عام على حرب كوباني مصطفى عبدي/كوباني أيام قليلة وتمر الذكرى السنوية األولى لحرب كوباني ،الحرب التي أعلنها تنظيم الدولة اإلسالمية /داعش في 14يوليو/ايلول ،2014بهدف السيطرة على ما سماها عين اإلسالم وضمها الى دولته ،مسخرا لذلك جيشا من مقاتليه المدربين ،وأكثر أسلحته فتكا من مدافع ودبابات ،مع تخطيط وتحضيرات كبيرة في حصار وحرب شاملة من ثالث اتجاهات ،األمر الذي أدى إلى نزوح ما يقارب نصف المليون مدني باتجاه تركية ،ليسطر أهل كوباني بأنهم أول مدينة سورية رفضت قبول واحتضان داعش ،حيث تم إخالء أكثر من 400قرية وبلدة، إضافة إلى المدينة التي رفض معظم سكانها البقاء فيها ،وانتظار حكم دولة البغدادي. كانت حرب داعش استكماال للحرب التي أعلنتها جبهة النصرة ،وفصائل من الجيش الحر على المدينة، والتهديد بأنهم سيصلّون العيد في جوامعها ،فقبل تاريخ الحرب بعام قامت العشرات من الفصائل العسكرية بفرض حصار على كوباني ،شمل قطع الكهرباء ،والماء ،ومنع حركة الموصالت ،مع تنفيذ هجمات على القرى والبلدات الكردية ،باإلضافة إلى اعتقاالت شملت المئات من المدنيين ،والموظفين واألطفال. منذ تاريخ إعالن الحرب ،وحتى نهاية ايلول ،2014أصبحت كوباني مدينة شبه خالية من المدنيين ،غالبهم لجأ إلى مدينة سروج التركية ،وقراها على امتداد الشريط الحدودي ،وافترشوا الشوارع والصاالت والجوامع طيلة أسابيع على أمل وثقة أن هزيمة التنظيم واقعة ال محالة ،وأن عودتهم إلى مدينتهم قاب قوسين أو أدنى، فيما ظل آخرون في المنطقة المحرمة بين سكة القطار ،واألسالك الحدودية وهم يغامرون بخطر األلغام والقذائف التي تستهدفهم. كانت أول غارة للتحالف الدولي على مواقع داعش ،في الرابع والعشرين من سبتمبر ،حينما استهدفت آليات للتنظيم في قرية "سي تلب" جنوبي كوباني 12كم ،ثم تتالت الغارات ،ولكنها لم تستطع عرقلة تقدم داعش الذي كان يهاجم بأسلحته الثقيلة من مختلف المحاور ،حتى دخل كوباني في منتصف تشرين األول ،معلنا احتالل أجزاء من المدينة بعد بسط سيطرته على أهم موقعين استراتيجيين وهما جبل مشتنور ،وكري كاني، لتدخل المعركة مرحلة حرب الشوارع ،رافقتها خطة إجالء أولى للمدنيين في 9أكتوبر 2014باتجاه تركية، عبر بوابة مرشد بينار ،ورغم أن المقاتلين الكرد كانوا قد تحضروا لمثل هذه الحرب لكن سرعان ما انهارت خطوط الجبهات سريعا ،نتيجة عدم تكافؤ نوعية السالح المستخدم ،وعدم وجود أسلحة مضادة للدروع ،ليتقدم مسلحو داعش من محورين ،في 10نقاط توزعت بين الجبهة الشرقية ،والجنوبية ،والجنوب غربية حتى وصلوا الى نقاط متقدمة داخل المدينة مع التركيز على ارسال السيارات المفخخة واستهداف مدفعي وهاون لنقاط المقاومة المتبقية ،بهدف الوصول إلى بوابة مرشد بينار ،فتقدموا الى الجامع الكبير ،والمصرف الزراعي جنوبا ،ليحتلوا حي كاني ،والمربع األمني ،حتى مطعم الكندي ،ومنه الى شارع ،48وحي مقتلة ،وحارة بوتان ،والمشفى الحكومي حتى ساحة اكسبريس ،بنسبة سيطرة وصلت الى .%90 في ليلة العاشر من تشرين األول ،انهارت خطوط الدفاعات األخيرة ،وفقد االتصال بين مجموعات الـ YPG داخل المدينة ،وتمكن مسلحو التنظيم من اختراق الجبهة الشرقية ،واقتربوا من البوابة الحدودية ،وكانت أصوات التكبيرات تتعالى ،في تلك اللحظات ،كان القرار الحاسم ،خاصة وأن وسائل إعالمية عديدة قد أعلنت " سقوط كوباني" ،ليصدم العالم بالخبر الذي هبط كالصاعقة بين مصدق ومكذب ،في وقت كانت فيه التظاهرات
تعم مختلف المدن التركية ،محملين أردوغان مسؤولية ما يحدث ،ما أدى إلى سقوط 41شهيدا ،وأيضا كانت مختلف العواصم العالمية تصدح باسم كوباني ومقاومتها ،وتطالب بالدعم الدولي وحمايتها ،في تلك الساعات كان العالم برمته ينتظر األخبار القادمة من تلك المدينة الصغيرة ،وهي تتمثل قيم البطولة ،والفداء ،والقرار المصيري الذي اتخذه أبناؤها بالدفاع عنها حتى الرمق األخير ،ساحة بوابة مرشد بينار تحولت الى خط جبهة أخير ،بقرار االستمرار في القتال حتى آخر طلقة ،فيما اعتقل الجنود األتراك المجموعة األولى التي دخلت أراضيهم من مرشد بينار وكان غالبهم صحفيين محليين ،وبالفعل تم توزيع األسلحة ،وتقاسم الذخيرة القليلة الباقية وبدأ قسم المقاومة حتى النهاية واتخاذ قرار االنتحار على تسليم المدينة. تعالت تكبيرات داعش واقتربت ،وعادت الطائرات إلى التحليق ،وبدأت أصوات القصف تشتد ليتحول ليل كوباني إلى نهار من شدة االنفجارات ،تدخل التحالف الدولي في اللحظات الحاسمة وكثف قصفه للمرة األولى، الغارات لم تهدأ حتى الصباح ،ومشطت مساحات هائلة بدءا من الجامع الكبير حتى جامع حج رشاد ،وحارة بوتان ،وساحة اكسبريس مما منح المقاومة فرصة إلعادة استجماع قواتها ،وإعادة تنظيم االتصاالت مع مجموعاتها ،ليبدأ التنسيق الفعلي األول بين الـ YPGوطيران التحالف ،وهو ما منح القوات على األرض فرصة أكبر إلعادة تنظيم صفوفها وخاصة مع توافد المتطوعين بالعشرات الى داخل كوباني ،وانضمامهم الى مقاومتها ،وحتى الحصول على الذخيرة بالدعم الجوي عن طريق الطائرات األمريكية بتاريخ 20تشرين االول ،2014وهو ما شكل نقطة انقالب في المواقف الدولية وبالتحديد الموقف األمريكي الذي كان يشكك في إمكانية صمود المدافعين عن كوباني لتتبدل النبرة إلى أن كوباني لن تسقط ،فسجل مقاتلوا ،ومقاتالت كوباني فصوال جديدة من المقاومة ،فهم لم يطلبوا تدخال دوليا ،أو حماية جوية بقدر ما كانوا يطلبون الذخيرة، واألسلحة وفك الحصار عنهم. كانت الحدود التركية مع كوباني تشهد انتفاضة إعالمية بتوافد المئات من الوسائل اإلعالمية لنقل تفاصيل الحرب ،والقصف ،والنزوح في ظاهرة قلما تتكرر ،حيث لم تبق وسيلة إعالمية إال وسافرت باتجاه الحدود التركية مع كوباني ،حتى وسائل اإلعالم األرضية ،والمحلية ،واإلذاعات كانت تتحدث يوميا عن حرب كوباني ،ومقاومة نسائها وأبطالها ،وصمودهم ،ومأساة النازحين ،والكثير من الصحفيين ،فعلى الرغم من المخاطر دخلوا إلى كوباني من خالل طرق وعرة وخطرة ،لتوثيق حرب كوباني من الداخل ونقل مجرياتها، ولينقلوا صور مقاتلي كوباني ومقاتالتها لتتألق صورهن في العالم حيث استطعن كسر اسطورة المحارب ،في ظاهرة قلما تحدث في تاريخ الشرق بأن تظهر مقاتالت يحملون البنادق ويتوجهون الى الصفوف االمامية على الجبهات المشتعلة ضد داعش ،تلك المقاتالت الالتي تميزن بالبسالة والشجاعة ،وحاربن االرهاب وجها لوجه بكل عزم ،وإصرار الى جانب مقاتلي كوباني ليصبح صمودهم احدى معجزات القرن. كانت الحدود أيضا على طول خط كوباني مكانا لفرق المتطوعين الكرد من مختلف المدن التركية وبعض االجانب ،الذين كانوا ينظمون فرق أمن ،وحراسة ،وإغاثة ،وتأمين نقل المقاتلين إلى الداخل ،والدعم المعنوي للمقاومة في صورة تكامل المقاومة ،ومساندتها. تاريخ 31من الشهر ذاته كان مختلفا بالنسبة لكوباني ،فهو اليوم الذي نجحت فيه قوات البشمركة بالدخول إلى المدينة وهي تحمل معها األسلحة الثقيلة والذخيرة القادمة من إقليم كردستان ،فقبل هذا التاريخ وبأسبوع كانت المقاومة في كوباني تعيش أصعب مراحلها ،فداعش كثف من هجماته وقصفه للسيطرة على المدينة وكانت منطقة البوابة تقصف يوميا بالمئات من القذائف ،وتفجير السيارات المفخخة ،في محاوالت متكررة إلنهاء المعركة قبل وصول البشمركة ،لكن مقاتلو كوباني صمدوا وتمكنوا من صد كل المحاوالت ،في فترة عصيبة
كانت فيها تركية تراهن على سقوطها ،حتى نجحت قوات البشمركة من الدخول للمدينة ،وليتم توزيع الذخيرة واألسلحة ،وليمر األسبوع األول ولتنتقل المقاومة من حالة الدفاع الى الهجوم ،ودفع مسلحي داعش للتراجع الى المربع األمني ،وسوق الهال ،ودعم خطوط المواجهة في المدخل الجنوبي ،حتى ساحة االكسبريس ،آخر الهجمات القوية لداعش كان بتاريخ 29تشرين الثاني 2014حينها حاول اقتحام بوابة مرشد بينار بتفجير سيارة مفخخة دخلت من الطرف التركي ،مخلفة العشرات من الشهداء ،وأصيب أحد أهم قيادات الحرب في كوباني /فيصل أبو ليلى الذي يتزعم كتيبة شمس الشمال ،والذي نجح مع مجموعته من صد محاوالت تسلل مسلحي التنظيم الذين تحصنوا داخل الصوامع التركية وجرت معركة قصيرة أدت إلى مقتلهم. تحرير جبل مشتنور في 19كانون الثاني 2015كان إيذانا بتحرير كوباني ،الذي تأخر إلى السابع والعشرين من الشهر نفسه ،بعد استكمال تمشيط حي مقتلة ،وكاني ،وبوطان ،وطريق حلب ،لتنتقل المعارك فورا إلى تحرير الريف ،الذي سجل تقدما سريعا لوحدات حماية الشعب مقابل انهيار التنظيم. فور اإلعالن الرسمي عن تحرير كوباني في السابع والعشرين من كانون الثاني ،2015فتحت البوابة الحدودية ألول مرة أمام أفواج الصحفيين الذين ظلوا يراقبون ويوثقون حرب كوباني عبر الحدود ،فدخل العشرات منهم المدينة ،ليصبحوا شهود عيان على حجم المعارك ،وعنفها ،وكمية الدمار. نزار مصطفى ،إعالمي محلي كان يساعد الصحفيين األجانب قال حالما دخل المدينة «ال أصدق ما أراه ،أمن المعقول أن تكون هذه كوباني" أي بطش نكل بمدينتنا هذه؟ ما جرى دمار مقصود ،أية حرب قاسية جرت هنا؟ وتابع« :داعش تقصد البقاء هنا ،ليكتمل دمار المدينة ،حين أدرك أن انتصاره مستحيل» حينما تتجول في العدد القليل جدا من الشوارع السالكة ال تستطيع أن تعاين إال دمارا وخرابا هائال ،وكذلك تقرأ في كل زاوية وعلى كل حجر متهاو قصصا من حرب قاسية. كل شوارع كوباني تكاد تنطق بقصة ،وفصول مقاومة ،وقتال حتى الرمق األخير ...خطوط االشتباكات من خالل آثارها بارزة للعيان ،وواضح أن الحرب انتقلت من شارع إلى شارع ،من خالل الكم الهائل من أثار الرصاص ،ومن خالل الدمار والخراب الطويل الذي حل بالمكان .ساتر قماشي أسود ،وأحمر ،وأخضر هنا أيضا يمكنك أن تميز من كان يقف خلفه ،وأين كان يقف. جثث متفحمة على طول الطريق ،ورائحة كريهة تنبعث من تحت ركام البنايات التي اجتهد أهل كوباني خالل العامين األخيرين في بنائها نتيجة االزدهار العقاري ،لتتحول معها المدينة الحديثة إلى بقايا صور. لم ينتظر أبناء كوباني الكثير قبل أن تبدأ قوافلهم بالتحرك ،والعودة منذ 15فبراير ،بعد خمسة أشهر من رحلة المعاناة ،والتشرد ،والمخيمات ،ليحاولوا إعادة الحياة لمدينتهم ،وقراهم على أمل أن يتحقق األمان ،وأن تزول هذه الحقبة الصعبة ،وهم يضعون نصب أعينهم العيش في خيمة فوق ركام منازلهم. لم يسلم بيت في كوباني من القصف أو من الدمار ،أحياء بكاملها سويت باألرض وظلت بعض األعمدة منتصبة تروي قصص حرب قاسية وبطوالت أبناء هذه المدينة التي تحولت إلى رمز عالمي للصمود ،رغم أن المعارك كان قريبة جدا ،فضل الكثيرون العودة ،وهو ما جعلهم أيضا يدفعون الثمن نتيجة اختراقات للتنظيم ،والتسلل لبعض القرى ،إضافة إلى سقوط قتلى بمخلفات الحرب ،والقذائف.
انتصارات القوات الكردية لم تتوقف عند حدود كوباني ،بل امتدت حتى تحرير كامل الريف الغربي حتى جسر قرقوزاق ،في 14مارس ،2015تبعتها معارك شملت تحرير تل أبيض التي كانت تعتبر عاصمة التنظيم الفعلية كونها تحتوي على المعبر الذي يربطها بتركيا ،باإلضافة إلى تحرير مسقط رأس التنظيم سلوك، وعين عيسى وكامل الريف الشمال لسوريا بدءا من رأس العين/سري كاني ،حتى نهر الفرات غربا ،باإلضافة إلى تحرير قاعدة صرين. تحرير تل أبيض في 15حزيران فك حصار كوباني ألول مرة منذ عامين ،وربطها بالجزيرة ،وأدى بالتالي إلى تدفق المواد الغذائية ،والمحروقات رافقه انخفاض في األسعار ،وانتعاش السوق المحلية ،وازدياد رغبة الناس بالعودة ،حتى صباح 25حزيران حينما تسللت مجموعة من مسلحي التنظيم إلى المدينة في الساعة الثالثة صباحا في اختراق أمني فاضح ،وارتكبت إحدى أكبر المجازر بحق المدنيين حيث سقط ما يزيد عن األلف ضحية ،نصفهم شهداء بأسلحة التنظيم وسكاكينه التي لم ترحم حتى األطفال والنساء. تبعات " مجزرة كوباني" كانت كبيرة ،وتركت أثرا سلبيا على الناس الذين بدء بعضهم مجددا رحلة نزوح عكسية باتجاه تركيا ،فيما تراجع آخرون عن قرار العودة ليختاروا الهروب أبعد باتجاه الدول األوربية عن طريق قوارب وبلمات الموت ،سالكين أخطر الطرق بين الغابات ،والجبال باحثين عن أمل في النجاة من الموت ،والدمار ،والبحث عن األمان ومستقبل أطفالهم في ظل غياب آفاق الحل في سوريا واستمرار المعارك في كوباني. لم يسهم تحرير صرين بعد شهر من المجزرة في طمأنة نفوس الناس الذين فقدوا الثقة ،والشعور باألمان رغم اإلجراءات العديدة التي اتخذتها السلطات المحلية بتشكيل لجان حماية ذاتية. واليوم ،وفي ذكرى مرور عام على الحرب ،وثمانية أشهر على التحرير ،ما يزال غالبية الناس نازحين، مشردين في تركيا والعراق بينما اختار اخرون السفر باتجاه الدول األوربية ،وإن كان يسجل أسبوعيا عودة بعض العوائل. بات معظم أهالي كوباني مدركين بأنهم أصبحوا ضحية مشتركة لدولة البغدادي والتحالف الدولي ،فاألول يريد استثمار خسارته في كوباني وتحويل معركته فيها إلى حرب المواجهة المصيرية مع الغرب ،وهو يعتبر استمرار معركة "عين اإلسالم" يوم الملحمة بل وعالمة لقرب الساعة ،وإن حربه فيها مقدسة ال يجب أن تنتهي. فيما جعل التحالف من كوباني المدينة الرمز لحربه على اإلرهاب ،حيث روج أن انتصاره فيها سيصبح نقطة االرتكاز لالنطالق إلى تحرير باقي المدن السورية. إذا ربح الجميع في حرب كوباني إال أهلها ،فهم ماضون في تسديد فاتورة باهظة ،ولسان حالهم يقول :يترتب على التحالف أن يجد حال لمعاناة نصف مليون مدني نازح نتيجة هذه الحرب وهم يعانون أقسى الظروف وأحلكها في ظل غياب أي دعم أو اهتمام دولي ،كما أن التحالف معني بخطة إعادة إعمار المدينة التي حولتها غاراته إلى أنقاض.