ أفكر في األمر حتى .وفوق حيرتي أصبحت أكثر ضياعا وقلقا: غادة ,ابنتي ,لقد تقدم مجددا يطلبك زوجة ,وأنا قدقررت أن أعطيه قرار القبول .ابنتي ,إنه رجل صالح, 37
وهي عائلة غنية ,لها مكانتها .يابنتي الجميلة ,إنهم طيبون ,من طينتا ,أمه إنسانة تقية ,ويناسبوننا. الجميع قد أفتى بي زوجة إذا ,ووافق على إدخالي لتجربة أخرى ,رغم أنها جاءت في غير وقتها ,فآخر شيء كنت أفكر به هو أن اتزوج. لكن ,وبتأثير موافقتهم جميعا ,وباعتباره الزوج المناسب لي, ومن ناحية أني أردت أن أجد ما يمزق صمت أيامي – لذا, فكرت في أني سأتمكن ,من خالل هذه الخطوة ,إيجاد نفق للعبور إلى حال أفضل ,وأكثر مغامرة. األمر برمته جاء مفاجئا ,وأستطيع تصنيفه ضمن فكرة :إنه كان حالة طارئة بدأت تتشرب برغباتي ,أو أني به أردت الهروب من سوار العائلة واإلمالءات وقيود المحيط ,وتجاوز سطوة الممارسة إلى فكرة االنعتاق. هذه الهواجس بدأت تتلبس قرار موافقتي ,رغم أني قبل هذا ما كنت أفكر بها أو أعيشها ,فقد كنت أصارع ألكون بانية ذاتي في إطار العائلة ,أستخلص منها ما أستطيعه من ميزات. 38
تلك أسباب دفعتني ألقتنع بفكرة الزواج ,لكن لم أستطع بناء قاعدة معرفية حول تفاصيل ذلك ,أو أن أفكر بنضج أكثر في الزاوج من شخص بالكاد أعرفه ,لم أفكر في أني قد أدفع ثمنا باهظا إن أخطأت القرار. هذه المرة تنحى والدي جانبا بعيد إرسال رأيه ,ولن أستغرب األمر ألنه بشكل أو بآخر جاء منطقيا ,ضمن ما كان يخططه لي.
39
-9سيزوروننا غدا مساء ,وعلي أن أتميز ,فهي المرة األولى التي سألتقي فيها بشاب ضمن حرم العائلة ,وبمباركتها. علي أن أكون دقيقة في المظهر وأن أختار شيئا خاصا, ّ ولكن كيف؟ نعم سأختار هذا ,إنه اللون السماوي الذي أفضله, سأكون فيه أجمل ,وال أدري لما أحس بأن الغد سيكون مختلفا رغم أنها زيارة تعارف ليس أكثر. كان لقاءا عائليا رسميا ,بالكاد استطعت تميزه عن الحضور ,وطرحوا رغبتهم في التقارب ,من خالل طلبي كعروس. ال أخفيكم س ار أني من خالل أول تجربة رسمية بدأت أشعر بخطأ المتابعة ,وأنه ليس الشخص المناسب لي ,فلست التي تقبل األشياء هكذا ,كان يجب أن أبتعد ,فما أحسسته كانت مشاعر آنية ,فتطبعي خاص وتكويني دقيق ,وال يجب أن أتمرد على ما سيرت به أيامي ,لكنها الرغبة ,بل لنقل إنه الفضول واإلعجاب بالفكرة. 40
أعلنت موافقتي ,دون أن أدرك حجم ذلك ,فقد كنت أعتبر المسألة في طور التجربة ,وأمامنا أيام الخطبة ,وهي فترة تعارف ,وليس لزاما االستمرار إذا لم يكن من توافق أو اتفاق. هذا ما كنت أفكر به على األقل ,دون أن أدرك أن األمور سائرة إلى منحى أكثر تثبيتا. تم عقد قراني الثالثاء 18يونيو /حزيران ,1988حينها كانت الحرب العراقية-اإليرانية في آواخر طقوسها ,وأثناء ذلك كان والدي قد تجاوز صمته ,فقد اشترط أن تتم الخطبة وعقد القران معا -خط الرجعة تم نسفه إذا – فوالدي كما أصبحتم تعرفونه صاحب قناعات صعبة ,وهو يرفض أن يستقبل خطيبي إال بصفة أكبر من كونه خطيبي ,وما لم يكن في الحسبان ,أن أتحول من مخطوبة إلى زوجة مباشرة. أصبحت لحياتي انعطافات مختلفة ,بروتين متمايز من زيارات رسمية ,وعالقات اجتماعية جديدة ,تعرفت إضافة إليه على أخته الصغيرة والمدللة ,وقد وجدتها سليطة اللسان ,بعيدة عن اللباقة منها عن السذاجة ,وأيضا على والدته التي عرفتها 41
كوالدي ,من حي نوعا من الخب
تدخلها في كل التفاصيل ,وقرأت في عينيها الذي أورثته إلى ابنتها.
سارت عالقتي به بشكل جيد ,وان كان تعارفي به محدودا, وبينما كنت أفكر في استغالل هذه الفترة للتعرف عليه أكثر, واذ بوالدي يقرر فجأة سفرنا إلى دمشق لقضاء اإلجازة الصيفية. رغم هيامي بدمشق ورغبتي الشديدة في زيارتها أصبت بصاعقة شلت أعصابي ,وتداخلت األمور في مخيلتي: أمعقول أن يتم تسيير األمور بهذا المنحى السلطوي,ودونما أدنى مراعاة لمشاعري؟ اختلفت األمور اآلن ,وما عاد مسألة اختيار فرع علمي ,أو اختيار قطعة القتنائها ,أو عمل لمتابعته ,إنه الزواج بشاب بالكاد أعرفه ,ومن حقي وواجبي عليهم أن يفسحوا لي فرصة التعرف عليه. جاء قرار السفر على حين غرةُ ,محطما ما تبقى لي من أمل ,ومع ممانعتي ,وسيل الحجج ,أصر والدي على أن نسافر أجمعين ,لدرجة تيقنت معها أنه يفعل ذلك متقصدا. 42
أتراهُ ينتقم من ابنته ,أم هي تجربة أخرى يود متابعتها؟ سافرنا إلى دمشق ,وحطت طائرتنا ترابها ,وعدت إلى بيتنا, ففاضت مشاعري دمعا على ما كان ,وما يكون. رغم ما أحمله من أشواق لكل زاوية ومنزل ,إال أني ظللت ُمضطربة ,ولم أستطع أن أجد راحة البال ,لقد كنت أحس باالشمئزاز واالضطراب.
بقينا هناك حوالي الشهرين ,وتواصلي بالمحيط كان سلبيا جدا ,مثلما هو تواصلي وخطيبي ,فلم أحس منه أية مشاعر ود أو تقارب من خالل العدد القليل من االتصاالت ,التي على األغلب كنت أنا من تجريها .كنت أعذره بانشغاله في العمل, أو بفكرة الحياء. ال أخفيكم أني كنت مشتتة التفكير ,وبوضع نفسي قلق جدا ,خاصة حين بدأت أتحسس تبعات فكرة أن أصبح مقيدة برابط الزواج. عدنا إلى اإلمارات وسارت األمور على نحو مغاير ,فوالدي استبق كل الترتيبات ُليصدر ق ارره بضرورة اإلسراع في إتمام
43
إجراءات الزواج واإلفراغ منها في أقرب فترة .الجميع كان ُمستعجال ,وله الرأي إال أنا ,صاحبة القرار.
مجددا أجابه بالحالة ذاتها ,والتحكم المثيل ذاته ,وعلى ما
يبدو فإني قد تخدرت من كثرة المواقف ,لدرجة أني بت عاجزة حتى عن مناقشتها. كم أنت قاس يا والدي لقد جعلت من ابنتك الناضجة, المثقفة ,الواعية ,لعبة ,وأبقيتها طفلة عاجزة عن أي قرار. يصعب جدا أن أتمكن من شرح الحالة الصعبة التي كنت أعيشها مع كل موقف ,إال أن السهل أن أقضي ليلي التالي أتجرع األلم ,وحرقة األعصاب بالبكاء. لقد سلمت أمري وحياتي إليهم عن رغبة ,فأنا بجميع األحوال غير قادرة على أي تصرف إذا لم يريدوه ,أما عن فكرة االنتحار فال أتذكر أنها راودتني ,لقد تعايشت مع كل ذلك. أهلي وأهله رددوا "خير البر عاجله" وأنا وهو لم نردد شيئا, وان تيقنت وقبيل االنتهاء من المراسم أني قد أخطأت ,بل لنقل
44
تابعت ممارسة األخطاء بفكرة القبول ,هكذا كان تردد مشاعري ,ولكنها تأخرت التنبيه.
45
-11"المحبة تصبر طويال ,وهي لطيفة .المحبة ال تحسد. المحبة ال تتفاخر وال تتكبر .ال تتصرف بغير لباقة ,وال تسعى إلى مصلحتها الخاصة". كانت حفلة مختصرة جدا ,وبأحاسيس حزينة جدا ,كان التاريخ هو 21أغسطس .1988 كثيرة جدا هي األفكار الجميلة التي كنت أدخرها ليوم كهذا, وكم كنت أحلم بطقوس زواج فريدة ,فيها أكون مختالة ,وأدعو كل أصدقائي ,واألهل ,ومن أحب. وكثير جدا هو الحب الذي كنت أخبئه لمن سيكون زوجي, كنت أرغب فعال أن تكون حياتي ذا نكهة مختلفة ,وأن أتمكن من ترتيبها بشكل أصبح فيه قادرة على إعادة تهيئة شخصيتي, ومواءمتها والحالة الجديدة. انتهت مراسم الزواج قبل أن تبدأ ,فالكل في عجالة من أمره ,وكأنهم في سباق وليرحل الجميع فأبقى لوحدي معه. 46
لماذا نقونن أفكارنا وفق ما يناسبنا ,ونصبغها بصبغة الشريعة والدين ,أوليست فترة الخطبة وسيلة تعارف ليحسم في ختامها قرار الزواج؟ لماذا في بالدي يعتبرونها فترة انتقالية ليس أكثر؟
47
-12سارت األمور برتابة ودون تعقيدات ,ولم أجد الفارق الكثير بين الحياتين قبل أو بعد الزواج ,لكني تحولت إلى "ست بيت" وهذا هو االختالف الواضح. مع األيام كثرت المشاغل اليومية التي ألهتني جزئيا عن التفكير في طموحاتي التي خططتها ,خاصة مع تداخل العالقات االجتماعية ,والفروض المنزلية ,وزوج يغيب كثي ار. نعم ,فمن األيام األولى وهو كثير الغياب ,وان حضر فقد كان ينزوي في مكتبه لساعات حتى يحين موعد العشاء ,وفي أيام أخرى لم يكن يعود المنزل بحجة العمل ,وكثي ار ما كنت أغفو وأنا أنتظره ,وحين أفيق ال أجده إال في اليوم التالي مساءا. كانت حياتنا تسير بديناميكية ُمنفصلة ,وكل يوم كان الشرخ يزداد ,وان لم تكن المشاكل كبيرة لدرجة الخالف .لكني لست التي تأمل هذا ,منزال ,وسيارة ,وخدما ...لقد كنت أبح
عن
الحياة ,ولألسف يوما بعد آخر أحس بأني أفقد ما كنت أمتلكه .فوق ذلك تدخالت والدته وأخته في تفاصيل عالقتنا, 48
التي لم تكن تتوقف ,إضافة إلى زياراتهم الطويلة الكثيرة ,والتي غالبا ما كانت تترافق مع افتعال بعض من المشاكل بيني وبين زوجي تارة ,أو بيني وبين أخته تارة أخرى ,علما أني كنت ألطف األجواء أغلب األحيان ,حتى ال تخرج عن نطاق السيطرة. كانت فترة الحمل صعبة بالنسبة إلي ,فتضاعفت التأثيرات ّ النفسية ,وقد كنت أرغب طوال الوقت بطعام ُمنوع ,وفاكهة, وزوج يظل بجانبي ,إال أن كل شيء تحقق باستثاء األخير. ولماذا الحمل يا غادة؟ هروب آخر وجدتني أسير إليه ,أمال في أن يكون له دور في أن يضفي نوعا من التمايز ,والجمال على روتين ما نعيشه من حياة زوجية جامدة. فكرت في أني باالنجاب سأحد
تغيي ار في تصرفاته ,وفي
عالقتنا ,لتُصبح أكثر تواصال وتفاهما ,فقد مضى على زواجنا أكثر من عام ,ونحن خالله نعيش دونما تواصل حقيقي.
49
حتى مع خبر كوني حامال ظل بال مباالة ,هذه هي عادته, وان بدأت تتفاقم أكثر تدريجيا ,لقد بدأت اشمئز من سوء االختيار ,والقرار الذي ألفيت نفسي فيه. "رنا" أصبحت ُمنتسبا جديدا إلى العائلة مع والدتها التي جاءت في الثال من يناير ,1990تأملت أن تكون فاتحة خير ,فوجود طفلة كالقمر في منزلنا نتشاركها كالنا األبوية سيكون له وقع إيجابي ,وانجذاب. رنا كانت منذ الساعات األولى أجمل شيء يضاف إلى حياتي ,فمع أول صرخة منها ,شعرت بقشعريرة أبهجتني, ضممتها بحرقة إلى صدري ,فيما آالم المخاض تذبحني,
حي
ولكنها كانت تخدرها ساعة أنظرها نائمة ,أو تتناول طعامها بنهم. كنت أزهو بها تغريدا ,وكان صوت بكائها موسيقا في سمعي ,كنت أراقبها كيف وهي تكبر ,وتبكي وتنام ,وأعيش معها اللحظة بلحظة. تغيرت الكثير من األمور ,بعد مجيئها فانشغالي بها ,وبقضاء حاجياتها أنستني كل همومي السابقة ,وزوجي أيضا. 50
هو بجميع األحوال خارج نطاق االهتمام بي ,أو حتى جعله في حل من أي ارتباط إضافي. بابنته ,ومجيء رنا قد ُ ولم يحد
أي تطور في عالقتنا ,بل لقد سارت بعكس
المسار ,فبالكاد أصبحنا نجتمع ,أو نتناقش. ولعل األمر الفيصل الذي لعب دوره في تطوير األحدا هو الخالف الذي حد
بيني وبين أخته ,وتطور إلى حد
االعتداء علي ,فلم أجد إال صدر أمها مكانا للشكاية ,والتعبير ّ عن االمتعاظ .حد األمر فجأة ,والحقا أدرك ُت أنه كان مفتعال ,وجاء تعبي ار عن عدم قدرتهم على تقبلي.
خيار واحدا ,وهو والدي التصل به ,رغم رغبتي ا لم أجد إال في إبقاءه بعيدا عن مشاكلي لكني كنت وحيدة هنا ,لم يسمح لي باصطحاب ابنتي الصغيرة ,كان يمارس نوعا من الضغط والتعذيب النفسي الذي يمتهنه ,بقيت أسبوعين وفيها حرائقي تشتعل شوقا البنتي وحالها ,فهي طفلة صغيرة وكم تحتاج ألمها! وال أدري كيف تطورت األمور ليتصل بي مهددا بالطالق إن لم أعد ,وليطلقني الحقا غيابيا.
51
المسألة برمتها كانت مجرد خالف ,محصور بيني وأخته, وان كان من خطأ فكالنا يتشارك فيه ,ومن ثم كيف يكون الحكم غيابيا وبأقصاه ,وكيف تكون كلمة " طالق " حاضرة اآلن. لم أفهم سبب الكره الدفين اتجاهي ,وسبب جفائه! لم أستطع تفسير تصرفاته لقد كان يتصيد أي موقف ليعبر لي عن مدى كرهه ,وحقده نحوي. رغم أن األمور هدأت بيننا الحقا ,بفعل تدخل األصدقاء, لكني مع هذا الموقف شعرت تماما بمدى السوء الذي بت أعيشه .واأليام التي عشتها في فترة" الطالق" كانت قاسية بالنسبة ألم تم تغييبها عن طفلتها وهي بعمر أقل من عام.
52
-14"في األمور العظيمة يتظاهر الرجال كما يحلو لهم وفي األمور الصغيرة يبدون على حقيقتهم – ".شامبور – كنت أشغل نفسي برسم لوحة ,حين طرقت باب غرفتي أخته هيام تستأذن أن نتحاد
قليال فيما الصغيرة رنا منشغلة
كما العادة بدميتها ,وترتيب منزل اجتهدت تبنيه لها. جاءت بوجه مقلوب ,تطلب مني أن أكون أكثر مرونة في التعامل مع زوجي ومعهم ,وليتطور النقاش بيننا إلى درجة أني وجدتها تحاول فرض رأيها علي ,فطلبت منها عدم التدخل في ّ خصوصيتنا ,لكنها لم تتحمل على ما يبدو موقفي ,فاندفعت نحوي في محاولة الفتعال عراك ,فتجنبتها ,طالبة منها المغادرة. وفي ذات المساء عاد زوجي مبك ار لم يسلم علي ,أو على ّ ابنته ,وبخني بنظرة حادة ,وخرج من المنزل بعد دقائق.
53
ليتصل بي بعد أقل من ساعة ,طالبا مني أن أرتب نفسي لمغادرة المنزل" :لم أعد أريدك في منزلي ,سأعود بعد قليل حاذري التواجد ,اتركي رنا وغادري". لم أناقشه أو أرد عليه ,وضعت سماعة الهاتف وساد الهدوء للحظات ليكسره رنين الجرس ,فقد عاد ليتأكد من مغادرتي. تركت المنزل وأنا ال أدري ما القصة ,وأين أذهب ,لم أجد إال منزل صديقتي هالة ,مكانا ألجأ إليه. يوم وتتصل بي والدته ,طالبة مني أن نلتقي لشرح المشكلة معتبرة أن ما حد
كان مجرد سوء تفاهم.
وافقت على العودة معها ُمكرهة ,وخاصة أني لم أتحمل غيابي
عن طفلتي مختصرة األمر في خالف عارض ,يمكن ألي
أسرة أن تعيشه ,لكن المخيب لآلمال ,أن ال تلقى طرقاتنا لباب منزله أي صدى ,رغم يقيننا بأنه في الداخل ,لكنه رفض فتح الباب ,مضيفا إهانة أخرى أكثر إيالما وجرحا لكرامتي ,غير مبال باإلهانة المرافقة التي تتلقاها قبلي أمه ,ومدى الخجل الذي تلبسته .حاولت االتصال به ,لكنها عادت بعد دقائق: "إنه خارج اإلمارة لعمل هام ,ولن يتمكن من العودة اليوم". 54
أتضحت الصورة تماما ,فافترقنا وأنا أق أر عالئم غضب على وجهها ,فيما أخته التي انضمت إلينا الحقا لم تستطع كتمان ابتسامتها. مضت أيام أللتقي بهم صدفة أثناء زيارتي إلحدى الصديقات "سعاد" ,وقبل أن أكتشف تواجدهم ,ناب إحساسي عن بصري بالتعرف على صدى أنفاس رنا ,وحركاتها. ابنتي هنا إذا ,حضنتها بكثير من الدموع ,وحضنتني هي بشوق طافح. مؤكد أنهم يزورونها لالستفسار عن أخباري ,هذا كان ظني الذي صدق الحقا .ومع ذلك ارتئيت أن أظهر بشائر االرتياح لهذه المصادفة ,مزيلة عالئم االنزعاج التي ترسمت على محياي .بادلتهم االبتسامة ,وحينما اقتربت أكثر للمصافحة تهربوا عابسين .ساد صمت كئيب المكان ,فيما صديقتي تمطرهم كرما وضيافة ,وأمام هذا الذهول الذي طال ,عاودت حماتي حديثها الذي على ما يبدو أنها كانت تسرده قبيل دخولي" :ولكن ابني قد طلقها يا سعاد". المطلقة!؟ إذا انا" غادة" "أم رنا" هي ُ 55
كان وقع وطريقة تلقين الخبر صاعقة بالنسبة لي ,كيف الم أرة متدينة ,ربت أوالدا ,وتعيش في أسرة كريمة أن تكون بكل هذه الوقاحة ,والسماجة؟ أمعقول أنهم يكرهونني إلى هذا الحد؟ أليس في قلوبهم قطرات رحمة ورأفة بي وبهذه الطفلة الصغيرة ,التي أصبح لها ما يزيد عن األسبوع وهي تستنجدهم إيابي بدموعها .أي ذنب ٍ كبير اقترفته؟ أنا التي تنازلت عن حياتها ,وشبابها ,وأحالمها ألجل رجل, عله يكون لي السبيل إلى حياة افضل ,أكثر إجالال. توقفت الحياة من حولي وتحولت أمواجا تضربني ,وتجمدت مشاعري ,فلم أجد إال طفلتي التي غفت براحة وهدوء في الملهي عن حجم البؤس واليأس الذي سكنني. حضني ُ لم أتحمل ,رغم محاوالت التجلد ,حتى وجدت عيناي تخوناني بالدموع ,ولتمتد الخيانة إلى لساني" :كيف يغدر بي بهذه الطريقة الجوفاء ,وال أعلم بالخبر ,حتى ذهبت إلى بابه معكم؟"
56
م ار ار حاولت أن أغادر منزل صديقتي ,فلم أعد أحتمل أكثر ,لكن إلحاحها ,ودموع رنا جعالني أتمهل. إنه الغدر بعينه ,وانها قمة اإلساءة ,وقلة في القيم, واألخالق. في مكان آخر ,خارج دائرة جلسونا كان عمي "هشام", وصاحب الدار جالسين ,فهما على تعارف منذ وقت طويل, وغاب عن بالي عن فكرة أن تحاول سعاد وزوجها التوسط مع عمي للمصالحة ,فهي األدرى واأل أرف بحالي ,وهي الصديقة الطيبة التي كنت أشاطرها آالمي م ار ار ,وحظي العاثر. قدم زوجي فجأة ,فقد اتصلوا يطلبونه الحضور ,فترجتني سعاد أن أهدأ واستجمع قواي لترافقني إلى غرفة الجلوس حي الجميع. دخلت عليهم بتحية سالم ,وانزويت جالسة. أمام هذه البرودة في الترحيب انزعج عمي الذي أصبح لي فترة ولم التقيه. أمعن يلقن دروسا في الود ,وحرمة المعاشرة ,والحياة الزوجية ,وهنا قاطعته" :لكنني مطلقة!" 57
كان وقع الخبر مفاجئا ,فعلى ما يبدو أنه أيضا كان يجهل الخبر ,فانزعج جدا ,وأحس بضعف موقفه. تدخل صاحب الدار ملطفا األجواء ,وعرض فكرة المصالحة ,وتجاوز الخالف" :فلساعة الغضب تأثير سلبي, وهي التي أنجبت هذه التصرفات غير المسؤولة أو المستعجلة. تمت المصالحة شكليا ,وعدت إلى عصمته ,وأنا أستشف التفاؤل والود وألول مرة في تصرفاته ,وبعيد إتمام مراسم العودة ,وجدته أكثر تقبال ووجدت محياه يرحب بي.
58
-15المحاولة إذا ُمتداركة من خالل إيجاد طابع خاص فيه تتجلى الفردية الخالصة ,ال يمكن الرفض كما ال يمكن القبول فيبقى التعايش المقنع بجملة مواقف ظاهرة ملبية لقوانين المجتمع هو فرصة التواجد. افترقنا عن األصدقاء وعمي أمام باب الدار ,ورنا نائمة في حضني بعمق ,ال أخفيكم أني وجدته أكثر رأفة ,أتراها رنا من تكون السبب؟ لقد عاشت أسبوعا قاسيا ,وهو اللحظة يجدها غافية في راحة بال. عادت األمور إلى حالتها ,ولكني كنت سعيدة بطفلتي كما هي سعيدة ألجل عودتي وهذا حاليا يكفيني. أخي ووالدي أبقيتهما خارج دائرة ما كان يحد
معي ,وفي
ختام كل اتصال كنت أطمنئهم عن مساحة السعادة التي أعيشها .لم أخبرهم بما مررت به ,ولكن الخبر وصلهم صدفة, فكانت صدمة وخاصة لوالدي معتب ار أن ما حد
ال يمكن
السكوت عنه ,وأن في الموقف إهانة له وللعائلة ,فأقنعته بأن 59
األمور اآلن تسير بشكل أفضل ,من ناحية إحسانه في معاملتي ,وبالطبع كنت أكذب في الشطر الثاني. اتصلت سعاد تخبرني عن رغبتها في جمعنا على طاولة عشاء ,وأعجبني الخبر ,سيكون جميال لو جلسنا جميعا حول المائدة في أمسية عشاء وما لهذا من أثر إيجابي في إضفاء روح جديدة في عالقاتنا ,فوجدت الفرصة سانحة. قبل الجميع الدعوة ,ووالدي أيضا تمت دعوته وان قبلها بإلحاح ,ورفض أن يبادلني أية كلمة خالل المأدبة. كنت أجهز نفسي للتحضر لحفل العشاء وفي أثناء بحثي عن مجوهراتي لم أجدها في مكانها ,لقد كانت الحقيبة فارغة تماما .سألت زوجي عن األمر ,فأكد أنه الذي أخذها ,لفك حاجة صديق. هل يصح بعرف العادة أن يتم التصرف بممتلكات الغير دون الرجوع إليهم؟ رغم انزعاجي الشديد ,لكني لم أناقشه في ذلك. كنت أرغب في تحسين عالقتنا ,وفضلت الصمت ,وأنا المخزي أني الحقا استبينت مكان ألوك يأسي مجددا .لكن ُ 60
صدفة في حقيبة كان يقتنيها س ار, مجوهراتي يوم لمحتها ُ إضافة إلى جواز سفري. لم يكن يتوقع دخولي ,أسرع يغلق الحقيبة ,وتظاهرت بأني لم أرى شيئا.
61
-16"السعادة صبية جميلة تسكن في أعماق القلب ولن تجيئ إليه من ُمحيطه ,وأنا لما فتحت قلبي لكي أرى السعادة ,وجدت هناك مرآتها وسريرها ومالبسها ,ولكنني لم أجدها" جبران خليل جبران-أيام قليلة وعادت األمور إلى روتينها السابق الذي كان من ناحية عالقتنا وبرودتها ,لم أعد اكتر لذلك حتى ,أصب كل اهتمامي على طفلتي. لم أفقد األمل وكنت حريصة على أن يسود الود حياتنا, لكني لم أحصد إال المزيد من التعذيب النفسي واإلهمال وعدم االكت ار ,ال بل ساءت األمور أكثر ,فقد تجاوز كل ذلك إلى ممارسة عادة الضرب ,وبدأ يفتعل مشاكل من أمور صغيرة أو كبيرة ,وبنتيجتها يكون القصاص دائما بلغة الضرب. نعم أصبح الضرب وسيلته للتعبير ,ولم أجد بدا إال أن أتواصل مع أمه علها تكون فاعلة خير بيننا ,وأن تكبح جماحه ,لكن لألسف لم أكن أحصل إال على مزيد من الوعود, دون إحدا 62
أي تهدئة ,بل كانت تحذرني من مغبة التمادي,
بفكرة أن يطلقني لمرة ثانية .لقد كانت قاسية جدا معي ,وكانت سببا إضافيا لتعمق مأساتي. بدأت حالتي تسوء شيئا فشيئا ,وبدأت أفقد وزني أكثر, أنظر إلى والحزن يسربل نفسيتي ,جلست أمام المرآة ,و ُ أخذت ُ
وجهي بذهول وأقول في خطاب مع الذات:
أمعقول أن يكون هذا الرسم ,لذات الفتاة التي كانتكلها حياة ,وربيع! من ت ارها تكون هذه المرآة الشاحبة؟ ما الذي يحد ؟ وهذا الشحوب ,وهذه الهاالت السوداء النامية تحت عيني ,بل وكل هذا الذبول؟! بدأت شهيتي للطعام تتالشى .هزَل جسمي ,وغادرتني ْ صرت أحب العزلة االبتسامة بعد ما كانت ال تفارق شفتي, ُ وأكلم نفسي كثي ار ,فأقضي ليلي سه ار وبكاءا.
كل ذلك وعالقتي بزوجي تزداد توت ار ,كلما حاولت التقرب أشياء أر ُيد اإلفصاح له عنها ,ثمة منه أجد الرفض ,هناك ُ مسافة بيننا ,ولكنه ال يسمعني.
63
كان يعتقد أن مجرد وجوده في البيت يعني أنه موجود في حياتي .ولكن الحقيقة هي أن كال منا كان يشعر بنفسه غريبا عن اآلخر. أين هو رفيقي في الحياة؟ صحيح أن المرأة -بدافع خوفها على أسرتها وحرصها على استمرار عالقتها الزوجية -تصفح وتعفو وتتحمل ,وصحيح أن التسامح قد يحد
تغيي ار جذريا في نفس من يمارسه ,ولكن
ربما صار التسامح لدى البعض دافعا مغريا لممارسة اإلساءة مرة أخرى ,وهنا يجب الحذر. خالف إضافي أولده فجأة ,وهو كوني أخرج إلى الطريق حاسرة الرأس ,مع مرور الوقت وجدت أنه يتمحص عن أية نقطة إشكال ليثيرها ,بغرض فرض نفسه وأهوائه ,ولو باإلكراه. وصل به األمر إلى حد التهديد بالطالق مرة أخرى ,هذه السلطة التي ال ينكفئ عن إشهارها في كل مناسبة تهديد. أشد ما يؤلمني أني أنفذ األمر ليس من منطلق الحرص أو الدين ,بل ألجل سادية منه ,فهو شخص متناقض تماما ,ليس متدينا ,ال يصلي وال يصوم ,وانما يدعي ذلك .لقد رأيته بأم 64
يدخن السجائر خلسة, أنه كان ُ عيني فاط ار في رمضان ,حتى ُ
ولم أره يوما يق أر ولو جزءا من القرآن.
كنت أجد في غيابه عن البيت ساعات راحة واطمئنان, ولكنه يوم تنبه إلى ذلك عمد إلى أمر مختلف .فقد قام باستقدام أخيه إلى منزلنا ليشاركنا السكن. لم يستشرني في ذلك ,فهذا منزلي أيضا! حاولت بداية استيعاب المسألة ,لكن مع الوقت أصبحت أضيق ذرعا به, وتصرفاته التي بدت لي أنه كان يتقصدها من ناحية فرض نفسه كرجل ثاني في المنزل ,وتقييد حريتي ,إضافة إلى تصرفاته غير المسؤولة ,واقتحامه الدار من دون إذن ,فهو شخص غريب بالنسبة لي ,وسيبقى كذلك. وضحت لزوجي انزعاجي من دخوله المنزل دون قرع الباب ,إال أنه -كالعادة -لم يهتم ,فاألمر ال يعنيه إذا كان متعلقا براحتي ,بل العكس هو المطلوب. تفاقمت األمور فأخذ يمعن في إساءته إلي ,ومما أذكره - على سبيل المثال -أنه دلق على رأسي القهوة في منتصف الليل وأنا نائمة فيما الصغيرة رنا في حضني ,بحجة أنني 65
أهملت غسل الركوة ,أو أن يطردني من الغرفة وغير ذلك, وحتى حينما كان األمر متعلقا بحاالت طارئة كمرض رنا مثال ,يومها رفض اصطحابنا الى طبيب ,وقبل ذلك كان قد استخلص مني سيارتي بحجة أنها في التصليح ألغادر لزيارة أقرب طبيب بسيارة أجرة.
66
ما كانت الخاتمة ستكون إال لحزن عميق في داخلي ,فقد كبر وانتشر عبر السنين العشر ,التي قضيتها معه ,تلك التي لم أجد فيها أي حب أو أمل. كانت االستفسارات تتزاحم في صدري ,كلما تدنت بنا الحياة إلى ما دون الصفر. لماذا أغلق على روحي منافذ الفكر وحبسها في قوقعة من الحزن واالكتئاب؟ لقد وصلت إلى حالة الالوعي ,فقدت خاللها إمكانية ضبط أعصابي .عانيت من اإلحباط الذي أوصلني إلى االنهيار العصبي ,حتى اندفعت إلى حالة اإلدمان على تناول المهدئات.
67
-17ويستمر الغوص كما تستمر الحكاية في جو من الكآبة المقيتة واللعنة الدفينة المسيرة لمجمل األحدا ,فيكون االحتالل والحضور في ساحة تتوالد لتولد نوعا من اإلبداع المموه بإشكالية الحل وغموض التحليل ,ساحة ُيحار في بنيانها وتحليل أسبار أغوارها.
الهدف معالمه جد غامضة ,والغاية تفاصيلها جد متراكبة ومعقدة ,ولكن الرسالة واضحة ,وهي تأتي كمتابعة لسلسة أفكار ترسخت خالل زمن بعيد. الدين والقانون غائبان ,أو لنقل بصورة أوضح أنهما ُم َغيبان ,واال فما القانون الذي يحكم سير وتفاصيل حياتنا اليومية ,وأي دين يضبط تشرذم روحنا .ما نعيشه ضياع تام, وتمثيل واضح لبعض األفكار الدينية المكتوبة بأهوائنا, استقيناها بداعي الرهبة أو البهرجة ,أو لنقل إنها جملة تصرفات امتلكناها وراثة. العادات والتقاليد أضحت مذهبا خالصا يمنطق تفاصيل تصرفاتنا ومسيرة مجتمعنا. 68
الفوضى في العالقات ,وسيطرة الميول ,وتراجع دور فقد حلقات القانون .كل ذلك وغير ذلك تنامى في مجتمع َ وغيبت معالمه. وجوده ,فضاع في متاهة الموجودات ُ
69
-18كانت عالقتنا تزداد تدهو ار ,وتسوء أكثر يوما بعد يوم, وبتعمد من جهته ,فبشكل أو بآخر كان يعتبرني خادمة في منزله ليس أكثر ,كل ذلك وهو يرغب في إنجاب طفل آخر, فهو رجل شرقي ويريد ابنا يحمل اسمه واسم عائلته ,وأنا في ذلك وجدت باب أمل أن يكون مصدر تقارب بيننا .لقد بدأت أكره حياتي بشكل مريع ,وبدأت أفكار غريبة تسيطر على نفسيتي. القدر شاء أن تولد ابنتنا مرح في ( .)1993/11/28لقد كنت سعيدة جدا ألنها جاءت بعافية وسليمة ,فمع حالة اليأس وسوء الوضع النفسي ,كنت أخاف أن تأتي مشوهة ,ولكن الرب كان رؤوفا فارتضاها سليمة .وهو غائب دائما ,وكأني لست بزوجة ,قد يتبادر إلى الذهن أني أتمادى تشويها لتصرفاته ,أو يعتبر القارئ نصي هذا محاكمة من دون شهود أو دفاع ,ومن طرف واحد ,لكنهم بذات الوقت يمكنهم التدقيق في الكلمات ليقرؤوها كيف تشهد هي بنفسها على نفسها, يمكنهم الذهاب أكثر والعودة أكثر وقراءة كل تفصيلة ,بدقة 70
لمتابعة حالة اللغة ,كيف وهي تهيب بهم صارخة أنها قصة تكتب بالدم ,بالروح ,بكل األلم الذي كان ,بكل الذاكرة التي تحترق ومازالت تشتعل. أي منطق هذا الذي يفرض الفرح فقط لكون المولود ذك ار, َأوليس الدين ,والعرف ,والعادة ,والقيم ,واالنسانية كلها تجمع على المساواة ,وتقبل خلق هللا ومشيئته؟ خالل األيام التالية لم يزرني ولم أجده مطلقا ,إنه يرسلني امتعاضه من فشلي في إنجاب ولد له ,بل يستمر في عقابي وتعذيبي ,فيما أمه تشاركه التعبير لي عن جنس المولود ,هذا عدا عن أنهما لم يسمحا لوالدتي التي حضرت من دمشق أن تكون معي في المشفى بحجة بقائها مع رنا في المنزل ,األلم الجسدي الذي عشته مع والدة مرح كان أقل بكثير من األلم الذي يشعرني به ,مع كل مناسبة تتوالى ,فشلت لمرة أخرى, إذا ,والهوة تتسع بيننا أكثر ,لم أجده يوما يداعب أطفاله ,أو يحملهن كما كل اآلباء. تتزوج الفتاة برجل تعتبره كامل حياتها ,وانعكاس أحاسيسها ومشاعرها ورغباتها ,تعتبره سندا في أوقات الشدة ومصدر 71
سعادة ,وتدخر ألجله كل أسباب الراحة العائلية ,وبمرور الوقت يصبح التفاهم حالة معاشة بحكم العشرة والتواصل. كثي ار ما كنت أحس بعالئم الكهولة تترسم على وجهي, فمشاعري معه باتت أكثر من هرمة ,وحينما كنت أجلس قبالة المرة استرجع قصص الماضي واللحظات العابرة ,متذكرة أيام آ دمشق ,والحي ,وأيامي في اإلمارات قبل الزواج ,كنت أق أر كثي ار من األمل ,وكثي ار من التحدي ,فبالرغم من الصعوبات التي مرت إال أني كنت دائما أجد حال لمشاكلي واستميلها قبوال ,أما اآلن فالطرق باتت تضيق بي أكثر ,وزواجي تحول إلى أكبر كارثة في حياتي ,ومهما حاولت إقناع نفسي كانت تحد
مواقف تثبت صحة نظرية وجوب انسحابي ,وأن أنهي
فروض زواجي ,أن أعيد الروح إلى ايامي بتجريده منها. وتبقى رنا ومرح ,أجمل زهرتين تنموان في حديقة مشاعري وترطبانها ,كنت كثيرة الهيام بهما ,فقد كنت والدهما قبل أن أكون أما ,فرنا التي باتت تبلغ من العمر خمس سنوات ال تعرف هجاء كلمة "بابا".
72
لقد كنت األب واألم ,ليس عن قصد ,بل بفرضية ملئ شاغر غيابه المقصود ,إنه يرفضهم كما يرفضني ,ويعتبرنا أدوات منزلية مرمية يستعملها عند الحاجة. حينما يزورنا أهله ,كنت أبذل قصارى جهدي أن يظلوا راضيين ,وأن يقبلوني كفرد من العائلة دونما خطوط فصل, لكنهم كانوا يفضلون الجلوس بخصوصية وكان وجودي في المكان يلزمهم السكوت. شكلت والدة (زياد) حدثا جميال في حياتي ,كنت أرغب بولد يكون أخا ألختيه ,بل ويكون أبا أيضا ,ويكون قاد ار على حمل جزء من العبء عني بعد أن أعلنت وفاة والدهم فعليا من حياتنا وأيامنا. قد يعتبرني الكثيرون مجنونة ألني أفكر بهذه الطريقة, ولكني بالفعل وصلت إلى الخيط الرفيع بين العقل والجنون. أعتقد أنه قد فرح ألجل زياد ,ولكن حسبما نقلت أمي أن خبر سالمتي وابنه كان وقعه أقل من عادي ,فهو لم يأت للمشفى ,ولم يكلف خاطره االتصال بي ,بل أمه هي التي اتصلت تخبره بوالدة ابن له ,وبأننا في صحة جيدة. 73
بقيت في المشفى عدة أيام ولم أجده زائ ار أو مطمئنا ,عدت إلى المنزل برفقة أهلي وهو غائب ,إلى أن عاد في مساء اليوم التالي ,ومر مرور الكرام بعد أن ألقى التحية على والدتي, ورماني بنظرة خاطفة ال أكثر.
74
-19"الزواج القائم على الملل هو محاولة تطويل قصة قصيرة" حرب الخليج فرضت ظروفا خاصة ,ولدت فكرة أن نجد مكانا بديال نلجأ إليه حين الرغبة. كنت أبح
في أن نعود إلى دمشق لالستقرار فيها ,فهواء
دمشق كان يشدني دائما ,إضافة إلى أني تربيت هناك ,ولنا فيها ذاكرة وأصدقاء .ولكن -وحسبما فهمت -فإن زوجي غير قادر على
زيارة سورية ,ودون أن أتمكن من معرفة
السبب ,وأنا يستحيل علي الحصول على (في از) ألي بلد آخر, كوني أحمل وثيقة سفر لالجئين الفلسطينيين ,صادرة عن و ازرة الداخلية السورية ,وأمام هذا الوضع يصبح تحركنا شبه مستحيل. ومع تزايد ترحيل الفلسطينيين من اإلمارات وجدت أن نسرع في دراسة كل االحتماالت البديلة ,ليس ألننا متفقين ,أو نرغب في بناء عالقة أكثر اتزانا ,بل ألن الظرف بدأ يفرض نفسه, فحتم علينا أن نجلس ألول مرة على طاولة ,وأن نتناقش
75
االحتماالت ,كان يرغب في أن نسافر إلى األردن ,وأنا كنت أفضل دمشق. بعد والدة (زياد) وشيئا فشيئا بدأت أستشعر عالمات الهدوء واالرتياح عنده ,بات يعود باك ار أغلب األيام ,وبدأ اهتمامه يظهر باحتياجات المنزل ,وبي أيضا ,وأحيانا كنت أجده يكلم ابنته (رنا) أو يداعب (مرح). أخبرني عن رغبته في شراء سيارة إضافية للمنزل ,ألتكفل بمسألة توصيل (رنا) إلى المدرسة ,فأريحه من ذلك العمل النشغاله. أبديت موافقتي على ذلك ,فأنا – في جميع األحوال - متكفلة بخدمة األوالد ومدارسهم ,وهذه المسألة تعتبر عادية جدا في دول الخليج ,فالكثير من النساء يتحملن المسؤولية الكاملة للبيت واألوالد. سعدت أكثر يوم اتصل يستشيرني أن نخرج معا في رحلة, قبلت على الفور وأنا أزداد أمال في أن عالقتنا تسير نحو األفضل.
76
تركت خيار مكان وتاريخ البدأ بالرحلة له ,فاختار أن نسافر إلى األردن ,وأن أتابع أنا واألوالد السفر باتجاه سورية ليعود هو إلى اإلمارات ,واشترى سيارة خاصة ألجل هذه الرحلة. كنت مغتبطة جدا ألمر الرحلة ,فقد تشكل فرصة السفر معا مصدر تقارب أكثر ,وأن نعيد اكتشاف بعضنا ,متجاوزين سلبيات وأخطاء الماضي ,وخاصة أن مدارك أطفالنا بدأ ْت تتفتح ,وآن لعالقتنا أن تنضج.
انطلقنا في العاشر من حزيران 1998قاطعين آالف الكيلومترات ,وانتعاشي يصبح أفضل مع كل اختراق لعباب الصحراء ,حتى وصلنا حدود األردن من ناحية السعودية, وعلى بوابة الدخول تم احتجاز جواز سفره من قبل رجال األمن في األردن ,وبعد طول تدقيق وتحقيق ,طالبوه أن يزورهم الحقا ,هذا األمر أثار ريبتي وفضولي في معرفة السر في ذاك االستجواب السريع. وفي الحال ربطت األمر بمسألة رهبته من زيارة سورية, ورفضه للمحاولة أو المتابعة في ذلك ,أو أشياء أخرى ال
77
أعرفها ,ما يهم أن جو الرحلة قد تكدر بغبار هذا االحتجاز, واصطبغ بالقلق من ناحيتي ,وعدم االكت ار من ناحيته. بدأ شعور الخوف والقلق ينتابني ,فهو رجل غامض من أيام معرفتنا األولى ,ولم يتغير أبدا ,واآلن بدأت تتكشف بعض من خيوط اللعبة. وما زاد ريبتي من الحد ,هو تجاهله ألمر زيارة األمن, بل ووصول جواز سفره باليد إلى مسكنه بعد سلسلة اتصاالت أجراها س ار ,وما زاد فرضية وجود حلقة مفرغة وغير مفهومة, هو ما أثارته صديقة لعائلة زوجي تسكن األردن يوم جائتني زائرة ,فأبدت استغرابها الشديد من قدرة زوجي على الدخول إلى األردن. الرحلة التي كان من المفروض أن تكون ترفيهية وجدتها جاءت كتغطية لشؤون أخرى كان زوجي يخطط لها ,وكانت الوسيلة أن يدخل األردن مع عائلته ,وتأكيدا على ذلك عاد يهملنا منشغال بأعماله كما في اإلمارات. ازداد امتعاضي من بؤس الحالة ومقتها ,لدرجة ما استطعت البقاء صامتة ,وتقبل كل هذه الالمباالة ,وما إن نطقت 78
برغبتي في الذهاب إلى دمشق حتى وجدته يرحب بالفكرة, وعلى أنه حالما يقضي أعماله سيعود لإلمارات. في الصباح التالي سافرت مع األطفال نحو دمشق, وودعته بكلمات أقرب إلى التوبيخ.
79
-20وصلنا دمشق ,وأنا في حالة نفسية صعبة للغاية ,استقبلتنا أمي في المطار وفرحت جدا بأحفادها. جرد ذاكرتي من أحدا قررت أن أ ّ كنت قد ّ
األردن أو
اإلما ارت ويأسي من زواجي .وألني وجدت نوعا من راحة البال في دمشق ,فقد هدأت مشاعري قليال ,والتي ما كانت تستفيض قلقا إال مع كل اتصال يكون رمزه اإلمارات. وقد استغربت من كثرة اتصاالته بي وأسئلته بل والحاحه أن اختصر زيارتي ألعود إليه بأقصى وقت ,على ما يبدو أنه كان ينتظر مني خب ار ,أو طارئا أُخبرهُ به. غبت أن أعيد ترتيب أوراق ذاكرتي وتالي األيام ,وأن وهنا ر ُ
أحاول قدر اإلمكان إيجاد أجوبة عن الكثير من األسئلة التي بدأت تفرض ذاتها بأدواتها المتتالية ,وأن أجد تفسيرات لجملة أ ٍ لغاز ألفيتها.
80
كثي ار ما كنت أخرج سارحة في شوراع المدينة الصاخبة والمرحة ,الكثيرة التنوِع ,بعكس اإلمارات ,فهنا كل الوجوه متشابهة ,وفي تشابهها تق أر الكثير من االختالف. السؤال ذاته كان يتكرر صداه في خيالي ,لكن دونما إجابة: لماذا تزوجني وهو يكرهني ويكره فكرة الزواج برمتها؟ أأكون خطأ تكرر في حياته ,وال يجد سبيال للخالص؟ وان كان كذلك ,فهو قادر بكل سهولة على تركي ,وقد حدثت مناسبات عدة كان بإمكانه استغاللها ,وبمباركة أمه واخوته! كانت األمور تتداخل أكثر دون أن أتمكن من إيجاد إجابة وافية ,فقد كانت تصرفاته غير مبررة. ومع كل يوم اكتشف كذبة جديدة ,واكتشف مدى ثبات رأيه في معاملتي بالسوء وأكثر ,ومع كل موقف جديد ازداد قناعة بأني ال أمثل في سبيله أي أثر أو اهتمام. حياتنا إذا بدأت بكذبة صغيرة ,سرعان ما تدحرجت ككرة الثلج لنصل إلى ما نحن فيه ,أو لنقل ما أنا فيه ,باعتبار أني
81
كرمتي ,كزوجة, من تتحمل تبعات كل ذلك ,وأنه من ينتهك ا وكفلسطينية أيضا. كان شعوري أن كل ما يريدهُ هذا الرجل هو أن يجد شخصاـ أي شخص في بيته ,امرأة يظهر معها أمام الناس ,تنجب له األطفال .وليس مهما من تكون. ياإلهي! كم أدهشني هذا األمر! أنا متزوجة من شخص ال أعرف حقيقته. ألح عليه لنزور دمشق معا ,وأن يريني جواز م ار ار كنت ّ
سفره ,لكنه كان يلهيني بحجج واهية غير مقنعة ,حتى تأكدت من األمر ساعة االستجواب على الحدود األردنية ,ومن ثم بالتهائه عنا إلى اجتماعاته ,سواء أكانت في األردن ,أم في اإلمارات. كان خوفي يزداد مع فكرة أن يكون مذنبا ,وأن نلقى ضر ار في سورية جراء ذلك. كنت كثيرة الشرود ,رغم قراري بأن أتجرد من كل هموم كل موقف وتصرف سرعان ما الماضي واشكالياته ,لكن ذكرى ّ 82
كانت تفرض نفسها ,حينما كنت أراقب صغاري الرائعين وهم ُيحّلقون كما السنونو في سماء مشاعري ,ويلهون متمايلين مع
كل حركة أو إيماءة ,كنت أنسى كل هزائمي ومآسي ,وكنت ّ بهم أعود الطفلة غادة ,وهي تتجسد في كل منهم.
كنت أتذكر أيام الصبا والمدرسة والحارة وكل األشياء الجميلة األخرى ,إنهم مصدر مرحي وتعاستي ,رنا كانت نسخة طبق األصل عني ,بأناقتها في ما تلبس وتختار, وبحبها للحركة والسفر والتسوق. مرح كانت تماثلني في اختيار ما يروق لها من طعام ,ال تأكل أي شيء ,بل تجدونها كثيرة التملق ,والشهية تجاه ما يثير لذتها ,أما زياد فهو غادة الرجل ,ومواقفها ,تجدونه رغم صغر السن دقيق الرغبات ,قليلها ,وثابت المطالب .إنهم عصارة روحي وجسدي وقد أُعيد تكويني بهم ,إنهم يمثلون النصف الجميل اآلخر من حياتي.
83
-21"قمة األدب أن يستحي اإلنسان من نفسه" إفالطون عدنا إلى اإلمارات وكلي أمل أالّ يكون العود أحمدا ,وأن يكون لفعل االبتعاد أثره اإليجابي في تقاربنا ,نعم كنت سأصبح سعيدة جدا لو وجدته في المطار مستقبال ,أو في البيت وقد رتب طاولة غداء لعودتنا ,يحمل طوق ورد بيده, كان ذلك طموحا كبي ار تمنيته ولو لمرة واحدة ,وهي أمنيات قد تعتبرها أية امرأة عاديا جدا. لألسف ,رغم معرفته تاريخ وموعد عودتنا ,تجاهل متقصدا وأهملنا ولم يعد المنزل إال متأخ ار ودخل غرفة المكتب ,عللت سبب غيابه النشغال وظيفي .ولما جائني صوت حركة المفتاح في الباب خرجت الستقباله ,لكنه تجاهل وجودي ومضى دونما اكت ار . استرجعت ـ للحظات ـ سنوات عمري المهزوم مع هذا الرجل الذي يثور ـ ألتفه األسباب ـ مثل وحش كاسر ,وكأن اإلنسانية بت هجرت مالمحه فظهرت له مخالب وأنياب يفترس بهاُ , 84
ٍ شكوك ,فأك ّذب هواجسي وأدفع عني نظرات أعيش متاهة الشفقة التي تقذفني بها عيون من حولي. أهو كابوس أعيشه أم حقيقة تعيشني؟ أحسست أن صلتي بنفسي قد تالشت وضاع وجودي مني. ال أعرف لماذا حدثت لي هذه النكبات ,ولماذا ذبحني في أدق مشاعري ,بدأت حياتي تدخل مرحلة جديدة من العذاب. حي
كان يدوس بقدميه كل شيء ,كنت أريد االستمرار معه
كزوجة ال كخادمة ألنني أكره أن أصنف نفسي من ضحايا القدر مستسلمة. ما أصعب أن يعيش المرء حياة األموات! وتغادر الروح جسدها فتكون حياتها موتا غير معلن!
85
-22التاريخ هو العاشر من اكتوبر ,1998دعينا في مسائه لحفل زفاف ابنة عمي ,سلمته بطاقة الدعوة ,بل لنقل تركتها على طاولة مكتبه لندرة التقائنا ,جائني يحملها مومئا أن أتحضر للذهاب. كان الجميع هناك ,وكانت الحفلة متميزة ( فندق هوليداي إن ,الشارقة) ,سادها جو ابتهاج طيب ,وحضور جميع العوائل القريبة. عدنا إلى الدار في وقت متأخر برفقة أخي ,في الصباح أوصلت الصغار إلى المدرسة ,وحينما عدت كانا قد خرجا أيضا إلى أعمالهم ,حتى في وجه أخي ال يستطيع إظهار عالئم رضى وقبول. على غير العادة ,اتصل يخبر أنه سيعود وقت الغداء, وألول مرة منذ زمن تناولنا طعام الغداء مجتمعين برفقة األوالد, كان عابسا بشدة ,أكثر من المعتاد ,دخل غرفته تبعته, استوضح السبب أو المطلب. 86
طلب مني مغادرة الغرفة ,دونما استزادة: تصرفاتك ستجير عليك الطالق قريبا ,ولكني أحتاجكلفترة أخرى. ما هذا الخطاب وهذه اللغة غير المحترمة؟ أنت تهينكرامتي من دون سبب. أكان صعب عليك يا محترمة أن تقاومي جمال ابنعمتك لتتملقيه نظرات طوال الحفل؟ ابن عمي أمجد! إنه ولد سامحك هللا ,تتهمني بالخيانةأيضا ,أما بقي في رصيدك اتهام آخر لترميني به. أعجبك إذا ,كم أنا متأسف ألجلك ,أال يمكنك التفكيربأطفالك الثال ,ومصيرهم!؟ -
أنت فعال قليل االحترام والتقدير ,أنت ظالم.
لم يستطع كبح جماح وحشيته حتى رأيته ينهال علي بكل ّ قوته ضربا وكالما جارحا ,فيما صرخات األطفال تأتينا من الغرفة المجاورة ,لم أنبس ببنت شفة ,أردته أن يستمر أكثر في ضربي وايالمي ,فأنا أستحق هذا. 87
مؤخ ار بدأ يجد له أسبابا مختلفة إليذائي ,حتى وصلت حدود الشرف والخيانة. أتعبه ضربي فخرج من المنزل وأنا أجهل ما في خياله من تصرف. ذهبت أهدئ روع أطفالي ,وآالمي ال تتوقف شدقا في جسدي .في المساء تقصدت النوم باك ار كي أتفادى شره ,لكنه لم يتركني ,عاد إلى البيت عند الساعة العاشرة والنصف. أيقظني وأمرني أن أخرج من الغرفة وهو ينعرني بيده على كتفي ,فأبيت ذلك واذ به يتحول مجددا إلى وحش كاسر. تناول الحزام الجلدي من خزانة المالبس ونزع الغطاء عن جسدي ,وراح يضربني بعنف كمن يفرغ غضبه .لم أقاوم .لم أتحرك .لم أصرخ .لم أحتج .ليس ألنني كنت موافقة على ما يفعل ,بل لكي أتذوق طعم األلم الجسدي أكثر بعدما بات ألال يصل صوتي ألطفالي, الجزء النفسي منه أقل ذي أثر ,و ّ لم أشئ أن يأتوا ليجدوا أمهم كنعجة تسلخ دونما ذنب ,وكأن سكوني قد أثار شهيته ليستمر أكثر: ِ أنت بال إحساس! 88
انحنى على السرير...أمسك شعري بكلتا يديه....ألقى بي على األرض وراح يجرني إلى باب الغرفة كما لو كان يجر شاة .رماني خارجا ,فيما نظري صوب غرفة األطفال على أمل أن ال يفتح بابهم ,رغم كل الذل الذي أعيشه ,لم أشأ أن المثَل ذليلة منتهكة الكرامة والقيم. يجدوا أمهم َ ذهب إلى الهاتف يشرح بطوالته لوالدته ,طالبا أن تتصل بوالدي ليأخذني ,قبل أن يرميني خارجا: لقد شفيت غليلي منها ,ولم أعد أرغب بها في منزلييا أمي ,لم أعد… مرت الساعات وأنا أجتر ألمي ,والدماء تسيل من فمي وأنفي ,وهو يتشدق بسوطه ,الذي يحركه يسرة ويمنة ,كبيان
ٍ تهديد ُمالزم.
جاء الصباح ونحن على تلك الشاكلة دون أن يأتي أحد من أهله ,كنت أفكر في أمه ,ومدى كرهها لي ,لقد أخبرها من خالل االتصال بما فعله بي ,ورغم ذلك ما استطاعت أن تكلف خاطرها في المجيء والوقوف على حقيقة األمر ,لقد كانت أيضا تشاركه تعذيبي. 89
كان يجب أن اصطحب البنتين للمدرسة ,إال أني عجزت عن فعل ذلك. وكهدنة لخاطر األطفال رجوته أن يقوم بذلك ,وهما في الخارج تنتظران. ال مدرسة اليوم ,وممنوع مغادرة المنزل. ال تقحم البنات في خالفنا ,لقد صادرت مفاتيح المنزلوالسيارة وباب غرفتي ,أعطني المفاتيح ألوصلهما, وألحضر حاجياتي قبل أن يأتي والدي ألغادر معه. لن أكرر ما قلت.كظمت وجعي وحاولت خطف سلة المفاتيح التي يلوح بها. ُ
حصرني في زاوية ضيفة بين الحائط والباب ,أطبق أصابعه على رقبتي وحاول أن يخنقني .لم ينقذني من هيجانه إال صراخ الصغير زياد الذي ظهر بين أقدامنا فجأة. رماني بعنف والدم يتدفق إلى وجهه ,وهرع هائجا نحو المطبخ ليعود بسكين وهو يهدد به ,خفت على ابني الصغير أكثر ,حملته مسرعة نحو أقرب غرفة وهو يتبعنا ,حتى أغلقت 90
الباب ,وبدأ ينهال ضربا وشتما محاوال كسر الباب لكسر كرامتي أكثر. بعد أن أفرغ كل طاقته في محاوالت اقتحام الغرفة ,سمعته يتحد
بالهاتف مع أحدهم ,استبينت أنها أمه ,فزوجي يحب
تصدير كل مشاكله ,وأظن أن أحد أهم أسباب فشلنا في الزواج كان بسبب ذلك. كان صوت هذيانه ال ينقطع ,حتى ساد صمت مريب, ليعقبه صوت الباب الخارجي ,يفتح وينعق غالقا. أيكون الثور الهائج قد غادر؟ لم أجرؤ على الخروج ,لكن صوت جرس المنزل دفعني لتجاوز حاجز الصبر ,وقد بدأ زياد يتململ جوعا. إنه طفل صغير ,ما أدراهُ بكل جرائم والده التي كررها خالل الساعة األخيرة ,وليلة أمس ,وقبلهما ,قد يعتبرها مشهدا دراميا, فيه تمثيل لجبروت الرجل ,والقوة والجريمة التي يمنحها القانون الذكوري.
91
ال أدري صراحة كيف تسن القوانين في بالدنا للرجل وبيد الرجل ولصالح الرجل ,ومن ثم تظهر شعارات حقوق وحرية المرأة ومساواتها مع الرجل؟ عرضت النساء دائما للرجم والحرق والتشويه والضرب. ت ّ ِ البغض تجاههم في األديان فهنالك كم كبير من الكرِه و والمجتمع. ّإنه الدليل اآلخر على ما أُطلق عليه "الذعر العنيف" الذي
يحمله الرجل تجاه المرأة ,هو عنصر من تركيبته الشخصية
الذكورية ,هي ظاهرة من العسير على الرجال أن يتخّلصوا كل ثقافةّ ,أيما كانت هذه الثقافة. منها ألنها من أصل ّ األنثى في خطر ,قد كانت كذلك في ماضي التاريخ ,وما الفرويدي ساهم في إيجاد نظرة دونية للمرأة ,وهذا تزال ,والفكر ّ مثبت من خالل جملة أفكاره المطروحة " :هناك شيء ما في متقبلة ,في االستقبال… " تلقيةّ , تركيبة األنثى يجعلها دائما م ّ (الكان )Lacanتابع " :المرأة ليس لها أنا أعلى" ,إذن هي غير قادرة على إبداع أعمال فكرية" ,المرأة غير موجودة " وال ألنها تنتمي لالّنهائي .أما بالنسبة يمكن أن نعطيه مفهوما ّ 92
فإنه شديد الحزن والحسرة. ألنه في "المنتهي" و"الفاني" ّ للرجل ,و ّ رجولية وانغماسه في الّلذة يجبره على نحت هوية جديدة ّ
الممارس أحد جوانب تلك اللذة. والعنف ُ وفي فكرنا الشرقي المتوار
الكثير ,الكثير من الجور
المموه بثقافة الال تمييز ,وبشعارات الحرية ,والمساواة ,لكنها شعارات ليست أكثر ,أما في التطبيق ,فإنك تجد ألف حالة تهميش وتجاوز. عدت إلى وعيي من خالل صوت ابنتي المتزامن مع رنين الجرس. أيكون قد تركهما وغادر؟ أم أنه رصدهما كطعم الصطيادي؟ وافراغي مزيدا من شهوانيته في الضرب والتنكيل. مهما يكن فقد حسمت أمر مواجهة الموقف ,فدموع وصراخ ابنتي تتوسالنني جرأة. خرجت حاملة زياد على صدري ,وهرعت نحو الباب افتحه دون أن يفارقني الخوف لحظة.
93
كانتا تفترشان المدخل ,اتحدنا ثالثتنا ,والدموع تستفيض رغباتنا. كيف لرجل تربى في بيئة سليمة ,وسط يسر مادي وتعليمي أن يحطم أربعة حيوات هن من كبده ,وأن يتصرف قاسيا لهذا الحد: بابا دفشني وطلع ولما خبرتوا أني الزم روح عالمدرسة ألن عندي امتحان قال: مافي مدرسة ,وخلي أمك تسترجي تطلع أو تحاولتوصلك. هدأت من روعهما ,ومسحت بدموعي دموعهما ,ودخلنا ّ
المنزل وأنا اصطنع القوة ,متجاوزة كل اليأس الذي يسكنني, فهم من صبري يأخذون الثبات ,ويكون تجلدي عزاء لهم. اتصلت بأمه علها تتدخل لمرة أخيرة ببادرة حسن النية: أمي ,إنه يسيء كثي ار إلي ,وقد ضربني بعنف,ّ ويمنعنا جميعا من الخروج ,كان يجب لرنا ومرح أن تكونا في صفهما لتقديم االمتحان ,أرجوك أن تأتي 94
الصطحابها ,فأنا في حال يرثى لها ,وعاجزة عن الخروج ,وممنوعة. اكتفت بوعد أنها ستحاول العودة مساء الستبيان األوضاع. وأمام دموع وتوسالت رنا ,تجرأت أكثر ,رامية بكل تهديداته خلف ظهري ,ركبنا أول سيارة أجرة ,وأطفالي الثالثة معي, أوصلت البنتين ,وعدت المنزل بذات السيارة ,وكان علي أن ّ أذهب الصطحابها في الثانية عشرة ,لنكون في المنزل قبل عودته أي في الواحدة. لكنه لم يرجع البيت ,حل المساء وأنا انتظر عودته ,أو زيارة والدته التي كنت أترقبها بإلحاح. قد يكون لرأيها وسلطتها كأم دور ّبناء في توطيد أو ترابط
أسرتنا التي بدأت أتأكد من اقتراب انهيارها.
مرح وزياد كانا أصغر من أن يقرأا ما يحد ,أو أن يحاوال الحدي
عنه.
رنا كانت أكبر ,والمواقف المتكررة بدأت تثير في خيالها الريبة ,ومحاولة البح
عن التفسير. 95
مساء خرجوا للنوم في مواعيدهم ,دخلت لالطمئنان وتوديعهم بقبلة الهناء ,لكني قرأت في عيون رنا حزنا وأسئلة, وقبيل مغادرتي تَ َج َرأت بخجل: ماما شو القصة بينكون؟استوقفني السؤال ,ولم أعرف كيف أتجاوزه بالرد. لم أكن أريد أن أقحم أطفالي في مشاكلنا ,فهم أصغر من أن يتحملوا خالفاتنا ,وكثي ار ما كنت أصطنع الفرح أمامهم معه ألجل أن يكونوا أفضل حاال ,وأكثر ثقة. انحنيت أقبلها ,وأنا أطمئنها: ال تكترثي صغيرتي ,مجرد سوء تفاهم ال أكثر ,وفيالغد سيكون كل شيء قد أصبح أفضل. جلست ألوك ذاكرتي ,وأتجرع سوء الحظ الذي يتلبسني .ال أظن أنني سأبالغ إن كتبت أني لم أذق طعم النوم لألشهر التالية ,أعتقد أن مسألة انهياري باتت قريبة جدا ,وأن حياتي تحولت فعال إلى حطام ,أشعر بالخوف حين أذكر العذاب واأللم الذي عشته حينها. 96
بماذا يفيدنا األدب إذا لم يعلمنا كيف ننسى؟ كوني اليوم أكتب عن ذلك بهدوء أستطيع اعتباره دليال على قدرة الوقت على شفاء الجروح ألنني لم أكن أتحمل ما كان يحد الثال
حينها ,ولكن ليس في قدرته أن يشفيني من أطفالي
وربيعهم ,وصدى محبتهم ,وهنا يكون فيصل الكالم .أنا
أكتب لهم وألجلهم ,أكتبهم رسالة لتفسير الماضي كله ,فالتاريخ يكتبه المنتصرون ,وزوجي يومها كان المنتصر فكتب لهم ما يشاء ,اليوم أنا المنتصرة ألني عدت بالكلمات ُمحاربة ,فهي
سالحي وذكرياتي هي حبر دواتي ,هذه الكلمات برمتها
أعتصرها في كتاب ألجلهم ,ليقرؤوا ما عجزت رسائلي وتوسالتي ,التي لم تصلهم. أكتب اليوم وأوزع ذاكرتي المحترقة كتابا ,عله يصل إليهم, واليهم فقط. أكتب لكي تق أر رنا أجوبة أسئلتها .لكي تق أر مرح قصة أمها. وزياد كي يعرف سبب تركي له طفال. أكتب للمستقبل الذي "يملكه هؤالء الذين يؤمنون بجمال أحالمهم". 97
-23"فالشفاه التي تردد الكمال الصاخب تردد الموت ,والموفدون إلى هذا الليل ليبنوا أدراجه اللولبية يبعثرون الرخام الذي حملوه - ".سليم بركات - في وقت متأخر من مساء ذات اليوم ُفتح الباب ليعود, مصطحبا معه أمه واخوته الثالثة. كم كنت أحتاج في هذه اللحظات إلى نصيحة صديق ,أو سند أخ أو والد ,وكم تذكرت أمي لتأتيني فأبكي في حضنها, لكني أيضا أم وربة أسرة وواجب علي الحفاظ عليها. ّ جلسنا في غرفة المعيشة ,والوقت يمر ثقيال بدأت أمه تلقي دروسا عن األلفة ,والعائلة وضرورة الحرص على حمايتها, وأننا آباء لثالثة أطفال ,ويجب علينا على األقل أن نتعاون حسنا ألجلهم. قر في عيونها الغدر ,والغرور ,واإليذاء ,وبذلك كانت كنت أ أ توبخني ملقية بكامل اللوم علي ,ويأسهم من تصرفاتي وعدم ّ قبول النصيحة. 98
لم أتحمل تماديها ,وتجاهلها لجوره ,بل ووقوفها في صفه: وليكن… ولكني لم أخطأ ,أو أهمل لحظة عائلتي,ابنك الذي هو زوجي ,ليس لديه أي احترام لي أو لنا كعائلة ,بل وانه يتجاوز ذلك إلى اإلساءة ,والتعدي بالضرب ,وسن ما يناسبه من قوانين دونما مناقشة. دعيني أسأله في حضوركم ,وبسلطة الشريعة ,إن لم يكن يصاحب نساء أخريات. كانت جرأة كبيرة مني لحظة نطقت ذلك ,وصدمة للحضور, لم يتحمل وقع اكتشافي ,واستشاط غيظا ,وفرطا: نعم ,ألف تنتظر مني إشارة ,ال يحق لك أنتحاكميني ,وسأتزوج بثانية خالل أيام ,وسأسكنها داري لتخدميها أيضا. أمام هذا اإلقرار ,وهذه اإلهانات ,وقف الجميع مذهوال, فاستغليت الفرصة ألتابع: أحزن على نفسي ألني حرقت أيامي بك ,أعتقدت أنكستصبح مع مرور األيام قاد ار على احترام عائلتك 99
ونفسك ,وأن تندم على سوء معاملتك وتتفهم أنني إنسانة بمشاعر وأحاسيس ولست آلة برسم الملكية, لكن على ما يبدو أنك ماض في غ ّيك ,ولن يوقفك
شيء ,واألنكى أن تأتيني بعد كل الذي كان ,وبعد يوم حافل بجرائمك المتكررة ,متحصنا بعائلة لطالما اعتبرت نفسي جزءا منها ,عائلة التجأت كثي ار منك إليها عبثا. لم أقحم أحدا من أهلي حتى اآلن في ٍأي من مواضيع خالفاتنا ولطالما سعيت أن أحصرها في سوار عائلتنا الصغيرة ,ولكنك أيضا وبذات التأثير كنت تعمد إلى إشهار أي خالف يحد
مشركا فيه حتى الجيران,
األوالد اليوم كانوا أيضا جزءا من انتقامك ,الذي وصل حدود محاولة التعدي علي بسكين دون أن تكتر حتى للصغير الذي كنت أحمله في جيدي ,ودون أن تقدر أن ابنتينا واقفتان تراقبان بطولة والدهما من بعيد.
100
تحملتك كثي ار ,وتحملت ظلمك وسوء معاملتكوتجاهلك المتعمد ,وهجرك ,وأكثر… كل ذلك إكراما ألهلي وأهلك ,وتضحية في سبيل أوالدنا الذين لم يجدوك يوما في منزلهم والدا يحبهم ,يهتم بهم, ويرعاهم ,متابعا سلوكهم وتحصيلهم العلمي. -
اسمح لي أن أسألك عن اسم مدرسة رنا ,أو عن درجاتها في الفصل.
-
أتستطيع أن تذكر لي أي مرحلة وصلت مرح ,أو عيد ميالد زياد؟
حرصي على أطفالي ,جعلني أتجاهل ,وذلك سببآخر لتفرعنك علي ,ولكن كما يقال قد طفح الكيل, ّ ولم يعد لصمتي قدرة إضافية على التعشعش. أمام صمتهم وذهولهم انسحبت ودخلت غرفتي ,وأنا أشهد هدأ روعي مطالبا مني التزام انهياري األخير ,اتصلت بأخي ف ّ الدار لحين وصوله.
101
وصل أخي حوالي الواحدة صباحا ,فتحت أنا الباب له ,بعد أن تجاهلوا طرقه ,لينسحب زوجي إلى غرفته. دخلنا على الفور إلى غرفتي ,بكيت لدقائق في حضنه, كنت أحتاج إلى سنوات من البكاء عّلي أفرغ كل هذا الكبت, واليأس ,والحنين. دخلت أمه علينا متصنعة البراءة ,ترجت أن نؤجل قرار المغادرة ,وأنها ستتكفل بتهدئة األمور. وفيما هي منهمكة بالحدي
مع أخي ,خرجت أبح
عن
وثائقي وجواز سفر األطفال ,كان في غرفته يتصنع النوم تجنبا لمقابلة أخي ,وما إن فطن لذلك حتى رمى بنفسه من على الفراش وأوقفني قبل أن أدخل غرفتي دون أن يكلف خاطره بالسالم على أخي: أعيدي جوازات سفر أوالدي يا ,......وغدا سألغيإقامتك. من عيني أخي قرأت ثورة ,ولكن والدته تدخلت: ما هذا الكالم ,أفقدت عقلك.102
أرجوكم سامحونا ,إنه يهذي ال أكثر.خرج ْته من الغرفة ,هدأ الجو ْ سحبت مني جوازات السفر ,وأ َ
قليال ,وساده سكوت مطبق.
بقي أخي في غرفتي وهو يحاول دفعي للنوم ,أعتذرت منه قر التعب في عينيه لساعات العمل الطويلة, بشدة ,وأنا أ أ ولحزنه لما حد .
103
في اليوم التالي( ) 1998/10/12وبعد أن أدركت أمه درجة تأزم الوضع ,واحتمال وقوع الضرر كله على ابنها, بادرت بإجباره على أخذ األطفال إلى مدارسهم ,وجاءت تعتذر عن تصرفاته ,مطالبة بفرصة أخرى إلصالح البين. وعرضت أن أخرج واألطفال معها في رحلة سياحة أليام لتغيير األجواء. وعلى الفور اتصلت بابنها تخبره بخبر سفرنا ,عدت مجددا لغرفة النوم وأخذت وثائقي وجوازات سفرنا ,ولكنني لم أجد مفاتيح سيارتي فقد أخذها معه ,وهي عادة أخرى له حي يستخلصني كل شيء أثناء المشاكل كورقة ضغط وتذكير بمكرماته على ما يبدو .كثي ار ما تجد أطفاال يسمحون لآلخرين باللعب بدميتهم ,ويستعيدونها عند الغضب عقابا لهم. سافرنا أنا وأمه وأخي وزياد إلى إمارة رأس الخيمة ,رغم تيقني حقيقة أن زواجنا على وشك االنتهاء. غادر أخي إلى عمله ,وهو يستأمنني أمه ,قرأت القلق من تصرفاته فما حد 104
معي أمس كان له كبير األثر عليه ,طلبت
إليه أن يبقي األمر س ار عن والدي ,وأعطاني مبلغا من المال, ألنه ق أر تماما حجم ما يحد
وسيحد ,مطالبا مني التجلد:
قدرك أسود غادة...لألسف يجب أن تتحضري قوياللمرحلة المقبلة. كنت أسمع هديره من هاتف أمه ,يتصل طالبا جوازات السفر مع برقيات تهديد إن لم تصله خالل يومين. كثرت تهديدات طالقي مؤخ ار ,فمع كل حالة خالف يكون رضخ. الطالق خيا ار وحيدا إن لم أ ْ كانت فرصة طيبة ,استغليتها ألريح أعصابي التي تكاد تحترق ,وأن آخذ قسطا من الراحة النفسية دونما منغصات. حاولت التواصل مع رنا ومرح أكثر من مرة ,ولكنه كان قد منع عنهم الهاتف أو االتصال بي مهما كانت الظروف. في عطلة نهاية األسبوع جاءنا بضغط من والدته مصطحبا الطفلتين ,كان قد اشترط عدم لقائنا أو لقائي بهم إال بعد أن أعتذر له أمام الجميع ,وأقر بأخطائي .أية أخطاء ,وأي
105
اعتذار؟! ال يا صديقي ,لن أعتذر ,ألني به أثبت اتهاماتك, التي ال صحة لها أو قيمة. تشوه سمعتي ,وتسيئ إلي أمامهم ,وتضربني رفسا ودفعا, ّ ّ وتلزمني االعتذار؟ يا إلهي! لم كل هذا؟! لم يش ْأ أخي إال العودة ,رضخت مكرهة لشروطه ,فأنا ال يهمني إال أن اجتمع وأوالدي الذين فرض عليهم وعلي عدم التقابل. أي أب هذا؟ وأي زوج؟ فلم يظهر أية عالئم احترام أو ود حتى في المصالحة .تصوروا لقد عاد يهينني وأمام الجميع. عبر أخي عن انزعاجه الشديد ,إال أنه كان متيقنا بأن مصيرنا معا بات في أواخر فصوله ,فآثر السكوت ,بالعا اإلهانة بامتعاض. كنت أعيش ألمي ,وامتعاض أخي ,وأهدئ روعه ,أمال في أطفالي الثال
106
وحالهم إذا خرجنا دون اتفاق.
فقرار العودة كان حجم تأثيره في كرامتي كبير الوطأة ,لكني ال أملك إاله بديال ,ورغم قسوته ,إال أن خيار أطفالي قابع في تفاصيله. تراجعت عن الرحيل مجددا ,وأملي بتحسن العالقة رغم خبوها ما يزال يلح علي. ّ وهأنذا أعود كأم فقط ,فهذا ما ساد جو جلسة المصالحة, وهذا ما شعرت به ,وشعر به أخي متأسفا .بت في خياله قطعة أثا
لم يحن أوان بيعها أو رميها كأمرأة بالية مستهلكة,
كبير ,ال يستطيع قبولي ا فمن الواضح أنه يعيش إشكاال كزوجة ,أو إبعادي. عدنا إلى المنزل ,كنت متعبة للغاية ,فقد مرت علي أيام دون أن أتذوق طعم النوم ,حاولت م ار ار تصنع القليل من السعادة والمرح في وجهه ,وأن ألطف جو العالقة ,لكنه صدني كما كل مرة ,ويوم حاولت دخول غرفة نومنا ,رفض ذلك ,بل ونكرني كارها: تواجدك هنا ,فقط لخدمة أطفالي ,ومنزلي ,وأوانلفظك قريب جدا ,لكن لكل موقف أوانه. 107
نظرت إلى نفسي كخادمة أثيوبية ببشرة بيضاء. لم أرد عليه مطلقا إال بدموعي الماطرة ,وأعصابي المنهارة. اطمأنيت على أطفالي بقبلة المساء ,وكانت حماتي قد غفت أيضا في صحبتهم ,ولم أك أرغب في أقحامها مجددا في الموقف األخير. أنا متعبة للغاية ,والنوم إن تم سيكون فرصة للهروب من كل هذا مع شدة حرقة أعصابي ,وصلت مرحلة االنفجار, وعلي أن أجد مف ار ما ,وافترشت أرض الصالون دون أن أبدل مالبسي .أي ذل هذا الذي أعيش فيه؟ أنا في غاية التعب ,وربما لهذا ال أستطيع النوم ,ليس لي إال اللجوء إلى األقراص المنومة .إنها تحت اليد دائما .لدي علبة منها ,أو حتى اثنتان. هذا المهدىء وصفه لي أحد األطباء ,رغم أنه كان يلح بضرورة أن اصطحب زوجي معي إلى عيادته ,فربما كان هو السبب فيما أعاني .ولكنني لم أكن أجرؤ أن أطلب منه مرافقتي إلى طبيب نفسي. 108
كنت قد لجأت إلى الطبيب قبل ستة أشهر تقريبا بعد أن تفاقمت مشاكلنا ,ولكنني ترددت طويال قبل أن أتناول الحبة األولى منه .غير أنني -منذ شهرين تقريبا -لم أعد قادرة على مزيد من التردد ,فلجأت إلى وصفة الطبيب أخي ار ,وبت أتعاطاها وقد ساعدتني قليال على تحمل متاعبي. أما اليوم فالوضع مختلف تماما ,رأسي يكاد ينفجر من كثرة المصالحة التفكير ,كنت قد تناولت قرصا ُمهدئا قبل جلسة ُ حتى أمنع نفسي من االنجرار وراء استف اززه ,ولكن الموقف كان أقوى من جميع المهدئات .وهكذا فإن القرص لم يعط النتيجة المرجوة منه. يارب! ماذا أفعل؟ أريد أن أنام ولو قليال .تناولت قرصين من المهدىء دفعة واحدة. مضت ساعة ونصف الساعة ,ثم ساعة أخرى ,ولم أتمكن من النوم. فكرت في قرصين آخرين .تناولتهما دونما جدوى .ظهرت حماتي في الصالون فجأة ,يبدو أنها استيقظت على حركاتي, أو -وهذا ما أرجحه -كانت تراقبني طوال الوقت. 109
وما أعتقده أيضا أن كال من زوجي وحماتي شع ار بحاجتي الماسة لطبيب: لقد تدهورت صحتها بني ,وجهها متقلب ,أخشى أنهيجب أن نسرع بها إلى أقرب مشفى.
110
-24" يدبرون لي عذوبة المضي بالخسارة إلى ألقها .مباهين بسفن ليست لهم " -- جائتني حماتي مواسية ,كنت أهذي تماما وأرتجف ,حاولت الوقوف كان محاال ,فهرولت تستعجله لإلسعاف. توجهوا بي ألقرب مشفى وفي الطريق سلمت حماتي بطاقتي الصحية خشية من أن ال أكون بوعي هناك. رميت علبة الدواء التي كنت أحملها واحتفظت بالظرف. لماذا فعلت ذلك؟ لست أدري .هل كنت أخشى كشف أمر تعاطي لتلك الحبوب؟ رغم أنه احتمال بعيد .على أية حال يظل إخفاء الشريط أسهل من إخفاء العلبة. وكأني ال أضمن لنفسي النجاة مما قد يبيته لي من شرور. أتراني أظلمه؟ كنت أتمنى لو أنني أظلمه فعال .على أية حال, إنني أروي ما حصل وحسب. وصـلنا مشـفى راشـد (قسم الطوارئ) بإمارة دبي ,انشغل زوجي بركن السيارة ,فيما دخلنا متوجهين نحو االستعالمات 111
واذ بالمناوب زوج إحدى صديقاتي التي تعرف شيئا من قصتي: بطاقتك الصحية. إنها معك عمتي. ال .ال أستطيع إيجادها ,يبدو أني قد أضعتها.ال أدري لماذا فعلت ذلك .لكن من حسن الحظ أن األسماء هناك تدخل عن طريق الكمبيوتر فبمجرد إعطاء االسم يظهر رقم البطاقة وقد كنت أحفظ رقم بطاقتي الصحية. شعرت بعدم راحة من موقفها على كل حال .أمرها عجيب هذه المرأة! جلست على كرسي ُمتحرك وتكفلت الممرضة بدفعي إلى غرفة المعاينة .رافقوني جميعا وأنا بالكاد واعية .سمعت أنهم يسألون عن السبب في وصول حالتي إلى هذه الدرجة الحرجة. دخل الطبيب المناوب ,طالبا خروج الجميع: ال تقلقي ,زوجك قال أنك تعانين من ألم في البطنوالرأس. 112
ال تكتر به ألنه آخر من يحس بآالمي ,أسبوع وأكثرولم يغمض لي جفن ,مهما حاولت ال أستطيع ,فلم أجد بدا إال بتناول هذه الحبوب. كم كان عدد الحبات؟ خمسة ,ستة ال أتذكر ,فقد كنت أريد النوم.قرر الطبيب إجراء فحص فوري للدم .وبعد ظهور النتيجة تقرر غسل معدتي. كانت عملية شاقة وموجعة ,وبعد ذلك ربطوا أحد شرايين يدي بكيس من المصل ,ونقلوني إلى إحدى الغرف ,وتركوني ألنام .ونمت أخي ار… وهأنذا أشعر باألمان ,أكثر مما كنت أشعر به في بيتي: -كم هو جبار ,في اختالق األلم!
113
-25استيقظت من النوم ألجد نفسي في مكان لم أره قط ,مكان ال أعرفه وال يشبه غرفة الطوارىء وال حي
نمت.
رحت أسأل نفسي" :ما هذا المكان؟" نهضت من الفراش وكنت أترنح من اإلنهاك .اتجهت نحو الباب .ممر طويل على جانبيه غرف ممتدة ,صدفت إحدى الممرضات: أين أنا ومن الذي جاء بي إلى هنا؟ هل مازلت فيمستشفى راشد ,أم أنني صرت في مكان آخر؟ أنت في قسم العصبية سيدتي ,األفضل لو ترجعينإلى فراشك. لم أصدق ما سمعت .هل تدهورت حالتي إلى هذا الحد ألكون في قسم العصبية؟! أتراهم ظنوا أني حاولت االنتحار؟ ربما أحالوني إلى هذا القسم بالذات كون الطبيب الذي وصف لي الحبوب من قبل يعمل في هذا المستشفى ,وبالتالي فإن اسمي قد يكون موجودا في سجالتهم. 114
واآلن ماذا أفعل؟ ما لي وهذا المكان الموحش بطقوسه وناسه ومرضاه؟ حتى أطباء القسم والمناوبون كل شيء ُمختلف. لماذا ال يأتي زوجي لزيارتي؟ اتصلت بصديقة لي وأبلغتها أني في المشفى وطلبت منها أن تتصل بأخي ,وتبلغه بمكاني فأنا ال أستطيع أن أكلمه لعدم السماح باستخدام الصفر. رجعت إلى سريري مذهولة أرفض طعامهم. كنت خائفة جدا ,فهذا المكان غير مريح .إنه يبع
النفس
على االنقباض .وال يترك مجاال للشعور باالطمئنان .كل شيء من حولي يدعو لالستغراب ,تكورت على سريري ,ورحت أتأمل كل شيء حولي: ياإلهي! هذا المكان يرعبني ويخنقني .لم أعد أشعربجسدي ,تجمدت تماما ,وحده قلبي كان يتحرك, وضرباته تدق بشدة في أذني. ّ عيناي حائرتان في محجريهما تتحركان ببطء وبالهة ذات اليمين وذات الشمال. 115
بيدي ووضعت رأسي ضممت ساقي إلى صدري وعانقتهما ّ ّ على ركبتي داعية هللا وطالبة العون. ّ مر الوقت ببطء شديد .نظرت إلى ساعتي: أتوقف الزمن أم أن عقارب ساعتي قد تجمدت هيأيضا؟! آه ,كم االنتظار مضن! صحيح أنني لم أدخل سجنا في حياتي ,ولكن الجو هناك كان يشعرني بأني مجرد سجينة .سجينة من دون محاكمة ومن األسرة .كل دون جريمة .غرف بال نوافذ ,فيها مجموعة من ّ سرير محاط بستارة تصنع غرفة مستقلة ,رغم وجود صالة يسمونها (ترفيهية) ,جهاز تلفزيوني يب
بعض البرامج
المحلية ,وهاتف للعموم كتلك التي في شوارع المدينة ,مجموعة من الطاوالت يلتف حولها عدد من الكراسي ,حي
جلست
بعض النساء يظهر أنهن من جنسيات مختلفة ,شاردات, ذاهالت .وهناك ثمة باب من األلمنيوم يحتوي على زجاج من نوع خاص ـ غير قابل للكسر ,يناسب األطفال والمجانين ـ يفصل الصالة عن الحديقة ,التي ال يوجد فيها أرجوحة أو 116
حتى مقعد ,ال شيء سوى بساط من العشب ينتهي عند سور عال جدا يصعب على مخلوق تسلقه: ما قصة هؤالء النساء؟ وهل جاؤوا بهن إلى هنا مثلماهن بالفعل فعلوا بي وأصبحن شيئا منسيا ,أم ّ مريضات وال يستحقن الحياة الطبيعية مع البشر
األسوياء؟ مشاهد ال يمكنني نسيانها: ما قصة تلك المصرية التي تكلم دميتها؟ ربما فقدتطفلتها وعقلها في آن معا .ما الذي جرى لتلك المرأة الهندية نصف المحترقة؟ هل اغتصبها سيدها فأحرقت نفسها بسبب ضياع عذريتها؟ وما الذي جرى لهذه المراهقة اللبنانية الصامتة أمام التلفزيون صمت القبور؟ هل عذبتها امرأة أبيها حتى صار هذا المكان أرحم لها من البيت الذي جاءت فيه إلى الحياة؟ وأنا لماذا كان علي أن أشاهد هذه المآسي كلها؟ ّ عدت إلى سريري ,وجلست أمارس االنتظار ,ومن حسن حظي أن موعدي مع الفرج لم يطل أكثر من ثال
ساعات. 117
حضر أخي مع والدي ,الذي بقي صامتا .كان ينفجر
حي
غضبا مني وعلي ,فقد أخفيت مشاكلي عنه طويال ,رغم ّ شعوره بأني غير سعيدة ,صارحني باألمر أكثر من مرة .كنت أنفي ذلك وأك ّذب إحساسه .فأنا ال أرغب بتدخل والدي في حياتي الزوجية .أل ّال أكون بين المطرقة والسندان. طلب والدي من الممرضة أن تستدعي الطبيب ,وبعد قليل حضر زوجي وعيناه منتفختان من النوم: يالقساوة قلب هذا الرجل! منذ الفجر وأنا أتنقل وحيدةوفي أشد الحاجة لوجوده معي ,بينما هو غارق في النوم! تغير لون والدي عند رؤيته ,ولم يضبط ردة فعله إال بأن غادر إلى خارج الغرفة. ربما ذهب يبح
عن الطبيب المناوب فقد تأخر في
المجيء .تبعه زوجي ,وأخي ,ليعودوا وعالئم االنزعاج مرسومة على وجوههم ,لقد وقع والدي على أوراق خروجي من المشفى. 118
عدنا إلى المنزل ,وحضنت أطفالي بدموعي ,وتساؤالتهم تتعالى: أين كنت ,لماذا تأخرت ,لماذا لم تأخذينا معك؟ ماما ,أنا عرفت أنك بالمشفى ,بس ما حسنت اتصلفيك" .رنا" اشتقنا لك مام! "مرح" ماما .ماما .ماما… "زياد"ما عداهم الجميع صامت وال أحد يتكلم ,يمر الوقت ,فيتكلم أبي: ما المشكلة؟رد زوجي على السؤال باقتضاب وعلى نحو بدا غير مقنع ألبي: المشكلة بيني وبين غادة .وليس لكلينا االستعدادللحدي
بشأنها اآلن.
119
ومن مالمح والدي قرأت الكثير من الغضب واألسف ,لقد كان يوبخني وأخي من خالل نظراته الحادة ,واالضطراب الذي يكسوه. وجدتُني أعيش دوامة أخرى ,كنت ضائعة تماما ,وسط غضب والدي وحيرة أخي مع حقد زوجي وسماجة حماتي, فيما صدى أنفاس أطفالي يشعلني. كسر والدي الصمت مجددا: لم أتفهم قصدك من إدخال غادة إلى المشفى ,ومن ثمإصرارك على إبقائها هناك ,علما أن التقارير ال تلزمها على ذلك كمريضة! أتراه فكر في أن يحولني بفعل المكان إلى مريضة حقا ,لما سأتعرض له هناك بفعل الضغط النفسي والعزلة والمرضى, وبفعل تصرفاته ,فأصبح من المقيمين فيه ,كامرأة فاقدة لألهلية ,بال عقل؟ -فكرت أن تبقى لغرض متابعة العالج ليس أكثر.
120
غادة ,أعطيني جواز سفرك ,ستغادرين معنا إلىدمشق ,فأنت بحاجة أليام راحة وهدوء. كان أبي يرواغ لعله يريد إنقاذي من المستنتقع الذي أعيشه. ال أظنها فكرة مصيبة اآلن ,األفضل تأجيل السفر,بسبب مدارس األوالد. معه حق ,فهو حريص على بناته ,فمصلحتهما فوق كل اعتبار ,كذلك أبي له الحق في التفكير بابنته. كثير ,ليصرح زوجي بعدم احتدم النقاش بينهما ,وتوتر الجو ا السماح بمغادرتي ,وأنه سيحتفظ بجواز سفري ألنه كفيلي من جهة وولي أمري من جهة ثانية. وصل أبي إلى ذروة الغضب: ال يمكنني األمان على ابنتي معك. اخرج من منزلي ,أو سأتصل بالشرطة. -وتطردني مهددا.
121
احتقن الجو أكثر ,تأملت من والدته التدخل للتهدئة لكني لمحتها تهرب إلى الهاتف لتجري اتصاال ,تبين لي أنه استنجاد بإبنها آخر. من المفروض أن يتم ضبط الوضع ,وخاصة أن شخصا مثل أبي ,وأمه كبيران في السن ,ولفرض االحترام والتقدير لمكانتيهما ,وبحكم أن والدي ضيف ,وأني مريضة ,كان لزاما على زوجي العمل على تقدير كل ذلك ,واالنسحاب قبوال أو تهدئة مؤقتة ,لكني رأيته يهرب خارج المنزل ,مقفال الباب من الخارج. تأزمت األمور أكثر وهذا ما يطلبه ,ما هي إال دقائق حتى فتح الباب وهو بصبحة أخيه والشرطة. هذا ما كنت أخافه ,فخط العودة أصبح اآلن شبه مستحيل, ولطاما عمدت أن أتجنب هذا الموقف ,بدأ الصراع اآلخر ,بين من ملكني ,ومن استملكني :أبي وزوجي. خرجت األمور من دائرتها الخاصة:
122
ها هم....هذا الرجل وابنه هاجماني في منزلي بغرضالتعدي علي ,وتحريض زوجتي. ّ احتدم الخالف بينهما فطالب الشرطي بإثبات الواقعة فهو لم يتلمس أي آثار لالعتداء ,لذا أمر بإحالتي على الفور إلى المشفى إلثبات واقعة الضرب ,وتم تحويلهما إلى الشرطة ,وما هي إال ساعات حتى تم االنتهاء من عرض التقرير: "تم إثبات تعرض السيدة غادة للتعدي من خالل آثار الضرب بواسطة حزام ,واصابات متعددة في أنحاء متفرقة من الجسم ,مع مالحظة إنخفاض في ضغط الدم ,وتباطؤ في النبض" جت مع الشرطي بورقة التقرير ,واذ بزوجي وما إن خر ُ
جالسا في الممر ,يسند رأسه على الجدار ,ظننت أنه تبعني ندما ورأفة ,علنا ننهي الخالف. كنت إلى هذه اللحظة أنتظر ذلك ,لكنني كما كل مرة كنت مخطئة ,كان قد تصنع جرحا بإبهامه كسبب في طلب الشرطة ,وكنتيجة لتثبيت اتهامه.
123
حينما وصلنا مخفر الشرطة كان الليل قد انتصفُ ,فتح محضر الواقعة ,وتم إثبات جرم التعدي ,وزوجي واقف يتصنع األلم ,فيالهذي الفكرة الشيطانية! وقد افتعلها لجر والدي إلى مشكلة مع الشرطة كي تعطيه هامشا للمساومة. الجميع في المخفر ,أبي وأخي وزوجي وأنا وأطفالي ,لم أكن أعرف ماذا أفعل:
-
إما أن نحتجز طرفي اإلدعاء حتى الصباح, لعرضهم على النيابة العامة ,أو حل الخالف والمصالحة اآلن ,ليعود الجميع إلى منازلهم ,وغدا سنتابع دعوة التعدي بالضرب المثبتة بتقرير المشفى.
ما فاجئني أن زوجي تصنع األلفة ,وانهارت عنجهيته ,يبدو أنه أحس بورطته الكبيرة ,فالتمس يدي يقبلها ,مستسمحا. نظرت أق أر قرار والدي ,وأطفالي ينتظرون قراري. وحين باءت محاولته بالفشل أمسك رنا: -
ألم أخبرك أن أمك قاسية ,فهاهي تزجني في السجن.
124
ُليقحم طفلتنا في الخالف ويستغلها مجددا كورقة ضغط,
كانت ترتعد خوفا بين يديه ,مذهولة ,خائفة من الحد والمكان فكل شيء غريب عنها.
أمام دموع األطفال ,واستنكار والدي ,تنازلنا عن الدعوة, وتمت المصالحة الشكلية ,لكن والدي اشترط أن يحصل على جواز سفري. وحال خروجنا من المخفر ّأنبني والدي بقوة ,وألح علي
بالسفر معه واألطفال إلى دمشق فترة.
رفضت رغبته فمن سيتكفل بثالثة أطفال يتعلمون في مدارس خاصة ,ويعيشون في رفاهية؟ عدا عن الصعوبات اإلدارية والقضائية األخرى ,فصعب أن اصطحب األطفال دون موافقة والدهم. أصبح هناك شرخ كبير بين زوجي وأهلي .كل منهما حاقد على اآلخر ,ونسوا جميعا أني مع أطفالي من سندفع الثمن في النهاية.
125
عدنا إلى المنزل دون أي حسم أو انتصار أحد ,ولكن وقع المشاكل ال يزال ثقيال في الصدور ,وتتالطق في ذهني كل األحدا
األخيرة.
حل الصباح ,وكان قد غادر إلى عمله .جلست وأمه, فبلغتني أنه لم يعد يرغب في رؤية أحد من عائلتي في منزله, وأنه لن يسمح بسفر األطفال .وهو يعلم علم اليقين أنني لن أستطيع السفر من دونهم: -
باسم من تعزين ,أال يمكنك كأم أن تعيشي ظرفي؟ وأن تحاولي توطيد العالقة بيننا بوقفة حياد ,فأنا مستعدة لسماع أية نصيحة تبدينها ,حاولي اعتباري ابنتك.
ٍ ضعف أبنيه ,وحالة استرجاء ,ال لشيء وانما كان موقف ألن خيار أطفالي الثال
دائما موجود في صلب كل موقف.
كانت قاسية بحق ,لم تنصف حال ولم تساوم ,فهي نصفه اآلخر تشاركه مشروع إبعادي عن أطفالي قس ار وتساعده في إعداد الخرائط إلنهاء المشروع. 126
انتصف النهار وأنا أنتظر عودة مرح برفقته ,فهو بالعادة يعود بها من المدرسة. تجاوزت الساعة الثانية ومرح لم تعد ,اتصلت بالمدرسة استفسر ابنتي: -
إنها ما تزال في باحة االنتظار بالمدرسة لوحدها, ولم يأتي أحد ألخذها كما العادة.
خرجت مسرعة إليها ,ولحظة حتى وجدتها برفقة إحدى الموظفات تنتظرني. حل وقت الغداء دون أن يعود ,خيم الليل ولم يتغير شيء, وجميعنا ننتظره ,لم يتصل لالطمئنان على والدته حتى. مهما حاولت اقناع نفسي بالتعود عليه ,أجده يتشقلب ألف حركة ,لم أكن بذات الحرص الكثير على زواجنا ,أو عليه, فأنا بشكل أو بآخر فقدت ثقتي به.
127
-26"ال ليس أنا إنه غيري من يتألم ,مثل هذا األلم ما كان في طاقتي واحتمالي" -آنا أخمتوفا- ليس بالضرورة أن يكون الرجل رومانسيا كي يكون حنونا, وال جبا ار ليكون قويا ,كنت أحتاج أن يشعرني بلمسات دفء تساندني ليس أكثر ,لكن لم يتغير شيء ,عاد إلى سابق عهده ,لنصبح شيئا مهمال في حياته ,كلما حاولت التقرب منه كان يصدني ,حتى األوالد فقد بدؤوا يتذمرون من إهماله, استمرت حالتي بالتدهور ,وأنا أعاني من الشرود وعدم القدرة على النوم أو الهدوء. ابلغتني رنا بأن خالها روان على الخط: -
غادة سنمر أنا ووالدك بعد ساعة الصطاحبك إلى الطبيب.
فوجئت بالموعد ,ورفض أخي إخباري بشيء ,عن أي طبيب يتحد ؟ ذهبت استئذن حماتي:
128
-
سأخرج برفقة أخي في نزهة ولن نتأخر ,وقد كلمت المدرسة بشأن ترتيب عودة األطفال.
أنهيت أعمالي المنزلية ,وخرجت لمقابلته بعد اتصال ثان. -
أين أبي؟
-
لقد غادر لرؤية المحامي رامز.
-
لم أكن على دراية بموعدي مع الطبيب ,ولماذا المحام اآلن؟
عادت األفكار ترِّنح بي ,وأدركت أن أبي يخطط ألمر ما,
فهو ليس من الذين يمكنهم نسيان اإلهانة ,أو تناسي مشاكل أوالده ,فأنا الخبيرة بشؤونه وشجونه. بجميع األحوال ولطالما أن والدي موجود فأنا مستسلمة ارته ,فسحره الذي مارسه علي هو الذي أوصلني إلى هذا لقر ا المنعطف الخطير من الذل واالنتهاك لكرامتي كإنسانة. يبدو أنه قد زار كل األصدقاء ,ولم يجلس منتظ ار أو مستنتجا ,ليتيقن تماما بأني أعيش جحيم هذا الرجل.
129
فتوقعت أن يتخذ الخطوة التالية ,والتي عجزت عن اتخاذها, وفي الفيض اآلخر كان مصير أطفالي يترنح في سماء أفكاري ,فبقائي مصيبة ,ورحيلي مصيبة ,وكل شيء يتفاقم كنت أطحن بين رحى أطفالي وطالقي بألم ما فوقه ألم. بعد أن فحصني الطبيب ,كتب تقريره عن تدهور حالتي: -
لألسف حالتها تسوء ,ووضعها النفسي معقد.
أخير تكلم روان: ا -
والدك سيعيدك إلى دمشق ,إنه يخاف من بقائك هنا.
-
وأطفالي!....يستحيل أن اتركههم.
-
غادة أرجوك ,سهلي األمر علينا ,واحفظي ما بقي لنا من كرامة ,إنه يرفض وجودك في منزله ,وأمس كانت مكالمته أكثر من قاسية ,يجب أن تكوني قوية.
دقت ساعة اتخاذ القرار ,ووصلت األمور إلى حسمها.
130
فها هو زوجي يربح معركته في إهانتي والتنكيل بي ,وسلبي أطفالي ,وها هي حماتي وابنتها تبعدانني من عائلة ما دامت رفضتني فيها. وذلك أبي يعلن معركته ضده ,راغبا في إعادتي إلى مملكته ,وهذا أخي يريح نفسه من هم الوجود معي في كل لحظة إشكال ,وأطفالي فظروف حياتهم هنا أفضل .وهأنذا في بحر كل ذلك أخسر كل شيء ,ليربح الجميع. -
ومتى يكون الرحيل؟
-
والدك سيحجز على أول رحلة إلى دمشق ,ولحينها ستبقين برفقتي.
لم يستشرني حتى ,ما كنت سأعارض بجميع األحوال ,وانما كنت سأشعر بقليل من القيمة والرأي ,أما ستنتهي هذه السيطرة هنا وهناك؟ -
لن أغادر قبل توديع األطفال
عدنا المنزل ضممت زياد إلى صدري وبكيت بحرقة. ياإلهي! لماذا يحد
كل هذا؟ تركت ابني وروحي تلتصق به. 131
غادرت المنزل دون أن آخذ شيئا معي ,ألني ال أريد شيئا يذكرني بأيامه. ذهبت إلى المدرسة .ربما التقي البنتين قبل انصرافهما بالباص ,لكنه كان قد غادر منذ دقائق .عدت مسرعة في طريق الباص ,ووصلت البيت وأنا انتظره أمام المدخل. وعلى ما يبدو أنهما قد أصبحتا داخل المنزل ,فسيارته مركونة في الكاراج ,ولن أدخل مجددا ذلك الدار ,لقد أستقويت بقرار والدي وأخي. لست أدري إن كنت محقة فيما فعلت ,لكنني شعرت بالموت يعيش جسدي بحياة ,بدأ يزحف من قدمي إلى ساقي والى جسدي كله ,ثم إلى روحي. -
إلى أين يأخذني أبي؟
همه الوحيد أن أترك البيت ,لينتقما من بعضهما من خاللي ,فأنا السكين التي سوف يذبح كل منهما بها اآلخر. في وقت كالهما فيه يذبحانني.
132
-27عن المنفلوطي" :ال سبيل إلى السعادة في الحياة إال إذا عاش اإلنسان فيها ح ار مطلقا ,ال يسيطر على جسمه وعقله ونفسه ووجدانه وفكره أي شيء" التاريخ هو الثاني عشر من اكتوبر ,1998وهو اليوم الذي كنت فيه متحررة من سلطته ,بقرار جريء. للحقيقة ,كثيرة هي األسباب التي دفعتني ألخرج من أسوار زواجي به ,قليل منها شخصي جدا ,ومحزن ألتحد
عنها.
والجزء األكبر منها مرتبط بشكل أو بآخر به .وهذا ليس بغريب ,فالزواج مؤسسة مبنية باألساس على اتجاهين قد يتحدان أو يختلفان لحدود. "اإلختالف في الرأي ينبغي أال يؤدي إلى العداء" وهنا ال أجد من المالئم مناقشة مشاكلي معه .حتى إن عرجت على بعضها في معرض حديثي سابقا ,فأنا لن أطلب من أحد التصديق بأنني قادرة على رواية قصتنا بشكل موضوعي ,وبالتالي لن أحمله كامل أسباب فشلنا .كما أنني 133
لن أناقش أسباب موافقتي على الخطبة منه وأسباب افتراض حبي له ,ومن ثم زواجي به ,وانجاب ثالثة أطفال ,وعدم قدرتي على تخيل الحياة من دونهم ,لن أتطرق إلى أي من ذلك ,بل سأكتفي بالقول :إنه في تلك الليلة كان ما يزال فاألمر من الرحيل كان مصدر سعادتي وتعاستي بقدر متساو, ّ
البقاء ,واألفظع من البقاء كان الرحيل ,لم أكن أرغب في
تدمير أي شيء أو أي أحد ,لم أرغب سوى بالتسلل بهدوء من دون أن يكون لرحيلي أي جلبة أو عواقب والركض من دون توقف. فكل شيء في النهاية ,يتحد في شيء واحد جميل ,وأنا كنت مدركة تماما ,بأني سأعيش خيارين ,ال ثال
لهما :إما
أن أختاره كما هو مع أطفالي ,أو أن أختار الحياة األخرى بدنه ,ودونهم. طيلة تلك الفترة والدموع ال تبارح سيال خدي ,كانت تسربل شرايني ,كنت أحس بحرقة ,وساعة تغفو عيناي كنت أستيقظ مذعورة.
134
كانت السيارة تنقلني بعيدا عنهم صوب إمارة أبو ظبي ومطارها ,وعيناي تغرقان في الطريق ومده...أفكر في الال شيء. حملتنا الطائرة بعيدا التذكر أول رحلة لي وقولي ألمي عن السكن في السماء ,وكنت أرجع طفلة صغيرة إلى المدرسة لبنى وأزقة الحي ,كنت محط تطلعات أغلب الركاب ,يبدو أن في مالمحي كثير من اإلرهاق ,فوجهي شاحب .وعيناي أصابهما الذبول ,ويداي ترتجفان من التوتر ,كم رغبت في البكاء والعويل ,فنفسي تكاد تنفجر غيظا من نفسها .ولكن ال أملك أال التجلد ,وكنت ألوك كل ذلك جرعات سرطان إلى داخلي وأتحملها بصبر وعذاب دفين.
135
-28عدت حي ُ
بدأت أولى خطواتي كسيرة النفس ,محرومة
األطفال ,في المطار كان بانتظارنا أخي الكبير أمين ,وأختي عبير وزوجها .لم يسألوني عن شيء .الموضوع واضح جدا, ليس معي سوى جواز سفر فقط. فوجئت أمي برؤيتي حتى أجفلت ,صمتت طويال قبل أن تضمني إلى صدرها حي
راحت تبكي .كانت تلك أول مرة
أرى فيها أمي تجهش بالبكاء إلى هذا الحد ,لم يخبرها أحد بشيء ,ولكنها قرأته من تأملي: -
كم أشتاق إلى النوم في حضنك أمي ,أنا متعبة للغاية ,لقد أخذوا مني أطفالي...أخذوهم مني.
فقدت وعي وقبل ذلك استطعت قراءة دموعهم جميعا. بقيت مضطربة ,قلقة ,متوترة ,لم أستطع الهدوء لدقيقة, مضت أيام دون أن يحد
أي شيء ,كنت أنظر الهاتف
وأنتظر من رنينه أن يحمل خب ار ما ,أو أن يحمل أي بادرة حسن نية ,أو ندما من قبله ألعود ,ولكن عبثا. 136
قررت اللجوء ألحد أصدقاء زوجي في إمارة أبو ظبي, كلمته طويال عن مشكلتي ,وتوسلت إليه أن يساعدني في تجاوزها: -
سأسافر الخميس لزيارته ,وسأبذل قصارى جهدي.
أيام مرت ,حتى اتصل بي: -
لألسف زوجك رفض أي مساع واعتذر.
مر أسبوعان ليتصل زوجي كانت أمي من رفعت سماعة الهاتف: -
اسمعي ,إن لم تعد ابنتك خالل أسبوعين, فستصلها ورقة الطالق ,وسأحرمها من رؤية األطفال مدى العمر.
لم ِ يبد أي تصرف احترام حتى لمنزلة والدتي ,كيف لي أن أعود تحت أوراق التهديد ,وسياط الوعيد ,كيف!؟ يتصل قاطعا سبل الحل ,ورغم ذلك ظل الصراع ذاته يدور بين عقلي وقلبي:
137
-
إنه ال يريدك وان عدتي ,فسيكيل بك ويرميك, انتقاما!
-
يجب أن تعودي ,فأطفالك يصرخون في طلبك.
كنا في أواخر رمضان ,وكنت أتمنى لو أقضي العيد مع أوالدي. اصلت مع رنا من خالل هاتف المنزل حينا ,والمدرسة تو ُ
أحيانا ,كانت تحرك مشاعري بمكالماتها ,وهي تطالبني بالعودة كي نقضي العيد معا. مر الشهر ,ومع كل اتصال كنت أجد راحة ,وهدوءا, فأطمئن عليهم ,وأعيش يومهم بالتفاصيل. جاء العيد فقضيت ليله باكية: عيد!" "عيد بأي حال عدت يا ُ إنه أول ٍ عيد يمر دون أن نكون معا ,وكم صعب قضاء ذلك! الكل برؤى األهل واألحبة سعيدون ,إال أنا المحرومة والبعيدة عن أطفالها.
138
صباحا ,ومع شروق الشمس ,وضجة العصافير على شباكي تطلعت شرقا ,وقلبي ينفطر اشتياقا لهم ,أتراهم سيعيشون العيد هذا العام؟ فر عقلي من لهيبي مثل باز في عقاب ,زاب روحي مثلما انحل في نار جلد دمع عيني من بكاء في سكوب نار قلبي في هواه مثل نار في الحديد اتصلت بوالدي: -
أبي أستسمحك أن أعود ألطفالي!
أغلق السماعة في وجهي رافضا ,كنت أريد العودة بأي ثمن كان. اتصل والدي بعد قليل: -
سأوافق على عودتك ,ولكن بضمانات!
مر يومان ,فاتصل أخوه األكبر يطلب عودتي ,ومنتظ ار أن يكون قراري حكيما لصالح األطفال الثال : 139
المرأة هي التي تصفح وتسامح وتتنازل.
-
هكذا يفكر الرجل الشرقي. -
هل زوجي من طلب تدخلك؟
-
ال ,لم أخبره بأي شيء
-
والدي يرفض أن أعود إال بضمانات ,واعتذار من زوجي.
لقد أصبحت بين مطر ٍ قة وسندان مجددا :لست راغبة بالعودة إليه ,ولكن األطفال خيار مرتبط به. هو يرفض االعتذار ,وقبول أن أعود بكرامة. ووالدي يرفض أي خطوة تقارب إال بضمان حفظ كامل حقوقي ,مع تعهدات من قبلهم ,وهذا ما لن يتم. لم أكن أريد التفريط بشعاع النور هذا ,لذا رجوته التواصل مع والدي.
140
فاتصل به ,وعلى ما يبدو أن والدي كان قاسيا معه ,وحمله كل أخطاء أخيه ,فاتصلت بوالدي وكلي أمل أن تهدأ النفوس, ورجوته بأن ال دخل له بتصرفات أخيه فرد: -
لعنك هللا غادة ,ولعن الساعة التي ولدت فيها! أعطي السماعة ألمين:
-
أختك تستزيد في إهانتنا ,دعها تغادر الى متبرئ منها. اإلمارات ,ولكن أخبرها أني ّ
ما بات واضحا –إذا -أن ثمن عودتي بات منحص ار بمقاطعة عائلتي ,وهو شرط متبادل. الحياة في بيته ما هي إال لتربية األطفال والخدمة .ومن يضمن لي تلك الحياة؟ ربما يأتي يوم قريب ,ويلقي بي إلى الشارع . رغم أن بقائي هنا خسارة أخرى ,فكل من الرجلين احتفظ بأوالده وانتهى األمر.
141
-29أكثر ما يتعب اإلنسان هو وقوفه في مكانه ,كانت األيام تمر صعبة علي ,والوقت يمر وئيد الخطا. فكرت بالعودة إلى الدراسة ,لكن كان صعبا أن أتمكن من ذلك ,لن أدخل مجددا معركة خاسرة. فكرت بمعهد حرفي للتجميل ,لكن والدي وكما توقعت رفض ذلك ,رغم حاجتي الماسة للعمل ,ففيه قد أنسى همومي ,فلم يتبق لي إال مرسمي أقضي فيه معظم األوقات ,استحضر َ
الذكريات ,أحاول جاهدة قتل الكثير منها بريشتي واأللوان.
142
-30-
"األمل في حد ذاته نوع من أنواع السعادة ,بل قد يكون أكبر سعادة يمكن لهذا العالم منحها" -صمويل جونسون - في 9إبريل من العام ,1999أرف والدي لحالي أخي ار ,ووافق أن أسافر إلى اإلمارات برفقة أمي ,هذا عدا عن أن أوراق إقامتي كادت تنتهي وكان من الواجب تجديدها...مرت خمسة أشهر على مغادرتي: -
لربما أستطيع فعل شيء ما ,ولربما أن النفوس قد هدأت .أنا اآلن قريبة ,ففي دمشق لم يكن بمقدوري فعل شيء.
كان روان بانتظارنا في الشارقة ,لم أستجب لرغبته في أن نرتاح ,وانما فضلت أن نسافر إلى أبو ظبي ,حتى استقليت سيارة أجرة إلى مدرستهم ,فهي أضمن طريقة للقائهم.
143
-31أسوء مكان في الجحيم لهؤالء الذين يبقون على الحياد في أوقات المعارك األخالقية العظيمة" -مارتن لوثر كنغ - ما توقعته من عائلة زوجي هو كلمة حق تقال في قصة خالفاتنا ,أحيانا يحتم الظرف أن نتغاضى عن الحقائق ,أو أن نخفف من وطأتها ,بغاية تليين المواقف والعمل على تقريبها في حل وسطي. وحالما وطأت قدماي أرض اإلمارات تعمدت االتصال بهم, علنا نتعاون على إيجاد حل يحفظ ماء وجه جميع األطراف. كيف استطاعوا تجاهل مشاعر طفل يطلب أمه ,وتجاهل مشاعر أ ٍم تحترق شوقا لهم؟! أين دور تلك األم الكبرى (حماتي) في التأثير على ابنها؟ أليست هي أدرى الناس بأن الطفل في حاجة إلى حضن أمه؟ وبأنه من الظلم أن يمنعه أبوه عنها؟ صعب جدا أن تقنع أطفاال بغياب أمهم ,وأن تحرمهم حنانها ,واألصعب أن تمنع األم عن أطفالها 144
بأي حق يفرض ذلك األب حكمه بمنعهم من التلفظ بكلمة (ماما) ,ربما استطاع ذلك ولكن هل سيتمكن من منعهم من تذكرها من خالل صورة مخبأة لها أو حلم يزورهم كل مساء, فاألطفال الذين يعانون من نقص باكر في األم ستولد عندهم عقدة نرجسية أساسية ,وسيحاولون بطرق ووسائل متنوعة ومتعددة الحصول على حب األم حتى ولو كانت سلبية ,لدرجة يصل مداها إلى تهديد بقاءهم سليمين. إنها عالقة دم وحب فطري أبدي ال يمكن أن ينتهي مجرد أن أشخاصا يريدون ذلك.
145
-32"الزمن ,بطيء جدا لمن ينتظر ,سريع جدا لمن يخشى ,طويل جدا لمن يتألم ,قصير جدا لمن يحتفل ,لكنه األبدية لمن يحب"
(وليم شكسبير)
تجرعت االنتظار واآلالم تحتفل في صدري وأنا أخشى أن
أفقد أطفالي للمرة األخيرة ,كنت أرغب أن تنتهي قصتي خي ار, وبنهاية هندية التمثيل.
لعل المدرسة هي الفرصة الوحيدة المتاحة للقائي بهم ,وفي
الصباح الباكر انطلقت حاملة هداياهم التي قد ابتعتها من
دمشق ,في الطريق اعتراني شوق عامر ,وسعادة وغبطة لم أعهدها منذ شهور.
جاءت رنا ,كانت متعبة للغاية ,حضنتها ,عصرتها في
ضلوعي بعنف ,ونحن نبكي بعضنا.
إنها جلبة مرح المشاغبة ,ودندنتهاُ ,فتح الباب ودخلت لتقف على بعد خطوات: -
146
تعالي مروحه.
أحسست بمدى اشتياقها ,والدموع في عينيها ,ركضت تجلس في حضني وضمتني ,وراحت تقبلني كما كانت تفعل دائما. تلك الشقية أخذت تسألني ماذا أحضرت لها ,وراحت تفتش في حقيبتي وأكياس الهدايا. بقيت معهما لبعض الوقت ,وكان يجب أن أغادر مفسحة لهم فرصة العودة لمتابعة دروسهم ,سألت أيضا عن زياد, وأخذت عنوان حضانته. كان الوداع أصعب جدا من اللقاء ,ولكن قبل ذلك اتفقت ورنا أن أزورهم في المدرسة كل ثالثاء في نفس التوقيت, وكتبت لها أرقام هواتفي. كانت أكثر من حزينة ومنكسرة النفس مثلي لعدم عودتي معهم إلى المنزل ,فيما مرح ظلت ملتهية بالهدايا التي أغدقتها عليها. اتصلت بأخي وتوجهت مباشرة إلى حضانة زياد ,شرحت الموضوع للمديرة ,وأريتها صورتي معه ,أخبرتني بوجوده في 147
الحديقة الخلفية .دخلت الحديقة ,عرفته من بين الجميع ,فهو مميز بشعره األشقر وبشرته البيضاء وخديه الحمراوين .رأيته من بعيد .كان يجلس وظهره لي .اقتربت منه ,قائلة: -
زياد!
التفت إلي ذاهال .ظل يحدق فترة .مددت له يدي : -
تعال إلي حبيبي ,هل عرفت من أكون؟ ّ
أعطاني يده قائال وهو ينهض مسرعا: -
أنت ماما
حملته وضممته إلى صدري ورحت أبكي بحرقة وضربات قلبي تطرق زنزانة صدري بشدة .لم أستطع تمالك نفسي من البكاء فعاطفتي تجاهه كبيرة جدا وشوقي له أكبر ,أخي صديق لزياد منذ أن كان الطفل رضيعا ,وهو متعلق به كثي ار مثلي, لذا فقد تذكره بسهولة ,حتى إنه راح يطالبه مالعبته كما كان يفعل من قبل ,ودعتهم تاركة ما تبقى من روحي في دموعهم, سلمته الدراجة التي اشتريتها له.
148
عدت إلى الدار وشعور مختلف يعتريني من سعادة ممزوجة بحزن عابر ,فلقائي اليوم بهم قد أعاد إلي التوازن قليال ,دخلت المطبخ ولم أخرج منه إال بعد أن أجهزت على كل ما فيه من طعام ,وأخي يضحك على نهمي ,حل المساء ألقضي أمسية جميلة ,وأنا أنتظر أن يعود الثالثاء مجددا ألسافر إلى عصافيري. جاء يوم الثالثاء ,موعد لقائنا التالي ,ذهبت إلى الحضانة فلم أجد أث ار للصبي الصغير. سألت عنه المديرة: -
لألسف لم يعد منذ الثالثاء الفائت ,يوم زيارتك, وكإجراء نتخذه في مثل هذه الحاالت قمنا باالتصال برقم عائلته ,فأكد لنا والده أنه لن يعود للدوام مرة أخرى.
على الفور انطلقت إلى مدرسة رنا ,جائتي بعد دقائق ,وهي ترتعش خوفا:
149
-
لقد هددنا والدي بأنه سيمنعنا عن المدرسة, والخروج من المنزل إن التقينا بك ,لقد منعني من مدرستي ليومين حتى تدخلت جدتي.
-
وزياد.
-
وبخني أيضا ألنني أعطيتك عنوان حضانته, فأرسله إلى بيت عمي نضال في رأس الخيمة ,كما وأنه سلب منا كل هداياك.
إنه ما يزال كما هو ,لم يستطع كبح جماح ال إنسانيته, فتصرف بقسوة حتى مع األطفال .مهما كان من خالف بيننا فإنهم أطفالي أيضا ,ويحق لي -كما له -أن أكون برفقتهم وأن أزورهم. حاولت االتصال ببيت أخيه لالطمئنان على زياد:
150
-
كيف حالكم ,هل أستطيع مخاطبة ابني زياد؟
-
سأدعك تكلمينه ,ولكن أرجو أ ّال تتصلي مرة أخرى.
أحزنتني بردها القاسي ,هي أيضا امرأة مغلوب على أمرها, تخاف المشاكل ,ومؤكد أنهم حذروها من مغبة التواصل معي, وهناك من تراقبها ,فأخت زوجها تسكن معهم. علمت أنه ينوي السفر بهم إلى الخارج ,وأمام انعدام فرص أي حل ,قررت رفع دعوى حضانة لمنع السفر. بعد أسبوع حظيت بمقابلة السفير الكندي ,وشرحت له عن دعوى الحضانة التي رفعتها قبل أيام في المحكمة ,وما هي إال أيام حتى صدر القرار: "ما دام الزواج ما يزال قائما فإن مكان الحضانة هو بيت الزوجية ,وان مكان المحضون هو البلد الذي يقيم فيه والد المحضون وال يسمح بالسفر إال بإذن منه" أما بالنسبة لمنع السفر: "لألب حق السفر باألوالد إذا كان سفره (سفر نقلة) وليس لألم االعتراض على ذلك" وبالنسبة للنفقة:
151
"الحكم بالنفقة مرتبط بالحكم بالحضانة ولم يتم الحكم بالحضانة لذا فقد تم رد الدعوة"
152
-33"نـ ّـمـقـت إلى بـابك -يا قـ ـ ـرة عـيني -بالدمع ك ـ ــتابا أشهدت طل الورد مــدادي ودواتي .سل من عبراتي!" مال الجزري-ثالثة أشهر مرت على وجودي هنا ,دون أن أجد إلى الحل أي سبيل ,استجمعت قواي في فكرة الذهاب وزيارتهم في المنزل ,خاصة أن المدارس كانت قد أقفلت أبوابها إيذانا ببدأ عطلة الصيف. لم توافق والدتي بداية ,وأمام توسالتي وألمها علي كأم قبلت خوض المغامرة معي ,رغم تيقننا بأنه لن يكون بمستوى القيم واألخالق المطلوبة ,لكنهم أطفالي ,ودمي يجري في عروقهم. وصلنا والوقت صباح ,وتقصدت أن اختار فترة غيابه عن المنزل: -
أنا أمك رنا ,افتحي الباب ,قد جئت وجدتك. 153
استطعت قراءة دموعها ,ورياح شوقها ,وقراءة الضجة التي خّلفها صدى صوتي حينما تدافعت مرح وزياد في طلبي. -
والدي هددنا بعقاب شديد ,وال أستطيع فتح الباب, أمي...لن تتصوري كم يعاملنا بالسوء حينما نأتي على ذكر اسمك.
-
حاولي االتصال به ,وأخبريه عن رغبتكم في رؤيتي
-
فعلت ذلك مرح قبل قليل ,لقد انهال علينا بالتوبيخ, وهددنا مجددا.
كان المشهد دراما حية ,يفصلني عنهم باب هنا ,وألف باب وباب هناك. تحت إلحاحي ,استجابت رنا وفتحت الباب على نحو ضيق .لم ترفع السلسلة المعدنية خوفا من عودته فجأة ,طلبت منها أن تمد يدها عبر شق الباب كي أالمسها. على صوت الطرق والكالم ,فتحت جارتنا بابها مستفسرة: 154
أهال بعودتك غادة ,تفضلي بالدخول!
قد سمعت صلواتي وبكائي. عرضت الجارة مساعدتها واتصلت بزوجها كي يتصل بزوجي: -
وافق أن تلتقي أطفالك ولكنه اشترط أن يكون حاض ار ,وأنه سيعود ريثما ينهي عمله.
مر وقت ليس بطويل ,ألسمع صوت الباب يفتح فيغلق...لقد عاد إذا ,من خبرتي أعرف أنه كان يكذب حين وعدنا برؤية األطفال ,لقد تهرب بحجة أنه مشغول. ربما كان يخاف أن أخطف األطفال بشكل أو بآخر؟! وكيف أخطفهم وأنا أم لهم ,وال أزال زوجته. انتظرت لساعة دون أمل: -
لقد أخبر زوجي أنه لن يستطيع العودة اليوم النشغاله.
ولطالما كنت أكره الكذب إنها صفة تالزمه ,حملت نفسي واجتررت آالمي وحنيني ,خرجت من منزل جارتي شاكرة, ووقفت لدقائق أرن جرس الباب ,ال صوت...ال حركة..
155
واإلعصار في قلبي ,وأنا أشعر بصدى أنفاس صغاري وسيل دموعهم. أعلم أنه خائف من مواجهتي ,يعلم أني سأعود لمرة أخرى, وأخرى ,وسيستغل ذلك لتعذيبي أكثر وحرق ما تبقى مني ,لكن مهما احترقت يبقى داخله مظلما. مرت األيام ألتصل بأم إحدى صديقات رنا ,أسألها إن كانت قد ازرتهم ,رغم أني لم أكن أعرفها في وقت سابق ,لكنها كانت أكثر من طيبة ,وألنها أم وانسانة فستقدر مشاعري: -
مرت فترة ولم تزرنا رنا ,لكني سأرتب لقاء بينكما, فعيد ميالد نغم الخميس ,وسأحاول دعوة أوالدك أيضا.
وصلت مع أمي الشارقة باك ار ,وتجنبا ألي شك أخفيت سيارتي بعيدا: -
أخبرت ابنتك رنا بالخطة ,وفرحت جدا ,ولكنها ظلت خائفة من قيام أحد إخوتها بإخبار والدهم ,لذا فمن األفضل أن يقتصر اللقاء بها فقط.
156
حرمان آخر بطعم اللقاء ,وعسل ملون بالسم ,وجرعة أخرى من الحنظل. دخلت غرفة نغم ألنها تقابل الصالون ,فضيوفها بدؤوا بالمجيء .معهم الحق في إبقاء اللقاء سريا ,لقد بدأت أشك بكل شيء ,حتى في كوني أما ,ومن زاوية الباب استطعت رؤية أطفالي الثالثة وهم يدخلون في أبهى حلة. فر قلبي من لهيبي ووقع يرقص طربا ,وفاضت دموع السعادة من عيوني ,وطارت نفسي إليهم اشتياقا ,وكاد يسقط قلبي تحت أقدامي من شعور ممتزج بالتملك والفقدان. "يا راميا.. تحدثت مع رنا كشابة بدت أكبر ,تناقشنا طويال في كثير من األمور ,كان رغبتها استم ار ار لرغبة إخوتها في ضرورة عودتي إليهم بأسعر ما يمكن .سألتها عن تصرفاته معهم: -
بالكاد نراه ,وكأننا في منزله مجرد أرقام يحذفها ويضيفها هو ,ال يسأل عنا ,أو يهتم بنا ,دائم التهديد, كثير الشكوى ,والعصبية. 157
اهدتني رنا أرنبا ما أزال أحتفظ به ,وهو من أغلى ممتلكاتي ,أخبئه في مكان أمين ,وكلما وقع تحت يدي تذكرت ذلك اليوم وتلك الحفلة ,واللحظات الصعبة ,فلم أستطع لقاء مرح وزياد. اتفقنا على استمرار التواصل من خالل نغم وأمها ,لكن بحذر شديد ,كانت نغم من تتصل لتخبرنا بتوفر الظرف المناسب ,أو كانت تتصل بي لتخبرني بحاجة رنا للحدي
في
أمر ما. اعتبرت نفسي قد حققت إنجا از في قدرتي على بناء خط تواصل بيني وبين رنا ,ومن خاللها كنت أصل إلى إخوتها ولكن دون تواصل ,كانت غايتي أن أكون مطمئنة عليهم ليس أكثر. تجنبا ألي فضح لتواصلنا كنا نحترس ,فلم تكن تتصل بي من أي هاتف لهم خشية تسجيل الرقم أو المكالمة ,وبقينا على هذه الحال طوال صيف.1999
158
-34"من القساوة أن يكون إلنسان سلطة على إنسان آخر ,وأن يستغلها في استنزافه" صعب أن أتمكن من ترجمة مشاعر أم مبعدة عن أطفالها, ومدى األلم والشوق الذي يستنزف مشاعرها. عشت حالة هلوسة ,واعترتني رغبة جامحة للقائهم ,ألتجاوز حاجز المهابة ,وأتشجع بالتوجه إلى البيت مباشرة ,حي
كان
الوقت حوالي الحادية عشرة صباحا ,وفكرت أنه لن يكون موجودا فيه. اكثرت من طرق الباب دون رد ,ألتفاجأ به يقف قبالتي فاتحا الباب ,ليتفاجأ هو أيضا ,لم يكن يتوقع حضوري مجددا. لم ِ نبد أية عالئم تضاد .دعانا للدخول .تسمرت في مكاني واقفة .كسرت أمي الصمت ,ودفعتي: -
ربما يكون اللقاء ندما ,أو كإنذار لما هو قادم.
159
دخلت على مضض ,فاستقبلتني رنا بشوق فائض ,ونامت لدقائق في حضني .كنت أشفق عليها ,ماسحة وجنتيها بباطن يدي ,لمسا رقيقا متأنيا ,فيه كل الود والحب ,وأقبلها: -
أتمنى لو تكون مفاجئتك الجميلة هذه دائمة.
-
أين زياد ومرح؟
مرت دقائق ,واذ بزياد يترنح متمايال كمصروع من تأثير النوم ,ركض إلي بمجرد أن لمحني ,وضممته بشوق ,وُقبل, أعطيته قطع الحلوى التي يحب ,وهدأ بركون في صدري, وجاءت مرح تهرول كعادتها صارخة فهي األكثر شغبا ,بدأ صراع بينهما على احتالل مكان في حضني ,رتبتهم معا كما كنت أفعل دائما ,ونظرت إلي رنا بعيون سائلة: -
اشتقنا إليك ,ماما.
استطعت مشاهدة دموع عينيها ,وألنها األكبر فوعيها يدلها على أن فرص بقائي معدومة ,وأني هنا للوداع األخير: -
رنا اذهبي واجلبي ألمك تقرير المدرسة عن األشهر السابقة ,ودعيها تق أر مستواك!
160
ارتعبت الطفلة من صوت أبيها ,وركضت تحضر التقرير, وأعطته خائفة ,فأمسك به ,ووضعه في وجهي: -
انظري إلى مستواها الضعيف.
تصورته كجدار يقف في وجه ضوء النهار ,وما أقساه, عمر كي أنقب فيه ثغرة ألمر إلى أطفالي, ا ربما نحتاج وحياتي المرهونة بهم. يحملني سبب كل شيء ,حتى تراجع مستوى األطفال, فأنا متأكدة من أنه تقصد تغييبهم والهائهم عن فروضهم المدرسية ,ليصل إلى هذا الموقف ,شعرت بالخوف من أن يهجم علي ,فأنا اآلن فريسته التي يريد االنتقام منها .حتى أمي ال أدري ما الذي أصابها ,لم تنطق بكلمة واحدة ,ربما انعقد لسانها. عادت حالة الهياج تسكنه ,وتعالى صراخه ,ارتجفت رنا رعبا ,فيما التصقت مرح وزياد في صدري وكأنهما يرغبان في االنسدال إليه ,أي أب يخيف أطفاله ويقسو إلى هذا الحد!؟ تذكرت مشهد حمله للسكين وتهجمه ,يومها كان زياد بعمر ثال
سنوات. 161
وبينما هو ٍ ملته بجمع الهداية ,اتخذت طريقا لمغادرة المنزل ,فتبعني: ال نرغب في أن يبقى شيء منك هنا ,خذي هداياك. -هؤالء العصافير الثال
أليسوا جزءا من جسدي وروحي,
دعني آخذهم معي إذا. همه أن يحطمني ,ويضاعف ألمي في كل ردة فعل ,فحقده يكاد يقتله وهو يتسرب من تفقع عينيه واحمرار وجهه ,وامتالء شراينه ,ومن سالطة لسانه ,وددت أخذ أطفالي معي ,فهم يرغبون أيضا في تركه ,لكنه علمهم الخوف فهذه ثمار أشهر غيابي عنهم. أال يحسب ألن يكتشفوا في الغد أفعاله ,وكيف ستكون نظرتهم إليه؟ أيمكن إخفاء الحقيقة؟ ال أدري كيف يعيش مآسي وكذب ماضيه ,وهو يق أر كلماتي المسربلة بفكر الحقيقة ,وذاكرة األيام المحترقة ,والتي ما تزال تحترق. ُ
162
أتراني كنت سأتخذ ذاك القرار ,لو كنت أعلم أني سأعيش متجرعة كل هذا األلم الصامت بصرخات اليأس؟ كان يجب عل نفسي أن أبني لذاتي مقبرة خاصة أدفن فيها أخطائيّ , تهدأ قليال.
أخبروه أنه نجح في االنتقام مني وتحطيم حياتي بأكملها. أخبروه أني أقاسي شر ار من اآلالم ,وأن الفراق حرق قلبي, وأن جروحي تكتوى كل يوم ,وأن أفعاله كما سهم حارق يخترق جروحي ,إني أعيش يومي بعام ألم. قد يخال أن نصوصي هي محاكمة من طرف واحد ,وأني فيها أتجني تزوي ار لألحدا ,ولكن صاحب النص الذي أخذ دور البطولة فيه ستصله كلماتي ,وستحفر جزيال في ذاكرته, نزيفا وأحداثا. هو لن يتهمني مجددا ألن الكلمة تظل صادقة وألنها وسيلتي في نشر الحقيقة.
163
نعم ,أنا –هنا -بالكلمات أشن حربي ,وأعيد األحدا
إلى
مجراها والكذب إلى صوابه ,وبها أختم سالسل ذاكرتي وأفرغها على الورق. أكتب ذاكرتي في رسالة وأضعها في قارورة األيام ,رامية بكل مشافهاتي من بوابة السماء إلى حي
يمكن أن تصل,
أكتبها رسالة في قارورة تحمل تاريخا يحترق ,علهم يتلقفون عبيرها ذات ربيع ,أو أن يشدهم الرحيل إلي باألسئلة ,عندها ّ ستكون اإلجابة مرسومة في سطور كلماتي ,عندها ستكون القارورة قد نجحت في الوصول إلى أمواج مشاعرهم وتدفقها. سلب مني روحي وبهجة حياتي ,وجعلني جثة حية تتحرك باحثة عن ٍ قبر ترقد فيه ,علها ترتاح. وقف ثالثتهم صفا ُمتحدا ,وأعرف تماما رغبتهم ,أليسوا
أصغر من إقحامهم في قصة خالفاتنا؟
توسلوني حال وأبكوني البقاء ,ثم استداروا باكيين وهربوا معا صغير جدا على اتخاذ ا صوب غرفهم ,كان زياد آخرهم وهو أي قرار ,ولكنه صديق مرح ,يتبعها ويقلدها أينما ذهبت ,لذا وجدته يركض وهو ينظر خلفه. 164
من ثالثتهم نظرت إلي مرح ,متوسلة: -
أبقي أو خذينا معك!
كان الخوف يسيطر عليهم جميعا ,كما هو مسيطر علي, ّ نعم لقد استطاع أن يجعلنا مرتعبين ,فيالزهوته وشيم رجولته التي حطمتنا! ظلت أمي طوال الوقت ساكتة ,وآثرت أن تكتم دمعتها هي أيضا ,قبيل أن نخرج ,نظرت إليه لمرة أخيرة تستعطفه إيمانا وحنانا ,لكنه أزاح عنا بوجهه يطردنا ,تيقنت تماما أنه لن يتراجع قيد أنملة وأن هذه الوقفة هي األخيرة لنا معا ,قبيل أن نكون طرفي قضية أمام المحاكم. خالل األسبوع التالي لعب األصدقاء بآخر أوراق التراضي, لكنه رفض كل المبادرات ,رفض الطالق ,النفقة ,أن أتواصل مع أطفالي ,يعلم تماما أنه يمسك بشرايين حياتي من خاللهم, ويستغلهم إلى أبعد حد.
165
-35أمام احتدام الخالف ورفضه ألية مبادرة ,وجدت أن أعود للقضاء لتكون له الكلمة الفيصل ,وفي ذلك رفعت دعوى طالق بتاريخ الرابع عشر من
يوليو من العام ,1999
لخصت وقائعها: "خرجت من بيت زوجي ,إثر قيامه بضربي وطردي في ساعة متأخرة من الليل ,ومحاولته خنقي ,وتهجمه علي بالسكين ,وتهديده لحياتي " ّ أكد المحامي أني سأستخلص منه كامل حقوقي ,ونصحني برفع دعوة شروع بالقتل أمام القضاء الجزائي ,ويوم تمت مواجهته بالدعوة أنكر ما جاء فيها. وفي ذلك تم احضار تقرير المشفى ,وضبط الشرطة ,حتى أقر بالذنب ,لكنه بدأ يكيل لي اتهامات ملفقة ,يبدو أن محاميه قد علمه بعضا من أساليب التجاوز لتبرير فعلته. الكثيرون ,وجهال بالثقافة وأمية المعلومة ,يجدون دائما مبررات لنشوذهم ,ويلقونها على اآلخرين إمعانا في النفاق ,ال 166
نزال نسمع من يتوجه باتهام باطل وافتراء كاذب إلى هذا الدين العظيم من خالل آيات قرآنه الكريم ,بدعوى أنه يسمح للزوج بأن يضرب زوجته ويهينها ((والالتي تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن فإن أطعنكم فال تبغوا عليهن سبيال)) ونسي أن العقاب هنا خاص بالزوجة الناشز التي ال يجدي معها وعظ وال هجر وال أي عقاب معنوي, عندئذ يسمح للزوج بأن يؤدب زوجته بالضرب ,ضرب تأديب, ال ضرب تعذيب ,ويشترط في هذه الحالة أن يكون الضرب غير شديد وال شاق ,ولم يرد في الشريعة اإلسالمية ضربهن إال في تلك الحالة ,أي حالة االنحراف في سلوك الزوجة والشذوذ في بيت الزوجية.
167
-35كم كنت أكره نفسي وأنا أتوجه إلى المحكمة كل فترة ,وكم كنت سعيدة حينما أتذكر أني أخوض حربا الستعادة أطفالي, وحياتي معهم. كنت أعد األيام التي لم ألتق فيها بهم ,وكانت قد وصلت إلى التسعين بالضبط ,عادت المدارس تفتح أبوابها ففرحت جدا ,ورتبت فكرة زيارتهم. كان وقتي موزعا بين زيارتهم في المدرسة ,وجلسات المحكمة. مضت أربعة أشهر دون تحقيق أي تقدم ,جاءت العطلة االنتصافية ,وهذا يعني أني سأنقطع لشهر تقريبا عن رؤية أطفالي ,لذا ارتأيت أن أحاول ترميم ذاكرتي ,فأعود لمرسمي الذي أهملته ,والى عائلتي األخرى الذين يشاركونني همومي, مع أنه لم يكن باستطاعة أحد منهم عمل أي شيء ,فيكفيني الدعم المعنوي الذي تلقيته باتصاالتهم المتكررة ,وخاصة والدي الذي كان أكثرهم تأث ار ,فعلى الرغم من كل شيء كنت أحبه أكثر. 168
أخبرتني رنا أن والدها بدأ مؤخ ار يشك في لقائهم بي ,لذا وجدت أن أغير تاريخ الزيارة ,فآثرت أن أزورهم قبل موعد جلسة المحكمة ,فهو سيكون منشغال ,لكن وكما العادة وصله الخبر ,وتبين ذلك من خالل زيارتي األخيرة ,حي
كان قد زار
المدرسة ,مهددا بنقل األطفال إن عادوا وسمحوا لي بالزيارة. وفي زيارتي هذه أرسلت المديرة تطلب رنا أكثر من مرة, حتى جاءت مرتعبة وعلى وجهها آثار ,لقد جعلها تدفع ثمن لقائها بأمها إذا! بقيت لدقائق ,لتذهب مودعة بعبارات الحب واليأس. جرت المناقشات لمحاولة اإلصالح فيما بيننا من قبل رئيس المحكمة الناظرة في القضية: -
أنا مستعدة للعودة إلى بيت الزوجية شريطة أن ينفق على البيت ,وأن يسمح لي بالسفر إلى أهلي واستقبالهم ,وان تزوج من ثانية فلن أمانع شريطة أن اليسكنها في منزلي.
169
وكما توقعت ,فقد رفض المصالحة من أساسها ,وأصر على متابعة الدعوة ,معتب ار أنه سيجبرني على العودة إلى بيت الطاعة عنوة. وهكذا لم يتم الصلح بيننا ,فقررت المحكمة بع
حكمين
من قبلها: -
المحكمة ستفرق بينكما ,حي
أن العشرة أصبحت
مستحيلة. وكان يجب أن أتنازل عن مؤخر المهر ,ألني من تطلب الطالق ,وجاء منطوق الحكم في الدعوى: (حكمت المحكمة بتطليق المدعية من المدعى عليه طلقة بائنة بينونة صغرى مقابل تنازل المدعية عن مؤخر مهرها). هذا الرجل منذ اللحظة لم يعد زوجي ,قرأت غيظه من نجاحي في التحرر منه ,حي
كان يرغب في مزيد من
االبتزاز ,بل كان يعتقد لهوس خياله أنه سيلزمني بالعودة إليه صاغرة. 170
خرج من القاعة وهو يوبخ محاميه ,وقبل ذلك رماني بعباراته األخيرة: -
مبروك الطالق مبدئيا ,ولكن سأستأنف ,حتى تركعي لي.
أمن العدل أن يوضع في يد الرجل سيف الطالق ,يسلطه على عنق المرأة متى شاء؟! فإذا أكل قلبها البغض لزوجها والنفور منه ,فرض عليها أن تعاشره كرها ,فإن أبت ُدعيت
إلى بيت الطاعة ,كأنها متهم يقاد إلى قفص ,أو مجرم يساق إلى سجن ,فأين التوازن بين الحقوق والواجبات؟ الزوجة عادة تكون أكثر صب ار وأطول باال ,حتى ولو بدأت فكرة الطالق تداعب خيالها ,إال أنها بحكم ظروفها تظل صابرة ,متأنية ,وفي الغالب ترضى بحكم القدر ,مستسلمة, والقليل من يتمردن على ذلك بدعوى الطالق ,وأنا لم أطلبه تمردا أو ملال أو كرها ,وال بسبب امتناعه عن اإلنفاق أو
ضربه ,فالضرب قسوته أهون من تحطيم األسرة وتشتيت أفرادها .ولكن اتهامه لي كان فظيعا ,أفقدني جزءا من كرامتي. 171
كان علي أن أوفر األسباب المقنعة للقاضي حتى يحكم ّ بالطالق. إن الزواج عهد متين ,وميثاق غليظ ,ربط هللا به المرأة والرجل .أصبح كالهما زوجا بعد أن كان فردا .رباط أقامه هللا على ركائز من المودة والرحمة ,اللتين تحملهما كل النصوص الشرعية .فأين الرحمة في قلب ذلك الرجل؟!
172
-36رفعت دعوى "حضانة وسكن ونفقة" ,وعلى الرغم من ضآلة األمل فيها ,وجدت أن اجتهد في الوقت الحاضر بأقصى طاقتي ,دون القلق فيما سيأتي ,فقد شرح لي المحامي أنه في حال وجود خالف بين الزوجين فإن الحضانة تكون لمن بيده األبناء ,وال يحق للطرف اآلخر رؤيتهم خالل هذه الفترة ,إال بعد صدور حكم نهائي ,وقد يستغرق من ست إلى ثماني شهور ,لذا يلجأ المحامون –عادة -إلى الدفاع عن األزواج, لتعطيل الدعوة أو تأخير صدور الحكم. أرسلت لي المحكمة الئحة استئناف دعوة الطالق ,وكان قد رفعها متلمسا إلغاء الحكم ,والزامي بالرسوم والمصاريف وأتعاب المحامي ,لم أستغرب األمر مطلقا ,فهي وسيلة ضغط أخرى ,وخوفا من قيامه بسفر األوالد خارج اإلمارات ,رفعت دعوة إراءة ومنع السفر ,فجاءت نتيجتها لصالحي ,وفي الثامن من نيسان أبلغت من المحكمة باستئناف دعوى (الطالق), فحضرت الجلسة وجاء منطوق الحكم بتعديل الحكم المستأنف
173
واضافة عبارة نفقة العدة على الفقرة الحكمية ,بحي
يكون
مقابل التنازل عن مؤخر المهر ونفقة العدة. أما هو فلم يحضر,على رغم من أنه كان يعرف موعد المبلغ .وهكذا الجلسة من اإلعالن الذي رفض استالمه من ُ صدر الحكم غيابيا. بعد شهر تقريبا صدر حكم اإلراءة لصالحي ,بأن أراهم في األسبوع يوما واحدا. صحيح أنني كسبت الدعوة ,ونلت حق حضانتهم ,لكنه الوهم بعينه .فاألحكام الصادرة عن محاكم اإلمارات تسري داخل الدولة فقط ,وال تنفذ خارجها .وكثير من الناس الذين يذهبون إلى المحاكم ال يعرفون بأي مذهب ستحكم المحكمة. ففي أبوظبي ودبي تكون األحكام وفق المذهب المالكي ,وبقية اإلمارات وفق الحنبلي .وللقضاة مذاهب مختلفة في األحكام. ومثاال على ذلك قضية انتهاء سن الحضانة ,والى أي سن يبقى الطفل مع أمه في حال انفصال األبوين؟ فالمذهب المالكي يرى أن البنت تبقى إلى أن تتزوج ,والولد إلى أن يبلغ. أما الشافعي فيقول أن يبقى الذكر واألنثى مع األم حتى 174
بلوغهما سن التمييز .وما هي هذه السن؟ هل هي 7أو 8 سنوات؟ وقالت بعض اآلراء أن يبقى الطفل في الليل مع األب ,وخالل النهار مع األم ,أما الحنبلي فيبقي البنت حتى 7 خير بين أبويه ,ويختار سنوات ,واذا بلغ الولد 7سنوات ُي ّ
أحدهما .ويبقى في المذهب الحنفي حتى 9سنوات أو 7
سنوات ,أو حتى مرحلة البلوغ .وأن القانون سيأخذ من بين كل هذه اآلراء بصورة ال تخالف الشريعة .ففي الشارقة مثال يأخذون بالمذهب الحنفي ,فإذا بلغ أوالد المطلقة سن الثامنة ورفع األب دعوة إلنهاء حضانة األم ,وضمهم إليه ,يحكمون لصالح الرجل .وكم تعاني المرأة اإلماراتية نتيجة لغياب قانون األحوال الشخصية ,خاصة في قضايا الطالق ,التي يختلف الحكم فيها من إمارة إلى إمارة أخرى .لذلك ينبغي أن يكون قانون األحوال الشخصية واعيا لحقوق المرأة ,ويضع سدا بينها وبين التالعب بها ,أو االلتفاف حوله .هنالك كل يوم عشرات القضايا لنساء يتألمن ويتحدثن عن ظلم صارخ ,فهذا القاضي أو ذاك يطبق رأيا خاصا به من هذا الفقه ,بينما هناك رأي آخر قد ينصف المرأة أكثر .إن الفقه اإلسالمي يحمي المرأة 175
وحدها وليس الرجل في قضايا الزواج والطالق ألن الرجل محمي أصال بالذكورة ,والذكورة قوة في مجتمعاتنا.
176
-37غدا الجمعة ,فبعد عام من حربي ضده ,وبحكم القانون, تمكنت اكتساب يوم من كل أسبوع لرؤية أطفالي ,غادرت إلى
الشارقة مع روان ,الذي ظل برفقتي طيلة أيامي السابقة ,وقفت أمام مدخل البناية ,وضغطت زر اإلنترفون ,ليأتيني صوت
رنا ,التي ما إن عرفتني حتى صمتت ,فتوجهت إلى الباب
أطرقه ,فإذ به يقف قبالتي وهو في حالة هيجان ,هو اليوم أكثر من مهزوم.
طلبت من األطفال االستعداد للمغادرة معي ,وبدا أنه قد
أخفى عنهم خبر ربحي لدعوة الحضانة ,بل وأرسل زياد إلى
بيت عمه ,متجاهال قرار المحكمة ومعتب ار نفسه السلطة ,فكان ال بد لي إال أن أعيد على مسامعه وجوب تنفيذ اإلراءة.
انتظرت مدة فلم يكثرت ,لذا لجأت إلى الشرطة ليتصل الضابط به ,طالبا حضوره ,وعندما عدت مجددا الصطحابهم, حاول استفزاز أخي الفتعال عراك يحول النظر عن سبب قدومنا ,لكن أخي كان أكثر حكمة ,وهدأ مبتعدا ,وعلى قرقعات صوته تدخل الجيران ,وهم مشمئزون من مشاكله مثلنا ,لتأتي الشرطة فيتحول هياجه إلى هدوء ,فيما بقينا عالقين في مدخل البناية ,وهو يصر على عدم السماح لنا 177
بالدخول ,ويهدد رنا على مرأى ومسمع من رجال الشرطة ,فإذ به يدخل الدار تاركا جميعنا خلفه ,وما هي إال عشر دقائق ليفتح الباب وتأتي رنا رافضة الذهاب معي ,فمن المؤكد أنه عاد يهددها ,ويخيفها .لم يكن لي في األمر حيلة ,فحتى الشرطة لم تستطع أن تفعل شيئا .رجعت إلى القسم وقدمت بالغا للنيابة العامة ,فصدر الحكم عليه بالحبس شه ار ,وألني لم أكن أرغب في تأزم الموقف أكثر ,وخشية من أن يصبح أطفالي بال أب أيضا ,تنازلت عن الدعوة.
178
-38التاريخ هو
السبت 2000 / 5 /13م .زرت رنا في
مدرستها ,كان أول أيام امتحاناتها ,أعطتني رسالة وقطعة نقود ورقية كتبت عليها :أحبك يا أمي .لم أكن أعرف أنه اللقاء األخير ,وأذكر أنني رأيت زياد آخر مرة في ,2000/4/17أما مرح فكان لقائي األخير بها يوم الجمعة ,2000/5/12خالل لقائي برنا وضعت رسالة في حقيبتي: "أردت الذهاب معك ,ولكنه هدننا بأننا سنعود إليه أخي ار ,وأنه سيمنعنا عن المدرسة ,وعن النوم في غرفنا أو أن نكون معا .لقد كانت مالمحه قاسية جدا ,لقد أخافني ومرح ,معتب ار أن ذهابنا معك يعني نهاية عالقته بنا كأب ,وأنه سيعاملنا كخدم ,لم يخبرنا شيئا عن الحضانة ,كرر أنك من تركتنا ألجل مصالحك, وأنه األب المحب لنا". بقيت لشهر حبيسة البيت في منزل أخي ,أنتظر الحكم النهائي في قضيتي ,متأملة نهاية سعيدة لها ,وكثي ار ما كنت أحد ّ
قطته ,فأسرد لها أيامي القاسية ,وواقعي المؤلم .فكرت 179
بالسفر إلى سورية بعدما فشلت في توفير أي لقاء مع أطفالي, فاتصلت برنا ,أطلب منها السفر معي ,فردت برسالة مقتضبة: "أمي الغالية ,أكتب إليك رسالتي وأنا أعيش أشواقك ,وحالة صعبة من المشاعر المتداخلة ,ال أستطيع تحمل كل هذه األحدا ,أصبحت أكره كل شيء حولي. ستسافرين بعيدا ,فيما كلنا –هنا -ينتظر لحظة أن تكوني معنا ,أموت غيظا من فشلك في الوصول إلى صيغة مريحة لك ,استمتعي بحياتك ,وكفي عن البكاء ,فهذا قدرنا وقدرك ,سأرتب أن نتواصل بشكل دائم ,ويوما ما سنكون معا ونعيش السعادة ,وسأقدم لك هذه الهدية البسيطة ,ولكنها أجمل لعبة بالنسبة لي ,ألنها ترتدي مالبس قمت بخياطتها بنفسي". والحقا جائتني منها رسالة أخرى: "السؤال األول :لماذا قررت البقاء مع أبيك ولم تغادري مع أمك؟ ال أعلم ,قد يكون السبب مرتبط 180
بالتعود على المكان ,والمنزل ,أو بالخوف .ال أستطيع إيجاد إجابة مناسبة. السؤال الثاني :هل أخبرك أحد بأالّ تذهبي مع أمك؟ ال أسمح ألحد بإمالء رغباته علي ,ولكن لسنا قادرين دائما على اتخاذ الق اررات الصحيحة. السؤال الثال :كيف ستتصلي بأمك؟ وكيف نلتقي الحقا؟ من خالل صديقتي ,أو من أي وسيلة تقع تحت يدي وتواصلنا هاتفيا سيسهل ذلك ,وعندما أكبر سأدرس المحاماة وأعيد ألمي كامل حقوقها ,وأشتري منزال نعيش فيه معا. السؤال الرابع :لماذا قطعت حديثك في آخر مكالمة باكية ,وأقفلت الخط؟ كنت سأقول بأني سوف أبقى معه ,أنمي كرهي نحوه كل يوم ليكبر ,حتى يأتي زمن أحاسبه على كل جرائمه بحقك وحقنا. 181
انتهت األسئلة – أحبك أمي".
182
-39انتهت مدة إقامتي في اإلمارات ,وعدت إلى دمشق بانكسار مجدد ويأس كثير ,كان علي أن أواجه المجتمع ,وأنا أحمل ّ لقب مطلقة ,فلم أستطع االنتظار حتى صدور الحكم النهائي في قضيتي ,وكان أن يحضر والدي جلساتها بحكم وجوده هناك ,وجاء منطوق الحكم بقضية االستئناف (بالرؤية) الصادر يوم االثنين ,الموافق ,2000/11/27بإلزامه بتوفير رؤيتي لألطفال يوما من كل أسبوع. أما الحكم بقضية االستئناف (الحضانة) فقد صدر يوم اإلثنين الموافق.2000/12/18 كان هذا انتصا ار حقيقيا إلرادتي ,ولكن -وباعتبار أن وكيلي (والدي) حضر الجلسة نيابة عني ,وأقر أمام القاضي بسفري خارج الدولة ,وألن السفر يسقط الحضانة -فقد بادر محاميه إلى رفع دعوة (إسقاط الحضانة) ,مستندا في ذلك على ما جاء في كتاب (تبين المسالك): "إذا أرادت المطلقة أن تخرج بولدها من المقر إلى مقر أخر فليس لها ,إال إذا كان بين المقرين قريب, 183
بحي
يمكن لألب أن يبصر ولده ثم يرجع نهاره .وسفر
المستأنف ضدها يسقط حضانتها". وال سيما أنه ثبت بأقوال الوكيل .لذلك جاء منطوق الحكم: "إلغاء حكم المستأنف لبطالنه ,والحكم برد الدعوى بالحضانة لسفر األم". أهو القدر أم إرادة والدي؟ كانت الفرصة تقربني منهم ألمتار ,فابتعد مجددا آالف األميال .قد حكم القانون لي, فلماذا أبطله والدي بقرار تسفيري؟ كان بإمكاني أن أكون هناك خالل ساعات ألتابع قضيتني ,فأبعدني مرة أخرى عنهم ,أما ستنتهي تجاربه علي ,لم علينا أن نكرر أخطاءنا ونلوكها, ّ طالما أنه توجد أخطاء جديدة يمكننا ارتكابها ,قد كنت خطأة في تاريخ العائلة ,وتراكم بناؤها علي ,أريد أن تتوقف هذه الدوامة ,فقد تعبت.
184
-402001 / 11 /19 ثال
عشرة سنة بعد الزواج ـ سنتان بعد الطالق ـ صورة
عن قيد مدني باسم طليقي من دائرة النفوس المختصة, النتيجة :أعزب. أرسلت خطابا لصديقة مصرية "وفاء" ,هي في الوقت نفسه أم إلحدى صديقات رنا ومعلمتها ,ألحصل عن طريقها عن أخبارهم ,فهم يترددون على بيتها كل فترة: الغالية وفاء ,أنت الوحيدة التي أرجو المساعدة منهافي التواصل بيني وبين أوالدي .فوجعي صعب جدا, وافتراقنا يشلني عن متابعة الحياة. وتمكنت عن طريقها من بناء التواصل مع أوالدي وخاصة رنا ,حي الثال
كنت أكلمها في أوقات محددة من كل شهر :اليوم من كل شهر ,األعياد وخاصة أعياد ميالدهم ,آخر
هاتف بيننا كان قبل عيد الفطر بأيام ,كانون الثاني ـ .2001 كانت رنا سعيدة بقدوم العيد ,حتى أنها أخذت تحدثني عن 185
استعدادها الستقباله ,وكانت فرحة لسماع صوتي ,وحدثتني عن معاناتهم لغيابي. وبعدها تغيرت األمور ,لتصبح أكثر سوءا فلم تعد تتصل, أو ترد على مكالماتي ,وكثي ار ما كانت تقفل السماعة بعبا ارت مبهمة محملة بالعتاب .مؤكد أنه قد تم تلقينها لذلك رحت أضع لها المبررات المختلفة .وأحيانا كانت ترد بأن الرقم خاطئ .وعندما تكرر تصرفها ,صرت على يقين أن في األمر شيئا ما ,يدفعها مرغمة إلى هذا السلوك. أرسلت أكثر من رسالة بريدية إلى عنوانها دون رد ,اتصلت بوفاء مجددا لكن لم أحظ بمكالمتها ,فتركت لها رسالة صوتية لتتصل بي ,فلم ترد ,اتصلت مرة أخرى ,فردت امرأة أخرى بلهجة مصرية: -
وفاء مش هنا يابنتي ,ربنا يكون في عونك ,بس والنبي ده إحنا خايفين من باباهم ,يعملنا مشكلة, وبقلنا مده ماشفنهمش ,وماجوش عندنا.
رحت أطرق باب صديقتي األخرى"لينا" ,كتبت رسالة قصيرة ,رجوتها فيها أن تتصل بابنتي رنا وتسلمها رسالتي, 186
وفي حال صدها وعدم تجاوبها رجوتها بأن تلجأ إلى أم نغم. جاءني الرد بأن ابنتي قد امتنعت عن متابعة الكالم معها عندما وصلت بالحدي
عني حي
أغلقت سماعة الهاتف من
فورها .عندها لجأت إلى الصديقة أم نغم: رنا تخاف كثي ار من والدها ,بعد أن اكتشف أنهاتتحد
معك ,فحبسها في الحمام أليام ,وعاقب
إخوتها ,وهو في أغلب األوقات يكون بجانبهم. وكلمتني أم نغم عن الحال السيئة التي وصلتها رنا جراء ذلك ,ونصحتني بالركون أليام ريثما تتصرف هي ,وبعد أيام تلقيت اتصاال منها تبلغني بأن أحد
ابنتي ,كانت قاسية جدا
في حديثها ,ترد باقتضاب ,رفضت حتى أن تسمع صوتي بداية ,وراحت تبكي ,كنت أسمع نحيبها على الطرف األخر من الخط ,وكنت أسمع أيضا توسالت نغم وأمها في محاولة إقناعها بالحدي
إلي .ولكنها كانت عنيدة إلى حد التشنج.
جاء اليوم الثال
من بداية الشهر ,وهذا موعدنا الذي ما
أزال ملتزمة به .كنت أريد أن أبلغها برغبتي بالسفر إليها بعدما 187
حد ,وأنا مشتاقة جدا لرؤيتهم .ولكنها صدتني وأبدت عدم رغبتها بالتواصل معي. لم أتحمل وقع ذلك ,وحين سافرت أمي إلى اإلمارات في زيارة ألخوتي ,حملتها رسالة إليها مجددا: حبيبتي رنا ,ينتابني إحساس بالم اررة والحزن عندما تغلقين سماعة الهاتف في وجهي ,فأستسلم لليأس واأللم ,فتأكلني الحيرة و الندم ,إن كانت هذه رغبتك فعال فأنا سأحترم ذلك وأبتعد حتى بصوتي عنك ,أما إذا كان تصرفك هذا تلبية لرغبته فسوف أالحقك أينما ذهبت ,وسيتبعك صوتي واحساسي ولوعة قلبي واشتياقي مهما كان الثمن ,أريدك أن تكوني حرة صادقة وصريحة معي بمشاعرك ألبعد الحدود .ال تخافي من شيء فأنت تتحدثين إلى أمك .قولي لي ماذا تريدين ,لك حق علي أن تطلبي أي شيء في الحياة ,ومن حقي عليك أن ّ تكوني صريحة .لذا أرجو اإلجابة حتى لو كانت تلك اإلجابة قاسية ,فالدم ذاته يجري في عروقنا .ال تصدقي يوما أن هناك أما ال تحب أبناءها .العالقة الدموية ال يفرقها األشخاص أو الظروف أو حتى المسافات. 188
ما أردته من رسالتي هذه هو خيط تواصل ليس أكثر, ألستمد منه حياتي ليوم آخر. بقيت أمي هناك فترة الشهرين ,وكلما اتصلت بها كانت تتهرب ,وحينما عادت أخبرتني أن مديرة المدرسة لم تقبل طلبها بلقاء رنا بداية ,فوالدها كان قد أعطى تنبيهات صارمة في ذلك ,وتحت رجائها أرسلت بطلب الطفلة .وفوجئت رنا بوجود جدتها ,ورفضت البقاء .وبعد توسالت من الجدة وتدخل من المديرة اقتنعت الطفلة ولو على مضض ,وبقيت لدقائق. حزنت أمي كثي ار لهذا الموقف ,فرنا خائفة .وهذا واضح من الرعب الذي في عينيها. -
أمك بعثت لك برسالة.
مدت يدها وخطفت الرسالة و ارحت تركض مسرعة مغادرة الغرفة. ظلت أمي أليام طريحة الفراش ,وبعد أسبوع قامت بمحاولة أخرى ,فذهبت إلى البيت هذه المرة ,ولكن الطفلة رفضت أن تفتح لها الباب مع كل التوسالت ,وبهذا فشلت محاولة أخرى لي بثقب ثغرة في جدار الفصل ذاك ,ألفكر بوسيلة أخرى 189
الستعادة حياتي .وفي عام 2002حملني شوقي ,مجددا, إليهم في رحلة عذاب أخرى ,وكان دربي المكرر هو مدارسهم, فيما كانت العزيزة" لينا" دليلي ,مرح كانت في الصف الثال فيما زياد في الثاني ,كانت مديرة المدرسة أم فاضلة ,طيبة القلب ,بذلت في سبيلي كثي ار من الجهد والوفاء ,منتحتي صورهم الجامعة وزمالئهم لجميع مراحل الدراسة ,هي ذاتها الصور التي أعيشها اليوم بهم ,لم أشأ المغادرة دون أن ألتقيهم ,رغم القوانين كان أن تنكرت بزي إماراتي مع عباءة ونقاب ,وأخذت دور الموجهة التي ترغب في التعرف بالطالب ,جاؤوا جميعا وأخذوا يسلمون ,الجميع مر بالسالم علي ,إال مرح كررت سالمها لمرة ثانية ,وهي تتأملني بشكل ّ غريب ,لقد تعرفت على أمها وها هي تطلب الجلوس في حضني ,وانهالت علي تقبلني .بكى الجميع ,ودموعهم تسيل ّ روافد في مشاعري. المحاولة األخيرة ,التي أستطيع كتابتها ,كانت عام ,2004 حينها سافرت أختي إلى اإلمارات ,لتلتقي برنا ومرح في مدخل العمارة ,ارتعبت رنا وأصفر وجهها ,فيما ركضت مرح مسرعة وهي 190
تحتضن خالتها ,وتسأل عني ,هدئتها أختي ,مستسمحة الصعود لمقابلة والدهما ,الذي نكزها وطردها من المنزل دون أدنى اعتبار.
191
-40واليوم أجلس وحيدة ,في مرسمي الكئيب تحيطني الكثير من رسومات األصدقاء ,أو الفنانين العالميين ,وأحيط بالكثير من اللوحات التي أنهيت معركتي عليها ,أجلس والذكريات تلتهمني ونسوا وتكررها ألفا ,قد غادر الجميع كل إلى أعمالهم وحياتهم, َ
شيئا اسمه غادة ,ومأساتها ,الذي كتب أن الزمن قادر على
شفاء جروحنا أخطأ ,فجروح الروح ال سبيل إلى شفائها ,بل يزداد وقعها مع مروره. كثي ار ما أسافر في لوحاتي ,فأجوب تفاصيلها في رحلة ال أرغب في نهايتها ,لعلي بذلك أحاول بناء عالم ثان يكون أكثر أمنا ,ولكن سرعان ما أغفو ألجدني في ذات الدوامة ,وليأتيني صدى بعيد :أين تغادرين ,ولمن ستتركين كل هذا األلم المصبوغ بطعم الحرمان؟
192
-1تأخر الوقت ,وأنا أسير في شوارع دمشق وحيدة مع ذكرياتي ,التي بالكاد أستطيع االحتفاظ بها ,فهي بدأت تتالشى شيئا فشيئا ,لتتحول إلى رماد يتناثر حولي, المنزل سأحول النوم عله يجدني هذا المساء.
أصل حالما ُ
عن مكان ألريح فيه َنفسي ,ولكن
المنزل ,سأبح ال َ أحد في َ صباحا...أمر َحرك تُرى أين يكونون؟ ُ فالوقت ُي ُ قارب الثالث َة َ فاستلقيت ,وأخذت نفسا فضولي ,لكن اإلعياء كان أكثر سطوة, ُ
عميقا.
من النوم ,لكني َس ُغمض َع َينيَ ,عَلني أتمك ُن َ أحاول أن أ َ ُ سب ُح في كياني. مضطربة ,وشعور مختلف َي َ المكان! ُمجددا وه َ األنو ُار ُمضاءةُ , نالك فوضى غريبة في َ النوم ,لكن عبثا. أح ُ اول َ ِ ِ المنزل ,ثياب ملقاة على األرض, أركان جول في نهضت أتَ ُ ازداد اضطرابي وأغراض مرمية ,وكأنهما قد غاد ار على عجل. َ
حت أفكر: ور ُ أكثرُ ,
193
مكن أن يكونا قد ذهبا؟ أيمكن أن يكو َن تُرى أين يُ ُأحد ما ِمن عائلتنا قد أصابه مكروه؟ أو قد يكون أحد من الجيران؟ ال .ال .ال يُمكن! بال يمكن. ولكن ,يجب أن يكون ُهنالك شيء ما ُيَف ِس ُر األمر ,جلست
ازداد اضطرابي أكثر ,وأنا جالسة وحيدة في انتظر تغيي ار ,و َ منزلي ِ انتظر أحدا يُخبرني بما يحد ,فكري ُم َشتَت في البائس. ُ ِ ِ ٍ ِ بشيء ,ال أدري, اليوم .ال أشعر غياهب أحدا غريبة ألمت بي َ لكن هناك أمور غريبة حدثت اليوم .نعم هنالك شيء ما. هج ُر لعصافير بت على الشروق ,وا الشمس قار ْ ألمحها تَ ُ ُ ُ ُ بحركة ٍ ٍ قوية وأصو ٍ ات ُحس أعشاشها ,وتُغني ببدء الصباحُ , بدأت أ ُ متداخل ٍة ,وسيار ٍ ات تُمز ُق تدخل صمت المكانُ .ليفتَ ُح َ ُ الباب ,ف َ لهن سواد ,واتشاح ,وبكاء ,وأمي .نعم إنها أمي التي نسوة ُك ّ
وجه َها ُم َمزق ,وعيناها ممتلئتان ط ُهمُ ,منهكة ومنهارة. تَتََو َس ُ ُ اتجهوا ُمباشرة إلى الداخل, بالدموع .لم يالحظ أحد وجوديَ .
وتتبع ذلك دخول ح ٍ شد ِم َن الرجال ,عائلتنا كلها ُمجتمعة ,وبعض ُ َ َ ِ األقرباء والجيرانِ ,س َمة الحزُن ُمرتَسمة على الوجوه ,ماذا يحد ؟ ال أدري. 194
ٍ بقماش أسود ,إذا ,أحد ما دخل رجال ,يحملو َن تابوتا ملفوفا َي ُ صفر الوجه, من العائلة قد توفي .أبي معهم .الحمد هللُ , لكنه ُم ُ
ومنهار .إذا المتوفى الصلبُ ,منهك ُ ومنهار تماما ,أبي القاسي و َ المفجع ,ولكن من قريب جدا منا ليبكوه بهذا الشكل المريب و ُ
يكون؟ فالجميع حاضر هنا ,إخوتي كلهم حاضرون ,ولكن
ظ سيالنها ,وتستمر أسئلتي ,وال ص أفئدتهم ,التي أالح ُ الس َ طوة تَ ُم ُ َ أحاول حشرت بينهم, أحد يجيب ,أو ينتبه لوجودي معهمَ ,ان ُ ُ
أح َس أحد االستيضاح ,أبي تجاهلني واخوتي كذلك .ما َ ِ افقدهم التركيز أو القدرة على المصيبة قد ول ُ بوجودي ,يبدو أن َه َ التحد .
ِ ِ النحيب تتعالى أكثر, البكاء و ات أتَموا الطقوس ,فيما أصو ُ َ
جت معهم ,وأنا هائمة .غريبة. َحملوا اَل َ نعش ,وأخرجوه ,وخر ُ
شق أزق َة حينا غريقة ,في هذا التالطم الحزينَ .موكب ُمهيب َي ُ بق أحد إال وحضر هنا معنا, النائم في هذا ِ الصباح الجميل ,لم َي َ وأنا الحاضرة الغائبة .للحظة َش َع ُ ِ ول الحقيقة ,التي بت رت ب َه ُ ُمتََيقنا من أنها قريبة جدا مني ,لكني كنت ألهي نفسي وأبتعد.
ٍ بصعقة مختلفة من األل ِم تخترق روحي ,عشرة أحسست فجأة و ُ أعوام مرت ,وأنا أحاول أن أَُل ِ طم مل َم نثرات ذاتي التائهة في تَال ُ 195
الضياع ,فال أجد هدوءا أو راحة بال .كنت بقايا شخص ذلك ِ غادرته الحياة ,هيكل ومجموعة عظام متكومة ,تنتظر مصيرها, كان التلقين, نسير ببطء حتى دخلنا َمعا المقبرة ,وهناك َ ال ُ ال نز ُ سمعت أسماء عدة وُذ ِك َر من بينها اسمي؟ أأكون المتوفاة؟ ال ,قد ُ
به أسماء ,انتظرت حتى اُ ِ النعش ,وشاركتُهم ذلك, نزَل ُ يكون تشا ُ أحس بأنها تتسرب مني ,اختفى كي ألهي نفسي ,التي ُ بدأت ُ
إحساس اإلرهاق واأللم ,الذي كنت أشعر .أتراني أعيش النهاية؟ يمكن نهاية ال أدري كيف ُ
فض تََقّبَل ُه رأسي ,لكني أر ُ
سمت َمعالِ ُمه في أن تكون ,إنه واقع تَر ْ سعيت كنت أسعى ,أو قد ُ ُ -رغم أني ُ
إليه بنفسي -إنها الحياة ,وانها الرغبة الجامحة في البقاء ,أو محاولة البقاء واالستمرار ,رغم البؤس والغيظ الشديد ,ورغم رحيل
الحياة ,يبقى دائما طموح لعين مزروع من كانت -بالنسبة لي - َ ّ في أنفسنا الخبيثة باالستمرار ,ومعاودة الغوص والبقاء ,ولكن – قرب مني هنا -بد ُ أت ُ أدرك حقيقة أن كل ما يحد ُ أ ُ إلي ,غطيناهُ ّ ٍ المكان ,وشبح الحزِن ي َخيم ِبتَ ٍ كغيمة ثاقل تبلل َ بالتراب ,والدموعُ ُ ُ ُ ُ ُ بكون ُه ِب ُحرقة ,لكن وي َ ندية خصبة .إخوتي َيتَصارعون حول القبرُ ,
لماذا أنا أيضا ال أبكيه معهم؟ أبي .إنه هناك ,وقد فقد القدرَة
196
على الوقوف ,فجلس بسالم وركون ,أراهُ ِ عينيه ,وتكبر أكثر لتُ ِ مطر تتكور في الدموع ُ ُ
م ٍ كتف بالتأمل فيما ُ شتاء كامال.
الجميع َي ُه ُم عائدا ,وأنا -ودون أن اسم تَماما ,و ُ انتهت المر ُ قررت البقاء واالنتظار ,ربما شعور غريب أدري السبب -قد ُ أتفهم ما الذي يحد . دفعني للبقاء كي َ
الوقت َيمضي العدد تَدريجيا حتى تناقص بقيت وحيدة ,و ُ ُ ُ َ ِبتثاقل أكبر .كان سكونا مطلقا ,وهدوءا موشحا بالسو ِاد الحالك,
ٍ تجافات قوية ,وبرٍد قت تماما شعرت بار ُرغم إن الشمس قد أشر ْ وضاق تََنُفسي ,وازدادت شديد ,وفجأة ُشلت حركتي تَماما, َ
الرطوب ُة ,والضيق من حولي ,فقررت المغادرة ,لكن عبثا ,فأنا اآلن غير قادرة على الحركة.
197
-41عندما تعودون للبح
عني سوف تجدون هذه الرسالة في
انتظاركم .كل ما أخشاه هو أال أكون هنا –ساعتئذ -كي أفتح لكم الباب وأضمكم إلى صدري .فالموت عندما يأتي يكون غالبا على نحو مفاجئ ,فهو موعد ال يؤجل أو يزول .ولهذا, فإنني أكتب لكم هذه الرسالة وأطويها في كتاب ,عله يصلكم وتقرون أنفسكم ,ولكن تنبهوا جيدا إلى ما بين أ فتقرونني, أ سطوره ,وتوقفوا جزيال عند كل جملة ,فهي عصارة ألم ,وحبره من دواة ش ارييني. أرجو أن تقرأوها كلما شعرتم بالحاجة ألن أكون بجواركم. ال أريد أن أزعجكم .سوف أتحد
معكم بتلك الحميمية التي
كانت تضمنا ذات يوم ثم فقدناها .عندما أنظر إلى صوركم أتذكر كيف كنت آخذكم إلى الفراش ,أروي لكم حكاية ما قبل النوم .وعندما أنهض للذهاب معتقدة أنكم قد غفوتم يأتيني الصوت الرقيق النعسان كي أحكي حكاية أخرى ,فأعود وأوزع قبالتي.
198
صغار كما تركتكم ,فال قدرة ا ما تزالون في رصيدي أطفاال لي على عيشكم إال كذلك. رنا :كنت صديقتي ,وعايشتي فصوال من شتائي ,كم حسدت نفسي على ابنة مثلك ,لقد سرنا معا حيثما كنا تائهين, وكنت أستدل بروحك البريئة ,معا حاولنا الخطو لدرب أفضل, وبك عشت ساعات حزني وأويقات فرحي. مرح :في اللحظات المترنحة بين الصخب والهدوء أجدك حولي ,تملئين حياتي بالكثير من الذكريات واألحالم وأظل أكثر من ذي قبل ,وأعيش شقاوتك ,ونهمك للهداية التي أُحبك َ اقتنيت لك منها الكثير.
زياد :لم تعش حنان األم وبسمتها ,وبالكاد تعرفني ,ولكنك كنت غادة الرجل واالنتظار. وهكذا أكون قد أنبأتكم بكل ما أريد قوله ,ولم يبق لي ما أقوله ,وسوف أطوي هذه الرسالة اآلن .وعلى أية حال ,فإن كان هناك شخص في العالم يفكر بكم فهو أنا .أجل ,وبكل صدق ,أقولها :أحبكم بال حدود ,وأنتظركم حتى نهاية الحياة. 199
ومهما كان ,سيبقى الوفاء ,و ستبقون في سمائي ,محتفظين بشذاكم وبريق العيون ,ورغبة اللقاء ,والمسافات الزمنية لن أحببته فيكم يوما ,ولن تغير عمق المأساة ,ألننا تغير ما ُ
ونحن من معجونو َن من األلم ,ومهما يكن ,فالزم ُن صامت, ُ يكتب الكلمات. ُ
واآلن ،أصغوا إلى همسة هللا” :أحبكم كما أنتم“ إنه الظالم هو أنا ,هو أنتم ,هو هويتي ,هو هويتكم. -انتهى –
200
البطلة غادة ,العائلة حميد ,األبناء زياد ,رنا ,مرح.... الصديقة سعاد ,األخ أمين ,األخ روان ,العم هشام -انتهى –
201
mustefaebdi@gmail.com
مصطفى عبدي- Mustefa ebdî
202